قال: يا غريض، إني أريد أن «1» أخبرك بشيء يتعجل لك نفعه، ويبقى ذكره، فهل لك فيه؟ قلت: من ذاك ما أنت أهله، قال: إني قد قلت في الليلة التي كنا فيها شعرا، فامض به إلى النسوة فأنشدهن ذلك، وأخبرهن أني قد وجهت بك عامدا، قال: نعم، فحمل الغريض الشعر ورجع إلى المدينة فقصد لسكينة، وقال لها: جعلت فداك يا سيدتي ومولاتي، إن أبا الخطاب- أبقاه الله- وجّهني إليك قاصدا، قالت: أو ليس في خير وسرور وبركة؟ قال: نعم، قالت:
وفيم وجّهك أبو الخطاب حفظه الله؟ قال: جعلت فداك، إن ابن أبي ربيعة حمّلني شعرا، وأمرني أن أنشدك إياه، فقالت: هاته، فأنشدها:
ألمم بزينب إنّ البين قد أفدا ... قلّ الثّواء لئن كان الرّحيل غدا
الشعر كله، فقالت: يا ويحه ما كان عليه ألا يرحل في غد، فوجهت إلى النسوة، فجمعتهن وأنشدتهن الشعر، وقالت للغريض: هل عملت فيه شيئا؟
قال: قد غنّيته «2» ابن أبي ربيعة، قالت: فهاته، فغناه الغريض، فقالت سكينة:
أحسنت والله، وأحسن ابن أبي ربيعة ولولا أنك سبقت وغنيته ابن أبي ربيعة لأحسنّا جائزتك، يا بناتة، أعطه لكل [بيت] ألف درهم، فأخرجت بأبياته أربعة آلاف درهم، فدفعتها إليّ، وقالت سكينة: لو [ص 16] زادنا عمر لزدناك.
قال محمد بن سلام: حجت «3» عائشة بنت طلحة بن عبيد الله، فجاءتها الثّريّا وأخواتها ونساء أهل مكة القرشيات وغيرهن، وكان الغريض ممن جاء، ودخل النسوة عليها، فأمرت لهنّ بكسوة وألطاف «4» كانت قد أعدتها لمن(10/52)
جاءها «1» ، فجعلت كل واحدة تخرج ومعها جاريتها تحمل ما أمرت لها به عائشة، والغريض بالباب، حتى خرج مولياته مع جواريهن الخلع، فقال الغريض: أين نصيبي من عائشة؟ فقلن له: أغفلناك وذهبت عن قلوبنا، فقال: ما أنا ببارح من بابها أو آخذ بحظي منها، فإنها كريمة، واندفع يغني بشعر جميل: «2» [الطويل]
تذكّرت ليلى والفؤاد عميد ... وشطّت نواها والمزار بعيد
فقالت: ويلكم، هذا مولى العبلات بالباب قد ذكر بنفسه، هاتوه، فدخل، فلما رأته ضحكت، ثم قالت: لم أعلم بمكانك، ثم دعت له بأشياء أمرت له بها، ثم قالت له: إن غنّيتني «3» صوتا في نفسي، فلك حكمك، فغنّاها في شعر كثير: «4» [الطويل]
وما زلت في ليلى لدن طرّ شاربي ... إلى اليوم أخفي حبّها وأداجن
وأحمل في ليلى لقلبي ضغينة ... وتحمل في ليلى عليّ الضّغائن «5»
فقالت: ما عدوت والله ما في نفسي، ووصلته وأجزلت، قال إسحاق: فقلت لأبي عبد الله: فهل علمت [حديث] «6» هذين البيتين؟ ولم سألت الغريض ذلك؟ قال: نعم، حدثني أبي قال، قال الشعبي: دخلت المسجد فإذا بمصعب بن الزبير على سرير جالس، والناس حوله، فسلمت، ثم ذهبت لأنصرف، فقال لي:
ادن، فدنوت حتى وضعت يدي على مرافقه «7» ، ثم قال لي: إذا قمت فاتبعني،(10/53)
فجلس قليلا ثم نهض فتوجه نحو دار موسى بن طلحة، فتبعته، فلما طعن في الدار، التفت إليّ فقال: ادخل فاذا حجلة «1» ، وإنها لأول حجلة رأيتها لأمير، فقمت ودخلت الحجلة، فسمعت حركة، فكرهت الجلوس، ولم يأمرني بالانصراف، فاذا جاريته قد خرجت، فقالت: يا شعبي، إن الأمير يأمرك أن تجلس، فجلست على وسادة، ورفع سجف «2» الحجلة، فإذا أنا بمصعب بن الزبير، ورفع السجف الآخر، فإذا أنا بعائشة بنت طلحة، فلم أر زوجا قط كان أحسن منهما: مصعب وعائشة، فقال مصعب: يا شعبي، هل تعرف هذه؟
قلت: نعم [ص 17] أصلح الله الأمير، قال: ومن هي؟ قلت: سيدة نساء المسلمين عائشة بنت طلحة، قال: ولكن هذه ليلى [التي] يقول فيها الشاعر:
وما زلت في ليلى لدن طرّ شاربي
ثم قال: قم إذا شئت، فقمت، فلما كان العشيّ رحت، فإذا هو جالس في المسجد على سرير، فسلمت عليه، فلما رآني قال: ادن مني، فدنوت حتى وضعت يدي على مرافقه، فأصغى إلي وقال: رأيت مثل ذلك الإنسان قط؟
قلت: لا والله، قال: أفتدري لم أدخلناك؟ قلت: لا، قال: لتحدّث بما رأيت، ثم التفت إلى عبد الله بن فروة، فقال: اعطه عشرة آلاف درهم وثلاثين ثوبا، وانصرف، وما انصرف أحد بمثل ما انصرفت بعشرة آلاف درهم، وبمثل كارة القصار ثيابا «3» ، وبنظرة من عائشة بنت طلحة. قال: وكانت عائشة بنت طلحة عند عبد الرحمن بن أبي بكر، وكان أبا عذرتها، «4» ثم هلك، وتزوجها مصعب(10/54)
ابن الزبير فقتل، ثم تزوجها عمر بن عبيد الله بن معمر، فبنى بها بالحيرة، ثم انصرف عن سبع مرات تلك الليلة، فلقيته مولاة له حين أصبح، فقالت: يا أبا حفص، كملت في كلّ شيء حتى في هذا، فلما مات ناحت عليه قائمة، ولم تنح على أحد منهم [قائمة] ، وكانت العرب إذا ناحت المرأة قائمة على زوجها، علم أنها لا تريد أن تتزوج بعده، فقيل لها: يا عائشة ما صنعت هذا بأحد من أزواجك، قالت: إنه كان أقرب مني قرابة، وأردت أن لا أتزوج بعده.
قال: وقدم «1» يزيد بن عبد الملك مكة، فبعث إلى الغريض سرا، فأتاه فغناه بهذا اللحن في شعر كثير: «2» [الطويل]
وإنّي لأرعى قومها من جلالها ... وإن أظهروا غشا نصحتهم جهدي
ولو حاربوا قومي لكنت لقومها ... صديقا ولم أحمل على قومها حقدي
فأشير إلى الغريض أن اسكت، وفطن يزيد، فقال: دعوا أبا يزيد يغنيني بما يريد، فأعاد عليه الصوت مرارا، ثم قال: زدني مما عندك، فغناه في شعر عمرو بن شأس الأسدي: «3» [الطويل]
فوا ندمي على الشّباب وواندم ... ندمت وبان اليوم منّي بغير ذم
أرادت عرارا بالهوان ومن يرد ... عرارا لعمري بالهوان فقد ظلم [18]
قال: فطرب يزيد وأمر له بجائزة سنيّة.(10/55)
قال إسحاق: فحدثت أبا عبد الله هذا الحديث، وكنا قد أخذنا في أحاديث الخلفاء، ومن كان يسمع الغناء، فقال أبو عبد الله: كان قدوم يزيد مكة وبعثه إلى الغريض سرّا قبل أن يستخلف، قلت له: فلم أشير إلى الغريض: اسكت حيث غنّاه:
وإني لأرعى قومها من جلالها
وما السبب في ذلك؟ قال: أنا أحدثك، حدثني أبي قال: كان عبد الملك بن مروان أشدّ الناس حبا لعاتكة بنت يزيد بن معاوية امرأته، وهي أم يزيد بن عبد الملك، فغضبت مرة على عبد الملك، وكان بينهما باب فأغلقته فشق غضبها على عبد الملك، وشكا إلى خاصته، فقال له عمرو بن بلال الأسدي: مالي عندك إن رضيت؟ قال: حكمك، فأتى [عمر] بابها، فجعل يتباكى، وأرسل إليها بالسلام، فخرجت إليه خاصّتها «1» وجواريها، فقلن: مالك؟ قال: فزعت إلى عاتكة في أمر رجوتها له، فقد علمت مكاني من «2» أمير المؤمنين معاوية ومن أبيها بعده، قلن: ومالك؟ قال: ابناي لم يكن لي غيرهما، فقتل أحدهما صاحبه، وقال أمير المؤمنين: أنا قاتل الآخر به، فقلت: يا أمير المؤمنين، أنا الولي وقد عفوت، قال: لا أعوّد الناس هذه العادة، وقد رجوت أن يحيي الله ابني هذا على يدها، فدخلن عليها فذكرن لها ذلك، فقالت: فكيف أصنع مع غضبي عليه وما أظهرت له؟ قلن: إذا والله يقتل، فلم يزلن «3» بها حتى دعت ثيابها فأحضرنها، ثم خرجت نحو الباب، وأقبل جريج الحصيني «4» فقال: يا أمير(10/56)
المؤمنين، هذه عاتكة قد أقبلت، قال: ويلك ما تقول، قد والله طلعت فأقبلت فسلّمت، فلم يردّ عليها السلام، فقالت: والله لولا عمرو ما جئت، تعدّى أحد ولديه على الآخر، وأردت قتل الآخر، وهو الولي، وقد عفا، قال: إني أكره أن أعّود الناس هذه العادة، قالت: أنشدك الله يا أمير المؤمنين، قد عرفت مكانه من أمير المؤمنين معاوية، ومن أمير المؤمنين يزيد، وهو ببابي، فلم تزل به حتى أخذت برجله فقبلتها، فقال: هولك، فلم يبرحا حتى اصطلحا، ثم راح عمرو ابن بلال على عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين، كيف رأيت؟ قال: رأينا أثرك، فهات حاجتك، قال: مزرعة بعبيدها «1» وما فيها وألف دينار، وفرائض لولدي وعيالي، قال: ذلك لك، ثم اندفع عبد الملك [19] فتمثل بقول كثير: «2» [الطويل]
وإني لأرعى قومها من جلالها
ثم علمت «3» عاتكة ما أراد، فلما غنّى يزيد بهذا الشعر، كره مواليه، إذ كان عبد الملك تمثّل به في أمّه. قال أبو عبد الله «4» ، واما خبره لما غنى بشعر عمرو بن شأس، فإن ابن الأشعث «5» لما قتل، بعث الحجاج إلى عبد الملك برأسه مع عرار بن عمرو بن شأس، فلما ورد به، وأوصل كتاب الحجاج إليه، جعل عبد الملك يقرأه، وكلما شك في شيء سأل عرارا عنه فأخبره، فعجب عبد الملك(10/57)
من بيانه وفصاحته مع سواده، فقال عبد الملك متمثلا: «1» [الطويل]
وإن عرارا إن يكن غير واضح ... فإنّي أحبّ الجون ذا المنكب العمم
فضحك عرار من قوله ضحكا غاظ عبد الملك، فقال له: ممّ ضحكت ويلك؟
قال: ألا تعرف عرارا يا أمير المؤمنين الذي قيل فيه هذا الشعر؟
قال: لا، قال: فأنا والله هو، فضحك عبد الملك وقال: حقّ وافق حكمة «2» ، وأحسن جائزته وسّرحه. قال أبو عبد الله: وإنما أراد الغريض [أن] يغنّي يزيد بتمثيلات عبد الملك وسائر أموره.
قال يونس الكاتب: حدثني معبد قال خرجت إلى مكة في طلب لقاء الغريض وقد بلغني حسن غنائه في لحنه: «3» [الطويل]
وما أنس م الاشياء لا أنس شادنا ... بمكّة مكحولا أسيلا مدامعه
وقد كان بلغني أنه أول لحن صنعه، وأنّ الجنّ نهته أن يغنيه، لأنه فتن طائفة منهم من مكة لأجل ذلك وحسنه، فلما قدمت مكة سألت عنه فدللت على منزله، فأتيته فقرعت الباب، فما كلمني أحد، فسألت بعض الجيران، فقلت: هل في الدار أحد؟ قالوا: نعم، الغريض، فقلت: إني قد أكثرت دقّ الباب فما أجابني أحد، قالوا:
إن الغريض هناك، فرجعت فدققت الباب فلم يجبني، فقلت: إن نفعني غنائي يوما من الدهر نفعني اليوم، فاندفعت فغنيت لحني في شعر جميل: «4» [الطويل](10/58)
علقت الهوى [منها] وليدا فلم يزل ... إلى اليوم ينمي حبّها ويزيد
فو الله ما سمعت حركة الباب، فقلت: بطل سحري وضاع تعبي، وجئت أطلب ما هو [ص 20] عسير عليّ، واحتقرت نفسي، وقلت: لم يتوهمني «1» لضعف غنائي عنده، فما شعرت إلا بصائح يصيح بي: يا معبد، ابلغني أفهم، وبلّغ عنّي شعر جميل الذي تغنّي [فيه] يا شقي البخت، وغنى: «2» [الطويل]
ولا أنس م الأشياء لا أنس قولها ... وقد قربت نضوي أمصر تريد
ولا قولها لولا العيون التي ترى ... أتيتك فاعذرني فدتك جدود
خليليّ ما أخفي من الوجد باطن ... ودمعي بما قلت الغداة شهيد
يقولون جاهد يا جميل بغزوة ... وأيّ جهاد غيرهنّ أريد
لكل حديث بينهن بشاشة ... وكل قتيل بينهن شهيد
قال: فلقد سمعت شيئا لم أسمع قط أحسن منه، وقصر إلى نفسي، وعلمت فضله عليّ، وقلت: إنه لحريّ بالاستتار من الناس ترفيها «3» لنفسه، وتعظيما لقدره، وإن مثله لا يستحق الابتذال، ولا أن يتداوله الرجال، فأردت الانصراف إلى المدينة راجعا، فلما كنت غير بعيد، إذا بصائح يصيح: يا معبد، انتظر أكلمك، فرجعت فقال لي: إن الغريض يدعوك، فأسرعت فرحا، فدنوت من الباب، فقال: أتحب الدخول، فقلت: وهل إلى ذلك من سبيل؟ فقرعت الباب، فقال لي: ادخل، فدخلت فإذا الشمس طالعة في بيت، فسلمت، فردّ عليّ السلام، ثم قال: اجلس فجلست، فإذا أنبل الناس وأحسنهم وجها وخلقا(10/59)
وخلقا، فقال: يا معبد كيف تطرّيت «1» إلى مكة؟ فقلت: جعلت فداك: وكيف عرفتني؟ قال: بصوتك، فقلت: وكيف ولم تسمعه قط؟ فقال: لما غنيت عرفتك، وقلت: إن كان معبد في الدنيا فهذا، فقلت جعلت فداك كيف أحسنت «2» بقولك:
ولا أنس م الأشياء لا أنس قولها ... وقد قربت نضوي أمصر تريد
فقال: علمت أنك تريد تسمع صوتي: «3» [الطويل]
وما أنس م الأشياء لا أنس شادنا ... بمكة مكحولا أسيلا مدامعه
فلم يكن إلى ذلك سبيل، لأنه صوت قد نهيت أن أغنيه، فغنيتك هذا الصوت، جوابا لما سألت، فقلت: والله ما عدوت ما أردت، فهل لك حاجة؟
فقال: يا أبا عبّاد، لولا ملالة الحديث وثقل إطالة الجلوس، لاستكثرت منك، فاعذر، فخرجت من عنده [ص 21] وإنه لأجل الناس عندي، ورجعت فما رأيت إنسانا هو «4» أعظم منه في عيني، وذكرت جميلا وبثينة، فقلت: لئن أصبت إنسانا يحدثني بقصة جميل وقوله هذا الشعر، فسألت عن ذلك، فإذا الحديث مشهور، وقيل: إن أردت أن تخبر بما شاهدته فأت بني حنظلة فإن فيهم شيخا منهم يقال له فلان فيخبرك الخبر، فأتيت الشيخ فسألته فقال: نعم بينا أنا في إبل في الربيع إذا أنا برجل منطو على راحلته كأنه جان، فسلم عليّ ثم قال لي: ممن أنت يا عبد الله [فقلت] : أحد بني حنظلة، قال: فنسبني حتى بلغت فخذي الذي أنا منه، ثم سألني عن بني عذرة، فقلت هل ترى ذلك السفح «5»(10/60)
فإنهم نزلوا من ورائه، قال: يا أخا بني حنظلة، هل لك في معروف تصنعه إلي؟
فو الله لو أعطيتني ما أصبحت تسوق إليه من الإبل ما كنت أشكر مني لك عليه، فقلت ومن أنت اولا؟ فقال: لا تسألني من أنا ولا أخبرك [غير] أني رجل بيني وبين هؤلاء القوم ما يكون بين بني العم، فإن رأيت أن تأتيهم فإنك تجد القوم في مجلسهم فتنشدهم بكرة أدماء»
تجرّ خفّيها عبلاء واسمة «2» ، فإن ذكروا لك شيئا فذاك، وإلا استأذنتهم في البيوت وقلت: إن الصبي والمرأة يريان مالا يرى الرجال، فتنشدهم ولا تدع أحدا تصيبه عينك، ولا بيتا من بيوتهم، إلا وأنشدتها فيه، فأتيت القوم، فإذا بهم على جزور يقسمونها، فسلمت وانتسبت، وذكرت لهم ضالتي فلم يذكروا لي شيئا، فاستأذنتهم في البيوت، وقلت: إن الصبي والمرأة يريان ما لم ير الرجل، فأذنوا إليّ، فأتيت أقصى بيت، ثم استقريتها بيتا بيتا، فلا يذكرون لي شيئا حتى انتصف النهار وآذاني حرّ الشمس وعطشت، وفرغت من البيوت، وذهبت لأنصرف فحانت مني التفاتة فرأيت ثلاثة أبيات، فقلت: ما عند هؤلاء، إلا ما عند غيرهم، ثم قلت لنفسي سوءة ونوى زعم أن حاجته تعدل مالي، ثم أتيته فأقول: عجزت عن ثلاثة أبيات، فانصرفت عائدا إلى أعظمها بيتا، فإذا هو قد أرخى مقدمه ومؤخره، فسلمت فرد السلام، وذكرت لهم ضالتي، فقالت [جارية منهم] «3» يا عبد الله، قد أصبت ضالتك، وما أظنك إلا وقد اشتد عليك الحر واشتهيت الشراب، فقلت: أجل فدخلت [الجارية] فأتتني بصحفة فيها تمر من [ص 22] تمر هجر «4» وقدح فيه لبن، والصفحة مضرية والقدح مفضض، لم أر إناء قطّ أحسن(10/61)
منه، فقالت: دونك، فأكلت وشربت من اللبن حتى رويت، ثم قلت: يا أمة الله، ما أنست اليوم أكرم منك، ولا أحقّ بالفضل، فهل ذكرت من ضالتي ذكرا؟
فقالت: أجل، ترى هذه الشجرة فوق الشرف «1» ، قلت: نعم، قالت: فإن الشمس غربت أمس وهي تطيف حولها، ثم حال الليل بيني وبينها، فقمت وجزيتها الخير، وقلت: والله لقد تغدّيت وتروّيت، فخرجت حتى أتيت الشجرة، فأطفت بها، فو الله ما رأيت من أثر، فانصرفت إلى صاحبي، فإذا هو متّشح في الإبل بكسائه، ورافع عقيرته «2» يغني، فقلت: السلام عليك، قال:
وعليكم السلام، قال: ما وراءك؟ قلت: ما ورائي من شيء، قال: لا عليك، فأخبرني بما فعلت، قال: فقصصت عليه القصة، حتى انتهيت إلى ذكر المرأة وأخبرته بالذي صنعت، قال: قد أصبت ضالتك، فعجبت من قوله ولم أجد شيئا، ثم سألني عن صفة القدح والصفحة، فوصفتها له، فتنفّس الصعداء، ثم قال: أصبت طلبتك، ثم ذكرت له الشجرة وأنها رأتها تطيف بها، فقال:
حسبك، فمكثت حتى إذا أوت إبلي إلى مباركها، دعوته إلى العشاء، فلم يدن، وجلس عني بمزجر الكلب، فلما ظنّ أنّي قد نمت رمقته، فقام إلى عيبة «3» له، فاستخرج منها بردين، فأتزر بأحدهما، وارتدى بالآخر، ثم انطلق عامدا نحو الشجرة، واستبطنت الوادي، فجعلت أحضر، حتى إذا خفت أن يراني انبطحت فلم أزل كذلك حتى سبقته إلى شجرات قريبة من تلك الشجرة حيث أسمع كلامهما، فاستترت بهما، وأقبل حتى إذا كان غير بعيد، قالت: اجلس، فو الله لكأنه لصق بالأرض، فسلم عليها وسألها عن حالها أكرم سؤال ما سمعته قط،(10/62)
وأبعده عن كل ريبة، وسألته عن مثل مسألته، ثم أمرت الجارية فقربت إليه طعاما، فلما أكل، قالت: أنشدني ما قلت فأنشدها: «1» [الطويل]
علقت الهوى منها وليدا فلم يزل ... إلى اليوم ينمي حبّها ويزيد
ولم يزالا يتحدثان، ما يقولان فحشا ولا هجرا، حتى التفتت التفاتة فرأت الصبح قد طلع، فودع كل منهما صاحبه أحسن وداع سمعته، ثم انصرفا فمضيت إلى إبلي فاضطجعت، وكل واحد منهما يمشي خطوة ويتلفت إلى صاحبه، فجاء بعد ما أصبحنا، فرفع برديه ثم [ص 23] قال: يا أخا بني حنظلة «2» ، حتى متى تنام، فقمت وتوضأت وصليت، وأعانني عليها وهو أظهر الناس سرورا، ثم دعوته إلى الغداء، فتغدينا ثم قام إلى عيبته ففتحها، فإذا فيها السلاح وبردان مما كسته الملوك، فأعطاني أحدهما، وقال: والله لو كان معي شيء ما ذخرته عنك، وحدثني حديثه وانتسب إليّ، فإذا [هو] جميل بن معمر، والمرأة بثينة، وقال لي:
إني قد قلت أبياتا في منصرفي من عندها، فهل لك في أن أنشدها لك؟
قال نعم: «3»
ولا أنس م الأشياء لا أنس قولها ... وقد قربت نضوي أمصر تريد؟
الأبيات، ثم ودعني وانصرفت، فمكث حتى أخذت إبلي مراتعها، ثم عمدت إلى دهن كان معي فدهنت به رأسي، ثم ارتديت بالبردة وأتيت المرأة، فقلت: السلام عليكم، إني جئت أمس طالبا، وجئت اليوم زائرا، فتأذنون؟
فقالت: نعم، فجعلت جارية تقول: يا بثينة، عليه برد جميل، فجعلت أثني(10/63)
على ضيفي وأشكره، فقلت: إنه ذكرك فأحسن الذكر، فهل أنت بارزة [لي] حتى أنظر إليك، قالت نعم، فلبست ثيابها ثم برزت، ودعت لي بطرف، وقالت: يا أخا «1» بني تميم، والله ما ثوباك هذا بمشتبهين، ودعت بعيبتها وأخرجت لي ملحفة مروية «2» مشبعة من العصفر، ثم قالت: أقسمت عليك لتقومنّ إلى كسر البيت لتخلعنّ مدرعتك «3» ثم لتأتزرنّ بهذه الملحفة، فهي أشبه ببردك، فقمت ففعلت وأخذت مدرعتي بيدي فوضعتها إلى جانبي، وأنشدتها الأبيات فدمعت عيناها، وتحدثنا طويلا من النهار، ثم انصرفت إلى إبلي بملحفة بثينة وبردة جميل، ونظرة من بثينة. قال [معبد] فجزيت الشيخ خيرا وانصرفت من عنده، وأنا أحسن الناس حالا بنظرة من الغريض واستماع غنائه، وعلم بحديث جميل وبثينة، فيما غنيّت أنا به، وفيما غنّى به الغريض، على حق ذلك وصدقه، فما رأيت قط ولا سمعت بزوجين أحسن من جميل وبثينة، ومن الغريض ومنّي.
قال: قدم الوليد بن عبد الملك مكة فأراد أن يأتي الطائف، فقال: هل من رجل عالم يخبرني عنها؟ فقالوا: عمر بن أبي ربيعة، قال: لا حاجة لي به، ثم دعا فسأل فذكروه إياه، فقال: هاتوه، فأتوا به، فركب [ص 24] معه، ثم جعل يحدثه، ثم حول عمر رداءه ليصلحه على نفسه، فإذا على ظهره أثر، فقال الوليد: ما هذا الأثر؟ فقال: كنت عند جارية لي، إذ جاءتني جارية برسالة جارية أخرى، فجعلت تسارّني، فعضّت التي كنت عندها منكبي، فما وجدت ألم عضتها من لذة ما كانت تلك تنفث في أذني حتى بلغت ما ترى، فضحك الوليد، فلما رجع عمر، قيل له: ما الذي كنت تضحك به أمير المؤمنين؟ قال:(10/64)
ما زلنا في حديث الزّنا حتى رجع، وكان حمل الغريض معه، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن عندي أجمل الناس وجها وأحسنهم حديثا، فهل لك أن تسمعه؟
فقال: هاته، فدعا به، فقال له: أسمع أمير المؤمنين أحسن شيء قلته، فاندفع يغني بشعر جميل: «1» [الكامل]
إني لأحفظ سرّكم ويسرّكم ... لو تعلمين بصالح أن تذكري
ويكون يوم لا أرى لك مرسلا ... أو نلتقي فيه عليّ كأشهر
يا ليتني ألقى المنيّة بغتة ... إن كان يوم لقائكم لم يقدر
ما كنت والوعد الذي تعدينه ... إلا كبرق سحابة لم تمطر
تقضى الديون وليس ينجز عاجلا ... هذا الغريم لنا وليس بمعسر «2»
قال: فاشتد سرور الوليد بذلك وقال: يا عمر، هذه رقيتك، ووصله وكساه [وقضى] حوائجه.
قال: وكانت وفاة الغريض في أيام سليمان بن عبد الملك، أو عمر بن عبد العزيز ولم يتجاوزها، وكان موته باليمن، لأن الوليد كان ولى نافع بن علقمة مكة، فهرب منه الغريض، فأقام باليمن واستوطنها مدة، ثم مات بها.
قال عمر بن شبّة «3» : زعم المكيّون أنّ الغريض أتى بلادا من بلاد الجنّ، فغنّى ليلا: «4» [مجزوء الوافر](10/65)
هم ركب لقي ركبا ... كما قد يجمع السّيل
فصاح به صائح اكفف يا أبا مروان فقد سفّهت حلماءنا، وأصبيت سفهاءنا، قال: فأصبح ميتا.
قال إسحاق، قال أبو قبيل: رأيت الغريض في عرس أو ختان لبعض مواليه، فقيل له: تغنّ، فقال: هو ابن زانية إن فعل، فقال له بعض مواليه: فأنت هو والله كذلك، قال: أفكذلك أنا؟
قال: نعم، قال: أنتم أعلم، ثم أخذ الدّفّ فرمى به ثم مشى مشية «1» [ص 25] ، لم أر أحسن منها، ثم غنّى: «2» [الطويل]
تشرّب لون الرّازقيّ بياضه ... أو الزعفران خالط المسك رادعه
فجعل يغنيه مقبلا ومدبرا حتى التوت عنقه، فخرّ صريعا، وما رفعناه إلا ميتا، فظنناه فالجا عاجله.
قال إسحاق: وحدثني ابن الكلبي عن أبي مسكين قال: إنما نهته الجنّ أن يغني هذا الصوت: «3» [الطويل]
وما أنس م الأشياء لا أنس شادنا ... بمكة مكحولا أسيلا مدامعه(10/66)
5- طويس «1»
كان مشئوم الطلعة، مذموم السمعة، ما بشّر به، ولا بشّر بحظّ جليل، ورزء ليس بقليل، ومصاب أبات الناس بليل طويل، جرّب فصحّ أنّه مشئوم، وأن والدا ولده ملوم، وأنه ممن لو وضع الملح في الطعام لفسد منه، ولو أبصره إبليس لحيّاه، وقال: فديت من لا يفلح، لو مرّ بسوق النفاق لكسد، أو جاز الخمر الرحيق لفسد، أو دخل بين أخوين متحابّين لداخل كلّ منهما لأخيه الحسد، أو نظر نظرة في الطب لما قنع حتى يفرق بين الروح والجسد، فعجبا أن عد من أهل الإيمان، ووا أسفا إذ لم يبق في حرّ أمّه إلى آخر الزمان.
قال ابن الكلبي: أول من غنّى بالعربيّ بالمدينة طويس، وهو أول من ألقى الخنث «2» بها، وكان طويلا أحول، وكان لا يضرب بالعود، وإنما ينقر بالدف، وكان ظريفا عالما بالمدينة وأنساب أهلها، وكان يتّقى لسانه، قال: وسئل عن مولده فذكر أنه ولد يوم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفطم يوم مات أبو بكر، وختن يوم قتل عمر، وتزوج يوم قتل عثمان، وولد له يوم قتل علي رضي الله عنهم.
قال: وكانت أمه تمشي بين نساء الأنصار بالنميمة، قال: وأول غنائه وهزج(10/67)
هزجه: «1» [مجزوء الرمل]
كيف يأتي من بعيد ... وهو يخفيه القريب
لاح بالشام عشاء ... وهو مشكاك هبوب «2»
قد براني الحبّ حتّى ... كدت من وجد أذوب
وهذا البيت يسمى: الذائب.
قال يونس: وكان أول من تغنّى بالمدينة [ص 26] غناء يدخل في إيقاع طويس، قال ابن الكلبي: كان بالمدينة مخنّث يقال له النّغاشيّ، فقيل لمروان [بن الحكم] إنه لا يقرأ من القرآن شيئا، فبعث إليه وهو بالمدينة يومئذ، فاستقرأه أمّ الكتاب، فقال: والله ما أقرأ البنات فكيف أمّهنّ؟ فقال: أتهزل لأمّ القرآن لا أمّ لك، فأمر به فقتل، وقال: من جاءني بمخنث فله عشرة دنانير، فأخبر طويس فهرب من وقته حتى نزل السويداء على ميلين من المدينة، فلم يزل بها عمره، وعاش إلى ولاية الوليد بن عبد الملك.
قال المدائني: كان عبد الله بن جعفر معه رفقة له في عشية من عشيات الربيع، فراحت عليهم السماء بمطر جود، فسال كل شيء، فقال لهم عبد الله [هل لكم] في العقيق وهو منزه أهل المدينة في أيام الربيع والمطر، فركبوا دوابهم، ثم انتهوا اليه، فوقفوا على شاطئه وهو يرمي بالزبد مثل الفرات، فإنهم لينظرون إذ هاجت السماء، فقال عبد الله لأصحابه: ليس معنا جنّة «3» نستجنّ بها، وهذه سماء خليقة أن تبلّ ثيابنا، فهل لكم في منزل طويس، فإنه قريب منا، فنستكن(10/68)
فيه فيحدثنا ويضحكنا، وطويس في النّظّارة يسمع كلام عبد الله بن جعفر، فقال له عبد الرحمن بن حسان: جعلت فداك، وما تريد من طويس عليه غضب الله مخنّث شائن لمن عرفه، فقال له عبد الله بن جعفر: لا تقل ذلك، فإنه خفيف مليح لنا فيه أنس، فلما استوفى طويس كلامهم تعجّل إلى منزله، فقال لامرأته:
ويلك، قد جاء سيدنا عبد الله بن جعفر فما عندك؟ قالت: نذبح هذه العناق «1» ، وكانت عندها عنيّقة قد ربتها باللبن، واختبز [خبزا] رقاقا، فبادر ذبحها وعجنت هي، ثم خرج فتلقاه مقبلا إليه، فقال له طويس، بأبي أنت وأمي، هذا المطر «2» ، فهل لك في المنزل لتسكن فيه إلى أن تكف السماء؟ قال:
إياك أريد، قال: فامض يا سيدي على بركة الله، وجاء يمشي حتى جلسوا [فتحدثوا] حتى أدرك الطعام، فقال: بأبي أنت وأمي، تكرمني إذ دخلت منزلي أن تتعشى عندي، قال: هات ما عندك، فجاء بعناق سمينة ورقاق، فأكل كل القوم حتى تملّئوا، وأعجبه طيب طعامه، فلما غسلوا أيديهم قال: بأبي أنت وأمي، أتمشّى لك وأغنّيك، قال: بلى يا طويس، فأخذ ملحفة فأتزر بها، وأرخى لها ذنبين، ثم أخذ المربّع «3» فتمشّى وغنّى: «4» [المديد]
[ص 27]
يا خليلي نا بني سهدي ... لم تنم عيني ولم تكد «5»
كيف تلحوني على رجل ... ابنه تلتذّه كبدي «6»(10/69)
قال: فطرب القوم، وقال: أحسنت والله يا طويس، ثم قال: يا سيدي أتدري لمن هذا الشعر؟ قال: لا أدري لمن هو، إلا أني سمعت شعرا حسنا، قال:
هو لفارعة بنت ثابت [أخت حسان بن ثابت] وهي تتعشق عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنكس القوم رؤوسهم، وضرب عبد الرحمن رأسه [على صدره] فلو شقّت له الأرض لدخل فيها.
قال المدائني حدّثت أن طويسا تبع جارية فردعته، فلم ينقطع عنها، فلما جاوزت مجلس قوم وقفت وقالت: يا هؤلاء، لي صديق ولي زوج ولي مولى، فسلوا هذا ما يريد مني؟ قال: أضيّق ما وسّعوه.
قال المدائني: وكان طويس مولعا بالشعر الذي قالته الأوس والخزرج في حروبهم، فقلّ مجلس اجتمع [فيه] هذان الحيان فغنى طويس إلا وقع فيه شر.
قال المدائني: قدم ابن سريج المدينة، فجلس يوما في جماعة وهم يقولون:
أنت والله أحسن الناس غناء، إذ مر بهم طويس فسمع قولهم، فاستلّ دفّه ونقره وغنّى: «1» [مجزوء الكامل]
إن المخنّثة التي ... مرّت بنا قبل الصّباح
في حلّة موشيّة ... يمنية غرثى الوشاح «2»
زين لمشهد فطرهم ... وتزينهم يوم الأضاحي
فقال ابن سريج: هذا والله أحسن الناس غناء لا أنا.(10/70)
6- يزيد حوراء «1»
كان مطربا لو مزج بغنائه الماء لأسكر، أو قرع به المساء لما تنكر «2» ، أو قرن به القدماء وأنصف لم يكن معه أحد يذكر، ولهذا حسد حتى تحيّل «3» عليه وتوصّل إلى ما لديه، فأخذ ما كان به يمتاز، وترك ما عنده شيء أحد يعتاز وعلى هذا كان مقدّما، وكان سامعه كأنما يفتح منه إناء مفدّما «4» . قال أبو الفرج: قدم على المهدي في خلافته فغناه، وكان حسن الصوت، مليح الشمائل، فذكر ابن خرداذبة [أنه بلغه أن] إبراهيم الموصلي حسده على شمائله وإشاراته في الغناء، واشترى عدّة جوار وشاركه [ص 28] فيهن، وقال له: علمهن الغناء فما رزق الله من ربح فهو بيننا، وأمرهنّ [أن] يجعلن وكدهنّ «5» أخذ إشاراته، ففعلن ذلك، وكان إبراهيم يأخذ عنهن «6» هو وابنه ويأمرهن بتعليم كل من يعرفنه ذلك حتى شهرها في الناس، فأبطل عليه ما كان منفردا به في ذلك.
قال إسحاق، قال يزيد حوراء: كنت أجلس بالمدينة على أبواب قريش وكانت تمرّ بي جارية تختلف إلى الزرقاء تتعلم منها الغناء، فقلت لها يوما افهمي قولي وردّي جوابي، وكوني عند ظني، فقالت: هات ما عندك، فقلت:
بالله ما اسمك؟ قالت: ممنّعة، فأطرقت طيرة «7» من اسمها مع طمعي فيها، ثم(10/71)
قلت: [بل] باذلة أو مبذولة إن شاء الله، فاسمعي مني، فقالت وهي تبتسم: إن كان عندك شيء فقل، فقلت: [الطويل] «1»
ليهنك منّي أننّي لست مفشيا ... هواك إلى غيري ولو متّ من حبّي
ولا مانحا خلقا سواك مودّة ... ولا قائلا ما عشت من حبّكم حسبي
قال: فنظرت إليّ طويلا، ثم قالت: أنشدك الله أعن فرط محبّة أو اهتياج غلمة؟ فقلت لا والله إلا عن فرط محبة، فقالت: [الطويل]
فو الله ربّ النّاس لا خنتك الهوى ... ولا زلت مخصوص المحبّة من قلبي
فثق بي فإني قد وثقت ولا تكن ... على غير ما أظهرت لي يا أخا الحبّ «2»
قال: فو الله لكأنما أضرمت في قلبي نارا، فكانت تلقاني في الطريق الذي كانت تسلكه فتحدثني وأتفرج «3» بها، ثم اشتراها بعض أولاد الخلفاء، وكانت تكاتبني وتلاطفني دهرا.
قال عبد الله بن العباس الربيعي: كان يزيد حوراء نظيفا ظريفا حسن [الوجه] شكلا، لم يقدم علينا من الحجاز أظرف ولا أشكل منه، وكان يتعصب لإبراهيم الموصلي على ابن جامع، وكان إبراهيم يرفع منه ويشيع ذكره بالجميل وينبّه على تقدّمه وإحسانه، وكان يبعث ابنه إسحاق يأخذ عنه، وكان يزيد صديقا لأبي مالك التميمي الأعرج، ولا يكاد يفارقه، فمرض يزيد مرضا شديدا، فاغتمّ عليه الرشيد وبعث مسرورا مرات يسأل عنه، ثم مات، فقال أبو مالك: «4» [الخفيف](10/72)
لم يمتّع من الشّباب يزيد ... صار في التّرب وهو غضّ جديد
فكأن لم يكن يزيد ولم يش ... ج نديما يهزّه التّغريد
7- عبد الرّحمن الدّفّاف «1»
كان مغنّيا مغنيا، ومقربا للسّرور مدنيا، كان يحيي أطايب الطرب ويدني غرائب الرّغب، لظرفه إلى القلوب خلوص، وبطربه مثل رقص القلوص ما طرب وأبقى من أرب إلا أن الجدّ لم يقل من عثاره، ولم يقد ظباء الجلميين لأخذ ثاره.
قال أبو الفرج: كان منقطعا إلى علي بن المهدي المعروف بريطة، قال عبد الصمد بن المعذل: غنّت جارية يوما بحضرة الرشيد: «2» [المنسرح]
قل لعلي يا فتى العرب ... وخير نام وخير منتسب
أعلاك جدّاك يا عليّ إذا ... قصّر جدّ عن ذروة النّسب
فأمر بضرب عنقها، فقالت: يا سيدي وما ذنبي؟ هذا الصوت علّمته والله وما أدري من قاله، ولا فيمن قيل، فعلم صدقها، فقال لها: عمّن أخذته؟ قالت:
عن عبد الرحمن الدّفّاف، فأمر بإحضاره وقال: يا عاضّ بظر أمّه، تغنّي في شعر تفاخر [فيه] بيني وبين أخي؟ جرّدوه، فجرّدوه عن ثيابه، ودعا له بالسياط(10/73)
فضرب بين يديه مئة سوط «1» .
قال عبد الرحمن: دخلت يوما على [عليّ بن] ريطة، وستارته منصوبة، فعنّت جاريته: «2» [الطويل]
أناس أمنّاهم فنمّوا حديثنا ... فلما كتمنا السّرّ عنهم تقوّلوا
فقلت له: أرأيت إن غنّيتك هذا الصوت وفي «3» تمامه زيادة بيت آخر «4» أيّ شيء لي عليك؟ قال: خلعتي «5» هذه، فغنّيته:
فلم يحفظوا الودّ الذي كان بيننا ... ولا حين همّوا بالقطيعة أجملوا
قال: فنزع خلعته فجعلها عليّ، وأقمت عنده بقيّة يومي على عربدة كانت فيها.
8- ابن مسجح «6»
سابق أغرّ وسارق ما غرّ، أول من تفطن لغناء فارس، وكان له في بلاد العرب الفارس إلى بر من العجم «7» ، وألقى سمعه إلى أصواتها، وابتزّ أرواح طربها من(10/74)
لهواتها، ونقل ما تصوّر في خاطره من تلك الصور الأعجمية والتماثيل التي لا ترى للعيون العميّة، إلى أن أبرزها عربا أبكارا، وأسكنها أسماعا وأفكارا، وأدراها شمولا لا يسمع عليها إنكارا، ثم منه أدهقت آنيتها «1» ، وسمعت قاصيتها [ص 30] ودانيتها.
قال أبو الفرج، قال هاشم بن المرّيّة: إن أول من غنى هذا الغناء العربي بمكة ابن مسجح، وذلك أنه مرّ بالفرس وهم ينصّون «2» المسجد الحرام، فسمع غناءهم بالفارسية، فنقله في شعر عربي، وهو الذي علّم الغريض وابن سريج. قال: وهو أول من غنى الغناء الثقيل، وعاش ابن مسجح حتى لقيه معبد وأخذ عنه في أيام الوليد بن يزيد بن عبد الملك. قال دحمان [الأشقر] : كنت عاملا لعبد الملك بن مروان بمكة، فقيل إن رجلا يقال له ابن مسجح قد أفتن فتيان قريش فأنفقوا عليه أموالهم، فكتب إليه: أن اقبض ماله وسيّره، ففعل، وتوجه ابن مسجح إلى الشام، فصحبه رجل له جوار مغنيات في طريقه، فقال له: أين تريد؟ «3» ، فأخبره خبره، وقال: أريد الشام، قال له: فكن معي، فصحبه حتى بلغا دمشق، فدخلا مسجدها، فسألا عن أخص الناس بالامير قالوا: هؤلاء النفر من قريش من بني عمه، فوقف ابن مسجح عليهم، وسلم ثم قال: يا فتيان، هل فيكم من يضيف رجلا غريبا من أهل الحجاز؟ فنظر بعضهم إلى بعض وكان عليهم موعد أن يذهبوا إلى قينة يقال لها برق الأفق فتثاقلوا به إلا فتى منهم تذممّ «4» ، فقال:
أنا أضيفك، وقال لأصحابه: انطلقوا أنتم وأنا أذهب مع ضيفي، قالوا: بل تجيء(10/75)
معنا أنت وضيفك فذهبوا جميعا إلى بيت المغنية، فلما أتوا بالغداء قال لهم سعيد: «1»
إني رجل أسود ولعل فيكم من يقذرني، فأنا أجلس فآكل ناحية، فاستحيوا منه، وبعثوا له بما أكل، فلما صاروا إلى الشراب قال لهم مثل ذلك، ففعلوا، وأخرجوا جاريتين فجلستا على سرير قد وضع لهما، فغنتا إلى العشاء، ثم دخلتا، وخرجت جارية حسنة الوجه والهيئة وهما معها فجلست على السرير، وجلستا أسفل منها على يمين السرير وشماله، قال ابن مسجح: فتمثلت بهذا البيت: «2» [الطويل]
فقلت أصبح أم مصابيح بيعة ... بدت لك خلف السّجف أم أنت حالم
فغضبت الجارية وقامت وقالت: أيضرب مثل هذا الاسود فيّ الأمثال؟ فنظروا إليّ نظرا منكرا، ولم يزالوا بها [يسكنونها] حتى غنّت، فقلت: أحسنت والله، فغضب مولاها فقال: مثل هذا الأسود يقدم على جاريتي! فقال الرجل الذي أنا عنده: قم فانصرف [ص 31] إلى منزلي فقد ثقلت على القوم، فذهبت لأقوم، فتذمم القوم وقالوا: بل أقم وأحسن أدبك، فأقمت، وغنّت، فقلت: أخطأت وأسأت، ثم اندفعت فغنيت الصوت، فقالت الجارية: هو والله أبو عثمان سعيد ابن مسجح، فقلت: إي والله أنا هو، وو الله لا أقيم عندكم، فوثب القرشيون، فقال هذا: تكون عندي، [وقال هذا تكون عندي] ، فقلت: لا والله لا أقيم إلا عند سيدكم- يعني الرجل الذي أنزله عنده- وسألوه عمّا أقدمه، فأخبرهم الخبر، فقال له صاحبه: أنا أسمر الليلة عند أمير المؤمنين، فهل تحسن أن تحدو «3» ؟
فقلت لا والله، ولكني أصنع حداء، قال له: إن منزلي بحذاء أمير المؤمنين فإن وقعت منه على طيب نفسه أرسلت إليك، ومضى إلى عبد الملك، فلما رآه طيّب(10/76)
النفس أرسل إلى ابن مسجح، فأخرج رأسه من وراء شرف القصر، ثم حدا، فقال [عبد] الملك للقرشي: من هذا، قال: رجل حجازي قدم عليّ، قال: أحضره، فأحضره فقال له: احد، فحدا، فقال له: هل تغني غناء الركبان؟ قال: نعم، قال: غنّه فغنى فاهتز عبد الملك طربا، ثم قال: أقسم إن لك في القوم اسما كبيرا، فمن أنت؟
قال: أنا المظلوم، المقبوض ماله، المسيّر عن وطنه سعيد بن مسجح، قبض مالي عامل الحجاز ونفاني، فتبسم عبد الملك ثم قال: قد وضح عذر فتيان قريش أن ينفقوا عليك أموالهم، وأمّنه ووصله، وكتب إلى عامله بردّ ماله وأن [لا] يعرض له.
قال: ومن غنائه القديم الذي صنعه: «1» [الكامل]
أسلام إنّك قد ملكت فأسجحي ... قد يملك الحرّ الكريم فيسجح
منّي على عان أطلت عناءه ... في الغلّ عندك والعناة تسرّح «2»
إني لأنصحكم وأعلم أنه ... سيان عندك من يغش وينصح
وإذا شكوت إلى سلامة حبّها ... قالت أجدّ منك ذا أم تمزح؟
9- عطرّد «3»
وكان عطرّد عطاردّيا لبقا ذكيا ارضيا سماويا، كأنّه «4» خلق للسرور وخبّئ لبلابل الصدور، وكان رحيب الباع، كثير الأتباع، لو لاطف الصخر لذاب، ولو(10/77)
حضر يوم الفراق لطاب، لو غنّى للجواد الممتدّ في طلقه لصفن «1» ، او للميت- استغفر الله- لقام ينفض الكفن «2» ، لا يلذ إلا به الغزل، ولا يعد أحد من طبقته إلا إذا نزل.
قال أبو الفرج، قال [ص 32] إسحاق: كان جميل الوجه حسن الغناء، جيد الصنعة، طيب الصوت، حسن الرأي، فقيها قارئا للقرآن، وكان يغني مرتجلا، وأدرك دولة بني العباس، وبقي إلى ايام الرشيد، وكان معدّل الشهادة بالمدينة.
قال إسحاق: ولي مسلمة بن عباّد القضاء بالبصرة، فقصد ابنه عباد بن مسلمة عطردا وهو بها مقيم، قد قصد آل سليمان بن علي وأقام معهم، فأتى بابه ليلا فدقّ عليه، ومعه جماعة من أصحابه أصحاب القلانس، فخرج عطرّد إليه، فلما رآه ومن معه ارتاع، فقال لا ترع «3» : [الكامل]
إنّي قصدت إليك من أهلي ... في حاجة يأتي بها مثلي «4»
قال: وما هي أصلحك الله؟ فقال:
لا طالبا شيئا إليك سوى ... «حيّ الحمول بجانب العزل» «5»
قال عطردّ: [انزلوا] على بركة الله، ولم يزل يغنيهم هذا وغيره حتى أصبحوا.(10/78)
قال: ولي زيد الهاشمي المدينة، فأمر بأصحاب الملاهي فحبسوا، وحبس عطرّد فيهم، وحضر لعرضهم، وشفع في عطرّد رجال من المدينة وأخبروه أنه من أهل الدين والمروءة، فخلّى سبيله، وخرج فإذا هو بالمغنّين قد أحضروا ليعرضوا، فرجع إليه عطرّد فقال: أصلح الله الأمير، أعلى الغناء حبست هؤلاء؟ قال نعم، قال: فلا تظلمهم فو الله ما أحسنوا شيئا منه قط، فضحك وأطلقهم جميعا.
10- الأبجر «1»
وكان ذا طرب يفرط في لجاجته، ويلهي العجول عن حاجته، ينهب حبّات «2» القلوب نهبا، ويأخذ حباء الملوك غصبا، لو تغنّى ساعة عرفة لألهى الحجيج، أو ثبّى يوم منى لأكثر الضجيج، لو قدمت الخمس الظوامي وهو يترنم إلى الماء، لطوت جوانحها على الغلل الظماء «3» ، وكان لا يرى إلا في هيئة تسرّ المبصر، وتسوّل للغويّ «4» أنه لا يقصر.
قال أبو الفرج، قال إسحاق: لم يكن أحد أظرف منه، ولا أحسن هيئة منه، كانت حلته بمائة دينار، وكان يقف بين المأزمين «5» ويرفع صوته، فيقف الناس له ويركب بعضهم بعضا.(10/79)
قال إسحاق: جلس الأبجر في ليلة اليوم السابع من أيام الحج على قرب من التنعيم «1» ، فإذا عسكر جرّار قد أقبل في آخر الليل، وفيه دواب تجنب وفيها [ص 33] فرس أدهم [سرج] حليته ذهب، فاندفع يغنّي: «2» [الطويل]
عرفت ديار الحيّ خالية قفرا ... كأنّ بها لما توهمتها سطرا
فلما سمعه من في القباب والمحامل أمسكوا، وصاح صائح: ويحك أعد الصوت، فقال: لا والله، إلا بالفرس الأدهم، بسرجه ولجامه وأربعمائة دينار، وإذا الوليد بن يزيد صاحب العسكر، فنودي أين منزلك؟ ومن أين أنت؟ قال: أنا الأبجر، ومنزلي على رأس زقاق الخرازين، فغدا إليه رسول الوليد بذلك الفرس وأربعمائة دينار وتخت من ثياب وشي وغير ذلك، ثم أتى به الوليد فأقام عنده وقام مع أصحابه عشية التروية «3» ، وهو أحسنهم هيئة وخرج معه إلى الشام.
قال عمر بن حفص بن كلاب: كان الأبجر مولانا، وكان إذا قدم المدينة نزل علينا، فقال لنا يوما: أسمعوني غناء ابن عائشتكم هذا، فأرسلنا إليه فجمعنا بينهما في بيت ابن هفان «4» ، فغنّى ابن عائشة، فقال الأبجر: كل مملوك لي حر إن غنّيت معك إلا بنصف صوتي «5» ، ثم أدخل إصبعه في شدقه، ثم غنّى، فسمع صوته من في السوق فحشر النّاس علينا، فلم يفترقا حتى تشاتما، قال:
وكان ابن عائشة حديدا «6» جاهلا.(10/80)
قال إبراهيم بن المهدي: حدثني ابن أشعب عن أبيه قال: دعا الوليد بن يزيد ذات يوم المغنين، وكنت نازلا معهم، فقلت للرسول: خذني معهم، قال: لم أؤمر بذلك، وإنما أمرت بإحضار المغنّين، وأنت بطّال «1» لا تدخل فيهم، فقلت له:
والله أنا أحسن غناء منهم، ثم اندفعت فغنيت، فقال: لقد سمعت حسنا، ولكني أخاف، فقلت: لا خوف عليك ولك مع هذا شرط، قال: وما هو؟ قلت:
كل ما أصبته فلك شطره، فقال للجماعة: اشهدوا عليه، فشهدوا، ومضينا فدخلنا على الوليد وهو خاثر «2» النفس، فغناه المغنون في كل فن من ثقيل وخفيف، فلم يتحرك ولا نشط، فقام الأبجر إلى الخلاء، وكان خبيثا داهيا، فسأل الخادم عن خبره وبأي شيء هو خاثر النفس، فقال: بينه وبين امرأته كلام، لأنه عشق اختها فغضبت عليه، وهو إلى أختها أميل، وقد عزم على طلاقها، وحلف لها لا يذكرها بمراسلة ولا بمخاطبة، وخرج على هذا الحال من عندها، وعاد الأبجر إلينا [ص 34] فما استقر به مجلسه حتى اندفع يغني: «3» [الطويل]
فبيني فإني لا أبالي وأيقني ... تصاعد باقي حبّكم أم تصوبا
ألم تعلمي أني عزوف عن الهوى ... إذا صاحبي من غير شيء تغضّبا
فطرب الوليد وارتاح، وقال: أصبت والله يا عبيد [الله] ما في نفسي، وأمر له بعشرة آلاف درهم، وشرب حتى سكر، ولم يحظ أحد بشيء سوى الأبجر، فلما أيقنت بانقضاء المجلس، وثبت وقلت: يا أمير المؤمنين إن أمرت من يضربني مئة الساعة، فضحك ثم قال: قبحك الله، وما السبب في ذلك؟ فأخبرته بقصتي مع الرسول، فأريد أن أضرب مئة ويضرب بعدي مئة، فقال: لقد ألطفت، بل(10/81)
أعطوه مئة دينار، وأعطوا الرسول خمسين دينارا من مالنا، عوض الخمسين التي «1» أراد أن يأخذها ابن اشعب، فقبضها وقمنا، فما حظي أحد بشيء غيري وغير الرسول «2» .
قال إسحاق: حدّثت أن الأبجر أخذ صوتا من الغريض ليلا، ثم دخل الطواف، فلقي عطاء بن أبي رباح يطوف، فقال له: يا أبا محمد اسمع صوتا أخذته في هذه الليلة من الغريض، فقال له: ويحك، في هذا الموضع، فقال: كفرت برب هذه البنيّة لئن لم تسمعه مني سرّا إن لم أجهر به، فقال: هاته، فغناه: «3» [السريع]
عوجي علينا ربّة الهودج ... إنك إن لم تفعلي تحرجي
في الحجّ إن حجّت وماذا منى ... وأهله إن هي لم تحجج
فقال له عطاء: الخير كله في منى وأهله، حجّت أو لم تحجّ فاذهب الآن.
قال: وختن عطاء بنيه أو بني أخيه، فكان الأبجر يختلف إليهم ثلاثة أيام يغني [لهم] .
11- فريدة «4»
وكانت فريدة جمال، ووحيدة كمال، وبديعة حسن وإحسان، وفصيحة عود ولسان، ربيبة خدر، وشبيهة بدر، ومتقنة لطرب، ومحسنة لا يقاس بها من(10/82)
إذا أحسن كان قد ضرب، توقع الضرب فلا تبين أناملها اللمس، وتضرب بالدّفّ فلا يظنّ إلا أن البدر في يد الشمس، ولع بها الواثق أشد الولوع، وكان يضنّ بها على من بعده، ويجري «1» الدموع.
قال أبو الفرج، قال علي بن يحيى المنجم: حدثني محمد بن الحارث بن بسخنّر قال: كانت لي في خدمة الواثق في كل جمعة نوبة، إذا حضرت، ركبت إلى الدار، فإن نشط للشرب [ص 35] أقمت عنده، وإن لم ينشط انصرفت، وكان رسمنا ألا يحضر أحد منا إلا في يوم نوبته، فإني لفي منزلي في غير يوم نوبتي، إذا رسل الواثق قد هجموا عليّ وقالوا لي: احضر، قلت: لخير؟ قالوا:
خيرا إن شاء الله، فقلت: إن هذا يوم لم يحضرني فيه أمير المؤمنين قط، ولعلكم غلطتم، قالوا: الله المستعان، لا تطل وبادر، فقد أمرنا أمير المؤمنين أن لا ندعك تستقر على الأرض، فداخلني فزع عظيم، وخفت أن يكون ساع سعى عليّ، أو بلية قد حدثت في رأي الخليفة فيّ، فتقدمت لما أردت حتى وافيت الدار [فذهبت] لأدخل «2» من حيث كنت أدخل، فمنعت، وأخذ بيدي الخادم، فعدلوا بي إلى ممرات لا أعرفها، فزاد ذلك من جزعي، ثم لم يزل [الخدم] يسلموني من خدم إلى خدم حتى أفضيت إلى دار مفروشة الصحن «3» ، ملبسة الحيطان بالوشي المنسوج بالذهب، ثم أفضيت إلى رواق أرضه وحيطانه ملبسة(10/83)
كذلك، ثم نظرت فإذا الواثق في صدره على سرير مرصع بالجوهر، وعليه ثياب منسوجة بالذهب، وإلى جانبه فريدة جاريته عليها مثل ثيابه وفي حجرها عود، فلما رآني قال: جودت «1» والله يا محمد إلينا «2» ، فقبلت الأرض، وقلت:
خيرا يا أمير المؤمنين، قال: خيرا، أما ترانا: طلبت والله ثالثا يؤنسنا، فلم أر أحق بذلك منك، بحياتي بادر وكل شيئا وعجّل إلينا، فقلت: قد والله يا سيدي أكلت وشربت آنفا، قال: فاجلس، فجلست، وقال: هاتوا لمحمد رطلا في قدح [فأحضرت] ، فاندفعت فريدة تغني: «3» [الطويل]
أهابك إجلالا وما بك قدرة ... عليّ ولكن ملء عين حبيبها
وما هجرتك النّفس أنّك «4» عندها ... قليل ولكن قلّ منك نصيبها
فجاءت والله بالسحر، ثم إن الواثق جعل يحادثها في خلال ذلك وتغني الصوت بعد الصوت، وأغني أنا أيضا في خلال غنائها، فمّر لنا يوم حسن، ما مرّ لأحد مثله، فإنا لكذلك إذ رفع رجله فضرب بها صدر فريدة ضربة فدحرجها من السرير إلى الأرض، وتفتت عودها ومرت تصيح، وبقيت كالمنزوع الروح، لم أشك في أن عينه وقعت عليّ، وقد نظرت إلى الأرض، وأطرقت أتوقع ضرب العنق، فأنا كذلك إذ قال: يا محمد، فوثبت قائما، فقال: ويحك، أرأيت ما اتفق، علينا؟ قلت: يا سيدي، الساعة تخرج روحي، فقل لي، من أصابنا بالعين [ص 36] لعنه الله، وما كان السبب؟ قال: لا والله، ولكني فكرت أن جعفرا كان يقعد هذا المقعد، وتقعد معه كما هي قاعدة معي، فلم أطق الصبر، وخامرني ما(10/84)
أخرجني إلى ما رأيت، فسرّي عني، وقلت: بل يقتل جعفر ويحيا أمير المؤمنين أبدا وقبّلت الأرض وقلت: الله الله يا أمير المؤمنين ارحمها فأمر بردّها، فقال لبعض الخدم الوقوف من يجيء بها، فلم يكن بأسرع من أن أقبلت وفي يدها عودها، وعليها غير الثياب التي كانت عليها، فلما رآها جذبها إليه وعانقها، فبكت وجعل يبكي، واندفعت أنا في البكاء، وقالت: ما ذنبي يا مولاي، وبأي شيء استوجبت هذا، فأعاد عليها ما قاله لي وهو يبكي، فقالت: سألتك الله يا أمير المؤمنين إلا ضربت عنقي السّاعة وأرحتني من الفكر في هذا، وأرحت نفسك من الهم، وجعلت تبكي ويبكي، ثم مسحا أعينهما، ورجعت إلى الغناء، وأومأ إلى خدم فمضوا وأحضروا أكياسا فيها عين وورق «1» ، ورزما فيها ثياب كثيرة، وجاء خادم بدرج ففتحه فأخرج منه عقدا ما رأيت مثله قط فألبسها إيّاه، وأحضرت بدرة «2» فيها عشرة آلاف درهم فوضعت بين يديّ، وخمسة تخوت «3» ثياب، وعدنا إلى أمرنا، وإلى أحسن ما كنا فيه، فلم نزل كذلك إلى الليل، ثم تفرقنا.
وضرب الدهر من ضربه، وتقلد المتوكل الخلافة، فو الله إني لفي منزلي في غير يوم نوبتي، إذ هجم عليّ رسل الخليفة، فما أمهلوني حتى ركبت وصرت إلى الدار، فأدخلت والله الحجرة بعينها، وإذا المتوكل في الموضع الذي كان فيه الواثق بعينه، وعلى ذلك السرير، وإلى جانبه فريدة، فلما رآني قال: ويحك ما ترى ما نحن فيه من هذه! أنا من غدوة أطلبها أن تغني فتأبى ذلك، فقلت: سبحان الله، تخالفين سيدك وسيد البشر، بحياته غني، فضربت والله العظيم واندفعت(10/85)
تغنّي: «1» [الوافر]
مقيم في ضريح لا يرجّى ... إياب منه إلا في المعاد
فلا تبعد فكلّ فتى سيأتي ... عليه الموت يطرق أو يغادي
ثم رمت بالعود إلى الأرض، ورمت نفسها عن السرير، وقامت تعدو وهي تصرخ: وا سيّداه، فقال [لي] : ويحك ما هذا؟ فقلت: ما أدري، قال: ويحك ما ترى؟ فقلت: أرى والله يا سيدي [ص 37] أن أنصرف أنا وتحضر هذه ومعها عودها، وتحضر غيرها من الجواري، فإن الأمر يؤول إلى ما يحب أمير المؤمنين، قال: فانصرف في حفظ الله، فانصرفت، ولم أدر ما كانت القصة بعد ذلك.
12- الدّلال «2»
ألأم لئيم، وأخبث زنيم، وأقبح مؤنث مذكر، وساع بين اثنين في منكر، سواء لديه شهوات الرجال والنساء، وبياض الصباح وظلمة المساء، قد انغمس في القبيح، وارتكز في الغش ذي النصيح «3» ، كان يسلك المنهجين، ويهتك الفرجين، ويهلك في الزوجين مع الوقوع، فذهب مفتونا، وخلد في النار ملعونا.
قال أبو الفرج: لم يكن في المخنثين أحسن وجها، ولا أنظف ثوبا ولا أظرف(10/86)
من الدلال، وهو أحد من خصاه ابن حزم، فلما فعل ذلك به قال: الآن تمّ الخنث. قال: وإذا تكلّم أضحك الثكلى، وكان مبتلى بمخاطبة النساء «1» ، فكان كل من أراد خطبة من امرأة جليلة سأله عنها وعن غيرها، ولا يزال يصف له واحدة واحدة حتى ينتهي إلى ما يعجبه منهن.
قال مصعب الزبيري: أنا أعلم خلق الله بالسبب الذي من أجله خصي الدّلال، وذلك أنّه [كان] القادم يقدم المدينة فيسأل عن امرأة يتزوجها، فيدلّ على الدلال، فإذا جاء فقال صف لي من تعرف من النساء للتزويج، فلا يزال يصف واحدة واحدة حتى يوافق قوله، فيقول: كيف لي بذلك، فيقول: امهرها كذا وكذا، فإذا رضي بذلك، أتاها الدلال فقال لها: إني قد أصبت لك زوجا وهو هيئته ويساره، ولا عهد له بالنساء، وإنما قدم [بلدنا] آنفا، ولا يزال بذلك يشوّقها ويحرّكها حتى تطيعه، فيأتي الرجل فيعلمه أنّه قد أحكم ما أراد، فإذا سوّي الأمر تزوجته الامرأة وقال لها: قد آن لهذا الرجل أن يدخل بك، والليلة موعده، وأنت مغتلمة «2» شبقة جامّة، فساعة يجامعك [يراك] قد دفعت عليه مثل سيل العرم، فيقذرك ولا يعاودك، وتكونين «3» من أشأم الناس على نفسك وعلى غيرك، فتقول: ما أصنع؟ فيقول لها: أنت أعلم بدواء فرجك ودائه، وما يسكن عليه، فتقول له، ما أعرف شيئا أشفى من الجماع، فيقول لها: إن لم تخافي من الفضيحة فابعثي إلى بعض الزنوج حتى يقضي بعض وطرك، ويكفّ عادية فرجك، فتقول له: ويلك، ولا كل هذا، فلا تزال المحاورة بينهما حتى(10/87)
يقول: فكما جاء عليّ فأنا أقوم أخففك وإني إلى التخفيف أحوج، فتقول المرأة:
هذا الأمر مستور [ص 38] . فيجامعها، حتى إذا قضى لذته منها، قال لها: أما أنت فقد استرحت وأمنت العيب، وبقيت أنا. ثم يجيء إلى الزوج فيقول له «1» : قد وعدتها أن تدخل إليك الليلة، وأنت رجل غريب عزب، ونساء أهل المدينة يريدون المطاولة، وكأني بك لما تقربها تفرغ وتقوم، فتبغضك وتمقتك، ولو أعطيتها الدنيا، ولا تنظر في وجهك بعدها، ولا يزال في مثل هذا القول حتى يعلم أنه قد هاجت شهوته، فيقول: تطلب زنجية تجامعها مرتين أو ثلاثة حتى يسكن عليك، فإذا دخلت الليلة بأهلك لم تجد أمرك إلا جميلا، فيقول له:
أعوذ بالله من هذا الحال، زنا وزنجية؟ لا والله ما أفعل، فإذا أكثر محاورته فيقول له: قم فافعل بي أنا حتى تسكن عليك غلمتك وشبقك، فيفرح، ويفعل ذلك مرة أو مرتين، فيقول له: قد استوى أمرك وطابت نفسك، فتدخل على زوجتك فتجامعها مجامعة تملأها سرورا ولذة، فيقرب المرأة قبل زوجها، والرجل قبل امرأته، فكان ذلك دأبه، فبلغ ذلك سليمان بن عبد الملك، وكان غيورا، فأمر بأن يخصى هو وسائر المخنثين، وقال: إن هؤلاء يدخلون على نساء قريش ويفسدونهن، فورد الكتاب على ابن حزم [فخصاهم] . وقد قيل إن الذي هيج سليمان بن عبد الملك على ما فعله بمن كان بالمدينة من المخنثين أنه كان مستلقيا على فراشه في الليل، وجارية إلى جانبه، وعليها غلالة ورداء معصفران، وعليها وشاحان من ذهب، وفي عنقها فضلات من حب لؤلؤ وزبرجد وياقوت، وكان سليمان بها مشغوفا، وفي عسكره رجل يقال له سمير الأيلي يغنّي، فلم يفكر سليمان في غنائه شغلا بها، وإقبالا عليها وهي لاهية عنه لا تجيبه مصغية إلى الرجل، حتى طال ذلك على سليمان، فحول وجهه مغضبا، وعاد إلى ما كان من(10/88)
همه بها، فسمع سميرا يغني بأحسن صوت وأطيب نغمة: «1» [البسيط]
محجوبة سمعت صوتي فأرّقها ... من آخر الليل لما طلّها السّحر
تدني على جيدها ردني معصفرة ... والحلي فيها على لبّاتها خصر
في ليلة النّصف ما يدري مضاجعها ... أوجهها عنده أبهى أم القمر
لو خلّيت لمشت نحوي على قدم ... تكاد من رقّة للمشي تنفطر
قال: فلم يشكّ سليمان أن الذي بها مما سمعت، وأنها تهوى سميرا، فوجه من وقته بمن أحضره ودعا [ص 39] لها بالسيف والنطع، وقال لها: والله لتصدقنّي، أو لأضربن عنقك، قالت: سلني عما تريد، قال: أخبريني عما بينك وبني هذا الرجل، قالت: والله ما أعرفه ولا رأيته قط، وأنا جارية منشئي الحجاز، ومن هنالك حملت إليك، والله ما أعرف بهذه البلاد أحدا سواك، فرقّ لها، وأحضر الرجل فسأله عن مثل ذلك وتلطف في المسألة، فلم يجد بينه وبينها شائبة، ولم تطب نفسه بتخليته سويا فخصاه، وكتب إلى جميع عمّاله بذلك.
قال: لما أخصى المخنثين مرّ بابن أبي عتيق فقال: أخصيتم الدّلال، والله لقد كان يجيد: «2» [مجزوء الوافر]
لمن ربع بذات الجي ... ش أمسى دارسا خلقا «3»
ثم رجع فقال: إنما أعني خفيفه، لست أعني ثقيله.
قال حمزة النوفلي: صلّى الدّلال المخنث إلى جانبي فضرط ضرطة هائلة سمعها من في المسجد فرفعنا رؤوسنا وهو ساجد يقول في سجوده رافعا صوته:(10/89)
سبح لك أعلاي وأسفلي، فلم يبق أحد في المسجد إلا فتن وقطع صلاته بالضحك.
قال المدائني: اختصم شيعيّ ومرجئيّ «1» ، فجعل «2» بينهما أول من يقطع «3» حكما، فقطع الدلال فقال: يا أبا زيد، أيهما خير الشيعيّ أم المرجئيّ؟
قال: لا أدري، إلا أن أعلاي شيعي وأسفلي مرجئ.
قال: قدم مخنث من مكة، فجاء الدلال فقال له: يا أبا زيد، دلّني «4» على بعض مخنثي المدينة أكايده وأمازحه وأحادثه، قال: قد وجدته لك، وكان خثيم بن غزال صاحب شرطة زياد بن عبيد الله جاره، وقد خرج في ذلك الوقت ليصلي في المسجد، فقال: الحقه في المسجد، فإنه يقوم فيه ليصلي ليرائي الناس، فإنك ستظفر بما تريد منه، فدخل المسجد وجلس إلى جانب ابن غزال، فقال: عجلي صلاتك لا صلى الله عليك، قال خثيم: سبحان الله، فقال المخنث:
سبحت في جامعة «5» فرّاجة، انصرفي حتى أتحدث معك، فانصرف خثيم من صلاته، وعاد بالشرط، فقال: خذوه، فأخذوه [فضربوه] مئة سوط وحبسوه.
قال إسحاق: صلى الدّلال يوما خلف الإمام بمكة فقال: «وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»
«6» ، قال الدّلال: لا أدري والله، فضحك أكثر الناس، وقطعوا الصلاة.(10/90)
قال: سأل رجل الدّلال أن يزوجه امرأة فزوجه، فلما أعطاه صداقها وجاء بها إليه ودخل بها، فلما قام يواقعها ضرطت قبل أن يطأها، فكسل عنها ومقتها، وأمر بها فأخرجت، وبعث إلى [ص 40] الدّلال فعرفه ما جرى عليه، فقال له الدلال:
فديتك هذا من عزة «1» نفسها.
فقال: دعني منك، فإني قد أبغضتها، فاردد إليّ دراهمي، فردّ بعضها فقال:
لم رددت بعضها، وقد خرجت كما دخلت؟ قال: للروعة التي أدخلتها على استها، فضحك وقال: أنت أقضى الناس وأفقههم.
قال: خرج الدّلال يوما إلى نزهة مع فتية، وكان معهم غلام جميل الوجه، وجلس يشرب، وسألوه أن يغنيهم فغناهم: «2» [الطويل]
زبيرّية بالعرج منها منازل ... وبالخيف من أدنى منازلهم رسم «3»
أسائل عنها كلّ ركب لقيته ... ومالي بها من بعد مكّتها علم
أيا صاحب الجامات من بطن أرثد ... إلى النخل من ودّان ما فعلت نعم «4»
فإن تك حرب بين قومي وقومها ... فإني لها في كل نائرة سلم «5»
قال: فطرب القوم وصاحوا، فنذر بهم السلطان وتعادت «6» الشّرط، فأحسوا(10/91)
بالطلب، فهربوا وبقي الغلام والدّلال ما يطيقان براحا من فرط السكر، فأخذا وأتي بهما أمير المدينة، فقال للدّلال: يا فاسق، قال: من فمك إلى السماء، فقال: يا عدو الله، وما وسعك بيتك حتى خرجت بهذا الغلام إلى الصحراء تفسق به؟ قال: لو علمت أنك تغار علينا وتشتهي أن نفسق به سرا ما خرجت به من بيتي. قال: جردوه واضربوه حدّا، قال: وأي شيء ينفعك هذا، وأنا والله أضرب في كل يوم حدودا، قال: ومن يتولى ذلك؟ قال: أيور المسلمين، قال:
ابطحوه واجلسوا على ظهره، قال: أحسب الأمير قد اشتهى أن يراني كيف أناك، قال: أقيموه لعنه الله وأشهروه في المدينة مع الغلام، فأخرجا يدار بهما في السّكك، فقيل له: ما هذا يا دلال، قال: اشتهى الامير أن يجمع بين الرأسين، فجمع بيني وبين هذا، ونادى علينا، ولو قيل له الآن إنّك قوّاد غضب، فبلغ خبره الوالي، فقال: خلّوا سبيلهما لعنة الله عليهما.
قال: كان سليمان بن عبد الملك يبلغه نوادر الدّلال وطيبه وحديثه، فوجه مولى له وقال: جئني به سرّا، فنفذ المولى إليه وأعلمه ما أمر به، فخرج معه إلى الشام، فدخل على سليمان ليلا، فقال: ويلك ما خبرك؟ قال: جببت من القبل مرة يا أمير المؤمنين، فهل تريد أن تجبني الكرة من الدّبر؟ فضحك [ص 41] .
وقال: اغرب أخزاك [الله] ، ثم قال له: غنّ، فغنّاه في شعر العرجي: «1» [الطويل]
أفي رسم دار دمعك المتحدّر ... سفاها وما استنطاق ما ليس يخبر
تغيّر ذاك الرّبع من بعد جدّة ... وكلّ جديد مرّة يتغيّر(10/92)
فقال له سليمان: حق لك يا دلال أن يقال لك أحسنت وأجملت، فو الله ما أدري أيّ أمريك أعجب، سرعة جوابك أم حسن غنائك وجودة فهمك، بل جميعا عجب، وأمر له بصلة سنيّة، وأقام عنده شهرا يشرب على غنائه، ثم سرحه إلى الحجاز.
قال: كان الدّلال لا يشرب النبيذ، فخرج مع قوم إلى متنزّه لهم، ومعهم نبيذ، فشربوا وسقوه عسلا مجدوحا «1» ، فكان كلما تغافل صبوا عليه نبيذا، فلا ينكر حتى كثر ذلك وسكر وطرب، فقال: اسقوني من شرابكم، فسقوه حتى ثمل ونام عريانا، فغطاه القوم بثيابهم وحملوه إلى منزله ليلا فنوّموه وانصرفوا عنه، فأصبح وقد تلوثت ثيابه، فأنكر نفسه، فحلف أن لا يغنّي أبدا ولا يعاشر من يشرب نبيذا، فوفى بذلك إلى أن مات، وكان يجالس المشيخة والأشراف فيفيض معهم في اخبار الناس وأيامهم حتى قضى نحبه.
13- أبو سعيد مولى فائد «2»
رجل حق وباطل، ودينه محلّى وعاطل، لم يحبط بمروءته الغناء، ولا أثّر في مروءته الغناء، وكان على اشتهاره بالغناء ومداومته وإقامة شوقه ومقاومته من(10/93)
رجال أهل المدينة، عرضا مصونا وجنابا حصينا، لا ينظر بعين نقيصة، ولا يرى إلا والمسامع على أصواته حريصة، فكان لا يرى مسئولا، ولا يبرح يداوي بريئا ومتبولا.
قال أبو الفرج الاصبهاني: ذكر أن أبا سعيد مولى فائد حضر مجلس محمد بن عمران التميمي قاضي المدينة لأبي جعفر المنصور، وكان مقدما لأبي سعيد، فقال له: يا أبا سعيد، أنت القائل: «1» [الطويل]
لقد طفت سبعا قلت لما قضيتها ... ألا ليت هذا لا عليّ ولا ليا
يسائلني صحبي فما أعقل الذي ... يقولون من ذكر لليلى اعترانيا
قال: لعمر أبيك إنّي لقائله، وإني لأدمجه إدماجا من لؤلؤ، فرد محمد بن عمران شهادته في ذلك المجلس، وقام أبو سعيد من مجلسه مغضبا وحلف أن لا يشهد عنده [ص 42] أبدا، فأنكر أهل المدينة ردّ شهادته، وقالوا لابن عمران: عرّضت حقوقنا للبوار وأموالنا للتّلف، لأنا كنا نستشهد هذا الرجل لعلمنا ما كنت عليه، والقضاة من قبلك من الثقة به وتقديمه وتعديله، فندم ابن عمران على ردّ شهادته ووجّه إليه فسأله حضور مجلسه والشهادة عنده ليمضي شهادته، فامتنع وذكر أنه لا يقدر على حضور مجلسه ليمين لزمته، إن حضر حنث «2» ، قال:
فكان ابن عمران إذا ادعى أحد عنده شهادة أبي سعيد، صار إلى منزله وإلى مكانه من المسجد حتى يسمع ويسأله عما يشهد به فيخبره، وكان محمد بن عمران كثير اللحم كبير العجز صغير القدمين دقيق الساقين، يشتد عليه المشي، وكان كثيرا ما يقول: لقد أتعبني هذا الصوت «لقد طفت سبعا» وأتعبني «3»(10/94)
وأضرّ بي إضرارا طويلا، وأنا رجل ثقال بترددي «1» إلى أبي سعيد لأسمع شهادته.
وتمام الأبيات:
إذا جئت باب الشّعب شعب ابن عامر ... فأقرئ غزال الشّعب منّي سلاميا «2»
وقل لغزال الشّعب هل أنت تارك ... لشعبك أم هل يصبح القلب ثاويا «3»
لقد زادني الحجّاج شوقا إليكم ... وإن كنت قبل اليوم للحجّ قاليا
وما نظرت عيني إلى وجه قادم ... من الحجّ إلا بلّ دمعي ردائيا
قال إسحاق: حججت مع الرشيد، فلما قربت من مكة استأذنته في التقدم، فأذن لي، فدخلت مكة، فسألت عن أبي سعيد مولى فائد، فقيل لي هو بالمسجد الحرام، فأتيت المسجد فدللت عليه، فإذا هو قائم يصلي، فجلست قريبا منه، فلما فرغ قال: يا فتى ألك حاجة؟ قلت: نعم، تغنيني «لقد طفت سبعا» ، فقال لي أو أغنيك أحسن منه؟ قلت: أنت وذاك، فاندفع يغني شعره: «4» [الخفيف]
إنّ هذا الطويل من آل حفص ... نشر المجد بعد ما كان ماتا
وبناه على أساس وثيق ... وعماد قد أثبتا إثباتا «5»
مثل ما قد بنى له أوّلوه ... وكذا يشبه النبات النباتا «6»
فأحسن فيه، فقلت يا أبا سعيد: «فغنني لقد طفت سبعا» ، قال: أو أغنيك(10/95)
ما هو أحسن منه؟ [ص 43] ، فقلت: أنت وذاك فغنّى «1» فاندفع وقال: «2» [الكامل]
قدم الطويل فأشرقت واستبشرت ... أرض الحجاز وبان في الأشجار «3»
إنّ الطويل من ال حفص فاعلموا ... ساد الحضور وساد في الأسفار
فأحسن فيه، فقلت: أحسنت يا أبا سعيد، فغنّني «قد طفت سبعا» ، فقال:
أو أغنيك ما هو أحسن منه: «4» [قال: فغنّني؛ فغناه] «5» [الخفيف]
أيّها السائل الذي يخبط الأر ... ض دع النّاس أجمعين وراكا
وأت هذا الطويل من آل حفص ... إن تخوّفت غفلة او هلاكا «6»
فأحسن فيه، فقلت: غنني «قد طفت سبعا» فقد أحسنت فيما غنّيت، ولكني أحب أن تغنّيني ما سألتك فيه، فقال: لا سبيل إلى ذلك، لأني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في منامي وفي يده شيء لا أدري ما هو، وقد رفعه ليضربني به وهو يقول: يا أبا سعيد، لقد طفت سبعا، ما صنعت بأمتي [في] هذا الصوت؟ فقلت: بأبي أنت وأمي اغفر لي، فو الذي بعثك بالحق نبيا لا غنّيت هذا الصوت أبدا، فردّ يده عني وقال: عفا الله عنك إذا، ثم انتبهت. وما كنت لأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا في منامي، فأرجع فيه في يقظتي.(10/96)
قال إسحاق: فبكيت «1» وقلت: لا تعد يا أبا سعيد في غنائه، فقال: إذا أردت أن تسمعه فاسمعه من منّة جارية البرامكة، فودعته وانصرفت.
قال إبراهيم بن المهدي: كنت بمكة في المسجد الحرام، فإذا شيخ قد طلع، وقد قلب إحدى نعليه على الأخرى، فسألت عنه فقلت: من هذا، فقيل هو أبو سعيد مولى فائد، فقلت لبعض الغلمان: احصبوه، فحصبوه، فأقبل عليّ وقال:
ما يظن أحدكم إذا دخل المسجد إلا أنه له، فقلت للغلام؛ ما يقول لك أبلغني، فقال له أبو سعيد: ومن مولاك حفظك الله؟ فقال: مولاي إبراهيم بن المهدي، فقام فجلس بين يديّ، فقال: لا والله بأبي أنت وأمي ما عرفتك، فقلت: لا عليك، أخبرني [عن] هذا الصوت: «2» [المتقارب]
أفاض المدامع قبلي الكرى ... وقتلى بكثوة لم ترمس «3»
فقال: هو لي ورب هذا البيت، لا تبرح حتى تسمعه، ثم قلب إحدى نعليه وأخذ [ص 44] بعقب الأخرى وجعل يقرع بحرفيها على الأخرى ويغنّيه حتى أتى عليه، فأخذته منه، وهذا البيت من قصيدة يرثي بها «4» أبو سعيد بني أمية الذين قتلهم عبد الله وداود ابنا عليّ بن عبد الله بن عباس: «5» [المتقارب]
أولئك قومي أناخت بهم ... نوائب من زمن متعس(10/97)
إذا ركبوا زيّنوا الموكبين ... وإن جلسوا زينة المجلس
هم أضرعوني لريب الزّمان ... وهم ألصقوا الرّغم بالمعطس «1»
قال: لما وضع رأس مروان «2» بين يدي أبي عباس، خرّ لّله ساجدا، وقال: الحمد لله الذي أظفرني بك، وأظهرني عليك ولم يبق ثاري قبلك وقبل رهطك أعداء الدين، ثم تمثل قول ذي الإصبع العدواني: «3» [البسيط]
لو يشربون دمي لم يرو شاربهم ... ولا دماؤهم للغيظ ترويني
قال: نظر عبد الله بن علي في القتال إلى فتى عليه أبهة الشرف وهو يقاتل مستقبلا، فناداه: يا فتى، لك الأمان ولو كنت مروان بن محمد الأكبر، قال: إلا أكنه «4» فلست بدونه، قال: فلك الأمان من كنت، فأطرق ثم قال: «5» [المتقارب]
أذلّ الحياة وكره الممات ... وكلا أراه طعاما وبيلا «6»
فإن لم يكن غير إحداهما ... فسيرا إلى الموت سيرا جميلا
ثم قاتل حتى قتل، فإذا هو [ابن] «7» مسلمة بن عبد الملك.
قال الزبير: سبب قتل السّفاح بني أمية بحضرته، أن السّفاح مدح بقصيدة، فأقبل على بعضهم فقال: أين هذا مما مدحتم به، فقال: هيهات لا يقول والله(10/98)
أحد فيكم مثل ما قال ابن قيس الرقيات فينا: «1» [المنسرح]
ما نقموا من بني أميّة إلا ... أنهم يحلمون إن غضبوا
وأنّهم معدن الملوك ولا ... تصلح إلا عليهم العرب
فقال: يا ماصّ كذا وكذا، إن الخلافة لفي شكّ «2» بعد! خذوهم، فأخذوا وقتلوا، ثم أمر ببساط فبسط عليهم، ودعا بالغداء، فجلس فوقه يأكل وهم يضطربون تحته، فلما فرغ [من الأكل] قال: ما أعلم أني أكلت أكلة قط كانت أطيب ولا أهنأ من هذه في نفسي [ص 45] فلما رفع الطعام قال: جرّوا بأرجلهم فالقوهم في الطريق ليلعنوهم «3» أمواتا كما لعنوهم أحياء. قال:
فرأيت الكلاب تجر بأرجلهم وعليهم سراويلات الوشي، حتى أنتنوا، وحفرت لهم بئر فألقوا فيها، وقال ابن هرمة في ذلك: «4» [البسيط]
فلا عفا الله عن مروان مظلمة ... ولا أميّة بئس المجلس النّادى
كانوا كعاد فأمسي الله أهلكهم ... بمثل ما أهلك الماضين من عاد
14- فليح بن أبي العوراء «5»
رجل طالما ندّم نديما، وعادت صباه عقيما، تمرّ به الرياح مرورها(10/99)
بالخيف «1» ، ويقوم به السرور فيميل بالحيف، فكان يثقل على محاضره، وينغص على جليسه وناظره، لكنه كان من الجلّة السوابق، وأهل التقدم المأخوذة عنهم الطّرائق، ما غنّى إلا أطرب، ولا قال إلا أعرب.
قال أبو الفرج الأصفهاني، قال محبوب بن الهفتي: دعاني محمد بن سليمان فقال: قدم فليح بن أبي العوراء من الحجاز وقد نزل عند مسجد ابن رغبان «2» ، فسر إليه وأعلمه إن جاءني قبل أن يدخل إلى الرشيد خلعت عليه خلعة من ثيابي، ووهبت له خمسة آلاف درهم، فمضيت فأخبرته بذلك، فأجابني إليه إجابة مسرور به، نشيط له، وخرج معي فعدل إلى حمام كان بقربه، فدعا القيّم فأعطاه درهمين، وسأله أن يجيئه بشيء يأكله ونبيذ يشربه، فجاءه بشراب ورأس عجل ودوشابي «3» غليظ مسحوري «4» رديء، فقلت: لا تفعل وجهدت به أن لا يأكل ولا يشرب إلا عند محمد بن سليمان فلم يلتفت إليّ، وأكل من ذلك الرأس وشرب من ذلك النبيذ حتى طابت نفسه، [وغنى] وغنى القيّم معه مليّا، ثم خاطب القيّم بما أغضبه، وتلاحيا «5» وتواثبا، فأخذ القيّم شيئا [فضربه به على] رأسه فشجه حتى جرى دمه، فلما رأى الدم سائلا على وجهه، اضطرب وجزع، ثم قام فغسل وجهه، وعاجله بصوفة محروقة وزيت(10/100)
وعصابة، وتعمّم وقام معي، فلما دخلنا دار محمد بن سليمان، ورأى الفرش والآلة وحضر الطعام ورأى سروره وطيبه، وحضر النبيذ وآلته، ومدّت الستائر، وغنّى الجواري، أقبل عليّ وقال: يا مجنون، سألتك بالله، أيما أحق بالعربدة واولى، منزل القيم أو مجلس الأمير؟ فقلت: وكأنه لا بد من [ص 46] عربدة، قال: لا والله مالي منها بدّ، فأخرجتها من رأسي هناك، فقلت: أما على هذه الشريطة فالذي فعلت أجود، فسألني محمد بن سليمان عما كان منه، فأخبرته، فضحك ضحكا كثيرا وقال: هذا الحديث والله أظرف وأطيب من كل غناء، وخلع عليه وأعطاه خمسة آلاف درهم.
قال فليح بن أبي العوراء: كان في المدينة فتى يعشق ابنة عم [له] ، فوعدته أن تزوره، وشكا إليّ أنها تأتيه ولا شيء عنده، فأعطيته كسر دينار للنفقة، فلما زارته قالت له: من يلهينا؟ قال: صديق لي ووصفني لها، ودعاني فأتيته، وكان اول ما غنيت: «1» [الوافر]
من الخفرات لم تفضح أخاها ... ولم ترفع لوالدها شنارا
«2» فقامت إلى ثوبها لتلبسه وتنصرف، فعلق بها، وجهد أن تقيم، فلم تقم، وانصرفت، وأقبل علي يلومني في أن غنيت ذلك الصوت، فقلت: لا والله ما هو شيء اعتمد فيه مساءتك، ولكنه شيء اتفق، قال: فلم نبرح إذ عاد رسولها بعدها ومعه صرة [فيها ألف دينار] دفعها إلى الفتى وقال له: تقول لك ابنة عمك، هذا مهري ادفعه إلى أبي واخطبني، ففعل ذلك وتزوجها. والبيت(10/101)
للسليك بن السلكة، وبعده:
كأنّ مجامع الأرداف منها ... نقا درجت عليه الرّيح هارا «1»
يعاف وصال ذات البذل قلبي ... ويتبع الممنّعة النّوارا «2»
ومنهم:
15- الهذلي «3»
كان من القدماء المشاهير من أهل الغناء في المجاهير، لم يذكر معه أحد زاد في حسن الصنعة إلا انتقص، ولا أمال إليه أحد نجوى سمعه إلا رقص، لو سمعه صاحبه أبو ذؤيب «4» لأنساه ثكل بنيه وسلاه، إذ كان غناؤه في التسلي يغنيه، ولما عرف أنه بين الشعراء يتفجع، ولما رئي إلا مسرورا لا يقول: «أمن المنون وريبها تتوجع» «5» .(10/102)
قال أبو الفرج: وكان فتيان قريش يغدون إليه وقد عمل عمله بالليل، ومعهم الطعام والشراب والدراهم، فيقولون: قد جئنا، فيقول: الوظيفة الأخرى، أنزلوا أحجاري، فيلقون ثيابهم ويأتزرون بأزرهم وينقلون الحجارة وينزلونها، ثم ينزل على شنخوب «1» [ص 47] من شناخيب الجبل، ويجلسون تحته في السهل، يشربون وهو يغنيهم حتى المساء وكانوا كذلك مدة.
قال إسحاق: زوج ابن سريج لما حضرته الوفاة الهذلي بابنته، فأخذ عنها أكثر غنائه وادّعاه، فغلب عليه، وولدت ابنا، فلمّا يفع جاز يوما بأشعب «2» وهو جالس في فتية من قريش، فوثب فحمله على كتفه، وجعل يرقصه، ويقول: هذا ابن مزامير داود، فقيل له: ويلك ما تقول، ومن هذا الصبي؟ قال: أو ما تعرفونه، هذا ابن الهذلي من ابنة ابن سريج، ولد على عود، واستهل على غناء «3» ، وحنك «4» بملوى «5» ، وشدت سرته بوتر، وختن بمضراب.
16- مالك بن [أبي] السّمح «6»
مطرب لو لم يضمه معبد إليه لكان نظيره أو يزيد عليه، طرح عليه أصواته(10/103)
فحفظها، وشجا حسّاده وأحفظها، وأخذ جوائز الأمراء، وحصل جزيل الثراء، وكان يرمى بحمق ربما أدّاه إلى صواب الرأي، وهواه، وسبب حياته ومدّ مداه، وأحياه ليميت به عداه.
قال أبو الفرج الأصفهاني رحمه الله تعالى، قال الورد «1» : كان مالك بن أبي السمح من طيء، فأصابتهم حطمة «2» في بلادهم بالجبلين «3» ، فقدمت به أمه وأخوه، وأخوات أيتام لا شيء لهم، وكان يسأل الناس عن باب حمزة بن عبد الله ابن الزبير، وكان معبد منقطعا إلى حمزة، يكون عنده ويغنيه، فسمع مالك بن أبي السمح غناءه فأعجبه واشتهاه، وكان لا يفارق باب حمزة، يسمع غناء معبد إلى الليل، ولا يطوف بالمدينة، ولا يطلب من أحد شيئا «4» ولا يريم «5» [موضعه] فينصرف إلى أمه ولم يكسب شيئا فتضربه وهو مع ذلك يترنم بألحان معبد ويؤديها دورا دورا، نغما بغير لفظ، ولا روى شيئا من الشعر، وجعل كلما غدا وراح رآه ملازما لبابه، فقال لغلامه: أدخل هذا الغلام الأعرابي إليّ، فأدخله إليه، فقال له حمزة: من أنت يا غلام؟ قال: أنا غلام من طيء أصابتنا حطمة بالجبلين فحطّتنا إليكم، ومعي أم لي وإخوة، وإني لزمت بابك، فسمعت من دارك صوتا أعجبني فلزمت بابك من أجله، فقال: هل أنت تعرف منه شيئا؟
قال: أعرف لحنه كله ولا أعرف الشعر [ص 48] ، قال: إن كنت صادقا إنك لفهم،(10/104)
ودعا بمعبد فأمره أن يغني صوتا، فغناه، ثم قال لمالك: هل تستطيع أن تقوله؟ قال:
نعم، قال: هاته، فاندفع فغناه وأدى نغمته بغير شعر يؤدي مدّاته وليّاته وعطفاته ونبراته وتعليقاته، ولا يخرم حرفا، فقال لمعبد: خذ هذا الغلام وخرجه فليكونن له شأن، قال معبد: ولم أفعل ذلك؟ قال: لتكون محاسنه منسوبة إليك، وإلا عدل إلى غيرك وكانت محاسنه منسوبة إليه، فقال: صدق الأمير، وأنا أفعل ما أمرني به، ثم قال حمزة لمالك: كيف وجدت ملازمتك لبابنا؟ قال: والله ثم والله، ما شبعت على بابك شبعة قط، ولا انقلبت إلى أهلي منه بخير، فأمر له ولإخوته وأمه بمنزل، وأجرى لهم رزقا وكسوة، وأمر لهم بخادم يخدمهم وعبد يسقيهم الماء، وأجلس مالكا معه في مجلسه، وأمر معبدا أن يطارحه، فلم يلبث أن مهر وحذق، وكان ذلك بعقب مقتل هدبة بن خشرم «1» ، فخرج مالك يوما فسمع امرأة تنوح على زيادة الذي قتله هدبة بشعر أخي زيادة: «2» [الطويل]
أبعد الذي بالنّعف نعف كويكب ... رهينة رمس ذي تراب وجندل «3»
أذكّر بالبقيا على ما أصابني ... وبقياي أنّي جاهد غير مؤتلي
فلا يدعني قومي كريما لحرّة ... لئن لم أعجّل ضربة أو أعجّل «4»
فغنّى في هذا الشعر لحنين «5» ، أحدهما نحا فيه نحو المرأة في زوجها ورققه وأصلحه وزاد [فيه] ، والآخر نحا فيه نحو معبد في غنائه، ثم دخل على حمزة(10/105)
فقال: أيها الأمير إني صنعت غناء [في شعر] سمعته من بعض أهل المدينة ينشده فأعجبني، فإن أذن الأمير غنيته فيه، فقال: هات، فغناه اللحن الذي نحا فيه نحو معبد، فطرب حمزة، وقال: أحسنت يا غلام، هذا الغناء غناء معبد وطريقته، فقال: لا تعجل أيها الأمير واسمع مني شيئا آخر ليس من غناء معبد ولا من طريقته، فقال: هات، فغناه باللحن الذي يشير فيه بنوح المرأة، فطرب حمزة حتى ألقى [عليه] «1» حلّة كانت عليه، قيمتها مئة دينار، ودخل معبد فرأى حلّة حمزة عليه فأنكرها وعلم حمزة بذلك، فأخبر معبدا بالسبب، فأمر مالكا فغناه [ص 49] الصوت «2» ، فقال: قد كرهت أخذها فيعتمد غنائي ويدعيه لنفسه، فقال له حمزة: لا تعجل واسمع غناء صنعه «3» ، ليس من شأنك ولا من طريقتك، وأمره أن يغني اللحن الآخر، فغناه، فأطرق معبد، فقال حمزة: والله لو تفرد بهذا لضاهاك، ثم يتزايد على الأيام، وكلما كبر هو زاد، وكلما شخت أنت نقصت ولأن «4» يكون منسوبا إليك، اجمل، فقال معبد وهو منكسر: صدق الأمير فأمر حمزة له بخلعة من ثيابه وجائزة، حتى طابت نفسه، وسكن، فقام مالك على رجله فقبل رأس معبد، وقال له: يا أبا عباد [أساءك] ما سمعت من غنائي، بالله العظيم لا أغني لنفسي شيئا أبدا ما دمت حيا، فإن غلبتني نفسي فغنيت شعرا استحسنته لأنسبنّه إليك، فطب نفسا وارض عنّي، فقال له معبد: أو تفعل هذا وتفي به؟ قال: إي والله وأزيد، وكان مالك بعد ذلك إذا غنّى صوتا فسئل عنه، قال: هذا لمعبد، ما غنيت لنفسي شيئا قط، وإنما(10/106)
آخذ غناء معبد فأنقله إلى الأشعار وأحسّنه وأزيد فيه وأنقص منه.
قال ابن عائشة: حضرت الوليد بن يزيد يوم قتل، وكان مالك بن أبي السمح معنا، وكان أحمق الخلق، فلما قتل الوليد قال: اهرب بنا، فقلت: وما يريدون منا؟ فقال: وما يؤمنك أن يأخذوا رأسينا فيجعلوا رأسه بينهما ليخفوا أمرهم بذلك، قال ابن عائشة: فما رأيت منه عقلا قط قبل ذاك اليوم.
وفي مالك بن أبي السمح يقول الحسين بن عبد الله بن العباس: «1» [المنسرح]
أبيض كالبدر أو كما يلمع ال ... بارق في حالك من الظّلم
من ليس يعصيك إن رشدت ولا ... يهتك حقّ الإسلام والحرم «2»
فيقال إن مالكا قال له: والله ولا إن غويت أيضا أغضبك
17- دحمان الأشقر «3»
نفق على الخلائف، ونفذ من برّهم باللطائف حتى سمت به نفسه إلى رتب الصعود، وطلب مالم ينله إلا ولاة العهود، وكان له على المهدي نفاق، وبكرمه المجدي أرزاق «4» ، وكان أطرب من سمع، وأطيب من عليه جمع، كان إذا غنّى(10/107)
كأنما يستلّ الأكباد [ص 50] ويستلب في كل لحن قطعة من الفؤاد.
قال أبو الفرج: كان يقول: ما رأيت باطلا أشبه بحق من الغناء. ويقال: إن دحمان شهد عند عبد العزيز بن حنظلة «1» وهو يلي القضاء، لرجل من أهل المدينة على رجل من أهل العراق شهادة فأجازها وعدله «2» ، فقال العراقي: إنه دحمان، قال: أعرفه ولو لم أعرفه لسألت عنه، فقال: إنه يغني، ويعلم الجواري الغناء، قال: غفر الله لنا ولك، وأيّنا لا يتغنّى، اخرج إلى الرجل من حقه.
قال عمر «3» بن شبّة: بلغني أن المهدي أعطى دحمان في ليلة خمسين ألف دينار، وذلك أنه غناه من شعر الأحوص: «4» [مجزوء الوافر]
قطوف المشي إذ تمشي ... ترى في مشيها خرقا «5»
فطرب واستخفه السرور حتى قال لدحمان: سلني ما شئت، قال: ضيعتان بالمدينة يقال لهما: ريان وغالب «6» ، فأقطعه إياهما، فلما خرج التوقيع إلى أبي عبد الله وعمر بن بزيع، راجعا المهدي فيه وقالا: إن هاتين الضيعتين لم يملكهما(10/108)
قط إلا خليفة، وقد استقطعهما ولاة العهود في أيام بني أمية فلم يعطوها، فقال:
والله لا أرجع عنهما إلا بعد أن يرضى، فصولح على خمسين ألف دينار.
قال إسحاق: مرّ دحمان الأشقر المغني وعليه رداء جيد، فقال له بعض من حضر: بكم اشتريت هذا يا أبا عمرو؟ فقال: [المنسرح]
[ما] ضرّ جيراننا إذ انتجعوا «1»
18- سياط «2»
كان سرورا للسامع، وشجا لابن جامع، لا يزال يغيظه ويزهق باقي ذمائه «3» من ليس، ويفيظه «4» ولم تكثر عدد أصواته التي صنفها، وأبياته في الأنغام التي ألفها، إلا أنه يكثر فيها الصناعة، ويظهر فيها البراعة، ويطرب بها ما لا يطرب اليراعة «5» ، وكانت أخباره قلائل، وآثاره عليه دلائل.
قال أبو الفرج، قال إسحاق: ولقب هذا اللقب لأنه كان كثيرا ما يغني: «6»(10/109)
[الوافر]
كأنّ مزاحف الحيّات فيها ... قبيل الصّبح آثار السّياط
قال المهدي يوما وهو يشرب لسلامة الأبرش: جئني بسياط وعقال «1» وحبال، فارتاع كل من حضر، وظن جميعهم أنه يريد الإيقاع بهم، فجاء بسياط المغني [ص 51] وعقال المدائني الذي كان يوقع عليه، وحبال الزامر، فجعل الندماء يشتمونهم، والمهدي يضحك.
قال: دخل ابن جامع على سياط وقد نزل به الموت، فقال له: ألك حاجة؟ قال: نعم، قال: لا تزد «2» في غنائي شيئا ليس منه، دعه رأسا برأس، فإنما هو ثمانية عشر صوتا.
19- ابن جامع «3»
مطرب جليل، ومطر ما عنده قليل، لم يقصر عن إسحاق فيما جمع، ولا تأخر فيما لم يعلق به طمع، وكان لا يرى إلا أن يكون ظيره، وأن يعدّ نظيره «4» ، وله في كل حديث إذا شاء نصيب، وكلام مصيب، إلا أن الغناء كان عليه العلم الذي به عرف، والسبب الذي لولاه لما كان عكف.(10/110)
قال أبو الفرج: كان حسن السمت «1» ، كثير الصلاة، قد أخذ السجود في جبهته «2» ، وكان يعتم بعمامة سوداء، على قلنسوة، ويلبس لباس الفقهاء، ويركب حمارا مرّيسيّا «3» في زي أهل الحجاز، فبينما هو واقف على باب يحيى بن خالد يلتمس الاذن عليه، إذ أقبل أبو يوسف القاضي بأصحابه أهل القلانس «4» ، فوقف ابن جامع إلى جانبه فالتفت اليه أبو يوسف، فرأى سمته وحلاوة هيئته، فقال له: امتع الله بك، توسمت فيك الحجازية، قال: أصبت، قال: فمن أي قريش؟ قال: من بني سهم، قال: فأي الحرمين منزلك؟ قال: مكة، قال: فمن لقيت من فقهائهم؟ قال: [سل] عمّن شئت، ففاتحه في الحديث فوجد عنده ما أحبّ، فأعجب به، ونظر الناس إليهما فقالوا: هذا القاضي قد أقبل على المغني، وأبو يوسف لا يدري أنه ابن جامع، فقال أصحابه: لو أخبرناه عنه، ثم قالوا: لعله لا يعود إلى مرافقته بعد اليوم، فلم نغمّه، فلما كان في الإذن الثاني ليحيى، غدا عليه الناس، وغدا عليه أبو يوسف، فنظر ابن جامع، فلما رآه ذهب فوقف إلى جانبه، فحادثه كما فعل [في المرة الاولى] فلما انصرف قال له بعض أصحابه: أيها القاضي، أتعرف هذا الذي ترافقه وتحادثه؟ قال: نعم، رجل من قريش من أهل مكة من الفقهاء، قالوا: هذا ابن جامع المغني، قال: إنّا لله، قالوا: إن الناس قد شهدوا مرافقته «5» فأنكروا ذلك من فعلك. فلما كان الإذن الثالث، جاء أبو يوسف ونظر إليه فتنكّبه، وعرف ابن جامع أنّه قد [ص 52](10/111)
أنذر، فجاء حتى وقف وسلم عليه، فرد أبو يوسف بغير ذلك الوجه الذي كان يلقاه [به] ، ثم انحرف عنه، فدنا منه ابن جامع، وعرف الناس القصة، وكان ابن جامع جهيرا، فرفع صوته ثم قال: يا أبا يوسف، مالك تعرض عنّي؟ أي شيء أنكرت؟ قالوا لك إني ابن جامع المغني فكرهت مرافقتي «1» ، اسألك عن مسألة فاصنع «2» ما شئت، وأقبل الناس نحوهما مستمعين، فقال: يا أبا يوسف، لو أن أعرابيا جلفا وقف بين يديك، فأنشدك بجفاء وغلظ من لسانه، فقال وحكى الأعرابي: «3» [البسيط] .
يا دار ميّة بالعلياء فالسّند ... أقوت وطال عليها سالف الأبد
أكنت ترى بذلك بأسا؟ قال: لا، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سماع الشعر، وقد روي عنه الحديث. قال ابن جامع: فإن قلت [أنا] هكذا، ثم اندفع يغني فيه حتى أتى عليه، ثم قال: يا أبا يوسف، رأيتني زدت فيه أم نقصت؟ قال: عافاك الله، اعفنا من هذا، قال: يا أبا يوسف، أنت صاحب فتيا، هل زدته أم حسّنته بألفاظي فحسن في السمع، ووصل إلى القلب. ثم تنحّى عنه ابن جامع.
قال: دعا الرشيد يوما جعفر بن يحيى، وابن جامع عنده، فلم يزل يغنّيهم يومهما، ثم انصرفا، فلما كان من الغد، دخل إبراهيم الموصلي على جعفر بن يحيى، فسأله عن يومه فقال له: إنّه لم يزل ابن جامع يغنّينا إلا أنه كان يخرج عن الإيقاع- وهو في قوله هذا يريد أن يطيب نفس إبراهيم- قال، فقال إبراهيم:
أنت تريد أن تطيب نفسي بما لا تطيب، ألا بالله ما ضرط ابن جامع منذ ثلاثين سنة إلا بإيقاع، فكيف يخرج عن الإيقاع في الغناء؟(10/112)
كان ابن جامع برّا بوالدته، وكانت مقيمة بمكة، فدعاه إبراهيم بن المهدي فأظهر له كتابا إلى أمير المؤمنين في نعي والدته، فجزع لذلك جزعا شديدا، وجعل يعزيه جميع من حضر، وجاؤوا بالطعام فلم يتركوه حتى أكل وشرب، وسألوه الغناء فامتنع، فقال له إبراهيم: إنك ستبذل هذا لأمير المؤمنين، فابذله لإخوانك، فاندفع يغنّي: «1» [البسيط]
كم بالدّروب وأرض الشام من قدم ... ومن مصارع قوم ما هم قبروا
بقندهار ومن تقدر منيّته ... بقندهار يرجّم دونه الخبر «2»
[ص 53] وجعل إبراهيم يسترده حتى صلح له، ثم قال: لا والله، ما كان مما أخبرناك شيء «3» ، فإنما مزحنا معك، فطابت نفسه، ثم قال له إبراهيم: ردّ عليه الصوت، فغنّاه، فلم يكن من الغناء الأول في شيء، فقال إبراهيم: خذه الآن عليّ، فأدّاه إبراهيم على السماع [الأول] ، فقال له ابن جامع: أحب أن تطرحه أنت عليّ كذلك.
قال ابن جامع: ضمني الدهر «4» ضما شديدا بمكة، فانتقلت عنها بعيالي إلى المدينة، فأصبحت يوما ولا أملك إلا ثلاثة دراهم، فهي في كمي، إذا أنا بجارية حميراء، على رقبتها جرة تريد الرّكي «5» تستقي، وهي ترنم بصوت شجي: «6» [الطويل] .
شكونا إلى أحبابنا طول ليلنا ... فقالوا لنا ما أقصر الليل عندنا(10/113)
وذاك بأنّ النّوم يغشى عيونهم ... سراعا ولا يغشى لنا النّوم أعينا «1»
إذا ما دنا اللّيل المضرّ بذي الهوى ... جزعنا وهم يستبشرون إذا دنا
فلو [أنّهم] كانوا يلاقون مثل ما ... نلاقي لكانوا في المضاجع مثلنا
قال: فأخذ الغناء بقلبي، ولم يدر لي منه حرف، فقلت: يا جارية ما أدري أوجهك أحسن أم غناؤك؟ فلو شئت أعدت، قالت: حبا وكرامة، ثم اندفعت فغنّته، فو الله ما دار لي منه حرف، فقلت: أحسنت فلو تفضلت فأعدته مرة أخرى، فقطّبت وكلحت «2» وقالت: ما أعجب أحدكم! لا يزال يجيء إلى الجارية عليها الضريبة فيشغلها، فضربت يدي إلى ثلاثة الدراهم فدفعتها إليها، وقلت لها: أقيمي بها وجهك اليوم إلى أن نلتقي، فأخذتها كالكارهة وقالت:
أنت الآن تريد أن تأخذ مني صوتا، أحسبك ستأخذ عليه ألف دينار وألف دينار، قال:: واندفعت تغني، فأعملت فكري في غنائها حتى بان لي الصوت وانصرفت مسرورا إلى منزلي أردّده حتى خفّ على لساني، ثم إني لما خرجت أريد بغداد، دخلتها فنزل بي المكاري على باب المحوّل «3» ، ولا أدري أين أتوجه، ولا من أقصد، فمازلت أمشي مع الناس حتى أتيت الجسر، فعبرت ثم انتهيت إلى الشارع بالميدان، فرأيت مسجدا بالقرب من دار الفضل بن الربيع مرتفعا، فقلت: مسجد قوم سراة، فدخلته وحضرت صلاة المغرب فصلّيت، وأقمت مكاني حتى صليت [ص 53] العشاء الآخرة على جوع وتعب، وانصرف أهل المسجد، وبقي رجل يصلي خلفه جماعة من الخدم وخول «4»(10/114)
ينتظرون فراغه، فصلّى ملّيا، ثم التفت فقال لي: أحسبك غريبا، فقلت: أجل، فقال:
متى كنت في هذه المدينة، فقلت: آنفا، وليس لي بها منزل ولا معرفة، وليست صناعتي من الصنائع المذكورة لأهل الخير، قال: وما صناعتك؟ قلت: الغناء، فوثب مبادرا، فدخل ووكل بي بعض من معه، فسألت الموكّل بي فقال: هذا سلام الأبرش «1» ، قال: فانتهى إلى قصر من قصور الخليفة وجاوز بي من مقصورة إلى مقصورة، حتى أدخلني إلى مقصورة في آخر الدهليز، ودعا بطعام، فأتيت بمائدة عليها طعام من طعام الملوك، فأكلت حتى امتلأت، فإني كذلك إذ سمعت ركضا من الدهليز وقائلا يقول: أين الرجل؟ قال: ها هو ذا، قال: ادعوا له بغسول وخلعة وطيب، ففعل بذلك بي، وحملت على دابة إلى دار الخليفة، فعرفتها بالتكبير والحرس والنيران، فجاوزت مقاصير «2» عدة، حتى صرت إلى دار قوراء «3» فيها أسرة في وسطها قد أضيف بعضها إلى بعض، قال: فأمرني الرجل بالصعود، فصعدت، وإذا رجل جالس عن يمينه ثلاث جوار في حجورهن العيدان، وفي حجر الرجل عود، فرحّب الرجل بي، وإذا مجالس خالية، كان فيها قوم قد قاموا عنها، فلم ألبث أن خرج خادم من وراء الستر، فقال للرجل: تغنّ، فانبعث يغنّي بصوت فيه لي وهو: «4» [البسيط]
لم تمش ميلا ولم تركب على قتب ... ولم تر الشّمس إلا دونها الكلل
تمشي الهوينى كأنّ الشمس توحشها ... مشي اليعافير في جيآته الوهل «5»(10/115)
فغنّى بغير إصابة وأوتار مختلفة ودساتين «1» مختلفة، ثم عاد الخادم إلى الجارية التي تليه فقال: تغنّي، فغنت بصوت لي كانت فيه أحسن حالا من الرجل، وهو: «2» [البسيط]
يا دار أضحت خلاء لا أنيس بها ... إلا الظّباء وإلا الناشط الفرد «3»
أين الذين إذا ما زرتهم جذلوا ... وطار عن قلبي التّشواق والكمد
ثم عاد الخادم إلى الجارية الثانية فاندفعت تغني بصوت لحكم الوادي وهو: «4» [الطويل]
فو الله ما أدري أيغلبني الهوى ... إذا جدّ جدّ البين أم أنا غالبه
فإن أستطع أغلب وإن يغلب الهوى ... فمثل الذي لا قيت يغلب صاحبه
[ص 55] ثم عاد الخادم إلى الجارية الثالثة فغنّت بصوت لحنين وهو قوله: «5» [الطويل]
مررنا على قيسيّة عامريّة ... لها بشر صافي الأديم هجان «6»
فقالت وألقت جانب السّتر دونها ... من ايّة أرض أم من الرّجلان
فقلت لها أما تميم فأسرتي ... هديت وأمّا صاحبي فيمان
رفيقان ضمّ السّفر بيني وبينه ... وقد يلتقي الشّتى فيأتلفان(10/116)
قال: ثم خرج الخادم فقال: تغنّ عافاك الله، فغنّيت بصوت الرجل على غير غنائه، فإذا الخادم قد خرج فقال لي ويحك لمن هذا الغناء؟ فقلت: لي، فانصرف عنّي ثم عاد فقال: كذبت، هذا الغناء لابن جامع، ودار الدّور، فلما انتهى إليّ غنيته بصوت الجارية الثانية، فخرج الخادم فقال: ويحك لمن هذا الغناء؟ فقلت:
لي، فرجع وخرج فقال: كذبت، هذا لابن جامع، ودار الدّور فلمّا انتهى إليّ الغناء تغنيت بصوت لي [لا] يعرف إلا بي، وهو: «1» [الكامل]
عوجي عليّ وسلّمى جبر ... فيم الصّدود وأنتم سفر
ما نلتقي إلا ثلاث منى ... حتّى يفرق بيننا النّفر «2»
قال: فزلزلت والله الدار عليهم، وخرج الخادم فقال: ويحك، لمن هذا الغناء؟
فقلت: لي، فرجع ثم خرج فقال: كذبت، هذا الغناء لابن جامع، فقلت: أنا إسماعيل بن جامع، قال: فما أشعر إلا وأمير المؤمنين وجعفر بن يحيى قد أقبلا من وراء الستر الذي كان يخرج منه الخادم، فقال له الفضل بن الربيع: هذا أمير المؤمنين قد أقبل إليك، فلما صعد السرير وثبت قائما، فقال لي: ابن جامع؟
فقلت: ابن جامع جعلت فداك يا أمير المؤمنين، فقال لي: ويحك متى كنت في هذه المدينة؟ فقلت: آنفا دخلتها في الوقت الذي علم بي أمير المؤمنين.
قال: اجلس ويحك يا بن جامع، ومضى هو وجعفر بن يحيى فجلسا في بعض تلك المجالس، وقال لي: أبشر يا بن جامع وابسط أملك، فدعوت له، ثم قال:
غنّني يا ابن جامع غنّني، فخطر ببالي صوت الجارية، فاندفعت أغنّيه، فنظر(10/117)
الرشيد إلى جعفر وقال: سمعت كذا قط؟ قال جعفر: لا والله ما خرق مسامعي قط مثله، فرفع الرشيد رأسه إلى خادم له بالقرب منه، فدعا [ص 56] بكيس فيه ألف دينار فرمى به إليّ، فصيرته تحت فخذي ودعوت لأمير المؤمنين، فقال جعفر: يا بن جامع، ردّ على أمير المؤمنين الصوت، فرددته وتزيدت في غنائي، فقال له جعفر: يا سيدي، ما تراه كيف يتزيّد في الغناء؟ هذا خلاف ما سمعنا أولا، وإن كان الأمر في اللحن واحدا، ثم دعا بكيس آخر فيه ألف دينار، فجاءني به، فصيرته تحت فخذي، وقال: تغنّ «1» يا إسماعيل ما حضرك، فجعلت أقصد الصوت بعد الصوت مما كان يبلغني أنه يشتري عليه الجواري، فأغنيه فلم أزل أفعل ذلك إلى أن عسعس «2» الليل، فقال: أتعبناك يا إسماعيل هذه الليلة بغنائك، فأعد على أمير المؤمنين الصوت، يعني صوت الجارية، فغنّيت به، فدعا بكيس ثالث فيه الف دينار، قال: فذكرت ما كان من قول الجارية فتبسمت، فقال: يا بن الفاعلة ممّ تتبسّم؟ فجثوت على ركبتي وقلت: يا أمير المؤمنين، الصدق منجاة فقال بانتهار:
قل، فقصصت عليه خبر الجارية، فقال: صدقت قد يكون هذا، وقام فنزل عن السرير، وبقيت لا أدري أين أقصد، فابتدرني فرّاشان، فصارا بي إلى دار قد أمر لي بها أمير المؤمنين، ففرشت وجعل فيها جميع ما يكون في مثلها من آلة جلساء الملوك وندمائهم، فدخلت بغداد فقيرا وأصبحت من جلّة أهلها ومياسيرهم.
قال: كان ابن جامع يعدّ [صيحة الصوت] «3» قبل أن يصنع عمود اللحن.
قال ابن جامع: لولا أن القمار وحبّ الكلاب قد شغلاني ما تركت أحدا من المغنّين يأكل خبزا.(10/118)
قال: أهدى رجل إلى ابن جامع كلبا، فقال: ما اسمه؟ قال: لا أدري، فأخرج دفترا فيه أسماء الكلاب فجعل يدعوه باسم اسم حتى أجابه.
20- جميلة «1»
مغنية المدينة ومغنية أهلها عن كل زينة، وكان بيتها منتدى الظرفاء ومنتأى الشرفاء، وفتنة لأهل القريتين، ومظنة لسكان الحرّتين «2» ، لا يفتأ فتيان الحي تبغي ائتلافها وتولي الودّ ورّادها وألافها، ونوت نية صالحة في ترك الغناء فما تركت، وكثر عليها فلو لم تكفّ «3» لأصبحت المدينة وكم فيها مهجة سفكت [ص 57] .
قال أبو الفرج، قال إسحاق: بلغني أن جميلة قعدت يوما على فرش لها وقالت لآذنتها: لا تحجبي اليوم عنّا أحدا، واقعدي على الباب، وكلّ من مرّ فاعرضي عليه مجلسي، ففعلت ذلك حتى غصّت الدار بالناس، فقالت جميلة:
اصعدوا إلى العلالي، فصعدت جماعة حتى امتلأت «4» السطوح، وتعالى النهار، واشتد الحر، فاستسقى الناس الماء، فدعي لهم بالسويق «5» ، فشرب من أراد، وقام على رؤؤسهم الجواري بالمناديل والمراوح الكبار، ثم قالت: إني رأيت في(10/119)
منامي شيئا فأفزعني «1» ، وقد خفت أن يكون قد قرب أجلي، وليس ينفعني إلا صالح عملي، وقد رأيت أن أترك الغناء كراهة أن يلحقني منه شيء عند ربي، فقال قوم منهم: نفعك الله وثبت عزمك، وقال آخرون: لا حرج عليك، وقال الشيخ منهم: قد تكلمت الجماعة، وكل حزب بما لديهم فرحون، فاسمعوا قولي وأنصتوا، ثم حمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا معشر أهل الحجاز، إنكم متى تخاذلتم فشلتم، ووثب عليكم عدوكم وظفر بكم، فلا تفلحوا بعدها أبدا، قد انقلبتم على أعقابكم لأهل العراق وغيرهم، ممن لم يزل ينكر عليكم ما هو وراثة فيكم، لا ينكره عالمكم، ولا يدفعه عابدكم، وأكثر ما يكون الجلوس عنه لا للتحريم له، لكن الزهد في الدنيا «2» ، لأن الغناء من أكبر اللذات وأسرّ للنفوس من سائر الشهوات، يحيي القلب ويزيد في العقل ويسر النفوس، ويفسح في الرأى، وتسر به العين، وتفتح به الحصون، وتذلل به الجبابرة، حتى يمتهنوا أنفسهم عند استماعه، ويبرئ المرض، ومن مات عقله وقلت شهوته، يزيد أهل الثروة غنى، وأهل الفقر قناعة ورضا، ومن تمسك به كان عالما، ومن فارقه كان جاهلا، وكيف يستحسن تركه ولا يستعان على النشاط في عبادة ربنا إلا به. فما رد أحد عليه حرفا، ولا أنكر ذلك عليه، وعاد كل بالخطإ على نفسه، وأقر له بالفضل، ثم قال لجميلة: أوعيت ما قلت، ووقع في نفسك ما ذكرت؟ قالت: أجل، وأنا أستغفر الله، قال:
فاختمي مجلسنا وفرقي جمعنا بصوت واحد، فغنت هذا البيت: «3» [الطويل]
أفي رسم دار دمعك المترقرق ... سفاها وما استنطاق ما ليس ينطق(10/120)
[ص 58] فقال الشيخ: حسن والله، أمثل هذا يترك؟ فيم يتشاهد الرجال؟
لا والله ولا كرامة للشيطان، ثم قام [وقام] الناس معه، وقال: الحمد لله الذي [لم] يفرق جماعتنا على إنكار حسن، ولا جحود فضيلة، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته يا جميلة.
ومن مشهور غناء جميلة صنعتها في بيتين لامرئ القيس وهما: «1» [الطويل]
ولمّا رأت أنّ الهجير يضرّها ... وأنّ البياض في فرائصها دامي «2»
تيمّمت العين التي عند ضارج ... يفيء عليها الظّلّ عرمضها طامي «3»
21- معبد «4»
رأس الجماعة، وأساس الطرب، الذي لا يملّ أحد سماعه، وهو الذي ينشي السامع، وينسي حديث سواه خروق المسامع ويأتي بالبدائع، التي تضرب دونها أعناق الرجال المطامع، ويتفرد بالصنائع التي لم تقع على مثلها عين وما طهرتها بالمدامع، سمعت منه الأصوات وقرعت به اللهوات، وجاء بكل المراد، فلم يدع(10/121)
غرضا «1» للغريض، ولا شهوة لشهوات أكرم به من معبد لم ير مثله من يمشي بنظره في الجامع كتاب أبي الفرج وطلب الزيادة وصعد الدرج، بل ولو زاد في شدّة الأسر وحلّق، حتى حام على النسر.
وما قصبات السبق إلا لمعبد «2»
قال أبو الفرج الاصفهاني، قال إسحاق: كان معبد يقول:
لقد صنعت ألحانا لا يقدر أن يغنيها شبعان، ولا يقدر سقّاء يحمل القربة على الترنّم بها حتى يقعد مستوفزا «3» ، ولا القاعد حتى يقوم.
قال إسحاق: قيل لمعبد كيف تصنع إذا أردت أن تصوغ الغناء؟ قال: أرتحل قعودي «4» ، وأوقّع بالقضيب على رحلي، وأترنّم عليه بالشعر حتى يتبين لي الصوت، فقال له: ما أبين هذا في غنائك!
قال ابن الكلبي: قدم ابن سريج والغريض المدينة يتعرضان لمعروف أهلها، فلما شارفاها تقدّما ثقلهما ليرتادا منزلا حتى إذا كانا بالمغسلة، وهي جبّانة على طرف المدينة يغسل فيها الثياب، إذا هما بغلام ملتحف بإزار، وطرفه على رأسه، وبيده حبالة يتصيّد بها الطير، وهو يغني هذا الصوت: «5» [البسيط](10/122)
القصر فالنّخل فالجمّاء بينهما ... أشهى إلى القلب من أبواب جيرون
[ص 59] فإذا الغلام معبد، فلما سمعاه مالا إليه فاستعاداه منه، فسمعا شيئا لم يسمعا مثله قط، فأقبل أحدهما على الآخر فقال: هل سمعت مثل هذا قط؟
قال: لا والله، قال: فما رأيك؟ قال ابن سريج: هذا غناء غلام يتصيد الطير، فكيف بمن في الحومة؟ - يعني المدينة- أما أنا فثكلته والدته إن لم يرجع، فكرّا راجعين.
قال إسحاق: أخبرت عن معبد أنه قال «1» : بعث إليّ بعض أمراء مكة بالشخوص إليه، فشخصت، قال: فتقدمت غلامي في بعض الطريق واشتد عليّ الحر والعطش فانتهيت إلى خباء فيه غلام أسود، وإذا حباب «2» ماء قد بردت، فملت إليه، وقلت: يا هذا، اسقني من هذا الماء شربة، قال: لا، قلت: تأذن لي في أن أكنّ «3» ساعة؟ فأنخت ناقتي ولجأت إلى ظلها واستترت به، وقلت: لو أحدثت «4» لهذا الأمير شيئا أقدم [به] عليه، ولعلي أيضا إن حرّكت لساني أن يبتلّ حلقي بريقي فيخف عني بعض ما أجده من العطش، فترنمت بصوتي: «5» [البسيط]
القصر فالنّخل فالجمّاء بينهما ... أشهى إلى القلب من أبواب جيرون
فلما سمعه الأسود، ما أشعر إلا وهو قد حملني حتى أدخلني خباءه، وقال:
بأبي أنت وأمي، هل لك في سويق السّلت «6» بهذا الماء البارد؟ قلت: قد(10/123)
منعتني أقلّ من ذلك شربة ماء تجزئني «1» . قال: فسقاني حتى رويت وأقمت عنده إلى وقت الرواح، فلما رأيت الرحلة قال: بأبي أنت وأمي، الحر شديد ولا آمن عليك مثل هذا الذي أصابك، فتأذن لي في أن أحمل قربة من ماء على عاتقي وأسعى بها معك، فكلما عطشت سقيتك صحنا «2» وغنّيتني صوتا.
قال: قلت ذلك [لك] ، قال: فأخذ قربة فملأها ماء باردا من ذلك الماء، وحملها على عاتقه، وركبت أنا راحلتي، فأقبل يسقيني شربة وأغنّيه صوتا حتى بلغت المنزل الذي أردت ولحقت بغلامي وثقلي «3» .
قال إسحاق: حدّثني سياط عن يونس الكاتب قال: كان معبد قد علّم جارية من جواري الحجاز الغناء تسمى (ظبية الوادي) وعني بتخريجها، فاشتراها رجل من أهل العراق، فأخرجها إلى البصرة، وباعها هناك، فاشتراها رجل من أهل الأهواز فأعجب بها، وذهبت به كل مذهب، وغلبت عليه، ثم مات، بعد أن أقامت عنده زمانا، فأخذ جواريه أكثر غنائها [عنها] وكان لمحبته [إيّاها] وأسفه عليها، لا يزال يسأل عن معبد وأين [ص 60] مستقره، ويظهر التعصب له والميل إليه، والتقديم لغنائه على سائر أغاني أهل عصره، إلى أن عرف ذلك منه، وبلغ معبدا خبره، فخرج إليه، فلما قدم البصرة، صادف الرجل قد خرج منها في ذلك اليوم إلى الأهواز، فلم يجد إلا سفينة الرجل، وليس يعرف أحدهما صاحبه، فأمر الرجل الملاح فأجلسه معه في مؤخرة السفينة، ففعل ذلك وانحدر، فلما صاروا في نهر الأبلّة «4» تغدوا وشربوا، وأمر جواريه فغنّين ومعبد ساكت، وهو [في](10/124)
ثياب السفر، وعليه فرو وخفّان غليظان، إلى أن غنّت إحدى جواريه صوت معبد في شعر النابغة: «1» [البسيط]
بانت سعاد وأمسى حبلها انصرما ... واحتلّت الغور فالأجزاع من إضما «2»
ولم تجد أداءه، فصاح معبد: يا جارية، هذا ليس بمستقيم، فقال مولاها وقد غضب: وأنت ما يدريك الغناء ما هو؟ ألا تمسك وتلزم شأنك، فأمسك ثم غنّت صوتا من غناء غيره وهو ساكت لا يتكلم، حتى غنت صوتا اخر لمعبد في شعر عبد الرحمن بن أبي بكر: «3» [المديد]
يا بنة الجوديّ قلبي كئيب ... مستهام عندها ما يثيب
فأخلّت ببعضه، فقال معبد: يا جارية، قد أخللت بهذا الصوت إخلالا بينا، فغضب الرجل وقال: ويلك ما أنت والغناء؟ ألا تكفّ عن الفضول؟ فأمسك، فغنّت إحداهن في شعر كثيّر، وقالت: «4» [الطويل]
خليلّي عوجا فابكيا ساعة معي ... على الرّبع نقض حاجة ونودّع
فلم تصنع شيئا، فقال معبد: يا هذه ما تقومين «5» على أداء صوت واحد، فغضب الرجل وقال: أقسم بالله لئن عاودت لأخرجنّك من السفينة، فلما سكن(10/125)
الجواري، اندفع معبد يغني الصوت الأول، فصاح الجواري: أحسنت والله يا رجل، فأعده، فقال: لا والله ولا كرامة، ثم غنّى الثاني فقلن لسيّدهنّ: هذا والله أحسن الناس غناء، فاسأله أن يعيد علينا ولو مرة واحدة، لعلنا نأخذ منه، فو الله إن فاتنا لم نجد مثله أبدا، فقال الرجل: قد أسلفناه مكروها، فاصبرن حتى نداويه، ثم غنّى الثالثة، فزلزلت عليهم الأرض، فوثب الرجل فقبل رأسه وقال: يا سيدي أخطأنا عليك، ولم نعرف موضعك، وسأله أن يختلط معه، وسأل: من أين أخذ جواريه الغناء، فأعلمه، فقال معبد: وإنك [ص 61] لأنت هو، فتعرفني؟ قال: لا والله، قال: أنا معبد، وإليك قدمت من الحجاز، والله لا قصرت في جواريك، فأكبّ «1» على يديه ورجليه، ثم خلع الرجل عليه عدة خلع، وأعطاه من وقته ثلاث مئة دينار وطيبا وهدايا، وانحدر معه إلى الأهواز، فأقام عنده حتى رضي حذق جواريه، وما أخذنه عنه، ثم ودّعه وانصرف إلى الحجاز.
قال: قال الوليد بن يزيد يوما: لقد اشتقت إلى معبد، فوجّه إليه البريد إلى المدينة، فأتي بمعبد وأمر به فجلس، والبركة بينهما مملوءة بالخمر والماء وستر مرخى، فقال: غنّني يا معبد، فقال: «2» [البسيط]
لهفي على فتية دان الزّمان بهم «3» ... فما أصابهم إلا بما شاؤوا
ما زال يعدو عليهم ريب دهرهم ... حتّى تفانوا وريب الدّهر عدّاء
أبكي فراقهم عيني فأرّقها ... إنّ التّفرّق للأحباب بكّاء
فغنّاه إياها، فرفع الوليد السّتر، ونزع ملاءة مطيّبة كانت عليه، وقذف بنفسه(10/126)
في البركة، فنهل فيها نهلة، ثم أتي بأثواب غيرها، وتلقوه بالمجامر والطيب، ثم قال: يا معبد، غنّني، فقال: «1» [مجزوء الكامل]
ولو انّ دون لقائها جبلا بمزلقة هضابه
لأتيتها إنّ المحبّ إذا نأى طال اكتئابه
ولو أنّ دون لقائها ضرغامة كالزّجّ نابه
لأتيتها بالسيف لا أخاف ولا أهابه
فغنّاه إياها، فرمى نفسه بالبركة، فنهل منها نهلة كان فيها النقصان، ثم أتي بأثواب غيرها، وتلقوه بالمجامر والطيب، ثم قال: غنّني يا معبد، فقلت: «2» [الكامل]
يا ربع مالك لا تجيب متيّما ... قد عاج نحوك زائرا ومسلّما
جادتك كلّ سحابة هطّالة ... حتّى ترى عن زهرة متبسّما
قال فدعا له بخمسة عشر ألف دينار، فصبّها بين يديه، ثم قال: انصرف إلى أهلك واكتم ما رأيت.
قال، قال يزيد بن عبد الملك يوما لمعبد: يا عباد، أريد أن أخبرك عن نفسي وعنك، فإن قلت فيه خلاف ما تعلم فلا تحاش أن تردّ عليّ، فقد [ص 62] أذنت لك، فقال: يا أمير المؤمنين، لقد وضعك ربك بموضع لا يعصيك إلا ضال ولا يرد عليك إلا مخطئ، فقال: إنّ الذي أجده في غنائك لا أجده في غناء ابن سريج، أجد في غنائك متانة وفي غنائه انخناثا «3» ولينا، فقال: والذي أكرم(10/127)
أمير المؤمنين بخلافته وأرضاه لعباده، وجعله أمينا على أمة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ما عدا صفتي وصفة ابن سريج، وكذا يقول ابن سريج وأقول، ولكن إن رأى أمير المؤمنين أن يعلمني هل وضعني ذلك عنده فليفعل. قال: لا والله، ولكني أوثر الطّرب على كلّ شيء، قال: يا سيدي كلما كان ابن سريج يذهب إلى الخفيف من الغناء، أذهب أنا إلى الكامل التام، فأغرب أنا، ويشرق هو، فمتى نلتقي؟ قال:
أفتقدر أن تحكي رقيق ابن سريج؟ قال: نعم، فصنع لحنا في الخفيف: «1» [الهزج]
ألا لله أمّ و ... لدت أخت بني سهم
هشام وأبو عبد ... مناف مدره الخصم
وذو الرّمحين أشباك «2» ... على القوّة والحزم
فهذان يذودان ... وذا عن كثب يرمي
وغنّاه، فردّ عليه أولا، فأعاد ثم قال: أعد، فأعاد فاستخفّه، ثم قال لجواريه:
افعلن كما أفعل، وجعل يدور في الدار ويقول: «3» [مجزوء الرجز]
يا دار دوّريني ... يا قوم أمسكوني «4»
آليت منذ حين ... حقّا لتصرميني
إن لم تواصلوني «5» ... بالله فارحميني
لم تذكري يميني(10/128)
قال: فلم يزل يدور كما يدور الصبيان ويدرن «1» معه، حتى خرّ مغشيّا عليه ما يعقل ولا يعقلن، فابتدره الخدم فأقاموا من كان على ظهره من الجواري، وحملوه حتى ادخلوه.
قال إسحاق، أخبرت عن حكم الوادي قال: كنت أنا وجماعة من المغنين نختلف إلى معبد، نأخذ عنه ونتعلم، فغنّانا يوما ما صنعه وأعجب به هو: «2» [البسيط]
القصر فالنّخل فالجمّاء بينهما ... أشهى إلى القلب من أبواب جيرون
فاستحسنّاه، وكنت أوّل من أخذه عنه ذلك اليوم فاستحسنه مني، وأعجبته نفسه، فلما انصرفت عملت فيه لحنا آخر، وبكرت إلى معبد مع أصحابي وأنا معجب بلحني، فلما تغنينا أصواتا قلت له: إنّي قد عملت بعدك لحنا في الشعر الذي غنيت فيه، واندفعت فغنيته [ص 63] لحني فوجم معبد ساعة يتعجب منه، ثم قال: قد كنت أمس أرجى منّي اليوم لك، وأنت اليوم أبعد من الفلاح، قال حكم الوادي: فأنسيت علم الله صوتي منذ تلك الساعة، فما ذكرته إلى وقتي هذا.
22- ابن سريج «3»
مطرب كان في أصحابه من أهل الانتهاء، نظير موافقه ابن سريج في الفقهاء «4» ، لم يكن إلا من يذعن بتقدمه، ويهابه فلا يكلمه إلا [عند] «5»(10/129)
تبسمه ويفتح وما سمعه، ويلتقط ويتشطط بأمانيه ويشترط، ويصلح خلله الكثير منه باليسير، ويتخذ منه ما يلقيه في أصواته كالإكسير، وكان لأهل مكة البطحاء به ضنانة، وبسببه يهتك نسبه صيانة، تتقيّل بضلاله، وتقيل في ظلاله، وعلى هذا مضى عبّاد الحجاز، كانوا لا يرون بالغناء باسا، ولا يرون أوقات «1» أنسهم بغيره «2» مقياسا.
قال أبو الفرج، قال إسحاق: أصل الغناء أربعة نفر: مكّيان ومدنيّان، فالمكيّان: ابن سريج وابن محرز، والمدنيّان: معبد ومالك «3» .
قال إبراهيم: أدركت يونس الكاتب فحدثني عن الأربعة: ابن سريج وابن محرز ومعبد والغريض، فقلت له: من أحسن الناس غناء؟ قال: أبو يحيى، قلت: عبيد ابن سريج؟ قال: نعم، قلت: وكيف ذلك؟ قال: إن شئت فسّرت وان شئت أجملت، قلت: أجمل، قال: كأنه خلق من كل قلب فهو يغنّي لكل إنسان ما يشتهي.
قال إسحاق: وسألت هشام بن مرّيّة، وكان عمّر، وكان حاذقا بالغناء، فقلت له: من أحذق الناس بالغناء؟ فقال لي: تحب الإطالة أو الاختصار؟ فقلت: أحبّ اختصارا يأتي على سؤالي «4» ، فقال: ما خلق بعد النبي داود عليه السلام أحسن صوتا من ابن سريج، ولا صاغ المغنى أحذق «5» منه، ويدل على ذلك أن معبدا كان إذا أعجبه غناؤه قال: أنا اليوم سريجي.(10/130)
قال: وكان ابن أبي عتيق يسوق في كل عام بدنة «1» ينحرها عنه، ويقول:
هذا بأقل حقه علينا.
قال أبو نافع الأسود، وكان آخر من بقي من غلمان ابن سريج:
إذا أعجزك القرشي أن تطرب فغنّه غناء ابن سريج في شعر ابن أبي ربيعة، فإنك ترقصه.
قال جحظة، حدثني عليّ بن يحيى، قال: أرسلني محمد بن الحسن بن مصعب إلى إسحاق أسأله عن لحنه ولحن ابن سريج [ص 64] في: «2» [الطويل]
تشكّى الكميت الجري لمّا جهدته
أيّهما أحسن؟ فصرت إليه فسألته عن ذلك، قال لي: يا أبا الحسن، والله قد أخذت بخطام «3» راحلته فزعزعتها «4» وأنختها، وقمت بها فما بلغته «5» ، فرجعت إلى محمد بن الحسن فأخبرته، فقال: والله إنه ليعلم أن لحنه أحسن من لحن ابن سريج، ولقد تحامل لابن سريج على نفسه ففضل القدماء.
قال إبراهيم بن المهدي، حدّثني إبراهيم الموصلي، قال: حدّثني الزبير بن دحمان عن أبيه أن معبدا تغنّى في شعر عبد الرحمن بن حسان: «6» [الرمل]
ربّ قلبي بهموم وفكر ... من حبيب هاج حزني والسّهر(10/131)
يوم أبصرت غرابا واقعا ... شرّما طار على شرّ شجر «1»
فعارضه مالك فغنّى في أبيات من هذا الشعر: «2» [الرمل]
وجرت لي ظبية يتبعها ... ليّن الأظلاف من حوّ البقر «3»
كلّما كفكفت منها عبرة ... فاضت العين بمنهلّ درر
قال: فتلاحيا «4» جميعا فيما صنعاه من هذين الصوتين، قال كل واحد منهما لصاحبه: أنا أجود صنعة منك، قال: فتنافرا «5» إلى ابن سريج إلى مكة، فلما قدماها، سألا عنه فأخبرا أنه خرج يتطرّف «6» بالحناّء في بعض بساتينها، فاقتصا «7» أثره حتى وقفا عليه وفي يده الحناء، فقالا له: إنا خرجنا إليك من المدينة لتحكم بيننا في صوتين صنعناهما، فقال لهما: ليغنّ كلّ واحد منكما صوته «8» ، فابتدأ معبد فغنّى لحنه، فقال له: أحسنت والله على سوء اختيارك للشعر، ويحك ما حملك على ما صنعت هذه الصنعة الحسنة في حزن وسهر وهموم وفكر!؟ أربعة ألوان من الحزن في بيت واحد، وفي البيت الثاني شران في مصراع واحد، وهو: «9»
شرّ ما طار على شرّ الشّجر(10/132)
ثم قال لمالك: هات صوتك، فغناه مالك، فقال: أحسنت والله ما شئت، فقال له مالك: وإنما هو ابن شهر «1» ، فكيف تراه يا أبا يحيى إذا حال عليه الحول؟ قال دحمان: فحدثني [ص 65] معبد أن ابن سريج غضب عند ذلك غضبا شديدا، ثم رمى بالحناء من يده وأصابعه، ثم قال: يا مالك، لي تقول هذا هو ابن شهر «1» ؟
اسمع ابن ساعته، ثم قال: يا أبا عباد، أنشدني القصيدة التي تغنيتما فيها «2» ، فأنشدته القصيدة حتى انتهيت إلى قوله: «3» [الرمل]
تنكر الإثمد ما تعرفه ... غير أن تسمع منه بخبر
فصاح بأعلى صوته: هذا خليلي، وهذا صاحبي، ثم تغنّى فيه، فانصرفا مغلوبين مفضوحين، من غير أن يقيما بمكة ساعة واحدة.
قال: لما ضادّ ابن سريج الغريض وتلاحيا، جعل ابن سريج لا يغنّي صوتا إلا عارضه الغريض يغني فيه لحنا غيره، وكانت في بعض أطراف مكة دار يأتيانها «4» كل جمعة، ويجتمع إليهما ناس كثير، فيوضع لكل واحد منهما كرسيّ يجلس عليه، ثم يتقاضيان الغناء ويترادّانه، فلما رأى ابن سريج موقع الغريض وغنائه من الناس لقربه من النوح وشبهه به، مال إلى الأرمال والأهزاج «5» ، فاستخفها الناس، وقال له الغريض: يا أبا يحيى، قصرت الغناء وحذفته وأفسدته، قال: نعم يا مخنث، جعلت «6» تنوح على أبيك وأمك ألي أن تقول هذا، والله لأغنّينّ(10/133)
غناء ما غنّى أحد أثقل منه ولا أجود، ثم غنّى:»
[الطويل]
تشكّى الكميت الجري لما جهدته
قال إسحاق: حدثني شيخ من موالي المنصور قال: قدم علينا المدينة فتيان بني أمية يريدون مكة، فسمعوا معبدا ومالكا فأعجبوا بهما، ثم قدموا مكة فسألوا عن ابن سريج فوجد مريضا، فأتوا صديقا له فسألوه أن يسمعهم غناءه، فخرج معهم حتى دخلوا عليه فقالوا: نحن فتيان من قريش أتيناك مسلمين عليك وأحببنا أن نسمع غناءك «2» فقال: أنا مريض كما ترون، قالوا: إن الذي نكتفي به منك يسير- وكان ابن سريج أديبا طاهر الخلق عارفا بأقدار الناس- فقال: يا جارية، هاتي جلبابي وعودي، فأتته جارية بخامة فشدها على وجهه، وكان يفعل ذلك إذا تغنى لقبح وجهه، ثم أخذ العود فغناهم حتى اكتفوا، ثم ألقى العود وقال: معذرة، قالوا: قد قبل الله عذرك وأحسن إليك، ومسح على ما بك من الضّرّ، ثم انصرفوا يتعجبون مما سمعوا، فمروا بالمدينة منصرفين [ص 66] فسمعوا من معبد ومالك فجعلوا لا يطربون، فقال «3» أهل المدينة: نقسم بالله لقد سمعتم ابن سريج بعدنا، قالوا: أجل لقد سمعناه، فسمعنا ما لم نسمع مثله قط ولقد نقص إلينا ما بعده «4» .
قال إسحاق، حدثني إسحاق بن يحيى بن طلحة قال: قدم جرير المدينة ونحن يومئذ شبّان نطلب الشعر، فاحتشدنا له ومعنا الشعراء، فبينا نحن عنده إذ قام(10/134)
لحاجته، فأقمنا لم نبرح، وجاءنا الأحوص الشاعر من قبا «1» على حمار، فقال:
أين هذا؟ قلنا: قام لحاجته، فما حاجتك إليه؟ قال: إني أريد أن أعلمه أن الفرزدق أشرف منه وأشعر، قلنا: ويحك لا تعرض له، فانصرف وخرج جرير، فلم يكن بأسرع من أن أقبل الأحوص فوقف عليه فقال: السلام عليك، فقال:
وعليك السلام، فقال: يا بن الخطفى، الفرزدق أشرف منك وأشعر، قال جرير:
من هذا؟ قلنا: الأحوص بن محمد، قال: نعم هذا الخبيث ابن الطيب، أنت القائل: «2» [الطويل]
يقرّ بعيني ما يقرّ بعينها ... وأحسن شيء ما به العين قرّت «3»
قال: نعم، قال: إنه يقر عينها أن يدخل فيها مثل ذراع البكر، فيقر ذلك بعينك؟
قال: وكان الأحوص يرمى بالأبنة «4» ، فانصرف فبعث إليهم بتمر وفاكهة، وأقبلنا على جرير نسأله، وألح عليه أشعب فقال له: والله إني لأراك أقبحهم وجها، وأظنّك الأمهم حسبا، وقد أبرمتني منذ اليوم، فقال: إني والله أنفعهم لك، قال: ويحك وكيف ذلك؟
قال: إني أملّح شعرك وأجيد مقاطعه ومبادئه، قال: قل ويحك، فاندفع فنادى بلحن ابن سريج: «5» [الكامل]
يا أخت ناجية السّلام عليكم ... قبل الرّحيل وقبل لوم العذّل(10/135)
لو كنت أعلم أنّ آخر عهدكم ... يوم الرّحيل فعلت ما لم أفعل
فطرب جرير وجعل يزحف نحوه حتى مست ركبته ركبته، وقال: لعمري لقد صدقت إنك لأنفعهم لي، ولقد حسنته وأجدته، وأحسنت والله، ووصله وكساه، فلما رأينا إعجاب جرير بذلك الصوت، قلنا له: كيف لو سمعت واضع هذا، قال: وإن له [ص 67] لواضعا غير هذا؟ قلنا: نعم، قال: وأين هو؟ قلنا:
بمكة، قال: فلست بعازم حجا حتى أبلغه «1» ، فمضى ومضى معه جماعة ممن يرغب في طلب الشعر في صحابته، وكنت فيهم، فقدمنا مكة فأتيناه جميعا، فإذا هو في فتية من قريش كأنهم المها مع ظرف كثير، فرحبوا به وأدنوا مجلسه، وسألوه عن الحاجة، فأخبرناهم الخبر، فرحبوا بجرير وأدنوه وسروا بمكانه، وعظم ابن سريج موضع جرير، وقال: سل ما تريد، جعلت فداك، [قال أريد] أن تغنيني لحنا سمعته بالمدينة أزعجني إليك «2» ، قال: وما هو؟ قال:
يا أخت ناجية السّلام عليكم
فغنّاه ابن سريج، وبيده قضيب يوقع به وينكت، فو الله ما سمعت شيئا أحسن من ذلك، فقال جرير: لله دركم يا أهل مكة، ما أعطيتم: والله لو أن نازعا نزع إليكم ليقيم بين أظهركم يسمع هذا صباحا ومساء، كان أعظم الناس حظا ونصيبا، وكيف ومع هذا بيت الله الحرام، ووجوهكم الحسان، ورقة ألسنتكم، وحسن شارتكم «3» ، وكثرة فوائدكم.
قال إسحاق: كان ابن سريج جالسا فمر به عطاء وابن جريج، فحلف عليهما(10/136)
بالطلاق أن يغنيهما، على أنهما إن نهياه عن الغناء بعد أن يسمعا منه تركه أبدا، فوقفا له وغناهما: «1» [المديد]
إخوتي لا تبعدوا أبدا ... وبلى والله قد بعدوا
فغشي على ابن جريج، وقام عطاء فوقف.
قال إسحاق: كان ابن سريج عند بستان ابن عامر، فغنّى بلحنه في هذا الشعر: «2» [مجزوء الوافر]
لمن نار بأعلى الخب ... ت دون البئر ما تخبو
أرقت لذكر موقعها ... فحنّ لذكرها القلب
فجعل الحجاج يركب بعضهم بعضا، حتى جاء إنسان من آخر القصرات فقال: يا هذا، قد قطعت على الحجاج وحبستهم، والوقت قد ضاق، فاتق الله وقم عنهم، فقام وسار الحجاج.
قال إسحاق، قال ابن مقمّة: دخلت على ابن سريج في مرضه الذي مات فيه، فقلت: كيف أصبحت يا أبا يحيى؟ [ص 68] قال: أصبحت والله كما قال الشاعر «3» [الوافر]
كأنّي من تذكّر ما ألاقي ... إذا ما أظلم الليل البهيم
سقيم ملّ منه أقربوه ... وأسلمه المداوي والحميم «4»
ثم مات.(10/137)
قال إسحاق، قال ابن مقمّة: لما احتضر ابن سريج نظر إلى ابنته تبكي، فبكى وقال: إن من أكبر همي أنت، واخشى ان تضيعي بعدي، قالت: لا تخف، فما غنيّت شيئا إلا وأنا أغنّيه، فقال: هاتي، فاندفعت تغنّي أصواتا وهو مصغ إليها، فقال: قد أصبت ما في نفسي، وهونت علي أمرك، ثم دعا سعيد بن مسعود الهذلي «1» فزوجه إياها، فأخذ عنها أكثر غناء أبيها وانتحله، فهو الآن ينسب إليه.
قال إسحاق: وأخبرني هشام بن المرية، أن قادما قدم المدينة فسارّ معبدا بشيء، فقال معبد: أصبحت أحسن الناس غناء، فقلنا: أو لم تكن كذلك؟ قال: لا، ثم قال: أتدرون ما خبرني به هذا؟ قالوا: لا، قال: أعلمني أن عبيد بن سريج مات، ولم أكن [أحسن] الناس غناء وهو حي.
قال إسحاق: قال كثير بن كثير السهمي يرثيه: «2» [البسيط]
ما اللهو عند عبيد حين يخبره ... من كان يلهو به منه بمطّلب «3»
لله قبر عبيد ما تضمّنه ... من لذّة العيش والإحسان والطّرب «4»
لولا الغريض ففيه من شمائله ... مشابه لم أكن فيه بذي أرب
قال مصعب الزبيري: حدثني شيخ من المكييّن قال: كان ابن سريج قد أصابه الريح الجنبية «5» ، فآلى يمينا أن لا يغني، ونسك ولزم المسجد حتى عوفي، ثم(10/138)
خرج وبه بقية من العلة، فأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وموضع مصلاه، فلما قدم المدينة نزل على بعض إخوانه من أهل النّسك والقراءة، وكان أهل الغناء يأتونه فيسلمون عليه فلا يأذن لهم في الجلوس بالمحادثة له «1» ، فأقام بالمدينة حولا:
حتى لم يحس في علته بشيء، وأراد الشخوص فبلغ سكينة بنت الحسين «2» ، فاغتمت اغتماما شديدا وضاق صدرها [ص 69] وكان أشعب يخدمها، وكانت تأنس به وتضاحكه، فقالت: ويلك، إن ابن سريج شاخص، وقد دخل المدينة منذ حول، ولم أسمع من غنائه لا قليلا ولا كثيرا وتعذّر ذلك عليّ فكيف الحيلة في الاستماع منه ولو صوتا واحدا؟ فقال لها أشعب: جعلني الله فداك، أنّى لك بهذا والرجل زاهد ولا حيلة لك فيه؟ فارفعي طمعك والحسي بوزك «3» [تنفعك] «4» حلاوة فمك، فأمرت بعض جواريها فوطئت بطنه حتى كادت تخرج أمعاؤه، وخنقته حتى [كادت] تزهق روحه، ثم أمرت فسحب على وجهه حتى أخرج من الدار إخراجا عنيفا، فخرج واغتمّ غما شديدا، وندم على ممازحتها في وقت لم ينبغ له ذلك فيه، فأتى منزل ابن سريج ليلا فطرقه، فقيل له: من هذا؟ قال:
أشعب، ففتحوا له، فرأى على وجهه ولحيته التراب، والدم سائل من أنفه وجبهته على لحيته، وثيابه ممزقة، وبطنه وصدره قد عصرهما الدوس والخنق.(10/139)
ومات الدم فيها، فنظر ابن سريج إلى منظر فظيع «1» هاله وراعه، فقال: ما هذا ويحك، فقص عليه قصته، فقال ابن سريج: إنا لله وإنا إليه راجعون، ماذا نزل بك، والحمد لله الذي سلم نفسك، لا تعودن إلى هذا أبدا، قال أشعب:
فديتك، هي مولاتي، ولا بد لي منها، ولكن هل لك حيلة في أن تصير إليها وتغنّيها، ويكون ذلك سببا إلى أن ترضى عني؟ قال ابن سريج: لا يكون ذلك أبدا بعد أن تركته، قال أشعب: فديتك، قد قطعت أملي ورفعت رزقي، وتركتني حيران في المدينة لا يقبلني أحد، وهي ساخطة عليّ، فالله الله، وأنا أنشدك الله إلا «2» تحملت هذا الأمر وإن كان إثما، فقال ابن سريج: والله لا يكون هذا أبدا، فلما رأى أشعب أنّ ابن سريج قد تمّ على الامتناع، قال في نفسه، لا حيلة لي وهذا خارج، وإن خرج هلكت، فصرخ صرخة آذن أهل المدينة لها، ونبّه الجيران من رقادهم، وأقام الناس من فرشهم، ثم سكت، فلم يدر الناس ما القضية عند خفوت الصوت بعد أن قد راعهم، فقال ابن سريج: ويلك، ما هذا؟ قال: والله لئن لم تصر معي إليها، لأصرخنّ صرخة ثانية لا يبقى بالمدينة أحد إلا صار بالباب، ثم لأفتحنّه ولأرينّهم ما بي، ثم أعلمنّهم أنك أردت أن تفعل كذا وكذا بفلان، يعني غلاما كان لابن سريج شهر به [ص 70] ومنعتك وخلّصت الغلام من يدك حتّى فتح الباب ومضى، ففعلت بي هذا غيظا وتأسفا، وإنك إنما أظهرت النسك والقراءة لتظفر بحاجتك منه، وأهل مكة والمدينة يعلمون بحاله، فقال ابن سريج: اغرب أخزاك الله، فقال أشعب: والله الذي لا اله إلا هو، وإلا فما أملك صدقه، وامرأته طالق ثلاثا، إن أنت لم تنهض معي في هذه الليلة لأفعلنّ، فلما رأى ابن سريج الجدّ منه، قال لصاحبه: ويحك، أما ترى ما وقعنا فيه؟ وكان صاحبه الذي نزل عليه ناسكا، فقال: ما أدري ما أقول فيما وقع بنا(10/140)
من هذا الخبيث، وتذمّم ابن سريج من الرجل صاحب المنزل، وقال لأشعب:
اخرج من منزل الرجل، فقال: رجلي مع رجلك، فخرجنا، فلما صار ببعض الطريق، قال ابن سريج لأشعب: امض عني، قال: والله لئن لم تفعل ما قلت لأصيحنّ الساعة حتى يجتمع الناس، ولأقولنّ إنك أخذت مني سوارا من ذهب لسكينة، على ان تجيئها فتغنيها سرا، وإنك كابرتني عليه وجحدتني وفعلت بي هذا الفعل، فوقع ابن سريج فيما لا حيلة [له] فيه، فقال: امض لا بارك الله فيك، فمضى معه، فلما صار إلى باب سكينة، قرع الباب، فقيل: من هذا؟ فقال:
أشعب قد جاء بابن سريج، ففتح الباب ودخلا إلى حجرة من دار سكينة، فجلسا ساعة، ثم أذن لهما فدخلا إلى سكينة، فقالت: يا عبيد، ما هذا الجفاء؟ فقال:
قد علمت بأبي أنت وأمي ما كان مني، قالت: أجل، فتحدّثا ساعة وقصّ عليها ما صنع [به] أشعب، فضحكت وقالت: لقد أذهب ما كان مني عليه، وأمرت لأشعب بعشرة «1» دنانير وكسوة، ثم قال لها ابن سريج: أتأذنين بأبي أنت وأمي؟ قالت: وأين تريد؟ قال: المنزل، قالت: برئت من جدّي إن برحت من داري ثلاثة أيام، وبرئت من جدّي إن [أنت] لم تغنّ إن خرجت من داري شهرا، وبرئت من جدي إن أقمت في داري شهرا لم أضربك كل يوم عشرا، وبرئت من جدّي إن حنثت في يميني إن شفعت فيك أحدا، قال عبيد: واسخنة عيناه! واذهاب دنياه! وا فضيحتاه! ثم اندفع يغنّي: «2» [الخفيف]
أستعين الذي بكفّيه نفعي ... ورجائي على التي قتلتني
قالت سكينة: هل عندك من صبر؟ ثم أخرجت دملجا «3» من ذهب كان في(10/141)
عضدها وزنه أربعون مثقالا، فرمت به إليه، فقالت: أقسمت عليك لما أدخلته في يدك، ففعل، ثم قالت لأشعب: [ص 71] اذهب إلى عزّة الميلاء «1» فاقرئها مني السلام، واعلمها أن عبيدا عندنا، فلتأتنا متفضلة بالزيارة، فأتاها أشعب فأسرعت المجيء، فتحدثوا باقي ليلتهم، ثم أمرت عبيدا وأشعب فناما في حجرة مع مواليها، فلما أصبحت هيّئ لهم غداؤهم، وأذن لابن سريج فدخل فقعد بالقرب منها مع أشعب في مواليها، وقعدت هي مع عزّة وخواصّ جواريها، فلما فرغوا من الغداء قالت يا عزّة، أن رأيت ان تغنّينا، قالت: إي وعيشك، فغنّت لحنها في شعر عنترة العبسي: «2» [الكامل]
حيّيت من طلل تقادم عهده ... أقوى وأقفر بعد أمّ الهيثم
إن كنت أزمعت الفراق فإنما ... زمّت ركابكم بليل مظلم
فقال ابن سريج: أحسنت والله يا عزّة، وأخرجت سكينة الدّملج الآخر من يدها فرمت به إلى عزّة وقالت: صيّري هذا في يدك، ففعلت ثم قالت لعبيد: هات غننا،»
فقال: حسبك ما سمعت البارحة، فقالت: لا بد أن تغنينا في كل يوم لحنا، فلما رأى ابن سريج أنه لا يقدر على الامتناع، غنّى: «4» [البسيط]
قالت من انت على ذكر فقلت لها ... أنا الذي ساقه للحين مقدار «5»(10/142)
قد حان منك- فلا تبعد بك الدّار- ... بين وفي البين للمتبول إضرار «1»
ثم قالت لعّزة في اليوم الثاني: غنّي، فغنّت لحنها في شعر الحارث بن خالد المخزومي: «2» [الطويل]
وقرّت بها عيني وقد كنت قبلها ... كثيرا بكائي مشفقا من صدودها
وبشرة خود مثل تمثال بيعة ... تظلّ النّصارى حوله يوم عيدها «3»
فقال ابن سريج: والله ما سمعت مثل هذا حسنا قط و [لا] طيبا، ثم قالت لابن سريج: هات، فغنّى بشعر عمر بن أبي ربيعة: «4» [مجزوء الوافر]
أرقت فلم أنم طربا ... وبتّ مسهّدا نصبا
لطيف أحبّ خلق ال ... له إنسانا وإن غضبا
فلم أردد مقالتها ... ولم أك عاتبا عتبا
فقالت سكينة: قد علمت ما أردت بهذا، قالت: وقد شفعناك، وإنما كانت يميني على ثلاثة [ص 72] أيام، فاذهب في حفظ الله وكلاءته، ثم قالت لعزّة:
إذا شئت، وأمرت لها بحلّة حسنة، ولابن سريج بمثلها، وانصرفت عزّة: وأقام ابن سريج حتى انقضت ليلته، وانصرف ذاهبا إلى مكة.
قال أبو يوسف بن إبراهيم: حضرت أبا إسحاق ابراهيم بن المهدي وعنده إسحاق الموصلي، فقال إسحاق: غنّى ابن سريج ثمانية وستين صوتا، فقال له ابن(10/143)
المهدي: ما تجاوز قط ثلاثة وستين صوتا، ثم جعلا يتناشدان الصحيح حتى بلغا ثلاثة وستين صوتا، وهما متفقان في ذلك، ثم أنشد إسحاق بعد ذلك خمسة أصوات، فقال له ابن المهدي: صدقت، هذا من غنائه، ولكن لحن هذا الصوت نقله من لحنه في الشعر الفلاني، ولحنه الثاني من لحنه الفلاني، حتى عدّ له خمسة الأصوات، فقال له إسحاق: صدقت، ثم قال له إبراهيم: [إن] ابن سريج كان رجلا عاقلا أديبا، وكان يعاشر الناس بما يشتهون، فلا يغنيهم صوتا يمدح به أعداءهم، ولا صوتا عليهم فيه عار أو غضاضة، ولكنه يعدل «1» بتلك الألحان إلى أشعار في أوزانها، والصوتان واحد لا ينبغي أن يعتدّ بهما في صوتين عند التحصيل، ثم اتفقا على ان قدما من غنائه ثمانية أصوات. فالأول: «2» [الرمل]
فإذا ما عثرت في مرطها ... نهضت باسمي وقالت يا عمر
والثاني: «3» [مجزوء الخفيف]
حيّيا أمّ يعمرا ... قبل شحط من النّوى
والثالث: «4» [الكامل]
فتركته جزر السّباع ينشنه ... ما بين قلّة رأسه والمعصم
والرابع: «5» [الطويل]
فلم أر كالتّجمير منظر ناظر ... ولا كليالي الحجّ أفتنّ ذا هوى(10/144)
والخامس: «1» [السريع]
عوجي علينا ربّة الهودج ... إنك إن لم تفعلي تحرجي
والسادس: [ص 73] «2» [مجزوء الوافر]
ألا هل هاجك الأظعا ... ن إذ جاوزن مطّلحا
والسابع: «3» [الرمل]
تنكر الإثمد لا تسمعه ... غير أن تسمع منه بخبر
والثامن: «4» [الطويل]
ومن حبّ ذات الخال أعملت ناقتي ... أكلّفها سير الكلال مع الظّلع
23- أبو كامل «5»
من أجلّ من ذكره أبو الفرج، وحدّث عن بحره ولا حرج، طلع بدره في الدولة الأموية مشرقا، ولمع بارق سحبه الروّية مبرقا، وخرج بالحباء، وأدلج والحظّ يسوق إبله بغير الحداء، وذخر من فواضل تلك الأيام ما كان يجد فيه ريحها، ويجيد به مديحها، ويأسف إذ لا يجد من مميح، ولا يلقى من نازح ولا سنيح،(10/145)
ولا يرى من يشتري الحمد بالثمن البخس ولا الربيح.
قيل إنه غنّى الوليد ذات يوم: «1» [الخفيف]
جنّباني أذاة كلّ لئيم ... إنّه ما علمت شرّ نديم
فطرب الوليد حتى خلع عليه ثيابه كلّها حتى قلنسية «2» وشي كأنت عليه، وكان أبو كامل «3» يصونها ولا يلبسها إلا من عيد إلى عيد، ثم يمسحها بكمه ويرفعها ويبكي ويقول: إنما أرفعها لأني أجد فيها ريح سيدي الوليد، وللوليد بن يزيد أشعار كثيرة، فمنها ما يغنّى به: «4» [مجزوء المتقارب]
سقيت أبا كامل ... من الأصفر البابلي
وسقيتها معبدا ... وكلّ فتى فاضل «5»
لي المحض من ودّهم ... ويغمرهم نائلي
وما لا مني فيكم ... سوى حاسد جاهل
قال: وكان المعتضد إذا غنّي هذا الصوت يقول للجلساء: أما ترون شمائل الملوك في هذا الشعر ما أبينها، يعني قوله:
لي المحض من ودّهم ... ويغمرهم نائلي(10/146)
24- إسماعيل بن الهربذ «1»
ملتقط فوائد، ومحصّل فرائد، تتعب ألف رائد، يبدر إلى محاسن المقال، وينظر [ص 47] إليه لا إلى من قال، يأخذ الغناء من الأمة الوكعاء «2» ، وينوي الغنا عن الأمة الخلعاء، وكان من أفراد أهل الطرب، وورّاد ما منع منه من موارد الطلب، وذكر ابن عساكر من أخباره ما ليس هذا موضعه، ولا الذي يحبّ مرقله ولا موضعه.
قيل إنه قدم مكة على الرشيد وعنده ابن جامع وإبراهيم وابنه إسحاق وفليح وغيرهم، والرشيد يومئذ خاثر «3» ، به خمار «4» شديد، فغنّى ابن جامع ثم فليح وإبراهيم، فما حرّكه أحد منهم ولا أطربه، فاندفع [ابن] الهربذ يغني، فعجبوا من إقدامه في تلك الحال على الرشيد، فغنّى: «5» [مجزوء الكامل]
يا راكب العيس التي ... وخدت إلى البيت الحرام «6»
قل للإمام أخي الإما ... م ابن الإمام أبي الإمام
زين البرية إذ بدا ... فيكم كمصباح الظّلام
جعل الإله الهربذ ... يّ فداك من بين الأنام(10/147)
قال: فكاد الرشيد يرقص، واستخفّه الطرب حتى ضرب بيديه «1» ، ورجليه، وأمر له بعشرة آلاف درهم، فقال له: يا أمير المؤمنين، لهذا الصوت خبر، فإن أذن لي أمير المؤمنين حدثته، قال: حدّث، قال: كنت مملوكا لرجل من آل الزبير، فدفع إليّ درهمين أبتاع له بهما لحما، فخرجت فلقيت جارية على رأسها جرة مملوءة من ماء العقيق، وهي تغنّي بهذا اللحن في شعر غير هذا الشعر في وزنه ورويه، فسألتها ان تعلمنيه، فقالت: لا وحقّ القبر «2» ، إلا بدرهمين، فدفعت إليها الدرهمين فعلمتنيه، فرجعت إلى مولاي بغير لحم، فضربني ضربا مبرحا شغلت بنفسي معه، فأنسيت الصوت، ثم دفع إليّ درهمين آخرين لأبتاع بهما لحما، فلقيت الجارية، فسألتها أن تعيد الصوت، فقالت: لا والله، إلا بدرهمين، فدفعتها إليها، فأعادته مرارا حتى أخذته، فلما رجعت إلى مولاي أيضا بلا لحم معي، قال: ما القصة في هذين الدرهمين؟ فصدقته عن القصة، وأعدت عليه الصوت، فقبّل بين عيني وأعتقني، فرحلت إليك بهذا الصوت، وقد جعلت لك اللحن في هذا الشعر، فضحك، ثم قال: دع الأول وتناسه، وأقم على هذا [ص 75] الشعر بهذا اللحن، وأما مولاك فإني أدفع إليه بكل درهم ألف دينار، ثم أمر بذلك فحمل إليه من وقته.
ومما غنّى به إسماعيل الهربذيّ الوليد بن يزيد بن عبد الملك: «3» [الهزج]
سليمى تلك في العير ... قفي أخبرك أو سيري
إذا ما أنت لم ترثي ... لصبّ القلب مغمور
فلمّا أذّن الصّبح ... بأصوات العصافير
خرجنا نتبع الشّمس ... عيونا كالقوارير(10/148)
وفينا شادن أحو ... ر من حور اليعافير
25- أبو دلف العجلي»
القاسم بن عيسى بن إدريس بن معقل بن عمير العجلي، أحد قواد المأمون ثم المعتصم من بعده، ضرب الهام بسيوفه حتى زواها، والجيوش بصفوفه حتى سوّاها، وعاطى الأعداء كؤوس الدماء، وعاقر الأمور البعيدة للإدناء، فاستقلّ ملكا مهابا «2» ، وفلكا كم أطلع شهابا، وسحّ سحابه وهطل، وصحّ أنّ اسم من يقدمه بطل، فأصبحت به تضرب المثل «3» ، وتركب السّبل، فدعته ألسنة الآمال، وبايعته نفائس الآجال وملئت ساحته بالركائب، وملأت سماحته بالرغائب، وكان يطعن الطعنة النجلاء، ويرشق السهم بنظر النظرة الكحلاء، ويقتاد الحصان يزل اللّبد عن صهواته، ويشتكي ساقط الرمح بعد مهواته، سكن الجبال، وسكب على الكفار الوبال، وسكت «4» وكلت عنه النبال، ورعت الخلفاء منه نصيحا، ودعت منه فصيحا، واستنبطت «5» لأدوائها منه مسيحا، وأعدت لأعدائها منه مشيحا، وكان بسقام الخلافة طبنا «6» خبيرا، وبالانتقام لها مبيدا مبيرا، وهو مع هذه الصرامة التي تتأكّل منها النار، والشهامة التي يتفتح بها(10/149)
شجر الغناء بالجلنار، أرق من النسيم شمائل، وأرق من الغيد بوصف البانة المتمايل، يوفي كل مقام حقه، وكل مقال صدقه، ويضحى به البوس، ويضحك الزمان العبوس، حضر مع مواليه للمنادمة، وقد بذل [ص 76] لهم لبلوغ المنى دمه، وكان يغنّي له بالأصوات، ويعنى في كل شعر له موات. وكان قوي القريحة، فما لا يدرك مهلة، ولا يظن البحار إلا نهله.
قال أبو الفرج: وكان أحمد بن أبي دواد «1» ، ينكر أمر الغناء إنكارا شديدا، فأعلمه المعتصم أن صديقه أبا دلف يغني، فقال: ما أراه مع عقله يفعل ذلك، فستر المعتصم أحمد بن أبي دواد [في موضع وأحضر أبا دلف، وأمره أن يغني، ففعل ذلك وأطال، ثم خرج أحمد بن أبي دواد] «2» عليه من موضعه، والكراهة ظاهرة في وجهه، فلما رآه قال أحمد: سوءة لهذا من فعل، أبعد الستين وهذا المحل تضع نفسك بما أرى؟ فخجل أبو دلف وتشوّر «3» وقال: إنهم أكرهوني على الغناء، [فقال: هبهم أكرهوك على الغناء] «4» أفأكرهوك على الإحسان فيه؟
قال أحمد بن عبيد الله: كنّا عند المبرّد يوما، وعنده فتى من ولد أبي البختري وهو ابن أبي وهب بن عمار القاضي له جمال ظاهر، وفتى من ولد أبي دلف العجلي شبيه به في الجمال، فقال المبرّد لابن أبي البختري: أعرف لجدك قصة من(10/150)
الكرم حسنة لم يسبق إليها، قال: وما هي؟ قال: دعي رجل من أهل الأدب إلى بعض المواضع، فسقي نبيذا غير الذي يشربونه، فقال فيهم: [المتقارب]
نبيذان في مجلس واحد ... لإيثار مثر على مقتر
فلو كان فعلك ذا في الطّعام ... لزمت قياسك في المسكر «1»
ولو كنت تطلب شأو الكرام ... فعلت كفعل أبي البختري
تتبّع إخوانه في البلاد ... فأغنى المقلّ عن المكثر
فبلغت الأبيات أبا البختري، فبعث إليه ثلاث مئة دينار، قال ابن عمار:
فقلت له: قد فعل جدّ هذا الفتى في هذا المعنى أحسن من هذا، قال: وما فعل؟
قال: بلغه أن رجلا افتقر بعد ثروة، فقالت له امرأته: افترض في الجند، فقال: «2» [البسيط]
إليك عنّي فقد كلفّتني شططا ... حمل السّلاح وقيل الدار عين قف
تمشي المنايا إلى قوم فأكرهها ... فكيف أمشي إليها عاري الكتف
حسبت أنّ نفاد المال غيّرني ... وأنّ روحي في جنبي أبي دلف
فبلغت الأبيات أبا دلف، فأحضره وقال: كم أملت أن تعيش؟ [قال:] عشرون سنة، قال: [ص 77] فأمر بإعطائه ألف دينار، قال: فرأيت وجه ابن أبي دلف يتهلل، وانكسر ابن أبي البختري انكسارا شديدا.
في شعر أبي دلف «3» وله فيه صنعة قوله: «4» [الوافر](10/151)
بنفسي يا جنان وأنت منّي ... مكان الروح في جسد الجبان «1»
ولو أنّي أقول مكان نفسي ... خشيت عليك بادرة الزّمان
لإقدامي إذا ما الخيل خامت «2» ... وهاب كماتها حرّ الطّعان
حدّث المبرّد قال: دخل عليّ بن جبلة الشاعر على أبي دلف فأنشده
قصيدته التي يقول فيها: «3» [المديد]
إنّما الدّنيا أبو دلف ... بين باديه ومحتضره
فإذا ولّى أبو دلف ... ولّت الدّنيا على أثره
يا دواء الأرض إن فسدت ... ومجير اليسر من عسره «4»
لست أدري ما أقول له ... غير أن الأرض في خفره
كلّ من في الأرض من عرب ... بين باديه إلى حضره
مستعير منك مكرمة ... يكتسيها يوم مفتخره
فاستحسنها القوم وقالوا: أيها الأمير ما هذه من قبله، وما هي إلا من نجر «5» رقيق الطبع، فقال له أبو دلف: ألا تسمع ما يقولون؟ قال: بلى أصلح الله الأمير، قال: والذي يصدقك، قال: أن أعطى صدورا فأردفها بأعجاز، فضحك أبو دلف(10/152)
وقال: أنصفت وبالغت، ثم تناول أبو دلف القلم والبياض وكتب: «1» [الرجز]
ريعت لمنشور على مفرقه ... ذمّ لها عهد الصّبا حين انتسب
أهدام شيب جدد في رأسه ... مكروهة الجدّة أنضاد العقب
ثم تناوله ذلك وقال: ابن لي عليه أبياتا، وقد أجّلتك فيه حولا، فقال: أيها الأمير، تأمر فيفرغ لي بيت حتى يكون أجلى للشك، فأمر أبو دلف أن يخلى له بيت، ثم ركب أبو دلف إلى المأمون وخرج معه متصيدا، فرجع آخر النهار، فلما نزل، لم ينزع سواده قال: ليت شعري ما خبر عليّ بن جبلة الشاعر؟ قال: أيها الأمير، إنه زعم أنه فرغ من عمل القصيدة، فقال: [ص 78] ويحكم أخرجوه إليّ، فأخرج.
فقال أبو دلف: هيه يا عليّ، ما عملت؟ قال: قد فرغت، قال: هات ويحك، بيّض وجهي عند من زعم أنك لست بشاعر، فأنشأ يقول: «2» [الرجز]
أشرقن في أسود أزرين به ... كان دجاه لهوى البيض سبب «3»
فاعتقن أيام الغواني والصّبا ... عن ميّت مطلبه حبّ الأدب «4»
لم يرتدع مرعويا حين ارعوى ... لكن يد لم تتّسع لمطّلب
لم أر كالشّيب وقارا يجتوى ... أو كالشباب الغض ظلا يستلب «5»
كان الشباب لمة ازهى بها ... وصاحبا غمرا عزيز المصطحب
إذ أنا أجري ددنا في غيّه ... لا أعتب الدّهر إذا الدهر عتب «6»(10/153)
أبعد شأو اللهو عن أخذنا ... وأقصد الخود وراء المحتجب «1»
وأذعر الرّبرب عن أبطاله ... بأعوجيّ دلفيّ المنتسب «2»
مطّردا يرتجّ في أقطاره ... كالماء جالت فيه ريح فاضطرب
تحسبه أقعد في استقباله ... حتى إذا استدبرته قلت أكب «3»
فهو على إرهافه وضمره ... يقصر عنه المحزمان واللّبب «4»
تقول فيه جنب إذا استوى ... وهو كمتن القدح ما فيه جنب «5»
إذا تمنّينا به صدّقه ... وإن تمنّى فوته العير كذب «6»
لم يبلغ الجهد به راكبه ... ويبلغ الرمح به حيث طلب
ثم اقتضى ذاك كأن لم يعنه ... وكلّ بقيا فإلى يوم العطب «7»
فحمّل الدّهر ابن عيسى قاسما ... ينهض به أبلج فرّاج الكرب
كرونق السّيف انبلاجا بالنّدى ... أو كغراريه على أهل الرّيب «8»
لا وسنت عين رأت رؤيته ... فأيقظته نوبة من النّوب «9»
لولا ندى القاسم كنّا هملا ... لم يعتقد مجد ولم يرع حسب(10/154)
ولم يقم بيوم بأس وندى ... ولا تلاقى حسب إلى حسب [ص 79]
تكاد تبدي الأرض ما تضمره ... إذا تنادى خيله هلا وهب «1»
وتستهلّ أملا وخيفة ... إذا استهلّ وجهه وإن قطب
وهو وإن كان ابن فرعي وائل ... فبمساعيه ترقّى في الحسب
يا واحد الدّنيا ويا باب النّدى ... ويا مجيب الرّعب في يوم رهب
لولاك ما كان سدى ولا ندى ... ولا قريش عرفت ولا عرب «2»
خذها امتحانا من مليء بالثّنا ... لكنّه غير مليء بالنّشب «3»
وقرّ بالأرض أو استنفر بها ... أنت عليها الرأس والنّاس ذنب
فتهلل وجه أبي دلف سرورا به، وقال له: أحسنت لله أنت، ومثلك فليمدح الملوك، ثم أمر له بمائة ألف درهم، وخلعه سنية وفرس من مراكبه الخاصة، واعتذر إليه من التقصير.
وقدم أبو الشمقمق «4» على أبي دلف، فلما دخل عليه سلم، فرد عليه السلام، ثم قال: ليس يمنعني منك أبا الشمقمق ملوك هذه الدنيا، قال: وما ألزمتهم؟ قال:
تزعم أن كفّك عن الهجاء يقوم مقام المدح، وليس والله تأخذ مني صلة أو تمدحني، قال: قد مدحتك أيها الأمير، قال: هات، فأنشأ يقول: «5» [السريع](10/155)
من ملك الموت إلى قاسم ... رسالة في بطن قرطاس
فقال أبو دلف ويلك، ما في بطن القرطاس؟ قال:
يا فارس الهيجاء يوم الوغى ... مرني بمن شئت من النّاس
فقال أبو دلف: أحسنت والله، فأسألك الآن بالله، هل هجوتني؟ فقال: أيها الأمير، سألتني بعظيم، نعم قد هجوتك، قال: فأنشدني، قال: على أن تؤمنني، قال: أنت في أمان (الله) تعالى، فأنشده يقول: «1» [مجزوء الرمل]
قد بلوناك بالحرو ... ب فلم تأت طائلا
وسألناك نائلا ... فوجدناك سائلا
فقال أبو دلف: هجوتني قبل أن أستوجب الهجاء، فقال: أصلح الله الأمير، صيرته عدة، وهو ثوب نسجته ووضعته في تخت، فإن احتجت إليه نشرته وإلا كان مطويا [ص 80] فضحك أبو دلف وأمر له بعشرة آلاف درهم، وقال: دعه يكون مطويا.
وقال القاسم بن عيسى المعروف بأبي دلف: [الطويل]
وقالوا بلاد الشام أرض تقدست ... فما بالنا في أرضنا لا نقدس
فلا شوقنا فان ولا الهم منقض ... ولا هدأة تغشى العيون فتنعس
وقال أيضا: [الخفيف]
عاقني عن وداعك الأشغال ... وأمور جرت عليّ ثقال
في بلاد يذل فيها عزيز الن ... فس حتى تهينه الأنذال
حيث لا مدفع بسيف من الضي ... م ولا للجياد فيها مجال(10/156)
ومما ذكر أبو الفرج «1» : أن الأفشين «2» كان عرض لأبي دلف واعتل له باطنه، ذوى بدائه، وملئ بالعمل على إرادته، ولم يزل يغري به المعتصم ويرمي جانبه السليم منه بما يصم، حتى أسرّ إليه قتل أبي دلف، وأمر فيه بأمر يفضي به إلى التلف، فأخذه إليه وعفى على آثاره، وعمّى بصراء أخباره، فأتى الخبر ابن أبي دواد، وقد خيم الليل وطنب، وأسكت من أنب، ولم يبق باب إلا وقد أوثق بالرتاج، ولا أحد إلا وجفنه قد طعم النوم أو احتاج، فخاف إن أخّر إلى بكرة غده أن تفوت فيه الحيلة، وأن يودعه سر تلك الليلة الثقيلة، فدعا بجماعة من عدول الشهود، ونهض بهم إلى باب الأفشين حتى طرقه واستفتح غلقه، ثم دخل عليه هجما، وانقضّ شيطانه المريد في تلك الليلة رجما، وقال له: هؤلاء شهود أمير المؤمنين، وأنا قاضيه ورسوله إليك في أمر هو من وراء تقاضيه، وهو يأمرك بالإمهال في أمر «3» أبي دلف، وأنك لا تعجل عليه، ولا تمد يدك ببطش إليه، وها هو لديك حي يرزق وسالم الأعضاء، قادر على المضاء، وها أنا قد أبلغتك رسالة أمير المؤمنين، وهؤلاء يشهدون وفي بكرة غد لشهادتهم عند أمير المؤمنين يؤدون، وكان قد أحضر أبا دلف ليقتله في تلك الساعة والسيف مصلت قد أظمأه له وأجاعه ثم كرّ ابن أبي دواد راجعا، وترك الأفشين فاجعا، وكان ابن أبي دواد قد فعل هذه الأعجوبة، وأتى لإبقاء نفس ذلك «4» المسلم [ص 81] بهذه الأكذوبة، والمعتصم لم يخاطبه فيه ببنت شفة، ولا أراه من جنى نخلته له تمرة(10/157)
ولا حشفة، فلم يكن له همّ إلا أن أنتظر آخر الليل، حتى طار غرابه، وجرد عن سيف النهار قرابه، وشرع الفجر ينفجر، والأفق بملاءة الصباح يعتجر، وبكر إلى دار الخلافة، والمعتصم قد انفتل عن المحراب، ولمح ابن أبي دواد فما استراب، فتقدم إليه، وقصّ عليه القصة، والمعتصم يسمع، وحدثه بما كادت له مقلته تدمع، وقال له: يا أمير المؤمنين، إني لم أجئك بتهمة في عمري سواها، ولا أتيت بمثلها ونفس وما سواها، ولو لم تكن إنقاذ وليّ من أوليائك وينجي بقاءه من حلوق أعدائك، لما فعلتها، ولا اجترأت على أمير المؤمنين وقلتها، فضحك أمير المؤمنين ضحك معجب بجميل صنعه، فعجل إلى عدم منعه، وقال له: قد أجزت ما قلت أيها القاضي وما فعلت، ثم بثّ رسله إلى الأفشين يأمره بإحضار أبي دلف، فما نشب أن أحضره، وسنّى إطلاقه، ثم لم يبرح ابن أبي دواد حتى أعاده إلى منزلته «1» ، وعاد الأفشين وأماته بعلته.
قال ابن خلكان: «2» كان أبو دلف كريما سريا جوادا ممدحا شجاعا مقداما، ذا وقائع مشهورة، وصنائع مأثورة، أخذ عنه الأدباء الفضلاء، وله صنعة في الغناء، وصنّف عدة كتب في (البزاة والصيد) و (السلاح) و (النزه) و (سياسة الملوك) وغير ذلك، ومدحه أبو تمام الطائي بأحسن المدائح، وفيه يقول بكر بن النطاح: «3» [الكامل]
يا طالبا للكيمياء وعلمه ... مدح ابن عيسى الكيمياء الأعظم(10/158)
لو لم يكن في الأرض إلا درهم ... ومدحته لأتاك ذاك الدرهم
ويحكى أنه أعطاه على هذين البيتين سبعين «1» ألف درهم، فأغفله قليلا، ثم دخل عليه وقد [اشترى] بتلك الدراهم قرية في نهر الأبلّة، فأنشده: «2» [الطويل]
بك ابتّعت في نهر الأبلة قرية ... عليها قصير بالرّخام مشيد
إلى جنبها أخت لها يعرضونها ... وعندك مال للهبات عتيد
فقال له: وكم ثمن هذه الأخت؟ فقال: عشرة آلاف درهم، فدفعها له، ثم قال [ص 82] تعلم أن نهر الأبلّة عظيم وفيه قرى كثيرة، وكل أخت إلى جانبها أخرى، وإن فتحت هذا الباب اتسع الخرق، فاقنع بهذه ونصطلح عليها، فدعا له وانصرف.
وقد ألمّ أبو بكر محمد بن هاشم «3» أحد الخالديين بمعنى قول بكر بن النطاح «4» المذكور في البيتين الأولين، فقال: «5» [الكامل]
وتيقّن الشعراء أنّ رجاءهم ... في مأمن بك من وقوع الياس
ما صحّ علم الكيمياء لغيرهم ... فيمن عرفنا من جميع النّاس(10/159)
تعطيهم الأموال في بدر إذا ... حملوا الكلام إليك في قرطاس
وكان أبو دلف قد لحق أكرادا قطعوا الطريق في عمله، فطعن فارسا فأنفذت الطعنة إلى فارس آخر وراءه رديفه، فنفذ فيه السنان، فقتلهما، فقال في ذلك ابن النطاح: «1» [الكامل]
قالوا وينظم فارسين بطعنة ... يوم الهياج ولا نراه كليلا
لا تعجبوا فلو أنّ طول قناته ... ميل إذا نظم الفوارس ميلا «2»
وكان أبو عبد الله أحمد بن أبي فنن صالح مولى بني هاشم، أسود مشوه الخلق قصيرا، فقالت له امرأته: يا هذا، إن الأدب أراه قد سقط نجمه، وطاش سهمه، فاعمد إلى سيفك ورمحك وقوسك، وادخل مع الناس في غزواتهم، عسى الله أن ينفعك من الغنيمة بشيء، فأنشد يقول: «3» [البسيط]
مالي ومالك [قد] كلفتني شططا ... حمل السلاح وقول الدّار عين قف
أمن رجال المنايا خلتني رجلا ... أمسى وأصبح مشتاقا إلى التّلف
تمشي المنايا إلى غيري فأكرهها ... فكيف أمشي إليها بارز الكتف
ظننت أنّ نزال القرن من خلقي ... أو أنّ قلبي في جنبي أبي دلف «4»
فبلغ خبره أبا دلف فوجّه إليه ألف دينار. وكان أبو دلف لكثرة عطائه قد ركبته الديون، واشتهر ذلك عنه، فدخل عليه بعضهم، وأنشده: «5»
أيا ربّ المنائح والعطايا ... ويا طلق المحيّا واليدين(10/160)
[ص 83] لقد خبّرت أنّ عليك دينا ... فزد في رقم دينك واقض ديني
فوصله وقضى دينه.
ودخل عليه بعض الشعراء وأنشده: «1» [البسيط]
الله أجرى من الأرزاق أكثرها ... على يديك تعلّم يا أبا دلف
ما خطّ (لا) كاتباه في صحيفته ... كما تخطط (لا) في سائر الصّحف
بارى الرياح فأعطى وهي جارية ... حتّى إذا وقفت أعطى ولم يقف
وكان أبوه قد شرع في عمارة مدينة الكرج «2» وأتمها هو، وكان بها أهله وعشيرته وأولاده، وكان قد مدحه بها بعض الشعراء فلم يحصل له منه ما في نفسه، فانفصل عنه وهو يقول: «3» [الطويل]
دعيني أجوب الأرض في فلواتها ... فما الكرج الدنيا ولا الناس قاسم
وهذا مثل قول بعضهم: «4» [البسيط]
فإن رجعتم إلى الإحسان فهو لكم ... عبد كما كان مطواع ومذعان
وإن أبيتم فأرض الله واسعة ... لا النّاس أنتم ولا الدنيا خراسان(10/161)
ولما قدم أبو دلف من الكرج صنع الأمير علي بن عيسى بن ماهان مائدة، ودعاه إليها وكان قد احتفل بها غاية الاحتفال، فجاء بعض الشعراء ليدخل دار علي بن عيسى، فمنعه البواب، فتعرّض الشاعر لأبي دلف، وقد قصد دار علي بن عيسى، وبيده جزازة، فناوله إياها، فإذا فيها: «1» [مجزوء الخفيف]
قل له إنّ لقيته ... متأن بلا وهج
جئت في ألف فارس ... لغداء من الكرج
ما على النّاس بعدها ... في الدناءات من حرج
فرجع أبو دلف، وحلف أنه لا يدخل الدار ولا يأكل منها شيئا. وقيل إن الشاعر هو عباد بن الحريش.
وقيل إن أبا دلف لما مرض مرض موته، حجب الناس عن الدخول إليه لثقل مرضه، فاتفق أنه أفاق في بعض الأيام فقال لحاجبه [ص 84] من بالباب من المحاويج؟ فقال: عشرة من الأشراف قد وصلوا من خراسان، ولهم بالباب عدة أيام لم يجدوا طريقا، فقعد على فراشه واستدعاهم، فلما دخلوا رحّب بهم وسألهم عن أحوالهم وبلادهم وسبب قدومهم، فقالوا: ضاقت بنا الأحوال وسمعنا بكرمك فقصدناك، فأمر خازنه بإحضار بعض الصناديق وأخرج منه عشرين كيسا في كل كيس ألف دينار، ودفع إلى كل واحد منهم كيسين، ثم أعطى كل واحد منهم مؤونة طريقه، وقال لهم: لا تمسوا الأكياس حتى تصلوا بها سالمة إلى بلادكم، واصرفوا هذا في مصالح الطريق، ثم قال: ليكتب كل واحد منهم خطه أنّه فلان بن فلان حتى ينتهي إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويذكر جدته فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها، ثم يكتب: يا(10/162)
رسول الله، إني وجدت إضاقة وسوء حال في بلدي، فقصدت أبا دلف العجلي، فأعطاني ألفي دينار، كرامة لك، وطلبا لمرشاتك، ورجاء لشفاعتك، فكتب كل واحد منهم ذلك، وتسلّم الأوراق، وأوصى من يتولى تجهيزه إذا مات أن يضع تلك الأوراق في كفنه، حتى يلقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعرضها عليه.
وحكي عنه أنه قال: من لم يكن مغاليا في التشيع فهو ولد زناء، فقال ولده دلف له: يا أبتي لست على مذهبك، فقال له أبوه: لما وطئت أمك وعلقت بك ما كنت قد استبرأتها، فهذا من ذلك، والله أعلم.
ومع هذا فقد حكى جماعة من أرباب التاريخ، أن دلف بن أبي دلف قال: رأيت في المنام آتيا أتاني، فقال: أجب الأمير، فقمت معه فأدخلني دارا وحشة وعرة سوداء الحيطان مغلقة «1» السقوف والأبواب، وأصعدني على درج منها، ثم أدخلني غرفة منها، في حيطانها أثر النيران، وإذا في أرضها أثر الرماد، وإذا بأبي وهو عريان واضع رأسه بين ركبتيه، فقال كالمستفهم: دلف؟ فقلت: دلف، فأنشأ يقول: «2» [الخفيف]
أبلغن أهلنا ولا تخف عنهم ... ما لقينا في البرزخ الخنّاق
قد سئلنا عن كلّ ما [قد] فعلنا ... فارحموا وحشتي وما قد ألاقي
ثم قال: أفهمت؟ قلت: نعم، فأنشد: «3» [ص 85] [الوافر]
فلو كنّا إذا متنا تركنا ... لكان الموت راحة كلّ حيّ
ولكنّا إذا متنا بعثنا ... ونسأل بعده عن كلّ شيّ(10/163)
ثم قال: أفهمت؟ قلت: نعم، وانتبهت.
توفي ببغداد سنة ست وعشرين ومئتين.
26- البردان «1»
فقيه نزّل الغناء منزلة حسن الإنشاد، وبنى منزله على بيوته وشاد، حكم في القضاء، وحتم فيه بالإمضاء، ولم ينكر أنه يعرف الغناء، ويقطف منه اجتناء، لم ير بأسا بتصحيح الأصوات، وتنقيح أناشيد الأبيات، تكميلا لما حصل ذكره من فنون، وحصّن صدره من مكنون، حتى تجلت به أولى الليالي الغوابر، وأقالت الأيام الغوابر، وكان كأنما التطم به بحران، وانقاد الفضل كله بالجران، وأعاد دجى الليل وقد طلع بدره الطالع وهو بدران.
قال إسحاق: قدّم إليه رجل خصما له يدّعي عليه حقا، فوجب الحكم «2» عليه، فأمر به إلى الحبس، فقال [له الرجل] : أنت بغير هذا أعلم منك بهذا، فقال:
ردوه، فردوه، فقال: لعلك تعني الغناء، أي والله، إني لعارف به، ومهما جهلت فإني موجب الحق عليك عالم، اذهبوا به إلى الحبس ليخرج إلى غريمه من حقه.
قال سياط «3» : رأيت البردان بالمدينة يتولّى سوقها، وقد أسنّ، فقلت: يا عم، إني قد رويت لك صوتا صنعته، فأردت أن تصححه لي، فقال لعله: [الوافر]
كم أتى دون عهد أمّ جميل «4»(10/164)
قلت: نعم، فقال: قم بنا، ومال إلى دار في السوق، ثم قال: غنّه، فقلت:
بل تتمّ يا عمّ إحسانك وتغنيني أنت به، فإن سمعته كما أقوله غنيته وإن [كان] فيه مستصلح «1» استعدته، فضحك وقال: أنت لست تريد تصحيح غناء، إنما تريد أن تقول إنك سمعتني وأنا شيخ وقد انقطعت [ص 86] وأنت شاب، فقلت للجماعة: إن رأيتم أن تسألوه أن يشفّعني «2» فيما طلبت منه فسألوه فاندفع فغنّاه وأعاده ثلاث مرات، فما رأيت أحسن من غنائه، على «3» كبر سنه ونقصان صوته، ثم قال: غنّه، فغنيته فطرب الشيخ حتى بكى وقال: اذهب يا بني، فأنت أحسن الناس غناء، وإن عشت ليكونن لك شأن.
27- سائب خاثر «4»
مطرب حرّك بغنائه معاوية الحكيم، وحرّض على «5» الإنفاق عبد الله بن جعفر الكريم، وأحدث للعرب ما لم تكن تعهد ونفث، فلم يكن يخلو «6» من(10/165)
نفثاته بيت ولا معهد، اقترح في الغناء وفتح فيه للبناء، تقيّل عن الفرس غرائب الضروب، وغزائر الفكر التي ترنّح كلّ طروب، وحظي لدى أشراف المدينة لغناء كان يحلّ حباهم «1» ويحل مثله رباهم، إلا أنه جرى جري الجواد، وترك الكل للجواد، كان قدم إلى المدينة رجل فارسي يعرف ببسيط يغني بها، فأعجب عبد الله بن جعفر، فقال له سائب خاثر: أنا أصنع لك مثل غناء هذا الفارسي بالعربي، ثم غدا على عبد الله بن جعفر، وقد صنع: «2» [الكامل]
لمن الديار رسومها قفر
وهذا أوّل صوت غنّي به في الإسلام من الغناء المتقن في الصنعة.
قال: ثم اشترى عبد الله بن جعفر بسيطا بعد ذلك، فأخذ عن سائب خاثر الغناء العربي، وأخذ عن سائب أيضا ابن سريج وجميلة ومعبد وعزّة الميلاء وغيرهم.
قال: وفد عبد الله بن جعفر على معاوية، ومعه سائب خاثر، فوقّع له في حوائجه «3» ، ثم عرض عليه حاجة لسائب خاثر، فقال معاوية: من هذا؟
فقال: رجل من أهل المدينة ليثي، ويروي الشعر، قال: أو كلّ من روى الشعر ازداد فضله؟ قال: إنه يحسّنه، قال: وإن حسّنه، قال: أفأدخله إليك يا أمير المؤمنين؟
قال: نعم، فلما دخل قام على الباب فرفع صوته، ثم غنّى: «4» [الكامل](10/166)
لمن الدّيار رسومها قفر ... لعبت بها الأرواح والقطر
فالتفت معاوية إلى عبد الله وقال: أشهد لقد حسّنه، وقضى حوائجه.
قال: [ص 87] أشرف معاوية ليلا على منزل يزيد ابنه، فسمع صوتا أعجبه، واستخفّه السماع، فاستمع قائما حتى ملّ، ثم دعا بكرسي فجلس عليه، واستمع بقية ليلته، فلما أصبح غدا عليه يزيد فقال له: يا بني، من كان جليسك البارحة؟ قال: أي جليس يا أمير المؤمنين؟ وتجاهل عليه، فقال: عرفني، فإنه لم يخف عليّ شيء من أمرك، قال: سائب خاثر، قال: فاخثر «1» له يا بني من برك، فما [رأيت] بمجالسته بأسا.
قال ابن الكلبي: وفد معاوية المدينة في بعض ما كان يفد، فأمر حاجبه بالإذن للناس، فخرج الحاجب، ثم رجع فقال: ما بالباب من أحد، قال: وأين الناس؟
قال: عند عبد الله بن جعفر، فدعا معاوية ببغلته فركبها، ثم توجه إليهم، فلما جلس قام سائب خاثر، ومشى بين السماطين «2» وتغنّى: «3» [الطويل]
لنا الجفنات الغرّ يلمعن بالضّحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
فطرب معاوية وأصغى إليه حتى سكت، وهو مستحسن لذلك، ثم قام وانصرف.
