أيّ رجل وفيّ، وذي عمل خفيّ، علق بأسباب النبوة فنجا، وأشرق له شهاب الإيمان فرجا، فلم يتمسك بعصم الكوافر، ولا ضلّ بعد الأيام السوافر، فوافى مسلما، وجفا دينا كان كقطع الليل مظلما، فبريء من آلائه الممحوة، وربّي في الحنيفية البيضاء لا سوادا ولا حوّه «1» ، فصدّ وجهه عن دين أبويه، وأسلم وسلم إليه، فسعد بالدين، وصعد إلى علّيّين، فسرت في أبويه أنفاسه فأسلما، وأشركا في دحض الشرك معه وأسهما، وقد كانا جهدا على قتله، وتجرّدا لمحنته، ثم زال عن عيونهما العشا «2» ، والله يهدي من يشا.
كان من المشايخ الكبار، مجاب الدعوة «3» ، يستشفى بقبره. يقول البغداديون: قبر معروف ترياق مجرّب. «4»
وهو من موالي علي بن موسى الرّضا «5» ، رضي الله عنه، وكان أستاذ السري السقطي،(8/46)
وقد قال له يوما:" إذا كانت لك إلى الله حاجة فأقسم عليه بي".
قال أبو علي الدقاق- رحمه الله تعالى-: كان معروف الكرخي أبواه نصرانيان، فسلّموا معروفا إلى المؤدّب [وهو صبي] ، فكان المؤدّب يقول له: قل:" ثالث ثلاثة" ويقول معروف: بل هو واحد!. فضربه المعلّم يوما ضربا مبرّحا، فهرب معروف، فكان أبواه يقولان:
ليته يرجع إلينا على أيّ دين يشاء، فنوافقه عليه.
ثم إنه أسلم علي يدي علي بن موسى الرضا، ورجع إلى منزله، ودقّ الباب، فقيل: من بالباب؟. فقال: معروف. فقالوا: على أيّ دين جئت؟. فقال: على الدين الحنيفي؛ فأسلم أبواه. «1»
وقال سريّ السقطي: رأيت معروفا الكرخيّ في النوم بعد موته، فقلت: ما فعل الله بك؟. فقال: غفر لي. فقلت: بزهدك وورعك؟. قال: لا، بقبولي موعظة ابن السّمّاك، ولزوم الفقر، ومحبتي الفقراء.
وموعظة ابن السّمّاك: ما قاله معروف:
" كنت مارّا بالكوفة، فوقفت على رجل يقال له:" ابن السمّاك" وهو يعظ الناس؛ فقال في(8/47)
خلال كلامه: من أعرض عن الله بكلّيّته أعرض الله عنه جملة، ومن أقبل على الله بقلبه أقبل الله برحمته إليه، وأقبل بجميع وجوه الخلق إليه، ومن كان مرّة ومرّة، فالله يرحمه وقتا ما".
فوقع كلامه في قلبي، فأقبلت على الله تعالى، وتركت جميع ما كنت عليه، إلا خدمة مولاي علي بن موسى الرضا. وذكرت هذا الكلام لمولاي، فقال: يكفيك بهذا موعظة إن اتّعظت. «1»
وقيل لمعروف في مرض موته: أوص. فقال:" إن متّ فتصدّقوا بقميصي، فإني أريد أن أخرج من الدنيا عريانا كما دخلتها عريانا." «2»
ومرّ بسقّاء يقول: رحم الله من يشرب! - وكان رضي الله عنه صائما «3» ؛ فتقدّم فشرب، فقيل له: ألم تكن صائما؟.
فقال: بلى، ولكني رجوت دعاءه. «4»
توفي سنة مائتين، وقيل: سنة إحدى ومائتين «5» .(8/48)
ومنهم:
10- أبو محمّد الفتح بن سعيد الموصليّ «13»
وتعرف بلدة فتح ب" الكاري"، وهي قرية بشرقي دجلة.
من أقران بشر الحافي.
رجل نفض من الدنيا يدا، وأعرض عن السّحب وهي تفيض ندا، وكان لأهل الطريقة(8/49)
منه فتح قريب، ومنح منه غير غريب، وكانت له الأقضية مسخّرة، والأيام المزدهية به مفتخرة، وكان لو أومأ إلى الصخر لا نفلق، أو إلى الليل لأتلق، إلى حكم تتفجّر منابعها، وسفوح تفرح السّحب مرابعها، وجواهر كلمه عند القوم «1» في مخبّآت الصّدور مخزونة، وبحبّات القلوب موزونة.
قال إبراهيم بن عبد الله «2» : صدع فتح الموصلي؛ ففرح بذلك، وقال: يا رب! ابتليتني ببلاء الأنبياء؟!؛ فشكر هذا أن أصلي الليلة أربع مائة ركعة!.
وقال فتح:" أهل المعرفة: الذين إذا نطقوا فبه ينطقون، وإذا عملوا فله يعملون، وإذا طلبوا فمنه يطلبون، وإذا رغبوا فإليه يرغبون، أولئك خواصّ الله، السابقون المقرّبون".
وكان- رضي الله عنه- في وقت ليالي الشتاء يجمع عياله، ويمدّ كساءه، ثم يقول:" [اللهم!] أفقرتني وأفقرت عيالي!، وجوّغتني، وجوّعت عيالي!، وأعريتني وأعريت عيالي!، [بأي] وسيلة أتوسّل إليك؟، وإنما تفعل هذا بأوليائك وأحبابك، فترى هل أنا منهم حتى أفرح؟." «3»
وسئل فتح الموصلي عن الصدق ما هو؟.
فأدخل يده في كير حداد، وأخرج الحديدة المحمّاة، ثم وضعها على كفّه، وقال:" هذا هو الصدق".
وقال:" صحبت ثلاثين شيخا كانوا يعدّون جميعهم من الأبدال، وكلّهم أوصوني عند(8/50)
فراقي لهم، فقالوا:" إياك ومعاشرة الأحداث".
وقال أبو عبد الله بن الجلّاء: كنا في غرفة سريّ السّقطي ببغداد، فلما ذهب بعض الليل، لبس قميصا نظيفا، وسروالا، ورداء، وقام ليخرج، فقلت: إلى أين في هذا الوقت؟.
فقال: أعود فتحا.
فلما مشى في طرقات بغداد، أخذه العسس، وحبسوه، فلما أصبح أمروا بضربه مع المحبوسين، فلما رفع الجلّاد يده، وقفت فلم يقدر أن يحرّكها!، فقيل للجلّاد: اضرب.
فقال: حذائي شيخ واقف يقول: لا تضربه!!. فتقف يدي لا تتحرك!!. فنظروا؛ من الرجل؟. فإذا هو" فتح الموصلي" فأطلقوه، واعتذروا إليه، لأنهم لم يعرفوه.
وقال إبراهيم بن نوح الموصلي: رجع فتح الموصلي إلى أهله بعد العتمة، وكان صائما، فقال: عشّوني!. فقالوا: ما عندنا شيء نعشّيك به. قال: فما لكم جلوس في الظّلمة؟.
قالوا: ما عندنا شيء نسرج به!. فجلس يبكي من الفرح، وقال:" إلهي! مثلي يترك بلا عشاء؟!، ولا سراج!!، فأيّ يد كانت مني؟ ". فما زال يبكي حتى الصباح «1» .
وقال شعيب بن حرب: دخلت على فتح الموصلي أعوده، وهو مريض، فقلت له: يا أبا محمد! أوصني. فقال: أليس الإنسان إذا منع من الطعام والشراب يموت؟ قلت: نعم. قال:
" فكذلك القلب إذا منع من الذكر يموت".
وروي أنه دخل على بشر الحافي فقال له: يا أبا نصر! ابعث إلى السوق واشتر لنا خبزا جيدا، وتمرا جيدا. ففعل بشر ذلك. فأكل الفتح منه، وأكثر، وحمل الباقي «2» فقال بشر لمن كان عنده: أتدرون لم قال: اشتر خبزا جيدا، وتمرا جيّدا؟. فقالوا: لا. قال: لأن الطعام الصافي الجيّد يصفو لصاحبه عليه الشكر. ثم قال لهم: أتدرون لم أكثر الأكل؟. قالوا:
لا. قال: لأنه علم أني أفرح بأكله، فأراد أن يزيدني سرورا وفرحا. قال: أتدرون لم حمل(8/51)
الباقي؟. قالوا: لا. قال: لأن التوكّل إذا صحّ لم يضرّ صاحبه الحمل معه.
وروي أن رجلا قال للمعافى بن عمران «1» : هل كان للفتح الموصلي كبير عمل؟.
فقال: كفاك بعمله تركه للدنيا!. «2»
ومنهم:
11- أبو سليمان عبد الرّحمن بن عطيّة الدّارانيّ «13»
عابد، شقّت به الليالي جنح ظلماتها، وأشرقت أعماله إشراق البدور في سمائها، وله بداريا مشهد له في السنة أيام تعدّ مواسم، وليال بالوفود بواسم، يقصد بالزيارة من كل(8/52)
فجّ، وتؤتى بكل ناضج وفج، وتقذف له أبحر سواكب، وتقف حوله زمر ومواكب، وترتج تلك الساحات، وتثج «1» هنالك السماحات، في كلّ ظلماء تحاكي سناء الليلة القمراء، وتجاوب تسبيح الملائكة أصوات القرّاء.
ولأهل دمشق بإقامة مواسم هذه الليالي ولوع، ولأقمار أهلها مشارق ثم طلوع، لا يزال لهم هذا دأبا كل عام يأتي، وفعلا يخالف قول من يفتي.
قال أبو سليمان الداراني:" كنت ليلة باردة في المحراب، فأقلقني البرد، فخبّأت إحدى يديّ من البرد، وبقيت الأخرى ممدودة. «2»
فغلبتني عيناي، فهتف بي هاتف: يا أبا سليمان! قد وضعنا في هذه ما أصابها، ولو كانت الأخرى لوضعنا فيها. فآليت على نفسي أن لا أدعو إلا ويداي خارجتان، حرّا كان الزمن أو بردا." «3»
وقال أيضا:" نمت [ليلة] عن وردي، فإذا أنا بحوراء تقول لي: تنام وأنا أربّى لك منذ خمسمائة عام!؟ ".
وقال:" أفضل الأعمال خلاف هوى النفس." «4»
وقال:" لكلّ شيء علم، وعلم الخذلان ترك البكاء." «5»
وقال:" لكلّ شيء صدأ، وصدأ نور القلب شبع البطن." «6»
وقال:" كلّ ما شغلك عن الله تعالى من أهل، أو مال، أو ولد، فهو عليك شؤم." «7»(8/53)
وقال:" من أحسن في نهاره كوفيء في ليله، ومن أحسن في ليله كوفيء «1» في نهاره، ومن صدق في ترك شهوة، ذهب الله بها من قلبه، والله أكرم من أن يعذّب قلبا بشهوة تركت له". «2»
وقال:" إذا سكنت الدنيا في قلب ترحّلت منه الآخرة." «3»
وقال:" ربّما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياما، فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين: الكتاب، والسنّة" «4» .
وقال أحمد بن أبي الحواري: دخلت على أبي سليمان يوما، وهو يبكي، فقلت له: ما يبكيك؟. فقال: يا أحمد! ولم لا أبكي؟، وإذا جنّ الليل، ونامت العيون، وخلا كلّ حبيب بحبيبه، افترض أهل المحبّة أقدامهم، وجرت دموعهم على خدودهم، وتقطّرت في محاريبهم، وأشرف الجليل- سبحانه وتعالى- فنادى: يا جبريل! بعيني من تلذّذ بكلامي، واستراح إلى ذكري، وإنّي لمطّلع عليهم في خلواتهم، أسمع أنينهم، وأرى بكاءهم، فلم لا تنادي فيهم يا جبريل!: ما هذا البكاء؟. هل رأيتم حبيبا يعذّب أحباءه؟!، أم كيف يجمل بي أن آخذ قوما إذا جنّهم الليل تملّقوا لي «5» فبي حلفت: أنهم إذا وردوا عليّ يوم القيامة، لأكشفنّ لهم عن وجهي الكريم، حتى ينظروا إليّ، وأنظر إليهم" «6» .(8/54)
توفي- رضي الله عنه- سنة خمس عشرة ومائتين، وقبره بقرية داريّا، من قرى دمشق. «1»
ومنهم:
12- بشر بن الحارث الحافيّ أبو نصر «13»
زاد على الوسمي «2» ، وزان مدارعه زينة الكميّ «3» ، تحلّق بمشهد الشفق بشرى، وتألّق يوم مولده الصباح فكان بشرا، طفيء به كل مشتعل، وحفي كلّ حاف ومنتعل، ووقعت دونه القوادم والخوافي «4» ، واتبعت آثاره، وأثر الحافي غير خافي. سار ذكره فأوجف، وسكن(8/55)
باطن الأرض فاقشعرّ ظاهرها وأرجف «1» ، وشفع بأخت كانت هي وأخواتها على الخير أعوانا»
، وإذا ذكر أهله أعيانا، وكان لمن صحّف نسرا، ولمن صحّح ما في طيّ الطّيب نشرا.
أصله من" مرو" «3» وسكن بغداد، وكان كبير الشان.
وسبب توبته: أنه أصاب في الطريق" كاغدة" «4» مكتوبا فيها اسم الله- عزّ وجلّ- قد وطئتها الأقدام، فأخذها واشترى بدرهم كان معه" غالية" «5» ، فطيّب بها" الكاغدة"، وجعلها في شق الحائط، فرأى فيما يرى النائم: كأنّ قائلا يقول له:" يا بشر طيّبت اسمي، لأطيّبنّ اسمك في الدنيا والآخرة." «6»
قال أبو علي الدقاق: مرّ بشر ببعض الناس، فقالوا: هذا الرجل لا ينام الليل كله!، ولا يفطر إلا في كلّ ثلاثة أيّام مرة؛ فبكى بشر، فقيل له في ذلك؟. فقال: إني لا أذكر أني سهرت ليلة كاملة، ولا أني صمت يوما لم أفطر من ليلته، ولكن الله سبحانه وتعالى يلقي في القلوب أكثر مما يفعله العبد لطفا منه- سبحانه- وكرما.(8/56)
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: بلغني أن بشر بن الحارث الحافيّ قال:" رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال لي: يا بشر! أتدري لم رفعك الله من بين أقرانك؟.
قلت: لا، يا رسول الله!.
قال: باتّباعك لسنّتي، وخدمتك للصالحين، ونصيحتك لإخوانك، ومحبّتك لأصحابي، وأهل بيتي، وهو الذي بلّغك منازل الأبرار. «1»
وقال بلال الخوّاص: كنت في تيه بني إسرائيل، فإذا رجل يماشيني، فتعجّبت منه، ثم ألهمت أنه الخضر عليه السلام، فقلت له: بحقّ الحقّ من أنت؟. فقال: أخوك الخضر؛ فقلت له: أريد أن أسألك، فقال: سل. فقلت: ما تقول في الشافعي «2» - رحمه الله-؟. فقال: هو من الأوتاد. «3»
فقلت: ما تقول في أحمد بن حنبل «4» - رضي الله عنه-؟. قال: رجل صدّيق.
قال: فما تقول في بشر بن الحارث الحافي؟. قال: لم يخلق بعده مثله!!. فقلت: بأي وسيلة رأيتك؟. فقال: ببرّك لأمّك.
وقال أبو عليّ الدّقّاق: أتى بشر باب المعافى بن عمران، فدقّ الحافي عليه الباب، فقيل: من؟. فقال: بشر الحافي.
فقالت له بنيّة من داخل الدار: لو اشتريت لك نعلا بدانقين لذهب عنك اسم الحافي. «5»(8/57)
وقال أبو عبد الله [بن] الجلّاء: رأيت ذا النون وكانت له العبارة «1» ، ورأيت سهلا وكانت له الإشارة، ورأيت بشر بن الحارث، وكان له الورع. فقيل له: فإلى من كنت تميل؟
فقال: لبشر بن الحارث أستاذنا.
وقيل: إنه اشتهى الباقلاء «2» سنين، فلم يأكله، فرؤي في المنام بعد وفاته، فقيل له: ما فعل الله بك؟.
فقال: غفر لي، وقال: كل يا من لم يأكل، واشرب يا من لم يشرب! «3»
وقال بشر:" إني أشتهي الشواء منذ أربعين سنة ما صفا لي ثمنه!! " «4»
وقيل لبشر: بأي شيء تأكل الخبز؟.
فقال: أذكر العافية وأجعلها إداما «5» .
وقال بشر: لا يحتمل الحلال السرف. «6»
ورئي بشر في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟.
فقال: غفر لي، وأباح لي نصف الجنة، وقال لي: يا بشر! لو سجدت لي على الجمر ما أدّيت شكر ما جعلته لك في قلوب عبادي.(8/58)
وقال بشر:" لا يجد حلاوة الآخرة رجل يحب أن يعرفه الناس." «1»
ومن دعائه:" اللهم إن كنت شهرتني في الدنيا لتفضحني في الآخرة فاسلبه عني." «2»
وقال:" عقوبة العالم في الدنيا أن يعمي بصر قلبه".
وقال:" من طلب الدنيا فليتهيّأ للذّل". «3»
وقال بشر لأصحاب الحديث:" أدّوا زكاة هذا الحديث، قالوا: وما زكاته؟. قال: اعملوا من كل مائتي حديث بخمسة أحاديث". «4»
وكان لبشر ثلاث أخوات، وهنّ:" مضغة" و" مخّة" و" زبدة"، وكنّ زاهدات عابدات، ورعات، وأكبرهنّ" مضغة"، ماتت قبل موت أخيها بشر، فحزن عليها حزنا شديدا، وبكى بكاء كثيرا، فقيل له في ذلك؟. فقال: قرأت في بعض الكتب: إن العبد إذا قصّر في خدمة ربه سلبه أنيسه. وهذه أختي" مضغة" كانت أنيستي في الدنيا".
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: دخلت امرأة على أبي فقالت له: يا أبا عبد الله!، إني امرأة أغزل من الليل على ضوء السراج، وربما طفيء السراج، فأغزل على ضوء القمر، فهل عليّ أن أبيّن غزل السراج من غزل القمر؟.
فقال لها أبي: إن كان عندك بينهما فرق، فعليك أن تبيّني ذلك.
فقالت له: يا أبا عبد الله! أنين المريض هل هو شكوى؟.
فقال لها: إني أرجو أن لا يكون شكوى، ولكن هو اشتكاء إلى الله تعالى.
ثم انصرفت؛ قال عبد الله: فقال لي أبي: يا بني! ما سمعت إنسانا قط يسأل عن مثل(8/59)
ما سألت هذه المرأة!، اتبعها.
قال عبد الله: فتبعتها إلى أن دخلت دار بشر الحافي، فعرفت أنها أخت بشر، فأتيت أبي فقلت له: إن المرأة أخت بشر الحافي، فقال أبي: هذا والله! هو الصحيح، محال أن تكون هذه المرأة إلا أخت بشر الحافي!!! «1»
وقال عبد الله أيضا: جاءت" مخّة" أخت بشر الحافي إلى أبي فقالت: يا أبا عبد الله! رأس مالي دانقان، أشتري بهما قطنا فأغزله، وأبيعه بنصف درهم، فأنفق دانقا من الجمعة إلى الجمعة، وقد مرّ الطائف ليلة ومعه مشعل، فاغتنمت ضوء المشعل، وغزلت طاقين في ضوئه، فعلمت أن لله سبحانه وتعالى فيّ مطالبة، فخلّصني من هذا خلّصك الله تعالى «2» فقال أبي: تخرجين الدانقين، ثم تبقين بلا رأس مال حتى يعوّضك الله خيرا منه.
قال عبد الله: فقلت لأبي: لو قلت لها حتى تخرج رأس مالها، فقال: يا بني! سؤالها لا يحتمل التأويل، فمن هذه المرأة؟. فقلت: هي" مخّة" أخت بشر الحافي. فقال أبي: من هنا أتيت. «3»
وقال بشر:" تعلّمت الورع من أختي، فإنها كانت تجتهد أن لا تأكل ما لمخلوق فيه صنع". «4»
توفي- رضي الله عنه- في شهر ربيع الآخر، سنة ست وعشرين «5» وقيل: سنة سبع وعشرين ومائتين. وقيل: في عاشر المحرم، وقيل: في رمضان، ببغداد. وقيل: بمرو. «6»
وإنما لقّب ب" الحافي" لأنه جاء إلى إسكاف يطلب منه شسعا لأجل نعليه «7» ، وكان قد(8/60)
انقطع، فقال له الإسكافي: ما أكثر كلفتكم على الناس؟!. فألقى النعل من يده، والآخر من رجله، وحلف لا يلبس نعلا.
ومنهم:
13- أحمد بن أبي الحواريّ «13»
المعروف ب" ريحانه الشام".
قطب من الأقطاب، ورجل طار ذكره وطاب، تفرّد في الجميع، وهبّ طيبه فقيل: أمن ريحانة الداعي السميع، فعبقت بطيبه الأردان، وعلقت من نصيبه الأخدان، وهطلت له سوافح أغرقت في يمها، ونوافح عرفت، وما تمدح ريحانة قبل شمّها. رسا مقصرا بان عن إبانته، وقص قوادم النسيم، فعلق طيبا من ريحانته.
هو من أهل دمشق. صحب أبا سليمان الداراني. «1»
وكان أبو القاسم الجنيد يقول:" أحمد بن أبي الحواري ريحانة الشام." «2»
وقال أحمد بن أبي الحواري:" من نظر إلى الدنيا نظرة إرادة وحبّ لها أخرج الله نور(8/61)
اليقين والزهد من قلبه." «1»
وقال:" من عمل بلا اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فباطل عمله." «2»
وقال:" ما ابتلى الله عبدا بشيء أشدّ من الغفلة والقسوة." «3»
توفي- رحمه الله تعالى- سنة ثلاثين ومائتين «4» .
ومنهم:
14- أبو عبد الرّحمن حاتم بن عنوان الأصم «13»
ويقال: حاتم بن يوسف.(8/62)
ويقال: حاتم بن عنوان بن يوسف [الأصم] . «1»
صاحب مقالات، وساحب ذيل في مقامات، وكان لأغطية الصدور كاشفا، ولتجلية البدور كاسفا، رفع له الحجاب، وصدع به الدجى فانجاب، وطالما غفر الزلل، وظفر بما لم يزل.
حكي أنه ستر، فستر الله عليه، وتصامم فسرّ الله مسمعيه، وكان له جميل صنع لم يزل إليه مصروفا، ومنع كان لا يراه من أنكره إلا معروفا، مع جود أضفى ذيله وأطاله.
وكان من قدماء مشايخ خراسان، من أهل بلخ.
صحب شقيق بن إبراهيم البلخي، وكان أستاذ أحمد بن خضرويه، وهو مولى للمثنى بن يحي المحاربي «2» ، وله ابن يقال له:" خشنام بن حاتم".
قيل: إنه لم يكن أصمّ، وإنما تصامم مرة؛ فسمي به.
جاءته امرأة تسأله عن مسألة، فاتّفق أن خرج منها في تلك الحالة صوت، فخجلت، فقال حاتم: ارفعي صوتك!، فأرى من نفسه أنه أصم!، فسرّت المرأة من ذلك وقالت في نفسها: إنه لم يسمع الصوت، فغلب عليه اسم الأصم. «3»
وقال:" من دخل في مذهبنا هذا فليجعل في نفسه أربع خصال من الموت:
موتا أبيض، وهو: الجوع.
وموتا أسود، وهو: احتمال الأذى من الخلق.(8/63)
وموتا أحمر، وهو: العمل الخالص من الشوب في مخالفة الهوى.
وموتا أخضر، وهو: طرح الرقاع بعضها على بعض. «1»
وقال:" العجلة من الشيطان إلا في خمس:" إطعام الطعام إذا حضر ضيف، وتجهيز الميّت إذا مات، وتزويج البكر إذا أدركت، وقضاء الدين إذا وجب، والتوبة من الذنب إذا أذنب". «2»
وقال:" من أصبح وهو مستقيم في أربعة أشياء فهو يتقلّب في رضا الله تعالى:
أولها: الثقة بالله، ثم التوكل، ثم الإخلاص، ثم المعرفة؛ والأشياء كلها تتم بالمعرفة". «3»
[وقال:] الواثق من رزقه من لا يفرح بالغنى، ولا يهتم بالفقر، ولا يبالي أصبح في عسر أو يسر". «4»
وقال:" أصل الطاعة ثلاثة أشياء: الخوف، والرجاء، والحب."
وأصل المعصية ثلاثة أشياء: الكبر، والحرص والحسد" «5» . فما يأخذه المنافق يأخذه بالحرص، ويمنعه بالشك، وينفقه بالرياء. والمؤمن يأخذ بالخوف، ويمسك بالشدة، وينفق في الطاعة خالصا لله تعالى".
وقال:" الجهاد ثلاثة: جهاد في سرّك؛ مع الشيطان حتى تكسره؛ وجهاد في العلانية، في أداء الفرائض حتى تؤديها، كما أمر الله تعالى؛ وجهاد مع أعداء الله تعالى، في غزو الإسلام." «6»(8/64)
و [قال:] " الشهوة ثلاثة:
شهوة في الأكل، وشهوة في الكلام، وشهوة في النظر.
فاحفظ الأكل بالثقة، واللسان بالصدق، والنظر بالعبرة".
وقال:" اطلب نفسك في أربعة أشياء: العمل الصالح بغير رياء، والأخذ بغير طمع، والعطاء بغير منّة، والإمساك بغير بخل". «1»
وقال:" ما من صباح إلا والشيطان يقول لي: ما تأكل؟. وما تلبس؟. وأين تسكن؟.
فأقول: آكل الموت، وألبس الكفن، وأسكن القبر". «2»
وقال:" الزم خدمة مولاك تأتك الدنيا راغمة، والجنة عاشقة". «3»
وقال:" تعهّد نفسك في ثلاثة مواضع:
إذا عملت فاذكر نظر الله إليك، وإذا تكلّمت فاذكر سمع الله إليك، وإذا سكنت فاذكر علم الله فيك".
وقال:" من ادّعى ثلاثا بغير ثلاث فهو كذّاب: من ادّعى حبّ الله، من غير ورع عن محارمه، فهو كذّاب. ومن ادّعى حبّ الجنة، من غير إنفاق ماله، فهو كذّاب. ومن ادّعى حبّ النبي صلى الله عليه وسلم، من غير محبّة الفقر، فهو كذّاب." «4»
وقيل له: على ماذا بنيت أمرك في هذا الأمر؟.
فقال: على أربع خصال:" علمت أن رزقي لا يأكله غيري، فاطمأنّت به نفسي.
وعلمت أن عملي لا يعمله غيري، فأنا مشغول به.(8/65)
وعلمت أن الموت يأتيني، فأنا أبادره.
وعلمت أني لا أخلو من عين الله حيث كنت، فأنا مستحي منه." «1»
توفي- رحمه الله تعالى- سنة سبع وثلاثين ومائتين، عند رباط يقال له:" رأس سروند" على جبل فوق" واشجرد." «2»(8/66)
ومنهم:
15- أحمد بن خضرويه البلخيّ «13»
من كبار مشايخ خراسان. رسا رسوّ أبّان، وأظهر العجائب وأبان، أرضى الخليل، ورضي بالقليل، ورمى بباع ممتد، وساعد مشتد، حتى تردّى رداء الصلاح، وورد حيث يتفجّر معين الصباح، فوطيء العلا وأكنافها، وكان منهج نسّاك، وجدّ إنفاق وإمساك، على أنه أفاض المواهب، وأغاض البحور والعصور الذواهب، وكان على هذا مقتصدا، وللموت ساعة فساعة مترصدا.
صحب أبا تراب النخشبي. وقدم نيسابور، وزار أبا حفص «1» ، وخرج إلى بسطام في(8/67)
زيارة أبي يزيد البسطامي، وكان كبيرا في الفتوة. «1»
قال أبو حفص:" ما رأيت أحدا أكبر همّة ولا أصدق حالا من أحمد بن خضرويه." «2»
وكان أبو يزيد يقول:" أستاذنا أحمد".
وقال محمد بن حامد «3» :" كنت جالسا عند أحمد بن خضرويه وهو في النزع، وكان قد أتى عليه خمس وتسعون سنة، فسأله بعض أصحابه عن مسألة، فدمعت عيناه، وقال:" يا بني! باب كنت أدقّه منذ خمس وتسعين سنة، وهو ذا يفتح لي الساعة، لا أدري أبا السعادة يفتح أم بالشقاوة؟ أنّى لي أوان الجواب؟. «4»
قال: وكان عليه سبعمائة دينار، وغرماؤه عنده، فنظر إليهم، وقال: اللهم إنك جعلت الرهون وثيقة لأرباب الأموال، وأنت تأخذ عنهم وثيقتهم، فأدّ عني". قال: فدقّ داقّ الباب، وقال: أين غرماء أحمد؟. فقضى عنه، ثم خرجت روحه. «5»
وقال أحمد بن خضرويه:" لا نوم أثقل من الغفلة، ولا رقّ أملك من الشهوة، ولولا ثقل الغفلة عليك لما ظفرت بك الشهوة" «6»(8/68)
ومنهم:
16- الحارث بن أسد المحاسبيّ «13»
البصريّ، أبو عبد الله.
رجل كان عن متاع الدنيا متنزّها، وباتباع الألى متشبها، لم تصبه الأيام بهزّتها، ولم تصبه الليالي منها بترتها، فخصم أطماعه من طلب متاعها، وفطم آماله من حلب رضاعها، وقنع منها بالقوت الذي ألجئ إلى أكله، ووكل أباه بطول حرنه ونكله، وترك نفسه فيما لا يطيق من شجونها، وضيق سجونها، لذنب أخرجه ليكون غرضا لنابلها، وأخرجه من الجنة بحبة من سنابلها. كان عديم النظير في زمانه، علما، وورعا، ومعاملة، وحالا «1» .
قيل: إنه ورث من أبيه سبعين ألف درهم، فلم يأخذ منها شيئا. قيل: لأن أباه كان يقول بالقدر. «2»
فرأى من الورع أن لا يأخذ من ميراثه شيئا؛ وقال:" صحّت الرواية عن النبي صلى الله(8/69)
عليه وسلم أنه قال: (لا يتوارث أهل ملّتين) . «1»
قال أحمد بن مسروق «2» : مات الحارث بن أسد المحاسبي وهو محتاج إلى درهم، وخلّف أبوه ضياعا وعقارا، فلم يأخذ منه شيئا «3» .
وقال أبو علي الدّقّاق: كان الحارث المحاسبي إذا مدّ يده إلى طعام فيه شبهة، تحرّك على إصبعه عرّق؛ فكان يمتنع منه «4» .
وقال [أبو] عبد الله بن خفيف: اقتدوا بخمسة من شيوخنا، والباقون سلّموا لهم حالهم: الحارث بن أسد المحاسبي، والجنيد بن محمد، وأبو محمد رويم، وأبو العباس بن عطاء، وعمرو بن عثمان المكي؛ لأنهم جمعوا بين العلم والحقائق. «5»
وقال الحارث:" من صحّح باطنه بالمراقبة والإخلاص، زيّن الله ظاهره بالمجاهدة، واتّباع السنة".
ويحكى عن الجنيد أنه قال: مرّ بي يوما الحارث المحاسبي، فرأيت فيه أثر الجوع، فقلت:
يا عم!، تدخل الدار، وتتناول شيئا؟. فقال: نعم.(8/70)
فدخلت الدار، وطلبت شيئا أقدّمه إليه، فكان في البيت شيء من طعام حمل إليّ من عرس قوم، فقدّمته إليه، فأخذ لقمة وأدارها في فمه مرّات، ثم إنه قام وألقاها في الدهليز، ومرّ!. فلمّا رأيته بعد ذلك بأيّام، قلت له في ذلك؟. فقال: إني كنت جائعا، وأردت أن أسرّك بأكلي، وأحفظ قلبك، ولكن بيني وبين الله سبحانه وتعالى علامة: أن لا يسوّغني طعاما فيه شبهة، فلم يمكنّي من ابتلاعه، فمن أين كان لك ذلك الطعام؟. فقلت: إنه حمل إليّ من دار قريب لي من العرس. ثم قلت: تدخل اليوم؟. فقال: نعم. فقدّمت إليه كسرا يابسة كانت لنا، فأكل وقال: إذا قدّمت إلى فقير شيئا، فقدّم إليه مثل هذا. «1»
وسئل الحارث عن العقل ما هو؟.
فقال:" نور الغريزة مع التجارب، يزيد ويقوى بالعلم والحلم".
وكان يقول:" فقدنا ثلاثة أشياء: حسن الوجه مع الصيانة، وحسن القول مع الأمانة، وحسن الإخاء مع الوفاء". «2»
وقال السمعاني: كان أحمد بن حنبل يكرهه لنظره في علم الكلام، وتصنيفه فيه؛ وهجره، فاستخفى من العامة، فلما مات لم يصلّ عليه إلا أربعة نفر «3» .
قال: وعرف بالمحاسبي لأنه كان يحاسب نفسه. «4»
قال ابن خلّكان: وهو أحد رجال الحقيقة، وهو ممن اجتمع له علم الظاهر والباطن، وله(8/71)
كتب في الزهد والأصول، وكتاب" الرعاية" له «1» توفي سنة ثلاث وأربعين ومائتين. «2»
ومنهم:
17- أبو تراب عسكر بن حصين النّخشبيّ «13»
صحب حاتم الأصم، وأبا حاتم العطار البصري. «3»
اعتدّ لمسيره واعتنى، وشده لمصيره البيت وابتنى، فلم تجذبه الدنيا بخطامها، ولم تسلبه بحطامها، فما زال يفرّ من دناياها، ولا يقرّ خوفا من طروق مناياها، وطالما ظنّت أنها تسوّل له لبس ردائها المعار، وتحمل دائها والعار، والعناية قد أحاطت به من كل جانب، وأماطت(8/72)
ردنه «1» من كلّ جاذب، فشرف مقاما، وشرق «2» عدوه ملاما، ولم يرمق الدنيا بمؤخر عين ولا مقدّم، ولا علق بمال معاهد ولا مسلم.
قال ابن الجلّاء: صحبت ستمائة شيخ، ما لقيت فيهم مثل أربعة: أولهم: أبو تراب النخشبي. «3»
قال أبو تراب:" الفقير قوته: ما وجده، ولباسه: ما ستره، ومسكنه: حيث نزل." «4»
وقال أيضا:" إذا صدق العبد في العمل وجد حلاوته قبل أن يعمله، فإذا أخلص فيه وجد حلاوته ولذّته وقت مباشرة الفعل." «5»
وقال:" ما تمنّت نفسي عليّ شيئا قطّ إلا مرّة واحدة «6» : تمنّت عليّ خبزا وبيضا، وأنا في سفري، فعدلت عن الطريق إلى قرية، فوثب رجل وتعلّق بي، وقال: كان هذا مع اللصوص!. فبطحوني، وضربوني سبعين خشبة، قال: فوقف علينا رجل صوفي، فصرخ، وقال: ويحكم!! هذا أبو تراب النخشبي، فخلّوني، واعتذروا إليّ، وأدخلني الرجل منزله، وقدّم لي خبزا وبيضا، فقلت «7» : كلها بعد سبعين جلدة!!. «8»(8/73)
وقال يوما لأصحابه:" من لبس منكم مرقّعة فقد سأل، ومن قعد في خانقاه أو مسجد فقد سأل، ومن قرأ القرآن من المصحف، أو كيما يسمع الناس، فقد سأل. «1»
ونظر يوما إلى صوفيّ من تلامذته قد مدّ يده إلى قشر بطّيخ، وقد طوى ثلاثة أيام، فقال له أبو تراب:" تمدّ يدك إلى قشر البطيخ!؟ أنت لا يصلح لك التصوف، الزم السوق. «2»
وكان أبو تراب يقول:" بيني وبين الله عهد أن لا أمدّ يدي إلى حرام إلا قصرت يدي عنه. «3»
وكان- رضي الله عنه- إذا رأى من أصحابه ما يكره زاد في اجتهاده، وجدّد توبته، ويقول:" بشؤمي دفعوا إلى ما دفعوا إليه، لأن الله عزّ وجلّ يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ
. «4»
وحكى ابن الجلّاء، قال: دخل أبو تراب مكة طيّب النفس، فقلت: أين أكلت أيها الأستاذ؟. فقال: أكلة بالبصرة، وأكلة بالنباج «5» ، وأكلة ههنا.
توفي سنة خمس وأربعين ومائتين. قيل: مات بالبادية، نهشته السباع. «6»(8/74)
ومنهم:
18- السّري بن مغلّس السّقطيّ «13»
خال الجنيد، وأستاذه.
رمى يده من الدنيا ونفضها، وأعطى الله عهودا ما نقضها، لم يرض بمتاع معار، ولا برضاع آخره إثم وعار، فتجنّب الزخارف، وتجلبب غير ما ألبسته من المطارف، فأماط تلك الأردية، وحلّ تلك العقد المردية، حتى خبت لديه مواقدها، وهبّت إليه بالإنابة مراقدها، والزهد يصفي له الموارد، ويصلي سواه كلّ وارد، وكم اتّجه أمثاله إلى ذلك الينبوع واشتبه حاله، حتى فضح التطبّع شيمة المطبوع.
كان تلميذ معروف الكرخي، وأوحد زمانه في الورع، وأحوال السنة، وعلوم التوحيد «1»
وكان يتّجر في السوق، فجاءه معروف يوما، ومعه صبيّ يتيم، فقال: أكس هذا اليتيم.
قال سري: فكسوته، ففرح معروف، وقال: بغّض الله إليك الدنيا، وأراحك مما أنت فيه.
فقمت من الحانوت وليس شيء أبغض إليّ من الدنيا، وكل ما أنا فيه من بركات معروف. «2»(8/75)
وقال الجنيد: ما رأيت أعبد من السّريّ، أتت عليه ثمان وتسعون سنة، مارئي مضطجعا إلا في علّة الموت. «1»
وقال السّريّ: التصوف اسم لثلاثة معان «2» :
وهو الذي لا يطفئ نور معرفته نور ورعه. «3»
ولا يتكلّم بباطن في علم ينقضه عليه ظاهر الكتاب والسنة.
ولا تحمله الكرامات على هتك أستار محارم الله. «4»
وقال الجنيد: سألني السّريّ يوما عن المحبة، فقلت: قال قوم: هي الموافقة، وقال قوم:
الإيثار، وقال قوم: كذا وكذا..، فأخذ السريّ جلدة ذراعه، ومدّها، فلم تمتدّ، ثم قال:" وعزّته تعالى، لو قلت: إن هذه الجلدة يبست على هذا العظم من محبّته لصدقت! ". ثم غشّي عليه، فدار وجهه كأنه قمر مشرق، وكان السري به أدمة. «5»
ويحكى عن السريّ أنه قال:" منذ ثلاثين سنة أنا في الاستغفار من قولي: الحمد لله، مرة".
قيل: وكيف ذلك؟.
فقال: وقع ببغداد حريق، فاستقبلني رجل، فقال لي: نجا حانوتك!.
فقلت:" الحمد لله"، فمنذ ثلاثين سنة أنا نادم على ما قلت، حيث أردت لنفسي خيرا مما حصل للمسلمين!!!. «6»(8/76)
وقال السّريّ: صلّيت وردي ليلة، ومددت رجلي في المحراب، فنوديت: يا سريّ!! كيف تجالس الملوك؟. قال: فضممت إليّ رجلي، ثم قلت: وعزّتك لا مددت رجلي أبدا، فما مددتها بعد ذلك. «1»
ويحكى عن السّري أنه قال:" أنا أنظر في أنفي في اليوم كذا وكذا مرة، مخافة أن يكون قد اسودّ، خوفا من الله تعالى أن يسوّد صورتي لما أتعاطاه". «2»
وقال السريّ: أعرف طريقا مختصرا قصدا إلى الجنة.
فقلت: ما هو؟.
فقال: لا تسأل من أحد شيئا، ولا تأخذ من أحد شيئا، ولا يكن معك شيء تعطي منه أحدا. «3»
وقال:" أشتهي أن أموت ببلد غير بغداد.
فقيل له: ولم ذلك؟.
فقال: أخاف أن لا يقبلني قبري فأفتضح!!. «4»
وقال الجنيد: دخلت يوما على السري السقطي وهو يبكي، فقلت له: ما يبكيك؟.
فقال: جاءتني البارحة الصبيّة، فقالت: يا أبت! هذه ليلة حارّة، وهذا الكوز أعلّقه ههنا.
ثم إني حملتني عيناي، فنمت، فرأيت جارية من أحسن الخلق، قد نزلت من السماء، فقلت: لمن أنت؟.(8/77)
فقالت: لمن لا يشرب الماء المبرّد في الكيزان. «1» فتناولت الكوز؛ فضربت به الأرض فكسرته.
قال الجنيد: فرأيت الخزف لم يرفعه ولم يمسّه، حتى عفا «2» عليه التراب. «3»
قال: وسمعته يقول:" اللهم مهما عذّبتني بشيء، فلا تعذّبني بذلّ الحجاب. «4»
وقال السّريّ: غزونا أرض الروم؛ فمررت بأرض خضراء، فيها الخبّازى، وحجر منقور فيه ماء المطر، فقلت في نفسي: لئن كنت أكلت يوما حلالا فاليوم!.
فنزلت عن دابّتي، وجعلت آكل من ذلك الخبّازى «5» ، وشربت من ذلك الماء، وإذا بهاتف يهتف بي: يا سري! فالنفقة التي بلغت بها إلى هذا الموضع، من أين؟.
وقال:" أحبّ أن آكل أكلة ليس لله عليّ فيها تبعة، ولا لمخلوق علي فيها منّة، فما أجد إلى ذلك سبيلا". «6»
ودخل عليه رجل في مرضه يعوده، فقال له: كيف تجدك؟.
فقال:
كيف أشكو إلى طبيبي ما بي ... والذي بي أصابني من طبيبي
فأخذ الرجل المروحة يروّح عليه، فقال له السّريّ: كيف يجد روح المروحة من جوفه يحترق من داخل؟.(8/78)
ثم أنشأ يقول:
القلب محترق، والدمع مستبق ... والكرب مجتمع والصبر مفترق
كيف القرار على من لا قرار له ... مما جناه الهوى والشوق والقلق
يا ربّ إن كان شيء فيه لي فرج ... فامنن عليّ به ما دام بي رمق
ودخل عليه رجل «1» وهو يجود بنفسه، فجلس عند رأسه وبكى، فسقط عليه من دموعه، ففتح عينيه، ونظر إليه، فقال له الرجل: أوصني. فقال: لا تصحب الأشرار، ولا تشغلنّ عن الله بمجالسة الأخيار. «2»
توفي السّريّ رضي الله عنه سنة سبع وخمسين ومائتين. وقيل: سنة إحدى وخمسين «3» ، وقيل: في رمضان سنة خمسين «4» . وكانت وفاته في بغداد «5» .
وكان كثيرا ما ينشد:
إذا ما شكوت الحبّ قالت كذبتني ... فمالي أرى الأعضاء منك كواسيا
فلا حبّ حتى تلصق الجلد بالحشا ... وتذهل حتى لا تجيب المناديا
وتنحل حتى لا يبقي لك الهوى ... سوى مقلة تبكي بها وتناجيا «6»(8/79)
ومنهم:
19- أبو زكريّا يحيى بن معاذ الرّازي الواعظ «13»
ترك الدنيا أنكاثا، ومرّ فيها عابر سبيل لا إمكاثا، فما حطّ عن قلاصه «1» ، ولا حلّ حباله لخلاصه، فلم يعلق لها بدنس، ولا خنس فيها نجمه ولا كنس «2» ، ولم نر محاطّ الرجال إلا على ذنابي الأفاعي، وزباني العقارب السواعي «3» ، فشدّ وانطلق، وردّ الغيث في طلق، فلم يتّخذ في هذه الدار مقيلا، ولا خال نفسه فيها مقيما ولا نزيلا.
وكان نسيج وحده في وقته، له لسان «4» في الرجاء خصوصا، وكلام في المعرفة. خرج إلى بلخ، فأقام بها مدة، ورجع إلى نيسابور «5» .
قال يحيى بن معاذ:" كيف يكون زاهدا من لا ورع له؟ تورّع عما ليس لك، ثم ازهد فيما لك". «6»(8/80)
وقال:" جوع التوّابين تجربة، وجوع الزاهدين سياسة، وجوع الصّدّيقين تكرمة. «1»
وقال يحيى:" الفوت أشدّ من الموت، لأن الفوت انقطاع عن الحق، والموت انقطاع عن الخلق. «2»
وقال:" الزهد ثلاثة أشياء: القلّة، والخلوة، والجوع. «3»
وقال:" لا تربح على نفسك بشيء أجلّ من أن تشغلها في كل وقت بما هو أولى بها. «4»
وقيل:" إن يحيى بن معاذ تكلّم ببلخ في تفضيل الغنى على الفقر، فأعطي ثلاثين ألف درهم، فقال بعض المشايخ: لا بارك الله له في هذا المال؛ فخرج إلى نيسابور، فوقع عليه اللص، وأخذ ذلك المال منه. «5»
وقال أيضا:" من خان الله في السر، هتك الله ستره في العلانية. «6»
وقال:" تزكية الأشرار لك هجنة بك «7» ، وحبّهم لك عيب عليك، وهان [عليك] من احتاج إليك. «8»
وقال أبو بكر الخطيب: قدم يحيى بن معاذ بغداد، واجتمع إليه بها مشايخ الصوفية والنسّاك، ونصبوا له منصّة، وأقعدوه عليها، وقعدوا بين يديه يتحاورون، فتكلّم الجنيد، فقال له يحيى: اسكت يا خروف!، مالك وللكلام إذا تكلّم الناس؟. «9»
وكانت له إشارات وعبارات حسنة؛ فمن كلامه:(8/81)
" الكلام الحسن حسن، وأحسن من الكلام معناه، وأحسن من معناه استعماله، وأحسن من استعماله ثوابه، وأحسن من ثوابه رضا من تعمل له. «1»
وقال:" حقيقة المحبة أن لا تزيد بالبر، ولا تنقص بالجفاء".
وكان يقول:" من لم يكن ظاهره مع العوام فضة، ومع المريدين ذهبا، ومع العارفين درّا، وياقوتا، فليس من حكماء الله المؤيّدين". «2»
وكان يقول:" أحسن شيء كلام صحيح من لسان فصيح، في وجه صبيح، كلام دقيق يستخرج من بحر عميق، على لسان رجل رفيق" «3»
وكان يقول:" إلهي! كيف أنساك وليس لي ربّ سواك؟.
" إلهي! لا أقول: لا أعود، لأني أعرف من نفسي نقض العهود، ولكني أقول: لا أعود، لعلّي أموت قبل أن أعود" «4» .
" اللهمّ! سترت عليّ ذنوبا في الدنيا، أنا إلى سترها في القيامة أحوج، وقد أحسنت بي إذ لم تظهرها بعصابة من المسلمين، فلا تفضحني في ذلك اليوم على رؤوس العالمين، يا أرحم الراحمين! " «5»
ودخل على علويّ ببلخ زائرا له، ومسلّما عليه، فقال له العلوي: أيّد الله الأستاذ، ما تقول فينا أهل البيت؟.
قال:" ما أقول في طين عجن بماء الوحي، وغرس بماء الرسالة، فهل يفوح منهما إلا مسك النّهى، وعنبر التقى؟. فحشا العلويّ فاه بالدّرّ.(8/82)
ثم زاره من الغد، فقال يحيى: إن زرتنا فبفضلك، وإن زرناك فلفضلك، فلك الفضل زائرا ومزورا". «1»
ومن كلامه:" ما بعد طريق إلى صديق، ولا استوحش في طريق من سلك فيه إلى حبيب".
ومن كلامه:" مسكين ابن آدم!، لو خاف النار كما يخاف الفقر لدخل الجنة".
وقال:" ما صحّت إرادة أحد قط [فمات] حتى حنّ إلى الموت، واشتهاه اشتهاء الجائع إلى الطعام، لارتداف الآفات، واستيحاشه من الأهل والإخوان، ووقوعه فيما يتحيّر فيه صريح عقله".
وقال:" من لم ينظر في الدقيق من الورع لم يصل إلى الجليل من العطاء".
وقال:" ليكن حظّ المؤمن منك ثلاث خصال: إن لم تنفعه فلا تضرّه، وإن لم تسرّه فلا تغمّه، وإن لم تمدحه فلا تذمّه".
وقال:" عمل كالسراب، وقلب من التقوى خراب، وذنوب بعدد الرمل والتراب، ثم تطمع في الكواعب الأتراب، هيهات!!، هيهات!!، أنت سكران بغير شراب، ما أكملك لو بادرت أملك!، ما أجلّك لو بادرت أجلك!!، ما أقواك لو خالفت هواك!!. «2»
توفي- رضي الله عنه- يوم الاثنين لست عشرة خلت من جمادى الأولى، سنة ثمان وخمسين ومائتين، بنيسابور، رحمه الله تعالى. «3»(8/83)
ومنهم:
20- أبو يزيد، طيفور بن عيسى بن آدم البسطاميّ «13»
بطل جاهد نفسه في الله حقّ جهاده، وأحيا ليله ونهاره باجتهاد، وزهد حذرا من دنيا صدّقها كذب، وحقّها بيد الباطل منجذب، فكان لا يسيم إبله في وخيم مرعاها، ولا يطلق أمله في ذميم مسعاها، أبكاه منها الجؤار، وأشجاه «1» فيها سوء الجوار، فلم ينغب «2» من صفوها إلا رفقا، ولم ير من أخلاصها إلا مذقا «3» ، ففرّ منها الفرار من المجذوم، وقطع منها الفروع والجذوم. «4»
كانوا ثلاثة إخوة، آدم، وطيفور، وعلي، وكلّهم كانوا زهّادا، عبّادا، وأبو يزيد كان(8/84)
أجلّهم [حالا] . «1»
سئل أبو يزيد: بأيّ شيء وجدت هذه المعرفة؟.
فقال: ببطن جائع، وبدن عار «2» .
وقال أبو يزيد:" عملت في المجاهدة ثلاثين سنة، فما وجدت شيئا أشدّ عليّ من العلم ومتابعته، ولولا اختلاف العلماء لبقيت، واختلاف العلماء رحمة، إلا في تجريد التوحيد." «3»
وقال:" لقد هممت أن أسأل الله تعالى أن يكفيني مؤنة الأكل، ومؤنة النساء، ثم قلت:
كيف يجوز لي أن أسأل هذا ولم يسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه؟، فلم اسأله.
ثم إن الله سبحانه وتعالى كفاني مؤنة النساء، حتى لا أبالي استقبلتني امرأة أو حائط" «4» .
وسئل عن ابتداء زهده؟.
فقال: ليس للزهد منزلة.
فقلت: لماذا؟.
فقال: لأني كنت ثلاثة أيام في الزهد. فلما كان اليوم الرابع خرجت منه:
اليوم الأول: زهدت في الدنيا وما فيها.(8/85)
واليوم الثاني: زهدت في الآخرة وما فيها.
واليوم الثالث: زهدت فيما سوى الله.
فلما كان اليوم الرابع لم يبق لي سوى الله تعالى، فهمت، فسمعت هاتفا يقول: يا أبا يزيد! لا تقوى معنا. فقلت: هذا الذي أريده.
فسمعت قائلا يقول: وجدت، وجدت. «1»
وقيل لأبي يزيد: ما أشدّ ما لقيت في سبيل الله؟.
فقال: لا يمكن وصفه.
فقيل له: ما أهون ما لقيت نفسك منك؟.
فقال: أما هذا فنعم؛ دعوتها إلى شيء من الطاعات، فلم تجبني، فمنعتها الماء سنة. «2»
وقال أبو يزيد:" منذ ثلاثين سنة أصلّي، واعتقادي في نفسي عند كل صلاة أصلّيها كأني مجوسي أريد أن أقطع زنّاري! «3» .
وقال أيضا:" لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرتقي في الهواء، فلا تغترّوا به، حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي، وحفظ الحدود وأداء الشريعة". «4»
وذهب أبو يزيد ليلة إلى الرباط، ليذكر الله- سبحانه وتعالى- على سور الرباط، فبقي إلى الصباح لم يذكر!، فقيل له في ذلك؟. فقال: تذكّرت كلمة جرت على لساني في حال(8/86)
صباي «1» ، فاحتشمت أن أذكره سبحانه وتعالى. وقيل: لم يخرج أبو يزيد من الدنيا حتى استظهر القرآن.
توفي سنة إحدى وستين ومائتين، وقيل: سنة أربع وثلاثين. «2»(8/87)
ومنهم:
21- أبو حفص عمر بن سالم الحدّاد «13»
والأصح: عمرو بن سلمة «1»
رجل كان به يستغاث، ويمطر البلد الماحل ويغاث، استقام على الطريقة، واستدام اجتناء الأعمال الوريقة، وأقبل على الله بكلّيّته، وأقبل إليه بنيّته، وقام بالتكاليف أتمّ قيام، وشرد عن جفنيه الكرى والناس نيام، حتى تجلّت له الحجب ورفعت، وزادت آماله حيث شاءت ورتعت، فدعي من أقرب مكان، وقرب فخضع لله واستكان.
وهو من قرية يقال لها:" كور داباذ" «2» ، على باب مدينة نيسابور، على طريق(8/88)
بخارى «1» كان أحد الأئمة والسادة. «2»
قال أبو حفص:" المعاصي بريد الكفر، كما أن الحمّى بريد الموت." «3»
وقال:" إذا رأيت المريد يحب السّماع فاعلم أنّ فيه بقيّة من البطالة." «4»
وقال:" حسن أدب الظاهر عنوان أدب الباطن." «5»
وقال:" الفتوّة أداء الإنصاف، وترك مطالبة الإنصاف." «6»
وكان يقول:" من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة، ولم يتّهم خواطره، فلا نعدّه في ديوان الرجال". «7»(8/89)
توفي سنة نيّف وستين ومائتين «1» .
ومنهم:
22- حمدون بن أحمد بن عمارة القصّار النّيسابوريّ أبو صالح «13»
خاف من مرّ الفطام، وعاف من حلو الحطام، فلم يستحلّ للدنيا ريقا، ولم يستجل لها خدّا شريقا، وتيقّن أن دون طنباتها ما يذم مختبره، ودون حلالها الشبهات، فسلّ آماله منها سلّا، وخلع طاعتها ولم يبايع يدا شلّا، وترك لقاحها لنتاجها، وانفتاحها لإرتاجها، وبقي- أي صار- حتى حلّ ساحة المقابر.
صحب سلما الباروسي «2» ، وأبا تراب النخشبي. «3»(8/90)
وسئل: متى يجوز للرجل أن يتكلّم على الناس؟. «1»
فقال: إذا تعين عليه أداء فرض من فرائض الله تعالى في علمه، أو خاف هلاك إنسان في بدعة، وهو يرجو أن ينجيه الله تعالى منها." «2»
وقال:" من ظنّ أنّ نفسه خير من نفس فرعون فقد أظهر الكبر." «3»
وقال:" منذ علمت أن للسلطان فراسة في الأشرار، ما خرج خوف السلطان من قلبي." «4»
وقال:" إذا رأيت سكرانا فتمايل، لئلّا تنعي عليه، فتبتلى بمثل ذلك." «5»
وقيل له: أوصني.
فقال:" إن استطعت أن لا تغضب لشيء من الدنيا فافعل". «6»
ومات صديق له وهو عند رأسه، فلما مات، أطفأ حمدون السراج، فقالوا له: في مثل هذا الوقت يزاد في السراج الدهن!. فقال لهم: إلى هذا الوقت كان الدهن له، ومن هذا الوقت صار الدهن للورثة «7» .
وقال حمدون:" من نظر في سيرة السلف عرف تقصيره، وتخلّفه عن درك درجات الرجال". «8»(8/91)
وقال:" لا تفش على أحد ما تحبّ أن يكون مستورا منك." «1»
توفي سنة إحدى وسبعين ومائتين «2» .
ومنهم:
23- أبو الحسين أحمد بن محمّد النّوريّ «13»
البغوي الأصل، البغدادي المولد والمنشأ. «3»
ذو تحقيق، لم يكن أمره فرطا، ولا عقده منفرطا، ودام مرتديا بهذا الجلباب، مهتديا حيث تضلّ الألباب، فرّ إلى الحقائق بالالتجاء، وقطع من الخلائق حبل الرجاء.
صحب السري السقطي، وابن أبي الحواري، وكان من أقران الجنيد رحمه الله تعالى.
كبير الشأن، حسن المعاملة واللسان «4» .(8/92)
قال الجنيد: منذ مات النوري لم يخبر عن حقيقة الصدق أحد. «1»
وقال أبو أحمد المغازلي: ما رأيت أعبد من النوري، قيل: ولا الجنيد؟. قال: ولا الجنيد. «2»
وقال أبو الحسين النوري:" التصوف: ترك كلّ حظّ للنّفس."»
وقال:" أعزّ الأشياء في زماننا شيئان:- ما لم يعمل بعلمه، وعارف ينطق عن حقيقة." «4»
وقال:" من رأيته يدّعي مع الله حالة تخرجه عن حدّ العلم الشرعي، فلا تقربنّ منه." «5»
وقال:" كانت المراقع غطاء على الدرّ، فصارت اليوم مزابل على جيف". «6»
وقيل: كان رحمه الله تعالى يخرج من داره كل يوم، ويحمل الخبز معه، ثم يتصدّق به في الطريق، ويدخل مسجدا يصلي فيه إلى قريب من الظهر، ثم يخرج منه، ويفتح باب حانوته، ويصوم. «7»
فكان أهله يتوهّمون أنه يأكل في السوق، وأهل السوق يتوهّمون أنه يأكل في بيته.
وبقي على هذا «8» في ابتدائه عشرين سنة!!.
توفي رحمه الله تعالى سنة خمس وسبعين ومائتين «9» .(8/93)
ومنهم:
24- سهل بن عبد الله التّستريّ «13»
أحد أئمة القوم، جهد لنفسه حتى خلّصها، وزهد فأبرها بالمعارف وخصّصها، فحلّ البحبوحة، وحصّل العطايا الممنوحة، وكان لله في أمره سرّ فيما يعلن ويسر، فلم تتقاذف به البحار، ولا استخرجته المهاق «1» فحار، بل كان إذا اتسعت له الفجاج سلكها، وإذا امتنعت عليه ملكها، فقاد نفسه بأعنّتها، وقال «2» بها في جنّتها، فنعم بالثناء، وفني بالخلد في دار البقاء.
لم يكن له في وقته نظير في المعاملات والورع. «3»
وكان صاحب كرامات. لقي ذا النون المصري بمكة، سنة خروجه إلى الحج.
وقال سهل:" كنت ابن ثلاث سنين، وكنت أقوم بالليل أنظر إلى صلاة خالي محمد بن(8/94)
سوار «1» ، وكان يقوم بالليل، فربما كان يقول لي: يا سهل! اذهب فنم، فقد شغلت قلبي. «2»
قال سهل:" قال لي خالي يوما: ألا تذكر الله الذي خلقك؟.
فقلت: كيف أذكره؟.
فقال لي: قل بقلبك عند تقلّبك في ثيابك ثلاث مرات، من غير أن تحرّك به لسانك:" الله معي. الله ناظر إليّ. الله شاهد عليّ".
فقلت ذلك ثلاث ليال، ثم أعلمته، فقال لي: قل في كل ليلة سبع مرات، فقلت ذلك ثم أعلمته، فقال لي: قل في كل ليلة إحدى عشرة مرة، فقلت ذلك، فوقع في قلبي له حلاوة.
فلما كان بعد سنة، قال لي خالي: احفظ ما علّمتك، ودم عليه إلى أن تدخل القبر، فإنه ينفعك في الدنيا والآخرة. فلم أزل على ذلك سنين، فوجدت لها حلاوة في سرّي. ثم قال لي خالي يوما: يا سهل!، من كان الله معه، وهو ناظر إليه، وشاهده، أيعصيه؟. إيّاك والمعصية. «3»
فكنت أخلو، فبعثوا بي إلى الكتّاب، فقلت: إني لأخشى أن يتفرّق عليّ همّي، ولكن شارطوا المعلّم: أني أذهب إليه ساعة، فأتعلّم، ثم أرجع. فمضيت إلى الكتّاب، وحفظت القرآن، وأنا ابن ست سنين، أو سبع، وكنت أصوم الدّهر، وقوتي خبز الشعير، إلى أن بلغت اثنتي عشرة سنة، فوقعت لي مسألة وأنا ابن ثلاث عشرة سنة، فسألت أهلي أن يبعثوني إلى البصرة أسأل عنها، فجئت البصرة، وسألت علماءها، فلم يشف أحد منهم عني شيئا!!.(8/95)
فخرجت إلى عبادان، إلى رجل يعرف بأبي حبيب، حمزة بن عبد الله العبادانيّ، فسألته عنها، فأجابني، وأقمت عنده مدة أنتفع بكلامه، وأتأدّب بآدابه، ثم رجعت إلى" تستر"، فجعلت قوتي اقتصارا على أن يشترى لي بدرهم من الشعير" الفرق" «1» فيطحن، ويخبز لي، فأفطر عند السّحر، كل ليلة على أوقيّة واحدة بحتا، بغير ملح ولا إدام، فكان يكفيني ذلك الدرهم سنة!!.
ثم عزمت على أن أطوي ثلاث ليال، ثم أفطر ليلة، ثم خمسا، ثم سبعا، ثم خمسا وعشرين ليلة، وكنت عليه عشرين سنة، ثم خرجت أسيح في الأرض سنين، ثم رجعت إلى تستر، وكنت أقوم الليل كلّه. «2»
وقال سهل:" كل فعل يفعله العبد بغير اقتداء، طاعة كان أو معصية، فهو عيش النفس، وكل فعل يفعله بالاقتداء، فهو عذاب النفس." «3»
توفي «4» - رضي الله عنه- سنة ثلاث وثمانين ومائتين بالبصرة، في المحرّم. وقيل:
سنة ثلاث وسبعين. ومولده سنة مائتين. وقيل: سنة إحدى ومائتين، بتستر. «5»
ومنهم:
25- أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل الخوّاص «13»(8/96)
علم إيمان وعدم شك، مال على القلوب إيذان من شية ذلك الطّرار، وحلية ذلك السيف الجرار، دنا شبها بأهل إخائه، وأهلة سمائه، وأفقه لا يعد النجوم من إمائه، فأهلّ من تلك المواقيت، وتملك، فعدّ جوهره من تلك اليواقيت، وكان خالصا من الأنضار، وخلاصا من ذلك الذهب النضار، حتى نزل في جدثه، ونزح الشبه مما يلقى على جثته، ولم يدر بموته من فقد، ولا علم مدرج الكفن عليه على أي شيء عقد، وهيهات ... الكواكب لا تقبر، والتراب لا يكون فيه النيّر الأكبر.
وهو آخر من سلك طريق التوكل، ودقّق فيها.
وكان أوحد المشايخ في وقته، وكان من أقران الجنيد والنوري، وله في الرياضات، والسياحات مقامات يطول شرحها.
ومات في المسجد الجامع، بالري «1» سنة إحدى وتسعين ومائتين «2» ، وكان مبطونا «3» ، وكان به علة القيام، وكان إذا قام يدخل الماء، ويغتسل، ويعود إلى المسجد، ويصلى ركعتين، فدخل الماء مرة ليغتسل، فخرجت روحه وهو في وسط الماء، رحمه الله تعالى «4» وتولى أمر غسله ودفنه يوسف بن الحسين.
ومن كلامه- رضي الله عنه-:" من لم يصبر لم يظفر." «5»
وقال:" من لم تبك الدنيا عليه، لم تضحك الآخرة إليه." «6»(8/97)
وقال جعفر بن محمد: بتّ ليلة مع إبراهيم، فانتبهت، فإذا هو يناجي إلى الصباح، ويقول:
برح الخفاء، وفي التلاقي راحة ... هل يشتفي خل بغير خليله «1»
وقال:" العلم كله في كلمتين: لا تتكلف ما كفيت، ولا تضيع ما استكفيت." «2»
وقال:" ليكن لك قلب ساكن، وكف فارغة، وتذهب النفس حيث شاءت." «3»
وقال:" دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين." «4»
وقال:" من صفة الفقير أن تكون أوقاته مستوية الانبساط، صابرا على فقره، لا يظهر عليه فاقة، ولا تبدو منه حاجة، وأقلّ أخلاقه الصبر والقناعة، مستوحشا من الرفاهات «5» ، متنعما بالخشونات، فهو بضد ما عليه الخليقة، بريء مما هي عليه معتمدة وإليه مستريحة، ليس له وقت معلوم، ولا سبب معروف، فلا تراه إلا مسرورا بفقره، فرحا بصبره، مؤونته على نفسه ثقيلة، وعلى غيره خفيفة، يعز الفقر ويعظمه، ويخفيه جهده ويكتمه، حتى عن أشكاله يستره، قد عظمت من الله تعالى عليه فيه المنّة، وحلّ في قلبه قدرها، فليس يريد لما اختار الله له بدلا، ولا يبتغي له حولا".»(8/98)
وقال:" أربع خصال عزيزة: عالم مستعمل لعلمه، وعارف ينطق عن حقيقة فعله، ورجل قائم لله تعالى بلا سبب، ومريد ذهب عنه الطمع". «1»
وقال:" الحكمة تنزل من السماء، فلا تسكن قلبا فيه أربعة أشياء: الركون إلى الدنيا، وهمّ غد، وحبّ الفضول، وحسد أخ" «2» .
وأنشد:
عليل ليس يبرئه الدواء ... طويل الضرّ يضنيه الشفاء
سرائره بواد ليس تبدو ... خفيات إذا برح الخفاء «3»
وقال عمران بن سنان: اجتاز بنا إبراهيم الخواص، فقلنا: حدثنا أعجب ما رأيته في أسفارك ... ؟.
فقال:" لقيني الخضر عليه السلام، فسألني الصحبة، فخشيت أن يفسد علي توكلي لسكوني إليه، ففارقته." «4»
وقال: لقيت غلاما في التيه، كأنه سبيكة فضة، فقلت: إلى أين يا غلام؟. فقال: إلى مكة. فقلت: بلا زاد، ولا راحلة، ولا نفقة؟!. فقال لي: يا ضعيف اليقين!. الذي يقدر على حفظ السماوات والأرضين، لا يقدر أن يوصلني إلى مكة بلا عاقة؟. فلما دخلت مكة إذا أنا به في الطواف، وهو يقول:
يا عين سحّي أبدا ... يا نفس موتي كمدا
ولا تحبي أحدا ... إلا الجليل الصمدا(8/99)
فلما رآني، قال لي: يا شيخ!، أنت بعد على ذلك الضعف من اليقين؟.
وقال: كنت ببغداد في جامع المدينة، وهناك جماعة من الفقراء، فأقبل شاب ظريف، حسن الوجه طيب الرائحة، فقلت لأصحابنا: يقع لي أنه يهودي!، وكلّهم كرهوا ذلك، فخرجت، وخرج الشاب، ثم رجع إليهم، وقال: أيش قال الشيخ فيّ؟. فاحتشموه، فألحّ عليهم، فقالوا: قال: إنك يهودي!.
قال: فجاءني وأكبّ علي يدي يقبّلها، وأسلم!.
فقيل له: ما السبب؟. قال: نجد في كتابنا أن الصّدّيق لا تخطيء فراسته، فقلت: أمتحن المسلمين، فتأمّلتهم. فقلت: إن كان فيهم صدّيق؛ ففي هذه الطائفة، فلبّست عليكم؛ فلما اطّلع هذا الشيخ عليّ، وتفرّس فيّ، علمت أنه صدّيق، وصار ذلك الشاب من كبار الصوفية.
وقال الخوّاص: تهت في البادية أياما، فجاءني شخص، وسلّم عليّ، وقال لي: تهت؟.
فقلت: نعم. فقال: ألا أدلّك على الطريق؟. ومشى بين يدي خطوات، ثم غاب عن عيني، وإذا أنا على الجادة، فبعد ذلك ما تهت، ولا أصابني في سفري جوع ولا عطش. «1»
وقال بعض الصالحين: كنت في جماعة بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، نتجارى الآيات، ورجل ضرير بقرب منا يسمع، فتقدّم إلينا، وقال: قد أنست بكلامكم، اعلموا أنه كان لي صبية وعيال، وكنت أخرج إلى البقيع أحتطب، فخرجت يوما، فرأيت شابا عليه قميص كتان، ونعله في إصبعه، فتوهّمت أنه تائه، فقصدته لأسلب ثوبه، فقلت: انزع ما عليك. فقال: مرّ في حفظ الله. فقلت له ثانيا، وثالثا. فقال: لا بد. فقلت: لا بد. فأشار بإصبعه من بعيد إلى عينيّ، فسقطتا!. فقلت: بالله عليك من أنت؟. فقال: إبراهيم الخوّاص. «2»(8/100)
وقال الخواص: دخلت البادية مرة، فرأيت نصرانيا على وسطه زنار، فسألني الصحبة، فمشينا سبعة أيام، فقال لي: يا راهب الحنفية!، هات ما عندك من الانبساط؛ فقد جعنا.
فقلت: إلهي! لا تفضحني مع هذا الكافر.
فرأيت طبقا عليه خبز وشواء، ورطب، وكوز ماء؛ فأكلنا، وشربنا، ومشينا سبعة أيام.
ثم بادرت، وقلت: يا راهب النصرانية!، هات ما معك من الانبساط، فقد انتهت النوبة إليك.
فاتكأ على عصاه، ودعا؛ فإذا بطبقين عليهما أضعاف ما كان على طبقي، فتحيّرت، وتغيّرت، وأبيت أن آكل فألحّ عليّ، فلم أجبه، فقال لي: كل..، فإني مبشرك ببشارتين:
إحداهما: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله. وحلّ الزنار.
والأخرى: إني قلت:" اللهم! إن كان لهذا العبد خطرا عندك فافتح لي بهذا.."؛
ففتح!.
فأكلنا، ومشينا، وحجّ، وأقمنا بمكة سنة، ثم مات، ودفن بالبطحاء. «1»
وقال:" دخلت البادية مرة، فأصابتني فاقة شديدة، فلما دخلت مكة، داخلني العجب ... ، فنادتني امرأة عجوز، وقالت: يا إبراهيم! كنت معك في البادية، ولم أكلمك، خوفا أن أشغل سرّك، أخرج عنك هذا الوسواس".
وقال حامد الأسود: كنت مع إبراهيم الخوّاص في البرّيّة، فبينا نحن تحت شجرة، فجاء سبع، فصعدت الشجرة إلى الصباح، لا يأخذني النوم، ونام إبراهيم الخوّاص، والسّبع يشمّ من رأسه إلى قدمه، ثم مضى، فلما كانت الليلة الثانية، بتنا في مسجد بقرية فوقع على بقة، فأنّ أنّة!.(8/101)
فقلت: هذا عجب!، البارحة لم يجزع من الأسد، والليلة يصيح من البق ... !.
فقال: أما البارحة فتلك حالة كنت فيها مع الله، وأما الليلة فهذه حالة أنا فيها مع نفسي.
وقال حامد أيضا: وكنت معه في البادية سبعة أيام على حالة واحدة، فلما كان في اليوم السابع، ضعفت، فجلست، فالتفت إلي وقال: ما لك؟.
فقلت: ضعفت.
فقال: أيما أغلب عليك: الماء أو الطعام؟.
فقلت: الماء.
فقال: الماء وراءك.
فالتفت، فإذا عين ماء كاللبن الحليب، فشربت وتطهّرت، وإبراهيم ينظر، ولم يقربه، فلما أردت القيام، هممت بأن أحمل منه.
فقال: أمسك ... فإنه ليس مما يتزوّد منه. «1»
وقال الخوّاص: عطشت في بعض أسفاري، وسقطت من العطش، فإذا أنا بماء قد رشّ على وجهي، ففتحت عيني، فإذا أنا برجل حسن الوجه راكبا دابة شهباء، فسقاني الماء، فقال لي: كن رديفي.
وكنت بالحجاز، فما لبثت إلا يسيرا، فقال: ما ترى؟.
فقلت: أرى المدينة!.
فقال: انزل واقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام!، وقل له: أخوك الخضر يقرئك السلام. «2»(8/102)
وقال الكتاني: سمعت الخواص يقول: كنت في البادية مرة، فسرت في وسط النهار، فوصلت إلى شجرة بقرب ماء، فنزلت، وإذا سبع عظيم قد أقبل، فاستسلمت، فلما قرب مني إذا هو يعرج، فحمحم، وبرك بين يدي، ووضع يده في حجري، فنظرت، فإذا يده منتفخة فيها قيح ودم، فأخذت خشبة، وشققت الموضع الذي فيه القيح والدم، وشددت عليه خرقة، فمضى به، وإذا به، بعد ساعة قد عاد، ومعه شبلان يبصبصان إليّ، وحملا إليّ رغيفا!.
وقيل له: ما بال الإنسان يتحرك عند سماع غير القرآن، ما لا يجد في غير سماع القرآن؟.
فقال:" لأن سماع القرآن صدمة لا يمكن أحد أن يتحرك فيها لشدة غلبتها، وسماع القول ترويح يتحرك فيه." «1»
وقال علي بن محمد: كنت جالسا مع إبراهيم الخوّاص، وهو يتكلم في العلم، وحوله جماعة، إلى أن طلعت عليه الشمس، وحميت، حتى وجدتّ حرّها، وهو جالس لا يعبأ بها، فلما اشتدت قلت له: يا سيدي! ألا تقوم إلى الفي «2» ، فهو أرفق بك؟.
فقال لي: ويلك، ما تدلني إلا على الشرك!.
ثم أنشأ يقول:
لقد وضح الطريق إليك قصدا ... فما أحد أرادك يستدل
فإن ورد الشتاء فأنت صيف ... وإن ورد المصيف فأنت ظل
وقال:" آفة المريد ثلاث خصال: حب الدرهم، وحب النساء، وحب الرياسة. «3»
فتدفع آفة حب الدرهم: باستعمال الورع.
وتدفع آفة حب النساء بترك الشهوات، ومداومة الصوم، فإنما تتولد هذه الشهوة من الشبع، وفراغ القلب.(8/103)
وتدفع آفة حب الرياسة: بإيثار الخمول.
والمريد الصادق: الله تعالى مراده وقصده، والصّدّيقون إخوانه، والخلوة بيته، والوحدة أنسه، والنهار غمه، والليل فرحه، ودليله قلبه، والقرآن معينه، والبكاء والجوع أدمه، والعبادة رياضة نفسه، والمعرفة قياده، والحياة سفره، والأيام مراحله، والورع طريقه، والزهد قرينه، والأحوال منازله، والصبر شعاره، والسكون دثاره، والصدق مطيته، والعبادة مركبه، وخوف الفوت مستحثه. وأنشد:
إن الذين بخير كنت تعهدهم ... مضوا عليك، وعنهم كنت أنهاك
لا تطلبنّ حياة عند غيرهم ... فليس يحييك إلا من توفّاك
ومنهم:
26- أبو القاسم الجنيد بن محمّد «13»
سيد الطائفة، وإمامهم. «1»
أفعم أودية المعارف وأفاضها، ولبس منها أسنى المطارف وفضفاضها، إلى علوم تحقّق،(8/104)
وعلوّ مراتب عليها أردية النفوس تشقق. جمع بين الطريقتين، وتصدّر في جميع الفريقين، ولم يكن فيهم منكرا أنه حامل لوائهم، وحامي سرحهم عند لأوائهم، فكان هو بينهم المنادى المفرد العلم، والواحد الفرد حلّ حيث حلّ من العظم، فاض منه بحر لم يبق منه جدول إلا اختطفه في تياره، واقتطفه ورق النّصال ببتّاره. ويحكى أنه كان لا يرى إلا في زي مريد، وزيادة تواضع ما عليه مزيد.
أصله من نهاوند «1» ، ومنشؤه ومولده بالعراق، وأبوه كان يبيع الزجاج فلذلك يقال له" القواريري".
وكان أبو القاسم يبيع الخزّ، فقيل له:" الخزاز" «2» وكان فقيها على مذهب" أبي ثور". «3» صحب السري، والحارث المحاسبي، ومحمد بن علي القصاب «4» ، وغيرهم.
توفي سنة سبع وتسعين ومائتين «5» .(8/105)
وقال الجنيد:" ما أخذنا التصوف عن القيل والقال، لكن عن الجوع؛ وترك الدنيا، وقطع المألوفات والمستحسنات" «1» .
وقال لرجل ذكر المعرفة:" أهل المعرفة بالله: يصلون إلى ترك الحركات «2» من باب البر، والتقرب إلى الله عزّ وجلّ". «3»
فقال الجنيد:" إن هذا قول قوم تكلموا بإسقاط الأعمال، وهو عندي عظيم، والذي يسرق ويزني أحسن حالا من الذي يقول هذا، فإن العارفين بالله تعالى أخذوا الأعمال عن الله تعالى، وإليه رجعوا فيها، ولو بقيت ألف عالم لم أنقص من أعمال البرّ ذرّة، إلا أن يحال بي دونها." «4»
وقال:" إن أمكنك أن لا تكون آلة في بيتك إلا خزفا، فافعل". «5»
وقال:" الطرق كلها مسدودة على الخلق، إلا على من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم". «6»
وقال:" لو أقبل صادق على الله تعالى ألف، ألف سنة، ثم أعرض عنه لحظة، كان ما فاته أكثر مما ناله". «7»(8/106)
وقال:" من لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر «1» ، لأن علمنا هذا مقيّد بالكتاب والسنة". «2»
وقال:" مذهبنا هذا مقيد بالأصول؛ الكتاب والسنة" «3» .
وقال:" علمنا هذا مشبّك بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم" «4» .
وقال أبو الحسين علي بن إبراهيم الحداد: حضرت مجلس القاضي أبي العباس ابن سريج «5» [الفقيه الشافعي] ، فتكلّم في الفروع والأصول بكلام حسن عجبت منه، فلما رأى إعجابي قال:" أتدري من أين هذا؟ ".
قلت: يقول به القاضي.
فقال:" هذا ببركة مجالستي أبي القاسم الجنيد." «6»
وقيل للجنيد: ممن استفدت هذا العلم؟.
فقال: من جلوسي بين يدي الله ثلاثين سنة تحت تلك الدرجة، وأومأ إلى درجة في داره. «7»
ورؤي في يد الجنيد سبحة، فقيل له: أنت مع شرفك تأخذ بيدك سبحة؟. فقال: طريق به وصلت إلى ربي لا أفارقه. «8»(8/107)
وكان الجنيد يدخل كل يوم حانوته، ويسبل الستر، ويصلي أربعمائة ركعة، ثم يعود إلى بيته. «1»
وقال أبو بكر العطوي: كنت عند الجنيد حين مات، فرأيته ختم القرآن ... ثم ابتدأ من البقرة، وقرأ سبعين آية، ثم مات رحمه الله تعالى. «2»
وقال الجنيد:" قال لي خالي سريّ السّقطيّ رحمه الله تعالى:" تكلّم على الناس" و [كان] في قلبي حشمة من الكلام على الناس، فإني كنت أتّهم نفسي في استحقاق ذلك، فرأيت ليلة في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم- وكانت ليلة جمعة- فقال لي:" تكلم على الناس! "، فانتبهت، وأتيت باب السّريّ قبل أن أصبح، فدققت الباب، فقال:" لم تصدّقنا حتى قيل لك؟! ". فقعدت في غد للناس بالجامع، وانتشر في الناس أن الجنيد قعد يتكلم على الناس. فوقف عليّ غلام نصراني، متنكر، وقال:" أيها الشيخ! ما معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتّقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله) «3» ؟.
فأطرقت، ثم رفعت رأسي، وقلت: أسلم!، فقد حان وقت إسلامك!. فأسلم الغلام «4» .
وقال الجنيد:" ما انتفعت بشيء انتفاعي بأبيات سمعتها.
قيل له: وما هي؟.
قال: مررت بدرب القراطيس، فسمعت جارية تغني من دار، فأنصتّ لها، فسمعتها(8/108)
تقول:
إذا قلت: أهدى الهجر لي حلل البلى ... تقولين: لولا الهجر لم يطب الحب
وإن قلت: هذا الحب أحرقه الهوى ... تقولي: بنيران الهوى شرف القلب
وإن قلت: ما أذنبت. قلت مجيبة ... حياتك ذنب لا يقاس به ذنب
فصعقت، وصحت ... !.
فبينا أنا كذلك، إذا بصاحب الدار قد خرج، فقال: ما هذا يا سيدي؟!.
فقلت له: مما سمعت.
فقال: أشهدك أنها هبة مني إليك.
فقلت: قد قبلتها، وهي حرة لوجه الله تعالى.
ثم دفعتها لبعض أصحابنا بالرباط، فولدت له ولدا نبيلا، ونشأ أحسن نشوء، وحجّ على قدميه ثلاثين حجة على الوحدة. «1»
" عن الحلية" «2» الصوفية، أنها حكت بسندها إلى الجنيد، قال:" كنت لهجا بزيارة الرهبان، والمنقطعين إلى العبادة من سائر الأديان، فحكي لي: إن في أقصى بلاد الروم جارية فتيّة السن، قد اتخذت وتدا من حديد، وعارضة، وغلّت يدها وعنقها إليه، وتعلّقت بين السماء والأرض، لا تقرّ من العبادة!، فاجتهدت إلى أن وصلت إلى ذلك الموضع، ورفعت رأسي إليها، فحين بصرت بي قالت لي: يا أبا القاسم! إن لم يكن حقا فهو حقيقة!!!.
و [قال أبو محمد الجريري] : كان في جوار الجنيد رجل مصاب [في خربة] ، فلما مات الجنيد [ودفنّاه، تقدّمنا ذلك المصاب، وصعد موضعا رفيعا وقال لي:" يا أبا محمد! تراني أرع إلى تلك الخربة بعد أن فقدت ذلك السيد؟! ".(8/109)
ثم] «1» أنشأ يقول:
ووا أسفا من فراق قوم ... هم المصابيح والحصون
والمدن والمزن والرواسي ... والحبر والأمن والسكون
لم تغير لنا الليالي ... حتى توفتهم المنون
لم تغير لنا الليالي ... وكل ماء لنا عيون
ثم غاب عنا، فكان ذلك آخر العهد منه] «2» .
ومنهم:
27- أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الحيريّ «13»
المقيم بنيسابور.
عارف زجر نفسه ووعظها، ورأى نفسه في مرمى كل نظرة لحظها، فحلّ رموز آماله، والتمس كنوز القرآن في أمثاله، وصحب قوما اتخذوا نفوسا، وشهدوا في العلياء شموسا، في فيئه قطعوا أودية الأعمار هياما، وطاولوا ألوية الليل قياما، ولم يخدع أحدا منهم متاع الدنيا ولا استجرّه، ولا حام إلا على زهر الثريا ونهر المجرة، وأمسى وتربه يستهدى طيبا، ويندى عنبرا وعودا رطيبا.(8/110)
كان من الري، وصحب شاه الكرماني، ويحيى بن معاذ. ثم ورد نيسابور مع شاه الكرماني، على أبي حفص الحداد «1» ، وأقام عنده، وتخرّج به، وزوّجه أبو حفص ابنته.
ومات سنة ثمان وتسعين ومائتين «2» ، وعاش بعد أبي حفص نيفا وثلاثين سنة.
ومن كلامه:" لا يكمل إيمان الرجل حتى يستوي في قلبه أربعة أشياء: المنع، والإعطاء، والعزّ، والذل." «3»
وقال:" الصحبة مع الله: بحسن الأدب، ودوام الهيبة، والمراقبة.
والصحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: باتباع سنته، ولزوم ظاهر العلم.
والصحبة مع أولياء الله تعالى: بالاحترام والخدمة.
والصحبة مع الأهل بحسن الخلق.
والصحبة مع الإخوان: بدوام البشر ما لم يكن إثما.
والصحبة مع الجهّال: بالدعاء لهم، والرحمة عليهم." «4»
وقال:" من أمّر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمّر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة، قال الله تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا
. «5»(8/111)
وقال أبو عثمان:" صحبت أبا حفص وأنا شاب، فطردني مرة، وقال:" لا تجلس عندي! ". فقمت ولم أولّه ظهري، وانصرفت إلى ورائي، ووجهي إلى وجهه، حتى غبت عن عينيه، وجعلت على نفسي: أن أحفر على بابه حفرة لا أخرج منها إلا بأمره!. فلما رأى مني ذلك أدناني، وجعلني من خواص أصحابه. «1»
و] كان يقال": [في الدنيا ثلاثة لا رابع لهم:" أبو عثمان: بنيسابور، والجنيد: ببغداد، وأبو عبد الله بن الجلّاء: بالشام." «2»
وقال أبو عثمان:" منذ أربعين سنة ما أقامني الله تعالى في حالة فكرهته، ولا نقلني إلى غيره فسخطته". «3»
ولما تغير على أبي عثمان الحال «4» ، مزّق ابنه أبو بكر قميصا على نفسه، ففتح أبو عثمان عينيه، وقال:" خلاف السنة يا بني في الظاهر، علامة رياء في الباطن." «5»
وقال:" أصل العداوة من ثلاثة أشياء:-
" من الطمع في المال، والطمع في إكرام الناس، والطمع في قبول الناس." «6»
وقال:" صلاح القلب في أربع خصال:
" في التواضع لله، والفقر إلى الله؛ والخوف من الله، والرجاء في الله". «7»(8/112)
وقال:" الخوف من الله يوصلك إلى الله، والكبر والعجب في نفسك يقطعك عن الله، واحتقار الناس في نفسك مرض عظيم لا يداوى." «1»
وقال:" من جلّ مقداره في نفسه جلّ أقدار الناس عنده؛ ومن صغر مقداره في نفسه صغر أقدار الناس عنده". «2»
وقال:" تعزّزوا بعزّ الله كي لا تذلوا." «3»
وقال:" العاقل من تأهّب للمخاوف قبل وقوعها." «4»
وقال:" التفويض ردّ ما جهلت علمه إلى عالمه، والتفويض مقدّمة الرضا؛ والرضا باب الله الأعظم". «5»
وقال:" الفراسة ظنّ وافق الصواب، والظن يخطئ ويصيب؛ فإذا تحقق في الفراسة، تحقق في حكمها، لأنه إذ ذاك يحكم بنور الله تعالى لا بنفسه." «6»
وسئل عن التوكل فقال:" هو الاكتفاء بالله تعالى مع الاعتماد عليه. والشكر: معرفة العجز عن الشكر.
وشكر العوام: على المطعم والمشرب والملبس.
وشكر الخواص: على ما يرد على قلوبهم من المعاني.
واليقين: قلة الاهتمام لغد."(8/113)
وسئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أسألك الرضاء بعد القضاء) ؟.
قال:" لأن الرضاء قبل القضاء عزم على الرضاء، والرضاء بعد القضاء هو الرضاء".
وقال:" من أضرّ به الرجاء حتى قارب الأمن فالخوف له أفضل، ومن أضرّ به الخوف حتى قارب الإياس، فالرجاء له أفضل «1» وأنشد في هذا المعنى:
أسأت ولم أحسن وجئتك هاربا ... وأين العبد من مواليه مهرب؟
يؤمّل غفرانا فإن خاب ظن ... فما أحد منه على الأرض أخيب «2»
ومنهم:
28- ممشاذ الدّينوريّ «13»
زاهد قنع عفافا، وقمع هواه ليصبح ويمسي من الدنيا معافى، وتقرّب إلى الله بالنوافل حتى أحبّه، وملّكه قلوب الناس فلم تدع حبّه، وعبر مدة العمر لا تردّ له دعوة، ولا يعدّ معه لذي قوم حظوة، وترقّى بتجريد سرى به في الملكوت، وسما به والنجوم سكوت، ثم انتقل إلى ربه الكريم، ووسّد في تربه ميتا ميتة الكليم، وطاب قبر جنّه، وقرب نودي منه: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ
. «3»
صحب يحيى بن الجلاء، ومن فوقه من المشايخ، عظيم المرمى في هذه العلوم، كبير(8/114)
الحال، [أحد فتيان الجبال] ، ظاهر الفتوّة. مات سنة تسع وتسعين ومائتين. «1»
ومن كلامه:
قال:" طريق الحق بعيد، والصبر مع الحق شديد." «2»
وقال:" ما أقبح الغفلة عن طاعة من لا يغفل عن برّك؛ وما أقبح الغفلة عن ذكر من لا يغفل عن ذكرك." «3»
وقال:" ما دخلت قط على أحد من شيوخي، إلا وأنا خال من جميع مالي؛ أنظر بركات ما يرد عليّ من رؤيته أو كلامه؛ فإنّ من دخل على شيخ بحظّه «4» ، انقطع بحظّه عن بركات رؤيته، ومجالسته، وأدبه، وكلامه." «5»
وقال:" أدب المريد في أشياء أربعة: التزام حرمات المشايخ؛ وخدمة الإخوان؛ والخروج عن الأسباب؛ وحفظ آداب الشرع على نفسه." «6»
وقال:" صحبة أهل الصلاح تورث في القلب الصلاح، وصحبة أهل الفساد تورث فيه الفساد." «7»
وسئل عن التوكل؟ فقال:" التوكل: حسم الطمع عن كل ما يميل إليه قلبك ونفسك." «8»(8/115)
وقال أبو بكر الرازي: كنت عند ممشاذ الدينوري، فجرى حديث الدّين، فقال لي:
كان عليّ دين، فاشتغل قلبي، فرأيت في المنام كأن قائلا يقول لي: يا بخيلا!، أخذت علينا هذا المقدار؟ .. خذ!، عليك الأخذ وعلينا العطاء. فما حاسبت بعد ذلك بقالا، ولا قصابا، ولا غيرهما.
وقال:" منذ علمت أن أحوال الفقراء جدّ كلها لم أمازح فقيرا، وسبب ذلك: أن فقيرا جاءني قادما علي، فقال لي: أيها الشيخ! أريد أن تتخذ لي عصيدة، فجرى على لساني:
" إرادة وعصيدة؟! "، فتأخر الفقير ولم أشعر، ثم أمرت باتخاذ عصيدة، وطلبت الفقير فلم أجده، فتعرفت خبره، فقيل لي: انصرف من فوره، وكان يقول في نفسه:" إرادة وعصيدة؟! "، وهام على وجهه حتى دخل البادية، ولم يزل يقول هذه الكلمة حتى مات. «1»
وسئل عن التصوف؟.
فقال:" صفاء الأسرار، والعمل بما يرضي الجبار، وصحبة الناس بلا اختيار".
وقال بعضهم: كنت عند ممشاذ عند وفاته، فقيل له: كيف تجد العلّة؟.
فقال: سلوا العلّة عني.
فقيل له: قل:" لا إله إلا هو"، فحوّل وجهه إلى الجدار، وقال:
أفنيت كلي بكلك ... هذا جزاء من يجلّك
لا إله إلا هو، أحد، أحد. «2»
وقيل [له] : إذا جاع الفقير أيش يعمل؟.
فقال:" يصلي. قال: فإن لم يقدر؟. قال: ينام. قال: فإن لم يقدر؟ فقال: إن الله(8/116)
تعالى لا يخلي الفقير عن إحدى ثلاث: إما قوى، وإما غذاء، وإما أخذ".
وقال فارس الدينوري «1» : خرج ممشاذ الدينوري يوما من باب الدار، فنبح عليه كلب، فقال ممشاذ:" لا إله إلا الله". فمات الكلب مكانه! «2» .
وروي أنه كان إذا رأى فقيرا قدم من البادية، يقول له: تعال يا مكسور!، من أي بركة شربت؟، وعلى أي بدوي نزلت؟، وطعام من أكلت؟.
حكى بعض أصحابه، قال: اشتدّ به المرض، فاستثقله. فقيل له: مثلك يكره الموت؟!.
فقال:" أخاف لقاء الحبيب قبل الإكثار مما يرضيه"؛ فدخل عليه داخل لا يعرفه منا أحد، فناوله تفاحة لا يعرف مثلها في الدنيا، فأخذها، فشمّها، فمات ... !.
ثم نظرنا فلم نر الرجل ولا التفاحة، وإنما سمعنا قائلا يقول:" موتة موسوية والله." «3»
رحمه الله تعالى.
ومنهم:
29- أبو محمد رويم بن أحمد بن يزيد بن رويم بن يزيد البغداديّ «13»(8/117)
إمام به الابتداء في الترتيب، والاقتداء للمستتيب، علم من الأعلام، وكرم للأخوال والأعمام. رفل من جلابيب الجنود وأنجادها، ورف ذيله على أغوار النجوم وأبجادها «1» ، وطالما تلفع بالظلماء، وتشفع برب السماء، ودام على طريقه اللاحب «2» ، حتى سقاه الموت السمام المنقع، وأتاه الحمام بما يتوقع، على أنه كان استدرك لمصيره، وتأهب لمسيره، وسبق حتى وارته حفرته ولم يفت، وأرته عين اليقين قبره وهو حي لم يمت.
كان فقيها على مذهب داود الأصفهاني. «3»
مقرئا على إدريس بن عبد الكريم الحداد. «4»
قال أبو عبد الله بن خفيف: قلت لرويم: أوصني.
فقال:" ما هذا الأمر إلا ببذل الروح «5» ، فإن أمكنك الدخول فيه مع هذا، وإلا فلا تشتغل بترّهات «6» الصوفية. «7»(8/118)
وقال رويم:" قعودك مع كل طبقة من الناس أسلم من قعودك مع الصوفية، فإن كل الخلق قعدوا على الرسوم «1» ، وقعدت هذه الطائفة على الحقائق، وطالب الخلق كلّهم أنفسهم بظواهر الشرع، وطالب هؤلاء أنفسهم بحقيقة الورع، ومداومة الصدق، فمن قعد معهم وخالفهم في شيء مما يتحققون، نزع الله نور الإيمان من قلبه." «2»
وقال رضي الله عنه:" اجتزت ببغداد وقت الهاجرة ببعض السكك، وأنا عطشان، فاستقيت من دار، ففتحت صبية بابها، ومعها كوز، فلما رأتني قالت: صوفي يشرب بالنهار!!!. فما أفطرت بعد ذلك اليوم قط. «3»
وقال:" قف على البساط، وإياك والانبساط، واصبر على ضرب السياط، حتى تجوز الصراط." «4»
وسئل عن الفتوة؟ فقال:" أن تعذر إخوانك في زلاتهم، ولا تعاملهم بما تحتاج أن تعتذر منه." «5»
وقال:" إن الله غيّب أشياء في أشياء: غيّب مكره في حلمه، وغيّب خداعه في لطفه، وغيّب عقابه في كرامته." «6»
وقيل له: هل ينفع الولد صلاح الوالدين؟ فقال:" من لم يكن بنفسه لا يكون بغيره، بل من لم يكن بربه لا يكون بنفسه".(8/119)
ثم أنشد لابن الرومي «1» :
إذا العود لم يثمر وإن كان شعبة ... من المثمرات اعتدّه الناس في الحطب «2»
وسئل عن حقيقة الفقر؟.
فقال:" أخذ الشيء من جهته، واختيار القليل على الكثير عند الحاجة." «3»
وقال:" الصبر: ترك الشكوى «4» ، والرضا: استلذاذ البلوى، واليقين: هو المشاهدة." «5»
وقال:" يعاتب الخلق بالإرفاق، ويعاتب المحب بالغلظة".
وأنشد على أثره لغيره:
لو كنت عاتبة لسكّن عبرتي ... أملي رضاك، وزرت غير مراقب
لكن مللت، فلم تكن لي حيلة ... صدّ الملول خلاف صدّ العاتبط «6»
وسئل عن المحبة؟؛ فقال:" الموافقة في جميع الأحوال".
وأنشد:
ولو قلت لي: مت متّ سمعا وطاعة ... وقلت لداع الموت أهلا ومرحبا «7»
وسئل عن وجد الصوفية عند السماع؟.(8/120)
فقال:" يشهدون المعاني التي تعزب عن غيرهم، فتشير إليه: إليّ، إليّ. فيتنعّمون بذلك من الفرح، ثم يقع الحجاب، فيعود ذلك الفرح بكاء، فمنهم من يخرق ثيابه، ومنهم من يصيح، ومنهم من يبكي، وكل إنسان على قدره". «1»
وقال:" التصوف مبني على ثلاث خصال: التمسك بالفقر والافتقار، والتحقق بالعدل والإيثار، وترك التعرض والاختيار".
ودخل رويم في شيء من أمور السلطان، فدخل عليه الجنيد ومعه رجل خراساني، فلما خرج، قال الجنيد: كيف رأيته يا خراساني؟!.
قلت: لا أدري.
قال: إن الناس يتوهمون أن هذا نقصان في حاله ووقته، وما كان رويم أعمر وقتا منه هذه الأيام. «2»
وقال السلمي: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا العباس بن عطاء يقول:
" رويم أتم حالا من أن تغيره تصاريف الأحوال".
وذكر الخطيب البغدادي رويما. وذكر من كلامه قوله:" السكون إلى الحال اغترار." «3»
وقوله:" رياء العارفين خير من إخلاص المريدين." «4»
وقوله:" الفتوة أن تعذر إخوانك في زللهم، ولا تعاملهم بما يحوجك إلى الاعتذار إليهم." «5»(8/121)
وقال ابن خفيف: لما دخلت بغداد قصدت رويما، وكان قد تولى القضاء، فلما دخلت عليه رحّب بي وأدناني، وقال لي: من أين أنت؟.
فقلت: من فارس.
فقال: لمن صحبت؟.
قلت: جعفر الحذّاء.
فقال: ما تقول الصوفية فيّ؟.
قلت: لا شيء.
قال: بلى، يقولون: إنه رجع إلى الدنيا!.
فبينا هو يحدّثني إذ جاء طفل صغير، فقعد في حجره، فقال رويم: لو كنت أرى منهم من يكفيني مؤنة هذا الطفل لما تعلّقت بهذا الأمر، ولا بشيء من أسباب الدنيا، ولكن شغل قلبي بهذا أوقعني فيما أنا فيه! «1»
توفي- رحمه الله تعالى- ببغداد، سنة ثلاث وثلاثمائة. «2»(8/122)
ومنهم:
30- أبو مغيث الحسين بن منصور الحلّاج «13»
بحر لا يلجه إلا معذر، وأسد لا يخرجه إلا متضرر، شرب بقية الزجاجة، وطرب فوق قدر الحاجة، فانقلب سكرانا طافحا، وغلب عليه فمال طامحا، وكان ممن كتب الكتب وقراها، وبرأ الكتب ودراها، فكان يجني ثمر الغيوب، ويجري تارة مجرى المحاسن، وتارة مجرى العيوب، فلا يزال يأتي بالحكمة الصائبة، ويحدّث بالكلمة الغائبة، بكشف لا يحجب، ولا يأتي بنادرة فيتعجب، لكثرة ما كان يأتي به شيئا بعد شيء، ويمد من تخييلاتها فيا بعد في، فكان لو شاء أنه أو همّ شق البحر فخاض منه طريقا يبسا، وشهب الماء فأوقد منه شهابا قبسا، وأومأ إلى الغوادي فأجابت سماؤها، وإلى الليالي فانجابت ظلماؤها، فخلب العقول أو سحرها، وخيّل أوقات الظهيرة عشيات الليالي أو سحرها، حتى أضلّ جبلا، وأضاع جملا، وأصبح مثلا، وأمسى وأمثال عقد النجوم عليه منتثلا، وكاد العراق يميد لساكنه، ويميل بمساكنه، حتى كادت بغداد تخرج في ذمامها، ويخرج من يد أيامها، والناس عليه مؤتلفون، وفيه مختلفون، وهم به لا يقصرون، أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ
«1» ثم قتل بسيف الشرع، وسقي بسيل دمه منابت الزرع، فقرّ الدرّ في الضرع، واستقرّ في ثاره الأصل والفرع، هذا بعد أن صبّ عليه سوط عذاب، وقتل والناس قسمان:
قسم مدح، وقسم عاب، إلا أنه حكي أنه لم يحضر واقعته إلا من أصيب، وأخذ من البلوى نصيب.(8/123)
وهو من بيضاء فارس «1» ، ونشأ بواسط «2» ، والعراق.
وصحب الجنيد، والنوري، وعمرا المكي «3» ، وغيرهم.
واختلف المشايخ في أمره: فردّه أكثرهم ونفوه، وأبوا أن يكون له قدم في التصوف.
وقبله [بعضهم] : من جملتهم أبو العباس بن عطاء، وأبو عبد الله محمد بن خفيف، وأبو القاسم إبراهيم بن محمد النصراباذي، وأثنوا عليه، وصححوا له حاله، وحكوا عنه كلامه، وجعلوه أحد المحققين، حتى قال محمد بن خفيف:" الحسين بن منصور: عالم ربّانيّ." «4»
قتل بباب الطاق من بغداد، يوم الثلاثاء لست بقين من ذي القعدة، سنة تسع وثلاثمائة.
وقال الحلاج:" حجبهم بالاسم فعاشوا؛ ولو أبرز لهم علوم القدرة لطاشوا؛ ولو كشف لهم الحجاب عن الحقيقة لماتوا." «5»
وقال:" من أسكرته أنوار التوحيد، حجبته عن عبارة التجريد، بل من أسكرته أنوار(8/124)
التجريد، نطق عن حقائق التوحيد؛ لأن السكران هو الذي ينطق بكل مكتوم." «1»
وقال:" من التمس الحق بنور الإيمان، كان كمن طلب الشمس بنور الكواكب." «2»
وقال أبو العباس الرازي: كان أخي خادما للحسين بن منصور، فسمعته يقول: لما كانت الليلة التي وعد من الغد لقتله، قلت له: يا سيدي! أوصني.
فقال لي:" عليك بنفسك، إن لم تشغلها شغلتك".
فلما كان من الغد، وأخرج للقتل، قال:" حسب الواحد إفراد الواحد".
ثم خرج يتبختر في قيده ويقول:
نديمي غير منسوب ... إلى شيء من الحيف
سقاني مثل ما يشر ... ب فعل الضيف بالضيف
فلما دارت الكأس ... دعا بالنطع والسيف
كذا من يشرب الكأس ... مع التّنّين في الصيف «3»
ثم قال: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها، وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ
. «4»
ثم ما نطق بعد ذلك حتى فعل به ما فعل.
وقال القنّاد: لقيت الحلاج يوما في حالة رثّة، فقلت له: كيف حالك؟. فأنشأ يقول:(8/125)
لئن أمسيت في ثوبي عديم ... لقد بليا على حرّ كريم
فلا يحزنك أن أبصرت حالا ... مغيّرة عن الحال القديم
فلي نفس ستتلف أو سترقى ... لعمرك- بي إلى أمر جسيم «1»
وأنشد ابن فاتك «2» للحسين بن منصور:
أنت بين الشغاف والقلب تجري ... مثل جري الدموع من أجفاني
وتحلّ الضمير جوف فؤادي ... كحلول الأرواح في الأبدان
ليس من ساكن يحرك إلا ... أنت حركته خفي المكان «3»
وأنشد لنفسه «4» :
مواجيد حق، أوجد الحقّ كلّها ... وإن عجزت عنها فهوم الأكابر
وما الوجد إلا خطرة ثم نظرة ... تثير لهيبا بين تلك السرائر
إذا سكن الحق السريرة ضوعفت ... ثلاثة أحوال، لأهل البصائر
فحال يبيد السرّ عن كنه وجده ... ويحضره للوجد، في حال حائر
وحال به زمّت ذرى السرّ فانثنت ... إلى منظر أفناه عن كل ناظر
وأنشد أيضا لنفسه «5» :
متى سهرت عيني لغيرك أو بكت ... فلا أعطيت ما منّيت وتمنّت
وإن أضمرت يوما سواك فلا رعت ... رياض المنى من وجنتيك وجنّة(8/126)
وأنشد لنفسه «1» :
جبلت روحك في روحي كما ... يجبل العنبر بالمسك الفتق
فإذا مسّك شيء مسّني ... فإذا أنت أنا لا نفترق
وأنشد لنفسه «2» :
دلال يا خليلي مستعار ... دلال بعد أن شاب العذار؟
ملكت- وحرمة الخلوات- قلبا ... لعبت به وقرّ به القرار
فلا عين يؤرّقها اشتياق ... ولا قلب يقلقله ادّكار
نزلت بمنزل الأعداء مني ... وبنت، فلا تزور، ولا تزار
" كما ذهب الحمار بأم عمرو ... فلا رجعت ولا رجع الحمار"
وأنشد عبد الرحيم بن أحمد الحلي قال: أنشدني الحلاج لنفسه، وقد ذكرت لديه الدنيا وأحوالها:
دنيا تغالطني كأني ... لست أعرف حالها
حظر المليك حرامها ... وأنا احتميت حلالها
فوجدتها محتاجة ... فوهبت لذّتها لها
وقد حكي عنه، أنه لما خرج ليقتل، خرج غير جازع، ولا أسف، وجعل يقول:" آن لقاء الحبايب".
وحكى السّلمي عن العطوفي، قال: كنت أقرب الناس من الحلاج، فضرب كذا وكذا سوطا، وقطعت يداه ورجلاه ... فما نطق!.
وحكي عنه: إنه لما قدّم للقتل، أسفر وجهه، ثم اربدّ، وهمهم بشفتيه، ثم أنشد:(8/127)
طلبت المستقرّ بكل أرض ... فلم أر لي بأرض مستقرّا
وذقت من الزمان وذاق مني ... وكان مذاقه حلوا ومرّا
أطعت مطامعي فاستعبدتني ... ولو أني قنعت لكنت حرّا «1»
وقد ذكر الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي: أنه قال- وهو مصلوب:" إلهي! أصبحت في دار الرغائب أنظر إلى العجائب، إلهي! إنك تتودّد إلى من يؤذيك، فكيف لا تتودد إلى من يؤذى فيك؟! " «2» .
ومنهم:
31- أبو عبد الله أحمد بن يحيى «3» الجلّاء «13»
سابق بلغ المدى، وقتل أطماعه ببتّ العلائق وودى، وكان بطل كتيبة، ورجلا له كرامات عجيبة، وأخا غرائب لا تؤاخى، ولا يأتي بها الزمان وإن تراخى، طالما بهر العيون وملاها، وأظهر ما عجب الظنون وملاها، ولم يزل تبارح به غرف العرفان، ويتبلج صبح الحق حتى أدرج في الأكفان، فروّض ثرى حلّه، وسقى الله دياره غير مفسدها، وساق إليها مثل أخلاق موسدها، وطاب حيا للأتراب، وميتا في التراب مضطجعا.(8/128)
أقام بالرملة «1» ، ودمشق، وكان من جلّة مشايخ الشام. «2»
صحب أباه، يحيى [الجلاء] ، وأبا تراب النخشبي، وذا النون المصري، وأبا عبيد البسري «3» وكان عالما ورعا، وهو أستاذ محمد بن داود الدّقّي. «4»
روي عنه أنه قال لأبيه وأمه:" أحبّ أن تهباني لله عزّ وجلّ" فقالا: قد وهبناك لله.
فغبت عنهما مدّة، فلما رجعت كانت ليلة مطيرة، فدققت الباب، فقال لي أبي: من ذا؟.
قلت: ولدك أحمد.
فقال: كان لنا ولد، فوهبناه لله تعالى، ونحن من العرب، لا نسترجع ما وهبناه. ولم يفتح لي. «5»
وقال له رجل: على أي شيء أصحب الخلق؟.
فقال:" إن لم تبرّهم فلا تؤذهم، وإن لم تسرّهم فلا تسؤهم." «6»
وقال:" الزهد هو النظر إلى الدنيا بعين الزوال، لتصغر في عينك، فيسهل عليك الإعراض".
وقال محمد بن ياسين: سألت ابن الجلاء عن الفقر؟.(8/129)
فسكت، ثم ذهب، ورجع عن قريب، ثم قال: كان عندي أربعة دوانيق، فاستحييت من الله تعالى أن أتكلم في الفقر، فأخرجتها ... !. ثم قعد وتكلم في الفقر «1» .
وقيل له: ما معنى الصوفي؟.
فقال:" ليس نعرفه في شرط العلم، ولكن نعرف فقيرا مجردا من الأسباب، كان مع الله تعالى بلا مكان، ولا يمنعه العلم من علم كل مكان، يسمى صوفيا" «2»
وقال: اشتهت والدتي على والدي يوما سمكة، فمضى والدي إلى السوق وأنا معه، فاشترى سمكة ووقف ينظر من يحملها؟. فرأى صبيا واقفا حذاءه، فقال: يا عم! ... تريد من يحملها؟. قال: نعم. فحملها ومشى معنا، فسمعنا الأذان. فقال الصبي: أذّن المؤذن، وأحتاج أن أتوضأ وأصلي. فإن رضيت وإلا فاحمل السمكة!؛ ووضعها الصبي ومضى.
فقال أبي: نحن أولى من أن نتوكل بالسمكة. فدخلنا المسجد وصلينا جميعا، وخرجنا من المسجد. وإذا السمكة موضوعة على حالها، فحملها، ومضى معنا إلى دارنا. فذكر والدي ذاك لوالدتي، فقالت: يقيم عندنا حتى يأكل معنا. فقلنا له. فقال: إني صائم. قلنا: فتعود إلينا بالعشي؟. فقال: إذا حملت في اليوم مرة، فلا أحمل ثانيا. فأدخل المسجد إلى المساء، ثم أدخل عليكم بالعشي. فلما أمسينا دخل الصبي علينا فأكلنا، فلما فرغنا، دللناه على موضع الطهارة، ورأيناه يؤثر الخلوة، فتركناه في بيت.
وكان لقريب لنا ابنة زمنة، فلما كان في بعض الليل، وإذا بها قد جاءت تمشي!.
فسألناها عن حالها؟. فقالت: قلت:" يا رب! بحرمة ضيفنا إلا ما عافيتني ... فقمت! ".
قال: فمضينا نطلب الصبي؛ فإذا الأبواب مغلقة كما كانت، ولم نجده. فقال أبي: منهم كبير وصغير. «3»
وقال: دخلت المدينة، وبي فاقة، فتقدّمت إلى القبر، وقلت:" ضيفك يا رسول الله!،(8/130)
ثم غفوت، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وقد أعطاني رغيفا، فأكلت نصفه، وانتبهت، وبيدي النصف الآخر" «1» .
وقال: كنت واقفا أنظر إلى غلام نصراني حسن الوجه، فمر بي أبو عبد الله البلخي، فقال: أيش وقوفك؟. فقلت: يا عم! ما ترى؟ هذه الصورة الحسنة تعذّب بالنار؟. فضرب بيده بين كتفي، وقال: لتجدنّ غبّ هذا ولو بعد حين.
قال ابن الجلاء: فوجدت غبّها، وذلك أني نسيت القرآن بعد أربعين سنة! «2» .
وقيل: لما مات أبو عبد الله بن الجلاء، نظروا إليه وهو يضحك، فقال الطبيب: إنه حي!. ثم نظر إلى مجسّته، فقال: إنه ميت!. ثم كشف عن وجهه، فقال: لا أدري أهو ميت أم حي؟!! «3» وكان في داخل جلده عرق على شكل كتابة «الله» . «4»
ومنهم:
32- أبو عبد الله محمّد بن الفضل البلخيّ «13»
أعلقته مصايد الأيام فأفلت أشراكها، ورأى الراحة في تجنب الأيام فطلب إدراكها، فلم(8/131)
يسكن إلى سكن، ولا تقيد بموضع سكن، وكانت الأفلاك له مكان الاستقلال، فجانب الدنيا فلم يرمقها إلا شزرا، ولم يرم منها إلا نزرا، وألقى أثقالها تخفيفا لمحمله، وتخليصا له عند عرض عمله، فخلّصها مما كادها، وخفف عنها مادها، ولم يزل على قدم ما سألها، وحول ديم ما يفارق أوشالها «1» ، إلى أن دعاه الداعي، وأصم به الناعي.
أصله من" بلخ" «2» ، لكنه أخرج منها بسبب المذهب، فرحل إلى سمرقند، واستوطنها، ومات بها سنة تسع عشرة وثلاثمائة. «3»
صحب أحمد بن خضرويه وغيره من المشايخ.
وكان من كبار مشايخ خراسان «4» وجلّتهم، ولم يكن أبو عثمان يميل إلى أحد من المشايخ ميله إليه. وكان يقول: لو وجدت في نفسي قوة لرحلت إلى أخي محمد بن الفضل، فأستروح سري برؤيته. «5»
وكان أبو عثمان يقول: محمد بن الفضل سمسار الرجال. «6»(8/132)
ومن كلامه:" أعرف الناس بالله أشدهم مجاهدة في أوامره، وأتبعهم لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم". «1»
وقال:" العلم حرز، والجهل غرر، والصديق مؤنة، والعدوّ همّ، والصلة بقاء، والقطيعة مصيبة، والصبر قوة، والجرأة عجز، والكذب ضعف، والصدق قوة، والمعرفة صداقة، والعقل تجربة." «2»
وقال:" ست خصال يعرف بها الجاهل: الغضب في غير شيء، والكلام في غير نفع، والعطية في غير موضعها، وإفشاء السر، والثقة بكل أحد، وألا يعرف صديقه من عدوه." «3»
وقال:" خطأ العالم أضرّ من عمد الجاهل". «4»
وقال:" من ذاق حلاوة العلم لا يصبر عنه." «5»
وقال:" من ذاق حلاوة المعاملة أنس بها." «6»
وقال:" من عرف الله تعالى اكتفى به «7» ، بعد قوله تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
«8» .
وقال:" العلوم ثلاثة: علم بالله، وعلم من الله، وعلم مع الله:
فالعلم بالله: معرفة صفاته ونعوته.(8/133)
والعلم من الله: علم الظاهر والباطن، والحلال والحرام، والأمر والنهي في الأحكام.
والعلم مع الله: علم الخوف والرجاء، والمحبة والشوق" «1» .
وقال:" ثمرة الشكر: الحب لله تعالى، والخوف منه" «2» .
وقال:" ذكر اللسان: كفارات ودرجات؛ وذكر القلب: زلف وقربات." «3»
وقال:" من استوى عنده ما دون الله نال المعرفة بالله تعالى" «4» .
وقال:" الفتوة: حفظ السرّ مع الله على الموافقة، وحفظ الظاهر مع الخلق بحسن العشرة، واستعمال الخلق" «5» .
وقال:" الزهد: النظر إلى الدنيا بعين النقص، والإعراض عنها تعزّزا وتظرّفا، فمن استحسن من الدنيا شيئا فقد نبّه على قدرها" «6» .
وقال:" علامة الشقاوة ثلاثة أشياء: يرزق العلم ويحرم العمل، ويرزق العمل ويحرم الإخلاص، ويرزق صحبة الصالحين ولا يحترم لهم" «7» .
وقال:" إيثار الزهّاد عند الاستغناء، وإيثار الفتيان عند الحاجة، قال الله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ
«8» .
وقال:" المحبة: سقوط كل محبة من القلب إلا محبة الحبيب".
وروي أنه لما نفى أهل بلخ محمد بن الفضل من البلد دعا عليهم وقال:" اللهم امنعهم(8/134)
الصدق"، فلم يخرج من بلخ بعده صدّيق «1» .
وقال:" عجبت لمن يقطع البوادي والمفاوز حتى يصل إلى بيته وحرمه، فيرى آثار النبوة، كيف لا يقطع نفسه وهواه، ليصل إلى قلبه فيرى آثار ربه عزّ وجلّ! ".
قال: فمات أربع نفر ممن سمعوا كلامه هذا. «2»
وأنشد في هذا المعنى «3» :
ومن البلاء وللبلاء علامة ... ألا يرى لك عن هواك نزوع
العبد عبد النفس في شهواتها ... والحر يشبع تارة ويجوع
ومنهم:
33- أبو عمرو الدّمشقيّ «13»
أحد مشايخ الشام، بل واحدها.
زاهد كره الدنيا ولجاجها، وضاقت عليه سعة فجاجها. بطل من أبطال الرجال، ورجل يكشف له الحجاب والحجال، صدق في مقاله فأسمع، وسبق في مجاله فلم يكن في اللحاق به مطمع، وكان ذا قدم يقوم عليها الليل، وكرم لا تحمل النجوم منه إلا غثاء السيل، وفضل يعرف منه في لحن القول إذا قال، وفي أثناء الطول وكم استطال، ومدّ معه ذيل الفجر فما طال، إلى تحقيق للتحقيق، وطريق أهل الطريق، وعلم كان منه ناهلا، وعلم أن الله لم يتخذ(8/135)
وليا جاهلا «1» .
صحب أبا عبد الله الجلاء، وأصحاب ذي النون المصري. وهو من أفتى المشايخ. ردّ على من تكلم في تقدّم «2» الأرواح والشواهد.
مات سنة عشرين وثلاثمائة. «3»
قال رضي الله عنه:" كما فرض الله على الأنبياء- عليهم السلام- إظهار الآيات والمعجزات، كذلك فرض على الأولياء كتمان الكرامات، حتى لا يفتتن الخلق بها." «4»
وقال:" خواص خصال العارفين أربعة أشياء: السياسة، والرياضة، والحراسة، والرعاية.
فالسياسة، والرياضة: ظاهران؛ والحراسة، والرعاية: باطنان. فبالسياسة يصل العبد إلى التطهير. وبالرياضة: يصل إلى التحقيق. والسياسة: حفظ النفس، ومعرفتها. والرياضة:
مخالفة النفس ومعاداتها. والحراسة: معاينة برّ الله في الضمائر، والرعاية: مراعاة حقوق المولى بالسرائر.
وميراث السياسة: القيام على الوفاء بالعبودية. وميراث الرياضة: الرضا عند الحكم.
وميراث الحراسة: الصفوة والمشاهدة، وميراث الرعاية: المحبة والهيبة.
ثم الوفاء متصل بالصفاء، والرضا متصل بالمحبة، علمه من علمه، وجهله من جهله." «5»(8/136)
وقال:" التصوف: رؤية الكون بعين النقص، بل غضّ الطرف عن كل ناقص، ليشاهد من هو منزّه عن كل نقص." «1»
وقال:" حقيقة الخوف ألا تخاف مع الله أحدا، والخائف الذي يخاف من نفسه أكثر مما يخاف من الشيطان". «2»
وقال:" الرضا ارتفاع الجزع في أي حكم كان." «3»
ومنهم:
34- أبو عليّ الرّوذباريّ «13»
[ابن شهريار بن مهرذاذاز بن فرغدد بن كسرى] .
وهو من أهل بغداد، أحيا طريقة السلف وأنعشها، وأرعد الفرائص هيبة وأرعشها، وكان يقابل منه ليث عرين، وغيث دنيا ودين، لا يقتحم عليه عاب، ولا يؤمن له رقيب حضر أو غاب، إلى دماثة خلق، وأمانة ذكر له في طرق.
هذا وقد أطرح نفسه لمن يلومها، وتركها على غاية يرومها، فألحف كل طريد فضل(8/137)
ظله، وآوى كل شريد من محل محله، فكان عالا، وكان فوق حمام الصالح جاها ومالا، ولم يعدم مستجير به احتماءه واحتماله.
وهو من أهل بغداد، سكن مصر، وكان شيخها، وبها مات سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة.
صحب الجنيد، والنوري، وأبا حمزة البغدادي، وحسنا المسوحي، ومن في طبقتهم من مشايخ بغداد. وصحب بالشام عبد الله بن الجلّاء.
وكان عالما، فقيها، حافظا للأحاديث، ظريفا، عارفا بالطريقة «1» وكان يفتخر بمشايخه «2» ويقول:" شيخي في التصوف: الجنيد. وفي الفقه: أبو العباس بن سريج «3» وأستاذي في الأدب: ثعلب «4» . وأستاذي في الحديث: إبراهيم الحربي «5» ".
وسئل عن الإشارة؟. فقال:" الإشارة: الإبانة عما يتضمّنه الوجد من المشار إليه، لا(8/138)
غير. وفي الحقيقة، إن الإشارة تصحبها العلل، والعلل بعيدة من عين الحقائق." «1»
وسئل عن التصوف؟. فقال:" هذا مذهب كله جدّ، فلا تخلطوه بشيء من الهزل." «2»
وقال:" لا رضا لمن لا يصبر؛ ولا كمال لمن لا يشكر؛ وبالله وصل العارفون إلى محبته، وشكروه على نعمته." «3»
وقال:" لو تكلم أهل التوحيد بلسان التجريد، ما بقي محبّ إلا مات" «4» .
وسئل عن التوبة؟.
فقال:" الاعتراف، والندم، والإقلاع." «5»
وأنشد لنفسه:
روحي إليك بكلّها قد أجمعت ... لو أن فيك هلاكها ما أقلعت
تبكي إليك بكلّها عن كلّها ... حتى يقال: من البكاء تقطّعت
فانظر إليها نظرة بتعطّف ... فلطالما متّعتها فتمتّعت «6»
وقال:" من رزق ثلاثة أشياء فقد سلم من الآفات: بطن جائع مع قلب قانع، وفقر دائم مع زهد حاضر، وصبر كامل مع قناعة دائمة".
وقال:" اكتساب الدنيا مذلّة للنفوس، وفي اكتساب الآخرة عزّها، فيا عجبا لمن يختار المذلّة في طلب ما يفنى على العزّ في طلب ما يبقى!." «7»(8/139)
وقال:" إذا قال الصوفي بعد خمسة أيام: أنا جائع!، فألزموه السوق، ومروه بالكسب" «1» .
وقال:" كان أربعة في زمانهم:
واحد: لا يقبل من الإخوان ولا من السلطان، وهو: يوسف بن أسباط «2» ؛ ورث سبعين ألف درهم فما أخذ منها شيئا، وكان يعمل الخوص بيده.
والثاني: كان يقبل من الإخوان والسلطان جميعا، وهو: أبو إسحاق الفزاري؛ فكان ما يأخذه من الإخوان ينفقه في المستورين الذين لا يتحركون، والذي يأخذه من السلطان يخرجه إلى أهل طرسوس.
والثالث: كان يقبل من الإخوان، ولا يقبل من السلطان، وهو: عبد الله بن المبارك.
والرابع: كان يقبل من السلطان ولا يأخذ من الإخوان، وهو: مخلد بن الحسين، وكان يقول: السلطان لا يمنّ، والإخوان يمنّون! ".
وقالت فاطمة أخت أبي علي الروذباري:" لما قربت وفاة أخي كانت رأسه في حجري، ففتح عينيه، وقال:" هذه أبواب السماء قد فتحت، وهذه الجنان قد زيّنت، وهذا قائل يقول: يا أبا علي! قد بلّغناك الرتبة القصوى وإن لم تسألها، وأعطيناك درجة الأكابر وإن لم تردها"، ثم أنشأ يقول:
وحقّك لا نظرت إلى سواكا ... بعين مودّة حتى أراكا
أراك معذّبي بفتور لحظ ... وبالخدّ المورّد من جناكا
ثم قال لي:" يا فاطمة! الأول ظاهر، والثاني إشكال" «3»(8/140)
وروي أن جماعة تذاكروا شيئا في القناعة عند أبي بكر الكتاني، وأبو علي الروذباري حاضر، فأنشأ أبو علي يقول:
حدّ القناعة محو الكلّ منك إذا ... لاح المزيد بحدّ عند مطلع
فإن تحقق صفو الودّ مشتملا ... على الإشارات لم يلو على طمع
وقال:" التفكر على أربعة أوجه:
ففكرة في آيات الله تعالى؛ وعلامتها: تولّد المحبة في الله عزّ وجلّ منها.
وفكرة في الوعد بثواب الله تعالى؛ وعلامتها: تولّد الرغبة فيه.
وفكرة في وعيد الله في العذاب؛ وعلامتها: تولّد الهيبة من الله تعالى.
وفكرة في جفاء النفس مع إحسان الله تعالى؛ وعلامتها: تولّد الحياء من الله تعالى. «1» .
وأنشد:
تشاغلتم عني فكلّي أفكر ... لأنكم مني بما بي أخبر
فإن شئتم وصلي فذاك أريده ... وإن شئتم هجري فذلك أوثر
فلست أرى إلا بحال يسرّكم ... بذلك أزهو ما حييت وأفخر
ومنهم:
35- أبو بكر محمّد بن عليّ بن جعفر الكتّانيّ «13»
ملك في زي بشر، وفلك لا ينكر نجومه ذو بصر، فرد رأى الدنيا تشيح عارضها، وتمد(8/141)
بارضها، وسحبها محلولة الخيوط، وبروقها موصولة الخطوط، فخاف أن يصير القطر سيلا، والفجر ليلا، فحلّ بذروة لا يبلغ مرقاها، ولا يصل إليها المقصر إذا انبعث أشقاها، فسلم دينه، وأوتي كتابه بيمينه، وحق له الإعتاب، وغلبه المتاب، وسرّ بعمله وقال: إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ
. «1»
أصله من بغداد. صحب الجنيد، والنوري، وأبا سعيد الخراز. أقام بمكة، وجاور بها إلى أن مات سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة.
وكان أحد الأئمة المشار إليهم في علوم الطريقة. «2»
وكان المرتعش يقول:" الكتاني سراج الحرم." «3»
ومن كلامه:-
" إن لله تعالى ريحا تسمى الصبيحة «4» ، مخزونة تحت العرش، تهبّ عند الأسحار، تحمل الأنين والاستغفار، إلى الملك الجبار". «5»
وقال:" إذا سألت الله التوفيق، فابتديء بالعمل". «6»
وروي: إنه نظر إلى شيخ كبير أبيض الرأس واللحية، يسأل الناس! فقال:" هذا رجل أضاع أمر الله في صغره، فضيّعه الله في كبره". «7»
وقال:" الشهوة زمام الشيطان؛ فمن أخذ بزمامه كان عبده" «8» .(8/142)
وقال:" الغافلون يعيشون في حلم الله، والذاكرون يعيشون في رحمة الله، والصادقون يعيشون في قرب الله" «1» .
وقال:" من حكم المريد أن يكون فيه ثلاثة أشياء: نومه غلبة؛ وأكله فاقة؛ وكلامه ضرورة." «2»
وقال:" لولا أن ذكره فرض عليّ ما ذكرته، إجلالا له؛ مثلي يذكره ولم يغسل فاه بألف توبة متقبلة عند ذكره؟!." «3»
وأنشد- في المعنى-:
ما إن ذكرتك إلا همّ يغلبني ... قلبي وسرّي وروحي عند ذكراكا
حتى كأن رقيبا منك يهتف بي: ... إياك! ويحك والتذكار! إياكا! «4»
وقال:" كنت في طريق، في وسط السنة، فإذا أنا بهميان «5» ملآن يلمع دنانير، فهممت أن أحمله لأفرّقه بمكة على الفقراء، فهتف بي هاتف: إن أخذته سلبناك فقرك!.
قال: فتركته" «6» .
وقال: رأيت في الشام شابا لم أر أحسن منه، قلت: من أنت؟ قال: أنا التقوى. قلت:
فأين تسكن؟. قال: في كل قلب حزين!.
قال: ثم التفت فإذا امرأة سوداء، كأوحش ما يكون!. فقلت: من أنت؟. فقالت:
الضحك!. قلت: فأين تسكنين؟. قالت: في كل قلب فرح مرح.(8/143)
قال: فانتبهت، واعتقدت أن لا أضحك إلا غلبة.
وقال:" العبادة اثنان وسبعون بابا؛ أحد وسبعون منها في الحياء، وواحد في أنواع البر." «1»
وقال:" وجدنا دين الله مبنيا على ثلاثة أركان: الحق، والعدل، والصدق. فالحق على الجوارح، والعدل على القلوب، والصدق على العقول".
وحكى عن نفسه أنه بقي عشرة أيام لم يأكل شيئا، فشكا إلى بعض إخوانه الجوع.
قال: ثم مررت ببعض الأزقّة، فنظرت إلى درهم مطروح، عليه مكتوب: أما كان الله تعالى بجوعك عالما حتى قلت: إني جائع؟.
ومنهم:
36- أبو إسحاق إبراهيم بن داود القصّار الرقّيّ «13»
من كبار مشايخ الشام. «2»
قنع بقليل المعاش، ومات فقيل: عاش، ولم يرد من الدنيا رياشا، ولم يرد سكنا منها ولا رشاشا، فحمل على النفس ضيمها، وترك لأهوائها تقشعها وغيمها، فلم يمدّ إليها يدا، ولا عدّ فيها أصدقاء ولا عدا، وكان يقطع الأيام مراحل، ويقذف بحر الليل ليقف على الساحل، يطلب بعنته طلاب الصائد، ويجعل تحت كل بر شركا للمصايد، فلم يقبل معتذرا، ولا يقبل إلا حذرا.
وكان من أقران الجنيد، وابن الجلاء، إلا أنه عمّر طويلا، وصحبه أكثر مشايخ الشام، وكان لازما للفقر، مجرّدا فيه، محبّا لأهله. «3»(8/144)
ومات سنة ست وعشرين وثلاثمائة.
ومن كلامه:" قيمة كل إنسان بقدر همّته، فإن كانت همّته الدنيا فلا قيمة له، وإن كانت همته رضاء الله تعالى فلا يمكن استدراك غاية قيمته ولا الوقوف عليها." «1»
وقيل له:" هل يبدي المحبّ حبّه؟ أو هل ينطق به؟، أو يطيق كتمانه؟. فأنشأ يقول متمثلا:
ظفرتم بكتمان اللسان فمن لكم ... بكتمان عين دمعها- الدهر- يذر
حملتم جبال الحب فوقي وإنني ... لأعجز عن حمل القميص وأضعف «2»
وقال:" الراضي لا يسأل. وليس من شرط الرضا المبالغة في الدعاء." «3»
وقال:" حسبك من الدنيا شيئان: صحبة فقير، وحرمة ولي." «4»
وقال:" من اكتفى بغير الكافي افتقر من حيث استغنى." «5»
وقال:" كفايات الفقراء هي التوكل، وكفايات الأغنياء الاستناد إلى الأملاك." «6»
وقال:" من تعزز بشيء غير الله فقد ذلّ في عزّه." «7»
وقال:" الأولياء مرتبطون بالكرامات والدرجات، والأنبياء مكشوف لهم عن حقائق الحق؛ فالكرامات والدرجات عندهم وحشة." «8»(8/145)
وقال:" الأنبياء ينبسطون على بساط الأنس، والأولياء على درجات الكرامة." «1»
وقال إبراهيم بن المواز: دخلت يوما على إبراهيم القصار، فقال: ادع لي فلانا القوّال- صبيا كان بالرّقّة- فدعوته له، فقال له: أعد الأبيات التي كنت تغنيها بالأمس، فأخذ الصبي يغني:
إذا كنت تجفوني وأنت ذخيرتي ... وموضع شكواي فما أنا صانع؟
نهاري نهار الناس حتى إذا بدا ... لي الليل هزّتني إليك المضاجع
وأمضي نهاري بالحديث وبالمنى ... ويجمعني والليل والهمّ جامع
قال: فأخذ الشيخ يبكي ويصيح، ويقول: وا شوقاه ... ! إلى من هذا وصفه، وإلى زمان كشف لنا عن بوادي هذه الأحوال.
ومنهم:
37- أبو بكر الشّبليّ «13»
واسمه: دلف بن جحدر. وقيل: ابن جعفر. وقيل: جعفر بن يونس.
رجل كانت به الأيام هزّة «2» ، وللأنام عزّة، وللدنيا نضارة، وللنعمى غضارة، وسم الليالي وهي بهيمة، ونسم على رياض الدنو وهي نسيمة، فحلّ بها حيث لا يدنو المحال، فجاب السماء(8/146)
وعيّوقها «1» ، وجاز زرع السنبلة وسوقها، وكان ملكا في زي بشر، وواحدا إلا أنه ثاني النجم وثالث الشمس والقمر، فلما فقد عزّ عزاؤه، ووقد ضرام الأحشا وقلّ جزاؤه، فذهب بالأجور، ومضى وكل الناس فيه مأجور، ولم نر منذ زمان أكثر من يوم موته باكيا، وباقيا لو فدي باليا.
أصله: من أسروشنة «2» . ومولده: سرّ من رأى.
وقيل: إنه خراساني الأصل، بغدادي المولد والمنشأ «3» .
تاب في مجلس خير النسّاج. وصحب أبا القاسم الجنيد، ومن في عصره من المشايخ، وصار أوحد الوقت علما، وحالا، وظرفا «4» .
وكان فقيها، عالما، على مذهب مالك، وكتب الحديث الكثير [ورواه] . «5»
وعاش سبعة وثمانين سنة، ومات في ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، ودفن بمقبرة الخيزران ببغداد. «6»
وروي أنه لما تاب في مجلس خير النساج أتى نهاوند، وقال: كنت والي بلدكم، فاجعلوني في حلّ «7» ! ..(8/147)
ومجاهداته في بدايته فوق الحد، ومن جملة ذلك: أنه اكتحل بكذا كذا ملح ليعتاد السهر، ولا يأخذه النوم «1» . قال: فلما زاد الأمر حمّيت الميل فاكتحلت به.
وقال الشبلي:" اطّلع الحقّ عليّ فقال:" من نام غفل، ومن غفل حجب". وأنشد:
عجبا للمحبّ كيف ينام ... كل نوم على المحبّ حرام
وقيل له: متى يكون الرجل مريدا؟. فقال:" إذا استوت حالته في السفر والحضر، والمشهد والمغيب." «2»
وقال عبد الله بن محمد الدمشقي:" كنت واقفا يوما على حلقة الشبلي، فجعل يبكي ولا يتكلم؛ فقال رجل: يا أبا بكر! ما هذا البكاء كله؟!.
فأنشأ يقول:
إذا عاتبته، أو عاتبوه ... شكا فعلي، وعدّد سيئاتي
أيا من دهره غضب وسخط ... أما أحسنت يوما في حياتي؟! «3»
وقال بعض أصحابه:" رأيت الشبلي في المنام، فقلت له: يا أبا بكر! من أسعد أصحابك بصحبتك؟. فقال: أعظمهم لحرمات الله، وألهجهم بذكر الله، وأقومهم بحق الله، وأسرعهم مبادرة في مرضاة الله، وأعرفهم بنقصانه، وأكثرهم تعظيما لما عظّم الله من حرمة عباده." «4»
وقال له رجل: ادع لي. فأنشأ يقول:
مضى زمن والناس يستشفعون بي ... فهل لي إلى ليلى الغداة شفيع «5»(8/148)
وروي أن الجنيد قال له يوما: لو رددت أمرك إلى الله لاسترحت.
فقال الشبلي:" يا أبا القاسم! لو رد الله تعالى أمرك إليك لاسترحت".
فقال الجنيد:" سيوف الشبلي تقطر دما." «1»
وقال:" سهو طرفة عين عن الله تعالى- لأهل المعرفة- شرك بالله تعالى." «2»
وقال الشبلي:" ليس من احتجب بالخلق عن الحق كمن احتجب بالحق عن الخلق.
وليس من جذبته أنوار قدسه إلى أنسه، كمن جذبته أنوار رحمته إلى مغفرته". «3»
وكان يقول في مناجاته:" أحبّك الخلق لنعمائك، وأنا أحبك لبلائك". «4»
وقال عبد الله بن محمد الدمشقي:" كنت واقفا على حلقة الشبلي، في جامع المدينة، فوقف سائل على حلقته، وجعل يقول: يا الله، يا جواد!، فتأوه الشبلي وصاح، وقال:
كيف يمكنني أن أصف الحق بالجود؟، ومخلوق يقول في شكله:
تعود بسط الكف حتى لو انه ... ثناها لقبض لم تجبه أنامله
تراك- إذا ما جئته- متهللا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله
ولو لم يكن في كفه غير روحه ... لجاد بها فليتّق الله سائله
هو البحر من أي النواحي أتيته ... فلجّته المعروف والجود ساحله
ثم بكى، وقال: بلى!! يا جواد!. فإنك أوجدت تلك الجوارح، وبسطت تلك الهمم، ثم مننت- بعد ذلك- على أقوام بعزّ الاستغناء عنهم، وعما في أيديهم بك؛ فإنك الجواد كلّ الجواد، لأنهم يعطون عن محدود، وعطاؤك لا حدّ له ولا صفة. فيا جواد يعلو كلّ جواد، وبه جاد كلّ من جاد." «5»(8/149)
وقال بعضهم: كنا يوما في بيت الشبلي، فأخّر العصر، ونظر إلى الشمس، وقد تدلّت للغروب، فقال: الصلاة! يا سادتي!. وقام فصلى، ثم أنشأ يقول ملاعبة، وهو يضحك: ما أحسن قول من قال:
نسيت اليوم- من عشقي- صلاتي ... فلا أدري عشائي من غدائي
فذكرك- سيدي- أكلي وشربي ... ووجهك إن رأيت شفاء دائي «1»
وقال له رجل: إلى ماذا تستريح قلوب المشتاقين؟. قال: إلى سرور من اشتاقوا إليه، وموافقته".
وأنشد:
أسرّ بمهلكي فيه، لأني ... أسرّ بما يسرّ الإلف جدّا
ولو سئلت عظامي عن بلاها ... لأنكرت البلى، وسمعت جحدا
ولو أخرجت من سقمي لنادى ... لهيب الشوق بي يسأله ردّا «2»
وقال عبد الله البصري: سئل الشبلي، وأنا حاضر: إلى ماذا تحنّ قلوب أهل المعارف؟.
فقال:" إلى بدايات ما جرى لهم في الغيب، من حسن العناية في الحضرة بغيبتهم عنها".
وأنشأ يقول:
سقيا لمعهدك الذي لو لم يكن ... ما كان قلبي للصبابة معهدا «3»
وقيل للشبلي: لم تصفرّ الشمس عند الغروب؟.
فقال:" لأنها عزلت عن مكان التمام، فاصفرّت لخوف المقام، وهكذا المؤمن إذا قارب خروجه من الدنيا اصفرّ لونه، لأنه يخاف المقام، فإذا طلعت الشمس، طلعت مضيئة،(8/150)
وكذلك المؤمن إذا بعث من قبره خرج ووجهه يشرق".
وقال:" أليس الله تعالى يقول: (أنا جليس من ذكرني) «1» ؟. فما الذي استفدتم من مجالسة الحق؟ ". وأنشد:
ذكرتك لا أني نسيتك لمحة ... وأيسر ما في الذكر ذكر لساني
وكنت بلا وجد أموت من الهوى ... وهام عليّ القلب بالخفقان
فلما أراني الوجد أنك حاضري ... شهدتك موجودا بكل مكان
فخاطبت موجودا بغير تكلّم ... ولا حظت معلوما بغير عيان «2»
وقال:" أدنى علامات الفقير: لو كانت الدنيا بأسرها لواحد فأنفقها في يوم واحد، ثم خطر بباله أن يمسك منها قوت يوم، ما صدق في فقره! ".
وقال أبو علي المغازلي: ربما يطرق سمعي آية من كتاب الله تعالى فتحدوني على ترك الأشياء، والإعراض عن الدنيا، ثم أرجع إلى أحوالي وإلى الناس، [ثم لا أبقى على هذا ولا على هذا، وأرجع إلى الوطن الأول مما كنت عليه من سماعي القرآن]
فقال الشبلي:" ما [طرق سمعك من القرآن] «3» فاجتذبك الله إليه فهو عطف منه عليك(8/151)
ولطف، وما رددت على نفسك فهو شفقة منه عليك، لأنه لم يصح لك التبري عن الحول والقوة في التوجه إليه". «1»
وقال أحمد بن مقاتل: كنت مع الشبلي في مسجد ليلة من رمضان، وهو يصلي خلف الإمام، فقرأ الإمام: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ
«2» فزعق زعقة، قلت:
طارت روحه، وهو يرتعد، ويقول:" بمثل هذا خاطب الأحباب" يردد ذلك كثيرا.
وروي أنه سمع قائلا يقول:" الخيار عشرة بدانق" فصاح وقال: إذا كان الخيار كل عشرة بدانق، فكيف الشرار؟!. «3»
وسمع القوّال يقول شيئا، فصاح، وتواجد، فقيل له: يا أبا بكر! مالك من بين الجماعة؟. فقام وتواجد، وقال:
لي سكرتان وللندمان واحدة ... شيء خصصت به من بينهم وحدي «4»
وحكي أن فقيها من أكابر الفقهاء يكنى بأبي عمران، كانت حلقته بجنب حلقة الشبلي في جامع المنصور، وكان كلام الشبلي يعطل على ابن عمران وأصحابه كلامهم، فسأله أصحابه يوما عن مسألة في الحيض، وقصدوا إخجاله؟. فأجاب الشبلي عنها، وذكر مقالات الناس في تلك المسألة، والخلاف فيها. فقام أبو عمران وقبّل رأسه، وقال: يا أبا بكر! قد استفدت في هذه المسألة عشر مقالات لم أسمعها، وكان عندي من جملة ما قلت ثلاث أقاويل! «5»
وقال إبراهيم الحداد:" كنت يوما عند الشبلي جالسا وقد انصرف أكثر الناس عنه،(8/152)
وبقي حوله جماعة، فسألوه أن يدعو؟.
فسكت ساعة ثم قال:" اللهم اضربهم بسياط الخوف، واقتلهم بأزمّة الشوق، وافنهم عن مؤالفات الرسوم، وأغنهم عن ملاحظات الفهوم. اغفر لهم إن انصرفوا عنك، ووفقهم إن أقبلوا عليك، خرّب منازل فنائهم، واعمر منازل بقائهم، وكن لهم كما لم تزل، اشغل اللهم الكل بمفارقة الكل".
ثم أنشأ يقول:
الناس كلهم بالعيد قد فرحوا ... وما فرحت به، والواحد الصمد
لما تثبتّ أني لا أعاتبكم ... غضضت طرفي فلم أنظر إلى أحد «1»
ثم قال:" إلهي طموح الآمال قد خابت إلا لديك، وعكوف الهمم قد تعطّلت إلا عليك، ومذاهب المعارف قد قصرت إلا إليك".
وكان ابن بشار نهى الناس عن الذهاب إلى الشبلي والاستماع من كلامه، فلقيه يوما، فجعل الشبلي يكلمه، وابن بشار يقول: كم من خمس من الإبل؟!. فلما أكثر، قال له الشبلي: في واجب الشرع شاة، وفيما يلزمنا: كلّها. فقال ابن بشار: لك بهذا القول إمام؟.
قال: نعم، أبو بكر الصديق رضي الله عنه، حيث أخرج ماله كله، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلّفت لعيالك؟. قال: الله ورسوله. فذهب ابن بشار ولم ينه عن مجلسه بعد ذلك.
وسئل الشبلي عن قوله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ
«2» ؟.
فقال:" أبصار الرءوس: عما حرّم الله. وأبصار القلوب: عما سوى الله عزّ وجلّ «3» ".
وقال الشبلي:" كنت يوما جالسا فجرى بخاطري أني بخيل، فقلت: أنا بخيل!.(8/153)
فقاومني خاطري، وقال: بلى! إنك بخيل!. فقلت:" مهما فتح علي اليوم، لأدفعنه إلى أول فقير يلقاني! ".
قال: فبينا أنا أتفكر إذ دخل عليّ صاحب لمؤنس الخادم «1» ، ومعه خمسون دينارا، فقال: اجعل هذه في مصالحك. فأخذتها وخرجت. وإذا بفقير مكفوف بين يدي مزين، يحلق رأسه، فتقدّمت إليه، وناولته الصرة، فقال لي: أعطها للمزين. فقلت:" إنها دنانير! " فقال:" أو ليس قد قلنا إنك بخيل؟! ". فناولتها للمزيّن، فقال:" من عادتنا أن الفقير إذا جلس بين أيدينا لا نأخذ منه أجرا! ". قال: فرميتها في دجلة، وقلت:" ما أعزّك أحد إلا أذلّه الله".
وقال أبو محمد الحريري: مكثت عند الشبلي الليلة التي مات فيها، فكان ينشد طول ليلته هذه الأبيات «2» :
كل بيت أنت ساكنه ... غير محتاج إلى السرج
وجهك المأمول حجتنا ... يوم يأتي الناس بالحجج
لا أتاح الله لي فرجا ... يوم أدعو منك بالفرج «3»
ورآه بعض الصالحين بعد موته، فقال:" ما فعل الله بك؟ ".
فقال:" لم يطالبني بالبراهين على الدعاوي إلا على شيء واحد، وذاك أني قلت يوما: لا خسارة أعظم من خسارة الجنة ودخول النار. فقال لي:" وأي خسارة أعظم من خسران لقائي؟ ".
ورآه آخر في النوم فقال:" ما فعل الله بك؟ ".
فقال:" ناقشني حتى أيست، فلما رأى إياسي تغمّدني برحمته".(8/154)
ومنهم:
38- أبو بكر الدّقّيّ «13»
وهو: محمد بن داود الدينوري.
أشرق كالصباح مبهجا، وطرق الفلاح منهجا، فلم يبعد به الوصول، ولم يعد إلا مخضب حكم وتصرف، وحتم على من تعزّز وتشرف، هذا والخوف ملأ جوانحه، وملك جوارحه، ليلة أودعها حتى خلى كل لياليه خالية الترائب، وكل أيامه من ذهب سنابل ولجين ذائب، إذ ترك ذلك زهدا للأيام، وكرما يبخل به اللئام.
أقام بالشام، وكان من أقران أبي علي الروذباري، إلا أنه عمّر زيادة على مائة سنة. «1»
صحب أبا عبد الله بن الجلاء، وأبا بكر الزقّاق الكبير «2» ، وأبا بكر المصري «3» ، غير أنه كان ينتمي إلى ابن الجلاء. وكان من أجلّ مشايخ وقته، وأقدمهم صحبة للمشايخ. توفي بعد الخمسين وثلاثمائة. «4»(8/155)
سئل عن الفرق بين الفقر والتصوف؟.
فقال:" الفقر حال من أحوال التصوف." «1»
فقيل له: ما علامة الصوفي؟.
فقال:" أن يكون مشغولا بكل ما هو أولى به من غيره، ويكون معصوما عن المذمومات." «2»
وقال:" علامة القرب: الانقطاع عن كل شيء سوى الله تعالى." «3»
وقال:" من عرف ربه لم ينقطع رجاؤه. ومن عرف نفسه لم يعجب بعمله، ومن عرف الله لجأ إليه. ومن نسي الله لجأ إلى المخلوقين، والمؤمن لا يسهو حتى يغفل، فإذا تفكر حزن واستغفر" «4» .
وقال:" كنت بالبادية، فوافيت قبيلة من قبائل العرب، فأضافني رجل منهم، فرأيت غلاما أسود، مقيدا هناك، ورأيت جمالا ماتت بفناء البيت.
فقال الغلام:" أنت الليلة ضيف، وأنت على مولاي كريم، فتشفّع لي!، فإنه لا يردّك! ". فقلت لصاحب البيت:" لا آكل حتى تحلّ هذا العبد".
فقال:" هذا الغلام قد أفقرني، وأتلف مالي! ".
فقلت:" ما فعل! ".
فقال:" له صوت طيب، وكنت أعيش من ظهر هذه الجمال، فحمّلها أحمالا ثقيلة، وحدا لها، حتى قطعت مسيرة ثلاثة أيام في يوم، فلما حطّ عنها ماتت كلها! ". ولكن قد وهبته لك. وأمر بالغلام فحلّ عنه القيد.(8/156)
فلما أصبحنا أحببت أن أسمع صوته، فسألته عن ذلك؟ فأمر الغلام أن يحدو على جمل كان على بئر هناك، يسقى عليه، فحدا، فهام الجمل على وجهه، وقطع حباله، ولا أظن أني سمعت صوتا أطيب منه، ووقعت لوجهي حتى أشار عليه بالسكوت" «1» .
وأنشدوا في هذا المعنى:
إن كنت تنكر إن للأصوات فائدة ونفعا
فانظر إلى الإبل اللوات ... هنّ أغلظ منك طبعا
تصغي إلى حدو الحدا ... ة فتقطع الفلوات قطعا «2»
وقال:" خرجت إلى مصر، فلما دخلتها قلت: أسلّم على الدقاق، فقصدته وسلّمت عليه، فقال:
من أين جئت يا أبا بكر!؟. قلت: من أيلة. فقال: إلى الرملة؟. قلت: لا يا سيدي إلى القلزم، وإليكم.
فقال:" جزت ذلك الطريق، خذ مني حكاية: أقمت فيه ثمانية عشر يوما تائها ما وجدت فيه شيئا أرتفق به، فلما كان بعد المدة، إذا أنا بسلطان قد ولي مصر يريد أيلة، فرأوا شخصي من بعيد، فأرسلوا فارسا يحملني إليه، فلما رأيت جمالا ورفقة طمعت نفسي، فلما تبينت أنهم جند أيست أن لي فيهم فرجا.
قال الشيخ: وما شيء من الطاعات لله تعالى إلا وهذا اليأس في هذا الوقت أحسن منه.
فقال الوالي:" هذا رجل تائه، قدموا إليه السفرة".
فقلت:" ليس إلى ذلك سبيل".
فقال: ويحك أنت على حال التلف!.
فقلت:" إن بيعتنا مع الله تعالى بمحل هذا لا نرضى رحلكم في المدن، ولا لكم نرضاه! وذلك أن العلم يلزمنا، ولو كنا في شدة.(8/157)
ففقه الأمير عني ما قلت؛ فبكى. وقال: سألتك بالله إلا ما شربت الماء فإنه من النيل، فناولني دلوه، فشربت منها شربة، وبقيت عليها إلى مصر! ".
رحمه الله تعالى.
ومنهم:
39- أبو عمرو إسماعيل بن نجيد بن أحمد بن يوسف بن سالم ابن خالد السّلميّ «13»
سحاب عمّت به الرحمة، وعظمت به في الصدور الحرمة، ردّ على الشيطان غروره، وردى بالحرمان إفكه وزوره، وطالما أراد اختلاسه فتستر له بأذيال النسيان، وكان أن يجري منه مجرى الدم من الإنسان، إلا أنه سكّن سورته وقمعها، وسكّت أسرته وقلعها، فخاب لديه، وخار ولم يصل إليه.
صحب أبا عثمان الحيري «1» ، وكان من كبار أصحابه؛ ولقي الجنيد.
وكان من أكبر مشايخ وقته، له طريقة ينفرد بها: من تلبيس الحال، وصون الوقت. وهو آخر من مات من أصحاب أبي عثمان، في سنة ست وستين وثلاثمائة. «2»(8/158)
وسمع الحديث ورواه، وكان ثقة.
ومن كلامه:
" كل حال لا يكون عن نتيجة علم؛ فإن ضرره على صاحبه أكثر من نفعه." «1»
وقال:" المتوكل الذي يرضى بحكم الله فيه". «2»
وقال:" من أراد أن يعرف قدر معرفته بالله تعالى، فلينظر قدر هيبته له، وقت خدمته له." «3»
وقيل له:" ما الذي لا بد للعبد منه؟.
فقال: ملازمة العبودية على السنة، ودوام المراقبة." «4»
وقال:" إذا أراد الله بعبد خيرا، رزقه خدمة الصالحين والأخيار، ووفقه لقبول ما يشيرون به عليه، وسهّل عليه سبل الخير، وحجبه عن رؤيتها" «5» .
وقال عبد الواحد بن علي السيّاريّ «6» : قلت له آخر ما فارقته:" أوصني!.
فقال لي:" إلزم مواجب العلم؛ واحترم لجميع المسلمين؛ ولا تضيّع أيامك، فإنها أعزّ شيء لك؛" ولا تتصدّر ما أمكنك؛ وكن خاملا فيما بين الناس؛ فبقدر ما تتعرف إليهم، وتشتغل بهم، تضيّع حظك من أوامر ربك" «7» .(8/159)
وقال:" من أظهر محاسنه لمن لا يملك ضرّه ولا نفعه، فقد أظهر جهله" «1» .
وقال:" من استقام لا يعوجّ به أحد، ومن اعوجّ لا يستقيم به أحد" «2» .
وقال:" آفة العبد رضاه من نفسه بما هو فيه." «3»
وقيل:" اجتمع أبو عمرو، وابن نجيد، والنصراباذي، والطائفة، في موضع فقال النصراباذي:
أنا أقول: إذا اجتمع القوم، فواحد يقول شيئا، ويسكت الباقون، خير من أن يغتابوا.
فقال أبو عمرو:" لأن تغتاب ثلاثين سنة، أنجى لك من أن تظهر في السماع ما لست به". رحمه الله تعالى.
ومنهم:
40- أبو القاسم إبراهيم بن محمّد النّصراباذيّ «13»
شيخ خراسان في وقته.