قال: وقتل سائب خاثر يوم الحرّة، فلما عرضت أسماء من قتل على يزيد بن معاوية، مرّ به اسمه، فقال: إنا لله، وبلغ القتل إلى سائب خاثر إلى طبقته، ما(10/167)
أظن أنه بقي بالمدينة من أحد، ثم قال: قبّحكم الله يا أهل الشام، تجدهم صادفوه في حديقة أو حائط مستترا فقتلوه.
وحدّث مويلك عن أبيه «1» قال: قال لي سائب خاثر يوم الحرّة:
هل أسمعك شيئا صنعته؟ فغنّاني: «2» [الطويل]
لمن طلل بين الكراع إلى القصر ... يغيّر عنالونه سبل القطر «3»
قال: فسمعت عجبا معجبا من ذكر أهله وولده، فقلت: فما يمنعك من الرجوع إليهم؟ فقال: أما بعد شيء سمعته، ورأيته من يزيد بن معاوية فلا، ثم تقدم فقاتل حتى قتل.
وتمام الصوت: «4»
سوى خامدات ما يرمن وهامد ... وأشعث ترميه الوليدة بالفهر
28- عبد الله بن جدعان «5» [ص 88]
سيد تيم في الجاهلية، ومشيد المفاخر الجليّة، شرّفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بدخول داره، وطرفه مطارف فخاره، وكان قد أتى كسرى ملك آل(10/168)
ساسان، وسمع عنه غناء الحسان، وشدا جانبا مما سمع، واحتذى منه مالو علم جمع، وإنما كان هو وسادات العرب يتغنى غناء الركبان، ويتأتى به خلا [ل] الفضلاء ورؤوس الكثبان، وقد ذكر أبو الفرج في أنباء صوت ذكر، وصوب من بارقه الجنوبي مبتكر.
قالت عائشة رضي الله عنها: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ابن جدعان في الجاهلية كان يصل الرحم، ويطعم المساكين، فهل تلك نافعة له؟ قال: (لا، لأنه لم يقل اللهم اغفر لي خطيئتي يوم الدين) .
قال: قدم أمية بن أبي الصلت «1» على عبد الله بن جدعان، فقال عبد الله: أمر ما أتى بك؟ فقال أمية: كلاب وغرماء «2» قد نبحتني ونهشتني، فقال له عبد الله:
قدمت عليّ وأنا عليل من حقوق لزمتني، فأنظرني قليلا يحم «3» ما في يدي، وقد ضمنت قضاء دينك، ولا أسألك مبلغه، فأقام اميّة ايّاما ثم قال: «4» [الوافر]
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء
وعلمك بالأمور وأنت قرم ... لك الحسب المهذّب والسّناء(10/169)
كريم لا يغيّره صباح ... عن الخلق السّني ولا مساء
تباري الريح مكرمة وجودا ... إذا ما الكلب احجره الشتاء
إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرّضه الثّناء
فلما أنشده أمية هذا الشعر كانت عنده قينتان، فقال لأمية: خذ إحداهما، فأخذ إحداهما وانصرف، فمر بمجلس من مجالس قريش، فلاموه على أخذها، وقالوا: لقد لقيته عائلا، ولو رددتها، فإن الشيخ محتاج إلى خدمتها، كان ذلك أقرب لك عنده، فوقع الكلام في أمية موقعا، وندم فرجع لردها إليه، فلما أتاه بها قال ابن جدعان: لعلك إنما رددتها لأن قريشا لاموك على أخذها، ووصف لأمية ما قال القوم له، فقال له أمية، والله ما أخطأت يا أبا زهير، فقال عبد الله: فما الذي قلت في ذلك؟ فقال [ص 89] أمية: «1» [الطويل]
وليس بشين لا مرئ بذل وجهه ... اليك كما بعض السؤال يشين
فقال عبد الله لأمية: خذها، يعني الأخرى، فأخذهما جميعا وانصرف.
قال الحسن المروزي: سألت سفيان بن عيينة فقلت: يا [أبا] محمد، ما تفسير قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان دعاء أكثر الأنبياء قبلي بعرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) وإنما هو ذكر وليس فيها من الرجاء شيء»
، فقال لي أعرفت حديث مالك بن الحويرث، يقول الله جل ذكره: «إذا شغل عبدي ثناؤه عليّ عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين» ، قال: قلت: نعم، أنت حدثتنيه عن منصور عن مالك ابن الحويرث، قال: فهذا تفسير ذلك، ثم قال: أعلمت ما قال أمية بن أبي الصّلت(10/170)
حين خرج إلى ابن جدعان يطلب نائله؟ قلت: لا أدري، قال: قال فيه:
«1» [الوافر]
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إنّ شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرّضه الثناء
ثم قال سفيان: فهذا مخلوق بسبب الجود قيل له: يكفينا من مسألتك أن نثني عليك ونسكت حتى تأتي حاجتنا، فكيف بالحق عز وجل؟
وكان ابن جدعان ممّن حرّم على نفسه الخمر في الجاهلية، وذلك أن أمية شرب معه، فلما أصبح رأى بعين أمية أثرا، فقال: ما هذا، فعرفه أنه فعله به، فأعطاه عشرة آلاف درهم دية عينه، وقال: الخمر عليّ حرام.
29- متيّم الهشاميّة «2»
وكانت مقيم سرور، ومديم غرور، ولو مرت بأم خشف سانح، سلبت منها ما في الجوانح، كانت لبني هاشم سرّة البطحاء، ومسرّة أهل الرّوحاء، نشأت في تلك البيوت تمتع بحلولها، وتحدّ لحاظها في غلولها، إذا غنّت تجدد صبوة الهرم، وتشب صفحة الماء فيضطرم لا تخلو أيادي سراة لها من ذكر لا ينصرف سراه، ولا(10/171)
يتفرق مجمع إلا ولها فضل عليه يجمع ودامت «1» .
قال أبو الفرج: كلّم عليّ بن هشام «2» [ص 90] متيّما «3» بشيء فأجابته جوابا لم يرضه فدفع [يده] في صدرها فغضبت ونهضت، وتثاقلت عن الخروج إليه، فكتب إليها: «4» [الطويل]
فليت يدي باتت غداة مددتها ... إليك فلم ترجع بكفّ وساعد
فإن يرجع الرحمن ما كان بيننا ... فلست إلى يوم التنادي بعائد
قال: فتمادى غضبها وترضاها فلم ترض، فكتب إليها: الإدلال يدعو إلى الإملال «5» ، ورب هجر دعا إلى صبر، وإنما سمي القلب قلبا لتقلّبه ولقد صدق العباس بن الأحنف حيث يقول: «6» [الخفيف]
ما أراني الا سأهجر من لي ... س يراني أقوى على الهجران
مّلني واثقا بحسن وفائي ... ما أضرّ الوفاء بالإنسان «7»
قال: مرت متيم في نسوة وهي متخفية بقصر على بن هشام بعد أن قتل، فلما رأت بابه مغلقا لا أنيس به، وقد علاه التراب، وقد طرحت في أفنيته المزابل،(10/172)
وقفت عليه وتمثلت: «1» [السريع]
يا منزلا لم تبل أطلاله ... حاشا لأطلالك أن تبلى
لم أبك أطلالك لكنّني ... بكيت عيشي فيك إذ ولّى
قد كان لي فيك هوى مرّة ... غيّبه التّرب وما ملا
فصرت أبكي بعده جاهدا ... عند ادّكاري حيثما حلا
والعيش أولى ما بكاه الفتى ... لا بدّ للمحزون أن يسلى
قال: ثم بكت حتى سقطت من قامتها، وجعل النسوة يقلن لها: نفسك فإنك تؤخذين الآن، فبعد لأي احتملت بين امرأتين، حتى جاوزت الموضع.
30- سلّامة القسّ «2»
وكانت شمس كواكب وأنس لاعب، لو قابلت البدر لاستتر، أو هابّت النسيم لفتر، قد طالت منى، وطابت جنى، وعرفت بالقس لأن بها لا يقاس، ولأن كل قلب لها دير أو كناس، أوقفت الغوادي، وبدت كالقمر البادي، إلى غناء تخالس الجليس ويحتبس الظعائن [ص 91] وقد شدّت العيس، يغنى عن منّة الأوتار، ورنّة الإعلان عند بلوغ الأوطار «3» .(10/173)
قال أبو الفرج: إنما سمّيت سلامة القس، لأن رجلا يعرف بعبد الرحمن بن عمار الجشمي من قرّاء أهل مكة، كان يلقب القس لعبادته وأنه مرّ بمنزل أستاذ سلامة، فسمع غناءها فهويها «1» وهويته، وشغف بها واشتهر، حتى غلب عليها لقبه، وفيها يقول: «2» [الوافر]
أهابك أن أقول بذلت نفسي ... ولو أنّي أطيع القلب قالا «3»
حياء منك حتّى سلّ جسمي ... وشقّ عليّ كتماني وطالا
قال إسحاق: كانت حبابة وسلامة من قيان أهل المدينة، وكانتا حاذقتين ضاربتين ظريفتين، وكانت سلامة أحسنهما وجها، وكانت سلامة تقول الشعر، وكانت حبابة تتعاطاه فلا تحسنه.
قال أيوب بن عباية: كانت سلامة أحسنهما غناء، وهي المقدمة فلما صارتا إلى يزيد بن عبد الملك، ورأت حبّابة إيثار يزيد لها، ومحبته إياها، استخفت بسلامة «4» ، فقالت لها: يا أخيّة، نسيت فضيلتي عليك، ويلك، أين تأديب الغناء؟ وأين خلق التعليم؟ أنسيت قول جميلة وهي تطارحنا وتقول: خذي اتقان ما أطارحك من أختك سلامة ولن تزالي بخير ما بقيت لك، وكان أمركما مؤتلفا، قالت: صدقت يا أخت والله لا عدت إلى شيء تكرهينه، فما عادت إلى مكروه، وماتت حبّابة، وعاشت سلامة بعدها زمانا طويلا.
قال: لما قدم عثمان بن حيان المري المدينة واليا عليها، قال له قوم من وجوه الناس: إنك وليت المدينة على كثرة من الفساد، فإن كنت تريد أن تصلح،(10/174)
فطهرها من الغناء والزنا، فصاح في ذلك وأجلّ أهلها «1» ثلاثا يخرجون فيها من المدينة، وكان ابن أبي عتيق غائبا، فلما كان آخر ليلة من الأجل قدم، قال: لا أدخل على منزلي حتى أدخل على سلامة القس، فدخل عليها فقال: ما دخلت منزلي حتى جئتكم أسلم عليكم، قالوا: ما أغفلك عن أمرنا؟ وأخبروه الخبر، فقال: [ص 92] اصبروا الليلة، فقالوا: نخاف ألا يمكنك شيء، قال: إن خفتم شيئا فاخرجوا في السّحر، ثم خرج فاستأذن على عثمان بن حيان، فأذن له وذكر غيبته وأنه جاء لقضاء حقه، ثم جزاه خيرا على ما فعل من إخراج أهل الغناء والزنا، وقال: [أرجو أن] «2» لا تكون عملت عملا هو خير لك من ذلك، قال عثمان: قد فعلت وأشار به عليّ أصحابك، قال: قد أصبت، ولكن ما تقول- أكرمك الله- في امرأة كأنت هذه صناعتها، وكانت تكره على ذلك، ثم تركته وأقبلت على الصوم والصلاة والخير، وإني رسولها إليك، تقول: أتوجه اليك وأعوذ «3» بك أن يخرجني من جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسجده، قال فإني أدعها لك ولكلامك، قال ابن أبي عتيق: لا يدعك الناس، ولكن تأتيك وتسمع كلامها وتنظر إليها، فإن رأيت أن مثلها ينبغي أن يترك تركتها، قال: نعم، فجاء بها وقال: احملي معك سبحة وتخشعي، ففعلت، فلما دخلت عليه حدثته، فإذا هي أعلم الناس بالأخبار والأحاديث، فأعجب بها، وحدثته عن آبائه وأمورهم ففكه «4» لذلك، فقال لها ابن أبي عتيق: اقرئي على الأمير، فقرأت له، فقال: احدي «5» للأمير، ففعلت، فكبر عجبه بها، فقال: كيف لو سمعتها في صناعتها، فلم يزل يزين لها شيئا بعد شيء حتى أمرها بالغناء، فقال لها ابن أبي(10/175)
عتيق عند ذلك غني: «1» [الطويل]
سددن خصاص الخيم لمّا دخلنه ... بكلّ لبان واضح وجبين «2»
فغنّته، فقام عثمان من مجلسه فقعد بين يديها، ثم قال: لا والله ما مثل هذا من يخرج، فقال له ابن أبي عتيق: لا يدعك الناس، يقولون: أقرّ سلامة واخرج غيرها، قال: فدعوهم جميعا، فتركوا وأصبح الناس يتحدثون بذلك، يقولون:
كلّم ابن أبي عتيق في سلامة فتركوا جميعا.
قال ابن أبي أويس: كان يزيد بن عبد الملك [يقول] : ما يقرّ بعيني ما أتيت من أمر الخلافة، حتى أشتري «3» سلامة وحبّابة، فأرسل فاشتريتا، فلما اجتمعتا عنده قال أنا والله كما قال الشاعر «4» : [الطويل]
فألقت عصاها فاستقرّ بها النّوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر
[ص 93] فلما توفي يزيد رثته سلامة وهي تنوح على قبره «5» : [مجزوء الرمل]
لا تلمنا إن خشعنا ... أو هممنا بخشوع
إذ فقدنا سيّدا كا ... ن لنا غير مضيع
قد لعمري بتّ ليلي ... كأخي الداء الوجيع
كلّما أبصرت ربعا ... خاليا فاضت دموعي «6»(10/176)
31- عبيد الله بن عبد الله بن طاهر «1»
توشّح بالأدب، وترشّح للطلب، واقتنى الجواري وأخذهنّ بالإحسان، وألقى عليهن الأصوات، وأبقى لهن حياة في الأموات، ولم يكن يذكر بالغناء إلا جواريه، ولا يظهر، ولو فعل لم يكن أحد يباريه، وإنما كان كلفا بالشعر والإحسان [في] قريضه، ومحاسن تصريحه وتعريضه، وهو فرع من تلك الغضراء، وبقية من تلك الدولة الغراء.
قال أبو الفرج، قال جحظة: كان المعتضد [يغنّى] بصوت لشاجي، فأرسل إلى عبيد الله يقسم بأن يأمرها بزيارته، ففعل، قال جحظة: فحدثني من حضر من المغنيات ذلك المجلس يخدمون المعتضد، قلن: دخلت علينا، وما منّا إلا من يرفل في الحليّ والحلل، وهي في أثواب ليست كأثوابنا، فاحتقرناها، فلما غنّت احتقرنا أنفسنا، ولم يزل كذلك حالنا إلى أن صارت في أعيننا كالجبل، وصرنا كلا شيء، قال: ولما انصرفت أمر لها المعتضد بمال وكسوة، ودخلت على مولاها، فجعل يسألها عن خبرها وما استطرفت مما رأت، وما استغربت مما سمعت، فقالت: ما استحسنت هناك ولا استغربته من غناء ولا غيره، إلا عودا محفورا من عود، فإني استظرفته، قال جحظة: فما قولك فيمن دخل إلى دار الخلافة فلم تمتد عينه إلى شيء استحسنه إلا عودا.
قال بعضهم: كنت عند عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وعنده أخوه محمد(10/177)
يأمره بإحضاري وتقليدي القضاء، وقد بلغت هذه «1» السن وأتولى القضاء بعدها، وبعد ما قد رويت: من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين [ص 94] فقال محمد: فتلحق أمير المؤمنين (بسرّمن رأى) وتسأله إعفاءك، قال: أفعل، فأمر له بمال ينفقه وبظهر يحمله ويحمل ثقله، ثم قال: إن رأيت يا أبا عبد الله أن تفيدنا منك شيئا قبل أن نفترق، قال: نعم، انصرفت من عمرة المحرّم، فبينما أنا بالعرج إذ أنا بجماعة مجتمعة، فأقبلت إليهم، فإذا أنا برجل كان يتقنّص الظّباء، وقد وقع ظبي في حبائله، فذبحه فانتفض في يده فضرب بقرنه صدره فمات، وأقبلت فتاة كأنها المهاة، فلما رأت زوجها ميتا شهقت وقالت: «2» [البسيط]
يا حص جمّع أحشائي وقلقلها ... رداك يا حصن لولا غرّة جلل
أضحت فتاة بني نهد علانية ... وبعلها فوق أيدي القوم محتمل
قال: ثم شهقت فماتت، فما رأيت أعجب من الثلاثة؛ الظبي مذبوح، والرجل ميت جريح، والفتاة ميتة حرّى، قال: فأمر له عبيد الله بمال آخر، ثم أقبل على أخيه محمد فقال له: أما إن الذي أخذنا من الفائدة في خبر حسن وفي قولها:
أضحت فتاة بني نهد علانية
- تريد ظاهرة- أكثر مما أعطيناه من الصلة.
ومن شعر عبيد الله بن طاهر: «3» [الطويل]
فأنفق إذا أيسرت غير مقصّر ... وأنفق إذا خيّلت أنك معسر
فلا الجود يغني المال والجدّ مقبل ... ولا البخل يبقي المال والجدّ مدبر(10/178)
32- محمّد بن الحارث بن بسخنّر «1»
رئيس طرب يشجي صوته الورقاء إذا ناحت، وذات اللفاء (؟) إذا باحت، طالما صبّ الدموع دما، وصدّ الثاكل أن يتذكّر عدما، لو باكى السيل لاستوقفه إذ جرى، أو شاكى المسهد لأشغله عن الكرى، راق الخلفاء كأس عناية، واتخذوه لذماء «2» الروح أجل غذائه، فكانوا لا يرون سرورا بغيره يتمّ، ولا حبورا بسواه يلمّ.
قال أبو الفرج: كان قديما يغنّي بالمعزفة «3» [ص 95] وكانت تحمل معه إلى دار الخلافة، فمر غلامه بها يوما، فقال قوم كانوا جلوسا على الطريق: مع هذا الغلام مصيدة الفأر، قال بعضهم: لا، هذه معزفة محمد بن الحارث، فحلف يومئذ بالطلاق والعتاق لا يغنّي بمعزفة أبدا، أنفة [من] أن تشبه التي يغني بها بمصيدة الفار، فصار يغني مرتجلا، وكان أحسن الناس أخذا للغناء وأحسنهم أداة.
قال أبو عبد الله الهاشمي، سمعت إسحاق المصعبي يقول للواثق، قال لي إسحاق بن إبراهيم الموصلي: ما قدر أحد أن يأخذ شيئا مستويا إلا محمد بن الحارث، فقال له الواثق: حدثني إسحاق عن إسحاق الموصلي بكذا وكذا، قال: قد قال لي إسحاق مرارا، قال له الواثق: فأي شيء أحدث من صنعته أحسن عندك؟ فقال: هو يزعم أنه لم يأخذ منه أحد قط هذا الصوت كما أخذته، وهو هذا: «4» [الطويل](10/179)
إذا المرء قاسى الدهر وأبيضّ رأسه ... وثلّم تثليم الإناء جوانبه
فليس له في العيش خير وإن بكى ... على العيش أو رجّى الذي هو كاذبه
فأمره الواثق أن يغنيه إياه، فأحسن واستعاده الواثق منه، فاستحسنه، وأمر برده مرارا حتى أخذه الواثق، وأخذه جواريه والمغنون.
وذكر يحيى المنجم أن إسحاق غنّى بحضرة الواثق: «1» [الطويل]
ذكرتك إذ مرت بنا أمّ شادن ... أمام المطايا تشرئبّ وتسنح «2»
من المؤلفات الرّمل أدماء حرّة ... شعاع الضحى من متنها يتوضّح «3»
فأمره الواثق أن يعيده على الجواري، وأحلفه بحياته أن ينصح فيه، فقال: لا يستطعن «4» الجواري أن يأخذنه مني، ولكن يحضر محمد بن الحارث فيأخذه مني، وتأخذه الجواري منه، فأحضره وألقاه عليه، فأخذه منه، وألقاه على الجواري.
قال أحمد بن الحسن بن هشام: جاءني محمد بن الحارث بن بسخنّر يوما، فقال لي: قم حتى أطفّل بك على صديق لي حر، وله جارية احسن خلق الله تعالى وجها وغناء، فقلت: أنت طفيليّ وتطفل بي؟ هذا والله [ص 96] أخس حال، وقمت معه فقصد بي دار رجل من فتيان (سرّ من رأى) كان لي صديقا، ويكنى أبا صالح، وقد غيّرت كنيته على سبيل اللقب «5» ، فلقّب أبا الصالحات، وكان(10/180)
ظريفا حسن المروءة، ويضرب بالعود على مذهب الفرس ضربا حسنا، ولم يكن منزله يخلو من طعام وشراب، لكثرة من يقصده من إخوانه، فلما طرق بابه، قلت: فرجت عني [هذا] «1» صديقي، فدخلنا، وقدم لنا طعاما نظيفا فأكلنا، وأحضر النبيذ وأحضر جاريته، فغنت غناء حسنا، ثم غنت صوتا كانت أخذته من محمد بن الحارث، من صنعته، والشعر لابن أبي عيينة: «2» [الكامل]
ضيّعت عهد فتى لعهدك حافظ ... في حفظه عجب وفي تضييعك
إن تقتليه وتذهبي بفؤاده ... فبحسن وجهك لا بحسن صنيعك
فطرب محمد بن الحارث، ونقطها بدنانير مسيّفة «3» كانت في خريطته، ووجه بغلامه فجاءها ببرنية «4» فيها غالية فغلفها «5» منها، ووهبها الباقي، وكان معنا أخ لمحمد بن الحارث يكنّى أبا هارون ظريف طيب، فطرب ونعر ونخر «6» ، وقال لأخيه: والله إني أريد أن أقول لك شيئا في السر، وأسألك أن تخبرني هل فيه حرج، قال: قله علانية، قال: لا يصلح، قال: والله ما بيني وبينك شيء أبالي أن أقوله جهرا، فقله، قال: أشتهي أن تسأل أبا الصالحات أن ينيكني، فعسى صوتي أن ينصلح ويطيب غنائي، فضحك أبو الصالحات، وخجلت الجارية وغطت وجهها.(10/181)
قال أبو العباس: حدثني محمد بن الحارث بن بسخنّر عن ابنه، قال لي الرشيد:
أنا عليّ أن أتغدّى عندك في غد، قال: فضاق عليّ من الأرض العريض، فجئت إلى عبد الملك بن صالح وقلت له: قد وقعت في بلية، قال: وما هي؟
قلت: زعم الرشيد انه يتغدّى عندي غدا، فقال: اذهب ففرّغ جهودك للقلايا والمعلكة ولا يخفك بسوى ذلك، قال: ففعلت، فلما جاءني قال: دعني من تخليطك وهلم إليّ بقلايا «1» ومعلكة، قال: فجئت بها، فقال: ضع يدك على رأسي، واحلف لتصدقني، قال: فوضعت يدي على رأسه وحلفت [ص 97] ، قال: من أشار عليك بهذا؟ قلت: عبد الملك بن صالح، قال: أما والله لو كان طولب بالعشرة آلاف التي عليه، لما تفرغ لفضول الرأي.
قال محمد بن الحارث: كنت مع المأمون وهو يريد بلاد الروم، ومعه عدة من المغنين، فجلس يوما والمعتصم والعباس، فبعث المأمون بأصل شاهسفوص «2» وقد لفّ على رأسه حرير، فجاءني الغلام وقال: أعد الصوت، فأخذته وشممته، ووثبت فغنيته قائما، ووضعت الأصل بين يديّ وقلت للمغنين: حكم لي أمير المؤمنين عليكم بالحذق «3» بالغناء، قالوا: وكيف: [قال] قد دفع إليّ لواء الغناء من بينكم، قالوا: ليس كما ذكرت، ولكن حيّاك إذ أطربته، والرسول قائم، فانصرف بالخبر، فما لبث أن رجع فقال: كما قلت.(10/182)
قال: صنع محمد بن الحارث لحنا في: «1» [مجزوء الكامل]
أصبحت عبدا مسترقّا ... أبكي الألى سكنوا دمشقا
أعطيتهم قلبي فمن ... يبقى بلا قلب فأبقى
وطرحه على المسدود الطنبوري، فوقع له موقعا حسنا، واستحسنه محمد بن الحارث منه، فقال له: أتحبّ أن أهبه لك؟ قال: نعم، قال: قد فعلت، وكان يغنيه ويدعيه، إنما هو لمحمد بن الحارث.
قال: دعا إسحاق بن إبراهيم المصعبي المأمون، فصار إليه معه المعتصم وعبد الله ابن طاهر وسائر جلسائه ومغنيه، فلما جلس المأمون على شرابه، كان ممن حضر المجلس من المغنين محمد بن الحارث، وقد شاع في المأمون الطرب، فغناه: «2» [المنسرح]
لو كان حولي بنو أميّة لم ... تنطق رجال أراهم نطقوا
قال: فغضب المأمون، ودارت عينه في رأسه، وكان لا يكاد يغضب، فإذا غضب بلغ غاية الغضب، ثم التفت إليه فقال: تغنّيني في وقت سروري «3» ، وساعة طربي في شعر تمدح فيه أعدائي، وأنت مولاي، وربيب نعمتي؟ ادعوا أحمد [ص 98] بن هشام، وكان على حرسه، وكان المأمون لا يمضي إلى موضع، إلا ومعه صاحب شرطته وحرسه، وكان احمد قاعدا في حراقة «4» على باب إسحاق في دجلة، فجاء أحمد حتى مثل بين يديه، وكان عبد الله بن طاهر قد قام ليجدد وضوءا، فقال أحمد: خذه إليك فاضرب عنقه وانتسفه من الأرض، ومرّ به مبادرا(10/183)
لينفذ أمره فيه، ولم يتهيأ لإسحاق كلام المأمون فيه، وعدل إلى عبد الله بن طاهر فأخبره الخبر وقال: إن تهيأ هذا في منزلي يوم فخري وسروري كانت سبّة عليّ وعلى أهلي، فهدأ أحمد، فسأله أن يتوقف ويبادر إلى أمير المؤمنين يسأله العفو عنه، فقال عبد الله بن طاهر لأحمد في التوقف عنه، وجاء حتى أقام بين يدي المأمون وهو على غضب، فأمره بالجلوس، فأبى، فقال: لم؟ قال: يا أمير المؤمنين، نعمك عليّ جلية، ومننك لديّ نفيسة، وفي نفسي وأهلي عظيمة، وهذا يوم شرّفت فيه ابن عمي إسحاق بزيارته، ورفعت بذلك من قدره، وأعليت من ذكره، وقد كان من هذا الجاهل ما كان، فإن «1» في سعة خلق أمير المؤمنين، وكرم عفوه، أن يعود عليه بفضله، والطول بصفحه، ولا يخرجه إلا إلى ما خرج من الأمر بقتله، كان هذا شيئا إن تهيأ في منزل خادمه كان سبة عليه وعلينا إلى آخر الدهر، هذا إلى حرمة محمد وخدمته، وإن الذي تمّ عليه كان بسوء الاتفاق لا العمد، فإن رأى أمير المؤمنين أن يعود بحلمه ويراجع ما عوّد الله خدمه من العفو والإقالة، قال: قد فعلت، وأمر برده إلى مجلسه، فجاء فوقف بين يديه فقال: إياك ومعاودة مثل ما كان منك، وأخذ في لهو ولعب وسرور.
33- عبد الله بن طاهر «2»
ملك علا علو النجوم، وجاد جود «3» الغيوم، وأجاد في كل ضرب من(10/184)
الإحسان، وكانت أيامه أيام الورد في نيسان، محلا النجاد بأدب حل منه النجاد، ووقار رأى الطود إليه الافتقار، وهو من أبناء الشيعة العباسية في رأس فرقها، ومجمع طرفها، صعدت فيها جدوده الذروة، وسعدت لتمسكها بالعروة، وكان عبد الله يتكلم الغناء وهو معبده وغريضه، ويده فيه لا تقصر به ولا نهوضه [ص 99] إنما كان يخاف به الإزراء، وتعدّ أصواته المنسوبة إليه الأرزاء.
قال أبو الفرج: أعطي عبد الله بن طاهر مال مصر لسنة، خراجها وضياعها، فوهبه كله وفرقه على الناس، ورجع صفرا من ذلك، فغاظ المأمون فعله، فدخل إليه يوما بعد مقدمه فأنشده «1» : [البسيط]
نفسي فداؤك والأعناق خاضعة ... للنائبات أبيّا غير مهتضم
إليك أقبلت من أرض أقمت بها ... حولين بعدك في شوق وفي ألم
أقفو مساعيك اللاتي خصصت بها ... حذو الشّراك على مثل من الأدم
فكان فضلي منها أنّني تبع ... لما سننت من الإحسان والكرم
فضحك المأمون وقال: والله ما نفست عليك مكرمة نلتها «2» ، ولا أحدوثة حسن عنك ذكرها، ولكن هذا شيء إذا عودته نفسك افتقرت ولم تقدر على لمّ شعثك ولا إصلاح حالك، وزال ما كان في نفسه.
وقال غيره: لما افتتح عبد الله بن طاهر مصر، سوغه المأمون خراجها، فصعد المنبر، فلم يزل حتى أجاز بها ثلاثة آلاف ألف دينار ونحوها، فأتاه معلّى الطائي وقال: اعلموه ما صنع، وكان واجدا عليه، فوقف بين يديه تحت المنبر وقال:
أصلح الله الأمير، أنا معلّى الطائي، وقد بلغ منّي ما كان منك من جفاء وغلظة،(10/185)
فلا يغلظن علي قلبك، ولا يستخفنك الذي بلغك، أنا الذي أقول «1» :
[البسيط]
يا أعظم الناس عفوا عند مقدرة ... وأعظم النّاس عند الجود للمال
لو أصبح النيل يجري ماؤه ذهبا ... لما أشرت إلى خزن بمثقال
وهي عدة أبيات، فضحك عبد الله بن طاهر وقال: يا أبا السمراء، أقرضني عشرة آلاف دينار، فما أمسيت أملكها، فأقرضه فدفعها إلى معلّى الطائي.
قال محمد بن الفضل الخراساني أحد قواد عبد الله بن طاهر، لما قال عبد الله بن طاهر قصيدته التي يفخر فيها بمآثر أبيه وأهله، ويفخر بفضلهم وقتلهم المخلوع، عارضه محمد بن زياد الأموي الحصني من ولد مسلمة بن عبد الملك، فأفرط في السب وتجاوز قبح الرد، وتوسط بين القوم وبين بني هاشم [ص 100] فأربى في التوسط، وكان فيما قال فيه: «2» [المديد]
يا بن بيت النار يوقدها ... ما لحاذيه سراويل «3»
من حسين من أبوك ومن ... مصعب غالتكم غول
نسب في الفخر مؤتشب ... وأبوّات أراذيل
وهي قصيدة طويلة، فلما ولي عبد الله بن طاهر، وردّ إليه أمر الشام علم الحصني أنه لا يفلت منه إن هرب، ولا ينجو من يده، فثبت في موضعه، وأحرز حرمه، وترك أمواله ودوابه، وكل ما يملك في موضعه، وفتح باب حصنه وجلس عليه يتوقع من عبد الله بن طاهر أن يوقع به، فلما شارفنا بلده وكنا على أن(10/186)
نصبحه، دعاني عبد الله في الليل فقال: أنت «1» عندي الليلة، ولتكن فرسك عندك لا تردّ، فلما كان في السحر أمر غلمانه وأصحابه أن لا يرحلوا حتى تطلع الشمس، وركب في السحر وأنا وخمسة من خواص غلمانه [معه] ، وسار حتى صبّح «2» الحصني، فرأى بابه مفتوحا، ورآه جالسا مسترسلا، فقصده وسلم عليه، ونزل عنده، وقال: ما أحلّك هاهنا وحملك على ان فتحت بابك ولم تتحصن من هذا الجيش المقبل، ولم تتنحّ عن عبد الله بن طاهر، مع ما في نفسه عليك، وما بلغه عنك؟ فقال: إن الذي قلت لم يذهب عليّ، وإنما تأملت أمري وعلمت أني قد أخطأت خطيئة حملني عليها نزق الشباب وغرة الحداثة، وإني إن هربت لم آمنه، فباعدت البنات والحرم، واستسلمت بنفسي وكل ما أملك، فإني [من] أهل بيت قد أسرع القتل فينا، ولي فيمن مضى أسوة، فإن الرجل إذا قتلني وأخذ مالي وشفى غيظه، لم يجاوز ذلك إلى الحرم، ولا له فيهن أرب، ولا يوجب جرمي إليه أكثر مما بذلته، قال: فو الله، ما اتقاه عبد الله إلا بدموعه تجري على لحيته، ثم قال: أتعرفني؟ قال: لا والله، قال: أنا عبد الله بن طاهر، وقد أمّن الله خوفك وحقن دمك، وصان حريمك، وحرس نعمتك، وعفا عن ذنبك، وما تعجلت إليك وحدي إلا لتأمن «3» وأن لا يخالط عفوي عنك روعة، فبكى الحصني وقام فقبل رأسه، وضمّه إليه عبد الله وأدناه، ثم قال: أما الآن فلا بد من عتاب، يا أخي جعلت فداك، قلت شعرا في قومي أفخر بهم [ص 101] لم أطعن فيه على حسبك، ولا ادعيت فضلا عليك، وفخرت بقتل رجل، هو وإن كان من قومك، فهم القوم الذين ثأرك عندهم، وكان يسعك السكوت. وإن لم(10/187)
تقترف لم تسرف، فقال: أيها الأمير، فإن عفوت، فاجعله العفو الذي لا يخالطه تثريب، ولا يكدر صفوه تأنيب، قال قد فعلت، فقم بنا ندخل منزلك حتى نوجب عليك حقا بالضيافة، فقام مسرورا، فدخلنا منزله، ودعا بالطعام الذي كان أعده «1» لنفسه، فأكلنا وجلسنا نشرب في مستشرف له، واقبل الجيش، وأمرني عبد الله أن أتلقاهم فأرحّلهم، ولا يترك أحد منهم في البلدة، ثم دعا بدواة، فكتب له يسوغه خراجه سبع سنين، وقال: إن نشطت لنا فالحق بنا، وإلا فأقم مكانك، فقال: أنا أتجهز وألحق الأمير، ففعل ولحق بمصر، ولم يزل مع عبد الله ابن طاهر لا يفارقه حتى دخل العراق، فودعه وأقام ببلده.
قال ابن خرداذبة: كان موسى بن خاقان مع عبد الله بن طاهر، وكان نديمه، وجليسه، وكان له مؤثرا مقدما، فأصاب معه معروفا كثيرا، وأجازه جوائز سنية، ثم إنه وجد عليه في بعض الأمر فجفاه، فرجع موسى إلى بغداد، فكتب إليه: «2»
إن كان عبد الله خلانا ... لا مبديا عرفا وإحسانا
فحسبنا الله رضينا به ... ثم بعبد الله مولانا
يعني بعبد الله الثاني المأمون، وغنّت فيه جاريته لحنا من الثقيل الأول، وسمعه المأمون منها، فاستحسنها، ووصله وإيّاها، فبلغ ذلك عبد الله بن طاهر، فغاظه، وقال: أجل، صنعنا المعروف إلى غير أهله فضاع.(10/188)
34- معبد اليقطيني «1»
مطرب كم أخذ عنه صوت، ومجيدكم استدرك به لمعبد الأول فوت، وإن قيل «وما قصبات السبق إلا لمعبد» ، وعنى الأول أنه أعرب قيل ذلك له وللثاني منه ما أطرب، ثم ختل لبيبا وقتل كئيبا وفعل بالغناء ما يفعل بالناي، كان أطيب من العود أنفاسا، وأقرب إيناسا، يختلب الألباب، ويستلب العقول للأحباب، ويجتلب [ص 102] الهوى لذكر زينب اجتلاب الرباب.
قال أبو الفرج، قال عبد الله بن أبي سعيد، حدثني معبد غلام ابن يقطين قال:
كنت منقطعا إلى البرامكة، آخذ منهم وألازمهم ولا أفارقهم، فبينا أنا ذات يوم في منزلي إذا بابي يدق، فخرج غلامي ثم رجع فقال: على الباب فتى ظاهر المروءة يستأذن عليك، فأذنت له، فدخل علي شاب ما رأيت أحسن وجها، ولا أنظف ثوبا، ولا أجمل زيا منه، عليه آثار السقم ظاهرة، فقال: إني اخاف «2» لقاءك مذ مدّة، فلا أجد إليه سبيلا، إنّ لي حاجة، قلت: ما هي؟ فأخرج ثلاث مئة دينار فوضعها بين يدي، ثم قال: أسألك أن تقبلها وتصنع في بيتين قلتهما لحنا تغنيني به، قلت: هاتها، فأنشدني: «3» [البسيط]
والله يا طرفي الجاني على بدني ... لتطفئنّ بدمعي لوعة الحزن(10/189)
أو لأبوحنّ حتى يحجبوا سكني «1» ... فلا أراه ولو أدرجت في كفني
قال: فصنعت فيهما لحنا ثم غنيته إياه، «2» فأغمي عليه، حتى ظننته قد مات، ثم أفاق فقال: أعد فديتك، فناشدته الله في نفسه، وقلت: أخشى أن تموت، فقال: هيهات، أنا أشقى من ذلك، وما زال يخضع ويتضرع «3» حتى أعدته، فصعق صعقة أشد من الأولى، حتى ظننت أن نفسه قد فاضت «4» ، فلما أفاق رددت عليه الدنانير ووضعتها بين يديه، وقلت له: يا هذا خذ دنانيرك وانصرف عني، فقد قضيت حاجتك وبلغت طرفا مما أردته، ولست أحب أن أشرك في دمك، فقال: يا هذا، لا حاجة لي في الدنانير، وهذه مثلها لك، وأخرج مثلها ثلاث مئة دينار أخرى فوضعهما بين يدي وقال: أعد الصّوت عليّ مرة أخرى وخلاك ذم، فشرهت نفسي إلى الدنانير، فقلت:
لا والله ولا بعشرة أمثالها، إلا على ثلاث شرائط، قال: وما هن؟ قلت:
أولهن أن تقيم عندي، وتتحرّم بطعامي، والثانية أن تشرب أقداحا من النبيذ تشد قلبك ويسكن مما بك، والثالثة أن تحدثني بقضيتك، قال: أفعل ما تريد، فأخذت الدنانير ودعوت بالطعام فأصاب منه إصابة معذر «5» ، ثم دعوت بالنبيذ فشرب أقداحا، وغنيّته بشعر غيره في نحو من معناه، فجعل يبكي أحر بكاء(10/190)
وينشج «1» [ص 103] أشد نشيج، فلما رأيت النبيذ قد شد قلبه، كررت عليه صوته مرارا ثم قلت: حدثني حديثك، قال: أنا رجل من أهل المدينة، وخرجت متنزها في ظاهرها، وقد سال العقيق في فتية من أترابي، فبصرنا بفتيات قد خرجن لمثل ما خرجنا له، فجلسن حجزة «2» منا، وبصرت بفتاة كأنها قضيب قد طله الندى، فأطلنا وأطلن حتى تفرق الناس، وانصرفت وقد أثبتت في قلبي جرحا بطيئا اندماله، فعدت إلى منزلي وأنا وقيذ «3» ، وخرجت من الغد إلى العقيق وليس به أحد، فلم أر لها أثرا، فجعلت أتبعها في طرق المدينة وأسواقها، فلم أحسّ لها بعين ولا أثر، وسقمت حتى أيس مني أهلي، وخلت بي ظئر لي «4» واستعلمتني وضمنت لي كتمانها والسعي فيما أحبه، فأخبرتها بقضيتي، فقالت: لا بأس عليك، هذه أيام الربيع، وهي سنة خصب وأنواء، وليس يبعد عنك المطر، فأخرج أنا وأنت إلى العقيق، فإن النسوة سيجئن، فإذا فعلن فرأيتها عرفتها حتى أتبعها فأعرف موضعها فأتبعها وأصل بينك وبينها، وأسعى لك في تزويجها، فكأن نفسي اطمأنت إلى ذلك، ووثقت به، وسكنت إليه، فقويت نفسي وتراجعت، وجاء مطر بعقب ذلك، فسال العقيق، وخرج الناس وخرجت مع إخواني، فجلسنا مجلسنا الأول بعينه كما كنا والنسوة أقبلن، فأومأت إلى ظئري فجلست حجزة منا ومنهن وأقبلت إلى إخواني فقلت: لقد أحسن القائل: «5» [الطويل]
رمتني بسهم أقصد القلب وانثنت ... وقد غادرت جرحا به وندوبا
فأقبلت على صويحباتها وقالت: أحسن والله القائل حيث يقول: [الطويل](10/191)
بنا مثل ما تشكو فصبرا لعلّنا ... نرى فرجا يشفي السّقام قريبا
فأمسكت عن الجواب خوفا أن يظهر ما يفضحني وإياها، وعرفت ما أرادت، ثم تفرق الناس وانصرفنا، فتبعتها ظئري حتى عرفت منزلها، وصارت إلي فأخذت بيدي ومضينا إليها، فلم تزل تتلطف حتى وصلت إليها فتلاقينا على حال مجالسة، فشاع حديثنا، فحجبها أهلها، فسألت أبي أن يخطبها، فمضى أبي ومشيخة أهلي إلى أبيها، فخطبوها، فقال: لو كان فعل هذا قبل أن يفضحها لأسعفته بما التمس، فأما الآن وقد عرّها «1» فما [ص 103] كنت لأحقق ظن الناس بتزويجها إيّاه، فانصرفت على يأس منها ومن نفسي. قال معبد: فسألته أن ينزل فحبرني «2» ، وصارت بيننا عشرة، ثم جلس جعفر بن يحيى للشرب، فأتيته وكان أول صوت غنيته في شعر الفتى، فطرب عليه طربا شديدا، فقال: ويحك، ما سمعت هذا منك قط، فقلت: إن لهذا الصوت حديثا، قال: فما هو؟
فحدثته، فأمر بإحضاره، فأحضر الفتى بين يديه، فاستعاده الحديث، فأعاده عليه، فقال: هي في ذمتي حتى أزوجك أيّاها، فطابت نفسه، فأقام معنا حتى أصبح وغدا جعفر إلى الرشيد، فحدثه الحديث العجيب، فأعجب منه، وأمر بإحضارنا جميعا، فأحضرنا وأمر أن أغنيه الصوت، فغنيته فشرب وطرب، وأمر من وقته بكتاب إلى عامل المدينة بإشخاص الرجل وابنته وجميع أهله إلى حضرته، فلم يمض إلا مسافة الطريق، فأحضروا، وأمر الرشيد بإيصاله إليه، فأوصل وخطب الجارية للفتى، وأقسم لا يخالف أمره، فأجابه أبوها، وحمل إليه الرشيد ألف دينار لنفقة الطريق، وألف دينار لجهازها وأمر للفتى بألفي دينار، ولي بألف دينار، وأمر لنا جعفر بألفي دينار لي وله، وكان الفتى بعد ذلك من ندماء جعفر بن يحيى.(10/192)
35- محمد الزّف «1»
سابق لا يكر معه في جولة، ولا يقر معه لصولة، ولا يذكر مع بوارقه برقة ثهمد ولا خولة «2» . ما أبو كامل عنده إلا ناقص، ولا الكميت المذكور في صوت ابن سريج عنه إلا ناكص، ولا ابن محرز معه ممن تحرّز ولا ابن ميمون الموصلي إلا ممن تغنى «3» وما نسج مثل نسجه ولا طرّز.
قال أبو الفرج الأصفهاني: كان أسرع خلق الله أخذا للغناء من جميع خلقه وأصحه أداء له، وكان يتعصب على ابن جامع، ويميل إلى إبراهيم وابنه، فكانا يرفعان منه ويقدمانه، ويجلبان له الصلات من الخلفاء، وكان في ابن جامع بخل شديد لا يقتدر معه أن يسعفه ببر، وقد كان ابن جامع إذا غنى صوتا أصغى إليه حتى يحكيه ويلقيه على جماعة المغنين، فغنى ابن جامع يوما بحضرة الرشيد: «4» [الخفيف]
أرسلت تقرئ السلام الرّباب [ص 105] ... في كتاب وقد أتانا الكتاب
فيه لو زرتنا لزرناك ليلا ... بمنى حيث تستقلّ الرّكاب
قال إسحاق: ونظرت إلى الزّفّ فغمزته، وقمت إلى الخلاء، فإذا هو قد جاءني، فقلت: أي شيء قد عملت؟ قال: قد فرغت لك منه، فقلت: هاته، فرده علي(10/193)
ثلاث مرات حتى عرفت مقاطعه وفهمته وصح لي، فأخذته وعدت إلى مجلسي وأنا مسرور «1» ، وغمزت عقيدا ومخارقا فقاما وتبعهما، فألقاه عليهما، وابن جامع لا يعرف الخبر، فلما عاد إلى المجلس، أومأت إليهما أسألهما عنه، فعرفاني أنهما أخذاه، فلما بلغ الدور إلي كان الصوت أول ما غنيته، فحدد الرشيد نظره إليّ، ومات ابن جامع وأسقط في يده «2» ، فقال لي الرشيد: من أين لك هذا؟
قلت: أنا أرويه قديما، وقد أخذه عني مخارق وعقيد، فقال: غنياه، فغنياه، فوثب ابن جامع، فجلس بين يديه، وحلف بالطلاق ثلاثا أنه صنعه في ليلته الماضية، ما سبقه إليه أحد من الناس، فنظر إليّ الرشيد فغمزته بعيني أنه صدق، وجدّ الرشيد في العبث به بقية يومه، ثم سألني بعد ذلك في الخبر فصدقته، فجعل يضحك ويقول: لكل شيء آفة، وآفة ابن جامع الزف. ومن مشهور صنعته في طريقة الرمل: «3» [البسيط]
بان الحبيب فلاح الشيب في راسي ... وبتّ منفردا وحدي بوسواس
ماذا لقيت فدتك النفس بعدكم ... من التّبرّم بالدنيا وبالناس
لو كان شيء يسلّي النّفس عن شجن ... سلّت فؤادي عنكم لذّة الكاس
ما دارت الكأس إلا كان ذكركم ... مجاز كأسي وأنسي بين جلاسي(10/194)
36- عثعث «1»
برز في تصاريف العقلاء، وتبرأ من تكاليف الثقلاء، واطّرحت الخلفاء معه الاحتشام، وجعل بوارق السرور متى لاح تشام، وكان قمر تلك المجالس وقمري تلك الرحاب الأوانس، لا ترقل ركائب المدام إلا على حدائه، ولا تطل حدود الكؤوس إلا بإدنائه، تترنح به المعاطف، ترنح الاغصان بالنسيم، وتهتز القلوب اهتزاز المفارق للمعهد القديم.
قال أبو الفرج، قال ابن حمدون [ص 106] قال لي عثعث: دخلت يوما على المتوكل، وهو مصطبح وابن المارقي يغنيه شعره: «2» [الطويل]
أقاتلتي بالجيد والخدّ والقد ... وباللون في وجه أرقّ من الورد
وهو على البركة جالس، وقد طرب فاستعاد الصوت مرارا، وأقبل عليه، فجلست ساعة، ثم قمت لأبول فصنعت هزجا في شعر البحتري يصف البركة: «3» [البسيط]
إذا النجوم تراءت في جوانبها ... ليلا حسبت سماء ركّبت فيها
وإن علتها الصّبا أبدت لها حبكا ... مثل الجواشن مصقولا حواشيها
قد زانها زينة من بعد زينتها ... إن اسمه حين يدعى من أساميها
فلما سكت ابن المارقي مستوفيا، اندفعت أغني هذا الصوت، فأقبل علي(10/195)
وقال: أحسنت، وحياتي أعد، فأعدت فشرب ولم يزل يستعيده ويشرب حتى اتكأ ثم قال للفتح بن خاقان: بحياتي ادفع إليه السّاعة ألف دينار وخلعة تامة، واحمله على شهري «1» فاره بسرجه ولجامه، فانصرفت بذلك أجمع.
قال ابن جامع: كنا مجتمعين في منزل أبي عيسى ابن المتوكل، وقد عزمنا على الصبوح، ومعنا جعفر بن المأمون، وسليمان بن وهب، وإبراهيم بن المدبر، وحضرت عريب وشارية وجواريها، ونحن في أتم سرور، وكان أهل الظرف والمتعانون في ذلك الوقت ضربين، عريبيّة وشرويّة «2» فمال كل حزب إلى من يتعصب له منهما في الاستحسان والظرف والأفراح، وعريب وشارية ساكتتان لا تنطقان، وكل واحدة من جواريهما تغني صنعة ستها»
لا تجاوزها، حتى غنت عرفان: «4» [المديد]
بأبي من زارني في منامي ... فدنا منّي وفيه نفار
فأحسنت ما شاءت، وشربنا جميعا، فلما أمسكت، قالت عريب لشارية: يا أختي، لمن هذا اللحن؟ قالت: لي كنت صنعته في حياة سيدي، تعني إبراهيم المهدي فاستحسنه وعرضه على إسحاق وغيره فاستحسنوه، وامسكت عريب، ثم قالت لأبي عيسى: أحب [ص 107] يا بنيّ فديتك أن تبعث الساعة إلى عثعث الأسود من يجيء به، فوجه إليه فحضر، وجلس، فلما اطمأن وشرب وغنى، قالت له عريب: يا أبا دليجة، أتذكر صوتا غناه زبير [بن] دحمان عندي وأنت حاضر، فسألته أن يطرحه عليك؟ فقال: وهل الغواني لها عذرها «5» ، نعم والله، إني لذاكره، حتى كأننا أمس افترقنا عنه، قالت: غنّه، فاندفع يغني(10/196)
الصوت الذي ادّعته شارية حتى استوفاه، وتضاحكت الأخرى عريب، ثم قالت لجواريها: خذوا في الحق ودعوا الباطل، وغنوا الغناء القديم، فغنت بدعة وسائر جواريها، وخجلت شارية وأطرقت وظهر الانكسار فيها، ولم تنتفع هي يومئذ ولا أحد من جواريها، ولا متعصبيها بأنفسهم.
37- بصبص جارية ابن نفيس «1»
جارية سمراء تهزأ بالأسمر، وترسل في طرفها الأسود الموت الأحمر، انغمست في ماء الدلال، وطبعت على صورة الهلال، بحمرة دبت في وجناتها، وأمكنت بواكير الورد من جناتها، وذبلت نرجس العيون وأقاح المقل من جناتها، وروّقت في رضابها الرحيق، وأشعلت فيما تحت نقابها الحريق، وجلتها كالبدر يعلوه تحت الشفوف غيم رقيق، كلف بها المهدي على عفاف مضاجعه، وكف مطامعه وصارت إلى ملك حيث الملوك إلى أبوابه وافدة، والأقدار له على عدوه مرافدة، واختصها بأنسه، واستخلصها لنفسه، وأولدها عليّة بنت المهدي، ولهذا نزعت إلى أمها، واغترفت الغناء من يمّها، وكانت قد أدّبها ابن نفيس فمهرت، وحجبها مدة مقصورة على التعليم حتى ظهرت.
قال أبو الفرج: كان يحيى بن نفيس مولاها صاحب قيان يغشاه الأشراف، ويسمعون غناء جواريه، وكان فيمن [يغشاه] عبد الله بن مصعب بن ثابت بن(10/197)
عبد الله بن الزبير، فحج أبو جعفر أبو جعفر في بعض السنين، ومر بالمدينة، فقال عبد الله ابن مصعب، تذكر: «1» [السريع]
أراحل أنت أبا جعفر ... من قبل أن تسمع من بصبصا
لو أنّها تدعو إلى بيعة ... بايعتها ثم شققت العصا [ص 108]
فبلغت أبا جعفر، فدعا به فقال: أما أنكم يا آل الزبير قديما قادتكم النساء، وشققتم العصا، حتى صرت أنت آخر الحمقى تبايع النساء المغنيات، فدونكم يا آل الزبير هذا المرتع الوخيم، قال: ثم بلغ المنصور بعد ذلك أن عبد الله بن مصعب قد اصطلح «2» مع بصبص وهي تغنيه: «3» [السريع]
إذا تمزّزت صراحيّة ... كمثل ريح المسك أو أطيب «4»
ثم تغنّى لي بأهزاجه ... زيد أخو الأنصار أو أشعب
حسبت أني مالك جالس ... حفّت به الأملاك أو موكب
وما أبالي وإله الورى ... أشرّق العالم أم غرّبوا
قال أبو جعفر: لكن العالم لا يبالون كيف أصبحت، ولا كيف أمسيت، ثم قال أبو جعفر: لكن الذي يعجبني الليلة أن يحدوني الحادي بشعر طريف العنبري فهو ألذ في سمعي من غناء بصبص، ثم دعا الحادي «5» ، وكان إذا حدا أصغت الإبل إلى صوته وانقادت انقيادا عجيبا، فسأله المنصور: ما بلغ من حسن حدائه؟(10/198)
[قال] : تعطش الإبل خمسا وتدنى من الماء، وأحدو أنا، فتتبع كلّها صوتي ولا تقرب الماء، فحفظ الشعر، وهو «1» : [الكامل]
إنّي وإن كان ابن عمّي كاشحا ... لمزاحم من دونه وورائه
وممدّه نصري وإن كان امرأ ... متزحزحا في أرضه وسمائه «2»
وأكون مأوى سرّه وأصونه ... حتّى يحقّ عليّ يوم أدائه
وإذا أتى من غيبة بطريفة ... لم أطّلع ماذا وراء خبائه
وإذا تحيّفت الحوادث ماله ... قرنت صحيحتنا إلى جربائه
وإذا تريّش في غناه وفرته ... وإذا تصعلك كنت من قرنائه
وإذا غدا يوما ليركب مركبا ... صعبا قعدت له على سيسائه «3»
قال: فلما كان الليل حدا به الحادي بهذه الأبيات، فقال: هذا والله أحثّ [ص 109] على المروءة، وأشبه لأهل الأدب من غناء بصبص، قال: فحدا به ليله أجمع، فلما أصبح قال: يا ربيع، أعطه درهما، قال: يا أمير المؤمنين، حدوت لهشام بن عبد الملك فأمر لي بعشرين ألفا، وتأمر لي أنت بدرهم! قال: إنا لله، ذكرت مالم نحب أن تذكره، وصفت رجلا ظالما أخذ مال الله من غير حله، وأنفقه في غير حقه، يا ربيع، اشدد يديك به حتى يرد المال، فبكى الحادي وقال: يا أمير المؤمنين، قد مضت به السنون، وقضيت به الديون، ولا والذي أكرمك بالخلافة ما بقي منه شيء، فلم يزل به أهله وخاصته يسألونه في أمره حتى كف عنه، وشرط عليه أن يحدو به ذاهبا وراجعا، ولا يأخذ منه شيئا.(10/199)
قال: هوي محمد بن عيسى الجعفري بصبصا جارية ابن نفيس، فهام بها، وطال عليه ذلك، فقال لصديق له: لقد شغلتني هذه عن ضيعتي وكل أمري، وقد وجدت مسّ السّلوّ عنها، فاذهب بنا حتى أكاشفها بذلك وأستريح، فأتيتها، فلما غنت لهما، قال محمد بن عيسى: أتغنين: «1» [الوافر]
وكنت أحبّكم فسلوت عنكم ... عليكم في دياركم السّلام
قالت لا، ولكني أغني: [الوافر]
تحمّل أهلها عنّا فبانوا ... على آثار من ذهب العفاء
قال: فاستحسنها، ثم زاد بها كلفا، فأطرق ساعة، ثم قال لها: أتغنيني: «2» [الطويل]
وأخضع بالعتبى إذا كنت مذنبا ... وإن أذنبت كنت الذي أتنصّل
قالت نعم، وأغني: [الطويل]
فإن تقبلوا بالودّ نقبل بمثله ... وننزلكم منّا بأقرب منزل
قال: فتقاطعا في بيتين، وتواصلا في بيتين.
وفي بصبص هذه يقول ابن أبي الزوائد: «3» [السريع]
بصبص أنت الشمس مزدانة ... فإن تبذّلت فأنت الهلال
سبحانك اللهمّ ما هكذا ... فيما مضى كان يكون الجمال
[ص 110] إذا دعت بالعود في مشهد ... وعاودت يمنى يديها الشمال
غنّت غناء يستفده الفتى ... حذقا وزان الحذق منها الدلال(10/200)
38- الزّرقاء جارية ابن رامين «1»
أنست ذكر زرقاء اليمامة، وغنت فأغنت عن الورقاء والحمامة، لم يبق معها لليمامية ولو أنها أفضل عين ولا أثر، ولا للزّرقاء «2» أم بني أمية خبر يقع عليه الطرف إذا عثر، أبدعت في تكميل الغناء وتحصيل ما لا ينصرف عنه للاستغناء، ثم أصبحت والحجب تضرب عنها دونها، والستر يسبل عنها مصونها، والنجوم لا ترمقها، والشموس تشهد منها مشرقها «3» .
قال أبو الفرج، قال إسحاق، كان روح بن حاتم المهلبي كثير الغشيان لمنزل ابن رامين، وكان يختلف إلى الزرقاء، وكان محمد بن جميل يهواها وتهواه، فقال لها روح بن حاتم: قد ثقل علينا «4» ، قالت: فما أصنع، قد غمر مولاي ببره، قال: احتالي له، فبات عندهم روح ليلة، فأخذت سراويله وهو نائم فغسلته، فلما أصبح سأل عنه، فقالت: غسلناه، ففطن أنه أحدث فيه فاحتيج إلى غسله، فاستحيا من ذلك وانقطع عنها، وخلا وجهها لابن جميل.
قال: واشترى جعفر بن سليمان الزرقاء بثمانين ألف درهم، فلما مضت لها مدة عنده، قال لها يوما: هل ظفر أحد منك ممن كان يهواك بخلوة أو قبلة، فخشيت أن يبلغه شيء كانت فعلته بحضرة جماعة، أو يكون قد بلغه، فقالت: لا والله، إلا يزيد بن عون العبادي قبلني قبلة وقذف في فمي لؤلؤة بعتها بثلاثين ألف درهم،(10/201)
فلم يزل جعفر يطلبه ويحتال له حتى وقع في يده، فضربه بالسياط حتى مات.
قال إسحاق: شربت الزرقاء دواء فأهدى لها ابن المقفع ألف درّاجة على جمل قراسيّ. «1»
قال محمد بن سلام: اجتمع عند ابن رامين معن بن زائدة وروح بن حاتم وابن المقفع، فلما غنت بعث معن إليها بدرة، «2» فصبها بين يديها، وبعث روح إليها أخرى فصبها بين يديها، ولم يكن عند ابن المقفع دراهم، فجاء بصك ضيعته وقال: هذه عهدة ضيعتي خذيها، فأما الدراهم [ص 111] فما عندي منها شيء.
قال إسماعيل بن عمار: كنت أختلف إلى منزل ابن رامين فأسمع جاريته الزرقاء وسعدة، وكانت سعدة أظرف من الزرقاء، فأعجبت بها، وعلمت ذلك مني، وكانت كاتبة، فكتبت إليها أشكو ما ألقى بها، فوعدتني فكتبت إليها رقعة مع بعض خدمهم فيها: «3» [البسيط]
يا ربّ إنّ ابن رامين له بقر ... عين وليس لنا غير البراذين
لو شئت أعطيته مالا على قدر ... يرضى به منك غير الخرّد العين «4»
فإن تجودي بذاك الشيء أحي به ... وإن بخلت به عنّي فزنّيني «5»
قال: فجاءني الخادم فقال: ما زالت تقرأ رقعتك وتضحك، وكتبت إلي: حاشاك(10/202)
من أن أزنيّك، ولكني أصير إليك وأغنيك وألهيك، وأرضيك، وصارت إلي فأرضتني بعد ذلك.
قال ابن عمار: «1» [الخفيف]
لابن رامين خرد كمها الوح ... ش حسان وليس لي غير بغل
رب فضلته علي ولو شئ ... ت لفضلتني عليه بفضل
وقال محمد بن الأشعث بن نجوة الكاتب الكوفي: «2» [البسيط]
أمسى لسلامة الزرقاء في كبدي ... صدع مقيم طوال الدهر والأبد
لا يستطيع صناع القوم يشعبه ... وكيف يشعب صدع الحب في الكبد
39- حبّابة جارية يزيد بن عبد الملك «3»
أمة غلبت على الحرائر، وفتنت بإطرابها، وحسنت بين أترابها، وسفرت فراب البدور سفورها، وملأ الصدور سرورها، ووصلت إلى حجب يزيد، وكان حب «4» شغفه لها يزيد، فكان لو خيّر بينها وبين الخلافة لاختارها، أو سمّيت «5» هي(10/203)
والشهد لترك الشهد واشتارها «1» ، وكانت هي سبب الطعن عليه حتى أنفذته الرماح ونبذته لقى في مهبات الرياح، صارت إليه هي وسلامة القس، ونعم بهما طوال مدته مثل ليلة العرس، إنّ هوى حبابة سكن حبه وقلبه، وأشعله حتى ذهب بلبه، ثم وهبها سلامة ورضي بها، ولم يسخطه ملامة.
[ص 112] قال أبو الفرج: أول ما ارتفعت منزلة حبابة عند يزيد أنه أقبل يوما إلى البيت الذي هي فيه، فقام من وراء الستر، فسمعها تترنم وتغني: «2» [الخفيف]
كان لي يا يزيد حبّك حينا ... كاد يقضي عليّ لما التقينا
والشعر كان يا سفين»
، فرفع الستر، فوجدها مضطجعة مقبلة على الجدار، فعلم أنها لم تعلم به، فألقى بنفسه عليها وخزلت «4» منه.
قال ابن شبه: لما ألح يزيد على الشرب وسماع الغناء، أقبل مسلمة عليه يلومه ويقول له: إنك وليت بعقب عمر بن عبد العزيز وعدله، وقد تشاغلت بهذه الأمة عن النظر في أمور المسلمين، والوفود ببابك وأصحاب الولايات والظلامات يصيحون، وأنت غافل عنهم، قال: صدقت والله، وأعتبه وهمّ بترك الشراب أيّاما، ولم يدخل على حبابة مدة، فدست حبابة إلى الأحوص أن يقول بيتا في ذلك، وقالت: إن رددته عن رأيه فلك ألف دينار، فدخل الأحوص على يزيد، فاستأذنه، فأذن له فقال: «5» [الطويل](10/204)
ألا لا تلمه اليوم أن يتبلّدا ... فقد غلب المحزون أن يتجلّدا
بكيت الصّبا جهدي فمن شاء لامني ... ومن شاء آسى في البكاء فأسعدا
وإنّي وإن فنّدت «1» في طلب الصبا ... لأعلم أنّي لست في الحبّ أوحدا
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فكن حجرا من يابس الصّخر جلمدا
فما العشق إلا ما تلذّ وتشتهي ... وإن لام فيه ذو الشّنار وفنّدا
وحفظت حبابة الأبيات، وعملت فيها لحنا، وكان يزيد قد أقام جمعة لا يدخل إليها، فلما كان يوم الجمعة، قالت لبعض جواريها: إذا خرج أمير المؤمنين إلى الصلاة فأعلميني، فلما أراد الخروج أعلمتها، فتلقته بالعود في يدها، فغنت البيت الأول، فغطى وجهه وقال: مه، لا تفعلي، ثم غنّت الأبيات، فلما بلغت إلى:
وما العيش إلا ما تلذ وتشتهي «2»
عدل إليها وقال: صدقت، قبّح الله من لامني فيك، يا غلام مر مسلمة [ص 113] فليصل بالناس، وأقام معها وعاد إلى حاله.
وذكر ابن عياش «3» أن سلامة وحبابة اختلفتا في صوت معبد: «4» [الوافر]
ألا حيّ الديار بسعد إنّي ... أحبّ لحبّ فاطمة الديارا «5»
إذا ما حلّ أهلك يا سليمى ... بدارة صلصل شحطوا المزارا «6»(10/205)
فبعث يزيد إلى معبد فأتى، فسأل: لم بعث إليه؟ فأخبر، فقال: لأيتهما المنزلة عند أمير المؤمنين؟ قالوا: لحبابة، فلما عرضتا عليه الصوت، حكم لحبابة، فقالت سلامة: والله يا بن الزانية إنك لتعلم وتتحقق أن الحق والصواب ما قلت، ولكنك سألت: أيتهما آثر عند أمير المؤمنين، فقيل لك حبابة، فاتبعت هواه ورضاه، فضحك يزيد وطرب، وقالت سلامة: أتأذن لي يا أمير المؤمنين في صلة معبد، فإن له علي حقا، قال: قد أذنت، فوصلته بما لم تصله به حبابة.
وقال الزبير بن بكار: حدثتني طيبة، أن حبابة أنشدت يوما يزيد بن عبد الملك: «1» [الوافر]
لعمرك إنني لأحبّ سلعا ... لرؤيتها ومن بجنوب سلع «2»
ثم تنفست شديدا فقال لها: مالك؟ أنت في ذمة أبي لئن شئت لأقلعنه إليك حجرا حجرا، فقالت: وما أصنع به، ليس إياه أردت، إنما أردت ساكنه.
قال الزبير: وحدثتني ظبية، أنّ يزيد قال لحبابة وسلامة، أيّتكما غنتني ما في نفسي، فلها حكمها، فغنت سلامة [فلم تصب ما في نفسه، وغنت حبابة فأصابت ما في نفسه، فقال احتكمي، فقالت: سلامة، تهبها لي] «13» ومالها، قال: اطلبي غير هذا، فأبت، فقال لها: قد وهبتها لك، فلقيت سلامة من ذلك أمرا عظيما، فقالت لها حبابة: اطمئني فإنك لا ترين إلا خيرا، فجاءها يزيد يوما فسألها أن تبيعه إياها بحكمها، قالت: أشهد أنها حرة، فاخطبها حتى أزوجك مولاتي.
قال المدائني: كانت حبابة إذا غنت وطرب يزيد قال: أطير؟(10/206)
فتقول: إلى من تدع أمور المسلمين؟ فيقول: إليك.
قال الزبير وحدثتني ظبية أن حبابة غنت يوما فطرب يزيد ثم قال لها: هل رأيت أطرب [ص 114] مني؟ قالت: نعم، مولاي الذي باعني «1» ، فغاظه ذلك، فكتب في حمله مقيدا، فلما قدم أمر بإدخاله إليه، فأدخل يرسف في قيده، وأمرها بالغناء، فغنت: «2» [المتقارب]
تشطّ غدا دار جيراننا ... وللدّار بعد غد أبعد
فوثب فألقى نفسه على الشمعة، فأحرقت لحيته، وجعل يصيح: الحريق يا أولاد الزنا! فضحك يزيد وقال: لعمري إن هذا لأطرب مني، وأمر بحل قيوده ووصله بألف دينار، ووصلته حبابة بمثلها، وزودته إلى المدينة.
قال: نزل يزيد بيت ديرانية بالشام، ومعه حبابة فقال: زعموا أنه لا يصفو لأحد عيشه إلى الليل إلا «3» يكدّره شيء، وسأجرب ذلك، ثم قال لمن معه، إذا كان غدا فلا تخبروني بشيء، ولا تأتوني بكتاب، وخلا بحبابة، فأتيا بما يأكلان، فأكلت رمانة فشرقت بحبة فماتت، فأقام لا يدفنها ثلاثا حتى نتنت، وامتنع من الأكل والشرب وخطاب الناس، وجعل يشمها ويترشفها، فعاتبه أقرباؤه وقالوا: قد صارت جيفة بين يديك، ولم يزالوا به حتى أذن لهم في دفنها، وأمر فأخرجت في نطع «4» ، وخرج لا يتكلم حتى جلس على قبرها، قال: أصبحت والله كما قال كثير: «5» [الطويل]
فإن تسل عنك النّفس أو تدع الصّبا ... فباليأس يسلو عنك لا بالتّجلّد(10/207)
وكلّ خليل زارني فهو قائل ... من أجلك هذا هامة اليوم أو غد
قال: فما أقام إلا خمسة عشر يوما حتى مات، ودفن إلى جانبها.
وروى المدائني: أنه اشتاق إليها بعد ثلاثة أيام من دفنها، فأمر بنبشها فنبشت، فكشف عن وجهها وقد تغير تغيرا قبيحا فقيل له: اتق الله ألا ترى كيف صارت، فقال: ما رأيتها قط أحسن من هذا اليوم، أخرجوها فجاء مسلمة ووجوه قومه وأهله، فلم يزالوا به حتى أزالوه عن ذلك، ودفنوها.
40- بديح مولى عبد الله بن جعفر «1» [ص 115]
صاحب فكاهة تحلو مذاقها، ومحاسن تعرو بها البدور محاقها، وكان لا يعاصيه احتيال ولا يلاويه اختيال، لو رقى الجندل لاستخرج ماءه، أو لاطف الدجى لجلّى ظلماءه، وأعرق في شرف الولاء، وأجزل له طرف الآلاء، ولم تنقص له عطيه، ولا قصّرت به رتبة عليّه.
قال أبو الفرج: روى الحديث عن عبد الله بن جعفر، وقيل إنّ عبد الله بن جعفر دخل على عبد الملك بن مروان، وهو يتأوّه من عرق النّسا، فقال: يا أمير المؤمنين، مالك؟ قال: قد هاج بي عرق النّسا في ليلتي هذه فبلغ مني، فقال: إن بديحا مولاي يرقي منه، فوجه إليه عبد الملك بن مروان، فلما مضى الرسول، قال عبد الله في نفسه: كذبة قبيحة عند خليفة، وأسقط في يده، فما كان بأسرع من أن طلع بديح، فقال له: كيف رقيتك من عرق النّسا؟ قال: أرقى الخلق يا أمير المؤمنين،(10/208)
قال: فسرّي عن عبد الله بن جعفر، لأن بديحا كان صاحب فصاحة وفكاهة يعرف بها، فمد رجله فتفل عليها ورقاها مرارا، فقال عبد الملك: الله أكبر، وجدت والله خفّا، يا غلام، ادع فلانة حتى تكتب الرقية، فإنا لانأ من هيجانها بالليل، فلا نذعر بديحا، فلما جاءت الجارية، قال بديح: يا أمير المؤمنين، امرأته طالق إن كتبتها حتى تعجل حبائي، فأمر له بأربعة آلاف درهم، فلما صارت بين يديه قال: امرأته طالق إن كتبتها أو يصير المال في منزله، فأمر فحمل، فلما أحرزه قال: يا أمير المؤمنين امرأتي طالق إن كنت قرأت عليك وعلى رجلك إلا أبيات نصيب: «1» [الطويل]
ألا إنّ ليلى العامرية أصبحت ... على النأي عني ذنب غيري تنقم
وما ذاك عن ذنب أكون اجترمته ... إليها لتجزيني بها حيث أعلم
ولكنّ إنسأنا إذا ملّ صاحبا ... وحاول صرما لم يزل يتجرّم
قال: ويلك ما تقول، قال: امرأته طالق إن كان قال إلا بما قال، قال: [ص 116] فاكتمها، قال: وكيف ذاك وقد سارت بها البرد إلى أخيك بمصر، فطفق عبد الملك ضاحكا.
41- هاشم بن سليمان «2»
محصل ثروة، ومحصن ذروة، بفطانة تقطع على ما في النفوس، وتدرك منه ما لا يدرك بالمحسوس، بحدس كأنما كان به يتكهن، ويقوى لديه ولا يتوهن، وله في صناعة الغناء يد لا تطيش، وسهم له في القلوب بسويدائها تريش «3» ، يجني السامع تمرا، ويخيل للسامع أنه ازداد عمرا.(10/209)
قال أبو الفرج، قال هاشم بن سليمان: أصبح موسى الهادي يوما وعنده جماعة منا، فقال: غنّنا: «1» [الكامل]
أبهار قد هيّجت لي أوجاعا ... وتركتني عبدا لكم مطواعا
فإن أصبت حاجتي فلك حاجة مقضية، فغنّيته فقال: أصبت وأحسنت، سل تعط حاجتك، فقال: يا أمير المؤمنين، تأمر بأن يملأ هذا المكان دراهم، وكان بين يديه كانون عظيم، فأمر به فملىء، فلما حصلها قال: يا قصير الهمة، والله لو سألت أن أملأها دنانير لفعلت، فقلت: أقلني يا أمير المؤمنين، قال: لا سبيل إلى ذلك، ولم يسعدك الجد به، وتمام الصوت الذي اقترحه موسى الهادي على هاشم بن سليمان: «2» [الكامل]
بحديثك الحسن الذي لو حلفت ... وحش الفلاة به لجئن سراعا
وإذا مررت على البهار منضدا ... في السوق هيج [لي] إليك نزاعا
والله لو علم البهار بأنّها ... أضحت سميته لطال ذراعا
42- عمرو بانة «3»
مفيد طرب، ومجيد إذا ضرب، طالما غنّى فخرق كلّ حجاب، واستنفق العبرة بغير حساب، كم له في الطرب دقة داخلة، ويد غير باخلة، بكل إشارة وافية،(10/210)
وعبارة للعود الأعجم بما يتخير من معاني العرب كافية، كم حضر في مجلس فقال السرور ما غبت، وانجح فقال الاستحقاق «1» ما خبت، [ص 117] وكان مهما حضر دار الخلافة، استقله معروفها، ودبت إليه قطوفها، فكان أنّى أمر الدهر ائتمر، ومهما غرس الطرب في سمع اجتنى الثمر.
قال أبو الفرج: كان تائها معجبا، وكان ينادم الخلفاء على ما فيه من الوضح، وفيه يقول الشاعر: «2» [المتقارب]
أقول لعمرو وقد مرّ بي ... فسلّم تسليمة جافيه
لئن فضّلوك بحسن الغناء ... لقد فضّل الله بالعافية
قال أبو معاوية الباهلي: سمعت عمرو بن بانة يقول لإسحاق في كلام جرى بينهما: ليس كمثلي «3» يقاس بمثلك، لأنك تعلمت الغناء تكسبا، وتعلمته تطربا، وكنت أضرب لئلا أتعلمه، وأنت تضرب لأن تتعلمه.
قال: اجتمع عمرو بن بانة والحسين بن الضحاك «4» في منزل ابن شعوف، وكان له خادم يقال له مفحم، وكان عمرو يتهم به، فلما أخذ منهم الشراب، سأل عمرو بن بانه الحسين بن الضحاك أن يقول شعرا يغني فيه، فقال: «5» [المنسرح]
وا بأبي مفحم بغرّته ... قلت له إذ خلوت مكتتما(10/211)
تحبّ بالله من يخصّك بال ... حبّ فما قال لا ولا نعما
فغنى فيه عمرو بن بانة، ولم يزل هذا الشعر غناءهم، وفيه طربهم، فأتاهم في عشيتهم إسحاق بن إبراهيم الموصلي، فسألوا ابن شعوف «1» أن لا يأذن له، فحجبه، وانصرف إسحاق إلى منزله، فلما تفرقوا، مر به الحسين بن الضحاك، فأخبره بجميع ما دار في مجلسهم، فكتب في ذلك إسحاق إلى ابن شعوف: «2» [المنسرح]
يا بن شعوف أما علمت بما ... قد صار في النّاس كلّهم علما
أتاك عمرو فبات ليلته ... في كلّ ما يشتهي كما زعما
حتى إذا ما الظلام خالطه ... سرى دبيبا يجامع الخدما
ثمّت لم يرض أن يفوز بذا ... سرّا ولكن أبدى الذي كتما
حتّى تغنى لفرط صبوته ... صوتا شفى من فؤاده سقما [ص 118]
وا بأبي مفحم بغرّته ... قلت له إذ خلوت مكتتما
تحب بالله [من] يخصك بال ... حب فما قال لا ولا نعما
قال: فهجر ابن شعوف ابن بانة وقطع عشرته.
قال: جمع عبد الله بن طاهر بين المغنين، وأراد أن يمتحنهم، وأخرج بدرة دراهم سبقا «3» لمن تقدم منهم وأحسن، فحضر مخارق وعلوية وعمرو بن بانة ومحمد ابن الحارث، فغنى علوية، فلم يصنع شيئا، وتبعه محمد بن الحارث، فكانت(10/212)
هذه سبيله، وامتدت الأعين إلى مخارق، فبدأ مخارق فغنى: «1» [مجزوء الكامل]
إنّي امرؤ من جرهم ... عمّي وخالي من جذام
فما نهنه عمرو بن بانة من انقطاع نفسه حتى غنّى «2» [السريع]
يا ربع سلامة بالمنحنى ... بخيف سلع جادك الوابل «3»
وكان إبراهيم بن المهدي حاضرا، فبكى طربا، وقال: أحسنت والله واستحققت «4» السبق، فإن أعطيته وإلا فخذه من مالي، يا حبيبي عني أخذت هذا الصوت، وقد والله زدت عليّ فيه وأحسنت غاية الإحسان، ولا يزال صوتي عليك أبدا، فقال عبد الله بن طاهر: من حكمت له بالسبق فقد حصل له، وأومأ بالبدرة فحملت إلى عمرو. قال: فلقي إسحاق [عمرو] بن راشد الخناق فقال له: بلغني خبر المجلس الذي جمع فيه عبد الله بن طاهر المغنين ليمتحنهم، ولو شاء كفيته، قال: أما مخارق فأحسن الناس غناء إذا اتفق له أن يحسن، وقلما يتفق له ذلك، وأما محمد بن الحارث فأحسنهم شمائل وأملحهم إشارة بأطرافه ووجهه في الغناء، وليس عنده غير ذلك، وأما عمرو بن بانة، فإنه أعلم القوم وأوفاهم، وأما علويه فمن أدخله مع هؤلاء؟(10/213)
43- وجه القرعة «1»
وجه كله أسارير، وصباح كله تباشير، ورسيل قيان يقال له رفقا سيرك بالقوارير، جار على قديم، وسار على طريق قويم، وسبق وما تخلف، وجدّ وما تكلفّ، وقال كلّ قول يشق المسامع ويلجها، ويقع على الخواطر ويبلجها. [ص 119]
قال أبو الفرج الأصفهاني، قال محمد بن حية «2» : دخلنا على إسحاق الموصلي نعوده في علة كان وجدها، فصادف عنده مخارقا وعلويه وأحمد بن [يحيي المكّي ومحمد بن] «3» حمزة وجه القرعة، فعرض عليهم إسحاق أن يقيموا عنده ليفرح بهم ويخرج إليهم ستارة يغنون من ورائها، ووضع النبيذ، فغنّى مخارق صوتا من الغناء القديم، فخالفه محمد بن حمزة في صناعته [وطال] مراؤهما «4» في ذلك، وإسحاق ساكت، ثم تحاكما إليه، فحكم لمحمد، فراجعه مخارق فقال له إسحاق: حسبك، فو الله ما فيكم أدرى بما يخرج من رأسه منه، فقال: ثم غنّى أحمد بن يحيى المكي: «5» [البسيط]
قل للحمامة لا تعجل بإسراج
فقال محمد: هذا اللحن لمعبد، ولا يعرف له هزج غيره، فقال أحمد: أما على ما شرط أبو محمد آنفا من أنه ليس في الجماعة أدرى بما يخرج من رأسه منك،(10/214)
فلا معارض لك، فقال له إسحاق: يا أبا جعفر، ما غنيتك والله فيما قلت، ولكن قد قال إنه لا يعرف لمعبد هزج «1» غيره، فاكذبه أنت بهزج آخر له مما لا يشك فيه، فقال أحمد: لا اعرف، تمام الصوت: [البسيط]
قل للحمامة لا تعجل بإسراج ... ليس الجواد بذاك السابح النّاجي
لما دعا دعوة أخرى فأسمعني ... أخذت قولي واستعجلت إدلاجي «2»
44- شارية «3»
جارية بيضاء مذكورة، هيفاء ممكورة، باهت بالغناء، وتاهت تيه الحسناء، وأربت على كل مجيد، وأبرّت على كل ذات سالفة وجيد، يقال إنها ريحانة من رياحين مخزوم، وممن حار بحبها اللزوم، فكانت درة تقلدها ملك فخر بأجداده، وجمع النقيضين ببياضها وسواده «4» ، وكانت تفوق كل جارية، وتفوت الكواكب وهي سارية.
قال أبو الفرج، قال عيسى بن هارون المنصوري: إنّ مولاة شارية «5» قدمتها ببغداد لتبيعها، فعرضتها على إسحاق بن إبراهيم [ص 120] الموصلي، فأعطى بها ثلاث مئة دينار ثم استعادها بذلك ولم يردّها، فجيء بها إلى إبراهيم بن المهدي، فعرضت عليه، فساوم بها، فقالت مولاتها: قد بذلتها لإسحاق بثلاثة(10/215)
مئة دينار، والأمير أعزه الله أحق بها، فقال: زنوا لها ما قالت، ثم دعا بقيّمته فقال لها: خذي هذه الجارية ولا ترينيها سنة، وقولي للجواري يطرحن عليها، فلما كان بعد سنة، أخرجت إليه وسمعها، فأرسل إلى إسحاق وأراه إيّاها، وأسمعه غناءها، قال: هذه جارية تباع فبكم تأخذها لنفسك؟ فقال إسحاق:
آخذها بثلاثة آلاف دينار «1» وهي رخيصة، فقال إبراهيم، أتعرفها قال: لا، قال:
هذه الجارية التي عرضتها عليك الهاشمية بثلاث مئة دينار فلم تقبلها، فبقي إسحاق متعجبا من حالها وما انقلبت إليه.
قال ابن المعتز، ذكر أبو يوسف بن إبراهيم المصري صاحب إبراهيم بن المهدي، أن إبراهيم وجه إلى عبد الوهاب بن عليّ في حاجة كانت له، قال:
فلقيته وانصرفت من عنده، فلم أخرج من دهليزه حتى استقبلتني امرأة، فلما بصرت [بي] «2» سترت وجهها عني، فأخبرني بعض الشاكرية أن الامرأة أم شارية جارية إبراهيم، فبادرت إلى إبراهيم، وقلت: أدرك أم شارية في دار عبد الوهاب، وهي من تعلم، فقال لي في جواب ذلك: أشهدتك ان جاريتي شارية صدقة مني على ميمونة بنت إبراهيم بن المهدي، ثم أشهد ابنه على مثل ذلك، وأمرني بالركوب إلى دار ابن أبي دواد «3» وإحضار من قدرت عليه من الشهود، فأحضرتهم وكانوا أكثر من عشرين شاهدا، وأمر بإخراج شارية، فأخرجت، فقال: اسفري، فجزعت من ذلك، فأعلمها أنما أمرها بذلك لخير يريده لها، ففعلت، فقال: تسمي، فقالت: أنا شارية أمتك، فقال لهم: تأملوا وجهها، ففعلوا، فقال: أشهدكم أنها حرة لوجه الله تعالى، وأني قد تزوجتها وأصدقتها(10/216)
عشرة آلاف درهم، يا شارية مولاة إبراهيم بن المهدي أرضيت؟ قالت نعم، رضيت، والحمد لله على ما أنعم عليّ، وأمرها بالدخول [ص 121] ، وأطعم الشهود وطيبهم وانصرفوا، فما أحسبهم بلغوا دار ابن أبي دواد، حتى دخل علينا عبد الوهاب بن علي فأقرأه السلام من المعتصم، ثم قال له: يقول لك أمير المؤمنين المفترض عليّ طاعتك، وصيانتك من كل ما يعودك، إذ كنت عمي وصنو أبي، وقد رفعت إليّ امرأة في قريش قصة ذكرت فيها أنها من بني زهرة صليبة «1» ، وأنها أم شارية أمتك، وكيف تكون امرأة من قريش أمة، فإن كانت هذه المرأة صادقة في أن شارية ابنتها، وأنها من بني زهرة، فمن المحال أن تكون شارية أمة، والأصلح بك والأشبه اخراج شارية من دارك، وتصيرها عند من تثق به من أهلك، حتى نكشف ما قالته المرأة، وكان في ذلك الحظ الأوفر لك في دينك وحقك، وإن لم يصح لك، أعيدت الجارية إلى منزلك، وقد زال عن نفسك القول الذي لا يليق بك ولا يحسن. فقال له إبراهيم: فديتك، هب شارية بنت زهرة بن كلاب، أتنكر على ابن العباس بن عبد المطلب أن يكون بعلا لها؟ قال: لا، فقال إبراهيم فأبلغ أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، أن شارية حرة، وقد تزوجتها بشهادة جماعة من العدول، وقد كان الشهود بعد منصرفهم من عند إبراهيم، صاروا إلى ابن أبي دواد، فشم رائحة الطيب منهم، فأنكره، فسألهم عنه فأعلموه أنهم حضروا عتق شارية جارية إبراهيم بن المهدي وتزوجه إياها، فركب إلى المعتصم فحدثه الحديث، فقال: ضلّ سعي عبد الوهاب، فلما رآه يمشي في صحن الدار سد المعتصم أنف نفسه، فقال: يا عبد الوهاب إني أشمّ رائحة صوف محرق، وأحسب عمي لم يقنعه ردك [إلا و] «2» على أذنك صوفة حتى أحرقها، فشممت رائحتها منك، فقال: الأمر على ما ظن أمير المؤمنين(10/217)
وأسمج، ولما انصرف عبد الوهاب من عند إبراهيم، ابتاع إبراهيم من ميمونة شارية بعشرة آلاف درهم وستر ذلك عنها، وكان عتقه إياها وهي في ملك غيره، ثم ابتاعها من ميمونة فحل له فرجها، فكان يطؤها على أنها أمة، وهي تتوهم على أنه يطؤها على أنها زوجته حرة، فلما توفي طلبت مشاركة أم محمد [ص 122] بنت خالد زوجته في المهر، فأظهرت خبرها، وسألت ميمونة وهبة الله عن الخبر، فأخبرتا به، فأمر المعتصم بابتياعها، فابتيعت من ميمونة [بخمسة آلاف و] خمس مئة دينار، فحولت إلى داره، فكانت في ملكه إلى أن توفي.
قال ابن المعتز: وحدث حمدون بن إسماعيل أنه دخل على إبراهيم يوما فقال له: أتحب أن أسمعك شيئا لم تسمع قط مثله، فقلت: نعم، فقال: هاتوا شارية، فخرجت فأمرها أن تغني لحن إسحاق «1» [البسيط]
هل بالدّيار التي أحببتها أحد
قال حمدون: فغنّي شيء لم أسمع قط مثله، فقلت: لا والله يا سيدي ما سمعت هكذا قط، قلت: أتحب أن تسمعه أحسن من هذا؟ قلت: لا يكون، قال: بلى والله، تقر بذلك، فقلت: على اسم الله، فغناه هو، فرأيت فضلا عجيبا، فقلت: ما ظننت أن هذا يفضل ذلك هو الفضل، قال: أفتحب أن تسمعه أحسن من هذا وذاك؟ قلت: هذا الذي لا يكون أبدا، فقال: بلى والله، فقلت: هات، قال: بحياتي يا شارية قوليه وأحيلي «2» حلقك [فيه] ، قال:
فغنّت، فسمعت والله فضلا بيّنا، فأكثرت التعجب، فقال لي: والله يا أبا جعفر ما أهون هذا على السمع! تدري كم رددت عليها موضعا في هذا الصوت؟(10/218)
قلت: لا، قال: قل وأكثر، قلت: مئة مرة؟ قال: أضعف ما بدا لك، قلت: ثلاث مئة مرة؟ قال: أكثر والله من ألف مرة، حتى قالته كذا.
كانت ريّق تقول: إن شارية إذا اضطربت في صوت فغاية ما يكون عنده من عقوبتها أن يقيمها تغنيه على رجلها، فإن لم تبلغ الذي أراد، ضربت ريّق بين يديها «1» .
قال محمد بن سهل بن عبد الكريم: ثم أعطى المعتصم بشارية سبعين ألف دينار.
قال عبد الله بن طاهر: أمرني المعتز ذات يوم بالقيام عنده، فأقمت وأمر فمدّت الستارة، وغنت شارية [ص 123] ولم أكن سمعتها قبل، فاستحسنت ما سمعت، فقال لي المعتز: يا عبد الله، كيف تسمع منها عندك؟ فقلت: حظ العجب من هذا الغناء أكثر من حظ الطرب فاستحسن ذلك، فأخبرها فاستحسنته.
45- خليدة المكيّة «2»
خلّدت لها ذكرا، وخلّت حديثها يستحسن وإن كان نكرا، خلقت من طينة العنبر الورد وطابت أنفاسا وإن اسود كأنما نفضت عليها صبغتها الحدق ممّا حدقت ناظرة إليها، إلا أنها كانت ذات ملح ما اشتملت عليها احناء ظلام، ولا مجاجة أقلام، فلهذا عشقت وما ضاعت الأعمار التي أنفقت.
قال أبو الفرج، قال الفضل بن الربيع: ما رأيت ابن جامع يطرب كما يطرب لغناء خليدة المكية.
قال عمر بن شبة: بلغني أن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، أرسل إلى خليدة المكية مولاه أبا عمرو يخطبها عليه، فاستأذنها عليه فأذنت له،(10/219)
وعليها ثياب رقاق لا تسترها، فوثبت وقالت: إنما ظننتك بعض سفهائنا، ولكني ألبس لك لباس مثلك ثم أخرج اليك ففعلت، ثم قالت: قل، قلت: أرسلني إليك مولاي، وهو من تعلمين ابن رسول الله وابن علي وعثمان، وهو ابن عم أمير المؤمنين، يخطبك، قالت: قد نسبته فأبلغت، فاسمع نسبي، أنا- بأبي أنت- إن أبي بيع على غير عقد الإسلام ولا عهده، فعاش عبدا ومات وفي رجليه قيد، وفي عنقه سلسلة على الإباق «1» والسرقة، وولدتني أمّي منه على غير رشدة، وماتت وهي آبقة، وأنا من تعلم، فإن أراد صاحبك نكاحا مباحا، أو زنا صراحا، فليهمّ «2» إلينا فنحن له، فقلت: إنه لا يدخل في الحرام، فقالت: ولا ينبغي أن يستحي من الحلال، فأما نكاح السر فلا والله ما فعلته، ولا كنت عارا على القيان أبدا، فأتيت محمدا فقال: ويلك، أتزوجها معلنا وعندي بنت طلحة بن عبيد الله «3» ، لا، ولكن ارجع إليها فقل لها تختلف إليّ أردد بصري فيها [ص 124] لعلي أن أسلو، فرجعت إليها فأبلغتها الرسالة فضحكت وقالت: أما هذا فنعم.
46- عمرو الميداني «4»
مطرب مجالس، ومطري مجالس، وزند سرور قادح، وعهد حبور سلم من فادح «5» ، اقتصر على الضرب بالطنبور، فيبست العيدان، ويئست أن تحوز صنعة(10/220)
الميدان، ووضع لها في الأصوات ما يناسب، وقنع منها بما تيسر من المكاسب، ثم ما ضمّ مصرورا، ولا مضى مسرورا.
قال أبو الفرج، قال علي بن أمية: دخلت على عمرو الميداني، وكان له بقّال على باب داره ينادمه ويقترض منه إذا أعسر، فوجدته عنده، فقال: يا أبا عمرو، معي أربعة دراهم اشتروا بها ما أحببتم، وعندي نبيذ، وأنا أغنيكم، والبقال يحضركم من الأبقال اليابسة مما في حانوته، فوجهنا بالبقال، فاشترى لنا لحما وخبزا وفاكهة، وجاءنا من دكانه بحوائج سكباج «1» ونقل، فبينا نحن نتوقع فراغ القدر، إذا بفرانق «2» يدق الباب، وقال: أجب إسحاق بن إبراهيم، فحلف علينا ألا نبرح، ومضى هو وأكلنا وشربنا، وانصرفت عشاء، وبكر إليّ رسوله فصرت إليه، فقلت له أعطني خبرك، قال: أدخلت فوضعت بين يدي مائدة، كأنها جزعة»
يمانية، قد فرشت في عراصها أنواع الأطعمة، فأكلت وسقيت رطلين، فدفع إلي الطنبور، فدخلت إلى إسحاق فوجدته جالسا وخلفه ستارة وعنده مخارق وعلوية، فقال:
أنت عمرو الميداني؟ فقلت: نعم، قال: أكلت؟ قلت: نعم، [قال] هاهنا أو في منزلك؟ قلت: بل هاهنا، قال: أحسنت، تغنّ بصوتك: «4» [مجزوء الخفيف]
يا شبيه الهلال كلّل في الأفق أنجما
فغنيته، فضرب الستارة، وقال: قولوه «5» أنتم [فقالوه] ، فقال لمخارق وعلوية:
كيف تسمعان؟ قالا: هذا والله ذاك، وذاك هذا [فردّدنه] ، وشرب عليه مرارا، ثم قال لي: أنا اليوم على خلوة ولك إليّ عودات، فانصرف اليوم بسلامة، فخرجت(10/221)
ودفع إليّ الغلام خمسة [ص 125] آلاف درهم، هذه والله لا استأثرت عليكم منها بدرهم، فلم نزل عنده نقصف بها حتى نفدت كلها.
47- أشعب الطّامع «1»
رجل من أهل المدينة، كان يعد الوهم حقيقة، ويظن وادي العقيق عقيقة، ولو رأى البرق المقتدح لحسبه طابخا، أو الفجر الطالع في الليل لظنه لإهاب شاة ملحاء سالخا، ما خيّم الضباب إلا قال هذه دخان رفعت لنا القرى، وما بانت له الآكام إلا قال سأستضيف بعض هذه القرى، لو قدر من طمعه لتعلق بحبال الشمس، واسترد اليوم ما فات في أمس، لو حضر امرؤ القيس للزمه وتبتل، ووقف يندب عقائره التي تقتل، ولخاطف العذارى منها على لحم وشحم كهدّاب الدّمقس المفتل، لا يسلك في غير الخدع المطمعة الجدد، ولا يعرف من قدماء العرب إلا طابخة بن أدد، لو سئل عن فواتر الأجفان لقال لا أعرف إلا فوائر الجفان، يعجله النهم عن التسمية والحمد، ولا يحمله الشره على ملاحظة أطراف الأكيل على عمد، لو نظر إلى خيال النجوم في الغدير، لقال دعوني بلقط هذه الدنانير، أو فاته تحصيل ذرّ الهباء «2» لعض على الأباهم، وكان على هذه الخصال التي تسود الصحف، وتخزي ما تحت اللحف، من أقيال الغناء وأهل أقوال الطرب المعروفة لابن اللخناء، إلى نوادر له في الطمع، ونكت له كالنظافة في الطبع، وعلى هذا أصبحت الناس، وأصبح واحدا والخلق في أجناس.(10/222)
قال أبو الفرج رحمه الله: كان يحكى عن أمّه أنها كانت تغري بين أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتمشي بينهم بالنميمة، وأنها زنت فحلقت وطيف «1» بها أسواق المدينة، وكانت تنادي على نفسها: من رآني فلا يزني، فقالت لها امرأة: يا فاعلة، نهانا الله عز وجل عنه فعصيناه، نطيعك أنت؟ وأنت مجلودة راكبة جمل؟
وقد روى الحديث عن جماعة من الصحابة، من «2» الحديث الذي رواه عن عبد الله بن جعفر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ص 126] «لو دعيت إلى كراع لأجبت» «3» .
قال المدائني: دفعت ابنة عثمان أشعب في البزازين، فقالت له بعد حول السنة أتوجهت بشيء؟ قال: نعم: توجهت وتعلمت نصف العلم، قالت: وما هو؟ [قال] : تعلّمت النّشر وبقي الطّيّ.
قال المدائني، قال أشعب: تعلقت بأستار الكعبة وقلت: اللهم أذهب عنّي الحرص والطلب إلى الناس، ومررت بالقرشيين وغيرهم فلم يعطني أحد شيئا، فجئت إلى أمي فقالت: مالك قد جئت خائبا؟ فأخبرتها، فقالت: لا والله، لا تدخل حتى ترجع فتستقيل ربك، فرجعت فقلت: يا رب أقلني، فلم أمر بمجلس من قريش وغيرهم إلا أعطوني، ووهب لي غلام، فجئت أمي [بحمار] موقرا «4» من كل شيء، فقالت: ما هذا الغلام؟ فجئت لأخبرها فخفت أن تموت فرحا، فقلت: وهبوا لي، قالت: أي شيء؟ قلت: غين، قالت: أيش غين، قلت:(10/223)
لام، قالت أي شيء لام؟ قلت: ألف، قالت: أي شيء ألف؟ قلت: ميم، قالت: وأي شيء ميم قلت: غلام، فغشي عليها، ولو لم أقطع الحروف لماتت الفاسقة فرحا.
قال أشعب: سمعت الناس يموجون في أمر عثمان، ثم أدركت المهدي، وقال تغدى أشعب مع زياد الحارثي فجاء بصحفة فيها مضيرة «1» ، فقال أشعب للخباز: ضع ذلك على يدي، فقال زياد: من يصلي بأهل السجن، فقالوا: ليس لهم إمام، فقال: أدخلوا أشعب يصلي بهم، فقال أشعب: أو خير من ذلك؟
قال: وما هو؟ قال: أحلف ألا آكل مضيرة أبدا.
قال: صلّى أشعب يوما إلى جانب مروان بن أبان بن عثمان، وكان مروان عظيم الخلقة والعجيزة، فما لبث أن أفلتت منه ريح عند نهوضه لها صوت، فانصرف أشعب من الصلاة، يوهم الناس أنه هو الذي خرجت منه الريح، فلما انصرف مروان إلى منزله، جاء أشعب فقال له: الدّية، قال: دية ماذا؟ قال:
الضرطة التي تحملتها [عنك] ، ولم يدعه حتى أخذ منه.
قال أبو بكر الزيني، حدثني من رأى أشعب، علق رأس كلبه وهو يضربه ويقول: تنبح للهدية، وتبصبص «2» للضيف. [ص 127]
قال: غذا أشعب جديا بلبن أمه «3» وغيرها، حتى بلغ غاية، وقال لزوجته:
ابنة وردان، أحب أن ترضعيه بلبنك، ففعلت، ثم جاء به إلى إسماعيل بن جعفر الصادق فقال: بالله إنه [لابني] قد رضع بلبن زوجتي، حبوتك به ولم أجد من يستأهله سواك، قال: فنظر إسماعيل إلى الجدي فأعجبه، فأمر بذبحه وأسمط،(10/224)
فأقبل أشعب وقال: ما عندي والله شيء ونحن من تعرف وذلك غير فائت لك، فلما أيس منه قام من عنده، فدخل على أبيه جعفر بن محمد، ثم اندفع يشهق حتى التفت أضلاعه، ثم قال: أخلني، قال: ما معنا أحد، قال: وثب ابنك إسماعيل على ابني فقتله وأنا أنظر إليه، قال: فارتاع جعفر وقال: ويحك، وفيم؟
وتريد ماذا؟ قال: أما ما أريد فو الله مالي في إسماعيل حاجة، ولا يسمع هذا سامع أبدا بعدك، فجزاه خيرا وأدخله منزله، وأخرج له مئتي دينار، وقال له: خذ هذه، ولك عندي ما تحب، قال: وخرج جعفر إلى اسماعيل لا ينظر ما يطأ عليه، فإذا به مسترسل [في مجلسه] فلما رأى وجه أبيه نكره وقام إليه، فقال: يا إسماعيل وفعلتها بأشعب وقتلت ولده، فاستضحك وقال: جاءني بجدي من صفته وخبره كذا، فأخبره أبوه بما كان منه وصار إليه، قال: وكان جعفر يقول لأشعب: رعتني راعك الله، فيقول: روعتي في الجدي أكثر من روعتك في المائتي دينار.
قال: وقف أشعب على امرأة وهي تعمل طبق خوص، فقال: كبرّيه، قالت: ولم؟
أتريد أن تشتريه؟ قال: لا، ولكن عسى أن يشتريه إنسان فيهدي إلي فيه شيئا.
قال المدائني قالت صديقة أشعب لأشعب: هب لي خاتمك أذكرك به، فقال:
اذكريني بأني منعتك إيّاه، فهو أحب إليّ.
قال أشعب مرة للصبيان: هذا عمرو بن عثمان يقسم مالا، فامضوا إليه، فلما أبطاؤا عليه أتبعهم يحسب أن الأمر قد صار حقا كما قال.
قال المدائني، قال رجل: رأيت أشعب بالمدينة يقلب مالا كثيرا، فقلت له:
ويحك، ما هذا [الحرص] ؟ ولعلك أن تكون أيسر من الذي يعطيك، قال: إني قد مهرت في المسألة وأخاف أن أدعها فتنفلت مني.(10/225)
قال المدائني: قيل لأشعب: ما بلغ [ص 128] من طمعك؟ قال: ما رأيت اثنين يتشاوران قط إلا ظننت أنهما قد أمرا لي بشيء.
قال المدائني: قال أشعب لأمه: رأيتك في النوم مطلية بعسل، وأنا مطلي بعذرة «1» ، فقالت يا فاسق، هذا عملك الخبيث كساك هو الله عز وجل، قال: إن في الرؤيا شيئا آخر، قالت: وما هو؟ قال: رأيت أني ألطعك وأنت تلطعيني، قالت:
لعنك الله يا فاسق.
قال المدائني: كان أشعب يتحدث إلى امرأة بالمدينة حتى عرف بذلك، فقالت لها جاراتها: لو سألته شيئا فإنه موسر، فلما جاء قالت: إن جاراتي ليقلن لي: ما يصلك بشيء، فخرج نافرا من منزلها، فلم يقربها شهرين، ثم إنه جاء ذات يوم فجلس على الباب، فأخرجت له قدحا مملوءا ماء، فقالت: اشرب هذا من الفزع، فقال: اشربيه أنت من الطمع.
قال المدائني، قال رجل لأشعب: لو تحدثت عندي العشية؟ فقال: أكره أن يجيء ثقيل، فقلت: ليس غيري وغيرك، قال: فإذا صليت الظهر فأنا عندك، فصلّى وجاء، فلما وضعت الجارية الطعام، إذا بصديق لي يدقّ الباب، فقال: ألا تراها، قد جاءنا ثقيل؟ قلت: عندي له عشر خصال، قلت: أولها أنه لا يأكل ولا يشرب، قال: رضيت والتسع خصال له، أدخله.
قال المدائني: دخل أشعب يوما على الحسين بن علي رضي الله عنه وعنده اعرابي قبيح الوجه، فسبّح أشعب حين رآه، ثم قال للحسين: بأبي أنت وأمي، أتأذن لي(10/226)
أن أسلح عليه؟ فقل له الأعرابي: إن شئت، ومع الأعرابي قوس وكنانة، ففوّق نحوه سهما وقال: والله لئن فعلت لتكون آخر سلحة سلحتها، فقال أشعب للحسين: فديتك قد أخذني القولنج «1» .
قال المدائني: توضأ أشعب فغسل رجله اليسرى وترك اليمنى، فقيل له: لم تركت غسل اليمنى؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أمتي غر محجلون «2» من آثار الوضوء، فأنا أحب أن أكون مطلق اليمنى.
قال: سمع أشعب حبّى المدينية وهي تقول: اللهم لا تمتني أو تغفر لي ذنوبي، فقال لها: يا فاسقة، أنت لم تسأليه المغفرة، انما سألته عمر الأبد.
قال: ساوم أشعب بقوس عربية،، فقال صاحبها: لا أنقصها من مئة دينار، فقال أشعب: أعتق ما أملك، لو أنها إذا رمي بها طائر في جو السماء [ص 129] ووقع مشويا بين رغيفين ما أخذتها بدينار واحد.
قال: قيل لأشعب: رأيت أحدا أطمع منك؟ قال: نعم، كلب تبعني أربعة أيام على مضغ العلك.
قال: لقي أشعب صديق لأبيه، فقال له: ويحك يا أشعب، كان أبوك ألحى وأنت أثط «3» ، فإلى من خرجت، قال: إلى أمي.
قال: ولما ولّى الرشيد إبراهيم بن المهدي دمشق بعث إلى عبيد بن أشعب، وكان قدم عليه من الحجاز وأراد أن يطرفه به فقدم عليه، قال إبراهيم: فكان يحدثني(10/227)
من حديث أبيه بالطريف، وعادلته «1» يوما وأنا خارج من دمشق في قبة على بغل لألهو بحديثه، فأصابنا في الطريق برد شديد، فدعوت بدواجّ سمّور «2» لألبسه، فأتيت به، فلما لبسته أقبلت على ابن أشعب فقلت: حدثني بشيء مما بلغ طمع أبيك، فقال: مالك ولأبي، ها أنا حين دعوت بالديباج، فما شككت والله أنّ ما جئت به لي، فضحكت ثم دعوت له بغيره، ثم قلت له: ألأبيك غيرك من الأولاد؟ قال: كثير، قلت: عشرة؟ قال: أكثر، قلت: خمسون؟ قال:
أكثر، قلت: فمئة؟ قال: دع المئتين وخذ الألوف، قلت: ويلك، أي شيء تقول؟
أشعب أبوك ليس بينك وبينه أب، كيف يكون له الوف؟ فضحك ثم قال: في هذا خبر ظريف، فقلت له حدثني به، قال: كان أبي منقطعا إلى سكينة بنت الحسين، وكأنت متزوجة بزيد بن عمرو بن عثمان بن عفان، وكانت محبة له، وكان لا يستقر معها، تقول له: أريد الحج فيخرج معها فإذا مضوا إلى مكة قالت: أريد الرجوع إلى المدينة، فإذا عاد إلى المدينة قالت: أريد العمرة، فهو معها في سفر لا ينقضي، قال عبيد بن أشعب: فحدثني أبي كانت قد حلفته يمينا لا كفارة لها، أن لا يتزوج عليها ولا يتسرّى ولا يلمّ بنسائه ولا جواريه إلا بإذنها، وحج الخليفة في سنة من السنين، فقال لها: قد حج أمير المؤمنين ولا بد لي من لقائه، قال: فحلف لها أنّه لا يدخل الطائف، ولا يلم بجواريه بعد أن قالت له: لا آذن لك إلا على هذا، ثم قالت: احلف بالطلاق، فقال: لا أفعل ذلك، ولكن ابعثي معي ثقتك، فدعتني وأعطتني ثلاثين دينارا، وقالت: اخرج معه وحلفتني بالطلاق من ابنة وردان زوجتي أن لا أطلق له الخروج إلى الطائف بوجه ولا سبب، فحلفت لها بما أثلج صدرها، وأذنت له، فخرج وخرجت معه، فلما حاذينا الطائف، قال لي: يا أشعب، أنت تعرفني وتعرف [ص 130](10/228)
صنيعتي عندك، وهذه ثلاث مئة دينار فخذها وأذن لي أن ألمّ بجوارييّ، فلما سمعتها ذهب عقلي، وقلت: يا سيدي، إنها سكينة، فالله الله فيّ، قال: أو تعلم سكينة الغيب؟ فلم يزل بي حتى أذنت له، فمضى وبات عند جواريه، فلما أصبحنا رأيت أبيات قوم من العرب قريبة منا، فلبست حلّة وشي كانت لزيد قيمتها ألف دينار، وركبت فرسه وجئت إلى النساء، فسلّمت فرددن علي السلام وأجللنني وسألنني عن نسبي، فانتسبت بنسب زيد، فحادثنني وأنسن بي، فجاءني شيخ فسلّم علي وعظمني وسألني فأخبر بنسبي فنظر إلي وقال: ما هذه خلقة قرشيّ ولا هو إلا عبد، ثم بادر إلى بيته، وعلمت أنه يريد شرا، فركبت الفرس ثم مضيت، ولحقني فرماني بسهم ما أخطأ قربوس السرج، وما شككت في أنه يلحقني بآخر فيقتلني، فسلحت يعلم الله في ثيابي ولوثتها ونفذ إلى الحلّة فصيّرها شهرة، وأتيت رحل زيد، فجلست أغسل الحلّة وأنشفها، وأقبل زيد فرأى ما لحق بالحلة والسرج، فقال لي: ما القصة ويلك؟ فقلت: يا سيدي، الصدق أنجى وأسلم، وحدثته الحديث، فاغتاظ، ثم قال لي: ألم يكفك أن تلبس حلتي وتصنع ما صنعت، وتركب فرسي وتجلس إلى النساء حتى انتسبت بنسبي وفضحتني وجعلتني عند العرب ولاجا «1» ، أنا نفيّ من أبي، منسوب إلى أبيك إن لم أسؤك وأبالغ فيك، أو قال: في ذلك، ثم لقي الخليفة، وعاد ودخلنا إلى سكينة، فسألته عن خبره كله، فحدثها فقالت له: هل مضيت إلى جواريك؟ فقال: لا أدري، سلي ثقتك، فدعت بي فسألتني، فبدأت فحلفت بكل يمين محرجة أنه ما مرّ بالطائف، ولا فارقني، ولا دخلها، فقال: اليمين التي حلفها لازمة لي إن لم أكن دخلت الطائف وبت عند جواري وغسلتهن «2» جميعا، وأخذ مني ثلاث مئة دينار،(10/229)
وفعل كذا وكذا، وأراها الحلة والسرج، فقالت لأشعب: فعلتها، أنا نفية من أبي إن لم أنفقها إلا فيما يسوؤك ثم أمرت بكبس «1» منزلي واحضارها الدنانير، فأحضرت، واشتري بها خشب وبيض وسرجين «2» ، فعملت من الخشب بيتا وحبستني فيه، وحلفت ألا أخرج منه حتى أحضن البيض كله، فمكثت أربعين يوما إلى أن نقب كله وخرج منه فراريج كثير، فربتهن وتناسلن وكن في المدينة يسمّين أولاد أشعب، وهن إلى اليوم بالمدينة يسمين بذلك، وتزيد على الألوف، كلهن أقاربي وأهلي، قال [ص 31] إبراهيم: فضحكت والله منه ضحكا ما أذكر أني ضحكت قدره قط، ووصلته، ولم يزل عندي زمانا حتى خرج إلى المدينة.
قال: كان أبان بن عثمان من أهزل الناس وأولعهم، وبلغ من عبثه أنه كان يجيء إلى منزل الرجل له لقب يغضب منه، فيقول: أنا فلان بن فلان، ثم يهتف به بلقبه فيشتمه أقبح شتم، وأبان يضحك، قال: فبينا أشعب ذات يوم عند داره، إذ أقبل أعرابي معه جمل، والأعرابي أشقر أزرق غضوب يتلظّى كأنه أفعى، ويتبين الشر في وجهه، فقال أبان: هذا والله من البادية، ادعوه، فدعا به، فقيل له: إن الأمير أبان بن عثمان يدعوك، فأتاه، فسلم عليه، فسأله عن نسبه، فانتسب له، فقال:
حيّاك الله يا خال، اجلس، فقال: إني في طلب مثل جملك هذا منذ مدة، فلم أجده كما أشتهي بهذه الهامة، وبهذا اللون والصدر والورك والأخفاف، والحمد لله الذي أظفرني به عند من أحبه، أتبيعه؟ قال: نعم أيها الأمير، قال: فإني قد بذلت مئة دينار، وكان الجمل يساوي عشرة، فطمع الأعرابي وسرّ وانتفخ وبان الطمع في وجهه، فأقبل أبان على أشعب وقال: ويلك يا أشعب، إن خالي من(10/230)
أهلك وأقاربك- يعني في الطمع- فأوسع له ما عندك، قال: نعم بأبي أنت وأخي وزيادة، فقال له: يا خال، إنما زادك في الثمن على بصيرة، إن الجمل يساوي ستين دينارا، ولكني زدتك وبذلت لك مئة [لقلة النقد عندنا] فزاد طمع الأعرابي وقال: قد قبلت ذلك أيها الأمير، فأسر إلى أشعب وأخرج شيئا مغطى وقال: أظهر ما جئت به، قال: فأخرج جرد عمامة خز تساوي أربعة دراهم، فقال: قومها يا أشعب، فقال: عمامة الأمير، تعرف به، ويشهد فيها الأعياد والجمع، ويلقى فيها الخلفاء، خمسون دينارا، فقال: ضعها بين يديه، وقال لكاتبه: أثبت قيمتها، فكتب ذلك، ووضعت العمامة بين يدي الأعرابي، فكاد يدخل بعضه في بعض غيظا، ولم يقدر على الكلام، ثم قال هات قلنسيتي، فأخرج قلنسية طويلة خلقة قد علاها الوسخ والدهن وتخرقت تساوي نصف درهم، فقال: قلنسية الأمير، تعلو هامته ويصلي فيها الصلوات ويجلس للحكم، ثلاثون دينارا، فقال: أثبت، فأثبت، ووضعت [ص 132] بين يدي الأعرابي فتربّد وجهه، وجحظت عيناه وهم بالوثوب، وتماسك قليلا وهو متقلقل ثم قال أبان لأشعب: هات ما عندك، فأخرج خفين خلقين قد نقبا وتقشرا، فقال:
قوم، فقال: خفا الأمير يطأ بهما الروضة، ويعلو منبر النبي صلى الله عليه وسلم أربعون دينارا، فقال: ضعها بين يديه، فوضعها، ثم قال لبعض الأعوان «1» :
اذهب فخذ الجمل، وقال لآخر: امض مع الأعرابي فاقبض ما عنده من بقية الثمن المباع وهو عشرون دينارا، فوثب الأعرابي وأخذ القماش فضرب به وجه القوم، ثم قال لأبان: أتدري أصلحك الله من أي شيء أموت؟ قال: لا، قال: حيث لم أدرك أباك عثمان فأشترك والله في دمه، إذ ولد مثلك، ثم نهض مثل المجنون فأخذ بزمام بعيره، وضحك أبان حتى سقط، وكان الأعرابي إذا لقي أشعب يقول: يا بن(10/231)
الخبيثة هلم إلي حتى أكافئك على تقويمك المتاع، فيهرب منه أشعب.
قال: لاعب أشعب رجلا بالنرد فأشرف على أن يقمره «1» ، إلا أن يضرب دويك «2» ، ووقع الفصان في يد الرجل فأصابه زمع «3» ، وخرج فضرب يكين وضرط مع الضربة، فقال أشعب: عليه من امرأته الطلاق إن لم أحسب له الضرطة نقطة حتى يصير اليكان دويك ويقمر، فسلم إليه القمر بسبب الضرطة.
وكانت صنعته في الغناء طيبة، فمن صنعته في شعر كثير، وهو الصوت الذي ذكرت أخباره بسببه: «4» [المتقارب] .
ألا ناد جيراننا نقصد ... فنقضي اللبانة أو نعهد
كأن على كبدي جمرة ... حذارا من البين ما تبرد
توفي أشعب سنة أربع وخمسين ومئة.
48- يونس الكاتب «5»
كمل بالطرب أدواته، وجعل جس العود دواته، وكانت أنامله بالوتر أليق من(10/232)
القلم، وأوفق بإمداد مما يمده المداد من الظلم، حلق فيه تحليق الطائر، وحقق فيه ما لا يحقق من النظائر، وأطرب من سمع، وأطرق «1» كل مجتمع، حتى ألف أنغامه، وخلف لأنف الحاسد إرغامه، وقسم أنواع الضروب، وغال [ص 133] الأفئدة بالأكول الشروب.
قال أبو الفرج: هو أول من دون الغناء، ويقال: إنه خرج إلى الشام في تجارة، فبلغ الوليد بن يزيد مكانه، فلم يعلم يونس إلا ورسله قد دخلت عليه الخان، والوليد اذ ذاك أمير، قال: فنهضت معهم حتى أدخلوني على الأمير، لا أدري من هو، إلا أنه أحسن الناس وجها، فسلمت وأمرني بالجلوس، ثم دعا بالشراب والجواري، فغنيت: «2» [الخفيف]
إن يعش مصعب فنحن بخير ... قد أتأنا من عيشنا ما نرجّي
ثم تنبهت، فقطعت الصوت، فقال: مالك، فأخذت أعتذر من غنائي بشعر في مصعب، فضحك وقال: إن مصعبا قد مضى وانقطع أثره، ولا عداوة بيني وبينه، إنما أريد الغناء، فامض في الصوت، فعدت فيه فغنيته ولم يزل يستعيده حتى أصبح، فشرب عليه مصطبحا، وهو يستعيد في الصوت لا يجاوزه حتى مضت ثلاثة أيام، قلت: أيها الأمير، جعلني الله فداك إني رجل تاجر، خرجت مع تجارة وأخاف أن يرحلوا فيضيع مالي، فقال: أنت تغدو غدا، وشرب باقي ليلته، وأمر لي بثلاثة آلاف دينار، فحملت إليّ، وغدوت إلى اصحابي، فلما خرجت من عنده، سألت عنه، فقيل: هذا الأمير الوليد بن يزيد، ولي عهد أمير المؤمنين هشام، فلما استخلف بعث إليّ فأتيته، ولم أزل معه إلى أن قتل.(10/233)
49- أحمد النّصبيّ «1»
رجح سعدا، ونجح وعدا، وأقمر أمله، وأثمر بحسن الصنيعة عمله، وكان من رؤساء أهل الغناء، وجلساء الملوك المصغين لمسامعهم للاجتناء، إذا استقر في المجلس تحرك، وراجع رأيه زمان السرور واستدرك، وتكاثر الآباء، وتناثر الحباء، وجاءت النعم وفاقا، والدّيم دفاقا، واقتدحت بروح وتتوجت بأقدامها هام الراح، وتسلبت حتى الهموم القطاع، وحفظ الأدب، وأما النّدّ فضاع.
قال أبو الفرج: هو أول من غنى بالطنبور في الإسلام، وكان ينادم عبيد الله بن زياد سرا [ص 134] ويغنيه، وله صنعة كثيرة حسنة، كان مؤاخيا لأعشى همدان «2» مواصلا له، وأكثر غنائه في شعره، يقال: لقي أعشى همدان وأحمد النصبي خرجا في بعض مغازيهما، فنزلا على سليمان «3» بن صالح بن سعيد بن جابر العنبري، وكان منزله بساباط المدائن «4» فأحسن قراهما، وأمر لدوابهما(10/234)
بعلوفة وقضيم، واقسم عليهما أن ينتقلا عنده، ففعلا، فعرض عليهما الشراب فأجابا، فوضع بين أيديهما، وجلسا يشربان، فقال أحمد للأعشى: قل في هذا الرجل الكريم شعرا تمدحه به حتى أغني فيه، فقال الأعشى يمدحه: «1» [السريع]
يا أيّها القلب المطيع الهوى ... أنّى اعتراك الطرب النازح
تذكر جملا فإذا ما نأت ... طار شعاعا قلبك الطامح
يقول فيها:
إني توسّمت امرأ ماجدا ... يصدق في مدحته المادح
ذؤابة العنبر واخترته «2» ... والمرء قد ينعشه الصايح «3»
قد علم الحيّ إذا أمحلوا ... أنّك رفّاد لهم مانح
في الليلة القالي قراها التي ... لا غابق فيها ولا صابح
فالضيف معروف له حقّه ... له على أبوابكم فاتح
والخيل قد تعلم يوم الوغى ... أنّك عن جمرتها ناضح
قال: فغنى أحمد النصبي في هذه الأبيات، وجارية لسليم في السطح جالسة، فسمعت الغناء فنزلت إلى مولاها، فقالت: إني سمعت من أضيافك شعرا ما سمعت أحسن منه، وغناء في غنوة فيه أحسن غناء سمعته، فخرج مولاها فاستمع حتى فهم، ثم نزل فدخل عليهما فقال: لمن هذا الشعر والغناء؟
ومن أنتما؟ فقال: الشعر لهذا وهو أبو المصبح أعشى همدان، والغناء لي وأنا(10/235)
همدان النصبي «1» ، فانكبّ على رأس أعشى همدان فقبّا «2» وقال: كتمتماني أنفسكما وكدتما تفارقاني ولم أعرف خبركما، قال: فاحتبسهما عنده شهرا، ثم حملهما على فرسين وقال: [ص 135] خلّفا عندي ماكلّ من دوابكما، ثم ارجعا من مغزا كما إليّ، فمضيا إلى مغزاهما فأقاما حينا ثم انصرفا، فلما شارفا منزله قال أحمد للأعشى: إني أرى عجبا، قال: وما هو؟ قال: أرى فوق سطح سليم ثعلبا، قال: لئن كنت صادقا، فما بقي في القرية أحد، قال: فدخلنا القرية فوجدنا سليما وجميع أهل القرية قد أصابهم الطاعون، فمات أكثرهم، وانتقل باقيهم.
50- سليم «3»
مطرب قد هزج، ومدير سلاف لو مزج بالروح لا متزج، وكان في أمره عجبا، وبطربه لا يدع محتجبا، وفتى القيان، وأتى بما يملأ العيان، وكان هذا شحيحا لحزا، لا يجري دفقا ولا نزرا «4» ، على ما كان له من وفور إدرار، وسني الجوائز التي تقر له كل قرار.
قال أبو الفرج، قال أبو الحاجب الأنصاري، قال لي سليم يوما: امض إلى موسى ابن إسحاق الأزرق فادعه، ووافياني مع الظهر، فجئناه الظهر، فأخرج إلينا ثلاثين جارية محسنة ونبيذا، ولم يطعمنا شيئا، ولم نكن أكلنا [شيئا] فغمز «5» موسى غلامه، فذهب فاشترى لنا خبزا وبيضا، ودخلنا الكنيف «6» ، فجلسنا(10/236)
نأكل، فدخل إلينا، فلما رآنا نأكل خاصمنا وقال: أهكذا يفعل الناس؟ تأكلون ولا تطعموني، وجلس معنا في الكنيف يأكل كما نأكل حتى فني ذلك.
قال إسحاق: غنّى سليم يوما وبرصوما يزمر عليه بين يدي الرشيد، فقصر في موضع صيحة، فأخرج برصوما الناي «1» من فمه ثم صاح: يا أبا عبد الله، صيحة أشد من هذا، فضحك الرشيد حتى استلقى. قال إسحاق: وضحكت أنا ضحكا ما أذكر أني ضحكت قط مثله.
قال محمد بن الحسن: إنما أخّر سليما عن أصحابه في الصنعة ولعه بالأهزاج، فإن ثلثي صنعته هزج، وغنى سليم بين يدي الرشيد ثلاثة أصوات من الهزج فأطربه، فأمر له بثلاثين ألف درهم، وقال: لو كنت حكم الوادي ما زدت على هذا الإحسان في أهزاجك شيئا.
51- ابن عبّاد الكاتب «2» [ص 136]
جمع الصنعتين فأبدع، وفاق فيهما لكنه سرّ من رأى دون سروره من استمع، كان في الغناء للقلب خالبا، وللب سالبا، وللسرور جالبا، وللهم الذي شد خناقه على الصدور غالبا، وله طرف تحكى، وغرائب تروى، آثار تنقل، وأصوات تطرب.(10/237)
قال أبو الفرج الأصفهاني، قال ابن عباد: إني لأمشي بأعلى مكة في العشر «1» ، إذا أنا بمالك على حمار له ومعه فتيان من أهل المدينة، فظننت أنهما قالا له: هذا ابن عباد، فمال إليّ، فملت إليه، فقال لي: أنت ابن عباد، فقلت: نعم، فقال: مل معي هاهنا، فأدخلني شعب ابن عامر، ثم أدخلني دهليز ابن عامر، قال: غنّني، قلت: أغنّيك وأنت مالك، وقد كان يبلغني أنه يثلب أهل مكة، ويتعصب عليهم، فقال: بالله إلا غنّيتني صوتا من صنعتك، فاندفعت فغنيته: [الوافر]
ألا يا صاحبيّ قفا فعوجا ... على ربع تقادم بالمنيف «2»
فأمست دارهم شحطت وبانت ... وأضحى القلب يخفق ذا وجيف
وما غنيته إياه إلا على احتشام، فلما فرغت نظر إليّ وقال: والله لقد أحسنت، ولكن حلقك كأنه حلق زانية، فقلت: أما إذ «3» أفلت منك بهذا فقد أفلتّ.
قال: وبقي ابن عباد إلى أيام المهدي، فقدم بغداد وتوفي بها في أيامه، ودفن بباب حرب.
52- يحيى المكّي «4»
رابط فكر سانح، وخاطر مانح، واضطلاع فيما نقل، واطلاع على ما كان(10/238)
يظن أنه لم يقل، وإتقان لصنعته يجمع طرقتها «1» ، ويعرف فرقها، ويؤنس غربتها، ويحلّي غربلتها، وأذن الخلافة مصغية إلى اجتناء الطرائف، واقتناء الشرايف، واستحسان الحسن، واستنطاق الألسن، فنفقت بضاعته، وفتقت الحجب، إلى القلوب صناعته.
قال أبو الفرج: قال أحمد بن سعيد المالكي: حضرت يحيى المكي يوما وقد غنّى لحنا لمالك، فسئل عن صانعه فقال: هذا لي، فقال إسحاق: قلت ماذا؟ قلت:
فديتك، وتضاحك به، وأخبر [ص 137] أنه لمالك، فغنّى الصوت فخجل يحيى «2» ، وأمسك عنه، ثم غنّى بعد ساعة صوتا آخر، فسئل عنه فنسبه إلى الغريض، فقاله إسحاق: يا أبا عثمان، ليس هذا من نمط الغريض ولا طريقته، فلو شئت لأخذت مالك وتركت للغريض ماله «3» ولم تتعب، فاستحيا يحيى، ولم ينتفع بنفسه [بقية] يومه، فلما انصرف بعث إلى إسحاق بألطاف «4» وهدايا، وكتب إليه يعاتبه ويقول له: لست من أقرانك فتضادني، ولا أنا ممن يتصدى لمباغضتك ومباراتك فتكايدني وأنت أولى أن أفيدك وأعطيك ما تعلم أنك لا تجده عند غيري، فتسمو بي على أكفائك أحوج منك على أن تباغضني، وأعطي غيرك سلاحا إذا حمله عليك لم تقم له، وأنت أولى وما تختار، فعرف إسحاق صدقه فكتب إليه يعتذر، ورد الألطاف، وحلف له أن لا يعارضه بعدها، وكان يأخذ عنه غناء المتقدمين ويستفيد منه أشياء فاق بها نظراءه، وكان يحيى بعد(10/239)
ذلك إذا سئل بحضرته عن شيء صدق فيه، وإذا غاب إسحاق خلط فيما سئل عنه.
قال إسحاق يوما للرشيد قبل أن تصلح الحال بينه وبين يحيى المكّي، أتحب يا أمير المؤمنين أن أظهر لك كذب يحيى فيما ينسبه من الغناء؟ قال: نعم، قال:
أعطني أي شعر شئت حتى أصنع فيه، وسلني بحضرته عن صانعه، فإني سأنسبه إلى رجل لا أصل له، وسلني وسل يحيى عنه إذا غنيته، فإنه لا يمتنع أن يدّعي معرفته، فأعطاه شعرا وصنع فيه لحنا وغناه الرشيد بحضرة يحيى، فسأله:
لمن هو، قال له إسحاق: لغناديس المدني، فأقبل الرشيد على يحيى فقال له:
لقيت غناديس المدني «1» ؟ قال: نعم، وأخذت عنه صوتين، ثم غنّى صوتا وقال: هذا أحدهما، فلما خرج يحيى، حلف إسحاق بالطلاق ثلاثا، وعتق جواريه، أن الله عز وجل ما خلق أحدا اسمه غناديس، ولا سمع في المغنين ولا غيرهم وأنه وضع هذا الاسم في وقته.
قال زرزر مولى علي المالقي «2» ، قال إبراهيم بن المهدي يوما لمولاه: ويلك يا مارق «3» ، إن يحيى المكي غنّى البارحة أمير المؤمنين ذكر فيه صوتا فيه ذكر زينب «4» ، وكان النبيذ أخذ مني فأنسيت شعره، فاستعدته إياه، فلم يعده [ص 138] فاحتل لي عليه حتى تأخذه لي منه ولك علي سبق «5» ، فقال لي مولاي:
اذهب إليه وأعلمه أني أسأله أن يكون اليوم عندي، فمضيت إليه فجئت به، فلما قعدنا ووضع النبيذ، قال له المارقي: إني كنت سمعتك تغني صوتا فيه ذكر(10/240)
زينب، وأنا أحب أن آخذه منك، وكان يحيى يوفي هذا الشأن حقه ولا يحضر إلا بحذر، ثم لا يدع الطلب والمسألة، ولا يلقي صوتا إلا بعوض، فقال له: وأي شيء العوض إذا ألقيت عليك هذا الصوت، فقال: ما تريد؟ فقال: هات الدلية «1» الأزمنية، أما آن لك أن تملّها؟ قال: بلى، وهي لك، قال: وهذه الظباء الحرمية، أنا مكّيّ وأنا أولى بها منك، قال: هي لك، وأمر بحمل ذلك إليه، وقال: يا غلام هات العود، فقال يحيى: والميزان والدراهم وكان لا يغني صوتا إلا بخمسين درهما فأعطاه إياها، وألقى عليه الصوت وهو: «2» [الطويل]
بزينب ألمم قبل أن يظعن الرّكب ... وقل إن تملينا فما ملّك القلب
فلم يشك المارقي أنه قد أخذ الصوت الذي طلبه إبراهيم وأدرك حاجته، فبكّر إلى إبراهيم وقد أخذ الصوت، فقال: جئتك بالحاجة، فدعا بالعود، فغناه إياه، فقال: لا والله، ما هذا هو، وقد خدعك، فعاود الاحتيال عليه. فقال زرزر:
فبعثني إليه وبعث معي خمسين درهما، فلما دخل إليه وأكلا وشربا، قال له يحيى: قد واليت بين دعوتيك لي ولم تكن برا ولا وصولا، فما هذا؟ قال: لا شيء والله إلا محبتي لك، والأخذ عنك والاقتباس منك، فقال: سرّك الله، فمه؟
قال: تذكرت الصوت الذي سألتك إياه، فإذا ليس هو الذي ألقيته، قال: فتريد ماذا؟ قال: تذكر الصوت، قال: أفعل، فغناه: «3» [البسيط]
ألمم بزينب إنّ البين قد أفدا ... قلّ الثّواء لئن كان الرّحيل غدا
فقال: نعم، فديتك يا أبا عثمان، هذا هو، فألقه عليّ، قال: العوض؟ قال: ما(10/241)
شئت، قال: هذا المطرف «1» الأسود، قال: هو لك، فأخذه وألقى عليه الصوت حتى استوى له، وبكّر إلى إبراهيم فقال له: ما وراءك؟ قال: قد قضيت الحاجة، فغناه إياه، فقال: خدعك والله، ليس هو هذا، فأعد الاحتيال عليه، وكلما تعطيه إياه فألزمني به، [ص 139] فلما كان في اليوم الثالث، بعث إليه، وفعل مثل فعله بالأمس، فقال له يحيى مالك أيضا؟ فقال: يا أبا عثمان، ليس هذا هو الصوت الذي أردت، قال له: لست أعلم ما في نفسك فاذكره، وإنما علي أن أذكر ما فيه زينب من الغناء كما التمست حتى لا تبقى زينب البتة إلا حضرت بها، قال: هات على اسم الله تعالى، [قال] «2» اذكر العوض، قال: هذه الدّراعة الوشي التي عليك، فأخذها، قال: والخمسين درهما، فأحضرت، فأخذها وألقى عليّ: «3» [الطويل]
لزينب طيف تعتريني طوارقه ... هدّوا إذا النجم ارجحنّت لواحقه
فأخذه ومضى إلى إبراهيم، فصادفه يشرب مع الحرم، فقال له حاجبه:
ما تصل إليه، فقال له: قل له قد جئتك بحاجتك، فدخل فأعلمه، فقال له:
يدخل فيغنيه في الدار قائما، فإن كان هو، وإلا فليخرج، قال: ففعل ذلك، فقال: لا والله ما هو هذا، فعاود الاحتيال عليه، ففعل مثل ذلك، فقال له يحيى وهو يضحك: ما ظفرت بزينبك بعد؟ قال: لا والله يا أبا عثمان، وما أشكّ إلا أنك تعتمدني بالمنع «4» مما أريده، وقد أخذت كل شيء عندي معابثة، فقال له يحيى: قد استحييت الآن منك وأنا ناصحك على شريطة، قال: نعم، قال:(10/242)
الشريطة أن لا تلمني أن أعاتبك لأنك أخذت في معاتبتي «1» والمطلوب إليه أقدر من الطالب، فلا تعاود أن تحتال عليّ فإنك لا تظفر مني بما تريد، وقد دسّك إبراهيم عليّ لتأخذ صوتا غنيته، وسألني إعادته فمنعته إياه، بخلا عليه به، لأنه لم يلحقني منه خير ولا بركة، ويريد أن يأخذ غنائي باطلا وطمع بموضعك عندي أن يأخذ الصوت بلا ثمن ولا حمد، لا والله، إلا بأوفر ثمن وبعد اعترافك، وإلا فلا تطمع في الصوت، فقال له: أما إذا قد فطنت فتغنيه الآن إن كان هو، وإلا فعليك إعادته بعينه ولو غنّيتني كلّ شيء تعرفه لما أحسنت «2» لك إلا به، فقال: اشتره، فتساومنا طويلا، وما كسته إلى أن استقرّ الأمر على ألف درهم، فدفعتها إليه، وألقى: «3» [الكامل]
طرقتك زينب والمزار بعيد ... بمنى ونحن معرّسون هجود
فكأنّما طرقت بريّا روضة ... أنف تسجّح مزنها وتجود «4»
[ص 140] قال: وهو صوت كثير العمل، حلو النغم، كثير الصنعة، صحيح القسمة، حسن المقاطع، فأخذه وبكّر إلى إبراهيم فقال له: قد أفقرني هذا الصوت وأعراني وأبلاني بوجه يحيى وشحه وشرهه، وحدثه بالقصة فضحك إبراهيم، وغناه إياه، فقال: هو هذا وأبيك هو بعينه، فألقاه عليه حتى أخذه، وأخلف كل شيء أخذه يحيى منه، وزاده خمسة آلاف درهم، وحمله على برذون «5» أشهب بسرجه ولجامه، وقال له: يا سيدي، فغلامك زرزر المسكين قد تردد عليه حتى ظلع «6» ، هب له شيئا، فأمر له بألف درهم.(10/243)
قال: كان إبراهيم بن المهدي في مجلس محمد الأمين، والمغنون حضور، فغنّى يحيى المكي: «1» [مجزوء الوافر]
خليل لي أهيم به ... فلا كافا ولا شكرا
فاستعاده إبراهيم وأحب أن يأخذه منه، فجعل يحيى المكي يفسده، وفطن الأمين بذلك، فأمر له بعشرين ألف درهم وأمره برده وترك التخليط فيه، فدعا له، وقبّل الأرض بين يديه، وردّد الصوت وجوّده، فاستعاده إبراهيم، فقال له يحيى:
ليست تطيب نفسي لك به إلا بعوض من مالك، ولا أنصحك والله، فهذا مال أمير المؤمنين مولاي فلم تأخذ أنت غنائي، فضحك الأمين وحكم على إبراهيم بعشرة آلاف درهم، فأحضره «2» وقبّل يحيى يده، فأعاد الصوت وجوّده، فنظر إلى مخارق وعلوية متطلعين لأخذه، فقطع الصوت، ثم أقبل عليهما فقال:
قطعة من خصية الشيخ تغطّي أستاه عدة صبيان، والله لا أعدته بحضرتكما، ثم أقبل على إبراهيم بن المهدي، فقال له: يا سيدي، أنا أصير إليك حتى تأخذه متمكنا، ولا يشركك فيه أحد، فصار إليه فأعاده حتى أخذه، وأخذه جواريه.
قال: غنّى ابن جامع للرشيد يوما بيتا، وهو هذا: «3» [الكامل]
إنّي امرؤ مالي يقي عرضي ... ويبيت جاري آمنا جهلي
فأعجب به الرشيد، فاستعاده مرارا وأسكت لابن جامع سائر المغنين، وجعل(10/244)
يسمعه ويشرب عليه، ثم أمر له بعشرة آلاف درهم، وعشر خلع، وعشرة خواتم، وانصرف، ومضى إبراهيم الموصلي من وجهه إلى يحيى المكي، فأخبره بالذي كان [ص 141] من ابن جامع، واستغاث به، فقال له يحيى: أفزاد على البيت الأول شيئا؟ قال: لا، قال: أفرأيت إن زدتك بيتا ثانيا لم يعرفه إسماعيل، أو عرفه ثم انسيه، طرحته عليك حتى تأخذه، ما تجعل لي؟ قال: النصف مما يصل إلي بهذا البيت، قال: والله؟ قال: والله، فلما استوثق منه بالأيمان، ألقى عليه:
[الكامل]
وأرى الذّمامة للرفيق إذا ... ألقى رحالته إلى رحلي
فأخذه وانصرف، فلما حضر المغنون من غد، كان اول صوت غنّاه إبراهيم هذا الصوت، وتحفّظ فيه وأحسن فيه كل الإحسان، فطرب الرشيد عليه واستعاده حتى سكر، وأمر لإبراهيم بعشرة آلاف دينار «1» ، وعشرة خواتيم وعشر خلع، فحمل ذلك معه وانصرف من وجهه إلى يحيى، فقاسمه ومضى إلى منزله، وانصرف ابن جامع إليه من دار الرشيد، وكان يحيى في بقايا علة، فاحتجب عنه، فدفع ابن جامع في صدر بوّابه، ودخل إليه، وقال: إيه يا يحيى، كيف صنعت، ألقيت الصوت على الجرمقاني «2» ، لا دفع الله صرعتك، ولا وهب عافيتك، وتشاتما ساعة، وخرج ابن جامع من عنده وهو مدوّخ.
قال يحيى المكي: أرسل اليّ الرشيد، فدخلت عليه، وهو جالس على كرسي بتلّ(10/245)
دارا «1» ، فقال: يا يحيى غنّني: «2» [الطويل]
متى تلتقي الألّاف والعيس كلّما ... تصعّدن من واد هبطن إلى واد
قال: فلم أزل أغنّيه إيّاه، ويتناول أقداحا، إلى أن أمسى، فعددت عليه عشر مرات استعاده فيها، وشرب عليه عشرة أقداح، ثم أمر لي بعشرة آلاف درهم، وأمرني بالانصراف.
53- حكم الوادي «3»
تنقل في فنون الطرب، وتوقل الرجال في الطلب، وكان مثل حمامة الوادي طربا، يصدع زجاجة الأحشاء، ويكون حاجة الانتشاء، ويفعل في هذا شبيه السحر في التخييل، ونظيره في التضليل، ومثله في تحسين «4» الأباطيل، وكان على اتفاق، وعمله كله على النفاق.
قال أبو الفرج، قال إسحاق: سمعت حكم الوادي يغنّي صوتا فأعجبني، فسألته: لمن هذا؟ قال: ولمن يكون إلا لي «5» ؟ [ص 142] قال: وغنّى حكم الوادي يوما فقال له رجل، أحسنت، فألقى الدف بين يديه وقال للرجل: قبحك(10/246)
الله، تراني مع المغنين منذ ستين سنة [وتقول لي أحسنت؟]
قال إسحاق: أربعة بلغوا في الإحسان في أربعة أجناس مبلغا قصر عنهم غيرهم، معبد في الثقيل الأول، وابن سريج في الرمل، وحكم في الهزج، وإبراهيم في الماخوري «1» .
ويقال: إن حكم الوادي غنّى في الأهزاج في آخر عمره، فلامه ابنه على ذلك وقال:
بعد الكبر تغني غناء المخنثين، فقال له: اسكت فإنك جاهل، غنّيت الثقيل ستين سنة فلم أفد إلا القوت، وغنيت الأهزاج منذ سنتين فكسبت مالم تر مثله قط.
قال يحيى بن خالد: ما رأينا فيمن يأتينا من المغنين أجود أداء من حكم الوادي، وليس أحد يسمع منه غناء إلا وهو يغيره ويزيد فيه وينقص، إلا الحكم، فقيل لحكم ذلك، فقال: إني لست أشرب، وهؤلاء يشربون، فإذا شربوا تغيّر غناؤهم.
54- عمر الوادي «2»
رجل نغمه بالطرب موصول، وإلى خلب الكبد له وصول، لو مرّ السيل المنحدر لوقف وأنصت، أو الطير في جو السماء لخرس وما صوّت، مع حسن(10/247)
صنعة لا يدخل الخلل ضروبها، ولا يكون بلوغ الأمل ضريبها، ولا يتم سرور المجالس إلا إذا سمع منه في جنباتها، وطلع عوده المخضرّ الغضّ في جنباتها، فكان مجنى المحاضر، ومنى السامع والناظر.
قال أبو الفرج: اتصل بالوليد بن يزيد فتقدم عنده، وكان يسميه جامع لذاتي ومحيي طربي، وقتل الوليد وهو يغنيه، وكان آخر الناس عهدا به.
وقيل إن الوليد كان يوما جالسا وعنده عمر الوادي وأبو رقيّة، وكان ضعيف العقل [ص 143] وكان يملي المصحف على [أم] الوليد «1» ، فقال الوليد لعمر وقد غنّاه صوتا: أحسنت والله يا جامع لذاتي، وأبو رقية مضطجع، وهم يحسبونه نائما، فرفع رأسه إلى الوليد وقال له: وأنا جامع اللذات لأمك، فغضب الوليد وهمّ به، فقال له عمر الوادي: والله جعلني الله فداك ما يعقل أبو رقيّة وهو سكران، فأمسك عنه، قال عمر الوادي: بينا أنا أسير من العرج «2» والسّقيا، إذ سمعت إنسأنا يغني غناء لم أسمع قط أحسن منه، وهو هذا: «3» [الطويل] .
وكنت إذا ما جئت ليلى بأرضها ... أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها
من الخفرات البيض ودّ جليسها ... إذا ما انقضت أحدوثة أن تعيدها
فكدت أسقط من ناقتي طربا، فقلت: والله لألتمسن الصوت والوصول إليه ولو بذهاب عضو من أعضائي، فقصدت نحو الصوت حتى ذهبت من الشرف «4» ، وإذا أنا برجل يرعى غنما، فإذا هو صاحب الصوت، فأعلمته الذي(10/248)
أقصدني «1» إليه، وسألته إعادته عليّ، فقال: والله لو كان عندي قرى «2» لما فعلت، ولكني أجعله قراك، فربما ترنمت به وأنا جائع فأشبع، وكسلان فأنشط، ومتوحش فآنس، فأعاده عليّ مرارا حتى أخذته، فو الله ما كان لي كلام غيره حتى دخلت المدينة، ولقد وجدته كما قال.
قال عمر الوادي: خرج إليّ الوليد بن يزيد يوما، وفي يده خاتم فضة وعليه ياقوت أحمر، فقال لي: أتحب أن أهبه لك؟ قلت: نعم والله يا مولاي، فقال:
غن في هذه الأبيات التي أنشدكها، واجهد نفسك، فإن أصبت إرادتي فهنيئا لك، فقلت: أجهد وأرجو التوفيق، فقال: «3» [مجزوء الوافر]
ألا يسليك عن سلمى ... قتير الشّيب والحلم
وأنّ الشّك ملتبس ... فلا وصل ولا صرم
وكيف بظلم جارية ... ومنها اللين والرّحم
فخلوت في بعض المجالس، وما زلت أديره حتى استقام، ثم خرجت إليه وعلى رأسه وصيفة وبيدها كأس، وهو يروم شربه فلا يقدر خمارا «4» ، فقال: ما صنعت؟
قلت: قد [ص 144] فرغت ممّا «5» أمرت به، وغنيته، فصاح: هذا والله، ووثب قائما، وأخذ الكأس وقال: أعد فديتك، فأعدته عليه، فشرب ودعا ثانيا وثالثا ورابعا، وهو على حاله يشرب قائما حتى كاد أن يسقط، وجلس ونزع الخاتم والحلة التي كانت عليه، وألبسنيها وأجلسني في حجره وقال: و [الله] العظيم لا تبرح هكذا حتى أسكر، وما زلت أعيده ويشرب حتى مال على جنبه سكرا ونام.(10/249)
55- أحمد بن يحيى المكّي «1»
أطنب فأطرب، وأعرب فأغرب، وجمع شتى الأصوات وزيّنها، وأتى بالغرائب وحسّنها، وانهل منه صيّب لا يعرف الإمساك، وتدفق سكوب لو كنت تتذكر معه البحر لأنساك، تقدم في أهل صناعته حتى كان لا يراهم إلا إذا التفت، وفرع منهم حاجة الجلساء حتى تمسكت به فاكتفت.
قال أبو الفرج، قال جحظة، حدثني محمد بن أحمد بن يحيى المكّي، قال: ناظر أبي بعض المغنين ليلة بين يدي المعتصم وطال تلاحيهما في الغناء، فقال [أبي] للمعتصم: يا أمير المؤمنين، من شاء منهم فليغنّ عشرة أصوات لا أعرف فيها ثلاثة، وأنا أغني عشرة وعشرة وعشرة، لا يعرف أحد منهم صوتا منها، فقال إسحاق: صدق يا أمير المؤمنين، واتبعه ابن بسخنر وعلوية «2» ، فقالا: صدق إسحاق يا أمير المؤمنين، فأمر له بعشرة آلاف درهم. قال محمد «3» : ثم عاد ذلك الرجل إلى مماظته «4» يوما، فقال: قد دعوتك إلى النصفة فلم تقبل، وأنا أبدأ بما دعوتك إليه، فاندفع فغنّى عشرة أصوات، فلم يعرف أحد منهم صوتا واحدا، كلها من الغناء القديم، والغناء اللاحق به صنعة المكييّن الحذّاق(10/250)
الخاملي الذكر، فاستحسن المعتصم منها صوتا، فأسكت المغنين له، وأعاده مرات وهو يستعيده، ولم يزل يشرب عليه سحابة يومه، وأمر له بألفي دينار، وخلع عليه وعلى جماعته الندماء مماطر «1» لها شأن من ألوان شتى، فسأل عبد الوهاب ابن علي أن يرد عليه الصوت [ص 145] ويجعل له ممطره، فغنّاه إيّاه، فلما خرجوا للانصراف أمر غلمانه بدفع الممطر إلى غلمان أبي، فسلموه إليهم.
والصوت: «2» [الخفيف]
لعن الله من يلوم محبّا ... ولحى الله من يحبّ فيابى
ربّ إلفين أظهرا الحبّ دهرا ... فعفا الله عنهما حين تابا
56- بذل «3»
جارية نقصت البدور المقمرة، واستنقصت فيها القناطر المقنطرة، وتحاسدت عليها الملوك وأصحاب الأسرة، واهتبلت فيها الغرّة، وسخت فيها النحر بمنى، وأمتحن بمماثلة «4» طيبها المسك فأصبح تحت الفهر ممتهنا، وكانت رأسا في الطرب، إلا أنه بالتاج معتصب، ولهوى الخلفاء مغتصب، وبرزت على كل ذات قناع، وأخذت القلوب بلا امتناع، وكانت أعلام الغناء نكرات لديها، ومنكرات(10/251)
لا تصل إليها، يعترف لها مثل ابن المهدي، ويعترض عليها حتى تحضر معها في الندي، وكان لا يرى بنو العباس غير فينتها شرفا، ولا بعد أدنى هوى الرشيد في هواها إلا سرفا «1» .
قال أبو الفرج: كانت حلوة الوجه ضاربة متقدمة، وابتاعها جعفر بن موسى الهادي وأخذها منه محمد الأمين، وكانت قد وصفت له فبعث إلى جعفر يسأله أن يريه إياها فأبى، فزاره إلى منزله فسمع شيئا لم يسمع مثله، فقال لجعفر:
بعني يا أخي هذه الجارية، فقال: يا سيدي مثلي لا يبيع جارية، فقال: هبها لي، فقال: هي مدبّرة «2» ، فاحتال عليه محمد حتى أسكره، وأمر ببذل فحملت معه إلى الحرّاقة «3» وانصرف بها. فلما انتبه جعفر سأل عنها، فأخبر بخبرها، فسكت، فبعث إليه محمد من الغد، فجاءه وبذل جالسة فلم يقل له شيئا، فلما اراد جعفر الانصراف قال: أوقروا حراقة ابن عمي دراهم، فكان مبلغ ذلك عشرين ألف ألف درهم، قال: وبقيت بذل في دار محمد إلى أن قتل، ثم خرجت، وكان ولد محمد يدعون ولاءها، فلما ماتت ورثها ولد عبد الله بن [ص 146] محمد الأمين.
وقيل: كان محمد الأمين قد وهب لها من الجوهر شيئا لم يكن يملك أحد مثله، فسلم لها، فكانت تخرج منه الشيء فتبيعه بالمال العظيم، إلى أن ماتت.
وكان إبراهيم بن المهدي «4» يعظمها ويتوافى لها، ثم تغير بعد ذلك استغنى بنفسه عنها، فعلمت ذلك وصارت إليه، ودعت بعود وغنّت في طريقة واحدة(10/252)
وإيقاع واحد مئة صوت، لم يعرف إبراهيم منها واحدا ووضعت العود وانصرفت، فلم تدخل داره حتى طال طلبه لها وتضرعه إليها في الرجوع إليه.
قال أحمد بن شعيب المكي: خالف بذلا إسحاق في صوت غنّته بحضرة المأمون، فأمسكت عنه ساعة، ثم غنّت ثلاثة أصوات في الثقيل الثاني، واحدا بعد واحد، وسألت إسحاق عن صانعها، فلم يعرفه، فقالت «1» للمأمون: هي والله يا أمير المؤمنين لأبيه أخذتها من فيه، فإذا كان لا يعرف غناء أبيه، فكيف يعرف غناء غيره فاشتد «2» ذلك على إسحاق حتى بان فيه.
قال: وذكر أن المأمون كان قاعدا يوما يشرب، ومعه قدح، إذ غنّت بذل: «3» [الطويل]
ألا لا أرى شيئا ألذّ من الوعد ... ومن أملي فيه وإن كان لا يجدي
فجعلته:
ألا لا أرى شيئا ألذّ من السّحق
فوضع المأمون القدح من يده، والتفت إليها، فقال: بلى النّيك ألذّ من السّحق، فتشوّرت «4» وخافت غضبه، فأخذ قدحه وقال: أتمي صوتك وزيدي فيه: «5»
ومن غفلة الواشي إذا ما أتيتها ... ومن زورتي أبياتها خاليا وحدي(10/253)
ومن ضحكة في الملتقى ثم سكتة ... وكلتاهما عندي ألذّ من الخلد
57- عزّة الميلاء «1»
وضرة الظبية الكحلاء، كان بيتها مأوى كل شريف، ومثوى كل ظريف، ونديّ كل ذي كلف نزح به الغرام، وقرح جفنه وأدماه حب الآرام، أقامت بالمدينة وفتية قريش تغشى معهدها المعمور، وترى مشهدها من مهمات الأمور، وأدركت من الأول السلف قوما شرفت برؤياهم، ولزمت [ص 147] بهم، ومن لطوالع الشموس بأن تلحق بأخراهم.
قال أبو الفرج، قال يونس: كان ابن سريج في حداثته يأتي المدينة فيسمع من عزّة ويتعلم غناءها، وكان إذا سئل: من أحسن الناس غناء؟ قال: مولاة الأنصار المفضلة على كل من غنّى وضرب بالمعازف والعيدان، من الرجال والنساء.
وكان عبد الله بن جعفر وابن أبي عتيق وعمر بن أبي ربيعة، يغشونها في منزلها فتغنيهم، وغنت يوما عمر بن أبي ربيعة لحنا لها في شيء من شعره، فشقّ ثيابه، وصاح صيحة عظيمة صعق منها، فلما أفاق قال له القوم: لغيرك الجهل يا أبا الخطاب، قال: إني سمعت والله ما لم أملك به نفسي ولا عقلي.(10/254)
قال خارجة بن زيد: دعينا إلى مأدبة في آل نبيط فحضرتها وحسان بن ثابت، فجلسنا معا على المائدة، وهو يومئذ قد ذهب بصره، ومعه ابنه عبد الرحمن، وكان إذا أتي بطعام سأل: أطعام يد أو يدين؟ يعني باليد الثريد، وباليدين الشواء، إلا أنه يمسّ مسّا، فإذا قيل له طعام يد أكل، وإذا قيل «1» يدين أمسك يده، فلما فرغوا من الطعام أتي بجاريتين مغنيتين إحداهما رائعة والأخرى عزّة، فجلستا وأخذتا مزهريهما وضربتا ضربا عجبا بقول حسان: «2» [المنسرح]
انظر نهارا بباب جلّق هل ... تؤنس دون البلقاء من أحد
فأسمع حسان يقول: (قد أراني هناك سميعا بصيرا) ، وعيناه تدمعان، فإذا سكتتا سكت عنه البكاء، فإذا غنتا بكت، فكنت أرى ابنه عبد الرحمن إذا سكت يشير إليهما أن تغنيا فيبكي أباه.
قال: كان بالمدينة رجل ناسك من أهل العلم والفقه، وكان يغشى عبد الله بن جعفر «3» ، فسمع جارية لبعض النخاسين تغني: [البسيط]
بانت سعاد فأمسى حبلها انقطعا
فاستهتر «4» بها وهام، وترك ما كان عليه، حتى مشى إليه عطاء «5»(10/255)
وطاوس «1» فلاماه، فكان جوابه أن تمثّل بقول [ص 148] الشاعر: «2» [البسيط]
يلومني فيك أقوام أجالسهم ... فما أبالي أطار النّوم أم وقعا
وبلغ عبد الله بن جعفر خبره، فبعث إليه النخاس، فاعترض الجارية، وسمع غناءها بهذا الصوت، وقال لها: ممن أخذته، فقالت: من عزّة الميلاء، فابتاعها بأربعين ألف درهم، ثم بعث إلى الرجل، فسأله عن خبره، فأعلمه إياه وصدقه عنه، فقال: أتحب أن تسمع هذا الصوت ممن أخذت عنه تلك الجارية، قال:
نعم، فدعا بعزة الميلاء وقال: غنّيه إياه، فغنّته، فصعق الرجل، وخرّ مغشيا عليه، فقال ابن جعفر: أثمنا فيه، الماء الماء، فنضح على وجهه، فلما أفاق قال: أكل هذا بلغ بك عشقها؟ فقال: وما خفي عليّ أكثر، قال: أتحب أن تسمع منها، قال: قد رأيت ما نالني حين سمعته من غيرها، فكيف يكون حالي إن سمعته منها، وأنا لا أقدر على ملكها، قال: أفتعرفها إن رأيتها؟ قال: أو أعرف غيرها! فأمر بها فأخرجت، وقال: خذها فهي لك، والله ما نظرت إليها إلا من عرض، فقبل الرجل يديه ورجليه، وقال: أنمت عيني، وأحييت نفسي، وتركتني أعيش بين قومي، ورددت إليّ عقلي، ودعا له دعاء كثيرا، فقال: ما أرضى أن أعطيها هكذا، يا غلام: احمل معه مثل ثمنها لكي تهتم بك، وتهتم بها.(10/256)
58- فند مولى عائشة «1»
جملة عجز وصدر صدّ وحجر أشدّ من مرزمة الإبل توانيا، وأعظم من مكدية الأمل تفانيا، أبطأ من الخيل نهوضا، وأطول من كلب أهل الكهف ربوضا، ولو سابقه المقيد في الوثاق لسبقه، والطائر المقصوص الجناح لبلغ قبله طلقه، يرى المخالفة طاعة، والسنة تمضي بتمامها، إذا أسرع في الحاجة ساعة، إلى تخلف عن كل خير وتوان إلا في فند يحثّ إليه السير، وقبح فعلة، بقيت بقاء الأبد، وعمرت أكثر من نسور لبد، وشؤم طلعة، وكساد سلعة، إلا أنه ممن ألحفه الأصفهاني الجناح، وذكرّ فغدا أوراح «2» .
قال أبو الفرج: كان يجمع بين النساء والرجال في منزله، فلذلك «3» يقول فيه عبيد الله بن قيس الرقيات: «4» [ص 149] [الخفيف]
قل لفند يسيّر الأظعانا ... طالما سرّ عيشنا وكفانا
صادرات عشية من قديد ... واردات مع الضّحى عسفانا «5»
ويه يضرب المثل في الإبطاء، قال: أرسلته عائشة بنت سعد ليجيئها بنار، فخرج لذلك، فلقي عيرا خارجة إلى مصر، فخرج معهم، فلما كان بعد سنة رجع فأخذ نارا ودخل على عائشة وهو يعدو، فسقط وقد قرب منها، فقال:(10/257)
تعست العجلة، قال بعض الشعراء في رجل وصفه بذلك: [الرمل]
ما رأينا لعبيد مثلا ... إذ بعثناه يجي بالمسأله
غير فند بعثوه قابسا ... فثوى حولا وسبّ العجله
59- دنانير البرمكيّة «1»
جارية منذرة، وملهية للآلي الدمع مبدرة، ومطربة لو جاءت كلّ «2» ورقاء على فنن لأسكتتها، أو طارحت كل ذات شجن لبكّتتها، وكانت أعز مما سميت به من الدنانير التي تدخل عليها الصرف، ويظهر عليها سيماء الوجل لا الظرف، نالت عواليها آل برمك خطى قاد لها الجامع «3» وقال به في فيّ خدرها الطامح، وأبدعت صورة وكانت فيها المحاسن محصورة.
قال أبو الفرج: كانت صادقة الملاحة، فرآها يحيى فوقعت في قلبه واشتراها، وكان الرشيد يصير إلى منزله ويسمعها، حتى ألفها واشتد عجبه بها ووهب لها هبات سنية، منها أنه وهب لها في ليلة عيد عقدا قيمته ثلاثون ألف دينار، فردته عليه في مصادرة البرامكة بعد ذلك، وعرفت أم جعفر الخبر فشكته إلى عمومته فصاروا جميعا إليه، فعاتبوه فقال لهم: مالي في هذه الجارية من أرب في(10/258)
نفسها، وإنما أربي في غنائها، فاسمعوها، إن استحقت أن يؤلف غناؤها فذاك، وإلا فقولوا ما شئتم، فأقاموا عنده، ونقلهم إلى «1» يحيى حتى سمعوا عنده فعذروه، وعادوا إلى ام جعفر فأشاروا عليها ألا تلح عليه في أمرها فقبلت، وأهدت إلى الرشيد عشر جوار، منهنّ: مراجل أم المأمون، وماردة أم المعتصم، [ص 150] وفاردة أم صالح.
قال إسحاق، قال لي أبي، قال لي يحيى بن خالد: إن ابنتك دنانير قد عملت صوتا اختارته وأعجبت به، فقلت لها: لا يشتد إعجابك بما تصنعينه حتى تعرضيه على شيخك، فإن رضيه واستجاده وشهد بصحته فارضيه لنفسك، وإن كرهه فاكرهيه، امض حتى تعرضه عليك، قال: فقلت له أيها الوزير: كيف إعجابك أنت به، فأنت ثاقب الرأي، عالي الفطنة، صحيح التمييز، قال: أكره أن أقول لك أعجبني فيكون عندك غير معجب، إذ كنت رئيس صناعتك تعرف بها ما لا أعرف، وتقف من لطائفها على مالا أقف، وأكره أن أقول لك لم يعجبني، وقد بلغ من قلبي مبلغا محمودا، وإنما يتم لي السرور به إذا صادف ذلك منك استجادة وتصويبا، قال: فمضيت إليها، وقد كان تقدم إليّ خدمه بذلك وقال لدنانير: إذا جاءك إبراهيم فاعرضي عليه الصوت الذي صنعته واستحسنته، فإن قال لك أصبت سررتني بذلك، فإن كرهه فلا تعلميني لئلا يزول سروري بما صنعت فلما حضرت «2» الباب أدخلت ونصبت الستائر، فسلمت على الجارية، فردت علي السلام وقالت: يا أبت أعرض عليك صوتا قد تقدم إليك خبره، وقد سمعت الوزير يقول: إن الناس يفتنون بغنائهم ويعجبهم منهم ما لا يعجبهم من غيرهم، وكذلك يفتنون بأولادهم فيحسن في أعينهم منهم ما ليس يحسن، وقد خشيت على هذا الصوت أن يكون كذلك، فقلت: يا بنية، هات، فأخذت عودها فغنت: «3» [الكامل](10/259)
نفسي أكنت عليك مدّعيا ... أم حين أزمع بينهم خنت
إن كنت مولعة بذكرهم ... فعلى فراقهم ألا متّ
قال: فأعجبني والله غاية الإعجاب، واستخفني الطرب حتى قلت لها: أعيديه، وأنا طالب فيه موضعا أصلحه أو أغيره لتأخذه عني، فلا والله ما قدرت على ذلك، ثم قلت لها: اعيديه الثالثة، فأعادته، فإذا هو المصفى، فقلت لها: احسنت يا بنية وأصبت وأجدت، وقد قطعت عنك بجودة إصابتك [ص 151] وحسن إحسانك فائدة المتعلمين، إذ قد صرت تحسنين الاختيار، وتجيدين الصنعة، ثم خرج فلقيه يحيى بن خالد فرآه متهللا، فقال له: كيف رأيت صنعة ابنتك دنانير؟ فقال: أعز الله الوزير، ما يحسن كثير من حذاق المغنين مثل هذه الصنعة، ولقد قلت لها أعيديه، فأعادته ثلاث مرات كل ذلك أريد إعناتها لأجلب لنفسي مدخلا يؤخذ عني وينسب إليّ، فلا والله ما وجدته، فقال لي يحيى: وصفك لها يقوم مقام تعليمك إياها، والله لقد سررتني وسأسرك، فوجه إليه بمال كثير.
قال حماد البشري: مررت بمنزل من منازل طريق مكة يقال له النّباج «1» ، وإذا كتاب على حائط في منزل، فقرأته فإذا هو: النيك أربعة، [فالأول] شهوة، والثاني لذة، والثالث شفاء، والرابع داء، وحر «2» إلى أيرين، أحوج من فرج إلى حرين، وكتبت دنانير مولاة البرامكة بخطها مدّة طويلة.
قال ابن شبة: أخذت دنانير مولاة البرامكة غناء إبراهيم [الموصلي] حتى كانت تغني غناء فتحكيه فيه حتى لا يكون بينهما فرق، وكان إبراهيم يقول(10/260)
ليحيى: متى فقدتني ودنانير باقية، فما فقدتني.
قال: أصاب دنانير العلّة الكلبيّة، فكانت لا تصبر على الأكل ساعة واحدة، وكان يحيى يتصدق عنها في كل [يوم من] شهر رمضان بألف دينار، لأنها كانت لا تصومه، وبقيت بعد البرامكة مدة طويلة.
60- الزّبير بن دحمان «1»
واقع على غرض، ورافع لبعض ما عرض، كان مشهور الأصوات، مشكور الفعل حتى بألسن الأموات، متى رفع عقيرته متع جيرته لضرب لا تدعيه مطمعة، ولا تعيه الآن مسمعة، أكثر استنهاضا من الحمية في الأمور، وأكبر إعراضا من صدّ الكؤوس عن الخمور، وله في مجالس الخلفاء ولوج، حيث يرى أذن، ولا يقبل الآراء أفن.
قال أبو الفرج: كان الرشيد بعد قتله البرامكة شديد الندم على ما فعله بهم، ففطن الزبير لذلك، وكان يغنيه في هذا [ص 152] المعنى فيحركه، فغناه يوما: «2» [البسيط]
من للخصوم إذا جدّ الخصام بهم ... يوم الجياد ومن للضمّر القود
فرّجته بلسان غير مشتبه ... عند الحفاظ وقلب غير رعديد
وموقف قد كفيت النّاطقين به ... في مجمع من نواصي الناس مشهود(10/261)
فقال له الرشيد: أعد، فأعاد فقال: ويحك كأن قائل هذا الشعر يصف به يحيى ابن خالد وجعفر بن يحيى، وبكى حتى جرت دموعه، ووصل الزبير بصلة سنية.
قال إسحاق: كان عندي الزبير بن دحمان يوما، فغنيت لأبي «1» : [الطويل]
أشاقك من أرض العراق طلول
فقال الزبير: أنت الأستاذ وابن الأستاذ السيد، وقد أخذت عن أبيك هذا الصوت، وأنا أغنيه أحسن من هذا، فقلت له: والله إني لأحب أن يكون كذلك، فغضب وقال: أنا والله أحسن غناء منك ومن أبيك، فتلاحينا طويلا، فقلت له: هلم نخرج إلى صحراء الرقة، فيكون أكلنا وشربنا هنالك، ونرضى في الحكم بأول من يطلع علينا، فقال: أفعل، فأخرجنا طعاما وشرابا، وجلسنا على الفرات نشرب، فأقبل حبشي يضرب الأرض، فقلت له: ترضى بهذا؟ فقال:
نعم، فدعوناه وأطعمناه وسقيناه، وبادرني الزبير بالغناء، فغنى الصوت، فطرب الحبشي وحرك رأسه حتى طمع الزبير [فيّ] ، ثم أخذت العود فغنيته، فتأملني الحبشي ساعة وصاح: وأي شيطان أنت؟ ومدّ بها صوته، فما أعلم أني ضحكت مثل ضحكي يومئذ وانخذل الزبير واستحيا.
قال: غضب الرشيد على أم جعفر، ثم ترضاها، فأبت أن ترضى عنه، فأرق ليله، ثم قال: افرشوا لي على دجلة، ففعلوا، فقعد ينظر إلى الماء وقد زاد زيادة عجيبة، فسمع غناء في هذا الشعر: «2» [الطويل]
جرى السّيل فاستبكاني السّيل إذ جرى ... وفاضت له من مقلتي غروب(10/262)
وما ذاك إلا حين أيقنت أنّه [ص 153] ... يمرّ بواد أنت منه قريب
يكون أجاجا دونكم فإذا انتهى ... إليكم تلقّى نشركم فيطيب
فيا ساكني أكناف دجلة إنكم ... إلى القلب من أجل الحبيب حبيب
فسأل عن الناحية التي فيها الغناء، فقيل: دار ابن المسيب، فبعث إليه أن ابعث لي بالمغنيّ فبعث به، فإذا هو الزبير بن دحمان، فسأل عن الشعر فقال: هو للعباس بن الاحنف، فأحضره فاستنشده إياه، وجعل الزبير يغنيه والعباس ينشده، وهو يستعيدهما، حتى أصبح، وقام فدخل على أمّ جعفر فسألت عن دخوله فعرّفته، فوجهت إلى العباس بن الأحنف بألف دينار، وإلى الزبير بألف دينار.
61- ومنهم- عبد الله بن العبّاس «1»
ابن الفضل بن الربيع، بيت رفيع، وقوم لهم ما لفضل الربيع من طراوة ندى، وطلاوة حدى، ورونق يزين الدنيا أبدا، ومعال أثرت بها مآثرهم، ومعان أثرها أكابرهم، فورثها أصاغرهم، حجّاب الخلفاء الأعز المكارم، وحفظة أبواب كالأنهار وراء بحور خضارم، وجدّه الربيع خدم المنصور فادعى إليه ولاء، وارتقى به إلى أن عقدت له ذوائب الكواكب لواء، وعبد الله هذا من سرّ صميمهم، وأرج شميمهم، إلا أنه بالغناء وضع قدر حبّه «2» ، وصنع ما لا يليق بنسبه، تعلم الغناء سرا، وتقدم قشرا «3» ، فأطرب كلّ محزونه، وأنفق من ذخائر(10/263)
العاشقين سقمها، وحنّ العود في يده حنين الحمام عليه أيام تأوّد.
ذكر أبو الفرج فقال، [قال] يحيى بن حازم، حدثني عبد الله بن العباس الربيعي قال: دخل محمد بن عبد الملك الزيات «1» على الواثق، وأنا بين يديه أغني، وقد استعادني صوتا فأعدته فأحسنت، فقال له ابن الزيات: هذا والله يا أمير المؤمنين أولى الناس بإقبالك عليه واستحسانك له، واصطناعك إياه، فقال:
أجل، فلما كان الغد [ص 154] جئت محمد بن عبد الملك الزيات شاكرا لحسن محضره، فقلت له في أضعاف كلامي: وأفرط الوزير أعزه الله في وصفي وتقريظي بكل شيء حتى وصفي بجودة الشعر، وليس ذلك عندي، وانما أعبث بالبيت والبيتين والثلاثة ولو كان عندي شيء يعد من ذلك لصغر عن أن يصف الوزير، ومحله في هذا الباب المحل الرفيع المشهور، فقال لي: والله إنك لو عرفت مقدار قولك حين تقول: «2» [المجثث]
يا شادنا رام إذ مرّ ... في الشّعانين قتلي
يقول لي كيف أصبح ... ت كيف يصبح مثلي؟
لما قلت هذا القول، والله لو لم يكن لك شعر في عمرك كله إلا قولك (كيف يصبح مثلي) لكنت شاعرا.(10/264)
قال إسحاق: لقيت عبد الله بن العباس يوما في الطريق فقلت له: ما كان خبرك أمس؟ فقال: اصطبحت، فقلت: على ماذا ومع من؟ فقال: مع خادم صالح بن عجيف، وأنت به عارف وبخبري ومحبتي له، فاصطبحنا على صفة بنت الخس «1» لما حملت: «2» [الطويل]
أشمّ كغصن البان جعد مرجّل ... شغفت به لو كان شيئا مدانيا
ثكلت أبي إن كنت ذقت كريقه ... سلافا ولا ماء من المزن صافيا
وأقسم لو خيّرت بين فراقه ... وبين أخي لاخترت أن لا أخاليا
فإن لم أوسّد ساعدي بعد رقدة ... غلاما هلاليّا فشلت بنانيا
فقلت له: أقمت على لواط وشربت على زناء، والله ما سبقك إلى هذا أحد، فقلت: وقد كان على جلالة قومه ونباهتهم مغرى بالاصطباح، مغرما به في كل صباح، ومثاله مما قاله في هذه الحالة: «3» [البسيط]
ومستطيل على الصهباء باكرها ... في فتية باصطباح الراح حذاق
فكل كف رآه ظنه قدحا ... وكل شخص رآه ظنه الساقي
وقوله في ذلك: «4» [المجتث](10/265)
باكر الراح صبحا ... لا يسبقنك فجر
وإن يفتك اصطباح ... فلا يفوتنك سكر [ص 155]
ويقال إنه شرب أواخر شعبان وكان قد نما إلى الخليفة انهماكه على المدام وانتهاكه للحياء مع الندام، وكذلك بلغه عن غيره، فبث رسله القيام في طلب هتك حرمة الصيام، وأتاه النذير وهو بين تربه مقبل على شربه، فقال: «1» [الخفيف]
عللاني نعمتما بمدام ... واسقياني من قبل شهر الصيام
حرم الله في الصيام التصابي ... فتركناه طاعة للإمام
ثم دام على غيّه وضلاله، وأقام عمر قمر شعبان وهلاله حتى قارب رمضان أن يستهل، وحل خيط المدام أن يسلّ، ولم يبق غير دنو رمضان وإقباله، وإن ليله يلقى حافر هلاله، فقال: «2» [المديد]
اسقني صهباء صافية ... ليلة النوروز والأحد
حرم الله اصطباحتها ... فتزود شربها لغد
قال: [خالد] بن حمدون: كنا عند الواثق في يوم دجن «3» ، فلما برق واستطار، قال «4» : قولوا في هذا شيئا، فبدرهم عبد الله بن [العباس بن] الفضل بن الربيع فقال: «5» [المتقارب]
أعنّي على بارق لامع ... خفيّ كلمحك بالحاجب
كأن تألقه في السماء ... يدا كاتب أو يدا حاسب(10/266)
وصنع فيه لحنا شرب الواثق عليه بقية يومه، واستحسن شعره وغناءه وصنعته، ووصله بصلة سنية.
وكان لدخول عبد الله في الغناء سبب حكاه وقصد استهون به فحواه، واستهول عقباه حتى أصباه، وذلك أنه هوي جارية لعمته وكان لا يقدر عليها ولا يستطيع الجلوس إليها، خيفة أن يبدو حبه فتمنعه عنها، وتفطن لما بطن فلا تمكنه منها، فأسر في نفسه غرضه، وداوى مرضه بعلة ممرضة وجملة معترضة، واحتال في رأي على عمته عرضه، هو أنه أظهر لها الرغبة في الغناء وتعلمه، واستكتمها عن جده في تكتمه، فأنفت [ص 156] له عمته الغناء ومذهبه، وكرهت ما يشين أباه وجده ومنصبه، فأبى إلا طربا، وتصابى حتى صبا، وتلاعب حتى جد لعبا، وداوم حتى أحسن قوة التصنيف، فصنع صوتين أنفق عليهما جهده من التثقيف، وعرضهما على الجارية، فقالت: هذا في الصنعة فوق الاتقان، ولا يحسن أحد في الزمان أكثر من هذا الإحسان، ونمى خبر الصوتين حتى غنيا للرشيد، فسأل عنهما وعلم لمن هما، فطلب جده وحدثه بما عنده، وعتبه على إخفاء أمره، وظن أنه يعلم به وقد أخفاه عنه، فأقسم الفضل أنه إلى الآن لم يعلم أن له ولدا من الغناء بهذا المكان، ثم كان من شهرته ما كان.
وقد ذكر أبو الفرج هذه القصة فقال: قال أحمد بن المرزبان، حدثني عبد الله ابن العباس قال: كان سبب دخولي في الغناء وتعلمي إياه، أني كنت أهوى جارية لعمتي رقية بنت الفضل بن الربيع، وكنت لا أقدر عليها ولا الجلوس معها، خوفا من أن يظهر مالها عندي فيكون سببا لمنعي منها، فأظهرت لعمتي أنني أشتهي أن أتعلم الغناء، ويكون ذلك [في] ستر من جدي، وكان جدي وعمتي على حال من الرقة علي والمحبة لي لأن أبي توفي في حياة جدي الفضل، فقالت: يا بني، ما دعاك إلى ذلك؟(10/267)
قلت: شهوة غلبتني، إن منعت منها متّ غمّا، وكان لي في الغناء طبع قوي، فقالت لي: أنت أعلم وما تختاره، والله ما أحب منعك من شيء، وإني لأكره أن تشتهر به فتسقط ويفتضح أبوك وجدك، فقلت: لا تخافي من ذلك، فإنما آخذ منه مقدار ما ألهو به، ولازمت الجارية لمحبتي إياها بعلّة الغناء حتى تقدمت سائرهم حذقا وصنعة، وأقررن «1» لي بذلك، وبلغت ما كنت أريده منه ومن أمر الجارية، وصرت ألازم مجلس جدي، وكان يسر بذلك ويظنه تقربا مني إليه، وانما كان وكدي فيه أخذ الغناء، فلم يكن يمر لإسحاق ولا لابن جامع ولا للزبير بن دحمان، ولا لغيرهم صوت الا اخذته، ثم أحسست من نفسي قوة في الصنعة، فصنعت أول صوت صنعته في شعر العرجي: «2» [الطويل] [ص 157]
أماطت كساء الخز عن حرّ وجهها ... وأدنت على الخدين بردا مهلهلا
ثم صنعت: «3» [المنسرح]
أقفر من بعد أهله سرف ... فالمنحنى فالعقيق فالجرف «4»
وعرضتهما على الجارية التي كنت أهواها، وسألتها عما عندها فيهما، فقالت: لا يجوز أن يكون في الصنعة شيء فوق هذا، وكان جواري الحارث بن(10/268)
بسخنر وجواري ابنه محمد «1» يدخلن إلى جارنا، ويطرحن على جواري عمتي وجواري جدي ويأخذن أيضا ما ليس عندهن من غناء دارنا، فسمعنني ألقي هذين الصوتين على الجارية فأخذنهما مني، وسألن الجارية عنهما، فأخبرتهن أنهما من صنعتي، ثم اشتهرا حتى غنّى الرشيد بهما يوما فاستظرفهما، وقال لإسحاق: تعرفهما؟ قال: لا، وإنهما لمن حسن الصنعة ومتقنها، ثم سأل الجارية فتوقفت خوفا من عمتي، وحذرا أن يبلغ جدي أنها ذكرتني، فانتهرها الرشيد، فأخبرته القصة، فوجه من وقته فدعا بجدي فأحضره فقال: يا فضل، يكون لك ابن يغني ثم يبلغ في الغناء المبلغ الذي يمكنه أن يصنع صوتين يستحسنهما إسحاق وسائر المغنين، ويتداولهما جواري القيان ولا تعلمني بذلك؟! كأنك رفعت قدره عن خدمتي في هذا الشأن، فقال له جدي: وحق ولائك يا أمير المؤمنين ونعمتك، وإلا فأنا نفيّ منها بريء من بيعتك، وعلى العهد والميثاق والعتق والطلاق، إن كنت علمت بشيء من هذا من ولدي قط، إلا منك الساعة، فجاء جدي وهو يكاد أن ينشق غيظا، فدعاني فخرجت إليه، وقال: يا كلب، بلغني من امرك ومقدارك أن تحسن أن تتعلم الغناء بغير أمري، ثم لم تقنع بهذا حتى ألقيت صنعتك على الجواري في داري ثم تجاوزتهن إلى جواري الحارث بن بسخنر، فاشتهرت وبلغ أمير المؤمنين ذلك، فتنكر لي ولا مني، وفضحتني وفضحت آباءك في قبورهم، وسقطت إلى الأراذل من المغنين، فبكيت غما بما جرى مني، وعلمت أنه قد صدق، فرحمني وضمني إليه وقال: قد صارت الآن في أبيك مصيبتان، إحداهما به وقد مضى وفات، والأخرى فيك، وهي موصولة بحياتي، ومصيبة باقية العار عليّ وعلى أهلي بعدي، وبكى وقال: يعزّ عليّ يا(10/269)
بني أن أراك على غير ما أحب، وليست لي [ص 158] في هذا الأمر حيلة، لأنه قد خرج من يدي، ثم قال: جئني بعود حتى أسمعك وأنظر كيف أنت، فإن كنت تصلح للخدمة في هذه الفضيحة، وإلا جئته بك منفردا وعرفته بخبرك، واستعفيته لك، فأتيته بعود وغنيت غناء قديما، فقال: بل غن صوتيك اللذين صنعتهما، فغنيته إياهما فاستحسنهما وبكى، ثم قال: بطلت والله يا بني وخاب أملي فيك، فواحزنا عليك وعلى أبيك، فقلت: ليتني مت يا سيدي من قبل ما أنكرته ولخرست، ومالي حيلة، ولكن وحياتك يا سيدي، وإلا فعليّ عهد الله وميثاقه، والعتق والطلاق وكل يمين يحلف بها حالف، لازمة لي، لا غنيته أبدا إلا لخليفة أو وليّ عهد، فقال لي: قد أحسنت فيما قد تنبهت عليه من هذا، ثم ركب وامرني فأحضرت ووقفت بين يدي الرشيد، وأنا أرعد، واستدناني حتى صرت أقرب إليه، ومازحني واقبل علي، وسكن مني، وامر جدي بالانصراف، واومأ إلى الجماعة فحدثوني وسقوني اقداحا، وغنى المغنون جميعا، واومأ إلى إسحاق أن أغني إذا بلغت النوبة إليّ، ليكون ذلك أملح، فلما بلغت النوبة إليّ أخذت عودا ممن كان إلى جانبي، وقمت قائما واستأذنت في الغناء، فضحك الرشيد وقال: غنّ جالسا، فجلست فغنيت لحني الأول، فطرب واستعادني ثلاث مرات، وشرب عليه ثلاثة أقداح وأنصاف، فكانت هذه حاله، فدعا مسرورا فقال: احمل إليه الساعة عشرة آلاف درهم «1» ، وثلاثين ثوبا من فاخر ثيأبي وعتيدة مملوءة طيبا، فحمل ذلك أجمع معي.
قال عبد الله: ولم أزل كلما أراد وليّ عهد أن يعلم من الخليفة بعد الخليفة الوالي، أهو أم غيره، دعاني «2» وأمرني أن أغني، فأعرفه بيميني [فيستأذن(10/270)
الخليفة في ذلك، فإن أذن لي في الغناء عنده عرف أنه ولي عهد] «1» وإلا عرف أنه غيره، حتى كان آخرهم الواثق، فدعاني في أيام المعتصم وسأله أن يأذن لي في الغناء فأذن لي، ثم دعاني المعتصم من الغد فقال: ما صار غناؤك إلا سببا لإظهار سري وأسرار الخلفاء قبلي، لقد هممت أن آمر بضرب عنقك، لا يبلغني أنك امتنعت من الغناء عن أحد، فو الله لئن بلغني لأقتلنك وأعتق من كنت تملكه يوم حلفت من المماليك، وطلق من كان عندك يومئذ من الحرائر، واستبدل بهن، وعليّ العوض من ذلك وأرحنا من يمينك هذه المشؤومة، فقمت من عنده وأنا لا أعقل، فاستفتيت «2» أبا يوسف القاضي حتى [ص 159] خرجت من يميني، وصرت بعد ذلك أغنّى لإخواني جميعا، حتى اشتهر أمري وبلغ المعتصم خبري، فتخلصت منه، ثم غضب علي الواثق لشيء أنكره، وولي الخلافة وهو ساخط علي، فكتبت إليه: «3» [الكامل]
أدعو إلهي أن أراك خليفة ... بين المقام ومسجد الخيف «4»
فدعاني ورضي عني وقال سليمان بن أبي شيخ: دخلت على العباس بن الفضل بن الربيع ذات يوم وهو مختلط مغتاظ، وابنه عبد الله عنده، فقلت له:
مالك أمتع الله بك، فقال: لا يفلح والله ابني هذا أبدا، فظننته قد جنى جناية، فجعلت أعتذر إليه [له] فقال: ذنبه أعظم من ذلك وأشنع، قلت: وما ذنبه؟(10/271)
قال: جاءني بعض غلماني فحدثني أنه رآه يشرب بقطربّل «1» الداذي «2» بغير غناء، فهل هذا فعل من يفلح؟ فقلت له وأنا أضحك: سهّلت عليّ القصة، فقال: لا تقل ذاك، فإن هذا من ضعة النفس وسقوط الهمة، فكنت إذا رأيت عبد الله بعد ذلك في جملة المغنين، وشاهدت تبذّله في هذا الحال، وانخفاضه عن مرتبة أهله، ذكرت قول أبيه.
قال: قالت بذل الكبيرة لعبد الله بن العباس: قد بلغني أنك قد عشقت جارية يقال لها عساليج، فاعرضها عليّ، فأما إن عذرتك في حبها، أو عذلتك في أمرها «3» ، فوجه بها إليها وقال لبذل: هذه سيدتي فانظري واسمعي ومري بما شئت أطعك، فأقبلت عليه عساليج فقالت: يا عبد الله، أتشاور فيّ، وو الله ما شاورت فيك لما صاحبتك، فنعرت «4» بذل وقالت: أحسنت والله يا صبية، ولو لم تحسني شيئا ولا كانت فيك خصلة تجمل، لوجب أن تعشقي لهذه الكلمة، ثم قالت لعبد الله: ما صنعت، احتفظ بصاحبتك. قلت: وربما أن فيها قوله: «5» [الرمل]
إنّ في القلب من الظّبي كلوم ... فدع اللّوم فإن اللّوم لوم «6»(10/272)
لم أكن أوّل من سنّ الهوى ... فدع العذل فذا داء قديم
قال عبد الله بن العباس الربيعي [ص 160] لقيني سوار بن عبد الله القاضي، وهو سوار الأصغر «1» ، فأصغى إليّ وقال: إن لي إليك حاجة، فأتني في خفي، فأتيته فقال لي: قد أنست إليك لأنك لي كالولد، ولي إليك حاجة، فإن ضمنت كتمانها أفضيت بها إليك، فقلت: ذاك للقاضي عليّ فرض واجب، فقال لي:
إني قلت أبياتا في جارية لي أميل إليها، وقد هجرتني، وأنا أحب أن تصنع فيها لحنا وتسمعنيه، فإن غنيته وأظهرته بعد ألا يعلم أحد أنه شعري، فلست أبالي، أتفعل ذلك؟ قلت: حبا وكرامة للقاضي، فأنشدني سوار لنفسه: «2» [الطويل]
سلبت عظامي لحمها فتركتها ... عواري في أجلادها تتكسّر
وأخليت منها مخّها فتركتها ... أنابيب في أجوافها الريح تصفر
إذا سمعت ذكر الفراق ترعّدت ... مفاصلها من هول ما تتحدّر
خذي بيدي ثم ارفعي الثوب فانظري ... بلى جسدي لكنّني أتستّر
وليس الذي يجري من العين ماؤها ... ولكنّها روح تذوب فتقطر
قال عبد الله: فصنعت لحنا ثم عرّفته خبره في رقعة، وسألته أن يعدني المصير إليه، فكتب إليّ: نظرت في القصة، فوجدت هذا لا يصلح ولا ينكتم حضورك، ولا سماعي إياك، وأسأل الله أن يسرّ ويبقيك، فغنيت بالصوت حتى ظهر وتغنى به الناس، فلقيني سوار يوما فقال لي: يا بن أخي شاع أمرك في ذلك الباب، حتى سمعناه من بعيد، كأننا لم نعرف القصة.(10/273)
62- أبو صدقة «1»
من المشهورين في أهل الموسيقا، والمشكورين تحقيقا، أطرب أصواتا، وأحيا نفوسا مواتا، خطب للتقريب وخطي إليه من غير مكان قريب، وإذا كان اندفع يغنّي استوجف الطير، وأوقف الراكب العجل عن السير، فكل مطرب يطير في الأوتار، ويطيب به حتى ذو الاقتار، لا يغلب على تدبير، ولا يشبه تلعّبه بالقلوب لاعب بالماء في الغدير «2» .
قال أبو الفرج: «3» كان الرشيد يعبث به كثيرا، فقال ذات يوم لمسرور: قل لابن جامع، وإبراهيم الموصلي، والزبير [ص 161] بن دحمان وبرصوما، وابن أبي مريم المديني، إذا رأيتموني قد طابت نفسي فليسألني كل واحد منكم حاجة، مقدارها مقدار صلته، وذكر لكل واحد منهم مبلغ ذلك، وأمرهم أن يكتموا أمرهم عن أبي صدقة، فقال لهم مسرور ما قال له، ثم أذن لأبي صدقة قبل إذنه لهم، فلما جلس قال: يا أبا صدقة، قد أضجرتني «4» كثرة مسألتك، وأنا في هذا اليوم ضجر قد أحببت أن أتفرج وأفرح، ولست آمن أن تنغص عليّ مجلسي بمسألتك، فإما إن أعفيتني أن تسألني اليوم حاجة [وإلا فانصرف] ، قال: يا(10/274)
سيدي لست أسألك في يومي هذا ولا إلى شهر حاجة، فقال له الرشيد: أما إذ قد شرطت لي هذا على نفسك فقد اشتريت منك حوائجك بخمس مئة دينار، وها هي ذه فخذها طيبة معجلة، فإن سألتني بعدها في هذا اليوم فلا لوم عليّ إن لم أصلك سنة بشيء، فقال له: نعم، فقال له الرشيد، زدني في الوثيقة، فقال:
قد جعلت أمر أمّ صدقة إليك فطلقها منّي متى شئت، إن شئت واحدة، وإن شئت الفا، إن سألتك في يومي هذا حاجة، وأشهد الله ومن حضر على ذلك، ودفع المال إليه، ثم أذن للجلساء والمغنين فدخلوا، وشرب القوم، فلما طابت نفس الرشيد، قال ابن جامع: يا أمير المؤمنين، قد نلت بك مالم تبلغه أمنيتي، وكثر إحسانك إليّ حتى قتلت أعدائي، وليس لي بمكة دار تشبه حالي، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر لي بمال أبني به دارا وأفرشها، لأفقأ عيون أعدائي وأزهق نفوسهم، فعل، فقال: كم قدرت لذلك؟ قال: أربعة آلاف دينار، فأمر له بها ثم قام إبراهيم الموصلي فقال: قد ظهرت نعمتك عليّ وعلى أكابر ولدي، وفي أصاغرهم من قد بلغ وأريد تزويجه، ومنهم من أحتاج أن أطهره، ومنهم صغار وأحتاج أن أتخذ لهم خدما، فإن رأى أمير المؤمنين أن يحسن معونتي على ذلك، فأمر له بمثل ما أمر لابن جامع.
وجعل كل واحد منهم يقوم فيقول من الثناء ما يحضره، ويسأل حاجة على قدر جائزته، وأبو صدقة ينظر إلى الأموال تفرق يمينا وشمالا، فوثب على رجليه قائما ورمى بالدنانير من كمه، وقال: يا أمير المؤمنين أقلني أقال الله عثرتك، قال له الرشيد: لا أفعل، فجعل يستحلفه ويضطرب ويلح، والرشيد يضحك ويقول [ص 161] : ما إلى ذلك سبيل، الشرط أملك، فلمّا عيل صبره أخذ الدنانير فرمى بها بين يدي الرشيد، فقال: هاكها قد رددتها عليك وزدتك فرج أم صدقة، فطلقها إن شئت واحدة، وإن شئت ألفا، وإن لم تلحقني بجوائز القوم،(10/275)
فألحقني بجائزة هذا البارد ابن البارد، وأراد بذلك عمر بن الغزال، وكانت [صلته ألف دينار، فضحك الرشيد حتى استلقى، ثم رد عليه خمس مئة الدينار، وأمر له [ب] «1» ثلاثة آلاف دينار معها، وكان ذلك أكثر ما أخذه منه منذ يوم خدمته إلى أن مات.
قال: دخل جعفر بن يحيى على الرشيد صبيحة يوم مطر، فسأله عن يومه الماضي وما صنع فيه، فقال: كان عندي أبو زكّار الأعمى «2» وأبو صدقة، فغناني أبو صدقة صوتا من صنعته فطربت وو الله يا أمير المؤمنين طربا ما أذكر أني طربت مثله وهو: «3» [الخفيف]
فتنتني بفاحم اللّون جعد ... وبثغر كأنه نظم درّ
وبوجه كأنّه طلعة البد ... روعين في طرفها نفث سحر
فقلت له: أحسنت يا أبا صدقة، فلم أسكت عن هذه الكلمة حتى قال لي: يا سيدي، إني قد بنيت دارا وقد انفقت عليها حريبتي «4» ، وما أعددت لها فرشا فافرشها لي، نجّد «5» الله لك ألف قصر في الجنة، فتغافلت عنه، وأعاد الغناء والمسألة، فتغافلت، فقال: يا سيدي، هذا التغافل متى حدث لك؟ سألتك الله، وبحق أبيك عليك إلا أجبتني عن كلامي ولو بشتم، فأقبلت عليه وقلت: أنت والله بغيض، فاكفف عن المسألة الملحة، فوثب من بين يدي، فظننت أنه يخرج(10/276)
لحاجة، فإذا هو قد نزع ثيابه، وتجرد منها خوفا من المطر، ووقف تحت السماء لا يواريه شيء، والمطر يأخذه، فرفع رأسه فقال: يا رب أنت تعلم أني مله ولست نائحا، وعبدك هذا الذي رفعته عليّ وأحوجتني إليه، يقول لي أحسنت، ولا يقول لي أسأت، وأنا منذ جلست اقول له بنيت ولا أقول له هدمت، فيحلف بك جراءة عليك أني بغيض، فاحكم بيني وبينه يا سيدي، فأنت خير الحاكمين.
فغلبني الضحك وأمرت به فجيء، وجهدت به في أن يغني، فامتنع حتى حلفت له بحياتك أني أفرش له داره يا أمير المؤمنين، وخدعته فلم أسمّ له ما أفرشها به، فقال الرشيد [ص 163] : طيب والله [الآن] تمّ لنا اللهو، هو ذا ادعوه، فإذا رآك فسيتنجز لك الفرش، لأنك حلفت له بحياتي، فهو يقتضيك ذلك بحضرتي ليكون أوثق، فإن قال لك فيه فقل: أنا أفرشها لك بالبواري «1» ، وإن شئت فالبردي «2» من الحصر، وحاكمه إلي، ثم دعا به فأحضر، فلما استقر في مجلسه قال لجعفر: الفرش الذي حلفت بحياة أمير المؤمنين الذي تفرش به داري تقدم فيه، فقال له جعفر: تخير إن شئت فرشتها لك بالبواري، وإن شئت فالبردي من الحصر، فضج واضطرب، فقال له الرشيد: وكيف كانت القصة؟ [فأخبره] فقال له: أخطأت يا أبا صدقة، إذ لم تسمّ النوع ولم تحدد القيمة، فإن فرشها لك بالبواري، أو بما دون ذلك، فقد وفي بيمينه، وإنما خدعك ولم تفطن أنت ولا توثقت، وضيعت حقك، فسكت وقال: نوفر عليه أيضا، البردي والبواري أعزّه الله.
وغنى المغنون، حتى انتهى الدور إليه، فأخذ يغني غناء الفلاحين والملاحين والسقائين، وما جرى مجراه من الغناء، فقال له الرشيد: وأي شيء هذا من الغناء(10/277)
ويلك، قال: من فرشت داره بالبواري والبردي، فهذا الغناء كثير منه، وكثير أيضا لمن هذه صلته، فضحك الرشيد وطرب وصفق، وأمر له بألف دينار من ماله، فقال له: افرش دارك من هذه، فقال له: وحياتك لا آخذها أو تحكم عليه بما وعدني، وإلا متّ والله أسفا لفوت ما وعدني به، فحكم له على جعفر بخمس مئة دينار، فقبلها جعفر وأمر له بها.
63- عمرو بن أبي الكنّات «1»
مطرب نهج السّنن «2» القديم، وأحلّ الغائب في محل النديم، واسمع كل ذي إصغاء، وجمع كل ذي ابتغاء، وغنّى والناس في صنوف المعايش لاهية قلوبهم، أشتات مطلوبهم، بين دان ونازح، ومقبل على معاشه، ومقيل في رياشه، فجعلوا رؤيته دأب «3» نواظرهم، وغناءه شغل خواطرهم، حتى لكاد يطرب الحيتان في الماء، والطير صافات في جو السماء.
قال أبو الفرج، قال بعضهم: وافقت ابن أبي الكنّات في جسر بغداد في أيام الرشيد، فحدثته [بحديث] اتصل بي عن ابن عائشة [ص 164] في الموسم، أنه مر به فقال: إني لأعرف رجلا لو تكلم لحبس الناس، فلم يذهب أحد ولم يجيء، فقلت: ومن هذا الرجل؟
قلت: أنا، ثم اندفع يغني: «4» [الوافر](10/278)
جرت سنحا فقلت لها أجيزي ... نوى مشمولة فمتى اللّقاء
قال: فحبس الناس واضطربت المحامل «1» وكادت الفتنة أن تقع، فأتي به هشام فقال له: يا عدوّ الله، أردت أن تفتن الناس، فأمسك عنه، وكان تياها، فقال له:
ارفق بتيهك، فقال ابن عائشة: حق لمن كانت هذه مقدرته على القلوب ان يكون تياها، فضحك وأطلقه، فقال ابن أبي الكنات: فأنا أفعل كما فعل، وقدرتي على القلوب أكثر من قدرته كانت، ثم اندفع يغني في هذا الصوت ونحن على جسر بغداد، وكان إذ ذاك على بغداد ثلاثة جسور معقودة، فانقطعت الجسور بالناس من ازدحام الخلق عليها فأتى به الرشيد فقال: يا عدو الله أردت أن تفتن الناس، قال: لا والله يا أمير المؤمنين، ولكن بلغني أن ابن عائشة فعل مثل هذا في أيام هشام، فأردت أن أكون في أيامك، فأمر له بمال، واحتبسه عنده ليسمع غناءه.
قال يحيى بن يعلى بن معبد: بينا أنا ليلة في منزلي في الرمضة أسفل مكة، إذ سمعت صوت عمرو بن أبي الكنّات كأنه معي، فأمرت الغلام فأسرج لي دابتي، وخرجت أريده، فلم أزل أتبع الصوت حتى وجدته جالسا على الكثيب العارض على بطن عرنة «2» ، قلت: وهذا كذب لا شك فيه، إذ لا يبلغ حاسة الأذان إلى بعض ذلك «3» .(10/279)
64- خليلان المعلّم «1»
رجل كان لما أراد مهيأ، خلط عملا صالحا وآخر سيّئا، كان يلقن القرآن ويعلم الغناء، ويقرب من هذا وهذا الأدناء، وكان بابة «2» الذكر في أهل الشأن، تائه العطف لا يتقدم الزمان، لو جالس كئيبا لانشرح، وحبيبا مسكه تيه الحب لاطّرح، لألحان حرها وأصوات مثل بيت جان لم تصورها.
قال أبو الفرج: كان يعلم الصبيان القرآن، ويعلم الجواري الغناء [ص 165] في موضع واحد.
قال بعضهم: وكنت يوما عنده وهو يردّد على صبيّ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ
«3» ، ثم يلتفت إلى صبية بين يديه يرددها عليها: «4» [السريع]
اعتاد هذا القلب بلباله ... أن قرّبت للبين أجماله «5»
فضحكت ضحكا مفرطا لفعله، فالتفت إليّ وقال: مالك ويلك؟ فقلت: ما سبقك إلى هذا أحد، انظر أي شيء أخذت على الصبي من القرآن، والله إني لأظنك ممن يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله، فقال: أرجو ألا أكون كذلك إن شاء الله تعالى.
قال عبد الصمد بن المعذل: دخل يوما خليلان المعلم على عقبة بن سلم(10/280)
الأزدي الهنائي فاحتبسه عنده، فأكل وشرب، فحانت منه التفاتة فرأى عودا معلقا، فعلم أنه عرض له به، فدعا به وأخذه وغنّى «1» : [المديد]
يا بنة الأزديّ قلبي كئيب ... مستهام عندها ما ينيب
والتفت فرأى وجه عقبة بن سلم متغيرا، قد ظن أنه عرّض به «2» ، ففطن، فغنى غيره، فسرّ عقبة وشرب فلما فرغ وضع العود من حجره، وحلف بعد ذلك بالطلاق ثلاثا أنه لا يغنّي إلا على من يجوز أمره عليه.
والصوت الذي صنعه: «3» [المتقارب]
ألا طرقت في الدّجى زينب ... وأحبب بزينب إذ تطرق
عجبت لزينب إنّي سرت ... وزينب من ظلّها تفرق
65- عبيدة الطّنبوريّة «4»
مهزّ قضيب، وممر كثيب، وربيبة كناس، وحبيبة أناس، برعت في الضرب بالطنبور، وأسرعت إلى الصدور بالحبور، وعدلت عن العود وتعب صناعته، وتأبى طاعته وصدورة شيرته «5» ، وكثرة تعجيزه، إلى ما خف موقعا، وكان مقنعا، وجاءت فيه بكل إجادة، وجاوزت غاية العود وزيادة.(10/281)
قال أبو الفرج، قال علي بن الهيثم اليزيدي: دعوت يوما إسحاق الموصلي وكان يألفني فقال [ص 166] : من عندك؟ قلت: محمد بن عمرو بن مسعدة، وهارون بن هشام، وقد دعونا عبيدة الطنبورية، فقال: أفعل، فإني كنت أشتهي أن أسمع عبيدة، ولكن لي عليك شريطة، فقلت: هاتها، قال: إن عرفتني وسألتموني أن أغني بحضرتها، لم يخف عليها أمري وانقطعت، فلم تصنع شيئا، فدعوها على حجلتها «1» ، فقلت: أفعل ما أمرت به، فنزل وردّ دابته، وعرّفت صاحبي ما جرى، وأكلنا ما حضر، وقدم النبيذ، فغنت لحنا: «2» [مجزوء الوافر]
قريب غير مقترب ... ومؤتلف كمجتنب
له ودّي ولي منه ... دواعي الهمّ والكرب
أواصله على سبب ... ويهجرني بلا سبب
ويظلمني على ثقة ... بأنّ إليه منقلبي
فطرب إسحاق وشرب نصفا، ثم غنت وشرب حتى والى بين عشرة أنصاف، وشربناها معه، وقام يصلي فقال لها هارون بن أحمد بن هشام: ويحك يا عبيدة، ما تبالي والله متى متّ، قالت: ولم؟ قال: أتدرين من المستحسن غناءك والشارب عليه ما شرب؟ قالت: لا والله، قال: إسحاق بن إبراهيم الموصلي، فلا تعرّفيه أنك قد عرفته، فلما جاء إسحاق ابتدأت تغني، فلحقتها هيبة له واختلاط، فنقصت نقصانا بينا، فقال لنا: أعرّفتموها من أنا؟ فقلنا: نعم، عرفها هارون بن أحمد، فقال إسحاق: نقوم إذا فننصرف، فلا خير في عشرتكم الليلة، ولا فائدة لي ولا لكم، ثم قام فانصرف.(10/282)
قال جحظة حدثني شرائح «1» قال: كانت عبيدة تعشقني فتزوجت فمرت بي يوما، فسألتها الدخول إلي، فقالت: يا كشخان «2» ، كيف أدخل إليك وقد أقعدت في بيتك صاحب مسلحة، ولم تدخل.
قال: وكان لها غلام يضرب عليها يقال له عليّ ويلقب ظئر «3» عبيدة، وكانت إذا خلت في البيت وشبقت اعتمدت عليه، وتقول: بغل الطّحان يصلح للحمل والطحن والركوب.
قال: اجتمع الطنبوريون عند أبي العباس الرشيد يوما وفيهم المسدود وعبيدة، فقالوا للمسدود: غن، فقال: لا والله لا تقدمت عبيدة [ص 167] وهي الأستاذة، فما غنى حتى غنت.
قال جحظة: وهب لي جعفر بن المأمون طنبورا فإذا عليه مكتوب: «4» [مجزوء الخفيف]
كلّ شيء سوى الخيا ... نة في الحبّ محتمل
66- أبو حشيشة «5»
سرى فأصبح، وأرى بصره الفاسد فأصلح، وفهم دقائق الغناء وأوضحها،(10/283)
وعلم حقائق الطرب وفضحها، وسارّ الأوتار، وسامى النظراء، لا يرهقه الإقتار، ودخل أخبية الملوك وأخذ عطاياها، وحث مطاياها وفاز بصفوة مواهبها، وجلا عليهم حسان الأصوات المختارة في مذاهبها، وادخر خير أموالها، وأبقى الفضول لناهبها.
قال أبو الفرج، قال نوبخت: رأيته وقد حضرت عريب عند ابن المدبر، وقد تغنى، فقالت له عريب: أحسنت يا أبا جعفر، ولو عاش الشيخان ما قلت لهما هذا، علوية ومخارق.
قال جحظة، حدثني أبو حشيشة قال: هجم عليّ خادم أسود فقال: البس ثيابك، فعلمت أن [هذا] لا يكون إلا عن أمر خليفة أو أمير، فلبستها ومضيت معه، فعبر بي الجسر، وأدخلني دارا لا أعرفها، فأدخلني في حجرة مفروشة، وجاءني بمائدة كأنها جزعة «1» ، وقد نشر في أعراضها الخبز، فأكلت وسقاني رطلين، وجاء بصندوق ففتحه، وإذا فيه طنابير، فقال: اختر ما تريد، فاخترت واحدا، فأخذ بيدي فأدخلني إلى دار فيها رجلان، على أحدهما قباء غليظ ملحم «2» ، وعلى الآخر ثياب ملحم وخز، فقال لي صاحب الخز: اجلس، [فجلست] فقال لي: أكلت وشربت؟ قلت: نعم، فقال: قل ما نقول لك، فقلت: قل، فقال: غنّ بصنعتك: «3» [الخفيف]
يا مليح الإقبال والانصراف ... وملولا ولو أشا قلت جافي(10/284)
فغنيته إياه، ولم يزل يطلب مني صوتا بعد صوت من صنعتي فأغنيه ويستعيده، ويشرب هو والرجل، وأسقى بالأنصاف المختوتة «1» إلى أن صلوا العشاء [ص 168] الآخرة، ثم أومأ إلى الخادم فقمت، فقال لي صاحب القباء منهما: أتعرفني؟ قلت: لا، قال: أنا إسحاق بن إبراهيم الطاهري، وهذا محمد ابن أسد الخناق، والله لا بلغني أنك تقول رأيتني لأضربنّ عنقك، انصرف، وخرجت، ودفع الخادم ثلاث مئة دينار، فجهدت أن يقبل منها شيئا على سبيل البرّ، فلم يفعل.
67- إسحاق الموصلي «2»
رجل تعقد عليه الخناصر، ويعتد عليه الناصر، علم منوع ويمّ لا يخلو من الإخلاطة بكل مشرع، أخذ من كل فن ظرفا، وعلا على كل فضل شرفا، حتى كان يعدّ القضاء وناظر العلماء، وأبكى بغلبة الجفون دماء، وكان يربأ بنفسه إلى أن يدخل على الخلفاء مع أهل الفقه، ويختلط بهذا الشبه، وبرع في الأدب وأفانينه، وغنى بالشعر وتحسينه، وخلف وراءه السباق، وفي حسن نظمه وتحسينه، وحلّ من الرشيد فمن بعده من الخلفاء محل الأصفياء، وفازوا منه(10/285)
بالوفاء، وفاز هو بما تجلى له منهم من موارد الصفاء، وكانوا يرونه القلب الذي يسع سرورهم، والشباب الذي يحسن غرورهم، وأيامه مطويات إلى بلوغ آرابه، وسبوغ النعمة فيما زنده أورى به، هذا إلى عفاف تشهد به المضاجع، وكرم وخير وتقدم في أول وأخير، ونفس ما أشربت حب الحرام ولا اشرأبت إلى غير اختلاف الكرام.
قال أبو الفرج، قال إسحاق: بقيت زمانا من دهري أغلّس «1» كل يوم إلى هشيم، ثم أصير إلى الكسائي وأقرأ عليه جزءا من القرآن، وآتي الفرّاء فأقرأ عليه أيضا، ثم آتي منصور زلزل فيضاربني طرقين «2» أو ثلاثة، ثم آتي عاتكة بنت شهدة فآخذ منها صوتا أو صوتين، ثم آتي الأصمعي فأناشده، وآتي أبا عبيدة فأذاكره، ثم أصير إلى أبي فأعلمه ما صنعت، ومن لقيت، وما أخذت، وأتغدى معه، فإذا كان العشاء رحت إلى الرشيد.
قال إسحاق: دعاني المأمون يوما فسألني عن صوت، فقال: أتدري من صنعه، فقلت: أسمعه، ثم أخبر أمير المؤمنين بذلك إن شاء الله تعالى، فأمر جارية من جواريه وراء الستارة، فغنت وضربت [ص 169] [فإذا] هي قد شبهته بالقديم، فقلت: زدني معها عودا آخر، فإنه أثبت لي، فزادني عودا آخر، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا الصوت محدث لامرأة ضاربة، فقال: من أين قلت ذلك؟ فقلت لما سمعته وسمعت لينه، عرفت أنه من صنعة النساء، ولما رأيت جودة مقاطعه، علمت أن صاحبته ضاربة وقد حفظت مقاطعه وأجزاءه، ثم طلبت عودا آخر فلم أشك، قال: صدقت، الغناء لعريب.(10/286)
قال إسحاق بن إبراهيم الظاهري، حدثتني مخارق مولاتنا قالت: كان لمولانا الذي علمني الغناء فراش رومي، وكان يغني بالرومية صوتا مليح اللحن، فقال لي مولاي: يا مخارق، خذي هذا اللحن الرومي فانقليه إلى شعر صوت من أصوات العربية حتى أمتحن به إسحاق الموصلي فأعلم أين يقع من معرفته، ففعلت ذلك، فصار إليه إسحاق فأجلسه، وبعث إليّ مولاي أن أدخلي اللحن الرومي في وسط غنائك، فغنيته إياه في درج أصوات مرت [قبله] ، فأصغى إليه إسحاق وجعل يتفهمه ويقسمه ويتفقد أوزانه، فقال: هذا الصوت رومي اللحن، فمن أين وقع إليك؟، فكان مولاي بعد ذلك يقول: ما رأيت شيئا أعجب من استخراجه لحنا روميا لا يعرفه، ولا العلة فيه، وقد نقل إلى غناء عربي، وامتزجت نغمته، حتى عرفه ولم يخف عليه.
قال: تناظر المغنون يوما عند الواثق، فذكروا الضرّاب وحذقهم، فقدم إسحاق ربربا «1» على ملاحظ، ولملاحظ الرياسة في ذلك عليهم جميعهم، فقال لهم الواثق: هذا حيف وتعدّ منك، فقال إسحاق: يا أمير المؤمنين، اجمع بينهما وامتحنهما، فإن الأمر سينكشف لك فيهما، قال: فأمر بهما فأحضرا، قال له إسحاق: إن للضراب أصواتا معروفة، فامتحنهما بشيء منها، قال: أجل أفعل، فسمّى ثلاثة أصوات كان أولها: «2» [السريع]
علّق قلبي ظبية السّيب(10/287)
فضربنا عليه فتقدم ربرب وقصر عنه ملاحظ، فعجب الواثق من كشفه لما ادّعاه في مجلس واحد، فقال له ملاحظ [ص 170] : ما باله يا أمير المؤمنين يحيلك على الناس، ولم لا يضرب هو؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنه لم يكن أحد في زماني أضرب مني، إلا أنكم أعفيتموني، فتفلّت مني، على أنّ معي بقية لا يتعلق بها أحد من هذه الطبقة، ثم قال: يا ملاحظ: شوش عودك وهاته، ففعل ذلك ملاحظ، قال إسحاق: يا أمير المؤمنين، هذا خلط الأوتار خلط متعنت، فهو لا يألو ما أفسدها، ثم أخذ العود فجسه ساعة حتى عرف مواضعه، وقال: يا ملاحظ «1» ، غنّ أيّ صوت شئت فغنى ملاحظ، فضرب عليه إسحاق بذلك العود الفاسد التسوية، فلم يخرج عن لحنه في موضع واحد حتى استوفاه، عن تقوية «2» واحدة، ويده تصعد وتنحدر على الدساتين «3» ، فقال له الواثق: لا والله ما رأيت مثلك قط، ولا سمعت به، اطرح هذا على الجواري، فقال:
هيهات يا أمير المؤمنين، هذا شيء لا تفي به الجواري، ولا يصلح لهن، وإنما بلغني أنّ الفهليذ ضرب يوما بين يدي كسرى أبرويز فأحسن، فحسده رجل من حذّاق صنعته، فترقبه حتى قام لبعض شأنه، ثم خالفه إلى عوده فشوّش بعض أوتاره، فرجع فضرب وهو لا يدري، والملوك لا تصلح في مجالسها العيدان، فلم يزل يضرب بذلك العود الفاسد، إلى أن فرغ، ثم [قام] على رجله فأخبر الملك بالقصة، فامتحن العود فعرف ما فيه، فقال: زه زه وزهان زه «4» ، ووصله بالصلة التي كان يصل بها من خاطبه بهذه المخاطبة، فلما تواترت الروايات بهذا، أخذت(10/288)
نفسي بها، ورضتها عليه، وقلت: لا ينبغي أن يكون الفهليذ أقوى على هذا مني، فمازلت أستنبط بضع عشرة سنة حتى لم يبق في الأوتار موضع على طبقة من الطبقات، إلا وأنا أعرف نغمته كم هي، والمواضع التي يخرج النغم كلها منها، وهذا شيء لا تفي به الجواري، فقال له الواثق: لعمري لقد صدقت، ولئن متّ لتموتنّ هذه الصناعة بموتك، وأمر له بثلاثين ألف درهم.
قال: إسحاق: دعاني [المأمون وعنده] «1» إبراهيم بن المهدي، وفي مجلسه عشرون جارية، وقد أجلس عشرا عن يمينه، وعشرا عن يساره، ومعهن العيدان، فلما دخلت سمعت من الناحية اليسرى خطأ فأنكرته، فقال المأمون: يا إسحاق، أتسمع خطأ؟ فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، مر الجواري اللواتي في الناحية اليمنى [ص 171] يمسكن، فأمرهن فأمسكن، فقلت لإبراهيم: هل تسمع خطأ؟
فقال: [ما] هاهنا خطأ، فقلت: يا أمير المؤمنين يمسكن وتضرب الثامنة، فأمسكن وضربت الثامنة، فعرف إبراهيم الخطأ، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، ها هنا خطأ، فقال المأمون عند ذلك لإبراهيم بن المهدي: لا تمار إسحاق بعدها، فإن رجلا «2» يعرف الخطأ بما بين وتر وعشرين لجدير أن لا تماريه، فقال: صدقت يا أمير المؤمنين.
قال أحمد بن حمدون: سمعت الواثق يقول: ما غنّاني إسحاق قط إلا ظننت أنه قد زيد لي في ملكي، ولا سمعته يغني غناء ابن سريج إلا ظننت أن ابن سريج قد نشر، وأنه ليحضرني غيره إذا لم يكن حاضرا فيتقدمه عندي بطيب الصوت، حتى إذا اجتمعا عندي رأيت إسحاق يعلو، ورأيت غيره ينقص، وإن إسحاق(10/289)
لنعمة من نعم الملوك التي لم يحظ أحد بمثلها، ولو أن العمرو الشباب والنشاط مما يشترى لاشتريتهنّ بشطر ملكي.
قال ابن المنجم: سأل إسحاق الموصلي المأمون أن يكون دخوله إليه مع أهل الرواية والعلم لا مع المغنين، فإذا أراد الغناء غناه، فأجابه إلى ذلك، ثم سأله بعد ذلك أن يأذن له في الدخول مع الفقهاء، فأذن له، ثم سأله أن يأذن له في لبس السواد يوم الجمعة والصلاة معه في المقصورة، فقال ولا كل هذا يا إسحاق، وقد اشتريت منك هذه المسألة بمائة ألف درهم.
قال: وكان معه جماعة من المغنين يحضرون عند الواثق، وعيدانهم معهم، إلا إسحاق، فإنه كان يحضر بلا عود للشرب والمجالسة، فإذا أراد الخليفة أن يغني له، أحضر له عودا، فإذا غنى وفرغ شيل من بين يديه، إلى أن يطلبه، وكان الواثق يكنيه «1» ، وكان إذا غنى وفرغ الواثق من شرب قدحه، قطع الغناء، فلم يعد منه حرفا، إلا أن يكون في بعض بيت فيتمه، ثم يقطع ويضع العود من يده.
قال: كان إبراهيم يأكل المغنين أكلا، حتى إذا حضر إسحاق فيداريه إبراهيم ويطلب مناقبه، ولا يدع إسحاق تبكيته ومعارضته، وكان إسحاق [ص 172] آفته، كما لكل شيء آفة.
قال محمد بن راشد الجنان «2» : سألني إسحاق أن أصير إلى إبراهيم بن المهدي، وقال: قل له أسألك عن شيء، فإذا قال لك: سل، قل له أخبرني عن قولك: «3» [الطويل](10/290)
ذهبت من الدنيا وقد ذهبت مني
أي شيء كان معنى صنعتك فيه، وأنت تعلم أنه لا يجوز في غنائك الذي صنعته إلا أن تقول: (ذهبتو) بالواو، فإن قلت (ذهبت) ولم تمدها تقطع اللحن، وإن مددتها قبح الكلام، وصار مثل كلام النبط، فقال له: يا أبا محمد، كيف أخاطب إبراهيم بهذا؟ فقال: هي حاجتي إليك، وقد كلفتك إياها، قال:
فأتيت إبراهيم وجلست عنده وتحادثنا إلى أن جئنا إلى ذكر الغناء، فذكرت له ما قال إسحاق، فتغير لونه وانكسر، وقال: يا محمد، ليس هذا من كلامك، هذا من كلام الجرمقاني «1» ، قل له عني: أنتم تصنعون هذا للصناعة، ونحن نصنع هذا للهو واللعب والعبث.
قال يحيى بن محمد الظاهري، قال حدثني ينشو مولى أبي أحمد بن الرشيد قال: اشتراني مولاي أبو أحمد بن الرشيد واشترى معي رفيقي يحموما، ودفعنا إلى وكيل له أعجميّ خراساني، وقال له: انحدر بهذين الغلامين إلى بغداد إلى إسحاق الموصلي، وادفع إليه مئة ألف درهم وشهريا «2» بسرجه ولجامه وثلاثة ادراج «3» فضة مملوءة طيبا، وسبعة تخوت «4» وشي كوفي، وثلاثين ألف درهم للنفقة، وقال للرسول: عرّف إسحاق أن هذين الغلامين لرجل من وجوه العرب(10/291)
أهل خراسان، وجّه بهما إليه ليتفضل عليه بتعليمهما أصواتا اختارها وكتبها له في الدرج، وقال له: كلما علمهما صوتا فادفع إليه ألف درهم حتى يتعلما بها مئة صوت، فإذا علمهما الصوتين اللذين بعد المئة فادفع إليه الشهري، ثم إذا علمهما الثلاثة التي بعد الصوتين، فادفع إليه لكل صوت درجا من الأدراج، ثم لكل صوتين بعد ذلك تختا وسفطا، حتى ينفد ما بعثت به معك، ففعل وانحدر بنا إلى بغداد، واتينا إسحاق فغنّينا بحضرته، وأبلغه الوكيل الرسالة، فلم يزل يلقي [ص 173] علينا الأصوات حتى أخذناها كما أمر سيدنا، ثم صرنا إلى (سرّ من رأى) ، فدخلنا عليه وغنيناه جميع ما أخذناه فسرّ بذلك.
وقدم إسحاق من بغداد إلى سر من رأى، فلقيه مولانا فدعا بنا وأوصانا بما أراد، وغدا بنا إلى الواثق، وقال: إنكما ستريان إسحاق بين يديه، فلا توهماه أنكما رأيتماه قط، وألبسنا أقبية «1» خراسانية ومضينا معه إلى الواثق، فلما دخلنا عليه قال له سيدي: هذان غلامان اشتريا لي من خراسان يغنيان بالفارسية، فقال: غنيا، فضربنا ضربا فارسيا، وغنينا غناء فهليذيا، فطرب الواثق وقال: احسنتما، فهل تغنيان بالعربية؟ قلنا: نعم، واندفعنا فغنيناه ما أخذنا من إسحاق، وإسحاق ينظر إلينا، ونتغافل حتى غنيناه اصواتا من غنائه، فقام إسحاق وقال: وحياتك وبيعتك وإلا فكل مملوك لي حر، وكل مال لي صدقة، إن لم يكن هذان الغلامان من تعليمي، ومن قصتهم كيت وكيت، فقام أبو أحمد وقال للواثق ما أدري ما يقول هذا، إني اشتريتهما من رجل نخّاس خراساني، [فقال له] من أين يجيد تلك الأغاني؟ فضحك أبو أحمد وقال للواثق، صدق والله، أنا احتلت عليه، ولو رمت بأن أعلمهما ما أخذاه منه إذا علم أنهما لي بأضعاف ما أعطيته ما فعل، فقال له إسحاق قد تمت عليّ حيلته يا أمير المؤمنين.(10/292)
قال: كنت عند الرشيد فقال: يا إسحاق تغن: «1» [الوافر]
شربت مدامّة وسقيت أخرى ... وراح المنتشون وما انتشيت
فغنيته فأقبل عليّ إبراهيم بن المهدي وقال لي: ما أصبت يا إسحاق، «2» فقلت له: ليس هذا مما تحسنه أنت، ولا تعرفه، وإن شئت فغنّه، فإن لم أجدك تخطئ فيه منذ ابتدائك إلى انتهائك فدمي حلال، ثم أقبلت على الرشيد وقلت: يا أمير المؤمنين، هذه صناعتي وصناعة أبي التي قربتني منك واستخدمتنا لك، وأوطأتنا بساطك، وإذا نازعنا أحد فلا نجد بدا من الإيضاح والذب «3» ، فقال: لا غرو ولا لوم عليك، وقام الرشيد ليبول، فأقبل إبراهيم بن المهدي عليّ وقال: ويحك [ص 174] يا إسحاق، وتجترئ عليّ وتقول لي ما قلت يا ابن الزانية؟ فدخلني مالم أملك نفسي معه، وقلت له: أنت تشتمني ولا أقدر على إجابتك، وأنت ابن الخليفة ثم أخو الخليفة، ولولا ذلك لكنت أقول لك يا بن الزانية كما قلت لي، ولكن قولي في ذمك ينصرف إلى خالك الأعلم «4» ، ولولاك لذكرت صناعته ومذهبه، قال إسحاق: وكان بيطارا، قال: وسكت إبراهيم، وعلمت أنه يشكوني إلى الرشيد، وأن الرشيد سوف يسأل من حضر عما جرى فيخبرونه، ثم قلت له: أتظن أن الخلافة تصير إليك فلا تزال تهددني بذلك، وتعادي سائر أولياء أخيك حسدا له ولولده على الأمر، وإن تضعف عنه وعنهم فتستخف بأوليائهم تشفيا، وإني أرجو ألا يخرجها الله عن الرشيد وولده، وأن يقتلك دونها، فإن صارت إليك- وبالله العياذ- فحرام عليّ العيش حينئذ، والموت أطيب من الحياة معك، واصنع حينئذ ما بدا لك، فلما خرج(10/293)
الرشيد وثب إبراهيم فجلس بين يديه، وقال: يا أمير المؤمنين، شتمني وذكر أمي واستخفّ بي، فغضب الرشيد، وقال لي: ما تقول ويلك؟ فقلت: لا أعلم، سل من حضر، فأقبل على مسرور وحسين «1» ، فسألهما عن القصة، فجعلا يخبرانه، ووجهه يتربد «2» ، إلى أن انتهيا إلى ذكر الخلافة فسرى عنه ورجع، وقال لإبراهيم: ماله ذنب شتمته فعرفك أنه لا يقدر على جوابك، ارجع إلى مكانك وأمسك عن هذا، فلما انقضى المجلس وخرج الناس، أمر أن لا أبرح، وخرج كل من حضر حتى لم يبق غيري، فساء ظنّي وهمتني نفسي، فقال: ويحك، يا إسحاق، أتراني لا أعرف وقائعك، قد والله زنيته «3» دفعات ويحك لا تعد ويلك، حدثني عنك، لو ضربك إبراهيم، أكنت أقتص لك منه فأضربه وهو أخي، يا جاهل أتراه لو أمر غلمانه فقتلوك، أكنت أقتله بك، فقلت: قد والله قتلتني يا أمير المؤمنين بهذا الكلام، ولئن بلغه ليقتلني، وما أشكّ في أنّه قد بلغه الان، فصاح بمسرور وقال: علي بإبراهيم الساعة، وقال لي: قم فانصرف، فقلت لجماعة من الخدام وكلهم [كان] لي محبا وإلي مائلا: أخبروني بما يجري، فأخبروني من غد أنه لما دخل عليه وبخه وجهله، وقال له: تستخف بخادمي وبصنيعتي ونديمي وابن خادمي وصنيعتي [ص 175] وصنيعة أبي، وتقدم علي وتضع في مجلسي؟ هاه هاه! تقدم على هذا وأمثاله وأنت أنت مالك والغناء؟، وما يدريك ما هو؟ ومن أخذك به وطارحك إيّاه حتى تظن أنك تبلغ منه مبلغ إسحاق الذي غذّي به وهو صناعته، ثم تظن أنك تخطئه فيما لا تدريه، ويدعوك إلى إقامة الحجة عليك، فلا تثبت لذلك وتعتصم منه بشتمه، أليس(10/294)
هذا مما يدل على السقوط وضعف العقل وسوء الأدب من دخولك فيما لا يشبهك، ثم إظهارك إيّاه ولم تحكمه وادعائك ما لا تعلمه حتى ينسبك الناس إلى إفراط الجهل، وألا تعلم- ويحك- أن هذا سوء الأدب وقلة معرفة ومبالاة بالخطإ والتكذيب والرد القبيح؟ ثم قال له: والله العظيم وحق رسوله الكريم: وإلا فأنا نفيّ لأبي إن أصابه سوء أو سقط من دابته، أو سقط عليه سقفه، أو مات فجأة لأقتلنك، فو الله والله والله، وأنت أعلم، فلا تعرض له، قم الآن فاخرج، فخرج وقد كاد يموت، فلما كان بعد ذلك دخلت عليه وإبراهيم عنده، فأعرضت عنه، وجعل ينظر إليه مرة وإليّ أخرى ويضحك، ثم قال له: إني لأعلم محبتك لإسحاق وميلك إليه وإليّ الأخذ عنه، وأن هذا لا يجيئك من قبله إلا أن يرضى، والرضا لا يكون بمكروه، ولكن أحسن إليه وأكرمه واعرف قدره وحقه وصله، فإذا فعلت ذلك ثم خالف ما تهواه عاقبته بيد منبسطة ولسان منطلق، ثم قال لي: قم إلى مولاك وابن مولاك فقبّل رأسه، فقمت إليه وأصلح الرشيد بيننا.
قال إسحاق: لما أراد الفضل بن يحيى الخروج إلى خراسان، ودعته ثم أنشدت:
«1» [المتقارب]
فراقك مثل فراق الحياة ... وفقدك مثل افتقاد النّعم
عليك السّلام فكم من وفاء ... أفارق منك وكم من كرم
قال: فضمني إليه، وأمر لي بألف دينار، وقال لي: يا أبا محمد، لو حليت هذين البيتين بصنعة، وأودعتهما بعض من يصلح من الخارجين معنا، لأهديت لي بذلك أنسا وأذكرتني نفسك، ففعلت ذلك وطرحته على بعض المغنين وكان(10/295)
كتابه لا يزال يرد [ص 176] عليّ ومعه ألف دينار وألفا دينار يصلني بذلك كلّما غني بهذا الصوت.
قال أحمد بن يحيى المكي: دعاني الفضل بن الربيع، ودعا علوية ومخارقا، وذلك في أيام المأمون بعد رجوعه له ورضاه عنه، فلما اجتمعنا عنده كتب إلى إسحاق الموصلي يسأله أن يصير إليه ويعلمه الحال في اجتماعنا عنده: فكتب إليه: لا تنتظروني في الأكل، فإني قد أكلت، وأنا أصير إليكم بعد ساعة، فأكلنا وجلسنا نشرب، حتى قربت صلاة العصر، ثم وافى إسحاق وجاء غلامه بقطرميز «1» نبيذ فوضعه ناحية، وأمر صاحب الشراب بإسقائه منه، وكان علوية يغني الفضل صوتا اقترحه عليه وأعجبه، وهو: «2» [الطويل]
فإن تعجبي أو تبصري الدّهر ضمّني ... بأحداثه ضمّ المقصّص بالجلم «3»
فقد أترك الأضياف تندى رحالهم ... وأكرمهم بالنّحض والنّاصل الشّبم «4»
فقال: أخطأت يا أبا الحسن في قسمة هذا الصوت، وأنا أصلحه لك، فجن علوية واغتاظ وقامت قيامته، فأقبل عليه إسحاق وقال: يا حبيبي، ما أردت الوضع منك بما قلت لك، وإنما أردت تهذيبك وتقويمك لأنك منسوب في الصواب والخطأ إلى أبي وإليّ، فإن كرهت ذلك تركتك وقلت لك أحسنت وأجملت، فقال له علوية، والله ما هذا أردت [ولا أردت] إلا ما لا تتركه أبدا من سوء عشرتك، أخبرني عنك حين تجيء هذا الوقت لما دعاك الأمير وعرفك أنه نشط للاصطباح، ما حملك على الترفع من مباركته وخدمته؟ أمن شغل؟ فما(10/296)
يشغلك عنه شيء إلا الخليفة، ثم تجيئه معك قطرميز نبيذ ترفعا عن شرابه، كما ترفعت عن طعامه ومجالسته؟ وترى أنك تجيئه كما تشتهي حتى تبسطكما الأكفاء، ثم تعمد إلى صوت وقد اشتهاه واقترحه وسمعه جميع من حضر، فما عابه أحد فعبته، ليتم تنغيصك إياه لذته، والله لو أن الفضل بن يحيى وأخاه جعفرا، لا والله، بل بعض أتباعهم دعاك إلى مثل ما دعاك إليه الأمير، لبادرت وباكرت وما تأخرت ولا اعتذرت، قال: وأمسك الفضل [عن الجواب] إعجابا بما خاطب [به] علويه إسحاق، قال له [ص 177] إسحاق: أما ما ذكرته من تأخري إلى الوقت الذي حضرت فيه، فهو يعلم أني لا أتأخر عنه إلا بعائق قاطع، إن وثق بذلك مني وإلا ذكرت الحجة سرا من حيث لا يكون لك فيه مدخل، واما ترفعي عنه، فكيف اترفّع عنه وأنا أنتسب إلى صنائعه واستمنحه، وأعيش في فضله منذ كنت، وهذا تضريب «1» منك لا أبالي به، وأمّا حملي النبيذ معي، فإن لي في النبيذ شربا من طعمه إن لم أجده لم أقدر على ذلك الشرب منه، وينغص علي يومي أجمع، وإنما حملته ليتم نشاطي وينتفع بي، وأما طعني على ما أختاره، فإني لم أطعن على اختياره، وإنما أردت تقويمك، ولست والله تراني متتبعا لك بعد اليوم، ولا مقوما شيئا من خطاياك، وأنا أغني له- أعزه الله «2» - هذا الصوت، فيعلم وتعلم ويعلم من حضر أنك قد أخطأته «3» وقصرت فيه، وأما البرامكة وملازمتي لهم فأشهر من أن أجحده، وذلك والله أقل ما يستحقونه مني، ثم أقبل على الفضل- وقد غاظه في مدحه لهم- فقال: اسمع مني شيئا أخبرك به فيما فعلوه بي، ليس هو كثيرا في صنائعهم عندي ولا عند أبي، فإن وجدت لي في ذلك عذرا وإلا فلم: كنت مع ابتداء أمري نازلا مع أبي في داره،(10/297)
فكان لا يزال يجري بين غلماني وغلمانه، وجواري وجواريه الخصومة، كما تجري بين هذه الطبقات، فيشكونهم إليه، فأتبين الضجر في وجهه، فاستأجرت دارا واسعة، فلم أرض ما معي من الآلات لها لمن يدخل إليّ من إخواني، أن يرى مثله عندي، وفكرت في ذلك وكيف أصنع فيه، وزاد فكري حتى خطر بقلبي فتح الأحدوثة من نزول مثلي في داره بأجرة، وإني لا آمن في وقت أن يستأذن «1» عليّ، وعندي بعض الرؤساء والأصدقاء الذين احتشمهم ولا يعلمون حالي، فيقال: صاحب دارك، أو يوجه في وقت فيطلب أجرة الدار وعندي من أستحشمه، فضاق بذلك صدري ضيقا عظيما: حتى جاوز الحد، فأمرت غلامي بأن يسرج لي حمارا كان عندي لأمضي إلى الصحراء أتفرج فيها، مما دخل إلى قلبي، فأسرجه وركبت برداء ونعل، فأفضى بي المسير وأنا مفكر لا أميز الطرق التي أسلك فيها، وهجم بي على باب [ص 178] يحيى ابن خالد، فوثب غلمانه إليّ وقالوا: أين هذا الطريق؟ فقلت: إلى الوزير، فدخلوا فاستأذنوا وخرج إليّ الحاجب فأمرني بالدخول، وبقيت خجلا، قد وقعت في أمرين قبيحين، إذ دخلت عليه برداء ونعل، وأعلمته أني قد قصدته في تلك الحال كان سوء أدب، وإن قلت له أين كنت مجتازا ولم أقصدك فجعلتك طريقا، كان قبيحا، ثم عزمت على صدقه، فلما رآني تبسم وقال: ما هذا الزي يا أبا محمد، احتسبنا لك بالبر والقصد والتفقد، ثم علمنا أنك جعلتنا طريقا، فقلت: لا والله أيّها الوزير، ولكني أصدقك، قال: هات، فأخبرته بالقصة من أوّلها إلى آخرها، فقال: هذا حق مستو، أفهذا شغل قلبك، قلت: أي والله، وزاد فقال: لا تشغل قلبك بهذا، يا غلام: ردوا حماره، وهاتوا خلعة، فجاؤوني بخلعة من ثيابه تامة فلبستها، وجيء بالطعام(10/298)
فأكلنا، ووضع النبيذ فشربت وشرب وغنيته، ثم دعا بدواة ورقعة، فكتب أربع رقعات، فظننت توقيعا بجائزة فإذا هو قد دعا بعض وكلائه فساره بشيء، فزاد طمعي بالجائزة، ومضى الرجل وجلسنا نشرب وأنا أنتظر، فلا أرى شيئا إلى العتمة، ثم اتكأ يحيى فنام، وقمت من عنده وأنا منكسر خائب فخرجت وقدم لي حماري، فلما تجاوزت الدار قال لي غلامي [إلى اين تمضي] قلت: إلى البيت، قال: قد بيعت وأشهد على صاحبها، وابتيع الدرب كله ووزن ثمنه، والمشتري جالس على بابك ينتظر ليعرفك وأظنه ابتاع ذلك للسلطان، لأني رأيت الأمر في عجلة واستحثاث أمر سلطانيا، فوقعت من ذلك فيما لم يكن في حسأبي، وأنا لا أدري ما أعمل، فلما نزلت على باب داري، [إذا أنا] بالوكيل الذي ساره يحيى قد قام إليّ وقال: ادخل- أيّدك الله- دارك، حتى أدخل إليك في أمر أحتاج إلى مخاطبتك فيه، فطابت نفسي بذلك، ودخلت الدار ودخل إلي فأقرأني توقيع يحيى: (يطلق لأبي محمد إسحاق مئة ألف درهم يبتاع له بها داره، وجميع ما يجاورها ويلاصقها) والتوقيع الثاني إلى ابنه الفضل: (قد أمرت لأبي محمد إسحاق [بمائة ألف درهم] يبتاع له بها داره فأطلق له مثلها على إصلاح الدار كما يريد وبنائها على ما يشتهي) ، والتوقيع الثالث إلى ابنه جعفر [ص 179] (قد أمرت لأبي محمد إسحاق بمائة ألف درهم يبتاع له منها منزل يسكنه، وأمر له أخوك بمائة ألف درهم ينفقها على بنائها ومرّمتها على ما يريد فأطلق أنت له مئة ألف درهم يبتاع بها فرشا لمنزله) ، والتوقيع الرابع إلى محمد ابنه: (قد امرت وأخواك بثلاث مئة ألف درهم لمنزل يبتاعه وفرش يبتذله فيه، ونفقة ينفقها عليه فأمر له بمائة ألف درهم ينفقها في سائر نفقته) ، وقال لي الوكيل: قد حملت المال كله واشتريت كل شيء حولك بسبعين ألف درهم) وهذه كتب الابتياعات باسمي والإقرار لك، وهذا المال الباقي في يدي ها هو(10/299)
بورك لك فيه، فقبضته، وأصبحت احسن الناس حالا ومرأى في منزلي وفرشي وآلتي، والله ما هذا من أكثر شيء فعلوه بي، أفألام على ذلك في شكرهم؟
فبكى الفضل بن الربيع وكلّ من حضر، وقالوا: لا والله، لا يلام على شكرهم، ثم قال له الفضل: بحياتي عليك، غن الصوت ولا تبخل على أبي الحسن أن تقومه له، قال: أفعل، وغناه، فتبين علوية أنه كما قال، فقام فقبل رأسه، وقال:
أنت أستاذنا وابن أستاذنا وأولى بتقويمنا واحتمالنا من كل أحد، وردّه «1» إسحاق مرات حتى استوى لعلوية.
قال إسحاق: قلت في ليلة من الليالي: «2» [الخفيف]
هل إلى نظرة إليك سبيل ... يرو منها الصّدى ويشفى الغليل
إن ما قلّ منك يكثر عندي ... وكثير ممّن تحبّ القليل
فلما أصبحت أنشدتها الأصمعي، فقال: هذا الديباج الخسرواني «3» ، هذا الوشي الإسكندراني، لمن هذا؟ فقلت: ابن ليلته، فتبيّنت الحسد في وجهه، وقال: أفسدته! أفسدته! أما إنّ التوليد فيه لبين.
قال الأصمعي: دخلت أنا وإسحاق الموصلي يوما على الرشيد فرأيته لقس «4» النّفس، فأنشده إسحاق: «5» [الطويل]
وآمرة بالبخل قيل لها اقصري ... فذلك شيء ما إليه سبيل(10/300)
أرى الناس خلان الكرام ولا أرى ... بخيلا له حتّى الممات خليل
[ص 180] وإنّي رأيت البخل يزري بأهله ... فأكرمت نفسي أن يقال بخيل
ومن خير حالات الفتى قد علمته ... إذا نال خيرا أن يكون ينيل
وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى ... ورأي أمير المؤمنين جميل
فقال الرشيد: لا تخف «1» إن شاء الله، ثم قال: لله در أبيات تأتينا بها، ما أشد أصولها، وأحسن فصولها، وأقل فضولها، وأمر له بخمسين ألف درهم. فقال له إسحاق: وصفك والله يا أمير المؤمنين لشعري أحسن منه، فعلام آخذ الجائزة؟
فضحك الرشيد وقال: اجعلوها لهذا القول [مئة ألف درهم] ، قال الأصمعي:
فقلت يومئذ إن إسحاق أحذق بصيد الدراهم.
قال إسحاق: جاءني الزبير بن دحمان مسلّما فاحتبسته، فقال لي: قد أمرني الفضل بن الربيع بالمصير إليه، فقلت له: أقم يا أبا العوام ويحك نشرب ونله مع اللاهين ونلعب: «2» [الطويل]
إذا ما رأيت اليوم قد بان خيره ... فخذه بشكر واترك الفضل يصخب
فأقام عندي وشربنا يوما، ثم صار إلى الفضل بن الربيع، فسأله عن سبب تأخره، فحدثه الحديث وأنشده الشعر، فغضب وحول وجهه عني، وأمر عونا حاجبه ألا يدخلني إليه ولا يستأذن لي عليه، ولا يوصل لي رقعة إليه، فقلت:
«3» [الطويل](10/301)
حرام عليّ الكأس ما دمت غضبانا ... وما لم يعد عنّي رضاك كما كانا
فأحسن فإني قد أسأت ولم تزل ... تعوّدني عند الإساءة إحسانا
قال: فأنشدته إياها فضحك ورضي عني، وعاد إلى ما كان عليه.
قال ابن المكي: كان المغنون يجتمعون مع إسحاق، وكلهم أحسن صوتا منه، ولم يكن فيه عيب إلا صوته، فيطمعون فيه، فلم يزل بلطفه وحذقه ومعرفته حتى يغلبهم ويبذهم جميعا، ويفضلهم ويتقدم عليهم.
قالوا: هو أول من أحدث المجنب «1» ليوافق صوته ويشاكله، فجاء معه عجبا من العجب، وكان في حلقه نبوّ عن الوتر.
قال إسحاق «2» : كنت يوما عند إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فلما جلسوا للشرب، جعل الغلمان يسقون من حضر، وجاء غلام قبيح الوجه، إليّ [ص 181] بقدح فيه نبيذ، فلم آخذه، ورآني إسحاق فقال: لم لا تشرب؟ فقلت له: «3» [البسيط]
اصبح نديمك أقداحا تسلسلها ... من الشّمول وأتبعها بأقداح «4»
من كفّ ريم مليح الدّلّ ريقته ... بعد الهجوع كمسك أو كتفّاح(10/302)
لا أشرب الرّاح إلا من يدي رشأ ... تقبيل راحته أشهى من الراح «1»
فضحك وقال: صدقت والله، ودعا بوصيفة تامة الحسن في زي غلام عليها أقبية «2» ومنطقة، وقال لها: تولي سقي أبي محمد، فما زالت تسقيني حتى سكرت، ثم أمر بتوجيهها وكل ما لها في دارها الي، فحملت معي.
قال ابن المكي: تذاكرنا يوما عند [أبي] صنعة إسحاق، وقد كنا بالأمس عند المأمون فغناه إسحاق لحنا صنعه في [شعر] ابن ياسين: «3» [مجزوء الخفيف]
الطّلول الدّوارس ... فارقتها الأوانس
أوحشت بعد أهلها ... فهي فقر بسابس
قال: فقال لي أبي: لو لم يكن من بدائع إسحاق غير هذا لكفاه (الطلول الدوارس) كلمتان قد غنى فيهما استهلالا وبسطا، وصاح وسجع ورجع النغمة، واستوفى في ذلك كله في كلمتين، وأتى بالباقي مثله، فمن شاء فليفعل مثل هذا أو فليقاربه، ثم قال إسحاق: والله والله ما في زماننا فوق ابن سريج والغريض ومعبد، ولو عاشوا حتى يروه لعرفوا فضله، واعترفوا له به.
قال صالح بن الرشيد: كنا يوما عند المأمون، ومعه جماعة من المغنين، فيهم إسحاق وعلويه ومخارق وعمرو بن بانة، فغنى مخارق صوتا من صنعة إسحاق، وهو: «4» [الطويل](10/303)
أعاذل لا آلوك إلا خليقتي ... فلا تجعلي فوقي لسانك مبردا
ذريني أكن للمال ربّا ولا يكن ... لي المال رباّ تحمدي غبّه غدا
ذريني يكن مالي لعرضي وقاية ... يقي المال عرضي قبل أن يتبدّدا
ألم تعلمي أني إذا الضيف نابني ... وعّز القرى اقري السديف المسرهدا «1»
[ص 182] فقال له المأمون: لمن هذا اللحن؟ قال: لهذا الهزبر الجالس (يعني إسحاق) ، فقال المأمون لمخارق: قم واقعد بين يدي وأعد عليّ الصوت، فقام فجلس بين يديه، فغناه فأجاد، وشرب المأمون عليه رطلا، ثم التفت إلى إسحاق فقال غن هذا الصوت، فغناه فلم يستحسنه كما سمعه من مخارق، ثم دار الدور إلى علوية، فغنى صوتا من صنعة إسحاق أيضا، وهو: «2» [الوافر]
أريت اليوم نارك لم أغمّض ... بواقصة ومشربنا برود «3»
فلم أر مثل موقدها ولكن ... لأيّة نظرة زهر الوقود
فبتّ بليلة لا نوم فيها ... أكابدها وأصحابي رقود
كأنّ نجومها ربطت بصخر ... وأمراس تدور وتستزيد
فقال المأمون: لمن هذا الصوت؟ فقال: لهذا الجالس، وأشار إلى إسحاق، فقال لعلوية: اعده، فأعاده وشرب عليه رطلا، وقال لإسحاق: غنه، فغناه، فلم يطرب عليه طربه لعلوية، فالتفت إسحاق وقال: أيها الأمير لولا أنه مجلس سرور وليس مجلس حجاج وجدل لأعلمته أنه طرب على خطأ، وأن الذي استحسنه، إنما هو(10/304)
تزايد منهما يفسد قسمة اللحن وتجزئته، وكان الصواب ما غنيته لا ما زاداه، ثم أقبل عليهما وقال يا مخنثان، قد علمت أنّكما لم تريدا بما فعلتما مدحي ولا رفعي، وأنا على مكافأتكما قادر، فضحك المأمون وقال له: ما كان ما رأيته من طربي إلا استحسانا لأصواتهما، لا تقديما لهما، ولا جهلا بفضلك.
قال إسحاق: كانت أعرابية تقدم من البادية، فأفضل عليها وكانت فصيحة، فقالت لي: والذي يعلم مغزى كل ناطق، لكأنك في عملك ولدت فينا ونشأت معنا، ولقد أريتني نجدا بفصاحتك وأحللتني الربيع بسماحتك، فلا اطّرد لي قول إلا شكرتك، ولا نسمت لي ريح إلا ذكرتك.
قال الهشامي «1» : كان أهلنا يعتبرون «2» إسحاق فيما يقوله في نسبة الغناء واختياره، بأن يجلسوا كاتبين فهمين خلف الستارة [ص 183] يكتبان ما يقوله ويضبطانه، ثم يتركونه مدة حتى ينسى ما جرى، ثم يعيدون تلك المسألة عليه، فلا يزيد فيها ولا ينقص منها حرفا كأنه يقرأه من دفتر، فعلموا حينئذ أنه لا يقول في شيء يسأل عنه إلا الحق.
قال عبد الله بن العباس الربيعي: اجتمعنا بين يدي المعتصم، فغنى علوية:
«3» [الطويل]
لعبدة دار ما تكلّمنا الدّار
فقال له إسحاق: شتمنا قبّحه الله، وسكت وبان ذلك فيه، وكان علوية أخذه(10/305)
من إبراهيم.
قال يحيى بن معاذ: كان إسحاق الموصلي وإبراهيم بن المهدي إذا خلوا فهما أخوان، وإذا التقيا عند خليفة تكاشفا أقبح تكاشف، فاجتمعا يوما عند المعتصم فقال لإسحاق يا إسحاق، إن إبراهيم يثلبك ويغض منك، فقال إسحاق:
يا أمير المؤمنين، أفعل الساعة فعلا إن زعم أنه يحسنه فلست أحسن شيئا، وإلا فلا ينبغي أن يدعي مالا يحسنه، ثم أخذ عودا فشوش أو تاره، فقال لإبراهيم:
غن على هذا او يغني غيرك، واضرب عليه، فقال المعتصم: يا إبراهيم، قد سمعت قول إسحاق فما عندك؟ قال: ليفعله هو إن كان صادقا، فقال إسحاق:
غن حتى أضرب، فأبى، فقال لزرزر الكبير، غن أنت، فغنى، وإسحاق يضرب عليه، حتى فرغ من الصوت، ما علم أن العود مشوش، ثم قال: هاتوا عودا آخر (فشوشه) وجعل كل وتر منه في الشدة واللين مقدار العود المشوش الأول، حتى استويا، فقال لزرزر، خذ أحدهما، فأخذه، ثم قال: انظر إلى يدي وأفعل كما افعل واضرب، ففعل، وجعل إسحاق يغني ويضرب، وزرزر ينظر إليه ويضرب، ويعمل كما يعمل، فما ظن أحد أن في العودين شيئا من الفساد، ثم قال لإبراهيم: خذ الآن [احد] العودين فاضرب منه مبدأ أو طريقة أو كيف شئت، إن كنت تحسن شيئا فلم يفعل، وانكسر انكسارا شديدا، فقال له المعتصم:
أرأيت مثل هذا قط؟ قال: لا والله، ما رأيت، ولا ظننت أن مثله يتم ولا يكون.
قال: كان الواثق إذا صنع صوتا قال لإسحاق: هذا [ص 184] وقع إلينا البارحة فاسمعه، فكان ربما أصلح فيه الشيء بعد الشيء، فكاده مخارق عنده، وقال له:
إنما يستجيد صنعتك إذا حضر ليقاربك ويستخرج منك فإذا فارقك قال في صنعتك غير ما تسمع، قال الواثق: فأنا أحب أن أقف على ذلك، فقال مخارق:(10/306)
أنا أغنيه صوتك «1» : [الطويل]
أيا منشر الموتى
فإنه [لم] يعلم أنه لك، ولم يسمعه من أحد، قال: فافعل، فلما دخل إسحاق، غناه مخارق وتعمد لأن يفسده بجهده، وفعل ذلك في مواضع خفية لم يعرفها الواثق من قسمته، فلما غناه، قال الواثق لإسحاق: كيف ترى هذا الصوت؟ قال: فاسد غير مرضي، فأمر به فسحب من المجلس حتى أخرج عنه، وأمر بنفيه من بغداد، ثم جرى ذكره يوما فقالت فريدة: يا أمير المؤمنين، إنما كاده مخارق فأفسد الصوت في حيث أو همك أنه زاد فيه بحذقه نغما وجودة، وإسحاق يأخذ نفسه بقول الحق في كل شيء ساءه أو سره، ويفهم من غامض علم الصناعة ما لا يفهمه غيره، فليحضره أمير المؤمنين ويحلفه بغليظ الأيمان على حقيقة الصوت، فإن كان فاسدا فصدق عنه إن لم يكن عيبا ووافقناه عليه حتى يستوي، فليس يجوز أن يتركه فاسدا، وإن كان صحيحا، قال فيه ما عنده، فأمر بالكتاب بحمله فحمل وأحضر، وأظهر الرضا عنه، ولزمه أياما، ثم أحلفه أنه يصدقه عما يمر في مجلسه، فحلف له، ثم غني الواثق أصواتا يسأله عنها أجمع فيخبر فيها بما عنده، ثم غنته فريدة هذا الصوت، وسأله الواثق عنه، فرضيه واستجاده وقال: ليس على هذا سمعته المرة الاولى، وأبان عن المواضع الفاسدة، وأخبر بإفساد مخارق إياها، فسكن غضبه الذي كان، وتنكر لمخارق مدة.
قال إسحاق: ما كان يحضر الواثق أعلم منه بالغناء، قال إسحاق: كتبت إلى هشام أطلب نبيذا، فبعث إليّ بما التسمت، وكتب: قد وجهت إليك بشراب(10/307)
أصلب من الصخر، وأعتق من الدهر، وأصفى من القطر. [ص 185]
قال: لما غنى إسحاق [محمدا الأمين] لحنه في شعر هو «1» : [المنسرح]
يا أيّها القائم الأمين فدت ... نفسك نفسي بالمال والولد
بسطت للّناس إذ وليتهم ... يدا من الجود فوق كلّ يد
أمر له بألف ألف درهم، فحملت إليه على مئة فرّاش حتى أدخلت إليه.
قال عمرو بن بانة «2» : رأيت المهدي يناظر إسحاق في الغناء، فتكلما بما فهماه، ولم أفهم منه شيئا، فقلت لهما: لئن كان ما أنتما فيه من الغناء، فما نحن في قليل منه ولا كثير.
قال: خالف إبراهيم إسحاق في شيء من التجزئة، فقال له:: إلى من أحاكمك، فالناس بيننا حمير!
قال ابن المنجم، قال لي محمد بن الحسين بن مصعب، وكان بصيرا بالغناء والنغم: لحن إسحاق في (تشكى الكميت الجري) «3» أحسن من لحن ابن سريج فيه، ولحنه (تبدي لنا) أحسن من لحن معبد فيه، وذلك من اجود صنعة ابن سريج، وهذا من أجود صنعة معبد، قال: فأخبرت إسحاق بقوله، فقال: قد(10/308)
أخذت بزمامي راحلتهما فزعزعتهما ثم أنختهما فما بلغتهما، فأخبرت بذلك محمد بن الحسن، فقال: هو والله يعلم أنه قد برز عليهما، ولكنه لا يدع تعصبه للقدماء.
قال أبو الفرج: وكان إسحاق قد اعتلت عيناه «1» ، وضعف بصره، وكف في آخر عمره، قال: وكان السبب في علة عينيه أن إبراهيم ابن أخي سلمة الوصيف، نازع إسحاق بين يدي الرشيد في شيء من الغناء، فرد عليه، فشتمه إبراهيم، فرد عليه إسحاق وأربي «2» عليه في الرد، فقال [إبراهيم] : أترد علي وأنا مولى أمير المؤمنين فقال إسحاق: اسكت، فإنك من موالي العبدين «3» ، فقال له الرشيد: يا إسحاق، وأي شيء موالي العبدين؟ فقال: يا أمير المؤمنين، يشتري للخلفاء كل صانع في العبيد للعتق، فيكون فيهم الحائك والحجّام والسائس، فهو أحد هؤلاء الذين ذكرتهم، قال: وخرج إبراهيم فوقف له في طريقه، فلما جاز عليه منصرفا ضرب «4» رأسه بمقرعة فيها معول، فكان ذلك سبب ضعف نظره، فبلغ الرشيد الخبر فأمر [بأن] يحجب [ص 186] عنه إبراهيم، وحلف ألا يدخل عليه، فدس إلى الرشيد من غناه: «5» [الخفيف]
من لعبد أذلّه مولاه ... ماله شافع إليه سواه
يشتكي ما به إليه ويخشا ... هـ ويرجوه مثل ما يخشاه(10/309)
فسأل الرشيد عن صانع لحنها فعرفه، فحلف أن لا يرضى عنه حتى يرضى إسحاق، فقام [إسحاق] وقال: قد رضيت عنه يا سيدي رضى صحيحا، وقبل الأرض لما كان من قوله، فرضي عنه وأحضره وأمره أن يترضى إسحاق ففعل.
قال ابن المكّي: كان إسحاق إذا غنى هذا الصوت، يأخذ بلحيته ويبكي: «1» [الطويل]
إذا المرء قاسى الدّهر وأبيضّ رأسه ... وثلّم تثليم الإناء جوانبه
فللموت خير من حياة خسيسة ... تباعده طورا وطورا تقاربه
قال أبو الفرج: كان إسحاق يأخذ عن الأصمعي، ويكثر الرواية عنه، ثم فسد ما بينهما، فهجاه إسحاق وثلبه، وكشف للرشيد معايبه، وأخبره بقلة شكره وبخله وضعف نفسه، وأن الصنيعة لا تزكو عنده، وأن أبا عبيدة أوثق منه وأصدق وأسمح بالعلم منه، فأنفذ إليه من أقدمه، وأبعد الأصمعي، فقال الأصمعي لإسحاق: «2» [البسيط]
أإن تغنيت للشّرب الكرام: ألا ... رد الخليط جمال الحي فانفرقوا
وقيل أحسنت فاستدعاك ذاك إلى ... ما قلت ويحك لا يذهب بك الخرق
وقيل أنت حسان الناس كلهم ... وابن الحسان فقد قالوا وقد صدقوا
فما بهذا تقوم النادبات ولا ... يثنى عليك إذا ما ضمّك الخرق
قال إسحاق: جاء عطاء الملط «3» بجماعة من أهل البصرة إلى قريب أبي(10/310)
الأصمعي، وكان نذلا من الرجال، فوجده ملقى على وجهه في كساء نائما في الشمس، فركله برجله، وصاح به: يا قريب، قم ويلك، فقال: هل لقيت أحدا من أهل العلم، أو من أهل اللغة، أو من العرب، أو من المحدثين؟ قال: لا والله، فقال لمن حضر: هذا أبو الأصمعي، فاشهدوا لي عليه وعلى ما سمعتم منه، لا [ص 187] يقول لكم الأصمعي غدا أو بعده: حدثني أبي، أو أنشدني أبي، ففضحه.
قال الصولي: كان لإسحاق غلام يقال له فتح يسقي الماء لأهل داره على بغلين من بغاله دائما، فقال له إسحاق يوما: أي شيء خبرك يا فتح، قال خبري أنه ليس في هذه الدار أشقى مني ومنك، قال: وكيف ذاك؟ قال: أنت تطعم أهل الدار الخبز، وأنا أسقيهم الماء، فاستظرف قوله وضحك منه، فقال: وأيّ شيء [تحب قال] تعتقني وتهب لي البغلين أسقي عليهما، قال: قد فعلت.
قال: وكان إسحاق يقول الإسناد فيه الحديث فتحدث مرة بحديث لا إسناد له، فسئل عن إسناده فقال: هذا من المرسلات عرفا.
قال إسحاق، قال لي الرشيد يوما، أيّ شيء يتحدث الناس؟ قال: يتحدثون بأنك تقبض على البرامكة، وتولي الفضل بن الربيع الوزارة، فغضب وصاح، وقال: ما أنت وذاك ويلك، فأمسكت، فلما كان بعد أيام دعا بنا «1» فرأيته عيانا، وكان أول شيء غنيته أبياتا لأبي العتاهية: «2» [مجزوء الوافر]
إذا نحن صدقناك ... فضّر عندك الصدق(10/311)
طلبنا النفع بالباط ... ل إذ لم ينفع الحقّ
فلو قدّم صبّا في ... هواه الصبر والرفق
لقدّمت على الناس ... ولكن الهوى رزق
فضحك الرشيد وقال: ويلك يا إسحاق قد صرت حقودا.
قال إسحاق: ذكر المعتصم يوما بعض أصحابه وقد غاب عنه، فقال: تعالوا حتى نقول ما يصنع في هذا الوقت، فقال قوم: يلعب بالنرد، وقال قوم: يغني، فبلغتني النوبة، فقال: قل يا إسحاق، فقلت إذا أقول وأصيب، قال: أتعلم الغيب؟ قلت: لا، ولكني أفهم ما يصنع وأقتدر على معرفته، قال: فإن لم تصب؟ قلت: فإن أصبت؟
قال: لك حكمك، قال: فإن لم تصب؟ قلت: لك دمي، فقال: وجب، فقلت:
وجب، قال: فقل، قلت: [ص 188] يتنفس، قال: فإن كان ميتا؟ فقلت:
تحفظ الساعة التي تكلمت فيها، فإن كان مات فيها أو قبلها، فقد قمرتني «1» ، فقال قد أنصفت، قلت: فالحكم؟ قال: احتكم ما شئت؟ فقلت: ما حكمي إلا رضاك يا أمير المؤمنين، قال: فإن رضاي لك، وقد أمرت لك بمائة ألف درهم، أتري مزيدا؟ فقلت: ما أولاك بذلك يا أمير المؤمنين، قال: فانها مئتا ألف، أترى مزيدا؟ فقلت: ما أحوجني إلى ذلك يا أمير المؤمنين، قال: فإنها ثلاث مئة ألف، قلت: ما أولاك بذلك يا أمير المؤمنين، قال: يا صفيق الوجه ما نزيدك على هذا.
قال إسحاق: لم أر قط مثل جعفر بن يحيى، كانت له فتوة وظرف وأدب وحسن غناء وضرب بالطبل، وكان يأخذ بأجزل حظ من كل فن الأدب والفتوة،(10/312)
فحضرت باب الرشيد يوما، فقيل لي: إنه نائم، فانصرفت فلقيني جعفر بن يحيى، فقال لي: ما الخبر؟ فقلت: أمير المؤمنين نائم، فقال لي: قف مكانك، ومضى إلى دار أمير المؤمنين وخرج إليه الحاجب فأعلمه بأنه نائم، ورجع فقال:
صربنا إلى المنزل حتى نخلو جميعا بقية يومنا، وأغنيك وتغنيني، ونأخذ في شأننا من وقتنا هذا، فقلت: نعم، فصرنا إلى منزله، فنزعنا ثيابنا ودعا بطعام فأكلنا، وأمر بإخراج الجواري وقال: لتبرزن، فليس عندنا من تحتشمنه، فلما وضع الشراب، دعا بقميص حرير فلبسه ودعا بخلوق «1» فتخلّق به، ثم دعا لي بمثل ذلك، وجعل يغنيني وأغنيه، حتى دعا بالحاجب وتقدم إليه، وأمره بأن لا يأذن لأحد من الناس كلهم، وإن جاء رسول أمير المؤمنين أعلمه بأنه مشغول واحتاط في ذلك، وتقدم فيه إلى جميع الحجاب والخدم، ثم قال: إن جاء عبد الملك فأذنوا له، يعني رجلا كان يأنس به ويمازحه ويحضر خلواته، ثم أخذنا في شأننا، فو الله إنا لعلي حالة سارة عجيبة، إذ رفع الستر، فإذا عبد الملك بن صالح الهاشمي قد أقبل، وغلط الحاجب فلم يفرق بينه وبين الذي عناه جعفر [ص 189] بن يحيى، وكان عبد الملك بن صالح من جلالة قدره والتقشف والامتناع من منادمة أمير المؤمنين على أمر جليل، وكان الرشيد قد اجتهد به أن يشرب معه أقداحا، فلم يفعل ذلك رفعا لنفسه، فلما رأيناه مقبلا، أقبل كل واحد منا ينظر إلى صاحبه، وكاد جعفر أن ينشق غيظا، وفهم حالنا، فأقبل نحونا، حتى إذا صرنا بالقرب منه، وصار إلى الرواق الذي نحن فيه، نزع قلنسيته فرمى بها مع [طيلسانه] «2» جانبا، ثم قال: اطعمونا شيئا، فدعا له جعفر بالطعام، وهو منتفخ غيظا وغضبا، فطعم، ثم دعا برطل فشربه، ثم أقبل إلى(10/313)
المجلس الذي نحن فيه فأخذ بعضادتي «1» الباب، ثم قال: أشركونا فيما أنتم فيه، فقال له جعفر: ادخل، ثم دعا بقميص حرير وخلوق، فلبس وتخلق، ثم دعا برطل «2» ورطل حتى شرب عدة أرطال، ثم اندفع يغنينا، فكان أحسننا والله جميعا غناء، فلما طابت نفس جعفر بن يحيى وسرّي عنه ما كان به، التفت إليه فقال: ارفع حوائجك، قال: ليس هذا موضع حوائج، قال: لتفعلن، قال فلم يزل يلح عليه حتى قال: أمير المؤمنين واجد [علي] وأحب أن تترضاه لي، قال: فإن أمير المؤمنين قد رضي عنك، فهات حوائجك، قال: هذه كانت حاجتي، قال:
ارفع حوائجك كما أقول لك، قال: عليّ دين فادح، قال: هذه أربعة آلاف درهم «3» ، فإن أحببت تقتضيها من مالي الساعة فاقبضها، فإنه لم يمنعني عن إعطائك إياها إلا أن قدرك يجلك أن يصلك مثلي، ولكني ضامن لها حتى تحمل إليك من مال أمير المؤمنين فسل أيضا، قال ابني، تكلم أمير المؤمنين حتى ينوه باسمه، فقال: قد ولاه أمير المؤمنين مصر، وزوجه ابنته العالية وأمهرها عنه بألفي ألف درهم، قال: إسحاق: فقلت في نفسي: قد سكر الرجل،- يعني جعفرا- فلما اصبحت لم يكن لي همة إلا حضور دار الرشيد، فإذا جعفر بن يحيى قد بكر، ووجدت في الدار جلبة، وإذا أبو يوسف القاضي ونظائره، قد دعي بهم، ثم دعي بعبد الملك بن صالح الهاشمي [وابنه] فأدخلا جميعا على الرشيد، فقال الرشيد لعبد الملك: إن أمير المؤمنين كان واجدا عليك [ص 190] ، وقد رضي عنك، وأمر لك بأربعة آلاف [ألف] درهم، فاقبضها من جعفر بن يحيى الساعة، ثم دعا بابنه فقال: اشهدوا أني قد زوجته العالية بنت أمير المؤمنين، وأمهرتها عنه(10/314)
بألفي ألف درهم [من مالي] ووليته مصر، فلما خرج جعفر بن يحيى سألته عن الخبر فقال: بكرت على أمير المؤمنين، فحكيت له جميعا ما كان منا وما كنا فيه حرفا حرفا، ووصفت له دخول عبد الملك وما صنع، فعجب لذلك وسر به، ثم قلت له: وقد ضمنت له يا أمير المؤمنين عنك ضمأنا، قال: وما هو؟ فأعلمته، قال: نفي له بضمانك، وأمر باحضاره، فكان ما رأيت.
قال اسحاق: ما اغتممت [بشيء قط مثلما اغتممت] بصوت مليح صنعته بهذا الشعر: [المديد]
كان لي قلب أعيش به ... فاكتوى بالنّار فاحترقا
أنا لم أرزق محبّتها ... إنّما للعبد ما رزقا
لم يكن ما ذاق طعم ردى ... ذاقه لا شكّ إن عشقا
فإني صنعت فيه لحنا، وجعلت أردده في جناح لي سحرا، فأظن أن إنسانا من العامة، سمعه فأخذه، وبكرت من غد إلى المعتصم لأغنيه به، وإذا أنا بسواط يسوط الناطف «1» ويغني اللحن بعينه، إلا أنه غناء فاسد، فعجبت وقلت: ترى من أين للسواط هذا الصوت، ولعلي أن غنيته أن يكون مر بهذه السفلة بعض من يحضر معنا فسمعه يغنيه، وبقيت متحيرا، ثم قلت له: يا فتى، ممن سمعت هذا الصوت؟ فلم يجبني، فالتفت إلى شريكه فقال: خذ إليك [هذا] يسألني ممن سمعته، والله لو سمعه إسحاق الموصلي لخريء في سراويله، فبادرت والله هاربا خوفا من أن يمر بي إنسان فيسمع ما جرى فأفتضح، وما علم الله أني نطقت بذلك الصوت بعدها.(10/315)
قال إسحاق: غدوت يوما ضجرا من ملازمة دار الخلافة والخدمة فيها، فخرجت وركبت بكرة، وعزمت على أن أطوف الصحراء أفترج فيها، فقلت لغلماني: إن جاء رسول الخليفة، فعرفوه أني بكرت في بعض مهماتي، وأنكم لا تعرفون أين توجهت، ومضيت فطفت ما بدا لي، ثم عدت وقد حمي [ص 191] النهار، فوقفت في شارع المخرم «1» في فناء ثخين الظل وجناح رحب على الطريق لأستريح، فلم ألبث أن جاء خادم يقود حمارا فارها «2» عليه جارية راكبة تحتها منديل دبيقي «3» ، وعليها من اللباس الفاخر ما لا غاية بعده، ورأيت لها قواما عادلا حسنا وظرفا وشمائل حسنة، فحدست عليها أنها مغنية، فدخلت الدار التي كنت واقفا عليها، ثم لم ألبث أن أقبل خادمان ومعهما رجلان شابان جميلان، فاستأذنا فأذن لهما، فنزلا ونزلت معهما، ودخلت فظنا أن صاحب الدار دعاني، وظن صاحب البيت أني معهما، فجلسنا وأتي بالطعام فأكلنا، وبالشراب فشربنا أقداحا، وقمت لأبول، فسأل صاحب المنزل الرجلين عني، فأخبراه أنهما لا يعرفاني، فقال: هذا طفيلي، ولكنه ظريف، فأجملا عشرته، وجئت فجلست، فغنت الجارية في لحن لي: «4» [الطويل](10/316)
ذكرتك إذ قّرت بنا أمّ شادن ... أمام المطايا تشرئبّ وتسنح
من المؤلفات الرّمل أدماء حرّة ... شعاع الضّحى في متنها يتوضّح
فأدته أداء صالحا، ثم غنت أصواتا شتى، وغنت في أضعافها [من] صنعتي: «1» [مجزوء الخفيف]
الطّلول الدّوارس ... فارقتها الأوانس
أو حشت بعد أهلها ... فهي قفر بسابس
فكان أمرها فيه أصلح من الأول، ثم غنت أصواتا من القديم والحديث، وغنت في أضعافها من صنعتي: «2» [مجزوء الخفيف]
قل لمن صدّ عاتبا ... ونأى عنك جانبا
قد بلغت الذي أرد ... ت ولو كنت لا عبا
فكان أصلح من الأولين، فاستعدتها لأصلح ما فيه، فقال لي أحد الرجلين: ما رأيت طفيليا أصفق وجها منك، لم ترض بالتطفيل حتى اقترحت «3» ، فهذا غاية المثل: (طفيلي مقترح) ، فأطرقت ولم أجبه، وجعل صاحبه يكفه عني فلا يكف، ثم قاموا إلى الصلاة، وتأخرت قليلا، فأخذت عود الجارية ثم شددت طبقته وأصلحته إصلاحا محكما، وعدت إلى موضعي فصليت [ص 192] وعاد وأخذ ذلك [الرجل] في عربدته عليّ، وأنا صامت، ثم أخذت العود الجارية فجسّته، فأنكرت حاله، وقالت: من مس عودي؟ قالوا: ما مسه أحد، قالت: بلى والله قد مسه حاذق متقدم، وشد طبقته وأصلحه إصلاح متمكن في صناعته، فقلت لها: أنا أصلحته، قالت: فبالله عليك، خذه واضرب به، فأخذته(10/317)
وضربت به مبدأ عجيبا ضربا صعبا فيه نقرات متحركات، فما بقي أحد منهم إلا وثب فجلس بين يدي، فقالوا: بالله يا سيدي أتغني؟ قلت: نعم، وأعرفكم بنفسي، أنا إسحاق الموصلي، والله إني لأتيه على الخليفة إذا طلبني، وأنتم تسمعوني ما أكره منذ اليوم، لأني تملحت معكم، وو الله لا نطقت بحرف، ولا جلست معكم، حتى تخرجوا هذا المعربد المقيت الغث، فقال له صاحبه: من هذا حذرتك، فأخذ يعتذر، فقلت: ما أنطق بحرف أو تخرجوه، فأخذوا بيده فأخرجوه، فبدأت فغنيت الأصوات التي غنتها الجارية من صنعتي، فقال لي الرجل: هل لك في خصلة؟ وما هي؟ قال: تقيم عندي شهرا، والجارية والحمار لك مع ما عليها من حليّ، فقلت: أفعل، فأقمت عنده شهرا، لا يعرف أحد أين أنا، والمأمون يطلبني في كل موضع، فلا يعرف لي خبرا، فلما كان بعد ثلاثين يوما، سلم إليّ الجارية والحمار والخادم، فجئت بذلك إلى منزلي، وركبت إلى المأمون من وقتي، فلما رآني قال: إسحاق، ويلك أين تكون؟ فأخبرته، فقال:
عليّ بالرجل الساعة، فدللتهم عليه، فأحضر، فسأله المأمون عن القصة فأخبره بخبرها وخبر الرجل المعربد، وما حلفت من إخراجه، فقال: أنت رجل ذو مروءة، وسبيلك أن تعان على مروءتك، ثم أمر له بمائة ألف درهم، وقال له: لا تعاشر ذلك الرجل المعربد، وامر لي بخمسين ألف درهم، وقال لي: أحضر الجارية، فأحضرتها فغنته، فقال لي: قد جعلت عليها نوبة في كل يوم ثلاثاء تغنيني من وراء الستار مع الجواري، وأمر لها بخمسين الف درهم، فربحت وأربحت.
قال إسحاق: دخلت يوما دار الواثق بغير إذن، إلى موضع أمر أن أدخله إذا كان جالسا، فسمعت صوت عود من بيت [ص 193] وترنما لم أسمع مثله قط حسنا، فأطلع خادم رأسه ثم ردّه وصاح بي، فدخلت فإذا الواثق، فقال لي: أي شيء سمعت؟ فقلت: الطلاق لي لازم، وكل مملوك لي حر، لقد سمعت ما لم(10/318)
أسمع مثله قطّ حسنا فضحك وقال: وما هو! إنما هو فضلة أدب وعلم، مدحه الأوائل واشتهاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بعده من التابعين، وكثر في حرم الله ومهاجر رسول الله، أتحبّ أن تسمعه؟ قلت:
إي والله الذي شرّفني بخطابك وجميل رأيك، فقال: يا غلام، هات العود، وأعط إسحاق رطلا، فدفع الرطل إليّ، وضرب وغنّى في شعر لأبي العتاهية بلحن صنعه فيه: «1» [البسيط]
أضحت قبورهم من بعد عزّهم ... تسفي عليها الصّبا والحرجف الشّمل «2»
لا يدفعون هواما عن وجوههم ... كأنهم خشب بالقاع منجدل
فشربت الرطل ثم قمت فدعوت له، فأجلسني وقال: أتشتهي أن تسمعه ثانية؟ فقلت: إي والله ثانية وثالثة، وصاح ببعض خدمه وقال: احمل إلى إسحاق ثلاث مائة ألف درهم الساعة، ثم قال: يا إسحاق، قد سمعت ثلاثة أصوات وشربت ثلاثة أرطال، وأخذت ثلاث مائة ألف درهم، فانصرف إلى أهلك بسرورك ليسرّوا معك، فانصرفت بالدراهم.
قال إسحاق: ما وصلني أحد من الخلفاء مثل ما وصلني به الواثق، ولا كان أحد منهم يكرمني إكرامه، ولقد غنّيته لحني في «3» : [الطويل]
لعلك ان طالت حياتك ان ترى ... بلادا بها مبدى لليلى ومحضر
فاستعاده مني جمعة لا يشرب على غيره، ثم وصلني بثلاث مئة ألف درهم، ولقد قدمت عليه في بعض قدماتي، فقال لي: ويحك يا إسحاق أما اشتقت(10/319)
إلي؟ فقلت: بلى والله يا سيدي، وقلت في ذلك أبياتا، إن أمرتني أن أنشدها، فقال: هات، فأنشدته: «1» [البسيط]
أشكو إلى الله بعدي عن خليفته ... وما أقاسيه من هم ومن كبر
لا أستطيع رحيلا إن هممت به ... يوما إليه ولا أقوى على السفر «2»
أنوي الرحيل إليه ثم يمنعني ... ما أحدث الدهر والأيام في بصري
ثم استأذنته في إنشاد قصيدة مدحته بها فأذن لي، فأنشدته قصيدتي التي أقول فيها: [ص 194] «3» [البسيط]
لما أمرت بإشخاصي إليك هوى ... قلبي حنينا إلى أهلي وأولادي
ثم اعتزمت فلم أحفل لبينهم ... وطابت النفس عن فضل وحماد
كم نعمة لأبيك الخير أفردني ... بها وخص بأخرى بعد إفرادي
فلو شكرت أياديكم وأنعمكم ... لما أحاط بها وصفي وتعدادي
فقال: أحسنت يا أبا محمد، فكناني «4» وأمر لي بمائة ألف درهم، ثم قلت:
[الطويل] «5»
أتبكي على بغداد وهي قريبة ... فكيف إذا ما ازددت عنها غدا بعدا
لعمرك ما فارقت بغداد عن قلى ... لو أنّا وجدنا من فراق لها بدا
إذا ذكرت بغداد نفسي تقطعت ... من الشوق أو كادت تموت بها وجدا
كفى حزنا أن رحت لم تستطع بها ... وداعا ولم تحدث بساكنها عهدا(10/320)
فقال لي: يا موصلي، قد اشتقت إلى بغداد: فقلت: يا أمير المؤمنين، لا والله، ولكني اشتقت إلى الصبيان، وقد حضرني بيتان، فقال: هاتهما، فقلت: «1» [الوافر]
حننت إلى الأصيبية الصغار ... وشاقك منهم قرب المزار
وكل مفارق يزداد شوقا ... إذا دنت الديار من الديار
فقال: يا إسحاق صر إلى بغداد، فأقم شهرا مع صبيانك، ثم عد إلينا، وقد أمرنا لك بمائة ألف درهم.
قال إسحاق الموصلي: قدمت سنة من السنين من الحج فصرت إلى سر من رأى فدخلت إلى الواثق، فقال لي: بأي شيء أطرفتني من أحاديث الأعراب وأشعارهم؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، جلس [إلي] فتى من الأعراب في بعض المنازل، فحادثني فرأيت منه أحلى من رأيت من الفتيان منظرا وحديثا وظرفا وأدبا، وسألته إنشادي، فأنشدني «2» : [الطويل]
سقى العلم الفرد الذي في ظلاله ... غزالان مكحولان مؤتلفان
إذا أمنا التفا بجيدي تواصل ... وطرفاهما للريب مسترقان
أرغتهما ختلا فلم أستطعهما ... ورميا ففاتاني وقد قتلاني
ثم تنفس تنفسا ظننت أنه قد قطع حيازيمه، فقلت: مالك بأبي أنت؟
فقال: لي وراء هذين الجبلين [ص 195] شجن «3» وقد حيل بيني وبين الوصول إليه، وقد نذروا دمي، وأنا أتمتع بالنظر إلى الجبلين تعللا بهما إذا قدم الحاج، ثم(10/321)
يحال بيني وبين ذلك، فقلت له: زدني مما قلت شيئا في ذلك، فأنشدني: «1» [الطويل]
إذا ما وردت الماء في بعض أهله ... حضور فعرض بي كأنك مازح
فإن سألت عني حضور فقل لها ... به غبّر «2» من دائه وهو صالح
فأمرني الواثق فكتبت له الشعرين، فلما كان بعد أيام دعاني فقال: قد صنع بعض عجائز دارنا في أحد الشعرين لحنا فأسمعه، فإن ارتضيت أظهرناه، وإن رأيت فيه موضع إصلاح أصلحناه، فغنى لنا من وراء الستارة، فكان في نهاية الجودة، وكذلك كان يفعل، إذا صنع شيئا، فقلت: أحسن والله صانعه ما شاء، فقال: بحياتي عليك، قلت: أي وحياتك، وحلفت له بما يوثق به، وأمر لي برطل فشربته، ثم أخذ العود فغناه ثلاث مرات، وسقاني ثلاثة ارطال، وأمر لي بثلاثين ألف درهم، فلما كان بعد أيام دعاني وقال: قد صنع عندنا أيضا في الشعر الآخر، وأمر فغني به، فكانت الحال فيه مثل الحال الاول، فلما استحسنته وحلفت له على جودته، وأعاده لي ثلاث مرات، وسقاني ثلاثة أرطال، وأمر لي بثلاثين الف درهم، ثم قال: هل قضيت حق هديتك؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، فأطال الله بقاءك، وتمم نعمتك، ولا أفقدنيها منك وبك، فقال: لكنك لم تقض حق جليسك الأعرابي، ولا سألتني معونته على أمره، وقد سبقت مسألتك، وكتبت إلى صاحب الحجاز وأمرته بإحضاره، وخطبت له المرأة وحمل صداقها إلى قومها عنه من مالي، فقبلت يده وقلت: السبق إلى المكارم لك، وأنت أولى بها من عبيدك ومن سائر الناس.
قال: لما خرج المعتصم إلى عمورية، واستخلف الواثق بسر من رأى كانت أموره(10/322)
كلها كأمور أبيه، موجه إلى الجلساء والمغنين أن يبكروا إليه يوما حدد لهم، ووجه إلى إسحاق فحضره، فقال لهم الواثق: إني عزمت على الصبوح، ولست أجلس على سرير «1» حتى اختلط بكم ونكون كالشيء الواحد، فاجلسوا معي حلقة، ولكن كل جليس إلى جانبه مغن، فجلسوا كذلك، فقال الواثق: أنا أبدأ، فأخذ عودا وغنى [ص 196] وشربوا، وغنى من بعده حتى انتهى إلى إسحاق، فأعطي العود، فلم يأخذه، فقال: دعوه، ثم غنى وغنوا دورا آخر، فلما بلغ إسحاق، لم يغن، وفعل هذا ثلاث مرات، فوثب الواثق فجلس على سريره، وأمر الناس فأدخلوا، فما قال لأحد منهم اجلس، ثم قال: علي بإسحاق، فلما رآه قال: يا خوزي «2» يا كلب، أتبذّل لك وأغني، وترتفع عني؟!
أترى لو أني قتلتك لكان المعتصم يقيدني بك؟ [ابطحوه] فبطح وضرب ثلاثين مقرعة، وحلف لا يغني سائر يومه [سواه] ، فاعتذر وتكلمت الجماعة فيه، فأخذ العود وما زال يغني حتى انقضى ذلك اليوم.
قال إسحاق: دخلت يوما على الواثق وهو مضطجع، فقال: غنني يا إسحاق صوتا غريبا لم أسمعه منك، حتى أسر به بقية يومي، قال: وكأن الله عز وجل أنساني الغناء كله إلا هذا الصوت: «3» [السريع]
يا دار إن كان البلى قد محاك ... فإنه يعجبني أن أراك
أبكي الذي [قد] كان لي مألفا ... فيك فآتي الدار من أجل ذاك
قال: فتبينت الكراهة في وجهه، وندمت على ما كان مني، وتجلد فشرب رطلا(10/323)
كان بيده، وعدلت عن الصوت إلى غيره، وكان ذلك اليوم والله آخر جلوسي معه.
قال: وتوفي إسحاق ببغداد أول خلافة المتوكل، وكان يسأل الله ألا يبتليه بالقولنج لما رأى من صعوبته على أبيه، فأصابه ذرب «1» في شهر رمضان سنة خمس وثلاثين ومئتين، وكان يتصدق في كل يوم أمكنه أن يصومه بمائة درهم، ثم ضعف عن الصوم، ومات في رمضان.
لما تولى المتوكل الخلافة بعد الواثق، طلب إسحاق، فلما حضر رمى إليه مخدة وقال: اجلس عليها، فإني سمعت أن المعتصم أول يوم خلافته رمى إليك بها وقال: ما يستجلب ما عند الحر إلا بالكرامة، وسأله سماع شيء من أغانيه، فغناه لحنه نظمه في نفسه وعماه: «2» [البسيط]
ما علّة الشيخ عيناه بأربعة ... تغرورقان بدمع ثم تنسكب «3»
فأنعم عليه بمائة ألف درهم وصرفه، وسأله العود فتوجه من سر من رأى [ص 197] إلى بيته ببغداد، فتوفي بعد شهر، فبلغ المتوكل وفاته، فغمه وحزن عليه.
قال ادريس بن أبي حفصة يرثي إسحاق الموصلي: «4» [الطويل]
سقى الله يا بن الموصلي بوابل ... من الغيث قبرا أنت فيه مقيم
ذهبت فأوحشت الكرام فما يني ... بعبرته يبكي عليك كريم
إلى الله أشكو فقد إسحاق إنني ... وإن كنت شيخا بالعراق مقيم(10/324)
وقال محمد بن عمر الجرجاني يرثيه: «1» [الطويل]
على الجدث الشرقي عوجا فسلما ... ببغداد لما ضن عنه عوائده
وقولا له لو كان للموت فدية ... فداك من الموت الطريف وتالده
أإسحاق لا تبعد وان كان قد رمى ... بك الموت وردا ليس يصدر وارده
إذا هزل اخضرت متون حديثه ... ورقت حواشيه وطابت مشاهده
وإن جد كان القول جدا وأقسمت ... مخارجه ألا تلين معاقده
فابك على ابن الموصلي بعبرة ... كما ارفضّ من نظم الجمان قلائده
وقال مصعب الزبيري يرثيه، تغمده الله برحمته: «2» [الكامل]
لله أي فتى إلى دار البلى ... حمل الرجال ضحى على الأعواد
كم من كريم ما تجف دموعه ... من حاضر يبكي عليه وباد
أمسى يؤبّنه ويعرف فضله ... من كان يثلبه من الحساد
فسقتك يا بن الموصلي سحابة ... تروي صداك بصوبها وغواد
وقال أيضا: «3» [المتقارب]
تولى شبابك إلا قليلا ... وحل المشيب فصبرا جميلا
كفى حزنا بفراق الصبا ... وإن أصبح الشيب منه بديلا
ولما رأى الغانيات المشي ... ب أغضين دونك طرفا كليلا
سأندب عهدا مضى للصبا ... وأبكي الشباب بكاء طويلا(10/325)
68- إبراهيم بن المهدي «1» [ص 198]
رجل وضع في شرفه، وخضع من شرفه، رضع حب الغناء منذ فطم، وأعطى قياده لغير أهل الغناء وما حطم، وانحط إلى الحضيض وحطه كذي «2» الجناح المهيض، حتى إنه بعد أن أصفقت له الأيدي المبايعة «3» ، وصفت له القلوب للمشايعة «4» وعقدت البيعة في الرقاب، وعينت له الألقاب، وصعد المنبر وتبوأ أعلاه، وولج المحراب، وأقام الصلاة جذب «5» عن ذلك المقام، وكذب عليه ليقام، وعير بالغناء مهنته وانشغاله أهنته، حتى استحر وخلع، وعضد اصل سؤدده وقلع، ثم كان هذا عليه عارا يلبسه، وشنارا كما نهض به حسبه يجلسه «6» .
قال أبو الفرج، كان إبراهيم يقول: لولا أني أرفع نفسي عن هذه الصناعة لأظهرت فيها ما يعلم معه أنهم لم يروا قبلي مثلي.
قال إبراهيم: دخلت يوما على الرشيد، وفي رأسي فضلة من خمار «7» ، وبين يديه ابن جامع وإبراهيم الموصلي، فقال: بحياتي يا إبراهيم غنني، فأخذت(10/326)
العود، ولم ألتفت إليهما فغنيت: «1» [الكامل]
أسرى لخالدة الخيال ولا أرى ... شيئا ألذ من الخيال الطائف
قال: فسمعت إبراهيم يقول لابن جامع: لو طلب هذا بهذا [الغناء] ما نطلب لما أكلنا خبزا أبدا، فقال له ابن جامع: صدقت، فلما فرغت من غنائي، وضعت العود وقلت: خذا في حقكما ودعا باطلنا.
قال هبة الله بن إبراهيم بن المهدي: اتخذ أبي حراقة «2» ، فأمر بشدها في الجانب الغربي حذاء داره، فمضيت إليها ليلة، وكان أبي يخاطبنا من داره بأمره ونهيه وبيننا عرض دجله، فما أجهد نفسه.
قال ابن قتيبة، حدثني ابن أبي ظبية، قال: كنت أسمع إبراهيم بن المهدي يتنحنح فأطرب.
قال ابن خرداذبة، حدثني محمد بن الحارث بن بسخنر، قال: وجه إبراهيم بن المهدي يوما يدعوني، وذلك في أول خلافة [ص 199] المعتصم، فصرت إليه وهو جالس وحده، وشارية جاريته خلف الستارة، فقال لي: قد قلت شعرا وغنيت فيه، وطرحته على شارية فأخذته وزعمت أنها أحذق به مني، وأنا أقول إنها دوني في الحذق، وقد تراضينا بك حكما لموضعك من هذه الصناعة، فاسمعه مني ومنها، ولا تعجل حتى تسمعه مني ومنها ثلاث مرات، فاندفع يغني هذا الصوت: «3» [الطويل]
أضن بليلى وهي غير سخية ... وتبخل ليلى بالهوى وأجود
فأحسن وأجاد، ثم قال لها: تغني فغنته فبرزت فيه كأنه كان معها في الجد،(10/327)
ونظر إلي فعرف أني قد عرفت فضلها، فقال: على رسلك، وتحدثنا وشربنا، ثم اندفع فغناه ثانية، فأضعف في الإحسان، ثم قال لها: تغني، فغنت وبرعت وزادت وزادت اضعاف زيادته، وكدت أشق ثيابي طربا، فقال لي: تثبت ولا تعجل، ثم غناه ثالثة فلم يبق عليه في الإحكام، ثم أمرها فغنت، فكأنه إنما كان يلعب، ثم قال لي: [قل] ، فقضيت لها عليه، فقال: أصبت، فكم تساوي الآن عندك؟ فحملني الحسد عليها له والنفاسة بمثلها ان قلت: تساوي مئة ألف درهم، فقال: أو ما تساوي على هذا كله الا مئة ألف درهم؟! قبح الله رأيك، والله ما أجد شيئا في عقوبتك ابلغ من أن أصرفك، فقم فانصرف إلى منزلك مذموما، فقلت له: ما لقولك اخرج من منزلي جواب، فقمت وانصرفت وقد أحفظني كلامه وأرمضني «1» ، فلما خطوت خطوات التفت إليه فقلت: يا إبراهيم، أتطردني من منزلك، فو الله ما تحسن أنت ولا جاريتك شيئا.
وضرب الدهر من ضربه، ثم دعانا المعتصم بعد ذلك وهو بالوزيرية في قصر الليل «2» ، فدخلت أنا ومخارق وعلوية، وإذا أمير المؤمنين مضطجع «3» ، وبين يديه ثلاث جامات: جام فضة مملوءة دنانير جددا، [وجام ذهب مملوءة دراهم جددا] وجام قوارير مملوءة عنبرا، فظننا أنها لنا لم نشك به في ذلك، فغنيناه وأجهدنا بأنفسنا، فلم يطرب ولم يتحرك لشيء من غنائنا، ودخل الحاجب فقال: إبراهيم بن المهدي، فأذن له، فدخل فغناه أصواتا فأحسن فيها، ثم غناه بصوت من صنعته وهو هذا: «4» [ص 200] [البسيط]
ما بال شمس أبي الخطاب قد غربت ... يا صاحبيّ أظن الساعة اقتربت(10/328)
فاستحسنه المعتصم وطرب وقال: أحسنت والله، فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين فإن كنت قد أحسنت فهب لي إحدى هذه الجامات، فقال: خذ أيها شئت، فأخذ التي فيها الدنانير، فنظر بعضنا إلى بعض، ثم غناه إبراهيم بشعر له: «1» [المتقارب]
فما مزة قهوة قرقف ... شمول تروق براووقها
فقال: أحسنت والله يا عم وسررت، فقال: يا أمير المؤمنين: إن كنت أحسنت فهب لي جاما أخرى، قال: فخذ أيها شئت، قال: فأخذت الجام التي فيها الدراهم، فعندها انقطع رجاؤنا منها، وغنى بعد ساعة: «2» [الطويل]
ألا ليت ذات الخال تلقى من الهوى ... عشير الذي ألقى فيلتئم الحب
فارتج بنا المجلس الذي كنا فيه، وطرب المعتصم، واستخفنا الطرب، فقام على رجليه وجلس، وقال: أحسنت والله يا عم، قال: فإن كنت أحسنت فهب لي الجام الثالثة، قال: خذها، فأخذها، وقام أمير المؤمنين، فدعا إبراهيم بمنديل فثناه طاقين، ووضع الجامات فيه، ودعا بطين فختمه ودفعه إلى غلامه، ونهضنا للانصراف، وقدمت دوابنا، فلما ركب إبراهيم التفت إلي وقال: يا محمد بن الحارث، زعمت أني لا أحسن أنا وجاريتي شيئا، وقد رأيت ثمرة الإحسان، [فقلت في نفسي: قد رأيت، فخذها لا بارك الله لك فيها! ولم أجبه بشيء] .
قال: دخل الحسن بن سهل «3» يوما على المأمون وهو يشرب، فقال: بحياتي(10/329)
عليك يا محمد، إلا شربت معي قدحا، وصب له من نبيذ قدحا فأخذه بيده وقال له: من تحب أن يغنيك فأومأ إلى إبراهيم بن المهدي، فقال له المأمون: غن يا عم: «1» [البسيط]
تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت
يعرض به لما كان لحقه من السوداء والاختلاط، فغضب المأمون حتى ظن إبراهيم أنه سيوقع به، ثم قال له: أبيت إلا كفرا، يا أكفر خلق الله تعالى لنعمه، والله ما حقن دمك غيره، ولقد اردت قتلك فقال لي إن عفوت عنه فعلت فعلا لم يسبقك إليه أحد [ص 201] فعفوت والله عنك لقوله، أفحقه أن تعرض به؟
والله لا تدع كيدك ودخلك، «2» وأنفت من إيمائه إليك بالغناء، فوثب إبراهيم قائما وقال: يا أمير المؤمنين، لم أذهب حيث ظننت، ولست بعائد، فأعرض عنه.
قال حمدون: كنت أحب أن أجمع بين إبراهيم بن المهدي، وأحمد بن يوسف الكاتب، لما كنت أراه من تقدم أحمد عليه [وغلبته] الناس جميعا بحفظه وبلاغته وأدبه في كل محضر ومجلس، فدخلت يوما على إبراهيم بن المهدي، وعنده أحمد بن يوسف وأبو العالية الخزري، فجعل إبراهيم يحدثنا فيضيف شيئا إلى شيء، مرة يذكر ومرة يونث، ومرة يعظنا ومرة ينشدنا ومرة(10/330)
يضحكنا، وأحمد بن يوسف ساكت، فلما طال بنا المجلس، أردت أن أخاطب [أحمد] ، فسبقني إليه أبو العالية فقال: «1» [الرجز]
مالك لا تنبح يا كلب الدوم ... قد كنت نباحا فما لك اليوم
فتبسم إبراهيم وقال: لو رأيتني في يد جعفر بن يحيى لرحمتني منه، كما رحمت أحمد مني.
قال إبراهيم بن المهدي: قلت للأمين يوما: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك! [فقال: بل جعلني الله فداك] فأعظمت ذلك، فقال: يا عم، لا تعظمه فإن لي عمرا لا يزيد ولا ينقص، فحياتي مع الأحبة أطيب من تجرعي فقدهم، وليس يضرني عيش من عاش [بعدي] منهم.
قال إبراهيم بن المهدي: غنيت يوما الأمين: «2» [مجزوء الكامل]
أقوت منازل بالهضاب ... من آل هند فالرباب
خطارة بزمامها ... وإذا ونت ذلل الركاب «3»
ترمي الحصا بمناسم ... صم صلادمة صلاب
قال: فاستحسن اللحن، وسألني عن صانعه، فأعلمته أن ابن جامع حدثني عن سياط «4» أنه لابن عائشة، فلم يزل يشرب عليه لا يتجاوزه، ثم انصرفنا ليلتنا تلك، ووافاني رسوله حين انتبهت [من النوم] وأنا أستاك، فقال لي: يقول(10/331)
لك بحياتي يا عم، لا تشتغل بعد الصلاة بشيء غير الركوب [إليّ] فصليت وتناولت طعاما خفيفا وركبت إليه، فلما رآني من بعيد، صاح بي، بحياتي يا عم (خطارة بزمامها) ، فلما دخلت المجلس، ابتدأت [ص 202] فغنيته إياه، فأمر بإخراج صبية كان يتحظاها، فأخرجت إليه صبية كأنها لؤلؤة في يدها عود، فقال: بحياتي يا عم ألقه عليها، فأعدته مرارا وهو يشرب، حتى ظننت أنها قد أخذته، وأمرتها أن تغنيه، فإذا هو قد استوى لها، إلا في موضع كان فيه، وكان صعبا جدا، فجهدت جهدي أن يقع لها طلبا ليسر به، فلم يقع لها بتة، ورأى جهدي في أمرها وتعذره عليها، فأقبل عليها وقد سكر وقال: نفيت من الرشيد، وكل أمة لي حرة، وعلي عهد الله، لئن لم تأخذيه في المرة [الثالثة] لأمرن بإلقائك في دجلة، قال: ودجلة تطفح وبيننا وبينها ذراعان، وذلك في الربيع، فتأملت القصة، فإذا هو قد سكر والجارية لا تقوله كما أقوله أبدا، فقلت: هذه والله داهية ويتنغص عليه يومه، وأشرك في دمها، فعدلت عما كنت أغنيه عليه وتركت ما كنت أقوله، وغنيته كما كانت هي تقوله، وجعلت اردده حتى انقضت ثلاث مرات أعيده عليها، كما كانت هي تقوله، وأريته أني اجتهدت، فلما انقضت الثلاث مرات، قلت لها: هاتيه، فغنته على ما كان وقع لها، فقلت: أحسنت والله يا أمير المؤمنين، ورددته عليها ثلاث مرات، فطابت نفسه، وسكر فأمر لي بثلاثين ألف درهم.
قال محمد بن الحارث بن بسخنر: غنى إبراهيم بن المهدي يوما بحضرة المأمون: «1» [الكامل]
يا صاح يا ذا الضامر العنس ... والرحل ذي الأنساع والحلس
أما النهار فأنت تقطعه ... ركضا وتصبح مثل ما تمسي(10/332)
قال: فاستحسنه المأمون وذهبت آخذه، ففطن بي إبراهيم، فجعل يزيد فيه مرة وينقص أخرى بزوائده التي كان يعملها في الغناء، وعلمت ما يصنع فتركته، فلما قام قلت للمأمون: يا سيدي، إن رأيت أن تأمر إبراهيم أن يلقي علي:
يا صاح يا ذا الضامر العنس
فقال: أفعل، فلما عاد قال له: يا إبراهيم ألق على محمد:
يا صاح يا ذا الضامر العنس
فألقاها علي كما كان يغنيه مغيرا، ثم انقضى المجلس وسكر المأمون، فقال لي إبراهيم: قم الآن فأنت أحذق الناس به، فخرج وخرجت، وجئته إلى منزله، فقلت له: ما في الأرض أعجب منك، أنت ابن خليفة وأخو خليفة [ص 203] تبخل على وليّ لك مثلي لا يفاخرك بالغناء، ولا يكاثرك بصوت! فقال لي: يا محمد، ما في الدنيا أضعف عقلا منك، والله ما استبقاني المأمون محبة لي، ولا صلة لرحمي، ولكنه سمع من هذا الجرم شيئا فقده من سواه، فاستبقاني لذلك، فغاظني قوله، فلما دخلت إلى المأمون حدثته بما قال لي، فقال لي: يا محمد، هذا أكفر الناس لنعمة، وأطرق مليا ثم قال: لا نكدر على أبي إسحاق وقد عفونا عنه، ولا نقطع رحمه، واترك هذا الصوت الذي ضن به عليك إلى لعنة الله.
قال محمد بن يزيد: لما رضي المأمون عن إبراهيم بن المهدي ونادمه، دخل إليه متبذلا في ثياب المغنين وزيهم، فلما رآه ضحك وقال: نزع عمي ثياب الكبر عن منكبيه، فدخل فجلس، فأمر المأمون ان يخلع عليه فلبس الخلع، ثم ابتدأ مخارق يغني: «1» [الطويل](10/333)
خليلي من كعب ألما هديتما ... بزينب لا يفقد كما أبدا كعب
فقال إبراهيم: أسأت واخطأت، فقال له المأمون: يا عم إن كان أساء وأخطأ فأحسن أنت، فغنى إبراهيم الصوت، فلما فرغ منه قال لمخارق: أعده الآن، فأعاده فأحسن، فقال له إبراهيم: يا أمير المؤمنين، كم بينه الآن وبينه في أول الامر، فقال: ما ابعد ما بينهما، فالتفت إلى مخارق وقال: مثلك يا مخارق مثل الثوب الوشي الفاخر، إذا تغافل عنه أهله سقط عليه التراب، فحال لونه، فإذا نفض عنه عاد إلى جوهره.
قال إسحاق بن إبراهيم بن رياح: كنت أسأل مخارقا: أي الناس أحسن غناء؟
فيجيبني جوابا مجملا حتى حققت عليه يوما، فقال لي: إبراهيم الموصلي أحسن غناء من ابن جامع بعشر طبقات، وأنا أحسن من إبراهيم بعشر طبقات، وإبراهيم بن المهدي أحسن غناء مني بعشر طبقات، ثم قال: أحسن الناس غناء أحسنهم صوتا، وإبراهيم بن المهدي أحسن الإنس والجن والوحش والطير صوتا، وحسبك هذا.
قال إبراهيم بن المهدي وقد ذكر الطبل والإيقاع به، فقال: هو من الآلات التي لا يجوز أن تبلغ نهايتها، فقيل له: وكيف خص الطبل بذلك؟ [ص 204] فقال:
لأن عمل اليدين فيه عمل واحد ولا بد أن يلحق اليسار فيه نقص عن اليمين، ودعا بالطبل ليرينا ذلك، فأوقع إيقاعا لم نظن أن يكون مثله، وهو مع ذلك يرينا زيادة اليمين على اليسار، وقال له الامين في بعض خلواته: يا عم، أشتهي أن أراك تزمر، فقال: يا أمير المؤمنين، ما وضعت على فمي ناياقط، ولا أضعه، ولكن يدعو أمير المؤمنين بفلانة- من موالي المهدي- حتى تنفخ في الناي وأمر يدي عليه، وأحضرت فوضعت الناي على فمها وأمسكه إبراهيم، فكلما مر الهواء(10/334)
«1» مر إصبعه، فيسمع زمرا، أجمع سائر من حضر أنه لم يسمع مثله قط.
قال محمد بن موسى المنجم «2» : حكمت بأن إبراهيم بن المهدي أحسن الناس غناء ببرهان، وذلك أني كنت أراه في مجالس الخلفاء مثل المأمون والمعتصم، يغني ويغني المغنون، فإذا ابتدأ الصوت لم يبق من الغلمان والمتصرفين في الخدمة وأصحاب الصناعات والمهن الصغار والكبار، إلا ترك ما في يده وقرب من أقرب موضع يمكنه أن يسمعه، فلا يزال مصغيا إليه، لاهيا عما كان فيه ما دام يغني، حتى إذا أمسك وغنى [غيره] رجعوا إلى التشاغل بما كانوا فيه، ولم يلتفتوا إلى ما يسمعون، ولا برهان مثل هذا أقوى من شهادة الفطن واتفاق الطبائع- مثل اختلافها وتشعب طرقها- على الميل إليه.
69- عليّة بنت المهدي «3»
ضربت عليها الخلافة سرادقها، ونصبت لها المهلة نمارقها، وأسبلت دونها(10/335)
الحجب المنيعة، وأسدلت بين أخصاء الخدم وبينها الستور الرفيعة، وكان الرشيد شديد الغيرة عليها، والغيلة لمن أومأ بنظره إليها، هذا حاله مع خدم الدار «1» ، وحرم من آواه»
حرم ذلك الجدار، فأما من سواهم، فلا يقع عليها مقل النجوم نظر ناظر، ولا يمر من خاطر النسيم على ذكر ذاكر، إجلالا لمكانها، وإجفالا من رقباء الرشيد الطائفة بأركانها، ثم هتكت بالغناء سترها الرفيع، وهونت حجابها المنيع، فعرضت عرضها «3» للتشنيع، وعرضت عرضها للتضييع، ولم يغنها أن أخلدت إلى هذه الصناعة، ورمت مالها بالإضاعة [ص 205] ، حتى صارت تظهر لأهل الغناء، وتختلط بمن يؤهل من قومه المهناء، فأصبحت لا تعد في ذوات الستور، ولا تعاب إلا بما تحمد به البدور من السفور، وإنما أمها بصبص، وحق سرها فيها قد حصحص، وكانت هي وأخوها إبراهيم أقدر أخوين على الغناء، وأقوم رسيلين بالغناء كانت كأنما أعطيت مزمارا من مزامير داود، أو حركت أوتارا ركبت في لهواتها لا في العود، على كمال أدب بارع، وظرف إلى هز المعاطف مسارع، مع جمال تنقبت بنقابه وكمال تجلببت بجلبابه، ورقة خلائق كان نشر الصبا يدمثها، ودقة معان كان صوت اليراع ينفشها، وكان الرشيد لا يقدر على فراقها لسماع تلك الأغاريد، وإمتاع ذلك اللسان الحلو بلقائط تلك الأناشيد، وكان لا يتم سروره الا بحضورها، ولا يعم حبوره إلا إذا برزت نحوه من ستورها.
قال محمد بن إسماعيل بن موسى الهادي، كنت عند المعتصم وعنده مخارق وعلوية ومحمد بن الحارث بن بسخنر وعقيد، وكنت أضرب عليه فغنى: «4» [المديد](10/336)
نام عذالي ولم أنم ... واشتفى الواشون من سقمي
وإذا ما قلت بي ألم ... شك من أهواه في ألمي
فطرب المعتصم وقال: لمن هذا الشعر، فأمسكوا، فقلت: لعلية، فأعرض عني، فعرفت غلطي، وأن القوم أمسكوا عمدا، فقطع بي «1» ، وتبين حالي، فقال: لا ترع يا محمد، فإن نصيبك منها مثل نصيبنا.
قال إسحاق الموصلي: عملت في أيام الرشيد لحنا: «2» [البسيط]
سقيا لأرض إذا ما نمت نبهني ... بعد الهدوء بها قرع النواقيس «3»
كأن سوسنها في كل شارقة ... على الميادين أذناب الطواويس
قال: فأعجبني وعزمت على أن أباكر به الرشيد، فلقيني في طريقي خادم لعلية بنت المهدي، فقال: مولاتي تأمرك بدخول الدهليز لتسمع من بعض جواريها [ص 206] صوتا أخذته عن أبيك، وشكّت فيه الآن، فدخلت معه حجرة قد أفردت لي كأنها كانت معدة، فجلست وقدم لي طعام وشراب، فنلت حاجتي منهما، ثم خرج إليّ خادم فقال: تقول مولاتي، أنا أعلم أنك قد غدوت إلى أمير المؤمنين بصوت قد أعددته له محدث، فأسمعنيه ولك جائزة سنية، فغنيتها إياه ولم [تزل] تستعيده مرارا، ثم قالت: اسمعه الآن، فغنته غناء ما سمع سمعي مثله قط، ثم قالت: كيف تراه؟ قلت: أرى والله ما لم أر مثله، ثم أمرت جارية فأخرجت لي عشرين ألف درهم، وعشرين ثوبا، فقلت: هذا ثمنه، وأنا الآن داخلة إلى أمير المؤمنين ولم أبدأ بغناء غيره، وأخبره أنه صنعتي، وأعطي الله عهدا لئن نطقت بأن لك فيه صنعة لأقتلنّك، هذا إن نجوت منه إن علم بمصيرك إليّ،(10/337)
فخرجت من عندها، والله إني كالموقر «1» بما أكره من جائزتها أسفا على الصوت، فما جسرت والله بعد ذلك أن أتنغّم به في نفسي فضلا عن أن أظهره حتى ماتت.
فدخلت على المأمون في أول مجلس جلس به للهو بعدها، فبدأت به في اول ما غنيت، فتغير وجه المأمون، وقال: من أين لك هذا ويلك؟ قلت: ولي الأمان على الصدق، قال: ذلك لك، فحدثته الحديث، فقال: يا بغيض، فما كان لك في هذا من التعاسة حتى شهرته، وذكرت هذا منه، مع ما أخذته من الجائزة. وهجنني «2» فيه هجنة وددت معها أنني لم أذكره، فآليت على نفسي ألا أغنيه بعدها أبدا.
قال: أهديت للرشيد جارية في غاية الجمال والكمال، فخلا معها يوما، وأخرج كل قينة في داره واصطبح، فكان من حضر من جواريه للغناء والخدمة والشراب زهاء ألفي جارية في أحسن زي، وفي كل نوع من أنواع الجواهر والثياب، واتصل الخبر بأم جعفر، فغلظ عليها ذلك، فأرسلت إلى علية تشكو إليها، فأرسلت إليها علية: لا يهولنك ما رأيت، والله لأردنه إليك، قد عزمت أن أصنع شعرا، وأصوغ فيه لحنا، وأطرحه على الجواري فلا تبقى عندك جارية إلا بعثت بها إلي، وألبسيهن أنواع الثياب، ليأخذن الصوت مع جواري [ص 207] ففعلت أم جعفر ما أمرتها به علية، فلما جاوزت صلاة العصر لم يشعر الرشيد الا وعلية قد خرجت إليه من حجرتها، معها زهاء ألفي جارية من جواريها وسائر جواري القصر، عليهن غرائب اللباس، وكلهن في لحن واحد هزج: «3» [مجزوء الرجز]
منفصل عني وما ... قلبي عنه منفصل(10/338)
يا قاطعي اليوم لمن ... نويت بعدي أن تصل
فطرب الرشيد وقام على رجليه حتى استقبل أم جعفر وعلية وهو على غاية السرور، وقال: لم أر كاليوم قط، يا مسرور، لا تبقين اليوم درهما في بيت المال الا نثرته، وكان مبلغ ما نثر يومئذ ستة آلاف ألف درهم.
قال: كانت علية تقول: [من] لم يطربه الرمل لم يطربه شيء، وكانت تقول: من أصبح وعنده طباهجة «1» ولم يصطبح ضاع سروره.
قال إبراهيم بن المهدي: ما خجلت قط خجلتي من علية بنت المهدي، حين دخلت إليها يوما، فقلت لها: كيف أنت يا أختي جعلت فداك، وكيف حالك وخبرك؟ فقالت: بخير والحمد لله، ووقعت عيني على جارية لها كانت تذب عنها «2» ، فتشاغلت بالنظر إليها وأعجبتني، وطال جلوسي ثم استحييت من علية، فأقبلت عليها فقلت لها: كيف أنت وكيف حالك جسمك «3» جعلت فداك؟ فرفعت رأسها إلى حاضنة لها وقالت: أليس قد مضى هذا وأجبنا عنه؟
فخجلت خجلا ما خجلت مثله قط، وقمت وانصرفت.
قال محمد بن جعفر بن يحيى: شهدت أبي جعفرا وأنا صغير، وهو يحدث أباه يحيى بن خالد في بعض ما كان يخبره به من خلواته مع الرشيد، فقال: يا أبت، أخذ بيدي أمير المؤمنين، ثم أقبل في حجرة يخترقها حتى انتهى إلى حجرة مغلقة، ففتحها بيده ودخلنا جميعا، فأغلقها من داخل بيده، ثم صرنا إلى رواق ففتحه، وفي صدره مجلس مغلق، فقعد على باب المجلس، فنقر الباب [ص 208] فسمعنا حسنا، ثم أعاد النقر، فسمعنا صوت عود، ثم أعاد الثالثة(10/339)
فغنت جارية ما ظننت أن الله تعالى خلق مثلها في حسن الغناء، وجودة الضرب، فقال أمير المؤمنين لها بعد أن غنت أصواتا: غني صوتي، فغنت «1» : [الكامل]
ومخنث شهد الزفاف وقبله ... غنى الجواري حاسرا ومنقبا
لبس الدلال وقام ينقر دفه ... نقرا أقر به العيون وأطربا
إن النساء رأينه فعشقنه ... فشكون شدة ما بهن فأكذبا «2»
قال: فطربت والله طربا هممت معه أن أنطح برأسي الحائط، ثم قال: غنني، فغنت: «3» [المديد]
طال تكذيبي وتصديقي ... لم أجد عهدا لمخلوق
لا تراني بعدهم أبدا ... أشتكي عشقا لمعشوق
قال: فرقص الرشيد ورقصت معه، ثم قال: امض بنا فإنني أخشى أن يبدو منا ما هو أكثر من هذا، فمضينا فلما صرنا إلى الدهليز، قال: وهو قابض على يدي: عرفت هذه المرأة؟
قلت: لا يا أمير المؤمنين، قال: فإني أعلمك ستسأل عنها فلا تكتم ذلك، وأنا أخبرك بها، هذه علية بنت المهدي، وو الله لئن لفظت به بين يدي أحد وبلغني لأقتلنك، قال:
فسمعت جدي يقول له، قد والله لفظت به، وو الله لأقتلنك «4» فاصنع ما أنت صانع.(10/340)
ومن شعرها في طلّ: «1» [الكامل]
يا رب إني قد غرضت بهجرها ... وإليك أشكو ذاك يا رباه
مولاة سوء قد تضر بعبدها ... نعم الغلام وبئست المولاه
طلّ ولكني حرمت نعيمه ... وهواه إن لم يغنني الله «2»
يا رب إن كانت حياتي هكذا ... ضرّا عليّ فما أحب حياه
قال: ماتت علية سنة تسع ومئتين، ولها من العمر خمسون سنة، وصلى عليها المأمون، وكان سبب وفاتها أن المأمون يوما ضمها إليه وجعل يقبل رأسها، وكان وجهها مغطى، فشرقت من ذلك وسعلت ثم حمت بعقب هذا أياما يسيرة وماتت.
وكانت تحب خادما لها اسمه طل فأقصاه الرشيد [ص 209] عنها خلافا لمرادها، وأقصدها من فراقها بسهم لم يخط صميم فؤادها فأبعده إلا عن موضعه من حبها، وأخرجه إلا من مكانه من قلبها، وإنما أظهرت التجلد لأجله، وأبدت التثبت خوفا أن يسبق السيف لعذله، فلم تتمكن بعد أن نفض عن ستورها سقيط طلّه إلا أن تجمع بالبكاء طلها بوبله، فبلغ الرشيد ولعها بتذكره، ودمعها الباكي على ساقط الطل في ثغر الأقحوان الضاحك، فقويت عزيمتها على الطرب، وإن كان مر المذاق، وتماسكت، وما عسى أن يتماسك المشتاق، فدخل الرشيد عليها يوما وهي تقرأ: «فإن لم يصبها وابل فطل» «3» ، فقالت: فإن لم يصبها وابل فما نهى أمير المؤمنين عنه، فقال لها: يا علية ولا في القرآن، ثم أذن له فيما بعد أن يكون بمكانه من بابها في جملة الخدم، ولا يتأخر عنهم ولا(10/341)
يتقدم، فكان على ذلك وهي أشدّ ما كانت به ولوعا، وإليه نزوعا، تتشكى الظمأ، ولا ترى الماء إلا ممنوعا «1» ، ومضت عليها أيام لا تراه، فمشت على ميزاب مخاطرة في هواه، فلما وصلت إليه أنشدت من حرقتها عليه: «2» [الكامل]
قد كان من كلّفته زمنا ... يا طل من وجد بكم يكفي
حتى أتيتك زائرا عجلا ... أمشي إلى حتفي على حتفي
وقالت في طل وصحفت اسمه: «3» [الطويل]
أيا سروة البستان طال تشوقي ... فهل لي إلى ظل إليك سبيل
متى يلتقي من ليس يقضى خروجه ... وليس لمن يهوى إليه سبيل
وكانت لأم جعفر جارية يقال لها طغيان، فوشت بعلية إلى رشأ وقالت عنها ما لم تقل، فقالت علية فيها: «4» [الطويل]
لطغيان خف مذ ثلاثين حجة ... جديد فلا يبلى ولا يتخرّق
وكيف بلى خف هو الدهر كله ... على قدميها في السماء معلق
فما خرقت خفا ولم تبل جوربا ... وأما سراويلاتها فتمزق
ومن شعرها وقولها: «5» [ص 210] [المديد]
نام عذالي ولم أنم ... واشتفى الواشون من سقمي
وإذا ما قلت بي ألم ... شك من أهواه في ألمي(10/342)
وقولها وقد خرجت مع أخيها الرشيد: «1» [الطويل]
ومغترب بالمرج يبكي لشجوه ... وقد غاب عنه المسعدون على الحب «2»
إذا ما أتاه الركب من نحو أرضه ... تنشق يستشفي برائحة الركب
وقولها: «3» [الطويل]
وأحسن أيام الهوى يومك الذي ... تروع بالهجران فيه وبالعتب
ومنه قولها: «4» [مجزوء الكامل]
اشرب على وجه الغزال ... الناعم الحلو الدلال «5»
اشرب عليه وقل له ... يا غلّ ألباب الرجال
وقولها: «6» [مجزوء الرجز]
منفصل عني وما ... قلبي عنه منفصل
يا قاطعي اليوم لمن ... نويت بعدي أن تصل؟(10/343)
70- ومنهم- أبو عيسى «1»
الزبير «2» علمه الغناء والفراغ، وظفر الاعتناء منه بما يراغ «3» ، ولم يرعه من صنعة هذه الصنعة شرف أبيه، وشره مثله إلى ما يعليه، ونزوع نفسه إلى التشبه بأخويه، والتشبث بما كان يؤمل أن يصير إليه. وإنما أعجزه؟ على غرة شبابه عمه إبراهيم فخلّط عليه، وكان ذا جمال لا يدع لذي حسن نفاقا، وكمال يدير «4» عليه من حذق نطاقا.
قال الأصفهاني: ومن شعره وله فيه صنعة: «5» [مجزوء الرجز]
قام بقلبي وقعد ... ظبي نفى عني الجلد
خلفني مدلها ... أهيم في كل بلد
أسهرني ثم رقد ... ومارثى لي من كمد
ظبي إذا ازددت له ... تذللا تاه وصد [ص 211]
واعطشا إلى فم ... يمج خمرا من برد
وكان يقال: انتهى جمال ولد الخلافة إلى أولاد الرشيد، ومن اولاد الرشيد إلى محمد وأبي عيسى [وكان أبو عيسى] إذا عزم على الركوب جلس الناس له حتى يروه، اكثر مما كانوا يجلسون للخلفاء.
قال الرشيد لأبي عيسى وهو صبي: ليت جمالك لعبد الله (يعني المأمون) فقال: على أن حظه منك لي، فعجب من جوابه على صباه وضمه إليه وقبله.(10/344)
ولما قال [أبو] عيسى: «1» [الطويل]
دهاني شهر الصوم لا كان من شهر ... ولا صمت شهرا بعده آخر الدهر
فلو كان يعديني الإمام بقدرة ... على الشهر لا ستعديت جهدي على الشهر
ناله بعقب قوله لهذا الشعر صرع، فكان يصرع في اليوم مرات، ولم يبلغ شهرا مثله.
قال ابن حمدون: قلت لإبراهيم بن المهدي: من أحسن الناس غناء؟
قال: أنا، قلت: ثم من؟ قال: أبو عيسى بن الرشيد، قلت: ثم من؟ قال مخارق.
قال: كان أبو عيسى بن الرشيد وطاهر بن الرشيد يتغديان مع المأمون. فأخذ أبو عيسى هندباءة «2» وغمسها في الخل، وضرب بها عين طاهر الصحيحة، فغضب وقال: يا أمير المؤمنين: إحدى عيني ذاهبة، والأخرى على يدي عدل، يفعل بي هذا بين يديك؟ فقال المأمون: يا أبا الطيب، إنه والله يعبث معي أكثر من هذا العبث.
قيل: كان المأمون يخطب يوم جمعة على المنبر بالرصافة، وأخوه أبو عيسى تلقاء وجهه في المقصورة، إذ أقبل يعقوب بن المهدي، وكان من أفسى الناس، معروفا بذلك، فلما أقبل وضع أبو عيسى كمه على أنفه، وفهم المأمون ما أراد، فكاد أن يضحك، فلما انصرف بعث إلى أبي عيسى فأحضره وقال: والله لهممت أن ابطحك فأضربك مئة درة «3» ، ويلك أردت أن تفضحني بين أيدي(10/345)
الناس يوم الجمعة وأنا على المنبر، إياك أن تعود لمثل هذا، وكان يعقوب بن المهدي لا يقدر أن يمسك الفساء إذا جاءه، فاتخذت له داية مثلثة «1» [ص 212] وطيبتها وتنوقت فيها، فلما وضعتها تحته [فسا] ، فقال: هذه ليست بطيبة، [فقالت له الداية هذه قد كانت طيبة] وهي مثلثة، فلما ربعتها فسدت.
قال: وكان يعقوب هذا محمّقا، وكان يخطر بباله الشيء يشتهيه، ثم يثبت تحته ليس عندنا، فوجد في دفتر له ثبت ما في الخزانة من الثياب المثقلة الإسكندرانية، لا شيء، الفصوص الياقوت الأحمر من حالها كذا ومن نعتها كذا: لا شيء، فحمل إلى المأمون ذلك الدفتر فضحك لما قرأه حتى فحص برجليه وقال: ما سمعت بمثل هذا قط.
قال عمرو بن سعيد: لما مات أبو عيسى بن الرشيد وجد عليه المأمون وجدا شديدا، حتى امتنع من النوم ولم يطعم شيئا، فدخل عليه أبو العتاهية، فقال له المأمون: حدثني بحديث بعض الملوك ممن كان قبلنا في مثل بعض حالنا وفارقها، فحكى له حكاية الجارية التي أخبر سليمان بن عبد الملك أنها عرضت له وهو خارج إلى الجمعة، وأنشدته: «2» [الخفيف]
أنت خير المتاع لو كنت تبقى
البيتان
وأنه أعرض بوجهه، فلم تدر عليه الجمعة إلا وهو تحت التراب.(10/346)
قال: فبكى المأمون والناس، فما رأيت أكثر باكيا من ذلك اليوم، والبيتان لموسى شهوات.
ومن شعر أبي موسى وله فيه صنعة: «1» [مجزوء الخفيف]
رقدت عنك سلوتي ... والهوى ليس يرقد
وأطار السهاد نو ... مي فنومي مسهد
أنت بالحسن منك يا ... أحسن الناس تشهد
وفؤادي بحسن وج ... هك يشقى ويكمد
71- علّويه «2»
كوكب أفق وسحب أنواء دفق، توقل «3» منارا، وتوقد شجره الأخضر نارا، صنع غرائب الألحان، وظهر بعجائب الامتحان، وأدنته مجالس الخلفاء، وأدنته «4» بالزيادة على الأكفاء وحلت له عقدة الحظ، وعقلة الزمن الفظ، فباء بالنعم الوافرة، وآب بالآمال النافرة، وراد معاندة خاسر [ص 213] الصفقة، حاسي الرفقة، لا يضم رجاؤه على النجاح كشحا، ولا تأتيه دقائق الرزق إلا رشحا.
قال أبو الفرج، قال أبو عبيد الله بن حمدون، حدثني أبي قال: اجتمعت مع إسحاق يوما في بعض دور بني هاشم، وحضر علويه فغنى أصواتا، ثم غنى من(10/347)
صنعته: «1» [الطويل]
ونبئت ليلى أرسلت بشفاعة ... إلي فهلا وجه ليلى شفيعها
فقال له: أحسنت والله يا أبا الحسن ما شئت، فقام علويه من مجلسه فقبل رأس إسحاق وجلس بين يديه، وسر بقوله سرورا شديدا، ثم قال له: أنت سيدي وأستاذي، ولي إليك حاجة، قال: قل فو الله إني أبلغ فيها ما تحب، فقال: أيما أفضل أنا عندك أم مخارق فإني أحب أن يسمع منك في هذا المعنى قول يؤثر ويحكيه عنك من حضر، فتشرفني به، قال إسحاق: ما منكما إلا محسن مجمل، ولا نريد أن يجري في هذا شيء، قال: سألتك بحقي عليك وبتربة أبيك، وبكل حق تعظمه إلا ما حكمت، فقال: ويحك لو كنت أستجيز أن أقول غير الحق لقلته فيما تحب، فأما إذ أبيت إلا ذكر ما عندي، فلو خيرت أنا من يطارح جواري أو يغنّيني، لما اخترت غيرك، ولكنكما إذا غنيتما بين يدي خليفة أو أمير، غلبك على إطرابه، واستبد عليك بجائزته، فغضب علويه، وقام وقال: أفّ من رضاك، وأف من غضبك.
قال عبد الله بن طاهر، سمعت الواثق يقول: علويه أصح الناس صنعة بعد إسحاق، وأطيب الناس صوتا بعد مخارق، وأضرب الناس بعد زلزل «2» ، فهو مصلي «3» كل سابق ناذر «4» ، وثاني كل أول فاضل.
قال: وكان الواثق يقول: غناء علويه مثل نقر الطست يبقى ساعة في السمع بعد سكونه.
وكان علويه أعسر، وكان عوده مقلوب الأوتار، البم أسفل، ثم المثلث فوقه،(10/348)
ثم المثنى ثم الزير، فيكون مستويا على يده، مقلوبا في يد غيره.
قال: غنى علويه يوما بين يدي الأمين «1» : [ص 214] [الرمل]
ليت هندا أنجزتنا ما تعد ... وشفت أنفسنا مما تجد
وكان الفضل بن الربيع يضطغن عليه شيئا، فقال للأمين: إنما يعرض بك ويحرض المأمون، ويستبطئ محاربته إياك، فأمر به فضرب خمسين سوطا «2» وجر برجله حتى أخرج، وجفاه مدة، فلما قدم المأمون، تقرب إليه بذلك، فلم يقع له بحيث يحب، وقال له: إن الملوك بمنزلة الأسد والنار فلا تتعرض لما يغضبه، فإنه ربما جرى منه ما يتلفك، ثم لا تقدر بعد ذلك على تلافي ما فرط منه، ولم يعطه شيئا.
ومثل هذا من «3» فعل الأمين ما حكاه إسحاق قال: دخلت يوما على الأمين فرأيته مغضبا كالحا، فقلت: ما للأمير تمم الله سروره ولا نغصه إياه كالخاثر، فقال: غاظني أبوك الساعة، والله لو كان حيا لضربته خمس مئة سوط، ولولاك لنبشت الساعة قبره وأحرقت عظامه، فقمت على رجلي وقلت: أعوذ بالله من سخطك يا أمير المؤمنين، ومن أبي وما مقداره حتى تغتاظ منه، وما الذي غاظك، فلعل له عذرا فيه، فقال: شدة محبته المأمون، وتقديمه إياه عليّ قال في الرشيد شعرا يقدمه علي وغناه فيه، وغنيته الساعة فأورثني هذا الغيظ، فقلت:
والله ما سمعت بهذا قط، ولا لأبي غناء إلا وأنا أرويه، ما هو؟ «4» فقال قوله: «5»(10/349)
[الوافر]
أبو المأمون فينا والأمين ... له كنفان من كرم ولين
فقلت له: لم يقدم المأمون هذا لتقديمه إياه في الموالاة، ولكن الشعر لم يصح وزنه إلا هكذا، فقال: وكان ينبغي له إذا لم يصح وزنه إلا هكذا أن يدعه إلى لعنة الله، قال: فلم أزل أرفق به إلى أن سكن، فلما قدم المأمون سألني عن هذا الحديث، فحدثته به فجعل يضحك ويتعجب منه.
قال أحمد بن يحيى المكي: دخلت على علويه أعيده من علة اعتلها، فجرى حديث المأمون، فقال: علم الله كدت أذهب ذات يوم وأنا معه، لولا أن الله عز وجل سلمني ووهب [ص 215] لي حكمة، فقلت كيف كان ذاك؟ قال: كنت معه لما خرج إلى الشام، فدخلنا دمشق وجعل يطوف على قصور بني أمية، فدخلنا صحنا «1» ، فإذا هو مفروش بالديباج والرخام الأخضر، وفيه بركة ماء يدخلها ويخرج منها من عين تصب إليها، وفي البركة سمك، وبين يديها بستان، وعلى أربع زواياها أربع سروات «2» ، كأنها قصت بمقراض من التفافها أحسن ما رأيت قط من السرو قدا، فاستحسن ذلك وعزم على الصبوح «3» ، وقال: هاتوا لي الساعة طعاما خفيفا، فأتي ببزماورد «4» فأكله، ودعا بالشراب، وأقبل علي فقال: غنني ونشطني، فكأن الله عز وجل أنساني الغناء «5» [كله إلا(10/350)
هذا الصوت: «1» [المنسرح]
لو كان حولي بني أمية لم ... تنطق رجال أراهم نطقوا]
فنظر إلي مغضبا وقال: عليك وعلى بني أمية لعنة الله، ويلك، قلت لك سؤني أو سرّني، ألم يكن لك وقت تذكر فيه بني أمية إلا هذا الوقت تعرض بي، فتحيلت عليه وعلمت أني قد أخطأت، فقلت: أتلومني على أن أذكر بني أمية، هذا مولاكم زرياب «2» عندهم «3» يركب في مئتي غلام له، ويملك ثلاث مئة ألف دينار، وهبوها له، سوى الخيل والضياع والرقيق، وأنا عندكم أموت جوعا!! قال: أو لم يكن لك شيء تذكرني به نفسك غير هذا؟ فقلت: هكذا خطر لي حين ذكرتهم، قال: اعدل عن هذا ونبه على إرادتي، فأنساني الله كل شيء أحسنه إلا هذا الصوت: «4» [الكامل]
الحين ساق إلى دمشق وما ... كانت دمشق لأهلها بلدا
فرماني بالقدح فأخطأني، وانكسر القدح، وقال: قم عني إلى لعنة الله وحر سقر، وقام فركب، فكانت والله تلك الحالة آخر عهدي به، حتى مرض ومات.
قال: ثم قال لي علويه: يا أبا جعفر، كم تراني أحسن، أغني ثلاثة آلاف صوت أربعة آلاف صوت؟ خمسة آلاف صوت؟ أنا والله أغني أكثر من ذلك، ذهب(10/351)
والله كله عني، حتى كأني لم اعرف غير ما غنيت، ولقد ظننت أن لو كان لي ألف روح، ما نجت منها واحدة، ولكنه كان رجلا حليما.
قال: وغنى يوما علويه بحضرة الرشيد: «1» [ص 216] [الكامل]
وأرى الغواني لا يواصلن امرأ ... فقد الشباب وقد يصلن الأمردا
فدعابه الرشيد وقال: يا عاض بظر أمه، تغني في مدح المرد وتذم الشيب، وستارتي منصوبة وقد شبت، كأنك إنما تعرض بي، ثم دعا بمسرور فأمره أن يأخذ بيده فيضربه مئة «2» درة، ولا يرد إلى مجلسه، ففعل ذلك به، ولم ينتفع الرشيد يومئذ بنفسه.
قال: دخل علويه يوما على إبراهيم بن المهدي، فقال له إبراهيم: ما الذي أحدثت بعدي من الصنعة يا أبا الحسن؟ قال: صنعت صوتين، قال فهاتهما إذا، فغناه: «3» [الطويل]
ألا إن لي نفسين نفسا تقول لي ... تمتع بليلى ما بدا لك لينها
ونفسا تقول استبق ودك واتئد ... ونفسك لا تطرح على من يهينها
قال: فكاد إبراهيم أن يموت من حسده، وتغير لونه، ولم يدر ما يقول له، لأنه لم يجد في الصوت مطعنا، فعدل عن الكلام في هذا المعنى، وقال له: هذا يدل على أن ليلى هذه كانت من لينها مثل الموم «4» بدهن البنفسج، ثم سأله عن(10/352)
الصوت الآخر [فغناه] : [الطويل] «1»
إذا كان لي شيئان يا أم مالك ... فإن لجاري منهما ما تخيرا
وفي واحد إن لم يكن غير واحد ... أراه له أهلا إذا كان مقترا
قال: فكاد إبراهيم أن يموت حسدا له، قال: وإن كان لك امرأتان يا أبا الحسن، حبوت جارك بواحدة، فخجل علويه وما نطق بحرف بقية يومه.
72- ومنهم- مخارق «2»
نبعة لا يقاتل بغرب، ولا يقابل في طرب، أتى في الغناء بكل خارق، وواتى ضربه إيماض كل شارق، وزاحم في مجالس الخلفاء، ووقف والقوم جثيّ على الركب، وقام بحصائد لسانه، وكل واحد به نكب، وكان زبدة تلك الحلبة، ودرّة تلك الجلبة، وأسرع الكل اقتباسا [ص 217] وأبرع نطقا لا يعرف احتباسا، ولهذا كان لا يعدل بأحد، ولا يعد معه من إذا خول النعمة جحد.
قال أبو الفرج: لما صار مخارق للرشيد كان يقف بين يديه ويغني وهو واقف، فغنى ذات يوم ابن جامع: «3» [البسيط](10/353)
كأن نيراننا في جنب قلعتهم ... مصبغات على أرسان قصّار «1»
هوت هرقلة لما أن رأت عجبا ... حمائما ترتمي بالنفط والنار «2»
فطرب الرشيد واستعاده عدة مرات، وهو شعر مدح به الرشيد في فتح هرقلة، فأقبل الرشيد على ابن جامع، وقال له: أحسنت أحسنت، فغمز مخارق إبراهيم الموصلي بعينيه وتقدمه إلى الخلاء «3» ، فلما جاء قال له: مالي اراك منكسرا، قال: أما ترى إقبال أمير المؤمنين على ابن جامع بسبب هذا الصوت، فقال له مخارق: قد والله أخذته، فقال: ويحك إنه الرشيد، وابن جامع من تعلم، ولا يمكن معارضته الا بما يزيد على غنائه، وإلا فهو الموت، فقال: دعني وخلاك ذم، وعرّفه أني أغني به، فإن أحسنت فإليك ينسب إحساني، وأن اسأت فعلي يعود اللوم، قال: صدقت وعاد إلى موضعه، ثم قال: يا أمير المؤمنين، أراك معجبا بهذا الصوت فوق ما يستحقه ويستوجبه، قال: فلقد أحسن فيه ابن جامع ما شاء، قال: أو لابن جامع هو؟ قال: نعم هكذا ذكر، قال: فإن عبدك مخارقا يغنيه غناء أحسن من هذا وأطيب، فنظر إلى مخارق وقال: تغنيه؟
قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: هاته، فغناه وتحفظ فيه، فأتى بالعجائب، فطرب الرشيد حتى كاد يطير فرحا، وشرب، ثم أقبل على ابن جامع فقال: ويلك، ما هذا! فابتدأ يحلف له بالطلاق وكل محرجة أنه لم يسمع ذلك الصوت قط إلا(10/354)
منه، ولا صنعه غيره، وأنها حيلة تمت عليه، فأقبل على إبراهيم، وقال: اصدقني بحياتي، فصدقه في قصة مخارق، قال: نعم يا مولاي، قال: اجلس إذا مع أصحابك، فقد تجاوزت مرتبة من يقوم، فأعتقه ووصله بثلاثة آلاف دينار وأقطعه [ضيعة] ومنزلا.
قال الحسين بن الضحاك: حدثني مخارق [ص 218] أن الرشيد قال يوما وهو مصطبح لجماعة من المغنين: من منكم يغني هذا الصوت «1» : [البسيط]
يا ربع سلمى لقد هيجت لي طربا ... زدت الفؤاد على علاته وصبا
فقمت وقلت: أنا يا أمير المؤمنين، فقال: هاته، فغنيته فطرب وشرب وقال:
علي بهرثمة «2» ، فقلت في نفسي: ما يريد منه، فجاؤوا به فأدخل إليه وهو يجر سيفه، فقال: يا هرثمة، مخارق الشاري الذي قتلناه في ناحية الموصل، ما كانت كنيته؟ قال: أبو المهنا، قال: فانصرف، ثم أقبل علي بوجهه وقال: قد كنيتك أبا المهنا لإحسانك، وأمر له بمائة ألف درهم.
قال: كان الواثق يقول: أتريدون أن تعرفوا فضل مخارق على جميع أصحابه، انظروا إلى هؤلاء الغلمان الذين يقفون في السماط، فكانوا يتفقدونهم وهم وقوف وكلهم يستمع الغناء من المغنين جميعا وهو واقف مكانه ضابط لنفسه،(10/355)
فإذا غنى مخارق خرجوا من صورهم، فتغيرت وجوههم وتحركت ارجلهم ومناكبهم، وظهرت أسباب الطرب فيهم، وازدحموا على الحبل الذي يقفون من ورائه.
قال: سمع إبراهيم الموصلي يوما مخارقا يغني وهو صغير، فقال له: نعم الفسيلة غرس إبليس منك في الأرض.
قال هارون بن محمد بن هشام: دعانا مخارق يوما فأطعمنا جزورية، وجلسنا نشرب، فإذا نحن بامرأة تصيح: يا أبا المهنا، الله الله في، حلف زوجي بالطلاق أن يسمع غناءك ويشرب عليه، قال: اذهبي فجيئي به، فجاء فجلس، فقال له:
ما حملك على ما صنعت، قال: يا سيدي، كنت سمعت صوتا من صنعتك فطربت عليه حتى استخفني الطرب، فحلفت أن أسمعه منك، ثقة بك، وكانت زوجته داية هارون بن مخارق، فقال له: ما الصوت؟ فقال: «1» [الكامل]
بكرت علي فهيجت وجدا ... هوج الرياح وأذكرت نجدا
أتحن من شوق إذا ذكرت ... نجد وأنت تركتها عمدا
[ص 219] فغناه إياه وسقاه رطلا وأمره بالانصراف، وقال له: احذر أن تعاود فانصرف، فلم يلبث أن جاءت المرأة وعاودت الصياح، وهي تقول: يا سيدي، قد عاود اليمين، الله الله فيّ وفي أولادي، فقال: هاتيه، فأحضرته، فقال لها: انصرفي أنت، فإن هذا كلما انصرف حلف وعاود، فدعيه يقيم عندنا اليوم، فتركته وانصرفت، فقال له مخارق: ما قصتك؟ قال: رجل طروب، وكنت سمعت صوتا من صنعتك فاستخفني الطرب حتى حلفت أن أسمعه منك،(10/356)
قال: وما هو؟ قال: «1» [مجزوء الرمل]
ألف الظبي بعادي ... ونفى عني رقادي
وعدا الهجر على الوص ... ل بأسياف حداد
قال: فغناه إياه وسقاه رطلا، ثم قال: يا غلام، ائتني بمقارع، فجيء بها، فأمر بالرجل فبطح وضربه خمسين مقرعة وهو يستغيث ولا يكلمه، ثم قال له:
احلف بالطلاق أنك لا تذكرني أبدا، وإلا كان هذا دأبك إلى الليل، فحلف بالطلاق ثلاثا على ما أمره به، ثم أخرج، فجعلنا نضحك بقية يومنا من حمقه، وما أصاب الرجل.
قال: كان مخارق ممن إذا تنفس أطرب «2» من يسمع نفسه.
قال: خرج مخارق مع بعض إخوانه إلى بعض المتنزهات، فنظر إلى قوس مذهبة مع بعض من خرج معه، فسأله أن يهبها له، فضن المسئول [بها] ، قال: وسنحت ظباء بالقرب منه فقال مخارق: أرأيت إن غنيت صوتا فعطفت به عليك خدود الظباء أتدفع لي هذه الأقواس؟ قال: نعم والله، فاندفع مخارق يغني: «3» [المجتث]
ماذا تقول الظباء ... أفرقة ام لقاء
أم عهدها بسليمى ... وفي البيان شفاء
مرت بنا سانحات ... وقد بدا الإمساء
فما أحارت جوابا ... وطال فيها العناء(10/357)
قال: فعطفت الظباء راجعة إليه حتى وقفت بالقرب منه مستشرفة تنظر إليه، ومصغية تسمع صوته، فعجب من حضر من رجوعها ووقوفها، وناوله الرجل [ص 220] القوس فأخذها، وقطع الغناء فعاودت الظباء نفارها، ومضت راجعة إلى سننها.
قال بعض أصدقاء مخارق: ركبت معه مرة في طيّار «1» ليلا وهو سكران، فلما توسط دجلة اندفع بأعلى صوته، فما بقي أحد في الطيّار من ملاح أو غلام أو خادم إلا بكى من رقة صوته، ورأيت الشمع والسرج «2» من جانبي دجلة في صحون القصور والدور يتساعون «3» بين يدي أهلها يسمعون غناءه.
قال هبة الله بن إبراهيم بن المهدي: غنت شارية يوما بحضرة أبي صوتا، فأحد النظر إليها وقال لها أمسكي، فأمسكت، فقال: عرفت إلى أي شيء ذهبت، أردت أن تتشبهي بمخارق في تزايده.
[قالت: نعم يا سيدي قال: إياك ثم] إياك أن تعودي، فإن مخارقا خلقه الله وحده في طبعه وصوته ونفسه، يتصرف في ذلك أجمع حيث يحب، ولا يلحقه أحد، قد أراد غيرك أن يتشبه به في هذه الحال فهلك وافتضح ولم يلحقه، فلا أسمعنّك تتعرضين لهذا بعد هذا الوقت.
قال مخارق، ودعا أمير المؤمنين محمد الامين يوما، وقد اصطبح، فاقترح علي: [البسيط]
استقبلت ورق الريحان تقطفه ... وعنبر الهند والوردية الجددا(10/358)
ألست تعرفني في الحي جارية ... ولم أخنك ولم ترفع إليّ يدا
فغنيته إياه، فطرب طربا شديدا، وشرب عليه ثلاثة أرطال، وأمر لي بألف دينار، وخلع علي جبة وشي كانت عليه مذهبة ودراعة «1» مثلها وعمامة مثلها، فما لبست ذلك وراه عليّ ندم، وكان كثيرا ما يفعل ذلك، فقال لبعض الخدم:
قل للطباخ يأتينا بمصلية «2» معقودة الساعة، فأتينا بها، فقال: كل معي، فامتنعت لما أعرفه من كراهيته، فحلف أن آكل معه، فحين أدخلت يدي في الغضارة «3» رفع يده وقال: أفّ نغصتها والله وقذرتها بإدخالك يدك معي فيها، ثم رفس القصعة رفسة فإذا هي في حجري وودكها «4» يسيل على الخلعة حتى نفذ إلى جلدي، فقمت مبادرا فنزعتها وبعثت بها إلى منزلي، وغيرت ثيابي، وأنا مغموم بها وهو [ص 221] يضحك، فلما رجعت إلى منزلي، جمعت كل صانع حاذق فجهدوا في إخراج ذلك الأثر منها فلم يخرج، ولم أنتفع بها حتى أحرقتها وأخذت ذهبها. وضرب الدهر ضربة، ثم دعاني أمير المؤمنين المأمون يوما، فدخلت عليه وهو جالس، وبين يديه مائدة عليها رغيفان ودجاجتان «5» ، فقال لي: تعال فكل، فامتنعت، فقال لي: تعال ويلك فساعدني، فجلست وأكلت معه حتى فرغ، ووضع النبيذ ودعا علويه فجلس، وقال: يا مخارق، أتغني: «6» [الطويل](10/359)
أقول التماس العذر لما ظلمتني ... وحملتني ذنبا وما كنت مذنبا
هبيني امرأ إما بريئا ظلمته ... وإما مسيئا قد أناب وأعتبا «1»
فقلت: نعم يا سيدي، قال: غنه، فغنيته، فعبس في وجهي وقال: قبحك الله، أهكذا يغنى هذا؟ ثم أقبل على علويه فقال: أتغنيه، قال: نعم سيدي، قال: غنه، فغناه، فو الله ما قاربني فيه، فقال: أحسنت والله، وشرب رطلا واستعاده ثلاثا، ثم شرب عليه ثلاثة أرطال، وأعطاه كل مرة يعيده عشرة آلاف درهم، ثم خذف «2» بإصبعه وقال: برق يمان، وكان إذا أراد قطع الشراب فعل ذلك، وقمنا فعلمت من أين أتيت.
ولما كان بعد أيام دعاني «3» فدخلت وهو جالس في ذلك الموضع يأكل، فقال لي: تعال يا مخارق، فقلت لا والله يا سيدي ما أقدر على ذلك، فقال:
تعال ويلك أتراني [بخيلا] على الطعام لا والله، ولكني أردت أن أؤدبك، أن السادة لا ينبغي لعبيدها ان تؤاكلها، أفهمت؟ قلت: نعم، قال: فتعال الآن وكل على الأمان، فقلت: إذا أكون أول من أضاع تأديبك أياه، واستحق العقوبة من قرب، فضحك حتى استغرق، وأمر لي بألف دينار، فمضيت إلى حجرتي المرسومة في الخدمة، وأتيت بطعام فأكلت، ووضع النبيذ، فدعاني ودعا علويه، فلما جلسنا قال: يا علي أتغني: «4» [البسيط]
الم تقولي نعم قالت أرى وهما ... مني وهل يؤخذ الإنسان بالوهم(10/360)
فقال: نعم يا سيدي، قال: هاته، فغناه، فعبس في وجهه وبسر «1» ثم أقبل علي [ص 222] وقال: أتغنيه يا مخارق؟ فقلت: نعم يا سيدي، وعلمت أنه أراد أن يستقيد لي «2» من علويه ويرفع مني، وإلا فما أتى فيه علويه لا يعاب به، فغنيت فطرب وشرب، وأمر لي بعشرة آلاف درهم، وفعل بي ذلك ثلاث دفعات، كما فعل به، ثم أمر بالانصراف فانصرفنا، وما عاودت بعد ذلك مؤاكلة خليفة إلى وقتنا هذا.
قال حج رجل مع مخارق، فلما قضيا الحج وعادا، قال الرجل، بحقي عليك غنني صوتا، فغنى: «3» [الطويل]
رحلنا فشرّقنا وراحوا فغرّبوا ... وفاضت لروعات الفراق عيون
فرفع الرجل يده إلى السماء وقال: اللهم إني أشهدك أني قد وهبت حجتي له.
وتوفي مخارق في أول خلافة المتوكل، وقيل: بل في آخر خلافة الواثق، وذكر ابن خرداذبة أنه كان أكل قرنبيطيّة باردة فقتلته من يومه.
73- عريب جارية المأمون «4»
وهي التي تحفظ أخبارها، ولا يقاس عليها، ولا يقال عن أحد فيكون بالنسبة(10/361)
إليها، وكانت أنفذ من السهام إلى أغراضها «1» وأطيب من زوال السقام لأمراضها، غلب معها المأمون وسرت إلى هواها سرى الأمون، وكانت لا تتحاشى، ولا ترى لها بغير أن تعاشر انتعاشا، وكانت ذات فنون ومحاسن كما في الظنون، وبديهة تتوقد، وميامن كأنها الفرقد.
ذكرها أبو الفرج الأصفهاني وقال، قال: دخل أبو عبيد الله الحسامي على المعتز، وعريب تغني فقال: يا بن هشام غن، فقلت: تبت من الغناء مذ قتل سيدي المتوكل، فقالت له عريب: قد والله أحسنت حيث تبت فإن غناءك كان لا متقنا ولا صحيحا ولا مطربا، فأضحكت أهل المجلس منه وخجل.
وكانت عريب مولدة في دار جعفر بن يحيى، وقيل إن أمها كانت تسمى فاطمة، وإن جعفرا تزوجها سرا وأسكنها دارا، ووكل بها من يحفظها، وكان يتردد إليها، فولدت عريبا في إحدى وثمانين ومئة، وعاشت ستا وسبعين [ص 223] سنة.
قال: وماتت أم عريب في حياة جعفر بن يحيى، فدفعها إلى امرأة نصرانية وجعلها داية لها، فلما حدثت الحادثة بالبرامكة باعتها من شنين «2» النخاس، فباعها من عبد الله بن إسماعيل المراكبي، ثم باعها فاشتراها المأمون بخمسين ألف درهم.
قال الفضل بن مروان: كنت إذا نظرت إلى قدمي عريب «3» شبهتها بقدمي جعفر(10/362)
ابن يحيى.
قال: وذكرت بلاغتها لبعض الكتاب فقال: وما يمنعها من ذلك وهي بنت جعفر ابن يحيى.
قال أبو العنبس بن حمدون، حدثني أبي قال: دخلنا على عريب يوما مسلمين، فقالت: أقيموا اليوم عندي حتى أطعمكم لوزينجه «1» صنعتها بدعة بيدها من لوز رطب، وأغنيكم أنا وهي، قال: فقلت لها: على شريطة، قالت: وما هي؟
قلت: شيء أريد أن أسألك عنه وأنا أهابك، قالت: ذاك إليك وأنا أقدم الجواب قبل أن تسأل، تريد أن تسألني عن شرطي أي شيء هو، فقلت: والله ذلك الذي أردت، قالت: شرطي أير صلب ونكهة طيبة، فإن انضاف إلى ذلك حسن وجمال زاد قدره عندي، وإلا فهذا ما لا بد منه.
قال: عتب المأمون على عريب بهجرها أياما ثم اعتلت فعادها، فقال لها: كيف وجدت طعم الهجر، فقالت: يا أمير المؤمنين، لولا مرارة الهجر ما عرفت حلاوة الوصل، ومن ذم بدء الغضب، أحمد عاقبة الرضا، فخرج المأمون إلى جلسائه فحدثهم ذلك، ثم قال: أترى هذا لو كان من كلام [النظام] «2» ألم يكن كبيرا.
قال: وكانت عريب تهوى محمد بن حامد، فكتب إليها: أخاف على نفسي، فكتبت إليه «3» [المتقارب](10/363)
إذا كنت تحذر ما تحذر ... وتزعم أنك لا تجسر
فما لي أقيم على صبوتي ... ويوم لقائك لا يقدر
فصار إليها من وقته واصطلحا، واقام عندها يومه
قال [ص 224] ابن حمدون: ركبت ليلة في حاجة للمأمون، فإذا أنا بصوت حافر، ووافت برقة فأضاء لها وجه الراكب، فإذا عريب، فقلت: عريب: قالت:
نعم، ابن حمدون؟ قلت: نعم، ثم قلت لها: من أين أقبلت في هذا الوقت؟
قالت: يا تكش «1» ! عريب في مثل هذا الوقت من عند محمد بن حامد خارجة من مضرب الخليفة وراجعة إليه، تقول أي شيء عملت عنده؟! صليت معه التراويح، أو قرأت عليه جزءا من القرآن؟! أو دارسته شيئا من الفقه؟! يا أحمد، تحادثنا وتعاتبنا وأكلنا وشربنا ولعبنا وغنينا وتنايكنا [وانصرفنا] ، فأخجلتني وغاظتني، وافترقنا، ومضيت في حاجتي ثم عدت إلى المأمون، فأخذنا في الحديث وتناشدنا الاشعار، فهممت أن أحدثه بحديثها، ثم هبت أن أذكر ذلك، فقلت أقدم قبل ذلك تعريضا بشيء من الشعر، فأنشدته: «2» [الطويل]
ألا حي أطلالا لواسعة الحبل ... ألوف تساوي صالح القوم بالرذل
فلو أن من أمسى بجانب تلعة ... إلى جبلي طيّ مساقطة الحبل
جلوس إلى أن يقصر الظل عندها ... أراحوا وكل القوم منها على وصل
فقال لي المأمون: اخفض صوتك لا تسمع عريب فتغضب، وتظن أنك في حديثها، فأمسكت عما أردت [أن أخبره] وخار الله في ذلك.(10/364)
قال اليزيدي: خرجت مع المأمون في خرجته إلى الروم، فرأيت عريب في هودج، فلما رأتني قالت: يا يزيدي: أنشدني شعرا قلته حتى أصنع فيه لحنا، فأنشدتها: «1» [الرجز]
ماذا بقلبي من دوام الخفق ... إذا رأيت لمعان البرق
من قبل الأردن أو دمشق ... لأن من أهوى بذاك الأفق
ذاك الذي يملك مني رقي ... ولست أبغي ما حييت عتقي
فلما سمعته تنفست نفسا ظننت أن ضلوعها قد تفصلت منه، فقلت: والله هذا نفس عاشق، فقالت: اسكت يا عاجز، أنا أعشق؟ والله لقد نظرت نظرة مريبة في [ص 225 مجلس فادعاها من أهل المجلس عشرون رئيسا، ما علم أحد منهم لمن كانت إلى اليوم.
قال ابن حمدون: وقعت ملاحاة بين عريب وبين محمد بن حامد وشر، وكان في قلبها أكثر مما في قلبه منها، فلقيته يوما فقالت له: كيف قلبك يا محمد، قال: أشقى والله ما يكون وأقرحه، فقالت: استبدل تسل، فقال: لو كانت البلوى باختيار لفعلت، فقالت: لقد طال إذا تعبك، فقال: وما يكون؟ أصبر مكرها، اما سمعت قول العباس بن الأحنف: «2» [الكامل]
تعب يطول مع الرجاء لذي الهوى ... خير له من راحة في الياس
لولا كرامتكم لما عاتبتكم ... ولكنتم عندي كبعض الناس
قال: فذرفت عيناها واعتذرت إليه وعاتبته، واصطلحا.(10/365)
قال أحمد بن عبد الله بن إسماعيل المراكبي، قالت لي عريب: حج بي أبوك وكان مضعوفا، فكان عديلي «1» ، وكنت في طريقي أطلب الأعراب فاستنشدهم الأشعار، وأكتب عنهم النوادر، فوقف شيخ من الاعراب يسأل، فاستنشدته، فأنشدني: «2» [البسيط]
يا عز هل لك في شيخ فتى أبدا ... وقد يكون شباب غير فتيان
فاستحسنته، ولم أكن سمعته قبل ذلك، فاستنشدته «3» باقي الشعر فقال لي: هو يتيم، فاستملحت قوله وبررته، وحفظت البيت وغنيت فيه لحنا من الثقيل الأول، ومولاي لا يعلم بذلك لضعفه، فلما كانت عشية ذلك اليوم، قال لي: ما كان أحسن البيت الذي أنشدك الأعرابي إياه وقال لك إنه يتيم، أنشدينيه إن كنت حفظته، فأنشدته إياه وأعلمته أني قد غنيت فيه، ثم غنيته له، فوهب لي ألف درهم، وفرح بالصوت فرحا شديدا.
قال أبو الخطاب العباس بن أحمد بن الفرات، حدثني أبي قال: كنا يوما عند جعفر بن المأمون نشرب، وعريب حاضرة، اذ غنى بعض من كان هناك «4» [ص 226] [الكامل]
يا بدر إنك قد كسيت مشابها ... من وجه ذاك المستنير الواضح
وأراك تمحص بالمحاق وحسنها ... باق على الأيام ليس ببارح «5»(10/366)
فطربت عريب وصفقت ونعرت «1» ، وقالت: ما على وجه الارض من يعرف خبر هذا الصوت غيري، فلم يعرف ولم يقدر أحد منا على مسألتها عنه غيري، [فسألتها] فقالت: أنا أخبركم بقصته، ولولا أن صاحب القصة قد مات، لما أخبرتكم، إن أبا محلم قد قدم بغداد فنزل بقرب دار صالح المسكين في خان هناك، فاطلعت أم محمد على أبي محلم يوما فرأته يبول فأعجبها متاعه، فأحبت مواصلته، فجعلت لذلك علة بأن وجهت إليه تقترض منه مالا، وتعلمه أنها في ضيقة، وأنها ترده إليه بعد جمعة، فبعث إليها عشرة آلاف درهم، وحلف لها أنه لو ملك غيرها لبعث به، فاستحسنت ذلك منه وواصلته، وجعلت القرض سببا للوصلة، وكانت تدخله إليها ليلا، وكنت أنا أغني لهم، فشربنا ليلة في القمر، وجعل أبو محلم ينظر إليها، ثم دعا بدواة ورقعة، وكتب فيها:
[الكامل]
يا بدر إنك قد كسيت مشابها ... من وجه أم محمد ابنة صالح
والبيت الآخر، وقال لي: غني فيه، ففعلت واستحسناه وشربنا عليه، فقالت لي أم محمد في آخر المجلس: يا أختي انك قد غنيت في هذا الشعر وأراه سيبقى علي فضيحة آخر الدهر، قال أبو محلم، فأنا أغيره، فجعل مكان (ام محمد ابنة صالح) ، (ذاك المستنير اللائح) ، وغنيته كما غيره، وأخذه الناس عني ولو كانت أم محمد حية، لما أخبرتكم بالخبر.
قال أبو الحسن بن الفرات: كنت يوما عند أخي أبي العباس بن الفرات، وعنده عريب تغني، فقالت لأخي، وقد جرى ذكر الخلفاء: ناكني منهم ثمانية، ما اشتهيت منهم أحدا، إلا المعتز، قال ابن الفرات: فأصغيت إلى بعض بني أخي،(10/367)
فقلت: كيف ترى شهوتها الساعة، فضحك من قولي، فقالت: أي شيء قلتم؟
فجحدتها، فقالت: جواري حرائر [ص 227] لئن لم تخبراني بما قلتما لأنصرفن، ولئن قلتما لي لاحذرت من شيء جرى، ولو أنها تسفيل، فصدقتها فقالت: وأي شيء في هذا، أما الشهوة فبحالها، ولكن الآلة قد ضعفت، عودوا إلى ما كنتم فيه.
قال أبو عبد الله بن حمدون: زارت عريب محمد بن حامد، وجلسا جميعا فجعل يعاتبها ويقول: فعلت كذا وفعلت كذا، فقالت: يا عاجز، خذ فيما نحن فيه، واجعل سراويلي مخنقتي «1» ، والصق خلخالي بقرطي، فإذا كان غد فاكتب إلى بعتابك حتى أكتب اليك بعذري، فقد قال الشاعر: «2» [الوافر]
دعي عد الذنوب إذا التقينا ... تعالي لا نعد ولا تعدي
قال: اصطبح المأمون وعنده ندمان، وفيهم محمد بن جامع وجماعة من المغنين، وعريب معه على مصلاه، فأومأ محمد بن حامد إليها بقبلة، فاندفعت تغني ابتداء: «3» [الطويل]
رمى ضرع ناب فاستمر بطعنة ... كحاشية البرد اليماني المسهم
فقال المأمون: أمسكي، فأمسكت، ثم أقبل على الندماء فقال: من منكم أومأ إلى عريب بقبلة؟ والله لئن لم يصدقني لأضربن عنقه، فقام محمد فقال:
أنا يا أمير المؤمنين أومأت إليها، والعفو أقرب للتقوى، فقال: قد عفوت عنك.
فقال: [كيف] استدل أمير المؤمنين على ذلك فقال: ابتدأت صوتا وهي لا تغني(10/368)
ابتداء أبدا إلا لمعنى، فعلمت أنها لم تبتدئ بهذا الصوت إلا لشيء أومئ إليها به، ولم يكن من شرط هذا المعنى إيماء إلا بقبلة، فعلمت أنها أجابت بطعنة.
قال: لما وقف المأمون على خبرها مع محمد بن حامد، أمر بالباسها جبة صوف وختم زيقها «1» وحبسها شهرا في كنيف «2» مظلم لا ترى الضوء، يدخل إليها خبز وملح وماء من تحت الباب، ثم ذكرها فرق لها، وامر باخراجها، فلما فتح الباب عنها وأخرجت، لم تتكلم بكلمة حتى اندفعت تغني: «3» [ص 228] [الكامل]
حجبوه عن بصري فمثّل شخصه ... في القلب فهو محجب ما يحجب
فبلغ المأمون ذلك، فعجب منه، وقال: لن تفلح هذه أبدا.
74- إبراهيم الموصلي «4»
أصلح طرائق الغناء وسددها، وشيد شيز «5» العيدان وشددها، أغري بهذه(10/369)
الصناعة حتى أتقنها، ودافع فيها الشك حتى تيقنها وولع بها والأيام «1» قد لقحت بسعادته، وحملت بحظه ساعة ولادته، حتى انتهت الليلة إلى فجرها «2» والحامل إلى شهرها، فما أجاءها المخاض حتى اغرق في السعادة، وما خاض [حتى] اتصل بالخلفاء، وحصل فوق الاكتفاء، وأثرى ثراء تضيق به الكنوز، وتضيع في معرفته الرموز، واقتنى الجواري اللاتي طلعن أقمارا، وسمعن وكان حديثهن أسمارا.
قال أبو الفرج، قال ابن المنجم: كان سبب قولهم «3» الموصلي أنه لما نشأ وبلغ صحب الفتيان واشتهى الغناء فطلبه، واشتد اخواله عليه في ذلك، وبلغوا منه، فهرب إلى الموصل فأقام بها نحوا من سنة، فلما رجع إلى الكوفة، قال له إخوانه من الفتيان: مرحبا بالفتى الموصلي، فمرت عليه.
قال: وأول خليفة غناه إبراهيم وسمع غناءه المهدي، وكان لا يشرب وأراد من إبراهيم ملازمته وترك الشرب، فأبى وكان يغيب عنه أياما فشرب عند موسى وهارون [فحبسه المهدي وقال] «4» لا تدخل على موسى وهارون البتة، فو الله لئن دخلت عليهما لأفعلن ولأصنعن، فقال: نعم، ثم بلغه أنه دخل عليهما وشرب معهما، وكانا مشهورين «5» بالنبيذ، فدعاه فضربه ثلاث مئة سوط، وقيده وحبسه، فأقام مدة ثم أخرجه وأحلفه بالطلاق والعتاق، وكل يمين لا فسحة له فيها، ألا يدخل على موسى وهارون أبدا، ولا يغنيهما، وخلى سبيله.(10/370)
قال: فلما ولي موسى الهادي الخلافة، استتر إبراهيم منه، فكان منزله يكبس «1» في كل وقت، وأهله يروعون بطلبه، حتى أصابوه فمضوا به إليه، فلما عاينه قال: يا سيدي [فارقت] أم ولدي وأعز خلق الله علي، ثم غناه في شعره: «2» [الخفيف]
يا بن خير الملوك لا تتركني ... غرضا للعدو يرمي حيالي
[ص 229] فلقد في هواك فارقت أهلي ... ثم عرضت مهجتي للزوال
ولقد عفت في هواك حياتي ... وتغربت بين أهلي ومالي
قال إسحاق: فموّله والله الهادي وخوله «3» ، وحسبك أنه أخذ منه في يوم واحد خمسين ألف دينار، ولو عاش لنا لبنينا حيطان دارنا بالذهب والفضة.
قال إسحاق: كان لأبي طعام معد أبدا في كل وقت، وذلك أنه كان له في كل يوم ثلاث شياه: واحدة مقطعة في القدور، وأخرى مسلوخة معلقة، وأخرى حية، فإذا أتاه قوم أطعموا ما في القدور، فإذا فرغ قطعت الشاة المعلقة ونصبت القدور وذبحت الحية فعلقت، وأتي بأخرى وهي حية في المطبخ، وكانت وظيفته [لطعامه] وطيبه في كل شهر ثلاثين ألف درهم سوى ما كان يجري وسوى كسوته، ولولا يقع عندنا من الجواري والودائع لإخوانه ثمانون جارية، ما فيهن واحدة الا ويجري عليها من الطعام والكسوة والطيب، ما يجري لأخص جواريه، فإذا ردت الواحدة إلى مولاها، أوصلها وكساها، ومات وما في ملكه أكثر من ثلاثة آلاف دينار، وعليه من الدين مئة ألف «4» دينار.(10/371)
قال إسحاق: اشترى الرشيد من أبي جارية بستة وثلاثين ألف دينار، فأقامت عنده ليلة، ثم أرسل إلى الفضل بن الربيع يقول: إنما اشترينا هذه الجارية من إبراهيم ونحن نحسب أنها من بابتنا «1» ، فليس كما ظننا، وما قربتها، وقد ثقل علي الثمن، وبينك وبينه ما بيننا، فاذهب إليه وسله أن يحطنا من ثمنها ستة آلاف دينار، وقال: فصار إليه الفضل فاستأذن فخرج أبي إليه فتلقاه فقال: دعني من هذه الكرامة التي لا مؤونة فيها، لست ممن يحب ذلك، وقد جئتك في أمر أصدقك عنه، وخبره بالخبر كله، فقال له أبي إنما أراد أن يبلو قدرك عندي، قال:
ذاك أراد، قال: فما لي عليه في المساكين صدقة، إن لم اضعفه لك، قد حططتك اثني عشر ألف دينار، فرجع إليه الفضل بالخبر فقال له: ويلك، احمل إلى هذا ماله، فما رأيت سوقة قط أنبل منه نفسا. [ص 230]
قال إسحاق: وكنت قد قلت له: ما كان لحطيطة هذا المال معنى، فقال لي: يا أحمق، أنا أعرف الناس به، والله لو أخذت المال منه كاملا، ما أخذته إلا وهو كاره له، ولحقد ذلك علي، وكنت أكون عنده صغير القدر، وقد مننت عليه وعلى الفضل، فانبسطت نفسه، وعظم قدري عنده وإنما اشتريت الجارية بأربعين ألف درهم، وقد اخذت بها أربعة وعشرين ألف دينار، فلما حمل المال بلا حطيطة، دعاني فقال: كيف رأيت يا إسحاق، من البصير أنا أم أنت فقلت: بل أنت جعلني الله فداك.
قال إبراهيم بن المهدي: انصرفت ليلة من الشماسية «2» ، فمررت بدار إبراهيم(10/372)
الموصلي، فإذا هو في روشن، «1» وقد صنع لحنه في: «2» [الطويل]
ألا رب ندمان علي دموعه ... تفيض على الخدين سحا سجومها
فهو يعيده ويلعب فيه بنغمة ويكررها لتستوي له، وجواريه يضربن عليه، فوقفت تحت الروشن حتى أخذته، ثم انصرفت إلى منزلي، فما زلت أعدله حتى بلغت فيه الغاية القصوى، وأصبحت فغدوت إلى الشماسية، واجتمعنا عند الرشيد، فاندفع إبراهيم فغناه أول شيء غناه، فلما سمعه الرشيد طرب واستحسنه وشرب عليه، ثم قال: لمن هذا يا إبراهيم؟ فقال: لي يا سيدي صنعته البارحة، فقلت: كذب يا أمير المؤمنين، هذا الصوت قديم وأنا أغنيه، فقال: غنه يا حبيبي، فغنيته كما غناه إبراهيم، فبهت إبراهيم وغضب الرشيد وقال: يا ابن الفاجرة! أتكذبني وتدعي ما ليس لك؟ قال: فظل «3» إبراهيم بأسوإ حال، فلما صليت العصر، قلت للرشيد: الصوت وحياتك له، ولكنني مررت [به] البارحة وهو يردده وجوار يضربن عليه، فوقفت تحت روشنه حتى حفظته.
قال إسحاق، قال ابن جامع يوما لأبي: رأيت في منامي كأني وإياك راكبان في محمل، فسفلت حتى كدت تلصق بالأرض، وعلا الشق الذي أنا فيه، فلأعلونك في الغناء، قال أبي: الرؤيا حق والتأويل باطل [ص 231] إني وإياك كنا في ميزان فرجحت بي وشالت كفتك، وعلوت ولصقت أنا بالأرض، فلأبقين بعدك ولتموتن قبلي، قال إسحاق: فكان كما قال أبي، علا عليه «4» وأفاد من أكثر فوائده، ومات ابن جامع قبله، وعاش أبي بعده.(10/373)
قال مخارق: اشتغل الرشيد يوما واصطبح مع الحرم، وقد أصبحت السماء مغيمة، فقلت والله لأذهبن إلى أستاذي إبراهيم فأعرف خبره، فجئت فدخلت عليه وهو في رواق له، وبين يديه قدور تغرغر «1» ، وقناني تزهر، والستارة منصوبة، والجواري خلفها، وبين يديه صينية فيها رطلية وكوز وكأس، فقلت:
ما بال الستارة لست أسمع من ورائها؟ فقال: اقعد ويحك، إني أصبحت على الذي ظننت، فأتاني خبر ضيعة تجاورني، قد والله طلبتها زمانا ومنيتها فلم أملكها، وقد أعطي بها مئة ألف درهم، فقلت: وما يمنعك منها؟ فو الله لقد أغناك الله أضعاف هذا المال وأكثر، قال: صدقت، ولست أطيب نفسا بأن أخرج هذا المال، قلت فمن يعطيك الساعة مئة ألف درهم، وما أطمع في ذلك من الرشيد فكيف بمن دونه، فقال: اجلس فخذ هذا الصوت، ثم نقر بقضيب معه على الدواة وألقى علي هذا الصوت: «2» [البسيط] .
نام الخليّون من هم ومن سقم ... وبت من كثرة الأحزان في الم
يا طالب الجود والمعروف مجتهدا ... اعمد ليحيى حليف الجود والكرم
قال: فأخذته فأحكمته، وقال لي امض الساعة إلى باب يحيى بن خالد، فإنك تجد الناس عليه، وتجد الباب قد فتح ولم يجلس بعد، فاستأذن عليه قبل أن يصل إليه أحد، فإنه سينكر مجيئك ويقول لك: من أين أقبلت في هذا الوقت؟
فحدثه بقصدك إياي وما ألقيت إليك من خبر الضيعة، وأعلمه أني صنعت هذا الصوت وأعجبني، ولم أر أحدا يستحقه إلا فلانة جاريته، وأني ألقيته عليك حتى أحكمته لتطرحه عليها، فسيدعو بها، ويأمر بالستارة فتنصب، ويقول لك(10/374)
اطرحه علهيا بحضرتي فافعل، وأثني بما يكون بعدها من الخبر، قال: فجئت باب يحيى فوجدته كما وصف [ص 232] وسألني فأعلمته ما أحضرني به وأمرني به، فأحضر الجارية، فألقيته عليها، ثم قال لي: تقيم عندنا يا أبا المهنا «1» أو تنصرف، فقلت: أنصرف، فقال: يا غلام، احمل مع أبي المهنا عشرة آلاف درهم، واحمل إلى أبي إسحاق مئة ألف درهم ثمن هذه الصنعة، فحملت العشرة آلاف درهم معي، فأتيت منزلي، فقلت أسر يومي هذا، وأسر من عندي، ومضى الرسول بالمال، وأقمت ليلتي فلما أصبحت غدوت عليه، فوجدته على مثل ما كان عليه، فترنمت وطربت، فلم يتلق ذلك بما يجب، فقلت: ما الخبر؟
ألم يأتك المال؟ قال: بلى، قال: فما خبرك أنت فأخبرته بما وهب لي، فقال: ارفع السجف «2» ، فرفعته فإذا عشر بدر «3» ، قلت: في أي شيء بقي عليك في أمر الضيعة؟ فقال: والله ما هو إلا أن دخلت منزلي حتى شححت عليها، وصارت مثل ما حويت قديما، قلت: سبحان الله العظيم، فتصنع ماذا؟ [قال] : قم حتى ألقنك صوتا يفوق ذلك، فقمت فجلست بين يديه، فألقى عليّ: «4» [الطويل]
ويفرح بالمولود من آل برمك ... بغاة الندى والسيف والرمح ذو النصل
وتنبسط الآمال فيه لفضله ... ولا سيما إن كان من ولد الفضل
قال مخارق: فسمعت مالم أسمع مثله قط، وصغر عندي الأول، فأحكمته، وقال: امض الساعة إلى الفضل بن يحيى، فإنك تجده لم يأذن لأحد بعد، وهو(10/375)
يريد الخلوة مع جواريه اليوم، فاستأذن عليه وحدثه بحديثنا الأول من أمس وما كان من أبيه إلينا وإليك، وأعلمه أني صنعت هذا الصوت، وكان عندي أرفع منزلة من الصوت الأول الذي وضعته، وإني ألقيته عليك حتى أحكمته، ووجهت بك قاصدا لتلقيه على فلانة جاريته، فصرت إلى الفضل فوجدت الأمر على ما ذكر، فاستأذنت فوصلت إليه، فسألني عن الخبر، فأعلمته بخبري وما وصل إلي وإليه من المال، فقال: أخزى الله إبراهيم ما أبخله على نفسه! ثم دعا خادما وقال له: اضرب الستارة، فضربها، فقال: ألقه، فألقيته، فلما ألقيته قال:
أحسن والله أستاذك، وأحسنت أنت يا مخارق، ولم أبرح حتى أخذته الجارية وأحكمته [ص 233] فسر بذلك وقال: يا غلام، احمل مع أبي المهنا عشرين ألف درهم، واحمل إلى إبراهيم مئتي ألف درهم، فانصرفت إلى منزلي بالمال فنثرت منه على الجواري، وشربت وسررت أنا ومن عندي، فلما أصبحت بكرت إلى إبراهيم فوجدته على الحال التي كان عليها، فدخلت أترنم وأصفق، فقال لي:
ادن، فقلت: ما بقي؟ فقال: اجلس وارفع سجف هذا الباب فإذا عشرون بدرة مع تلك العشر، فقلت: ما تنتظر الآن؟ فقال: والله ما هو إلا أن حصلت حتى جرى مجرى ما تقدم، فقلت: والله ما أظن أن أحدا نال في هذه الدولة ما نلته، فلم تبخل على نفسك بشيء تمنيته، دهرك، وقد ملكك الله أضعافه؟ ثم قال:
اجلس فخذ هذا الصوت، فألقى علي صوتا أنساني الأولين: «1» [الطويل]
أفي كل يوم أنت صب وليلة ... إلى أم بكر لا تفيق فتقصر
أحب على الهجران أكناف بيتها ... فيالك من بيت يحب ويهجر
إلى جعفر سارت بنا كل جسرة ... طواها سراها نحوه والتهجر
إلى واسع للمجتدين فناؤه ... تروح عطاياه عليهم وتبكر(10/376)
قال مخارق: فسمعت مالم أسمع قط مثله حسنا، فردده علي حتى أخذته ثم قال: امض إلى جعفر فافعل به كما فعلت بأخيه وأبيه، فمضيت ففعلت مثل ذلك، وخبرته بما كان منهما، وعرضت عليه الصوت، فسره وامر خادما فضرب الستارة، وأحضر الجارية وقعد على كرسي، ثم قال: هات يا مخارق، فاندفعت وألقيت الصوت عليها حتى أخذته الجارية، فقال: أحسنت يا مخارق، وأحسن أستاذك، يا غلام، تحمل معه ثلاثين ألف درهم، وإلى الموصلي ثلاث مئة ألف درهم، فصرت إلى منزلي بالمال فأقمت ومن عندي مسرورين نشرب بقية يومنا ونطرب، ثم بكرت إلى إبراهيم فتلقاني قائما وقال لي: أحسنت يا مخارق، فقلت: وما الخبر؟ قال: اجلس، فجلست، فقال لمن خلف الستارة، خذوا فيما أنتم فيه، ثم رفع السجف فإذا المال كاملا، قلت: فما خبر الضيعة؟ فأدخل يده تحت مسورة «1» هي متكأه، فقال: هذا صك [ص 234] الضيعة، سئل عن صاحبها فوجد ببغداد فاشتراها منه يحيى بن خالد، وكتب إلي: قد علمت أنك لا تسخو نفسك بشراء الضيعة بمال يحصل لك ولو حيزت لك الدنيا كلها، وقد ابتعتها لك من مالي، ثم وجه إلي بصكها، وهذا المال كما ترى، ثم بكى وقال:
يا مخارق، إذا عاشرت فعاشر مثل هؤلاء، [هذه] ستمئة ألف درهم، وضيعة بمائة ألف درهم، وستون ألف درهم لك، حصلنا ذلك أجمع وأنا جالس في منزلي لم أبرح منه، متى يوجد مثل هؤلاء؟
قال إسحاق: حضر أبي يوما عند موسى الهادي، فقال له: يا إبراهيم، غنني جنسا من الغناء ألذه وأطيبه وأطرب عليه، ولك حكمك، قال: وكنت أراه لا يصغي إلى شيء من الأغاني إصغاءه إلى النسيب والرقيق [منه] ، فغنيته: «2»(10/377)
[الطويل]
وإني لتعروني لذكراك نفضة ... كما انتفض العصفور بلله القطر
فضرب بيده إلى جيب دراعته فخرقها «1» ذراعا آخر، وقال: زدني، ويلك أحسنت والله ووجب حكمك، فغنيته: «2» [الطويل]
هجرتك حتى قيل لا يعرف الهوى ... وزرتك حتى قيل ليس له صبر
فرفع صوته وقال: أحسنت لله أبوك، ها ما تريد، قلت: يا سيدي، عين مروان بالمدينة، فدارت عيناه في رأسه وقال: يا بن اللخناء، أردت أن تشهرني بهذا المجلس، فيقول الناس: أطربه فحكمه، فتجعلني سمرا وحديثا، يا إبراهيم الحراني، خذ بيد هذا الجاهل إذا قمت فأدخله بيت مال الخاصة، فإن أخذ كل ما فيه فخله وإياه، فدخلت فأخذت منه خمسين ألف دينار.
قال إسحاق: اشترى أبي لجعفر بن يحيى جارية مغنية بمال عظيم، فقال له جعفر: أي شيء تحسن هذه حتى بلغت هذا المال كله؟ قال: لو لم تحسن شيئا إلا أنها تحكي قولي: «3» [الكامل]
لمن الديار ببرقة الروحان
لكانت تساوي وزيادة، فضحك جعفر وقال: أفرطت.(10/378)
وقال إسحاق: صنع أبي تسع مئة صوت، منها دينارية [ص 235] ومنها درهمية، ومنها فلسية، فأما ثلاث مئة منها، فإنه تقدم الناس جميعا فيها، وأما ثلاث مئة فشاركوه وشاركهم، وأما ثلاث المئة الأخرى فلعب وطرب، [وأسقط] إسحاق بعد ذلك ثلاث المئة الأخيرة، وكان بعد ذلك إذا سئل عن صنعة [أبيه] قال ست مئة «1» صوت.
قال إسحاق: غنّي مخارق بين يدي الرشيد صوتا فأخطأ فيه، فقال له: أعد، فأعاده وكان الخطأ خفيا، فقلت للرشيد: سيدي قد أخطأ فيه، فقال لإبراهيم بن المهدي: ما تقول فيما ذكره إسحاق، قال: ليس الأمر كما قال، ولا هاهنا خطأ، فقلت له: أترضى بأبي؟ فقال: إي والله، وكان أبي في بقية علة، فأمر الرشيد بإحضاره فجيء به في محفة «2» ، فقال لمخارق: أعد الصوت، فأعاده، فقال له: ما عندك يا إبراهيم في هذا الصوت، قال: قد أخطأ فيه، فقال: هكذا قال ابنك إسحاق، وذكر أخي إبراهيم أنه صحيح، فنظر إلي وقال: هاتوا دواة، فأتي بها، فكتب شيئا لم يقف عليه أحد، ثم قطعه ووضعه بين يدي الرشيد، وقال لي:
اكتب بذكر الوضع الفاسد من قسمة هذا الصوت، فكتبته وألقيته، فقرأه وضحك، وقام فقرأه بين يدي الرشيد، فعجب ولم يكن أحد في المجلس إلا قرّظ وأثنى ووصف، وخجل إبراهيم بن المهدي.
قال إسحاق: غنى أبي يوما بحضرة الرشيد هذا البيت: «3» [الطويل](10/379)
سلي هل قلاني من عشير صحبته ... وهل ذمّ رحلي في الرّفاق رفيق
فطرب واستعاده وأمر له بألف «1» دينار، فلما كان بعد سنين خطر ببالي ذلك الصوت وذكرت قصته، فغنيته إياه، فطرب وشرب ثم قال لي: يا إسحاق كأن «2» في نفسك ذكر حديث أبيك، وأني أعطيته ألف دينار على هذا الصوت، فطمعت في الجائزة، فضحكت وقلت: والله سيدي ما أخطأت، فقال: أخذ أبوك ثمنه مرة فلا تطمع، فعجبت من قوله، ثم قلت: يا سيدي، قد أخذ أبي منك أكثر من مئتي ألف دينار، ما رأيتك ذكرت منها غير هذا الألف على بختي أنا، فقال: ويحك، أكثر من مئتي ألف؟! فقلت: أي والله، فوجم من ذلك وقال: أستغفر الله من ذلك، ويحك [ص 236] فما الذي خلف منها؟ قلت:
خلّف عليّ ديونا فقضيتها، قال: ما أدري أينا أشد تضييعا، والله المستعان.
قال إسحاق، قال أبي: أتيت الفضل بن يحيى يوما، فقلت له: يا أبا العباس، جعلت فداك، هب لي دراهم، فإن الخليفة قد حبس يده، فقال: ويحك يا أبا إسحاق، ما عندي مال أرضاه لك، ثم قال: هاه! إلا أن هاهنا خصلة، أتانا رسول صاحب اليمن، فقضينا حوائجه، ووجه إلينا بخمسين ألف دينار نشتري لنا بها ما نحب، فما فعلت ضياء جاريتك، قلت: عندي جعلت فداك، قال فهو ذا، أقول لهم حتى يشتروها منك، فلا تنقصها من خمسين ألف دينار، فقبلت رأسه وانصرفت، فبكر عليّ [رسول] صاحب اليمن، ومعه صديق له، فقال: جاريتك فلانة، فقلت: عندي، فقال اعرضها علّي، فعرضتها، فقال: بكم، قلت: بخمسين ألف دينار لا أنقص منها واحدا، وقد أعطاني بها الفضل بن يحيى أمس هذه العطية، فقال لي: له أريدها، فقلت: أنت أعلم إذا اشتريتها فصيرها لمن شئت، فقال لي:(10/380)
هل لك في ثلاثين ألف دينار مسلمة؟ قال: وكان شراء الجارية على أربع مئة دينار، فلما وقع في أذني [ذكر] ثلاثين ألف دينار أرتج علي ولحقني زمع «1» ، وأشار علي صديقي الذي معه بالبيع، وخفت والله أن يحدث بالجارية أو بي أو بالفضل [حدث] فسلمتها وأخذت المال، ثم بكرت إلى الفضل بن يحيى، فإذا هو جالس وحده، فلما نظر إلي ضحك، ثم قال لي: يا ضيق الحوصلة، حرمت نفسك عشرين ألف دينار! فقلت له: جعلت فداك، دع ذا عنك، فو الله لقد دخلني شيء أعجز عن وصفه، وخفت أن تحدث بي حادثة أو بالجارية أو بك أو بالمشتري، فبادرت بقبول ثلاثين ألف دينار، فقال: لا ضير، يا غلام جيء بالجارية، فقال: خذها مباركا لك فيها، فما أردنا إلا نفعك، ولم نرد الجارية، فلما نهضت قال لي: مكانك، رسول صاحب أرمينية قد جاءنا فقضينا حوائجه ونفذنا كتبه، وذكر أنه قد جاءنا بثلاثين ألف دينار يشتري لنا ما نحب، فاعرض عليه جاريتك هذه ولا تنقصها من ثلاثين ألف دينار، فانصرفت [ص 237] بالجارية، وبكر عليّ صاحب أرمينية ومعه صديق لي آخر، فقاولني بالجارية، فقلت: لست أنقصها من ثلاثين ألف دينار، فقال: معي عشرون ألف دينار مسلمة تأخذها بارك الله لك فيها، فدخلني والله مثل ما دخلني في المرة الأولى، وخفت مثل خوفي الأول، فسلمتها إليهم وأخذت المال، وبكرت على الفضل بن يحيى، فلما رآني ضحك وضرب برجله وقال: ويحك حرمت نفسك عشرة آلاف دينار، فقلت له: أصلحك الله، خفت والله مثل ما خفت في المرة الأولى، فقال لي: لا ضير، يا غلام: جاريته، فجيء بها، فقال: خذها ما أردناها ولا أردنا إلا نفعك، فلما ولت الجاري صحت بها ارجعي، فرجعت، فقلت: أشهدك- جعلت فداك- أنها حرة لوجه الله، وأني قد تزوجتها على عشرة آلاف درهم،(10/381)
كسبت لي في يوم خمسين ألف دينار، فما جزاؤها إلا هذا، فقال: وفقت إن شاء الله.
قال: لما [صنع] أبي لحنه: «1» [الرمل]
ليت هندا أنجزتنا ما تعد
خاصمته وعبته في صنعته وقلت له: بإزائك من ينتقد أنفاسك ويعيب محاسنك وأنت لا تفكر تجيء إلى صوت قد عمل [فيه] ابن سريج لحنا فتعارضه بلحن لا يقاربه، والشعر أوسع من ذلك، فدع ما قد اعتورته «2» صناعة القدماء وخذ في غيره، فغضب، وكنت لا أزال أفاخره بصنعتي وأجب «3» ما يعاب من صنعته، فإن قبل مني فذاك، وإن غضب داريته وترضيته، فقال لي: ما يعلم الله أني أدعك أو تفاخرني بخير صوت صنعته في طريقة هذا الصوت، فلما رأيت الجد منه اخترت لحني في: «4» [مجزوء الخفيف]
قل لمن صدّ عاتبا ... ونأى عنك جانبا
وكان ما تجاريناه ونحن نتساير في الصحراء لنقطع فضل خمارنا «5» ، فقال:
من تحب أن يحكم بيننا، فقلت: من ترى يحكم؟ قال: أول من يطلع علينا، أغنيه لحني وتغنيه لحنك، فطمعت فيه وقلت: نعم، وأقبل شيخ نبطيّ على حمار له، فأقبل عليه أبي وقال: إني وصاحبي هذا قد تراضينا بك في شيء،(10/382)
قال: وأي شيء هو؟ قال: زعم كل وأحد منا أنه أحسن غناء من صاحبه، فتسمع مني ومنه وتحكم بيننا، فقال: على اسم الله، فبدأ أبي فغنى لحنه، وتبعته [ص 238] فغنيت لحني، فلما فرغت أقبل عليّ فقال: قد حكمت عليك عافاك الله ومضى، فلطمني [أبي] لطمة ما مر بي مثلها، وسكت فما أعدت عليه حرفا.
قال الرشيد يوما لجعفر بن يحيى: قد طال سماعنا هذه العصابة على اختلاط الأمر فيها، فهلم أقاسمك إياها فأخايرك، فاقتسما المغنين على أن جعلا بإزاء كل رجل نظيره، فكان ابن جامع في حيز الرشيد، وإبراهيم في حيز جعفر، وحضر الندماء لمحنة «1» المغنين، وأمر الرشيد ابن جامع بالغناء، فغنى صوتا أحسن فيه كل الإحسان، وأطرب الرشيد غاية الإطراب، فلما قطعه، قال الرشيد لإبراهيم:
هات هذا الصوت فغنه، فقال: لا والله يا أمير المؤمنين لا أعرفه وظهر الانكسار فيه، فقال الرشيد لجعفر: هذا واحد، ثم قال لابن جامع: غنّ يا إسماعيل، فغنى صوتا ثانيا أحسن من الأول، فلما استوفاه قال الرشيد لإبراهيم: هاته يا إبراهيم، فقال: لا والله لا أعرف هذا، فقال: هذان اثنان، يا إسماعيل غن يا إسماعيل، [فغنى] ثالثا يتقدم الصوتين فلما أتى على آخره، قال: هاته يا إبراهيم، فقال:
ولا والله ما أعرفه، فقال له جعفر: أخزيتنا أخزاك الله، وأتمّ ابن جامع يومه والرشيد مسرور به، وأجازه وخلع عليه، ولم يزل إبراهيم منخذلا حتى انصرف، قال: فمضى إلى منزله، فلم يستقر حتى بعث إلى محمد المعروف بالزف «2» ، وكان من المغنين المحسنين، وكان أسرع الناس أخذا للصوت، وكان الرشيد وجد عليه في أمر فألزمه بيته وتناساه، فقال إبراهيم للزف، إني اخترتك على من هو أحب إليّ منك لأمر لا يصلح له غيرك، فانظر كيف تكون، قال:(10/383)
أبلغ في ذلك محبتك إن شاء الله، فأدى له الخبر وقال: أريد أن تمضي من ساعتك إلى ابن جامع فتعلمه أنك صرت إليه مهنّئا بما تهيأ له علي، وتثلبني وتشتمني، وتحتال في أن تسمع منه الأصوات وتأخذها، ولك كل ما تحبه من جهتي مع رضا الخليفة إن شاء الله، قال: فمضى من عنده فاستأذن على ابن جامع، فأذن له، فدخل وسلم عليه وقال: جئتك مهنئا بما بلغني من خبرك، والحمد لله الذي كشف الفضل عن محلك في صناعتك، قال: وهل بلغك خبرنا؟ قال: هو أشهر من أن يخفى [ص 239] على مثلي، قال: ويحك إنّه يقصر عن العيان، قال: أيها الأستاذ سرني بأن أسمعه من فيك حتى أرويه عنك وأسقط الأسانيد، قال: أقم عندي حتى أفعل، فدعا ابن جامع بالطعام، فأكلنا وشربنا، ثم بدأ وحدثه بالخبر، حتى انتهى إلى خبر الصوت الأول، فقال له الزف: وما هو أيها الأستاذ، فغناه ابن جامع، فجعل محمد يصفق ويشرب، وابن جامع مشتغل في شأنه، حتى أخذه منه، ثم سأله عن الصوت الثاني، فغناه إياه، وفعل مثل ما فعله في الأول، ثم كذلك في الصوت الثالث، فلما أخذ الأصوات وأحكمها، قال له: يا أستاذ، قد بلغت ما أحب، فأذن له بالانصراف، فانصرف محمد من وجهه إلى إبراهيم، فلما طلع من باب داره قال: ما وراءك؟ قال: ما تحب، ادع لي بعود، فدعا به فضرب، وغناه الأصوات، قال إبراهيم: هي وأبيك بصورتها وأعيانها، وأرددها عليّ الآن، فلم يزل يرددها حتى صحّت لإبراهيم، وانصرف محمد إلى منزله، وغدا إبراهيم إلى الرشيد، فلما دعا بالمغنين دخل فيهم، فلما بصر به قال: أو قد حضرت؟ أما كان ينبغي أن تجلس في منزلك شهرا بسبب ما لقيت من ابن جامع، قال: ولم ذلك يا أمير المؤمنين جعلني الله فداك، والله لئن أذنت لي أن أقول لأقولن، قال: وما عساك أن تقول؟ قل، قال: إنه ليس لي ولا لغيري أن يراك متعصبا لحيز فيغاضبك أو يغالبك، وإلا فما في الأرض صوت إلا وأنا أعرفه، فقال له: دع ذا عنك، قد(10/384)
أقررت أمس بالجهالة بما سمعت من صاحبنا، قال: فإن كنت أمسكت عنه بالأمس على معرفة كما تقول، فهاته اليوم، فليست هاهنا عصبية ولا تمييز، فاندفع يغني الأصوات كلها، وابن جامع مصغ مستمع له، حتى أتى على آخرها، فاندفع ابن جامع يحلف بالأيمان المحرجة أنه ما عرفها قط ولا سمعها ولا هي إلا من صنعته لم تخرج إلى أحد غيره، فقال له: ويحك فما أحدثت بعدي؟ قال:
ما أحدثت حدثا، قال: يا إبراهيم بحياتي اصدقني، قال: وحياتك لأصدقنك، رميته بحجره، بعثت بمحمّد الزّفّ وضمنت له ضمانات، أولها رضاك عنه، فمضى فاحتال عليه حتى أخذها عنه ونقلها إليّ، وقد سقط الآن عنّي اللوم بإقراره بأنه ليس علي أن أعرف ما صنعه هو «1» ولم يخرجه [ص 240] إلى الناس، وهذا باب من الغيب، وإنما يلزمني أن يعرف هو شيئا من غناء الأوائل وأجهله أنا، وإلا فلو لزمني أن أروي صنعته، للزمه أن يروي صنعتي وللزم كل وأحد منا لسائر طبقته، ونظرائه مثل ذلك، فمن قصر عنه كان مذموما ساقطا، فقال له الرشيد: صدقت يا إبراهيم ونضحت عن نفسك وقمت بحجتك، ثم اقبل على ابن جامع فقال له: يا إسماعيل: أتيت، أبطل عليك الموصلي ما فعلته، به أمس، وانتصف منك، ثم دعا بالزّفّ ورضي عنه.
قال إسحاق: وأصوات ابن جامع هذه، الأول منها قول قيس بن «2» ذريح: «3» [الوافر]
بكيت نعم بكيت وكلّ إلف ... إذا بانت قرينته بكاها
وما فارقت لبنى عن تقال ... ولكن شقوة بلغت مداها(10/385)
قال: والثاني منها قول حماد الراوية: «1» [المتقارب]
عفت دار سلمى بمفضى الرغام ... رياح تعاقبها كل عام
خلاف الحلول بتلك الطلول ... وسحب الذيول بذاك المقام
قال: والثالث منها قول [ابن] الأحنف: «2» [الكامل]
نزف البكاء دموع عينك فاستعر ... عينا لغيرك دمعها مدرار
من ذا يعيرك عينه تبكي بها ... أرأيت عينا للبكاء تعار
قال: لما أنشد بشار قول العباس بن الأحنف:
نزف البكاء دموع عينك
البيتين، قال: لحق هذا الفتى بالمحسنين، وما زال يدخل نفسه معنا ونحن نخرجه حتى قال هذا الشعر.
قال: ولما أنشد الرشيد قول العباس بن الأحنف:
من ذا يعيرك عينه تبكي بها
قال: يعير عينيه من لا حاطه الله ولا كلأه «3» .
قال [الرشيد] لإبراهيم بن المهدي، وإبراهيم الموصلي، وابن جامع، وابن أبي الكنّات: باكروني غدا، وليكن كل واحد منكم قد قال [ص 241] شعرا، إن كان يقدر أن يقوله، ويغني فيه لحنا، وإن لم يكن شاعرا، غنى في شعر غيره.
قال إبراهيم بن المهدي: قمت في السحر واجتهدت على شيء أصنعه فلم يتفق لي، فلما خفت طلوع الفجر، دعوت غلماني وقلت لهم: أريد المضي إلى موضع(10/386)
لا يشعر بي أحد حتى أصير إليه، وكانوا في زنيديات لي يبيتون على باب داري، فقمت فركبت في إحداها، وقصدت دار إبراهيم الموصلي، وكان قد حدثني أنه إذا أراد الصنعة لم ينم حتى يدبر ما يحتاج إليه، فإذا قام إلى حاجته في السحر، اعتمد على خشبة له في المستراح، فلا يزال يقرع عليها حتى يفرغ من الصوت ويرسخ في قلبه، فجئت حتى وقعت تحت مستراحه، فإذا هو يردد هذا الصوت: «1» [الطويل]
إذا سكبت في الكأس قبل مزاجها ... ترى لونها في جلدة الكأس مذهبا «2»
وإن مزجت راعت بلون تخاله ... إذا ضمنته الكأس بالكأس كوكبا
أبوها نجاء المزن والكرم أمها ... ولم أر زوجا منه أشهى وأطيبا «3»
فجاءتك صفرا أشبهت غير جنسها ... وما أشبهت في اللون أما ولا أبا
[قال] فما زلت واقفا أسمع الصوت حتى أخذته، ثم غدونا إلى الرشيد فلما جلسنا إلى الشرب جاء الخادم الي فقال: يقول لك أمير المؤمنين، يا بن أم، غنني، فاندفعت فغنيته هذا الصوت، والموصلي في الموت، حتى فرغت منه، وشرب عليه وأمر لي بثلاث مئة ألف درهم، فوثب الموصلي وحلف بالطلاق وبحياة الرشيد أن الشعر له، قاله البارحة وغنى فيه، ما سبقه إليه أحد، فقال إبراهيم: يا سيدي، فمن أين هو لي لولا كذبه وبهته «4» ، وإبراهيم يضرب ويضج، فلما قضيت أربا من العبث به، قلت للرشيد: الحق أحق ما استعمل، وصدقته، فقال الرشيد: أما أخي فقد أخذ المال ولا سبيل إلى رده، وقد أمرت لك بمائة ألف(10/387)
درهم، عوضا عما جرى عليك، ولو ابتدأت بالصوت لكان حظك، فأمر بها فحملت إليه.
وذكر أن الرشيد هب من نومه في ليلة من الليالي، فدعا بحمار كان يركبه في القصر أسود قريب من الأرض، فركبه وخرج في درّاعة «1» وشي، متلثما بعمامة وشي، ملتحفا بإزار وشي، وبين يديه أربع مئة خادم أبيض سوى الفراشين [ص 242] وكان مسرور الفرغاني جريئا عليه لمكانته عنده، فلما خرج قال: إلى أين تريد يا أمير المؤمنين في هذه الساعة؟ قال: أردت بيت الموصلي، قال مسرور: فمضى ونحن معه وبين يديه، حتى أتى إلى منزل إبراهيم، فخرج وتلقاه، وقبل حافر حماره، وقال له: يا أمير المؤمنين، أفي هذه الساعة تظهر، قال: نعم، شوقك بي، ثم نزل فجلس في طرف الإيوان وأجلس إبراهيم، فقال:
يا سيدي، أتنشط لشيء تأكله؟ فقال: نعم، خاميز «2» ظبي، فأتي به كأنه كان معدا له، فأصاب منه شيئا يسيرا، ثم دعا بشراب حمل معه، فقال الموصلي: يا سيدي، أغنيك أم تغنيك إماؤك؟ قال: بل الجواري.