لا يفيض صدره الحفائظ، ولا يقدح أحشاءه المغايظ، علم زهد، وعلم حقيقة، أحلى من الشّهد، نفض الرقاد عن جفنيه، وكحّل بالسّهاد ملء عينيه، تصور الدنيا قعاب، وتصوب كوكب الدنايا في أفقه فغاب، حتى دعاه داعي الحمام، فأسرع البدار، وطلع كالقمر ليلة الإبدار، ففرّ إلى الفردوس من وراء الجدار، وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ
. «4»(8/160)
صحب أبا بكر الشبلي، وأبا علي الرّوذباري، وأبا محمد المرتعش، وغيرهم من المشايخ. وكان أوحد المشايخ في زمانه علما وحالا «1» .
وأقام بنيسابور، ثم خرج في آخر عمره إلى مكة، وحجّ سنة ست وستين وثلاثمائة، وأقام بالحرم مجاورا، ومات سنة سبع وستين وثلاثمائة «2» .
وكتب الحديث الكثير، ورواه، وكان ثقة.
ومن كلامه:
" إذا بدا لك شيء من بوادي الحق، فلا تلتفت- معه- إلى جنة ولا إلى نار، ولا تخطرهما ببالك؛ وإذا رجعت عن ذلك الحال فعظّم ما عظّمه الله تعالى" «3» .
وقال:" أهل المحبة واقفون مع الحق على مقام، إن تقدّموا غرقوا، وإن تأخّروا حجبوا" «4» .
وقال:" من لزم التقوى اشتاق إلى مفارقة الدنيا، لأن الله تعالى قال: وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ
. «5»
وقال:" الزاهد غريب في الدنيا، والعارف غريب في الآخرة".
وقال:" الحق غيور، ومن غيرته أنه لم يجعل إليه طريقا سواه".
وقال:" قيمة الزاهد بمعبوده، كما أن قيمة العارف بمعروفه".
وسئل عن المحبة؟.(8/161)
فقال:" محبة توجب سفك الدماء، ومحبة توجب حقن الدماء".
ثم قال:" المحبة: مجانبة السلوّ على كل حال".
وأنشد:
ومن كان في طول الهوى ذاق سلوة ... فإني من ليلى لها غير ذائق
وأكثر شيء نلته من وصالها ... أمانيّ لم تصدق، كلمحة بارق «1»
ومنهم:
41- أبو الحسن عليّ بن إبراهيم الحصريّ «13»
وحيد أيّ وحيد، وفريد في شريعة وتوحيد، لا يقرن إلا بالجنيد، ولا يقرب إلا من داود ذي الأيد «2» ، وكان مالكا للظنون، وسالكا حذاء المنون، حتى سما به كوكبه فتعالى، وزاحم منكبه النجم ثم احتذاه نعالا، والجدّ دأبه والجد يحفظ اجتذابه، والعمل ديدنه والعلم لا يفنى منه معدنه، حتى أجاب للمقدار، ونقل من دار إلى دار، ثم وجد ما قدّم وجد، وودّ لو كان تقدم.
وكان شيخ العراق ولسانها في وقته، لم ير في زمانه من المشايخ أتمّ حالا منه، ولا أحسن لسانا ولا أعلى كلاما. متوحّدا في طريقته، ظريفا في شمائله وحاله، له لسان في التوحيد يختص به، ومقام في التجريد والتفريد لم يشاركه فيه أحد بعده «3» .(8/162)
وهو أستاذ العراقيين، وبه تأدّب من تأدّب منهم.
صحب [أبا بكر] الشبلي، وإليه كان ينتمي، وصحب غيره من المشايخ أيضا «1» . وهو بصري الأصل.
سكن بغداد، ومات بها يوم الجمعة، في ذي الحجة، سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة «2» .
وقال:" أصولنا في التوحيد خمسة أشياء: رفع الحديث، وإفراد القدم، وهجر الإخوان، ومفارقة الأوطان، ونسيان ما علم وجهل".
وقال أبو الحسين الزنجاني: كثيرا ما كنت أسمع الحصري ببغداد يقول:" عرّضوا ولا تصرّحوا، فإن التعريض أستر".
وينشد:
وأعرض إذا ما جئت- عنا بحيلة ... وعرّض ببعض إن ذلك أستر
فما زلت في إعمال طرفك نحونا ... ولحظك حتى كاد ما بك يظهر
ومنهم:
42- أبو عبد الله محمد بن خفيف بن إسفكشاذ «3» الضّبّيّ «13»(8/163)
قمر جلا السدف «1» ، وجلّ أن يقاس إلا بالسلف، لم يجلس في محفل إلا خلته كوكبا في المجامع يأتلق، ونشر صبا بالمسامع يعتلق، وكان حيث حضر تحل له الحبى «2» ، ويحل أعالي الربى، إلى أن نزل باليباب، ووسد بين أترابه، وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ
«3» .
أصله من إسفكشاذ، وأقام بشيراز. وكان شيخ المشايخ، وأوحدهم في وقته. عالما بعلوم الظاهر، وعلوم الحقائق، حسن الأحوال، في المقالات والأفعال، جميل الأخلاق والأعمال «4» .
مات سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة «5» .
ومن كلامه:
" لما خلق الله الملائكة والجنّ والإنس، خلق العصمة والكفاية والحيلة: فقال للملائكة:
اختاروا. فاختاروا العصمة.
ثم قال للجن: اختاروا. فاختاروا العصمة. فقال: قد سبقتم. فاختاروا الكفاية.
ثم قال للإنس: اختاروا. فقالوا: نختار العصمة. فقال: قد سبقتم. فقالوا: نختار الكفاية. فقال: قد سبقتم. فأخذوا الحيلة. فبنو آدم يحتالون بجهدهم." «6»
وقال:" الخوف اضطراب القلوب بما علمت من سطوة المعبود." «7»(8/164)
وقال:" الرياضة: كسر النفوس بالخدمة، ومنعها عن الفترة." «1»
وقال:" التقوى: مجانبة ما يبعدك عن الله تعالى". «2»
وقال:" ليس شيء أضرّ بالمريد من مسامحته النفس في ركوب الرخص، وقبول التأويلات." «3»
وقال:" الدّنف: من احترق في الأشجان، ومنع من بث الشكوى." «4»
وقال:" الزهد: سلوّ القلب عن الأسباب، ونفض الأيدي عن الأملاك". وحقيقة الزهد:
التبرم بالدنيا، ووجود الراحة في الخروج منها." «5»
و [قال] :" القناعة: الاكتفاء بالبلغة. وحقيقة القناعة: ترك التشوق إلى المفقود، والاستغناء عن الموجود" «6» .
وقال:" الشوق: ارتياح القلوب بالوجد، ومحبة اللقاء للقرب".
وقال:" رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وهو يقول:" من عرف طريقا إلى الله فسلكه ثم رجع عنه عذّبه الله تعالى عذابا لم يعذّب به أحدا من العالمين." «7»
وقال:" المشاهدة: اطّلاع القلوب بصفاء اليقين إلى ما أخبر الله تعالى عنه من الغيوب" «8»
وقال:" الرجاء: ارتياح القلوب إلى كرم الموجود." «9»(8/165)
ومنهم:
43- ابن سمعون «1» : محمّد بن أحمد بن إسماعيل بن عنبس «13»
أبو الحسين البغدادي الواعظ.
واحد ردّ به العدو، ورجي به الهدوّ، وردّت به النوائب شبحا في حلوقها، وسحبا لما تدعيه من باطل حقوقها، وكانت محرجة به صدور برحائها، محرقة بلهبه صدور روائها، رامها فقصف النّصال على النّصال، وقصد الرماح ودعم بها الآصال، حتى طال بها الأمن ودام، وطب فحل الليل عن الشفق الفدام، بتوجه يتقهقر له الجيش المطل، ويقهر أسد الخميس المدل، ويظهر أن الله لا يحارب له ولي، ولا يغالب له قدر له سيل تحدّر من علي.
وقنع مدة بالعيش الزهيد، وعمل ليوم يأتي كل نفس معها سائق وشهيد، وكان أمة قانتا، ونعمة لم تدع فائتا، فأجزلت له المواهب، وسهلت له العطايا من أصعب المذاهب، فرفع على الرءوس مقاما، وسمع منه ما داوى للنفوس داء عقاما، ثم كان إلى أن مات من الحلال يكتسب، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ
«2»(8/166)
قال السلمي: هو من مشايخ بغداد، له لسان عال في هذه العلوم، لا ينتمي إلى أستاذ، وهو لسان الوقت، والمرجوع إليه في آداب المعاملات، ويرجع إلى فنون من العلم.»
وقال أبو محمد السني- صاحب ابن سمعون-:" كان ابن سمعون في أول أمره ينسخ بالأجرة، وينفق على نفسه وأمه، فقال لها يوما: أحبّ أن أحجّ. قالت: وكيف يمكنك؟.
فغلب عليها النوم، فنامت وانتبهت بعد ساعة، وقالت: يا ولدي! حجّ. رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم يقول:" دعيه يحج، فإن الخير له في حجه". ففرح وباع دفاتره، ودفع إليها من ثمنها، وخرج مع الوفد، فأخذت العرب الوفد، قال: فبقيت عريانا، ووجدت مع رجل عباءة، فقلت: هبها لي أشتريها، فأعطانيها، قال: فجعلت إذا غلبني الجوع، ووجدت قوما من الحاج يأكلون، وقفت أنظر إليهم، فيدفعون إلى كسرة فأقتنع بها، وأحرمت في العباءة، ورجعت إلى بغداد، وكان الخليفة قد حرّم جارية وأراد إخراجها من الدار.
قال أبو محمد السني: فقال الخليفة: اطلبوا رجلا مستورا يصلح [أن تزوج هذه الجارية به] «2» ؛ فقال بعضهم: قد جاء ابن سمعون من الحج. فاستصوب الخليفة قوله، فزوّجه بها.
فكان ابن سمعون يجلس على الكرسي، فيعظ ويقول:" خرجت حاجّا، ويشرح حاله، وها أنا اليوم عليّ من الثياب ما ترون" «3» .
قال البرقاني:" قلت له يوما: تدعو الناس إلى الزهد، وتلبس أحسن الثياب!، وتأكل أطيب الطعام، فكيف هذا؟!.
فقال:" كلّ ما يصلحك لله فافعله، إذا صلح حالك مع الله." «4»
" ولما دخل عضد الدولة بغداد، وقد هلك أهلها، قتلا وخوفا وجوعا، للفتن التي اتصلت(8/167)
فيها بين الشيعة والسنة، فقال: آفة هؤلاء: القصّاص. فنادى: لا يقصّ أحد في الجامع، ولا الطرق، ولا يتوسّل بأحد من الصحابة. ومن أحب التوسل قرأ القرآن، فمن خالف فقد أباح دمه.
فوقع في الخبر: أن ابن سمعون جلس على كرسيه بجامع المنصور.
قال أبو الثناء العضدي: فأمرني أن أطلبه؛ فأحضر. فدخل عليّ رجل له هيبة وعليه نور. فلم أملك أن قمت إليه، وأجلسته إلى جنبي، فجلس غير مكترث، فقلت: إن هذا الملك جبار عظيم، وما أوثر لك مخالفة أمره، وإني موصلك إليه، فقبّل الأرض وتلطّف له، واستعن بالله عليه.
فقال: الخلق والأمر لله. فمضيت به إلى حجرة، وقد جلس فيها وحده، فأوقفته، ثم دخلت لأستأذن، فإذا هو إلى جانبي قد حوّل وجهه إلى نحو دار فخر الدولة، ثم استفتح وقرأ: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ
. «1»
قال: ثم حوّل وجهه، وقرأ: ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ
. «2»
[ثم أخذ في وعظه] «3» ؛ فأتى بالعجب؛ فدمعت «4» عين الملك، وما رأيت ذلك منه قط، وترك كمّه على وجهه.
فلما خرج أبو الحسين- رحمه الله تعالى- قال الملك: اذهب إليه بثلاثة آلاف درهم، وعشرة أثواب من الخزانة، فإن امتنع فقل له: فرّقها في أصحابك، وإن قبلها، فجئني برأسه، ففعلت، فقال: إن ثيابي هذه من نحو أربعين سنة، ألبسها يوم خروجي إلى الناس، وأطويها(8/168)
عند رجوعي، وفيها متعة وبقيّة ما بقيت، ونفقتي من أجرة دار خلّفها أبي، فما أصنع بهذا؟.
فقلت: فرّقها على أصحابك.
فقال: ما في أصحابي فقير.
فعدت فأخبرته. فقال: الحمد لله الذي سلّمه منا، وسلّمنا منه «1» .
وسئل ابن سمعون عن التصوف؟.
فقال:" أما الاسم: فترك الدنيا وأهلها، وأما حقيقة التصوف: فنسيان الدنيا، ونسيان أهلها". «2»
وقال ابن سمعون في قوله تعالى: وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً
«3» ، قال:" مواعيد الأحبة- وإن اختلفت- فإنها تؤنس". كنا صبيانا ندور على الشطّ ونقول:
ما طليني وسوّفي ... وعديني ولا تفي
واتركيني مولّها ... أو تجودي وتعطفي «4»
وذكر ابن سمعون أنه أتى بيت المقدس ومعه تمر، فطالبته نفسه برطب، فلامها، فعمد إلى التمر وقت إفطاره فوجده رطبا، فلم يأكل منه وتركه، فلما كان ثاني ليلة وجده تمرا «5»
وقال أبو الفتح القوّاس: لحقتني ضائقة، فأخذت قوسا وخفّين، وعزمت على بيعهما، فقلت: أحضر مجلس ابن سمعون، ثم أبيعهما، فحضرت، فلما فرغ ناداني: يا أبا الفتح!(8/169)
لا تبع الخفّين والقوس، فإن الله سيأتيك برزق". أو كما قال «1» .
وقال أبو طاهر العلاف: حضرت أبا الحسين يوما وهو يعظ، وأبو الفتح القوّاس إلى جنب الكرسي، فنعس، فأمسك أبو الحسين عن الكلام ساعة، ثم استيقظ أبو الفتح، ورفع رأسه، فقال له أبو الحسين:" رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومك؟. قال: نعم. فقال:
لذلك أمسكت خوفا من أن تنزعج." «2»
وحكى مولى الطائع لله: أن الطائع أمره فأحضر ابن سمعون، فرأيت الطائع غضبانا، وكان ذا حدّة، فأحضرت ابن سمعون، فأذن له الطائع في الدخول، فدخل وسلّم بالخلافة، ثم أخذ في وعظه، فقال:
" روي عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه"، ثم روى عن أمير المؤمنين وترضّى عنه، ووعظ حتى بكى الطائع، وسمع شهيقه، وابتلّ منديل من دموعه، فلما انصرف، سألت عن سبب طلبه؟.
فقال: رفع إليّ أنه ينتقص عليا رضي الله عنه، فأردت أقابله، فلما حضر افتتح بذكر علي، والصلاة عليه، وأعاد وأبدى في ذكره، فعلمت أنه وفّق، ولعلّه كوشف بذلك" «3» .
توفي رضي الله عنه سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، في ذي القعدة «4» .(8/170)
وولد سنة ثلاثمائة. وسمعون: هو جده إسماعيل.
قال أبو بكر الخطيب: كان بعض شيوخنا إذا حدّثنا عنه قال:" حدّثنا الشيخ الجليل المنطّق بالحكمة." «1»
سمع أبا بكر بن أبي داود «2» ، ومحمد بن مخلد العطار، وأبا جعفر بن البختري «3» .
وبدمشق: أحمد بن سليمان بن زبّان، ومحمد بن محمد بن أبي حذيفة، وجماعة، وأملى عنهم.
وروى عنه: أبو عبد الرحمن السلمي، وعلي بن طلحة المقرئ، والحسن بن محمد الخلال، وأبو طالب العشاري، [وأبو الحسين بن الآبنوسي] ، وخديجة بنت محمد الشاهجانيّة الواعظة، [وأبو بكر أحمد بن محمد بن حمّدوه الحنبلي] ، وغيرهم «4» .
وكان أوحد دهره، وفرد عصره في الكلام، على علم الخواطر والإشارات، ولسان الوعظ، دوّن الناس حكمه، وجمعوا كلامه. رحمه الله تعالى.(8/171)
ومنهم:
44- أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة ابن محمد القشيريّ «13»
الفقيه، الشافعي.
كان ليومه من أمسه آخذا، وبلومه من نفسه مؤاخذا، فكان لا يزال دمعه ينهمل، ومدمعه محمرّا، كأن إماقه جرح لا يندمل، لم تستمله الأغصان وقد مالت قدودها، ولا أمالت ليلى قلبه وقد طال صدودها، فلم يشك جفا ودود، حتى فاء إلى صديد ودود.
وإنما يعرف أكثر أحوال القوم من" رسالته" «1» ، ويعترف الفضّل «2» بقدمه وبسالته، وهو معدود من أهل سيادتهم، وذوي حظوتهم في الدارين وسعادتهم.(8/172)
وكان علّامة في الفقه والتفسير، والحديث، والأصول، والأدب، والشعر، والكتابة، وعلم التصوف، وجمع بين الشريعة والحقيقة.
وأصله من ناحية" أستوا" «1» ، من العرب الذين قدموا خراسان.
توفي أبوه وهو صغير، وقرأ الأدب في صباه، وكانت له ضيعة مثقلة الخراج بنواحي" أستوا"، فرأى من الرأي أن يحضر إلى نيسابور، يتعلم طرفا من" الاستيفاء" ويحمي الضيعة من الخراج، فحضر نيسابور على هذا العزم، فاتفق حضوره مجلس الشيخ أبي عليّ الحسين بن علي النيسابوري المعروف ب" الدقاق"- وكان إمام وقته- فلما سمع كلامه أعجبه، ووقع في قلبه، فرجع عن ذلك العزم، وسلك طريق الإرادة، فقبله الدقاق، وأقبل عليه، وتفرّس فيه النجابة، فجذبه بهمّته، وأشار عليه بالاشتغال بالعلم، فخرج إلى درس أبي بكر محمد بن أبي بكر الطوسي، وشرع في الفقه حتى فرغ من تعليقه.
ثم اختلف إلى الأستاذ أبي إسحاق الأسفراييني، وقعد يسمع درسه أياما، فقال الأستاذ: هذا العلم لا يحصل بالسماع، ولا بدّ من الضبط بالكتابة، فأعاد عليه جميع ما سمعه تلك الأيام، فعجب منه، وعرف محلّه فأكرمه، وقال له: ما تحتاج إلى درس بل يكفيك أن تطّلع على مصنفاتي «2» . فقعد وجمع بين طريقته، وطريقة ابن فورك «3» . ثم نظر في كتب القاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني «4» ، وهو مع ذلك يحضر مجلس أبي علي الدقاق. وزوّجه ابنته، مع كثرة أقاربها.(8/173)
وبعد وفاة أبي علي، سلك مسلك المجاهدة والتجريد، وأخذ في التصنيف، فصنف:" التفسير الكبير" قبل سنة عشر وأربعمائة، وسمّاه:" التيسير في علم التفسير"، وهو من أجود التفاسير. وصنّف:" الرسالة" في رجال الطريقة «1» .
وخرج إلى الحج في رفقة فيها الشيخ أبو محمد الجويني «2» ، وأحمد بن حسين البيهقي «3» ، وجماعة من المشاهير؛ فسمع منهم الحديث ببغداد والحجاز.
وكان له في الفروسية واستعمال السلاح يد بيضاء «4» .
وأما مجالس الوعظ والتذكير فهو إمامها، عقد لنفسه مجلس الإملاء في الحديث سنة سبع وثلاثين وأربعمائة، وحدّث ببغداد، وكتبنا عنه «5» ، وكان ثقة، وكان يقص، وكان حسن الموعظة، مليح الإشارة، وكان يعرف الأصول «6» على مذهب الأشعري، والفروع على مذهب الشافعي.
وذكره أبو الحسن الباخرزي في" دمية القصر" «7» وقال: لو قرع الصخر بسوط «8» تحذيره لذاب، ولو ربط «9» إبليس في مجلسه لتاب.(8/174)
وقال أبو عبد الله محمد بن الفضل الفراوي: أنشدنا عبد الكريم بن هوازن القشيري لنفسه:
سقى الله وقتا كنت أخلو بوجهكم ... وثغر الهوى في روضة الأنس ضاحك
أقمنا زمانا والعيون قريرة ... وأصبحت يوما والجفون سوافك «1»
ومن شعره أيضا:
إذا ساعدتك الحال فارقب زوالها ... فما هي إلا مثل حلبة أشطر
وإن قصدتك الحادثات ببوسها ... فوسّع لها ذرع التجلّد واصبر
وكان أبو القاسم كثيرا ما ينشد لبعضهم، وهو: ذو القرنين بن حمدان
لو كنت ساعة بيننا ما بيننا ... وشهدت كيف نكرّر التوديعا
أيقنت أن من الدموع محدّثا ... وعلمت أن من الحديث دموعا «2»
ولد في ربيع الأول سنة ست وسبعين وثلاثمائة.
وتوفي صبيحة يوم الأحد السادس عشر شهر ربيع الآخر، سنة: خمس وستين وأربعمائة، بمدينة نيسابور.
ودفن بالمدرسة تحت شيخه أبي علي الدقاق.
وكان له فرس أهدي إليه، فركبه نحو عشرين سنة، فلما مات الشيخ، لم يأكل الفرس شيئا، ومات بعد أسبوع «3» .(8/175)
ومنهم:
45- أبو الفتوح أحمد بن محمّد بن محمّد بن أحمد الطّوسيّ الغزاليّ «13»
مجد الدين، أخو الإمام الغزالي، الفقيه الشافعي.
رشد لضلّال، ورفد لحلّال، سرت غواديه فظلت، وسرت أياديه فحلّت، وكان يتخلل بالمواعظ، ويتوصّل إلى ما لم يبلغه كلم واعظ، فملأ أوعية القلوب تذكارا، وترك أودية الخواطر لها أو كارا، ولم يزل زينة العصر، وحلية الأيام أيام النضر، يقوم مقام الجيوش الخضارم، ويرد الأعداء وما طليت بالدماء ظباه الصوارم.
قال ابن خلّكان:" كان واعظا مليح الوعظ، حسن المنظر، صاحب كرامات وإشارات، وكان من الفقهاء، غير أنه مال إلى الوعظ فغلب عليه، ودرّس بالمدرسة النظامية نيابة عن أخيه أبي حامد لما ترك التدريس زهادة فيه، واختصر كتاب أخيه أبي حامد المسمى ب:" إحياء علوم الدين"، في مجلد واحد، وسمّاه:" لباب الإحياء"، وله تصنيف آخر سماه:" الذخيرة في علم البصيرة" «1» . وطاف البلاد، وخدم الصوفية بنفسه، وكان مائلا إلى الانقطاع والعزلة.(8/176)
وذكره ابن النجّار في" تاريخ بغداد" فقال: كان قد قرأ القارئ بحضرته: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ
الآية «1» ، فقال: شرّفهم بياء الإضافة، إلى نفسه بقوله:" يا عبادي! "، ثم أنشد يقول:-
وهان عليّ اللوم في جنب حبّها ... وقول الأعادي: إنه لخليع
أصمّ إذا نوديت باسمي، وإنني ... إذا قيل لي: يا عبدها!، لسميع
قال ابن خلّكان: ومثل هذا قول بعضهم:-
لا تدعني إلا بيا عبدها ... فإنه أشرف أسمائي «2»
وحكي: أنه اجتمع هو وأخوه أبو حامد ليلة، فأذّن مؤذن العشاء، فتقدم الشيخ أبو حامد فصلّى إماما، وصلّى الشيخ أحمد خلفه، فمرّ بخاطر أبي حامد وهو واقف يصلي مسائل في الحيض في كتاب كان يصنفه، فلما أتمّ الصلاة، قام الشيخ أحمد يعيد صلاته!، فقيل له في ذلك؟.
فقال: كيف أصلي خلف رجل منغمس في دم الحيض إلى شحمة أذنيه؟. فسمع قوله أخوه أبو حامد، فقال: صدق والله أخي، لقد مرّ بخاطري- وأنا قائم أصلي- مسائل في الحيض، واستغرقت في ذلك.
قلت: وليس هذا بمبطل لصلاته حتى يحتاج إلى إعادتها، ولكنه تورّع عن خطرات الخواطر «3» . وتوفي رحمه الله تعالى بقزوين «4» ؛ سنة عشرين وخمسمائة.(8/177)
ومنهم:
46- يوسف بن أيّوب بن يوسف بن الحسين بن وهرة، أبو يعقوب الهمذاني «13»
الفقيه، الزاهد، ذو الكرامات، ليس يجحدها البهوت، ومقامات ليس يشهدها السكوت، بفم كأنما طبع عليه بخاتم، وكرم طمع لديه حاتم، وصلاح كان شقيق شقيق إخاء، وقرين القرني إذا هبّ رخاء. له أمور تغني عن الإيضاح، وأسرار مثل الشمس في الإيضاح، فانتهى إليه السؤدد، وإلى رواق العلياء أنه على غيره لم يمدد، لتفرّده في مانه، وورده الروي من إيمانه.
قال أبو سعد السمعاني: يوسف بن أيوب الهمذاني: من قرية" بوزنجرد": قرية من قرى همذان، مما يلي الري «1» . الإمام الورع التقي، المتنسّك، العامل بعلمه، والقائم بحقه، صاحب الأحوال والمقامات الجليلة، وإليه انتهت تربية المريدين الصادقين، واجتمع برباطه بمدينة مرو جماعة من المنقطعين إلى الله تعالى، ما لا يتصور أن يكون في غيره من الرّبط مثلهم.
وكان من صغره إلى كبره على طريقة مرضية، وسداد واستقامة، خرج من قريته إلى بغداد، وقصد الإمام أبا إسحاق الشيرازي، وتفقّه عليه، ولازمه مدة حتى برع في الفقه، وفاق أقرانه خصوصا في علم النظر.(8/178)
وكان الشيرازي يقدمه على جماعة كثيرة من أصحابه، مع صغر سنه، لعلمه بزهده، وحسن سيرته، واشتغاله بما يعنيه.
ثم ترك كل ما كان فيه من المناظرة وخلا بنفسه، واشتغل بما هو الأهم من عبادة الله تعالى، ودعوة الخلق إليها، وإرشاد الأصحاب إلى الطريق المستقيم «1» .
نزل مرو وسكنها، وخرج إلى هراة وأقام بها مدة، ثم سئل الرجوع إلى مرو في آخر عمره، وخرج منها متوجها إلى هراة ثانيا، وعزم إلى الرجوع إلى مرو في آخر عمره، وخرج منها متوجها إلى مرو، فأدركته منيته ب:" ياميين" بين" هراة" و" بغشور" «2» ، في شهر ربيع الأول، سنة خمس وثلاثين وخمسمائة، ودفن، ثم نقل بعد ذلك إلى مرو «3» .
وقال غير السمعاني: قدم يوسف الهمذاني بغداد في سنة خمس عشرة وخمسمائة، وحدّث بها، وعقد بها مجلس الوعظ بالمدرسة النظامية، وصادف بها قبولا عظيما من الناس.
قال أبو الفضل صافي بن عبد الله الصوفي الشيخ الصالح: حضرت مجلس شيخنا يوسف الهمذاني في النّظاميّة، وكان قد اجتمع العالم، فقام فقيه يعرف بابن السقاء، وآذاه، وسأله عن مسألة؟، فقال له الإمام يوسف:" اجلس فإني أجد من كلامك رائحة الكفر! ". ولعلك تموت على غير دين الإسلام!.
قال أبو الفضل: فاتفق أنه بعد هذا القول بمدة، قدم رسول نصراني من ملك الروم إلى الخليفة، فمضى إليه ابن السقاء وسأله أن يستصحبه، وقال له: يقع لي أن أترك دين الإسلام(8/179)
وأدخل في دينكم!. فقبله النصراني، وخرج معه إلى القسطنطينية، والتحق بملك الروم، وتنصّر ومات على النصرانية، والعياذ بالله تعالى من الضلال «1» .
وقال ابن النجار في ترجمة يوسف المذكور:
" سمعت أبا الكرم عبد السلام بن أحمد المقرئ يقول: كان ابن السقاء قارئا للقرآن الكريم، مجوّدا لتلاوته، حدثني من رآه بالقسطنطينية ملقى على دكة مريضا، وبيده خلق مروحة يدفع بها الذباب عن وجهه. قال فسألته: هل القرآن باق على حفظك؟.
فقال: ما أذكر منه إلا آية واحدة: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ
«2» ، والباقي أنسيته! «3» .
نعوذ بالله من سوء القضاء، وزوال نعمته، وحلول نقمته، ونسأله الثبات [على دين الإسلام] ، والعصمة، آمين «4» .
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا «5» .(8/180)
ومنهم:
47- عديّ بن مسافر بن إسماعيل بن موسى بن مروان بن الحسن ابن مروان الهكّاريّ «13»
من ولد معاوية بن أبي سفيان «1» .
ولي لله عرف أيامه من أمسها، وقدم له يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها، قصر جناح النسر عن تدويمه، وقصر طماح الطرف دون تحويمه، وخالف الأماني في مرادها، وخلف وراءه وكبد الآمال مرادها، فما ألهاه من الدنيا غرورها، ولا ازدهاه حزنها ولا سرورها، وشكته الأيام إذ كان من أدوائها، وجفته إذ لم يكن من أودائها، ثم جاءت إليه بالجميل منقادة، وانقادت له بالرعيل ومن قاده، وله في آل حرب نسب سالمته القبائل، وحاكمته فلم يقض لها معه بطائل، هذا إلى كرم بدين، وفضل كان يراه على ذمته كالدين، وكان فيه أمل، وله عمل ما عليه مزيد إلا أن طائفته غلوا فيه فغووا، ونووا فيه نية فغووا، وغلب عليهم الهوى فأضلهم، ودلاهم المغرور ودلّهم، ولكل معزّ مذلّ، ومن يهد الله فما له من مضل.(8/181)
وسار ذكره في الآفاق، وتبعه خلق كثير، وهم" الطائفة العدويّة"، وجاوز حسن اعتقادهم فيه الحدّ، حتى جعلوه قبلتهم التي يصلّون إليها، وذخيرتهم في الآخرة التي يعوّلون عليها.
وكان قد صحب جماعة كثيرة من أعيان المشايخ، والصلحاء المشاهير، مثل عقيل المنبجي، وحماد الدباس، وأبي النجيب عبد القاهر السهروردي، وعبد القادر الجيلي، وأبي الوفاء الحلواني.
ثم انقطع إلى جبل الهكّاريّة، من أعمال الموصل، وبنى له هناك زاوية، ومال إليه أهل تلك النواحي كلها ميلا لم يسمع لأرباب الزوايا مثله.
قلت: وقد هاجر زين الدين ابن أخي الشيخ إلى البلاد، فأكرمت ملوكنا مقدمه، وأمر إمرة كثيرة، وانقطع في قرية تعرف ببيت فار «1» . وكان بها، وكان منغمسا في النعم والملاذ، يعيش عيش الملوك من اقتناء الغلمان والجواري والملابس، وتمد لديه أسمطة ملوكية.
وحكي أن بعض نساء القياصرة كانت مغراة بالشيخ زين الدين، مطنبة في تعظيمه، متغالية في الاعتقاد لصلاحه، وأنفقت عليه أموالا جليلة، وكانت غير مصغية إلى عذول يعذلها في حبه، وخواصّها يلومونها على تبذير أموالها، ويذكرون لها ما كان يتعاطاه من الأمور القبيحة، ولا يزداد إلا غيا وتماديا، فتوصلوا إلى أن حملوها في قفة، وأشرفوا بها عليه وهو عاكف على المنكرات، فما زادها ذلك إلا ضلالا، وقالت: أنتم تنكرون هذا عليه، إنما الشيخ يتدلل على ربه!، وضاعفت له الإنفاق، ولم تمسك خشية الإملاق.
وحكى لي شيخنا شهاب الدين أبو الثناء محمود الحلبي الكاتب رحمه الله تعالى، قال:
بعثت مع الأمير الكبير علم الدين سنجر الدواداري «2» ، ليحلفه في أول الدولة الأشرفية؛(8/182)
فأتيناه وهو في قريته، مثل الملك في قلعته، للتجمل الظاهر، والحشمة الزائدة، والفرش الأطلس، وآنية الذهب والفضة، والعصار الصيني، وأشياء تفوت العد، إلى غير ذلك من الأشربة المختلفة الألوان، والأطعمة المنوعة فلما دخلنا عليه لم يحتفل بنا، وأتاه الأمير علم الدين، فقبل يده، وهو جالس لم يقم، فبقي الدواداري قائما قدامه يحدثه، وزين الدين يسأله، لا هو يجلس، ولا زين الدين يقول له اجلس، ثم أمره بالجلوس فجلس على ركبتيه متأدبا بين يديه، ثم أنعم علينا بجملة طائلة تقارب خمسة عشر ألف درهم.
قلت: وقد كان يحلف منهم الشيخ عز الدين أميرا، وأمّر، وبقي مدة أميرا بدمشق، ثم بصفد، ثم بدمشق، ثم ترك الإمارة، وآثر الانقطاع، وأقام بالمزة، وكانت الأكراد تأتيه من كل قطر بصفايا أموالها، تقربا إليه، ومنهم على ما حكى من كان يجلس بين يديه.
ثم إنه أراد الخروج على السلطان وتبعه طوائف الأكراد من كل بلد، وباعوا أموالهم بالهوان، واشتروا الخيل والسلاح، وآلات الحرب، ووعد رجالا ممن تبعه بالنيابات الكبار، ونزل بأرض اللجون، وأتى السلطان خبرهم، وأنهم على هذا لم يؤذوا أحدا في نفس ولا مال، وإنما يبيعون أموالهم بالرخص، ويشترون الخيل والسلاح بالغالي، فأمر تنكز نائب الشام بكشف أخبارهم، وقصّ آثارهم، وأمسك السلطان من كان بالزاوية العدوية بالقرافة.
واختلفت الأخبار؛ فقيل: إنهم يريدون سلطنة مصر، وقيل: بل كانوا يريدون ملك اليمن، وقلق السلطان لأمرهم، وأهمه، إلى أن أمسك تنكز نائب الشام عز الدين المذكور، وأودع الاعتقال، حتى مات، وفرق الأكراد، ولو لم يتدارك لأوشك أن يكون لهم نوبة.
ومولد الشيخ عدي بقرية يقال لها" بيت فار" من أعمال بعلبك، والبيت الذي ولد فيه يزار إلى الآن «1» .
وتوفي سنة سبع، وقيل: سنة خمس وخمسين وخمسمائة «2» ، في بلده بالهكارية،(8/183)
ودفن بزاويته، وقبره عندهم من المزارات المعدودة، والمشاهد المقصودة، وحفدته إلى الآن يقيمون إمارة، والناس معهم على ما كانوا عليه زمن الشيخ من جميل الاعتقاد، وتعظيم الحرمة.
وكان مظفر الدين صاحب إربل يقول: رأيت الشيخ عدي بن مسافر، وأنا صغير بالموصل، وهو شيخ ربع، أسمر اللون، وكان يحكي عنه صلاحا كثيرا. وعاش تسعين سنة رحمه الله تعالى «1» .
ومنهم:
48- أحمد المعروف بابن الرفاعي «2» أبو العباس بن أبي الحسن عليّ بن أحمد بن يحيى بن حازم بن عليّ بن رفاعة «13»
عرف حقه الأنام، وألفت فضله الأيام، أيّ رجل، وأيّ بطل، مثله في الخواطر لم يجل، طالما اهتز في يديه كلّ أخضر، وأهزله رداء ألقى المهابة في قلوب الحضّر، وكان لو من(8/184)
السحاب لم يعبأ بنواله، واستقر له استقرار الجبل لا يعن بزواله، وجاء في عصر مشعشع بالأولياء، وزمان مترعرع بمواليد الأتقياء، وكان دونهم مدلى اللهب، ومواطئ أقدام طائفته منها على أرض من الذهب، ورأوا النار بردا وسلاما فاقتحموها، وخاصموا ألسنتها وألجموها، إلى نهش الأفاعي وقد لفح سمومها، ونفح كالشرار سمومها، يأكلونها أكلا لمّا، ويحبونها حبا جمّا.
هذا وشأن أشياعه حجب العنا، وطل العنا، وغير هذا مما ابتدعوه، وابتدوه، ونسبوه إليه وشنعوه، مما لم يكن عليه، ولا يمكن أن ينسب إليه.
كان- رضي الله عنه- رجلا صالحا، فقيها، شافعي المذهب.
قدم أبوه العراق، وسكن البطائح «1» بقرية يقال لها:" أم عبيدة"- بفتح العين-، فتزوج بأخت الشيخ منصور الزاهد، ورزق منها الشيخ أحمد، وإخوته.
وكان أبو الحسن مقرئا يؤمّ بالشيخ منصور، فمات وزوجته حامل بالشيخ أحمد، فربّاه خاله منصور، فقيل: إنه ولد في أول المحرم سنة خمسمائة «2» .
ونشأ أحسن نشأة، وانضم إليه خلق عظيم من الفقراء، وأحسنوا الاعتقاد فيه وتبعوه.
والطائفة المعروفة بالرفاعية، والبطائحية من الفقراء منسوبة إليه.
ولأتباعه أحوال عجيبة، من أكل الحيّات وهي حيّة، والنزول في التنانير وهي تتضرم بالنار فيطفئونها، ويقال: إنهم في بلادهم يركبون الأسود، ومثل هذا وأشباهه، ولهم مواسم يجتمع عندهم من الفقراء عالم لا يعدّ، ولا يحصى، ويقومون بكفاية الكل.(8/185)
ولم يكن له عقب، وإنما العقب لأخيه، وأولاده يتوارثون المشيخة والولاية على تلك الناحية إلى الآن، وأمورهم مشهورة. «1»
وله شعر، فمنه على ما قيل:-
إذا جنّ ليلي هام قلبي بذكركم ... أنوح كما ناح الحمام المطوّق
وفوقي سحاب يمطر الهمّ والأسى ... وتحتي بحار بالأسى تتدفق
سلوا أمّ عمرو كيف بات أسيرها ... تفكّ الأسارى دونه وهو موثق"
" فلا هو مقتول، ففي القتل راحة ... ولا هو ممنون عليه فيطلق" «2»
قيل: إنه أقسم على أصحابه: إن كان فيه عيب ينبهونه عليه.
فقال الشيخ عمر الفاروثي «3» : يا سيدي! أنا أعلم فيك عيبا!.
قال: ما هو؟.
قال: يا سيدي! عيبك أننا من أصحابك.
فبكى الشيخ والفقراء، وقال: أي عمر! إن سلم المركب حمل من فيه.
قيل: إن هرة نامت على كمّ الشيخ أحمد، وقامت الصلاة، فقصّ كمّه، ولم يزعجها، ثم قعد فوصله، وقال: ما تغير شيء!.
وقيل: توضأ، فنزلت بعوضة على يده، فوقف لها حتى طارت.(8/186)
وعنه قال: أقرب الطرق الانكسار، والذلّ، والافتقار، تعظّم أمر الله، وتشفق على خلق الله، وتقتدي بسنة سيدك رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» .
وقيل: كان يجمع الحطب، ويجيء به إلى بيوت الأرامل، ويملأ لهم الجرة.
قيل له: أيش أنت يا سيدي؟.
فبكى فقال: أي فقير!، ومن أنا في البين، ثبّت نسب واطلب ميراث.
وقال: لما اجتمع القوم وطلب كلّ واحد شيء «2» ، دارت النوبة إلى هذا اللاشيء أحمد!.
وقيل: أي أحمد! اطلب. قلت: أي ربّ! علمك محيط بطلبي، فكرر عليّ القول، قلت: أي مولاي! أريد أن لا أريد، وأختار أن لا يكون لي اختيار. فأجابني، وصار الأمر له وعليه.
وقيل: إنه رأى فقيرا يقتل قملة، فقال: لا واخذك الله، شفيت غيظك؟!.
وعنه أنه قال: لو أن عن يميني خمسمائة «3» يروّحوني بمراوح الندّ والطيب، وهم من أقرب الناس إليّ، وعن يساري مثلهم من أبغض الناس إلي، معهم مقاريض يقرضون بها لحمي، ما زاد هؤلاء عندي، ولا نقص هؤلاء عندي بما فعلوه، ثم قرأ: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ
. «4»
وقيل: أتي إليه بطبق تمر، فبقي ينقي لنفسه الحشف يأكله، ويقول:" أنا أحقّ بالدون من غيري، فإني مثله دون"!.(8/187)
وكان- رضي الله عنه- لا يجمع بين لبس قميصين لا في شتاء، ولا في صيف، ولا يأكل إلا بعد يومين أو ثلاثة أكلة، وإذا غسل ثوبه ينزل في الشطّ كما هو قائم يفركه، ثم يقف في الشمس حتى ينشف.
وإذا ورد عليه ضيف، يدور على بيوت أصحابه يجمع الطعام في مئزر.
وقال:" الفقير المتمكّن إذا سأل حاجة، وقضيت له، نقص من تمكنه درجة." «1»
وتوفي رضي الله عنه، يوم الخميس ثاني عشر جمادى الأولى سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، بأم عبيدة، وهو في عشر السبعين.
وكان لا يقوم للرؤساء، ويقول: النظر إلى وجوههم يقسي القلب".
ومنهم:
49- الشّيخ عبد القادر بن أبي صالح عبد الله «2» بن جنكي دوست «3» الجيلي الحنبلي «13»
علم الأولياء، محيي الدين، سيد طائفة كانوا بالنهار لا يفترون، وبالأسحار هم(8/188)
يستغفرون، طلع من هاشم بن عبد مناف في الذوائب، وكرع منه في غدير لم يرفق بالشوائب، وكان من الشرف في شامخ قلاله، وراسخ النسب العلوي في كرم خلاله، وكان له مجلس يوالي فيه الانتحاب، ويحرك فيه الأصحاب، وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ
«1» فما برح اجتهاده محدودا، وجهاده يقول: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً
. «2»
وكان مخلصا دون أشكاله، ومخلصا توكل على الله حق اتكاله، على أنه من بقية قوم يرجعون كانوا قليلا من الليل ما يهجعون، وصلوا الليالي بالأسحار، وركبوا ثبج الفيافي وقفار البحار، فحمدوا ما كانوا يعملون، وعلى ربهم كانوا يتوكلون.
مولده بجيلان «3» ، سنة إحدى وسبعين وأربعمائة. وقدم بغداد شابا، فتفقه على أبي سعيد المخرّمي «4» . وسمع الحديث من جماعة، وحدّث عن طائفة من الكبار.
قال السمعاني:" كان عبد القادر من أهل جيلان إمام الحنابلة، وشيخهم في عصره.
فقيه صالح، ديّن خيّر، كثير الذكر، دائم الفكر، سريع الدمعة. تفقّه على المخرّمي، وصحب الشيخ حمّادا الدباس.
قال: وكان يسكن بباب الأزج في مدرسة بنيت له، مضينا لزيارته، فخرج وقعد بين أصحابه، وختموا القرآن، فألقى درسا ما فهمت منه شيئا، وأعجب من ذا أن أصحابه قاموا وأعادوا الدرس، فلعلّهم فهموا، لإلفهم بكلامه وعبارته. «5»
وقال ابن الجوزي:" كان أبو سعد المخرّمي قد بنى مدرسة لطيفة بباب الأزج، ففوّضت إلى عبد القادر، فتكلم على الناس بلسان الوعظ، وظهر له صيت بالزهد، وكان له سمت(8/189)
وصمت، وضاقت المدرسة بالناس، فكان يجلس عند سور بغداد مستندا إلى الرباط، ويتوب عنده في المجلس خلق كثير، فعمّرت المدرسة، ووسّعت، وتعصّب في ذلك العوام، وأقام فيها يدرّس ويعظ إلى أن توفي. «1»
وقال الشيخ أبو بكر العماد- رحمه الله تعالى-: كنت قرأت في أصول الدين، فأوقع عندي شكا، فقلت: حتى أمضي إلى مجلس الشيخ عبد القادر، فقد ذكر أنه يتكلم على الخواطر، فمضيت وهو يتكلم، فقال: اعتقادنا اعتقاد السلف الصالح والصحابة. فقلت في نفسي: هذا قاله اتفاقا. فتكلم ثم التفت إلى ناحيتي، فأعاده، فقلت: الواعظ قد يلتفت!.
فالتفت إليّ ثالثة، وقال: يا أبا بكر!، فأعاد القول، ثم قال: قم قد جاء أبوك، وكان غائبا، فقمت مبادرا، وإذا أبي قد جاء «2» .
وقال أبو البقاء النحوي: حضرت مجلس الشيخ عبد القادر، فقرؤوا بين يديه بالألحان، فقلت في نفسي: ترى لأي شيء ما ينكر الشيخ هذا؟.
فقال: يجيء واحد قد قرأ أبوابا من الفقه ينكر!.
فقلت في نفسي: لعل أنه قصد غيري. فقال: إياك نعني بالقول، فتبت في نفسي من اعتراضي، فقال: قد قبل الله توبتك «3» .
وقال السهروردي: عزمت على الاشتغال بأصول الدين، فقلت في نفسي: أستشير الشيخ عبد القادر؛ فأتيته، فقال قبل أن أنطق: يا عمر!، ما هو من عدّة القبر، يا عمر! ما هو من عدّة القبر!! «4» .(8/190)
وقال الشيخ عبد القادر: طالبتني نفسي يوما بشهوة، فكنت أضاجرها، وأدخل في درب، وأخرج من آخر أطلب الصحراء، فرأيت رقعة ملقاة، فإذا فيها: ما للأقوياء والشهوات؟!، وإنما خلقت الشهوات للضعفاء. فخرجت الشهوة من قلبي.
قال: وكنت أقتات بخرّوب الشوك، وورق الخس، من جانب النهر «1» .
وحكى ابن النجار عن الشيخ عبد القادر قال:" بلغت بي الضائقة في الغلاء إلى أن بقيت أياما لا آكل طعاما، بل أتبع المنبوذات، فخرجت يوما إلى الشط، فوجدت قد سبقني الفقراء، فضعفت، وعجزت عن التماسك، فدخلت مسجدا، وقعدت، وكدت أصافح الموت، ودخل شاب أعجميّ ومعه خبز وشواء، فرآني، فقال: بسم الله، فأبيت، فأقسم علي، فأكلت مقصرا، وأخذ يسألني، ما شغلك؟ ومن أين أنت؟. فقلت: متفقّه من جيلان، قال: وأنا من جيلان، فهل تعرف لي شابا جيلانيا اسمه عبد القادر يعرف بسبط أبي عبد الله الزاهد؟.
فقلت: أنا هو!. فاضطرب لذلك، وتغير وجهه، وقال: والله يا أخي، لقد وصلت إلى بغداد ومعي بقية نفقة لي، فسألت عنك، فلم يرشدني أحد إلى أن نفدت نفقتي، وبقيت بعدها ثلاثة أيام لا أجد ثمن قوتي إلا من مالك، فلما كان هذا اليوم الرابع، قلت: قد تجاوزتني ثلاثة أيام، وحلّت لي الميتة، فأخذت من وديعتك ثمن هذا الخبز والشواء، فكل طيبا، فإنما هو لك، وأنا ضيفك الآن. فقلت: وما ذاك؟. قال: أمّك وجّهت معي ثمانية دنانير، والله ما خنتك فيها إلى اليوم، فسكّنته، وطيّبت نفسه، ودفعت إليه شيئا منها «2» .
وحكي عنه أيضا أنه قال:" كنت في الصحراء أكرر في الفقه وأنا في فاقة، فقال لي(8/191)
قائل- لم أر شخصه-: اقترض ما تستعين به على طلب الفقه.
فقلت: كيف أقترض وأنا فقير ولا وفاء لي؟. قال: اقترض وعلينا الوفاء.
فأتيت بقالا، فقلت: تعاملني بشرط: إذا سهّل الله أعطيتك، وإن متّ تجعلني في حلّ؟. تعطيني كل يوم رغيفا ورشادا.
فبكى وقال: أنا بحكمك. فأخذت منه مدّة، فضاق صدري، فقيل لي: امض إلى موضع كذا، فأيّ شيء رأيت على الدكّة، فخذه، وادفعه إلى البقال. فلما جئت رأيت قطعة ذهب كبيرة، فأعطيتها البقلي «1» .
ولحقني الجنون مرة، وحملت إلى المارستان، فطرقتني الأحوال حتى حسبوا أني متّ، وجاؤوا بالكفن، وجعلوني على المغتسل، ثم سرّي عني، وقمت، ثم وقع في نفسي أن أخرج من بغداد لكثرة الفتن، فخرجت إلى باب الحلبة، فقال لي قائل: إلى أين تمشي؟!، ودفعني دفعة خررت منها، وقال: ارجع فإن للناس فيك منفعة. قلت: أريد سلامة ديني.
قال: لك ذاك، ولم أر شخصه.
ثم بعد ذلك طرقتني الأحوال، فكنت أتمنى من يكشفها لي، فاجتزت بالظّفريّة «2» ، ففتح رجل داره، وقال: يا عبد القادر!، أيش طلبت البارحة؟. فنسيت، فسكتّ، فاغتاظ، ودفع الباب في وجهي دفعة عظيمة، فلما مشيت ذكرت فرجعت أطلب الباب، فلم أجده.
قال: وكان حمادا الدباس، ثم عرفته بعد، وكشف لي جميع ما كان يشكل علي، وكنت إذا غبت عنه لطلب العلم وجئت، يقول: أيش جاء بك إلينا؟ أنت فقيه، مرّ إلى الفقهاء، وأنا أسكت، فلما كان يوم جمعة، خرجت مع الجماعة في شدة البرد، فدفعني ألقاني في الماء، فقلت: غسل الجمعة، بسم الله، وكان عليّ جبّة صوف، وفي كمي أجزاء،(8/192)
فرفعت كمّي لئلا تهلك الأجزاء، وخلّوني، ومشوا، فعصرت الجبّة، وتبعتهم، وتأذّيت بالبرد كثيرا، وكان الشيخ يؤذيني، ويضربني، وإذا جئت يقول: جاءنا اليوم الخبز الكثير، والفالوذج، وأكلنا وما خبّأنا لك وحشة عليك!. فطمع فيّ أصحابه، وقالوا: أنت فقيه، أيش تعمل معنا؟، فلما رآهم يؤذونني، غار علي، وقال: يا كلاب! لم تؤذونه؟ والله ما فيكم مثله!، وإنما أوذيه لأمتحنه، فأراه جبلا، لا يتحرك، ثم بعد مدة، قدم رجل من همذان، يقال له: يوسف الهمذاني، وكان يقال: إنه القطب، ونزل في رباط، فمشيت إليه، لم أره، وقيل لي: هو في السرداب، فنزلت إليه، فلما رآني قام، وأجلسني، ففرشني، وذكر لي جميع أحوالي، وحلّ لي المشكل عليّ، ثم قال لي: تكلّم على الناس. فقلت: يا سيدي! أنا رجل أعجميّ، قح، أخرس، أتكلّم على فصحاء بغداد؟!. فقال لي: أنت حفظت الفقه وأصوله، والخلاف والنحو، واللغة، وتفسير القرآن، لا يصلح لك أن تتكلم؟.
اصعد على الكرسي، وتكلّم، فإني أرى فيك عذقا سيصير نخلة. «1»
قال: وكنت أومر، وأنهى، في النوم واليقظة، وكان يغلب عليّ الكلام، ويزدحم على قلبي إن لم أتكلم به حتى أكاد أختنق، ولا أقدر أسكت، وكان يجلس عندي رجلان وثلاثة، ثم تسامع الناس بي، وازدحم الخلق عليّ، حتى صار يحضر مجلسي [نحو من] «2» سبعين ألفا.
وقال: فتّشت الأعمال كلها فما وجدت فيها أفضل من إطعام الطعام، أودّ لو أن الدنيا بيدي فأطعمها الجياع، كفّي مثقوبة لا تضبط شيئا!. لو جاءني ألف دينار لم أبيّتها، وكان إذا جاءه أحد بذهب، يقول: ضعه تحت السجادة.
وقال:" أتمنى أن أكون في الصحارى والبراري كما كنت في الأول لا أرى الخلق ولا يروني".(8/193)
ثم قال:" أراد الله مني منفعة الخلق، فقد أسلم على يديّ أكثر من خمسمائة، وتاب على يديّ أكثر من مائة ألف. وهذا خير كثير، وترد عليّ الأثقال التي لو وضعت على الجبال تفسّخت، فأضع جنبي على الأرض، وأقول: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً
«1» ، ثم أرفع رأسي وقد انفرجت عني".
وقال الجبّائي: كنت أسمع في" الحلية" على ابن ناصر، فرقّ قلبي، وقلت: اشتهيت لو انقطعت، وأشتغل بالعبادة، ومضيت، فصلّيت خلف الشيخ عبد القادر، فلما جلسنا، نظر إليّ، وقال:" إذا أردت الانقطاع، فلا تنقطع حتى تتفقه وتجالس الشيوخ وتتأدّب، وإلا فتنقطع وأنت فريخ ما ريّشت «2» .
وعن أبي الثناء النهر ملكي قال: تحدّثنا أن الذباب ما يقع على الشيخ عبد القادر، فأتيته، فالتفت إليّ، وقال: أيش يعمل عندي الذباب؟ لا دبس الدنيا، ولا عسل الآخرة!؟. «3»
وقال أبو البقاء العكبري: سمعت يحيى بن نجاح الأديب يقول: قلت في نفسي: أريد أن أحصي كم يقصّ الشيخ عبد القادر شعر تائب؟. فحضرت المجلس ومعي خيط، فلما قصّ شعرا، عقدتّ عقدة تحت ثيابي في الخيط، وأنا في آخر الناس، وإذا به يقول:" أنا أحلّ وأنت تعقد؟ " «4» .
وحكى ابن النجار عنه: أنه كان في وسط الشتاء وبرده، وعليه قميص واحد، وعلى رأسه طاقية، وحوله من يروّحه بالمروحة. قال: والعرق يخرج من جسده كما يكون في شدّة الحر! «5» .(8/194)
وقال أحمد بن ظفر بن هبيرة: سألت جدي أن أزور الشيخ عبد القادر، فأعطاني مبلغا من الذهب لأعطيه، فلما نزل عن المنبر سلّمت عليه، وتحرّجت من دفع الذهب إليه في ذلك الجمع، فقال: هات ما معك، ولا عليك من الناس!، وسلّم على الوزير.
وقال صاحب" مرآة الزمان" «1» : كان سكوت الشيخ عبد القادر أكثر من كلامه، وكان يتكلّم على الخواطر، وظهر له صيت عظيم، وقبول تام، وما كان يخرج من مدرسته إلا يوم الجمعة أو إلى الرباط.
وتاب على يده معظم أهل بغداد، وأسلم خلق، وكان يصدع بالحق على المنبر، وكان له كرامات ظاهرة.
وحكى أبو الحسن علي بن قاسم الهكّاري قال: حضرت مجلس الشيخ عبد القادر الجيلي، فوجدت بين يديه غلاما ينشد:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
القصيدة، ثم رأيته ثاني ذلك اليوم، ينشدها بين يديه، فتفكرت في سبب تكرارها، وسألت الشيخ عبد القادر عن ذلك؟.
فقال:" رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت: يا رسول الله! أمرت أن تحفظ عنك هذه القصيدة؟.
قال: نعم.
فقلت: يا رسول الله! وهي مدح فيك؟.
قال: نعم، ومن قالها ثلاث مرات غفر الله له، فأحببت بعد ذلك أن أسمعها كل يوم، أو كما قال.
انتقل إلى رحمة الله تعالى في عاشر ربيع الآخر سنة إحدى وستين وخمسمائة «2» ، وشيّعه خلق لا يحصون، ودفن بمدرسته، رحمه الله تعالى.(8/195)
وولد له تسعة وأربعون ولدا، سبعة وعشرون ذكرانا، والباقون إناثا.
وقال: إذا ولد لي ولد أخذته على يدي وقلت: هذا ميّت فأخرجه من قلبي، فإذا مات لم يؤثّر عندي موته شيئا «1» .
ومنهم:
50- قضيب البان «13»
قال ابن عدي: سمعت شيخي أبا يوسف يقول: ما دفن ولي لله تعالى في زمان قضيب البان إلا وكان قضيب البان هو الذي يحفر قبره بيده.(8/196)
وكان اجتمع به في جنازة أحدهم وأخبره بذلك.
قال أبو يوسف: وما سئل قضيب البان عن مسألة من لدن آدم عليه السلام إلى زمانه إلا مسح وجهه ثم نظر في كفه، وأخبر بجوابها. وبتاريخها.
قلت: ويحكى أن ابن يونس الفقيه، كان يستنقص بقضيب البان ويقول: عجبا لمن يعتقد فيه خيرا، وهو لا يتوقى النجاسات!، ويطلق لسانه فيه، فبينما ابن يونس يوما وهو على باب مدرسته، وقد جلس لانتظار الفقهاء، ليدخل بهم، ويذكر الدرس، وإذا بقضيب البان قد جاء، وجلس تلقاء وجهه، وأخذ هدمة له، وقعد يخيطها، ثم طلع إلى ابن يونس، وقال: يا قاضي! خيّطتك!، يا قاضي خيّطتك!. وجعل يكررها؛ فجاءت الفقهاء وجلس ابن يونس لذكر الدرس فلم يفتح عليه بكلمة، حتى ولا التحميد، وخرس!. فذكر كلمة قضيب البان، ونهض إليه، فقال: يا سيدي! أنا أستغفر الله، فضحك، وفتق بعض ما كان خيّط في تلك الهدمة!. ثم جعل يقول: فتقت لسانك يا قاضي! فتقت لسانك يا قاضي!.
فقام ابن يونس ودخل المدرسة، وجلس للدرس، ففتح عليه بكل عجب، وأتى بكل بديع، حتى قيل: إنه لم يذكر درسا في عمره أكثر تحريرا، وتحقيقا، ونقلا، وفائدة من ذلك اليوم.
قالوا: فكان ابن يونس إذا رآه بعدها قبّل يده، وقال: هذا ولي الله.(8/197)
وحدثني علي بن عبد الله المعروف بالبديع أنه سمع محمد بن يونس بن محمد بن مالك القاضي بالموصل يحكي عن أبيه أن أحد المؤذنين بجامع الموصل حدّثه قال: خرجت يوما خارج البلد، فرأيت قضيب البان ماشيا في همّة، فقلت: والله لأتبعنه اليوم، فمشيت وراءه نحو ساعة، وأنا لاه، ثم نظرت فأنكرت الطريق التي نحن بها، والأرض التي نحن فيها، وإذا نحن في أرض لا أعرفها، وإذا أمامنا نهر يصغر دجلة عنده، وحوله أشجار ليست بأرضنا، فبهتّ، وخررت، ولم أجسر على خطابه، فأتى قضيب البان النهر، فجلس، وجلست ناحية منه، فنزع ثابه ونزل النهر، فاغتسل ثم خرج، فقام يصلي، واشتدّت عليّ الهاجرة، ولم يكن ذلك زمان حر، فأتيت شجرة ذات ظل، فنمت، فلما قمت لم أر قضيب البان!، ولا من أسترشد به، فبينما أنا في ذلك، وإذا براع يرعى معزى، فقمت إليه، فحدّثته، فإذا هو أعجميّ لا يعرف العربية، فصبرت، واستعنت، فأقبل رجل كهل، فقمت إليه وسألته عن ذلك الموضع؟ فقال: بأرض الهند! في مكان كذا، وهو نهر كذا!.
فقلت له: فكم بيني وبين الموصل؟.
فقال: وأين الموصل؟. وذكر شهرا!.
فصحت صيحة كاد ينفطر معها قلبي، فقال لي الشيخ: ويحك! مالك؟. فحكيت له حالي، وأنني خرجت في يومي هذا من الموصل، لأتقضى، فرأيت مولّها عندنا ماشيا، فتبعته، لأبصر أين يذهب؟، فأتى بي إلى هنا، ونزل فاغتسل، وقام يصلي إلى تلك الشجرة، واشتدّ عليّ الحر فنمت، فلما قمت لم أجده، فقال: اعلم أنّي مارّ، في هذه الأرض، ولست منها، وسأل الراعي، قال: فحدّث الراعي بالهندية، وكان رجلا هنديا، فقال له: هذا رجل يأتي كل يوم إلى هنا، فيغتسل ويقوم هنا، فيتعبّد عبادات يدين بها، مما لا نعرفه نحن، ثم يذهب كما يأتي!.
قال: فبتّ بأصعب ليلة مرّت بي، فلما كان في اليوم الثاني، جاء قضيب البان ففعل مثل ما فعله، وألقي عليّ النوم، فجعلت أغالبه، فلما قضى صلاته، قمت إليه، وشكوت(8/198)
إليه حالي، فضحك، وقال: امش خلفي، ولا تعود تكلّف نفسك ما لا يعنيك!، ولا تكثر فضولا!. فقلت: يا سيدي! اسمع والطاعة، فأقبل عليّ يحدّثني أحاديث العقلاء ذوي العلم، فلم يكن إلا ساعة، ونحن بالموصل!، فودّعني وانصرف، رحمه الله تعالى.
ومنهم:
51- أبو علي الحسن بن مسلّم بن أبي الحسن بن أبي الجود «13»
الزاهد الفارسي. «1»
عارف أحرز الحليفة إحرازا، وحرس الحقيقة فلم يدع لها إبرازا، فاستطار هياما، واستطاب سهرا قطع عليه ليالي وأياما، وحبّبت إليه الوحدة، وطيّبت له الخلوة، فأنس بالله وحده، ولم تزل الأبصار به معقودة، والأمصار عليه محدودة، وكان لا يزال يأوي البرّ المقفر، ويهوى الفقر المفقر، إلى أن ترقّت روحه، وأشرقت في أوجها نوحه.
أصله من قرية بنهر عيسى يقال لها: الفارسية.
وكان من الأبدال، لازما لطريقة السلف، أقام أربعين سنة لم يكلّم أحدا، وكان صائم الدهر، قائم الليل، يقرأ كل يوم وليلة ختمة.
ذكره أبو الفرج في" صفة الصفوة" وقال: كان زاهد زمانه، وكانت السباع تأوي إلى زيارته، وكان الخليفة وأرباب الدولة يمشون إلى زيارته.(8/199)
وحكى عنه جماعة من أهل القرية: أن السباع كانت تنام طول الليل جواز زاويته، وإذا خرج أحد من القرية في الليل إلى نهر عيسى، لم تتعرض له. وإنّ فقيرا نام في الزاوية في ليلة باردة، فاحتلم، ونزل إلى النهر ليغتسل، فجاء السّبع، فنام على جبّته، فكاد الفقير أن يموت من البرد والخوف، فخرج الشيخ، وجاء إلى السبع وضربه بكمّه وقال: يا مبارك! قد قلنا لك لا تتعرّض لأضيافنا!، فقام السّبع يهرول!.
توفي يوم عاشوراء، سنة أربع وتسعين وخمسمائة، ودفن برباطه ب" الفارسية." «1»
ومنهم:
52- أبو الحسن عليّ بن محمّد بن غليس «13»
رجل كان ملاذا، وملجأ في النوائب ومعاذا، يصرخ صراخ السيوف، ويطل إطلال الضراغنم تحت السجوف، بسهام لا تردّ، وسمام كأنه من أنياب الأساود يستمد، إذا رمى رمية أنفذها، وإذا أرشف بريقه عضة أكيلة وقذها، فكان في انطلاقه لا يفادى، وفي أهل صداقته لا يعادى، يمدّ يدا له ما ردّت خائبة، ولا مدّت إلا إلى إجابة غير غائبة.
كان مقيما بكلّاسة دمشق.
وحكى عنه العلامة أبو الحسن السخاوي قال: سمعت ابن غليس يقول: كنت مسافرا مع قافلة، فرأيت في المنام كأنّ سبعا اعترضهم، فقطع الطريق عليهم، فوقفوا حائرين، فتقدّمت إليه وقلت: يا كلب الله!، أنت كلب الله، وأنا عبد الله، فاخضع، واخنع لمن سكن له ما في السماوات والأرض، وهو السميع العليم. فذهب، وانفتحت الطريق، ثم انتبهت، فسرنا قليلا، وإذا بالقافلة قد وقفت، فسألت: ما الخبر؟ فقيل: السّبع على الطريق.
فتقدّمت إليه، وهو مقع على ذنبه، فقلت ذلك الكلام، وتقدّمت إليه، فأدخلت يدي في فمه، وقلبت أسنانه!، وشممت منه رائحة كريهة.(8/200)
قال السخاوي: فقلت له: إنه يأكل اللحم ولا يتخلل!. قال: وأدخلت يدي بين أفخاذه، فقلبت خصيتيه وإذا هي مثل خصي القط.
وقال الشيخ ميمون الضرير: أخبرني صاحب لابن غليس قال: أمرني ابن غليس بإيقاد السراج، ولم يكن به زيت، فأوقدت الفتيلة، فوقدت!. ثم أمرني في الليلة الثانية، فأوقدتها، فوقدت!. ثم أمرني في الليلة الثالثة بإيقادها، فقلت له: لا زيت في السراج!.
قال: وأيش فضولك في هذا؟، لو سكتّ لكان يقدها أبدا!.
وقال أبو القاسم الفضل: مات فرس لابن غليس، فحزن عليه كثيرا، فقيل له: كم تحزن عليه؟، غيره يقوم مقامه!.
فقال: إنه فرس صالح، كان معي في سفري بالعراق، فآواني الليل مع جماعة إلى قرية، وكانت ليلة باردة، ذات ريح، ومطر، فلم يقدّر لنا مكان نأوي إليه، إلا موضع صغير. فقلت لأصحابي: إن تركنا الفرس خارج البيت هلك بالبرد، وخفنا عليه، وإن أدخلناه معنا، خفنا من بوله وتلويثه الجماعة لصغر المكان!. فتقدّمت إليه وقلت له: نحن ندخلك معنا بشرط أن لا تفعل ما يتأذى به الجماعة من بول وغيره!. ثم أدخلناه، فبات ليلته لم يتحرك بحركة يتأذّى منها، ولم يبل. فلما أصبحنا، أخرجناه معنا، فلما صار خارج الباب، بال نحو قربة ماء.
وكان ابن غليس يقول عن نفسه:" ابن غليس ما يسوى فليس! ".
وتوفي رضي الله عنه يوم الاثنين سابع عشر شهر رمضان سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، ودفن قبلي قبر معاوية- رضي الله عنه- بغرب مقبرة الباب الصغير.
رحمه الله تعالى. «1»(8/201)
ومنهم:
53- الشّيخ أبو عمر محمّد بن أحمد بن محمّد بن قدامة المقدسيّ «13»
أخو الشيخ موفق الدين الحنبلي الزاهد.
رقى السماء فوق صفائحها، وأبدى الأنباء وفق صحائحها. ووالى أعماله أرسالا، وأيقظ أعماله والرياح كسالى، وعزم اعتزاما مسح بالنجوم راسه، ومسك بخيوط الغيوم أمراسه، فلم يلتفت إلى الدنيا ومغازلتها، ولا انفتل إلى مقاتلتها، على الدنايا ومنازلتها، تحليقا إلى دار نعيمها سرمدا، ونسيمها لا يرى منه من شكوى الهوى أرمدا، فقطع الغاية مسرعا، ورفع حيث أراد ممرعا، من قوم كانوا أهل علو وعلوم، وفي أموالهم حق معلوم، وكان غماما به يستسقى، وإماما عنه الدين يتلقّى.
ويقال إنهم من بني الفاروق «1» ، ثم من ولده عبد الله، ولا يعرف إلى من هم بنيه، ولا إلى أب في النسب يليه، إلا أنهم في الذرية العمرية من معدن شرف، ومثوى كرم، ما يحل منه في طرف.(8/202)
ولد سنة ثمان وعشرين وخسمائة، بقرية" الساويا" من أعمال نابلس «1» ، وقيل: ب" جمّاعيل".
قال أبو المظفر [الواعظ] «2» سبط ابن الجوزي:" حدثني أبو عمر قال: هاجرنا في بلادنا، فنزلنا بمسجد أبي صالح بظاهر باب شرقي، فأقمنا به [مدة] ، ثم انتقلنا إلى الجبل، فقال الناس:" الصالحية، الصالحية! " ينسبونا إلى مسجد أبي صالح، لا أننا صالحون، ولم يكن بالجبل عمارة إلا دير الحوراني وأماكن يسيرة.
قال أبو المظفر:" وكان معتدل القامة، حسن الوجه، عليه أنوار العبادة، لا يزال متبسّما، نحيل الجسم من كثرة الصلاة والصيام، والقيام" «3» .
قرأ القرآن بحرف أبي عمرو، وحفظ" مختصر الخرقي" في الفقه، وقرأ النحو على ابن بري بمصر، وسمع الحديث بدمشق ومصر. واشتغل بالعبادة عن الرواية، وكتب [الكثير بخطه المليح من المصاحف والكتب مثل:] " الحلية" لأبي نعيم، و" تفسير البغوي"، و" المغني" لأخيه «4» ، و" الإبانة" لابن بطّة، ومصاحف كثيرة، للناس ولأهله، وكتبا كثيرة، الكل بغير أجرة.
وكان يصوم الدهر، إلا من عذر، ويقوم الليل من صغره، ويحافظ على الصلوات في الجماعات، ويخرج من ثلث الليل الأخير إلى المسجد في الظلمة، فيصلي إلى الفجر، ويقرأ في كل يوم سبعين من القرآن، بين الظهر والعصر، ويقرأ بعد العشاء الآخرة آيات الحرس، و" ياسين" و" تبارك" و" الواقعة"، والمعوذتين، و" قل هو الله أحد"، وإذا ارتفعت الشمس لقّن الناس القرآن إلى وقت الضحى، ثم يقوم فيصلي ثماني ركعات، ويقرأ" قل هو الله أحد"(8/203)
ألف مرة، ويزور المقابر بعد العصر في كل جمعة، ويصعد يوم الاثنين والخميس إلى مغارة الدم ماشيا بالقبقاب، فيصلي فيها ما بين الظهر والعصر، وإذا نزل جمع" الشّيح" من الجبل وربطه بحبل وحمله إلى بيوت الأرامل، واليتامى، ويحمل في الليل إليهم الدراهم، والدقيق، ولا يعرفونه، ولا ينام إلا على طهارة، ومتى فتح له بشيء من الدنيا آثر به أقاربه، وغيرهم، ويتصدّق بثيابه، وربما خرج الشتاء وعلى جسده جبّة بغير ثوب [من تحتها يتصدق بالتحتاني] ، ويبقى مدة طويلة بغير سراويل، وعمامته قطعة من بطانة، فإن احتاج أحد إلى خرقة، أو مات صغير يحتاج إلى كفن قطع له منها قطعة، وكان ينام على الحصير، ويأكل خبز الشعير، وثوبه خام إلى أنصاف ساقيه، وما نهر أحدا ولا أوجع قلب أحد، وكان يقول:" أنا زاهد ولكن في الحرام! ".
ولما نزل صلاح الدين على القدس كان هو وأخوه الموفق في خيمة، فجاء العادل إلى زيارته، وهو في الصلاة فما قطعها، ولا التفت، ولا ترك ورده، وكان يصعد المنبر وعليه ثوب خام مهدول الجيب، وفي يده عصا، فما قطعها، ولا التفت، والمنبر يومئذ ثلاث مراقي، وكان يحضر الغزوات مع صلاح الدين.
قال أبو المظفر «1» : وكراماته كثيرة؛
فمنها: أني صليت يوم جمعة بجامع الجبل في سنة ست وستمائة، والشيخ عبد الله اليونيني «2» إلى جانبي، فلما كان في آخر الخطبة والشيخ أبو عمر يخطب، نهض الشيخ عبد الله مسرعا، وصعد إلى مغارة توبة، وكان نازلا بها، فظننت أنه احتاج إلى وضوء أو آلمه شيء، فصلّيت وطلعت وراءه، وقلت له: خير ما الذي أصابك؟، فقال: هذا أبو عمر ما تحل خلفه صلاة!، يقول على المنبر:" الملك العادل" وهو ظالم! فما يصدق!!!.
وكان أبو عمر يقول:" اللهم وأصلح عبدك الملك العادل سيف الدين أبا بكر ابن أيوب".(8/204)
فقلت: إذا كانت الصلاة خلف أبي عمر لا تصح، فيا ليت شعري خلف من تصح؟.
وخطر لي قول عبد الرحمن بن عوف لما رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يمشي في أزقّة المدينة، فتبعه، فأتى بيت عجوز، فدخله، قال: فدخلت لأبصر ما يصنع؟. فتواريت، وإذا به قد خرج من عندها، فدخلت بعده وقلت للعجوز: ما كان هذا يصنع عندك؟. فقالت:
يحمل إليّ ما آكل ويخرج الأذى عني!!!.
قال عبد الرحمن: فقلت في نفسي: ويحك يا عبد الرحمن! أعثرات عمر تتبع؟.
قال أبو المظفر: وبينا نحن في الحديث، إذ دخل الشيخ، وسلّم، وحلّ مئزره وفيه رغيف وخيارتان، فكسر الجميع، وقال: بسم الله الصلاة، ثم قال ابتداء:" قد روي في الحديث:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولدت في زمن الملك العادل كسرى) «1» .
فنظر إليّ الشيخ عبد الله وتبسّم، وأكل، وقام الشيخ أبو عمر فنزل، فقال لي الشيخ عبد الله: ماذا إلا رجل صالح.
قال أبو المظفر «2» : وأصابني قولنج، عانيت منه شدة، فدخل علي أبو عمر وبيده خرّوب شامي مدقوق، فقال: استفّ هذا. وكان عندي جماعة فقالوا: هذا يزيد القولنج!، ويضرّه. فما التفت إلى قولهم، وأخذته من يده فأكلته، فبرأت في الحال.
قال: وجاءه رجل مغربي فقرأ عليه القرآن، ثم غاب عنه مدة، وعاد، فلازمه، فسئل عن ذلك؟ فقال: دخلت ديار بكر، فأقمت عند شيخ له زاوية وتلاميذ، فبينا هو ذات يوم جالس بكى بكاء شديدا، وأغمي عليه، ثم أفاق، وقال: مات القطب الساعة!، وقد أقيم أبو عمر شيخ الصالحية مقامه!.
قال: فقلت له: ذاك شيخي!. قال: فأيش قعودك هنا؟. قم فاذهب إليه، وسلّم إليه(8/205)
عني، وقل له: لو أمكنني السعي إليه لسعيت. ثم زودني، وسافرت.
قال أبو المظفر: وقلت له يوما أول ما قدمت الشام- وما كان يرد أحدا في شفاعة- وقد كتب رقعة إلى الملك المعظّم:" كيف تكتب هذا والملك المعظّم على الحقيقة هو الله؟.
فتبسّم، ورمى إليّ الورقة، وقال: تأمّلها. وإذا به لما كتب" الملك المعظّم" كسر الظاء، فصار" المعظّم". وقال: لا بد أن يكون يوما قد عظّم الله تعالى.
قال: فعجبت من ورعه، وتحفّظه في منطقه عن مثل هذا.
قال أبو المظفر: وقال أبو عمر يوما للمبارز المعتمد: قد أكثرت عليه من الرقاع والشفاعات!. فقال له: ربما تكتب إليّ في حق أناس لا يستحقون الشفاعة، وأكره ردّ شفاعتك. فقال له الشيخ: أنا أقضي حق من قصدني، وأنت إن شئت فاقبل، وإن شئت فلا تقبل. فقال: ما أردّ ورقتك أبدا.
قال أبو المظفر: وكان سبب موته أنه حضر مجلسي بالجامع بقاسيون، مع أخيه الموفّق، والجماعة. وكان قاعدا في الباب الكبير، وجرى الكلام في رؤية الله ومشاهدته، واستغرقت، وكان وقتا عجيبا فقام أبو عمر من جانب أخيه، وطلب باب الجامع ولم أره، فالتفت وإذا بين يديه شخص يريد الخروج من الجامع، فصحت على الرجل: اقعد.
فظنّ أبو عمر أنني أخاطبه، فجلس على عتبة باب الجامع الجوانية، إلى آخر المجلس، ثم حمل إلى الدير فكان آخر العهد به، وأقام أياما مريضا، ولم يترك شيئا من أوراده، فلما كان عشيّة الاثنين، ثامن عشر ربيع الأول سنة سبع وستمائة، جمع أهله، واستقبل القبلة، ووصاهم بتقوى الله، ومراقبته، وأمرهم بقراءة" يسن"، وكان آخر كلامه: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
«1» ، وتوفي.
وغسّل وقت السّحر، ومن وصل إلى الماء الذي غسّل به نشّف به؛ النساء مقانعهنّ،(8/206)
والرجال عمائمهم.
ولم يتخلف عن جنازته أحد، ولما خرجوا بجنازته من الدير، كان يوما شديد الحر، فأقبلت غمامة فأظلّت الناس إلى قبره!. وكان يسمع منها دويّ كدويّ النحل.
قال أبو المظفر: ولولا المبارز المعتمد والشجاع بن محارب، وسيف الدولة الحسامي ما وصل إلى قبره من كفنه شيء!. وإنما أحاطوا به بالدبابيس «1» والسيوف.
وكان قبل وفاته بليلة رأى إنسان كأنّ قاسيون وقع، أو زال من مكانه، فأوّلوه: موته.
ولما دفن رأى بعض الصالحين النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: من زار أبو عمر ليلة الجمعة، فكأنما زار الكعبة، فاخلعوا نعالكم قبل أن تصلوا إليه. ومات عن ثمانين سنة.
قال أبو المظفر: وأنشدني أبو عمر لنفسه:
ألم يك ملهاة عن اللهو أنني ... بدا لي شيب الرأس والضعف والألم
ألمّ بي الخطب الذي لو بكيته ... حياتي حتى ينفد الدمع لم ألم «2»
قال: وكان على مذهب السلف الصالح سمتا وهديا، وكان حسن العقيدة، متمسكا بالكتاب والسنة، والآثار المروية، يمرها كما جاءت من غير طعن على أئمة الدين وعلماء المسلمين، وكان ينهى عن صحبة المبتدعين، ويأمر بصحبة الصالحين الذين هم على سنة سيد المرسلين وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم-.
وأنشد لنفسه أيضا:
أوصيكم بالقول في القرآن ... بقول أهل الحق والإتقان(8/207)
ليس بمخلوق ولا بفان ... لكن كلام الملك الديّان
آياته مشرقة المعاني ... متلوة لله باللسان
محفوظة في الصدر والجنان ... مكتوبة في الصحف بالبنان
والقول في الصفات يا إخواني ... كالذات والعلم مع البيان
إمرارها من غير ما كفران ... من غير تشبيه ولا عطلان
وقال أبو شامة «1» : أخبرني بعض أصحابنا الثقات، أنه رأى الإمام الشافعي في المنام، فسأله: إلى أين تمضي؟. قال: أزور أحمد بن حنبل، قال: فاتّبعته، أنظر ما يصنع؟. فدخل دارا، فسألت: لمن هي؟ فقيل: للشيخ أبي عمر- رحمه الله تعالى. «2»
وقال أبو شامة: وأول ما وقفت على قبره وزرته، وجدت بتوفيق الله تعالى رقّة عظيمة، وبكاء، وكان معي رفيق لي، وهو الذي عرّفني قبره، وجد أيضا مثل ذلك، رحمه الله تعالى. «3»
ومنهم:
54- عبد الله بن عثمان بن جعفر بن أبي القاسم محمد اليونينيّ «13»
ملجأ لخائف، وملجم للسان كل مفتر وحائف، صفت له أيامه صفاء الزجاجة، ووفت(8/208)
له لياليه وفاء السحب الثجّاجة، فمسّ السماء ومسحها، ومدّ النعماء وفسحها، والحق يسعده، ويقربه ولا يبعده، دامت به كل عين قريرة، ونسبته على المحاسن قديرة، وهو للمتبصر سيف لم يثلم، وللمقتصر شرف ما كلّ من رقا إليه بسلّم يسلم، فكان فضله شيء جزم به وقطع، وعلم أن غيره لو حاوله لم يستطع، تهلل به وجه الدهر وكان قد كلح، وصلح به فساده وقطّ ما صلح.
قال عبد الله بن شكر اليونيني: كان الشيخ- رحمه الله تعالى- في شيبوبيّته قد انقطع في الجبل، وكانت أخته تأتيه كل يوم بقرص وبيضتين، فأتته بذلك مرة، وإذا بفقير قد خرج من عنده ومعه قرص وبيضتان، فقالت له: من أين لك هذا؟. قال: من ذاك القاعد، له شهر كل يوم يعطيني قرصا وبيضتين!. فأتته وسألته، فنهرها، وزعق فيها. «1»
وقال خليل بن عبد الغني «2» الزاهد الأنصاري: كنت بحلقة الحنابلة إلى جانب الشيخ عبد الله، فقام ومعه خادمه توبة إلى الكلاسة، ليتوضّأ، وإذا برجل متختّل يفرّق ذهبا، فلما وصل إليّ أعطاني خمسة دنانير، وقال: أين سيدي الشيخ؟. قلت: يتوضأ. فجعل تحت سجادته ذهبا، وقال: إذا جاء قل له: مملوكك أبو بكر التكريتي يسلّم عليك، ويشتهي أن تدعو له.
فجاء الشيخ وأنا ألعب بالذهب في عبّي، ثم ذكرت له قول الرجل، فقال توبة: من ذا يا سيدي؟. قال: صاحب دمشق؛ وإذا به قد رجع، ووقف قدام الشيخ، والشيخ يصلي، فلما سلّم أخذ السواك ودفع به الذهب، وقال: يا أبا بكر! كيف أدعو لك والخمور دائرة في دمشق؟.
وتغزل امرأة وقيّة تبيعها فيؤخذ منها قراطيس؟. فلما راح أبطل ذلك، وكان الملك العادل.
وقال محمد بن أبي الفضل: كنت عند الشيخ، وقد جاء إليه المعظّم، فلما جلس عنده، قال: يا سيدي! ادع لي. قال: يا عيسى لا تكن نحس «3» مثل أبيك!. فقال: يا سيدي وأبي(8/209)
كان نحس؟. قال: نعم. أظهر الزغل «1» ، وأفسد على الناس المعاملة، وما كان محتاج!.
قال: فلما كان الغد، أخذ الملك المعظّم ثلاثة آلاف دينار، وطلع إلى عند الشيخ بها، وقال: هذه تشتري بها ضيعة للزاوية.
فنظر إليه، وقال: قم يا ممتحن، يا مبتدع!، لا أدعو الله تنشق الأرض وتبتلعك، ما قعدنا على السجاجيد حتى أغنانا، تحتي ساقية تجري ذهب وساقية تجري فضة!، أو كما قال «2» .
وقال أبو طالب النجار: أنكر الشيخ عبد الله على صاحب بعلبك، وكان يسميه" مجيد"، فأرسل إليه الأمجد يقول: إن كانت بعلبك لك فأشتهي أن تطلقها لي، فلم يبلّغه رسول الأمجد شيئا.
وقال أبو المنى خادم الشيخ مسعود الحمصي: كنت ليلة جالسا أكبّس الشيخ، وإذا به قد ضمّ رجليه، وقام. فقلت في نفسي: خرج مجددا وضوءا. قال: فأبطأ علي، فخرجت أطلبه، فلم أجده، فبقيت أنتظره إلى أن عاد، فكبّسته، ثم قام، وخرج، وعاد، فبقي في نفسي شيء، فقال: مالي أراك؟، أيش في نفسك؟. قلت: أنت تدري. قال: ويحك، كان الشيخ عبد الله اليونيني قد خرج يزور جبال العراق فودّعته، إلى الفرات، ثم رجع فودعته ثم ناولني منشفة بغدادية وقال لي: هذه أعطانيه الشيخ، أو ما هذا معناه.
وقال أبو الحسن علي بن عثمان الموصلي: حضرت مجلس الشيخ الفقيه ببعلبك، وهو على المنبر، فسألوه أن يحكي شيئا من كرامات الشيخ عبد الله، فقال بصوت جهير: كان الشيخ عبد الله عظيم «3» ، كنت عنده، وقد ظهر من ناحية الجبل سحابة سوداء مظلمة، ظاهر منها العذاب، فلمّا قربت قام الشيخ، وقال: إلى بلدي؟ ارجعي، فرجعت السحابة.(8/210)
ولو لم أسمع هذه الحكاية من الفقيه ما صدّقت «1» .
وقال الشيخ محمد السكاكيني، وكان لا يكاد يفارق الشيخ، قال: دعاني إنسان، وألحّ عليّ؛ [فأتيته] فقلت: كيف أخلي الشيخ؟ فقال: لا بدّ من هذا. فلما كان الليل، قلت في نفسي: يكون الشيخ في الجبل، وأنا ها هنا، فقمت، وطلعت من السور، من عند عمود الراهب، وجئت إلى الزاوية، فإذا الشيخ ظاهرها وهو يقول: يا مولاي! ترسل إليّ الناس في حوائجهم؟، من هو أنا حتى ترسلهم إليّ؟. اقضها أنت لهم يا مولاي!. إبراهيم النصراني من جبّة بشرّي «2» ، يا مولاي!، ودعا له، فبهتّ لذلك، ونمت، ثم قمت إلى الفجر، وبقيت عنده يومئذ إلى الليل. فلما كان الليل وأنا ظاهر الزاوية، إذا بشخص، فقلت: أيش تعمل هنا؟. وإذا هو إبراهيم النصراني!. من" جبة بشرّي"، قلت: أيش جابك؟. قال: أين الشيخ؟. قلت: يكون في المغارة، وأيش تريد به؟.
قال: رأيت البارحة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: تروح إلى الشيخ عبد الله، وتسلم على يده، فقد شفع فيك!.
فرحنا إلى الشيخ وإذا به في المغارة، فلما رآه الشيخ، قال: يا سيد! أيش بك؟. فقصّ عليه ما رأى، فتفجّرت عينا الشيخ، وغرغرت بالدموع، وقال:" سماني رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شويخ!؟. فأسلم إبراهيم، وجاء منه رجلا صالحا «3» .
وقال عبد الصمد: والله الذي لا إله إلا هو، مذ خدمت الشيخ عبد الله، ما رأيته استند على شيء، ولا سعل، ولا تنحنح، ولا بصق «4» .(8/211)
وقال الفقيه محمد اليونيني «1» : حضرت الشيخ عبد الله مرّتين، وقد سأله ابن خاله حميد بن برق، فقال: زوجتي حامل، إن جاءت بولد ما اسميه؟. قال: سمّ الواحد سليمان، والآخر داود!. فولدت اثنين توأما.
وقال له ابنه محمد: امرأتي حامل، إن جاءت بولد ما أسميه؟. قال: سمّ الأول عبد الله، والثاني: عبد الرحمن! «2» .
وقال سعيد المارديني: جاء رجل من بعلبكّ إلى الشيخ، فقالوا: جاءت الفرنج. قال:
فمسك لحيته، وقال: هذا الشيخ النحس ما قعوده ها هنا؟. فردّت الفرنج!.
وقال أبو المظفر سبط ابن الجوزي في" مرآة الزمان" «3» : عبد الله اليونيني أسد الشام، كان صاحب رياضات ومجاهدات، وكرامات وإشارات، لم يقم لأحد تعظيما لله؛ وكان يقول: لا ينبغي القيام لغير الله. صحبته مدة، وكان لا يدّخر شيئا، ولا يمس دينارا ولا درهما، وما لبس طول عمره سوى الثوب الخام، وقلنسوة من جلد ما عز تساوي نصف درهم، وفي الشتاء يبعث له بعض أصحابه فروة، فيلبسها، ثم يؤثر بها في البرد.
قال لي يوما ببعلبكّ: يا سيدي!، أنا أبقى أياما في هذه الزاوية ما آكل شيء «4» !.
فقلت: أنت صاحب القبول، كيف تجوع؟. قال: لأن أهل بعلبكّ يتّكل بعضهم على بعض، فأجوع أنا. فحدّثني خادمه عبد الصمد، قال: كان يأخذ ورق اللوز يفركه، ويستفّه!.(8/212)
وكان الملك الأمجد يزوره، فكان الشيخ يهينه، فما قام له يوما، وكان يقول: يا مجيد! أنت تظلم وتفعل، وهو يعتذر إليه.
وأظهر الملك العادل قراطيس سودا، فقال الشيخ عبد الله: انظروا إلى هذا الفاعل الصانع، يفسد على الناس معاملاتهم، فبلغ العادل ذلك، فأبطلها «1» .
وكنت اجتمعت به في سنة ستمائة إلى سنة ثلاث، وكان له تلميذ اسمه توبة.
وسافرت إلى العراق سنة أربع، وحججت، فلما كان يوم عرفة، صعدت جبل عرفات، فإذا بالشيخ عبد الله قاعد مستقبل القبلة، فسلّمت عليه، فرحّب بي وسألني عن طريقي؟، وقعدت عنده إلى وقت الغياب، ثم قلت: ما نقوم نروح إلى المزدلفة؟. فقال:
اسبقني؛ فلي رفاق. فأتيت مزدلفة ومنى، فدخلت مسجد الخيف، فإذا بالشيخ توبة، فسلّم عليّ، فقلت: أين نزل الشيخ؟. فقال: أيّما شيخ؟. قلت: عبد الله اليونيني. قال: خلّفته ببعلبكّ. فقطّبت «2» ، وقلت: مبارك. ففهم، وقبض على يدي وبكى، وقال: بالله حدثني، أيش معنى هذا؟. قلت: رأيته البارحة على عرفات. ثم رجعت إلى بغداد، ورجع توبة إلى دمشق، وحدّث الشيخ عبد الله، ثم حدثني الشيخ توبة، قال: قال لي ما هو صحيح منك، فلان فتى، والفتى لا يكون غمّازا، فلما عدت إلى الشام عتبني الشيخ.
قال سبط ابن الجوزي: وحدّثني الجمال [بن] «3» يعقوب، قاضي [كرك] البقاع «4» ، قال:
كنت عند الجسر الأبيض، وإذا بالشيخ عبد الله قد جاء ونزل إلى ثورا، وإذا بنصراني عابر، ومعه بغل عليه حمل خمر، فعثر البغل ووقع، فصعد الشيخ وقال: يا فقيه! تعال. فعاونته(8/213)
حتى حملناه، فقلت في نفسي: أيش هذا الفعل؟. ثم مشيت خلف البغل إلى العقيبة، فجاء إلى دكان الخمّار، فحلّ الظرف وقلبه، وإذا به خل!. فقال له الخمّار: ويحك هذا خل!. فبكى، وقال: والله ما كان إلا خمرا من ساعة، وإنما أنا أعرف العلة، ثم ربط البغل في الخان، وعاد إلى الجبل، وكان الشيخ قد صلى الظهر عند الجسر في مسجد، فدخل عليه النصراني، وأسلم، وصار فقيرا «1» .
قال أبو المظفر «2» : وكان الشيخ شجاعا، ما يبالي بالرجال، قلّوا أو كثروا، وكان قوسه ثمانين رطلا، وما فاتته غزاة في الشام قطّ. وكان يتمنى الشهادة، ويلقي نفسه في المهالك.
فحكى لي خادمه عبد الصمد: قال: لما دخل العادل إلى بلاد الفرنج، إلى صافيتا، قال لي الشيخ ببعلبكّ: انزل إلى عبد الله الثقة، فاطلب لي بغلته، قال: فأتيته بها، فركبها، وخرجت معه فبتنا في يونين، وقمنا نصف الليل، فجئنا المحدثة الفجر، فقلت له: لا تتكلم فهذا مكمن الفرنج. فرفع صوته وقال: الله أكبر، فجاوبته الجبال، فيبست من الفزع!، ونزل فصلى الفجر، وركب، فطلعت الشمس، والطير لا يطير في تلك الأرض، وإذا قد لاح في ناحية حصن الأكراد طلب أبيض، فظنهم" الأسبتار" «3» ، فقال: الله أكبر، ما أبركك من يوم!. اليوم أمضي إلى صاحب. وساق إليهم وشهر سيفه، فقلت في نفسي: شيخ وتحته بغلة، وبيده سيف، يسوق إلى طلب فرنج!.
فلما كان بعد لحظة وقربوا، إذا هم بمائة حمير وحش، فانكسر قلبه، وفترت همته، وجئنا إلى حمص، فجاء الملك المجاهد أسد الدين، وقدّم له حصانا من خيله، فركبه، ودخل معهم، وفعل عجائب.(8/214)
وكان يقول للفقيه محمد: فيّ وفيك نزلت: إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ
«1» أنا من الرهبان، وأنت من الأحبار! «2»
وقال كمال الدين ابن العديم في" تاريخ حلب" «3» : أخبرني الشيخ محمد اليونيني، قال: سمعت الشيخ عبد الله اليونيني ينشد:
شفيعي إليكم طول شوقي إليكم ... وكلّ كريم للشفيع قبول
وعذري إليكم أنني في هواكم ... أسير ومأسور الغرام ذليل
فإن تقبلوا عذري فأهلا ومرحبا ... وإن لم تجيبوا فالمحبّ حمول
سأصبر، لا عنكم ولكن عليكم ... عسى لي إلى ذاك الجناب وصول
وأخبرني الشيخ محمد قال: كان الشيخ يصلي بعد العشاء الآخرة وردا إلى قريب ثلث الليل، فكان ليلة يعاتب ربه عز وجلّ، ويقول: يا رب! الناس ما يأتوني إلا لأجلك، وأنا قد سألتك في المرأة الفلانية، والرجل الفلاني أن تقضي حاجته، وما قضيتها، فهكذا يكون؟. ويبكي ليله وينتحب. وليلة يتمثل بهذه الأبيات، وكان يتمثل بها كثيرا. «4»
قال: وأخبرني القاضي شمس الدين عبد الله الحنفي النائب بدمشق، قال: حكى رجل من الفقراء كان قد صحب الشيخ عبد الله اليونيني، وكان في صباه حماميا، قال: دعتني نفسي إلى معاشرة النساء، فبينا أنا عند امرأة، وإذا زوجها قد جاء، فدقّ الباب، فحرت، وكان بيتها صغيرا، فصعدت السطح، فدخل زوجها، فرآها متغيرة، فقال: مالك؟. قالت:
لا شيء. فارتاب، وصعد السطح.(8/215)
قال: ونظرت والله إلى عمامته وهو في السلّم صاعد.
فقلت:" يا سيدي الشيخ عبد الله!، أنا في حسبك".
فطلع، فلم يرني، ونزل، وبقي في بيته ساعة، وخرج.
فنزلت، ومضيت إلى الشيخ، فقال: ويلك يا مدبر! تتستّر بنا، وتستعين بنا على المعاصي؟!.
قال ابن العديم: وقد صحبته، ووهب لي قميصا له أزرق، وقال لي يوما ببيت المقدس: يا أبا القاسم! اعشق تفلح!. فاستحييت، وذلك في سنة ثلاث وستمائة. وعدت مع والدي.
ثم بعد مدة سارّني بجامع دمشق، وقال: عشقت بعد؟. فقلت: لا. قال: شه عليك.
واتفق أني تزوجت بعد ذلك بسنة، وملت إلى الزوجة ميلا عظيما، فما كنت أصبر عنها. «1»
قال لي الفقيه محمد «2» : كنت عند الشيخ، فالتفت إلى داود المؤذّن، فقال: وصيّتك بي غدا، فظنّ المؤذن أنه يريد يوم القيامة.
وكان ذلك يوم الجمعة، وهو صائم، فلما جاء وقت الإفطار، قال لجاريته: يا درّاج! أجد عطشا.
فسقته ماء لينوفر، فبات تلك الليلة، وأصبح وجلس على حجر، موضع قبر، مستقبل القبلة، فمات وهو جالس، ولم يعلم بموته، حتى حرّكوه، فوجدوه ميتا، فجاء المؤذّن وغسّله، رحمه الله تعالى «3» .(8/216)
قال الفقيه «1» : كنت عند الشيخ يوما؛ فجاءه رجلان من العرب، فقالا: نطلع إليك؟.
قال: لا.
فذهب أحدهما وجلس الآخر، فقال الشيخ: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ
«2» ، ثم قال له: اطلع. وطلع، فأقام عندنا أياما، فقال له الشيخ: تحب أن أريك قبرك؟.
قال: نعم. فأتى به المقبرة، فقال: هذا قبرك!. فأقام بعد ذلك اثني عشر يوما، أو أربعة عشر يوما، ثم مات، فدفن في ذلك المكان!.
وكان له زوجة، ولها بنت، فطلبت أن يزوجني بها، فتوقّفت أمها، وقالت: هذا فقير ما له شيء.
فقال: والله إني أرى دارا قد بنيت له، وفيها ماء جار، وابنتك عنده في الإيوان، وله كفاية على الدوام، فقالت: ترى هذا؟. قال لها: نعم.
فزوّجتنيها، ورأت ذلك، وأقامت معي سنين، وذلك سنة محاصرة الملك العادل سنجار.
وكانت امرأة بعد موتها تطلب زواجي، وتشفّعت بزوجة الشيخ، فلما أكثرت عليّ، شكوتها إلى الشيخ، فقال: طوّل روحك يومين، ثلاثة، ما تعود تراها.
قال: فقدم ابن عمها من مصر أمير كبير بعد أيام، فتزوّج بها، وما عدت رأيتها.
قال ابن العديم: توفي في عشر ذي الحجة، سنة سبع عشرة وستمائة، وهو صائم، وقد جاوز الثمانين.
وكان رحمه شيخا طوالا، مهابا، كأنه نار، وكان يقوم نصف الليل إلى الفقراء، فمن رآه(8/217)
نائما ضربه، وكان له عصاة اسمها" العافية" «1» .
وكان شجاعا في الله، وبالله، كثير الأذكار والحضور، يغار ممن يذكر اسم" الجبّار" بغير استحضار، وله هيبة على المشايخ والفقراء، لا يستطيع الإنسان أن يطيل النظر إليه، وكان لا تأخذه في الله لومة لائم.
وقال الشيخ شمس الدين محمد بن العماد نزيل مصر: ما سمي أحد بأسد الشام إلا الشيخ عبد الله اليونيني.
وقال الشيخ علي القصار: كنت إذا رأيت الشيخ عبد الله أهابه كأنه أسد، فإذا دنوت منه، وددت أني أشق قلبي وأجعله فيه «2» .
رحمه الله تعالى.(8/218)
ومنهم:
55- الشّيخ يونس بن يوسف بن مساعد الشّيبانيّ، المخارقيّ، المشرقيّ، القنيّيّ «13»
شيخ الفقراء اليونسية. رجل لم يكن في التقوى محرّجا، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً
«1» ، توالت عليه العصب، وقام له العدو وانتصب فردّ خائبا، وفرّ دون لقائه آئبا، فتوكل له ربه، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ
«2» ، فكشف له الغطاء، ووكف له العطاء، وأنافت له غدر المواهب، وأشرقت به غدائر الغياهب، وكانت لياليه مشكاة لأنوار، ومشكاة لأوار، وعزائمه تسعّر لجج السيوف وتوقدها، وطائفته شاكية السلاح، شافية في أهل الصلاح، طالما حلّوا الدهر همما، وأشبهوا الصحاب دمما، واتّزروا بزيّ غريب من طرّة عجيب نظره، ولم يكن من انتموا إليه وارتموا عليه على طريقتهم التي سلكوها، وحقيقتهم التي ضيّعوها بعد أن ملكوها.
قال ابن خلّكان: [وسألت جماعة] من أصحابه عن شيخه من كان؟. فقالوا: لم يكن له شيخ؛ بل كان مجذوبا، وهم يسمون من لا شيخ له ب" المجذوب"، يريدون بذلك أنه جذب إلى طريق الخير والصلاح، ويذكرون له كرامات.(8/219)
وقال ابن خلّكان «1» : أخبرني الشيخ محمد بن أحمد بن عبيد، كان قد رآه وهو صغير، وذكر أن أباه أحمد كان صاحبه، فقال: كنا مسافرين والشيخ يونس معنا، فنزلنا في الطريق على عين بوار، وهي التي يجلب منها الملح البواري، وهي بين سنجار وعانة، قال: وكانت الطريق مخوفة، فلم يقدر أحد منا أن ينام منشدة الخوف، ونام الشيخ يونس، فلما انتبه قلت له: كيف قدرت تنام؟. فقال لي: والله ما نمت حتى جاء إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وتدرّك الفعل «2» . فلما أصبحنا رحلنا سالمين ببركة الشيخ يونس. «3»
قال: وعزمت مرة على دخول نصيبين، وكنت عند الشيخ يونس في قريته، فقال: إذا دخلت البلد فاشتر لأم مساعد كفنا، قال: وكانت في عافية، وهي أم ولده، فقلت له:
وما بها حتى نشتري لها كفنا؟. فقال: ما يضر، فذكر أنه لما عاد وجدها قد ماتت! «4» .
وذكر له غير هذا من الأحوال والكرامات. وأنشدني له مواليا، وهو «5» :
أنا حميت الحمي وانا سكنتو فيه ... وأنا رميت الخلايق في بحار التيه
من كان يبغي العطا مني أنا اعطيه ... أنا فتى ما أداني من به تشبيه
قال ابن خلّكان: وذكر لي الشيخ محمد المذكور أن الشيخ يونس توفي سنة تسع(8/220)
عشرة وستمائة في قريته، وهي" القنيّة" «1» ، من أعمال" دارا"، وقبره مشهور بها يزار، وكان قد ناهز تسعين سنة من عمره. رحمه الله تعالى.
ومنهم:
56- السّاوجي شيخ القلندريّة جمال الدّين محمد الزّاهد «13»
أليف حال لو صبّ على الصخر لتصدّع، ولو استوقف به المفارق لما ودّع، هام بالحب فتيّمه، وأنكله مذ أحبّ وأيّمه، شهدت البصائر من حاله ما أعجب، ومن فرط بكائه وانهماله ماء لولا النار لأعشب، فحمّل إنسان عينيه ما لم يطق، وسقي بكأس مذ شرب منه لم يفق.
وكان في مبدأ أمره إذ قدم دمشق بطلب العلم مشتغلا، وفي لهب الجد مشتعلا، ثم شمّر للزهد إزاره، وانقطع سواء من هجره أو زاره، وأقام مجاورا لمحلّة الأموات، وجارا للأعظم الرّفات، ثم حلق شعر لحيته ورأسه، واتخذه شعارا لأناسه، فلم يزل ريا لأتباعه، وحلية لضباع قاعه وسباعه، وربما أتى هو وبعض ذويه بمخاريق وكرامات، للإنكار فيها طريق، وأصحابه يرمون باستعمال المسكر، إلا أنه الذي لا يعصر، والمسكر الذي يفعل فعل المدام، ولا يعرف وينكر.
قدم دمشق، وقرأ القرآن والعلم، وسكن بجبل قاسيون بزاوية الشيخ عثمان الرومي، وصلى به مدة. ثم حصل له زهد، وفراغ عن الدنيا، فترك الزاوية وانملس «2» ، وأقام بمقبرة الباب الصغير، قريبا من الموضع الذي بني فيه القبة لأصحابه، وبقي مدة في قبّة زينب بنت زين العابدين، فاجتمع فيها بالجلال الدركزيني، والشيخ عثمان كوهي الفارسي، الذي دفن بالقنوات، بمكان القلندرية.
ثم إن السّاوجي حلق وجهه ورأسه، فانطلى على أولئك حاله، فوافقوه، وحلقوا.(8/221)
ثم فتّش أصحاب الشيخ عثمان [الرومي] على السّاوجي فوجدوه بالقبة فسبّوه، وقبّحوا فعله، فلم ينطق ولا ردّ عليهم. ثم اشتهر وتبعه جماعة وحلقوا، وذلك في حدود العشرين وستمائة.
ثم لبس دلق شعر، وسافر إلى دمياط، فأنكروا حاله وزيّه، فرنق بينهم ساعة، ثم رفع رأسه، وإذا هو بشيبة- فيما قيل- كبيرة بيضاء. فاعتقدوا فيه «1» ، وضلّوا به، حتى قيل:
إن قاضي دمياط وأولاده، وجماعة حلقوا لحاهم، وصحبوه، والله أعلم بصحة ذلك. «2»
وتوفي بدمياط بعد العشرين وستمائة. وقبره بها مشهور، وله هناك أتباع.
وذكر شمس الدين الجزري في تاريخه «3» : أنه رأى كراريس من" تفسير" القرآن الكريم للشيخ جمال الدين السّاوجي، وبخطه.
وجلس في المشيخة بعده بمقبرة الباب الصغير، جلال الدين الدركزيني، وبعده: الشيخ محمد البلخي، وهو- أعني البلخي- من مشاهير القوم، وهو الذي شرع لهم الجولق الثقيل، وأقام الزاوية، وأنشأها، وكثر أصحابه. وكان للملك الظاهر فيه اعتقاد، فلما تسلطن طلبه، فلم يمض إليه. فبنى لهم السلطان هذه القبة من مال الجامع. وكان إذا قدم يعطيهم ألف درهم وشقتين من البسط، ورتّب لهم ثلاثين غرارة قمح، في السنة، وعشرة دراهم في اليوم.
وكان السويداوي منهم يحضر سماط السلطان الملك الظاهر ويمازح السلطان. ولما أنكروا في دولة الأشرف موسى على عليّ الحريري أنكروا على القلندرية- وتفسيرها بالعربيّ المحلّقين- ونفوهم إلى قصر الجنيد. «4»
وذكر ابن إسرائيل الشاعر: أن هذه الطائفة ظهرت بدمشق سنة نيّف عشرة وستمائة.
ثم أخذ يحسّن حالهم.(8/222)
ومنهم:
57- الشّيخ عبد الله بن يونس الأرمني «1» الحنفيّ «13»
الشيخ، الزاهد، القدوة.
قدوة لمّا عصم، وأسوة فيما علم، فطفق يفيض المواهب، وطفح جدوله ليغيض الغياهب، ولم يزل منتابا، ومؤملا يهدي مرتابا، وكشف لبصيرته، وأشرف بسريرته، وأدلج إلى الآخرة يحدي به مطايا النفوس، حتى زف إلى لحده زفاف العروس، وأطبق ملحده عليه، وعلى ما تبعه من النفوس، ثم خلا بعمله، وخلف المحلف خاليا بعد له، وذهب لم يطمس له منار، ونزل الجنة، والقلوب بعد في نار.
أصله من أرمينية الروم، وجال في البلاد، ولقي الصلحاء والزهّاد، وكان صاحب أحوال ومجاهدات، وكان سمحا، لطيفا، متعفّفا، لازما لشأنه، مطّرح التكلف. ساح مدة وبقي يتقنّع بالمباحات، وكان متواضعا، سيّدا، كبير القدر، له أصحاب ومريدون، ولا يكاد يمشي إلا وحده، ويشتري الحاجة بنفسه، ويحملها. وكان قد حفظ القرآن، وكتاب القدوري، فوقع برجل من الأولياء فدلّه على الطريق إلى الله «2»
توفي تاسع عشرين شوال سنة إحدى وثلاثين وستمائة. وكانت له جنازة مشهودة. وزاويته مطلة على قبر الشيخ موفق الدين بسفح قاسيون، ودفن جوار الزاوية «3» رحمه الله تعالى.(8/223)
ومنهم:
58- شهاب الدّين السّهرورديّ «13»
أبو حفص، عمر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن [عمر بن] عمّويه. واسمه عبد الله بن سعد بن الحسين بن القاسم بن النضر بن القاسم بن سعد ابن النضر بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق الملقب: شهاب الدين السّهروردي. «1»
رأس سنّة وجماعة، ورحا سنة ذات مجاعة. كان الغيث يستهلّ من فروج أصابعه، وتستقي البحار من منابعه، مع اعتزائه إلى نسب صدّيقيّ، واعتزازه منه بحسب حقيقي، وإجلال الخلفاء لمحله، وانتساب الوفاء إلى حرمه وحلّه، ونظره في العلم نظرا يعدّ به من الفقهاء، وشغل أوقاته شغلا ما قرّ للالتهاء.
وكان في أول أمره ومقتبل عمره- على شدة فاقته، وعدم قدرته على الدنيا وطاقته- يعطي عطاء المكثرين، ويهب هبات المثرين، مع فقر يعضّ عليه، ويغضّ بصر أمله لديه، لعفّة ما زالت تحل له رتاجا، وتوسع عليه فلا تدعه محتاجا، إلى أن صار من ذوي الثراء، والنعم والإثراء، وعلا مقاما كان له سعدا، وتمّ تماما كان له إرثا من آبائه حتى يعد معدّا.
وكان فقيها شافعي المذهب، شيخا صالحا ورعا، كثير الاجتهاد في العبادة والرياضة، وتخرّج عليه خلق كثير، من الصوفية في المجاهدة والخلوة، ولم يكن في آخر عمره في عصره مثله. «2»(8/224)
وصحب عمّه أبا النجيب «1» ، وعنه أخذ التصوف والوعظ، والشيخ أبا محمد عبد القادر بن أبي صالح الجيلي، وغيرهما، وانحدر إلى البصرة إلى الشيخ أبي محمد بن عبد، ورأى غيرهم من الشيوخ، وحصّل طرفا صالحا من الفقه والخلاف، وقرأ الأدب، وعقد مجلس الوعظ سنين.
وكان شيخ الشيوخ ببغداد، وكان له مجلس وعظ، وعلى وعظه قبول كثير، وله نفس مبارك. حكى من حضر مجلسه أنه أنشد يوما على الكرسي:
لا تسقني وحدي فما عوّدتني ... أني أشحّ بها على جلاسي
أنت الكريم ولا يليق تكرّما ... أن يعبر الندماء دور الكاس
فتواجد الناس لذلك، وقطعت شعور كثيرة، وتاب جمع كبير. «2»
قال ابن خلّكان «3» : ورأيت جماعة ممن حضروا مجلسه وقعدوا في خلوته وتسليكه- كجاري عادة الصوفية- فكانوا يحكون غرائب مما يطرأ عليهم فيها وما يجدونه من الأحوال الخارقة، وكان قد وصل رسولا إلى إربل، من جهة الديوان العزيز، وعقد بها مجلس وعظ، ولم تتفق لي رؤيته لصغر السن. وكان كثير الحج، وربما جاور في بعض حججه، وكان أرباب الطريق من مشايخ عصره يكتبون إليه من البلاد صورة فتاوى يسألونه عن شيء من أحوالهم.
سمعت أن بعضهم كتب إليه:" يا سيدي! إن تركت العمل أخلدت إلى البطالة، وإن عملت داخلني العجب، فأيهما أولى؟ ".(8/225)
فكتب جوابه:" اعمل واستغفر الله تعالى من العجب". «1»
وحكى الوداعي عن الشيخ قطب الدين بن القرطبي قال: حضرت مجلس الشيخ شهاب الدين السهروردي بمكة، وهو يعظ، فأنشد في خلال وعظه:
هو الحمى ومغانيه مغانيه ... فانزل وعاين بليلى ما تعانيه
ما في الصحاب أخو وجد أطارحه ... حديث نجد ولا صبّ أجاريه
فقام إليه فقير فقال: أنا أطارحك أيها الواعظ!، وجلس ووضع رأسه بين ركبتيه، فقال الشيخ: جهّزوا أخاكم فإنه قد مات!. فقاموا إليه فوجدوه قد مات، فجهّزوه، وواروه.
وله كتاب:" عوارف المعارف" ذكر فيه أبياتا لطيفة منها:
أشمّ منك نسيما لست أعرفه ... أظنّ لمياء جرّت فيك أذيالا
وذكر فيه أيضا:
إن تأمّلتكم فكلّي عيون ... أو تذكّرتكم فكلي قلوب
ومن شعره أيضا قوله:
تصرّمت وحشة الليالي ... وأقبلت دولة الوصال
وصار بالوصل لي حسودا ... من كان في هجركم رثى لي
وحقّكم بعد إن حصلتم ... بكل ما فات لا أبالي
أحييتموني وكنت ميتا ... وبعتموني بغير غالي
تقاصرت عنكم قلوب ... فيا له موردا حلالي
عليّ ما للورى حرام ... وحبّكم في الحشا حلالي
ترّبت أعظمي هواكم ... فما لغير الهوى وما لي
فما على عادم أجاجا ... وعنده أعين الزلال «2»(8/226)
وقوله:
ربع الحمى مذ حللتم معشب نضر ... يروق أكنافه يزهو بها النظر
لا كان وادي الغضالا تنزلون به ... ولا الحمى سحّ في أرجائه المطر
ولا الرياح وإن رقّت نسائمها ... إن لم تفد نشركم لا ضمّها سحر
ولا رقت عبرتي حتى يكون لمن ... ذاق الهوى وصبّا في عبرتي عبر «1»
وقوله:
يطوي اللبيب صحائف الأمل ... قبل اقتحام طلائع الأجل
قد شاب مشوب حظه [ ... ] «2» ... ذهب الكلال بلذة الكلل
وقوله:
أيا صاحي وقد سئمت السرى فمن ... إليّ بعين تذوق الكرى
أرى نارهم والهوى سائقي ... وقد هيّج الشوق من أسهرا
وقد دار في القلب كأس الهوى ... وذو الوجد لا بدّ أن يسكرا
ولوعي بسكان دار العقيق ... رخيص بروحي أن يشترى
مولده: بسهرورد، في أواخر رجب، أو أوائل شعبان، الشك منه، سنة تسع وثلاثين وخمسمائة.
وتوفي: في مستهلّ المحرم سنة اثنين وثلاثين وستمائة، ببغداد، ودفن من الغد بالوردية.
رحمه الله تعالى.(8/227)
ومنهم:
59- غانم بن عليّ بن إبراهيم بن عساكر بن الحسين «13»
الشيخ، القدوة، الزاهد، أبو عليّ، الأنصاريّ، السّعديّ، المقدسيّ، النّابلسيّ. أحد مشايخ الطرق.
باب من حضرة القدس، وآب ولم يطأ غير الكواكب ولم يدس، ففاء ظلالا، وأضاء هلالا، وورد مشرعة، وحمل حمل السحاب المقبل مسرعة، ورمى بمريديه على الشريعة حتى سقاهم زلالها، ووقاهم فرق الفرقة وضلالها، وتألّقت له الأنوار فمشى في أضوائها، وتألقت له الأنواء فسرى في أنوائها، ولم يعدل بليلى حبيبة، ولا عدى نجدا وكتيبة، خبا لرامة وسفوحها، وآرام وحرّة وسنوحها، فهمى وهام، ودلّ على وقته السهام.
ولد بقرية بورين، من عمل نابلس، سنة اثنتين وستين وخمسمائة.
وسكن القدس، عام أنقذه السلطان من الفرنج سنة ثلاث وثمانين، وساح بالشام، ورأى الصالحين.
وكان زاهدا، عابدا، مخبتا، قانتا لله، مؤثرا للخمول والانقباض، صاحب أحوال وكرامات.
حكى ابنه الشيخ عبد الله: أنّ أباه أخبره أن رجلا من الصدّيقين اجتمع به ساعة، قال:
فلما وقعت يدي في يده انتزعت الدنيا من قلبي، ولما نهضت قال لي: وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى
. «1»
فجعلت هذه الآية قدوتي إلى الله تعالى، وسلكت بها في طريقي، وجعلتها نصب(8/228)
عيني لكلّ شيء قالته لي نفسي. فإن قالت لي: كل. أجوع، وإن قالت: نم، سهرت، وإن قالت: استرح، أتعبتها.
قال ابنه عبد الله: انقطع أبي رحمه الله تعالى تحت الصخرة في الأقباء السليمانية سنة ستين، وصحب الشيخ عبد الله الأرموي، بقية عمره، وعاشا جميعا مصطحبين.
قال: وحجّ ثلاث مرات محرما من القدس، فقال: رجعت من الحج، وأنا مريض، لا أستطيع الكلام، فانطرحت في البرّيّة، فجاءني مغربي، فسلّم عليّ، فأومأت له، فقال: قم.
فأقامني، وجعل يده تحت جناحي، ثم سار بي يحدّثني بما أنا فيه، وبما يكون مني، لا أشكّ أني سائر في الهواء، غير أني قريب من الأرض مقدار ساعة، ثم قال: اجلس!، ونم، فنمت ونام معي، فاستيقظت، فلم أجده!. ووجدت نفسي قريبا من الشام، وأنا طيّب، ولم أحتج بعد ذلك إلى طعام ولا شراب حتى دخلت بيت المقدس.
قال: [ثم أخذ ولده عبد الله يصف توكّله وفناءه ومحبّته ورضاه، ومقاماته، وأن أخلاقه كريمة، وهيبته عظيمة، وأنه] «1» بقي عشرين سنة بقميص واحد، وطاقية على رأسه، ثم سأله الفقراء أن يلبس جبّة، فلبس، وأنه ما لقي أحدا إلا ابتسم له.
قال: ورأيت ابن شير المغربيّ، وحجّ سنة، ثم قدم وحضر عند الفقراء، فقال: كيف كان وصول الشيخ؟. قالوا: الشيخ ما حجّ.
فقال: والله لقد سلّمت عليه على الجبل وصافحته. ثم أتى إليه وسلّم عليه، وقال: يا شيخ غانم! أما سلّمت عليك بالجبل؟. فتبسّم وقال: يا شمس الدين! هذا يكون بحسن نظرك، والسكوت أصلح.
وحكى الشيخ القدوة إبراهيم [بن عبد الله] الأرمويّ قال: حضرت مع والدي سماعا حضره الشيخ غانم، والشيخ طيّ، والشيخ علي الحريري، فلما تكلم الحادي حصل للشيخ غانم حال، فحملني وقام بي، ودار مرارا، فنظرت، فإذا بي في غير ذلك الموضع، ورأيت(8/229)
شخصا خارجا من باب حديقة، وهو يسوق بقرة، فهالني ذلك.
فلما جلس بي الشيخ، قال له الشيخ طيّ أو غيره: أيش كانت وظيفة ولد الشيخ عليك في هذه القومة؟. فلم ينطق.
فقال والدي: الشيخ عبد الله فرّج ولدي في إقليم الهند وجاء!. فسكت الشيخ غانم.
هذه الحكاية يرويها قاضي القضاة أبو العباس بن صصرى، والشيخ علاء الدين علي ابن شيخنا شمس الدين محمد سبط الشيخ غانم. «1»
وتوفي الشيخ غانم في غرة شعبان سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، ودفن في الحضرة التي فيها صاحبه ورفيقه الشيخ عبد الله الأرموي، بسفح قاسيون.
رحمه الله تعالى.
ومنهم:
60- عبد الله بن عبد العزيز اليونينيّ «13»
من أصحاب الشيخ عبد الله اليونيني الكبير.
قمر طلع منيرا تماما، واقتلع ثبيرا وشماما، من قوم رفعوا عقوق الأعذار، ورقعوا خروق الأعمار، وطبعوا الكلام زبرا، وطمعوا بقول ربهم: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً
«2» ، فقدّموا لأيديهم، وتقدّموا والله يهديهم، وسعوا للآخرة سعيها، وسقوا رياض الأماني الفاخرة، فأحسنوا سقيها ورعيها، فأزلفت لهم الغرف ورضوان بوّابها، حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها.
كان صاحب كرامات ومجاهدات.(8/230)
قال أبو العباس أحمد ابنه: عنّفني والدي مرة، وقال لما انزعج: والك أنا قضيت إلى يومي هذا صلاة أربعين سنة!.
قال ابنه: وحدّثني فقير قال: اقتات أبوك سنة بثلاثة دراهم، اشترى بدرهم دقيق، وبدرهم سمن، وبدرهم عسل «1» ، ولتّه وجعله ثلاثمائة وستين كبّة، كان يفطر كل ليلة على كبّة.
وقيل: إنه عمل مرة مجاهدة تسعين يوما، يفطر كل ليلة على حمّصة، حتى لا يواصل.
قال [الشيخ] إسرائيل بن إبراهيم: كان إذا دخل شهر رجب يتمارض الشيخ عبد الله ابن عبد العزيز، ويأكل في كل عشرة أيام أكلة!.
وقال الشيخ إبراهيم البطائحي «2» : كان في المزّة شابّ، وكان يشرب الخمر، وكان يحسن إلى جماعة المزة، فسألوا الشيخ عبد الله لعلّه يتوب، فقال الشيخ عبد الله:
أحضروه [لعلّه يتوب، وكان يحسن إلى جماعة المزّة] . «3»
فدعا بعض الجماعة الشيخ وأصحابه، وحضر الشاب وأنشد بعضهم أبياتا، وطاب الشيخ، وكان ثمة شمعة، فجعل الشيخ لحيته عليها، وبقيت النار تخرج من خلالها، وكان الشيخ كثّ اللحية، فلما رأى الشاب ذلك الحال، وقع على رجل الشيخ وتاب، وجاء منه رجل صالح، وكان كثير العبادة والخير.
قال: وأخبرني جماعة من أهل المزة: أنهم شاهدوا الشيخ والنار تخرج من خلال لحيته، وأن الشاب تاب. «4»
وقال مري بن أبي الفضل: أخبرني علي الشبلي، قال: احتاجت زوجتي إلى مقنّعة،(8/231)
وطالبتني، فقلت: عليّ دين خمسة دراهم، فمن أين أشتري لك؟. فلما كان الليل نمت، فرأيت كأنّ قائلا يقول: إن أردت أن تنظر إلى إبراهيم الخليل فانظر إلى الشيخ عبد الله ابن عبد العزيز.
فلما أصبحت أتيته بقاسيون، فقال لي: والك يا علي! اجلس.
وقام إلى منزله، وعاد ومعه مقنّعة، وفي طرفها خمسة دراهم. فرجعت، وكان عندنا ورد، فجمعته المرأة وأتت به إلى بيت الشيخ عبد الله، فوجدت زوجته وما على رأسها سوى مئزر معقود تحت حنكها، رضي الله عنها. «1»
وحكى خادمه عباس، فقال: سافرت صحبة الشيخ إلى العراق، ومعنا جماعة، فلما أتينا ميافارقين، دخل الشيخ عبد الله مسجدا وكان ثمّ دكان فيها خياط سامري، فلما رأى السامريّ الشيخ دخل وقعد في رواق المسجد، فأنكر عليه بعض الجماعة، وأراد أن يخرجه، فقال له الشيخ: دعه، وإذا برجل قد دخل على الشيخ ودعاه إلى منزله، فقام الشيخ وأصحابه، والسامريّ، فلما صاروا في بيت الرجل أنشد بعض الجماعة أبياتا، قال: فضرب السامريّ بيده على رأسه، وقام إلى الشيخ، وأسلم، وصحبه.
وقال الشيخ يوما لزوجته: ما فرغ هذا الدقيق المشؤوم؟. قالت: ليس هو مشؤوم!، وقد رأينا فيه البركة. فقال: ويلك، وإلا دقيق ما يأكل منه فقير ما هو مشؤوم؟.
وكان إذا رأى فقيرا يقول: ما تجيء تعمل عندي في جبّ. فإذا أجاب قال: على شرط أي شيء جاءنا فتوح تأخذه. فكان إذا عمل الفقير عمق شبرين فإن أتي الشيخ بشيء دفعه إليه. فإذا راح عمد الشيخ فطمّ ما حفره الفقير.
توفي: في ثامن رجب سنة ثلاث وأربعين وستمائة. ودفن بقاسيون بالقرب من التربة المعظّمة. رحمه الله تعالى.(8/232)
ومنهم:
61- الشّيخ عليّ بن [أبي الحسن بن منصور] المعروف بالحريري «13»
عشق فتاه، وكلف بغير فتى ولا فتاه، وكان صاحب خوارق لا بتكيف، ولا يدري أهي أو سانحات الطير أعيف، أخذ القلوب عنوة، وكشف الغطاء وقال علوة، وكان لا ينام والعيون رقود، ولا يسام إليه خطا القود، وكانت له أذكار بها النجوم تتألف، وأفكار لو سرت مسراها الريح كادت تتلف، إلى خلب الألباب، وسلب للقلوب يفعل فعل الأعداء بالأحباب، وسكون إلى الدّعه، وإنفاق من سعه، وتأنق في رفاهية، وعيشة راضيه، لعيشة الملوك مضاهيه، هذا مع جهاد كان عليه في أول حاله.
حكي أنه كان يركب حائطا في داره لحاجة يريدها ثم يغلب عليه حال ينسى بها نفسه ولا يعود يعرف يومه من أمسه، حتى يبقى مدة على الجدار منتصب، ومرفقه بالشمس متوّج أو بالثريا معتصب، لا يعرف ضجرا ولا هجيرا، ثم كثر بالناس ائتلافه، وطال تردده إلى المدينة واختلافه، فأطلقت فيه الفقهاء الألسنة، ومرقت الفقراء له السيئة بالحسنة، فطائفة مقرّة، وأخرى جاحدة، وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً
«1» .(8/233)
أصله من" بسر" «1» ، وتردد إلى دمشق، وتبعه طائفة من الفقراء.
قال أبو شامة: وهم المعروفون بالحريرية، أصحاب الرأي المنافي للشريعة، وباطنهم شرّ من ظاهرهم. «2»
قال: وكان عند هذا الحريري من الاستهزاء بأمور الشريعة والتهاون بها، ومن إظهار شعار أهل الفسوق والعصيان شيء كثير. وانفسد بسببه جماعة كثيرة من أولاد كبراء دمشق، وصاروا على زي أصحابه، وتبعوه بسبب أنه كان خليع العذار، يجمع مجلسه الغناء الدائم، والرقص، والمردان، وترك الاحتجاز على أحد فيما يفعله، وترك الصلوات، وكثرة النفقات، فأضلّ خلقا كبيرا، وأفسد جماعة. ولقد أفتى في قتله جماعة من علماء الشريعة، ثم أراح الله منه. «3»
وتوفي: في رمضان سنة خمس وأربعين وستمائة، في زاويته بقرية" بسر". هذا قول أبي شامة في الحريري، وهو أحد القولين فيه.(8/234)
والقول الآخر: أنه من الأولياء أصحاب الأحوال والكرامات، وقد حكي لي من أحواله ما أذكره والسرائر عند الله تعالى.
حدثني عمي الصاحب شرف الدين رحمه الله تعالى قال: سافرت وأنا صبي صغير إلى بلاد حوران، فلما كنت بزرع دخلت الحمام، فإذا أنا بالشيخ علي الحريري؛ فقال لي بعض من كان معي: قبّل يد الشيخ، فقمت إليه، وقبّلت يده، فرأيته جالسا على جانب الحوض يصب الماء على أصحابه، فقال له بعض أصحابه، يا سيدي! هذا ابن فضل الله، فقال: ونعم- والله- من ابن رجل جيد، اقعد!، فقعدت، فأمر شخصا من أصحابه، فغسّلني، والشيخ يصبّ عليّ بيده الماء، إلى أن فرغت، ثم أتاني بمناشف من عنده مبخرة، ما رأيت أطيب منها ريحا!، ثم أتاني بقماش كأنه قد هيّء لي، فلبّسني، ثم قال: يا سعيد! يا طويل العمر!، يا طويل الذيل!، فأنا كلما تذكّرت ما أنعم الله به علي علمت أنها كانت بشرى من الشيخ.
وحدّثني الشيخ نجم الدين أبو عبد الله محمد بن عمر بن أبي الطيب، عن أبيه الشيخ نجم الدين أبي حفص عمر قال: خرج مرة إلى محجّة قاضي القضاة محيي الدين أبي الفضل ابن الزكي، ومعه نائبه قاضي القضاة صدر الدين بن سني الدولة، ومعه ابنه القاضي نجم الدين، وكان الفصل شتاء، فلما أردنا العود، وجّه ابن الزكي وجهه إلى:" بسر" لزيارة الشيخ علي الحريري، فلما قاربنا" بسر" قال ابن الزكي: أشتهي أن يطعمنا الشيخ بسيسة حورانية، فقال صدر الدين بن سني الدولة: وأنا أشتهي طبيخ كشك بدجاج، فقال ابنه:
وأنا أشتهي درّاقن لوزي. فقالوا: وأنت؟. فقلت: أنا رجل فقير مهما حضر قنعت. قال:
فلما وصلنا ونزلنا بالزاوية، سلّمنا على الشيخ، فجلس إلينا جلسة ثم قام، وغاب عنا إلى أن كاد وقت الظهر يفوت، ثم أتى ومعه قصعة فيها بسيسة، وقصعة فيها كشك دجاج، وبيده شيء آخر، فقال لخادمه: ضع البسيسة بين يدي قاضي القضاة محيي الدين، وضع الكشك بين يدي القاضي صدر الدين، ثم التفت إلى نجم الدين وقال: يا ثقيل!، يا متعنّت!، من أين يلتقي في بلاد حوران في زمان الشتاء درّاقن لوزي؟ والله ما تأخّرنا إلا بسبب عنتك، ثم وضع الذي كان بيده قدّامه، فإذا هو سلّة صغيرة فيها درّاقن، ثم طلع إليّ وقال: يا نجم(8/235)
الدين! أنت رجل فقير مهما حضر قنعت به، شارك الكل وكل معهم.
وحدّثني شيخنا نجم الدين موسى بن علي الكاتب المجوّد، عرف بابن البصيص، فيما يحكي عن أبيه قال: كان شخص من أبناء الأمراء عند أبي في المكتب، يتعلم الخط، فلما خرج من المكتب، سمع الحديث، وتفقّه، وكان له ذكاء، وعنده قابلية واستعداد، فبرع، ثم إنه جاء يوما إلى أبي إلى المكتب ليزوره ويوصيه بأخ له صغير، كان قد أتى به إليه ليعلّمه، فجلس إلى أبي، وشرع يحدّثه، فجرى ذكر الشيخ الحريري، فأخذ ذلك الشاب يقع فيه ويقول: رجل مبتدع صفته نعته، وبالغ في ذكره بالسوء، فما أتم كلامه إلا وقد أقبل الشيخ في خلق من أصحابه، فوقف على المكتب، ونظر إلى ذلك الشاب ثم قال له: دع كل شيء كنت فيه، وخلّ هذا الفشار من رأسك، وقم انزل.
فقام الشاب إلى الشيخ، وقبّل يده، فطلب الشيخ مقصا ثم قصّ شعره، وألبسه طاقية على رأسه، وثوبا من ثياب الفقراء، ثم مشى الشيخ، فمشى الشاب معه، ثم صحبه صحبة كانت إلى آخر العمر.
ومنهم:
62- عيسى بن أحمد بن إلياس بن أحمد اليونينيّ «13»
جلا الرتب ومزّقها، ومحا بصباح جبينه الأهلّة ومحقها، صام الهواجر، وقام الليالي الطوال مغرورق المحاجر، وأنينه أنيسه، وجلوسه منفردا جليسه، فأنس بالله دون خلقه، وجلس في كسر بيته لأداء حقه، وعمل لجنّة يدوم نعيمها، وتهبّ بحياة النفوس نسيمها، وفرّ من النار فرار الآبق، وقرّ به القرار ودمعه السابق.(8/236)
قال أبو محمد عبد الله بن عمر المقدسي- فيما جمعه من أخبار الشيخ عبد الله اليونيني وأصحابه-: ومنهم ذو المنظر المهول، والسيف المسلول، لم يكن بالكلام قوول، ولا في العمل ملول، رئيس القوم، ومحيي الليل بالتهجّد والنهار بالصوم، سلّاب الأحوال «1» ؛ الشيخ عيسى. فروى بسنده عن إبراهيم بن مسمار قال: صحبت الشيخ عيسى أربعين سنة، ما رأيته أكل فيها بالنهار.
وقال محمد بن عبد القادر اليونيني: جاء الملك الصالح إسماعيل إلى عند الشيخ واستأذن عليه ثلاث مرار، فلما اجتمع به قال له: يا سيدي! أشتهي أن أوقف عليك يومين، فامتنع من ذلك، فقال: أبني ها هنا رواقا، فقال له: ما أشتهي يكون عندي من يصدّعني.
وقال أحمد بن عثمان بن إلياس: صحبت الشيخ عيسى خمسين سنة، فحدّثنا يوما قال: ورد إليّ جماعة وتحدّثوا في كرامات الأولياء، فقلت: أعرف رجلا لو قال لهذه الحجارة: صيري ذهبا وفضة، صارت.
فقلت: يا سيدي!، ذكر عن إبراهيم بن أدهم أنه ورد إلى عنده جماعة، وتحدّثوا بمثل هذا، فقال إبراهيم: أعرف رجلا لو قال لهذا الجبل: زل، لزال!. فاهتزّ الجبل، فقال له إبراهيم: اسكن!، فسكن. فأنت لما قلت هذه المقالة صارت الحجارة ذهبا. قال: فاحمرّ وجهه، ودخل فحصل عندي مثل أني أسأت الأدب قدّامه، فلما كان بعض الليالي، توضّأ، ووقف على حجر ينشف وجهه، ويحرك الحجر برجليه، فالتفت إليّ وقال: يا أحمد! أيش كنت تقول؟. فقلت: يا سيدي! أنا أستغفر الله. قال: قال إبراهيم: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي
«2» فنظرت، وإذا بالحجر يلمع ذهبا!. فصحت وأغمي عليّ، فأراد الفقراء يقيموني، فقال: خلوه، فلما أفقت، اجتمعت ببعض أصحاب الشيخ، وقلت: يا فلان! ما يعرف أحد الشيخ، فقد رأيت منه كذا وكذا. ثم دخلت على الشيخ فعنّفني، ولا مني لكوني حكيت ما رأيت. وقال: يا ما فاتك مني؟.(8/237)
وقال إسماعيل بن إبراهيم بن سلطان: كنت قرأت نصف الختمة، والبقرة، وآل عمران، والنساء، ونسيتها، فسألني الشيخ عيسى: أيش قرأت؟. قلت: كذا وكذا، ونسيتها، فلما أردت أن أفارقه ضمّني إلى صدره، فحفظت بعدها القرآن.
وقال عبد الولي بن عبد الرحمن الخطيب: لما دخل الخوارزمية جاء وال لهم إلى" يونين"، وطلب من الفلاحين شيئا ما لهم به قوة، فشكى الفلاحون إلى الشيخ ما يقاسونه من الوالي. فاتّفق أن الوالي طلع إلى عند الشيخ، فقال له: ارفق، فهؤلاء فقراء. فقال: ما لي إلى هذا سبيل.
فبقي الشيخ يردد عليه ويقول: مالي إلى هذا سبيل. فنظر إليه الشيخ وأطال النظر، فخبط الأرض، وأزبد، فلما أفاق، انكبّ على رجلي الشيخ، واعتذر، ونزل، فقال للخوارزمية: من أراد أن يموت يطلع إلى الضيعة، أو ما معناه «1» .
ولما مرض الشيخ مرض الوفاة جاء فقير إلى السياج الذي عند زاويته، وقال له: يا عيسى تعال فقام إليه فقال: هات أذنك، فقدّم إليه أذنه، فشاوشه، وراح. فلما رجع الشيخ سأله الجماعة عما قال له؟. فقال: أيش تريدون؟ فلما ألحّوا عليه، قال لهم: قال لي: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: تهيّأ للقدوم. فمات بعد اثني عشر يوما، والجماعة خبّروني بهذا.
توفي في ذي القعدة سنة أربع وخمسين وستمائة.
وقد ذكره ابن اليونيني «2» ، ورفع نسبه إلى كرز بن وبرة، وكرز في الطبقة الرابعة من أهل الكوفة. وكان زاهدا عابدا، [خائفا مجتهدا] يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، فيضربونه حتى يغشى عليه. وكان يختم القرآن في اليوم والليلة ثلاث مرات «3» . ولم يرفع رأسه إلى السماء أربعين سنة، حياء من الله تعالى.(8/238)
وقال أبو سليمان «1» المكتب: صحبت كرزا إلى مكة، فكان ينزل فيصلي، فرأيت يوما سحابة تظلّه، وكان يوما شديد الحر، فقال: اكتم علي. وقد ذكره أبو نعيم «2» وغيره.
عدنا إلى ذكر الشيخ صاحب هذه الترجمة:
قال ابن اليونيني: صحب الشيخ الكبير عبد الله اليونيني، وانتفع به، وكان من أعيان أصحابه، وانقطع بزاويته بقرية" يونين" من عمل بعلبك، معرضا عن الدنيا وأهلها. يقوم الليل، ويسرد الصوم، [وبقي على ذلك سنين كثيرة، إلى أن توفي رحمه الله تعالى في زاويته بقرية يونين، في رابع ذي القعدة، ودفن بها، وهو في عشر الثمانين تقريبا] «3» ، وكان من الأولياء الأفراد، ولم يتزوّج لاستغراق أوقاته بذلك، لكنه عقد عقدا على عجوز كانت تخدمه، لاحتمال أن تمس يده يدها «4» ، والناس عنده سواء في المعاملة.
قال: وبلغني أن البادرائي قصد زيارته، فجاءه عند صلاة المغرب، فصلى الشيخ، وقام ليدخل إلى خلوته على عادته، فاستوقف له حتى أتاه فسلّم عليه، وسأله الدعاء، ثم أخذ في محادثته، فقال له الشيخ: رحم الله من زار وخفّف. وتركه ودخل [إلى خلوته] . «5»
قال: وكانت شفاعاته عند ولاة الأمور مقبولة، وله الحرمة العظيمة عند سائر الناس، والمهابة في الصدور، مع لطف أخلاقه، ولين كلمته.
وله الكرامات الظاهرة، وإذا حضر له أحد من [المشايخ و] «6» أرباب القلوب [إلى يونين، قصد زيارته و] تأدّب معه غاية الأدب، وأما هو فلا يمشي إلى أحد البتة. ومن سلك منهم معه غير الأدب سلب. «7»(8/239)
قال: وكانت بينه وبين والدي صداقة، وكنت آتيه مع أبي فيقبل علي، ويتلطّف بي، فلما كانت السنة التي مات فيها، كان والدي يأمرني بكثرة التردد إليه، [كأنه استشعر قرب أجله وأحس به، فكنت بعد كل يوم أتردد إليه فقصدته مرة في أول شوّال من هذه السنة، ومعي ناصر الدين علي بن فرقين، والشمس محمد بن داود رحمهما الله، فدخلنا عليه وليس عنده غيرنا، وشرع] «1» فحدّثنا، ثم استغرق عن غير قصد منه لذلك، ثم أفاق من غشيته، وقد انقطع الحديث، فسألناه إتمامه وألححنا في السؤال فقال:
من سارروه فأبدى السرّ مشتهرا ... لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا
وأبعدوه فلم يحظ بقربهم ... وبدّلوه مكان الأنس إيحاشا
قال: وكان مضمون ذلك الحديث: أنه أنذر بدنو أجله، ثم لم يلبث أن مرض ومات، ودفن إلى جانب الشيخ عبد الخالق، وكان من أبر الصلحاء. «2»
قال: حدثني أبو طالب بن أحمد اليونيني: أن الشيخ عيسى أخبره بما يكون من زوال ملك بني أيوب، وأن الترك تملك بعدهم، ويفتح الساحل كله «3» .
قال: وحكى لي أيضا: أن عبد الله بن إلياس النصراني قال: جئت طرابلس، فقال لي بعض الخيّالة «4» : عندي أسير من بلادكم- وعرض عليّ مشتراه- فوجدته رجلا اسمه:
سهل، من قرية" رعبان «5» " [فحين رآني تشبّث بي وقال: لا تخلى عني اشترني وأنا أعطيك ثمني حال وصولي إلى رعبان] «6» ، فاشتريته بستين دينارا صورية، وجبته «7» إلى قريته، فلم(8/240)
يكن له ولأولاده تلك الليلة ما يتعشون، فندمت، فقال لي أهل القرية: نحن في أيام البيدر نجمع لك ثمنه، فضقت لذلك، وجئت إلى يونين، فصادفت الشيخ عيسى خارجا من الطهارة، وما كنت رأيته قبل ذلك، فقال لي: أنت الذي اشتريت [سهل] الرعباني؟.
فقلت: نعم. فشرع يحدّثني عنه، [ويسألني عن الصورة وهو متوجه إلى زاويته، وأنا معه، فلما وصل إلى السياج الذي على ظاهر الزاوية، طلب فقيرا من داخل السياج، وقال له:] «1» أبصر في الزاوية ورقة تحت اللباد الذي لي، أحضرها.
قال النصراني: فتوهّمت أنها ورقة كتبها إلى من يعطيني شيئا من وقف الأسرى، أو غيره، فلما ناولني الورقة وجدتها ثقيلة، ففتحتها، فوجدت فيها الستين دينارا التي وزنتها في الأسير بعينها!، فتحيّرت، وأخذتها، وانصرفت «2» . قال أبو طالب: فقلت له: فلم لا أسلمت؟. فقال: ما أراد الله.
قال قطب الدين: وشكوا إليه التفاح وأمر الدودة، وسألوه كتابة حرز، فأعطاهم ورقة فشمّعوها، وعلّقوها على شجرة، فزالت الدودة عن الوادي بأسره، وأخصبت أشجار التفاح بعد يبسها، وحملت حملا مفرطا.
وبقوا على ذلك سنين في حياته، وبعد وفاته، ثم خشينا من ضياع الحرز، فقلنا ننسخه عندنا، فأزلنا الشمع عنه، وفتحناه، فوجدناه قطعة من كتاب جاء إلى الشيخ من حماه، فندمنا على فتحه، ثم أعدناه، فلم يفد. وجاءت الدودة فركبت الأشجار، وأعطبتها، واستمرّ الحال على ذلك «3» .
وقال: حكى لي الحاج علي بن أبي بكر عن بعض أقاربي أنهم قصدوا عمارة حمام في" يونين" وحصّلوا بعض آلاته، فنهاهم الشيخ عيسى، فقالوا: السمع والطاعة، فلما قاموا وأبعدوا، قال أحدهما للآخر: كيف نعمل؟. فقال له: الشيخ عيسى رجل كبير [ما يخلد، نصبر] ، ومتى مات عمّرناه. فبعث الشيخ بطلبهم، فلما جاؤوه قال: كأني بكم وقد قلتم(8/241)
كذا وكذا؟، [وأنكم تعمرون الحمام بعد موتي] . وهذا ما يصير، ولا يعمّر هذا الحمام لا في حياتي، ولا بعد موتي، فاعتذروا إليه.
قال ابن اليونيني: وأنا والله رأيت التجيبي «1» وهو نائب الشام وكان معظم يونين وقد همّ بعمارة حمام يونين، واشترى القدور، وسائر الآلات، [ولم يبق إلا عمارته] ، ثم اتفق ما صرفه عن ذلك، ثم [انتقل الخبر إلى الأمير عز الدين أيدمر الظاهري متولي نيابة السلطنة بالشام بعده، فشرع في ذلك] «2» ، واهتم به أعظم ممن تقدّمه، وحفر الأساس، ثم بطل بموانع سماوية! «3» .
ومنهم:
63- يوسف القمّيني «13»
رجل كان لا يريد في الأرض علوّا، ولا فيما لم يرض غلوّا، فاتخذ الذلّ عزّا، والفقر كنزا، وجعل الدنيا مسافة جدّ في قطعها، وشجرة خبيثة جهد في قلعها، وباغية جرّد عزائمه لقمعها، وعلة ضارية جلد نفسه على منعها، فعوّض بالأعلى عن الأدنى، وبدل له اللفظ بالمعنى، وتوقد منه أي جذوة، وأدلج ليلا وأوّب، وأبهج لألاء والنجم في غرته قد صوّب.
كان مأواه القمامين «4» والمزابل بدمشق، وغالب أوقاته يكون بقمّين حمام نور الدين الشهيد، بسوق القمح بدمشق.(8/242)
وكان يلبس ثيابا طوالا تكنس الأرض وهو حاف، مكشوف الرأس، طويل الصمت، قليل استعمال الماء، ولكثير من الناس فيه عقيدة جميلة، ويحكون عنه أنه يكاشفهم في كثير من الأوقات. وكان بعض من يعتقد فيه يحضر له شيئا من المأكول والمشروب، ويجتهد فيه، فيتناول منه قدرا يسيرا.
ولازم هذه الطريقة الشاقة إلى أن توفي في سادس شعبان سنة سبع وخمسين وستمائة، بدمشق. ودفن بتربة المولّهين، بقاسيون، ولم يتخلّف عن جنازته إلا القليل من الناس. وكان من غرائب العالم، يترنّح في مشيته، ولا يلتفت إلى أحد ولا يعبأ به. «1»
ومنهم:
64- الأكّال: محمّد بن خليل بن عبد الوهّاب بن بدر. أبو عبد الله البيطار «13»
حبّب إلى الناس حسن منظره، ويمن محضره، فكانوا يغشونه، وكادوا بهدب الأجفان يعشونه، لأنهم كانوا للنصح لا يستغشونه، ولخالص الودّ معه لا يغشونه، فكان لا يزال مجلسه معمورا، ومجالسه معذورا، رغبة في أنسه، ومحبة لنوعه الغريب في جنسه.
وكان يقصد من السلطان فمن دونه بأطايب الطعام، ومواهب الإنعام، وتنوع له تلك الأطعمة، وتبذل في النفقات عليها الأيدي المنعمة، ولا يأكل إلا بالأجرة تلك المآكل، ثم يجعل تلك الجعالة للأرمل والثاكل، فما جاءه منها بالأجرة مقربا أكل منه، وأطعم، وفضّ ختام ذلك المبلغ وأنعم، وما جاءه بغير شيء ردّه، وتركه ما مدّ يده إليه ولا مدّه.(8/243)
ويحكى عنه في هذا حكايات غرائب ونوادر: حكى لي شيخنا شهاب الدين أبو الثناء محمود الحلبي الكاتب رحمه الله، قال: اجتمع طائفة من الأمراء يوما، فتحدّثوا في طريقة الشيخ محمد، فقالوا: نريد نغلبه، ونتحيل حتى يأكل شيئا بغير أجرة!. فقال واحد منهم:
أنا أفعل هذا، فبعث، فاشترى رأسين سمان من الغنم، ثم عمد إلى خرجين لطيفين، فملأ عين كل واحد منهما أرزا والآخر سكرا، ثم شدّهما عليهما، وبعث بهما رجلا استغفل الشيخ محمد، حتى أتى من الجامع، وفتح باب بيته، ودخل، فلما علم أنه قد صار داخل الدار، ساق الرأسين إلى داخل الدار، ثم ردّ الباب عليهما وسكّره، فلما شعر الشيخ محمد بدخولهما، خرج فرآهما!، فقال: نعم، يريدون أن آكل هذا بلا أجرة!، لا كيد، ولا كرامة، والرجل الذي أحضرهما خارج الباب يسمع، فانطلق إلى أصحابه، وأخبرهم. ثم إن الشيخ محمدا لم يزل بالباب حتى فتحه، وأخرج الغنم إلى الزقاق بما عليهما وطردهما، وجعل يقول: يا غنم! إن كان لهم حاجة يبعثوا معك الأجرة حتى آكل، وإلا ما آكل. فلما أبعدت الغنم رجع الشيخ محمد إلى داره، وتمت الغنم جارية تشق الأسواق، والطرقات، حتى أتت دار القيامرة، فدخلت إلى الموضع الذي بعثت منه، بما عليها، لم يتعرّض لها أحد!. فلما رأوا ذلك أكبروه، ثم ركب بعض أولئك الجماعة لزيارة الشيخ على عادتهم، فلما دخل عليه قال: إنكم شطّار ملاح، أردتم أن آكل لكم بالسخرة، وما كفاكم هذا حتى أردتم أن أطبخ لكم بالسخرة، وأن أذبح لكم، وأسلخ بالسخرة، وأنا هذا ما أفعله، ولا آخذ إلا طعاما مطبوخا، لا يكون عليّ في آكله كثير تعب، وبعد هذا ما آكله إلا بالأجرة، قم عني، قم!.
فقام، وأتى أصحابه، وأعلمهم، فعملوا له أطعمة فاخرة، ثم بعثوا معها مائة دينار، حتى أكل من الطعام، وفرّق الذهب بأجمعه في سبيل الخير.
قال شيخنا شهاب الدين: وكان هذا دأب الشيخ محمد، ومهما جاءه، فرّقه على المستحقين، لا يدّخر شيئا منه، وكان عنده لكل طعام أجره، وكل ما كان الطعام أفخر، كانت أجرته على أكله أكثر، حتى سمّي بالأكّال لذلك، وكان من أقلّ الناس أكلا. هذا ما حكاه لي.(8/244)
وأصله من جبل بني هلال، ومولده بقصر حجاج، خارج دمشق، سنة ستمائة «1»
وكان رجلا صالحا، كثير الإيثار، وحكاياته مشهورة في أخذه الأجرة على ما يأكله وما يقبله من برّ الأمراء والملوك وغيرهم، مشهورة، ولم يسبقه إلى ذلك أحد، ولا اقتفى أثره من بعده.
قال اليونيني في" الذيل" «2» : ولا شك أنه كان له حال ينفعل له بها ذلك، وجميع ما يفتح به على كثرته يصرفه في القرب، وتفقّد المحابيس وغيرهم من المحاويج، والأرامل، والمنقطعين. وكان بعض الناس ينكر على من يعامله بهذه المعاملة، وينسبه في فعله، فإذا اتفق اجتماعه به انفعل له انفعالا كليا، ولا يستطيع الامتناع من إعطائه كل ما يروم، وكان مع هذا حسن الشكل، مليح العبارة، حلو الحديث، له قبول تام من سائر الناس.
قال قطب الدين اليونيني: وكان كثير المحبة في والدي، والتردد إليه، لما نزل دمشق في سنة خمس وخمسين وستمائة، والأكل عنده بغير أجرة، وهو مطلق عنده دون غيره «3» توفي بدمشق في خامس شهر رمضان سنة ثمان وخمسين وستمائة.(8/245)
ومنهم:
65- عبد العزيز بن القاضي أبي عبد الله محمد بن عبد المحسن بن محمد بن منصور بن خلف الأنصاريّ، الأوسيّ، أبو محمد شرف الدين «13»
شيخ الشيوخ بحماه. علم زهد، ومجنى شهد، وسلالة أجداد جادوا، وآباء فعلوا فعل آبائهم وزادوا. من جرثومة سجعت، وأرومة سبقت، ومجد لم يقنع، باق منه لوارثه بل لبس برده حتى أبلاه، وأنفق رفده حتى أفناه، تمتع بمفاخره، وجمع فضله ثم ذهب عن آخره.
وكان له عند ملوك حماة جد مقبل، وسعد ذيله عليه مسبل، وتبع طريقه المسلوك.
وأخذ بالأدب والتأديب عنه الملوك، وكانت قريحته غمامة مطر، وكمامة زهر، ونظام درر، وغرر أيام وطرر ليال في سالفة غلام «1»(8/246)
وله شعر ما طرزت مثل سطوره الخدود، ولا نقشت شبه طروسه الرداح الرود، أرقّ من دمعه الدلال، ومعاتبة الأحباب للملال.