فخرج جواري إبراهيم، فأخذن صدر الإيوان وجانبيه، فقال: أيضربن كلهن أم واحدة واحدة؟ فقال: تضرب اثنتان اثنتان، وتغني واحدة واحدة ففعلن ذلك حتى مرّ صدر الإيوان وأحد جانبيه، والرشيد يسمع ولا ينشط لشيء من غنائهن، إلى أن غنت صبية من حاشية الصفة: «3» [البسيط]
يا موري الزند قد أعيت قوادحه ... اقبس إذا شئت من قلبي بمقباس
ما أقبح الناس في عيني وأسمجهم ... إذا نظرت فلم أبصرك في الناس(10/388)
قال: فطرب لغنائها، واستعاد الصوت مرارا، وشرب أرطالا، ثم سأل الجارية عن صانعه، فأمسكت، فاستدناها فتقاعست، فأمر بها فأقيمت، حتى أقيمت بين يديه، فأخبرته بشيء أسرته إليه، ودعا بحماره فركبه وانصرف، ثم التفت إلى إبراهيم فقال: ما ضرك يا إبراهيم ألا تكون خليفة، فكادت نفسه تخرج، حتى دعا به بعد ذلك وأدناه، وكان الذي أخبرته به الجارية أن الصنعة في الصوت لأخته علية وكانت لها، وجهت بها [إلى] إبراهيم تطارحه.
قال لي إبراهيم، قال لي الرشيد يوما: يا إبراهيم، بكّر غدا حتى نصطبح، فقلت:
أنا والصبح كفرسي رهان، فبكرت فإذا به خال وبين يديه جارية كأنها خوط بان «1» او جدل «2» عنان، حلوة المنظر، دمثة الشمائل في يدها العود، فقال لها:
غني، فغنت في شعر أبي نواس، وهو هذا: «3» [الطويل]
توهمه قلبي فأصبح خده ... وفيه مكان الوهم من ناظري أثر
ومر بفكري خاطرا فجرحته ... ولم أر جسما قط يجرحه الفكر
[ص 243] وصافحه قلبي فآلم كفه ... فمن غمز قلبي في أنامله عقر
قال إبراهيم: فذهبت والله بعقلي، حتى كدت أفتضح، فقلت: من هذه يا أمير المؤمنين؟ قال: التي يقول فيها الشاعر: «4» [الوافر]
لها قلبي الغداة وقلبها لي ... فنحن كذاك في جسدين روح
قال: ثم شرب أرطالا وسقاها، وقال: غن يا إبراهيم، فغنيت حسب ما في قلبي(10/389)
غير متحفظ: «1» [الطويل]
تشرّب قلبي حبها ومشى بها ... تمشي حميا الكأس في كف شارب
ودب هواها في عظامي فشفها ... كما دب في الملسوع سم العقارب
قال: ففطن بتعريضي، وكانت جهالة مني، وأمرني بالانصراف، ولم يدع بي شهرا ولا حضرت مجلسه، فلما كان بعد شهر دس إلي خادما معه رقعة فيها مكتوب: «2» [الخفيف]
قد تخوفت أن أموت من الوج ... د ولم يدر من هويت بمابي
يا كتابي فاقر السلام على من ... لا أسمي وقل له يا كتابي
إن كفا إليك قد كتبتني ... صبت فؤاده في عذابي «3»
فأتاني الخادم بالرقعة، فقلت: ما هذا؟ قال: رقعة فلانة التي غنتك بين يدي أمير المؤمنين، فأحسست بالقصة، فشتمت الخادم، ووثبت إليه، وضربته ضربا شفيت به غيظي، وركبت إلى الرشيد من فوري، فأخبرته بالقصة، وأعطيته الرقعة، فضحك حتى كاد يستلقي، ثم قال: على عمد فعلت ذلك، أردت لأمتحن مذهبك وطريقتك، ثم دعا بالخادم، فلما رآني قال: قطع الله يديك ورجليك، ويلك قتلتني، فقلت: القتل كان بعض حقك لما وردت به عليّ، ولكنّي رحمتك فأبقيت عليك، وأخبرت أمير المؤمنين ليأتي عقوبتك بما تستحقه، فأمر لي الرشيد بصلة سنية، والله أعلم ما فعلت الذي فعلته عفافا، ولكني خفت.(10/390)
قال إسحاق: سمعت الرشيد وقد سأل أبي: كيف يصنع إذا أراد أن يصوغ الألحان، قال: يا أمير المؤمنين، أخرج [ص 244] الهم من فكري وأمثل الطرب بين عيني، فتسرع لي مسالك الألحان التي أريد فأسلكها بدليل الإيقاع، فأرجع مصيبا ظافرا بما أريد، فقال: يحق لك يا إبراهيم أن تصيب وتظفر، وإن حسن وصفك مشاكل لحسن صنعتك وغنائك.
قال ثمامة بن أشرس: مررت بإبراهيم الموصلي ويزيد حوراء وهما مصطبحان «1» ، وقد أخذا بينهما صوتا يغنيانه، هذا بيتا وهذا بيتا: «2» [الطويل]
أيا جبلي نعمان بالله خليا ... سبيل الصبا يخلص إلي نسيمها
فإن الصبا ريح إذا ما تنسما ... على نفس مكروب تجلت همومها
قال ثمامة: فو الله ما خلت أن شيئا بقي من لذات الدنيا بعد ما كانا فيه قال إبراهيم الموصلي، قال لي جعفر بن يحيى يوما: صر اليّ حتى أهب لك شيئا حسنا، فصرت إليه فقال لي [أيما] أحب إليك، أهب لك الشيء الحسن الذي وعدتك به، أو أرشدك إلى شيء تكسب به ألف ألف درهم، فقلت بل يرشدني الوزير أعزه الله إلى هذا الوجه، فإنه يقوم مقام إعطائه إياي هذا المال، فقال: إن أمير المؤمنين يحفظ شعر ذي الرمة حفظ الصبا، ويعجبه ويؤثره، فإذا سمع فيه غناء أطربه أكثر مما يطربه غيره مما لا يحفظ شعره، فإذا غنيته، وأطربته وأمر لك بجائزة، فقم على رجلك وقبل الأرض وقل له: لي حاجة غير هذه الجائزة، أريد أن أسألها أمير المؤمنين، وهي حاجة تقوم عندي مقام كل فائدة ولا تضره ولا(10/391)
ترزؤه، فإنه سيقول لك: أي شيء حاجتك؟ فقل: قطيعة تقطعنيها سهلة عليه، ولا قيمة لها ولا منفعة لأحد فيها، فإذا أجابك إلى ذلك، فقل له: تقطعني شعر ذي الرمة، أغني فيه ما أختاره، وتحظر على المغنين جميعا أن لا يداخلوني فيه، فإني أحب شعره وأستحسنه فلا أحب أن ينغصه عليّ أحد منهم، وتوثق منه في ذلك، فقبلت هذا القول منه، وما انصرفت [بعد ذلك] إلا بجائزة من عنده، وتوخيت وقتا للكلام حتى وجدته، فقمت وسألت كما قال لي، فرأيت السرور في وجهه، وقال: [ص 245] ما سألت شططا، قد أعطيتك ما سألت، فجعلوا يتضاحكون من قولي، ويقولون: لقد استضخمت القطيعة وهو ساكت، فقلت:
يا أمير المؤمنين أتأذن لي في التوثق «1» ؟ قال: توثق «1» كيف شئت، فقلت: بالله وبحق رسوله وبتربة أمير المؤمنين المهدي، إلا جعلتني في ثقة من ذلك، بأن تحلف لي بأن لا تعطي أحدا من المغنين جائزة على شيء يغنيه في شعر ذي الرمة، فإن ذلك وثيقتي، فحلف مجتهدا له لئن غنّاه أحد منهم في شعر ذي الرمة لا أثابه ولا أبره ولا سمع غناءه، فشكرت فعله وقبلت الأرض بين يديه، فانصرفنا فصنعت مئة صوت وزيادة عليها في شعر ذي الرمة، وكان إذا سمع منها شيئا طرب، وزاد في الطرب، ووصلني وأجزل، ولم ينتفع به أحد منهم غيري، فأخذت والله منه ألف ألف درهم، وألف ألف درهم.
قال: اجتمع إبراهيم الموصلي وزلزل وبرصوما بين يدي الرشيد، فضرب زلزل وزمر برصوما وغنى إبراهيم: «2» [الوافر]
صحا قلبي وراع [إليّ] عقلي ... وأقصر باطلي ونسيت جهلي «3»(10/392)
رأيت الغانيات وكنّ صورا ... إليّ صرمنني وقطعن حبلي
فطرب هارون حتى وثب على رجليه وصاح: يا آدم، لو رأيت من يحضرني من ولدك اليوم لسرك! ثم جلس وقال: أستغفر الله.
قال: علي بن عبد الكريم: زار ابن جامع إبراهيم الموصلي، فأخرج إليه ثلاثين جارية، فضربن جميعا طريقة واحدة، ثم غنّين فقال ابن جامع: في الأوتار وتر غير مستو، فقال إبراهيم: يا فلانة، شدي مثناك، فشدته [فاستوى] ، فعجبت أولا من فطنته وابن جامع للوتر بعينه.
قال إبراهيم الموصلي: قال لي الرشيد يوما يا إبراهيم إني جعلت غدا للحرم، وجعلت ليلته للشرب مع الرجال، وأنا مقتصر من المغنين عليك، فلا تشغل غدا بشيء، ولا تشرب نبيذا، وكن بحضرتي وقت العشاء الآخرة، فقلت: السمع والطاعة لأمير المؤمنين، فقال: [ص 246] وحق أبي لئن تأخرت أو اعتللت بشيء لأضربن عنقك، أفهمت؟ قلت: نعم، وخرجت، فما جاءني أحد من إخواني إلا احتجبت عنه، ولا قرأت رقعة لأحد حتى صليت المغرب وركبت قاصدا إليه، فلما قربت من داره مررت بفناء قصر، وإذا زنبيل «1» كبير مستوثق منه بحبال وأربع عرى أدم، وقد دلي من القصر، وجارية تنتظر إنسانا قد وعد ليجلس فيه، فنازعتني نفسي، إلى الجلوس فيه، ثم قلت: هذا خطأ، ولعله يجري سبب يعوقني عن الخليفة فيكون الهلاك، ولم أزل أنازع نفسي وتنازعني، حتى غلبتني، فنزلت وجلست فيه، ومدّ الزنبيل حتى صار في أعلى القصر، ثم خرجت فنزلت، فإذا جوار كأنهن المها جلوس، فضحكن وطربن، وقلن: قد جاء والله [من أردنا] ، فلما رأينني من قريب تبادرن عني وقلن: يا عدو الله ما(10/393)
أدخلك إلينا؟ فقلت: يا عدوات أنفسهن من الذي أردتن إدخاله، ولم صار أولى بها مني؟ فلم يزل ذلك دأبنا، هن يضحكن وأضحك معهن، ثم قالت إحداهن:
أما من أردنا فقد فات، وما هذا إلا ظريف، فهلمن نعاشره عشرة جميلة، فأخرج إليّ طعام ودعيت إلى أكله، فلم يكن فيّ فضل إلا أنني كرهت أن أنسب إلى سوء العشرة، فأصبت منه إصابة معذور، ثم جيء بالنبيذ فجلسنا نشرب، فأخرجن إليّ ثلاث جوار لهن فغنين غناء مليحا، وغنت إحداهن صوتا لمعبد، فقالت إحدى الثلاث من وراء الستر: أحسن إبراهيم هذا له، فقلت: كذبت ليس هذا له، فقالت: يا فاسق، ما يدريك الغناء ما هو؟ ثم غنت الأخرى صوتا للغريض، فقالت: اللهمّ أحسن إبراهيم هذا له أيضا، فقلت: كذبت يا خبيثة، هذا للغريض، فقالت: اللهمّ أخزه، ويلك ما يدريك؟ ثم غنت الأخرى صوتا لي فقالت تلك: أحسن ابن سريج هذا له، قلت: كذبت هذا لإبراهيم، وأنت تنسبين غناء الناس إليه، وغناءه إليهم، قالت: ويلك وما يدريك؟ فقلت: أنا إبراهيم، فتباشرن بذلك جميعا وظهرن كلهن لي وقلن: كتمتنا نفسك وقد سررنا، فقلت: أنا الآن أستودعكنّ الله، فقلن: ما السبب؟ فأخبرتهن بقصتي مع الرشيد، فضحكن وقلن: الآن طاب حبسك علينا، وعلينا إن أخرجت أسبوعا، فقلت: هو والله القتل، فقلن: إلى لعنة الله، فأقمت عندهن أسبوعا لا أزول، فلما كان بعد أسبوع، ودعنني وقلن: إن سلمك [ص 247] الله، فأنت بعد ثلاثة أيام عندنا، فأجلسنني في الزنبيل وسرحت، فمضيت لوجهي حتى أتيت دار الرشيد، فإذا النداء قد أشيع ببغداد في طلبي، وأن من أحضرني فقد سوغ ملكي وأقطع مالي، فاستأذنت فبادر الخادم حتى أدخلني إلى الرشيد، فلما رآني شتمني وقال: السيف والنطع «1» ، إيه يا إبراهيم، تهاونت بأمري وتشاغلت(10/394)
بالعوام عما أمرتك به، وجلست مع أشباهك من السفهاء حتى أفسدت علي لذتي، فقلت: يا أمير المؤمنين، أنا بين يديك، وما أمرت غير فائت، ولي حديث عجيب ما سمع بمثله قط، وهو الذي قطعني عنك ضرورة لا اختيارا، فاسمعه فإن كان عذرا فاقبله، وإلا فأنت أعلم، قال: هاته فليس ينجيك، فحدثته فوجم ساعة ثم قال: إن هذا لعجب، فتحضرني معك هذا الموضع؟ قلت: نعم، وأجلسك معهن إن شئت قبلي حتى تحضر عندهن، وإن شئت على موعد، فقال: بل على موعد، قلت: أفعل، قال: انظر، قلت: ذاك حاصل لك مني متى شئت، فعدل عن رأيه في، وأجلسني وشرب وطرب، فلما أصبحنا أمرني بالانصراف، وأن أجيئه من عندهن، فمضيت إليهن في وقت الموعد، فلما وافيت الموضع، إذا الزنبيل معلق، فجلست فيه، ومده الجواري وصعدت، فلما رأينني تباشرن بي، وحمدن الله على سلامتي، وأقمت ليلتي، فلما أردت الانصراف قلت لهن: إن لي أخا هو عديل نفسي عندي، وقد أحب معاشرتكن ووعدته بذلك، فقلن: إن كنت ترضاه فمرحبا، فواعدتهن ليلة غد وانصرفت، وأتيت الرشيد فأخبرته، فلما كان الوقت خرج معي متخفيا حتى أتينا الموضع، فصعدت وصعد بعدي، ونزلنا جميعا، وقد كان الله وفقني بأن قلت لهن «1» :
إذا جاء صديقي فاستترن عني وعنه، ولا يسمع لكن نطقة وليكن ما تخترنه من الغناء أو تقلنه من قول مراسلة، فلم يتعدين ذلك، وأقمن على أتم ستر وخفر، وشربنا شربا كثيرا، وقد كان أمرني أن لا أخاطبه بإمرة أمير المؤمنين، فلما أخذ مني النبيذ، قلت سهوا يا أمير المؤمنين، فتبادرن من وراء الستار حتى غابت عنا حركاتهن، فقال لي: يا إبراهيم قد أفلت من أمر عظيم، والله لو برزت لك واحدة منهن لضربت رقبتك، قم بنا، فانصرفنا، فإذا هنّ له، وقد [ص 247](10/395)
وقد كان غضب عليهن فحبسهن في ذلك القصر، ثم وجّه من غد بخدم فردهن إلى قصره، ووهب لي مئة ألف درهم، وكانت الهدايا والألطاف بعد ذلك تأتيني منهن.
قال مخارق: كنا عند الرشيد في بعض أيامنا، فغناه ابن جامع، ونحن يومئذ بالرقة: «1» [الخفيف]
هاج شوقا فراقك الأحبابا ... فتناسيت أو نسيت الربابا
حين صاح الغراب بالبين منهم ... فتصاممت أن سمعت الغرابا
لو علمنا أن الفراق وشيك ... ما انتهينا حتى نزور القبابا
أو علمنا حين استقلت نواهم ... ما أقمنا حتى نزم الركابا
قال: فاستحسنه الرشيد وطرب عليه وأعجبه واستعاده مرارا، وشرب عليه أرطالا حتى سكر، وما سمع شيئا غيره ولا أعجبه، ولا أقبل على أحد، وأمر لابن جامع بخمسة آلاف دينار، فلما انصرفنا قال لي إبراهيم: لا ترم منزلك حتى أصير إليك، فصرت إلى منزلي، فلم أغير ثيابي حتى أعلمني غلامي بموافاته، فلقيته في دهليزي «2» ، فدخل فجلس وأجلسني بين يديه، ثم قال لي: يا مخارق، أنت نسيلة «3» مني إحساني إليك، وقبحي عليك، ومتى تركنا ابن جامع على ما ترى غلبنا على الرشيد، وقد صنعت صوتا في طريقة صوته الذي غنّاه، أحسن صنعة منه وأشجى، وإنما يغلبني «4» عند هذا الرجل بصوته، ولا مطعن على صوتك،(10/396)
وإذا أطربته وغلبت عليه بما يأخذه مني، قام ذلك مقام الظفر، وسيصبح أمير المؤمنين، ويدخل الحمام غدا، ويحضر فيدعو بالطعام ويدعو بنا، ويأمر ابن جامع فيرد الصوت الذي غناه، ويشرب عليه رطلا، ويأمر له بجائزة، فإذا غناه فلا تنتظره أكثر من أن يرد ردته حتى تغني ما أعلّمك السّاعة، فإنه يقبل عليك ويصلك، ولست أبالي أن لا يصلني بعد أن يكون إقباله عليك، فقلت: السمع والطاعة، فألقى عليّ لحنه في أبيات لابن هرمة، وهي: «1» [المنسرح]
يا دار سعدي بالجزع من ملل ... حييت من دمنة ومن طلل «2»
إني إذا ما البخيل أمّنها ... باتت ضموزا مني على وجل «3»
[ص 249] لا أمتع العوذ بالفصال ولا ... أبتاع إلا قريبة الأجل «4»
وردده حتى أخذته وانصرف، ثم بكر عليّ فاستعاد [الصوت] مني حتى رضيه، ثم ركبنا وأنا أدرسه حتى صار إلى الرشيد، فلما دخلنا فعل الرشيد جميع ما وصفه إبراهيم شيئا فشيئا، وكان إبراهيم أعلم الناس به، ثم أمر ابن جامع فرد الصوت ودعا برطل فشربه، فلما استوفاه، واستوفى ابن جامع صوته، لم أدعه يتنفس حتى اندفعت فغنيت صوت إبراهيم، فلم يزل يصغي إليه، وهو باهت، حتى استوفيته، فشرب وقال: لمن هذا الصوت؟ قلت: لإبراهيم، فلم يزل يستدنيني حتى صرت قدام سريره، وجعل يستعيد الصوت وأعيده حتى شرب عليه أرطالا، وأمر لإبراهيم بجائزة سنية، وأمر لي بمثلها، وجعل ابن جامع(10/397)
[يشغب ويقول] يجيء بالغناء فيدسّه في أستاه الصبيان، إن كان محسنا فليغنه «1» هو، والرشيد يقول له: دع ذا عنك، قد والله استقاد «2» منك وزاد.
قال يحيى بن عروة بن أذينة: خرجت في حاجة لي، فلما كنت بالسيالة «3» ، وقفت على منزل إبراهيم بن هرمة فصحت: يا أبا إسحاق، فأجابتني ابنته: من هذا؟ فقلت: أعلمي أبا إسحاق، قالت: خرج آنفا قال، فقلت: هل من قرى، فإني مقو «4» من الزاد، قالت: لا والله ما صادفته حاضرا، فقلت: فأين قول أبيك: [المنسرح]
لا أمتع العوذ بالفصال ولا ... أبتاع إلا قريبة الأجل
قالت: فذاك والله أفناها
قال إسحاق: لما دخلت سنة ثمان وثمانين ومئة، اشتد أمر القولنج «5» على أبي ولزمه، وكان يعتاده في الأحيان، فقعد عن الخدمة للخليفة، وعن نوبته في ذلك، وقال في ذلك: «6» [مجزوء الرمل]
ملّ والله طبيبي ... عن مقاساة الذي بي
سوف أنعى عن قريب ... لعدوّ وحبيب [ص 250](10/398)
قال: وركب الرشيد حمارا ودخل يعوده، فوجده وهو جالس على الأبزن «1» ، فقال له: كيف أنت يا إبراهيم، فقال له: إنا والله يا سيدي كما قال الشاعر: «2» [الوافر]
سقيم ملّ منه أقربوه ... وأسلمه المداوي والحميم
فقال الرشيد: إنا لله، وخرج، فما بعد حتى سمع الواعية «3» عليه قال عمر بن شبة: مات إبراهيم الموصلي في سنة ثمان وثمانين ومئة، ومات في ذلك اليوم الكسائي و [العباس بن] الأحنف، فرفع ذلك إلى الرشيد، فأمر المأمون أن يصلي عليهم، فخرج فصفّوا بين يديه، فقال: من هذا الأول؟ قيل: إبراهيم الموصلي، قال: أخروه وقدموا العباس بن الأحنف فقدم فصلّى عليهم وانصرف، ودنا منه هاشم بن عبد الله الخزاعي فقال:
يا سيدي، كيف آثرت العباس بالتقدمة على من حضر، قال لقوله: «4» [الكامل]
وسعى بها واش فقالوا إنها ... لهي التي تشقى بها وتكابد
ثم قال: أتحفظها؟ قلت: نعم، قال: أنشدني باقيها، فأنشدته
لما رأيت الليل سدّ طريقه ... عني وعذّبني الظلام الرّاكد
والنجم في كبد السّماء كأنه ... أعمى تحير ما لديه قائد
ناديت من طرد الرقاد بصده ... عما أعالج وهو خلو هاجد(10/399)
يا ذا الذي صدع الفؤاد بصده ... أنت البلاء طريفه والتالد
ألقيت بين جفون عيني فرقة ... فإلى متى أنا ساهر يا راقد
فقال المأمون: أليس من قال هذا الشعر حقيقا بالتقدمة؟ فقلت: بلى يا سيدي.
قال إسحاق: دخلت يوما إلى الرشيد بعقب وفاة والدي، وذلك بعد فوات شهرين «1» ، فلما جلست، رأيت موضعه الذي يجلس فيه خاليا، فدمعت عيني فكفكفتها وتصبرت، فلمحني الرشيد، فدعاني إليه وأدناني منه، وقبلت يده ورجله، والأرض بين يديه، فاستعبر وكان رقيقا، فوثبت قائما، ثم قلت: «2» [ص 251] [الخفيف]
في بقاء الخليفة الميمون ... خلف من مصيبة المحزون
لا يضير المصاب رزء إذا ما ... كان ذا مفزع إلى هارون
قال لي: كذلك والله هو، ولن تفقد من أبيك ما دمت حيا إلا شخصه، وأمر بإضافة رزقه إلى رزقي، فقلت: بل يأمر به أمير المؤمنين إلى ولده، ففي خدمتي له ما يغنيني أنا، فقال: اجعلوا رزق إبراهيم لولده، وأضعفوا رزق إسحاق.
وأما الصوت الذي ذكرت أخبار إبراهيم بسببه والشعر فيه والغناء له، وهو من المئة صوت المختارة، فهو: «3» [مجزوء الرمل]
ربما نبّهني الإخ ... وان والليل بهيم
حين غارت وتدلت ... في مهاويها النجوم
ونعاس الليل في عي ... ني كالثاوي مقيم
للتي تعصر لما ... أينعت منها الكروم(10/400)
أنا بالرّيّ مقيم ... في قرى الرّيّ أهيم
ما أراني عن قرى الرّ ... يّ مدى دهري أريم
ومما رثي به إبراهيم الموصلي قول ابنه: «1» [الطويل]
أيا قبر إبراهيم حييت حفرة ... ولا زلت تسقى الغيث من سبل القطر «2»
لقد عزني وجدي عليك فلم يدع ... لقلبي نصيبا من عزاء ولا صبر
وقد كنت أبكي من فراقك ليلة ... فكيف إذا صار الفراق إلى الحشر
وقال أيضا: «3» [الطويل]
سلام على القبر الذي لا يجيبنا ... ونحن نحيي تربه ونخاطبه
ستبكيه أشراف الملوك إذا رأوا ... محل التصابي قد خلا منه جانبه
ويبكيه أهل الظرف طرا كما بكى ... عليه أمير المؤمنين وحاجبه
ولما بدا لي اليأس منه وأبرقت ... عيون بواكيه وقلّت نوادبه
وصار شفاء النفس من بعد ما بها ... إفاضة دمع تستهل سواكبه
جعلت على عيني للصبح عبرة ... ولليل أخرى ما بدت لي كواكبه
[ص 252]
وقال أيضا: «4» [الطويل]
عليك سلام الله من قبر فاجع ... وجادك من نوء السماكين وابل
هل أنت محيي القبر أم أنت سائل ... وكيف تحيا تربة وجنادل(10/401)
أظل كأني لم تصبني مصيبة ... وفي الصدر من وجد عليك بلابل «1»
وهوّن عندي فقده أن شخصه ... على كل حال بين عينيّ ماثل
75- أبو زكّار «2»
رجل أوفى بعهده، ووفى بعقده، صحب بني برمك، وهم الغيوث السوافح، والبحار الطوافح، فغمروه بالنعماء، ورعوه أكثر مما رعت ابن ثابت «3» ، صنائع آل جفنة «4» الكرماء، فلم ينس لهم حسن الصنيع، ويمن الأيام التي مالا انحاز عن مثلها الصديع، وكان في أهل الغناء مقدما بصيرا مع ما هو عليه من العمى.
قال أبو الفرج: أخبرت عن أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي، أنه قال: سمعت مسرورا الكبير يحدث أبي قال: أمرني الرشيد بقتل جعفر بن يحيى، دخلت إليه وعنده أبو زكار الأعمى الطنبوري يغنيه: «5» [الوافر]
فلا تبعد فكلّ فتى سيأتي ... عليه الموت يطرق أو يغادي «6»(10/402)
فقلت له: في هذا والله أتيتك، وأمرت بضرب عنقك، فضربت عنقه، فقال لي أبو زكار: نشدتك الله إلا ألحقتني به، فقلت له: وما رغبتك في ذلك؟ فقال: إنه أغناني عمن سواه بإحسانه، فما أحب أن أبقى بعده، فقلت: أستأمر أمير المؤمنين في ذلك، فلما أتيت الرشيد برأس جعفر، أخبرته بقصة أبي زكار، فقال: هذا رجل فيه مصطنع فاضممه إليك، وانظر ما كان جعفر يجريه عليه فأتممه له.
قال: غنى علّويه يوما بحضرة إسحاق: «1» [البسيط]
عمّيت أمري على أهلي فنمّ به ... دمع إذا ذكرت مكنونة سفحا
قال إسحاق: هذا صوت معروف في العمى، الشعر لبشار الأعمى، والغناء لأبي زكّار الأعمى، وأوله: عميت.
وهذا آخر ما يقع عليه الاختيار [ص 253] «2» من جامع أبي الفرج الأصفهاني، اقتصر فيه على من ذكره من مشاهير المغاني، وقد بقيت مدة لا أجد ما أذيل عليه، ولا ما أصله به إلى زماننا هذا على ما جرينا عليه في جميع هذا الكتاب، لقلة اعتناء المتأخرين، ولا سيما بهذا الفن الذي فني ولم يبق من يعانيه أو يسمعه، لرغبة ملوك زماننا فيما سوى هذا، أو شواغل أبناء الزمان بالهموم(10/403)
الصادة عن السرور ثم ظفرت لابن ناقيا «1» بتأليف جاء في تضاعيفه عرضا ذكر جماعة على ذيل زمان أبي الفرج، ثم اقتطعت من كتب التواريخ والأخبار المقيدة عن أواخر الخلفاء من بني العباس، وبقايا الخلفاء بالأندلس من بني أمية وأعقاب الملوك، والجلّة من كل أفق، ما جمعت مفرقه وألفت ممزقه، ثم أتبعته بما التقفته من ذماء «2» بقية من أهل الاعتناء ممن تأخر بهم الأجل إلى هذا العصر، وبذلت الجهد فيه حسب الطاقة، ونقبت فيه حتى لم أجد، وأبديت فيه حتى لم أعد، فأما نسبة الأصوات فقد أتيت بما قدرت عليه في ذلك دون ما صدني عنه العجز، وعن حال بيني وبينه يقضي أوقات السرور بأهله، على أنني لم أخلّ محسنا، ولا أهملت حسنا، وكثيرا ما انبتّت «3» عليه طاقة مثلي، وزماني «4» وإخماد حدثان الدهر لجمرتي، وتكديره «5» لصفوة مسرتي، وبالله أستعين.
76- ومنهم دليل الطّنبوري
كان بدمشق وأخذ صناعة الغناء عن مشايخها، وتفرد بضرب الطنبور، وأتى العراق، ولم يجد له بها عظيم نفاق، فعاد إلى دمشق وأقام بها، ونفق على أمرائها، وحضر مجالس سرواتها، ومن مشاهير أصواته: «6» [الكامل](10/404)
ومكلل بالدر والمرجان ... كالورد بين شقائق النعمان
أخذ المراة «1» وقد أراد زيارتي ... فرأى محاسن وجهه فجفاني
والشعر لأبي تمام، قال ابن ناقيا: هو في الثقيل الأول من المعلق.
وكذلك صوته الآخر في مشطور السريع [ص 254] وهو «2» [الرّجز]
وشادن مكتحل بسحر ... أجفانه سكرى بغير خمر
أرق من رقة ماء يجري ... أملك بي مني وليس يدري
آليت لا أملك «3» عنه صبري ... أو أسترد ما مضى من عمري
والشعر لأبي الفرج الوأواء شاعر شامي مقل، إلا أنه مطبوع الكلام، وكان عاميا مقلا من الأدب، وله عدة مقاطع يغنّى فيها ويأتي ذكره في موضعه.
77- عليّ بن يحيى المنجّم «4»
كان من الشعراء الرواة الإخباريين المحدثين للغناء، وكان الأصفهاني شديد الكراهة له، وروى عن إسحاق الموصلي، وأذكر أكابر أهل الصنعة والحذّاق، وأخذ عنهم فطار اسمه في العراق، وهو ممن جرى مع أولئك السبق وأخرس تلك الألسنة النطق، فجثم لديه أولئك الملأ العقود، وجفّ كل بنان، ويبس على عود،(10/405)
وكان يعد من ندماء الخلفاء وأهل القرب، والإصفاء، كأنما تخير أبوه المنجم لمولده الطالع، وختم عليه من خاتم الزهرة بالطابع، فجاء مطبوعا على الطرب، لو تنحنح أطرب، ولو تكلم بالكلام المألوف لأعرب، لا يلحق الا بالشمس أو هي منه أقرب، ومن مشاهير أصواته: «1» [الطويل]
ومجدولة جدل العنان كأنما ... سنا البرق في داجي الظلام ابتسامها
ولما التقينا قالت اليوم فالتمس ... سوى جلدها هيهات منها مرامها
فقلت معاذ الله أسأل حاجة ... أموت وتبقى بعد ذاك أثامها
فبت أثنيها علي كأنها ... من اللين سكرى أو قطاة عظامها
الشعر من أناشيد إسحاق، وقد رواه عنه، والصنعة له فيه خفيف ثقيل مشتركان في الإصبع، وذكر ابن ناقيا صوتا لإسحاق بن إبراهيم وهو: «2» [الطويل]
وأبرزتها بطحاء مكة بعدما ... أصات المنادي للصلاة فأعتما «3»
فما ذر قرن الشمس حتى تبينت ... بعسفان نخلا شامخا ومكمما «4»
وذكر أنه غنى فيه في باب الرمل المزموم، ثم قال: والشعر لأبي دهبل الجمحي «5» وكان له ناقة يقال لها العجاجة، زعم العرب أنه لم يكن في زمانها أسير منها، ولا أحسن صورة، وفيها يقول هذا الشعر يصف حسن سيرها.(10/406)
قال موسى بن يعقوب: أنشدني أبو دهبل قوله:
فما ذرّ قرن الشمس [حتى تبينت]
فقلت له: ما كنت إلا على الريح، قال: يا بن أخي إن عمك كان إذا هم فعل، وهي العجاجة.
قال ابن ناقيا: أنشدنا الشريف المرتضى لنفسه إجازة لقول أبي دهبل: (وأبرزتها بطحاء مكة) ونقل الصفة إلى امرأة من أبيات: «1» [الطويل]
فطيب رياها المقام وضوأت ... بإشراق مرآها الحطيم وزمزما «2»
فيا ربّ إن لقّيت وجها تحية ... فحيّ وجوها بالمدينة سهما
قال: وقال لي بعض أرباب الصناعة: إن أبا عبد الله ابن المنجم قد غنى في هذين البيتين مع بيتي أبي دهبل في هذا المذهب، ومن قلائده: «3» [الخفيف]
يا خليلي من ذؤابة قيس ... في التصابي رياضة الأخلاق
غنياني بذكركم تطرباني ... واسقياني دمعي بكأس دهاق
وخذا النوم من جفوني فإني ... قد خلعت الكرى على العشاق «4»
والشعر لأبي القاسم الشريف المرتضى، والغناء فيه مطلق من سادس الهزج، ويقال: إن أخاه الشريف الرضي لما أنشد هذه الأبيات قال: لقد وهب ما لا يملك لمن لا يقبل.(10/407)
وحكى ابن ناقيا أنه كان يحضر مجلس المرتضى شيخ طيّب الخلق يعرف بالقاضي المالكي ممن يتوكّف «1» برّه ويصفو مع إمساكه وشحه، فلما قال المرتضى (قد خلعت الكرى على العشاق) قال المالكي: هذا لما تفضل سيدنا وخلع، فضحك منه المرتضى ولم يؤاخذه به.
78- ومنهم- زرفل بن إخليج [ص 255]
ابن عبد الملك الأهوازي، كان إذا نطق اهتز المجلس، واعتز المؤنس، وهز القلوب منه المطمع المؤيس، يصغي لأصواته كلّ خلي يده فوق خلبه «2» ، ويتقلب والشوق حشو قلبه، ولولاه لم ندر كيف تفتت الأكباد، ولا كيف يتحرك الجماد، ولا كيف تسمع الأذن فيهيم الفؤاد، كان في كل لهاة له ضارب فتر، وكان له في كل نغمة ما لو صدع الحجر لا نفطر، وأكثر أصواته في الزريقي وما لهج به خلف المتأخرين من أهل الغناء، ومنها: [مجزوء الكامل]
اشرب معتقة اليهود ... صرفا تضرم في الخدود
اشرب على تفاحة ... قد أينعت من غير عود
ومنها: [مجزوء الكامل]
أطع الهوى واعص الأدب ... وكذاك يفعل من أحب
لا يشغلنك شاغل ... عن بنت صافية العنب
جاءت بخاتم ربها ... فافتضها شيخ الأدب(10/408)
79- ومنهم- إسرائيل العوّاد
ذكر ابن ناقيا في غير موضع في كتابه المسمى بالمحدث في الأغاني «1» ، وذكره غيره المغنيات والمغاني «2» ، وطالما ضمّ إليه العود فترنم مسرورا وترنح محبورا، وتذكر وهو في شعب الأغصان عهدا غير راجع، وزمانا تعلم فيه الضرب من السواجع، فحنّ حنين المفارق، وشكا فجاوبه كل عاشق، فمهد مجلس أنسه بالترحيب، وأنّ فساعده كلّ مغرم بالبكاء والنحيب، ومن مشاهير أصواته «3» :
[الطويل]
فلم أستطع رد الدموع التي جرت ... ومن ذا يرد الدمع من مقلة الصبّ «4»
فيا حسرات الشوق دمعي على الخبا ... ويا قلبي المكروب لا زلت في كرب
والشعر لأبي بكر العنبري، صاحب أدب منسوب إلى صناعته، كان يعمل العنابر «5» ، وأصله من البصرة، ثم ألف بغداد وأقام بها وأحبها وفضلها على البصرة، وكان [ص 257] مذهبه التصرف والإيقاع عن الناس، وله شعر مدون مأخوذ عنه. من أصواته: [الكامل]
أصبحت كالجمل المضاع زمانه ... بكرا يلاعب ناقة وزماما
ما هاج شوقك من بكاء حمامة ... تدعو على فنن الأراك حماما
لولا تذكرك الأوانس بعدما ... قطع المطي سباسبا وهياما
قال ابن ناقيا: في هذا الصوت من أغاني إسرائيل في هذا المذهب، يعني مذهب(10/409)
صوت إبراهيم الموصلي في شعر مروان بن أبي حفصة: «1» [الكامل]
طرقتك زائرة فحيّ خيالها ... بيضاء تخلط بالحياء دلالها
قال ابن ناقيا: ولم أسمعه إلا منه، يعني من إسرائيل، وممن أخذه عنه، وهو جيد الصنعة، وفيه لحن منسوب إلى يحيى المكي من خفيف ثقيل بالبنصر من كتاب أبي الفرج، والشعر لثابت قطنة مولى بني أسد بن الحارث بن عتيك، ولقّب قطنة لأن سهما أصابه في إحدى عينيه، فذهب بها في بعض حروب الترك، فكان يجعل عليها قطنة، وهو شاعر فارس شجاع، من شعراء الدولة الأموية، وكان في صحابة يزيد بن المهلب، ولاه أعمالا من أعمال الثغور فحمد فيها مكانه لكفايته وطاعته، وفيه يقول حاجب بن دينار المازني: «2» [البسيط]
لا تعرف النّاس منه غير قطنته ... وما سواه من الإنسان مجهول
ومن قلائد إسرائيل: «3» [الطويل]
أما وجلال الله لو تذكرينني ... كذكريك ما نهنهت للعين مدمعا
فقلت بلى والله ذكرا لو انّه ... تضمنه صم الصفا لتصدعا
والشعر للصمة بن عبد الله القشيري، والغناء فيه في الممخر من خفيف الرمل، وسبب قول الصمة هذا، فيما رواه الهيثم بن عدي أنه كان يهوى ابنة عم له، فخطبها إلى أبيها، فاقترح مبلغا شطيطا «4» من المهر، وذلك من أبيه، فجعل يدافعه فغضب على أبيه وركب ناقته ورحل إلى الثغور، وقال هذين البيتين في قصيدة يصف [ص 258] فيها شوقه إلى ابنة عمه وحنينه إلى وطنه، ولم(10/410)
يرم «1» هناك حتى مات، ذكر ذلك ابن ناقيا، قال: ولعريب المأمونية في ذلك لحن من خفيف الرمل، وقال: فأما لحنها في هذا الباب فمن نقل المحدثين، وذكر ابن ناقيا له صوتا: [مجزوء الكامل]
يوم أتاك مبشرا ... بسعود جدك حين لاحا
اشرب سقيت مدامة ... نشر العبير بها ففاحا
والشعر لجعفر الكرخي، والغناء فيه خفيف ثقيل المزموم، وذكر له أصواتا أخر: [الرمل]
قل لمن يحمل ما حملته ... من رسيس الحب إلا ظلعا
لم يزدني الحب إلا حسرة ... ودواعي الشوق إلا طمعا
والشعر لمهيار بن مرزويه، والغناء فيه من خفيف الثقيل المجنب.
ومن أصواته: [الكامل]
ألا رحمتم موقفي بفنائكم ... متلددا «2» في داركم أتصدق
متحيّرا أبكي إلى من مرّ بي ... مثل الغريق بما يرى يتعلق
والشعر مجهول، والغناء فيه من الرمل المجنب.
80- ومنهم، طريف بن معلّى الهاشمي
من ولد جعفر بن أبي طالب، كان يدعي هذا النسب، وكان يطعن عليه فيه، ويقال زيادة على هذا إنه لغير أبيه، إلا أنه ذو أدب نهض بحسبه، وبيض منه(10/411)
عرق مكتسبه، وولع بالقيان واقتنائهن، وسماع غنائهن، ثم دخل في الطرب حتى أخذ بأزمته وتقدم حتى عد من أئمته، ومن أصواته: «1» [الطويل]
عجبت وقد ودعتها كيف لم أمت ... وكيف انثنت يوم الفراق يدي معي
فيا مقلتي العبرى عليها اسكبي دما ... ويا كبدي الحرّى عليها تقطعي
والشعر لأبي القاسم كشاجم، والغناء فيه في خفيف الرمل المعلق.
ومن أصواته: «2» [الكامل]
تعب يطول مع الرجاء لذي الهوى ... خير له من راحة في الياس
[ص 259] لولا كرامتكم لما عاينتكم ... ولكنتم عندي كبعض الناس
والشعر للعباس بن الأحنف، والغناء فيه من خفيف الرمل المزموم، ويعرض فيه ما حكاه ابن حمدون النديم، قال: وقع بين عريب المأمونية ومحمد بن حامد شر، وكان يجد بها الوجد كله، وتجد به «3» مثل ذلك، فلقيته يوما فقالت:
كيف قلبك يا محمد؟ فقال: أشقى والله ما كان وأقرحه، قالت: استبدل تسل، فقال: لو كانت البلوى باختيار لفعلت، فقالت: لقد طال إذا تعبك، فقال: وما يكون أصبر مكرها وأقول بقول الشاعر: «4» [الكامل]
تعب يطول مع الرّجاء- البيت-
فذرفت عيناها واعتذرت إليه وأعتبته واصطلحا، وعادا إلى أفضل ما كانا عليه.(10/412)
قلت: وذكر ابن ناقيا في هذا الشعر صوتا لعريب، قال: ومن أغانيها في هذا المذهب أيضا من كتاب أبي الفرج فيما تضمنه في ذكر حالها، أن المأمون لما وقف على خبرها، أمر بإلباسها جبة صوف وختم زيقها وحبسها في بيت مظلم، ثم ذكر الحكاية، وقد تقدمت ترجمة عريب المأمونية.
ومن أصوات طريف: [مجزوء الرمل]
حبذا صبح تبدى ... والدجى وحف «1» الجناح
طلعت لي فيه شمس ... أشرقت حتى الصباح
فشربت الراح صرفا ... من ثناياك الأقاح
من غزال سرق الخل ... خال عطشان الوشاح
والشعر من المجهول، والغناء فيه مطلق من الطريقة السادسة من الهزج.
81- ومنهم، تحفة جارية المعتز
أدّها ابن المعتز وخرّجها، وعلّمها النحو واللغة، وروّاها الشعر وأيام الناس، وعلمها الغناء وضرب العود، وجمع لها الحذاق من أهل الصنعة حتى أخذت عنهم، وصارت من المجيدات في الصنعة، لا تلحق في ميدانها، ولا تمارى في نطق عيدانها، إلى جمال بارع، وخلال عذبه المشارع، وحسن باهر، وإحسان ظاهر، بوجه نقل بدرا، [ص 260] وطرف ينفث سحرا، وقدّ يستقل غصنا نضرا، هذا مع جبين يجني من عناقيد الأصداغ أعنابا، وبنان يقطف منه جناه الحسن عنابا. ومن مشاهير أصواتها: «2» [البسيط](10/413)
حطوا الرحال إلى خمّار دسكرة ... مستعجل بافتتاح الدن محثوث «1»
تميل من سكرات الخمر قامته ... كمثل ماش على دف بتخنيث
والشعر لمولاها أبي العباس بن المعتز، والغناء فيه ثقيل أول محمول على نحو صوت إسحاق الموصلي: «2» [الطويل]
تغير لي فيمن تغير حارث ... وكم من أخ قد غيرته الحوادث
أحارث إن شوركت فيك فطالما ... عمرنا وما بيني وبينك ثالث
والشعر لإسحاق أيضا ذكره ابن ناقيا في كتاب المحدث في الأغاني، وكذلك لتحفة جارية أبي العباس صوت في شعر مولاها، وهو: [مخلّع البسيط]
أجوز جهرا بلا حذار ... خوف رقيب على حبيب
وذاك أني ضنيت حتى ... خفيت عن ناظر الرقيب
والغناء فيه من محمول الرمل الذي يحصر بالسبابة.
82- ومنهم- إسحاق المنجّم
وكان بدرا لا يتآكله المحاق، وجوادا لا يحاول به اللحاق، وبحرا في كل علم لا يشبه إلا بسميّه إسحاق، وكان يتحفّى بالغناء تحفي المنهمك في طلب المطالب، ويتكتم تكتم المأمون من أبيه حب آل أبي طالب، إلا أنه كان تلو «3»(10/414)
أخيه في اتساع الرواية وارتفاع الراية، ومن مشاهير أصواته: «1» [الكامل]
ما يستحي أحد يقال له ... نضلوك آل بويه أو فضلوا
فوق السّماء وفوق ما طلبوا ... فإذا أرادوا غاية نزلوا
والشعر لأبي الطيب المتنبي، والغناء فيه في الهزج والمزموم، وكذلك صوته: «2» [المتقارب]
أرى ذلك القرب صار ازورارا ... وصار طويل السلام اختصارا
تركتني اليوم في خجلة ... أموت مرارا وأحيا مرارا
[ص 261] أسارقك اللحظ مستخفيا ... وأزجر في الخيل مهري سرارا
وأعلم أني [إذا] ما اعتذرت ... أراد اعتذاري إليك اعتذارا
والشعر لأبي الطيب المتنبي، والغناء فيه ثقيل أول محمول.
قال ابن ناقيا: وفي هذا المذهب [المتقارب]
أقول وقد أزمعو «3» اللنوى ... عشية للبين حثوا المسير «4»
يعز علي فراقي لكم ... وإن كان سهلا عليكم يسير
ولإسحاق المنجم صوت هو من قلائده وفرائده، وهو: «5» [السريع]
أعددت للأعداء خيفانة ... مثل عقاب السرحة العادي
وأسمرا في رأسه أزرق ... مثل لسان الحية الصادي(10/415)
أين محل الحي دون الغضا ... خبّر سقاك الرائح الغادي
والشعر لدعبل والغناء فيه من الرمل المسرح.
وذكر ابن ناقيا من أصواته في شعر أبي نواس: «1» [البسيط]
إن كنت لست معي فالذكر منك معي ... يراك قلبي إذا ما غبت عن بصري
العين تبصر من تهوى وتعدمه ... وناظر القلب لا يخلو من النظر
والغناء فيه من الرمل المزموم. ومن أصوات إسحاق بن المنجم أيضا: «2» [البسيط]
نطوي الليالي علما أن ستطوينا ... فشعشعيها بماء المزن واسقينا
وتوّجي بكؤوس الراح راحتنا ... فإنما خلقت للراح أيدينا
والشعر للسّريّ بن أحمد بن السّريّ الرفاء الموصلي، والغناء فيه مطلق من الطريقة الرابعة من الرمل، وكان السّريّ من شعراء سيف الدولة، فحسده الخالديان فارتحل إلى بغداد قاصدا حضرة الوزير المهلبي، فارتحلا وراءه ودخلا على المهلبي وثلباه فلم يحظ بطائل، فأقام ورّاقا ببغداد إلى أن مات، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في موضعه.
ذكر أبو بكر الخطيب قال: أنشدني أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الجبار
قال: رأيت في منامي كأني دخلت [ص 262] دار عضد الدولة، ووصلت(10/416)
إلى الصّفّة «1» الكبيرة التي على البستان، فرأيته جالسا في صدرها، وبين يديه أبو عبد الله بن المنجم وهو يغني، فقال لي عضد الدولة: كيف تراه يغني، طيبا؟
فقلت: نعم، فقال: فاعمل له قطعة يغنيها، فانصرفت من حضرته، وجلست على طرف البستان، ومعي دواة وكاغد لأعمل وبدأت أفكر «2» ، فإذا الشيخ قد وافاني من عنده، وعليه رداء، فقال: ماذا تصنع؟ قلت: أعمل قطعة لأبي عبد الله ابن المنجم يغني بها، فقال: فنتعاون عليها، فقلت: أفعل، فقال: إن شئت أن تعمل الصدور، وأعمل الأعجاز فافعل، فبدأت وقلت: [الطويل]
فبتنا وسادانا ذراع ومعصم
فقال في الحال:
وعضد على عضد وخدّ على خدّ
فقلت:
بكر التّشاكي في حديث كأنّه
فقال في الحال:
تساقط ذو [ب] العقد والعنبر الهندي
فقلت:
وقد لفّ جيدينا عناق مضيّق «3»
فقال في الحال:(10/417)
فلم تدر عين أيّنا لابس العقد
فقلت:
أضنّ على بدر السّماء بوجهها
فقال:
وأستره من أن يلاحظه جهدي
ثم قال: ألست تعلم أن قولك هذا في النوم، فقلت: بلى، فقال: كرّرها حتى تحفظها وتثبتها إذا انتبهت ولا تنسها، واخذ الرقعة بيده، وطفقت أقرأها عليه مرات حتى حفظتها، ثم انتبهت فعملت لها أولا مصوغا هو:
وزارت بلا وعد بنفسي التي ... تسير من الواشين في غابة الأسد «1»
وبعد الأبيات:
إلى أن ثنت ريح الصبا من خمارها ... فأبصر أبهى منه منها [بلا] حمد
ولم أدر أن البدر أمسى متيما ... يجن بها ما في حشاي من الوجد
وكنت مروعا منه يفضح سرنا ... ولم أدر أن البدر يفضح من عندي
83- ومنهم- ابن العلّاف نديم المعتضد «2»
وهو أبو بكر الحسن بن علي بن أحمد بن بشار نديم المعتضد، ومسايس ذلك(10/418)
الأسد، وملاين صعاب تلك العريكة، ومجالس تلك الصمصامية على الأريكة، وكان ممن أجاد في الغناء، وجاء في ألحانه بقطع الروضة الغناء، وكان لا يغني إلا للمعتضد [ص 263] منفردا، ولا يسمع منه صوت إلا كالماء مطردا، ولم تنقل أصواته إلا من دفتر كان له دوّن فيه غناءه، وعرف به من بعده اعتناءه: «1» [الطويل]
لعمرك إني في الحياة لزاهد ... وفي العيش مالم ألق أم حكيم
من الخفرات البيض لم أر مثلها ... شفاء لذي بث ولا لسقيم
ولو شهدتنا يوم دولاب أبصرت ... طعان فتى في الحرب غير ذميم
والشعر لقطري بن الفجاءة، وروي لعمرو القنا، وروي لحبيب بن سهم، وقيل: بل لعبدة بن هلال اليشكري، ودولاب اسم قرية من أعمال الأهواز كانت بها حرب الأزارقة وابن عنبس بن كريز أيام ابن الزبير، والغناء فيه ثقيل أوّل مزموم، وذكره ابن خرداذبة ونسب صنعته إلى المعتضد، وقد نسب إليه عدة أصوات كثيرة، منها في شعر عمر بن أبي ربيعة: «2» [الطويل]
رأت رجلا أمّا إذا الشمس عارضت ... فيضحى وأما بالعشي فيخصر
أخا سفر جواب أرض تقاذفت ... به فلوات فهو أشعث أغبر
قليل على ظهر المطية ظله ... سوى ما نفى عنه الرداء المحبر
وكان الأصمعي يقول: كان جرير إذا أنشد شعر عمر بن أبي ربيعة قال: هذا شعر تهامي إذا أنجد وجد البرد، حتى سمع قوله هذا فقال: ما زال هذا القرشي يهذي حتى قال الشعر.(10/419)
عدنا «1» إلى ابن العلاف، ومن أصواته في شعره: [الطويل]
سرى طيف سعدى موهنا فاستقر بي ... هيوبا وصحبي بالفلاة رقود
ولما انتهينا للخيال الذي سرى ... إذا الدار قفر والمزار بعيد
فقلت لعيني عاودي النوم واهجعي ... لعل خيالا طارقا سيعود
والبيت الثاني منسوب إلى المعتضد وباقيه لابن العلاف، وكان ينادم المعتضد، ويشرف في الاجتماع به ولا يقتصد.
وقد حكي أن المعتضد بعث إليه بخادم من خاصته في بعض الليالي، فقال:
إن أمير المؤمنين يقول لك: ارقب الليلة، فعملت بيتا من الشعر وأرتج عليّ تمامه، قال: [ص 264] وأنشد البيت، قال: فأجزته له، فمضى وعاد، فقال: أحسنت ووقع قولك على غرض أمير المؤمنين، وقد أمر لك بجائزة، وها هي، فدفعها إليّ، فقلت: [الطويل]
وآخر يأتي رزقه وهو نائم
قال: ثم أمرني فغنيت فيه، والغناء فيه خفيف الثقيل المزموم.
ومن الأصوات المنسوبة إليه: [الكامل]
يا من يحاكي البدر عند تمامه ... ارحم فتى يحكيه عند محاقه
أو ليس من إحدى العجائب أنني ... فارقته وبقيت بعد فراقه
والشعر له ويروى لغيره، والغناء فيه من الهزج المحمول، ولغيره فيه غناء:
[البسيط]
أما ترى الليل قد ولت عساكره ... مهزومة وجيوش الصبح في الطلب(10/420)
والبدر في الأفق الغربي مطلعه ... من فوق دجلة منحازا إلى الهرب «1»
كأنما هو بالخط السوي بها ... قد مدّ «2» جسرا على الشطين من ذهب
والشعر لبعض الهاشميين والغناء فيه في الهزج المجنب، وللمختارين فيه غناء في الزريقي المطلق وفي هذا ذكره ابن ناقيا وقال:
وغنوا في هذا المذهب: [الوافر]
وخمار تخب إليه ليلا ... قلائص قد تعبن من النهار
فحمحم والكرى في مقلتيه ... لمخمور شكا ألم الخمار «3»
أبن لي كيف صرت إلى حريمي ... وجفن الليل مكتحل بقار
فقلت له ترفق لي فإني ... رأيت الصبح من خلل الديار
فكان جوابه أن قال صبح ... ولا صبح سوى ضوء العقار
84- ومنهم- مؤدّب الرّاضي «4»
مؤدب ذلك الخلق السّمح، ومؤدى ذلك الكرم الجم إلى الصفح، كان بقربه محظيا، وبحبه الراضي مرضيا، ولم يخف أفق جمال هو كوكبه، ولا شرف سماء به موكبه، وكانت يده تسحّ عليه سجالا، وتمر إليه عجالى، وكان في علم النغم(10/421)
عالما لو اهتدت إليه الأوائل لما ذكر قائل. ومن أصواته: [البسيط]
قالت بعادك من قربي يقربني ... وفي دنّوك أخشى النّار والعارا «1»
[ص 265]
إذا قضيت لنا ما منك نأمله ... فاستغفر الله تلقى الله غفارا
قالت لقد بعد المسرى فقلت لها ... من عاجل الشوق أن يستبعد الدارا
والشعر فيه قديم، والغناء فيه من خفيف الرمل المزموم، وله صوت في شعر الواثق، وكان قد صنع فيه الواثق لحنا ولم ينقل محفوظا وهو هذا: [البسيط]
لما استقل بأرداف تجاذبه ... واخضر فوق حجاب الدر شاربه
كلمته بجفون غير ناطقة ... فكان من ردها «2» ما قال حاجبه
والغناء فيه من الهزج المزموم.
85- ومنهم- أبو سعد بن بشر
العطار الطنبوري المعروف بغلام الديلمي، وإمام هذه الصناعة، وكم من كميّ كاد به الطنبور أن يبيت يحرق العود، ويزم المزمار، وإن أعطي نعمة من آل داود، وكان لا يعدل طرب صوت وتره الفصيح، وصوت ترتيبه الصحيح، وشدو أوتاره التي لو حيّت بها القسي لكانت لها تناهز، ولما قيل فيها وقد ترنمت ثكلى أوجعتها الجنائز، ومن أصواته: [المديد]
رنة الدولاب في السحر ... واصطلاح الناي والوتر
تركتني جار معصرة ... لا أفيق الدهر من سكري(10/422)
والشعر لأبي الحسن عاصم بن الحسن بن عاصم، والغناء فيه مطلق من الطريقة الرابعة وهي الرمل.
86- ومنهم- مسكين بن صدقة «1»
المديني مولى قريش، ومكمل طيب كل عيش، كان من صفو الحياة وطيبها، ولدارة أيام العمر ونصيبها، لو بات يسمع السليم لألهاه، أو يشغل الكئيب لأسلاه، كان أنسا للجليس، ونفسا للخندريس، وشمسا للندماء، بل ابن الشمس منه لمن يقيس.
ومن أصواته: «2» [الكامل]
يا ويح من لعب الهوى بحياته ... فأماته من قبل حين مماته
وحياة من أهوى فإني لم أكن ... أبدا لأحلف كاذبا بحياته
لأخالفن عواذلي في لذتي ... ولأسعدن أخي على لذاته
والشعر لأبي العتاهية، والغناء فيه مطلق من الرمل، وقد ذكر ابن ناقيا في هذا المذهب صوتا: [ص 266] [الكامل]
الله يعلم ما هممت بسلوة ... الدمع يخلف والعواذل تشهد
وعلي من ذكرى عهودك آمر ... ينهي الفؤاد عن السلو ويبعد(10/423)
قال: والشعر لأبي محمد بن معروف القاضي، ثم قال: وحكي أن بعض الرؤساء عاتبه على قول الغزل، فجحد ذلك فقال له: من الذي يقول:
الدّمع يخلف والعواذل تشهد
غيرك، فإن هذه صفة مجلس الحكم.
87- ومنهم- بديع بن محسن
ابن عبد الرحمن من ولد عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان العرجي الشاعر، كجده الشارع سبيلا لودّه، كان مع نظم القريض، وعظم شرفه المستفيض، مبرّزا في صناعة الغناء قيّما بألحانها، منعما في صفوف ريحانها، كأنما جاء في عصر أردشير «1» ، وأخذ عن الموابذة الزمزمة «2» بالأساطير، تعلم ما يقرب به لقباذ، وزمزم به أنو شروان «3» حول كروم طيزناباذ «4» ، فسلب حلي فارس، وجنى من شجر لم يكن له بغارس. ومن أصواته: [المتقارب]
سهرت اغتنام «5» ليالي الوصال ... لعلمي بها أنها تنفد
فقال وقد رق لي قلبه ... وأيقن أني به مكمد
إذا كنت تسهر ليل الوصال ... وليل الصدود متى ترقد(10/424)
والشعر مجهول، والغناء فيه مطلق من الرمل.
ومن أصواته: [مجزوء البسيط المخلّع]
نكهتك العنبر الفتات «1» ... وريقك البارد الفرات
وعارضاك اللذان راقا ... لما بدا فيهما النبات
وحيث ما كنت من بلاد ... فلي إلى وجهك التفات
والشعر يروى للشريف الرضي، والثالث معروف له، والغناء فيه من مجهول الرمل الذي يحصر بالسّبّابة.
ومن أصواته: [الخفيف]
لي حبيب تسيء فيه الظنون ... ليس لي في هواه دمع مصون
قال لي كيف كان حالك بعدي ... قلت مثلي بأي حال يكون
والشعر مجهول، والغناء فيه من خفيف الرمل المعلق [ص 267]
88- ومنهم- غضوب «2» جارية المتّقي
شمس كلل وطراز حلل، ورضى وإن سمّيت بغضوب، وبدرا وإن عوجلت بغروب، ولم تعرف إلا بعد المتقي، وامتداد أجلها الشقي، وكانت على عهده لا يعرف عنها مخبرا ولا يبلغ ريح الصبا عنها خبرا، وكانت من المهرة الحذّاق، والجواري اللائي لم يلحقن إلا فتنة للعشاق.
ومن أصواتها: [الكامل]
أوفى على بدر السماء بحسنه ... وزها على الشمس المنيرة إذ زها(10/425)
وإذا أراد تنزها في روضة ... أخذ المراة بكفه فتنزها
فكأنما أعطاه خالقه المنى ... وحباه من حلل الملاحة طرزها «1»
والشعر مجهول، والغناء فيه من الرمل المسرح.
ومن أصواتها الطائرة: «2» [الوافر]
فقلت لها ظلوم مطلت ديني ... وشر الغارمين ذوو المطال
فقالت ويح نفسي كيف أقضي ... غريما ما ذهبت له بمال
والشعر لكثير بن عبد الرحمن صاحب عزّة، والغناء فيه من الرمل المزموم وكذلك صوتها في شعر ابن المعتز: «3» [الوافر]
شجاني صوت مسمعة وراح ... يباكرني إذا برق الصباح
ومعشوق الشمائل عسكري ... جنى قتلي وليس له سلاح
كأن الكأس في يده عروس ... لها من لؤلؤ رطب وشاح
وقائلة متى يفنى هواه ... فقلت لها إذا فني الملاح
وكذلك صوتها: [الطويل]
ألا أيها الظبي الذي مل من قربي ... أبن لي فدتك النفس بالله ماذنبي
فإن كان ذنبي أنني بك ذا ضنى ... فلا غفر الرحمن ذلك من ذنبي
والشعر مجهول، والغناء فيه من الزريقي المطلق. وبهذا ذكرت شعرا كنت(10/426)
قلته وهو: [الطويل]
تصدّين عني والفؤاد معذب ... وما كنت يوما عن ودادك راغبا
لئن كان ذنبي أنني لك عاشق ... فعذبت بالهجران إن جئت تائبا
[ص 268]
89- ومنهم- معمر بن قطامي
ابن خالد الدمشقي، كان بدمشق من أطرب شحاريرها، وأطيب على مجاري تلك المياه من أصوات خريرها، أقام طول عمره يؤخذ عنه الغناء، وتأليف ضروبه، وتصنيف غريبه، وإتقانه على حسن ترتيبه، فكان لا يثبت سامعه، ولا يماثل به معبد ولا أبو الفرج وما حواه جامعه.
ومن أصواته: [مجزوء الكامل]
يا راحلا جعل الفرا ... ق لبعده سبب التلاقي
قد كان ساء فضمني ... ضم المودع للفراق
قد كان صد فحين وا ... صلني على غير اتفاق
عانقته وبكيت من ... جزعي لما بعد العناق
والشعر لأبي القاسم المطرزي، والغناء فيه من المطلق في الرمل.
ومن أصواته: [المتقارب]
مرض الجفون بلا علة ... ومكتحل الطرف لم يكتحل
شكا حسنه قبح أفعاله ... فأثر في وجنتيه الخجل
أقلي الملام ولا تعذلي ... ففي ذا الغزال يطيب الغزل
والشعر لنصر بن أحمد الأرزي، والغناء فيه في رابع الرمل.(10/427)
وكذلك صوته: «1» [الطويل]
وخبرني عن مجلس كنت زينة ... رسول أمين والنساء شهود
فقلت لها كري الحديث الذي مضى ... وذكرك من بين الحديث أريد
والشعر للعباس بن الأحنف، والغناء فيه خفيف الرمل المزموم.
قال: ومنهم ابن ناقيا في هذا المذهب: [الطويل]
وكنت وأيام المزار رخية ... علي ورخص الود لي فيك مطمع
أعز فلا أعطي الهوى فيك حقه ... من الشكر والمعطي مع الحق يمنع
فلما استرد الدهر مني عطاءه ... وكادت شعاب من هواي تقطع
فعدت مع الهجران أبكي على الهوى ... وأسأله عن فائت كيف يرجع
90- ومنهم- تحفة جارية أبي محمّد [ص 269]
الحسن بن عيسى بن المقتدر، وكانت تغني غناء المقتدر، وتسرع أول المغاني وتبتدر وتذهب في أصواتها مذهب الأوائل، وتخلب القلوب بلقابة «2» الشمائل، تسلي عن هوى ميّ ذا الرمة، وتنسي هوى زينب بشارا الأكمه، تعاود بها لهزم شبابه، ويعيد حبّها زمان زيد وحبّابة «3» .
ومن أصواتها: [مجزوء الرمل]
يا بديعا ألبس السّق ... م به جسما بديعا(10/428)
إنّ صبري وعزائي ... هلكا فيك جميعا
والشعر مجهول، والغناء فيه في الطريقة الرابعة من الرمل.
وكذلك صوتها في بحر المنسرح وهو: [المنسرح]
هل لك في خمرة مشعشعة ... تضحك في كأسها لشاربها
كأنما الماء حين خالطها ... يلعب بالنرد في جوانبها
وكذلك صوتها: «1» [الطويل]
لقد قتلت عيناك نفسا كريمة ... فلا تأمني إن مت سطوة ثائر
كأن فؤادي في السماء معلق ... إذا غبت عن عيني بمخلب طائر
والشعر لابن المعتز، والغناء فيه في خفيف الرمل المحمول فيه.
91- تحفة؟؟؟ جارية أبي يعقوب «2»
وكانت تخلف القمر إذا غاب، وتخلب السالي وقد فارق زمان الشباب، تبسم عن سمطي جمان، وتقرن تفاح خدودها من النهود برمان، وكان حسنها المفرط يأبى أن يصان، وصوتها المطرب لا تحكيه الحمائم على الأغصان، ومن أصواتها: «3» [مجزوء الرمل]
آح من حبّك آح ... آح منه لابراح
إنما تيّم قلبي ... عقد درّ ووشاح
والشعر للوليد بن يزيد، والغناء فيه مطلق في الطريقة الرابعة من الرمل.(10/429)
وكذلك صوتها: [مجزوء الكامل]
هبوا إلى حلب الكرو ... م مزاجه حلب السحاب
فالدهر يركض فاركضوا ... ركض المشيب إلى الشباب
ودعوا العتاب فإنه ... وقت يجل عن العتاب
[ص 270] والشعر مجهول، والغناء فيه في خفيف الرمل المسرح.
92- ومنهم- أبو العزّ العوّاد
واسمه نصر الله بن أحمد، ويعرف بالبصري، وكان شاعرا مغنيا، ونديما معينا، حاذقا في صناعته، نافقا في سوق بضاعته، جيد الصوت، مليح النغم، صحيح الضرب، مذهبه مذهب الزّطّ «1» في الحركة والخفة في المقاطع وصحة الإيقاع.
قال ابن ناقيا: وله غناء في عدة قطع «2» من شعري، ومن أصواته في شعر نفسه: [الطويل]
جعلتك لي عينا وأذنا «3» لأنني ... أراك بعين الود أشرف منهما
واسأل «4» عن القلب الذي لا يحلّه ... سواك لتدري ما يجنّ فترحما(10/430)
93- ومنهم- عين الزّمان أبو القاسم
مطرب لو غنى للجهام لهتن، أو للسالي الغرام لأثار له الفتن، بضرب أشجى من الورقاء، وأشد حنينا من قلب المحب للقاء، لو سمعته صخرة الوادي لتفجرت، أو مقلة القاسي لجرت، وله أصوات منها: [الكامل]
سترت بنفسج صدغها بنقابها ... وحمته بالتطريف من عنابها
بدوية ألفاظها ولحاظها ... والروم تستولي على أنسابها
شرق «1» الجمال بحمرة في خدها ... خجلا فكاد يفيض ماء شبابها
والشعر لأبي الوليد أحمد بن محمد البخاري، والغناء فيه مزموم الرمل. قال ابن ناقيا: أنشدني إياه عنه أبو محمد الحسن بن سهل بن خلف، شيخ من مشايخنا، مليح العارضة والمحاضرة، قد لقي جماعة من العلماء، وروى عنهم الأحاديث والأسانيد، وكان قد صحب الإخوان، وعرف الزمان وحلب الدهر أشطره وأتلف باللذة تالده في معاشرة من عاشره، حتى سلب الشيب غرامه، وجلله ثغامه، فأيقظ حلمه، وألقى بين عينيه غرمه، فكان يحضر مجالس الأنس تعللا، لاحظ له في غير السماع والمشاهدة والمحادثة والمناشدة، فبينا أنا وجماعة [ص 271] من أبناء الأدب، حضور عند بعض الرؤساء على مذاكرة ومعاقرة، والشيخ قد انتظم في سلك اجتماعنا، ونثرت الأغاني عقودها في أسماعنا، قال الشيخ: بيوم من أيام الشبيبة، وقد حضر مجلسا كمجلسكم هذا، آهلا من الأدب والطرب، وطرأ إلينا أبو الوليد البخاري، فأخذ في شأننا، ولم يأل في إنشادنا، وكان مطبوع الخلق، محتملا للدعابة، فقلت له مازحا: دعنا من أقطاعك الباردة، فقال: هل لك في الإنصاف؟ فقلت: أجل، فأنشد أبياته المذكورة، وقال: أمن الشعر البارد هذا؟ قلت: لا والله، وجعلت أعتذر إليه،(10/431)
وتعاطى روايتها جماعة الحاضرين شغفا بها، واقترحها على بعض المغنين، فغنّى فيها، وتصرم يومنا بسماعها، حتى أخذ منا الشراب، فيا له يوما كأيام، ثم نطقت إشارته بالتأسف على ما مضى من زمانه، فقلنا له: نحن نتمم لك الحلف من يومك السالف باقتراح الغناء في الأبيات، وإليك ما يقتضيه سماعها، وتقدمنا إلى أبي القاسم عين الزمان وهو حاضر، وكان له مذهب في حسن الإيقاع وجودة الاختراع، فغنى بها في هذا اللحن، فطار المجلس بأهله سرورا وطربا وقام الشيخ الخلفيّ يصفق بيده ثم قال: والله لأؤدينّ هذا الصوت بنقض التوبة، وتناول كأسا فسرّ بها فداخلنا العجب مما رأينا من ارتياحه وطربه، وصار الصوت من قلائد عين الزمان وخاصة غنائه يسميه ناقض التوبة.
94- ومنهم- أبو العبيس بن حمدون
متقن للألحان، مؤثر في الألقاب تأثير بنت الحان، لو تغنى لمغنّ لأزال عنه النصب، أو عاد بعوده لمشف لأزال عنه الوصب، أو وقع على دف لأغناه عن موصول القصب، يطرب السّمع ويرقص في المجلس حتى الشّمع، يعرض دونه الغريض، ويرى علويه وقد انكسر لخفض جناحه المهيض: «1» [الطويل]
فديتك أعدائي كثير وشقتي ... بعيد وأنصاري لديك قليل
وكنت إذا ما جئت جئت بعلّة ... فأفنيت علاتي فكيف أقول؟
فما كل يوم لي بأرضك حاجة ... ولا كل يوم لي إليك رسول
[ص 272] والشعر ليحيى بن طالب الحنفي، ويروى لابن الدمينة، والغناء فيه ثقيل أول مزموم، وكذلك من قلائد أصواته: «2» [الخفيف](10/432)
بأبي أنت شادنا بي فظّا ... لم تدع للظّباء عندي حظّا
لست أنساك ما حييت ولكن ... كلّ يوم تزيد عندي وتحظى
والشعر مجهول لا يعرف قائله، والغناء فيه ثاني ثقيل المجنب، وقد روى له المأمون صوتا: «1» [الطويل]
لقد جعلت نفسي على النّأي تنطوي ... وعيني على فقد الحبيب تنام
وفارقت حتّى ما أبالي من النّوى ... وإن بان جيران عليّ كرام
والشعر للطرماح ويروى لمؤرج السدوسي، والغناء فيه من الممخر من خفيف الثقيل.
95- ومنهم- جيداء جارية سيف الدّولة «2»
ابن حمدان، وكانت أخت الغزالة محاسن، وشبه الغزال من نظر فاتن، إلى سرّ فيها كامن، وسرى طرب يحرك كل ساكن، وخلائق كأنّ نشر الصبا دمّثها «3» ، وكأن هاروت وماروت نفثها، لو اعترضت لسرية عبس لأوقفتها عن السّرح، أو سمعتها أذن بلقيس لألهتها عن الصرح، ولو تلمحت عن وجهها الأسارير «4» لقالت إنه صرح ممرّد من قوارير، ومن مشاهير أصواتها: [المنسرح]
يا طول شوقي إلى الرحيل غدا ... ويا بلائي منه إذا وفدا(10/433)
أضناني الحبّ إذا تعرض بي ... ما قتل الحبّ هكذا أبدا
والشعر لسيف الدولة، ويقال لغيره، والغناء فيه ثقيل أول مزموم.
وكذلك من أصواتها: [الخفيف]
لك أن تمنع الجفون الهجوعا ... ولنا أن نسحّ فيها الدّموعا
يا بديع الجمال أبدعت في الصّد ... د كما في هواك صرت» بديعا
والشعر لعلي بن محمد العلوي.
قال ابن ناقيا: ويغنّى في الرمل المطلق، وحكي أنها كانت تنافث «2» العلماء، وتطارح الشعراء، وكانت لا تزال تحضر مجلس سيف الدولة وراء ستر يسبل دونها، وهي بإزاء عين سيف الدولة، حيث ينظر [ص 273] ، فلما أقام أبو الطيب المتنبي لديه ماثلا، وأنشد في مدحه قائلا قصيدته التي أولها: «3» [الطويل]
لكلّ امرئ من دهره ما تعوّدا ... وعادات سيف الدّولة الطّعن في العدى
اهتزت لها من وراء الستر طربا، وصنعت لحنا في قوله منها: «4» [الطويل]
تركت السرى خلفي لمن قل ماله ... وأنعلت أفراسي بنعماك عسجدا
وقيدت نفسي في هواك محبة ... ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
والغناء فيه رمل مطلق، فلم يفرغ أبو الطيب من إنشاده حتى فرغت من(10/434)
صنعته، ثم بعثت بالخادم إلى سيف الدولة تعلمه أنها صنعت لحنا فيه، فصرف الناس إلا خاصته، وأبقى أبا الطيب منهم، ثم قال: يا جيداء، هات ما صنعت، فاندفعت تغني الأبيات، قال أبو الطيب: فو الله ما ظننت إلا أن المجلس يرقص بنا، فاستعادها، ثم لم يزل يستعيدها وهي ترددها حتى مضت سحابة يومنا، وكأننا في كل مرة أول ما سمعناه، ثم أمر لي سيف الدولة بجائزة جليلة، فقلت: هي والله يا أمير المؤمنين أحق بها، فسألتك بالله إلا ما جعلته لها، فقال: بل هي لك ولها مثلها.
ومن أصواتها السيارة في شعر ابن المعتز: «1» [الوافر]
وليل قد سهرت ونام فيه ... ندامى صرّعوا حولي رقودا
أنادم فيه قهقهة القناني ... ومزمارا يعللني وعودا
فكاد الليل يرجمني بنجم ... وقال أراه شيطانا مريدا
والغناء فيه من الرمل المزموم، وقد ذكر الثعالبي في اليتيمة لجيداء هذه خبرا مع سيف الدولة وأبي فراس بن حمدان قريبه غير أنه لم يسمّها، قال: وكان سيف الدولة قلما ينشط لمجلس الأنس لاشتغاله عنه بتدبير الجيوش، وملابسة الحروب، وممارسة الخطوب، فوافت حضرته إحدى «2» المحسنات من فتيات بغداد، فتاقت نفس أبي فراس إلى سماعها، ولم تر أن يبدأ باستعارتها قبل سيف الدولة، فكتب إليه يحثه على استحضارها، فقال: «3» [السريع]
محلك الجوزاء أو أرفع ... وصدرك الدهناء بل أوسع «4»(10/435)
[ص 274]
وقلبك الرحب الذي لم يزل ... للجد والهزل به موضع
رفه بقرع العود سمعا غدا ... قرع العوالي جل ما يسمع
فبلغت هذه الأبيات المهلبي الوزير، فأمر القيان بحفظها وتلحينها، وصار لا يشرب إلا عليها، انتهى «1» .
ولعل هذه جيداء، وكان هذا قبل أن يشتريها سيف الدولة، أو لعلها جارية أخرى قدمت عليه ولم تصر إليه.
96- ومنهم- القاسم بن زرزر
ذكره ابن ناقيا، وشكره حقيقة لا رياء، وإذا «2» غنّى سلّى الحزين فجعه، وسلب الحمام سجعه، وغرغر في المآقي دمعة المشوق، ومثل للمفارق طعنة المعشوق، كم هزّ غصن بان، وأنسى المتيم الشغف من بان، وكان يغنّي في رسيل وآلة ومن أصواته المشهورة: «3» [الطويل]
وركب كأطراف الأسنة عرسوا ... على مثلها والليل تسطو غياهبه
لأمر عليهم أن تتم صدوره ... وليس عليهم أن تتم عواقبه
والشعر لأبي تمام في قصيدة يمدح بها عبد الله بن طاهر، وهو على خراسان.
وقال ابن ناقيا: وحكي أنه لما أنشده إياها أمر فنثر عليه ألف دينار، ثم حمل إليه الجائزة بعد ذلك، والغناء فيه ثقيل مزموم.
ثم قال: وفي هذا المذهب من بحر المديد: [المديد](10/436)
يا نديمي الصّبح قد وضحا ... فأدر لا تحبس القدحا «1»
ما ترى برد الهوى عبقا ... بنسيم المسك قد نفحا؟
وهذا البيت الثاني في نحوه ما يأتي من شعر فلتة، ونحن في مجلس قد ركّب على نهر مطّرد كأنه أيم «2» فرّ من يد قاتله أو اضطرب في جوف مخاتله، والدوح قد مالت ذوائبه، والنسيم قد رقّ ولان جانبه، والليل قد جلّل الأفق مسكي ردائه، وبلّل مطارف الثرى بأندائه، والقمر قد أقبل على طوق هالته، وجلا ضوؤه المنير حالك حالته: [البسيط]
[ص 275]
لله مجلسنا والنهر مطرد ... كأنه ممعن قد جد في الهرب
والدّوح قد مال مهتزا بلا طرب ... فكيف لو حركته نشوة الطرب «3»
وللنسيم بنا أخذ تلذ به ... كأنه أخذة الوسنان بالهدب
هذا وقد ذر مسك الليل أجمعه ... لولا نوافجه في الليل لم يطب «4»
وعندنا كل ذي ودّ نسر به ... هو السرور فدع عنك ابنة العنب
وأقبل البدر محفوفا بهالته ... كمثل بيضاء في طرق من الذهب
عدنا إلى ذكر زرزر، ومن أصواته: [مجزوء الكامل]
يا عين ما ظلم الفؤا ... دوما تعدى في الصنيع
ذوقته ألم الهوى ... فمحا سوادك بالدموع(10/437)
والشعر مجهول، والغناء فيه من الممخر من ثاني ثقيل، ومن أصواته في شعر نفسه: [مجزوء الكامل]
بالرّاح أعمر راحتي ... ما دام لي جسدي وروحي
وعلى النّصيح ملامتي ... وعليّ عصيان النّصيح
والغناء فيه من مزموم الرمل.
97- ومنهم- عليّ بن منصور الهاشميّ
إمام من أئمة الغناء، وتمام من البدور الكاملة السّناء، يأخذ القلوب أخذة الوسن الوسنان، ويملك الألباب ملكة الجواد بالعنان، فلم «1» يفتح على مثله طرف، ولا منح شبيه فضله صاحب ظرف، كان في فنه غريبا، وعلى بعده إلى النفوس قريبا.
وله أصوات منها: [مجزوء الرمل]
قل لمن ريقته مس ... ك وند وندام
والذي حلّل قتلي ... وهو محظور حرام
كل نار غير ناري ... فيك برد وسلام
والشعر لابن الحجاج، والغناء فيه فى الرمل المزموم، قال ابن ناقيا وفى هذا المذهب صوت: [السريع]
يا ويح قلبي من تقلبه ... أبدا يحن إلى معذبه
قالوا كتمت هواه عن جلد ... ولو انّ لي جلدا لبحت به
[ص 276](10/438)
98- ومنهم- كردم بن معبد
ابن الوليد بن محمد بن معبد بن كردم بن معبد المديني، أحد المغاني الفصاح، وواحد أهل المباني الصحاح، له نسب معرق لا يدانى ذلك الأب أبوه، وذلك النسب بالطرب يحبوه لكنه لم تنقل عنه أعمال، ولم تنحل المنى آمال.
وله صوت هو: «1» [الخفيف]
قل لأحبابنا الجفاة رويدا ... درّجونا على احتمال الملال
أحسنوا في صنيعكم لمحب ... لا عدمناكم على كل حال
إن هذا الصدود من غير جرم ... لم يدع فيّ موضعا للمقال
والشعر لأبي فراس بن حمدان، والغناء فيه من الرمل المجنب.
99- ومنهم- أحمد بن أسامة النّصبيّ «2»
كان من أسباب الطرب، وأشتات الأدب، لا يعدله في ضربه ضريب، ولا في نظرائه من يصبو «3» به اللبيب، يسلب الضاحي رداء الوقار، ويلبس الصاحي جلاء العقار، ويفعل طربه بالألباب، ما يفعله قرع المزاج بالحباب، إلى أدب ما قل له من نصيب، وطرب ليس هو من مثله بعجيب.
ومن مشاهير أصواته: «4» [الكامل](10/439)
أصبحت رهنا للعداة مكبلا ... أمسي وأصبح في الأداهم أرسف
ولقد أراني قبل ذلك ناعما ... جذلان آبي أن أضام وآنف «1»
والشعر للأعشى، أعشى همدان، والغناء فيه مطلق من الطريقة الثالثة، وهي من خفيف الثقيل، والبيتان من قصيدة أولها:
لمن الظعائن سيرهن ترجّف ... عوم السفين إذا تقاعس يجدف
مرت بذي خشب كأن حمولها ... نخل بيثرب طلعه متصفف
وغدت بهم يوم الفراق عرامس ... فتل المرافق بالهوادج دلف
بان الخليط وفاتني برحيله ... خود إذا ذكرت لقلبك تشغف
[ص 277]
وسبب قول الأعشى هذه القصيدة أن الحجاج كان قد أغزاه بلد الديلم «2» ، فأسر، ثم إن بنتا للعلج الذي أسره هويته، وصارت إليه ليلا ومكنته [من نفسها] فأصبح قد واقعها ثماني مرات، فقالت: يا معاشر المسلمين، أهكذا تفعلون بنسائكم، فقال: هكذا نفعل كلنا، فقالت: بهذا الفعل نصرتم، ثم عاهدته أن يصطفيها لنفسه إن خلصته، فلما كان الليل حلت قيوده وأخذت طرقا تعرفها حتى نجا. فقال شاعر من أسرى المسلمين يعرّض به: «3» [الطويل]
فمن كان يفديه «4» من الأسر ماله ... فهمدان تفديها الغداة أيورها
ومن أصوات النصبي: [المتقارب](10/440)
أيا دهر ويلك ماذا جميل ... فؤاد عليل وإلف نحيل «1»
كأني أرى شخصه في المراة ... يلوح ومالي إليه سبيل
والشعر لأبي الحسن محمد بن محمد البصروي، والغناء فيه من الطريقة الرابعة من الرمل.
100- ومنهم- وشيحة
جارية من أهل منبج محسنة وناطقة لسنة، كأن أناملها على محضر العود سوسنة، لطيفة تعشق، وظريفة بسهام النواظر ترشق، لغنائها أخذة الكرى بالهدب، وهبة الصبا بالكتب، لم يسعد بها جد البحتري حيث حاطت، وإلى منهج التامير، وحل منه بعد المتوكل محل السمير «2» ، ولا قيّض له هواها فكان لا يذكر علويه «3» ، ولا يتبصّر طيفها ولو من علوه ويمنع برقها أن يشام، وجانب هواها ولم يقل يا دار علوة من أعالي الشام.
ومن أصواتها المشهورة: «4» [المتقارب]
ولما عبثن بأوتارهن ... قبيل التبلج أيقظنني
عمدن لإصلاح عيدانهن ... فأصلحنهن وأفسدنني
والشعر لأبي الفتح كشاجم، والغناء فيه مطلق من الطريقة الثالثة، وهي من خفيف الثقيل.(10/441)
101- ومنهم- إسرائيل اليهوديّ
أثرى في أهل صناعته وتخوّل، وخلف منهم إسرائيل الأول، إلا أن ضعة دينه وضعته، وضائقة دينه ما وسعته، فكان عند اليهود محرما، لكنه أدام درس [ص 278] الزبور، ولبس الحبور حتى أصلح عوج لسانه، وأوضح منهج إحسانه، فصبر لمعاداة أهل دينه واحتسب، وألهاه كثرة ما اكتسب.
ومن أصواته: [الطويل]
أيا نفحات الريح من أرض بابل ... بحق الهوى إلا حملت رسائلي
فإن لصحراء الغوير منازلا ... لأحبابنا أكرم بها من منازل
وفيها التي هام الفؤاد بحبها ... وكم سائل لم يحظ منها بطائل
تعلقها بالأمس خلوا من الهوى ... فقد شغلته اليوم عن كل شاغل
والشعر لأبي بكر العنبري، والغناء فيه خفيف الثقيل المعلق، وكذلك صوته في شعر أبي الهندي: [البسيط]
أبا الوليد أما والله لو عملت ... فيك الشّمول لما فارقتها أبدا «1»
فلا نسيت حميّاها ولذّتها ... ولا عدلت بها مالا ولا ولدا
102- ومنهم- يحيى جارية أبي محمّد المهلّبي
وكانت جارية تملأ العين، وتفرع العين، لو رآها ابن عيينة لما لبث بلحظه أن رشقها، أو أبو يزيد البسطامي، لما زاد في أن بسط عذر من عشقها، هيفاء رؤد بيضاء، تطول بحدق سود، مخصّرة تزدان بها عقودها، وترفّ «2» إليها رفيف الخزامى بان كل «3» نجودها، ومن أصواتها: [المتقارب](10/442)
تأوب عيني طيف ألم ... لطارقة طرقت في الظلم
تخيل منها خيال سرى ... لتسلب حلمي بذاك الحلم
فما أنس لا أنس إذ أقبلت ... تميس كغصن سقته الديم
على رأسها معجر أخضر ... وفي جيدها سبح من برم «1»
والشعر لأبي الفرج الأصفهاني، والغناء فيه من خفيف الثقيل المزموم، وحكى أبو الفرج قال: أنفذ إليّ الوزير أبو محمد المهلبي «2» ذات ليلة خمسة آلاف درهم صلة، لا أعرف سببها، فلما حضرت مجلسه من الغد على العادة في المنادمة قلت: لقد خفت أن يكون الرسول قد أخطأ القصد فيما حمله إليّ، وإن كان لا ينكر خطرات كرم الوزير، فقال: إني جلست البارحة على الشرب وخرجت إليّ يحيى وفي يدها عودها، وعليها قناع أخضر، وفي عنقها مخانق البرم «3» ، فذكرت أبياتا في قصيدة أنشدتها معزّ الدولة، وذكر [ص 279] هذه الأبيات، قال: فأنشدتها إياّها، فغنّت فيها، وتقدمت بإنفاذ الدراهم إليك، فقلت: هي الآن صلة أخرى بالسكون إلى علم سببها وشكرته على فعله.
103- ومنهم- عنان جارية النّطافيّ «4»
مهاترة أبي نواس، ومظهرة غرائب الأنفاس، لم تبلغ مبلغها في المولدين امرأة(10/443)
من النساء، ولا حظي بمثلها أحد من الرؤساء، ولا سمع مثل شعرها إلا من الخنساء، وغلبت على هوى الرشيد غلبة أوهنت عرقه، وأوهنت حدقه، حتى كاد ينضب بها جدول أمّ جعفر، وتمر ماردة وتكفر، فنصبت لها أمّ جعفر أشراك الحيل، ومدت لها طوائل الطيل «1» ، وأقامت من أبي نواس لها قرنا منابذا، وراميا إليها سهما نافذا «2» ، مقبحا لحسنها، ومبغضا لأجنها «3» ، حتى سفّه رأي الرشيد، ونكّد فيها علة عيشه الرغيد.
قال أبو الفرج: نشأت باليمامة وتأدبت، وهمّ الرشيد أن يبتاعها، ثم منعه هجاء الشعراء لها، وكان ذلك بكيد من زبيدة، دخلت عليه وهي تتبختر، فقال لها: أتحبين أن أبتاعك؟ قالت: ولم لا أحب ذلك يا أحسن الناس خلقا وخلقا قال: أما الخلق فظاهر، وأما الخلق فما علمك به؟ قالت: رأيت شرارة قد طاحت من المجمرة حين جاء الغلام بالبخور إليك، فسقطت على ثوبك فأحرقته، فو الله ما قبضت لها وجها، ولا راجعت في جنايتها حرفا فقال لها: والله لولا أن العيون قد ابتذلتك لاشتريتك، ولكن لا يصلح للخلافة ما هذا سبيله، فاشتراها طاهر ابن الحسين.
وروى الأصمعي قال: بعثت إليّ أم جعفر أن أمير المؤمنين قد لهج بذكر عنان، فإن صرفته عنها فلك حكمك، قال: فالتمست وقتا لخطابه فأعوز، وكنت أهابه فلا أقدم عليه ابتداء، فرأيت يوما في وجهه أثر الغضب، فقال: هذا(10/444)
الناطفي مولى عنان، أما والله لولا أني لم أجر في حكم قط متعمدا «1» ، لجعلت على كل حبل منه قطعة، ومالي في جاريته أرب غير الشعر، فقلت: أجل ما فيها غير الشعر، أو يسرّ أمير المؤمنين أن يجامع الفرزدق، فضحك حتى استلقى وترك ذكرها. «2»
وحكى يعقوب بن إبراهيم، أن الرشيد طلب من الناطفي جارية، فأبى أن يبيعها بأقل من مئة [ص 280] ألف دينار، فقال له: أعطيتكها على صرف سبعة دراهم بدينار، فأمر أن تحضر، فأحضرت ثم لم يمض البيع، ولم تزل في قلب الرشيد حتى مات مولاها الناطفي، فبعث بمسرور الخادم، فأخرجها إلى باب الكرخ، ووقفها على سرير، وعليها رداء رشيدي قد جللها، فنودي عليها، بعد أن شاور الفقهاء فيها، وقال: على مالكها دين، فأفتوا في بيعها، فانتهت إلى مئتين وخمسين ألف درهم، فأخذها مسرور «3» ، ولم يكن فيها ما يعاب، فطلبوا لها عيبا لئلا تصيبها العين، فأوقعوا بخنصر رجلها شيئا في ظفرها. فأولدها الرشيد ابنين ماتا صغيرين، ثم خرج بها إلى خراسان، فمات هناك، وماتت بعده بمدة يسيرة.
وروى ابن عمار أنها خرجت إلى مصر وماتت بها حين أعتقها النطاف، ورثته بقولها: «4» [الكامل]
يا دهر أفنيت القرون ولم تزل ... حتّى رميت بسهمك النّطافا
وكانت مجيدة في الشعر مقصرة في الغناء، جارت مروان بن أبي حفصة وأبا نواس والعباس بن الأحنف، وكان يتعشقها العباس بن الأحنف.
حكى رجل أن ابن أبي حفصة قال: لقيني الناطفي فدعاني إلى عنان،(10/445)
فانطلقت معه إليها، فقال لها: قد جئتك بأشعر الناس مروان، وكانت عليلة، فقالت: إني عنه لفي شغل، فأهوى إليها بسوطه «1» ، فضربها به، فبكت فرأيت الدموع تنحدر من عينيها فقلت: «2» [السريع]
بكت عنان فجرى دمعها ... كالدّرّ إذ ينسلّ من خيطه
فقالت مسرعة بديهة: «3» [السريع]
فليت من يضربها ظالما ... تيبس يمناه على سوطه «4»
فقلت للنطاف: أعتق مروان ما يملك إن كان في الإنس والجن أشعر منها.
وأنشدها أبو نواس: «5» [المنسرح]
علقت من لو أتى على أنفس الما ... ضين والغابرين ما ندما
قالت: «6»
لو نظرت عينه إلى حجر ... ولّد فيه فتورها سقما
وحكى أحمد بن معاوية قال، قال لي رجل تصفحت كتبا، فرأيت فيها بيتا جهدت جهدي [ص 281] أن أجد أحدا يجيزه «7» لي فلم أجده، فقال لي(10/446)
صديق لي: عليك بعنان، فأتيتها فأنشدتها وهو: «1» [الطويل]
ويبكي فأبكي رحمة لبكائه ... إذا ما بكى دمعا بكيت له دما
وحكى الحسن بن وهب قال: دخلت على عنان يوما، فسألتني أن أقيم عندها، ففعلت، وأتينا بالطعام والشراب، فأكلنا وشربنا، وغنتني، فكان غناؤها دون شعرها، فشربت ستة أرطال ونكتها خمسة، وضجرت فقالت لي: ما أنصفت، شربت ستة ونكت خمسة، فتغافلت وقلت: غني صوتي: «2» [الطويل]
خليلي ما للعاشقين قلوب ... ولا للعيون الناظرات ذنوب
ويا معشر العشاق ما أبغض الهوى ... إذا كان لا يلقى المحب حبيب
فغنت: «3» [الطويل]
خليلي ما للعاشقين أيور ... ولا لحبيب لا يناك سرور
ويا معشر العشاق ما أبغض الهوى ... إذا كان في أير الحبيب فتور
فخجلت وانصرفت.
وكتبت عنان على عصابتها باللؤلؤ: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت)(10/447)
وقال هبة الله بن إبراهيم بن المهدي: أنشدني أبي لعنان: «1» [الكامل]
نفسي على حسراتها موقوفة ... فوددت لو خرجت مع الحسرات
لو في يديّ حساب أيامي إذا ... أنفقتهن تعجلا لوفاتي
لا خير بعدك في الحياة وإنما ... أبكي مخافة أن تطول حياتي
104- دنانير جارية محمّد بن كناسة «2»
جارية لا تسام بألوف، ولا تنفر عن ألوف، أجادت في الشعر كل الإجادة وزادت فيه على الشعراء حتى استبعدت أبا عبادة، وشدت من الغناء شدوا، وقنعت منه بما جاء عفوا، وكانت ملهية النوادر، مسرعة البوادر، تشد إزارها على الكثيب وتعدل قوامها إلا على الكئيب، كانت مولّدة من مولّدات الكوفة [ص 281] رّباها ابن كناسة وأدّبها، فخرجت شاعرة أديبة فصيحة، قيل إنها كانت تغني، وكان ابن كناسة ديّنا صالحا، وهو ابن خالة إبراهيم بن أدهم «3» ، وذكر علي بن عثام الكلابي قال: كان لابن كناسة صديق له يكنّى أبا الشعثاء، وكان عفيفا مزّاحا، فكان يدخل على ابن كناسة يسمع غناء جاريته دنانير ويعرض لها بأنه يهواها فقالت: فيه شعرا منه: «4» [الرمل]
لأبي الشّعثاء حبّ ظاهر ... ليس فيه مطعن للمتّهم(10/448)
يا فؤادي فازدجر عنه ويا ... عبث الحبّ به فاقعد وقم
105- ومنهم، فضل اليماميّة «1»
جارية المتوكل وهي المعروفة بفضل الشاعرة، أجلّ أن تكون أخت الخنساء، أو تقع في تخت أحد من الرؤساء، جارت الفحول وجبذت «2» وقيدتهم الوحول «3» ، ومهرت في القريض، وحبّرت «4» منه الروض الأريض، وعلقت فيه القرناء، وقد ذكرها صاحب كتاب الإماء «5» قال: كانت من مولدات البصرة، وبها نشأت، وذكر محمد بن داود أنها عبدية، وكانت تزعم أن أمها علقت بها من مولى لها من عبد القيس، وأنه مات وهي حامل بها، فباعها ابنه فولدت بعد بيعها واسترقت، وكانت سمراء حسنة الوجه والقد والجسم، شكلة حلوة أديبة فصيحة سريعة الهاجس، حادة الخاطر، مطبوعة في الشعر متقدمة فيه، وكانت تجلس في مجلس المتوكل على كرسي وتقارض الشعراء الشعر بحضوره، فألقى عليها يوما أبو دلف [العجلي] «6» [الكامل](10/449)
قالوا عشقت صغيرة فأجبتهم ... أشهى المطي إلي مالم يركب
كم بين حبة لؤلؤ مثقوبة ... لبست وحبة لؤلؤ لم تثقب
فأجابته بديها:»
[الكامل]
للناس أهواء ولذة بعضهم ... وهواه في الأمر الذي لم يصعب
ويرى سواه يحب بكرا كاعبا ... كم بين بكر في القياس وثيب
وكتب إليها بعض من كان يحضرها: «2» [الطويل]
ألا ليت شعري أنت هل تذكرينني ... فذكرك في الدنيا إلي حبيب
[ص 283]
وهل لي نصيب في فؤادك ثابت ... كما لك عندي في الفؤاد نصيب
فلست بمتروك فأحيا بزورة ... ولا النفس عند اليأس عنك تطيب «3»
فكتبت إليه: «4» [الطويل]
نعم وإلهي إنني بك صبة ... فهل أنت يا من لا عدمت مثيب «5»(10/450)
لمن أنت منه في الفؤاد مصوّر ... وفي العين نصب العين حين تغيب
فثق بفؤاد أنت تظهر مثله ... على أن بي سقما وأنت طبيب
وقال علي بن يحيى: دخلت على المتوكل يوما، فدفع إليّ رقعة وأمرني بقراءتها، فإذا فيها: «1» [مجزوء الرمل]
قد بدا شبهك يامو ... لاي يحدو بالظلام
فأجب نقض لبانا ... ت اعتناق والتزام
قبل أن تفضحنا عو ... دة أرواح النيام
قلت: مليح والله قائلها، لمن هو؟ قال: وعدتني فضل البارحة على أن أبيت معها، فسكرت سكرا شديدا منعني من التيقظ لها، فلما أصبحت وجدت رقعتها في كمي، والشعر لها وهو بخطها.
وروى أبو هفان عن رجل قال: خرجت قبيحة «2» على المتوكل في يوم نيروز «3» وفي يدها كأس من بلور فيه شراب صاف، فقال: ما هذا؟ فقالت:
هديتي إليك في هذا اليوم، عرفك الله يمنه، فشربه وقبّل خدّها، فقالت فضل: «4» [السريع]
سلافة كالقمر الباهر ... في قدح كالكوكب الزاهر(10/451)
يديرها خشف كبدر الدجى ... فوق قضيب أهيف ناضر
على فتى أروع من هاشم ... مثل الحسام المرهف الباتر
وحكى أحمد بن أبي طاهر قال: ألقى بعض أصحابنا على فضل: «1» [الطويل]
ومستفتح باب البلاء بنظرة ... تزّود منها قلبه حسرة الدّهر
فقالت: «2» [الطويل]
فو الله ما يدري أيدري بما جنت ... على قلبه أم أهلكته وما يدري
[ص 284]
وحكى أبو يوسف الضرير قال: صرت أنا وأبو منصور الباخرزي «3» إلى فضل الشاعرة، فحجبنا عنها، وما علمت بنا، ثم بلغها خبرنا بعد انصرافنا، فكتبت إلينا تعتذر: «4» [الطويل]
وما كنت أخشى أن ترى لي زلّة ... ولكّن أمر الله ما عنه مهرب
أعوذ بحسن الصّفح منكم وقبلنا ... بعفو وصفح ما تعوّذ مذنب «5»
فكتب إليها أبو منصور [الباخرزي] «6» [الطويل](10/452)
لئن أهديت عتباك لي ولإخوتي ... لمثلك يا فضل الفضائل تعتب
إذا اعتذر الجاني محا العذر ذنبه ... وكل امرئ لا يقبل العذر مذنب
وحكى عليّ بن الجهم قال: كنت يوما عند فضل الشاعرة فلحظتها لحظة استرابت بها، فقالت: «1» [الرجز]
يا ربّ رام حسن تعرّضه ... يرمي ولا يشعر أنّي غرضه
فقلت: «2» [الرجز]
أيّ فتى عهدك ليس يمرضه ... وأيّ عهد محكم لا ينقضه «3»
فضحكت وقالت: خذ في غير هذا الحديث.
ومن شعرها ما كتبت إلى سعيد بن حميد، فكان منهما ما كان: «4» [الكامل]
الصّبر ينقص والسّقام يزيد ... والدّار دانية وأنت بعيد
أشكوك أم أشكو إليك فإنّه ... لا يستطيع سواهما المجهود
وكتبت: «5» [الطويل](10/453)
وعيشك لو صرحت باسمك في الهوى ... لأقصرت عن أشياء في الجد والهزل
ولكنني أبدي لهذا مودة ... وذاك وأخلو منك خلوة ذي خبل
مخافة أن يغرى بنا قول كاشح ... عدوا فيسعى بالصدود على الوصل
فكتبت إليها: «1» [الطويل]
تنامين عن ليلي وأسهره وحدي ... وأنهى جفوني أن تبثك ما عندي
فإن كنت لا تدرين ما قد فعلته ... بنا فانظري ماذا على قاتل العمد
[ص 285]
وحكى القاسم بن زرزر «2» قال: قصد سعيد [بن حميد العراق] لحمى نالته، فسألتني فضل أن أساعدها أنا وعريب، في المضي إليه للسلام عليه، وأهدت إليه هدايا فيها ألف جدي وألف دجاجة فائقة وألف طبق فاكهة، وطيب كثير وشراب وتحف حسان، فكتب إليها سعيد: إن سروري لا يتم إلا بحضورك، فجاءته في آخر النهار، وجلسنا نشرب، واستأذن غلامه بنان، فأذن له فدخل إلينا وهو يومئذ شاب طرير «3» حسن الوجه، حسن الغناء، سريّ الملبوس كثير العطر شكل «4» ، فذهب بفضل كل مذهب، وبان ذلك في إقبالها عليه، وتحققها به، فتنمر سعيد واستطير غضبا، وتبين ذلك لبنان فانصرف، وأخذ سعيد يعذلها ساعة ويوبخها تارة ويزيد في تأنيبها، وهي تعتذر منه، ثم سكت، فكتبت إليه(10/454)
فضل: «1» [مجزوء الكامل]
يا من أطلت تفرسي ... في وجهه وتنفسي
أفديك من متدلل ... يزهى بقتل الأنفس
هبني أسأت- وما أسأ ... ت- بلى أقر أنا المسي
أحلفتني أن لا أسا ... رق نظرة في مجلسي
فنظرت نظرة مخطئ ... أتبعتها بتفرسي
ونسيت أني قد حلف ... ت فما عقوبة من نسي؟
فقام سعيد لوقته وقبل رأسها، وقال: لا عقوبة عليك، بل نحتمل هفوتك ونتجافى عن زلتك، وغنت عريب في الشعر رملا، وشربوا عليه بقية يومهما ذلك، ثم افترقا، وقد أثر بنان في قلبها أثرا، وعلقته، ولم تزل تواصله سرا حتى ظهر أمرهما، ثم غضب بنان على فضل في أمر أنكره، فاعتذرت فلم يقبل، فكتبت إليه كأنها تخاطب نفسها: «2» [السريع]
يا فضل صبرا إنّها ميتة ... يجرعها الكاذب والصادق
ظنّ بنان أننّي خنته ... روحي إذا من جسدي طالق
106- ومنهم- تيماء جارية خزيمة بن خازم «3»
وكانت مدنية شاعرة جريئة، ذات عورة «4» ضحوك لعوب، كسلى دلال لا(10/455)
يعتريها لغوب «1» ، [ص 286] تجرّ على الغواني ذيلا، وتخسف البدور ليلا، وتخطئ المتيم الذي يقول: [الطويل]
وخبرتماني أن تيماء منزل لليلى..
وأجادت في الشعر، ولم تقصر في الغناء، ولم تدع لمن بعدها غير الغناء، ومن شعرها: «2» [البسيط]
تفديك تيماء من سوء تحاذره ... فأنت مهجتها والسمع والبصر
لئن رحلت لقد أبقيت لي حزنا ... لم يبق لي معه في لذة وطر
فهل تذكرت عهدي في المغيب كما ... قد شفني الهم والأحزان والفكر
وحكت أنها عرضت على خزيمة هي ووصيفة بكر حلوة الوجه، فمال إليها، وأقبل علي كالمعتذر فقال: «3» [الكامل]
قالوا عشقت صغيرة فأجبتهم
البيتان
فقلت: «4» [الكامل]
إن المطيّة لا يلذّ ركوبها ... حتّى تذلّل بالزّمام وتركب(10/456)
والدّر ليس بنافع أصحابه ... حتّى يؤلّف بالنظام ويثقب «1»
هكذا رواهما أبو الفرج في كتاب الإماء. قالت تيماء فضحك واشترانا معا، ثم غلبتها عليه، ولها غناء فيهما.
107- ومنهم- سكون «2» جارية طاهر بن الحسين
وكانت بيضاء مولدة بادية السناء، حسنة الوجه والغناء، ربيت في دار بسخنر «3» بن محمد، وأخذت الغناء عنه وعن ابنه وبناته وجواريه، وتلقت عن إسحاق [الموصلي] وطبقته، واستحسنها إبراهيم الموصلي وسائر رفقته، وأعجب بها ابن المهدي، واهتز لصوتها الندي، وكانت مبرزة في الشعر، تعد من الشعراء، وتلحق منهم بالرجال لا بالنساء، وسمعها إبراهيم الموصلي فاستحسن طبعها، وقال: ليت شعري هذا السيف لمن يشحذ. وحظيت عند طاهر بن الحسين ثم غلبتها عليه جارية أخرى انقطع إليها مدة، ثم جاز بحجره، سكون، فوثبت إليه وقبلت يديه وقال: الليلة أزورك، فتأهبت لذلك وتزينت وتعطرت، وأنسي طاهر فلم يأت إليها، فكتبت إليه: «4» [الوافر]
ألا يا أيّها الملك الهمام ... لأمرك طاعة ولنا ذمام
طمعنا في الزيارة والتّلاقي ... فلم يك غير عذر والسّلام(10/457)
فلما أتته رقعتها حرّكته وهاجت دواعيه وأطربته، فقام إليها ودخل مسارعا عليها [287] فأقام عندها ثلاثا، وأبرم لها حبله الذي كان أنكاثا، وعاد لها إلى ما كان عليه، وعلى مالم يزل لديه.
108- ومنهم- فنون جارية يحيى بن معاذ
وكانت كاتبة شاعرة، حلوة الوجه، والنادرة، بارعة في الغناء عزيزة لا تسام بالغلاء وهي القائلة: «1» [البسيط]
يا ذا الذي لام في تخريق قرطاسي ... كم مر مثلك في الدنيا على راسي
الحزم «2» تخريقه إن كنت ذا أدب ... وإنما الحزم سوء الظن بالناس
إذا أتاك وقد أدى أمانته ... فاحفظ أساطيره عن كل وسواس
واشقق كتاب الذي تهواه معتمدا ... فرب مفتضح في حفظ قرطاس
109- ومنهم- صرف جارية أمّ حصين «3»
مولى جعفر بن سليمان، وكانت جارية مليحة وشاعرة فصيحة، ومغنية حسنة الوجه والغناء كأن الشمس من أخواتها والورق في لهواتها، من مولدات البصرة، ومتوكدات الحسرة، ولها في الغناء صنعة بديعة، ذكر الهاشمي منه هذا الصوت: «4» [الطويل](10/458)
كريم يغض الطرف فرط حيائه ... ويدنو وأطراف الرماح دوان
وكالسيف إن لا ينته لان متنه ... وحداه إن خاشنته خشنان
ولحنه في خفيف الرمل.
وكتب إليها عبد الصمد بن المعذل: «1» [السريع]
حبوت صرفا بهوى صرف ... لأنها في غاية الظرف
يا صرف ما تقضين من عاشق ... بكاؤه يبدي الذي يخفي
فكتبت إليه: «2» [السريع]
لبيك من داع أبا قاسم ... حبك يدنيني من الحتف
صرف التي تسقيك صرف الهوى ... وخلة جلت عن الوصف
110- ومنهم- نسيم جارية أحمد بن يوسف الكاتب «3»
شاعرة مغنية، زاهرة عن الكواكب مغنية، مولّدة مولّدة لكل صبابة طبعت عليها [ص 288] النفوس، وكأنه «4» خلعت عليها فلا ينزع لها لبوس.(10/459)
وهي القائلة في سيدها وقد مات: «1» [الطويل]
ولو أن حيا هابه الموت قبله ... لما جاءه أو جاء وهو هيوب
ولو أنّ حيا قبله صانه البلى ... إذن لم يكن للأرض فيه نصيب
وكذلك هي القائلة فيه: «2» [البسيط]
نفسي فداؤك لو بالناس كلهم ... ما بي عليك تمنوا أنهم ماتوا
وللورى ميتة في الدهر واحدة ... ولي من الهمّ والأحزان موتات
111- ومنهم- عارم جارية وليهدة النخاس «3»
مولّدة من مولّدات البصرة، والمولّدات في القلوب الحسرة، باعها مولاها فابتاعها بعض الكتاب، وحلت منه محلا لم يبلغه العتاب.
قال الخاركي «4» الشاعر: مرت بي عارم يوما وأنا مخمور، فاستوقفتها وقلت لها: «5» [الرجز]
هل لك في أير وأير مثلي ... ينهض قدّامي وفوق رجلي
أدقّ عرقيه كأير بغل(10/460)
فضحكت ثم قالت: «1» [الرجز]
هل لك في أضيق من حر أمّكا ... مستحصف داخله كهمّكا «2»
تموت إن أبصرته بهمّكا
112- ومنهم- سلمى اليماميّة
جارية أبي عباد، وكانت فتنة للنظر، ومحنة لمن بات من العشق على غرر، وهي القائلة: «3» [الكامل]
يا نازحا شط المزار [به] ... شوقي إليك يجل عن وصفي «4»
أسهرت عيني في تفرقنا ... ما التذّ بعدك بالكرى طرفي
أغفي لكي ألقاك في حلمي ... ومن الكبائر ثاكل تغفي
113- ومنهم- مراد جارية عليّ بن هشام «5»
مولدة من مولدات المدينة، صفراء كأنها الذهب، هيفاء كأنها مال بها الطرب، اشتراها علي بن هشام لما حج وكانت تقول الشعر في معاني فتوحه، وتداني به ما يهتز به [ص 289] من مديحه، وغضبت عليه مرة وهجرته،(10/461)
وتعرض إلى ترضيها، فزجرته، فكتب إليها: «1» [الطويل]
لئن كان هذا منك حقا فإنني ... مداوي الذي بيني وبينك بالهجر
ومنصرف عنك انصراف ابن حرة ... طوى وده والطي أبقى على النشر
فكتبت إليه: «2» [الطويل]
إذا كنت في رقي هوى وتملك ... فلابد من صبر على غصص الصبر
وإغضاء أجفان طوين على قذى ... وإذعان مملوك على الذل والقسر
فذلك خير من معاصاة مالك ... وصبر على الإعراض والصد والهجر
114- ومنهم- متيّم الهشاميّة «3»
كانت تعبث بالشعر فإذا قالته تجيده، وقادته لا يأتي عليها شريده، وعلى أنه بحر لم تقع إلينا منه إلا فريده، قال لها المأمون أجيزي: «4» [الطويل](10/462)
تعالي يكن للكتب بيني وبينكم ... ملاحظة نومي بها ونشير
فعندي من الكتب المشومة خيرة ... وعندي من شؤم الرسول أمور
فقالت: «1» [الطويل]
جعلت كتابي عبرة مستهلة ... وفي الخد من ماء الجفون سطور
وهي القائلة: «2» [السريع]
يا منزلا لم تبل أطلاله ... حاشا لأطلالك أن تبلى
الأبيات، وفيه صنعة رمل على طريق النوح، وقد ذكر في أخبار المعتصم.
115- سمراء وهيلانة «3»
شاعرتان فاخرتان، ومولّدتان للقلوب مفسدتان، من مولّدات الحجاز، ومجددات الهوى الذي ماله حجاز، وكان يجمع لمعارضة الشعراء لهما أهل الآداب ووجوه الكتاب.
قال أبو الشبل البرجمي «4» الشاعر: دخلت إلى سمراء فتحدثنا ساعة، ثم(10/463)
أنشدتها بيتا لأبي المستهل «1» في المعتصم: «2» [المتقارب]
أقام الإمام منار الهدى ... وأخرس ناقوس عموريه
ثم قلت لها اجيزي، فقالت: «3» [ص 290] [المتقارب]
كساني المليك جلابيبه ... ثيابا علاها بسموريه «4»
فأعلى افتخاري بها رتبتي ... وأذكى ببهجتها نوريه
ثم أكلنا عندها، وخرجت من عندها، فأتيت هيلانة فقالت: من أين يا أبا الشبل؟ فقلت: من عند سمراء، فقالت: قد علمت أنك تبتدئ بها، وكانت سمراء أجملهما، فقالت: وأعلم أنها لم تدعك حتى أكلت عندها، قلت:
أجل، قالت: فهل لك في الشرب، قلت: نعم، فأحضرت شرابا، فشربت منه، ثم قالت: أخبرني بما جرى بينكما، فأخبرتها، قالت: هذه المسكينة كانت تجد البرد، واحتاجت إلى سمورية، فهلا قالت: «5» [المتقارب]
أضحى به الدين مستبشرا ... وأضحت زناد الهدى «6» موريه
فقلت لها: أنت في كلامك أشعر منها في شعرها، وشعرك فوق شعراء أهل عصرك.(10/464)
116- ومنهم- ظلوم جارية محمّد بن مسلم
وكانت شاعرة ماهرة، وناشرة باهرة، وكاتبة قادرة، ومغنية محسنة، سريعة البادرة، كانت لأبي صالح محمد بن مسلم الكاتب، ثم باعها لبعض الكتاب، فاستفادت عنده طرائق الكتاب، واستزادت فوق ما يحتاج إليه في هذا الباب.
قال جعفر بن قدامة، حدثني احمد بن أبي طاهر: كان محمد بن مسلم لي صديقا، وكان يقال له أبو الصالحات، فرأيت جاريته يوما إلى جانبه وعلى رأسها كور منسوج بالذهب مكتوب عليه بخط أحسن من كتب: «1» [الطويل]
وإني على الود الذي قد عرفتم ... مقيم عليه لا أحول على العهد
وذلك أدني طاعتي لمحبتي ... كأيسر ما أطفي به علة الوجد
فقلت لها: ما أملح هذا الشعر الذي على كورك، قالت: هو شعري أفتحب أن أغنيك به؟ قلت: أجل، فغنته أملح غناء، ثم اشتراها بعد ذلك فتى من الكتّاب.
117- ومنهم- عاذل «2» جارية زينب بنت إبراهيم الهاشميّة
من أحسن الناس شعرا وغناء، وسنا وسناء، إلى محيا وسيم، وقوام كما [ص 291] عبث بغصن البان النسيم، ورقة معاطف كأنما تصبّب من قطراتها المدام، ولين بشرة «3» كأنما تصوّب من خطراتها الغمام، وكان إبراهيم بن العباس الصولي بها سكران لا يفيق، ونشازا لا يأنس إلى رفيق.(10/465)
قال ابن السخي: وكانت مولاتها زينب بنت إبراهيم أخت عبد الوهاب بن إبراهيم تقيّن «1» عليها وتخرجها إلى الوجوه بسرّمن رأى، وكانت كاملة في الظرف، وكان إبراهيم بن العباس «2» ممن اخرجتها عليه، فمالت إليه وأصفته هواها، فلم يكدر له جوّه، ولا تنكر له دوّه «3» وامتنعت من جماعة كانوا يهوونها واحتجبت منهم حتى كأنهم ما كانوا يرونها، ثم إن إبراهيم علق غيرها جارية كانت للواثق أهداها إليه بعض ملوك الأتراك، فخرجت بعد وفاة الواثق حرة، وكانت ولدت منه بنتا، فلما واصلها جفا ظلوم «4» وظلمها في الوفاء، وأضرمها بنار لا تعاجل بالانطفاء، فلما رأت تكدره، وتبيّنت تغيره لها وتنكره، كتبت إليه «5» : [المنسرح]
[بالله] يا ناقض العهود بمن ... بعدك من أهل صبوتي أثق
وأسوأتا ما استحيت لي أبدا ... إن ذكر العاشقون من عشقوا
لا غرني كاتب له أدب ... ولا ظريف مهذب لبق
قال إبراهيم ابن الصولي: فلما قرأت الأبيات، أخذني مثل الجنون عليها، ثم هجرت الواثقية وأقبلت عليها، ولم نزل على مصافاة ومواصلة حتى قطع الموت بيننا، وقرب حيننا حيننا.(10/466)
118- ومنهم- ريّا وظمياء
مولّدتان يماميتان، هما الشمس وأختها، والخطيّة وتحتها غصن بانة، ومعطفا ريحانة، وغزالا سرب، وقسيما شرب وقمرها له ومقلتها، ظبي أفلت من حباله.
حكى أحمد بن خلف قال: حدثني أحمد بن سهل وكان أحد كتاب صاعد، قال: سمعت الحسن بن مخلد يحدث، أن رجلا نخّاسا من اليمامة قدم بجاريتين شاعرتين على المتوكل، فنظر إلى إحداهما فقال: ما اسمك؟ قالت:
ريا، قال: أنت شاعرة؟ قالت: كذا زعم مالكي، قال: فقولي في مجلسنا شعرا ترتجلينه، وتذكرينني وتذكرين الفتح، فوقفت هنيهة ثم قالت: «1» [الطويل]
أقول وقد أبصرت صورة جعفر ... إمام الهدى والفتح ذا العز والفخر
أشمس الضحى أم شبهها وجه جعفر ... وبدر السماء الفتح أم شبهه البدر
[ص 292]
فالتفت إلى الأخرى، ثم قال: وقولي أنت، فقالت «2» : [الطويل]
أقول وقد أبصرت طلعة جعفر ... تعالى الذي أعلاك يا سيد البشر
وأكمل نعماه بفتح نصيحة ... فأنت لنا شمس وفتح هو القمر
فأمر أن تشترى الأولى وتردّ الأخرى، فقالت المردودة: ولم رددتني يا مولاي؟
قال: لأن بوجهك نمشا، فقالت:
لم يسلم الظبي على حسنه ... يوما ولا البدر الذي يوصف
الظبي فيه خنس ظاهر ... والبدر فيه نكت تعرف(10/467)
فاشتراهما معا، ولم يفرق لهما مجمعا، إلى أن فرق بينهما الدهر المشتت، وبت «1» اجتماعهما صرف الزّمان المبتّت.
119- ومنهم- بنان جارية المتوكّل
وكانت تخجل القمر بصفحتها، والغزال بلمحتها، والقضيب المتأود بقدها، والتفاح الجنّي بخدّها، وتغير القلائد بنظمها الذي لا يحلّيه «2» إلا مبسمها، ولا يضاهية إلا الثريا لمن يتوسمها، لا تجيء عريب لها بأصبع من بنان، ولا دنانير إلا مما لا يدّخر للامتنان، ولا سابقة لا تلحق إلا وهي معها في طيّ عنان.
قال الفضل بن العباس الهاشمي، حدثتني بنان الشاعرة المتوكلية قالت:
خرج المتوكل يوما يمشي في صحن القصر وهو يتوكأ على يدي ويد فضل الشاعرة فأنشد: «3» [الطويل]
تعلّمت أسباب الرّضا خوف هجرها ... وعلّمها حبّي لها كيف تغضب
ثم قال لنا: أجيزا هذا البيت، فقالت فضل: «4» [الطويل]
تصدّ وأبدي بالمودّة جاهدا ... وتبعد عنّي بالوصال وأقرب
وقلت أنا: «5» [الطويل](10/468)
وعندي له العتبى على كلّ حالة ... فما عنه لي بد ولا عنه مذهب
120- ومنهم- ريّا جارية إسحاق [الموصلي]
وكانت مولدة ربيت باليمامة، وتربت على غناء أشجى من تغريد اليمامة، وكانت صفراء كأنما [ص 293] تجر معصفرات الجلابيب، أو تكسى مصفرات الذهب الصبيب «1» ، هذا إلى حلاوة تؤكل بالعيون، وحسن لا يقضى منه عدات الديون، وكانت شاعرة لو فاوضت النساء أو أوجبت عليهن الفخر «2» ، أو باكت الخنساء لما كانت لها عينان تجري على صخر، وطالما تمناها متيم لو أن الأيام ساعدت، وظل لا يزيد على ان يقول: «3» [الطويل]
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت
حكى حماد بن إسحاق الموصلي قال: اشتراها أبي لما حج، وكان يحبها ويستحليها وهي التي تقول فيه: «4» [مجزوء الخفيف]
يا لذيذ المعانقه ... يا كثير المفارقة
جزت يا منتهى المنى ... فيّ حدّ الموافقه
وأنا دون من ترى ... لك والله عاشقه
قال حماد: وفيه لحن من الرمل لبعض جوارينا، إما صيد وإما دمن وكانت قد أخذت عنهما الغناء وسرقته من إسحاق.(10/469)
121- ومنهم- محبوبة جارية المتوكّل «1»
وكانت ضرة الشمس، ومسرة النفس، قيد كل ناظر، وأمنية كل خاطر، لو حدرت في الليل قناعها لابيضت غرابيبه، «2» واتّقدت بطلائع الصباح جلابيبه، أحسن من الريم سالفة وحدقا، وأكثر من الأغصان أعطافا ومعتنقا، هذا إلى صفاء فيه لا تناول «3» ، وصفاء لا يقاس به الشمول، وإجادة في الشعر لا يعرف لذات خمار، ولا يعد للأخيلية «4» معها إلا ما يحكى في أكاذيب الأسمار، تنحطّ عنها رتبة عليّة «5» أخت إبراهيم، وترد عنان وقد أصبحت حدائقها كالصريم.
قال أبو الفرج في كتاب الإماء «6» : كانت مولدة شاعرة مغنية متقدمة في الحالين على طبقتها، وكانت حسنة الوجه والغناء، أهداها عبد الله بن طاهر للمتوكل في جملة أربع مئة فيهن قيان وسواذج «7» ، فتقدمتهن جميعا عنده،(10/470)
ولما قتل صارت إلى وصيف «1» ، فلزمت النسك حزنا ووفاء للمتوكل، حتى أراد وصيف قتلها، فاستوهبها منه بغا «2» ، فأعطاه إيّاها فأعتقها [ص 294] ، وقال:
أقيمي حيث شئت، فانحدرت عن سر من رأى إلى بغداد وأخملت نفسها إلى أن ماتت.
قال: وحدثني جعفر بن قدامة عن عليّ بن الجهم قال: كنت يوما بحضرة المتوكل وهو يشرب ونحن بين يديه، إذ دفع إلى محبوبة تفاحة مغلفة بغالية «3» ، فقبلتها وانصرفت عن حضرته إلى مجلسها، ثم خرجت جارية لها ومعها رقعة، فدفعتها إلى المتوكل، فقرأها وضحك ضحكا شديدا، ثم رمى بالرقعة إلينا، فإذا فيها: «4» [المنسرح]
يا طيب تفّاحة خلوت بها ... تشعل نار الهوى على كبدي
أبكي إليها وأشتكي دنفي ... وما ألاقي من شدّة الكمد
لو أنّ تفاحة بكت لبكت ... من رحمة هذه التي بيدي
إن كنت لا تعلمين ما لقيت ... نفسي فمصداق ذاك في جسدي
وان تأمّلته علمت بأن ... ليس لخلق عليه من جلد
قال: فما [بقي] أحد والله إلا استظرفها واستملح الأبيات، وتقدم المتوكل إلى عريب وشارية «5» أن يصنعا في الأبيات لحنا، فصنعتا لحنين وغنتا بهما.(10/471)
وحدثني جعفر بن قدامة قال، حدثني علي بن يحيى المنجم قال، قال المتوكل لابن الجهم وكان يأنس به ولا يكتمه شيئا: يا عليّ إني دخلت على قبيحة الساعة فوجدتها قد كتبت اسمي على بياض ذلك الخد، فقل في هذا شيئا، وكانت محبوبة جالسة من وراء الستارة تسمع فسبقت علينا على البديهة، وقالت: «1» [الطويل]
وكاتبة بالمسك في الخدّ جعفرا ... بنفسي مخطّ المسك من حيث أثرا
لئن كتبت في الخدّ سطرا بكفّها ... لقد كتبت بالقلب في الحبّ أسطرا «2»
فيا من لمملوك لملك يمينه ... مطيع له فيما أسرّ وأظهرا
ويا من مناها في المنيّة جعفر ... سقى الله عهدا من ثناياك جعفرا «3»
أنشدتها للمتوكل، فبقي علي بن الجهم واجمالا ينطق بحرف، وغنت عريب بهذه الأبيات.
وحدثني جعفر قال، حدثني علي بن يحيى [المنجم] : أن جواري المتوكل تفرقن بعد قتله، فصار لوصيف عدة فيهن محبوبة، فاصطبح وأمر بإحضار الجارية والجواري [ص 295] فأحضرن وعليهن أصناف الثياب والحلي متزينات متعطرات، سوى محبوبة، فإنها جاءت شعثاء متسلبة «4» ، عليها ثياب بيض «5» ، فغنين وطربن وشرب وصيف وطرب، ثم قال لمحبوبة: غني، فغنت على العود: «6»(10/472)
[مجزوء الخفيف]
أيّ عيش يطيب لي ... لا أرى فيه جعفرا
ملكا قد رأته عي ... ني صريعا معفّرا
كلّ من كان ذا سقا ... م وحزن فقد برا
غير محبوبة التي ... لو ترى الموت يشترى
لاشترته بما حوت ... هـ جميعا لتقبرا
فاشتد ذلك على وصيف وهم بقتلها، فاستوهبها منه بغا، فأعتقها وأطلقها حيث أحبت، فلم تزل متسلبة حتى ماتت.
وحدثني جعفر قال: قال علي بن يحيى بن الجهم قال: غاضب المتوكل محبوبة فاشتد عليه بعدها، ثم جئته يوما فحدثني أنه رأى في النوم أنها صالحته، ودعا له بخادم فقال له: اذهب فاعرف لي خبرها، فمضى وعاد فأعلمه أنها جالسة تغني، فقال: ما ترى إلى هذه؟ أنا غضبان عليها وهي تغني، ثم قال: قم معي حتى نسمع ما تغني به، فقمنا حتى انتهينا إلى حجرتها، فإذا هي تغني: «1» [مخلّع البسيط]
أدور في القصر لا أرى أحدا ... أشكو إليه ما يكلّمني
حتّى كأنّي أتيت معصية ... ليست لها توبة تخلّصني
فهل لنا شافع إلى ملك ... قد زارني في الكرى فصالحني
حتى إذا ما الصباح لاح لنا ... عاد إلى الهجر فصارمني
قال: وطرب المتوكل فأحسّت به، فخرجت إليه وخرجنا نتبادر، فأعلمته أنها رأته في النوم قد صالحها، وأنها صالحته في النوم، وقد صنعت تلك الأبيات وغنت(10/473)
فيها، وحدّثها بما رأى، فتعجبا جميعا، واصطلحا، وأقاما يشربان يومهما.
122- ومنهم- أمل جارية قرين النّخّاس
أخذت من الأقمار غرتها ولزّت «1» بالشمس فكانت ضرتها، جاءت في غرة الشباب [ص 296] وجالت من الحسن [في] «2» جلباب، وأصبحت تترشقها النظرات، وتتشوقها في أوراقها النضرات، لو بدت للأيام لجلت بكرها الوضاح، أو للبدر لتستر بالغمام خشية الافتضاح.
وحكى أبو حفص الشطرنجي قال؛ قال لي صالح بن الرشيد «3» : إن لقرين النخاس جارية شاعرة، فاعترضها وعرفني خبرها، فدخلت إلى قرين فأخرج إليّ جارية حسنة طريفة حلوة المنطق، فقلت: ما اسمك؟ قالت: شيء إذا بلغته نلت المنتهى، قلت: إذا أمل، فضحكت، فقلت: يقول لك الأمين: «4» [مجزوء الكامل]
أسل المهيمن خالق ال ... خلق الكثير ورازقه
أن لا أموت بغصّتي ... يوما وأنت مفارقه
فأخذت درجا وكتبت: «5» [مجزوء الكامل]
لا بل أراك وأنت لي ... مملوكة ومعانقة(10/474)
لدنوت منك ولو علو ... ت إلى الجبال الشاهقه
ولهان عندي قول سا ... ع ناطق أو ناطقه
هل [غير] قولهم جمي ... عا فاسق أو فاسقة
وكذاك نحن فكان ما ... ذا عاشق مع عاشقه
وقالت: ادفع هذا الجواب إلى الأمين، فأتيته بخبرها وجوابها فسرّ به وأمر بابتياعها.
123- ومنهم- رابعة جارية إسحاق بن إبراهيم الموصليّ «1»
غراء تستنير الأيام بصنعها، فرعاء تستديم الليالي بفرعها، جيداء لا تلتفت إلى الغزال، غيداء لا تصلح إلا للأغزال، أجلب للعلّة من السّقم، وأجلى من النعم المجلية لآثار النقم، مع سهم ضارب في الشعر والغناء، وخلائق تسام فيها بالعلاء.
قال الأصفهاني: كان يقال إنها أخت مخارق «2» ، ويقال: كانت صاحبته نشئا «3» في موضع واحد، شاعرة مولدة.(10/475)
وقال: أخبرني جعفر بن قدامة، قال: أنشدني عبد الله بن طاهر لرابعة: «1» [ص 297] [مجزوء الكامل]
قل للأمير المصعبيّ ... أخي المكارم والمنن
والمشتري الحمد الرفي ... ع بما يجلّ من الثمن
[أدر] المدامة بكرة ... واشرب على الوجه الحسن «2»
واغنم سرورك عاجلا ... من قبل أحداث الزّمن
إن لم تكن فطنا لما ... قد قلت من هذا فمن؟
عيش الفتى شرب المدا ... م وترك ذاك من الغبن
وكتب بها إلى إسحاق، فقال: لعمري إن ترك ما أشارت يغبن، واصطبح به أياما معها وغنت.
124- ومنهم- قاسم جارية ابن طرخان
ربيبة حجر وحبيبة قلب لا تروع بالهجر، لو أشارت إلى القمر المخسوف لانجلى، أو الشمس في الكسوف لأبرزتها تجتلى، ما خطرت والمسك مكتّم إلا فاح، ولاسفرت إلا رأيت صفحات الصفاح، ولا نظرت إلا ذكت اللواعج، وأذكرت بالحنين إلى أوطانها النواعج.
قال الأصفهاني، حكى يزيد بن محمد المهلبي عن إسحاق قال:
دخل العباس بن الأحنف على قاسم جارية ابن طرخان، وكانت شاعرة(10/476)
مغنية، فقال لها: أجيزي هذا البيت: «1» [الكامل]
أهدى له أحبابه أترجّة ... فبكى وأشفق من عيافة زاجر
فقالت بديها: «2» [الكامل]
متطيّرا لما أتته لأنّها ... لونان باطنها مخالف ظاهر
125- ومنهم- مها جارية عريب
وكانت جارية تسفر كالقمر الطالع، وتظهر كالنجم ما فيه أمل لطالع، تحلي العقد الرائع، وتحكي الظبي الراتع، تربية مثل عريب وهل تلك، ومن جواريها الحسان ردة في سلك، وكانت تجيد الشعر وتغني، وتزيد أمنية المتمني.
قال أبو الفرج الأصفهاني، قال سراج المالكي: كنت أهوى جارية لعريب يقال لها مها، فكانت في غنائها أديبة شاعرة، فكان سبب عشقي لها أدبها وغناءها، وتعرضتها وقتا [ص 298] وكتبت لها بيتا قلته: «3» [البسيط]
كيف احتيالي بنفسي أنت يا أملي ... في زورة منك قبل الموت تحييني «4»
فوقعت في ظهرها: «5» [البسيط]
أنفد صحاحك إنّ الشّعر مفسدة ... بضاعة الشّعر من نقد المجانين
فبعت ضيعة لي بثلاثين ألف درهم، وأنفقتها عليها(10/477)
126- ومنهم- بدعة «1» الكبرى جارية عريب
وكانت بديعة في الجمال، ونبعة للآمال، إلى صنعة غريبة، ولفتات للظنون مريبة، وحركات من حركات عريب قريبة، حتى لأصبحت بها تشبه المحسنات، وتنبه اللواحظ الوسنات، قام بها الحسن أتم القيام، وجلاها في صفة التمام.
قال الأصفهاني: كانت أحسن أهل دهرها وجها وغناء، وقد ذكرت من أخبارها في كتاب القيان، وكانت تقول شعرا ليس هو بمستحسن من مثلها «2» ، وكان إسحاق التغلبي «3» يهواها، وخبره معها مشهور، فلم تفكر فيه حتى التقيا بحضرة المعتصم، ثم عرفت مقداره وواصلته وزارته، فحدثني عرفة وكيلها قال:
لما رأى إسحاق بن أيوب بدعة، وسمع غناءها زاد عشقه بها ومالت إليه، بعد انحراف ونفار وبغض له، وكانت تبعث «4» بالشعر فكتبت إليه: «5» [الخفيف]
كيف أصبحت سيدي وأميري ... عشت في [ظل] نعمة وحبور «6»
علم الله كيف كان اغتباطي ... ونعيمي وبهجتي وسروري
بلقاء الأمير لاعدمت نف ... سي وعيني لقاءه من أمير(10/478)
فلما أوصلتها [إليه] سرّ بها سرورا [شديدا] ، وخلع عليّ خلعة نفيسة من ثيابه، ووصلني بثلاث مئة دينار، وبعث معي بهدايا إليها فيها ألف دينار مسّيفة «1» قد أطبقت دينارين دينارين على غالية «2» ودرج كبير من ذهب مملوء مسكا وعنبرا وندّا «3» ، ومئة ثوب من ألوان الثياب وفاخرها وكتب إليها: «4» [الخفيف]
أنا في نعمة بقربك تفدي ... ك حياتي من مفظعات الأمور
بلغت مهجتي بقربك منّي ... أملي كلّه وتمّ سروري
[ص 299] وصل الله ذاك ما عش ... نا وأبقاك لي بقاء الدّهور «5»
وحدثني عرفة قال: لما قدم المعتضد من حرب وصيف «6» دخلت عليه بدعة فقالت: يا مولاي شيّبتك والله هذه السفرة، فقال: دون ما كنت فيه يشيب، فقالت: «7» [الخفيف]
إن تك شبت يا مليك البرايا ... لأمور عانيتها وخطوب
فلقد زادك المشيب جمالا ... فالمشيب البادي كمال الأديب
فابق أضعاف ما مضى لك في عز ... ز وملك وخفض عيش رطيب
فطرب المعتضد لها وخلع عليها، وقال لها يوما: يا بدعة أما ترين الشيب(10/479)
كيف اشتعل في لحيتي ورأسي؟ فقالت: يا سيدي عمرك الله حتى ترى أولادك وقد شابوا، فأنت والله في الشيب أحسن من القمر، وفكرت طويلا ثم قالت هذه الأبيات، وغنت بها: «1» [مجزوء المجتث]
ما ضرّك الشّيب شيئا ... بل زدت فيه جمالا
قد هذّبتك الليالي ... وزدت فيه كمالا
فعش لنا في سرور ... وأنعم بعيشك بالا
تزيد في كلّ يوم ... وليلة إقبالا
في نعمة وسرور ... ودولة تتعالى
فوصلها بصلة سنية، من ثياب ومال وطيب كثير
127- ومنهم- مثل جارية إبراهيم بن المدبّر
جارية طالما غنت فأطربت، وسميت مثلا وما ضربت، طلبت الشعر وخاضت لجج البحور، وأضاءت منه بالدرر في النحور، فاقت في الجواري، وفاتت المجاري، وشغفت سيدها، وشغلت بضرب العود يدها، حتى عدت الأضراب، وعدّت في التراب الأتراب.
ذكرها صاحب كتاب الإماء وقال الأصفهاني، حدثني جعفر بن قدامة، قال، حدثني إبراهيم بن المدبر، قال: اشتريت جارية شاعرة مدنية يقال لها مثل، وقد تعالت سني وكبرت، فلما كان الليل خلوت بها، فأردتها فلم تنهضني الشهوة، فخجلت منها فقلت لها: [ص 300] «2» [البسيط](10/480)
قد يدرك المتأنّي بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزّلل
فقالت مجيبة غير متوقفة بديها: «1»
وربّما فات بعض القوم آمرهم ... مع التأنّي وكلّ الحزم لو عجلوا
فازداد والله خجلي، ثم علمت أن فيها ما في المدنيات من الشبق وأنا عاجز «2» عن بلوغ رجائها، فبعتها كارها غير راض.
128- ومنهم-[نبت جارية مخفرانة] «3»
جارية يجور قدها المعتدل، ويجوز الوهم به على المعتقل، يستنطق ألحاظها الجمود، ويشق نظرها القلوب قبل الجلود، يقل قضيبا في نقا، وتقل صبر أهل التقى، البدر تحت خمارها إلا أنه غير جانح، واللهب في وجناتها إلا أنه بين الجوانح علقت المستوفز لسماعها، وحطت رجال الركائب للإقامة بعد إزماعها، بحسن غناء ما أوتيته جارية، ولا وعته أذن إلا وأنهلت الدموع جارية.
قال الأصفهاني: كانت مغنية محسنة، وأخبرني جعفر بن قدامة قال، حدثني أحمد بن أبي طاهر قال: دخلت على نبت يوما، وكانت حسنة الوجه والغناء،(10/481)
فقلت: «1» [البسيط]
يا نبت حسنك يغني بهجة القمر
فقالت:
قد كاد «2» حسنك أن يبتزّني بصري
ووقفت أنا فسبقتني هي فقالت: «3» [البسيط]
وطيب نشرك مثل المسك قد نسمت ... ريّا الرّياض عليه في دجى السّحر
فثبط طبعي فقالت: [البسيط]
فهل لنا منك حظّ في مواصلة ... أو لا فإني راض منك بالنّظر
فقمت من عندها محتشما من انقطاعي عن مساجلتها، ثم عرضت ذلك على المعتمد فاشتراها فامتحنها في الكتابة والغناء فأرضته، وكان أول صوت غنته شعر عريب وصنعتها لعريب في المعتمد وهو: «4» [الكامل]
سنة وشهر قابل بسعود
وقد مضت الأبيات في أخبار عريب فأغنت عن إعادتها، فطرب المعتمد، وتبرك بما استفتحت [ص 301] به، ثم قال لابن حمدون «5» : قارضها بشعر،(10/482)
فقال: «1» [مجزوء الرجز]
وهبت نفسي للهوى
فقالت:
فجار لّما أن ملك
فقال:
فصرت عبدا خاضعا
فقالت:
يسلك بي حيث سلك
[فأمر بابتياعها، فابتيعت بثلاثين ألفا] «2»
129- ومنهم- صاحب جارية ابن طرخان النخاس «3»
وكانت شاعرة مغنية، تنظم الشعر وتصنف مذهبه، وتفوق مذهبه بما يسوغ الطرب، ويسول للنفس الأدب، هذا إلى جمال فتان، وكمال تم فيه الحسن والإحسان، وكان ابن أبي أمية «4» يهواها هوى يخالط صميمه ويخالل صبابته القديمة، فكتب إليها: «5» [الكامل](10/483)
إني رأيتك في المنام كأنّما ... عاطيتني من ريق فيك البارد
وكأنّ كفّك في يدي وكأنّما ... بتنا جميعا في فراش واحد
ثم انتبهت ومعضداك كلاهما ... بيدي اليمين وفي يمينك ساعدي
قال فأجابته: «1» [الكامل]
خيرا رأيت وكلّ ما عاينته ... ستناله منّي برغم الحاسد
إنّي لأرجو أن تبيت معانقي ... وتظلّ منّي فوق ثدي ناهد
ونبيت أنعم عاشقين تفاوضا ... طرف الحديث بلا مخافة واحد
130-[ومنهم جلّنار جارية أخت راشد بن إسحاق الكوفي الكاتب] «2»
جل نار منها في الخدود، وجلنار ثمرة رمان النهود، من مولدات الكوفة، وموليات العيون على القلوب المخوفة، شاعرة تأتي بالعجب، ومغنية ترى استقطاع هوى العشاق من بعض ما وجب، قال عيسى بن القاشي الكاتب:
كانت لأخت راشد جارية يقال لها جلنار، وكانت مليحة حسنة الغناء حسنة الشعر، فحدثني راشد أخو مولاتها قال: عشقتها وهمت شغفا بها، وعلمت أختي بذلك فحجبتني عنها «3» أشد حجاب، إلا بأن أبتاعها بحصتي من ضيعة(10/484)
ورثتها أنا وهي عن أبينا، وحلفت أن لا تبيعها إلا بذلك، فشاورت ثقات إخواني، فعابوا هذا عليّ، ونهوني عن إتيان ذلك، وضننت أنا بالضيعة أن تخرج من يدي، ثم غلبني ما أجده، فقلت: «1» [المتقارب]
أيعذل صبّ على وجده ... وقد لجّ مولاه في صدّه «2»
[ص 302]
وكيف أرى الصّبر عمّن أرى ... دنوّ المنيّة في بعده
غزال ينسّيك قدّ القضي ... ب بحسن الرشاقة في قدّه
إذا عدم الورد في روضه ... فلم يعدم الورد من خدّه
قال: وبلغني أن الجارية تتعجب من صبري عنها، ومن إيثاري الضيعة على نفسي في حبها، وتقول غدر بي واختار ملكه علي، فأجبت أختي إلى ذلك مع الحصة، وتقرر الأمر بيننا، فكتبت إلى الجارية: «3» [الكامل]
نزل الوصال بساحة الهجر ... ومحا الوفاء معالم الغدر
وغدا اللقاء عليهما بلوائه ... وعليه تخفق راية النّصر
فكتبت إليّ: «4» [الكامل]
ما كان أخوفني من الهجر ... حتى كتبت إليّ بالعذر «5»
فسكنت منك إلى مراجعة ... قوي الوصال بها على الهجر(10/485)
أرجو وفاءك لي ويؤنسني ... أشياء تعرض منك في صدري
لاشتّت الرحمن شمل هوى ... متآلف منّا على الدّهر
ثم اشتريتها وصارت في ملكي، فما آثرت عليها أحدا طول مقامها عندي، حتى ماتت.
131- ومنهم- خنساء البرمكيّة «1»
وكانت لبعض آل يحيى بن خالد، تزهى بها الأساور والقلائد، تفتك بلحظها، وتفتن بلفظها، مغنية تهز الجماد، وشاعرة لا تغترف من ثماد «2» ، لو قيست ببنت عمرو بن الشريد «3» لعرف من أي البحرين يلتقط الفريد «4» .
قال عمرو بن بانة: كان من جيراني رجل من البرامكة، وكانت له جارية أديبة مغنية يقال لها خنساء، يدخل إليها الشعراء فيقارضونها ويسألونها عن المغاني فتأتي بكل غريبة وبديعة، فدخل إليها يوما سعيد بن وهب فحدثها طويلا ثم قال: «5» [الهزج]
أبيني لي يا خنسا ... ء عن جنس من الشّعر(10/486)
وماذا طوله شبر ... وقد يوفي على الشّبر [ص 303]
له في رأسه شق ... نطوف بالنّدى يجري
إذا ما جفّ لم ينفع ... ك في برّ ولا بحر
وإن بلّ أتى بالع ... جب المعجب والسّحر
وإنّي لم أرد فحشا ... وربّ الشّفع والوتر
ولكن صغت أبياتا ... حوت معنى من السّرّ
قال: فغضب مولاها وتغير لونه، وقال لسعيد: أتخاطب جاريتي بالفحش والخنا؟ فقالت الجارية: خفض عليك، فما ذهب إلى ما ظننت، وإنما يعني القلم، فسري عنه وضحك سعيد وقال: هي أعلم منك بما سمعت، فاحتبسه مولاها عنده يومه، فجعلت تغنيهم تارة وتقارضهم تارة إلى أن سكروا.
قال عمرو [بن بانة] ثم لقيني مولاها فسألته عن القصة فحدثني بها، وأخرج إليّ ابتداء سعيد وجوابها تحته، وهو: [الهزج]
أبا عثمان حاجيت ... بما قلت من الشعر
فتاة ذلّل الشعر ... لها صافية الفكر
وفي ظاهره فحش ... وليس الفحش في السّرّ
أردت المخطف المرهف ... إذ يبريه من يبري
وكتبت البرمكية على عصابتها: [الطويل]
ولا خير في شكوى إلى غير مشتكي ... ولا بدّ من شكوى إذا لم يكن صبر
وكانت جارية ماهرة، أديبة شاعرة، تأتي بكل غريب، وتبلغ مالا يجرجر فيه بعنان ولا تحدث عن عريب، صفراء من مولدات البصرة نشأت حيث يرف النخيل، ويرق السلسبيل، وكانت فضل الشاعرة تهاجيها ولا تهيجها، ولا يلفى(10/487)
في الحسن ما تنشره بهجتها، وكان لكل واحدة منهما عصبة من شعراء الوقت يتعصبون لها وهي لا تتقنع، ويعيبون لديها الأخرى وما فيهم إلا من يتصنع.
حكى أحمد بن أبي طاهر قال: كانت فضل تهاجي خنساء جارية هشام المكفوف، وكان أبو الشبل عاصم بن وهب البرجمي يعاون فضلا الشاعرة على خنساء ويهجوها [ص 304] على لسانها، وكان الحفصي والصعيدي يعاونان خنساء، فقال أبو الشبل فيها على لسان فضل: «1» [السريع]
خنساء طيري بجناحين ... أصبحت معشوقة نذلين «2»
من كان يهوى صاحبا واحدا ... فأنت رهن بهوى اثنين
هذا الصعيدي وهذا الفتى ال ... حفصي زاراك كقردين
وكنت من هذا وهذا كما ... ينعم خنزير بحشّين «3»
فقالت خنساء: «4» [لسريع]
ماذا مقال لك يا فضل بل ... مقال خنزيرين فردين
يكنى أبا الشّبل ولكنّه ... دعوه بالكلب بن كلبين «5»
فقالت خنساء في فضل: «6» [الطويل](10/488)
تقول له فضل إذا ما تخوّفت ... ركوب قبيح الذّلّ في طلب الوصل
حر أمّ فتى لم يلق في الحب ذلّة ... فقلت لها لا بل حر أمّ أبي الشّبل
ولها أيضا فيها أبيات: «1» [الكامل]
لعب الفحول بسفلها وعجانها ... فتمرّدت كتمرّد الفحل «2»
لّما كنيت بما كنيت به ... وتسمّت النقصان بالفضل «3»
كادت بنا الدنيا تميد ضحى ... وترى السماء تذوب كالمهل «4»
فغضب أبو الشبل وهجا مولاها فقال: «5» [الخفيف]
نعم مأوى الغراب بيت هشام ... مسعف بالحرام أهل الحرام
من أراد المبيت يبغي سفاحا ... وينال المراد تحت الظلام
فهشام يبيحه في دجى اللي ... ل فتاة تدعى فتاة هشام
ذاك حرّ دواته لا تعرّى ... أبدا من تردّد الأقلام «6»
وذكر أحمد بن الطيب أن أبا الشبل «7» كان يهوى خنساء ثم هجاها فهجرته، فعدل عنها إلى فضل الشاعرة، ووعد أبو الشبل يوما خنساء أن تزوره،(10/489)
وجاء [ص 305] مطر شديد منعها من زيارته، فقال يذم المطر: «1» [البسيط]
دع المواعيد لا تعرض لوجهتها ... إنّ المواعيد مقرون بها المطر
إنّ المواعيد للأحباب قد منيت ... به بأنكد ما يمنى به البشر
كذا الثياب فلا يغررك إن غسلت ... صحو شديد ولا شمس ولا قمر
وإن هممت بأن تلقاك زائرة ... فالغيث لا شك مقرون به السّحر
وكان سبب القطيعة بينهما أنه سكر عندها، فخاطبها مغلظا لها في شيء فقالت: بم تدل على الناس؟ بأكثر من شعرك؟ وإنه لغير طيب، وو الله لئن شئت لأهجونك بما يبقى عليك عاره، فغضب وقال فيها: «2» [مخلع البسيط]
خنساء قد أفرطت علينا ... تزعم أن ليس لي مجير
تاهت بأشعارها وصالت ... كأنّما ناكها جرير
فخجلت ولم تجبه، وتقاطعا، وقيل: بل قالت فيه مبتدئة: [مخلع البسيط]
قل لأبي الشّبل إن أتاه ... مقذع سبّ له مجير
هيهات ما إن له مجير ... ولا نصير ولا ظهير
132-[ومنهم خزامى جارية الضبط المغني] «3»
الملقب بالطيط (الضبط) ، كانت حسنة الوجه والغناء، شاعرة بيوتها وثيقة(10/490)
البناء، وكان ابن المعتز يقدمها ويثقف قناتها ويقومها، ولا يبخل باستدعائها واستئمانها على خفايا السر واسترعائها.
قال ابن المعتز: كانت خزامى جارية الطيط (الضبط) تألفني وتنادمني وأنا حدث، ثم تابت من النبيذ، وكانت مغنية حسنة الغناء، شاعرة ظريفة نظيفة، فراسلتها مرارا أستدعيها فتأخرت، فكتبت إليها وأهديت لها وردا: «1» [الطويل]
رأيتك قد أظهرت زهدا وتوبة ... فقد سمجت من بعد توبتك الخمر
فأهديت وردا كي يذكّر ريحه ... لمن لم يمتعنا ببهجتها الدّهر
فأجابتني تقول: «2» [ص 306]
أتاني قريض يا أميري محبّر ... حكى لي نظم الدّر فصّل بالشّذر
أأنكرت يا بن الأكرمين بأنّني ... وقد أفصحت لي ألسن الدّهر بالزّجر
وآذنني شرخ الشّباب ببينه ... فياليت شعري بعد ذلك ما عذري
قال ومن شعرها: [مجزوء الرمل]
قل لمن تاه علينا ... وجفانا وتعاطى
نلت والرّحمن من قل ... بي بالحسن اختصاصا
فتوقّ اليوم في قل ... بي أن تلقى قصاصا(10/491)
133- ومنهم- صدقة بن محمّد
من أغنياء أهل الغناء، وأذكياء أصحاب الاعتناء، ذكره ابن المستوفي في ترجمة البحراني النحوي، قال حدثني صدقة بن محمد الملحن، قال: حضرت القاضي أبا حامد السهروردي وقد صنعت لحنا في أبيات البحراني: [الرمل]
أيّها البارق من وادي سلم ... أبسلمى لك علم قل نعم
أنت لو لم تقتبس من وجهها ... هذه الأنوار لم تجل الظّلم
فارقتنا بقلوب لم يفق ... من هواها وجفون لم تنم
وتولّت ويدي في كبد ... أوقد الوجه عليها فاضطرم
قال: فجعل يهزه الطرب والارتياح، فيميل مثل النشوان مالت به الراح، ويقول:
لمن هذا الشعر الذي دونه السحر؟ فقلت: لأبي عبد الله البحراني، فما زال يستعيده ويكرره ويوفيه في الإحسان حقه، إلى أن تقوض المجلس عليه، وقمنا وبه ما يعلم الله من الشوق إليه، وهذا اللفظ لابن المستوفي.
134- ومنهم- الحسين بن الحسن
ابن أبي نصر بن منصور الدهان زين الدين أبو عبد الله الموصلي، سابق يوم الرهان، وفاتق عرف بكل وردة من الدهان، تنسب إليه محاسن من الأمور، ويقسم من زخرف بنانه بالسقف المرفوع والبيت المعمور، وتجني من إنعامه كل ذات كمام كأنها زهرة في دهانه، وثمرة غريبة من بدائع ألوانه، أتى بالبديع وأجاد [ص 307] في نغمه ودهائه، فجاء في كل منهما بالصنيع، وأبدع فيهما، فقيل هذه البلابل غنت وهذه المصبغات ألوان فصل الربيع، وكان عالما فاضلا أديبا حسن الأخلاق، لا يمل جليسه محادثته، فريد عصره في صناعة الطرب(10/492)
وعلم الموسيقا، وله فيه مصنف، وسمع منه الكمال ابن الفوطي وغيره، ومن شعره:
[الطويل]
وحلو اللّمى مذ عاين النمل قد بدت ... له زمر تبغي بفيه جنى النّحل
غدا جاحدا قتلي بسيف لحاظه ... ومن حمرة الخدّين لي شاهدا عدل
ومنه: [الطويل]
رأيت حبيبي بكرة وهو معرض ... فسمّيته فازوّر يرنو إلى الشرق
فيا عاذلي كن عاذري فيه رحمة ... فقد أظلمت من فرط هجرانه طرقي
ومنه: [الوافر]
ألا يا سادة ما زال قلبي ... لطول فراقهم في ضيق سجن
وحقّ جميل ما أوليتموني ... من الإحسان لم تتبع بمنّ
إليه صادق أني إذا ما ... ذكرتكم شرقت بماء جفني
فعيني ما رأت حسنا سواكم ... وغير حديثكم ما راق أذني
فقدت لطول غيبتكم سروري ... ومذ فارقتكم واصلت حزني
ندمت ندامة الكسعيّ لكن ... على أوقاتكم وقرعت سنّي
كفى حزني فراقكم وحسبي ... بشوقي أنّه ما انفكّ عنّي
ومنه ما يكتب على مقلمة: [الكامل]
كلّ السّيوف لها جفون تنتضى ... منها وإني جفن كلّ يراع
واعلم بأنّ السّعي للقلم الذي ... لولاه خابت للسيوف مساع
ومنه: [الرجز]
يا خالقي من نطفة مهينة ... وموجدي من عدم مقدرتي
يا عدّتي في وحدتي يا مؤنسي ... في وحدتي إذا نزلت حفرتي(10/493)
اغفر ذنوبي وتجاوز كرما ... عنّي بعفو منك واكشف كربتي
[ص 308]
ولا تؤاخذ بذنوب سلفت ... لشقوتي فأنت أهل الرحمة
وعافني من مرض تصدّقا ... وجد على ضعفي واردد غربتي
ومن أصواته ما رواه لي عنه الجمال المشرقي في الراست: [مجزوء المجتث]
يا نار أسود قلبي ... ونور أسود عيني
كن راحما لمحبّ ... أباحك الأسودين
توفي يوم الجمعة سابع عشر رمضان سنة سبع وثمانين وست مئة ودفن بالودية شرقي دار السلام، وكان له اختصاص بالسلطان بدر الدين لؤلؤ «1» صاحب الموصل.
135- ومنهم-[ياقوت المستعصميّ] «2»
وهو الياقوت الذي لا يغلو به سعر، ولا يعرف الدر إن لم ينشد له شعر، بل هو الذي دونه ياقوت الخدود، ودر العقود، ووسائط القلائد، ولا أعني إلا قواعد النهود، كتب فسلب، وشعر فخلب، وغنى فقيل من أين جاء إلى العراق وادي(10/494)
سرنديب «1» هذا الجلب، وكان في الكنف المستعصمي يرد طرف كل مبهوت، ويوفي حق كل خدمة لا تفوت، وتفرد بكل خاصة، يقول القني في لظى فإن أحرقني فتيقن أني لست بالياقوت.
ما تقدم لمناهلته إلا من تأخر، ولا لمباهاته إلا من قيل له هيهات يا عرض أغلى أفخر الجوهر يتكبر، ولا لمضاهاته إلا من صفى جمره وتكشف عنه الرماد، وتوقد وخمد والياقوت ياقوت ما نقص ولا زاد «2» .
مجيد في الشعر والموسيقا والخط، وله الأدب الكامل والنحو المتقن، أخذ الأدب والنحو عن نجم الدين بن كبوش البصري، ومن شعره: [مجزوء الرجز]
بدا بوجه مخجل ... الشمس المنير المشرقه
في أذنه لؤلؤة ... كأنّها والحلقه
قدّاحة في وردة ... بالياسمين ملحقه
وله: [مجزوء الهزج]
وحمّام دخلنا و ... فيه مقيم حامي «3»
بأنواع من الخدم ... ة لا ألوى ولا واني «4»
فتمريخ بمعروف ... وتسريح بإحسان(10/495)
وله: «1» [الخفيف]
وعدت أن تزور ليلا فألوت ... وأتت بالنّهار تسحب ذيلا
قلت هلا صدقت في الوعد قالت ... كيف صدّقت أن ترى الشمس ليلا
[ص 309] وكان هو وظهير الدين بن محاسن في زيارة كمال الدين ابن عم ظهير المذكور، وانتبها وقد برد، فقال: [البسيط]
جاء الشتاء ببرد لا مردّ له ... ولم يطق حجر قاس يقاسيه
لا الكأس عندي ولا الكانون متّقدا ... كفى ظلامي وكيس قلّ ما فيه
دع الكباب وخلّ الكس وا أسفا ... على كساء أتغطّى في دياجيه «2»
فأعطاه ظهير الدين فروة سمور «3» كانت لابن عمّه الكمال هناك، فلما سمع الكمال بالأبيات، أعطاه عمامة دمياطية ومئة دينار.
136- عبد المؤمن بن يوسف «4»
ابن فاخر الأرموي، صفي الدين أبو الفضائل، مؤلف ضروب أشتات، ومصنف نوب يجمع عليها شتات، خدم الخلافة زمنا، وأخذ الدنيا لأنفاسه(10/496)
ثمنا، وبلغ من علم الموسيقا مبلغا ضم له ضمن لحده سائب، وحاق به لإسحاق أن يظهر المعايب، لو سمعته الوحوش الشوارد لأنست، وأوعته لما نبست، وأغنى في واقعة هولاكو بما منح من حسن التدبير، ويمن اللفظ في المقادير بالتلطف مع من أبيحت له لأيدي النهب محلته، وتعتعت «1» له بسنابك الركض حلته، لكنما القدرة أذهبت الحفيظة، وبردت حرق الصدر المغيظة، ثم كان هذا سببا له إلى هولاكو فأوجب «2» به صلته، وأوجز منه صلته.
ذكر الشيخ أبو الخير سعيد الدهلي ومخلص «3» ما قال: ورد بغداد في زمن المستعصمي أبي أحمد ونزل في رباط ابن البيار وكتب له مصحفا بخط منسوب، ووصل إلى المستعصم فتعرف إليه به وجعل من الملازمين الباب يكتب المصاحف ويعلم أولاد المستعصم، ثم بلغ عنده مالم ينله عنده أحد من المقربين، وكان ابن سيدانا اليهودي كاتبه، وكان مقصوده منه أن يغنيه في علم الحساب لتقسيم أجزاء الموسيقا «4» ، ولم يلزم بيده دينارا ولا درهما، وكان خرجه في سنة واحدة كما ذكر ابن سيدانا ثلاث مئة ألف دينار عوالا «5» ، وكانت له معرفة بسائر العلوم، تغلب عليه الحكميات والرياضيات، وبلغ من الموسيقا مالم يبلغه أحد من المتأخرين، وصف [ص 310] وصنف في عملياته كثيرا، حفظ له الناس ثلاثين ومئة نوبة، ولم يكن نكتة عويصة إلا وصنف فيها نوبة مذكورة متداولة بين الناس، وصنف كتابين في علم الموسيقا، أحدهما الشرقية باسم(10/497)
شرف الدين هارون ابن الوزير شمس الدين الجويني، والكتاب الآخر يسمى الأدوار «1» ، وله النظم الرائق والخط الفائق، وكان مليح الشكل «2» عذب الأخلاق، ذا مروءة وقوة وكرم نفس، ظريفا لطيفا، وكتب عليه ياقوت المستعصمي وابن السهروردي، واشتغل عليه في الموسيقا في جماعة من الأعيان، قال: ومن كتابته السطر الطومار الذي على بركة جامع الكوفة التي عمرها الصاحب علاء الدين الجويني، وكتب درجا للسلطان هولاكو فأعجبه، ثم وقع ذلك الدّرج في يد من عرضه للبيع فاشتراه بمائة دينار عوال، وفوض إليه هولاكو نظر الأوقاف بجميع العراق وصدورها، وعظم عند الناس بمنزلة هولاكو، ثم توصل خواجا نصير الطوسي بالجوينيين، وابتاع منه صدورية الوقف بسبعين الف دينار رائجا، وبان على الأئمة وأهل الأوقاف فقده، لأنه كان محسنا إليهم، بخلاف من ولي بعده، ومن شعره: [الطويل]
لحسنك من كلّ العيون نصيب ... وأنت إلى كلّ القلوب حبيب
ومن شعره أيضا: [الوافر]
ألاقي في سهادي ما ألاقي ... وأنتم في الكرى ملء المآقي
ومن شعره أيضا: [الخفيف]
يا حياة النّفوس يا مشتهاها ... أنت للعاشقين أقصى مناها
قال الدهلي: وصنف عليه قولا في العشاق طويلا.
ومن شعره أيضا: [الكامل](10/498)
هل للمعنّى الهائم المضنى الصّدىّ ... من راحم أو مسعد أو منجد
عرف الهوى وتلطّفت أسراره ... فسرى ورقّ توجّعا للمكمد
يصبو لبثّ جوى يكاد زفيره ... لولا الرجاء لدقّ صمّ الجلمد
ليس الودود فتى يودك يومه ... حتى إذا استغنى يملّك في غد
[ص 311]
بل إنّما الخلّ الودود فتى إذا ... قعد الزمان بصاحب لم يقعد «1»
قال الدهلي: وسمع من نظمه جماعة، منهم الإمام علي بن سعيد المغربي قديما ببغداد، وتوفي في يوم الأربعاء ثامن عشر من صفر سنة ثلاث وتسعين وست مئة.
وحدثني الجمال المشرقي عنه، وذكر عدة أصوات له، فمنها في شعر المتنبي: «2» [الكامل]
اليوم موعدكم فأين الموعد ... هيهات ليس ليوم وعدكم غد
والغناء فيه في الروكند، وفي هذا البيت: [الطويل]
لحسنك من كلّ القلوب نصيب ... وأنت إلى كلّ القلوب حبيب
والغناء فيه في المجيّر من النيروز، وفي هذا البيت: [الكامل]
اصنع جميلا ما استطعت لأنّه ... لا بدّ أن يتحدّث السّمّار
قال الجمال المشرقي: ولي في هذا المعنى: [الكامل]
اعدل إلى فعل المكارم والعلى ... إنّ المكارم للعلى أنصار(10/499)
وذكر العز حسن الأربلي في تاريخه قال: جلست مع عبد المؤمن بالمدرسة المستنصرية، وجرى ذكر واقعة بغداد، فأخبرني أن هولاكو طلب رؤساء البلد وعرفاءه، وطلب منهم أن يقسموا دروب بغداد ومحالها وبيوت ذوي يسارها على أمراء دولته، فقسموها وجعلوا كل محلة أو محلتين أو سوقين باسم أمير كبير، فوقع الدرب الذي كنت أسكنه في حصة أمير مقدم عشرة آلاف فارس اسمه بانوابوين، وكان هولاكو قد رسم لبعض الأمراء أن يقتل ويأسر وينهب مدة ثلاثة أيام، ولبعضهم يومين، ولبعضهم يوم واحد، على حسب طبقاتهم، فلما دخل الأمراء إلى بغداد، أول درب جاء إليه الدرب الذي أنا ساكنه، وكان قد اجتمع إليه خلق كثير من ذوي اليسار، واجتمع عندي نحو خمسين جوقة من أعيان المغاني من ذوي المال والجمال فوقف بانوابوين على باب الدرب وهو مدبس «1» [ص 312] بالأخشاب والتراب، فطرقوا الباب وقالوا: افتحوا لنا الباب وادخلوا في الطاعة، ولكم الأمان، وإلا أحرقنا الباب وقتلناكم، ومعه الزراقون «2» والنجارون وأصحابه بالسلاح، قال عبد المؤمن: السمع والطاعة، أنا أخرج إليه، ففتحت الباب وخرجت إليه وحدي وعليّ ثياب وسخة، وأنا أنتظر الموت، فقبلت الأرض بين يديه، فقال للترجمان: قل له من أنت، كبير هذا القوم الذي في الدرب؟ قلت: نعم، فقال: إذا أردتم السلامة من الموت، فاحملوا لنا كذا وكذا وطلب شيئا كثيرا، فقبلت الأرض مرة ثانية وقلت: كل ما طلب الأمير يحضر، وقد صار كل ما في هذا الدرب بحكمك، فمر جيوشك ينهبون باقي الدروب المعنية، وانزل حتى أضيفك ومن تريد من خواصك، فأجمع لك كل ما طلبت، فشاور أصحابه، ونزل في نحو ثلاثين رجلا، فأتيت به داري،(10/500)
وفرشت له الفرش الخليفية الفاخرة، والستور المطرزة بالزركش، وأحضرت له في الحال أطعمة قلايا وشوايا وحلو، وأكلت بين يديه شسني «1» ، فلما فرغ من الأكل، عملت له مجلسا ملوكيا وأحضرت له الأواني المذهبة من الزجاج الحلبي وأواني فضة فيها شراب مروق، فلما دارت الاقداح وسكر قليلا، أحضرت عشر جوق «2» مغاني كلهم نساء، كل جوقة تغني بملهاة غير ملهاة الأخرى، وأمرتهم فغنوا كلهم على سار واحد فارتجّ المجلس وطرب وانبسطت نفسه، وضم واحدة من المغنيات أعجبته فواقعها في المجلس، ونحن نشاهده، وتم يومه في غاية الطيبة، فلما كان وقت العصر، حضر أصحابه بالنهب والسبايا، قدمت له ولأصحابه الذين كانوا معه تحفا جليلة من أواني الذهب والفضة، ومن النقد والذهب، ومن الأقمشة الفاخرة شيئا كثيرا، سوى العليق وهبات العوانية «3» الذين كانوا بين يديه، واعتذرت من التقصير وقلت: جاء الأمير على غفلة، لكن غدا إن شاء الله أعمل للأمير دعوة أحسن من هذه، فركب وقبّلت ركابه، ورجعت فجمعت أهل الدرب من اليسارة «4» ، وقلت لهم: انظروا لأنفسكم [ص 313] ، هذا الرجل غدا عندي، وكذا بعد غد وكل يوم، وأريد أضعاف اليوم المتقدم، فجمعوا لي من بينهم ما يساوي خمسين ألف دينار من أنواع الذهب والأقمشة الفاخرة والسلاح، فما طلعت الشمس إلا وقد وافاني، فرأى ما أذهله، وجاء في هذا اليوم ومعه نساء، فقدمت إليه ولنسائه من الذخائر والذهب والنقد ما قيمته عشرون ألف دينار، وقدمت له في اليوم الثالث لآلىء نفيسة، وجواهر ثمينة،(10/501)
وبغلة جليلة بآلات خليفية، فقلت: هذه مراكب الخليفة، وقدمت لجميع من معه وقلت: هذا الدرب قد صار بحكمك، فإن تصدقت على أهله بأرواحهم، فيكون لك وجه أبيض عند الله وعند الناس، فما بقي عندهم سوى أرواحهم، فقال: قد عرفت ذلك ومن أول يوم، وهبتهم أرواحهم، وما حدثتني نفسي بقتلهم ولا سبيهم، ولكن أنت تجهز معي قبل كل شيء إلى حضرة القان، فقد ذكرتك له وقدمت له شيئا من المستظرفات التي قدمتها لي فأعجبته، ورسم بحضورك، فخفت على نفسي، وعلى أهل الدرب، وقلت: هذا يخرجني إلى خارج بغداد ويقتلني وينهب الدرب، فظهر عليّ الخوف، وقلت: يا خوند، هولاكو ملك كبير وأنا رجل حقير مغنّ أخشى منه ومن هيبته، فقال: لا تخف ما يصيبك إلا الخير، فإنه رجل يحب أهل الفضائل، فقلت: أنا في ضمانك أنه لا يصيبني مكروه، قال: نعم، فقلت: لأهل الدرب: هاتوا ما عندكم من النفائس، فأتوني بكل ما يقدرون عليه من المغيبات الجليلة ومن النقد الكثير من الذهب والفضة، وهيأت من عندي مآكل كثيرة طيبة وشرابا كثيرا عتيقا فائقا وأواني فاخرة كلها من الذهب والفضة المنقوشة، وأخذت معي ثلاثة جوق مغاني من أجمل من كان عندي وأتقنهن للضرب، ولبست بدلة من القماش الخليفي، وركبت بغلة جليلة كنت أركبها إذا رحت «1» إلى الخليفة، فلما رآني بانوابوين بهذه الحالة قال لي: أنت وزير، قلت: بل أنا مغني الخليفة ونديمه، ولكن لما خفت منك لبست هذه الثياب المقطعة الوسخة «2» ، ولما صرت من رعيتك أظهرت نعمتي وأمنت، وهذا الملك هولاكو ملك عظيم، وهو أعظم من الخليفة، فما ينبغي أدخل عليه [ص 314] إلا بالحشمة والوقار، فأعجبه مني هذا(10/502)
وخرجت معه إلى مخيم هولاكو، فدخل عليه وأدخلني معه، وقال لهولاكو:
هذا الرجل الذي ذكرته، وأشار إليّ، فلما وقعت عين هولاكو عليّ قبلت الأرض، وجلست على ركبتي كما هو من عادة التتار، فقال له بانوابوين: هذا كان مغني الخليفة وقد فعل معي كذا وكذا، وقد أتاك بهدية، فقال: أقيموه، فأقاموني فقبلت الأرض مرة ثانية ودعوت له، وقدمت له ولخواصه الهدايا التي كانت معي، فكلما قدمت شيئا سأل عنه، ثم يفرقه، ثم فعل بالمأكول كذلك، ثم قال لي: أنت كنت مغني الخليفة؟ فقلت: نعم، فقال: إيش أجود ما تعرف في علم الطرب؟ فقلت: أحسن أغني غناء إذا سمعه الإنسان ينام، فقال: فغن لي الساعة حتى أنام، فندمت وقلت: إن غنيت له ولم ينم قال: هذا كذاب وربما قتلني، ولا بد لي من الخلاص منها بحيلة، فقلت: يا خوند، الطرب بأوتار العود لا يطيب إلا على شرب الخمر، ولا بأس أن يشرب الملك قد حين ثلاثة حتى يقع الطرب في موقعه، فقال: أنا مالي في الخمر رغبة لأنه يشغلني عن مصالح ملكي، ولقد أعجبني من نبيكم تحريمه، ثم شرب ثلاثة أقداح كبار، فلما أحمرّ وجهه أخذت منه دستورا «1» وغنيته، وكان معي مغنية اسمها صبا، لم يكن في بغداد أحسن منها صورة، ولا أطيب صوتا، فأصلحت أنغام العود على أنغام ضربة جالبة للنوم مع زم رخيم الصوت، وغنيت فلم أتمّ النوبة حتى رأيته قد نعس، فقطعت الغناء بغتة، وقويت ضرب الأوتار فانتبه، فقبلت الأرض وقلت:
نام الملك، فقال: صدقت، تمنّ عليّ، فقلت: أتمنى على الملك أن يطلق لي (السّميلة) قال: وأي السميلة شيء هي، قلت: بستان كان للخليفة، فتبسم وقال لأصحابه: هذا مسكين مغني قصير الهمة، وقال للترجمان: لم لا تمنيت(10/503)
قلعة أو مدينة، إيش هو بستان، فقبلت الأرض وقلت: يا ملك هذا البستان يكفي وأنا ما يجيء مني صاحب قلعة ولا مدينة، فرسم لي بالبستان وبجميع ما كان لي من المرتب أيام الخلافة، وزادني علوفة تشتمل على خبز ولحم وعليق دواب يساوي دينارين، وكتب لي بذلك [ص 315] فرمانا مكمل العلائم، وخرجت من بين يديه، وأخذ لي بانوابوين منه أميرا بخمسين فارسا ومعهم علم أسود هو كان علم هولاكو الخاص به يرسم حماية دربي، فجلس الأمير على باب الدرب ونصب العلم الأسود على أعلى باب الدرب، فبقي الأمر كذلك إلى أن رحل هولاكو عن بغداد.
قال الأربلي: فكم نابك في الثانية من المغارم؟ قال: أكثر من ستين ألف دينار ذهب، وأكثرها ممن كان انزوى إلى دربي من ذوي اليسار، والباقي من نعم موفرة كانت عندي من صدقات الخليفة، فسألته عن المرتب والبستان فقال أخذه مني أولاد الخليفة وقالوا: هذه إرثنا من أبينا، والعلوفة أقطعها عني الصاحب شمس الدين الجويني، وعوضني عنها وعن البستان ستين ألف درهم.
137- ومنهم- لحاظ المغنّية
سحرت فقيل لحاظ، وملأت نفس كل عاشق مغاظ، طالما تجلّت فجلت الهموم، وغنّت فاقتادت القلوب المزموم، وبرزت فتنة للأنام، ومحنة للمستهام، إلا أنها لو تقدمت زمانا كما لو تقدمت افتنانا، لأرخصت دنانير وصرفت عنانا «1» ، وأعربت بما لم تدع لعريب «2» امتنانا، كانت تلازم مجلس الغناء عند الخليفة المستعصم، وكان يعجبه غناؤها.(10/504)
قال صفي الدين عبد العزيز، حدثتني لحاظ قالت: داعبني الخليفة، يعني المستعصم، يوما ونحن في خلوة مداعبة ظننت أنه يريد مني بعض الأمر، فظهر له مني ما يدل على الإجابة، فتوقر وغضب، وقال: ويلك أظننت أني جاد، وهل ترين إلا المزاح، نعوذ بالله من المعصية.
قال عبد المؤمن: كان ببغداد رجل يقال له ابن معمر، وكان ناظر ديوان المكوس، وكان يسكن الكرخ، وكان يحمل إليها في كل شيء خمس مئة دينار، وانطوى ذلك عن الخليفة، ففي بعض الأيام حضرت لحاظ على عادتها بين يدي الخليفة مع جماعة من المغنين فغنت: [ص 316] [الخفيف]
ذكر الكرخ نازح الأوطان ... فاستهلّت مدامع الأجفان
فقال بعض الحاضرين من المغنين: كيف لا يذكر الكرخ من يصل إليه في كل شهر خمس مئة دينار، فسأل الخليفة عن القصة، فأخبروه بالحال، فأمر بنفي المغنية، وعزل ابن معمر عن ولايته، وما زالت تستصفى أمواله.
138- ومنهم- الثّوني
صاحب الأرمال واسمه، ومن أصواته قوله والشعر له، والغناء في السيكاه «1» : [الطويل]
أيجمل «2» من بعد الوصال صدود ... وتنسى مواثيق لنا وعهود
وتجحد ما بيني وبينك في الهوى ... ولي من ضنى جسمي عليك شهود
شهودي عظامي ناحلات من الضّنى ... وأجفان عيني بالدماء تجود
وروحي نأت يوم نأيتم وأقسمت ... يمينا بكم إن عدتم ستعود «3»(10/505)
ومنها أيضا له والشعر والغناء في السيكاه: [الوافر]
عليل الشّوق فيك متى يصحّ ... وسكران بحبّك كيف يصحو
وأعجب أن يكون له شفاء ... فؤاد من لحاظك فيه جرح
وبين القلب والسلوان حرب ... وبين الجفن والعبرات صلح
مزحت بحبّكم يا صاح جهلا ... وكم جلب السّقام عليّ مزح
139- ومنهم- الخروف
من ندماء الملك المنصور صاحب جماعة ومغانيه، واهل الحظوة الذي لم يكن فيها أحد يدانيه، والنجب الذي أدناه من صاحب البخت لبلوغ أمانيه، وكان من نجوم مجلسه الطالعة، وغصون حضرته اليانعة، وجلساء مدامه وأخصاء ندامه، وكان سري الخلائق يدمث عطف النسيم، ويبعث النشوة في شمائل النديم، أصله من مدينة درع «1» ، وقدم دمشق وبرع، وعدّى المنتهين في الغناء من أول شرع، وكان جلاء البصر، وسراج هم الخاطر إذا انحصر، خدم البيت الأيوبي واقتاد بهم الخط الأبي، ومن أصواته: [ص 317] [الكامل]
إن غاض دمعك والركاب تساق ... مع ما بقلبك فهو منك نفاق
لا تحبسن ماء الجفون فإنّه ... لك يا لديغ هواهم درياق
واحذر مصاحبة العذول فإنّه ... مغر وظاهر عذله «2» إشفاق
لا يبعدن زمن مضت أيّامه ... وعلى متون غصونها أوراق
أيام نرجسنا العيون ووردنا ... غضّ الخدود وخمرنا الأرياق «3»(10/506)
فلئن بكت عيني دما شوقا إلى ... ذاك الزمان فمثله يشتاق
والشعر للشريف البياضي.
وحكى لي أبو جعفر بن غانم أنه حضر مجلس صاحب حماة، وهو مخيم ببارين»
في زمن الربيع وقد أطلع بدائع النور وتجلى بسوابغ الأنهار، والروض قد فك عنه حجز الغمام، والنسيم قد مشى في جوانبه مسبل الأكمام، وأمر بالمغاني فأحضروا وفيهم الخروف ووجهه باسر يلوح يكلح، ولبه ذاهب كأنه ما جاء ليغني وإنما قد قدم ليذبح، فقال له: ما هذا الذي أراه بك؟ أهذا لمفارقة حماة أم لشيء لدينا تتحاماه؟ أما تنظر إلى فسيح هذا الفضاء، وإلى هذا الجو وقد موّه بالفضة البيضاء؟
والخروف مطرق كأنه يرى السكين في يد الذابح، والنار تشب في زناد القادح، لهوى كان عقده بحماة «2» جديدا، وفارقه وإن لم تكن النوى رمت به مكانا بعيدا، ثم لم يطل به السكوت، ولم «3» يتمادى لسانه في اعتقاد الصموت، حتى اندفع يغني صوتا عمله لوقته، ونطق به وخرج من عهدة صمته، وهو: [الكامل]
قسما بأيام التداني ولذة ال ... وصال وإني في يميني صادق «4»
ما سرّ قلبي مذ نأيت ولاحلا ... لي العيش واللذات منّي طالق
وأنّي أرى هنا الفضاء الذي أرى ... فسيحا علينا بعدكم متضايق
وما سرّ قلبي الروض يزهر حسنه ... وأني كفيتم عاشق ومفارق
فطرب صاحب حماة حتى مال، وسأله أن يطلعه على حقيقة ما قال، فقص عليه [ص 318] خبره مع شجنة وما جلبه فراقها عليه من حزن، وسأله: لمن(10/507)
الشعر؟ فقال: والله لا أعرف، ولكنه شيء أحفظه، فلما عاينت من ذكرك الموت جاء على خاطري، فصنعت فيه هذا الصوت، فقال: والله حسن جميل ما صنعت وإن مساعدتك لتعين، ثم أصبح فقوض خيامه عائدا، ثم دام له على هواه مساعدا، ثم أمر له بصلة سنية وزاد في راتبه.
وحكي أن صاحب حماة جلس ليلة على نهر العاصي «1» ، والقمر مبدر، والليل قد أصحر أسده المخدر، والمجرة قد كاثرت المجلس بأكوابها، والظلماء قد لعبت أشعة البدر بأثوابها، والصهباء قد ذهّبت شبح الظلام، والأبارق قد شبت شعل ذلك الضرام، فاستدعى في ذلك المجلس الأسنى، واقترح عليه صوتا فيه: «2» [البسيط]
قم فانتصف من صروف الدهر والنّوب ... واجمع بكأسك [شمل] اللهو والطّرب
أما ترى الليل قد قامت عساكره ... في الشرق ينشر أعلاما من الذهب
والجوّ يختال في حجب ممسّكة ... كأنما البرق فيها قلب ذي رعب
فاخلع عذارك واشرب قهوة مزجت ... بقهوة الرفقة المعسولة الشّنب
والشعر للسري الرفاء.
ومن أصواته المشهورة: [الطويل]
ترى علمت وجدي بها ربّة الخال ... ومن قلبها من شغل قلبي بها خالي
ومن أنا صبّ في هواها متيّم ... وما كنت منها قطّ يوما على بال
تنوّرتها كالبدر أدنى مزارها ... فؤادي وما أدناه لي المنظر العالي «3»
والشعر لشيخنا أبي الثناء محمود الحلبي:(10/508)
ومن أصواته: «1» [الطويل]
أقول وقد ناحت بقربي حمامة ... أيا جارتا هل بات حالك حالي
معاذ الهوى ما ذقت طارقة النوى ... ولا خطرت منك الهموم ببالي
أتحمل محزون الفؤاد قوادم ... على غصن نائي المسافة عال «2»
أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا ... تعالي أقاسمك الهموم تعالي
تعالي ترى روحا لديّ ضعيفة ... تردّد في جسم يعذّب بالي
لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة ... ولكنّ دمعي في الشدائد غال
[ص 319]
والشعر لأبي فراس بن حمدان.
وحكي أنه كان يوما بين يديه في خاصة من ندمائه، إذ أقبل غلام كالبدر في سمائه، قد شد وسطه ببند «3» قطع بين خصره وردفه، ومنع بين الواصف ووصفه، وطرفه قد سجى، وغرته تحت طرته صبح في دجى، وعذاره في خده قد شق في الورد بنفسجا، فجاء حتى وقف بإزائه، والوجد به قد أضرم الجوانح، وهاج الولع بالظباء السوانح، فلم يبق إلا من أنشد شعرا نظمه واستشهد به، وذكر حسن ذلك الغزال السانح من سربه [و] «4» الخروف مطرق في فكر، يسبح في لججه «5» وذكر، لما ينطق به لسان حججه، حتى صاغ لحنا، واندفع فيه يغني: [الكامل]
قسما بطرّته وحسن عذاره ... وبما حواه الخصر من زنّاره(10/509)
وبحسن وجنته وضوء جبينه ... وببدر تمّ لاح من أزراره
وبوعده وبصدّه وبغدره ... وبقرب جفوته وبعد مزاره
لأخالفنّ عواذلي في حبّه ... مهما استطعت ولو صليت بناره
والشعر مجهول.
ومن أصواته التي اقترح عليه الغناء فيها: [الكامل]
أنصفته من مهجتي لو أنصفا ... ووددت لو راعى ودادي أو وفى
وطمعت مغترّا بجوهر ثغره ... فصفا وكدّر من حياتي ما صفا
خادعته بحديث لين قوامه ... فسطا وهزّ عليّ منه مثقفا
فذهبت من يده إلى أجفانه ... فرقا وسلّ عليّ منها مرهفا
والشعر للجلال ابن الصفّار المارديني، ومن هذه القطعة تلو الصوت:
[الكامل]
كالبدر أعيت حسنه وهيبته ... لي وجنتيه أن يكون مشنّفا «1»
وكفته خمرة ريقه ورضابه ... فكفته أن يرد العقار القرقفا
أرأيت خدا لا يزيد تلهّبا ... فيزيدني إلا عليه تلهّفا
أم هل سمعت بمن شكا حرق الهوى ... مثلي فداو النار بالنار اشتفى
رشأ رشيقا ظلّ يحذف خصره ... ردفا عتا فقضى له أن يضعفا «2»
يا نسمة ضمنت تعطّف قدّه ... هلا مررت بقدّه فتعطّفا
أحببته متجنبا ووددته ... متجنّيا وعشقته متعفّفا(10/510)
[ص 320]
فاخترت للجسم الضّنى وجعلت لل ... قلب الفنا ورضيت منه بالجفا
ومن أصواته المعروفة له: [البسيط]
من منصفي من هلال يخضع القمر الس ... اري له وغزال يصرع الأسدا
لم لا يخاف العدا أسياف ناظره ... وقد رأوا سالفيه ألبسا زردا
وكيف لا في الهوى ينحلّ عزمهم ... وبنده فوق ذاك الخصر قد عقدا
يا من حكى الصّعدة السّمراء قامته ... كم قد تنفّس فيك العاشق الصّعدا
والشعر لابن الدجاجية الدمشقي.
ومن أصواته: [الكامل]
أشذاكم عند الصباح يفوح ... أم نشر ليلى قد طوته الرّيح؟
ملنا فكلّ من تأرّج عرفه ... نشوان فوق مطيّة مطروح؟
فكأنّما دارت علينا في السّرى ... كأس على نغم الحداة طفوح
أنسيم ليلى هل مررت على الحمى ... ليلا وليلى في الديار يروح؟
والشعر لبعض نصارى ماردين «1»
ومن أصواته: «2» [الكامل]
طللّ لعلوة دون سفح محجّر ... روّته ديمة كلّ غيث ممطر
وسرت عليه نسيمة معتلّة ... عن غير طيّب نشره لم ينشر
حتّى تسهّم برده بمقضّب ... ومخضّب ومدرهم ومدنّر(10/511)
ربع علقت به وغصن شبيبتي ... نضر وفودي ليله لم يقمر «1»
والشعر للشهاب التلعفري.
ومن قطعة ألزم فيها عدم الإلف وتمامها: [الكامل]
لله عصر شبيبة قضيته ... في جوّه برحيق صرف مسكر
مع كلّ معتدل بريح صعدة ... من قدّه ويدير مقلة جؤذر
ورشيقة ممشوقة لو نصبت «2» ... للبدر ليلة تمّه لم يسفر
خود تريك سقيم جفن لم يكن ... عن قتل صبّ مغرم مثلي بري
تحمي مقبّله بطرف سهمه ... يصمي به عن غير قوس مؤثر
يفترّ عن ثغر نضيد نوره ... حفّت حقيقته بسمطي جوهر
وانظر إلى هذه القطعة التي كأنها من قطع الروض [ص 321] المرقع في عنفوان زمن الربيع، وكيف جاءت مع هذا الالتزام خفيفة الموقع، قريبة من الخاطر، لا ترى الكلفة «3» عليها ولا تتطرق للاستهجان.
وكذلك من أصواته في شعر ابن الحجاج، وحكي أن الملك المنصور صاحب حماة استصحبه معه إلى مصر في بعض سفراته إليها، فحضر يوما يغنيه، وقد حضر عنده أبو الحسين الجزار الشاعر، واندفع الخروف يغني صوتا أوله: [الوافر]
مريق دمي وسالب نوم عيني
وطفق «4» يردده ويكرره، فقال له الجزار: لك الأمان يا شيخ أحمد، فضحك(10/512)
صاحب حماة ومن حضر.
قلت: ولم يقع إليّ من هذا الصوت غير ما ذكرت.
حكي أنه كان مع صاحب حماة على مجلس الشراب وهم ببلاد بارين «1» ، والربيع قد سحب بردائه على الثرى، والسحاب قد أودع في ثغور الأقاح جوهرا، والنسيم قد هب من تحت أعكان «2» الليل معنبرا «3» ، والروض قد أخذ زخرفه، والنور قد نظم أحرفه، والبدر قد طرح تاجه، وألبس الشمس شرفه، والراح قد راقت كأنها وجه حبيب، وطابت كأنها غفلة رقيب، والمدام قد أديرت في عسجدية، والكؤوس قد رقت في تلك الصفحة الندية، والسقاة كأنها أقمار توشحت الجوزاء مناديل، والأصداغ كأنها محاريب اشتعلت فيها الخدود قناديل، فاقترح عليه الغناء في شعر خمري يناسب ذلك المقام، ويحث به سوابق كبنت تلك المدام، فاندفع يغني: [البسيط]
والكأس تسلبني عقلي وأهون ما ... لهوت عن ذكره عقلي إذا سلبا
خمرا تمشّي بناني وهي فوق يدي ... منها بمثل شعاع الشمس مختضبا
شربتها غير مخمور ولو طلب ال ... خمّار روحي بها أعطيت ما طلبا
وأربح الناس عندي في تجارته ... محصّل يشتري بالفضّة الذّهبا
ومن أصوات الخروف: [الطويل]
إذا لم تكن تنهي إلى غيرك الشكوى ... فما ثمّ إلا الصّبر فيك على البلوى
[ص 322](10/513)
وإنّي وإن أتلفت بالهجر مهجتي ... لأرضى الذي ترضى وأهوى الذي تهوى
عرضت على روحي تلافي فما أبت ... وعرّضت روحي للسّلوّ فما السّلوى
ومن لم يجد بالروح في الحبّ لم تكن ... محبّته إلا إذا حقّقت دعوى
والشعر لابن إسرائيل.
140- ومنهم- محمّد بن غرّة
من مغاني صاحب حماة، وممن يؤتى في مغاني حماه، ثم لما هدمت الأيام ذلك البيت المعمور، وهدت تلك الجبال الشم حوادث الأمور، أتى دمشق ولزم بعض كبرائها، وقطع باقي أيامه البيض في خضرائها، وقضى فيها ما كان بقي من أجل سروره، وعجل غروره، وكان ممن يقر له أهل صناعته، ويقدر له الذي لا يقدر على إضاعته، ومن أصواته: [البسيط]
من منصفي من عيون كلّما نظرت ... إلى خليّ فؤاد بات في شغل
إذا رنت فسيوف من بني أسد ... وإن رمت فسهام من بنى ثعل
أنا القتيل بها والمستجير بها ... منها فياليتها تقضي عليّ ولي
وبي أغن غضيض الطرف قامته ... تزري إذا مال بالعسالة الذبل «1»
زها على البدر في حسن وفي شرف ... وأخجل الغصن في لين وفي ميل
إذا بدا قال بدر التّمّ واكلفي ... أو انثنى قال غصن البان واخجلي «2»
والشعر للجماز، وكذلك صوته في شعره أيضا: [مجزوء الرجز]
كحّل جفني بالأرق ... ساجي الجفون والحدق(10/514)
مهفهف كالغصن قد ... دا والعبير «1» منتشق
حلو اللّمى والمجتنى ... والمجتلى والمعتنق
قد سحرت أجفانه ... ألبابنا والسّحر حق
وكلّ طرفي بالبكا ... وكلّ قلبي بالقلق
فمقلتي ومهجتي ... بين دموع وحرق
وصوته في شعر الباخرزي: [ص 323] [البسيط]
أبقيت منّي روحا مالها بدن ... لذاك زوّرت من روحي لها بدنا «2»
يا فالق الصّبح من لألاء غّرته ... وجاعل الليل من أصداغه سكنا
بصورة الوثن استعبدتني ولها ... فتنتني وقديما هجت لي فتنا
لا غرو إن أحرقت نار الهوى كبدي ... فالنار حق على من يعبد الوثنا
وهذا الصوت أوله من قطعة: [البسيط]
أنت الذي نقض الميثاق لست أنا ... فدع جفاءك إن كان الوفاء أنى «3»
ومن أصواته: «4» [مجزوء الرمل]
أيّها الصّبّ المعنّى ... يتبع الرّئم الأغنّا
كيف يحنو من هوى ... من كلّ يوم يتجنّى
أودع النّفس ملاء ... معرض أعرض عنّا
جاد بالهجران منه ... وبوصل الصّبّ ضنّا
كلّ يوم أنا منه ... نادم أقرع سنّا(10/515)
ليس في كفّي منه ... غير أن كان وكنّا
والشعر لأبي نواس.
وكذلك صوته: [البسيط]
حاشا لوجهك يا من لا أسمّيه ... من أن يقاس إلى مثل وتشبيه
أنّى وكيف ولو كانت محاسنه ... للشمس ما طلعت من شدّة التّيه
انظر إلى كل شيء طيب حسن ... وانظر إليه تجد أمثاله فيه
أستغفر الله ممّا قلته عبثا ... أنّ القضيب وإنّ البدر يحكيه «1»
والشعر مجهول
وكذلك صوته: [البسيط]
أحبابنا لا بليتم بالبعاد ولا ... خلت ربوع لكم منكم وأوطان
قطعتم سبل المعروف فابتدئوا ... في حسنكم فكمال الحسن إحسان
أقسمت لارمت منهم سلوة أبدا ... ولا مللت وإن خانوا وإن مانوا «2»
ما ضّرهم لو وفوا أو أنصفوا كرما ... هيهات هيهات ما هم لي كما كانوا
[ص 324] والشعر للزكي النابلسي.
وكذلك من أصواته في شعر العفيف التلمساني: [الطويل]
رعى الله مرأى حاجر ورباها ... وحيّا الحيا أطلالها وسقاها
وراعت إليها الريح مثلي عليلة ... لينقل أقوال الغصون شفاها «3»
وشقّت بها ثوب الشقيق يد الندى ... وبدّدت الأرواح عرف شذاها»(10/516)
إلى أن سرى سرّ الوشائع شائعا ... وتصبح رهوا أرضها كسماها
فكم ليلة بتنا نرى البدر أخته ... بها ويرينا في السماء أخاها
وكذلك صوته: [المديد]
ما هوى إلا له سبب ... منه يبدو ثم ينشعب
وكذلك صوته: [مخلع البسيط]
أبعدتني عنك بعد قربي ... يا ليت شعري ما كان ذنبي
لهفي لعيش قد كنت فيه ... أدعوك يا منيتي بلبّي
وقال الجمال المشرقي: والشعر لابن الكرخي، والغناء فيه في الراست ونفق به ابن غرّة برهة من العمر وحصل به جدى كثيرا.
141- ومنهم- القاضي محمّد العوّاد
ويعرف بابن القاضي أيضا، وكان من مغاني صاحب حماة الذين شرّفوا إليه بالانتساب، وعرفوا لديه بالاكتساب، وكان ممن يحضر في يده العود، ويبيض به وجوه الليالي التي لا تعود، وكان في لسانه ثقال، حتى إذا غنّى لم ير مثله في طلاقة اللسان، والطاقة التي ما لأحد في هذا الباب نظيرها من الإحسان، وأتى دمشق بعد انهدام ذلك المغنى «1» المشيد، وانقضاض ذلك الركن السديد، فأقام به مسترزقا، ولباقي أيام عمره فيها منفقا.
ومن أصواته: [ص 325] [مجزوء الكامل]
جنح الحبيب إلى الصّدود ... وافى وما وفّى وعودي(10/517)
وإذا العوارض بالبنف ... سج جاورت ورد الخدود
وتموّجت كثب الرّوا ... دف تحت أغصان القدود
شاهدت في أيدي الظّبا «1» ... ء قياد أعناق الأسود
والشعر مجهول.
وكذلك صوته: [الكامل]
يا مسكري وجدا بكأس جفونه ... قل لي أتلك لواحظ أم قرقف؟
يا من حكى الغصن الرّطيب رشاقة ... هلا عطفت فمثل قدّك يعطف
بادر جمالك بالجميل فربّما ... ذوت الملاحة أو أبلّ المدنف «2»
واسبق عذارك «3» قبل أن ... يأتي بعزل هواك منه ملطف
وكذلك صوته: [مجزوء الرجز]
هل بعد جيران النّقا ... يلذّ للصّب البقا «4»
أو ترتضي أجفانه ... إلا البكا والأرقا
وهل يلوم قلبه ... إذا قضى تشوّقا
أهكذا حكم الهوى ... ليت الهوى لا خلقا
أصمى القلوب بالأسى ... وبالسّهاد الحدقا
أقضي نهاري أسفا ... وعمر ليلي قلقا
والشعر للمجاور، وهو من قصيدة تخف على السامع منها: [مجزوء الرجز]
مولى سما بأصله ... على البرايا وسمق(10/518)
جواد فضل ما جرى ... لغاية إلا سبق
لم يخلق الله تعا ... لى ندّه وما خلق
ويح الكماة إن سطا ... والفصحاء إن نطق
وفارس الخيل إذا ... جدّ الصدام والحنق
فرّقها في البيد بالض ... رب وبالعطن فرق «1»
[ص 326]
بأبيض برق المنا ... يا في غراريه ائتلق
وأدهم كالليل يب ... دو بين عينيه القلق
142- ومنهم- الدّهمان محمّد بن عليّ بن عمر المازني
أبو الفضل شمس الدين ذو يد في الأدب غير قصيرة، وذهن لا يتمثل شيئا إلا أحسن تصويره، لو صور نفسه لم يزدها، ولو بدّلت بالكواكب صنعته لم يردها، أجاد في صنعته، وواسى بفهمه أباريده (؟) ، وأتى بكل بديع الصنعة لا يدني تدبيجها للغمام، بعيد السمعة والذي صوره أقرب شيء إلى الأفهام، صنائع فكر ويد جاء فيها بألوان ما يسر الناظر، ويسير الديوان فما أبقى من محاسن أدب ودهان، وأمسك منها قلم الشعر، والشعر لأنه حاز قصب الرهان، وغادر من أثريه خط ناظر امرئ وسمعيه، نشر منها قطع الرياض، ونطف الغدر «2» الا أن ذهب الأصيل، طفح على إنائها الفضي من جوانبه وفاض، وعلى ما كان يعاني من عبء هاتين الصنعتين، فعززهما بثالث، بصوت مثان ومثالث، له(10/519)
في كل واحدة من هذه الثلاثة معان لا تتناهى، وصور قبل إبرازها إلى الخارج لا يتصوّرها أحد ولا يعرف معناها، في أي صورة ما شاء ركّبها، وفي أي مذهب أراد أذهبها، وكان فريدا في توقيع الألحان، وتنوع الشكر بما يعقّ من تمام الفدام «1» عن بنت ألحان، وكان له بالربوة من وادي دمشق دار نقشها زمانا، وأخرج فيها جهد صناعة الثلث فكتب عليها شعره وذهّبها، ثم كان يغنيها ألحانا، وكان يؤخذ عنه علم الطرب، وكان علما فيه واحدا، ومحركا لا يدع في السماع القائم قاعدا.
ومن شعره الذي صاغه شعرا وألحانا، وجمع فيه محاسن الدهر زمانا زمانا، وأتقن تراكيبه كأنما أضرمه إذهابا وأتقنه دهانا، قوله: [الخفيف]
إنّ فصل الرّبيع أطيب فصل ... طالع وجهه بكلّ سعاده
[ص 327]
طاب في فصل صحة فلهذا ... كلّ يوم جماله في زياده
تبرز الأرض منه في سندس ... الوشي حاكت سحابه أبراده
لم يزل ورده يغازل للمن ... ثور حتّى شقّ الشّقيق فؤاده
وقوله: [البسيط]
يهيج شوقي إليه كلّما صدحت ... تدعو هديلا مع الأصباح في فنن
حمامة وجدت وجدي فلي ولها ... قلبان شدّا مع الأشواق في قرن
قامت تنوح على ساق وقمت على ... ساق أنوح فأشجتني ولم تعن
والشعر له، وكذلك الغناء له، وله صوت مشهور لم يبق في زمانه من لم يقر له فيه إحسانه، وهو [الرّجز]
هل حيها على الغوير واجد ... أم أقفرت من زينب المعاهد «2»(10/520)
خفيت حتّى من سقامي والضّنى ... لولا أنيني ما رآني العائد
حتى رثت لي رحمة حواسدي ... يا ويح من ترثي له الحواسد
يا كعبة الحسن التي أجّجها ... فؤاد مضناك عليك واقد
كم سقت في الهوى إليكم مقلتي ... والحرّ من يحفظ من يعاهد
والشعر لغيره، والغناء فيه له.
وبتنا ليلة في داره بالربوة وواديها يصفح، وناديها بنشر البنفسج ينفح، والليل قد رق جلبابه، وعلق في جوه ربابه، وهو تارة يحيينا من أناشيده، وتارة يطوينا طائره المترنم بتغريده، حتى حان الصباح ونحن لا نظن أن الليل قد نصّف، ولا أن فرع الجوزاء «1» قد تهدل أو تقصف، ثم التفت فإذا الصباح قد أشرق، وجمر الفجر قد شب إلا أنه ما أحرق، وتلفت يرى بكاء الطلّ في عيون النرجس ما رقا، والبرق بإزاء الليل الكافر مارقا «2» ، وجبين الصبح يرشح ماؤه، وجبين الفجر سقطا ينضح الشفق دماءه، فاندفع يغني: [الطويل]
ألا حبّذا الوادي وروض البنفسج ... وطيب شذا من عرفه المتأرّج
[ص 328]
وأغصان بان في حفافيه ميّد ... بكلّ قديم القدّ غير معوّج «3»
وأنهار ماء في صفاء ورقّة ... يسيل به ما بين روض مدبّج
كذوب لجين «4» او كمتن مهنّد ... يمرّ مرور الزئبق المترجرج(10/521)
إذا قابلته الشمس أبصرت مذهبا ... من الوشي يبدو ببريق وزبرج «1»
وإن جعّدته خطرة من نسيمة ... فيا حسن مرأى متنه المتموّج
جنان إذا ريح الصّبا نفحت بها ... فبعدا لأطلال الرّبا بمنعج «2»
وكان له مملوك أفرط في حبه، وأخذ بمجامع قلبه، فغاله منه حادث الموت، فحزن عليه حزنا ذبّ عن جفنه الغرار «3» ، وأحرم قلبه الفرار، فأتى صاحبنا الخطيب الصوفي وكان بينهما صداقة أكيدة، ومزاح فكه، ثم أنشد لنفسه كأنه يعزيه، وإنما قصده أنه يخزيه «4» : [الطويل]
لئن مات يا دهّان مملوكك الذي ... بلغت به في النّفس ما كنت ترتجي
فمثّله بالأصباغ شكلا وصورة ... وقدّا وردفا واترك الحزن واصلج «5»
فقام الدهان بأقبح خزية وأضرها، وأعظم كآبة وأشهرها، ثم قاطعه مدة فلم يكلمه.
143- ومنهم- الكمال التّوريزي
سقطت لنا أخباره سقوط الندى، وبدت لنا بدو البدور على بعد المدى، كان إذا غنى تزلزل زلزل «6» ، ونسي جميل جميل وما يتغزل، ونزل صوت في بيت عاتكة الذي يتعزل، ولم يرض له معبدا عبدا، ولا ابن جامع الذي تضوّع ندّه(10/522)
ندّا، «1» ولا إسحاق إلا الذبيح، ولا ابن المهدي إلا المخلوع الطريح «2» ، وكان فرد زمانه في كرم السجايا وحسن الأخلاق، وسعة النفس، قالوا: [كان] طيب المجالسة لا يملّ حديثه، مكثرا من الأخبار والحكايات والنوادر، عارفا بأخبار ملوك بيت جنكيز خان «3» ، وخصوصا أولاد هولاكو بن تولي، وأحوال الوزراء والخواجكية، وله مشاركة جيدة في العلوم العقلية، ودربة بمخاطبة الملوك والأمراء والوزراء، والخواتين والخواجكية والكبراء متقنا للموسيقا علما وعملا [ص 329] مجيدا في صناعة الغناء، لا يجارى ولا يبارى، ولا يطمع في مضاهاته ولا مداناته، اتصل بالسلطان أبي سعيد، وكان محبا للغناء والمغاني، فلما اتصل به الكمال، اقتصر عليه، واختص به، وجعل كل أهل هذه الصناعة، وسائر الجلساء والندماء دونه، وكان يشاربه ويحضر معه في أخص خلواته، ولا يكاد يصبر عنه ساعة في سائر أوقاته.
وحكى لي خواجا إسماعيل السامي: أن أبا سعيد كان مغرى «4» بطول المكث في الحمام والشرب فيه، وجعل له حماما جعل جدره من الزاج «5» ، وكان يدخل إليه ومعه أمراؤه «6» ببغداد ومشافر وكان كلفا به والكمال التوريزي، ويجلس الجلساء والندماء خارج الحمام، والسقاة تسقي، فإذا وصل الدور إلى الجالسين خارج الحمام أخرج إليهم من كوى بينهم، والمغاني تغني بالنوبة خارج الحمام، فإذا انتهت النوبة إلى الكمال غنى داخل الحمام وربما غنى(10/523)
أبو سعيد والكمال لا يغني، وربما غنيا معا، وذكر أنه استفاد بأبي وبالأمراء والوزراء وأرباب الدولة وسائر الناس لأجله أموالا جمة جليلة، لا تكاد تحصر، وسأله السلطان أبو سعيد أن يعلمه الموسيقا، فعلمه قدر ما احتمله فهمه، ثم ازداد نهمته «1» من هذا العلم، وأكثر ملازمة الكمال حتى برع وصار غاية في ذلك، ورأسا من رؤوسه، وصار يصنع الأصوات ويعرضها على الكمال، فتارة يصوب رأيه، وتارة يصلح له الصوت ندر وأجاد، وزاد وأحسن، وكانت أكثر أصوات الكمال في الأشعار المنظومة باللغة الفارسية، وهكذا كانت غالب أصوات أبي سعيد، وهو الذي استنبط هذا الغناء الذي يغنى به اليوم، ويسمى (البيشرون) «2» وهو أنغام تطول على مقدار بيت الشعر ويقبض على وسع عبارة فيسدّ بأنواع من الكلام الملفق الذي لا يحصر بوزن ولا قافية، قلت: ولقد حرصت على تخريجه أو مقابلته بتفاعيل يوازن بها فلم أستطع، وسألت عنه الإمام حجة العرب أبا عبد الله بن الصائغ الأموي المروي فقال لي: هذا لا يتخرج ولا يوزن إلا بالنغم مثل الموشحات إذا كانت غير شعرية «3» ، فإنها لا تنضبط ولا يعرف صحيحها من مكسورها إلا إذا غنيت، قلت:
وهذا الغناء يستلذ في المشارب وحانات [ص 330] القصف «4» ، ولأهل مصر به ولوع وعليه وقوع، ولا يليق الغناء به في مجالس الملوك والكبراء، ولم يقع إليّ من أصواته في الشعر العربي إلا أربعة أصوات، فمنها في شعر التلعفري: [الكامل]
.(10/524)
ما صدّ جفن العين عن إغماضه ... إلا بريق لاح في إيماضه
خفق الفؤاد بخفقة فغدا كما ... حكم الهوى وقفا على إمراضه
ما زال يغري مغرما لمعانه ... بالمنحنى وغياضه ورياضه
واها له من عارض تعريضه ... لي بالأحبّة كان في إعراضه
ومنها في شعر محمد ابن التلمساني هذا: [الوافر]
صدودك هل له أمد قريب ... ووصلك هل يكون ولا رقيب
ملوك الحسن ما صنعي بطرف ... تمنى مثله الرشأ الربيب
رمى فأصاب قلبي باجتهاد ... صدقتم كلّ مجتهد مصيب
وفي تلك الهوادج ظاعنات ... سرين وكلّ ذي وله حبيب
ومنها في شعره أيضا «1» : [الطويل]
تحكّم إذا جاز الجمال تحكّما ... فما لمحبّ منك أن يتظلّما
حبيبي إن حرمت سهما في الكرى ... فقد حللت عيناك في القلب اسهما
فداك صبّ فيك أسكنه الهوى ... وإن كان من سيف الصدود تكلّما
وما كان يدري حفظ عهد لغادر ... فما زال يهوى الحسن حتّى تعلّما
ومنها في شعر مجهول: [الخفيف]
برح السّقم بي فليس صحيحا ... من رأت عينه عيونا مراضا
إنّ للأعين المراض سهاما ... صيّرت أنفس الورى أغراضا
قلت: وقد كان سلطاننا حرص على إشخاصه إليه، وطلبه طلب متهافت عليه، فعزم على قصده، وقدمت مسيره للسير، فصده عنها قرارة لحده.(10/525)
144- ومنهم- محمّد بن الكسب
الذي يوقد المصابيح، ويجيء بأسلس من دهنه وأطيب في الريح، أول ما تخرج مع أبيه، ثم [ص 331] تزيّد تزيّد الهلال، وتفرد تفرد العذب الزلال، وحصل العجب لما رأى بالكسب من الكسب، وبما سمع من طرب له في الأعضاء ذهب إلا أنه ماله سبب «1» ، وكان لا يزال المنصت يتتبع أصواته لا يمله إكثارها، والمسامع تقول عجبا للبصر وسم سمة تشكر آثارها، اشتغل بصناعة الغناء، حتى بلغ فيها المراتب، وأصبح بها يحسد ابن الكسب ابن السمسماني الكاتب، فأبرّ في تفرده يمين كل مقسم، وأودى كيد حاسده وحبسه في أقماع السمسم «2» ، بدهن أصفى من دهن السليط، وأكثر من تلعبه بالفتيلة في التسليط، وأملى الأصوات وأمن من القالي، وحمّص قلوب الأعداء كما يقال على المقالي، فسلم إلا أنه برع في لطافة الشمائل، وشبت الضرم في المعاطف «3» ، كما ترى فعل السليط في القنديل باللهب المتمايل، وجميع أهل صناعته تصفه بالإحسان، وتقر له بالتقدم في آخر الزمان، وله من أصواته إجادة فيها وأتقنها كل الإتقان، وجمع فيها بين الشعر والألحان، فمن أصواته، والشعر للخطيب جمال الدين يوسف الصوفي: [الكامل]
يا مقلتي أين المدامع هاتي ... لا تبخلي بلآلئ العبرات
هذا الفراق عليه قد حسن البكا ... وتردّد الحسرات واللهفات
بالله يا حاد حدا بأحبّتي ... وقضى على تأليفنا بشتات
مهلا عليّ فإن يوم وداعهم ... مر ولكن فيه حلو ممات(10/526)
ورثاه الخطيب جمال الدين الصوفي النابلسي بقوله: [الطويل]
تعالوا بنا نذري الدموع الجواريا ... ونستوقف الحادي ونبكي المغانيا
ونذكر عيشا مرّ حين حلا لنا ... بأيّام أنس قد خلت ولياليا
ونسأل عن روح الحياة وطيبها ... ملاعب ربّاب الحجاب الغوانيا
فإنا ذممنا العيش بعد محمّد ... وذكّر بالأحزان من كان ناسيا
145- ومنهم- الكتيلة
بدر الدين محمد الجتكي المارديني، خطبته الملوك لمجالستها، وحطته مواضع [ص 332] القرناء لمنافستها، ونضرته لنعيمها «1» ، وسرته من العوارف بعميمها، وكان بصيرا بأخلاق العظماء، خبيرا باستدرار أخلاف الكرماء، ولم يزل جوّاب أسفار، وجوال بدر في غروب وأسفار، قليلا على ظهر المطية ظله «2» ، خفيفا مكانه من الخواطر ومحله، يزاحم في سحابه الوارد، ويتشوق إليه تشوق الظمآن إلى الماء البارد، واليقظان المسهد إلى المنام «3» الشارد، أتى قلعة الجبل وحل هالات دورها، وحظي بأيام سرورها، هذا وسلطانها يقبل المتاب، ويقبل على المنتاب، ويتلقى القادم بطلاقته، ويفك الرهن من عاقته، ووجد الزمان ما بسر «4» ، والبغاث «5» ما استنسر، والراعي لا يخاف الذئب على غنمه، والدم لا(10/527)
يستباح منه إلا ما على الطرف المخضب من عنمه، والقلعة مسرح ظباء، ولا عقرب إلا بصدغ مليحة، ولا سيف يسل إلا بكرة صبيحة فقطع تلك المدد والدهر غافل، والبر سحابه حافل، والبدر في تلك الآفاق طالع غير آفل، ودخان الند يعقد سماء، وخدود الملاح يشرب ماء، ثم مات حيث تلاشى ذماء «1» الجود، ومص الثرى بقية الماء من الفرد.
أصله من أبناء الكتّاب، وكتب خطا حسنا، وقرأ طرفا من النحو والعربية، واتقن علم الموسيقا، وحفظ كثيرا من الشعر للقدماء والمحدثين، ونقل الأصوات المشهورة، وحفظ كثيرا من نوب عبد المؤمن وانخرط في سلك الندماء، وأهل المحاضرات، وملح وندر، وحكى الحكاية والخبر، وخدم ملوك ماردين «2» واتصل بهم، وحكي أنه حظي عند الملك الصالح شمس الدين وراج لديه، وسمع به السلطان الناصر فاستدعاه، وأقبل عليه غاية الإقبال، وكان له مكانة لم يبلغها أحد من أمثاله، وأمره بملازمة الجواري وتعليمهن ويلقي عليهن الأصوات، حتى تخرج غالب الجواري المحسنات، وكان يتردد إلى باب الستارة في كل يوم، وتخرج إليه الجواري، وكان مجيدا في الغناء، متقنا في سائر الخفيف والثقيل منه، غاية في ضرب الجنك «3» العجمي وتأليف الأنغام عليه، ولا يكاد يثبت سامعه لشدة الطرب، وكان يقيم بمصر المدد الطويلة، ثم يسأل في العود إلى ماردين فيؤذن له، فلا يكاد يصل [ص 333] ماردين ويستقر بها إلا وجهز السلطان في طلبه وبحث في سرعة عوده، فإذا وصل ضاعف الإكرام وعومل(10/528)
بأكثر مما يعهد، وحصّل بهذا أموالا جزيلة، ونعما كثيرة والأنزال التي تزيد على عادة مثله، وحضرت مجلس السلطان مرة وعنده موسى بن مهنا، وكلاهما يضرب بالجنك بين يديه، فرأيت موسى بن مهنّا على سكونه العظيم ووقاره يميل يمنة ويسرة، وكان كتيلة ذلك اليوم كله يردد صوتا صنعه، والصوت: [البسيط]
يا دار عّزة من للواله الباكي ... بنظرة يتملّى من محيّاك
ما هبّ من أيمن الوادي نسيم صبا ... إلا وكان الهوى العذريّ يمناك
تحمّلي واحملي يا نوق واصطبري ... على المسير فهذا من سجاياك
ولم يبق أحد من غلمان الدار وأعيان الأمراء، حتى هزه الطرب، ولولا مهابة السلطان لرقصوا، فلما فرغ مما هو فيه، أثنى السلطان عليه، وقال لموسى بن مهنا: كيف رأيت؟ فقال والله ظننت أنه يجذبني إليه، ولو لم أملك نفسي لوقعت عليه، وأمر له السلطان بألف دينار يتّجر بها، وكتب له توقيع مسامحة بما يجب عليه فيها من الموجبات الديوانية في السفر دائما صادرا وواردا، ومضى يوم عجيب لم ير مثله، ودخلت على السلطان يوما آخر وهو عنده، وقد أخذ في صوت صنعه، والصوت: [الطويل]
سلام على ليلى وليلى بعيدة ... ولكنّها طيف إليّ قريب
بديعة حسن مالها من مماثل ... إذا طلعت شمس النهار تغيب
كما أنّ قلبي في البلاد متيّم ... كذا حسن ليلى في الحسان غريب
وكان الكتيلة يجيء إليّ في حوائجه التي تكون له عند السلطان، وكان كامل الأدب وافر المروءة، حسن الخلق، جميل العشرة، يرجع إلى كرم وطيب أعراق، وكان بينه وبين الكمال التوريزي ما يكون بين أرباب كل فن من المنافسة والحسد، وكان السلطان قد سمع بالكمال، وجاءته الأخبار بأنه فرد من أفراد(10/529)
الدهر في فنه، فبعث إليه من يشخصه اليه، وتطلع إلى مقدمه عليه، وفخاف كتيلة من بواره به، فلم تمتد الأيام حتى جاءت الأخبار بأن الكمال مات فجاءة، فشاع ذكر بأن كتيلة إنما دبر عليه من قتله، ولعل هذا إنما من تشنيع العوام [ص 334] وأقوال الحسدة الطغام، ثم لم يلبث كتيلة بعده إلى أن عاد إلى ماردين فمات رحمه الله.
قلت: ولما انتهيت في ترجمتي هذه إلى هنا، وقعت على أصوات له صنع فيها ألحانا مشهورة، مما حدثني به خواجا محمد المارديني.
وكان من خلطائه وأهل صحبته، فمنها شعر الحلاوي وهو: [الكامل] .
ألف الملام ولام عن ميثاقه ... رشأ فراق النفس دون فراقه
عذب اللّمى حلو الخلال كأنّما ... خلقت مراشف فيه من أخلاقه
دقّت معاني حسنه ولقدّه ... عبث الأنام من القنا بدقاقه
يهوى الوصال ولو بأيسر موعد ... ويصد حتّى الطيف عن مشتاقه
يا محرقا قلبا أقام بربعه ... ألا كففت جفاك عن إحراقه «1»
ومنها في شعر الحلاوي أيضا: [الكامل]
أحيا بموعده قتيل وعيده ... رشأ يشوب وصاله بصدوده
قمر يفوق على الغزالة وجهه ... وعلى الغزال بمقلتيه وجيده
ياليته بعد الملام فإنّه ... ما زال ذا لهج بخلف وعوده
يفترّ عن عذب الرضاب حياتنا ... في ورده والموت دون وروده
قمر أطاع الحسن منه وجهه ... حتّى كأنّ الحسن بعض عبيده
أنا في الغرام شهيده ما ضرّه ... لو أنّ جنّة وصله لشهيده
وهذه الأبيات من قصيدة فائقة منها مدح الملك الناصر داود: [الكامل](10/530)
يا يوسف الحسن الذي أنا في الهوى ... يعقوبه نبّئ إلى داوده
أشكو إليه من الزمان فإنّه ... ملك يشيب شظاه رأس وليده
ملك إذا اللأواء لاح لواؤها ... هزمت كتائبها طوالع جوده «1»
غمرت مواهبه العفاة فأصبحت ... ترجى المواهب من وفود وفوده
وإذا العدوّ نحته لدن رماحه ... فتكت ثعالبها بغلب أسوده
من كلّ أسمر في الملاحم طالما ... عاد الردى مهج الكماة بعوده
غصبت عواملها الظلام نجومها ... والبان قد سلبته لين قدوده
[ص 335]
سمر إذا الجبّار سام دفاعها ... وردت أسنّتها نجيع وروده
عذباتها صفر كوجه عدوّه ... بالنصر تخفق مثل قلب حسوده «2»
ملك ألان لنا الزمان وإنّما ... داود معجزة للين حديده
ومن أصوات كتيلة مما ذكر لي صاحبه خواجا محمد المارديني، أنّ كتيلة غناه بين يدي سلطاننا فأجزل عطاياه، ورفع على كاهل الجوزاء مطاياه: [الكامل]
ملك الملوك محمد أنت الذي ... ذلّت ملوك الأرض بين يديه
شرف الملوك بأن يكون عبيده ... أو أن يكونوا واقفين لديه
جهدوا وما دانوك في أدنى العلا ... هيهات إن وصل الملوك إليه «3»
وإذا هم بلغوا السماء مكانه ... لما تراموا في السماح عليه
والشعر لرجل من أهل ماردين.
ومنها صوته في شعر القاضي أبي الحسن: [الطويل](10/531)
أأيامنا بين الكثيبين في الحمى ... وطيب ليالينا الحميدة فيهما
صحبنا بها شرخ الشّباب فدلّنا ... على أعين كانت عن البين نوّما
فمن قائل لا آمن الدّهر حاسدا ... وقائلة لا روّع البين مغرما
بدت صفرة في وجنتيه فلم تزل ... مدامعه حتّى شربنا بها دما
ومنها صوته في شعر ابن زريق الكاتب: [البسيط]
بالله يا منزل القفص الذي درست ... آثاره وعفت مدنية أربعه «1»
هل الزمان معيد فيك لذّتنا ... أم الليالي التي أمضته ترجعه
في ذمة الله من أصبحت منزله ... وجاد غيث على مغناك يمرعه
من عنده لي عهد لا يضيّعه ... كما له عهد صدق لا أضيّعه
وقصيدة ابن زريق التي منها الصوت معروفة مشهورة لها في كل ناد نداء، ولها في كل واد حداء، وحمله مختارها سواه: [البسيط]
لا تعذليه فإن العذل ينفعه ... قد قلت قولا ولكن لست أسمعه «2»
[ص 336]
جاوزت في لومه حدّ المضرّبه ... من حيث قدّرت أنّ اللوم ينفعه
فاستعملي الرّفق في تأنيبه بدلا ... من عنفه فهو مضنى القلب موجعه
يكفيه من روعة التفنيد أنّ له ... من الهوى كلّ يوم ما يروّعه
ما آب من سفر إلا وأزعجه ... رأي إلى سفر بالعزم يجمعه
كأنما هو من حلّ ومرتحل ... موكّل بفضاء الأرض يذرعه
والله قسّم بين النّاس رزقهم ... لم يخلق الله من خلق يضيّعه(10/532)
أستودع الله في بغداد لي قمرا ... بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودّعته وبودّي لو يعاجلني ... ورد الحمام وأني لا أودّعه
لا أكذب الله ثوب الصبر منخرق ... عنّي بفرقته لكن أرقّعه
إنّي لأقطع أيامي وأنفذها ... لحسرة منه في قلبي تقطّعه
لأصبرنّ لدهر لا يمتّعني ... به ولا بي في حال تمتّعه
علما بأنّ اصطباري معقب فرجا ... فأضيق الأمر إن فكّرت أوسعه
عسى الليالي التي أضنت بفرقتنا ... سمحا ستجمعني يوما وتجمعه
وإن تغل أحدا منّا منيّته ... فما الذي في قضاء الله يصنعه
وموضع الصوت يكون أوله تلو: (إني لأقطع أيامي وانفذها) البيت.
ومن أصوات كتيلة في شعر البارع: [البسيط]
بالله يا ريح إن مكّنت ثانية ... من صدغه فأقيمي فيه واستتري
وراقبي غفلة منه لتنتهزي ... لي فرصة وتعودي منه بالظّفر
وإن قدرت على تشويش طرّته ... فشوّشيها ولا تبقي ولا تذري
ولا تمسّي عذاريه فيفضحني ... بنفحة المسك بين الورد والصّدر
وتتمة هذه القطعة:
وباكري عذب ورد من مقبّله ... معلّل الطّعم بين الطّيب والخصر «1»
ثمّ اسلكي بين برديه على عجل ... واستبضعي الطّيب وأتيني على قدر
[ص 337]
ونبّهيني دوين القوم وانتفضي ... عليّ واللّيل في شكّ من السّحر
لعلّ نفحة طيب منك ثانية ... تقضي لبانة قلب العاقر الوطر(10/533)
ومن أصواته في شعر الجلال ابن الصفار المارديني: [الكامل]
يسعى بأبرق ذا من ثغره ... يحيي وذا من مقلتيه قاتل «1»
عنيت إنسانا هما من لحظه ... ذا سايف وبهديه ذا نابل «2»
فمتى تقوم قيامتي بوصاله ... ويضمّ شملينا معاد شامل
وأكون من أهل الخطايا خدّه ... ثاري وصدغاه عليّ سلاسل
وأولها:
أين السلو وما يروم العاذل ... ممن له بهواك شغل شاغل
أنا ما سلوت وبرق فيه خلب ... أسلو وعارضه أمامي سائل
ومن أصواته في شعره أيضا: [الطويل]
وفي خزرم لما حللنا فناءها ... سكرى حيارى تحت ظل الغياهب «3»
تبدت لنا عند الصباح طليعة ... من الترك مرد فوق جود السلاهب «4»
بأيديهم سمر طوال كأنما ... أسنتها تبغي التقاط الكواكب
تثنوا غصونا في السروج وأطلقوا ... سهام لحاظ من قسي الحواجب «5»(10/534)
ولو كشفوا بيض العوارض في الوغى ... لأغنتهم عن مثل بيض القواضب
ومن أصواته في شعره أيضا: [الكامل]
برق بدا من ثغرك المنعوت ... أم لؤلؤ قد ضمّه ياقوت؟
يا للنصارى برقعوا شمّاسكم ... قبل الضلال فإنّه طاغوت «1»
ما قام أقنوم الجمال بوجهه ... إلا وفي ناسوته اللاهوت «2»
يشتاقه قلب إليه طائر ... صبّ وطرف حائر مبهوت
فاحسن فإنّ الحسن وصف زائل ... واصنع جميلا فالجمال يفوت
[ص 338]
واستبق من أهل الغرام ولا تجر ... فيقلدوك دماءهم وتموت
أخبرني الجمال المشرقي ما معناه: أن أبا كتيلة كان يعزف، وزجاجته ما أبرزت، وكانت له معه نوادر تستحسن، ووقائع لا يعرف أنها أحسن، قال:
ومنها أنه لما اشتدّ يافعا، وأصبح لا يراد منه نافعا، سلك سبيل العتب في الإدلال، وفرط وأفرط في الاحتمال، حتى أتى إلى بركة كان قد صنعها النجم يحيى ملونة بالزجاج، ومشفقة كالقصور والجام، قد أقيمت حروفها وأحكم تأليفها، فأخذ حجرا بيده ورماها به، فثلمها وحطّ رتبة حسنها وحطّمها، فقال فيه: [السريع]
قل للذي ثلّم [في] بركة ... ما يأخذ الثأر ولو هدّها(10/535)
فتحت في أسفلها ثغرة ... لو عاش ذو القرنين ما سدّها «1»
قال: ثم تعدى شوط عداته وتعالى قدره في بلاد ماردين، فخدم في أعمالها، وختم بتصرفه على مآلها، وولي نظر دنيسر، وهمى عليه صوب الرزق فأيسر، ونشأ ابناه مسعود ومحمد كتيلة وتعلما، وكبرا وتقدما، إلا أنّ الحمام أتى على مسعود أولا وشبابه شارخ، وغناؤه لم يصرخ باسمه صارخ، فبقي الذكر لأخيه مفردا، كأن لم يكن سواه من أبيه. فقال: وكان مسعود متعلقا بحبائل «2» ابن الملك المنصور صاحب ماردين، لا يخاف منه الخبر، ولا يسأل دونه السفر، وكان الملك المنصور قد أخذ ابنة الجنك البغدادية المغنية بغتة من بغداد، وأتى بها إلى ماردين وتركها بها مقيمة، وأهلها لا تعرف أرضا ابتلعتها، أو سماء اقتلعتها، وكان سبب هذا أن الملك المنصور كان رجلا جسيما وكان قد نقص عيار الدراهم بماردين حتى حول الدرهم مقدار الثلثين، فلما نزل الأرد ببغداد سافر للقاء القان، فلما كان يوم دخوله إلى بغداد، خرج أهلها ليروه، وكانت ابنة الجنك ممن خرجت، فلما مرّ عليها، قالت لبعض من كان عندها: من هو صاحب ماردين في هؤلاء؟ فقيل لها: هذا، وأشاروا إليه، فنظرت إليه وقالت: كل هذا بثلثين الا مارديني هو، فدخلت كلمتها [ص 339] في صماخ اذنه، وأذكت عليه نار إحنه، فطلب بعض خاصة قومه، وأمره أن يتعرف أمرها، حتى عرفها ثم عدا «3» عليها حتى أحضرها إليه ليلا لتغنيه فاختطفها وأركبها الخيل، وسيق بها(10/536)
النهار والليل حتى أتى بها ماردين، وقبرها في بعض دورها، وتركها لا يحفل بأمورها، ثم أحضرها ليسمع غناءها، فما رآها حتى رابه أمره، وخامر لبه خمره، وتلف بها جوى في الجوانح، وهوى صاد شركه الجوارح، ثم طال عليها الاغتراب والحبس المضيق في عش الغراب، وكانت قد أنست إلى مسعود بن غدايفال لطول اجتماعها به في مجلس الملك المنصور، وعلقت قلبه فلم يجد سبيلا إليها إلا بأن حسّن لابن الملك المنصور حبّها وهون عليه قربها، واستغفل الملك المنصور حتى سافر إلى الموصل، واتى مع ابنه إليها، وباتا يحثان كؤوس الراح عليها، فلما عاد الملك المنصور أتته عينه الناظرة بما رأت، وحدثته ثقات خبره بالليلة التي جرت، فأحل بمسعود المنحوس الحمام، وأورده مورد الموت الحمام، وقد خافت بنت الجنك فأمسكت خفيها على يديها وتدلت من الساتون «1» حتى ثبتت على الأرض قدميها ولقت هناك خدمها، وكانت قد اتعدت مع ثقات لها منهم إلى هناك بالخيل، وسارت تقطع وتسابق السحاب الركام، حتى وافت مدينة سنجار «2» ، وبها الأمير يحيى بن الجلال، فاستجارت به فأجارها، ووسع تحت نقاط يده وجارها «3» ، وأتى الخبر الملك المنصور، فقتل صبرا، ولام أهل مشورته للتدبير، وبعث رسله إلى ابن الجلال يعتب، فضم ظهور المطي، وخصم ألسنة الملي البدري وأعلمه بما يجد لفرقتها، ويكوى به من نار حرقتها، فبعث بها إليه فتلقاها وأقرها لديه على أتم الأحوال وأبقاها، وذهب دم ابن غدا يفال هدرا، وكان حمه لها قدرا.(10/537)
146- ومنهم- خالد
لو أدركه عبد المؤمن لأخذ عنه النوب، أو السهروردي لعلم أنه سهوردي، وما حصل من العلم معه إلا على اسم الطرب، لو حضر مجلس ابن المهدي لتيقن أنه ما اهتدى، أو ماثل ابن بانة لما مال غصنه متأودا، أو لو طارح الأمير ابن طاهر لود أن يكون من عدته [ص 340] أو الهذلي لأقرانه لأقصر عن مداه، إلا أن طائفة تغض منه غض الحاسد، وتريد أن يكون لها مثل سيفه الخالدي، وهيهات إنما يضرب في حديد بارد، وتظن أنها من أقرانه ولكن من هو من أقران خالد، لو كان في زمانه سميّه خالد بن عبد الله القسري «1» لبادر العيش وانتهب، أو عاصر سميّه الآخر خالد بن يزيد الأموي «2» لعلم أن صنعة الطرب والغناء أجدى عليه من صنعة الكيمياء والذهب، فقد خلّد له ذكرا، وخلف له ما يحتاج سامعه معه شكرا، وأبقى له ما إذا ذكرته به لا أزيد عليه شكرا، ومن أصواته: [البسيط]
ردّوا على مقلتي النوم الذي ذهبا ... وخبّروني بقلبي أيّة ذهبا
علمت لّما رضيت العيش منزلة ... أنّ المنام على عينيّ قد غضبا
إني له عن دمي المسفوك معتذر ... أقول جملته من سفكه تعبا
هل تشتفي منك عين أنت ناظرها ... قد نال منها سهاد الليل ما طلبا
ماذا ترى في محب ما ذكرت له ... إلا بكى أو شكا أو جنّ أو طربا
ترى خيالك في الماء الزلال إذا ... رام الشراب فروّى منه ما شربا(10/538)
والشعر للأرجّاني والغناء فيه رمل
وكذلك صوته في شعره أيضا، والغناء فيه دوكاه وهو: [الكامل]
إن كنت عن نظر المحب تغيب ... فهواك من كل القلوب قريب
لك في سويدا القلب أشرف منزل ... ما حل فيه سواك قط حبيب
يا من تحجب عزة عن ناظري ... أنت المنى والسؤل والمطلوب
وحياة وجهك إن جيش تضرري ... ولى وجيش عزيمتي مغلوب
وله صوت في شعر ابن نباتة المصري، والغناء فيه من عراق، وهو: [البسيط]
نادى وقامته تهتزّ بالتّيه ... فكادت الشّمس قيد الرّمح تحكيه
[ص 341]
وقمت أذكره بالظبي ملتفتا ... فقال لي طرفه من غير تشبيه
ما للذي فتنت طرفي محاسنه ... أضحى يعذب روحي وهي تفديه
وما لعاذل قلبي في محبته ... تعبان يدخل فيما ليس يعنيه
القلب قد أسكن الله الحبيب به ... فما الملام على حال بمخليه
لا يختشي بيت قلبي غزو لائمه ... فإن للبيت ربا سوف يحميه «1»
وله صوت شعر مجهول، والغناء فيه راست معشّق الدقات وهو: [المديد]
زار والواشون قد غفلوا ... رشأ من ريقه ثمل
كل مخلوق له أجل ... وهواه ماله أجل
صرت في حبي له مثلا ... وحلالي ذلك المثل
قلت قد أتلفتني مللا ... قال كم قد أتلف الملل(10/539)
وله صوت في شعر ابن عربي والغناء فيه دوكاه: [البسيط]
نعم لقلبي ببانات الحمى أرب ... ولي دموع لذكراهن ينتسب
هبت له نسمة من نحو كاظمة ... فاعتاده لهبوب النسمة الطرب «1»
يا ساكني الجزع [لي] ؟ في حيكم قمر ... طرفي على البعد يرعاه ويرتقب
بدر به يهتدي الساري فواعجبا ... يجلو الدجى قمر بالشمس محتجب
وله صوت في شعره أيضا، والغناء فيه رمل: [الرمل]
من لقلب بالعيون النجل مضنى ... حسنها أورثه سقما وحزنا
وفؤاد ما أتاه خبر ... عن أهيل المنحنى إلا وحنا
ورشيق القد ألمى أسمر ... هزمن قامته أسمر لدنا
خلته لما تبدى غصنا ... فتجلى قلت بدر قد ثنى
وكذلك له صوت في شعره، والغناء فيه كوشتا، وهو: [الخفيف]
كل يوم يزيد وجهك حسنا ... وفؤادي يزيد وجدا وحزنا
[ص 342]
أنت والله أحسن الناس شكلا ... ما للفظ الجمال غيرك معنى
لي قلب يحن نحوك شوقا ... وضلوع على الصبابة تحنى
من يكن رام عن هواه سلوا ... فأنا المدنف الكئيب المعنى
وله صوت أظنه في شعره أيضا، والغناء فيه عراق وهو: [البسيط]
لو بلغ الشوق هذا البارق الساري ... أو بعض وجدي الذي أخفي وتذكاري(10/540)
ما بتّ أرعى الدجى شوقا إلى قمر ... ولا معنى بطيف طارق طاري «1»
جيراننا كنتم بالرقمتين فمذ ... بعدتم صار دمعي بعدكم جاري «2»
فكم أواري عزما من جوى وأسى ... زناده تحت أثناء الحشا وار
وله صوت في شعر مجهول، والغناء فيه ماه يوسليك وهو: [الكامل]
شوقي إليك أجلّه أن يذكرا ... وهوى يرق لطافة أن تنشرا
بيني وبينكم إذا حكم الهوى ... فرق كما بين الثريا والثرى
ريم رمى قلبي فأصبح ساكنا ... فيه ومسكنه أصاب وما درى
ساومته روحي وكانت ملكه ... فأبى وقال الوقف ما يشترى «3»
وله صوت في شعر محاسن الشوا، والغناء فيه مبرقع وهو: [البسيط]
أشكو إلى الله لا أشكو إلى أحد ... حزنا يكابده من بعدكم كبدي
أحبابنا كيف أسلو عن محبتكم ... وعقد ودكم ديني ومعتقدي
وبين حبكم والروح معرفة ... تأكدت قبل خلق الروح والجسد
لا تأخذوا بدمي أجفان طيبكم ... فالروح روحي وقد أتلفتها بيدي
وكذلك أيضا: [الوافر]
بعادك علم النوم البعادا ... وكحّل مقلتي فيك السّهادا
[ص 343](10/541)
أو يأسه (؟) اخيالا منك يسري ... فلو أرسلت طيفا ما أرادا
وألهبت القلوب بنار شوق ... أبت يوم النوى إلا البعادا
ولم تترك لذي طرف مناما ... يلم ولا لذي جلد فؤادا
والشعر للمجاور والصوت فيه طرف.
وكذلك صوته في شعر شيخنا أبي الثناء الحلبي، والغناء فيه محير الحسيني:
[الخفيف]
أيها المنزل الذي كان فيه ... ليجلي شموسهم إشراق
والذي كان فيه بدر المسرا ... ت تماما لا يعتريه محاق
أوحشوني مذ فارقوني فهل ... أصبحت مثلي إليهم تشتاق
فابك لي مسعدا عليهم فلا ... بأس إذا ما تساعد العشاق
وكذلك صوته في شعر ابن نباتة المصري: «1» [مجزوء الكامل]
يا قلب أنت ومقلتي ... متحاربان كما ترى
هاتيك تمنعك الهدوء ... وأنت تمنعها الكرى
وأنا الذي قاسيت بي ... نكما العذاب الأكبرا
وكذلك صوته في شعره أيضا، والغناء فيه زنكلا «2» : [الوافر]
غني الحسن خالي الوجنتين ... متى يقضي وعود الهجر ديني
متى بالثغر والخدّين تجلو ... بوارق رامة والرقم شين
أبثك إن عاد لي المعنى ... رآك بعين حبّ مثل عيني(10/542)
فحاكى قلبه قلبي خفوقا ... وحكّمك الهوى في الخافقين
وله صوت في شعر مجهول، والغناء فيه راست، وهو: [البسيط]
بي من جفاك صبابات وتسهيد ... فهل ليوم وصال منك موعود
سلي نجوم الدجى تنبيك عن سهري ... لتعلمي أن يومي فيك مفقود
أو فانظري سقمي إن كنت منكرة ... فالعين تشهد والأخبار تقليد
يا ضرة الشمس عودي غير هاجرة ... عسى بوصلك أن يخضر لي عود
وكذلك له صوت في شعر مجهول، والغناء فيه عراق: [الكامل]
[ص 344]
حسب المحب فقد تمزق صبره ... وبدا لعاذله المعنف عذره
في حب أغيد لم تزل أجفانه ... مكسورة فيها تأكد نصره
ظبي وغصن مقلتاه وقده ... بدر وليل وجنتاه وشعره
أقسى من الصخر الأصم فؤاده ... وأرق من شكوى المتيم خصره
وله صوت في شعر مجهول، والغناء فيه حسيني وهو: [السريع]
من علم الغصن الرطيب الدلال ... حتى سطا جورا علينا ومال
ومن أحل القتل في مذهب ال ... حب وأفتى أن هذا حلال
يا فتنة العاشق من واضح ... يشرق في جنح الدجى كالهلال
أحور كالحور ولكنه ... ينفر من عاشقه كالغزال
وكذلك له صوت في شعر مجهول، والغناء فيه عراق: [مجزوء الكامل]
ومهفهف كالغصن مائل ... مرّ الجفا حلو الشمائل
من مقلتيه صوارم ... ومن الجفون له حمائل(10/543)
ترف الدّلال يكاد يد ... ميه من التّرف الغلائل
كم عنفت فيه الوشا ... ة وأطنبت فيه العواذل
وكذلك له صوت في شعر مجهول، والغناء فيه نكاري: [البسيط]
ناولتها شبه خديها مشعشة ... مثل الصباح تحاكي ضوء مقباس
فقبّلتها وقالت وهي ضاحكة ... فكيف تسقي خدود الناس للناس
قلت اشربي إنها دمعي وعاصرها ... دمي وطابخها في الكأس أنفاسي
قالت إذا كنت من أجلي بكيت دما ... فسقّنيها على العينين والرأس
وكذلك له صوت في شعر مجهول، والغناء فيه زوالي: [الطويل]
أمن أرض ليلى للنسيم هبوب ... فمن نشرها فيه تضوع طيب
تهب قبولا والقبول أمامه ... وتسري جنوبا والغراب جنيب «1»
صبا للصّبا قلبي وكل متيم ... يحن إذا هبت صبا وجنوب
[ص 345]
وأرتاح منها للرياح إذا سرت ... مراضا كأني للنسيم نسيب
وله صوت في شعر الخطيب يوسف الصوفي، والغناء فيه زنكلا وهو:
[الكامل]
أبدى دلالك للغرام دلائلا ... فعصيت لوّاما ولمت عواذلا
وإذا رأيت القلب يشكو في الهوى ... فقرا إليك جعلت دمعي سائلا
ينهيك أن الشوق أمسى نازلا ... في مهجتي والصبر أصبح راحلا
وتركت عزمي مثل جفنك فاترا ... وجعلت جسمي مثل خصرك ناحلا(10/544)
وله صوت في شعر شيخنا أبي الثناء، والغناء فيه رمل، وهو: [الطويل]
أشوق وهم في ربع قلبك سكان ... ووجد وما شطّ المزار ولا بانوا
نعم هي روح أحرقتها صبابة ... فسالت دموعا والجوانح أجفان
تمر بها الأنفاس وهي رطيبة ... وترجع عنها وهي بالوجد نيران
فلو كان هذا الدمع ماء لأعشبت ... ربا الحيّ منه وامتلت منه غدران
وله صوت في شيخنا الصائغ بن سباع، والغناء فيه رمل، وهو: [الكامل]
حبس الهوى نومي وأطلق أدمعي ... ضنا بطيفك أن يلم بمضجعي
يا ساكن الجفن القريح أما ترى ... حقا لجارك في هواك مضيّع
وأنا الفداء لنازح سكن الغضا ... من مهجتي والمنحنى من أضلعي
أبدا يلوح خياله في ناظري ... ويجول طيب حديثه في مسمعي
ولقد شكوت إلى الفراق صبابتي ... يوم النوى وولوع قلبي الموجع
فأبى وعيشك أن يرق لحالتي ... أو أن يجيب هناك سائل أدمعي
وله صوت في شعر أبي تمام حبيب ابن أوس، والغناء فيه زاولي وهو: «1» [الخفيف]
حسنت عبرتي وطاب نحيبي ... فيك يا كنز كل حسن وطيب
لك قدّ أرق من أن يحاكى ... بقضيب في النعت أو بكثيب «2»
حار حكمي في قلبه وهواه ... بعد ما جار حكمه في القلوب
كاد أن يكتب الهوى بين عيني ... هـ كتابا هذا حبيب حبيب
[ص 346](10/545)
وكذلك صوت في شعره، والغناء فيه زاولي، وهو: [مجزوء الخفيف]
لا وورد بخدّه ... واعتدال بقدّه
لا تعشّقت غيره ... لو براني بصدّه
إن يكن أقسم الهوى ... بعد تصحيح ورده
فعساه بعد التمن ... نع يرثي لعبده
وله صوت في شعر مجهول والغناء فيه حسيني، وهو: [مجزوء الخفيف]
ربّ ليل سهرته ... فيك لولاك نمته
بحنين ولوعة ... وبكاء قطعته
فلق العين مفكرا ... في وصال حرمته
بأبي وجهك الجمي ... ل الذي لا عدمته
وله صوت في شعر ابن مطروح، والغناء فيه راست، وهو:
[الكامل]
أوثقتني من ناظريك جراحا ... وتركتني لا أستطيع براحا
أحسبت أنّي ساليا لا والذي ... أبدى بليل الشّعر منك صباحا
ما بحت بالسّر المصون وإن سلا ... غيري وخان عهوده وأباحا
لكنّني حرّمت عنك تصبّري ... ورضيت قتلي في هواك مباحا
وله صوت في شعر البهاء زهير، والغناء فيه أصفهان راست، وهو: «1»
[مجزوء الكامل]
يا معرضا متغضّنا ... حاشاك يا عيني وروحي(10/546)
لم تدر ما فعل البكا ... ء عليك بالجفن القريح
لك من ضميري ما علمت ... به من الود الصحيح
فمتى أفوز بنظرة ... من وجهك الحسن المليح
وكذلك له صوت في شعره، والغناء فيه حسيني: [مجزوء الكامل]
يا غادرين ألم يكن ... بيني وبينكم عهود
ظهرت وبانت لي قضي ... تكم فما هذا الجحود
[ص 347]
وحلفتم ما خنتم ... وعلى خيانتكم شهود
يا من تبدل في الهوى ... يهنيك صاحبك الجديد
وله صوت في شعر الأمجد، والغناء فيه جاركاه: [الطويل]
ترى تسمح الأيام لي فأراكم ... وأشكو إليكم منذ يوم نواكم
فياليت أني لم أكن بنت عنكم ... ويا ليت أني لا عرفت هواكم
وأعظم ما ألقاه أني لواجد ... سلوا لقلبي عنكم بسواكم
وإني لأرضى أن أموت صبابة ... إذا كان موتي في الهوى من رضاكم
وله صوت في شعر مجهول، والغناء فيه جاركاه: [الكامل]
لما بدا مرخى الذوائب مسفرا ... عاينت فوق الغصن ليلا مقمرا
وجننت لما هز غصن قوامه ... سكر الدلال صبابة وتذكرا
لما دجت أصداغه وتضرمت ... وجناته لبس الجمال مشهرا
وكأنّ بحر الحسن لما ماج في ... خديه ألبس ساحليه العنبرا(10/547)
وله صوت في شعر الوأواء، والغناء فيه سيكاه: «1» [البسيط]
ما حكّم البين إلا جار محتكما ... ولا انتضى سيفه إلا أراق دما
الله يعلم أنّي يوم بينهم ... ندمت إذ لم أمت في إثرهم ندما
قد سرّني أنّهم قد سّرهم سقمي ... فازددت كيما يسرّوا بالضّنى سقما
ديارهم خبّرينا بالذي فعلوا ... فربّما جهل المشتاق ما علما «2»
147- ومنهم- السّهروردي شمس الدّين
كتب مثل ياقوت الدّر، وزاد عليه ففضل الرفيق الحرّ، وباهى الروض وقال بيدي ما بيدي ولا حى النرجس، وقال كيف تدرك الغاية وطرفك قد نعس، وسهر وردي وكيف يقاس بي وقد تطاولت ولم يبلغ الشجر أو يشبه بي عزيز غال، وإن قيل ياقوت، فهل هو إلا حجر وهبه، أجاد الخط أتى بأحسن مما أتيت، أو أنه سابق فهل خط معي إذ خط الرهان فأبيت، أو قيل إنه قد أجاد حتى من علم الطرب فيما ادعيت وسبق، وإن كنت أنت بعده قد طرف وما سعيت فهل شهد إلا بالخط الذي عليه [ص 348] أقصر، وإلى الخط ما طمح على أنه اقتصر، ولا ملأ إلا البصر، وحده بحسن خطه وقد ملأت السمع والبصر «3» ، مولده ببغداد في المحرم سنة أربع وخمسين وست مئة ببغداد، حفظ القرآن، وتفقه على مذهب الشافعي، وقرأ العربية ونظر في اللغة والمعقول، وحفظ المقامات الحريرية، وفاق الناس في الخط بعد ياقوت المستعصمي، وقيل: إنه كتب قلم النسخ أحسن من(10/548)
ياقوت، وكتب على الشيخ زكي الدين عبد الله، وفاق عليه في الكتابة.
قال العلامة تاج الدين بن البشاك: كنت أكتب على ياقوت وأجود قلم النسخ، فكان يغير عليّ ويوقفني على الأصول، وكنت أستزيده فيوقفني إلى أن بلغت طبقة لم يغير عليّ فيها شيئا، فاستزدته فلم يزدني، وألححت عليه فقال:
ما عليّ مزيد، أتظن أنك تبلغ طبقة شمس الدين السهروردي، فإن نسخه خير من نسخي، قال أبو الخير الذهلي: وأجمع الناس على أنه لم يدرك أحد غايته في كتابات المينا على الآجر وغيره، وكتاباته مشهورة بالروم والعراق وخراسان وفارس وغير ذلك من البلاد، وسمع الحديث على جماعة منهم: رشيد الدين أبو عبد الله المقري، وعماد الدين أبو البركات ابن الطبال، وأجاز له جماعة، وكان حسن الأخلاق كثير الحياء، شديد المقال، ذا مروءة وفتوة، وشرف نفسي وتواضع، كثير البشاشة ظريفا لطيفا، معمور الأوقات بالاشتغال والأشغال، صاحب رأى وحزم وعزم وتؤدة وفصاحة، وبلغ في الموسيقا، وعلمه بالغاية القصوى، واعترف الفضلاء بإحرازه فيه قصب السبق، أخذ علمه وعمله عن صفي الدين عبد المؤمن، وأجمع الناس على أنه لم يأت بعده مثله، ومنه استفاد المينا وبرز عليه فيه، ووصلت تصانيفه في الموسيقى شرقا وغربا، وكتب بخطه ثمانية وسبعين مصحفا، منه خمس ربعات، كل ربعة وقر بعير، وكتب إحياء علوم الدين للغزالي، وكتاب المصابيح للبغوي ثلاث نسخ، وعوارف المعارف للجدابية ثلاث نسخ، ومشارق الأنوار للصنعاني ثلاث نسخ، وكتاب الشفاء لابن سينا في مجلد، والكتاب في نفسه في كثير من النسخ المتوسطة ستة عشر مجلدا [ص 349] والمقامات ثلاث نسخ، ومفصّل الزمخشري نسختين ونهج البلاغة أربع نسخ، وكتب من الأحاديث والأدعية والدواوين والدروج شيئا كثيرا، وكان حظيا عند السلطان، وكاتبه سلطان الهند واليمن غير مرة وجماعة(10/549)
من الكبراء على أن يمضي إليهم فلم يفعل، وكتب عليهم خلق كبير، منهم السلطان أبو سعيد، والسلطان أبابك، وسلطان السّلم «1» ، والوزير غياث الدين محمد بن الرشيد، ونظام الدين الطياري، وأولاد الأئمة والقضاة، والفضلاء والرؤساء والوزراء، وقصد من البلاد لأجل الخط والموسيقا: [الرمل]
قد قنعنا بخمول عن غنى ... وبعزّ اليأس عن ذلّ التّمنّي
فكريم القوم لا أسأله ... فلمإذا يعرض الباخل عنّي
وقوله: [السريع]
يا من بنور العلم ... «2» ... متعك الله بما خوّلك
ولا برحت الدهر في نعمة ... صافية المشرب والأمر لك
ما هينمت ريح الصبا سحرة ... وغنت الورق ودار الفلك
ومن شعره أيضا: [الوافر]
بدا نجم السعادة في الصعود ... وبشر بالميامن والسعود
وحقّق فيك آمال البرايا ... بما أولاك من كرم وجود
فلاح لنا الفلاح وحل فينا ... محل الروح من جسد العميد
وأبقيت النفوس بظل أمن ... يعم الخلق في مدن وبيد
بعدل شامل في كل أرض ... لسلطان الزمان أبو سعيد
ومن أصواته: [الكامل](10/550)
ذكر العذيب ومائلات قبابه ... وقف الفؤاد على أليم عذابه
ومهب أنفاس الصبا من جوه ... فيه شفاء الصب من أوجابه «1»
فدع النسيم يبث من أنبائه ... وعلى دموع العين رد جوابه
[ص 350]
ويشوقني أن المحب يسوقه ... لقيا القريب العهد من أحبابه
ويروى الشعر لابن قيس، ويروى لغيره، ومن أصواته [الوافر]
أعاتبه فيطرب من حياء ... وفي الخدين من خجل دليل
كأن الجلنار بوجنتيه ... وماء الياسمين به تجول
ويزعم أنني ما رمت هذا ... ويطرق ثم ينكر ما أقول
وكم لام العذول عليه جهلا ... وآخر ما جرى عشق العذول
والشعر مجهول، وله صوت في شعر ابن قرطابا: [الطويل]
لذي السالف المسكي والمقلة الكحلي ... رسيس هوى في الحب يبلى ولا يبلى
عزيز عرفت الدل من كلفي به ... وكم من عزيز في الهوى عرف الدلا
كثير التجني ليس لي عنه سلوة ... وأعجب شيء جائر الحكم لا يسلا «2»
ومعتدل كالغصن لا عدل عنده ... ولولا سقامي في الهوى عرف العدلا
فلا تعذلوني في هواه فإنني ... حلفت بذاك الوجه لا أقبل العذلا
دعوني وشكوى الحب بيني وبينه ... فما أعذب الشكوى إليه وما أحلا(10/551)
وكذلك له صوت صنعه في شعر الملك الأمجد صاحب بعلبك: [الطويل]
أحبة قلبي بعد ما بان أنسكم ... وبنتم عن الجرعاء كيف أكون
قضى الوجد لي أن لا أزال مسهدا ... إذا رقدت تحت الظلام عيون
أأحبابنا لي بالإياب مواعد ... فحتّام تلوى والعداة ديون
وحتام أشكو الهجر منكم شكاية ... تعلم صلد الصخر كيف يكون
وله شعر في صوت آخر وهو: [البسيط]
ما ضر أهل الحمى لو أنهم رجعوا ... بانوا فأقفر مصطاف ومرتبع
نأوا فبان على آثار بينهم ... عصر الشباب فمن أبكي ومن أدع
مناي إصلاح ما بيني وبينكم ... وكل شيء من الدنيا له تبع
أبعد ذاك التداني من دياركم ... أبيت والقلب عن لقياكم يزع
[ص 351]
وله صوت في شعر ابن الساعاتي: [الكامل]
هذا الذي قتل المحب ومادرى ... فحذار منه ولم يفد أن تحذرا
ما كنت أحسب قبل لؤلؤ ثغره ... أن الثمين يكون منه الأصغرا
قاسمته قسم الجفون فليته ... يوما يقاسم ناظري سنة الكرى
يهتز غصن نقا ويعقب زهره ... ويصول قسورة ويرنو جؤذرا «1»
غنى فناح الورق من حسد له ... وانقد قد الغصن حين تبخترا
في خدّه المبيض أسود عارض ... من خوف جمرته انثنى فتحيرا
وكان في آخر عمره يأنف من علم الموسيقا، ولم يكن في لحيته من البياض(10/552)
إلا شعرات يسيرة إلى أن مات، ولم يحصن «1» قط رحمه الله تعالى، وتوفي في آخر شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين وسبع مئة، وصلى عليه جماعة من الخلفاء، ودفن عند «2» جده، ولم يخلف بعده في سائر البلاد «3» بعده مثله في حسن الخط وعلم الموسيقا.
148- ومنهم- الشّمس الكرمي
محتسب صفد يحكى عنه العجب، ويحدّث بما يهز العذب، ويخبر بما لا هو في قوة العجم والعرب، وكان ابنه المعروف ببدر الدين محمد كاتبا من كتاب صفد في الجهات الديوانية، وربما كتب الدرج لبعض المشدين، وكان هذا الشمس ينادم الأمير علاي الدين أيدغدي الألذكزي النائب بها، وكان من كبار الأمراء الظاهرية القدماء، وحكى لي الشيخ الإمام أبو الصفاء الصفدي عن علاي الدين علي دوادار الألذكزي أنه كان يأخذ الدف بيده ويحلق به في الهواء ثم يتلقاه على خمس أنامل، وينقر بكل أنملة منها على نغم، وكان الألذكزي يقول له: إن نادمتني ليلتي كلها أعطيتك مئة درهم، وكان يكثر منادمته لذلك، وكان يلعب له بالجغانة «4» وكان الدوادار الجاكي ينقل عنه كثيرا من أصواته، ويلعب بالجغانة، وربما تخرّج عليه، لأنه كان كثير النقل عنه. قلت: وحدثني بأمر إلقائه الدف وتلقيه بأنامله ونقره بكل أنملة منها في نغم، القاضي أبو العباس أحمد بن قاضي نابلس: [ص 352] [السريع](10/553)
إلى متى أطلب منك الوصال ... مضى زماني وانقضى بالمطال
يا قلب لا تطمع في وصلهم ... تحصيل مالم يتحصل محال «1»
149- ومنهم- يحيى الغريب الواسطيّ المشيب
ابن زادة الديسني جمال الدين أبو سعيد المشرقي رجل من الأبناء حسن الأنباء أضرّ بسهم أصابه، وأطال بفقد عينيه مصابه، وأبوه كردي، وأمه من البيت المودودي مات أبوه بالالموت «2» ، وقد قدر له أن يحيى به ويموت، قال لي ابنه هذا أنه أجزم جزمة غيّرت عليه هولاكو، وكان هو الذي اصطنعه ويسر له من الأمل ممتنعه، فلما ارتكب عنق الجريمة ومنى نفسه العظيمة، أودعه المجلس وأقيم وودعه المجلس، ثم غامت له سماؤه، وغاضت في خلج السيوف دماؤه، ثم أمر به فصلب، وبما ملكت يداه فسلب، وأتبع حريمه وبنوه أشتاتا، وتعاصى عليه الزمان كما واتى. قال واشتراني الصاحب شرف الدين هارون بن الجويني، فصرت إليه وبصرت فتقربت إليه بما كان ينفق عليه، وكان ينفق عليه الغناء، ومجلسه مأهول برب كل فضيلة، وبكل من يأوي منه إلى فضيلة، وكان يغشاه من أهل الغناء الأوحدين كسبا، وزير البر واناه وعبد المؤمن فاخر الأرموي، والزين ابن الدهان الموصلي، وحسن النائي، وسعد الدين السليكو، والبدر الأربلي، وأبو بكر التوريزي، وكانوا كلهم أئمة في هذا الشأن، وكان الصاحب ابن الجويني رحب الندى كريما إليه، وبيته للطارق والمشاب «3» ، وكرمه ما بعده على الزمان غياب، وكان قد أخذ عن هؤلاء، وعرف جيد الغناء من رديئه بدليل وعن نظر «4» فاجتهدت في الطلب، واجتهدت نفسي حتى فقت في الطرب، ثم(10/554)
قدمت هذه البلاد، ووفدت على حضرة السلطان بمصر، واستخدمت على خبز في الخدمة، وفي جملة الخدام والقصاد بالخدمة، حتى أصبت في عيني في بعض الوقائع، فرتّب لي مرتّب أنا منه أقتات، وقنعت بعد الخبز [ص 353] بالفتات.
وأخبرني أن مولده ليلة الجمعة المسفرة عن الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة إحدى وستين وست مئة، وأنه صنف كتابا في هذا العلم سماه الكنز المطلوب في علم الدواير والضروب وأرانيه، وحدثني بكثير مما فيه.
قلت: وكان الأمير الكافل بنكر قد قربه واستخدمه ليعلم جواريه وكان يتردد إليه ويجتمع به، وكان قد قيل إنه هدى له انقطاع إلى ملوك ماردين ثم ملوك حماه، وله معهم أخبار لا حاجة إلى الإطالة فيها.
ومن أصواته هذه الأبيات الثلاثة، كل بيت منها في صوت: [الطويل]
أيا طفلة إحدى الكبائر عشقها ... ويا جنّة قد أوقفت في جهنّم
بحقّك ردّي الطّيف عنّي فإنه ... يقول بقتل المستهام المتيّم
ولا تودعي الأسرار عنّي فإنّما ... تصبّين ماء في إناء مثلّم
والغناء فيه في الأول في الزوالي «1» يهبط على النيروز، وفي الثاني في الزروكند، وفي الثالث في العراق، وفي هذا البيت وهو: [الطويل]
عسى من كسا جسمي السّقام يعود ... وينجز من بعد المطال وعود
والغناء فيه من أصبهان، وفي هذين البيتين: [الطويل]
يمينا لقد أسرفت يا بدر في الصّدّ ... على مغرم ما حال يوما عن العهد
وجاوزت حدّ الهجر والبعد والقلى ... فهل أمد للوصل يقضى من البعد(10/555)
والغناء فيه في الراست، وفي شعر الشمس الدهان: [الكامل]
فضح الغصون بقدره لما انثنى ... وسبا القلوب بلحظه لما رنا
وبدا وبدر التم في ظلماته ... بادي الجمال وكان منه أحسنا «1»
والغناء فيه في الراست، وفي هذين البيتين: [السريع]
أصل تلافيكم من تلافيكم ... يا حبذا إن كان يرضيكم
عذبتم قلبي وما خلته ... يشقى وقد أصبح يؤويكم
والغناء فيه في الدوكاه، وأحضر له من أماليه عدة أصوات [354] منها صوت: [الطويل]
وكنت إذا جئت الحمى متنكرا ... أزور به ليلى سعيت على خدي
قال: وتعلمته من ابن كسبا الأستاذ، من بحر الطويل، ضربه من الثقيل الخراساني، دائرته ثمانية عشر دورا، لكل دور (أحد عشر «13» دقة) ، وربع وثمن دقة، منها ثقال وخفاف، الخفاف ونغمه الراست، صوت من شعر أبي تمام: «2» [الطويل]
وأحسن من نور تفتّحه الصّبا ... بياض العطايا في سواد المطالب «3»
قال: وهذا قول صنعته أنا في الاثني عشر نغما، وستّ الأوزان وهو من بحر الطويل أيضا، ضربه من الثقيل الخراساني، دائرته اثنان وأربعون، كل دور (اثنا عشر دقة «14» ) ، صوت «4» : [الوافر](10/556)
فتى جبلت يداه على العطايا ... كما جبل اللّسان على الكلام «1»
قال: وهو قول صنعته أيضا في الاثني عشر بردا من غير أواز وهو من الوافر ودائرته ستة وثلاثون دورا، كل دور (اثنا عشر «13» دقة) ، وهو من الضرب الثقيل الخراساني، والشعر للتهامي. صوت: [الطويل]
فؤاد بنار الشّوق والوجد محرق ... وجفن بأمواج المدامع تغرق
وقال: وهذا القول استفدته من الأستاذ صفي الدين عبد المؤمن، عروضه في الطويل، وضربه من الثقيل الخراساني، دائرته أحد وعشرون دورا، كل دور إحدى عشرة دقة «2» وربع دقة، وثمن دقة.
صوت: [الكامل]
مرّ النّسيم على ربوع ديارهم ... فكأنّما كانوا على ميعاد
قال: وهذا قول صنفته أيضا في نغمة الراست، مظافر في أربع برداوات «3» أوازين، ومعنى كونه مظافرا أنه يظفر من الراست، وهو أول الأنغام إلى العشاق وهو آخرها، ثم يعود ويظفر من العشاق وهو آخرها إلى العراق، وهو ثانيها، ثم يظفر من العراق وهو الثاني إلى النوى، وهو الحادي عشر، ومن المعلوم أن بين الراست والعراق أوارهو النيروزي، وبين النوى والعشاق أواز [ص 355] هو الكواشت، دائرته أربع وعشرون دورا، كل دور إحدى عشرة دقة وربع وثمن(10/557)
بالشرح، وضربه الثقيل الخراساني، فليعلم.
صوت: [الطويل]
ولا توعدي الأسرار عيني وإنما «1» ... تصبّين ماء من إناء مثلّم
قال: هذا قول صنفته من نغمة العراق، عروضه من الطويل وضربه من خفيف الخراساني، دايرته ستة وثلاثون دورا، كل دور اثنا عشر. صوت: [الطويل]
رنا فانتضى من جفنه كلّ لهذم ... وماس فأزرى بالوشيج المقوّم
قال: هذا قول صنفته في برد الأصفهاني، وهو من الطويل، وضربه من الثقيل الخراساني، دائرته أربعة وعشرون دورا، كل دور (اثنا عشر «13» دقة) بالشرح.
صوت: [الكامل]
اليوم موعدكم فأين الموعد ... هيهات ليس لوعدكم غد
قال: وهذا قول افاد نيه صفي الدين عبد المؤمن، وهو من نغم الزيلفكند، وضربه من الثقيل الخرساني، دائرته اربعة وعشرون دورا، كل دور اثنا عشر «13» دقة بالشرح.
صوت: [المديد]
عبث الشّوق بالركائب والرّك ... ب فلم ندر أيّنا المسهام
قال: هذا قول أخذته من الأستاذ صفي الدين بن الباصوان النحوي، وهو من بحر المديد، وضربه خفيف المخمس، دائرته سبع وعشرون، كل دور (اثنا عشر «13» دقة) ، نغمته الزنكلا «2» . صوت: [الطويل](10/558)
تملّكتم قلبي فصار لحبّكم ... حمى فرعى الله الحمى ورعاكم
قال: [وهو] قول من بحر الطويل صنعته في نغم البزرك الكبير «1» ، وضربه مختلف، وهو من (أربع «13» ضروب) ، دائرته سبعة وعشرون دورا، كل دور اثنتا عشرة دقة «2» بالشرح.
صوت: [المنسرح]
تبلّ خدّيّ كلّما ابتسمت ... من مطر برقه ثناياها
[ص 356]
قال: وهذا قول عملته من نغم الرهاوي، يهبط فكند نيروز «3» وهو من بحر الوافر «4» ، وضربه الثقيل الخراساني، دائرته إحدى وعشرون كل دور اثنتا عشرة دقة بالشرح.
صوت: [الطويل]
يقول وقد قبّلته ورشفته ... أراك تحبّ الخمر والخمر في فمي
قال: وهو قول من بحر الطويل، صنعه في نغم الحسيني من ضرب الثقيل الخراساني، دائرته ثمانية عشر، كل دور اثنتا عشرة دقة بالشرح.(10/559)
صوت: [الطويل]
عليك اعتمادي في جميع أموري ... وأنت منى قلبي وأنت سروري
قال: [وهو] قول من بحر الطويل، صنعته في نغم الحسيني من ضرب الثقيل الخراساني، دائرته ثمانية عشر، كل دور اثنتا عشرة دقة بالشرح.
صوت: [الطويل]
عليك اعتمادي في جميع أموري ... وأنت منى قلبي وأنت سروري
قال: [هو] قول من بحر الطويل، صنعته في نغم الماء آه، وضربه الثقيل الخراساني، دائرته خمسة عشر دورا، كل دور اثنتا عشرة دقة، بالشرح.
صوت آخر: [الوافر]
لحاظك أيّها القمر ... لقلب الصّبّ قد أسروا «1»
وقدّك من معاطفه ... غصون البان تستتر
قال: وهذا جارخانا، من بحر الوافر، صنعته في ماءآه، محلض وضربه تركي رخم، دائرته تسعة أدوار، كل دور اثنتا عشرة دقة بالشرح.
صوت: [الطويل]
صحا كلّ سكران من العشق قلبه ... ومن هو سكران يحبّك لا يصحو
قال: وهذا قول استفدته من الأستاذ عجيب الزمان، وهو من بحر الطويل، ونغمه الأبوسليك، وضربه الثقيل الخراساني، دائرته اثنا عشر دورا، كل دور اثنتا عشرة دقة بالشرح.
صوت: [الطويل](10/560)
إذا ما اشتهى الخلخال أخبار قرطها ... فيا طيب ما تملي عليه الضفائر «1»
قال: وهذا قول من الطويل، صنعته في نغم النوى، وضربه الثقيل الخراساني، دائرته أربعة وعشرون دورا، كل دور اثنتا [ص 357] [عشرة] دقة بالشرح.
صوت: [الخفيف]
طاب ذلّي ولذّلي فيك عذلي ... وحلالي بسيف حبّك قتلي
وهذا قول أخذته من الأستاذ المعروف بالنقشواني، وهو من بحر الكامل «2» ، ونغمه في النيروز، وضربه الثقيل الخراساني، دائرته أحد عشر دورا، كل دور اثنتا عشرة دقة بالشرح.
صوت: [الوافر]
هل لك في إغاثة مستهام ... يقاد إلى الغرام بلا زمام
قال: وهذا القول من الكامل «3» ، ونغمه الشنهاز، وضربه التركي رخم، دائرته واحد وعشرون دورا، كل دور اثنتا عشرة دقة بالشرح.
صوت: [الطويل]
ترى تسمح الأيّام لي بلقاكم ... ويفرح قلبي بعد طول جفاكم
قال: هذا قول من الطويل، صنعته في نغم الزركشي، وضربه الثقيل الخراساني، دائرته ثمانية عشر دورا، كل دور اثنتا عشرة دقة، بالشرح.
صوت: [الطويل]
ولّما تلاقينا جرت من عيوننا ... عيونا كففناها بروس الأصابع(10/561)
قال: هذا القول من الطويل، أخذته من الأستاذ سراج الدين الخراساني، ونغمه حجاز، وضربه الثقيل الخراساني، دائرته ثمانية عشر دورا، كل دور اثنتا عشرة دقة بالشرح.
صوت: [المنسرح]
كلّ جريح ترجى سلامته ... إلا فؤادا دهته عيناها
وهذا القول من بحر الوافر «1» ، صنعته في نغم الكواشت، ويضرب [ص 358] في أربعة ضروب الأصول، دائرته أربع عشرة دائرة، وأدواره مختلفة بحسب الضروب المتقدمة.
صوت: [الطويل]
فؤاد بنار الشّوق والوجد محرق ... وجفن بأمواج المدامع مغرق
قال: وهذا قول أفادنيه أستاذ صفي الدين عبد المؤمن، وهو من بحر الطويل، ونغمه اليكاه، دائرته إحدى وعشرون دائرة، كل دور إحدى عشرة دقة وربع وثمن [دقة] بالشرح، وضربه الثقيل الخراساني.
صوت: [الكامل]
إنّ الملوك إذا حللن ببلدة ... كانوا كواكبها وأنت هلال
قال: وهذا القول أفادنيه الأستاذ ابن كسبا، وهو من بحر الرجز «2» ، ونغمه الدوكاه، ويخالط أنغاما كثيرة، وضربه الثقيل الخراساني، دائرته سبعة وعشرون دورا، كل دور اثنتا عشرة دقة، بالشرح.(10/562)
صوت: [الطويل]
تكلّفتم من بعدكم شوق واحد ... وحمّلتموني شوقكم كلّكم وحدي
وهذا القول صنعته في نغم السيكاه، وهو من بحر الطويل، وضربه الثقيل الخراساني، ودائرته خمسة عشر دورا، كل دور إحدى عشرة دقة وربع وثمن دقة بالشرح.
صوت: [الكامل]
ليس الودود فتى يودّك يومه ... حتّى إذا استغنى يملّك في غد
قال: وهذا قول أفادنيه عبد المؤمن صفي الدين، وهو من بحر الرجز «1» ، وضربه الثقيل الخراساني، دائرته خمسة عشر دورا، كل دور اثنتا عشرة [دقة] بالشرح.
صوت: [الخفيف]
كيف يخفي سرّ الهوى المستهام ... هي جروى وما الخيام خيام
ولئن كانت الخيام فما النّا ... س به الناس وما الغرام الغرام
هذا قول مسدود من نغمة النوى على حركات الغناء المعلى الموافق للشبابة [ص 359] المعروفة بالصبرغي، وهي معروفة عندهم، ضربه من الثقيل بالدقة المفردة، دائرته اثنا عشر دورا، كل دور ستة مفرد.
صوت: [الطويل]
تجلّى أمير الحسن والليل قد هدى ... فأيقنت أنّ الصّبح من وجهه بدا
ولاح محيّاه الكريم وقد دجا ... ضلالا فجار الرّكب واتّضح الهدى(10/563)
وهذا قول سرح الأرغل الذي يغني فيه الإفرنج وهو من نغم الماآه وأبو سليك، ضربه من الثقيل، دائرته أربع وعشرون مفردة، آخر أماليه، وقد روى عن جماعة.
150- ومنهم- حسن التاي
وروى عنه: [المتقارب]
إن استحسنت مقلتي غيركم ... أمرت السّهاد بتعذيبها
والغناء فيه من المحير، وفاخر به عبد المؤمن، فأخذه هارون بن الجويني وقيده وحبسه لكونه فخر عليه، فقال: ما أنا أضجر من حبسك، ولكن ابعث إلى عبد المؤمن لتحكمه، فحفظه خواجا زيتون، وركبه البريدي حتى أتى عبد المؤمن، فلما دخل عليه غناه، فسأله: لمن هو؟ فحكى له، فقطع على نفسه، وبعث له معه خلعة وبغلة، فقال: حسن ولدي وأنا علمته.
151- ومنهم- السّيلكو
وروي عنه: [البسيط]
جودوا عليّ بوصل منكم جودوا ... عدمت صبري وعندي الوجد موجود
والغناء فيه من العزال من الشواذ.
وروي عنه: [الكامل]
كم من دم يوم الفراق سفكتم ... لما حدت بكم الحداة وبنتم
والغناء فيه في الرهو.(10/564)
152- ومنهم- البدر الأربلي
سيد الجنكيين «1» ، وكان عند المظفر بماردين، وقتله مجير الدين بن ضبرت، أستاذ أرسلان الدوادار، ولم يكن مثله.
153- ومنهم- التّاج بن الكنديّ
وروي عنه: [مجزوء الكامل]
بالخيف مخطفة الحشا ... تهوى الغصون له القدودا «2»
أخذ الغزال نفارها ... وأعارها طرفا وجيدا
[ص 360] والغناء فيه من العشاق «3» .
154- ومنهم- خواجا أبو بكر النّوروزي
وروي عنه: [السريع]
يا ملك الأرض ووالي الزّمان ... اشرب كؤوسا غيّبت في الدّنان
والغناء فيه ضرب الفاختية في بوسليك.
155- ومنهم- علاء الدّين دهن الحصا
وأخوه الكمال يوسف، وكلاهما فريد ومصنف مجيد، كان يوسف أمير المطربين، وكان أخوه علّي نديم الحضرة، وكانا عند لؤلؤ صاحب الموصل إلى قوم آخرين، وهم تقي الدين بن بياع الدقيق، وكمال الدين بن الدويك، وخواجا صدر الدين الفتشواني.(10/565)
فلعلاء الدين: [الطويل]
أكتّم وجدي خيفة من عواذلي ... وأظهر للواشي النّموم بشاشتي
والغناء فيه في الجاركاه.
ولأخيه يوسف: [الكامل]
إن كنتم بصبابتي لا تعلموا ... الله يعلم ما بقلبي منكم «1»
والغناء فيه في الرهوي.
ولابن بياع الدقيق، وهو مصنف ضرب الفاخية: [الطويل]
صبا ما صبا حتّى علا الشّيب رأسه ... فلمّا علاه قال للباطل ابعد
والغناء فيه زرو كند.
ولا بن الدويك: [الطويل]
عليك اعتمادي في جميع أموري ... وأنت منى قلبي وأنت سروري
والغناء فيه للعراق
وللقشواني: [الطويل]
ظفرنا بكم والليل مقدار هجعة ... وغابوا كأنّا في المنام رأيناهم
[ص 361] والغناء فيه في الحجاز، وهو من المخرج له.(10/566)
156- ومنهم- نظام الدّين يحيى بن الحكيم
الجعفري الطيّاري البغدادي الدار، المقيم الآن بدمشق حيث تشوق ربوتها، وتسوق الصبابة إلى النفوس صبوتها، قد تم بمن وراءه إلى هذه البلاد آمنين، وقام مشكورا هذه السنين وعكف على الحديث النبوي يسمعه ويكتب أجزاءه وطباقه، ويجد إليه تبكره وسباقه، وله حديث لا يمل، وأنس على القلوب لا يذل، وفضل أصبح له خلفا، وكرم لو وصف به غيره لكان خرفا، وله مشاركة في الأدب، ومحاسنه تأتي منه بآيات لا يتقاصر بناؤها، وفقرات ظاهر غناؤها، فأما صناعة الغناء، فهو محرز قصباتها ومستمع مضروباتها، لو عرض الموصلي عليه أصواته لجودها، أو زلزل لثبت قدمه ووطدها، أو ابن جامع «1» لأقر له في المجامع، أو معبد لاعترف له بأنه المفرط وهو الجامع، وهو من صدور بغداد، وممن يدخل مع خلة أهلها في الأعداد، وله جملة محاسن تغني معرفتها عن التعداد، كان الحكيم نور الدين «2» من الحكماء الفضلاء، والأعيان المتميزين في صناعة الكحل، واتصل بالأردو وخدم البيت الهولاكي، والقان والخواتين والأمراء والخواجكية «3» ، واتصل بالوزراء واختلط في صحبتهم، وعدّ في جملتهم، وحصل الأمور الجمّة. والملك والعقار، واقتنى ببلاد بغداد والحلة»
من ذلك ما يتحصل منه الريع الكثير، والمبلغ الجزيل، واشتغل نظام الدين ولده، وكتب وتأدب وأخذ تعليم المنسوب والموسيقا عن السهروردي، وكتب خطا حسنا(10/567)
مليحا، وتفرد بعمل المشجّرات، حتى شجر في العلوم على اختلاف أنواعها، وأجاد في الموسيقا وبرز فيها، وسمعت من صناعته المطربة، ورأيت من تشجيره الفائق ملء العين والأذن، وسر البصر والسمع، ودنا من السلطان أبي سعيد بهادر قان رحمه الله دنوا زائدا، وكان ممن شملته لديه عناية الوزير ملك الوزراء محمد خواجا رشيد، وتقدم به، كان لا يزال يحضر مجلسه ويكون [ص 362] من المقربين إليه وأهل الحظوة لديه، واستكتبه عن القان أبو سعيد، وعنه [تصدر] الكتب العربية التي كانت تكتب إلى سلطاننا، وإلى السلطان محمد بن طغلقشاه بالهند، وكانت له جملة كبيرة على ذلك، مع ما له من المقدرات والأقدارات والرواتب، وكان لا يتلقى المراسم إلا عن الوزير، ولم يكن كاتبا مستقرا للإنشاء، إذ لا عادة للقوم بذلك، ولكنه كان في هذا المعنى، ولقد كانت تجيء بخطه الكتب المليحة البليغة بالخط المليح، والألفاظ الفصيحة السهلة التناول، القريبة المأخذ، على خاطري منها في كتاب كبير عن أبي سعيد إلى سلطاننا في معنى الحاج العراقي، وأنّ توجّهه من العراق إلى الحجاز، أقرب عليه من توجّهه على الشام إلى الحجاز.
قال فيه: «والقلوب بالإحسان تملك، وأقرب الطرق إلى الله أولى بأن تسلك» ، وهاتان كلمتان تقوم في المعنى المقصود مقام كتاب مطول، مع خفة موقعهما، وتمكينهما في موضعهما، ولقد كان يقع في كتبه في هذه النسبة كل حسن، وكان يجري على الطلق «1» ممتد الرسن، وقد جهز مرات أميرا على المركب العراقي، تارة مستقلا، وتارة شريكا، وكانت تجيء أخباره بتوجهه، ولما آل الملك إلى موسى قان الملك القائم من ولد بيدو، ضاعف علي باشا بن حنجل- القائم بدولته- إكرامه، ووفّر احترامه، وكان هو والأمير الوزير نجم الدين محمود(10/568)
بن شرويز «1» ، وقاضي القضاة حسام الدين الغوري من خاصة أهل الاصطفاء، فلما دارت على موسى قان وعلي باشا الدائرة، وطلّت دماؤهما في ثورة تلك الثائرة، تسحّب الوزير محمود، والقاضي الغوري، وابن الحكيم منهزمين إلى أبواب سلطاننا، فتلقاهم بنعمة، وتولاهم برحمة، ورتّب لابن الحكيم بدمشق راتب، وعينت له الربوة وأقام بها، واستطاب وطنها، وطلب الحديث واجتهد فيه، ودأب عليه وكتب الأجزاء والطباق والأثبات «2» بخطه، ثم سافر إلى العراق لاستغلال ملكه، فلم يحصل له، لاستيلاء الخراب والأيدي العادية عليه إلا ما قل، فعاد كالخائب، ثم توجه إلى مصر [ص 363] لحديث يستفيده ورزق يستزيده، وأقام بها مدة ثم عاد إلى العراق: [المتقارب]
ألا ليت شعري متى نلتقي ... ومن مدة الهجر كم قد بقي
لقد طال عهد النوى بيننا ... كأن التواصل لم يخلق
ومن شعره ومن أصواته: [الطويل]
لكم منّي الود الذي ليس يبرح ... ولي فيكم الشوق الشديد المبرح
وكم لي من كتب ورسل إليكم ... ولكنها عن لوعتي ليس تفصح
وفي القلب ما لا أستطيع أبثه ... ولست به للكتب والرسل أفصح
زعمتم بأني قد سلوت هواكم ... لقد كذب الواشي الذي يتنصح
157- ومنهم- كمال الدّين محمّد بن البرهان الصّوفي
موصلي الأصل، بغدادي الدار، من أهل الأقدار، ذكره النظام بالإعظام، وأشار إليه في علم الموسيقا وقال: إن له يدا طولى في معرفته، وأبلغ منه مبلغا(10/569)
يقصر عن وصفه، وذكر أنه يصحب أقضى القضاة ابن السباك، وله به اعتلاق أكيد، واعتلاء ما عليه لمثله مزيد.
158- ومنهم- حسين بن عليّ المطريّ العزاويّ
متقن لفضيلة، ومتيقن لخير فضيلة، ومجيد في صناعة يد وخاطر، وسرور سمع وناظر، قرأ كتب الحكمة ودرسها، وصور المشجرات بيده كأنه غرسها، وعرف من الموسيقا ما أخذه بدليل، واطّلع منه على علم جليل، وضرب بآلاته كلها لتكميل الأودات «1» ، لا للتكسب والمعيشة، وترجية زمان يؤمل أن يعيشه، وزيّن هذا كله بنزاهة نفس تعتاف حتى الجليل، ويعف حتى عن الخليل، إلى صفاء باطن ما تكدّر، وصدق وداد ما استحال مثل البكاء وتغير، صحبني بمصر وقدم على دمشق، وصوّر صور هذا الكتاب، وجاء فيه بعجائب التصور والاكتساب، وهو- أعانه الله- ممن قدّر عليه رزقه، إلا أن عفافه يقنعه، وحكمته عن المطالب تمنعه، ورياضته تشغله بحسن ما [ص 364] يقرره، وإحسان يده فيما يصنعه، وله أصوات جليلة، منها في قولي: [البسيط]
سعى بكأسيه كي أصلى بناريه ... بالخد والكأس يا سكري بخمريه
ظبي أغنّ أخذت المسك من فمه ... والعنبر الرطب من خطّي عذاريه
يا سيف مقلته الوسنى غررت بنا ... لما استبحت فؤادي في غراريه
لم يرض قلبي ولا عيني لمسكنه ... وا شوقتى منه لم يلمم بداريه
والغناء فيه زنكلا، ومنها قولي: [الخفيف]
حدثاني عن الهوى العذريّ ... واطنبا في عذاره العنبريّ
واستعيرا لمقلتيّ هجوعا ... واسألا للشجي صبر الخلي(10/570)
وهبا لي من السلو قليلا ... أو دعاني مع كل صب غوي
قد أخذتم صبري فهلا أخذتم ... لي فؤادي من طرفه البابلي
والغناء فيه عراق.
ومنها في قولي أيضا في عراق: [الرجز]
غن لها برامة ولعلع ... واذكر لها ما بالحمى والأجرع
وانزل بسكان الكثيب سحرة ... واقبس لهيب نارهم من أضلعي
واحمل إلى أهل الحمى تحية ... من عاشق في حبهم لا يدعي
ولا تسل سقيا الحمى صوب الحيا ... يكفيه ما أسقيته من أدمعي
ومنها في قول لي وهو في عراق أيضا: [مجزوء الوافر]
هواكم ماله سبب ... سوى قلبي كما طلبوا
ألا يا عاذلي فيهم ... دع العشاق ينتحبوا
أتعجب من ضنى جسدي ... وحالي كله عجب
وقالوا إنني مضنى ... وحق الله ما كذبوا
ومنها في قول أيضا [الطويل]
تجلت فلاح البدر تحت نقابها ... وما ست ففاح الطيب طيّ ثيابها
[ص 365]
قضيب وما غصن النقا مثل قدها ... ولا لينه في الروض مثل شبابها
طلا الظبي لا يشرق لحاظ عيونها ... كفى عينك الكحلاء صبغ خضابها
أأهلك فيها هكذا بصبابتي ... وأخشى أسود الغيل حول قبابها
نأيت إذا عن حب سمراء في الهوى ... إذا لم أخض بيض السيوف ببابها(10/571)
يلذّ إليّ القتل صبرا بأرضها ... إذا دفنوني بعد ذا في ترابها
والغناء فيه محير.
ومنها في قولي: [مجزوء الخفيف]
يا حبيبي وعيني ... خل هجري وبيني
أنت أوفى البرايا ... لا تماطل بديني
ما أتى منك عندي ... فوق رأسي وعيني
فاسقني خمر ريق ... من جنى الجنتين
ومنها في قولي: [مجزوء الخفيف]
في الحشا منك نار ... وأسى وادكار «1»
طار قلبي اشتياقا ... ما لقلبي قرار
أنت غصن رطيب ... أين منك الثمار
عيروني بحبي ... ليس في الحب عار
والغناء فيهما محير.
ومنها في قولي: [الكامل]
لاموا عليك وما قلوبهم معي ... كلا ولا عبراتهم في مدمعي
يا من تلفت كالغزال بلحظه ... حسبي التفاتك يا غزال ومطمعي «2»
هب أن شخصك لا يزال بناظري ... من ذا الذي أغرى بذكرك مسمعي «3»(10/572)
يا هاجري كن كيف شئت فإنّني ... وحياة عينك لست أملك أدمعي
والغناء فيه في الرمل
ومنها في قولي: ص 366] «1»
أحبابنا ما هكذا كنتم لنا ... ما بيننا لا تشمتوا حاسدا بنا
وما في وفاكم من ضنى أو ... حضوركم لقد لذّلي في حبّكم ملبس الفنا
وأنتم بقيتم لا عدمنا وصالكم ... أو فى البرّية على هجركم عندنا
وقلتم بأنّا في غنى عن وصالكم ... على كّل حال مالنا عنكم غنى
والغناء فيه سيكا.
ومنها في قولي: [الرجز]
متيم فيك على نار الجوى ... تشب نيران حشاه بالهوى
بالله خفف عنه بعض ما به ... لو أنه من جبل كان هوى
وخله إذا غوى في حاله ... فهل رأيت عاشقا وما غوى
إيه وردد طيب ذكراك له ... وغن للعشاق إلا في النوى
والغناء فيه عشاق «2» .
وحدثني ما معناه: أنّه كان قد صنع قانونا اقتناه، وكان ربما غنّى عليه وأخوه(10/573)
الأديب أبو علي حاضر يسمعه، ويجني له من عوده ثمر السرور أجمعه، ثم فقد أخوه ذلك القانون، وطوى منه طرب المسامع والعيون، فأفكر فيه أيّة ذهب، وما الذي اختطف أوقاته به وانتهب، ثم وقع على الخبر في ذهابه وفجيعة أترابه بإطرابه، فإذا كان قد رأى صبيا فتنه بحسنه، واستماله بميل غصنه، جعل ذلك القانون صداقه وخلا معه، وعقد عليه عناقه، وبات معه مستبدلا من نظر الخلوة بجهر الخلوة، فساء ذلك أخاه، وثوّره ونحاه، وقال ما أحوجك إلى بلد يصونك، وإخراج العزيز الغالي من مكنونك، وهبك رأيت ظبيا سانحا أعجزك، وأنت أنت عن صيده وقد سنح، وإمساكه وقد جنح، وهل خلقنا لغير هذا، أو عرفت سهامنا إلى غيره نفاذا، ونحن نصل من الصيد إلى ما لا يصل إليه الطير ولا النشاب، ولا غيرهما من مثل هذه الأسباب، ثم حصره في أرجائه، وقسره في هجائه، فقال: [الكامل]
لي في دمشق أخ قليل عقله ... لا بل سليب الذّهن كالمجنون
[ص 367]
أفعاله أبدا خراف كلّها ... لكن ينيك العلق بالقانون «1»
159- ومنهم- عزيز جارية الحكم بن هشام «2»(10/574)
جارية لو أماطت نقابها للبدر لتلثم، ولو عاطت رضا بها البريء لتأثم، لو ألمت بحبها عزة الميلاء لما مالت، أو دعت لبنى للبثّ ما قالت، أو أسفرت لابن الرقيات لما رابه من ليلى أذى، أو جليت على بقية العشاق لعذر جميل إذ قال:
(رمى الله في عيني بثينة بالقذى) «1» ، مع سرعة بوادرر، وطرف نوادر، وحسن غناء يجر الافئدة بأشطان «2» ، وينفذ إلى القلوب بسلطان، وينفث السحر، فلا غرو إذا قيل إن الغناء مزمار الشيطان.
ومن أصواتها: «3» [الطويل]
وإني لأستحيي القنوع ومذهبي ... فسيح وآبى الشح إلا على عرضي
وما كان مثلي يعتريك رجاؤه ... ولكن أساءت سيمة من فتى محض
وإني وأشواقي إليك بهمتي ... لكالمستقي من زبدة الماء بالمخض
والشعر لمسلم بن الوليد، والغناء فيه من أول الثقيل، وكذلك صوتها: «4» [الخفيف]
يا شبابي وأين مني شبابي ... آذنتني أيامه بانقضاب
ومعز عن الشباب مواس ... بمشيب اللدات والأصحاب
قلت لما انتحى يعد أساه ... من مصاب شبابه فمصاب
ليس تأسو كلوم غيري كلومي ... ما به ما به وما بي وما بي
والشعر لابن الرومي، والغناء فيه في الهزج.(10/575)
وكذلك صوتها: «1» [المجتث]
تأمل العيب عيب ... وليس في الحق ريب
فكل خير وشر ... دون العواقب غيب
وإنما كل شيء ... شبيبة ثم شيب
لا تحقرن سبيبا ... كم جر نفعا سبيب
والشعر لابن الرومي، والغناء فيه....
وحكي أن الحكم [ص 368] كان يهوى جارية من جواريه اسمها حين، فخرج مرة إلى الصحراء متنزها، والربيع قد وشى الجلابيب، ووشح مجر أذيال الكثيب، فنزل والأصل قد اعتلت كأنها تشكو فراق حبيب، والشمس قد جعلت نصب عينها المغيب، وكان قد خلف حينا «2» وراءه فبات لا تطعم النوم جفونه، ولا تلمس الرقاد عيونه، فاستدعى ملهياته ليشغلنه ليلته بطربهن، وكانت عزيز شاعرة مغنية لبيبة أديبة فطينة، كثيرة الرواية، ففطنت لحال مولاها وما وجده لفراق حنين، ووجهه من القلق لوشيك البين، فصنعت لحنا في شعر بعض الأزد، وهو أبو عدي عامر بن سعيد أحد بني النمر بن عثمان: «3» [الطويل]
ألا من لنفس [لا] تؤدى حقوقها ... إليها ولا ينفك غلا وثيقها
عصت كل ناه مرشد عن غواته ... فإن لها في الغي نحبا يسوقها
إذا استدبرت من غيها عطف الهوى ... عليها أمورا عصبة ما تطيقها
وقد دهديت بالحي دار مشتة ... وصرف النوى اشتاتها وصفوقها(10/576)
ألا طرقتنا أم سلم وأرقت ... فيا حبذا إلمامها وطروقها
فيا ليتني حمت لنفسي منيتي ... ولم تتعلقني لحين علوقها
وردّدته حتى أجادته، فلما استدعى الحكم جواريه، دخلت عزيز من باب المضرب وهي تغنّي هذا الصوت، فاهتز الحكم حتى خرج عن فرشه وقال: لله أنت يا عزيز، ما أبصرك بمواقع البلوى، وأعرفك بمواضع الشكوى، لمن الشعر؟
فقالت: إنه لرجل من بني النمر بن عثمان، فقال: والله أنت أحق منه، إذ أتيت به كأنه صيغ لما نحن فيه، ثم أمرها بإعادته، وبعث لوقته من أحضر حينا، وأقام في منتزهه أياما كأنما كانت أحلاما، وأمر لعزيز بعشرة آلاف، وأمرت لها حين بمثلها، ثم كانت تصفيها الودّ مدة حياة الحكم.
وحكي أنه استدعى بها في غرة يوم طلعت شمسا في صباحها وكأسا لا صطباحه، وكان [ص 369] الحكم لا ينال اللذات إلا سرا، ولا يلم بالشراب حتى يلقي عليها سترا، ولا يجالس إلا من داخل ستارة، ولا ينافس في القمر إلا من دائرة دائرة، خوفا من فضيحة الاشتهار، وفرارا من علن الإظهار، وظل يقترح يومه عليها وعلى سائر جواريه الأصوات، ويحث المدام بها في الخلوات، إلى أن صدع الليل زجاج النهار، وبان في جفن عين الشمس الانكسار، وشرعت تنكر الجواد، وتقبل شيعة الليل من الشرف بشعار السواد. قال الحكم: هل فيكن من ينظم في هذا الشعر؟ فبدرت عزيز فقالت: [الخفيف]
قد تقضي النهار إلا بقايا ... من شعاع مخلّف للأصيل «1»
وأتانا الظلام من جهة الشر ... ق فأهلا منه بخير نزيل(10/577)
دام هذا وذا بطول بقاء ال ... حكم السيد الفتى المأمول
فوقع شعرها منه موقع الاستحسان، ووصلها بما غمرها به من الإحسان، ثم أمرها فصاغت فيه لحنا، وغنت فيه ليلتها كلها وهو يوالي عليه الكؤوس ويحثها حتى أحرقت فحمة الليل جمرة الشموس، فلما أصبح يريد البكور إلى الرواق للجلوس على سريره ويكمله بتصريف الأوامر تمام شكوره، أمر لعزيز بعشرة آلاف درهم، وكارة «1» جليلة من القماش، وزاد في قدر جاريتها، ثم نقلها إلى خواص حظاياه وامهات اولاده، وبقيت على هذا حتى ماتت وهي ضجيعته وعلى وساده.
160- ومنهم- عزيز جارية الحكم بن هشام «2»
جارية تفتن البصر، وتعقل اللسان بالحصر، وتفوت رام رامه، وتتهم بشبهها خادر تهامة، وتصمي الأحشاء من حدقها بقسيّ ماله وتر «3» ، وتشب جمر القلوب من جفنها بما فتر، وتغني والحمام قد أخذت بأهزاجها، والبروق قد علنت بماء السحاب مزاجها، فتهز القدود أكثر من هز الأغصان، وتكلف اللّحز الشحيح بذل ما صان، ولهذا كان هواها حكما على الحكم، ومستنطقا لعبراته وقد أبكم، فكان لا يصبر على نأيها، ولا يصبر [ص 370] عن ماءتها، يظن أنفاسها أنفاسه التي هي مدد الحياة وسبب وجوده في الدنيا وبقياه، ولها صناعة في أصوات منها: «4» [المنسرح](10/578)
كان رحيلي من أرضكم عجبا ... وحادثا من حوادث الزّمن
من قبل أن أعرض الفراق على ... قلبي وأن أستعدّ للحزن
والشعر للعباس بن الأحنف، والغناء من الثقيل الأول.
وحكي أنّ الحكم كان يهوى جارية له لا يرى القمر إلا طالعا في لبتها «1» ولا الرأي إلا محبتها، ثم تنكر لها فتجنت عليه وتثنت، إلا أنها ما ألوت إليه، فعز لديه هجرانها، وأعرض عنها وفي أحشائه نيرانها، ثم لم يجد إلا أن أغلظ في عتباها، وظنه سببا لمتابها، فزادت عليه تأتيا كدّر عيشه ونكد عليه نكدا ضعضع جيشه، وكان لا يتسلى ولا يهنأ بعيش ولا يتملّى، ولم يجسر أحد على خطابه، وكف جامح عتابه، حتى أمر جواريه أن تغنيه، فغنين حتى فرغن وما أغنين، فلما انتهت النوبة إلى عزيز اندفعت تغني هذا: «2» [الطويل]
بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب ... وقل إن تملينا فما ملّك القلب
وقل إن أنل بالحب منها مودة ... فما فوق ما لا قيت من حبكم حب
وقل في تجنيها لك الذنب إنما ... عتابك أن عاتبت فيما له عتب
فمن شاء رام الهجر أو قال ظالما ... لذي وده ذنب وليس له ذنب
والشعر لنصيب، والغناء فيه ثاني الرمل، فقام لوقته وصالحها، ووهب عزيزا وأوصلها، وقال: هلا منكن واحدة فعلت فعلها، وهذا الصوت من قصيدة طايلة «3» وهي:
خليلي من كعب ألما هديتما ... بزينب لا يفقد كما أبدا كعب
ومل يوم زوراها فإن مطينا ... غداة غد عنها وعن أرضها نكب(10/579)
فقولا لها لم يبق حبا ولم يدم ... على الحال إلا أن يكون له عتب
[ص 371]
وقولا لها ما في البعاد لذي الهوى ... رواح وما فيها لصدع الهوى شعب
وقولا لها يا أم بكر أحلّة ... مساعفة في وصلنا أنت أم حرب
وقولا لها إن أجز بالنصب منكم ... سلاما ففيما قد كلفت بكم نصب
فقد كنت أعصي فيك أهل قرابتي ... وأشغب بالأقصى الذي قوله شغب
وأغضي كثيرا عن نواحي مقالة ... أمضّ لها جلدي كما يؤلم الضرب
وقد أنكرتني الأرض بعد اغتباطها ... بمعرفتي والأرض طيبة خصب
وقد قال ناس حسبه من طلابها ... فقلت كذبتم ليس لي دونها حسب
ومن قبل ما قالوا صبا فرددتهم ... بقولي ألم يلقوا امرأ فيكم يصبو
وعلقتها غرا حديثا ولم ترد ... شبابا على أيام كان له إتب «1»
إلى اليوم حتى عاد في رأسي الخلى ... سريعا وأقراني مفارقهم شهب «2»
161- ومنهم- بهجة جارية الحكم «3»
جارية تخجل الشمس فتتبرقع بالشفق، وتفضح النسيم فلا غرو بسعيه إذا خفق، كانت إذا اندفعت للغناء فتقت ما على المسامع من الغشاء، وطفقت تزيد حياء، جارية تنقص، وصفقت الجداول والأغصان ترقص، وانقطعت سلامة القس في ديرها، وقلّت فضل بالنسبة إليها فكيف حال غيرها، وكانت تذكر البقية المروانية سالف الأيام، وطائف خيال زمانهم، وفي طاعتهم الأنام فيذكر(10/580)
باقيهم أباه الأملاك، ويقول كما قال جده عبد الملك نحن كذلك، فسعى مدامعه البشام، وأسف لطيب أيام، لو تكون له بالشام وهي الأيام لا تذر، ولا تصفح عمن أضر واعتذر، سلبتهم جلباب ذاك الأوان، وفعلت بهم فعلها بصاحب الإيوان، إلا أنهم عمرو الأندلس بالملاذ، وغنوا بها عن دمشق وبغداد، وداموا بها، إلا أن كل نعيم إلى نفاد.
ولها أصوات فمن مشهورها قولها: «1» [مجزوء الرمل]
يا شبية البدر في الحس ... ن وفي بعد المنال
[ص 372]
جد فقد تنفجر الصّخ ... رة بالماء الزّلال
والشعر لابن الرومي، والغناء فيه في الهزج.
وحكي أن الحكم جلس في مجلس له يمتد فيه طلق النظر في فسيح الفضاء، وقد خلا بلذاته، وأقبل على أنسه، وجمع جواريه واقترح عليهن الأصوات، وجعل بينهن الخيار، فلم تبق واحدة منهن حتى بلغت جهدها فيما أتت به، فلما تصرم المجلس أو كاد، وبرز جنح العصر في مجسد من جساد ورق ليصدع زجاجته، وبرق نهر النهار لأنفته من محاجّته، أقبل عليهن وقال لهن: أيّتكنّ تضع لحنا في شعر من أشعار عشاق العرب يحسن لديّ موقعه، ويزلف له في قلبي موضعه، حكمت لها على صاحباتها، وأجبتها إلى ما تمنّت، فلم يبق منهنّ إلا من صنع لحنا، وأبدع فيه حسنا، وهو لا يقبل عليه ولا يلتفت إليه، حتى اندفعت بهجة تغني هذا: «2» [الطويل](10/581)
وإني لتعروني لذكراك هزة ... لها بين جلدي والعظام دبيب
وما هو إلا أن أراها فجاءة ... فأبهت حتى ما أكاد أجيب
وأصرف عن رأي الذي كنت أرتئي ... وأنسى الذي أعددت حين يغيب
ويظهر قلبي عذرها ويعينها ... علي فما لي في الفؤاد نصيب
وقد عدمت نفسي مكان شفائها ... قريبا وهل ما لا ينال قريب
لئن كان برد الماء أبيض صافيا ... إلي حبيبا إنها لحبيب
والشعر لعروة بن حزام العذري، والغناء فيه ثاني الرمل، فطرب الحكم ومال وقال: والله كأني لهذا كنت أحاول، وله أتطلب، ثم حكم لها على كل من تغنت، وأنجز لها ما تمنت.
من أصواتها هذا: «1» [الطويل]
وإني لمحزون عشية جئتها ... وكنت إذا ما جئتها لا أعرّج
فلما التقينا لجلجت في حديثها ... ومن آية الهجر الحديث الملجلج
[ص 373] والشعر لأبي دهبل الجمجي، والغناء فيه في ثاني الرمل مزموم.
وحكي أن الحكم جلس في مجلس، وحكي أنها حضرت يوما لديه
وكان قد وجد لفراق جارية له كانت استأذنته في الخروج للتنزه في بعض القصور، وشعرت لما في نفسه، فغنت: «2» [الطويل]
أحبابنا قد أنجز البين وعده ... وشيكا ولم ينجز لنا منكم وعد(10/582)
أأطلال دار العامرية باللوى ... - سقت ربعك الأنواء- ما فعلت هند
بنفسي من عذبت نفسي محبة ... وإن لم يكن [منه] وصال ولا ودّ
حبيب من الأحباب شطت به النوى ... وأي حبيب ما أتى دونه البعد
والشعر للبحتري، والغناء فيه في الثقيل الأول، فقال لها: لكأنك كنت في صدري، ثم أمر لها بمائتي دينار وقطعا من الجوهر.
وكذلك من أصواتها: «1» [البسيط]
بانوا فكانت حياتي في اجتماعهم ... وفي تفرّقهم قلبي وإقصادي
وفي الخدور غمامات برزن لنا ... حتى تصيّد منا كل مصطاد
وهن ينبذن من قول يصبن به ... مواقع الماء من ذي الغلة الصادي
يقتلننا بحديث ليس يعلمه ... من يتقين ولا مكنونه باد
والشعر للقطامي، والغناء فيه مزموم «2» .
ومن محاسن القصيد التي منها هذا الصوت: «3» [البسيط]
حلّوا بأخضر قد مالت شرارته ... من ذي غناء على الأعراض أنضاد
مالي أرى الناس مزورا فحولهم ... غنى إذا سمعوا صوتي وإنشادي
فطالما ذب عني سيّر جرد ... يصبحن فوق لسان الرائح الغادي(10/583)
فلا يطيقون حملي إن هجوتهم ... وإن مدحتهم لم يبلغوا آدي «1»
من مبلغ زفر القيسي مدحته ... من القطامي قولا غير أفنادي
إني وإن كان قومي ليس بينهم ... وبين قومك إلا ضربة الهادي «2»
[ص 374]
مثن عليك بما استبقيت معرفتي ... وقد تعرض مني مثقل بادي
فلن أثيبك بالنعماء مشتمة ... ولن أبدل إحسانا بإفساد
وما نسيت مقام الورد تحبسه ... بيني وبين خفيف الغابة الغادي
لولا كتائب من عمرو تصول بها ... أرديت يا خير من يندو له النادي «3»
إذا الفوارس من قيس [بشكّتهم] ... حولي شهود وما قومي بشهاد
إذ يعتريك رجال يسألون دمي ... ولو أطعتهم أبكيت عوادي
والصيد آل نفيل خير قومهم ... عند الشتاء إذا ماضن بالزاد
يا قوم قومي مكاني منصب لهم ... ولا يظنون إلا أنني راد «4»
ولا كردك مالي بعد ما كربت ... تبدي الشناءة أعدائي وحسادي
لا يبعد الله قوما من عشيرتنا ... لم يخذلونا على الجلى ولا العادي «5»
محمية وحفاظا إنهم شيم ... كانت لقومي عادات من العاد
لم تر قوما هم شر لإخوتهم ... منا عشية يجري بالدم الوادي(10/584)
مستلبثين وما كانت أناتهم ... إلا كما لبث الضاحي عن الغادي
حتى إذا ذكت النيران بينهم ... للحرب يوقدن لا يوقدن للزاد
نقريهم لهذميات يقدّ بها ... ما كان خاط عليهم كلّ زراد «1»
أبلغ ربيعة أعلاها وأسفلها ... إنا وقيسا تواعدنا لميعاد
فكان قومي ولم تغدر لهم ذمم ... كصاحب الدين مستوف ومزداد
162- ومنهم- مهجة جارية الحكم
جارية تجلو القمر إذا غاب، ويحل ظبيها الكانس في غاب، تدني الرغاب، وتلهي بأشجان طربها السّغاب «2» ، هوى المتمني ورضى المختلي، لا يعدوها الاقتراح، ولا يعد لها حبيب وقت راح، إلى ذكاء وفطنة لا تقتدحها خواطر النساء، ولا يقترحها الفحول على الخنساء، لو مرّ بها ذو الرمّة لما كان سواها عليه ينفق، ولا وصف غيرها هانئ ينفق.
ولها أصوات منقولة مشهورة: «3» [ص 375] [الطويل]
سأعرض عما أعرض الدهر دونه ... وأشربها صرفا وإن لام لوّم
فإني رأيت الكأس يا سلم خلة ... وفت لي ورأسي بالمشيب معمم
وصلت فلم تبخل علي بوصلها ... وقد بخلت بالوصل تكنى وتكتم
ومن صارم اللذات إن خان بعضها ... ليرغم دهرا ساءه فهو أرغم
والشعر لابن الرومي، والغناء فيه.
وكذلك صوتها وهو مما اقترح الحكم أن تغني فيه: «4» [الوافر](10/585)
ألا زارت وأهل منى هجود ... وليت خيالها بمنى يعود
حصان لا المريب لها خدين ... ولا تفشي الحديث ولا ترود
ونحسد أن نزوركم ونرضى ... بدون البذل لو رضي الحسود
فلا بخل فيوئس منك بخل ... ولا جود فينفع منك جود
شكونا ما علمت فما أويتم ... وبا عدنا فما نفع الصدود
هوى بتهامة وهوى بنجد ... فلبّتني التهائم والنجود
والشعر لجرير، والغناء فيه.
وحكي أن بعض جواريه سألته في الخروج إلى بعض متنزهات قرطبة «1» النائية، فأذن لها على كره منه لفراقها، ثم قال: والله لا تذهبين حتى أراك عندي الليلة كلها، ثم أحضر جواريه الغناء، وقضى معها ليلة متلألئة السناء، فلما صدح الصباح وفتح النهار بابا كان في الليل مرتجا، أزمعت الجارية على الخروج، وقد قدمت المراكيب، وجاء الصبح بموعده القريب، أخذ الحكم كالأفكل «2» وعلاه النحيب، ثم أنشد متمثلا، قول ذي الرمة:
أفي الدّار تبكي أن تحمّل أهلها ... وأنت امرؤ قد حكّمتك العشائر
وجعل يردد هذا البيت، وقال لجواريه: أيّتكنّ سبقت إلى عمل لحن في هذا البيت وما يضمّ إليه، فلها حكمها، فابتدرت مهجة وغنّت، ثم سوّغها الحكم ما تمنّت، والصوت: «3» [الطويل](10/586)
أفي الدار تبكي أن تحمل أهلها ... وأنت امرؤ قد حكمتك العشائر
فلا ضير أن تستعبر العين إنني ... على ذاك إلا جولة الدمع صابر
وإن لامني ياميّ من دون صحبتي ... لك الدهر من أحدوثة النفس ذاكر
وأن لا ينال الركب تهويم وقعة ... من الليل إلا اعتادني منك زائر
والصوت من قصيدة من غرر ذي الرّمة. ومنها:
لقد نام عن ليلي لقيط وشاقني ... من البرق علوي السناء مياسر
أرقت له والثلج بيني وبينه ... وحومان حزوى فالحمول البواكر «1»
أجدّت بأغباش فأضحت كأنها ... مواقر نخل أو طلوح نواضر «2»
وتحت العوالي والقنا مستظلة ... ظباء أعارتها العيون الجآذر «3»
هي الأدم حاشا كل قرن ومعصم ... وساق وما ليثت عليه المآزر
وغبراء يحمي دونها ما وراءها ... ولا يختطيها الدهر إلا مخاطر
قطعت بخلقاء الدفوف كأنها ... من الحقب ملساء العجيزة ضامر «4»
إذا القوم راحوا راح فيها تقاذف ... إذا شربت ماء المطي الهواجر
وماء تجافى الغيث عنه فما به ... سواء الحمام الحضّن الخضر حاضر
وردت وأرداف النجوم كأنها ... وراء السماكين المها واليعافر «5»
على نضوة تهدي بركب تطوّحوا ... على قلص أبصارهن غوائر
وحكي أن الحكم اقترح عليها أن تصنع صوتا في شعر أبي تمام.(10/587)
وهذا هو: «1» [الطويل]
أنا ابن الذين استرضع المجد فيهم ... وسمي فيهم وهو كهل ويافع
مضوا وكأن المكرمات لديهم ... لكثرة ما وصّوا بهن شرائع
فأي يد في المجد مدت فلم تكن ... لها راحة في مجدهم وأصابع
هم استودعوا المعروف محفوظ مالنا ... فضاع وما ضاعت لدينا الصنائع
[ص 377] فصنعت في ثقيل الرمل فلم تقع في نفسه بموقع فقالت:
سأصوغ له لحنا غير هذا، فقال: هيهات قد تكدّر عليّ صفوه، ولكن انظري شيئا تصنعين فيه سواه، فصنعت في قول أبي تمام: «2» [الطويل]
جرى حاتم في حلبة منه لو جرى ... بها القطر قال الناس أيهما القطر
فتى ذخر الدنيا أناس ولم يزل ... لها باذلا فانظر لمن بقي الذخر
فمن شاء فليفخر بما كان من ندى ... فليس لحي غيرنا ذلك الفخر
جمعنا العلى بالجود بعد افتراقها ... إلينا كما الأيام يجمعها الشهر
فلما تغنّت به اهتز الحكم حتى كاد يخرج عن السرير، وقال لها: أحسنت والله وأجملت وزدت على ما في أمنية نفسي، وأمر لها بمائة دينار لكل بيت، فقامت بأربع مئة دينار.
وجمع الحكم يوما جواريه وأمرهن أن يغنين في شعر الفرزدق: «3» [الوافر]
وقالوا إن عرضت فأغن عنا ... دموعا غير راقية السجام «4»
وكيف إذا رأيت ديار قوم ... وجيران لنا كانوا كرام(10/588)
أكفكف عبرة العينين مني ... وما بعد المدامع من لمام
فعملن فيه أصواتا أخذن ألحانها، وأقمن أوزانها، وكانت مهجة أوقعهن على ما في نفسه، فقال لها: اقترحي حكمك، فقالت: أن لا يغنين إلا من أصواتي، فأمرهن بذلك، وأمرها بأن تلقي عليهن حتى حفظن ذلك عنها ثم غنينه ذلك اليوم بأصواتها، فأجزل صلتها ووصل سائرهن.
وهذا الصوت من قصيدة هجا الفرزدق فيها جريرا، ومدح هشام بن عبد الملك، فمنها في هجاء جرير: «1» [الوافر]
وبيض كالدمى قد بت أسري ... بهن إلى الخلاء عن النيام
مشين إلي لم يطمثن قبلي ... وهن أصح من بيض النعام
وبتن لدي فيه مصرعات ... وبت أفض أغلاق الختام
[ص 378]
كأن مغالق الرّمان فيه ... وجمر غضى قعدن عليه حام
ومنها في مدح هشام: «2»
يقول بنيّ هل لك من رحيل ... لقوم منك غير ذوي سوام «3»
فينهض نهضة لبنيك فيها ... غنى لهم من الملك الشآمي
أقول لناقتي لما ترامت ... بنا بيد مسربلة القتام
أغيثي من وراءك من ربيع ... أمامك مرسل بيدي هشام(10/589)
يدي خير الذين بقوا وماتوا ... إمام وابن أملاك عظام
إلام تلفّتين وأنت تحتي ... وخير الناس كلهم أمامي
متى تردي الرصافة تستريحي ... من التهجير والدبر الدوامي
ويلقى الرحل عنك وتستغيثي ... بغيث الله والملك الهمام
وحبل الله حبلك من يذله ... فما لعرى يديه من انفصام
يداك يد ربيع الناس فيها ... وفي الأخرى الشهور من الحرام
وإن الناس لولا أنت كانوا ... حصى خرز تبدّد من نظام
وليس الناس مجتمعين إلا ... لخندف في المشورة والخصام
وبشرت السماء الأرض لما ... تحدثتا بإقبال الإمام
إلى أهل العراق وإنما هم ... بقايا مثل أشلاء الرمام
أتانا زائرا كانت علينا ... زيارته من النعم الجسام
فجاء بسنّة العمرين فيها ... شفاء للصدور من السقام
رآك الله أولى الناس طرا ... بأعواد الخلافة والسلام
رأيت الظلم لما قام جذت ... عراه بشفرتي ذكر حسام
إذا ما سار في أرض تراها ... مظللة عليه من الغمام
وفي هذه القصيدة أبيات طائلة «1» في وصف الناقة والسير، وهي: «2»
تزف إذا العرى قلقت عليها ... زفيف الهادجات من النعام «3»
[ص 379]
كأن أراقما علقت يداها ... معلقة إلى عمد الرخام(10/590)
كأن العنكبوت تبيت تبني ... على الأشداق من زبد اللغام
رجوف الليل قد بقيت وكلت ... من الآداب فائرة النعام
فما بلغت بنا إلا جريضا ... بنقي في العظام وفي السنام
كأن النجم والجوزاء يسري ... على آثار صادية أوام
كأن العيس حين أنخن هجرا ... مفقأة نواظرها سوامي
ومن أصواتها في شعر ابن الدمنية هذا: «1» [الطويل]
لقد كان في الهجران لي أجر لقد ... مضى الأجر لي في الهجران منذ زمان «2»
فو الله لا أدري أكل ذوي الهوى ... على ما بنا أم نحن مبتليان
163- ومنهم- فاتن جارية الحكم «2»
جارية قرطبة بمحاسنها قرطبة «3» ، وأفرطت في التمايل بأصواتها المطربة، لو أسفرت لا تهمت في طلاها كل أم خشف، ولو سقت المحرور بسوى رضابها لم يشف، حجبت بستور الخلائف الأموية حيث دالت دولتها، وعادت صولتها، وسلت من وراء البحر الأخضر سيوفها فراع بريقه في بغداد أهل السواد، وخاف(10/591)
كل راكب على عود رقاه الأعواد، وكانت تشف كما تشف الشمس وراء الغمام، وتبدو بدّو البدر التمام.
ومن أصواتها المشهورة: «1» [الطويل]
إذا حان منا بعد ميّ تعرض ... لنا حنّ قلب بالصبابة مولع
وما يرجع الدهر الزمان الذي مضى ... وما للفتى في دمنة الدار مجزع «2»
عشية مالي حيلة غير أنني ... بلقط الحصى والخط في الدار مولع
أخط وأمحو الخط ثم أعيده ... بكفي والغربان في الدار وقّع
والشعر لذي الرمة والغناء فيه [ص 380]
وخرق إذا الآل استحارت نهاؤه ... به لم يكد في جوزه السير ينجع «3»
قطعت ورقراق السراب كأنه ... منابت في أرجائه تتربع
وقد ألبس الآل الأياديم وارتقى ... على كل نشز من حوافيه مقنع «4»
بمخطفة الأحشاء أزرى بنيّها ... جذاب السرى بالقوم والطير هجع «5»
إذا انجابت الظلماء أضحت رؤوسهم ... عليهن من طول الكرى وهي ظلع «6»
يقيمونها بالجهد حالا وتنتحي ... بها نشوة الإدلاج حينا فتركع
ترى كل مغلوب يمد كأنه ... بحبلين من مشطونة يتنوع «7»(10/592)
على مسلهمّات بجانب سبقها ... غرائب حاجات ويهماء بلقع «1»
بدأنا بها من أهلها وهي بدّن ... فقد جعلت في آخر الليل تضرع «2»
وما قلن إلا ساعة في مغوّر ... وما بتن إلا تلك والصبح أدرع «3»
إذا أبطأت أيدي امرئ القيس بالقرى ... عن الركب جاءت حاسرا لا تقنّع «4»
كأن مناخ الراكب المبتغي القرى ... إذا لم يجد إلا امرأ القيس بلقع
164- فاتك جارية الحكم بن هشام «5»
عقلية حجب، وعقيدة نجب، بيضاء حمراء، غراء قمراء، فاتر لفظها، فاتك لحاظها، اكتنفتها الستور الأموية، وكفتها أن يعدل معها أحد بالسوية، ورقت تلك السرور «6» ، وراقت لها نطف تلك الغدر، وكانت زهرة زهراتها، وثمرة سرّائها.
وحكي أنها بلغت من الأدب ما أنطق لسانها، وحقق إحسانها، وولعت بصناعة الغناء حتى كانت بأفق الأندلس بدل بدل، ونظير ما ضرب به مثل مثل، وأمل المقترح وزيادة على أمل، أكثر ماله للقدود من نوافح الصباء، وسوافح الأنواء.(10/593)
ومن أصواتها: «1» [الطويل]
أمن رسم كلد مربع ومصيف ... بعينيك من ماء الشؤون وكيف «2»
تذكرت فيها الحي حتى تبادرت ... دموعي وأصحابي علي وقوف
[ص 381]
يقولون هل يبكي من الشوق حازم ... وإن بان حبّ بالنوى وأليف
فلأيا أزاحت علتي ذات منسم ... نكيب لها إثر الفراق وجيف «3»
والشعر للحطيئة وفيه تحريف كلم، والغناء فيه من المزموم.
ومن تمام هذا الشعر:
إليك سعيد الخير جبت مهامها ... يقابلني آل بها وتنوف «4»
فلولا الذي العاصي أبوه لما ثوت ... بحوران مذعان العشي عصوف «5»
وذاك أصيل اللب غض شبابه ... كريم لأيام المنون عروف
إذا هم بالأعداء لم تثن همه ... حصان عليها لؤلؤ وشنوف «6»
حصان لها في البيت زي وبهجة ... ومشي كما تمشي القطاة قطوف «7»(10/594)
ولو شاء وارى الشمس من دون وجهه ... حجاب ومطوي السراة منيف «1»
ولكن إدلاجا بشهباء فخمة ... لها لقح في الأعجمين كشوف «2»
إذا قادها للموت يوما تتابعت ... ألوف على آثارهن ألوف
فصفوا وماذي الحديد عليهم ... وبيض كأولاد النعام كثيف «3»
خفيف المعى لا يملأ الهم صدره ... إذا سمته الزاد الخبيث عيوف «4»
وحكي أنّ الحكم دخل عليها وهي نائمة، وقد كحّلت أجفانها بسباتها، وصقل صفائح وجناتها، وقد وسّدها سكر الدلال اليمين والشمائل، وجلا منها اطّراح اللثام ما تحت الخمر والغلائل، وقد كلل الجبين لؤلؤ العرق، واجتمع الحسن فيها كما اتفق، فاختلس منها قبلة، أكل بها ما وجد من الحلاوة في صحن خدها، ثم ضمها إليه ضمة دخل بها بين ترائبها وعقدها، وهي لا تتيقظ، كأنها مخمورة، ولا تنفك من يده كأنها مأسورة، ثم لم يزل يقبلها في مضجعها ويقلّبها ولا يرثي لتفجّعها، حتى ذبل ورد مراشفها، وانتهب عناقيد سوالفها، فانتبهت كأنها ظبية مذعورة، وقامت تهتز مثل غصن بان ممطورة، ثم قالت: [ص 382] [الخفيف]
من أباح التّقبيل واللّثم خدّي ... فجنى ريقتي وذبّل وردي
ليت من جاء آخر الليل نحوي ... كان حبّي من أوّل الليل عندي
فقال الحكم: لله أنت إذ قمت ولله أنت إذ قلت، ثم أمرها فغنّت فيها، ولم تزل تردد الصوت ويستعيده ويستطيبه ويستجيده حتى كان ذلك لها يوما معدودا، وعيدا لا عيب فيه، إلا أنّا لم نره مشهودا.(10/595)
165- ومنهم- أفلح الرّباني
ممن قدم على الحكم، رجل لا يملّ منه سمير، ولا يحلّ مثله في ضمير، قدم على الملك الهمام، وتقدم الصفوف إلى الإمام، وسلطان الحكم يومئذ زاخر العباب، فاخر الجلباب، وطائره ميمون، وزائره ما عليه إن فاته المأمون، قد أزلفت له بقرطبة «1» الجنان، وزخرفت الأفنان، والحكم ينفض عن الحكم وسنه، ويسكت من الرق لسنه، وأياديه بيض، وعواديه تفيض، وأعاديه إذا ذكرت ذكره تحيض، فاشترى إليه ما لم يجده عنده ابن أبي سفيان، سائب خاثر «2» من الأيادي، ولا عند ابن يزيد عمر الوادي «3» .
ومن أصواته: «4» [الطويل]
دع القلب واستبق الحياء فإنما ... تباعد أو تدني الرباب المقادر «5»
أمت حبها واجعل رجاء وصالها ... وعشرتها كبعض من لا يعاشر
وهبها كشيء لم يكن أو كنازح ... به الدار أو من غيبته المقابر
فإن كنت علقت الرباب فلا تكن ... أحاديث من يبدو ومن هو حاضر «6»
والشعر لعمر بن أبي ربيعة.(10/596)
166- ومنهم- رغد جارية المغيرة بن الحكم «1»
جارية «2» لم تكن أيام وصلها هي العيش لما سميت رغدا، ولا جعلت لليوم غدا، متعت القلوب بصفاتها، وجمعت بين العيون وإغفائها (؟) ، ووصلت إلى البقية الأموية، وقد سلبوا رداء الخلافة، وقربوا من [ص 383] ردى الهلك، فأحيت الذماء، وأحرزت الدماء، فكانت تضيء في مجالس القوم إضاءة الشّمع المتقد، وتجلس من تعنت المنتقد، إلا أنها كانت حاكمة على المغيرة، لو كلفته بذل نفسه لما بخل، أو ألجأته إلى ما دخل فيه الوليد لدخل، حتى كادت تكون المبيرة، وتنهب غاراتها لبّ المغيرة، ويحكى عنها كمال أدب كانت أتقنته، وإتقان طرب حسنته، وتمام جمال أوتيت منه أوفر الحظوظ، وأوفى ما يرى من الحسن الملحوظ، وفضل أدوات وإجادة في شعر وأصوات.
شعرها الذي لحنته [الخفيف]
أين أيامنا بجلق أينا ... كان ذاك الزمان للدهر عينا
شتتونا وأسهروا كل عين ... لا تهنّا العادي ولا قر عينا
ومن أصواتها المشهورة «3» [الطويل]
إذا قمن أو حاولن مشيا تأطرا ... إلى حاجة مالت بهن الروادف
فلما هممنا بالتفرق أعجلت ... بقايا اللبانات الدموع الذوارف
فأتبعتهن الطرف متّبل «4» الهوى ... كأني يعانيني من الجن طائف
وكل الذي قد قلت يوم لقيتكم ... على حذر الأعداء للقلب شاعف(10/597)
والشعر لعمر بن أبي ربيعة، والغناء فيه في الثقيل الأول.
[ومن أصواتها] : «1» [الطويل]
لقد هاج هذا القلب عينا مريضة ... أجالت قذى ظلّت به العين تمرح «2»
صحا القلب عن سلمى وقد برحت به ... وما كان يلقى من تماضر أبرح
إذا سايرت أسماء قوما ظعائنا ... فأسماء من تلك الظعائن أملح
تقول سليمى ليس للبين راحة ... بلى إن بعض البين أشفى وأروح
والشعر لجرير، والغناء فيه في الرمل المزموم، وهذه قصيدة هي من قلائده أولها:
أجدّ رواح الحي أم لا تروّح ... نعم كل من يعنى بجمل مبرّح «3»
[ص 384]
إذا ابتسمت أبدت غروبا كأنها ... عوارض مزن تستهل وتلمح «4»
ومنها في وصف السير في وقت قيظ:
أعائفنا ماذا تعيف وقد مضت ... بوارح قدام المطي وسنّح «5»
نقيس بقيات النطاف على الحصى ... وهن على طي الحيازيم جنّح «6»(10/598)
ويوم من الجوزاء مستوقد الحصى ... تكاد صياصي العين منه تصيّح «1»
شديد اللظى حامي الوديقة ريحه ... أشد لظى من شمسه حين تصمح «2»
نصبت له وجهي وعنسا كأنها ... من الجهد والإسآد قرم ملوح «3»
ومن أصواتها: «4» [البسيط]
إنا محيّوك فاسلم أيها الطلل ... وإن بليت وإن طالت بك الطول
إني اهتديت لتسليم على دمن ... بالغمر غيّرهن الأعصر الأول «5»
فهن كالحلل الموشي ظاهرها ... او كالكتاب الذي قد مسه بلل
كانت منازل منا قد نحل بها ... حتى تغير دهر خائن خبل
أمست عليّة يرتاح الفؤاد لها ... وللرواسم فيها بيننا عمل «6»
والعيش لا عيش إلا ما تقر به ... عين ولا حال إلا سوف تنتقل
والشعر للقطامي عمرو بن شييم بن عمرو التغلبي، والغناء فيه، وهو هذه الأبيات من كلمة له طويلة طائلة «7» ، أغار مسلم بن الوليد على سرحها «8» ، وجهد نفسه حتى اطّلع على صرحها، ومنها:(10/599)
والناس من يلق خيرا [قائلون] له ... ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل «1»
قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
ومنها في وصف الأينق:
حتى ترى الحرة الوجناء لاغبة ... والأرحبي الذي في خطوه خبل «2»
خوصا تدير عيونا ماؤها سرب ... على الخدود إذا ما اغرورق المقل «3»
[ص 385]
يرمي الفجاج بها الركبان معترضا ... أعناق بزّلها مرخى لها الجدل «4»
لواغب الطرف مثقوبا جوانبها ... كأنها قلب عادية مكل «5»
يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلة ... ولا الصدور على الأعجاز تتكل «6»
يتبعن سامية العينين تحسبها ... مجنونة أم ترى مالا ترى الإبل
ومن أصواتها المشهورة: «7» [الطويل]
تغن بريّا يا بن سعد فإنما ... تلام على الصمت النساء الحرائر(10/600)
غناء يظل الجود منه كأنما ... على رأسها من سورة السمع طائر
والشعر للصمّة بن عبد الله القشيري، والغناء فيه: [المنسرح]
لا النوم أدري به ولا الأرق ... يدري بهذين من به رمق
إن دموعي من طول ما استبقت ... كلت فما تستطيع تستبق
ولي مليك لم تبد صورته ... مذ كان إلا صلّت له الحدق
نويت تقبيل وجنتيه وخف ... ت أدنو منهما فأحترق «1»
والشعر للصنوبري، «2» والغناء فيه ثاني الرمل.
167- ومنهم- سليم مولى المغيرة بن الحكم
رجل سعد بمواليه، وصعد حتى رأى النجم يليه، خلطوه بأنسابهم، وخلوه معدودا في أحسابهم، أخذ الطرب من رسل أتوه من قبل النصارى وأمر بتأخيرهم ووكل بهم إلى حين مسيرهم، وأتقن الفن وحقق الظن، ثم أتى إلى المغيرة بن الحكم بجارية عراقية، كانت قد أنتجت له من تلك الخادر، وأتت تقيم بحسنها عذر العاذر، وكانت تطارحه الغناء حتى برع وجمع الغناء العراقي مع ما جمع، وكانت تجري بينهما في مجلس المغيرة مؤاخذات أرق من نسمات الأسحار، وأعطر من نفحات الأشجار، آها عليها كيف لم تنقل وتحبس شواردها وتعقل.
ومن أصواته: «3» [ص 386] [البسيط]
أمن خليدة وهنا شبت النار ... ودونها من ظلام الليل أستار(10/601)
باتت تشب وبتنا الليل نرقبها ... تعنى قلوب بها مرضى وأبصار
فما أبالي إذا أمسيت جارتنا ... مقيمة ما أقام الناس أم ساروا «1»
يا أيها اللائمي فيها لأصرمها ... كثرت لو كان يغني عنك إكثار
فاقصد فلست مطاعا إن وشيت بها ... لا القلب سال ولا في حبها عار
والشعر للأحوص بن محمد الأنصاري، والغناء فيه ثاني الرمل، وهذه القطعة فيها أبيات مختارة، منها: «2»
جود مبتلة نضح العبير بها ... كأنها روضة ميثاء محبار
لو دب حولي ذر تحت مدرعها ... أضحى بها من دبيب الذر آثار
كأن خمر مدام طعم ريقتها ... مما ينير خلايا النحل مشتار «3»
ومنها في المديح: «4»
لولا يزيد وتأميلي خلافته ... لقلت ذا من زمان الناس إدبار
إني أرى زمنا للمرجفين به ... عزّ وفيه لأهل الدين إصرار
أغر لو قام في ظلماء داجية ... وهنا لحان لداجي الليل إسفار
إن ينسبوا فهو إن عدوا لأربعة ... خلائف كلهم للدين أنصار
وحضر مرة مجلس الحكم وقد قعد مقعد الخلافة، وقد أتي بكتب جاءت بها التجار من بلاد المشرق، وقد حملت رياضتها إلى نوئه المغدق، فرمى بطرفه ديوانا منه قد ضمّن شعر المقلين الثلاثة الذي فضّلوا في الجاهلية، ومنهم المسيب بن(10/602)
علس بن مالك خال الأعشى، فأخذه الحكم بيده، وفضّ مرتج أغلاقه، وتأمل ما فيه من نفائس أعلاقه، فرأى منها كلمته: «1» [الكامل]
[ص 387]
بان الخليط ورقّع الخرق ... يوم الفراق فرهنهم غلق «2»
قطعوا المزاهر واستتب بهم ... يوم الرحيل للعلع طرق
رجلا يتابع خلفها رجل ... نشط العقال قواه منطلق
للعبقرية فوقها صبح ... كدم الذبيح نجيعه دفق
وكأن ظعنهم مقفية ... نخل ابن يامن موقر سحق
وكأن ظعنهم غداة غدوا ... والآل تسترهم وتنخرق
جبار عيدان أمرّ له ... دون الفرات مزعزع تئق
علت العذوق على كوافرها ... متلفع بالليف منتطق
حمر الكبائس قد ينوق «3» بها ... وهو الخضاب كأنه علق
فأمره ان يغني فيها بقوله:
رميننا في كل مرتقب ... تحت الخدود وسيرهم نشق
غيد سوالفها وأوجهها ... بيض وفوق صدورها الحقق
تبلت فؤادك إذ عرضت لها ... حسن برأي العين ما تمق
بمهى يرف كأنه برد ... نزل السحابة ماؤه يدق(10/603)
والوجه دينار ومنسدل ... يغشى الضجيع لنشره عبق
بانت وصدع بالفؤاد لها ... صدع الزجاجة ليس يتفق
فصنع صوتا في مزموم الرمل، حرك به الحكم وسائر أهل المجلس، وامتدّ الرجاء والطمع بعد القنوط الموئس، وألقى إليه بمطرف خزّ بنفسجي كان عليه، مبطنا بالفنك، وأمر له بمائتي دينار، ومرّ يوم لم ير مثله.
168- ومنهم- وضيح بن عبد الأعلى
طلع به في ذلك الأفق كوكبة الغارب، ورجع سحابه الغارب، وبلغ أمره المؤيد هشاما، وما كانت فترت جمرته، ولا فنيت إمرته، فأمر باستدنائه، واستدعى به لأجل غنائه، فلما حضر مجلسه المهيب وأحس بيانه المتوقد اللهب، انقلب رجاؤها قنوطا، وانقطع مما كان به منوطا، إلى أن سكن إنباضه، وأزال [ص 388] بالبسطة انقباضه، فأظهر الصناعة التي كانت إليه معزوة، وولت الهموم التي أصبحت به معزوة، فأحيا من القلوب رميما، وطرح عن النفوس عظيما، ثم أخذ العود وضرب به ضربا كان شفاء للفهم السقيم، ودرياقا للقلب السليم، فتهلل وجه المؤيد حتى ظهر البشر على جبينه، وأمر له من الذهب بمثل يمينه.
ومن اصواته: «1» [الكامل]
لمن الديار كأنها لم تحلل ... بين الكناس وبين طلح الأعزل «2»(10/604)
ولقد أرى بك والجديد إلى بلى ... موت الهوى وشفاء عين المجتلي
ولقد أرى بك والمطي خواضع ... وكأنهن قطا فلاة مجفل
يا أم ناجية السلام عليكم ... قبل الرواح وقبل لوم العذل
لو كنت أعلم أن آخر عهدكم ... يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل
أو كنت أرهب وشك بين عاجل ... لقنعت أو لسألت ما لم يسأل
والشعر لجرير، والغناء فيه، وهذه من طنانات جرير، ومنها في هذا:
أعددت للشعراء سما ناقعا ... فسقيت آخر هم بكأس الأول
لما وضعت على الفرزدق ميسمي ... وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل
أخزى الذي سمك السماء مجاشعا ... وبنى بناءك بالحضيض الأسفل
فامدح سراة بني فقيم إنهم ... قتلوا أباك وثأرهم لم يقتل
ودع البراجم إن شربك فيهم ... مر عواقبه كطعم الحنظل
بات الفرزدق يستجير لنفسه ... وعجان جعثن كالطريق المعمل
أين الذين عددت أن لا يدركوا ... بمجر جعثن يا بن ذات الرّمل
أسلمت جعثن إذ تجر برجلها ... والمنقري يدوسها بالمنشل
تهوى استها وتقول يا لمجاشع ... ومشق نقبتها كعين الأقبل
لا تذكروا حلل الملوك وأنتم ... بعد الزبير كحائض لم تغسل
[ص 389]
ما كان ينكر في يدي مجاشع ... أكل الخزيز ولا ارتضاع الفيشل
حكي أنه ممن كان محمد بن عبد الرحمن خليفة الأندلس يلحقه برعايته، ويلحظه بعنايته، وكان قد سافر عنه مدة أطال شقّتها، وحمل وقر أعبائه شقتها، ثم آن له العود إلى ذلك النديّ، وقرب بحيث شم سوابق عرفه الندي، ولم تبق(10/605)
إلا مرحلة يقطعها وسوط مطية تمتد به أذرعها، فهاجه قرب الدار إليه شوقا، وطار به إليه سوقا، فصنع لحنا من شعر الحسين بن مطير: «1» [الطويل]
ولما تنكبنا الكثيب وأطلعت ... لنا السدة العلياء قلت لصاحبي
ألا فانشرح صدرا فلم تبق بيننا ... وبين المنى إلا كناخة راكب
ورفع ببيتيه عقيرته تغنى في النداء، وصاغه بين غناء الركبان والحداء، وسمعها في النفر من منه حفظها، وأداها كما منه تلفظها، فما أتى وضيح باب محمد بن عبد الرحمن إلا وقد سبق بها الخبر إليه، كأنما ألقتها الريح في أذنه، فحين دخل عليه، قال له: لينشرح صدرك، فلم يك قد كان بقي بينك وبين المنى إلا إناخة راكب، فهات الآن ما صنعت، فاندفع يغنّي فيه، ومحمد بن عبد الرحمن يميل حتى كاد يسقط عن السرير، ثم عجل له بتخت من القماش، وثلاث مئة من الدنانير.
169- ومنهم- ابن سعيد كامل
أثمرت بالسرور أنامله، وتم تمام البدر كامله، وشغل أوقاته بالطرب، فجاءت طيوره سانحة، وجادت له بالأيام مانحة، ولزم المؤيد هشاما، وقد وطئ البلاد بهيبته، وسر البلاد بأوبته، وكان في عنفوان ملكه كجده هشام بالشام، وقد بسط ظله على الأنام، وأجار بعدله من الأيام، وكان يحضر مجلسه الخاص حيث يكون رواق الليل سجافه، ورقيب السمع سميه، وبطون الجواري سريره، وكان منه بالايحاشى، ولا يجد منه إيحاشا، وكان يدخل على جواريه [ص 390](10/606)
الحجاب، ويعلمهن ما ظهر من الإعجاب، ويلقي عليهن غناء يطرب سامعه، وتكثر به نقوط كل حاضر تجري مدامعه، ومن أصواته المشهورة: «1» [الوافر]
تكلم أيها الطلل القديم ... عفت منه أجيرة والحريم
تأبد ما بدا للريح منه ... وآلاء بتيمن لا تريم
إذا ما قلت أقصر عن صباه ... فكان كحين يحتضر القسيم
تأوبه خيال من سليمى ... كما يعتاد ذا الدين الغريم
والشعر لسلمة بن الخرشب الأنماري، والغناء فيه خفيف الرمل، وكذلك صوته: «2» [الطويل]
سقى طلل الحي الذي أنتم به ... بشرقيّ سلع صيّف والربيع
مضى زمن والناس يستشفعون [بي] ... فهل لي إلى لبنى الغداة شفيع
فسوف أسلي النفس عنك كما سلا ... عن البلد النائي البعيد يروع
يقولون صبّ بالنساء مولّع ... وهل ذاك من فعل الرجال بديع
والشعر لقيس بن ذريح، والغناء فيه في الطريقة الرابعة من الهزج.
وكذلك صوته: «3» [الكامل]
ومتيم جرح الفراق فؤاده ... فالدمع في أجفانه يترقرق
هزته ساعة فرقة فكأنما ... في كل عضو منه قلب يخفق
والشعر لابن المعتز.(10/607)
170- ومنهم- حصن بن عبد بن زياد
أصله من برّ العدوة، ودخل الأندلس متمسكا بالعروة، وكان مطربا أورد الأنس الوافر، ورد السرور النافر، ورق به قلب الليل على أنه كافر، وشجع قوي القلب وكان أجبن من صافر، ولج بلاد النصارى وتوغل في ولوجها، وسكنها وسكن إلى علوجها، ثم عاد إلى حوز المسلمين، ورجع ما كسب إلا الغناء [ص 391] بعد طول سنين، فاتصل بالعالي واتصف باقتناء الغالي، فأعلى العالي كعبه، ولمّ شعبه، وكان لا يزال يحضره في خلوته، وتجنبه نزع هفواته.
ومن أصواته: «1» [الطويل]
دعتنا بكهف دون حنفاء دعوة ... على عجل دهماء والركب رائح «2»
إذا الناس قالوا كيف أنت وقد بدا ... ضمير الذي بي قلت للناس صالح
ليرضى صديق أو ليسخط كاشح ... وما كل من سلفته الود ناصح
وإني لتلحاني على أن أحبها ... رجال تعزيهم قلوب صحائح
والشعر لتميم بن أبي [بن] مقبل، والغناء فيه مزموم الرمل.
وكذلك صوته: «3» [الكامل]
نام الخلي وما أحس رقادي ... والهم محتضر لدي وسادي
من غير ما سقم ولكن شفني ... هم أراه قد أصاب فؤادي «4»
ومن الحوادث لا أبا لك أنّني ... ضربت علي الأرض بالأسداد(10/608)
لا أهتدي فيها لموضع تلعة ... بين العراق وبين أرض مراد
والشعر للأسود بن يعفر النهشلي، والغناء فيه ثاني الثقيل.
171- ومنهم- ساعدة بن بريم
مطرب تعلق بالسها، وعلق بالمسامع بما ألهى، وكان لنوافر القلوب مؤلفا، ولم يقدم وراءه مخلفا، حكي أنه كان من أبناء النصارى، طلع في سواد المسوح قمرا زاهرا، وسكن الديارات فأعاد ذواءها يانعا زاهرا، وخلافي جانب مكانه فحلّ عزائم البرهان، وشد زناره «1» على غصن بان، ففتن بحسنه القسوس، وجرى في حبه ما هوّن حرب البسوس، فترك النصرانية وأسلم إسلاما الله يعلم ما وراءه، وماذا صرف إليه فيه آراءه، ثم غوي الغناء وطلبه، وتتبعه ليجلبه، وركب فيه ثبج البحر وقد لانت عريكته، وألقيت أريكته، ثم بلغ من هيجه مبلغا أفضى فيه إلى التلف، وانتقم منه أضعاف ما سلف، إلا أنه سلم على لوح من ألواح [ص 392] المركب، وقد ظن أن روحه فيما ينكب، فخرج إلى مصر ثم أتى إلى الشام والعراق، وورد ما راق، ورد ما طلبته ما تضيق به الأوراق.
ومن مشاهير أصواته: «2» [الطويل]
إذا خطرت من ذكر بثنة خطرة ... عصتني شئون العين فانهل ماؤها «3»
فإن لم أزرها عادني الشوق والهوى ... وإن زرتها شف الفؤاد لقاؤها «4»
وإن قلت أسلوها تعرض طيفها ... وعاود قلبي من بثينة داؤها
وكيف بنفس أنت هيجت سقمها ... ويمنع منها يا بثين شفاؤها(10/609)
لقد كنت أرجو أن تجود بنائل ... فأخلف نفسي في الوعود رجاؤها
إذا قلت قد جادت لنا بنوالها ... أبت ثم قالت خطة لا أشاؤها!
والشعر لجميل والغناء فيه، وهذا الصوت من قصيدة من الغرّ منها هذا:
أعاذلتي فيها لك الويل فاقصري ... من اللوم عني اليوم أنت فداؤها
إذا قعدت في البيت يشرق بيتها ... وإن برزت يزداد حسنا فناؤها
قطوف ألوف للحجال يزينها ... مع الدل منها جسمها وحياؤها
فهذا ثنائي إن نأت وإذا دنت ... فكيف علينا ليت شعري ثناؤها
172- ومنهم- سعد المجدّع
مولى أم سليمان بن الحكم، ذكر غلب عليه التّخنيث، ورجل شارك النساء في التأنيث، وكان جدّ خبيث، ومجد سرى حثيث، إلا أنه لا يسري إلا إلى حان، ولا يسير إلا بحذاء ألحان، قبح عند الامتحان، ونقص عند الرجحان، وكان لا يرى إلا عقير عقار، أو عقيب خمار، أو في نادي نسوة، أو جاعلا نفسه لهن أسوة، يغلّ «1» بالخضاب يده، ويغلف بالسواد حاجبيه، ويلبس فاخر الثياب على خزى يحسده، ويقلب عنقه بالعقود، ليته بالسيوف قلده، وكان مع هذا الدّبر الذي فنيت فيه الزّبر، وقدّ به قميصه من دبر، زنّام زمر «2» [ص 393] وإمام غناء مشتبه الأمر، ومنبع طرب يسكر مثل ابنة الأعناب، ومنبت عيدان يا قبح ما تجني جناة الحسن من عنّاب.
ومن أصواته: «3» [الخفيف](10/610)
أقفرت بعد عبد شمس كداء ... فكديّ فالركن فالبطحاء «1»
فمنى فالجمار من عبد شمس ... مقفرات فبلدح فحراء «2»
قد أراهم وفي المواكب إذ يغ ... دون حلم ونائل وبهاء
وحسان مثل الدمى عبشميّا ... ت عليهن بهجة وحياء
حبذا أنت حين قومي جميع ... لم تفرق أمورها الأهواء
قبل أن تطمع القبائل في مل ... ك قريش ويشمت الأعداء.
والشعر لعبيد الله «3» بن قيس الرقيات، والغناء فيه من خفيف الرمل، وهذه الأبيات من قصيدة غراء منها:
أيها المشتهي فناء قريش ... بيد الله عمرها والفناء
إن تودع من البلاد قريش ... لا يكن بعدهم لحي بقاء
أو تقفى وتترك الناس صاروا ... غنم الذئب غاب عنها الرعاء
هل ترى من مخلد غير أن الله ... يبقى وتذهب الأشياء
يأمل الناس في غد رغب الده ... رألا في غد يكون القضاء
فرضينا فمت بدائك عنا ... لا تميتن غيرك الأدواء
لو بكت هذه السماء على حي ... ي كريم بكت علينا السماء
قلت: وفي هذه القصيدة ذكر حمزة وعليّ وجعفر والزبير وابن الزبير رضي الله عنهم، ومن العجب أن يغني شاعر بني أمية في شعر فيه ذكر هؤلاء، وإن لم يأت في الصوت.(10/611)
173- رداح جارية عبد الرّحمن [ص 394]
المستظهر «1» ، وكانت أي هيفاء رداح «2» ، وسمراء تنتضي من جفونها السود بيض الصفاح، ذات جمال يغير البدر إن سفرت، ودلال يغير الغصن إن خطرت، وغنج يعيد سحر بابل إن نظرت، هذا إلى نغم يعلّم الحمائم في الأراك، ويوقع العشاق في الأشراك، ويفعل فعل البابلي، ويغسل حتى قلب الخلي، ويغلّ النار في الجوانح، ويشعر طرفها الكاسر بأن الظباء تصيد الجوارح. قيل إنّه كان يقال إنها بدعة القيان، وإنها بهذا كانت تدعى، ويحكى عنها لطائف وظرائف، ولها شعر ليس بطائل، ولها أعمال صنيعة، وأصوات بديعة، فمنها هذا:»
[الطويل]
أتعرف رسما كاطراد المذهب ... لعمرة وحشا غير موقف راكب
ديار التي كادت ونحن على منى ... تحل بنا لولا نجاء الركائب
تبدت لنا كالشمس تحت غمامة ... بدا حاجب منها وضنت بحاجب
ولم أرها إلا ثلاثا على منى ... وعهدي بها عذراء ذات ذوائب
والشعر لقيس بن الخطيم، والغناء فيه، ومن هذه القصيدة:
فلما رأيت الحرب حربا تجددت ... لبست مع الحربين ثوب المحارب(10/612)
رجال متى يدعوا إلى الموت يرقلوا ... إليه كإرقال الجمال المصاعب
إذا فزعوا مدوا إلى الليل صارخا ... كموج الأتي المزبد المتراكب
صبحناهم الآطام حول مزاحم ... قوانس أولى بيضها كالكواكب
إذا ما فررنا كان أسوا فرارنا ... صدود الخدود وازورار المناكب
إذا قصرت أسيافنا كان وصلنا ... إلى نسب من جذع غسان ثاقب «1»
صبحناهم شهباء يبرق بيضها ... تبين خلاخيل النساء الهوارب
فأبنا إلى أبياتنا ونسائنا ... وما من تركنا في بعاث بآئب
وحكي أن عبد الرحمن [ص 395] عزم على التفسّح في بعض الظواهر مدة يقيم بها في مضارب نصبت له على نهر يروق انحداره، وربيع بقل في وجنة الروض عذاره وكان الشتاء قد كلح وساء به مزاج الزمان ثم صلح، فلما عزم على الخروج أتت جواريه لوداعه، ورداح بينهن قد اغرورقت مقلتاها بالمدامع، وقطعت لديها أعناق المطامع، فوقفت وقفة المتعني، ثم اندفعت في صوت صنعته تغني: «2» [البسيط]
شط المزار بحدوى وانتهى الأمل ... فلا خيال ولا عهد ولا طلل
إلا رجاء فما تدري أندركه ... أم يستمر فيأتي دونه الأجل
والشعر لعمرو بن أحمر الباهلي «3» ، والغناء فيه من الهزج، ثم اتبعته بصوت آخر صنعته: [الطويل]
إذا ما كتمنا الحب نمّت عيوننا ... علينا وأبدته العيون السواكب(10/613)
وإن نحن أخفينا ضمائر حبنا ... أشارت بتسليم علينا الحواجب
والشعر فيه مجهول، فبكى عبد الرحمن لبكائها، وطفق يضمها إليه، ثم أقبل على جواريه فقال: هلا كان فيكن واحدة فعلت مثل فعلها، ثم أمر بأن تخرج معه فأبت، فقالت: والله لا خرجت إلا أنا وصويحباتي، قال: فليخرجن، ثم خرجن معه، فلم يكن أحسن من ذلك المربع، ولا من أيام مضين فيه.
وحكي أن عبد الرحمن نظر إلى جارية عند بعض نساء الحرائر فأحبها، وفطنت الحرة لذلك، فحجبت الجارية عن نظره، وطالت مدة حجابها، وزيادة ما يجده من الجوى بها، ونمي الخبر في جواريه، واستفاض حال غرامه بها وعدم قراره لأجلها، فصنعت رداح صوتا وجودته ثم دخلت عليه وهي تغني به، والصوت: «1» [الطويل]
تمسك بحب الأخيلية واطرح ... عدا الناس فيها والوشاة الأدانيا
فإن يمنعوا ليلى وحسن حديثها ... فلم يمنعوا مني البكا والقوا فيا
يلومك فيها اللائمون فصاحة ... فليت الهوى باللائمين مكانيا
لو انّ الهوى في حب ليلى أطاعني ... أطعت ولكن الهوى قد عصانيا
[ص 396]
والشعر لتوبة بن الحميّر، والغناء فيه كان في مذهب شيخي، لم يتمالك معه عبد الرحمن أن فاضت عينه بالبكاء، وقال: ما الحيلة يا رداح؟ قالت: عزيمة مثلك، قال: هيهات أن تنفع العزيمة، ولكن قد يجيء في أحداث الدهر مالا يتوقعه المنتظر، فنقل المجلس إلى تلك الحرة، فقالت: هو ولي النعمة وأنا أمته(10/614)
والجارية أحداث الدهر، قالت: فأحمد الله يا أمير المؤمنين، فخرّ ساجدا ثم نهض حتى دخل على الحرة فشكر لها، ثم ضم الجارية إليه وأسنى جاريته رداح، وتماثل حاله، وكان قد يئس من الإصلاح.
174- ومنهم- خليد مولى الأدارسة
ومحيي تلك الأطلال الدارسة، كان يحيى به كلّ أرض يحلها، وتهتز أذن كل سامع تطلّها، أكثر إحياء لها مدّ الثرى من المطر، أهزّ للقدود من كل رديني تأطر.
حكي أنه حضر مجلس المأمون أحد مواليه، وشرع يغنيه في شعر رثي به بعض أعاديه، فحميت حماليقه بنار الغضب، وأخذ منه العود ثم ضرب به خلاف ما ضرب، فأصاب به عينه فأساء فيها الأثر، ونكب بها نكبة، على أن العود الضارب فيها عثر ثم أقبل عليه بالرضى واعتذر، وآنسه أنسا أزال عنه الحذر، ثم أولى إليه الجوائز، ونبّه له الحسد حتى من أهل الجنائز، فكان لا يرى ذلك العمى في عينه إلا كالحور، ولا يزال نظراؤه تضعف أيديهم عن جسّ العود الخور، وحسدته الناظرة سحرا إليه كالحول، ويقول: من للحول بالعور، وكان على عوره بصيرا بالصنعة، مطلا للدمع الذي لا يقال له صرعة.
ومن أصواته: «1» [الوافر]
ألم ترها تريك غداة بانت ... بملء العين من كرم وحسن
فأعطت كلما سئلت شبابا ... فأنبتها نباتا غير حجن
فقلت وكيف صادتني سليمى ... ولما أرمها حتى رمتني
ألا يا ليتني حجر بواد ... أنام وليت أمي لم تلدني(10/615)
[ص 397]
والشعر للنمر بن تولب، والغناء فيه في سادس الهزج، وكذلك صوته في شعر الكميت بن زيد، ودست عليه الشيعة الأموية من قتله لأجل تغنيه به، وهو هذا: «1» [الطويل]
ألم ترني من حب آل محمد ... أروح وأغدو خائفا أترقب
على أي جرم أم بأية سيرة ... أعنف في تقريظهم وأكذب
أناس بهم عزت قريش فأصبحوا ... وفيهم بناء المكرمات المطيب
وهم رئموها غير ظأر وأشبلوا ... عليها بأطراف القنا وتجلببوا
فإن هي لم تصلح لحي سواهم ... فإن ذوي القربى أحق وأقرب
وإلا فقولوا غيرها تتعرفوا ... نواصيها تردى بنا وهي شزب
والغناء فيه في ثقيل الرمل، وكان يتغنى به أيام استظهار الأدارسة فأصبح قتيلا ملقى على باب داره.
175- ومنهم- سعدى جارية المعتمد بن عبّاد «2»
وكانت جارية يسعد بها ضجيعها، وينعم ولو ورد مدامعه نجيعها، فاتنة(10/616)
الطرف كأنها مهاة، أو أمنية مشتهاة، لو تجلت لمحيي البدر سافرة لتبرقع، أو لمرأى الشمس لأمتع، لو طرقت جريرا لما قال ارجعي بسلام «1» أو لاقت جميلا لما قنع بالكلام «2» ، أو كانت في عصمة ابن ذريح لما أطاع فيها أباه «3» ، أو لاحت لابن الملوح لنسي ليلى حتى إنها لم تمثل بكل سبيل إليه «4» ، زادت ملك ابن عباد حسنا، وطلعت في سمائه القمراء وأسنى.
ولها أصوات بها تغني، فمنها: «5» [البسيط]
لولا عيون من الواشين ترمقني ... وما أحاذره من قول حراسي
لزرتكم لا أكافيكم بجفوتكم ... مشيا على الوجه أو سعيا على الراس
والشعر للمعتمد، والغناء فيه.
وحكي أن المعتمد عزم على إخراج حظاياه من بلد إلى آخر، فخرجن في أول الليل كأنهن النجوم الطوالع، وخرج [ص 398] يشيعهن وقلبه لأمر «6» صبره(10/617)
غير طائع، فسايرهن ليله كله، حتى قوض بناء الليل، وأقبل الصباح في كتيبته الشهباء مبّتوث «1» الحيل، فرجع وقد صدعت أحشاؤه مغارب تلك النجوم، وأغرت مقلته سحائب تلك الدموع السجوم فقال: «2» [الكامل]
سايرته والليل غفل ثوبه ... حتى تبدى للنواظر معلما
فوقفت ثمّ مودّعا وتسلمت «3» ... مني يد الأصباح تلك الأنجما
ثم بعث بها إلى سعدى وأمرها أن تغني منها صوتا، فغنت فيه.
ومن أصوات سعدى المشهور لها: «4» [السريع]
إن الذي هامت به النفس ... عاودها من سقمها نكس
كانت إذا ما جاءها المبتلى ... أبرأه من كفها اللمس
وا بأبي الوجه الجميل الذي ... قد حسدته الجن والإنس
إن تكن الحمى أضرت به ... فربما تنكسف الشمس
والشعر للعباس بن الأحنف، واقترحه المعتمد عليها.
وقد دخل على جارية له، رآها مدنفة مصفرة لتوالي الحمى، قد امتقع بالصفرة بياض صفحتها، وردّى الغيار محاسن لمحتها، فبرزت كالشمس في الكسوف، والقمر في الخسوف، ولوحه هجير الحمى، ثم فارقها ووجهها كأنه الدينار المشوف «5» ، وكان المعتمد لا يزال على جواريه يقترح، ولأزندة خواطرهن يقتدح.(10/618)
176- ومنهم- ميمون الجوهريّ [أو الجهوريّ] «1»
وهو ممن جهر به النداء، وجأر بتفضيله الأعداء، لاذببني جهور حتى نسب إلى ولائهم، وحسب واحدا منهم لما غمر من آلائهم، وكان نديما لا يمل له محاضرة، ولا تفي الروايات المعدة بأجوبته الحاضرة، وكان الغناء أغلب فنونه عليه، وعيونه التي لا تحصى ما ينظر منها لديه، وداخل بها رؤساء الأندلس وكبراءه، ودانى علماءه ووزراءه، وأمر أمره [ص 399] فعلا قدره وجالس أمراءه، وكان مما جرى الفأل بتسميته ميمون النقيبة ممنون الرغيبة، ما خالل أحدا إلا سمق، ولا خالط إلا من ظن أنه من السماء وإن رمق.
وله صنعة في أصوات، منها: «2» [الطويل]
وجفن سلاح قد رزيت فلم أمت ... عليه ولم أبعث إليه البواكيا
وفي جوفه من دارم ذو حفيظة ... لو انّ المنايا أنسأته لياليا
والشعر للفرزدق، والغناء فيه في ثقيل الرمل.
وكذلك صوته: «3» [المنسرح]
يا ليلة بت في دياجيها ... أسقى من الراح صفو صافيها
ما تشتهي العين أن ترى حسنا ... إلا رأته في وجه ساقيها(10/619)
وصيفة للغلام تصلح للأ ... مرين كالغصن [في] تثنيها
في قرطق زانه تخرسنها ... قد عقربت صدغها مداريها «1»
والشعر لأبي نواس، والغناء فيه في الهزج.
177- ومنهم- طريف بن عبد الله السّميع القابسيّ
وكان مغني أهل بادية، ومطرب حي أسمع صوته كل عادية، أول ما ألف ما عهده حيث تنصب الخيام، وينصب عليه الحيام «2» ، ثم دخل مدن إفريقية، وقد وافاها أقوام مصر، كان فيهم من تلبس بالغناء كان ترفع به عقيرته، وتجل به حقيرته، فانحاز إلى فئتهم، ودخل بينهم مثل هيئتهم، فأصغى إليهم بسمعه، ودخل غناءهم دبر أذنيه، فانثني إليهم ناسيا ما كان تعلم، سالبا سواه وإن يتم، وأسف على زمنه الذاهب، وجهل كل طريق إلا تلك المذاهب، فأعمل الرحلة إلى مصر، وماله رفيق إلا ظله، ولا له طريق إلا حيث قذف به جهله، وأتى مصر وبها ذماء «3» من أهل هذا الشأن تخلفوا على حفر اللحود، وسلالة مصّ منهم الثرى بقية الماء من العود، إلا أنهم فاتوا أهل كل إجادة، فعاد عنهم موفورا، ورجع وقد جمع عطاء موفورا [ص 400]
ومن أصواته: «4» [الطويل](10/620)
ونحن بطحنا يوم ألف فلم تعد ... سليم بن منصور بشهباء فيلق
غداة أسرنا في الجبال ملوكهم ... غناة بني الصباح وابن المحلق
صبحناهم والشمس خضراء غضة ... بذات اللظى حد السنان المخرق
غداة اتقونا بالسيوف أجنة ... من الحرب في منتوجة لم تطوق
والشعر لمليح بن الحكم الهذلي، والغناء فيه.
وروي له صوت آخر، وهو هذا: «1» [المنسرح]
ما ضر جيراننا إذا انتجعوا ... لو أنهم قبل بينهم ربعوا
إن لبينى قد أضر أقربها ... ولو أرادوا أن ينفعوا نفعوا
هم باعدوا بالذي كلفت به ... أليس بالله بئس ما صنعوا
بانوا فقد فجعوا لبينهم ... ولم يبالوا بحزن من فجعوا
والشعر للأحوص بن محمد، والغناء فيه.
وكذلك صوته: [الطويل]
تلومينني في طارق بعد هجعة ... تجيء به دامي الأظل طليح
تنكل ثوب الليل عنه كأنه ... من الضر من كلتا يديه جريح
فإن كنت قد أنكرت يوما خلافتيا ... فإن اجتماعا بعده لقبيح
والشعر لأعرابي مجهول، والغناء فيه في ثقيل الرمل.(10/621)
178- ومنهم- زيد الغناء بن المعلّى
ابن عبد العظيم، روح غناء، ودرج اجتناء، وبوح اجتلاء، عرف بالغناء حتى أضيف إليه، وأضيف «1» تعريفا عليه، ودعي به بين ندمائه، ثم أطلق عليه فكان أشهر أسمائه، وكان إذا غنى أوقف الطير، وعقل المنطلق على السير، فرغ لها باله، وهيج بلباله، حتى أتقنه إتقانا صار به علمه عنده مستقرا، وعمله عليه مستمرا، وعمل فيه أعمالا نقلت، وأطلقت يده التي على العود علقت [ص 401] .
وحكي أنه حج وأتى منى فوقف عند جمرة العقبة، وقد كظّ المحصبّ، وبان البنان العاطل المخضّب، وقد شغل الأيدي حصى الجمار، وملأ العيون سنا الأقمار، ثم اندفع يغني فانصرف إليه كل نظر، وبقي دأب كل من حضر، فلما فرغ من صوته عاد إلى رمي الحصاب، وعرف العاطل من ذات الخضاب.
ومن أصواته: «2» [الطويل]
خصيم الليالي والغواني مظلم ... وعهد [الليالي] والغواني مذمم
رأيت سواد الرأس واللهو تحته ... كليل وحلم بات رائيه ينعم
وصفراء بكر لاقذاها مغيّب ... ولا سر من حلت حشاه مكتم
هي الورس في بيض الكؤوس فإن بدت ... لعينيك في بيض الوجوه فعندم
سقتني بها بيضاء فوها وكأسها ... شبيها مذاق عند من يتطعم
من الهيف لو شاءت لقامت بكأسها ... وخاتمها في خصرها يتختم
والشعر لابن الرومي، والغناء فيه.(10/622)
وجملة هذه القصيدة التي منها الصوت جميلة منها في المدح:
بنو مصعب فينا سماء رفيعة ... لها درر ليست يد الدهر تعدم «1»
سماء أظلت كل شيء وأعلمت ... سحائب شتى صوبها المال والدم
ليمدحكم من شاء جهد مديحه ... فللشعر فيه بعده متردم
أناس إذا دهر تبسم مرة ... فعنهم وعن آياته تتبسم
يرى أبدا فيهم جواد معدل ... وليس يرى فيهم بخيل ملوّم
ولم أر مالا حازه مثل عزمهم ... يروح ويغدو وهو نهب مقسم
تحكم في أموالهم من أطاعهم ... وأسيافهم فيمن عصا تتحكم
نجوم الدجى منها شهاب على العدا ... ومنها سماك للعفاة ومرزم
أعمهم مدحا وأختص منهم ... أخاهم عبيد الله والحق يلزم
[ص 402]
يعدّ إذا عدّ الملوك مبدّأ ... كما عدّ رأسا للشهور المحرم
فتى ليس من يوم يمر ولا يرى ... لنعماه فيها أو لبؤساه أنعم
تمر العطايا والمنايا لأهلها ... على هينة منه ولا يتندّم
فتى عزمه سيف جسام وسيفه ... قضاء إذا لاقى الضريبة مبرم
يباشر أطراف القنا وهو حاسر ... ويلقى لسان الذم وهو ملأم
هو الغرة البيضاء من آل مصعب ... وهم بعده التحجيل والناس أدهم(10/623)
179- ومنهم- جارية تميم «1»
جدّ المعزّ بن باديس، جارية طار بلبها الهوى، وطاف بقلبها الجوى، ورمى بها الإغراب مراميه، وأطال بها النوى لياليه، حتى سارت بتشتيت الفراق، وصارت إلى المغرب من العراق، ثم كانت لا تزال تتذكر نادي ذلك الفريق، وتنادي بلسان عرابها (؟) نار ذلك الحريق، وتتلفت إلى العراق، وظل ريفه الظليل، ومبسم مرآه الجميل وظبائه الجآذر، ولها بينهم مقيل فنان حسرة بين عوادها، وتبكي وإنما بدلت قطعة من فؤادها، إلى أن عادت بلطيف الحيلة، إلى أكناف تلك الجميلة، فذهب بحق صبابتها باطلة، والتقى كل ذي دين وماطله.
وحكي أن أبا الحسين ابن الأشكري المصري قال: كنت رجلا من جلاس الأمير تميم بن أبي تميم وممن يخف عليه، فأرسل إلى بغداد فابتيعت له جارية فائقة رائقة الغناء، فلما وصلت إليه، دعا جلساءه، قال: وكنت فيهم ثم مدّت السّتارة وأمرها بالغناء، فغنت: [الكامل]
وبدا له من بعد ما اندمل الهوى ... برق تألف موهنا لمعانه
يبدو كحاشية الرداء ودونه ... صعب الذرى متمنع أركانه
فمضى لينظر كيف لاح فلم يطق ... نظرا إليه وصده أشجانه
فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه ... والماء ما سمحت به أجفانه(10/624)
[ص 403] قال: فطرب الأمير تميم ومن حضر طربا شديدا، ثم قال: غنّي فغنت: «1» [البسيط]
أستودع الله في بغداد لي قمرا ... بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
وهذا لمحمد بن زريق الكاتب. فاشتد طرب تميم وأفرط جدا، ثم قال لها:
تمنّي ما شئت، فقالت: أتمنى عافية الأمير وسلامته، فقال: والله لا بد أن تتمني، [فقالت] على الوفاء أيها الأمير؟ فقال: نعم، فقالت: أتمنى أن أغني بهذه النوبة بغداد، فامتقع لونه وتغير وجهه وتكدّر المجلس، وقام وقمنا.
قال ابن الأشكري: فلقيني بعض الخدم، وقال لي: ارجع فالأمير يدعوك، فرجعت فوجدته جالسا ينتظرني، فسلّمت عليه وقمت بين يديه، فقال: ويحك أرأيت ما امتحنّا به؟ فقلت: نعم أيها الأمير، فقال: لابد من الوفاء لها، ولا أثق في هذا بغيرك، فتأهب لتحملها إلى بغداد، فإذا غنّت هناك فاصرفها، فقلت: سمعا وطاعة، قال: ثم قمت، وتأهبت، وأمرها بالتأهب وأصحبها جارية سوداء له تعادلها «2» وتخدمها، وأمر بناقة ومحمل أدخلت فيه، وجعلها معي، وصرت إلى مكة مع القافلة، فقضينا حجنا، ثم دخلنا في قافلة العراق، فلما وردنا القادسية أتتني السوداء عنها فقالت: تقول له ستي، أين نحن؟ فقلت لها: نزول بالقادسية، فانصرفت إليها فأخبرتها، فلم أنشب أن سمعت صوتا قد ارتفع بالغناء منها، وغنت: [مجزوء الكامل]
لما وردنا القادسي ... ة حيث مجتمع الرفاق
وشممت من أرض الحجا ... ز نسيم أنفاس العراق(10/625)
أيقنت لي ولمن أحب ... يجمع شمل واتفاق
وضحكت من فرح اللقا ... ء كما بكيت من الفراق
لم يبق لي إلا تجشم ... هذه السبع الطباق
حتى يطول حديثنا ... بصفات ماكنا نلاقي
قال: فتصايح الناس من أقطار القافلة: أعيدي بالله أعيدي، قال: فما سمع لها كلمة. [ص 404]
قال: ثم نزلنا الياسرية «1» ، وبينها وبين بغداد نحو خمسة أميال في بساتين متصلة، ينزل بها الناس فيبيتون ليلتهم ثم يبكرون لدخول بغداد، فلما كان وقت الصباح، إذا بالسوداء قد أتتني مذعورة، فقلت: مالك؟ فقالت: إن سيدتي ليست بحاضرة، فقلت: ويلك! وأين هي؟ فقالت: والله ما أدري، قال: فلم أحس لها أثرا بعد تلك، ودخلت بغداد، وقضيت حوائجي بها وانصرفت إلى الأمير تميم، فأخبرته خبرها، فعظم ذلك عليه، واغتم له غما شديدا، ثم لم يزل ذاكرا لها، آسفا عليها.
ومن أصواتها هذا: «2» [مجزوء الكامل]
يا أيها الساقي الهوى ... ضجرا بأن صد الحبيب
اسمع فإني قائل ... قولا سيعرفه البيب
الحب داء ما يلين ... بمثل حرقته القلوب
والحبّ ليس له سوى ... من قد كلفت به طبيب
والشعر لأبي نواس، والغناء فيه في الطريقة الرابعة من الهزج.(10/626)
ومن أصواتها: «1» [الطويل]
تذكرت ريا وانبرى لك حبها ... ومن دونها الأعداء خزر عيونها
وحنت قلوصي آخر الليل حنة ... فيا روعة ما راع قلبي حنينها
حنت في عقاليها وشامت عيونها ... سنا البرق علويا فجن جنونها
فقلت لها حني فكل قرينة ... مفارقها لا بد يوما قرينها
والشعر للصمة بن عبد الله، والغناء في أول الثقيل، وهذا القول من قطعة جملتها ثمانية أبيات، وتمامها:
وقلت لها حثي رويدا فإنني ... وإياك نخفي عولة سنبينها
فما برحت حتى ارعوينا لصوتها ... وحتى انبرى منا معين يعينها
ظللت بها أبكي بعين حزينة ... مراها الهوى حتى استهلت جنونها «2»
[ص 405]
تعز بصبر أن تلام فإنما ... على النفس ما جرّت وللنفس دينها
180- ومنهم- الكينو «3» احمد بن محمّد
ابن أحمد اللخمي من أهل تونس، قال شيخنا أبو حيان: حضرت معه في بستان كان استدعاني إليه الكاتب أبو الحسن ديسم، وكان يحسن الضرب بالعود والغناء، وأنشد لنفسه هذا: [الرمل]
كلّ معنى من معانيه بدا ... لست أسلو عن هواه أبدا
مطلق الحسن خلا عن مشبه ... وأنا في الحب ممن قيدا(10/627)
إن غيّي في هواه رشدي ... وضلالي فيه لا شك هدى
شهد الكون له أجمعه ... لا ترى في حبه من فنّدا
وأنشد أيضا مما قاله في السماع: [مجزوء البسيط]
ماذا يريد العذول مني ... صمّت عن العاذلين أذني
بمهجتي شادن ربيب ... يسبي البرايا بكل فنّ
رشا كنس قضيب آس ... رياض حسن هلال دجن
قلبي مقيم على هواه ... إن ضجّ أو لجّ في التجني
فحدثوا بالدلال عنه ... وحدثوا بالخضوع عني
قال: ولما توفي الداعي المسمى بالفضل ملك إفريقية، كان هذا ابن الإمام يمدحه ويهجو من عاداه، ويصرح بذلك في تونس، فلما قتل الدعي وتولى أبو حفص، قتله لما كان بلغه من ذمه وهجيه «1» .
181- ومنهم- أبو عبد الله اللالجي
[الطويل]
تعاللت كي أشجى وما بك علة ... تريدين قتلي قد ظفرت بذلك
وقولك للعواد كيف ترونه ... فقالوا قتيلا قلت أيسر هالك
لئن ساءني أن نلتني بمساءة ... لقد سرني أني خطرت ببالك «2»
وهذا آخر معروف بالغناء [ص 406] بالجانب الغربي على ما أنفذنا فيه وسع الحيلة، وتسمحنا فيه لتكثير الفئة القليلة، وقد تكلفنا له فوق الجهد(10/628)
والطاقة، ودخلنا فيه من الباب والطاقة.
فأما مصر فإنها وإن حوت الجماهير، وجمعت المشاهير، فإن أفراد أهل الغناء بها أقل من وجود الصديق، وجود الزمان الخالي من الترنيق، ومنهم أناس سنذكرهم وتعرفهم ولا تنكرهم.
182- ومنهم- ناطقة جارية الزّاعوني «1»
جارية تفتك بالمهج، وتقبل ولا إثم عليها ولا حرج، هزّت من قدها رمحا، وسلّت من أجفانها سيفا لا يعرف صفحا، فملكت القلوب عنوة، وأنست الهوى المغلوب علوة، وكانت في أفق الدور الأموية شمس صباحها وبدر صباحها وكأس شمولها، وقصارى مأمولها، إلى أن غلبت الأهواء، وأعلت وأغلت الدواء، وأضحت تجاور في قتل أهل الغرام بها عودا إلى أن ينطلق له لسان، ولا يسفك بمثل إشارته دم إنسان، وكانت أيام الإخشيد تغشى مجلس ابن الفرات، وتحاور منه في جانب النيل الفرات، وكان يصلها بالمواهب، ويقدمها على كل مواظب، ثم قطعها أيام المعز، وكان لها لا يبزّ.
ومن أصواتها المشهورة: «2» [الطويل]
إذا كنت ذا تعس جواد ضميرها ... فليس يضير الجود إن كنت معدما
رآني بعين الجود فانتهز الذي ... أردت ولم أفغر إليه بها فما
ظلمتك إن لم أجزك الشكر بعدما ... جعلت إلى شكري نوالك سلما
وإنك لم تترك يداك ذخيرة ... لغيرك من شكري ولا متلوما
والشعر لمسلم بن الوليد، والغناء فيه في مزموم الرمل.(10/629)
183- ومنهم- بديع جارية المحلميّ
وكانت جارية سمراء تحكي الأسمر البرني قدّا كأنه أنبوب، والأبيض الايزني «1» طرفا [ص 407] تقدّ به القلوب، كأنما خلقت من ليل كله سحر، وسواد طرف ملؤه حور، ألذ من الظل للمحرور، وأحسن من اختلاط مسك وكافور، وكان سيدها قد أخذها بالتأديب، واقتنصها من البر اقتناص الظبي الربيب، واشتراها صغيرة من مولدات الصعيد، وحظي بها إنه لسعيد، ولقيت أهل التعليم، وبقيت تفهم بالإيماء فهم التكليم، حتى كانت إذا نطقت أذابت صبر الجليد، وألانت قلب الجلمد والحديد.
ومن أصواتها المشهورة: «2» [الرمل]
بدل الطرف من النوم السهر ... حين صد الظبي عني وهجر
رشأ أودع قلبي حسرة ... وحمى عيني من الدمع النظر
وله ثغر شتيت نبته ... وبعينيه من السقم حور
بأبي ذاك حبيبا هاجرا ... لم يدع في الحب عنه مصطبر
والشعر لابن الرومي، والغناء فيه في مزموم الرمل.
وكذلك من أصواتها: «3» [الكامل]
بان الخليط وفاتني برحيله ... خود إذا ذكرت لقلبك يشغف
تجلو بمسواك الأراك منصبا ... عذبا إذا ضحكت تهلل ينظف
وكأن ريقتها على علل الكرى ... عسل يصفى في القلال وقرقف
وإذا تنوء إلى القيام تدافعت ... مثل النزيف ينوء ثمّت يضعف(10/630)
والشعر لأعشى همدان، والغناء فيه في ثاني ثقيل.
184- ومنهم- صافية جارية بدر أمير الجيوش «1»
وكانت شمسا لا تصلح إلا لبدر، وقلبا لا يضم إلى كل صدر، لا تطرف له عنها عين غافية، ولا تكدر «2» له في النطف صافية، وكانت تزري بالقضيب، وتسبي بالبنان الخضيب، وتسفه رأي الملك الضليل، إذ قال: (أفاطم مهلا بعض هذا التدلّل) «3» ، والصادق الحب جميل إذا شكا من حب بثينة التململ «4» ، لا يعلق له بغيرها أمل، ولا يرى إلا أنه بها قد تم تمامه وكمل، لا تلائم جنبه إذا فقدها المضاجع، ولا [ص 40] إذا وجدها قال جفنه للنوم متى أنت راجع، وكانت قمرية مجلسه، وأيكة دوحه النابت في مغرسه، ولها أصوات في أشعار مختارة، وكانت لا تميل إلا إلى هذا ومثله، ولا تعجب إلا به وبشبهه.
ومن أصواتها المشهورة: «5» [الطويل]
وإن دما لا تعلمين جنيته ... على الحي جاني مثله غير سالم
ولكن لعمر الله ما طل مسلما ... كغر الثنايا واضحات الملاغم(10/631)
رمين فأقصدن القلوب ولم نجد ... دما مائرا إلا جوى في الحيازم
وخبّرك الواشون أن لا أحبّكم ... بلى وستور الله ذات المحارم
والشعر لأبي حية النميري «1» ، والغناء فيه في ثاني الرمل، ولها أصوات في شعر الصمة بن عبد الله، كان يقترح عليها، فمنها هذا: «2» [الطويل]
لعمري لئن كنتم على النأي والقلى ... بكم مثل ما بي إنكم لصديق
إذا زفرات الحب صعدن في الحشى ... رددن ولم تنهج لهن طريق
ومنها أيضا: «3» [الطويل]
إذا ما أتتنا الريح من نحو أرضها ... أتتنا برياها وطاب هبوبها
أتتنا بريح المسك خالط عنبرا ... وريح خزامى باكرتها جنوبها
ومنها أيضا: [الطويل]
نظرت وطرف العين يتبع الهوى ... بشرقي بصرى نظرة المتطاول
لأبصر نارا أو قدت بعد هجعة ... لريا بذات الرمث من بطن حائل
ومنها أيضا: [الطويل]
خليلي قوما فاشرقا القصر فانظرا ... بأعياننا هل يؤنسان به الرندا
فإني لأخشى أن علوناه علوة ... ويشرق أن يزداد ويحكما وجدا
نظرت وأصحابي ندورة نظرة ... فلو لم تفض عيناي أبصرتا نجدا
[ص 409]
إذا مر ركب يصعدون ظننتني ... مع الرائحين المصعدين لهم عبدا(10/632)
وكلها في أزمان.
185- ومنهم- عيناء جارية بدر أمير الجيوش
وكانت جارية جائرة، فاتنة فاترة، تتلفت تلفت الريم، وتسفر إسفار الصباح في الليل البهيم، بمحيا لو غاب البدر ثم أسفرت أطلعته، وعيون لو نظرت إلى سرب المها صرعته، مع إحسان في كل ضرب، وأجفان تقيم كل حرب، وظرف ما كان مثله لعريب جارية المأمون، ولا لبدعة وهي التي مثلها في الدنيا لا يكون، وكان بدر يرى أنها شمس نهاره، وأسمى أقماره.
ولها عدة أصوات مشهورة، فمنها هذا: «1» [الطويل]
وهل خلة معسولة الطعم تجتنى ... من البيض إلا حيث واش يكيدها
مع الواصل الواشي وهل تجتني يد ... جنى النحل إلا حيث نحل يذودها
والشعر لابن الرومي، والغناء فيه في الثقيل.
ولها صوت في شعر الصمّة بن عبد الله: [الطويل]
أمارد ردّي منّة الوصل بيننا ... ولا تشمتي بي الكاشحين الأعاديا
أمارد لا والله ما بي عن البكا ... عزاء وما فيه شفاء لما بيا
والغناء فيه رمل مزموم، ولم تقع إلينا من أصواتها سواهما.
186- ومنهم- مغنّي الصّالح بن رزّيك «2»
وكان لا يزال يغشى منزله، ويستدعي أنسه، ويشغله عن كل خاطر، وكان(10/633)
مجيدا في علم الغناء، إذا غنّى اطّرح الوقار، ورمى الأوائل بالاحتقار، وكان يغنيه غناء عاما، ويدنيه إدناء تاما، وصنع عدة أصوات في مواضع من شعره، كان يقترحها عليه ويقترحها من إضاءتيه، وكان لا يزال حباؤه متكاثرا لديه متواترا تواتر المطر السكوب اليه.
وحكي أنه غنّى يوما [ص 410] بين يديه: «1» [البسيط]
ودّع هريرة إن الرّكب مرتحل ... وهل تطيق وداعا أيّها الرّجل
فوثب القاضي الفاضل وكان إذ ذاك يكتب للصالح، وأنشأ يقول:
[البسيط]
دعوا هريرة إن حلت وإن رحلت ... فيكم تحل وعنكم ليس ترتحل
على فترة للجود عارضة ... فما رأى الناس إلا أنكم رسل
دمتم لنا وأدام الله دولتكم ... وسخرت لكم الأملاك والدول
هذا شجاع وهذي مصر في يده ... والعمر والحسن والإقبال مقتبل
فوقعت منه وممن حضر ألطف موقع، وأمر المغنّي فصنع فيه صوتا، وغنّي به لوقته.(10/634)
187- ومنهم- سرور جارية العزيز «1»
وكانت لا تعدل بها امرأة، ولا تذكر بقبيح إلا كانت عنه مبرأة، وكانت جارية لامرأة بالقاهرة، علّمتها الخط وحفّظتها القرآن، وعلمتها النحو واللغة والأدب، وروّتها الأشعار، ووفّرتها على تصفح الأخبار، وأخذتها بصناعة الغناء، حتى فاقت كل جارية كانت تسمى، ولا تماثل بها ظلوم وأمثالها إلا ظلما، ورءاها العزيز زمان أبيه فهوي بها ولم يقدر على ملك رقها خوفا من أبيه، حتى ملك السلطنة ووليها، وكانت بينهما مدة حياة أبيه مراسلات وأشاير وعلامات وأماير.
حكي أنها أهدت إليه مرة أكرة من العنبر فيها زر من الذهب، فلم يفهم معناه، ولا كشف معمّاه «2» ، فأخبر الفاضل وكان لا يكتمه من أمره حاضرة ولا غائبة، ولا آئبة ولا ذاهبة، فأنشده الفاضل: [السريع]
أهدت لك العنبر في وسطه ... زرّ من التّبر خفي اللحام
والتّبر في العنبر معناهما ... زر هكذا مختفيا في الظّلام
وكتبت إليه مرة أخرى رقعة تعرض عليه فيها أن يشتريها، وكتبت في أولها قول [ص 411] ابن الرومي: «3» [المنسرح]
كثّر بشخصي من اصطنعت من الن ... اس وإن لم أزنك لم أشن «4»
ما حقّ من لان صدره لك بال ... ود لقاء بجانب خشن(10/635)
فلم يكن له هم إلا مشتراها أول ما ملك.
ومن أصواتها المشهورة: [الكامل]
ومهفهف حلو اللمى خنث ... سبقت محاسنه إلى الوصف
كالليل قد جمعت كواكبه ... في موضع التقبيل والرشف
والشعر لابن الجلال المصري، والغناء فيه لها.
وحكي أن العزيز هوي عليها جارية اسمها ألوف، فتبدّل بها حال سرور، وتنكرت عليها بسببها من أحوال العزيز أمور، فلما رأت ازورار جانبه وتقلّص أنسه من جوانبه، أخلدت إلى القطيعة، وعصت فيها نفسها المطيعة، فأخذته العزة حتى صار انجماعه غضبا، وفتوره عنها لهبا، وهم بإخراجها من داره، فخافت بأس اقتداره، وأتت إليه قبل اقتداره، ولم تكلمه حتى ترامت على قدميه، واندفعت تغني بين يديه: «1» [البسيط]
وأنتم النخلة الطولى التي بسقت ... قدما وبورك منها الأصل والطرف
فإن زوى عني الجمار طلعته ... فلا يصبني [بحدي] شوكه السعف
والشعر لابن الرومي، والغناء فيه خفيف الرمل، فلم يتمالك العزيز أمر نفسه حتى ضمها إلى صدره، وقبلها وبلغها من عود عاطفته أملها؛ ثم رجع إليها الكرّة وترك هوى ألوف، ولا أليف لها إلا طول الحسرة.
188- ومنهم- فنون العادليّة
جارية تعيب البدر إذا بزغ، وتعين الشيطان إذا نزغ، بصورة جلّ خالقها، وجلب الكرى المشرد ليراعها عاشقها، أقتل من الصدود وأقل رضى من الشيء(10/636)
المعدود، [ص 412] بتأت يعذر به من أحبّها، وملك قلبه حبّها، أهديت من ملوك الروم إلى الملك العادل، ودنت فأسكت نايها كل مجادل، وكانت حاذقة بالضرب بأنواع الملاهي، مغلبة للمباهي، إلى طيب مجالسة، وإمتاع مؤانسة، وابتداءات مبهتة، وأجوبة مسكتة، وكانت زينة القصر، وجليلة ذلك العصر.
ومن مشاهير أصواتها: [مجزوء الكامل]
أدر المدامة يا نديم ... واطرب فقد رق النسيم
واملأ كؤوسك واسقني ... صفراء صانعها حكيم
من كف أهيف كالقضيب ... كلامه العذب الرخيم
ومن العجائب طرفه ... لي مسقم وهو السقيم
رقت معاقد خصره ... وكأنه جسمي الأليم
دبت عقارب صدغه ... فلذاك عاشقه سليم
والشعر لابن محارب من قصيدة يمدح فيها الصاحب بن شكر، ومنها في المديح:
ومديح مولانا الوزير ... هو الصراط المستقيم
يروى براحته الصدى ... ويرى بطلعته النعيم
وله حديث مكارم ... تروى ومسندها قديم
في كفه القلم الذي ... وجه الزمان به وسيم
وخطابه الحق المبي ... ن وخطبه النبأ العظيم
قبل يديه مبادرا ... فبيمنه يشفى الكليم
وكذلك من أصواتها في شعر الباخرزي: «1» [المتقارب]
أروح وفي القلب منّي شجى ... [و] أغدو وفي القلب منّي شجن(10/637)
أبكي ولا طوق لي بالفراق ... إذا ذات طوق بكت في فنن
فللماء في مقلتي ما بدا ... وللنار من مهجتي ما كمن
[ص 413]
ومن لجفوني بشيء نسيت ... وأحسبه كان يدعى الوسن
وحكي أنها دخلت عليه بكرة يوم والصباح المقبل قد ركض جبينه في أحشاء الشجر، ونفض العنبر المغلف على أصداغ الطرر، والشمس قد همت بأن تحدر النقاب، ثم تمنعت وتطلعت من الألقاب «1» ، والفضاء قد أصبح فضيا، والروض قد أضحى سماويا أرضيا، والطير قد هتف للإعجاب، وبشر بتقشع الظلام المنجاب، والماء قد أرفضّ «2» إذ تكشّفت السماء، ولم يبق بينه وبينها حجاب، فسرّ بزيارتها، وقدح زند فجره المشرق بأثارتها، واستدعى منها الغناء فغنت: [الخفيف]
مرحبا بالصباح لما وافى ... وانتضى في الدجى له أسيافا
رافعا في الظلام جنح دجاه ... عاجلا مثلما رفعت السجافا
مثل سيف الدين المليك المفدى ... عندما جاء شقق الأسدافا
كان كل الزمان بالظلم ليلا ... فمحاه واطلع الإنصافا
فأعجبه الشعر والغناء، وهما لها، ثم سألها حاجتها، فذكرت له أسيرا في يد الفرنج سئلت فيه الفداء فعجل به.(10/638)
189- ومنهم- عجيبة مغنّية الكامل «1»
وكانت في نساء زمانها عجيبة، وفي أوانس أخدانها غريبة، من المغاني المشهورات، الغواني المذكورات، شغف بها الملك الكامل على دثور عقله، ووفور فضله، وكان لا يصبر عنها ليلة من الليالي، ولا يدع استرازها ولو بين تشجّر العوالي، وكانت ظريفة تأخذ بمجامع القلوب، وتخلب صوادف النفوس، وكانت تطلع إلى الملك الكامل وجنكها «2» محمول معها ووراءها الجواري والخدم، وكانت تحضر مجلسه سرا وعلانية، وتغنيه على الجنك وبالدف، وبها قدح فيه ابن عين الدولة القاضي لما قال له الملك الكامل في قضية من القضايا: أنا أشهد عندك بكذا، فقال: السّلطان يأمر وما يشهد، فأعاد عليه السلطان القول [ص 414] وأعاد عليه القاضي الجواب، فلما زاد الأمر، قال له السلطان: أنا أشهد، تقبلني أنت أولا؟ فقال: لا ما أقبلك، وكيف أقبلك وعجيبة تطلع إليك بجنكها كل ليلة وتنزل، تأتي يوم بكرة وهي تتمايل على أيدي الجواري والخدم، وينزل ابن الشيخ من عندك أنحس مما نزلت، فقال له السلطان (يا كنفرخ) وهي لفظة شتم بالفارسية، فظن ابن عين الدولة أنه قال له: كل فراخ، فقال: ما في الشرع كل فراخ، اشهدوا علي أني قد عزلت نفسي، وقام فجاء ابن الشيخ إلى الملك الكامل وقال له: المصلحة إعادته لئلا يقال لأي شيء عزل(10/639)
القاضي نفسه، فيقال «1» : لأنه شهد السلطان عنده فما قبله، فيقال: لأي شيء ما قبله؟ فيقال: لأجل عجيبة، فتتمضمض بنا العوام، وتطير بها الأخبار إلى بغداد وإلى الملوك، فقال: صدقت، ونهض إلى القاضي فترضّاه، وأعاده إلى القضاء، وتأخر الأمر الذي كان يريد أن يشهد به.
عدنا إلى ذكر عجيبة والذي نعرف من أصواتها: [البسيط]
رفقا على ما أبقيت من رمقي ... لا تأتسي لي بأن أبقى ولا تبقي «2»
هيهات أين البقا من موجع كمد ... عليك صب بنار الشوق محترق
يا سائلي عن دمي لا تطلبوا أحدا ... بعدي به فدمي المسفوك في عنقي
إني حملت على نفسي لشقوتها ... مثل الجبال من البلوى فلم تطق
فمن رأى ليت شعري مثل موقفنا ... يوم النوى أبحرا تجري من الحرق
يا آمري في دموعي بعد ما فنيت ... بأن أصون وأحمي ما عساه بقي
والشعر لابن حجاج.
وحكي أنه أمر بها فأحضرت والغيم قد فرق في السماء قطعه، وطرز مذهّب البروق خلعه، وتشرين قد أرسل نجائب السحائب محبرة، والخريف قد جاء وراياته المختلفة مبشرة، وثغر الروض قد راق، ووقت السرور قد لاق، ولمى النهر قد حلا في فم من ذاق، وحر الهجير قد خمد لهيبه، وسبج «3» الفحم قد آن في المواقد ذهيبه، والبيوت قد هيّئت للكنّ، والمنازل [ص 415] قد قربت إلى الدنّ، والرواق قد رفعت صلبه المعلقة، والكؤوس بنطف الماء مخلقة وغير مخلقة، وقد حصل العود والعود، وأزلف المجلس لتطلع فيه طوالع السعود،(10/640)
واندفعت تغنّي بصوت صنعته في بعض المشارقة، وصدعت به صباح تلك الشارقة، وهو هذا: [الطويل]
مشوق إذا ما ارتاح هيجه الحب ... وصب لوبل الدمع في خده صب
وإن لاح وهنا برقه منه ينثني ... وفي جفنه للدمع قد خده غرب
نضا عضب جفنيه عليّ عذاره ... فمن مهجتي جفن ومن جفنه عضب
يعذب قلبي ظالما عذب ظلمه ... ولكن تعذيبي لمرشفه عذب «1»
فلم يبق في المجلس إلا من مال، ودب للسكر بطربها في مفاصلهم نمال، واستدعى بها يوما وهو بداره بالفسطاط «2» المطلة على النيل، وقد نضدت رواشنها «3» ، وتلبثت قدامها أنواع المسك، وبرزت وعليها جواشنها «4» ، والنيل قد صفى مشربه، وخفي بتكاثر الأمواج مسربه، والبرق قد كحل جفن السحاب بمروده، والليل قد ذرّ في عين الشمس من إثمده «5» ، والهلال بقطع الغيم قد احتجب، والهلال المولي قد بلّل جناحه ليطير، وهذا من العجب في وقت غفل عنه الرقيب، ولم يحضره إلا مثل إسحاق أو حبيب، وأقبلت تحدثه وتغنّيه، وتفتح على يديه السؤل وتمنيه، وممّا غنته من أصواتها، والشعر قديم: [المنسرح]
دعه يداري فنعم ما صنعا ... لو لم [يكن] عاشقا كما خضعا «6»
وكل من في فؤاده وجع ... يطلب شيئا يسكن الوجعا
وا رحمتا للغريب في البلد النا ... زح ماذا بنفسه صنعا(10/641)
فارق أحبابه فما انتفعوا ... بالعيش من بعده ولا انتفعا
ودام معها ليلته كلها، والبدر لا يعرف السرار، والبحر لا يدرك له قرار، والشموع كأنها عشاق تجري دموعها وتلتهب قلوبها الحرار، حتى هم الفجر أن يبوح بسره المكتوم، ويفك عن سفط النجوم طوابع الختوم، وقطرت أعطاف السحب متصببة، وجرت [ص 416] دموع النرجس في خدود الشقيق متصوبة، وقارب طلوع الصباح والجو بين برديه، وسيف البرق بين غمديه، واضطرب النسيم مذبذبا مبلبلا تلك الحدائق، واضطر الفجر إلى أن يقبل في ثغر الصبح المفتر تلك العقائق، فأشرف الملك الكامل، ومن مجر الرعد قد هول، والصباح الآتي قد فض ذيل الليل وقصر منه ما طول، فدعاها إلى الصبوح، وأقام بوجهها عذره عند الدهر الصفوح، فلما دارت به الحميّا، وذكرته هندا وميّا، أمرها أن تصنع لحنا في شعر بعض متيمي العرب، فصنعت في شعر ذي الرمه: «1» [الطويل]
أراني إذا هومت ياميّ زرتني ... فيا نعمتا لو أن رؤياك تصدق «2»
يلوم على ميّ خليلي وربما ... يجور إذا لام الشفيق ويحرق
غداة منى النفس أن تسعف النوى ... بميّ وقد كادت من الوجد تزهق
لها جيد أم الخشف ريعت فأتلعت ... ووجه كقرن الشمس ريان يشرق «3»
فوقع منه موقعا كان يجتذبه، ويأخذ بسمعه إليه ولو أراد أن يجتنبه، ثم أفاض عليها سجاله، ووسع في الكرم عليها محاله ومما يتبقى من محاسن هذه القصيدة المختار منها الصوت: «4»(10/642)
وتيهاء تودي بين أرجائها الصبا ... عليها من الظلماء جلّ وخندق «1»
غللت المهارى بينها كل ليلة ... وبين الدجى حتى أراها تمزق «2»
فأصبحت أجتاب الفلاة كأنني ... حسام جلت عنه المداوس مخفق «3»
نظرت كما جلى على رأس رهوة ... من الطير أقنى ينفض الطل أزرق «4»
طراق الخوافي واقع فوق ريعة ... ندى ليلة في ريشه يترقرق «5»
190- ومنهم- الكركيّة
مغنية الظاهر بيبرس «6» ، وكانت من أبرع الناس نطقا، وأبدع أهل الغناء حذقا، تجيد لمختلف الأصوات التآلف، وتجوز الغاية في الثقيل والخفيف، وتأتي بما بعد على بدعة في زمانها، ولم تنفرد به فريدة في أوانها، ولا تجيء دنانير حبّة في [ص 417] ميزانها، هذا إلى قريحة قادرة، وحلاوة في نادرة، وسرعة جواب، وصنعة إتقان لا يخرج اللحن فيها عن صواب.(10/643)
حكى لي شيخنا أبو الثناء الحلبي عنها قال: لو كنت أستحسن أخرج خبية لأضحكت به الحزين الثاكل، واقتديت به الجحود الناكل، وبهذا ومثله كانت تستلين من الظاهر وأهل دولته أولئك الصخور، وتستنزل أولئك الشم وما منهم [إلا] كلّ مختال فخور، وهيهات إن كان يندى لأحد منهم راحة، أو تبل لواحد منهم يد بسماحة.