كان كأنه إيماء اللحاظ المراض، وسقيط الطل على الرياض، ومنه قوله:
ولو سلّمت ليلى غداة لقيتها ... بسفح اللوى كادت لها النفس تخشع
ولكن جرمي ما علمت ولو به ... البداوة تأبى أن ألين وتمنع
ولست امرءا أشكو إليك صبابة ... ولا مقلة إنسانها الدهر يدمع
ولكنني أطوي الضلوع على الجوى ... ولو أنها مما بها تتقطّع
وقوله:
أحدّث النفس أحيانا فأطمعها ... زورا وتأيس أحيانا وتكتئب
وأستريح إلى صهباء صافية ... كأنها شعلة في الكاس تلتهب
ولي كتائب أشواق أجهّزها ... إلى جنابك إلا أنها كتب
ولي أمانيّ من نفس أسرّ بها ... إذا ذكرتك إلا أنها كذب(8/247)
وقوله:
عاينت إنسان عيني في تسرّعه ... فقال لي: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ
يا عاذلي ليس مثلي من تخادعه ... فليس مثلك مأمونا على عذلي
ما دمت خلوا فلا تنفك مرتهنا ... فاعشق وقولك مقبول عليّ ولي
وقوله:
لها معاطف تغريني برقّتها ... ولينها أن أقاسي قلبها القاسي
باتت موسّدة رأسي على يدها ... عطفا وكانت يدي منها على راسي
وقوله:
وليلة راح ساعدتني عجوزها ... على نوم بين لا ينادي وليده
خلوت بها أبكي الأسى وأجده ... وأصبغ بالدمع الثرى وأجوده
وأشربها صرفا كأن حبابها ... لها من جبيني ثغرة وعقوده
فمن مال نجد أو زر ورد محله ... فدعه فقلبي بحده ووروده
وقوله:
عذب شربي في حياتي أجاج ... فرماني والعلى في ضجاج
كلما حاولت من صرفه حاجة ... يصرّفني باحتجاج
لأطيلنّ لجاجي وقد ينفع ... الإنسان طول اللجاج
ساليا رشف رضاب الدّمى ... قاليا حب حباب اللجاج
ساحبا في الدار سمر القنا ... واهبا للجو كدر العجاج
قائدا نحو الغنى جحفلا ... برءوس الأكم منه شجاج
راجيا إيقاعه بالعدة وقعة ... للأرض منها ارتجاج
خاطبا بكر الغلى خاطرا ... بين خرصان الغنى والزجاج
كارها للعيش ما لم أنل ... سالكا للعز خير الفجاج
وقعة ترضى بها ذو الحجى ... أو مماتا قاطعا للحجاج(8/248)
وقوله:
قد طال بالحلم عن أعدائك الأمد ... فاعمد لعزم مزيل ما له عمدوا
وكن على رأيك الميمون معتمدا ... فليس غيرك للعلياء معتمد
لا تصرفن عن بني همدان واقرهم ... ضربا إذا ما تغشى أمة همدوا
ضربا تجمد موار الدماء إذا ... ما مار منه هامهم في الماقط الجمد
هم من علائك في هم وفي كمد ... فدام للقوم ذاك الهمّ والكمد
وليس تخمد نار في قلوبهم ... من الحقود الألى إلا إذا خمدوا
في ليل يقع لهنيض الظبي شهب ... كسقف دجن له سمر القنا عمد
وقد مددت له حبلا إلى أمد ... والآن حين يداني ذلك الأمد
فانهض تعب المعالي غير متئد ... وارع الأنام رعاك الواحد الصمد
وقوله:
متيم في عينيه لو جاك ... ماذا يضرك لو عرفته نباك
لله درّك ما ألهاك عن دنف ... ما ردّ أمرك في حال ولا دراك
بريت جسمي بالإعراض منك و ... عطفت أبراني سبحان من براك
أدميت خدك إذ أدميت لي كبدي ... أنصف وقل لي ترى من بالسر بداك
قد قلت للسجف لما أن حجبت به ... يا سجف لبيك قد أحميت أمراك
ويا منمنم خطي عارضيه لقد ... قراك مهجته الرائي وما قراك
وأنت يا من يساميني إلى شرفي ... لقد وسعت إذن أضعاف ما ملاك
هذا وسرحك يرعى في حمى كلأي ... فلا رعى سرحك الباري ولا كلاك
جحدت حق فتى ما زلت ترزؤه ... فيما يحل وفيما مل ما رزاك
من وهن رأيك أصبحت منتصرا ... بمن [ ... ] «1»
لم يدر قدرك من قد يرى ولا ... عرفت جهلك النامي ولا ملاك
قل ما بدا لك من لوم لذي كرم ... فلم تجب طوال الدهر ما حساك(8/249)
وقوله:
يا رشا لم يطق فؤادي ... تخلفا عنه وهو داعي
إن كان لا بد من فراق ... فاسمح بتقبيلة الوداع
وقوله:
قد فؤادي بحسن قدّ ... كالغصن في بانه الرطيب
ووجنة ما أتم ربحي وقد ... غدا وردها نصيبي
وقوله:
تقنّع بالكفاف من المعيشه ... ودرع شرها يذل أسود بيشه
ولا تهتمّ في الدنيا برزق ... ليوم لا تؤمّل أن تعيشه
وقوله:
وأرماح نفت مهج الأعادي ... كما ينفي الزيوف الصيرفيّ
تكن صدورها منهم صدور ... تضيق بها فتظهرها القفيّ
وقوله:
ونحن معاشر نأبى الدنايا ... ونلبس من صوان العرض سردا
نعانق من رماح الحظ بانا ... وننشق من سيوف الهند وردا
وقوله:
إذا قنع الملوك بدون عيش ... فدون مرامك الأمد القصيّ
أبوك محمد داعي البرايا ... إلى الجدوى وأنت له وصيّ(8/250)
وقوله:
مهّد لجنبك قبل مضجعك ... وانظر طريقك قبل منتجعك
راجع فؤادك في فوارطه ... تجد الإبانة قبل مرتجعك
واصبر لإنجاع النصيح ففي عقب ... اه ما يشفيك من وجعك
وقوله:
ضحك العوادي إذ بكيتك ... فشغلني عنهم فديتك
لا كان من يلحى عليك وع ... اش عيشي إذ نأيتك
أطمعتني بلطيف وعدك ... في وصالك فاقتصيتك
وصرفت عن كل الورى عين ... ي فكيف دنت رأيتك
ومتى ذكرت بصالح أحدا ... سواك فقد عنيتك
ونزلت قلبي فاحتكم فيه ف ... إن البيت بيتك
أخشى سطاك ولو أطع ... ت وارتجيتك وإن عصيتك
ما كان أربح صفقتي مذ بع ... ت روحي واشتريتك
وقوله:
جنح اللئيم إلى العناد ... وغرّه مني السكون
والراح عند وقارها ... في الدنّ أبرق ما تكون
وقوله:" ويروى للبهاء زهير وهي بقوله أشبه، وعبقها أنسب بزهير إذا تنبّه":
رفقا بروحي فهي لك ... وعلى السخي بما ملك
إني أغار إذ الأراك ... دنا إليك فقبّلك
ويروعني واشي النسيم ... إذا ثناك وميّلك
ما أقبح الصبر الجمي ... ل بعاشقيك وأجملك(8/251)
وقوله:
يمهل من عارضه ... لكنّه لا يهمل
كم للعفاة نحوه ... في السد حرف يعمل
وقوله:
من منصفي من عاذل جاهل ... يخون باللوم من لا يخون
إن قلت ما يضحك إلا إذا ... قال وما عشقك إلا جنون
وقوله:
سيندم الملحد في دينه ... يوما إذا صار إلى اللاحد
أقررت بالرب وخالفته ... ما أشبه المثبت بالجاحد
وقوله:
لا تنس وجدي بك يا شادن ... ابحبه أنسيت أحبابي
مالي على هجرك من طاقة ... فهل إلى وصلك من باب؟
وقوله:
سألته من ريقه شربة ... يطفى بها من ظمئي حره
فقال أخشى يا شديد الظما ... أن تتبع الشربة بالجره
وقوله:
مات أبو بكر ومن لي بأن ... لو متّ من قبل أبي بكر
أخ تحللت له أنعما ... تفضل عن حمدي وعن شكري
وقوله مما كتبه على جرن حمام كان يدخله السلطان بحماة:
كملت لطفا ووقارا على ... ما حزت من أوصافي الحلوه
من أجل هذا صرت أهلا ... لأن أجالس السلطان في الخلوه(8/252)
وقوله:
قالوا فلان من القضاة فما بال ... ك في سبّ عرضه مجاهد
فقلت لا تحفلوا به أبدا ... فذاك قاض يقول بالشاه
وقوله:
إن قوما يلحّون في حب سعدى ... لا يكادون يفقهون حديثا
سمعوا وصفها ولاموا عليها ... أخذوا طيبا وأعطوا خبي
وقوله:
انظر بصائب رأي ... مستكسب وعزيزي
ولا تعيش ذليلا ... وأنت عبد العزيز
وقوله:
تيقّظ بفكرك فيما إليه ... عواقب كل الورى آيله
ولا تتعرضن لخزي الجحيم ... ومالك صبر على القابله
وقوله:
وقاض تصدّى لإسخاطنا ... فليس لنا عيشة راضيه
يجور وقد عدلت غرسه ... فيها فيا ليتها كانت القاضيه
وقوله:
ولي صاحب لست أكفى أذاه ... إلا إذا ما حواه الجدث
له لحية لا سقاها الحيا ... إليها يساق حديث الحدث
وقوله:
تقرب إلى إله السما بما يرضى ... ودع عرض الدنيا تعش وافر العرض
ووفّ بني الدنيا الوداد فإن وفوا ... وإلا فقد أقرضتهم أحسن القرض(8/253)
وقوله:
قذفت صميم فؤاده بشواظ ... شعل أرته نصائح الوعاظ
وأطلت في ليل الشبيبة رقدتي ... فأجد صبح الشيب في إيقاظي
وقوله:
لعلك ترثي لذي لوعة ... إذا ضحك العاذلون انتحب
أآمل من عبرتي نصرتي ... متى كشفت كرب بالكرب
ولو لم أدع في هواك الوقار ... لما صار يأخذني الطرب
ولا صرت أفهم عنك الحدي ... ث بنقر الدفوف ونفخ القصب
وقوله:
وكم لائم يلحي إلي أن ... تأمل من هويت فما تنحنح
نفى عني المنام بسحر عين ... إلى سلم المتيم ليس يجنح
له حدق بقول الحرب أولى ... ولي قلب يقول الصلح أصلح
وقوله:
يا سلم الله جيرانا بذي سلم ... لبينهم بان خسراني بعد أرباحي
كانوا شموسي وأقماري وقد حجبوا ... عني فأظلم إمسائي وإصباحي
إذا خشيت مزيد البعد زدت جوى ... مباعدا بين أجساد وأرواح
وقوله:
أرقت لبارق مزنا أضاء على ... الأثلات بذات الأضا
فأذكرني حبره بالغضا تولوا ... وأصليت جمر الغضا
وطول في جهنم لائمي ... فعرض قلبي لما عرّضا
فلم يجد نفعا سوى أنه ... على النفع إذ لامني حرّضا(8/254)
وقوله:
وغريم شيب لا يدافع خصمه ... وافى وحق شبيبتي لم أقضه
فلئن أصخت إلى العذول فطالما ... أعرضت عن طول الملام وعرضه
وكسرت رمان النهود بعصرة ... وأكلت تفاح الخدود بعضه
فالآن توّجني الزمان بأسو ... شمط تنافر بعضه من بعضه
وتباينت أوصافه فألفى في ... مسودة والرشد في مبيضه
وكذاك حالي في الهوى ... ما همت في إبرامه إلا هممت بنقضه
وقوله:
وجاؤوا عشاء يهرعون وقد بدت ... بجسمي من داء الصبابة ألوان
فقالوا وكل معظم بعض ما رأى ... أصابتك عين قلت إن وأجفان(8/255)
ومنهم:
66- الشّيخ القطب أبو بكر بن قوام بن عليّ بن قوام بن منصور بن معلّى ابن حسن بن عكرمة بن هارون بن قيس بن ربيعة بن عامر بن هلال بن قصيّ بن كلاب «13»
مسلّك أقوام، وسالك طريقة دعا بها ابن قوام، وكان لأهل بيته أي قدوه، وبيته أي بيت ودار ندوه، لم يخل رحابه من طارق، ولا سحابه من ماذر شارق. وكان في أرض" بالس" «1» تهطل سماؤه، وعلى جانب الفرات وماء الفرات وماؤه، وأقام ما أقام وكراماته ظاهره، ومقاماته باهره، وأحواله تحدث الغرائب عنها، وتحدث العجائب منها.
ولم يكن في وقته وزمانه أجمع منه للخواطر، ولا أجمل محيّا إذا تجهّمت السحب المواطر. والحقيقة بعض علمه، والطريقة تحت رسمه، والآداب منه تتعلم، وراية المجد إلى يمين غرائبه تسلم.
ولد بمشهد صفين سنة أربع وثمانين وخمسمائة «2» . ثم انتقل إلى" بالس" وربي بها «3» حكى عنه حفيده الشيخ العارف أبو عبد الله أنه قال: كانت الأحوال تطرقني، فكنت أخبر بها شيخي، فينهاني عن الكلام فيها. وكان عنده سوط، يقول: متى تكلمت في شيء من هذا ضربتك بهذا السوط!. ويأمرني بالعمل، ويقول: لا تلتفت إلى شيء من هذه الأحوال. فما زلت معه كذلك، حتى كنت في بعض الليالي، وكانت لي أم ضريرة، وكنت بارا بها، ولم يكن لها من يخدمها غيري. فاستأذنت الشيخ في المضي إليها، فأذن لي،(8/256)
وقال: إنه سيحدث لك في هذه الليلة أمر عجيب، فاثبت له ولا تجزع. فلما خرجت من عنده وأنا مارّ إلى جهة أمي سمعت صوتا من جهة السماء، فرفعت رأسي، فإذا نور كأنه سلسلة متداخل بعضه في بعض، فالتفتّ على ظهري، حتى أحسست ببردها في ظهري.
فرجعت إلى الشيخ فأخبرته بما وقع لي. فقال: الحمد لله، وقبّلني بين عيني، وقال: يا بني! الآن تمت النعمة عليك، أتعلم يا بني ما هذه السلسلة؟. فقلت: لا. فقال: هذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأذن لي في الكلام، وكان قبل ينهاني عنه. «1»
قال حفيده: سمعته يوما وقد دخل البيت وهو يقول لزوجته: ولدك قد أخذه قطّاع الطريق! في هذه الساعة. وهم يريدون قتله، وقتل رفاقه. فراعها قول الشيخ رضي الله عنه، فسمعته يقول لها: لا بأس عليك، فإني قد حجبتهم عن أذاه وأذى رفاقه، غير أن ما لهم يذهب، وغدا إن شاء الله تعالى يصل هو ورفاقه. فلما كان من الغد وصلوا كما ذكر الشيخ، وكنت فيمن تلقّاهم، وأنا يومئذ ابن ست سنين، وذلك سنة ست وخمسين وستمائة. «2»
قال شمس الدين الخابوري: وقع في نفسي أن أسأل الشيخ- وكان الخابوري من مريدي الشيخ أبي بكر- عن الروح؟، فلما دخلت عليه قال لي من غير أن أسأله: يا أحمد! ما تقرأ القرآن؟. قلت بلى يا سيدي. قال: اقرأ يا بني!: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا
«3» يا بني! شيء لم يتكلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف يجوز لنا أن نتكلّم فيه؟. «4»
وقال الشيخ إبراهيم البطائحي: كان الشيخ يقف على حلب، ونحن معه، ويقول: والله إني لأعرف أهل اليمين من أهل الشمال منها، ولو شئتم لسميتهم، ولكن لم نؤمر بذلك، ولا يكشف سر الحق في الخلق. «5»(8/257)
وقال معضاد بن حامد: كنا مع الشيخ في حفر النهر الذي ساقه إلى" بالس"، فاجتمع عندنا في بعض الأيام خلق كثير في العمل، فبينا نحن نعمل، إذ جاء راعد قوي فيه برد كبار، فقال له بعض أصحابه: يا سيدي! قد جاء هذا الراعد، وربما تعطّل الجماعة عن العمل. فقال له الشيخ: اعمل وطيّب قلبك، فلما دنا الراعد، استقبله، وأشار إليه بيده، وقال: خذ يمينا وشمالا، بارك الله فيك. فتفرّق عنا بإذن الله، وما زلنا نعمل والشمس طالعة علينا، ودخلنا البلد ونحن نخوض الماء كما ذكر.
وقال محمد بن ناصر [المشهدي] «1» كنت عند الشيخ وقد صلى صلاة العصر، وصلى معه خلق، فقال له رجل: يا سيدي! ما علامة الرجل المتمكن؟. وكان في المسجد سارية، فقال: علامة الرجل المتمكن أن يشير إلى هذه السارية فتشتعل نورا. فنظر الناس إلى السارية فإذا هي تشتعل نورا. أو كما قال. «2»
وقال إبراهيم البطائحي: سئل وأنا حاضر عن الرجل المتمكن ما علامته؟. وكان بين يديه طبق فيه شيء من الفاكهة والرياحين. فقال: أن يشير بسره إلى ما في هذا الطبق، فيرقص جميع ما فيه. فتحرّك جميع ما كان في الطبق ونحن ننظر.
وقال إسماعيل بن أبي سالم، المعروف بابن الكردي: كنا جلوسا مع الشيخ في تربة الشيخ رافع رضي الله عنهما، ونحن ننظر إلى الفرات، إذ لاح على شاطيء الفرات رجل، فقال الشيخ: أترون ذلك الرجل الذي على شاطيء الفرات؟ فقلنا: نعم. قال: إنه من أولياء الله تعالى، وهو من أصحابي، وقد قصد زيارتي من بلاد الهند، وقد صلى العصر في منزله، وقد توجّه إليّ، وقد زويت له الأرض، فخطا من منزله خطوة إلى شاطيء الفرات، وبقي يمشي من الفرات إلى ههنا، تأدّبا منه معي. وعلامة ما أقول لكم أنه يعلم أني في هذا المكان فيقصده، ولا يدخل البلد.(8/258)
فلما قرب من البلد عرّج عنه، وقصد المكان الذي فيه الشيخ والجماعة، فجاء وسلّم وقال: يا سيدي! أسألك أن تأخذ عليّ العهد أن أكون من أصحابك.
فقال له الشيخ: وعزّة المعبود، أنت من أصحابي. فقال: الحمد لله، لهذا قصدتك، واستأذن الشيخ في الرجوع إلى أهله، فقال له الشيخ: وأين أهلك؟. قال: في الهند!. قال:
متى خرجت من عندهم؟. قال: صليت العصر، وخرجت لزيارتك. فقال له الشيخ: أنت الليلة ضيفنا، فبات عند الشيخ، وبتنا عنده. فلما أصبحنا من الغد طلب السفر، فخرج الشيخ، وخرجنا في خدمته لوداعه، فلما سرنا في وداع الشيخ، وضع الشيخ يده بين كتفيه، ودفعه، فغاب عنا، ولم نره، فقال الشيخ: وعزّة المعبود في دفعتي له وضع رجله في باب داره بالهند، أو كما قال. «1»
قال حفيده: سمعت علم الدين الشيرازي يحكي لوالدي: قال: كنت في بعض أسفاري، فأدركني شيء من الجوع والعطش، وأوقع الله تعالى في نفسي أن الله يطلع الشيخ على حالي، فإذا أنا بإنسان واقف على صخرة، وهو يشير إليّ: أن تعال. فمضيت إليه، وإذا هو الشيخ، وعنده كوز ماء، ورغيف خبز!. فقال: كل. فجلست وأكلت، وشربت. وحملت ما فضل.
قال حفيده: وسمعت والدي يقول: ولما كان في سنة ثمان وخمسين وستمائة، وكان الشيخ في حلب وقد حصل فيها ما حصل من فتنة التتار، وكان نازلا في المدرسة الأسدية.
فقال لي: يا بني! اذهب إلى بيتنا، فلعلك تجد ما نأكل. فذهبت إلى الدار، فوجدت الشيخ عيسى الرصافي، وكان من أصحابه، مقتولا في الدار، وعليه دلق»
الشيخ، وقد حرق، ولم يحترق الدّلق، ولم تمسّه النار، فأخذته وخرجت، فوجدني بعض بني جهبل، فأخبرته بخبر الدّلق، فحلف عليّ بالطلاق وأخذه مني. «3»(8/259)
وقال أيضا: حدّثني إسماعيل بن سالم الكردي، قال: كان لي غنم، وكان عليه راع، فسرح يوما على عادته، فلما كان وقت رجوعه لم يرجع، فخرجت في طلبه فلم أجده، ولم أجد له خبرا، فرجعت إلى الشيخ، فوجدته واقفا على باب داره، فلما رآني قال لي: ذهبت الغنم؟. قلت: نعم. قال: قد أخذها اثنا عشر رجلا وهم قد ربطوا الراعي بوادي كذا. وقد سألت الله أن يرسل عليهم النوم، وقد فعل. فامض تجدهم نياما والغنم ربضا إلا واحدة، قائمة ترضع سخلتها. قال: فمضيت إلى المكان الذي قال، فوجدت الأمر كما قال؛ فسقت الغنم، وجئت البلد.
وقال البطائحي: حضر الشيخ جنازة، وفيها جماعة من أعيان البلد، فجلس القاضي والخطيب والوالي في ناحية، وجلس الشيخ والفقراء في ناحية. فتكلّم القاضي والوالي في كرامات الأولياء، وأنه ليس لها حقيقة، وكان الخطيب رجلا صالحا، فلما قاموا جاء الجماعة يسلموا على الشيخ، فقال الشيخ للخطيب: إنا لا نسلّم عليك!. قال: ولم يا سيدي؟.
قال: لأنك لم ترد غيبة الأولياء، ولم تنتصر لهم، والتفت الشيخ إلى القاضي، والوالي، وقال: أنتما تنكران كرامات الأولياء! فما تحت أرجلكما؟ قالا: لا نعلم. قال: تحت أرجلكما مغارة ينزل إليها بخمس درج، وفيها شخص مدفون، هو وزوجته، وكان ملك هذا البلد، وهو على سرير، وزوجته قبالته، ولا نبرح من هذا المكان حتى نكشف عنهما.
فدعا بفؤوس، وكشف المكان، والجماعة حاضرون، فوجدوه كما قال.
وقال أبو المجد بن أبي الثناء: كنت عند الشيخ، وقدم عليه الشيخ نجم الدين البادرائي، متوجها إلى بغداد، وقد ولاه الخليفة القضاء، فسمعته يقول للشيخ: يا سيدي! قد ولاني الخليفة قضاء بغداد، وأنا كارهه، فقال له: طيّب قلبك، فإنك لا تحكم فيها، وحدّثه أشياء.
وسمعت الشيخ يقول له: يا شيخ نجم الدين! هذا إنسان صفته كذا وكذا، من أعيان الناس، وهو قريب من الملك الناصر، خاطره متعلق بك، وهو يشير إليك بخنصره، فقال له:
صدقت، يا سيدي!. دفع إليّ فص خاتم له قيمة، وقال: يكون عندك وديعة، والله ما أعلم أحدا من خلق الله علم بهذا الفصّ حين دفعه إليّ، وقد خيّطته في مزدرجتي، من حذري(8/260)
عليه، وكان كما قال الشيخ، فإن نجم الدين قدم بغداد، ومات، ولم يحكم بين اثنين!.
قال حفيده: حدّثني الشيخ الصالح العابد عمر بن سليمان الجعبري المعروف بأبي أصيبعة، قال: سيّر أبي معي إلى الشيخ هدية، وكنت شابّا، فرافقني جماعة من أهل القلعة، فتحدّثوا فيما بينهم، فقالوا: إذا دخلنا البلد رجعنا إلى الخمّارة، وشربنا. فلما دخلنا البلد وعزموا على ما قالوا، قلت لهم: حتى أوصل إلى الشيخ هديته، ولا يبقى لنا شغل، فمضينا إلى الشيخ، فلما دخلنا إليه وجلسنا، أخذ يتكلم في المعاصي وما فيها من سخط الله وعقابه، فما زال يتكلم حتى القوم تابوا، وصاروا من أصحابه، وماتوا على عمل صالح.
وحدّثني أيضا قال: دخلت على الشيخ، وعنده إنسان من أهل العراق، وهو يسأله، والشيخ يجيبه، فأكثر عليه السؤال، فخطر لي أن أقوم إليه، وأخرجه. فقال لي: يا فلان! دعه، فإنه صاحب بدعة، وقد كفانا الله فيه. قال: فلما جاء الليل، أخذه بعض أهل البلد، وبيّته عنده، فقام من الليل، فسقط من أعلى الدار التي بات فيها!. فجاؤوا إلى الشيخ وأخبروه به. فقال: امضوا، واحفروا له قبرا فإنه الآن يموت!، وهو رافضي مبتدع.
قال حفيده: وسمعت والدي قال: كان الشيخ كثيرا ما يتكلم فيما يلتبس على الأولياء كشفه، فقال لي في بعض الأيام: قد خرج في هذه الساعة جماعة من حلب إلى زيارتنا، وهم يمشون في شجر سبسبان، ولم يكن هذا الشجر بأرض حلب، ولا يعرف بها، أتدرون ما هو؟. فقالوا: لا. فقال: لأنهم يتكلمون في نقص أموال، وغرائم أموال، فظهرت إشارته في الكشف شجر سبسبان، وذلك لأن النقص يعطي النقص في الأبدان، فلما تكلموا في نقص الأموال، ظهر في الكشف كما قلنا.
وقال مرة أخرى: قد دخل إلى مجلسنا حمام كثير، وقد رصّ المجلس بهم، أتدرون ما هم؟. فقالوا: لا. فقال: قد قصد زيارتنا قوم أحرار وليس فيهم دعيّ، فلما كان عن قليل، دخل جماعة، وجلسوا حتى رصّوا المجلس، فقال: هؤلاء الذين أخبرتكم عنهم، إنهم قوم(8/261)
أحرار، في في الكشف أسرارهم كما قلنا.
وكان رحمه الله تعالى كثير العمل دائم المجاهدة في نفسه، ويأمر أصحابه بذلك، ويلزمهم بقيام الليل، وتلاوة القرآن، والذكر دأبه لا يفتر عنه، وفي كل ليلة جمعة يجعل لكل إنسان منهم وظيفة من الجمعة إلى الجمعة، وكان يحثّهم على الاكتساب، وأكل الحلال، ويقول: أصل العبادة أكل الحلال. «1»
وكان شديد الإنكار على أهل البدع، لا تأخذه في الله لومة لائم، فرجع به خلق. «2»
وكان يحثّ أصحابه على التمسك بالسنة، ويقول: ما أفلح من أفلح، وسعد من سعد إلا بالمتابعة، فإن الله تعالى يقول: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
«3» ، وقال: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
«4» ، وقال: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا
. «5»
وكان يقول: ما اتخذ الله وليا صاحب بدعة قطّ. قيل له: فإن اتخذه؟. قال:
يصلحه «6» [وكان يقول: رجال الشام أمكن من رجال العراق، وأعرف] . «7»
وكان يتفقّد الأرامل بنفسه، ويقضي حوائجهنّ. وجاءته امرأة فقالت له: عندي دابّة، وقد ماتت. وما لي من يجرّها عني، فقال: امض وحصّلي حبلا واتركيه عندها، حتى أبعث من يجرّها.
فمضت وفعلت ما قال، فجاء بنفسه، وربط الحبل في الدابة، وجرّها إلى باب البلد. «8» وكان(8/262)
لا يركب بغلا، ولا حمارا، ولا فرسا «1» . وإذا عطش وهو قاعد في المجلس مع أصحابه قام فشرب بنفسه، يريد بذلك تربية المريدين.
وكان في الزاوية رجل كبير مسن، وكان به قطار البول «2» ، فأخذ تحته شيئا يقطر فيه البول، فكان يقوم، ويريقه بنفسه، ويغسل ما أصاب الحصير منه. «3»
وكان لا يمكّن أحدا من تقبيل يده، ويقول: إذا مكّن الشيخ أحدا من تقبيل يده، نقص من حاله شيء. «4»
وكان شديد الحياء، لا يقطع على أحد كلامه، ولا يخجل أحدا بما يقول.
وكان كثير التورّع، يتحرّى في مطعمه، وملبسه، ويقول: الدين الورع، وهو أصل العبادة.
وكان يتورّع عن أموال السلاطين، والجند، وكان عن مال العرب أشدّ تورّعا، لا يأكل لهم طعاما، ولا يقبل لهم هدية. وكان للعرب عادة يمرون كل سنة بأرضنا مرتين، فإذا مرّوا لا يأكل مما يباع في السوق، لا لحما، ولا لبنا، ولا غيرهما، بل يتأدّم بالزيت، وما كان من الأدم في البيت «5» .
وكان في بدء أمره لا يأكل إلا من المباح، يجمع الأشنان «6» بيده، وتارة يحصد، فلمّا كبر وأسنّ، كان يأمر من حوله من الفقراء والأصحاب فيخرجون إلى الصحراء فيزرعون زرعا ويحصدونه، فإذا حصل، قال لهم: لا ترفعوه، حتى تدفعوا إلى السلطان نصيبه منه، وكانوا يفعلون ذلك. حتى يدفعوا من التبن ما يخصه. «7»
وكان السلطان نور الدين يتردّد إلى زيارة جده، فوقف على الشيخ غابة من أرض(8/263)
الفرات، فتورّع عنها، وسبّلها «1» للمسلمين، فكانوا يأخذون منها الخشب، وينتفعون به، وربّما احتاج هو إلى شيء من الخشب للعمارة، فيشترى له ولا يأخذ منها شيئا، تورّع منه.
وصنع له بعض أصحابه في بعض الأيام طعاما فيه جزر، فلما وضعه بين يديه، قال له الشيخ: من أين اشتريت هذا الجزر؟، فإنه حرام!. فقال: من السوق. فقال: امض إليه واسأله عنه: من أين اشتروه؟، فمضى وسأل عنه، فوجده قد اشتري من طعمة المكاسين!!. «2»
وقال الشيخ إبراهيم البطائحي: كان الشيخ رضي الله عنه لا يقبل خمسين درهما [جملة واحدة] ، ويقول: خمسين درهما غنى فقير «3» .
وتوفي يوم الأحد سلخ رجب سنة ثمان وخمسين وستمائة، بقرية" علم" ودفن بها، في تابوت، لأجل نقله، فإنه أوصى بذلك.
قال حفيده: أخبرني والدي قال: أوصاني والدي أن أدفنه في تابوت، وقال: يا بني! أنا لا بد أن أنقل إلى الأرض المقدسة. وكان كما قال، فإنه نقل بعد موته باثني عشر سنة، إلى جبل [قاسيون] . «4»
قال: وكنت فيمن حضر خروجه من قبره، وسرت معه إلى دمشق، وشهدت دفنه، وذلك صبيحة يوم الجمعة، تاسع المحرّم، سنة سبعين وستمائة «5» .
ورأيت في سفري معه عجائب، ذكرها «6» . وقد جمع له حفيده سيرة في أربع كراريس.(8/264)
ومنهم:
67- عليّ البكّاء «13»
الصالح المشهور، ما زايل الدمع حتى خدّد خديه، ونزل خاضعا لديه، وترك جياده في حلية الخد تستبق، والأرض تصطبح منه وتغتبق.
بكّاء كان لا يجف منه جفنه، ولا يخف منه أفنه، قطع عليه مدة البقاء، واتخذ منه عدة اللقاء، هذا إلى حبّ للانفراد، فسكن من قلبه الشغاف، وركن إلى خلبه للاطلاع والإشراف، حتى ثوى، ولكل امرئ ما نوى، وأمسى وهو نزيل الخليل وجاره، وفوق وكر السرحان وجاره.
قال ابن اليونيني: حكى لي المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله، بغزة في شوال سنة خمس وسبعين وستمائة، وقد خرجت صحبته من الديار المصرية، فلما نزل غزة استأذنته في زيارة الخليل عليه السلام، فقال لي: زر الشيخ عليا البكّاء، فإنه كبير القدر، وشرع في الثناء عليه وذكر مناقبه، فقال: لما كنا في الأيام الناصرية مع الملك الظاهر، زرته فدعا لي، وأخبرني بأمور تقع، فوقع أكثرها، وأعطاني قميصه، فكنت ألبسه تحت السلاح، فما أصابني نشاب ولا غيره وهو عليّ، وأصابني جراحات لما لم أكن لابسه، أو ما هذا معناه.
قال ابن اليونيني: فلما تسلطن الملك المنصور، وقع في خاطري أن ذلك ربما يكون من الأمور التي أخبره بوقوعها، والله أعلم.
قال: وسمّي بالبكّاء لكثرة بكائه.
حكي أنه سئل عن كثرة بكائه، فقال: كنت ببغداد، فرأيت رجلا خرج منها، فتبعته، فلم يكن بأسرع من وصوله إلى عمارة لا أعرفها، فظننتها من قرى بغداد، ودخل مسجدا وصلى فيه الظهر وخرج، وأنا في صلاة السنة، فخرجت، فرأيت وجوها أنكرتها، وبلدا(8/265)
أنكرته، فسألت شيخا هناك: ما هذه القرية؟ فقال: من أين أنت؟. فقلت: من بغداد.
خرجت منها من ساعة. فقال: أظنك لا تعقل ما تقول، بينك وبين بغداد أكثر من سنة!.
فقلت: والله لقد خرجت منها من أقل من ساعتين. فقال: حدّثني قصّتك. فحكيت له أمري عن حليته، فقال: إن كنت صادقا فارجع إلى المسجد الذي دخلت إليه معه فانتظره، فإنه سيعود إليه. فرجعت إلى ذلك المسجد، فلما كان وقت العصر، حضر ذلك الشخص الذي تبعته، فلزمته، وتشبثت به، وبكيت، وتضرّعت إليه، فانتهرني، ثم رقّ لي، ورجع بي إلى بغداد، فوصلناها في مثل المسافة التي خرجنا منها، وصحبته، وخدمته مدة، وأراد السفر، فأردت صحبته، فمنعني، وقال: لا تقدر على ذلك!. وأنا مسافر إلى البلد الفلاني، وأموت في الوقت الفلاني، فإذا كان ذلك الوقت، فاحضر ذلك المكان، واشهدني. فلما دنا الميعاد، حضرت فوجدته في الموت، وقد توجّه إلى الشرق، فأدرته إلى القبلة، وهو ينحرف إلى الشرق، وتكرر ذلك منه ومني، فنظر إليّ، وقال: لا تتعب- هو إنما يموت نصرانيا! - وتكلم بما يدين به النصارى ويعتقده، ففارق، فحملناه إلى دير مشهور هناك، فيه جماعة من الرهبان، فوجدناهم في تألم شديد، وذكروا لنا أنهم كان عندهم راهب عظيم، قد أتى عليه مائة سنة، وأنه توفي تلك السنة، بعد أن أسلم، فسلمنا إليهم صاحبنا، فتولوا أمره ودفنوه، وتسلمنا ذلك الراهب وغسّلناه، ودفنّاه. فألام على كثرة البكاء؟!.
فنسأل الله تعالى حسن الخاتمة، وأن يتوفانا على الإسلام والسّنة، آمين.
توفي الشيخ علي البكّاء- رحمه الله تعالى- ببلد الخليل عليه السلام في أوائل شهر رجب سنة سبعين وستمائة، ودفن بزاويته.(8/266)
ومنهم:
68- الشّيخ خضر بن أبي بكر بن موسى أبو العبّاس المهرانيّ «1» العدويّ «13»
شيخ الملك الظاهر.
قدم من جبال الأكراد، وورد الحياض ورّاد، فاستخصب المرعى، واستنجب المسعى، وتأكدت له بالملك الظاهر بيبرس صحبة نفعته لديه، ورفعته عند أقصى الملك إليه، وحمد به زمانه النضر، وكان الملك الاسكندر والشيخ الخضر، ووسائله مقبولة، ورسائله للمصايد أحبولة، والأنام معه، والأيام لدعوته مسمعه، حتى هبت له بنكباء البأساء، ودبت إليه دبيب ظلماء المساء، وانتهت له من الوزراء الظاهرية صلالا أراقم، وأسقاما داؤها متفاقم، وكان قد ثقلت عليه شفاعاته، ونقلت إليهم شناعاته.
وما زالوا به حتى أخرجوا خباءه، وأسمعوا منه آي نبأه، وأحضرت امرأة تعرف ببنت ابن نظيف، فقالت فيه كلاما، وقادت إليه ملاما، فحمل إلى القلعة واعتقل، وأقام حتى هيء له بيته في المقابر ونقل، إلا أنه مات غير محترم، وتاب ولم ير غير مبجل محترم، وكان موته بدنو أجل الملك الظاهر منذرا، وكان قد أنذره به، وكان منه حذرا.
أصله من قرية يقال لها:" المحمدية"، من أعمال جزيرة ابن عمر، وسبب معرفة الملك الظاهر له واعتقاده فيه: أن الأمير العجمي أخبره عنه قبل أن يتسلطن، أنه قال: إن ركن الدين بيبرس البندقداري لا بد أن يملك، فلما ملك، صار له فيه عقيدة [عظيمة] «2» ، وقرّبه وأدناه، وكان ينزل إلى زيارته في الأسبوع مرة أو مرتين، أو ثلاثا، على قدر ما يتفق؛(8/267)
لكنه لم تكن يغب زيارته والاجتماع به، ويطلعه على غوامض أسراره، ويستشيره في أموره، ولا يخرج عن رأيه، ويستصحبه في سائر أسفاره وغزواته، وفي ذلك يقول الشريف شرف الدين محمد بن رضوان الناسخ «1» :
ما الظاهر السلطان إلا مالك الدنيا بذاك لنا الملاحم تخبر
ولنا دليل واضح كالشمس في ... وسط السماء بكل عين تنظر
لما رأينا الخضر يقدم يقدم جيشه ... أبدا علمنا أنه الاسكندر «2»
وكان يخبر الملك الظاهر بأمور قبل وقوعها، فتقع على ما يخبر به، ولما حاصر الملك الظاهر [أرسوف] «3» ، وهي من أوائل فتوحاته، سأله: متى تؤخذ؟ فعين له اليوم الذي تؤخذ فيه، فوافق. وكذلك في" قيسارية" و" صفد".
ولما عاد الظاهر [رحمه الله تعالى] من دمشق إلى جهة الكرك، سنة خمس وستين، استشاره في قصده، فأشار عليه أن لا يقصده، وأن يتوجه إلى الديار المصرية، فلم يوافق قوله غرضه، فخالفه وقصده، فلما كان فانكسرت فخذه، وأقام مكانه أياما كثيرة، ثم حمل في محفّة إلى غزة، ثم إلى الديار المصرية على أعناق الرجال.
ولما قصد الظاهر منازلة حصن الأكراد ومحاصرته، اجتاز الشيخ خضر ببعلبك، ونزل بالزاوية التي عمرت له بظاهرها، وخرج نوّاب السلطنة وبعض أهل البلد إلى خدمته، فقال ابن اليونيني: وكنت فيمن خرج، فسمعت كمال الدين إبراهيم بن شيث [رحمه الله تعالى] يسأله عن أخذ حصن الأكراد؟. فقال ما معناه: يؤخذ في مدة أربعين يوما. أو قال: قلت:
لابني يشير إلى الملك الظاهر أنك تأخذه في أربعين يوما، فوافق ذلك، وأخذه في مدة أربعين يوما «4» ولما(8/268)
توجّه الملك الظاهر إلى الروم، سأل الشيخ خضر بعض أصحابه عما يتم للملك الظاهر؟، فأخبره أنه يظفر، ثم يعود إلى دمشق، ويموت بها بعد أن أموت أنا بعشرين يوما!. فاتفق ذلك. «1»
قال ابن اليونيني: وحكي لي أن الملك الظاهر لما تغير عليه، وأحضر من أصحابه من دمشق من يحاققه على أمور نقلت إليه عنه، ويقابله عليها، قعد الملك الظاهر بقلعة الجبل، وعنده من أكابر الأمراء فارس الدين الأتابك، وبدر الدين، والملك المنصور قلاوون، وسير الأمير سيف الدين قشتمر العجمي لإحضاره، فلما طلبه إلى الحضور إلى القلعة، أنكر ذلك، لأنه لم يكن له به عادة، فعرّفه [بشيء مما] «2» هم فيه، فحضر معه، فلما دخل لم يجد ما يعهده، فقعد عندهم منتبذا منهم، فأحضر السلطان الذين أحضرهم من أصحابه من دمشق، فشرعوا ونسبوه إلى قبائح وأمور عظيمة لا تكاد تصدر من مسلم، فقال: ما أعرف ما يقولونه، ومع هذا، فأنا ما قلت لكم: أني رجل صالح، أنتم قلتم هذا، فإن كان ما يقول هؤلاء صحيحا فأنتم كذبتم.
فقام الملك الظاهر ومن معه من عنده؛ وقالوا: قوموا بنا، لا نحترق بمجاورته. وتحولوا إلى طرف الإيوان بعيدا منه. فقال الظاهر: أيش رابكم في أمره؟. فقال الأتابك: هذا مطّلع على الأسرار وأسرار الدولة، وبواطن أحوالها، وما ينبغي إبقاؤه في الوجود، فإنه لا يؤمن أن يصدر منه ما لا يمكن تلافيه. فوافقه الحاضرون على ذلك، وقالوا: ببعض ما قد قبل [عنه] يباح دمه، ففهم ما هم فيه، فقال للملك الظاهر: اسمع ما أقول لك! إنّ أجلي قريب من أجلك، وبين وبينك مدة أيام يسيرة، من مات منا لحقه صاحبه عن قريب. فوجم الملك الظاهر لذلك، وقال للأمراء: ما ترون في هذا؟. فلم يمكن أحدا أن يقول شيئا. فقال [السلطان] الظاهر: هذا يحبس في موضع لا يسمع له فيه حديث، فيكون مثل من قد قبر(8/269)
وهو حي. فقالوا: الذي رآه مولانا السلطان.
فحبسه في مكان منفرد، بقلعة الجبل، ولم يمكّن أحدا من الدخول إليه إلا من يثق به السلطان غاية الوثوق، ويدخل إليه بالأطعمة الفاخرة، والأشربة، والفواكه، والملابس تغير عليه كل وقت.
وكان حبسه في ثاني عشر شوال سنة إحدى وسبعين وستمائة.
وتوفي يوم الخميس سادس المحرّم، أو ليلة الجمعة سابعه، وأخرج يوم الجمعة المذكور من سجنه بقلعة الجبل، ميتا، فسلّم إلى أهله، فحملوه إلى زاويته المعروفة بخط الجامع الظاهري بالحسينية، فغسّل بها، [وحمل إلى الجامع المذكور] «1» ، وصلّي عليه عقيب الجمعة بالجامع المذكور، ودفن بتربة أنشأها لنفسه بالزاوية، وقد نيف على الخمسين. «2»
ولما عاد الظاهر من الروم، كتب بالإفراج عنه، وجهّزه على البريد، فوصل البريد بعد موته. وكان بنى له الظاهر زاوية بالحسينية، ووقف عليها أحكارا يحصل منها في كل سنة فوق ثلاثين ألف درهم.
وبنى له بالقدس زاوية، وبجبل المزة ظاهر دمشق زاوية، وبظاهر بعلبك زاوية، وبحماة زاوية، وبحمص زاوية، وفي جميعها فقراء، وعليهم الأوقاف، وصرّفه في ملكه يحكم ولا يحكم عليه، ولا يخالف أمره في جليل ولا حقير، ويتقي جانبه الخاص والعام، حتى الأمير بدر الدين الخازندار، والصاحب بهاء الدين، وملوك الأطراف، وملوك الفرنج وغيرهم.
وهدم بدمشق كنيسة اليهود ونهبها، وكان فيها من الآلات والفرش ما لا يعبّر عنه، وصيّرها مسجدا وبنى بها المحاريب، وعمل بها سماعا، ومدّ بها سماطا. ودخل كنيسة الاسكندرية، وهي معظّمة عند النصارى، ويعدونها كرسيا من كراسيهم، ويعتقدون فيها البركة، ويزعمون أن رأس يحيى بن زكريا عليهما السلام فيها، وهو عندهم يحيى(8/270)
المعمّداني، فنهبها، وصيّرها مسجدا، وسمّاها" المدرسة الخضراء" وأنفق في تغييرها من بيت المال مالا كثيرا. «1»
وهدم بالقدس كنيسة النصارى المعروفة بالمصلّبة، وهي جليلة عندهم، وقتل قسيسها بيده، وعملها زاوية.
وكان واسع الصدر، يعطي ويفرّق الدراهم والذهب، وعمل الأطعمة الفاخرة، في قدور مفرطة في الكبر بحيث يحمل القدرة الواحدة الجماعة من الحمّالين.
وكانت أحواله عجيبة لا تكيّف، ولا تنتظم، والأقوال فيه مختلفة، فمن الناس من أثبت صلاحه، ومنهم من رماه بالعظائم، والله أعلم بحقيقة حاله.
قلت: حكى لي والدي رحمه الله تعالى، قال: كان الشيخ خضر عظيم المكانة عند الملك الظاهر، لا يخالفه في شيء، وكان جريئا باللسان وباليد إلى غاية، فضاق منه الوزير ابن حنا ضيقا عظيما، ولم يجد له سبيلا إلى إبعاده، فشرع في التحيّل عليه، وكانت بدمشق امرأة تعرف ببنت ابن نظيف، بارعة في الحسن، خالية من الزوج، محبّة لأهل الخير، فأتى الشيخ خضر في بعض أسفاره دمشق، فسمعت به، وبعثت إليه بأنواع من المآكل، ثم دعته إلى دار لها لضيافة عملتها له؛ فجاءها، وأقام عندها أياما في مأكل وأوقات طيبة لا ريبة فيها، فبلغ ذلك ابن حنا، فجعله سلّما له إلى ما يريد يتسلق منه على الشيخ خضر، وذلك أنه خلّى تاج الدين ابن ابنه، تزوّج المرأة وأبقاها في عصمته مدة طويلة، وحملها بالرغبة والرهبة على ما تقوله في الشيخ خضر، ثم طلّقها سرا، وتحيل جده على الظاهر حتى ألقى في أذنه أن الشيخ خضر يشرب الخمر، ويزني، وأنه كان قد أحب امرأة من بنات ابن نظيف، وأفسدها، وأن تاج الدين تزوجها، ثم لم ينته عنها الشيخ خضر، وبقي يأتي إليها، فطلّقها، وأنها لو سئلت لأخبرت بالخبر، فبعث الظاهر إلى نائبه بدمشق في ذلك، وأحضر المرأة وسألها، وهي لا تعلم بتطليق تاج الدين لها، فقالت ما قرر معها أن تقوله، فكتب(8/271)
بذلك إلى الظاهر، ثم أضيف إلى الشيخ خضر أقوال أخر، ورتبت له ذنوب لم تكن، وكان منه ما كان.
ورأيت أنا في أوراق عمي- رحمه الله- نسخة المطالعة التي كتبت في ذلك، وفيها عظائم، ومما قيل فيها، وهذه المرأة باقية في عصمة الصاحب تاج الدين، لأنهم لم يكونوا علموا بإيقاع الطلاق عليها.
ومنهم:
69- يوسف بن نجاح بن موهوب، أبو الحجّاج الزّبيريّ المعروف بالفقّاعيّ «13»
علا بعز الطاعة، وغالب رأي النفس فأطاعه، وأزمع على الرحيل فجمع له أهبته، وأجمع له وثبته، واستعدّ ليوم العرض، وأعدّ لجنّة عرضها السماوات والأرض، وملاحظة الحق تعينه، وتحقق له ما يستبينه، فتقدّم ولم يتأخّر، وقدّم لله لا لمفخر، وركض به عمله محضرا، وسره يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً
«1» ، فلم ير أضاليل الدنيا إلا مهوما، ولا رئي على غروراتها محوّما.
أصله من قرية من قرى" نابلس" تعرف ب" عقربا" وله بها زاوية، وكان يتردد إليها في كثير من الأوقات، بعد أن قدم دمشق. «2»
وله زاوية ورباط بالقرب من الجامع الأفرمي بناهما له الأمير جمال الدين موسى بن يغمور. وكان كثير العبادة والزهد، حسن التربية، كريم الأخلاق، لطيف الحركات، كثير التواضع، ليّن الكلمة، من المشايخ المشهورين بالعرفان، ولكثير من الناس فيه عقيدة صالحة.(8/272)
توفي ليلة الأربعاء [بجامع الجبل] «1» سابع عشرين شوال، سنة تسع وسبعين وستمائة.
ودفن بتربته جوار الزاوية، بعد أن صلّي عليه بالجامع المظفّري، بسفح قاسيون، وقد نيف على الثمانين.
حكى ابن اليونيني: عن الشيخ تاج الدين عبد الرحمن الفزاري «2» قال: اجتمعت به فسمعته يقول: الطالب للمشيخة جاهل بحقيقة الأمر، مستور عليه، إن أهل الله تعالى [يكرمون] «3» بها، فيسألون الله تعالى الإقالة.
قال: وسمعته يقول: ليس أبناء المشايخ كغيرهم، فإن الحاصل للطالب المريد من غيرهم أكثر وأجل، فإن أولاد المشايخ عندهم إدلال بآبائهم، فلا تزال نفوسهم مرتفعة، وغيرهم يطلب الذل والانكسار، وإنما حصل الناس على الخير بهما.
قال: وسمعته يقول: لقد جرى لهؤلاء الذين عندي وقت اجتهدت على إدخال أولادي فيه بكل طريق فلم أقدر.
قال: وسمعته يقول: إنما نهى الشيخ الشخص عن صحبة غيره، إذا كان مريدا مشتغلا قد سلّكه، وعرف مزاجه، لأنه ربما لاذ بجاهل لحاله ففسد عليه أمره. ومثال هذا: كالمريض الذي له طبيب قد خبر علته، وعرف دواءها، وعالجها مدة، لو شاركه في تعليله طبيب آخر ربما أدّى إلى هلاك المريض «4» قال: وسمعته يقول: كان شخص يرعى الغنم مدة طويلة لم يأخذ الذئب له شيئا قط، فلما كان بعد تلك المدة، أخذ الذئب منه شاة، فقلت له: قد أحدثت شيئا!. فأنكر، فكشفت عن حاله، فإذا به قد أكل طعاما مسروقا من بعض صبيان الرعي، فقلت له: بهذا أخذ الذئب منك ما أخذ «5» .(8/273)
ومنهم:
70- الشّيخ إبراهيم بن [الشّيخ عبد الله] الأرمويّ «13»
كريم كان ينجز المواعيد، وتنبجس له الجلاميد، من بيت أركانه لم تهدم، ومكانة إرث ممن تقدم، فلم يجهل له قدر، ولم يمهل ترابه مذ وضع له خدّ في قبر.
كان يؤخذ ترابه للاستسقاء، وهو في ضريحه يزار، وتحت صفيحه مشهد ومزار. «1»
ومنهم:
71-[الشّيخ الزّاهد] جندل [بن محمد العجمي] «14» «2»
ذكره ابن اليونيني، فقال: كان زاهدا عابدا، منقطعا، صاحب كرامات، وأحوال ظاهرة وباطنة، وله جدّ واجتهاد، ومعرفة بطريق القوم. وكان الشيخ تاج الدين عبد الرحمن بن الفركاح الفزاري «3» يتردد إليه في كثير من الأوقات، وله به اختصاص كبير.
قال ولده الشيخ برهان الدين: كنت أروح مع والدي إلى زيارته بمنين «4» ، ورأيته يجلس بين يديه في جمع كثير، ويستغرق وقته في الكلام مغربا لا يفهمه أحد من الحاضرين بألفاظ غريبة.(8/274)
وقال الشيخ تاج الدين المذكور: الشيخ جندل من أهل الطريق، وعلماء التحقيق، اجتمعت به في سنة إحدى وستين وستمائة، فأخبرني أنه بلغ من العمر خمسا وتسعين سنة.
وكان يقول: طريق القوم واحد، وإنما يثبت عليه ذوو العقول الثابتة.
وقال: المولّه منفيّ ويعتقد أنه واصل، ولو علم أنه منفيّ لرجع عما هو عليه.
وقال: ما تقرب أحد إلى الله عزّ وجلّ بمثل الذّلّ والتّضرّع والانكسار. «1»
قال الشيخ تاج الدين: واجتمعت به في شعبان سنة أربع وستين وستمائة فقال: أنا أحقّ الملك [العادل] «2» وقد جاءه من حلب عسكر يحاصره، وكان عمري إذ ذاك خمس عشرة سنة، وقال لي: دنا الموت، ولم يبق إلا القليل.
ثم قصّ عليّ رؤيا استدلّ بها على هذا، فسألته عن الرؤيا؟، فقال: رأيت من زمان متقادم كأني أفرغت في بيتي جمل بصل، فأخذت منه بصلة بيدي، فرأيت عليها عبد الرحمن شملة «3» ، فجعلتها في حجري، وعرفت أن ذاك البصل كله مشايخ، أريد أن أجتمع بهم، وأراهم، ويروني. فلما كان هذا القرب رأيت كأني عبيت الجوالق «4» البصل، ولم يبق إلا قليل، فعلمت بذلك قرب الأجل. حدّثني بذلك عشية السبت ثامن شعبان من السنة المذكورة.
وكانت وفاته بقرية منين في شهر رمضان المعظّم، سنة خمس وسبعين وستمائة «5» ، ودفن بزاويته المشهورة، وعلى ضريحه من الجلالة والهيبة ما يقصر الوصف عنه. رحمه الله تعالى.(8/275)
ومنهم:
72- أبو الرّجال بن مرّي بن بحتر المنيني «13»
رجل كشفت له البصائر، وأزلفت له المصادر، فعمل لدار القرار، وعجّل البدار للاستقرار، وقدّم لجنّة طالما تسوّق لنزلها، وتشوّق إلى كرم منزلها، وهام بها وتاه، وقام في طلبها فواتاه، فقلبته في نعيمها، وقلّدته تقليد زعيمها، وقالت: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ
«1» ، وقدمتم فأصبتم، ولم يزل يخطم الآمال، ويحطم المال، حتى آن له الأوان، وحان أن يدعى إلى الجنّة ورضوان، فطاب مضجعا، وقدم مقدما ومرجعا.
وكان شيخا ساذجا، كبير التواضع، دائم الذكر، دائم التوجه، عاريا عن التكلّف والتصنّع، عارفا بالله، صاحب أحوال ومكاشفات. امتحنه جماعة من أعيان الناس في أمر المكاشفات، فكان يأتي بها أسرع من رجع البصر. وعظم شأنه في آخر عمره، وقصده الناس رجاء بركته.
وكانت له زاوية يمدّ بها السّماط للواردين والمقيمين، وكان علماء الوقت مثل ابن الفركاح، وابن الوكيل، وابن الزملكاني، يعظّمونه، ويترددون إليه، ويثنون عليه، ويصفونه بالصلاح والولاية، ويبالغون فيه إلى الغاية.
وحدّثني صاحبنا ناصر الدين محمد بن الفارس المعروف بالحاجبي: توفي يوم الثلاثاء عاشر المحرّم، سنة أربع وتسعين وستمائة «2» ، بقرية منين، ودفن بها.(8/276)
ومنهم:
73- عثمان المنينيّ المعروف بالقريريّ
رجل يعدّ برجال، وبطل لا يزاحم في مجال، وعجّل وكم قبضت به آجال، كان بدرا تماما، وبين نونيه أسدا ضرغاما، لا تتوقى له سهام، ولا يرد بالجيش اللهام.
حدّثني عنه والدي، والصدر جمال الدين يوسف بن رزق الله العمري- رحمهما الله تعالى- قالا: لما اشتدّ بأهل بعلبك الأمر نوبة غازان ونحن إذ ذاك بها، كان فيها الشيخ عثمان، وكنا نتعهد زيارته، وأبواب المدينة مفتحة، فلما نازلها غلقت الأبواب واشتدّ الخوف، ثم أتينا الشيخ عثمان للزيارة، فوجدنا قطب الدين ابن اليونيني خارجا من عنده، فقال: دخلت على الشيخ فلم يكلّمني، ووجدته منكرا، فلم أجلس، والرأي أن ترجعوا، فإن هذا رجل له بادرة. فقلنا: لا بدّ أن ندخل، فدخلنا عليه.
قال والدي: فالتفت إليّ وقال: يا محيي الدين! لأي شيء غلقتم أبواب المدينة؟.
فقلت له: يا سيدي! خوفا من [بولاي] «1» فإنه قد جاء ونزل عليها، وربما أنه يريد أن يحاصر. قال: فغضب الشيخ غضبا شديدا، واحمرّت عيناه، وجثا على ركبتيه، وطلعت الزبدة على شدقيه.
قال والدي وابن رزق: حتى ظنناه سبعا يريد أن يفترسنا، وبقي على هذه الحال هنيهة، ثم قال: وعزّة العزيز، طرشهم طرشة بدّد شملهم، وفتح يديه يمنة ويسرة، ثم سري عنه.
وقال: قل لهم يا محيي الدين: فليفتحوا أبواب البلد. قالا: فقمنا، وأمرنا بفتح الأبواب كما قال، ثم باكرنا الخبر في اليوم الثالث برحيل غازان عن مدينة دمشق في الساعة التي قال فيها الشيخ عثمان ما قال.
وحكى لي الشيخ نجم الدين محمد بن أبي الطيب قال: كان لخالنا القاضي تقي الدين(8/277)
عبد الكريم بن الزكي خصوصية بالشيخ عثمان، وكان يتردد إلى قرية برزة حين أقام بها، وكان لا يزال يشكو إليه ما يجده من سوء أخلاق امرأته، وتكبّرها عليه بما لها من الأوقاف والغنى. وكان الشيخ ينهاها في كل وقت، ويخوفها عاقبة فعلها، إلى مرة زادت في سوء معاملته، فلما شكاها إلى الشيخ عثمان، قال لها: النوبة الفيصلة بيننا وبينك. ثم قال لابن الزكي: إن عاد بدا منها النوبة شيء قل: يا عثمان، يا نحس!.
قال ابن أبي الطيب: فلما أتى يوم موسم، أو حفل كانت بالميطور وقد اجتمع عندها جماعة من النساء، فلما أراد أن ينزل إلى المدينة، قالت له: ابعث لنا كذا وكذا، من الحلوى، وغيرها، فبعث بشيء، فاغتاظت، فلما طلع لامته، ثم احتدّت إلى أن عادت إلى عادتها وأشدّ، فصاح ابن الزكي: يا عثمان! يا نحس!، يا عثمان، يا نحس!. ثم لم يستكمل المجلس حتى أخذتها الحمّى الحادّة، المحرقة، وقالت له: قتلتني والله!. ثم قالت:
والله النوبة هي الفيصلة، ففطن ابن الزكي وقام لوقته حتى أتى الشيخ عثمان، ليسأله في أمرها، فمنذ رآه مقبلا من بعيد قال له: أحسن الله عزاك! ارجع جهّزها، فقد قضي الأمر، فرجع وكان الأمر كما قال.
وحكى لي غير واحد من أهل برزة «1» : أن الملك الأوحد كان قد تعجّل نوبة كسروان منهم خراج سنة، ثم لما طال المقام بالجبل بعث يستلف سنة أخرى، فأضرّ ذلك بنا، ولم يبق إلا من أخذ دوابّه، أو قماش نسائه، أو غزلهنّ ليبيعه، فلما رأى الشيخ عثمان ما حصل لنا بذلك من الضرر والإزعاج، اغتاظ حتى كاد يتميز من الغيظ، ثم قال: لا تبيعوا شيئا، فإنه قد قضي الشغل، فلم يلبث أن جاءنا الخبر بأن الملك الأوحد قد توفي في ذلك اليوم.
وأخباره ومناقبه كثيرة.
حكى لي القاضي عبد الله البستاني الفقيه، قال: كان الشيخ صدر الدين ابن الوكيل حسن العقيدة في الفقراء، وسمعته يحكي قال: طلبني الأفرم مرة، طلبا مزعجا، فجئته،(8/278)
وأنا خائف منه- على صحبتي له-، فلما دخلت عليه رأيته مبتهجا لي، فطلع إلي وقد كاد يسطو علي لأجل ابن تيمية، وقال لي: يا صدر! أنت تريد تعاند القدرة في ابن تيمية؟ وكلما رفعه الله تريد أنت أن تضعه بيدك، والله ما تريد إلا من يخرجك من الشام، ويحبسك في الاسكندرية، ليكف شرك. قال: فخرجت وأنا في غاية الخوف والوحشة، وتوجّهت على الفور إلى الشيخ عثمان، فما لحقت أكمل السلام عليه حتى قال لي: بئس الصاحب صاحبك، يعني الأفرم، والله يا صدر الدين! ما هو يا صدر كما قال لك، ما يريد يعاند القدرة إلا هو، والله ما يخرج من الشام ويحبس في الاسكندرية إلا ابن تيمية.
قال: فسرّي عني ما كنت فيه، وبت عنده تلك الليلة، ثم عدت، فلم أصل إلى بيتي إلا ورسول الأفرم قد أتاني، فجئته، فقال: يا صدر الدين! أنت رجل صالح، عمل نفسك في ابن تيمية، وقد جاء مرسوم السلطان بطلبه، وعزمي أن أدفع عنه، وأشتهي أن لا تحرّكوا أنتم ساكنا ليدفع عنه الشر، لعلّ تصطلحوا، فيزول ما بينكم، ثم لم يمض- والله- الأيام حتى لم يكن بدّ من تجهيزه، وحبس بمصر والاسكندرية، وجاء الأمر كما قال الشيخ.
وتوفي سنة ثمان وسبعمائة رحمه الله تعالى، ورضي عنه.
ومنهم:
74- محمّد بن إبراهيم الأرمويّ «13»
مشيّد بيت وأبيات، وصاحب أناشيد وتلاوة آيات، سكن الشام فاخضرّ واديه، وابيضّ بكرم أياديه، وتفجّرت أنهاره مثل قريحته، وطالت غرة جبهته مثل لألاء صبيحته، وسكن بزاوية ابنه بسفح قاسيون، فسقى السفح، وعامل ساكنه بالرحمة والصفح، فظهرت به من سرّ أبيه- رحمه الله- خفايا، وطلعت من الزوايا خبايا.(8/279)
وكان رجلا أوّابا، وعجلا إلى الله توّابا، ومحسنا ما عرفت له أساءه، ولا ألفت منه إلا عباده، أشهد عليها صباحه ومساه، وله عقب نعم ما أعقبه سلف، وأبقاه ماض من خلف منه أي ابن منجب، وولد متواضع للفقراء معجب.
ومن كلامه:
فصل يتعلق بالسماع
قال: افتقار السماع إلى الوجد، افتقار الصلاة إلى النية والقصد، فكما لا تصح الصلاة إلا بالنية والقصد، كذلك لا يباح السماع إلا بالوجد، فمن كانت حركته في السماع طبيعية، كانت نشوته به حيوانية، ألا ترى أن كثيرا من الحيوان ينشأ له حال غير المعتاد عند سماع المطربات، وقوة حركة لسماع طيّب النغمات، فمن كان هذا السماع الحيواني في ذلك أقصى أربه، وكان مقصورا فيه على هواه ولعبه، وهو سماع الطبيعة لا سماع الأرواح، فجدير أن يجتنب فإنه يستعمل الطبيعة [ويجرّ إلى الوقوع] في غير المباح.
والسماع الذي اختلفت فيه الأقوال إنما هو سماع أهل المقامات والأحوال، فمنهم من أباحه على حكم الاختصاص، ومنهم من جعله زلة الخواص، ومنهم من توقف ولم يجد إلى إقامة الدليل على كلا الأمرين نشاطا، ورأى الاستغفار منه إذا قدر له الحضور فيه احتياطا، فهو متردد في أمريه، فتركه لمثل ذلك أولى، ولم يرزا على من حضره من السلف، لكن لم ير نفسه بحضوره أهلا. فهذه جملة اقتناعية مما قيل فيه، ونبذة لعلّ من تأملها تكفيه. «1»
إذا حرك الوجد السماع إليكم ... يباح وإلا فالسماع حرام
ومن هزّه طيب استماع حديثكم ... ومال من الأشواق ليس يلام
ولا عجب إن شتت الحبّ جمعه ... فليس لأحوال المحب نظام
يسير مع الأشواق أين توجهت ... وليس له في الكائنات مقام
ولا غرو إن ضلّت مذاهب عقله ... فإن مقام العز ليس يرام
حمى لا سبيل أن يباح مصونه ... وكل الورى طافوا عليه وحاموا(8/280)
وقاموا وقد جدوا لأول منزل ... فقاموا حيارى فيه حيث أقاموا
ومن نظمه الفائق قوله:
لا غرو أن أصبح وجه الثرى ... ونوره بالنور وضّاح
إذ كم يد بيضاء في كفها ... بروضة النرجس مصباح
وقوله:
ما حمرة العينين منك بمهجتي ... أفديهما وبناظري لتألم
لكن لحاظك أغمدت أسيافها ... بحشاشتي فبدا بها أثر الدم
وقوله:
واد إذا جئنا سراعا نحوه ... خوف الهجير وقد أطل زمانه
رق النسيم لبانه وتعطفت ... كرما علينا في الربا أغصانه
وقوله:
لله أيام الربيع وطيبها ... وتفاخر الأطيار في الألحان
والورد ينمى في الغصون كأنما ... الحياء بوجنة الخجلان
والغصن يثنيه النسيم كما ثنى ... سكر السموأل شمائل النسوان
والماء يمشي في الرياض كما مشت ... سنة الرقاد بمقلة الوسنان
وقوله:
حديقة إذ نبّهتها الصبا ... لم يبق منها مقلة غافية
وشى بطيب العرف تمامها ... لما أتتها الأعين الصافية
وقوله:
كأنما المريخ في جوه ... شقيقة بين رياض الأقاح(8/281)
وأنجم الجوزاء خرد غدت ... ترقص من تيه بسيف الصباح
وقوله:
يا طيب ما جاء النسيم بعرفكم ... وحديثه عنكم حديث مرسل
حمّلته مني السلام إليكم ... فأطاعني لكنه يتعلل
وقوله:
كم للنسيم على الربى من نعمة ... وفضيلة بين الورى لن يجحدا
ما زارها وشكت إليه فاقة ... إلا وهزّ لها الشمائل بالندا
وقوله:
رقّت ورقّ الكاس من دونها ... عذرا راح عرفها يسكر
كالشفق الأبيض من دونه ... والجوّ صاف شفق أحمر
وقوله:
قلب غدا من حبكم عامرا ... لغيركم ليس به منزل
وقد أردتم هدمه بالقلا ... سألتكم بالله لا تفعلوا
وقوله:
حبّذا دوحة إذا ما سعينا ... واستجرنا بذيلها في السموم
لم نزل تحت ظلها في أمان ... بين خود الندا ولطف النسيم
ما استمدت رياضها الغيث إلا ... جاء منه الصبا بوعد كريم
قد تردّى برداء السحاب ووافى ... يتمشى هونا بقلب سليم
يتمادى بين الغصون دلالا ... قد تربى من يومه في النعيم
وهو يختال فرحة حين وافى ... من حبيب مبشرا بالقدوم
ويريد الرجوع من غير عزم ... فهو بين التأخير والتقديم
وقوله:(8/282)
أما ترى الليل قد ولّت مواكبه ... مهزومة واختفت خوفا كواكبه
وقد تجرّد سيف للصباح غدت ... محمرّة من دم القتلى جوانبه
وقوله:
ما اصفرّت الأوراق إلا خيفة ... لما استبانت فرقة الأغصان
وكذا النسيم غدا عليلا إذ بدا ... متنقلا أبدا عن الأوطان
فاظفر بجمع الشمل قبل شتاته ... ما العيش إلا صحبة الإخوان
وقوله:
وافى الربيع فعاد الروض مبتسما ... وطالما انتحبت فيه سحائبه
والغصن من فوقه الشحرور تحسبه ... يتلو الزبور بأعلى الدير راهبه
وشاطيء الدهر قد دبت عوارضه ... وافترّ مبسمه واخضرّ شاربه
فصفّق الدوح لّما أن رأى عجبا ... من أجل ذلك شابت ذوائبه
وقوله:
لم أنس ليلة بات البدر يخدمنا ... إلى الصباح ولم يشعر بنا الرقبا
والنهر لجينا والدجى سبح فمذ بدا ... الصبح ياقوتا جرى ذهبا
وقوله:
وافى النسيم أما القطر فانثنت ... الأغصان ترقص من تيه ومن مرح
وأعين الروض تجري وهو مبتسم ... وقد تفيض دموع العين بالفرح
وقوله:
وزهر في غصون الدوح تبدو ... فناهيك السماء بها النجوم
فإذا عجيب إذ أضحت رجوما ... متى استرق العبير بها النسيم
وقوله:(8/283)
كأنما الدوح وقد طرّزت ... أيدي الصبايا بالنور أثوابها
مضارب من سندس مذهب ... قد مدّت الأغصان أثوابها
وقوله:
أما ترى الليل قد ولّت عساكره ... وأقبل الصبح وامتدّت مواكبه
وجرّد الصبح سيفا للدجى فغدت ... من سفكه الدما حمرا جوانبه
وأصبح الليل مصفرّا لهيبته ... يجدّ في السير لا يبقي ركائبه
ممزق الذرع محلول الإزار وكم ... قد أحكمت سردها ليلا كواكبه
وقوله:
أصبحت أوجع من ورقاء فاقدة ... في الدوح طول الليل لم تنم
بعد الأحبة لا تهوى المنام بلى ... إن سامحوها وزار الطيف في الحلم
وقوله:
رأيت الصبا لما استعنت بلطفه ... على حمل ما لا قيته يتعلّل
وقمت بحفظ العهد للنجم في الدجى ... فما باله في صحبتي يتنقل
وقلب الدجى ما زال للسر كاتما ... وها هو عما خلته يتحوّل
وقوله:
وربوع يكاد طيب شذاها ... يفضح المسك في نحور العذارى
أشرقت شمس نورها فسعينا ... نحوها في الدجى نوم نهارا
وأتى القابسون نحو سناها ... فرأوا جلي نارها جلّنارا
وقوله:
سكوت كما تهب صبا صباحا ... فرقّ لأنّه برّ كريم
فلا تعجب له إن مال عطفا ... لأن الغصن يعطفه النسيم
وقوله:(8/284)
لطفت شمائله فعدن شمائلا ... من أجلها عرف النسيم معطر
لو لم ينمّ عبيره بعنوده ... كان الرقيب للطفه لا يشعر
وقوله:
أصافح الأغصان أبغي الحيا ... مستشفيا.... جربالها
وكيف لا يدركني جودها ... وقد تعلّقت بأذيالها
وقوله:
ناجته في السرّ الحاظي على وجل ... أليس في الحال ما يغني عن السكرى
فقال لي كسر جفنيه فديتهما ... بحجلة قد عرفت السر والنجوى
وقوله:
يا معرضا عني وفي أغراضه لطف ... يفي بفضائل القرب
من دون سفك دمي بحبك عامدا ... معنّى نفسك بواعث العتب
وقوله:
كأنما النهر في ظل الغصون وقد ... ألقى السحاب عليه حمرة الشفق
خدّ تكنفه قرط الحياء وقد ... مدّ العذار عليه خضرة الورق
وقوله:
كسى فصل الربيع الدوح بردا ... يقيها لفحة الحر الشديد
وما خلعته لما رث إلا ... وقد طمحت إلى لبس الجديد
وقوله:
أنا مستجير بالدجى ... من سلّ سيف صباحه
فعساه يكلأ ذا هوى ... كرما بظلّ جناحه
وقوله:(8/285)
كأنّ سمانا والبدر فيها ... وأنجمها محدقة إليه
حديقة نرجس من حول عين ... تدفّق ماؤها فطغى عليه
وقوله:
جاء فصل الربيع يخطر عجبا ... عطفه بين نرجس وبهار
وبدت خجلة من الماء لما ... رمقته لواحظ الجلنار
وكأن الغدير إذ قابل الشمس ... لجين مرصّع بنضار
وكأن السماء إذ رأت الأرض ... عروسا جادت لها بنثار
فلهذا أضحى الأقاح وكل ... قابض بعزة على دينار
وذكت نكهة الصبا إذ أذاعت ... سر ما أودعت عن النوار
لا عجب تهدي إلينا شذاها ... مع صباها مجامر الأزهار
إذ رأينا بكل كأس شقيق ... در مسك تذكيه شعلة نار
وقوله:
تبسم ثغر الروض بعد قطوبه ... سرورا بإقبال الربيع إليه
ألم تر أن الغصن إذ رقّت الصبا ... يصفق مسرورا لها بيديه
وأن ثياب الورد وهي شقيقة ... يشققها حتى تمرّ عليه
وقوله:
خلت أن الغصون ترقص لما ... بشرتها النسيم بالأمطار
فلهذا ألقت لها ما عليها ... فهي من شدة السرور عواري
لبست في الشباب ثوب وقار ... ورأت في المشيب خلع عذار
وقوله:
دمن تخال دماء خدود شقيقها ... تجري وثغر أقاحها يتكلم
ويكاد نرجسها ويمنعه الحيا ... منا بأطراف الحياء يسلم(8/286)
وقوله:
ودوحة حسن خلتها حين انبعث ... كواكب تبر في السماء زبرجد
إذا قبلتها الشمس ظنت لطافة ... بقية نار في بنادق عسجد
وقوله:
وما اشتقت أيام الصبا غير أنني ... تذكرت أحبابا بها ومآربا
تولوا فولى طيب عيشى لبينهم ... فلوا أنهم داموا لدام لي الصبا
وقوله:
أو ما ترى المنثور لما أن رأى ... طيب المقام بجنة وخلود
كسر الصليب وقد عدا ببنانه ... نحو السماء يشير بالتوحيد
وقوله:
تعوّدت طول الهجر منكم فلو طرا ... لي الوصل يوما أنه الوصل
ولو شاهدتكم مقلتي لم أثق بها ... وقلت مناما ما لبعضها أصل
وقوله:
فاحت فقلت لها دعي ... ليس الهوى بتصنّع
أين الذهول إذا نطقت ... وأين فيض الأدمع؟
وقوله:
لئن شغلت روحي بغير هواكم ... فلا بلغت من وصلكم ما تمنّت
وإن مدّت الأيدي إلى غير فضلكم ... تروم نوالا من سواكم فشلّت
وقوله:
قم فاسقني ما راق في ... صافي الكؤوس من الشراب
راحا ألذّ من ابتسام ... من حبيب في عتاب(8/287)
وأرق من شكوى محبّ ... مستهام باكتئاب
والشمس في أفق السماء ... تلوح من خلل السحاب
مرآة تبر دونها ... ما رقّ من حمر الشباب
وقوله:
بدا لنا الجلّنار في القضب ... والطل يبدو عليه كالحبب
كأنما أكؤس العقيق به ... قد ملت من برادة الذهب
وقوله:
غدا لكل معنى في الأنام يروقه ... ويغريه برق باللوى وخفوقه
ويثنيه نشر الروض مرت به الصبا ... سحيرا بريا عرفكم ويشوقه
مبشرة جاءت فكان لها يد ... وفضل عليه لا يؤدى حقوقه
فما الطلّ فوق الروض عند سقوطه ... ولا المسك منثورا علينا سجيفه
بأطيب مما طمنت عن جنابكم ... وفي طيها نشر ذكي عبوقه
فبالله عرّج سائق الظعن بالحمى ... فمنزلها وادي النقا وعقيقه
وإلا فدعها كيف شاءت وسيرها ... فأي طريق يممته طريقه
وقوله:
خانني ناظري وهذا دليل ... برحيلي من بعده عن قليل
هكذا السفر إن أرادوا رحيلا ... قدموا أمامهم الحمول
وقوله:
لم حرمتم جفني الرقاد إلى ... أن خلت ما بين جفني سيفا
ما تمنيته اشتياقا ولكن ... أترجّى أن تبعثوا فيه طيفا
وقوله:
أوحشتني والله يا مالكي ... في لذة الكاس على الورد(8/288)
فقال لي ما غبت عني مذ غدا ... يشرب من ريقي على خدي
وقوله وقد مرّ ببعض الكروم فرأى بها أعظما قد علقت، والرياح تلعب بها كلما خفقت، وكلما حركتها سمع من أصواتها مثل الأنين وأوجع من حسها ما يوجع الحزين، فتذكر ما كانت عليه تلك العظام الرفات، ثم ما حدث عليها من الآفات، وتأسف لها لو ردّ الأسف ما فات، والذي قاله:
سئمت دوام سكونها فتكلّمت ... شوقا إلى ما مرّ من لذّاتها
مرّ الصبا فتذكرت زمن الصبا ... فغدت تنوح على زمان حياتها
وقوله:
أودعت سرها الأزاهير سرا ... سرى فيه النسيم في الأسحار
وتلقت بعرفها الوفد حتى ... تنبهوا منها بقرب المزار
فأعادت من السقام شفاء ... حتى جاءت بأطيب الأخبار
مغور الرياض تبسم عجبا ... من بكاء السماء بالأمطار
نقطتها بلؤلؤ الطل ليلا ... فحكته شمس الضحى في النهار
فسمته النسيم في الجو حتى ... جمعته من سندس في إزار
وكأن الغصون في الدوح أضحت ... مصغيات إلى هديل الهزار
فإذا ما انتهى إليها بثت ... تحدث الهوى بغير استتار
ثم شقت أثوابها من غير أمر ... ثم فكت بقية الأزرار
وقوله:
رقّت معانيه وراق حديثه لطفا ... فعاد هوى لكل مزاج
فكأن معناه الطيف ولفظه ... خمر يروق في صفاء زجاج
وقوله:
شكوت صبابتي فيه وشوقي ... فكاد لرقة الشكوى يهيم(8/289)
فلا عجب إذا ما مال عطفا ... لأن الغصن يعطفه النسيم
وقوله:
مقلة سوداء ألبستني ... كحلا من غير كحل
قد أمنت القطع منها ... إذ غدت همزة وصل
وقوله:
دنا السحاب فضم الروض فانبعثت ... دموعه تتوالى وهو لهفان
كالأم تحنو على المولود ترضعه ... ثديها العذب سحا وهو هطمان
وقوله:
كأنما الروض إذا ما بدا ... جبين وجه الكوكب النير
مطارف من سندس أخضر ... مموّه بالذهب الأحمر
وقوله:
عطف السحاب على الرياض فأقبلت ... تشكو إليه من أليم بعاده
فغدا يقبّلها ويبكي رحمة ... فتبسّمت بعود وداده
وقوله:
كأنما المريخ في جوّه ... شقيقة في روضة الأقحوان
ودمية الجوزاء في حلّة من سند ... س ما بين عقدي جمان
وقوله:
الغصن ربّاه النسيم بلطفه ... فكسى شمائله شريف طباعه
والنهر غذّاه صغيرا قبله ... فزكا وطاب جنى لطيب رضاعه
وقوله:
والنهر قد عشق الغصون وقد غدا ... يصف المحاسن من بديع جمالها(8/290)
لكن درى أن النسيم يميلها ... عن وصله فرضى بطيف خيالها
وقوله:
أما ترى الأغصان لما أتى ... النسيم بالبشرى من المغرب
لم يرض من سندسها حلة ... حتى انجلت في ثوبها المذهب
وقوله:
وإذا رأيت الروض في عرصاته ... تقيه بخديه الردا وعيونه
وألفيت فيه النهر قد جاء طالعا ... يقبل أرضا بين أيدي غصونه
وقوله، وكتب بهما إلى ابن خاله أبي الحسن لما سافر نابلس:
فقدت مذ غبتم يا سادتي جلدي ... وأنت سائر الأوقات في خلدي
عدمت قلبي وجسمي ذاب بعدكم ... سقما فصرت بلا قلب ولا جسدي
وقوله:
أقول والصبح حثيثا سرى ... في طلب الليل على الأبلق
وطرّة الليل بها مفرق ... بغير سيف الصبح لم يفرق
والبدر إنسان لعين الدجى ... منفذ في طرفه الأزرق
وقوله:
كيف للطّيف أن يزور محبا ... وهو في طول ليله يقظان
يسرق النوم جفنه فإذا ... ما كاد يغشاه هزّه الخفقان
وقوله:
خلت الغصون كأنها قد ألبست ... درعا يزررها الصبا ويفكك
رش الندا أثوابها وكأنها ... بيد الشمائل والجنوب تفرك
وحدا النسيم الورق إذ باحت به ... فالغصن وجدا بالهوى يتحرك(8/291)
ومنهم:
75- نجم الدّين الخشكناكيّ
نجم كم أطلع هلالا، وأطعم مما حلا حلالا، ولم يزل كل ذي ورع ينتاب محله، ويختار من المآكل أحلّه، والعيون تترقب مواقيت تلك الأهلّة، وتتوثب إلى تواقيت تلك الأكلة، وللناس ولع بذلك الخشكنان، وطمع فيما يؤثر من سعد القرآن، فتعجل إلى منادي تلك الدور والدار، وترى طعام أهل الجنة ما خرج من تلك النار، فكانت لا تبرح ترى أفواجا على فرنها، وتسمع لجاجا في مفاخرة العصور الذاهبة بقرنها، ولهذا كم أقسم منها بنون، والقلم لكتابه وآثارها وما يسطرون.
كان رجلا أشقر طوالا، له حانوت بالسوق الكبير يعمل فيه الخشكنانك «1» ، ويبيعه، ويأخذ الثمن بالناقص، ويعطي بالزايد، ولا يرد درهما زائفا، بل يأخذه ويعطي به الخشكنانك، ثم يقص الدرهم ويرميه في النار، قصدا لتخفيف الزغل من نقود الناس ومعاملاتهم.
وكان إذا سمع أذان المؤذن ترك شغله، وأتى الجامع فصلى فيه في أول صف. وفي يوم الجمعة لا يتسبب بل يجعله مقصورا على القعود في مقصورة الخطابة، وانتظار الصلاة، حتى يصلي الجمعة.
وكان كثير البر والصدقة والمعروف، ونفقاته أضعاف مكسبه، وأمثال معاشه وسببه، وكان معروفا بالصلاح، مشهورا بالولاية، وله أحوال عظيمة، وأمور غريبة، وطريقة مثلى،(8/292)
وأفعال حسنى، إلى رياضة أخلاق، ودماثة جانب.
قالوا: إنه لم يشتر شيئا حتى يزن ثمنه أولا، ويجعله في يده، ثم ما يتسلم المبيع حتى يصير الثمن في يد البائع.
هذا إلى عيادة مرضى، وتشييع جنائز، والقيام بحقوق إخوانه وأصحابه وجيرانه، والإفضال عليهم بتفقده، واشتهر أمره في زمانه، وأجمع عليه أهل وقته.
وكان ابن تيمية، وابن الفركاح، وابن الوكيل، وابن الزملكاني، وغيرهم من علماء الوقت مجمعين على فضله وصلاحه، وكان الناس تحمل أولادهم وتأتي إليه ليمسح بيده على رؤوسهم، ويدعو لهم، ويعودهم، فيفعل ذلك، ثم ما ينصرف واحد منهم حتى يعطيه خشكنانكة، أو خشكنانكتين، أو أكثر من ذلك، ويعطي الناس على مقدارهم، وينزل الناس منازلهم، ويجزل لذوي الحاجة، حتى أن الفقراء منهم كان يعطيهم مع الخشكنانك ما تيسر من الفضة أو الفلوس، ولا يعرف هذا المدد من أين، ومعاشه لا يحمل بعضه. وكان على قدم عظيمة، وسلوك على عزة.
وحدثني الحافظ العلائي قال: لما اشتد الخوف بأهل دمشق نوبة شقجب، فغدا الشيخان محمد الأرموي، ومحمد بن قوام في الجامع الأموي، واجتمع إليهما الناس، وشرعوا في التوجه إلى الله تعالى، وقرؤوا الحديث الشريف، فلما أكملوا القراءة والدعاء أذنت المغرب، وكان ذلك في رمضان، قام الشيخ نجم الدين الخشكنانكي، ومعه علبتان من الكعك المحشو، تقدير ما يكون في مثليهما عشرون كعكة، فأعطى كل واحد من الشيخين كعكين كعكين، ثم فرّق على بقية الناس كذلك، وكان الجامع مملوءا من الناس، لو فرّق عليهم ثلاثمائة علبة لم يكفهم!، ولم يفطن أحد لذلك في ذلك الوقت، ولا فيما بعده حتى مات، فلما وضع سريره للصلاة عليه، لم يبق إلا من ذكر تلك الكرامة، وعدّها من كراماته.
وحدّثني صاحبنا الشريف محمد بن أحمد بن علي بن ظاهر الحسيني، قال: كانت لنا دار بالخضراء، وظهور بعضها لغيرنا، وكنا في غاية الضرر بملك الغير لها، فباعها مالكها من(8/293)
رجل كان من خاصة الأعسر، فلم يقدر على منازعته بالشرع ولا بغيره، ودخلنا عليه بكل أحد فلم ينزل لنا عن البيع، فذهبت أنا وأمي إلى الشيخ نجم الدين، وكنا لا نعرفه، ولكنا نسمع بخبره، ونعرف مكانته عند الناس، فحدّثناه لعلّه يكلّمه، أو يكلّم الأعسر لنا، فقال:
أما الأعسر فإني لا أعرفه، وأما هذا الرجل فأحدثه. ثم قام معنا حتى أتيناه، فقلنا له: هذا هو.
فسلّم عليه، ثم قال: من ترك شيئا لله عوّضه الله خيرا منه، وهؤلاء أحق بهذه الدار، والله قد قدّمهم للجوار وللخلطة، فدعها لهم. فقال: قد تركتها لهم- وما كان والله يعرفه- فذهبنا، فأتينا بالدراهم، ولم نبرح حتى تكاتبنا، وتسلّمنا المبيع، وأراحنا الله من ضرر جواره.
ثم إن ذاك الرجل كان يقول: والله ما أعرف كيف سحرني ذاك الشيخ؟. ولا يزال نادما على الإجابة للبيع.
توفي رحمه الله تعالى [.........] «1»
ومنهم:
76- علي السّقباويّ
الكردي الأصل، رجل عرف عرفانه، وألف السهر حتى جفت النوم أجفانه، وكان بطل كتائب، ورجل لقاء لا يخطي له صوائب.
كان يسكن بالمدرسة العزيزية «2» شمالي الكلّاسة، جوار جامع دمشق، في بيوت الداير الفوقاني.
وله كرامات ظاهرة، وأمور باهرة:-
منها: ما حدّثني به زين الدين عمر المشرف رحمه الله تعالى قال: كان أيدمر مملوك الصاحب عز الدين بن القلانسي قد أخذ بيتا من بيوت هذه المدرسة التحتانية، فأشرف عليه الشيخ يوما فرآه في ذلك البيت بكلوته «3» ولباس الجندية، فسأل عنه؟ فقيل له: هذا(8/294)
مملوك الصاحب. فقال: قولوا له: هذه البيوت ما جعلت إلا للفقهاء، والفقراء، ومزاحمتك لهم وأنت من الجند الأغنياء ما يحل، فدع هذا البيت لمستحق.
فقالوا له، فلم تفد. فبعث يقول لسيده ذلك، فما أفاد، فغضب غضبا عظيما، وحنق حنقا مفرطا، واحمرّت عيناه، وقامت أوداج رقبته، وقال: إن كنت تلتقي يا ابن القلانسي التق، فو الله ما أصبر!. ثم بقي يقول: انقضى الشغل.
قال: فاتفق ما كان من إمساك كراي لابن القلانسي، وتضييقه التضييق الشديد عليه، فلما كان بعد مدة، رأيت أيدمر مملوك ابن القلانسي في ذل، مجرورا بين الأعوان، يكاد يسحب على وجهه، فرحمته، وذكرت قول الشيخ، فأتيته، فصادفته منبسطا، فقلت: يا سيدي! أنتم أهل رحمة وخير، وذكرت له حال ابن القلانسي، ولم أزل به حتى رقّ له، ودمعت عيناه، وقال: والله ما هذا النائب عن كراي إلا من الجبابرة، وهو أولى بنزول البلاء، اللهم فرّج عن ابن القلانسي، وأنزل بكراي ما أراد أن ينزل به من البلاء. قال: فو الله لم يمض إلا أسبوع حتى أمسك كراي، وآل أمر ابن القلانسي إلى الصلاح، ثم إلى الفرح.
وحدّثتني الحاجة صفية أخت البطاحي، وكانت ثقة، قالت: لما نزلت التتار على الرحبة، تعني سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، واشتد بالناس الأمر، وكثر الجفال، وتأخر العسكر المصري، عدمت القرار، وكنت أطلب الدعاء للمسلمين من كل من أعتقد فيه الصلاح، فاشتد الخوف بنا يوما، وكثرت الأراجيف، فأتيت أخت الشيخ علي السقباوي، وكانت في بيت إلى جانب بيته، فقلت لها: لو قلت للشيخ ليدعو للناس، فإنهم في خوف عظيم وشدة، وإلى الساعة ما صحوا من نوبة غازان. فقامت وأخذتني معها، وقالت: يا أخي! هذه امرأة مباركة، وقد قالت لي: كذا وكذا، فقال: يدبّر الله، يدبّر الله، وطرأ عليه حال ما استطعنا معه الثبات على المقام عنده، فخرجنا إلى بيت أخته، وجلسنا به هنيهة، نتحدّث في أحوال الناس، وإذا به قد صاح صيحة عظيمة منكرة، فقامت أخته إليه مزعجة، وقمت خلفها، فسمعته يقول: ائتني بخرق ليحشي به هذا الجرح، فهبت فأتيته بخرق، فكشف لها عن جرح دون ترقوته، قدر شبر، فقالت له: يا أخي! من أين هذا؟. فقال: هذا(8/295)
بسبب تلك العجوز بالشتنا «1» بهؤلاء القوم، وهؤلاء لهم واحد وقح ما يرتد، جرت بيننا وبينه حروب حتى رحّلناهم إلى اللعنة!. ولحقنا هذا الجرح في سبيل الله، فحشت جرحه وهو يشخب دما، وأنا أراه بعيني لا يخبرني بذلك مخبر.
ومنهم:
77- إبراهيم الصّبّاح
مشكاة أنوار، وروضة صلاح، لا تخفى لها أنوار.
انقطع بدمشق بالجامع الأموي مربيا لجماعته، وعونا على ما يخلو به المتعبد فيه من طاعته، وكان بالمأذنة الشرقية مشرقا لشموسها، ومحليا لها حلية عروسها، وكان رجلا منجمعا عن الناس، مستوحشا كأنه النمر أو الأسد. وكان كثير الصلاة والذكر، مواصلا لقيام الليل، وصيام النهار، ولا يقبل على أحد، ولا يختلط بأحد، يمشي في الجامع وكأنما يمشي على حذر، وكان لا يقبل لأحد شيئا فيما أعلم إلا صاحبنا بدر الدين بن العزازي، فإنه كان يبعث إليه من الطعام في كل يوم، ومن اللباس في كل سنة، بقدر حاجته، وكان يقبل ذلك منه، وحج معه، وكان عديله في المحمل.
حكى لنا ابن العزازي عنه قال: كنت لا أراه إلا كالسكران الطافح، وكنت لا أجسر على كلامه، وكان لا يسألني عن شيء من أحوال الناس ولا الطريق ولا المنازل، ولا غير ذلك. وكان يكثر من قوله:" يا دائم المعروف الذي لا ينقطع أبدا، ولا يحصى عددا، يا الله".
وآخر أمره أنه استدفأ بمجمرة فاحترق رحمه الله تعالى وغفر له، وذلك في يوم. [......]
ورثاه الأديب جمال الدين ابن نباتة بقوله «2» :(8/296)
على مثلها فلتهم أعيننا العبرا ... وتطلق في ميدانها الشهب والحمرا
فقدنا بني الدنيا فلما تلفتت ... وجوه أمانينا فقدنا بني الأخرى
لفقدك إبراهيم أمست قلوبنا ... مؤججة لا برد في نارها الحرّا
وأنت بجنات النعيم مهنّأ ... بما كنت تبلي في تطلبه العمرا
عريت وجوّعت الفؤاد فحبّذا ... مساكن فيها لا تجوع ولا تعرا
بكى الجامع المعمور فقدك بعد ما ... لبثت على رغم الديار به دهرا
وفارقته بعد التوطن ساريا ... إلى جنة المأوى فسبحان من أسرى
كأن مصابيح الظلام بأفقه ... لفقدك نيران الصبابة والذكرى
كأن المحاريب القيام بصدره ... لفرقة ذاك الصدر قد قوست ظهرا
مضيت وخلّفت الديار وأهلها ... بمضيعة تشكو الشدائد والوزرا
فمن لسهام الليل بعدك إنها ... معطلة ليست تراش ولا تبرا
ومن لعفاف عن ثرى وبني الورى ... عبيد الأماني وانثنيت به حرّا
سيعلم كل من ذوي المال في غد ... إذا نصبل الميزان من يشتكي الفقرا
عليك سلام الله من متيقظ ... صبور إذا لم يستطع بشر صبرا
ومن ضامر الكشحين يسبق في غد ... إلى غاية من أجلها تحمد الضمرا
أيعلم ذو التسليك أن جفوننا ... على شخصه النائي قد انتثرت درّا
وأن الأسى كالحزن قد جال جولة ... فما أكثر القتلى وما أرخص الأسرى
ألا ربّ ليل قد حمى فيه من وغى ... حمى الشام والأجفان غافلة تكرى
إذا ضحك السماء حجب ثغره ... كذلك يحمي العابد الثغر والثغرا
إلى الله قلبا بعده في تغابن ... إلى أن رأى صف القيامة والحشرا
لقد كنت ألقاه وصدري محرج ... فيفتح لي يسرا ويشرح لي صدرا
وألثم يمناه وفكري ظاميء ... كأني منها ألثم الوابل الغمرا
أمولاي إني كنت أرجوك للدعا ... فلا تنسني بالخلد في الدعوة الكبرى
سقى القطر أرضا قد حللت بتربها ... وإن كنت أستسقي برؤيتك القطرا
ومن كان يرجى منه في المدح أجرة ... فإني أرجو في مدائحك الأجرا(8/297)
ومنهم:
78- حمّاد الحلبيّ «13»
ذو القدر الوافي، والمشعل بالثريا وبشر الحافي، السري مع أنه معروف، والنوري حينه إذا سئل منه معروف.
قدم دمشق، ونزل بظاهرها على رجل متسبب من أهل الصلاح متكسب من الجبل، كان لا يأكل إلا من طعامه، ولا يكتسي إلا من لباسه، ولا يبيت إلا عنده في بستان له بمرج الدحداح، وكان الشيخ يقرئ القرآن الكريم بجامع التوبة بالعقيبة «1» ، تبرعا واحتسابا، يجلس لإقراء الناس بياض كل يوم في أخريات الرواق الشمالي به.
وكان رجلا ربعة أبيض بحمرة، أبيض الرأس واللحية، أقنى الأنف، ضعيف العينين، منوّر الوجه والشيبة، عليه سيما الولاية، واتّهمه أهل العرفان، فكان لا يزال متوجها إلى القبلة على طهارة كاملة، منتصبا للقراءة، والإقراء، فارغا من الناس، لا يقبل لأحد منهم شيئا.
وكان شيخنا ابن الفركاح يخرج إلى زيارته في كل أسبوع مرة، أو مرتين، وكذلك شيخنا ابن الزملكاني، رحمهم الله تعالى.
وزاره شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية، وكان يذكره بالخير ويثني عليه.
حكى لي الشيخ شرف الدين ابن النجيح، قال: ذكر بين يدي الشيخ- يعني ابن تيمية- أناس من صلحاء الوقت، فأمسك بأذن القائل، وقال له: اجعل بالك، وافتح عينيك:
" الصالح حماد، الصالح حماد"، وبقي يكررها.(8/298)
كنت كثير التردد والزيارة له، وكان على قدم صدق وهدى، وكتاب منير. ولو حلفت أنه لم تقع عيني على مثله لكنت بارّا. ولم يحك عنه أنه قال، ولا ادّعى، ولا رزأ أحدا من ماله شيئا. ولما أقحط الناس سنة ثمان عشرة وسبعمائة، واستعدوا للاستسقاء، أتيته وقلت: يا سيدي! الناس في مشقة، فقال: لو سكتوا كفوا. فأعدت عليه القول، وقلت: لو دعوت لهم.
فقال لي: اسمع! - وفقنا الله وإياك-: يحكى أن الناس أقحطوا في سنة من السنوات؛ فأمسكت السماء، وجفّ الماء، فهمّوا بالاستسقاء، واستعدوا له، فلما أرادوا الخروج إلى الصحراء أتوا رجلا صالحا كان في جانب عنهم، توسّموا خيره، فسألوه في الخروج معهم، فخرج معهم، حتى مرّ ببستان في طريقه، فطرق الباب، فخرج إليه القيّم به، فقال له: ما تريد؟. فقال له: اسق بستانك. فقال له: هذا ما يلزمك، أنا أسقي بستاني متى شئت.
فالتفت ذلك الصالح إلى الناس، وقال: ألا تسمعون ما يقول؟. قالوا: قد سمعنا.
فقال: إذا كان هذا كره أن أعترض عليه، أتعترضون أنتم على الله؟. ثم تركهم ورجع. ولم يخرج الشيخ حماد مع الناس إلى الاستسقاء.
قلت: وكنا نسمعه كثيرا ما يقول:" كان فقير، قال فقير، جرى لفقير" ويذكر أمورا عظيمة، وكرامات ظاهرة، أنه إنما يحكيها عن نفسه، وإنما يريد الكتمان.
ومما حدثنا به- وأظنه إنما حكاه عن نفسه- قال: كان بحلب فقير صادق الطلب، نودي في سرّه: حاجتك في مصر!. فخرج يريد مصر، وجعل عليه أن لا يسأل أحدا شيئا، وكان شديد الفاقة، وكان لا يأكل إلا من مباحات الأرض، فلما عدى غزة بفراسخ، دخل الرمل، فقال: أيتها النفس! ليس هنا ما تقتاتين به، فصبرا على الجوع، أو فالرجوع، ثم قوّى عزيمته، ودخل الرمل حتى أتى" قطية" «1» ولم يطعم طعاما تلك الأيام، فلما دخل" قطية" رأى ما في أسواقها، فغض بصره حتى خرج منها، وأتى حائطا في منقطع الحدائق بها،(8/299)
فقال «1» في ظله، فلم ينتبه إلا في رجل أتاه بزنبيل «2» فيه من كل ما في السوق من حارّ وحلو وحامض، ثم قال له: يا عبد الله! كل، فأمسك. فقال له: كل، فأنت ما سألت، وإنما سئلت. فأكل ثم رفع يده، فقال له: كل، يا عبد الله!، للأيام التي لم تأكل فيها من غزة إلى هنا، وللأيام التي تريد أن لا تأكل فيها من هنا إليغزة، وارجع من حيث أتيت، فقد انقضى شغلك الذي جئت في طلبه بمصر.
قال: فأكل الفقير أكلا ما كان يعهده من نفسه، ولا يظنه، حتى أتى ما في الزنبيل عن آخره، ثم ناوله ذلك الرجل ماء مبرّدا، فشرب منه، ثم قال له: قم، فارجع. فقام، فرجع، وقد انقضى شغله، ووصل ما كان أراد، ولما توفي الشيخ حمّاد في [ ... ] «3» ، حضرت جنازته، فلم أر يوم دخول السلطان إلى مدينة، ولا يوم خروج حاج، ولا يوم عيد، كان أحفل من جنازته، وكان الناس منتشرين من مرج الدحداح بموضع موته، إلى مقابر باب الصغير، موضع دفنه، ما لأحد موضع أكثر من مكان قدمه، وشهدها عامّة أهل دمشق.
ومنهم:
79- محمد بن نبهان «13»
من بيت ما منهم إلا ولي تتشبث ذيله المطر، ويتشبه به النسيم إذا خطر، بناة عليا، وأساة قلوب أموات وأحيا، وما زالوا غيوم سما، ونجوم ظلما، وفي كل وقت منهم رجل شقيق شفيق، وسر السرى في علم التحقيق، سكنوا بيت جبرين «4» من البلاد الحلبية، فهبّ(8/300)
نسيمهم شمالا، ووهب كرمهم آمالا، وكانت تأتيني أخباره كما يقذف الروض بنشره، وكان السبب في المعرفة به الشيخ التقي عبد الله بن الخطيب، فكتبت إليه كتابا مضمونه:
قيل جبرين منزل لابن نبهان ... محوط بمحكم التنزيل
قد تبدا محمد في رباها ... علما للسارين وابن السبيل
بوقار كأنه الليل خوفا ... وجبين نيّر كالقنديل
ليس يخشى الضلال من أمّ منه ... حضرة أشرقت على جبريل
سلام الله وتحياته وبركاته على تلك الحضرة الطاهرة، جمعنا الله وإياها على التقوى في الدنيا والآخرة.
حضرة سيدي الشيخ السيد القدوة المسلّك، جامع الطرائق، منتخب الحقائق، أبي عبد الله محمد بن سيدي الشيخ نبهان، نبّه الله القلوب به، ونوّر البصائر بأغلاقها.
نسبته العبد الفقير المعترف بالتقصير أحمد بن فضل الله «1» . لما زاد شوقه إلى هذه الحضرة المقدسة، لما سمع من أخبارها، واقتبس قلبه الكليم من أنوارها، وكان الشيخ تقي الدين بن الخطيب ممن اتفق معرفته من الإخوان، وكان من نبهاء الطائفة المنسوبة إلى نبهان، وأخذ بزمام القلوب إلى الانتظام في هذا العديد، وجد بها إلى هذه النسبة الشريفة، وإن كان لا يصلح لها نبوة كل مزيد.
كتب العبد الفقير الراغب في القبول له، والإقبال عليه، هذه الأحرف حال وداعه متعرفا إلى هذا الجناب، ومتعلقا منه بأدنى الأسباب، فإن فتح له، وإلا فكسير لا ينثني وهو وراء الباب.
ثم كانت بيننا المكاتبات لا تنقطع، وكنت أتمنى لقاءه، ولم أستطع، وكان على قدم آبائه في إطعام كل زائر، وبر كل آمل، وإعانة كل مظلوم، وإغاثة كل ملهوف، ولم يزل أمراء حلب تجل أقدارهم، وتستأمر مستشارهم.(8/301)
ولما قدمت حلب سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، رأيت هذا الشيخ وقد جاء إلى الطنبغا ملك الأمراء، مسلّما عليه، فرأيت رجلا يملأ العين والصدر سيماؤه على جلالة القدر.
ولما اجتمع بالطنبغا أكرمه إكراما يليق بمثله، وعامله معاملة عارف بفضله، إلا أن الشيخ أنكر عليه ما فعله بطشتمر، وخوّفه عاقبة البغي، ويوشك أن يؤخذ قريبا، فثقل عليه كلامه، وقام الشيخ وقد طال عليه مقامه هذا، ولم نأت الأخبار بقصد الفخري دمشق، إلا أنه قد طاح إلي الخبر سرا، ولم نظهر عليه أحدا، إلا أنا والطنبغا. ثم لم نلبث أن جاءت الأخبار، فلما كان يوم الجمعة الآتية في أسبوع قدومنا، صلينا الجمعة في جامع الطنبغا، قريبا من سوق الخيل بحلب، فقيل لي: إن الشيخ في بيت له، فدخلت، وجلست إليه، وأخذنا في الحديث، فقال لي: يا أخي! هذا الرجل قد آن أن يطل دمه، وأرى النصح لا يلج أذنه، فعرفته خبر الفخري، وما كان منه، فقال: هذا الرجل ينهزم من قدامه كما انهزم طشتمر من قدام هذا، ثم يقتل هذا، وكان الأمر كما ذكر. ثم إن الشيخ لم يجتمع بالطنبغا، بعد تلك المرة، وحرض به أن يعود إليه، فما عاد، وهمّ بأن يتوجه لزيارته، فعاقت دون ذلك العوائق.
قلت: وأهل هذا البيت لهم زرع ومتجر، ومنه ينفقون نفقات موسعة، وكانت قد تأكدت بيني وبينه الصحبة في الله تعالى، منذ تلاقينا بحلب.
ومما كتبت به إلى رجلين سافرا إلى حلب:
بالله إن جئتما بلادا لها ... ابن نبهان كالحلي
تأملا منه أي بر ... وفيه يخر لكل ري
وعارضا النو في رباه ... وقبّلا عارض الولي
ثم لم تلبث الأخبار أتت بوفاته، وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة.
ومما كتبت فيه أعزي بيته من قصيدة وافق فيها تضمين بيت أبي تمام الرابع:(8/302)
لا يتم بني نبهان بعد أبيكم ... أحق بأن تبقوا فلا خانكم دهر
فحوزوا تراب المجد من بعض إرثه ... وطول بقاء بعض ميراثه الأجر
فعدنا وضاح الجبين وإنما بقيتم ... لنا هذي وجوهكم الزهر
كأن بني نبهان يوم وفاته ... نجوم سماء خر من بينها البدر
ومنهم:
80- عبد الله اليافعيّ «13»
الشيخ الصالح، نزيل مكة المعظّمة، والمتطوّف بتلك المشاعر المحرّمة، استقام سننا، وأقام بالبطحاء لا يبغي بغيرها سكنا، أخذ بطرف من العلم والعمل، وأقام بمكة المعظّمة يصوم النهار، ويفطر على ماء زمزم، ويقنع باليسير من الزاد، ولا يأكل إلا مما يتيقّن حلّه، واستطاب أكله. وأقام مرة بالمدينة المشرفة- على ساكنها أفضل الصلاة والسلام-، ومرة بالمسجد الأقصى ببيت المقدس، ثم عاد إلى مكة، وهو الآن بها. «1»
وقد ألان بمواعظه حتى قلب أخشبها، وقد رأيته بالقبّة الدنيا من قبة الشرابي بمكة سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة، وحضرت مجلسه، وسمعته يتكلم بمثله في المجامع، وسلمت عليه، ولم يطل لي معه مجلس لحوافز الضرورة. «2»(8/303)
ومنهم:
81- أبو بكر محمّد بن عمر بن أبي بكر بن قوام «13»
الشيخ نجم الدين. نجم هدى، ونجل أئمة بهم يقتدى، وبارقة سحب تجلي الحندس «1» وتجلو الصدا.
شيّد أركان بيته، وأحيا ذكر ميته، وتمذهب للإمام الشافعي فامتدّ مذهبه في رحابه، وكان مذهبه علما لأصحابه، وودّ" الزعفراني" «2» لو خلق بردع زمانه أطراف النهار، و" البيضاوي" «3» لو بيّض صحائفه بأشعة الأنوار. وجهد" المحاملي" «4» فلم يستطع أن يكون سائق ركبه، و" الاسفراييني" «5» فما قدر بعد طول السفر على كسبه.(8/304)
هذا إلى توسع في بقية العلوم، وتطلّع إلى سائر المعارف على العموم، والتحاقه وما خلع الشباب بمشايخ الطريقة، وقيامه فيها بأكثر من قدرة الهمم المطيقة، فأمسى في نكرات زمانه المفرد العلم، ومن يشابه أباه فما ظلم.
وكان يجمعنا وإياه طلب العلم زمن الشباب، وأيام الصبا قبل أن يتقلص الجلباب.
وكان عالما لم يضيّع أيامه، وعارفا قدّم أمامه، لم يزل عمره في جد كله، وجهد في أن لا يأكل شيئا إلا من حلّه، والدنيا عنه معرضة، وأصل الأيام له ممرضة، وهو عنها أيّ مزور «1» ، وكنفه منها مغبر ثم مغبر، فلما أسمع صيته من له أذنان، وأجنى ذكره مثل اجتنا الأفنان.
ولي التدريس، وتصدّر، ودونه كل رئيس.
قال: لقد نعيت إلي نفسي لأننا قوم لا نعهد هذا من الدنيا، وحكم بدنو الأجل على نفسه، وانطلق ولم يمتد شوط المهل حتى وسّد في رمسه.
قرأ القرآن الكريم، وأتقن حفظه، وتفقه بشيخ الإسلام شيخنا برهان الدين ابن الفركاح، وأخذ النحو عن شيخنا كمال الدين ابن قاضي شهبة، وكان كثيرا ما تجمعنا أوقات الاشتغال عنده، ثم لم ألقه إلا بعد أن قدمت دمشق من مصر سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، فرأيت منه أنموذج السلف، وطريقة الألى، ورجل دنيا وأخرى.
كان عقله عقل الوزراء، وزيه زي الفقراء، ويتيه على الدنيا تيه الأمراء.
وكان في زاوية أبيه، غربي الصالحية، في جبل قاسيون، لا يخلو من زائر، ولا يأتيه أحد إلا ويضيفه، ويطعمه مما حضر واتفق على حسب الميسور. هذا مع ضرورة ماسّة، وفقر.
وكان ميّالا إلى الفقهاء وأهل العلم، منحازا إلى شعوبهم «2» ، لا يزال ينظر في كتاب فقه، أو حديث، أو في نسخ شيء من ذلك؛ إما بيده، وإما بيد غيره، أو في مقابلة على شيء كتب.(8/305)
وكان لا يهاب الأمراء، وأرباب الدول؛ بل إذا جاءه أحد منهم أمره بالمعروف، ونهاه عن المنكر، وأوصاه من مصالح الرعية ما تقتضيه مصلحة الوقت الحاضر، رضي من رضي، وسخط من سخط.
وتمرّض مدة بعلّة الاستسقاء، ولم يزل مستسلما للموت، مسرورا بلقاء ربه، إلى أن لقي الله تعالى، في أوائل شهر رجب الفرد، سنة ست وأربعين وسبع مائة. ودفن إلى جانب والده بالزاوية المعروفة بهم، وحضره خلق، وتأسّفت الدنيا لفقده.
وهذا آخر ما ذكرت من هذه الطائفة بالمشرق، فأما من هو منهم بالجانب الغربي بما فيه الديار المصرية الواقعة معه، على قلة المشهورين من أهل المغرب، خلا مصر، فإن المذكورين فيها أمم، إلا أن أكثرهم لم يعد ذكره دار أهله، وليس هذا من شرطنا، فإنا لا نذكر إلا المشهورين في الآفاق، المذكورين على كل الألسنة.(8/306)
فأما من هو من أهل المغرب
فمنهم:
82- أبو عبد الله محمّد بن إسماعيل المغربيّ «13»
أغاظ الدنيا وأكظمها، ولم ترقه وهي تجلى عليه في إيرادها، وتستبق إليه بدهمها وورادها، فلم يعرها طرفه، ولم يرعها لحظة عين ولا طرفة، بل بتّ منها وفتّ منها في مهاب الرياح طينة الخبال، ولم يصحبها إلا بنيّة مفارق، وطويّة طارق، فلم يرد بكاسها، ولم يرغب في مكاسها. فخلاها وسار منطلقا، وولاها ظهره وأشار إليها مطلّقا.
كان أستاذ إبراهيم الخواص «1» ، وإبراهيم بن شيبان «2» . وصحب علي بن رزين «3» ، وعاش مائة وعشرين سنة، ومات على جبل طور سيناء، سنة تسع وسبعين ومائتين.
وقيل: سنة تسع وتسعين، وقبره فيه مع أستاذه علي بن رزين.
وكان عجيب الشان، لم يأكل مما وصلت إليه يد بني آدم عدة من السنين، بل كان يتناول أصول الحشيش أشياء تعوّد أكلها. «4»(8/307)
و [من كلامه] قال:
" الفقير: المجرّد من الدنيا وإن لم يعمل شيئا من أعمال الفضائل، ذرة منه أفضل من هؤلاء المتعبدين المجتهدين، ومعهم الدنيا."»
وقال:" أهل الخصوص مع الله تعالى على ثلاث منازل:
- قوم: يضنّ بهم عن البلاء، لئلا يستغرق الجزع صبرهم، فيكرهون حكمه، أو تكون في صدورهم حرج من قضائه.
- وقوم: يضنّ بهم عن مساكنة أهل المعاصي، لئلا تغتمّ قلوبهم، فمن أجل ذلك سلمت صدورهم للعالم.
- وقوم: صبّ عليهم البلاء [صبّا] ، وصبّرهم وارتضاهم، فما ازدادوا بذلك إلا حبا له، ورضا لحكمه.
- وله عباد [منحهم نعما تجدّد عليهم، و] «2» أسبغ عليهم باطن العلم وظاهره، وأخمل ذكرهم.
وقال:" من ادّعى العبودية وله مراد باق فيه، فهو كاذب في دعواه، إنما تصح العبودية لمن أفنى مراداته، وقام بمراد سيده، فيكون اسمه ما سمي به، ونعته ما حلي به، إذا سمي باسم أجاب عن العبودية؛ فلا اسم له، ولا رسم، لا يجيب إلا لمن يدعوه بعبودية سيده".
ثم بكى أبو عبد الله وأنشأ يقول:
لا تدعني إلا بيا عبدها ... فإنه أصدق أسمائي «3»
وقال:" أفضل الأعمال عمارة الأوقات بالموافقات" «4» .(8/308)
وقال:" الفقراء الراضون هم أمناء الله في أرضه، وحجته على عباده، بهم يدفع البلاء عن الخلق." «1»
و [قال] :" الفقير الذي لا يرجع إلى مستند في الكون غير الالتجاء إلى من إليه فقره، ليغنيه بالاستغناء به، كما عزّزه بالافتقار إليه." «2»
و [قال] وأعظم الناس ذلا فقير داهن غنيا وتواضع له، وأعظم الخلق عزا: غني تذلل لفقير، وحفظ حرمته" «3» .
وأنشد لنفسه:
يا من يعدّ الوصال ذنبا ... كيف اعتذاري من الذنوب
إن كان ذنبي إليك حبي ... فإنني عنه لا أتوب «4»
وقال:" العارف يضيء له أنوار العلم فيبصر بها عجائب الغيب".
وقال:" مررت بمفازة المغرب عشرين يوما، ما رأيت فيها آدميا، ولم آكل شيئا من الدنيا إلا شربة ماء، فبينما أنا أسير إذ لاح لي شيخ قائم يصلي، فقربت منه وقلت: السلام عليك ورحمة الله. فردّ عليّ السلام. فقلت له: من أنت؟. فقال: خليل الله إبراهيم- عليه السلام- حين رموه في النار. فقلت له: بماذا نلت هذه المنزلة؟. قال لي: يا عبد الله! توكّل، فما في المملكة شيء أعزّ من التوكل. فقلت له: وما التوكل؟. فقال: النظر إليه بلا عين تطرف، ولسان ذاكر بلا حركة، ونفس جوّالة بلا روح. ثم سلّم عليّ فإذا هو في الهواء!!.
وقال: خرجت، فبينا أنا في برّية تبوك، إذا أنا بامرأة بغير يدين، ولا رجلين، ولا عينين، فدنوت منها، ثم قلت: يا أمة الله! من أين أقبلت؟.(8/309)
قالت: من عنده.
قلت: فأين تريدين؟.
قالت: إليه.
فقلت: يا سبحان الله! بادية تبوك، وليس فيها مغيث!، وأنت على هذه الحالة؟!.
قالت: يا سبحان الله! غمّض عينيك، فغمّضتهما، ثم فتحتهما، فإذا أنا بها متعلقة بأستار الكعبة، ثم قالت: يا عبد الله! أتعجب من ضعيف حمله قوي؟. ثم طارت بين السماء والأرض!!.
ومنهم:
83- أبو الخير الأقطع المعروف بالتّيناتيّ «13»
لم يبق للدنيا رذاذا، ولا لبس ثوبها المعار إلا جذاذا، صحب أيامها حتى غرض، وحمل آلامها حتى مرض، وتعرّضت له فلم يرضها، ولا أحب سماءها ولا أرضها، بل شمّر لدار لا ينقص نعيمها، ولا يهب زعزعا نسيمها، ليلحق بقوم جدّ ليصل إليهم، مع الذين أنعم الله عليهم، فلم يشبع من المطاعم السغب، ولا ورد من الماء العب، ليتفيّأ تلك الظلال الوارفة الأفياء، الواكفة الأتقياء.
أصله من المغرب، وسكن التينات «1» ، وله آيات، وكرامات.(8/310)
صحب أبا عبد الله بن الجلاء، وغيره من المشايخ. وكان أوحدا في طريقة التوكل.
وكانت السباع والهوامّ تأنس به، وله فراسة حادة. «1»
وتوفي سنة نيّف وأربعين وثلاثمائة. «2»
قال- رضي الله عنه-:" دخلت مدينة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وأنا بفاقة.
فأقمت خمسة أيام ما ذقت ذواقا، فتقدّمت إلى القبر، وسلمت على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى أبي بكر، وعمر، رضي الله عنهما. وقلت: أنا ضيفك الليلة يا رسول الله!.
وتنحّيت ونمت خلف المنبر. فرأيت في المنام النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر عن يمينه، وعمر عن شماله، وعلي بن أبي طالب بين يديه، رضي الله عنهم، فحرّكني علي، وقال: قم، قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فقمت إليه، وقبّلت بين عينيه، فدفع إليّ رغيفا، فأكلت نصفه، وانتبهت، فإذا في يدي نصف رغيف." «3»
وقال أبو بكر [الرازي: أنشدني] أبو الخير الأقطع:
أنحل الحبّ قلبه والحنين ... ومحاه الهوى، فما يستبين
ما تراه الظّنون إلا ظنونا ... وهو أخفى من أن تراه العيون «4»
وقال:" لن يصفو قلبك إلا بتصحيح النية لله تعالى؛ ولن يصفو بدنك إلا بخدمة أولياء الله تعالى." «5»(8/311)
وقال:" ما بلغ أحد إلى حالة شريفة إلا بملازمة الموافقة «1» ، ومعانقة الأدب، وأداء الفرائض، وصحبة الصالحين، وخدمة الفقراء الصادقين" «2» .
وقال:" الذاكر لله تعالى لا يقوم له- في ذكره- عوض؛ فإذا قام له العوض، خرج من ذكره" «3» .
وقال:" الدعوى رعونة، لا يحتمل القلب إمساكها، فيلقيها إلى اللسان، فتنطق بها ألسنة الحمقى، ولا يعرف الأعمى ما يبصره البصير من محاسنه وقبائحه" «4» .
وقال:" من أحب أن يطّلع الناس على عمله فهو مراء، ومن أحب أن يطّلع الناس على حاله فهو مدّع كذاب" «5»
وقال حمزة بن عبد الله العلوي: دخلت على أبي الخير، وكنت اعتقدت في نفسي أن أسلّم عليه وأخرج، ولا آكل عنده طعاما، فلما خرجت من عنده مشيت قليلا إذا به خلفي، وقد حمل طبقا عليه طعام، فقال: يا فتى! كل هذا، فقد خرجت الساعة من عقدك!.
ومنهم:
84- أبو عثمان سعيد بن سلّام المغربيّ «13»(8/312)
كان للمتقدم إليه حرسا، وللمتكلم لديه خرسا، فكانت عنده لا تنطق الألسنة، ولا تطلق بسيئة ولا حسنة، لمهابة ألقيت عليه، وإنابة ألقيت إليه، على بسطة للجليس، وغبطة للأنيس، وقرى، وبشاشة، وقرب كان حشو الحشاشة، وإطلاق يد في جود، وندى كرامة بأيسر موجود، إلا أنه كان يرجح الطود وقورا، وترى السحاب الجود محقورا. فكان كأن ضيغما «1» في أمانيه، أو أرقما «2» يساور بين نائيه.
وكان من القيروان «3» ، من قرية يقال لها:" كركنت" «4» أقام بالحرم مدة، وصحب أبا علي ابن الكاتب «5» ، وحبيبا المغربي «6» ، وأبا عمرو الزجاجي.
ولقي: النهرجوري، وأبا الحسن بن الصائغ الدينوري.
وكان أوحد المشايخ في طريقته، وزهده، وتقدّمه. وهو بقية المشايخ وتاريخهم، ولم ير مثله على علو الحال، وصون الوقت، وصحة الحكم بالفراسة، وقوة الهيبة. «7»
ورد" نيسابور"، ومات بها سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة. «8»
وأوصى أن يصلي عليه الإمام أبو بكر بن فورك. «9»(8/313)
ومن كلامه:
" الاعتكاف: حفظ الجوارح تحت الأوامر" «1»
وقال:" التقوى: هي الوقوف مع الحدود، لا يقصّر فيها، ولا يتعدّاها «2» ، قال الله تعالى: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ
» .
وقال:" من آثر على التقوى شيئا حرم لذّة التقوى" «4» .
وقال:" من تحقّق في العبودية، طهّر سرّه بمشاهدة الغيوب، وأجابته القدرة إلى كل ما يريد." «5»
وقال:" من آثر صحبة الأغنياء على مجالسة الفقراء ابتلاه الله بموت القلب". «6»
وقال:" العاصي خير من المدّعي؛ لأن العاصي- أبدا- يطلب طريق توبته، والمدّعي يتخبّط في حبال دعواه" «7» .
وقال:" من مدّ يده إلى طعام الأغنياء- بشره وشهوة- لا يفلح أبدا، وليس يعذر فيه إلا المضطر" «8»
وقال:" لا تصحب إلا أمينا، أو معينا؛ فإن الأمين يحملك على الصدق، والمعين يعينك على الطاعة". «9»(8/314)
وقال:" قلوب أهل الحق قلوب حاضرة، وأسماعهم أسماع مفتوحة" «1» .
وقال:" الحكمة هي النطق بالحق". «2»
وقال:" من اشتغل بأحوال الناس ضيّع حاله". «3»
وقال رضي الله عنه:" الغني الشاكر يكون كأبي بكر الصدّيق- رضي الله عنه-، فقدّم ماله، وآثر الله عليه، فأورثه الله عز وجلّ غنى الدارين، وملكهما.
والفقير الصابر مثل أويس القرني، ونظرائه، صبروا فيه، حتى ظهرت لهم براهينه." «4»
وقال:" التقوى تتولّد من الخوف." «5»
وقال:" من ادّعى السماع ولم [يستمع] من صوت الطيور، وصرير الباب، وتصفيق الرياح؛ فهو مغترّ مدّع" «6» .
وقال:" رأيت في المنام كأن قائلا يقول لي: يا أبا عثمان! اتق الله في الفقر ولو بقدر سمسمة".
ومنهم:
85- أبو العبّاس أحمد بن محمد بن موسى بن عطاء الله، الصّنهاجيّ، الأندلسيّ، المعروف بابن العريف «13»(8/315)
متق خاف الدنيا وفتكها، وخلّص منها نفسه وفكّها، فلم يعلق بالدنايا، ولم يطلق رسنه من يد المنايا، وطالما دعته الآمال، ورعته الأعمال، فما اغترّ بسرابها، ولا سر بشرابها، ولا رأى صدقها إلا خداعا، ولا سننها إلا ابتداعا، فنفض منها اليدين، فطالب أطماعه بالفراغ منها، مطالبة الغريم بالدّين، ولم يزل على حالته ولم يبرح، حتى سار نعشه على الرقاب ليلحد أو يضرح.
وكان من كبار الصالحين، والأولياء المتورّعين، وله المناقب المشهورة، وله كتاب:" المجالس" «1» وغيره من الكتب المتعلقة بطريق القوم.
وله نظم حسن في طريقهم أيضا، ومن شعره «2» :
شدّوا المطيّ وقد نالوا المنى بمنى ... وكلّهم بأليم الشوق قد باحا
سارت ركائبهم تندى روائحهم ... طيبا بما طاب ذاك الوفد أشباحا
نسيم قبر النبي المصطفى لهم ... روح إذا شربوا من ذكره راحا
يا واصلين إلى المختار من مضر ... زرتم جسوما وزرنا نحن أرواحا
إنّا أقمنا على عذر وعن قدر ... ومن أقام على عذر كمن راحا «3»
وبينه وبين القاضي عياض بن موسى اليحصبي «4» مكاتبات حسنة، وكانت عنده مشاركة في أشياء من العلوم «5» ، وعناية بالقراءات، وجمع الروايات، واهتمام بطرقها وحملها. وكان العبّاد وأهل الزهد يألفونه ويحمدون صحبته.
وحكى بعض المشايخ الفضلاء أنه رأى بخطه فصلا في حق أبي محمد علي ابن أحمد(8/316)
المعروف بابن حزم الظاهري الأندلسي، وقال فيه:" كان لسان ابن حزم المذكور، وسيف الحجاج بن يوسف شقيقين".
وإنما قال ذلك لأن ابن حزم كان كثير الوقوع في الأئمة المتقدمين والمتأخرين، لم يكد يسلم منه أحد «1» .
وكان قد سعي به إلى صاحب مراكش «2» ، فأحضره إليها فمات، واحتفل الناس بجنازته، وظهرت له كرامات؛ فندم على استدعائه.
وكانت وفاته ليلة الجمعة، الثالث والعشرين من صفر، سنة ست وثلاثين وخمسمائة «3» ودفن يوم الجمعة، رحمه الله تعالى.
ومنهم:
86- شعيب [بن الحسين] أبو مدين «13»
أضاء كالبدر سافرا، ورد من القلوب نافرا، ولم يزل لزلّة الأيام غافرا، وبأزمّة المرام ظافرا، وسار ذكره فأسمع الدهر وفي آذانه صمم، وداوى الزمان وفي علقه لمم، وكان أول ما بشّر(8/317)
أبوه وهو غلام، وفسّر عن لؤلؤته صدف الظلام، حتى بلغ الاحتلام، ويده بالخير وارتحل، وصابر الأيام فتسترت الليالي وتبرقعت بالحجل، فرويت آثار أياديه، ونقلت أخبار سؤدده بألسنة أصدقائه وأعاديه، وكان يقوم والليل لم يطمئن له جنوب، ويروّض نفسه والروض لم يشق فيه للشقيق جيوب، بعلم يفلح به الحجاج محتكم، ويخرج في حربه والعجاج مرتكم. وكان له في مجاهدة النفس حروب، ونوّب حتى حان منه للشمس غروب «1» .
وحكي أنه لما قدمت إليه المائدة يوما فقال: أخّروها، وكان هناك فقير جائع، فقال في نفسه: لو كان هذا فقيرا ما أخّر المائدة. فلما حضرت تقدّم فأكل منها أكلا يسيرا، فأكل ذلك الفقير، وسائر الجماعة، فلما رفعوا أيديهم قال الشيخ لخادمه: شل من هذا الخبز والطعام لفقير يأتينا في هذه الساعة، وهو جائع، قد أخّرنا المائدة لانتظاره، فظنّ ظانّ فينا ظنا. فشال الخادم منها شيئا، فقال الشيخ: زد!، فهذا ما يكفي. فزاد، فقال له: زد!، فهذا ما يكفي.
فقال له: يا سيدي! أنت قلت: رجل واحد، وهذا فوق كفاية الواحد، فقال: صدقت، هو رجل واحد، ولكن له ثلاثة أيام لم يأكل شيئا.
ثم لم يستتمّ الكلام حتى أتى الفقير، فسلّم على الشيخ، والجوع يتبين في وجهه، فقدم إليه الخادم ما خبّأه له؛ فأكله حتى أتى عليه عن آخره، ثم قال: والله! لي ثلاثة أيام(8/318)
ولا وجدت ما آكل.
ثم قام ذلك الفقير، ودخل الفقير الذي قال ما قال أولا، فقال: يا سيدي! أنا أستغفر الله مما وقع مني، فقال له: يغفر الله لك، أتصحبني كذا وكذا شهرا وتقول: لو كان هذا فقيرا لما أخّر يده عنا لأجل شبعه، ونحن جياع؟. فقال: والله يا سيدي! كان ذلك. وأنا أستغفر الله منه. فضحك الشيخ، وأقبل عليه.
وحكى ابن عربي قال: رأى بعض مريدي الشيخ أبي مدين؛ كأن الحق سبحانه وتعالى في زير دقيق!، فذكر ذلك لأبي مدين، فقال: هل عندك دقيق؟. قال له: نعم. قال له: هل هو في زير؟. قال: نعم. قال: ذلك إلهك الذي تعتمد عليه، فتصدّق به لتخلص مما أنت فيه.
وحكى الوداعي قال: حدثني شخص مغربي:- وكان رجلا صالحا-: أن القحط شمل المغرب سنة، وأحبس المطر، فأتى الناس أبا مدين ليستسقي لهم، فخرج وهو يقول:
يا من يغيث الورى من بعد ما قنطوا ... ارحم عبيدا أكف الفقر قد بسطوا
واستنزلوا جودك المعهود فاسقهم ... ريا يريهم رضا ما شانه سخط
وعامل الكلّ بالفضل الذي ألفوا ... يا عادلا لا يرى في حكمه شطط
إن البهائم أضحى المحل مربعها ... والطير أصبح للحصباء يلتقط
والأرض من حلل الأزهار عاطلة ... وكان للزهر في فتحاتها بسط
وأنت أكرم مسئول تمدّ له ... أيد العصاة وإن جاروا وإن قنطوا
قال: ولم يزل يرددها حتى جاءت السماء، وتوالى الغيث، ودام يتعهد حتى كانت السنة المجدبة أخصب عام.
رحمه الله تعالى.(8/319)
ومنهم:
87- أبو العبّاس أحمد بن عبد الله بن أحمد بن هشام بن الحطيئة «1» اللّخميّ الفاسيّ*
لم يستعذب لريق الدنيا مساغا، ولا استلذّ رحيق رضابها «2» منساغا، وأقبل بقلب منيب، وعزم غير منقلب ولا مريب، مصغيا إلى أوامره ونواهيه بأذن واعيه، وقدم قائمة في الطاعة أو ساعيه. خائفا من نار يلفح سعيرها، ويجمح عسيرها؛ وقودها الناس والحجارة، ووفودها لا يزور فيها جار جاره، معملا إلى الجنة الركائب، مرملا بنفسه المطمئنة إلى الحبائب. فهنيء بعمله، وهيأ لأمله.
وكان من مشاهير الصلحاء وأعيانهم، وكان مع صلاحه فيه فضيلة ومعرفة بالأدب، وكان رأسا في القراءات السبع، ونسخ بخطه كثيرا من كتب الأدب وغيرها، وكان جيد الخط، حسن الضبط، والكتب التي توجد بخطه مرغوب فيها للتبرك بها، ولإتقانها.
ولد بفاس يوم الجمعة، السابع عشر من جمادى الآخرة، سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، وانتقل إلى الديار المصرية، ولأهلها فيه اعتقاد كبير لما رأوه من صلاحه، وكان قد حجّ(8/320)
ودخل الشام، واستوطن خارج مصر في جامع راشدة. «1»
وكان لا يقبل لأحد شيئا، ولا يرتزق على الإقراء، واتفق بمصر مجاعة شديدة، فمشى إليه أجلّاء المصريين وسألوه قبول شيء فامتنع، فأجمعوا رأيهم أن يخطب أحدهم البنت التي له، وكان يعرف بالفضل بن يحي الطويل، وكان عدلا بزازا «2» في القاهرة، فتزوجها، وسأل أن تكون أمها عندها، فأذن في ذلك «3» ، وكان قصدهم تخفيف العائلة عنه، وبقي منفردا ينسخ ويأكل من نسخه. [وكان يعرض عليه المال فلا يقبل منه شيئا؛ قيل: جاء بعض التجار بمئزر أسود صوف وحلف عليه به، فقال: اجعله على ذلك الوتد، فأقام ثلاثين سنة موضعه] . «4»
وتوفي في أواخر المحرّم سنة ستين وخمسمائة بمصر، ودفن في القرافة الصغرى، وقبره يزار بها. قال ابن خلّكان «5» :" وزرته ليلا فوجدت عنده أنسا كثيرا"، رحمه الله تعالى.
وكان- رحمه الله تعالى- يقول:" أدرجت سعادة الإسلام في أكفان عمر بن الخطاب رضي الله عنه" «6» ، أشار إلى أن الإسلام لم يزل في أيامه في نمو وازدياد، وشرع بعده في التضعضع والاضطراب.
وذكر في كتاب" الدول المنقطعة" «7» في ترجمة أبي الميمون عبد المجيد صاحب مصر: أن(8/321)
الناس أقاموا بلا قاض ثلاثة أشهر في سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، ثم اختير في ذي القعدة أبو العباس ابن الحطيئة، فاشترط أن لا يقضي بمذهب الدولة، فلم يمكّن من ذلك، وتولى غيره. «1»
ومنهم:
88- ابن بلج
وأصله من مدينة قرطبة، وكان علم عرفان، إلى تعبّد عمر ما بين عرفات وعسفان، وتهجّد بكرى النجوم ولا يغمض له أجفان.
ذكره ابن عربي وقال: كان يطوف ويهدي لغيره، فخطر له يوما أن يطوف لنفسه أسبوعا واحدا، قال: فلما عقدت نية الطواف، وقعت ورمت النهوض فلم أستطع، فقلت:
" اللهم إني تائب إليك، وراجع إلى ما أقمتني فيه".
قال: فعند ذلك أطلقني الله للقيام، فقمت بوقتي، ورجعت إلى عادتي التي هداني الله لها. رحمه الله تعالى.
ومنهم:
89- أحمد بن عطاء الله أبو العبّاس
هبّ للمعارف رخّا، ووهب الدنيا لأهلها سخّا، وتألق نجما للمريد، ورخما للمزيد، وكان عالما معلّما، وعارفا يؤخذ عنه العرفان مسلما، إلى وقوف على الأسرار، ووقوف على قدم في الأسحار، وحضور قلب وشعور، ولب من الكلم كأنه شذور، وموارد حقيقية ورد مناهلها، وشعب طريقة توقى مجاهلها، فلم تزل به قدم، ولم يزل له في الإملاء قلم.
قال ابن عربي: سمعته يقول: ما ينبغي للذاكر أن يشتغل بمعاني الذكر، بل بالذكر، ويجعله تعبدا لا يعقل معناه، ويقول: هذه عبادة أمرت بها، وأنا ممتثل الأمر، فإذا اعتقد(8/322)
الذاكر ذلك، كان الذكر يعمل بخاصيته، وما تقتضيه حقيقته".
وأنشد:
أهوى هواه وبعدي عنه يغيبه ... فالبعد قد صار لي في حبه أربا
فمن رأى دنفا صبّا أخا شجن ... ينأى إذا حبة من أرضه اقتربا
وقال: الذكر حجاب عن المذكور، ولكونه بمنزلة الدليل، والدليل متى أعطاك المدلول سقط عنك لتحققك بالمدلول، فمتى كنت مع المذكور فلا ذكر، ومتى رددت الباب وجب الذكر عليك، والذكر للقلب بمنزلة الصقال للمرآة، ليتحقق بالحق صفاؤه وجلاؤه.
وقال:" مثل الذاكر اللاهي كمثل من ينادي شخصا فإذا أجابه اشتغل عن سماعه، وكذلك الذاكر يأتيه المذكور فلا يجده حاضرا، وإنما الأصل المراقبة للمذكور، فمتى أجابك كنت معه، وهذا هو الأصل، والله أعلم".
وقال في معنى الحديث: (ما اتخذ الله وليا جاهلا) «1» : إن معناه أن الله سبحانه وتعالى إذا اختصّ له وليا نوّر قلبه، فكان على بصيرة من ربه".
وقال في معنى قوله: إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ
«2» قال: قيل لي في المنام: تدري ما الواحدة؟. إنما أعظك بنفسك والباء ها هنا باء السبب.(8/323)
وقال:" لما كان المدعي في الشرع عليه البينة بشاهدين، نظرنا في الحقيقة التي انبعث عنها هذا الحكم، فوجدناها في قوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ
«1» فالملائكة وأولو العلم هما الشاهدان. ولما كان يحكم أخر الشاهد واليمين، وجدنا ذلك في شهادته تعالى وقسمه، قال تعالى: فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌ
. «2»
ومنهم:
90- سليمان [بن عبد الباري الدّرعيّ] " شيخ القرشيّ" أبو الرّبيع «13»
ربيع كل مجدب، وقريع كل متأدّب، سمع به مشرق ومغرب، وأسمع أنباء مثل عنقاء مغرب، سمع منه مرقص ومطرب، وأجمع عليه موجز ومطنب، ردّد مسائل الطريقة وأوردها، وردّ عين الحقيقة وأوردها «3» .
وكان رجلا عظيما، وزاهدا عليما، وذكره ابن عربي وقال: وقد ذكر الحديث الوارد من طريق غريب، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال سبعين ألفا" لا إله إلا الله" كانت له عتقا من النار) .
وقال: كان الشيخ أبو الربيع شيخ القرشي كثيرا ما يستعملها لنفسه، ولمن يموت من أصحابه، فقدّر الله- تعالى- أن قالها مرة، وأسرّها في نفسه، لم يهدها لأحد، فبينا هو ذات يوم مع جماعة له على الطعام، وإذا بصغير من الجماعة كان صاحب مكاشفة، وهو دون البلوغ، قد رمى اللقمة من يده، وقال: كشف لي عن النار، فرأيت أمي فيها!!؛ فقال الشيخ في نفسه: اليوم أصحح كشف هذا الصغير بالحديث، وأصحح الحديث بالكشف.(8/324)
ثم قال في نفسه:" اللهم إني قد أهديت ذلك لها، فأعتق اللهم رقبتها من النار". قال:
فعندها قال الصغير" الله، الله!، رأيت أمي أخرجت من النار، لكن ما أدري ما السبب؟ ". قال:
فعندها زاد ذلك تعظيما عند الشيخ وأصحابه، وصحّ الكشف بالحديث، والحديث بالكشف.
قال ابن عربي: وقد أهديتها لجماعة، ورأيت علامة الرحمة عليهم بعد أن كنت أرى عليهم غير ذلك.
ومنهم:
91 و 92- الأخوان: محمّد الخيّاط، وأحمد الحريريّ، المغربيان: أبو عبد الله وأبو العباس
يدان كلتاهما يمين، وفرقدان كلاهما لأخيه قرين، أشرقا إشراق القمرين، وبسقا بسوق الغصنين المثمرين.
وذكرهما ابن عربي قال في حكاية ذكرها أنه قال له صديق فقال له: علي ابن الحصار «1» متوفى، وأهمني أمره، فجاءني إلى داري ليلة الأخوان- وسماهما- فسألتهما الاعتناء بأمره تلك الليلة لعلّي أراه، ففعلوا، فلما كان في جوف الليل، رأيت صاحبي ابن الحصّار، وعليه ثوب خلق، وعلى وجهه من الأنوار ما لا يستطيع البصر يتأمله. فقلت له- بعد السلام-: ألست فلانا الذي مات؟. قال: نعم. قلت: ما لقيت من الله؟. قال: نفعني الله بما فعلته معي، وكان حالي هذا الذي ترى من هذا الثوب، ووصل إلي الليلة بهذين ما ترى أثره على وجهي، وقد أدخلني الله الجنة، وبشّرني.
فقلت: أخشى أن يكون الشيطان قد تمثّل بك، فهل من علامة؟. قال: فأطرق مليّا، ثم رفع رأسه إلي، وقال: في غد وقت الظهر يرسل إليك صاحب الأمر في تملك ويؤخذ(8/325)
أصحابك، ثم تكون العاقبة إلى خير"، هذه علامة. ثم قال: يا أخي ما رأيت العثماني ما أقل خيره، كنت أتوهم أنه أقرب الإخوان، فلم ينفعني، ولا وصل إليّ منه خير قط.
قال ابن عربي: وكنت رأيت في ذلك النهار العثماني، وكان شاعرا، وقال: أحب منك أن تضع لي معاني في مرثية حتى أنظمها لشخص اقتضاني أن أعمل له مرثية، على وزن قصيدة المتنبي.
" أيا خدّد الله ورد الخدود" «1»
وقلت للعثماني: من الذي اقتضاك المرثية لتكون المعاني لائقة به؟. فلم يعرّفني، فلما كان الليل، ورأيت الرؤيا، قال لي صاحبي أبو الحسن في حقه ما قال.
ثم قال أبو الحسن: وتعلم الذي اقتضاه المرثية، وفي من هي؟.
قلت: لا.
قال: هو أبو الحكم ابن الحجاج، والمرثية في ولده، وقد وصل إلينا، وهو بخير، لكني ما أكون مثله، أنا أقول لك بيتا يكون أولا لقصيدته التي اقتضاها عليه أبو الميت، وهو:
يا عين ويحك بالدمع جودي ... فإن الحبيب ثوى بالجود
قال ابن عربي: فانتبهت من النوم، وكانت الجماعة عندي، فذكرت لهم ذلك ففرحوا به، ثم أصبحنا، فكان من الطلب لي، وأخذ بعض أصحابي بعد الظهر، ما ذكره في المنام من العلامة. وذلك سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة.
قال ابن عربي: وكنت سألته في المنام عن مجيئه، فقال: حيث أشرف على جسدي ثم أعود إلى البرزخ.(8/326)
ومنهم:
93- ابن عربي محمّد بن عليّ بن محمّد بن أحمد بن عبد الله: الشيخ محيي الدّين، أبو بكر الطّائيّ، الحاتميّ، الأندلسيّ، المرسيّ «13»
صاحب المصنّفات، سيف يفري النوائب، ويفلي لمم الخطوب الممتدة الذوائب، ليصرف سلم إليه خاتمه، ونسي به طيء الكريم وحاتمه.
سكن دمشق مذ حلّها، ومدّ ببحره الزاخر محلها، وكان فيها ما به مهرعا، وسحابه مكرعا، وجنابه محصنا ممرعا، وله أمور تحمل على محامل، وخوارق لا يجامله فيها مجامل، على اتضاع نفس، وإيضاع في العلا إلى أن حلّ الرمس، ولم يمت حتى كثرت مصنفاته كثرة أمت الأقلام وأخفتها، وغطت الأيام وأحفتها «1» .
ولد- رضي الله عنه- في رمضان سنة ستين وخمسمائة، بمرسية، وسمع بها وبقرطبة(8/327)
من ابن بشكوال، وبإشبيلية، ومكة، وبدمشق، والموصل، وبغداد، وسكن الروم مدة.
قال أبو عبد الله الدبيثي: أخذ عن مشيخة بلده، ومال إلى الآداب، وكتب لبعض الولاة، ثم حج ولم يرجع، وسمع بتلك الديار، وروى عن السلفي بالإجازة العامة، وبرع في علم التصوف، وله فيه مصنّفات، ولقيه جماعة من العلماء، وأخذوا عنه.
قال ابن نقطة: سكن قونية، وملطية مدة، وله كلام وشعر غير أنه لا يعجبني شعره.
والناس فيه على قولين:
قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي: حدّثني شيخنا ابن تيمية الحرّاني، عن جماعة حدّثوه، عن أبي الفتح ابن دقيق العيد، أنه سمع الشيخ عز الدين بن عبد السلام يقول في ابن العربي: هذا شيخ سوء، كذّاب، يقول بقدم العالم، ولا يحرّم فرجا «1»
وحمل بعض تصانيفه إلى شيخنا ابن الفركاح فتأملها، ثم قال: الذي فهمته من كلامه مليح لا انتقاد عليه فيه، والذي لم أفهمه لا أحكم عليه فيه بشيء.
وحكي مثل هذا عن الشيخ الموفّق.
وسئل عنه ابن الفركاح فقال: أرجو أن يكون من أهل الخير.
وسئل عنه قاضي القضاة البارزي، فقال: كان من العلماء.
وسألت عنه شيخنا ابن الزملكاني، فقال: صحّ أنه مسلم، ولم يصح غير ذلك.
قلت: كان قاضي القضاة محيي الدين أبو الفضل ابن الزكي كثير الصحبة له، والخصوصية به، ودفنه في تربته بسفح قاسيون تبركا بمدفنه.
وحكى صاحبه شمس الدين إسماعيل بن سودكين التوزري قال: قال لي الشيخ محيي الدين بن عربي: كنت في بعض سياحاتي، فدخل في إصبعي شوكة، فمنعتني عن المشي، فقعدت، وأخذت رجلي في حجري أنظر إليها، وقلت: إلهي لو أن معي إبرة، أو ملقطا(8/328)
لتسببت. إلهي! وأنت تعلم عقيدتي أنني أعتقد أن الإبرة والملقاط ما لهما إبراء البتة، فلا تحتجب عني بهما".
قال: فنوديت في باطني: نعم، الأمر كذلك، ولكن إليهما ركون. فقلت: إلهي! ولا ركون. وإذا بالشوكة قد نفرت بحدة من رجلي، وضربتني بقوة في إصبع يدي المسبحة اليمني، وسقطت على الأرض، فقمت ومضيت لسبيلي بفضل الله تعالى.
وحكي عن ابن عربي أنه قال: لي إلى مكة تردد، فما حججت لنفسي إلا حجة الإسلام، ولا اعتمرت سوى عمرة الفريضة، والباقي لمن شاء الله تعالى، لكني ما أهدي ذلك إلا لمن لا يكاد يرجى له خير.
وحكي عنه أنه قال: ذهب بعضهم إلى أن قوله عليه الصلاة والسلام: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين) «1» ، إنما هو لئلا يبلغوا حد الخرف، الذي يفارق فيه النفوس على حالة الجهل.
وحكى شيخنا أبو الثناء الحلبي: أن رجلا كان في زمانه يجيد الخط، وأن بعض ملوك دمشق أعطاه مصحفا بخط ابن البواب لينقل له منه، فبينما هو مفتوح قدامه في ليلة من الليالي، والسراج يقد، وهو يكتب، إذ سقط السراج، فتبدد زيته على المصحف، فأيقن الرجل بالبلاء، والصبر للقتل والجلاء، وبات بشرّ ليلة تكون.
فلما أذن للصباح، أتى المسجد الجامع ليصلي، فرأى ابن عربي إلى جانبه، فلما قضى ركعتي المسجد، التفت إليه ابن عربي بوجهه، وقال له: ما صناعتك؟. قال: أنسخ. فقال له: فإن وقع السراج وتبدّد زيته على شيء قدّامك مضنون به، ما تصنع به حتى يذهب الزيت؟. فأكبّ على يديه يقبّلها، ويقول: هذا والله! جرى لي البارحة، وقصّ عليه قصّته، فضحك الشيخ، وقال: لا يهمّك، خذ عظام الأكارع الصغار، فاحرقها، واسحقها، واسحاق(8/329)
معها من السكر النبات، واخلطهما، ثم افتح الأوراق، وذرّ ذلك بينهما، ثم أطبق الكتاب، وثقّله، ودعه يوما وليلة، ثم افتحه، وانفضه، فإنه يذهب الزيت، ويعود إلى حاله الأول.
قال: ففعلت، فكان كما قال.
وحكى شيخنا الكندي عنه أنه كان يقول:" اللهم! ارزقني شهوة الحب، لا الحب، حتى أكون منعّما أبدا". قال: وفي هذا يقول:
ولما رأيت الحب يعظم قدره ... وما لي به حتى الممات يدان
تعشقت حب الحب فيه ولم أقل ... كفاني الذي قد نلت منه كفاني
وحكى عن بعض أشياخه أنه قال: بلغني في عموم الأخبار أنه من قرأ اثني عشر ألف مرة سورة الإخلاص بسبب أسير فرّج الله عنه، وفكّ أسره.
فنزلت مرة في مركب، وفيه ملّاح، فسمعني أذكر هذا الخبر، وكان ولده مأسورا، ولم أعلم ذلك، ثم فارقته، وبقيت مدة، وجئت إلى النهر لحاجة عرضت.
فلما رآنا قام، وقدّم مركبه، وقال: هذا لك. تركب أنت ومن معك بغير أجرة، فسألته عن موجب إكرامه، فقال: ما تذكر لما ذكرت في ذلك الحديث الذي ورد في تلاوة سورة الإخلاص اثني عشر ألف مرة، بسبب المأسور؟.
فقلت: نعم.
فقال لي: كان ولدي هذا مأسورا حينئذ، وإني فعلت ذلك، فلم أشعر بعد أيام إلا وولدي داخل علي، وكان قد قطع عليه حملة كثيرة كنت أعجز عن بعضها، ويئست من خلاصه، فلما رأيته سررت بخلاصه، وشكرت الله، ثم سألته عن السبب في خلاصه؟.
فقال: ما أعلم سببا، إلا أني كنت في اليوم الفلاني- ثم ذكر ذلك الوقت الذي كملت فيه التلاوة- قاعدا، وإذا بالقيد سقط من رجلي، بإذن الله، فلما رأيت قمت، وانصرفت، فلم يعارضني أحد، فاختفيت نهارا، وسرت ليلا حتى وصلت إليكم بحمد الله. وهذا ببركة ركوبك في مركبي، فكيف لا أرعى حقك علي؟.(8/330)
وكتب ابن عربي على هذه بخطه:" صح، صح، صح".
ومن كلامه المأثور، ودرّه المنظوم، قوله:
من ظنّ أن طريق أرباب العلى ... قول فجهل حائل وتعذّر
إن السبيل إلى الإله عناية ... منه بمن قد شاءه وتعزر
لا يرتضى لحقيقة ذو عزة ... إلا إذا ضم السنابل بيدر
الحال يطلبه بشرط مقامه ... فإذا ادّعاه فحاله لك يشهر
يتخيل المسكين أن علومها ... ما بين أوراق الكتاب تسطّر
هيهات بل ما أودعوا في كتبهم ... إلا يسيرا من أمور تعسر
لا يقرأ الأقوام غير نفوسهم ... في حالهم مع ربهم هل يحصر
فترى الدخيل يقيس فيه برأيه ... ليقال هذا منهمو فيكبّر
وتناقضت أقواله إن لم يكن ... عن حاله فيما تقدم يخبر
علم الطريقة لا ينال براحة ... ومقايس فاجهد لعلك تظفر
عزت علوم القوم عن إدراك من ... لا يعتريه صبابة وتحير
وتنفّس مما يجنّ وأنّة ... وجوى يزيد وعبرة لا تفتر
وتذلل وتولّه في غيبة ... وتلذّذ بمشاهد لا تظهر
وتقبّض عند الشهود وغيرة ... إن قام شخص بالشريعة يسخر
وتخشّع وتفجّع وتشرّع ... بتشرّع لله لا يتغير
هذا مقام القوم في أحوالهم ... ليسوا كمن قال الشريعة مزجر
ثم ادّعى أن الحقيقة خالفت ... ما الشرع جاء به ولكن تستر
تبّا لها من قالة من جاحد ... ويل له يوم الجحيم يسعّر
أو من يشاهد في المشاهد مطرقا ... ليقال هذا عابد متفكّر
هذا مرائي لا يلذّ براحة ... في نفسه إلا سويعة ينظر(8/331)
لكنه من ذاك اسعد حالة ... وله النعيم إذا الجهول يفطر «1»
ومنه قوله:
يا نائما كم ذا الرّقاد ... وأنت تدّعي فانتبه
كان الإله يقوم عنك بما ... دعا لو نمت به
لكن قلبك غافل عما دعا ... ك ومنتبه
في عالم الكون الذي ... يرديك مهما مت به
فانظر لنفسك قبل سيرك ... أن زادك مشتبه
ومنه قوله:
لما انقضى ليل الشباب ولاح لي صبح المشيب ... أضربت عن خوض السفاهة بالتبتل للحبيب
نفسي أخاطب، وإياي أعاتب، أيها المرسل عنان شهواته، الجائل في ميدان لذاته، السابق في حلبة هفواته، إلى كم ذا الاغترار بالعمر القصير؟، كأنك ما علمت أن إلى الله المصير!، فبادر إلى التوبة لعلّك تقال، وألق عن ظهرك أوقار الأوزار الثقال، يصح لك ما أمّلت في العقول، في حضرة القبول، فقد قال قيّوم السماوات والأرض: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ
«2» وأمر به في كتابه المبين: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ
«3» ، ثم رغّب فيما يحبه للمذنبين، فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ
. «4»
فيا أيها الناس! اعلموا أن كل من ظهرت منه حوبة «5» ؛ فإن لله عليه توبة، فمن عظمت حوبته، جلّت توبته، فتوبة عالم الشهادة من الأعمال، وتوبة النفوس من الآمال، وتوبة(8/332)
الأرواح من الوقوف مع حضرات الجمال، وتوبة الأسرار من معاينة غين الكمال، وتوبة أسرار الأسرار مما لا ينال، والسر الواحد الجامع، عدم رؤية الثواب النافع، وهذا باب يدق وصفه، ويمنع كشفه، فألق سمعك أيها المغتر بحياته!، المحجوب على الحقيقة بمشاهدة صفاته، وخذ خطاب الحق، من حضرة الفرق بلسان الصدق، فيا محلّ العدم! عليك بالبكاء والندم، ويا محلّ التمحيص والاختبار! عليك بالافتقار والاعتذار، ويا محل الاطلاع! عليك بالنزوع والإقلاع، فشمّر الذيل، واقطع بالتلاوة زمان الليل، وطهّر ثيابك قبل انسلاخك عنها، واعرف قدر جنايتك وتب إلى الله عز وجل منها، وإياك والخديعة، باسترسال الطبيعة، وأقم ميزان العدل بين حجبك وجنايتك، وكحّل بميل «1» الاعتبار عين بصيرتك، لتعرف قدر ظلام عمايتك، واعلم أنك على ما فرّطت في جنب الله نادم، وعلى ما قدّمت بين يديك قادم، وأدنى مرامي أفعالك وأقصاها في كتاب: لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها
«2»
فطوبى لمن غدا تائبا منيبا ... ذليلا لربّ جليل
تراه إذا جنّ ليله ... كثير الأنين كثير العويل
قريح الفؤاد حليف السها ... د يراعي النجوم بطرف عليل
إذا الدمع سال على خدّه ... محا أثر الدمع حر الغليل
وقوله من خطبة:" فلا يقع بصر إلا عليه، ولا يخرج خارج إلا منه، ولا ينتهي قاصد إلا إليه، فيا أولي الألباب!، أين الغيبة والحجاب:
ومن عجب أني أحنّ إليهم ... وأسأل شوقا عنهم، وهم معي
وتبكيهم عيني وهم في سوادها ... ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي
ومنه قوله:" أيها الغافل عن مواقعة الحساب، والمتعامي عن مناقشة ما في يديه من الاكتساب، كأنك ما قرأت ما في الكتاب المبين: وَكَفى بِنا حاسِبِينَ
«3» ، فاعلم- أيقظك(8/333)
الله من سنة الغفلة-: أن المحاسبة في هذه الدار على قدر المحاسب، فمنهم معاقب، ومنهم مغالب، ومنهم معاتب، ومنهم محاسب. فمحاسبة الإحساس معاقبة، والأنفاس مغالبة، والأرواح معاتبة، والأسرار مخاطبة. فحاسب نفسك- يا أخي! - في مهل الأنفاس، قبل حلول الأرماس «1» ، ومثّلها كعامل خراج بين يديك من قبل أن ينعكس الأمر عليك، فكأني بك في ذلك اليوم تدعو فلا تسمع مجيبا إلا: كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً
. «2»
ومنه قوله:" أما بعد- يا أخي! - عصمنا الله وإياك من نتائج الغفلات، وآمنا من روعة البيات، فإن الله- سبحانه- لما أوضح المنهج إليه، وبيّن الأمر المزلف لديه، حمل من اصطفاه من عباده عليه، وعدل بمن حرمه إلى أحد جانبيه، فهنيئا لمن حمل على الجادة، وبؤسا لعبد قطعت عنه العناية الربانية والمادة. ونحن- يا أخي! - من هذا كله على بصيرة، مع قبح سيرة وسريرة، فتدارك أخاك بدعوة ترقيه إلى موقف الاختصاص، وتلحقه بأهل الصدق والإخلاص، قبل أن يفجأه الموت، وينقلب بحسرة الفوت؛ فقد طال الأمل، وساء العمل، وترادف الكسل، ولم تعظنا بمرورها الأيام، ولا زجرتنا حوادث العلل والآلام، فأسأله سبحانه أن يطهّر الذوات بأحمد الصفات، والسلام".