ومن أصواتها: [الكامل]
سن الظّبا من طرفه الوسنان ... ورمى فراش سهامه ورماني «1»
وبدا فذاب البدر من حسد له ... فلذاك ما ينفك من نقصان
ماء النعيم يرف في وجناته ... يسقي رياض شقائق النعمان «2»
قالت عقود نهوده لقوامه ... من أنبت الرمان في المرّان «3»
والشعر للتاج بن نصر مظفر بن محاسن بن علي بن نصر الله الدمشقي المزوق الذهبي، وكذلك صنعت لحنا كانت تغني به في شعر ابن الحلاوي:
[الطويل]
حكاه من الغصن الرطيب وريقه ... وما الخمر إلا وجنتاه وريقه
هلال ولكن أفق قلبي محله ... غزال ولكن سفح عيني عقيقه
وأسمر يحكي الأسمر اللدن قدرة ... عذارا سقى قلب المحب رشيقه
على خده جمر من الحسن مضرم ... يشب ولكن في فؤادي حريقه
أقر له من كل حسن جليله ... ووافقه من كل معنى دقيقه(10/644)
على سالفيه للعذار جديده ... وفي شفتيه للسّلاف عتيقه
وكذلك صوتها في شعر راجح الحلي: [الوافر]
فؤاد عن هواكم لا يحول ... وجسم ماد يخفيه النّحول
[ص 418]
فكيف يميلني عنكم ملام ... ويطمع في مخادعتي عذول
أبى لي أن أبيت صحيح قلب ... نسيم من خيامكم عليل
سأبعث في القلوب لكم سلاما ... رجاء أن يقابله قبول
أحملها تحياتي إليكم ... لو أنّ الريح تفهم ما أقول
وهذه من أول قصيدة طنانة في كل سمع، منها:
ومما شاقني لمعان برق ... طربت له وقد جنح الأصيل
تلبّس في عبوس الدجن حتى ... تحدر دمع ديمته الهطول
أراني بالفرات نخيل أرضي ... وغاب ولا الفرات ولا النخيل
يقول منها:
وذي أمل يحث به المطايا ... وأدنى السير وخد أو ذميل
أقول لهم هلم فأي عذر ... لسعيك أن يجاريك الدليل
أمامك ظل عز الدين فانزل ... بأبلج لا يضام له نزيل
وراءك أيها الراجي مداه ... فدون بلوغه طرف يهول
تزحزح عن طريق العيب واطلب ... نجاة لا تغيرك السيول
به سار من السلطان يعلي ... دعائم ملكه وبه نصول
رعينا في جناب أبي سعيد ... رياضا لا تحول بها المحول
تراوح زهره ريح التصافي ... ويضحك نوره الغيث الهطول(10/645)
فلا عدمت توافي الشعر مولى ... إلى الآمال أنعمه تميل
وكذلك صوته في شعره أيضا: [الطويل]
ملكت كما شاء الهوى فتحكم ... وإلا ففيم الهجر لي وإلى كم
ولو جحدت عيناك قلبي وأنكرت ... أقرّ به خطّ «1» العذار المنمنم
متى تسمح الأيام منك بعطفة ... وهل في منى من راحة لمتيم
[ص 419]
وهبني أرضى بالخيال وزورة ... فمن لي [بمن] بجفو يجفن مهموم «2»
وهذه من قصيدة مدح بها المعظم عيسى:
وفي شعب الأكوار أبناء مطلب ... شعارهم ترصيع شعر منمنم
هداهم غلام من خزيمة عالم ... بقطع الفيافي بالمطي المحرم
إلى ملك من دوحة شادوية ... يفيء على ورد من الجود مفعم
إلى الأبلج الطلق الذي قد غدا به ... مشوقا [له] من دهرنا كل مظلم
إلى من كان [فيه] لا يدين بظله ... من الأمن ما بين الحطيم وزمزم «3»
تريه وجوه الغيب مرآة فكره ... فيؤمنه من كل ظن مرجم
ويغشى غمار الموت في كل معرك ... يراع له قلب الخميس العرمرم
ويطربه خلع النفوس على العنا ... إذا رنحت أعطافها حمرة الدم
له نشوة في الجود ليست لحاتم ... وشنشنة في المجد ليست لأخزم
يقول منها في وصف القصيدة:(10/646)
فدونكها أحلى من الأمن موقعا ... وأطيب من وصل إلى قلب مغرم
إذا حدثت أبياتها عن غلامكم ... عدت أم أوفى دمنة لم تكلم «1»
191- ومنهم- الزّركشي أبو عبد الله
ناصر الدين الفقيه الحنفي، فقيه بارع، ونبيه لكل علا قارع، هذا على أنه أتقن علم الموسيقا وحققه، وأجال النظر في فنها ودققه، ووقف منها على طرف الأوائل التي عفا أثرها، وذهب أكثرها، وبقيت كمدارج النمل الخوافي، ومناهج الرمل تحت السوافي.
حدثني ابن كرّ عنه أنه كان في صناعة الزركش بدمشق، ثم كان فقيها بالمدرسة الشبلية بسفح قاسيون «2» بين ظهراني الفقهاء، ويجتمع إليه أهل الطرب والإلهاء، ودام على هذه المدة ثم تخرّصوا له المعايب، وأرادوا ترديته بالمثالب، فأتى مصر واتخذها دارا وقرارا حتى مات.
قيل: وكان واحد زمانه [ص 420] لا يقصر عن الأوائل، قال: وهو ممن أخذت عنه، واستفدت منه، وكنا نجتمع ونتذاكر، وتنفد وننكر (؟) صبيحة كل يوم يسمع كل واحد منا صاحبه، ولم أر مثله، وحدثني عنه غيره.
وله اصوات منها: «3» [الخفيف]
خبروها أني مضيت «4» فقالت ... أضنى طارفا شكا أم تليدا(10/647)
وأشاروا بأن تعود وسادي ... فأبت وهي تشتهي أن تعودا
وأتتني في خيفة وهي تشكو ... ألم الوجد والمزار البعيدا
ورأتني كذا فلم تتمالك ... أن أمالت عليّ عطفا وجيدا
والعشر للطغرائي «1» ، وكذلك صوته في شعر الحاجري، وهو هذا:
[الطويل]
بحقك ذكّرها العقيق لعلها ... تجد راحة في عودها وسراها
إذا ما حدا الحادي بنجد تمايلت ... كأن سلافا في النشيد سقاها
كأنكم يوم الرحيل رحلتم ... بنومي فعيني لا تلذ كراها
وكنت شحيحا من دموعي بقطرة ... فقد صرت سمحا بعدكم بدماها
وكذلك صوته في شعر ابن حجاج، وهو هذا: «2» [البسيط]
نامي هنيئا لعينيك الرقاد فما ... أمسيت أعرف إلا السهد والأرقا
وإن أردت حياتي فاحفظي رمقي ... إن كان عندك شيء يمسك الرمقا
يا شامتا إذ رأى قلبي رهين أسى ... وشر ما فيه أن الرهن قد غلقا
إن فرق الدهر شخصينا مراغمة ... فثمّ قلبان لا والله ما افترقا
192- ومنهم- ابن كرّ أبو عبد الله
الشيخ شمس الدين محمد البغدادي الأصل، المصري الدار والمولد، هو في علم الموسيقى فرد لا يخلف، لحق بالأوائل وما تخلف، وأتى ببدائع الألحان وما تكلف، [ص 421] لا يختبي على مثله الوجود في بردتيه، ولا يجنى شبيه(10/648)
النهار بكره وآصاله «1» بوردتيه، يطرب قبل الإنشاد، ويحرك حتى الجماد، وتخرس لديه أصواته المثاني والمثالث وما تجنح، وتهتز المغاني والأغاني وما يتزحزح، نقل مذاهب القدماء، كابن المهدي وإسحاق «2» ، وجدد طوالع تلك الأهلة التي أكلها المحاق، لا يمر به صوت مما ذكره أبو الفرج الأصفهاني إلا ويجيء به ويجيده، ويعيده ويزيده، وصنف كتابا يقال له أحسن ما صنف لجمع وشنف لسمع، وقد خطأ الفارابي «3» في هذا العلم، وأنكر عليه أهل المعرفة ثم سلموا إليه أنه إنما قاله عن علم، وابن كرّ هذا من بيت امرأة تناقل سلفه في بغداد إرثها حتى ملكها التتار، فلزم أبوه مصر، فأجري عليه راتب عاد إلى ابنه هذا بعضه، وهو الآن في زاوية قرب المشهد الحسيني بالقاهرة المعزية [أقطعها] «4» من وقفه أو وقف أبيه، وله عز نفس، وشمم عفاف، ما اتخذ هذه الصناعة الطربية إلا ريحانا له لا استرزاقا به، وله بي صحبة أعرف حقها له، كان يتردد إليّ ويتودد ويتفقد ولا ينفقه، ولقد غنى فأضحك وغنى فأبكى، وغنى فأنام، فرأيت بعيني منه ما سمعته أذناي عن الفارابي، فصدق الخبر الخبر، وحقق العين الأثر، ورأيت منه واحدا، سبحان من وهبه ما لا هو في قدرة البشر.(10/649)
وله أصوات في أشعار لي، فمنها قولي: «1» [الكامل]
أفدي حبيبا قد فتنت بحبه ... لو كان يرثي للمحب إذا شكا
والله ما هبت نسيم دياره ... إلا اعتلقت بذيلها متمسكا
يا عين أنت شكيتي في حبه ... لما نظرت له وأنت المشتكى
قالت عليك بأدمعي فأجبتها ... لو كان دمعي البحر أفناه البكا
ومنها قولي: «2» [الطويل]
قفاني على الوادي أودع مهجتي ... وأستودع الأحباب مني ما بقي
فيا ليت شعري هل نعود إلى الحمى ... ويجمعنا سفح الكثيب فنلتقي
[ص 422]
ونعقل في ظل النخيل ركابنا ... ونشرب من ماء الغزير ونستقي «3»
ونشكو الذي نلقاه من ألم الهوى ... وهيهات ما عند الحبيب تشوقي
ومنها قولي: [مجزوء الرمل]
يا أخلائي بنجد ... لي فؤاد مستهام
وجفون قد جفاها ... بعد أجفاني المنام
إن وصلتم فسرور ... واغتباط والتئام
أو هجرتم- وكفينا- ... فعلى الدنيا السلام(10/650)
قال محقق الكتاب: تم السفر العاشر من كتاب مسالك الأبصار في ممالك الأمصار.(10/651)
ملحق بالمصطلحات الموسيقية(10/653)
مصطلحات الموسيقا العربية القديمة
1- بعد البقية: هو أصغر الألحان اللحنية، ومسافته كل وثلاثة عشر جزءا من مئتين وثلاثة وأربعين 256/243.
2- بعد المجنب: ونسبته كل وتسع كل 10/9 إذا كان كبيرا، وجزء من خمسة عشر جزءا من كل 16/15 إذا كان صغيرا.
3- البعد الطنيني: هو حبس تسع الوتر واهتزاز ثمانية، اتساعه ونسبته كل وثمن كل 9/8.
4- بعد ذي الربع: ونسبته كل وثلث كل وهو حبس الوتر واهتزاز ثلاثة أرباعه 4/3، وسمي بذي الأربع لاحتوائه على أربع نغمات محيطة بثلاثة أبعاد في أكثر الأحيان، ويسمى عند الافرنج (تتراكورد) .
5- بعد ذي الخمس: ونسبته كل ونصف كل 3/2 وهو حبس ثلث الوتر واهتزاز ثلثيه، وسمي بذي الخمس لاحتوائه في أكثر الأحيان على خمس نغمات محيطة بأربعة أبعاد، ويسمى عند الإفرنج (بنتراكورد) .
6- بعد ذي الكل: هو الديوان الموسيقي (الأوكتاف) ونسبته نسبة الضعف 2/1 ويتكون من بعد ذي الأربع وبعد طنيني يسمى (الفاصلة) ، أو من بعد ذي الأربع وذي الخمس، وهو حبس نصف الوتر واهتزاز نصفه الآخر.
7- بعد ذي الكل والأربع: ونسبته نسبة الضعف والثلثين 8/3 وهو حبس ثلاثة أخماس الوتر واهتزاز خمسيه، ويتألف من بعد ذي الكل وذي الأربع.(10/655)
8- بعد ذي الكل والخمس: ونسبته ثلاثة الأمثال 3/1 وهو حبس ثلثي الوتر واهتزاز ثلثه الآخر، ويتألف من بعد ذي الكل وبعد ذي الخمس.
9- بعد ذي الكل مرتين وهو ديوانان موسيقيان، ونسبته نسبة أربعة الأمثال 4/1، وهو حبس ثلاثة أرباع الوتر واهتزاز ربعه الآخر.
10- بعد ذي الكل ثلاث مرات: وهو ثلاثة دواوين موسيقية، ونسبته نسبة ثمانية الأمثال 8/1 وهو حبس سبعة أثمان الوتر واهتزاز ثمنه الآخر.
11- بزرك: كلمة فارسية معناها (الكبير) ، وهي في الموسيقا العربية اسم نغمة في المنطقة الحادة، تسمع من العود بالإصبع البنصر على الوتر الخامس، وهي صياح النغمة المسماة في الطبقة الوسطى (سيكاه) ، وتطلق (بزرك) أيضا على هيئة لحنية لجماعة أنغام مؤلفة تأليفا معينا، فيما يسميه أهل الصناعة مقام (بزرك) وهو اسم آخر لطريقة مقام (الماهور) .
12- بوسلك: وتسمى هنا (أبو سلمك، والسلمك) ، وهي تسمية اصطلاحية في الموسيقا لنغمة في الطبقة الوسطى تسمع من آلة العود فيما بين سبابة الوتر الثالث المسمى (دوكا) ، وبين نغمة وسطاه، ويسمى أيضا باسم (بوسلك) هيئة لحنية تسمى (مقام بوسلك) في المنطقة الوسطى، مؤسسة على نغمة (دوكاه) ، يستعمل فيها من الأجناس اللحنية الجنس ذو الأربعة المسمى (جنس بوسلك) وهو القوي الأرخى غير المتتالي، الذي يرتب فيه أصغر الأبعاد الثلاثة وسطا، وقد تسمى هذه الهيئة اللخنّية بمقام عشاق.
13- حجاز: اصطلاح في الموسيقا العربية، يطلق على النغمة الرابعة الزائدة قليلا بمقدار، بعد إرخاء مما يلي النغمة الرابعة الأساسية المسمى (جهار كاه) ، وتؤخذ على العود بالإصبع البنصر على الوتر الثالث، ويسمى(10/656)
باسم حجاز أو حجازي هيئة نغم في المنطقة الوسطى تؤسس على النغمة الأساسية (دوكاه) وهي نغمة مطلق الوتر الثالث في العود.
14- الحسيني: اصطلاح في الموسيقا العربية يطلق على النغمة التي تسمع من سبابة الوتر الرابع في العود، وهو (وتر النواة) ، وسجاح هذه النغمة، أي نظيرتها بالقوة الأثقل هي نغمة (عشيران) ، وتسمع من مطلق الوتر الثاني المسمى وتر (العشيران) وتسمى باسم (حسيني) أيضا، هيئة لحنية لجماعة نغم تعرف (بمقام الحسيني) ، وتميز عند الإجراء باستعمال نغم الجنس القوي المرتكز على نغمة الحسيني، ثم تستقر على نغمة (دوكاه) التي هي مطلق الوتر الثالث في العود، ونغمة حسيني إذا لم تكن صياح مطلق وتر العشيران، فتحولت قليلا إلى جهة الثقل، فإنّها تسمى باسم آخر فهي تارة باسم (شورى) وتارة باسم (حصار) وهذه تسمع من العود قريبا من الأنف على وتر النواة.
15- الدستان: جمعها دساتين ودستانات، كلمة فارسية معناها اليدان، واصطلاحا: موضع أصابع اليد على العود.
16- الراست: كلمة فارسية بمعنى مستقيم، تطلق اصطلاحا على هيئة لحنية لجماعة النغم الأساسية في الموسيقا العربية، التي تعرف بالجماعة المستقيمة، واصطلاحا راست، ويسمى بهذا الاسم أيضا نغمة أساس الجمع المسمّاة (يكاه) ، وكذلك الجنس الأساسي ذو الأربع، وهو من أصناف الجنس القوي المتصل المسمى اصطلاحا (جنس الراست) .
17- راهوي: يستعمل اصطلاحا في الموسيقا العربية على هيئة لحنية تؤخذ من جماعة نغم، تستقر على درجة (الراست) فيما يسمونه (مقام راهوي) ، أو(10/657)
(رهاوي) ، واستعمال المحدثين لهذا النغم يشبه (مقام الراست) وأما المتوسطون فكانوا يطلقون اسم (راهوي) على ترتيب جماعة أخرى غير التي يستعملها المحدثون.
18- الشهرناز (وجاء باسم الشهناز) : وهو اسم فارسي، معناه (مدينة الدلع) ، ويطلق اصطلاحا في الموسيقا العربية علي هيئة لحنية مركبة تبدأ من المنطقة الحادة بجنس الراست في الكردن، ثم بجنس الراست على النواه، على أن تجعل النغمة المسماة حسيني ظهيرا لجنس الراست النواه، ثم يختم بجنس البيات مؤسسا على الحسيني، وهو الجنس القوي غير المتتالي.
19- عراق: اصطلاح في الموسيقا العربية، تسمى به نغمة في المنطقة الثقيلة، تسمع في العود من مجنب سبابة الوتر الثاني المسمى وتر العشيران، ويختلف تحديد هذه النغمة باختلاف تسوية نغمة مطلق وتر العشيران، ونغمة صياحها بالقوة في المنطقة الوسطى، تسمى (أوج) ، ويسمى أيضا باسم (عراق) هيئة اللحن الذي يستقر على هذه النغمة المسمى باسم (العراق) ، والجنس المميز للحن هذه الجماعة هو القوي المتصل الأشد غير المنتظم.
20- عشاق: اسم آخر لهيئة اللحن المسمى في الموسيقا العربية مقام (بوسلك) الذي يستقر في المنطقة الوسطى على نغمة (دوكاه) ، وهي نغمة مطلق الوتر الثالث في العود، وقد يسمى هذا باسم مقام (عشاق مصري) ، تمييزا له عن المقام المشهور باسم (عشاق تركي) الذي يشبه مقام البيات.
21- الماخوري: ضرب من الإيقاعات الموسيقية العربية التي اشتهرت قديما، كان أهل الصناعة وقتذاك يعدونه هو بعينه (إيقاع خفيف الثقيل الثاني) ، واسم(10/658)
الماخوري مشتق عن تمخير الإيقاع، ليكون وسطا بين الحثيث من الإيقاعات والخفيف.
22- محصور، أو محصور بالبنصر: اصطلاح موسيقي عند العرب المتوسطين، يطلق على هيئة ترتيب نغم الجنس الذي يستقر على نغمة بنصر الوتر ببعد بقية، وأما المشهور في تجنيس الأغاني في هذا الجنس، فهو مذهب إسحاق الموصلي.
23- المحمول: اصطلاح في الموسيقا عند العرب المتوسطين، لتعريف نغم الجنس الذي يستقر على دستان الوسطى في العود، والأرجح أنهم يعنون الوسطى الفارسية أو مجنب الوسطى، فيشبه ما هو محمول بالوسطى بين السبابة والبنصر، وأما التعريف المشهور الذي يقابله عند القدماء على مذهب إسحاق الموصلي فهو مطلق في مجرى البنصر.
24- المزموم: تجنيس من مصطلحات الأغاني، كان العرب المتوسطون يستعملونه لنغم الجنس الذي يستقر على نغمة سبابة الوتر في العود، مسبوقة بنغمة مجنب الوسطى، أو يستقر على نغمة مطلق الوتر مسبوقة بنغمة مجنبة.
25- المطلق: اصطلاح في تجنيسات الأغاني عند العرب على مذهب إسحاق الموصلي، وهو أن للغناء مجريين في كل طبقة أحدهما منسوب إلى الوسطى والآخر منسوب إلى البنصر، فأيهما جعلت المجرى كانت الطبقة منسوبة إليه.
26- المجنب: أنواع، مجنب السبابة، مجنب الوتر، مجنب الوسطى، وهو تعريف عربي قديم، وهو اسم دستان من دساتين العود تستخرج منه النغمة التي هي أقرب ثقلا إلى نغمة دستان السبابة.(10/659)
27- النوا (النوى) : اصطلاح يطلق على الوتر الرابع في العود، ويسمى أيضا (نواة) ، وكذلك تسمى نغمة مطلقة، وهي الخامسة التامة في ترتيب النغمات الأساسية في المنطقة المتوسطة صعودا من الأولى المسماة (يكاه) أو (راست) ، وتسمى باسم (نوا) أيضا هيئة لحنية لجماعة نغم تستقر على النغمة المسماة (دوكاه) فيما يعرف باسم (مقام نوا) ، وهو من المقامات المركبة من حجاز النوا عند الاستهلال إلى المنطقة الحادة، وجنس الراست محولا على (الدوكاه) ثم التسليم بجنس البيات.
28- الهزج: في الموسيقا العربية، الإيقاع الموصل ذو الزمان الواحد المتساوي بين كل نقرتين متواليتين.
أوتار العود وما يتعلق بها:
1- الاصطحاب: تسوية الأوتار (أي نصبها) .
2- الاصطحاب المعهود: مصاحبة مطلق كل وتر من مطلقات جميع أوتار العود، مع ما في جنبه على نسبة ذي الأربع ويسمى (شد أصل) .
3- الاصطحاب غير المعهود: وهو مصاحبة كل وتر من مطلقات الأوتار مع ما في جنبه على غير ذي الأربع ويسمى (شد غير أصل) .
4- مطلق الوتر: العزف على الوتر بدون جس.
5- البم: اسم الوتر الأعلى من العود. وبم: كلمة فارسية معناها الغليظ.
6- المثلث: (على وزن مطلب) اسم الوتر الثاني من الأعلى.
7- المثنى: (على وزن معنى) اسم الوتر الثالث من الأعلى.(10/660)
8- الزير: اسم الوتر الأول من الأسفل. وزير: كلمة فارسية مناها أسفل.
9- ثقل النغمة: قرار النغمة.
10- حدة النغمة: جواب النغمة.
11- أرقام الكسور الاعتيادية المستعملة في نسب الأبعاد: الرقم المقامي يمثل طول الوتر، والرقم البسطي يمثل طول الوتر المهتز، والعدد الفارق بينهما يمثل طول الوتر المحبوس، فمثلا: 4/3 ويطلق عليه كل وثلث كل، لأن الأربعة هي كل الثلاثة وثلثها، فالأربعة تمثل طول الوتر بصورة عامة، الثلاثة تمثل طول الوتر المهتز، والفارق بينهما وهو العدد واحد من الأربعة طول الوتر المحبوس، وهو ربع الأربعة، أي ربع الوتر. وقد استعمل بعض القدماء ومنهم اللاذقي (صاحب الرسالة الفتحية في الموسيقا) الأنغام بواسطة الحروف الأبجدية، فالحروف العشرة الأبجدية الأولى وهي (أب ج د هـ وز ح ط ي) ، وإضافة الحرف العاشر الذي هو الياء إلى الحروف التسعة الباقية فتكون (يا يب يج يد يه يو يز يح يط) . ثم بإضافة الحروف التسعة إلى حرف الكاف الذي رقمه عشرون، وهكذا بإضافة الحروف تسعة إلى الحروف ذات الأرقام العشرية، فاللام ثلاثون، والميم أربعون والنون خمسون.(10/661)
أسماء النوتات العربية وما يقابلها في النوتات العالمية التي استعملها اللاذقي في كتاب الرسالة الفتحية
رموز نغمات اللاذقي/ رموز النوتة العربية/ ما يقابلها من رموز النوتة العالمية
1- أ/ عشيران/ لا
2- ب/ عشيران عجم/ سي بيمول
3- ج/ عراق (+) / سي كاربيمول (+)
4- د/ كواشت/ سي
5- هـ/ رست/ دو
6- و/ زير كولاه (-) / دوديز (-)
7- ز/ زير كولاه/ دوديز
8- ح/ دوكاه/ ره
9- ط/ كوردي/ مي بيمول
10- ي/ سيكاه (+) / مي (-)
11- يا/ بوسليك/ مي
12- يب/ نيم حجاز/ فاكار ديز
13- يج/ حجاز/ فاديز
14- يد/ حجاز (+) / فاديز (+)
15- يه/ نوى/ صول
16- يو/ حصار/ لا بيمول
17- يز/ تك حصار/ لا كار بيمول (+)(10/662)
18- يح/ حسيني/ لا
19- يط/ عجم/ سي بيمول
20- ك/ أوج (+) / سي كاربيمول (+)
21- كا/ ماهور/ سي
22- كب/ كردان/ دو
23- كج/ شهناز (-) / دوديز (-)
24- كد/ شهناز/ دوديز
25- كه/ محيّر/ ره
26- كو/ سنبلة/ مي بيمول
27- كز/ بزرك (+) / مي (-)
28- كح/ جواب بوسيلك/ مي
29- كط/ جواب نيم حجاز/ فاكارديز
30- ل/ جواب حجاز/ فاديز
31- لا/ جواب تك حجاز (-) / فاديز (+)
32- لب/ سهم/ صول
33- لج/ جواب حصار/ لا بيمول
34- لد/ جواب تك حصار (+) / لاكار بيمول (+)
35- له/ جواب حسيني/ لا(10/663)
الدوائر النغمية المشهورة ولكل دائرة لها نغماتها المعروفة لدى الموسيقيين وهي اثنتا عشرة دائرة هي:
عشاق، نوى، بوسليك، راست، عراق، أصفهان، زاير افكند، بزرك، زنكولة، راهوي، حسيني، حجازي.
ومن المصطلحات التي ترد في الكتاب وأكثرها من أصول فارسية:
كان القدماء يسمون بعض الألحان المشهورة في زمانهم مقاما، وبعضها أوازه وبعضها شعبة:
المقام: كان المقام يسمى بأسماء الأصابع والدساتين والطرائق، ثم أطلق عليه شد أو دور، ثم أطلق عليه اسم مقام، وأول من ذكر اسم (مقام) هو قطب الدين محمود بن مسعود بن مصلح الشيرازي (ت 710 هـ) في كتابه (درة التاج لغرة الديباج) .
الأواز: أصل كلمة (أوازه) فارسية معناها الصوت، أو جماعة نغم محددة، ويعني جلبة أو شهرة، واصطلاحا: هو ما يتفرع من مقامين، قال بدر الدين الأربلي (ت 755 هـ) :
وفرّعوا من كلّ شدّين نغم ... سمّوه أوازا فبعض قد رسم
ويتفرع من الأواز ستة أنغام:
الأول: كوشت، وهو عشر نغمات مشتملة على تسعة أبعاد.
الثاني: نوروز، ونوروز اسم فارسي معناه (اليوم الجديد) ، وهو اسم لمقام خاص يستقر على درجة العجم، والنوروز عندهم على نوعين، أحدهما ما يكون(10/664)
أربع نغمات مشتملة على ثلاثة أبعاد، ويسمى هذا بنوروز أصل صغير ونغمته بالنوتة الحديثة (ره دو سي) ، وثانيهما ما يكون سبع نغمات مشتملة على ستة أبعاد، ويسمى هذا بنوروز كبير.
الثالث: سلمك، وهو إحدى عشرة نغمة مشتملة على عشرة أبعاد، وسلمك اسم فارسي، وهو سلم لطريقة مقام الراست.
الرابع: كردانية، وهو ثماني نغمات مشتملة على سبعة أبعاد.
الخامس: مايه، وهو أربع نغمات مشتملة على ثلاثة أبعاد، ومائة كلمة فارسية معناها (الخميرة) .
السادس: شهناز، وهو سبع نغمات مشتملة على ستة أبعاد، وشهناز: كلمة فارسية مؤلفة من كلمتين، شاه: معناها الملك، وناز: معناها المدلل. ويكون المعنى: (الملك المدلل) .
الشعبة: هيئة انتقالية على نغمات المقام على وجه مخصوص، وسميت شعبة لتشعبها من المقام، وهي أربع وعشرون:
الشعبة الأولى: دوكاه، وهي كل نغمتين مشتملتين على بعد طنيني، ودوكاه:
كلمة فارسية مركبة من كلمتين: دو بمعنى اثنين وكاه بمعنى مقام أي المقام الثاني، وهكذا بقية المقامات السيكاه والجهاركاه والبنجكاه بمعنى المقام الثالث والرابع والخامس وهكذا.
الشعبة الثانية: سه كاه، وهي ثلاث نغمات مشتملة على بعد طنيني في الأثقل ومجنب في الأحد.
الشعبة الثالثة: جاركاه، وهو قسم رابع من الأقسام السبعة (أي أقسام الطبقة(10/665)
الثانية) المستعملة من الأحد، فيكون أربع نغمات محيطة بثلاثة أبعاد، ويسمى هذا بجاركاه ذي الأربع أيضا.
الشعبة الرابعة وهي على نوعين:
أحدهما بنجكاه أصل، وهو قسم رابع لذي الخمس (أي القسم الرابع من الطبقة الثانية) فيكون خمس نغمات محيطة بأربعة أبعاد.
وثانيهما: بنجاكاه زايد، وهو قسم ثامن لذي الخمس، فيكون ست نغمات محيطة بأربعة أبعاد.
الشعبة الخامسة: عشيرا، وهو ست نغمات مشتملة على خمسة أبعاد، ويصدق عليه أنه حسيني محطه يكاه.
الشعبة السادسة: نوروز عرب، وهو ست نغمات مشتملة على خمسة أبعاد.
الشعبة السابعة: ماهور (وما هور كلمة فارسية معناها الهلال) ، وهي على نوعين: أحدهما ما هور صغير، وهو قسم أخير من أقسام الطبقة الثانية (أي القسم الثالث عشر من أقسام الطبقة الثانية) ، فيكون هو خمس نغمات مشتملة على أربعة أبعاد.
وثانيهما: ماهور كبير، وهو ثماني نغمات مشتملة على سبعة أبعاد.
الشعبة الثامنة: نوروز خارا، وهو ست نغمات مشتملة على خمسة أبعاد.
الشعبة التاسعة: نوروز بياني، وهو خمس نغمات.
الشعبة العاشرة: حصار، وهو ثماني نغمات محيطة بسبعة أبعاد.
الشعبة الحادية عشرة: نهفت (نهفت كلمة فارسية معناها الخفي المستور) ، وهو(10/666)
ثماني نغمات مشتملة على سبعة أبعاد.
الشعبة الثانية عشرة: عزال، وهو قسم سادس من أقسام ذي الخمس، فيكون هو خمس نغمات مشتملة على أربعة أبعاد، وهو حجازي عند القدماء مع بعد طنيني في الأحد، فيصدق عليه أنه دوكاه محطة حجازي.
الشعبة الثالثة عشرة: أوج (أوج معناه الأعلى، وبالفارسي (أويج) والأوج نغمة من نغمات السلم الموسيقي الشرقي وهو جواب نغمة العراق) وهو ثماني نغمات مشتملة على سبعة أبعاد.
الشعبة الرابعة عشرة: نيريز (نيريز مقام من المقامات الشرقية التي تستقر على درجة الرست) وهو على نوعين:
أحدهما نيريز صغير: وهو القسم الثاني عشر من أقسام ذي الخمس، فيكون خمس نغمات مشتملة على أربعة أبعاد، فيصدق عليه أنه حجازي عند القدماء محطه يكاه.
وثانيهما: نيريز كبير، وهو ثماني نغمات محيطة بسبعة أبعاد.
الشعبة الخامسة عشرة: مبرقع، وهو كل نغمتين مشتملتين على بعد مجنب.
الشعبة السادسة عشرة: ركب، وهو ثلاث نغمات مشتملة على بعدين مجنبين.
الشعبة السابعة عشرة: صبا (الصبا مقام من المقامات الشرقية التي تستقر على درجة الدوكاه، ونغماته: ماهوران بوسليك شهنازا محير كردان عجم حسيني صبا جهاركاه سيكاه دوكاه صعودا) وهو خمس نغمات مشتملة على أربعة أبعاد.(10/667)
الشبة الثامنة عشرة: همايون، وهو سبع نغمات محيطة بستة أبعاد.
الشعبة التاسعة عشرة: زوالي وهو سيكاه بشرط أن يضاف إلى أحده بعد الإرخاء وهو بعد ربع الطنيني.
الشعبة العشرون: أصفهانك (والأصفهانك مقام من المقامات الشرقية التي تستقر على درجة الدوكاه) ، وهو خمس نغمات مشتملة على أربعة أبعاد.
الشعبة الحادية والعشرون: بستة نكار (البسته نكار مقام من المقامات الشرقية التي تستقر على درجة العراق، ونغماته: (شهناز أو محير كردان عجم حسيني صبا جهاركاه سيكاه دوكاه رست عراق صعودا) وهو ثماني نغمات مشتملة على سبعة أبعاد.
الشعبة الثانية والعشرون: نهاوند (النهاوند مقام من المقامات الشرقية التي تستقر على درجة الرست، وسلمه: كردان نيم ماهرو حصار نوى جهاركاه كردي دوكاه رست صعودا) وهو ثماني نغمات مشتملة على سبعة أبعاد.
الثالثة والعشرون: خوزي، وهو ست نغمات مشتملة على خمسة أبعاد.
الشعبة الرابعة والعشرون: محيّر (المحير درجة من درجات السلم الموسيقي الشرقي وهو جواب الدوكاه، وسلمه: محير كردان أوج حسيني نوى جهاركاه سيكاه دوكاه صعودا) ، وهو ثماني نغمات مشتملة على سبعة أبعاد.(10/668)
المقامات وصلتها بالأبراج وتأثيراتها:
المقامات:
الأول: راست، وهو منسوب إلى برج الحمل فطبيعته ناري (راست كلمة فارسية معناها: المستقيم، واصطلاحا: هو السلم الموسيقي الطبيعي للموسيقا الشرقية) .
الثاني: عراق وهو منسوب إلى الثور فطبيعته ترابي، وهو ثلاث نغمات مشتملة على المجنب في الأثقل، والطنيني من الأحد إلى الأثقل.
الثالث: أصفهان وهو منسوب إلى الجوزاء فطبيعته هوائي.
الرابع: زير افكند (زير افكند جملة فارسية معناها: لأن يسقط) ويقال له عند بعضهم كوجاك (كوجاك: كلمة فارسية تركية معناها: صغير) وأرباب الموشح (الموشح أحد الفنون الشعرية السبعة التي هي: الشعر والموشح والمواليا والزجل والدوبيت والقوما والكان كان) يقولونه محبة الأنغام، وهو منسوب إلى السرطان فطبيعته مائي.
الخامس: برزك
السادس: زنكولة (زنكولة: كلمة فارسية معناها: جرس صغير) وهو منسوب إلى السنبلة، فطبيعته ترابي.
السابع: راهوي، وهو منسوب إلى الميزان، فطبيعته هوائي.
الثامن: حسيني، وهو منسوب إلى العقرب، فطبيعته مائي (كما يطلق على الحسيني سابقا ششكاه) .(10/669)
التاسع: حجازي، وهو منسوب إلى القوس، فطبيعته ناري.
العاشر: أبوسه ليك (أبوسه ليك: جملة تركية معناها: اللثم الخفيف) ، وهو منسوب إلى الجدي، فطبيعته ترابي.
الحادي عشر: نوى، وهو منسوب إلى الدلو فطبيعته هوائي.
الثاني عشر: عشاق (عشاق مقام من المقامات الشرقية التي تستقر على درجة الدوكاه) وهو منسوب إلى الحوت، فطبيعته مائي.
الإيقاعات الموسيقية القديمة وعددها اثنا عشر وهي:
1- الثقيل الأول أو الورشان- 16 نقرة.
2- برافشان- 17 نقرة.
3- الثقيل الثاني- 16 نقرة.
4- خفيف الثقيل- 16 نقرة.
5- ثقيل الرمل- 24 نقرة.
6- خفيف الرمل- 10 نقرات.
7- الهزج الكبير- 10 نقرات.
8- الهزج الصغير- 6 نقرات.
9- الرمل- 12 نقرة.
10- الفاختي الصغير- 10 نقرات.(10/670)
11- الفاختي الكبير- 20 نقرة.
12- الفاختي الأكبر- 28 نقرة.
الإيقاعات عند المتأخرين وعددها عشرون إيقاعا وهي:
1- الثقيل- 48 نقرة.
2- الخفيف- 32 نقرة.
3- سه ضرب طويل- 32 نقرة.
4- سه ضرب صغير- 16 نقرة.
5- أوسط كبير- 24 نقرة.
6- أوسط صغير- 12 نقرة.
7- جهار ضرب- 96 نقرة.
8- الفاختي الصغير- 10 نقرات.
9- ضرب إنكيز أوروان- 10 نقرات.
10- عمل أو تركي ضرب- 14 نقرة.
11- رمل طويل- 24 نقرة.
12- رمل قصير- 24 نقرة.
13- سرندان- 10 نقرات.
14- صماعي- 10 نقرات.(10/671)
15- جر ثقيل أو نيم ثقيل- 24 نقرة.
16- روان- 8 نقرات.
17- محجل- 56 نقرة.
18- ضرب الفتح- 88 نقرة.
19- برافشان- 17 نقرة.
20- أزج أو سريع الهزج- هو كل جماعة نقرات بينها أزمنة (أ) .
أسماء المقامات وما يتصل بها ومعانيها باللغة الفارسية:
الماهور: كلمة فارسية معناها: الهلال.
الراست: كلمة فارسية معناها: المستقيم.
السوزناك: كلمة فارسية معناها: المؤلم.
النيروز او النوروز: كلمة فارسية معناها: عيد الربيع.
الماية المغربية: كلمة فارسية معناها: الخميرة.
دلنشين: كلمة فارسية معناها: ساكن القلب.
النهاوند: اسم مدينة فارسية، ويسمى هذا المقام في الجزائر رهاوي أو ساحلي، وفي تونس: محير سيكاه، وفي تركيا: بوسلك أو سلطاني يكاه أو فرح فزا، وعند الفرس: أصبهان.
النكريز: كلمة فارسية معناها: لا تهرب.(10/672)
الحجاز كار: كلمة فارسية معناها: عمل الحجاز.
الزنكولا: كلمة فارسية معناها: جرس الرأس.
الشاهناز: كلمة فارسية معناها: دلال السلطان.
الهمايون: كلمة فارسية معناها: المبارك.
البسته نكار: كلمة فارسية معناها: رابط المحبوب.
الزيرفكند: كلمة فارسية معناها: زير أسفل أو قديم.
زنكلاه: كلمة فارسية معناها: حبشي.
بزرك: كلمة فارسية تركية بمعنى: عظيم أو كبير.
يكاه: كلمة فارسية مركبة من لفظين أولهما (يك) ومعناه واحد، والثاني (كاه) ومعناه مقام أو درجة صوتية.
دوكاه: كلمة فارسية معناها: المقام الثاني.
سيكاه: كلمة فارسية معناها: المقام الثالث.
جهار كاه: كلمة فارسية معناها: المقام الرابع.
بنج كاه: كلمة فارسية معناها: المقام الخامس.
ششكاه: كلمة فارسية معناها: المقام السادس.
هفتكاه: كلمة فارسية معناها: المقام السابع.(10/673)
المصادر والمراجع:
أفدنا من الكتب الآتية في هذه المصطلحات:
الأرموي: صفي الدين عبد المؤمن الأرموي البغدادي (ت 693 هـ) - الرسالة الشرفية في النسب التأليفية، نسخة مخطوطة بمكتبة برلين الغربية برقم (5506) ، حققه الحاج هاشم محمد الرجب، وزارة الثقافة، بغداد.
الخوارزمي: محمد بن أحمد بن يوسف (ت 387 هـ) - مفاتيح العلوم.
صالح المهدي: مقامات الموسيقا العربية، نشر المعهد الرشيدي للموسيقى التونسية، تونس د. ت.
فارمر: هنري جورج- تاريخ الموسيقا العربية حتى القرن الثالث عشر الميلادي، ترجمة وتعليق جرجيس فتح الله المحامي، ط مكتبة دار الحياة، بيروت 1955 م.
اللاذقي: محمد بن عبد الحميد (ت بعد 888 هـ) - الرسالة الفتحية في الموسيقا، تحقيق وشرح الحاج هاشم محمد الرجب، ط المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت 1986 م.
مجهول المؤلف (من القرن 11 هـ) : الشجرة ذات الأكمام الحاوية لأصول الأنغام، تحقيق وشرح غطاس عبد الملك خشبة وإيزيس فتح الله، ط الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1983 م.
محمد شفيق غربال وآخرون: الموسوعة العربية الميسرة، طبعة مصورة، دار التراث العربي، بيروت 1987 م.(10/675)
مصادر التحقيق
- أزهار الرياض في أخبار عياض- المقري: أحمد بن محمد (ت 1041 هـ) .
طبعت ثلاثة أجزاء من أربعة في مصر 58- 1361 هـ.
- أشعار أولاد الخلفاء وأخبارهم- الصولي: أبو بكر محمد بن يحيى (ت 335 هـ) .
وهو جزء من كتاب الأوراق، نشر هيورث دن، ط مصر 1355 هـ/ 1936 م.
- الإصابة في تمييز الصحابة- ابن حجر العسقلاني: أحمد بن علي (ت 852 هـ) .
ط السعادة مصر 1329 هـ، وتحقيق علي محمد البجاوي، ط مصر 1971 م.
- الأعلام- الزركلي: خير الدين بن محمود بن محمد (ت 1396 هـ) .
الطبعة الثالثة، بيروت 1389 هـ/ 1969 م.
- أعلام النساء- كحالة: عمر رضا.
ط دمشق 1359 هـ.
- الأغاني- الأصفهاني: أبو الفرج علي بن الحسين الأموي (ت 360 هـ) .
ط دار الكتب المصرية، وط ساسي، وط دار الكتب العلمية، بيروت.
- الإماء الشواعر- الأصفهاني: أبو الفرج (السابق) .
تحقيق جليل العطية، ط دار النضال، بيروت 1984 م.
- أمراء البيان- كرد علي: محمد بن عبد الرزاق (ت 1372 هـ/ 1953 م) .
ط مصر 1355 هـ/ 1937 م.(10/677)
- إنباه الرواة على أنباه النحاة- القفطي: جمال الدين علي بن يوسف (ت 646 هـ) .
ط دار الكتب المصربة 50- 1955 م.
- البداية والنهاية- ابن كثير: الحافظ إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (ت 774 هـ) .
ط السعادة، مصر 1932 م، وط مكتبة المعارف بيروت 1966 م.
- بدائع الزهور في وقائع الدهور- ابن إياس: محمد بن أحمد بن إياس الحنبلي (ت 930 هـ) .
الأجزاء الثلاثة الأولى، ط في مصر 1311 هـ والرابع والخامس، ط في إستانبول 31- 1932 م.
- بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة- السيوطي: جلال الدين عبد الرحمن بن أي بكر (ت 911 هـ) .
ط مصر 1329 هـ، وتحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم، ط القاعرة 1964 م.
- البيان والتبيين- الجاحظ: أبو عثمان عمرو بن بحر (ت 255 هـ) .
تحقيق عبد السلام هارون، ط مكتبة الخانجي، مصر 1968 م.
- البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب- ابن عذاري المراكشي: محمد بن محمد (ت 695 هـ) .
أربعة أجزاء طبع الأول والثاني في ليدن 48- 1951 م، والثالث في باريس 1930 م، والرابع في تطوان 1956 م.(10/678)
- تاريخ الإسلام وطبقات مشاهير الأعلام- الذهبي: شمس الدين محمد بن أحمد (ت 748 هـ) .
ط السعادة، مصر 67- 1969 م.
- تاريخ ابن الوردي- ابن الوردي: زين الدين عمر بن مظفر (ت 749 هـ) .
ط دار الكتب العلمية، بيروت 1996 م.
- تاريخ بغداد- الخطيب البغدادي: أحمد بن علي (ت 463 هـ) .
ط مصر 1349 هـ، وط دار الكتاب العربي، بيروت.
- تاريخ التراث العربي- فؤاد سزكين.
الترجمة العربية، ط جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض 1983 م.
- تاريخ ابن خلدون (العبر وديوان المبتدأ والخبر) - ابن خلدون: عبد الرحمن بن محمد (ت 808 هـ) .
ط مصر 1284 هـ، وط مصر 1355 هـ.
- تاريخ الطبري- الطبري: محمد بن جرير (ت 310 هـ) .
ط الحسينية، القاهرة 1939 م، وتحقيق محمد أبو الفضل، ط دار المعارف، مصر 60- 1969 م.
- تاريخ الموسيقا العربية- فارمر: هنري جورج.
ترجمة فتح الله جرجيس، ط دار مكتبة الحياة، بيروت 1955.
- تاريخ الموسيقا العربية وآلاتها- شعراني: منى سنجقدار.
ط بيروت 1987 م.(10/679)
- تاريخ ابن الوردي (تتمة المختصر في أخبار البشر) - ابن الوردي: عمر بن المظفر (ت 749 هـ) .
ط مصر 1285 هـ.
- تهذيب تاريخ دمشق- (تاريخ دمشق لابن عساكر) : أبو القاسم علي بن الحسين بن هبة الله (ت 571 هـ) .
عبد القادر بدران، ط دمشق 1329- 1351 هـ.
- تهذيب التهذيب- ابن حجر العسقلاني: شهاب الدين أحمد بن علي (ت 852 هـ) .
ط حيد أباد، الهند 25- 1327 هـ.
- ثمار القلوب في المضاف والمنسوب- الثعالبي: أبو منصور عبد الملك بن محمد النيسابوري (ت 429 هـ)
تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط نهضة مصر، القاهرة 1384 هـ/ 1965 م.
- جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس- الحميدي: محمد بن فتوح بن عبد الله الأزدي (ت 488 هـ) .
ط مصر 1372 هـ/ 1952 م.
- جمهرة أشعار العرب- أبو زيد القرشي: محمد بن الخطاب (ت أواخر القرن الرابع هـ) .
تحقيق محمد علي الهاشمي، ط الرياض 1981 م.
- حلية المحاضرة- الحاتمي: محمد بن الحسن (ت 388 هـ) .(10/680)
تحقيق جعفر كتاني، ط بغداد 1979 م.
- الحوادث الجامعة والتجارب النافعة في المئة السابعة- ابن الفوطي: عبد الرزاق بن أحمد (ت 723 هـ) .
طبع قسم منه في بغداد 1351 هـ.
- خريدة القصر- العماد الأصبهاني: محمد بن محمد (ت 597 هـ) .
قسم شعراء مصر طبع في مصر 1951 م، وقسم شعراء الشام طبع في دمشق 1995 م، وقسم شعراء العراق طبع في بغداد 1955 م.
- خزانة الأدب- البغدادي: عبد القادر بن عمر (ت 1093 هـ) .
ط السلفية مصر 1347 هـ، وتحقيق عبد السلام هارون، ط القاهرة 1968 م.
- الخط والكتابة في الحضارة العربية- الجبوري: يحيى وهيب.
ط دار الغرب الإسلامي، بيروت 1994 م.
- الدر الفريد وبيت القصيد- محمد بن أيدمر (ت النصف الثاني من القرن السابع هـ) .
مخطوط، تصوير معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، فرانكفورت 88- 1989 م.
- الدر المنثور في طبقات ربات الخدور- زينب فواز.
ط مصر 1312 هـ.
- دول الإسلام (تاريخ دول الإسلام) - رزق الله منقريوس.
ط مصر 1907 م.(10/681)
- دول الإسلام- الذهبي: محمد بن أحمد بن عثمان (ت 748 هـ) .
جزآن طبع حيدر أباد، الهند 1337 هـ.
- الديارات- الشابشتي: علي بن محمد (ت 388 هـ) .
تحقيق كوركيس عواد، ط بغداد 1951 م.
- ديوان أبي تمام- ط دار الكتاب العربي، بيروت 1994 م.
- ديوان الأحوص الأنصاري- تحقيق عادل سليمان ط 2 القاهرة 1990، وط دار الكتاب العربي، بيروت 1994 م.
- ديوان إسحاق الموصلي- جمع وتحقيق ماجد العزي، ط بغداد 1970 م.
- ديوان الأعشى ميمون بن قيس- نشر أدولف هلز هوسن، ط بيانة 1927 م تصوير بيروت 1993 م.
وتحيق محمد محمد حسين، ط مصورة بيروت 1983 م.
- ديوان امرئ القيس- تحقيق محمد أبو الفصل إبراهيم، ط دار المعارف، القاهرة 1984 م.
- ديوان أمية بن أبي الصلت- تحقيق بهجة عبد الغفور الحديثي، ط وزارة الثقافة، بغداد 1991 م.
- ديوان الباخرزي- تحقيق محمد ألتونجي، ط صادر بيروت 1994 م.
- ديوان البحتري- ط دار الكتب العلمية، بيروت 1987 م.
- ديوان بشار بن برد- تحقيق محمد بدر الدين العلوي، ط دار الثقافة، بيروت 1963 م، وتحقيق محمد الطاهر بن عاشور، ط تونس 1976 م.(10/682)
- ديوان البهاء زهير- تحقيق محمد طاهر الجيلاوي ومحمد أبو الفضل ابراهيم، ط 2 دار المعارف، مصر.
- ديوان تميم بن أبي بن مقبل- تحقيق عزة حسن، ط وزارة الثقافة، دمشق 1962 م.
- ديوان أبي تمام- شرح التبريزي، تحقيق محمد عبده عزام ط دار المعارف، مصر، وط دار الكتاب العربي، بيروت 1994 م.
- ديوان توبة بن الحميّر الخفاجي- جمع وتحقيق خليل العطية، ط بغداد 1968 م.
- ديوان التهامي- ط المكتب الإسلامي دمشق 1964 م.
- ديوان جرير بن عطية بن الخطفى- ط 2 دار الكتاب العربي، بيروت 1994 م.
- ديوان جميل بثينة (جميل بن معمر العذري) - ط عالم الكتب بيروت 1996 م.
- ديوان حاتم الطائي- ط دار الكتاب العربي، بيروت 1997 م.
- ديوان حسان بن ثابت- تحقيق وليد عرفات، ط صادر بيروت 1974 م.
- ديوان الحماسة (حماسة أبي تمام الطائي) - تحقيق عبد الله عسيلان، ط الرياض 1981 م.
- ديوان الخالديين- تحقيق سامي الدهان، ط مجمع اللغة العربية، دمشق 1969 م.
- ديوان الخوارج- جمع وتحقيق إحسان عباس، ط دار الشروق بيروت 1982 م.
- ديوان دعبل الخزاعي- تحقيق عبد الكريم الأشتر، ط دمشق 1983 م.
- ديوان ابن الدمينة- صنعة أبي العباس ثعلب، تحقيق أحمد راتب النفاخ، ط(10/683)
مكتبة دار العروبة، القاهرة 1959 م.
- ديوان أبي دهبل الجمحي- تحقيق عبد العظيم عبد المحسن، ط النجف 1972 م.
- ديوان ذي الرمة- تحقيق عبد القدوس أبي صالح، ط بيروت 1993 م، وط المكتب الإسلامي دمشق.
- ديوان ابن الرومي- ط دار الكتب العلمية، بيروت 1994 م.
- ديوان زهير بن أبي سلمى- صنعة أبي العباس ثعلب، ط دار الكتب المصرية، ط القاهرة 1944 م.
صورتها الدار القومية، القاهرة 1964 م.
- ديوان السري الرفاء- ط مكتبة القدسي، القاهرة 1355 هـ، وط دار الجيل بيروت 1991 م.
ديوان الشريف المرتضى- تحقيق رشيد الصفار، ط المؤسسة الإسلامية، بيروت 1987 م.
- ديوان الصنوبري- تحقيق إحسان عباس، ط دار الثقافة بيروت 1970 م.
- ديوان الطرماح- تحقيق عزة حسن، ط دار الشروق، بيروت 1994 م.
- ديوان الطغرائي- تحقيق يحيى الجبوري وعلي جواد الطاهر، ط دار الحرية، بغداد 1976، ودار القلم الكويت 1983 م.
- ديوان العباس بن الأحنف- ط دار الكتاب العربي، بيروت 1997 م.
- ديوان عبد الله بن المعتز- صنعة الصولي، تحقيق يونس السامرائي، ط عالم الكتب، بيروت 1997 م.(10/684)
- ديوان عبيد الله بن قيس الرقيات- تحقيق محمد يوسف نجم، ط صادر، بيروت د. ت.
- ديوان أبي العتاهية- ط 2 دار الكتاب العربي، بيروت 1997 م.
- ديوان العرجي- جمع الجبيلي، ط صادر، بيروت 1998 م.
- ديوان عروة بن حزام- ط دار الجيل، بيروت 1995 م.
- ديوان علي بن الجهم- تحقيق خليل مردم، ط بيروت 1980 م.
- ديوان عمر بن أبي ربيعة- شرح محمد محيي الدين عبد الحميد، ط دار السعادة، مصر 1965 م.
- ديوان عنترة- ط دار الكتب العلمية، بيروت 1995 م.
- ديوان أبي فراس الحمداني- تحقيق محمد ألتونجي، دمشق 1987 م.
- ديوان القطامي- تحقيق السامرائي ومطلوب، ط دار الثقافة بيروت 1960 م.
- ديوان قيس بن الخطيم- تحقيق ناصر الدين الأسد، ط 3 صادر، بيروت 1991 م.
- ديوان قيس بن ذريح- تحقيق عفيف حاطوم، ط صادر، بيروت 1998 م.
- ديوان كثير عزة- تحقيق إحسان عباس، ط دار الثقافة، بيروت 1998 م. وط دار الجيل بيروت 1995 م.
- ديوان كشاجم- تحقيق خيرية محفوظ، ط وزارة الإعلام، بغداد 1970 م.
- ديوان الكميت بن زيد- تحقيق داود سلوم، ط عالم الكتب، بيروت 1997 م.
- ديوان المتنبي- شرح أبي البقاء العكبري، تحقيق السقا والأبياري وشلبي ط مصورة طبعة القاهرة، دار المعرفة بيروت، وشرح البرقوقي، القاهرة 1930 م.(10/685)
- ديوان مجنون ليلى (قيس بن الملوح) - تحقيق عبد الستار فراج، ط مصر د.
ت.، وط عالم الكتب، بيروت 1996 م.
- ديوان مروان بن أبي حفصة- ط دار الكتاب العربي، بيروت 1993 م.
- ديوان مسلم بن الوليد- تحقيق سامي الدهان، ط دار المعارف، مصر 1970 م.
- ديوان المعتمد بن عباد ملك أشبيلية- جمع وتحقيق رضا السويسي، ط الدار التونسية للنشر 1975 م.
- ديوان النابغة الذبياني- تحقيق ابن عاشور، ط الشركة التونسية 1976 م.
- ديوان ابن هرمة- تحقيق محمد نفاع وحسين عطوان، ط مجمع اللغة العربية، دمشق 1969 م.
- ديوان الوأواء الدمشقي- تحقيق سامي الدهان، ط صادر، بيروت 1997.
- الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة- ابن بسام: علي بن بسام الشنتريني الأندلسي (ت 542 هـ) .
أقسام منه في ثلاثة أجزاء طبعت بمصر سنة 58- 1364 هـ.
- ذيل تاريخ بغداد- ابن النجار: محيي الدين محمد بن محمود (ت 643 هـ) .
مخطوطة الظاهرية دمشق، التاريخ 42، ومخطوطة المكتبة الوطنية، باريس 2131.
- زبدة الحلب من تاريخ حلب- ابن العديم: عمر بن أحمد العقيلي (ت 660 هـ) .
تحقيق سامي الدهان، طبع المعهد الفرنسي للدراسات العربية 51- 1985 م.(10/686)
- الرسالة الفتحية في النسب التأليفية- الأرموي: صفي الدين عبد المؤمن البغدادي (ت 693 هـ) .
تحقيق هاشم محمد الرجب، ط وزارة الثقافة، بغداد.
- الرسالة الفتحية في الموسيقا- محمد بن عبد الحميد اللاذقي (ت 888 هـ) .
تحقيق وشرح هاشم محمد الرجب، ط الكويت 1986 م.
- رسوم دار الخلافة- الصابي: أبو الحسن هلال بن المحسن (ت 448 هـ) .
تحقيق ميخائيل عواد، ط بغداد 1964 م.
- رغبة الآمل من كتاب الكامل- سيد بن علي المرصفي (ت 1349 هـ) .
ط مصر 46- 48، وط 2 صوّرتها مكتبة البيان، بغداد 1969 م.
- زهر الآداب- الحصري: إبراهيم بن علي القيرواني (ت 453 هـ) .
تحقيق علي محمد البجاوي، ط القاهرة 1362 هـ/ 1953 م.
- سمط الآلي- أبو عبيد عبد الله بن عبد العزيز البكري (ت 478 هـ) .
تحقيق عبد العزيز اليمني، ط لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1936 م.
- السلوك لمعرفة دول الملوك- المقريزي: أحمد بن علي (ت 845 هـ) .
طبع الجزء الأول في مصر 34- 1939 م، والقسم الأول من الجزء الثاني ط مصر 1941 م.
- الشجرة ذات الأكمام الحاوية لأصول الأنغام- مجهول المؤلف.
تحقيق وشرح غطاس عبد الملك خشبة وإيزيس فتح الله، ط الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1983 م.(10/687)
- شذرات الذهب- ابن العماد الحنبلي: عبد الحي بن أحمد (ت 1089 هـ) .
ط القاهرة 1350 هـ. وط دمشق- بيروت 1992 م.
- شرح المعلقات العشر- الشنقيطي: أحمد بن الأمين (ت 1331 هـ) .
ط دار الكتاب العربي، بيروت 1985 م.
- شعر أعشى همدان- ضمن شعر الأعشى والأعشين.
نشر أدولف هلزهوسن، ط بيانة 1928 م، تصوير بيروت 1993 م.
- شعر الحارث المخزومي- جمع وتحقيق يحيى الجبوري، ط دار القلم الكويت 1983 م.
- شعر أبي حية النميري- جمع وتحقيق يحيى الجبوري، ط وزارة الثقافة، دمشق 1975 م.
- شعر (أشعار) الخليع الحسين بن الضحاك- جمع وتحقيق عبد الستار أحمد فراج، ط دار الثقافة، بيروت 1960 م.
- شعر سلم الخاسر- ضمن (شعراء عباسيون) .
جمع وتحقيق جرونباوم، ط بيروت 1959 م.
- شعر السليك بن سلكة (أخباره وأشعاره) - جمع وتحقيق حميد ثويني وكامل عواد، ط بغداد 1984 م.
- شعر أبي الشيص الخزاعي- (أشعار أبي الشيص الخزاعي وأخباره) .
جمع وتحقيق عبد الله الجبوري، ط النجف 1967 م.
- شعر عبد الصمد بن المعذل- جمع وتحقيق زهير غازي زاهد، ط النجف 1970 م.(10/688)
- شعر عبد الله بن الزبعري- جمع وتحقيق يحيى الجبوري، ط دار الرسالة، بيروت 1981 م.
- شعر علي بن جبلة العكوك- جمع وتحقيق حسين عطوان، ط مصر 1972 م.
- شعر عمرو بن شأس- جمع وتحقيق يحيى الجبوري، ط دار القلم، الكويت 1983 م.
- شعر المسبب بن علس- جمع وتحقيق أنور سويلم، ط جامعة مؤتة، الأردن 1994 م.
- شعر نصيب بن رباح- جمع وتحقيق داود سلوم، ط بغداد 1968 م.
- شعر النمر بن تولب- ضمن (شعراء إسلاميون) ط بيروت 1984 م.
- شعر هدبة بن الخشرم- جمع وتحقيق يحيى الجبوري، ط دار القلم، الكويت 1986 م.
- شعر الوليد بن يزيد- جمع وتحقيق حسين عطوان، ط عمان 1979 م.
طبقات ابن سعد (الطبقات الكبير) - محمد بن سعد (ت 230 هـ) .
تحقيق سخاو، ط ليدن 1904 م، صور في بيروت 1957 م.
- طبقات الشعراء- ابن المعتز: أبو العباس عبد الله بن المعتز العباسي (ت 296 هـ) .
تحقيق عبد الستار فراج، ط دار المعارف، مصر 1956 م.
- عيون الأخبار- ابن قتيبة: عبد الله بن مسلم الدينوري (ت 276 هـ) .
ط دار الكتب المصرية، القاهرة 1967 م.(10/689)
- الغناء والموسيقا عند العرب قبل الإسلام- السامرائي: عبد الجبار محمود.
- مجلة التراث الشعبي، العدد الخامس السنة الخامسة، ط دار الحرية، بغداد 1974 م.
- الغيث المسجم في شرح لامية العجم- الصفدي: صلاح الدين خليل بن أيبك (ت 764 هـ) ، ط مصر 1290 هـ.
- الفهرست- ابن النديم: محمد بن إسحاق (ت 380 هـ) .
ط فلوجل، ليبسك 1871 م، وط رضا تجدد، طهران 1971 م.
- فوات الوفيات- ابن شاكر الكتبي: محمد بن شاكر الحلبي (ت 764 هـ) .
تحقيق إحسان عباس، ط بيروت 73- 1974 م.
- الكامل في التاريخ- ابن الأثير: عز الدين علي بن محمد الشيباني (ت 630 هـ) .
ط صادر، بيروت 1965 م.
- كتاب بغداد- طيفور: أحمد بن أبي طاهر (ت 280 هـ) .
ط مصر 1368 هـ/ 1949 م.
- اللباب في تهذيب الأنساب- ابن الأثير (السابق) .
ط مصر 56- 1369 هـ.
- لسان العرب- ابن منظور: جمال الدين محمد بن مكرم بن علي الأنصاري (ت 711 هـ) .
ط صادر، بيروت.(10/690)
- لسان الميزان- ابن حجر: أحمد بن علي العسقلاني (ت 852 هـ) .
ط حيدرأباد، الهند 1331 هـ.
- المحبر- ابن حبيب: محمد بن حبيب بن أمية الهاشمي (ت 245 هـ) .
ط دائرة المعارف العثمانية، حيدر أباد، الهند 1361 هـ/ 1942 م.
- مرآة الجنان- اليافعي: عبد الله بن أسعد (ت 678 هـ) .
ط بيروت 1970 م.
- مرآة الزمان في تاريخ الأعيان- سبط ابن الجوزي: يوسف بن قزا أوغلي (ت 654 هـ) .
طبع المجلد الثامن وهو الأخير في حيدر أباد، الهند 1370 هـ/ 1951 م.
- مروج الذهب ومعادن الجوهر- المسعودي: أبو الحسن علي بن أبي الحسن (ت 346 هـ) .
ط باريس 1930 م، وط محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة 1958 م.
- المستطرف من كل فن مستظرف- الأبشيهي: محمد بن أحمد (ت 852 هـ) .
ط إحياء التراث العربي، بيروت.
- المستظرف في أخبار الجواري- السيوطي: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (ت 911 هـ) .
تحقيق صلاح الدين المنجد، ط بيروت 1963 م، وتحقيق أحمد عبد الفتاح تمام، ط مكتبة التراث الإسلامي القاهرة د. ت.
- المصباح المنير- الفيومي: أحمد بن محمد بن علي المقري (ت 707 هـ) .(10/691)
- مطمح الأنفس ومسرح التأنس في ملح أهل الأندلس- الفتح بن خاقان: الفتح ابن محمد بن عبيد الله القيسي (ت 535 هـ) ، ط الجوائب 1302 هـ.
- المعجب في تلخيص أخبار المغرب- المراكشي: عبد الواحد بن علي التميمي (ت 647 هـ) .
ط مصر 1368 هـ/ 1949 م.
- معجم الأدباء- ياقوت الرومي الحموي (ت 626 هـ) .
ط دار المأمون، مصر 1936 م، وتحقيق إحسان عباس، ط دار الغرب الإسلامي، بيروت 1993 م.
- معجم الشعراء- المرزباني: أبو عبيد محمد بن عمران (ت 384 هـ) .
تحقيق عبد الستار فرج، ط الحلبي القاهرة 1960 م.
- المعجم الوسيط- إعداد مجمع اللغة العربية، القاهرة.
- المعرب من الكلام الأعجمي- الجواليقي: أبو منصور موهوب بن أحمد (ت 540 هـ) .
تحقيق أحمد شاكر، ط القاهرة 1361 هـ.
- المفضليات- الضبي: المفضل بن محمد (ت 178 هـ) .
تحقيق محمود شاكر وعبد السلام هارون، ط دار المعارف، مصر 1976 م.
- مقامات الموسيقا العربية- صالح مهدي، نشر المعهد الرشيدي لموسيقى التونسية، تونس د. ت.
- المنتخل (كتاب المنتخل) - الميكالي: أبو الفضل عبيد الله بن أحمد بن علي(10/692)
(ت 436 هـ) .
تحقيق يحيى الجبوري، ط دار الغرب الإسلامي، بيروت 2000 م.
- المنتظم من تاريخ الملوك والأمم- ابن الجوزي: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد (ت 597 هـ) . ط دائرة المعارف العثمانية، حيدر أباد، الهند 1357 هـ.
- الموسوعة العربية الميسرة- بإشراف محمد شفيق غربال، ط دار الشعب 1965 م.
- الموسيقا العراقية في عهد المغول والتركمان- عباس العزاوي. ط بغداد.
- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة- ابن تغري بردي: أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي (ت 847 هـ) . ط دار الكتب المصرية 1930 م.
- نزهة الجليس ومنية الأديب الانيس- الموسوي: العباس بن علي بن نور الدين (1148 هـ) ط مصر 1293 هـ.
- نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب- المقري: أحمد بن محمد التلمساني (ت 1041 هـ) .
ط دوزي وآخرين، ليدن 1861 م، وط مصر 1302 هـ.
- نكت الهميان في نكت العميان- الصفدي: صلاح الدين خليل بن أيبك (ت 764 هـ) .
تحقيق أحمد زكي، ط مصر 1329 هـ/ 1911 م.
- نهاية الأرب في فنون الأدب- النويري: شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب (ت 732 هـ) .(10/693)
ط دار الكتب المصرية 29- 1955 م، وطبعة مصورة عنها، القاهرة 1975 م.
- الواضح المبين فيمن استشهد من المحبين- مغلطاي بن فليح بن عبد الله البكرجي المصري (ت 762 هـ) .
تحقيق أوتو سبيز، ط دلهي 1936 م.
- الوافي بالوفيات- الصفدي: صلاح الدين خليل بن أيبك (ت 764 هـ) .
باعتناء هلموت ريتر، ط صادر، بيروت 1971 م، وط شتوتكارت 1993 م.
- الوزراء والكتاب- الجهشياري: أبو عبد الله محمد بن عبدوس (ت 331 هـ) .
تحقيق السقا والأبياري وشلبي، ط مصر 1357 هـ/ 1938 م.
- الوسائل إلى مسامرة الأوائل- السيوطي: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (ت 911 هـ) .
ط بغداد 1369 هـ/ 1950 م.
- وفيات الأعيان- ابن خلكان: شمس الدين أحمد بن محمد (ت 681 هـ) .
تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، ط مصر 1948 م، وتحقيق إحسان عباس، ط دار الثقافة، بيروت 1973 م.
- يتيمة الدهر- الثعالبي: أبو منصور عبد الملك بن محمد النيسابوري (ت 429 هـ) .
ط محمد محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة 1956 م، وط دار الكتب العلمية، بيروت 1983 م.(10/694)
فهرس الموضوعات
صور من الأصل المخطوط/ 5
مقدمة/ 13
وصف مخطوطة الكتاب/ 13
الكتاب ومنهج مؤلفه/ 16
منهج التحقيق/ 19
مقدمة المؤلف/ 23
ترتيب الأوائل للألحان/ 24
اختيار المؤلف من كتاب (الأغاني والإماء المغنون) :
1- ابن محرز/ 29
2- ابن عائشة/ 32
3- حنين الحيري/ 41
4- الغريض/ 45
5- طويس/ 66
6- يزيد حوراء/ 71
7- عبد الرحمن الدفاف/ 73
8- ابن مسجح/ 74(10/695)
9- عطرد/ 77
10- الأبجر/ 79
11- فريدة/ 82
12- الدلال/ 86
13- أبو سعيد مولى فائد/ 93
14- فليح بن أبي العوراء/ 99
15- الهذلي سعيد بن مسعود/ 102
16- مالك بن أبي السمح/ 103
17- دحمان الأشقر/ 107
18- سياط/ 109
19- ابن جامع/ 110
20- جميلة/ 119
21- معبد/ 121
22- ابن سريج/ 129
23- أبو كامل/ 145
24- إسماعيل الهربذ/ 147
25- أبو دلف (القاسم بن عيسى العجلي) / 149
26- البردان/ 164(10/696)
27- سائب خاثر/ 165
28- عبد الله بن جدعان/ 168
29- متيم الهشامية/ 171
30- سلامة القس/ 173
31- عبيد الله بن عبد الله بن طاهر/ 176
32- محمد بن الحارث بن بسخنر/ 178
33- عبد الله بن طاهر/ 184
34- معبد اليقطيني/ 188
35- محمد الزف/ 193
36- عثعث/ 195
37- بصبص جارية ابن نفيس/ 197
38- الزرقاء جارية بان رامين/ 201
39- حبابة جارية يزيد بن عبد الملك/ 203
40- بديح مولى عبد الله بن جعفر/ 208
41- هاشم بن سليمان/ 209
42- عمرو بانة/ 210
43- وجه القرعة/ 214
44- شارية/ 215(10/697)
45- خليدة المكيّة/ 219
46- عمرو الميداني/ 220
47- أشعب الطامع/ 222
48- يونس الكاتب/ 232
49- أحمد النصبي/ 234
50- سليم الكوفي/ 236
51- ابن عبّاد الكاتب/ 237
52- يحيى المكي/ 239
53- حكم الوادي/ 246
54- عمر الوادي/ 247
55- أحمد بن يحيى المكي/ 250
56- بذل/ 251
57- عزّة الميلاء/ 254
58- فند مولى عائشة/ 257
59- دنانير البرمكية/ 258
60- الزبير بن دحمان/ 261
61- عبد الله بن العباس/ 263
62- أبو صدقة/ 274(10/698)
63- عمرو بن أبي الكنّات/ 278
64- خليلان المعلم/ 280
65- عبيدة الطنبورية/ 281
66- أبو حشيشة/ 283
67- إسحاق الموصلي/ 285
68- إبراهيم بن المهدي/ 326
69- عليّة بنت المهدي/ 335
70- أبو عيسى/ 344
71- علّويه/ 347
72- مخارق/ 353
73- عريب جارية المأمون/ 361
74- إبراهيم الموصلي/ 369
75- أبو زكار/ 402
إضافة مغنّين آخرين في العصور المتأخرة
76- دليل الطنبوري/ 404
77- علي بن يحيى المنجم/ 405
78- زرفل بن إخليج/ 408
79- إسرائيل العوّاد/ 409(10/699)
80- طريف بن المعلى الهاشمي/ 411
81- تحفة جارية المعتز/ 413
82- إسحاق المنجم/ 414
83- ابن العلاف نديم المعتضد/ 418
84- مؤدب الراضي/ 421
85- أبو سعد بن بشر/ 422
86- مسكين بن صدقة/ 423
87- بديع بن محسن/ 424
88- غضوب جارية المتقي/ 425
89- معمر بن قطامي/ 427
90- تحفة جارية أبي محمد/ 428
91- تحية جارية أبي يعقوب/ 429
92- أبو العز العواد/ 430
93- عين الزمان أبو القاسم/ 431
94- أبو العبيس بن حمدون/ 432
95- جيداء جارية سيف الدولة/ 433
96- القاسم بن زرزر/ 436
97- علي بن منصور الهاشمي/ 438(10/700)
98- كردم بن معبد/ 439
99- أحمد بن أسامة النصبي/ 439
100- وشيحة/ 441
101- إسرائيل اليهودي/ 442
102- يحيى جارية أبي محمد المهلبي/ 442
103- عنان جارية النطافي/ 443
104- دنانير جارية محمد بن كناسة/ 448
105- فضل اليمامة/ 449
106- تيماء جارية خزيمة بن خازم/ 455
107- سكون جارية طاهر بن الحسين/ 457
108- فنون جارية يحيى بن معاذ/ 458
109- صرف جارية أم حصين/ 458
110- نسيم جارية أحمد بن يوسف الكاتب/ 459
111- عارم جارية وليهيدة النخاس/ 460
112- سلمى اليمامية/ 461
113- مراد جارية علي بن هشام/ 461
114- متيّم الهشامية/ 462
115- سمراء وهيلانة/ 463(10/701)
116- ظلوم جارية محمد بن سالم/ 465
117- عاذل جارية زينب بنت إبراهيم الهاشمية/ 465
118- ريّا وظمياء/ 467
119- بنان جارية المتوكل/ 468
120- ريا جارية إسحاق الموصلي/ 469
121- محبوبة جارية المتوكل/ 470
122- أمل جارية قرين النخاس/ 474
123- رابعة جارية إسحاق بن إبراهيم الموصلي/ 475
124- قاسم جارية ابن طرخان/ 476
125- مها جارية عريب/ 477
126- بدعة الكبرى جارية عريب/ 478
127- مثل جارية إبراهيم بن المدبر/ 480
128- نبت جارية مخفرانة/ 481
129- صاحب جارية ابن طرخان النخاس/ 483
130- جلنار جارية أخت راشد بن إسحاق الكاتب/ 484
131- خنساء البرمكية/ 486
132- خزامى جارية الضبط المغني/ 490
133- صدقة بن محمد/ 492(10/702)
134- الحسين بن الحسن/ 492
135- ياقوت المستعصمي/ 494
136- عبد المؤمن بن يوسف/ 496
137- ألحاظ المغنية/ 504
138- الثوني (صاحب الأرمال) / 505
139- الخروف (من ندماء المنصور) / 506
140- محمد بن غرّة/ 514
141- القاضي محمد العواد/ 517
142- الدهمان محمد بن علي بن عمر المازني/ 519
143- الكمال التوريزي/ 522
144- محمد بن الكسب/ 526
145- الكتيلة (بدر الدين الجنكي المارديني) / 527
146- خالد/ 538
147- السهروردي شمس الدين/ 548
148- الشمس الكرمي/ 553
149- يحيى الغريب الواسطي المشيب/ 554
150- حسن التاي/ 564
151- السيلكو/ 564(10/703)
152- البدر الأربلي/ 565
153- التاج بن الكندي/ 565
154- خواجا أبو بكر النوروزي/ 565
155- علاء الدين دهن الحصا/ 565
156- نظام الدين يحيى بن الحكيم/ 567
157- كمال الدين محمد البرهان الوفي/ 569
158- حسين بن علي المطرب العزاوي/ 570
159- عزيز جارية الحكم بن هشام/ 574
160- عزيز جارية الحكم بن هشام (ترجمة أخرى) / 578
161- بهجة جارية الحكم/ 580
162- مهجة جارية الحكم/ 585
163- فاتن جارية الحكم/ 591
164- فاتك جارية الحكم بن هشام/ 593
165- أفلح الرباني/ 596
166- رغد جارية المغيرة بن الحكم/ 697
167- سليم مولى المغيرة بن الحكم/ 601
168- وضيح بن عبد الأعلى/ 604
169- ابن سعيد كامل/ 606(10/704)
170- حصن بن عبد بن زياد/ 608
171- ساعدة بن بريم/ 608
172- سعد المجدّع/ 610
173- رداح جارية عبد الرحمن المستظهر/ 612
174- خليد مولى الأدارسة/ 615
175- سعدى جارية المعتمد بن عبّاد/ 616
176- ميمون الجوهري/ 619
177- طريف بن عبد الله السميع القابسي/ 620
178- زيد الغنا بن المعلّى/ 622
179- جارية تميم (جد المعز بن باديس) / 624
180- الكينو أحمد بن محمد/ 627
181- أبو عبد الله اللالجي/ 628
182- ناطقة جارية الزاعوني/ 629
183- بديع جارية المحلّمي/ 630
184- صافية جارية بدر أمير الجيوش/ 631
185- عيناء جارية بدر أمير الجيوش/ 633
186- مغني الصالح بن رزيك/ 633
187- سرور جارية العزيز/ 635(10/705)
188- فنون العادلية/ 636
189- عجيبة مغنية الكامل/ 639
190- الكركية مغنية الظاهر بيبرس/ 643
191- الزركشي أبو عبد الله/ 647
192- ابن كرّ أبو عبد الله/ 648
- ملحق بالمصطلحات الموسيقية/ 653
- مصادر التحقيق/ 675(10/706)
[الجزء الثانى عشر]
مقدمة التحقيق
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أنار مسالك الأبصار، والصلاة والسلام على نبينا محمد سيد الممالك والأمصار، وعلى آله السادة الأطهار، وصحبه المنتجبين الأخيار.
وبعد: فهذا هو الجزء الثاني عشر من معلمة ابن فضل الله العمري، وقد قصره على كتّاب الدواوين من المشارقة، ممن كان في خدمة الملوك والأمراء.
وطريقته أن يورد تعريفا بالكاتب بأسلوبه المسجّع، ثم يختار له من نثره مجموعة رسائل، تقل أو تكثر، حسب شهرة الكاتب ومكانته؛ فقد اختار لبديع الزمان الهمذاني والقاضي الفاضل- شعرا ونثرا- ما يستحق أن يفرد بكتاب مستقل؛ ثم يختار له من نظمه شيئا، قل أو كثر.
وكثيرا ما نقف في مختاراته- الشعرية والنثرية- على الجديد الذي لا نعرفه في مصادرنا التراثية؛ فترجمة الببغاء- مثلا- كلّه جديد، وكله مما يستدرك على مجموع شعره ونثره.
وكان الاعتماد في إخراج هذا الجزء، على النسخة الوحيدة التي أصدرها الدكتور فؤاد سزكين- جزاه الله خيرا- عن أصلها المحفوظ في أياصوفيا- المكتبة السّليمانية بإستانبول، تحت رقم 3425.
وهي نسخة تامة، لا خرم فيها، تقع في 396 صفحة، مكتوبة بقلم واحد، وبخط مقروء واضح، قليل الإعجام، نادر الضبط؛ وكثيرا ما يرسم الناسخ بعض الكلمات رسما دون أن يدرك معناها؛ وهنا لابد من أن يلجأ المحقق إلى تقاليب(12/5)
الكلمة ليقف على المعنى الذي يتناسب مع السجع ودقة المعنى؛ وفي هذا من الصعوبة ما لا يدركه إلا من دفع إلى مضايقه.
وإذا كان الناسخ جاهلا، لا يفرق بين المذكر والمؤنث، فالأمر يزداد صعوبة.
وكان من الممكن أن يكون العمل أكثر دقة، لو توفرت لدينا نسخة دار الكتب المصرية، رقم 2568.
فالحمد لله الذي أعان في تحقيق هذا الجزء ويسّره، والشكر للقائمين على المجمّع الثقافي في دولة الإمارات العربية المتحدة، الذين أحسنوا الظن بنا. ورحم الله امرءا ستر عيوب أخيه، فالكمال لمن له الكمال سبحانه.
والحمد لله في البدء والختام.
إبراهيم صالح دمشق/ الشام 13 ذو القعدة 1421 هـ 6 شباط (فبراير) 2001 م(12/6)
بسم الله الرحمن الرحيم على الله توكلت* ثم كانت وزراء وكتاب، مع من سمّينا وبعدهم في خدمة الخلفاء والملوك، ممن لم يرض البرق شرارة من زياده، ولا العنبر الهندي مدة لمداده؛ طالما عد الهلال لقلمه قلامة، وكان الأفق لزهره كمامة، ومد الصباح له صحيفة، وألقى بالرماح لقضيّته في كفه نحيفة؛ وحصل لهم من النعم ما فاض فضله، ومن النقم ما أعيت عضله؛ وسنأتي منهم على الغرض: فمنهم من نذكره لاشتهار اسمه، ومنهم من نذكره باستحقاقه؛ ثم هؤلاء على قسمين: قسم اشتهر للإكثار ولا يتعدى طبقة المقبول، وقسم منهم أصحاب الغوص؛ وأكثر ما تجد ذلك للمتأخرين، فقد أبدعوا في استخراج المعاني وتوليدها؛ وقبل ذكرهم نقول:
إن كتابة الإنشاء كانت في المشرق في خلافة بني العباس منوطة بالوزراء، وربما انفرد بها رجل؛ وذكر ابن عبدوس «1» في مواضع من كتابه من [ولي] ديوان السّرّ وديوان التّرسّل؛ ثم كانت آخر وقت قد أفردت، واستقل بها كتاب لم يبلغوا مبلغ الوزارة، وكان في المشرق يسمى كاتب الإنشاء، ثم لما كثر عددهم سمي رئيسهم رئيس ديوان الإنشاء، ثم بقي يطلق عليه تارة صاحب ديوان الإنشاء، وتارة كاتب السر؛ وهي إلي أحبّ، وعندي أنبه، وعند الناس أدل؛ وكان في دول السلاجقة وملوك الشرق يسمى ديوان الطغراوية، وبه سمي مؤيد الدين الطغرائي «2» ،- والطغراء هي الطرة، وهي التي تكتب فوق البسملة بالقلم(12/7)
الغليظ، يتضمن ألقاب الملك، وهي لفظة أعجمية، وكانت تقوم مقام خط السلطان بيده على المناشير والكتب، ويستغنى بذلك عن أن يكون للسلطان علامة بخطه، لكثرة الوثوق بصاحب هذه الرتبة- و [عند] أهل المغرب يسمى رئيس ديوان الإنشاء صاحب القلم الأعلى.
وأهل هذه الرتبة لم يزل لهم الاختصاص والقرب أكثر من كل عام وخاص، يحتاج الأمراء إلى مداراتهم، وتقصر الوزراء مع علو رتبة الوزارة عن مناراتهم؛ يجتمعون بالملك إذا أرادوا على عدد الأنفاس، وهم معنى الدولة وعليهم عولة كل الناس.
وآخر ما كانت الملوك لا تكاتب الخلفاء ببغداد إلا إلى هذا الديوان، أعني ديوان الإنشاء، وكانت تسميه الديوان العزيز، ولهذا كانت كتبهم تستفتح: أدام الله أيام الديوان العزيز؛ إشارة إلى ديوان الإنشاء، لأن الكتب كانت إليه، والمخاطبة له، وهو المراد بقولهم فيما يوجد في التواريخ وكتب الإنشاء والترسّل:
الديوان العزيز؛ وعليه كان يطلق هذا الاسم، وله بهذا من الشرف ما له، ومن الفخر ما يجر على السماء أذياله؛ وقد آن أن نذكر من القسمين من يذكر:
فأما القسم الأول: فمنهم عبد الحميد وابن العميد والصاحب بن عباد، وهم وإن كانوا من مشاهير الكتاب فإنهم بعداء من الغوص وحسن التوكيد والاختراع، وقد قدمنا في تراجمهم مع الوزراء عنوان قولهم ومبلغ طولهم.(12/8)
1- وأما أبو إسحاق فهو الصابي «1»
* وإن كان منهم وفي طبقته غير بعيد عنهم، ولكنه جوال الذكر في الكتاب، مشهور شهرة [الشمس] في يوم الصحو، تكلم وما تكلف، وتقدم ومن قبله تخلف؛ جرى على سجيته في الطباع ودعا عاصي البيان فأطاع، ولم يقف مع السجع يرسف في قيوده، ويكلف فكره فوق قدرته، فجاء بالعاطل الحالي، وتقدم على أهل العصر الخالي، وكان حلو الجنى عذب المشارع لا يرنق مورده، ولا يطفأ موقده؛ وهو في الكتاب بمنزلة امرئ القيس في الشعراء، إمام القوم وحامل لوائهم، وكان يحفظ القرآن الكريم وينتزع منه الآيات ويستشهد بها، وكانت بينه وبين الشريف الرضي «2» صداقة مؤكدة، ورثاه لما مات برثاء أسمع الخافقين، وطلع في المغربين والمشرقين؛ وأوله «3» : [الكامل]
أرأيت من حملوا على الأعواد ... أرأيت كيف خبا ضياء النادي
فاسمع بهذا الرثاء ما أعظمه وأفخمه!، ولا سيما من مثل هذا الشريف القائل،(12/9)
واستدل به على ما لهذا الرجل من الفضائل؛ عود عبق أرجه وهو حطب، وذمي «1» رقا المنبر فضله وخطب، عقد ندّه سماء من دخان، وأدار مداما من دنان، وكتب دنّه عن الملوك البويهية قرار بأولئك القساور، وزار النجوم وسلب الأهلة الأساور، فضرب النحر بالأسداد، وكايل البحر بالأمداد، وأبدع عجبا وأبعد، فساكن عجما وجاور عربا؛ وتوفي سنة أربع وثمانين وثلاثمئة.
* ومما له قوله: له يد برعت في الجود بنانها، ونظم الدر بيانها، فحاتم كامن في بطن راحتها، وسحبان مستتر بنمارق فصاحتها؛ فلها يد في كل يد، ومنة في كل عنق، وقرط في كل أذن، وسمط في كل مهرق «2» ؛ لها كل يوم مزيد، وعبد الحميد عبد الحميد.
وقوله من عهد لقاض «3» : وأمره إن ورد عليه أمر يعييه فصله، ويشتبه عليه وجه الحكم فيه «4» ، أن يرده إلى كتاب الله عز وجل ويطلب فيه سبيل المخلص منه؛ فإن وجده وإلا في الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أدركه وإلا استفتى فيه من يليه من ذوي الفقه والفهم، وأهل الدراية والعلم، فما زال الأئمة والحكام والسلف الصالح وطراق(12/10)
السنن الواضح يستفتي واحد منهم واحدا، ويسترشد بعضهم بعضا لزوما للاجتهاد، وطلبا للصواب، وتحرزا من الغلط، وتوقيا من الشطط؛ قال الله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ
«1» .
* [وأمره] «2» أن لا ينقض حكما حكم به من كان قبله، ولا يفسخ من تقدمه، وأن يعمل عليه ولا يعدل عنه، ما كان داخلا في إجماع المسلمين، وسائغا في أوضاع الدين؛ فإن خرج عن الإجماع أوضح الحال فيه لمن بحضرته من الفقهاء والعلماء، حتى يصيروا مثله في إنكاره، ويجمعوا معه على رده، وحينئذ ينقضه نقضا يشيع ويذيع، ويصير به الأمر [إلى] «3» واجبه، ويعود معه الحق إلى نصابه؛ قال الله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ
«4» .
* [وقوله في رحلة صيد] : «5»
واعتمدت في الصيد «6» على من يحضرني من أوليائه، على قوة أبدانهم ونشاطها، ورياضة خيلهم وانبساطها، والزمان ساقطة جماره «7» ، مفعمة أنهاره، ونحن غبّ سحاب أقلع بعد الارتواء، وأقشع بعد الاستغناء، والرياض زاهية بحمرائها وصفرائها، تائهة بعوانها وعذرائها، وما نرد منها حديقة إلا استوقفتنا نضارتها واستنزلتنا غضارتها، وخيلنا تشتاق(12/11)
الصيد وهي لا تطعمه، وتحن إليه كأنها تقضمه، وعلى أيدينا جوارح مؤللة المخالب والمناسر، مدربة النصال والخناجر، سابغة الأذناب، كريمة الانتساب؛ إذ وردنا ماء زرقا جمامه، طامية أرجاؤه، يبوح بأسراره صفاؤه، ويلوح في قراره حصباؤه، وأفانين الطير به محدقة، وغرائبه عليه محلقة، متغايرة الألوان والصفات، مختلفة اللغات والأصوات؛ فلما أقبلنا عليها، أرسلنا الجوارح كأنها رسل المنايا أو سهام القضايا، فلم نسمع إلا مسمّيا، ولم نر إلا مذكّيا؛ وانطلقنا بعد ذلك نعتام في الطير ونتخير ونقترح ونتحكم؛ فاختطفنا ببراثننا ما طار منه وانتشر، وأخذنا بجوارحنا ما لاح منه واستتر؛ فاهتدت إليها تستدل عليها بالشميم، وتهتدي إليها بالنسيم؛ فلم يفتنا ما برز، ولا سلم منا ما احترز، ثم عدلنا من مطائر الحمام إلى مسارح الآرام، وأمامنا أدلة فرهة يهتدون، ورواد «1» مهرة يرشدون، حتى أفضينا إلى أسراب كثيرة العدد، متصلة المدد، لاهية بأطلائها، راتعة في أكلائها؛ ومعنا فهود أخطف من البروق، وألقف من الليوث، وأجدى من الغيوث، وأمكن من الثعالب، وأدبّ من العقارب، وأنزى من الجنادب، خمص البطون، رقش المتون، خزر الأحداق، هرت الأشداق، غلب الرقاب، كاشرة عن أنياب كالحراب، تلحظ الظباء من أبعد غاياتها، وتعرف حسها من أقصى نهاياتها، فأقبلنا من تجاه الريح عليها، وأغذذنا المسير نحوها وإليها، ثم وثبنا لها الضّراء، وشننا عليها الغارة الشعواء، وأرسلنا فهودنا، وجرت خيلنا في آثارها كاسعة لأذنابها، فألفينا كلا منها على ظبي قد افترشه، وصرعه فعجعجه «2» ؛ وأوغلنا من بعد في اللحاق، وقص آثار ما ند وبعد؛ وقد انتهت النوبة إلى الكلاب والصقور، ومعنا منها كل عريق المناسب نجيح المكاسب، حلو(12/12)
الشمائل، نجيب المخايل، أغضف الأذنين «1» ، أسيل الخدين، أبي النفس، ملتهب الشد، لا يمس الأرض إلا تحليلا وإيماء، ولا يطالها إلا إشارة وإيحاء؛ وكل صقر ماض كالحسام، قاض كالحمام، مشتط في مطالبه، خفيف النهضة في مآربه، سريع الوثبة فيما يريد، ثقيل الوطأة على ما يصيد؛ فما لبثنا أن أشرفنا على يعافير «2» متطرفة، ويحامير «3» متعرفة، فخرطنا القلائد والشناقات «4» ، فمرت متوافقات مترافقات، قد تباينت في الصور والأجناس، وتآلفت في الإرشاد والالتماس؛ فسبقت الصقور إليها ضاربة وجوهها، عاكسة رؤوسها، ولحقت الكلاب بها منشبة فيها، مدمية لها؛ فبادرناها مجهزين، وغنمناها ما يزين، ثم أخذنا في صيد ما يقرب ويخفّ، وتحصيل ما يلوح ويستدفّ «5» ؛ فلاح لنا قنبر، فأطلقنا عليه يؤيؤا «6» ، فغاب عن الأبصار، واحتجب «7» عن الأنصار، وصار كالغيب المرجم والظن المتوهم، ثم خطفه «8» ووقع به، وهما كهيئة الطائر الواحد؛ وعدنا وفي حبائلنا الصيد والصائد، ورجعنا والشمس مصبوبة للغروب، مؤذنة بالمغيب، والجو في أطمار مبهجة في أصائله، وشفوف مورسة من غلائله؛ فالله ينصر مولانا في دقيق الأغراض وجليلها، ويقضي له بالظفر في جسيم المطالب وضئيلها.(12/13)
[وقوله من أخرى] : «1»
مآرب الناس منزلة بحسب قربها، وأولاها بأن يعتده الخاصة ملعبا والعامة مكسبا: الصيد الذي هو رائض الأبدان، وجامع لشمل الإخوان؛ ولما كانت الجوارح المثمنة، ليست لكل الناس ممكنة، بل لمن عظم شأنه وحاله، وجمّ نسبه وماله، جعلت القول مقصورا على قسي البندق، التي لا تتعذر على مكثر ولا مملق؛ وأنا أكتفي في ترغيب من كان عنه منحرفا، وتثبيت من كان إليه متشوفا، بوصف موقف منه شهدته في بعض ظواهر مدينة السلام، وهناك غيضة ذات ماء أزرق، وشجر مرجحنّ «2» مورق؛ فبينا أنا قائل فيها، ومنتزه في نواحيها، وقد تأودت في حلل الورد شجراؤها، وتفاوحت بروائح المسك أنوارها، إذ أقبلت رفقة قبل الدرور والشروق، وشمرت عن الأذرع والسوق، مقلدين خرائط تحمل من البندق الموزون الملوم، ما هو في الصحة والاستدارة كاللؤلؤ المنظوم، كأنما خرط بالجمر، فجاء كبنان الفهر؛ وقد اختبر طينه، وملك عجينه، كافل مطاعم حامليه، محقق لآمال آمليه، ضامن لحمام الحمام، متناول لها من أبعد مرام؛ يعرج إليها وهو سمّ ناقع؛ ويهبط إليهم وهو رزق نافع؛ وبأيديهم قسي مكسوة «3» بأغشية السندس، مشتملة منها بأفخر ملبس، مثل الكماة في جواشنها «4» ودروعها، والجياد في جلالها وقطوعها؛ حتى إذا جردت من تلك المطارف، وانتضيت من تلك الملاحف، رأيت منها قدودا مخطفة رشيقة، وألوانا معجبة أنيقة، صلبة المكاسر والمعاجم، نجيبة المنابت والمناجم، خطية الانتماء والمناسب، سمهرية الاعتزاء والمناصب؛ تركبت من شظايا الرماح الراعبية، وقرون(12/14)
الأوعال الجبلية؛ قد تحنت تحني النساك، وصالت صيال الفتاك؛ ظواهرها صفر وارسة، ودواخلها سود دامسة، كأن شمس أصيل طلعت [في] متونها، أو جنح ليل اعتكر في بطونها، أو زعفران جرى فوق مناكبها، أو غالية جمدت على ترائبها، أو ثني قضبان فضة أذهب بعضها واحترق شطر، أو حيات رمل اعتنقت السود منها والصفر؛ فلما توسطوا تلك الروضة، وانتشروا على أكناف تلك الغيضة، وثبتت للرمي أقدامهم، وشخصت إلى الطير أبصارهم، وتروها بكل وتر فوّق سهمه، وأفق انقض نجمه، مضاعف عليها من وترين كأنه بروح ذو جسدين، في وسط تسريحه كيس مختوم، أو سرة بطن مهضوم، كأنها متخازر ينظر شزرا، أو مصغ يتسمع نزرا، تصيب قلوب الطير بالأنباض، وتصيب منها مواقع الأعراض؛ فلم يزل القوم يرمون ويصيبون، وينجحون ولا يخيبون، حتى خلت من البندق خرائطهم، وامتلأت بالصيد حقائبهم، فكم عارضت الطير فكسرت أجنحتها وجآجئها، واستطارت في الجو قوادمها وخوافيها، تعاجل قبل فناء ذمائها «1» ، ويصير ريشها كالمجاسد من دمائها محمولة على حكم الكفار، إذ يقتلون ومصيرهم إلى النار؛ تحنط بتوابلها وأبازيرها، وتوارى في قدورها وتنانيرها، ثم تبعث إلى إخوان متوافقين، وخلان مترافقين، قد تمالحوا في الطعام، وتراضعوا في المدام، لا يشوب صفوهم شائب، ولا يعيب فضلهم عائب؛ فالحمد لله الذي أباحنا لذيذ المطاعم، ونهج لنا سبيل المغانم.(12/15)
ومن كلام أبي إسحاق الصّابئ قوله في عهد كتبه لطفيلي «1» : هذا ما عهد علي بن أحمد المعروف بعليكا إلى علي بن عرس الموصلي حين استخلفه على إحياء سنته، واستنابه في حفظ رسومه، من التطفيل على مدينة السلام وما يتصل بها من أكنافها، ويجري معها من سوادها وأطرافها؛ لما توسمه فيه من قلة الحياء، وشدة اللقاء، وكثرة اللقم، وجودة الهضم، ورآه أهلا له من شدة مكانه «2» في هذه الرفاهية المهملة التي فطن لها، والرفاغية «3» المطرحة التي امتد إليها، والنعم العائدة على لابسها بملاذ الطعوم ومناعم الجسوم؛ متوردا على من اتسعت مواد ماله، وتفرعت شعب حاله، وأقدره الله على غرائب المأكولات، وأظفره ببدائع الطيبات، آخذا من كل ذلك بنصيب الشريك المناصف، وضاربا منه بسهم الخليط المفاوض، ومستعملا للمدخل اللطيف عليه، والمتولج العجيب إليه، والأسباب التي ستشرح في مواضعها من هذا الكتاب، وتستوفى الدلالة على ما فيها من رشاد وصواب؛ وبالله التوفيق، وعليه التعويل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
أمره بتقوى الله التي هي الجانب العزيز، والحرز الحريز، والركن المنيع، والطود الرفيع، والعصمة الكالئة، والجنة الواقية، والزاد النافع يوم المعاد، يوم لا ينفع(12/16)
إلا مثله من الأزواد؛ وأن يستشعر خيفته في سره وجهره، ومراقبته في قوله وفعله، ويجعل رضاه وثوابه ملبسه، والقربة منه أربه، والزلفى لديه غرضه، ولا يخالفه في مسعاه قدم، ولا يتعرض عنده لعاقبة ندم.
وأمره أن يتأمل اسم التطفيل ومعناه، ويعرف مغزاه ومنحاه، يتفحصه تفحص «1» الباحث عن حظه بمجهوده، غير القائل منه بتسليمه وتقليده، فإن كثيرا من الناس قد استقبحه ممن فعله، وكرهه لمن استعمله، ونسبه فيه إلى الشره والنهم؛ فمنهم من غلط في استدلاله، فأساء في مقاله، ومنهم من شح على ماله، فدافع عنه باحتياله؛ وكلا الفريقين مذموم [وجميعهما ملوم؛ لا يتعلقان بعذور واضح، و] «2» ، لا يتعريان من لباس فاضح؛ ومنهم الطائفة التي لا ترى شركة العنان، فهي تبذله إذا كان لها، وتتدلى عليه إذا كان لغيرها، وترى أن المنة في الطعم للهاجم الآكل، وفي المشرب «3» للوارد والواغل، هي أحق بالحرّيّة، وأخلق بالخيرية، وأحرى بالمروءة، وأولى بالفتوة، وقد عرفت بالتطفيل، ولا عار فيه عند ذوي التحصيل، لأنه مشتق من الطّفل، وهو وقت المساء وأوان العشاء، فلما كثر استعمل في صدر النهار وعجزه، وأوله [وآخره] «4» ، كما قيل للشمس والقمر: [القمران] وأحدهما القمر، ولأبي بكر وعمر: العمران وأحدهما عمر.
وأمره أن يتعهد موائد الكبراء والعظماء بغزاياه، وسمط الأمراء والوزراء بسراياه؛ فإنه يظفر منها بالغنيمة الوافرة، ويصل منها إلى الغريبة النادرة؛ وإذا(12/17)
استقرأها وجد فيها من طرائف الألوان، الملذة للسان، وبدائع الطعوم، السائغة في الحلقوم، ما لا يجد عند غيرهم، ولا يناله إلا لديهم.
وأمره أن يتتبع ما يعرض لموسري التجار، ومجهزي الأمصار من وكيرة [الدار، والعرس] والإعذار «1» فإنهم يوسعون على أنفسهم في النوائب بحسب تضييعهم «2» عليها في الراتب.
وأمره أن يصادق قهارمة الدور ومدبريها، ويرافق وكلاء المطابخ وحماليها؛ فإنهم يملكون من أصحابهم أزمة مطاعمهم ومشاربهم، ويضعونها بحيث يحبون من أهل موداتهم ومعارفهم؛ وإذا عدّت هذه الطائفة أحدا من الناس من خلانها، واتخذته أخا من إخوانها، سعد بمرافقتها، وحظي بمصادقتها، ووصل إلى محابه من جهاتها، وسار به إلى جنباتها «3» .
وأمره أن يتعهد أسواق المتسوقين، ومواسم المتبايعين؛ فإذا رأى وظيفة قد زيد فيها «4» ، وأطعمة قد استحشد مشتريها، اتبعها إلى المقصد بها، وشيعها إلى المنازل الحاوية لها، واستعلم ميقات الدعوة ومن يحضرها من أهل اليسار والمروءة؛ فإنه لا يخلو فيهم من عارف به يراعي وقت مصيره إليها ليتبعه، ويكمن له ليصحبه ويدخل معه وإن خلا من ذلك اختلط بزمر الداخلين، فما هو إلا أن يتجاوز عتب الأبواب، ويخرج من سلطان البوابين والحجاب، حتى يحصل محصلا قل ما حصله أحد قبله، فما انصرف عنه «5» إلا ضلعا من الطعام، نزيفا من المدام.(12/18)
وأمره أن ينصب الأرصاد على منازل المغنيات والمغنين، ومواطن الإناث والمخنثين؛ فإذا أتاه خبر بمجمع تضمهم، أو مأدبة تعمهم، ضرب إليها أعقاب إبله، وأنضى حولها مطايا خيله، وحمل عليها حملة الحوت الملتقم، والثعبان الملتهم، والليث الهاصر «1» والعقاب الكاسر.
وأمره أن يتجنب مجامع العوام المقلين، ومحافل الرعاع المقترين، وأن لا ينقل إليها قدما ولا يفغر لمآكلها فما، ولا يلفى في عتب دورها كيسانا، ولا يعد الرجل منها إنسانا؛ فإنها عصابة يجتمع لها ضيق النفوس والأحوال، وقلة الأحلام والأموال، وفي التطفيل عليها إجحاف بها يوثم، وإزراء بمروءة المتطفل [يوصم] ، والتجنب لها أجدى «2» ، والازورار عنها أرجا.
وأمره أن يحرز الخوان إذا وضع، والطعام إذا نقل، حتى يعرف بالحدس والتقريب، والبحث والتنقيب، عدد الألوان في الكثرة والقلة، وافتنانها في الطيب واللذة، فيقدر لنفسه أن يشبع مع آخرها، وينتهي عند انتهائها، ولا يفوته النصيب من كثيرها وقليلها، ولا يخطئه الحظ من دقيقها وجليلها؛ ومتى أحس بقلة الطعام، وعجزه عن الأقوام، أمعن في أوله إمعان الكيّس في سعيه، الرشيد في أمره، المالئ لبطنه من كل حار وبارد؛ فإنه إذا فعل ذلك سلم من عواقب الأغمار الذين يكفون تظرفا، ويقلون تأدبا، ويظنون أن المادة تبلغهم إلى آخر أمرهم، وتنتهي إلى غاية شبعهم، فلا يلبثون أن يخجلوا خجلة الواثق، وينقلبوا بحسرة الخائب؛ أعاذنا الله من مثل مقامهم، وعصمنا من شقاء جدودهم.(12/19)
وأمره أن يروض نفسه ويغالط حسه، ويضرب عن كثير مما يلحقه صفحا، ويطوي دونه كشحا، ويستحسن الصمم عن الفحشاء، ويغمض عن اللفظة الخشناء، وإن أتته اللكزة في حلقه، صبر عليها في الوصول إلى حقه؛ وإن وقعت به الصفعة في رأسه، أغضى عنها لمراتع أضراسه؛ فإن لقيه لاق بالجفاء، قابلة باللطف والصفاء، إذ كان إذا ولج الأبواب، وخالط الأسباب، وجلس مع الحضور، وامتزج بالجمهور، ولا بد أن يلقاه المنكر لأمره، ويمر به المستغرب بوجهه؛ فإن كان حرا حييا أمسك وتذمم، وإن كان فظا غليظا همهم وتكلم؛ وأن يجتنب عند ذلك المخاشنة، ويستعمل مع المخاطب الملاينة، ليرد غيظه، ويفلّ حده، ويكف غربه؛ ثم إذا طال المدى تكررت الألحاظ عليه فعرف، وأنست النفوس به فألف، ونال من الحال المجتمع عليها، منال من حشم وسئل العناء إليها.
ولقد بلغنا أن رجلا من هذه العصابة، كان ذا فهم ودراية، وعقل وحصافة، طفل على وليمة رجل ذي حال عظيمة فرمقته فيها من القوم العيون، وتصرف بهم فيه الظنون، فقال له قائل منهم: من تكون أعزك الله؟، فقال: أنا أول من دعي إلى هذا الحق؛ قيل له: وكيف ذلك ونحن لا نعرفك؟ فقال: إذا رأيت صاحب الدار عرفني وعرفته نفسي؛ فجيء به إليه، فلما رآه بدأه بأن قال له: هل قلت لطباخك «1» أن يصنع طعامك زائدا على عدد الحاضرين، ومقدار حاجة المدعوين؟ فقال: نعم؛ فقال: فإنما تلك الزيادة لي ولأمثالي، وبها تستظهر لمن جرى مجراي، وهو رزق أنزله الله على يدك، وسببه من جهتك؛ فقال: مرحبا بك وأهلا وقربا، والله لا جلست إلا مع علية الناس، ووجوه الجلساء والأناس، إذ قد طرفت في قولك، وتفننت في فعلك؛ فليكن ذلك الرجل لنا إماما نقتدي به، وحاديا نحدو على مثاله، إن شاء الله.(12/20)
وأمره أن يكثر من تعاهد الجوارشنات «1» المنفذة للسّدد، المقوية للمعد، المشهية للطعام، المسهلة لسبيل الانهضام؛ فإنها عماد أمره وقوامه، وبها انتظامه والتآمه؛ لأنها تعين عمل الدعوتين، وتنهض في اليوم الواحد بالأكلتين، وهو في تناولها كالكاتب الذي يقط أقلامه، والجندي الذي يصقل حسامه، والصانع الذي يجدد آلاته، والماهر الذي يصلح أدواته.
هذا عهد علي بن أحمد المعروف بعليكا إليك وحجته عليك، لم يألك في ذلك إرشادا وتوقيفا، وتهذيبا وتثقيفا، وتمعنا وتبصيرا، وحثا وتذكيرا؛ فكن بأوامره مؤتمرا، وبزواجره مزدجرا، ولرسومه متبعا، ولحفظها مضطلعا؛ إن شاء الله تعالى؛ والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
قلت: وسئلت في تقليد لطفيلي، فعملت:
الحمد لله الذي نعّم في طيبات رزقه، ورزق بعض خلقه من خلقه، وأجاز للمرء في بعض المذاهب التوصل بما قدر عليه إلى أخذ حقه، نحمده على نعمه التي وسعت الولائم، ومتعت بأكل كل ملائم، ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادة أول ما يبدأ منها باسم الله الآكل، ويهنأ بها ما يهيأ من المآكل، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، الذي ما عاب قط طعاما، ولا دعي إلى طعام إلا أكل مالم يكن نوى صياما؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، صلاة تتلقمها المسامع التقاما، وسلم تسليما كثيرا؛ وبعد:
فلما كان الغداء هو قوام الأبدان، ونظام عمارة البلدان، وموائد الطعام هي التي يجتمع عليها الإخوان، وتزهى به صدور الإيوان، وتفتح وتختم بالحمد، وتمنح من أطايب المطاعم ما يتجاوز الحد، ويكون فيها ما يسر العين من بدائع(12/21)
الألوان، وتسري نجوم زباديها «1» في سماء الخوان، وقد تحويه دور بعض البخلا، ومن لا يدعو الناس إلى طعامه دعوة الجفلى «2» ، ويكون في ماله الممنوع حق للسائل والمحروم، ومن لا يتوصل إلى الحق منه إلا بالتطفيل المعلوم، ممن تعيّن الأكل من ماله بأنواع الحيل، والهجوم على موائده المحجوبة وراء الحلل، واستعمال الإقدام على هذا وأمثاله لأكل طعامه، وإخلاء المائدة من قدامه؛ ولم يوجد لهذه العظيمة، ولا يلام صاحب كل وليمة، إلا من كان إذا أكل اضطلع، وإذا مد يده إلى السماط اقتلع، أو صعد إلى السماء ذبح سعد الذابح وبلع سعد بلع؛ ولم يزل يزلزل الموائد، ويملأ وعاء بطنه بزائد، ولا يعرف ما تكون البطنة، ولا ما تكفي منه اللقمة وتعني منه اللهنة، ولا يقابله صدور الأطباق إلا وهي غير مطمئنة.
وكان فلان هو الذي طالما كشف وجه السماط، وحل من سفر المخالي الرباط، وجال في جنبات الموائد حتى أخلاها، وركض فيها ركض الجواد حتى ألحق أخراها بأولاها، وعرف في الولائم التي لم يزل فيها مشهور الحملة، آتيا على التفصيل والجملة، معروفا بكبر اللقم التي تكاد تخنق، وترك التشهي وأكل ما يتفق، وقوة النهمة التي لو نقمت [على] الصخر لسحنته، أو كلفت خوض البحر إلى أكل لقمة واحدة لاستهونته؛ واشتهر بطبع طبع، عنّى كل من يجيء بعده وأتعب، وفرط طمع أطفأ كل طفيلي وأمات أشعب وأم أشعب، ولم يعصم منه باب مغلق، ولا ستر مطبق ولا طعام جالس على الطريق، ولا محبوس من وراء مضيق، بل لو قيل له: إنّ اللقمة خلف جبل قاف لقام إليها يسعى، أو في فم الأفعى لمد يده إليها ولم يخف لسعا، قد تبلط وجهه الوقاح، وأفنى لحوم ذوات الأربع والجناح، ولم يدع في القدور شيئا عليه يدور، ولا في المخافي ما هو عليه خافي، ولا نوعا من الأنواع، ولا ما يصلح للأكل مما يشترى ويباع؛ ولو واكل ابن أبي(12/22)
سفيان «1» لأشغله عن العيان أو سليمان بن عبد الملك «2» لهلك، أو الملك العادل «3» ، لأفقره في العاجل، أو عاصر ميسرة التّراس «4» ، لما اشتال له معه راس، أو عاشر القائد المغربي مولى فارح «5» ، لأراه في الأكل كل قارح، لا يعجبه لأجل السعي للأكل إلا كلّ يوم أغر يبدو نوره، وكل ملك إذا تغدى رفعت ستوره «6» ، لا يعد فردا، إلا من قدم إليه قصعة مكللة لحما مدفقة ثردا، ولا يكون منازلا، إلا لمن قال: وإني لعبد الضيف ما دام نازلا «7» ؛ يتغدى بجمل، ويتعشى بوسقه «8» ما حمل، يصرف الأكل بغزارة، ويحمل معدته فوق السبع كارة، ولا يكفيه قدر الرغيف إلا كلما أرهن عليه قوسه حاجب بن زرارة، ولا يقنعه طبخة القدر، إلا بجميع ما في الكوراة؛ يتنقل بإردبّ «9» ، ويأكل كل ما سعى أو دبّ، يتملح بمدّ ملح «10» وقوصرة بصل، ويتحلى بعديلة تمر ووطب(12/23)
عسل؛ يشرب من اللبن وطبا، ويتنقل بحمل الحديقة رطبا، القنطار عنده أوقية، والرطل توابل التغذية، لا يحب إلا اسم بلعام «1» وطعمه، ولا يأكل ملء الطبق إلا في لقمة، يأكل باليدين، ويشبع بالعين؛ لم يعرف في طول عمره التخم، ولا خاف الوخم، ولا وقع على جيف المآكل إلا وقوع الرخم، ولم يأكل- حاشاه- في سبعة أمعاء، وإنما يدخر معه في وعاء، ما قرأ من الفقه إلا كتاب الأطعمة، ولا سئل: كيف الطريق؟ إلا قال: أنا ما أحب إلا الأشياء الحلوة الدسمة؛ لا نعرف أعرف منه بتلفيق الأسباب، وتخريب عرائش النقانق وقباب الكباب، فما حط يده في طعام إلا محقه، ولا في مأكول إلّا وعاد في الحال كأن الله ما خلقه، فاقتضى له تقدمه في هذه الطائفة الطائفة «2» ، أن يكتب له هذا التقليد، ويزاد به طول يده وباعه المديد، ويميز على أبناء جنسه من طائفة الشيخ ساسان «3» ، ومن يأخذ أموال الناس باليد ويأكلهم باللسان، ويفعل الفعائل التي ما يظن بها إلا أن زمان أبي الأكاسرة عاد، وينصب النصبات «4» التي لو كان أبو زيد السروجي «5» حاضرها لما زاد، فرسم أن يقلد أمر طائفة الطفيلية، ويعاد إليه أمورهم بالكلّيّة؛ وأن يكونوا جميعهم تحت أمره المطاع وأعوانه، إذا أكل كل ما على السماط وخلى الناس وهم جياع، وهو ما يحتاج إلى الوصايا التي تشغله عن الابتلاع، وتلهيه عن النهم الذي هو من خلق السباع؛ وإنما نقول له على سبيل(12/24)
التذكرة، ونكتفي بالقليل لما عنده من المخبرة؛ فأول ما نوصيه أنه لا يقف عند منهل، ولا يتوقف في أي شيء تسهل، ولا يتخير ليتحير، ولا يذكر إذا تقدم إلى الطعام؛ بحقد من حقد ولا لوم من لام، ولا يحسب حساب تقية من حضر، بل يأكل الكل ولا يذر، ولا ينتظر من غاب، ولو كان أسد الغاب، ومهما جاء قدامه رماه بالمحاق، وعاجله خوف اللحاق؛ وإذا قدمت المائدة، يذكر اسم الله لتهرب الشياطين، وتغنّى لئلا تحضر الملائكة، ويتحيّل بكل طريق في عدم المشاركة، ويعجل مهما أمكنه فإنه ما يأمن المداركة وليلف الخبز والإدام، ولا يعفّ عن لحس الزبادي وقرقشة العظام، ولا يتلافى خاطر من حرد ولا يترضى، ولا يدع شيئا مما يطلق عليه اسم الأكل حتى النار التي تأكل بعضها بعضا، وليباكر الغداء فإنه مكرمة، ويلازم العشاء فقد قال صلى الله عليه وسلم «1» : «تعشّوا ولو بكف من حشف فإنّ ترك العشاء مهرمة» ، وليداوم على ما هو عليه من هذا الأمر، ولا يلتفت لقول زيد ولا عمرو، وليأكل ما حضر ويحرص على الطيبات، فقد كان صلى الله عليه وسلم يأكل القثاء بالرطب، ويحب الحلو والعسل، ويحب الزّبد والتمر، ولا أقل أن يكون فيه هذا من السنة؛ ومن تتبع مآكل السلف، وإن كان لا يريد، لأن هذا كله لا مصور على خاطره، وممثل في ناظره؛ ثم ليتعهد المهضمات وما يقوي المعدة، ويزيد لهيب نيرانها المتقدة، ولا يدع استعمال المسهلات، ليهيئ المعدة لمواقع الغداء والعشاء، ومواضع الأكل في مطاوي الأحشاء؛ وليستعلم أخبار الآكلين، وطرائف الطفيلية المحتالين، لما يحصل بذلك من التأسي، وينهض الشهوة للأكل والتحسي؛ وإياه والمضغ، فإنه يطيل المدى ويقلل معه مقدار ما يؤخذ من الغدا؛ ومهما استطاع فليحسن المآكل، ويحزن صاحب الضيافة الحزين الثاكل،(12/25)
وليصرف شهوته إلى ما لا ينصرف، وما يقف على المعدة ويتوقف، ويلازم مغلظات الغداء ولا يسمع ممن قال: إنه المذموم، وليستكثر من لحوم الجمال والجواميس والبقر وما أشبه هذه اللحوم، وكذلك مارزن من الحبوب ووزن، فجاء أضعاف مثله في القدر المحسوب؛ ودأبك أن تعرف موسم كل مجتمع، ومكان يرجى فيه ملء البطن والشبع، وصرف أعوانك لتعرف أخبار الأعراس التي يولم فيها الولائم، وبقية المواضع التي ينصرف عنها بشبعه الطاعم، وأسمطة الأمراء وآدر الوزراء، ومواضع مناصفات الفقراء، والأوقات التي تعمل لها جلاسات الفقهاء والقراء، ومظان الرهان التي تؤخذ فيها الدراهم، وتصرف غالبا في أنواع المطاعم، ودعوات الإخوان وأهل القصف، ومن يكون على ميعاد استعد له ومالا يبعد عن هذا الوصف، ودور أهل اليسار وكبار العامة والتجار، والجندي إذا جاء من الريف وحط هديته عن الحمار، وأرباب الصنائع الذين منهم من أوتى رزقه، ومن لا يبلغ أجرة عمله في اليوم درهمين وينفق بعض الأيام أكثر من دينار؛ ومواضع النزه، فكثيرا ما يستخرج بها مال البخيل، والبيوت التي تطلب إليها المواشط والدايات، فإن النفقة فيها غير قليل؛ وأقم لك ربيئة «1» على كل رابية [و] كل مكان يدقّ عليه بالطبول، ويتبع من يقوم منهم لتهنئة من تجددت له نعمة أو دفعت عنه نقمة أو غير هذا مما يقتضيه الفضول، ثم اقصد هذه المواضع وابسط يدك كل البسط، وتذكر ما كتب ساسان على عصاه «2» ولا تنس الشرط، ولف الإوز والدجاج والبط، واشرب بالزبادي المرق ولو أنه ماء الشّطّ، واحرق كل ما قدامك ولو كان النار والكبريت والنفط؛ وصل صولة الفحل، وكل(12/26)
الشهد وإبر النحل، ولا تخل جنى النحل، ولا ما غرست فيه من الوحل «1» ، واهجم واسأل ولا تسل، ولا تفرق في سد الجوعة بين الصبر والعسل، وإذا رأيت جماعة فاحدس أنهم إنما اجتمعوا لطعام، أو أفرادا فاجزم بأنهم تفرقوا حيلة للالتئام، فاعمل بالحزم، واقصدهم وصمم العزم، وانضم إليهم واهجم هجوم الأسد المفترس، وكل كلّ ما بين أيديهم، وتنوع في الشهوات واقترح، ولا تخف من غضبهم فلابد أنك وإياهم تصطلح، وكل أكلة تكفي سنين، واستكثر بالآلاف المئين، وقل: [الكامل]
يا أكلة من عاش أخبر أهله ... أو مات يلقى الله وهو بطين
«2» فإن ضاقت منك عين بخيل، وإن عجلك عن الطعام قبل امتلاء الخرطبيل، وبسط إليك أحد يده ليقتلك، أو صفعك بالخفاف ونطلك «3» ، فاحتسب مصابك، وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ
«4» ، ولا تهتم لما نزل عليك، ولو نزل الماء الأسود في عينيك، وورم وجهك وخلف أذنيك، فلا تنظر هذا الخطب الجليل إلا حقيرا، ولا هذا التعزير البليغ إلا على ما سمي به في الأصل توقيرا، ولا يردك هذا عن فعلك في المستقبل، واسمع من هذه الوصية واقبل، ولا تستكثر حمل ألف بعير، ولا تستقل حبة خردل، واجمع جنودك على هذه الطاعة، وإن كانوا ما يجمعهم مندل، وبصرهم بشرق البشرة، وعودهم أن لا يأكلوا بالخمسة والكف دون العشرة، وافتح فمك والتهم، وأوسع بطنك واضطرب في السماط واضطرم، وانتقد على البخيل وانتقم، وافعل في هذا فعل من لا يحتشم، ولا يخاف أنه ينبشم، وابرك في المائة وارتطم، واضرب للعجلة وجهك بيدك والتطم، وحافظ على هذا(12/27)
واستدم، واستمك ظهور الموائد واستنم؛ ولو رفسك بخفه البعير، نزّله منزلة القرص الكبير، واهجم على الرغيف، ولو أنه الغريف «1» ، وهاجم على الفريسة كالأسد، وأدخل الطّعام على الطّعام ولو فسد، وغالب البخلاء على أموالهم ولا تفكر في أحد، وطالب من لا لك عنده شيء ولا يضرك من جحد، واضرب الحيس بالحيس، وكل السخلة والكبش والجدي والتيس، وكبّ جموع ربيعة على مضر ويمن على قيس، ولا يلج في مسامعك عذل عاذل، ولا يرد يدك منع بخيل ولا بذل باذل، ولا يغب عنك الماء لتسويغ الغصص، وإرفاد الطعام به بالقفص، وعليك بالعزائم وإياك والرخص، والحذر كل الحذر من الكسل والتواني، والقعود عن المواضع التي تطلب إليها القراء والمغاني؛ فإن كل هذه المظان، والمظانّ التي تسلط فيه السكين على الضان، فما كل وقت تصبح وليمة، ولا كل حين تمضي عزيمة، والإنسان الشاطر من أكل أكل البهيمة، وما كل أوان يتبوأ الآكل دار مضيف يحلّها، وينعم في جنات جفان أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها
«2» ، فلا يؤخّر يوم سرور ينتظر له غدا، ولا يشيل لعشاء من غدا، ولا يفوت دعوة كريم يضيف يديه في داره ويقول: وَكُلا مِنْها رَغَداً
«3» ؛ ومر أعوانك فليحمدوا الله الذي أطعمهم من أموال خلقه، وجعل أيديهم تعاجل يد صاحب الطعام في سبقه، وأوصهم بالشكر وقل لهم: فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ
«4» ؛ والله تعالى يمتعه بما وهبه من بطن لا يشبع، ونفس أدنى من نفس أشعب الطماع وأطمع، وسبيل كل واقف عليه الانتهاء إلى ما يتقدم به من الأمر، وسلوك مسلك أصحاب أبي نعامة معه حتى يأكلوا معه الجمر، ومن خالفهم منهم يسقط من جريدة هذا الحساب، ويوقف وراء الحجاب، وأدّب بين الطفيلية أدبا(12/28)
يبقى به أعجوبة، ويترك في مكان يبصر الناس فيه يأكلون، ولا يصل إليهم، وكفاه هذا عقوبة؛ والاعتماد على الخط الكريم أعلاه.
* وعنوان قوله في النظم «1» : [الكامل]
إن كنت خنتك في المودة ساعة ... فذممت سيف الدولة المحمودا
وزعمت أن له شريكا في العلى ... وجحدته في فضله التوحيدا
قسما لو اني قد حلفت غموسها ... لغريم دين ما أراد مزيدا
وقوله: [الكامل]
قلم يفل الجيش وهو عرمرم ... والبيض ما سلت من الأغماد
وهبت له الآجام حين نشابها ... كرم السّيول وهيبة الآساد
وقوله: [الكامل]
حملوا قلوب الأسد بين ضلوعهم ... ولووا عمائمهم على الأقمار
وتقلدوا يوم الوغى هندية ... أمضى إذا انتضيت من الأقدار
قوم إذا لبسوا الدورع حسبتهم ... كسحاب غيث ممطر بنهار
إن خوّفوك لقيت كل كريهة ... أو أمّنوك لقيت دار قرار
وقوله وقد شكا وجع المفاصل «2» : [مجزوء الكامل]
وجع المفاصل وهو آ ... خر ما لقيت من الأذى
ترك الذي استحسنته ... والناس من حظّي كذا
والعمر مثل الكأس ير ... سب في أواخره القذى(12/29)
وقوله «1» : [مخلع البسيط]
والنّقل من فستق حديث ... رطب تبدّى به الجفاف
زمرّد صانه حرير ... في حقّ عاج له غلاف
وقوله «2» : [الطويل]
وللسر فيما بين جنبيّ مكمن ... خفيّ قصيّ عن مدارج أنفاسي
كأني من فرط احتفاظي أضعته ... فبعضي له واع وبعضي له ناسي
وقوله: [الوافر]
لقد فاوضته وسددت أنفي ... فما نفع احتراسي واحتياطي
عجبت لأمّه إذ قمّطته ... لقد وضعت خراها في القماط
وقوله «3» : [الطويل]
إذا لم يكن بدّ من الموت للفتى ... فأروحه الأوحى الذي هو أسرع
فكن غرضا بالعيش لا تغتبط به ... فمحصوله خوف وعقباه مصرع
وقوله «4» : [الكامل]
حتى إذا داع دعاه إلى الهوى ... أصغى إليه سامعا ومطيعا
كذبالة أخمدتها فكما دنا ... منها الضرام تعلقته سريعا(12/30)
وقوله «1» : [الكامل]
قد كنت طلقت الوزارة عندما ... زلت بها قدم وساء صنيعها
فغدت بغيرك تستحل ضرورة ... كيما يحلّ إلى ذراك رجوعها
فالآن عادت ثم آلت حلفة ... ألّا يبيت سواك وهو ضجيعها
وقوله في مبخرة: [الرجز]
وقبّة ذات حدود أربعه ... مبنيّة بناء رأس الصومعه
في ذرعها ضيق وفي الطيب سعه ... حالية كالغادة المصنعه
مزفوفة لفتية مجتمعه ... من شاء أن يخلو بها خلت معه
صبّت عليها خلع مرتجعه ... تلبث فيها ثم تعرى مسرعه
وقوله: [الخفيف]
أقبلت ثم قبّلت ظهر كفّي ... قبلة تنقع الغليل وتشفي
فعضضت اليد التي قبلتها ... بفم حاسد يريد التشفّي
«2» وقوله: [الطويل]
فلا تتخذ لحمي غداء تسيغه ... وتحسب جهلا أن سيمريك أكله
فقد يلسب الفيل المعظّم عقرب ... فتقتلها من بعد ذلك نعله
وقوله: [مجزوء الكامل]
ما زلت آمل فتح آمل ... مذ سيرت تلك الجحافل
«3»(12/31)
لله ما نطق اللسا ... ن به وأومأت الأنامل
واستكتمت أسيافنا ... تلك العواتق والكواهل
فطعاننا يفري الكلى ... وضرابنا يبري المفاصل
يا برد حرّ حروبنا ... في كلّ صدر ذي بلابل
أبدا ترينا في الأوا ... خر ما اقترحنا في الأوائل
فامدد يديك لمادنا ... ولما نأى فالكلّ حاصل
وقوله- وكان شيخنا أبو الثناء يستحسنه- «1» : [الطويل]
أقول وقد جردتها من ثيابها ... وعانقت منها البدر في ليلة التّمّ
وقد آلمت صدري بشدة ضمّها: ... لقد جبرت قلبي وإن أوهنت عظمي
وقوله: [مجزوء الكامل]
قل لابن نصر قول من ... سمع الأذى منه وشمّه:
يا ليت من حفر الكني ... ف بوسط وجهك منه ضمّه
وقوله يصف الجوزاء بين الشعريين: [البسيط]
وقد تجدلت الجوزاء بينهما ... كأنه جثّة مضروبة العنق
ورام أخذ الثّريا وهو يحسبها ... خريطة سقطت ملأى من الورق
وقوله في الخمر «2» : [المنسرح]
صفراء كالورس جامها يقق ... شعاعها كالذّبال يأتلق
كأنها في كفّ من أتاك بها ... ضحى نهار في وسطه شفق
وقوله: [الخفيف](12/32)
بين فكيك يا ابن نصر مضيق ... فيه بالشمّ للمنايا طريق
فاتق الله في الورى وتلثم ... أي نفس لبعض هذا تطيق
وقوله: [الطويل]
إذا كنت قد أيقنت أنك هالك ... فما لك مما دون ذلك تشفق
ومما يشين المرء ذا الحلم أنه ... يرى الأمر حتما واقعا وهو يقلق
وقوله: [البسيط]
بكى المظفّر من إفراط فروته ... فكلّ من أبصرته عينه ضحكا
«1»
كأنها إذ بدت والأير راكبها ... زق يصيد عليها سابح سمكا
وقوله «2» : [الخفيف]
أيها النابح الذي يتصدّى ... بقبيح يقوله لجوابي
لا تؤمّل أني أقول لك أخسأ ... لست أسخو بها لكلّ الكلاب
وقوله: [الخفيف]
عظمت فروة المظفّر حتّى ... أعجزت كلّ ناظر يشتهيها
غيبت أيره فلم يبق إلّا ... فيشة منه ربما تبديها
كالسحلفاة حين تطلع رأسا ... فإذا أوحشت تراجع فيها
وقوله: [الوافر]
أبا الخطّاب لو أنّي رهين ... ببطن القاع ينعاني نعاتي
لألزمك الوفاء وصال رمسي ... فكيف تجيز هجري في حياتي(12/33)
وقوله «1» : [مجزوء الكامل]
قل للشريف المنتمي ... للغرّ من سرواته
شاد الألى لك منصبا ... قوّضت من شرفاته
والعود ليس بأصله ... لكنّه بنباته
والماء يفسد إن خلط ... ت أجاجه بفراته
وأحقّ من نكّسته ... بالصّغر من درجاته
من مجده من غيره ... وسفاله من ذاته
وقوله في إمام أبخر: [مخلّع البسيط]
يا من يصلّي صلاة شكّ ... يطول في إثرها قنوته
إن كنت تبغي الثّواب فاسكت ... ربّ فم أجره سكوته
وقوله: [مخلّع البسيط]
انحر أعادي بني بويه ... بالسّيف في جملة الأضاحي
فالكلّ منهم ذوو قرون ... تصلح للذّبح والنّطاح
وقوله في مدخنة «2» : [الطويل]
ومحرورة الأحشاء تحسب أنها ... متيمة تشكو من الحبّ تبريحا
يخرّق فيها العود عودا وبدأة ... فتأخذه جسما وتبعثه روحا
وقوله «3» : [المسرح]
قبّلت منه فما مجاجته ... تجمع مغنى المدام والشّهد(12/34)
كأنّ مجرى سواكه برد ... وريقه ذوب ذلك البرد
وقوله: [الطويل]
وقالوا: اتّخذ أخرى سواها لعلّها ... تنسيك ذكراها التي تتردّد
فقلت لهم: بعدا وسحقا لرأيكم ... أأقلع عيني حين تذوى وترمد
وقوله في وردة: [البسيط]
حمراء مصفرة الأحشاء ناعتة ... طيبا تخال به في الطّيب عطّارا
كأنّ في وسطها تبرا يخلّطه ... قين يضرّم من أوراقها نارا
وقوله: [الطويل]
وهبت له عمر الشبيبة صحبة ... وأكرم بذي جود إذا وهب العمرا
فلّما ألمت للزمان ملمة ... فزعت إليه والتمست به النّصرا
فصمّ ولم يسمع نداء ولم يجب ... دعاء كأني به مستنطق صخرا
ورقّت صروف الدّهر لي من صنيعه ... فأصبحت أشكوه وأستصرخ الدهرا
وقوله «1» : [الكامل]
ما زلت في سكري ألمّع كفّها ... وذراعها بالقرص والآثار
حتى تركت أديمها [وكأنّما] ... غرس البنفسج منه في الجمّار
وقوله: [السريع]
ومن طوى الخمسين من عمره ... لاقى أمورا فيه مستنكره
وإن تخطاها رأى بعدها ... من حادثات النقص ما لم يره(12/35)
وقوله «1» : [البسيط]
إن نحن قسناك بالغصن الرطيب فقد ... خفنا عليك له ظلما وعدوانا
لأنّ أحسن ما نلقاه مكتسيا ... وأنت أحسن ما نلقاك عريانا
وقوله «2» : [مجزوء الكامل]
يا من بدت عريانة ... فرأيت كلّ الحسن منها
كانت ثيابك عورة ... فسترت بالتّجريد عنها
وقوله: [الطويل]
خضاب تقاسمناه بيني وبينها ... ولكنّ شأني فيه خالف شانها
فيا قبحه إذ حلّ منّي مفرقي ... ويا حسنه إذ حلّ منها بنانها
وقوله في اصطرلاب أهداه «3» : [البسيط]
أهدى إليك بنو الآمال واحتفلوا ... في مهرجان جديد أنت مبليه
لكنّ عبدك إبراهيم حين رأى ... علوّ قدرك عن شيء يدانيه
لم يرض بالأرض مهداة إليك فقد ... أهدى لك الفلك الأعلى بما فيه
وقوله: [الخفيف]
يشتهي النّذل أن يكون كريما ... فإذا سيم ما اشتهاه أباه(12/36)
فهو مثل العنّين يشتهي النّي ... ك ولا يستطيعه إن أتاه
وقوله «1» : [الكامل]
ومن العجائب أنّني هنّأته ... وأنا المهنّا فيه بالنّعماء
وقوله «2» : [الكامل]
يا ذا الذي جعل القطيعة دأبه ... إنّ القطيعة موضع للرّيب
إن كان ودّك في الطّويّة كامنا ... فاطلب صديقا عالما بالغيب
وقوله: [الخفيف]
صدّ عنّي مستعذبا لعذابي ... وجفاني كعادة الأحباب
كل يوم يروع قلبي بفنّ ... من تجنيه لم يكن في حسابي
وقوله: [الطويل]
لئن صرت حلس البيت حلف جداره ... فبالأمس منّي تستعيذ النجائب
كذاك أبو الأشبال يربض مرصدا ... ولابدّ من أن يعتدي وهو آئب
وقوله «3» : [الطويل]
تورّد دمعي فاستوى ومدامتي ... فمن مثل ما في الكأس عيني تسكب
فو الله ما أدري أبا الخمر أسبلت ... جفوني أم من دمعتي كنت أشرب
وقوله: [السريع](12/37)
سألت عنه مجلسا قامه ... قد كان مأكولا له معجبا
فقال: ما قولك في مدخل ... وجدت منه مخرجي أطيبا
2- وأما أبو محمّد عبد الله بن عمر بن محمّد الفيّاض «1» ، كاتب «2» سيف الدولة:
فكان يكتب في ماله، بل كان الممول له، والمخول في كل ما ملك؛ وكان يعجن مداده بالمسك، ولا يليق دواته إلا بماء الورد؛ وكان شعلة لا تطفى، وبارقة لا تخفى، بذهن متقد، وفكر منتقد؛ إلا أن مادته مقصورة، وجادته محصورة، وبدائعه كثيرة، على قلتها يسيرة، إذا قيست إليها النجوم بجملتها، أرضى سيف الدولة بن حمدان، وأمضى عزائم رأيه وقد نعس الفرقدان، فتقدم أمام الكتاب ولواؤه منصور، وعدوّه ببيانه كالليل بالكوكب الدري منحور.
وله نثر، منه قوله: وقد علم الدمستق مواقع سيوفنا منه، وأيامنا الماضية معه، وأنه ما تحامل إلينا إلا على ظلع، ولا أقبل حتى رجع، وها نحن ننشده إمّا القطيعة، وإما الوقيعة، والسلام.
ومنه قوله: وأنتم أحوج إلى طلب الفداء لأساراكم منا إليه، وأجدر إذا استهمت رماح الجبلين عليه؛ لأنكم تربعون به تكثرا من قلة، وتعززا من ذلة؛ ولسنا كذلك، إنا لا نأسف على من نقص من عدد، ولا نبالي بمن أمسك من مدد، ثقة بما عوّد الله من النصر، وأتى من الأجر بالصبر.
ومنه قوله:(12/38)
وردنا والأرض كأذناب الطواويس، والطير زجلة كأصوات النواقيس، وقد اهتز الشجر، وكلل النبات المطر، والطّرف قد رنح كالطّرف في تلك الميادين، والنسيم قد ضمخ من شذا تلك البساتين، فلم تكن لنا أمنية إلا أن نراك، ونثري بلقائك سقي ثراك.
ومنه قوله: وقد أجّلتنا يومين وهذا ثالث، وأعطيتني عهدين وكنت الناكث؛ فهل ابتدعت ما أتيت، أو كان لك عليه باعث؟
فيا قسيم روحي، ويا نسيم صبوحي، ها قد آن الغبوق، إلّا أنه يقرقف مرشفيك وكأس عينيك؛ وو الله لا شربت إلا على آس عذارك وورد خديك؛ فابرر قسمي، ورد الجواب من فمك إلى فمي.
* وسيأتي ذكر أبيه في الشعراء، وبه كانت لابنه هذه المكانة من سيف الدولة، وكلاهما- أعني هذا وأباه- ذو تيه وصلف، وكلاهما من صاحبه خلف.
3- وأما الحريري: أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان «1» ، صاحب المقامات
* فإنه فيما سواها، ما قاربها ولا داناها؛ حتى عجز عند الامتحان، عن كتابة كتاب أمر به على ما وشّع من تلك المقامات، ووسع من تلك المقالات؛ وبرع في ذلك المذهب، وعرف له من الحريري المذهب؛ هذا والدهر من دواته، والناس سواء(12/39)
في عدم مساواته؛ وهو مادة أهل الأدب، والذي ينسلون إليه من كل حدب، إلا أنه لم يقدر أن يكون مكلّفا، ولا استطاع أن يكون لغير أمالي خاطره متلقفا؛ وهذا مذهب غير مذهب كتاب الإنشاء المكلفين اتباع غرض غيرهم، حتى يقسروا خواطرهم على ذلك؛ على أن الرجل فضله عظيم، ومثاله الدهر به عقيم، وقدره جليل، ونظيره قليل؛ منبع الفضائل ونبعتها، وصيت الفواضل وسمعتها؛ توقته الأعداء سماما، وألقته الأولياء سهاما؛ وكان معدن [كلّ] نائل، وموطن كل طائل؛ باري غرب يريش ويبري، ويجيش قليب خاطره ويجري، أبرز مالم يستطعه الأوائل، وأحرز قصبات السبق على كل قائل.
وكان «1» سبب وضعه لمقاماته، ما حكاه ولده أبو القاسم عبد الله، قال:
كان أبي جالسا في مسجده ببني حرام، فدخل عليه شيخ ذو طمرين، عليه أهبة السفر، رثّ الحال، فصيح الكلام، حسن العبارة؛ فسألته الجماعة من أين الشيخ؟ فقال: من سروج «2» ؛ فاستخبروه عن كنيته، فقال: أبو زيد؛ فعمل أبي المقامة المعروفة بالحرامية وهي الثّامنة والأربعون، وعزاها إلى أبي زيد المذكور واشتهرت، فبلغ خبرها الوزير شرف الدين أبا نصر أنو شروان بن خالد القاشاني «3» وزير المسترشد [بالله] «4» ؛ فلما وقف عليها أعجبته، وأشار إليه أن يضم إليها غيرها، فأتمها خمسين مقامة؛ وإلى الوزير المذكور أشار الحريريّ في الخطبة: فأشار من إشارته حكم، وطاعته غنم، إلى أن أنشئ مقامات أتلو فيها تلو البديع «5» .(12/40)
قال ابن خلكان: ورأيت في سنة ستّ وسبعين وستّمئة بالقاهرة، نسخة مقامات بخطّ الحريريّ، وقد كتب أيضا بخطّه على ظهرها، أنه صنّفها للوزير جلال الدين عميد الدّولة [أبي علي، الحسن بن أبي العز علي بن صدقة] وزير المسترشد أيضا. قال ابن خلكان: ولا شك أن هذا أصح من الرواية الأولى، لكونه بخطّ المصنّف، والله أعلم.
وأما تسمية الراوي بالحارث بن همام، فإنما عني [به] نفسه، وهو مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم: «كلّكم حارث، وكلّكم همّام» «1» ، فالحارث: الكاسب؛ والهمام: الكثير الاهتمام، وما من شخص إلا وهو حارث وهمام، لأن كل أحد كاسب ومهتم بأموره.
وكان الحريريّ قد عمل من المقامات أربعين مقامة، وحملها إلى بغداد وادّعاها، فقال جماعة من أدباء بغداد: ليست من تصنيفه، بل هي لرجل مغربي مات بالبصرة، ووقعت أوراقه إليه فادعاها؛ فاستدعاه الوزير إلى الديوان، وسأله عن صناعته، فقال: أنا رجل منشئ؛ فاقترح عليه إنشاء رسالة في واقعة عيّنها، فانفرد في ناحية من الديوان، وأخذ الدواة والورقة، ومكث زمانا، فلم يفتح الله عليه بشيء من ذلك، فقام وهو خجلان؛ وكان من جملة من أنكر دعواه أبو القاسم عليّ بن أفلح «2» ، فأنشد «3» : [المنسرح](12/41)
شيخ لنا من ربيعة الفرس ... ينتف عثنونه من الهوس
أنطقه الله بالمشان كما ... رماه وسط الدّيوان بالخرس
وكان الحريريّ يزعم أنه من ربيعة الفرس، وكان مولعا بنتف لحيته عند الفكر، وكان يسكن في مشان البصرة «1» ؛ فلما رجع إلى البصرة عمل عشر مقامات أخر وسيرهنّ، واعتذر من عيّه وحصره بالدّيوان، مما لحقه من المهابة «2» .
وللحريريّ عدة تصانيف طريفة لطيفة، كدرة الغواص، وملحة الإعراب؛ ويقال: إنه عملها لجواري الخليفة، فكن يحفظنها ويقمن ألسنتهنّ بها. قلت:
وهي بما حوت من العلم سهلة المأخذ، كأن شعرها غزل؛ ولو لم يكن منه إلا قوله: [الرجز]
ولن يطيب الوصل حتّى تسعدي ... يا هند بالوصل الذي يروي الصّدى
* وله نظم ونثر في غير المقامات، ومنها قوله نثرا: «3»
ولما استخدم الخادم فيما أهّل له آنفا، اعتمد في الخدمة ما يتهيب قلمه الإفصاح عنه، ويعرف بأن سعادة الديوان العزيز هي التي سنّت ما تسنّى منه، وتقدّم له الوعد بأنه عند تصفح مساعيه، يمنح من المساعفة بما يرتجيه، ولم يقدم قلمه على التذكير بالوعد الشريف، إلا بعد ما أنطقه لسان التوفيق للخدمة، وكفل له بمزيد الحظوة من النعمة؛ فإن اقتضت الآراء العلية إنجاز(12/42)
موعده، كان ذلك إنعاما يقع عند معترف بوقعه، مستنفذ في الطاعة غاية وسعه.
ومنه قوله «1» : لولا خبرتي بفضله السائر، وإنعامه المنجد الغائر، لاستربت فيما يحكي، وامتريت فيما يروي؛ ولكن ما خلا عصر من جواد وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ
«2» فإنه- أبقاه الله- وإن تصرفت الأحوال، وتشعبت الأقوال، كالغمام لا يقطع سقياه، ولا يستطيع أحد برد حياه؛ وللرأي الشريف مزيد علوه في الإنعام، بتأوّل ما أوضحته، والتّطوّل بما اقترحته.
ومنه قوله: رزء تساهم فيه الأنام، وأظلمت ليومه الأيام، واستغرب عنده الحمام، وعزّي فيه الدهر بكافل أبنائه، وندب فيه شقيق السحاب، فاستعبر بدموع أنوائه.
ومنه قوله «3» : وصل من المجلس- أكمل الله سعوده وأكمد حسوده- كتاب اتسم بالمكرمة الغرّاء، وابتسم عن النعمة العذراء؛ ووجدت بما ألحف من الجميل، وأتحف من التجميل، ما كانت أطماعي تهفو إليه، وآمالي تحوم حواليه؛ إذ ما زلت مذ استميلت وصف المناقب الشريفة، أبعث قلمي على أن يفاتح، وأن يكون الرائد لي والماتح، وهو ينكص نكوص الهيوبة، وينكل نكول الكهام عن الضريبة، إلى أن بديت وهديت، ورأيت كيف يحيي الله ويميت، فلم يبق بعد أن أنشط(12/43)
العقال، واستدعي المقال، إلا أن أنقل التمر إلى هجر، والهشيم إلى الشجر، فأصدرتها متشحة بالخجل، مرتعشة من الوجل، وأنا معترف بالتقصير، معتذر باللّسان القصير، «ولكلّ امرئ ما نوى» «1» ، وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى
«2» .
ومنه قوله: ولعلّ الأيام تسمح بمتعة الملاقاة، فاجعلها غرّة الأوقات، وأعظمها كتعظيم حرمة الميقات؛ وهو إذا أتحفني بسطرين في كل شهرين، يكون قد أمطاني رتبة تضاهي النسرين، وأولى نعمة تبقى على العصرين.
ومنه قوله يهنئ بشهر رمضان: [الخفيف]
أنت في النّاس مثل ذا الشّهر في الأش ... هر بل مثل ليلة القدر فيه
أسعد الله المجلس بمقدم هذا الشهر، ومطلع هلاله المنيف؛ وهذا دعاء- لو سكتّ- كفيته، وسؤال- ولله الحمد- أوتيته.
ومنه قوله: إذا كانت المودات- حرس الله عز سيدنا- أنفس المرام المخطوب، وأنفع ما اقتني لدفع الخطوب، فلا لوم على من استسعى قدمه لخطبتها، واستعلق قلمه لطلبتها، لا سيما إذا كانت تعجب المتأمل، وتسعف المؤمّل؛ هذا وأنا مع المغالاة في الموالاة، وعلى هذه الصّفات من المصافاة، أعترف بوجوب معاتبتي، لقصور مكاتبتي، وأعتذر من عظيم هفوتي لتمادي جفوتي، ولولا أن لمفاتحة حضرته(12/44)
وقفة المتهيب، وخجلة القطر من الصّيّب، لما استهدف قلمي لمرام الملام، ولاستنكف أن يكون سكّيتا في حلبة الأقلام؛ وها هو الآن قد أقدم إقدام الوقاح، وتعرض للافتضاح؛ فإن رزق بالقبول تحسينا، أو بمصافحة يده تزيينا، فقد فاز فوزا عظيما، وحلّ محلا كريما، وأنى له؟ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ
«1» فما قيل إلا بما هو له أهل: [الكامل]
ولربما استيأست ثم أقول: لا ... إنّ الذي استشفعت منه كريم
ومنه قوله: ولم يزل الخادم يستملي من أنباء الكرام الطاهرة، والفضائل المتظاهرة، ما يودّ لو سعد برؤيته، وقرب إسعاده في روايته، ويوقن معه أن الله أعلم حيث يجعل رسالاته، ويخص بكراماته؛ وقد أقدم الآن بعد إحجامه في استخدام أقلامه، فإن رزق من الإيجاب الشريف ما يحقق التأميل، فهو المظنون في كرمه البديع وطوله الوسيع؛ والآن فللخادم حرمة من أحرم وقصر، وطلب النّصرة فلم ينصر؛ والله تعالى لا يخلي المجلس من تناديه، واسترقاق الأحرار بأياديه.
ومنه قوله: سطرها الخادم وهو منتسك بالولاء الذي يتمسك بحبله، والدعاء الذي هو جهد مثله، والثناء على صنائعه، التي طالما أبكى بها وأضحك الأجيال؛ وقصده أن يتعمد بعواطفه التي تحقق الأمل، ومجازاته على حسب النية لا العمل.
ومنه قوله: أصدرت هذه الخدمة، واليد تنكل عن مطاوعة القلم، لهذه النازلة التي أصم(12/45)
نعيها المسامع، وهون وقعها الفجائع: [الطويل]
فلا قلب إلا قد تباين صدعه ... ولا عين إلّا وهي تذرف بالدّم
ومنه قوله: وهنأ بالنجاح كل من غشينا إلى ضوء ناره، وانتجع صوب أمطاره، وسمع أخبار كرمه فاهتدى إلى قصد الكريم بأخباره.
ومنه قوله: «1»
وحبس عليه المدائح التي حازها بالاستحقاق، واستخلصها بكلمة الاتفاق.
ومنه قوله: «2»
وما زال متصفا من الكمال بما لا يقبل معه مزيدا، ولا يستطيع خلق لملابسه تجديدا، خلقا دان الخلق لمعجزاته، وقصرت الأفعال عن تحقيق صفاته، والله أعلم حيث يجعل رسالاته.
ومنه قوله: «3»
واشتاق إلى تلك الألفاظ المعسولة، والمعاني المشمولة، التي تميل بأعطافها نشوة الفصاحة، وتفتر عن محاسنه شفاه الرجاحة، فلا جرم أنها قد شغلتني أن أنطق بمنثور ملقّح، أو منظوم منقّح.(12/46)
ومنه قوله «1» : وكتب الخادم هذه الخدمة أواخر شعبان، عظم الله لدى مولانا ميامن تقضّيه، وبركات ما يليه؛ جعل الأيام كلها مواسم مسارّه، وصحائف مبارّه، ومعالم مآثره الحسان وآثاره.
ومنه قوله: من شيم السادات، حفظ العادات، فما بال سيدنا أغلق باب الوصال بعد فتحه، وأصلد زند الإيناس عقيب قدحه، وأوردني أولا شريعة بره، ثم أجلاني عن شاطئ بحره، بما كان لملل فأنا أنزهه منه، أو لزلل فأستغفر الله منه؛ ولعل سيدنا يعود إلى عطفه الكريم، ويروح قلبي بمؤانساته الأرجة النسيم؛ وإذا تكرم عند عرض ما كتبته بما تحسن به الجلوة، وتجلب به الحظوة، شكرت العارفة الحلوة.
ومنه قوله «2» : جعل الله الدولة القاهرة مونقة النضارة، مشرقة الإنارة، ممنوحة الإطالة، مهروجة الإبالة «3» ؛ ولا أخلاها من مأثرة تروى عنها وتؤثر، ومنقبة تذكر على تعاقب الأزمنة وتشكر؛ ولا زالت ممطرة الأزمنة، حالية بالمناقب البينة، متلوة الأوصاف بجميع الألسنة، مبثوثة المدائح بكلّ الأمكنة؛ وأسبغ على أقطار البلاد من عواطفها ما أضحك مباسم الظنون، وحل كالغيث الهتون؛ ولا برحت أيامها(12/47)
ممتدة المدة، محتفة بالتهاني المستجدة، وأورف ظلّها على الخلق، وأعلى كلمتها القائمة بنصر الحقّ، ما دارت الشهب، ودرت السّحب، وشهرت القضب، ونشرت الكتب، واستهلّت الأهلّة، واستهلّت الأنواء المنهلّة.
ومنه قوله «1» : وصل إلى العبد ما أهّل له، من مدارع التشريف الذي أحيا رمّته، وجلّى غمتّه، واتخذه فخرا لأعقابه، وذخرا لمآبه؛ وهو يرجو أن يقابل مواقع النعمة، بما يجب من الشكر بلسان الخدمة، وسيتضح من مساعي الخادم ونصائحه، تأثير شكر جوارحه.
ومنه قوله «2» : [الطويل]
ولو أن أنفاسي أصبن بحرّها ... [حديدا] إذا كاد الحديد يذوب
ولو أن عيني أطلقت من بكائها ... لما كان في عام الجذوب جذوب
بي من الاشتياق إلى خدمة ما يصدع الأطواد، فكيف الفؤاد؟ ويهوي بالجبال فكيف البال؟ ولولا التعلّل بترجّي الالتقاء لقيل عنه: لك يا مولانا طول البقاء، إلا أنه يستدفع الخوف بسوف، ويزجر الأسى بعسى وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ
«3» .
ومنه قوله: المراتب تتفاضل مراقيها بتفاضل راقيها، وتتفاوت معاليها بتفاوت من يليها، ولولا ما يعلمه سيدي من وظائف الخادم في التوفير على الدّعاء، لما سبقه إلى(12/48)
الخدمة قدم، ولا ترجم عن تهنئته قلم، فمتعه الله بما وهبه من المعالي، وأحله من مقاماتها في المكان العالي، وبارك له في وصل عقيلتها التي تغتبط بوصله، وتقول: الحمد لله الذي أحلنا دار المقامة من فضله؛ وهو أعزّه الله يجلّ قدره أن يهنأ برتبة وإن علت، ويرخص عنده قيمة كل خطوة وإن غلت؛ فليهن الأنام ما تجدد له من المرتبة المنيفة الذرى، والمهابة التي خضعت [لها] أعناق الورى؛ والله لا يخليه من زيادة يستمدها، وتهنئة يستجدّها.
ومنه قوله: وشكري لما أولى من مكارمه، توفي على شكر الروض الذابل، لصنيع الوابل، بل شكر من أطلق من أسره، وجبر بعد كسره؛ ولو نهض بالعبد القدمان، أو أسعده الزمان، لقصد الباب العالي ولو على الأجفان، وقام في زمرة المداح يتلو صحف الشكر باللّسان؛ ولما قصّرت به الخطوة عن هذه الحظوة، أقدم على أن يهدي الورق إلى الشجر، وبيض من مدائحه شعرا كبياض الشعر، هذا على أن ذنب المعترف مغفور، والمجتهد وإن أخطأ معذور.
ومنه قوله: طالما شجع الخادم قلمه على إيضاح ولائه، فنكص إلى ورائه، وأحجم للتهيّب عن إنهائه، وقد أقدم الآن على أن أبان؛ فإن أسعد بجواب يبهج بتأمّله، فقد حصل على مؤمله؛ وإن رجع بصفقة الخائب، وطرد طرد الغرائب: [من الكامل] [الكامل]
فلربما منع الكريم وما به ... بخل ولكن سوء حظّ الطالب
«1»(12/49)
ولعله يرفع الطرف، ويشرف في الجواب ولو بحرف، وعليه سلام الله ما حطت أقدام، وخطت أقلام.
* ومن شعره «1» : [البسيط]
قال العواذل: ما هذا الغرام به ... أما ترى الشعر في خديه قد نبتا
فقلت: والله لو أن المفنّد لي ... تأمل السّحر في عينيه ما ثبتا
ومن أقام بأرض وهي مجدبة ... فكيف يرحل عنها والربيع أتى
وقال، وقد أتاه رجل «2» لسمعته، فلما رآه استزراه «1» : [البسيط]
ما أنت أول سار غره قمر ... ورائد أعجبته خضرة الدّمن
فاختر لنفسك غيري إنني رجل ... مثل المعيديّ فاسمع بي ولا تزني
وأورد له عماد الدين الكاتب في «الخريدة» «1» : [مجزوء الخفيف]
كم ظباء بحاجر ... فتنت بالمحاجر
ونفوس نفائس ... خدرت بالمخادر
ورثين لخاطر ... هاج وجدا لخاطر
وعذار لأجله ... عاذلي فيه عاذري
وشجون تضافرت ... عند كشف الضفائر
«3» فهذا مقدار كاف في القسم الأول، من مشاهير الكتاب الذين عظم صيتهم ولا غوص لهم.
فأما هذا الرجل- أعني أبا محمّد الحريري- فإنه- على ما رأيت أنموذج(12/50)
كلامه هنا- قليل الغوص بخلف مقاماته، فإنه فيها كمن طلب الروض فجنى زهرها، وصعد السماء فاقتطف زهرها؛ وإنما تركت اختيار شيء له منها لشهرتها، ولأنها صارت كتابا بذاته، لا تعدّ في سلك ترسّلاته؛ وبينهما في حسن الكون، ما رأيت من هذا البون، على أن ما أوردت له من هذه الرسائل هي الفرائد التي لا تقوّم، والفوائد التي تعني من يتعلم، متماثلة في توفيه الأغراض، مغازلة كالجفون المراض، سهلة على فهم المتناول، قرمة «1» لا تنالها يد المتطاول.
**** وأما القسم الثاني من أصحاب الغوص، فسنذكرهم على أن حكم أكثر الكتّاب القدماء حكم العرب، كلاهما له فضيلة السبق، وفتح الطريق؛ وحكم المتأخرين منهم حكم المولدين من الشعراء، في توليد المعاني والمجيء باللّطائف؛ وقد وشحوا صناعتهم بالاستعارات الصحيحة والتشبيه والاستخدام والتورية وأنواع البديع، وتناهوا في الدقيق والتنميق، وتباهوا في التخيّل والتخيير، وقيدوها بالأسجاع، ولزموها كالقوافي، فلم يعوزها «2» من الشعر إلا الوزن فأخملوا الأوائل، وأخمدوا كل قائل، وأتّموا الفن وكمّلوه، وزينوا الفضل وجملوه؛ وهذا مكان للمغرب فيه مع المشرق مجال، وميدان له في فرسانه رجال، وهو في هذا غير ممنوع ولا مدفوع، لكنه فيما تقدم المئة الرابعة لا يذكر له في هذه الفتية فيئة «3» ، ولا تظهر له هيئة؛ ثم ما عدم في هذا الشأن ما أوهن زجاج حاسده، وأشرق بغصص الدمع شأن معانده؛ ولا نقول هذا على أن للغرب بهذا المزية على الشرق، ولا أنه سلّم إليه في هذا الحق، وإنما نحن بصدد إنصاف، وما يبعد فيما بين الغرب والشرق في هذه الفضيلة، ولا نجحد أن له بمن نعده هنا(12/51)
وسيلة، وإلا فالمشرق من كتابه المتأخرين من اقتطف الزّهر والزّهر، وجر ردنه على المجرة والنهر، وأتى بما هو أضوع من العبير، وأضوأ من جبهة القمر المنير؛ وردوا غدر البلاغة فشربوا زرق نطافها، وساموا رياض البراعة وشرعوا في قطافها، فولدوا المعاني واخترعوها، وابتدؤوا أحسن الطرق وابتدعوها؛ وفتن الألباب كلامهم الدّرّ، ولفظهم الرقيق الحرّ؛ وأدعى قول نقوله للحقّ: إنّ من لدن المئة الرابعة وهلم جرا أهل المغرب في هذه الصناعة أكثر رجالا وأهل المشرق أبرع رجلا، وإنما أردنا بتقديم من قدمنا ذكره من الوزراء والكتّاب، وإن لم يكن ما يؤثر عنهم ممّا يناسب درّه كله نظم هذا السّحاب، لإثبات الفضل للشرق على الغرب في تلك المدد الطوال والسنين الخوال، فإن الشرق كان معمورا بمثل هؤلاء، والغرب قفر يباب أكتب من فيه نقول له: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ
«1» على أن هؤلاء القدماء وإن لم يدخلوا في الغوص من هذا الباب، ولا أتوا باللّب اللّباب، فما فاتهم سابقة فضل في فضل، ولا قصّر بهم راية عن غاية، وفي أثناء ما ذكرناه دليل، لولا الاكتفاء به لبيناه مع سعة هذه المقدرة والتقدم في دول الخلفاء، والتقرب في خواطرهم إلى محل الاصطفاء، وما أجري لهم من الارزاق، أو جرى بهم من الأموال، وأقلها خزائن والإقطاعات، وأصغرها مدائن والنّفقات، وأهولها قناطير مقنطرة، والعطايا وبعضها جمل مستكثرة، والدولة الزاهرة وكانوا أطوادها، والصولة القاهرة وكانوا إذا رؤوا آسادها، والخلافة وكانوا عمادها، والإمامة وكانت أقلامهم سيوفها والسيوف أغمادها، والمفاخر وقد جمعوا شتيتها، والمآثر وقد استطابت على مطارف السّحاب مبيتها، واغتنام الأيام وصنائع ملكوا بها رقّ الأحرار، وأطافوا بها على الأكباد الحرار؛ فيا أيّها المباهي للمشرق بالمغرب، والمباهل في هذا الفضل المغرب، ها قد قلنا لك بعض(12/52)
ما عندنا، فقل لنا كل ما عندك، وأرنا نارك إن كنت تحرق، وأقداح زندك.
* فأما ما نذكره لأصحاب الغوص قديما، ونصل جناحه بالمفاخرين، فسنغصّ به حلوق المفاخرين، ونقذي عيونهم في الآخرين، ونخرّهم للأذقان على وجوههم داخرين.
وها أنا ذاكر القسم الثاني؛ فمنهم:
4- أبو الفرج، عبد الواحد بن نصر بن محمد، القرشيّ المخزومي، المعروف بالببغاء
«1» * هو رأس الجماعة، ورئيس القوم في البضاعة، ما قصر في متن تشبيهه عن ابن المعتز، ولا في ديباجة لفظه عن البختري، ولا في إحكام معانيه عن أبي تمام، ولا في كثرة تنويعه عن أبي نواس؛ علم لا يخفى، وقلم لا يحفى، عرش آداب مخضل النبات، مخضر الجنات، رأي المجد هضبة فأناف رأسها، وحلبة فأجرى أفراسها، فطرّف بطارفه التّالد، وشرّف بمطارفه الوالد، وأحيا شرف مخزوم، وقد فرع عمر عمر وفات خالد؛ توفّي الببغاء سنة ثمان وتسعين وثلاثمئة.
ومن كلامه يصف حمارة «2» : مخططة يستطيل بياضها، فيما يستطيل من أعضائها، ويستدير فيما يستدير؛ وهذه الأتان بما خرجت عن العادات، وخالفت الموصوفات، ناطقة في(12/53)
كمال الصنعة بأفصح لسان، مشتملة على غرائب الإحسان؛ أنفس مدخر، وأغرب موشى، وأفخر مركوب، وأطرف محبوب، وأعجز موجود، وأبهر محدود؛ كأنما وسمها الكمال بنهايته، أو لحظها الفلك بعنايته، فصاغها من ليله ونهاره، وحلّاها بنجومه وأقماره، ونقشها ببدائع آثاره، ووشّى روضها بيانع أزهاره، ورمقها بنواظر سعوده، وجعلها بالكمال أحد حدوده؛ جامعة شتيتها بالقسمة والترتيب، بين زمني الشبيبة والمشيب؛ قيد الأبصار، وأمد الأفكار، ونهاية الاعتبار، بستان بسرج، وروضة بمرج، منزه على الحليّ عطلها، مزريّة بالزهر حللها؛ حدّ جنسها وعالم نفسها؛ صنعة المنشئ الحكيم، وتقدير العزيز العليم، فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ «1» .
ومن قوله قرين أسطرلاب أهداه: أجلّ الهدايا- يا سيدي أطال الله بقاءك- موضعا، وألطفها من الملاطف موقعا، ما لاءم الاختيار، ووافق الإيثار، وكان العقل أخص بفائدته، والفهم أحظى بيمن عائدته؛ ولما كنت- أيدك الله- ممن لا يتوصل المتوصل إليه إلا بما تنصف «2» العادة الحكمة عليه؛ آثرتك- وفقك الله- ببرهان الحكمة ونسبها، ومدار الفلسفة وقطبها، ومرشد الفكر ومناره، وميزان الحسن ومعياره، ونافي الشك ومزيله، وشاهد العالم ودليله، ومصور الهندسة وممثلها، ومقسم البروج ومعدّلها، وموقف النّجوم ومثيرها، وجامع الأقاليم ومديرها؛ مرآة الحبك، وصورة الفلك، وأمين الكواكب، وحدّ المشارق والمغارب؛ مما اخترعت العقول تسطيحه، وأتقن الحساب تصحيحه، وتمارت الفطن في ترتيبه، واصطلحت الحكماء على تركيبه، فأوضحت باليقين تقسيمه، وأبانت بالكتابة قلمه ورسومه، إلى أن(12/54)
شافهنا بالارتفاع على بعد مسافته، وحصر متفرق الأنوار في مجرى عضادته، واحتوى على قطري الشمال والجنوب، وأطلع باللّطف على خفيات الغيوب؛ متّعك الله باستخدامه، وأسعدك بمواقع أحكامه، وأغناك بالتوفيق عمّا يستمده منه، وبالخيرة عن الاختبارات الصادرة عنه، وقد آنست وحشته من فهمك بسكنه، ورددته من ذكائك إلى وطنه، فإن رأيت أن تديله من الأفهام الصدئة بصفاء بصيرتك، وتقرّه في أمنع قرار من كنف فطنتك، فعلت إن شاء الله تعالى.
ومنه قوله يستهدى دواة من الأبنوس بآلاتها: ولعل المولى ينعم بدواة تكون للكتابة عتادا، وللخواطر زنادا؛ جدولية العطفين، هلالية الطرفين، مسكية الجلدة، كافورية الحلية، فسيحة الأحشاء، مهفهفة الأعضاء، فهي من لون جلدتها، ووشائع حليتها: [الخفيف]
كشباب مجاور لمشيب ... أو ظلام موضّح بنهار
أضمرت آلة النّهى فهي كالقل ... ب وما تحتويه كالأفكار
يقارنها قضبان «1» من ذخائر السحاب، وودائع التّراب؛ كلّ معدل الكعوب، قويم الأنبوب، باسق الفروع، رويّ الينبوع، نقي الجسد، نازح العقد، مختلف الشيات، متفق الصفات، مما اعتنت الطبيعة بتربيته، وتبارت الدّيم في تغذيته، كالجوهر المصون، واللّؤلؤ المكنون؛ ملتحف الأجساد بمثل خوافي أجنحة الجراد، أولى باليد من البنان، وآنس بخفي السر من اللسان، مقترن ذلك بمدية لا تفتقر إلى جلب «2» ، ذات غرار ماض، وذباب قاض، ومنسر ناويّ، وحديد سمائي، وجوهر هوائي، ونصاب زنجي، وحد لجي، معه مقطّ، يرتفع عليه تقديرها وينحطّ، ذو جسد بجراحها مكلوم، وجلد بآثارها موسوم: [البسيط](12/55)
في كلّ عضو له من وقعها ألم ... وليس ينجع فيه ذلك الألم
كأنّه وامتهان القطّ يزعمه ... أنف الحسود إذا أرغمنه النّعم
حتى إذا جببت غاربه، وأطلقت مضاربه، انصاع من أصون جفير، وكرع في أعذب غدير، لا ترده غير الأفهام، ولا يمتح بغير أرشية الأقلام، تفيض ينابيع الحكمة من أقطاره، وتنشأ سحب البلاغة من قراره، منير مظلم، مشمس معتم: [البسيط]
يجري وأجزاؤه في الوصف جامدة ... ويستهلّ وما تجري له مقل
إذا الخواطر حامت حول مورده ... لم يظمها من قراه العلّ والنّهل
كأنّ أقلامنا فيما تحمّله ... إلى القراطيس عن أسرارنا رسل
ومنه قوله لرجل في تزويج أمه «1» : واتصل بي ما كان من أمر الواجبة الحقّ عليك، المنسوبة- بعد نسبتك إليها- إليك، واختيارها من الصيانة التي تحفظ جلالتها، وتحسن إيالتها، وتنمي مالها، وتشدّ أخوالها، وتعين طباعها على كرمها، وتقيم مهابتها على خدمها، ما لولا أن النفس تناكره بغير طريق شرعي ولا دليل قطعي، لكنت في مثله بالرضى أولى، وبالاعتداد بما جدّده الله من صيانتها أحرى؛ وقد آثر الصّلة بها من تقوى بصلته، قوّة اليد بالسّاعد، وتعتده عمّا بحكم المجاز، والعمّ صنو الوالد «2» ؛ وتزوجت أمّ زيد بن عليّ فلم يمنعه عمّا جاء به الشّرع حميّة النخوة، وسئل: لم تزوجت أمّك بعد أبيك؟ فقال: لتبشّر بآخر مثلي من الإخوة؛ وفي هذا لها(12/56)
- أصانها الله- مزيد للعفة، ومزيل للكلفة، والزواج يستحبّ للرجال والنساء سواء، في طلب تجديده شهوات الأمّهات والآباء، وقد جدع الإسلام أنف الغيرة «1» ، وجعل فيما اختاره الخيرة؛ ولا يسخطك- أعزك الله- ما رضيه موجب الشرع، وحبّب أدب الديانة، وحكم به حاكم العقل في الصيانة، فمباح الله أحقّ أن يتبع، وهوى النفس في الحمية أولى أن يمتنع؛ فإياك أن تكون ممن إذا عدم اختياره، تسخط اختيار القدرة.
ومنه قوله في فتوح: أصدرت هذا الكتاب بمواقع نعم الله الشاملة، وآثار نعمه المتواصلة؛ وهو أنّا لمّا رأينا السّيوف متوثبة في الأيدي للضرب، وحاذرنا هجوم الشتاء على مضيق الدرب، جعلنا آخر الأمر أوله، وركبنا من الصعب أهوله، وأرسلناها تتبارى في الركض، وتتلاعب بالأرض، وتتواثب كالظلمان، وتتهافت كالعقبان؛ أسرع من النجوم السائرة، وأنفذ من السهام العائرة؛ إلى أن نزلنا بطن هنزيط «2» ، فكنا أسبق إلى عيون أهلها من النظر، وأدخل في نفوسهم من تسقط الحذر، ولم يمض صدر اليوم إلّا وقد حصل جميع من فيه من المقاتلة والحامية، والشّبي والماشية، والغلام والجارية، تحت رقّ الصّفاح، وفي ملك الخيل والرّماح؛ ثم يمّمنا بلد قالي قلا «3» ، فوردناها وقد سبقنا الإنذار، وتقدمّنا إليهم الحذار، فرجعنا إليهم بالعزائم الثاقبة، والكتائب العالية، فما كان بأسرع من أن زلزلت بهم الأقدام، وتحصّنوا بالهرب من الحمام، ودخلوا البلد؛ فكاد السور يقذف بمقاتلتهم،(12/57)
والأرض تنخسف زلزالا بكافتهم؛ ثم دخلنا البلد والسيف يأخذ من أدركه، والطّعن ينحر من استملكه، ثم رجعنا على من استعصى بالكنيسة، فخاطبونا بلسان الإذعان، وراسلونا في التماس الأمان، فأجبناهم إلى ذلك مشترطين ما منعهم حظّ الإسلام من قبوله، فاقتطعهم الطّمع عن تحصيله، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ
«1» وبرقت لهم مكائد النشاب، ودخلت عليهم رسل الموت على أجنحة النّسور من كل باب، فاستنزلناهم بحكم السيف وهم مهطعون وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ
«2» وأقمنا على أعلى جدرانه الأذان، ورتبنا المصلّبين مواضع الصّلبان، ثم انقلبنا بأسعد منقلب، وأربح مكتسب؛ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
«3» .
ومنه قوله يصف تشريفا وفرسا وصلا إلي أبي تغلب بن حمدان من الخليفة: وصل كتاب أمير المؤمنين مطلقا إلى الرّشد بالتوقيف، مقترنا بخصائص التّكرمة والتشريف؛ فقبّلت من الملبس الشريف مواقع أفضاله، واعتلقت من السعد بأذياله، وبرزت في الخلع الموسومة بإنعامه، والمناطق الناطقة بإكرامه، متدرّعا منها ثياب السكينة والهدى، مختالا من حللها فيما يروق الأولياء ويروع العدى، متقلّدا عضبه الذي هزّ النصر غراره، وأحسن آثاره، عاليا على عنق الزمان، بامتطاء ما حباني به من الجواد الذي تزلّ الأبصار عن صهواته «4» ،(12/58)
وتتبلج غرّة الفجر في ظلماته، وهو مع كونه تحلّى بحلية الكافر، يروع كلّ كافر مشرك، ويحقق بركضه أن الليل الذي هو مدرك «1» ؛ والحمد لله الذي جعل صنائع أمير المؤمنين عند من يرتبطها بعلائق شكره، ويحرسها بالتوفّر على جميل ذكرها في ذكره.
ومنه قوله: فلان يطرق الدّهر إذا نظر، وينظر المجد إذا افتخر، سعى إلى العلياء فأدركها، وعاقد عليها الآراء فملكها، وهي ما تدرك بغير السماح، ولا تملك إلّا بأطراف الرّماح.
ومنه قوله: والبلاغة ميدان لا يدرك إلا بسوابق الأذهان، ولا يسلك إلا ببصائر البيان؛ وقل من يركب طريقها على التغرير، أو أمل قطعها بالتقصير، إلا فضحته المطاولة، وكشفت خلله المساجلة، فسقط من حيث أمل الرّفعة، وذلّ من حيث حاول المنعة.
ومنه قوله: وأما هذا الفتح، فأوصافه لا تدرك بالعبارات، ولا تدخل تحت العرف والعادات: [البسيط]
فتح أنار الهدى بعد الظلام له ... واسترجع الدّين من بعد الرّهان به(12/59)
تاهت بأيامه الأيام واعتذر الد ... دهر الخؤون إليه من نوائبه
تباشرت بورود أخباره المنابر، وشهدت بفضله البواتر، ووفت فيه الخيل بعقد الضمان، وناب الخوف له عن ملاقاة الأقران، وآذن بالعاجل، على ما ادّخره الله في الآجل.
ومنه قوله: وقد شرفني سيدنا بأعز الحملان، الحامل لي على عنق الزّمان، فجاء موفيا على التأميل فيه، مناسبا لصنائع مهديه، متفاوت العدو، متقارب الخطو، حديد النظر، محمود الخبر، عريق النسب، مخبور الحسب، أخفّ من الوهم، وأمرق من السهم، وأسرع من البارق، وأشهر من لاحق «1» ؛ شخص إقبال، وجملة كمال «2» : [الكامل]
إن لاح قلت: أدمية أم هيكل؟ ... أو عنّ قلت: أسابح أم أجدل؟
تتخاذل الألحاظ في إدراكه ... ويحار فيه النّاظر المتأمّل
فكأنّه في اللّطف سهم ثاقب ... وكأنّه في الحسن حظّ مقبل
ومنه قوله: وإذا كان الشكر ترجمان النّية، ولسان الطّويّة، وسببا إلى الرّفادة، وطريقا إلى السعادة، فألسن آثارها على الشاكر مع الصّمت، أفصح من لسانه، وبيانها عند الجحود أبلغ من بيانه.
ومنه قوله:(12/60)
فلان يسع العالم إحسانه، ويستغرق الشكر امتنانه، ويستخدم الدهر عزمه، ويؤدب الأيام حزمه، كعبة فضل، وغمامة وبل، الليالي بأفعاله مشرقة، والأقدار من خوفه مطرقة، تحمده أولياؤه، وتشهد له بالفضل أعداؤه، ولا يصل الشك إلى سريرته، ولا ترمد عن الحق عين بصيرته، كالقمر السعد، والأسد الورد «1» : [البسيط]
إن سار سار لواء النصر يقدمه ... أو حلّ حلّ به الإقبال والكرم
يلقى العدى بجيوش لا يقاومها ... كثر العشائر إلّا أنّها همم
ومنه قوله: والحمد لله على ما وهب مولانا من عافية يقتضي بها شكره، وعارض مرض يختبر بها صبره، ليوجب له الزيادة من نعماه بالشكر، ويدخر له أرفع درج الجزاء بجميل الصّبر: [الطويل]
فبالمجد فقر أن يصحّ له أمر ... بقاء العلى والمكرمات بقاؤه
يداوي من الوعك الأطباء جسمه ... ويعدم من وقع الرماح اتقاؤه
فياذا الذي في رأيه وحسامه ... إذا اعتزما برء الزّمان وداؤه
رويدا فبالآمال أعظم فاقة ... إلى غيث جود في يديك سماؤه
فرفقا بجسم إن أردت بقاءه ... فصفحك للتّرفيه عنه شفاؤه
فما حمّ حتّى حمّت الخيل قبله ... [وحتى ترى] الصّمصام يبدو اشتكاؤه
«2»
ولا تنكرن من ذا الدّؤوب اعتلاله ... بحال فقد يصدي الحسام انتضاؤه
ومنه قوله:(12/61)
وقد ذهب رمضان عن سيدنا يشهد له عند الله بأفعاله، ويثني عليه عند الله بأعماله، تحسد لياليه على صيامه أيامه، وينافس صباحه على تهجّده ظلامه، موصوله بالطاعات ساعاته، مقرونة بالخيرات أوقاته: [الكامل]
ولّى ولو ملك اختيارا أنزلت ... شوّال عن أيّامه أيّامه
واسعد بعيد لم يزل يهدي له ... بل قبل مقدمه البشارة عامه
ومنه قوله: كتبت إليك بيد أطلق الثّقة بيانها من اعتقال اليأس، وعن رغبة انصرفت إلى تأميله عن جميع النّاس؛ مستظهرا على الدّهر بالصّبر، إلى أن عدل بي الحزم عن طريق نوائبه، واجتنيت بيد التّوفيق ثمر السّلامة من مصائبه، وأنا من المولى متوسّط رغبتي وعلاه، وبين شكري ونداه، مع أنني كما قلت: [الطويل]
تطول على الأيام أن يسترقّني ... مع الدّهر إلّا للكرام المواهب
وما كلّ حال يكسب المال مرتضى ... ولكن على قدر النّفوس المكاسب
ومنه قوله يشكر منعما سلك به مسلك والده: لو ارتفع برّ عن شكر، أو جلّ إنصاف عن اعتراف، لارتفع قدر تفضلك الذي توالت عليّ أنواؤه، وسابق رجائي ابتداؤه، ولم يجسر حمدي على مطاولة إحسانك، ولا أقدم بناني على وصف امتنانك، ولكن «1» حقّ لمن انتهى «2» إليك أن يفوت الأكفاء، ويبذّ النّظراء، لا سيّما من قصدك مقصد أبيك، فغدا يرتجيك: [المتقارب](12/62)
فقد كان شكري ملكا له ... وأنت أحقّ بميراثه
غمام أنت ماؤه، وبدر أنت ضياؤه، وعضب أنت غراره، وحقّ أنت مناره؛ سعى فجئت على أثره، وصمت فنطقت عن مفخره، فكرمك فرع كرمه، وهممك نتائج هممه.
ومنه قوله في التّهاني بعام: أسعد الأعوام- أطال الله بقاء الأمير- ما ألقى عليه سيدنا أيده الله بالمجاورة شعاع سعادته، التي هي حلي الدّهور، وغرر الأيام والشّهور، وقد أطلّ هذا الحول السعيد، مبشرا بأكمل مزيد، وأحسن تجديد: [الوافر]
فلا برح الزّمان بكلّ سعد ... سفيرا بين ملكك والدّوام
إذا أفنيت عاما منه أضحى ... ضمينا للبقاء بألف عام
فما عرف التّمام الخلق حتّى ... ظهرت فصرت حدّا للتّمام
ومنه قوله: غرّة الدّهر، وقبلة الشكر؛ إن رفع الجيش حماه، أو هز الحسام أمضاه، أو أورد السنان أرضاه؛ تتعزز بخدمته الأيام، وتضيء بمناجاته ظلم الأفهام؛ خصم النّوب، وشخص الحسب: [المتقارب]
يجلّ عن الهزّ عند الجلاد ... ويضحك في حالة المغضب
شجاعته عدّة المرهفات ... وهيبته موكب الموكب
لا تطمع الأفهام بلوغ حقه في مطاولته، ولا تسمو همم الخواطر إلى مساجلته؛ غاية المادح أن يرجع عن الإطالة إلى الاختصار، ويقتنع بالقليل من الإكثار: [الكامل](12/63)
يا من سطوت على الزّمان تهاونا ... بالحادثات مذ اعتمدت عليه
لا غرو إن أخّرت عنك مدائحي ... مدح الحسام العضب في حدّيه
ومتى تشابهت الشّيات فإنّما ... يجري الجواد إلى مدى أبويه
ذلك المقام مخاطبا على البعد بألفاظك، مرموقا بالمراعاة من ألحاظك، غير نازح عمّا ألفه من عواطف الولادة، وانبساط الأنسة المعتادة؛ وإنّ سببا أوثق حسم دواعي الخلاف، وأدّى إلى دوام الائتلاف، لحقيق بالمبالغة في تأكيده بالحرمة، وتخويله في النّعمة.
ومنه قوله في هذا المعنى «1» : وأما أبو النجم «2» فقد أدى الأمانة إلى متحملها، وسلم الذّخيرة الجليلة إلى متقبّلها، فحلّت من محل العز في وطنها، وآوت من حمى التودد إلى سكنها، صادرة من أنبل ولادة ونسب، إلى أشرف اتصال [وأنبه سبب] ، وكيف يتوصّى الناظر بنوره؟ أم كيف يحضّ القلب على حفظ سروره؟ ولو لم يمتّ أبو النجم بغير الخدمة في هذا الأمر العظيم محلا، السعيد عقدا وحلّا، لكان للحظوة أهلا، ولرفع المنزلة أولى أن يملى «3» ؛ فكيف وآثار نصحه في جمع الشمل لائحة، ودلائل وفائه بهذه الألفة واضحة؟
ومن نثره أيضا:
وأما فلان، فقد أمنت الأعداء فتكات حسامه، وبعد عهد الخيل بأسراجه وألجامه.
ومنه قوله:(12/64)
رئاسة تزهر المناقب في أفق علائها، وتتنافس الأشراف في التعلق بولائها؛ أسبق إلى الطعن من الأسنّة، وأحذق من زيد الخيل بتصريف الأعنة؛ إن قال فصل، أو حكم عدل، أو نطق صدق، أو سوبق سبق؛ البيان أصغر صفاته، والبلاغة عفو خطراته، مبرقع الطّلعة بالخفر، مسفر الوجه عن دارة القمر، ما ينفكّ من الكمد حاسده، ولا يسلم من الدّهر معانده: [المتقارب]
أقام حقوق النّدى والقنا ... ليوم السّماح ويوم الطّعان
يجود بسابق نجح السّؤال ... وبأس يطاعن قبل السنان
الحسام خدينه، والرّمح قرينه، والسرج وطنه، والتيقظ رسنه؛ سائره قلب، وجملته لبّ، من الدوحة التغلبية، والنبعة الحمدانية: [الكامل]
نسب لو ان الليل ألبسه انثنى ... بضيائه لسنا الصّباح يضاهي
وخلائق لو صوّرت لظننتها ... زهرا أو انبجست جرت بمياه
قوم بلوت مديحهم فوجدته ... أحلى من الرشفات في الأفواه
وطلبت مجتهدا نهاية وصفهم ... فوجدته ما ليس بالمتناهي
ومنه قوله: «1»
حقّ لمن انتمى إليك أن يفوت الأكفاء، ويبذّ النّظراء، لا سيما من قصد بك مقصد أبيك، وغدا يرتجيك، فقد توالت عليّ أنواؤه، وسابق رجائي ابتداؤه: [المتقارب]
وقد كان شكري ملكا له ... وأنت أحقّ بميراثه
غمام أنت ماؤه، وبدر أنت ضياؤه، وعضب أنت غراره، وحقّ أنت مناره؛ سعى فجئت على أثره، وصمت فنطقت عن مفخره، فكرمك فرع لكرمه،(12/65)
وهممك نتائج هممه، ذهب وأبقاك، ونام مطمئنا وقد استرعاك، فلقد خلقت عندي أياديه خلقا جديدا، واستصحبت لي من نعمه كرما موجودا.
* ومن شعره «1» : [البسيط]
أحبابنا هذه نفسي تودّعكم ... إذ كان لا الصّبر يسليها ولا الجزع
قد كنت أطمع في روح الحياة لها ... فالآن إذ بنتم لم يبق لي طمع
لا عذّب الله روحي بالبقاء فما ... ظننتني بعدكم بالعيش أنتفع
ومنه قوله «2» : [البسيط]
يا مسقمي بجفون سقمها سبب ... إلى مواصلة الأسقام في جسدي
عذرت من ظلّ في حبّيك يحسدني ... لأنّه فيك معذور على حسدي
ومنه قوله «3» : [البسيط]
يسعى به البرق إلّا أنه فرس ... من فوقه الموت إلّا أنه رجل
يلقى الرّماح بصدر منه ليس له ... ظهر وهادي جواد ماله كفل
ومنه قوله «4» : [الكامل]
وكأنّما نقشت حوافر خيله ... للنّاظرين أهلّة في الجلمد
وكأن طرف الشّمس مطروف وقد ... جعل الغبار له مكان الإثمد
ومنه قوله «5» : [البسيط](12/66)
يا غازيا آبت الأحزان غازية ... إلى فؤادي والأشجان حين غزا
إن بارزتك كماة الرّوم فارمهم ... بسهم عينيك يقتل كلّ من برزا
ومنه قوله يصف كأسا وأجاد في وصفه، وتقدم السابقين وخلاهم خلفه «1» : [المنسرح]
من كلّ جسم كأنه عرض ... يكاد لطفا باللّحظ ينتهب
لا عيب فيه سوى إذاعته الس ... سرّ الذي في حشاه يحتجب
كأنّما صاغه النفاق فما ... يخلص صدق منه ولا كذب
فهو إلى لون ما يجاوره ... على اختلاف الطّباع ينتسب
إذا ادّعاه اللّجين أكذبه ... بالرّاح في صبغ جسمه الذّهب
ومنه قوله في خلعة وفرس «2» : [البسيط]
لمّا تحصّنت من دهري بخلعته ... سمت بحملانه ألحاظ إقبالي
وواصلتني صلات منه رحت بها ... أختال ما بين عزّ الجاه والمال
5- ومنهم: بديع الزّمان الهمذاني «3»
* وهو نادرة الدّهر وبادرة الزهر؛ قلّ أن ولد الزّمان مثله، أو ولّد شكله؛ إن الزمان بمثله لعقيم «4» ، ولا عصبية للعظم الرميم؛ بل هو والله البديع حقا،(12/67)
المعتكر «1» طرقا؛ كاد يلتهب فكره ذكاءا، وينتهب ذكره ذكاءا «2» ، كأنما كلمه حبر أو لفظه زبر؛ سجعه قصير، ونفعه كبير، من سمع حسّانه تبع إحسانه، ومن فهم بيانه، علم أن فوق السّحاب بنانه؛ وربما كاد يحكيه لو وهب، لو كان- كما قال- طلق المحيا يمطر الذّهب «3» ؛ نافح الرّياض فأخذ أنفاسها، وسافح السحائب فنثر أكياسها، بزّ الكواكب ولبس لباسها، وبذّ المدام وسلب الحميّا كأسها، فجاء بسحر عظيم إلّا أنه حلال، وخمر لا لغو فيها ولا تأثيم وفيها الخلال؛ ووراءه جرى الحريريّ لكنّه نقّح، على أنه مما ترك البديع ولقح.
وذكر البديع أبو منصور الثعالبي، فقال: هو أبو الفضل، أحمد بن الحسين الهمذاني مفخر همذان «4» ، ونادرة الفلك وبكر عطارد، وفرد الدّهر، وغرة العصر، ومن لم يلف «5» نظيره في ذكاء القريحة، وسرعة الخاطر، وشرف الطّبع، وصفاء الذهن، وقوة النفس، ولم يدرك قرينه في ظرف النّثر وملحه، وغرر النظم ونكته، ولم يرو أن أحدا بلغ مبلغه من لب الأدب وسرّه، وجاء بمثل إعجازه وسحره؛ فإنه كان صاحب عجائب وبدائع؛ فمنها:
أنه كان ينشد القصيدة لم يسمعها قطّ، وهي أكثر من خمسين بيتا، فيحفظها كلّها، ويوردها إلى آخرها، لا يخرم حرفا منها [ولا يخلّ بمعنى] ، وينظر في الأربع والخمس الأوراق، من كتاب لم يعرفه ولم يره إلا نظرة واحدة خفيفة، ثم يهذّها عن ظهر قلبه هذا، ويسردها سردا.(12/68)
وكان يقترح عليه عمل قصيدة أو إنشاء رسالة في معنى غريب وباب بديع، فيفرغ منها في الوقت والساعة، والجواب عمّا فيها.
وكان ربما يكتب الكتاب المقترح عليه، فيبتدئ بآخر سطوره ثم هلم جرا إلى الأول، ويخرجه كأحسن شيء وأملحه.
ويوشح القصيدة الفريدة من قبله بالرسالة الشريفة من إنشائه، فيقرأ من النظم ومن النثر؛ ويعطى القوافي الكثيرة، فيصل بها الأبيات الرشيقة.
ويقترح عليه كلّ عروض «1» ، فيرتجله في أسرع من الطرف على ريق لا يبلعه، ونفس لا يقطعه. وكلامه كله عفو الساعة، وفيض البديهة «2» ، ومسارقة القلم، ومجاراة الخاطر [للنّاظر] .
وكان مع هذا مقبول الصورة، خفيف الرّوح، حسن العشرة، ناصع الظرف، عظيم الخلق، شريف النفس، كريم العهد، خالص الودّ، حلو الصداقة، مرّ العداوة.
فارق همذان [سنة ثمانين وثلاثمائة] وهو مقتبل الشبية، غضّ الحداثة، ووافى «3» نيسابور فنشربها بزه، وأظهر طرزه، وأملى مقاماته وغيرها، وضمنها ما تشتهي الأنفس من لفظ أنيق قريب المأخذ، بعيد المرام، وسجع رشيق المطلع «4»
والمقطع كسجع الحمام، ثم ألقى عصاه بهراة، فعاش بها عيشة راضية.
وحين بلغ أشده وأربى على أربعين سنة، ناداه الله فلبّاه، وفارق دنياه في سنة ثمان وتسعين وثلاثمئة؛ فقامت نوادب الأدب، وانثلم حدّ القلم أنه على ما(12/69)
مات من لم يمت ذكره، ولقد خلّد من بقي نظمه ونثره.
وسئل بعض علماء الأدب عن الحريريّ والبديع في مقاماتهما، فقال: لم يبلغ الحريريّ أن يسمّى بديع يوم، فكيف يقارب بديع زمان!.
* ومن نثره قوله «1» : وقد نظرت في المرآة فوجدت الشيب يتلّهب وينهب، والشّباب يتأهّب ويذهب، وما أسرج هذا الأشهب إلّا لسير، وأسأل الله خاتمة خير.
ومنه قوله «2» : أبرزت «3» باطنه، وحركت ساكنه، وأخرجت دفائن صدره، ورفعت أذيال ستره؛ فملأ فكيه وعيدا، ولحييه تهديدا «3» ، وكان جوابنا أن قلنا: بعض الوعيد يذهب في البيد «4» : [السريع]
جاء شقيق عارضا رمحه ... إنّ بني عمّك فيهم رماح
إنّا نقتحم الخطب، ونتوسط الحرب «5» : [المتقارب]
فأرضك أرضك إن تأتنا ... تنم نومة ليس فيها حلم
ومتى شئت لقيت خصما ضخما، ينهشك قضما، ويأكلك خضما؛ فجعل الشيطان يثقّل بذلك أجفان طرفه، ويقيم به شعرات أنفه «6» : [الوافر]
وحتّى ظنّ أنّ الغشّ نصحي ... وخالفني كأنّي قلت هجرا(12/70)
ومنه قوله: وبيننا عذراء، زجاجها خدرها، وحبابها ثغرها، بل شقيقة حوتها كمامة، أو شمس حجبتها غمامة؛ إذا طاف بها الساقي فورد على غصنها، أو شربها مقهقهة فحمامة على فننها.
ومنه قوله «1» : انظر إلى الكلام وقائله فإن كان وليّا فهو الولاء وإن خشن، وإن كان عدوّا فهو البلاء وإن حسن؛ ألا ترى العرب تقول: قاتله الله، ولا يريدون الذمّ؛ ولا أبا له، في الأمر إذا تمّ.
ومنه قوله: وفائدة الاعتقاد أفضل في الانتقاد، والسماح يكسر الرّماح، والصفح يفلّ الصّفاح، والجود أنصر من الجنود؛ فإن كشف الضرّ عن الحرّ، أجمل من كشف الصدف عن الدرّ؛ ومن عرف بالمنح، قصد بالمدح، وقد ظلم من يلوم غير ملوم، فالتغاضي يصحب المراضي، واللبيب يعيد البعيد قريبا، والعدوّ حبيبا، وحضرة السّلطان مفزع الراجين، ومنزع اللاجين، إليها يعودون وبها يعوذون، وهي المقرّ، وإليها المفرّ، وإذا عدل الملك أقصر الحائف، وأمن الخائف، وخير الإخوان من ليس بخوان؛ وده ميمون، وغيبه مأمون، فهو يحالفك ولا يخالفك، ويرافقك ولا يفارقك، ويوافقك ولا ينافقك، ويعاشرك ولا يكاشرك، وإذا حضرت حنا عليك، وإذا غبت حن إليك.
ومنه قوله «2»
وقد كتب إليه بعض من عزل عن ولاية حسنة، وذوى يانع(12/71)
غصنه؛ يستمد منه ودادا طالما تركه، ويستميل فؤادا كان يظنّ أنه قد ملكه؛ وإذا بحوادث الأيام قد غيرت ما عهد، وحسنت له بذل ما كان يضنّ به فلم يفد:
أما بعد: فقد وردت رقعتك فلم تند على كبدي، ولم تحظ بناظري ويدي؛ وخطبت من مودتي ما لم أجدك له أهلا، وقلت: هذا الذي تاه بحسن قده، وزها بورد خدّه، فالآن إذ نسخ الدّهر آية حسنه، وأقام مائل غصنه، وانتصر لنا منه شعرات كسفت هلاله، وأكسفت باله، ومسحت جماله، وغيرت حاله؛ فمهلا مهلا؛ وتناسيت أيامك إذ تكلّمنا نزرا، وتلحظنا شزرا: [الطويل]
ومن لك بالعين التي كنت مرة ... إليك بها في سالف الدهر أنظر
أيام كنت تتلفت والأكباد تتفتت، وتقبل فتمني وتعرض فتضني «1» : [الطويل]
وتبسم عن ألمى كأنّ منوّرا ... تخلّل حرّ الرّمل دعص له ندي
فأقصر الآن فإنه سوق كسد، ومتاع فسد، ودولة أعرضت، وأيام انقضت، ويوم صار أمس، وحسرة بقيت في النفس، فحتام تدلّ وإلام؟ ولم تحتمل وعلام؟
وقد بلغني ما أنت متعاطيه من تمويه يجوز بعد العشاء في الغسق، وينفق على السّوق؛ وإفناؤك لتلك الشعرات جزا وحصا، ونتفا وقصا؛ فأنا برحلك وجانبك، وحبلك ملقى على غاربك، ولو أحببت أن أوجعك لقلت: [من مخلّع البسيط]
ما يفعل الله باليهود ... ولا بعاد ولا ثمود
ولا بفرعون إذ عصاه ... ما يفعل الشعر بالخدود
ومنه قوله «2» : كتابي إلى البحر وإن لم أره، فقد سمعت خبره، والليث وإن لم ألقه فقد(12/72)
تصورت خلقه، والملك العادل وإن لم أكن لقيته، فقد بلغني صيته، ومن رأى من السيف أثره، فقد رأى أكثره؛ وهذه الحضرة وإن احتاج إليها المأمون، ولم يستغن عنها قارون، فإن الأحب إليّ أن أقصدها قصد موال، [لا قصد سؤال] ؛ والرّجوع عنها بجمال أحبّ إلي من الرجوع عنها بمال؛ قدّمت التعريف، وأنا أنتظر الجواب الشريف.
ومنه قوله «1» : عافاك الله، مثل الإنسان في الإحسان، كمثل الأشجار في الثمار، سبيله إذا أتى بالحسنة، أن يرفّه من السّنة إلى السنة، وأنا كما ذكرت لا أملك عضويّ من جسدي، وهما فؤادي ويدي؛ أما الفؤاد فيعلق بالفود، وأما اليد فتولع بالجود؛ لكن هذا الخلق النفيس، ليس يساعده الكيس؛ وهذا الطّبع الكريم ليس يحتمله الغريم، ولا قرابة بين [الأدب و] الذهب؛ والأدب لا يمكن ثرده في قصعة، ولا صرفه في ثمن سلعة.
ولي مع الأدب نادرة: جهدت في هذه الأيام بالطّباخ أن يطبخ من جيمية الشماخ لونا، فلم يفعل، وبالقصاب أن يسمع من «أدب الكتاب» فلم يقبل، واحتيج في البيت إلى شيء من الزيت، فأنشدت من شعر الكميت ألفا ومئتي بيت فلم يغن فيما به اعتنيت؛ ولو وقعت أرجوزة العجاج في توابل السّكباج ما عدّ منها عندي لون، ولا استقرّ صون، بل ليست تقع، فما أصنع؟ فإن كنت تحسب اختلافك إليّ، أفضل «2» عليّ، فراحتك راحتي، وراحتي أن لا تطرق ساحتي.
ومنه قوله «3» :(12/73)
أنا لقرب دار مولاي: [من الطويل] ... كما طرب النشوان مالت به الخمر
ومن الارتياح إلى لقائه: [من الطويل] ... كما انتفض العصفور بلّله القطر
«1»
ومن الامتزاج بولائه: [من الطويل] ... كما التقت الصّهباء والبارد العذب
ومن الابتهاج بمزاره: [من الطويل] ... كما اهتزّ تحت البارح الغصن الرّطب
«2» * ومن شعره قوله «3» : [البسيط]
عليّ ألّا أريح العيس والقتبا ... وألبس السّيل والظّلماء واليلبا
وأترك الخود معسولا مقبّلها ... وأهجر الكاس يغدو شربها طربا
وطفلة كقضيب البان منعطفا ... إذا مشت وهلال الشهر منتقبا
قالت وقد علقت ذيلي تودعني ... والوجد يخنقها بالدّمع منسكبا:
كنت الشّبيبة أبهى ما دجت درجت ... وكنت كالورد أذكى ما أتى ذهبا
أبى المقام بدار الذّلّ لي كرم ... وهمة تصل التّقريب والخببا
وعزمة لا تزال الدّهر ضاربة ... دون الأمير وفوق المشتري طنبا
يا سيد الأمراء افخر فما ملك ... إلا تمناك مولى واشتهاك أبا
«4»
إذا دعتك المعالي عرف هامتها ... لم ترض كسرى ولا من فوقه ذنبا
أين الذين أعدّو المال من ملك ... يرى الذّخيرة ما أعطى وما وهبا
ما الليث محتطما والسّيل مرتطما ... والبحر ملتطما واللّيل مقتربا
أمضى شبا منك أدهى منك صاعقة ... أجدى يمينا وأدنى منك مطّلبا(12/74)
وكاد يحكيك صوب الغيث منسكبا ... لو كان طلق المحيّا يمطر الذهبا
والدّهر لو لم يخن والشّمس لو نطقت ... واللّيث لو لم يصد والبحر لو عذبا
يا من تراه ملوك الأرض فوقهم ... كما يرون على أبراجها الشّهبا
ومنه قوله «1» : [الطويل]
أيا ملكا أدنى مناقبه العلى ... وأيسر ما فيه السّماحة والبذل
هو البدر إلّا أنه البحر زاخرا ... سوى أنّه الضّرغام لكنه الوبل
محاسن يبديها العيان كما بدا ... وإن نحن حدّثنا بها صدّق العقل
وجاراك أفراد الملوك إلى العلى ... وحقا لقد أعجزتهم ولك الخصل
سما بك من عمرو ويعقوب محتد ... كذا الأصل مفخور به وكذا النّسل
* وحكى ابن ظافر قال «2» : حكى بديع الزّمان الهمذاني، قال: قال الصّاحب يوما لجلسائه وأنا فيهم، وقد جرى ذكر أبي فراس بن حمدان: لا يقدر أحد أن يزوّر على أبي فراس شعرا؛ فقلت: ومن يقدر أن يزوّر على شعره، وهو الذي يقول- وقلت ارتجالا-: «3» [الوافر]
رويدك لا تصل يدها بباعك ... ولا تغز السّباع إلى رباعك
ولا تعن العدوّ عليّ إني ... يمينك إن قطعت، فمن ذراعك
فقال الصاحب: صدقت؛ فقلت أيد الله مولانا، قد فعلت وزوّرت على أبي فراس، وهذا شعري! فعجب منه.
* وحكي أنّه جرى ذكره في مجلس شيخه أبي الحسين بن فارس، فقال ما(12/75)
معناه «1» : إنّ بديع الزّمان قد نسي حق تعليمنا إيّاه، وعقّنا، وطمح بأنفه عنّا؛ فالحمد لله على فساد الزّمان، وتغيّر نوع الإنسان.
فكتب إليه بديع الزمان: نعم، أطال بقاء الشيخ الإمام؛ إنّه الحمأ المسنون، وإن ظنّت به الظّنون، والنّاس لآدم، وإن كان العهد قد تقادم، وتركبت الأضداد، واختلاف الميلاد؛ والشيخ يقول: قد فسد الزّمان؛ أفلا يقول: متى كان صالحا؟ في الدولة العبّاسيّة، فقد رأينا آخرها، وسمعنا أولها؟ أم الملّة المروانية، وفي أخبارها:
لا تكسع الشّول بأغبارها «2» ؟ أم السنين الحربية «3» : [مجزوء الكامل]
والسّيف يعقد في الطّلى ... والرّمح يركز في الكلى
ومبيت حجر في الفلا ... وحرّتان وكربلا؟
أم البيعة الهاشمية [، وعلي يقول: ليت العشرة منكم] براس، من بني فراس؟ أم الأيّام الأموية، والنّفير إلى الحجاز، والعيون تنظر إلى الأعجاز؟ أم الإمارة العدوّية «4» ، وصاحبها يقول: هلمّ بعد البزول إلى النّزول؟ أم الخلافة التيميّة «5» ، وهو يقول:
طوبى لمن مات في نأنأة الإسلام؟ أم على عهد الرسالة، ويوم الفتح قيل: اسكتي يا فلانة، فقد ذهبت الأمانة؟ أم في الجاهليّة، ولبيد يقول «6» : [الكامل]
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب(12/76)
أم قبل ذلك، وأخو عاد يقول: إذ النّاس ناس والبلاد بلاد «1» ؟ أم قبل ذلك، وآدم- فيما قيل- يقول «2» : [الكامل]
تغيرت البلاد ومن عليها ... [ووجه الأرض مغبرّ قبيح]
أم قبل ذلك، والملائكة تقول: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ
«3» .
ما فسد النّاس، إنما اطرد القياس، ولا أظلمت الأيام، إنما امتد الظلام؛ وهل يفسد الشيء إلّا عن صلاح، ويمسي المرء إلّا عن صباح؟ وإنّي على توبيخ شيخنا، لفقير إلى لقائه، شفيق على بقائه، منتسب إلى ولائه، شاكر لآلائه، لا أحلّ حريدا «4» عن أمره، ولا أفلّ «5» بعيدا عن قلبه؛ وما نسيته، ولا أنساه؛ إن له على [كل] نعمة خوّلنيها الله نارا، وعلى كلّ كلمة علّمنيها منارا؛ ولو عرفت لكتابي موقعا من قلبه، لاغتنمت خدمته به، ولرددت إليه سؤر كاسه، وفضل أنفاسه؛ ولكنني خشيت أن يقول: هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا
«6» وله- أيده الله- العتبى، والمودّة في القربى، والمرباع، وما ناله الباع، وما ضمّه الجلد، وضمنه السمط؛ ليست رضى، ولكنها جلّ ما أملك.(12/77)
اثنتان- أيد الله الشيخ الإمام-[قلّما تجتمعان] الخراسانية والإنسانية؛ وإن لم أكن «1» خراسانيّ الطّينة، فإنّي خراسانيّ المدينة؛ والمرء من حيث يوجد، لا من حيث يولد؛ فإذا أضاف إلى خراسان ولاء همذان، ارتفع القلم، وسقط التكليف؛ فالجرح جبار، والجاني حمار، ولا جنّة ولا نار، فليلمّني «2» على هناتي، أليس صاحبها يقول: [الخفيف]
لا تلمني على ركاكة عقلي ... إن تيقّنت أنني همذاني
والسلام.
قوله: والعيون تنظر إلى الأعجاز: إشارة إلى قول أحد الذين قتلوا عثمان لمّا دخلوا عليه، فنظروا إلى نائلة بنت الفرافصة زوجة عثمان، وهي تصيح، فقالوا:
إن عجزها لكبير.
* واجتمع بديع الزّمان والأستاذ أبو بكر الخوارزميّ في دار السيد أبي القاسم المستوفي، بمشهد من القضاة والفقهاء والأشراف، وغيرهم من سائر النّاس، فجرى بينهما من المناظرة ما نذكره إن شاء الله تعالى «3» .
قال الأستاذ أبو الفضل بديع الزمان: سأل السيد- أمتع الله ببقائه إخوانه- أن أملي جميع ما جرى بيننا وبين أبي بكر الخوارزمي أعزه الله من مناظرة مرّة ومنافرة أخرى، موادعة أولا ومنازعة ثانيا، إملاء يجعل السماع له عيانا، فما تلقيته إلا بالطاعة، على حسب الاستطاعة، لكن للقصّة تشبيبا لا تطيب إلّا به، ومقدمات(12/78)
لا تحسن إلّا معها؛ وسأسوق بعون الله صدر حديثنا إلى العجز، كما يساق الماء إلى الأرض الجرز؛ فنبدأ فيها باسم الله عزّ وجلّ، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم [ذهابا بالقصّة عن أن تكون بتراء، وصيانة لها عن أن تدعى جذماء؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» :] «كلّ خطبة لا يبدأ فيها باسم الله عزّ وجلّ فهي بتراء» . وخطب زياد خطبته البتراء «2» . لأنه لم يحمد الله عزّ وجل ولم يصلّ على رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وهذا مقام نعوذ بالله منه، ونسأله التوفيق للصّواب، بورده وبصدره.
نعم، أطال الله بقاء السيد، وأمتع ببقائه إخوانه؛ إن قعدنا نعدّ آثاركم ونؤدي مآثركم، نفد الحصر قبل نفودها، وفنيت الخواطر قبل أن تفنى المآثر؛ وكيف لا، وإن ذكر الشرف فأنتم بنو بجدته، أو العلم فأنتم عاقدوا بردته، أو الدين فأنتم ساكنو بلدته، أو الجود فأنتم لابسو جلدته، أو التّواضع صبرتم لشدته، أو الرأي صلتم بنجدته، وإن بيتا تولى الله بناءه ولزم الرسول صلى الله عليه وسلم فناءه، وأقام الوصيّ عليه السلام عماده، وخدم جبريل عليه السلام أهله، لحقيق أن يصان عن مدح لسان قصير؛ ونحن نعود للقصة نسوقها.
فأولها: أنا وطئنا خراسان، فما اخترنا إلا نيسابور دارا، وإلا جوار السادة جوارا، لا جرم أنا حططنا بها الرّحل، ومددنا عليها الطنب، وقديما كنا نسمع بحديث هذا الفاضل فنتشوقه، ونخبره على الغيب فنتعشقه، ونقدر أنا إذا وطئنا أرضه، ووردنا بلده، يخرج لنا في العشرة عن القشرة، فقد كانت لحمة الأدب جمعتنا، وكلمة الغربة نظمتنا؛ وقد قال شاعر العرب غير مدافع «3» : [الطويل]
أجارتنا إنا غريبان هاهنا ... وكلّ غريب للغريب نسيب(12/79)
فأخلف ذلك الظنّ كلّ الإخلاف، واختلف ذلك التقدير كل الاختلاف؛ وكان قد اتفق لنا في الطريق اتفاق، لم يوجبه استحقاق، من بزّة بزّوها، وفضة فضوها، وذهب «1» ذهبوا به؛ ووردنا نيسابور براحة أنفى من الراحة، وكيس أخلى من جوف حمار «2» ، وزيّ أوحش من طلعة المعلّم، بل اطّلاعة الرقيب، فما حللنا إلا قصبة جواره، ولا وطئنا إلا عتبة داره؛ وهذا بعد رقعة كتبناها، وأحوال أنس نظمناها؛ فلما أخذتنا عينه سقانا الدّرديّ «3» من أول دنّه، وأجنانا سوء العشرة من باكورة فنّه؛ من طرف نظر بشطره، وقيام دفع في صدره، وصديق استهان بقدره، وضيف استخف بأمره؛ لكن أقطعناه جانب أخلاقه، ووليناه خطة رأيه، وقاربناه إذ جانب، وواصلناه إذ جاوب، وشربناه على كدرته، ولبسناه على «4» خشونته، ورددنا الأمر في ذلك إلى زي استغثّه، ولباس استرثه، وكاتبناه نستمدّ وداده، ونستلين قياده، ونستميل فؤاده، ونقيم منآده، بما هذه نسخته بعد البسملة:
الأستاذ أبو بكر، والله يطيل بقاءه، أزرى بضيفه إن وجده يضرب آباط القلة في أطمار الغربة، فأعمل في مرتبته أنواع المصارفة، وفي الاهتزاز له أصناف المضايفة، من إيماء بنصف الطرف وإشارة بشطر الكف، ودفع في صدر القيام عن التمام، ومضغ للكلام، وتكلف لردّ السلام؛ وقد قبلت تربيته صعرا، واحتملته وزرا، واحتضنته نكرا، وتأبطته شرا، ولم آله عذرا؛ فإن المرء بالمال وثياب الجمال، ولست مع هذه الحال، وفي هذه الأسمال أتقزز صف النعال؛ فلو صدقته العتاب، وناقشته الحساب، لقلت إن نوادينا ثاغية صباح، وراغية رواح، وناسا(12/80)
يجرّون المطارف، ولا يمنعون المعارف «1» : [الطويل]
وفيهم مقامات حسان وجوههم ... وأندية ينتابها القول والفعل
فلو طرحت بأبي بكر أيده الله طوارح الغربة، لوجد منال البشر قريبا، ومحطّ الرّحل رحيبا، ووجه المضيف خصيبا؛ ورأي الأستاذ أبي بكر أيّده الله تعالى في الوقوف على هذا العتاب الذي معناه ودّ، والمرّ الذي يتلوه شهد، موفق إن شاء الله.
فأجاب بما هذه نسخته: وصلت رقعة سيدي ورئيسي، أطال الله بقاءه [إلى آخر] السّكباج «2» ، وعرفت ما تضمنته من خشن خطابه، ومؤلم عتبه وعتابه، وحملت ذلك منه على الضجرة التي لا يخلو منها من مسه عسر، ونبا به دهر؛ والحمد لله الذي جعلني موضع أنسه، ومظنة مشتكى ما في نفسه.
أما ما شكاه سيدي ورئيسي من مضايقتي إياه- زعم- في القيام عن التّمام، فقد وفيته حقه- أيده الله- سلاما وقياما على قدر ما استطعت عليه، ووصلت إليه، ولم أرفع عليه إلّا السيد أبا البركات العلويّ أدام الله عزه، وما كنت لأرفع أحدا على من أبوه الرسول، وأمه البتول، وشاهداه التّوراة والإنجيل، وناصره التّأويل والتنزيل، والبشير به جبريل وميكائيل؛ فأمّا القوم وما وصف سيدي عنهم فكما وصف حسن عشرة، وسداد طريقة، وكمال تفصيل وجملة.
ولقد جاورتهم فأحمدت المراد، ونلت المراد «3» : [الطويل]
فإن أك قد فارقت نجدا وأهله ... فما عهد نجد عندنا بذميم(12/81)
والله يعلم نيتي للأحرار كافة، ولسيدي أدام الله عزه من بينهم خاصة؛ فإن أعانني على ما في نفسي بلغت له بعض ما في النية، وجاوزت به مسافة القدرة؛ وإن قطع عليّ طريق عزمي بالمعارضة، وسوء المؤاخذة، صرفت عناني عن طريق الاختيار، [بيد الاضطرار] : [الطويل]
فما النفس إلّا نطفة في قرارة ... إذا لم تكدر كان صفوا غديرها
«1» وبعد: فحبذا عتاب سيدي إذا استوجبنا عتبا، واقترفنا ذنبا؛ فأما أن يسلفنا العربدة، فنحن نصونه عن ذلك، ونصون أنفسنا عن احتماله عليه؛ ولست أسومه أن يقول: اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ
«2» ، ولكنّي أسأله أن يقول: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ
«3» .
فحين ورد الجواب، وغير العذر رائده، تركناه بعرّه، وطويناه على غرّه، وعمدنا لذكره، فسحوناه، عن صحيفتنا ومحوناه، وصرنا إلى اسمه فأخذناه ونبذناه؛ وتنكبنا خطته، وتجنبنا خلطته، فلا طرنا به، ولا طرنا إليه؛ ومضى على ذلك الأسبوع، ودرجت اللّيالي، وتطاولت المدّة، وتصرم الشهر وصرنا لا نعير الأسماع ذكره، ولا نودع الصدر حديثه، وجعل هذا الفاضل يستزيد ويستعيد، بألفاظ تقطفها الأسماع من لسانه وتردّها إليّ، وكلمات تحفظها الألسنة من فمه وتعيدها عليّ؛ فكاتبناه بما هذه نسخته:
أنا أرد من الأستاذ سيدي- أطال الله بقاءه- شرعة وده، وإن لم تصف؛ وألبس خلعة وده «4» وإن لم تضف؛ وقصاراي أن أكيله صاعا عن مدّ؛ فإني(12/82)
وإن كنت في الأدب دعيّ النسب، ضعيف السبب، ضيق المضطرب، سيّء المنقلب، أمتّ إلى عشرة أهله بنيقة، وأنزع إلى خدمة أصحابه بطريقة، ولكن بقي أن يكون الخليط منصفا في الوداد، إذا زرت زار، وإن عدت عاد؛ وسيدي- أيده الله- ناقشني في القبول أولا، وصارفني في الإقبال ثانيا؛ فأما حديث الاستقبال، وأمر الإنزال والأنزال، فنطاق الطّمع ضيق عنه، غير متّسع لتوقّعه منه.
وبعد: فكلفة الفضل هينة، وفروض الودّ متعينة، وأرض العشرة لينة، وطرقها بينة، فلم اختار قعود التّعالي مركبا، وصعود التّغالي مذهبا؟ وهلّا ذاد الطّير عن شجر العشرة، وذاق الحلو من ثمرها؟ فقد علم الله أن شوقي إليه قد كدّ الفؤاد برحا على برح، ونكأه قرحا على قرح، ولكنّها مرّة مرّة، ونفس حرّة، لم تعد إلّا بالإعظام، ولم تلق إلّا بالإجلال، وإذا استعفاني من معاتبتي، وأعفى نفسه من كلف الفضل بتجشمها، فليس إلا غصص الشوق أتجرّعها، وحلل الصبر أتدرعها، ولم أغره من نفسي، وأنا لو أعرت جناحي طائر لما طرت إلّا إليه، ولا وقعت إلّا عليه «1» : [الطويل]
أحبّك يا شمس الزمان وبدره ... وإن لا مني فيك السّها والفراقد
«2»
وذاك لأنّ الفضل عندك باهر ... وليس لأنّ العيش عندك بارد
فلمّا وردت عليه الرّقعة، حشر تلامذته وخدمه، وزمّ عن الجواب قلمه، وجشّم للإيجاب قدمه، وطلع مع الفجر علينا طلوعه، ونظمتنا حاشيتا دار الإمام أبي الطيّب أدام الله عزّه؛ فقلت: الآن حين تشرق الحشمة وتنوّر، وننجد في(12/83)
العشرة ونغوّر، وقصدناه شاكرين لما أتاه، وانتظرنا عادة بره، وتوقعنا مادة فضله، فكان خلّبا شمناه، وآلا وردناه، وصرفنا الأمر في تأخرنا عنه إلى ما قاله عبد الله بن المعتزّ «1» : [الرجز]
إنّا على البعاد والتّفرّق ... لنلتقي بالذّكر إن لم نلتقي
وأنشدناه قول ابن عصرنا: [الوافر]
أحبّك في البتول وفي أبيها ... ولكنّي أحبّك من بعيد
«2» وبقينا نلتقي خيالا، ونقنع بالذكر وصالا، حتّى جعلت عواصفه تهبّ، وعقاربه تدبّ، وهو لا يرضى بالتعريض حتى يصرح، ولا يقنع بالنفاق حتى يعلن؛ وشكا إلي بعض إخواننا أني خاطبته مخاطبة مجحفة، ونزلته منزلة متحيفة؛ فقال: إني أؤثر العربدة، وأسلف الموجدة؛ ويرميني في ذلك بدائه وينسلّ «3» ، فكتبنا إليه «4» : [المتقارب]
جعلت فداءك من فاضل ... بلغت التراقي من جوره
وفي الغيب أكثر مما رأيت ... وأين البلوغ إلى غوره
أتتني الرّواة بما قلته ... بهيئته وعلى كوره
وقولك إني طوع الشّجار ... أضمّ ضلوعي على سوره
فقلت حياء لمن قد [أتاني] ... تجاوز منّا مدى طوره
«5»(12/84)
فيا من بذلت ودادي له ... فما لأت حورا على كوره
بودّ تبلّج عن نوره ... وقصد تفرّخ عن نوره
فهشّ كما ليس يخفى عليك ... بشطر القيام إلى زوره
وبايعته بيمين الرّضا ... وغضّ الجفون على هوره
وقلت لحنظل أخلاقه: ... ألا حبذا الأري في شوره
ولو كان ذلك من غيره ... طممت بنجدي على غوره
ولا عبته بكعاب الرّجوع ... فقامرني بيدي على غوره
وكان حديثي لمّا رجعت ... حديث الفتى مع سنّوره
فلم أدر فيما جفا ضيفه ... ولم سكن البرّ من فوره
أللزّمن النّي في حكمه ... أم الفلك الغثّ في دوره
وكاتبته أستمدّ الوداد ... كملتمس الدّرّ في ثوره
فقابل صرفي بممزوجه ... وواجه درّي ببللوره
وجشّم أقدام إقدامه ... يلوح التّكلّف في موره
وزار وزرناه عن قصده ... بما ليس يخجل في زوره
هلمّ إلى منبت المكرمات ... اواينا منتحى سوره
«1»
وأما الخطاب فأنت ابتدأت ... ودونك زند المنى أوره
فلمّا وردت عليه الأبيات، أبرزت باطنه، وحرّكت ساكنه، وأخرجت دفائن صدره، ورفعت أذيال ستره، وملأ قلبه ولحيته تهديدا؛ فكتبنا إليه «2» : [الهزج]
أعنّي يا أبا بكر ... على نفثة مصدور
على ودّك مطويّ ... وعن عتبك منشور(12/85)
إلى سلمك مشتاق ... على حربك مقهور
ولا تعدل إلى الظّلم ... ة عن ناحية النّور
ولا تهو إلى الوهد ... ة من عالية السّور
ولا تنهج إلى الأضيا ... ف إلّا سبل الخير
ولا تحفر لهم بيرا ... تقع في ذلك البير
ولا تنقل إلى الفتنة ... أسباب المقادير
«1»
فما أكثر ما عند ... ك من سرّ العقاقير
ولا تغرف على الإخوا ... ن من هذي الأبازير
فكم أطوي لك السّمع ... على سود المناكير
وكم ألقي عليها طر ... في في حلمي وتذكيري
وإن تمدد إلى ماء ال ... تّصافي يد تكدير
تعد عن جهتي واللّ ... هـ محذوف الشّوابير
ولا مروان بالكوفة ... في غدوة عاشور
ولا الكلب أتى الجام ... ع في فروة ممطور
وإن أحببت أن تعل ... م فانشطّ غير مأمور
فلا تبطل فدتك النّف ... س في بردك تدبيري
ولا تخلف بأخلاق ... ك في العشرة تقديري
فلما وردت عليه الأبيات قال: لو أنّ بهذا البلد رجلا تأخذه أريحيّة الكرم»
، وتملكه هزّة الهمم، يجمع بيني وبين فلان- يعنيني-: [الرجز]
ثم رأى إذا انجلى الغبار ... أفرس تحتي أم حمار(12/86)
وعلم أيّنا يبرز خلابه عفوا، أو أيّنا يغادر في المكر، ولودّ فلان بوسطاه؛ بل بيمناه، لو دخلنا وقلنا في المناخ له: نم، إلى كلمات تحذو هذا الحذو، وتنحو هذا المنحى، وألفاظ أتتنا من عل؛ وكان جوابنا أن قلنا: بعض الوعيد يذهب في البيد، والصّدق ينبئ عنك لا الوعيد «1» ؛ وقلنا: إنّ أجرأ النّاس على الأسد، أكثرهم رؤية له؛ «2» وقد قال بعض أصحابنا. قلت لفلان: ألا تناظر فلانا، فإنّه يغلبك؟ فقال: أمثلي يغلب وعندي دفتر مجلد! ووجدنا عندنا دفاتر مجلدة، وأجزاء مجرّدة؛ وأنشدناه قول جحل بن نضلة «3» : [السريع]
جاء شقيق عارضا رمحه ... إنّ بني عمّك فيهم رماح
هل أحدث الدّهر بنا نكبة ... أم هل رقت أمّ شقيق سلاح
وقلنا: إنا نقتحم الخطب، ونتوسّط الحرب، فنردّها مفحمين، ونصدر بلغاء: [الطويل]
وألسننا قبل النّزال قصيرة ... ولكنّها بعد النّزال طوال
[المتقارب]
فأرضك أرضك إن تأتنا ... تنم نومة ليس فيها حلم
[المتقارب] «4»
فمن ظنّ ممّن يلاقي الحروب ... بأن لا يصاب فقد ظنّ عجزا
فإنك متى شئت لقيت منّا خصما ضخما، ينهشك قضما، ويأكلك(12/87)
خضما، وحثثناه على الأخذ بكتاب الله تعالى من قوله: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ
«1»
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها
«2» وأنشدناه قول الأول: [البسيط]
السّلم تأخذ منها ما رضيت به ... والحرب يكفيك من أنفاسها جرع
وقلنا له «3» : [الوافر]
نصحتك فالتمس يا ويك غيري ... طعاما إنّ لحمي كان مرّا
ألم يبلغك ما فعلت ظباه ... بكا ظمة غداة لقيت عمرا
وجعل الشّيطان يثقل بذلك أجفان طرفه، ويقيم به شعرات أنفه «3» : [الوافر]
وحتّى ظنّ أنّ الغشّ نصحي ... وخالفني كأنّي قلت هجرا
واتّفق أنّ السيد أبا علي- أدام الله عزه- نشط للجمع بيني وبينه، فدعاني فأجبت، ثم عرض عليّ حضور أبي بكر، فطلبت ذلك، وقلت: هذه عدة لم أزل أستنجزها، وفرصة لا أزال أنتهزها؛ فتجشم السيد أبو الحسين، فكاتبه يستدعيه؛ واعتذر أبو بكر بعذر في التأخر، فقلت: لا ولا كرامة للدّهر أن نقعد تحت ضيمه، أو نقبل خسف ظلمه، ولا عزازة للعوائق أن تضيعنا ولا نضيعها، أو تعنينا ولا ندفعها؛ وكاتبته أنا أشحذ عزيمته على البدار، وألوي رأيه عن الاعتذار، وأعرّفه ما فيّ من ظنون تشتبه، وتهم تتجه، وتقادير تختلف، واعتقادات تخلف، وقدنا إليه مركوبا، لنكون قد ألزمنا الحج وأعطينا الرّاحلة، فجاءنا في طبقة أفّ وعدد تفّ: [السريع](12/88)
كلّ بغيض قدّه إصبع ... وأنفه خمسة أشبار
مع أرباب عانات وأصحاب جربّانات، لا تنال العين منهم إلّا خسيسا، وسرحنا الطّرف منه ومنهم، في أحمى من است النّمر «1» ، وأعطس من أنف النغر «2» ، فظننا أنه يريد أن يلقى كتيبة، أو يهزم دوسرا، أو يفلّ الأنكدين، أو يردّ الوافدين؛ ثم رأينا رجالا جوفا، قد خلّقوا صوفا، فأمنّا المعرة، ولم نخش المضرة، وقمنا له وإليه، وجلس يحرق أرمه، وتمثل ببيت لا يقتضيه الحال: من أنا في الحبالة نستبق «3» .
فتركناه على غلوائه، حتّى إذا نفض ما في رأسه، وفرغ جعبته وسواسه، عطفنا عليه، فقلنا: عافاك الله، دعوناك وغرضنا غير المهارشة، واستزرناك وقصدنا غير المناوشة؛ فلتهدأ ضلوعك، وليفرخ روعك: يا مارسر جس لا نريد قتالا «4» ، وما اجتمعنا إلا لخير، فلتسكن سورتك، ولتلن فورتك، ولا ترقص لغير طرب، ولا تحمّ لغير سبب، وإنّما دعوناك لتملأ المجلس فرائد وتذكر أبياتا شوارد، وأمثالا فوارد، ونباحثك فنسعد بما عندك، وتسألنا فتسرّ بما عندنا، ويقف كلّ منّا موقفه من صاحبه، وقديما كنت أسمع بحديثك، فيعجبني الالتقاء بك والاجتماع معك، والآن إذ سهل الله ذلك، فهلم إلى الأدب ننفق يومنا عليه، وإلى الجدل نتجاذب طرفيه؛ فاسمع خبرا وأسمعنا مثله؛ ونبدأ بالفنّ الذي ملكت به زمانك، وفتّ فيه أقرانك، وملكت منه عنانك، وأخذت منه(12/89)
مكانك، وطار به اسمك بعد وقوعه، وارتفع له ذكرك عقب خضوعه، وأفحمت به الرّجال، حتى أذعن العالم وقلّد الجاهل، وقالوا قول الصّوفيّة: يا دهشا كلّه؛ فجارنا بفرسك، وطاولنا بنفسك؛ فقال: وما هو؟ قلت: الحفظ إن شئت، والنّظم إن أردت، والنّثر إن اخترت، والبديهة إن نشطت؛ فهذه أبوابك التي أنت فيها ابن دعواك، تملأ منها فاك.
فأحجم عن الحفظ رأسا، ولم يجل فيه قدحا، وقال: أبادهك؛ فقلت: أنت وذاك؛ فمال إلى السيد أبي الحسين فسأله بيتا ليجيز، فقلت: يا هذا، أنا أكفيك؛ ثم تناولت جزءا فيه أشعاره، وقلت لمن حضر: هذا شعر أبي بكر الذي كدّ به طبعه، وأسهر له جفنه، وأجال فيه فكره، وأنفق فيه عمره، واستنزف فيه يومه، ودوّنه صحيفة مآثره، وجعله ترجمان محاسنه، وعبر به عن باطنه، وأخذ مكانه به، وهو ثلاثون بيتا؛ وسأقرن كلّ بيت بوفقه، وأنظم كل معنى إلى لفقه، بحيث أصيب أغراضه، ولا أعيد ألفاظه، وشريطتي ألا أقطع النفس؛ فإن تهيأ لواحد، أو أمكن لناقد ممن قد حضر، يريد النظر، أن يميز قوله من قولي، ويحكم على البيت أنه له أو لي، أو يرجّح ما أنضجه بنار الرويّة، على ما أمليته على لسان النّفس، فله يد السبق، أو يكون غيرها، فأعفى عن هذه المعارضة، وتتنحّى لنا عن أرض المماثلة، ويخلى لنا الطّريق لمن يبني المناربه؛ فقال أبو بكر:
ما الذي يؤمننا من أن تكون نظمت من قبل ما تريد إنشاده الآن؟ فقلت: اقترح لكلّ بيت قافية، لا أسوقه إلّا إليها، ولا أقف به إلا عليها؛ ومثال ذلك أن تقول:
حشر؛ فأقول بيتا آخره حشر، ثم عشر فأنظم بيتا قافيته عشر، ثم هلمّ جرا إلى حيث يتضح الحقّ، وينتضح الزّرق، وتستقر الحجة وتطرد، وتستقلّ الشّبهة وتنطرد، فيعرف الحالي من العاطل، ويفرق بين الحقّ والباطل؛ فأبى أبو بكر أن يشاركنا هذا العنان، ومال إلى السيد أبي الحسين يسأله بيتا ليجيز، فتبعنا رأيه(12/90)
بما رآه، ولم نرض إلّا رضاه، ولم نعدل عن هواه ومبتغاه؛ وأعمل كلّ منّا لسانه وفمه، وأخذ دواته وقلمه، وأجزنا البيت الذي قاله، وكلّما أجزناه إجازة، جارى القلم فيها الطّبع، وبارى اللّسان بها السمع، وسارق الخاطر بها النّاظر، وسابق الجنان فيها البنان؛ إلى أن قلنا «1» : [الكامل]
هذا الأديب على تعسّف فتكه ... وبروكه عند القريض ببركه
متسرّع في كلّ ما يعتاده ... من نظمه، متباطئ عن تركه
والشعر أبعد مذهبا ومصاعدا ... من أن يكون مطيعه في فكّه
والنّظم بحر والخواطر معبر ... فانظر إلى بحر القريض وفلكه
فمتى توانى في القريض مقصر ... عرضت أذن الامتحان لعركه
هذا الشّريف على تقدّم بيته ... في المكرمات ورفعه في سمكه
قد رام منّي أن أقارن مثله ... وأنا القرين السّوء إن لم أنكه
وإذا نظرت وجدت ما قد قلته ... برد اليقين على حرارة شكّه
عارضت بيتا قلته متعسّفا ... وحطمت جانحة القرين بدكّه
ودبغت منه أديمه فتركته ... نهج الأديم بدبغه وبدلكه
اصغوا إلى الشّعر الذي نظّمته ... كالدّرّ رصّع في مجرّة سلكه
فمتى عجزت عن القرين بديهة ... فدمي الحرام له إراقة سفكه
فقال أبو بكر أبياتا جهدنا به أن يخرجها عن اللّحاف، ويبرزها من الغلاف، فلم يفعل دون أن طواها، وجعل يفركها ويعركها، فقلت: يا هذا، إنّ البيت لقائله كالولد لناجله، فما لك تعقّ ابنك وتضيمه؟ أبرزها للعيون، وخلّصها من الظّنون؛ فكره أبو بكر أيده الله أن تكون الهرّة أعقل منه، لأنها تحدث وتغطي،(12/91)
فلم يستجز أن يظهر، ثم بسط «1» جبينه، وبسط يمينه للبديهة، نفسا دون أن كتب، فقال: أنت وذاك؛ واقترح علينا أن نقول على وزن قول أبي الطّيّب المتنبّي، حيث يقول «2» : [الكامل]
أرق على أرق ومثلي يأرق ... وجوى يزيد وعبرة تترقرق
وابتدر أبو بكر أيده الله إلى الإجازة، ولم يزل إلى الغايات سباقا، فقال «3» : [الكامل]
وإذا ابتدهت بديهة يا سيدي ... فأراك عند بديهتي تتقلق
وإذا قرضت الشعر في ميدانه ... لا شك أنّك يا أخي تتشقق
إني إذا قلت البديهة قلتها ... عجلا وطبعك عند طبعي يرفق
مالي أراك ولست مثلي عندها ... متموّها بالتّرهات تمخرق
إني أجيز على البديهة مثل ما ... تريانه وإذا نطقت أصدّق
لو كنت من صخر أصمّ لها له ... [منّي] البديهة واغتدى يتفلّق
أو كنت ليثا في البديهة قادرا ... لرئيت يا مسكين دوني تبرق
«4»
وبديهة قد قلتها متنفسا ... فقل الذي قد قلت يا ذا الأخرق
ثم وقف يعتذر، ويقول: إن هذا كما يجيء لا كما يجب؛ فقلت: قبل الله عذرك، لكنّي أراك بين قواف مكروهة، وقافات خشنة؛ كلّ قاف كجبل قاف، منها: تتقلق وتتشقّق وتفلّق وتمخرق وتبرق وتسرق وأحمق وأخرق، إلى أشياء لا(12/92)
أكثر بها العدد؛ فخذ الآن جزاء عن قرضك، وأداء لفرضك؛ وقلت «1» : [الكامل]
مهلا أبا بكر فزندك أضيق ... واخرس فإنّ أخاك حيّ يرزق
دعني أعرك إذا سكتّ سلامة ... فالقول ينجد في ذويك ويعرق
ولفاتك فتكات سوء فيكم ... فدع السّتور وراءها لا تخرق
وانظر لأشنع ما أقول وأدّعي ... أله إلى أعراضكم متسلّق؟
يا أحمقا وكفاك ذلك خزية ... جرّبت نار معرّتي هل تحرق؟
فلمّا أصابه حرّ الكلام، ومسه لفح هذا النظام، قطع علينا، فقال: يا أحمقا، لا يجوز؛ فإنّ أحمق لا ينصرف؛ فقلنا: يا هذا لا تقطع، فإن شعرك إن لم يكن عيبة عيب، فليس بطرف ظرف، ولو شئنا لقطعنا عليك، ولوجد الطّاعن سبيلا إليك؛ وأما أحمق فلا يزال يصفعك وتصفعه، حتى ينصرف وتنصرف معه.
وعرّفناه أن للشاعر أن يردّ ما لا ينصرف إلى الصرف، كما أن له رأيه في القصر والحذف؛ وأنشدناه حاضر الوقت من أشعار العرب، فقال: يجوز للعرب ما لا يجوز لك؛ فلم يدر كيف يجيب عن هذا الموقف وهذه المواقعة، وكيف يسلم من هذه المناصفة، لكنّا قلنا له: أخبرنا عن بيتك الأول، أمدحت أم قدحت؟
وزكيت أم جرحت؟ ففيه شيئان متفاوتان، ومعنيان متباينان؛ منها أنّك بدأت فخاطبت بيا سيدي، والثّانية:
أنّك عطفت فقلت: تتقلّق، وهما لا يركضان في حلبة، ولا يحطّان في خطّة. ثم قلت له: خذ وزنا من الشعر، حتى أسكت عليك فتستوفي من القول حظّك، واسكت علينا حتّى نستوفي حظنا؛ ثم إني أحفظ عليك أنفاسك(12/93)
وأواقفك عليها، واحفظ عليّ أنفاسي وواقفني عليها؛ فإن عجزت عن اعتلاقها حفظتها لك، فسلني عنها بعد ذلك؛ وأخذنا بيت أبي الطيّب المتنبي «1» : [المنسرح]
أهلا بدار سباك أغيدها ... أبعد ما بان عنك خرّدها
فقلت «2» : [المنسرح]
يا نعمة لا تزال تجحدها ... ومنة لا تزال تكندها
فأخذ بمخنّق البيت قبل تمامه، ومضيق الشّعر قبل نظامه، فقال: [ما] معنى تكندها؟ فقلت: يا هذا، كند النعمة: كفرها؛ فرفع يديه ورأسه، وقال: معاذ الله أن يكون كند بمعنى جحد، وإنما الكنود: القليل الخير؛ فأقبلت الجماعة عليه يوسعونه بريا وفريا، ويتلون له قول الله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ
«3» .
فقلت: أليس الشّرط أملك؟ والعهد بيننا أن تسكت ونسكت حتّى نتم وتتمّ؟
ثم نبحث ونفحص؟ فنبذ الأدب وراء ظهره، وصار إلى السّخف يكيلنا بصاعه ومدّه، وينفض فيه حمة جهده، وأفضى إلى السفه يغرف علينا غرفا، ويستقي من جرفه جرفا؛ فقلت له: يا هذا، إنّ الأدب غير سوء الأدب، وللمناظرة حضرنا لا للمنافرة؛ فإن نقضت عن هذا السّخف يدك، وثنيت عن هذا السّفه قصدك، وإلّا تركت مكالمتك؛ ولو كان في باب الاستخفاف شيء أبلغ من ترك الإنكار لبلغته منك؛ فأخذ يمضي على غلوائه، ويمعن في هرائه وهذائه؛ فاستندت إلى المسند، ووضعت اليد على اليد، وقلت: أستغفر الله من مكالمتك، ونفضتها قائمة معه، وسكتّ حتّى عرف الناس، وأيقن الجلّاس أني أملك من نفسي مالا(12/94)
يملكه، وأسلك من طريق الحلم ما لا يسلكه؛ ثم عطفت عليه، فقلت: يا أبا بكر، إنّ الحاضرين قد أعجبوا من حلمي بأضعاف ما أعجبوا من علمي، وتعجّبوا من عقلي، أكثر ممّا تعجبوا من فضلي؛ وبقي الآن أن يعلموا أنّ هذا السّكوت ليس عن عيّ، وأنّ تكلّفي للسّفه أشدّ استمرارا من طبعك، وغربي في السّخف أمتن عودا من نبعك؛ وسنقرع باب السّخف معك، ونفترع من ظهر السّفه مفترعك، فتكلّم الآن.
فقال: أنا قد كسبت بهذا [العقل] دية أهل همذان مع قلّته، فما الذي أفدت أنت بعقلك مع غزارته؟ فقلت: أما قولك: دية أهل همذان، فما أولاني بأن لا أجيب عنه، لكن هذا الذي به تتمدّح وتتبّجج، وتتشرّف وتتصلّف، من أنك شحذت فأخذت، وسألت فحصلت، وكديت فاقتنيت، فهذا عندنا صفة ذمّ، عافاك الله، ولأن يقال للرّجل: يا فاعل، يا صانع، أحبّ إليه من أن يقال: يا شحّاذ، يا مكدي؛ وقد صدقت، أنت في هذه الحلبة أسبق، و [في] هذه الحرفة أعرق؛ ولعمرك إنّك أشحذ، وأنت في الكدية أنفذ، وأنا قريب العهد بهذه الصّنعة، حديث الورد لهذه الشّرعة، مرمل اليد في هذه الرّقعة.
فأما مالك، فعندنا يهوديّ يماثلك في مذهبه، ويزنك بذهبه، وهو مع ذلك لا يطرقني إلّا بعين الرّهبة، ولا يمدّ إليّ إلّا يد الرّغبة؛ ولو كان الغنى حظا كريما لأخطأه مثل هذا العقل، ولو كان المال غنما لما أدرك بهذا السعي، ولكن عرّفني هل كنت فيما سلف من زمانك، ونبت من أسنانك، إلا هاربا بذمائك، مضرجا بدمائك، مرتهنا بقولك، بين وجنة موشومة، وجوارح مهشومة، ودار مهدومة، وخدود ملطومة؟ ومتى صفت مشارعك، أو أخصبت مراتعك، إلّا في هذه الأيّام القذرة؟ وستعرف غدك من بعد وتنكر أمسك، وتعلم قدرك في غد وتعرف نفسك، وما أضيع وقتا قطعته بذكرك، ولسانا دنسته باسمك.(12/95)
وملت إلى القوّال وهو أبو بكر أحمد بن عبد الله الشّاذياخيّ، فقلت: أسمعنا خيرا؛ فدفع القوّال وغنّى أبياتا، فيها «1» : [الوافر]
وشبهنا بنفسج عارضيه ... بقايا اللّطم في الخدّ الرّقيق
فقال أبو بكر: يا قوم، أحسن ما في هذا الأمر، أنّي أحفظ هذه القصيدة وهو لا يعرفها؛ فقلت: يا عافاك [الله] ، أعرفها، وإن أنشدتكها ساءك مسموعها، ولم يسرك مصنوعها؛ فقال: أنشد؛ فقلت: أنشد، لكنّ روايتي تخالف هذه الرّواية؛ وأنشدت: [الوافر]
وشبّهنا بنفسج عارضيه ... بقايا الوشم في الوجه الصّفيق
فأتته السّكتة، وأضجرته النّكتة، وانطفأت تلك الوقدة، وانحلت تلك العقدة، وأطرق مليا، وقال: والله لأضربنك وإن ضربت، ولأشتمنّك وإن شتمت، وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ
«2» ولتعلمنّ أيّنا الضارب وأيّنا المضروب.
وقلت: يا أبا بكر مهلا، فإنّك بين ثلاثة فصول لم تتخطّها من عمرك، وثلاث أحوال لم تتعدّها «3» في أمرك؛ وأنت في جميع الثلاثة ظالم في وعيدك، متعدّ في تهديدك؛ لأنك كهل وأنت شاعر، وكنت شابا وأنت مقامر، وكنت صبيا وأنت مؤاجر؛ فنطاق القدرة في الثلاثة الفصول ضيق عن هذا الوعيد؛ لكنّا نصفعك الآن، وتضربنا فيما بعد، فقد قيل: اليوم قصف، وغدا خسف؛ وقيل:
اليوم خمر، وغدا أمر «4» ؛ فقال أبو بكر: والله لو أنّك دخلت الجنة، واتخذت السندس والإستبرق جنّة، لصفعت؛ فقلت: والله لو أن قفاك غدا في درج في(12/96)
خرج في برج، لأخذك من النعال ما قدم وما حدث، وشملك من الصّفع ما طاب وخبث؛ وأنشدت قول ابن الرّومي «1» : [المجتث]
إن كان شيخا سفيها ... يفوق كلّ سفيه
فقد أصاب شبيها ... له وفوق الشّبيه
ثم لما أبت نفس العقل، وزال سكر الغيظ، تمثّلت بقول القائل «2» : [الطويل]
وأنزلني طول النّوى دار غربة ... إذا شئت لاقيت امرأ لا أشاكله
أجامعه حتّى يقال سجيّة ... ولو كان ذا عقل لكنت أعاقله
ودفع القوال فبدأ بأبيات، ولحّن بأصوات، وجعل النّعاس يثني الرءوس، ويمنع الجلوس؛ فقمنا عن اللّيل وهو يجرّ بعاع الذّقن، إلى ما وطّئ من مضجع، ومهّد من مهجع؛ ولم يكن النوم ملأ الجفون، ولا شغل العيون، حتى أقبل وفد الصّباح، وحيعل المؤذّن بالفلاح، وندب بالنّهوض إلى المفروض، وأجبنا؛ فلمّا قضينا الفرض، فارقنا الأرض، فآوى إلى مثواه، وأويت إلى الحجرة، وظني أنّ هذا الفاضل يأكل يده ندما، ويبكي على ما جرى دمعا ودما؛ فإنّه إذا سمع بحديث همذان، قال: الهاء همّ، والميم موت، والذّال ذل، والألف آفة، والنّون ندامة؛ وإنّه إذا نام هاله منّا طيف، وإذا انتبه راعه منّا سيف؛ وأخذ النّاس يترامزون بما جرى ويتغامزون، وراب هذا الفاضل غمزاتهم، مثلما راب المريض تغامز العوّاد؛ فجعل يحلف للنّاس بالعتق، وتحرير الرّقّ، والمكتوب في الرّقّ، أنه أخذ قصب السبق، وأنه ينطق عن الحقّ؛ والناس أكياس، لا يقنعهم عن المدّعي يمين دون شاهدين(12/97)
وسعوا بيننا بالصّلح، يحكمون قواعده ومعاقده، وعرفنا له فضل السّنّ، فقصدناه معتذرين إليه، فأومى إيماءة مهيضة، واهتزّ اهتزازة مغيضة، وأشار إشارة مريضة، بكفّ سحبها على الهواء، ويد بسطها في الجو بسطا؛ وعلمنا أن للمقمور أن يستخفّ ويستهين، وللقامر أن يحتمل ويلين؛ فقلنا: إنّ بعد الكدر صفوا، كما إنّ عقب المطر صحوا، فهل لك في خلق في العشرة نستأنفها، وطرق في الخلطة نسلكها؛ فإنّ ثمرة الخلاف ما قد بلوتها؟ فقال: ظهر الوفاق أوطأ كما ذكرت، والجميل أجمل كما علمت، وسنشترك في هذا العنان؛ وعرض علينا الإقامة عنده سحابة ذلك اليوم، فاعتللنا بالصّوم، فلم يقبل العذر، وألحّ؛ فقلت:
أنت وذاك؛ فطعمنا عنده، وأخذنا ديدان مرده «1» ، وخرجنا والنّية على الجميل موفورة، وتبعة الودّ معمورة، وصرنا لا نتعلل إلا بمدحه، ولا نتنقل إلا بذكره، ولا نعتدّ إلا بودّه، لا بل ملأنا البلد شكرا، والأسماع نشرا، وبتنا نحن من الحال في أعذبها شرعة، ومن الثقة في أطيبها جرعة، ومن الظّنون في أفلجها قرعة، ومن المودة في أعمرها بقعة، وأوسعها رقعة؛ حتى طرأ علينا رسولان متحمّلان لمقالته، مؤديان لرسالته، ذاكران بأنّ أبا بكر يقول: قد تواترت الأخبار، وتظاهرت الآثار في أنك قهرت وأني قهرت، ولا شك أنّ ذاك التّواتر عنك صدرت أوائله، والخبر إذا تواتر به النّقل، قبله العقل؛ ولابدّ أن نجتمع في مجلس بعض الرؤساء، فنتناظر بمشهد الخاصة والعامة، فإنك متى لم تفعل ذلك لم آمن عليك تلامذتي، أو تقرّ بعجزك وقصورك عن بلوغ أمدي ومنال يدي؛ فعجبت كل العجب مما سمعت، وأجبت فقلت: أما قولك: قد تواتر الخبر بأنك قهرت، وأنّ ذلك عن جهتي صدر، ومن لساني سمع؛ فبالله ما أتمدح بقهرك، ولا أتبجج بقسرك؛ وإنّ لنفسك عندنا لشأنا إن ظننتني أقف هذا الموقف، أنا إن شاء الله أبعد من ذلك(12/98)
مرتقى همّة ومصعد نفس، أسأل الله سترا يمتدّ، ووجها لا يسودّ؛ فأما التّواتر من الناس، والتّظاهر على أني قهرتك، فلو قدرت على الناس لخطت أفواههم، ولقبضت شفاههم، فما الحيلة؟ وهل إلى ذلك سبيل فأتوسل، أم ذريعة فأتوصل؟ ثم هذا التواتر ثمرة ذلك التناظر، مع ذلك التساتر، فإن كان ساءك فأحرى أن يسوءك عند مجتمع الناس ومحتفل أولي الفضل، ولأن يترك الأمر مختلفا فيه خير لك من أن يتفق عليه، فإن أحببت أن تطير هذا الواقع، وتهيج هذا الساكن، فرأيك موفقا؛ فأما هذا الوعيد فقد عرضته على جوانحي وجوارحي كلّها، فلم تنشدار لا قول القائل: [الوافر]
وعيد تخدج الآرام منه ... وتكره نبّه الغنم الذّئاب
فكم يتكوكب تلامذتك ويتعسكرون، ويتفحش أصحابك ويتباجعفرون «1» ، ولست أراك إلا بين ميمين «2» ، أحدهما «3» : يروح إلى أنثى ويغدو إلى طفل؛ والآخر: يجيب دعوة المضطر إذا دعاه بمسلّفات؛ فإن كان الله قد قضى أن أقتل بأخسّ سلاح، فلا مفر من القدر المتاح؛ رزقنا الله عقلا به نعيش، ونعوذ بالله من رأي بنا يطيش؛ وقلنا من بعد: إنّ رسالتك هذه وردت موردا لم نحتسبه، ووصلت موقفا لم نرتقبه، فلذلك خرج الجواب عن البصل ثوما وعن البخل لوما.
فلما ورد الجواب عليه، وسع من الغيظ فوق ملئه، وحمل من الحقد فوق عبئه، وقال: قد بلغ السيل الزّبى، وعلت الوهاد الرّبى في أمرك، وسترى يومك، وتعرف قومك.
ثمّ مضت على ذلك أيام ونحن مضطرّون لفاضل ينشط لهذا الفصل، وينظر(12/99)
بيننا بالعدل؛ فاتفقت الآراء على أن يعقد هذا المجلس في دار الشيخ السيد أبي القاسم الوزير، واستدعيت فسرحت الطرف من ذلك السيد في عالم أفرغ في عالم، وملك في درع ملك، ورجل نظم إلى التنبّل تبذّلا، وإلى التّرفّع تواضعا، ونطق فودّت الأعضاء لو أنها أسماع مصغية، واستمع فتمنت الجوارح لو أنها ألسنة ناطقة؛ فقلت: الحمد لله الذي عقد هذا المجلس في دار من يفرّق، بين من يحقّ وبين من يزرّق، وكنت أول من حضر وانتظر مليا حضور من ينظر وقدوم من يناظر؛ وطلع الإمام أبو الطيب، وأخذ من المجلس موضعه؛ والإمام بنفسه أمة، ووحده عالم؛ ثم حضر السيد أبو الحسين أدام الله عزه، وهو ابن الرّسالة والإمامة، وعامر أرض الوحي، والمحتبي بفناء النبوة، والضارب في الأدب بعرقه، وفي النطق بحذقه، وفي الإنصاف بحسن خلقه؛ فجشم إلى المجلس قدم سبقه، وجعل يضرب عن هذا الفاضل بسيفين، لأمر كان قد موّه عليه، وحديث كان شبّه لديه؛ وفطنت لذلك، فقلت: أيّها السيد، أنا [إذا] سار غيري في التشيّع برجلين، طرت بجناحين، وإذا متّ سواي في موالاة أهل البيت بلمحة دالة، توسلت بغرة لائحة، فإن كنت أبلغت غير الواجب، فلا يحملنّك على ترك الواجب؛ ثم إنّ لي في آل الرسول صلى الله عليه وسلم قصائد قد نظمت حاشيتي البرّ والبحر، وركبت الأفواه، ووردت المياه، وسارت في البلاد ولم تسر بزاد، وطارت في الآفاق ولم تطر على ساق؛ ولكنّي لا أتسوّق بها لديكم، ولا أتنفق بها عليكم، وللآخرة قلتها لا للحاضرة، وللدّين ادّخرتها لا للدّنيا، وللمعاد نظمتها لا للمعاش؛ فقال: أنشدني منها؛ فقلت «1» : [مجزوء الكامل]
يالمة ضرب الزّما ... ن على معرّسها خيامه
لله درّك من خزا ... مى روضة عادت ثغامه(12/100)
لرزيّة قامت بها ... للدّين أشراط القيامه
لمضرّج بدم النّبو ... وة ضارب بيد الإمامه
متقسّم بظبى السّيو ... ف مجرّع منها حمامه
«1»
منع الورود وماؤّه ... منه على طرف الثّمامه
نصب ابن هند رأسه ... فوق الورى نصب العلامه
ومقبّل كان النّبي ... ي بلثمه يشفي غرامه
قرع ابن هند بالقضي ... ب عذابه فرط استضامه
وشدا بنغمته علي ... هـ وصبّ بالفضلات جامه
والدّين أبلج ساطع ... والعدل ذو خال وشامه
يا ويح من ولّى الكتا ... ب قفاه والدّنيا أمامه
ليضرّسنّ يد النّدا ... مة حيث لا تغني النّدامه
وليدركنّ على الغرا ... مة سوء عاقبة الغرامه
وحمى أباح بنو أمي ... ية عن طوائلهم حرامه
حتى اشتفوا من يوم بد ... ر واستبدّوا بالزّعامه
لعنوا أمير المؤمني ... ن بمثل إعلان الإقامه
لم لم تخرّي يا سما ... ء ولم تصبّي يا غمامه
لم لم تزولي يا جبا ... ل ولم تشو لي يا نعامه
يا لعنة صارت على ... أعناقهم طوق الحمامه
إنّ الإمامة لم تكن ... للئيم ما تحت العمامه
من سبط هند وابنها ... دون البتول ولا كرامه
يا عين جودي للبقي ... ع فدرّعي بدم رغامه
جودي بمذخور الدّمو ... ع وأرسلي بددا نظامه(12/101)
جودي لمشهد كربلا ... ء فوفّري منّي ذمامه
جودي بمكنون الجما ... ن أجد بما جاد ابن مامه
فلما أنشدت ما أنشدت، وسردت ما سردت، وكشفت له الحال فيما اعتقدت، انحلّت تلك العقدة، وصار سلما، يوسعنا حلما.
وحضر بعد ذلك الشيخ أبو عمر البسطاميّ، وناهيك من حاكم يفصل، وناظر يعدل، يسمع فيفهم، ويقول فيعلم. ثم حضر بعد ذلك القاضي أبو نصر، والأدب أدنى فضائله، وأيسر فواضله، والعدل شيمة من شيمه، والصدق مقتضى هممه.
وحضر بعده الشيخ أبو سعيد محمد بن أرمك أيده الله، وهو الرجل الذي تحميه لألاؤه أو لوذعّيته، من أن يدال بمن؟ أو ممن الرجل؟؛ وهو الفاضل الذي يحطب في حبل الكتابة ما شاء، ويركض في حلبة العلم ما أراد.
وحضر بعده أبو القاسم بن حبيب، وله في الأدب عينه وفراره، وفي العلم شعلته وناره.
وحضر بعده الفقيه أبو الهيثم، ورائد الفضل يقدمه، وقائد العقل يخدمه.
وحضر بعده الشيخ أبو نصر بن المرزبان، والفضل منه بدأ وإليه يعود.
وحضر بعده [أصحاب] الشيخ أبي الطّيّب رحمه الله؛ وما منهم إلّا أغرّ نجيب.
وحضر بعدهم أصحاب الشيخ الفاضل أبي الحسن الماسرجسيّ؛ وكلّ [إذا] عدّ الرّجال مقدّم. وحضر بعدهم أصحاب أبي عمر البسطاميّ؛ وهم في الفضل كأسنان المشط، ومنه بأعلى مناط العقد.
وحضر بعدهم الشيخ أبو سعد الهمذانيّ، وله في الفضل قدحه المعلّى، وفي الأدب حظّه الأعلى.
وحضر بعد الجماعة أصحاب الأسبلة [المرسلة] ، والأسوكة المرسلة، رجال(12/102)
يلعن بعضهم بعضا، فصاروا إلى قلب المجلس وصدره، حتّى ردّ كيدهم في نحرهم، وأقيموا بالنّعال إلى صفّ النّعال؛ فقلت لمن حضر: من هؤلاء؟ فقالوا:
أصحاب الخوارزميّ.
فلمّا أخذ المجلس زخرفه ممّن حضر، وانتظر أبو بكر فتأخّر، اقترحوا عليّ قواف أثبتوها، واقتراحات كانوا بيّتوها «1» : [الهزج]
فما ظنّك بالحلفا ... ء أدنيت لها النّارا
من لفظ إلى المعنى نسقته، وبيت إلى القافية سقته، على ريق لم أبلعه، ونفس لم أقطعه؛ وصار الحاضرون بين إعجاب بما أوردت، وتعجّب مما أنشدت، وقال أحدهم، بل واحدهم، وهو الإمام أبو الطيب: لن نؤمن لك حتى نقترح القوافي، ونعيّن المعاني، وننصّ على بحر؛ فإن قلت حينئذ على الرّويّ الذي أسومه، وذكرت المعنى الذي أرومه، وأنت حيّ القلب كما عهدناك، منشرح الصّدر كما شاهدناك، شجاع الطّبع كما وجدناك؛ شهدنا أنّك قد أحسنت، وأن لا فتى إلّا أنت.
فما خرجت من عهدة هذا التكليف حتّى ارتفعت الأصوات بالهيللة من جانب، والحوقلة من آخر، وتعجّبوا إذ أرتهم الأيام ما لم ترهم الأحلام، وجادلهم العيان بما بخل به السماع، وأنجزهم الفهم ما أخلفهم الوهم؛ ثم التفتّ فوجدت الأعناق تلتفت، وما شعرت إلا بهذا الفاضل وقد طلع في شملته، وهبّ بجملته، بأوداج ما يسعها الزرّان، وعينين في رأسه تزرّان، ومشى إلى فوق رقاب النّاس، وجعل يدسّ نفسه بين الصّدور يريد الصّدر، وقد أخذ المجلس أهله؛ فقلت: يا أبا بكر، تزحزح عن الصّدر قليلا إلى مقابلة أخيك؛ فقال: لست بربّ الدار، فتأمر على الزّوار؛ فقلت: يا عافاك الله، حضرت لتناظرني، والمناظرة(12/103)
اشتقّت إما من النّظر، وإما من النّظير؛ فإن كان اشتقاقها من النظر، فمن حسن النظر أن يكون مقعدنا واحدا، حتى يتبين الفاضل من المفضول، ثم يتطاول السّابق ويتقاصر المسبوق؛ وإن كان من النظير، فأنا نظيرك وأنت نظيري، فلم تتصدر أنت وأنا أجلس بين يديك؟ فقضت الجماعة بما قضيت، وعضّ هذا الفاضل من تلك الحكمة، وانحطّ عن تلك العظمة، وقابلني بوجهه؛ فقلت:
أراك- أيّها الفاضل- حريصا على اللقاء، سريعا إلى الهيجاء، ولو زبنتك الحرب لم تزمزم؛ ففي أيّ علم تريد أن تناظر؟ فأومأ إلى النحو، فقلت: يا هذا، إنّ النّهار قد متع والوقت، قد ارتفع، والظّهر قد أزف؛ وإن قرعنا باب النحو، أضعنا اليوم فيه، فإذا خرج القوم، وعلا هتاف الناس: أيهما ردّ الجواب؟ هناك ما يدري المجيب، فإن شئت أن أناظرك في النحو، فسلّم الآن لي ما كنت تدعيه من سرعة في البديهة، وجودة في الروية، وقدرة على الحفظ، ونفاذ في الترسّل، ثم أنا أجاريك في هذا؛ فقال: لا أسلّم ذلك، ولا أناظر في غير هذا.
وارتفعت المضاجّة، واستمرت الملاجّة، حتى أتلع الأستاذ الفاضل أبو عمر إليه، وقال: أيّها الأستاذ، أنت أديب خراسان، وشيخ هذه الدّيار، وبهذه الأبواب التي قد عدّها هذا الشّابّ كنّا نعتقد لك السبق والحذق؛ وتثاقلك عن مجاراته فيها مما يتّهم ويوهم؛ واضطره إلى منازلة فيها أو نزول عنها، ومقارة فيها أو فرار بها؛ فقال: قد سلمّت الحفظ؛ فأنشدت قول القائل «1» : [الطويل]
ومستلئم كشّفت بالرّمح ذيله ... أقمت بعضب ذي سفاسق ميله
فجعت به في ملتقى الحيّ خيله ... تركت عتاق الطّير تحجل حوله(12/104)
وقلت: يا أبا بكر خفف الله عنك، كما خففت عنّا في الحفظ؛ فقد كفيتنا مؤونة الامتحان، ولم تضغ وقتنا من الزّمان، فلو تفضّلت وسلّمت البديهة أيضا مع الترسّل حتى نفرغ للنّحو الذي أنت فيه أكبر، واللغة التي أنت بها أعرف، والعروض الذي أنت عليه أجرأ، والأمثال التي لك فيها السّبق والقدم، والأشعار التي أنت فيها مقدم؛ فقال: ما كنت لأسلم الترسل، ولا سلمت الحفظ؛ فقلت: الراجع في شيئه، كالراجع في قيئه؛ لكنّا نقيلك عن ذلك سماحا؛ فهات أنشدنا خمسين بيتا من قبلك مرتين، حتى أنشدك عشرين بيتا من قبلي خمسين مرة؛ فعلم أن دون ذلك خرط القتاد، تهاب شوكته اليد؛ فسلمّه ثانيا كما سلمه باديا، وصرنا إلى البديهة، فقال أحد الحاضرين: هاتوا على شعر أبي الشيص في قوله «1» : [الكامل]
أبقى الزّمان به ندوب عضاض ... ورمى سواد قرونه ببياض
فأخذ أبو بكر يخضد ويحصد، مقدرا أنا نغفل عن أنفاسه، أو نوليه جانب وسواسه؛ ولم يعلم أنا نحفظ عليه الكلم، ثم نواقفه عليها؛ فقال «2» : [الكامل]
يا قاضيا ما مثله من قاض ... أنا بالذي تقضي علينا راض
فلقد لبست ضفيّة ملمومة ... من نسج ذاك البارق الفضفاض
لا تغضبنّ إذا نظمت تنفّسا ... إن الغضى في مثل ذاك تغاض
فلقد بليت بشاعر متقادر ... لا بل بليت بناب ذيب غاض
ولقد قرضت الشعر فاسمع واستمع ... لنشيد شعري طائعا وقراضي
فلأغلبن بديهه ببديهتي ... ولأرمين سواده ببياضي
فقلت: يا أبا بكر ما معنى «ضفية مملومة» وما الذي أردت بالبارق الفضفاض؟ فأنكر أن يكون قاله قافية؛ فواقفه على ذلك أهل المجلس، فقالوا: قد(12/105)
قلت: ثم قلت: ما معنى قولك: «ذيب غاض؟» فقال: هو الذي يأكل الغضا؛ فقلت: استنوق الجمل «1» ، يا أبا بكر، فانقلبت القوس ركوة، وصار الذئب جملا يأكل الغضا؟ فما معنى قولك: «إنّ الغضى في مثل ذاك تغاض» فإنّ الغضى لا أعرفه بمعنى الإغضاء؟ فقال: لم أقل الغضى فقلت: فما قلت؟ فأنكر البيت جملة؛ فقلت: يا ويحك، ما أغناك عن بيت تهرب منه وهو يتبعك، وتتبرأ منه وهو يلحق بك؛ فقل لي: ما معنى «قراض» فلم أسمعه مصدرا من قرضت الشعر، ولكن هلّا قلت كما قلت، وسقت الحشو إلى القافية كما سقته؟ فقال: هذه طريقة لم يسلكها العرب، فلا أسلكها.
ثم دخل الرّئيس أبو جعفر، والقاضي أبو بكر الحربي، والشيخ أبو زكريا الحيريّ، وطبقة من الأفاضل، مع عدة من الأرذال، منهم أبو رشيد؛ فقلت: ما أحوج هذه الجماعة إلى واحد يصرف عنهم عين الكمال.
وأخذ الرئيس مكانه من الصّدر والدست، وله في الفضل قدم وقدم، وفي الأدب همّ وهمم، وفي العلم قديم وحديث؛ فتمّ المجلس، وظهر الحقّ بنظره، وقال: قد ادّعيت عليه أبيات أنكرها، فدعوني من البديهة على النّفس، واكتبوا ما يقولون، وقولوا على هذا الرّويّ: [الكامل]
برز الربيع [لنا] برونق مائه ... فانظر لروعة أرضه وسمائه
فالتّرب بين ممسّك ومعنبر ... من نوره بل مائه وروائه
فقلت «2» : [الكامل]
والماء بين مصندل ومكفّر ... في حسن كدرته ولون صفائه(12/106)
والطير مثل المحصنات صوادح ... مثل المغنّي شاديا بغنائه
والورد ليس بممسك رياه بل ... يهدي لنا نفحاته من مائه
زمن الرّبيع جلبت أزكى متجر ... وجلوت للرائين خير جلائه
فكأنّه هذا الرئيس إذا بدا ... في خلقه وصفائه وعطائه
بحمى أغرّ محجب، وندى أغر ... رمحجّل، في خلقه ووفائه
يعشو إليه المجتلي والمجتدي ... والمجتوي هو هارب بذمائه
ما البحر في تزخاره، والغيث في ... أمطاره، والجوّ في أنوائه
بأجلّ منه مواهبا ورغائبا ... لا زال هذا المجد خلف فنائه
والسّادة الباقون سادة عصرهم ... متمدّحون بمدحه وثنائه
فقال أبو بكر تسعة أبيات، قد غابت عن حفظنا، لكنّه جمع فيها بين إقواء وإكفاء وأخطاء وإيطاء؛ ورددنا عليه بعد ذلك عشرين ردا، ونقدنا عليه فيها كذا نقدا؛ ثم قلت لمن حضر من وزير ورئيس وفقيه وأديب: أرأيتم لو أن رجلا حلف بالطلاق الثّلاث لا أنشد شعرا قطّ، ثم أنشد هذه الأبيات فقط، هل كنتم تطلقون امرأته عليه؟ فقالت الجماعة: لا يقع بهذا طلاق؛ ثم قلت: انقد عليّ فيما نظمت، واحكم عليه كما حكمت؛ فأخذ الأبيات وقال: لا يقال: نظرت لكذا، وإنّما يقال: نظرت إليه؛ فكفتني الجماعة إجابته؛ ثم قال: لم شبّهت الطير بالمحصنات؟ وأيّ شبه بينهما؟ فقلت: يا رقيع، إذا جاء الربيع كانت شوادي الأطيار تحت ورق الأشجار، فيكن كالمخدرات تحت الأستار؛ ثم قال: لم قلت: مثل المحصنات، مثل المغني؟ فقلت: هنّ في الخدر كالمحصنات، وكالمغني في ترجيع الأصوات؛ ثم قال: لم قلت: زمن الربيع جلبت أزكى متجر؟ وهلّا قلت: أربح متجر؟ فقلت: ليس الربيع بتاجر يجلب البضائع المربحة؛ ثم قال: ما معنى قولك: الغيث في أمطاره؟ والغيث هو المطر نفسه، فكيف يكون له مطر؟(12/107)
فقلت: لا سقى الغيث الله أديبا لا يعرف الغيث؛ وقلت له: إنّ الغيث هو المطر، وهو السحاب، كما أنّ السماء هو المطر وهو السحاب؛ وقالت الجماعة: قد علمنا أيّ الرجلين أشعر، وأيّ الخصمين أقدر، وأيّ البديهتين أسرع، وأيّ الرويّتين أصنع؛ فقال أبو بكر: فاسقوني على الظّفر؛ فقالوا: كفاك ما سقاك.
ثم ملنا إلى الترسل، وقلت: اقترح عليّ غاية ما في طوقك، ونهاية ما في وسعك، وآخر ما تبلغه بذرعك، حتّى أقترح عليك أربعمائة صنف من الترسّل؛ فإن سرت فيها برجلين، ولم أطر بجناحين، بل إن أحسنت القيام بواحد من هذه الأصناف، ولم تخلف كل الإخلاف، فلك يد السبق وقصبته؛ ومثال ذلك أن أقول لك: اكتب كتابا نقرأ منه جوابه، هل يمكنك أن تكتب؟
أو أقول لك: اكتب كتابا على المعنى الذي أقترح لك، وانظم شعرا في المعنى الذي أفترع، وافرغ منهما فراغا واحدا؛ هل كنت تمدّ لهذا ساعدا؟
أو أقول لك: اكتب كتابا في المعنى الذي أقوله وأنصّ عليه، وأنشد من القصائد ما أريده من غير تثاقل ولا تغافل، حتّى إذا كتبت ذلك قرئ من آخره إلى أوله، وانتظمت معانيه إذا قرئ من أسفله، هل كنت تفوّق لهذا الغرض سهما، أو تجيل قدحا، أو تصيب نجحا؟
أو قلت لك: اكتب كتابا في المعنى الذي أقترح، لا يوجد فيه حرف منفصل من واو تتقدّم الكلمة، أو دال تنفصل عن الكلمة، بديهة ولا تجمّ فيه قلمك، هل كنت تفعل؟ أو قلت لك:
اكتب كتابا خاليا من الألف واللّام، لا تصبّ معانيه على قالب ألفاظه، ولا تخرجه عن جهة أغراضه، هل كنت تقف من ذلك موقفا ممدوحا، أو يبعثك ربّك مقاما محمودا؟(12/108)
أو قلت لك: اكتب كتابا يخلو من الحروف العواطل، هل كنت تحظى منه بطائل؟ أو كنت تبلّ لهاتك بناطل؟
أو قلت لك: اكتب كتابا أوائل صدوره كلّها ميم، وآخره جيم، على المعنى الذي يقترح، هل كنت تغلو في قوسه غلوة، أو تخطو في أرضه خطوة؟
أو قلت لك: اكتب كتابا إذا قرئ معرّجا، وسرد معوّجا، كان شعرا، هل كنت تقطع في ذلك شعرا؟
بلى والله، تصيب، ولكن من بدنك، وتقطع ولكن من ذقنك. وأقول لك:
اكتب كتابا إذا فسّر على وجه كان مدحا، وإذا فسّر على وجه آخر كان قدحا، هل كنت تخرج من هذه العهدة؟
أو قلت لك: اكتب كتابا إذا كتبته تكون قد حفظته من دون أن لحظته، هل كنت تثق من نفسك به إلى مالا أطاولك بعده؟ بل است البائن أعلم.
فقال أبو بكر: هذه الأبواب شعبذة. فقلت: وهذا القول طرمذة؛ فما الذي تحسن أنت من الكتابة وفنونها، حتّى أباحثك على مكنونها، وأكاثرك بمخزونها، وأشبر فيها قلمك، وأسبر فيها لسانك وفمك؟ فقال: الكتابة التي يتعاطاها أهل زماننا هذا المتعارفة بين النّاس؛ فقلت: أليس لا تحسن من الكتابة إلّا هذه الطريقة الساذجة، وهذا النوع الواحد المتداول بكلّ قلم، والمتناول بكل يد وفم، ولا تحسن هذه الشّعبذة؟ فقال: نعم، فقلت: هات الآن حتى أطاولك بهذا الحبل، وأناضلك بهذا النبل، ثم تقاس ألفاظي بألفاظك، ويعارض إنشائي بإنشائك.
واقترح كتاب يكتب في النّقود وفسادها، والتجارات ووقوفها، والبضاعات وانقطاعها، والأسعار وغلائها؛ فكتب أبو بكر: الدرهم والدينار ثمن الدّنيا(12/109)
والآخرة، بهما يتوصّل إلى جنّات النعيم، ويخلد في نار الجحيم؛ قال الله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها
«1» الآية، وقد بلغنا من فساد النّقود ما أكبرناه أشدّ الإكبار، وأنكرناه أعظم الإنكار، لما نراه من الصّلاح للعباد، وننويه من الخير للبلاد، وتعرّفنا في ذلك بما يربح النّاس في الزرع والضّرع، يقدّم من إليه «2» أمر النفع والضّرّ؛ إلى كلمات لم تعلق بحفظنا؛ فقلت: إنّ الإكبار والإنكار، والعباد والبلاد، وجنّات النّعيم ونار الجحيم، والزرع والضّرع، أسجاع قد نبتت في المعد، ولم تزل في اليد، وقد كتبت وكتبت، ولا أطالبك بما أنشأت، فاقرأ ولك اليد؛ وناولته الرّقعة فبقي وبقيت الجماعة، وبهت وبهتت الكافّة، وقالوا لي: اقرأ؛ فجعلت أقرؤه منكوسا، وأسرده معكوسا، والعيون تبرق وتحار؛ وكان نسخة ما أنشأناه:
الله شاء إن، المحاضر صدور بها وتملأ المنابر ظهور لها وتفرع، الدّفاتر وجوه بها وتمشق، المحابر بطون لها ترشق، آثارا كانت، فيه آمالنا مقتضى على، أياديه في تأييده الله أدام، الأمير جرى وإذا، المسلمين ظهور عن الثّقل هذا ويرفع، الدين أهل عن الكلّ هذا يحط أن فيه إليه نتضرع ونحن، واقفة والتجارات، زائفة والنقود، صيارفة أجمع الناس صار فقد، كريما نظرا لينظر، شيمه مصاب فانتجعنا، كرمه بارقة وشمنا، هممه على آمالنا أرقاب وعلّقنا، أحوالنا وجوه له وكشفنا، آمالنا وفود إليه بعثنا فقد نظره بجميل يتداركنا أن، نعماه تأييده وأدام، بقاه الله أطال، الجليل الأمير رأى إن، وصلّى الله على محمد وآله الأخيار.
فلما فرغت من قراءتها انقطع ظهر أحد الخصمين، وقال الناس: قد فرغنا التّرسل أيضا، فملنا إلى اللغة، فقلت: يا أبا بكر، هذه اللغة التي هددتنا بها،(12/110)
وحدّثتنا عنها، وهذي كتبها، وتلك مؤلفاتها، وهي مولّفة فخذ «غريب المصنف» إن شئت، و «إصلاح المنطق» إن أردت، و «ألفاظ ابن السّكيت» إن نشطت، و «مجمل اللّغة» إن اشتهيت وهو ألف ورقة، و «أدب الكتاب» إن اخترت، واقترح عليّ أيّ باب شئت من هذه الكتب حتّى أجعله لك نقدا، وأسرده عليك سردا؛ فقال: اقرأ من «غريب المصنّف» : رجل ماس خفيف، على مثال مال، وما أمساه. فدفعت في الباب حتّى قرأته، فلم أتردد فيه، وأتيت على الباب الذي يليه، ثم قلت: اقترح غيره؛ فقال: كفى ذلك؛ فقلت له: اقرأ الآن باب المصادر من «اختيار فصيح الكلام» لا أطالبك بسواه، وأسألك عمّا عداه؛ فوقف حماره، وخمدت ناره؛ وقال الناس: اللّغة مسلّمة إليك أيضا، فهاتوا غيره.
فقلت: يا أبا بكر، هات العروض، فهو أحد أبواب الأدب، وسردت منه خمسة أبحر بألقابها وأبياتها وعللها وزحافها، فقلت: هات الآن فاسرده كما سردته.
فلمّا برد، ضجر النّاس، وقاموا عن المجلس يفدّونني بالآباء والأمهات «1» ويشيّعونه باللعن والسّبّ، وقام أبو بكر فغشي عليه، وقمت إليه، فقلت «2» : [الوافر]
يعزّ عليّ يا للنّاس أنّي ... قتلت مناسبي جلدا وقهرا
ولكن رمت شيئا لم يرمه ... سواك فلم أطق يا ليث صبرا
وقبلت عينه، ومسحت وجهه، وقلت: اشهدوا أنّ الغلبة له، فهلّا- يا أبا بكر- جئتنا من «3» باب الخلطة، وفي باب العشرة؟!
وتفرق الناس، وحبسنا للطعام مع أفاضل ذلك المقام؛ فلما عكفنا على(12/111)
الخوان، كرعت في الجفان، وأسرعت إلى الرّغفان، وأمعنت في الألوان؛ وجعل هذا الفاضل يتناول الطعام بأطراف الأظفار، فلا يأكل إلا قضما، ولا ينال إلا شما، وهو مع ذلك ينطق عن كبد حرّى، ويغيض عن نفس ملآى؛ فقلت: يا أبا بكر، بقيت لك منّة وفيك مسكة: [البسيط]
يا قوم إني أرى الأموات قد نشروا ... والأرض تلفظ موتاكم إذا قبروا
فأخبرني يا أبا بكر: لم غشي عليك؟ فقال: لحمّى الطّبع وحمّى الفرو؛ فقلت: أين أنت عن السجع؟ هلا قلت: حمّى الطبع، وحمّى الصّفع.
وقال السيد أبو القاسم: أيها الأستاذ، مع الحديث فاعزل، يعنيه «1» ، فقلت:
لا تظلموه، ولا تطعموه طعاما يصير في بطنه مغصا، وفي عينه رمصا، وفي جلده برصا، وفي حلقه غصصا؛ فقال أبو بكر: هذه أسجاع كنت حفظتها، فقل كما أقوله: يصير في عينك قذى، وفي حلقك أذى، وفي صدرك شجى؛ فقلت: يا أبا بكر، على الألف تريد؟ خذ الآن؛ بفيك البرى، وعلى هامتك الثّرى، ولا أطعمك الخرا إلّا من ورا، كما ترى؛ فقالوا: أيها الأستاذ، السّكوت أولى؛ ومالوا إليّ وقالوا: ملكت فأسجح؛ فأبى أبو بكر أن يبقي لنفسه حمة لم يفضها، أو يدخر عنّا كلمة لم يعرضها؛ فقال: والله لا تركتك من الميمات، فقلت: ما معنى الميمات؟ فقال: ما بين مهزوم ومهذوم ومهشوم ومغموم ومحموم ومرجوم؛ فقلت: وأتركك بين الميمات أيضا؛ بين الهيام والصّدام والجذام والحمام والزّكام والسّام والبرسام والهام والسّقام، وبين السّينات فقد علّمتنا طريقة؛ بين منحوس منخوس منكوس معكوس متعوس محسوس مغروس؛ وبين الخاءات، فقد فتحت علينا بابا؛ بين مطبوخ مشدوخ منسوخ ممسوخ مفسوخ؛ وبين(12/112)
الباءات، فقد علّمتني الطّعن وكنت ناسيا؛ بين مغلوب مسلوب مرعوب مصلوب مكروب منكوب منهوب مغصوب؛ وإن شئنا كلناك بهذا الصاع، وطاولناك بهذا الذّراع.
ثم خرجت واحتجر، وقد كان اجتمع الناس، وغلت الكروش «1» ؛ فلما خرجت لم يلقوني إلّا بالشفاه تقبيلا، وبالأفواه تبجيلا؛ وانتظروا خروجه إلى أن غابت الشمس، ولم يخرج أبو بكر حتى خفره الليل بجنوده، وخلع الظّلام عليه فروته فهذا ما علّقناه عن المجلس وأدّيناه؛ والسيّد أطال الله بقاءه يقف عليه إن شاء الله، وله المنّة.
* وكتب إلى أبي العبّاس الفضل بن أحمد الإسفراييني: «2»
ما أظنّ- أطال الله بقاء الشيخ السيد- آل سامان إلّا مدّعين على الله مقاطعة، أرضه، ومساقاة ثمارها؛ يا هؤلاء، لا تكابروا الله في بلاده، ولا ترادوا الله عن مراده؛ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ
«3» وما أرى آل سيمجور إلّا معتقدين أنّهم يأخذون خراسان قهرا، لأنها كانت لأمهم مهرا؛ فلهم من حولها نحيط «4» ، وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ
«5» ، وبلغني أنّ صاحبهم أسر، فإن كان ما بلغني صحيحا، فمرحبا بالأسر، ولا لعا للعاثر؛ حتّام كفر الكافر، وغدر الغادر؛ وأبو الحسين بن كثير خذله الله، لا يكاد يرى الخير من ابن واحد، أفنرجوه من ابن كثير؟ وهو التّرياق المجرّب، لوشمه الملك المقرب،(12/113)
لقذف من كلّ جانب دحورا؛ هذا المؤيّد من السماء بيمن تدبيره، نكس في بيره؛ وهذا سنان الدولة ببركة ضميره، وقع في تخسيره، ولا يزال هذا البائس حتى يسأل الله العافية في بدنه. وحديث ما حديث هذا الحمّال، كان إبليس يقسم كلّ صبيحة اللّحى ألفا، فصار يقسم ألوفا؛ سلطان أتاه الله واسطة البرّ، وحاشية البحر، وأمكنه من طاغية الهند، وسخر له ملوك الأرض يريد حمال مراغمته يا للرجال لنازل الحدثان؛ إنّي لأعجب من رأس يودع تلك الفضول فلا ينشقّ، ومن عنق يحمل ذلك الرأس فلا يندقّ، وما أجد لابن محمود مثلا إلّا ابن الريونديّ «1» ، إذ ذهب إلى ابن الأعرابيّ «2» يسأله عن قول الله تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ
«3» أتقول العرب: ذقت اللّباس؟ فقال: لا بأس ولا بأس؛ وإذا حيّا الله النّاس فلا حيّا ذلك الرّاس؛ هبك تتّهم محمدا بأن لم يكن نبيّا، أتتهمه بأن لم يكن فصيحا عربيّا، وجئت تسأل ابن الأعرابي؟ أليس الأعرابيّ نفسه جاء بهذا الكلام؟ كذلك ابن محمود ينفض استه، ويضرب مذرويه، لينال الملك، لا لوافر عدّة، ولا لكثرة عدة؛ إنما يطمع في الملك لأنه ابن محمود؛ أفليس محمود نفسه بالملك أحقّ؟ فالحمد لله الذي نصركم وأخزاهم، وثبتكم ونفاهم، وأركب آخرهم أولاهم «4» ، ولا رحم الله قتلاهم، ولا جبر جرحاهم، ولا فكّ أسراهم، ولا أراكم إلا قفاهم، وإن أقبلوا ففضّ الله فاهم:(12/114)
ويرحم الله عبدا قال آمينا «1» .
* وله إليه أيضا في هزيمة السّامانية بباب مرو «2» : وردت رقعة الشيخ الجليل، أدام الله بسطته، منّي على صدر انتظرها، وقلب استشعرها؛ وإنّي لا أغلط في قوم أميرهم صبيّ، ولا في دولة عميدها خصيّ، وسنانها حلقيّ، ونصيرها شقيّ، وعدوّها قويّ، إني إذا لغويّ.
يا قوم، بماذا ينصرون؟ أبمال عليه اعتمادهم؟ أم بجمع هو مدادهم؟ أم لعدل به اعتضادهم؟ أم لرأي هو عمادهم؟ هل هم إلا شطور في فطور؟ إنّ الله تعالى علم أنّهم إن ملكوا لم يصلحوا، وأمرتهم أنا أن لا يفلحوا، فسمعوا وأطاعوا؛ طائفة من المدابير، وقوعهم بين النّار والنير، إن أقاموا فالسّيوف الهندوانيّة، وإن أيمنوا فالأتراك والخانيّة، وإن أيسروا فجرجان والجرجانيّة، وإن استأخروا فالعطش والبريّة؛ هو الموت إن شاء الله آخذا بالحلاقيم، محيطا بالظاعن منهم والمقيم؛ جرجان يا مدابير جرجان؛ إنّ بها شمة من التّين، وموتا في الحين، ونظرة إلى الثّمار، والأخرى إلى التابوت والحفّار؛ ونجّارا إذا رأى الخراسانيّ نجّر التّابوت على قدره، وأسلف الحفّار على لحده، وعطّارا يعدّ الحنوط [برسمه] ، وبها للغريب ثلاث فتحات للكيس؛ أوّلها لكراء البيوت، والثّانية لابتياع القوت، والثّالثة لثمن التّابوت؛ أغلى [الله] بهم أسواق النّجارين والحفّارين والمكّارين؛ آمين ربّ العالمين.(12/115)
* وله أيضا إليه في فتح بهاطية «1» : إنّ الله وهو العليّ العظيم، المعطي من شاء ما شاء، منّ على الإنسان بهذا اللسان؛ خلق ابن آدم وأودع فكّيه مضغة لحم، يصرفها في القرون الماضية، ويخبر بها عن الأمم الآتية؛ يخبر بها عمّا كان بعد ما خلق، وعمّا يكون قبل أن يخلق؛ ينطق بالتّواريخ عمّا وقع من خطب، وجرى من حرب، وكان من يابس ورطب؛ وينطق بالوحي عمّا سيكون من بعد، وصدق عن الله به الوعيد، ثم لم ينطق التّاريخ بما كان، ولا الوحي بما يكون، أنّ الله تعالى خصّ أحدا من عباده- ليس النّبيّين- بما خصّ به الأمير السّيّد يمين الدّولة وأمين الملّة، ودون الجاحد إن جحد أخبار الدّولة العباسية، والمدّة المروانية، والسّنين الحربية، والبيعة الهاشمية، والأيّام الأمويّة، والإمارة العدوية، والخلافة التيمية، وعهد الرسالة، وزمان الفترة؛ ولولا الإطالة لعدّدنا إلى عاد وثمود بطنا بطنا، وإلى نوح وآدم قرنا قرنا، ثم لم يجد قائل مقالا إلا أنّ ملكا وإن علا أمره، وعظم قدره، وكبر سلطانه، وهبّت ريحه، طرق الهند فأسر طاغيتها بسطة ملك، ثم خلّاه، وعرض الأرض قوة قلب، وصبّح سجستان، وهي المدينة العذراء، والخطّة العوراء، والطيّة العسراء، فأخذ ملكها أخذة عزّ وعنف، ثم خلاه تخلية فضل ولطف، ثم لم يلبث أن خاض في البحر إلى بهاطية؛ والسيل واللّيل جنودها، والشّوك والشجر سلاحها، والضّحّ «2» والريح طريقها، والبرّ والبحر حصارها، والجنّ والإنس أنصارها؛ فقتل رجالها، وغنم أموالها، وساق أقيالها، وكسر أصنامها، وهدم أعلامها، كلّ ذلك في(12/116)
فسحة شتوة، قبل أن يتطرّقها الصيف توسطها السّيف؛ وهو الله ملك الملوك، يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء.
ثم حكمت علماء الأمة، واتفق قول الأئمة، أنّ سيوف الحق أربعة، وسائرها للنّار؛ سيف رسول الله للمشركين، وسيف أبي بكر في المرتدين، وسيف عليّ في الباغين، وسيف القصاص بين المسلمين؛ وسيوف الأمير- أيده الله في مواقفه- لا تخرج عن هذه الأقسام، فسيفه بظاهر هراة فيمن عطّل الحدّ، واتّهم بأنه ارتدّ، وسيفه بظاهر غزنة في وجه العقوق، نوعا من الكفر [والفسوق] ، وسيفه بظاهر مرو فيمن نقض بعد تغليظه، ونبذ اليمين بعد تأكيده، وسيفه بظاهر سجستان فيمن نبّه الحرب بعد رقودها، وخلع الطّاعة بعد قبولها، وسيفه الآن في ديار الهند سيف قرنت به الفتوح، وأثنت عليه الملائكة والرّوح، وذلّت به الأصنام، وعزّ به الإسلام، والنّبيّ عليه السلام، واختصّ بفضله الإمام، واشترك في خيره الأنام، وأرخت بذكره الأيّام، وأحفيت لشرحه الأقلام.
وسنذكر من حديث الهند وبلادها، وغلظ أكبادها، وشدة أحقادها، وقوّة اعتقادها، وصدق جلادها، وكثرة أجنادها، نبذا ليعلم السّامع أيّ غزوة غزاها الأمير السّيد أدام الله علوه؛ إنّها بلاد لو لم تحيها السّحاب بدرّها، لأهلكتها الشمس بحرّها؛ فهي دولة بين الماء والنّار، ونوبة بين الشمس والأمطار، تقدّمها صعاب الجبال، وتحجبها رحاب القفار، ويعصمها ملتفّ الغياض، ويحصّنها طواغي الأنهار، حتى إذا خرقت هذه الحجب، خلص إلى عدد الرّمل والحصا رجالا، وشبه الجبال أفيالا، وإيزاغ المخاض جلادا، وتشهاق الحمار طعانا، وأركان الجبال ثباتا؛ ثم لا يعرفون غدرا ولا بياتا، ولا يخافون موتا ولا حياة، ولا يبالون على أيّ جنبيه وقع الأمر، وينامون وتحتهم الجمر؛ وربّما عمد أحدهم لغير ضرورة داعية، ولا حميّة باعثة، فاتّخذ لرأسه [من الطين] إكليلا، ثم قور قحفه(12/117)
فحشاه فتيلا، ثم أضرم في الفتيل نارا، ولم يتأوه، والنّار تحطمه عضوا عضوا، وتأكله جزءا جزءا؛ فأما محرق نفسه ومغرقها، وآكل لحمه ومفصّل عظمه، والرّامي بها من شاهق، فأكثر من أن يعد؛ وأقلهم من يموت حتف أنفه، فإذا مات هذه الميتة أحدهم «1» سبّ بها أعقابه، وعظم عندهم عقابه.
بلاد هذه حالها، وفيلة تلك أهوالها، وجبال في السّماء قلالها، وفلاة يلمع آلها، وغياض ضيق مجالها، وأنهار كثيرة أو حالها، وطريق طويل [مطالها] ، ثم الهند ورجالها، والهندوانيّة واستعمالها.
زحم الأمير- أدام الله سلطانه- بمنكبه هذه الأهوال محتسبا نفسه، معتمدا نصر الله وعونه، فركض إليهم بعون من الله لا يخذل، ومدد من التوفيق لا يفتر، وقلب عن الأهوال لا يجبن، وجدّ على المطلوب لا يقصر، وسيف عن الضّريبة لا ينكل؛ فسهّل الله له الصّعب، وكشف به الخطب، ورجع ثانيا من عنانه بالأسارى، تنظمهم الأغلال، والسّبايا تنقلهم الجمال، والفيلة كأنّها الجبال، والأموال ولا الرّمال.
فتح الله ذخره عن الملوك السالفة الخالية، الكفرة الطّاغية، الجبابرة العاتية، حتّى وسمه الله بناره، وجعله بعض آثاره؛ فالحمد لله معزّ الدين وأهله، ومذلّ الشّرك وحزبه.
* وله إليه أيضا «2» : رقعتي هذه- أطال الله بقاء الشيخ الجليل- من بعض الفلوات، ولو جهلت أن الحذق لا يزيد في الرزق، وأنّ الدّعة لا تحجب السّعة، لعذرت نفسي في الرّحل أشدّه، والحبل أمدّه؛ ولكنّي أعلم هذا وأعمل ضدّه، وأصل سراي(12/118)
بسيري، ليعلم أنّ الأمر لغيري؛ وإلّا فمن أخذني بالمطارفي هذه الأقطار، والمصار في هذه الأمصار، لولا الشقاء؛ ألم يأتني العمر بهيجا، والرزق نهيجا نضيجا، حتّى آتيه قصدا، وأتكلّف له زرعا وحصدا، وأعارضه شيّا وطبخا، وأعرض له الشّعاب، والجبال الصّعاب، وأنزل بمناخ السّوء؛ لكنّ المرء يساق إلى ما يراد به، لا إلى ما يريد.
أما آن لهذه الأشقاص، أن يتيسر منها الخلاص؟ بعد ما سافرت وسفرت، وناظرت [ونظرت] ، وحفرت وحرثت، ونذرت وبذرت، وزرعت وعمرت؛ حمدت الله كثيرا، ورأيته مغنما كبيرا؛ وإن لم يكن من إتمام القصة بدّ، فلا غنى عن نظر كريم ومهلة، فيها مجال وتسويغ يصلح به فاسد، وقرض يتألف به شارد «1» : [الطويل]
وما كلّ يوم لي بأرضك حاجة ... ولا كل يوم لي إليك رسول
6- ومنهم: أبو نصر العتبيّ
«2» : وهو من أصحاب الغوص البعيد، والمعاني البديعة، واللفظ السّهل، والخاطر الوقاد، والفكر الجوال، والصّوغ اللائق، والورد السائغ؛ لا يماثل بإنسان، ولا يشاكل في خراسان؛ دون كلمه سحر بابل، ونشر كابل؛ لو شاء أوهم الغواني في عقودها، والأغصان في برودها؛ وكان حفظه مع سعة مخيلته، وصفاء مصوّرته وممثّلته؛ وحفظه أحوى من بقاع الرّمل، وأحلى من اجتماع الشمل؛ وفهمه أدقّ من مدارج النّمل تمثيلا، وأرقّ من طبع صافي الماء تخييلا؛ كلمات محكمة بقوة(12/119)
الأسباب، محكّمة كنشوة الرّاح للألباب؛ فآها له من خبر طواه أمسه، ومن بحر حواه رمسه، ومن حرّ أضاء ليوم «1» ، ما طلع حتى غابت شمسه.
وله كتاب «اليميني في تاريخ السّلطان محمود بن سبكتكين» «2» كأنّه روضة غناء وعقد منظوم، وأفق مكوكب، بديع الجملة، حسن المجموع.
* ومن نثره قوله قرين نصل أهداه «3» : خير ما تقرب به الأصاغر إلى الأكابر، ما وافق شكل الحال، وقام مقام المقال؛ وقد بعثت بنصل هندي، إن لم يكن له في قيم الأشياء خطر فله في قمم الأعداء أثر؛ والنّصل والنّصر أخوان، والإقبال والقبول قرينان؛ والشيخ أجلّ من أن يرى إبطال حلية الأبطال، ويردّ إقبال مستجلب الإقبال.
ومنه قوله من كتاب كتبه عن السّلطان محمود: ووصلنا إلى السومنات «4» ، فوجدناها تخفي الرياح في مساربها، وتزلّ الأبصار بين ذوائبها، بين غياض تشكو الأراقم فيها ضيق المضطرب، وصعوبة المنسرب، متكاثفة كأعراف الجياد، متداخلة كأشعار الحداد، لا تستجيب فيها الأفاعي للرّقاة، ولا يستنير البدر عندها للسّراة، في أذيال جبال تناغي كواكب الجوزاء، وخلال آجام تواري وجه الأرض عن عين السّماء، فوافينا وقد أثقل العيون كراها، وأتعب النّجوم سراها، في مدّة اتصلت كعوب أيامها، وتناسقت(12/120)
فرائد نظامها؛ فأحطنا بها إحاطة القلائد بالجيد، والشذرة بالفريد، ثم اشتدّ الوغى، فخيلت المعركة سماء غمامها مثار القساطل، وبروقها بريق المناصل، ورعودها صرير السّلاح، ورشاشها صبيب الجراح؛ واستقبل المعمة من الجنود رجال، يرون الملاحم ولائم، والوقائع نقائع؛ وحطّت الرّماة أيديها في جعاب كخراطيم الفيول، مملوءة بنبال كأنياب الغول؛ وظلّت السهام تتهاوى كما تتهاوى لوامع الشّهب، وتترامى ترامي نوازع السّحب؛ والطعن يهتك ودائع الصّدور، ويرد مشارع الغموم والسّرور؛ ولم تزل الملحمة حتّى استقلّت الشمس إكليلا على الجبل، ونفّضت ورسا على الأصل، فافترق الجمعان، وضرب اللّيل بينهما بجران، إلى أن صافح الليل صباحه، ونثر النجم على الغرب وشاحه، فعادوا إلى أمسهم، وتداعوا من آثاره القيام إلى رمسهم، وصارت الأرواح تسقى بأرشية الأرماح، إلى تولّي عسكر البلد هزيما يقفوه الصّباح، وهشيما تذروه الرياح؛ يتقاسمون الهرب جماما، ولا يردون الماء إلّا لماما؛ وعسكر السّلطان في آثارهم يرميهم بالصّواعق من ظبى السّيوف البوارق، ويقذفهم بالشّهب اللّوامع من شبا الرّماح الشوارع، حتّى صار من سلم منهم إلى الأطراف ضرورة، إذ كانت جيوب الآفاق عليه مزرورة.
وما برح السّلطان يتطلّب ملكهم حتّى حصل في معتقله، وحصّله في مكمن أجله، فهدأ من الخوف سره، وختم بطابع الشقاء عمره، ثم صعد السّلطان المدينة، ودخل بيت البدّ وظفر منه ومنها بأموال طالما حفظتها صدور الخزائن مكتومة، وخنقتها خيوط الأكياس مختومة، مما أوهت في تعدادها أنامل الحساب، وأحفت بل أفنت أقلام الكتّاب، فمن ذهب وفضة، ما منهما إلّا ما يكاثر الأحجار، ويستقلّ الأمطار؛ ومن لآل كأنّما صورت من الشّمس ضياء، وخلقت لمضاهاة حبّ الغمام عدّا وصفاء؛ ومن يواقيت كالجمر قبل الخمود، والخمر بعد الجمود، ومن زبرجد كأطراف الآس نضاره، أو ورق الأقحوان غضاره؛(12/121)
ومن ماس كأنّما أعارت بعضه السّنانير أحداقها، أو وهبت باقيه حوّ الشّقائق أوراقها؛ ومن ولدان كاللّؤلؤ المنثور، ونساء خلقن أنموذجا للحور، ومن أفيال كالأسود، محطومة بالأساور السّود، حكت أطوادا فارعة، وأمواجا متدافعة، تئنّ الأرض من وطء أطرافها، وتخفّ «1» من ثقل أخفافها؛ تقف كأشخاص القصور، وتتدفق كأمواج البحور، وكأنّها بيوت والخراطيم رواشنها المعلقة، وكأنها ليال افترست النّهار، فلم يبق منه إلّا ما على أنيابها من جلوده الممزقة، يراها الرّاءون هضابا ثابتة، وجبالا نابتة، في ثقل أجسام، وخفّة أقدام؛ كأنّها صدع الجبال عند طارقة الزّلزال، تناجي بصور التهويل والتفخيم، وتفتك بالأيدي والخراطيم؛ إن استدري بها في الوغى، ضربت بين النفوس والآجال بسور، وإن خفّت إلى الحروب، رأيت قلوب اللّيوث تحت أجنحة النّسور؛ فلندع هذه النّعمة التي عقدت بالنّجوم ضفائرها، وأفاضت على الشّرق بعضها وعلى الغرب سائرها، وإنّا لنرجو أمثالها، ما دامت العيون حافظة سوادها، والعواتق حاملة نجادها.
ومنه قوله: المؤمن البشر لا من ورق الشجر، إذا مات فقد فات، وليس ممّا يعود، كما يورق ما عري العود.
ومنه قوله: وهم مرابيع الكرم، وينابيع الحكم، ومصابيح الظّلم، ومجاديح الأمم، وليوث البهم، وغيوث القحم؛ سادة النّاس، وقادة الملوك يوم النّدى ويوم الباس.
ومنه قوله: وبلغ إلى حيث لم يبلغه في الإسلام راية، لم ينل به قطّ سورة ولا آية، في(12/122)
فياف تضلّ في أرجائها أسراب اليعافير، وتحار في دهنائها أفواج العصافير؛ فثار عدوّ الله يستنهض من يحمل حجرا، فضلا عمن يلقم القوس وترا، أو يحسن بالسّيف أثرا؛ فلمّا قاربه في المكان، ودخل بالرّعب على قلبه العيان، كرّ راجعا على آثاره، لفت المشير موهنا بناره؛ لا زال السّلطان منصورا، ما طلع يوم من حجاب أمس، وظهرت نفس من قرارة نفس.
ومنه قوله: وأما بنو فلان، فكوتهم الأيّام بمياسمها، وداستهم اللّيالي بمناسمها؛ فإنّ في قرع باب الغيّ تعرّضا للبلاء، واستئذانا على سواء القضاء، لولا أن تداركهم فلان بلطف كالأري مشارا، ودهاء يسلخ من الليل البهيم نهارا.
ومنه قوله معزّيا: هذه مصيبة سفحت الدّموع غروبا، ونثرت قنا الأصلاب أنبوبا فأنبوبا، ونعي بها فتى الجود، ومصّ بعده الثّرى بقية الماء من العود.
ومنه قوله: ولم تكن إلّا صدمة واحدة حتّى زلّت الأقدام عن مقارّها، وتهاوت الرّقاب عن مزارّها، وجعلت تتساقط أشخاص الألوية والمطارد، وتردّ النّفوس عن ضرب السّيوف البوارد؛ وكرّت عنها للسّلطان فيول كرعن الجبال، أو كركن السّحب الثّقال، مغشّاة بتجافيف «1» لم يعوّر منها غير حدق النّواظر، وحدائد الأنياب القوافر؛ يهوّل سائسها عليها بمرهفات كالبروق الخواطر، وصفّارات كالرّعود القواصف؛ وقد نشرت عليها التّماثيل في العيان المشهود، كأنّها الأساود(12/123)
السّود؛ تخيل اضطراب الرّياح فيها أنّها ترجف للإلهام، أو تنقضّ لاختطاف الهام؛ وتعالت عليها أطراف العوامل؛ في مبان كالمعاقل، كأنها آجام السّواحل، تأويها شياطين الإنس فرسانا، وعفاريت التّرك والهند مردا وشبانا، تبصّ عليهم سابغات داود كصفائح الماء، تجلوها الشّمس في وسط السّماء، فحثّ العدوّ الخيل، تحت اللّيل، حتى كاد لا تتنفّس الأرض معه بمواطئ أقدامها، ولا تشعر النّجوم بأشخاص ألويتها وأعلامها، ودنا الفريقان بعضهم من بعض، وظلّت رحى الحرب تعركهم بثفالها، وتدور عليهم بأثقالها؛ وحمل سيف الدّولة بنفسه، فتداعت الزّحوف، وتخالطت الصّفوف، وخطبت على منابر الرّقاب السّيوف، وثارت عجاجة أخذت العيون عن الأشباح، وأذهلت النّفوس عن الأرواح، ونثرت الأعناق ثم نظمتها في سلوك الرّماح، وطفقت الخيل تتردّى بجثث النفوس، وتلعب بأكر الرّءوس؛ وأما البقية فإنهم ولّوا وما ألووا، وقد دبّ الفشل في تضاعيف أحشائهم، وسرى الوهل في تفاريق أعضائهم، واستطار الخوف في مزاج دمائهم؛ فجيوب الأقطار عليهم مزرورة، وذيول الخذلان عليهم مجرورة.
7- ومنهم الحسين بن علّي بن محمّد عبد الصّمد، أبو إسماعيل «1» ، مؤيد الدّين، فخر الكتّاب الأصبهاني، المنشئ المعروف بالطغرائّي.
الكاتب الشّاعر، الناظم النّاثر، البديع الصّنعة، الباهر الأدب، الزاهر الفضل، الطّاهر المحاسن، الدقيق المعاني، الوثيق المباني، المشهور شهرة الشّمس، الواضح(12/124)
وضوح البدر، كاثر ببدائعه النّجوم الثّواقب، وبنتائج قرائحه سجوم السّحائب، فجاءت عربا أبكارا، وشهبا لا تلجّ أفكارا.
وولع بصنعة الكيميا، فشب لهبا، وصبّ أدبا لا ذهبا، وأذهب زمانا بها في العناء، وطلب الغنى من غير الغناء، فلم يجد بغيته، ولم يزد على أن صفّر وجهه، وبيض لحيته، فردّ خائبا، واشتعل رأسه شائبا؛ وطالما شمر طلب الصّنعة دروعه، وصعّد أنفاسه وقطّر دموعه، وكان من فيض السّلطان في غير البشير، وفي حبر من الإكسير، إلّا أنه تعلّق بعلم أحابر، وعلق حكم الصّنعة عن أكابر، وشدّ الأوصال، وامتدّ لأن تسمح له بالوصال، فكان لو شعر به ابن أميل، لمال إليه كلّ الميل، أو تشبه به ابن يزيد، لما كان عليه مزيد، ومع طول معاناته، وبعده تارة ومداناته، لم يحصل على غير ارتقابها، ولا ظفر من ليلى بحطّ نقابها، فكم ضيّع حاصلا، وكدّ ولم يكن واصلا.
وشعره أسير من نثره، وأيسر في حجم قدره، لأنّه إنما عانى النّثر وقد قارب أجله الانتهاء وقارب الرّحيل، ودنت شمسه من الأفول.
وهو صاحب «لاميّة العجم» التي فصّلت عرى «لاميّة العرب» وحلّت لامها، ونكّبت من شفار الشّنفرى سهامها، فلقد قوّت الشّعوبيّة، واحتمت لعصابتهم، حميّة العصبيّة، وأخذت قسرا شجر البيان، وحكمة ألسنة العرب وأدمغة اليونان، وكادت تبتزّ من دولة العرب مدينة السّلام، ولا تبقي لهم إلّا عائدة الملام، وعنوان قوله منها «1» : [البسيط]
أريد بسطة كفّ أستعين بها ... على قضاء حقوق للعلى قبلي(12/125)
والدّهر يعكس آمالي ويقنعني ... من الغنيمة بعد الكدّ بالقفل
إنّ العلى حدّثتني وهي صادقة ... فيما تحدّث أنّ العزّ في النّقل
لو أنّ في شرف المأوى بلوغ منى ... لم تبلغ الشمس يوما دارة الحمل
تقدّمتني رجال كان شوطهم ... وراء وطئي إذا أمشي على مهل
أعدى عدوّك أدنى من وثقت به ... فحاذر النّاس واصحبهم على وجل
وإن علاني من دوني فلا عجب ... لي أسوة في انحطاط الشّمس عن زحل
وإنّما رجل الدّنيا وواحدها ... من لا يعوّل في الدّنيا على رجل
وقد قال لمّا ولي ديوان الطّغراء، وكان قد كبر وأفن: من فتح دكّانه بعد العصر، أي شيء يتعيش؟.
* ومن نثره قوله: وما كان إلّا أن تداعوا بالرّحيل، وقدّمت لهم النّياق للتّحويل، وإذا بقلبي قد ودّعني وسار، وهزّ جناحه الخافق وطار، فعدت- علم الله- لا أستطيع منعه، ولا أعقل فأجري لي دمعة، إلى أن بكّرت عليّ العاذلات، وهبت إليّ باللّوم قائلات: أمالك أسوة بالمحبّين الألى؟ فقلت: لا؛ فمازلن يرقعن جلدي، ويمسكن تجلّدي، وأنا لا أسكن إلى حول، ولا أطمئنّ إلى قول، حتّى غلبتني صرعة كرى، فتخيلت [أنّي] أرى خيالا عاد مخبرا، وخيالا من الحبيب زار مزوّرا؛ فإذا بتمثال الأحباب بين يديّ مصورا، فقال لي ذلك الطّيف الطّارق، تحت ستور الليل الغاسق: مالك ولهذه الحالة الشنيعة؟ أما كنت ترضى بأن يكون قلبك عندنا وديعة؟ فها خذها إليك، والسّلام عليك؛ فقلت: ناشدتك الله أيّها الخيال الزّائر، والمثال السّائر، إلّا ما تريثت، ووقفت فتلبثت؛ فما زاد على أن زال، ولا حام حتّى حال؛ ثم ولّى وما ودّع، وأشبه مشبهه في الجفاء وما أبدع.(12/126)
ومنه قوله: وقد زار الغيث، وزار اللّيث، وأضاء البدر الزّاهر، ودنا الصّباح السّافر، وقدم العميد يهمي متدفقا هو والغمام، ويجري مستبقا هو والسّهام، فأيّ صدر ما تزحزح لحلوله؟ وأيّ قدر ما يصال لوصوله؟ وأي بدر ما غاب؟ وأيّ شمس ما توارى ضياؤها بحجاب؟ ولولا وقار العميد، كادت الأرض تميد، ويا لله العجب، قدم وما نزفت البحار، وإلّا ضاقت البيد!.
ومنه قوله: وكتابي هذا إليك، وعندي عليك لوث عتاب، لأمر لا يحمله كتاب، فإن آب بك المتاب، وقوّم أود ودّك الإعتاب، استرسلت معك في ذكره، وأرسلت إليك رائد سرّه؛ وإلّا طويت الدّهر على مضض ألمه، وأخليت الصّدر للممه، وتحاملت على ما بي، وصرفت عنك ودّي وعتابي.
ومنه قوله: سحابة ترسل الأمطار أمواجا، والأمواج أفواجا، سحبت على الأرض أذيالها، وعلمت افتقارها إلى نفسها، فجادت بها لها، والجود بالنّفس أقصى غاية الجود «1» ، لا سيما عوارف كرم ملأت الوجود.
* ومن شعره قوله «2» : [الطويل]
وأبيض طاغي المتن يرعد حدّه ... مخافة عزم منك أمضى من النّصل(12/127)
عليم بأسرار المنون كأنّما ... على مضربيه أنزلت آية القتل
ومنه قوله «1» : [الطويل]
أجيراننا بالغور كيف خلصتم ... نجيّا وأخفيتم مسيركم عنّي
لقد سمعت أذناي نجوى فراقكم ... فلا نظرت عيناي ما سمعت أذني
أحذركم طوفان دمعي فبدّلوا ... إذا أزف السير الرّكائب بالسفن
ففي الحيّ مرهوم الإزارين بالبكا ... وآخر مرقوم العذارين بالحسن
ومنه قوله «2» : [الطويل]
إذا ما دجى ليل العجاجة لم يزل ... بأيديهم جمر إلى الهند مشبوب
عليها سطور الضّرب يعجمها القنا ... صحائف يغشاها من النّقع تتريب
وقوله في النّهر والرّوض «3» : [السريع]
يشقّها في وسطها جدول ... [مياهه] العذبة مثلوجه
«4»
له سواق طفحت والتوت ... تلوّي الحيّات مشجوجه
فهي رماح أشرعت نحوها ... تطعنها سلكى ومخلوجه
«5» ومنه قوله «6» : [الكامل]
إنّي لأذكركم وقد بلغ الظّما ... منّي فأشرق بالزّلال البارد(12/128)
وأري العدى أنّ الإساءة منكم ... خطأ وتلك سجية من عامد
ويصحّ لي قول الوشاة عليكم ... فأردّه عنكم بظنّ فاسد
وإذا طويت هواك عنهم نمّ بي ... وجد يدلّ على لسان جاحد
وأقول: ليت أحبتي لاقيتهم ... قبل الممات ولو بيوم واحد
«1»
وإذا سئلت عن السّلوّ أجبتهم ... بلسان معترف ونية جاحد:
إن لم يكن سحرا هواك فإنّه ... والسّحر قدّامن أديم زائد
«2»
ما زلت أجهد في مودّة راغب ... حتّى ابتليت برغبة في زاهد
«3»
ولربما نال المراد مرفّه ... لم يسع فيه وخاب سعي الجاهد
هذا هو الرّأي الذي ضاقت به ... حيل الطّبيب وطال يأس العائد
ولعمري ما أعرف ما أصف به هذا الشّعر، وهو الذي قلّ أن يماثل، وجلّ أن يقاس به، وهو السحر الطّاهر، والرحيق المشعشع، والرّوض الباسم، والصّباح المتألّق، وهكذا فليكن؛ ومن يقدر على هذا أو يدانيه؟
وكذلك قوله «4» : [البسيط]
بالله يا ريح إن مكنت ثانية ... من صدغه فأقيمي فيه واستتري
وباكري ورد عذب من مقبّله ... مقابل الطّعم بين الطّيب والخصر
وإن قدرت على تشويش طرّته ... فشوّشيها ولا تبقي ولا تذري
ثم اسلكي بين برديه على عجل ... واستبضعي الطيب وأتيني على قدر(12/129)
ونبهيني دوين القوم وانتفضي ... عليّ واللّيل في شك من السّحر
لعلّ نفحة طيب منك ثانية ... تقضي لبانة قلب عاقر الوطر
وقوله «1» : [الطويل]
وحان على الشّحناء عوج ضلوعه ... يسدّد نحوي صائبات المشاقص
يكاثر فضلي بالثّراء توقّحا ... وفي المال للجهّال جبر النّقائص
أقول له لمّا اشرأبّ لغايتي ... ومدّ إليها نظرة المتخاوص
وأيقظ منّي ساهرا غير نائم ... وحرّض منّي هاجما غير حائص:
لقد فات قرن الشّمس راحة لامس ... وأعيا مناط النّسر كفة قانص
فإن حدّثتك النفس أنّك مدرك ... لشأوي فطالبها بمثل خصائصي
وعلمي بما لم يحو خاطر عالم ... وخوضي على مالم ينل فهم غائص
«2»
فما عهد أحبابي على البعد ضائع ... لديّ ولا ظلّ الوفاء بقالص
ولا أنا عمّا استودعوني بذاهل ... ولا أنا عمّا كاتموني بفاحص
وإنّ الألى رامو اللّحاق بغايتي ... سعوا بين مبهور وآخر شاخص
وراموا بأطراف الأنامل غاية ... وطئت وقد أعيتهم بالأخامص
وقوله «3» : [الطويل]
صحا عن فؤادي ظلّ كلّ علاقة ... وظلّ الهوى النجديّ لا يتقلّص
هوى ليس يسلي القرب عنه ولا النّوى ... ولا هو في الحالين يصفو ويخلص
ففي البعد قلب بالفراق معذّب ... وفي القرب عيش بالوشاة منغص(12/130)
وإنّ خلاصا كنت أرجوه برهة ... وكان يزيد الأمر فيه وينقص
قطعت رجائي منه مذ قال صاحبي: ... رميّ العيون النّجل لا يتخلّص
وقوله «1» : [البسيط]
يا صاحبيّ أعيناني على سكن ... إذا شكوت إليه زادني مرضا
ظبيّ غرير إذا حاولت غرّته ... أرسلت طرفي سهما وانثنى عرضا
«2»
مالي وللبرق مجتازا على إضم ... يسري ويمري جفوني كلّما ومضا
برق يلوح بنجد والحمى وطني ... هفا بقلبي ولبّي كلّه ومضى
من مبلغ الحيّ شطّت دارهم ورضوا ... بالجار جارا وما أرضى بهم عوضا
ما طاب عنكم فؤاد طاب قبلكم ... عن الرّضاع تقضّى والشّباب مضى
إنّ الزّمان الذي كانت بشاشته ... للقلب والعين ملهى بان وانقرضا
فإن نسيت فيأسا لم يدع طمعا ... وإن ذكرت فعرق ساكن نبضا
حكّمت في مهجتي من ليس ينصفني ... ولست أبلغ من تحكيمه غرضا
سيّان عندي وأمري صار في يده ... قضى لغيري بجور أم عليّ قضى
حتّام أنهض جدّي وهو يعثر بي ... أخاف أن لا يراني الجدّ إن نهضا
وقوله «3» : [الكامل]
ومليحة الحركات إن رفلت ... في الحيّ ساعف عقدها القرط
نمّ المروط بحسنها فبدا ... والشمس ليس يكنّها مرط
فتح الصّبا في صحن وجنتها ... وردا يضاعف حسنه اللّقط(12/131)
قالت وقد ولّت حمولهم ... والعيس فوق جفوننا تخطو:
كان الشّباب الغضّ يجمعنا ... فمضى وشتّت شملنا الوخط
غدر الأحبّة والشّباب معا ... فكأنّنا لم نصطحب قطّ
وقوله «1» : [الكامل]
في القلب من حرّ الفراق شواظ ... والدّمع قد شرقت به الألحاظ
ولقد حفظت عهودكم وغدرتم ... شتان غدر في الهوى وحفاظ
لله أيّ مواقف رقّت لنا ... فيها الرّسائل والقلوب غلاظ
ومرى العتاب جفوننا فتناسبت ... تلك المدامع فيه والألفاظ
يا دار ما للرّكب حين وقوفنا ... ما إن سقاك من الدّموع لماظ
ترك الغرام عقولهم مشدوهة ... فظننتهم رقدوا وهم أيقاظ
عهدي بظلّك والشّباب يزينه ... أيّام ربعك للحسان عكاظ
فيا لله ما أسرى هذه البدائع، وما أسرع تدفّق هذه البداءة، ويا لله هذا الشّاعر، لقد ركب هذه القافية الصعبة فذللها، وسلك هذه الطريقة الوعرة فسهّلها؛ ولقد حيّر الأفهام إلى أيّ هذه المعاني تسارع؟ ولأيّها تفضل؟ ومن أيّها تعجّب؟ هذا مع هذا التركيب الشّديد الأسر، واللفظ الذي اقتاد إلى هذه القافية، وسلسل نطف هذه الأبيات الصّافية، وجاء بأبياتها المشيّدة كأنها العافية، وهذا الذي تتفاوت فيه أقدار القرائح، ويظهر فيها مبلغ العلم، ويعلن به باسم قائله، وينفق سوق منشده، وأين من يقدر على مثل هذا الكلام؟ أو يتعاطى مثل هذا المدام؟ أو يصحّ معه هذا السحر، وما أظنّه إلّا الحرام؟!(12/132)
ومن لطائف شعره قوله أيضا «1» : [الكامل]
يا قلب مالك والهوى من بعدما ... طاب السّلوّ وأقصر العشاق
أو ما بدا لك في الإفاقة والألى ... نازعتهم كأس الغرام أفاقوا
مرض النّسيم وصحّ [و] الدّاء الذي ... يشكوه لا يرجى له إفراق
وهدا خفوق البرق والقلب الذي ... تطوى عليه أضالعي خفّاق
وقوله «2» : [الطويل]
أجمّا البكا يا مقلتي فإنّنا ... على موعد للبين لا شكّ واقع
إذا جمع العشاق موعدهم غدا ... فوا خجلتا إن لم تعنّي المدامع
وجاءه مولود وقد بلغ سبعا وخمسين سنة، فقال «3» : [البسيط]
هذا الصّغير الذي وافى على كبري ... أقرّ عيني ولكن زاد في فكري
سبع وخمسون لو مرّت على حجر ... لبان تأثيرها في صفحة الحجر
وقوله «4» : [الطويل]
أزيد إذا أيسرت فضل تواضع ... ويزهو إذا أعسرت بعضي على بعضي
أرى الغصن يعرى ثم يسمو بنفسه ... ويوقر حملا حين يدنو إلى الأرض
وقوله «5» : [الطويل]
وكنت أراني مفلتا شرك الهوى ... فقد صادني سحر العيون النّوافث(12/133)
فلا تعذلوني في غرامي بعدما ... تولّى الصّبا فالعذل أوّل باعث
ولا تبحثوا عن سرّ قلبي فإنّه ... صفا ليس يمضي فيه معول باحث
أرى صبوات الحبّ قد جدّ جدّها ... وقد كان بدو الحبّ مزحة عابث
وقوله «1» : [الطويل]
هي العيس قودا في الأزمة تنفخ ... تمطّى بها من حقوة الرّمل برزخ
فلين الدّجى عن غرّة الصّبح فاغتدت ... بحيث التقى منها وقوف ونوّخ
عليها قطاف المشي أطول خطوها ... مدى الفتر إذ أدنى خطاهنّ فرسخ
بدور أكنّتها خدور يجنّها ... جناح خداريّ من الليل أفتخ
فوشي خدود بالجمال منمنم ... ومسك شعور بالشباب مضمخ
فيا صادحات الورق في الأيك أقصري ... فمالي إذ أشكو ولا لك مصرخ
وقوله «2» : [البسيط]
تالله ما استحسنت من بعد فرقتكم ... عيني سواكم ولا استمتعت بالنّظر
إن كان في الأرض شيء غيركم حسنا ... فإنّ حبّكم غطّى على بصري
وقوله «3» : [الخفيف]
خبرّوها أنّي مرضت فقالت: ... أضنى طارفا شكا أم تليدا
وأشاروا بأن يعودوا سادتي ... فأبت وهي تشتهي أن تعودا
وأتت في خفية وهي تشكو ... ألم الوجد والمزار البعيدا
ورأتني كذا فلم تتمالك ... أن أمالت [عليّ] عطفا وجيدا
«4»(12/134)
وقوله يصف النّجم «1» : [المتقارب]
وليل ترى الشّهب منقضة ... بها نحو مسترق سمعه
كما مدّ من ذهب مدّة ... على لازوردية الرّقعه
8- ومنهم: أبو عليّ، الحسن بن عبد الصمد بن أبي الشّخباء العسقلاني «2» :
* صاحب الخطب المشهورة، والرّسائل المحبرة؛ لسان لا يكفّ له غرب، ولا يكلّ له ضرب، بحسّ ذكيّ كأنه زجاجة فيها نار، وحدس زكي لا يطمس له نار؛ وبينه وبين ابن الجميد مكاتبات، ينشر منها الحلل، وينظر منها ما تحوي الكلل؛ وقفت عليها، وصرّفت النظر فلم أجده ينصرف إلّا إليها؛ وكانت عندي بالخطّ الفاضليّ، وإنّما أذهبته من يديّ النّقل، وأطلقته من حاصلي العقل؛ وكانت بينهما من لطائف الشّتام، ما كان لسالف النّقائض كالختام، بألفاظ عذاب كأنّها نطف الغوادي، وطعم السلامة من يد الأعادي؛ وكان لا يحسن منها إلا عقير مدامة يحسوها، وعاقد راحة على شعاع راحة يكسوها؛ وكانا عجبا، ونيّرين ظهرا، والشمس والقمر قد حجبا.
ومن نثره قوله: أمّا ما افتتحت به من ذكر استحكام الثقة، فقد عجبت من تعاطيه وصف(12/135)
ذلك، مع العلم بوضوح دليله، والمعرفة بكثيره وقليله، وأنى يتجاوز تلك الصّفة وهو ينبوع الوفاء ومنبته، وممكن أسّه ومثبته: [الرجز]
تسكن أحشائي إلى حفاظكم ... سكون أجفاني إلى رقادها
وأما تخلّفه عن الزيارة للعذر الذي نصّه، فقد رأيت ليلتي بغيبته، فكأنّها قرنت بيوم الحساب الأطول، أو علّقت نحومها السيارة بأمراس كتّان إلى صمّ جندل «1» .
ومنه قوله: فارقني مولاي، وخلّفني خلف السهاد، مفترشا شوك القتاد، أتذكر أخلاقه تذكّر الفقير غناه، وابن ذريح لبناه، وامتدّ عليّ رواق الليلة المذكورة، حتّى كأنّ نجومها شدّت بمناكب أبان، وقمرها يسير في فلك كيوان: [من البسيط]
يئست من صبحها حتّى التفتّ إلى ... وجه الظّلام أعزّيه بفقدان
ولم تزل هذه حالي في الوحشة، إلى حين وصول الرّقعة الأثيرية؛ فإنها رقعت هلهلا من الجدل مخلقا، وتركت داويا من المسّرة قصرا مونقا؛ ووقفت عليها، فقلت: أجرى الطّرس سطورا؟ أم زهري منثورا؟ أو نظمت البراعة ألفاظا أدبية؟
أم سلوكا ذهبية؟ وأنا أجيب عنها، ولكن كما يجيب قسّا باقل، وتفاخر السّحب المثقلة جداول؛ لمّا علمت أنّه قد عبث عليّ من وجه صحيح، لقيته مخفوض الجناح، وقابلته بالاستغفار والاستفصاح؛ إذ أنا بحمد الله تعالى ليّن الكنف تحت ظلال المودّة، شديد في هواجر الشّدة: [الطويل](12/136)
جليد على عتب الخطوب إذا التوت ... وليس على عتب الأخلّاء بالجلد
وأما الفصل المختصّ بالحضرة السامية، ووقوع الأمر بحسب ما كان مولاي ذكره، فلم تزل ألمعيته تمده بالرأي الثاقب، وتكشف له ستور العواقب، والله المحمود على ما منح مولاي من صحة النظر الذي يتساوى فيه حاضر من الأمر وغائب، ومستقبل من الخطب وذاهب، وحسن الألمعية التي عناها الأوّل بقوله: [الكامل]
وتصيب مرتجلا بأوّل فكرة ... أعراض كلّ مخمّر ومبيّت
وأمّا الفلانيّان، وما تجدد بينهما في هذا الوقت من الصحبة، وانتسج من المودة، فللمشابهة قضية دائمة الوجوب، وللمشاكلة حوادث تملك حبات القلوب؛ وكلّ نفس بعادتها صبّة، وإلى ما يلائم طباعها منصبة؛ النملة تفرح بالبرّة، أكثر من فرحها بالدّرة؛ والضّيون يرى القذاريّة، خيرا من اللّطيمة الدارية؛ ومولاي يخالفهما بصحّة ميثاقه، وكرم أخلاقه، ودماثة طبعه، وصلابة نبعه، وطيب أصله وفرعه؛ فلا غرو أن يجهدا في نقض دمرته «1» ، ويرغبا عن الاختلاط بحضرته: [السريع]
لا تنظري صدّي ولا مقتي ... ما أنت من حربي ولا سلمي
وأما سؤاله عن قائل البيتين المنظومين، وهما «2» : [مجزوء الكامل]
ويقودني لوصاله ... خرس الهوى قلق الوشاح
ينآد كالغصن النّضي ... ر بمثله عبث الرّياح
فقد فتح لي هذا السؤال بابا عرفت أنّ مولاي قد أعطى فلانا مقوده، ومدّ إلى(12/137)
مغازلته يده، ولزم مضجعه، وتوفّر على الخلوات معه؛ فقلت: خبر يحتمل الصّدق والمين، ووقفت حائرا بين هذين، حتى عرفت اشتهار ذلك؛ وأنّ الأخ غضب منذ أيام قليلة، وبات في القرافة «1» بأسوإ ليلة، فلم أدر كيف أعتب مولاي وألوم، ولا كيف أقعد في التّأنيب له وأقوم؛ وهو الحياء الذي إذا انثلم فقد انهدم، وإذا تصدّع فقد ذهب أجمع، والمعيشة التي من المروءة حفظ موادّها، وصلاح فسادها، ومع ذلك فالبيتان المذكوران لعبد الصمد [بن] المعذّل، في كلمة يقول فيها «2» : [مجزوء الكامل]
هتفت به نذر المشي ... ب فغضّ من غرب الجماح
هيهات ملت إلى النّهى ... وأجبت داعية الفلاح
وجعلت من ورد التّقى ... كأس اغتباقي واصطباحي
وقد كان مولاي باستحسان هذه الأبيات أليق، وهي بصفته أعبق؛ وكأني به إذا بلغ إلى هذا الفصل من الرّقعة، أنشد قول الخطيم بن محرز «3» : [الطويل]
وما لا مني في حبّ عزّة لائم ... من النّاس إلّا كان عندي من العدى
ولا قال لي: أحسنت إلّا حمدته ... بما قال لي ثمّ اتّخذت له يدا
ولا أتعدّى هذا الحد حرفا «4» ، أن أجني ذنبا عظيما، وأولم قلبا بشهادة لله عليّ كريما.
ومنه قوله:(12/138)
وأما الفصل الأخير، فأعلم والله أنّه صدر عمن احتسى من كأس المساهمة، وجلّيت لي بودّه وجوه الدّهر السّاهمة؛ وأنا أؤمل بفضل الله تعالى أن يقع من غير إرهاب، وتتواصل لديّ بغير حساب، حفظا للعادة التي حكم بها كرمه، وتمت معها عندي آلاؤه ونعمه.
ومن شعره قوله: [الكامل]
ألقى بكفّي جذوة في درّة ... واللّيل يخطر في هلاهل أزره
«1»
أخت النّجوم تشعشعا وولادة ... سرقت محاسن وصفه في سكره
فضرامها من خدّه، وحياتها ... من ثغره، ونسيمها من نشره
وممّا أورد له ابن بسّام قوله «2» : [الكامل]
ما زال يختار الزّمان ملوكه ... حتّى أصاب المصطفى المتخيّرا
«3»
قل للألى ساسوا الورى وتقدّموا ... قدما: هلمّوا شاهدوا المتأخّرا
إن كان رأي شاوره أحنفا ... أو كان بأس نازلوه عنترا
ولقد تخوّفك العدوّ بجهده ... لو كان يقدر أن يردّ مقدّرا
إن أنت لم تبعث إليه ضمّرا ... جردا بعثت إليه كيدا مضمرا
تسري وما حملت رجال أبيضا ... فيه ولا ادّرعت كماة أسمرا
خطروا إليك فخاطروا بنفوسهم ... وأمرت سيفك فيهم أن يخطرا
عجبوا لحلمك أن تحوّل سطوة ... وزلال خلقك كيف عاد مكدّرا
لا تعجبوا من رقّة وقساوة ... فالنّار تقدح في قضيب أخضرا
ومنه قوله:(12/139)
ولمّا كان الثناء أحسن ما تدار عليه الكؤوس، وتنقش له الأقلام في الطّروس، وجب أن يطلق في هذه الحلبة الأرسان، ويستخدم في أداء فرضها اللّسان.
9- ومنهم: القاضي الفاضل: [السريع]
وليس لله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
«1» هو منهم، لا بل هم منه؛ وكلّ ما قيل في محاسن من تقدّم، فإنّما هو عنه «2» : [الطويل]
وإن جرت الألفاظ يوما بمدحة ... لغيرك إنسانا فأنت الذي نعني
وهو: الفاضل محيي الدّين، أبو عليّ، عبد الرّحيم بن الأشرف أبي الحسن عليّ ابن الحسن [بن الحسن] بن أحمد بن الفرج «3» ، اللّخميّ، العسقلاني المولد، عرف بالبيساني «4»
* كان سلفه من بيسان «5» ، وولي أبوه قضاء القضاة والخطابة بعسقلان،(12/140)
واستخدم شاور «1» القاضي الفاضل في ديوان المكاتبات مع الموفق ابن الخلال «2» .
ومولده يوم الاثنين، خامس عشر جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين وخمسمئة. هو والله البحر الزّاخر، والبرّ الذي ما سلك طريقه أول ولا آخر، وما مثله هو ومن تقدمه إلّا مثل النّجوم طلع عليها الصّباح، والكروم أوّلها زرجون وآخرها راح؛ بل الحدائد قبل تطبيق الصّفاح، والموارد قبل تصفيق الرّياح، تقدّموا قدّامه وغرقوا في سيله، وخلقوا قبله وجاؤوا في ذيله؛ وكلّ وصف قلت في غيره، فإنّه تجربة الخاطر، هو أكثر من كل قول، وأكبر من مقدار كل طول.
لقد صادف هذا الاسم منه الاستحقاق، لفضائله التي تبلجت تبلّج الصّباح في الآفاق؛ لقد وطّد ملك الدّولة بآرائه، جمع السّيوف والأقلام تحت لوائه؛ وكان يناضل بجلادة عن حماها؛ يرتشف الزّلال من رتق قلمه، وتلتحف الظّلال بسحب نعمه؛ وله في الإنشاء تفنّن، منه ما يروع الخيل صهيلا، ومنه ما يروق عذبا سلسبيلا؛ يفتّ العنبر على سطوره، ويفوت الجوهر طلّ منثوره؛ تعقد رسائله راحا براح، وجنى جنّاته بجنى تفّاح، وتلتقط في مهارقه بنفسج من أقاح؛ أطرب من مناجاة النّدام، وأطيب من معاطاة المدام؛ طالما كتب جمانا، وكبت أغصانا، ولان فاجتنى عسلا، وقسي فانبرى أسلا، يسجع كالحمام، ويصرع كالحمام، وقد سطّرت بحسناته الصّحف، وصوّرت من حسانه ذوات القلائد والشّنف؛ وطرق النّجد والوادي، ونطق به المدّاح والحادي، وحاضر به الحاضر والبادي، وسامر به السّامر وترنم الشّادي؛ وغادر له الأرض مذهبا مذهبا، وغادى الغوادي مصوّبا مصوّبا، وسار مقرّبا، مقرّبا وصار للمشرق مشرّقا(12/141)
وللمغرب مغرّبا.
فأما ما يؤثر عن أقلامه، فهو النّافث للسّحر في عقدها، والمنوّر للأبصار بكحل إثمدها؛ فضح الزهر بكلمه، وفتح الأقاليم بقلمه، وكتب فيما لا يعقبه ندم، وبارى قلمه السّيوف، ففعل أكثر منها ولم يتلطخ بدم؛ كم نكّس رماح الكفر فقصم أصلابها، وفصم أسبابها، وغزاها بأسطره ففلّ جيوشها، وثلّ عروشها، وحطّ صلبانها، وحطّم فرسانها، وأعاد بيعها مساجد، وصوامعها معابد، وبدّل الكفر بالإيمان، وأسكت النّاقوس للأذان، وعزّل مكان الإنجيل للقرآن، وقسى على القساقسة «1» وأرهب الرّهبان؛ وكاتب الخلافة، فكانت سطوره حلية شعارها، وسواد مداده سؤدد فخارها، وتأخّر السّهم وتقدّم، وخرس مجاوبه فلمّا كلّمه تكلّم؛ وحضر مواقف الحرب، فكان فارسها البطل، ورأيه سيفه الضّارب، ومواضع الحصار، وكان منجنيقه الرّامي، ويراعه سهمه الصّائب، وكان هو المحرك للعزائم النّوريّة «2» على تطهير مصر من دنس أولئك الضّلّال «3» ، ودرن تلك الأيام اللّيال، بل كانت أشد من اللّيالي، لتراكم ظلام تلك البدع، وتفاقم ضلال ذلك الدّين المبتدع.
ولقد كان وهو في ديوان تلك الدّولة يتحرّق على كشف بدعها، وكف شنعها، وكرّ جنود الله على شيعها؛ ووقفت على قصيدة كتبها إلى الشّهيد نور الدّين ابن زنكي رحمه الله، يقول فيها «4» : [الطويل]
وما بعد مصر للغنى متطلّب ... وما بعد هذا المال مال فيكتسب(12/142)
ولو أنّه في البأس يمضي أو النّدى ... لهان ولكن في المغاني وفي الطّرب
وكانت الأجوبة النوريّة ترد عليها، فيرى بها في تلك الظّلمات نورا، ويرتّب على مقتضاها أمورا؛ ثم كانت دخول العساكر الأسدية «1» إلى مصر، باستدعاء شاور في المرّتين وفي الثّانية استقرّت قدمها، واستمرت والأيام خدمها، وهنالك علا النّجم الفاضليّ وسعد جدّه، وصال والسيوف جنده؛ وعلى ذكره ذكرت شعرا كنت قلته، جاء «2» فيه ذكره استطرادا، وهو: [السريع]
أتى بها السّاقي فيا مرحبا ... إذ جاء بالمحمول والحامل
«3»
ببابليّ اللّحظ قد زارنا ... بقهوة صفراء من بابل
«4»
مدامة ما عتّقت حقبة ... إلّا من العام إلى قابل
صاغ من الدّير لإبريقها ... قلائدا من ذهب سائل
وطوّقت في المرج تيجانها ... بلؤلؤ في كأسها جائل
كأنّها ممزوجة لونه ... مغيّرا من خيفة العاذل
تأخذ منّا كلّنا ثأرها ... ومالها إلّا على القاتل
رقّت فقلنا: إنّها ريقه ... في الكأس أو من خصره النّاحل
دقيقة المعنى على [ ... ] ... ألحاظه أو صنعة الفاضل
«5» ولمّا آثر العاضد إقامة أسد الدّين شيركوه عنده، وهو إذ ذاك مقدّم الجيوش النّورية المجهزة إليه، كتب الفاضل عنه إلى نور الدين كتابا، وقفت عليه بخطّه ومنه نقلت، ومضمونه:(12/143)
من عبد الله ووليّه عبد الله الإمام العاضد لدين الله أمير المؤمنين، إلى الملك العادل، المعظم، الزّاهد المجاهد، المؤيّد، المنصور، المظفّر، نور الدّين، ركن الإسلام والمسلمين، عمدة الموحّدين، قسيم الدولة، مجير الأمة، عضد الملّة، حافظ الثّغور، غياث الجمهور، قامع الملحدين، قاهر المشركين، خالصة أمير المؤمنين؛ رفع الله به منار الدين، وأعلى بعزائمه رايات الموحدين، وأحسن توفيقه في خدمة أمير المؤمنين:
سلام عليك؛ فإنّ أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلّي على جدّه محمد صلّى الله عليه وعلى آله الطّاهرين، الأئمة المهديين، وسلّم تسليما؛ أما بعد:
فإنّه عرضت بحضرة أمير المومنين مكاتبتك التي أديت بها واجب حقه، وقمت بمفترضه، وصدرت عن قلب شفاه الدّين بهديه، من داء الضّلال ومرضه، وتؤمّلت بمقرّ جلاله ومحلّ أمانته، التي منح الله بها الدين مزية إكماله؛ فصرف إليها أمير المؤمنين سمع الإصغاء وطرفه، وعرف منها أرج الولاء الصادق وعرفه، ووقف عليك من لطيف ملاحظاته ما يديم النعم، وأهدى إليك من شريف دعواته ما إذا حصل لك جمع المسلمين عمّ.
فأما تلقيك أوامره بالامتثال، وإنابتك عن العزم الذي ضربت به الأمثال، وأضربت عنه الأمثال، وتجريدك العساكر التي شدّت من الموحّدين، وشادت مباني الدين، ونكص العدو بخبرها قبل نظرها، وانصرف عن بلاد الإسلام بأخزى خجله وأظهرها، وتقديمك عليها من ارتضاه أمير المؤمنين لارتضائك، وانتضاه في يد الحقّ تيمنا بانتضائك، وأمضى عزمه في تقليد ملكه إذ علم أن عزمه مشتق من مضائك، فقد شكر الله وأمير المؤمنين لك- أيّها الملك العادل-(12/144)
هذا الأثر، وذخر لك منه حسنة لم تبسم عن مثلها ثغور الصّحائف والسّير، وميزك على ملوك الشّرق والغرب بفضل هذا النظر؛ ونصرت الدين الحنيف، والبيت الشّريف، وعند مآثرك الحسنى نشهد بها فتغني عن الإيضاح والتعريف، وهدمت الباطل حين أرست خيامه، وثبّتّ الحقّ حين هفت أعلامه، واخترت لخدمة أمير المؤمنين من هو مكان الاختيار وفوقه، وحمّلت العبء الثقيل من يستقلّ به ويحمل أوقه، وقلدت الأمر الجليل من لا يعجز قدرته وطوقه؛ ووردوا إلى الفناء النّبويّ بيض الوجوه بنصر واضح، شمّ الأنوف بتفريج غمّة «1» الخطب الكالح، جذلى القلوب بصفقة العمل الرّابح الصّالح، ظاهرة عليهم آثار آدابك الحسنى، بادية فيهم أنوار صوابك الذي ليس فيه مستثنى لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ، وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ، وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ
«2» وقد كانت جنايات من تقدم نظره «3» ، عظمت عن الاحتمال، وتجاوزت إلى الدّين بعد أن تجاوزت المال، وظهرت أمارات استنصاره بمن استنصر به بالأمس، وتعويله على ما نزّه الله أمير المؤمنين أن يكون به راضي اللّسان والنفس، لأن الله استخلفه لاستقامة كلمة جدّه، واكتفى بهديه وهدي آله عن أن يقفّى برسول من بعده، وحينئذ بدت للمشار إليه سوءاته، وأحاطت به خطيئاته، وقصّرت في مجال الحياة خطواته، ولقي عن كثب حتفه، وأصبح نكالا لما بين يديه وما خلفه؛ فهنالك أجمع أمير المؤمنين والمؤمنون على تقليد السّيّد الأجلّ، الملك المنصور وليّ الأئمة محيي الأمة، سلطان الجيوش، أسد الدّين، كافل قضاة المسلمين، وهادي دعاة المؤمنين، أبي الحارث شيركوه العاضدي، عضد الله به الدّين، وأمتع(12/145)
بطول بقائه أمير المؤمنين، وأدام قدرته، وأعلى كلمته، أمر وزارته، وناط به أمانة سفارته، وأطلق يده بسيف الجهاد، وقلم الاجتهاد، وتدبير ما تحويه المملكة الفاطميّة من البلاد، وكفّله أمر خدمته التي استحقها بارتياد الرشاد، ورأى أن يكبت عدوّ الدين باصطفائه، ويكف عادية الشرك باستكفائه؛ واختار لتقدّمه عساكره، من اخترته أيّها الملك العادل لتقدّمه عساكرك، واستهدى منك هذه الجوهرة المعدومة من جواهرك، واستنزلك عن هذه الذّخيرة المصونة من ذخائرك، وآثر أن تؤثر به دولته التي تعدّ نصرتها من مآثرك؛ ولثقة أمير المؤمنين أنك تسمح له بكرائم لا يجود بها إلا من كان كريما، وتقسم بينك وبينه النجدة التي دعي بها والدك الشهيد رحمة الله عليه للدولة قسيما «1» ، أمضى هذا الرأي لمّا وضح صوابه، وانتهز فرصة هذا التوفيق لما فتح بابه، ورآه القويّ الأمين فاستأجره للإسلام وأهله، ومدّ عليهم ما كانت أعينهم ممدودة إليه من ظل عدله؛ ولما تمسك به المسلمون، لم يغلّ منه أيديهم المشدودة عليه؛ ولما اغتبط به أهل الدين، لم يصرفهم عمّا هداهم الحظّ إليه، وأمره أن يعدّ لحرب الفرنج عدّته، ويأخذ لغزوهم أهبته، ويطلبهم برا وبحرا، ويوسع لقتالهم درعا وصدرا، ويديل الإسلام من هدنة تظلّم منها إلى الله سرا وجهرا؛ وحرت «2» وأمير المؤمنين يراها مصابا يحتسب فيه عند الله جزاء، وعهد إليه أن يعمّر الأساطيل التي تقطع عن العدّ والإمداد، ويعمر سجون الدولة بالكافرين مقرّنين في الأصفاد، وأن يسكن المدن التي جنى عليها التدبير العاجز، ويثقل المعاقل التي كانت خالية المراكز؛ لتكون أيّها الملك العادل من وراء هذا العدو الكافر مستأصلا، ويكون وزير أمير المؤمنين للغارات عليه والغزوات إليه مواصلا، فيقطع في الشرك سيف الله(12/146)
بحديه، ويميس الإسلام في نضرة برديه، ويبطش الحقّ في أعدائه بكلتا يديه، وغير بعيد من معونة الله أن تخفق على البيت المقدس رايات الدّولة الفاطمية، وراياتك التي تعدّ من راياتها، وتوجف عليها خيولها وخيولك التي النّصر أحد غرورها وشياتها، ونأخذ للملّة الحنيفية بطوائلها من طغاة الكفر وبغاتها، ويجري الله الدولة العلوية في النّصرة العلوية على ميراتها وعاداتها؛ فمن الآن قيل للونيّة: اذهبي، ونادى الإسلام: يا خيل الله اركبي، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ
«1» وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ
«2» .
وأمير المؤمنين يؤثر أن تؤثر دولته بهذا السّيد الأجل لتكون أيها الملك قد نصرته نصرا دائما، وقضيت من طاعته فرضا لازما، وسررته غائبا بحاضر، ووكلت بخدمته من ينوب عنك في النّصر المتظاهر، وأن تكاتبه بإلزامه بمقامه، وتهديه إلى دولته التي اغتبطت باستخدامه، وتهوّن عليه روعة فراقك؛ فإنّها ملفتة وجهه إلى شامه، وتسليه بثواب طاعة أمير المؤمنين التي فرضها الله بصريح كلامه، وتبعثه على ارتباط عدة من عسكرك المسير معه؛ يعاضد عساكر الدولة العاضديّة، وتزداد بها القوّة، وتتضاعف الحمية.
ولولا ما منيت به البلاد من تعاقب جوائح الجدب، وتناوب قوادح الحرب، وارتفاع الأسعار وعلوه، او عزة الأقوات وغلوها، لاستزدنا قوّة إلى هذه القوّة من عساكرك المؤيدة، ولما رأينا إعادة أحد منهم، بل بذلنا لهم الإقامة المؤبدة، ولكن إقامة من تحمله البلاد وتتسع له الموادّ، ويؤدى به ما فرضه الله سبحانه من الجهاد، مما تنتظم به بمشيئة الله الميامن والمناجح، وتقرّ أعين المسلمين بما يقضيه ويقتضيه من المنافع والمصالح، ويؤدى به ما يجب لله ولرسوله في خلقه من(12/147)
الحقوق والنصائح، ويستكمل به ما ابتذلته من العمل الصالح.
والله سبحانه يمدّك أيّها الملك العادل، المعظم، الزّاهد، المجاهد، المؤيد، المنصور، المظفّر، نور الدين، ركن الإسلام والمسلمين، بمزيد نصره، ويحوطك بمعقّبات من أمره، ويجعلك ممن أخلص له في سره وجهره، ويحسن عن أمير المؤمنين مجازاتك، ويديم لدولته ذبّك عن حوزتها ومحاماتك.
فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
وكتب لثلاث بقين من شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين وخمسمئة.
والعلامة بين سطريه الأولين بالخطّ العاضديّ «الله ربّي» .
فعاد الجواب النّوريّ على العاضد بامتثال ما أمر، وتكفل أسد أسد الدّين بحماية غيله واستمر، وكان ابن أخيه صلاح الدّين قد قتل شاور، وقال الفاضل:
قتل شاور وما شاور؛ قلت: وشاور وما شاور؟ وكتب بالخطّ الفاضلي عهد أسد الدين شيركوه بالوزارة، ولقّب الملك المنصور، وكتب عليه العاضد بخطّه «1» : هذا عهد لا عهد لوزير بمثله، وتقليد طوق أمانة رآك الله وأمير المؤمنين أهلا لحمله، والحجّة عليك عند الله تعالى بما أوضحه لك من مراشد سبله؛ فخذ كتاب أمير المؤمنين بقوة، واسحب ذيل الفخار بأن خدمتك اعتزّت بأن اعتزت إلى بنوة النبوّة، واتخذ أمير المؤمنين للفوز سبيلا، وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا
«2» .
ثم واتت أسد الدين منيته، وعاجله أجله، وولي ابن أخيه صلاح الدّين.(12/148)
وكتب عهده بالخطّ الفاضليّ، ولقب الملك النّاصر، وكتب عليه العاضد بخطّه «1» :
هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجته عند الله عليك، فأوف بعهدك ويمينك، وخذ كتاب أمير المؤمنين ناهضا بيمينك، ولمن قضى بجدّنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن أسوة، ولمن بقي بتقلبنا أعظم سلوة، تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ
«2» .
ثم كان الفاضل رحمه الله، هو الدولة الصّلاحية؛ كان كاتبها، ووزيرها، وصاحبها، ومشيرها، والحامل لكلّها، والحاكم في كلّها، والمجمرّ لبعوثها، والمتزر عند إقعاء ليوثها، والدائرة به مناطق بنيها، والسّائرة به شموس أيامها وبدور لياليها؛ فلهذا أذعنت لقلمه الرّماح، وطلبت صلح كلمه الصّفاح، وانقضت تلك الأيام وما فيها إلا بكر عشايا أو غرر صباح، ومع هذا كله كان لا يزال منكدا مبتلى، بضنى «3» قلبه وجسمه، ومرض همه وسقمه؛ يذكر هذا في كتبه وترسّلاته، وشكواه إلى إخوانه وأخدانه، ومما كتب في ذلك:
ولا يسأل سيدنا عن خاطر تزدحم فيه الأخطار، وعن ضلوع تسرح على النّار، وقلت: قد عدم الصّفاء في دار الأكدار، وجسم قد قارب أن يخلع المعار من الأعمار؛ ولقد دبّ الفناء فيّ عضوا عضوا، وأخذني الزمان جزءا جزءا، فكلّ يوم يذهب مني شيىء بعد شيء، ويكثر شبهي بالميت فيبعد عن الحي، ونعوذ بالله من نار غضبه، فإن آخر المخالط الكيّ.(12/149)
قلت: ولهذا كان لا يتكلف مع السلطان سفرا في كل مرة، وإنّما كان العماد ينوب عنه؛ فإذا سافر كان هو المساير للسلطان إذا ركب، والمسامر إذا جلس، وكان إذا تأخر عن السلطان في بلد ناب عنه فيه، أو كان ردءا لمن ينوب من إخوة السّلطان وبنيه، ويكون هو القائم بالملك، القائل بالحياة والهلك.
ومما بلغ من سلطانه، ما حدّثني به أبو المحاسن بن عبد الله الكاتب المصريّ، قال: سمعت محيي الدين بن عبد الظّاهر، يحكي عن ابن قريش: أن الفاضل صحب السّلطان مرة في سفر، فنزلوا منزلا رخو الأرض كثير الطّين، وتوالى به المطر، وتعذّر السّلوك بين خيمة السّلطان وخيمة الفاضل، إلّا على من يسلكه بمشقة، فأمر السّلطان بنقل خيمته، وأن تضرب إلى جنب خيمة الفاضل، ويفتح بينهما باب حتى لا يقطع بينهما الوحل، ولا ينزعج الفاضل عن مستقره؛ وكان إذا غاب عن السّلطان تكاتبا، وبينهما مترجم بقلم توافقا على المصطلح عليه، فكانا يتكاتبان به ويتخاطبان على بعد الدّار بلسانه.
وكان القاضي الفاضل يكتب إلى سلطانه، ويشفع فيما يريد، كما يشفع الصّاحب إلى صاحبه، والصّديق إلى صديقه؛ وكان يسلّم في كتبه التي يكتبها إلى السّلطان على من أراد من أولاد السّلطان أو إخوته.
ووقفت له من ذلك على كتب كثيرة، منها ما هو بخطّ يده، ورأيت في بعضها أجوبة السلطان، وفي بعضها حروف المترجم بخطّ الفاضل، وخطّ السّلطان بإزائه.
ورأيت كتابا كتبه إلى السّلطان، وسلّم فيه على ولده الملك العزيز عثمان، وقال فيه:
والملك العزيز- أعز الله الدّين بجهاده- بين يدي المولى، مخصوص بتحية(12/150)
يفضّ لديه ختامها، ويخصّ وفور الشوق غرامها «1» : [الكامل]
بتحيّة قد جئت فيها أوّلا ... ومن اقتفاها كان بعدي الثّاني
تهدى لذي النّورين لا تخطي الضّحى ... تسري ركائبها إلى عثمان
ورسولي السّلطان في إبلاغها ... والنّاس رسلهم إلى السّلطان
* وأما ما يدلّ على شيء من حال أوله: فوقفت بخطه على ما صورته:
كانت بين والدي رحمه الله وبين المرتضى الطرابلسي متولي الدّيوان بعسقلان، هنات ارتضعا أفاويقها، ولزما مواثيقها، فصحبا بها الأعمار، وحكّما فيها الأغمار، فكانت حربها سجالا، وأيامها أحوالا، إلى أن قضى الله سبحانه أن سبقه والدي إلى الحمام، وفرغت منه قبله الأيام؛ فقال لي رحمه الله وقد انقطع الحبل من يده، وعلم أنّ يومه لا يدفعه إلى غده: ما أرى فلانا إلّا سيوفيك ما أسلفته، ويقضيك الوعد الذي أخلفته؛ فقلت: أرى أن يكاتب بكتاب، تثبت فيه بخطك أسطرا، وتحلب فيه من الوعظ أشطرا، وتجعله كالوصية؛ فإن الذي بينكما من العداوة، قد أشبه المودّة لطول المدّة؛ فقال: هيهات، عناء ما وراءه غناء، ورقّة لا تحلّ بها ربقة، ولو أفردت الله تعالى بقصدك لكفاك، وأنت وذاك؛ فمثّل لي هذه المعاني والأقفال، وكان الحال في عدم النفع على ما قال.
والرسالة «2» : [الطويل]
ونم بعد أخذ الثّأر عنّي فطالما ... قطعت بي الدّنيا وأنت مسهّد
كتب العبد هذه الجملة- جعل الله لحضرة سيدنا البقاء الذي لا يحلّ الغير(12/151)
ساحته، والأمد الذي لا يحصر العدد مساحته- وقد تقدّمها إلى محلّ المحاكمة، وجثا قبلها في موقف المخاصمة، ورفع الظّلامة إلى من لا يجوز عليه ولا منه الأحكام الظالمة، وأسمع داعي الرّحيل شفاها، ونأت به الدّار وشطّت نواها، ووضعت الآمال من يده عصا سراها، واستردّت الأيّام ما فرقته في جملة، وأشرفت به على مورد يطول بوارده النّهلة؛ وحسن الظن بالله تعالى قد وطّأ تحت جنبه مهادا، وآنسه عند النزول بلحده فرادى، وما سوى ذلك فمتى أخذ ضيف الكريم زادا؛ والحمد لله الذي نقل عبده من دار فناء إلى دار بقاء، ومن محلّ حجبه إلى محلّ لقاء، ومن الإقامة مع مسيء يخاف جوانبه، إلى القدوم على محسن ترجى مواهبه؛ وقد كان حكم القضاء سبق، وسهم القدر مرق، بتلك الهنات التي نال فيها ونيل منه، والأغراض التي حامت عنها وحميت عنه، والدّهر فيها يومان، والحرب بها طعمان، فيوم يكون له متحمل فيكون ظفره مشبها بالهزيمة، ويوم يكون عليه متحمل فيكون هزيمته مشبهة بالغنيمة؛ هذا وقد كانت هذه الحضرة- وطاعتها تعصيها- تكثر الجراح، وتناول يدها عنان الجماح، ويبقى لإيلامها فيه آثار الصّفاح، فما مات حتّى ماتت حقوقها، واعتلّ من طول الضراب حديدها، وقد بقي بعد أن رأت بعده، وتجاوزت في الحياة حدّه، أمران هما آخر رتبة اللّوم، وأقصى غاية الملوم، وهي الشماتة، وتلك خديعة الطبع العاجز، وطبيعة الخرق الخانز «1» ، وبديعة لا يركبها من مركبه الجنائز؛ وما لجرح بميت إيلام «2» ، وتلك سبيل لست فيها بأوحد «3» ؛ والأخرى(12/152)
تتبّع الخلف بجناية السلف، وأخذ الوارث بجزيرة المورّث، وهذه محافظة في العداوة، ومطاوعة على القساوة، فيها لحكم الله ردّ ظاهر، وجرأة عليه تعجل عقبى الجائر، وسوء مقدرة لا تبعد أن يغضب لها القادر، واستئناف حرب خاسرها الرابح ومخذولها الظّافر؛ وقد أكثر الناس المدح لحفظ موات الأموات، ومصافاة أهل العظام والرّفات؛ فإمّا المكافاة وهم في كفاة اللّحود، أو المظاهرة بالعداوة لهم وهم في ضمائر القبور رقود؛ فما عهد مهده البدعة قائم، ولا على هذه الشرعة حائم، وحوشيت من أن تحشر من بين الأمة أمة وحدها، وتطيع العصبية فتجاوز سمت المروءة وتتعدّى حدّها.
هذا وقد استفتحت الخطاب ببيت، إن ألمّ بما ألمّ به في معناه، فإنه لا يريد أن يتبعه بما يشيد مبناه، وهو أنها رأت في صحائف التجارب وتواريخ الأعاجيب، أنه قل ما تقاول فحلان، وتصاول بطلان، إلا استويا في الدنيا النصيبين، وكانا إلى منهال من وردهما قريبين، وكان سابقهما طليعة التالي، وأولهما مقدّمة الثّاني؛ وإذا كان الله قد أفردها بمدّ طلق البقاء، وخلّفها لينظر كيف تعمل فيما أمتعها به من النّعماء، فالأولى أن تحفظ عبدها في أيتامه، وتخلف عليهم ما غرمه في أيامه، وتصون مخلّفيه من هتك الأستار، وحطّ الأقدار، وتشفي من لا خلاق له من الأشرار، وتعطيهم بما أطال الله من ذيول أنوائها، وتحتسب بالحسنة فيهم مع ما كثر الله من ذخائر ثوابها، ولا يزعج مخلّفوهم بالشكوى إليه في الدّار التي ثوى بها، فإنّها بحيث ترفع الظّلامة إلى قريب، من مكان قريب، وإن سمع الميت ولم يجب فإن الله يسمع ويجيب: [الطويل]
تقصّى الذي قد كان بالأمس بيننا ... وأسكتني دهري فهل يسكت الدهر
وهو يحلّها من كل ما ارتكبت فيه، وأطاعته من موارد الأوهام إن حفظت(12/153)
وصية الله تعالى السابقة لوصيته في هؤلاء الأيتام؛ فأما إن أتبعت القادحة بالقادحة، وأشبهت اللّيلة بالبارحة، فالحساب يبقى عليها مدة بقائها بعده، ويفضل به عندها ما لا تجد فضله عنده، لانقطاع عمله واتصال عملها، وإغضاء طوله وامتداد طولها، وعند الله تجتمع الخصوم «1» ، ويضرب على يد الظلوم قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ
«2» .
* وأما نثره فمنه قوله: وقد كان يقال: إن الذهب الإبريز لا تدخل عليه آفة، وأن يد الدهر البخيلة عنه كافة، وأنتم- يا بني أيوب- أيديكم آفة لا تقايس الأموال، كما أن سيوفكم آفة تقوس الأبطال، فلو ملكتم الدّهر لأمطيتم لياليه أداهم، وقلدتم أيامه صوارم، ووهبتم شموسه وبدوره دنانير ودراهم؛ وأوقاتكم أعراس، وكان بما تم فيها على الأموال مآتم؛ والجود خاتم في أيديكم، ونقش حاتم في نقش ذلك الخاتم.
ومنه قوله: أدام الله أيام الديوان العزيز ممهدة لمن رضيت «3» عنه درجات الجنة، منتثرة على من سخطت عليه كواكب الأسنة، مغرقة لمن يغرق في طاعتها بحار الأعنة، مبشرة النفس المتطامنة لولائها بأنها النفس المطمئنة، وأسبغ نعمه فإنّ النعم في ضمنها، وملأ الآمال بمنّها، وأفاض أنوارها التي قد علم قرن الشمس أنه غير قرنها، وأمضى سيوفها التي تعرب فيغرق ضمير النصر في لحنها، وأعلى آراءها التي تلتقي العداة بدرع يقينها، وتلقى الغيوب بسهم ظنها، ولا برحت راياتها(12/154)
سويداوات قلوب العساكر، وأجنحة الدّعاء المحلّق إلى السماء من أفق المنابر.
ومنه قوله: سرنا وروضة السماء فيها من الزهر زهر، ومن المجرة نهر، والليل كالبنفسج تخلله من النجوم أقاح، أو كالريح شمله من الرّمح جراح، والكواكب سائرات المواكب لا معرّس لها دون الصبّاح، وسهيل كالظمآن تدلّى إلى الأرض ليشرب، أو الكريم أنف من المقام بدار الذّلّ فتغرب، فكأنه قبس تتلاعب به الرياح، أو زينة قدمها بين يدي الصباح، أو ناظر يغمضه الغيظ ويفتحه، أو مغنى يغمصه «1»
الحسن ثم يشرحه، أو صديق لجماعة الكواكب مغاضب، أو رقيب على المواكب مواظب، أو فارس يحمل على الأعقاب، أو داع به إليه وقد شردت عن الأصحاب؛ والجوزاء كالسّرادق المضروب أو الهودج المنصوب، أو الشجرة المنورة، أو الحبر المصورة؛ والثّريا قد همّ عنقودها أن يتدلّى، وجيش الليل قد همّ أن يتولّى.
ومنه قوله: وأما النيل فقد ملأ البقاع، وانتقل من الإصبع إلى الذراع، فكأنما غار على الأرض فغطّاها، وأغار عليها فاستقعدها وما تخطّاها، فما يوجد بمصر قاطع طريق سواه، ولا مرغوب مرهوب إلّا إياه.
ومنه قوله في جواب كتاب بعثه العماد الكاتب «2» في ورق أحمر، فقطعت العرب الطريق على حامله وأخذوه، ثم أعادوه:
ووصل منها كتاب بآخر جرابه، لأن العرب قطعوا طريقه، وعقّوا عقيقه، ثم أعادوه وما استطاعت أيديهم أن تقبض جمره، ولا ألبابهم أن تسيغ خمره، ولا(12/155)
سيوفهم أن تكنس يتيمته، ولا عراضهم أن تأخذ لطيمته؛ فقطف ورده من شوك أيديهم، وحيا حياه الذي جلّ عن واديهم، وحضر منه حاضر الفضل الذي ما كان الله ليعذبهم بالغربة في بواديهم، وتشرف منه بعقيلة الأنس التي ما كان الله ليمتحنها بقتل واديهم، وسألته: بأي ذنب قتلت؟ وأيّ شفاعة فيك قبلت؟
فقال: عرفت الأعراب بضاعتها من الفصاحة، وتناجدت أهل نجد فكلّ صاح: يا صباحه، وقالوا هذه حقائقنا السحرية، وهذه حقائبنا الشّحريّة، وهذه عقائدنا السّرية محمولة، وهذه مواريث قيسنا وقسّنا المأمولة، فقيل لهم: إنّ الفصاحة تنتقل عن الأنساب، وإنّ العلم يناله فرسان فارس ولو كان في السحاب «1» ، فدعوا عنكم ثمرا علق بشجراته، واتركوا نهبا صيح في حجراته، وأنّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم؛ ثم لممته على الشعث، وأحللت به بعد الإحرام، فاستباح الطّيب وحاشاه من الرّفث.
ومنه قوله: والأسر ذلّ ما بعده عزة، وأثر السلسلة يمنع معاطف الهزّة، والملسوع يفزع من الحبل، والجريح يعلم أن الجرح باب القتل.
ومنه قوله: وقد طيّب لمماليكه الحياة في إنعامه، وهوّن عليهم الممات لثقة كل منهم باهتمامه بأيتامه؛ فالوارث يرث من أبيه النّسب، ومن كرم مولانا النشب.
ومنه قوله:(12/156)
وبوّرت رماح نصلها الطّعن، فكأنها غصون قطعت أزهارها؛ ويغادر غدران الدماء فكأنها رياض عطفت أنهارها.
وقوله من رسالة يصف آمد «1» : وآمد ذكرها من العالم متعالم، وطالما صادم جانبها من تقادم، فرجع عنها مقروعا أنفه وإن كان فحلا، وفرّ عنها فريدا بهمه وإن استصحب خيلا ورجلا؛ ورأى حجرها فقدّر أنه لا يفك له حجر، وسوادها فظن أنه لا يفسخه فجر، وحميّة أنف أنفتها فاعتقد أنه لا يستجيب لزجر من ملوك كلهم قد طوى صدره على الغليل إلى موردها، ووقف وقفة المحب السائل فلم يفز بما أملّ من سؤال معهدها.
وله من أخرى يصفها: وهي العقيلة التي صدر الصّدر الأول محلأ عن ورودها، والخريدة التي حصل منها على راحة يأسه وتعب طردها؛ والمحجّبة التي كشفت ستورها، ودار لعصمتها كسوار معصمها سورها، وغلت على أنها السوداء على خطابها لأن المهج مهورها؛ ولربما نأى بجانبها الإعراض، ونبا جوهرها عن الأعراض، وطاشت دون أوصافها سهام الأغراض؛ ودرجت الملوك على حسرتها، فلم تحسر لها لثاما، ولا استطاعت لثغرها ثلما ولا له التثاما.
وله من أخرى يصف قلعة نجم «2» ، وهي من عيون الرسائل، منها: هي نجم في سحاب، وعقاب في عقاب «3» ، وهامة لها الغمامة عمامة، وأنملة(12/157)
إذا خضبها الأصيل كان الهلال لها قلامة، عاقدة حبوة صالحها الدهر أن لا يحلها بفزعة، نادبة عصمة صافحها الزمن على أن لا يروعها بخلعة، فاكتنفت به عقارب منجنيقات لم تطبع بطبع حمص في العقارب، وضربتها بحجارة أظهرت فيها العداوة المعلومة في الأقارب، فلم يكن غير ثلاثة إلّا وقد أثرت فيها الحجارة جدريّا بضربها، ولم تصل إلى السابعة إلّا والنّجران مؤذن بنقبها، فاتسع الخرق على الراقع، وسقط سعده عن الطالع، إلى مولد من هو إليها طالع، وفتحت الأبراج فَكانَتْ أَبْواباً، وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً
«1» .
ومنه قوله: ومن اعتقل خصما فقد ملك قياده، وأمن شراده، وصار تحت ختمه، وحبس جسمه في حصنه، وقلبه في جسمه؛ وإذا كان الله قد أعطانا البلاد وهي آلة المقيم وأعطاهم المراكب، هي آلة الظّاعن الهارب، فقد علمنا لمن عقبى الدار؛ وقد نقلهم الله نقل قوم نوح من الماء إلى النّار، وقد وريت بمولانا للإسلام زناد، وذاك الزّناد هو السيف القاضب، [و] المستطير من شرره هو دفع الدّم السّاكب.
ومنه قوله: وعرف المملوك ما يكا بده مولانا، وكلّ يعين الله، وما تغلو الجنّة بثمن؛ ومن عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل، وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ
«2» الغمرات ثم ينجلينه «3» ؛ فإنّك نصل والشّدائد للنّصل، وكلّما اشتدّ(12/158)
الخناق قوي اليقين؛ إنّ الله يريد يعظم موضع الفرح: [الكامل]
والحادثات وإن أصابك بؤسها ... فهو الذي أدراك كيف نعيمها
«1» لا زعزعتك الخطوب يا جبل؛ كل ما يمرّ بمولانا من المغائظ ومن تثاقل الأولياء يتحمله ويحمله الله، ويعلم أن الطباع البشرية يستولي عليها الضجر، ويعلم أن الذي يطلبه من الناس أعظم من الذي يدفعه إليهم؛ فإنه يعطيهم الأموال ويطلب منهم الأرواح، ولا بدّ من تلطّف الترفيه فيمن يستنزل عن نفسه، وأين من يجود بها؟ ألا قليل ما هم: [من الوافر]
وقد كانوا إذا عدّوا قليلا ... فقد صاروا أقلّ من القليل
«2» ومنه قوله: فسبحان من جعل آراءه في الظّلمات مصابيح، وفي المشكلات مفاتيح، ويده إذا امتطت الأقلام بارت الغمام، وإذا اتّشحت بالأعنّة بارت الريح؛ وباب مولانا ميدان العلى، ومجلسه معرض الحلى، وترابه غرر وجوه السادة الألى.
ومن أخرى في فتح بيت المقدس، شرفه الله تعالى، ومنها «3» : وأتينا المدينة من جانب، فإذا هو أودية عميقة، ولجج وعر غميقة «4» ، وسور قد انعطف عطفة السّوار، وأبرجة قد نزلت مكان الواسطة من عقر الدار، وقدّم المنجنيقات التي تتولّى عقاب الحصون، عصيّها وحبالها، وأوتر لهم قسيّها التي تضرب ولا تفارقها سهامها ولا نصالها، فصافحت السّور، فإذا سهامها في ثنايا(12/159)
شرفاتها سواك، وقد قدم النّصر نسرا من المنجنيق يخلد إخلاده إلى الأرض، ويعلو علوّه إلى السّماك، فشجّ مرابع أبراجها، وأسمع صوت عجيجها، ورفع مثار عجاجها، وأسفر النّقّاب عن الخراب النّقاب، وأعاد الحجر إلى خلقته الأولى من التّراب، ومضغ سرد حجارته بأنياب معوله، وأظهر في صناعته الكثيفة ما يدلّ على لطافة أنمله، وأسمع الصّخرة الشّريفة أنينه، إلى أن كادت ترقّ لمقتله.
وله أيضا من أخرى: فنصبنا عليها المنجنيقات تمطر سماءها نبال الوبال، وتملأ أرضها بالنكاية والنّكال، وتهدّ بساريات حجارتها راسيات الجبال، وتنزل نوازل الأسواء بالأسوار، وتوسع مجال الدّوائر في الدّيار، وتخطف بخطّافاتها أعمار الأغمار؛ وتطير حمامها بكتب الحمام، وتديم إغراء سهامها في أهلها بتوفير سهام؛ وكشف النّقّابون السّور المحجوب فتهدم بنيانه، وتداعت أركانه، بتظاهر المنجنيقات عليها والنّقوب.
ومنه قوله: في ليل كموج البحر «1» ، له أنجم كحبب النّهر، قد حشر الهموم وحشدها، وهدى ضوالّها للقلوب وأنشدها، فأقول له لمّا تمطّى بصلبه «1» : قطع الله صلبك؛ ومتى أرى عمود الصّباح: قد عجّل الله عليه صلبك.
ومنه قوله: ولنا من الجيران من يجوز، ويظنّ أنه إلى الله لن يحور، ويصدّق وعد(12/160)
الشيطان، وما يعده الشيطان إلا الغرور، ويصدر عنه كلّ عظيمة المورد، ويجهل أن الله عليم بذات الصدور، ويظن أنه يرث الأرض، وينسى ما كتب الله في الزّبور، وينشد ضالة الولاية بجيشه وبيته وما يقبل بيت مكسور، ولا يضمن النصر جيش مكسور.
ومنه قوله: والمسؤول أخذ دستور لمملوكه للحجّ في هذه السنة، فقد جفا بيت الله جفوة طويلة، واشتاق إلى زورة، وتمامها أن يكون المولى فيها الوسيلة، وقد تحقق المملوك أنّ المولى يلبيه ولا يحرمه، فكاد يلبّي ويحرم، ولولا أن ذكره وذكر والده كمسّ المسك، لكان على هذا العزم يتمم ويحزم، وما ينقطع مرافق خدمه ولا منافع لسانه وقلمه عن الدولة الناصرية، فقد كان حج فحشد جيوش الليل، وفوقوا سهام الأسحار، وأعانوا في تلك السنة سلطان الدّنيا وجنود النهار، وما يدّعي المملوك في الدعاء رتبة المجاب، ولكن في الحشد رتبة السمسار.
ومنه قوله: فوضعت يدا فيه وقدما على النجم، ورشفته على حر الوجد بارد الظّلم، وصرفت به عن الخاطر كل همّ، فما بشاره بعده ولا هم.
ومنه قوله: وأما خلعه الكرى على العشاق «1» ، فهي عوائد سماحة، ومن أشرق كإشراقه، فما يكون أبدا في ليله، إنما يكون في صباحه، فما ضرّه أن يهب ما لا(12/161)
تدعو إليه حاجة، وأن يخلع ديباجة كراه كما يخلع ديباجه.
ومنه قوله: وهمّ بأن يأخذ من كلام سيدنا في كتابه، فيعيد إليه حلاله؛ فإنه ما وجد لفضله أوصف من وصفه، ولا أكشف لبراعته من كشفه، ثم استحيا من ريبة يسوّد لها وجوه الأقلام، وأشفق أن يأكل أموال الناس بالباطل ويدلي بها إلى الحكام «1» .
ووصف أيضا المنجنيق من رسالة، فقال: فسلّمت كأنها بنان، ونضنضت كأنها لسان، وأضاءت كأنها مارج من نار، واهتزت كأنها جان، وتقومت كأنها سنان، وانعطفت كأنها عنان، وأقدمت كأنها شجاع، وأحجمت كأنها جبان، ورمت رؤوسهم الموفّرة من أحجارها بأمثال الرءوس المحلّقة، فأعادتهم إلى الخلقة الأولى مخلقة وغير مخلقة.
ومنه قوله: وكأن الثّريا لجام مفضّض في أدهم الليل، أو غثاء حمله داهم السيل، أو جيب جود زره اللباس، أو كفّ تفصّل الأفق على الليل بقياس.
ومنه قوله: أطال الله بقاء المجلس إلى أن يقضي للكفر أعمارا، ويملك منهم رقابا وديارا، ولا يذر على الأرض منهم ديارا، ولا يصلوا أن يضلّوا العباد ولا يبلغوا أن يلدوا فاجرا كفارا؛ «2» وإلى أن يغرقهم من دمائهم في طوفان، وإلى أن يعرضهم على الجذوع فيكونوا عنده صلبان كالصلبان.(12/162)
ومنه قوله: خدمة المملوك واصلة من يد الشريف فلان، وهذا الشريف قد زكى نسبه بأعمال صالحة، وعمله بسيرة ناصحة، وله عائلة هي وإن كانت غلا، فقد فسحت خطاه في الانتجاع، وبه فاقة هو وإن كان في ضائقتها فقد بعثته في الأرض على الاتساع، ولمّا قلب طرفه في سماء القصد، هدي إلى قبله مولانا التي يرضاها كل متوجه، وإلى هدف المدائح الذي تسدّد إليه سهام كل ألكن ومفوه، فإن رأى مولانا أن يشفع فيه جدّه شافع البشر، ويلين حظّه فإن حظّه كالحجارة أو أشدّ قسوة من الحجر.
ومنه قوله: «1»
ورد كتاب المجلس، ومرحبا بمقدمه وأهلا بمنجمه، والسّوق تختلف نقود صروفه، وتتنوع صنوف ضيوفه، فلابد أن تنبعض إذا انبعضت المسافات، ولو أنه إلا بمقدار ما يدنو اللقاء على الرسول السّائر، بالكتاب الصّادر، والخيال الزائر، بالحبيب الغادر، والنّسيم الخاطر، من رسائل الخواطر، ويقرّ به طرف الناظر من الصديق الحاضر؛ ووقفت على هذا الكتاب المشار إليه، وما وقفت عنه لسانا شاكرا، ولا صرفت عنه طرفا ناظرا، وبلغت من ذلك جهدي وإن كان قاصرا، واستفرغت له خاطري وما أعدّه اليوم حاضرا؛ ومما أسرّ به أن يكون في الخدمة السلطانية، أعلاها الله ورفعها، ووصلها ولا قطعها، وألّف عليها القلوب وجمعها، واستجاب فيها الأدعية وسمعها، من يكثر «2» قليلي، ويشفي في تقبيل الأرض غليلي، فإن تقبيل سيدنا كتقبيلي؛ فلو شرب صديق وأنا عطشان(12/163)
لأرواني، ولو استضاء بلمعة في الشرق وأنا في الغرب لأراني، كما أنّ الصديق إذا مسته نعمة وجب عنها شكري، وإذا وصلت إليه يد منعم وصلتني، وتغلغلت إليّ ولو كنت في قبري.
ومنها «1» : وأعود إلى جواب الكتاب: الأخبار لا تزال غامضة إلى أن نشرحها، ومقفلة إلى أن نفتحها، بخلاف حال خادمها مع الناس؛ فإنّ القلوب لا تزال سالمة إلى أن تجرحها، والهموم خفيفة إلى أن ترجحها؛ وفي الخواطر في هذا الوقت أمور موجودة نجعلها في العدم، ونخرجها من الألم إلى اللّمم، ونعادي بين الأسماع والألسنة، وبين العيون والقلم؛ والقلوب بيد الله سبحانه، وعليها بالاستجارة والاستخارة، فتلك تجارة رابحة، وكلّ تجارة لا تخلو من خسارة؛ والله تعالى يجمع كلمة المسلمين على يد سلطاننا، ولا يخلينا منه ومن بنيه حلى زماننا وسيوف أيماننا، ويسعدنا من أكابرهم بتيجان رؤسنا، ومن أصاغرهم بخواتم أيماننا؛ ولقد تفرغت العزمة الفلانية لهذا الكتاب «2» ، ولو ذكرت السلطان بالعدو فيرجم كلبه، ويكفّ غربه، ويذيقه وبال أمره، ويطفئ شرار شره، ويعجل له عاقبة خسره، فقد غاظ المسلمين وعضّهم، وقتل جموعهم وفضّهم؛ ولو جعل السلطان عزّ نصره غزو هذا الطاغية مغزاه، وبلاده مستقر عسكره ومثواه، لأخذ الله الكافر بطغواه، كما أخذ ثمود بطغواه، ولأبقى ذكرا.
وقوله «3» : وللمودّة عين لا يكحلها إذا رمدت إلّا إثمد مداد الصّديق، وما في الصبر(12/164)
سعة لصحبة أيام العقوق، بعد صحبة أيام العقيق؛ وقد بلغني أن ولد المذكور خدم في المجلس السلطاني، وسررت بأن يجتمع في خدمته الأعقاب والذّراري، وتطلع في أفقه الأقمار والدّراري؛ والله تعالى يحفظ علينا تلك الخدمة جميعا، ولا يعدمنا من يده سحابا ومن جنابه ربيعا، وللمودات مقرّ ما هو إلّا الألسنة، والقلوب قضاة لا تحتاج إلى بينة.
ومنه قوله يذكر كتابا جاءه في ورق أخضر: ولمّا تناولته في الحلة الخضراء، مخطرا بسريرة السراء، قلت: الله أكبر، من كان خاطره غيثا روّض، وفاض فأعشب فذهّب ففضّض، وما شككت أنّي دخلت الجنة لما فاض من أنهارها، وأفيض من سندسها، أو طلعت إلى سماء الدّنيا لما ملأ سمعي وعيني من شهبها وحرسها، ولا أنني قد جاءتني رسالة الرّوض الأرج لما فغمني من نفيس نفسها؛ فقلت لصحيفته: ما هذه اللّبسة الغريبة، والحلية الحبيبة والورقة، التي هزّت عطفيّ في ورق الشبيبة بعد رداء المشيب، والريحانة التي لا يدعيها عذار حبيب؟ فقالت «1» : [المتقارب]
شققنا مرائر قوم [به] ... فنحن نسمّيه شقّ المراره
ومنه قوله: وكيف ما حل أهل هذا البيت، فهم في كل بيت صدوره، وفي كل مطلع نجومه وبدوره، لا تذلل أنوارهم بإشارة الأصابع، ولا تبتذل أقدارهم في مصونات المجامع؛ كأنّ الأرض بهم سماء فإنهم طوالعها، وكأن الدّنيا بهم رياض فإن أوجههم دهرها، وأيديهم مشارعها.(12/165)
ومنه قوله: وقد أثمر هذا القلم أكرم الثمر وهو يابس، وأبرّ جودا على أخضر المغارس، وأتى أكله كلّ حين وكلّ وقت، وطال وإن كان القصير يقصّر عنه كل نعت؛ ووصل كتابه فأكرم به من ساق وحبيب، وخلوت به وليس علينا ولا بيننا من الأنام رقيب، وقبلت منه خدّا بل يدا، وأجلّه عن أن يكون نسيبا للنّسيب، وهزرت منه قضيب بان للعلى يجتنيها بفتكة القضيب.
ومنه قوله: والفترة مسطّرة أن ينفخ الرّوح في صريعها، ويرشّ نور الشمس على وجه صديعها، وإلّا فإنه مغشى عليه، مغشيّ بليل تحته فقد قريب بنات نعش إليه.
ومنه قوله: ومن مستهلّ ذي الحجّة ما استهل من يده كتاب، ولا استقل من تلقاء جهته سحاب، ولعل قلمه في الميقات قد أحرم، فلم يمسّ الطيب من أنفاسه، ومسح المداد عنه لتمام الإحرام بكشف رأسه، والآن فقد انقضت الأيام المعلومة، فهلّا قضى عنا الأيام التي تمادت فيها شقوة العيون المحرومة.
ومنه: وعليه السلام الطيب الذي لو مرّ بالبهيم لأشرق، أو بالهشيم لأورق، وكتبها الكريمة إن تأخرت فمأمولة، وإن وصلت فمقبولة، وإن أنبأت بسارّ فمشهورة، وإن أنبأت بسرّ فمشورة.
ومنه قوله:(12/166)
وأما ما ذكره من القرض، فلم يزل القرض للذّرّية الأيوبية- أعاذها الله من الانقراض- ميسم كرمها، وعنوان علوّ هممها؛ فبيوت أموالهم في بيوت رجالهم، وعقد أيامهم في قلوب خدّامهم، والكنوز التي جعلها الماضون سبائك في التّراب، جعلها ملوكنا قلائد في الرقاب؛ فهم يتحملون بالقرض ويفتخرون؛ وإذا ادّخرت الملوك في أيدي أنفسهم مالا، فهؤلاء في أيدينا يدخرون.
ومنه قوله: «1»
وصل كتاب الحضرة، وصل الله أيامها بحميد العواقب وبلوغ المآرب، وصحبت الدّهر على خير ما صحبه صاحب، وأنهضنا بواجب طاعته فإنّه بالحقيقة الواجب، وكلّ واجب غيره ليس بواجب، من يد فلان، ورجوت أن يكون طليعة إلى الاقتراب، ومبشّرا بالإياب، ومخبرا بعودها الذي هو كعود الشّباب لو كان يعود الشباب؛ وعرفت الأحوال جملة من كتابها، وكلها تشهد بتوفيق سلطانها، وبأيامها التي تعود بمشيئته بإصلاح شأنه وشأنها، والذي مدّه ظلا يمدّه فضلا؛ فالفضل الذي في يديه في يد خلق الله، والذي أحالهم بالرزق عليه، فكيف ما دعونا له [دعونا] لأنفسنا، وكيف ما كانت أسنّة رماحه فهي نجوم حرسنا، فلا عدمت أيامه التي هي أيام أعيادنا، ولا لياليه التي هي ليالي أعراسنا «2» .
ومنه قوله: وهذا أفق لا مطار فيه إلّا للعقاب وابنه، وبحر لا مسبح فيه إلّا لمن يخرج الدّرّ من فيه ويدخل البحر في ردنه؛ وما عنيت بالبحر هنا إلّا يده الكريمة، فأمّا البحر فلم أعنه؛ وأغرقتني في البحار وأنجيتني منها، وعرّفتني وزن خواطر البلغاء،(12/167)
ولولا عروض خطره لم أزنها؛ زاد الله في هذه الأنفاس، وفديت هذه العقائل التي أيامي بها أعياد ولياليّ أعراس.
ومنه قوله: وما يأتيني من المجلس من ذكر محدث يسرّ به المحدّث، وخبر يتأثّل به الآنس ويتأثث، إلّا استمعته؛ ولسمعي على قلبي المنّة، وفتحته كأنما فتحت لي أبواب الجنة، وتناولته كأنما تناولت كتابي بيميني، ورفعته فكأنما رفع التّاج فوق جبيني، وقابلته بالحمد فكأنه عرض كاتبه، وقرنته باللّثم فكأنّي ظفرت بيد صاحبه.
ومنه قوله: وأصدرت هذا الكتاب مقصورا على أجوبة كتبه التي كتبت لي عهدة الشكر، وأباحت في شهر الصّيام كؤوسها السّكر.
ومنه قوله: وكتبته وشعبان قد وصل إلى أعقابه، وقمره الممحوق قد بعثه رمضان بكتابه؛ فجمع الله لسيدنا منهما كلّ خير يستحقّ جمعه، وأعلى يده التي سألها الكرم لم تر منعه.
ومن أجوبته «1» : ورد على الخادم- زاد الله أيام المجلس وأصفاها من الأكدار، وأبقى بها من تأثيراته أحسن الآثار، وأسمع منه وعنه أطيب الأخبار، وجعل التوفيق مقيما حيث أقام، وسائرا أينما سار- كتابه الكريم، الصّادر عن القلب السليم، والطبع الكريم، والباطن الذي هو كالظّاهر، كلاهما المستقيم، ولا تزال الأخبار عندنا(12/168)
محجمة، والأحاديث مستعجمة، والظّنون مترجحة، والأقوال مسقمة ومصحّحة، إلى أن يرد كتابه فيحقّ الحق ويبطل الباطل، ويتضح الحالي ويفتضح العاطل، ويعرف الفرق ما بين تحرير قائل، وتحوير فائل، فتدعو له الألسنة والقلوب، وتستغفر بحسناته الأيام من الذنوب، والشجاعة شجاعتان، شجاعة في القلب، وشجاعة في اللّسان، وكلاهما لديه مجموع، ومنه وعنه مرويّ ومسموع، وذخائر الملوك هم الرّجال، وآراء الحزماء هي النّصال، ومودات قلوبهم هي الأموال، ومجالس آرائهم هي المعركة الأولى التي ربّما أغنت عن معارك القتال؛ والله تعالى يجدّد للمسلمين به حالا يجمعهم على جهاد الكفار، ويلهمهم أن يبذلوا في سبيله النفس والسيف والدرهم والدّينار، ويزيل ما في طريق المصالح من الموانع، ويفطم السّيوف عن الدماء الإسلامية ويحرّم عليها المراضع، ويجعل للمجلس في ذلك اليد العلى والطريقة المثلى، ويجمع له بين خير الأخرى والأولى؛ والأحوال هاهنا بمصر مع بعد سلطانها، وتمادي غيبته عن سائر شأنها، على ما لم يشهد مثله في أوقات السّكون، فكيف في أوقات القلق، وعلى ما يحفظ الله به من في البلاد من الجموع، ومن في الطّرقات من الرّفق.
ومنه قوله: ومن اللّطف في كون الحضرة كتبتها عجلة، وروّجتها مرتجلة، وأصدرتها في حالة المتبذل، ولم تعرها ناظر المتأمّل، وإلّا فلو [تأنيت] «1» لأرسلت البوارق والصواعق؛ وما أصنع؟ وما كلّ من جاشت بحاره، وقذف درّة بحاره، أغرق الإخوان في لججه، وأخرس اللهجان بحججه.
ومنه قوله:(12/169)
وصل كتاب الحضرة لا زالت رياض ثنائها متفاوحة، وخطرات الردى دونها متسارحة، والليالي بأنوار سعودها متلألئة، والأيام الجافية عن بقية الفضل منها متجافية؛ باركة للمجد منها فيه، يتخير إليها المكرمات إذا لم يكن لها فيه، فأنشده ضالة هدى كان لنشدانها مرصدا، ورفع له نارا موسويّة، سمع عندها الخطاب، وآنس الخبر، ووجد الهدى؛ وكانت نار الغليل بخلاف نار الخليل، فإنّها لا تقبل ندى الأجفان بأن يكون بردا وسلاما، ولا يزايدها نداها إلّا كانت أضرى ما كان ضراما.
ونعود إلى ذكر الكتاب الكريم: وسجد لمحرابه وسلّم، وحسب سطوره مباسم تبسّم، ووقف عليه وقوف المحبّ على الربع يكلمه ولا يتكلّم، ويبطل جفنه وكأنّ جمادى بدمعه وكأنّ على خدّه المحرّم؛ فالله المسؤول لها في عاقبة حميدة، وبقية من العمر مديدة؛ فإنها الآن نوح أهل الأدب، وطوفانها العلم الذي في صدرها، ولا غرو أن يبلغ عمره كعمرها، على أنها طالما أقامت الحدّ على الدّنيا حتى بلغت في حدها الثمانين، وأدبت الأيام بسلاح الحرب من سيفها وسلاح السّلم من قلمها تأديب المجانين، وما حملت العصا بعد السيف إلا وقد وضعت الحرب أوزارها، ولا استقلت بأنه موسى إلا لتفجّر الخواطر وتضرب أحجارها، وما هي إلّا رمح، وكفى بيدها لها سنانا؛ وما هي إلّا جواد يحتثّ السّنين خلفها، فتكون أناملها لها عنانا.
ومنه قوله «1» : ورد كتاب الحضرة السامية، أحسن الله لها المعونة، ويسّر لها العواقب المأمونة، وأنجدها على حرب الفئة الكافرة الملعونة، يخبر بخروج الخارج من قلعة(12/170)
كذا، وما صرّح به من الخوف الذي ملأ الصّدور، والاستحثاث في مسير العسكر المنصور؛ وكلّ قضية وردت على القلوب، ففزعت فيها إلى ربّها فرجت فرجه، وأذكى لها اليقين سرجه، ولم تشرك معه غيره مستعانا، أو لم تدع معه من خلقه إنسانا؛ فما القضية وإن كانت منذرة إلّا مبشّرة، والخطّة وإن كانت وعرة إلا مبشرة؛ لا جرم أنّ هذا الكتاب أعقبه وصول خبر نهضة فلان نصر الله نهضاته، وأدّى عنه مفترضاته، واستنهض العساكر، وقوبل العدوّ الكافر، فنفس ذلك الخناق، وتماسكت الأرماق؛ وما أحسب أنّ الأمر يتمادى مع القوم؛ بل أقول: لا كرب على الإسلام بعد اليوم؛ يتوافى بمشيئة الله ولاة الأطراف، ويرقل من نفس العدوّ وسمعه ما استشعره من المسلمين من الخلاف، ويجتمعون إن شاء الله على عدوّهم، ويذهب الله بأهل دينه ما كان من فساد أعدائه في أرضه وعلوّهم؛ وقد شممنا رائحة طلب الهدنة بطلب الرسول، وبخبر هلاك ملك الألمان الذي هو بسيف الله مقتول، والموت سيف الله على الرقاب مسلول.
ومنها: فأما ما أشار إليه من القلاع التي شحنها، والحصون التي حصّنها، والأسلحة التي نقلها إليها، والأقوات التي ملأ بها عيون مقاتليها ويديها، فإن الله يمنّ عليه بأن يسره لهذه الطاعة، ورزقه لها الاستطاعة، فكم رزق الله عبدا رزقا حرمه منه، وفتح بابا من الخير وصرفه عنه؛ الآن والله ملك الملك العادل ماله الذي أنفقه، وأودعه لخير مستودع من الذي رزقه؛ وشتان بين الهمم همّة ملك ذخر ماله في رؤوس القلاع لتحصين الأموال، وهمة ملك أودع ماله في أيدي المقاتلة لتحصين القلاع «1» : [الكامل](12/171)
بيني الرّجال [وغيره] يبني القرى ... شتّان بين مزارع ورجال
والحمد لله الذي جعل ماله «1» له مسرة، يوم يرى الذين يكنزون الذّهب والفضة المال عليهم حسرة؛ ما أحسب أحدا من هذه الأمة إن كان عند الله من أهل الشهادات بين يديه، وإن كان كريم الوفادة لديه، إلا تلقاه شاكرا لهذا السّلطان، شاهدا بما يولي هذه الأمة من الإحسان وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ
«2» .
سيحصد الزارعون ما زرعوا، والله يزيده توفيقا إلى توفيقه، ويلهم كلّ مسلم القيام بمفترض بره، ويعيذه من محذور عقوقه؛ وأنا أعلم أن الحضرة تفرد لي شطرا من زمانها المبهم، بكتاب لله تكتبه إليّ، وخبر سار تورده عليّ؛ وأنا أفرد شطرا من زماني لشكرها، وأسرّ والله لها بتوفيق الله في جميع أمرها، فإنّ الذاكر لها بالخير كثير، فزاد الله طيب ذكرها.
ومنه قوله: والمشكوّ في هذا الوقت وجع المفاصل وآلامها وأورامها، فيديّ منها في جامعة، ورجليّ منها في واقعة، وأعضائي كلّها قد رابتني بعد صحة، وصارت لما تمّ عليها من أيديّ الرّاقين والذّاكرين كأنها خرزات سبحة، ولقد سئمت تكاليف الحياة، وسهلت عليّ تخاويف الوفاة، وحملت الأيّام على ظهري حمل الحطب، فما يسوى أن تشتعل فيها نار أجل يكون من الأنفاس المزعجة ذات لهب، وما أغربت على الأيام في تهجّمها، ولا جاءتني آيات الكبر في غير موسمها؛ ومن استضاء بسراج المشيب مسته اللّيالي في ظلمها، فقد صرعتني الأمراض،(12/172)
وصدعت عظمي المنهاض.
اللهم لا أشكو إلّا إليك، ولا أسأل إلّا أنت، ولا أبثّ عبادك ما بي من بلائك، إلا لأستلزم إليك الشفعاء، وأستدعي منهم الدّعاء؛ فإن دعوتك من حقّها أن ينظّف لها الوعاء؛ فأما طاحونة مدينة الجسد وهي الأسنان، فبعض السّنّ ظعن مع السّنّ، وبعضه بقي منه جذم غير مرجحنّ، وما كنت أدري ما معنى قيد الحياة إلى أن قيدتني المفاصل بوجعها، وعلّة النقرس بتسفّلها وبرفعها؛ وأنا الآن بالحقيقة في ضدّ الحياة إحساسا، ولابس جسم قد كرهته النفس لباسا.
ومنه قوله «1» : ورد كتاب المجلس السّامي، نصر الله عزائمه، وأمضى في رؤوس الأعداء صوارمه، وشدّ به بنيان الإسلام ودعائمه، واسترد به حقوق الإسلام من الكفر ومظالمه، وأخلف نفقاته في سبيل الله ومغارمه، وجعلها مغانمه؛ وكان العهد به قد تطاول، والقلب في المطالبة ما تساهل، ولمحت اشتغاله بالطاعة التي هو فيها وما كلّ من تشاغل تشاغل، فهنّأه الله بما رزقه، وتقبّل في سبيل الله ما أنفقه، وعافى الجسم الذي أنضاه في جهاد عدوّه وأخلقه، وقد وفق من أتعب نفسا في طاعة من خلقها، وجسما في طاعة من خلقه؛ فهذه الأوقات التي أنتم فيها أعراس الأعمار، وهذه النّفقات التي تجري على أيديكم مهور الحور في دار القرار؛ قال الله سبحانه في كتابه الكريم: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ
«2» .
وأما فلان وما يسره الله له وهوّنه عليه من بذل نفسه وماله، وصبره على المشقات واحتماله، وإقدامه في مواقف الحقائق قبل رجاله، فتلك نعمة الله عليه،(12/173)
وتوفيقه الذي ما كلّ من طلبه وصل إليه؛ وسواد «1» العجاج في تلك المواقف بياض ما سوّدته الذّنوب من الصحائف يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً
«2» .
فما أسعد تلك الوقفات، وما أعود بالطّمأنينة تلك الرّجفات، وقد علم الله سبحانه منّي ما علم من غيري من المسلمين من الدّعاء الصّالح لكم في الليل إذا يغشى، ومن الذّكر الجميل لكم في النهار إذا تجلّى، والله تعالى يزيد لكم إيمانكم، وينصركم وينصر سلطانكم، ويصلحكم ويصلح بكم زمانكم، ويشكر هجرتكم التي لم تؤثروا عليها أهليكم ولا أموالكم ولا أوطانكم، ويعيدكم إلينا سالمين سالبين، غانمين غالبين؛ إنّه على كلّ شيء قدير.
ومنه قوله: ولا حول ولا قوة إلا بالله، قول من قعد وراء الأحباب يودّع في كل يوم حبيبا، ويعيش في الدّنيا بعدهم غريبا، كأنه النجم طلع عليه الصّباح فغابوا، وبقي منتظرا للمغيب، وصبّحه ما قد علاه من المشيب.
ومنه قوله: هذا وما تمّ بحمد الله متجدد، إلا ما تقدم ذكري له من أمراض الكبر، وأعراض الغير، وتداعي هذه البنيّة لرحيل ساكنها، وانزعاج هذه النفس إلى ما يختاره لطف الله من مواطنها، فإنّ التّسعين قد جزت عينها، وقطعت عقبها؛ وأسأل الله الخيرة في القدوم عليه، واللّطف عند الوقوف بين يديه.(12/174)
ومنه قوله: وأشكو بعد قلبي جسمي، فقد ضعفت قوته، وقوي ضعفه، ونسجت عليه همومي ثوابا دون الثياب، وشعارا دون الشّعار، من الحرب الذي عادى بيني وبيني، وانتقم ببيني من جسمي، واستخدمها بحرث أرضه؛ فإن لم يكن لأرضه عجاج فلي عجيج، وإن لم يكن فيه بذار فلي من الحبّ ثمار، وإن لم يكن لي سنبلة فلي أنملة، وإن لم يكن في كل سنبلة مئة حبّة آكلها، ففي كلّ أنملة مئة حبة تأكلني؛ وقد كنت مسالما لأعضائي إلا سنّا أقرعها، فما يخلو زمن من مندماتي، أو إصبعا أعضّها فما أكثر ما على الظّالم الذي يعضّ يديه؛ فأنا أقرع أعضائي كلّها ثنيّات، وأعضّ على جوارحي كلّها أنامل وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ
«1» والحرب همّ للأجسام، والهمّ حرب للقلوب، والفكر للقلب حكّ، والحكّ للّحم فكر، وبالله ندفع ما لا نطيق «2» ؛ يا واهب العمر خلّصه من الكدر «3» .
ومنه قوله «4» : وصل الكتاب الحضرة مبشرا بالحركة الميمونة السّلطانية إلى العدو خذله الله، ومسير المسلمين نصرهم الله، تحت أعلامه أعلاها الله، ومباشرة العدوّ واستبشار المسلمين بما أسعدهم الله من الجراءة عليه، ومن إضمار العود إليه، وهذه مقدمة لها ما بعدها، وهي وإن كانت نصرة من الله، فما نقنع بها وحدها، فالهمّة العالية(12/175)
السّلطانية للحرب التي تسلب الأجسام رؤوسها، والسّيوف حدّها، فإن الجنة غالية الثمن، والخطاب بالجهاد متوجه إلى الملك العادل دون ملوك الأرض وإلّا فمن؟ فهذه تشترى بالمشقّات، كما أنّ الأخرى- أعاذنا الله منها- رخيصة الثّمن وتشترى بالشهوات.
ومنه قوله: وقف الخادم على ما شرّف به طبعه، وشنّف به سمعه، وضيّق بسعته ذرعه، من الخطاب بالعتاب، الذي خفض له الجناح، واستعذب به الجراح، وأسر قلبه في قيد أسى مستطار لا يراد منه السّراح، وقذف به في لهوات ليل لم يود أن يبسم فيه ثغر الصباح، وقد علم الله أنه بريء من كل ما يوجب المذامّ، ويطلق ألسنة الذّام، وأنه لمستيقظ في حقوق الخدمة، إلا أن حظّه من أهل الكهف بطول المنام.
ومنه قوله: وأما البرد وكلبه، والهواء وغلبه، فما كتبتها إلا واليد ترتعد، والخواطر لا تتعد، والغلام يذهب شبح الفحم بما يلهب، والشرار يبقى منطفئه في خدود الثياب خيلانا، ويمنعني كما يمنعها أن تطرد في قول القلم من الطّرس خيلانا.