ومنه قوله:" أما بعد- يا أخي! - فالقدر سابق، والقضاء لاحق، ولا يغرّنّك ما أنت عليه من سنيّ الأعمال، وزكيّ الأحوال، ما دام رسنك «3» مرخى، وحبلك على غاربك «4» ملقى، فإن الخاتمة أمامك، ولا تدري بما يرسل الحق إليك أيامك، فخذ الكرامة على أدب، وأعرض عن الاشتغال بها وجدّ في الطلب، فكم مريد كانت حظ عمله لما كانت غاية أمله، ومن الله نسأل عصمة الأحوال، في السابقة والمآل، والسلام".(8/334)
وحكى الشيخ شمس الدين إسماعيل بن سودكين عنه أنه كان يقول:" ينبغي للعبد أن يستعمل همّه في الحضور في مناجاته، بحيث يكون حاكما على خياله، بصرفه بعقله نوما كما كان يحكم عليه يقظة، فإذا حصل للعبد هذا الحضور، وصار خلقا له، وجد ثمرة ذلك في البرزخ، وانتفع جدا، فليهتم العبد بتحصيل هذا القدر فإنه عظيم الفائدة بإذن الله تعالى".
وقال:" إن الشيطان ليقنع من الإنسان بأن ينقله من طاعة إلى طاعة ليفسخ عزمه بذلك".
وقال:" وينبغي للسالك متى خطر له أنه يعقد على أمر ما، أو يعاهد الله تعالى عليه، أن يترك ذلك الأمر إلى أن يجيء وقته، فإن يسّر الله فعله فعله، وإن لم ييسّر الله فعله يكون مخلصا من نكث العهد، ولا يتّصف بنقض الميثاق".
وقال:" إن الحق- سبحانه- جعل الطريق إلى معرفته أسهل الطرق وأوضحها، فقال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
«1» ، وهو أصل المعارف كلها.
وقال:" بلغني في مكة عن امرأة من أهل بغداد أنها تكلمت فيّ بأمور عظيمة، فقلت:
هذه قد جعلها الله سببا لخير وصل إليّ، فلأ كافئنها. وعقدت في نفسي أن أجعل جميع ما أعتمر في رجب يكون لها، وعنها؛ ففعلت ذلك؛ فلما كان الموسم استدل عليّ رجل غريب، فسأله الجماعة عن قصده، فقال: بالينبع في الليلة التي بت فيها كأن آلافا من الإبل أوقارها المسك والعنبر والجوهر، فعجبت من كثرته، ثم سألت لمن هو؟، فقيل لمحمد ابن عربي، يهديه إلى فلانة، وسمى تلك المرأة، ثم قال: وقيل لي: هذا بعض ما يستحق.
قال ابن عربي: فلما سمعت الرؤيا واسم المرأة ولم يكن أحد من خلق الله علم مني ذلك، علمت أنه تعريف من جانب الحق، وفهمت من قوله: أن هذا بعض ما يستحق، أنها مكذوب عليها. قال: فقصدت المرأة، وقلت: اصدقيني! [فقالت: كنت] قاعدة قبالة البيت وأنت تطوف، فشكرك الجماعة التي كنت فيهم، فقلت في نفسي: اللهم إني(8/335)
أشهدك أني قد وهبت له ثواب ما أعمله في يوم الاثنين وفي يوم الخميس، وكنت أصومهما، وأتصدق فيهما. قال: فعلمت أن الذي وصل منها إليّ بعض ما تستحقه، فإنها سبقت بالجميل، والفضل للمتقدم.
ومنهم:
94- الحرّالي علي بن أحمد بن الحسن بن إبراهيم التجيبي «13»
الإمام أبو الحسن الأندلسي.
كان سيفا مجرّدا، وسيلا لم يكن مصردا، هابته الخطوب فاتقته، وحابته القلوب فوقته، فاقتاد المطالب بأعناقها، وأتته المآرب تسرع في إعناقها، قد أمسك بعروة ما لها انفصام، وركن إلى ذروة تحميه يوم الخصام بفضل يبهت الطرف، وتبعد منه من يعبد الله على حرف، فرارا من نار لا تخمد لها جذوة، ولا تحمد لها جلوة، لدنيا ساكنها غير مستكن، ومستوطنها غير مطمئن، فربحت تجارته، وصلحت إنابته لله واستجارته.
ولد بمراكش، وأخذ العربية عن ابن خروف «1» ، وغيره، وحجّ، ولقي العلماء، وجال في البلاد، وتغرّب، وشارك في فنون عديدة، ومال إلى النظريات وعلم الكلام.(8/336)
وأقام بحماة، وبها مات.
وله" تفسير" فيه أشياء عجيبة الأسلوب، غريبة المعاني، وكان لا يقدر أحد أن يؤذيه، وتكلم على الكائنات، وأمور الحدثان، وأسرار الحروف، وزعم أنه استخرج علم وقت خروج الدجال، ووقت طلوع الشمس من مغربها، ويأجوج ومأجوج.
وصنّف في المنطق، وشرح في الأسماء الحسنى، وله عبارة حلوة، وفصاحة وبيان.
قال الحافظ أبو الصفاء الصفدي: وقد اجتمعت أنا بمن له ذوق في علم الحرف، ويد باسطة في هذا الفن، فذكر لي أن الحراليّ لا يفهم شيئا من هذا العلم، وإنما الأستاذ في هذا الفن:" البوني" «1» وتوفي الحراليّ سنة سبع وثلاثين وستمائة.
قلت: سمعة الحراليّ كبيرة، والألسنة ناطقة بسؤدده، وجلالة قدره في طائفته ونظرائه.
وبلغني أنه كان متصرفا في الوجود بتصرفات غريبة، وأمور عجيبة تدل على اطلاعه وعظم مواهب الله عليه، ونعمه لديه.
وكان شيخنا ابن الزملكاني يذكره في أهل التصرفات، وذوي الإتقان لعلم الحرف.
وبلغني مثل هذا عن التونسي «2» .
وقال لي تقي الدين عبد الرحمن ابن شيخنا كمال الدين بن الزملكاني: سمعت التونسي يقول:" الحراليّ شيخ الجماعة وسيدهم". «3»(8/337)
ومنهم:
95- محمد المرجاني أبو عبد الله
مداوي قلوب من أشجان، وسرّ أبوين يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان. كان جدى للنساك، وهدى للسلّاك، وقطبا للأبدال، وحربا لمن أكثر في الحق الجدال، بكلام يدلّ على وصول، وبلوغ قصد وحصول، وطبّقت بلاد أفريقية سمعته، ووسع فرق أهلها رحب صدره وسعته، ثم عمّ الشرق والغرب، وملك حبة القلوب بالطلوع والضب، ولم يزل ذكره بالأفواه منتهبا، وفجره في رداء الشفق ملتهبا، وصيته يطير متهما ومنجدا، وإذا سمعه الذين يخشون الرحمن خرّوا بكيّا وسجّدا، حتى حان حينه، وانتهى إلى القبر نينه، فارتقت إلى السماء روحه، وأشرقت في مطالع الشموس نوحه.
وكانت الوزراء بمصر تستدعيه إلى حضرتها، وهو من مكانه لا يريم، ولا يزال يحافظ على أوطانه محافظة كريم.
قرأ القرآن الكريم، وتفقّه على مذهب الإمام مالك- رضي الله عنه- ولقي العلماء، وأخذ عن المشايخ، وصحب الرجال، وأحبّ الزهّاد، واقتدى بالعبّاد، واعتكف بالمساجد، وتأدب بالكتاب والسنة، ولازم العبادة، وتقرّب إلى الله تعالى بالنوافل، وتخير لمكسبه، وتوفي في سببه، وتورّع عن كثير من الحلال خوف الشبهات، ونزه عن دنايا الدنيا وظهرت عليه أمائر القبول «1» ، ولوائح القرب، ودام على الاجتهاد، وقام قيام الزهّاد، وبقي يذكر الله تعالى ويحض على التوجه إليه، والإقبال على ما يزلف عنده.
حكي أن رجلا قصد زيارته، فلما كان ببعض الطرق، نزل عن حماره لحاجة عرضت له، فشرد الحمار، فقام في طلبه، فلم يجده، فرجع، وتم ماشيا، حتى أتى الشيخ، فسلّم عليه، وجلس ناحية منه، فالتفت الشيخ إليه، وقال له: طب نفسا، فإن حمارك وصل إلى أهلك.
فلما عاد الرجل إلى أهله وجد الحمار، فسأل: من أين وصل إليهم؟. فقالوا: إن رجلا أتى به السوق ليبيعه، فعرفه بعض بني عمك، فأخذه، وحمله إلى والي البلد، فسأله عن الحمار؟(8/338)
فذكر أنه وجده شاردا، فأمسكه، ولم يجد له صاحبا، فاستصحبه معه، فأودعه السجن ليظهر خبرك، وأعطانا الحمار. فشكر الله، وذهب إلى الوالي وأطلق الرجل.
ومنهم:
96- البوني أبو الحسن «13»
قانت أوّاب، وقانع بما عند الله من الثواب، أدرك الحقائق وشهدها، وترك الخلائق ومشهدها، وصحب الدنيا صحبة مفارق، وحلى العلياء حلية هام ومفارق، وحقق فلم يداخله أوهام، وحب فلم يدانه من حب أوهام، فلم تشب إفاضته الشوائب، ولم يشب نواصيه النوائب، وكان ذا فكر جوّال، وذكر قوّال، وشكر لا يتغير بتغير أحوال، فتحقق فضله، وتختم وتطوق فعله بأفعال الجميل وتحتم، ولم أقف له على ترجمة، ولم أقف فيه آثار خواطر محققة ولا مرجّمه، إلا أن الذي بلغ حدّ الاستفاضة، أنه كان ممن خلع رداء الحرص، وبت علائق الأمل، وجدّ في العلم والعمل، ولم يزل حتى سلك الطريقة، ووقف على الحقيقة، وتدبر الأسماء الحسنى، وتكلّم على معانيها بنوع من العلم اللدنّي، وجعل لكل ساعة من ساعات الليالي والأيام، ولسحر كل ليلة توجها خاصا، وكذلك لليلة القدر، ويوم عرفة، على دورانهما في الأسبوع، وكذلك لرؤية هلال كل شهر، وجمع ذلك في كتاب سماه:" اللمعة النورانية".
ولأهل المعارف اعتناء به، وحسن ظن فيه. ويزعمون أن العالم بذلك يتصرف في الوجود، ولهم في ذلك حكايات غريبة، وأحوال عجيبة. وأصله من مدينة بونة، على ساحل البحر الشامي، قرب قسطنطينية، من بلاد أفريقية.(8/339)
ومنهم:
97- ابن برّجان «13»
كاشف أسرار، وكاسف بدور من غير سرار، ولم يزل للشبهة متوقيا، وعلى الشهب مترقيا، حتى تمثل الدقائق، وترفل الحقائق، وشرب من العلم اللّدنّيّ، وقطف من الفهم الجني، وأترعت له الحياض فارتوى من موردها، وزوى عن موردها، فأبرز الخفايا، وأخرج الخبايا، فكثرت له مؤملون، وكرت إليه متأملون، فآب بالغنائم، وآل وطرف العنا نائم، فكربت أضداد له كادوا يتحملون، وكربت حساد له وباطل ما كانوا يعملون. «1»(8/340)
ومنهم:
98- عليّ بن عبد الله بن عبد الجبّار بن [تميم بن هرمز بن حاتم بن قصيّ بن] يوسف بن يوشع الحسنيّ. أبو الحسن الشّاذليّ الضرير «13»
وليّ لله، طالما أنجد بمدده وأصرح، وانجلى بفرقده الروع وأفرح، وكان عدة لشدائد، وعمدة في دفع مكايد، طالما أغص الكرب، وأراق ذنوب المصايب وقد بلغ عقد الكرب لإصابة سهام، وإجابة دعوة في مهام، لم يحرم في استفتاح السما، واستمناح النعما، بعادة متوقعة وسرعه، كم فتق بها الرقيع ورقعه، ولم يزل هذا مجرّبا، وعنه حدّثنا يعرف به أنه ممن هدى الله واجتبى.
قدم الديار المصرية من الغرب، وأقام بالاسكندرية مدة، وسافر إلى الحجاز مرارا، وهو أحد المشايخ المشهورين بمعرفة طريق القوم، وله في ذلك كلام، وتصانيف معروفة، صحبه جماعة وانتفعوا به، وتوفي بطريق الحجاز، وهو قاصد إليه، بصحراء(8/341)
عيذاب، في العشر الأول من ذي القعدة، سنة ست وخمسين وستمائة، ودفن هناك. رحمه الله تعالى.
ومنهم:
99- عبد الحقّ بن إبراهيم بن محمد بن نصر بن محمد بن نصر ابن محمد بن سبعين. أبو محمد: قطب الدّين المرسيّ الرقوطيّ «13»
قرب وداره نائية، وأصغى والنفوس نابية، فكلف وهام، وشغف بما يدق على الأفهام، وتراءى من وراء ستورها، فأحبّ والقلوب سالية، وأطرق والعيون سامية، وطن بشارقة من طلالها، وظنّ كل بارقة على أطلالها، إلى أن مات بها مغرما، وفات إذ رأى فراق الدنيا مغنما، وأدرج في كفنه، وأسرج بدر السما في مدفنه.
ذكره ابن اليونيني في" الذيل" فقال:" كان أحد المشايخ المشهورين بسعة العلم، وبعدد المعارف، وله تصانيف عدة، ومكانة مكينة، عند جماعة من الناس، وأقام بمكة سنين عديدة، إلى أن توفي بها في ثامن عشرين شوال سنة تسع وستين وستمائة، ومولده سنة أربع عشرة وستمائة. «1»(8/342)
ومنهم:
100- سيدي أبو العبّاس المرسي أحمد بن عمر الأنصاريّ المالكيّ «13»
بحر من البحور الزاخرة، وحبر في علوم الدنيا والآخرة، فاكتنفته العناية الإلهية فأمدته بمددها، وأقامته على حددها، فاستنار بأقمارها، واستمار من ثمارها، فضوّأت مشارقه بأشعتها، وبوّأت قدمه محل رفعتها، وهبّ من المغرب هبوب الصّبا، ونزل الاسكندرية نزول الغيث الربى، فأصبح به الثغر باسما، وأصبح الراح وأغبق ريحه ناسما.
وكان بمدينة الاسكندرية، وقدره المتطاول علا منارها، وذكره الشائع علم نارها، وعمر حبه من كل قلب بيتا، وأمر صفته فيها حيا وميتا «1» .
ذكره ابن غانم قال: كان قطب زمانه، وعلامة أوانه، في العلوم الإسلامية وله القدر الراسخ في علم التحقيق، والكرامات الباهرة، والكلام الرائق البديع في طريق القوم، والأحوال الظاهرة، كان لا تتحدث معه في شيء من العلوم إلا تحدّث معك فيها، حتى يقول السامع إنه لا يحسن غير هذا العلم، لا سيما علم التفسير والحديث، وكان يقول: شاركنا الفقهاء فيما هم فيه، ولم يشاركونا فيما نحن فيه.
وكان كتابه في أصول الدين" الإرشاد"، وفي الحديث:" المصابيح" للبغوي، وفي(8/343)
الفقه:" التهذيب" للبرادعي، و" الرسالة"، وفي التفسير:" كتاب ابن عطية".
وكان يقرأ عليه بعض المحققين في العربية، فيردّ عليه اللحن.
وأما علوم المعارف والأسرار؛ فقطب رحاها، وشمس ضحاها، تقول إذا سمعت كلامه:
هذا كلام من ليس وطنه إلا غيب الله تعالى، هو بأخبار السماء أعلم منه بأخبار أهل الأرض.
وعن أبي الحسن الشاذلي أنه قال عن الشيخ أبي العباس: أبو العباس بطرق السماء أعلم منه بطرق الأرض.
قال ابن عطاء تلميذه: كنت لا أسمعه يتحدث إلا في العقل الأكبر، والاسم الأعظم، وشعبه الأربعة، والأسماء والحروف، ودوائر الأولياء، ومقامات الموقنين، والأملاك المقربين عند العرش، وعلوم الأسرار، وأمداد الأذكار، والمقادير، وشأن التدبير، وعلم البدو، وعلم المشيئة، وشأن القبضة، ورجال القبضة، وعلوم الأفراد، وما يكون من أفعال الله تعالى مع عباده يوم القيامة، من حلمه وإنعامه، ووجود انتقامه.
قال الشيخ تاج الدين ابن عطاء: ولقد سمعته يقول:" لولا ضعف العقل لأخبرت بما سيكون غدا من رحمة الله تعالى، وتوفيقه، وإلهامه.
وأما سداد طريقته: فكان رضي الله عنه- شديد التحرر من حقوق العباد، مسرعا للوفاء لها، حتى أنه يوفي الدين قبل استحقاقه، ويحمل أصحابه على التخلص من حقوق العباد، إذا كان عليه دين أحسن القضاء، وإذا كان له حق أحسن الاقتضاء، منقطعا عن أبناء الدنيا والتردد إليهم، لا يرفع قدمه لأحد منهم «1» ، ولا يبعث إليهم، ولا يكاتبهم، إذا طلب منه أن يكتب إليهم، بل يقول للطالب: أنا أطلب لك ذلك من الله تعالى. فإن رضي الطالب بذلك، نجح مسعاه، ولطف به مولاه.
ومبنى طريقه على الجمع على الله تعالى، وعدم التفرقة، وملازمة الخلوة، والذكر.
ولكل مريد معه سبيل؛ يحمل كل واحد على السبيل التي تصلح له، وكان لا يحب المريد(8/344)
لا سبب له «1» ، وكان يقول عن شيخه: اصحبوني ولا أمنعكم أن تصحبوا غيري، فإن وجدتم منهلا أعذب من هذا المنهل فردوا.
وكان مكرّما للفقهاء، ولأهل العلم وطلبته إذا جاؤوه، وكان أزهد الناس في ولاة الأمور، وكان لا يثني على مريد، ولا يرفع له علما بين إخوانه خشية عليه أن يحسد.
وكان كثير الرجاء لعباد الله، والغالب عليه شهود وسع الرحمة.
وكان- رضي الله عنه- يكرم الناس على نحو رتبهم عند الله «2» .
وقال- وقد سئل لما أن قال عيسى عليه السلام إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
«3» ، ولم يقل: الغفور الرحيم؟ -.
قال: لأنه لو قال: فإنك أنت الغفور الرحيم، لكان شفاعة من عيسى- عليه السلام- لهم في المغفرة، ولا شفاعة في كافر، ولأنه عبد من دون الله فاستحى من الشفاعة عنده.
وكان يقول: أتباع الحق قليلون، فأولياء الله تعالى كهف الإيواء، فقلّ من يعرفهم.
وقال ابن عطاء- تلميذه-: سمعته يقول:" معرفة الولي أصعب من معرفة الله تعالى، فإن الله تعالى معروف بكماله".
ومن زهده: أنه خرج من الدنيا وما وضع حجرا على حجر، ولا اتخذ بستانا، ولا استفتح سببا من أسباب الدنيا.
وقال الشيخ أبو الحسن: رأيت الصّدّيق في المنام؛ فقال لي: أتدري ما علامة خروج حب الدنيا من القلوب؟. قلت: لا أدري.
قال: علامة خروج حب الدنيا من القلوب: بذلها عند الوجود، ووجود الراحة منها عند الفقد.(8/345)
وقال الشيخ أبو العباس المرسي- رضي الله عنه-: رأيت عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- في المنام؛ فقلت: يا أمير المؤمنين! ما علامة حب الدنيا؟.
قال: خوف المذمة، وحب الثناء.
وكان يقول:" والله ما دخل بطني حرام قط".
وكان يقول:" الورع من ورعه الله تعالى".
وقال:" عزم علينا بعض الصلحاء بالاسكندرية في بستان له بالرمل، فخرجت أنا وجماعة من صلحاء الثغر، ولم يخرج معنا صاحب البستان ذلك الوقت، بل وصف لنا المكان، فتجارينا- ونحن خارجون- الكلام في الورع، فكلّ قال شيئا. فقلت لهم: الورع من ورعه الله تعالى.
فلما أتينا البستان، وكان زمن التوت، كلهم أسرع إلى الأكل، وأكلت، وكنت كلما جئت لآكل أجد وجعا في بطني، فأرجع، فينقطع الوجع، ففعلت ذلك مرارا، فجلست ولم آكل شيئا، وهم يأكلون؛ وإذا بإنسان يصيح: كيف يحل لكم أن تأكلوا من ثمرة بستاني بغير إذني؟. فإذا هم قد غلطوا بالبستان!. فقلت لهم: ألم أقل لكم إن الورع من ورّعه الله تعالى؟.
وكان يقول: والله! ما جلست للخلق حتى هدّدت بالسلب، وقيل لي: لئن لم تجلس لنسلبنّك ما وهبناك.
وكان شديد الكراهية للوسواس في الطهارة والصلاة، وينقل عنه شهود من كان ذلك وصفه.
سئل يوما فقيل له: يا سيدي! فلان صاحب علم وصلاح، كثير الوسوسة!.
فقال: وأين العلم؟. يا فلان! العلم هو الذي ينطبع في القلب كالبياض في الأبيض، والسواد في الأسود.
وكان يقول: الناس على قسمين؛ قوم وصلوا بكرامة الله تعالى إلى طاعة الله تعالى.(8/346)
وقوم وصلوا بطاعة الله تعالى إلى كرامة الله تعالى. قال الله تعالى: يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ
. «1»
ونور الله تعالى يرد على القلب، فيوجب له الاتصاف بصفة أهله في الدنيا، والإعراض عنها، ثم يثب منه إلى الجوارح، فما وصل إلى العين أوجب الاعتبار، وإلى الأذن؛ أوجب حسن الظن، وإلى اللسان؛ أورث الذكر، وإلى الأركان؛ أورث الخدمة.
والدليل على ذلك: أن النور يوجب عزوف الهمة عن الدنيا والتأني فيها، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن النور إذا دخل الصدر انشرح وانفسح. فقيل: يا رسول الله! فهل لذلك من علامة؟. قال: التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود" «2» وقال في قوله صلى الله عليه وسلم:" لصافحتكم الملائكة في طرقكم، وعلى فرشكم" «3» : إنما خص الرسول صلى الله عليه وسلم الفرش والطّرق، لأن الفرش محل الشهوات، والطرق محلّ(8/347)
الغفلات، فإذا صافحتهم الملائكة في طرقهم وفرشهم، الأحرى أن تصافحهم في محل طاعاتهم وأذكارهم، واقتضت حكمة الله سبحانه أن لا يستوي وقت كبوتهم عنده ووقت ذكرهم لما سواهما، حتى يعرف عظيم قدر رتبة محاضرته صلى الله عليه وسلم وعزازة الذكر وجلالة منصبهما.
وكان كثيرا ما ينشد:
يا عمرو ناد عبد زهراء يعرفه السامع والرائي
لا تدعني إلا بيا عبدها ... فإنه أشرف أسمائي «1»
توفي- رحمه الله تعالى- بالاسكندرية، سنة ست وثمانين وستمائة.
قلت: أتيت قبر الشيخ أبي العباس- رحمه الله تعالى- بظاهر ثغر الاسكندرية، وزرته فيما هنالك، وأتيت الشيخ ياقوت الحبشي «2» ، وكان قد صحبه، فحكى لي عجائب من كراماته.
ومما حدثني به: أن رجلا أتى أبا العباس، فجلس بين يديه، ورجل عند الشيخ يكتب من أماليه، فأخذ ذلك الرجل محبرة الكاتب بيده ورفعها ليسهل عليه الاستمداد، والشيخ مقبل على الجماعة يحدّثهم، فجرى ذكر قلب الأعيان، فقال له ذاك الرجل: يا سيدي! هل لقلب الأعيان حقيقة؟. فقال: نعم. إن لله رجالا لو قال أحدهم لهذه المحبرة كوني ياقوتا لكانت. فالتفت الرجل فرأى المحبرة قد صارت ياقوتا!، فقطع كلام الشيخ ووثب خارجا(8/348)
لاغتنام تلك الياقوتة، وظنّ أنها تكون رأس مال لغناه!، فقال له الشيخ: ارجع فإنها محبرة، فنظر إليها فإذا هي محبرة.
والذي أقوله: إن مواهب الله عظيمة، والقدرة صالحة، وما شاء الله كان. رحمه الله تعالى.
ومنهم:
101- الحسن بن عليّ بن يوسف بن هود الجذاميّ المغربيّ «13»
الزاهد، أبو علي، وأبوه عضد الدولة، أخو المتوكل على الله أبي عبد الله محمد، ملك الأندلس.
رجل كم جاب المقفر، وجاء كالصباح المسفر، وقدم من بلاد المغرب، قدوم عنقاء مغرب، وكان بجزيرة الأندلس، من أبناء ملوكها، وأجلّاء أهل سلوكها.
وسكن دمشق حيث طاب له الوطن، وطوى ذيل أسفاره وقطن. ولأهلها فيه اعتقاد، وظن خلص من انتقاد، وكانت تغلب عليه فكره، ويغل عقله إذا ثاب إليه سكره، فيظلّ المدد «1» شاردا لا يدري، وسائرا لا ينطق، وإنما الزمان به يجري، مع ندى سكن بصيبة السحاب الهتّان، وهدى بكت بسببه أهل البهتان، على أن بعض الفقهاء لم يخله من لسع عقاربه، ورميه بأنه غير متق لله ولا مراقبه، ومن جهل شيئا عاداه، ولله حقيقة عمله، وما أبوء بظلمه «2» .(8/349)
يقال: إنه من أولاد ملوك المغرب.
قال الحافظ أبو محمد البرزالي: أبو عضد الدولة أبو الحسن علي أخو المتوكل على الله ملك الأندلس أبي عبد الله، وكان عضد الدولة ينوب عن أخيه بمرسية، وتزهّد الحسن، وترك الدنيا، واشتغل بشيء من علوم الحكمة والطب، ونظر في كلام ابن عربي، وابن سبعين، وكان من رأيه تعظيم ابن سبعين، وانتماؤه إليه.
وكان زهده وإعراضه عن الدنيا ظاهر لا ينكره أحد. وعنده غفلة كثيرة في غالب أحواله، يصحبه الرجل سنة، ويغيب عنه أياما يسيرة، فيراه، فلا يعرفه، ويذكره بأشياء جرت له معه، فلا يذكر!، ولا يظهر عليه أنه رأى ذلك الشخص عمره.
وحجّ مرات، وجاور، ودخل اليمن واحترمه سلطانها، وأرسل إليه وإلى أصحابه مالا، ودخل دمشق غير مرة، وأكرم أول دخوله إليها إكراما كثيرا، وقصده نائب السلطنة بها، والقاضي، وأعيان الناس، ثم طالت إقامته بها، فانتقص ذلك الإكرام، مع أنه كان يظهر عليه أنه لا فرق عنده بين الحالتين، وكان ينقم عليه كلام يصدر منه لا يوافق الشريعة.
وكان الشيخ تقي الدين «1» كثير الوقيعة فيه، والنقمة عليه، والتنقص به، وبمذهبه، ينفر عنه التنفير الكثير، ويحذر منه التحذير الوافر.
قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي: ثم بان أمره، وقطع بأنه من رؤوس الاتحادية.
وحكى الفاضل أبو الصفاء الصفدي: قال: أخبرني الخطيب أبو محمد الحسن بن محمد(8/350)
القرشي، قال: كان ابن هود يلحقه حال يشغله عن حسّه، ويذهله عن نفسه، حتى كان توضع في يده الجمرة ولا يشعر، فإذا أحرقته عاد إلى حسّه. قال: وربما كان يقع في الحفاير، ولا يدري!.
وكان يقرئ في" الدلالة" للريس موسى «1» ، وأسلم على يده جماعة من اليهود، فعملوا عليه حتى سقوه الخمرة في حالة غيبته، وأروه المسلمين، وهو في تلك الحال، ولا بغير ذلك عقيدة من له فيه عقيدة.
قال البرزالي: سألته عن مولده؟. فقال: في ثالث عشر شوال سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، بمرسية.
وتوفي عشية الاثنين السادس والعشرين من شعبان، سنة تسع وتسعين وستمائة، بدمشق.
ودفن بكرة الثلاثاء بسفح قاسيون، وتقدم في الصلاة قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة، وأنشد من شعره قوله:
علم قومي بي جهل ... إن شأني لأجلّ
وذكر شيخنا أبو حيان، وقال: رأيته بمكة، وجالسته، وكان يظهر منه الحضور مع من يكلمه، ثم لا تظهر الغيبة منه، وكان يلبس نوعا من الثياب مما لم يعهد بلبس مثله بهذه البلاد، وكان يذكر أنه يعرف شيئا من علوم الأوائل.
وأنشد عن أبي الحكم ابن هانيء عنه قوله:
خضت الدجنّة حتى لاح لي قبس ... وبان بان الحمى من ذلك القبس
فقلت للقوم هذا الربع ربعهم ... وقلت للمسع لا تخلو من الحرس
وقلت للعين غضّي عن محاسنه ... وقلت للنطق هذا موضع الخرس(8/351)
قلت: أنشدني شيخنا أبو الثناء الكاتب رحمه الله تعالى هذه الأبيات، وقال: كان من خبرها أن ابن هود حجّ، فلما أتى المدينة، وشارف أعلامها، نزل عن دابته واغتسل، ولبس ثيابا نظافا، ثم جعل يمشي، وهو يهمهم بكلام خفي سمعه بعض من كان يمشي خلفه، فإذا هو يقول:
نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة ... لمن حلّ أن نلم به ركبا
ثم لم يزل يطأ من رأسه، ويخضع حتى أتى باب المسجد وكأنه راكع، فسلّم على النبي صلى الله عليه وسلم من ظاهر الحجرة، بأكمل الأدب، ثم صلى ركعتي التحية بالروضة، ثم خرج إلى الزيارة، فجلس على الرمل، ثم جعل يبكي ويخط على الرمل الأبيات، فقرأها بعض الحاضرين، فحفظها، وأنشدها عنه.
قلت: حدّثت بهذا الشيخ سعيد خادم ابن هود، فقال: صحيح.
وحكى لي شيخنا أبو الثناء قال: أتى لاجين نائب الشام، وحسام الدين الرازي ابن هود، وهو لا يعرفهما، وكان مع لاجين سجادة، ففرشها تحت ابن هود بيده، وساعده الرازي. فقال له بعض من عنده: يا سيدي! هذا نائب الشام، وبيده قد فرش لك السجادة، وهذا الذي معه من أكابر العلماء. فقال: بارك الله فيهما، والله ما فرش إلي السجادة إلا ليجلس على سرير الملك، وصاحبه قاضي القضاة.
وكان ابن هود ذا علم جمّ، ولكن كانت الغيبة غالبة عليه، ولقد كان يبقى الأيام والليالي لا يأكل طعاما، ولا يشرب شرابا، وكان كثيرا ما يقعد في مقابر كيسان مستدبرا للمدينة، متوجها إلى القبلة، ويبقى الأيام الكثيرة في الحر والبرد، لا يتغير من مكانه، ولقد رأيته هناك في زمان صيف شديد، وقد لفحته هواجر الحر، وأثر فيه السموم، وكانت بيني وبينه صحبة، ووقفت أمامه، وأنشدته:
أنت المنية والمنى فيك استوى ... ظل الغمامة والهجير المحرّق
فرفع رأسه إليّ وقال: من تكون؟ فعرّفته بنفسي، فقال: ما أعرفك، فانصرفت، وأنا(8/352)
أرثي له مما يقاسي.
وقد ذكره أبو الصفاء، وأنشد له قطعة، منها:
أروّي بذكر الجزع عنه وبانة ... ولا البان مطلوبي ولا قصدي الرمل
وأذكر سعدى في حديثي مغالطا ... بليلى ولا ليلى مرادي ولا جمل
ولم أر في العشاق مثلي لأنني ... تلذ لي البلوى ويحلو لي العذل
سوى معشر حلوا النظام ومزّقوا الثياب فلا فرض عليهم ولا نفل
مجانين إلا أن ذلّ جنونهم ... عزيز على أعتابهم يسجد العقل
وأنشدني الشيخ سعيد له شعرا كثيرا منها قصيدته المشهورة التي أولها:
سلام عليكم صدّق الخبر الخبر ... فلم يبق قال القسّ أو حدّث الحبر
وهي قصيدة عسرة المسلك، متوعرة الجوانب، يحار في ظلماتها ويخبط في بهماتها، وجملة المختار منها قوله:
وأشرق نور الحق من كل وجهة ... على كل وجه فاستوى السر والجهر
فهاموا وتاهوا بين حق وباطل ... يجوزه زيد ويمنعه عمرو
ولو سلموا ساروا على منهج الهدى ... إلى حضرة الرضوان لكنهم غروا
فقوموا على ساق من الجد واثبتوا ... على قدم التجريد إن الغنى فقر
ولا تجعلوها راحة دون غاية ... فلا راحة إلا إذا بعثر القبر
ومما أنشد له ابن الكلاس قوله:
حاشا ثيابك من أذى يا من له ... القدر الكبير ورفده لا يمنع
لم يبد فيهن الدمامل ضلة ... بالقصد لكن ساقهن المطمع
لما رأت كفيك جودا هامعا ... وسحاب ذاك الجود لا يتقشّع
قصدت مشاركة الأنام فأصبحت ... من فيض جودك تستمد وتجمع(8/353)
وهذا آخر من وقع في الجانب الغربي.(8/355)
فأما من بمصر، فقوم:
ومنهم:
102- أبو الفيض ذو النّون المصريّ «13»
واسمه ثوبان بن إبراهيم، وقيل: أبو الفيض بن إبراهيم الأخميمي «1»
قدوة للأولياء، وأسوة للعلماء ورثة الأنبياء، اتقى الله حقّ تقاته، وقصر على الطاعة كل أوقاته، وكان من الناس جانبا، ولليأس إلى آماله جالبا، عرف الأيام حق معرفتها، وعرّف ذوي الأفهام منح صفتها، فخلاها من يديه، وأولاها الإعراض لديه، تدارك فساد القلوب بصلاحه، وجلا سواد الدياجي بصباحه، وكان في قوم ما دانوا لله بكيا، وكانوا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خرّوا سجّدا وبكيّا. وطلبه المتوكل لأمر نقل إليه وكان غائبا، وذا النون إذ ذهب مغاضبا، فلما حلّ في حضرته جلّ في عينه، وحلّ عن الاحتجاز عليه عقد بينه، فآب مكرّما، وغاب ولم ينل منه أحد محرما.
وكان أوحد وقته علما وحالا وورعا وأدبا، سعوا به إلى المتوكل على الله فاستحضره من(8/357)
مصر، فلما دخل عليه وعظه، فبكى المتوكّل وردّه مكرّما؛ وكان المتوكل إذا ذكر أهل الورع بين يديه يبكي ويقول: إذا ذكر أهل الورع فحي هلا «1» بذي النون.»
وكان رقيقا نحيفا، تعلوه حمرة، ليس بأبيض اللحية.
ومن كلامه:" إياك أن تكون بالمعرفة مدّعيا، أو تكون بالزهد محترفا، أو تكون بالعبادة متعلّقا". «3»
وقال ذو النون:" قال الله تعالى في بعض كتبه: من كان لي مطيعا كنت له وليا، فليثق بي، وليحكم علي، فوعزتي! لو سألني زوال الدنيا لأزلتها له" «4» .
وقال ذو النون:" الصوفي إذا نطق أبان نطقه عن الحقائق، وإن سكت نطقت عنه الجوارح بقطع العلائق." «5»
وقال:" الأنس بالله من صفاء القلب مع الله تعالى، والتفرد بالله، الانقطاع من كل شيء سوى الله." «6»
وقال:" من أراد التواضع فليوجّه نفسه إلى عظمة الله، فإنها تذوب وتصفو، ومن نظر إلى سلطان الله، ذهب سلطان نفسه، لأن النفوس كلها فقيرة عند هيبته «7» وقال سعيد بن عثمان: أنشدني ذو النون:
أموت وما ماتت إليك صبابتي ... ولا قضيت من صدق حبك أوطاري
مناي المنى كل المنى أنت لي مني ... وأنت الغنى، كلّ الغنى، عند إقتاري
وأنت مدى سؤلي وغاية رغبتي ... وموضع آمالي ومكنون إضماري(8/358)
تحمّل قلبي فيك ما لا أبثه ... وإن طال سقمي فيك أو طال إضراري
وبين ضلوعي منك مالك قد بدا ... ولم يبد باديه لأهل ولا جاري
وبي منك في الأحشاء داء مخامر ... فقد هدّ مني الركن وأنبت أسراري
ألست دليل الركب إن هم تحيروا ... ومنقذ من أشفى على جرف هار؟
أنرت الهدى للمهتدين ولم يكن ... من النور في أيديهم عشر معشار
وعلمتهم علما فباتوا بنوره ... وبان لهم منه معالم أسرار
مهامه للغيب حتى كأنها ... لما غاب عنها منه حاضرة الدار
وأبصارهم محجوبة وقلوبهم ... تراك بأوهام حديدات أبصار
فنلني بعفو منك أحيا بقربه ... أغثني بيسر منك يطر إعساري «1»
وقال ذو النون:" [الصدق] «2» سيف الله تعالى في أرضه ما وضع على شيء إلا قطعه." «3»
وقال:" من تزيّن بعمله كانت حسناته سيئات" «4» وقال:" كان لي صديق فقير، فمات، فرأيته في المنام؛ فقلت له: ما فعل الله بك؟. قال: قال لي: قد غفرت لك بترددك إلى هؤلاء السفل أبناء الدنيا في رغيف قبل أن يعطوك." «5»
وقال سالم المغربي: حضرت مجلس ذي النون، فقلت: يا أبا الفيض! ما كان سبب توبتك؟. فقال: عجب لا تطيقه، فقلت: بمعبودك إلا أخبرتني، فقال ذو النون: أردت الخروج من مصر إلى بعض القرى، فنمت في الطريق ببعض الصحارى، ففتحت عيني فإذا أنا بقنبرة «6» عمياء سقطت من وكرها على الأرض، فانشقت الأرض، فخرج منها سكرجتان «7» ؛ إحداهما ذهب، والأخرى فضة، وفي إحداهما سمسم، وفي الأخرى ماء،(8/359)
فجعلت تأكل من هذا، وتشرب من هذا.
فقلت: حسبي، قد تبت، ولزمت الباب إلى أن قبلني الله عز وجل «1» وقال:" توبة العوام تكون من الذنوب «2» ، وتوبة الخواص تكون من الغفلة. «3» "
وقال محمد بن أحمد السميساطي: سمعت ذا النون المصري يقول: بينا أنا أسير في جبال أنطاكية، إذا أنا بجارية كأنها والهة مجنونة، عليها جبة صوف، فسلّمت عليها، فردّت عليّ السلام، ثم قالت: ألست ذا النون المصري؟.
قلت: عافاك الله، كيف عرفتيني؟.
قالت: فتق الحبيب بيني وبين قلبك فعرفتك باتصال حب الحبيب. ثم قال: أسألك مسألة. قلت: سليني. قالت: أي شيء هو السخاء؟. قلت: البذل والطاعة.
قالت: هذا السخاء في الدنيا، فما السخاء في الدين؟.
قلت: المسارعة إلى طاعة المولى. قالت: فإذا سارعت إلى طاعة المولى، يجب به الجزاء؟. قلت: نعم!، للواحد عشرة. فقالت: مر يا بطّال! هذا في الدين قبيح، ولكن المسارعة إلى طاعة المولى أن يطّلع على قلبك، وأنت لا تريد منه شيئا بشيء. ويحك يا ذا النون!، إني أريد أقسم عليه في طلب شهوة منذ عشرين سنة فأستحي منه أن أكون كأجير السوء إذا عمل طلب الأجرة، ولكن اعمل تعظيما لهيبته، وعزّا لجلاله.
ثم ذهبت وتركتني.
وقال: أتتني امرأة فقالت لي: إن ابني أخذه التمساح الساعة!، فرأيت حرقتها، فأتيت(8/360)
النيل، وقلت: اللهم أظهر التمساح، فخرج إليّ، فشققت جوفه، وأخرجت ابنها صحيحا، فقالت: كنت إذا رأيتك سخرت منك، فاجعلني في حل، فأنا تائبة إلى الله تعالى «1» وقال أحمد بن مقاتل البغدادي: لما دخل ذو النون بغداد، دخل عليه صوفية بغداد، ومعهم قوّال، فاستأذنوه أن يقول شيئا بين يديه؛ فابتدأ يقول:
صغير هواك عذّبني ... فكيف به إذا احتنكا
وأنت جمعت من روحي ... هوى قد كان مشتركا
أما ترثي لمكتئب ... إذا ضحك الخليّ بكا؟
قال: فقام ذو النون وتواجد، وطال تواجده، وسقط على وجهه، والدم يقطر من جبينه، ولا يسقط على الأرض.
ثم قام رجل من القوم يتواجد، فقال له ذو النون: الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ
«2» ، فجلس في الحال.
وحكي أن جارا لذي النون قام ليلة؛ فسمع ذا النون يقول- وهو باك-" كم من ليلة بارزتك يا سيدي! بما أستوجب به الحرمان منك؟. وأشرفت بقبيح أفعالي منك على الخذلان، فسترت عيوبي عن الإخوان، وتركتني مستورا بين الجيران، لم تكافئني بجريرتي، ولم تهتكني بسوء سريرتي، فلك الحمد على صيانة جوارحي، وأنا أقول كما قال النبي الصالح: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ
«3» .
إلهي! عرف المطيعون عظمتك فخضعوا، وألف العاصون رحمتك فطمعوا، فمن أيهما كنت، اغفر لي بعظمتك التي تصاغر لديها كل شيء، وبرحمتك التي وسعت كل شيء، اغفر لي وارحمني، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت".
وقال أبو عبد الله بن الجلاء: كنت مجاورا بمكة مع ذي النون؛ فجعنا أياما كثيرة، لم يفتح لنا بشيء، فلما كان ذات يوم، قام ذو النون قبل صلاة الظهر، ليصعد إلى الجبل يتوضأ(8/361)
للصلاة، وأنا خلفه، فرأيت شيئا من قشور الموز مطروحا في الوادي، وهو طري. فقلت في نفسي: آخذ منه كفا أو كفّين، أتركه في كمي لا يراني الشيخ. فلما صرنا في الجبل، وانقطعنا عن الناس، التفت إلي وقال: اطرح ما في كمك يا شره!، فطرحته، وأنا خجل، وتوضّأنا للصلاة، ورجعنا إلى المسجد، وصلينا الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فلما كان بعد ساعة إذا أنا بإنسان قد جاء ومعه طعام عليه مكبّة، فوقف ينظر إلى ذي النون، فقال له:
مرّ. فدعه قدّام ذاك، وأومأ بيده إلي، فتركه الرجل بين يدي، فانتظرت الشيخ ليأكل، فلم يقم من مكانه، ونظر إلي وقال لي: كل، فقلت: وحدي؟. فقال: نعم، أنت طلبت، نحن ما طلبنا، يأكل الطعام من طلبه، وأقبلت آكل وأنا خجل مستح مما جرى مني.
توفي ذو النون المصري سنة خمس وأربعين ومائتين. وقيل: سنة ثمان وأربعين ومائتين.
وقال أبو بكر محمد بن ريان الحضرمي: لما مات ذو النون بالجيزة، حمل في قارب؛ مخافة أن تنقطع الجسور من كثرة الناس مع جنازته، وكنت قائما مع الناس على كوم أنظر، فلما رجع من القارب، ووضع على الجنازة، وحمله الناس، رأيت طيورا خضرا قد اكتنفت الجنازة، ترفرف عليه، حتى عطف به إلى عند حمام الغار، وغاب عني.
حكى في" مناقب الأبرار" عن يوسف بن الحسين «1» قال: بلغني أن ذا النون يعلم اسم الله الأعظم، فخرجت من مكة قاصدا إليه، حتى وافيته في حدة، فأول ما نظرني رآني طويل اللحية، وفي يدي ركوة طويلة، متزرا بمئزر، وعلى كتفي مئزر، وفي رجلي [ ... ] «2» ، فاستبشع منظري، فلما سلمت عليه كأنه ازدراني، وما رأيت منه تلك البشاشة، فقلت في نفسي: ترى مع من وقعت؟ وجلست عنده، فلما كان بعد يومين أو ثلاثة، جاءه رجل من المتكلمين فناظره في شيء من الكلام، واستظهر على ذي النون وغلبه، فاغتممت لذلك، وتقدّمت، وجلست بين أيديهما، واستملت المتكلم إلي وناظرته حتى قطعته، ثم دققت حتى لم يفهم كلامي، قال: فعجب ذو النون من كلامي، وكان(8/362)
شيخا وأنا شاب، فقام من مكانه، وجلس بين يدي، وقال: اعذرني فإني لم أعرف محلك من العلم، وأنت أقرب الناس عندي، وما زال بعد ذلك يجلّني، ويرفعني على جميع أصحابه، وبقيت بعد ذلك سنة كاملة، قلت له بعد السنة: يا أستاذ! أنا رجل غريب، وقد اشتقت إلى أهلي، وقد خدمتك سنة، ووجب حقي عليك، وقيل لي: إنك تعلم اسم الله الأعظم، وقد جرّبتني، وعرفت أني أهل لذلك، فإن كنت تعرفه فعلّمني إياه.
قال: فسكت عني، ولم يجبني بشيء، وأوهمني أنه ربّما علّمني، ثم سكت عني ستة أشهر، فلما كان بعد ذلك، قال لي: يا أبا يعقوب! أليس تعرف فلانا صديقنا بالفسطاط؟.
وسمى رجلا، فقلت: بلى. قال: فأخرج لي من بيته طبقا فوقه مكبّة مسدودة بمنديل، وقال: أوصل هذا إلى من سميت لك بالفسطاط.
قال: فأخذت الطبق لأودّيه، فإذا هو خفيف، كأنه ليس فيه شيء، قال: فلما بلغت الجسر الذي بين الفسطاط والجيزة، قلت في نفسي: يوجّه ذو النون بهدية إلى رجل في طبق ليس فيه شيء؟ لأبصرنّ ما فيه؟. قال: فحللت المنديل، ورفعت المكبّة، فإذا فأرة قد طفرت من الطبق فذهبت. قال: فاغتظت، وقلت: يسخر بي ذو النون؟ ولم يذهب وهمي إلى ما أراد فيّ للوقت. وعرف القصة، وقال: يا مجنون! ائتمنتك على فأرة فخيبتني، فكيف أئتمنك على اسم الله الأعظم؟ قم عني فارتحل، ولا أراك بعدها، فانصرفت عنه «1» .
ومنهم:
103- أبو بكر أحمد بن نصر الزّقّاق الكبير «13»(8/363)
أخذ من الدنيا بقصاصها، وسهر الليالي والكواكب تنظر الأيام من أخصاصها. وقام على قدم العبادة ثم ما زال، ولا زال وللشمس كل يوم زوال، فصار ذلك دأبا له لا يتكلّفه، وديدنا ضرب له موعد لا يخلفه، هذا إلى استجلاب خواطر، واستنزال مواطر، وفتح قلوب مقفلة ضاعت مفاتيحها، وتنوير بصائر ما أضاءت مصابيحها، وإرشاد طائر، وقول حق في دهر هو السلطان الجائر، فاتسع تصريفه، وسمع منه ما يجري به القلم وصريفه. وكان من أقران الجنيد، وأكابر مشايخ مصر.
قال الكتاني: لما مات الزقاق انقطعت حجّة الفقراء في دخولهم مصر. «1»
ومن كلامه:" من لم يصحبه التقى في فقره أكل الحرام المحض" «2» وقال:" جاورت بمكة عشرين سنة، فكنت أشتهي اللبن فغلبتني نفسي، فخرجت إلى عسفان، واستضفت حيا من أحياء العرب، فنظرت إلى جارية حسناء، بعيني اليمنى، فأخذت بقلبي!، فقلت لها:
قد أخذ كلّك كلّي، فما فيّ لغيرك مطمع. فقالت لي: تقبح بك الدعوى العالية، لو كنت صادقا لذهبت عنك شهوة اللبن!.
قال: فقلعت عيني اليمنى التي نظرت بها إليها. فقالت لي: مثلك من نظر لله عز وجل، فرجعت إلى مكة، وطفت أسبوعا «3» ، ثم نمت، فرأيت في منامي يوسف الصّدّيق- على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام-.
فقلت: يا نبي الله! أقرّ الله عينيك بسلامتك من زليخا.
فقال لي: يا- مبارك! أقرّ الله عينك بسلامتك من العسفانية!. ثم تلا عليه(8/364)
السلام: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ
«1» ، فصحت من طيب تلاوته، ورخامة صوته، وانتبهت، وإذا عيني المقلوعة صحيحة!.
وقال الزقّاق:" كنت مارّا في تيه بني إسرائيل، فخطر ببالي أن علم الحقيقة مباين «2» لعلم الشريعة، فهتف بي هاتف من تحت الشجرة: كل حقيقة لا تتبع الشريعة فهي كفر.
وقال أبو علي الروذباري: دخلت يوما على أبي بكر الزقاق، فرأيته بحالة عجيبة «3» ، فسكتّ ساعة حتى رجع إلي، فقلت له: ما لك أيها الشيخ!؟. فقال: ألم تعلم أني اجتزت بالجيزة ببعض تلك الخوخات، وإذا شخص يغني، يقول:
أبت غلبات الشوق إلا تطربا ... إليك ويأتي العذل إلا تحببا
وما كان صدى عنك صدّ ملامة ... ولا ذلك الإقبال إلا تقربا
ولا كان ذاك العدل إلا نصيحة ... ولا ذلك الإغضاء إلا تهيّبا
عليّ رقيب منك حلّ بمهجتي ... إذا رمت تسهيلا عليّ تصعّبا
فما هو إلا أن أنشدني الشيخ حتى صرت فيها مغلوبا لا أدري ما لحقني إلى الساعة، فلما أفقت، قال لي: لا عليك، هكذا من تحقق في بلية لم يخل من البلاء حاضروه، وإنما هو زيادة بلاء صبّ مني عليك، فقمت وتركته.
وقال الزقاق: كنت أبكر يوم الجمعة إلى المسجد الجامع، وأجلس عند الجنيد، فبينا أنا ذات يوم جمعة أمشي إلى المسجد إذا أنا باثنين يقولان: اذهب بنا إلى الجنيد نسأله؟. قال الزقاق: فتبعتهما، حتى دخلا سقاية يتطهران، فرأيت منهما شيئا كرهته لهما، فقلت:" إنا لله وإنا إليه راجعون"، أخطأت فراستي فيهما، فخرجا، وأنا أتبعهما حتى وقفا على الجنيد، فقال أحدهما: بماذا يرد خاطر الانزعاج؟. وقال الآخر: كلّ باد يعود إلى باديه. فقلت في نفسي: يا ترى ما يفعل هؤلاء؟. فأقبل عليّ الجنيد، وقال: أين المغتاب لنا؟. فقلت في نفسي: علم بي، وتكلّم على خاطري. ثم قال الثانية: أين المغتاب لنا؟. سلنا نجعلك في(8/365)
حل. فقلت: يا سيدي! ما قلته إلا غيرة. فقال: يا أبا بكر! لا تتهم أقواما انتخبهم الحق في سابق علمه، وأظهرهم بكرامة وحدانيته، حتى إذا كان في وقت بدوّهم، استخرجهم من الذرّ لخاصّته، وعجن أرواحهم بأنوار قدسه، وأقامهم بين يديه، ونظر إليهم بعين رحمته، وألبسهم تيجان ولايته، فإن دعوه أجابهم، وإن سألوه أعطاهم، وإن استحجبوه غطّاهم، لا تدركهم خفيات الألحاظ، ولا يغيرهم ترجمان الأسرار، فهم به ينظرون، وإليه في جميع الأشياء عن الأشياء مستغنون. فنظرت، فلم أرهم!.
ومنهم:
104- أبو الحسين بن بنان «13»
من كبار مشايخ مصر ومقدّميهم.
أدّى للآخرة فرضها، ووفى من الدنيا قرضها، ولم يرض بعاجل أجله بوس، وأجن صفوه ذهاب نفوس، وحبال البلايا آسره، وعقاب المنايا كاسره، ومناسر الأهلّة خواطف، ونواشر الأيام المملة غير عواطف، ونوب الليالي سجال، وريب الحدثان المتوالي عجال، فلم ير زخارف الغرور من حظه، ولا رمق رونقها الزور إلا بمؤخّر لحظه، حتى طفئت الشرارة، وحل القرارة، وودّع متبوعا بالبكاء، ممنوعا من البلاء.
صحب الخرّاز، وإليه ينتمي «1» .
مات في التيه «2» ، وسببظ ذلك: أنه ورد على قلبه وارد، فهام على وجهه، فلحقوه في وسط(8/366)
متاهة بني إسرائيل في الرمل، ففتح عينيه، وقال: اربع، فهذا مربع الأحباب، وخرجت روحه.
ومن كلامه:" كل صوفي يكون هم الرزق قائما في قلبه، فلزوم العمل أقرب له إلى الله".
و" علامة ركون القلب، والسكون إلى الله، أن يكون قويا عند زوال الدنيا وإدبارها عنه، وفقده إياها؛ ويكون بما في يد الله تعالى أقوى وأوثق منه بما في يده." «1»
وقال:" اجتنبوا دناءة الأخلاق كما تجتنبوا الحرام" «2» .
وقال:" ذكر الله تعالى باللسان يورث الدرجات، وذكره بالقلب يورث القربات" «3» .
وقال:" الوحدة جلسة الصّدّيقين" «4» .
وقال:" لا يعظّم أقدار الأولياء إلا من كان عظيم القدر عند الله" «5» .
وقال:" الناس يعطشون في البراري، وأنا عطشان وأنا على شطّ النيل!." «6»
ومنهم:
105- أبو عليّ الحسن بن أحمد الكاتب «13»
من كبار مشايخ المصريين، رجل كان للمعابد مصباحا، وللعابد في ظلم الليل صباحا، ولم يسود حتى بيض الصحائف، وأمن به الخائف، وكان إذا حندس «7» الظلام، وهمس الكلام، يقف ليله كله على قدمه، ويخدد خده بدمه، ودام على هذا الحال، حتى آن له الارتحال.(8/367)
صحب أبا بكر المصري «1» ، وأبا علي الروذباري، وغيرهما من المشايخ، وكان أوحد مشايخ وقته، حتى قال فيه أبو عثمان المغربي:" كان أبو علي ابن الكاتب من السالكين".
وكان يعظّمه، ويعظّم شأنه، مات سنة نيف وأربعين وثلاثمائة.
وقال:" إذا انقطع العبد إلى الله بكلّيته، فأول ما يفيده الله الاستغناء به عن الناس." «2»
وقال:" يقول الله تعالى: وصل إلينا من صبر علينا." «3»
وقال:" إذا سمع الرجل الحكمة فلم يقبلها، فهو مذنب، وإذا سمعها ولم يعمل بها فهو منافق" «4» .
وقال:" إذا سكن الخوف في القلب لم ينطق اللسان إلا بما يعنيه" «5» .
وقال:" روائح نسيم المحبة تفوح من المحبين، وإن كتموها؛ وتظهر عليهم دلائلها، وإن أخفوها، وتدل عليهم وإن ستروها" «6» .
وقال:" إن الله تعالى يرزق العبد حلاوة ذكره؛ فإن فرح به وشكره، آنسه بقربه، وإن قصّر في الشكر، أجرى الذكر على لسانه، وسلبه حلاوته." «7»(8/368)
ومنهم:
106- ابن الفارض: أبو القاسم عمر بن أبي الحسن علي بن المرشد بن عليّ «13»
الحموي المولد والدار والوفاة، المعروف بابن الفارض، شرف الدين.
مظهر جمال، ومظهر تمام وكمال، إلى علو مقام، وعلو شريعة تقام، وكلام في حقيقة، وكمام «1» في حديقة، من بدائع تغازل بألحاظ المها، وتسمع من ألفاظ الغيد ألذ ما يشتهى. إلى قوة تركيب، ومناسبة ترتيب، ودقة معاني، وتوثقة مباني، وتوشيع «2» أردية، وتوسيع أفنية، يجبر بيوت وأندية إلى دقائق عرفان، وحقائق لا يشتمل عليها من السحر أجفان، ومحاسن الخلائق فيه صفان، والناس فيها صنفان، هذا إلى زهد وقناعة، وجهد أسبل عليه لباسه وقناعه، وفرط إيثار وبرّ من إقلال، لا من إكثار، وشرف نفس أغناه عن تحمّل منّه، وتحمل ذي ضعف ومنه، يتزيا من غرور يزدهي، بثيابه المعاره ويلتهي، بباطله ويحمل عاره، فمات ولو زخر لديه البحر لما شرب منه خوفا من وباله، أو زخ عليه القطر لما علق بحباله.
وكان رجلا صالحا، كثير الخير، على قدم التجريد، جاور بمكة- شرّفها الله تعالى- زمانا، وكان حسن الصحبة، محمود العشرة.(8/369)
قال ابن خلّكان: أخبرني بعض أصحابه: أنه ترنم يوما وهو في خلوة ببيت الحريري- صاحب" المقامات"- وهو:
من ذا الذي ما ساء قط ... ومن له الحسنى فقط
قال: فسمع قائلا، ولم ير شخصه، وقد أنشد:
محمد الهادي الذي ... عليه جبريل هبط «1»
وله ديوان شعر لطيف، وأسلوبه فيه رائق، ينحو منحا طريقة الفقراء، وله قصيدة مقدار ستمائة بيت على اصطلاحهم، وكان يقول: عملت في النوم بيتين، وهما:
وحياة أشواقي إلي ... ك وحرمة الصبر الجميل
لا أبصرت عيني سوا ... ك ولا صبوت إلى خليل
وحكي أنه لما رأى السهروردي بمكة أنشده بديها:
في حالة البعد روحي كنت أرسلها ... تقبّل الأرض عني فهي نائبتي
وهذه نوبة الأشباح قد حضرت ... فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي
ويحكى أنه رأى جملا هام به وكلف، وكان الجمل لرجل سقّاء يسقي عليه، وكان الشيخ يأتي لمورده كل يوم ليراه.
قلت: وحكى لي شيخنا شهاب الدين أبو الثناء محمود، قال: قدم ابن الفارض فنزل بمسجد مهجور في آخر باب القرافة، ومعه خادم له، فبقيا ثلاثة أيام لم يطعما طعاما، فعظم بالخادم الجهد، والسغب، فأتى رجل من الأمراء المسجد، فصلى فيه، ثم رمى إلى الشيخ بخرقة فيها عشرة دنانير، ففرح الخادم وهمّ بأخذها، فمرّ سائل، فقال له الشيخ: أعطه الذهب، فقال: لو خلّينا منه ما نأكل به؟!. فقال: أعطه الذهب، فأعطاه. فلم يمض السائل حتى أتى آخر يسأل عن الشيخ، فلمّا رآه سلّم وقال: أريت البارحة في النوم من دلني على(8/370)
مكانك، وأمرني بالمسير إليك، ودفع إليه خرقة مثل تلك الخرقة فيها مائة دينار، فقال الشيخ لخادمه: إن شئت فخذ هذا الذهب وانصرف عني، فقال: لا والله لأتبعك بهذا، فقال:
بارك الله فيك، قم فاشتر بدينار حصرا لهذا المسجد، وبدينار ما أحببت من الأكل، وتصدّق بالبقية، ففعل، وأتى بأنواع من الشواء والحلواء، وغير ذلك، فأكل، واقتصر الشيخ على أكل كسرة، وبقل، وقال: لو لم تحل لي الميتة لم آكل!. ثم أقام ثلاث سنين لا يأكل إلا بعد كل ثلاثة أيام أكلة واحدة، غير باغ ولا عاد.
وحكي أن ابن الفارض كان قاضيا؛ فأتى يوما المسجد الجامع، والخطيب يخطب يوم الجمعة، وشخص يغني، فنوى إقامته وتأديبه، فلما انقضت الصلاة، وانتشر الناس وأراد ابن الفارض الخروج، ناداه ذلك الرجل: أن أقبل!، فلما وقف عليه أنشده:
قسم الإله الأمر بين عباده ... فالصّبّ ينشد والخلي يسبّح
ولعمري التسبيح خير عبادة ... للناسكين وذا لقوم يصلح
وكان هذا سبب زهده.
مولده: في الرابع من ذي القعدة، سنة ست وسبعين وخمسمائة، بالقاهرة، وتوفي بها يوم الثلاثاء ثاني جمادى الأولى سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، ودفن من الغد بسفح المقطم.
وأبوه يعرف بالفارض أنه كان يكتب الفروض للنساء على الرجال. ومن مختار شعره [من البحر الكامل] :-
أرج النسيم سرى من الزوراء ... سحرا فأحيا ميت الأحياء
أهدى لنا أرواح نجد عرفه ... فالجو منه معنبر الأرجاء
وروى أحاديث الأحبة، مسندا ... عن إذخر بأذاخر وسحاء «1»
فسكرت من ريا حواشي برده ... وسرت حميّا البرء في أدوائي(8/371)
يا ساكني البطحاء هل من عودة ... أحيا بها، يا ساكني البطحاء؟
إن ينقضي صبري فليس بمنقض ... وجدي القديم بكم ولا برحائي
ولئن جفا الوسمي ما حل تربكم ... فمدامعي تربي على الأنواء «1»
يا لائمي في حب من من أجله ... قد جدّ بي وجدي وعزّ عزائي
هلّا نهاك نهاك عن لوم امرئ ... لم يلف غير منعّم بشقاء
لو تدر فيم عذلتني لعذرتني ... خفّض عليك وخلّني وبلائي
أسعد أخيّ وغنّ لي بحديث من ... حلّ الأباطح إن رعيت إخائي
وكفى غراما أن أبيت متيّما ... شوقي أمامي والقضاء ورائي
وقوله [من البحر الكامل] «2»
أو ميض برق بالأبيرق لاحا ... أم في ربى نجد أرى مصباحا «3»
أم تلك ليلى العامرية أسفرت ... ليلا فصيّرت المساء صباحا
يا ساكني نجد أما من رحمة ... لأسير إلف، لا يريد سراحا
هلّا بعثتم للمشوق تحية ... في طيّ صافية الرياح رواحا
يحيا بها من كان يحسب هجركم ... مزحا ويعتقد المزاح مزاحا «4»
يا عاذل المشتاق جهلا بالذي ... يلقى مليا لا بلغت نجاحا
أقصر عدمتك واطرح من أثخنت ... أحشاءه النجل العيون جراحا
ماذا يريد العاذلون بعذل من ... لبس الخلاعة واستراح وراحا «5»
سقيا لأيام مضت مع جيرة ... كانت ليالينا بهم أفراحا
واها على ذاك الزمان وطيبه ... أيام كنت من اللغوب مراحا(8/372)
وقوله [من البسيط] «1»
هل نار ليلى بدت ليلا بذي سلم «2» ... أم بارق لاح بالزوراء فالعلم
أرواح نعمان هلّا نسمة سحرا ... وماء وجرة هلّا نهلة بفمي «3»
يا سائق الظعن يطوي البيد معتسفا «4» ... طيّ السجلّ بذات الشيخ من إضم
عج بالحمى يا رعاك الله معتمدا ... خميلة الضال ذات الرند والخزم «5»
وقف بسلع وسل بالجزع هل مط ... رت بالرّقمتين أثيلات بمنسجم «6»
نشدتك الله إن جزت العقيق «7» ضحى ... فاقر السلام عليهم غير محتشم
وقل تركت صريعا في دياركم ... حيّا كميت يعير السقم للسقم
فمن فؤادي لهيب ناب عن قبس ... ومن جفوني دمع فاض كالديم
وهذه سنّة العشّاق ما علقوا ... بشادن «8» فخلا عضو من الألم
يا لائما لا مني في حبهم سفها ... كفّ الملام فلو أحببت لم تلم
وحرمة الوصل والود العتيق وبال ... عهد الوثيق وما قد كان في القدم
ما حلت عنهم بسلوان ولا بدل ... ليس التبدّل والسلوان من شيمي
ردّوا الرّقاد لجفني علّ طيفكم ... بمضجعي زائر في غفلة الحلم
آها لأيامنا بالخيف لو بقيت ... عشرا وواها عليها كيف لم تدم(8/373)
هيهات وا أسفي لو كان ينفعني ... أو كان يجدي على ما فات وا ندمي
عني إليكم ظباء المنحنى كرما ... عهدت طرفي لم ينظر لغيرهم
طوعا لقاض أتى في حكمه عجبا ... أفتى بسفك دمي في الحل والحرم
أصمّ لم يسمع الشكوى وأبكم لم ... يحر جوابا وعن المشوق عمي
وقوله [من البحر الطويل] «1»
شربنا على ذكر الحبيب مدامة ... سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم «2»
لها البدر كأس وهي شمس يديرها ... هلال وكم يبدو إذا مزجت نجم «3»
ولم يبق منها الدهر غير حشاشة «4» ... كأن خفاها في صدور النهى كتم
فإن ذكرت في الحي أصبح أهله ... نشاوى ولا عار عليهم ولا إثم «5»
ومن بين أحشاء الدنان تصاعدت ... ولم يبق منها في الحقيقة إلا اسم «6»(8/374)
وإن خطرت يوما على خاطر امرئ ... أقامت به الأفراح وارتحل الهمّ «1»
ولو نظر الندمان ختم إنائها ... لأسكرهم من دونها ذلك الختم «2»
ولو طرحوا في فيء حائط كرمها ... عليلا وقد أشفى، لفارقه السقم
ولو قرّبوا من حانها مقعدا مشى ... وينطق من ذكرى مذاقتها البكم
ولو عبقت في الشرق أنفاس طيبها ... وفي الغرب مزكوم لعاد له الشمّ
ولو خضبت من كأسها كف لامس ... لما ضلّ في ليل وفي يده النجم
ولو جليت سرا على أكمه غدا ... بصيرا ومن راووقها تسمع الصّمّ «3»
ولو أن ركبا يمموا ترب أرضها ... وفي الركب ملسوع لما ضرّه السمّ «4»
ولو رسم الراقي حروف اسمها على ... جبين مصاب جنّ، أبرأه الرسم
تهذب أخلاق الندامى فيهتدي ... بها لطريق العزم من لا له عزم
ويكرم من لم يعرف الجود كفه ... ويحلم عند الغيظ من لا له حلم
ولو نال فدم القوم لثم مدامها ... لأكسبه معنى شمائلها اللثم
يقولون لي صفها فأنت بوصفها ... خبير، أجل، عندي بأوصافها علم
صفاء ولا ماء، ولطف ولا هوا ... ونور ولا نار، وروح ولا جسم «5»(8/375)
تقدّم كل الكائنات وجودها ... قديما ولا شكل هناك ولا رسم
وقامت بها الأشياء ثمّ لحكمة ... بها احتجبت عن كل من لا له فهم «1»
وهامت بها روحي بحيث تمازجا اتّ ... حادا ولا جرم تخلله جرم «2»
فخمر ولا كرم وآدم لي أب ... وكرم ولا خمر ولي أمها أمّ «3»
وقد وقع التفريق والكلّ واحد ... فأرواحنا خمر وأشباحنا كرم «4»
محاسن تهدي الواصفين لوصفها ... فيحسن فيها منهم النثر والنظم
ويطرب من لم يدرها عند ذكرها ... كمشتاق نعم كلما ذكرت نعم «5»
وقالوا: شربت الإثم! كلّا وإنما ... شربت التي في تركها عندي الإثم
هنيئا لأهل الدير كم سكنوا بها ... وما شربوا منها ولكنهم همّوا «6»
فعندي منها نشوة قبل نشأتي ... معي أبدا تبقى وإن بلي العظم «7»(8/376)
عليك بها صرفا وإن شئت مزجها ... فعدلك عن ظلم الحبيب هو الظلم «1»
ودونكها في الحان واستجلها به ... على نغم الألحان فهي بها غنم «2»
فما سكنت والهمّ يوما بموضع ... كذلك لم يسكن مع النغم الغمّ
وفي سكرة منها ولو عمر ساعة ... ترى الدهر عبدا طائعا ولك الحكم
فلا عيش في الدنيا لمن عاش صاحيا ... ومن لم يمت سكرا فاته الحزم
على نفسه فليبك من ضاع عمره ... وليس له منها نصيب ولا سهم
وقوله [رضي الله عنه- من البحر البسيط] «3»
ما بين معترك «4» الأحداق والمهج ... أنا القتيل بلا إثم ولا حرج
ودّعت قبل الهوى روحي لما نظرت ... عيناي من حسن ذاك المنظر البهج «5»
لله أجفان عين فيك ساهرة ... شوقا إليك وقلب بالغرام شج «6»
وأدمع هملت لولا التنفس من ... نار الهوى لم أكد أنجو من اللجج
وحبذا فيك أسقام خفيت بها ... عني تقوم به عند الهوى حججي(8/377)
أصبحت فيك كما أمسيت مكتئبا ... ولم أقل جزعا: يا أزمة انفرجي
أهفو إلى كل قلب بالغرام له ... شغل وكل لسان بالهوى لهج
وكل سمع عن اللاحى به صمم ... وكل جفن إلى الإغفاء لم يعج «1»
لا كان وجد به الآماق «2» جامدة ... ولا غرام به الأشواق لم تهج
عذّب بما شئت غير البعد عنك تجد ... أوفى محبّ بما يرضيك مبتهج
وخذ بقية ما أبقيت من رمق ... لا خير في الحب إن أبقى على المهج
من لي بإتلاف روحي في هوى رشا ... حلو الشمائل بالأرواح ممتزج
من مات فيه غراما عاش مرتقيا ... ما بين أهل الهوى في أرفع الدرج «3»
محجّب لو سرى في مثل طرته ... أغنته غرته الغرّا عن السرج»
وإن ظللت بليل من ذوائبه ... أهدى لعيني الهدى صبح من البلج «5»
وإن تنفس قال المسك معترفا ... لعارفي طيبه: من نشره أرجي
أعوام إقباله كاليوم في قصر ... ويوم إعراضه في الطول كالحجج
فإن نأى سائرا يا مهجتي ارتحلي ... وإن دنا زائرا يا مقلتي ابتهجي «6»
قل للذي لا مني فيه وعنّفني ... دعني وشأني عن نصحك السمج
فاللوم لؤم ولم يمدح به أحد ... وهل رأيت محبا بالغرام هجي؟(8/378)
يا ساكن القلب لا تنظر إلى سكني ... واربح فؤادك واحذر فتنة الدعج «1»
يا صاحبي وأنا البر الرؤوف وقد ... بذلت نصحي بذاك الحي لا تعجي «2»
فيه خلعت عذاري واطّرحت به ... قبول نسكي والمقبول من حججي
فابيضّ وجه غرامي في محبّته ... واسودّ وجه ملامي فيه بالحجج «3»
تبارك الله ما أحلى شمائله ... فكم أماتت وأحيت فيه من مهج
يهوى لذكر اسمه من لجّ في عذلي ... سمعي وإن كان عذلي فيه لم يلج «4»
وأرحم البرق في مسراه منتسبا ... لثغره وهو مستحي من الفلج «5»
تراه إن غاب عني كل جارحة ... في كل معنى لطيف رائق بهج
في نغمة العود والناي الرخيم إذا ... تألفا بين ألحان من الهزج(8/379)
وفي مسارح غزلان الخمائل في ... برد الأصائل والإصباح في البلج «1»
وفي مساقط أنداء الغمام على ... بساط نور من الأزهار منتسج
وفي مساحب أذيال النسيم إذا ... أهدى إليّ سحيرا أطيب الأرج «2»
وفي التثامي ثغر الكأس مرتشفا ... ريق المدامة في مستنزه فرج
لم أدر ما غربة الأوطان وهو معي ... وخاطري أين كنا غير منزعج
فالدار داري، وحبّي حاضر ومتى ... بدا فمنعرج الجرعاء منعرجي «3»
ليهن ركب سروا ليلا وأنت بهم ... بسيرهم في صباح منك منبلج
فليصنع الركب ما شاؤوا بأنفسهم ... هم أهل بدر فلا يخشون من حرج «4»
بحق عصياني اللّاحي عليك وما ... بأضلعي طاعة للوجد من وهج
انظر إلى كبد ذابت عليك جوى ... ومقلة من نجيع الدمع في لجج «5»
وارحم تعثّر آمالي ومرتجعي ... إلى خداع تمني القلب بالفرج
واعطف على ذلّ أطماعي بهل وعسى ... وامنن عليّ بشرح الصدر من حرج
أهلا بما لم أكن أهلا لموقعه ... قول المبشر بعد اليأس بالفرج
لك البشارة «6» فاخلع ما عليك فقد ... ذكرت ثمّ على ما فيك من عوج(8/380)
وقوله [رضي الله عنه- من البحر الكامل] «1»
قلبي يحدّثني بأنك متلفي ... روحي فداك عرفت أم لم تعرف
لم أقض حق هواك إن كنت الذي ... لم أقض فيه أسى ومثلي من يفي «2»
مالي سوى روحي وباذل نفسه ... في حب من يهواه ليس بمسرف
فلئن رضيت بها فقد أسعفتني ... يا خيبة المسعى إذا لم تسعف
يا مانعي طيب المنام ومانحي ... ثوب السقام به ووجدي المتلف
عطفا على رمقي وما أبقيت لي ... من جسمي المضنى وقلبي المدنف
فالوجد باق والوصال مماطلي ... والصبر فان واللقاء مسوّفي
لم أخل من حسد عليك فلا تضع ... سهري بتشنيع الخيال المرجف
واسأل نجوم الليل هل زار الكرى ... جفني وكيف يزور من لم يعرف
لا غرو إن شحّت بغمض جفونها ... عيني وسحّت بالدموع الذّرف
وبما جرى في موقف التوديع من ... ألم النوى شاهدت هول الموقف
إن لم يكن وصل لديك فعد به ... أملي وماطل إن وعدت ولا تف
فالمطل منك لديّ إن عزّ الوفا ... يحلو كوصل من حبيب مسعف
أهفو لأنفاس النسيم تعلة ... ولوجه من نقلت شذاه تشوفي «3»
فلعلّ نار جوانحي بهبوبها ... أن تنطفي وأود أن لا تنطفي
يا أهل ودي أنتم أملي ومن ... ناداكم يا أهل ودي قد كفي
عودوا لما كنتم عليه من الوفا ... كرما فإني ذلك الخل الوفي(8/381)
وحياتكم، وحياتكم قسما وفي ... عمري بغير حياتكم لم أحلف
لو أن روحي في يدي ووهبتها ... لمبشري بوصالكم لم أنصف
لا تحسبوني في الهوى متصنّعا ... كلفي بكم خلق بغير تكلف
أخفيت حبكم فأخفاني أسى ... حتى لعمري كدت عني أختفي
وكتمته عني فلو أبديته ... لوجدته أخفى من اللطف الخفي
ولقد أقول لمن تحرّش بالهوى ... عرّضت نفسك للبلا فاستهدف
أنت القتيل بأي من أحببته ... فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي
قل للعذول أطلت لومي طامعا ... أن الملام عن الهوى مستوقفي
دع عنك تعنيفي وذق طعم الهوى ... فإذا عشقت فبعد ذلك عنّف
برح الخفاء بحب من لو في الدجى ... سفر اللثام لقلت يا بدر اختف «1»
وإن اكتفى غيري بطيف خياله ... فأنا الذي بوصاله لا أكتفي
وقفا عليه محبتي ولمحنتي ... بأقل من تلفى به لا أشتفي
وهواه وهو اليتي «2» وكفى به ... قسما أكاد أجله كالمصحف
لو قال تيها قف على جمر الغضا «3» ... لوقفت ممتثلا ولم أتوقّف
أو كان من يرضى بخدي موطئا ... لوضعته أرضا ولم أستنكف
لا تنكروا شغفي بما يرضى وإن ... هو بالوصال عليّ لم يتعطّف
غلب الهوى فأطعت أمر صبابتي ... من حيث فيه عصيت نهي معنفي
مني له ذل الخضوع ومنه لي ... عز المنوع وقوة المستضعف
ألف الصدود ولي فؤاد لم يزل ... مذ كنت غير وداده لم يألف
يا ما أميلح كل ما يرضى به ... ورضا به يا ما أحيلاه بفي «4»(8/382)
لو أسمعوا يعقوب ذكر ملاحة ... في وجهه نسي الجمال اليوسفي
أو لو رآه عائدا أيوب في ... سنة الكرى قدما من البلوى شفي
كل البدور إذا تجلّى مقبلا ... تصبو إليه وكلّ قدّ أهيف
إن قلت عندي فيك كل صبابة ... قال: الملاحة لي، وكل الحسن في
كملت محاسنه فلو أهدى السنا ... للبدر عند تمامه لم يخسف
وعلى تفنن واصفيه بحسنه ... يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف
ولقد صرفت لحبه كلي على ... يد حسنه فحمدت حسن تصرفي
فالعين تهوى صورة الحسن التي ... روحي بها تصبو إلى معنى خفي
أسعد أخيّ وغنني بحديثه ... وانثر على سمعي حلاه وشنّف
لأرى بعين السمع شاهد حسنه ... معنى فأتحفني بذاك وشرّف
يا أخت سعد «1» من حبيبي جئتني ... برسالة أديتها بتلطّف
فسمعت ما تسمعي ونظرت ما ... لم تنظري وعرفت ما لم تعرفي
إن زار يوما يا حشاي تقطّعي ... كلفا به أو سار يا عين اذرفي
ما للنوى ذنب ومن أهوى معي ... إن غاب عن إنسان عيني فهو في
وقوله رضي الله عنه [من البحر الطويل] «2»
هو الحب فاسلم بالحشا ما الهوى سهل ... فما اختاره مضنى به، وله عقل
وعش خاليا فالحب راحته عنى ... وأوله سقم وآخره قتل
ولكن لدي الموت فيه صبابة ... حياة لمن أهوى عليّ بها الفضل
نصحتك علما بالهوى والذي أرى ... مخالفتي فاختر لنفسك ما يحلو
فإن شئت أن تحيا سعيدا فمت به ... شهيدا وإلا فالغرام له أهل(8/383)
فمن لم يمت في حبه لم يعش به ... ودون اجتناء النحل ما جنت النحل «1»
تمسّك بأذيال الهوى واخلع الحيا ... وخلّ سبيل الناسكين وإن جلّوا «2»
وقل لقتيل الحب وفيت حقه ... وللمدعي هيهات ما لكحل الكحل «3»
تعرّض قوم للغرام وأعرضوا ... بجانبهم عن صحتي فيه واعتلوا «4»
رضوا بالأماني وابتلوا بحظوظهم ... وخاضوا بحار الحب دعوى فما ابتلوا «5»
فهم في السرى لم يبرحوا من مكانهم ... وما ظعنوا في السير عنه وقد كلوا
وعن مذهبي لما استحبوا العمى على ال ... هدى حسدا من عند أنفسهم ضلّوا
أحبّة قلبي والمحبّة شافع ... لديكم إذا شئتم بها اتصل الحبل
عسى عطفة منكم عليّ بنظرة ... فقد تعبت بيني وبينكم الرسل
أحبّائي أنتم أحسن الدهر أم أسا ... فكونوا كما شئتم، أنا ذلك الخلّ
إذا كان حظي الهجر منكم ولم يكن ... بعاد فذاك الهجر عندي هو الوصل
وما الصدّ إلا الود ما لم يكن قلي ... وأصعب شيء غير إعراضكم سهل
وتعذيبكم عذب لديّ وجوركم ... عليّ بما يقضي الهوى لكم عدل
وصبري صبر عنكم وعليكم ... أرى أبدا عندي مرارته تحلو
أخذتم فؤادي وهو بعضي فما الذي ... يضرّكم لو كان عندكم الكلّ(8/384)
نأيتم فغير الدمع لم أر وافيا ... سوى زفرة من حر نار الجوى تغلو «1»
فسهدي حيّ في جفوني مخلّد ... ونومي بها ميت ودمعي له غسل
هوى طلّ ما بين الطلول دمي، فمن ... جفوني جرى بالسفح من سفحه، وبل «2»
تباله «3» قومي إذ رأوني متيما ... وقالوا: بمن هذا الفتى مسّه الخبل
وماذا عسى عني يقال سوى غدا ... بنعم، له شغل، نعم لي بها شغل
وقال نساء الحي: عنا بذكر من ... جفانا وبعد العز لذله الذلّ
إذا أنعمت نعم عليّ بنظرة ... فلا أسعدت سعدى ولا أجملت جمل «4»
وقد صدئت عيني برؤية غيرها ... ولثم جفوني تربها للصدا يجلو
حديثي قديم في هواها وماله ... كما علمت بعد وليس له قبل
وما لي مثل في غرامي بها كما ... غدت فتنة في حسنها ما لها مثل
حرام شفا سقمي لديها رضيت ما ... به قسمت لي في الهوى ودمي حلّ
فحالي وإن ساءت فقد حسنت بها ... وما حطّ قدري في هواها به أعلو
وعنوان ما فيها لقيت وما به ... شقيت وفي قولي اختصرت ولم أغل
خفيت ضنى، حتى لقد ضلّ عائدي ... وكيف ترى العوّاد من لا له ظلّ
وما عثرت عين على أثري ولم ... تدع لي رسما في الهوى الأعين النجل
ولي همة تعلو إذا ما ذكرتها ... وروح بذكراها إذا رخصت تغلو
فنافس ببذل النفس فيها أخا الهوى ... فإن قبلتها منك، يا حبّذا البذل
فمن لم يجد في حبّ نعم بنفسه ... ولو جاد بالدنيا إليه انتهى البخل(8/385)
ولولا مراعاة الصيانة غيرة ... وإن كثروا أهل الصبابة أو قلّوا «1»
لقلت لعشّاق الملاحة أقبلوا ... إليها، على رأبي، وعن غيها ولّوا
وإن ذكرت يوما، فخرّوا لذكرها ... سجودا وإن لاحت إلى وجهها، صلّوا
وفي حبها بعت السعادة بالشقا ... ضلالا وعقلي عن هداي به عقل «2»
وقلت لرشدي والتنسك والتقى ... تخلوا وما بيني وبين الهوى خلّوا
وفرّغت قلبي من وجودي مخلصا ... لعلّي في شغلي بها معها أخلو
ومن أجلها أسعى لمن بيننا سعى ... وأعدو ولا أغدو لمن دأبه العذل
فأرتاح للواشين بيني وبينها ... لتعلم ما ألقى وما عندها جهل
وأصبو إلى العذّال حبا لذكرها ... كأنهم ما بيننا في الهوى رسل
فإن حدّثوا عنها فكلي مسامع ... وكلّي إن حدّثتهم ألسن تتلو
تخالفت الأقوال فينا تباينا ... برجم ظنون بيننا ما لها أصل «3»
فشنّع قوم بالوصال ولم تصل ... وأرجف بالسلوان قوم ولم أسل
وما صدق التشنيع عنها لشقوتي ... وقد كذبت عني الأراجيف والنقل
وكيف أرجّي وصل من لو تصورت ... حماها المنى وهما، لضاقت بها السبل
وإن وعدت لم يلحق الفعل قولها ... وإن أوعدت فالقول يسبقه الفعل
عديني بوصل وامطلي بنجازه ... فعندي إذا صحّ الهوى حسن المطل(8/386)
وحرمة عهد بيننا عنه لم أحل ... وعقد بأيد بيننا ما له حلّ «1»
لأنت على غيظ النوى ورضى الهوى ... لديّ وقلبي ساعة منك ما يخلو «2»
ترى مقلتي يوما ترى من أحبهم ... ويعتبني دهري ويجتمع الشمل «3»
وما برحوا معنى أراهم معي، فإن ... نأوا صورة، في الذهن قام لهم شكل «4»
فهم نصب عيني ظاهرا حيثما سروا ... وهم في فؤادي باطنا أينما حلّوا
لهم أبدا مني حنوّ وإن جفوا ... ولي أبدا ميل إليهم وإن ملّوا
وقوله رضي الله عنه [من البحر الخفيف] «5»
ته دلالا فأنت أهل لذاكا ... وتحكّم فالحسن قد أعطاكا
ولك الأمر فاقض ما أنت قاض ... فعليّ الجمال قد ولّاكا
وتلافي إن كان فيه ائتلافي ... بك، عجّل به، جعلت فداكا
وبما شئت في هواك اختبرني ... فاختباري ما كان فيه رضاكا
فعلى كل حالة أنت مني ... بي أولى إذ لم أكن لو لاكا
أبق لي مقلة لعلي يوما ... قبل موتي أرى بها من رآكا
أين مني ما رمت، هيهات بل أي ... ن لعيني بالجفن لثم ثراكا
فبشيري لو جاء منك بعطف ... ووجودي في قبضتي قلت: هاكا(8/387)
هبك أن اللاحي نهاه بجهل ... عنك قل لي: عن وصله ما نهاكا؟
أترى من أفتاك بالصدّ عني ... ولغيري بالودّ من أفتاكا
كنت تجفوا وكان لي بعض صبر ... أحسن الله في اصطباري عزاكا
كل من في حماك يهواك، لكن ... أنا وحدي بكل من في حماكا
وقوله- رضي الله عنه-[من البحر البسيط] «1»
قف بالديار وحيّ الأربع الدّرسا ... ونادها فعساها أن تجيب عسى «2»
فإن أجنّك ليل من توحّشها ... فاشعل من الشوق في ظلمائها قبسا
ومنها «3» :
فإن بكى في قفار خلتها لججا ... وإن تنفّس عادت كلها يبسا
كم زارني والدجى يربد من حنق ... والزهر تبسم عن وجه الذي عبسا «4»
وابتزّ قلبي قسرا قلت مظلم ... يا حاكم الحب هذا القلب لم حبسا
زرعت باللحظ وردا فوق وجنته ... حقا لطرفي أن يجنى الذي غرسا «5»
فإن أبى فالأقاحي منه لي عوض ... من عوّض الدّرهم زهر فما بخسا
تلك الليالي التي أعددت من عمري ... مع الأحبة كانت كلها عرسا
لم يحل للعين شيء بعد بعدهم ... والقلب مذ آنس التذكار ما أنسا
وألزم الصبر مني النفس مكرهة ... لولا التأسي بدار الخلد متّ أسى(8/388)
وقوله «1» :
يمينا بما في الثغر من رائق اللما ... لقد ذبت من شوقي إلى وجهه ظما
ولولا النسيم الحاجري يمر بي ... يبشرني بالقرب من ساكني الحمى
لهدمت أركان الصبابة والتقى ... ولكنني عللت نفسا بربما
ومحتجب من خلف سمر ذوابل ... وكم مات فيه من محب متيّما
إذا جاز في ترب له بعد هجعة ... يريك الضحى في غيهب قد تبسما
سل الغصن من أعطاه لين قوامه ... ومن قد أعار الجيد واللحظ للدما
شكوت إلى عينيه وجدي ولوعتي ... فقال لك البشرى إذا مت مغرما
يرى أن قتلي في هواه محللا ... وأن وصالي والسلام محرّما
يرق لما ألقاه في الليل طيفه ... فما ضره من طيفه لو تعلما
تلطّف بي حتى تملّك مهجتي ... وعذبني بالتيه والصدّ عند ما
بنى في فؤادي مسكنا غير أنه ... لركن اصطباري بالقطيعة هدّما
بوجه تعالى الله أتقن خلقه ... فكم نسخت آياته آية السما
وقوله «2» :
أعلنت ما تسره الآماق ... حين أضمت مقاتلي الأحداق
وكتمت الغرام شحا وصونا ... فأقرت بنشوتي العشّاق
يا أهيل الحمى شكاية صبّ ... فتكت في فؤاده الأحداق
وده قد علمتموه سليما ... ما اعتراه بعد البعاد محاق
وهو مذ بايع الغرام قديما ... مؤمن العشاق لم يشبه نفاق
لا وعصر الصبا وحرمة ليل ... ضمنا حين نامت الطرّاق
ما أفاد الملام فيكم ولا ملّ ... غرامي ولا وهى الميثاق(8/389)
وقوله:
حسب المحب من الصبابة ما لقي ... لما تخلف بعده في الأبرق
ساروا فما والله ما كتم الدجى ... نور أضاء من الجبين المشرق
ولقد رجوت الصبر يبقى بعد ما ... بانوا فلجّ بي الغرام وما بقي
أمروا بإطلاق الدموع لبينهم ... وأسير سحر عيونهم لم يطلق
سعدت حداتهم بكل ممتع ... في ركبهم والربع بعدهم شقي
حاشا فؤاد خلّصوه لودّهم ... واستوطنوه لذكرهم لم يخفق
يا قلب صبرا تحت أعباء الهوى ... قبل الممات لعلّنا لا نلتقي
ولربّما نهدي الصبا في طيّها ... من نشرها روحا لقلب شيّق
خلق التصبر عنهم وهواهم ... بين الضلوع جديده لم يخلق
وقوله- رضي الله عنه-[من البحر الطويل] «1»
أشاهد معنى حسنكم فيلذّ لي ... خضوعي لديكم في الهوى وتذللي
وأشتاق للمعنى الذي أنتم به ... ولو لاكم ما شاقني ذكر منزل
فلله كم من ليلة قد قطّعتها ... بلذة عيش والرقيب بمعزل
ونلت مرادي فوق ما كنت راجيا ... فوا حسرتا لو تم هذا ودام لي
وقد ذكره أبو الصفاء الصفدي وقال: قال الشيخ شمس الدين يعني الحافظ الذهبي:
أنشدنا غير واحد أنه قال عند موته لما انكشف له الغطاء:
إن كان منزلتي في الحب عندكم ... ما قد لقيت فقد ضيّعت أيامي
أمنية ظفرت روحي بها زمنا ... واليوم أحسبها أضغاث أحلام «2»
قال: ومن شعره مما ليس في ديوانه:(8/390)
وإذا قيل من تحب؟ تخطاك لساني ... وأنت في القلب ذاكا
عميت عين من رأى مثل عيني ... ك وطوبى لعين من قد رآكا
ولد رضي الله عنه بالقاهرة سنة ست وسبعين وخمسمائة، وتوفي بها سنة اثنتين وثلاثين وستمائة.
ودفن تحت العارض- مكان بالقرافة- ورثاه الجزار، فقال:-
لم يبق صيب مزنه إلا وقد ... وجبت عليه زيارة ابن الفارض
لا غرو أن يسقى ثراه وقبره ... باق ليوم العرض تحت العارض «1»(8/391)
ومنهم:
107- أبو القاسم بن منصور بن يحي المكّيّ الاسكندريّ المعروف بالقبّاريّ «13»
حطّ رجله بالآخرة وأناخ، ولم يتخذ الدنيا غير مناخ، فلم يأنس من أهلها بقبيل. ولا سلك في سبلها إلا عابر سبيل، لعدم اغتراره ببرقها الجهام، وفرط حذاره من رشقها بالسهام، فلم يستطب فيها الملاذ، ولم يستطل بها العود والملاذ، وأقام لا يرشف من ورد زلالها ريقا، ولم يقبل من برد ظلالها طريقا.
وكان أحد العباد المشهورين بكثرة الورع والتحري في المأكل والمشرب والملبس، معروفا بالانقطاع، والتخلي وترك الاجتماع بأبناء الدنيا، والإقبال على ما يعنيه من أمر نفسه، وطريقه الذي سلكه، قلّ أن يقدم أحد من أهل زمانه عليه من خشونة عيشه، وما أخذ نفسه به من الوحدة، وعدم الاجتماع بالناس، والجدّ، والعمل، والاحتراز من الرياء، والسمعة، لا يعلم في وقته من وصل إليه، وكانت الملوك ومن دونهم يقصدون زيارته، ورؤيته، والتبرك به، فلا يكاد يجتمع بأحد منهم «1» ، وأخباره في الورع والعبادة مشهورة.
وكان مقيما بجبل" الصيقل" بظاهر الاسكندرية، وبه مات «2» ، ولم يزل عمره كله على(8/392)
قدم واحدة في الاجتهاد والعبادة، وقلة المبالاة بعيشه كيف كانت، ودنياه كيف نقصت، متقللا من قليلها بجهده، مقبلا على الآخرة بكليته، يتصدّق بفضله، ويواسي في كفافه، ويؤثر من قوته، إلى كرم عزيز، وقنع باليسير.
ومما حكي عنه من الورع أنه لما رأى ما ينال الناس من الظلم في كرى «1» الخليج الواصل إلى الاسكندرية من النيل، أعرض عن مائه، وحمله التدقيق في الورع على أن حفر له بئرا كان يشرب منها، وينقل الماء منها بالجرار، على دابة ليسقي بستانه، وكان إذا وجد رطبة ساقطة تحت نخلة ولم يشاهد سقوطها منه لا يرفعها، ولا يأكلها، لاحتمال أن طائرا جناها من نخل غيره، وسقطت منه تحت نخله، وبالجملة لم يخلف بعده مثله «2» وحكى علي بن حمزة النقيب، عن أبي المظفر يوسف بن عبد العزيز الدمنهوري، قال: أتيت الشيخ أبا القاسم وتهيبته أن أطرق عليه الباب، فوقفت لعلي أجد من يستأذن لي عليه، فسمعته يبكي وينشد:
كيف برئي وداء وجدي عضال ... ونهوضي وعثرتي لا تقال
وعزيز على أهون شيء في هوا ... هـ ما قالت العذّال
يا نسيم الشمال من أرض نجد ... فيك للصب صحة واعتلال
لي بالجزع حاجة ليس تقضى ... وغريم يلذ منه المطال
يا لقومي كم ذا تسل سيوف ... لقتالي وكم تراش نبال
أنت أحلى في القلب من أمل ... القلب إذا ما تناهت الآمال
قال: ولم يزل يرددها وهو يبكي ويشهق، حتى خفت عليه، فطرقت عليه الباب، فقطع إنشاده وسكّن زفراته، وغيّض عبراته، ثم أذن لي، فدخلت عليه، فقال: لعلك سمعت شعرا كنت أنشده؟ فقلت: كان ذلك، ولقد خشيت عليك والله مما كنت فيه. فقال: يا هذا! تذكرت عشقة منذ عهد الصبا أنا إلى الآن في سكرها، وربما كانت في وقت أشد من(8/393)
وقت، والعاقل يستروح بمثل ما رأيت من أرواح الأشعار، وأنفاس الأشجار، وسألتك الله إلا ما كتمت.
قال: فو الله ما ذكرتها حتى مات.
وتوفي ليلة الاثنين سادس شعبان سنة اثنتين وستين وستمائة، ببستانه بجبل" الصّيقل"، بظاهر الاسكندرية. ودفن به، بوصية منه، وقبره يزار ويتبرك به.
وبيع الأثاث الموجود في منزله، وقيمته دون خمسين درهما، ورقا بما يزيد عن عشرين ألف درهم تزايد الناس فيه رجاء البركة حتى بلغ الإبريق الذي كان يستعمله ويتوضأ فيه للصلاة جملة كبيرة، وقيمة مثله لا يبلغ ثلاثة فلوس!.
وقد رأيت خرقة من أثره عند بعض المصريين، وذكر أنها بيعت في أثاثه بمائة وعشرين درهما.
ومنهم:
108- الفضيل بن فضالة
صميم علم أغرق في الحسب، وأغبق في كرم الحسب، ترقى للحيرة فعرف الحقيقة، وتوقى الحيرة فوقف على الطريقة.
قال:" إذا شئت أن تصير من الأبدال، فحوّل خلقك إلى بعض خلق الأطفال؛ ففيهم خمس خصال لو كانت في الكبار لكانوا أبدالا، وهي: أنهم لا يغتمون للرزق. ولا يشتكون من خالقهم إذا مرضوا. ويأكلون الطعام مجتمعين. وإذا تخاصموا لم يتحاقدوا وتنازعوا إلى الصلح. وإذا خافوا جرت عيونهم بالدموع".
وكان يقول للمريد إذا أتاه: تصحبني على أربعة خلائق هنّ كنوز الجنة؛ كتمان الفاقة، وكتمان المصيبة، وكتمان المرض، وكتمان السر.
وكان يحب الخلوة، فإذا خلا رفع عقيرته، وأنشد قول الرضي:
حادثته فضل العتاب وبيننا ... كبر الملوك ورقة الملوك
من لي به والدار غير بعيدة ... والمال غير قليل(8/394)
وحكي أن رجلا كان يصحبه، فسمعه يقول يوما في دعائه:" اللهم حقق أملي"، فقال:
يا سيدي! أيكون المحقّق أملا؟.
فقال: اعلم أن الأمل العمل.
وقيل: إن الفضيل بن فضالة سأل ربه أن يرفع عنه الأمل، فاستجاب له، فترك الأكل والشرب، فلم تستقم له العبادة، فدعا ربه أن يرد عليه أمله، فأكل وشرب.
وأتاه نعي بعض إخوانه وهو يأكل طعاما، فقال للمخبر له: اقعد فكل، فقد علمت.
قال له: ومن أعلمك؟ وما سبقني إليك أحد!. قال: بلى، قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ
«1» والعجب من يده في سلة الأفاعي كيف ينكر اللسع؟!!.
ومنهم:
109- محمّد بن عبد الله بن المجد المرشديّ الدّهروطي «13»
الشيخ أبو عبد الله، رجل من أهل منية مرشد «2» ، من الوجه البحري من ديار مصر.
ظهر فيها ظهور الشمس في السماء، وصدر عنه الناس صدورهم عن الماء، وترامت إليه الفجاج بالوفود، وشدّت إليه الركائب من أقطار الوجود، وغصت طرق البر والبحر إليه، ونصّت ألسنة المشرق والمغرب عليه، وظهرت له كرامات لم تظهر فيها معه لبشر بارقة، ولا غدت بها لابن أدهم سابقة، ولا جاء الجنيد منها إلا جيش ليس له به قبل، ولا وسع ذا النون(8/395)
المصري البحر ولا البرّ ولا السهل ولا الجبل.
والناس فيه على قسمين: حتى أهل بلده؛ فأناس يقولون: إن أموره كانت رحمانية.
وأناس يقولون: إنها شيطانية!. وسواد الجمهور: على حسن الاعتقاد فيه، وسأحكي من أموره ما فيه غنى للواقف عليه.
قدمت مصر وهذا الرجل قد طارت سمعته، وطرقت الشام، وأسمعت الخاص والعام، ولم تبق أذن إلا وفيها منه صالح، وذاكر له بذكر صالح، وكنت أتمنى لقاءه، وقصدت هذا في قدمتي الاسكندرية، فحالت دون ذلك شواغل خدمة السلطان، وتمادى عليّ ذلك الأمد، فقدم مصر حاجّا، وأتى إلى خدمة السلطان، واجتمع به في الميدان المجاور للاسطبل، وكان فخر الدين ناظر الجيوش الجامع بينهما، وقام السلطان له، وأكرمه، وأجلسه إلى جانبه، وأقبل عليه يحدّثه لما قرره فخر الدين في صدره، فلم يكن للشيخ حديث يحدّث به السلطان، ولا موعظة يعظه بها، ولا مصلحة من مصالح الدنيا والآخرة يوصيه بها، إلا الإطناب في شكر فخر الدين، وذكر دينه وزهده وصلاحه، وأنه يتعين على السلطان أن يغتبط به، ويعتمد عليه، ويمسكه بيديه، وجعل كل مجلسه في هذا. فنزل من عين السلطان، وقال لألجاي الدواداري: هؤلاء يتقارضون الشهادات!. ثم قال له: لو كان هذا وليا من أولياء الله أوصاني بسائر عباد الله، ولم يقتصر على ذكر الفخر، وكم في الناس من رجل قدمه خير من الفخر!.
وقال لبكتمر الساقي «1» : والله لولا الحياء من الناس كنت ضربه على فمه!.
ثم خرج المرشدي إلى الحج، وخرج السلطان إلى سرياقوس، فخرجنا معه، وأتانا الخبر بأن(8/396)
الشيخ في البركة، فقمت أنا ووالدي رحمه الله تعالى، وركبنا لنراه، فلحق بنا الداوداري، وقال: متى رحتم إليه ما يعجب السلطان، وذكره بأمور لا أحب ذكرها، ولم يزل حتى عدنا، ثم لم يقدر لي به اجتماع حتى مات في شعبان سنة سبع وثلاثين وسبعمائة، إلا أنه ومنذ قدم مصر وإلى أن مات لم تزل كتبه إليّ متواصلة، وحوائجه لديّ مقضية.
قلت: ولقد يحكى عنه من الغرائب ما لم نسمع مثله عن أحد من أهل زمانه، ولا ممن تقدمهم بزمان سالف.
وكان الناس إذا قصدوه تشهّوا في نفوسهم أنواع المآكل والمشارب، فإذا أتوه أتاهم به. على أنه في منقطع رمل، وقرية صغيرة لا يوجد فيها مثل تلك الأنواع!، والشائع الذائع عند عامة أهل مصر أنه كان يأتيه الجماعة، وكل واحد قد يشتهي شيئا، واقترح ما لا يوجد مثله إلا أن يكون في القاهرة، أو دمشق، فإذا حضروا عنده، وسلموا عليه، غاب عنهم هنيهة، ثم حضر وأحضر لكل واحد منهم ما اقترح، ويقولون: إن أكثر ما كان يحضره للناس في كمه، أو هو حامل له بيده، من غير خدام له، ولا من يستعين بهم، حتى زعموا أنه كان يحضر من أنواع الأطبخة عدة الألوان، وليس عنده من يطبخ له، ولا يعرف له قدرة ولا معرفة، ولا زبدية، ولا موقد نار، مع اشتغاله طول نهاره وليله بالناس، ويزعمون أن هذا المدد ما هو في وقت دون وقت، بل إنه يأتي في اليوم الواحد بعدّة من الألوان لا يعرف من أين أتى بها، ولا من طبخها!.
إلى غير ذلك مما يحكون عنه من هذا ومثله، مما أظن أكثره من باب الخراف في القول.
وحكى لي صاحبنا القاضي شمس الدين القيسراني كاتب الإنشاء، وكان قد توجّه قصدا لزيارته، قال: كنت قد أكلت في الطريق قبل إشرافي على بلده بقليل، فاشتهيت أقسما سكرية «1» مبردة، فحال ما وصلت، وسلمت عليه، غاب عني هنيهة، وأتى معه أقسما(8/397)
سكرية مبرّدة، مثل الأقسما التي تعمل للسلطان، وقال لي: اشرب هذه فإنك قد جئت من حر الطريق.
وحكى لي الشيخ أحمد بن عمر الأنصاري قال: الشيخ محمد المرشدي يتوجّه في كل سنة إلى" كوم فرح" أظنه قال: في نصف شعبان، ويأتيه من الخلائق ما لا يحصى كثرة، ومعهم دوابّهم، و" كوم فرح" في مكان منقطع، شاسع، ويقيم الناس عند الشيخ ثلاثة أيام، وهو يقوم بهم، وبما يحتاجون إليه من طعام وشراب، وعليق، كل هذا يتولاه بنفسه، ولا يعرف من أين يأتي به؟!.
وحكى لي الأمير الوزير مغلطاي الجمالي «1» - رحمه الله تعالى- قال: توجّهت إلى زيارة الشيخ محمد، فلما قربت منه، اشتهيت قمحية بلبن حليب، بلحم خروف رميس، فلما وصلنا، جاء ومعه زبدية كبيرة فيها قمحية بلبن حليب بلحم خروف رميس، وقال لي:
كل، ثم بقي يغيب ويجيب أشياء أخر، ويضعها قدام مماليكي. وكلما جاب شيئا إلى واحد منهم يعجب منه ويقول: والله أنا كنت قد اشتهيته!. وأحضر أكثر من عشرين لونا ما يطبخ إلا في مطبخ السلطان.
وحكى لي شهاب الدين أحمد بن مليح الاسكندري بالاسكندرية، قال: نويت زيارة الشيخ محمد في نفسي، وقلت: لعلّي أصادف عنده هيطلية بسمن وعسل آكل منها؟.
فجاء كتاب وكيل الخاص باستعمال حوائج السلطان أعاقني عن ما عزمت عليه، فلم يمض غير يومين أو ثلاثة، وإذا أنا برجل قد أتاني من عند الشيخ، وقال: الشيخ يسلم عليك، وقد بعث لك هذا السمن والعسل لتعمل لك هيطلية، وتأكلها بهما، ولو كانت تحمل إليك بعث لك بها.(8/398)
قال ابن مليح: والله الذي لا إله إلا هو، لم أكن قد أطلعت أحدا على ما نويت ولا على ما كنت قد اشتهيت. وأخباره في مثل هذا كثيرة.
وكان- على ما ذكر لي- رجلا مبدنا. ربعة من الرجال، حسن الشكل، منوّر الصورة، جميل الهيئة، حسن الخلائق، يحفظ القرآن الكريم، و" التنبيه" في مذهب الشافعي، وكان فقيه النفس، مختصرا لكثير من المسائل، يتلو في أكثر الأوقات، ويفتي من استفتاه من غير أن يكتب خطه بشيء، وكان لا يرد نفسه عن الشفاعات إلى أرباب الدولة، وحاشية السلطان، وشفاعاته مقبولة، والوسائل به لا ترد.
وقد زعم قوم أن هذه الكرامات إنما كانت بصناعة مقررة بينه وبين قاضي فوّه، فإنهما كانا روحين في جسد واحد، وكان قد تحصّن بالشيخ، فلا يقدر قاضي القضاة ولا أحد غيره على عزله، وطال ذيله، وأكثر من تسجيل البلاد والتجارة، والولاة ترعاه إما للاعتقاد في الشيخ، أو لرجاء العناية من الشيخ بهم عند الدولة، فتمت أمواله، وصلحت حاله، واتسعت دائرة سعادته، فلم يبق له دأب إلا تلقي من يصل من ذوي الأقدار قاصدا زيارة الشيخ، لأن" فوّه" طريق" منية المرشد"، فإذا وصل الزائر أنزله وأضافه، وشرع في محادثته، ومحادثة من معه، حتى يقف ما في خواطرهم اقتراحه على الشيخ، ثم يبعث به إلى الشيخ، على دواب مركزه في الطريق بينهما، وعدة من الأوصاف بما لعله لا يكون عنده، ثم يعطيه حلية كل رجل من المذكورين واسمه!.
قالوا: فكان بهذه الصنعة تم له ما أراد، فيشهد له من أتاه بما كان في نفسه، ويقول غيره بالتقليد كعادة العوام في ذلك، وعندي في كل أمره نظر، ولو رأيته لكنت وقفت على بعض الخبر.
وبالجملة فكان ذا فضل وبرّ، ومعروف، ومذهب غير مألوف، رحمه الله تعالى.(8/399)
ومنهم:
110- عبد الله [بن محمّد بن سلمان] المنوفيّ «13»
جمع بين العلم والصلاح، وطلع نيره المشرق فلاح، فارقت مصر وهو قطب رحاها، وشمس ضحاها، وهو ممن تفقه واعتزل.
قرأ الفقه على مذهب الشافعي، وانقطع بالمدرسة الصالحية مقتصرا على خويصة نفسه، لا يكاد يخرج إلا إلى الصلاة مع الجماعة، أو الجمعة.
تقلل من متاع الدنيا، ولا يستكثر من الناس، ولقد أراد السلطان الاجتماع به فلم يرد، وعيّن لجلائل التدريس والمناصب، وكنت المتحدّث معه في ذلك فأبى، وعقد على الامتناع.
ولقد أقمت بديار مصر ما أقمت من السنين، أرى أبناءها وأسمع أنباءها، فلم أرض أحدا مثله لعلمه وعمله، وصلاحه، وانقطاعه، وإن كان ابن اللبان أشهر وأوسع علما، وأطول باعا في علوم الشريعة والحقيقة، إلا أنه لا يخلو من متكلم فيه، والشيخ عبد الله مجمع، وما ذاك إلا لعظم زهده، وتخليه، وقطع علائقه من الناس، وقطعهم عنه.
ولقد يحكى عنه كرامات ظاهرة كفلق الصبح، كان يحكى لي منها، ولكنني لم أضبطها؛ ومنها: ما حكى الأمير سيف الدين الجابي الدوادار «1» - رحمه الله- قال: وقع في(8/400)
نفسي إشكال في مسألة، وكان لي صاحب من الفقهاء الحنفية أتردد إليه زمن الاشتغال، فنزلت إليه، وليس لي مهم إلا أن أسأله عن تلك المسألة، ليحل لي الإشكال فيها، فأتيته، فلم أجده، فأتيت المدرسة التي بها الشيخ عبد الله المنوفي لأراه. فلما دخلت عليه، وسلمت عليه، وجلست، قال لي: كأنك مشتغل بشيء من الفقه؟. فقلت: نعم. فقال:
ما قولك في كذا وكذا؟ - لتلك المسألة بعينها! -؛ فقلت: منكم يستفاد.
فأخذ يتكلم في تلك المسألة وما عليها من الإيرادات، وذكر الإشكال الذي وقع في نفسي، ثم شرع يجيب عن تلك الإيرادات، حتى جلى ذلك الإشكال، وحل المسألة.
فسألته عن شيء آخر؟. فقال: لا، قم مع السلامة، والقصد قد حصل.
وهذه كرامة ظاهرة لا تنكر. رحمه الله تعالى.
ومنهم:
111- أبو عبد الله محمّد بن اللّبّان «13»
شمس الدين الشاذلي، طراز مصر المذهب، وفرد أهلها في علم الحقيقة والمذهب، والفائز المعلى قدحه، والسيد المحلى بذائب الذهب مدحه، طاب غرسه، وأشرقت ملء المشارق والمغارب شمسه، وطال لواؤه، وحسن دواؤه، وكثرت شيعته تتوالى منه وليا تروى أنواؤه، وتجود الأرض سماؤه، وتعود بالفرض والنوافل نعماؤه.
صحب الشيخ ياقوت الحبشي «1» ، وغيره من مشايخ الاسكندرية، ومصر، والشام، وأخذ(8/401)
عنهم من علوم الطريقة والحقيقة ما تقدم، تمهيد العلوم الشرعية، لسلوكه فيه، حتى برع وبزّ أهل زمانه، وساد على أبناء دهره، وأطلق قلمه بالإفتاء، واشتغل عليه أنواع الطلبة، وأخذت عنه طوائف المريدين، وتكلم على رؤوس الأشهاد، وحضر مجلسه الخاص والعام، ولم يزل يشار إليه بالإجلال، ويذكر بالتعظيم.
وكنت أسمع به ولا يقيض لي به لقاء، ثم أصيب بما لم يخل منه مثله، فخلى في بعض مجالسه وقد شرع في كلام ما كمّله، وأخذ في قول ما أتّمه، فقام ابن الكاتب المالكي وقطع عليه الكلام، وأخذ في الإنكار عليه، وقام معه أناس قلائل، وهمّ بهم السواد الأعظم حتى كادوا يثبون بهم، ثم حجز بين الفريقين، ورفع ابن الكاتب القضية إلى الحكام، وكان كلاما يقتضي قبل تمامه ما أوقد حميّة بعض الحكام عليه، فتحدّث مع البقية، ثم حدّثوا السلطان فيه، فاستتشاط غضبا وأمرهم فيه بأمر كاد لا يستدرك، فقيض له من بلّغ السلطان القضية وأوصل إليه الخبر على حقيقته، وعرّفه بمكانة الشيخ، وما هو عليه من العلم، والدين، فسخّره الله له، وقلب تلهّب غيظه عليه بردا وسلاما له، وبعث إلى الحكام بالتمهل في أمره، ثم طلبه السلطان، وادّعى عليه لديه، وسأله عما قال؟. فاعترف، فحكم بصحة إسلامه، وقبول دولته وإبقائه على ماله وزوجته، وعدالته، ومناصبه، بعد استيفاء الشرائط الشرعية، وفعل كما يجب شرعا.
ثم عقد له مجلس بالمدرسة الصالحية، عند قاضي القضاة جلال الدين القزويني «1» ، فطلبه؛ فنزل من القلعة إليه، والناس حوله، وقد ملأ سواد الناس ما بين القلعة والمدرسة، فلما حضر مجلس الحكم العزيز، ادّعى عليه، فأجاب بما حكم به السلطان، وأوصل حكم السلطان بالقاضي القزويني، وحكم حكما آخر مستقلا للشيخ بمثل ذلك، وامتنع من(8/402)
الكلام في المجالس العامة، ثم تكلم، وهو رجل قد جمع الله عليه من القلوب، وجمع له من أشتات ما لا هو في ظنّ ظانّ، هذا إلى حسن الشكل، وتنوير الوجه، والصورة، وجمال الذات والهيئة، وجودة الخط، وحسن اللفظ، وبراعة اللسان، وكرم النفس، وجميل السجايا، فآها لدهر فرّق بيننا وبينه، وزمان أبعد المدى عنه.
وله نظر ثاقب في الأدب، ونظم بديع [فمن شعره ما أورده في كتابه المتشابه في الربانيات قوله:
تشاغل عنا بوسواسه ... وكان قديما لنا يطلب
محبّ تناسى عهود الهوى ... وأصبح في غيرنا يرغب
ونحن نراه ونملي له ... ويحسبنا أننا غيّب
ونحن إلى العبد من نفسه ... ووسواس شيطانه أقرب «1»(8/403)
مصادر التحقيق وفهرس الأعلام(8/405)
مصادر التحقيق
1- آثار البلاد وأخبار العباد للقزويني.
2- اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا للمقريزي.
3- أخبار الدول وآثار الأول للقرماني.
4- أخبار الدول المنقطعة، لابن ظافر الأزدي.
5- أدب الإملاء والاستملاء، لابن السمعاني.
6- الاستدراك لابن نقطة.
7- الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة، لابن شداد.
8- الأعلام للزركلي.
9- الإعلام بتاريخ أهل الإسلام، لابن قاضي شهبة.
10- الإعلام بوفيات الأعلام، للذهبي.
11- الإعلان بالتوبيخ، للسخاوي.
12- أعمال الأعلام في من بويع قبل الاحتلام، لابن الخطيب.
13- أعيان الشيعة، لمحسن الأمين.
14- الإكمال، لابن ماكولا.
15- أمراء دمشق في الإسلام، للصفدي.
16- الإنباء في تاريخ الخلفاء، لابن العمراني.
17- إنباه الرواة على أنباه النحاة، للقفطي.
18- الأنساب، للسمعاني.
19- الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل، للحنبلي.
20- بدائع الزهور في وقائع الدهور، لابن إياس.(8/407)
21- البداية والنهاية في التاريخ، لابن كثير.
22- بغية الطلب في تاريخ حلب، لابن العديم.
23- بغية الملتمس، للضبي.
24- بغية الوعاة للسيوطي.
25- البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، لابن عذاري.
26- تاج التراجم، لابن قطلوبغا.
27- تاج العروس للزبيدي.
28- تاريخ آداب اللغة العربية، لجرجي زيدان.
29- تاريخ ابن خلدون.
30- تاريخ الأدب العربي، لبروكلمان.
31- تاريخ إربل، لابن المستوفي.
32- التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية، لابن الأثير.
33- تاريخ جرجان، لدوزي.
34- تاريخ حلب، للعظيمي.
35- تاريخ الخلفاء، للسيوطي.
36- تاريخ الخميس، للديار بكري.
37- تاريخ دولة آل سلجوق، للبنداري.
38- تاريخ الزمان، لابن العبري.
39- تاريخ مختصر الدول، لابن العبري.
40- تاريخ مدينة دمشق، لابن عساكر.
41- تاريخ نيسابور، للحاكم النيسابوري.
42- تبصير المنتبه بتحرير المشتبه، لابن حجر.
43- تبيين كذب المفتري، لابن عساكر.(8/408)
44- تتمة المختصر في أخبار البشر، لابن الوردي.
45- التحبير في المعجم الكبير، لابن السمعاني.
46- التدوين في أخبار قزوي، للرافعي القزويني.
47- تذكرة الحفاظ، للذهبي.
48- التقييد لمعرفة رواة السنن والمسانيد، لابن نقطة.
49- تكملة إكمال الإكمال، للصابوني.
50- تهذيب الأسماء واللغات، للنووي.
51- تهذيب تاريخ دمشق، لبدران.
52- توضيح المشتبه، لابن ناصر الدين.
53- جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس، للحميدي.
54- الجواهر المضية في طبقات الحنفية، للقرشي.
55- الجوهر الثمين، لابن دقماق.
56- حاضر العالم الإسلامي، لشكيب أرسلان.
57- حسن المحاضرة، للسيوطي.
58- الحلة السيراء، لابن الأبار.
59- خريدة القصر وجريدة العصر، للعماد الأصفهاني.
60- حلية الأولياء للأصفهاني.
61- خلاصة الذهب المسبوك للإربلي.
62- الدارس في تاريخ المدارس، للنعيمي.
63- الدرة المضية، لابن أبيك الدواداري.
64- دمية القصر، للباخرزي.
65- دول الإسلام للذهبي.
66- الديباج المذهب، لابن فرحون.(8/409)
67- ديوان الإسلام للعزي.
68- الذخيرة ي محاسن أهل الجزيرة، لابن بسام.
69- ذيل تاريخ بغداد، لابن النجار.
70- ذيل تاريخ دمشق، لابن القلانسي.
71- ذيل تجارب الأمم، للروذراوري.
72- الرسالة القشيرية، للإمام القشيري.
73- الرسالة المستطرفة، للكتاني.
74- رفع الإصر عن قضاة مصر، لابن حجر.
75- روضات الجنات، للخوانساري.
76- الروض المعطار، للحميري.
77- الروضتين، لابن أبي شامة.
78- زبدة التواريخ، للحسيني.
79- زبدة الحلب في تاريخ حلب، لابن العديم.
80- السلوك لمعرفة دول الملوك، للمقريزي.
81- سير أعلام النبلاء، للذهبي.
82- شجرة النور الزكية، لمخلوف.
83- شذرات الذهب، لابن العماد الحنبلي.
84- صبح الأعشى للقلقشندي.
85- الصلة، لابن بشكوال.
86- الضعفاء والمتروكون، لابن الجوزي.
87- طبقات الأولياء، لابن الملقن.
88- طبقات الحفاظ، للسيوطي.
89- طبقات الحنابلة، لابن أبي يعلي.(8/410)
90- الطبقات السنية، لابن الغزي.
91- طبقات الشافعية، لابن قاضي شهبة.
92- طبقات الشافعية، لابن هبة الله.
93- طبقات الشافعية، للإسنوي.
94- طبقات الشافعية، للنووي.
95- طبقات الشافعية الكبرى، للسبكي.
96- طبقات فقهاء الشافعية، لابن الصلاح.
97- طبقات المفسرين، للداودي.
98- طبقات المفسرين، للسيوطي.
99- العبر في خبر من غبر، للذهبي.
100- العقد الثمنين، لقاضي مكة.
101- العقد المذهب، لابن الملقن.
102- عقود الجمان، للزركشي.
103- عيون الأنباء في طبقات الأطباء، لابن أبي أصيبعة.
104- عيون التواريخ، لابن شاكر الكتبي.
105- غاية النهاية في طبقات القراء، لابن الجزري.
106- الغنية، للقاضي عياض.
107- الغيث المنسجم، للصفدي.
108- الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي.
109- فهرس الفهارس للكتاني.
110- فهرس ما رواه عن شيوخه، لابن خير الإشبيلي.
111- الفوائد البهية في تراجم الحنفية، للكنوي.
112- فوات الوفيات، لابن شاكر الكتبي.(8/411)
113- القلائد الجوهرية.
114- قلائد العقيان، لابن خاقان.
115- الكامل في التاريخ، لابن الأثير الزري.
116- كشف الظنون، لحاجي خليفة.
117- الكنى والألقاب، للقمي.
118- اللباب، لابن الأثير.
119- لسان الميزان، لابن حجر.
120- مآثر الإنافة في معالم الخلافة، للقلقشندي.
121- مختصر التاريخ، لابن الكازروني.
122- مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور.
123- المختصر في أخبار البشر، لأبي الفداء.
124- مرآة الجنان، لليافعي.
125- مرآة الزمان، لسبط ابن الجوزي.
126- المستفاد من ذيل تاريخ بغداد، للدمياطي.
127- المشتبه في الرجال، للذهبي.
128- المشترك وضعا والمفترق صقعا، لياقوت الحموي.
129- المطرب، لابن دحية.
130- معالم الإيمان، للدباغ.
131- المعجب، للمراكشي.
132- معجم الأدباء، لياقوت الحموي.
133- معجم البلدان، لياقوت الحموي.
134- معجم السفر، للسلفي.
135- معجم طبقات الحفاظ والمفسرين، لسيد كسروي.(8/412)
136- معجم ما استعجم، للبكري.
137- معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة.
138- معرفة القراء الكبار، للذهبي.
139- المعين في طبقات المحدثين، للذهبي.
140- مفتاح السعادة، لطاش كبرى زادة.
141- منازل السائرين، للهروي.
142- منتخبات التواريخ لدمشق، للحصني.
143- المنتظم لابن الجوزي.
144- المواعظ والاعتبار، للمقريزي.
145- ميزان الاعتدال، للذهبي.
146- النجوم الزاهرة، لابن تغري بردي.
147- نزهة الألباء، لابن الأنباري.
148- نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب، للمقري.
149- نكت الهميان في نكت العميان، للصفدي.
150- نهاية الأرب في فنون الأدب، للنويري.
151- هدية العارفين، للبغدادي.
152- الوافي بالوفيات، للصفدي.
153- الوفيات، لابن قنفذ.
154- وفيات الأعيان، لابن خلكان.
155- ولاة دمشق في العهد السلجوقي، للدكتور المنجد.
وغير ذلك من المصادر ذكرت في مواضعها من حواشي الكتاب.(8/413)
فهرس الأعلام(8/415)
مقدمة المؤلف 17
1- أويس بن عامر القرني 19
2- أبو مسلم الخولاني 21
3- رابعة بنت إسماعيل العدوية 23
4- حبيب العجمي 26
5- إبراهيم بن أدهم بن منصور أبو إسحاق 28
6- الفضيل بن عياض 34
7- داود بن نصير الطائي 38
8- شقيق بن إبراهيم البلخي 42
9- معروف بن فيروز الكرخي 45
10- الفتح بن سعيد الموصلي أبو محمد 49
11- أبو سليمان الداراني عبد الرحمن بن عطية 52
12- بشر بن الحارث الحافي أبو نصر 55
13- أحمد بن أبي الحواري 61
14- أبو عبد الرحمن حاتم بن الأصم 62
15- أحمد بن خضرويه البلخي 67
16- الحارث بن أسد المحاسبي 69
17- أبو تراب عسكر بن حصين النخشي 72
18- السري بن مغلس السقطي 75
19- أبو زكريا يحيى بن معاذ الرازي الواعظ 80
20- أبو يزيد البسطامي، طيفور بن عيسى بن آدم 84
21- أبو حفص الحداد، عمر بن سالم 88
22- حمدون بن أحمد بن عمارة القصار النيسابوري 90(8/417)
23- أبو الحسين النوري، أحمد بن محمد 92
24- سهل بن عبد الله التستري 94
25- إبراهيم الخوّص، أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد 96
26- الإمام أبو القاسم الجنيد بن محمد 104
27- أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الحيري 110
28- ممشاذ الدينوري 114
29- أبو محمد رويم أحمد بن يزيد بن رويم البغدادي 117
30- الحسين بن منصور الحلاج، أبو مغيث 123
31- أبو عبد الله الجلاء أحمد بن يحيى 128
32- أبو عبد الله محمد بن الفضل البلخي 131
33- أبو عمرو الدمشقي 135
34- أبو على الروذباري 137
35- أبو بكر الكتاني محمد بن علي بن جعفر 141
36- أبو إسحاق إبراهيم بن داود القصار الرقّي 144
37- أبو بكر الشبلي 146
38- أبو بكر الدقّيّ 155
39- أبو عمرو إسماعيل بن نجيد بن أحمد السّلم 158
40- أبو القاسم النصرآبادي إبراهيم بن محمد 160
41- أبو الحسن علي بن إبراهيم الحصري 162
42- أبو عبد الله محمد بن خفيف بن إسفكشاذ الضّبّي 163
43- ابن سمعون محمد بن أحمد بن إسماعيل بن عنبس 166
44- الإمام القشيري أبو القاسم عبد الكريم بن هوزان بن عبد الملك بن طلحة ابن محمد القشيري 172(8/418)
45- أحمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي أبو الفتوح 176
46- يوسف بن أيوب بن يوسف بن الحسين بن وهرة أبو يعقوب الهمذاني 178
47- عدي بن مسافر بن إسماعيل بن موسى بن مروان بن الحسن بن مروان الهكاري 181
48- الإمام سيدي أحمد الرفاعي أبو العباس بن أبي الحسن علي بن أحمد بن يحيى ابن حازم بن علي بن رفاعة 184
49- سيدي الإمام الشيخ عبد القادر الجيلاني 188
50- قضيب البان 196
51- أبو علي الحسن بن مسلم بن أبي الحسن بن أبي الجود 199
52- أبو الحسن علي بن محمد بن غليس 200
53- الشيخ محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو عمر 202
54- عبد الله بن عثمان بن جعفر بن أبي القاسم محمد اليونيني 208
55- الشيخ يونس بن يوسف بن مساعد الشيباني المخارقي، المخارقي، المشرقي، القنيي 219
56- الساوجي شيخ القلندرية جمال الدين محمد الزاهد 221
57- الشيخ عبد الله بن يونس الأرمني الحنفي 223
58- شهاب الدين السهروردي 224
59- غانم بن علي بن إبراهيم بن عساكر بن الحسين 228
60- عبد الله بن عبد العزيز اليونيني 230
61- علي بن أبي الحسن بن منصور المعروف بالحريري 233
62- عيسى بن أحمد بن إلياس بن أحمد اليونيني 236
63- يوسف القميني 242
64- الأكال محمد بن خليل بن عبد الوهاب أبو عبد الله البيطار 243
65- عبد العزيز بن القاضي أبي عبد الله محمد بن خلف الأنصاري الأوسي 246(8/419)
66- الشيخ القطب أبو بكر بن قوام بن علي بن قوام بن منصور بن معلى ابن حسن بن عكرمة 256
67- علي البكاء 265
68- الشيخ خضر بن أبي بكر بن موسى المهراني العدوي 267
69- يوسف بن نجاح بن موهوب الزبيري المعروف بالفقاعي 272
70- الشيخ إبراهيم بن الشيخ عبد الله الأرموي 274
71- الشيخ الزاهد جندل بن محمد العجمي 274
72- أبو الرجال بن مري بن بحتر المنيني 276
73- عثمان المنيني المعروف بالقريري 277
74- محمد بن إبراهيم الأرموي 279
75- نجم الدين الخشكناكي 292
76- علي السقباوي 294
77- إبراهيم الصباح 296
78- حماد الحلبي 298
79- محمد بن نبهان 300
80- عبد الله اليافعي 303
81- أبو بكر محمد بن عمر بن أبي بكر بن قوام 304
فأما من هو من أهل المغرب
82- أبو عبد الله محمد بن إسماعيل المغربي 307
83- أبو الخير الأقطع المعروف بالتيناتي 310
84- أبو عثمان سعيد بن سلام المغربي 312
85- ابن العريف أبو العباس أحمد بن محمد بن عطاء الله الصنهاجي، الأندلسي 315
86- سيدي أبو مدين شعيب بن الحسين 317(8/420)
87- أبو العباس أحمد بن عبد الله اللخمي الفاسي 320
88- ابن بلج 322
89- سيدي أحمد بن عطاء الله أبو العباس 322
90- سليمان بن عبد الباري الدرعي، شيخ القرشي 324
91- 92 الأخوان: محمد الخياط، وأحمد الحريري، المغربيان أبو عبد الله وأبو العباس 325
93- سيدي الشيخ الأكبر محيى الدين بن عربي محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن علي الطائي الحاتمي الأندلسي، المرسي 327
94- الحرالي علي بن أحمد بنا لحسن بن إبراهيم التجيبي 336
95- محمد المرجاني أبو عبد الله 338
96- أبو الحسن البوني 339
97- ابن برجان 340
98- سيدي أبو الحسن الشاذلي علي بن عبد الجبار بن تميم الحسني 341
99- عبد الحق بن إبراهيم بن سبعين أبو محمد قطب الدين المرسي الرقوطي 342
100- سيدي أبو العباس المرسي أحمد بن عمر الأنصاري 343
101- الحسن بن علي بن يوسف بن هود الجذامي المغربي 349
فأما من بمصر
102- أبو الفيض ذو النون المصري 357
103- أبو بكر أحمد بن نصر الزقاق الكبير 363
104- أبو الحسين بن بنان 366
105- أبو علي الحسن بن أحمد الكاتب 367
106- الشيخ ابن الفارض أبو القاسم عمر بن أبي الحسن 369
107- أبو القاسم بن منصور بن يحيى المكي المعروف بالقباري الاسكندري 392(8/421)
108- الفضيل بن فضالة 394
109- محمد بن عبد الله بن المجد المرشدي الدهروطي 395
110- عبد الله بن محمد بن سلمان المنوفي 400
111- أبو عبد الله محمد بن اللبان 401(8/422)
[الجزء التاسع]
[تراجم الحكماء والفلاسفة]
مسالك الأبصار في ممالك الأمصار(9/3)
الورقة 1/أمن المخطوط(9/5)
الورقة 1/ب من المخطوط(9/6)
الصفحة قبل الاخيرة من المخطوط(9/7)
الصفحة الأخيرة من المخطوط(9/8)
مقدمة المحقق
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وبعد ...
فبين يدينا اليوم حلقة جديدة من سلسلة حلقات ذهبية لموسوعة" مسالك الأبصار في ممالك الأمصار" لمؤلفها شهاب الدين أحمد بن فضل الله العمري، العالم الموسوعي الأول في بابه، حيث لم يسبقه إلى مثل هذا التصنيف أحد- على ما أعلم-، وقد سبق أن ذكرت في مقدمتي لتحقيق السفر الثامن من هذه الموسوعة وهي في تراجم السادة الصوفية" الفقراء"، ذكرت أن ابن فضل الله العمري رحمه الله تعالى أجاد وأفاد في هذه الموسوعة القيمة حيث ذكر فيها من أعلام الأمة العربية والإسلامية في جميع العلوم والفنون على اختلاف أنواعها بدءا من الجغرافيا والرحلات، إلى علماء الطب والكيمياء، والنبات، والتاريخ، والحديث، والفقه، والتفسير، والأدباء، والخطباء، والمترسلين، وكتاب الإنشاء، والشعراء، وغيرهم من أهل كل علم وفن، سواء في المشرق أو المغرب والأندلس، أو في مصر وأفريقيا، إلى الهند وما حولها ... ذاكرا ذلك كله ضمن هذه الموسوعة القيمة التي بقيت مئات السنين حبيسة الأرفف، ودفينة الأقبية، دون أن تمتد إليها يد تنفض عنها غبار السنين وتقدمها إلى خلف الأمة العربية والإسلامية ليستفيدوا مما تركه لهم سلفهم الصالح، من علم يتفاخرون به على مدى السنين والأيام، إلى أن شاءت حكمة الباري سبحانه ووفق الدكتور العلامة فؤاد سيزكين لينبه العالم إلى هذا الكنز الدفين، فصور نفائس مخطوطات العالم العربي والإسلامي ضمن سلسلة معهد فرانكفورت في ألمانيا، ومن ضمن ما(9/9)
جمعه هذه المخطوطة النفيسة (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار) ، حيث جمعها من عدة مراكز ومكتبات مخطوطية سواء في تركيا أو مصر، أو في الشام أو في اليمن والمغرب إلى غير ما امتدت إليه يده ووصلت إليه همته في جمع نفائس المخطوطات ليقدمها إلى العالم على شكل مصورات هي أقرب في تصويرها إلى الشكل الأصلي المخطوط فجزاه الله خير الجزاء على صنيعه الحسن.
ثم وفق سبحانه وتعالى المجمع الثقافي في أبو ظبي إلى حمل أعباء نشر هذا الكتاب" أعني مسالك الأبصار" وغيره من تراث الأمة، ليقدمه إلى أجيال اليوم من أبناء هذه الأمة ليستفيدوا من علم أمتهم الذي تركوه لهم على أطباق من ذهب أفنوا في ذلك أعمارهم ابتغاء وجه الله تعالى، ومساهمة في بناء الحضارة الإنسانية، ليثبتوا في وقت وزمان أن الأمة العربية الإسلامية أمة علم وحضاره وبناء وتقدم ونهضة وإنسانية، لا كما يزعم أعداؤها من الشرق والغرب أنهم دعاة إرهاب ودمار وحرب وسفك دماء..!!.
ومن هذه السلسلة الذهبية الجزء التاسع من" مسالك الأبصار في ممالك الأمصار" الذي بين أيدينا اليوم، وفيه ترجم العلامة ابن فضل الله العمري رحمه الله تعالى لما يزيد عن اثنين وتسعين ومائة طبيب من أطباء الشرق والغرب، والهند، ومصر، والشام، وغيرهم، ذكر فيه ترجمة لكل واحد منهم بشكل أطنب فيه أحيانا، وأوجز أحيانا أخرى، وفق شهرة المترجم له، ومنزلته بين أقرانه، ورتبته في علمه وفنه، واختصاصه، وأدبه. وفي هؤلاء الأطباء الشعراء والحكماء والفلاسفة، وأهل الاجتماع، فذكر في ترجمة الكثير منهم ما لهم من أشعار ووصايا جامعة نافعة، في الطب والحكمة، وأقوال مأثورة سارت بها الركبان، وأدوية وأغذية جربها أولئك الأعلام ووصفوها لمرضاهم فكانت لهم البلسم الناجع، والدواء النافع، ولم يترك رحمه الله تعالى في ترجمة كل واحد ما وقع(9/10)
عليه من أخباره وسيرة حياته، وطريقة تعلمه وتعليمه، وسلوكه وتربيته، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فجاء هذا السفر بحق كتابا نافعا ليس للأطباء فقط وإنما لكل طالب علم، وباحث عن الثقافة من معينها الصافي، وقارىء وباحث عن تراث هذه الأمة العظيمة، دون تعصب لمذهب أو ملة أو نحلة.
وقد كان عملي المتواضع في هذا السفر على الشكل التالي:
1- ضبط النص وشكله وتصحيحه حتى أتى أقرب إلى ما هو مثبت في المخطوط الأصلي.
2- توثيق النصوص، والشواهد التي وردت في المخطوط، وذلك بالرجوع إلى مصادرها من كتب الطب والحكمة والفلسفة التي سنبينها في آخر الكتاب في فهرس المصادر والمراجع.
3- ضبط التراجم وبيان زمان وفاة كل ترجمة وذلك بالرجع إلى كتب الطبقات والتراجم، وكتب الأعلام وغيرها من مراجع هذا الفن.
4- عزو الآيات القرآنية إلى سورها، وبيان أرقامها في تلك السور.
5- تخريج الأحاديث النبوية الشريفة الواردة في المخطوط- على قلّتها- وذلك بالرجوع إلى كتب التخاريج والحديث النبوي الشريف.
6- تخريج الأشعار التي أوردها المصنف واستشهد بها خلال ترجمته لبعض الأعلام من الأطباء والحكماء، وردها إلى أصحابها في دواوين أشعارهم ما أمكن، وإلا فإلى مصادرها من كتب التخاريج.
7- ولا أدعي الكمال في عملي هذا وإنما هو جهد المقل، وأرجو أن أكون قد وفّقت في هذا العمل قدر طاقتي البشرية المتواضعة، ورحم الله عبدا رأى عيبا فستره، وصححه، وكما قال الشاعر:(9/11)
وإن ترى عيبا فسدّ الخللا ... جلّ من لا عيب فيه وعلا
وأسأل الله سبحانه أن يجعل هذا العمل من العلم النافع في الدارين- لي ولمن أراد الانتفاع به ونظر إليه بعين الرضا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وكتبه/ بسام محمد بارود عفا الله عنه أبو ظبي 13 رمضان 1423 هجرية موافق: ل 18/11/2002 م(9/12)
[المقدمة]
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد بسم الله الرحمن الرحيم ربّ أعن وإذ انتهت بنا الأوبة في العلماء إلى نوبة الحكماء، فلنطبّق بذكرهم المفاصل، ونطلق من عمود اللحود المناصل، وننبّه منهم عيونا طالما طال نومها، ونأتي بفوائد فيئة كم كثر حسّادها، ونقتصر على المشاهير والأعيان، الذين يكادون يعدّون من المشاهيد، ونأتي منهم بمن تكلم في العلوم الثلاثة: الطبيعي، والرياضي، والإلهي. أو أحدها، وأجاد في جميعها، أو مفردها. فنذكرهم على اختلاف فرق مللهم، ونحلهم، وبلادهم، وتلادهم. كل فرقة على حدتها، بما وقع في قسمة الجانبين، ولم نسم منهم إلا من لم يسامت في أفقه، ولا يساهم أولي كوكبه إلى سمائه، أو أخلد ضبه إلى نفقه، ممن له في علم الكلام إقدام لا يدانيه ليث الشرى، وتلطّف لا يحاكيه طيف الكرى، قصر على طلبه الأشغال، وقصد في التزيد من مكسبه الإيغال، ومن هو بالطب طبّ بتقصّي أحوال المزاج، لا تخفى عليه نبضة عرق، ولا يموّه عليه ومضة حذق، ولا يدق مدخل سقام إلا ودواؤه يتبعه، وسقاؤه سوس يذل له سبعه.(9/13)
وأولهم: الهرامسة الثلاثة:
وإليهم تنسب أصول هذه العلوم؛ وقال ذلك أبو معشر البلخي «1» ، وقال:" إن اسقليبيوس «2» - الذي يزعم أكثر الحكماء أنه أول من استنبط الحكمة، وسيأتي ذكره- لم يكن بالمتأله «3» الأول في صناعة الطب، ولا بالمبتدىء بها، بل إنه عن غيره أخذ، وعلى نهج من سبقه سلك". وقال" إنه كان تلميذ هرمس المصري".
قال ابن المطران «4» في اختصار كتاب" الأدواء" للكسدانيين:" هرمس المثلث بالنعمة. وقال في معنى تسميته بالمثلث: إنه كان ملكا عمّت مملكته أكثر(9/14)
المعمورة، ونبيا ذكره الله تعالى" وقال:" هو إدريس عليه السلام" وهو عند اليهود: خنوخ" وقيل:" أخنوخ". وحكيما فيلسوفا له تصانيف كثيرة في أيدي الناس، باقية إلى اليوم: كتاب الطول، وكتاب العرض، وكتاب قضيب الذهب، وغير ذلك.
قال: فهذه ثلاث نعم اجتمعت له، لم يسمع أنها اجتمعت لغيره من الأمم، ورفعه الله في عمود من نور. والهند والصابئة يزعمون أنه وقع في نار بعثها الله إليه، ولهذا ... الهند تحرق أجسادها بعد الموت، ومنهم من يحرقها قبل الموت، ويزعم أنه تقرب إلى الله وعبادة!.
قال ابن أبي أصيبعة «1» :
[من الحكماء المشارق]
1- أما (هرمس الأول)
وهو المثلث بالنعم، فإنه كان قبل الطوفان، و [معنى] هرمس: لقب كما يقال كسرى وقيصر. وتسميه الفرس في سيرها: اللهجد. وتفسيره: ذو عدل. وهو الذي تذكر الحرانية- يعنى: الصابئة- نبوته.(9/15)
ويقول الفرس: إن جده: كيومرث، وهو آدم.
ويقول العبرانيون: إنه أخنوخ، وهو بالعربية: إدريس.
قال أبو معشر «1» :" هو أول من تكلم في الأشياء العلوية من الحركات النجومية، وأن جده كيومرث- وهو آدم- علّمه ساعات الليل والنهار. وهو أول من بنى الهياكل ومجّد الله فيها، وأول من نظر في الطب، وتكلّم فيه. وأنه ألف لأهل زمانه كتبا كثيرة بأشعار موزونة، وقواف معلومة، [بلغة أهل زمانه في معرفة] الأشياء الأرضية والعلوية. وهو أول من أنذر بالطوفان، ورأى أن آفة سماوية تلحق الأرض من الماء والنار.
وكان مسكنه صعيد مصر، [تخير ذلك] ؛ فبنى هنالك الأهرام، ومدائن التراب، وخاف ذهاب العلم بالطوفان، فبنى البرابي «2» ، وهو الجبل المعروف(9/16)
بالبرابر، بإخميم «1» ، وصوّر فيها جميع الصناعات، [وصنّاعها نقشا وصور جميع آلات الصناع] ، وأشار إلى صفات العلوم لمن بعده [برسوم] حرصا منه على تخليد العلوم لمن بعده، وخيفة أن يذهب رسم ذلك من العالم".
قال:" وفي الأثر [المروي عن السلف] أن إدريس أول من درس الكتب، ونظر في العلوم، وأنزل الله عليه ثلاثين صحيفة، [وهو أول من خاط الثياب ولبسها] ، ورفعه الله مكانا عليا" «2» .
قلت: وقد مرّ ذكره ما فيه غنى.
2- وأما (هرمس الثاني)
فإنه من أهل بابل قال ابن أبي أصيبعة:" سكن مدينة الكلدانيين، وهي بابل، وكان بعد الطوفان بزمن بابل «3» ، الذي هو أول من بنى بابل بعد نمرود بن كوش «4» ، وكان بارعا في علم الطب والفلسفة، عارفا بطبائع الأعداد، وكان [تلميذه] فيثاغورس(9/17)
الأرتماطيقا «1» . وهرمس هذا جدد من هذه العلوم «2» ما كان قد درس «3» بالطوفان".
قال:" وهذه- يعني بابل- مدينة الفلاسفة من أهل الشرق، وفلاسفتهم أول من حدد الحدود، ورتّب القوانين".
3- وأما (هرمس الثالث) :
فإنه سكن مدينة مصر، وكان بعد الطوفان.
قال ابن أبي أصيبعة:" وهو صاحب كتاب الحيوانات ذوات السموم، وكان طبيبا فيلسوفا، وعالما بطبائع الأدوية القتّالة، والحيوانات المؤذية، وكان جوّالا في البلاد، طوّافا بها، عالما بنصبة المدائن، وطبائعها، وطبائع أهلها. وله كلام حسن نفيس في صناعة الكيمياء ينتقل منه إلى صناعات كثيرة؛ كالزجاج، والخرز، والغضار" «4» .
وكان له تلميذ يقال له: اسقليبوس.
وكان سكنه بأرض الشام.
وأما فلاسفة اليونان: فأعظمهم قدرا خمسة، وهم:(9/18)
بند قليس، وفيثاغورس، وسقراط، وأفلاطون، وأرسطوطاليس وهو ابن نيقوماخس «1» .
فأولهم: بندقليس: وهو أول من خاض منهم اللجج، وخاصم بالجج، إلا أنه زل به العقل، وأصدأ مهنّده كثرة الصقل.
قال أبو القاسم صاعد بن أحمد بن صاعد «2» : إنه كان في زمان داود عليه السلام، وأخذ الحكمة عن لقمان الحكيم بالشام، ثم انصرف إلى بلاد اليونان؛ فتكلم في خلق العالم بأشياء يقدح ظاهرها في أمر المعاد، فهجره بعضهم.
ولطائفة من الباطنية ميل إلى حكمته، وتزعم أن له رموزا قلّ ما يوقف عليها.
قال ابن أبي أصيبعة «3» :" وإلى قوله في الصفات «4» ذهب أبو الهذيل(9/19)
العلاف" «1» .
ومنهم:
4- فيثاغورس
وهو ممن خرق الفجاج، حيث يتشكى طالع الصباح المسرى، وتترامى طوالع الرياح حسرى، وقد كان يروع الليل وثغر أفقه أشنب، وفجر مفرقه مقنب، لا يرده قول مؤنّب، ولا يصده ليل بآفاته مطنب، ولا يثني عزماته الموقنة من بارقة سوحها، ولا من مطوقة في حصر الغصون جنوحها.
قال أبو القاسم صاعد «2» :" إنه أخذ الحكمة عن [أصحاب] «3» سليمان- عليه السلام- بمصر، حين دخلوا إليها من بلاد الشام، وكان قد أخذ الهندسة قبلهم عن المصريين، ثم رجع إلى بلاد اليونان وأدخل عندهم علم الهندسة، وعلم الطبيعة، وعلم الدين. واستخرج [بذكائه] علم الألحان، وتوقيع النغم،(9/20)
وله رموز عجيبة، وله في شأن المعاد مذاهب قارب فيها بند قليس «1» .
وكان يرى السياحة، واجتناب مماسّة القاتل والمقتول.
وكان يقول: إنه أمر بتقديس الحواس، وتعلم العمل «2» بالعدل، وجميع الفضائل، والكف عن الخطايا، والبحث عن طبيعة كل شيء، والتحاب، والتأدب بشرح العلوم العلوية، ومجاهدة المعاصي، وعصمة النفوس، وتعلم الجهاد، وإكثار الصيام، والقعود على الكراسي، ومواعظ الملوك، وقراءة الكتب، وأن يعلّم الرجال الرجال، والنساء النساء، وكان قد اتّخذ أكلا غير مجوّع ولا معطّش لا يتعداه، ولم يكن يفرح بإفراط، ولا يحزن بإفراط.
ويحكى أنه أول من قال إن أموال الأخلاء مشاعة غير مقسومة، وكان يأمر بأداء الأمانة في الوديعة، وصدق الوعد، وكان يتكهن فلا يخطئ.
وكان يرمز حكمته؛ ومنها قوله:" لا تلبس تماثيل الملائكة على فصوص الخواتيم" أي: لا تجهر بديانتك و [تدع] أسرار العلوم الإلهية عند الجهّال «3» .(9/21)
وكان ممن استوطن أنطاكيا، بعد أن سافر إلى بلاد شتى طلبا للعلم، وأخذ عن الكلدانيين والمصريين، وغيرهم، وأخذ عن الكهنة.
وآخر أمره أنه كفر، فبقي مذبذبا لا تليقه بلد، ثم انحاز إلى هيكل تحصّن فيه، ولبث فيه أربعين يوما لا يغتذي، فأطيف به، وأحرق عليه الهيكل، فهلك هو ومن معه.
ومن كلامه:
قوله:" الأقوال الكثيرة في الله- سبحانه- علامة تقصير الإنسان عن معرفته".
وقوله:" ما أنفع للإنسان أن يتكلم بالأشياء الجليلة النفيسة فإن لم يمكنه فليسمع قائلها".
وقوله:" [احذر أن ترتكب قبيحا من الأمر، لا في خلوة، ولا مع غيرك] ، وليكن استحياؤك من نفسك أكثر من استحيائك من كل أحد".
وقوله:" ليكن قصدك بالمال في اكتسابه من حلال، وإنفاقه في مثله".
وقوله:" إذا سمعت كذبا فهوّن على نفسك الصبر عليه".
وقوله:" ما لا ينبغي أن تفعله احذر أن تخطره ببالك".
وقوله:" لا تدنّس لسانك بالقذف، ولا تصغ بأذنيك إليه".
وقوله:" الأشكال المزخرفة، والأمور المموهة في أقصر الزمان تتبهرج" «1» .
وقوله:" متى التمست أمرا ابدأ إلى ربك بالابتهال في النجح فيه".(9/22)
وقوله:" الإنسان الذي اختبرته بالتجربة فوجدته لا يصلح أن يكون صديقا وخلّا احذر من أن تجعله عدوا".
وقوله:" الأخلق بالإنسان أن يفعل ما ينبغي، لا ما يشتهي".
وقوله:" ما أحسن بالإنسان أن لا يخطئ، فإن أخطأ فما أكثر انتفاعه بأن يعلم بأنه أخطأ، ويحرص في أن لا يعاود".
وقوله:" الدنيا دول؛ مرة لك، وأخرى عليك، فإن توليت فأحسن، وإن تولّوك فلن".
وقوله:" ليس الحكيم من حمل عليه بقدر ما يطيق فصبر واحتمل، ولكن الحكيم من حمل عليه أكثر مما يحتمل فصبر".
وقوله:" إن أكثر الآفات إنما تعرض للحيوانات لعدمها الكلام، وتعرض للإنسان من قبل الكلام".
وقوله:" استعمل الفكر قبل العمل".
وقوله وقد نظر إلى شيخ يحب النظر في العلم ويستحيي أن يرى متعلما:" يا هذا! أتستحي أن ترى في آخر عمرك أفضل منك في أوله؟! ".
وقوله" وقد قيل له: ما أحلى الأشياء؟ قال: ما يشتهيه الإنسان" «1» .
ومنهم:
5- سقراط
وهو المعروف بسقراط الحب. والحب": وعاء من فخار كان يجلس فيه(9/23)
ويستغني عن اللباس، اتخذه رياشا له دون اللباس.
أعرض عن ملاذ الدنيا ورفضها، وفرّغ منها يديه ونفضها، وتجرّد من الدنيا إلا حب يستره، وجب يشهره، كأنما يتوقى من ماطل الفجر أشراكا خاتلة، ومن روائق النجوم نبالا قاتلة، فكان لا يستطيب مندياره مقيلا، ولا يستطب لعثاره مقيلا، فلم يأو جدارا ولا أطما، ولا ألجم رأسه عذارا ولا خطما، حتى انتهى إلى ما بلغ، وشفي كلب الموت من دمه ما ولغ.
قال أبو القاسم صاعد:" هو من تلاميذ فيثاغورس". واقتصر [من علوم الفلسفة] على العلوم الإلهية، وخالف اليونان في عبادة الأصنام، وحاجّ رؤساءهم بالأدلة، فنقدوا العالم عليه «1» ، واضطروا ملكهم إلى قتله، فأودعه السجن، ثم سقاه السم «2» .
وله وصايا شريفة، وآداب فاضلة، وحكم مشهورة، ومذاهب قريبة من فيثاغورس وبندقليس «3» ، إلا أن له في المعاد «4» آراء ضعيفة بعيدة عن محض الفلسفة، خارجة عن المذاهب المحققة".
وكان لا يستودع الحكم الصحف والقراطيس تنزيها لها، ويقول:" الحكمة طاهرة مقدّسة، غير فاسدة، ولا دنسة، فلا ينبغي أن نستودعها إلا الأنفس الحية، وننزهها عن الجلود الميتة، ونصونها عن القلوب المتمردة".
ولم يصنف كتابا، ولا أملى على أحد من تلاميذه ما أثبته في قرطاس؛ وإنما كان يلقنهم علمه تلقينا.(9/24)
وكان من عادة ملوك اليونان إذا حاربوا أخرجوا معهم حكماءهم، فأخرج الملك سقراط معه في سفرة خرج فيها، وكان سقراط يأوي إلى زير «1» مكسور يسكن فيه من البرد، وإذا طلعت الشمس خرج منه، فجلس عليه يستدفئ بالشمس، ولهذا سمي سقراط الحب «2» .