ومنه قوله: وأنا الآن إذا دعوت الله سبحانه، بأن يمتعني بسمعي وبصري عنيته، وإذا قلت: واجعلهما الوارث منّي، فهو الذي اخترته لذلك وارتضيته؛ وبالجملة إنّي مستحسن قول جميل، وأنقله إلى أهل الجميل «1» : [الطويل]
وما أحدث النّأي المفرّق بيننا ... سلوّا، ولا طول اجتماع تقاليا(12/176)
كذلك صحبة المجلس قد تطاولت، وكلّما ألحّ عليها الصّقال لاح جوهرها، وكلّما تكررت عليها الفصول فصّلت آياتها وسيرت سورها.
ومن كتاب كتب به إلى القاضي محيي الدين بن الزّكي «1» : بعد أن أصدرت هذه الخدمة إلى المجلس- لا عدمت عواطفه وعوارفه، ولطائفه ومعارفه، وأمتع الله الأمة عموما بفضائله وفواضله، ونفعهم بحاضره كما نفعهم بسلفه الصّالح وأوائله، وعادى الله عدوّه، ودلّ سهامه على مقاتله- ورد كتاب منه، وما بقيت أذكر الإغباب، فإن سيدنا يقابله بمثله، ولا العتاب فإنّ سيدنا يساجله بما فيض من سجله، ولا ألقي عليه من قولي قولا ثقيلا، ولا أقابل به من قوله قولا جليا جليلا، فقد شبّ عمرو عن الطوق «2» ، وشرف البراق عن السّوق، وذلك العمرو ما برح محتنكا غير أجنبي، والطوق للصبي، وذلك البراق حمى لا يقدّم إلا للنبي، ومع هذا فلا تقلّص عني هذه الوظيفة، وأعتقدها من قرب الصّحيفة، فإنّك تسكن بها قلبا أنت ساكنه، وتسرّبها وجها أنت على النوى معاينه.
ومنه قوله: يا سيدنا العماد، صبّحك الله بأيمن من فعلك، ولا أعرف فعلا منه أيمن وأحسن من وجهك، ولا أعرف وجها منه أحسن، وأحسن وجه في الورى وجه منعم «3» .(12/177)
كيف أنت في هذه الرحمة التي تركتنا رحمة؟ وكيف الخركاه «1» وكيف الخيمة؟ أمّا نحن ففي خيمة من عنصرنا وهو الطين، وفي خركاه كأنّا من ضائقتها في عقد التسعين، قد حاصرتنا الأمطار، وقلّ احتفالها بالخنادق المحتفرة، وفعلت بنا ونحن المسلمون ما فعلنا بمن حاصرناه من الكفرة، فليت لنا ولو كمفحص القطاة في السعة والحفوف، وليت لنا جبلا يعصمنا من أنواع السّيول إذا جاءت ممرودة السّيوف، وقد حال الجريض دون القريض «2» ، وشغل توقّع اللّئيم عن توقيع القلم.
ومنه قوله: وقد كانت ليلة الخميس بدمشق ليلة مباركة، ما غسل ظلامها إلا السّيول لولا الصباح، ولا ابتسم صباحها إلا وقد كادت تبتسم الجبال والبطاح.
ومنه قوله: وقد جار كرم يده على أموالها، وعلم الخلائق الاشتطاط في آمالها، فما يأخذ أحدهم البدرة إلّا بكسر الخاتم منها، ولا يقبل الخلعة إلّا وقد عصبت المنشور بعصبها، ولا يركب الجواد إلّا وهو بالتبر مثقل، وبالحليّ في وجهه ورجليه أغرّ محجل، ولا يقنع بالإقطاع إلّا وباطنه قلعة وظاهره رستاق، ولا بالمنشور إلا وحاصله ثمرات واسمه أوراق؛ فقد فرّ الناس من الصنائع إلا إلى اصطناعه، ومن المعايش إلا إلى انتجاعه، وهان عليهم أن يكتبوا في قرطاس ويجاوبوا بأكياس، ووقفوا على التّراب فلحقوا بالسحاب، وغمر الجود كل دينار، حتى توارى دينار(12/178)
الشمس بالحجاب.
ومنه قوله إلى العماد الأصفهاني «1» : كانت كتب المجلس- لا غيّر الله ما به من نعمه، ولا قطع منه موادّ فضله وكرمه، ولا عدمت الدّنيا خطّ قلمه وخطو قدمه، وأعاذها الله بنعمه وجوده من شقوة عدمه- تأخرت، وشق عليّ تأخرّها، وتغيرت عليّ عوائدها، والله يعيذ مما يغيرها، ثم جاءت كما جاء بيت ابن حجاج «2» : [مجزوء الرمل]
غاب ساعات ووافا ... ني على ما كنت أعهد
وأجبته ببيت الرضيّ «3» : [الرمل]
ومتى يدن النّوى بهم ... يجدوا قلبي كما عهدوا
كتابة لا ينبغي ملكها إلا لخاطره السّليماني، وفيضا لا يصدر إلا عن نوح قلمه الطّوفاني، أوجبت على كلّ بليغ أن يتلو وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ
«4» .
وبالجملة فالواجب على كلّ عاقل أن لا يتعاطى مالم يعطه، وأن يدخل باب مجلس سيدنا ويقول: حطّة؛ فأما ما أفاض فيه من سكون الأحوال بتلك البلاغة، فقد كدت أسكر «5» بها بما استخرجته، من المحاسن التي لو أن الزّمان الأصم(12/179)
يسمع لأسمعته، ولو أنّ الحظّ الأشمّ يخضع لأخضعته؛ وبالجملة فإنّه لا يسبّ زمن أبقى من سيّدنا نعمة البقّية، التي مهما وجدت فالخير كلّه موجود، والمجد بحفيظته مشهود؛ وكما تيسرت راحة جسمه، فينبغي أن يقتدي به قلبه في راحته من همه؛ وأعراض الدّنيا متاع المتاعب، وقد رفع الله قدره، وإلّا فهذه الدّنيا وهدة إليها مصاب المصائب، والحال التي هو الآن عليها عاكف، من علم يدرسه، وأدب يقبسه، وحريم عقائل يذبّ عنه ويحرسه، هي خير الأحوال؛ فالواجب الشّكر لواهبها، والمسرّة بالإفضاء إلى عواقبها، وما ينقص شيء من المقسوم، وإن زاد عند المجلس فليس من حظّه، ولكن من حظّ السائل والمحروم؛ ولا يسمح المجلس بكتاب من كتبه على يد من الأيدي التي لا تؤدّي، فلا يؤمن أن تكون أناملها حروف التعدي.
ومنه قوله: وقد تأملت ما تفننت في وصفه حين دعيت إلى قتل الأسير، وأن القدرة المحيطة بعنقه، والأسر السادّ لسبل القتل وطرقه، أبى لها أن تشغل به بالها، ونصّ لها أن لا تنجس بدمه نصالها، فإنّ قتل الأسير ويداه مغلولة، وحبال أذرعه محبولة، قدرة ما زالت النّفوس على استقباحها مجبولة، وما كان يؤمنها أن تشخص الأبصار نحوها، وكما نظر في الطّروس كأنها تنتظر في الطروس «1» محوها، فيكون غيظ الحسام من قلمها حاملا له على أن لا يحدّ مضاء، ولا يمضي حدا، وباعثا له على أن ينثني عن عنق الكافر مرتدا، فيورثنا معشر الكتّاب عارا يعدي عرّه، وينهي العلم ما يسوءه والسيف ما يسرّه، وينفتح باب القيل والقال، ويحتاج إلى العذر الصدئ في نبوة السيف الصقيل.(12/180)
ومنه قوله: وكان ينتحي لقافية الثاء المثلثة التي خضعت لأمره، وسخرت لفكره، وخفضت جناحها، وتركت جماحها، ورقت رقة الراء، وأعطته القياد الذي منعت من الكتّاب والشّعراء، وهذا ملك البلاغة السّليمانيّ؛ وهذا القلم سيد النصر اليماني، وهذا المعجز وأنا أول المؤمنين، وهذا السحر البياني وإن لم يكن السحر المبين؛ وما تصورت أن الثاء تهون هذا الهوان، ولا تنقاد في الكلم إلا أن يكون قلمه العنان، فقد صارت عروسا ونقّطها نقوط العرائس، ووجبت جنوبها، فلا جرم أنه مثل قوله: فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ
«1» وقد صرنا نبدل السين بها بغير لثغة، ونقدر على استعمالها بلاغة، وما كنا نقدر على استعمالها إلا بلغة.
ومنه قوله: وذكر الله ذلك العهد بخير ما ذكرت به العهود، ولعن الله الفرنج المخندقين، وقتل أصحاب الأخدود، فقد قطعوا طرقات المسار، وأطالوا عمر البيكار «2» ، وسكبت نار مقاساتهم الدّينار، فعجل الله إعلام الكافر لمن عقبى الدار «3» .
ومنه قوله، وكتب [إلى] ابن الزّكي «4» :
كان كتابي تقدم إلى المجلس السامي- أدام الله نفاذ أمره، وعلو قدره، وراحة سرّه؛ ونعّمه ويسّره، وأجراه على أفضل ما عوّده، وأسعد جده وأصعده،(12/181)
وأحضره أمثال العام المستقبل وأشهده، ولا زال يلبس الأيام ويخلعها، ويستقبل الأهلة ويودعها، وهو محروس في دنياه ودينه، مستلئم من نوب الدّهر بدرع يقينه؛ وأعماله مقبولة، ودعواته على ظهر الغمام محمولة، والدّنيا ترعاه وهو يأبى رعيها، والآخرة تدّخر له وهو يسعى لها سعيها- من أيدي عدة من المسافرين، ولثقتي بهم ما قيدت أسماءهم ولضيق صدري بتأخير كتب المجلس ما حفظت ما جاء منه.
وما كأنّا إلا دعونا الله سبحانه دعوة الأولين أن يباعد بين أسفارنا «1» ، وأردنا أن يقطع بيننا وبين أخبارنا، فأجيبت الدعوة، ولا أقول لسابق الشقوة، بل للاحق الحظوة، فبان بأن مكابدة الأشواق إلى الأبرار، تسوق إلى الجنة ولا تسوق إلى النّار؛ وأقسم أنني بالاجتماع به في تلك الدار أبهج منّي بالاجتماع به لو أتيح في هذه الدار؛ فعليه وعليّ من العمل ما يجمع هنالك سلك الشمل ويصل جديد الحبل، فثم لا يلقي العصا «2» إلا من ألقى ها هنا العصيان، وهنالك لا تقر العين إلا لمن سهرت منه ها هنا العينان، ولا وجه يجمع اسمي مع اسمه في هذه الوصية، مع علمي بسوء تقصيري، وخوفي من سوء مصيري، ولكن ليزيد سيدنا في وظائفه وعوارفه، فلعل فعله تفضل من فضله، مما يخلصني بقربه؛ فإنني أستحقّ شفاعته لشفعة جوار قلبي لقلبه، والخواطر في هذا الوقت منقبضة، والشواغل لها معترضة، وأيام العمر في غير ما يقرض من الدنيا والآخرة «3» منقرضة؛ ومتجدد نوبة بيروت قد عمت كلّ قلب، وهاجت(12/182)
للمسلمين أشواقا إلى الملك الناصر، وذكرى بما ينفعه الله به من كل ذاكر، وأخذ الناس في الترحّم على أول هذا البيت، والدعاء للحاضر والآخر، وليس إن شاء الله بآخر.
ومنه: وسيدنا يتوصى بالدار بدمشق، فقد خلت، وإنما الناس نفوس الديار، وسيدنا يحسن في كل قضية من بعد، كما أحسن من قبل، فهو الذي جعل بيني وبين الشام نسبا، وأنشبني فيه إلى أن ادخرت عقارا ونشبا، فعليه أن يرعاه ما أقناه، وينفي الشوك عن طريق اليد إلى جناه، والجار إلى هذا التاريخ ما اندفع جوره، ولا أدرك غوره، يعد لسانه ما تخلف يده، ويدّعي يومه بما يكذبه فيه غده، وأنا على انتظار عواقب الجائرين، وقد عرف الغيظ منّي، وألفاظ مجهولة ما كنت أشتهي أن أعرفها، وكشف مستور من أسباب الحرج ما يسوى أن أكشفها، لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ
«1» وأسوأ خلقا من السّيّء الخلق من أحوجه إلى سوء الخلق، وما ذكرت هذا ليذكر، ولا طويت عليه الكتاب لينشر، والسّرّ عند سيدنا ميت، وهو يقضي حقّه بأن يقبر.
ومنه قوله: ولما تأملت الكتاب الأزرق، طاعنت به الخواطر التي كنت صريع طعانها، وعقير أقرانها، ومما دلّني على الصحة نشاط الخاطر العماديّ لقافية العين، التي اطردت له متونها، وتفتحت لقلمه عيونها، واقتضى الدّعاء بأن يقرّ الله العين في يده، كما أجراها على لسانه، فتجتمع له البلاغة والغنى، وتتوفر الأولى عليه وتكون الثانية قسمة ما بيننا.(12/183)
ومنه قوله: والكتب من جهتها مرتقبة لذاتها، لا لما فيها من طارئات الأحوال ومتجدداتها، ويكفي خبر صحته من الأخبار، فلينعم الماء بإطفاء النّار.
ومنه قوله: ووافى الأسطول الميمون في خمسين غرابا «1» ، طائرا من القلوع بأجنحته، كاسرا بمخالب أسلحته، فما وافى شملا إلا دعاه إلى الحين، وحقق ما يعزى إلى الغراب من البين.
ومنه قوله: وكتبت هذه الخدمة ليلا، والخاطر كالناظر كلاهما مشتمل بالظلام شعارا ودثارا، والخطرات كالأنّجم في ليلة الأسى، إن رامت الطريق فحيارى، أو رامت المسير فأسارى.
ومنه قوله: إلى أن طوى اللّيل ملاءته، ومدّ عليهم كلاءته، فإنه دعيّ مأمنه، وبينهم من مناسبة صحائفهم لسواده، ولأن الليل يدعى كافرا فقد خبّأهم في فؤاده، وخاف العدوّ تصريف العنان، فكأنما في يده منه صلّ لادغ، ورأى السيف وماء الموت يترقرق منه، فروي دلاء من إناء فارغ.
ومنه قوله: فأمّا هذه الدّنيا فإنها دار الأكدار، ومثار العثار، لا تسمح بمودّة صاحب إلا(12/184)
لتعرف قدر فراقه، ولا تفسح في حبل لقاء خليل إلا لتجعله عدّة لخناقه.
ومنه قوله: فقلت لصاحبي نجواي: خذا في عرض محاسنه عليّ، لعلّي آخذ منها؛ فقالا: وما الفائدة إذا عجزت في الصلة عن أن تعيد عليه ألفاظه العائدة؟ فقلت:
ليعلم أن كل خير عندي من عنده، وأسأله الصفح عن تقصير بلاغتي عن بلوغ حدّه، وأسره بتقصيري عن مداه وإن كان هذا عهدي بودّه؛ فقالا: أرسل نفسك على سجيتها، وتعرض لنفحات صديقك، فما يبخل عليك بيلنجوجيّتها؛ فقلت: نعم على تفيهقكما في النّسبة إلى اليلنجوج «1» ، وعلى كون حروف هجائها أطول من عوج «2» .
ومنه قوله «3» : الخادم يخدم وينهي وصول كتاب كريم، تفجرت فيه ينابيع البلاغة، وتبرعت بالحكم أيدي البراعة، وجاد منه بسماء مزينة بزينة الكواكب، وهطل منها لأوليائه كلّ صوب، ولأعدائه كلّ شهاب واصب، وتجلّى فما الغيد الكواعب، وما العقود في التّرائب، وتفرق عنه جيش الهمّ، فانظر ما تفعل الكتب في الكتائب؛ وما ورد إلا والقلب إلى مورده شديد الظّما، وما كحّل به إلّا ناظره الذي عشي عن الهدى وقرب من العمى؛ وما نار إبراهيم بأعظم من نوره، ولا سروره صلى الله عليه حين نجا بأعظم في يوم وصوله من سروره؛ فحيّا الله هذه اليد الكريمة التي تنهلّ بالأنواء، وتحرك سوابغ النعماء، وتعطى أفضل(12/185)
عطاء، يسرّها في القيامة، وتحوز به أفضل أنواع الكرامة؛ فأما شوقه لعبده، فالمولى أبقاه الله قد أوتي فصاحة لسان، وسحب ذيل العيّ على سحبان، ولو أنّ للخادم لسان موات، وقلبا «1» يقال له: هيهات؛ لقال ما عنده، وادّكر عهده ووده، وباح بأشواقه، وأذاع الرمز عند اعتناقه.
وأما تفضّله بكذا، فالخادم لا يقوم بشكره، ولا يبطله حقّ قدره، وقد أحال مكافأة المجلس على مليّ قادر، ومسرّة خاطره عليه يوم تبلى السرائر؛ والله تعالى يصله برزق سنيّ يملأ إناه، ويوضح له هداه، ولا يخلي المجلس من جميل عوائده، ويمنحه أفضل وأجزل فوائده، إن شاء الله تعالى.
ومنه قوله «2» : وفي الحال أطافت المقاتلة من جميع أقطاره، ولبّوا تلبية الحجيج، وكلّ من جمرة سهمه كرامي جماره، وعبرت الآجال المسماة سهاما على قناطر القسيّ المحنية، وقدحت زنودها البيض شرار جمر المنية، فصارت الأبرجة مستلئمة بسلاحها، أو كأنها بكثرة ريش السهام طائرة بجناحها، أو كأنها صدور أظهرت حسك الضغائن، أو كأنها لازدحام السّهام بها كنائن؛ إلى أن سرى داء النّقوب إلى المقاتل، ودبّ سكرها بين المفاصل، ورتب الجدران قائمة، والبلاء سائر في أعقابها، متجلدة والنار تحت بنائها، غرّارة بألحاظها، والقبح حشو نقابها؛ فلمّا كان وقت الظّهر ظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ
«3» ، ووقعت القلعة، فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ
«4» ، وتحصّنوا من نيران القضب بنيران الحطب، وقطعوا(12/186)
بين المسلمين وبينهم بطوفان نار كانت القلعة سفينة إلا أنها لا سفينة نجاة بل سفينة عطب، والفرنج الملاعين من وردها عاجلا وإن منهم إلا واردها، وأقحم نفسه فيها فأحاطت بعنقه مقاودها، وبات الناس مطيفين بالحصن والنّار بهم مطيفة وعليه مشتملة، وعذبات ألسنتها «1» على وجهه منسدلة، ومن خلفه مسبلة، ولفحاتها جهنمية وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ
«2» ؛ والبلاء؛ ينادي طبرية بلسان مصابها: إيّاك أعني واسمعي يا جارة»
؛ فولجت النّار موالج تضيق عنها الفكر، وتعجز عنها الإبر، وقال الكفر: إنها لإحدى الكبر، وخولف المثل في أنّ السعادة لتلحظ الحجر «4» ، وأغنى ضوء نهاره أن يسأل معه هذا وذا ما الخبر، إلى أن بدا الصّباح وكأنه امتار منها الأنوار، وانشق الشرق وكأنه من عصفرها صبغ الإزار، فيحنئذ تقدم الخادم فأقلع بيده الأحجار من أسها، ومحا حروف البنيان من طرسها، وأدار فيها كأس المنون دهاقا، وحلّ الرءوس ضربا، وشدّ الأعناق وثاقا.
ومنه قوله: حوشي مجلس سيدنا، ولا زال من كل مكروه محاشى، ودامت الصحة تنشر له علما وتطوي فراشا، وجعل الله ليل الدّنيا بأمنه لباسا ونهارها معاشا، من مرض يمسّه، ومن ألم يحسّه ومن أن يتكدّر من العافية أنسه، وحرس الله نفسه على الإسلام، فإنه نفسه.(12/187)
ومنه قوله: فلو رأيت أطناب الخيم في أعناق الأسارى يساقون بها مقرنين، لحمدت الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ
«1» ولقد شابت خضاب العجاج ما أرسلته رايات الأبرجة من ذوائب مفرقها، وأسلمت وجهها لله وقطعت ذمار خندقها.
ومن مكاتباته يتشوق إلى إخوانه وأودّائه ومحبيه وأوليائه:
ومنه قوله: فأنجدوا المسلمين يا حملة سلاح الصّلاح، وابعثوا سرايا دعواتكم فإنّا ننتظر غبّ سراها الصباح؛ فأنتم في وكر قبلتنا، فلتهن أدعيتكم خفة الجناح.
ومنه قوله: فلولا سدّ سدّته الكريمة لا نفتح على الإسلام ما انفتح من سدّ مأرب، ولولا سيفه لما وجد بعد العصا الكليمية سيف مثلها فيه مأرب، وانتظر فرصة انتهزها في بابه، فما ازدادت الأحوال إلّا ضائقة، ولا العذر إلا اتّساعا؛ والله المستعان.
ومنه قوله: وقد علم الله خدمتي للبيتين الشّريفين- بيت الله بما يعود عليه بالعمارة، وبيت النّبوّة صلوات الله على أهله بما يبقي في عقبه كلمة الإمارة- بمنى نفسه ما دونه جزّ النواصي بل حزّ الغلاصم؛ يروم أن يرتضع أخلاف الخلاف، والله له عن آل الفواطم فاطم؛ فنهض لآل رسول الله كلّ بعيد وقريب، ونصر لواء حمده حتى(12/188)
الصليب، وقوبل عدوه بعدو وحسم داء ومستغيث عجيب، وحينئذ اندفع شير كوه ميمما صعيدا طيبا، وكيف لا يتيمم من عدم الماء قاصدا للقبلة ولن يدار إليها إلا من فارق الدماء.
ومنه قوله: ووقف المملوك على الأبيات النونية التي فتنته فتونا، وزخرت بحرا فصادف منه قافية النون نونا، وأشرقت عليه أبياتها أقمارا، صار القمر لحسدها عرجونا.
ومنه قوله: وحين وقف عليها وقف لها، وحين فتحها ارتج أبواب الهموم وأقفلها وتأملها، ونظر من غرائب الحسنات ما تم بها وما تم لها، فإذا فصل كنعيم أهل الجنة كلما نفد جدد، وكنفس أهل الحياة يلذّ كلما ردد؛ وسيدنا كان لسانه يده في جماح السماح، وكان لسانه في إيراد قرائح الاقتراح، كل عذب قراح.
كتب إلى بعضهم «1» «2» : [الطويل]
أأحبابنا هل تسمعون على النوى ... تحية عان أو شكية عاتب
ولو حملت ريح الشمال إليكم ... كلاما طلبنا مثله في الجنائب
أصدر العبد هذه الخدمة، وعنده شوق يغور به وينجد [ويستغيث] من ناره بماء الدمع فيجيب وينجد، ويتعلل بالنسيم فيغري ناره بالإحراق، ويرفع النواظر إلى السلوان فيعيدها الوجد في قبضة الإطراق، أسفا على زمن تصرم، ولم يبق(12/189)
إلا وجدا تضرم، وقلبا من يد البين المشتّ تظلّم «1» : [الوافر]
ليالي نحن في غفلات عين ... كأن الدهر عنا في وثاق
وما تنفس خادمه نفسا إلا وصله بذكره، ولا أجرى كلاما إلا قيده بشكره، ولا سار بقفر إلا شبهه برحيب صدره، ولا أطل على جبل إلا احتقره بعلي قدره، ولا مرّ بروضة إلا خالها تفتحت أزهارها عن كريم خلقه ونسيم عطره، ولا أوقد المصطلون نارا إلا ظنهم اقتبسوها من جمره، ولا نزل على نهر إلا كاثر دمعه ببحره «2» : [الطويل]
سقى الله تلك الدار عودة أهلها ... فذلك أجرى من سحاب وقطره
«3»
لئن جمع الدهر المشتت شمله ... فما بعدها ذنب يعد لدهره
فكيف ترى أشواقه بعد عامه ... إذا كان هذا شوقه بعد شهره
بعيد قريب منكم بضميره ... يراكم إذا مالم يزركم بفكره
ترحل عنكم جسمه دون قلبه ... وفارقكم في جهره دون سرّه
إذا ما خلت منكم مجالس وده ... فقد عمرت منكم مجالس شكره
فيا ليل لا تجلب عليه بظلمة ... وطلعة بدر الدين طلعة بدره
ونسأل الله تعالى أن يمن بقربه، ورحاب الآمال فسائح، وركاب الهموم طلائح، والزمن المناظر بالقرب مسامح، هنالك تطلق أعنة الآمال الحوابس، ويهتز مخضرا من الشعور عود يابس «4» : [الطويل](12/190)
وما أنا من أن يجمع الله شملنا ... بأحسن ما كنا عليه بآيس
وقد كان الواجب تقديم عتبه، على تأخير كتبه، ولكنه خاف أن يجني ذنبا عظيما، ويؤلم قلبا عليه كريما «1» : [الطويل]
ولست براض من خليل بنائل ... قليل ولا راض له بقليل
وحاشى خلاله من الإخلال بعهود الوفاء، ومن انحلال عقود الصفاء، وما عهدت عزمة الهوى في حلبة «2» الشوق إلا من الضعفاء، وحاشية خلقه، إلا أرق من مدامع غرماء الجفاء «3» : [الكامل]
من لم يبت والبين يصدع قلبه ... لم يدر كيف تقلقل الأحشاء
ومنه قوله في مثل ذلك «4» : كتب مملوك المولى عن شوق قدح الدمع من الجفون شرارا، وأجرى من سيل الماء نارا، واستطال واستطار فما توارى أوارا، ووجد على تذكر الأيام التي ذهبت قصارا، والليالي التي طابت فكأنما خلقت جميعا أسحارا «5» : [الطويل]
وبي غمرة للشوق من بعد غمرة ... أخوض بها ماء الجفون غمارا
وما هي إلا سكرة بعد سكرة ... إذا هي زالت لا تزول خمارا
رحلتم وصبري والشباب وموطني ... لقد رحلت أحبابنا تتبارى
ومن لم تصافح عينه نور شمسه ... فليس يرى حتى يراه نهارا(12/191)
سقى الله أرض الغوطتين مدامعي ... وحسبك سحبا قد بعثت غزارا
وما خدعتني مصر عن طيب دارها ... ولا عوضتني بعد جاري جارا
أدار الصبا لا مثل ربعك مربع ... أرى غيرك الربع الأنيس قفارا
فما اعتضت أهلا بعد أهلك جيرة ... ولا خلت دار الملك بعدك دارا
وما ضرّ اليد الكريمة التي أياديها بيض في ظلمات الأيام، وأفعالها لا تقوم بمدحها إلا ألسنة الأسنة والأقلام، لو قامت للمودة بشرطها، وأمضت خط الأسى بخطها، وكتبت ولو شطر سطر ففرغت قلبا من الهم مشحونا، وأطلقت طرفا في فضاء الاقتضاء مسجونا، ونزهت ناظر المملوك في رياض مشهورة الحلى، وجلت غمومه بمكارم مأثورة العلى «1» : [الطويل]
وما كنت أرضى من علاك بذا الجفا ... ولكنه من غاب غاب نصيبه
ولو غيركم يرمي الفؤاد بسهمه ... لما كان ممن قد أصاب يصيبه
ولمملوكه مذ حطت بمصر أثقاله، وجهز الشام رحاله، وألقت النوى عصاها، وحلت الأوبة عراها، يكتب فلا يجاب، ويستكشف الهم بالجواب فلا ينجاب «2» : [الكامل]
يا غائبا بلقائه وكتابه ... هل يرتجى من غيبتيك إياب
وما يصفي الله ورد الحياة من التكدير، ويحقق بلقائه أحسن التقدير وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ
«3» «4» : [الخفيف](12/192)
وزمان مضى فما عرف الأو ... ول إلا بما جناه الأخير
أين أيامنا بظلك والشم ... ل جميع والعيش غض نضير
وحوشي المولى أن يكون عونا على قلبه، وأن يرحل إثره الذي مذ سار سرّ به، وأن ينسيه بأغباب الكتب ساعات قربه، وأن يحوجه إلى إطلاق لسانه بما يصون السمع الكريم عنه من عتبه؛ الأخ فلان مخصوص بسلام كما تفتحت عن الورد كمائمه، وكما توضحت عن الفكر غمائمه: [الطويل]
إذا سار في ترب تعرّف [تر] بها ... برياه والتفت عليه لطائمه
وقد تبع الخلق الكريم في الإغباب والجفوة، وأعدت عزائمه قلبا فاستويا في الغلظة والقسوة «1» : [من مجزوء الكامل]
إن كنت أنت مفارقي ... من أين لي في الناس أسوه
وهب أن المولى اشتغل- لا زال شغله بمساره، وزمنه مقصور على أوطاره- فما الذي شغله عن خليله، وأغفله عن تدارك غليله؟ هذا وعلائقه قد تقطعت، وعوائقه قد ارتفعت، وروضة هواه قد صارت بعد الغضارة هشيما، وعهوده عادت بعد الغضاضة رميما «2» : [الخفيف]
إن عهدا لو تعلمان ذميما ... أن تناما عن مقلتي أو تنيما
وما أولى المولى أن يواصل بكتبه عبده، ويجعل ذكره عقده، ولا يقصيه ويألف بعده، ويستبدل غيره بعده.(12/193)
ومنه قوله [في] ذلك أيضا «1» «2» : [مجزوء الخفيف]
أكذا كلّ غائب ... غاب عمّن يحبّه
غاب عنه بشخصه ... وسلا عنه قلبه
لو أن لي يدا تكتب، أو لسانا يسهب، أو خاطرا يستملّ، أو فؤادا يستدلّ، لو صفت إليه شوقا إن استمسك بالجفون نثر عقدها، أو نزل بالجوانح أسعر وقدها؛ أو تنفس مشتاق أعان على نفسه، وظنّه استعارة من قبسه، أو ذكر محبّ حبيبا خطر في خلده، وتفادى أن يخطر به ذكر جلده «3» : [البسيط]
حتّى كأنّ حبيبا قبل فرقته ... لا عن أحبّته ينأى ولا بلده
بالله لا ترحموا قلبي وإن بلغت ... به الهموم فهذا ما جنى بيده
ولولا رجاؤه أن أوقات الفراق سحابة صيف تقشعها الرّياح «4» ، وزيارة طيف يخلعها الصّباح، لاستطار فؤاده كمدا، ولم يجد ليوم موعده غدا، ولكنّه يتعلّل بميعاد لقياه، ويدافع ما أعلّه بلعلّه وعساه «5» : [الطويل]
غنى في يد الأحلام لا أستفيده ... ودين على الأيّام لا أتقاضاه
ومن غرائب هذه الفرقة، وعوارض هذه الشّقة، أن مولانا قد بخل بكتابه، وهو الذي يداوي به أخوه غليل اكتئابه، ويستعدي به على طارق الهمّ إذ لجّ في انتيابه «6» : [المنسرح](12/194)
كمثل يعقوب ضلّ يوسفه ... فاعتاض عنه بشمّ أثوابه
وهب أن فلانا عاقه عن الكتب عائق، واختدع ناظره كمن هو كناظره عيش رائق، فما الذي عرض لمولاي حتّى صار جوهر ودّه عرضا، وجعل قلبي لسهام إعراضه غرضا؟ «1» : [البسيط]
بي منه ما لو بدا بالشّمس ما طلعت ... من الكآبة أو بالبرق ما ومضا
وما عهدته أدام الله سعادته إلّا وقد استراحت عواذله، وعرّي به أفراس الصّبا ورواحله «2» ، إلا أن يكون قد عاد إلى ذلك اللّجج، ومرض قلبه وما على المريض من حرج؛ وأيّ ما كان ففي فؤادي إليه سريرة شوق لا أذيعها ولا أضيعها، ونفسي أسيرة غلّة لا أطيقها بل أطيعها «3» : [الطويل]
وإنّي لمشتاق إليك وعاتب ... عليك ولكن عتبة لا أذيعها
الأخ النّظام- أدام الله انتظام السّعد ببقائه، وأعداني على الوجد بلقائه- مخصوص بالتحية الأريحية؛ ووالهفا على تلك السجية السخية، وردت منها البابلي معتقا، [وظلت من أسر الهموم بلقائها معتقا] «4» : [الطويل]
خلائق إمّا ماء مزن بشهده ... أغادى بها أو ماء كرم مصفّقا
ومنه قوله: لو كاتبت سيّدنا بمقدار شوقي لأضجرته، ولو أغببته بمقدار ثقتي به لهجرته.(12/195)
ومنه قوله: ووصف في كتابه شوقا أعانه على وصفه منه ما خذلني منّي، وأخبرني عنه وإنّما أخبرني عنّي.
ومنه قوله: كتب الحضرة لو تتابعت وطالت، عندي بمنزلة المقتنص البهجة، المبتكر اللّذة، فكيف وهي لا تصل إلّا وترا، ولا تزور إلا غبّا، ولا ترخص للهائم إلّا في النّهلة، ولا تنفّس خناق المشتاق إلا بعد المهلة، وهي في أوسع العذر لأشغالها، وفي أضيقه لأشواقي، وقد نالت بأوّل كتبها كلّ المودة، فهي لا تتعب نفسها في طلب الباقي، وأين ذلك الباقي؟ وما أشبه هذه القصّة بقول جميل «1» : [الطويل]
إذا نظرت قالت: ظفرت بودّه ... وما ضرّني بخلي فكيف أجود
وما المراد ما يحمل فيه على الخاطر، فقد عرفت محاسنه الغرر، ولا أن يتأتّى بقدر الرّقي إلى الدراري والغوص على الدّرر؛ وعلى ذكر جميل فأحسن قوله «2» : [الطويل]
وإنّي لراض منك يا بثن بالذي ... لو ايقنه الواشي لقرّت بلابله
ومنه قوله في ذلك أيضا «3» : إن أخذ العبد- أطال الله بقاء المجلس وثبّت رفعته- في وصف أشواقه إلى الأيّام التي كانت قصارا، وأعادت الأيام بعدها طوالا، واللّيالي التي جمعت من(12/196)
أنوار وجهه شموسا، ومن رغد العيش في داره ظلالا «1» : [الطويل]
وجدت اصطباري بعدهنّ سفاهة ... وأبصرت رشدي بعدهنّ ضلالا
وإن أخذ في ذكر ما ينطلق به لسانه من ولاء صريح، ويعتقل جنانه من ثناء فصيح «2» : [الطويل]
تعاطى منالا لا ينال بعزمة ... وكلّ اعتزام عن مداه طليح
ولكنّه يعدل عن هذين إلى الدّعاء، بأن يبقيه الله للإسلام صدرا، وفي سماء الملّة بدرا، وفي ظلمات الحوادث فجرا، وأن يجمع الشمل بمجلسه وعراص الآمال مطلولة، وسهام القرب على نحور البعد مدلولة، وعقود النّدى بيد اللقاء محلوله، وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ
«3» «4» : [الطويل]
فقد يجمع الله الشّتيتين بعدما ... يظنان كلّ الظّنّ أن لا تلاقيا
وما رمت به النّوى مراميها، ولا سلكت به الغربة مهاويها، ولا استجد شوقه من الجفون ما فيها «5» : [الكامل]
أغلت على السلوان شوقكم فما ... باعت كما أمر الغرام من اشترى
ومذ فارقت تلك الغرّة البدريّة، والطلعة العزيزة، ما ظفرت بشخصه نوما، ولا بكتابه يوما، فيا عجبا حتّى ولا الطّيف طارق «6» : [من الطويل](12/197)
وأعجب له في الحرب نثر كتائب ... بكفّ أبت في السّلم نظم كتاب
يحاسبني في لفظة بعد لفظة ... ومعروفه يأتي بغير حساب
«1» ولو رضيت- وكلّا بأن أحمل من هذا الجفاء كلّا- لما رضي به لخلقه الرّضي، ولأخذ بقول الرضي «2» : [الطويل]
هبوني أرضى في الإياس بهجركم ... أيرضى لمن يرجوه ما دون وصله
ومنه قوله يتشوّق «3» : [من الطويل]
فيا ربّ إنّ البين أضحت صروفه ... عليّ ومالي من معين فكن معي
على قرب عذّالي وبعد أحبّتي ... وأمواه أجفاني ونيران أضلعي
هذه تحيّة القلب المعذب، وسريرة الصّبر المذبذب، وظلامة عزم السّكون المكذّب، أصدرتها إلى المجلس وقد وقد في الحشا نارها، والزّفير أوارها، والدّموع شرارها، والشّوق آثارها «4» : [الكامل]
لو زارني منكم خيال هاجر ... لهدته في ظلمائه أنوارها
وإلى «5» الله يرغب أن يجعله بالسّلامة مكنوفا، وصرف الحدثان عن ساحته مكفوفا، ووفود الرّجاء على أرجائه عكوفا، وأن يمتع الوجود بوصفه الذي هو أشرف من كلّ وحيد موصوفا «6» : [الكامل](12/198)
من كان يشرك في علاك فإننّي ... وجّهت وجهي نحوهنّ حنيفا
وقد كان ينتظر كتابا يشرّفه ويشنّفه، ويستخدمه على الأوامر ويصرّفه، ويجتني به ثمر السّرور غضّ المكاسر ويقتطفه؛ فتأخر ولم يحدث له التأخير ظنا، ولا صرفه أن يعتقد أنّ مولاه لا تحدث له الأيام بخلا بفضله ولا ضنّا «1» : [الطويل]
ولو تصرف السّحب الغزار عن الثّرى ... لما انصرفت عن طبعك الشّيم الحسنى
وهو ينتظر من الأمر والنّهي ما يكون عمله بحسبه، وما يثبت له عهد الخدّام بنسبه.
ومنه قوله في ذلك «2» : [الطويل]
ومن عجب أنّي أحنّ إليهم ... وأسأل عنهم من أرى وهم معي
وتطلبهم عيني وهم في سوادها ... ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي
كتبت والعبرات تمحو السّطور، ويوقد ماؤها نار الصّدور، وتهتك وجدا كان تحت السّتور، وترسل من بين أضلعي نفس الموتور «3» : [الخفيف]
قد ذكرنا عهودكم بعد ما طا ... لت ليال من بعدها وشهور
عجبا للقلوب كيف أطاقت ... بعدكم! ما القلوب إلّا صخور
وما وردت الماء إلّا وجدت له على كبدي وقدا لا بردا، ولا تعرضت لنفحات النسيم إلّا أهدى إليّ جهدا، ولا زارني طيف الخيال إلّا وجدني قطعت طريقه(12/199)
سهدا، ولا خطف البارق الشّاميّ فأراه قلبي خفوقا ووقدا «1» : [المتقارب]
وأيسر ما نال منّي الغلي ... ل أن لا أحسّ من الماء بردا
فسقى الله داره ما شربت من الغمام؛ وأيامنا بها وبدور ليالي تلك الأيام تمام «2» : [الكامل]
ذمّ المنازل بعد منزلة اللّوى ... والعيش بعد أولئك الأقوام
وكان قد وصل منه كتاب كالطّيف أو أقصر زورا، وكالحبّ أو أظهر جورا، والرّبيع أو أبهر نورا، أو النّجم أو أعلى طورا، أو الماء الزّلال أو أبعد غورا؛ فنثرت عليه قبلي، وجعلت [سطوره قبلي] «3» بل قبلي، ووردت منه موردا «4» : [البسيط]
أهلا به وعلى الإظماء أنشده ... لو بلّ من غللي أبللت [من] عللي
«5»
إلّا أنّه أبقاه الله ما عزّزه بثان، ولا آنس غربته، وإني وإياه غريبان «6» : [الطويل]
وكم ظلّ أو كم بات عندي كتابه ... سمير ضميري أو جنان جناني
وأرغب إليه، لا زالت الرّغبات إليه، وأسأله لا جثم السّؤال إلا لديه، أن يلاطف بكتابه قلبي، ويمثل بمثاله أيام قربي «7» : [مجزوء الكامل](12/200)
والله لولا أنني ... أرجو اللّقا لقضيت نحبي
هذا وما فارقتكم ... لكنني فارقت قلبي
ومنه قوله جواب كتاب ورد عليه «1» : [الطويل]
شكرت لدهري جمعه الدّار مرّة ... وتلك يد عندي له لا أضيعها
ورد «2» على الخادم كتاب المجلس- أعلى الله سلطانه وثبّته، وأرغم أنف عدوّه وكبته، وأصماه بسهام انتقامه وأصمته، ولا أخلى الدّنيا من وجوده، كما لم يخل أهلها من جوده، ولا عطّل سماء المجد من صعوده، كما لم يعطّل أرضها من سعوده- فقام له قائما على قدمه، وسجد في الطرس مماثلا سجود قلمه، واسترعى الله العهد على أنه تعالى قد رعى ما أودعه في ذمة كرمه، وصارت له نجران علاقة خير صرف إليها وجهه فكأنها قبلة، ودعا بني الآمال إلى اعتقاد فضل مالكها، فكأنما يدعوهم إلى ملّة؛ والله يوزعه شكر هذا الافتقاد على البعاد، ولا يخليه من هذا الرأي الجميل الذي هو عقد الاعتقاد.
ومنه قوله «3» : ورد كتاب [المجلس] ووقفت منه على ما لا يجد الشّكر عنه محيدا، وآنست به القلب الذي كان وحيدا، وعددت يوم وصوله السعيد عيدا، ووردت منه بئرا معطلة، وحللت قصرا مشيدا، ولا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
، وتلك الغاية ليست في وسعي، ولا تعلم نفس إلّا ما طرق سمعها، وتلك المحاسن ما طرق مثلها سمعي، وهذه الأوابد الأباعد ما طالها ذراعي، ولا استقلّ بها ذرعي.(12/201)
ومنه قوله «1» : المملوك يقبّل التّراب الذي يوما يستفزّ بحوافز سيله، ويوما يستقرّ بحوافر خيله؛ فلا زال في يوم السيل «2» جوده سحابا صائبا، وفي يوم الحرب شهابا ثاقبا، وينهي أنّه وردت عليه المكاتبة، التي استيقظت بها آماله من وسنها، وأفادته معنى من الجنة، فإنّه أذهبت ما بالنفس من حزنها؛ وتلقّى المملوك قبلتها بالسّجود والتّقبيل، وتحلّى بعقود سطورها فهيهات بعد هذا شكوى التّعطيل، واكتحل من داء السّهد بإثمدها، وأدار على الأيام كأس مرقدها، وأسمعته نغم النّعم التي هي أعجب إلى النفس من نغمات معبدها «3» ، وأطالت الوقوف عليها بركاب طرفه، فما وقوف ركاب طرفة ببرقة ثهمدها «4» ، وضرع إلى من يشفغ وسائل المتضرعين، ويملأ مواقع آمال المتوقعين، أن يغلّ عنه كل يد للخطوب بسيطة، ويفكّ به كل رقبة للأيام بأعناق منها محيطة «5» .
ومنه قوله: وصل كتاب الحضرة السامية- لا زالت رياض نباتها متفاوحة، وخطرات الرّدى دونها متنازحة، والبركات إلى جنابها متوالية، واللّيالي بإبراز سعادتها متلالية، والأيّام الجافية عن بقية الفصل منها متجافية، تنحر إليها المكرمات إذا لم(12/202)
تكن لها فئة- فأنشده ضالة هوى كانت سدى، ورفع له نارا موسوية، سمع عندها الخطاب، وأنس الخير، ووجد الهدى، وكانت نار العليل في فؤاده بخلاف نار الخليل، فإنّها لا تقبل ندى الأجفان بأن يكون بردا وسلاما، ولا يرى إلّا أضرى ما يكون ضراما؛ وشهد الله لقد كان العبد حصر القول نشوزا، منذ فارقها على تلك الصفة، فلا هو قضى من حقها فرائض لزمت، والله وتعينت، ولا الضرورة في مقامها بحيث تبلغه الشّهادة أذنت، ولا الأيام بالبعد ما أساءت، فإنّها بالقرب ما أحسنت «1» : [الطويل]
وإنّ امرءا يبقى على ذا فؤاده ... ويخبر عنه إنّه لصبور
ونعود إلى ذكر الكتاب الكريم، فإنه سجد لمحرابه وسلّم، وحسنت سطوره فحسبها مباسم تتبسّم، ووقف عليه ووقف المحبّ على الطلل وكلمه ولا يتكلم، وهطل جفنه وقد كان جمادى، وتصفحه وقد كان على تصفّحه المحرم، وجدد له صبابة لا يصحبها أمل، وخاف أن لا يدرك الهيجا حمل «2» ، وقال الكتاب «3» : [البسيط]
إنّا محيّوك فاسلم أيّها الطّلل ... [وإن بليت، وإن طالت بك الطّيل]
وأنشد نيابة عنها «4» : [الطويل]
وإنّ بلادا ما احتلت بي لعاطل ... وإنّ زمانا ما وفى لي لخوّان(12/203)
والله المسؤول لها في عاقبة حميدة، وبقية من العمر مديدة، فإنّها الآن نوح أهل الأدب، وطوفانها العلم الذي في صدرها؛ ولا غرو إن بلغ عمره مدّة عمرها، على أنّه يتحقق خلودها في الجنة بعملها، وفي الدنيا بذكرها، وإن الدارين تتغايران على عقائل فخرها، ولا يتأخران عن إجرائها على عادتها في رفع قدرها، وعلى أنها طالما أقامت على الدّنيا السّكرى، حين أقامت في حدّها من العمر الثّمانين، وأدّبت الأيام بسلاح الحرب من سيفها وسلاح السّلم من قلمها تأديب الخائنين، وما حملت العصا بعد السيف حتّى ألقت إليها السلم، فوضعت الحرب أوزارها، وما استقلت بآية موسى إلّا لتعجز بها أنهار الخواطر وتضرب بحارها، وما هي إلّا رمح وكفى بيدها سنانا، وما هي إلّا جواد تجنب السّنين خلفها فتكون أناملها لها عنانا.
وقوله: ولعله الآن قد عوفي من الأمرين، وقرّت بوجهه العين، وجدّد عهده بنظره، وقرّب عليه لسانه إسناد خبره، وبلّت منه غلة الحائم، ورأت منه هلال الصائم، وطالعها وجه الزمان المغضب بصفحة الباسم، ووفى مواعيد الأنس منه الضّامن الغارم؛ وهو يسلم عليه تسليم الندى على ورق الورد، ويستمدّ الوفاء من غرس ذلك العهد، ولكتاب الحضرة العالية من الخادم، موضع الطوق من الحمام، يتقلده فلا يخلع، ويعجبه فلا يكاد يسجع، ويحكيه طوقا على الأسى، إلا أنه بدرّ الدّمع يرصع؛ وإذا أنعم به فليكن مع ثقة، ويخشى أن يكون هذا الشرط له قاطعا، بل مع من اتفق فإنه كالمسك، لا يدعه العرف الضّائع أن يكون ضائعا «1» : [الكامل]
أكتبه يكتب لي أمانا ماضيا ... وابعثه يبعث لي زمانا راجيا(12/204)
إن أشتريه بمهجتي فقليلة ... فاسمح به فمتى عرفتك مانعا
ومنه قوله: وقف الخادم على ما شرف به طبعه، وشنف به سمعه، وضيق سعة ذرعه، من العتاب الذي خفض له الجناح، واستعذب به الجراح، وأسر فيه بقيد أسى مستطاب لا يراد منه السراح، وقذف به في لهوات ليل لم يودّ أن يبتسم فيه الصباح؛ وقد علم الله أنه بريء من كل ما يوجب المذامّ، ويطلق ألسنة الملام، ومليء من الخدمة بما لا يغضي فيه عن حق سبقه لأحد من الخدام، وأنه لجواد يبذل جهده وما عليه أن يحلب الأيام، وأنه لمستيقظ من حقوق الخدمة إلا أن حظه من أهل الكهف لطول المنام، وما كان تأخره عن المكاتبات التي يخدم بها مجلسها، ويقتدح بها من الإجابة قبسها، إلّا الرغبة أن يكون مقترنا بحصول أمر، فما أسعفته الأقدار بمراده، ولا نجح رائد اجتهاده؛ وكتب هذه الخدمة حين أحصر على ما استيسر من الهدي، قد ركب من قديم الإخلال حدّ النهي، متبرئا من التقصير الذي ما هو منه ولا إليه، ومعوّلا في العذر الذي ما كان مخلوقا قبل خلق يديه؛ ووصل الأمير أن معظم الأنس بمقدميها الكريم، وقدما إلى بلاد صارت كظلّ رامة لا يريم، ولا يؤدّي يومه الجديد ما كان يؤدّيه أمسه القديم، وكيف ما حل أهل هذا البيت، فهم في كل بيت صدوره، وفي كل مطلع نجومه وبدوره، لا تذال أنوارهم بإشارة الأصابع، ولا تتبدل أقدارهم في مصونات المجامع: [البسيط]
يحميه لألاؤه ولو ذعيّته ... عن أن يذال بمن أو ممّن الرّجل
كأن الأرض بهم سماء، فإنهم طوالعها، وكأن الدّنيا بهم رياض، فإن أوجههم زهرها، وأيديهم مشارعها؛ وما يدع العبد غاية من الخدمة لهما إلّا(12/205)
بلغها واعتذر، واجتهد ورأى أنه قد قصّر، لا زالت الأيام ناظمة لعقد المجد ببقاء الواسطة، ولا برحت الجنّة العلياء مصرفة بأيديهم الباسطة.
ومنه قوله: سطّر هذه الخدمة- ثبّت الله قواعد مجده وأرساها، ولا ابتزّ أفنيته حلالها من السّعود وكساها، وقرن بالسّكون والأنوار مصبحها وممساها- في ساعة رحيل قد غرّد حاديه، وسال شطّ واديه، وكان يؤمل اجتماعا يغنيه عن تحمّل منن الأقلام وصنائعها، ويدينه من مشافهة الأنوار التي إلى اليوم ما تناست العيون فضل ودائعها، فأحصرته الأنوار دون منسكه، وعثرته الأيام بذيل العجز في مسلكه، وعزّت جناحه بما لم يستقلّ مجاذبته من شركه، فسارت الراية النّاصرية نصرها الله «1» : [الكامل]
وأقمت بعد، وللزّمان عجائب ... منها ترحّل مهجتي ومقامي
ويعزّ عليه أن لا يتطوّف بربعه، ولا يرى الدّيار إلّا بسمعه، ورضي بما يرضى الرضى من ساكني سلعه.
ومنه قوله: وصل إلى خادم المجلس- لا زال جفن الدّهر عنه كليلا، ولا برح مجده فوق مفرقه إكليلا، ورأيه في غياهب الأمور فجرا ساطعا، وفي مفاصل الخطوب سيفا قاطعا، وشعاع صوابه في ظلام المشكلات شائعا- كتاب منه فكّ منه قفل النفس من أسرها، وحاز لها الأماني بأسرها، وتغلغل لطفا في القلوب إلى حيث مستقرّ المستودع من سرها، وجدد له لهفا لولا التماسك لهفا قلبه بأدنى أنفاسه، وتدرّع(12/206)
من سهام الدهر به ولا غرو أن يدّخر لباسه لبأسه.
وأما الكتب المنعم بها على يد فلان فلم يصل شيء منها، والطرف بها معقود، والقلب إلى حيث ورودها مورود؛ ولا شبهة في أنّ الطريق كالخواطر- وما يعني إلا خواطر نفسه- مربوطة لا تنفد مسالكها، وكم طالع فكرة مظلمة لا تنجلي حوالكها، وهو من كتب المجلس- أدام الله نعمته- بين روضة قد تلاحقت غرر محاسنها، وتناسقت درر معادنها، فمن نورة في كمام، وزهرة في نظام، وثمرة في تمام، ونضرة في ضحى وعبقة في ظلام، فهو من واصلة ومتواصلة، وواقعة ومتواقعة، وطالعة ومتطلّعة، ويانعة ومتنوعة، لا خلت من صوب سحاب خاطره الرّوى يروضها ويروّضها، ويرفع مياسم الجدوب ويقضّها ويقوّضها، وما يحسب الخادم أن هذا الكتاب إلّا مساوقا لوصول الرّكاب الناصريّ إلى الشّام، فهنيئا له أن زاره السحاب الطبق والربيع الطلق، وأن أضاء بمحضره فجّ وأظلمت بمغيبه فجاج، وأن خمدت للمخافة نار واتقد للأمنة سراج وهاج، ومصر وإن كانت دارا، ما خرج عنها من الشام إلّا إلى دهليزها، فإنه عزيز عليها- والله- وعلى أهلها فراق عزيزها.
وأما حال الخادم بعد فرقة الرّكاب المشكور، فوالله لقد عرد قلبه من أمره ووعده، بما لم يف به لا من سلوه بل من صبره، وسار بعد ذلك القلب فما وجد منه عزيمة فيطالبه بموعد نصره، وما خالف عادة تسرعه، وأخلف عدة تبرّعه، إلا أنه كان في غير سفرة ما كان نفض غبارها، وفي إعلال فرقة ما كانت كفأت إسارها، ولا سيما بعد أن أطلعته الأربعون شرفها، ونصبته الخمسون هدفها، فأنكر تلك التي كان عرفها، وفارق عصر شبيبته وما وجد في المشيب خلفها، ولحق أمله ببدنه وكلاهما قد أنهج، وقربته الخمسون مع معترك «1» الستين، وكلاهما(12/207)
قد أزعج؛ والله المسؤول في يقظة قلب وعين، وصحبة تبيين قبل صيحة بين؛ والله المشكور إذا عشي عن المجلس عيون الأيام ولواحظها، وأفهمه إشارات الدّنيا ومواعظها، فقد أبطل بعصاه سحرها، وفضح بقلمه سرّها، وانتضاها فقطع بها ولم تقطعه، ولبسها فخلعها ولم تخلعه، وانتظم أيامها في سلك أعوامه، وغصب أهلها حتى أنوارها، وألقى الجنا على قوامها لا على قوامه، فلا زالت في عمر وريق الأفنان، وثيق الأركان، تتزوّد كلّ يوم فيما يتزود، ويشتدّ ركنها ويتأيد ولا يتأوّد.
ومنه قوله رحمه الله: أدام الله أيام المجلس، وأيده في كلّ مقام ومقال، ووسع له كل مجال ومنال، وأنفذ له كل رسم ومثال، وحرس عهود سعوده من الانتقال والملال، ولا زال مفيد الفوائد، معروف العوارف، منصور الأنصار، ظليل الظّلال، ورفع علمه، وثبت قدمه، ونصر سيفه وقلمه، وكرم شيمه وهممه، وعزز موارد جوده وديمه، وأعدى بها كلّ وليّ على الدّهر إذا ظلمه.
ورد كتاب مولانا الذي هو مولى الكتب وسيدّها وأوحدها، ومورده على القلوب منهلها العذب وموردها، وفيه من الإنعام مالا سبيل إلى شكره، بل إلى شكره، بلسان ذكره، وما لا يقوم الخادم بواجب حقّ بشره إلى يوم نشره؛ وكان وصول الكتاب الكريم، والخادم على قلق لتأخّر الكتب وإبطائها، وشذوذ التّرسّل وتواني خواطر استدعائها، وقد قابل تأخّر الكتب المظفرية تأخّر الكتب الناصرية، وتعاونت الشّواغل على الخواطر، وتواحى طيف خيال السّكون من جانبيهما لجفوة ناظر المشفق الساهر، ولا جرم أن وصولهما صبّحت به بكرة يوم لا يومين، فكأنما كانا على ميعاد، وطرقت الليلة بتوأمين بكتابيهما، فسقيا لليلة هذا الميلاد.(12/208)
ووقف المملوك على ما في الكتاب المظفريّ، ولائح الأمر أنّ المولى قد قلا مصر وجفاها، وأنه خلّى الدّيار تستوحش ممن بناها: [الوافر]
فإن ترك العراق وساكنيه ... فقد تمنى المليحة بالطّلاق
والمولى إذا حلّ في مكان، نهضت عواثر جدوده، وطلعت طوالع سعوده، وكان بنفسه عسكرا، وبذكره عديدا مستكثرا، وجدّد من عزمه حديثا مذكّرا، ولم يحتج معه إلى جيوش في ديوان، ولا إلى سيوف في أجفان، وقام بنفسه النّفيسة مقام الفئة، وأقلق العدوّ في موطنه وحرّم عليه موطئه، والخادم خادم أغراض الخلق في هذه الدّلالة، ولسانه نائب ألسنتهم في هذه المقالة «1» : [الطويل]
[فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله] ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب
ومنه قوله رحمه الله: ورد على المملوك- أدام الله ورد السّعود على الجناب الملكيّ المظفريّ، ولا زالت السّعود تصحبه، والنّوب تخدمه، والشّفاه تلثم ترابه، والسعادة تستمطر سحابه، والوفود تلتزم أبوابه، والأيام تتهيب حجابه، وتيجان الملوك تحفّ ركابه، والأقدار تقرب آرابه، والنّصر يغلب أحزابه- مواهب مولانا المسماة كتبا، وآثار سحبه التي أنبتت من الأسطر عشبا، ولحظت حظّه الحجريّ فأعجب وأعشب، وإن السعادة لتلحظ الحجر فيدعى ربّا؛ لا برحت نعمة مولانا فوق شكر الشاكرين، وكتبه راحة قلوب المنتظرين، وعقلة عيون النّاظرين، ووصل ما سيّر من الحمل إلى الخزانة على يد جامع ورفقته، في وقت الحاجة الدّاعية، والخلّة البادية، والضّرورة المتمادية، وأنفق في الحاشية والتّعدية، وفرّق في أرباب المطالب والمطامع القريبة والمتعدية، وتضاعف الشّكر لمن جمع هذا المال ووفّره، ويسّره(12/209)
وسيّره، واستخدم فيه ناظره ونظره؛ وما يعدّ المملوك ما وصل إلّا موهبة صرفها إليه، ونعمة أسبغها عليه، ومنّة تقلّدها وقلد بها المنن، وصنيعة استرقّته وإن كان قد سلف استرقاقه بأوّل ثمن، فإنّه وفي بذقّة، لسانه، وبيّض وجه ضمانه، وكلّ من وصل إليه شيء من هذا البرّ شكر المولى فأكثر، وفرح بأنّ غرس الرّجاء قد أثمر، ورأى من وجوه رسله أهلة، وظنّ الإحسان عيد صيام الانتظار، فقال: الله أكبر، وتشيع سيبهم عند فيض سنيّ عطائه فتوالى فغفر؛ وبالمعروف، فلولاه لكان قد درست أعلامه، بل لولاه [لم] يعرفه، [و] لكان قد سلبت ألفه ولامه؛ وإنّ غيثا يصبح من مصر بحمص لقد أبعد مرماه، وكرم منتماه، وسما مسمّاه، وسرى طيف الخيال، ولكن إلى من لم ينم، وجرى مجرى النسيم إلا أنه ينفخ الأرواح في النسم؛ وللمملوك سبح طويل في الحمد، ولا بد أن يدخر منه ما يستأنفه عند تكملة الإنعام، على أن يشرع في الشكر عند كل مسألة، ثقة بما وراءه من الاهتمام؛ فأما العافية الشاملة لأهل الإقليم، فكيف لا تشملهم وسيف المولى الطبيب، ومهابته دون محبوب الأعداء منهم والرقيب؟
وكيف لا يأمن الغاب وهو مسبع؟ وكيف لا يتوقّى وهو مشرع؟ لا عدموا هذا الظل فإنه كثيف، وهذا الطبع فإنه شريف، وتلك الحماية فإنها الأمان، وتلك الولاية فإنها زمان لا يرجى مثله من الزمان.
ومنه قوله من كتاب إلى الملك المظفّر تقيّ الدّين «1» : أصدر المملوك هذا الخدمة من ظاهر حماة، وهو ينظر إليها نظر المحبّ إلى الحبيب، ويتذكر منها أيام الخدمة التي هي وطنه، ولو نأى عنها- وهي في(12/210)
فطنه- لكان كالغريب، ولولا حياء المملوك من مصر لكان بشّرها وأهلها من قربه منهما بفرجهما القريب، ولكن لا بد من عصبية لمصر، فلا نفجؤها بمشيئة الله من ذكر يوم فراقه باليوم العصيب، وآثار المولى على قلعة بلدها بمكان التيجان من الرّءوس، وذكره بين أهلها من ناسك وخليع، يفتح المصاحف ويدير الكؤوس.
وكان ورود الركاب العالي الناصري نصره الله إليها في يوم كذا، أحسن الله تقضيه، والمرض قد أحسن الله في تقصيه، والشفاء قد أنعم الله به على سلطاننا وعلى من يليه، فيالها من نعمة لا عذر فيها للشكر إذا اعتذر، ويا لها موهبة منّة منّ الله بها، آمن الذي أمن بها وبهت الذي كفر، وياله صفو لا كدر فيه، وكلّ صافية لم تخل من كدر.
ومنه قوله: لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ
«1» فسبحانه جلّت قدرته جلّاها، وقد بلغت القلوب الحناجر، وفرّجها وقد بلغت الدّموع المحاجر، ومنّ بالسلطان على الخلق، وأقامه ليعتمّ به إن شاء الله دين الحقّ، فالمملوك يبشر مولانا- أدام الله له البشرى- بالعافية النّاصرية، وقد سار المبشّر عنّي بكتبه كما يقول المقلّل والمكثر، وقد سيّر المملوك كتابه الكريم لما فيه من زيادات، ولما تضمنه من متجددات، وعند مولانا له كتب كثيرة قد قضى منها الوطر، وقد نزه فيها النّظر، وقد وجب أن يردّ طيرها إلى وكرها، وعرائسها إلى خدرها؛ وأصدر المملوك هذه الخدمة ساعة سير السائر، كما أن المكاتبة بما قبلها قد كانت أم الكبائر؛ وغير ذلك فهو ينهي وصول كتاب مولانا، ومطالعة مولانا النّاصرية بخطّه، التي أنعم بتسييرها مفتوحة، وأفاد المملوك كلّ فائدة، بالوقوف عليها، وقد سيرّها فكان وصولها من حسن الاتّفاق، وكتابتها من سعادة(12/211)
كاتبها تأتي عند العشيّ بالإشراق، لأنّ مولانا هنّأ بها عن العافية الأولى المكتوب بها، لينقطع الإرجاف، فصارت الآن هناء بعافية لا خلاف في أنها ما فيها خلاف.
ومنه قوله: أدام الله سلطان الديوان العزيز، ولا زالت كتائب أعلامه تكتب أقلامه مرفهة، وأحلام وفاقه مرشدة، وأحلام أهل خلافه مسفّهة، وسيوف عزائمه تستوعب كلّ حديث حسن، فلا تبقي إلّا أحاديث عن السّيوف مموهة، والقول بتوحيد فضل خلافته لازما، فلا يقبل شبه المعطّلة ولا تعطيل المشبهة؛ وأفعالها التي يبتغى بها وجه الله باسمه الشّريف في الملكوت الأعلى منوهة، ولا زال قوله بلغا، وأمره بالغا، وفضله سائغا، وفضل الله به سابغا، والحالي بعده للعاطل فاضحا، والحقّ للباطل دامغا، وإخلاص فطرة لا يدع للكفر شيئا غابطا، ولا للنّفاق شأنا نابغا.
الخادم يذكر أنه ورده، بل أورده من سدى الديوان، بل من أفق الإحسان، كتاب مرقوم، بل سحاب مركوم، أثبت في الأسماع، بل أنبت في الطباع، العقد النّقيّ، وأهدى إلى البصائر الصّادقة، بل أبدى للأبصار الرامقة، أي سابقة أنس، بل أي شارقة شمس، فأضاء الفضاء بنوره، وضرب بينه وبين الظلماء بسوره، فاستقلّت ملوك المعاني على سريره، ودخل الفهم حينه، ورفلت اللّيالي في حريره، ونقلته عينه في الحال إلى ضميره، فأنست معانيه بما هناك من عقائد اختصاص، وموارد إخلاص، مستقرّة في حيث لا تجري كلّ الأسرار، ولا تسري كلّ الأنوار، ولا تستودع إلا عقود التكليف، وخواطر التعريف، فألقت عصاها، ولقيت من أطاعها وما عصاها، وحلّت حيث حلّت، وجلّيت حيث جلّت، وانتدبت العزمات بمراجعتها، فهي المرآة إلّا أنّ الصّدأ مصدود على صفحتها،(12/212)
وهي العينان، إلّا أن الليل والنهار سواء في وصف صحتها، وهي القلق، إلّا أنّ العيون دائمة الاستمتاع بلمحتها، وهي الرّوض، إلا أن أنفاس النسيم منافسة في العبارة عن غير نفحتها، وهي المذكرات الأنفس بالله، إلا أن أسطرها سلوكها، وحروفها درر صفحتها «1» ؛ ولا زال الخادم إلى مثل هذه الفقر فقيرا، وبها على نفسه بصيرا، وإذا أنعم بتسييرها إليه عدّها نعيما مقيما، وإذا ملكها رآها ملكا كبيرا، وما تردّ واردة من الدار العزيزة، وذلك أنّ المواصلة ما فرغوا إلى دار الخلافة إلى أن فرغوا، وإلا فطالما طمع أولهم كما طمعوا، وقديما دعوا إلى طاعتها فما سمعوا، وسمعوا فما انتجعوا؛ ولا يربّى الصغير إلا بما ربّي «2» عليه الكبير، ولا سبّ على جناية الأول إلا بما جناه الأخير، وقد كانت دولة العجم بالعراق استعلت ثم استفلت، وهبّت ثم وهنت، فتعبت رجال الليالي والأيام، وأولو تدبيرات السّيوف والأقلام بدار الخلافة، إلى أن صرفوا العدى عن موردها، وأبعدوا الأذى عن معهدها، واستقلّت الخلافة وحدها، ولزمت الأمور حدها؛ وإذا كانت المواصلة قد تقطعت بهم الأسباب، وأوصلهم حساب الحرب إلى العقاب، وتبرّأ الذين اتّبعوا من الذين اتّبعوا، وتفرّق الذين اجتمعوا بعد ما جمعوا، ففريق فرّ نازحا، وفريق قرّ مصالحا، وفريق على البعد راسل مستصلحا ومتطارحا، وفريق فتح بلده الذي كان التقليد له فاتحا، فلم يبق للمواصلة إلا أن يأووا إلى جبل يعصم من الماء، ويتعللوا بسراب بقيعة لا متعلل فيه للظمأ، ومعلوم أنهم إذا اختلبوا تلك الجهة، عادوا عود طائر نقّاق إلى عشه، واسترجعوا خاتم ملك، فربما رجع الأمر جاريا على نفسه، وما أولى ولاة المناصب، وكفاة المراتب وحملة الأمانات، وخدم سدّة السادات، إلى أن يفيقوا لهذه العمرة حق(12/213)
الإفاقة، ويلحظوا طليعة هذه العواقب، ولا يهملوها إلى أن تجيء في السّاقة، فهذا في مصالح الدولة الجزئية.
فأما المصالح الكلية؛ فإن عواقبها منهم عظيمة، وبوائقها بأيديهم وأيدي قديمهم قديمة، فشدّ ما أخذوه بالأمس برا بلئيم وبرءا بسقيم، وهرب من لا حيلة فيه، فاستبيحت منه حرمة وحريم، فكم عين أزعجوا عنها إنسانها، وكم يد بانوا منها بنانها، ومنهم أولاد ابن زين الدين علي كوجك «1» ، التابع للخادم الآن، فإنّهم كشفوا منهم وجوها مصونة، وهتكوا منهم عورات أمينة، وحكّموا فيهم نظرات ظنينة، وطافوا بهم البلاد نهارا، ولم يخافوا لله غضبا، ولم يرجوا له وقارا، كذلك وجدوا آباءهم على أمة فاقتدوا بآثارهم، وعلى إيقاد نار حقد يستجمعون بهم في نارهم.
فأما الجبايات التي يأخذونها من الرعايا ظلما، وتضمين الشريعة لمن لا يمضي الله له على لسانه ولا يده حكما، واستباحة ملك الأوقاف والأيتام، والتفرقة في الحكم بين الخاص والعام، فكلّ ذلك ممام لا يسع خليفة الله إقرارهم على حيفه، ولا يعذره الله سبحانه في ترك مجاهدتهم بكتابه إلى عبده الذي جاهدهم بسيفه، ولا خفاء أنهم غابوا عن الجهاد للكفار، وحالوا بين الفرض وبين أولي القوة عليه والاقتدار، فلا يقنعون بأنهم لا يجاهدون إلى أن يمنعوا من يجاهد عنهم، وبأنهم لا يساعدون المسلمين إلى أن يساعدوا عليهم عدوّهم الكافر، فقد تولّوا الشيطان تليدا وطريفا، ووطئوا الإسلام وأهله وطئا عنيفا، فإذا جاء وعد الآخرة جاء الله بهم في زمرة الشياطين لفيفا، فإن لم يرجع إلى الخادم(12/214)
فليرجع إلى قول الله تعالى: فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً
«1» .
والقوم فما أبقوا للصّلح موضعا، ولا تركوا في رجعة مطمعا، ولا تخلّفوا عن سوء بلغوه ناظرا ومسمعا؛ فالمسلم القريب استزلّوا يمينه، والمسلم البعيد استخفّوا سكينه، والكافر استنصروا سيفه، والحشيشيّ «2» استصرخوا سكّينه، والأموال التي في بلاد تقليده أكلوها وأضاعوها، وأمانات الله ابتغوا بها ثمنا قليلا فباعوها، والذّخيرة التي كانت بقلعة حلب لو أنّ لها لسانا يتكلم تظلّم، ولو أن لذهبها الذي تصرم فؤاد تضرّم، وحملت إلى الكفار فضربت بها أسنّة يطاعن بها صدور المسلمين، أو بقيت في أيديهم فضيّعت لتنتهك بما فيها حرمة الدين، ومتى استشفّ النّظر العالي حال الخادم معهم لمح أنه من مبدأ وصوله إلى الشام الذي نوى به في الكفار إقامة الجهاد، وفي الإسماعيلية إماتة الإلحاد، وفي المسلمين إزالة الفساد، شغلوه ثلاث سنين عن هذه الفرائض، وجاءته قوارص لا تحتقر وقوارض، وقد استولوا على حلب بلا حجة، وأخذوا ما فيها من الأموال بلا شبهة، وخرجوا عن اليمن المعقودة بلا معذرة، واستفزّوا من وافقهم من أمراء المسلمين بلا جريمة؛ والخادم على أن أجاب رسلهم بأنّي قد رضيت الدّيوان العزيز حكما، واخترت من اختاره الله للمسلمين قيّما، فكان هذا الجواب [سببا] أن يفرّوا إلى الفرنج، فحالفوا كفرتهم عليه، وإلى الإسماعيلية فأنهضوا مجرمهم إليه، ونازلوا طرف بلاده، وهو متوسط بلاد الكفار، فهدموا قلعة من قلاعها كانت زينة سلم ومفزع حذار، وراسلهم واستنزلهم، وقال لهم قولا لينا، أنه(12/215)
يحملهم به عنه، فحملهم، ثم ما برح كلما طوى بلادهم، وجاز مدنهم، يمحضهم المناصحة، ويدعوهم إلى المصالحة؛ وممن عرضها عليهم على يده فامتنعوا، وشافههم على لسانه فما سمعوا، شيخ الشّيوخ، وإن سئل عن الشّهادة أداها، وإلى مسطوره في الدّيوان أبداها، وبعد مصدر فلان عنه حشد عليه ملوك الأقطار، وخرجوا من دمنة القرية المحصّنة والجدار، وتحرّك إليهم فتحركوا لكن قدامه لا إليه، وراح إليهم فراحوا عنه، وكان ينتظر رواحهم عليه، وقتلهم السّيف وهو في غمده، وكفى ما كان متوقعا من قبل جدّهم وقبل جدّه، وقد أخرجوه إلى أن أقطع البلاد الحلبية والجزيرية والموصلية لمن يخدم عليها، وسبقوه بين يديه إليها؛ والله سبحانه فقد أخذهم بما علم وعلموا، وتمكن منهم بما ظلموا، وما استبقاهم إلا ليكرر عليهم الرقّة، فقد رقّت لتقتل الشفار، ولا لألين القول فقد سمّى ليذبح الجزّار؛ فإن كان التعلّق بالدار العزيزة وهم يحاصرون دار السلام بأحزابهم، ويرامون التّاج الشريف بنشابهم، ويصافّون الخلفاء مصافّة المواقف، ويكاشفونهم مكاشفة المخالف، ولو تحرك اليوم متحرك كانوا له كنانة، ولكانت دارهم له خزانة، ويعلم أن الخادم ما ذهبت عنه؛ ويرجو الخادم بالموصل أن يكون الموصل إلى القدس وسواحله، ومستقرّ الكفر من القسطنطينية على بعد مراحله، وبلاد الكرج؛ فلو أن لهم من الإسلام جار لاستباح الدار، وبلاد أولاد عبد المؤمن؛ فلو أن لها ماء سيف لأطفأ ما فيها من النّار، إلى أن تعلوا كلمة الله العباسية الدّنيا، وتعود الكنائس مساجد، والمذابح المستعبدة معابد، والصّليب المرفوع حطبا طريحا في المواقد، والنّاقوس الصّهل أخرس اللهجة في المشاهد، هذا كله يجري بمشيئة الله في السيرة الناصرية، فتحلّى بها السير، ويجلّى بها الغير، ولا يكلّف الخادم مالا ولا مددا، ولا يتخلّف عن نصرة ولي الله إذ كاد أعداء الله يكونون عليه لبدا، ولا يقول أنه ينقص ما في الديوان بل يزيده، ولا يستفيده بل(12/216)
يفيده، وإن استعظم هذا المأمول، واستقصر دون هذا المبذول، فالذي وقع أعظم من الذي يتوقع، والذي طلع أكثر من الذي يتطلع، والذي رأى أمس أكثر من الذي يسمع، وقد علم الله سبحانه أنه لا يريد دنيا يريدها لدنيا يتزيدها، ولكن ليقوى بها على تقوى يتزودها، فإن أعين على النّية، وإلا فقد حصل أجرها، وإن نجح جهد الإرادة في الدّنيا، وإلا فقد سرّ في الآخرة سرّها.
ومنه قوله: كلّ ما يرد على عبد المجلس- لا زلت المسارّ على جانبه واردة، والأيام بامتداد عمره واعدة- من أنفاسه العطرة، وكتبه البهجة النّضرة، ولاء رأيه التي تمطر من صدرت إليه صوب الصّواب، وتجعل لمن صدرت عنه ثوب الثواب، وتشهد له بالفضل الذي ليس له جاحد، وتذكرت بيت أبي عبادة «1» : [الطويل]
ولم أر أمثال الرّجال تفاوتوا ... إلى الفضل حتّى عدّ ألف بواحد
ثم سلك عبده غير هذا الجدد، ولا يقف عند هذا العدد، وينشد قول الآخر: [الطويل]
وما النّاس إلا قدحة أنت زندها ... وقطرة غيث أنت منشي سحابها
فلا عدمت دول الإسلام، وصدور الأيام، منه البقية الصالحة، والحسنة الراجحة، والسيف الذي يبلي الأيام فهي غمده، وينظم الساعات محاسن فهي عقده، وإن تأخرت خدم عبده عن مجلسه، وأمسك عن أن يقابل بدجاه نور قبسه، فقد علم أدام الله نعمته أن الطريق ليس بقاصد، والعدو ليس بواحد، وأن(12/217)
الكتب لها أقوام سوء في الطرقات، يقصدونها ويرصدونها، وأن فلجات الشام قد حال دونها؛ إلّا أن الأمور بمشيئة الله، قد سفر وجه صلاحها، والليلة قد دنت من صباحها؛ والله تعالى يتم ما تعد به المخايل المتوسمة، ويحمد الإسلام وأهله عواقب هذه المخايل المتنجمة.
ومنها: وقضايا كلها توجب أن ينعكف المجلس على فرض يؤديه، ونصح يهديه ودعاء لمولى النعمة يحفيه، والله مظهر أثره ومخفيه، مع أنه لا يدفع عن منزلته العليا ودرجته الكبرى من القلب الأصمع، والروع الأروع، والعزمات التي هي كألطاف الله التي منها الواقع ومنها المتوقع، فما حصر قط في مأزق إلا سفر عن نصر تبين فيه الأرواح من ثيابها، أو عن سلم يأتي فيها البيوت من أبوابها؛ وأما القرية المسؤولة فهي من البغاث الذي لا يصيده ذلك الجارح، وإن هذا ميدان يضيق عن شأو ذلك القارح.
ومنه قوله: وصل- وصل الله المجلس السامي بأفضل وصائل نعمه، ولا أخلى الدّين من الفخر بأمس سيفه ويوم قلمه، وحمل مواقف الجهاد بثبوت قدمه وخفوق علمه، وأدام تذكار خواطر الإسلام لأيام ذي سلمه، وأمتع المجد بأيام حياته التي هي تواريخ فخره وأيام حكمه- كتاب منه كريم، وكلّ ما يصل منه ما يعدّ إلا كريما، وكلام شريف شفّ يدا كلميّة وشفى فؤادا كليما، وخطاب عذب فاض على الأعين روضا، وجرى على الأكباد نسيما، وأبان منه على الحفاظ المحفوظ في شيمته، ولا نحسبها ينساه يوم لا يسأل حميم حميما؛ أكرم كتابا نقع الغلّة فطرأ وطرا، وفرج العلة فجرى مخرا، وأوضح محجة النّور لسالكها فبدا بدرا،(12/218)
وسقى ماء الفضل فزها زهرا، وسبح الله قارئه وأجرى أجرا، ومن الناس بسخط يكون للدّنيا زينا وللآخرة ذخرا؛ وقد علم الله أن العبد ليمتاح من بحرها، ويرتاح إلى ذكرها، ويستقصر سعيه، وإن كان يستوعب الأشواط ولا يرى علمه كفء نيته في الخدمة، وإن كان مستوفي الأشراط فإنه حسنة في الدهر، بالإضافة إلى أهل بيته وكلهم حسنات، وغرسة في الدهر كأنما كان آباؤهم رحمة الله عليهم من جناة الجنّات، ولقد أعجبوا وأنجبوا، فهم المعنيّون بقوله: ألكم البنون ولهم البنات «1» .
ومنه قوله: وصل- أدام الله أيام المجلس، ولا زال سيبه مسئولا، وسيفه في الحقّ مسلولا، وأمره مقتبلا ومقبولا، وعدوّه بالإحسان- أو بإساءته إلى نفسه- مقتولا، ووليّه على النّجاة في الدارين مدلولا، وبشر وجهه بجود يده رسولا، والغمام لا يطمع بأن يكون لتلك اليد في مضمار الكرم رسيلا- كتاب كريم يحمل على يد فلان، وثان «2» على يد القاضي الواصل إلى مصر، ولم تزل أيادي المجلس تتصل إلى أوليائه قربوا أو بعدوا، وقصروا في الخدمة أو اجتهدوا؛ ووقف على الكتابين الكريمين اللّذين قبلهما على أنهما يدان، واهتدى بهما على أنهما فرقدان، وإن لم يكونا يدين يقبّل ظهرهما، فإنّهما يدا نعم يجب شكرهما، وإن لم يكونا فرقدا ليل أنارا في سواد، فإنّهما فرقدا نهار أنارا في مداد؛ وما يخرج عن تلك اليد، ولا يصدر عن ذلك الصدر إلّا كلّ ما تكشف به الأنوار، وتروّح به الأسرار، ويجلب به المسار، وتجدد به المبارّ، ويبقى به شرف لا يخلق جديده جديد اللّيل والنّهار.(12/219)
وأورد نجم الدين من الأحوال هناك، والضّرورات إلى الكثير والقليل، وحسن السيرة المشتملة على الجميل، وأنه بمصر أدام الله ظلّه على مشقات العفاف، ويسلك لنفسه القصد ويعطي منها الأشراف، وأن كرمه لا مادّة له ولا حاصل، ورواتب نفقاته لا أصل لها ولا واصل، وكلف خرجه لا محمول لها ولا حامل، وذكر ذلك في كلّ مشهد حضره، وفي كلّ موقف وقفه، وبين يدي كلّ كبير عرفه، ورقاه إلى العلم النّاصري فأثبته فيه ومكّنه وكشفه، وتبع هذا الفقيه نجم الدين رأي أبيه رحمه الله في خدمة هذا البيت الذي كان يتعبّد به، ولولا الغلوّ لقلت: وكان يعبده، ومضى شهيدا في جنة رحمته مستشهده، ووجب أن يلحظه المجلس بعين صاحب سابق، ومحب صادق، وذوي سريرة لا يخجل بها الواثق، وذي كفاية ينفذ في الأمور نفاذ السهم المارق؛ فما كلّ صاحب له وجاهة في كل مكان، وإن كانت له وجاهة فقد لا يكون له جنان، وإن كان له جنان فقد لا يكون له لسان، وإن كان له لسان فقد لا يكون له بيان؛ وهذا يجمع هذه الشرائط، ويحضر في عقود المجالس فيكون فيها مكان الوسائط، ويفي لسانه وقلبه بإدراك الفوائد واستدراك الفوارط؛ فهو أحقّ عبد تضمّ اليد على رقّه، وأولى وليّ يجازى بتصديقه وسبقه، على أن الآمال العظيمة، والمطالبة الكريمة تبلغ به الهمّة الفخرية بأيسر العزمات وأدنى الحرمات؛ ولم يذكر في هذه الإجابة ما ذكر من أمره، إلّا أن كثيرا من الرسل الواردين والأصحاب الوافدين، يسعى في قصد مرسله ومقصده، وهذا سعى لمرسله بمفرده، وما جعل حظّ نفسه وغاية قصده إلّا الخدمة وبلوغ غرضها، وشكر النّعمة والقيام بمفترضها؛ وإذا وردت الكتب الفخرية جددت بورودها فخرا، وفرضت على لساني مع شكره الذاتي شكرا، وعلى القلب مولاة إلى مولاة أخرى «1» ؛ وردت على المملوك مكاتبة كريمة،(12/220)
رفعها حيث ترفع العمائم، ومدّ إليها كما يمدّ إلى الغمائم، وفضها بعد أن قضى باللّثم فرضها، واستمطرت نفسه سماءها فأرضت أرضها، وكاد المملوك يتأملها، لولا أن دمع الناظر إلى العين سبقه، على أنه دمع قد تكون بتلوّن الأيام في فراقه، فلو فاض لعصفر الكتاب وخلّقه، فلا أعدمه الله المولى حاضر وغائبا، ومشافها ومكاتبا، وأحله في جانب السعادة، ويعزّ على المملوك أن يحلّ من مولانا جانبا.
ومنه قوله «1» : ودر كتابه، ووقفت على ما أودعه من فضل خط وفصل خطاب، وعقائل عقول ما كنّا لها من الأكفاء، وإن كانت من الخطّاب، وآثار أقلام تناضل عن الملة نضال النّصال، وكأنها فضل سبق لما يحوزه له من حق السبق وخصل الخصال، فأعيذ الإسلام من عدمه، ولا عدم بسط قلمه وثبوت قدمه، فإنه الآن عين الآثار وأثر الأعيان، وخاطر الحفظ إلا أن الخطوب تصحب فيه خواطر النسيان، ولئن انتصر الدهر سطوا، واختصر خطوا، فإنه سيف يمان، إن قدم عهدا فقد حسن فرندا وخشن حدّا، وأجرى نهرا وأورى شررا، واخضر خميلة، وقطع للأيام جميلة، وضارب [الأيام فأجفلت عن مضاربه ضرائبها، وشردت عن عزمه غرائبها،] ، ولبسها حتى انهجت بوالي، ثم اختار منها أياما وأبى أن يلبسها ليالي.
ومنه قوله «2» : وصل كتاب الحضرة، فجعل مستقره مستقر النعمة في الصّدور، وأخرجتني ظلمات خطه إلى نور السرور، ووقفت وكأني واقف على طلل من الأحبة قد بكى عليه السحاب بطله، وابتسم له الروض عن أخبار أهله، فلم أزل(12/221)
أرشف مسك سطوره ولماها، وأنزه العين والقلب بين جنيها وجناها، وأطلق عنان شوق جعلت الأقلام له أنجما «1» ، وحسبت النّقس ليلا، والكتاب طيفا «1» ، والوقوف عليه حلما، إلى أن قضت النّفوس وطرا، وحملت الخواطر خطرا، وقرنته بما ظنه سحابا ما ظنه مطرا؛ هذا على أنه قريب العهد بيد النّعماء، فإن هرب فمن ماء إلى ماء.
ومنه قوله «2» : وقف على الكتاب [و] ، جدد العهد بلثمه، لما لم يصل إلى اليد التي بعثته، وشفى القلب بضمه، عوضا عن الجوانح التي نفثته «3» : [المتقارب]
وأين المطامع من وصله ... ولكن أعلل قلبا عليلا
ومنه قوله رحمه الله «4» : وصل كتابه، فكان من لقائه طيفا، إلا [أنه] أنس بالضّحى، وأثار «5» حرب الشوق وكان قطب الرّحى «6» : [الطويل]
تخطّى إلى الهول والقفر دونه ... وأخطاره لا أصغر الله ممشاه
ومنه قوله يصف بلاغة كتاب «7» : كتاب إلى نحري ضممته، وذكرت به الزمن الذي ما ذممته، وأكبرت قدره، فحين تسلمته استلمته، والتقطت زهره فحين لمحته استملحته، وامتزج بأجزاء(12/222)
نفسي فحين لحظته حفظته، وجمعت بينه وبين مستقره من صدري، واستطلت به مع قصره على حادثة دهري، وجعلت سحره بين سحري ونحري، واستضأت به ورشفته فهو نهاري وهو نهري؛ فإن أردت العطر بلا أثر أمسكت مسكه بيدي، وإن أردت السّكر بلا لثم «1» أدرت كأسه في خلدي؛ فلله أنامل رقمته ما أشرف آثارها، وخواطر أملته ما أشرق أنوارها! ولم أزل متنقلا منه بين روضة فيها غدير، وليلة فيها سمير، وإمارة لها سرير، ومسرة أنا لها طليق أسير، ونعمة أنا لها عبد بل بها أمير، حتّى أدبرت عنّي جيوش الأسى مفلولة، وقصرت عني يد الهم مغلولة، وملئت مني مسامع المكارم حمدا، وخواطر الصنائع ودا، وحطّ الأمل بربعي رحله، وأنبت الربيع بفنائى بقله، ولبست من الإقبال أشرف خلعة، ووردت من القبول أغزر شرعة، وانتعجت من رياض الرجاء أرجى نجعة.
ومنه قوله «2» : هذا مع عفو الخاطر، فكيف إذا استدعى المجلس خطيّة خطه فجاءت تعسل، وحشد حشود بلاغته، فأتت من كلّ حدب تنسل.
ومنه قوله «3» : ورتع في رياض بلاغته التي لم يقتطفهنّ من قبله غارس ولا جان، واجتلى الحور المقصورات في الطّروس التي لم يطمثهنّ إنس قبله ولا جانّ، وغني بتلك المحاسن غنى خير من المال، واعتقد فيها كؤوسا إذا شاء أنفق منها الجمل، وإذا شاء أمسك منها الجمال.(12/223)
ومنه قوله أيضا: كتاب اشتمل على بديع المعاني وباهرها، وزخرت بحار الفضل إلا أنني ما تعبت في استخراج جواهرها، بل سبحت حتى تناولتها، وجنحت إليّ فما حاولتها، واقتبست من محاسن أوصافه، وبدائع أصنافه، نكتا استقلت أجسامها بالأرواح، وزهت جيادها بما فيها من الغرر والأوضاح، فيالله من بدائع وروائع ولطائف وطرائف! فيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين، وما يقرّط الأسماع وتقرظ الألسن، كأنه طرف طرف صوبه مدرار، وعلم علم منصوب في رأسه نار؛ صحّح السحر وإن كان ظنا، وفضح الدّرّ وإن كان أبرع معنى وأسنى حسنا، وأدنى مجنى وأغنى مغنى، فما ضرّت أخير زمانه مع تقدم بيانه، ولا من سبقه في عصره مع أنه قد سبق في مصره.
ومنه قوله «1» : ولله هو من كتاب لما وقفت عليه الغلّة شفاها، وحدثها الودّ شفاها، ورأت وردها كل ماء غيره شفاها «2» ، ووطئ مضاجع أنسها بعد أن كان الشوق يقلب الجنوب على شفاها «3» ؛ فلا عدم ودها الذي به عن كل مودة سلوة، ولا برحت كفاية الله تحلّها في الذّرى وتعلي قدرها في الذّروة، ولا فقد مما ينعم به أي نعمة، وما ينشيه أيّ نشوة.
ومنه قوله: كتاب كريم تبسّم إليّ ضاحكا، وظن مداه أنه قد جلا سطره علي حالكا، فما(12/224)
هو إلا سواد الحدقة منه انبعثت الأنوار، وما هو إلا سويداء ليلة الوصل اشتمل على دجى تحته نهار، فلله هو من كتاب استغفر الدهر ذنب المشيب بسواده، واستدرك الزمان غلطه بسداده.
ومنه قوله «1» : كتاب تقارعت الجوارح عليه فما كادت تتساهم، فقالت اليد: أنا أولى به؛ شددت على مولاه ومولاي عقد خنصري، ورفعت اسمه فوق منبري، وقبضت عليه قبضتي، وبسطت في بسط راحته وقت الدّعاء راحتي؛ وقالت العين: أنا أولى به؛ أنا وعاء شخصه، وإليّ يرجع القلب في تمثيله ونصّه، وأنا سهرت بعد رحيله وعندي وحشة، وأنا أذكر ذكر هجير القلب عليه رشة بعد رشّة؛ فقال القلب: طمعتما في حقّي لأني غائب، وهل أنت لي يا يد إلّا خادم؟ وهل أنت لي يا عين إلّا حاجب؟ أنا مستقرّه ومستودعه، ومرتعه ومشرعه، وأنا أذكّره وبه أذكركما، وأحضره وبخدمته أحضر كما؛ فاليد استخدمتها مرة في الكتاب إليه، ومرة في ملاحظة وجهه غائبا وفي توقّع لقائه آئبا، وفي السّهد شوقا إلى قربه، والمطالعة لما يخرج أمري بكتبه من كتبه؛ فهناك سلّمنا واستخرنا، واكتفينا واستأخرنا، وكدت أرشف نقسه إلى أن أنقله إلى سويداه، لولا أنّ سواد العين قال: أنا أحوج إلى الاستهداء بهداه.
ومنه قوله: ورد كتاباه الكريمان فسرّا وبرّا، وتصرّفا في القدر فنصبا، وفي الطّرف فرفعا، وفي الأنس فجرّا، وما وقف على صدر منهما إلا شهد القلب بأنه أولى الصّدور بأن يكون صدرا، ولا أهديا إليه يدا كبرى إلا أفضيا به إلى بحر، وما دار في(12/225)
خلده أن البحر يكون كلّه درّا، وتحقق ما له منه من مناب يصرفه كلّما ناب، ويؤنسه في كلّ ما راب، ويلبيه إذا دعا، ويزيده بصيرة إذا أجاب، ويصله إذا غبّ «1» ، ويحضره إذا غاب، ويبعث عزمه إذا ألبّ «2» ، ويورد أمله إذا لاب «3» ، فعلى هذا المقدمات تنتج، ومتى عرضت عوارض من الشك تزدحم، سنحت سوانح من الثقة تفرج، وقد علم ما رامت عليه هذه الأحوال التي يظنّ أنها في أعقابها وهي في مباديها، وما أسفرت عنه هذه الليالي التي تحسب أنها في بلجة غررها وهي في دهمة دآديها، وليس للمعضل من الدّاء إلا كيّه، وليس للغازي إلا الشهاب الذي يدخر به استراقه ويحسم به غيّة؛ وقد طالع الدّيوان العزيز بما يرغب في الوقوف عليه، والمشورة بما وقعت الإشارة إليه، فلم يكلّف المجلس ذلك إلا لأنّ الملتمس من التقليد لصلاح الجملة وصلاح الدّولة باد قبله، ولمحل الخلافة شرفها الله رافع قبل أن يرفع محلّه، وما شام من ذلك أمرا يصعب مثله، ولا ذخرا يتعذر بذله، ولا جيشا يخلو فناء الخلافة بأن ينقص عنها جعله، ولا عزل وال يجلّ على الإسلام عزله، ولا تجريد سيف من يد الخلافة العالية يتوقى أن لا يمضي نصله، ولم يسم إلّا إلى ما أفاده إليه ولاؤه واعتقاده، ووفقه عبده نظره واعتقاده، من أن يكون نظره شرعيا، وتصرّفه بعين الخلافة مرعيّا، وتقلّده سنيّا، وجمعه إجماعيّا، فتكون الأمور أمرا واحدا، والمناهج المختلفة القصد نهجا قاصدا، والرّايات القاعدة عن الكفار راية مستقلة، يؤنسها الانفراد، وينهضها الجهاد، ويبيّض عواقبها السّواد، لا تختلف تحتها الآراء، ولا يتشتت عندها الأهواء، ولا يعوزها النّصر في الأرض إلّا أن ينزل من السماء، ولا يحوجها التأييد إلّا أن تصحر إلى الفضاء؛ هذا إلى ما ينضاف إلى يد الخلافة وكلمتها من(12/226)
بلاد بها تخصّ، ومنابر ومنائر تعلو سماؤها عليها وتنصّ، فالسعادات سمحة إن تسمحوا، والدّنيا مستفتحة إن تستفتحوا، والممتنعات ما دونها حجاب، والدين لا يصلب دون فطرته صخر، ولا يبعد دون تناوله سحاب؛ والمجلس السامي يتأمل المراد بعين الولاء، والخادمة بعين المحبة، ويعلم أن مثل الحروف المثبتة في هذا التقليد كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ، فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ
«1» وما أحراه في ذلك بتحرّيه، وما أولاه في هذا المهمّ بما يوليه، فإنّه إذا أنجز ما وعد به حسن الظّنّ، وأهدى إليه وإلى الإسلام ما يكسبه القوّة، وإلى الأمة ما يحميها الوهن، فليذهب أدام الله نعمته من ذلك بواجده ما ذهب بمثلها من الدّنيا واجد، وليقرّر المجد بعظمته ما جدّ في مثلها ما جد، وليكن أدام الله دولته مع الحق فإن الذي يدعى إليه هو الحق، والرجل الذي يعرف ما بين الرجال من الفرق.
ومنه قوله: وما برح قلمه يقوم خطيبا في محافلها، ونائبا عن مناصلها، ومعظما لشعائرها بشعارها، ومعلنا لمآثرها بآثارها، ومناضلا لأعدائها بكل قطّاعة العرى، طلّاعة الذّرى، إلى غير ذلك من توشيحة مدارس التدريس، بالدّعاء. بخلود أيامها، ونفوذ أحكامها، والرواية عن سلف الأئمة الصالح من آباء أمير المؤمنين وأجداده، والتنبيه على مناقب الدولة التي تجدع بها أنوف أعدائه وأضداده، هذا إلى أنه ربّي في ظلال الدولة العزيزة الممدودة، وتصرف في خدمها المحمودة، وأدرك الصّدور من خدامها، وأدى أمانتي اللّسان واليد في استخدامها، وهذّبته تلك الآداب إلى أن أمن العثار، واعتد الخادم به من إنعام الدولة التي حصّلت له قبل الحاجة الأقدار، وقد أضاف إلى تلك الحقوق التالدة حقا طارفا، واستأنف(12/227)
إلى تلك الأسباب القديمة سببا آنفا، وهو صحبة الخادم، وكتابه عن يده، وترجمته عن معتقده، وثقته بمغيبه ومشهده، ومجادلة أعداء الدولة بلسانه ويراعه، وإبهاته أبصار أوليائها بالقول المحكوم على كل ذي لب باتّباعه؛ وله مما أقناه الإنعام الشريف، ملك بواسط في شركة أقاربه، ما برحت العناية متوفرة بعقوده، حامية لحقوقه وحدوده، مثمرة لمستغله، مزجية لدخله، مانعة الأيدي من أن تتطرق إليه، أو تتسلط عليه، وقد تجدد الآن من مفظعي المجاورين لملكه دخول في الحدود، وخروج عن المعهود، ودعوى معوزة البراهين والشّهود، والمسؤول فيه خروج الأمر بما يزيل صادق الشكوى، ويبطل كاذب الدعوى، ويردّ الحقّ ويحمي الحدود، وبيده توقيعات إمامية أجرته على ما يلتمس الآن الإجراء عليه، ولو لم يكن هذا الحدّ بيده لما استكثر الإنعام أن يصفح له عنه، ويعاد إليه، فكيف والحجج الشرعية والتواقيع الإمامية مثبتة لحقه، شاهدة بقدم ملكه وسبقه؛ والمتوقع إجابة سؤاله فقد جرده، وإن تأخرت الإجابة بالإيجاب جدّده.
ومنه قوله: أسعد الله المجلس، ولا برحت الأيام شاكرة لأيامه، والصوارم معدودة من حساد أقلامه؛ الهمّة العالية مذخورة عند المهمّات، مستضاء بأنوارها في ليالي القصد المدلهمّات، والآراء المجدية مستمدة بحمد الله من المكرمات، تسلّ بها ولا سيما إلى أهلها، ويأتيها على علم إذا أتى على الناس من جهلها، ويبتكرها بخاطر خطار، ويبتدرها بضمير فضل لا يجارى في مضمار؛ وإذا عرضت اللّبانة أنزلت بكرمه الفسيح اللبان، وحدت ركابها إلى أفناء إحسانه الذي ينتهي إليه غاية سرى الركبان؛ وقد قصد هذه الخدمة على حال تفصيل فلان في ملك له بواسط، قد استولى عليه من حادده وجادّه من المقطعين، وأضرّ به من حاز عليه(12/228)
من المجاورين، ومعه من التّوقيعات الإمامية ما يوضح الإشكال، ويرشد من الضّلال، ولو لم يكن الحدّ له مستحقا، والملك بيده مسترقا، لوسعه من الإنعام ما يسع من ليس له من الخدمة المرعية، والأذمة المرئية، كما لهذا المذكور، فله في ولاء الدولة الشريفة السبب الوثيق، والعرق العريق، والسابقة التي لا تمارى، واللاحقة التي لا تجارى، والنشأة في ظلال الدار العزيزة، والتربية في أكنافها الحريزة، واستمداد العلم من بحرها، واستمطار الأدب من قطرها، واستلماح الأنوار من فجرها، والتقلّب في آلائها، والثّبوت على ولائها، والمناضلة بلسانه وقلمه الذين يلحدون في أسمائها، إلى غير ذلك من المكاتبات التي تجاهد فيها عن الدولة الناصرية حق الجهاد، ويرهف بها الأولياء ويفلّ الأضداد، ويستعطف بها القلوب النافرة، ويجمع بها الأهواء المتنافرة، ويجادل فيها بالتي هي أحسن، وبالتي هي أخشن، ويوضح حقها بالتي تثبت من أخلص، وتستخلص من أدهن؛ والمجلس السّامي عارف بقديمه وحديثه، ومكتسبه وموروثه، معرفة توجب الذّمام، وتنجح المرام، وتدخر الأيام، وتتوقع ظهور ثمرتها في أوقات القدرة؛ لا عطّل المجلس من حليها، ولا خلا من اقتطاف ما حلا من جنيها، فإنه جانب من الدولة العالية، لا ينفصل عنها ولا يخرج منها، ولا يعدّ إلا من أقطارها، ولا ينتظم القائم به إلا في أنصارها؛ وقد شرع في الشّكر ثقة بالنجح، وألقيت عصا السرى علما أنها مسبوقة الحمل بطلوع الصّبح، وتركت محاربة خواطر الشك علما أن المطالب به مذعنة إلى الصلح؛ والمجلس السامي سريعة ورده، وفلك القصد والمهمة المجدية طليعة سعده؛ ومن ورد عنايته فقد استكره الموارد، ومن جعله قبلة القصد فقد استنجح المقاصد؛ والمتوقع وصول كتاب أخيه الشاكر لإنعامه، الداعي لأيامه، بأن هذا الحد قد رفعت عنه اليد، ولئن تكاثفت الأشغال عليها، وتزاحمت المهمات لديها، فما هي لخواطرها إلا بمثابة(12/229)
الصقال للسّيوف المرهفة، ومرور النسيم بالرياض المفوفة؛ فالصقل للأولى يفيدها قطعا ولمعا، والنسيم للأخرى يفيدها نفحا ونفعا، ولا شبهة في أنها مدفوعة إلى بحر أشغال متدافع، ومقذوف بها في بحر هول يرجع عنه كلّ طمع متراجع، وهي بحمد الله سابقة، للطبع فاتقة؛ فالعقبة الكؤود لا تؤود، وعزمها فيما ترقّ له الصّخور لا يجوز؛ والله تعالى يحسن إليها كما أحسن بها، ويجعل لها راحة عنده في تعبها، وخواطر المحبين لخواطر الشّعراء في كل واد تهيم، وكلما أمّل القرب يوم مسفر قد دفعه الدهر بليل بهيم، وكتابها الكريم، فينعم بها مضمنا ما يسنح من خبرها، ويعزّ من وطرها؛ والله لا يعدمني خبرها إلا بوجهها، وكتابها إلا بنظرها.
ومنه قوله: ما أصدرت هذه الخدمة إلى مجلس الحضرة العالية، لا زالت الأيام خدّامها لخواطرها، والأسماع نطاقا لجواهرها، والطّروس ساحلا لزواجرها، والمسارّ سارية إلى سرائرها، والأيام قاضية بكلّ قاضية عليهم، تخفض من محلهم وترفع من محلّها، وتعقد لها عقدة عز تعجز أيديهم عن حلّها، من ثغر الإسكندرية حماه الله، عند الوصول إليه لخدمة الضريح المعظمي، الذي حل فيه ملك الكرماء، ولزيارة القبر الحافظي، الذي حلّ فيه ملك العلماء؛ والله تعالى يؤجر الكافة في الفجيعة بالعلم والكرم، على أن الحضرة العمادية أولى ألي الكرم، والعلم فلا تشتكي العدم، ولابد أن أخرج إلى مراد هذه الخدمة وثبا كخروج البحتري في مدائحه، وأن أهزّ عزمها لأمر مهم تثاب في تسبيب مناجحه، ولا أطيل بذكره فإنه في الخدمة الناصرية الصادرة عني في معنى الفقيه ابن سلامة، وهي تفعل ما يقوم الله عزّ وجلّ بأجره، وأقوم أنا بشكره، وما بعده مما يبيّض الصحيفة على أنها نظيفة، ومما يتوصل إلى المراد الجليل منه بفكرتها الدقيقة اللطيفة، وقد ضاق وقتي عن مكاتبة أعزيه بمقتضاها، فأسألها إن كان الرّكاب العزّيّ أدام الله أيامه،(12/230)
ونصر أعلامه، بالعسكر المنصور، فتعرض عليه الفضل من المطالعة، ولا أقول:
ويهزّ عزمه، فإنه سيف قاطع لذّاته، يستحيل أن يرى إلّا قاطعا، ومولى يرى الثواب من لذاته، فلا يمكن أن يرى إلى داعيه إلّا مسارعا؛ ومن عوّل على خطابه في الأسفار التي تملأ الغرائر، ولا تستقلّ بها الأباعر، فإني أعوّل في خطابها على اللفظة المعرضة، ومن استدعيت عزائمه بالمماشاة والمصافحة؛ فإنني أستدعي عزمها باللحظة الممرضة، لا زالت مساعيها مقرونة بالمساعد، وهممها موفية لما كلفته عنها الظنون الحسنة المواعد
* ومن شعره قوله «1» : [الكامل]
إنّ البنان الخمس أكفاء معا ... والحلي دون جميعها للخنصر
وإذا الفتى فقد الشّباب نشاله ... حبّ البنين ولا كحبّ الأصغر
واخصص بوسم تحيّتي من لم أبح ... لك باسمه ولعله لم يذكر
ممن أودّ لها الرّدى لا عن قلى ... وتودّ لو أبقى بقاء الأدهر
ومنه قوله «2» : [الكامل]
ذكرت وجوهكم والبدر يسري ... كلا البدرين مسكنه السحاب
سقاني الله قربك عن قريب ... دعاء طال واختصر الخطاب
ومنه قوله «3» : [البسيط]
تفدي اللّيالي التي بالسّعد تسخطني ... تلك اللّيالي التي بالقرب ترضيني
كانت بكم فرعاها الله تضحكني ... فأصبحت لارعاها الله تبكيني
يا بعدها غاية للشوق غائلة ... من غور مصر إلى علياء جيرون(12/231)
أودعتم مسمعي مكنون درّكم ... فهاكم درّ دمعي غير مكنون
ومنه قوله «1» : [البسيط]
من أين أنت ومن- يا ريح- أين أنا ... الجدّ خلقي ومن أخلاقك العبث
ما جئت مبعوثة بل جئت باعثة ... همّي ولا خاطر في الهمّ منبعث
لبثت في الحب عمرا لا أحصّله ... كفتية الكهف لا يدرون ما لبثوا
كرّوا اللّواحظ بحثا عن محاسنه ... وما دروا أنّهم عن حتفهم بحثوا
ومنه قوله «2» : [الكامل]
زار الصّباح فكيف حالك يا دجى ... قم فاستدمّ بفرعه أو فالنّجا
رأت الغصون قوامه فتأوّدت ... [و] الرّوض أنشر نشره فتأرّجا
يا زائري من بعد يأس ربما ... تمنى المنى من بعد إرجاء الرّجا
أترى الهلال ركبت منه زورقا ... أو لا فكيف قطعت بحرا من دجى
أم زرتني ومن النّجوم ركائب ... فأرى ثرياها تريني هودجا
لعبت جفونك بالقلوب وحبّها ... والخدّ ميدان وصدغك صولجا
منها:
لا أرتجي إلّا الكرامة وحدها ... فالمال قد أعجلته أن يرتجى
تتلو اللّيالي سورة من فضلكم ... فتقيمها شعراؤكم أنموذجا
منها:
ناران: نار قرى ونار وقائع ... لله درّك مطفئا ومؤجّجا
باشرت بشرك لا بمنّة شافع ... فغنيت يا شمس الضّحى أن أسرجا(12/232)
ومنه قوله «1» : [البسيط]
قاتل بغير سلاح الهجر إن له ... ضربا تسيل دموعي منه وهي دم
كتمت ما بي في وجهي دلائله ... والهمّ نار فقل لي كيف ينكتم؟
وقوله «2» : [الوافر]
وميدن خدّه لخيول لثمي ... وصولج صدغه والخال أكره
تلفت بشعره وسمعت غيري ... يقول: سلمت من تلفي بشعره
بكيت عليك ملء العين حتّى ... بقيت بأدمعي في الشّمس عصره
«3» وقوله «4» : [الرجز]
ممسحة نهارها ... يجنّ ليل الظّلم
كأنّها مذ خلقت ... منديل كمّ القلم
ومنه أخذ شافع «5» قوله «6» : [الوافر]
وممسحة تناهى الحسن فيها ... فأضحت في الملاحة لا تبارى(12/233)
ولا نكر على القلم الموافي ... إذا في وصلها خلع العذارا
والأصل قول ذي الرّئاستين «1» : [المنسرح]
ممسحة تكتم الظّلام فما ... تبديه إلا سوافر الظّلم
تؤدع فيها الأقلام فضلة ما ... تنفقه في مصالح الأمم
عدنا إلى الفاضل:
ومنه قوله «2» : [الكامل]
منعت دموع العين من أطلالي ... لأرى صنيع الدّهر بالأطلال
ومن المساءة ما يكون مسرّة ... ما الدّمع إن حجب المكاره غال
ومنه قوله «3» : [البسيط]
أيا بدر قد أسهرت عيني فارقد ... وشاهدت ما جاهدت يا نجم فاجهد
إذا لم تعاين في الصباح مسرّة ... فلا تحسبنّ الليل ليس بسرمد
ويا عاذلي رفقا كفاني صدوده ... فإن شئت فانقص من ملامك أوزد
تمازج في خديه ماء وجمرة ... تمازج دمعي في الهوى وتوقّدي
وقوله «4» : [الطويل]
وفوا غير أنّ السّمهريّ وأنّه ... يجار بأيديهم شكا للمهنّد(12/234)
لهم في الوغى أغصان سمر كأنّما ... تحفّ إذا أجروا الدّماء بمورد
وقوله منها «1» : [الطويل]
جمعت الذي فيهم وزدت عليهم ... فأنت كمعنى ناظم متولد
وما فوق ما قد نلته من زيادة ... بل الله أولى بالزّيادة فازدد
وقوله «2» : [الخفيف]
لاح وفي خدّيه ديباجة ... طرّزها الشّعر بلبلاب
باب سلوّي دونه مغلق ... وصدغه الزّرفين للباب
يا مانعي حتّى مواعيده ... من لي بوعد منك كذّاب
وقوله من مرثيّة في أخيه «3» : [الطويل]
خليليّ قد أبصرت عيشي بعده ... كأنّي قد أبصرت عيشي من بعدي
وقد كنت أشكو البعد والقرب يرتجى ... فكيف أكون اليوم في اليأس والبعد
وكان أجلّ الخطب عندي صدّه ... فمن لي وطوبى لو رجعت إلى الصّدّ
إذا ما فقدت الأنس ممّن تحبّه ... فنفسك لا المحبوب أفجع بالفقد
وقوله منها:
فنيت أسى لمّا بقيت مكارما ... فأصبحت في دار وأصبحت في لحد
ليهنك من بعد الرّدى باقي الثّنا ... وإن كنت من تحت الثّرى بالي البرد
وقوله «4» : [البسيط](12/235)
أشكو إليك جفونا عينها أبدا ... عين تترجم عن نيران أحشائي
كأنّ إنسانها وافى بمعجزة ... فكان من أدمعي يمشي على الماء
وقوله من قصيدة «1» : [الكامل]
إنّ الشّجاعة وهي من أوصافه ... غلبت عليه وهي من أسمائه
«2»
يقري الطّيور طعانه فضيوفه ... تنتابه من أرضه وسمائه
وقوله من قصيدة «3» : [الخفيف]
لا تحدّث سواك نفس بفضل ... ذاك رجع عن الأماني بعيد
وقوله منها:
وانجلت مصر إذ تجلّى عروسا ... وكأن الأهرام فيها نهود
وقوله:
أنا من قائم الحسام نذير ... فهو إن قام فالرّؤوس حصيد
هو كأس وسكرة الموت قالت: ... ذلك منّي ما كنت منه تحيد
«4»
ومتى يلفظ العدوّ بقول ... فعليه منه رقيب عتيد
«5» وقوله:
وإذا رشت بالأيادي جناحي ... فمعاني العلاء ممّا أصيد(12/236)
وقوله من أبيات «1» : [الطويل]
سأشكر عن شكري نداه لعلّه ... يقوم لها ذنبي بأحسن عذره
إذا أنا بعد الجهد قصّرت شاكرا ... فقد صار للتّقصير ذنبي كشكره
وقوله «2» : [الطويل]
إذا أنت أعطيت اللهى بذريعة ... فلا تشكرن إلّا لتلك الذّرائع
وقوله من مرثية في أخيه «3» : [مجزوء الكامل]
أأخيّ هوّنت الحما ... م فكان يضعف عنه عزمي
لم لا أهونه وقد ... قدّمت روحي قبل جسمي
وقوله «4» : [من الكامل]
وإذا اجتليت عقود أسطره ... ظفر الهوى بمراشف لعس
وقوله «5» : [البسيط]
ما حلّ هذا الهوى إلّا لأرتحلا ... ولا سرى الدّمع إلا عن هوى نزلا
ولا بعثت خيول الدّمع خلفكم ... إلّا لتلحق قلبا فيكم رحلا
يا ربع ما أنت إذ زمّت رحالهم ... للبين أوّل صبّ ألبسوه بلى
لقد تمثّلت في ترك الجواب بهم ... فما تجيب كما كانوا لمن سألا
وقفت فيه فقال النّاس من سقمي: ... أما ترى طللا يستخبر الطّللا(12/237)
وقوله «1» : [الكامل]
أسديّ أفكار إذا ليل الأسى ... أرخى دجاه فرأيه السّرحان
هذا وكم لك في الوغى من عزمة ... بكّرن من ثقة بها العقبان
تغدو خماصا [مثل] ما قد مثّلوا ... في حربه وتروح وهي بطان
«2»
وعلمت أنّ حديث كسرى بعده ... زور فلم يتشامخ الإيوان
لو عاش شاهنشاه أيقن أنّه ... ملك الدّسوت وأنّه الفرزان
تلك التواقيع التي هي جنّة ... أقلامه في دوحها أغصان
أمنصّل الرّمح الطّويل بكوكب ... من ذا يطاعن والسّماك سنان
وقوله:
والشّمع فوق البحر تحسب أنّه ... من لجه قد أطلع المرجان
والماء درع والشّموع أسنّة ... ولها إذا خفق النّسيم طعان
وقوله:
يا مالكي أنبتّ ريشي بالندى ... لكنّني ما قصدي الطّيران
وقوله:
ضاقت معاذرهم إلى ضيفانهم ... لكن رحبن منازل وجفان
يغدون عندهم بأعلى أعين ... ودّت تكون جفانها الأجفان
وقوله من أبيات «3» : [الطويل](12/238)
ركبنا رياحا من كرائم خيله ... نؤمّ سحابا من سماء سماحه
فقل لليالي الخطب: طولي أو اقصري ... فإنّا على وعد السّرى من صباحه
ولمّا نضا الأستار عن نور وجهه ... تغطيت من دهري بظلّ جناحه
وقوله من قصيدة «1» : [البسيط]
أستودع الله في أظعانهم قمرا ... إليه لو ضلّت الأقمار يحتكم
عندي سهاد وعند الهاجرين كرى ... فالليل مشترك بيني وبينهم
وقوله منها يرثي بني رزّيك:
بأيّ وجه يراني النّاس بعدهم ... حيّا ويا أسفا إن قلت بعدهم
أبكي الذي زال عند التّاج دولته ... إذا بكى الناس من زلّت به القدم
أعزز عليّ بأن ظلّت ديارهم ... تسدى الهموم بها أو تندب الهمم
وما لبست دموع العين عاطلة ... إلّا وفيض دمي في ردنها علم
إن ينهدم بكم للدّهر بيت علا ... فإنّ بيت رثائي ليس ينهدم
معنى من الكرم المهجور فزت به ... وفي الرّثاء لمن لا يرتجى كرم
وكان حقكم لو كان لي قبل ... أن ينصر السيف لا أن ينصر القلم
وقوله «2» : [الطويل]
نفينا سواد اللّيل عن دولة الهدى ... فلا راية سودا ولا أمّة سودا
وبين مجازاة ضربنا وجزية ... فمن طائع أدّى ومن خالع أودى
وقوله من قصيدة «3» : [الكامل](12/239)
تلك الرياض إذا تهجّر حادث ... لم تلق إلّا ظلّها وجناها
لمع النّضار بها فقلنا: شمسها ... وجرى اللّجين فخلته أمواها
وقوله منها:
نظروا الخيول فأثبتت نظراتهم ... غررا عليها وقد وسمن جباها
ولربّ هاتفة دعتهم للوغى ... جعلوا صليل المرهفات صداها
هي كالموارد في العيون وطالما ... نقعوا بهامات الكماة صداها
هي في بحار يديه أمواج ترى ... ونفوس من قتلته من غرقاها
لا بل زناد جهنّم في كفّه ... منها فكلّ مكذّب يصلاها
لو أنّ أرضا مرة فدت السّما ... كانت عداها في الخطوب فداها
ومن المحدث نفسه بلحاقها ... فدع الحديث عن الذي ساواها
وقوله من أبيات «1» : [الطويل]
حمائم قد حثّت زجاجات أدمعي ... فما خلت إلّا أنّهنّ حوائم
وما درج الكثبان مرّ نسيمها ... بلى درج الكثبان ما أنا لاثم
ولمّا مررنا بالرّسوم تنفّذت ... بها للهوى في العاشقين المراسم
بكينا فغطّى الدّمع أنوار أعين ... ومن عجب أنّ الدّموع كواتم
وقوله من أبيات «2» : [من الكامل]
يا من إذا ما المال جاز بأرضه ... يصفرّ خوف فراقه أن ينهبا
يلقى إليه فلا يليق بكفّه ... فكأنّما يلقى عليه ليحسبا(12/240)
وقوله «1» : [الطويل]
برأيكم أمسى الزّمان مدارا ... وكان مخوفا قبلكم ومدارى
وربّ طليق قد أسرتم بكفّكم ... كذا طلقاء المكرمات أسارى
وقوله منها:
سأنصف أصناف القوافي بمدحه ... فإنّ القوافي في علاه غيارى
فإن أبصروا في الطرس أثر مداده ... فذلك سبق قد أثار غبارا
يفيض لنا كفّا ولله مقلة ... فتجتمع الأنواء منه غزارا
وتقدح نار الحرب من أزند الظّبا ... فترسل من فيض الدّماء شرارا
وقوله من أبيات «2» : [البسيط]
ليهنئ الملك ما أظهرت من همم ... للجدّ والجود من نار وجنّات
تحمي وتهمي بعين أو بجود يد ... فالنّاس ما بين رعي أو مراعات
مواصل المجد لا ينفكّ من شغف ... والوصل ينقص من بعض الصّبابات
هذي البدايات قد نلت السّماء [بها] ... فما يظنّ العدى هذي النّهايات
عطاء من لا يظنّ الجود يفقره ... وحرب من لا يظنّ الحرب تارات
الله جارك والآجال كاشرة ... من القواضب في عصل الثّنيات
وقد تداعت بها الأبطال واعترفت ... والطّعن بينهم مثل التّحيات
وقد تهادت سيوف الهند إذ خضبت ... كالشّرب حين تهادى بالزّجاجات
فكم بردت بماء السّيف غلّتها ... والسّيف ماء لنيران الحزازات
وقوله من أبيات «3» : [الطويل](12/241)
أمستصحبا قلبي وكان محلّه ... وإن كان من جور الفراق محيلا
إذا ما جرى جفني دما بمدامعي ... علمت بأنّ القلب راح قتيلا
وقوله «1» : [الطويل]
لئن نالت الأملاك ملكا بحظّها ... فقد نلتم ما نلتم بمساع
وهذا عيان المجد فيكم فما الذي ... يزيدكم مدّاحكم بسماع
دفعت الأذى عنّا ومتّعت بالمنى ... وما كانت الدّنيا لنا بمتاع
وو الله ما كلّفت في المدح كلفة ... وهل هو إلّا الصّدق وهو طباعي
وقوله من أبيات في الشّيب «2» : [الوافر]
أرى شيبي معاري فيه بعضي ... لبعض إنّ ذاك لشرّ سرّ
فلا تنكر له تعبيس وجهي ... فقد أعطى تبسّمه لشعري
وقوله من أبيات «3» : [مجزوء الكامل]
بالله يا قمر التّمام ... أما لهجرك من محاق
أنسيت في نور الكما ... ل وبتّ في نار احتراقي
وقوله من أبيات في ذكر الرّماح «4» : [الكامل]
تمشي بها سرجا ويومك مظلم ... فترى الذّوابل نصّلت بذبال
مثل الصّلال تحوف نفث طعانها ... يستلئم الغازي ثياب صلال
ويجرّها طورا ويصلى حرّها ... فيكون محتطبا وطورا صال(12/242)
وقوله من أبيات «1» : [الطويل]
فإن تكتسي يا دار ثوبا من الصّبا ... فلا تلبسي من أدمعي غير معلم
من تكتم الأشواق ما بين نائم ... نموم ودمع بالدّماء منمنم
وقوله من أبيات «2» : [الكامل]
وإذا أفاض الصّبّ صبّ دموعه ... أغنى الدّيار عن الحيا المتهلّل
ما دام وجه ينجلي عن روضة ... فعليّ عين تنجلي [عن] منهل
وقوله «3» : [الكامل]
من ثغره وحليّه ونسيمه ... ما لا تقوم بكتمه الظّلماء
ومتى يفوز بما تمنّى عاشق ... وجميع ما يهوى له أعداء
لك من نسيبي فيك روض يانع ... تجري عليه من دموعي الماء
رتعت جفوني من سناك بجنّة ... وتبوّأت منه بحيث تشاء
وقوله «4» : [الطويل]
بروحي من روحي إليه مسوقة ... وقلبي من قلبي عليه مقطّع
وأهل الهوى في القلب عيني وعينه ... وكلّ بلاء عنهما يتفرّع
وقوله في عمارة سور عكّا «5» : [السريع]
ميزان أعمالك لا شكّ في ... رجحانه والحقّ لا يشتبه(12/243)
بالحجر الأسود إذ صنته ... والحجر الأبيض إذ صنت به
وقوله من قصيدة «1» : [البسيط]
أأنت في الأرض أم فوق السماء ففي ... يمينك البحر أم في وجهك القمر
يقبّل البدر تربا أنت واطئه ... فللتّراب عليه ذلك الأثر
نأى به الملك حتّى قيل: ذا ملك ... دنا به الجود حتّى قيل: ذا بشر
في كلّ يوم لنا من مجده عجب ... وكلّ ليل لنا من ذكره سمر
نظرت في نجمه فالسعد طالعه ... لا ينقضي وعلى أمواله سفر
أبا الفوارس والآباء مشفقة ... وهم بنوك وما تبقي ولا تذر
تلقى عروس المنايا وهي حاسرة ... وخدّها فيه من فيض الدّما خفر
والضّرب بالبيض من آثاره عكن ... والطعن بالسّمر من آثاره سرر
وربّ ليلة خطب قد سريت بها ... وما سرى كوكب فيها ولا قمر
سمت العويص بعزم ماله ضجر ... أو بالبعيد يباع ما به قصر
وأنت في جيش رأي لا غبار له ... ترمي العداة بقوس ما لها وتر
هي الحروب التي لا السيف منثلم ... فيها ولا الذّابل الخطّيّ منأطر
سرنا وسار شجاع وهو يقدمنا ... وعزمنا آمر والدّهر مؤتمر
وكان زجر اسمه فيه الحياة لنا ... والذّكر إنّ الشّجاع الحيّة الذّكر
كان الحسام يمانيّ الهوى معنا ... فما أضرّ بنا إن أصفقت مضر
وبت والموت طيف قد ألمّ بنا ... فما ثنى الطّيف إلّا ذلك السّهر
سقى بك الله دنيانا فأخصبها ... والعدل يفعل ما لا يفعل المطر
لمّا استقلت ستور الملك لاح لنا ... ملك به الجود عين والثّنا أثر(12/244)
في كعبة للنّدى لو حلّها ملك ... تهيب النّطق حتّى قيل: ذا حجر
وسائل لي ما العلياء؟ قلت له ... في فعله الخير [أ] وفي قوله الخبر
ما أنصفت مجده نظّام سيرته ... إنّ الذي ستروا فوق الذي سطروا
نال السّماء بأطراف القنا فبدت ... من النّصول عليها أنجم زهر
لا يحدث النّصر في أعطافهم مرحا ... حتّى كأنّهم بالنصر ما شعروا
أجروا دماء العدى بين الرّماح فما ... يقال: عندهم ماء ولا شجر
ترى غرائب من أفعال مجدهم ... يردّها الفكر لو لم يشهد النّظر
خلائق في السماوات العلى زهر ... منها تنير وفي روض النّهى زهر
النّاس أضيافكم والأرض داركم ... فهو المقام فلم قالوا: هو السّفر
ما أنصف الشّكر لولا أن يسامحنا ... فأنت تطنب جودا وهو يختصر
وقوله من أبيات «1» : [الكامل]
سأل اللّوى وسؤاله تعليل ... ومن المحال بأن يجيب محيل
يا دار جهد جفوننا وضلوعنا ... لك بالبكاء وبالأسى مبذول
زرّت عليه من الرّياض ملابس ... خيط الغمام لوشيها محلول
رقّ العذول لما رأى من حالتي ... فاليوم عاد إليه وهو رسول
أو ما تراني حاملا من بعده ... ثقل الأسى فكأنني محمول
من لي بحظّ بالفضائل عارف ... فيحقّ حينئذ لي التفضيل
أغمد لسانك أن يقول فإنه ... عضب أحاط بجانبيه فلول
وامنعه من نفثاته وكفى بها ... فمن الكلام أسنّة ونصول
كفّل زمانك أن يغيّر كلّ ما ... أنكرته فكفاك منه كفيل(12/245)
وقوله «1» : [الطويل]
أمنّا على الملك اللّيالي بعد ما ... أمدّ بسعد النّاصر المتناصر
إمام أقرّوا جوهر الملك عنده ... ولا عجب للبحر صون الجواهر
ديار العدى من نقعه ودمائهم ... كربع الهوى ما بين ساف وماطر
يلاقيهم بالسيف والطّير طاعما ... فهم منهما بين الرّدى والمقابر
يقول لنا درّا ويندى سماحة ... فما البحر إلّا بين كفّ وخاطر
ولما انثنت منّا عليه خناصر ... جعلنا حلى تختيمنا للخناصر
لأفنت ظباكم في الوغى وصفاتها ... دماء الأعادي أو دماء المحابر
فيا عجبا للملك قرّ قراره ... بمختلفات من قناك الشّواجر
طواعن أسرار القلوب نواظر ... كأنك قد نصّلتها بنواظر
تمدّ إلى الأعداء منها معاصما ... فترجع من ماء الكلى بأساور
وقوله منها في الخيل:
لها غرر يستضحك النّصر وجهها ... وتفهم منها العين معنى البشائر
وقوله منها في ذكر القصيدة:
إذا ما أتت تختال بين سطورها ... فهنّيتها عذراء ذات ضفائر
هي السائرات الخالدات بمجده ... وسائر ما يؤتى به غير سائر
وقوله من قصيدة «2» : [الطويل]
ورثت المعالي عن أبيك شريعة ... وقمت بها في فترة البخل مذهبا
إذا ما كسوت الوفد للجود ملبسا ... فقد لبسوه بالبشاشة مذهبا(12/246)
لو انّ زيادا كان أدرك عصره ... لكان يرى أيّ الرّجال المهذّبا
«1»
يقطّع عمر اللّيل عمر سجوده ... فلله محراب حوى منه محربا
وفي فقر عافية إليه وسيلة ... كفى باعثا للسّيل أن يتصوّبا
وقوله «2» : [الطويل]
يقول ولو أنّ الليالي خصومه ... ويمضي ولو أنّ النّجوم مطالبه
محاربه تثني على صلواته ... ولكن على الأعقاب يثني محاربه
ومنها:
جنائب في بحر العجاج سفائن ... فإن حرّكت للرّكض فهي جنائبه
وقد خفقت راياته فكأنها ... أنامل في عمر العدوّ تحاسبه
وقوله «3» : [الكامل]
لو كنت جاوبت الحمائم نائحا ... قال الوشاة: أضاع سرّك بائحا
«4»
سل طائرا صدع الفؤاد بسحرة ... أتراه غرّد صادعا أم صادحا
يا ضعف من أمسى الفريسة في الهوى ... وغدا الحمام له هنالك جارحا
وقوله «5» : [البسيط]
يا ليلة بات فيها البدر معتنقي ... والنّاس بالبدر والظّلماء في شغل(12/247)
بتنا نفضّ عقودا للحبيب فإن ... فصّلتها فبتشذير من القبل
قل في الزّلال إذا وافى على عطش ... فقد دللت على التفضيل بالجمل
وقوله من أبيات «1» : [الوافر]
وبالأشعار نعرف قائليها ... كما حدّثت عن نجر بنجل
سبقت بها فقد صارت لقوم ... محارب والذي بعدي مصل
وقوله «2» : [مجزوء الرمل]
سقّني يا بدر شمسا ... كلّلوها بالثّريا
واجعل الظّلماء شمسا ... كلّما دارت وفيّا
إنّما الكاسات تيجا ... ن لها العيش محيّا
وهي نار جعلوها ... حين يعيي الهمّ كيّا
قد طوينا إذ أديرت ... بردة الظّلماء طيّا
كانطواء الخوف عنّا ... حين ولّى الله طيّا
«3» وقوله من قصيدة «4» : [الخفيف]
يا غزالا له السّيوف حجاب ... في فؤادي أضعاف تلك الحجب
ما عهدنا والنّائبات كثير ... أنّ ضيفا يضام بين العرب
أغليلا والماء فوق الثنايا ... وهوانا بين القنا والقضب
أين تلك الرّسوم أين تراها ... تبعت في الرحيل إثر الرّكب(12/248)
أترى يا زمان أنت معنّى ... برباها كمثل قلب الصّبّ
زفرت بالصّبا صدور اللّيالي ... وبكت بالحيا جفون الشّهب
وقوله من قصيدة «1» : [الكامل]
لو لم يعطّل خاطري من سلوة ... ما كان خدّي بالمدامع حال
أودعته قلبي فخان وديعتي ... فسواده في خدّه بالخال
فعل السّقام بمهجتي وجوارحي ... أفعال حصن الدّين بالأموال
لم يبق في أيّامه من فتنة ... للنّاس إلّا فتنة بجمال
«2»
تسمى الرّماح قنا فأمّا بعدما ... صارت بكفّك فالرّماح عوالي
وقوله «3» : [الطويل]
أساكن أكناف المقطّم دعوة ... تداعت بها الألفاظ وهي دموع
يقولون: درياق الهوى الدّمع إن جرى ... فذا الدّمع يجري واللّسيع لسيع
أبى الحزن لي من أن أماكس في الهوى ... فحزنك يشدي والدّموع تبيع
وقوله «4» : [مجزوء الكامل]
دع عينه لعنائها ... فشفاؤه في دائها
العين من أعدائه ... والقلب من أعدائها
هذا ونيران الهوى ... مشبوبة من مائها
قمريّة قمريّة ... في حسنها وغنائها(12/249)
القلب كاره نأيها ... والسّمع عاشق نايها
ولقد رضيت بقتلتي ... إن كان ذاك برأيها
«1» وقوله من قصيدة «2» : [مجزوء الكامل]
يا مالك الحسنين وال ... حسنين من خلق وخلق
لو لم يكن من فضل مد ... حي فيك إلّا فضل صدقي
ما ضرّ جهل الجاهلي ... ن ولا انتفعت أنا بحذقي
وزيادتي في الحذق فه ... ي زيادة في نقص رزقي
وقوله من مرثية «3» : [البسيط]
تبكي عليك عيون أنت قرّتها ... وما قضى الحقّ باكي البحر بالخلج
في كلّ شدة دهر لم تزل فرجا ... [فأ] عظم الله أجر النّاس بالفرج
وقوله «4» : [البسيط]
قالوا: جرى قلمي في مدح غيركم ... لا والّذي علّم الإنسان بالقلم
وما خلوت بذكراكم وكان معي ... ثان يثلّث ذكراكم سوى الكرم
وقوله من أبيات «5» : [الطويل]
إذا هزّ فيها صارم البرق خلته ... يروّع من تلك الجداول أرقشا
يمدّ عليها المدّ سورا مفضّضا ... ويرجعه طورا سوارا منقّشا
«6»(12/250)
ويرجعه سهما إلى مقتل الثرى ... فيسري بأوراق الغصون مريّشا
هوى كسماح الصّالح الملك الذي ... نكتّمه والشّمس ليس لها غشا
يقتّل حيات الحقود من العدى ... بحيّات سمر بالأسنّة نهّشا
وينصبها إن يرتقوا السّحب سلّما ... [ويرسلها] إن ينزلوا القلب الرّشا
«1»
فأوسطها أولى من العين بالهدى ... وأطرافها أولى من الهمّ بالحشا
غنينا عن التّشبيب قدّام مدحه ... فأذهل وصف اللّيث من وصف الرّشا
وقوله «2» : [البسيط]
وكيف أحسب ما يعطي العفاة وما ... حسبت بعض الذي ما زال يعطيني
الكتب تشكره عنّا ولا عجب ... ما تشكر السّحب إلّا بالبساتين
«3» وقوله «4» : [المتقارب]
وأغيد لمّا دجا عتبنا ... تبدّى على الخدّ منه الشّفق
صفا فوق خدّيه جمر الصّبا ... فكان الحباب عليه العرق
وقوله «5» : [الكامل]
أمّا المشيب فإنّه قد أبرقا ... وكأنّني بسحابه قد أغدقا
فابرز إليه أبيضا في أبيض ... لا تذكرن زمن النّفار من النّقا
كان الهوى خلّ الصّبا وصديقه ... حتّى تلا شيبي وآن تفرّقا(12/251)
وقوله «1» : [المديد]
أيّ شأن لا يباح به ... بعد ما قد باح لي شأن
وكلام الصّبّ أدمعه ... لك والأفواه أجفان
أدمعي والحبّ إن حكموا ... فهو دعوى وهي برهان
ما زها من قبل معطفه ... فوق غصن البان بستان
جلّنار الوجنتين له ... من ثمار الصّدر رمّان
كيف أرجوهم وعندهم ... حرمات الحبّ أضغان
ومنها:
وله سيف كناظره ... حارس للخلق يقظان
عاد كفر الكافرين إذا ... ما رأوه وهو إيمان
يتداعى إذ دعوت به ... [حين] يلقى الشّرك أوثان
للظّبا الأجفان نعرفها ... ولهذا السّيف آذان
وهو مرآة يبين بها ... من ضمير الضّدّ أضغان
ومنها:
قم لتملا من نفوسهم ... ورماح الخطّ أشطان
وخدود الأرض مشرقة ... من دم والخيل خيلان(12/252)
10- ومنهم: محمّد بن محمّد، عماد الدّين، أبو حامد القرشيّ، الأصبهانّي، الكاتب «1» .
* ركن الدّول وعمادها، ومزن الممالك وعهادها، علم يهتدي به الساري، وكرم ينتدي بسيبه الجاري، رسا كالطّود المرجحنّ وسرى كالجود فأوى إليه المستكنّ، وتحلّت به ترائب الأيام، وحلت بحجبه ربائب الخيام، فعلا مقدارا، وأبى أن يتخذ دارة البدر دارا، فقصّت دونه أجنحة النّعامى، وطرقت أفنية المعالي الأبكار والأيامى، وعزّ في تلك الدول فغالت في قيمته، وغالبت في نشر لطيمته، وكان ذا أيد تنهض بكلّ عظيمة، وتأبى كل هضيمة، بعزم يزاحم أبان «2» ، وتقدّم إذا نكل كلّ جبان، بأقدار لسان، وابتدار بديهة الإحسان؛ وكانت قصبات السبق لا تحرز إلّا لأدهمه، ولا تحزر دارات البدور إلا لدرهمه.
نشأ في حجر عمّه المستوفي «3» ، وتأدّب بأدبه، وعرف في ديوان الخلافة(12/253)
باسمه، وخدم الأبواب الإماميّة، فقدّم على الأولياء، وتمسّك بالأسباب العلمية ومواريث الأنبياء، وكتب للدّولة النّورية فازدادت به نورا على نور، وازدانت منه بفرائد بحور على نحور، واتصل بالمقام الصّلاحي، فأصلح الفاسد، وأربح الكاسد، وكان بالخدمة النّاصرية كاتب الإنشاء بها حقيقة، وساحب ذيل كلّ حديقة؛ وأمّا الفاضل فكان قد رفّع عنها وكبّرها ثم كان أكبر منها، وكان العماد بحرا يتلاطم موجا، وأفقا يتلألأ أوجا، وكان ملازما للسّلطان سفرا وحضرا، ووردا وصدرا، ومحصّلا بصحبته آلافا وبدرا.
وكان فقيها جدليّا، عالما فاضلا، أديبا، أريبا، كاتبا، شاعرا، ناظما، ناثرا، ذا تصرّف في البيان، وتفنّن في الكلام، لو ازدحم عليه ألف بريد لجهزة، أو نظم كلّ فريد لما أعجزه؛ وله الجيّد النّادر، والغضّ النّاضر، والبعيد المرام عمل الوقت الحاضر، وله التأليفات الكثيرة، والمصنّفات المفيدة، والرسائل البديعة، والقصائد الصنيعة، إلا أنه كان متطبّعا متصنّعا، يظهر عليه أثر الكلفة وثقل التصنّع، مغرى بالتجنيس مع ما فيه من الكلّ على المسامع، لقرب مخارج الحروف، مما تنفر منه الطباع.
وسئل الفاضل عنه، فقال: سيّدنا العماد، مثل الزناد، ظاهره بارد، وباطنه واقد.
وكان محلّ الثقة من الفاضل، آمنا من توثبه عليه، وتغلبه على ما جعله السّلطان إليه، وبهذا كان يطمئنّ إذا غاب مع ما ينويه من قلب السّلطان.
وكان «1» العماد شديد الحرص على تحصيل الدّنيا، وكان الفاضل يلومه ويعتبه، ويعذله ويؤنبه؛ فبعث مرة يشكو إليه ضرورة، فكتب إليه الفاضل:(12/254)
يا سيد أخيه، لا تسمع الدّهر هذه الشكوى، فيستعذبها فتستمر على العدوى؛ ولو اشتغلنا بالله لكان يغنينا، ولو قعدنا عن الرزق لأتانا لا يعنينا؛ وفي الحديث «1» : «اتّقوا الله وأجملوا في الطّلب» ولا ندري كيف يكون المنقلب؛ فبالله إلّا ما سمعت وأخذت هذا الأدب.
وله في هذا حكايات، منها «2» : أن رجلا من أهل حمص جاءه بطبق كيزان، وتفصيلة كتّان، قيمة ذلك كله نحو خمسين درهما، وسأل حاجة، فأخذ قصته وقرأها على السّلطان، وكان قد بلغه الخبر، فلم يجبه، فأعاد العماد عرض القصة وقراءتها مرات في مجالس عدة، والسّلطان لا يأمر فيها ولا ينهي؛ ففطن العماد وعلم أن الخبر قد اتصل بالسّلطان، فأعاد عرض القصة، فلما لم يجبه عنها، قال: يا مولانا، الطّبق الذي أحضره صاحب هذه القصة باق إلى الآن، لم أتصرف فيه، فإن كان ما ينقضي شغله أعدت إليه طبقه؛ فضحك السّلطان، وعجب من دناءة نفسه، وأمر بقضاء شغل الرجل.
وحكي «3» أنه كان شديد التّهافت على أخذ الختوم الذّهب الذي يجئ على كتب الفرنج، فوصل منهم كتاب بغير حضوره، ففتحه السلطان بيده وأخذ بعض الحاشية الختم، فلما جاء العماد قيل له: اكتب جواب هذا الكتاب، فقال: يكتب جوابه من أخذ الختم؛ فعزّ قوله على السّلطان، وقال له: ثم اخرج الوقت، ما هو محتاج إليك؛ فأتى العماد الفاضل، وعرّفه بما كان، فقال له: رح إلى الخانقاه، واقعد بها مع الفقراء، والبس زيّهم؛ فإذا طلبك السّلطان قل: أنا قد دخلت في أمر لا أخرج منه؛ ثم لا تخرج حتّى يأتيك السّلطان بنفسه مرضيا؛ ثم لم يلبث(12/255)
الفاضل حتّى أتته رسل السّلطان في طلبه، فلمّا أتاه شكا إليه العماد، وقال له:
اكتب جواب هذا الكتاب؛ فقال: والله ما أعرف ما أكتب فيه، لأن العماد كان يصدر هذه الكتب، ولا يعرفه سواه؛ ولم يزل يلطف الأمر حتّى قال: اطلبه؛ فبعث في طلبه، فلم يحضر، واعتذر، فعظّم الفاضل الأمر، وكرر الرّسل في طلبه وهو لا يحضر، فقال الفاضل: أنا أروح خلفه، وأتلطّف به، فو الله هذا باب ما يسدّه سواه؛ ثم ذهب إليه، فأطال المكث، ثم عاد إلى السلطان وقال: لقد حرصت به فلم يجب، ورأيته مقبلا على ما دخل فيه إقبالا ما أظنه بقي يخرج عنه، وما ضر السلطان لو زار الفقراء، وترضى عبده؛ ولم يزل به حتّى أتاه وترضّاه.
* ومن نثره قوله جوابا عن السّلطان في تفضيل دمشق «1» : عرفنا طيب الدّيار المصريّة ورقّة هوائها، ونحن نسلّم إليها المسألة في طيبها وتوفير نصيبها، ورقة نسيمها ورائق نسيبها، لكن هلّا رأت أن الشام أفضل، وأنّ أجر ساكنه أجزل، وأنّ القلوب إلى قبله أميل، وأن الزّلال البارد أعلّ وأنهل، وأن الهواء في صيفه وشتائه أعدل، وأن الزّهر به أشبّ، والنبت به أكهل، وأن الجمال فيه أكمل، وأن القلب به أروح، والرّوح به أقبل؛ ودمشق عقليته الممشوطة وعقلته المنشوطة، وحديقته الناضرة، وحدقته الناظرة، وهي عين إنسانه، بل إنسان عينه، وصيرفيّ نقوده، وعين نضاره ولجينه، فمستامها مستهام، وما على محبّها ملام، وما في رؤيتها ريبة، وفي كلّ جيرة منها حبيبة، ولكل شائب من نورها شبيبة، ومع كلّ ورقة ورقاء، وعلى كلّ معانقة من قدود البانات عنقاء، وشادي بانها على الأعواد يطري ويطرب، وساجعاتها بالأوراق تعجم وتعرب،(12/256)
وكم فيها من جوار ساقيات، وسواق جاريات، وأثمار بلا أثمان، وروح وريحان، وفاكهة ورمّان، وخيرات حسان، وقد تمسّكنا بالآية والسّنة والإجماع، وغنينا بهذه الأدلة عن الاختراع والابتداع.
أما أقسم الله تعالى بدمشق في قوله: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ
«1» والقسم من الله بها دليل على فضلها المصون؛ أما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) «2» : «الشّام خيرة الله من أرضه، يسوق إليها خيرة الله من عباده» ؟. وهذا أوضح برهان قاطع على أنّه خير بلاده؛ أما الصّحابة رضوان الله عليهم، أجمعوا على اختيار السّكنى بالشام؟ أما فتح دمشق بكر الإسلام؟ وما ينكر أن الله ذكر مصر وسمّاها أرضا، فما الذّكر والتّسمية في فضيلة القسم، [ولا الإخبار عنها دليلا على الكرم، وإنّما اكتسبت الفضيلة] من الشّام، بنقل يوسف الصّديق إليها عليه أفضل الصّلاة والسلام، ثم المقام بالشّام أقرب على الرّباط، وأوجب للنشاط، وأجمع للعساكر السائرة من سائر الجهات؛ وأين قطوب المقطّم «3» من سنا سنير «4» ؟ وأين ذرى منف «5» من ذروة الشّرف المنيف «6» المنير؟ وأين الهرم الهرم من الحرم المحترم؟
وبينهما فرق، ما بين القدم والفرق؛ وهل للنّيل مع طول نيله وطول ذيله،(12/257)
واستطالة سيله برد بردى في نقع الغليل؟ وما لذاك الكثير طلاوة هذا القليل، وسيل هذا السلسبيل؛ وإذا فاخرنا بالجامع وقبّة النسر «1» ، ظهر عند ذلك قصر القصر، على أن باب الفراديس «2» بالحقيقة باب النّصر، وما رأس الطابية كباب الجابية «3» ، ولو كان لناسها باناس «4» لم يحتاجوا إلى قياس المقياس؛ ونحن لا نجفو الوطن كما جفاه، ولا نأبى فضله كما أباه، وحبّ الوطن من الإيمان، ومع هذا فلا ننكر أن مصر إقليم عظيم الشّأن، وأن مغلّها كثير، وماؤها غزير، وأنّ عدّها نمير، وأن ساكنها ملك أو أمير، وأن الذهب فيها لا يوزن بالمثاقيل ولكن بالقناطير؛ ولكن نقول كما قال المجلس السّامي الفاضلي، أسماه الله: إن دمشق تصلح أن تكون بستانا لمصر، ولا شكّ أن أحسن ما في البلاد البستان؛ وهل دمشق إلّا مثل الجنان؟ وزين الدين «5» وفقه الله تعرض للشّام فلم يرض أن يكون المساوي حتّى شرع وعدّ المساوي! ولعلّه يرجع إلى الحقّ، ويعيد سعد إسعاد وفاقه إلى الأحق.
ومنه: ولو واصل خدمه بمقتضى مخالصته، لما وفى في جميع عمره، ببعض ما يجب عليه من حقّ المجلس وشكره، لكنّه يهاب الفضل العزيز فيتجنّب، ويستصغر قدره عند قدرة المعظم فيتأدب، ومن يقدم على مقابلة الشمس بسراجه؟ والعذب بأجاجه؟ والدّرّ بزجاجه؟ وأيّ قدر للقطرة عند البحر الخضم؟(12/258)
وأيّ فخر للسّهى عند إنارة البدر التّم؟ وكلّما شرع في خدمة، فنصب يده المهابة وبسطتها الصّبابة، وجلى له جلاله وجه الهيبة، فرجع ممّا رجاه من سماحة خاطره بالظّنّة والخيبة، وقال لقريحته: دعي الاقتراح، ولا تستدعي الافتضاح، وليس إلّا الاعتراف بالقصور، لا الافتراق للمحظور.
ومنه قوله: على أنّه لم يبلغ مع استفراغ جهد البلاغة في الدّعاء والثّناء أمد المقصرين، وإن بذّ القرين وزاحم الأسود وولج العرين، فالعجز عن الإدراك إدراك، والمعجب في التّوحيد بادّعاء الحول والقوة إشراك.
ومما كتبه في فتح القدس «1» : وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً
«2» .
الحمد لله الذي أنجز لعباده الصالحين وعد الاستخلاف، وقهر بأهل التوحيد أهل الشرك والخلاف، وله الحمد الذي حقق بفتحه ما كان في النفس، وبدّل وحشة الكفر فيه من الإسلام بالأنس، وجعل عزّ يومه ما حيا ذلّ أمس، وأسكنه العالم والفقيه بعد البطرك والقسّ، وعبّاد الصّليب والشّمس، وأخرج أهل الجمعة منه أهل الأحد، وقمع من كان يقول بالتثليث أهل قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ
«3» وقد(12/259)
فتح الخادم بحمد الله من الدّاروم «1» إلى طرابلس، وجمع ما حوت مملكة الفرنج إلى نابلس، ورجع الإسلام الغريب منه إلى داره، وقرّ سيل السير في قراره، وطلع قمر الهدى، وملأ بألسنة عزّها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ
«2» قريب المدى، وعاد الإسلام بإسلام البيت المقدس إلى تقديسه، ورجع بنيانه من التقوى إلى تقديسة تأسيسه.
ومنه قوله: جوده جود، وطوله طود، وكرمه كرم يعتصر صفو سلافه، ونعمه نعم تنحر وتنهر لأضيافه، ولا يحبّ الدّينار إلا مبذولا لعافيه، ولا يدّخر كثيرا إلا لجنى راجيه.
ومنه قوله: ما ظفر مدلج الإضلام بالسّنا، ومحوج الإعدام بالغنى، كظفر الخادم وفوزه بشرفه وعزّه، وسعادة جدّه وجدّة سعده، وحياة روحه وروح حياته، وحسنى حاله وحلية حسناته، وسنا سنائه المشرق عند إسفار إصباح أمله، وسفور وجه جذله، بورود المثال الممتمثل، المقبل المقبّل، المفضل المفضّل، عن المجلس العالي الفاضلي، لأفتئ حكم الشرع في شرع حكم فتياه فتيّا، وروض الولي بوليّ رضاه وجوده مجوّدا موليّا، ولا برح كاشحه يطوي على الشّح برح هوى، جوّه بالغيم مغيم، ومناصحه يحوي المنى، صحّة عقيدته وعقد صحته مبرم قويم.
ومنه قوله: وكتبها المملوك في منزلة عيونها سخينة، ونطافها ثخينة، وفوّارها فوّار،(12/260)
وأنجادها أغوار، وساكنها غير ساكن، وقاطنها غير آمن، وجدا جداولها علاقم، وجنى جنادلها أراقم، وحيّاتها موحيات، تسعى متلوّيات، وتلتوي ساعيات، كأنّما صاغت الجن من سنابكها الخلاخل، أو أراغت لنا من لواذعها الغوائل، ثقال الرءوس، كأنّها نصب الفؤوس، فهي حطب العطب، وخشب الأشب؛ فمن طوال كحراب الزّنج، وقصار كبنادق الشّطرنج، وأوساط كأسواط العذاب، سراع كأنامل الحسّاب، وقصار كبارقات السّحاب، ومارقات النّشّاب؛ ومنها ما هو كدباسق الأتراك، أو كألوية الأملاك، ومنها بتر كأيدي السّارقين، وخفاف كدين المارقين؛ ومنها ما هو كمزمار الزّطّ أو كزنّار القبط؛ ومنها ما هو كأنه أصهب الفهود، أو تكك ذوات النّهود، أو أنياب النّمور، أو كمخالب الصّقور، أو أعصاب الخيول، أو نياب الفيول، أو طوامير الكتّاب، أو مسامير الأبواب؛ ومنها كلّ برقاء إذا انسلخت من جلدها ألقت كمّ درع، ونقبت حديد ذرع، وسوداء كصحيفة المجرم، وصفراء كصفحة المتألم، قصيرة مقتصرة الأعمار، دقيقة جليلة الأخطار؛ الحيات أمها، والممات سمّها، عنبرة لا يحملها حامل ولا يشمها.
* وبهذه الرسالة ذكرت شعرا كنت وصفت فيه منزلة كثيرة الأفاعي؛ ومنه: [الطويل]
وأرض ترى الحيات فيها سواريا ... كأنّ مساريها ضروب من الرّقم
أساود رقط كالنّمال دبيبها ... ولكن تراها في القساوة كالدّهم
وتختلف الألوان منها كأنّها ... أزاهير روض وشّعتها يد الوسمي
إذا نشرت كانت حزاما وإنها ... كعروة إذ تطوى المساحب للضمّ
ومطرقة فوق الكثيب كأنها ... ضفائر ضمّتها مبدّنة الجسم
وآخر من دون الطّريق محملق ... شجاع على متن الطريق له يحمي
ينضنض في فيه لسان مخصّر ... كأنّ عليه طائر القطن والشحم(12/261)
يشمّ دخان الموت من ليس دانيا ... إليه ويلقى الموت من عاجل السّمّ
يذوب به قلب الحديد مخافة ... ويفعل فعل النّار في موقد الفحم
تقنّع شبها بالكميّ وإنّه ... لأفتك منه إذ يطاعن أو يرمي
بمرهفة دلق يقصّر دونها ... مدى القاطع الهنديّ والرّمح والسهم
يساور أوهام اللّبيب أدّكاره ... ويقتله قبل الغوائل بالوهم
إذا ما ترقّى الطّود خلت بأنّه ... يجاوز كثبان السّحاب إلى النّجم
«1»
وذوحنق ما البرق إلّا شرارة ... لأنفاسه أورشق ألحاظه المصمي
ويحدث ما لا كان في شهب الدّجى ... خسوفا عقيب الشمس بالقمر التممّ
وأقسم لو ألقى على الصّمّ سمّه ... لأثّر ذاك السّمّ في شاهق الصّمّ
ثم نعود إلى تتمة كلام الأصفهاني، فمنه قوله: صدرت هذه البشرى ودماء الفرنج على الأرض وقيل لها: ابلعي، وعجاجها في السّماء وقيل: أقلعي، وفاض ماء النّصال، وغاض ماء الضّلال، وهي بشارة اشترك فيها أولياء النّعمة، ونبئهم أنّ الماء بينهم قسمة «2» .
ومنه قوله:
ووجدناها قلعة أرضها في السماء، وتلعة في حوزها حواز الجوزاء، وعلى كلابها عواء العوّاء، ما تمرّ السّحب إلّا على سفوحها، ولا تسرق شياطين الكفر إلّا من سطوحها؛ إنا جعلنا نجوم النصال لها رجوما، وأدمنا لوبل الوبال عليها سجوما.(12/262)
ومنه قوله:
وأسلم البلد، وقطع زنّار خندقه، وأبيح حمى حماته، واستولى الفرق على فرقه، وتطايرت الصّخور في نصرة الصّخرة المباركة، وحجرت على حكم السّور بسفه أحجارها المتداركة، وطهرت الصّخرة بمياه العيون التي ببعدها قذيت، وصقلت بالشفاه وطالما كانت بأيدي المشركين قد صدئت.
* ومن شعره قوله من قصيدة أوّلها «1» : [الطويل]
وأسأل عنكم عافيات دوارسا ... غدت بلسان الحال ناطقة خرسا
ومنها:
مضى أمس منّي في انتظار غد لكم ... وكلّ غد لا شكّ منقلب أمسا
وقيل لنا: في الأرض سبعة أبحر ... ولسنا نرى إلّا أنا ملك الخمسا
ومنه قوله «2» : [البسيط]
ما طبت نفسا ولا استحسنت بعدكم ... شيئا نفيسا ولا استعذبت لي نفسا
وكيف يصبح أو يمسي محبّكم ... وشوقكم يتولّاه صباح مسا
نادمته وأخوه النّجم يحسدني ... فإنّني كنت أرعاه إذا خنسا
ومنها قوله يصف مقتولا:
ما زال يعطس مزكوما بغدرته ... والقتل تشميت من بالغدر قد عطسا(12/263)
ومنه قوله «1» : [مجزوء الرمل]
حيرتي طالت بذي حور ... طال في النّجوى محاوره
حلّ ما شدّت مناطقه ... ثقل ما شدّت مآزره
ومنه قوله «2» : [الطويل]
ثوى همّه لمّا ثوى الصّبر عنده ... مقيما وشطّ الصّبر في جيرة شطّوا
وأرّقه طيف فرى نحوه الدّجى ... وقد كان جيب الليل بالصبح ينعطّ
تشاغلتم عنه وثوقا بودّه ... كأنّ رضاكم عن محبّكم سخط
ملكتم فأنكرتم قديم مودّتي ... كأن لم يكن في الحبّ معرفة قط
ومنه قوله وقد اعتقل ببغداد «3» : [الكامل]
قل للإمام: علام حبس وليّكم ... أولو جميلكم جميل ولائه
أو ليس إذ حبس الغمام وليّه ... خلّى أبوك سبيله بدعائه
ومنه قوله «4» : [الكامل]
في بردك الأسد الهصور محرّشا ... وبجود كفّك تسكب الأمطار
تهب الألوف ولا تهاب ألوفهم ... هان العدوّ عليك والدّينار
ومنه قوله وقد جاء قفل من أصفهان لم يعرفه أحد منهم، وعرفهم كلّهم بآبائهم «5» : [مجزوء الخفيف](12/264)
أنا ضيف وإنّما ... أين أين المضيّف
أنكرتني معارفي ... مات من كنت أعرف
ومنه قوله «1» : [الطويل]
وما هذه الأيام إلّا صحائف ... نسطّر فيها ثمّ نمحى ونمحق
ولم أر في عمري كدائرة المنى ... توسّعها الآمال والعمر ضيّق
ومنه قوله «2» : [الخفيف]
هي كتبي فليس تصلح من بع ... دي لغير العطّار والإسكافي
هي إمّا مزاود للعقاقي ... ر وإمّا بطائن للخفاف
ومنه قوله «3» : [الرمل]
وهضيم الكشح في حبّي له ... لم يزدني كاشحي إلّا اهتضاما
كرم العاشق فيه مثلما ... لؤم العاذل فيه حين لاما
«4»
بقوام علّم الهزّ القنا ... ولحاظ تودع السّكر المداما
خدّه يجرحه لحظ الورى ... فلذا عارضه يلبس لاما
ومنه قوله «5» : [الطويل]
هلمّوا إلينا نحو مشمس جلّق ... وثم بمن نهوى على الأكل نلتقي(12/265)
كأنّ مذاب الشّهد فيه مجسّد ... أجدّ له عهد الرّحيق المعتّق
حكى جمرات بالغضا قد تعلّقت ... فيا عجبا من جمره المتعلق
كأن نجوم الأرض فوق غصونه ... كرات نضار بالزّمرّد محدق
قلت: وقد ذكر الفاضل صلاح الدّين أبو الصّفا خليل الصّفدي، أن العماد كان قالها:
كرات نضار في اللّجين مطرّق فلما أنشدت السّلطان صلاح الدّين قال: تشبيه الورق باللّجين غير موافق؛ فغيّرها العماد كما ذكرنا.
وقوله «1» : [الكامل]
قد كان يسمح بالوصال خيالها ... لو لم تضنّ العين بالإغفاء
ودنت تودع للفراق وإنّما ... إقصاء سهم القوس في الإدناء
وقوله «2» : [الكامل]
بدر فؤادي في محبّة وجهه ... بدريّه المعدود من شهدائه
رمق المحبّ فلم يدع رمقا له ... هلّا أخذت ذمامه لدمائه
وقوله «3» : [الكامل]
ماء الصّبا في وجنتيه وناره ... ضدّان [بين] تموّج وتلهّب
وكأنّ وجنته وخطّ عذاره ... فيها طراز مفضّض في مذهب
وقوله «4» : [الرمل](12/266)
هات يا بدر الدّجى شمس الضّحى ... قهوة تهدي إلينا الفرحا
واملأ الكأس إذا فرّغتها ... إنّ روح الرّاح يبغي شبحا
واقتدح زند سروري طربا ... واسقنيها كلّ دور قدحا
لا تلم يا صاح- أفديك- على ... سكر قلب فيك لو صحّ صحا
وقوله «1» : [الكامل]
وعلى السوالف منه فود مرسل ... فيه فؤاد المستهام مقيّد
متقلّد بدمي وظنّي أنه ... بمدامعي أو مثلها متقلّد
ما عاينت عيناي صدغا فاحما ... إلّا وسواده لقلبي أسود
أيخاف عارضه عقارب صدغه ... وعليه رعف للعذار مزرّد
وقوله «2» : [الطويل]
مشعشعة لاحت كأنّ مزاجها ... كسا كأسها بالورس ثوبا مصبّغا
يطوف بها ساق من السّكر خلته ... وقد عرفت منه الفصاحة ألثغا
إلى ريقه المعسول يظما محبّه ... وروّى به عود الأراك الممضغا
وما فتّر العينين إلا ليقتلا ... وما عقرب الصدغين إلا ليلدغا
وقوله «3» : [المنسرح]
يروقني في المها مهفهفها ... ومن قدود الحسان أهيفها
يا ضعف قلبي من أعين نجل ... أفتكها بالقلوب أضعفها
يا منكرا من هوى بليت به ... علاقة ما يكاد يعرفها(12/267)
دع سرّ وجدي فما أبوح به ... وخلّ حالي فلست أكشفها
وقوله «1» : [الطويل]
نهيت فؤادي عن هواكم فما انتهى ... ونهنهت دمعي في الغرام فمارقا
ومن فرط وجدي خلتم بي جنّة ... إذا لم ترقّوا لي فما تنفع الرّقى
وقوله «2» : [الكامل]
هب أنّ قلبي للنّصيحة قابل ... ما نافعي والدّمع ليس بقابل
مالوا إلى وصلي فحين وصلتهم ... ملّوا وليس يملّ غير الواصل
وقوله «3» : [الكامل]
سل سيف ناظره لماذا سلّه ... وعلى دمي لم دلّه قدّ له
واحذر سهام اللّحظ منه فإنّما ... عن قوس حاجبه يفوّق نبله
واقبل وإن حسدوك عذر عذاره ... واحسد على عسل بفيه تملّه
يا منجدا ناديته مستنجدا ... في خلّتي والمرء ينجد خلّه
سر حاملا سرّي فأنت لحمله ... أهل وخفّف عن فؤادي ثقله
فإذا وصلت فغضّ عن وادي الغضا ... طرف المريب وحيّ عنّي أهله
وقوله «4» : [الوافر]
ألا يا عاذلي دعني وشأني ... وما تجري المدامع من شؤوني
بكلّ خدينة للحسن مالي ... سوى بلوى هواها من خدين(12/268)
كريم أو كغصن أو كبدر ... بلحظ أو بقد أو جبين
تبسّم درّها عن أقحوان ... وأزهر وردها في ياسمين
وقوله «1» : [الطويل]
قفوا وسلوا عن حال قلبي وضعفه ... فقد زاده الشّوق الأسى فوق ضعفه
أرقت فجفني ما يريق سوى دمي ... كأنّ الهوى أوصى جفوني بنزفه
11- ومنهم: نصر الله بن محمّد بن محمّد، ضياء الدّين، أبو الفتح، ابن الأثير الجزريّ، الكاتب «2» .
* متكبر، نفخ في غير ضرم، وبذخ «3» بالسّمن وشحمه ورم، ولم يلتفت الدّهر إليه بعطفه، ولا أقبل عليه ببعض عطفه، حتى شمخ شمما، ونطق خرسا، وأصغى صمّا، وكانت له مخيلة ظهرت بارقتها، وبهرت سارقتها، شرب بودقها الهيام، وضرب ببرقها الغمام الخيام؛ وقد كان بالموصل، وشبابه مسودّ اللّمم، محتدّ الهمم، في درس يباكره ويغاديه، ويسقيه ماطره بروائحه وغواديه، فملأ الحفظ خاطره حتّى اندفق، وكلأ الحظّ سائره حتى توقّد الشفق، فقالب الأسود، وقارب أن يسود، لولا عجب ردّاه، وردّ وجهه عن الطريق فما أداه، فوقع إذ أسفّ، وتكدّر إذ شفّ، واتصل بالخدمة الأفضليّة فغمط به فضلها، وقبض بسببه(12/269)
ظلّها، فلم يحمد أحد له ولا لسلطانه فعلا، ولا عدّ له ولا للأفضل «1» فضلا، وجلس للنّاس وقد لبس رداء الكبرياء، وسلب بحمقه وقار الكبراء، فأحرج الصّدور عليه وعلى ملكه، وأحوج المقدور بما لديه إلى مهلكه، فتميّزت الخواطر عليه غيظا، وأبرزت الضّمائر له برد القلوب قيظا، فأودع النّفوس ودائع الحنق، وأترع له الدهر العبوس مشارع الرنق، وخرج من دمشق في صناديق المطبخ مختبئا حين أخرج الأفضل منها، وكان ينتقص الفاضل والعماد وسائر الكتّاب، ويحط قدر الأفاضل، ويسخر بالنّاس، ويتوقف في قضاء الحوائج، ويحمل ملكه على جفاء أهله وقطع ذوي رحمه، ويبعد بينه وبين أقاربه، فلهذا مقت، وغضّ طرفه وبهت؛ وفيه يقول الشّهاب فتيان «2» : [مجزوء الرجز]
متى أرى وزيركم ... وما له من وزر
يقلعه الله فدا ... أوان قلع الجزر
وفيه يقول ابن عنين «3» : [الوافر]
كأن قفا الوزير عروض سوء ... يقطع بالبسيط وبالمديد
قذال لا يزال النّعل فيه ... كمنزل أحمد بن أبي الحديد
وكان كاتبا مطّلعا، مترويا بالعلوم مضطلعا، إلّا أنه كان متكلفا متطبعا، ومتعجرفا متصنّعا، وكان يتعاطى أكثر مما يستحقّ.(12/270)
وله تصانيف، منها «المثل السّائر» و «الوشي المرقوم» و «المعاني المبتدعة» وأمثلها «المثل السّائر» وقد عمل عليه موفّق الدين [ابن] أبي الحديد «1» كتابا سمّاه «الفلك الدّائر على المثل السّائر» وعمل آخر كتابا على كتاب [ابن] أبي الحديد سمّاه «القطع الدّابر على الفلك الدّائر» «2»
وكلام هذا الرجل- أعني الضّياء- وإن كان محكم الصنعة، ناظرا إلى دقائق المعاني، فإنّه في غاية التكلّف، لاعتماده على معاني النّاس، وإكثاره من الحلّ والاقتباس، وقد بنى كتابه المسمى «بالوشي المرقوم» على هذا؛ وعليه كانت طريقته، في كلامه ومنحاه في قوله، لا يكاد يسمع له من النظم إلّا ما قلّ. مولده يوم الخميس، العشرين من شعبان، سنة ثمان وخمسين وخمسمئة بالجزيرة «3» .
* ومن نثره قوله في وصف كريم:
فلان يغار من جود غيره إذا جاد، ويرى الأفضلية في المكارم إلّا في وحدة الانفراد، فصديقك الذي يحب محبة الله في ودّه، ولا يتعدّى الخجل إلى الثقة بعهده؛ ولو أعطينا الرّشد كما كنا نأسى على ما يختلف على تغييره المساء والصّباح، وكان كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ
«4» .(12/271)
ومنه قوله في وصف البلاغة:
إذا نزل من سماء فكري ماء، سالت أودية بقدرها، واهتزت رياض بزهرها، وليست الأودية إلّا خواطر الأفهام، ولا الرّياض إلّا وشائع الأقلام.
ومنه قوله:
وفي الآباء عوض عن الأبناء، وفي الأسّ خلف لما يستهدم من شرفات البناء، وقد قيل: إنّ في سلامة الجلّة هدر للنيب «1» ، وإذا سلمت طلعه البدر، فأهون بالأنجم إذا انكدرت للمغيب؛ وما دام ذلك المعدن باق، فالقضب كثيرة وإن أودى منها قضيب.
قلت «2» : لو قال: الدّوح، أو الأصل، أو ما شابه ذلك، كان أنسب من قوله: المعدن، وأكثر ملاءمة مع قوله قضيب.
ومنه قوله:
وفلان قد خبر الدّهر في حلب أفاويقه، ونقض مواثيقه، فهو لا يرد الماء إلّا بماء، ولا يهتدي في مسرى أرض إلّا بنجوم سماء؛ ومن شأنه أن يرد الأمور برأيه ولا يبعث فيها رائدا، وإذا قيل: إنّ فلانا ذو كيد، قال: من الكيد أن لا يدعى كائدا.
ومنه قوله:
لقونا وقد أشرعوا الأسنّة التي شاركتهم في الأسماء، وإذا أوردت أروتهم من غليل الحقد كما يتروى من شرب الدماء، لكن ذادها عن الورد ما هو أصلب منها عودا، في يد من هو أمضى منهم جدا وأسعد جدودا، وإذا لاقت الرّيح(12/272)
إعصارا، زالت عن طريقه، وضاق ذرعها بمضيقه.
ومنه قوله:
رأيت أجمة ولا ليث يحمي تلك الأجمة، بل رأيت بيض عقاب تحضنه رخمة، وليس المشار إليه إلّا نائما في صورة يقظان، وهو كزيد وعمرو إذ تجري عليهم الأفعال وهما لا يشعران.
ومنه قوله:
وفلان قد جعل الرّأي دبر أذنه، ووضع جفير «1» السّيف تلقاء جفنه، ولم يعرّج على لهو فيقول «2» : اليوم خمر وغدا أمر، ولا يصغي إلى مسير فيأخذ بقول زيد ولا عمرو، فهو مطلّ على مغيبات الأمور، غير غافل بتمام الأعقاب إذا تمت له الصّدور.
ومنه قوله: الغناء يخفّ بكثير من الأوزان، والنّظر في هذا إلى الأثر لا إلى العيان، ولا عجب أن يوزن الواحد بجميع الورى، ولهذا قيل: كلّ الصيد في جوف الفرا «3» .
ومنه قوله: كم في الأرض من شمس تخجل لها شمس السّماء، وتتضاءل إليها تضاؤل الإماء، وتعلم أن ليس لها من محاسنها إلّا المشاركة في الأسماء؛ فلربما طلعت في الليل فقال النّاس: هل يستوي بياض النّهار وسواد الظّلمات، ولا عجب للعيون إذا رأتها أن تظنّ ذلك في أحلام النوم، أو يخيل لها أن(12/273)
يوشع «1» في القوم.
ومنه قوله:
ولقد رأيته فرأيت العالم في واحد، وعلمت أنّ الدهر للنّاس ناقد، وما أقول إلّا أنّ الله ردّ به الأفاضل إلى معاد، ثم وضعه موضعه «2» ، فذلك من جملة الأعداد في الاعتداد، لكن [إن] كان ذنبي خطأ، فقد جاءت معذرتي عمدا، ولا عقوبة مع الاعتذار، ولو كان الذّنب شيئا إدّا، والمقدرة لا تسيغ للكريم أن يمضي غيظا أو يطيع حقدا.
ومنه قوله:
الأحوال شبيهة بالأبدان في عوارض سقمها، وكلّ داء من أدوائها له علاج إلّا ما كان من سأمها وهرمها، وقد قيل: إنّ الطّب هو معالجة الأضداد بالأضداد، ولهذا لا يطبّ مرض الآمال إلّا بجود الأجواد، وفي شهود الجناية من الأشراف ظلم للسّادات لا تعدّه النّفوس من ظلمها، ولربّما كلم السّوار يدا فذهب فخر زينتها بألم كلمها، ولهذا هانت جناية بني عبد المدان، وضرب بها المثل في شرف المكان، والنّاس في المنازل أطوار، فمنهم أنجاد ومنهم أغوار.
ومنه قوله:
بازيّ «3» أشهب، تفخر السوابق بأنها له سميّة، وترتمي الطير في جو السّماء وهي له رميّة، كأنّما يجلو القذى عن عقيقتين، ويظلّ من توحشه(12/274)
وإيناسه من خليقتين، ومن أدنى صفاته أن يقال: هذا خلق من الرّياح، في صورة ذي منسر وجناح، وقد لقب بالبازي لكثرة وثوبه، وما غدا لمطلب صيد ففاته شيئ من مطلوبه، ولقد تكاثرت قلوب الطير لديه في كلّ حال، حتّى شبّه رطبها ويابسها بالعناب والحشف البال» .
ومنه قوله في المطر:
وانحلّ بها خيط السماء، حتى استوى ريّ بطونها للظّماء، ولكنّه للريح التي حبته بما حبا، ولم يكن مسك طلّه معتصرا إلّا من كافور الصّبا.
ومنه قوله:
ولقد سنّوا دروع الحديد على مثلها، ولولا اتقاء البغي لرأوا حمل العار في حملها، فإذا صافحتها أسنّة الحرضان «2» ، رأيت أشخاص الكواكب في غدران.
ومنه قوله في لئام:
أصلح الإفساد، وردّ البلاد؛ وقد استذأبت نقادها «3» ، واستجبلت وهادها «4» ، ووردت وعولها بحيث ترد آسادها!.
ومنه قوله:
فعلم ذلك جهل لا يرعّ «5» منه عنف الملامة، وداء لا يكفي في تقليل دمه(12/275)
الفصد للحجامة، بل اليد لمن وضع السّيف فيه موضع العصا، ومن عمى الضلالة ما لا يبصر إلّا بسفك الدّم، ومنه ما يبصر بتسبيح الحصا.
ومنه قوله:
وكم لطيف الخال من يد يبذلها، وصاحبة يمنعها، ولطالما سمح برؤية عين لا يراها، ونجوى حديث لا يسمعها، فياله من باطل أشبه في مراره حقا، وأوهم القلب أنه داواه وما داوى، والغليل أنه شفاه وما أشفى.
ومنه قوله:
قليل الاحتفال بالخطوب المختلفة، وإذا انتقلت أحوال الزّمان، كانت حاله غير منتقلة؛ فعلمه يطلّ على أفكاره، ويرى الأمر الخفيّ من خلف أستاره، ولا تبلغ الأنجاد والأغوار مدى أنجاده وأغواره، فهو اليقظ الذي هجع النجم وهو لا يهجع، والماضي الذي يجزع السيف ولا يجزع، والمعافى المضروب له المثل بأنّه لا يخدع.
ومنه قوله:
ريعان العمر تشترك فيه نهضة الأجسام والهمم، ولهذا كان شباب العلى في الشّباب، وهرمها في الهرم، وما تشابها في اللفظ إلّا لتشابههما في المعنى، وكلاهما ذو رونق في حسنه، إذا اجتمعا زادا حسنا؛ وما أقول إلّا أن بين سواد الشّعر والسّؤدد غراسا، كما أن بينهما في التسمية جناسا.
ومنه قوله:
من كل بطل يزحم غوارب الأهوال بغاربه، ويلقى وجوهها الكريهة بجانبه، ولطالما كافحها في الحرب، حتى نفضت وقائعها غبارا على ذوائبه، فهو يقدم فيها إقدام من ليس له أجل، ولا يرى للخدّ الأسيل حسنا، لا يخدّ من الأسل.(12/276)
ومنه قوله:
تماثلت فرائد عقودها وثغرها، فلا يدرى أنظمت حلية نحرها في تبسّمها، أم حلية مبسمها في نحرها؛ فلو انتثرت تلك الفرائد في اللّيل البهيم، لا لتقطت حبّات العقد النّثير في ضوء العقد النّظيم.
ومنه قوله:
إذا نظر الخادم إلى حبسه المقتنى من خدمة الديوان العزيز لم يحتج إلى أوّلية مجد قديم، ولا إلى فضيلة سعي كريم، فالحظوظ مقتسمة في تلك الأبواب بلثم التراب؛ ولو عقلت النّجوم، كما يزعم قوم، لنزلت إليها خاضعة الرقاب، وقالت لها: أنت أولى بمكان السّماء الذي منه مطلع الأنوار ونشوء السّحاب.
ومنه قوله في رؤوس علّقت على قلعة:
ولم يكن بناؤها إلا بعد أن هدّمت نفس الأعناق، كأنّما أصيبت بجنون فعلقت عليها القتلى مكان التّمائم، أو شينت بعطل فعلقت مكان الأطواق.
ومنه قوله: لم تكسه المعركة نسج غبارها، حتّى كسته الجنّة نسج شعارها، فبدّل ثوب أحمره بأخضره، وكأس حمامه بكأس كوثره.
ومنه قوله في وصف الحياء:
الحياء لباس يتّقى وجه الكرم بوقائه، وهو له كاللّحاء الذي يبقى العود ببقائه.
ومنه قوله:
لو أردت دوام الدّهر على حال واحدة ما دام، والبأساء والضّراء خيالات(12/277)
أحلام، فما ينبغي لك أن توليه حمدا ولا ذما، فإنّك تتقلّد منه يدا ولا يدا، ولا تشكو منه ظلما ولا ظلما.
ومنه قوله:
ولئن صبرت فلأن الجزع لا يفيد ردّ الفائت، ولقد علمت أنّ للمصائب أجرا، ولكنه لا يفي بشماتة الشامت.
ومنه قوله:
مررنا عليهم مرور الأمحال، وأمّيناهم وهم رجال بلا أرض، وتركناهم وهم أرض بلا رجال، ولقد مشت المنايا في دمائهم حتى ظلت حسرى، وشبع السيف منهم حتّى تفزر بطنه، وشرب الرّمح حتى تأوّد سكرا، ولم يبق للإسلام في عقده غلّ إلّا شفاه، ولا عنده دين إلّا استوفاه.
ومنه قوله:
في الحرب إذا أيتم «1» السّيوف من الأغماد، فقد أيتم الأولاد من الآباء وأثكل الآباء الأولاد، فلا يرى أدهم نقع إلّا وهو ببياضها أبلق، ولا أحمر دم إلّا بحدّها مهرق، فهو مصارع النّفوس، ومطالع السّعود والنّحوس، والنّار التي عبدت من قبل المجوس.
ومنه قوله:
لا يكون الكريم كريما، حتى يكون لنفسه غريما، فإنّ العطايا حقوق واجبة على أقوام، وإذا لم يجد الغمام بمائه فأيّ فائدة في كثرة ماء الغمام؟.(12/278)
ومنه قوله:
توانى عنه رسل النّجاح، ووكلت به عزمة أوقفته على رجل وأنهضته بجناح، وتمنعه من الإتيان على عجل، إنّ القضاء على مهل.
ومنه قوله:
هوّنت نفسي حتّى صرت أصرّفها كما أشتهي، وأنهاها وآمرها فتأتمر وتنتهي، ومن صفاتها أنّها لا تمنى من غيرها بزاجر، وقد استوت حالتها في باطن من الأمر وظاهر.
ومنه قوله:
جمع المال فقر لا غنى، وهو كشجرة لا ظلّ لها ولا جنى، وصاحبه لا يستفيد به إلّا ذمّا، ولا يستزيد بالسعي له إلا همّا، واليسار على هذه الحال هو عين الإملاق «1» ، والذّهب والحجر سواء إذا لم تتصرف فيه يد الإنفاق، وفضيلة المال داء الأعراض، كما أن فضيلة الزاد داء الأجساد؛ وعلاجهما شيء واحد، في الوقوف على درجة الاقتصاد.
ومنه قوله:
وصنائع المعروف تورث من الثّناء خلودا، وتكون لغير ذوي الجدود جدودا، تبتنى العلياء بما يفنى ولا يبقى، وترقى بصاحبها إلى منال النجم وهو لا يرقى؛ والسّعيد من جعل ماله نهبا للمعالي لا للّيالي، وعرضة للمآثر لا للذّخائر، ومن نال الدّنيا فاشترى آخرته ببعضها، وأقرض الله من مواهبه التي دعاه إلى قرضها، فذلك الذي فاز بالدّارين، وحظي فيها برفع المنارين.(12/279)
ومنه قوله:
سارية تمشي لثقلها مشي الرّداح، ويكاد يلمسها من قام بالراح «1» ، وما نتجت نتاجا إلّا أسرّت في ضمنه حمل أقاح، ولا أظلمت إلّا أضاء البرق في جوانبها، فتمثّلت ليلا في صباح، فهي مسودّة مبيضّة الأياد، مقيمة وهي من الغواد، نوامة على طول سهرها بالوهاد، فكم في قطرها من ديباجة لم تصنع أفوافها، ولؤلؤة لم تشق عنها أصدافها، ومسكة لم تخالط سرر الغزلان أعرافها؛ فما مرت بأرض إلّا أحيتها بعد مماتها، ووسمتها بأحسن سماتها، وغادرت غدرانها فائضة من جهاتها، ومثلها والنّبت مطيف بها بالأقمار المتعلقة بأردية ظلماتها.
ومنه قوله:
فلان قد كشف عن مقاتله، وعرض بجهة الأدلّة نفسه على قاتله.
ومنه قوله:
وقلمه هو يراع نفث الفصاحة في روعه، وكمنت الشجاعة بين ضلوعه، فإذا قال أراك نسق الفرند في الأجياد، وإذا صال أراك كيف اختلاف الرّماح بين الآساد؛ طورا ترى نحلة تجني عسلا، أو شفة تملي قبلا، وطورا ترى إماما يلقي دروسا، وآونة تنقلب ماشطة تجلو عروسا، ومرة ترى ورقاء تصدح في الأوراق، وأخرى ترى جودا مخلّقا بخلوق السّباق؛ وربما تكون أفعوانا مطرقا، والعجب أنّه لا يزهى إلا عند الإطراق؛ ولطالما نفث سحرا، أو جلب عطرا، وأدار في القرطاس خمرا؛ وتصرف في وجوه الغناء، فكان في الفتح عمر وفي الهدى(12/280)
عمّارا وفي الكيد عمرا «1» ، فلا تحظى به دولة إلا فخرت على الدول وقالت:
أعلى الممالك ما يبنى على الأقلام لا على الأسل، والقلم مزمار المعاني، كما أن أخاه في النّسب مزمار الأغاني؛ وكلاهما شيء واحد في الإطراب غير أن أحدهما يلعب بالأسماع، والآخر يلعب بالألباب.
ومنه قوله:
وقلمه هو الذي إذا قذف بشهب بنانه رأيت نجوما، وإذا ضرب بشبا حدّه رأيت كلوما، وإذا صور المعاني في ألفاظها رأيت أرواحا وجسوما، ولطالما قال فاستخفّ موقّرا وكسا وقارا، وأطال فوجدت إطالته بحلاوته إقصارا، فهو دقّ المعاني المخترعة، يستخرجها من قليبها، ويبرزها في ثوبها القشيب، وليس خلق الأثواب كقشيبها، يجتني معانيه من ثمرات مختلفة طعمها، وينسج ألفاظه من ديابيج مؤتلفة رقمها.
ومنه قوله في ذم كاتب:
لا يمشي قلمه في قرطاس له إلّا ضلّ عن النّهج، ولا يصوغ لفظا إلّا قيل: ربّ حدث من الغم كحدث من الفرج، ولكن ما كل من تناول قلما كتب، ولا كل من رقا منبرا خطب، والدّعاوى في هذا المقام كثيرة، ولكن ليس القنا كغيرها من القصب.
ومنه قوله «2» :
وكان بين يدي شمعة تعمّ مجلسي بالإيناس، وتغنيني بوحدتها عن كثرة الجلاس، وينطق لسان حالها أنّها أحمد عاقبة من مجالسة النّاس؛ فلا الأسرار(12/281)
عندها بملفوظة، ولا السّقطات لديها بمحفوظة؛ وكانت الريح تتلعّب بلهبها، وتختلف على شعبه بشعبها، وطورا تقيمه فيصير أنملة، وطورا تميله فيصير سلسلة، وتارة تجوفه فيصير مدهنة، وتارة تجعله ذا ورقات فيتمثل سوسنة، ومرة تنشره فينبسط منديلا، ومرة تلفّه على رأسها فيستدير إكليلا؛ ولقد تأملتها فوجدت نسبتها إلى العنصر العسليّ وقدّها قدّ العسّال، وبها يضرب المثل للحليم، غير أن لسانها لسان الجهال ومذهبها مذهب الهنود في إحراق نفسها بالنّار، وهي شبيهة العاشق في انهمال الدّمع، واستمرار السّهر، وشدّة الاصفرار.
ومنه قوله:
ولقد عدا السّحاب طوره إذا هطل في بلدة هو بها مقيم، لكن عذره أنّه أتى متعلّما، وقد جرت العادة بإفادة التعليم، وما أقول: إنّه يقابل ذاك الوجه النّدي إلّا بوجه قل ماؤه، ولو استحيا منه حقّ الحياء لما هطلت سماؤه، وأنّى يقاس فيض كرم السّحاب بفيض كرمه، أو ديمه الدائمة بإقلاع ديمه.
ومنه قوله:
إذا رفعت الخطوب أعناقها، لقيها من رأيه بسعد الذّابح، وإن بقي ليلها غشيه من عزمه بالسّماك الرامح، فهو يسفك دماءها، ويجلو ظلماءها، ولهذا ترى وقد أجفلت عن طريقه، فرجعت عن حرب عدوّه إلى سلم صديقه.
ومنه قوله في اليأس والطّمع: إن نظر إلى اليأس والطمع، وجدا سواء في جدوى الإعطاء، ولا فرق بينهما إلا في روح التعجيل وكرب الإبطاء، ومن هاهنا عجّل اليأس غنى والطّمع فقرا، وأوسع صاحب هذا ذما، وصاحب هذا شكرا.(12/282)
ومنه قوله: إذا فاز المرء من اليقين بحظه، ولحظ الدنيا بقلبه لا بلحظه، علم أن عطاياها عارية مردودة، وأنّها وإن طالت مدّة وجودها فإنّها مفقودة، وما ينبغي له حينئذ أن يسر بالشيء المعار، وينقل له من دار المتاع إلى دار القرار.
ومنه قوله:
وكانت الدّنيا به مسرورة، فطوى عنها لباس السّرور؛ وكانت الزّلفى له بحياته، فانتقلت الزّلفى إلى أهل القبور؛ وما أقول إنّه كان للأرض إلّا بمنزلة الأرواح من الأجساد، ولا شك أن السّماء حسدتها على الاختصاص به مما اعتادت من حسد الحساد، فبماذا يمدحه المادح وقد أسلمه العيان إلى الخبر؟ وإن قيل: لولا النّبي لم تخلق شمس ولا قمر، قلت: ولولا موته لم تخسف شمس ولا قمر.
ومنه قوله:
وكيف يظلم ذاك اللّحد وبه من أعمال ساكنه أنوار؟ أم كيف يجدب وبه من كف فيضه سحاب مدرار؟ أم كيف يوحش والملائكة داخلة عليه ببشرى عاقبة الدار؟ أم كيف يخفيه طول العهد على زواره وطيب ترابه هاد للزّوار؟ وا أسفي كيف أطأ على الأرض وهو في بطنها ملحود؟ أم كيف ترعى «1» نجوم السّماء وما هو بينها موجود؟. أم كيف أعدّ أسماء البحار وليس في جملتها معدود؟ أم كيف أحمد من بعده عيشا ولم يكن العيش إلا به محمودا؟
ومنه قوله:(12/283)
العفو عن المذنب عقوبة لعرضه، وإن نجا بسلامة نفسه، وخيانته هي التي تلبسه من غضاضتها ما لم يبلغه العقاب بلبسه؛ وقد قيل: إنّ الرّفق بالجاني عقاب، والإحسان إليه متاب؛ ولا شكّ أنّ بسطة القدرة تذهب بالحفيظة، وتزيل وجد الصّدور المغيظة، وشيم المولى تحبّ أن يكون رضاها شفيعا إلى غضبها، وإن نبضت منه بادرة سهم، ردتها شيمة التغمد على عقبها، فلا شافع إليها إلا وسيلة كرمها، ولا ذمة عندها إلا الاستذمام بحرمها.
ومنه قوله:
إذا ادعت له الأوصاف رتبة فضل، شهد شاهد من أهلها، وكفته وراثتها عن آبائه أن يشارك البعداء في فضلها، وأحق الناس بالمعالي من كان فيها عريقا، ولا يكون المرء خليقا بها إلا إذا كان أبوه بها خليقا، وإذا زكت أصول الشجر زكت فروعه، ولا يعذب مذاق الماء إلا إذا طاب ينبوعه.
ومنه قوله:
وأكرم بيديه التي تسمح بدية القتيل، ويرى الكثير من عطائها بعين القليل، وما كل من شاء استمرت يده بالسماح، وقد تحجم عنه من تقدم على مكروه الصفاح، على أنه قد قيل: إن بين التسميتين إخاء، فالسخاء يكون نجدة، والنجدة تكون سخاء؛ ومصداق هذا القول اجتماعهما لليد الكريمة التي ألفت إنجاح الوعد وإنجاح الوعيد، وضمنت أرزاق الناس وأرزاق الحديد، وقالت في الندى: هل من صاد في الوغى: هل من مزيد؛ فالساري إلى أبوابها لا يصل إليه في نهج السرى، وهو مهتد منها على قبس القراع أو قبس القرى.(12/284)
ومنه قوله في وصف هملاج «1» :
له في العربية حسب أصلها، وفي العجمية نسب جهلها، فهو من بينهما مستنتج، لا ينسب إلى الضبيب «2» ولا إلى أعوج «3» ، سديد الحملة، شديد الجملة، لا يشان بالغلو، ولا يتعب راكبه بفرط العلو، أثبت من الصافنات صبرا، وأوطأ ظهرا، وأطوع للتصريف، وأسلم في الهيكل والوظيف، رحب اللبان، عريض البطان، سلس العنان، طوع الكرة والصولجان؛ قد استوت حالتاه بادنا ومضطمرا؛ فإذا أقبل خلته مرتفعا، وإذا أدبر خلته منحدرا، كأنه دمية محراب، أو درة هضاب، فهو مخلّق بخلوق المضمار، وبدم السّرب والصوار «4» ، بناصية شائلة، وغرة سائلة، كنوارة في شقيق، ولؤلؤة في عقيق، يثنى عليه بأفعاله، لا بعمه وخاله؛ وإذا كان الكريم في كل جنس، فهو كريم جنسه؛ وإذا كانت العراب بأنسابها، أبناء أمهاتها، فهو ابن يومه لا ابن أمسه، كأنما ألقى لجامه على سالفة عقاب، أو شد حزامه على بارقة سحاب.
ومنه قوله في الخيل والسير:
ولما دهم نزلنا للاستراحة، والهجير قد أخذ في الاستعار، وقذف بالدرك الأسفل من النار؛ والحرباء قد لجأ إلى ظل المقيل، وسمح بمفارقة عين الشمس وهو بها عين البخيل؛ فلم يكن إلا مقدار وضع الرجل من الركاب، ومصافحة الجنب لصفحة التراب، حتى قيل: قد فجأتكم عصابة من أهل العبث، تشد في(12/285)
ضرائها، وتجنب نقعها من ورائها، وقد فرطت أجيادها بأعنّتها، وطاولت هواديها بأسنتها، فغدت حينئذ نجزة من الخيل، تدرك ما كانت له طالبة، وتفوت ما كانت منه هاربة، لا تمل من موالاة الدروب، وهي عند النزول كمثلها عند الركوب؛ فلما استويت على ظهرها، عقدت مع الريح عقد الرهان، وعرضت عليها حكم الشقراء والميدان، ثم قلت: إن استشعرت مسابقتي، فقد جئت شيئا فريا؛ وتلوت قوله تعالى: وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا
«1» وما كان إلا هنيهة حتى حال الركب للرواح عند الإظهار، واستسلفت المدى بالتقريب قبل الإحضار، وجئت القران فلقيته منها بصدر يطارد الأمواج مطاردة الفجاج، وعين لا يروعها هبوات الماء كما لا يروعها هبوات العجاج؛ فتلك فرسي التي أعدّها لكل مخوفة، وهي حوت في كل معبر، وظليم في كل تنوفة.
ومنه قوله في الناقة والفرس:
سرت وتحتي بنت قفرة، لا تذهب السرى بجماحها، ولا تستزيد الحادي من مراحها، فهي طموح بإثناء الزمام، وإذا سارت بين الآكام قيل: هذه أكمة من الآكام، ولم تسم جسرة إلا أنها تقطع عرض الفلا كما يقطع الجسر عرض الماء، ولا سميت حرفا إلا أنها جاءت لمعنى في العزائم لا لمعنى في الأفعال والأسماء، وخلفها جنيب من الخيل، يقبل بجذع، ويدبر بصخرة، وينظر من عين جحظة، ويسمع بأذن جسرة، ويجري مع الريح الزعزع، فيذرها وقد ظهر فيها أثر الفترة، وما قيد خلفها إلا وهو يهتدي بها في المسالك المضلة، ويطأ على آثارها فيرقم وجوه البدور بأشكال الأهلة؛ هذا والليل قد ألقى جوانبه فلم يبرح، والكواكب(12/286)
قد ركدت فيه فلم تسبح، وإنما أود لو زاد طوله، ولم تظهر غرة أدهمه ولا حجوله، فقد قيل: إنه أدنى المبعد، وأكتم الأنوار، ودل عليه القول النبوي «1» «بأن الأرض تطوى فيه ما لا تطوى في النهار» ، وما زلت أسير مرتديا بثوبه حتى يكاد أن ينضو لون السواد، وظهر ذنب السرحان فأغار على سرح السماء كما يغير السرحان على النقاد، فعند ذلك نهلت العين من الكرى نهلة الطائر، ولم يكن ذلك على ظهر الأرض المطمئنة، وإنما كان على ظهر السائر.
ومنه قوله في الخاطر:
الخاطر كالضرع، إن حلبته طف، وإن تركته جفّ.
ومنه قوله:
لا ريب في أن لحاظ النواظر كمتون البواتر، وإنما اشتركت جفونهما في الأسماء، لاشتراكهما في سفك الدماء.
ومنه قوله في الحكمة:
عقل المرء من حول ماله، وماله من حول صبره؛ فإذا افتقرت يده ذهبت بعقله، وإذا صبرت نفسه ذهبت بفقره.
ومنه قوله:
فروا وقد علموا أن العار مقرون بالفرار، لكنهم رأوا كلمه الأعراض أهون من كلمه الأعمار، وتلك نفس خدعت بالحياة الذليلة التي الموت ألذ منها طعما، وليس الموت إلا في أن تلاقي النفس ذلا، أو تفارق جسما؛ ولربما يسلا المهزوم(12/287)
بقول القائل: إن الأسد يغلبه «1» الأسود، وإن الحرب ليست بمضاء العزائم، وإنما هي بمضاء الحدود؛ وهذا القول مسلاة كاذبة لهم مكذوبة، ولولا العزم لم تر حصون مفتتحة، ولا جموع محزوبة، وبالجد يدرك الجد، ولولا القدح لم ينفث الزند، ولمّا جيء بأسرى القوم مننّا عليهم بإطلاق السراح، وقاتلت عنهم شيمة الصفح إذ لم تقاتل عنهم شيمة الصفاح، وحمية الآباء لا تقتل من لم يحوه مكر الطراد، ولا حمية صهوات الجياد؛ وأي فرق بين الأسير في عدم الدفاع، وبين أشباهه من ذوات القناع؟
ومنه قوله:
وما زال يزعج ديار الكفر بغزواته، حتى لم تهن حاملة بإتمامها، ولا متعت عينها بلذة منامها؛ فاسم القرور من نسائهم منسوخ بغارة المقربات الجياد، ولذيذ النوم بأرضهم مسلوب بإيقاظ جفون البيض الحداد.
ومنه قوله في بليغ:
إذا ارتجل أتته المعاني غير مكرهة ولا محرجة، وأبرزها كوامل الصور غير مخدجة، وإن تروى تهافتت على توقد خاطره تهافت الفراش، وجاءته سوانح وبوارح حتى تقول «2» : تكاثرت الظباء على خراش.
ومنه قوله في تكذيب أهل النجوم:
ولقد أوهم أهل التنجيم بالتسيير والتقويم، والحكم على أفعال العليم(12/288)
الحكيم، فأخبروا عن النجوم في سعودها ونحوسها، بما لم تخبره من نفوسها، وقضوا في ترتيب أبراجها، واختلاف مزاجها، وحكموا على حوادث العمر من حال وجوده إلى عدمه، في سعادته وشقائه وصحته وسقمه، وأشباه ذلك من الزخارف، التي نصبوها حبائل للاكتساب على غير ذوي الألباب، وكلها أضغاث أحلام، وأوضاع لا تخرج عن خط الأقلام.
ومنه قوله:
ولم أبك إلا عصر الشباب الذي هو في الأعمار بمنزلة الربيع من الأعوام، وما كنت أعرف كنه أمره حتى مضى، فرحلت معه الحياة بسلام «1» ، فالأيام فيه غوافل، والسنون لقرب عهدها مراحل، ولم أقض وطرا إلا خلفت أندى منه مرتعا، وأحسن مرأى ومسمعا؛ أيام لا أعاقر خمرة إلا لمى، ولا وردة إلا خدا، ولا نقلا إلا فما، ولكأني ما كنت «2» قمرا حلف إلا بالقدود وهيفها، والجفون ووطفها، وليالي الذوائب وسدفها، ووجوه الأقمار التي لا تشاب بكلفها، ولا يرى في غرر الشهور ولا منتصفها؛ فأصبحت قد بدلت غريب الأحوال بأليفها، وعوضت من نضرة الأوراق بيبس خريفها، فولى الصبا الآن بسلام، ولوعة ينبي بها الدمع السجام.
ومنه قوله فيمن قصر:
ولتقر تفاح الخدود، فلست من تقبيله غرا، ولا من عضه، اللهم غفرا، وقد ينطق المرء بما يكون فيه لسانه آثما وفعاله برا، ولولا حكم الفصاحة لما ذكرت بانة ولا علم، ولا وقف المتغزل بأقواله موقف التهم.(12/289)
ومنه قوله: كما عود الطير من جزر أعدائه تتبعه أسرابا، واستسقى سحابها ما تحته من سحاب خيله، فاستسقى سحاب سحابا، ولقد مرت عليه الشمس فضعفت أن تحرق جناحا، أو تحمي بحرّها سلاحا، فلم يلق بين الريش فرجة ينثر فيها دراهمها، ولربما خالسها النظر إذا هزت قوادمها.
ومنه قوله في الاستعطاف:
المولى إذا لين له غلب على أمره، وأزيلت مغيظة صدره، وهذه خليقتان من البعيد الذي يمسه بلحمة، ولا يمت إليه بحرمة، فما للظن بالقريب الذي فاز بمزية الشركة في عرفة؛ وفضل الجوار لاحق أوجب من حقه، فكيف نسي المولى عادة كرمه، ووضع وجوه قومه تحت قدمه، وجعلهم حصائد سيفه وقلمه؛ وحاشاه أن يقطع رحما أوصاه الله بوصلها، ويعضد شجرة أصله الكريم من أصلها، ويزعم بأنهم أخرجوه عن معهود خلائقه، وبدلوا أنواء غيوثه بمخيلة صواعقه؛ ولكنهم شفعوا للذنب بالاعتذار، وعلموا أن خيط أرشيتهم لا يؤثر في كدر البحار؛ وقد قدر المولى، والمقدرة تصغر كبار الذنوب، وتذهب ترات القلوب، فإن نقم منهم أنهم جمعوا قلة الآداب إلى إدلال ذوي الانتساب، فتلك سنة سنها حكمه، وجبلهم عليها حلمه، وما يتحدث الناس أن الكريم عاد عن عادة إغضائه، ورجع في حكم قضائه؛ وأول راض سيرة من يسيرها «1» ؛ فليسبل المولى عليهم ستر فضله، وينجز إساءة فعلهم بإحسان فعله، وليأخذ بأدب الله وأدب رسله في الإعراض عن الجاهل وجهله؛ ويعلم أن قوم المرء كنانته التي بها(12/290)