ومن كلامه:
قوله:" إملأ الوعاء طيبا" أي: حكمة.
وقوله:" لا تتجاوز الميزان" أي: لا تتجاوز الحق.
وقوله:" ازرع بالأسود، واحصد بالأبيض". أي: ازرع بالبكاء، واحصد بالسرور.
وقوله:" لا تشيلن الإكليل وتهتكه" أي: للسّنن الجميلة لا ترفضها لأنها تحوط جميع الأمم، كحياطة الإكليل للرأس «3» .
وقوله:" عجبا لمن علم فناء الدنيا كيف تلهيه عما ليس له فناء! ".
وقوله:" اتفاق النفوس باتفاق هممها، واختلافها باختلاف مرادها" «4» .
وقوله:" من بخل على نفسه فهو على غيره أبخل، [ومن جاد على نفسه فذلك المرجو جوده] «5» .(9/25)
وقوله:" ما ضاع من عرف نفسه، وما أضيع من جهل نفسه! ".
وقوله:" ستة لا تفارقهم الكآبة: الحقود، والحسود، وحديث عهد يغنى، وغني يخاف الفقر، وطالب رتبة يقصر قدره عنها، وجليس أهل الأدب وليس منهم".
وقوله:" العقول مواهب، والعلوم مكاسب".
وقوله:" اتقوا من تبغضه قلوبكم".
وقوله:" إذا وليت أمرا فأبعد عنك الأشرار، فإن جميع عيوبهم منسوبة إليك".
وقوله:" إنما أهل الدنيا كصور في صحيفة، كلما نشر بعضها طوي بعضها".
وقوله:" ينبغي للعاقل أن يخاطب الجاهل مخاطبة الطبيب للمريض".
وقوله:" طالب الدنيا قصير العمر، كثير الفكر".
وقوله:" من كان شريرا فالموت سبب راحة الناس «1» من شره".
وقوله:" إنما جعل للإنسان لسان واحد وأذنان ليكون ما يسمعه أكثر مما يتكلمه".
وسئل:" أي الأشياء ألذ؟ فقال: استفادة الأدب، واستماع أخبار لم تكن سمعت".
وقوله:" أنفع ما اقتناه الإنسان: الصديق المخلص".(9/26)
وقوله:" الصامت ينسب إلى العي «1» ، ويسلم. والساكت ينسب إلى الفضول ويندم".
وقوله:" من سره الزمان في حالة ساءه في أخرى".
وقوله:" لا ضرر أضرّ من الجهل، ولا شرّ أشرّ من النساء".
وقوله لتلميذ له:" يا بني! إن كان لا بد لك من النساء، فاجعل لقاءك لهنّ كأكل الميتة لا تأكلها إلا عند الضرورة".
وقوله:" وقد قيل له: ما تقول في النساء؟، فقال:" هنّ كشجر الدّفل «2» له رونق وبهاء، فإذا أكله الغرّ قتله «3» ".
وقوله:" لا يصدّنّك عن الإحسان جحود جاحد النعمة".
وقوله:" الجاهل من عثر بحجر مرتين".
وقوله:" اعلم أنك في أثر من مضى سائر، وفي محل من مات مقيم، وإلى العنصر الذي بدأت منه تعود".
وقوله:" ربّ متحرز «4» من الشيء تكون منه آفته".(9/27)
وقوله:" داووا الغضب بالصمت".
وقوله:" لأهل الاعتبار في صروف الدهر كفاية، وكل يوم يأتي عليك منه علم جديد". وله شعر باليونانية، عرّب فكان شعرا، وهو:
إنما الدّنيا وإن ومقت ... خطرة من لحظ ملتفت «1»
ومنهم:
6- أفلاطون
رجل ترى النجوم لديه أسافل، والخصوم بين يديه جوافل، والغيوم معتذرة إليه إذا أتته حوافل، يطأ الأراقم، ويطاول الخطب المتفاقم، ويكف بعقله النوازي، وتقصر رؤية الأفكار إذا ارتجل، وتقصى إذا ارتحل، وتقدم النظراء إليه ثم لا ترى إلا مبلسة، وتقدم الآراء ثم لا تنفذ إلا وسهامها مرسلة.
قال ابن جلجل «2» :" هو من [أهل] مدينة أثينا، رومي فلسفي، يوناني، طبي، عالم بالهندسة وطبائع الأعداد، وله في الطب كتاب بعثه إلى طيماوس(9/28)
تلميذه، وله في الفلسفة كتب وأشعار، وله في التأليف كلام لم يسبقه أحد إليه، استنبط به صنعة الديباج، وهو الكلام المنسوب إلى الخمس النسب التأليفية التي لا سبيل إلى وجود غيرها، ثم استشرف إلى علم العالم كله، وعرف موانع الأجزاء المؤتلفات الممتزجات باختلاف ألوانها، وأصباغها، وائتلافها على قدر النسبة، فوصل إلى علم التصوير، [فوضع أول حركة جامعة لجميع الحركات ثم صنفها بالنسبة العددية، ووضع الأجزاء المؤتلفة على ذلك فصار إلى علم تصوير التصويرات] فقامت له صناعة الديباج، وصناعة كل مؤتلف به.
وله في الفلسفة كلام عجيب «1» . وكان قد أخذ في أول أمره في تعلم علم الشعر، واللغة، فبلغ من ذلك مبلغا عظيما، إلى أن حضر يوما سقراطيس، وهو يثلب «2» صناعة الشعر، فأعجبه ما سمعه منه، وزهد فيما كان عنده منه، ولزم سقراط وسمع منه خمس سنين، ثم مات سقراط، فقصد مصر للقاء أصحاب فيثاغورس. وكان يتبع سقراط في الأشياء المحسوسة ويتبع فيثاغورس في الأشياء المعقولة. وكان يتبع سقراطيس في أمور التدبير «3» .
ثم رجع إلى بلده «4» ، ونصب فيها بيتي حكمة، وعلّم الناس، وفعل الجميل، وأعان الضعفاء. وكان حسن الأخلاق، كريم الأفعال، كثير الإحسان إلى كل ذي قرابة منه، وإلى الغرباء. ثبتا، حكيما، صبورا، وكان يرمز حكمته، ويشير إليها، ويتكلم بها ملغوزة حتى لا يظهر مقصده إلا لذوي الحكمة.(9/29)
وصنف عدة كتب «1» ، وكتبه يتصل بعضها ببعض أربعة، أربعة، يجمعها غرض واحد، ويخص كل واحد منها غرض خاص يشتمل عليه ذلك الغرض العام، ويسمي كل واحد منها رابوعا، وكل رابوع منها يتصل بالذي قبله.
وكان محبا للفلوات والصحاري والواحدة، وكان في الأكثر لا يستدل على موضعه إلا بصوت بكائه، وكان يسمع على ميلين، وكان منقوشا على خاتمه:" تحريك الساكن أسهل من تسكين المتحرك".
ومن كلامه:
قوله:" للعادة «2» على كل شيء سلطان".
وقوله- وقد قيل له: لم لا تجتمع الحكمة والمال؟ فقال" لعز الكمال «3» ".
وقوله:" غاية الأدب أن يستحي المرء من نفسه".
وقوله:" إذا خبث الزمان كسدت «4» الفضائل، وضرت، ونفقت الرذائل ونفعت، وكان خوف الموسر «5» أشد من خوف المعسر»
".
وقوله:" العزيز النفس هو الذي لا يذل للفاقة".
وقوله:" الحسن الخلق من صبر على السيئ الخلق".(9/30)
وقوله:" أشرف الناس من شرّفته الفضائل لا من تشرف بالفضائل «1» ".
وقوله:" الأمل خدّاع النفوس".
وقوله:" المشورة تريك طبع المستشار".
وقوله:" اطلب في حياتك العلم، والمال، والعمل الصالح، فإن الخاصة تفضلك بما تحسن، والعامة بما تملك، والجميع بما تعمل".
وقوله- وقد سئل عند موته عن الدنيا؟ فقال-:" خرجت إليها مضطرا، وعشت فيها متحيرا، وها أنا أخرج منها كارها، ولم أعلم فيها إلا أنني لا أعلم!! ". وعاش ثمانين سنة.
ومنهم:
7- أرسطوطاليس «13»
وهو ابن نيقوماخس «2» ، ذهب مذهب فيثاغورس.
رجل لا يقاس به أحد، ولا يقال إن مثله البحر فيخصّ بحد. أنواع العلماء(9/31)
عليه ضيوف، وأقوال الحكماء لديه زيوف. طلع صباحه، فطمي جدوله على الكواكب وطمسها، وطمّ جرف نهاره المنهار حفر الغياهب ودمسها. وعرف فضله بالضرورة، وفعله بالمآثر المبرورة، وعني بمداواة الأفهام، فأبرأ سقيمها، وأنتج عقيمها، فشفى من لمم، وأسمع من صمم، وحاز بانضواء الاسكندر الذي هو أحد ملوك العالم إليه فخرا، أصبح به نده يفخم، وضده يرغم، إذ كان لا تناط لديه إشاراته بإهمال، ولا تنال عنده إلا بالتعويل عليه أعمال.
ذكره أبو القاسم بن صاعد وقال:" إليه انتهت فلسفة اليونان، وكان خاتم حكمائهم، وسيد علمائهم، وهو أول من خلّص صناعة البرهان من الصناعات المنطقية، وصوّرها بالأشكال الثلاثة، وجعلها آلة العلوم النظرية، حتى لقّب بصاحب المنطق، وله في جميع العلوم الفلسفية كتب شريفة؛ كلية وجزئية" «1» .
قال ابن جلجل:" كان فيلسوف الروم، وعالمها، وجهبذها «2» ، ونحريرها «3» ، وخطيبها، وطبيبها، وكان أوحد في الطب، وغلب عليه علم الفلسفة" «4» .
قال المبشر بن فاتك:" كان أرسطو كثير التلاميذ، من الملوك وأبناء الملوك، وغيرهم، وعدّ منهم أناسا منهم: الاسكندر- وسماه الاسكندروس-" «5» .(9/32)
قال ابن أبي أصيبعة:" كان نيقوماخس أبو أرسطوطاليس طبيب [أمنطس أبي فيليبس، وفيلبس هذا هو أبو الاسكندر] وكان كل من أبيه وأمه من ولد اسقليبيوس، وكان خليفته على دار التعليم «1» ".
ولما قدم أفلاطون من صقلية انتقل أرسطو إلى لوقيون، واتخذ هناك دار التعليم المنسوبة إلى [الفلاسفة] المشائين، ثم رجع إلى مدينة الحكماء «2» ، ثم صار إلى مقدونيا يعلّم، إلى أن تجاوز الاسكندر بلاد آسيا، ثم استخلف في مقدونيا، فسعى إليه «3» بعض الكهنة في أرسطو، ونسبه إلى الكفر، لكونه كان لا يعظم الأصنام التي كانت تعبد!، فشخص أرسطو إلى بلاده، وبقي بها إلى أن مات وهو ابن ثمانين سنة" «4» .
" ثم إن أهل أسطاغيرا نقلوا بدنه وصيّروه في الموضع المعروف بالارسطوطاليسي، وصيّروا مجتمعهم للمشاورة في جلائل الأمور، وإذا صعب عليهم شيء من فنون العلم أتوا إلى مكان قبره فتناظروا ما بينهم فيظهر لهم ما أشكل، وكانوا يرون اجتماعهم عنده يذكي عقولهم، ويصحح فكرهم، وكانوا لا يزالون في أسف لفراقه، وحزن لما فقدوه من ينابيع حكمته" «5» .
وذكر المسعودي: أنه في ملرم «6» من صقلية، وكان جليل القدر في الناس، مكرما عند ملوك زمانه، وكان يحسن السفارة عندهم للرعية، حتى اتخذوا(9/33)
عمودا ونقشوا عليه اسمه، وحسن ما كان يصنعه معهم، إلا فرد رجل غاب عن رأيهم في هذا العمود، وعاب أرسطو، وهمّ بإزالة نقش العمود، فأمسك وقتل، ثم عمدوا إلى عمود آخر [....] «1» بالبناء عليه كالأول، وذكروا المتعرض المخالف الذي قتل، ولعنوه، وتبرأوا منه.
قال ابن أبي أصيبعة:" إن الاسكندر لما ملك صار أرسطو إلى التبتل والتخلي مما كان فيه من الاتصال بالملوك والملازمة لهم، ولزم موضع التعليم، وهو رواق المشائين، وأقبل على العناية بمصالح الناس، ورفد الضعفاء، وأهل الفاقة، وتزويج الأيامى، وعول اليتامى، ورفد طلبة العلم والتأدب «2» من كانوا، وأي نوع من العلم والأدب طلبوا، والصدقة على الفقراء، ولم يزل في غاية لين الجانب والتواضع، وحسن اللقاء للصغير والكبير، والقوي والضعيف، وأما قيامه بأمر أصدقائه فلا يوصف" «3» .
قال المبشر بن فاتك:" إن أرسطو لما بلغ ثماني سنين حمله أبوه إلى بلد الحكماء «4» ، وضمّه أبوه إلى الشعراء، والبلغاء، والنحويين، فأقام متعلما منهم تسع سنين، وكان اسم هذا العلم عندهم: المحيط- أعني علم اللسان، لحاجة جميع الناس إليه، لأنه المؤدي لكل حكمة، وبه يتحصل كل علم.
ثم بلغه أن قوما من الحكماء أزروا «5» بعلم البلغاء واللغويين، وعنّفوا(9/34)
المتشاغلين به، وزعموا أنه لا تحتاج إليه الحكمة، لأن النحويين معلمو الصبيان، والشعراء أصحاب أباطيل وكذب، والبلغاء أصحاب تمحّل ومراء «1» ، فأدركته الحفيظة «2» لهم، فناضل عنهم، واحتج لهم، وقال: إن فضل الإنسان على البهائم بالنطق، وأحقهم بالإنسيّة أبلغهم في منطقه، وإذا كانت الحكمة أشرف الأشياء فينبغي أن تكون العبارة عنها بأشرف المنطق لأن العيّ يذهب بنور الحكمة، ويقطع عن الأداء، ويقصر عن الحاجة، ويلبس على المستمع، ويفسد المعاني، فيورث الشبهة. ثم انتقل أرسطو إلى أفلاطون لتعلم العلوم الأخلاقية، والسياسية، والطبيعية، والتعليمية، والإلهية. وكان أفلاطون إذا استدعي منه الكلام يقول: اصبروا حتى يحضر الناس! فإذا جاء أرسطو قال: تكلموا، فقد حضر العقل! " «3» .
وقال حنين «4» :" كان منقوشا على [فص] خاتم أرسطو: المنكر لما يعلم أعلم من المقرّ بما لا يعلم! " «5» .(9/35)
ومن كلامه:
قوله:" بالفكر الثاقب يدرك الرأي العازب «1» ، وبالتأني تسهل المطالب، وبلين الكلم تدوم المودة في الصدور، وبخفض الجناح تتم الأمور، وبسعة الأخلاق يطيب العيش، ويكمل السرور، وبالإنصاف يحب التواصل، وبالتواضع تكثر المحبة، وبالعفاف تزكو الأعمال، وبالعدل يقهر العدو، وبالحلم تكثر الأنصار، وبالرفق تستخدم القلوب «2» ، وبالوفاء يدوم الإخاء، وبالصدق يتم الفضل، ومن الساعات تتولد الآفات، وبالعافية يوجد طيب الطعام والشراب، وبحلول المكاره تتكدر النعم، وبالمنّ يدحض الإحسان، وبالجحود يستوجب الحرمان، والبخيل ذليل وإن كان غنيا، والجواد عزيز وإن كان مقلا، والطمع الفقر الحاضر، واليأس الغنى الظاهر.
" لا أدري نصف العلم، والأدب يغني عن الحسب، والتقوى شعار العالم، والرياء لباس الجاهل، ومقاساة الأحمق عذاب الروح، والاشتغال بالفائت يضيع الأوقات، والتمني سبب الحسرة، والصبر تأييد العزم".
" صديق الجاهل مغرور، والمخاطر خائب".
" من عرف نفسه لم يضع. المجرب أحكم من الطبيب. إذا فاتك الأدب فالزم الصمت. من لم ينفعه العلم لم يأمن من ضرر الجهل. من افتخر ارتطم. من عجل تورّط. من تفكّر سلم. من سأل علم. للعادة على كل أحد سلطان. كل شيء يستطاع نقله إلا الطباع. كل شيء يحتال له إلا القضاء. من عرف الحكمة لحظته العيون بالوقار. لا يؤتى الناطق إلا من سوء فهم السامع. الجزع عند(9/36)
مصايب الأحزان أحمد من الصبر. وصبر المرء على مصيبته أحمد من الجزع.
ليس شيء أقرب إلى تغيير النعم من الإقامة على الظلم. من طلب خدمة السلطان بلا أدب خرج من السلامة إلى العطب.
" إذا أردت الغنى فاطلبه بالقناعة، فإن من لم يكن له قناعة لا يغنيه المال وإن كثر. لا تبطل لك عمرا في غير نفع، ولا تضع لك مالا في غير حق، ولا تصرف لك قوة في غنى، ولا رأيا في غير رشد".
" العالم يعرف الجاهل لأنه كان جاهلا، والجاهل لا يعرف العالم لأنه لم يكن عالما. اطلب الغنى الذي لا يفنى، والحياة التي لا تتغير، والملك الذي لا يزول، والبقاء الذي لا يضمحل".
" أصلح نفسك لنفسك يكن الناس تبعا لك، واقترض من عدوك الفرصة، واعمل على أن الدهر ذو دول. لا تصادم من كان على الحق، ولا تجاذب من كان متمسكا بالدين".
" لا فخر فيما يزول، ولا غنى فيما لا يثبت. لا تغفل فإن الغفلة تورث الندامة.
لا ترج السلامة لنفسك حتى يسلم الناس من جورك «1» ، ولا تعاقب غيرك على أمر ترخص فيه لنفسك".
" اعتبر ممن تقدم، واحفظ ما مضى، والزم الصحة يلزمك النصر. الصدق قوام أمر الخلائق. الكذب داء لا ينجو من نزل به. من تجبّر على الناس أحب الناس ذلّته.
من أفرط في اللوم كرهت حياته. من مات محمودا كان أحسن حالا ممن عاش مذموما".
" من نازع السلطان مات قبل يومه. أي ملك نازع السوقة «2» هتك شرفه. من(9/37)
مات قلّ حاسده. الحكمة شرف من لا قديم له. سوء الأدب يهدم ما بناه الأب.
الجهل شر الأصحاب. النميمة تهدي إلى القلوب البغضاء. ومن واجهك فقد شتمك، ومن نقل إليك نقل عنك. الجاهل عدوّ لنفسه، فكيف يكون صديقا لغيره؟. الوفاء نتيجة الكرم. لسان الجاهل مفتاح حتفه. الحاجة تفتح باب الحيلة. بترك ما لا يعنيك يتم لك الفضل. ليس زيادة القوة بكثرة ما يرد البدن من الغذاء ولكن بكثرة ما يقبل منه".
" امتحن المرء في وقت غضبه لا في وقت رضاه، وفي وقت قدرته لا في وقت ذلته. خير الأشياء أجدّها إلا المودّات خيرها أقدمها" «1» .
وكتب إلى الاسكندر:" إذا أعطاك الله الظفر فافعل ما أحبّ من العفو".
وكتب إليه:" الأردياء «2» ينقادون بالخوف، والخيار ينقادون بالحياء، فميّز بين الطبقتين، واستعمل في أولئك البطش والخوف، وفي هؤلاء الإفضال والإحسان".
وكتب إليه:" ليكن غضبك بين المنزلتين لا شديدا فاشيا، ولا فاترا ضعيفا، فإن هذه من أخلاق السباع، وهذه من أخلاق الصبيان".(9/38)
ومنهم:
8- يعقوب بن إسحاق الكنديّ «13»
أبو يوسف، فيلسوف العرب «1» .
من ولد الأشعث بن قيس «2» ، والأشعث من ولد معاوية الأكبر ابن الحارث الأصغر، ابن معاوية ابن الحارث الأكبر.
وكان الأشعث ملكا على كندة، وله صحبة، وللأعشى فيه مدائح «3» .(9/39)
وكان من آبائه ملوك [على معبد] «1» بالمشقر، واليمامة، والبحرين.
وكان [أبوه] إسحاق بن الصباح [أميرا] على الكوفة للمهدي والرشيد، وكان ابنه يعقوب هذا عظيم المنزلة عند المأمون والمعتصم، و [عند] ابنه أحمد.
أملاكه بالبصرة «2» . وتأدب ببغداد، وكان عالما بالطب والفلسفة، والحساب، والمنطق، واللحون «3» ، والهندسة، وطبائع الأعداد، والنجوم، ولم نجد في الإسلام فيلسوفا خلف أرسطو سواه!.
له تصانيف كثيرة في فنون العلم «4» .
خدم الملوك، وترجم كثيرا من كتب الفلسفة، وبين ما جمجم «5» على أهل المعرفة، وأحجم عن مثاورته كل قسورة، وخاتل «6» دون مساورته كل ابن بهماء مقفرة، وأثرى بعلمه كل مملق، وأربى في يمه كل محملق، وقصّر لديه حجة كل مناظر، ودرس محجة كل خاطر، وردّ من عادى كندة من كنود الأبطال، وأكبد بفضلها كبود أهل المطال، حتى خشي من كاد كندة، وخزي بالقبيح لحسن ما عنده، فلو نشر ملكها الضلّيل لما فخر بلسانه قدر ما فخر بإحسانه، ولما حمل(9/40)
راية الشعراء بيده إلا بعد أخذ أمانه، ولا طلب ثأر أبيه ولو قدر عليه إلى زمانه.
ذكره ابن أبي أصيبعة، وذكر من كلامه قوله في وصية:
[قوله] ": وليتق الله المتطبب، ولا يخاطر، فليس عن الأنفس عوض".
وقوله:" وكما يحب أن يقال له: إنه كان سبب عافية العليل وبرئه، [كذلك فليحذر] أن يقال: إنه كان سبب تلفه وموته".
وقوله- مما أوصى به ولده-:" يا بني! الأب رب، والأخ فخ، والعم غم، والخال وبال، والولد كمد، والأقارب عقارب، وقول:" لا" يصرف البلا «1» ، وقول: نعم، يزيل النعم، وسماع الغناء برسام «2» حاد، لأن الإنسان يسمع فيطرب، وينفق «3» فيسرف، فيفتقر، فيغتم، فيعتل، فيموت!.
والدينار محموم، فإن صرفته مات، والدرهم محبوس فإن أخرجته فرّ. والناس سخرة، فخذ شيئهم واحفظ شيئك، ولا تقبل ممن قال اليمين الفاجرة [فإنها] تذر الديار بلاقع «4» ".
قلت: وهذا الكندي هو الذي حضر أبا تمام حين أنشد أحمد بن المعتصم(9/41)
قوله فيه:
ما في وقوفك ساعة من باس «1»
وهو صاحب الواقعة معه فيها، وهي في موضعها من ذكر أبي تمام أشبه.
ومنهم:
9- أحمد بن الطّيّب السّرخسيّ «13»
أبو العباس.
مفنّن جليل المفاخر، متقن لعلوم الأوائل وطرف من علوم الأواخر، هذا إلى خشن مناظرة، وحسن محاضرة، وبوادر أجوبة حاضرة، ونوادر ما أتت بحرازها أهل بادية ولا حاضرة، ومع هذا كله يزن عقله الجبال، ويوقر فضله الجمال، ويقتدي بفيضه البحر إلا أنه لا يمر، والسحاب إلا أنه الذي ينسكب ولا يدر.
قال ابن أبي أصيبعة:" هو ممن ينتمي إلى الكندي، وعليه قرأ، [ومنه أخذ] ، وكان متفننا في علوم القدماء والعرب، حسن المعرفة، جيد القريحة، بليغ اللسان، مليح التصنيف [والتأليف] ، أخذ في النحو والشعر، أوحد في [علم](9/42)
النحو والشعر، فصيح الشعر، مليح النادرة، وسمع الحديث. وكان خليعا ظريفا" «1» .
" وولي حسبة بغداد أيام المعتضد، وكان قبل هذا يعلّمه، وينادمه، وكان يفضي إليه بأسراره، ويستشيره في أمور ملكه، وكان يغلب علم السرخسي على عقله، وقتله «2» بحيلة دبّرها الوزير عليه، حتى أخذ خط المعتضد بقتل رجال دسّه بينهم، فلما قتل سأل عنه المعتضد، فأخبره القاسم أنه قتل، فأنكر، فأراه خطّه، فسكت، ومضى بعد أن بلغ السماء رفعة".
ومنهم:
10- كنكه الهندي «13»
من أقدم الحكماء، وأقوم القوم، يبث ما أنزل في الأرض من خير السماء، وأعلم الكل بما ينبت من العقاقير ذوات الأسماء.
أخذ عنه الحكماء أصحاب النواميس، واستمد اليونان مما وصل من كتبه إلى(9/43)
أرسطوطاليس، وهو الذي لا يرتفع معه ذكر نابه، ولا يقاومه قدر مشابه.
قال ابن أبي أصيبعة:" إنه حكيم بارع من متقدمي حكماء الهند وأكابرهم، وله نظر في صناعة الطب، وقوى الأدوية والطبائع المولدات، وخواص الموجودات، وكان من أعلم الناس بهيئة العالم، وتركيب الأفلاك وحركات النجوم".
وقال أبو معشر «1» :" إن كنكه هو المتقدم في علم النجوم عند جميع علماء الهند في سالف الدهر".
قلت: ومنها كتاب في" أحداث العالم والدور في القرآن". وهذا كتاب مجد لو وجد، وهيهات!! «2» .
ومنهم:
11- صنجهل الهندي
وهو ثانيه في الرتبة، وثالثه في صعود الهضبة، فلو نطقت النجوم لما عدّت شكره، أو العلوم لما عدّت إلا برّه.
قال ابن أبي أصيبعة:" كان من علماء الهند وفضلائهم، الخبيرين بعلم الطب والنجوم" «3» .(9/44)
ومنهم:
12- أبو نصر الفارابيّ «13»
محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرخان «1» .
من أهل مدينة فاراب «2» من مدن الترك في أرض خراسان، وكان أبوه قائد جيش وهو فارسي المنتسب، وكان ببغداد مدة ثم انتقل إلى الشام، وأقام به إلى(9/45)
حين وفاته.
وكان- رحمه الله- فيلسوفا كاملا، وإماما فاضلا، بحرا منه يغرف، وحبرا له يعرف، قد أتقن العلوم الرياضية، زكي النفس، قويّ الذكاء، متجنّبا عن الدنيا، مقتنعا منها بما يقوم به أوده «1» ، ويسير سيرة الفلاسفة المتقدّمين، وكان له قوة في صناعة الطب، وعلم بالأمور الكلية منها، ولم يباشر أعمالها، ولا حاول جزئياتها.
قال ابن أبي أصيبعة:" وحدّثني سيف الدين أبو الحسن علي بن أبي علي الآمدي «2» - رحمه الله تعالى-: أن الفارابي كان في أول أمره ناطورا في بستان بدمشق، وهو على ذلك دائم الاشتغال بالحكمة والنظر فيها، والتطلع إلى آراء المتقدمين وشرح معانيها، وكان ضعيف الحال، حتى إنه كان في الليل يسهر بالمطالعة والتصنيف، ويستضيء بالقنديل الذي للحارس، وبقي كذلك مدة.
ثم إنه عظم شأنه، وظهر فضله، واشتهرت تصانيفه، وكثرت تلاميذه، وصار أوحد زمانه، وعلّامة وقته. واجتمع به الأمير سيف الدولة أبو الحسن علي بن(9/46)
عبد الله بن حمدان التغلبي «1» ، وأكرمه إكراما كثيرا، وعظمت منزلته عنده، وكان له مؤثرا.
ونقلت من خط بعض المشايخ، أن أبا نصر الفارابي سافر إلى مصر سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة، [ورجع إلى دمشق، وتوفي بها سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة] ، عند سيف الدولة علي بن حمدان، وفي خلافة الراضي، وصلى عليه سيف الدولة في خمسة عشر رجلا من خاصته «2» .
ويذكر أنه لم يكن يتناول من سيف الدولة من جملة ما ينعم به عليه سوى أربعة دراهم فضة في اليوم، يخرجها فيما يحتاجه من ضروري عيشه، ولم يكن معتنيا بهيئة، ولا [منزل] ولا مكسب. ويذكر أنه كان يغتذي بماء قلوب الحملان مع الخمر الريحاني فقط. ويذكر أنه كان في أول أمره قاضيا، فلما شعر بالمعارف نبذ ذلك، وأقبل بكليته على تعليمها، ولم يسكن إلى نحو من أمور الدنيا البتة.
ويذكر أنه كان يخرج إلى الحرّاس في الليل من منزله، يستضيء بمصابيحهم فيما يقرؤه، وكان في علم صناعة الموسيقى وعملها قد وصل إلى غاياتها، وأتقنها إتقانا لا مزيد عليه. ويذكر أنه صنع آلة غريبة يسمع منها ألحان بديعة، يحرك بها الانفعالات.
ويذكر أن سبب قراءته للحكمة أن رجلا أودع عنده جملة من كتب أرسطوطاليس، فاتفق أنه نظر فيها، فوافقت منه قبولا وتحرك إلى قراءتها، ولم يزل(9/47)
إلى أن أتقنها فهما، وصار فيلسوفا بالحقيقة.
ونقلت من كلام لأبي نصر الفارابي في معنى [اسم] الفلسفة، قال:" اسم الفلسفة: يوناني، وهو دخيل إلى العربية، وهو على مذهب لسانهم فيلسوفا، ومعناه إيثار الحكمة. وهو مركب من:" فيلا" ومن:" سوفيا". ف:" فيلا" الإيثار.
و" سوفيا": الحكمة.
والفيلسوف مشتق من:" الفلسفة" وهو على مذهب لسانهم:" فيلسوفوس". فإن هذا التغيير هو تغيير كثير من الاشتقاقات عندهم، ومعناه:
المؤثر للحكمة. والمؤثر للحكمة هو الذي يجعل الوكد «1» من حياته، وغرضه من عمره الحكمة.
وحكى أبو نصر الفارابي في ظهور الفلسفة ما هذا نصه، قال:" إن أمر الفلسفة اشتهر في أيام ملوك اليونانيين، بعد وفاة أرسطوطاليس بالاسكندرية إلى آخر أيام المرأة. وأنه لما توفي بقي التعليم بحاله فيها، إلى أن ملك ثلاثة عشر ملكا، وتوالى في مدة ملكهم من معلمي الفلسفة اثنا عشر معلما أحدهم المعروف ب" أندرو نيقوس". وكان آخر هؤلاء الملوك المرأة، فغلبها أو غسطس الملك من أهل رومية، وقتلها، واستحوذ على الملك، فلما استقر له نظر في خزائن الكتب وصنعتها، فوجد فيها نسخا من كتب أرسطوطاليس، قد نسخت في أيامه، وأيام ثاوفرسطس، ووجد المعلمين والفلاسفة قد عملوا كتبا في المعاني التي عمل فيها أرسطو [فأمر أن تنسخ تلك الكتب، التي كانت نسخت في أيام أرسطو] «2» وتلاميذه، وأن يكون التعليم منها، وأن ينصرف عن الباقي.(9/48)
وحكم أندرونيقوس في تدبير ذلك، وأمره أن ينسخ نسخا يحملها معه إلى رومية، [ونسخا يبقيها في موضع التعليم بالاسكندرية، وأمره أن يستخلف معلما يقوم مقامه بالاسكندرية، ويسير معه إلى رومية] . فصار التعليم في موضعين، وجرى الأمر على ذلك، إلى أن جاءت النصرانية، فبطل التعليم من رومية، وبقي بالاسكندرية إلى أن نظر ملك النصرانية في ذلك، واجتمعت الأساقفة وتشاوروا فيما يترك من هذا العلم وما يبطل. فرأوا أن يعلم من كتب المنطق إلى آخر الأشكال الوجودية، ولا يعلّم ما بعده، لأنهم رأوا أن في ذلك ضررا على النصرانية، وأن فيما أطلقوا تعليمه ما يستعان «1» به على نصرة دينهم، فبقي الظاهر من التعليم هذا المقدار، وما ينظر فيه من الباقي مستورا، إلى أن كان الإسلام بعده بمدة طويلة، فانتقل التعليم من الاسكندرية إلى أنطاكية، وبقي بها زمنا طويلا، إلى أن بقي معلم واحد، فتعلم منه رجلان، وخرجا ومعهما الكتب، وكان أحدهما من أهل حران، والآخر من أهل مرو.
فأما الذي من أهل مرو: فتعلم منه رجلان، أحدهما: [إبراهيم] المروزي.
والآخر: يوحنا بن جيلان.
وتعلم من الحراني: [إسرائيل] الأسقف وقويري، وساروا إلى بغداد، فتشاغل إبراهيم بالدين، وأخذ قويري في التعليم. وأما يوحنا بن جيلان: فإنه تشاغل أيضا بدينه.
وانحدر إبراهيم المروزي إلى بغداد، فأقام بها، وتعلم من المروزي متى بن يونان. وكذلك الذي يتعلم في ذلك الوقت إلى آخر الأشكال الوجودية.
وقال أبو النصر الفارابي عن نفسه: إنه تعلم من يوحنا بن جيلان، إلى آخر(9/49)
كتاب البرهان. وكان يسمى ما بعد الأشكال الوجودية الجزء الذي لا يقرأ، إلى أن قرئ بعد ذلك، وصار الرسم بعد ذلك حيث صار الأمر إلى معلمي الإسلام أن يقرأ من الأشكال الوجودية إلى حيث قدر الإنسان أن يقرأ. فقال أبو نصر: إنه قرأ إلى آخر كتاب البرهان.
وحدّثني عمي رشيد الدين أبو الحسن علي بن خليفة- رحمه الله-: أن الفارابي توفي عند سيف الدولة بن حمدان في رجب سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، وكان أخذ الصناعة عن يوحنا بن جيلان، ببغداد، وكان في أيام المقتدر، وكان في زمانه أبو البشر متى بن يونان، وكان أسنّ من أبي نصر، وكان أبو نصر أحدّ ذهنا منه، وأعذب كلاما، وتعلم أبو البشر متى من إبراهيم المروزي، وتوفي أبو البشر في خلافة الراضي فيما بين سنة ثلاث وعشرين إلى سنة تسع وعشرين وثلاثمائة. وكان يوحنا بن جيلان، وإبراهيم المروزي قد تعلما جميعا من رجل من أهل مرو.
وقال الشيخ أبو سليمان محمد بن طاهر بن بهرام السجستاني في معلقاته:
إن يحيى بن عدي أخبره أن متّى قرأ إيساغوجي «1» على إنسان نصراني. وقرأ قاطيغورياس وبارمينياس على إنسان يسمى روبيل، وقرأ كتاب القياس على أبي يحيى المروزي «2» .(9/50)
وقال القاضي صاعد بن أحمد بن صاعد، في كتاب" التعريف بطبقات الأمم": إن الفارابي أخذ صناعة المنطق عن يوحنا بن جيلان «1» ، المتوفى بمدينة السلام في أيام المقتدر، فبزّ «2» جميع أهل الإسلام فيها، وأربى عليهم في التحقيق بها، وشرح غامضها، وكشف سرّها، وقرب تناولها، وجمع ما يحتاج إليه منها في كتب صحيحة العبارة، لطيفة الإشارة، منبّهة على ما أغفله الكندي وغيره، من صناعة التحليل، وإيحاء التعاليم. وأوضح القول فيها عن موادّ المنطق الخمس، وإفادة وجوه الانتفاع بها، وعرّف طرق استعمالها، وكيف تصرف صورة القياس في كل مادة منها. فجاءت كتبه في ذلك الغاية القصوى، الكافية، والنهاية الفاضلة.
ثم له بعد ذلك كتاب شريف في إحصاء العلوم، والتعريف بأغراضها، لم يسبق إليه، ولا ذهب أحد مذهبه فيه، لا يستغني طلاب العلوم كلها عن الاهتداء به، وتقديم النظر فيه.
وله كتاب في" أغراض فلسفة أفلاطون وأرسطوطاليس". يشهد له بالبراعة في صناعة الفلسفة والتحقيق بفنون الحكمة، وهو أكبر عون على تعلم طريق النظر، وتعرّف وجوه الطلب، اطّلع فيه على أسرار العلوم، وثمارها علما [علما] ، وبين كيف التدرج من بعضها إلى بعض [شيئا فشيئا] .
ثم بدأ بفلسفة أفلاطون، فعرف غرضها منها، وسمّى تواليفه «3» فيها.
ثم أتبع ذلك بفلسفة أرسطو، فقدّم له مقدّمة جليلة، عرف فيها بتدرجه إلى(9/51)
فلسفته، ثم بدأ بوصف أغراضه في تواليفه المنطقية والطبيعية، كتابا كتابا، حتى انتهى به القول في النسخة الواصلة إلينا إلى أول العلم الإلهي، والاستدلال بالعلم الطبيعي عليه. ولا أعلم كتابا أجدى على طالب الفلسفة منها، فإنه يعرّف بالمعاني المشتركة لجميع العلوم، والمعاني المختصة بعلم علم منها. ولا سبيل إلى معاني قاطيغورياس وكيف هي «1» الأوائل الموضوعة لجميع العلوم.
ثم له بعد ذلك في العلم الإلهي والعلم المدني كتابان لا نظير لهما، أحدهما المعروف ب:" السياسة المدنية". والآخر المعروف ب:" السيرة الفاضلة. عرّف فيهما بجمل عظيمة من العلم الإلهي، على مذهب أرسطوطاليس، في [المبادئ الستة] الروحانية، وكيف يؤخذ عنها الجواهر الجسمانية، على ما هي عليه من النظام، واتصال الحكمة. وعرّف فيها مراتب الإنسان وقواه النفسانية، وفرّق بين الوحي والفلسفة، ووصف أصناف المدن الفاضلة، واحتياج المدينة إلى السيرة الملكية، والنواميس النبوية «2» .
أقول «3» : وفي التاريخ: أن الفارابي كان يجتمع بأبي بكر بن السراج «4» ،(9/52)
يقرأ عليه صناعة المنطق. وكان الفارابي يشعر أيضا.
وسأل بعضهم أبا نصر: أيما أعلم أنت أم أرسطو؟.
فقال: لو أدركته لكنت أكبر تلامذته! «1» .
ويذكر عنه أنه قال: قرأت السماع لأرسطو أربعين مرة، وأرى أنني محتاج إلى معاودته.
ومن شعر أبي نصر: [البسيط]
لمّا رأيت الزّمان نكسا ... وليس في الصّحبة انتفاع
كلّ رئيس به ملال ... وكلّ رأس به صداع
لزمت بيتي وصنت عرضا ... به من العزّة اقتناع
أشرب مما اقتنيت راحا ... لها على راحتي شعاع
لي من قواريرها ندامى ... ومن قراقيرها سماع
وأجتني من حديث قوم ... قد أقفرت منهم البقاع
وقال أيضا: [المتقارب]
أخي خلّ حيّز ذي باطل ... وكن للحقائق في حيّز
فما الدّار دار خلود لنا ... ولا المرء في الأرض بالمعجز
وهل نحن إلا خطوط وقعن ... على كرة وقع مستوفز
ينافس هذا لهذا على ... أقل من الكلم الموجز
محيط السّماوات أولى بنا ... فكم ذا التزاحم في المركز(9/53)
ومنهم:
13- يحيى بن عدي «13»
أبو زكرياء المنطقي. حكيم علمه والودق «1» شيئان، وقلمه والبرق سيّان.
كان أول حاله علما في ملته، ومعلما لأهل قبلته، وعرف بالمنطق مع أنه بعض علومه، ومن جملة ما دخل من الخصائص في عمومه، وأضاءت له من الأدب لمع تمّمت فضائله، ونمّت هلاله، والبدور الكوامل متضائلة.
قال ابن أبي أصيبعة:" انتهت إليه الرياسة ومعرفة العلوم الحكمية في وقته، وكان أوحد دهره في مذهب النصارى اليعقوبية، وكان كثير الكتابة، وكتب تفسير الطبري مرتين. وقال: لعهدي بنفسي أكتب في اليوم والليلة مائة ورقة، وأقل!!.
وأوصى أن يكتب على قبره «2» : [الخفيف]
ربّ ميت قد صار في العلم حيّا ... ومبقّى قد مات جهلا وعيّا
فاقتنوا العلم كي تنالوا خلودا ... لا تعدّوا الحياة في الجهل شيّا «3»(9/54)
ومنهم:
14- أبو بكر محمّد بن زكريّاء الرّازيّ «13»
لم يبق علم ما أتى منه بجذوة، ولا عالم إلا ولديه حبوة، تفنن في أنواع العلوم، فقرأ منها ما أوقر حمل خاطره، وملأ إناء ماطره. وكان فكره المقترح شرر زناد، ونظره الملتمح شرك ازدياد، وفضله المنوّع جمّ المذاهب، وجماع المحاسن الذواهب. وأكثر النقل يقف عنده سلسلته، وأعمق المشكل به تعرف مسألته.
قال ابن أبي أصيبعة:" مولده ومنشؤه بالري «1» ، وسافر إلى بغداد وأقام بها مدة، وكان نهما في العلوم العقلية، مشتغلا بها، وتعلم الأدب، ونظم الشعر".
قال:" وكان سبب تعلمه الطب أنه لما أتى مدينة السلام دخل البيمارستان العضدي «2» ، فرأى الصيدلاني به، فسأله عن الأدوية ومن كان المظهر لها؟ فقال(9/55)
له: إن أول ما عرف منها:" حي العالم" «1» ، وذلك أن رجلا كان به ورم حار في ذراعه، فلما أشفى منه ارتاح إلى الخروج إلى شاطئ نهر، فحمل إليه، وكان عليه نباته، فوضع يده عليه تبرّدا به، فخفّ ألمه بذلك، فاستطال وضعها عليه، ثم أصبح ففعل ذلك، فبرأ، فلما رأى الناس سرعة برئه، علموا أنه إنما كان بما وضع يده عليه، فسموه:" حياة العالم" [وتداولته الألسن وخففته وسمي: حي العالم"] . ثم جففوه، ثم لم يزل الرازي يسأل حتى حسن له التعليم فتعلّم".
قال:" والذي صحّ عندي أن الرازي كان أقدم زمانا من عضد الدولة بن بويه، وإنما كان تردده إلى المارستان قبل أن يجدد" «2» .
وقال ابن جلجل:" إن الرازي كان في ابتداء أمره يضرب بالعود، ثم أكب على النظر في الفلسفة والطب، فبرع براعة المتقدمين".
وقال ابن صاعد:" إنما لم يوغل في العلم الإلهي ولا فهم غرضه الأقصى، فاضطرب رأيه وتقلّد آراء سخيفة، وانتحل مذاهب خبيثة، وذمّ أقواما لم يفهم(9/56)
عنهم، ولا اهتدى لسبيلهم" «1» .
وكان يتنقل في البلدان، وكان كريما متفضلا بارّا بالناس، محسنا إلى الفقراء، يجري عليهم الجرايات الواسعة، ويمرّضهم، وكان لا يفارق التسويد والتبييض، وكان في بصره رطوبة لكثرة أكل الباقلاء، ثم عمي آخر عمره".
قال التنوخي «2» :" إن غلاما قدم الري وهو ينفث الدم، فأحضر إليه الرازي، فلم تظهر له علائم سل «3» ولا قرحة «4» . فسأله: متى بدأ به المرض؟. فقال: من الطريق. فسأله: عن المياه التي شربها في طريقه؟. فأخبره أنها من الصهاريج «5» ، ومستنقعات الأرض. فوقع في نفس الرازي أنه ابتلع علقة، وأن نفث الدم منها.
فقال له: إذا كان في غد، جئتك فداويتك، ثم لا أنصرف عنك حتى تبرأ، بشرط أن تأمر غلمانك أن يطيعوني فيك بما آمرهم. فقال: نعم. فلما أصبح أتاه بطحلب «6» كثير، وقال له: ابتلع هذا!، فابتلع يسيرا، ثم قال: لا أستطيع.(9/57)
فأمر الغلمان بأن ينيّموه على قفاه، ويفتحوا فاه، ثم جعل يبلعه الطحلب كرها، ويطالبه ببلعه، والرجل يستغيث!، والرازي لا يكف، إلى أن ذرع «1» الرجل القيء، فقذف ما في جوفه، وإذا به قد اعتلقت به علقة، لأن الطحلب لما وصل إليها قرمت «2» إليه بالطبع، والتفّت عليه. ثم قام الرجل معافى.
وقال ابن معرّف «3» :" كان الرازي يقول: أنا لا أسمي فيلسوفا إلا من علم صناعة الكيمياء، لأنه يكون قد استغنى عن [التكسب من أوساخ] الناس، وتنّزه عما في أيديهم، [ولم يحتج إليهم] ."
وحكي أن الوزير أكل عند الرازي أطعمة استطابها، فتحيّل في مشتري طباخته ثم لم يجد بطبيخها له ما في نفسه، فسألها عن السبب؟ فأخبرته أن قدور الرازي، وما عونه كله ذهب وفضة!. فسأله أن يعلمه علم الكيمياء.
فأنكره، فخنقه بوتر «4» .
ومن كلامه قوله:" الحقيقة في الطب غاية لا تدرك، والعلاج [بما تنصه] الكتب دون إعمال الماهر الحكيم برأيه خطر".
وقوله:" العمر يقصر عن الوقوف على فعل كل نبات في الأرض، فعليك بالأشهر مما أجمع عليه، [ودع الشاذ] ، واقتصر على ما جرّبت".(9/58)
وقوله:" الأمراض الحارة أقتل من الباردة لسرعة حركة النار".
وقوله:" ينبغي للطبيب أن يوهم المريض أبدا الصحة، وإن كان غير واثق بها، فمزاج البدن تابع لأخلاق النفس".
وقوله:" ينبغي للمريض أن يقتصر على واحد ممن يوثق به من الأطباء، فخطؤه في جنب صوابه يسير جدا".
وقوله:" من يتطبب عند كثير من الأطباء يوشك أن يقع في خطأ كل واحد منهم".
وقوله:" بانتقال الكواكب الثابتة في الطول والعرض تنتقل الأخلاق والمزاجات".
وقوله:" إن استطاع الحكيم أن يعالج [بالأغذية] دون الأدوية فقد وافق السعادة". ومن شعره [الطويل] «1»
لعمري ما أدري وقد آذن البلى ... بعاجل ترحال؛ إلى أين ترحالي؟
وأين محلّ الرّوح بعد خروجه ... من الهيكل المنحلّ والجسد البالي؟
ومنهم:
15- أبو سليمان السّجستاني «13»
حكيم حكي من فضله العجائب، وجيء من سجله بالسحائب، ويعد في العلم الجم قليبه، وسعد بالسقيا به بعيده وقريبه، انبعث طبه في العلل انبعاث(9/59)
النفوس في الأبدان، والشموس في البلدان، ولم يزل حتى اطلع بعلم، واضطلع من كل مهم، فاستعطفت الأجسام أرواحها، واستكفت المنايا رماحها، فأضحت به الصحة مضمونة، والسلامة محققة وكانت مظنونة، اللهم إلا ما آن لبقية أنظرت، وآجال بها علمت نفس ما أحضرت، وتلك العقرب التي لا يتوقى لها دبيب، والداء الذي أعيا دواؤه كل طبيب.
قال ابن أبي أصيبعة:" هو أبو سليمان محمد بن طاهر بن بهرام المنطقي. كان متقنا للعلوم الحكمية، مطّلعا على دقائقها. واجتمع بيحيى بن عدي «1» ، وأخذ عنه وكان له نظر في الأدب، وشعر، ومنه قوله «2» : [الكامل]
لا تحسدن على تظاهر نعمة ... شخصا تبيت له المنون بمرصد
أو ليس بعد بلوغه آماله ... يفضي إلى عدم كأن لم يوجد؟
لو كنت أحسد ما تجاوز خاطري ... حسد النجوم على بقاء مرصد
وقوله: [الكامل]
الجوع يدفع بالرغيف اليابس ... فعلام أكثر حسرتي ووساوسي
والموت أنصف، حين ساوى حكمه ... بين الخليفة والفقير البائس
قوله: [الخفيف]
لذة العيش في بهيمية اللذة ... لا ما يقوله الفلسفي
حكم كاس المنون أن يتساوى ... في حساها الغبي والألمعي «3»
ويحل البليد تحت ثرى الأر ... ض كما حل تحتها اللوذعي «4»(9/60)
أصبحا رمة «1» تزايل عنها ... فصلها الجوهري والعرضيّ
وتلاشى كيانها الحيواني ... وأودى تمييزها المنطقي
والحواس الخمس التي كنّ فيها ... ولإدراكهن فعل وحي
فاسأل الأرض عنهما إن أزال الش ... ك والمرية «2» الجواب الخفي
بطلت تلكم الصفات جميعا ... ومحال أن يبطل الأزلي «3»(9/61)
ومنهم:
16- ابن الخمّار «13»
وهو أبو الخير الحسن بن سوار بن بابا [بن بهنام] «1» .
طبيب شفى طبّه الأمراض، وكفى قربه منافيا للأعراض، لم يوجد في كلامه الفضول، ولم يوجد إلا الفصول، وقع بحدسه الصائب على الوجع، واستعاد ذاهب الصحة وارتجع، وأحسن الاستدلال بالعلامات، والاستقلال بعلاج من حيي ومات، ولم يزل وما إن طرّ شاربه «2» ، ولا استقل بحبله غاربه «3» ، مكبا على الطلب، وقد وكّل به منه طرفا لا يهجع، وإنسان عين بسوى فقد النظر لا يفجع، حتى انتقلت إلى أحناء صدره تلك الأوقار «4» ، وبقي على هذا حتى تقضّت تلك اللبانات والأوطار «5» .(9/62)
قال ابن أبي أصيبعة:" كان نصرانيا «1» عالما بأصول صناعة الطب وفروعها، خبيرا بغوامضها، كثير الدراية لها، ماهرا في الحكمة، وكان في نهاية الذكاء والفطنة".
قال ابن رضوان في" حل شكوك الرازي على جالينوس" ما هذا نصه: كما فعل في عصرنا هذا الحسن بن بابا، المعروف بابن الخمار، فإنه وصل بالطب إلى أن قيل له: محمود الملك للأرض. وكان محمود عظيما جدا، وذلك أن هذا الرجل فيلسوف حسن العقل، حسن المعرفة، حسن السياسة لفقهاء الناس، ورؤساء العوام، والعظماء، والملوك، وكان إذا دعاه زاهد مشى إليه راجلا، وقال له: جعلت هذا المشي كفارة لمروري إلى أهل الفسق والجبابرة. وإذا دعاه السلطان ركب إليه في زي الملوك والعظماء، حتى ربما حجبه ثلاث مائة غلام، يركب الخيل الجياد بالملابس البهية، ووفى الصناعة حقها في اللين للضعفاء، والتعاظم على العظماء، وهذه كانت طريقة أبقراط وجالينوس، وغيرهما من الحكماء «2» .(9/63)
ومنهم:
17- أبو الفرج بن هندو «13»
منقب عن البيان، يكشف خباءه ويبعث له في كل معنى نشاءه، وينفث فيه روحا كأنه يحس لكل فكرة نباءه، ويفتق أكمام الأدب فقل كزرع أخرج شطأه، له سرّ دقيق فتن الناس، وخمر رحيق يذهب بالباس، لا كالتي تدخل بالالتباس على الحواس، وسحر يستلذه الذوق وينقطع عنده القياس، لو أن للدهر رقته لان قاسيه، أو للجافي ذكر العهد ناسيه، أو للأمل ألقى إلى قبضة اليد مراسيه، وما أعيره شهاده، ولا أميره الحسنى إلا امتاز بزياده.
وكانت بضاعته من الطب غير مزجاة، وصناعته تحقق للمتطبب ما يترجاه، لفضل تجلبب بشعاره، وجلب زيادة الحكمة إلى إشعاره، وعلو همته إلى علومها، وقراءة مادة كل علم على عليمها، إلى أن جنى ثمر الفنون، وجرّب كل شيء ولم يقدر على دفع المنون، وكان له في صناعة الكتابة ارتزاق، وبئست بضاعة أرزاق، إلا أنه لم يقدر عليه بها قوته، وما كان للمرء لا يفوته، وبقي على تعلّاته واختلاف علّاته، إلى أن أتاه هادم الأعمار، ووافاه قادم الموت مبسوط الأعذار.
قال ابن أبي أصيبعة:" هو الأستاذ السيد الجليل «1» أبو الفرج علي بن الحسين ابن هندو. من الأكابر المتميزين في علوم الحكمة، والأمور الطبية، والفنون(9/64)
الأدبية. له الألفاظ الرائقة، والأشعار الفائقة، والتصانيف المشهورة، والفضائل المذكورة، وكان يخدم بالكتابة، واشتغل على ابن الخمّار، وكان من أفضل المشتغلين عليه".
وقال الثعالبي في" تتمة اليتيمة" «1»
فيه: هو من ضربه في الآداب والعلوم بالسهام الفائزة، وملكه رق البراعة في البلاغة، فرد الدهر في الشعر، وواحد أهل الفضل في صيد المعاني الشوارد، ونظم القلائد وترصيع الفرائد، مع تهذيب الألفاظ البليغة، وتقريب الأغراض البعيدة، تذكير الذين يسمعون ويروون: أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ.
وأنشد له قوله [الطويل]
يقولون لي: ما بال عينيك مذ رأت ... محاسن هذا الظبي أدمعها مطل
فقلت زنت عيني بطلعة وجهه ... فكان لها من صوب أدمعها غسل «2»
وقوله: [البسيط]
قوّض خيامك عن دار ظلمت بها ... وجانب الذل إن الذل يجتنب
وارحل إذا كانت الأوطان منقصة ... فالمندل الرطب في أوطانه حطب «3»
وقوله: [المنسرح]
إن رحت عن بلدة غدوت إلى أخ ... رى فما تستقر أحمالي(9/65)
كأنني فكرة الموسوس لا يبقى ... مدى لحظة على حال
وقوله: [الكامل]
ما للمعيل «1» وللمعالي إنما ... يسعى إليهنّ الوحيد الفارد
فالشمس تجتاب السماء وحيدة ... وأبو بنات النعش فيها راكد «2»
وقوله: [البسيط]
قالوا اشتغل عنهم حينا بغيرهم ... وخادع النفس إن النفس تنخدع
قد صيغ قلبي على مقدر حبهم ... فما لحب سواهم فيه متسع «3»
وقوله: [المنسرح]
عارض ورد الغصون «4» وجنته ... فاتفقا في الجمال واختلفا
يزداد بالقطف ورد وجنته ... وينقص الورد كلما قطفا «5»
وقوله: [الطويل]
تمنيت من أهوى فلما لقيته ... بهتّ فلم أملك لسانا ولا طرفا
وقد كان في قلبي أمور كثيرة ... فلما التقينا ما نطقت ولا حرفا
وقوله: [مخلّع البسيط]
عابوه لما التحى فقلنا ... عبتم وغبتم عن الجمال(9/66)
هذا غزال وما عجيب ... تولد المسك من الغزال «1»
وقوله: [البسيط]
لا يوحشنك «2» من مجد تباعده ... فإن للمجد تدريجا وتدريبا
إن القناة التي شاهدت رفعتها ... تني وتصعد أنبوبا فأنبوبا «3»
وقوله: [المنسرح]
تقول: لو كان عاشقا دنفا ... إذا بدت صفرة بخديه
لا تنكريه فإن صفرته ... غطّت عليها دماء عينيه «4»
وقوله [مخلع البسيط]
كم من ملحّ على أذاه ... يسلّ من فكه حساما
صبّ قذى القول في صماخي ... فصار حلمي له فداما «5»
وقوله [الطويل]
يسر زماني أن أناط «6» بأهله ... وآنف أن أعزى إليه بجهله
ويعجبني أن أخّرتني صروفه ... فتأخيرها الإنسان برهان فضله
فإنا رأينا قائم السيف كلما ... تقلّده الأبطال قدام نصله «7»(9/67)
وقوله: [الكامل المرفل]
أرخى لعارضه العذار فما ... أبقى على ورعي ولا نسكي «1»
فكأن نملا قد دببن به ... غمست أكارعهنّ في مسك
وقوله «2» : [المنسرح]
يا شعرات جميعها فتن ... تتيه في وصف كنهها الفتن
ما عيّروا من عذاره سفها ... قد كان غصنا فأورق الغصن
وقوله «3» : [الرمل]
ربّ روض خلت آذري ... ونه «4» لما توقد
ذهبا أشعل مسكا ... في كوانين زبرجد «5»(9/68)
وقوله «1» : [المتقارب]
عجبت لقولنج هذا الوزي ... رأنى ومن أين قد جاءه؟
وفي كل يوم له حقنة ... تنظف بالزيت أمعاءه
ومنهم:
18- الشيخ الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسين بن علي بن سينا «13»
رجل الدنيا وواحدها، وعديم النظراء وواجدها، ولّد المعاني وولدها، وعقم(9/69)
القرائح ووأدها، لا يجيء أرسطو منه سينه، ولا أفلاطون في جبلته طينه، لو أنه في زمن اليونان لجلس في صدر الرواق، ولا ستقلت طرائف المشائين حوله المشي على الأحداق، لعلم جمع بين علوم الإسلام واليونان، ووقع على ما يلقط مثله من الأفنان، ولم يقنع إلا بكل عباب، ولا رضي من جنات التصانيف حتى دعي إليها من كل باب، لو قرن به الفارابي لفر، أو الكندي لما كدّ نفسه ولا كر، بل لو تقدم في عصور الأوائل لتكلم وسكت كل قائل، وأقرّ كل طائر الصيت بأنه ما هو عنده طائل.
علم أعلام، ومملي كلام، ومالئ طروس «1» وأقلام. شعلة ذكاء، لم يبق شرق ولا غرب حتى أضاء فيه شعاعها، وامتدّ إليه شراعها، وأشرقت عليه شمسها، وانبسطت به شمسها، وغلب عليه صيتها، وغلّ به عفريتها، ومشت فيها الحكماء على قانونه «2» ، ورأت الشفاء بمضمونه، وعرفت الحكماء بإشاراته،(9/70)
وسلكت مثل النحل سبلها ذللا بعباراته، وعلمت أنه فيلسوف الإسلام، والمسلّم إليه في كل علم بسلام، والمقدم في سائر الطبقات، والمعظّم على الأوقات، والمحرّم من العلم المحرم إليه في الميقات.
كان ندرة في العالم، وزهرة في بني آدم، والمفاض عليه من العلوم ما تزجر بحاره، ولا يزخر إلا لج فوائد فرائده، وصدره محاره، منبع العلم، وموضع الحلم، ومرتع الفضائل، ومربع الكرم، ووسمي «1» الربيع متضائل، أعجوبة الزمان وغريبة آل سامان «2» .
فخرت دولة ما وراء النهر منه بوزير شرف دستها «3» ، وصرف بجمعه لجهات(9/71)
الممالك شتها، وتقلد أمورها، وقلد المنة بولايته أميرها، وتزيّا بزيّ أرباب الدول، وأصبح في أصحاب الخول «1» ، واقتنى الغلمان الأتراك، ووقع بالحب في الأشراك، وكان غلمانه يلبسون الديباج المنسوج بالذهب، ويشدون مناطق الذهب المرصعة بالجواهر، ويزهر بهم جلوته، وتعمر خلوته، يبيت معهم الليالي في الحمام، ويبادر بتنعمه بهم صروف الحمام «2» ، حتى قال له ملكه: كيف تنهانا عن الإتيان في الحمام؟ فقال: لأن الملك يحب أن يعيش طويلا، وأنا أحب أن أعيش طيبا. وكان لا يملك صبرا عن غلمانه، ولا يشغل إلا بهم فراغ زمانه، حتى كانوا سبب حمامه، وجلب سمامه. وكان السبب في فعلتهم، ومرشدهم في هذا إلى ضلّتهم، أنهم سرقوا له مالا جليلا، ثم خافوه، وسئموا فعله الطويل بهم وعافوه، فشابوا له درياق «3» مثرود يطوس، كان يستعمله بسمّ أبى إلا أن يقتله، فتعلّل «4» به عامه حتى ساق الأجل إليه حمامه. وكانت الوزارة نقصا عيب به، وأطلقت الحكماء ألسنتها فيه بسببها، وقالوا: أذلّ العلم، ورضي من الفانية بالاستكثار!. فقال: لي أسوة بأرسطو في صحبة الاسكندر. وفيما قاله نظر، لأن أرسطو كان معلما للاسكندر ومشيرا، وابن سينا كان مكلّفا ووزيرا.
قال ابن أبي أصيبعة:" هو [إن كان] أشهر من أن يذكر، وفضائله أعظم من أن تسطر، ونحن نقتصر من وصفه على قدر ما ذكره عن نفسه. ووصفه أبو عبيد الجوزجاني «5» صاحبه من أحواله والذي ذكره هو قال: كان أبي رجلا من أهل(9/72)
بلخ «1» ، وانتقل إلى بخارى «2» ، في أيام نوح بن منصور «3» ، واشتغل بالتصرف، وتولى العمل في أثناء أيامه بقرية يقال لها" خرميثن" من ضياع بخارى، وهي من أمهات القرى، وبقربها قرية يقال لها" أفشنة" وتزوج منها بوالدتي، وقطن بها، وسكن، وولدت منها بها، ثم أولدت أخي بها، ثم انتقلنا إلى بخارى، وأحضرت معلم القرآن والأدب، وأكملت العشرة من العمر، وقد أتيت على القرآن وعلى كثير من الأدب، حتى كان يقتضي مني العجب «4» .
وكان أبي ممن أجاب داعي المصريين، ويعدّ من الإسماعيلية، وقد سمع منهم(9/73)
ذكر النفس والعقل على الوجه الذي يقولونه ويعرفونه هم، وكذلك أخي، وربما كانوا يذكرونه بينهم وأنا أسمع وأدرك ما يقولونه، ولا تقبله نفسي، وابتدؤوا يدعونني إليه ويجرون على ألسنتهم ذكر الفلسفة والهندسة، وحساب الهند، وأخذ يوجهني إلى رجل كان يبيع البقل ويقوم بحساب الهند حتى أتعلمه منه، ثم جاء إلى بخارى أبو عبد الله الناتليّ «1» وكان يدعى المتفلسف، وأنزله أبي إلى دارنا، رجاء تعليمي منه، وقبل قدومه كنت أشتغل بالفقه والتردد إلى إسماعيل الزاهد «2» ، وكنت من أجود السالكين، وقد ألفت طرق المطالبة «3» ، ووجوه الاعتراض على المجيب على الوجه الذي جرت عادة القوم به.
ثم ابتدأت بكتاب" إيساغوجي" على البابلي. ولما ذكر لي أن حد الجنس هو المقول على كثيرين مختلفين بالنوع في جواب ما هو، فأخذت في تحقيق هذا الحد بما لم يسمع بمثله، وتعجّب مني كل التعجب، وحذّر والدي من شغلي بغير العلم «4» .
وكان أي مسألة قالها لي أتصورها خيرا منه، حتى قرأت ظواهر المنطق عليه،(9/74)
وأما دقائقه فلم يكن عنده منها خبر «1» .
ثم أخذت أقرأ الكتب على نفسي وأطالع الشروح حتى أحكمت علم المنطق، وكذلك كتاب" أقليدس" «2» ، فقرأت من أوله إلى خمسة أشكال أو ستة عليه، ثم توليت بنفسي حلّ بقية الكتاب بأسره.
ثم انتقلت إلى" المجسطي"»
ولما فرغت من مقدماته، وانتهيت إلى الأشكال الهندسية قال الناتلي: تولّ قراءتها وحلها بنفسك ثم اعرضها عليّ لأبين لك صوابه من خطئه، وما كان الرجل يقوم بالكتاب، فأخذت أحل ذلك الكتاب فكم من شكل ما عرفه إلا وقت ما عرضته عليه، وفهّمته إياه «4» .
ثم فارقني الناتلي متوجها إلى كركانج، واشتغلت أنا بتحصيل الكتب في الفصوص والشروح، من الطبيعي والإلهي، وصارت أبواب العلم تنفتح عليّ.
ثم رغبت في علم الطب وصرت أقرأ الكتب الصعبة فيه، وعلم الطب ليس من العلوم الصعبة، فلا جرم أني برّزت فيه في أقل مدة، حتى بدأ فضلاء الطب يقرءون عليّ علم الطب. وتعاهدت المرضى فانفتح عليّ من أبواب المعالجات(9/75)
المقتبسة من التجربة ما لا يوصف «1» ، وأنا مع ذلك أختلف إلى الفقه، وأناظر فيه، وأنا في هذا الوقت من أبناء ست عشرة سنة، ثم توفرت على العلم والقراءات سنة ونصف، فأعدت قراءة المنطق، وسائر أجزاء الفلسفة، وفي هذه المدة ما نمت ليلة واحدة بطولها، ولا اشتغلت في النهار بغيره، وجمعت بين يدي ظهورا فكل حجة أنظر فيها أثبت مقدمات قياسية «2» ، ورتبتها في تلك الظهور، ثم نظرت فيما عساها تنتج، وراعيت شروط مقدماته حتى تحقق لي حقيقة الحق في تلك المسألة، وكلما كنت أتحير في مسألة ولم أكن أظفر بالحد الأوسط في قياس ترددت إلى الجامع، وصليت، وابتهلت إلى مبدع الكل، حتى فتح لي المنغلق، وتيسر المتعسر «3» .
وكنت أرجع بالليل إلى داري، وأضع السراج بين يدي، وأشتغل بالقراءة والدرس، والكتابة، فمهما غلبني النوم، أو شعرت بضعف، عدلت إلى شرب قدح من الشراب، ريثما تعود إليّ قوّتي، ثم أرجع إلى القراءة، ومهما أخذني أدنى نوم، أحلم بتلك المسائل [بأعيانها] اتضح لي وجوهها في المنام «4» .
وكذلك حتى استحكم معي جميع العلوم، ووقفت عليها بحسب الإمكان الإنساني. وكل ما علمته في ذلك الوقت فهو كما علمته الآن ولم أزدد فيه إلى اليوم، حتى أحكمت علم المنطق والطبيعي، والرياضي، ثم عدلت إلى الإلهي، وقرأت كتاب" ما بعد الطبيعة" فما كنت أفهم ما فيه، والتبس عليّ غرض(9/76)
واضعه، حتى أعدت قراءته أربعين مرة «1» ، وصار لي محفوظا. وأنا مع ذلك لا أفهم المقصود به، وأيست من نفسي، وقلت: هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه.
وإذا أنا في يوم من الأيام حضرت وقت العصر في الورّاقين وبيد دلّال مجلّد ينادي عليه، فعرضه عليّ، فرددته [ردّ] متبرّم!، معتقد أن لا فائدة في هذا العلم. فقال لي: اشتر مني هذا فإنه رخيص! أبيعكه بثلاثة دراهم!، وصاحبه محتاج إلى ثمنه «2» .
فاشتريته؛ وإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي في:" أغراض كتاب ما بعد الطبيعة"!. فرجعت إلى بيتي، فأسرعت قراءته، فانفتح علي في الوقت أغراض ذلك الكتاب بسبب أنه كان لي محفوظا على ظهر القلب. وفرحت بذلك، وتصدقت في ثاني يوم بشيء كثير على الفقراء، شكر الله عز وجل.
وكان سلطان بخارى في ذلك الوقت نوح بن منصور، واتفق له مرض [أتلج] «3» الأطباء فيه، وكان اسمي اشتهر بينهم بالتوفر على العلم والقراءة، فأجروا ذكري بين يديه، وسألوه إحضاري، فحضرت وشاركتهم في مداواته، وتوسمت بخدمته، فسألته يوما الإذن لي في دخول دار كتبهم، ومطالعتها، وقراءة ما فيها من كتب الطب. فأذن لي؛ فدخلت دارا ذات بيوت كثيرة «4» ، في كل بيت صناديق من الكتب منضّدة بعضها على بعض، في بيت منها كتب العربية والشعر، وفي آخر الفقه، وكذلك في كل بيت كتب علم مفرد.(9/77)
وطالعت فهرست «1» كتب الأوائل، وطلبت ما احتجت إليه منها، ورأيت من الكتب ما لم يقع اسمه إلى كثير من الناس قط. وما كنت رأيته من قبل، ولا رأيته أيضا من بعد. فقرأت تلك الكتب، وظفرت بفوائدها، وعرفت مرتبة كل رجل في علمه «2» .
فلما بلغت ثماني عشرة سنة من عمري فرغت من هذه العلوم كلها، وكنت إذ ذاك للعلم أحفظ، ولكنه اليوم معي أنضج، وإلا فالعلم واحد لم يتجدّد لي بعده شيء! «3» .
وكان في جواري رجل يقال له: أبو الحسن العروضي «4» ، فسألني أن أصنف له كتابا جامعا في هذا العلم، فصنّفت له: المجموع، وسميته به، وأتيت فيه على سائر العلوم، سوى الرياضي، ولي إذ ذاك إحدى وعشرون سنة من عمري!.(9/78)
وكان في جواري أيضا رجل يقال له: أبو بكر البرقي «1» الخوارزمي «2» ، فقيه النفس، متوجه في الفقه والتفسير، والزهد، مائل إلى هذه العلوم، فسألني شرح الكتب [له] ، فصنفت له كتاب:" الحاصل والمحصول" في قريب من عشرين مجلدا، وصنفت له في الأخلاق كتابا سميته:" كتاب البر والإثم" وهذان الكتابان لا يوجدان إلا عنده، ولم يعر أحدا أن ينسخ منه «3» .
ثم مات والدي، وتصرّفت بي الأحوال، وتقلدت شيئا من أعمال السلطان، ودعتني الضرورة إلى الإحلال ببخارى «4» ، والانتقال إلى" كركانج" «5» ، وكان أبو الحسن السهلي، المحب لهذه العلوم بها وزيرا. وقدمت على الأمير بها وهو علي بن المأمون، وكنت على زي الفقهاء، إذ ذاك بطيلسان «6» تحت الحنك، وأثبتوا(9/79)
لي مشاهرة «1» دارّة تقوم بكفاية مثلي.
ثم دعت الضرورة إلى الانتقال إلى" نسا" «2» ومنها إلى" باورد" «3» ، ومنها إلى" طوس" «4» ، ومنها إلى" سمنيقان" ومنها إلى" جاجرم" «5» ، رأس حد خراسان، ومنها إلى جرجان، وكان قصدي الأمير قابوس. فاتفق في أثناء هذا أخذ قابوس وحبسه في بعض القلاع، وموته هناك.
ثم مضيت إلى" دهستان" «6» ، ومرضت به مرضا صعبا، وعدت إلى جرجان، فاتصل [بي] أبو عبيد الجوزجاني «7» .(9/80)
وأنشدت في حالي قصيدة فيها بيت القائل: [الكامل]
لمّا عظمت فليس مصرّ واسعي ... لمّا غلا ثمني عدمت المشتري
قال أبو عبيد «1» الجوزجاني: فهذا ما حكاه لي الشيخ من لفظه «2»
ومن هاهنا شاهدت أنا من أحواله كان بجرجان رجل يقال له: أبو محمد الشيرازي، يحب هذا العلم، وقد اشترى للشيخ دارا في جواره، أنزله بها، وأنا أختلف إليه في كل يوم، أقرأ" المجسطي" واستملي المنطق.
وصنف لأبي محمد الشيرازي كتاب:" المبدأ والمعاد"، وكتاب" الأرصاد الكلية".
وصنف هناك كتبا كثيرة: كأول القانون، و" مختصر المجسطي"، وكثيرا من الرسائل. ثم صنف في أرض الجبل بقية كتبه «3» .
كتاب:" المجموع" مجلد،" الحاصل والمحصول" عشرون مجلدا،" الإنصاف" عشرون مجلدا،" البر والإثم" مجلدان،" الشفاء" ثمانية عشر مجلدا،"(9/81)
الأرصاد الكلية" مجلد." النجاة" ثلاث مجلدات." الهداية" مجلد." المختصر المتوسط" مجلد." العلائي" مجلد." القولنج" مجلد." لسان العرب «1»
" عشر مجلدات." الأدوية القلبية" مجلد." بعض الحكم المشرقية" مجلد." بيان ذوات الجهة" مجلد." كتاب المبدأ والمعاد" مجلد.
ومن رسائله:
" القضاء والقدر"،" الآلة الرصدية"،" غرض قاطيغورياس"، المنطق بالشعر"،" قصائد في العظة والحكمة" في الحروف،" تعقب المواضع الجدلية"،" مختصر أوقليدس"،" مختصر في النبض" بالعجمية،" الحدود"، الأجرام السماوية"،" الإشارة إلى علم المنطق"،" أقسام الحكمة في النهاية"،" وأن لا نهاية"، و" عهد" كتبه لنفسه،" حي بن يقظان"،" في أن أبعاد الجسم غير ذاتية له"،" خطب الكلام في الهندباء"،" في أن الشيء الواحد لا يكون جوهريا وعرضيا"،" في أن علم زيد غير علم عمرو"، و" رسائل له إخوانية وسلطانية"،" مسائل جرت بينه وبين بعض الفضلاء".
ثم انتقل إلى الري بخدمة السيدة وابنها مجد الدولة «2» ، وعرفوه بسبب كتب وصلت معه، تتضمن تعريف قدره. وكان مجد الدولة إذ ذاك قد غلبته السوداء، فاشتغل بمداواته، وصنف كتاب:" المبدأ والمعاد" وأقام بها إلى أن قصد شمس الدولة «3» بعد قتل هلال بن زيد بن حسنويه، وهزيمة عسكر بغداد.(9/82)
ثم اتفقت له أسباب أوجبت بالضرورة خروجه إلى قزوين «1» ، ومنها إلى همذان، واتصاله بخدمة" كدبانويه" والنظر في أسبابها.
ثم اتفق معرفة شمس الدولة وإحضاره مجلسه بسبب قولنج قد أصابه، وعالجه حتى شفاه الله، وفاز من ذلك المجلس بخلع كثيرة، ورجع إلى داره بعد ما أقام هناك أربعين يوما بلياليها، وصار من ندماء الأمير.
ثم اتفق نهوض الأمير إلى قرمسين، لحرب عناز، وخرج الشيخ في خدمته، ثم توجه نحو همذان، منهزما راجعا.
ثم سألوه تقلد الوزارة، فتقلدها. ثم اتفق تشويش العسكر عليه، وإشفاقهم منه على أنفسهم، فكبسوا داره، وأخذوه إلى الحبس، وأغاروا على أسبابه، وأخذوا جميع ما كان يملكه، وسألوا الأمير قتله، فامتنع منه، وعدل إلى عز الدولة طلبا لمرضاتهم، فتوارى في دار الشيخ أبي سعيد بن دخدوك «2» أربعين يوما، فتعاود الأمير شمس الدولة القولنج، وطلب الشيخ يحضر مجلسه، فاعتذر الأمير إليه بكل الاعتذار، فاشتغل بمعالجته، فأقام عنده مكرما مبجلا، وأعيدت الوزارة إليه ثانيا.
ثم سألته أنا «3» - شرح كتب أرسطو طاليس. فذكر أنه لا فراغ له في ذلك الوقت، ولكن إن رضيت مني بتصنيف كتاب أورد فيه ما صحّ عندي من هذه العلوم بلا مناظرة مع المخالفين، ولا الاشتغال بالرد عليهم، فعلت ذلك. فرضيت به، فابتدأ بالطبيعيات من كتاب سماه:" كتاب الشفاء". وكان قد صنف(9/83)
الكتاب الأول من" القانون". وكان يجتمع كل ليلة في داره طلبة العلم «1» ، وكنت أقرأ من" الشفاء" نوبة، وكان يقرأ غيري من" القانون" نوبة، فإذا فرغنا حضر المغنون على اختلاف طبقاتهم، وهيء مجلس الشراب بآلاته، وكنا نشتغل به، وكان التدريس بالليل لعدم الفراغ بالنهار «2» خدمة للأمير.
فقضينا على ذلك زمنا، ثم توجه شمس الدولة إلى طارم لحرب الأمير بهاء الدولة، وعاوده القولنج قريب ذلك الموضع، واشتدّ عليه وانضاف إلى ذلك أمراض أخر جلبها سوء تدبير وقلة القبول من الشيخ، فخاف العسكر وفاته، فرجعوا طالبين به همذان في المهد، فتوفي في الطريق في المهد.
ثم بويع ابن شمس الدولة، وطلبوا استيزار الشيخ فأبى عليهم، وكاتب علاء الدولة «3» سرا يطلب خدمته والمصير إليه، والانضمام إلى جوانبه، وأقام في دار أبي غالب العطار «4» متواريا، وطلبت منه إتمام كتاب" الشفاء" فاستحضر أبا غلب، وطلب الكاغد «5» والمحبرة، فأحضرهما. وكتب الشيخ في عشرين جزءا على الثمن بخطه رؤوس المسائل، وبقي فيه يومين حتى كتب رؤوس المسائل كلها بلا كتاب يحضره، ولا أصل «6» يرجع إليه، بل من حفظه وعن ظهر قلبه.(9/84)
ثم ترك الشيخ تلك الأجزاء بين يديه، وأخذ الكاغد فكان ينظر في كل مسألة ويكتب شرحها، وكان يكتب في كل يومين خمسين ورقة، حتى أتى على جميع الطبيعيات والإلهيات، ما خلا كتابي:" الحيوان، و" النبات" «1» .
وابتدأ بالمنطق، فكتب منه جزءا، ثم اتهمه تاج الملك بمكاتبته علاء الدولة فأنكر عليه ذلك، وحثّ في طلبه، فدلّ عليه بعض أعدائه، فأخذوه، وأدوه إلى قلعة يقال لها:" فردجان" «2» .
وأنشد هناك قصيدة، منها: [الوافر]
دخولي باليقين كما تراه ... وكلّ الشّكّ في أمر الخروج «3»
وبقي فيها أربعة أشهر، ثم قصد علاء الدولة همذان فأخذها، وانهزم تاج الملك، ومرّ إلى تلك القلعة بعينها.
ثم رجع علاء الدولة عن همذان، وعاد تاج الملك وابن شمس الدولة إلى همذان، ونزل في دار العلوي، واشتغل هناك بتصنيف" المنطق" من كتاب:" الشفاء".
وكان قد صنف بالقلعة كتاب:" الهدايات" «4» ، ورسالة" حي بن يقظان"، وكتاب" القولنج".
وأما الأدوية القلبية؛ فإنه صنفها أول وروده إلى همذان، وكان قد تقضى(9/85)
على هذا زمان، وتاج الملك في أثناء هذا يمنّيه بمواعيد جميلة.
ثم عنّ للشيخ التوجه إلى أصفهان «1» ، فخرج متنكرا، وأنا وأخوه غلامان له في زي الصوفية، إلى أن وصلنا طبران «2» ، على باب أصفهان، بعد أن قاسينا شدائد في الطريق، فاستقبلنا أصدقاء الشيخ، وندماء الأمير علاء الدولة، وخواصه، وحمل إليه الثياب والمراكب الخاصة، وأنزل في محلة يقال لها كون كبير. في دار عبد الله بن بابي، وفيها من الآلات والفرش ما يحتاج إليه، وحضر مجلس علاء الدولة فصادف من منزلة الإكرام والإعزاز اللذين يستحقه مثله «3» .
ثم رسم الأمير علاء الدولة ليأتي الجماعات مجلس النظر بين يديه، بحضرة سائر العلماء على اختلاف طبقاتهم، والشيخ في جملتهم، فما كان يطاق في شيء من العلوم.
واشتغل بأصفهان بتتميم كتاب:" الشفاء"، ففرغ من المنطق، والمجسطي، وكان قد اختصر أوقليدس، والأرثماطيقي، والموسيقى، وأورد في كل كتاب من الرياضات زيادات رأى أن الحاجة إليها داعية.
أما في" المجسطي": فأورد عشرة أشكال في اختلاف القطر «4» ، وأورد في(9/86)
آخر المجسطي في علم الهيئة أشياء لم يسبق إليها.
وأورد في" أوقليدس" شبها، وفي" الأرثماطيقي" خواصّ حسنة. وفي الموسيقى مسائل غفل عنها الأولون، وتم الكتاب المعروف ب" الشفاء" ما خلا كتابي:" النبات"، و" الحيوان"، فإنهما صنفهما في السنة التي توجّه فيها علاء الدولة إلى سابور خواست في الطريق «1» .
وصنف أيضا في الطريق كتاب:" النجاة"، واختص بعلاء الدولة، وصار من ندمائه، إلى أن عزم علاء الدولة قصد همذان، وخرج الشيخ في الصحبة، فجرى ليلة بين يدي علاء الدولة ذكر الخلل الواقع في التقاويم المعمولة بحسب الأرصاد القديمة، فأمر الأمير الشيخ بالاشتغال برصد هذه الكواكب، وأطلق له من الأموال ما يحتاج إليه. وابتدأ الشيخ به، وولاني اتخاذ آلاتها، واستخدام صناعها، حتى ظهر كثير من المسائل، فكان يقع الخلل في أمر الرصد لكثرة الأسفار وعوائقها.
وصنف الشيخ بأصفهان:" الكتاب العلائي" «2» .
وكان من عجائب أمر الشيخ أني صحبته، وخدمته خمسا وعشرين سنة، فما رأيته إذا وقع له كتاب مجدّد ينظر فيه على الولاء «3» ، بل كان يقصد المواضع الصعبة منه، والمسائل المشكلة، فينظر ما قاله مصنفه، فيتبين مرتبته في العلم، ودرجته في الفهم.
وكان الشيخ جالسا يوما من الأيام بين يدي الأمير، وأبو منصور الجبائي «4»(9/87)
حاضر، فجرى في اللغة مسألة تكلم الشيخ فيها بما حضره، فالتفت أبو منصور إلى الشيخ وقال له: أنت تقول أنك فيلسوف وحكيم، ولكن لم تقرأ من اللغة ما يرضي كلامك فيها!.
فاستنكف الشيخ من هذا الكلام، وتوفّر على درس كتب اللغة ثلاث سنين، واستهدى كتاب" تهذيب اللغة" من خراسان، تصنيف أبي منصور الأزهري «1» ، فبلغ الشيخ في اللغة طبقة قلّ ما يتفق مثلها.
وأنشأ «2» ثلاث قصائد، وضمّنها ألفاظا غريبة في اللغة. وكتب ثلاثة كتب؛ أحدها: على طريقة ابن العميد «3» ، والآخر: على طريقة الصاحب «4»(9/88)
والآخر: على طريقة الصابي «1» وأمر بتجليدها، وإخلاق «2» جلدها.
ثم أوعز الأمير فعرض تلك المجلّدة على أبي منصور الجبائي، وذكر أنّا ظفرنا بهذه المجلدة في الصحراء وقت الصيد، فنحبّ أن تتفقدها، وتقول لنا ما فيها.
فنظر فيها أبو منصور وأشكل عليه كثير مما فيها!.
فقال الشيخ: إن ما تجهله من هذا الكتاب فهو مذكور في الموضع الفلاني من كتب اللغة، وذكر له كثيرا من الكتب المعروفة في اللغة.
ففطن أبو منصور أن تلك الرسائل من تصنيف الشيخ، وأن الذي حمله عليه ما جبهه به ذلك اليوم، فتنصّل واعتذر إليه.
ثم صنف الشيخ كتابا في اللغة سماه:" لسان العرب" «3» .، لم يصنف في اللغة مثله، ولم ينقله إلى البياض حتى توفي، فبقي على مسوّدته، لا يهتدي أحد إلى ترتيبه.(9/89)
وكان قد حصل للشيخ تجارب كثيرة فيما باشر من المعالجات، عزم على تدوينها في كتاب" القانون" «1» .
من ذلك: أنه صدع يوما؛ فتصور أن مادة تريد النزول إلى حجاب رأسه، وأنه لا يأمن من ورم يحصل فيه، فأمر بإحضار ثلج كثير، ودقّه ولفّه في خرقة، وأمر بتغطية رأسه بها.
ففعل ذلك حتى قوي الموضع وامتنع عن قبول تلك المادة، وعوفي.
ومن ذلك: [أن] امرأة مسلولة بخوارزم أمرها أن لا تتناول من الأدوية سوى الجلنجبين السكري «2» ، حتى تناولت على الأيام نحو مائة منّ، وشفيت المرأة.
وكان الشيخ قد صنف بجرجان:" المختصر الأصغر" في المنطق، وهو الذي وضعه بعد ذلك في:" النجاة". ووقعت نسخة إلى شيراز «3» ، فنظر فيها جماعة من أهل العلم هناك، فوقعت لهم الشبهة في مسائل منها؛ فكتبوها على جزء، وكان القاضي بشيراز من جملة القوم؛ فأنفذ بالجزء إلى أبي القاسم الكرماني،(9/90)
صاحب إبراهيم بن بابا الديلمي، المشتغل بعلم التناظر، وأضاف إليه كتابا إلى الشيخ أبي القاسم، وأنفذها على يدي ركابي قاصد، وسأله عرض الجزء على الشيخ أبي القاسم، فدخل على الشيخ عند اصفرار الشمس في يوم صائف، وعرض عليه الكتاب والجزء. فقرأ الكتاب ورده عليه، وترك الجزء بين يديه، وهو ينظر فيه، والناس يتحدثون. ثم رجع أبو القاسم وأمرني الشيخ بإحضار البياض، وقطع أجزاء منها، فشددت خمسة أجزاء كل واحد منها عشرة أوراق بالربع الفرعوني، وصلينا العشاء فأمر بإحضار الشراب وأجلسني وأخاه، وأمرنا بتناول الشراب، وابتدأ هو بجواب تلك المسائل. وكان يكتب ويشرب إلى نصف الليل، حتى غلبني وأخاه النوم، فأمرنا بالانصراف.
فعند الصباح قرع الباب؛ فإذا رسول الشيخ يستحضرني فحضرته، وهو على المصلّى، وبين يديه الأجزاء الخمسة؛ فقال: خذها، وصر بها إلى الشيخ أبي القاسم الكرماني، وقل له: استعجلت في الإجابة عنها لئلا يتعوّق الركابي.
فلما حملته، تعجب كل العجب، وصرف الفيج «1» ، وأعلمهم بهذه الحالة، وصار هذا الحديث تاريخا بين الناس.
ووضع في [حال] الرصد آلات ما لم يسبق إليه، وصنّف فيها رسالة، وبقيت أنا ثماني سنين مشغولا بالرصد، وكان غرضي تبين ما يحكيه بطليموس عن قصته في الأرصاد؛ فتبين لي بعضها.(9/91)
وصنف الشيخ كتاب" الإنصاف"، واليوم الذي قصد فيه السلطان مسعود إلى أصفهان، نهب عسكره [رحل] الشيخ، وكان الكتاب في جملة النهب، وما وقف له على أثر.
وكان الشيخ قويّ القوى كلها، وكانت قوة المجامعة من قواه الشهوانية أقوى وأغلب، [وكان كثيرا ما يشتغل به فأثر في مزاجه] وكان الشيخ يعتمد على قوة مزاجه حتى صار أمره في السنة التي حارب فيها علاء الدولة تاش فراش على باب الكرخ، إلى أن أخذه الشيخ قولنج. ومن حرصه على برئه إشفاقا من هزيمة يدفع إليها، ولا يتأتى له المسير فيها مع المرض، حقن نفسه في يوم واحد ثمان مرات، فتقرح بعض أمعائه، وظهر به سحج «1» ، وأحوج إلى المسير مع علاء الدولة، فأسرعوا نحو إيذج «2» ، فظهر به هناك الصرع الذي كان يتبع علة القولنج، ومع ذلك كان يدبر نفسه، ويحقن نفسه لأجل السحج «3» ، ولبقية القولنج.
فأمر يوما باتخاذ دانقين «4» من بزر الكرفس «5» ، في جملة ما يحتقن به،(9/92)
وخلطه به طلبا لكسر الرياح؛ فقصد بعض الأطباء الذين كان يتقدم هو إليه بمعالجته، فطرح من بزر الكرفس خمسة دراهم- لست أدري عمدا فعله أم خطأ؟ لأنني لم أكن معه- فازداد السحج به، من حدة ذلك البزر «1» ..
وكان يتناول" المثرذيطوس" «2» لأجل الصرع، فقام بعض غلمانه وطرح شيئا كثيرا من الأفيون «3» فيه وناوله، فأكله. وكان سبب ذلك خيانتهم في مال كثير من خزائنه، فتمنوا هلاكه، ليأمنوا عاقبة أعمالهم. فنقل الشيخ كما هو إلى أصبهان، فلم يزل يعالج نفسه حتى قدر على المشي، وحضر مجلس علاء الدولة، لكنه مع ذلك لا يتحفظ، ويكثر التخليط في أمر المعالجة «4» ، ولم يبرأ من العلة كل البرء، فكان ينتكس ويبرأ كل وقت.(9/93)
ثم قصد علاء الدولة همذان، فسار معه الشيخ فعاودته في الطريق تلك العلة إلى أن وصل إلى همذان، وعلم أن قوته قد سقطت، وأنها لا تفي بدفع المرض، فأهمل مداواة نفسه، وأخذ يقول: المدبر الذي كان يدبرني «1» قد عجز عن التدبير، والآن فلا تنفع المعالجة. وبقي على هذا أياما، ثم انتقل إلى جوار ربه.
وكان عمره: ثلاثا وخمسين سنة «2» . وكان موته في سنة ثمان وعشرين وأربع مائة. وكانت ولادته: في سنة خمس وسبعين وثلاثمائة.
هذا آخر ما ذكره أبو عبيد «3» من أحوال الشيخ الرئيس- رحمه الله-.
وقبره تحت سور من جانب القبلة من همذان، وقيل: إنه نقل إلى أصبهان، ودفن في موضع على باب" كونكنبد" «4»
ولما مات ابن سينا من القولنج الذي [عرض له] «5» قال فيه بعض أهل زمانه: [المتقارب] .
رأيت ابن سينا يعادي الرّجال ... وبالحبس مات أخسّ الممات
فلم يشف ما ناله بالشّفا ... ولم ينج من موتة بالنّجاة
وقوله:" بالحبس" يعني: انحباس البطن من القولنج الذي أصابه.(9/94)
و" الشفاء" و" النجاة": يريد الكتابين من تأليفه، وقصد بهما [الجناس في الشعر] .
[وصية ابن سينا]
[ومن كلام الشيخ الرئيس وصية أوصى بها] «1»
بعض أصدقائه،- وهو سعيد ابن أبي الخير الصوفي الميهني «2» . ومن كلامه قال:
" ليكن الله تعالى أول فكرك وآخره، وباطن اعتبارك وظاهره «3» ، ولتكن عين نفس الرجل مكحولة بالنظر إليه «4» ، وقدمها موقوف على المثول بين يديه، مسافرا بعقله في الملكوت الأعلى، وما فيه من آيات ربه الكبرى، وإذا انحطّ إلى قراره، فلينزه الله تعالى في آثاره، فإنه باطن ظاهر، تجلى لكل شيء بكل شيء. [المتقارب]
ففي كلّ شيء له آية ... تدلّ على أنّه واحد
فإذا صارت هذه الحال له ملكة، تنطبع فيها نقش الملكوت، وتجلى له قدس اللاهوت، فألف الأنس الأعلى، وذاق اللذة القصوى، وأخذه عن نفسه من هو بها أولى «5» ، وفاضت عليه السكينة، وحقت له الطمأنينة «6» ، وتطلّع على(9/95)
العالم الأدنى اطلاع راحم لأهله، مستوهن لحبله، مستخفّ لثقله، مستحسن «1» به لعقله، مستضل لطرقه، وتذكر نفسه وهي بها لهجة، وببهجتها بهجة، فيعجب منها ومنهم تعجبهم منه، وقد ودّعها، وكان معها كأن ليس معها.
وليعلم أن أفضل الحركات الصلاة، وأمثل السكنات الصيام، وأنفع البر الصدقة، وأزكى العمل الاحتمال «2» ، وأبطل السعي المراءاة «3» ، ولن تخلص النفس عن الدرن ما التفت إلى قيل وقال، ومنافسة وجدال، وانفعلت بحال من الأحوال.
وخير العمل ما صدر عن خالص نية، وخير النية ما ينفرج عن جناب علم، والحكمة أم الفضائل، ومعرفة الله- تعالى- أول الأوائل: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ
«4» .
ثم يقبل على هذه النفس المؤمنة بكمالها الذاتي، فيحرسها عن التلطخ بما يشينها من الهيئات الانقيادية، للنفوس الموادية، التي إذا بقيت في النفس المزينة كان حالها عند الانفصال كحالها عند الاتصال، إذ جوهرها غير مشاوب ولا مخالط، وإنما يدنسها هيئة الانقياد لتلك الصواحب بل تفيدها هيئات الاستيلاء والاستعلاء والرياسة.
وكذلك يهجر الكذب قولا وفعلا، حتى يحدث للنفس هيئة صدوقة، فتصدق الأحلام والرؤيا، وأما اللذات فيستعملها على إصلاح الطبيعة، وإبقاء الشخص والنوع، والسياسة.(9/96)
أما المشروب: فإنه يهجر شربه تلهيا بل تشفيا وتداويا، ويعاشر كل فرقة بعادته ورسمه، ويسمح بالمقدور والتقدير من المال، ويركب لمساعدة الناس كثيرا مما هو خلاف طبعه، ثم لا يقصر في الأوضاع الشرعية، ويعظم السنن الإلهية، والمواظبات على التعبدات البدنية، ويكون دوام عمره إذا خلا وخلص من المعاشرين تطربه الزينة في النفس، والفكرة في الملك الأول وملكه، وكيس النفس عن عثار «1» الناس من حيث لا يقف عليه الناس، عاهد الله أنه يسير بهذه السيرة، ويدين بهذه الديانة، والله ولي الذين آمنوا، وحسبنا الله ونعم الوكيل".
ومن شعر الشيخ الرئيس قاله في النفس
" وهي من أحسن قصائده وأشرفها" [الكامل]
هبطت إليك من المحلّ «2» الأرفع ... ورقاء ذات تعزّز وتمنّع
محجوبة عن كلّ مقلة عارف ... وهي الّتي سفرت فلم تتبرقع
وصلت على كره إليك وربّما ... كرهت فراقك وهي ذات تفجّع
أنفت وما أنست «3» فلمّا واصلت ... ألفت مجاورة الخراب البلقع
وأظنّها نسيت عهودا بالحمى ... ومنازلا بفراقها لم تقنع
حتى إذا اتّصلت بهاء هبوطها ... من ميم مركزها بذات الأجرع(9/97)
علقت بها ثاء الثقيل فأصبحت «1» ... بين المعالم والظلول الخضّع
تبكي إذا ذكرت ديارا بالحمى ... بمدامع تهمي ولمّا تقطع «2»
وتظل ساجعة على الدّمن التي ... درست بتكرار الرياح الأربع
إذ عاقها الشرك الكثيف وصدّها ... قفص عن الأوج الفسيح الأرفع «3»
حتى إذا قرب المسير من الحمى ... دنا الرحيل إلى الفضاء الأوسع
وهجعت وقد كشف الغطاء فأبصرت ... ما ليس يدرك بالعيون الهجّع
وغدت مفارقة لكل مخالف ... عنها حليف الترب غير مشيع
وبدت «4» تغرّد فوق ذروة شاهق ... والعلم يرفع كل من لم يرفع
فلأي شيء أهبطت من شاهق ... سام إلى قعر الحضيض الأوضع
إن كان أرسلها «5» الإله لحكمة ... طويت عن الفطن اللبيب الأروع
فهبوطها إن «6» كان ضربة لازب «7» ... لتكون سامعة بما لم تسمع
وتعود عالمة بكل خفية ... في العالمين فخرقها لم يرقع(9/98)
وهي التي قطع الزمان طريقها ... حتى لقد غربت بغير المطلع
فكأنها برق تألّق بالحمى ... ثم انطوى فكأنه لم يلمع «1»
وقال في الشيب، والحكمة، والزهد: [الوافر]
أما أصبحت عن ليل التصابي ... وقد أصبت عن ليل الشباب
تنفس في عذارك صبح شيب ... وعسعس ليله فكم التصابي
شبابك «2» كان شيطانا مريدا ... فرجّم من مشيبك بالشهاب
وأشهب من بزاة الدهر خوّى ... على فودي فألمأ بالغراب
عفا رسم الشباب ورسم دار ... لهم عهدي بها مغنى رباب
فذاك ابيضّ من قطرات دمعي ... وذاك اخضرّ من قطر السحاب
فذا ينعى إليك النفس نعيا ... وذلكم نشور للروابي
كذا دنياك ترأب لانصداع ... مغالطة وتبني للخراب
ويعلق مشمئز النفس عنها ... بأشراك تعوق عن اضطراب «3»
فلولاها لعجلت انسلاخي ... عن الدنيا وإن كانت إهابي
عرفت عقوقها فسلوت عنها ... فلما عفتها أغريتها بي «4»
بليت بعالم يعلو أذاه ... سوى صبري ويسفل عن عتابي
وسيل للصواب خلاط قوم ... وكم كان الصواب سوى الصواب
أخالطهم ونفسي في مكان ... من العلياء عنهم في حجاب(9/99)
ولست بمن يلطخه خلاط ... متى اعتبرت أبان عن تراب
إذا ما لحت الأبصار نالت ... خيالا واشمأزت عن لباب «1»
وقال أيضا: [الكامل]
خير النفوس العارفات ذواتها ... وحقيق كيمياتها ماهيّاتها
وبم الذي حلّت ومم تكونت ... أعضاء بنيتها على هيئاتها
نفس النبات ونفس حس ركبا ... هلّا كذاك سماته كسماتها
يا للرجال لعظم رزء لم تزل ... منه النفوس تخب «2» في ظلماتها
وقال أيضا: [الخفيف]
هذّب النفس بالعلوم لترقى ... وذر الكلّ فهي للكلّ بيت
إنما النفس كالزجاجة والعل ... م سراج وحكمة الله زيت
فإذا أشرقت فإنك حي ... وإذا أظلمت فإنك ميت «3»
وقال أيضا: [مجزوء الرمل]
صبّها في الكاس صرفا ... غلبت ضوء السراج
ظنّها في الكاس نارا ... فطفاها بالمزاج «4»
وقال أيضا: [الكامل:
قم فاسقنيها قهوة كدم الطلا ... يا صاح بالقدح الملا بين الملا
خمرا تظل لها النصارى سجّدا ... ولها بنو عمران أخلصت الولا(9/100)
لو أنها يوما وقد ولعت بهم ... قالت: ألست بربكم قالوا بلى «1»
نظر إلى قوله تعالى في سورة الأعراف: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى
«2»
وقال أيضا: [الرمل]
نزل اللاهوت «3» في ناسوتها «4» ... كنزول الشمس في أبراج يوح
قال فيها بعض من هام بها ... مثل ما قال النصارى في المسيح
هي والكاس وما ما زجها ... كأب متّحد وابن روح
وقال أيضا: [الطويل]
شربنا على الصوت القديم قديمة ... لكل قديم أول هي أول
ولو لم تكن في حيّز قلت إنها ... هي العلة الأولى التي لا تعلل
وقال أيضا وقيل إنها للطغرائي [الكامل]
عجبا لقوم يحسدون فضائلي ... ما بين عانيّ إلى عذّال
عتبوا على فضلي وذمّوا حكمتي ... واستوحشوا من نقصهم وكمالي
إني وكيدهم وما عتبوا به ... كالطّود يحقر نطحة الأوعال
وإذا الفتى عرف الرشاد لنفسه ... هانت عليه ملامة الجهّال «5»(9/101)
وقال أيضا: [الكامل]
أشكو إلى الله الزمان بصرفه ... أبلى جديد قواي وهو جديد
محن إليّ توجّهت فكأنني ... قد صرت مغناطيس وهي حديد «1»
وقال أيضا: [الطويل]
عطارد قد- والله- طال ترددي ... مساء وصبحا كي أراك فأغنما
فها أنت فامددني كي أدرك المنى ... بها والعلوم الغامضات تكرما
ووقتي والمحذور والشر كله ... بأمر مليك خالق الأرض والسما «2»
ومنهم:
19- أبو الفرج عبد الله بن الطيب «13»
كاتب الجاثليق «3» .(9/102)
كان مع توسعه في الحكمة، وتتبعه لسرجها المضيئة في كل ظلمة، مصرّا على نصرانيته «1» ، معظّما لأمور رهبانيته، ينقاد إلى خدعها، ولا يخفى عليه أنها ضلال، ويتردّد إلى بيعها «2» ، ولا يعتريه ملال، ويعظم صورها الممثلة، ويظل عليها عاكفا، وإليها عاطفا، وهو على يقين من أنها لا تنطق، ولا تمسك عليه من خزائن رزقها ولا تنفق. على أنه كان إماما في الطبيعي لا يعدو علمه، ولا يخاف عدمه، فأما من ذكر سواه فكثيرا ما يجد من واساه.
ذكره ابن أبي أصيبعة، وقال:" هو الفيلسوف الإمام العالم [أبو الفرج عبد الله ابن الطيب، وكان كاتب الجاثليق] ومتميزا بين النصارى ببغداد، ويقرئ الطب في البيمارستان العضدي،.... جليل المقدار، واسع العلم، شرح كثيرا من كتب أرسطو، وأبقراط، وجالينوس، وكانت له قوة في التصنيف، وأكثر ما كانت تؤخذ عنه إملاء من لفظه، [وكان معاصرا للشيخ الرئيس ابن سينا] .
وكان الرئيس يحمده في الطب، ويذمه في الحكمة، وقال فيه:" وكان يقع إلينا كتب يعملها الشيخ أبو الفرج ابن الطيب، في الطب، ونجدها صحيحة مرضية، خلاف تصانيفه في المنطق والطبيعيات، وما يجري معها".
وحكى ابن القفّ «3» : أن رجلين أتيا من بلاد العجم للقراءة على ابن(9/103)
الطيب، فقيل لهما إنه في الكنيسة للصلاة، فأتيا عليه، فوجداه لابسا ثوب صوف، مكشوف الرأس، وبيده مبخرة فيها بخور، وهو يدور في الكنيسة، يبخرها؛ فتأملاه، وتحدّثا بالفارسية، وأداما النظر إليه، والتعجب من فعله! وهو من أجلّ الحكماء، فكأنه رآهما، وفهم عنهما ما هما فيه. فلما فرغ من شأنه، لبس ثيابه المعتادة، وقرّبت له البغلة، فركبها، ومشت الغلمان حوله. فتبعاه، وسألاه أن يقرئهما. فقال لهما: أحججتما قط؟.
فقالا: لا.
فقال: لا أقرئكما حتى تحجّا.
فحجّا، ثم أتياه وقد علاهما الشحوب، ورؤوسهما محلّقة، فسألهما عن مناسك الحج، وما فعلاه فيها؟. فأخبراه بها.
فقال لهما: لما رميتما الجمار بقيتما عراة موشحين، وبأيديكما الحجارة وأنتما تهرولان وترميان بها؟.
قالا: نعم.
فقال: هكذا الأمور الشرعية، تؤخذ نقلا لا عقلا!.
فعرفا قصده، وعجبا منه، ثم اشتغلا عليه، وكانا من أجلّ تلامذته «1» .(9/104)
ومنهم:
20- أبو المؤيد محمد بن محمد بن المجلي الجزري، المعروف بابن الصايغ «13»
أثرى بالفضائل وما كنزها، وأثار علوم الأوائل وما ركزها، هذا مع أدب وشعر هو شعاع بنت الزرجون «1» ، وشعاع الفجر المتفرق تحت أزر الدجون.
قال ابن أبي أصيبعة:" كان إماما مشهورا، وعالما مذكورا، وفيلسوفا مميزا، وأديبا مبرّزا، ويعرف بالعنتري، لأنه كان في صباه يكتب أحاديث عنترة العبسي".
ومن كلامه قوله:" تعلّم العلم، فإنه لو لم ينل به من الدنيا إلا الغنى عمّن يستعبدك بحق أو باطل".
وقوله:" [بنيّ! إن الحكمة العقلية] «2» تريك العالم يقادون بأزمّة الجهل إلى(9/105)
الخطأ والصواب".
وقال:" الجاهل عبد لا يعتق إلا بالمعرفة".
وقال:" الحكمة سراج النفس فمتى عدمتها عميت علن الحق".
وقال:" الحكمة دواء من الموت الأبدي".
وقال:" [كون] الشخص بلا علم كالجسد بلا روح".
وقال:" من أحب أن ينطق «1» باسمه فليكثر من العناية بعلمه".
وقال:" العالم المحروم أشرف من الجاهل المرزوق".
وقال:" الجاهل يطلب المال، والعالم يطلب الكمال".
وقال:" الغمّ ليل القلب، والسرور نهاره، وشرب السم أهون من معاناة الهم".
ومن شعره قوله: [الكامل]
لو كنت تعلم كل ما علم الورى ... حقا لكنت صديق كلّ العالم
لكن جهلت فصرت تحسب كل من ... يهوى خلاف هواك، ليس بعالم
استحي أن العقل أصبح ضاحكا ... مما تقول وأنت مثل النائم
لو كنت تسمع ما سمعت، وعالما ... ما قد علمت، خجلت خجلة نادم
وضع الإله الخلف في كل الورى ... بالطبع حتى صار ضربة لازم «2»(9/106)
وقوله: [الخفيف]
أبلغ العالمين عني بأني ... كل علمي تصور وقياس «1»
قد كشفت الأشياء بالفعل حتى ... ظهرت لي وليس فيها التباس
وعرفت الرجال بالعلم لما ... عرف العلم بالرجال الناس
وقوله: [الكامل]
لا تدنينّ فتى يودّك ظاهرا ... منه وضد وداده في طبعه
واهجر صديقك إن تنكّر ودّه ... فالعضو يحسم داؤه في قطعه «2»
وقوله: [الكامل]
عدّل مزاجك ما استطعت ولا تكن ... كمسوّف أودى به التخليط
واحفظ عليك حرارة برطوبة ... تبقى، فتركك حفظها تفريط
واعلم بأنك كالسراج بقاؤه ... ما دام في طرف الذبال «3» سليط «4»
وقوله- في مليح تنقّل بالرمّان على الخمر: [السريع]
[وشادن أبلج كالبدر ... نادمته ليلا إلى الفجر
بات به يصرف عنه الأذى ... بنهل كاسات من الخمر] «5»
ينتقل الرمان في أثرها ... مخافة من ضرر السكر
كأنه وهو خبير به ... يكسّر الياقوت بالدرّ «6»(9/107)
وقوله: [مخلع البسيط]
رأيت فوق الرئيس علجا ... أسود يعلوه كالحمار
يدفن في العاج آبنوسا «1» ... ويولج الليل في النهار
وقوله: في المرأة: [مخلع البسيط]
قد أقبلت غولة الصبايا ... تنظر من معلم النقاب
فقلت: من أعظم الرزايا ... قفل على منزل خراب
أحسن ما كنت في عباة ... ملفوفة الراس في جراب «2»
وقال: [الكامل]
احفظ بنيّ وصيّتي واعمل بها ... فالطب مجموع بنصّ كلامي:
قدّم على طب المريض عناية ... في حفظ قوّته مع الأيام
بالشبه تحفظ صحة موجودة ... والضد فيه شفاء كل سقام
أقلل نكاحك ما استطعت فإنه ... ماء الحياة يراق في الأرحام
واجعل طعامك كل يوم مرة ... واحذر طعامك قبل هضم طعام
لا تحقر المرض اليسير فإنه ... كالنار يصبح وهي ذات ضرام
وإذا تغير منك حال ظاهر ... فاحتل لرجعة حل عقد نظام
لا تهجرنّ القيء واهجر كل ما ... كيموسه «3» سبب إلى الأسقام(9/108)
إن الحمى عون الطبيعة مسعد ... شاف من الأمراض والآلام
لا تشربنّ عقيب أكل عاجلا ... أو تأكلنّ عقيب شرب مدام
والقيء يقطع والقيام كلاهما ... بهما وليس بنوع كل قيام
وخذ الدواء إذا الطبيعة كدّرت ... بالاحتلام وكثرة الأحلام
إياك تلزم أكل شيء واحد ... فتقود نفسك للأذى بزمام
وإذا الطبيعة منك نقّت باطنا ... فدواء ما في الجلد بالحمّام
وتزيد في الأخلاط إن نقصت به ... زادت فنقص فضلها بقوام
والطب جملته إذا حقّقته ... حلّ وعقد طبيعة الأجسام
ولعقل تدبير المزاج فضيلة ... يشفى المريض بها وبالأوهام
وهي تروى للرئيس ابن سينا، ولابن بطلان، والصحيح أنها لأبي المؤيد «1» .(9/109)
ومنهم:
21- ابن الخطيب الرّازيّ، ابن خطيب الرّيّ، وهو: محمّد بن عمر بن الحسين، أبو عبد الله- الإمام فخر الدّين «13»
حبر الأعلام، وبحر الكلام، طالما أغضّ المناظر، وخصّ بالعجب كل ناظر، وقطف الكلام منوّرا، وجلا سدف «1» الظلام منورا، ونظر في كل فنّ، وحضر له تحقيق في كل ظن، وجاء بحلية المناقب، وزينة النجوم الثواقب، وطاب بذكره(9/110)
كل سمر، وصدق منه حديث ابن عمر.
هذا إلى توقير الملوك لجنابه، وتوفير خاطره الذي لو شاء لجنى به، وتعظيم حلّ به الذّرى، وحلّي ببعضه الورى، وخلى سهلا ما بين الثريا والثرى، لعلم قصّر من لببه، ومسك الناس بسببه، وجال ما بين الخافقين وجاب به، فامتدت الجداول من منبعه، وعدّت يد الأنواء دون إصبعه، وسرى صيته والرياح رواكد، وشرّق في البلاد وغرّب والنجوم إلى الصباح رواصد، وقطع في التصانيف النافعة شقق الأيام العريضة، وجعل جناح النسر في الليالي الطوال مثل جناح البعوضة، حتى طافت الأقطار وطارت في كل مطار، وهاهي الآن ملتزمة في الأيدي مثل خطوط الراح، وفي نظر العيون مثل فلق الصباح.
وحدّثني شيخنا قاضي القضاة جلال الدين القزويني «1» - وقد جرى ذكره- قال: كانت الملوك تتقي حدّ لسانه، حتى احتاج صاحب الألموت إلى إعمال الحيلة في مداراته، وتسبب لمال قبله منه، وأخافه لاستصلاح خاطره، لأنه كان لا يزال يبحث في فساد عقيدته، وتزييف أقواله، فينفر الناس عن دعاته، ويرد بالحرمان مساعي سعاته.
وإذا كان هذا فعله بصاحب الألموت، وهو الذي كان من عاداه يموت، فكيف(9/111)
كان من يتهيّب الآجال، وما عنده إلا نساء في زيّ رجال؟!.
ذكره ابن أبي أصيبعة فقال:" أفضل المتأخرين، وسيد الحكماء المتقدمين «1» ، قد أشرعت سيادته، واشتهرت في الآفاق مصنفاته وتلامذته، وكان إذا ركب يمشي حوله ثلاثمائة تلميذ من الفقهاء، وغيرهم. وكان خوارزم شاه يأتي إليه.
وكان ابن الخطيب شديد الحرص على تحصيل العلوم الشرعية والحكمية.
جيد الفطرة، حادّ الذهن، حسن العبارة، كثير البراعة، قويّ النظر في منازع الطب «2» ومباحثه، عارفا بالأدب وشعوبه، وله شعر بالعربي والفارسي.
وكان عبل «3» البدن، ربع القامة، كبير اللحية، وكان في صوته فخامة. وكان يخطب في بلده الري، وغيرها من البلاد، ويتكلم على المنبر بأنواع من الحكمة.
وكان الناس يقصدونه من البلاد، ويهاجرون إليه من كل ناحية على اختلاف مطالبهم في العلوم، وتفننهم فيما يشتغلون به، فكان كل منهم يجد عنده النهاية القصوى فيما يرومه «4»
وكان الإمام فخر الدين قد قرأ الحكمة على مجد الدين الجيلي، بمراغة، وكان مجد الدين هذا من الأفاضل العظماء في زمانه، وله تصانيف جليلة «5»
وحكى لنا القاضي شمس الدين الخوئي، عن الشيخ فخر الدين ابن الخطيب أنه قال: والله إني لأتأسف في الفوات عن الاشتغال بالعلم في وقت الأكل، فإن الوقت والزمان عزيز «6»(9/112)
وحدثني محيي الدين قاضي مرند «1» قال: كان الشيخ فخر الدين بمرند أقام بالمدرسة التي كان أبي مدرّسها، وكان يشتغل عنده بالفقه، ثم اشتغل بعد ذلك لنفسه بالعلوم الحكمية، وتميّز حتى لم يكن أحد يضاهيه، واجتمعت به أيضا بهمدان [وهراة] «2» ، واشتغلت عليه.
قال: وكان لمجلسه جلالة عظيمة، وكان يتعاظم حتى على الملوك، وكان إذا جلس للتدريس يكون قريبا منه جماعة من تلاميذه الكبار، مثل: زين الدين الكشي، والقطب [المصري] «3» ، وشهاب الدين النيسابوري، ثم يليهم بقية التلامذة، وسائر الخلق على قدر مراتبهم، فكان من يتكلم في شيء من العلوم يباحثونه أولئك التلامذة الكبار، فإن جرى بحث مشكل أو معنى غريب شاركهم الشيخ فيما هم فيه، ويتكلم في ذلك المعنى بما يفوق الوصف «4» وحدّثني شمس الدين محمد الوتار الموصلي قال: كنت في بلد هراة «5» في سنة ست وستمائة، وقد كان قصدها فخر الدين ابن الخطيب من بلد" باميان" «6» وهو في أبّهة عظيمة، وحشم كبير، فلما ورد إليها تلقّاه السلطان(9/113)
بها، وهو حسين بن خرمين، وأكرمه إكراما كثيرا، ونصب له بعد ذلك منبرا وسجادة في صدر الإيوان «1» ليجلس في ذلك الموضع، ويكون له يوم مشهود يراه فيه سائر الناس، ويسمعون كلامه. وكنت ذلك اليوم حاضرا مع جماعة من الناس، وإلى جانبي شرف الدين ابن عنين «2» ، الشاعر- رحمه الله-، وذلك المجلس حفل جدا بكثرة الناس، والشيخ فخر الدين في صدر الإيوان، وعن جانبيه يمنة ويسرة صفان من مماليكه الترك متكئين على السيوف، وجاء إليه السلطان حسين بن خرمين- صاحب هراة- فسلّم، وأمره الشيخ بالجلوس إلى جانبه، أو قريبا منه، وجاء إليه أيضا السلطان محمود ابن أخت شهاب الدين الغوري صاحب فيروز كوه «3» فسلّم، وأشار إليه الشيخ بالجلوس في موضع آخر قريبا(9/114)
منه من الناحية الأخرى، وتكلم الشيخ في النفس بكلام عظيم، وفصاحة بليغة.
قال: وبينما نحن عنده في ذلك الوقت، وإذا بحمامة تدور في الجامع، وخلفها صقر يكاد أن يقتنصها، وهي تطير في جوانب الجامع، إلى أن أعيت، فدخلت الإيوان الذي فيه الشيخ، ومرت طائرة بين الصفين إلى أن رمت بنفسها عنده. فذكر لي شرف الدين ابن عنين أنه عمل شعرا على البديهة، ثم نهض لوقته واستأذنه في أن يورد ما قاله في المعنى. فأمره الشيخ [بذلك] فقال: [الكامل]
جاءت سليمان الزمان بشكوها «1» ... والموت يلمع من جناحي خاطف
من نبّأ الورقاء أن محلّكم ... حرم «2» وأنك ملجأ للخائف؟
فطرب لها الشيخ فخر الدين، وأدناه وأجلسه قريبا منه، وبعث إليه بعد ما قام من مجلسه خلعة كاملة، ودنانير كثيرة، وبقي دائما يحسن إليه.
قال لي شمس الدين الوتّار: لم ينشد قدامي لابن خطيب الري سوى هذين البيتين، وإنما بعد ذلك زاد فيها أبياتا أخر، هذا قوله.
وقد وجدت هذه الأبيات المزادة في ديوانه على هذا المثال: [الكامل]
يا ابن الكرام المطعمين إذا شتووا ... في كل مخمصة وثلج خاشف «3»
العاصمين إذا النفوس تطايرت ... بين الصوارم والوشيج الراعف(9/115)
من نبّأ الورقاء أن محلّكم ... حرم وأنك ملجأ للخائف
وفدت إليك وقد تدانى حتفها ... فحبوتها ببقائها المستأنف
ولو انها تحبى بمال لانثنت ... من راحتيك بنائل متضاعف
جاءت سليمان الزمان بشكوها ... والموت يلمع من جناحي خاطف
قرم «1» لواه القوت حتى ظلّه ... بإزائه يجري بقلب واجف «2»
قال: ومما حكاه شرف الدين ابن عنين أنه حصل من جهة فخر الدين ابن خطيب الري، وبجاهه، في بلاد العجم نحو ثلاثين ألف دينار.
وقال: ومن شعره فيه قوله، وسيّرها إليه من نيسابور إلى هراة: [الكامل]
ريح الشمال عساك أن تتحمّلي ... خدمي إلى صدر الإمام الأفضل
وقفي بواديه المقدس وانظري ... نور الهدى متألّقا لا يأتلي «3»
من دوحة فخرية عمرية ... طابت مغارس مجدها المتأثّل «4»
مكيّة الأنساب زاك أصلها ... وفروعها فوق السماك الأعزل «5»
واستمطري جدوى لديه فطالما ... خلف الحيا في كل عام ممحل «6»
تغدو سحائبها تعمّ كما بدت «7» ... لا يعرف الوسمي منها والولي «8»(9/116)
بحر تصدّر للعلوم ومن رأى ... بحرا تصدّر قبله في محفل؟
ومتيم «1» في الله يسحب للتقى ... والدين سربال «2» العفاف المسبل
ماتت به بدع تمادى عمرها ... دهرا وكان ظلامها لا ينجلي
فعلا به الإسلام أرفع هضبة ... ورسا سواه في الحضيض الأسفل
غلط امرؤ بأبي عليّ «3» قاسه ... هيهات قصّر عن مداه أبو علي
لو أن رسطاليس «4» يسمع لفظة ... من لفظه لعرته هزّة أفكل «5»
ويحار بطليموس لو لاقاه من ... برهانه في كل شكل مشكل «6»
فلو انهم جمعوا لديه تيقّنوا ... أن الفضيلة لم تكن للأول
وبه يبيت الحلم معتصما إذا ... هزّت رياح الطيش صفحة «7» يذبل «8»
يعفو عن الذنب العظيم تكرما ... ويجود مسئولا وإن لم يسأل
أرضى الإله بفضله ودفاعه ... عن دينه وأقرّ عين المرسل
يا أيها المولى الذي درجاته ... ترنو إلى فلك الثوابت من عل
ما منصب إلا وقدرك فوقه ... فبمجدك الساميّ يهنى ما تلي
فمتى أراد الله رفعة منصب ... أفضى إليك فنال أشرف منزل(9/117)
لا زال ربعك «1» للوفود محطة «2» ... أبدا وجودك كهف كل مؤمّل «3»
وحدثني نجم الدين يوسف بن شرف الدين علي بن محمد الأسفراييني قال:
وكان الشيخ الإمام ضياء الدين عمر- والد الإمام فخر الدين- من الري، وتفقّه، واشتغل بعلم الخلاف «4» والأصول، حتى تميّز تميّزا كثيرا، وصار قليل المثل. وكان يدرّس بالري، ويخطب في أوقات معلومة هنالك، ويجمع عنده خلق كثير من حسن ما يورده في نطقه وبلاغته، حتى اشتهر بذلك بين الخاص والعام في تلك النواحي، وله تصانيف عدة توجد في الأصول، والوعظ، وغير ذلك. وخلّف ولدين أحدهما الإمام فخر الدين، والآخر: هو الأكبر سنا كان يلقب بالركن، وكان هذا الركن قد قرأ شيئا من الخلاف، والفقه، والأصول، إلا أنه كان أهوج كثير الاختلال، فكان أبدا لا يزال يسير خلف أخيه الإمام فخر الدين، ويتوجه إليه في أي بلد قصده، ويشنّع عليه، ويسفّه المشتغلين بكتبه، والناظرين في أقواله، ويقول: ألست أكبر منه؟ وأكثر معرفة بالخلاف والأصول؟، فلم يقول الناس فخر الدين، فخر الدين!!. ولا أسمعهم يقولون: ركن الدين، ركن الدين؟. وكان ربما صنف شيئا بزعمه، ويقول: هذا من كلام فخر الدين، والجماعة يعجبون منه، وكثير منهم يصفونه ويهزؤون منه.
وكان الإمام فخر الدين كلما بلغه شيء من ذلك صعب عليه، ولم يؤثر أن(9/118)
أخاه بتلك الحالة، ولا أحد يسمع قوله. وكان دائم الإحسان إليه، وربما يسأله المقام في الري، أو في غيره، وهو يتفقده، ويصله بكل ما يقدر عليه، فكان كلما سأله ذلك يزيد في فعله، ولا ينقص من حاله، ولم يزل كذلك لا ينقطع عنه، ولا يسكت عما هو فيه إلى أن اجتمع الإمام فخر الدين بالسلطان خوارزم شاه، وأنهى إليه حال أخيه، وما يقاسي منه، والتمس منه أن يتركه في بعض المواضع، ويوصي عليه أن لا يمكّن من الخروج والانتقال عن ذلك الموضع، وأن يكون له ما يقوم بكفايته من كل ما يحتاج. فجعله السلطان في بعض القلاع التي له، وأطلق له إقطاعا يقوم به كل سنة بما مبلغه ألف دينار، ولم يزل هناك مقيما حتى قضى الله فيه أمره «1» .
قال: وكان الإمام فخر الدين علّامة وقته في كل العلوم، وكان الخلق يأتون إليه من كل ناحية، وكان الخطيب أيضا بالري، وكان له مجلس عظيم للتدريس، فإذا تكلم بزّ القائلين، وكان عبل البدن باعتدال، عظيم الصدر والرأس، كثّ اللحية، ومات وهو في سن الكهولة، أشمط «2» شعر اللحية، وكان كثيرا ما يذكر الله تعالى ويستغفره، ويسأله الرحمة والقبول، والتجاوز عن زلله، ويقول:
إنني حصلت من العلوم ما يمكن تحصيله بحسب الطاقة البشرية، وما بقيت أوثر إلا لقاء الله تعالى، والنظر إلى وجهه الكريم.
قال: وخلّف فخر الدين ولدين ذكورا؛ أكبرهما: يلقب بضياء الدين، وله اشتغال ونظر في العلوم. والآخر:- وهو الصغير- لقبه: شمس الدين، وله فطرة فائقة، وذكاء حاذق، وكان كثيرا ما يصفه الإمام فخر الدين بالذكاء ويقول:" إن عاش هذا فإنه يكون أعلم مني! ". وكانت النجابة تتبين فيه من الصغر.(9/119)
ولما توفي الإمام فخر الدين بقيت أولاده مقيمين في هراة، ولقب ولده الصغير بعد ذلك فخر الدين، لقب والده. وكان الوزير علاء الملك العلوي متقلدا لوزارة السلطان خوارزم شاه، وكان علاء الملك عالما فاضلا متقنا لعلوم الأدب، ويشعر «1» بالعربية والفارسية، وكان قد تزوج بابنة الشيخ فخر الدين، ولما جرى أن" جنكيز خان" ملك التتار قهر خوارزم شاه، وكسره، وقتل أكثر عسكره، وفقد خوارزم شاه، توجه علاء الملك قاصدا إلى جنكيز خان، ومعتصما به، فلما وصل إليه أكرمه، وجعله من جملة خواصّه.
وعندما استولى التتار على بلاد العجم، وخربوا قلاعها ومدنها، وكانوا يقتلون في كل مدينة من بها، ولا يبقون أحدا بها. تقدم علاء الملك إلى جنكيز خان، وقد توجّهت فرقة من عساكره إلى مدينة هراة، ليخربوها، ويقتلوا من بها.
فسأله أن يعطيه أمانا لأولاد الشيخ فخر الدين ابن خطيب الري. وأن يجيئوا بهم مكرّمين إليه. فوهب لهم ذلك وأعطاهم أمانا. ولما ذهب أصحابه إلى هراة وشارفوا أخذها، نادوا فيها بأن لأولاد فخر الدين ابن الخطيب الأمان، فلينعزلوا ناحية في مكان، ويكون هذا الأمان معهم.
وكان في هراة دار الشيخ فخر الدين هي دار السلطنة، كان خوارزم شاه قد أعطاها له، وهي أعظم دار تكون وأكبرها، وأبهاها زخرفة واحتفالا. فلما بلغ أولاد فخر الدين ذلك أقاموا بها مأمونين، والتحق بهم خلق كثير من أهاليهم، وأقربائهم، وأعيان الدولة، وكبراء البلد، وجماعة كثير من الفقهاء، وغيرهم، ظنا أن يكونوا في أمان لاتصالهم بأولاد فخر الدين، ولكونهم خصيصين بهم، وفي دارهم، وكانوا خلقا عظيما. فلما دخل التتار إلى البلاد وقتلوا من وجدوا بها، وانتهوا إلى الدار، نادوا بأولاد فخر الدين أن يروهم. فلما شاهدوهم أخذوهم(9/120)
وهم: ضياء الدين، وشمس الدين، وأختهم. ثم شرعوا بسائر من كان في الدار، فقتلوهم عن آخرهم بالسيف، وتوجهوا بأولاد الشيخ فخر الدين من هراة إلى سمرقند، لأن ملك التتار جنكيز خان في ذلك الوقت بها، وعنده علاء الملك.
قال: ولست أعلم ما تم لهم بعد ذلك.
قال: وكان أكثر مقام الشيخ- رحمه الله تعالى- بالري، وتوجه أيضا إلى بلد خوارزم، ومرض بها، وتوفي في عقابيله ببلدة هراة.
وأملى في شدة مرضه وصية على تلميذه إبراهيم بن أبي بكر بن علي الأصفهاني، وذلك في يوم الأحد الحادي والعشرين من شهر المحرم سنة ست وستمائة، وامتدّ مرضه إلى أن توفي يوم العيد غرة شوال من السنة المذكورة.
وانتقل إلى جوار ربه- رحمه الله تعالى-، وهذه نسخة الوصية:
بسم الله الرحمن الرحيم يقول العبد الراجي رحمة ربه، الواثق بكرم مولاه، محمد بن عمر بن الحسين الرازي، وهو في آخر عمره وعهده بالدنيا، وأول عهده بالآخرة، وهو الوقت الذي يلين فيه كل قاس، ويتوجّه إلى مولاه كل آبق: إني أحمد الله تعالى بالمحامد التي ذكرها أعظم ملائكته في أشرف أوقات معارجهم، ونطق بها أعظم أنبيائه في أكمل أوقات مشاهدتهم «1» ، بل أقول كل ذلك من نتائج الحدوث والإمكان.
فأحمده بالمحامد التي تستحقها إلاهيته «2» ، ويستوجبها لكمال ألوهيته،(9/121)
عرفتها أو لم أعرفها، لأنه لا مناسبة للتراب مع جلال رب الأرباب.
وأصلي على الملائكة المقربين، والأنبياء والمرسلين، وجميع عباد الله الصالحين، ثم أقول بعد ذلك:
اعلموا إخواني في الدين، وإخواني في طلب اليقين!، أن الناس يقولون إن الإنسان إذا مات انقطع تعلقه عن الخلق، وهذا العام مخصوص من وجهين:
الأول: أنه إن بقي منه عمل صالح صار ذلك سببا للدعاء، والدعاء له أثر عند الله تعالى.
والثاني: ما يتعلق بمصالح الأطفال، والأولاد، والمعارف، وأداء المظالم والجنايات.
أما الأول: فاعلم أنني كنت رجلا محبا للعلوم، فكنت أكتب في كل شيء شيئا لا أقف على كميته، وكيفيته، سواء كان حقا أو باطلا، أو غثا، أو سمينا.
إلا أن الذي نظرته في الكتب المعتبرة لي أن هذا العالم محسوس تحت تدبير مدبّر منزّه عن مماثلة المتحيزات، والأعراض، وموصوف بكمال القدرة والعلم والرحمة.
وقد اختبرت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن [العظيم] ، لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال بالكلية لله، ويمنع عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات، وما ذاك إلا العلم بأن العقول البشرية تتلاشى وتضمحل في تلك الأودية العميقة، والمناهج الخفية، فلهذا أقول:-
كل ما ثبت بالدلائل الظاهرة من وجوب وجوده ووحدته، وبراءته عن الشركاء في القدم، والأزلية، والتدبير، والفعالية، فذاك هو الذي أقول به، وألقى الله تعالى به، وأما ما انتهى الأمر فيه إلى الدقة والغموض، فكل ما ورد في(9/122)
القرآن، والأخبار الصحيحة المتفق عليها بين الأمة، المتبعين للمعنى الواحد، فهو كما هو، والذي لم يكن كذلك أقول: يا إله العالمين! إني أرى الخلق مطبقين على أنك أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، فلك ما مرّ به قلمي «1» ، وخطر ببالي، فأستشهد علمك، وأقول: إن علمت مني أني أردت به تحقيق باطل، أو إبطال حق، فافعل بي ما أنا أهله. وإن علمت مني أني ما سعيت إلا في تقرير ما اعتقدت أنه هو الحق، وتصوّرت أنه هو الصدق، فلتكن رحمتك معي، فذلك جهد المقل، وأنت أكرم من أن تضايق الضعيف الواقع في الزلة. فأعني، وارحمني، واستر زلتي، وامح حوبتي، يا من لا يزيد ملكه عرفان العارفين، ولا ينتقص بخطإ المجرمين!.
وأقول: ديني متابعة سيد المرسلين محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين. وكتابي: هو القرآن العظيم، وتعويلي في طلب الدين عليهما.
اللهم! يا سامع الأصوات، ويا مجيب الدعوات، ويا مقيل العثرات، ويا راحم العبرات، ويا قيّام المحدثات والممكنات!!، أنا كنت حسن الظن بك، عظيم الرجاء في رحمتك، وأنت قلت: (أنا عند ظن عبدي بي) «2»(9/123)
وأنت قلت: [أمّن يجيب المضطر إذا دعاه] «1»
وأنت قلت: [وإذا سألك عبادي عني فإني قريب] «2» .
وهب أني ما جئت بشيء فأنت الغني الكريم، وأنا المحتاج اللئيم، وأعلم أنه ليس لي أحد سواك، ولا أجد أكرم منك، ولا أجد محسنا سواك، وأنا معترف بالزلة والقصور، والعيب والفتور، فلا تخيب رجائي، ولا تردّ دعائي، واجعلني آمنا من عذابك قبل الموت، وعند الموت، وبعد الموت، وسهّل عليّ سكرات الموت، ولا تضيّق عليّ سبب الآلام والأسقام، فأنت أرحم الراحمين".
وأما الكتب العلمية التي صنفتها، أو استكثرت من إيراد السؤالات على المتقدمين فيها؛ فمن نظر في شيء منها، فإن طابت له تلك السؤالات فليذكرني في صالح دعائه على سبيل التفضل والإنعام، وليحذف القول السيئ، فإني ما أردت إلا تكثير البحث، وتشحيذ الخواطر، والاعتماد في الكل على الله تعالى.
وأما المهم الثاني: وهو إصلاح أمر الأطفال، والعورات، والاعتماد فيه على الله تعالى، ثم على نائبه في أرضه السلطان محمد- اللهم اجعله قرين محمد الأكبر في الدين والعلو- إلا أن السلطان الأعظم لا يمكنه أن يشتغل بمهمات الأطفال، فرأيت أن أفوّض وصاية ولديّ إلى- فلان- وأمرته بتقوى الله تعالى، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون" وسرد الوصية إلى آخرها «3»(9/124)
ثم قال: وأوصيه، ثم أوصيه، ثم أوصيه بأن يبالغ في تربية ولدي أبي بكر، فإن آثار الذكاء والفطنة ظاهرة عليه، ولعلّ الله تعالى يوصله إلى خير.
وأمرته وأمرت تلامذتي وكل من لي عليه الحق، أني إذا متّ يبالغون في إخفاء موتي، ولا يخبرون أحدا به، ويكفنوني، ويدفنوني على الوجه الشرعي، ويحملونني إلى الجبل المصاقب لقرية مزداخان «1» ، ويدفنوني هناك، وإذا وضعوني في اللحد قرؤوا عليّ ما قدروا عليه من الهبات القرآن، ثم ينثرون عليّ التراب بعد الإتمام، ويقولون: يا كريم! جاءك الفقير المحتاج إليك، فأحسن إليه".
وهذا منتهى وصيتي من هذا الباب، والله تعالى الفعّال لما يشاء وهو على ما يشاء قدير، وبالإجابة وبالإحسان جدير".
ومن شعر فخر الدين ابن الخطيب: أنشدني بديع الدين البندهي مما سمعه من الشيخ فخر الدين ابن خطيب الري لنفسه، فمن ذلك قال: [الطويل]
نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في غفلة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه: قيل وقالوا
وكم قد رأينا من رجال ودولة ... فبادوا جميعا مسرعين وزالوا
وكم من جبال قد علت شرفاتها ... فزالوا جميعا والجبال جبال «2»(9/125)
وقال [الطويل]
فلو قنعت نفسي بميسور بلغة ... لما سبقت في المكرمات رجالها
ولو كانت الدنيا مناسبة لها ... لما استحقرت نقصانها وكمالها
ولا أرمق الدنيا بعين كرامة ... ولا أتوقّى سوءها واختلالها
وذلك أني عارف بفنائها ... ومستيقن ترحالها وانحلالها
أروم أمورا يصغر الدهر عندها ... وتستعظم الأفلاك طرا وصالها
وقال أيضا [البسيط]
أرواحنا ليس ندري أين مذهبها ... وفي التراب توارى هذه الجثث
كون يرى وفساد جاء يتبعه ... الله أعلم، ما في خلقه عبث «1»(9/126)
ومنهم:
22- القطب المصريّ وهو: إبراهيم بن عليّ بن محمّد السّلميّ أبو إسحاق «13»
الإمام قطب الدين، وكان قطب دائره، ومركز شهب سائره، ومظهر عجائب، ومشهر غرائب، ومبين فضائل، ومفنن خمايل، وآية فضل تدرس ومعالمها واضحة، وعلومها ناضحة، وهو- وإن كان من الغرب مرماه- فإن في المشرق منماه وهكذا صاحب تاريخ الأطباء سماه، وما عدا في هذا واجبا، ولا نكب عن الحق جانبا، إذ كان إنما استفاد المشرق، وغاية العلم الذي به ذكر، والفضل الذي عليه قصر.
قال ابن أبي أصيبعة:" أصله مغربي، وأتى مصر، وأقام بها مدة، ثم سافر إلى بلاد العجم، ولقي الإمام الرازي فلزمه، واشتغل عليه، واشتهر هناك، وكان من أجلّ تلاميذ ابن الخطيب وأميزهم.
وصنف كتبا كثيرة في الطب والحكمة، وشرح الكليات بأسرها «1» ، قال:
" ووجدته في كتابه هذا يفضّل المسيحي وابن الخطيب على ابن سينا".
وهذا نص قوله، [قال] " والمسيحي أعلم بصناعة الطب من أبي علي، فإن مشايخنا كانوا يرجحونه على جمع عظيم ممن هم أفضل من أبي علي في هذا الفن".
وقال أيضا:" عبارة المسيحي أوضح وأبين مما قاله الشيخ، وغرضه في كتبه(9/127)
تقييد العبارة من غير فائدة".
وقال في تفضيل ابن الخطيب على ابن سينا:" فهذا مما تنخّل من كلام الإمامين الفاضلين العظيمين، الإمام المتقدم، والإمام المتأخر عنه زمانا، الراجح عليه علما وعملا، واعتقادا، ومذهبا".
وقتل القطب المصري في نيسابور فيمن قتله التتار بها «1» «رحمه الله تعالى» .
ومنهم:
23- عبد اللّطيف البغدادي «13»
هو ابن يوسف محمد بن علي بن أبي سعد «2» ، عرف بابن اللبّاد، موفق الدين، أبو محمد، الموصلي الأصل، البغدادي المولد، ويعرف بالجدي المطجّن «3»(9/128)
مسرح أمل، ومطمح علم وعمل، وزينة أرض ما هي في السماء لجدي ولا حمل، ناجح جديه الكباش فكسرها، ومزّقها بظلفه «1» ونشرها، إلى أن أخلى منها المظان، وأبدل بسواد المعز بياض الضّان.
وأعطاه أهل زمانه حقه في التعظيم، وناظر كل قرين، وهو الجدي، وغيره الذي سمط «2» ، فهادنته جناة الذئاب، وهابته جناة القرظ «3» ، وطال عليهم الإياب. وجال في الجيل الأول وقد شمخ بقرنه، وسمج لقرنه، وجلّ فلم ينتسب إليه كل عنزي من عنزة، ولا حسب كفؤا لقرنه كبش كتيبة ولا جديد عنزة، وأنسي كل من تقدمه هديا، وفخر به كل بلد قدمه وقدمت دمشق جديا، وعلم العلم أنه له منتصب، وقامت قامة بلده وقد قيل لها حدبا لأنها تصحيفه إذا نصب.
قال ابن أبي أصيبعة:" كان مشهورا بالعلوم، متحليا بالفضائل، مليح العبارة، جيد «4» التصنيف، وكان متميزا في النحو واللغة، والعربية، عارفا بعلم الكلام، والطب. وكان قد اعتنى كثيرا بصناعة الطب لما كان بدمشق، واشتهر بعلمها، وكان يتردد إليه جماعة من التلاميذ، وغيرهم من الأطباء، للقراءة عليه، وكان والده قد أشغله بصناعة «5» الحديث في صباه.
وكان يوسف والد الشيخ موفق الدين مشتغلا بعلم الحديث، بارعا في علوم(9/129)
القرآن، والقراءات، محمودا في المذهب والخلاف، والأصول.
وكان سليمان عم الشيخ موفق الدين [فقيها مجيدا، وكان الشيخ موفق الدين] «1» عبد اللطيف كثير الاشتغال، لا يخلي وقتا من أوقاته من النظر في الكتب، والتصنيف والكتابة. والذي وجدته من خطّه أشياء كثيرة جدا، بحيث أنه يكتب من مصنفاته نسخا متعددة، وكذلك أيضا كتب كتبا كثيرة من تصانيف الفقهاء. وكان صديقا لجدّي، وبينهما صحبة أكيدة بالديار المصرية لما كان بها، وكان أبي وعمي اشتغلا عليه بعلم الأدب، واشتغل عليه عمي أيضا بكتب أرسطوطاليس، وكان الشيخ موفق الدين كثير العناية بها، والفهم لمعانيها.
وأتى إلى دمشق من الديار المصرية، وأقام بها مدة، وكثر انتفاع الناس بعلمه.
ورأيته في آخر مرة بدمشق وهو شيخ نحيف الجسم، ربع القامة، حسن الكلام، جيد العبارة، وكانت مسطرته أبلغ من لفظه. وكان- رحمه الله تعالى- ربما تجاوز في الكلام لكثرة ما يرى في نفسه. وكان يتنقّص الفضلاء الذين في زمانه، وكثيرا من المتقدمين. وكان وقوعه كثيرا جدا في علماء العجم ومصنفاتهم، وخصوصا الشيخ الرئيس ابن سينا ونظرائه.
ونقلت من خطّه في سيرته التي ألّفها ما هذا مثاله، قال:" إني ولدت بدار لجدي في درب الفالوذج، في سنة سبع وخمسين وخمسمائة، وتربيت في حجر الشيخ [أبي النجيب] لا أعرف اللهو واللعب، وأكثر زماني مصروف في سماع الحديث، وأخذت لي إجازات من مشايخ بغداد، وخراسان، والشام، ومصر.
وقال لي والدي يوما: قد سمّعتك جميع عوالي بغداد، [وألحقتك في الرواية(9/130)
بالشيوخ، وكنت في أثناء ذلك] أتعلم الخط، وأحفظ القرآن، والفصيح، والمقامات، وديوان المتنبي، ونحو ذلك، ومختصرا في الفقه، ومختصرا في النحو.
فلما ترعرعت، حملني والدي إلى كمال الدين عبد الرحمن الأنباري «1» ، وكان يومئذ شيخ بغداد، وله بوالدي صحبة قديمة أيام التفقه بالنظامية «2» ، فقرأت عليه خطبة الفصيح «3» ، فهذّ «4» كلاما كثيرا متتابعا لم أفهم منه شيئا، لكن التلاميذ حوله تعجبوا منه.
ثم قال: أنا أجفو عن تعليم الصبيان. احمله إلى تلميذي الوجيه(9/131)
[الواسطي، يقرأ عليه، فإذا توسطت حاله يقرأ عليّ. وكان الوجيه] «1» عند بعض أولاد الرؤساء، وكان رجلا أعمى من أهل الثروة والمروءة، فأخذني بكلتي يديه، وجعل يعلمني من أول النهار إلى آخره بوجوه كثيرة من التلطف.
وكنت أحضر بحلقته بمسجد المظفرية، ويجعل جميع الشروحات لي، ويخاطبني بها. وفي آخر الأمر أقرأ درسي، ويخصني بشرحه، ثم نخرج من المسجد فيذاكرني في الطريق، فإذا بلغنا منزله، أخرج الكتب التي يشتغل بها مع نفسه، فأحفظ له، وأحفظ معه، ثم يذهب إلى الشيخ كمال الدين فيقرأ درسه، ويشرح له، وأنا أسمع.
وتخرّجت إلى أن صرت أسبقه في الحفظ والفهم، وأصرف أكثر الليل في الحفظ والتكرار. وأقمنا على ذلك برهة، كلما جاء حفظي كثر وزاد، وفهمي قوي واستنار، وذهني احتدّ واستقام، وأنا ألازم الشيخ، وشيخ الشيخ.
وأول ما بدأت حفظت:" اللمع" «2» في ثمانية أشهر، أسمع كل يوم شرح أكثرها، مما يقرؤه غيري، وأنقلب إلى بيتي فأطالع شرح [الثمانيني] ، الفارسي، وشرح الشريف عمر بن حمزة، وشرح ابن برهان، وكل ما أجد من شروحها، وأشرحها لتلاميذ يختصون بي «3» ، إلى أن صرت أتكلم على كل باب كراريس، ولا ينفد ما عندي.
وحفظت:" أدب الكاتب" لابن قتيبة «4» ، حفظا متقنا، أما النصف الأول؛(9/132)
ففي شهور.
وأما تقويم اللسان: ففي أربعة عشر يوما، لأنه كان أربع عشرة كراسة.
ثم حفظت:" مشكل القرآن" له، و" غريب القرآن" له. وكان ذلك في مدة يسيرة.
ثم انتقلت إلى:" الإيضاح" لأبي علي الفارسي «1» ، فحفظته في شهور كثيرة، ولازمت شروحه، وتتبعته التتبع التام، وتبحّرت فيه، وجمعت ما قال الشّرّاح. وأما" التكملة" «2» فحفظتها في أيام يسيرة، كل يوم كراسا.
وطالعت الكتب المبسوطة، والمختصرات.
وواظبت على" المقتضب" «3» للمبرد، وكتاب ابن درستويه «4» في أثناء(9/133)
ذلك، لا أغفل عن سماع الحديث والفقه على شيخنا ابن فضلان، بدار الذهب، وهي مدرسة معلقة بناها فخر الدولة بن المطلب.
قال:" وللشيخ كمال الدين مائة تصنيف وثلاثون تصنيفا، أكثرها في النحو، وبعضها في الفقه، والأصولين، وفي التصوف، والزهد، وأتيت على أكثر تصانيفه؛ سماعا وقراءة، [وحفظا] . وشرع في تصنيفين كبيرين؛ أحدهما في اللغة، والآخر في الفقه، ولم يتفق له إتمامهما.
وحفظت عليه طائفة من كتاب سيبويه، وأكببت على المقتضب فأتممته «1» وبعد وفاة الشيخ تجرّدت لكتاب سيبويه، ولشرحه للسيرافي «2»
ثم قرأت على أبي عبيدة الكرخي كتبا كثيرة، منها: كتاب" الأصول" لابن السراج «3» ، والنسخة في وقف ابن الخشاب برباط المأمونية. وقرأت عليه الفرائض، والعروض، للخطيب التبريزي «4» ، وهو من خواص تلاميذ ابن(9/134)
الشجري.
وأما ابن الخشّاب «1» : فسمعت بقراءته" معاني الزجّاج"، على الكاتبة شهدة بنت الأبري، وسمعت منه الحديث المسلسل وهو:" الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" «2»
وقال أيضا موفق الدين البغدادي:" إن من مشايخه الذين انتفع بهم- كما زعم- ولد أمين الدولة ابن التلميذ، وبالغ في وصفه، وكثر. وهذا لكثرة تعصبه للعراقيين وإلا فولد أمين الدولة لم يكن بهذه المثابة، ولا قريبا منها".
وقال:" إنه ورد إلى بغداد رجل مغربي طوال في زي التصوف، له أبّهة وليس بمقبول الصورة، عليه مسحة الدين، وهيئة السياحة، ينفعل لصورته من رآه [قبل أن يخبره] ، يعرف بابن نائلي، يزعم أنه من أولاد المتلثمة، خرج من(9/135)
المغرب لما استولى عليها عبد المؤمن، فلما استقرّ ببغداد واجتمع عليه جماعة من الأكابر والأعيان، وحضره الرضي القزويني «1» ، وشيخ الشيوخ [ابن سكينة «2» ] «3» .
وكنت واحدا ممن حضره فأقرأني مقدمة الحساب، ومقدمة ابن بابشاذ في النحو، وكان له طريق في التعليم عجيب، ومن يحضره يظن أنه متبحر، وإنما كان متطرفا، لكنه قد أمعن في كتب الكيمياء، والطّلسمات «4» ، وما جرى(9/136)
مجراها. وأتى على كتب جابر «1» بأسرها، وعلى كتب ابن وحشية «2»
وكان يجلب القلوب بصورته ومنطقه، وإيهامه. فملأ قلبي شوقا إلى العلوم كلها، واجتمع بالإمام الناصر لدين الله، وأعجبه، ثم سافر، وأقبلت على الاشتغال، وشمّرت ذيل الجد والاجتهاد، وهجرت النوم واللذات، وأكببت على كتب الغزالي «3» :" المقاصد، والمعيار، والميزان، ومحك النظر".
ثم انتقلت إلى كتب ابن سينا؛ صغارها وكبارها، وحفظت كتاب" النجاة"، وكتبت" الشفاء"، وبحثت فيه.
وحصلت كتاب" التحصيل" لبهمنيار- تلميذ ابن سينا-.
وحصلت كثيرا من كتب جابر بن حيان الصوفي، وابن وحشية، وباشرت عمل «4» الصنعة الباطلة، وتجارب الضلال الفارغة، وأقوى من أضلّني ابن سينا(9/137)
بكتابه في الصنعة، الذي تمم به فلسفته التي لا تزداد بالتمام إلا نقصا! ".
قال:" ولما كان في سنة خمس وثمانين وخمسمائة، حيث لم يبق ببغداد من يأخذ بقلبي ويملأ عيني، ويحل ما يشكل عليّ، دخلت الموصل فلم أجد فيها بغيتي، لكن وجدت الكمال ابن يونس «1» جيدا في الرياضيات، والفقه، متطرفا في باقي أجزاء الحكمة، قد استغرق عقله وحسه حب «2» الكيمياء، وعملها، حتى صار يستخف ما عداها.
واجتمع إليّ جماعة كثيرة، وعرضت عليّ مناصب؛ فاخترت منها مدرسة ابن مهاجر المعلقة، ودار الحديث [التي] تحتها.
وأقمت بالموصل سنة كاملة في اشتغال دائم متواصل ليلا ونهارا، وزعم أهل الموصل أنهم لم يروا أحدا من قبلي مثل ما رأوا مني، في سعة المحفوظ، وسرعة الخاطر، وسكون الطائر.
وسمعت الناس يلهجون في حديث الشهاب السهروردي «3» المتفلسف،(9/138)
ويعتقدون أنه قد فاق الأولين والآخرين، وأن تصانيفه فوق تصانيف القدماء، فهممت لقصده، ثم أدركني التوفيق وطلبت من ابن يونس شيئا من تصانيفه، وكان أيضا معتقدا عليه؛ فوقفت على:" التلويحات، واللمحة، والمعارج"، فصادفت فيها ما يدل على جهل أهل الزمان، ووجدت لي تعاليق كثيرة لا أرتضيها هي خير من كلام هذا [الأنوك «1» ] «2» .! وفي أثناء كلامه يثبت حروفا مقطعة يوهم بها أمثاله أنها أسرار إلهية! ".
قال:" ولما دخلت دمشق وجدت فيها من أعيان بغداد والبلاد ممن جمعهم الإحسان الصلاحي، جمعا كثيرا، منهم:-
جمال الدين عبد اللطيف، ولد الشيخ أبي النجيب «3» ، وجماعة بقيت من بيت رئيس الرؤساء. وابن طلحة الكاتب «4» ، وبيت ابن جهير «5» ، وابن العطار المقتول الوزير.(9/139)
واجتمعت بالكندي البغدادي النحوي «1» ، وجرى بيننا مباحثات، وكان شيخا ذكيا، مثريا، له جانب من السلطان «2» ، لكنه كان معجبا بنفسه، مؤذبا لجليسه، وجرت بيننا مباحثات فأظهرني الله تعالى عليه في مسائل كثيرة، ثم إني أهملت جانبه، فكان يتأذى بإهمالي له أكثر مما يتأذى الناس منه.
وعملت بدمشق تصانيف جمّة، منها:" غريب الحديث" الكبير، جمعت فيه غريب أبي عبيد القاسم بن سلام، وغريب ابن قتيبة، وغريب الخطابي، وكنت ابتدأته بالموصل، وعملت له مختصرا سميته:" المجرّد"، وعملت كتاب:" الواضحة في إعراب الفاتحة" نحو عشرين كرّاسا. وكتاب:" ربّ" وكتابا في [الذات] والصفات الذاتية الجارية على ألسنة المتكلمين، وقصدت بهذه المسألة الرد على الكندي.
ووجدت بدمشق الشيخ عبد الله بن بابلي «3» ، نازلا بالمئذنة الغربية، وقد عكف عليه جماعة. وتحدث الناس فيه؛ له، وعليه. وكان الخطيب الدولعي «4»(9/140)
عليه، وكان من الأعيان، له منزلة، وناموس.
ثم خلط ابن بابلي على نفسه، فأعان عدوه عليه، وصار يتكلم في الكيمياء والفلسفة، وكثر التشنيع عليه، واجتمعت به، وصار يسألني عن أعمال أعتقد أنها خسيسة، نزرة، فيعظمها، ويحتفل بها، ويكتبها مني، فكاشفته فلم أجده كما كان في نفسي، فساء به ظني، وبطريقته.
ثم باحثته في العلوم، فوجدت عنده منها أطرافا نزرة، فقلت له يوما: لو صرفت زمانك الذي ضيّعته في طلب الصنعة إلى بعض العلوم الشرعية، أو العقلية، كنت اليوم فريد عصرك. مخدوما طول عمرك، وهذا هو الكيمياء، لا ما تطلبه.
ثم اعتبرت بحاله، وانزجرت بسوء مآله، والسعيد من وعظ بغيره، فأقلعت و [لكن] لا كلّ الإقلاع.
ثم إنه توجّه إلى صلاح الدين بظاهر عكا، وشكا إليه الدولعي، وعاد مريضا، وحمل إلى البيمارستان، فمات [به] . وأخذ كتبه المعتمد مشيخة دمشق، وكان متيّما بالصنعة.
ثم إني توجّهت إلى زيارة البيت المقدس، ثم إلى صلاح الدين بظاهر عكا، واجتمعت ببهاء الدين ابن شداد «1» قاضي العسكر يومئذ، وكان قد اتصل به(9/141)
خبري بالموصل، فانبسط إليّ وأقبل عليّ، وقال: نجتمع بعماد الدين الكاتب، [فقمنا إليه] وخيمته إلى خيمة بهاء الدين، فوجدته يكتب كتابا إلى الديوان العزيز، بقلم الثلث من غير مسوّدة، وقال: هذا كتاب إلى بلدكم. وذاكرني في مسائل من علم الكلام، وقال: قوموا بنا إلى القاضي الفاضل «1» ، فدخلنا عليه، فرأيت شيخا ضئيلا كله رأس وقلب، وهو يكتب ويملي على اثنين، ووجهه وشفتاه تلعب ألوان الحركات لقوة حرصه في إخراج الكلام. وكان يكتب بجملة أعضائه.
وسألني القاضي الفاضل عن قوله تعالى: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها
«2» ، أين جواب إذا؟.(9/142)
وأين جواب" لو" في قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ
«1»
وعن مسائل كثيرة، ومع هذا فلا يقطع الكتابة ولا الإملاء. وقال لي: ترجع إلى دمشق، وتجري عليك الجرايات. فقلت: أريد مصر. فقال: السلطان مشغول القلب بأخذ الفرنج عكا، وقتل المسلمين بها. فقلت: لا بدلي من مصر.
فكتب لي ورقة صغيرة إلى وكيله بها. فلما دخلت القاهرة، جاء وكيله «2» ، وكان شيخا جليل القدر، نافذ الأمر، فأنزلني دارا قد أزيحت عللها، وجاءني بدنانير، وغلة. ثم مضى إلى أرباب الدولة، وقال: هذا ضيف القاضي الفاضل، فدرّت الهدايا والصّلات «3» من كل جانب. وكان كل عشرة أيام أو نحوها تصل تذكرة القاضي إلى ديوان مصر بمهمات الدولة، وفيها فصل يؤكد الوصية في حقي. فأقمت بمسجد الحاجب لؤلؤ «4» أقرئ الناس.
وكان قصدي في مصر ثلاث أنفس: ياسين السيميائي، والرئيس موسى بن ميمون اليهودي «5» ، وأبو القاسم الشارعي، وكلهم جاؤوني.(9/143)
أما ياسين فوجدته محاليا كذابا، يشهد للشاقاني بالكيمياء، ويشهد له الشاقاني بالسيمياء، ويقول عنه: إنه يعلم أعمالا يعجز موسى بن عمران- عليه السلام- عنها، وأنه يحضر الذهب المضروب متى شاء، وبأي مقدار شاء، وبأي سكة شاء، وأنه يجعل ماء النيل خيمة ويجلس فيها وأصحابه تحتها. وكان ضعيف الحال.
وجاءني موسى فوجدته فاضلا في الغاية، قد غلب عليه حب الرياسة، وخدمة أرباب الدنيا، وعمل كتابا في الطب جمعه من" الستة عشر" لجالينوس، ومن خمسة كتب أخر، وشرط أن لا يغير فيه حرفا، إلا أن يكون واو عطف أو فاء وصل «1» ، وإنما ينقله فصولا يختارها. وعمل كتابا لليهود سماه:" كتاب الدلالة"، ولعن من يكتبه بغير القلم العبراني. ووقفت عليه، فوجدته كتاب سوء يفسد أصول الشرائع والعقائد بما يظن أنه يصلحها. وكنت ذات يوم بالمسجد وعندي خلق كثير، فدخل شيخ رثّ الثياب، نيّر الطلعة، مقبول الصورة، فهابه الجمع، ورفعوه فوقهم، وأخذت في إتمام كلامي. فلما تصرّم المجلس، جاء إمام المسجد وقال: أتعرف هذا الشيخ؟. هذا أبو القاسم الشارعي.
فاعتنقته، وقلت: إياك أطلب، فأخذته إلى منزلي، وأكلنا الطعام، وتفاوضنا الحديث، فوجدته كما تشتهي النفس، وتلذّ العين. سيرته سيرة الحكماء العقلاء، وكذا صورته، قد رضي من الدنيا بالقليل، لا يتعلق بشيء منها يشغله عن طلب الفضل، ثم لازمني، فوجدته قيما بكتب القدماء، وكتب أبي نصر الفارابي، ولم يكن لي اعتقاد في هؤلاء لأني كنت أظن أن الحكمة كلها حازها ابن سينا، وحشاها كتبه، فكنا إذا تفاوضنا الحديث أغلبه بقوة الجدل، وفضل اللسن، ويغلبني بقوة الحجة، وظهور المحجة. وأنا لا تلين قناتي لغمزه، ولا أحيد(9/144)
عن جادة الهوى والتعصب برمزه، فصار يحضرني «1» شيئا بعد شيء من كتب أبي نصر، والإسكندر، وثامسطيوس، يؤنس بذلك نفاري، ويلين عريكة شماسي «2» ، حتى عطفت عليه أقدّم رجلا وأؤخر أخرى.
وشاع أن صلاح الدين هادن الفرنج، وعاد إلى القدس. فقادتني الضرورة إلى التوجه إليه، فأخذت من كتب القدماء ما أمكنني، وتوجّهت إلى القدس، فرأيت ملكا عظيما يملأ العين روعة، والقلوب محبة، قريبا بعيدا، سهلا محببا، وأصحابه يتشبهون به، يتسابقون إلى المعروف، كما قال الله تعالى: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ
«3» وأول ليلة حضرته، وجدت مجلسا حفلا بأهل العلم، يتذاكرون في أصناف العلوم، وهو يحسن الاستماع والمشاركة، ويأخذ في كيفية بناء الأسوار وحفر الخنادق. ويتفقه في ذلك، ويأتي بكل معنى بديع، وكان مهتما في بناء سور بيت المقدس وحفر خندقه، يتولى ذلك بنفسه، ويحمل الحجارة على عاتقه، ويتأسى به جميع الفقراء والأغنياء، والأقرباء والضعفاء، حتى العماد الكاتب، والقاضي الفاضل، ويركب لذلك قبل طلوع الشمس إلى وقت الظهر، فيأتي داره، فيمد السماط فيأكل ويستريح، ويركب العصر، ويرجع في المساء، ويصرف أكثر الليل في تدبير ما يعمل نهارا. فكتب لي صلاح الدين ثلاثين دينارا كل شهر، على ديوان الجامع، وأطلق لي أولاده رواتب حتى تقرّر لي في كل شهر مائة دينار.
ورجعت إلى دمشق وأكببت على الاشتغال وإقراء الناس بالجامع، وكلما أمعنت في كتب القدماء ازددت فيها رغبة، وفي كتب ابن سينا زهادة، واطّلعت(9/145)
على بطلان الكيمياء «1» ، وعرفت حقيقة الحال في وضعها، ومن وضعها، وكذب بها، وما كان قصده في ذلك، وخلصت من ضلالين عظيمين موبقين، وتضاعف شكري لله تعالى على ذلك، فإن أكثر الناس إنما هلكوا بكتب ابن سينا، وبالكيمياء.
ثم إن صلاح الدين دخل دمشق، وخرج يودّع الحاج. ثم رجع فحمّ، ففصده من لا خبرة عنده، فخارت القوى، ومات قبل الرابع عشر، ووجد الناس عليه شبيها بما يجدونه على الأنبياء «2» . وما رأيت ملكا حزن الناس لموته سواه، لأنه كان محبوبا، يحبه البر والفاجر، والمسلم والكافر. ثم تفرّق أولاده وأصحابه أيادي سبأ، ومزّقوا في البلاد كل ممزّق، وأكثرهم توجّه إلى مصر لخصبها، وسعة صدر ملكها.
وأقمت بدمشق وملكها الملك الأفضل، وهو أكبر الأولاد في السن، إلى أن جاء الملك العزيز بعساكر مصر، يحاصر أخاه بدمشق، فلم ينل منه بغية، ثم تأخّر إلى مرج الصفر لقولنج عرض له، فخرجت إليه بعد خلاصه منه، فأذن لي في الرحيل معه، وأجرى عليّ من بيت المال كفايتي، وزيادة. وأقمت مع الشيخ أبي القاسم يلازمني صباح مساء، إلى أن قضى نحبه، ولما اشتد مرضه وكان ذات الجنب عن نزلة من رأسه، وأشرت عليه بدواء؛ فأنشد: [المديد](9/146)
لا أذود الطير عن شجر ... قد بلوت المر من ثمره
ثم سألته عن ألمه؟ فقال:
ما لجرح بميت إيلام «1»
وكان سيرتي في هذه المدة أنني أقرئ الناس في الجامع الأزهر إلى نحو الساعة الرابعة، ووسط النهار يأتي من يقرأ الطب وغيره، وآخر النهار أرجع إلى الجامع، فيقرأ قوم آخرون. وفي الليل أشتغل مع نفسي، ولم أزل على ذلك إلى أن توفي الملك العزيز، وكان شابا كريما، شجاعا، كثير الحياء، لا يحسن قول:" لا"، وكان مع حداثة سنه وشرة شبابه كامل العفة عن الأموال والفروج «2» .
أقول «3» :" ثم إن الشيخ موفق الدين أقام بالقاهرة بعد ذلك بمدة، وله الراتب والجرايات من أولاد الملك الناصر.
وأتى إلى مصر ذلك الغلاء العظيم، والموتان «4» الذي لم يشاهد مثله. وألّف الشيخ موفق الدين في ذلك كتابا ذكر فيه أشياء شاهدها أو سمعها ممن عاينها، تذهل العقل، وسمّى ذلك الكتاب:" كتاب الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر".(9/147)
ثم لما ملك السلطان الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب الديار المصرية، وأكثر الشام والشرق، وتفرّقت أولاد أخيه الملك الناصر صلاح الدين، وانتزع ملكهم، توجّه الشيخ موفق الدين إلى القدس، وأقام به مدة، وكان يتردّد إلى الجامع الأقصى، ويشتغل الناس عليه بكثير من العلوم، وصنّف هنالك كتبا كثيرة، ثم إنه توجّه إلى دمشق، ونزل بالمدرسة العزيزية «1» ، وذلك في سنة أربع وستمائة. وشرع في التدريس والاشتغال، وكان يأتيه خلق كثير، يشتغلون عليه، ويقرءون أصنافا من العلوم، وتميّز في صناعة الطب بدمشق، وصنّف في هذا الفنّ كتبا كثيرة، وعرف به. وأما قبل ذلك فإنما كانت شهرته بعلم النحو.
وأقام بدمشق مدة، وانتفع به الناس. ثم إنه سافر إلى حلب، وقصد بلاد الروم، وأقام بها سنين كثيرة، وكان في خدمة الملك علاء الدين داود بن بهرام «2» صاحب أرزنجان، وكان مكينا عنده، عظيم المنزلة، وله منه الجامكية «3» الوافرة،(9/148)
والصلات المتواترة، وصنف باسمه عدة كتب. وكان هذا الملك عالي الهمة، كثير الحياء، كريم النفس، وقد اشتغل بشيء من العلوم، ولم يزل في خدمته إلى أن استولى على ملكه صاحب أرزن «1» الروم، وهو السلطان كيقباد بن كيخسرو بن قلج أرسلان، فقبض على صاحب أرزنجان ولم يظهر له خبر" «2» .
قال الشيخ موفق الدين عبد اللطيف:" ولما كان في سابع عشر ذي الحجة من سنة خمس وعشرين وستمائة توجهت إلى أرزن الروم، وفي حادي عشر صفر من سنة ست وعشرين وستمائة رجعت إلى أرزنجان من أرزن الروم، وفي نصف ربيع الأول توجهت إلى كماخ «3» ، وفي جمادى الأولى توجهت منها إلى دير زكي «4» ، وفي رجب توجهت منها إلى ملطية «5» . وفي آخر رمضان توجهت(9/149)
منها إلى حلب".
أقول:" وأقام الشيخ موفق الدين بحلب والناس يشتغلون عليه، وكثرت تصانيفه، وكان له من شهاب الدين طغريل الخادم أتابك حلب جار حسن، وهو متخلّ لتدريس صناعة الطب، ويتردد إلى الجامع يسمع الحديث، ويقرئ العربية، وكان دائم الاشتغال ملازما للكتابة والتصنيف.
ولما أقام بحلب، قصدت أن أتوجّه إليه، وأجتمع به، فلم يتفق ذلك، وكانت كتبه أبدا تصل إلينا ومراسلاته، وبعث إليّ بأشياء من تصانيفه بخطه.
وهذا نسخة كتاب كتبته إليه لما كان بمدينة حلب:
" المملوك يواصل بدعائه وثنائه، وشكره وانتمائه إلى عبودية المجلس السامي، المولوي، السيّدي السندي، الأجلّيّ الكبيري، العالمي الفاضلي، موفق الدين، سيد العلماء في الغائبين والحاضرين، جامع العلوم المتفرقة في العالمين، ولي أمير المؤمنين، أوضح الله به سبل الهدى والهداية، وأنار ببقائه طرق الدراية، وحقق بحقائق ألفاظه صحيح الولاية، ولا زالت سعادته دائمة البقاء، وسيادته سامية الارتقاء، وتصانيفه في الآفاق قدوة العلماء، وعمدة سائر الأدباء والحكماء.
المملوك يجدد الخدمة، ويهدي من السلام أطيبه، ومن الشكر والثناء أعذبه، وينهي ما يكابده من أليم التطلّع إلى مشاهدة أنوار شمسه المنيرة، وما يعانيه من الارتياح إلى ملاحظة شريف حضرته الأثيرة، وما تزايد القلق وتعاظم عند سماعه قرب المزار من الأرق: [الوافر]
وأبرح ما يكون الشوق يوما ... إذا دنت الديار من الديار «1»
ولولا أمل قفول الركاب العالي، ووصول الجناب الموفّقيّ الجلاليّ، لسارع(9/150)
المملوك إلى الوصول، ولبادر المبادرة بالمثول، ولجاء إلى شريف خدمته، وفاز بالنظر إلى بهي طلعته. فيا سعادة من فاز بالنظر إليه، ويا بشرى من مثل بين يديه، ويا هناء من حظي بوجه إقباله عليه، ومن ورد بحار فضله، روي من نميرها، واستضاء بشمس علمه، فسرى في أضواء منيرها. نسأل الله تعالى تقريب الاجتماع وتحصيل الجمع بين مسرّتي الأبصار والأسماع، بمنّه وكرمه، إن شاء الله تعالى".
ومن مراسلات الشيخ موفق الدين عبد اللطيف؛ أنه بعث إلى أبي في أول كتاب، وهو يقول فيه عني:
" ولد الولد أعز من الولد، وهذا موفق الدين ولد ولدي، وأعز الناس عندي، وما زالت النجابة تتبين لي فيه من الصّغر". ووصف وأثنى كثيرا وقال فيه:" لو أمكنني أنّي آتي إليه بالقصد ليشتغل عليّ لفعلت".
وبالجملة فإنه كان قد عزم أن يأتي دمشق، ويقيم بها، ثم خطر له أنه كان يحجّ قبل ذلك، ويجعل طريقه على بغداد، وأن يقدم بها للخليفة المستنصر بالله أشياء من تصانيفه.
ولما وصل إلى بغداد مرض في أثناء ذلك، وتوفي- رحمه الله تعالى- يوم الأحد ثاني عشر المحرّم، سنة تسع وعشرين وست مائة. ودفن بالوردية «1» عند أبيه، وذلك بعد أن خرج عن بغداد، وبقي غائبا عنها خمسة وأربعين عاما!. ثم إن الله تعالى ساقه إليها وأماته بها.
ومن كلام موفق الدين عبد اللطيف- مما نقلته من خطه- قال:
" ينبغي أن تحاسب نفسك كل ليلة إذا أويت إلى فراشك «2» وتنظر ما اكتسبت(9/151)
في يومك؛ من حسنة تشكر الله عليها، أو كانت سيئة تستغفر الله منها، وتقلع عنها. وترتب في نفسك ما تعمله من الحسنات، وتسأل الله الإعانة على ذلك". وقال:" أوصيك أن لا تأخذ العلوم من الكتب، وإن وثقت من نفسك بقوة الفهم، وعليك بالأستاذين «1» في كل علم تطلب اكتسابه، ولو كان الأستاذ ناقصا؛ فخذ عنه ما عنده حتى تجد أكمل منه. وعليك بتعظيمه، وتوجيبه «2» ، وإن قدرت أن تفيده من دنياك فافعل، وإلا بلسانك وثنائك. وإذا قرأت كتابا فاحرص كل الحرص على أن تستظهره وتملك معناه، وتوهّم أن الكتاب قد عدم «3» ، وأنك مستغن عنه، لا تحزن لفقده.
وإذا كنت مكبّا على قراءة «4» كتاب وتفهّمه، فإياك أن تشتغل بآخر غيره معه، واصرف الزمان الذي تريد صرفه في غيره إليه.
وإيّاك أن تشتغل بعلمين دفعة واحدة، وواظب على العلم الواحد سنة أو سنتين، أو ما شاء الله، فإذا قضيت وطرك فانتقل إلى علم آخر، ولا تظنّ أنك إذا حصّلت علما فقد اكتفيت، بل تحتاج إلى مراعاته [لينمو ولا ينقص، ومراعاته تكون] »
بالذاكرة، والتفكر، [واشتغال المبتدئ بالتلفظ والتعلم، ومباحثة الأقران] . واشتغال العالم بالتعليم «6» ، والتصنيف.(9/152)
وإذا تصدّيت لتعلّم علم، أو للمناظرة فيه، فلا تمزج به غيره من العلوم، فإن كل علم مكتف بنفسه، مستغن عن غيره، فإن استعانتك في علم بعلم عجز عن استيفاء أقسامه، كمن يستعين [في لغة] بلغة أخرى إذا ضاقت عليه، أو جهل بعضها".
وقال:" وينبغي للإنسان أن يقرأ التواريخ، وأن يطّلع على السير، وتجارب الأمم، فيصير بذلك كأنه في عمره القصير قد أدرك الأمم الخالية، وعاصرهم، وعاشرهم، وعرف خيرهم وشرّهم".
وقال:" وينبغي أن تكون سيرتك سيرة الصدر الأول، فاقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وتتبّع أحواله، وأفعاله، واقتف آثاره ما أمكنك، وبقدر طاقتك. وإذا وقفت على سيرته في مطعمه، ومشربه، ومنامه، ويقظته، وتمرّضه، [وتطبّبه، وتمتّعه وتطيّبه] «1» ، ومعاملته مع ربه، ومع أزواجه، وأصحابه، وأفعاله مع أعدائه، وفعلت اليسير من ذلك فأنت السعيد كل السعيد".
قال:" وينبغي أن تكثر اتّهامك لنفسك، ولا تحسن الظن بها، وتعرض خواطرك على العلماء، وعلى تصانيفهم، وتثبّت ولا تعجل، ولا تعجب «2» ، فمع العجب العثار، ومع الاستبداد الزلل، ومن [لم يعرق جبينه إلى أبواب العلماء لم يعرق في الفضيلة] ، ومن لم يخجلوه لم يبجله الناس، ومن لم يبكّتوه «3» لم يسد، ومن لم يحتمل ألم التعلم لم يذق لذة العلم، ومن لم(9/153)
يكدح لم يفلح.
وإذا خلوت من التعلم والتفكر فحرّك لسانك بذكر الله تعالى، وبتسابيحه، وخاصة عند النوم، فيتشرّبه لبّك، ويتعجّن في خيالك، وتتكلم به في منامك.
وإذا حدث لك فرح أو سرور ببعض أمور الدنيا، فاذكر الموت، وسرعة الزوال، وأصناف المنغّصات، وإذا حزبك أمر فاسترجع «1» ، وإذا اعترتك غفلة فاستغفر، واجعل الموت نصب عينيك، والعلم والتقوى زادك إلى الآخرة، وإذا طلبت أن تعصي الله فاطلب مكانا لا يراك فيه!، واعلم أن الناس عيون الله على العبد، يريهم خيره وإن أخفاه، وشرّه وإن ستره، فباطنه مكشوف لله، والله يكشفه لعباده. فعليك أن تجعل باطنك خيرا من ظاهرك، وسرّك أصحّ من علانيتك، ولا تتألّم إذا أعرضت عنك الدنيا، فلو عرضت لك لشغلتك عن كسب الفضائل، وقلّ ما يتعلق في العلم ذو الثروة، إلا أن يكون شريف الهمة جدا. أو أن يثري بعد تحصيل العلم. وإني لا أقول إن الدنيا تعرض عن طالب العلم بل هو الذي يعرض عنها، لأن همته مصروفة إلى العلم، فلا يبقى له التفات إلى الدنيا، والدنيا إنما تحصل بحرص وفكر في وجودها، فإذا غفل عن أسبابها لم تأته. وأيضا فإن طالب العلم تشرف نفسه عن الصنائع الرذلة، والمكاسب الدنية، وعن أصناف [التجارات] «2» ، وعن التذلل لأرباب الدنيا، والوقوف على أحوالهم.
ولبعض إخواننا بيت شعر: [الكامل]
من جد في طلب العلوم أفاته ... شرف العلوم دناءة التحصيل «3»(9/154)
" وجميع طرق مكاسب الدنيا تحتاج إلى فراغ لها، وحذق فيها، وصرف الزمان إليها، والمشتغل بالعلم لا يسعه شيء من ذلك، وإنما ينتظر أن تأتيه الدنيا بلا سبب، وتطلبه من غير أن يطلبها طلب مثلها، وهذا ظلم منه وعدوان. ولكن إذا تمكن الرجل من العلم، وشهر به، خطب «1» من كل وجه، وعرضت عليه المناصب، وجاءته الدنيا صاغرة، وأخذها وماء وجهه موفور، وعرضه ودينه مصون.
" واعلم أن للعلم عقبة وعرفا ينادى على صاحبه، ونورا وضياء يشرق عليه، ويدلّ عليه، كتاجر المسك لا يخفى مكانه، ولا تجهل صناعته، وكمن يمشي بمشعل في ليل مدلهم «2» . والعالم مع هذا محبوب أينما كان، وكيفما كان. لا يجد إلا من يميل إليه، ويؤثر قربه، ويأنس به، ويرتاح بمداناته".
" واعلم أن العلوم تغور ثم تفور في زمان، بمنزلة النبات أو عيون المياه، وتنتقل من قوم إلى قوم، ومن صقع إلى صقع «3» ".
وقال:" وإياك والهذر «4» ، والكلام فيما لا يعني. وإياك والسكوت في محل(9/155)
الحاجة، ورجوع النوبة إليك إما لاستخراج حق، أو اجتلاب مودّة، أو تنبيه على فضيلة. وإياك والضحك مع كلامك، كثرة الكلام وتبتيره «1» ، بل اجمع كلامك سردا بسكون ووقار، بحيث يستشعر منك أن وراءه أكثر منه، وأنه عن خميرة سابقة «2» ، ونظر متقدم".
وقال:" وإياك والغلظة في الخطاب، والجفاء في المناظرة، فإن ذلك يذهب ببهجة الكلام، ويسقط فائدته، ويعدم حلاوته، ويجلب الضغائن، ويمحق المودّات، ويصيّر القائل مستثقلا، سكوته أشهى إلى السامع من كلامه، ويثير النفوس على معاندته، ويبسط الألسن بمخاشنته، وإذهاب حرمته".
وقال:" لا تترفّع بحيث تستثقل، ولا تتنازل بحيث تستخسّ وتستحقر".
ومن دعائه- رحمه الله تعالى- قال:" اللهم! أعذنا من شموس الطبيعة «3» ، وجموح النفس الرديئة «4» ، وأسلس لنا مقاد التوفيق، وخذ بنا في سواء الطريق، يا هادي العمي!، يا مرشد الضّلّال!، يا محيي القلوب الميتة بالإيمان!، يا منير ظلمة الضلالة بنور الإيقان!، خذ بأيدينا من مهواة الهلكة، ونجّنا من ردغة «5» الطبيعة، وطهّرنا من درن الدنيا «6» الدنية بالإخلاص لك والتقوى، إنك مالك الآخرة والدنيا".(9/156)
وله تسبيح أيضا:" سبحان من عمّ بحكمته الوجود، واستحقّ بكل وجه أن يكون هو المعبود، تلألأت بنور وجهك وجلالك الآفاق، وأشرقت شمس معرفتك على النفوس إشراقا وأيّ إشراق! ".
ومنهم:
24- ابن الخوييّ: أحمد بن الخليل بن سعادة بن جعفر بن عيسى، الشّافعيّ، شمس الدّين، أبو العبّاس «13»
قاضي القضاة، أوحد العلماء، مجموع الفضائل، دوحة مجد اخضرّ فرعها، ودرّ كالمعصرات «1» ضرعها، ومدّت الأفياء والظلال، وردّت الأحياء والضّال، طال على يد المجتني منعها، وطاب ثمرها المثمر ونبعها، جاءت له العلياء وفاقا،(9/157)
وجادت له السحب الرواء دفاقا، فطنّبت شمسه على السماء رواقا، وتطلّبت فواضله للنفاق أشواقا، ثم حلّ لدن المعظم شرف الدين عيسى فحل بيت شرفه، وحلّ مكانا في مقاعد غرفه، ثم لم يتحوّل من أفقه، ولا أضاء له ضوء نهار إلا بين أصيله وشفقه.
قال ابن أبي أصيبعة:" كان أوحد زمانه في العلوم الحكمية، وعلّامة وقته في الأمور الشرعية. عارفا بأصول الطب وغيره، حسن الصورة، كريم النفس، كثير الحياء، محبّا لفعل الخير، ملازما للصلاة والصيام، وقراءة القرآن.
اتصل بالملك المعظّم عيسى «1» ، فعرف فضله، وقرّر له الراتب، وقرأ عليه الطلبة، وانتفعوا به، وكان حسن العبارة، قويّ البراعة، فصيح اللسان، بليغ البيان، وافر المروءة، ظاهر الفتوة. أخذ عن القطب المصري «2» ، وأخذ المصري عن الإمام الرازي. ثم ولّاه المعظّم قضاء الشام. وكان عظيم التواضع، لطيف الكلام، يمشي إلى الجامع الأموي لأداء فرائض الصلوات في أوقاتها، ولم يزل على هذا حتى توفي في سنّ الشباب «3» ، في سابع شعبان سنة تسع وثلاثين وستمائة.(9/158)
قلت «1» : وحكى لي شيخنا الإمام شهاب الدين أبو الثناء محمود الحلبي الكاتب، قال: لحقت جماعة أدركوا شمس الدين الخويي، أيام قدومه دمشق، وحدّثوني أنه قدم في زيّ فقير صوفي، وكان يلعب ببعض آلات الطرب حتى عرف بذلك، وكان يستدعى به لأجل ذلك، والملك المعظّم صاحب دمشق إذ ذاك، فقيل له عنه، فأمر به فأحضر ولعب بين يديه، فأعجبه لعبه لإتقان صنعته، فجعله من ندمائه، فلما تردّد إليه ظهر له علمه، وتحقّق لديه فضله، فاختصّه بالمجالسة، وقرّبه منه، فلما خلا القضاء عيّنه له، فاستعفاه. فألزمه به حتى وليه.
فلما ولي القضاء انقطع عن الملك المعظّم، ففقده في أوقات أنسه، فقال له: مالك انقطعت هذه الليالي؟.
فجعل يعتذر، والملك المعظّم لا يقبل منه، ويحثّه على الملازمة على عادته.
فقال له: مولانا يعلم ما بقي يتعلق بي وبذمّتى من أقضية المسلمين وعقودهم، وما يجمل بي أن أظهر العدالة وأبطن الفسق وقد صرت قاضيا!.
ومولانا مخيّر إن شاء تركت القضاء وعدت إلى ما كنت عليه في خدمته، وإن شاء تركني على القضاء وأعفاني لأخلّص ذمّتي وذمّته.
فقال: بل استمر على القضاء، ودع ما سواه. فكان في غاية الخير حتى كأنه لم يكن ذاك.(9/159)
ومنهم:
25- الرّفيع الجيليّ: أبو حامد، عبد العزيز بن عبد الواحد ابن إسماعيل بن عبد الهادي «13»
شجرة توقّدت نارا، وأوقدت شنارا، فحنظلت ثمراتها، وأبرت سمراتها، طلعها كأنه رؤوس الشياطين، وينعها كأنه تلف لنفوس السلاطين، وذلك أنه والى عدوّ الدين، وتبعه في بعض ما يدين، صحب السامرة، وسحب في أنديتهم أذيال المسامرة، ولم يكن بزّه بالرفيع، ولا زمنه بالربيع، فجدّ السامري في غيّه، ومدّ له من حبال بغيه، وكان قد اتخذ له منه عجلا جسدا واتّحد به حتى تفقّأ منه حسدا، حتى سقط في مهواته، وسقى دمه الجبل بل لهواته «1» .(9/160)
قال ابن أبي أصيبعة «1» :" كان من الأكابر في الحكمة وأصول الدين، والفقه، والعلم الطبيعي، والطب. وكان فقيها بالعذراوية «2» ، يشتغل بها.
ثم ولي القضاء ببعلبك، وأقام بها مدة، وكان صديقا لأمين الدولة وزير الصالح إسماعيل، فلما ملك الصالح دمشق وتوفي قاضيها شمس الدين الخويي، ولي عوضه، وارتفعت منزلته [وأثرى] ، ووقع بينه وبين أمين الدولة، وكثر تظلّم الناس منه، وشكواهم من سوء سيرته، فانتهى إلى أن قبض عليه، وقتل. وبعث إلى هوّة عظيمة قريب بعلبك، لا يعرف لها قرار، تعرف بمغارة الدم، فكتّف ودفع فيها.
وقال بعض الذين كانوا معه: إنه لما دفع في تلك الهوّة تحطّم في نزوله، وكأنه تعلّق في بعض جوانبها. قال: فبقينا نسمع أنينه نحو ثلاثة أيام، وكلما مر يضعف ويخفى حتى تحققنا موته، ورجعنا عنه".
قلت: وقد حكى الثقات أنه كان يفتعل الحجة بشهود زور كان أعدّهم على الرجل ذي الجدة «3» واليسار، ويكتبها لمن يطلب الرجل إلى مجلسه، ويدّعي بالمبلغ عليه، فإذا أنكر أقام تلك البينة عليه، ثم يلزمه بالمال، فإذا قبض كان للسلطان النصف، وله ولأمين الدولة، وللشهود والمدعي النصف!. وجرى على هذا مدة، ثم كان لا ينصف أمين الدولة، ففسد ما بينهما وقالوا: إنه لما كثر فعل(9/161)
مثل هذا من القاضي الرفيع، عرف عليه، فصار ذوو المال يأتونه قبل افتعال الحجج فيقدمون له ما يختص به، فيسكت عنهم، فإذا ذكرهم الأمين الخائن له دافع عنهم، فأوغر ذلك صدره، وكدّرله ورده وصدره، حتى حالت به الحال، وآل إلى ما آل".
وحكى لي شيخنا الإمام أبو الثناء محمود الحلبي الكاتب قال:" حدّثني شيخنا قاضي القضاة ابن خلكان قال: كان الرفيع ذا كرم وسخاء، وكان جاريه «1» لا يقوم ببعض كفايته، فكان يتجشم البلايا ولقد ألجأته الضرورة إلى أن باع مرة عمامته، وأنفق ثمنها؛ فلما أصبح وأراد الركوب إلى موكب السلطان، استعار ما لبسه وركب به.
قلت: وقد رأيت كتبا كثيرة من كتب الأملاك والأوقاف، وفيها إسجالات على القاضي الرفيع، فلما اتصلت تلك الكتب بمن بعده من القضاة وصلوها إليهم بمن كان قبل الرفيع، وأضربوا عنه، فلم ينفذ له حاكم جاء بعده حكما إلا كتابا واحدا كان في وقف مدرسة بالمدينة الشريفة النبوية- على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التحية-، وأظن أنه إنما سومح فيه لتيقن براءته من غرض في ذلك، إذ كان جهة بر، ولم يكن هو أول من حكم به، ولا أول من نفذ حكم من حكم به، ومع هذا لم أر من كبار أهل هذا الشان إلا من عجب منه، وأحببت التنبيه على ذلك ليعرف عند الحاجة لئلا ينسى بتطاول المدد.(9/162)
ومنهم:
26- الشّهاب السّهرورديّ المقتول: يحيى بن حبش بن أميرك «13»
المقتول، والردى المختول، جاء بما سحر أعين الناس، وحيّر الألباب، فحيّر الفطن، وحيز كل الأرض إلى محل الوطن، بخوارق حملت على المخاريق، وأحلّت دمه للمريق، فأرى مالا يرى، وصوّر ما لم يوجد، وأتى بما ادّعاه بعض ذوي العقول [ ... ] «1» من المتصوفة من طي الزمان والمكان، وجاء بما لم يكن في إمكان، فخيّل ما لم يكن، وهوّن ما لم يهن، وأضلّ جبلا كثيرا، واستزلّ حيلا كبيرا، ولو طال لبثه، وخلّي ماؤه الآجن «2» حتى يطول مكثه، لأكثر الفساد، وأكبر البليّة وساد، لكن الله سلّم، وذبحه وكان لو كلّم جمادا لتكلّم.(9/163)
قال ابن أبي أصيبعة «1» :" كان أوحدا في العلوم الحكمية، جامعا للفنون الفلسفية، بارعا في الأصول الفقهية، مفرط الذكاء، جيد الفطرة، فصيح العبارة، لم يناظر أحدا إلا بزّه، ولم يباحث محصّلا إلا أربى عليه. وكان علمه أكثر من عقله.
حدّثني الشيخ سديد الدين محمود بن عمر «2» قال: كان شهاب الدين السهرورديّ قد أتى إلى شيخنا فخر الدين المارديني، وكان [يتردد إليه في أوقات وبينهما صداقة، وكان الشيخ فخر الدين] «3» يقول لنا: ما أذكى هذا الشاب وأفصحه!، ولم أجد أحدا مثله في زماني، إلا أني أخشى عليه لكثرة تهوّره واشتهاره، وقلّة تحفّظه أن يكون ذلك سببا لتلافه.
قال: فلما فارقنا «4» شهاب الدين السهروردي من الشرق، وتوجّه إلى الشام، وأتى إلى حلب، وناظر فيها الفقهاء، ولم يجاره أحد فكثر تشنيعهم عليه، فاستحضره السلطان الملك الظاهر غازي ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن أيوب، واستحضر الأكابر من المدرّسين والفقهاء والمتكلّمين، ليسمع ما يجري بينهم وبينه من المباحث والكلام، فتكلّم معهم بكلام كثير، وبان له فضل عظيم، وعلم باهر، وحسن موقعه عند الملك الظاهر، وقرّبه، وصار مكينا عنده،(9/164)
مختصا به، فازداد تشنيع أولئك عليه، وعملوا محاضر بكفره، وأرسلوها إلى دمشق، إلى الملك الناصر صلاح الدين، وقالوا: إن بقي هذا فإنه يفسد اعتقاد الملك الظاهر!، وكذلك إن أطلق، فهو يفسد كل ناحية كان فيها من البلاد، وزادوا عليه أشياء كثيرة من ذلك. فبعث صلاح الدين إلى ولده الملك الظاهر بحلب كتابا في حقه، بخط القاضي الفاضل، وهو يقول فيه: إن الشهاب السهروردي لا بدّ من قتله، ولا سبيل أنه يطلق، ولا يبقى بوجه من الوجوه.
ولما بلغ شهاب الدين السهروردي ذلك وأيقن أنه يقتل، وليس له جهة إلى الإفراج عنه، اختار أن يترك «1» في مكان مفرد، ويمنع من الطعام والشراب إلى أن يلقى الله تعالى. ففعل به ذلك، وكان في أواخر سنة ست وثمانين وخمسمائة، بقلعة حلب، وكان عمره نحو ست وثلاثين.
قال الشيخ سديد محمود بن عمر: لما بلغ شيخنا فخر الدين المارديني قتله قال لنا: أليس كنت قلت لكم عنه هذا من قبل؟، وكنت أخشى عليه منه.
أقول «2» : ويحكى عن شهاب الدين السهروردي أنه كان يعرف علم السيمياء، وله فيه نوادر شوهدت عنه من هذا الفن. ومن ذلك: حدّثني الحكيم إبراهيم بن أبي الفضل بن صدقة أنه اجتمع به، وشاهد عنه ظاهر باب الفرج، وهم يتمشون إلى ناحية الميدان الكبير، ومعه جماعة من التلاميذ وغيرهم، وجرى ذكر هذا الفن وبدائعه، وما يعرف الشيخ منه. وهو يسمع، فمشى قليلا وقال: ما أحسن دمشق وهذه المواضع!.
قال: فنظرنا وإذا من جهة الشرق جواسق «3» عالية متدانية بعضها من بعض،(9/165)
مبيّضة، وهي من أحسن ما يكون بناء مزخرفا، ولها طاقات كبار، وفيها نساء أحسن ما يكون منهن، وأصوات المغاني والملاهي. ورأينا أشجارا ملتفّة بعضها على بعض، وأنهارا جارية كبارا، ولم نكن نعرف ذلك من قبل، فعجبنا من ذلك وانذهل الجماعة مما رأوا.
قال: فبقي ذلك ساعة، ثم غاب عنا، وعدنا إلى رؤية ما كنا نعرفه من طول الزمان. قال: إلا أنني في رؤية تلك الحالة العجيبة، أحسن في نفسي كأنني في سنة «1» خفيفة لم يكن إدراكي كالحالة التي أتحققها مني.
وحدّثني بعض الفقهاء العجم قال: كنا مع الشيخ شهاب الدين عند القابون «2» ، ونحن مسافرون عن دمشق، فوجدنا قطيع غنم مع تركمان، فقلنا للشيخ: يا مولانا! نريد من هذا الغنم رأسا نأكله.
فقال: معي عشرة دراهم، خذوها واشتروا بها رأس غنم لكم.
فأخذناها فاشترينا رأسا من التركماني، ومشينا، فلحقنا رفيق التركماني، وقال: ردّوا الرأس، وخذوا أصغر منه، فإن هذا ما عرف يبيعكم، يسوى هذا الرأس الذي معكم أكثر من الذي قبض منكم. فتقاولنا نحن وإياه، ولما عرف الشيخ ذلك قال لنا: خذوا الرأس وامشوا، وأنا أقف معه، وأرضيه.
فتقدّمنا وبقي الشيخ يتحدّث معه، ويمنّيه «3» ، فلما أبعدنا قليلا، تركه(9/166)
وتبعنا، وبقي التركماني يمشي خلفه ويصيح به، وهو لا يلتفت إليه. ولما لم يكلّمه لحقه بغيظ، وجذب يده اليسرى، وقال: أين تروح، وتخليني؟.
وإذا بيد الشيخ قد انخلعت من عند كتفه، وبقيت في يد التركماني!، ودمه يجري من يده. فبهت التركماني، وتحيّر في أمره، ورمى اليد، وخاف.
فرجع الشيخ وأخذ تلك اليد بيده اليمنى، ولحقنا، وبقي التركماني راجعا وهو يلتفت إلينا حتى غاب، ولما وصل الشيخ إلينا رأينا في يده اليمنى منديله لا غير!! «1» .
وحدّثني صفيّ الدين خليل بن أبي الفضل الكاتب قال: حدّثنا الشيخ ضياء الدين بن صقر «2» - رحمه الله تعالى-: أن في سنة تسع وتسعين وخمسمائة، قدم إلى حلب شهاب الدين السهروردي، ونزل في مدرسة الحلاوية، وكان مدرّسها يومئذ الشريف رئيس الحنفية افتخار الدين- رحمه الله تعالى- فلما حضر شهاب الدين وبحث مع الفقهاء كان لابس دلق «3» ، وهو مجرّد بإبريق وعكّاز خشب، وما كان أحد يعرفه، فلما بحث، تميّز بين الفقهاء، وعلم افتخار(9/167)
الدين أنه فاضل؛ فأخرج له منديلا فيه ثوب عتابي، وغلالة، ولباس، وبقيار «1» ، وقال لولده: تروح إلى هذا الفقير، وتقول له: والدي يسلّم عليك، ويقول لك:
أنت رجل فقير، وتحضر مجالس الفقهاء في الدرس، وقد أرسل إليك شيئا تلبسه إذا حضرت.
فلما وصل ولده إلى الشيخ شهاب الدين، وقال له ما أوصاه به. سكت ساعة وقال له: يا ولدي! حطّ هذا القماش، وتفضّل واقض لي حاجة. وأخرج له فصّ بلخش «2» كالبيضة، رمّانيّ اللون، ما ملك أحد في قدره ولونه، وقال: تروح إلى السوق، وتنادي على هذا الفص، ومهما جلب لا تطلق بيعه حتى تعرّفني.
فلما وصل إلى السوق، قعد عند العريف «3» ، ونادى على الفصّ، فانتهى ثمنه إلى خمس وعشرين ألف درهم، فأخذه العريف وطلع إلى الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين، وهو يومئذ صاحب حلب، وقال: هذا الفصّ قد جاب هذا الثمن. فأعجب الملك الظاهر قدره، ولونه، وحسنه. فبلغ به إلى ثلاثين ألف(9/168)
درهم.
فقال العريف: حتى أنزل إلى ولد افتخار الدين، وأقول له.
وأخذ الفصّ ونزل إلى السوق، وأعطاه له، وقال له: تروح تشاور والدك على هذا الثمن. واعتقد العريف أن الفصّ من عند افتخار الدين. فلما جاء إلى شهاب الدين السهروردي وعرّفه بالذي جاب الفصّ، صعب عليه، وأخذ الفصّ وجعله على حجر، وضربه بحجر آخر حتى فتّته، وقال لولد افتخار الدين: خذ يا ولدي هذه الأثواب، وارجع إلى والدك، وقبّل يده عني، وقل له: لو أردنا الملبوس ما غلبنا عنه.
فمضى إلى والده، وعرّفه صورة ما جرى، فبقي حائرا في قضيّته.
وأما الملك الظاهر فإنه طلب العريف وقال له: أريد الفصّ. فقال له: يا مولانا! أخذه صاحبه ابن الشريف افتخار الدين مدرّس الحلاوية. فركب السلطان ونزل إلى المدرسة، فقعد في الإيوان، وطلب افتخار الدين إليه، وقال له: أريد الفصّ. فعرّفه أنه لشخص فقير نازل عنده!.
قال: فأفكر السلطان ثم قال: يا افتخار الدين! إن صدق حدسي فهذا شهاب الدين السهروردي.
ثم قام السلطان واجتمع بشهاب الدين وأخذه معه إلى القلعة، وصار له شأن عظيم. وبحث مع الفقهاء في سائر المذاهب، وعجّزهم، واستطال على أهل حلب، وصار له شأن يكلمهم كلام من هو أعلى منهم قدرا. فتعصّبوا عليه، وأفتوا في دمه حتى قتل.
وقيل: إن الملك الظاهر أرسل إليه [من] خنقه.
قال: ثم إن الملك الظاهر بعد مدة نقم على الذين أفتوا في دمه، وقبض على(9/169)
جماعة منهم، واعتقلهم، وأهانهم، وأخذ منهم أموالا عظيمة «1» .
قال العدل بهاء الدين الديلمي: كنت أصحب الشيخ شهاب الدين السهروردي الحكيم بحلب، فلما اعتقل بقلعة حلب كنا نتردد إليه، وكان تحت القلعة شخص جزّار، وكان كلما رآنا متردّدين إلى الشيخ يسبّه ويسبّنا، فلما أكثر حكينا أمره للشيخ، فقال: احتالوا على أن تأخذوا طوله وتأتوني به.
فاحتالوا لذلك وأحضروه إليه، فأمرهم أن يقطعوا عصا على مقدار طوله. فلما أحضروها، حزّ فيها حزا مثل الرأس، وأمر بعض تلامذته أن يأخذ معه سكينا، وإذا قال له: اضرب يضرب بها. فقعد الشيخ وجعل يقرأ شيئا في نفسه. ثم قال لحامل السكين: اقطع. فقطع من الموضع الذي حزّه. وإذا صيحة هائلة تحت القلعة!. فسألوا عنها؟ فقيل: إن الشخص الجزّار قد قتل!!، أو كما قال.
حدّثني «2»
سديد الدين محمود بن عمر المعروف بابن زقيقة قال: كان الشيخ شهاب الدين السهروردي لا يلتفت إلى ما يلبسه، ولا له احتفال بأمور الدنيا.
قال: وكنت أنا وإياه نتمشى في جامع ميافارقين، وهو لابس جبة قصيرة مضرّبة زرقاء، وعلى رأسه فوطة مفتولة، وفي رجليه زربول «3» ، ورآني صديق(9/170)
لي، وهو إلى جانبي، فقال: ما جئت تماشي إلا هذا الخربندا؟ «1» .
فقلت له: اسكت، هذا سيد الوقت شهاب الدين السهروردي. فتعاظم قولي، وتعجّب، ومضى.
وحدّثني بعض أهل حلب قال: لما توفي شهاب الدين السهروردي- رحمه الله تعالى- ودفن بظاهر مدينة حلب، وجد مكتوبا على قبره، والشعر قديم [البسيط]
قد كان صاحب هذا القبر جوهرة ... مكنونة قد براها الله من شرف
فلم تكن تعرف الأيام قيمته ... فردّها غيرة منه إلى الصّدف
ومن كلامه: قال في دعاء:" اللهم يا قيّام الوجود، وفائض الجود، ومنزل البركات، ومنتهى الرغبات، منور النور، ومدبّر الأمور، وواهب حياة العالمين، امددنا بنورك، ووفقنا لمرضاتك، وألهمنا رشدك، وطهّرنا من رجس الظلمات، وخلّصنا من غسق الطبيعة إلى مشاهدة أنوارك، ومعاينة أضوائك، ومجاورة مقرّبيك، وموافقة سكان ملكوتك، واحشرنا اللهم مع الذين أنعمت عليهم من الملائكة والصديقين، والأنبياء والمرسلين" «2» .
ومن شعره قوله [الكامل]
أبدا تحنّ إليكم الأرواح ... ووصالكم ريحانها والرّاح
وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم ... وإلى لذيذ وصالكم ترتاح
وإذا هم كفّوا تحدّث عنهم ... عند الوشاة المدمع السّحّاح(9/171)
فإلى لقاكم نفسه مشتاقة ... وإلى رضاكم طرفه طمّاح
عودوا بنور الوصل من غسق الدجا ... فالهجر ليل والوصال صباح
وتمتّعوا فالوقت طاب لكم وقد ... رقّ الشراب ودارت الأقداح
مترنّحا وهو الغزال الشارد ... وبخدّه الصّهباء والتفاح
وبثغره الشهد الشهي وقد بدا ... في أحسن الياقوت منه أقاح
وقوله «1» : [الوافر]
أقول لجارتي والدمع جاري ... ولي عزم الرحيل عن الديار
ذريني أن أسير ولا تنوحي ... فإن الشهب أشرفها السواري
فإني في الظلام رأيت ضوءا ... كأن الليل زيّن بالنهار
إلى كم أجعل الحيّات صحبي ... إلى كم أجعل التّنّين جاري؟ «2»
وكم «3» أرضى الإقامة في فلاة ... وفوق الفرقدين «4» رأيت داري
ويأتيني من الجرعاء «5» برق ... يذكرني بها قرب الديار
وقوله «6» : [الرمل]
قل لأصحاب رأوني ميتا ... فيكوني إذ رأوني حزنا
لا تظنوني بأني ميت ... ليس ذاك الميت- والله- أنا(9/172)
أنا عصفور وهذا قفصي ... طرت عنه فتخلى رهنا
وأنا اليوم أناجي ملأ ... وأرى الله عيانا بهنا «1»
فاخلعوا الأنفس عن أجسادها ... لتروا للحق حقا بيّنا
لا ترعكم سكرة الموت فما ... هي إلا انتقال من هنا
قلت: حدثني شيخنا أبو الثناء الكاتب الحلبي- رحمه الله تعالى- عن أشياخه: أن الشهاب السهروردي كان لا يقرّ للملك الظاهر بمعرفة السيمياء»
، وينكر ذلك، وكان الملك الظاهر لا يشك في أنه يعرف ذلك، ويحب أن يراه، وكان لا يزال يقول له عن ذلك وهو ينكره، ويجحد.
فلما كان ذات يوم قال له: بالله يا مولانا! أرني شيئا من السيمياء.
فقال له: بسم الله- وكان الملك الظاهر واقفا على بركة يريد أن يغتسل فيها- ثم إن الملك الظاهر نزل فغطس، ثم طلع ومملوكه واقف بيده منشفة، فلما خرج ناوله المنشفة، فتنشّف ثم قال: أين أنا؟.(9/173)
فقال له ذلك المملوك: هنا في دارك، وملكك بحلب.
فقال: ولك! كم لي غائب عنكم؟.
فقال: قدر ما غطست في الماء.
فقال: ويلك أنا لي غائب عنكم سنين، وغرقت فما طلعت إلا من ساحل بحر عدن، وتزوّجت امرأة هناك، بنت خطّاب، وأولدتها أولادا.
فقال المملوك: أعيذك يا خوند «1» بالله، وأعيذ عقلك. وكلما قال هذا يغتاظ الملك الظاهر ويقول: ويلك تغالطني، وتدهيني في عقلي؟. والمملوك يعيد قوله. فضحك السهروردي. ففطن الملك الظاهر، وقال له: هذه عملاتك «2» معي!.
فقال له السهروردي: لا والله، بل هذه عملاتك أنت مع نفسك.
وأجريت ذكره مرة مع الشيخ العارف جمال الدين الحويزاوي شيخ الشيوخ بالديار المصرية، فقال: كان رجلا جليل القدر من أفراد العالم، وفضلاء الدهر، وأعيان أهل التصوف، وأخذ نفسه في أول حاله بالتجريد، واجتهد فيه، ولكن غلبت عليه شقاوته وجهل صباه؛ فقتل بسيف الشرع. ثم أنشد:
وذاك قتيل لا يطل له دم «3»(9/174)
ومنهم:
27- الخسرو شاهيّ: عبد الحميد بن عيسى، بن عمّويه، بن يونس، ابن خليل شمس الدّين، أبو محمّد، التبريزيّ، الشّافعيّ «13»
نسبة إلى قرية تعرف ب:" خسرو شاه" «1» ، من قرى تبريز.
سمر حديث مغرب، وقمر مشرق ومغرّب، قدم الشام فكان أزين له من(9/175)
هشام، وحلّ في أم بلدانه حلول ابن ذي يزن في غمدانه، ونزل بالكرك.
وأناخ نزوله بالشاذياخ «1» فأسعف وأعان، وذكر المنازل أهلها بين البلقاء «2» ومعان «3» ، وأفاض في تلك المعالم الإحسان فوق آل غسان.
استقدمه الناصر داود، وقدّمه تقديم الودود، فنشر علم علمه، وشرّع مورد يمّه، وجعل حوضه لمن يمتاح «4» ، وروضه لمن يرتاح، فغدت حضرته محطّا للركائب، ومحلا للرغائب، فكثر من عنده الممتار «5» ، ورجع يشهده(9/176)
المشتار «1» ، ونمى عدد الفضلاء، وطمي «2» مدد الفضل في ذلك الفضاء، وتزاحمت الملوك على خطبته، واستزارته من خطته، وهو بذروة ذلك الجبل ممتنع، وبيسير ذلك البلل مقتنع، ودأبه في زيادة علوم، وإفادة خصوص وعموم، وأيامه بالفضائل مشحونة، ولياليه من الرذائل مصونة.
ثم أتاه أجله، وحل عليه من دين البقاء مؤجّله، فاتّصلت تلك الروم الزكية بعالمها، وخلصت من ظلم الدنيا ومظالمها.
قال ابن أبي أصيبعة «3» :" هو إمام العلماء، وسيد الحكماء، قدوة الأنام، شرف الإسلام. قد تميّز في العلوم الحكمية، وحرّر الأصول الطبية، وأتقن الأحكام الشرعية، ولم يزل دائم الاشتغال، جامعا للفضل والإفضال.
وكان شيخه الإمام فخر الدين ابن خطيب الري «4» ، وهو من أجلّ تلامذته، ومن حين وصل الشام اتصل بخدمة الملك الناصر [صلاح الدين] داود بن المعظّم «5» ، وأقام عنده بالكرك، وكان عظيم المنزلة عنده، وله من الإحسان(9/177)
الغزير، والإنعام الكثير.
ثم أتى دمشق وتوفي بها في شوّال سنة اثنتين وخمسين وستمائة، ودفن بجبل قاسيون".
قال:" رأيته يوما وقد أتاه بعض فقهاء العجم بكتاب دقيق الخط، ثمن البغدادي، معتزلي التقطيع.
فلما نظر فيه صار يقبّله ويضعه على رأسه، فسألته عن ذلك فقال: هذا خطّ شيخنا الإمام فخر الدين ابن الخطيب- رحمه الله تعالى-".
قلت «1» : ولما كان الشيخ شمس الدين الخسرو شاهي عند الملك الناصر داود بالكرك، كان جدّي الصاحب جمال الدين أبو المآثر فضل الله وزيرا عنده.
واتحدت له صحبة بالشيخ، فأخذ معه ولده عمّي الصاحب شرف الدين أبا محمد عبد الوهاب- رحمه الله تعالى- وقدّمه للشيخ، وقال هذا ولدي، وأعزّ ما أقدر عليه، وقد قدّمته لك. فقبله منه قبولا حسنا، وأقرأه:" الأربعين في أصول الدين" «2» ، وانتفع به.
ثم لما أتى الأمير الكبير الكافل جمال الدين أبو الفتح موسى بن يغمور لزيارة الشيخ طلب منه عمي أن يكون عنده، فآثره به. ثم اتصل بالملك الصالح أيوب بسببه على ما ذكرت ذلك في ترجمة عمي في" فواصل السمر" «3» .(9/178)
ورثى الخسرو شاهي جماعة منهم العز الضرير، منها: [الطويل]
بموتك شمس الدين مات الفضائل «1» ... وأردى ببدر الفضل والبدر كامل
فتى بزّ كل القائلين «2» بصمته ... فكيف إذا وافيته وهو قائل
أتدري المنايا من رمت بسهامها ... وأي فتى أودى وغال الغوائل
رمت أوحد «3» الدنيا وبحر علومها ... ومن قصرت في الفضل عنه الأوائل
ولو كان بالفضل الفتى يدفع الردى ... لما غيّبت عبد الحميد الجنادل «4»
فبعدك شمس الدين أعوز عالم ... وأبدى الدعاوى في المحافل «5» جاهل «6»
ومنهم:
28- السّيف الآمديّ: عليّ بن [أبي «7» ] عليّ بن محمّد بن سالم، سيف الدّين أبو الحسن التّغلبيّ الآمديّ «13»
سيف لا يعرف التقليد، وسيل يشيب لهو له الوليد، توقّى كل مناظر حدّ(9/179)
مضربه، وعاد كل صادر بريق مشربه، ساحل قطع غمار اللجج، وجادل فقطع حجاج الحجج، ولم يخل منهله من زحام، ولا تصرّفه من زمام، فكم جاءت إليه الأفواج، وتزاحمت في بحره الأمواج، ونداه يسع، وجداه لا يدع.
وجعل مدينة حماه سوقا لفوائده، ومعدنا لفرائده، وكان قصدها لا يعدّ إلا في معالي الرتب، ولا يزال يرحل إليه على كور «1» وقتب «2» ، وهو على هذا الازدحام، وكثرة من حلّق عليه وحام، لا يودع الحكم غير أهلها، ولا يدع للشّفة إلا قدر نهلها «3» ، فكان لا يزال لديه شفيع لطالب، ومتوسل بخلائقه الأطايب، فلم يكن مثله سيف لا يزال يخدمه القلم، وينشر لعلمه على جناح الجوزاء العلم.(9/180)
وكانت ملوك زمانه تجلّه، ولو قدرت عرفت من نجاد ممالكها أين تحلّه، فقد كان سيفا مشرفيا، ومثقّفا «1» سمهريّا «2» ، طالما طال المفارق والطلاء «3» ، وطاب معدنه فلم يحتج إلى تنميق الحمائل «4» والحلى، هذا ... وليس به فلول من قراع الكتائب «5» ، ولا ذهول وبحره جمّ العجائب.
قال ابن أبي أصيبعة «6» :" كان أذكى أهل زمانه، وأكثرهم معرفة بالحكمة والشريعة، والمبادئ الطبية. بهيّ الصورة، فصيح اللسان، جيّد التصنيف.
خدم الملك المنصور «7» صاحب حماة، وأقام عنده سنين، ورتّب له الرواتب السنيّة، [والإنعام الكثير. وكان من أكابر الخواص عنده، ولم يزل في خدمته] ،(9/181)
فلما توفي أتى الملك المعظم عيسى «1» فبالغ في الإنعام عليه وإكرامه، وولاه التدريس.
وكانت الناس تتعجب له في المناظرة والبحث، وقلّ أن كان يشتغل في العلوم الحكمية، وتشفّع العماد السلماسي بابن بصاقة «2» ليقرئه، فكتب إليه: [البسيط]
يا سيدا جمّل الله الزمان به ... وأهله من جميع العجم والعرب
العبد يذكر مولاه بما سبقت ... وعوده لعماد الدين عن كثب
ومثل مولاي من جاءت مواهبه ... من غير وعد وجدواه بلا طلب
فأصف من بحرك الفيّاض مورده ... وأغنه من كنوز العلم، لا الذهب!
واجعل له نسبا يدلي إليك به ... فلحمة العلم تعلو لحمة «3» النسب
ولا تكله إلى كتب تنبئه ... ف:" السيف أصدق أنباء من الكتب «4»(9/182)
ومنهم:
29- البديع الاصطرلابيّ: وهو بديع الزّمان أبو القاسم هبة الله بن الحسين بن أحمد البغداديّ «13»
حكيم فاق بتفنّن علمه الحكماء، ولم يكفّ نظره فسيح الأرجاء حتى شق السماء، ولم يقنع باستقصاء أمزجة البشر حتى سأل عن أمزجة النجوم، وميّز ذوات البشر منها والوجوم. وأتقن عمل الاصطرلاب «1» ليقوم تحريكه للعضادة(9/183)
مقام جسّه للنبض، ونظره لما بين المشارق والمغارب بمحيط ما يجمع الأرض. هذا مع إتقان بقية فنون الحكمة، وما في غضون ذلك من الأمور المهمّة. على أنه لم يخل الأدب من لطيف نظر، وشريف ذكاء وقف به على ما لا تنافر من محاسن كل نفر.
قال ابن أبي أصيبعة فيه «1» :" من الحكماء الفضلاء، والأدباء النبلاء، [طبيب] عالم، وفيلسوف متكلم، غلبت عليه الحكمة وعلم الكلام، والرياضي، وكان متقنا لعلم النجوم والرصد". وكان أوحد أهل زمانه في علم الاصطرلاب، وعمله، فعرف به «2» .
ومن بديع شعر البديع قوله: [السريع]
قام إلى الشمس بآلاته ... لينظر السعد من النحس
فقلت: أين الشمس؟، قال الفتى: ... في الثور، قلت: الثور في الشمس
وقوله [الخفيف]
قيل لي: قد عشقته أمرد الخد ... وقد قيل: إنه نكريش «3»
وقوله [أيضا في غلام معذّر- أي طلع عذاره [مجزوء الكامل]
كن كيف شئت فإنني ... قد صغت قلبا من حديد(9/184)
وقعدت أنتظر الكسو ... ف وليس ذلك بالبعيد
وقوله في جرع دان «1» - وهو الذي يوضع في مجالس الكبراء لصبّ تكعيب القدح: [المنسرح]
إني إذا ما قعدت في ملأ ... عددت من بعض آلة الفرح
إذا تصدّرت في مجالسهم ... تنغّصوا لي بفاضل القدح
وقوله [السريع]
هل عثرت أقلام خط العذار ... في مشقها «2» ، فالخال نقط العثار؟
أم استدار الخط لما غدت ... نقطته مركز ذاك المدار؟ «3»
ومنهم:
30- ابن الشّبل البغداديّ: [محمّد بن «4» ] الحسين بن عبد الله بن يوسف أبو عليّ، بن أسامة السّاميّ «5» ، البغداديّ الحريميّ «13»(9/185)
حكيم رأى الدنيا بعين الاحتقار، ونظر كل ما فيها بذلّ الافتقار، وزخرت له بحار الحكم، فخاض لججها الغمار، وأذكت له سرجها فجني له من غصونها المهل له الثمار، وتناهى نظره في المآل فلم يزد بصيرة في الاعتبار، ولم يرد زيادة للاختبار، إلا أنه كان جريء اللسان، مسيء الإحسان، خرجت به الفلسفة إلى مهامهها «1» العريضة، فضلّ في فجاجها «2» الفيح «3» ، وضلّ في ذيل انفراجها الفسيح، ودام يخبط في سماء سماواتها، ويخطب ولا يلج خطبه أسماع أهل مداواتها، وأغرب مساع نطقه، ومسالك باطله المموّه بحقه، تأدب بأدب الحياء في الوجنات، وذو الإغفاء في المقل السّنات، ولكنه لم يجد أذنا ولم يلق من يعير بصيرته فطنا.
قال ابن أبي أصيبعة «4» :" مولده ومنشؤه ببغداد، وكان حكيما فيلسوفا، متكلما فاضلا، وأديبا بارعا، وشاعرا مجيدا".(9/186)
ومن شعره «1» : [الوافر]
بربك أيها الفلك المدار ... أقصد ذا المسير أم اضطرار
مدارك قل لنا في أي شيء ... ففي أفهامنا عنك انبهار «2»
وفيك نرى الفضاء فهل فضاء ... سوى هذا الفضاء به تدار؟
وعنك ترفع الأرواح أم هل ... مع الأجسام يدركها البوار» ؟
وموج، ذي المجرة أم فرند «4» ... على لجج الدروع «5» له أوار «6»
وفيك الشمس رافعة شعاعا ... بأجنحة قوادمها «7» قصار
وطوق للنجوم إذا تبدّى «8» ... هلالك أم يد فيها سوار؟(9/187)
وشهب ذا الخواطف أم ذبال «1» ... عليها المرخ «2» يقدح والعفار «3»
وترصيع نجومك أم حباب «4» ... يؤلف بينه اللجج الغزار؟
تمدّ رقومها ليلا وتطوي «5» ... نهارا، مثلما طوي الإزار
فكم بصقالها «6» صدئ البرايا ... وما يصدا لها أبدا غرار «7»
تباري ثم تخنس «8» راجعات ... وتكنس «9» مثلما كنس الصّوار «10»
فبينا الشرق يقذفها صعودا ... تلقّاها من الغرب انحدار
على ذا ما مضى وعليه يمضي ... طوال منى وآجال «11» قصار
وأيام تفرّقنا مداها «12» ... لها أنفاسنا أبدا شفار «13»
ودهر ينثر الأعمار نثرا ... كما للورد في الروض انتثار «14»(9/188)
ودنيا كلما وضعت جنينا ... غذاه من نوائبها ظؤار «1»
هي العشواء «2» ما خبطت هشيم ... هي العجماء «3» ما جرحت جبار «4»
فمن يوم بلا أمس ويوم ... بغير غد إليه بنا «5» يسار
ومن نفسين في أخذ وردّ ... لروح المرء في الجسم انتشار
وكم من بعد ما ألفت نفوس ... جسوما عن مجاثمها تطار
وتنتظر الرزايا «6» والبلايا ... وبعد، فبالوعيد لنا انتظار
ونخرج كارهين كما دخلنا ... خروج الضّبّ أخرجه الوجار «7»
ألم تك بالجوارح آنسات ... فأعقب ذلك الأنس النفار «8»
فإن يك آدم أشقى بنيه ... بذنب ما له منه اعتذار «9»
ولم ينفعه بالأسماء علم ... وما نفع السجود ولا الجؤار «10»(9/189)
فأخرج ثم أهبط ثم أودى ... فترب السافيات «1» له شعار «2»
فأدركه بعلم الله فيه ... من الكلمات للذنب اغتفار
ولكن بعد غفران وعفو ... يعيّر ما تلا ليلا نهار «3»
لقد بلغ العدو «4» بنا مناه ... وحلّ بآدم وبنا الصّغار
وقفنا تائهين كقوم موسى ... ولا عجل أضلّ ولا خوار
فيالك لقمة «5» قد كان منها ... علينا نقمة وعليه عار
نعاقب في الظهور وما ولدنا ... ويذبح في حشا الأم الحوار «6»
فماذا الامتنان على وجود ... لغير الموجدين به الخيار؟
وكان وجودنا خيرا لو انّا «7» ... نخيّر قبله أو نستشار
أهذا الداء ليس له دواء ... وهذا الكسر ليس له انجبار؟
تحيّر فيه كلّ دقيق فهم ... وليس لعميق جرحهم انسبار «8»
إذا التكوير غال «9» الشمس عنا ... وغال كواكب الأفق انتشار «10»(9/190)
وبدّلنا بهذي الأرض أرضا ... وطوّح بالسماوات انفطار «1»
وأذهلت المراضع عن بنيها ... لدهشتها وعطّلت العشار «2»
وغشّى البدر من فرق وذعر ... خسوف ليس يجلى أو سرار «3»
وسيّرت الجبال فكنّ كثبا «4» ... مهيلات وسجّرت البحار «5»
فأين ثبات ذي الألباب منا ... وأين مع الرجوم «6» لنا اصطبار؟
وأين عقول ذي الأفهام مما ... يراد بنا وأين الاعتبار؟
وأين يغيب لبّ كان فينا ... ضياؤك من سناه مستعار؟
وما أرض عصته ولا سماء ... ففيم يغول «7» أنجمها انكدار؟
وقد وافته طائعة «8» وكانت ... دخانا ما لقاتره «9» شرار(9/191)
قضاها سبعة والأرض مهدا ... دحاها فهي للأموات دار
فما لسموّ ما أعلى انتهاء ... ولا لسمو ما أرسى قرار
ولكن كل ذا التهويل فيه ... لذي الألباب وعظ وازدجار «1»
ومنه قوله: [الكامل]
وكأنما الإنسان فيه عبرة ... متلونا والحسن فيه معار
متصرفا وله القضاء مصرّف ... ومكلّفا وكأنه مختار
وقوله [الكامل]
ثقلت زجاجات أتتنا فرّغا ... حتى إذا ملئت بصرف الرّاح
خفّت فكادت أن تطير بما حوت ... وكذا الجسوم تخف بالأرواح «2»
وقوله [البسيط]
قالوا: القناعة عزّ والكفاف «3» غنى ... والذل والعار حرص المرء والطمع
صدقتم، من رضاه سد جوعته ... إن لم يصبه بماذا عنه يقتنع؟ «4»
وقوله: [البسيط]
تلقّ بالصبر ضيف الهمّ حيث أتى ... إن الهموم ضيوف أكلها المهج
فالخطب ما زاد إلا وهو منتقص ... والأمر ما ضاق إلا وهو منفرج «5»(9/192)
فروح النفس بالتعليل ترض به ... عسى إلى ساعة من ساعة فرج «1»
وقوله: [البسيط]
بنا إلى الدير من درتا صبابات ... فلا تلمني فما تغني ملامات
فكم قضيت لبانات «2» الشباب بها ... غنما وكم بقيت عندي بقيات «3»
ما أمكنت دولة الأفراح مقبلة ... فانعم ولذّ فإن العيش تارات
قم فاجل في فلك الظلماء «4» شمس ضحى ... بروجها الدهر «5» طاسات «6» وكاسات
تلوح في أذرع الساقين أسورة ... تبرا وفوق نحور الشرب جامات «7»
قد وقّع الدهر سطرا في صحيفته ... لا فارقت شارب الخمر المسرات «8»
خذ ما تعجّل واترك ما وعدت به ... وكن لبيبا فللتأخير آفات»(9/193)
ومنهم:
31- النّصير الطّوسيّ: محمد بن محمد بن الحسن، نصير الدّين، أبو عبد الله، الطّوسيّ الفيلسوف «13»
رجل ما عرف أياما، ولا تبرقع بالحياء لثاما، أقدم على خالقه، وحصل من السعي على خافقه، وتجاهر بالفسوق، وتظاهر بالتبضّع من السوق، ولم يخف عاقبة التهور، ولا التدلي على الشريعة والتسوّر، فلم يزل في قبح أحدوثة، وطريق سبيل عهود منكوثة، على توسّعه في العلم، ومعرفته بما به يستهم، فقد كان ذا فضائل غزيرة، وفواضل غريرة، واستيلاء على عقول السلاطين، واستخفاء في كيد ولا تبلغه الشياطين، مع كرم عميم، وكرّ على مال لا يبقي معه عديم،(9/194)
وتظاهر بفراغ، وطلب فصل رام مثله وراغ، ولكن الله إذا أراد لامرء أمرا يسّره لفعله وقدّره على فعله، ليمضي سابق إرادته، ويقضي بشقاء العبد أو سعادته، ولهذا لجّ في عمهه، ولم يبصر، ودام على غيّه ولم يقصر، فما أقبل على اعتذار، ولا أسمعه المشيب الإنذار.
كان رأسا في علم الأوائل، لا سيما في الأرصاد، والمجسطي، فإنه فاق الكبار.
قرأ على المعين سالم بن بدران المصري المعتزلي الرافضي، وغيره. وكان ذا حرمة وافرة، ومنزلة عالية عند هولاكو، وكان يطيعه فيما يشير به عليه، والأموال في تصريفه، فابتنى في مدينة مراغة «1» قبة، ورصدا عظيما. واتخذ في ذلك خزانة عظيمة فسيحة الأرجاء، وملأها من الكتب التي نهبت من بغداد والشام والجزيرة حتى تجمّع فيها زيادة على أربعمائة ألف مجلد!!. وقرر بالرصد المنجمين والفلاسفة، والفضلاء، وجعل لهم الجامكية «2» .
وكان سمحا كريما، جوادا حليما، حسن العشرة، غزير الفضائل، جليل القدر، داهية.
حكى لي شيخنا الأصفهاني أنه أراد العمل للرصد، فرأى هولاكو كثرة ما ينصرف عليه، فقال: هذا العلم المتعلق بالنجوم ما فائدته؟ أيدفع ما قدّر أن يكون؟.
فقال: أنا أضرب لمنفعته مثالا: [يأمر] «3» القان «4» يأمر من يطلع إلى أعلى(9/195)
هذا المكان، ويدع يرمي من أعلاه طست نحاس كبيرا، من غير أن يعلم به أحد، ففعل ذلك.
فلما وقع كانت له وقعة عظيمة هائلة روّعت [كلّ] من هناك، وكاد بعضهم يصعق. وأما هو وهولاكو فإنهما ما تغير عليهما شيء، لعلمهما بأن ذلك واقع.
فقال له: هذا العلم النجومي له هذه الفائدة. يعلم المتحدّث فيه ما يحدث، فلا يحصل له من الروعة والاكتراث ما يحصل للذاهل الغافل عنه. فقال [له] لا بأس بهذا، وأمره بالشروع فيه، أو كما قيل «1» .
ومن دهائه: ما حكى لي شيخنا الأصفهاني أيضا قال: إنه حصل له «2» غضب على الجويني «3» صاحب الديوان، وأظنه قال: علاء الدين. فأمر بقتله فجاء أخوه إليه، وذكر له ذلك، وطلب منه إبطال ذلك. فقال: هذا القان، وهؤلاء القوم إذا أمروا بأمر ما يمكن رده، خصوصا إذا برز إلى الخارج، فقال [له] لا بدّ من الحيلة في ذلك.(9/196)
فتوجّه إلى هولاكو، وبيده عكاز، وسبحة، واصطرلاب، وخلفه من يحمل مبخرة، والبخور يضرم. فرآه خاصة هولاكو الذين على باب المخيم، فلما وصل أخذ يزيد في البخور، ويرفع الاصطرلاب، ينظر فيه ويضعه، ويسأل عن هولاكو ويقول: هو سالم هو سالم. يكرر ذلك ويقولون: نعم. فيحمد الله ويسجد؛ فلما رأوه يفعل ذلك دخلوا إلى هولاكو، وأعلموه، وخرجوا إليه. فقالوا: ما الذي أوجب هذا؟. فقال: القان، أين هو؟. قالوا له: جوّا «1» .
قال: طيب معافى موجود في صحة؟. قالوا: نعم. فسجد شكرا لله تعالى، وقال لهم: هو طيب في نفسه؟. قالوا: نعم. وكرر هذا ومثله، وقال: أريد أرى وجهه بعيني، إلى أن دخلوا إليه وأعلموه بذلك. وكان [في] وقت لا يجتمع فيه [به] أحد، فأمر بإدخاله، فلما رآه سجد وأطال السجود فقال له: ما خبرك؟ قال:
اقتضى الطالع في هذا الوقت أن يكون على القان قطع عظيم إلى الغاية «2» ؛ فقمت وعملت هذا، وبخّرت هذا البخور، ودعوت بأدعية أعرفها، أسأل الله صرف ذلك عن القان. والطالع يقتضي أن يحقن القان دماء كثيرة، ويفرج عن نفوس كثيرة ليحقن دمه، ويفرج عنه، ويتعين الآن أن القان يكتب إلى [سائر] ممالكه، ويجهز الألجية في هذه الساعة إليها بإطلاق من في الحبوس «3» والاعتقال، والعفو عمن له جناية أو أمر بقتله. لعل الله أن يصرف هذا الحادث العظيم، ولو لم أر وجه القان ما صدّقت. فأمر هولاكو في ذلك الوقت بما قال، وأطلق صاحب الديوان في جملة الناس، ولم يذكره النصير الطوسي. وهذا غاية في الدهاء بلغ به مقصده ودفع عن الناس أذاهم، وعن بعض الناس إزهاق(9/197)
أرواحهم.
قال أبو الصفاء: ومن حلمه ما وقفت على ورقة حضرت إليه من شخص من جملة ما يقول فيها: يا كلب!، يا ابن الكلب!!.
فكان الجواب: وأما قوله كذا وكذا، فليس بصحيح. لأن الكلب من ذوات الأربع، وهو نابح طويل الأظفار، وأنا فمنتصب القامة، بادي البشرة، عريض الأظفار، ناطق، ضاحك، فهذه الفصول والخواص غير تلك الفصول والخواص!.
وأطال في نقض كل ما قاله، هكذا برطوبة «1» وتأنّ غير منزعج، ولم يقل في الجواب كلمة قبيحة!.
ومن تصانيفه: كتاب" المتوسطات بين الهندسة والهيئة" وهو جيد إلى الغاية. و" مقدمة في الهيئة". وكتاب وضعه للنصيرية، وأنا أعتقد أنه ما يعتقده، لأن هذا فيلسوف وأولئك يعتقدون ألوهية علي. واختصر" المحصّل" للإمام فخر الدين، وهذّبه، وزاد فيه. وشرح" الإشارات" ورد فيه على الإمام فخر الدين في شرحه، وقال: هذا جرح وما هو شرح!. وقال فيه: إني حرّرته في عشرين سنة، وناقض فخر الدين كثيرا. ولقد ذكره قاضي القضاة جلال الدين القزويني «2» - رحمه الله- يوما وأنا حاضر وعظّمه- أعني الشرح-، فقلت:
يا مولانا! ما عمل شيئا لأنه أخذ شرح الإمام وكلام سيف الدين الآمدي «3» ، وجمع بينهما، وزاده يسيرا. فقال: ما أعرف للآمدي في الإشارات شيئا. قلت:
نعم. كتاب صنفه وسماه:" كشف التمويهات عن الإشارات والتنبيهات".(9/198)
فقال: هذا ما رأيته.
ومن تصانيفه:" التجريد" في المنطق. و" أوصاف الأشراف" «1» ، و" قواعد العقائد"، و" التلخيص في علم الكلام". و" العروض" بالفارسية. و" شرح الثمرة" لبطليموس. و" كتاب مجسطي". و" جامع الحساب في التخت والتراب". و" الكرة والأسطوانة «2» ". و" المغطيات «3» " و" الظاهرات".
و" المناظر". و" الليل والنهار". و" الكرة المتحركة". و" الطلوع والغروب".
و" تسطيح الكرة". و" المطالع". و" تربيع الدائرة". و" المخروطات". و" الشكل المعروف بالقطائع". و" الجواهر". و" الأسطوانة". و" الفرائض على مذهب أهل البيت". و" تعديل المعيار في نقد «4» تنزيل الأفكار". و" بقاء النفس بعد بوار البدن". و" الجبر والمقابلة". و" إثبات العقل الفعّال". و" شرح مسألة العالم".
و" رسالة الإمامة" و" رسالة إلى النجم الدين الكاتبي «5» في إثبات واجب الوجود". و" حواشي على كليات القانون". و" رسالة ثلاثون فصلا في معرفة التقويم". وله شعر كثير بالفارسية.
وقال الشمس ابن المؤيد العرضي: أخذ النصير العلم عن الشيخ كمال الدين ابن يونس الموصلي «6» ، والمعين سالم بن بدران المصري، المعتزلي، وغيرهما.(9/199)
قال: وكان منجما لأبغا «1» بعد أبيه، وكان يعمل الوزارة لهولاكو من غير أن يدخل يديه في الأموال، واحتوى على عقله حتى إنه لا يركب ولا يسافر إلا في وقت يأمره به. ودخل عليه مرة ومعه كتاب مصور في عمل الدرياق «2» الفاروق، فقرأه عليه وعظّمه عنده، وذكر منافعه. وقال: إنّ كمال منفعته أن تسحق مفرداته في هاون «3» ذهب، فأمر له بثلاثة آلاف دينار لعمل الهاون، وولاه هولاكو جميع الأوقاف في سائر بلاده، وكان له في كل بلد نائب يستغل الأوقاف، ويأخذ عشرها، ويحمله إليه ليصرفه في جامكيات المقيمين بالرصد، ولما يحتاج إليه من الأعمال بسبب الأرصاد، وكان للمسلمين به نفع خصوصا الشيعة والعلويين «4» ، والحكماء وغيرهم. وكان يبرّهم، ويقضي أشغالهم، ويحمي أوقافهم، وكان مع هذا كله فيه تواضع وحسن ملتقى «5» قال حسن بن أحمد الحكيم «6» : سافرت إلى مراغة، وتفرّجت في هذا الرصد، ومتوليه صدر(9/200)
الدين علي بن خواجا نصير «1» ، وكان شابا فاضلا في التنجيم، والشعر بالفارسية، وصادفت الشمس ابن المؤيد العرضي، والشمس الشرواني، وكمال الدين الأيكي، وحسام الدين الشامي، فرأيت فيه من آلات الرصد شيئا كثيرا، منها: ذات الحلق، وهي خمس دوائر متخذة من نحاس: الأول دائرة نصف النهار، وهي مركوزة على الأرض، ودائرة معدّل النهار، ودائرة منطقة البروج، ودائرة العرض، ودائرة الميل، رأيت الدائرة الشمسية [التي] يعرف بها سمت الكواكب، [واصطرلابا يكون سعة قطره ذراعا، واصطرلابات كثيرة، وكتبا كثيرة] «2»
قال: وأخبرني شمس الدين ابن العرضي أن النصير أخذ من هولاكو بسبب عمارة هذا الرصد ما لا يحصيه إلا الله، وأقل ما كان يأخذ بعد فراغ الرصد لأجل الآلات وإفراغها وإصلاحها عشرون ألف دينار، خارجا عن الجوامك «3» للحكماء والقومة «4» .
وقال الخواجا نصير الدين في" الزيج الإيلخاني»
": إني جمعت لبناء الرصد جماعة من الحكماء، منهم المؤيد العرضي من دمشق، والفخر المراغي(9/201)
الذي كان بالموصل، والفخر الخلاطي الذي كان بتفليس «1» ، والنجم دبيران القزويني، وابتدأنا ببنائه في سنة سبع وخمسين وستمائة، في جمادى الأولى بمراغة، والأرصاد التي بنيت قبلي وعليها كان الاعتماد دون غيرها هو رصد برجيس «2» ، وله مبنيّ ألف وأربعمائة سنة، وبعده رصد بطليموس، وله ألف ومائتا سنة، وخمس وثمانون سنة. وبعده في ملة الإسلام رصد المأمون ببغداد، وله: أربعمائة سنة، وثلاثون سنة. والرصد البناني في حدود الشام، والرصد الحاكمي بمصر، ورصد بني الأعلم، ببغداد. وأوفقها الرصد الحاكمي ورصد ابن الأعلم، ولهما مائتان وخمسون سنة.
وقال الأستاذون: إن أرصاد الكواكب السبعة لا يتم في أقل من ثلاثين سنة «3» ، لأن فيها يتم دور هذه السبعة. فقال هولاكو: اجتهد أن يتم رصد هذه السبعة في اثنتي عشرة سنة. فقلت له: أجهد في ذلك.
وكان النصير قد قدم من مراغة إلى بغداد ومعه جماعة كثيرة من تلامذته، وأصحابه. فأقام بها مدة أشهر ومات، وخلف من أولاده: صدر الدين علي،(9/202)
والأصيل [حسن] «1» ، والفخر أحمد.
وولي صدر الدين علي بعد أبيه غالب مناصبه، فلما مات ولي مناصبه أخوه الأصيل، وقدم الشام مع غازان وحكم تلك الأيام في أوقاف دمشق، وأخذ منها جملة، ورجع مع غازان، وولي ولاية «2» بغداد مديدة، فأساء السيرة، فعزل وصودر، وأهين، فمات غير حميد، وأما أخوهما الفخر أحمد فقتله غازان لكونه أكل أوقاف الروم وظلم «3» .
ومنهم:
32- القطب الشّيرازيّ: [محمود بن مسعود بن مصلح الفارسيّ «4» ] «13»
رجل يرجع إلى خير، وينتجع «5» في أول وأخير، فلم يخل واديه من(9/203)
منتجع، ولا واديه من جفل «1» قوم مجتمع، وكان له من بني جنكيز خان محلّ حلي بالحلل ترائبه، وخلّي كمد داء الأنواء راتبه، حتى اصطفاه السلطان أحمد، فبعثه إلى الحضرة المنصورية رسولا، وبلّغه من تلك المشاهد سولا «2» ، فحالت الأقدار دون مراده، وأحلّت له السمام في مراده، فلم يبلغ الرسالة، ولا سوّغ له زمنه الذي أساله.
وحدّثني شيخنا الأصفهاني قال: كان لا يزال بينه وبين خواجا رشيد الوزير بغضاء تفرّق اللحم، وتدبّ دبيب النار في الفحم، وكان لا يزال ينغّص عليه مقرّه، ولا يريه موارده إلا مكدّره، فكانت جدته «3» لا تقوم بتكاليفه، وموادّه لا تنهض بمصاريفه. على أنه كان ينسب إلى هنات ومعايب بيّنات، على فضل ينتاب، وكرم لا يرد بعتاب «4» .(9/204)
ومنهم:
33- الشّيخ صفيّ الدّين الهنديّ: [محمد بن عبد الرّحيم بن محمد الأرمويّ، أبو عبد الله، صفي الدين «1» ] «13»
إمام لم يبق إلا من اعترف بسؤدده، واغترف منه بيده، واشترف به على ما أعيا العيان وأخفى البيان، وقرب البعيد ولم يان. وكان بحرا يطفح «2» ، وقطرا «3» يسفح، يرجع إلى كرم سجايا، لو قذف بها النار لما اضطرمت، أو سجرت بها البحار لما التطمت، إلا أنه كان لا تطيعه العبارة إذا نطق، ولا يحدر صيّب سيله إذا اندفق.
أخذ عنه أكابر العلماء بدمشق، كابن المرحّل، وابن الزملكاني، وبلغوا به فوق الأماني، وحصّل به ابن المرحّل علوما كانت نجايا الصدر، وأمن ابن الزملكاني أن يعرو النقص كماله كما يعرو البدر. ولولاه لما اتسع بالشام مجال(9/205)
الكلام، ولا طلعت للمعقول شمس تمحق الظلام. وكان على تدفق بحره وتأنق سحره لا ينفث سحره في عقد الأقلام، ولا يكتب في" نهايته" «1» إلا مالا يرضى به في بدايته من الغلام «2» .
ومنهم:
34- علي بن إسماعيل بن يوسف الإمام العلامة القدوة العارف ذو الفنون الشيخ علاء الدين قاضي القضاة شيخ الشيوخ أبو الحسن القونوي التبريزي «13»
جمع الطريقين، ونفع الفريقين، ولي المنصبين، ورعى في جانبيهما المخصبين،(9/206)
فعلا على الألى، وأرتقة أهل النقا، وعلا على مجد ما وصل إليه ذو مجد، ودرّس في الإقليمين «1» فأعجب، وغرس فيهما كل غرس فأنجب، ولم يرد أهل العلم والصلاح إلا بقيته، ولا شهد أهل مصر والشام إلا أولويته، ذلّلت له فيهما الرتب، وسهّلت عليه الأماني فبلغ أقصى علاهما، وطاب به الواديان كلاهما.
ولد سنة ثمان وستين وستمائة، وتوفي بدمشق سنة تسع وعشرين وسبعمائة، في ذي القعدة، ودفن بسفح جبل قاسيون، بتربة اشتريت له.
تفقّه وتفنّن، وبرع وناظر. قدم دمشق أول سنة ثلاث وتسعين وستمائة، فرتّب صوفيا «2» ، ثم درّس بالإقبالية «3» . وسمع من أبي حفص ابن القوّاص، وأبي الفضل ابن عساكر، وجماعة بمصر من الأبرقوهي، وطائفة «4» .
واستوطن مصر، وولي مشيخة سعيد السعداء، وأقام عشرين سنة يصلي(9/207)
الصبح ويقعد للاشتغال «1» إلى أذان الظهر، وتخرّج به الأصحاب، وانتفع به الطلبة خصوصا في الأصول.
وكان ساكنا وقورا، حليما، مليح السمت والوجه، تام الشكل، حسن التعليم، ذكيا، قوي اللغة والعربية، كثير التلاوة والخير.
درّس بالشريفيّة بالقاهرة، وبها كان سكنه واشتغاله، ثم لما حضر قاضي القضاة القزويني إلى الديار المصرية عوضا عن قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، عيّنه السلطان لقضاء قضاة الشام، فأخرج كارها، وكان يقول لأصحابه الأخصّاء سرا: أخملني السلطان كونه لم يولّني قضاء الديار المصرية، وليت كان عيّنني لذلك، وكنت سألته الإعفاء.
ولما خرج إلى الشام حمل كتبه على البريد معه، وأظنها كانت وقر خمسة عشر فرسا أو أكثر!. وباشر المنصب أحسن مباشرة، بصلف زائد «2» ، وعفة مفرطة، ولم يكن له نهمة في الأحكام بل رغبته وتطلّعه إلى الأشغال والإفادة.
وطلب الإقالة أولا من السلطان فما أجابه، وكان منصفا في بحوثه، ريّضا، معظّما للآثار، ولم يغيّر هيئة التصوف. خرّج له ابن طغريل، وابن كثير، ووصلهما بجملة.
وشرح" الحاوي" «3» في أربع مجلدات، موجودة. وله:" مختصر المنهاج"(9/208)
للحليمي، سمّاه:" الابتهاج" «1» . وله:" التصرّف شرح التعرّف في التصوف" «2» .
وكان- رحمه الله تعالى- يعرف الأصلين، والمنطق، وعلوم الحكمة، ويعرف الأدب، وكان مع مخالفته لابن تيمية وتخطئته له في أشياء كثيرة يثني عليه ويعظّمه، ويذبّ عنه، إلا أنه لما توجّه من مصر إلى دمشق، قال له السلطان:
إذا وصلت، خلّ نائب الشام يفرج عن ابن تيمية.
قال: يا خوند! «3» ، على ماذا حبستموه؟.
فقال: لأجل ما أفتى به في تلك المسألة.
فقال: إنما حبس للرجوع عنها، فإن كان قد رجع أفرجنا عنه. فكان ذلك سبب تأخيره في السجن.
وكان له ميل إلى- سيدي- محيي الدين بن عربي- رضي الله عنه وأرضاه وعنّا به- إلا أن له ردودا على أهل الإلحاد.
وكان يتحدّث على حديث أبي هريرة:" كنت سمعه الذي يسمع به" «4» ،(9/209)
ويشرحه شرحا حسنا، ويبينه بيانا شافيا.
وكان يكتب مليحا، قويا، جاريا «1» .
قال أبو الصفاء: ورأيته يكتب بخطه على ما يقتنيه من الكتب التي فيها مخالفة السّنّة من اعتزال أو غيره: [الهزج]
عرفت الشر لا للشّ ... رّ لكن لتوقّيه
ومن لا يعرف الشرّ ... من الخير يقع فيه «2»
وكان يترسّل جيدا من غير سجع، ويستشهد بالآيات المناسبة والأحاديث والآيات اللائقة بذلك المقام.
ومات بورم الدماغ، بقي به أحد عشر، ومات في بستان ضمنه، وتأسف الناس لموته أسفا كثيرا: [الكامل]
عمّت فواضله «3» فعمّ مصابه ... فالناس فيه كلهم مأجور «4»
وكتب إلى ناصر الدين شافع وقد طلب منه شيئا من شعره: [الخفيف]
غمرتني المكارم الغرّ منكم ... وتوالت عليّ منها فنون
شرط إحسانكم تحقّق عندي ... ليت شعري، الجزاء كيف يكون؟(9/210)
يقبّل اليد الشريفة، لا زالت المكارم مستديمة، وفي سبل الخيرات مستقيمة، وينهي أن بضاعة المملوك من كل الفنون مزجاة، لا سيما من الأدب فإنه فيه في أدنى الدرجات، وقد وردت عليه إشارة مولانا- حرسه الله تعالى- في طلب شيء من الشعر الذي ليس للملوك منه في عير ولا نفير «1» ، ولا حظي منه بنقير ولا قطمير، سوى ما نبذ من الهذيان الذي لا يصلح لغير الكتمان، ولا يحفظ إلا اللسان، والمسؤول من فضل مولانا وكرمه المبذول أن يتم إحسانا إليه بالستر عليه، فإنه وجميع ما لديه من سقط المتاع، ولا يعار لسقطاته ولا لنفاسته ولا يباع، والله يؤيد مولانا ويسعده، ويحرسه بالملائكة ويعضده.
وكتب إليه وقد وقف على كتابه الذي سماه:" مخالفة المرسوم في حل المنثور والمنظوم": [الطويل]
مخالفة المرسوم وافقت المنى ... وحازت من الإحسان حصل المفاضل
أثارت على بخل الأثير أثارة ... من العلم مفتونا بها كل فاضل
ومنهم:
35- القاضي جلال الدّين القزوينيّ، أبو المعالي محمد ابن القاضي سعد الدّين أبي القاسم عبد الرّحمن بن عمر بن أحمد الشّافعيّ الدّلفيّ «13»(9/211)
قاضي القضاة، خطيب الخطباء، أوحد الأئمة، مفيد العلماء، عمدة الطالبين، لسان المتكلمين.
من ولد أي دلف، ومن مدد ذلك السلف، من بيت قضاء وإمامة، وضرائر بحر وغمامة، ولي أبوه وأخوه، وتشبّهت النظراء ولم يؤاخوه.
قدم مع أخيه الشام، وناب عنه بمدينة دمشق واستوطنها، وولي الخطابة وسقي فتنها، ورقى أعواد المنابر وهزّ غصنها، وكان صدر المحافل إذا عقدت، وصيرفي المسائل إذا انتقدت، وإذا جمعت المجالس كان لسانها، وإذا نظرت المدارس كان إنسانها، وكان خرق «1» اليدين، وطلق الكرم وإن كان بالدّين.
وكان له من سلطاننا نظرة عناية ترمقه، وتكبت به البحر إذا أشبهه تدفّقه، وكذلك كانت له من كافل الممالك تنكز، حتى اتّخذه في حجّة رفيقا، وجعله له إلى الله طريقا.
ثم تنكّر له بحره، فكادت تنسفه أمواجه، وتلقيه في مهالكها فجاجه، ودام السلطان له على كرم سجيّته، وشيم أريحيّته، فكتب إلى تنكز في توليته قضاء القضاة بالشام حين خلا منصبه، وتخلى له مخصبه، فأظهر تنكز له المعايب، وأساء محضره وهو غايب، فأصرّ السلطان على ولايته وصمّم، وكمّل بادي رأيه فيه وتمّم، وطلبه إلى حضرته مكرّما، وأخمد عنه من نار الثائرة متضرّما، وأوفى(9/212)
عنه ما أثقل إصره من الديون التي اتخذها ذلك المنكر له عيبا، وانتهب له غيبا.
ثم قدم دمشق جامعا بين الخطابة والقضاء، وتصرّف في الإنفاق والإمضاء.
ثم لم تطل به المدة حتى طلبه السلطان إلى حضرته ثانيا، وولاه بحضرة القضاء، وأظهر به إذ كرهه نائبه الارتضاء، وكان له منه المنزلة الرفيعة، والمكانة التي ما ردت قط شفيعه، حتى حدثت هنات، وجنيت نيات، فأعاده إلى الشام على القضاء، فما لبث حتى حلّ به صرف القضاء.
وكان ممن قدّم وحصّل جانبا صالحا من الفقه واللغة، وعلم المعاني والبيان، وعلم الكلام، واعتنى به، وبرع فيه، وأتقن علم الحكمة إتقانا قلّ فيه من كان يدانيه.
واشتهر بحسن البديهة في المجالس والمدارس، ولم يك مقصرا في شان، ولا ثانيا من عنان. وتزيّد في دمشق إكبابه على الاشتغال وطلب العلم وتحصيله، وقراءة الكتب ومطالعتها، ومذاكرة العلماء ومباحثتهم.
حكي لي أنه كان لشدة حرصه يحضر بعض خزائن الكتب المشهورة الموقوفة، وكان خازنها لا يرى إخراجها إلى عارية أحد «1» ، فكان يقنع منه بأن يجلس عنده يومه كله لمطالعة ما يحتاج إليه منها، وأنه دام على هذا سنين كثيرة.
ولما قدم قاضي القضاة إمام الدين أبو حفص عمر قدم معه أخوه جلال الدين هذا، فلما ولي الحكم بدمشق ناب عنه، وسد خلل أخيه لنقص علم كان فيه، ثم لما ولي ابن صصري «2» القضاء استنابه، ثم خاف منه، وقيل له: إنه اتفق هو(9/213)
وجماعة من الفقهاء، والصاحب أبي يعلى حمزة ابن القلانسي «1» ، وطائفة من الرؤساء بدمشق على عمل محضر عليه يحكم فيه بفسقه، وأنه كتب وهيّئ ليحكم به في صبيحة يومه، فسارع ابن صصري إلى عزله، وعجل إعلامه به مع العدول الثقات، فبطل ما عملوا، وذهب الصباح بما كانوا بيّتوا له، وبقي في قلب جلال الدين من هذا ما لم يكن له معه حيلة، إلا أنه اتفق مع ابن الزملكاني «2» على إدامة تبكيته في المجالس، وإظهار جهله، وتزييف كلامه، وداما على هذا وكان يحتاج إلى أنه لا يزال يداريهما، ويصانعهما، ويضيّفهما، ويتفقّدهما بالعطايا، وهما على ما هما عليه من تتبع عثراته، وتقصد مساويه.
حكى لي الأمين سليمان الحكيم المتطبب قال: حضرت مرة عنده في بستانه(9/214)
وهما عنده في يوم قد أضافهما فيه، واحتفل، فقال لي: أقم اليوم عندنا.
فأقمت، فرأيت من تنويع إكرامه لهما ما يتجاوز الوصف، ورأيتهما يتغامزان عليه، ويتحدثان فيه- إذا قام- بأنواع القبائح، وينسبان إليه غرائب الفضائح، فلما انصرفا تقدّمت إليه وقلت له: قد كان من إكرامك لهذين الرجلين ما لا يحد، وهما يفعلان كذا، ويقولان كذا، فما الذي يحملك على إنفاق مالك على من تكون هذه أفعاله في حقك؟، وهذا باطنه في أمرك؟. فقال لي: يا أخي! أنا- والله- أعلم منهما ما قلت، وفوق ما قلت. وإنما كيف عملي؟
هذان رجلان إمامان عالمان، فاضلان، جريّان، وما عندهما تقوى، وهذا ابن القلانسي كما تعرف، وإذا أراد استشهد كل أهل دمشق بأن النهار ليل، والليل نهار فعل! ولم يعجز. وهذا قاضي القضاة التقي سليمان الحنبلي قاض بطّاش، ويرى ضرري، وضرر أمثالي من الشافعية قربة، ولولا هذا- والله- ما داريتهما، ولكن أحتاج مع وجود هذه البلايا إلى مداراتهما من خلف أذني. قال: فسكتّ وعلمت عذره.
قلت: فلما مات ابن صصري وولي الزرعي، خاب أمل جلال الدين، وكان يظن أن المنصب لا يتخطاه، فكان هو وابن الزملكاني وابن القلانسي ممن حسّنوا في أمره ما حسّنوا، حتى سلقته الألسنة، وعزل.
ثم صمم السلطان على ولاية جلال الدين، وتنكز يعيبه، وآخر ما عابه بما عليه من الدّين، وبولده عبد الله، وما هو عليه من سوء السيرة. فطلبه السلطان وأوفى دينه، وترك عبد الله مقيما بمصر، وأعاد جلال الدين إلى دمشق حاكما كما تقدّم، فشرع في معاداة الكبراء، وإسخاط قلوب الرؤساء.
وأتاه رجل من الفقهاء بأبيات، فقال: الشعر للمجالس، والفقه للمدارس، وبقي النائب يعجبه وقوع مثل هذا منه ويظهر له الاستحسان له ليغري به الناس،(9/215)
ويملأ عليه الصدور، وكان يريد ذهاب روحه!، فبينا هو في هذا إذ سأل قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة «1» الإقالة، لكبر سنه وعجزه، فأقيل وصرف إلى بيته مكرّما، وطلب جلال الدين وولي قضاء القضاة بمصر عوضه، وولي ابنه بدر الدين محمد الخطابة بدمشق عوضه، مضافا إلى تدريس المدرسة الشامية الجوانيّة، فدخل جلال الدين في عين السلطان، ومساه الحظ من خاطره، وصار يحدّث السلطان في كثير من أمور الناس، وقضيت للناس على يده حوائج، ونجحت مطالب وبلغت مآرب، فكثر ولده عبد الله واقتنى كرائم الخيل الثمينة، وصار يسابق بها الأمراء، وخدام الإدارات السلطانية، ويخالط أولاد الأمراء، ويتوسع في الأبنية، واقتناء الجواري الحسان، والمطربات، ويتعرّض إلى أمور كثيرة، وكان يحمل حبّ أبيه له، على أنه لا يردّه عنها، إلى أن فاض خاطر السلطان، وامتلأ عليه، وطرد ابنه عنه، ثم توسّل في إعادته فأعيد، ثم طرده، ثم توسل في إعادته فأعيد، ثم سعى الناظر الخاص، وابن المرواني والي القاهرة عليه، وأطلقا فيه ألسنتهما وأوصلا به سعايتهما، وسدّدا فيه نكايتهما، فعزله السلطان، وأراد تعريضه للهوان، فنهض له فرد الدهر «2» الأصفهاني، وقام معه قيام مثله من أفراد الدهر، وركب إلى سرياقوس «3» ، وكان السلطان قد خرج إليها(9/216)
بعد أن صرف جلال الدين عن القضاء، وأتى قوصون، وكان قوصون لا يرى إلا أنه ولد له، فلما أتاه قام له وأكرمه، وقال له: قد جئت إليكم لأجتمع بالسلطان في مصلحة له، ولكم، ما أمكنني إخفاؤها عنكم. فقام قوصون لوقته وعرّف السلطان بمجيئه، وبما قال، فأكبر السلطان مجيئه وقال: قل له يعرفنا بالمصلحة التي رآها. فقال له، فقال: اعلم أن هذا القاضي جلال الدين قاض كبير مشهور في الشرق والغرب، وقد زوج بناتكم، وزوّجكم، وأثبت كتب أملاككم وأوقافكم، وحكم لكم أحكاما كثيرة، ومتى عزل هكذا وخلّي بلا قضاء مع كونه لم يعجز، ولا بلغ به الكبر، حصل بهذا التطرق إليه، وإذا تطرّق إليه انتقض عليكم جميع ما حكم لكم به. وقال له من هذا ومثله ما بلغه إلى السلطان، فقال: صدق الشيخ، ولّوه قضاء الشام كما كان، فأمر له به، وجهّزه إليه، فأقام به مدة، وتنكز لا يبش به، ولا يمكنه منعه.
ثم حصل له استرخاء وفالج أبطله؛ فاستناب ولده الخطيب عنه في كل ما ولّاه السلطان، وبقي يراجع في جلائل الأمور إلى أن مات، ودفن بمقابر الصوفية.
وهو ممن أخذت عنه علم المعاني والبيان. وقلت أرثيه، وكتبت بها إلى ولده الخطيب بدر الدين محمد: [الطويل]
أحقا بأن البحر خف معينه ... وأن وقور الطود خف رزينه
أحقا بأن السيف أغمد حدّه ... بطيف كرى ليست تنام جفونه
أحقا بأن الشمس غاب ضياؤها ... وقد بان من بدر التمام جبينه
أحقا بأن النوء أقلع نائيا ... وآلى يمينا «1» لا تجود يمينه
أحقا بأن الدّرّ آن ابتذاله ... وأهوى من الجفن القريح «2» ثمينه(9/217)
أحقا بأن العلم خفّ نباته ... وأضحى فما فاءت عليه غصونه
أحقا لقد غاض الندى بكماله ... نعم ومضى تحت التراب خدينه «1»
أحقا دعا داعي الردى علم الهدى ... أم الدهر بالعلياء جنّ جنونه
لقد خرّ في المحراب تقوى منيبة ... وفي صدر إيوان القضاء «2» مبينه
مضى بجلال الدين كل فضيلة ... وأعظمها عند المفاخر دينه
مضى طاهر الأثواب ما شان عرضه ... حسود إذا ما شاء شينا «3» يريبه
مضى وهو ملء الدست «4» صدرا معظّما ... يطول إليه شوقه وحنينه
إذا ما يراع «6» الخط صرّ صريره ... فما ذاك إلا للعويل «5» أنينه
نعى باسمه الناعي فما شك سامع ... بأن انقضاء الدهر قد حان حينه
تغيّر ضوء الصبح يوم وفاته ... فلم يبق في الآفاق من يستبينه
كأن جلال الدين ما كان في الورى ... إماما لهم حتى أتته منونه
فتى دلفيّ في الأبوة جدّه ... أبو دلف هل شبهه أو قرينه(9/218)
سقى قبره الوضّاح مثل بنانه ... سكوب الغوادي لا تغيب هتونه «1»
يضاحكه بالسفح بارق ليله ... تغازله تحت الظلام جفونه
فهل بعد هذا اليوم يدّخر الفتى ... بكاء عزيزا عنده لا يهينه
أرى الخطباء اليوم بعدك ألبسوا ... حدادا عليهم في الملابس جونه «2»
أرى منصب الحكم العزيز تضاءلت ... معاليه وارفضّت عليك متونه
أرى المنبر العالي استكنّ لما به ... وكان به فوق السّها «3» مستكينه
أرى قلم الإفتاء قد فات وقته ... وكان نظير الغصن تجبى فنونه
أرى منطق التدريس أخرس نطقه ... وأصبح إن قال، النهى «4» لا تبينه
أرى مجلس التصدير أقوت رحابه ... ولم يرض إيداع الصدور حنينه
لقد أغلق التصنيف أبواب كتبه ... وأغفت لأحداث الزمان عيونه
فمن للمرجّي خاب ما كان يرتجي ... ومات أريحي كريم يعينه
لعمرك ما يجدي الحنين على امرئ ... تحطّ بأكناف القبور ظعونه
تمهّل به يا حامل النعش إنه ... يقطّع أصلاب الرجال شطونه «5»
وهل يعلم الآتي إلى لحده به ... بأن الهلال المستنير دفينه
لقد عطّل الدست الرحيب إمامه ... وفارقه مأمونه وأمينه
وو الله إن الموت أكرم نازل ... بحرّ ولا يقضي عليه غبونه
فهل ساكن في الدهر ليس يسوؤه ... ومستأمن للدّهر ليس يخونه(9/219)
وذو غرر بالموت أن لا تغرّه ... أمانيه في الدنيا، نعم وظنونه
لتبك المعالي بالدماء سواكبا ... أباها ويبكي للبكاء حزينه
فيا أيها الناعي «1» رويدك إنه ... يودّ بمن ينعي لنا لو تكونه
غلطت، أهل قاضي القضاة قضى ردى ... أم الشام بالزلزال هدّت حصونه
ترفّق ولا تبغي العلى بوفاته ... فذكراك ميعاد البكا وضمينه
لعلّ حزينا يملك الصبر قلبه ... يجود بصبر فاضل أستدينه
فيا سائق الأظعان قدام جلّق «2» ... وفي التربة الفيحاء يلقى تريبه
تعمّد بنا تلك القبور فإننا ... نرود بها روضا جنيّا جنينه
وقف بي على ذاك الضريح مسلّما ... فإن فؤادي في التراب رهينه
إليك وإلا لا يئنّ صبابة ... كئيب ولا تبدو عليه شؤونه
تولّى ابن إدريس وولّيت ذاهبا ... فما عاد للتدريس حرز يصونه
تضعضعت الدنيا فلم يبق مذهب ... لعمري لقد هزّ الجبال سكونه
فمن بعده هل في الطريقين سالك ... وهل لاح في الوجهين بشر يزينه
فكل طريق منه قد سدّ مذهب ... وفي كل وجه بان عيب يشينه
ولولا كرام من بنيه أعزّة ... لأوحش منه سيفه ووضينه»
ومن مثل بدر الدين بل ليس مثله ... فما غاض بحر العلم وهو معينه
فما مثل من قد مات في الناس سيّد ... ولا مثل هذا الحيّ تحمي عرينه
ويعزّ عليه أن يكتب إلى مولانا معزّيا، او يسلّيه عمّن لم يجد هو ولا جميع أهل الدنيا عنه مسلّيا، وإنما هي عادة الأيام، وسنّة الدين والإسلام، فالله يعظم(9/220)
أجر مولانا، ويرحم ميته، ويحسن عزاء الإسلام فيمن شيد بجهاده بناءه وثبّته، فلقد كان- والله- من حماة الدين بسيفه وقلمه، وكماة الكلام في المدارس والمنابر بعلمه وعلمه، فرحم الله تلك المزايا الكرام، وفتح لها أبواب الجنة، وأدخلها إليها بسلام، والعزاء مشترك، ومن نظر بعين الحقيقة علم أن الدّهر أخذ أقلّ مما ترك.
وتوفي في جمادى الأولى سنة تسع وثلاثين «1» ، عن أربع وسبعين سنة.
قلت: ولما ولي كراي المنصوري «2» كفالة الشام، أتاها وقد هبّت به ريح العدو المتنسّم، والثغور قد استطار برعب من جاورها قلب بارقها المتبسّم، طلب خيل الحجر التي جرت العادة بطلبها معونة من البلاد إذا قدم العدو، وعدم الهدوّ، ولم يكن الاضطرار قد بلغ إلى حد تطلب فيه المعونة، وتحمل به إلى البلاد المؤونة، وشرع النجم ابن هلال في توزيع ذلك الطلب، وتفريع ذلك الظلم الذي باء منه بسوء المنقلب، فطلب من جهات الملك والوقف ما كاد يكون لها ثمنا، واتّخذها له مأكلة حتى كاد يتفقّأ «3» سمنا، وكان أخا بطنة، يأكل حتى يكاد يتبعّج، وجرأة لا يبالي من أي باب منه على النار يتولّج.
فاجتمع أهل البلد إلى جلال الدين لأنه إمامهم المتّبع، ورأس المصلّين في(9/221)
الجماعة وهم له تبع، فقام هو والعلامة مجد الدين أبو بكر التونسي «1» في درء هذه المظلمة، وإخفاء نجم ابن هلال الطالع في هذه الليلة المظلمة. فجمعا أهل الجامع الأموي ومن انضمّ تحت أعلام الخطابه، وأسرع إلى هذه الدعوة المجابه، وخرجوا بالمصحف العثماني والأثر النبوي، وكراي راكب في موكبه، قد شمخ العجب بهامته، فحين رآهم سأل عنهم، فلما أخبر الخبر جنّ جنونه، وظنّ ظنونه، فأمر الحاجب أن يأتيهم فيأمرهم بالرجوع بالمصحف والأثر، ويتقشّع سواد ذلك الجمع الذي حضر «2» ، ثم يأتيه منهم من يعي عنه الخطاب، ويسمع منه الجواب، فأتاه الخطيب والتونسي، وقدّما إليه الإنذار، وأغلظا، ولا سيما التونسي في الإنكار، فأومأ إلى الخطيب ليضربه بيده، وأمر بالتونسي فرمي، وكشف عن جسده، ثم ضربه ضربا جاز أدنى الحد في عدده، فخرجا، والناس تتحرّق ولا ماء يطفي النار، وكان من العجب المقدر وغرائب الاتفاق التي تذكر أن السلطان كان قد أمر بإمساك كراي، وخرج المجهّز لإمساكه، ثم بقي في وثاق المحبس إلى حين هلاكه.
ويقال: إن التونسي كتب في ذلك اليوم له من الحروف ما كان من أسباب ما حلّ به من الصروف، أتي كراي بخلعة السلطان فركب بها، وجلس في الإيوان، فأحضر محضر ذلك التشريف معه كتابا قرئ وهو في تلك الحال، وقد ظنّ أن الدهر عن طباعه قد استحال، فإذا فيه المرسوم إلى الأمراء بإمساكه، فأمسك،(9/222)
وقيّد، والخلعة عليه، ما حلّت أزرارها، ولا أرته عينه إلا ما كأنه غرارها، ولا أجدته الأيام إلا وفي نفعها ضرارها.
وكان الخطيب قد كتب إلى السلطان كتابا مضمونه:
(الحمد لله رافع السماء وبانيها، وساطح الأرض وداحيها، ومثبتها بالجبال وراسيها، ومزيح الملوك عن أسرّتها وكراسيها. أرسل- سيدنا- محمدا صلى الله عليه وآله وسلم إلى الخلائق جميعا دانيها وقاصيها.
وبعد:
ذلك لمّا تقدّم المرسوم الشريف العالي، المولوي السلطاني، الملكي الناصري، أدام الله أيامه، وجعل النصر وراءه وأمامه، بأن يستخرج من الأملاك التي بالبلاد الشامية حق أربعة شهور، ولا يعفى عن وقف، ولا عما يكون ليتيم أو مسكين.
فأردنا أن ننبّه الذي رسم بأن الأوقاف لا تعفى، وأن يؤخذ من الجامع الشريف ما أخفى، فطلعنا في يوم الاثنين، في شهر الاستغفار «1» ، جمع علماء المسلمين، وأئمة الدين، الذين قال رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم في حقهم:" علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل" «2» ، وقد حملنا على رؤوسنا كتاب(9/223)
الله المبين، وأثر سيد الأولين والآخرين، حتى نعلم أن الجامع لا يوجب لأن يؤخذ منه حبة، ولا يتعرّض إليه من في قلبه دين. فبدا إلينا حاجب الملك الذي ولّاه أمور الدين، وجعله بجهله حاكما على المسلمين، ولم يمكّنّا من الدخول إلى نائب السلطنة المعظّمة، حتى نشكو إليه ضرر المساكين، شهد الله العظيم أنهم ما استهابوا، ولا هابوا كلام ذي القوة المتين، إلا جوّدوا الضرب على الرءوس والأكتاف والمتين «1» ، وقد طلع من كان قبلنا إلى الذي استفتح البلاد، وكان كافرا بالله العظيم، فنزل عن ظهر جواده، ومشى إليه خاضعا متذلّلا كالمسكين يتذلل وهو تذلّل مستكين، وعفا عن العباد والبلاد، وأوصى جيوشه أن لا يسعوا في الأرض مفسدين، احتراما لكتاب الله، ولأثر سيد الأولين والآخرين- صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم-. فلما طلعنا ورددنا خائبين، طلب نائب السلطنة إماما من أئمة المسلمين، وقد نفخ الشيطان في معاطسه «2» حين خلّاه بما يحدث رهينا أيّ رهين، وجلد ذلك الإمام، وعمل شيئا ما سبقه إليه أحد من العالمين، وجعل يقول- بجهله وقلة عقله وقد أمر بقتله-: أحرقني إن كان لك برهان من البراهين!.
فراقب ذلك الإمام مولاه، وناداه في سرّه ونجواه:" يا من لا يشغله شان عن شان، ولا تغلطه مسائل السائلين، اقض بالحق على الظالم يا ديّان يوم الدين".
أيها العبد الصالح! إنا خشينا عليك أن تفتن كما فتن الذين من قبلك ثم تولّوا مدبرين، فإذا حكم ربّ السماء والأرض، ونادى يوم القيامة: أحضروا الظالمين. فكيف ينطق من قد افترى على العلماء والفقهاء وأئمة الدين؟، وما احترم كتاب الله الذي أنزل فيه أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ(9/224)
نَعِيمٍ
«1» .
فهذا الكتاب يجتمع عليه فقهاء الديار المصرية، ويحكموا فيمن لا خاف يوم تنشر فيه الدواوين، وتحشر فيه الخلائق أجمعين، وينادي مناد من قبل الله- عزّ وجلّ- هذا يوم يجزي الله المتقين، ويخسر فيه الظالمون. وقد علم سيدنا ومولانا السلطان الملك الناصر، ناصر الدنيا والدين «2» - وهو أعلم بمن كان قبله من الملوك والسلاطين- بأن لا يوجب أن يؤخذ من العامة أموالهم، ولا يتعرّض إليهم من في قلبه دين، إلا إذا التقت الفئتان، ونودي: هذا يوم لا قبله ولا بعده، وكانت أمراء الدولة قد اضمحلّ ما عندهم من الأموال والسلاح والخيل، فهنالك عمّن تخلف عن ذلك اليوم فقد أمسى بما كسبت يداه وهو رهين.
واعلم أن ما يسبق أحد من خلق الله إلى الجنة غير المجاهدين، فيجب عليك أن تنصر كتاب الله، وكلام الله، وتأخذ الحق ممن افترى وطغى، فيقف على هذا الكتاب فقهاء الديار المصرية، والسلام".(9/225)
ومنهم:
36- السّيد العبريّ: برهان الدّين عبيد الله بن محمّد [الشريف] الحسينيّ الشافعيّ [الفرغانيّ] [العاقوليّ] «1» العبريّ «2» «13»
الإمام العلّامة، ابن الإمام العلامة. لسان جبل على الكلام، وبيان جعل لكشف الظلام، سلّ على الباطل حسامه «3» ، وجذب من يده خطامه «4» .
ولي القضاء فأرضى، وأقام سنّة وفرضا، وهو- على ما بلغنا- حيّ يحيا به العوالم، وتجلى به العواتم، وبكف نداه وينهم، ويأمر الدهر فيأتمر، ويقف الجواد دون مداه ويستمر. قال الدهلي «5» : ولد بتبريز «6» ، وهو الآن قد جاوز الستين.(9/226)
إمام في العقليات، منطقها، وحكمتها، وطبّها، وله قوة عظيمة في الخلافيات والجدل، بحّاث مناظر في الغاية، لم نر أحدا يقدر على التدريس مثله. يلقي الدروس في علوم شتى، أكثر من ثلاثين علما في مشكلات الكتب لأفاضل الزمان في كل يوم في بيته، ولم يناظره أحد إلا وغلب معه.
وكان فقيها في مذهب الإمام أبي حنيفة- رحمه الله تعالى-، عريقا في أصوله وفروعه، مفتيا لهم. ثم انتقل إلى مذهب الشافعي، وحفظ الحاوي على ابن مصنّفه جلال الدين محمد، وصار إماما في مذهبه، أصلا وفرعا. يفتي في المذهبين.
وولي قضاء القضاة بجميع مملكة إيران، شرح" الطوالع «1» "، و" المصباح «2» "،(9/227)
و" المنهاج «1» " في أصول الفقه، و" إيلاقي" في الطب، و" نقد الصحائف" في الكلام.
وعمل كتابا في المنطق في يوم، وأخذ العلوم عن القاضي محيي الدين أبي الحسن بن أبي الفضل بن عبد الحميد بن محمد القزويني قاضي القضاة. وأخذ العقليات عن قطب الدين الشيرازي «2» ، والعبيدي، ووالده. وكان من جملة المحققين. وروى" جامع الأصول" عن القطب الشيرازي، و" شرح السنة «3» " عن محيي الدين القزويني.
وروى عن أبيه، عن شيوخه، منهم: العلامة سيف الدين الباخرزي «4» .
قال: وله نظم مليح، وخط حسن، وجاه عظيم، وحشمة في الغاية، وترجمته عند السلاطين:" أستاذ البشر العقد الحادي عشر" وله ابن هو: شمس الدين محمد. قال الدهلي: هو المشتهر [ببيرك] فاضل في أكثر العلوم، حسن الجد والخط والعبارة، ولد سنة عشر وسبعمائة، وأخذ عن السيد أكثر فضلاء الشرق، ومنهم: النصير الحلي، وروى المشارق عن الروي عن الصنعاني.(9/228)
ومنهم:
37- الشّيخ شمس الدّين الأصفهانيّ، وهو: محمود بن أبي القاسم بن أحمد، أبو الثّناء «13»
الإمام العالم العلّامة، قدوة العلماء والحكماء والفقهاء، والفقراء. وإرث العلم والحكمة، واحد الدهر، معلم الوجود.
شمس أضاءت، وسماء على الدنيا فاءت، وإمام قدم دمشق وهي تحكي بغداد زمان عمارتها، وقرطبة حيث استقلّت بنو أمية بإمارتها، لكثرة نجوم العلماء الطالعة، وغيوم النعماء الهامعة، وابن تيمية ونباح قمره، وابن الزملكاني ولفيف سمره، والخطيب القزويني والإجماع عليه في المعقول معقود، وحلق المسجد والفقهاء بها قعود، فلم يبق إلا من اعترف بسؤدده «1» ، واغترف منه بيده، فحلف في فنّ الأصول فننها «2» الرطيب، ونسي به ابن خطيب الري فضلا عن القزويني الخطيب، ولم يعد يلتفت عليه بعد أن قدم في الأصول حلقة إقراء،(9/229)
ولا شكت الوجاء إليه أقدام القرّاء.
طلع صباحا، وسطع مصباحا، وأتى في زيّ تاجر جاء بمتاع، فكانت فرائد الدرّ راهون أعلاقه «1» ، وكتم نفسه وضوء الشمس لا تخفي لوامع إشراقه.
نزل بدار ابن هلال، ودارة الهلال أحق بموضعه، وطلع دمشق وأفق السماء أولى بمطلعه، وتردّدت إليه العلماء، وسعت إليه العظماء، وأقام ينشر العلوم، ويمدّ جناح الفضائل على العموم، ويعلم في علم الأوائل أن القطب عليه دار، وأن الطوسي وإن نشر جناح الطاووس عجز عنه لما طار، وأن الآمدي امتدّ معه فقصّر في المضمار «2» ، وأن الفارابي لم ينجّه منه إلا الفرار، وأن ابن سينا ما يجيء سينة من حروفه، وهي حمل الفقار.
هذا، إلى علوم شرعية، وفهوم لوذعية «3» ، ومعرفة بالفقه على مذهب الشافعي، يجمع بين قوليه، ووجوه للأصحاب ناضرة ناظرة إليه، واختلاف في طرف الخراسانيين والعراقيين تتفرق، وتجتمع عليه مع علم حديث ما ابن شهاب «4» فيه عنده إلا.... كالأعمش «5» ، وعربية ما الجاحظ لديه فيها إلا كالأخفش، وحقيقة ما صاحب كل طريقة بالنسبة إليها معه إلا واقف في مجاز،(9/230)
وتبحّر في تفسير جاء فيه بالإعجاز «1» ، وغير هذا من كرم ما البحر عنده إلا مبخّل، ولا السيل المنصبّ من مكانه العالي إلا مخلخل، ولا الغمام إلا وقد تقطّعت عراه، وغمض جفن لأنه كراه، وقيدت إذا همّ الليل عن سراه.
كل هذا إلى خلق يتخلّق به الأبرار، ويتحقق صفات الأخيار، ويدلّ على ما وراءها من العمل لما فيه نعم عقبى الدار.
كان في بلده جليلا، وفي عدده كثيرا، لا يجد مثله إلا قليلا، صحب السلطان محمد بن خذا بنده، وكان في سيارته من مدرّسي السيارة، وهم جماعة كان يقرر أن يكونوا حيث خيم السلطان.
وكان من أنظار القطب الشيرازي وأمثاله، وأحسن حالا منه، عند خواجا رشيد، لما كان يجده في نفسه على الشيرازي، ويرمي به طرفه من الغضاضة «2» ، ويتقصّد به جناحه من الإهاضة «3» .
وكان يعلي شمس شيخنا الأصبهاني ويرفعه، ويزين به أفق المجالس ويطلعه، وكان يحاضره ويسامره، ويفيده العلم ويذاكره. وكان يجزل له العطاء، ويدر له(9/231)
الصّلات «1» ، وينوّه بذكره، وينبّه على جلالة قدره.
وقرأ عليه ابنه الوزير الكبير آخر وزراء الشرق بل ملك الرياسة بحكم الحق:
أمير محمد بن خواجا رشيد، وتخرّج به، وحصّل.
وقدم الشيخ الأصفهاني دمشق واستوطنها فارغا من تلك البلاد «2» ، على عظم مكانته فيها، وامتلاء صدور أهلها بتعظيمه، وأقام والطلبة تتسامع به وتتواصل إليه، وتأتيه من كل جهة ومكان، وكان شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية يثني عليه أحسن الثناء، ويصفه بالفضل الوافر والعلوم الجمّة «3» .
قال لي: ما قدم البلاد علينا مثل الشيخ شمس الدين الأصفهاني.
ورأيت شيخنا الأصفهاني قد زاره مرة، فقام إليه ومشى خطوات لتلقّيه، وعرض عليه أن يجلس مكانه فأبى. وكنا في ذلك الوقت نقرأ عليه. ودخل وأنا أقرأ في" المسح على الخفين من العمدة" في الأحكام الصغرى، فقال ابن تيمية للأصفهاني: ما نتكلّم وأنت حاضر!.
فقال له الأصفهاني: الله، الله يا مولانا، مولانا شيخ السنة، وإمام العلماء.
فقال لي ابن تيمية: ما في ها اليوم قراءة «4» . اليوم يوم فراغ لسماع فوائد الشيخ. وأشار إلى الأصفهاني. فلبثت ساعة رأيت فيها مجمع البحرين، ومطلع(9/232)
النيرين، فكانا فحلين يتصارعان، وسيفين يتقارعان، ثم تركتهما، وأنا أظنّ أن مكة قد انطبق أخشابها «1» ، وأن المدينة قد تلاقت حرّتاها «2» ، ثم طفقت «3» أستثبت هل دمشق قد [..] «4» شرفاها؟، أو الأرض قد اجتمع طرفاها؟. ثم كنت لا أزال أسمع ابن تيمية يعظّمه. وكذلك ابن الزملكاني، وأما الخطيب؛ فإلى غاية لا تبلغ!!.
وقال ابن تيمية مرة في تقرير مدرس حضره جلّة العلماء، وحضره الأصفهاني، فتكلم رجل من أعيان العلماء فيه، فقال ابن تيمية: اسكتوا لنسمع ما يقول الشيخ. وأشار إلى الأصفهاني.
ثم قال الشيخ شمس الدين بزرك- والبزرك هو الكبير باللغة الفارسية-:
ثم كان الخطيب لفرط محبته في الحكمة وعلم الكلام يدعو الأصفهاني إليه ويدع من يقرأ بحضوره عليه ليستفيد.
وجرى بينه وبين ابن جملة «5» مرة نزاع في حديث، وكان النقل مع الشيخ فيه، فوبّخ ابن جملة على تجرئه على مثله، وغاية مثله أن يكون كأحد تلاميذه وطلبته الآخذين عنه.(9/233)
وأقام الشيخ سنين بدمشق، كأنما هو مرفوع على الرءوس لإفراط التعظيم والإجلال. ثم لما طلب الخطيب إلى مصر، وولي القضاء بها، كان لا يزال يتشوق ويتشوف «1» إلى مقدمه عليه ومقامه بمصر. فلما طلبني السلطان شركته في ذلك، وزدت عليه، واتّصل خبره بالسلطان، وطلبه، وأقبل عليه، وأكرم وأدنى منه مجلسه، وبسطه، وأنسه، وأمره بالمقام بحضرته، فأقام وأجرى عليه مرتّبا، وأبقى عليه معلوم التصدير «2» بدمشق، مع الإقامة بمصر للإشغال بها.
ثم كنت يوما أنا وقاضي القضاة الخطيب القزويني عند السلطان بالدركاه «3» داخل باب مسجد رديني «4» بالآدر السلطانية، في عقد عقد لبعض الحرم، فأجرى ذكر الشيخ الأصفهاني وكانت المدرسة المعزّيّة «5» بمصر المعروفة بمنازل العز قد شغرت، فولّاها له، ثم بنى الأمير قوصون «6» له الخانقاه «7» التي(9/234)
بالقرافة، وكان ينزل في كل وقت إليه، ويقعد قدّامه بين يديه، ويقضي كل حوائجه ويبعث بالجمل ليعمل بها أوقات، ويحضرها بنفسه، ويكون فيها مثل أحد تلاميذ الشيخ.
وعظمت منزلة الشيخ عند السلطان، وكبرت مكانته في صدره، حتى أمر قوصون أن يقول له: السلطان يقول لك: أنت عندنا كبير، ومكانتك نعرفها، ونريد أننا لا ترد عليك قط في شيء تطلبه منا، ونحن نوصيك بأنك لا تتحدّث في اثنين، ثم مهما أردت قل يسمع منك، وهما: عبد الله بن القاضي جلال الدين «1» ، وأوحد ابن أخي الشيخ مجد الدين الأقسرائي، شيخ خانقاتنا بسرياقوس «2» ؛ فإن هذين الاثنين قد ثبت عندنا نحسهما، وما يمكن أن نقبل فيهما شفاعة.
قلت: فكان الشيخ لهذا لا يرى التثقيل عند السلطان في شيء لئلا يطلب ما يستثقل به ويقضيه رعاية له.
ثم إن السلطان أبا سعيد بهادر خان «3» بعث كتابا إلى السلطان يطلب فيه(9/235)
إنفاذ الشيخ إليه لاشتياق الوزير أمير محمد وأهل البلاد إليه، وأكّد في طلبه.
وجاء قرينه «1» كتاب من الوزير يقول فيه: إنه من أولاد الشيخ وتلاميذه، وكم يصبر الولد عن والده، والتلميذ عن شيخه؟ وسأل الصدقات السلطانية في تجهيزه. فقال لي السلطان: والله! نحن ما نسمح بالشيخ، ولكن قولوا له: قد بعث أبو سعيد يطلبك هو والوزير، وأهل تلك البلاد، وقد حيّوا السلطان بسببك، والسلطان قد جعل الأمر إليك.
فقال الشيخ: لا والله لا أفارق ظل السلطان، ولا أستبدل بهذه البلاد، فأنا ما فارقت تلك البلاد بنية من يعود إليها.
فأعجب السلطان هذا منه كل الإعجاب، ووقع منه أحسن المواقع، وجلّ في صدره، وعظم في عينه، وعرف محلّه، وتحقق مكانته في بلاده، وأنه مع ذلك لم يزد إلا حيث استعلت كلمة الإسلام وكانت مباعث الأنبياء والرسل- صلوات الله عليهم-.
ثم لما سعت نمال النميمة في القاضي جلال الدين، وتحتّم عزله، وكاد يفضي به الأمر إلى ما أعاذ الله منه نواب شريعته «2» ، وعلماء دينه الذي ارتضى، قام الشيخ في أمره حتى ولي قضاء الشام- على ما تقدم ذكره في ترجمته-.(9/236)
ولما طلب السلطان أعيان الفقهاء للارتياد بعد جلال الدين لم يفصل رأيا حتى حضر الشيخ، وأخذ رأيه، وكان هو المعظّم في ذلك المجلس، والمقدّم عند السلطان على ذلك الجمع الجمّ.
ثم إن السلطان أمسك ابن صورة «1» ، وكان على نظر الأهراء السلطانية «2» ،(9/237)
وكان الشيخ مزوّجا بابنته، وكان قد اتّهم بأخذ مال جليل للسلطان، وقد أمسكه السلطان وشدّد عليه في الطلب. فأتى الشيخ بنفسه إلى قوصون بسببه، فاعتذر إليه، وقال: هذه ساعة غضب السلطان، ما أقدر أكلّمه فيها!.
فقال له الشيخ: أنا أتحدّث مع السلطان. ثم أتاه وطلب الإذن عليه، فدخل فلما رآه وقف له، أكرمه، وأجلسه إلى جانبه، وقال له: في خير؟، ما جاء الشيخ إلا في حاجة؟!.
فقال له: نعم!. قال: ما هي؟. قال: ابن صورة.
قال: خذه، والله! ما أقدر أردك، ولولاك لكان له حال آخر. فخرج الشيخ فأخذه وانصرف.
قلت: وهو اليوم في مصر لإقراء أنواع العلوم الشرعية والعقلية، وعلم المعاني والبيان، والنحو والعربية، والإفتاء، وإفادة الطلبة، والإذن لنبهاء الفقهاء بالإفتاء، وإنشاء أهل العلم والتحصيل، حتى كثر عدد العلماء، واخضرّ به قلم الإفتاء، ولولاه لجفّ بموت من مات من العلماء، لأنه أذن لجماعة بمصر والشام وحلب، وتضرّم به وقود الأذهان والتهب.
وهو ممن قرأت عليه أصول الفقه، وعلم المعاني، والبيان. وممن أذن لي وأحسن، وجاد بما أمكن.
ولما رحل صاحبنا الشيخ الإمام الفاضل بدر الدين أبو عبد الله محمد الشبلي الحنفي «1» إلى الديار المصرية، كتبت إليه بسببه كتابا نسخته:-(9/238)
" الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى- ومنهم واحد الدهر وكفى-.
سيدنا ومولانا، ومبصّرنا بمصالح آخرتنا وأولانا، ومتحفنا بما يقصّر منه عن شكرنا أولانا: السيد العالم الرباني «1» ، المكمّل لنقائص الصور والمعاني، المسلّك «2» على الطريقة، والمملك لأزمّة الحقيقة، قطب الأولياء «3» ، وارث الأنبياء، الإمام المجتهد المطلق، والبحر الزيد المطبق، الداعي إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، والساعي يبلغ من مصالح الأمة في أدنى يوم ما يعجز في سنة، الحجة الواضحة، والمحجّة اللائحة، آخر المجتهدين، شمس الدنيا والدين، معلم المتكلّمين، إمام المتأخرين والمتقدمين: [البسيط]
سل عنه وانطق به وانظر إليه تجد ... ملء المسامع والأفواه والمقل «4»
لا زالت البصائر به منوّرة، والحدائق بسحبه منورة، والحقائق بعلمه(9/239)
مصورة، والشرائع بذبّه «1» عن حوزتها مسوّرة «2» ، والبحار الزواخر في مغيض صدره مغوّرة، وشمس السماء بضياء شمسه مكوّرة، وأرض القدماء لدى رياضه اليانعة مبوّرة «3» ، ومنابت الخط إذا نظرت إلى ميامن قلمه تشاءمت بكعاب رماحه المدورة، ودول الأيام تسعد بخيالات أيامه المطوّرة، ولا برحت السيوف تعنو لهممه والسيوف تعزو النفع إلى كرمه، ولا فتيء فتي الدهر وشيخ أبنائه، ولا انفكّ أنف كل معاند راغما بسارّ أنبائه، ولا كان مكان فوق فرق الفرقد «4» إلا دون أدنى بنائه، حتى يلتحق بالزمرة السعداء، ويلقى الله مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء، خدم بها المملوك على قصوره وخضوع أبياته التي كان يتطاول بها في العلياء إلى شوامخ قصوره، مذكّرا بعبودية قديمة، لا يزال لها في كل حين بارقة على إطلاله. وقائلة «5» في ظلاله، وحائمة على زلاله، ومتشوّقة في آفاق الأقمار إلى مطلع هلاله، وملتفة إلى ما يغضّ الأبصار من بديع جلاله، مع وثوقه بأنه إن أغبّ «6» بتذكاره أو غاب، لا يلوي لحظه من سيده مطال «7» مطالب، ولا يغير عوائد تعوده وراب آرب، ولا يبرح له ذاكرا لا ينساه، ومؤانس له والدهر قليل المواساة، إلا صفوة إخوان بهم يبل الرمق، وقليل ما هم، ويقل القلق وهو كثير لولا هم، ومنهم السيد الأخ العزيز، الشيخ الجليل،(9/240)
الإمام، العالم، الفاضل، الفقيه، المحدّث، المفنّن، مجموع الفضائل، فلان الماثل على حضرته المشرفة بها، والخائض إليها ظلم الليالي لا يبالي بجنح غيهبها «1» ، وهو على ما هو عليه من التحلي بالوفاء في الزمان الغادر، والاتصاف بالصفاء في وقت يبدو فيه الكدر، وأوله ما يبدو من الشفق المحمر في لج الصباح الزاخر، من ذوي الفضل المتعدّد، والعلم المتجدّد، والذهن الساطع، والرأي الصائب القاطع، واليد التي لم تقصر به في التصنيف، ولم تعذر بسببه فيها تهب المسامع التشنيف، هذا إلى ذهن شفّت سرائره، وعرفت أمائره «2» ، وتقى صلحت مضغة قلبه لتصلح سائره، وقد أمّ الآن الديار المصرية المحروسة التي هي الآن فلك شمسه وحضرة قدسه، وموضع ثمار العلماء من غرسه، وقد حمل ظمأه إلى بحره، وشقّ ظلمه إلى فجره، وجاب الفيافي في طلب العلم لديه، واشتمل ذيول الفجاج لحصول الأشمال عليه، وله أسوة بالعلماء الذين امتدت شمسه النيّرة نجومهم، وقدحت مشكاته المضيئة فهومهم، وأمطرت سحبه الروّيّة علومهم، وأطلق إذنه الشريف قلم فتاويهم، وشرف قدره المنيف لهمم معاليهم، ورعى إحسانه المطيف ذمم قصدهم، يقتحمون مناحل أيامهم، وجحافل لياليهم، وهو وإن لم يكن أظهر منهم استحقاقا، وأكثر لإحراز الفوائد استراقا، فما هو بدون جماعتهم، لا بأضعفهم طاقة عن جهة استطاعتهم، والمملوك ممن يثني بين يدي مولانا عليه باستحقاقه، ويصفه بما لا يقدر أحد فيه على شقاقه، وسيظهر له ما يزكي شهادة المملوك في الثناء على فضله والشكر له، وإن لم يكن المملوك من رجال هذا المقام، ولا من أهله، وإن لم يكن:(9/241)
فقف وقفة قدامه تتعلّم «1»
وفي هذا كفاية ومقنع، وغاية وممتع، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، انتهى.
وكنت كتبت على يده نسخة إذن له بالإفتاء، وهي:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي رفع أقدار العلماء، ونقع بورد الشرائع غلل الظلماء، ورفع بصباح الحق المنير دجى الظلماء، ونصب أعلام الأئمة ليهتدى بهم كنجوم السماء.
نحمده على نعمه التي زينت بمجالس العلماء المعابد، وبيّنت فضل العلم إذ كان العالم الواحد أشد على الشيطان من ألف عابد.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تهتزّ بها الأقلام، وتعتزّ ألوية الأئمة الأعلام، وتبتزّ بأيدي حماتها حملة العلم ضوال الإسلام.
ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، الذي هدى به من الأضاليل، وحمى من الأباطيل، وفضّله على الأنبياء، وجعل علماء أمته كأنبياء بني إسرائيل «2» .
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أئمة الهدى، وأزمّة الندى، وتتمة كل خير يبتدأ، صلاة متصلة لا تنتهي إلى مدى، وسلم تسليما كثيرا. وبعد:
فلما كان مراد العلم أخصب ما انتجع، وزمان الطلب أحق ما يبكى على(9/242)
فائته لو ارتجع، وهو الذي تشدّ إليه الرحال، وتجدّ إليه الرجال، وتمتطى إليه الهمم، ويخاض الليل وقتير الصباح ما دبّ في سواد اللمم، وتركب إليه الرياح، وتتخطى إليه الرماح، ولم يزل أهل الطلب تفارق فيه الكرى «1» ، وتشمّر الأهداب للسرى، وتنهض وقد أقعد الحرمان أكثر الورى، وتجول في طلبه الآفاق، وتجوب البلاد والنجوم في اللحاق، وتتفاوت في هذا ومثله رتب الطلب، وتتباين قصب العلم والطرب، ولأهل الحديث الشريف النبوي- زاده الله شرفا- في هذا الوسع مجال، وأنجع «2» ركائب تأتي عليها رجال عجال، ويزداد في توسع ذيل الارتحال، وتوسيع أردية الأصل قبل حط الرجال، من تفقّه في الدين وتنبه وما له خدين «3» ، واشتغل بمذهب أول الأئمة الإمام أبي حنيفة- رضي الله عنه- حتى ودّ شقيق الشفق لو نسب إلى نعمانه، ورفيق أول السلف لو تأخّر إلى زمانه، وظهر من فضائله ما وضح وضوح النهار، وأظهر فضوح البحر وفي قلبه النار، وجدّل الأقران لما ناظر، وعلّل السّبب في رقة النسيم بلطائفه لما حاضر، وتفتّح في هذا المذهب المذهب، وأذكى ضرام فهمه فيه فكاد يتلهّب، من دلّه علمه على أن:" طلب العلم فريضة على كل مسلم" «4» ، وسبب السفور لجلاء كل مظلم، إذ كان العلم هو الذي يتماثل في وجوب طلبه المسلمون،(9/243)
ويتفاضل في علوّ رتبه من قرأ: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ
«1» .
وفي الحديث: (العلماء ورثة الأنبياء) «2» .
وقد جاء: (من يرد الله به خيرا يفقّهه في الدين) «3» .
وقال بعض السلف لرجل قال له: إلى متى يحسن بي التعلم؟.
قال: ما حسنت بك الحياة.
وطالب العلم نهم لا يشبع، ومغتنم لا يقنع، وإناء لا يمتلئ، ومجتهد لا يأتلي، فلما أخذ عن علماء بلده، ونفع بما منهله الغدير ولم يغترف غرفة بيده، لم يجد ذلك وإن كان البحر الزاخر ناقعا «4» لأوامه «5» ، ولا ذلك الخصب الممتد وإن أمرى نافعا لسوامه، ورأى أن تلك الرحاب الفساح في الطلب لا تسعه، وأن تلك المدد الطوال التي قضاها في التحصيل لا تقنعه، فأمّ مصر- حرسها الله تعالى- حيث هي المصر «6» الجامع، والأفق الذي تزينه من علمائه النجوم الطوالع. وأتى لا يريد إلا العلم ولقاء أهله، والزيادة منه لو وجد مزيدا في(9/244)
فضله. فلم يدع غماما يستسقى ولا إماما عن مثله يتلقّى، ولا من يمتاح «1» له من قليب «2» ، ولا من يرتاح إليه على بعد فكيف والمزار قريب، حتى كادت ركائبه لا تنهض بما أوسقت «3» ، وسحائبه لا تبيض بما سقت، وكان" فلان" هو الذي استفاد وأفاد، وانتقى واستزاد، وضاهى في طلب العلم سري «4» الغمام، وباهى البدور الكوامل وزاد في التمام. الذي اقتحم الدجى لا ترهبه الأسنّة»
، ولافح الرياح لا تزاحمه الأعنّة «6» ، وفهم التنزيل فسكنت نفسه المطمئنة، وعلم الحديث فسلك به طريقا إلى العلم ليسلك الله له به طريقا إلى الجنة «7» .
طالما رفعت أعلام الدين بجداله الذي يمنع، وخضعت رؤوس الخصوم بجلاده الذي لا يمنع، ووضعت الملائكة أجنحتها له لأنه طالب علم رضى بما يصنع «8» .
وهو ممن حصّل من كلّ علم غاية أو طرفا، وحلّ كل علا وتبوّأ غرفا، وأجاد في(9/245)
علم الفقه وتوجيهه، وعلم تشعّب طرقه ووجوهه، وعرف فيه وجوه الاختلاف ووجوب الائتلاف، ووجود المقتضي للترجيح، والمرتضى فيما يفتي به على الصحيح، ومن أين استنبطت الأدلّة، وعرف المعلول والعلّة. وتردّد إليّ، وقرأ عليّ، وبحث مع أفاضل العلماء لديّ، وناظر بحضوري أماثل الفقهاء، فملأ أذنيّ، وتكرر حضوره عندي، وظهر لي من مدده السحابي أن محلته لا تكدي.
ورأيته أهلا للإفتاء «1» والتدريس، والتصدير «2» ، وولاية المدارس، وغير ذلك، مما ينافس فيه من هذه الرتب العليّة المنافس.
وقد استخرت الله، وأذنت له أن يطلق قلمه بالإفتاء، ويلحق بشأو «3» الكهول في سن الفتاء «4» ، وأن يرشد الضّلّال ويرشف من قلمه الزلال، ويتصدّر لإشغال الطلبة ونشر الفقه على ما يوافق في النصّ والقياس مذهبه، واقفا فيما يفتي به عند الصحيح الراجح والحق الواضح، والذي عليه نص مذهب إمامه الإمام أبي حنيفة- رضي الله عنه-، وأصحابه مما عليه الفتوى، وعلى ما ترشد إليه.
ومما أوصيه به من التقوى متيقنا أنه- أطال الله عمره- يموت ويبقى ما كتبت يداه، وأن الفتيا إذا خرجت من يده ربما وقعت في أيدي عداه. ثم إن الله سيسأله عما كتب، فليعدّ قبل أن يجيب على الفتوى الجواب، وليعد النظر مما(9/246)
يكتب به فمن أعاد النظر لم يعدم الصواب. والله تعالى يمدّ له أجلا يسري به في ليل الشبيبة حتى يرى صباح المشيب، ومهلا لا تجف لأنديته ضرع ندي، ولا يخمد لهيب، وأن يبقيه خلفا في الإسلام، وما ذلك من عوائد كرم الله بعجيب، والمسؤول من الله أن يوفّق ولاة الأمور- أعزّهم الله بعزّ طاعته، وصرف كلّا منهم في الخير وسع استطاعته- لإعلاء قدره، واستجلاء بدره، واستملاء ما يكنّه من العلم الجمّ في صدره، وأن يكثروا به في هذا الزمان عدد الفضل القليل، ويأثروا منه الأثر الجميل، ويقدموا منه مستحقا لو أجالوا الفكر لم يجدوا مثله في هذا الجيل، ليصلوا به حبلا لولا مثل هذا في كل أوان لانقرض، ويقيموا بنيانا لولا شبه هذا في كل مكان لا نتقض «1» ، وينظروا لآخر الأمة في مدّ مدد العلم الذي لولا بقية العلماء- وهذا منهم- لم يخض".
فلما وصلت إليه تلقّاها بالقبول، وكتبها بخطه إذنا له بالفتوى، وكتب إليّ جوابه؛ فأجبته بما صورته:
" يقبّل الباسط «2» الأشرف «3» ، الطاهر «4» ، الزكيّ «5» ، المولويّ، السيدي،(9/247)
الإماميّ، العلّامي، العامليّ «1» ، الفريديّ «2» ، الأوحديّ «3» ، الحجّيّ «4» ، المسلّكيّ «5» ، المخدوميّ «6» ، الشيخيّ، الشمسيّ، علم الأعلام «7» ، شيخ مشايخ(9/248)
الإسلام «1» ، مفيد «2» أهل مصر والعراق والشام، فرد الوجود «3» ، ورد الجود، منشئ العلماء والمفتين، إمام المتكلّمين «4» ، سيف الحق «5» ، ملجأ الخلق، جامع الطرق «6» ، شمس الأفق «7» ، ولي أمير المؤمنين «8» ، لا زالت الأيام رافلة في حبره، والأقلام ناقلة لخبره، والأعلام الشوامخ، متضائلة لدى كبره، والكرام تعترف بفضله الذي تعدّ معه عبرة الغمام من عبره، والأحكام لا تطبع حديد مواضيها(9/249)
إلا من زبره «1» ، والسهام لا تقطع آراؤها الصائبة قطع سيوفه، ولا تحزّ حزّ إبره، تقبيلا يؤدي حقّ شكره، ويوفي بعض نذره، ويولي القبل قبلة إحسانه، ويوصي بنيه بأداء ما في ذمّته وفرضه، وعجز عن ذكره بلسانه، وينهي ورود المثال العالي، فقام المملوك له ووقف على قدمه، ووقف لديه معرضا لخدمه، ونظر إليه فبهت، وحاول شكر أدنى معروفه فصمت، واستظلّ بظل غمامته، واستقلّ سرورا بسلامته، واستقبل الدهر برفع ملامته، وتأمل كرمه ومدّ يده إلى مدامته، وأفضى منه إلى فضاء ملؤه الكرم، ورسيله البحر وتلوه الدّيم «2» ، فترامى المملوك عليه، وكرع في غدير تلك الصحيفة وأمن به، وقد أوجس»
البرق في نفسه خيفة، وبايع مؤديه الرشيد لما رأى لمهدي مهديّه خليفة، وقلب وجهه في سماء ذلك السماح، وقلبه في سراء تلك المواهب التي لو جاراها البحر قالت له: إياك والطّماح «4» ، وجبنه في نعماء تلك النعم التي خطت إليها الرياح وتخطّت الرماح، واستبق مضمونه، ولسان محضره في وصف ندي عهده وكرم لم يزل يعد منه يدا مجدده، وهدى فرق به النحر لما أبصر فرقده، ومعروف ما برحت تعرف به الأعلام، وتصرف بالفتاوى الأقلام، وتشرف القبل بالتهاوي إلى مواطن الأقدام، وتلك صدقات مولانا التي شملت من شهد علمه الشريف باستحقاقه، ولهذا أطلق فيه رسن قلمه، ونبّه له، وسن طرفه من حلمه، وأذن له في الإفتاء الذي آن لأن يشرق في أفقه بدره الطالع، ويشرق «5» بغصص حدّه(9/250)
عدوه الطامع، فجاء مسرورا من كريم جنابه، محبورا بإحسانه بعد أن حظي بالمثول في فنائه الرحيب، وأحسن عن المملوك في منابه المولى الشيخ الفقيه، الإمام العالم، الكامل الفاضل، الحافظ المحدّث، المتقن المتفنّن، العلامة، أوحد العلماء، جمال أهل الإفتاء «1» ، فخر المحدّثين «2» ، شمس العصر، بدر الدين الشبلي- زاده الله فضلا- ولله «3»
هو من مستحق قدم مولانا منه إماما، وأمطر طلبه العلم به غماما، وناوله قلم الإفتاء وكثر عدد العلماء به وقد قلّوا، وأرشد السواد الأعظم ببدره الطالع، ولولاه لضلّوا، وأهّل الصدور التصدير منه من مطويّ علمه المحاريب إحناء ضلوعها، وتجري السماء إذ لم تر مثله أعين دموعها، ووصل ووصف وأراه ما كساه فما ظن إلا أنه عليه من ورق الجنة قد خصف، وذكر وشكر، وما جاء إلا بالمعنى المتداول مما أجمع الناس عليه من إحسان مولانا وهو يظن أنه قد ابتكر، وقال وقال، وهيهات أن تبلغ البلاغة أو تحيط الفكر، وناول المملوك المثال العالي «4» الذي لا مثال له إلا ما كتبه كاتب اليمين، وذهّبه موقد جمر الشّفق وكابت به الدر الثمين، وقبّله وسابق نهب اللاثمين، وحلا بما(9/251)
تضمّنه وإذا بالبحار الزواخر والرياض الزواهر، والسّحب إلا أنها سحب نيسان التي تولد الجواهر، والله الله في مسامحة المملوك في قصور هذا التمثيل، وفتور هذا التشبيه الذي كم له مثيل لشيء ما له مثيل، ولقد وقع هذا الإحسان بموقع من المملوك، وعمّ سائر القلوب وعدّ فضل النعم به إلا أنه غير محسوب، وأرى المملوك زمان مثوله بين يدي سيده حيث المزار قريب، والزمان عزّ ولولا هذا لم يكن صنعه الميل بغريب، ولقد رام المذكور على طلاقة لسنه، وامتداد رسنه، وقدرته على الكلام وكثرة حسنه، أن يعرّف المملوك بما أولاه من منه المنوعة فما قدر ولا زاد على أنه اعترف أنه لا يطيق واعتذر، وها هو الآن قد تصدّى لما أخذ عن مولانا علمه، وحرّك له عزمه، وأحيا الله به موات أموات هذا المذهب، واستعاد فوات ما لو لم يدرك مولانا بقية آخر رمقه بهذا ومثله من العلماء لكاد أن يذهب.
وألسنة أهل دمشق كلها بالأدعية لمولانا موليهم هذه النعمة بسببه ناطقة، وبضائع صنائع مولانا في سوق شكرهم نافقة. والمملوك عنهم المترجم، ولإدلاله قد طال ويقبّل تقبيل المتهجّم، والمملوك يستعرض المراسم العالية التي هو طوالع السعود لا ما يدّعيه المنجّم، لا رحت طلبته مثرية المطالب، مورية الهدى في الغياهب «1» ، مجرية الأقلام بالإفتاء، وفي آثارها ولا يلحق زمن الكواكب".(9/252)
ومن فلاسفة المغاربة، وحكمائها، ومتكلميها ممن كان بالأندلس:
38- يحيى بن يحيى، أبو بكر، المعروف بابن السّمينة «13»
من أهل قرطبة «1» . أتقن العلم والحساب، وعلم التصور والاكتساب، وعانق الصبر والاحتساب، وعانى مهمّ الفنّ حتى أوتي أجره بغير حساب، فمات، وآخر الحياة الموت، ونهاية الدرك الفوت، بعد خيرات أثرها، ومبرّات بقيت، وقد أكلت الأيام مؤثّرها، وعمل صالح بلا اكتراث، وعلم نافع يبقى إذا انقطع عمل ابن آدم إلا من ثلاث «2»
قال ابن أبي أصيبعة «3» :" قال القاضي صاعد «4» : إنه كان بصيرا بالحساب، والنجوم، والطب، متصرّفا في العلوم، متفنّنا في المعارف، بارعا في [علم النحو] «5» واللغة والعروض، ومعاني الشعر، والفقه، والحديث، والأخبار، والجدل، ورحل إلى المشرق ثم انصرف".(9/253)
قلت: وقد ذكره ابن المازري «1» ، وقال:" قدم علينا مصر حاجّا، وتسامع به الناس، فأتوه من كل فج، وقرؤوا عليه كتبه، وغيرها، وحبوه «2» بالذهب، وأنواع الحباء، فلم يقبل لأحد شيئا. وكان متقلّلا من الدنيا، زاهدا في حطامها، لا يزال يذكر الموت وهو المطّلع، ويقول: ليت أمي لم تلدني! ".
قال:" وكان كثير الصدقة والبر، ولا سيما إذا رأى ذا عجز ظاهر. ملازما للصلوات في أوقاتها. نزل في دار قريبة من المسجد الجامع، ليقرب عليه أداء الفرائض في الجماعة، وكان إذا صلى ظهر عليه من الخشوع وفيض الدموع ما يكاد يرحمه به من رآه.
قال: وكان لا يزال ينشد: [الطويل]
إذا نظر الدنيا بصير بحالها ... تيقّن أن الدهر جمّ المصائب
فمن عارف تصطاده باقتسارها «3» ... وغرّ بها تصطاده بالرغائب
فما ماؤها إلا سراب بقيعة ... وما عيشها إلا تحلّم كاذب
لحا «4» الله مغترّا بها وصروفها «5» ... وفي بعضها للمرء كل العجائب
قال ابن المازري: وأظنها له.(9/254)
ومنهم:
39- ابن المجريطي «1» : أبو القاسم مسلمة بن أحمد [بن قاسم بن عبد الله] «13»
من أهل قرطبة.
مسح الأفلاك وقسمها خططا، ووسمها وما سامها شططا، وكان كأنه بعض كواكبها إشراقا، وجواريّها الكنّس إشفاقا. أشرق إشراق زهرتها، وتدفّق تدفّق المجرة على زهرها، ونفض على الآفاق صبغة أصلها، وذرّ في مقلة الصباح زرقة كحلها.
وكان بقرطبة حلية لأيام بني مروان، وزينة لذلك الأوان، أعاد ذاهب زمانهم، والركائب ترد عليهم وترد وجوه النجائب «2» إليهم.
قال ابن أبي أصيبعة «3» :" كان في زمان الحكم" «4» .(9/255)
وقال صاعد «1» :" كان إمام الرياضيين بالأندلس في وقته، وأعلم من كان قبله بعلم الأفلاك، وحركات النجوم، وكانت له عناية بأرصاد الكواكب، وشغف بالمجسطي،- كتاب بطليموس-، وله عدة كتب. وأنجب له ملأ من التلاميذ الأجلّاء، ولم ينجب عالم بالأندلس مثلهم؛ ومنهم: ابن السمح «2» ، وابن الصفّار «3» .
وهو أول من أتقن علم الاصطرلاب بالمغرب، والزهراوي «4» ، والكرماني «5» ،(9/256)
وابن خلدون «1» .
قلت: وقد رأيت اصطرلابا من عمله عليها اسمه، وكانت غاية في الحسن، للعروض التي عملت لها صفائحها، إلا أن كواكبها كانت تحتاج إلى تحريك لطول المدة منذ عملت. ورأيت له رسالة في" المجنّب والآفاقية"، كتبتها بخطي لإعجابي بها، ثم غالتها يد الضياع، وغالبت عليها الأيام التي لا تستطاع.
ومنهم:
40- ابن السّمح: أبو القاسم أصبغ بن محمّد بن السّمح الغرناطيّ القرطبيّ المهريّ «2» المهندس «13»
حكيم ترفع «3» له المبار «4» ، وطبيب تدفع به المضار، قيّم بتركيب الأدوية،(9/257)
وتفاضل التفضيل والتسوية، أحيا الله به القوى الحيوانية، وحفظ النفس الإنسانية.
سلك بنظره في الأبدان، وملك ما ليس لأحد به يدان، ونظر في تفاريق العضل، وتفاريع ما كفى من الأغذية وفضل، واستدلّ بالنبض على ما وراءه، وعرف دواءه على الحقيقة وداءه، بحدس صحيح حصر حتى ضيّق المجاري واتساعها، وانحطاط الدرجات في الأدوية وارتفاعها، إلى غير ذلك من أسباب في علوم، وحساب، ونجوم، وأمور كان بها يقوم.
قال ابن أبي أصيبعة «1» :" كان في زمان الحكم".
وقال صاعد «2» :" كان محققا لعلم العدد «3» ، والهندسة، متقدّما في علم هيئة الأفلاك وحركات النجوم، وكانت له عناية بالطب، وتواليف الحساب،".
وقال:" أخبرني تلميذه أبو مروان الناشئ المهندس أنه توفي بغرناطة «4» ".(9/258)
ومنهم:
41- أبو الحكم الكرمانيّ: عمرو بن عبد الرّحمن بن أحمد بن عليّ «13»
من أهل قرطبة.
طبيب لا يدقّ عليه غامض، ولا يشق عليه خفاء وامض. وكان مقدّما في التعاليم، ومعظّما في الأقاليم، وجامعا من القوى النفسانية التقاسيم، وأجاد الكلام في أحكام الطب، وإحكام ما يحتاج إليه المستطب «1» ، وعرف في القوى الطبيعية المخدومة والخادمة، والبداية والخاتمة، إلى أن أبرز كل خفية، وأحرز قدر الكمية والكيفية، ولم يزل يعود بملاطفته ويعود بعاطفته، حتى انتعشت به الأرواح في أجسامها، وأمنت به من انتهاب الأقسام واقتسامها، وطردت الصحة الأمراض، وقامت جواهر النفوس بالأعراض.
قال ابن أبي أصيبعة «2» :" هو أحد الراسخين في [علم] العدد".
وقال صاعد «3» :" إن تلميذه الحسين بن محمد المهندس المنجّم قال: إنه ما ألفى أحدا يجاريه في علم الهندسة، ولا شقّ غباره في فك غامضها، وتبيين مشكلها واستيفاء أجزائها.(9/259)
ورحل إلى المشرق، وانتهى إلى حران [من بلاد الجزيرة] ، وعني هناك بطلب الهندسة، ثم رجع إلى الأندلس، واستوطن ثغر سرقسطة «1» ، وأدخل معه" رسائل إخوان الصفا" ومجرّبات فاضلة فيه. ونفوذ مشهورة في الكيّ والقطع، والشقّ، والبط، وغير ذلك من أعمال الطب، ولم يك بصيرا بالنجوم ولا بالمنطق".
ومنهم:
42- ابن واقد [الوزير، أبو المطرّف عبد الرّحمن بن محمّد بن عبد الكبير بن يحيى ابن واقد بن مهنّد اللّخميّ] «13»
بيت حكمة، ونبت حشمة، ورئيس طب، ومنية محب، عنيت الدول برفع أخمصه، ودفع منتقصه، وقدمته باستحقاقه لأن يكون مقدّما، ويسدّد رأيه ليفوت مقوّما، فلهذا كان مجاريه لا يقدر له على لحاق، وحاسده ولو كان البدر لا يرى إلا في المحاق «2» ، بلطف لو سحب ردنه «3» الروض لأبهج رقيمه «4» ، أو(9/260)
الأصيل المعتد لشفاه، وما صحّ من النسيم سقيمه، لم تمدّ يد إلى مجاذبته، ولا طمع في مجانبته.
قال ابن أبي أصيبعة «1» :" هو الوزير أبو المطرّف عبد الرحمن بن محمد بن عبد الكبير بن يحيى بن وافد بن مهند اللخمي. أحد أشراف أهل الأندلس، وذوي السلف الصالح منهم، والسابقة القديمة فيهم. عني عناية بالغة بقراءة كتب جالينوس وتفهّمها، ومطالعة كتب أرسطو وغيره من الفلاسفة وتعقلها".
قال صاعد «2» :" وتمهّر في تعلّم الأدوية، وصنّف فيه كتابا جليلا لا نظير له، جمع فيه ما قاله ديسقوريدس وجالينوس في الأدوية المفردة، ورتّبه أحسن ترتيب، [وهو مشتمل على قريب من خمسمائة ورقة] «3» .
قال:" وأخبرني أنه عانى جمعه وترتيبه وتصحيح ما تضمنه من أسماء الأدوية وصفاتها، وتفصيل قواها، وتحديد درجاتها، نحوا من عشرين سنة، حتى كمل موافقا لغرضه، مطابقا لبغيته. وله في الطب منزع لطيف، ومذهب شريف.
كان لا يرى التداوي بالأدوية ما أمكن التداوي بالأغذية، أو كان قريبا منها، ثم إذا اضطر إلى الأدوية لا يرى التداوي بالمركّب ما أغنى المفرد، فإن اضطرّ إلى المركّب لم يكثر التركيب، بل يقتصر على أقلّ ما يمكنه منه، وله نوادر محفوظة وغرائب مشهورة في الإبراء من العلل الصعبة، والأمراض المخيفة بأيسر العلاج.
واستوطن طليطلة، وكان أيام ابن ذي النون «4» .(9/261)
ومنهم:
43- محمد بن يوسف المنجّم «13»
أديب غلب عليه التنجيم، وعلا قدره فما حصر بالتقويم، وسيّر الشهب حتى صوّرها من توليد خاطره، وصيّرها على لسانه بدلا من ناظره، وحيّرها حتى وقفت له فأصبحت قريحته منها متخيّرة، وأظلها بلألاء أنواره فظلت متحيرة.
قال ابن رشيق «1» :" شعره صحيح «2» البناء، ملتئم الأجزاء، ملموم الثواء «3» ، يجيء كأنه قطعة واحدة.
غلب عليه التنجيم كأبيه، وكتب ليعلى بن فرح، ثم لولده، وامتدح نصير «4» الدولة مرات، وأورد من شعره: [الطويل]
لعمري لئن كنا حليفي صناعة ... لقد سبقت ريش الخوافي القوادم «5»(9/262)
فقل للذي استهزا «1» بنا في فعاله ... مقالي يقظان وعرضك نائم
سيغسل عني الماء فعلك كله ... وقولي باق والعظام رمائم
تدبّ على الأعضاء منه عقارب ... وتنفث في الأحشاء منه أراقم «2»
فإن كان ذا عرض تلوح كلومه ... فعندي ضمادات له ومراهم
ومنهم:
44- أبو بكر ابن باجة «3» : ابن الصّايغ، واسمه: محمّد بن يحيى التّجيبيّ «4» السّرقسطيّ «5» الأندلسيّ «13»(9/263)
أديب رمي من حالق، وبلي بحارق، ولم يقنع صاحب" القلائد" «1» بأن يضع عليه سمة الفاسق، ذكره ويا بئس ما جاء به في سوقه النافق!. قال فيه:
" رمد جفن الدين، وكمد نفوس المهتدين، اشتهر سخفا وجنونا، وهجر مفروضا ومسنونا «2» .
قال ابن أبي أصيبعة «3» :" كان علّامة في وقته في العلوم الحكمية، وبلي بمحن كثيرة، وشناعات سيئة، وقصدوا هلاكه مرات، [وسلّمه الله منهم، وكان متميّزا في العربية والأدب] «4» ، وكان حافظا للقرآن، [ويعد من الأفاضل في صناعة الطب، وكان متقنا لصناعة الموسيقي، جيّد اللعب بالعود] .(9/264)
وقال ابن الإمام «1» :" كان ذا ثقابة الذهن، ولطف الغوص على تلك المعاني الشريفة الدقيقة أعجوبة دهره، ونادرة الفلك في زمانه".
" وكان من أجلّ نظّار وقته، ثم أضرب عن النظر ظاهرا لما لحقه من المطالبات في دمه بسببه، وأقبل على العلوم الشرعية، فرأس فيها وزاحم، لكنه لم يلح عليه ضياء هذه المعارف، ويشبه أنه لم يكن بعد أبي نصر الفارابي مثله في الفنون التي تكلم عليها من تلك العلوم، فإذا قرنت أقاويله فيها بأقاويل ابن سينا والغزالي- وهما اللذان فتح عليها بعد أبي نصر بالمشرق في فهم تلك العلوم، ودوّنا فيها، بان لك الرجحان في أقاويله، وحسن فهمه، والثلاثة أئمة دون ريب".
وأنشد له الفتح في" القلائد" «2» قوله: [البسيط]
يا شائقي حيث لا أسطيع أدركه ... ولا أقول غدا أغدو فألقاه
أما النهار: فليلي ضمّ شملته ... على الصباح فأولاه كأخراه
أغرّ نفسي بآمال مزخرفة ... منها لقاؤك، والأيام تأباه
وقوله «3» : [الكامل]
خفّض عليك فما الزمان وريبه ... شيء يدوم ولا الحياة تدوم
واذهب بنفس لم تضع لتحلّها ... حيث احتللت بها وأنت عليم
يا صاحبي لفظا ومعنى خلته ... من قبل حتى بيّن التقسيم
دع عنك من معنى الإخاء ثقيله ... وانبذ بذاك العبء وهو ذميم(9/265)
واسمح وطارحني الحديث فإنه ... ليل كأحداث الزمان بهيم
خذني على أثر الزمان فقد مضى ... بؤس على أبنائه ونعيم
فعسى أرى ذاك النعيم وربه ... مرح وربّ البؤس وهو سقيم
هيهات ساوت بينهم أجدائهم ... وتشابه المحسود والمرحوم
وقوله «1» : [الطويل]
أقول لنفسي حين قابلها الردى ... فراغت فرارا منه يسرى إلى يمنى
قري تحمدي بعض الذي تكرهينه ... فقد طال ما اعتدت الفرار إلى الأهنى
وقوله «2» : [الطويل]
أسكّان نعمان الأراك تيقنوا ... بأنكم في ربع قلبي سكّان
ودوموا على حفظ الوداد فطالما ... بلينا بأقوام إذا استؤمنوا خانوا
سلوا الليل عني مذ تناءت دياركم ... هل اكتحلت لي فيه بالنوم أجفان
وهل جرّدت أسياف برق سماؤكم ... فكانت لها إلا جفوني أجفان «3»(9/266)
ومنهم:
45- المبشّر بن فاتك: وهو: الأمير محمود الدّولة أبو الوفاء الآمريّ «13»
طبيب لو جسّ نبض البرق لما اختلف، أو لا طف ما ينافر من الطبائع لائتلف، أعرف باختلاف الفروق من الخيال بالطروق، وأهدى إلى معالجة الدّاء الدويّ «1» من الطفل إلى الثدي، لو عالج النار لخمدها، أو البحار لجمدها، أو شكت إليه الفراقد «2» طول السهر لردّ عليها غمضها، أو السحب المتصبّبة من الرحضاء «3» لأزال ممضّها «4» .
تيسّرت على يديه الممتنعات، وأمنت بحسن طبه التبعات، إلا أن أدواء المنية أعيته، وطوارق الأجل بيّتته، فلم يجد لداء منيّته طبّا، ولا لرجاء أمنيّته طبّا، هذا مع ما كان له من أسلاف وإمره، وبيت كم لمعتقيه من طواف به وعمره، لكنه لم يدافع عنه زمره، ولا تجلّت عنه غمره.
ذكره ابن أبي أصيبعة، قال «5» :" كان من أعيان [أمراء] «6» مصر، وأفاضل(9/267)
علمائها، [دائم الاشتغال] محبّ للفضائل، والاجتماع بأهلها، واجتمع بجلّة من الحكماء وأهل الطب، وأخذ عنهم، وكانت له خزائن كتب، وكان في أكثر أوقاته إذا نزل من الركوب لا يفارقها، وليس له دأب إلا المطالعة والتعليق، يرى أن ذلك أهم ما عنده. فلما مات عمدت زوجته «1» إلى الكتب فألقتها في بركة ماء كبيرة كانت في وسط الدار.
ثم شيلت «2» الكتب بعد ذلك من الماء وقد غرق أكثرها، وإنما فعلت ذلك لحنقها على الكتب، لكونه كان يتشاغل بها عنها «3» .(9/268)
ومنهم:
46- الحفيد أبو بكر محمّد بن [أبي مروان عبد الملك بن أبي العلاء] «1» زهر [بن أبي مروان عبد الملك بن أبي بكر محمد بن مروان بن زهر الإياديّ الأندلسيّ الإشبيليّ] «13»
فاضل متميّز، وكامل إلى الأطباء متحيّز، أخذ من كل علم بحظ وافر، وحق ما الفائز به إلا ذو حظ وافر، وكان يقيس الأمور بأنظارها «2» ، ويحوزها من سائر الأطراف باستحضارها، فأطلّ على ربواتها، واطّلع على هفواتها، حتى كاد يعرف نبض البرق في اختلافه، ويحيط علما بكل موافق وخلافه، هذا إلى آداب ترقّ، ويهب لطفها النسيم ويسترقّ، ومات وفي يده أزمّة الطب، وذهب هو والمستطب، ولم يدفع عن حوبائه تلك المعارف، ولا ذادت من حينه الأجل المشارف، فاستوطن التّرب مخليا للتّرب، ومخليا للسرب، فآها ثم آها «3» ، وويلاه لحسرات لا تتناهى، كيف يأفل مثل قمره؟، وكيف ينقضي طيب سمره؟، وكيف يذهب مثله من العلماء، ويذهب من بين نجوم السماء، وطالما(9/269)
جلا الدجى، وأنهج طرق الحجى، وامتدّت نحوه أيادي الخلفا، واعتدّت له بحسن الوفا، وثنت العلياء له الوسائد، وأخدمته الأيام والليالي ولائد.
قال ابن أبي أصيبعة «1»
فيه:" هو الإمام، الوزير، الحكيم، الأديب، الحسيب، الأصيل.
مولده بمدينة إشبيلية، ونشأ بها، وتميّز في العلوم، وأخذ [صناعة] الطب عن أبيه، وباشر أعمالها، وكبر، ولم يتغير عليه سوى ثقل السمع.
حفظ القرآن الكريم، وسمع الحديث الشريف، واشتغل بالأدب، وأتقن اللغة، وقال الشعر وأجاد في الموشحات، وكان متين الدين، ملازما للأمور الشرعية، قويّ النفس، له جرأة في الكلام، ولم يكن في زمانه أعلم منه بالطب.
لازم عبد الملك الباجي سبع سنين يشتغل عليه، وقرأ" المدونة" لسحنون «2» في مذهب مالك، ومسند ابن أبي شيبة، و [حدثني أيضا القاضي أبو مروان الباجي عن أبي بكر بن زهر أنه كان شديد البأس] «3» يجذب قوسا وزنه مائة وخمسون رطلا بالإشبيلي، ورطلها مائة وستون درهما. وكان جيد اللعب بالشطرنج.(9/270)
وخدم الملثمين، والموحّدين «1» ، وبقي إلى أيام عبد الله الناصر بن المنصور يعقوب «2» ، ومات بمراكش «3» .
وحكي أنه كان له صديق يلاعبه الشطرنج، فرآه يوما منقبضا؛ فسأله عما به، فأخبره أن له بنتا زوّجها من رجل، وأنه يحتاج في جهازها إلى ثلاث مائة دينار.
فقال له: العب، وما عليك، فإن عندي ثلاثمائة دينار إلا خمسة، واستدعى بها «4» فأعطاها له، فلما كان غير بعيد أتاه الرجل بالذهب، فقال له الحفيد ابن زهر: ما هذا؟. قال: بعت زيتونا لي بسبعمائة دينار، وقد أتيتك منها بثلاثمائة إلا خمسة، عوض ما أقرضتني. وقد بقيت عندي البقية. فقال الحفيد: خذه إليك فإني ما أعطيتكه على أني أعود فيه.
فقال له الرجل: لا تفعل فإنني في سعة. وترادّا «5» . فقال له ابن زهر: أنت عدوّي أو صديقي؟. قال: بل صديقك، وأحب الناس فيك. فقال: إن الصديقين مالهما واحد، فخذه، فإن لم تفعل عاديتك بسببه. فأخذه وشكر له.
قال القاضي أبو مروان الباجي: وكان المنصور قد قصد أن لا يترك شيئا من كتب المنطق والحكمة باقيا في بلاده، وأباد كثيرا منها بإحراقها بالنار، وشدّد في أن لا يرجع أحد يشتغل بشيء منها، وأنه متى وجد أحدا ينظر في هذا العلم،(9/271)
أو وجد عنده شيئا من الكتب المصنفة فيه فإنه يلحقه ضرر عليه. ولما شرع في ذلك جعل أمره مفوّضا إلى الحفيد أبي بكر بن زهر، وأنه الذي ينظر. وأراد الخليفة أنه إن كان عند ابن زهر شيء من كتب المنطق والحكمة لم يظهر، ولا يقال عنه إنه يشتغل بها، ولا يناله مكروه بسببها. ولما نظر ابن زهر في ذلك وامتثل أمر المنصور في جمع الكتب من عند الكتبيين، وغيرهم، وأن لا يبقى شيء منها، وإهانة المشتغلين بها.
وكان بإشبيلية رجل من أعيانها يعادي الحفيد ويحسده، وعنده شرّ عظيم، فعمل محضرا في أن ابن زهر دائم الاشتغال بهذا الفن والنظر فيه، وأن عنده شيئا كثيرا من كتبه. وجمع فيه شهادات كثيرة، وبعث إلى المنصور. وكان المنصور حينئذ في حصن الفرح، وهو موضع بناه قريبا من إشبيلية، عن ميلين منها، صحيح الهواء، بحيث بقيت الحنطة فيه ثمانين سنة لم تتغير من صحته.
وكان أبو بكر بن زهر هو الذي أشار أن يبنيه المنصور في ذلك الموضع، ويقيم فيه في بعض الأوقات، فلما كان المنصور به، وقد أتاه المحضر نظر إليه، ثم أمر أن يقبض على الذي عمله، وأن يودع السجن، ففعل به ذلك وانهزم جميع الشهود الذين وضعوا خطوطهم فيه. ثم قال المنصور: إني لم أترك ابن زهر في هذا إلّا «1» حتى لا ينسبه أحد إلى شيء منه، ولا يقال عنه. والله لو أن جميع أهل الأندلس وقفوا قدامي وشهدوا على ابن زهر بما في هذا المحضر لم أقبل قولهم، لما أعرفه في ابن زهر من متانة دينه، وعقله.
وحدثني أبو العباس أحمد بن محمد الإشبيلي قال: كان قد أتى إلى الحفيد اثنان يشتغلان عليه بصناعة الطب، فدخلا عليه يوما وبيد أحدهما كتاب صغير في المنطق، فلما نظر إليه نهض حافيا ليضربهما، وانهزما، وهو يتبعهما، ولم(9/272)
يرجع إلا من مسافة بعيدة، وانقطعا عنه أياما، ثم توسّلا إليه، واعتذرا، وأظهرا التوبة مما فعلاه، فقبل عذرهما، وأذن لهما في الدخول عليه مستمرّين في قراءة الطب على عادتهما، ثم بعد مدة أمرهما بحفظ القرآن، وقراءة التفسير، والحديث، والفقه، وأمرهما بمواظبة الأمور الشرعية، وآدابها وسننها، وعدم الإخلال بذلك حتى بقي ذلك لهما سجية وطبعا، وعادة قد ألفوها. ثم بعد ذلك أخرج لهما الكتاب بعينه، وقال لهما: الآن صلحتما لقراءة هذا الكتاب، وغيره من أمثاله، وابتدأ في إشغالهما فيه، فتعجبا من فعله- رحمه الله تعالى- وهذا يدل على كمال عقله، وتوفّر مروءته.
وحدّثني القاضي أبو مروان الباجي قال: كان أبو زيد عبد الرحمن بن برجان- وزير المنصور- يعادي الحفيد، ويحسده لما يرى من علوّ منزلته، وعلمه، فاحتال عليه في سمّ قدمه إلى الحفيد في بيض وكانت عنده بنت أخته، وكانت أخته وابنتها هذه عالمتين بصناعة الطب، والمداواة، ولهما خبرة جيدة بمداواة النساء، وكانتا تدخلان على نساء المنصور، ولا يقبل للمنصور وأهله ولدا إلا أخت الحفيد أو ابنتها، لما توفيت أمها. فلما أكل الحفيد وبنت أخته ذلك البيض ماتا جميعا، ولم ينفع فيهما علاج.
قال: ولم يمت أبو زيد عبد الرحمن بن برجان إلا مقتولا، قتله بعض أقربائه.
ومن شعره يتشوق إلى ولده «1» : [المتقارب]
ولي واحد مثل فرخ القطا ... صغير تخلّف قلبي لديه
نأت عند داري فيا وحشتي ... لذاك الشخيص وذاك الوجيه
تشوّقني وتشوّقته ... فيبكي عليّ وأبكي عليه(9/273)
ومنهم:
47- محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن يوسف، ركن الدين، أبو عبد الله، ابن القوبع «1» القرشي، الهاشمي، الجعفري، المالكي، التونسي «13»
الإمام، العلّامة، المتقن، جامع أشتات الفضائل.
لبيب مبصر، لا يخاف منه التخبيط، وطبيب مكثر لا يؤتى عليه من التخليط، أتقن العلم إتقانا، ودرب العمل إذ كان لا يغبّ له إتيانا. هذا إلى فضل متّسع، وسبق وراه «2» كل متّبع.
جدّ في الطلب حتى كان جذيله المحكّك «3» ، وعذيقه المرجّب لا يشكّك.(9/274)
وكان حين وخط «1» المشيب عارضه، وأسكت معارضه، أشدّ مما كان عارضة، وأشدّ معارضة. فلم يمتدّ معه لمجادل نفس، ولا رفع رأسه نحو مناظر إلا نكس لثاقب فكرة حطّ عنها قناعها، وكثر لكل قريع الحزم قراعها، فتقهقر كل متقدّم عن مكانه، وعلم أن دونه ما في إمكانه.
لم أر له نظيرا في مجموعه وإتقانه، واستحضاره، واطّلاعه.
كان مجيدا في الأصول، والحديث، والفقه، والأدب، واللغة، والنحو، والعروض، وأسماء الرجال، والتاريخ، والشعر. يحفظ للعرب، والمولّدين «2» ، والمتأخرين.
غاية في الطب والحكمة، ومعرفة الخطوط- خصوصا خطوط المغاربة- قد مهر في ذلك وبرع، وإذا تحدّث الناس في شيء من ذلك كله، تكلّم على دقائقه وغوامضه، ونكته، حتى يظنّ سامعه إنما أفنى عمره في ذلك الفن!.
قال شيخنا العلّامة قاضي القضاة أبو الحسن السبكي «3» - وهو ما هو-: ما أعرف أحدا مثل الشيخ ركن الدين. أو كما قال. وقد رأى جماعة ما أتى الزمان لهم بنظير بعدهم مثل الشيخ.(9/275)
وحكى أبو الفتح ابن سيد الناس «1» : أنه لما قدم إلى الديار المصرية وهو شابّ، حضر سوق الكتب، وابن النحاس شيخ العربية حاضر، وكان مع المنادي ديوان ابن هانئ المغربي، فأخذه الشيخ ركن الدين، وأخذ يترنّم بقول ابن هانيء: [الكامل]
فتكات لحظك أم سيوف أبيك ... وكؤوس خمرك أم مراشف فيك «2»
وكسر التاء، وفتح الفاء والسين والفاء، فالتفت إليه ابن النحاس، وقال له: ماذا إلا نصب كثير.
فقال له الشيخ ركن الدين- بتلك الحدة المعروفة منه والنفرة «3» -: أنا ما أعرف الذي تريده أنت من رفع هذه الأشياء، على أنها أخبار لمبتدآت مقدّرة، أي: أهذه فتكات لحظك، أم كذا، أم كذا؟. وأنا الذي أقوله أغزل وأمدح، وتقديره: أأقاسي فتكات لحظك، أم أقاسي سيوف أبيك، وأرشف كؤوس خمرك، أم مراشف فيك. فأخجل ابن النحاس، وقال: يا مولانا! فلم لا تتصدّر وتشغل الناس؟.
فقال- استخفافا بالنحو، واحتقارا له-: وأيش هو النحو في الدنيا؟. أو كما قال.(9/276)
وحكى أيضا قال: كنت أنا و [شمس الدين ابن] الأكفاني «1» ، نأخذ عليه في" المباحث المشرقية" «2» ، فأبيت ليلتي أفكر في الدرس الذي نصبح نأخذه عنه، وأجهد قريحتي، وأعمل بعقلي وفهمي إلى أن يظهر لي فيه شيء أجزم بأن المراد به هذا، فإذا تكلّم الشيخ ركن الدين كنت أنا في واد وهو في واد!؛ أو كما قال «3» .
وحكى المراكشي قال: قال لي الشيخ ركن الدين: لما أوقفني ابن سيد الناس على" السيرة" «4» التي عملها علّمت فيها على مائة وأربعين موضعا، أو مائة وعشرين- السهو مني- أو كما قال. ولقد رأيته مرات يواقف ابن سيد الناس في أسماء الرجال، ويكشف عليها، فيظهر معه الصواب.
قال أبو الصفاء «5» :" وكنت يوما أنا وهو عند ابن سيد الناس، فقال: قال(9/277)
الشيخ تقي الدين ابن تيمية: عمل ابن الخطيب أصولا في الدين. الأصول:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ، وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ
فنفر الشيخ ركن الدين، وقال له: يا عرّة! «1» عمل الناس وصنعوا وأفكروا فيك، ونهض قائما، وولى مغضبا.
قال:" وأخبرني الشيخ فتح الدين «2» قال: جاء إليه إنسان يصحّح عليه في" أمالي القالي" فأخذ الشيخ ركن الدين يسابقه إلى ألفاظ الكتاب، فبهت ذلك الرجل، فقال: «3» لي نحو عشرين سنة ما كرّرت عليها".
وكان إذا أنشده أحد شيئا في أي معنى كان أنشد فيه جملة للمتقدّمين والمتأخرين، كأنه كان يكرر عليه تلك الليلة! «4» ".
وتولى" نيابة الحكم" «5» للقاضي المالكي بالقاهرة، ثم تركها تديّنا منه.(9/278)
وقال: يتعذّر فيها براءة الذمة. وكانت سيرته فيها حسنة مرضيّة. وكان يدرّس في" المدرسة المنكدمرية" «1» بالقاهرة، ويدرّس الطب بالبيمارستان المنصوري، وينام أول الليل، ثم يستفيق وقد أخذ راحة، وقد أخذ كتاب" الشفاء" لابن سينا ينظر فيه، لا يكاد يخلّ بذلك.
قال الشيخ فتح الدين:" قلت له يوما: يا شيخ ركن الدين! إلى متى تنظر في هذا الكتاب؟. فقال: إنما أريد أهتدي".
وكان فيه سآمة وملل حتى في لعب الشطرنج، يكون في وسط الدست وقد نفضه وقطع لذة صاحبه، ويقول: سئمت سئمت. وكذلك في بعض الأوقات [يكون] في بحث وقد حرّر لك المسألة، وكادت تنضج، فيترك الكلام ويمضي!.
وكان حسن التودّد يتودّد «2» إلى الناس ويهنّيهم بالشهور والمواسم من غير حاجة إلى أحد، لأنه كان معه مال له صورة ما يقارب الخمسين ألف درهم.
وكان يتصدّق سرا على أناس مخصوصين، [وكان مع هذه العلوم] «3» لثغته بالراء قبيحة، يجعلها همزة!.
وكان إذا رأى أحدا يضر كلبا أو يؤذيه يخاصمه وينهره، ويقول له: لم تفعل هذا؟ أما هو شريكك في الحيوانية؟.
وكان خطه على وضع المغاربة، وليس بحسن.
وسمع بدمشق سنة إحدى وتسعين وستمائة على المسند تقي الدين ابن(9/279)
الواسطي «1» ، واستجزته سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، بالقاهرة، باستدعاء فيه نثر ونظم، فأجاب وأجاز، وأجاد نثرا ونظما.
أنشدني لنفسه إجازة: [الطويل]
جوى يتلظّى في الفؤاد استعاره ... ودمع هتون لا يكف انهماره
يحاول هذا برد ذاك بصوبه ... وليس بماء العين تطفا ناره
ولوعا بمن حاز الجمال بأسره ... فحاز الفؤاد المستهام إساره
كلفت به بدريّ ما فوق طوقه ... ودعصيّ «2» ما يثني عليه إزاره
غزال له صدري كناس ومرتع ... ومن حب قلبي شيحه «3» وعراره
[من السمر يبدي عدمي الصبر خده ... إذا ما بدا ياقوته ونضاره] «4»
جرى سابحا ماء الشباب بروضه ... فأزهر فيه ورده وبهاره «5»
يشبّ ضراما في حشاي نعيمه ... فيبدو بأنفاس الصعاد شراره
وينثر دمعي منه نظم مؤشّر ... كنور الأقاحي «6» حفّه جلّناره «7»(9/280)
يعلّ «1» بعذب من برود رضابه ... تفاوح فيه مسكه وعقاره
ويسهد أجفاني بوسنان أدعج ... يحيّر فكري غنجه واحوراره
حكاني ضعفا أو حكى منه موثقا ... وخصرا نحيلا عال صبري اختصاره
معنّى بردف لا ينوء بثقله ... فيا شدّ ما يلقى من الجار جاره
على أن ذا مثر وذلك معسر ... ومن محنتي إعساره وإيساره
تألّف من هذا وذا غصن بانه ... توافت به أزهاره وثماره
تجمع فيه كل حسن مفرق ... فصار له قطبا عليه مداره
زلال ولكن أين مني وروده ... وغصن ولكن أين مني اهتصاره؟
وسلسال راح صدّ عني كاسه ... وغودر عندي سكره وغماره
دنا ونأى فالدار غير بعيدة ... ولكنّ بعدا صدّه ونفاره
وحين درى إن شدّ أسري حبّه ... أحلّ بي البلوى وساء اقتداره
ومنها:
حكت ليلتي من فقدي النوم يومها ... كما قد حكى ليلي ظلاما نهاره
كتمت الهوى لكن بدمعي وزفرتي ... وسقمي تساوى سره وجهاره
ثلاث سجلات عليّ بأنني ... أمام غرام قلّ فيك استتاره
أورّي بنظمي في العذار وتارة ... بمن إن تفنّى القرط أسفى سواره
وجلّ الذي أهوى عن الحلي زينة ... ولمّا يقارب أن يدب عذاره
أراحة نفسي كيف منك عذابها ... وجنة قلبي كيف منك استعاره؟
وتوفي الشيخ ركن الدين المذكور- بالقاهرة، في تاسع ذي الحجة، سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة، واعتلّ يومين ومضى إلى رحمة ربه الرحيم، ومولده(9/281)
سنة أربع وستين «1» ، بتونس «2» .
وله من التصانيف التي دوّنها:" تفسير سورة ق"، في مجلّدة «3» . ولما تولى الإعادة في المدرسة الناصرية عمل درسا في قوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً
«4» ، وعلّق عليه ما أملاه في ذلك.
وكان- رحمه الله تعالى- قد قرأ النحو: على يحيى بن الفرج بن زيتون. والأصول: على محمد بن عبد الرحمن قاضي تونس.
وقدم مصر عام تسعين وسمع بدمشق من ابن الواسطي، وابن القواس، وبحماة من [المحدّث] ابن مزيز «5» .
ومنهم:
48- محمد بن إبراهيم المتطبب صلاح الدين المعروف بابن البرهان الجرائحي
عالم لا يحصر بأمد، ولا يجيء البحر عنده غير ثمد «6» ، نظر في علوم الأوائل ووجهه ما تلثم بعذاره «7» ، ولا بعد عهده بزمان إعذاره، ففتح أطباق تلك النواويس، حتى استل علومها وسأل عليمها، ونقل إلى حفظه خبايا(9/282)
أسرارها، وخفايا أسفارها، وحيي به ما مات في لحود رممها، وفات بجمود هممها، واستقل بتلك الأعباء، فحصّل ما كان طالبا، وحسّن بإنفاقه ما جاء جالبا.
قرأ الطب على ابن النفيس، وغيره. وقرأ الحكمة، وآخر ما قرأ كتاب" الشفاء" لابن سينا على شيخنا الأصفهاني. كان يتردد إليه من القاهرة إلى الخانقاه القوصونية بالقرافة، لا يعنيه إلا القراءة عليه، ولم يزل حتى أكمله قراءة وبحثا، واستشراحا.
وكان طبيبا حكيما، فاضلا، متفلسفا، قائلا بالروحانيات، له ميل إلى النجامة، ومخاطبات الكواكب، وتطلع إلى الكيمياء، يتحدّث فيه، ويصحح قول المتقدمين في صحتها. وحكي لي أنه كان يصحب ابن أمير يعرف بابن سنقر الرومي، وأنه كان يعملها، وصحّت معه طرف منها.
وكان يحكى عن هذا ابن سنقر الرومي عجائب وغرائب منها أنه عمل له فسقية «1» معقودة في تربة له بالقرافة، لها منافس للهواء. فلما نجزت اتخذ له غذاء مركّبا مما يخف مقداره، وتكثر تغذيته، ونزل إلى تلك الفسقية، وأمره بتعهّده في كل أسبوع، ويجدّد له الماء، وأنه بقي يتعهّده كذلك. ولكّما أتاه بعد أسبوع، وجده قد تزايد ضعفه عما فارقه عليه، حتى كان رابع أسبوع- قال:
أو خامسه، الشك مني- أتيته فوجدته قد غارت عيناه، وخفت حسّه، حتى ظننت أنه قد مات، فحملته أنا وآخر كان قد أطلعه على حاله معي، وأخرجناه،(9/283)
ونقّطنا في فمه نقطا من الشراب، وأذكينا عنده [ ... ] «1» لنغذوه بها، ثم لم نزل نتعهّده إلى أن نقطنا مرقة فرّوج في فمه، فأفاق ولم يكلّمنا، ودمنا على هذا حتى كلّمنا، وقال لي: لا جزاك الله خيرا!، حلت بيني وبين ما حاولته من الانتقال إلى ما كنت أريد الانتقال إليه إلى خير من هذا العالم، ثم قال: أدركني بفاصد «2» . فقلت: والله لا أفعل. فقال: يا أخي! لا تفعل، أدركني به، ولا تدع ينزل من دمي إلا ما قلّ لترى العجب.
فأتيته بفاصد، ففصده، ولم أدعه ينزل من دمه إلا ما قلّ، ثم شددت يده.
فقال: احفظ هذا الدم في زجاجة، وسدّ رأسها لا يفسد بالهواء. ففعلت، ثم قال: ائتني بقرعة وإنبيق، فأتيته به، فأداره ثم سكب ذلك الماء عليه، فاستحال فضة بيضاء! فتركه عندي إلى أن عاد إلى معهود صحته، وقويت قواه، ثم خرجنا إلى جهة الخارقانية، وكان له بها تعلق، ثم أمرني أن أذهب إلى بلبيس «3» لأبيع تلك الفضة، وآتيه من عرضها بمأكل، فذهبت بها إلى صائغ فأريته إياها وأنا خائف وجل، لا يظهر له منها عيب، فأخذها واعتبرها، فلما صحّت معه سارع إلى مشتراها مني، فأخذت من الثمن شواء وحلوا وفاكهة، وغير ذلك، وفضل معي ثمان مائة وثلاثون درهما- أو كما قال-، فأتيته بذلك فأكلنا، ثم قال:
خذ الدراهم، ولا جزاك الله خيرا لكونك تسببت في عودتي إلى تعب هذا العالم!.
قلت: وكان هذا الطبيب عارفا بالطبّ علما لا عملا، لا يحسن العلاج، ولا(9/284)
يطول روحه على العليل، كثير النزاقة «1» ، عديم التلطّف، كارها لأطباء زمانه، لا يذكر أحدا منهم ولا يذكر له إلا وذمّه، وأطلق لسانه في معايبه. وكان يقول:
هؤلاء اليهود قد ارتفع رأسهم، وامتلئوا فوق وسعهم على جهلهم، وقلة حاصلهم، يعني:" السديد الدمياطي" و" فرج الله ابن صغير" ولا يزال يتوقّد منهما غيظا وحسدا لرغبة السلطان والأمراء والكبراء فيهما أكثر منه، وما كان يحصل لهما من الخلع والإطلاقات «2» ، ويصل إليهما من دور السلطان والأمراء لإفراط ميل النساء إلى طبهما، وملاطفتهما. ثم كان إذ ذمّهما يقول لمن يثق به:
" وهذا إبراهيم ابن المغربي هو مادّة عزّ هؤلاء اليهود، وكنز غناهم، وبه طاروا وحلّقوا". وهذه ألفاظه بعينها.
وكان لا يأكل في اليوم والليلة إلا أكلة واحدة، مؤقتة من الظهر إلى الظهر.
وكان يحب لبن الضأن، ويكثر أكله. صحبناه مرة في بلاد الصعيد وكان هو قد تقدم مع" طقزدمر" «3» ، وأخبرني أنه لم يأتدم في تلك السفرة على طول أيامها بشيء غير اللبن إلا مرّات يسيرة، وقال: هو غذاء صالح، وللجسم به إلف من أول زمان الرضاع. وكان أنه ينشّفه ويلقي فيه طاقات من النعنع والملح ويأكله.
وكان واسع النعمة كثير المال، ومات أخوه وورث منه مالا كثيرا، فازداد ماله(9/285)
ضعفا على ضعفه، وكانت له متاجر إلى إخميم «1» ، وقوص «2» ، وأسوان، وسائر بلاد الصعيد. وكان يرى في نفسه الغضاضة لتقدم ابن المغربي عليه في رياسة الطب، ويتشكّى هذا إلى أصحابه، وسأل السلطان في الإعفاء من قطعه الخدمة فقال: لا، ما نعفيك، أنت عندنا عزيز كريم، ونعرف أنه أفضل من إبراهيم- يعني: ابن المغربي-، وأحق، ولكن إبراهيم صاحبنا، وله علينا حق خدمة، وطيّب قلبه، فاستمرّ، ورأى أنه لم يبق له إلا مصافاة ابن المغربي، فخطب إليه أخته فتزوّج بها لقصد الاستصلاح له، لا للزواج.
وكان رجلا مسّيكا، مفرط البخل، مقتّرا على نفسه، مضيّقا عليها مع عظيم القدرة والإمكان، وكان لا يأكل إلا من الظهر إلى الظهر، كما ذكرناه، أسوأ أكل، ويلبس أردأ ملبوس، ويركب حمير الكراء، ومع هذا كان من المعدّلين، يجلس مع الشهود الموقعين تحشّما لا تكسّبا، وله وجاهة عند الأمراء والوزراء والكبراء، والحكّام، معظّما في الصدور ويشار إليه بالأنامل، ولم يصنّف مصنّفا، ولا طلع له تلميذ، ولا عرف بغرابة في طبّه. وعرّف الدولة بما له قبل موته، وخلّف أموالا جمّة ورثها السلطان عنه.
قلت: وقد كان- رحمه الله- لنا صديقا صدوقا، وصاحبا ملاطفا، وكان يحدّثني بدقيق أمره وجليله، ويطلعني على ما عنده من تقديم الرئيس جمال الدين إبراهيم ابن المغربي عليه، وينسبه إلى أنه يتقصّد قتله واغتياله بالسم، والأمر خلاف ما ظنه، وضدّ ما توهّمه.
ولم يكن جمال الدين ممن يخافه لمكانة جمال الدين المكينة عند السلطان،(9/286)
ولكرم خلائقه وبعده من تقلّد دم حرام لا سيما دم مثله. وقد كنت أقول له ليرجع عن سوء رأيه فيه وأوهامه فلا يرجع، ولا يفيد القول، ثم تزوج في آخر عمره بأخت جمال الدين على عدم حاجته بالنساء- كما يقال-، وأظهر الصفاء وباطنه على كدره. وأعتقد أنه لم يزل على هذا إلى انتهاء عمره.
قلت: وحكي لي أنه جلس يوما على حانوت العطار الذي كان يجلس عنده، وطلب منه شرابا يشربه، فناوله شرابا مسموما. قال: فلما شربته أحسست بالسم، وبدت فيّ علاماته، فأسرعت القيام إلى داري، وأخذت خرزة بازهر «1» حيواني كانت عندي، وسحلتها، ثم أذبت السحالة بماء ورد على مسنّ ثم لعقتها، فزالت تلك الأعراض لوقتها، ولم يمض بياض ذلك النهار حتى أكلت طعامي، ولم يعيّن من دسّ ذلك عليه، وما أراد- والله أعلم- إلا جمال الدين ابن المغربي. وقد تقدم القول في بعد جمال الدين من ذلك.
قلت: وقد كان ابن البرهان دخل اليمن، واتصل بصاحبها الملك المؤيد داود- رحمه الله- وخدمه مدة، وحصّل من جهته مالا طائلا، كان منه أصل نعمته، ورأس ماليته، ثم فارقه وعاد إلى مصر، وكانت كتبه لا تنقطع عنه، وصلاته تصل إليه، وكان يعرض الكتب التي ترد عليه على السلطان فيأمره بقضاء حوائجه، وكانت الكتب تتضمن طلب كتب طبية، وعقاقير مصرية ومغربية، مما يجل السلطان عن طلب ذلك منه، ويجهّز إلى ابن البرهان ذهبا لمشتراه، فكان يتولى ذلك ويقوم في هذه الخدمة بنفسه.
قلت: ولقد قرأت كتابا منها كله بالخط المؤيدي، ومضمونه بعد البسملة:(9/287)
" كتابنا هذا إلى ولينا العبد الشكور، الحكيم، الجليل، الفاضل، المعتمد، الثقة، صلاح الدين معتمد الملوك والسلاطين، أدام الله توفيقه ومراشده، وأسعد مقاصده. نأمره عنا بتسليم عادة إنعامه من حامله، ومعها مائتا دينار مصرية مع ما معها برسم مشترى الحوائج المطلوبة من الديار المصرية، وهو ثلاثمائة دينار، وقد اشتملت التذكرة المجهّزة طيها على ذكره فيقف عليها وينجز المطلوب ويتخيّره، ولا يقطع مطالعاته عن أبوابنا المعمورة- إن شاء الله-".
هذه صورة الكتاب ولفظه بنصّه، وعليه اسمه: داود بن يوسف.
وقد ذكرت ذلك ليعلم، فقد لا يخلو من فائدة.
ومنهم:
49- ابن الأكفاني: محمد بن إبراهيم بن ساعد الأنصاريّ، شمس الدّين أبو عبد الله السّنجاريّ المولد والأصل، المصري الدار «13»
حكيم تكلم في الجوهر والعرض، وعرف أسباب الصحة والمرض، وبرهن على الطب وموضوعاته، والعلاج وتبعاته. دقّق في العلم حتى أوضح معالمه الوضعية، وبيّن الفرق في القوى الطبيعية، وجال نظرا في التشريح، وقال فيه بالصريح، وذكر ترتيب الشريان على المنازل، ومكان الصاعد والنازل، بكلام جلاه، وكمال مكّن علاه، ولهذا ساد في أهل عصره، وعاد بالظفر من قام بنصره،(9/288)
وأهل مصر يظنون أنه لو لامس الماء لالتهب، أو لمس التراب لأحاله إلى الذهب.
يدعي أن له علما يقلب الأعيان أسرع من إدراك العيان، لعلوم لم يضرب دونها سترا، وبيان أتقنه و: (إن من البيان لسحرا) «1» .
ذكره الفاضل أبو الصفاء الصفدي وقال «2» :" فاضل جمع أشتات العلوم، وبرع في علوم الحكمة، خصوصا الرياضي، فإنه في الهيئة والهندسة والحساب له في ذلك تصانيف وأوضاع مفيدة".
وقال:" قرأت عليه قطعة جيدة من كتاب" أقليدس" وكان يحلّ لي فيه ما أقرؤه عليه بلا كلفة كأنما هو ممثّل بين عينيه، فإذا ابتدأت في الشكل شرع هو فيسرد باقي الكلام سردا، وأخذ الميل، ووضع الشكل في حروفه في الرّمل على التختج «3» ، وعبّر عنه بعبارة جزلة فصيحة بيّنة واضحة، كأنه ما يعرف شيئا غير ذلك الشكل.
وقرأت عليه مقدمة في وضع الأوفاق؛ فشرحها لي أحسن شرح. وقرأت عليه أول الإشارات، فكان يحل شرح نصير الدين الطوسي بأجلّ عبارة، وأجلى إشارة، وما سألته عن شيء في وقت من الأوقات مما يتعلق بالحكمة من المنطق والطبيعي، والرياضي، والإلهي، إلا وأجاب بأحسن جواب، كأنما كان البارحة(9/289)
يطالع تلك المسألة طول الليل! ".
وأما الطب: فإنه إمام عصره، وغالب طبّه بخواصّ ومفردات يأتي بها وما يعرفها أحد لأنه يغيّر كيفيتها وصورتها، حتى لا تعلم، وله إصابات غريبة في علاجه.
وأما الأدب: فإنه فريد فيه، يفهم نكته، ويذوق غوامضه، ويستحضر من الأخبار والوقائع والوفيات للناس قاطبة جملة كبيرة، ويحفظ من الشعر شيئا كثيرا إلى الغاية من شعر العرب، والمولّدين، والمحدثين، والمتأخرين، وله في الأدب تصانيف، ويعرف العروض والبديع جيدا، وما رأيت مثل ذهنه توقد ذكاه بسرعة ما لها رويّة، وما رأيت فيمن رأيت- أصحّ منه ذهنا، ولا أذكر «1» .
وأما عبارته الفصيحة الموجزة، الخالية من الفضول، فما رأيت مثلها. كان ابن سيد الناس يقول: ما رأيت من يعبّر عما في ضميره بعبارة موجزة مثله، انتهى.
قال أبو الصفاء «2» :" لم أر أمتع منه، ولا أفكه من محاضرته، ولا أكثر اطّلاعا منه على أحوال الناس وتراجمهم، ووقائعهم، ممن تقدّمه، وممن عاصره.
وأما أحوال الشرق ومتجدّدات التتار في بلادهم في أوقاتها: فكأنما كانت القصّاد تجيء إليه، والملطّفات تتلى عليه، بحيث إنني كنت أسمع منه ما لم أطّلع عليه من الديوان «3» .(9/290)
وأما الرّقى «1» والعزائم «2» : فيحفظ منها جملا كثيرة، وله اليد الطولى في الروحانيات، والطلاسم، وما يدخل في هذا الباب.
قال: وقرأت عليه من تصانيفه:" إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد" «3» ، و" اللباب في الحساب" «4» ، و" نخب الذخائر في معرفة الجواهر" «5» ، وغنية اللبيب عند غيبة الطبيب" «6» .
ومما لم أقرأه عليه من تصانيفه:" كشف الرين في أمراض العين" «7» .
قال: وأنشدني لنفسه: [الكامل]
ولقد عجبت لعاكس الكيمياء ... في طبّه قد جاء بالشنعاء
يلقي على العين النحاس يحيلها ... في لمحة كالفضة البيضاء(9/291)
وله تجمّل في بيته وملبسه، ومركوبه من الخيل المسوّمة، والبزّة الفاخرة، ثم إنه اقتصر وترك الخيل، وآلى على نفسه أن لا يطبّ أحدا إلا ببيته، أو في المارستان، أو في الطريق، وهو غاية «1» في معرفة الأصناف من الجواهر، والقماش، والآلات، والعقاقير، والحيوانات، وما يحتاج إليه البيمارستان [المنصوري بالقاهرة] «2» ، ولا يشترى، ولا يدخل إليه إلا بعد عرضه عليه، فإن أجازه اشتراه الناظر، وإن لم يجزه لم يشتر البتة، وهذا اطّلاع كثير وخبرة تامّة، لأن البيمارستان يريد كل ما في الوجود مما يدخل في الطب، والكحل، والجراح، وغير ذلك.
وأما معرفة الرقيق من المماليك والجواري: فإليه المآل «3» في ذلك، ورأيت المولعين بالصنعة يحضرون إليه ويذكرون له ما وقع لهم من الخلل في أثناء أعمالهم، فيرشدهم إلى الصواب، ويدلهم على إصلاح ذلك الفساد. ولم أره يعوز «4» شيئا من كمال الأدوات، غير أن عربيّته كانت ضعيفة، وخطّه أضعف من مرضى مارستانه، ومع ذلك فله كلام حسن، ومعرفة [جيدة] بأصول الخط المنسوب، والكلام على ذلك، انتهى ما ذكره أبو الصفاء" «5» .
قلت: هذا رجل اجتمع بي، وتردّد إليّ غير مرة، وجاريته الحديث كرّة على كرّه، وهو كما ذكره، من الحديث الممتع، والكلام المطمع، وقرأت عليه:
[..] «6» ولقد كنت ألتقط من أثناء كلامه ثمرات الحكم، وأستدلّ له بمجاراته على(9/292)
سعة الاطلاع، ووفور مدد. ورأيت له في هذا ما لم أر لأحد.
وكان يستجهل الأطباء، ويستبعد طرق معالجاتهم، ويستبشع كريه وصفاتهم، ويقول: أنا أعالج المرضى بما لا يستكره، كهذه الأدوية الكريهة التي يصفها الأطباء، وأعطي القدر اليسير مما يستطاب، فيقوم مقام الكثير مما يعطونه مما لا يستطاب، ويكون ما أعطيه من نوع الغذاء وهو يقوم مقام الدواء.
وحكى لي القاضي ضياء الدين يوسف بن الخطيب أنه احتاج إلى استفراغ «1» ؛ فعرض ما به على الأطباء واستوصفهم «2» ، فقالوا: هذا يحتاج إلى خمسة أيام تتقدّم قبل استعمال دواء. وشرعوا في وصف دواء يشتمل على عقاقير كثيرة كريهة، فلم أجد لي قابلية على ما قالوه. فقلت لابن الأكفاني، فقال: ما يحصل القصد، ثم أتاني ببرنية «3» فيها شراب حماض، وقال: كلما أردت قيام مجلس العق من هذا الشراب لعقة. قال: فلعقت منه تسع لعقات، فقمت تسعة مجالس، وزال ما كنت أشكوه، ثم كنت في كل حين ألعق من ذلك الشراب، وكلما لعقت لعقة قمت مجالسا لا يخالف عدد القيام عدد اللعقات، ولم يخرم معي هذا.
وحكى لي الصدر مجد الدين السلامي نحو ذلك، ومع هذا كله، وما لا يجحد من فضله لا يقول أطباء مصر إلا أنه طرقيّ لا طبيب!، وأيّ حسن ما له من يعيب؟!.
كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسدا وبغضا إنه لذميم «4»(9/293)
فأما أول من استخرج الطب فرجلان:
لم يعد بعد معهما كارع في لجام، ولا بعدهما إلا خالع الألجام، جلّيا كل مبهم، وتجليا كغرّة الأدهم. فالأول:
50- اسقليبيوس بن ريوس «13»
متطبّب لا يقرن بأهل الجدّ إلا إذا هزل، ولا يقرب من مطمح النجم إلا إذا نزل، يجله من تعقّله، ويجهله من ظنّ أنه مع البحار الزاخرة قد تمقّله.
عزت إليه الحكماء طبها، وأعزت خطبها، لما أخذ عنه من علم جليل، كم أعاذ من مندم، وصان من دم، وبصّر أعمى، وأثر نعمى، وأخمد من نار سوء المزاج العائث ما تضرّم، حتى لم يبق جسم نحيل يتوجّع، ولا أم عليل تتفجّع. ترفوا به الأعلّاء «1» ملابس صحتها، وترفل بطبّه الأصحّاء في مجرور ذيل فسحتها.
قد اتفق كثير من قدماء الفلاسفة والمتطّببين على أنه أول من ذكر من الأطباء، وأول من تكلّم في الطب على طريق التجربة.
وكان يونانيا، ولليونان جزيرة كانت للحكماء من الروم ينزلونها، فنسبوا إليها.
وقال أبو معشر «2» :" إن بلدة من المغرب كانت تسمى: أرغس، وكان أهلها يسمون أرغيزا، ثم سميت: أيونيا، وسمي أهلها: اليونان. وكان ملكها أحد ملوك الطوائف، وأول من اجتمع له ملك أنونيا، من ملوك اليونانين كان اسمه(9/294)
أيوليوس، وكان لقبه: دقطاطر، ووضع لهم سننا كثيرة مستعملة عندهم".
وقال أبو سليمان السجستاني «1» :" هو إمام الطب، وأبو أكثر الفلاسفة" قال: وينسب إليه أقليدس، وأفلاطون، وأرسطو، وأبقراط، وأكثر اليونانية. قال:
وكان أبقراط هو السادس عشر من أولاده، يعني البطن السادس عشر.
وقال:" سولون «2» أخوه هو أبو واضعي النواميس".
ويقال: إن اسقليبيوس انكشف له أمور عجيبة من أحوال العلاج بإلهام إلهي. ويحكى أنه وجد علم الطب في هيكل كان لهم بروميّة، يعرف بهيكل ابلق، ثم عرف به، وكان بيتا يحجّون إليه، وحجّ إليه جالينوس، [ومما يحقّق ذلك أن جالينوس قال في كتابه في فينكس: إن الله عز اسمه لما خلّصني من دبيلة قتالة كانت عرضت لي".
حكى صاحب تاريخ الأطباء «3» : إنه كانت فيه صورة تكلّمهم عندما يسألونه.
وقال جالينوس: إن طب اسقليبيوس كان طبا إلهيا. وقال: إن قياس الطب الإلهي إلى طبنا قياس طبنا إلى طب الطرقات.
وقال أبقراط: إن اسقليبيوس رفع في عمود من نور. وقيل: إنه كان يستشفى(9/295)
بقبره. وكان يسرج «1» عليه كل يوم وليلة ألف قنديل، وكان الملوك من نسله، وتدّعي له النبوة، وكان أولاده عالمين بالطب.
وقال أبو الوفاء [المبشر] بن فاتك «2» : إن اسقليبيوس كان تلميذ هرمس، ويزعم أن هرمس هو إدريس عليه السلام. وقيل: بل كان اسقليبيوس تلميذ أعاثاديمون المصري «3» ، ومعنى اسمه: السعيد الجد، ويزعم أنه أحد أنبياء اليونانيين. ويقال: إن اسقليبيوس هو البادئ بصناعة الطب في اليونان، وعلما بنيه، وحظر عليهم أن يعلّموها الغرباء.
وقد خالف أبو معشر أهل هذا القول، وقال: إنه لم يكن بالمتأله الأول في صناعة الطب، ولا المبتدئ بها، بل إنه عن غيره أخذ، ولمنهج من قبله سلك.
وكان يعلّم الطب مشافهة، فلما تضعضع الأمر على أبقراط، وقلّ أهل بيته، لم يأمن أن تتعرض الصناعة، فابتدأ في تأليف الكتب على جهة الإيجاز.
ومن كلامه:
قوله:" من عرف الأيام لم يمهل الاستعداد".
وقوله:" [كم من دهر ذممتموه، فلما صرتم إلى غيره حمدتموه، وكم من أمر أبغضت أوائله وبكي عند أواخره عليه".
وقوله:" المتعبّد بغير معرفة كحمار الطاحون يدور ولا يبرح [ولا يدري ما هو فاعل] .(9/296)
وقوله:" فوت الحاجة خير من طلبها إلى غير أهلها.
وقوله:" إني لأعجب ممن يحتمي من المآكل الرديئة مخافة الضرر ولا يدع الذنوب مخافة الآخرة".
وقوله:" أكثروا من الصمت فإنه سلامة من المقت «1» ، واستعملوا الصدق فإنه زين النطق".
وقيل له:" صف لنا الدنيا. فقال: أمس أجل، واليوم عمل، وغدا أمل".
وأما الثاني فهو:
51- أيلق «13»
ويقال له:" أيلة"، وهو تلو «2» صاحبه، وصنو صوائبه، ومدرك وفاته، ومستدرك فواته، كم منّعا «3» جسوما، وقطّعا الأدواء حسوما، ولا يلقى في المجامع بشر تألّق وذكر بالمسامع يتعلّق، ولم يقصر به دون رجاء ياس، ولا ضاق به مدى فتر «4» في قياس.
قال ابن جلجل: إنه أول حكيم تكلّم في الطب ببلد الروم والفرس، وهو أول من استنبط كتاب الإغريقي لهيامس الملك، وتكلم في الطب، وقاسه، وعمل به، وكان بعد موسى عليه السلام، في زمان بذاق الحاكم، وله آثار عظيمة، [وأخبار] شنيعة، وهو يعدّ في كثرة العجائب مثل اسقليبيوس".(9/297)
ومن هنا نذكر ما وقع عليه قسم كل قسم فأما أهل الجانب المشرقي فمنهم حكماء العرب، والسريان، والعراق، وما معه، والعجم، والهند، والشام، ونبدأ بحكماء العرب:(9/299)
أطباء العرب ممن كانوا في أول ظهور الإسلام ومن بعدهم
فمنهم:
52- الحارث بن كلدة الثّقفيّ «13»
طبيب العرب، وكانت له معرفة بما يحتاج إليه من مداواتها، وخبرة في طبّ أمراضها وأدواتها، أينع من نبعة البادية غصنه الفينان، وجمع إلى فصاحة العرب حكمة اليونان، ولخصت به تلك العبارات التي لا تفهم، وخلصت خلاص ابن المهلب من الأدهم.
وأخذ يعالج سكان البادية بما لا يبعد من أمزجتها، ولا يعد منه خروج عن محجّتها «1» ، بما تعهده في ديارها، وتتعهّد به ملابس غيارها.(9/301)
وعمّر مدّة في صدر الإسلام، وسطر عدة تحفظ له من حرّ الكلام. وهو الذي تعدّه أمّة العرب سابق أطبائها، وسابق أبنائها، وكفاه شكرا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجرى له ذكرا.
قال ابن أبي أصيبعة «1» :" كان من الطائف، وسافر في البلاد وتعلّم الطب بناحية فارس، وتمرّن هناك، وعرف الداء والدواء. وكان يضرب بالعود، تعلّمه بفارس واليمن، وبقي أيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- وأدرك سلطان معاوية. وقال له معاوية: ما الطبّ؟. قال:" الأزم". يعني: الجوع.
وفي الحديث:" إن عمر- رضي الله عنه- سأل الحارث بن كلدة: ما الدواء؟. قال: الأزم- يعني الحمية-.
وروي عن سعد بن أبي وقاص- رضي الله عنه- أنه مرض بمكة مرضا، فعاده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- وقال: (ادعوا له الحارث بن كلدة فإنه رجل يطبّب) «2» . فلما نظر إليه الحرث قال:" ليس عليه بأس، اتّخذوا له فريقة «3» بشيء من تمر عجوة، وحلبة «4» ، يطبخان". فتحسّاها، فبرئ.
وفد على كسرى أنوشروان، فلما وقف بين يديه قال له: من أنت؟.
قال: الحارث بن كلدة الثقفي.
قال: ما صناعتك؟.(9/302)
قال: الطب.
قال: أعرابي أنت؟.
قال: نعم.
قال: فما تصنع العرب بطبيب مع جهلها، وضعف عقولها، وسوء أغذيتها؟.
قال: أيها الملك! إذا كانت هذه صفتها كانت أحوج إلى من يصلح جهلها، ويقيم عوجها، ويسوس أبدانها، ويعدل أمشاجها «1» ، فإن العاقل يعرف [ذلك من نفسه، ويميز] موضع دائه، ويحترز عن الأدواء [كلها بحسن سياسته لنفسه] .
قال كسرى: فكيف تعرف ما تورده عليها؟. ولو عرفت الحلم لم تنسب إلى الجهل.
قال الحارث: الطفل يناغي فيداوى، والحيّة ترقى فتحاوى، ثم قال: أيها الملك! العقل من قسم الله تعالى، قسمه بين عباده كقسمه الرزق فيهم، [فكل من قسمته أصاب، وخص بها قوم وزاد] ، فمنهم مثر ومعدم، وجاهل وعالم، وعاجز وحازم، وذلك تقدير العزيز العليم.
فأعجب كسرى من كلامه، ثم قال: فما الذي تحمد من أخلاقها، ويعجبك من مذاهبها وسجاياها «2» ؟.
قال الحارث: أيها الملك!، لها أنفس سخية، وقلوب جريّة، ولغة فصيحة،(9/303)
وألسن بليغة، وأنساب صحيحة، وأحساب شريفة، يمرق من أفواههم الكلام مروق السهم من نبعة «1» الرام، أعذب من هواء الربيع، وألين من السلسبيل المعين، مطعمو الطعام في الجدب «2» ، وضاربو الهامّ «3» في الحرب، لا يرام عزمهم، ولا يضام «4» جارهم، ولا يستباح حريمهم، ولا يذلّ كريمهم، ولا يقرّون بفضل للأنام إلا للملك الهمام الذي لا يقاس به أحد ولا يوازيه سوقة «5» ولا ملك.
قال: فاستوى كسرى جالسا، وجرى ماء رياضة الحلم في وجهه، وقال لجلسائه: إني وجدته راجحا، ولقومه مادحا، وبفضلهم ناطقا، [وبما يورده من لفظه] صادقا، وكذلك العاقل الذي أحكمته التجارب.
ثم أمره بالجلوس، فجلس. ثم قال: كيف بصرك بالطب؟. قال: ناهيك «6» .
قال: فما أصل الطب؟.
قال: الأزم.
قال: فما الأزم؟.(9/304)
قال: ضبط الشفتين، والرفق باليدين.
قال: أصبت. قال: فما الداء الدويّ «1» ؟.
قال: إدخال الطعام على الطعام، هو الذي يفني البريّة، ويهلك السباع في البرّيّة.
قال: أصبت.
قال: فما العلّة التي تصطلم «2» منها الأدواء؟.
قال: هي التخمة. إن بقيت في الجوف قتلت، وإن تحللت أسقمت.
قال: فما تقول في الحجامة؟.
قال: في نقصان الهلال في يوم صحو لا غيم فيه، والنفس طيبة، والعروق ساكنة، لسرور يفاجئك، وهمّ يباعدك.
قال: فما تقول في دخول الحمّام؟.
قال: لا تدخله شبعانا، ولا تغش «3» أهلك سكرانا، ولا تقم بالليل عريانا، ولا تقعد على الطعام غضبانا، وارفق بنفسك يكن أرخى لبالك، وقلّل من مطعمك يكن أهنأ لنومك.
قال: فما تقول في الدواء؟.
قال: ما لزمتك الصحة فاجتنبه، فإن هاج داء فاحسمه بما يردعه قبل استحكامه، فإن البدن بمنزلة الأرض إن أصلحتها عمرت، وإن تركتها خربت.(9/305)
قال: فما تقول في الشراب.
قال: أطيبه أهناه، وأرقّه «1» أمرؤه «2» ، وأعذبه أشهاه، لا تشربه صرفا «3» فيورثك صداعا، ويثير عليك من الأدواء أنواعا.
قال: فأي اللّحمان «4» أفضل؟.
قال: الجداء الرضع الفتي، والقديد «5» المالح مهلك للآكل. واجتنب لحم الجزور «6» والبقر.
قال: فما تقول في الفواكه؟.
قال: كلها في إقبالها، وحين أوانها، واتركها إذا أدبرت وولّت، وانقضى زمانها. وأفضل الفاكهة الرمّان والأترج «7» ، وأفضل الرياحين الورد والبنفسج، وأفضل البقول الهندباء «8» والخس.
قال: فما تقول في شرب الماء؟.
قال: هو حياة البدن، وبه قوامه، ينفع ما شرب منه بقدر، وشربه بعد النوم(9/306)
ضرر. لأفضله أمرؤه، وأرقّه أصفاه، ومن عظام أنهار البارد الزلال، لا يختلط بماء الآجام «1» ، والآكام، ينزل من صرادح «2» المسطان، ويتسلسل عن الرضراض «3» وعظام الحصبا في الإيفاع «4» .
قال: فما طعمه؟.
قال: لا يوصف له طعم، إلا أنه مشتق من الحياة.
قال: فما لونه؟.
قال: اشتبه على الأبصار لونه، لأنه يجلو كل لون يكون فيه.
قال: فأخبرني عن أصل الإنسان ما هو؟.
قال: أصله من حيث شرب الماء، يعني رأسه.
قال: فما هذا النور الذي في العينين؟.
قال: مركّب من ثلاثة أشياء؛ فالبياض شحم، والسواد: ماء، والنظر: ريح.
قال: فعلى كم جبلّ «5» وطبع هذا البدن؟.
قال: على أربعة طبائع؛ المرة السوداء: وهي باردة يابسة. والمرّة الصفراء: وهي حارّة يابسة. والدّم: وهو حارّ رطب. والبلغم: وهو بارد رطب.(9/307)
قال: فلم لم يكن من طبع واحد؟.
قال: لو خلق من طبع واحد لم يأكل ولم يشرب، ولم يمرض، ولم يهلك.
قال: فمن طبيعتين، لو كان اقتصر عليهما؟.
قال: لم يجز، لأنهما ضدان يقتتلان.
قال: فمن ثلاث؟.
قال: لم يصلح!، موفقان ومخالف!. فالأربع هو الاعتدال والقيام.
قال: فأجمل لي الحارّ والبارد في أحرف جامعة.
قال: كل حلو حار، وكل حامض بارد، وكل حريف حار، وكل مرّ معتدل، وفي المرّ حارّ وبارد.
قال: فأفضل ما عولج به المرة الصفراء؟.
قال: كل بارد ليّن.
قال: فالمرّة السوداء؟.
قال: كل حارّ لين.
قال: والبلغم؟.
قال: كل حارّ يابس.
قال: والدم؟.
قال: إخراجه إذا زاد، وتطفئته إذا سخن، بالأشياء الباردة اليابسة.
قال: فالرياح؟.
قال: بالحقن اللينة، والأدهان الحارّة اللينة.(9/308)
قال: أفتأمر بالحقنة؟.
قال: نعم. قرأت في بعض كتب الحكماء: أن الحقنة تنقي الجوف، وتكسح الأدواء عنه، والعجب لمن احتقن كيف يهرم! أو يعدم الولد!. وإن الجهل كل الجهل من أكل ما قد عرف مضرّته، ويؤثر شهوته على راحة «1» بدنه!.
قال: فما الحمية؟.
قال: الاقتصاد في كل شيء، فإن الأكل فوق المقدار يضيق على الروح ساحتها، ويسدّ مسامّها.
قال: فما تقول في النساء، وإتيانهنّ؟.
قال: كثرة غشيانهنّ رديء، وإياك وإتيان المرأة المسنّة، فإنها كالشّنّ «2» البالي، تجذب قوتك، وتسقم بدنك، ماؤها سمّ قاتل، ونفسها موت عاجل، تأخذ منك الكل، ولا تعطيك البعض، والشابّة ماؤها عذب زلال، وعناقها غنج «3» ودلال، فوها «4» بارد، وريقها عذب، وريحها طيب، وهنها ضيّق، تزيدك قوة إلى قوتك، ونشاطا إلى نشاطك.
قال: فأيهنّ القلب إليها أميل، والعين برؤيتها أسرّ؟.
قال: إذا أصبتها!!: المديدة القامة، العظيمة الهامة، واسعة الجبين، أقناة(9/309)
العرنين»
، كحلاء، لعساء «2» ، صافية الخد، عريضة الصدر، مليحة النحر، في خدّها رقّة، وفي شفتيها لعس، مقرونة الحاجبين، ناهدة الثديين، لطيفة الخصر والقدمين، بيضاء، فرعاء «3» ، جعدة «4» ، غضّة بضّة «5» ، تخالها في الظلمة بدرا زاهرا تبسّم عن أقحوان «6» ، وعن مبسم كالأرجوان «7» ، كأنها بيضة مكنونة «8» ، ألين من الزبد، وأحلى من الشّهد، وأنزه من الفردوس والخلد، وأذكى ريحا من الياسمين والورد، تفرح بقربك، وتسرّك الخلوة معها.
قال: فاستضحك كسرى حتى اختلجت كتفاه.
قال: ففي أي الأوقات إتيانهنّ أفضل؟.
قال: عند إدبار الليل يكون الجوف أخلى، والنفس أهدأ، والقلب أشهى، والرحم أدفأ، فإن أردت الاستمتاع بها نهارا تسرح عينيك في جمال وجهها،(9/310)
ويجتني فوك من ثمرات حسنها، ويعي سمعك من حلاوة لفظها، وتسكن الجوارح كلها إليها.
قال كسرى: لله درّك من أعرابي!، لقد أعطيت علما، وخصصت فطنة وفهما.
وأحسن صلته، وأمر بتدوين ما نطق به.
وقال الواثق بالله في كتابه المسمى:" البستان": إن الحرث بن كلدة مرّ بقوم وهم في الشمس، فقال: عليكم بالظلّ، فإن الشمس تنهج الثوب «1» ، وتنقل الريح، وتشحب اللون، وتهيّج الداء الدفين".
ومن كلام الحارث:" البطنة بيت الداء، والحمية رأس الدواء، وعوّدوا كل جسد بما اعتاد". وقيل: هو من كلام عبد الملك بن أبجر. وقد نسب قوم هذا الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوله: (المعدة بيت الداء) «2» وهو أبلغ من لفظ(9/311)
" البطنة".
وروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب- رضي الله عنه وكرّم وجهه- قال:" من أراد البقاء- ولا بقاء- فليجوّد الغذاء، وليأكل على نقاء «1» ، وليشرب على ظماء، وليقلّ من شرب الماء، ويتمدّد بعد الغداء، ويتمشّى بعد العشاء، ولا يبيت حتى يعرض نفسه على الخلاء، ودخول الحمّام على البطنة من شرّ الداء، ودخلة إلى الحمّام في الصيف خير من عشرة في الشتاء، وأكل القديد اليابس في الليل معين على الفناء، ومجامعة العجوز تهدم أعمار الأحياء".
وروى حرب بن محمد قال: حدثنا أبي، قال: قال لي الحارث بن كلدة:" أربعة اشياء تهدم البدن: الغشيان على البطنة، ودخول الحمّام على الامتلاء، وأكل القديد، ومجامعة العجوز".
وروى داود بن رشيد عن عمرو بن عوف قال: لما احتضر الحارث بن كلدة اجتمع إليه الناس فقالوا له: مرنا بأمر ننتهي إليه من بعدك. فقال:" لا تتزوجوا من النساء إلا شابّة، ولا تأكلوا الفاكهة إلا في أوان نضوجها، ولا يتعالجنّ(9/312)
أحدكم ما احتمل بدنه الداء، وعليكم بالنّورة «1» في كل شهر؛ فإنها مذهبة للبلغم، مهلكة للمرّة، منبتة للّحم، وإذا تغدى أحدكم فلينم على أثر غدائه، وإذا تعشّى فليخط أربعين خطوة.
ومن كلام الحارث أيضا:" دافع بالدواء ما وجدت مدفعا، ولا تشربه إلا من ضرورة، فإنه لا يصلح شيئا إلا أفسد مثله".
وقال سليمان بن جلجل: أخبرنا الحسن بن الحسين الأزدي، قال: أخبرنا محمد بن سعيد الأموي، عن عبد الملك بن عمير قال:" كان أخوان من ثقيف من بني كنّه، يتحابّان، لم ير قط أحسن ألفة منهما، فخرج الأكبر إلى سفر فأوصى الأصغر بامرأته، فوقعت عينه عليها يوما، ولم يتعمّد لرؤيتها، فهويها، وضني، وقدم أخوه فجاءه بالأطباء، فلم يعرفوا ما به. إلى أن جاءه بالحارث بن كلدة، فقال: أرى عينين محتجبتين، وما أدري ما هذا الوجع؟ وسأجرب، فاسقوه نبيذا.
فلما عمل «2» النبيذ فيه قال: [الهزج]
ألا رفقا ألا رفقا ... قليلا ما أكوننّه
ألمّا «3» بي إلى الأبيا ... ت بالخيف أزرهنّه
غزالا ما رأيت اليو ... م في دور بني كنّه
أسيل «4» الخدّ مربوب ... وفي منطقه غنّه «5»(9/313)
فقالوا له: أنت أطبّ العرب.
ثم قال: ردّدوا النبيذ عليه. فلما عمل فيه قال: [مجزوء الخفيف]
أيها الجيرة اسلموا ... وقفوا كي تكلّموا
وتقضوا لبانة «1» ... وتحبوا وتنعموا
خرجت مزنة «2» من ... البحر ريّا تحمحم «3»
هي ما كنّتي «4» وتز ... عم أني لها حم «5»
قال: فطلّقها أخوه، ثم قال له: تزوّج بها يا أخي!. فقال: لا والله! لا تزوّجتها. فمات وما تزوّجها «6» .
ومنهم:
53- النّضر بن الحارث بن كلدة «13»
وهو ابن خالة النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-.(9/314)
طبيب أثرت به تلك البلاد المقفرة، وأثّر بطبّه في أمزجة تلك الحمر المستنفرة «1» . تبع طريق أبيه، وأضاف إلى تالد «2» والده ظريف تأتّيه، ودرب العلاج حتى كاد يبرئ الأكمه «3» ، وكان يعرف بضياء الحس، ودرس الحكمه.
ولم ينفعه من جهة الأمومة الشريفة النبوية قربه، ولم يمنعه وقد قضى عليه بالبعد ربّه قتل بسيف النبوة صبرا، وعجّل له مثوى في جهنّم يسمّى قبرا.
قال ابن أبي أصيبعة «4» :" كان النضر قد سافر البلاد كأبيه، واجتمع مع الأفاضل والعلماء بمكة وغيرها، وعاشر الأحبار والكهنة، واشتغل، وحصّل من العلوم القديمة أشياء جليلة القدر، واطّلع على علوم الفلسفة، وأجزاء الحكمة، وتعلّم من أبيه أيضا ما كان تعلّمه من الطب وغيره.
وكان النضر يؤاتي أبا سفيان في عداوة النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لكونه كان ثقفيا، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:" قريش والأنصار حليفان، وبنو أمية وثقيف حليفان" «5» .
وكان النضر كثير الأذى والحسد للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ويتكلم فيه بأشياء كثيرة، كما يحطّ من قدره عند أهل مكّة، ويبطل ما أتى به(9/315)
- بزعمه-، ولم يعلم- بشقاوته- أن النبوة أعظم؛ والسعادة أقدر؛ والعناية الإلهية أجلّ؛ والأمور المقدرة أثبت. وإنما النضر اعتقد أن بمعلوماته وفضائله وحكمته يقاوم النبوة، وأين الثرى من الثريا، والحضيض من الأوج، والشقي من السعيد!. وما أحسن ما وجدت حكاية ذكرها أفلاطون في كتاب النواميس، في أن النبي وما يأتي به لا يصل إليه الحكيم بحكمته، ولا العالم بعلمه".
قال أفلاطون:" وقد كان مارينوس ملك اليونانيين الذي يذكره أوميرس الشاعر باسمه وجبروته، وما تهيّأ لليونانيين في سلطانه، رمي بشدائد في زمانه، وخوارج في سلطانه، ففزع إلى فلاسفة عصره، فتأملوا مصادر أموره ومواردها، وقالوا له: قد تأمّلنا أمرك فلم نجد فيه من جهتك شيئا يدعو إلى ما لحقك، وإنما يعلم الفيلسوف الإفراطات وسوء النظام الواقعين في الجزء. فأما ما خرج عنه فليس تبحث عنه الفلسفة، وإنما يوقف عليه من جهة النبوة، وأشاروا عليه أن يطلب نبيّ عصره ليجتمع معهم مع علمهم ما ينبئ به، وقالوا: إنه لا يسكن في البلدان العامرة، وإنما يكون في الأقاصي المقفرة، بين فقراء ذلك العصر. فسألهم ما يجب أن يكون عليه رسله إليه. وما يكون دليلا لهم عليه؟. فقالوا: اجعل رسلك إليه من لانت سجيته، وظهرت قناعته، وصدقت لهجته، وكان رجوعه إلى الحق أحبّ إليه من الظفر به، فإن بين من استولى عليه هذا الوصف وبينه وصلة تدلهم عليه.
أقول: ولما كان يوم بدر والتقى المسلمون ومشركو قريش، وكان عدّتهم ما بين التسعمائة والألف، والمسلمون يومئذ ثلاثمائة وثلاثة عشر، وأيّد الله الإسلام، ونصر نبيه عليه الصلاة والسلام، ووقعت الكسرة على المشركين، وقتل من جملتهم صناديد قريش، وأسر جماعة من المشركين، فبعضهم استفكّوا «1»(9/316)
أنفسهم، وبعضهم أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتلهم، وكان في جملة المأسورين النضر بن الحرث بن كلدة، فقتله عليه الصلاة والسلام بعد منصرفه من بدر «1» .
ومنهم:
54- عبد الملك بن أبجر الكنانيّ «13»
وهو من أفاضل الأطباء، وأماثل الألبّاء «2» ، وأهل العلم النافع، والتمييز بين المضارّ والمنافع. لقي حكماء المدن الممصّرة، واستضاء بتلك الفطن المبصّرة، وأقام بين أهل الكتاب الأول، ثم خالط النصارى، وخالل منهم أنصارا. وقدّم بينهم في شرائف الرتب ووظائف الحكمة التي عنها يكتتب، ولازم الطلب حتى مهر،(9/317)
وداوم الاكتنان ببيت التدريس حتى ظهر.
قال ابن أبي أصيبعة- وقد ذكره-:" كان طبيبا، عالما، ماهرا. وكان أول أمره مقيما بالاسكندرية، لأنه كان المتولّي على التدريس بها من بعد الاسكندرانيين الذين تقدّم ذكرهم. وذلك عند ما كانت البلاد في ذلك الوقت لملوك النصارى، ثم إن المسلمين لما استولوا على البلاد، وملكوا الاسكندرية، أسلم ابن أبجر على يد عمر بن عبد العزيز، وكان حينئذ أميرا قبل أن تصل إليه الخلافة، وصحبه، فلما أفضت الخلافة إلى عمر- وذلك في صفر سنة تسع وتسعين للهجرة- نقل التدريس إلى أنطاكية، وحرّان، وتفرّق في البلاد، وكان عمر بن عبد العزيز يستطب ابن أبجر، ويعتمد عليه في صناعة الطب.
وروي عن ابن أبجر قال:" دع الدواء ما احتمل بدنك الداء". وهذا من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم-: (سر بدائك ما حملك) «1» .
ومنهم:
55- ابن أثال «13»
كتابيّ ضيّع أمانته، وباع بدنياه ديانته، كان لا يهاب اغتيال النفوس، واختتال «2» مهج الرءوس، طريقة خالف فيها شروط الأطباء، وخال أنه يخفيها عن آذان الأنباء، حتى قيلت فيه ملح الأشعار، ووسمت صيته بشنع العار، وبقيت عليه قبائحها، وذهب المعار.
قال ابن أبي أصيبعة:" كان طبيبا من الأطباء المتقدّمين في دمشق، نصراني(9/318)
الدّين، ولما ملك معاوية بن أبي سفيان دمشق اصطفاه لنفسه، وأحسن إليه، وكان كثير الانقياد «1» له، والاعتقاد فيه، والمحادثة معه ليلا ونهارا.
وكان ابن أثال خبيرا بالأدوية المفردة والمركبة «2» ، وقواها، وما منهما سموم قواتل، وكان معاوية يقرّبه لذلك كثيرا، ومات في أيام معاوية جماعة كثيرة من أكابر الناس، والأمراء بالسم! «3» .
ومن ذلك: ما حدّثنا أبو عبد الله محمد بن الحسن بن محمد الكاتب البغدادي: أن معاوية لما أراد أن يظهر العقد ليزيد، قال لأهل الشام: إن أمير المؤمنين قد كبرت سنه، ورقّ جلده، ودقّ عظمه، واقترب أجله، يريد أن يستخلف عليكم، فمن ترون؟. فقالوا: عبد الرحمن بن خالد بن الوليد.
فسكت، وأضمرها، ودسّ ابن أثال النصراني الطبيب إليه فسقاه سمّا، فمات.
وبلغ ابن أخيه خالد بن المهاجر بن خالد بن الوليد خبره وهو بمكة، وكان اسوأ الناس رأيا في عمه، لأن أباه المهاجر كان مع عليّ- رضي الله عنه وكرّم وجهه- بصفّين، وكان عبد الرحمن بن خالد مع معاوية. وكان خالد بن المهاجر(9/319)
على رأي أبيه، هاشمي المذهب. فلما قتل عمه عبد الرحمن مرّ به عروة بن الزبير، فقال له: يا خالد! أتدع لابن أثال نقي «1» أوصال عمك بالشام، وأنت بمكة مسبل إزارك تجرّه وتخطر فيه متخايلا؟.
فحمي خالد، ودعا مولى له، يقال له: نافع، فأعلمه الخبر، وقال له:" لا بدّ من قتل ابن أثال". وكان نافع جلدا شهما. فخرجا حتى قدما دمشق، وكان ابن أثال يتمسّى «2» عند معاوية، فجلس له في مسجد دمشق إلى أسطوانة، وجلس غلامه إلى أخرى حتى خرج.
فقال خالد لنافع: إياك أن تعرض له أنت، فإني أضربه. ولكن احفظ ظهري، واكفني من ورائي. [فإن رأيت شيئا يريدني من ورائي] «3» فشأنك".
فلما حاذاه وثب إليه خالد فقتله. وثار إليه من كان معه، فصاح بهم نافع فانفرجوا. ومضى خالد ونافع وتبعهما من كان معه، فلما غشوهما حملا عليهم فتفرقوا، حتى دخل خالد ونافع زقاقا ضيّقا ففاتا الناس.
وبلغ الخبر معاوية- رضي الله عنه- فقال: هذا خالد بن المهاجر، انظروا الزقاق الذي دخل فيه. ففتش عليه وأتي به، فقال له: لا جزاك الله من زائر خيرا! قتلت طبيبي؟.
فقال: قتلت المأمور، وبقي الآمر!.
فقال: عليك لعنة الله، أما والله لو كان تشهّد مرة واحدة لقتلتك به.
أمعك نافع؟ قال: لا. قال: بلى- والله- ما اجترأت إلا به. ثم أمر بطلبه(9/320)
فوجد، فأتي به، فضرب مائة سوط، ولم يهج خالدا بشيء أكثر من أن حبسه، وألزم بني مخزوم دية ابن أثال، أثني عشر ألف درهم، أدخل بيت المال منها ستة آلاف، وأخذ ستة آلف، فلم يزل ذلك يجري في دية المعاهد حتى ولي عمر بن عبد العزيز فأبطل الذي يأخذه السلطان، وأثبت الذي يدخل بيت المال.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام البغدادي «1» ، في كتاب" الأمثال": إن معاوية بن أبي سفيان- رضي الله عنه- كان خاف أن يميل الناس إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فاشتكى عبد الرحمن فسقاه الطبيب شربة عسل فيها سم! فأحرقته.
فعند ذلك قال معاوية- رضي الله عنه- لا جدّ إلا ما أقعص عنك ما تكره «2» .(9/321)
قال: وقال معاوية- رضي الله عنه- أيضا حين بلغه أن الأشتر سقي شربة عسل فيها سمّ، فمات.:" إن لله جنودا منها العسل" «1» .
ونقلت من تاريخ أبي عبد الله محمد بن عمر الواقدي قال:" لما كان في سنة ثمان وثلاثين، بعث علي بن أبي طالب- رضي الله عنه وكرم الله وجهه- الأشتر واليا على مصر بعد قتل محمد بن أبي بكر، وبلغ معاوية- رضي الله عنه- مسيره، فدسّ إلى دهقان «2» بالعريش، فقال: إن قتلت الأشتر فلك خراجك عشرين سنة.
فلطف له الدهقان، فقال: أيّ الشراب أحبّ إليه؟.
فقيل: العسل.
فقال: عندي عسل من عسل برقة «3» ، فسمّه وأتاه به، فشربه، فمات.
فبلغ ذلك معاوية، فقال: لليدين وللفم «4» .
وفي تاريخ الطبري:" أن الحسن بن علي رضي الله عنهما، مات مسموما في أيام معاوية- رضي الله عنه-. وكان عند معاوية- كما قيل- دهاء، فدسّ إلى(9/322)
جعدة بنت الأشعث- وكانت زوجة الحسن رضي الله عنه- شربة، وقال لها:
إن قتلت الحسن زوّجتك يزيد!. فلما توفي الحسن، بعثت إلى معاوية تطلب قوله!. فقال لها في الجواب: أنا أضنّ بيزيد! «1» .
وقال كثير يرثي الحسن رضي الله عنه: [السريع]
يا جعد «2» ! بكّيه ولا تسأمي ... بكاء حقّ ليس بالباطل
لن تستري البيت على مثله ... في الناس من حاف ومن ناعل «3»
ومنهم:
56- أبو الحكم «13»
وكان من حذّاق الحكماء، وسبّاق أهل الطبّ القدماء، وله في علمه حقائق، وفي فهمه ما ينفد مدد الأعمار وما ينتهي منه إلى دقائق، وله في دمشق بقيّة ورثوا ما خلّف من علمه، وحلى لبنيه لا يظلم أحد منهم في قسمه.
قال ابن أبي أصيبعة:" كان طبيبا نصرانيا، عالما بأنواع العلاج والأدوية، وله أعمال كثيرة مذكورة، وصفات مشهورة.
وكان يستطبه معاوية بن أبي سفيان، ويعتمد عليه في تركيبات أدويته(9/323)
لأغراض قصدها منه.
وعمّر أبو حكم هذا عمرا طويلا حتى تجاوز المائة سنة.
قال يوسف بن إبراهيم «1» :" وحدّثني عيسى بن حكم عن أبيه، أن جده أعلمه أنه كان حمى عبد الملك بن مروان من شرب الماء من علّته التي توفي فيها، وأعلمه أنه متى شرب الماء قبل نضج علّته توفي. قال: فاحتمى عن الماء يومين وبعض الثالث. قال: فإني عنده لجالس، وعنده بناته، إذ دخل عليه الوليد ابنه، فسأله عن حاله، وهو يتبين في وجه الوليد السرور بموته، فأجابه بأن قال: [الطويل]
ومستخبرا عنا يريد بنا الردى ... ومستخبرات والدموع سواجم!
وكان استفتاحه النصف الأول وهو مواجه للوليد، ثم واجه البنات عند قوله النصف الثاني، ثم دعا بالماء فشربه، فقضى من ساعته.
ومنهم:
57- حكم الدّمشقيّ «13»
ممن نمّى وراثة أبيه، ودمّى «2» بفضله قلوب حاسديه، وأمسى على من(9/324)
ناوأه «1» شديد الشكيم «2» ، وأضحى وهو لا يدعى إلا الحكم الحكيم.
قال ابن أبي أصيبعة:" كان يلحق بأبيه في معرفته بالمداواة والأعمال الطبّيّة، والصفات البديعة، وكان مقيما بدمشق، وعمّر أيضا عمرا طويلا كأبيه".
قال يوسف بن إبراهيم: حدثني عيسى بن حكم أن والده توفي وكان عبد الله بن طاهر «3» بدمشق، في سنة عشرين ومائتين، وأن عبد الله سأله عن مبلغ عمر أبيه، فأعلمه أنه عمّر مائة وخمس سنين، لم يتغير عقله، ولم ينقص عمله!.
فقال عبد الله: عاش حكم نصف التاريخ! «4» .
قال يوسف: وحدّثني عيسى أنه ركب مع أبيه حكم بمدينة دمشق، إذ اجتازوا بحانوت حجّام، قد وقف عليه بشر كثير، فلما بصر بنا بعض الوقوف، قال: افرجوا، هذا حكم المتطبّب، وعيسى ابنه.
وأفرج القوم، فإذا رجل قد فصده الحجّام في العرق الباسليق «5» ، وقد فصده(9/325)
فصدا واسعا، وكان الباسليق على الشريان، فلم يحسن الحجّام تعليق العرق، فأصاب الشريان، ولم يكن عند الحجّام حيلة في قطع الدم. واستعملنا الحيلة في قطعه بالرفائد «1» ونسج العنكبوت والوبر، فلم ينقطع بذلك. فسألني والدي عن حيلة، فأعلمته أنه لا حيلة عندي، فدعا بفستقة، فشقّها وطرح ما فيها وأخذ أحد نصفي القشر فجعله على موضع الفصد، ثم أخذ حاشية من ثوب كان غليظ، فلفّ بها موضع الفصد على قشر الفستقة لفّا شديدا، حتى كان يستغيث المفتصد من شدته، ثم شدّ ذلك بعد اللف شدّا شديدا، وأمر بحمل الرجل إلى نهر بردى، وأدخل يده في الماء ووطّأ له على شاطئ النهر «2» ونوّمه عليه، وأمر فحسي محّات «3» بيض نمرشت «4» ، ووكّل به تلميذا من تلامذته، وأمره بمنعه من إخراج يده من موضع الفصد من الماء إلا عند وقت الصلاة، أو يتخوّف عليه الموت من شدة البرد، فإن تخوّف ذلك أذن له في إخراج يده هنيهة «5» ، ثم أمره بردّها.
ففعل ذلك إلى الليل، ثم أمر بحمله إلى منزله، ونهاه عن تغطية موضع الفصد، وعن حلّ الشدّ قبل استمام خمسة أيام ففعل ذلك، إلا أنه صار إليه في اليوم الثالث وقد ورم عضده وذراعه ورما شديدا، فنفّس من الشدّ شيئا يسيرا، وقال للرجل: الورح أسهل من الموت.(9/326)
فلما كان في اليوم الخامس حلّ الشداد، فوجدنا قشر الفستقة ملتصقا بلحم الرجل. فقال والدي للرجل:" بهذا القشر نجوت من الموت، فإن خلعت هذا القشر قبل انخلاعه وسقوطه من غير فعل منك، تلفت نفسك".
قال عيسى: فسقط القشر في اليوم السابع، وبقي في مكانه دم يابس في خلقة الفستقة، فنهاه والدي عن العبث به، أو حكّ ما حوله، أو حتّ شيء من ذلك الدم، فلم يزل الدم يتحاتّ حتّى انكشف موضع الفصد في أكثر من أربعين ليلة، وبرئ الرجل" «1» .
ومنهم:
58- عيسى بن حكم الدّمشقيّ المعروف بالمسيح «13»
عرف بهذا لما ظهرت من الآثار المسيحيّة على يديه العيسوية، ونقلت العجائب إلا أنها غير النبوية، وكان من فضلاء الأطبّاء، ونبلاء ذوي الأنباء.
قال ابن أبي أصيبعة:" وهو صاحب" الكناش «2» الكبير" الذي يعرف به وينسب إليه".(9/327)
قال يوسف بن إبراهيم: وحدّثني عيسى بن حكم أنه عرض لغضيض أم ولد الرشيد قولنج «1» ، فأحضرته، وأحضرت الأبح «2» ، والطبري الحاسبين. وسألت عيسى عما يرى معالجتها به؟.
قال عيسى: فأعلمتها أن القولنج قد استحكم بها استحكاما إن لم تبادره بالحقنة لم يؤمن عليها التلف.
فقالت للأبح والطبري: اختارا لي وقتا أتعالج فيه.
فقال لها الأبح: علّتك هذه ليست من العلل التي يمكن أن يؤخر لها العلاج إلى وقت يحمده المنجّمون. وأنا أرى أن تبادري بالعلاج قبل أن تعملي عملا؛ وكذلك يرى عيسى بن حكم. فسألتني، فأعلمتها أن الأبحّ قد صدقها.
فسألت الطبري عن رأيه؟.
فقال: القمر اليوم مع زحل، وهو في غد مع المشتري، وأنا أرى لك أن تؤخّري العلاج إلى مقارنة القمر مع المشتري.
فقال الأبحّ: أنا أخاف أن يصير القمر مع المشتري، وقد عمل القولنج عملا لا يحتاج معه إلى علاج. فتطيّرت من ذلك غضيض وابنتها أم محمد، وأمرتا بإخراجه من الدار، وقبلت قول الطبري. فماتت غضيض قبل موافاة القمر المشتري، فلما وافى القمر المشتري قال الأبح لأمّ محمد هذا وقت اختيار الطبري للعلاج؛ فأين العليل حتى نعالجه؟.(9/328)
فزادتها رسالته غيظا عليه، ولم تزل سيّئة الرأي فيه حتى توفّيت.
قال يوسف: نزلت على عيسى بن حكم في منزله بدمشق سنة خمس وعشرين ومائتين، وبي نزلة «1» صعبة، فكان يغذوني بأغذية طيبة، ويسقيني الثلج، فكنت أنكر ذلك، وأعلمه أن تلك الأغذية مضرّة بالنزلة. [فيعتلّ عليّ] «2» بالهواء ويقول:" أنا أعلم بهواء بلدي منك، هذه الأشياء مضرة بالعراق، نافعة بالشام".
فكنت أغتذي بما يغذوني به، فلما خرجت عن البلد خرج مشيّعا لي حتى صرنا إلى الموضع المعروف بالراهب، وهو الموضع الذي فارقني فيه، فقال [لي] قد أعددت لك طعاما يحمل معك، يخالف الأطعمة التي كنت تأكلها، وأنا آمرك أن لا تشرب ماء باردا، ولا تأكل من مثل الأغذية التي كنت تأكلها في منزلي شيئا.
فلمته على ما كان يغذوني به، فقال: إنه لا يحسن بالعاقل أن يلزم قوانين الطب مع ضيفه في منزله.
قال يوسف: وتجاريت وعيسى يوما بدمشق ذكر البصل، فأفرط في ذمّه، ووسف معايبه. وكان عيسى وسلمويه بن بنان «3» يسلكان طريق الرّهبان، ولا يحمدان شيئا مما يزيد في الباه، ويذكران أن ذلك مما يتلف الأبدان، ويذهب الأنفس. فلم أستجز الاحتجاج عليه بزيادة البصل في الباه. فقلت له: قد رأيت(9/329)
له في سفري هذا- أعني فيما بين سرّ من رأى ودمشق- منفعة.
فسأل عنها، فأعلمته: أني كنت أذوق الماء في بعض المناهل، فأصبته مالحا، فآكل البصل النّيء ثم أعاود شرب الماء، فأجد ملوحته قد نقصت.
وكان عيسى قليل الضحك، فاستضحك من قولي، ثم رجع إلى إظهار جزع منه، ثم قال: يعزّ عليّ أن يغلط مثلك هذا الغلط، لأنك صرت إلى أسمج نكتة في البصل، وأعيب عيب فيه، فجعلتها مدحا ثم قال: أليس متى حدث في الدماغ فساد فسدت الحواس حتى ينقص حسّ الشمّ والذوق والسمع والبصر؟.
فأعلمته أن الأمر كذلك.
فقال لي: إن خاصّيّة البصل إحداث فساد في الدماغ، فإنما قلّل حسّك بملوحة الماء ما أحدث البصل في دماغك من الفساد!.
قال يوسف: وقال لي عيسى وقد شيّعني إلى الراهب وهو آخر كلام دار بيني وبينه: أن والدي توفي وهو ابن مائة سنة وخمس سنين، لم يتشنّج له وجه، ولم ينقص من ما وجهه، لأشياء كان يفعلها، وأنا الآن مزوّد كها فاعمل بها، وهي:" لا تذق القديد، ولا تغسل يديك ورجليك عند خروجك من الحمام أبدا إلا بماء بارد أبرد ما يمكنك، والزم ذلك فإنه ينفعك".
فلزمت ما أمرني به، [من هذا الباب إلا أني ربما مصصت القطعة الصغيرة من القديد في السنة، وفي الأكثر من ذلك] «1» .(9/330)
ومنهم:
59- تياذوق «13»
حكيم ماهر، وعليم علمه ماهر، وحميم لا تبل به عين صديق، ولا يعل السلسل إلا صفو رحيق، ولم يزل يقمع سلطان المرض علاجه، ويمنع وجهه الندي مناظرا يثور عجاجه.
قال ابن أبي أصيبعة:" كان طبيبا فاضلا، وله نوادر وألفاظ مستحسنة في صناعة الطب، وعمّر. وكان في أول دولة بني أميّة، ومشهورا عندهم بالطب، وصحب أيضا الحجاج بن يوسف الثقفي، المتولى من جهة عبد الملك بن مروان، وخدمه بصناعة الطب، وكان يعتمد عليه، ويثق بمداواته، وكان له الجامكية «1» الوافرة، والافتقاد الكثير.
ومن كلام تياذوق للحجّاج قال:
" لا تنكح إلا شابّة، ولا تأكل من اللحم إلا فتيّا، ولا تشرب الدواء إلا من علّة، ولا تأكل الفاكهة إلا في أوان نضجها، وأجد مضغ الطعام، وإذا أكلت نهارا فلا بأس أن تنام، وإذا أكلت ليلا فلا تنم حتى تمشي، ولو خمسين خطوة".(9/331)
فقال له بعض من حضر: إذا كان الأمر كما تقول، فلم هلك بقراط؟. ولم هلك جالينوس وغيرهما؟. ولم أر واحدا منهم فعل ذلك.
قال: يا بني! قد احتججت فاسمع!. إن القوم دبّروا أنفسهم بما يملكون، وغلبهم ما لا يملكون- يعني الموت- وما يرد من خارج كالحر والبرد، والوقوع، والغرق، والجراح، والغمّ، وما أشبه ذلك.
وأوصى تياذوق أيضا الحجّاج فقال:" لا تأكلنّ حتى تجوع، ولا تتكارهنّ على الجماع، ولا تحبس البول، وخذ من الحمام قبل أن يأخذ منك" «1» .
وقال أيضا للحجّاج:" أربعة تهدم العمر،- وربّما قتلن-: دخول الحمّام على البطنة «2» ، والمجامعة على الامتلاء، وأكل القديد الجاف، وشرب الباء البارد على الريق، وما مجامعة العجوز ببعيدة منهنّ".
ووجد الحجّاج في رأسه صداعا، فبعث إلى تياذوق، وأحضره، فقال:" اغسل رجليك بماء حارّ، وادهنهما. وخصيّ الحجّاج قائم على راسه، فقال: والله ما رأيت طبيبا أقلّ معرفة بالطب منك!. شكا الأمير الصداع في رأسه، فتصف له دواء في رجليه!.
فقال له: إن علامة ما قلت فيك بيّنة!.
قال الخصيّ: وما هي؟.
قال: نزعت خصيتاك، فذهب شعر لحيتك!. فضحك الحجّاج ومن حضر.
وشكا الحجّاج ضعفا في معدته، وقصورا في الهضم إلى تياذوق.(9/332)
فقال:" يكون الأمير يحضر بين يديه الفستق الأحمر، القشر البرّاني، ويكسر ويأكل من لبه؛ فإن ذلك يقوّي المعدة.
فلما أمسى الحجّاج بعث إلى حظاياه، وقال: إن تياذوق وصف لي الفستق، فبعثت إليه كل واحدة منهنّ صينيّة فيها قلوب فستق، فأكل من ذلك حتى امتلأ، وأصابته بعقبه هيضة «1» كادت تأتي على نفسه. فشكا حاله إلى تياذوق، وقال: وصفت لي شيئا أضرّني، وذكر له ما تناول.
فقال له: إنما قلت لك أن تحضر عندك الفستق بقشره البراني، فتكسر الواحدة بعد الواحدة، وتلوك قشرها البراني وفيه العطرية والقبض. فيكون بذلك تقوية المعدة. وأنت فقد عملت غير ما قلت لك!. وداواه مما عرض له.
قيل: ومن أخباره مع الحجّاج: أنه دخل عليه يوما؛ فقال له الحجّاج: أي شيء دواء أكل الطين؟.
فقال: عزيمة مثلك أيها الأمير!.
فرمى الحجّاج بالطين ولم يعد إليه أبدا.
وقيل: إن بعض الملوك لما رأى تياذوق، وقد شاخ وكبر سنه، وخشي أن يموت ولا يعتاض عنه، لأنه كان أعلم الناس، وأحذق الأمّة في وقته بالطب.
فقال له: صف لي ما أعتمد عليه فأسوس به نفسي، وأعمل به أيام حياتي، فلست آمن أن يحدث عليك حدث الموت، ولا أجد مثلك!.
فقال تياذوق:" أيها الملك بالخيرات!. أقول لك عشرة أبواب، إن عملت بها واجتنبتها لم تعتلّ مدة حياتك، وهذه عشر كلمات:(9/333)
- لا تأكل طعاما وفي معدتك طعام.
- ولا تأكل ما تضعف أسنانك عن مضغه، فتضعف معدتك عن هضمه.
- ولا تشرب الماء على الطعام حتى تفرغ ساعتين، فإن أصل الداء التخمة، وأصل التخمة الماء على الطعام.
- وعليك بدخول الحمام في كل يومين مرة واحدة، فإنه يخرج من جسدك ما يصل إليه الدواء.
- وأكثر الدم في بدنك تحرس به نفسك.
- وعليك في كل فصل قيئة ومسهّلة.
- ولا تحبس البول وإن كنت راكبا.
- واعرض نفسك على الخلاء قبل نومك.
- ولا تكثر الجماع فإنه يقتبس من نار الحياة فليكثر أو يقل.
- ولا تجامع العجوز فإنه يورث الموت فجأة.
فلما سمع الملك أمر كاتبه أن يكتب هذه الألفاظ بالذهب الأحمر، ويضعه في صندوق من ذهب مرصّع، وبقي ينظر إليه في كل يوم ويعمل به، فلم يعتلّ مدة حياته، حتى جاءه الموت الذي لا بدّ منه، ولا محيص عنه.
وذكر إبراهيم بن القاسم الكاتب قال: قال الحجّاج لابنه: يا بني! إن تياذوق الطبيب كان قد أوصاني في تدبير الصحة بوصية كنت أستعملها، فلم أر إلا خيرا.
ولما حضرته الوفاة دخلت عليه أعوده، فقال: الزم ما كنت وصيتك به، وما نسيت منها فلا تنس:" لا تشرين دواء حتى تحتاج إليه، ولا تأكلن طعاما وفي(9/334)
جوفك طعام، وإذا أكلت فامش أربعين خطوة، وإذا امتلأت من الطعام فنم على جنبك الأيسر، ولا تأكلنّ الفاكهة وهي مولّية، ولا تأكلنّ من اللحم إلا فتيّا، ولا تنكحنّ عجوزا، وعليك بالسواك، ولا تتبعنّ اللحم اللحم، فإن إدخال اللحم على اللحم يقتل الأسود في الفلوات".
وقال أيضا إبراهيم بن القاسم الكاتب، في كتاب" أخبار الحجّاج": إن الحجّاج لما قتل سعيد بن جبير- رحمه الله تعالى- وكان من خيار التابعين، وجرى بينهما كلام كثير، وأمر به فذبح بين يديه، وخرج منه دم كثير، استكثره وهاله.
فقال الحجّاج لتياذوق طبيبه:" ما هذا؟.
قال: لاجتماع نفسه، وإنه لم يجزع من الموت، ولا هاب ما فعلته به، وغيره تقتله وهو مفترق النفس، فيقل دمه لذلك".
ومات تياذوق بعد ما أسنّ وكبر، وكانت وفاته بواسط في نحو سنة تسعين للهجرة «1» .
ومنهم:
60- زينب طبيبة بني أود «13»
وكانت طبيبة عارفة، لا كما زعم ابن أبي ربيعة: عالمة حليمة، ولا كما قال(9/335)
ابن سناء الملك «1» في موشحته البديعة: متّعت بالعلم فلم تحس فوتا، ونفعت بطبّها الأحياء، وكادت تنعش الموتى، ما عرفها إلا من شكر، ولا أنصفها من قاسها من الحكماء برجل ولا الصارم الذكر.
قال ابن أبي أصيبعة «2» :" كانت عارفة بالأعمال الطبية، خبيرة بالعلاج ومداواة آلام العين والجراحات، مشهورة بين العرب بذلك".
قال أبو الفرج الأصفهاني في كتاب" الأغاني" الكبير، قال:" أخبرنا [محمد بن خلف المرزبان قال: حدثني حمّاد بن إسحاق عن أبيه، عن جده، قال: أتيت امرأة من بني أود لتكحلني من رمد كان أصابني، فكحّلتني ثم قالت لي:
اضطجع قليلا حتى يذوب الدواء في عينيك، فاضطجعت، ثم تمثّلت قول الشاعر: [الطويل]
أمخترمي ريب المنون ولم أزر ... طبيب بني أود على النأي زينبا «3»
فضحكت ثم قالت: أتدري فيمن قيل هذا الشعر؟. قلت: لا. قالت: فيّ- والله- قيل. أنا زينب التي عناها، وأنا طبيبة بني أود، أفتدري من الشاعر؟.
قلت: لا. قالت: عمك أبو سماك الأسدي «4» .(9/336)
أطبّاء السّريان الكائنين في ابتداء الدولة العباسية:
منهم:
61- جورجيس بن جبريل [بن يختيشوع] «13»
طبيب طالما أصلح بين الصحة والمزاج، وأصبح وعليله لا يحتاج إلى العلاج، رزق من أبي جعفر المنصور إقبال على تجهّمه، وصادف علاجه منه قبول على توهّمه، وحظي منه بحظوة على قلة من حظي بطائل، وحبي منه بالجزيل- على بخله- بالنائل، وحمي من نزغات «1» غضبه، وما قال هذا عنه سواه قائل.
قال ابن أبي أصيبعة «2» :" كانت له خبرة بصناعة الطب، ومعرفة بالمداواة وأنواع العلاج، وخدم [بصناعة الطب] المنصور، وكان حظيّا عنده، ونال من جهته أموالا جزيلة، ونقل له كثيرا من كتب اليونان إلى العربي".
قال فثيون «3» الترجمان: كان المنصور قد فسدت معدته، وانقطعت شهوته،(9/337)
وبقي كلما عول ازداد مرضا، فتقدّم إلى الربيع «1» بأن يجمع الأطباء لمشاورتهم، فجمعهم، فسألهم عن طبيب ماهر؟. فقالوا: ليس أحد مثل جورجيس رئيس أطباء" جندي سابور" «2» ، فأنفذ لإحضاره، فاستمهله، فاعتقله، فأتاه المطران، ورؤساء المدينة، وأشاروا عليه بالخروج بعد أن أوصى ابنه بختيشوع بأمر البيمارستان، وسائر أموره.
فلما أتى حضرة المنصور، أجلسه، وسأله عن أشياء أجابه عنها بسكون.
فقال له: قد ظفرت منك بما كنت أحبه، وخلع عليه، وأمر له بمنزل ونفقة، وحدّثه بعلّته، ثم نظر إلى قارورة الماء، وأشار عليه بتخفيف الغذاء، ولاطفه حتى عوفي.
ثم لما دنا أجله مرض مرضا مثقلا، وأمر به المنصور فحمل إليه حتى رآه، وعرض عليه الإسلام، فأبي!! «3» ، وسأل أن يحمل إلى بلده ليدفن عند آبائه،(9/338)
فأعطاه عشرة آلاف دينار، وردّه بعد أن استخلف لديه تلميذه عيسى بن سهل؛ فأساء السيرة، وبسط يده في المطارنة «1» ، والأساقفة «2» ، يأخذ أموالهم لنفسه، حتى إنه كتب لمطران نصيبي «3» يلتمس منه من آلات البيعة أشياء جليلة المقدار. وقال في كتابه إلى المطران: ألست تعلم أن أمر الملك بيدي إن شئت أمرضته وإن شئت عافيته؟!.
فتلطّف المطران في الصلة بالربيع، وأقرأه كتاب عيسى بن سهل، فأعلم الربيع المنصور به، فسلبه ما كان حصّله، ثم أمر بنفيه وكتب:" إن كان جرجس حيا يحضر، وإن كان قد مات يحضر ابنه"، فصادف جرجيوس وقد وقع من السطح، وضعف ضعفا عظيما، فقيل له، فأبى أن يجهّز إلا إبراهيم تلميذه، فلما أتى المنصور استخلصه، ولم يزل معه حتى مات المنصور «4» .(9/339)
ومنهم:
62- بختيشوع «1» بن جرجس النّصرانيّ «13»
كان لا يكفّف له ألمعية «2» ، ولا تلوذ بعيّ له لوذعية «3» ، ولا تزال إلى نهاره مبصرة، وسحائب مدده معصره، ودنا من الخلفاء بحيث لا ترفع الستور، ولا ترتع اللحظات في غابة الليث الهصور «4» ، ورأس على أقرانه، وانبجس «5» نهرا لا يضرب الليل دونه بجرانه «6» .(9/340)
وناظر الكبراء، ونافر «1» حتى الأمراء، وسار إماما في الأطباء، ولولاه لما ركبوا وراء.
قال ابن أبي أصيبعة:" كان يلحق بأبيه في معرفته بالطب، وخدم الرشيد، وتميز في أيامه".
قال فثيون الترجمان: لما مرض الرشيد أحضر بختيشوع من" جندي سابور" وأحضر الأطباء لمناظرته، فقال أبو قريش- وكان رأس الأطباء ببغداد-: يا أمير المؤمنين! ليس في الجماعة من يقدر على الكلام مع هذا، لأنه هو وأبوه وأهل جنسه فلاسفة!.
فقال الرشيد لبعض الخدم: أحضر له ماء دابة لنختبره؛ فأتاه به.
فقال: ليس هذا بول إنسان!.
فقال له أبو قريش: كذبت، هذا بول حظيّة الخليفة.
فقال له بختيشوع: أيها الشيخ الكريم! إنه لم يبل هذا إنسان البتة! وإن كان على ما قلت، فلعلها قد صارت بهيمة!.
فقال له الرشيد: من أين علمت هذا؟.
قال: لأنه ليس فيه قوام بول الإنسان، ولا لونه، ولا ريحه.
فقال له: فما ترى أن يطعم صاحب هذا الماء؟.
قال: الشعير!.
فضحك الرشيد ضحكا شديدا، وخلع عليه، ووهبه مالا وافرا، وقال: ليكن(9/341)
رئيس الأطباء، ومروهم فليسمعوا له ويطيعوا" «1» .
ومنهم:
63- جبريل بن بختيشوع بن جورجيس «13»
يجلّ أن يقاس بالألفاء، وأن يقال اسمه إلا مع الخلفاء، عظم ثراؤه، وعمّ جداه أن يماثل به أرسطو ونظراؤه، وخلف ما يتجاوز الحد، ويداني العد، مع نفقاته الموسّعة، وصدقاته التي رفلت «2» الأيام في حللها الموشّعة «3» ، حتى شرقت «4» دونه النفوس بحسراتها، واختنقت القلوب بزفراتها، حتى كانت الخلفاء تركب إلى منزله، وترغب في إكرام نزله، وهو بشمم لا يخضع عرنينه «5» ، ولا يخشع أنينه، ولا يطلع زهر الروض الجني إلا جنينه.
قال ابن أبي أصيبعة «6» :" كان مشهورا بالفضل، جيّد التصرّف في المداواة،(9/342)
عالي الهمّة، سعيد الجد، حظيّا عند الخلفاء، وحصّل بهم من الأموال ما لم يحصّله أحد من الأطباء".
قال الترجمان:" إن أباه أفرده لجعفر بن يحيى «1» ، وكان قد اعتلّ؛ فعالجه، فبرئ في ثلاثة أيام، فأحبّه جعفر مثل حب نفسه، وكان لا يصبر عنه.
ثم تمطّت «2» حظية «3» الرشيد [ورفعت يدها، فبقيت منبسطة لا يمكنها ردها] ، ولم يفد فيها طب الأطباء، فدلّ جعفر الرشيد على ابن بختيشوع، فأحضره وقال له: ما تعرف من الطب؟.
قال: أبرّد الحارّ، وأسخّن البارد، وأرطّب اليابس، وأيبس الرطب.
فضحك الرشيد وقال: هذا غاية ما تحتاج إليه [..] «4» الجارية.
فقال جبرائيل: لها عندي حيلة إن لم يسخط عليّ أمير المؤمنين.
قال: وما هي؟.
قال: تخرج الجارية إلى ههنا بحضرة الجمع، حتى أعمل ما أريده، ويمهل عليّ ولا يعجل بالسخط.(9/343)
فأمر بها، فأخرجت، فحين رآها جبرائيل مشى إليها ونكس رأسها، وأمسك ذيلها، كأنه يريد سراويلها. فانزعجت الجارية؛ فاسترسلت أعضاؤها، وبسطت يدها إلى أسفل، وأمسكت ذيلها.
فقال جبرائيل: قد برئت يا أمير المؤمنين!.
فقال الرشيد للجارية: ابسطي يديك يمنة ويسرة؛ ففعلت.
فعجب الرشيد ومن حضر، وأمر له بخمس مائة ألف درهم، وعظمت منزلته عنده، وجعله رئيسا على سائر الأطباء.
وسئل عن سبب العلة؟. فقال: هذه الجارية انصبّ على أعضائها وقت الحركة خلط رقيق بالحركة وانتشار الحرارة، ولأجل سكون الجماع تكون بغتة جمدت الفضلة في بطون جميع الأعصاب، وما كان يحلّها إلا حركة مثلها؛ فاحتلت حتى انبسطت حرارتها، وانحلّت الفضلة.
ولم يزدد مكانه من الرشيد إلى أن مرض الرشيد ب" طوس" «1» مرض موته، حبسه، واستطبّ أسقف فارس، فقال له: مرضك كان من خطأ طبيبك- كذبا عليه-.
فأمر الرشيد بقتل جبرائيل؛ فلم يقبل منه الفضل بن الربيع، لأنه كان يئس من حياته.
وأصاب تلك الأيام الفضل قولنج شديد، فكان جبرائيل يعالجه، فأفاق. ثم لما صار الأمر إلى الأمين زاد تقريبه، وضاعف مواهبه، وكان لا يأكل ولا يشرب إلا بإذنه.(9/344)
ثم لما ملك المأمون كتب إلى الحسن بن سهل «1» بأن يقبض عليه لكونه بعد الرشيد أتى الأمين ببغداد، ولم يأته بخراسان، فحبسه ابن سهل. ثم لما مرض ابن سهل فعالجه الأطباء، فلم ينتفع بذلك، فأخرج جبرائيل من الحبس؛ فعالجه في أيام يسيرة، فبريء، فوهب له مالا وافرا، وتلطّف له مع المأمون، فصفح عنه، واتخذ ميخائيل صهر جبرائيل بدلا منه، وأكرمه كيادا لجبرائيل.
فمرض المأمون مرضا صعبا، أعيا الأطباء علاجه، فقال أبو عيسى- ابن الرشيد- للمأمون: يا أمير المؤمنين! أحضر جبرائيل، فإنه يعرف أمزجتنا منذ الصّبا.
فتغافل عنه، وأحضر يوحنّا بن ماسويه «2» ، فلما ضعفت قوة المأمون ذكّر بجبرائيل، فأمر بإحضاره، فلما حضر غيّر تدبيره كله. فانصلح بعد يوم، واستقل بعد ثلاثة أيام، ثم بعد أيام يسيرة صلح صلاحا تاما، فسرّ به المأمون، وأمر له بألف ألف درهم، وألف كرّ «3» حنطة، وردّ عليه ما كان قبض له، وصار إذا خاطبه يكنّيه. ثم انتهى إلى أن كان لا يخرج عامل إلى عمله إلا بعد أن يلقى(9/345)
جبرائيل ويكرمه. وعلا محلّه، وانحطّ من سواه.
وقال إسحاق بن علي الرهاوي «1» : إن يوحنا بن ماسويه أخبر أن الرشيد قال لجبرائيل بن بختيشوع وهو حاجّ بمكة: يا جبرائيل! أعلمت أني دعوت لك- والله- في الموقف دعاء كثيرا؟.
ثم التفت إلى بني هاشم «2» فقال: هل أنكرتم قولي؟.
فقالوا: ذمّيّ هو!. فقال: نعم، ولكن صلاح بدني وقوامه به، وصلاح المسلمين بصلاحي.
فقالوا: صدقت يا أمير المؤمنين" «3»
وقال ابن بختيشوع: اشتريت ضيعة بسبعمائة ألف درهم، فنقدت بعض الثمن، وتعذّر عليّ بعضه، فدخلت على يحيى بن خالد، وعنده ولده، وأنا أفكر. فقال: ما لي أراك مفكّرا؟.
فأخبرته. فدعا بالدواة، وكتب:" يعطى جبرائيل سبعمائة ألف درهم". ثم دفع إلى كل واحد من ولده، فوقّع فيه ثلاثمائة ألف درهم. قال: فقلت: جعلت فداك! قد أدّيت عامّة الثمن، وإنما بقي أقلّه.
قال: اصرف ذلك فيما ينوبك.
ثم صرت إلى دار الرشيد، فلما رآني قال: ما أبطأ بك؟.
فقلت: كنت يا أمير المؤمنين عند أبيك وإخوتك، ففعلوا بي كذا وكذا(9/346)
لخدمتي لك.
قال: فما حالي أنا؟. ثم دعا بدابّته، فركب إلى يحيى، ثم قال: يا أبه! أخبرني جبرائيل بما كان، فما كان حالي أنا من بين ولدك؟.
فقال: مر له يا أمير المؤمنين بما شئت يحمل إليه.
فأمر لي بخمسمائة ألف درهم.
وحكى سعيد بن إسحاق النصراني قال: كنت مع الرشيد بالرقة «1» ، ومعه ولداه: الأمين والمأمون، وكان رجلا كثير الأكل والشرب، فأكل في بعض الأيام أشياء خلط فيها ودخل المستراح، فغشي عليه، وأخرج، فقوي عليه الغشي، حتى لم يشكّ في موته. وأرسل إليّ، فحضرت، وجسست عرقه، فوجدت نبضه خفيا، وكان قبل ذلك بأيام يشكو امتلاء، وحركة الدم.
فقلت لهم: يموت! إن لم يحتجم الساعة.
فأجاب المأمون إليه، وتقدّم الحجّام، وتقدّمت بإقعاده، فلما وضع المحاجم عليه ومصّها، رأيت الموضع قد احمرّ.
فطابت نفسي، وعلمت أنه حيّ. فقلت للحجّام: اشرط. فشرط، فخرج الدم؛ فسجدت شكرا لله. وجعل كلّما خرج الدم يحرّك رأسه ويسفر «2» لونه.
إلى أن تكلّم، وقال: أين أنا؟. فطيّبنا نفسه، وغذّيناه بصدر درّاج «3» ، وسقيناه(9/347)
شرابا، وما زلنا نشمّه الروائح الطيبة، ونجعل في أنفه الطيب حتى تراجعت قوّته، ودخل الناس عليه، ثم وهب الله له عافيته.
فلما كان بعد أيام، دعا صاحب حرسه، فسأله عن غلّته في السنة، فعرّفه أنها ثلاث مائة ألف درهم. فسأل صاحب شرطته؟، فقال: خمسمائة ألف درهم. فسأل حاجبه؟. فقال: ألف ألف درهم.
فقال لي: ما أنصفناك، حيث غلّات هؤلاء وهم يحرسونني من الناس على ما ذكروا، وأنت تحرسني من الأمراض، وتكون غلّتك دونهم!. ثم أمر بإقطاعي ألف ألف درهم.
فقلت: يا سيدي! ما لي حاجة إلى الإقطاع، ولكن تهب لي ما أشتري لي به ضياعا غلّتها ألف ألف درهم؛ فجميع ضياعي أملاك لي، لا إقطاع.
والذي صار إليه في أيام خدمته للخلفاء وهي نحو ثلاثين سنة، جمل كثيرة، وجدته مدرجا بخط كاتبه، وفيه إصلاحات بخطّه.
فأما ما صرفه منه في مدة حياته في نفقاته تقريا، فهو: سبعة وعشرون ألف ألف درهم، وستمائة ألف درهم.
وفي ثمن دور وبساتين ومنتزهات، ورقيق، ودوابّ: سبعون ألف ألف درهم.
وفي عمائر: ثمانية آلاف ألف درهم.
وفي ثمن ضياع: اثنا عشر ألف ألف درهم.
وفي ثمن جواهر، وما أعدّه للذخائر: خمسمائة ألف دينار، وخمسون ألف ألف درهم.
وفي وجوه القرب وما كفله عن المصادرين: ثلاثة آلاف ألف درهم.(9/348)
وما جحده أرباب الودائع له: ثلاثة آلاف ألف درهم.
ثم الذي خلّفه بعد هذا عند وفاته لابنه بختيشوع، وجعل المأمون الوصيّ فيه فسلّمه إليه عن آخره، ولم يتعرّض إلى شيء منه: فتسعمائة ألف دينار.
وهذا جبرائيل هو الذي عناه أبو نواس بقوله: [مجزوء الوافر]
سألت أخي أبا عيسى ... وجبريل له عقل
فقلت الراح تعجبني ... فقال: كثيرها قتل
فقلت له: فقدّر لي ... فقال، وقوله فصل
وجدت طبائع الإنسا ... ن أربعة هي الأصل
فأربعة لأربعة ... لكل طبيعة رطل «1»
وذكر أبو الفرج الأصفهاني «2» في المأمون شعرا قاله في جبرائيل، هو: على الإسلام والملّه [الهزج]
ألا قل للذي ليس ... على الإسلام والملّه
لجبريل أبي عيسى ... أخي الأنذال والسفله
أفي طبك يا جبري ... ل ما يشفي دوا العله
غزال قد سبى عقلي ... بلا جرم ولا زلّه
قال [أبو الفرج: والشعر للمأمون في جبرائيل بن بختيشوع المتطبب] ، والغناء لمتيّم، خفيف الرمل.
ومن كلام جبرائيل:" أربعة تهدم العمر: إدخال الطعام على الطعام قبل الانهضام، والشرب على الريق، ونكاح العجوز، والتمتع في الحمّام" «3»(9/349)
ومنهم:
64- بختيشوع بن جبريل بن بختيشوع «13»
عادى الكبار، وعادل البحار، وعادّ النجوم في الأقطار، وأناف رتبة على أبيه، وكانت تزاحم الأطواد، وتزاح بها أعذار حسّاده ابن الزيات «1» ابن أبي دؤاد «2» ،(9/350)
فلهذا قصد مرات بالغوائل «1» ، وأرصد تارات لغلق الحبائل، فلو لم تتذكر له سوابق المساعي، ويتدارك بالدرياق به سم الأفاعي، لما امتدّ به طلق نفسه، ولا نفّس عنه حلق حبسه، ثم صلح حاله، وقوي محاله، ونطق في مجالس الخلفاء لسانه، وصدق إحسانه، واستعاد أيامه الأول أترابا، وأياماه الحسان- وطالما هزّته- إطرابا.
ذكره ابن أبي أصيبعة «2»
وقال فيه:" كان سريانيا نبيل القدر، وبلغ من عظم المنزلة والحال، وكثرة المال، مال لم يبلغه أحد من سائر الناس، الذين كانوا في عصره، وكان يضاهي المتوكل في اللباس والفرش".
قال [فيثون] الترجمان: وكان ابن أبي دؤاد وابن الزيات يعاديانه، ويغريان به الواثق، فسخط عليه وقبض على أمواله وضياعه، ونفاه إلى" جنديسابور" فلما اعتلّ الواثق بالاستسقاء بعث لإحضاره، ثم عاجل الواثق الموت قبل وصوله، ثم صلحت أيام المتوكل حاله، إلى أن بلغ مبلغا حسده عليه المتوكّل وقبض عليه".
قال:" إن بختيشوع كان عظيم المنزلة عند المتوكل، فأفرط في الإدلال عليه، فنكبه، وقبض على أملاكه، ونفاه إلى مدينة إسلام. ثم عرض للمتوكل قولنج، فاستحضره، واعتذر إليه وعالجه، فبرئ، فأنعم عليه ورضي عنه، وأعاد عليه ما كان له، ثم جرت على بختيشوع مكيدة أخرى، فنكب، ووجّه به إلى البصرة!.
ثم ردّه المستعين إلى وظيفة الخدمة وأحسن إليه إحسانا كثيرا. فلما ولي المهتدي جرى مجرى المتوكل في أنسه بالأطباء، وكان بختيشوع لطيف المحل(9/351)
منه، وشكا إليه بختيشوع ما أخذ منه أيام التوكل، فأمر بأن يدخل الخزائن فكل ما عرفه ردّ إليه، فلم يبق له شيء إلا أخذه، وأطلق له كل ما فاته، وكتب برعاية أسبابه".
وقال بختيشوع للمهتدي في آخر أمره: يا أمير المؤمنين! لي أربعون سنة لم أفتصد، ولا شربت دواء، وقد حكم المنجّمون بأني أموت في هذه السنة. ولست أغتمّ لموتي، وإنما أغتمّ لمفارقتكم.
فكلّمه المهتدي بجميل وقال: قلّ أن يصدق المنجّم. فلما انصرف كان آخر العهد به.
وقال [إبراهيم بن علي الحصري «1» في كتاب:" نور الطرف ونور الظرف"] «2» " تنازع إبراهيم بن المهدي وبختيشوع، بين يدي أحمد بن أبي دؤاد في عقار بالسواد «3» ، فأغلظ عليه إبراهيم فغضب ابن أبي دؤاد وقال: يا إبراهيم! إذا تنازعت في مجلس الحكم بحضرتنا أمرا فليكن قصدك أمما «4» ، وطريقك نهجا، وريحك ساكنة، وكلامك معتدلا، ووفّ مجالس الخلافة حقوقها، فإن هذا أليق بك، وأجمل بحسن مذهبك، وشريف محتدك «5» ، ولا تعجلنّ، فربّ(9/352)
عجلة تورث رثيا «1» ، والله يعصمك من الزلل، وخطل «2» القول والعمل، ويتم نعمته عليك كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم.
فقال إبراهيم: أمرت- أصلحك الله- بسداد، وحضضت على الرشاد، ولست بعائد إلى ما يثلم قدري عندك، [ويسقطني من عينك] ، ويخرجني من مقدار الواجب إلى الاعتذار، فها أنا معتذر إليك من هذه البادرة اعتذار مقرّ بذنبه، لأن الغضب لا يزال يستفزّني بمراده، فيردّني مثلك بحلمه، وتلك عادة الله عندك وعندنا فيك،- وهو حسبنا ونعم الوكيل-، وقد جعلت حظي من هذا العقار ليختيشوع، وليت ذلك يقي بأرش «3» الجناية عليه، ولن يتلف مال أفاد موعظة".
قال أبو محمد، بدر بن أبي الإصبع الكاتب: حدثني جدي قال:" دخلت على بختيشوع في يوم شديد الحر، وهو جالس في مجلس مخيّش عنده طاقات من الخيش، طاقان ريح بينهما طاق أسود، وفي وسطها قبة عليها جلال أسود من قصب مطهّر بدبيقي «4» ، قد صبغ بماء الورد والكافور «5» والصندل «6» وعليه جبة يماني سعيدي مثقلة، ومطرف «7» قد التحف به، فعجبت من زيه.
فحين حصلت معه في القبة نالني من البرد أمر عظيم. فضحك وأمر لي بجبّة ومطرف، وقال: يا غلام!، اكشف جوانب القبة.(9/353)
فكشفت، فإذا أبواب مفتوحة من جوانب الإيوان إلى مواضع مكبوسة بالثلج، [وغلمان يروّحون ذلك الثلج] «1» ؛ فيخرج منه البرد الذي لحقني. ثم دعا بطعامه، فأتي بمائدة في غاية الحسن، عليها كل شيء حسن ظريف، ثم أتي بفراريج مشوية في غاية الحمرة. وجاء الطبّاخ فنفضها كلها فانتفضت، وقال:
هذه فراريج تعلف اللوز والبزر قطونا «2» ، وتسقى بماء الرمان.
ولما كان في صلب الشتاء، دخلت عليه يوما والبرد شديد، وعليه جبّة محشوّة، وكساء، وهو جالس في طارمة «3» ، في الدار على بستان في غاية الحسن، وعليها سمّور «4» قد ظهرت به وفوقه جلال «5» حرير مصبّغ، ولبود مغربية، وأنطاع «6» أدم يمانية وبين يديه كانون «7» فضة مذهب مخرق، وخادم(9/354)
يوقد العود الهندي، وعليه غلال «1» قصب في نهاية الرفعة، فلما حصلت معه في الطارمة، وجدت من الحرّ أمرا عظيما، فضحك وأمر لي بغلالة قصب، وتقدّم بكشف جوانب الطارمة، فإذا مواضع لها شبابيك خشب بعد شبابيك حديد، وكوانين فيها فحم الغضا «2» ، وغلمان ينفخون ذلك الفحم بالزقاق»
، كما يكون للحدادين.
ثم دعا بطعامه، فأحضروا ما جرت به العادة من السرور والنظافة، وأحضرت فراريج بيض، شديدة البياض، فبشعتها «4» ، وخفت أن تكون غير نضيجة، ووافى الطباخ فنفضها فانتفضت، فسألته عنها؟ فقال: هذه تعلف الجوز المقشر، وتسقى اللبن الحليب.
وكان بختيشوع بن جبرائيل يهدي البخور في درج، ومعه درج آخر فيه فحم، يتخذ له من قضبان الأترج، والصفصاف «5» ، وشنس «6» الكرم المرشوش عليه عند إحراقه ماء الورد المخلوط بالمسك والكافور، وماء الخلاف «7» ، والشراب العتيق. ويقول: أنا أكره أن أهدي بخورا بغير فحم [فيفسده فحم] «8» العامة، ويقال: هذا عمل بختيشوع! ".
قال أبو محمد بدر بن أبي الأصبغ عن أبيه عن أبي عبد الله محمد بن(9/355)
الجرّاح، عن أبيه أن المتوكل قال يوما لبختيشوع: ادعني.
فقال: السمع والطاعة.
فقال: أريد أن يكون ذلك غدا.
قال: نعم وكرامة. وكان الوقت صائفا، وحرّه شديد.
فقال بختيشوع لأنسابه وأصحابه:" أمرنا كله مستقيم إلا الخيش «1» ، فإنه ليس لنا منه ما يكفي!.
فأحضر وكلاءه وأمرهم بابتياع كل ما يوجد من الخيش ب" سرّ من رأى"، ففعلوا ذلك وأحضروا كل من وجدوه من النجّادين «2» ، والصّنّاع، فقطع لداره كلها صحونها وحجرها، ومجالسها، وبيوتها، ومستراحاتها خيشا حتى لا يجتاز الخليفة في موضع غير مخيّش!، وأنه فكر في روائحه التي لا تزول إلا بعد استعماله مدة، فأمر بابتياع كل ما يقد عليه بسر من رأى من البطيخ، وأحضر حشمه وغلمانه، وأجلسهم يدلكون الخيش بذلك البطيخ ليلتهم كلها، وأصبح وقد انقطعت روائحه، فتقدم إلى فرّاشيه فعلقوا جميعه في المواضع المذكورة، وأمر طبّاخيه بأن يعملوا خمسة آلاف جونة «3» ، في كل جونة باب خيز سميد، ودست رقاق وزن الجميع عشرون رطلا، وحمل مشوي، وجدي بارد، وفائقة،(9/356)
ودجاجتان مصدرتان، وفرخان، ومصوصان «1» ، وثلاثة ألوان، وجام «2» حلواء.
فلما وافاه المتوكل، رأى كثرة الخيش وجدّته، فقال: أي شيء ذهب برائحته؟، فأعاد عليه حديث البطّيخ، فعجب من ذلك، فأكل هو وبنو عمه، والفتح بن خاقان «3» ، على مائدة واحدة، وأجلس الأمراء والحجّاب على سماطين «4» عظيمين لم ير مثلهما لأمثاله، وفرّق الجون على الغلمان، والخدم، والنقباء «5» ، والركابية «6» ،(9/357)
والفرّاشين «1» ، والملّاحين وغيرهم من الحاشية، لكلّ واحد جونة، وقال:" قد أمنت ذمّهم، لأنني ما كنت [آمن] لو أطعموا على موائد أن يرضى هذا، ويغضب الآخر، ويقول: شبعت، ويقول آخر: لم أشبع. فإذا أعطي كل إنسان جونة من هذه الجون، كفته.
واستشرف المتوكل على الطعام فاستعظمه جدا، وأراد النوم، فقال لبختيشوع: أريد أن تنوّمني في موضع مضيء لا ذباب فيه، وظنّ أنه يتعنّته بذلك، وقد كان بختيشوع تقدّم بأن تجعل أجاجين «2» الدبس في سطوح الدار، ليجتمع الذباب عليه، فلم يقرب أسافل الدور ذبابة واحدة.
ثم أدخل المتوكل إلى بيت مرتفع كبير، سقفه كله بكواء فيها جامات يضيء البيت منها، وهو مخيّش مظهّر بعد الخيش بالدبيقي المصبوغ بماء الورد والصندل والكافور.
فلما اضطجع للنوم، أقبل يشم روائح في نهاية الطيب، لا يدري ما هي؟
لأنه لم ير في البيت شيئا من الروائح والفاكهة والأنوار، ولا خلف الخيش، لا طاقات ولا موضع يجعل فيه شيء من ذلك.(9/358)
فتعجّب وأمر الفتح بن خاقان أن يتتبع حال تلك الروائح، حتى يعرف صورتها.
فخرج يطوف، فوجد حول البيت من خارجه ومن سائر نواحيه وجوانبه أبوابا صغارا لطافا كالطاقات محشوّة بصنوف الرياحين والفواكه، واللخالخ، والمشامّ التي فيها التفاح والبطيخ المستخرج ما فيها المحشوة بالنمّام «1» ، والحماحم اليماني «2» ، المعمول بماء الورد والخلّاف، والكافور، والشراب العتيق، والزعفران «3» الشعر.
ورأى الفتح غلمانا قد وكّلوا بتلك الطاقات، مع كل غلام مجمرة فيها ندّ يسجره «4» ، ويبخّر به البيت من داخله إزار من اسفيداج «5» مخرّم خروما صغارا لا تبين، يخرج منها تلك الروائح الطيبة العجيبة إلى البيت.
فلما عاد الفتح وشرح للمتوكّل صورة ما شاهده، كثر تعجّبه منه، وحسد بختيشوع على ما رآه من نعمته، وكمال مروءته، وانصرف من داره قبل أن يستتمّ يومه، وادّعى شيئا وجده من التياث «6» بدنه. وحقد عليه ذلك، فنكبه بعد أيام يسيرة، وأخذ له مالا كثيرا لا يقدّر، ووجد له في جملة كسوته أربعة(9/359)
آلاف سروال دبيقي سفري، في جميعها تكك «1» إبريسم «2» أرميني.
وحضر الحسين بن محمد؛ فختم على خزائنه، وحمل إلى دار المتوكل ما صلح منها، وباع شيئا كثيرا، وبقي بعد ذلك حطب وفحم ونبيذ، وتوابل، فاشتراها الحسين بن مخلد بستة آلاف دينار.
وذكر أنه باع من جملته بمبلغ ثمانية آلاف دينار، ثم حسده حمدون، ووشى إلى المتوكل، وبذل فيما بقي في يده ستة آلاف دينار، فأجيب إلى ذلك، وسلّم إليه فباعه بأكثر من الضعف، وكان هذا في سنة أربع وأربعين ومائتين.
قال فيثون الترجمان: كان المعتزّ بالله قد اعتلّ في أيام المتوكّل علّة من حرارة، وامتنع منها من أخذ شيء من الأغذية والأدوية. فشقّ ذلك على المتوكّل كثيرا، واغتمّ به وصار إلى بختيشوع، والأطباء عنده، وهو على حاله في الامتناع، فمازحه وحادثه. فأدخل المعتزّ يده في كمّ جبّة وشي يماني مثقلة كانت على بختيشوع، وقال: ما أحسن هذا الثوب!.
فقال له بختيشوع: يا سيدي! والله ما له نظير في الحسن، وثمنه عليّ ألف دينار، فكل لي تفاحتين، وخذ الجبة. فدعا بتفاح، فأكل اثنتين، ثم قال له:
تحتاج الجبة إلى ثوب يكون معها!. وعندي ثوب هو أخ لهذا، فاشرب لي شربة سكنجبين «3» ، وخذه.
فشرب شربة سكنجبين، ووافق ذلك اندفاع طبيعته، فبرأ المعتزّ، وأخذ الجبة(9/360)
والثوب، وصلح من مرضه، فكان المتوكل يشكر هذا الفعل أبدا لبختيشوع.
قال ثابت بن قرّة بن سنان بن ثابت «1» : إن المتوكل اشتهى في بعض الأوقات الحارّة أن يأكل مع طعامه خردلا «2» فمنعه من ذلك الأطبّاء لحدّة مزاجه، وحرارة كبده، وغائلة الخردل.
فقال بختيشوع: أنا أطعمك إياه، وإن ضرّك عليّ!.
فقال: افعل. فأمر بإحضار قرعة «3» ، وجعل عليها طينا، وتركها في تنّور، واستخرج ماءها، وأمر بأن يقشر الخردل ويضرب بماء القرع، وقال: إن الخردل في الدرجة الرابعة من الحرارة، والقرع في الدرجة الرابعة من الرطوبة، فيعتدلان! فكل شهوتك.
وبات تلك الليلة، ولم يحسّ بشيء من الأذى، وأصبح كذلك، فأمر بأن يحمل إليه ثلاث مائة ألف درهم، وثلاثون تختا «4» من أصناف الثياب.(9/361)
قال إسحاق بن علي الرهاوي عن عيسى بن ماسة قال: رأيت بختيشوع بن جبرئيل وقد اعتلّ فأمر أمير المؤمنين المتوكل المعتزّ أن يعوده وهو إذ ذاك وليّ عهد. فعاده ومعه محمد بن عبد الله بن طاهر، ووصيف التركي.
قال: وأخبرني إبراهيم بن محمد المعروف بابن المدبّر أن المتوكّل أمر الوزير شفاها، وقال: اكتب في ضياع بختيشوع فإنها ضياعي، وملكي، ومحلّه منا محل أرواحنا من أبداننا.
قال عبيد الله بن جبرائيل هذا المذكور: مما يدلّ على منزلة بختيشوع عند المتوكل وانبساطه [معه] ، قال: من ذلك؛ ما حدّثنا به بعض شيوخنا، أنه دخل بختيشوع يوما إلى المتوكل وهو جالس على سدّة «1» في وسط دار الخاصة.
فجلس بختيشوع على عادته معه على السدة، وكان عليه درّاعة ديباج رومي، وقد انفتق ذيلها قليلا، فجعل المتوكل يحادث بختيشوع ويعبث بذلك الفتق، إلى أن بلغ إلى حد النيفق «2»
ودار بينهما كلام اقتضى أن سأل المتوكل بختيشوع: بماذا يعلم أن المشوش يحتاج إلى الشدّ والقيادة والوثاق؟.
قال: إذا بلغ في فتق درّاعة طبيبه إلى حدّ النيفق، شددناه.
فضحك المتوكل حتى استلقى على ظهره، وأمر له في الحال بخلع سنيّة، ومال جزيل.(9/362)
وقال أبو الريحان البيروني «1» في كتاب:" الجماهر في [معرفة] الجواهر": إن المتوكل جلس يوما لهدايا النيروز «2» ، فقدّم إليه كل علق «3» نفيس، وكل ظريف فاخر. وأن طبيبه بختيشوع بن جبرائيل دخل، وكان يأنس به، فقال له:
ما ترى في هذا اليوم؟.
فقال: مثل [ ... ] «4» الشحاذين، إذ ليس قدر، وأقبل على ما معي. ثم أخرج من كمّه درج آبنوس «5» مطليا بالفضة، وفتحه عن حرير أخضر، انكشف عن ملعقة كبيرة جوهر، لمع منها شهاب، وضعها بين يديه.
فرأى المتوكل ما لا عهد له بمثله، وقال: من أين هذا؟.
قال: من الناس الكرام. ثم حدث أنه صار إلى أبي من أم جعفر زبيدة، في ثلاث مرات، ثلاث مائة ألف دينار، بثلاث شكايات عالجها فيها:
واحدتها: أنها شكت عارضا في حلقها، منذرة بالخناق، فأشار عليها بالفصد والتطفية، والتغذي بحشو وصفه، فأحضر على نسخته في غضارة(9/363)
صينية عجيبة الصفة، وفيها هذه الملعقة، فغمزني أبي على رفعها؛ ففعلت، ولففتها في طيلساني، وجاذبنيها الخادم.
فقالت له:" لا طفه، ومره بردّها، وعوّضه منها عشرة آلاف دينار"، فامتنعت.
وقال أبي:" يا ستي! «1» إن ابني لم يسرق قط، فلا تفضحيه في أول كرّاته، لئلا ينكسر قلبه. فضحكت، ووهبتها له.
وسئل عن الأخريين؟ فقال: إنها اشتكت إليه تغيّر النكهة «2» ، بإخبار إحدى بطانتها إياها، وذكرت أن الموت أسهل عليها من ذلك.
فجوّعها إلى العصر وأطعمها سمكا ممقورا «3» ، وأسقاها دردي نبيذ «4» دقل «5» بإكراه، فغثيت نفسها، وقذفت، فكرّر ذلك عليها ثلاثة أيام.
ثم قال لها: تنكّهي في وجه من أخبرك بذلك، واستخبريه: هل زال؟.
والثالثة: أنها أشرفت على التلف من فواق «6» شديد، كان يسمع من خارج الحجرة.
فأمر الخادم بإصعاد خوابي إلى سطح الصحن، وتصفيفها حوله على الشفير،(9/364)
وملأها ماء، وجلس خلف كل حبّ خادم، حتى إذا صفّق بيده على الأخرى دفعوها دفعة إلى وسط الدار، ففعلوا، وارتفع لذلك صوت شديد أرعبها وزايلها الفواق.
قال أبو علي القياني «1» : حدثني أبي قال: دخلت يوما إلى بختيشوع وكان من أيام الصيف، وجلست فإن هو قد رفع طرفه إلى خادمه، وقال له: هات!.
فجاء بقدح فيه نحو نصف رطل شراب عتيق، وعلى طرف خلاله «2» ذهب، وشيء أسود، فمضغه، ثم شرب الشراب عليه، وصبر ساعة، فرأيت وجهه يتّقد كالنار، ثم دعا بأطباق فيها خوخ جبلي في نهاية الحسن، فأقبل يقطّع ويأكل، حتى انتهى وسكن تلهّبه، وعاد وجهه إلى حاله.
فقلت له: حدثني بخبرك.
فقال: اشتهيت الخوخ شهوة، وخفت ضرره، فاستعملت الترياق والشراب، حتى نقرت الحجر ليجيد الطحن.
ونقلت من بعض الكتب أن بختيشوع كان يأمر بالحقن والقمر متصل بالذنب، فيحل القولنج من ساعته، ويأمر بشرب الدواء والقمر على مناظرة الزهرة، فيصلح العليل من يومه.
ولما توفي بختيشوع خلف عبيد الله ولده، وخلف معه ثلاث بنات، وكانت الوزراء والنظار «3» يصادرونهم ويطالبونهم بالأموال، فتفرّقوا واختلفوا.(9/365)
وكان موته يوم الأحد لثمان بقين من صفر، سنة ست وخمسين ومائتين.
ومن كلام بختيشوع ابن جبرائيل:
" الشرب على الجوع رديء، والأكل على الشبع أردأ منه".
وقال:" أكل القليل مما يضر أصلح من أكل الكثير مما ينفع".
ولبختيشوع من الكتب كتاب:" الحجامة" على طريق المسألة والجواب.
ومنهم:
65- جبيرائيل بن عبيد الله بن بختيشوع «13»
عالم أتقن علم الطبيعة، وأيقن في برء السقام ربيعه، بخاطر يجري عذبه سلسالا، وتجيء سحبه أرسالا، لا تلبث العلل معه، ولا تتشبّث منه ببارقه مطمعه.
قال ابن أبي أصيبعة «1» :" كان فاضلا، عالما، متقنا لصناعة الطب، جيدا في(9/366)
أعمالها، حسن الدراية لها، وله تصانيف جليلة في صناعة الطب، وكانت أجداده في هذه الصناعة كل منهم أوحد زمانه، وعلّامة وقته".
قال عبيد الله بن جبريل: كان جدي عبيد الله بن بختيشوع متصرّفيا «1» ، ولما ولي المقتدر استكتبه بحضرته، ثم مات، فقبض المقتدر على ماله، ثم تقلّبت بمخلّفيه الأمور إلى أن دخل جبرئيل بغداد وما معه إلا النزر اليسير، فقصد طبيبا يعرف ب" ترمرة" وقرأ عليه وكان من أطباء المقتدر وخواصّه، وقرأ على يوسف الواسطي، ولازم المارستان، ثم اتصل برسول صاحب فارس، فطار ذكره إلى فارس وكرمان «2» ، وكان سبب خروجه إلى شيراز «3» ، واتصل بعضد الدولة، وأهدى إليه رسالة في عصب العين، تكلم فيها بكلام حسن، فحسن موقعه عندهن فقرّر له جاريا عليه، ثم تعرّض لروح خالة عضد الدولة مرض فأنفذ إليه فشفى على يده فأجزل عطاءه وردّه مكرّما ثم صحبه إلى بغداد وأجرى عليه رزقين في البيمارستان غير الجراية، ثم عرض لابن عباد مرض صعب في معدته، فجهّز له عضد الدولة بما يحتاج إليه، ثم بعث به إليه، فلما أتى الريّ «4» أحسن ابن عباد ملتقاه، وأكرم نزله، ثم امتحنه، فظهر له فضله، فخلع عليه خلعا سنية، ثم أمره(9/367)
بعمل كنّاش يذكر فيه الأمراض التي تعرض من الرأس إلى القدم، فعمل كناشه الصغير، فحسن موقعه عنده، ثم وصله بما قيمته ألف دينار، ورفع أمره إلى عضد الدولة فزاد موضعه عنده، فلما عاد من الري دخل بغداد بزي جميل وأمر مطاع وغلمان وحشم، وخدم، وصادف من عضد الدولة ما يسرّه، واستدعاه حسام الدولة «1» إلى الموصل، وكانت له امرأة عليلة بمرض حاد، فأخذ في علاجها، وأشار بحفظ القارورة، فاتفق أن كان عنده وإذا بالجارية قد جاءت بالقارورة، فنظر إلى الماء، وقال لحسام الدولة: هذه المرأة تموت!. فانزعج لذلك وصرخت الجارية، فقال لها: جرى في أمر هذه الامرأة شيء لا أعلمه؟. فحلفت الجارية أنها لم تجاوز التدبير. فقال: لعلكم خضبتموها بالحناء.
قالت: قد كان ذلك، فحرد وقال لحسام الدولة: أبشر بعد ثلاثة أيام تبرأ.
فكان كما قال.
ومنهم:
66- خصيب النصراني «13»
خصيب لا يرتعي بكنفه المهزول، وطبيب لا يتوقّى طبه إلا من هو عن الحياة معزول، عرف باختيان «2» النفوس، وبيع غوالي المهج برخاص الفلوس.
كم اجتثّ شجرة لو تركت لطالت سمراتها «3» ، وطابت ثمراتها، لا جرم أن(9/368)
جرمه أوبقه وجرّه إلى محبسه، ثم ما فتح إلى غير قرارة القبر مطبقه.
ذكره ابن أبي أصيبعة وقال فيه «1» :" [كان نصرانيا] من أهل البصرة، ومقامه بها، وكان فاضلا في صناعة الطب، جيد المعالجة".
قال محمد بن سلام الجمحي:" مرض الحكم بن محمد المازني، فأتوه بخصيب الطبيب يعالجه، فقال فيه: [مجزوء الرمل]
ولقد قلت لأهلي ... إذ أتوني بخصيب
ليس والله خصيب ... للذي بي بطبيبي
إنما يعرف دائي ... من به مثل الذي بي
وقال ابن سلام:" كان خصيب نصرانيا نبيلا، فسقى محمد بن أبي العباس السفاح شربة دواء، وهو على البصرة، فمرض بها، وحمل إلى بغداد، فمات بها، فاتّهم به خصيب، فحبس حتى مات، فنظر في علته إلى مائه، وكان عالما، فقال:
قال جالينوس: إن صاحب هذه العلة إذا صار ماؤه هكذا لا يعيش.
فقيل له: إن جالينوس ربما أخطأ.
فقال: ما كنت إلى خطئه قط أحوج مني الآن!. ومات من علته.
ومنهم:
67- عيسى المعروف بأبي قريش «13»
عارف لا يعادل في طبه ولا يعادى معه السقم لخطبه، ولا يؤخر في جدل، ولا يؤرخ زمان به عدل، وكان يرجع إليه فيما التبس، ويكاد يستطلق بتطبيبه(9/369)
السحاب إذا احتبس، هذا بالدربة في معرفة قوى العقاقير، ولما سبق له به سعد المقادير.
ذكره ابن أبي أصيبعة، وقال:" قال إسحاق بن علي الرهاوي- فيما نقله- أن أبا قريش كان صيدلانيا يجلس على موضع بباب قصر الخلافة، وكان ديّنا صالحا، وأن الخيزران «1» وجّهت بمائها مع جارية لها إلى الطبيب.
فلما خرجت، رأت أبا قريش، فأرته الماء، فقال لها: هذا ماء امرأة حبلى بغلام!.
فرجعت بالبشارة، فقالت لها الخيزران: ارجعي إليه واستقصي المسألة.
فرجعت، فقال لها: ما قلت إلا الحق. فلما كان بعد أربعين يوما أحسّت الخيزران بالحمل؛ فوجّهت إليه ببدرة «2» دراهم، وكتمت الخبر عن المهدي، فلمّا مضت الأيام ولدت موسى الهادي، فأعلمت المهدي، وقالت له: إن طبيبا على الباب أخبر بهذا منذ تسعة أشهر، وبعثت إليه بتحف كثيرة، وبلغ هذا جرجس فأكذبه، ثم حبلت بأخيه هارون الرشيد، فقال جرجس للمهدي: جرّب أنت هذا الطبيب، فوجّه إليه بالماء، فلما رآه قال: هذا ماء ابنتي أم موسى، وهي حبلى(9/370)
بغلام آخر!.
فرجعت الرسالة بذلك إلى المهدي، وأثبت اليوم عنده، فلما مضت الأيام، ولدت هارون. فأحضره المهدي ولم يزل يطرح عليه الخلع، وبدر الدراهم والدنانير، حتى علت رأسه، وصير موسى وهارون في حجره، وكناه أبا قريش- أي: أبا العرب-، وقال لجورجيس: هذا شيء أنا بنفسي جربته. ثم صار نظير جرجس في الرتبة، ومات أبو قريش وخلف اثنين وعشرين ألف دينار، مع نعمة سنية.
[قال يوسف: وحدثني إبراهيم بن المهدي أن لحم عيسى بن جعفر بن المنصور كثر عليه حتى كاد أن يأتي على نفسه. وإن الرشيد اغتمّ لذلك غما شديدا أضرّ به في بدنه، ومنعه لذة المطعم والمشرب، وأمر جميع المتطبّبين بمعالجته. فكلهم دفع أن يكون عنده في ذلك حيلة. فزادوا الرشيد غما إلى ما كان عليه منه. وأن عيسى المعروف بأبي قريش صار إلى الرشيد سرا، فقال له:" يا أمير المؤمنين! إن أخاك عيسى بن جعفر] «1» رزق معدة صحيحة، وبدنا قابلا، ودهرا مسالما، [والأبدان] ما لم تختلط على أصحابها طبائعهم وأحوالهم، [فتنالهم العلل في بعض الأوقات، والصحة في بعضها، والغموم في بعضها، والسرور في بعضها، ورؤية المكاره في بعضها، والمحابّ في بعضها، وتدخلها الروعة أحيانا، والفرح أحيانا] »
، لا يؤمن عليهم منها التلف، [لأن لحمه يزداد حتى تضعف عن حمله العظام، وحتى يغمر فعل النّفس، وتبطل قوى الدماغ والكبد، ومتى كان هذا عدمت الحياة، وأخوك هذا إن لم تظهر](9/371)
موجدة تجدها عليه، أو عزيز عيه من حرمه، لم تأمن عليه.
فقال: لا حيلة عندي في الموجدة عليه، ولكن احتل أنت.
فذهب إليه ثم جس عرقه، وأعلمه أنه يضطر إلى محنته ثلاثة أيام قبل العلاج، فأمره بذلك، فلما فرغ منه في اليوم رأى الأمير أن يعهد، فإن لم يحدث حادث قبل أربعين يوما عالجته في ذلك بعلاج لا يمضي عليه ثلاثة أيام حتى يبرأ. ونهض وقد امتلأ قلب الرجل [من الخوف] ، فانحطّ كثير من لحمه، واستتر أبو قريش خوفا من إفشاء الخبر، فلما كان يوم الأربعين صار إلى الرشيد وقال: لا شك في نقصان بدن عيسى، فركب إليه الرشيد، ودخل عليه، ومعه أبو قريش، فوجدوا لحمه قد نقص نقصا كبيرا، فقال له عيسى بن جعفر: أطلق لي يا أمير المؤمنين قتل هذا الكافر، فقد قتلني بما أدخل علي من الروع.
فقال له: يا أخي! متعت بك «1» بأبي قريش- ردت إليه الحياة بعد الموت، فاشكر الله، فنعم الحيلة احتال لك، وقد أمرت له بعشرة آلاف دينار، فأوصل أنت إليه مثلها. ففعل، وانصرف أبو قريش إلى منزله بالمال ولم يرجع إلى أبي عيسى بن جعفر الشحم إلى أن فارق الدنيا.(9/372)
ومنهم:
68- ابن اللجلاج «13»
عارف بالأسباب والعلامات، درب العلاج حتى عرف بغلبة الظن إلى أن تتناهى الأعمار، وتتمادى مدد البقاء في هذه الدار، وزاد في التقريب، وكان كل شيء منه عنده بمقدار.
قال ابن أبي أصيبعة:" قال إسماعيل بن أبي سهل الطبيب، عن أبيه، قال:
ترافقت أنا وابن اللجلاج أيام المنصور في حجته التي حجّ فيها، فكان إذا نام المنصور تنادمنا. فسألني ابن اللجلاج- وقد عمل فيه «1» النبيذ، عما بقي من عمر المنصور؟.
فأعظم أبي ذلك، وقطع النبيذ، وجعل على نفسه أن لا ينادمه، [وهجره ثلاثة أيام] .
ثم اصطلحا، فلما جلسا على نبيذهما قال ابن اللجلاج لابن أبي سهل:
سألتك عن علمك ببعض الأمور، فبخلت به، وهجرتني، ولست أبخل عليك بعلمي، فاسمعه.
ثم قال: إن المنصور رجل محرور «2» ، وتزداد يبوسة بدنه كلما أسنّ «3» . وقد حلق رأسه، وجعل مكان الشعر غالية «4» ، وهو في هذا الحجاز يداوم الغالية، وما(9/373)
يقبل قولي في تركها، ولا أحسبه يبلغ إلى فيد «1» حتى يحدث في دماغه اليبس ما لا يكون عندي ولا عند أحد من المتطبّبين حيلة في ترطيبه. فليس يبلغ" فيد"- إن بلغها- إلا مريضا. ولا يبلغ مكة- إن بلغها- وبه حياة!.
قال إسماعيل بن أبي سهل: قال لي أبي: فو الله! ما بلغ المنصور" فيد" إلا وهو عليل، ولا وافى مكة إلا وهو ميت، ودفن ببئر ميمون «2» .
ومنهم:
69- عبد الله الطيفوري «13»
هبت له رياح ثم سكنت، وتنبّهت له عيون رباح ثم وسنت «3» ، وانتعش جدّه الخامل، ثم غلب عليه الخمول، ورنح «4» غصنه المائل ثم عاجله(9/374)
الذبول، وظنّ أن بارقته «1» ممطرة وقد رأى ركامها «2» ، وأمّل رهامها «3» ، فما سقته إلا رشاشا، ولا أقامته إلا وسقط يتغاشى.
قال ابن أبي أصيبعة «4» :" كان حسن العقل، طيّب الحديث، على لكنة سواديّة «5» كانت في لسانه شديدة.
وكان مولده في بعض قرى" كسكر" «6» ، وكان أحظى خلق الله عند الهادي «7» .
قيل: إنه كان مولى الخيزران، والأصح: أنه كان مطبّبا لأخيها طيفور، فنسب إليه. ولما وجّه المنصور المهديّ إلى الري لمحاربة من بها، حمل معه الخيزران، وهي حامل بموسى، وخرج معها طيفور، والطيفوري معه، ولم تكن الخيزران شعرت بالحمل، فبعثت قارورة لها تريها الأطباء، فأتت الجارية بها أبا قريش الصّيدلاني،(9/375)
فقال: هذه قارورة حامل بغلام. فأدّت قوله إلى الخيزران، فسرّت وأعتقت عدة رقاب. وأعلمت المهدي فأحضره، وسأله، فقال ذلك. فسرّ أكثر من سرورها، ووصله كلّ منهما بمال جزيل، وأمره بلزوم الخدمة، وترك خيمته وما كان فيها من متاع الصيادلة.
قال: فأراد طيفور أن ينفعني، فبعث بي إلى الخيزران، وقال: هذا طبيبي، ماهر في الطب، فابعثي إليه بالماء ليراه.
ففعلت ذلك. فقال لي: قل لها كما قال أبو قريش. فقلت: ذلك ما لا أقول! لأنني لا أكتسب بالمخرقة! «1» . ولكن هذه قارورة حامل، فأمرت لي بألف درهم، فلما وافت الري ولدت الهادي، فضممت إليه ودعيت بطبيبه وهو رضيع وفطيم، ثم ولدت أخاه الرشيد، فكان مولده شؤما على الهادي، لأنه فاز بالحظوة دونه، فأضرّني ذلك في جاهي، فلما أدرك الهادي الخلافة رفع من شأني.
ومنهم:
70- إسرائيل بن زكريا الطيفوري «13»
طبيب الفتح بن خاقان.
كان يدل بتقدّمه في فنه، ويدل على هذا غضبه على ملكه، وقد احتجم بغير إذنه لاشتداد أسر معرفته بقوى الأمزجة، وقدر فاقة الأبدان المليّة والمحوجة.(9/376)
ذكره ابن أبي أصيبعة وقال فيه:" كان مقدّما في صناعة الطب، جليل القدر عند الخلفاء والملوك، وكان مختصا بابن خاقان، وله من الإنعام الوافر، وكان المتوكل يعتمد عليه، وصار عنده إلى منزلة بختيشوع، وكان متى ركب إلى دار المتوكل في مثل مراكب الأمراء الأجلّاء القوّاد، وأمر المتوكّل صقلاب وابن الخيبري بالركوب معه، ثم أقطعه قطيعة ب" سرّ من رأى" «1» ، ركب فاختارها لنفسه خمسين ألف ذراع، وأعطاه ثلاث مائة ألف درهم لينفقها عليه، فحازها، وضرب المناور «2» عليه.
وحكى الرهاوي أن إسرائيل بن الطيفوري وجد «3» على المتوكل إذ احتجم بغير إذنه فافتدى غضبه بثلاثة آلاف دينار، وضيعة تغلّ له في السنة خمسين ألف درهم، وهبها له، وسجّل له عليها.
وحكى ابن ما سويه قال: رأيت المتوكل وقد عاد إسرائيل وهو مريض قد غشي عليه، فجعل يده تحت رأسه مخدّة له، ثم قال للوزير: حياتي معلّقة بحياته إن عدمته لا أعيش!. ثم كان يبعث سعيد بن صالح- حاجبه- وموسى ابن عبد الملك- كاتبه- يعودانه عنه.(9/377)
ومنهم:
71- يزيد بن [زيد] بن يوحنّا «13»
ابن أبي خالد.
كان لا يخطئ له صواب، ولا يبطئ به جواب، وكان في طبه [جدّ المأمون، خدم به ... ] «1» ابن المهدي والمأمون، لأنه كان لا يتهم، ولا تسري وتدلج إليه التهم، لعلم يقين منه عقد عليه الأنامل، وأقعد لديه كل آمل.
قال ابن أبي أصيبعة:" كان جيد العلم، حسن المعالجة، موصوفا بالفضل، خدم المأمون وابن المهدي، وكان له منه العناية الظاهرة، وله عليه الجامكية «2» الوافرة".
قال ابن المهدي: إن أبا عثمان ثمامة العبسي صاحب الجبار اعتلّ علة تطاولت به، وكان شيخا كبيرا.
قال ابن المهدي: فسألني الرشيد عن علته، وأين بلغت به؟. فأعلمته، أني لا أعلم له خبرا، فأظهر إنكار القول، ثم قال: رجل غريب من أهل الشرف قد رغب في مصاهرة أهله عبد الملك بن مروان، وقد ولدت أخته خليفتين: الوليد، وسليمان ابني عبد الملك. وقد رغب أبوك في مصاهرته، فتزوّج أخته، ورغبت أنا وأخوك في مثل ذلك منه فتزوجت ابنته، وهو مع ذلك صحابي لجدّك وأبيك، ولأختك وأخيك، فلا توجب على نفسك عيادته؟.(9/378)
ثم أمرني بالمصير إليه لعيادته، فنهضت، وأخذت معي متطبّبي يزيد، وصرت إليه، فدخلت على رجل توهّمت أنه في آخر حشاشة «1» بقيت في نفسه، ولم أر فيه للمسألة موعا، فأمر يزيد متطبّبي بإحضار متطبّبه. فحضر.
فسأله عن حاله؟. فأخبر أنه يقوم في اليوم والليلة مائة مجلس.
وأقبل يزيد يسأل المتطبّب عن باب باب من الأدوية التي تشرب، والسفوفات «2» ، والحقن؟.
فلم يذكر لذلك المتطبّب شيئا إلا أعلمه أنه قد عالجه به، فلم ينجع فيه، فوجم «3» عند ذلك يزيد مقدار ساعة، وقال: قد بقي شيء واحد أن أعمل به، رجوت أن ينتفع به، وإن لم ينجع فلا علاج له.
قال أبو إسحاق: فرأيت ثمامة قد قويت نفسه عند ما سمع من يزيد ما سمع، ثم قال: وما ذلك الشيء الذي بقي- متعت بك «4» -؟.
قال: شربة" الاصطمخيقون" «5» .
فقال ثمامة: أحبّ أن أرى هذه الشربة حتى أشمّ رائحتها.
فأخرج يزيد من كمّه منديلا فيه أدوية، وفيه شربة" أصطمخيقون" فأمر بها(9/379)
ثمامة فحلّت، ثم أتي بها فرمى بها في فيه، وابتلعها، فوالله ما وصلت إلى جوفه حتى سمعت منه أصواتا لم أشك في أني لم أبلغ باب داره إلا وقد مات!.
فنهضت ومتطبّبي معي، وما أعقل غما. وأمرت خادما لي يكون يحمل معي الاسطرلاب إذا ركبت بالمقام في داره، وتعرّف خبر ما كان يكون منه، فتخلّف. فوافاني كتاب الخادم بعد الزوال يعلمني أنه قام بعد طلوع الشمس إلى زوالها خمسين مرة.
فقلت: تلفت والله نفس ثمامة. ثم وافى كتاب الخادم بعد غروب الشمس أنه قام منذ زوال الشمس إلى غروبها عشرين مجلسا. ثم صار إليّ الغلام مع طلوع الشمس فذكر أنه لم يكن منه منذ غروب الشمس إلى انتصاف الليل إلا ثلاثة مجالس!، ولم يكن منه إلى وقت طلوع الفجر شيء.
فركبت إليه بعد أن صليت الغداة، فوجدته نائما، وكان لا ينام، فانتبه لي، وسألته عن خبره؟.
فأخبرني أنه لم يزل في وجع من جوفه مانع له من النوم والقرار منذ أكثر من أربعين ليلة، حتى أخذ تلك الشربة، فلما انقطع فعل الشربة انقطع عنه ذلك الوجع، وأنه لم يشته طعاما منذ ذلك الوقت، وأنه ما يصبر في وقته من غلبة الجوع عليه، وسأل الإذن في الأكل. فأذن له يزيد في أكل" اسفيذاج" «1» قد طبخ في فروج كسكري سمين، ثم إتباعها" زيرباجة" «2» ، ففعل ذلك.(9/380)
وصرت إلى الرشيد فأخبرته بما كان من أمر ثمامة!. فأحضر المتطبّب، وقال له: ويحك! كيف أقدمت على إسقائه حب الاصطمخيقون؟.
فقال: يا أمير المؤمنين! هذا رجل كان في جوفه [كيموس «1» فاسد، فلم يكن يدخل في جوفه] «2» دواء ولا غذاء إلا أفسده الكيموس، وكان كلما فسد من تلك الأدوية والأغذية صار مادة لذلك الفساد، فكانت العلة لهذا السبب تزداد. فعلمت أنه لا علاج له إلا بدواء قوي على فعل الكيموس. وكانت أقوى الأشياء التي يمكن أن يسقاها:" الاصطمخيقون". فقلت له فيه الذي قلت، ولم أقدم أيضا على القول إنه يبرئه لا محالة. وإنما قلت: بقي شيء واحد، فإن هو لم ينفعه فلا علاج له. وإنما قلت ذلك لأني رأيت الرجل عليلا قد أضعفته العلة، وأذهبت أكثر قواه، فلم آمن عليه التلف إن شربه، وكنت أرجو له العافية بشربه إياه، وكنت أعلم أنه إن لم يشربه أيضا تلف.
فاستحسن الرشيد ما كان من قوله، ووصله بعشرة آلاف درهم، ثم عاد الرشيد ثمامة، وقال: لقد أقدمت من شرب ذلك الدواء على أمر عظيم، وخاصة إذا كان المتطبّب لم يصرّح لك بأن في شربه العافية.
فقال ثمامة: يا أمير المؤمنين! كنت قد يئست من نفسي، وسمعت المتطبّب يقول: إن شربت هذا الدواء رجوت أن ينفعه، فاخترت المقام على الرجاء ولو لحظة على اليأس من الحياة، فشربته، وكان في ذلك خيرة من الله عظيمة «3» .(9/381)
ومنهم:
72- عبدوس بن زيد «13»
وكان طبيبا حاذقا، ومصيبا لا يزال برأيه موافقا، وله فضل من السحاب لو جر ذلاذله «1» ، ونبل يتمنى لو كان فيه نقص يشغل عواذله.
قال أبو علي القباني، عن أبيه، أن القاسم بن عبيد الله «2» مرض في حياة أبيه مرضا حادا في تموز، وحلّ به القولنج الصعب، فانفرد بعلاجه عبدوس بن زيد، وسقاه ماء أصول قد طبخ، وطرح فيه أصل الكرفس، والرازيانج «3» ، ودهن(9/382)
الخروع، وجعل فيه شيئا من" أيارج فيقرا «1» " فحين شربه سكن وجعه، وأجاب طبعه مجلسين، فأفاق ثم أعطاه من غد ذلك اليوم ماء شعير، فاستطرف هذا منه.
وقال أبو علي القباني أيضا: إن أخاه إسحاق بن علي مرض، وغلبت الحرارة على مزاجه، والنحول على بدنه، حتى أدّاه إلى الضعف، وردّ ما يأكله، فسقاه عبدوس بن زيد هذه الأصول [بالأيارج] ، ودهن الخروع، في حزيران أربعة عشر يوما، فعوفي، وصلحت معدته. وقال: في مثل هذه الأيام تحمّ حمّى حادّة، فإن كنت حيا خلّصتك بإذن الله، وإن كنت ميتا فعلامة عافيتك له دائر سنة، أن تنطلق طبيعتك في اليوم السابع، فإن انطلقت عوفيت، ومع هذا فقد تقوّت معدتك بقوى لو طرحت فيها الحجارة لطحنتها.
فلما انقضت السنة، مرض عبدوس، وحمي أخي كما قال، وكان مرضهما في يوم واحد، فما زال عبدوس يراعي أخي، ويسأل عن خبره إلى أن قيل له:
انطلقت طبيعته، فقال: قد تخلّص. ومات عبدوس في الغد من ذلك اليوم.
ولعبدوس بن زيد من الكتب: كتاب" التذكرة في الطب".(9/383)
ومنهم:
73- ماسرجويه «طبيب البصرة» «13»
هو أول من ترجم، وعرّب ما أعجم، وكان صلب العود، صعب الجلمود «1» ، لا ينقل إلا ما حرّره، وفصّل كلمه على قدر المعنى وقدّره، لا يتجوّز في كلمة يعبر بها عن معنى ما لم يكن دالة عليها بالمطابقة، مقابلة في اللغة الأخرى، لما نظرت به موافقة، وهو على هذا ظريف العبارة، لطيف الحديث إذا سمعت أخباره.
قال ابن أبي أصيبعة «2» :" هو الذي نقل كناش" اهرن" من السرياني إلى العربي، وكان سريانيا يهودي الدين، وهو الذي يعنيه الرازي بقوله:" قال اليهودي".
قال ابن جلجل:" كان ماسرجويه أيام بني أمية، وعرف كناش أهرن لهم، كان في خزائنهم، فلما ولي عمر بن عبد العزيز- رضي الله عنه- أخرجه فوضعه على مصلاه، واستخار الله فيه أربعين يوما، ثم أخرجه إلى المسلمين للانتفاع به".(9/384)
قال الكسروي «1» : كان أبو نواس يعشق جارية لامرأة من ثقيف تسكن موضعا يعرف بحكمان، من أرض البصرة، يقال لها" جيّان". وكان أبو عثمان وأبو أمية الثقفيان من أقارب مولاتها، فكان أبو نواس يخرج كل يوم من البصرة يتلقّى من يرد من ناحية" حكمان" يسألهم عن أخبار" جيان" قال: فخرج يوما وخرجت معه، فكان أول قادم عليه ماسرجويه، فقال له أبو نواس: كيف خلّفت أبا عثمان وأبا أمية؟.
فقال له ماسرجويه: جيان صالحة الحال كما تحب!. فقال: [الخفيف]
أسأل القادمين من حكمان ... كيف خلّفتم أبا عثمان؟
وأبا أمية المهذّب والمأ ... مول والمرتجى لريب الزمان
فيقولون لي: جنان كما ... سرّك في حالها، فسل عن جنان
ما لهم؟ لا يبارك الله فيهم! ... كيف لم يغن عنهم كتماني؟
وقال:" كنت جالسا عند ماسرجويه إذ أتاه رجل فقال: إني بليت بمرض عظيم أصبح وبصري عليّ مظلم، وأنا أجد مثل لحس الكلاب في معدتي. ولا أزال هكذا حتى آكل، فإذا أكلت سكن عني ما أجد إلى وقت الظهر، ثم يعاودني ما كنت فيه، فإذا عاودت الأكل سكن ما بي إلى وقت العشاء، ثم يعاودني ما كنت فيه حتى آكل!.
فقال له ماسرجويه:" على هذا المرض غضب الله، فإنه أساء لنفسه الاختيار، إذ لم يكن إلا لسفلة مثلك!. ووددت لو ابتليت أنا وبنيّ به عوضك، ولو أنه بنصف ما أملك!.(9/385)
فقال له: ما أفهم ما تقول!.
فقال له ماسرجويه: هذه صحة لا تستحقها، أسأل الله تعالى نقلها عنك إليّ فإني أحق بها منك!.
وقال: شكوت إلى ماسرجويه تعذّر الطبيعة؟. فقال لي: أي شيء من الأنبذة تشرب؟.
فقلت: الدوشاب «1» البستاني الكثير الداذي «2» .
فأمرني أن آكل في كل يوم من أيام الصيف على الريق قثاءة صغيرة، فآكل منه الخمس والست والسبع، فكثر عليّ الإسهال، فشكوت إليه، فلم يكلّمني حتى حقنني بحقنة كثيرة الشحوم، والصموغ، والخطمي «3» ، والأرز الفارسي،(9/386)
ثم قال لي: كدت تقتل نفسك بإكثارك من القثاء على الريق، لأنه كان يحدر من الصفراء ما يزيد عن الأمعاء من الرطوبات اللاصقة بها ما يمنع الصفراء من سحجها وإحداث" الدوسنطاريا" «1» .
ومنهم:
74- سلمويه بن بنان «متطبّب المعتصم» «13»
جلّ «2» في العيان، وحلّ في الأعيان، وكان له شان لا تغص به المآقي، ولا يغضّ الأيام على لياليه البواقي، وسعد به أخوه، وصعد رتب النظراء ولم يواخوه!.
ذكره ابن أبي أصيبعة وقال فيه:" لما استخلف المعتصم «3» اختاره لنفسه، وقرّبه حتى كانت التواقيع «4» في السجلات وغيرها تصدر عن المعتصم بخطه، وولى أخاه بيوت الأموال، وسلّمه خاتمه، وكان سلمويه نصرانيا محمود السيرة، وافر العقل.(9/387)
قال اسحاق بن حنين عن أبيه أنه كان أعلم أهل زمانه بصناعة الطب. ولما اعتلّ عاده المعتصم، وبكى عنده، واستشاره فيمن يكون بعده، وكان المعتصم قد أرصده لعرض الحوائج إبراهيم بن المهدي أوقات خلواته.
ومنهم:
75- إبراهيم بن فزارون «13»
كان موقرا لا يحل له حبوة، ولا تحطّ له ربوة، ولا تبارى به الثريا إذا لاحت، ولا الحميّا «1» إذا فاحت.
وكان مقدّما لتطبيب الأرواح، وتطييب الأوقات بالأفراح، لا يزال ينشر ألوية المدام، ويؤثر أندية النّدّام، ويسيرها كؤوسا تجول أشعتها حول أوانيها، وتحول أقاصي البلاد أدانيها.
قال ابن أبي أصيبعة:" كان شيخ بني فزارون الكتاب. قد خرج مع غسان بن عباد «2» إلى السند، فحدّثني أن غسان بن عباد مكث بأرض السند من يوم(9/388)
النيروز إلى يوم المهرجان «1» ، يشتهي أن يأكل قطعة لحم باردة، فما قدر على ذلك. فسألته عن السبب؟. فقال: كنا نطبخه فلا يبرد حتى يروح، فنرمي به.
قال يوسف: وأخبرني إبراهيم بن فزارون أنه ما أكل بأرض السند لحما استطابه إلا لحوم الطواويس، وأنه لم يأكل لحما قط أطيب من لحم الطواويس ببلاد السند.
قال يوسف: وحدّثني إبراهيم بن فزارون أنه رفع إلى غسان بن عباد، أن في النهر المعروف بمهران بأرض السند سمكة تشبه الجدي، وأنها تصاد ثم يطيّن رأسها وجميع بدنها إلى موضع مخرج الثفل «2» ، ثم يجعل ما لم يطيّن منها على الجمر، ويمسكها ممسك بيده حتى يستوي منها ما كان موضوعا على الجمر، وينضج ثم يؤكل ما نضج، أو يرمى به، وتلقى السمكة في الماء ما لم ينكسر العظم الذي هو صلب السمكة، فتعيش السمكة، وينبت على عظمها اللحم!!. وأن غسان أمر بحفر بركة في داره، وملأها ماء وأمر بامتحان ما بلغه.
قال إبراهيم: فكنا نؤتى كل يوم بعدّة من هذا السمك، فنشويه على الحكاية التي ذكرت لنا، ونكسر من بعض عظمه الصلب، ونترك بعضه لا نكسره، فكان ما يكسر عظمه يموت، وما لم يكسر عظمه يسلم، وينبت عليه اللحم، ويستوي الجلد، إلا أن جلدة تلك السمكة تشبه جلدة الجدي الأسود، وما قشرناه من لحوم السمك التي شويناها ورددناها إلى الماء تكون على غير لون الجلدة الأولى، لأنه يضرب إلى البياض.(9/389)
قال يوسف: وسألت إبراهيم بن فزارون عن قول من يزعم أن نهر مهران [هو نهر النيل، فقال لي: رأيت نهر مهران] «1» ، وهو يصب في النهر الملح، إلا أن علماء الهند والسند أعلموني أن مخرج النيل ومخرج نهر مهران من عين واحدة عظيمة، فنهر مهران يشق أرض السند، حتى يصب في بحرها المالح، والنهر الآخر يشق أرض الهند وجميع أرض السودان حتى يخرج إلى أرض النوبة، ثم يصب باقيه في أرض مصر فيرويها، ثم يصب باقيه في بحر الروم.
ومنهم:
76- إبراهيم بن أيوب الأبرش «13»
كان يعرف كيف تصاد الدراهم، ويعالج جراح الفقر من ضمادات أكياسها المراهم، بصيرا بتعديل المزاج بشربها، خبيرا بهذا العلاج بطبّها، وصادف وقتا قابلا وملكا يهب، وشفيعا قائلا، فجمع ما لم يجمع، ومصّل من المال ما لا يرى مثله ولا يسمع.
قال عيسى بن ماسة «2» :" رأيت الأبرش وقد عالج إسماعيل «3» - أخا المعتز- فلما بريء كلّمت" قبيحة" «4» - أمّه- المتوكل ليهبه؟.(9/390)
فقال لها: مهما أعطيتيه، أعطيته مثله!.
فأمرت له" قبيحة" ببدرة، فأمر له المتوكل بمثلها.
فأمرت ببدرة أخرى، فأمر له المتوكل بمثلها، فما زالا يحضران البدر حتى أحضر كل منهما ست عشرة بدرة.
ثم أومأت إلى جاريتها: أن تمسك.
فقال الأبرش: لا تقطعي، وأنا أرد عليك.
فقالت له: خذ ما حضر، فإنه لا يملأ عينك شيء.
فقال المتوكل: والله! لو أعطيتيه إلى الصباح لأعطيته مثل ذلك.
ثم لما أفضت الخلافة إلى المعتز، كان أخصّ الأطباء عنده، لمكانه من أمه" قبيحة"، فلما خلع المعتز قبض عليه صالح بن وصيف «1»
ومنهم:
77- ماسويه أبو «2» يوحنّا «13»
دخل على الملك من بابه، وتوصّل إلى الفلك بأسبابه، وانتقل من خاصّة الكحل، إلى عامة تدبير الجسد، وتقرير إصلاح ما فسد. ثم لم يزل في مزيد في الصناعة، وتجديد ما ينمي مكاسب البضاعة، إلى أن صار لا يمترى في نفاقه، ولا(9/391)
يمتار «1» إلا من فواضل أسواقه، ولا يتطبّب عليل بألطف من شمائل أخلاقه.
ذكره الترجمان كيف تنقّل وآخر أمره أنه عالج عين خادم الفضل بن الربيع «2» ، فشكا الفضل عينه، فأوصله إليه، فلم يزل يكحّله إلى ثلث الليل، ثم سقاه دواء مسهلا فصلح به، فأجرى عليه رزقا.
فما مضت إلا أيام حتى اشتكت عين الرشيد. فقال له الفضل: يا أمير المؤمنين! طبيبي ماسويه من أحذق الناس بالكحل.
فأمر بإحضاره ثم قال له: هل تحسن شيئا من الطب سوى الكحل؟.
فقال: نعم يا أمير المؤمنين!، وكيف لا أحسن وقد خدمت المرضى بالبيمارستان؟!.
فأدناه منه، فنظر في عينيه، فحجمه في ساقيه، وقطر في عينيه، فبرأ بعد يومين، فأمر بأن يجرى عليه في الشهر ألفا درهم، وعلوفه «3» ، ومعونته في السنة عشرون ألف درهم.
ثم اعتلّت أخت الرشيد. فعالجها جبرئيل بأنواع العلاج فلم تنتفع، فاغتمّ بها، فقال الرشيد ذات يوم: قد كان ماسويه ذكر أنه خدم المرضى بالمارستان،(9/392)
وعالج الطبايع، فليدخل إلى عليلتنا لعلّ عنده فرجا؟.
فأحضر جبرائيل وماسويه، فقال له ماسويه: عرّفني حالها، وجميع ما دبّرتها به إلى وقتنا هذا؟.
فقصّ عليه. فقال ماسويه: التدبير صالح، والعلاج مستقيم، ولكن أحتاج إلى أن أراها.
فأمر الرشيد بأن يدخل إليها. فلما تأمّلها، وجسّ عرقها بحضرة الرشيد، وخرجوا من عندها.
وقال ماسويه للرشيد: يكون لك طول العمر والبقاء!. هذه تقضي بعد غد ما بين ثلاث ساعات إلى نصف الليل.
فقال جبرائيل: كذب يا أمير المؤمنين!، إنها تبرأ وتعيش.
فأمر الرشيد بحبس ماسويه ليسبر «1» ما قاله. وقال: ما رأينا بعلم الشيخ بأسا.
فلما كان الوقت الذي وقّته ماسويه ماتت. فأمر الرشيد بإخراجه، وصيّره نظير جبرائيل في رزقه، ونزله، وعلوفته، ومعونته، ومرتّبه، ومرتبته.
ومنهم:
78- يوحنّا بن ماسويه «13»
طبيب على يده الشفاء، ولديه الوفاء، ما جال رأيه إلا فل أفلاطون، وجال فكر جالينوس لعله مثله يكون، وود ابن أثال لو نحت من إبلته، وتشوق الحرث(9/393)
للمقيل تحت نخلته، وسرّ السريان إذ كان منهم معدودا، وآن لليونان أن يساؤوا إذ لم يكن منهم له وولودا، ولا منه لهم ودودا.
قال ابن أبي أصيبعة:" كان طبيبا ذكيا، فاضلا، خبيرا بصناعة الطب، وله كلام حسن وتصانيف مشهورة، وكان مبجّلا، وكان حظيّا عند الخلفاء والملوك".
قال إسحاق بن علي الرهاوي في كتاب" أدب الطبيب" عن عيسى بن ماسه «1» الطبيب، قال: أخبرني أبو زكريا يوحنا بن ماسويه أنه اكتسب من صناعة الطب ألف ألف درهم، وعاش بعد قوله هذا ثلاث سنين أخر، وكان الواثق «2» مشغوفا، ضنينا به. فشرب يوما عنده، فسقاه الساقي شرابا غير صاف ولا لذيذ، على ما جرت به العادة، وهذا من عادة السقاة إذا قصّر في برّهم، فلما شرب القدح الأول، قال: يا أمير المؤمنين! أما المذاقات فقد عرفتها وأعددتها، ومذاقة هذا الشراب خارجة عن طبع المذاقات كلها!.
فوجد أمير المؤمنين على السقاة، وقال: تسقون أطبائي وفي مجلسي بمثل هذا الشراب؟!. وأمر ليوحنّا بهذا السبب وفي ذلك الوقت بمائة ألف درهم، ودعا بسمانة الخادم، وقال له: احمل إليه المال الساعة. فلما كان وقت العصر سأل سمانة: هل حمل مال الطبيب أم لا؟. فقال: لا بعد. فقال: يحمل إليه مائتا ألف درهم الساعة.(9/394)
فلما صلّوا العشاء سأل عن حمل المال؟. فقيل له: لم يحمل بعد!. فدعا سمانه، وقال له: احمل إليه ثلاثمائة ألف درهم، فقال سمانة لخازن بيت المال:
احملوا مال يوحنا، وإلا لم يبق في بيت المال شيء، فحمل إليه من ساعته! «1» .
وقال سليمان بن حسان: كان يوحنا بن ماسويه مسيحي المذهب، سريانيا.
قلّده الرشيد ترجمة الكتب القديمة، مما وجد بأنقره، وعمّورية «2» ، وبلاد الروم، حين سباها المسلمون، ووضعه أمينا على الترجمة، وخدم هارون، والأمين، والمأمون، وبقي على ذلك إلى أيام المتوكل.
قال: وكانت ملوك بني هاشم لا يتناولون شيئا من أطعمتهم إلا بحضرته، وكان يقف على رؤوسهم ومعه البراني «3» بالجوارشنات «4» الهاضمة المسخنة، الطابخة، المقوية للحرارة الغريزية في الشتاء، وفي الصيف بالأشربة الباردة والجوارشنات.
قال ابن النديم البغدادي الكاتب: إن يوحنا بن ماسويه خدم بصناعة الطب المأمون، والمعتصم، والواثق، والمتوكل.(9/395)
قال يوسف بن إبراهيم: كان مجلس يوحنا بن ماسويه أعمر مجلس كنت أراه بمدينة السلام لمتطبّب أو متكلّم، أو متفلسف، لأنه كان يجتمع به كل صنف من أصناف أهل الأدب، وكان في يوحنا دعابة شديدة، يحضر بعض من يحضر لأجلها، وكان من ضيق الصدر، وشدة الحدّة على أكثر مما كان عليه جبريل بن بختيشوع، وكانت الحدة تخرج منه ألفاظا مضحكة، وكان أطيب مجلسه في وقت نظره في قوارير الماء، وكنت وابن حمدون بن عبد الصمد بن علي الملقّب بأبي العيرطرد، وإسحاق بن إبراهيم بن محمد بن إسماعيل الملقب ببيض البغل، قد توكلنا به نحفظ نوادره، وأظهرت له التلمذة [في قراءة كتب المنطق عليه، وأظهرا له التلمذة] «1» بقراءتهما كتب جالينوس عليه في الطب.
قال يوسف: مما حفظت من نوادره في وقت نظره: أن امرأة أتته فقالت له:
إن فلانة وفلانة وفلانة يقرءون عليك السلام!.
فقال لها: أنا بأسماء أهل سطنطينية، وعمّورية، أعلم مني بأسماء الذين أسميتيهم، فأظهري بولك حتى أنظر لك فيه!.
قال يوسف: وحفظت عليه أن رجلا شكا إليه علة كان شفاؤه منها الفصد، فأشار به عليه.
فقال له: لم أعتد الفصد!.
فقال له: ولا أحسب أحدا اعتاده في بطن أمه، وكذلك لم يعتد العلة قبل أن يعتل، وقد حدثت بك، فاختر ما شئت من الصبر على ما أحدثت لك الطبيعة من العلة، أو اعتياد الفصد لتسلم منها.(9/396)
قال يوسف: وشكا إليه رجل بحضرتي" جريا" «1» قد أضرّ به. فأمره بفصد الاكحل من يده اليسرى، فأخبره أنه قد فعل. فأمره بشرب المطبوخ. فقال: قد فعلت. فأمره بشرب الأصطمخيقون. فأعلمه أنه قد فعل!. فأمره بشرب ماء الجبن أسبوعا، وشرب مخيض البقر أسبوعين. فأعلمه أنه قد فعل!.
فقال له: إنه لم يبق شيء مما أمر به المتطبّبون إلا وقد ذكرت أنك قد عملته، وقد بقي شيء لم يذكره بقراط ولا جالينوس، وقد رأيناه يعلم على التجربة كثيرا، فاستعمله؛ فإني أرجو أن ينجح علاجك إن شاء الله. فسأله ما هو؟.
فقال: ابتع زوجي قراطيس، وقطعهما رقاعا صغارا، واكتب في كل رقعة:" رحم الله من دعا لمبتلى بالعافية" وألق نصفها في المسجد الشرقي بمدينة السلام، والنصف الآخر في المسجد الغربي، وفرقها في المجالس يوم الجمعة؛ فإني أرجو أن ينفعك الله بالدعاء إذ لم ينفعك العلاج.!
قال يوسف: وصار إليه- وأنا حاضر- قسّيس الكنيسة التي يتقرّب فيها يوحنّا، وقال له: فسدت عليّ معدتي!.
فقال له: استعمل جوارشن الخوزبي. فقال: قد فعلت. فقال: استعمل الكمّوني. قال: قد أكلت منه أرطالا. فأمره باستعمال المقداذيقون. فقال: قد شربت منه جرّة. فقال: فاستعمل المروسيا. فقال: قد فعلت، وأكثرت. فغضب وقال له: إن أردت أن تبرأ فأسلم فإن الإسلام يصلح المعدة!.
قال يوسف: واشتدّت على يوحنّا علّة كان فيها حتى يئس منه أهله. ومن عادة النصارى إحضار من يئس منه أهله جماعة من الرهبان والقسّيسين «2» ،(9/397)
والشمامسة «1» يقرءون حوله. ففعل مثل ذلك بيوحنّا.
فأفاق والرهبان حوله يقرءون فقال لهم: يا أولاد الفسّق! ما تصنعون في بيتي؟. فقالوا: كنا ندعو ربنا ليتفضل عليك بالعافية.
فقال لهم يوحنّا: قرص ورد أفضل من صلوات جميع أهل النصرانية منذ كانت إلى يوم القيامة!، اخرجوا من منزلي فخرجوا.
قال يوسف: وشكا- بحضرتي- إلى يوحنا رجل من التجّار جريا به في أيام الشتاء.
فقال: ليست هذه من أيام علاج ما تجد، وإنما علاج دائك هذا في أيام الربيع، فتنكّب أكل المعفّنات كلها، وطريّ السمك، ومالحه، صغار ذلك وكباره، وكل حرّيف «2» من الأبزار والبقول، وما يخرج من الضرع.
فقال له الرجل: هذه الأشياء ما أطيق عنها صبرا.
فقال يوحنا: فإن كان الأمر على ما ذكرت فأدمن أكلها، وحكّ بجنك!، فلو نزل المسيح لك خاصّة لما انتفعت بدعائه لما تصف به نفسك من الشر.
قال يوسف: وعاتبه النصارى على اتخاذ الجواري، وقالوا له: خالفت ديننا وكنت شمّاسا لنا!. وإما أخرجت نفسك من الشماسة، وأخذت ما بدا لك من الجواري.
فقال: إنما أمرنا في موضع واحد أن لا نتخذ امرأتين، ولا ثوبين، فمن جعل(9/398)
" الجاثليق «1» " العاضّ بظر أمه، أولى أن يتخذ عشرين ثوبا من يوحنا الشقي في اتخاذ أربع جوار، فقولوا لجاثليقكم أن يلزم قانون دينه، حتى نلزمه معه، وإن خالفه خالفناه!.
قال يوسف: وكان بختيشوع بن جبرائيل يداعب يوحنّا كثيرا، فقال له يوما في مجلس أبي إسحاق- ونحن في عسكر المعتصم بالمدائن سنة عشرين ومائتين-: أنت يا زكرياء! أخي لأبي.
فقال يوحنا لأبي إسحاق: اشهد أيها الأمير على إقراره، فو الله لأقاسمنّه ميراثه من أبيه.
فقال له بختيشوع: إن أولاد الزنا لا يرثون، ولا يورّثون، وقد حكم دين الإسلام للعاهر بالحجر. فانقطع يوحنا ولم يحر جوابا.
قال يوسف:" وكانت دار الطيفوري في دار الروم من الجانب الشرقي من مدينة السلام لصيقة دار يوحنّا بن ماسويه، وكان للطيفوري ابن قد علم الطب علما، يقال له: دانييل. ثم ترهّب بعد ذلك فكان يدخل مدينة السلام عند تأدّي الخبر إليه بعلّة والده، أو ما أشبه ذلك. وكان ليوحنّا طاووس كان يقف على الحائط الذي فيما بين داره ودار الطيفوري. فقدم دانييل مدينة السلام ليلا في الشهر المعروف ب" آب" وهو شهر شديد الحر، كثير الرمد، فكان الطاووس كلما اشتد عليه الحرّ صاح!؛ فأنبه دانييل، وهو في ثياب صوف من ثياب(9/399)
الرهبان، فطرده مرات، فلم ينفع ذلك، ثم رفع مرزبته «1» فضرب بها رأس الطاووس! فوقع ميتا.
واستتر الخبر عن يوحنّا إلى أن ركب ورجع، فصادف عند منصرفه طاووسه ميتا على باب داره، فأقبل يقذف بالجدود «2» من قتله، فخرج إليه دانييل فقال:
لا تشتم من قتله، فإني قتلته، ولك عليّ مكانه عدة طواويس.
فقال له يوحنا- بحضرتي-: ليس يعجبني راهب له سنام، وطول ذكر!.-
إلا أنه قال ذلك بفحش-.
فقال له دانييل: وكذلك ليس يعجبني شماس له عدة نساء، واسم رئيسة نسائه:" قراطيس"، وهو اسم رومي لا عربي!. ومعنى" القراطيس" عند الروم:
قرنانة!، وليس تكون المرأة قرنانة حتى تنكح غير بعلها. فخرج يوحنّا، ودخل منزله مفعولا.
قال يوسف: وحدّثني بمصر أحمد بن هارون الشرابي: أن المتوكل على الله حدّثه في خلافة الواثق أن يوحنّا بن ماسويه كان مع الواثق على دكان كان للواثق في دجلة، ومع الواثق قصبة فيها شصّ «3» ، وقد ألقاها في دجلة ليصيد بها السمك، فحرم الصيد، فالتفت إلى يوحنا- وكان على يمينه- فقال: قم يا مشؤوم عن يميني. فقال له يوحنا: يا أمير المؤمنين! لا تتكلّم بمحال. يوحنا بن ماسويه الخوزي، وأمه: رسالة الصقلبية، المبتاعة بثمانمائة درهم، أقبلت به السعادة إلى أن صار نديم الخلفاء، وسميرهم، وعشيرهم، وحتى غمرته الدنيا(9/400)
فنال منها ما لم يبلغه أمله. فمن أعظم المحال أن يكون هذا مشؤوما، ولكن إن أحبّ أمير المؤمنين أن أخبره بالمشئوم من هو؟ أخبرته.
فقال: ومن هو؟.
فقال: من ولدته أربع خلفاء، ثم ساق الله إليه الخلافة، فترك الخلافة وقصورها، وبساتينها، وقعد في دكان مقدار عشرين ذراعا في مثلها، في وسط دجلة، لا يأمن عصف الريح عليه فيغرقه ثم يتشبّه بأفقر قوم في الدنيا وشرّهم، وهم صيادو السمك!.
قال لي أحمد بن هارون: قال لي المتوكل: فرأيت الكلام قد أنجع فيه، إلا أنه أمسك لمكاني.
قال يوسف: وحدثني أحمد بن هارون أن الواثق قال في هذا اليوم ليوحنّا وهو على هذه الدكان: يا يوحنا! ألا أعجبك من خلة؟. قال وما هي؟.
قال: إن الصيّاد ليطلب السمك مقدار ساعة فيصيد السمكة تساوي الدينار أو ما أشبه ذلك، وأنا أقعد منذ غدوة إلى الليل فلا أصيد ما يساوي درهما!.
فقال له يوحنا: وضع أمير المؤمنين التعجب في غير موضعه. إن الله تعالى جعل رزق الصياد من صيد السمك، فرزقه يأتيه لأنه قوته وقوت عياله، ورزق أمير المؤمنين بالخلافة، فهي غني عن أن يرزق بشيء من السمك، ولو كان رزقه جعل في الصيد لوافاه رزقه منه مثل ما يوافي الصياد.
قال يوسف: وحدّثني إبراهيم بن علي متطبّب أحمد بن طولون: إنه كان في دهليز «1» يوحنا بن ماسويه ينتظر رجوع يوحنا من دار السلطان، فانصرف وقد(9/401)
أسلم في ذلك اليوم عيسى بن إبراهيم بن نوح كاتب الفتح بن خاقان.
قال إبراهيم: فقمت إليه وجماعة من الرهبان، فقال لنا: اخرجوا يا أولاد الزنا من داري، واذهبوا وأسلموا، فقد أسلم المسيح الساعة على يدي المتوكل!.
قال يوسف: وقدم جرجة بن زكريا عظيم النوبة «1» ، في شهر رمضان سنة إحدى وعشرين ومائتين إلى سرّ من رأى، وأهدى إلى المعتصم هدايا فيها قردة!.
فإني عند يوحنا في اليوم الثاني من شوال من هذه السنة، وأنا أعاتبه على تخلّفه عن حضور الدار في ذلك الوقت، لأني رأيت سلمويه وبختيشوع والحريش المتطببين، وقد وصلوا إذ دخل علينا غلام من الأتراك الخاصة، ومعه قرد من القرود التي أهداها ملك النوبة، لا أذكر أني رأيت أكبر منه جثة. وقال له: يقول لك أمير المؤمنين: زوّج هذا القرد من" حماحم" قردتك!. وكان ليوحنا قردة يسميها" حماحم" كان لا يصبر عنها ساعة!.
فوجم لذلك، ثم قال للرسول: قل لأمير المؤمنين: اتخاذي لهذه القردة غير ما توهّمه أمير المؤمنين، وإنما دبرت تشريحها لأجل وضع كتاب على ما وضع جالينوس في التشريح، يكون وضعي إياه لأمير المؤمنين!، وكان في جسمها ضعف فخفت أن تكون العروق فيها والأوراد والعصب دقاقا، فلا أطيق في إيضاح الأمر فيها مثل إيضاحها فيما عظم جسمه، فتركتها لتكبر ويغلظ جسمها، فأما إذ قد وافى هذا القرد فسيعلم أمير المؤمنين أني سأضع له كتابا لم يوضع في الإسلام مثله.
ثم فعل ذلك بالقرد، فظهر له منه كتاب حسن استحسنه أعداؤه فضلا عن أصدقائه.(9/402)
قال يوسف: واعتلّ محمد بن سليمان بن الهادي المعروف بأبي مشغوف، علة تطاولت به، وكان أبو العباس ابن الرشيد يلزم يوحنّا تعاهده، وكان محمد بن سليمان ربما يزيد في الحديث أشياء لا يخيل باطلها على سامعها، فدخل إليه يوما وأنا عنده، فاستشاره فيما يأخذه؟.
فقال يوحنا: قد كنت أشير عليك بما تأخذ في كل يوم، وأنا أحسبك تحب الصحة والعافية، فأما إذا صحّ عندي أنك تكره العافية وتحب العلة!.
فقال له يوحنا: أنت والبرهان على ذلك، أن العافية في العالم تشبه الحق، والسقم يشبه الكذب، وأنت تتكلم أكثر دهرك بالكذب!، فيكون كذبك مادة لسقمك، فمتى تبرأ أنت من علة متطاولة، وأنت تمدها أكثر دهرك بالكذب الزائد فيها!. فالزم الصدق ثلاثة أيام ولا تكذب فيها، فيوحنّا بريء من المسيح إن لم تخرج من هذه العلة قبل ثلاثة أيام!.
ونقلت من كتاب الهدايا والتحف لأبي بكر وأبي عثمان الخالديين قالا: حدثنا أبو يحيى قال: افتصد المتوكل فقال لخاصّته وندمائه: أهدوا إليّ يوم فصدي.
فاحتفل كل واحد منهم في هديته، وأهدى إليه الفتح بن خاقان جارية لمير الراءون مثلها حسنا وظرفا وكمالا.
فدخلت إليه ومعها جام «1» ذهب في نهاية الحسن، ودنّ «2» بلّور لم ير مثله،(9/403)
فيه شراب يتجاوز الوصف، ورقعة فيها مكتوب: [الوافر]
إذا خرج الإمام من الدواء ... وأعقب بالسلامة والشفاء
فليس له دواء غير شرب ... بهذا الجام من هذا الطلاء
وفص الخاتم المهدى إليه ... فهذا صالح بعد الدواء
فاستطرف المتوكل ذلك، واستحسنه، وكان بحضرته يوحنا بن ماسويه، فقال: يا أمير المؤمنين! الفتح- والله! - أطبّ مني، فلا تخالف ما أشار به.
قال: ومن نوادر يوحنّا بن ماسويه: أن المتوكّل قال له يوما: بعت بيتي بقصرين. فقال له آخر: الغداء يا أمير المؤمنين! - أراد المتوكل تعشّيت فضرّني لأنه تصحيفها- فأجابه ابن ماسويه بما تضمن العلاج.
وعتب ابن حمدون النديم ابن ماسويه بحضرة المتوكل، فقال له ابن ماسويه:
لو أن مكان ما فيك من الجهل عقلا، ثم قسم على مائة خنفساء لكانت كل واحدة منها أعقل من أرسطوطاليس!.
ووجدت في كتاب:" جراب الدولة" قال: دخل ماسويه الطبيب إلى المتوكل فقال المتوكل لخادم له: خذ بول فلان في قارورة، وأت به إليّ بين يدي ابن ماسويه. فأتى به، فلما نظر إليه قال: هذا بول بغل لا محالة!. فقال المتوكل:
كيف علمت أنه بغل؟.
قال ابن ماسويه: أحضر لي صاحبه حتى أراه، ويتبين كذبي من صدقي.
فقال المتوكل: هاتوا الغلام. فلما مثل بين يديه، قال له ابن ماسويه: أيش أكلت البارحة؟. قال: خبز شعير، وماء قراح. فقال ابن ماسويه: هذا والله! طعام حماري اليوم.(9/404)
نقلت من خط المختار بن الحسن بن بطلان «1» ، أن أبا عثمان الجاحظ، ويوحنا بن ماسويه قال: اجتمعا- بغالب ظني- على مائدة إسماعيل بن بلبل الوزير، وكان من جملة ما قدم مضيرة «2» بعد سمك. فامتنع يوحنا من الجمع بينهما.
قال له أبو عثمان: أيها الشيخ! لا يخلو أن يكون السمك من طبع اللبن، أو مضاد له، فإن كان أحدهما ضد الآخر فهو دواء له، وإن كانا طبعا واحدا فلنحسب أنّا قد أكلنا من أحدهما إلى أن اكتفينا. فقال يوحنا: والله ما لي خبرة بالكلام، ولكن كل يا أبا عثمان، وانظر ما يكون في غد؟.
فأكل أبو عثمان- نصرة لدعواه- ففلج في ليلته!. فقال:" هذه- والله- نتيجة المحال من القياس". والذي ضلّل أبا عثمان اعتقاده أن السمك من طبع اللبن، ولو سامحناه في أنهما من طبع واحد لكان امتزاجهما قوة ليست في أحدهما.
وحدّث الصولي «3» في كتاب" الأوراق" قال: كان المأمون نازلا" بذندون"-(9/405)
نهر من أعمال طرسوس، فجلس يوما وأخوه المعتصم عليه، وجعلا أرجلهما فيه استبرادا له، وكان أبرد الماء وأرقّه وألذّه. فقال المأمون للمعتصم: أحببت الساعة من أزاذ «1» العراق آكله، وأشرب عليه من هذا الماء البارد.
وسمع صوت حلقة البريد وأجراسه، فقيل: هذا يزيد بن مقبل بريد «2» العراق؛ فأحضر طبقا من فضة فيه رطب أزاذ!، فعجب من تمنيه، وما تم له، فأكلا وشربا من الماء ونهضا، وتودع المأمون وأقال، ثم نهض محموما، وفصد فظهرت في رقبته نفخة كانت تعتاده، ويراعيها الطبيب إلى أن تنضج، وتفتح، فتبرا.
فقال المعتصم للطبيب- وهو ابن ماسويه-: ما أطرف ما نحن فيه!، تكون الطبيب المفرد المتوحّد في صناعتك، وهذه النفخة تعتاد أمير المؤمنين، ولا تزيلها عنه! وتتلطّف في حسم مادتها حتى لا ترجع إليه؟. والله لئن عادت هذه العلة عليه لأضربنّ عنقك.
فاستطرق ابن ماسويه لقول المعتصم، وانصرف، فحدّث به بعض من يثق به ويأنس منه، فقال: تدري ما قصد المعتصم؟. قال: لا. قال: قد أمرك بقتله! حتى لا تعود النفخة إليه، وإلا فهو يعلم أن الطبيب لا يقدر على دفع الأمراض عن الأجسام، وإنما قال: لا تدعه يعيش ليعود المرض عليه.!
فتعالل ابن ماسويه، وأمر تلميذا له بمشاهدة النفخة، والتردّد إلى المأمون نيابة عنه، والتلميذ يجيئه كل يوم، ويعرف حال المأمون، وما تجدّد له.(9/406)
فأمره بفتح النفخة. فقال: أعيذك بالله؛ ما احمرّت ولا بلغت حد الجرح!.
فقال له: امض وافتحها كما أقول لك، ولا تراجعني. فمضى وفتحها، ومات المأمون، رحمة الله عليه.
أقول «1» :" إنما فعل ابن ماسويه ذلك لكونه كان عديم المروءة، عديم الدين والأمانة، وكان على غير ملة الإسلام، ولا له تمسك بدينه أيضا- كما حكى عنه يوسف بن إبراهيم في أخباره المتقدمة. ومن ليس له دين يتمسك به، ويعتقد فيه فالواجب أن لا يدانيه عاقل، ولا يركن إليه حازم.
وكانت وفاة يوحنا بن ماسويه بسرّمن رأى، يوم الاثنين، لأربع خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين ومائتين، في خلافة المتوكل.
ومن كلام يوحنا بن ماسويه:" سئل عن الخير الذي لا شرّ معه؟. فقال:
القليل من الشراب الصافي".
ثم سئل عن الشر الذي لا خير معه؟. فقال:" نكاح العجوز".
وقال:" أكل التفاح يرد النفس.
فقال:" عليك من الطعام بما حدث، ومن الشراب بما عتق".(9/407)
ومنهم:
79- ميخائيل بن ماسويه «13»
طبيب المأمون «1» وربيب ذلك الفضل الممنون، نفق على ذلك الفاضل، ودفع كل مناضل، لا يكذب يقينه منية الصدوق، ولا يلزّ جواده السبوق فطما مع ذلك البحر المحيط، وحجّ إليه الوفد وأول ما نزع المخيط.
قال يوسف بن إبراهيم مولى إبراهيم بن المهدي:" حضر ابن ماسويه دار ابن المهدي مع جماعة من وجوه الأطباء، وكانت أمه" شكلة" عليلة، فنظروا إلى مائها، وجسّوا عرقها، ثم عادوا في اليوم الثاني، فقالوا كلهم:" إنها أصبحت صالحة لا يشكّون في إفراقها"؛ فلما نهضوا اتبعتهم، فسألت واحدا واحدا عما عنده فيها؟. فكلهم قال مثل مقالته، إلا ابن سلمويه فإنه قال:" هي اليوم أصعب حالا من أمس! ".
وقال لي ميخائيل: إنه قد ظهر بالأمس بالقرب من قلبها مرض ورم لم نره في يومنا هذا، أفترى ذلك الورم ساخ في الأرض، أو ارتفع إلى السماء؟. انصرف فأعدّ لهذه المرأة جهازها، فليست تبيت من الأحياء!. فتوفيت وقت صلاة العشاء.(9/408)
ومنهم:
80- حنين بن إسحاق العبادي «13»
أبو زيد، والعباد- بفتح العين وتخفيف الباء، والعباد: بالفتح قبائل شتى، من بطون العرب، اجتمعوا على النصرانية بالحيرة.
كان من أبناء الصيارف «1» ، تعلق بالعلم يطلب تحصيله، وتيقن تأصيله، يغادي إليه أيامه ويبكّر، ويهاجر منامه ولا يهجر، وكان لا يرفع له علم قدر، ولا يوسع له أكرم صدر، لمهنة آبائه الوضيعة، وأهنة أماناتهم المضيعة، ونفسه تأنف له أن يرى بعين هضيمة، أو يراقب بمعاملة مضيمة، فنهض نهضة ثائر، وقام قومة سائر، ودخل بلاد الروم فتخلّق بأخلاقهم، وجاء على وفاقهم، حتى كان كأحد علمائهم، وأوحد حكمائهم.(9/409)
ثم خرج متنكّرا لا يعرف من الأعياص عيصه «1» ، ولا من أي المصايد قنيصه «2» ، حتى أجلّه من كان لا يجلّه، وقلّ لديه من كان يستقله.
ذكره يوسف بن إبراهيم «3» في سبب ظهوره ما مختصره:" أن حنين العبادي كان يقرأ على ابن ماسويه، ورهط ابن ماسويه من أهل" جندي سابور" ويكرهون أهل الحيرة، فكره ذات يوم من العبادي كثرة سؤاله، فطرده، وقال له:
شأنك أن تكون صيرفيّا!.
فخرج من عنده، وآلى أن يتعلم لغة يونان كأحسن ما يكون. فجمعني به مجلس فإذا بإنسان له شعرة قد جلّلته، وقد ستر وجهه عني ببعضها، وطفق ينشد شعرا بالرومية، ل" أميروس" رئيس شعراء الروم، فعرفته بنغمته، وكان عهدي به بعيدا، فاستكتمني حاله، وسألني الستر عليه، فبقيت أكثر من ثلاث سنين أو أربعا لم أره، ثم إني دخلت على ابن بختيشوع وقد انحدر من معسكر المأمون، فوجدته عنده، وقد ترجم له أقساما قسمها بعض الروم في كتاب من(9/410)
كتاب جالينوس، وهو يخاطبه بالإنجيل ويقول له: يا زين حنين، يعني: أيها المعلم!. فأعظمت ما رأيت، وتبين ذلك جبرائيل في وجهي، فقال: لا تستنكرنّ ما ترى من تبجيلي هذا الفتى، فو الله إن مدّ له في العمر ليفضحنّ الأول، ثم خرج حنين وتبعته، فوجدته ينتظرني، فسلم عليّ، وقال: كنت سألتك ستر خبري، والآن أسألك إظهاره، وإظهار ما سمعت جبرائيل يقوله فيّ. فقلت: إني مسوّد وجه ابن ماسويه بما سمعته. فقال: تمام سواد وجهه أن تدفع إليه هذه النسخة، ولا تعلمه من نقلها. فإذا اشتد عجبه بها أعلمه أنها إخراجي. ففعلت ذلك من يومي وقبل انتهائي إلى منزلي.
فلما قرأ ابن ماسويه تلك الفصول، وهي التي يسميها اليونان:" الفاعلات"، قال:" أترى المسيح أوحى في دهرنا هذا إلى أحد؟ ". فقلت له: ما أوحى المسيح في هذا الدهر ولا في غيره إلى أحد، ولا كان المسيح إلا أحد من يوحى إليه".
فقال له: دعني ليس هذا الإخراج إلا إخراج مؤيد بروح القدس. فقلت له: هذا إخراج حنين بن إسحاق الذي طردته، وأمرته أن يعمل صناعة الصيارف. فقال:
هذا محال. ثم صدّق القول، وسألني التلطّف في إصلاح ما بينهما، ففعلت.
وأفضل عليه أفضالا كثيرة، ثم لم يزل له مبجّلا. ثم لازم ابن ماسويه وأخذ عنه صناعة الطب، ونقل له كتبا كثيرة. ثم لما رأى المأمون في منامه كان شيخا بهيّا، جالسا على منبر وهو يخطب ويقول:" أنا أرسطوطاليس"، أحضر حنين بن إسحاق، وسأله عنه؟. فأخبره. فأمره بنقل كتب الحكماء إلى اللغة العربية، وبذل له أموالا جمّة، وقيل للخليفة إن ملك الروم ربّما دسّه عليك، فكان لا يأخذ بقوله بمفرده. ثم أراد اختباره، فخلع عليه وأعطاه خمسين ألف درهم، ثم قال له: إني أريدك تصف لي دواء أقتل به عدوّا لي سرّا. فقال: إنّي لم أتعلّم إلا الأدوية النافعة، وما علمت أمير المؤمنين يطلب مني غيرها، فإن أحبّ أن أمضي(9/411)
وأتعلم، فعلت ذلك.
فقال: هذا شيء يطول، ورغّبه ورهّبه، وهو لا يزيد على قوله، فحبسه في بعض القلاع، ووكّل من يأتيه بأخباره. فمكث سنة غير مكترث بما هو فيه، دأبه النقل والتفسير والتصنيف، ثم أحضره، وأحضر له أموالا وغيها، وسيفا، ونطعا يرهبه به، وهو على قوله. فقال له: إني أقتلك!. فقال: إن لي ربّا يأخذ بحقي، فإن اختار أمير المؤمنين أن يظلم نفسه فليفعل، فتبسّم له، وقال: طب نفسا، فإنما أردت أن أمتحنك لننتفع بعلمك. فقبّل حنين الأرض، وشكر له، فقال له الخليفة: ما منعك يا حنين من الإجابة مع ما رأيت منا في الحالين؟. فقال:
شيئان. قال: ما هما؟. قال: الدين والصناعة. فخلع عليه، وحمل المال بين يديه، وخرج وهو أحسن عنده حالا.
قال الصّقلّي: كان حنين من رفقة سيبويه في الاشتغال في النحو على الخليل بن أحمد.
وخدم حنين المتوكل، وحظي في أيامه، وكان يلبس زنّارا!.
قال القباني: كان حنين في كل يوم عند نزوله من الركوب يدخل الحمام يصبّ عليه الماء، ويخرج، فيلتف بقطيفة، وقد أعد له هناب من فضة، فيه رطل من شراب، وكعكة مثرودة فيه، فيأكلها ويشرب الشراب ويطرح نفسه حتى يستوفي عرقه. وربما نام، ثم يقوم ويتبخّر، ويقدّم له طعامه، وهو فرّوج كبير مسمّن، قد طبخ بزيرباج «1» ، ورغيف فيه مائتا درهم، فيحسو المرق، ثم يأكل(9/412)
الفرّوج والخبز، ثم ينام فإذا انتبه شرب أربعة أرطال شرابا عتيقا، ولم يذق غير هذا طول عمره، فإذا اشتهى الفاكهة الرطبة أكل التفاح الشامي، والرمان، والسفرجل.
وعمل عليه أعداؤه حتى مات غما في ليلة واحدة «1» .
ومنهم:
81- إسحاق بن حنين بن إسحاق العبادي أبو يعقوب «13»
رجل ما نهنه في طلب، ولا نبّه له جفنا من طرب، ولم يضع نصيبه من كل صالحة، وتصويبه إلى صوت كل صائحة، حتى لا يخلّ تقييده لشاردة، ولا تعديده لواردة، إلا أنه كان أميل إلى الحكمة المطلقة من مفرد الطب، وهي لديه آثر ما يحب، ولم يخل من أدب راح يسوقه، وأرض يسوقه.(9/413)
قال ابن أبي أصيبعة «1» :" كان يلحق بأبيه في النقل ومعرفة اللغات، إلا أن نقله لكتب الطب قليل جدا بالنسبة إلى نقله لكتب أرسطو. وخدم إسحاق من خدم أبوه من الخلفاء والرؤساء. وكان منقطعا إلى القاسم بن عبيد الله وزير المعتضد «2» ، وخصيصا به، ومتقدّما عنده، يفضي إليه بأسراره، وله حكايات مستطرفة، ونوادر. وتوفي أيام المقتدر «3» .
ومن كلامه:
" قليل الراح صديق الروح؛ وكثيرها عدو الجسم" «4» .
وشرب دواء مسهلا، فكتب إليه القاسم بن عبيد الله الوزير مداعبا: [الهزج](9/414)
أبن لي كيف أمسيت؟ ... وكم كان من الحال؟
وكم سارت بك الناقة ... نحو المنزل الخالي؟
فكتب إليه حنين بن إسحاق: [الهزج]
بخير كنت مسرورا ... رضيّ الحال والبال
فأما السير والناقة ... نحو المنزل الخالي
فإجلالك أنسانيه ... يا غاية آمالي
ومنهم:
82- يوحنا بن بختيشوع «13»
كان له جاهه شفيعا، وعلمه يحلّه محلا رفيعا، حتى كان بدرا في منازل الخلافة طالعا، ونديما دواعي السلافة طائعا.
قال ابن أبي أصيبعة «1» :" كان طبيبا متميزا، خبيرا باليونانية والسريانية، ونقل كتبا كثيرة، وخدم الموفق بالله طلحة بن جعفر المتوكل، وكان يعتمد عليه، ويسمّيه" مفرّج كربي".(9/415)
قال ابن طومار: كان الموفّق إذا جلس للشرب تقدم بين يديه صينية من ذهب، ومغسل من ذهب، و" خرداذي" بلّور، وكوز بلّور، ويجلس يوحنا بن بختيشوع عن يمينه، ويقدم إليه مثل ذلك، وكذلك بين يدي أبي غالب الطبيب، ويقدم إلى جميع الجلساء صواني مدهون، وقناني زجاج، وغير ذلك. وكان ابنه بختيشوع بمكانة من المقتدر بالله، وإقطاعات، ثم كان عند الراضي «1» كذلك «2» .
ومنهم:
83- ثابت بن قرة الحرّاني، أبو الحسن «13»
سماء لا تصدأ مرآتها، وورقاء لا تزال تطرب ملهاتها، وكوكب ذري كيف تسير الثواقب، وتصير المناقب، وتسوّر خود الثريا بالهلال، ويخسأ رقيب العوّاء المراقب.(9/416)
ظهر له من قوة الحدس ما كاد يعدّ كرامة، ويرد به البقاء وقد كان الهلك رامه.
قال ابن أبي أصيبعة «1» :" كان من الصابئين المقيمين بحرّان، وتعلم على محمد بن موسى بن شاكر فوصله بالمعتضد، فأدخله في جملة المنجّمين، وهو أصل من كان ببغداد من الصابئة، ولم يكن في زمانه من يماثله في الطب، ولا في غيره من أجزاء الفلسفة، وله تصانيف مشهورة بالجودة، وكذلك جاء جماعة من ذريته، وله أرصاد حسان للشمس، تولّاها ببغداد، وكان يدخل إلى المعتضد إلى الحبس في كل يوم ثلاث مرات يحدّثه، ويؤنسه، ويسليه، فشغف به، فلما خرج من معتقله قال لغلامه بدر: يا بدر! أي رجل أفدنا بعدك؟. فقال: من هو يا سيدي؟. قال: ثابت بن قرة.
ثم أقطعه إقطاعا «2» جليلا، وكان يجلسه بين يديه، [كثيرا بحضرة العام والخاص، ويكون بدر غلام الأمير قائما والوزير، وهو جالس بين يدي الخليفة] .
وحكى أبو إسحاق الصابئ أن ثابت بن قرّة بينما هو ماش مع المعتضد في الفردوس «3» ، وقد اتكأ المعتضد على يده، إذ نتر يده بشدة!، ففزع ثابت لأن(9/417)
المعتضد كان مهيبا، ثم لما نترها قال له: يا أبا الحسن! وكان يكنّيه في الخلوة [وفي الملأ يسميه]- سهوت ووضعت يدي على يدك وما هكذا يجب، لأن العلماء يعلون ولا يعلون.
وحكي أنه اجتاز يوما إلى دار الخلافة، فسمع صياحا وعويلا، فقال: من هذا؟ قالوا: مات القصّاب الذي كان هنا فجأة. فأتى إليه وأمر النساء بالسكوت وأن يعملوا مزوّرة «1» ، وأمر بعض غلمانه أن يضرب القصّاب على كعبه بالعصا.
وجعل يده مجسّة، وما زال ذلك يضرب كعبه إلى أن قال: حسبك. ثم استدعى بقدح وأخرج من كمّه دواء، فذافه «2» في القدح بقليل ماء، وفتح فم القصّاب وسقاه إياه فأساغه، ووقعت الصيحة في الدار والشارع بأن الطبيب قد أحيا الميّت!. فتقدّم ثابت يغلق الباب، وفتح القصاب عينه، وأطعمه المزوّرة، وأجلسه، وقعد عنده ساعة، وإذا برسل الخليفة يدعونه. فلما مثل بين يديه قال له: يا ثابت! ما هذه المسيحية التي بلغتنا عنك؟.
فقال: يا مولاي! كنت أجتاز بهذا القصاب وأراه يشرّح الكبد، ويطرح عليها الملح، ويأكلها. وكنت أعلم أن سيلحقه سكتة. فأعددت له هذا الدواء، فلما قيل لي اليوم إنه مات فجأة البارحة، علمت أن السكتة قد لحقته، فدخلت إليه فلم أجد له نبضا، فضربته إلى أن حركت نبضه، وسقيته الدواء ففتح عينيه، وأطعمته مزوّرة، والليلة يأكل رغيفا بدرّاج، وفي غد يخرج من بيته.(9/418)
ومن كلامه:" ليس على الشيخ أضرّ من أن يكون له طبّاخ حاذق، وجارية حسناء، فيستكثر من الطعام، فيسقم، ومن الجماع فيهرم".
ولما مات ابن قرّة «1» رثاه ابن المنجم النديم «2» بقصيدة منها: [الطويل]
نعينا العلوم الفلسفيات كلها ... خبا نورها إذ قيل قد مات ثابت
ولما أتاه الموت لم يغن طبّه ... ولا ناطق مما حواه وصامت
فلو أنه يسطاع للموت مدفع ... لدافعه عنه حماة مصالت «3»
أآمل أن تجلى عن الحق شبهة ... وشخصك مقبور وصوتك خافت
وقد كان يجلو حسن تبيينك العمى ... وكلّ قؤول حين تنطق ساكت
كأنك مسئول غارف ... ومستبدئا نطقا من الصخر ناحت
فلم يتفقّني من العلم واحد ... هراق «4» إناء العلم بعدك كائت
عجبت لأرض غيّبتك ولم يكن ... ليثبت فيها مثلك الدهر ثابت
ولا يك لما اغتالك الموت شامت ... وأحسنت حتى لم يكن لك مبغض(9/419)
مضى علم العلم الذي كان مقنعا ... فلم يبق إلا مخطئ متهافت
ومنهم:
84- سنان بن ثابت بن قرة «13»
أبو سعيد؛ مقرب كل بعيد، ما صحب صعبا إلا دمّث «1» شيمته، وليّن شكيمته «2» ، ودلّه على كرم الأخلاق، ودلّ عليه وثوب عرضه لا يمزقه إلا خرّاق «3» قال ابن أبي أصيبعة «4» :" كان يلحق بأبيه في معرفته بالعلوم، وله قوة بالغة في علم الهيئة. وخدم المقتدر والراضي، وأراده القاهر على الإسلام فهرب إلى خراسان، ثم عاد وتوفي ببغداد مسلما، وكان على البيمارستان، وكانت تواقيع الوزير عيسى بن علي تأتيه بقرب فينفذها، منها: تفقّد المحابيس وأهل السواد بالأطباء، والأدوية والأغذية، حتى كتب يستأذنه في أهل الذمة، فكتب إليه الوزير: أكرمك الله! ليس بينا خلاف في أن معالجة أهل الذمة والبهائم صواب،(9/420)
ولكن الذي يجب تقديمه والعمل عليه معالجة الناس قبل البهائم، والمسلمين قبل أهل الذمة، فاعمل على ذلك، واكتب إلى أصحابك به، ووصّهم بالتنقّل في القرى والمواضع التي فيها الأوباء الكثيرة، والأمراض الفاشية، واستجدّ في زمانه بيمارستان السيدة «1» بسوق يحيى، والمارستان المقتدري «2» .
ثم خدم بعد الراضي:" بحكم" «3» ، فريّض أخلاقه، وسكّن سورة غضبه، وكان قد شكا إليه ما يجده من ذلك، فقال له كلاما زبدته:" أنت قادر متى شئت على الانتقام، فإذا أردت إيقاع نقمة بأحد، أخّرها إلى الغد، لوثوقك بقدرتك، فالغضب كالسّكر إذا بات زال" «4» .(9/421)
ومنهم:
85- ثابت بن إبراهيم بن زهرون الحراني «13»
كان يتكلم بالحديث الصحيح على كل مغيّب، ويتقدّم عند ملوك قريش على كل أحلافيّ ومطيّب «1» ، لم يبالغ في وصفه من تعدّى، ولا ذكر معجز عجائبه إلا من ظنّ أنه بها يتحدّى.
ذكره ابن أبي أصيبعة فقال «2» :" كان طبيبا فاضلا كثير الدراية، وافر العلم، بارعا في الصناعة، موفقا في المعالجة، مطّلعا على أسرار الطب، وكان مع ذلك ضنينا بما يحسن".
نقلت من خط ابن بطلان «3» قال: كان قد أسكت «4» أبو طاهر ابن بقية في داره الشاطئة على الجسر ببغداد، وقد حضر الأمير معز الدولة بختيار، والأطباء مجمعون على أنه قد مات، فتقدم أبو الحسن الحرّاني، وكنت أصحبه يومئذ،(9/423)
فقال: أيها الأمير! إذا كان قد مات فلن يضرّه الفصاد، فهل تأذن لي في فصده؟.
قال له: افعل يا أبا الحسن!. ففصده، فرشح منه دم يسير، ثم لم يزل يقوى الرشح إلى أن صار الدّم يجري، فأفاق الوزير!.
فلما خلوت به سألته عن الحال- وكان ضنينا بما يقول-؟.
فقال: إن من عادة الوزير أن يستفرغ في كل فصل ربيع دما كثيرا من عروق المعدة، وفي هذا الفصل انقطع عنه، فلما فصدته ثابت القوة من خناقها.
قال عبيد الله بن جبرائيل: لما دخل عضد الدولة- رحمه الله- إلى بغداد، إذ كان أول من لقيه من الأطباء أبو الحسن الحراني، وكان شيخا مسنّا، وسنان، وكان أصغر من أبي الحسن، وكانا عالمين فاضلين، وكانا جميعا يسعران «1» المرضى، ويمضيان إلى دار السلطان، فحسن ثناؤه عليهم، ولما دخلا على عضد الدولة قال: من هؤلاء؟. قالوا: الأطباء. قال: نحن في عافية، وما بنا حاجة إليهم. فانصرفا خجلين، فلما خرجا إلى الدهليز قال سنان لأبي الحسن: يجمل أن ندخل إلى هذا الأسد ونحن شيخان فيفترسنا؟.
قال له أبو الحسن: فما الحيلة؟. قال: نرجع إليه، وأنا أقول ما عندي، وننظر أيش الجواب؟. قال: افعل. فاستأذنا، ودخلا. فقال سنان: أطال الله بقاء مولانا، موضوع صناعتنا حفظ الصحة لا مداواة الأمراض، والملك أحوج الناس إليه.
فقال له عضد الدولة: صدقت. وقرر لهما الجاري السني، وصارا ينوبان مع أطبائه.
قال عبيد الله بن جبرائيل: ولهما أحاديث كثيرة حسنة، منها: حديث قلاء الكبود: وذلك أنه كان بباب الأزج إنسان يقلي الكبود، فكانا إذا اجتازا عليه دعا لهما وشكرهما، وقام لهما حتى ينصرفا.(9/424)
فلما كان في بعض الأيام اجتازا، فلم يرياه، فظنا أنه قد شغل عنهما، ومن غد سألا عنه؟ فقيل لهما: إنه الآن قد مات!. فعجبا من ذلك، وقال أحدهما للآخر: له علينا حق يوجب علينا قصده ومشاهدته، فمضيا جميعا وشاهداه، فلما نظراه، تشاورا في فصده، وسألا أهله أن يؤخروه ساعة واحدة، ليفكروا في أمره، ففعلوا ذلك، وأحضروا فاصدا ففصده فصدة واسعة، فخرج منها دم غليظ، وكان كلما خرج الدم خفّ عنه، حتى تكلّم وسقياه ما يصلح، وانصرفا عنه.
ولما كان في اليوم الثالث خرج إلى دكانه، فكان هذا من المعجز لهما، فسئلا عن ذلك؟ فقالا: سببه أنه كان إذا قلى الكبد يأكل منها، وبدنه يمتلئ دما غليظا وهو لا يحس، حتى فاض من العروق إلى الأوعية، وغمر الحرارة الغريزية، وخنقها كما يخنق الزيت الكثير الفتيلة التي تكون في السراج، فلما بدروه بالفصد نقص الدم، وخف عن القوة الحمل الثقيل، وانتشرت الحرارة وعاد الجسم إلى الصحة، وهذا الامتلاء قد يكون من البلغم أيضا، وقد ذكر أسبابه الفاضل" جالينوس" في كتابه في تحريم الدفن قبل أربع وعشرين ساعة.
قال عبيد الله بن جبرائيل: ومن أحسن ما سمعت عن أبي الحسن الحرّاني:
أنه دخل إلى قرابة الشريف الجليل محمد بن عمر- رحمه الله تعالى- وكان إنسانا نبيل القدر، قد عارضه ضيق نفس شديد، صعب، فأخذ نبضه، وأشار بما يستعمله، فشاوره في الفصد، فقال له: لا أراه وإن كان يخفف المرض تخفيفا بيّنا، وانصرف، وجاءه أبو موسى المعروف ببقّة الطبيب، وأبصر نبضه وقارورته، وأشار بالفصد، فقال له الشريف: قد كان عندي أبو الحسن الحرّاني الساعة، وشاورته في الفصد فذكر أنه لا يراه صوابا.
فقال بقّة: أبو الحسن أعرف!. وانصرف، فجاءه بعض الأطباء الذين هم دون(9/425)
هذه الطبقة، فقال: يفصده سيدنا الساعة، فإنه في الحال يسكن، وقوي عزمه على الفصد، ولم يبرح حتى فصده، فعند ما فصده خفّ عنه ما كان يجده خفا بيّنا، ونام وسكن عنه، واغتذى وهو في عافية، فعاد إليه أبو الحسن الحرّاني آخر النهار فوجده ساكنا قارّا، فلما رآه على تلك الحال قال له: قد فصدت؟.
فقال: كيف كنت أفعل ما لم تأمرني به؟.
قال: ما هو هذا السكون إلا للفصد!.
فقال له الشريف: لمّا علمت بهذا لم لا فصدتني؟.
فقال له أبو الحسن الحرّاني: إذ قد فصد سيدنا فليبشر بحمّى ربع سبعين دور، ولو أن بقراط وجالينوس عنده ما تخلّص إلا بعد انقضائها.
واستدعى دواة، ودرجا، ورتّب تدبيره لسبعين نوبة، ودفعه إليه، وقال: هذا تدبيرك، فإذا انقضى ذلك جئت إليك. وانصرف، فما مضى أيام حتى جاءت الحمّى وبقيت كما قال، فما خالف تدبيره حتى برأ.
قال عبيد الله بن جبريل: ومن أخباره أنه كان للحاجب الكبير غلام، وكان مشغوفا به، واتفق أن الحاجب صنع دعوة كبيرة كان فيها أجلّاء الدولة، ولما اشتغل بأمر الدعوة حمّ الغلام حمى حادة، فورد على قلب الحاجب من ذلك موردا عظيما، وقلق قلقا كثيرا، واستدعى أبا الحسن الحرّاني، فقال له: يا أبا الحسن! أريد الغلام يخدمني في غداة، اعمل كل ما تقدر عليه، وأنا أكافئك بما يضاهي فعلك. فقال له: يا حاجب! إن تركت الغلام يستوفي أيام مرضه عاش، وإلا فيمكنني من ملازمته أن يقوم في غد لخدمتك، ولكن إذا كان العام المقبل في مثل هذا اليوم يحمّ حمّى حادّة، ولو كان من كان عنده من الأطباء لم ينجع فيه مداواته، ويموت إما في البحران الأول، أو الثاني، فانظر أيهما أحب إليك؟.(9/426)
فقال له الحاجب: أريد أن يخدمني في غد، وإلى العام المقبل فرج- ظنّا منه أن هذا القول من الأحاديث المدفوعة-. ولا زمه أبو الحسن. ولما كان في غد أفاق، وأقام في الخدمة، وأعطى الحاجب لأبي الحسن خلعة سنية، ومالا كثيرا، وصار يكرمه غاية الإكرام.
فلما كان في العام المقبل في مثل اليوم الذي حمّ فيه الغلام، عاودته الحمى، فأقام محموما سبعة أيام، ومات. فعظم في نفس الحاجب وجماعة من الناس قوله، وكبر لديهم محلّه، وكان هذا منه كالمعجز «1»
ومنهم:
86- ابن وصيف الصابئ «13»
كان يصبو إليه كلّ حكيم، ويصيب لديه غرضه كل عليم، لا ترضّ له صخره، ولا يرضى لغيره فخره، ولا يزال بعده كل عليل لصعب الأدواء ذخره.
قال ابن أبي أصيبعة فيه:" كان طبيبا عالما بعلاج أمراض العين، ولم يكن في زمانه أعلم منه في ذلك، ولا أكثر مزاولة.
قال سليمان «2» : حدّثني أحمد بن يونس الحرّاني، قال: حضرت بين يدي أحمد بن وصيف الحراني، وقد أحضر سبعة أنفس لقدح أعينهم، وفي جملتهم رجل من أهل خراسان، أقعده بين يديه، ونظر إلى عينيه فرأى ماء متهيّأ للقدح،(9/427)
فسامه على ذلك، فطلب إليه فيه، واتفق معه على ثمانين درهما، وحلف أنه لا يملك غيرها. فلما حلف له الرجل اطمأنّ وضمّه إلى نفسه، ورفع يديه على عضده، فوجد بها نطاقا صغيرا فيه دنانير، فقال له ابن وصيف: [ما هذا؟، فتلون الخراساني، فقال ابن وصيف:] «1» حلفت بالله حانثا وأنت ترجو رجوع بصرك إليك؟!. والله لا عالجتك إذ خادعت ربك «2» ، فطلب إليه فأبى أن يقدحه، وصرف إليه الثمانين درهما ولم يقدح عينه.
ومنهم:
87- غالب «طبيب المعتضد» «13»
ما عاد مريضا فعاد مهيضا «3» ، ولا زار عليلا فشكا غليلا «4» ، ولا أتى لقى بقلبه الضنى إلا نهض من مضجعه، ونهى عن الضراء به توجّعه، نفق في مثل سوق المعتضد، ووافق منه ظنّ المعتقد، وكان منه حيث لا يقر قرار المعتمد.
قال ابن أبي أصيبعة:" كان يخدم الموفق «5» أيام أبيه المتوكل، وخوّله، ونوّله، وكان يغلفه بيده، وينادمه، ثم خدم المعتضد بعد أبيه الموفق، وعالج الموفق من سهم أصابه فبرأ، فأعطاه مالا كثيرا، وقال لغلمانه: من أراد إكرامي فليكرمه، فبعث إليه مسرور بعشرة آلاف دينار، ومائة ثوب، وبعث إليه سائر الغلمان ما لا يحصى، وأقطعه مرة زيادة على رزقه ضياعا تغلّ سبعة آلاف دينار، وأتى(9/428)
المعتضد وهو بآمد «1» خبر موته، فكان هو المبتدئ لابنه سعيد بالعزاء فيه، ثم بعث إليه الوزير وسائر أرباب الدولة لتعزيته، وبعث إليه بخون «2» الطعام، ثم خلع عليه، وأجرى عليه كل ما كان لأبيه.
ومنهم:
88- صاعد بن بشر بن عبدوس أبو منصور «13»
فطن لكثير من الغلط، وبيّن في أمور منها ما اختلط، حتى تلافى تلف الأبدان، ووافى بما لم يكن للحكماء القدماء به يدان، ونقل الأمزجة إلى ما يلائمها، وأجمع على هذا آراءه وقد كثر لائمها، ثم قفّى من بعده على آثاره الحكماء، وحفظ تدبيره ونسيت القدماء.
ذكره ابن أبي أصيبعة «3» ، وقال:" كان قاصدا بالبيمارستان [ببغداد] ، ثم اشتغل بصناعة الطب، حتى صار من أكابر أهلها. قال: وهو أول من فطن لنقل أكثر الأمراض التي كانت تداوى بالأدوية الحارّة إلى التدبير المبرّد، كالفالج،(9/429)
والاسترخاء، واللقوة، وخالف مسطور القدماء، أخذ المرضى بالفصد والتبريد، ومنع المرضى من الغذاء فأنجح تدبيره، وتقدّم، وانتهت الرياسة إليه، وعوّل الملوك عليه، فرفع عن البيمارستان المعاجين الحارة، والأدوية الحادة، ونقل تدبير المرضى إلى ماء الشعير، ومياه البزور، فأظهر من المداواة عجائب. من ذلك: ما حكاه لي" بميافارقين" الرئيس أبو يحيى ولد الوزير أبي القاسم المغربي، قال: عرض للوزير بالأنبار «1» قولنج صعب، أقام لأجله في الحمام، واحتقن عدة حقن، وشرب عدة شربات، فلم ير صلاحا. فأنفذنا رسولا إلى صاعد، فلما جاء ورآه على تلك الحال، ولسانه قد قصر من العطش، وشرب الماء الحار والسكر، وجسمه يتوقّد من ملازمة الحمّام، ومداومة المعاجين الحارة، والحقن الحارة، استدعى كوز ماء مثلوج، فأعطاه الوزير، فتوقف عن شربه، ثم إنه جمع بين الشهوة وترك المخالفة، وشربه، فرويت في الحال نفسه. ثم استدعى فاصدا ففصده، وأخرج له دما كثير المقدار، وسقاه ماء البزور، ولعابا، وسكنجبين، ونقله من حجرة الحمام إلى الخيش، وقال له: إن الوزير- أدام الله عافيته- سينام بعد الفصد، ويعرق وينتبه، فيقوم عدة مجالس، وقد تفضّل الله بعافيته. ثم تقدّم بصرف الخدم لينام. فقام الوزير إلى مرقده، وقد وجد خفّة بعد الفصد، فنام مقدار خمس ساعات، وانتبه يصيح بالفراشين. فقال صاعد للفرّاش: إذا قام من الصبيحة، فقل له يعاود النوم حتى لا ينقطع العرق، فلما خرج الفراش من عنده قال: وجدت ثيابه كأنها قد صبغت بماء الزعفران، وقد قام مجلسا ونام، ثم لا زال الوزير يتبرّد دفعات إلى آخر النهار مجالس عدة، ومن بعد هذا غذّاه بمزورة، وسقاه(9/430)
ثلاثة أيام ماء الشعير، فبرأ برءا تاما، فكان الوزير أبدا يقول: طوبى لمن سكن بغداد دارا شاطئة، وكان طبيبه أبو منصور، وكاتبه أبو علي بن موصلايا، فبلغه الله أمانيه فيما طلب".
ونقلت أيضا من خط ابن بطلان: أن صاعد الطبيب عالج الأجلّ المرتضى»
- رضي الله عنه- من لسب «2» عقرب، بأن ضمّد [المكان] بكافور. فسكن عنه الألم في الحال.
ونقلت من خط أبي سعيد الحسن بن أحمد بن علي في كتاب" ورطة الأجلاء من هفوة الأطباء" قال: كان الوزير علي بن بلبل ببغداد وكان له ابن أخت، فلحقته سكتة دموية، وخفي حاله على جميع الأطباء، وكان بينهم صاعد بن بشر حاضرا، فسكت حتى أقرّ جميع الأطباء بموته، ووقع اليأس من حياته، وتقدم الوزير في تجهيزه، واجتمع الخلق في العزاء، والناس في اللطم والنياح، ولم يبرح صاعد بن بشر من مجلس الوزير، فعند ذلك قال الوزير لصاعد بن بشر الطبيب: هل لك حاجة؟. فقال له: نعم يا مولانا!، إن رسمت وأذنت لي ذكرت. فقال: تقدّم وقل ما يلج في صدرك. فقال صاعد: هذه سكتة دموية، ولا مضرّة في إرسال مبضع واحد، وننظر، فإن نجح كان المراد، وإن تكن الأخرى فلا مضرّة فيه.(9/431)
ففرح الوزير وتقدّم بإبعاد النساء، وأحضر ما وجب من التمريخ «1» والنطول «2» ، والبخور، والنشوق، واستعمل ما يجب من شد عضد المريض، وأقعده في حضن بعض الحاضرين، وأرسل المبضع بعد التعليق على الواجب من حاله، فخرج الدم، ووقعت البشائر في الدار، ولم يزل يخرج الدم حتى استتم ثلاث مائة درهم من الدم، فانفتحت العين، ولم ينطق، فشدّ اليد الأخرى، ونشّقه ما وجب تنشيقه، ثم فصده ثانيا، وأخرج مثلها من الدم وأكثر، فتكلم، ثم أسقي وأطعم ما وجب، فبرئ من ذلك، وصحّ جسمه، وركب في الرابع إلى الجامع، ومنه إلى ديوان الخليفة، فدعا له، ونثر عليه من الدراهم والدنانير الكثيرة، وحصل لصاعد بن بشر الطبيب مال عظيم، وحشّمه الخليفة والوزير، وقدّمه، وزكّاه، وتقدّم على جميع من كان في زمانه.
ووجدت صاعد بن بشر قد ذكر في مقالته في مرض المراقيا ما عاينه في ذلك الزمان من أهوال وجدها، ومخاوف شاهدها، ما هذا نصه:" وإنه عرض لنا من تضايق الزمان علينا والتشاغل بالتماس الأمر الضروري، ولما قد شملنا من الخوف والحذر والفزع، واختلاف السلاطين، وما قد بلينا به مع ذلك من التنقل في المواضع غربيّها وشرقيّها، ولما قد أظلّنا من الأمور المذعرة المخوفة، التي لا نرجو في كشفها إلا الله تقدّس اسمه". هذا ما ذكره، وما كان في أيامه إلا اختلاف ملوك الإسلام بعضهم مع بعض، وكان الناس سالمين في أنفسهم، آمنين من القتل والسبي، فكيف لو شاهد ما شاهدنا، ونظر ما نظرنا في زماننا من التتر الذين أهلكوا العباد، وخرّبوا البلاد، وكونهم إذا أتوا إلى مدينة فما لهم إلا قتل جميع(9/432)
من فيها من الرجال، وسبي الأولاد والنساء، ونهب الأموال، وتخريب القلاع والمدن، لكان استصغر ما ذكره، واستقلّ ما عاينه وحقره، ولكن ما طامّة إلا وفوقها طامّة أعظم منها، ولا حادثة إلا وغيرها يكبر عنها، ولله الحمد على الإسلام والعافية «1» .
ومنهم:
89- ديلم «13»
وكان من الأطباء المهرة، والألبّاء أهل المخبرة، تقدّم في جيله، وقدّم لتبجيله، وحبي بحب لم يمح من الضمائر، ولم يلح عليه آمر ليد لم يقصر به باعها، ولم تمدّ لجس نبض إلا وأيدي الأطباء أتباعها.
ذكره ابن أبي أصيبعة وقال:" كان من الأطباء المذكورين ببغداد، المتقدمين في(9/433)
صناعة الطب، وكان يتردّد إلى الحسن بن مخلد، وزير المعتمد، ويخدمه، ووجدت في بعض التواريخ أن المعتمد على الله وهو أحمد بن المتوكل أراد أن يفتصد، فقال للحسن بن مخلد: اكتب لي جميع من في خدمتنا من الأطباء حتى نتقدّم بأن تصل كل واحد منهم على قدره.
فكتب الأسماء وأدخل فيها اسم: ديلم" المتطبب، وكان" ديلم" يخدم الحسن بن مخلد، فوقع تحت الأسماء بالصّلات. فقال ديلم: إني جالس في منزلي، وقد وافى رسول بيت المال، ومعه كيس فيه ألف دينار، فسلّمه إليّ، وانصرف. فلم أدر ما السبب فيه. فبادرت بالركوب إلى الحسن بن مخلد وهو حينئذ الوزير، فعرّفته ذلك، فقال: افتصد أمير المؤمنين، وأمر أن أكتب أسماء الأطباء ليتقدم بصلاتهم، فأدخلت اسمك معهم، فخرج لك ألف دينار.
ومنهم:
90- فنّون المتطبّب «13»
طبيب بختيار «1» ، ولبيب عرف بحسن الاختيار. أتقن الحكمة علما وعملا، وعزما وأملا، وحاز الفضائل معرفة ما ونت، ومعالجة ما دعت صحة إلا دنت.
قال ابن جبريل: ومن أخباره مع بختيار: أنه رمدت عين بختيار في بعض(9/434)
الأوقات، فقال له: يا أبا نصر! ليس والله! تبرح من عندي، أو تبري عيني.
وأريدها تبرأ إلى يوم واحد، وأبرمه. قال: فسمعت أبا نصر يتحدّث أنه قال له:
إن «1» أردت أن تبرأ فتقدم إلى الغلمان والفراشين أن يأتمروني دونك في هذا اليوم، وما منهم من يخالفني في أمري إلا قتلته، ففعل بختيار ذلك؛ فأمر أبو نصر أن يحضر إجّانة «2» مملوءة عسل الطبرزد «3» ، فلما حضر غمس يدي بختيار فيه، ثم بدأ يداوي عينيه بالشياف «4» الأبيض، وما يصلح الرمد، وجعل بختيار يصيح بالغلمان، فلا يجيبه أحد، ولم يزل كذلك يكحله إلى آخر النهار فبريء، وكان هو السفير بين بختيار والخليفة، وإذا خرجت الخلع فعلى يديه تخرج، وله منها النصيب الأوفر.
ومنهم:
91- نظيف- القسّ الرّومي- «13»
كان كريم العلاج إلا أنه يتلاءم، مبارك اليد إلا من رآه يتشاءم، لو رأى إبليس(9/435)
طلعة وجهه قال: فديت من لا يفلح، أو أرسطوطاليس لأفسد كل ما كان يصلح، طار عليه طائر هذه السمعة القبيحة، والشنعة التي لبس منها ثوب الفضيحة، وكان فاضلا لا يعوز، ويتضاءل لديه البحر الذي يعجز.
قال ابن أبي أصيبعة:" كان خبيرا باللغات والنقل، فاضلا في الطب، وكان عضد الدولة يتطيّر «1» منه، وكان [الناس] «2» يولعون به إذا دخل إلى مريض.
حتى حكي في بعض الأوقات أن عضد الدولة أنفذه إلى بعض القوّاد في مرض كان عرض لهن فلما خرج من عند القائد استدعى ثقته وأنفذه إلى حاجب عضد الدولة، يستعلم منه نية الملك فيه؟. ويقول: إن كان ثمّ تغير نية فليأخذ له الإذن في الانصراف والبعد، فقد قلق لما جرى!. فسأل الحاجب عن ذلك، وسببه، فقال الغلام: ما أعرف أكثر من أنه جاءه نظيف الطبيب، وقال له: يا مولانا الملك! أنفذني لعيادتك. فمضى الحاجب؛ وأعاد بحضرة الملك عضد الدولة هذا الحديث. فضحك وأمره أن يمضي إليه، ويعلمه بحسن نيته فيه، وإن ذلك لشغل قلبه به أنفذه إليه ليعوده، وحملت إليه خلع سنيّة، سكنت بها نفسه، وزال عنه ما كان أضمره من شغل القلب، وكان دائما يولع به بسببها.(9/436)
ومنهم:
92- ابن بطلان، أبو الحسن المختار بن عبدون بن سعدون ابن بطلان النصراني «13»
طبيب مكمّل، وأريب مؤمّل، وأديب يدل عليه شعره من يتأمّل رشق الكلام، شرق الضياء في الظلام، شرق عدوه بمائه وصفق وما أفاق إلا بأسمائه، وكان على إصراره على نصرانيته التي انتصر لخذلانها، وهصر غصون الإخاء لخلانها، معروفا بمروءة طال به جلبابها، واتسع لكل طالب علم وندى بابها.
قال ابن أبي أصيبعة فيه «1» :" كان قد اشتغل على ابن الطّيّب «2» ، وقرأ عليه كثيرا من كتب الحكمة وغيرها، ولازم ابن زهرون، واشتغل عليه، وكان معاصرا لابن رضوان الطبيب [المصري] ، وكانت بينهما مراسلات عجيبة، وكتب غريبة، ولم يؤلف واحد منهما كتابا ولا ابتدع رأيا إلا ردّ الآخر عليه وسفّه رأيه فيه!.
وسافر ابن بطلان يريد مصر ليرى ابن رضوان «3» ، فمرّ في طريقه بحلب،(9/437)
فأكرمه صاحبها معز الدولة ثمال بن صالح، ثم أتى دولة مصر في دولة المستنصر «1» ، وجرت بين ابن بطلان وابن رضوان وقائع كثيرة، ونوادر ظريفة.
قال: وألف كل منهما كتابا في الردّ على الآخر، وكلام ابن بطلان أعذب ألفاظا وأكثر ظرفا، وأميز بالأدب، ومما يدلّ على ذلك تسميته له بتمساح الجن!.
وكان ابن رضوان أسود قبيح الصورة، وفيه يقول: [الطويل]
ولما تبدّى للقوابل وجهه ... نكصن على أعقابهنّ من الندم
وقلن وأخفين الكلام تستّرا: ... ألا ليتنا كنا تركناه في الرحم
ثم سافر ابن بطلان من مصر إلى القسطنطينية وعرضت في زمانه أوباء كثيرة، وله في هذا رسالة معروفة، وله أشعار كثيرة جدا.
ومنهم:
93- أحمد بن أبي الأشعث «13»
طبيب يلمّ الشعث، ويضم السقام من تفاريق الأعضاء إذا انبعث، لا يغالب طبه النافع، ولا يغالط دواؤه بمدافع، تخال هيئة اسقليبيوس صفته، وتخطي(9/438)
معالجة جالينوس ولا تخطيء وصفته.
ذكره ابن أبي أصيبعة «1»
وقال:" كان وافر العقل، كثير السكينة والوقار، متفقها في الدين، وعمّر عمرا طويلا، وكان لا يفعل إلا جميلا، وكان فاضلا في العلوم «2» الحكمية، وله تصانيف كثيرة مفضّلة، تدلّ على العلم، وعلو المنزلة، ومصنّفا في الطب لا نظير له في الجودة.
وكان أصله من فارس، وكان متصرّفا ثم صودر، فخرج من بلده هاربا ودخل الموصل بحال سيئة، ووافق أن كان لصاحبها ناصر الدولة ولد عليل بقيام الدم، لا يزداد بمعالجة الأطباء إلا مرضا، فقال لأمه: أنا أعالجه، وأراها غلط الأطباء في التدبير؛ فسكنت إليه. فعالجه، فبرأ فأجزل عطاؤه، وأحسن إليه، وأقام بالموصل إلى آخر عمره".
ومنهم:
94- أبو سهل النيلي. وهو: سعيد بن عبد العزيز «13»
طبيب حاذق في العلاج، صادق الحدس في معرفة المزاج، لم يزر مريضا إلا أخذ بيده من الفراش، واستوقف السقم وقد جرى في المشاش «3» ، وطرد عنه(9/439)
وسواس حمى تتهافت به في النار تهافت الفراش.
قال ابن أبي أصيبعة فيه «1» :" مشهور بالفضل، عالم الطب، جيد التصنيف، متفنّن في الأدب، بارع في الشعر، ومنه قوله: [الخفيف]
استقني الراح، تشف لوعة قلب ... بات مذ بتّ للهموم سميرا
هي في الكأس خمرة فإذا ما ... أفرغت في الحشا استحالت سرورا
ومنهم:
95- ابن الواسطي «طبيب المستظهر» «13»
كان مقبول الكلمة، مأمول الشفاعة عند الظلمة، مع نفس متّسعه، وفضل ينفق منه من سعه، وكرم يكر على أمواله ليشتتها، وعلى آماله ليثبتها، وكانت له من المستظهر كرامة لا يهان قدرها، ولا يهاب إلا إذا ضاق في مرماها الفسيح فقرها.
قال ابن أبي أصيبعة:" كان رفيع المنزلة، وكان ابن المموّج صاحب الديوان قد استقرت عليه قرية بثلاثة آلاف دينار، قام منها بألفين، وسأل إنظاره بالألف المتأخرة إلى أوان الغلّة، فلم يتحصّل فأشار عليه حاجبه ابن الداوتي «2» أن يأتي ابن الواسطي «3» ليستمهل له المستظهر، فأتاه فأكبر مجيئه، وأخلى له المجلس،(9/440)
فعرّفه الصورة، وأنه قد رهن كتب داره على خمسمائة دينار، فلما كان من الغد بعث حاجبه يتقاضاه، فأعطاه خط الخليفة بالخمسمائة دينار، وكتب ملكه، واستقبل له من ماله، وألبس الحاجب خلعة، وبعث معه إلى ابن المعوج دست ثياب فاخر، وخمسمائة دينار للنفقة، فقبل ذلك منه وشكره".
ومنهم:
96- أبو طاهر البرخشي، أحمد بن محمد بن العباس «13»
من أهل واسط، وطبيب فيما أهّل له من العلم قاسط، قاس على ما صحّ من قديم التجريب، وعميم النظر الذي يحقق رأي الأريب.
ذكره ابن أبي أصيبعة وقال:" فاضل في الصناعة الطبية، كامل في الأدب، كان في أيام المسترشد بالله «1» . قال: وكان يعالج بواسط مريضا به أحد أنواع الاستسقاء ولم ينجع فيه علاج، وتجاوز حد الحمية، فسهّل له في أكل ما أراد.
فاجتاز به رجل يبيع الجراد مسلوقا فاشترى منه وأكل، فعرض له منه إسهال مفرط، ثم انقطع الإسهال، وأخذ مزاجه في الصلاح إلى أن عوفي، فلما علم أبو طاهر بعافيته وكان قد يئس منه، أتاه وسأله: بم وجد الراحة؟ فقصّ عليه خبر(9/441)
الجراد، فأفكر وقال: ليس هذا من فعل الجراد ولا خاصيته. فتقصّى عن بائعه حتى عرفه، فقال له: أتعرف الموضع الذي صدت منه الجراد الذي أكله هذا؟
قال: نعم. قال: فامض بنا إليه. فلما أتاه رأى حشيشة هناك يرعاها الجراد، فكان يداوي بها من الاستسقاء، وأبرأ بها جماعة من هذا المرض".
قال ابن أبي أصيبعة:" وهذه حكاية قديمة قد جرى ذكرها، وأن تلك الحشيشة هي المازريون. وقد ذكرها التنوخي في كتاب:" الفرج بعد الشدة" وأنشد له قوله في غلام ناوله خلالا: [الطويل]
وناولني من كفه مثل خصره ... ومثل محب ذاب من طول هجره
وقال: خلالي؟ قلت: كل حميدة ... سوى قتل صب حار فيك بأسره «1»
ومنهم:
97- أبو غالب ابن صفية «13»
النصراني. أسقطته ديانته، وأرهقته خيانته، وأترع بيده كأس الموت لنفسه، وهيّأ لمصرعه حفرة رمسه «2» ، وأتى عليه من حيث ظن أنه ينتفع، وسقط من يديه من حيث توهّم أنه يرتفع، ومن حاول قتل الأسد الضرغامه، وختل الصل الهامه، ودرأ بكفّه متن الهندواني «3» ، وفلّ بإصبعه باب اليماني، لا يعجب له من إسراع التلف، ولا من إسراف ما ينفق من عمره الذاهب بلا خلف.(9/442)
حكي أنه كان يشي بأسرار المستنجد «1» إلى قايماز «2» مقدّم الأمراء إذ ذاك، وكان المستنجد يريد قبض قايماز فاعتلّ المستنجد فدسوه عليه حتى وصف له الحمّام، وكان لا يصلح له، وعرف المستنجد أن قوته لا تقوى على الحمام، فدخل عليه قايماز والأمراء حوله، وألزموه بدخوله، وكانوا قد سجّروه ثلاثة أيام بلياليهنّ، فلما دخلوا إليه ردّوا عيه بابه ساعة، فمات. وبايعوا ابنه المستضيء «3»(9/443)
بعد أيمان حلفوه عليها. فأقام مدة وفي نفسه من فعلتهم بأبيه، فشرع في العمل عليهم، وابن صفية على ما هو عليه من نقل خبره، فطلبه المستضيء ليلا وطلب منه ترتيب دواء قتّال ليقتل به عدوّا له، فعمله واجتهد فيه، فلما أحضره قال له:
استفّ منه حتى نجرّب فعله!. فتلوّى من ذلك وقال: الله الله فيّ. فقال له:
الطبيب من تجاوز حدّه فليس له إلا هذا أو السيف. فاستفّ ذلك الدواء، ففرّ من الهلاك إلى الهلاك. ثم خرج من الدار وكتب إلى قايماز بما كان، وقال له:" والانتقال من أمري إلى أمركم". ثم هلك. وعزم قايماز على الإيقاع بالخليفة فردّه الله، وهرب إلى الموصل، فمرض في الطريق ثم دخل الموصل فمات بها.
ومنهم:
98- أمين الدولة ابن التلميذ «13»
كان فرد قرانه، وندّ أقرانه، وبلغ بعلمه مبالغ الأشراف، ووصل في فهمه إلى حدّ الإشراف، وكان يتكلّم في مجالس الخلفاء متبسّطا، ويتقدّم في مجال السؤال للضعفاء متوسّطا، لسابقة خدمه، وباسقة صنعه في بيت الإمامة دون باقي خدمه، ولما تحلّت به شيمه من مآثر، وحلت باديه مما لا يقدر عليه مكاثر، حتى كان يناظر جلّة الفقهاء، وجملة أهل العلم سوى السفهاء، ويفترس الأدباء، ويفترش لمواطيه الأطباء، ويضرب بقلمه عصا ابن البوّاب «1» ، ويطرف طرف(9/444)
طرسه مقلة ابن مقلة «1» ، وهو على دينه المخالف، وتعود ملته في الخوالف، يكره الصدور، وتخبر خبره البدور.
قال ابن أبي أصيبعة «2» :" هو الأجلّ موفق الملك أمين الدولة أبو الحسن هبة الله بن أبي العلاء صاعد بن إبراهيم بن التلميذ، أوحد زمانه في صناعة الطب، ومباشرة أعمالها، وكان في أول أمره قد سافر إلى بلاد العجم، وبقي بها سنين كثيرة في الخدمة، وكان جيّد الخطّ، يكتب المنسوب في نهاية الحسن والصّحّة، وكان عارفا بالسرياني والفارسي، متبحّرا في العربية، وله شعر مستظرف، وهو من بيت كتابة، وكان هو وأوحد الزمان [أبو البركات] يخدمان المستضيء، وكان أوحد الزمان أبصر بالحكمة، وابن التلميذ أبصر بالطب، وكان بينهما شنآن «3» ، إلا أن ابن التلميذ كان أعقلهما، وخيرهما فعلا، وسعى أوحد الزمان عليه حتى كاد يرديه، ثم رد عليه كيده فوهب ماله ودمه لابن التلميذ، فعفا(9/445)
عنه. وإن مما قال فيه: [البسيط]
لنا صديق يهودي حماقته ... إذا تكلم تبدو فيه من فيه
يتيه والكلب أعلى منه منزلة ... كأنه بعد لم يخرج من التيه
وقد قيل فيهما: [الوافر]
أبو الحسن الطبيب ومقتفيه ... أبو البركات في طرفي نقيض
فهذا بالتواضع في الثريا ... وهذا بالتكبر في الحضيض
قال عبد اللطيف البغدادي:" كان أمين الدولة حسن العشرة كريم الأخلاق، وعنده سخاء ومروءة، وأعمال في الطب مشهورة، وحدوس صائبة، منها: أنه أحضرت إليه امرأة محمولة لا يعرف أهلها في الحياة هي أم في الممات؟ وكان الزمان شتاء، فأمر بتجريدها، وصب الماء المبّرد عليها صبا متتابعا كثيرا، ثم بنقلها إلى مجلس دافئ قد بخّر بالعود والنّدّ، ودثّرت بأصناف الفراء ساعة، فعطست وقعدت، وخرجت ماشية مع أهلها إلى منزلها".
قال:" ودخل إليه رجل مترف، يعرق دما في زمن الصيف، فسأل تلاميذه وكانوا خمسين نفسا، فلم يعرفوا المرض. فأمره أن يأكل خبز شعير مع باذنجان مشوي. ففعل ذلك ثلاثة أيام، فبرأ، فسأله أصحابه عن العلة؟ فقال: إن دمه قد رقّ، ومسامّه قد تفتّحت، وهذا الدواء من شأنه تغليظ الدم، وتكثيف المسام".
قال:" ومن مروءته أن ظهر داره كان يلي النظامية، فإذا مرض فقيه نقله إليه، وقام في مرضه عليه، فإذا برأ وهب له دينارين وصرفه".
ومما حكاه أيضا عن أمين الدولة، وكان قد تجاوز في هذه الحكاية، قال:" وكان أمين الدولة لا يقبل عطية إلا من خليفة أو سلطان، فعرض لبعض الملوك(9/446)
النائية داره مرض مزمن، فقيل له: ليس لك إلا ابن التلميذ. وهو لا يقصد أحدا.
فقال: أنا أتوجّه إليه!. فلما وصل أفرد له ولغلمانه دورا وأفاض عليه من الجرايات قدر الكفاية، ولبث مدة، فبرئ الملك وتوجّه إلى بلاده وأرسل إليه مع بعض التجار أربعة آلاف دينار، وأربعة تخوت عتابي، وأربعة مماليك، وأربعة أفراس، فامتنع من قبولها، وقال: إن عليّ يمينا لا أقبل من أحد شيئا. فقال التاجر: هذا مقدار كثير. قال: لما حلفت ما استثنيت. وأقام شهرا يراوده ولا يزداد إلا إباء.
فقال له عند الوداع: ها أنا أسافر ولا ارجع إلى صاحبي، وأتمتع بالمال، فتتقلّد منّته وتفوتك منفعته، ولا يعلم أحد بأنك رددته!. فقال: ألست أعلم في نفسي أني لم أقبله؟ فنفسي تشرف بذلك، علم الناس أو جهلوا".
وحدّثنا الحكيم مهذّب الدين عبد الرحيم بن علي قال: حدّثني الشيخ موفق الدين أسعد بن إلياس بن المطران، قال: حدّثني أبي قال: حدثني أبو الفرج بن توما، وأبو الفرج المسيحي قالا:" كان الأجلّ أمين الدولة ابن التلميذ جالسا ونحن بين يديه-: استأذنت عليه امرأة ومعها صبيّ صغير، فأدخلت عليه فحين رآها بدرها فقال: إن صبيّك هذا به حرقة البول، وهو يبول الرمل!. فقالت:
نعم. فقال: فيستعمل كذا وكذا، وانصرفت. قالا: فسألناه عن العلامة الدالّة على أنّ به ذلك، وأنه لو أن الآفة في الكبد أو الطحال لكان اللون من الاستدلال مطابقا. فقال: حين دخل رأيته يولع بإحليله ويحكّه ووجدت أنامل يديه مشقّقة قاحلة. فعلمت أن الحكة من الرمل، وإن تلك المادة الحادّة الموجبة للحكة والحرقة، ربما لا مست أنامله عند ولوعه بالقضيب فتقحّل وتشقّق، فحكمت بذلك. وكان موافقا".
ومن نوادر أمين الدولة وحسن إشاراته، أنه كان يوما عند المستضيء بالله وقد أسنّ أمين الدولة، فلما نهض للقيام توكّأ على ركبتيه، فقال له الخليفة:(9/447)
كبرت يا أمين الدولة. فقال: نعم يا أمير المؤمنين، وتكسّرت قواريري. ففكّر الخليفة في قول أمين الدولة، وعلم أنه لم يقله إلا لمعنى قد قصده، وسأل عن ذلك، فقيل له: إن الإمام المستنجد بالله كان قد وهبه ضيعة تسمى قوارير وبقيت في يده زمانا، ثم من مدة ثلاث سنين حط الوزير يده عليها، فتعجّب الخليفة من حسن أدب أمين الدولة، وأنه لم ينه أمرها إليه ولا عرض بطلبها، ثم أمر الخليفة بإعادة الضيعة إلى أمين الدولة وأن لا يعارض في شيء من ملكه.
ومن شعره قوله في ولده وكان غاية في الدين: [المنسرح]
أشكو إلى الله صاحبا شكسا ... تسعفه النفس وهو يسعفها
فنحن كالشمس والهلال معا ... تكسبه النور وهو يكسفها
وقوله: [المتقارب]
إذا وجد الشيخ في نفسه ... نشاطا، فذلك موت خفي
ألست ترى أن ضوء السراج ... له لهب قبل أن ينطفي
وقوله: [مجزوء الكامل]
قال الأنام، وقد رأوه ... مع الحداثة، قد تصدّر:
من ذا المجاوز قدره؟ ... قلت: المقدّم بالمؤخّر
وقوله: [مجزوء الكامل]
قد قلت للشيخ الجليل ... الأريحي أبي المظفر:
ذكّر فلان الدين بي ... قال: لا يذكّر
وقوله: [الكامل]
العلم للرجل اللبيب زيادة ... ونقيصة للأحمق الطيّاش(9/448)
مثل النهار يزيد أبصار الورى ... نورا، ويغشي أعين الخفّاش
وقوله: [الوافر]
أجدّك، إن من شيم الليالي ... العنيفة أن تجوز على اللهيف
كمثل اللحظ أغلب ما تراه ... يصب أذاه في العضو الضعيف
وقوله: [البسيط]
لا تحسبنّ سواد الخال عن خلل ... من الطبيعة، أو إحداثه غلطا
وإنما قلم التصوير حين جرى ... بنون حاجبه، في خده نقطا
وقوله: [الطويل]
براني الهوى بري المدى فأذابني ... صدودك، حتى صرت أنحل من أمس
ولست أرى حتى أراك، وإنما ... يبين هباء الذر في أفق الشمس
وقوله مما يكتب على حصير: [الكامل]
أفرشت خدي للضيوف ولم يزل ... خلقي التواضع للبيب الأكيس
فتواضعي أعلا مكاني بينهم ... طورا، فصرت أحل صدر المجلس
وقوله: [المتقارب] «1»
وحقك إني مذ بنت عنك ... قلبي حزين ودمعي هتون
فلله أيامنا الخاليات ... لو رد سالف الدهر حنين
وإني لأرعى عهود الصفا ... ويكلؤها لك ود دفين
ولم لا يكون، ونحن اليدا ... ن، أنت بفضلك منها اليمين(9/449)
ومنهم:
99- معتمد الملك أبو الفرج يحيى بن صاعد بن يحيى بن التلميذ «13»
بحر حكمة تطفو لآليه «1» ، وتغفو مقل النجوم في كرى لياليه، مع ملاطفة في العلاج ملأ طيفها الجفون، إلى دأب بلل الطلل طررها، وأثل الفضل سررها.
قال ابن أبي أصيبعة «2» :" كان متعيّنا في العلوم الحكمية، متفننا في صناعة الطب، متحليا بالأدب، بالغا فيه أعلى الرتب.
وله شعر؛ منه- ملغزا في الإبرة- قوله: [الوافر]
وفاغرة فما في الرجل منها ... ولكن لا تسيغ به طعاما
ومخطفة الحشا في الرأس منها ... لسان لا تطيق به كلاما
تصول بشوكة تبدو وسم، ... وما من ذاقه يرد الحماما
تجرّ وراءها رسنا طويلا «3» ... كما قادت يد الحادي الزماما
منيعا ذا قوى لكن تراه ... بقبضتها ذليلا مستضاما
فتلقيه بمحبسها مقيما ... طوال الدهر لا يأبي المقاما
أيا عجبا لها سوداء خلقا ... تريك خلائقا بيضا كراما
غدت عريانة من كل لبس ... وفاضل ذيلها يكسو الأناما
وقوله- في دار جديدة «4» وقعت فيها نار يوم فراغها-: [الكامل](9/450)
يا بانيا دار العلى ملأتها ... لتزيدها شرفا على كيوان
علمت بأنك إنما شيدتها ... للمجد والإفضار والإحسان
فقفت عوائدك الكرام وسابقت ... تستقبل الأضياف بالنيران
وقال أيضا: [الكامل]
علق الفؤاد على خلو حبها ... علق الذبالة «1» في الحشا المصباح
لا يستطاع الدهر فرقة بينهم ... إلا لحين تفرّق الشباح
وقوله: [المتقارب]
فراقك عندي فراق الحياة ... فلا تجهزن على مدنف «2»
علقتك كالنار في شمعها ... فما إن تفارق أو تنطفي
وقوله: [السريع]
بدا إلينا أرج القادم ... فبرّد الغلّة من حائم
روّح عن قلبي على نأيه ... وقد يلذ الطيف للحالم(9/451)
ومنهم:
100- أوحد الزمان وهو أبو البركات هبة الله بن علي بن ملكا البلدي ثم البغدادي «13»
طبيب لو رام الصخر الجلمد لتفجّر، أو إمساك الماء السائل لتحجّر، بمداومة نظر لو صابرت الزمان لتضجّر، أو فرّعت حصا الدهناء «1» لتشجّر. بعلم أوسع امتدادا من المشرقين، وأجمع مدى مما بين الخافقين. كان يصون وديعة العلم ويحفظها، ويغيظ بكتمانها صدور الرجال ويخفضها، ونسيمه تهبّ خافقته، وشميمه تفتت عنبر الغمام بارقته.
قال ابن أبي أصيبعة «2» :" كان يهوديا وأسلم، وخدم المستنجد. وتصانيفه في النهاية «3» ، وكان له اهتمام بالغ في العلوم، ونظره فائق فيها.
بدأ بالطب على أبي الحسن سعيد بن هبة الله «4» ، وكان لا يقرئ يهوديا ولا نصرانيا، فثقل عليه أبو البركات بالناس، ليقرئه فلم يفعل، فصحب بوّاب داره، ليتوصل به إلى غرضه، وكان يقعد في الدهليز فيسمع جميع ما يقرأ عليه، وما يجري معه من البحث، وهو كلما فهم شيئا وتعقّله علّقه عنده.(9/452)
فلما مضت سنة أو نحوها، جرت مسألة عند الشيخ وبحثوا فيها فلم يتّجه لهم عنها جواب، فدخل أبو البركات، وخدم، وقال للشيخ: عن أمر مولانا أتكلّم في هذه المسألة؟.
فقال: قل. فأجاب عنها بشيء من كلام جالينوس. ثم قال: وهذا كان بحثكم في اليوم الفلاني، في ميعاد فلان!!.
فعجب الشيخ منه، ومن حرصه، فقال: من يكون هكذا ما يستحل أن نمنعه، فصار من أجلّ تلامذته.
ومن نوادره أن مريضا عرض له الماليخوليا، وكان يعتقد أن على رأسه دنّا، وأنه لا يفارقه أبدا، وكان كلّما مشى يتحايد المواضع التي سقوفها قصيرة، ويمشي برفق ولا يترك أحدا يدنو منه، حتى لا يميل الدّن، أو يقع على رأسه، وبقي هذا المرض مدّة طويلة وهو في شدّة منه، وعالجته جماعة من الأطبّاء، ولم يحصل بمعالجتهم تأثير ينتفع به، وأنهي أمره إلى أوحد الزمان، ففكّر أنه ما بقي شيء يمكنه أن يبرأ به إلا بالأمور الوهمية.
فقال لأهله: إذا كنت في الدار فأتوني به.
ثم إن أوحد الزمان أمر أحد غلمانه بأن ذلك المريض إذا دخل عليهم وشرع في الكلام، وأشار إلى الغلام بعلامة بينهما، أنه يسارع بخشبة كبيرة فيضرب بها فوق رأس المريض على بعد منه، كأنه يريد كسر الدنّ الذي يزعم أنه على راسه. وأوصى غلاما آخر، وكان قد أعدّ معه دنّا في أعلى السطح، أنه متى رأى ذلك الغلام قد ضرب فوق رأس صاحب الماليخوليا أن يرمي الدنّ الذي معه بسرعة إلى الأرض.
ولما كان أوحد الزمان في داره وأتاه من غير علم المريض، فأقبل عليه، وقال:(9/453)
لا بدّ أن أكسر هذا الدّن، وأريحك منه.
ثم أدار تلك الخشبة التي معه، وضرب بها فوق رأسه بنحو ذراع، وعند ذلك رمى الغلام الدّنّ من أعلى السطح، فكانت له وجبة «1» عظيمة، وكسر قطعا كبيرا. فلمّا عاين المريض ما فعل به، ورأى الدّنّ المتكسّر، تأوّه لكسرهم إياه، ولم يشكّ أنه هو الذي كان على رأسه بزعمه، وأثّر فيه الوهم أثرا برىء به من علّته تلك!.
وهذا باب عظيم في المداواة، وقد جرى أمثال ذلك لجماعة من المتقدّمين مثل جالينوس وغيره «2» في مداواتهم بالأمور الوهمية.
وحكى أبو الفضل تلميذ أبي البركات المعروف بأوحد الزمان، قال: كنا في خدمة أبي الزمان في عسكر السلطان، ففي بعض الأيام جاءه رجل به داحس «3» ، إلا أن الورم كان ناقصا، وكان يسيل منه صديد، قال: فحين رأى ذلك أوحد الزمان بادر إلى سلامية «4» إصبعه فقطعها!.
قال: فقلنا له: يا سيدي! لقد أجحفت في المداواة، وكان يغنيك أن تداويه بما يداوي به غيرك، وتبقي عليه إصبعه، ولمناه، وهو لا ينطق بحرف!.
قال: ومضى ذلك اليوم، وجاءه في اليوم الثاني رجل آخر، مثل ذلك سواء، فأومأ إلينا بمداواته، وقال: افعلوا في هذا ما ترونه صوابا.
قال: فداويناه بما يداوى به الدّاحس، فاتّسع المكان، وذهب الظفر، وتعدّى(9/454)
الأمر إلى ذهاب السلامية الأولى من سلاميات الأصابع، وما تركنا دواء إلا داويناه به، ولا علاجا إلا عالجناه، ولا لطوخا إلا لطخناه به «1» ، ولا مسهلا إلا وسقيناه، وهو مع ذلك يزيد، ويأكل الإصبع أسرع أكل، وآل أمره إلى القطع، فعلمنا أن وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ
«2»
قال: فشاع هذه المرض في تلك السنة، وغفل جماعة منهم عن القطع، فتأدّى أمر بعضهم إلى هلاك اليد، وبعضهم إلى هلاك أنفسهم.
ونقلت من خط الشيخ موفق الدين عبد اللطيف البغدادي «3» ، فيما ذكره عن ابن الدّهان المنجم، قال: كان أبو البركات قد عمي في آخر عمره، وكان يملي على جمال الدين بن فضلان، وعلى ابن الدّهّان المنجّم، وعلى يوسف والد الشيخ موفق الدين عبد اللطيف، وعلى المهذب ابن النقّاش كتاب" المعتبر»
".(9/455)
وقيل: إن أوحد الزمان كان سبب إسلامه أنه دخل يوما إلى الخليفة فقام جميع من حضر إلا القاضي، فإنه كان حاضرا ولم ير أنه يقوم مع الجماعة لذمّيّ.
فقال أوحد الزمان: يا أمير المؤمنين! كأنّ القاضي لم يقم مع الجماعة لكونه يرى أنه على غير ملّته. فأنا أسلم بين يدي مولانا، ولا أتركه ينتقصني بهذا..!،
وأسلم.
قال: وكان لأوحد الزمان ثلاث بنات، ولم يخلّف ولدا ذكرا. وعاش نحو ثمانين سنة.
قال: وكان بين أوحد الزمان وأمين الدولة ابن التلميذ معاداة، وكان أوحد الزمان لما أسلم يتنصّل كثيرا من اليهود، ويلعنهم، ويسبّهم، فلما كان في بعض الأيام، في مجلس بعض الأعيان الأكابر، وعنده جماعة وفيهم أمين الدولة ابن التلميذ، وجرى ذكر اليهود، فقال أوحد الزمان: لعن الله اليهود.
فقال أمين الدولة: نعم! وأبناء اليهود.
فوجم لها أوحد الزمان، وعرف أنه أشار إليه، وعناه، ولم يتكلم!!.
ومنهم:
101- أبو القاسم هبة الله بن الفضل البغدادي «13»
علم طب وبيان، وإمام فضل ملء سمع وعيان، فأتى بما غلا، ومات مديحا وغزلا، وجاء بضريب الضرب، وغريب الحكمة التي ... «1» اليونان وألسنة العرب، وكان الطب عليه أغلب، والسبب إليه أجلب، فكان به ارتفاقه، ومنه(9/456)
إنفاقه، وكان له هجو يجرّع المهجوّ سمّ الأساود «1» ، وسقما كلما قيل برأ منه يعاود.
هذا إلى ملح أظرف من غرائب البحار، وألطف من النسيم، إذا عبث بأعطاف الأشجار.
قال ابن أبي أصيبعة «2» :" كان يعاني صناعة الطب، ويباشر أعمالها، ويعدّ من الموصوفين فيها، إلا أن الشعر غلب عليه، وكان كثير النوادر وبينه وبين الحيص بيص «3» شنآن وتهاتر، وكانا قد يصطلحان وقتا، ثم يعودان إلى ما كانا عليه، وهو الذي ألصق بالحيص بيص هذا اللقب، وذلك لأن السلطان السلجوقي لما قصد بغداد في أيام المقتفي، وهمّ عسكرها بالخروج إليه، وكان الناس من ذلك في حديث كثير وحركة زائدة، فقال: مالي أرى الناس في حيص بيص؟.
فألصق به هذا اللقب.
قلت: كان الحيص بيص على ما هو منه معروف؛ فخرج يتمشّى ليلا حيث لا يقدم إلا الأبطال، ولا يمشي إلا من قصر عنده باع الخوف وطال، فمرّ بكلبة(9/457)
مجرية «1» ، رآها فما خافها، وهي تسطو بأنياب وأظفار، وتهول مثل الليل بلا أسفار؛ فنبحت عليه نباحا ظنّ به أن الجبال عليه قد أطبقت، أو الجيوش به قد أحدقت، فامتشق سيفه وخطا إليها وقدّم قدمه، وأقدم عليها، ثم دهش للخوف من بأسها، فأضلّها، وإنما أصاب بالسيف جروا لها.
فقال أبو القاسم: [البسيط]
يا معشر النّاس إن الحيص بيص أتى ... بفعلة أورثته الخزي في البلد
هو الجبان الذي أبدى شجاعته ... على جريّ ضعيف البطش والجلد
فأنشدت أمه من بعد ما احتسبت: ... دم الأبيلق عند الواحد الصّمد
أقول للنفس تأساء وتعزية ... إحدى يديّ أصابتني ولم ترد
كلاهما خلف من فقد صاحبه ... هذا أخي حين أدعوه، وذا ولدي
وكان المقتفي حين بويع شيخا قد علت سنّه واحد ودب غصنه، ووزيره ابن الهبيرة من علم زهاده، ومداومة درس، وعباده. وكان أبو القاسم يستطيل مدتهما، ويكره بأسهما الذي لا يلين، وشدّتهما؛ فجلس يوما المقتفي وابن هبيرة واقف أمامه، ومصرف زمانه هذا، وقد استثقل أبو القاسم طول ايامهما، وامتداد دوامهما، فقال: [السريع]
يا معشر الناس!، النفير النفير ... قد جلس الهردب «2» فوق السرير
وصار فينا آمرا ناهيا ... وكنت أرجو أنه لا يصير
فكلّما قلت: قذى ينجلي ... وظلمة عما قليل تنير(9/458)
فتحت عيني فإذا الدولة ... الدولة والشيخ الوزير الوزير
وقال يهجو البديع الأسطرلابي، وكان قد حجّ: [مجزوء الكامل]
لا غرو أن دهى الحجيج ... وإن رموا منه بنكبة
حج البديع وعرسه «1» ... وفتاه فانظر أي عصبه؟
فثلاثة من منزل ... علق «2» ، وقوّاد، وقحبه!
وقال: [السريع]
يا خائف الهجو على نفسه ... كن في أمان الله من مسّه
أنت بهذا العرض بين الورى ... مثل الخرا يمنع من نفسه!!
وقال: [السريع]
أمدحه طورا، وأهذي به ... طورا، ولا أطمع في رفده
مثل إمام بين أهل القرى ... صلّى بهم والزيت من عنده!
وأورد له ابن سعيد، ومن ذا الذي يسمع الحسن ولا يستعيد؟، وذلك قوله: [الكامل]
خطرت فكاد الورق يسجع فوقها ... إن الحمام لمغرم بالبان
من معشر نشروا على هام الربى ... للطارقين ذوائب النيران(9/459)
ومنهم:
102- فخر الدين المارديني «13»
الإمام أبو عبد الله محمد بن عبد السلام بن عبد الرحمن بن عبد الساتر الأنصاري.
رجل من أسرة الأنصار، ومن سرّة أهل المدينة إذا عدّت بيوت الأمصار، في مزايا ذوي الهبات في المنن، وبقيايا ذوي الهيئات من يمن.
وكان من علماء الحكماء، ونبلاء الفضلاء، وأحبار الأنام، وأخيار من لا يرى مثله إلا في المنام.
قال ابن أبي أصيبعة «1» :" كان علّامة وقته في الحكمة، قويّ الذكاء، فاضل النفس، محبّا للخير، متقنا للّغة والنحو.
وأجداده من أهل القدس، قرأ الطب على ابن التلميذ، وقرأ ابن التلميذ عليه المنطق، وقدم دمشق وأقرأ بها الطب، وكان لن مجلس عامّ للتدريس. وممن قرأ عليه: المهذّب عبد الرحيم بن علي، وطلب منه الملك الظاهر أن يقيم عنده بحلب، وأنعم عليه بمال طائل، فأقام عنده سنتين ثم عاد إلى ماردين، ووقف كتبه في المدرسة بها، وآخر ما قاله عند موته:" اللهمّ إني آمنت بك وبرسولك(9/460)
الصادق محمد صلى الله عليه وآله وسلم، إن الله يستحي من عذاب الشيخ «1» ومنهم:
103- أبو نصر المسيحي «13»
وهو سعيد بن أبي الحسن بن [أبي الخير] بن عيسى.(9/461)
طبيب عرّف به علمه، وفرّع كل علاج لم يحظ فيه حكمه، طالما أبرات العلل هذه المسيحية بمسحها، وأبدلت ببياض ثوب العافية سواد مسحها، واحتاج إليه كل متطبّب، وكان طبه الباعث للصحّة أو المسبّب.
قال ابن أبي أصيبعة «1» :" من المتميزين في صناعة الطب، والأفاضل من أهلها، والأعيان من أربابها.
ومرض الناصر لدين الله «2» بالرّمل، وعرضت له في المثانة حصاة كبيرة، مفرطة في الكبر، واشتدّ به الألم، وطال المرض، وضجر من العلاج، فأشير عليه بأن يشق المثانة لإخراج الحصاة، فسأل عن جرائحي حاذق؟ فقيل له: ابن عكاشة؛ فأحضر، وشاهد العضو العليل، وأمره ببطّه «3» فقال: أحتاج أن أشاور مشايخ الأطبّاء في هذا.
فقال له: فمن تعرف من صالحيهم؟.
قال: أبو نصر المسيحي، فإنه ليس في البلاد بأسرها من يماثله. فطلبه، فلما حضر قال له: اجلس. فجلس ساعة ولم يكلّمه، [ولم يأمره بشيء حتى سكن روعه] .
ثم قال له الناصر: يا أبا نصر! مثّل نفسك أنك دخلت إلى البيمارستان وأنت تباشر به مريضا قد ورد من بعض الضياع، وأريد أن تباشر مداواتي، وتعالجني من هذا المرض كما تفعل بمن هذه صفته.(9/462)
فقال: السمع والطاعة؛ ولكني أريد أن أعرف من هذا الطبيب المتقدّم مبادي المرض، وأحواله، وتغيراته، وما عالج به منذ أول المرض وإلى الآن.
فأحضر الشيخ أبو الخير، وأخذ يذكر ابتداءات المرض، وتغيّر أحواله، وما عالج به من أول المرض وإلى آخر وقت.
فقال: التدبير صالح، والعلاج مستقيم.
فقال الخليفة: هذا الشيخ اخطأ، ولا بدّ لي من صلبه!.
فقام أبو نصر المسيحي، وقبّل الأرض، وقال: يا مولاي! بحقّ الله عليك وبمن مضى من أسلافك الطاهرين، لا تسنّ على الأطبّاء هذه السّنّة. وأما الرجل فلم يخطئ في التدبير، ولكن بسوء حظه لم ينته المرض.
فقال: قد عفوت عنه، ولكن لا يعود يدخل عليّ؛ فانصرف.
ثم أخذ أبو نصر في مداواته، فسقاه ودهن العضو بالأدهان والملينات، وقال له: إن أمكن أنا نلاطف الأمر بحيث تخرج هذه الحصاة من غير بطّ؛ فهو المراد.
وإن لم تخرج، فذلك لا يفوتنا.
ولم يزل كذلك يومين، وفي ليلة اليوم الثالث رمى الحصاة، فقيل إنه كان وزنها سبعة مثاقيل «1» ، وقيل: خمس، وقيل: إنها كانت على مقدار أكبر من نواة تكون من نوى الزيتون.(9/463)
وتتابع الشفاء، ودخل الحمّام فأمر بأن يدخل أبو نصر إلى دار الضرب «1» ، ويحمل من الذهب ما يقدر عليه. ففعل به ذلك، ثم أتته الخلع، والدنانير من أم الخليفة، ومن ولديه الأميرين محمد وعلي، والوزير نصير الدين بن مهدي العلوي الرازي، ومن سائر كبار الأمراء بالدولة، فأما أم الخليفة وأولاده، والوزير، والشرابي نجاح «2» ، فكانت الدنانير من كل واحد ألف دينار، وكذلك من أكابر الأمراء، والباقين على قدر أحوالهم، فأخبرت أنه حصّل من الذهب العين:
عشرين ألف دينار، ومن الثياب والخلع: جملة وافرة. وألزم الخدمة، وأفرطوا له الجامكية اسنيّة، والراتب، والإقامة، ولم يزل مستمرا في الخدمة إلى أن مات الناصر لدين الله.
قال: وحدّثني بعض الأطباء أن ابن عكاشة الجرائحي كان نذر عليه أن يتصدّق في بيعة سوق الثلاثاء بالربع مما يحصل له، وأنه حمل إلى البيعة مائتين(9/464)
وخمسين دينارا. وصرف أبو الخير المسيحي من الخدمة، وقد كانت منزلته قبل ذلك جليلة عنده، ومحلّه مرتفعا، ووصله هبات وصلات عظيمة، فمن جملتها أنه أعطاه خزانة كتب الأجل أمين الدولة ابن التلميذ، وكان قد مرض الناصر مرارا وبرأ على يديه، فحصل له جملة وافرة.
ثم توفي الشيخ أبو الخير في أيام الناصر فقيل له: إنه قد توفي وترك ولدا متخلفا، وعنده جملة عظيمة من المال.
فقال: لا يعترض ولده فيما ورثه من أبيه، فما خرج من عندنا لا يعود إلينا.
ومنهم:
104- أبو الفرج ابن توما «13»
وهو: صاعد بن [يحيى بن] «1» هبة الله بن توما النصراني [أبو الكرم] البغدادي.
توصّل بنجاح فنجح، ومتّ بصلاح عمله فبجح، وعدل بالآباء فرجح، وملك رياسة الأطبّاء فنجح، وورث ببلاد العراق بخت بختيشوعها، وحاز ما جرّ جرجيس إليه من مدد ينبوعها، وأبقى له يعقوب بن إسحاق أخو كندة ما كان أبقاه ليوسفه، وخلّى له أحمد بن الطيب فتى سرخس ما خصّ نصيبه من طيب مخلفه.(9/465)
قال ابن أبي أصيبعة «1» :" كان من أكابر الأطباء، وخدم نجاح الشرابي «2» ، ثم صار وزيره وكاتبه، ثم دخل إلى الناصر وكان يشارك أطباءه في معالجته، ثم حظي عنده الحظوة التامة، وسلّم إليه عدّة جهات يخدم بها، وكان فيها عدّة دواوين وكتاب.
وقتله بعض الجند المرتزقين تحت يده، وقيل الخليفة، فنكبه وأبقى أملاكه وعروضه لولده، وحمل ما خلفه من المال العين إلى الخزانة، وكان ثمانمائة ألف وثلاثة عشر ألف دينار! ".
قال ابن القفطي- وقد ذكره وأثنى عليه- «3» :" إنه كان قد تقدّم في أيام الناصر إلى أن كان بمنزلة الوزراء، والأمراء، واستوثقه على حفظ أمواله وأموال خواصّه، وكان يودعها، وكان يظهر له في كل وقت، ويرسله في أمور خفية إلى وزرائه، وكان جميل المحضر، حسن التوسط، قضيت على يده حوائج، وكفيت شرور، ولم ير له غير شاكر ناشر".(9/466)
طبقات الأطباء ببلاد العجم(9/467)
منهم:
105- تياذورس «13»
إمام الحكماء في دولة الفرس، والماضي فيهم زمانه، المضيء كأنه ليلة العرس، وكان على كونه ذمّة فيهم ومواليا أمة تنافيهم تكرمه ملوك آل ساسان، وتطعمه من جني جنايتهم ثمر الإحسان، وكان يتقرّب إليهم بما يلائم، ويقرب لديهم كل منى كان لا يطمع بها منهم نائم.
قال ابن أبي أصيبعة:" كان نصرانيا، وله معرفة جيدة بصناعة الطب، وبنى له سابور ذو الأكتاف البيع في بلاده، وكان عالما بالصناعة، موسوما بها، متميزا في زمانه، فاضلا في علوم الفرس والهند، وهو الذي جلب كتاب كليلة ودمنة إلى أنوشروان، وترجمه له".
ومنهم
106- ربن الطبري «14»
لاءم الفرس طبّه، وقاوم حبّ أنفسهم حبّه، وكانوا يرونه زين مجالسهم وعين مجانسهم، هذا وما هو من أهل معتقدهم، ولا ممن يحلّ مثله في معهدهم، ولم يحاول عملا إلا كان به بصيرا، ولا علما إلا وانقلب الطرف إليه لا خاسئا ولا حسيرا.
قال ابن أبي أصيبعة:" كان يهوديا، طبيبا، منجما، من أهل طبرستان، وكان(9/469)
متميزا في الطب، عالما بالهندسة وأنواع الرياضة، وحلّ كتبا حكمية من لغة إلى لغة أخرى. وكان له تقدّم في علم اليهود- والربن والربين والراب- «1» أسماء لمقدّمي اليهود".
ومنهم:
107- علي بن سهل بن ربن الطبري أبو الحسين «13»
قوي المشاركة، قويم الجدد في الطرق السالكة، يجلي نوره الظلم، ويطفي تدبيره الضّرم، ويقوم الأبدان، ويقوم طبّه مقام الشمس في برء البلدان ولم يعدم ومضه، إلى أدب بدت له تضيء لمعانها، ويجيء بمسود اللمم ريعانها، ويدنو مداها ويبعد مكانها.
قال ابن النديم:" علي بن ربل- باللام-، كان يكتب للمازيار بن قارن، فلما أسلم على يد المعتصم قرّبه، وظهر فضله، وأدخله المتوكّل في ندمائه، وكان بموضع من الأدب وهو الذي علّم الرازي صناعة الطب، وكان مولده ومنشؤه بطبرستان.(9/470)
ومن كلامه:" الطبيب الجاهل مستحث الموت".
ومنهم:
108- أحمد بن محمد الطبري «13»
أبو الحسن. تقدّم بتقديم المعرفة، وتقدّم إلى الدّاء فصرفه، مع إتقان لتشريح الأعضاء، واتّقاء لغير صريح الارتضاء، بفهم يحسن الاستنباط، وعلم يحسب في معرفة ما بين القصب والرباط، هذا إلى استقصاء الأعراض والدلائل والأمراض بسبب من خارج أو داخل، لم يعد الصواب حدسه، ولا عدّ في ذوي الخطأ حسّه، حتى قيل إنه لو أراد لأطال شعر الأجفان، وأقام الأموات من الأكفان بتلطّف يكاد يمسك به رمق النهار، ويرم في الصباح صبغة الليل الشايب.
قال ابن أبي أصيبعة:" فاضل عالم بصناعة الطب، وكان طبيب ركن الدولة، وله الكناش" المعروف ب" المعالجات البقراطية" وهو من أجلّ الكتب، وأنفعها، يحتوي على مقالات كثيرة، وقد استقصى فيه ذكر الأمراض ومداواتها على أتمّ ما يكون".(9/471)
ومنهم:
109- أبو منصور: الحسن بن نوح القمريّ «13»
قمر سماء، ورقم عذار ظلّ في وجنة ماء، ونوء حكمة ما تقشع سحابها، ولا توشع بغير مطرف الفضائل سحابها، أتى مجلس الرئيس ابن سينا وحضره، وشاهد سيما سمته ونظره، وكان يعدّه فيمن أدركه ويعدّ من العلم له ما تركه، ويطوي في حفظه من علمه البارع ما نشره، ويأخذ منه إلا أنه أخذ شره ولم يكن مثله في تعديل قوي ممتزجة، وملاطفة بعلاج موافق لا تنفر منه الأمزجة.
قال ابن أبي أصيبعة:" كان سيد وقته وأوحد زمانه، مشهورا بالجودة في صناعة الطب، محمود الطريقة في أعمالها، فاضلا فيها، حسن المعالجة، جيد المداواة، متميزا عند الملوك.
وحكي عن الخسرو شاهي أن ابن سينا لحق أبا منصور وهو شيخ كبير، وكان يحضر مجلسه ويلازم دروسه، وانتفع به في علم الطب.(9/472)
ومنهم:
110- أبو سهل عيسى بن يحيى المسيحي الجرجاني 1»
له في الطب يد بيضاء كليميّة «1» ، وفي إطفاء نار الحمّى آية غرّاء إبراهيمية، مسحت بطبّه الأدواء، وصلحت اللأواء «2» ، وصحّت الأجسام، وصحت الأسقام، وسحّت السحب بمطر الإنعاش، وتهلّلت وجوه البرق الوسام، وحسبه أن ابن سيناء من جملة علمه إذا زخر ومن حمدة عزمه إذا فخر.
وكان من بعض فضلاء المتأخرين المتبحّرين يفضّله على ابن سيناء، ويجعل له عليه أسناء، ويثني عليهما، وإنما يوفر له الثناء.
قال ابن أبي أصيبعة «3» :" هو طبيب فاضل، بارع في صناعة الطب، علمها وعملها، فصيح العبارة، جيد التصنيف، صحيح الكتابة، متقنا للعربية".
قال:" وقد رأيت بخطّه كتابه في" إظهار حكمة الله تعالى في خلق الإنسان" «4» ، وهو في نهاية الصحة والإتقان، والإعراب والضبط، وهو يدلّ على(9/473)
فضل باهر، وعلم غزير".
قال:" وقيل: إن المسيحي هو معلم ابن سينا صناعة الطب. وقال عبيد الله بن جبريل: إن المسيحي كان بخراسان، وكان مقدّما عند سلطانها، وإنه مات عن أربعين سنة".
ومن كلامه:" نومة بالنهار بعد أكلة خير من شربة دواء نافع"، انتهى «1» .
ومنهم:
111- السيد أبو عبد الله محمد بن [يوسف] الإيلاقي «13»
رجع بنسبه إلى والد شريف، وبحسبه إلى تالد «2» وطريف، فقيل في ظل علم متكاثف الشجر، متراكم السحب، هطّال المطر، سرت النوافح بأعطافه، وسرّت بألطافه، وصيّرت ثمره في أوان قطافه.
قال ابن أبي أصيبعة:" هو شريف النسب، فاضل في نفسه، خبير بصناعة الطب والعلوم الحكمية، وهو ممن أخذ عن الرئيس ابن سينا، واختصر" القانون" وأجاد في تأليفه، وله كتاب:" الأسباب والعلامات"- في الطب-.(9/474)
ومنهم:
112- أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني «13»
ذكي يفوح عبق ريحانه، ويكرم أرج عنبره بامتحانه.
تكلّم على الكواكب ورسومها وحدودها، والنجوم ونحوسها وسعودها، وناظر الفحول، وناضل النصول «1» ، وله حكمة تلمع مشارق أنوارها، وتصدع حصباء الفجر سابق نوارها.
قال ابن أصيبعة:" هو منسوب إلى بيرون، من مدن السند، وكان مشتغلا بالعلوم الحكمية، فاضلا في الهيئة والنجوم، وكان معاصرا للرئيس ابن سينا، وبينهما بحوث ومراسلات، وقد ذكر الرئيس أجوبة مسائل سأله البيروني عنها، مفيدة في الحكمة" «2» .(9/475)
ومنهم:
113- أحمد بن عبد الرحمن بن مندويه الأصبهاني، أبو علي «13»
من دار ملك لا يقعد به بلده، وابن أب لا يستحي به ولده، تحلّل بالمناقب التي ما ضاقت به ملابسها، ولا دنت لغيره ملامسها، وفاضت به ينابيع الحكم، وسهلت له صعابها التي كم رامها غيره وكم.
قال ابن أبي أصيبعة:" هو من الأطباء المذكورين في بلاد العجم، وخدم جماعة من ملوكها ورؤسائها «1» ، وكانت له أعمال مشهورة في صناعة الطب، وكان من ذوي البيوتات الأجلّاء بأصبهان، وكان أبوه فاضلا في علم الأدب، وأمر الدين، وله أشعار حسنة منها: [الوافر]
ويمسي المرء ذا أجل قريب ... وفي الدنيا له أمل طويل
ويعجل بالرحيل وليس يدري ... إلى ماذا يقرّ به الرحيل
ولأبي عليّ هذا كتب كثيرة «2» ذكرها ابن أبي أصيبعة في كتابه" بغية(9/476)
الألباء في تاريخ الأطباء" «1»
ومنهم:
114- أبو القاسم عبد الرحمن بن علي ابن أحمد بن أبي صادق النيسابوري «13»
وكان صادق الطلب، صادع الليل، سرى بحسن المتطلب منقبا عن الحكمة يستثيرها من أماكنها، ويستديرها سرجا من مساكنها، ويستميرها أقواتا، ويستميلها قصبا تميل إليه انعطافا، وظباء تحسن إليه التفاتا.
قال ابن أبي أصيبعة:" هو طبيب فاضل بارع في العلوم الحكمية، كثير الدراية في الصناعة الطبية، له حرص بالغ في التطلّع إلى كتب جالينوس، وما أودعه فيها من غوامض الطب وأسرار العلم، شديد الفحص عنها، وكان فصيحا، بليغ الكلام، وما فسّره من كتب جالينوس في نهاية الجودة والإتقان، كما فعل في كتاب:" منافع الأعضاء" لجالينوس، فإنه أجهد نفسه فيه، وأجاد في تلخيص معانيه.
وقد قال في أوله:" وأما نحن فقد حرّرنا معاني هذا الكتاب شرحا للعويص، وحذفا للزائد، ونظما للتشتيت، وإضافة إليه".
قال صاحب" بغية الألبّاء" «2» : وحدّثني بعض الأطباء أن ابن أبي صادق(9/477)
اجتمع بابن سينا وقرأ عليه، وكان ممن تتلمذ له وأخذ عنه، قال: وكان هذا لا أستبعده بل هو أقرب إلى الصحة، لأن [ابن] أبي صادق لحق زمانه- أي زمان ابن سينا- وكان ببلاد العجم، ولا شكّ أنه سمع بسمعة ابن سينا، وكانت عظيمة، وكان أكبر من ابن أبي صادق قدرا". ثم ذكر تأليفاته «1» .
ومنهم:
115- السّموأل بن يحيى بن عباس «13»
المغربي الأصل، البغدادي الدار، العادي حيث السحاب الهطّال دار، المادّ يد البدار، الماد يد الاقتدار، ذو الذكاء الذي يضيء للمقتدح، ويضع في مهامه مهام الطلب منه المقترح، طلّاع كل نية، وطلّاب كل حنية، خرق العادة في ذكائه الفرط، ووقائه بالعلم الذي لا يقبل الغلط، على أنه لم يخل بإبداع فن، ولا أبدع حفظه علم يعرف بحقيقة أو ظنّ.
قال ابن أبي أصيبعة:" كان فاضلا في العلوم الرياضية، عالما بصناعة الطبّ.
وأصله من بلاد المغرب، وسكن بغداد مدة، ثم انتقل إلى بلاد العجم، ولم يزل بها إلى آخر عمره.(9/478)
قال عبد اللطيف البغدادي: هذا السّموأل شابّ بغدادي، كان يهوديا، وأسلم «1» ، ومات شابا بمراغة «2» ، وبلغ في العدديات مبلغا لم يصله أحد في زمانه، وكان حادّ الذهن جدا، بلغ في الصناعة الجبرية الغاية القصوى، وأقام بديار بكر وأذربيجان، وله رسائل في الجبر والمقابلة، ردّ فيها على ابن الخشاب النحوي، وكان معاصره، وكانت له في هذا العلم يد".
ومنهم:
116- الشريف شرف الدين إسماعيل «13»
كمل شرف قديمه بحديثه، ووصل واني سراه بخبيثه، وعرف بأكمل أدوات العلوم ومداواة العموم وتحلّى بمفاخر الطلب لعلم يبقيه، وجسم بصالح الطب يقيه.
وصل من الدولة الخوارزمية العظيمة الشان ما عدّ مثله لها من عظمتها، وامتدّ ثرى ماله من نعمتها، وجرى في طلق آماله إلى غاية همتها.
قال ابن أبي أصيبعة:" كان طبيبا عالي القدر، وافر العلم، وجيها في الدولة، وكان في خدمة السلطان علاء الدين محمد خوارزم شاه، وله منه الأنعام الوافرة، والمرتبة المكينة، وكان له مقرّر على السلطان مبلغه ألف دينار في كل شهر،(9/479)
وكانت له معالجات بديعة، وآثار حسنة في صناعة الطب.
وتوفي في أيام خوارزم شاه بعد أن عمّر، وله عدّة مصنّفات كلها بالفارسي «1» .(9/480)
أطبّاء الهند(9/481)
منهم:
117- شاناق الهندي «13»
هو ذو الحكم اللّوامع، والكلم الجوامع، والتنبيهات الموقظة، والتمويهات المحفظة، والتشبيهات التي أخذت بأطراف الموعظة، نطق بها عن خاطر صفا فلم يكدر، ووفى فلم يغدر، فجاءت سوانح، وجادت موانح، وحلّت من القلوب محلا، منذ دخلته سكنت به وأخلته.
قال ابن أبي أصيبعة:" كانت له معالجات وتجارب كثيرة في الطب، وتفنّن في العلوم الحكمية، ومما قاله في كتابه الذي سمّاه: (منتحل الجوهر) :
" أيها الوالي!! اتّق عثرات الزمان، واخش تسلّط الأيام، ولوعة الدّهر، واعلم أن للأعمال جزاء فاتّق العواقب، فإن لها غدرات، فكن منها على حذر، والأقدار(9/483)
مغيبات فاستعدّ لها، والزمان متقلّب فاحذر دولته، لئيم الكرّة فخف سطوته، سريع الغرّة فلا تأمن سطوته.
واعلم أنه من لم يداو نفسه من سقام الآثام في أيام حياته، فما أبعده من الشفاء في دار لا دواء لها، ومن أذلّ حواسّه واستعبدها فيما يقدم من خير بان فضله، وظهر نبله، ومن لم يضبط نفسه وهي واحدة لم يضبط حواسّه وهي خمس، فإذا لم يضبط حواسّه مع قلّتها، ونفسه مع ذلّتها صعب عليه ضبط الأعوان مع كثرتهم وخشونة جانبهم، وكان عامّة الرعيّة في أقاصي البلاد وأطراف المملكة أبعد من الضبط «1»
ومنهم:
118- منكه الهندي «13»
طبيب توقى به الأجسام، وتوفى بسببه خير الأقسام، لو عاد الهرم لأعاد عليه ثوب شبابه، وبدّل كفن المشيب بجلبابه، فأقرّ الأرواح في أجسادها، وعاد بالصّلاح على فسادها فقرّت استقرارا، وأزالت ضرارا، وصالحت الأبدان فلم تعد إلى منافرتها، ولم تبعد من مضافرتها، فأماطت عقابيل السقم «2» ، وجذبت بأعقاب الداء العياء، وقد التقم فوجدت به الصحة، وقد عزّ لقياها، وطالت المدة وقد يئس من بقياها.(9/484)
قال ابن أبي أصيبعة:" كان علاما بالطب، حسن المعالجة لطيف التدبير، فيلسوفا من المشار إليهم في العلم، متقنا للغة الهند، ولغة الفرس، وهو الذي نقل كتاب" شاناق" في السموم- إلى الفارسية، وكان في زمان الرشيد، وأتى العراق في أيامه، ثم عرف العربية فكان ينقل إليها.
ومن أخبار الخلفاء أن الرشيد اعتلّ علّة صعبة لم يجد فيها طب الأطباء، فقال له أبو عمر الأعجمي: يا أمير المؤمنين!، بالهند طبيب يقال له: منكه هو أوحد عبّادهم وفلاسفتهم، فلو بعثت إليه لعلّ الله يهبك الشفاء على يده.
فجهّز من وصله صلة تعينه على سفره، وحمله إليه، فعالجه فبرأ فأجرى عليه رزقا واسعا، وأموالا كافية، ثم بينما هو مارّ بالخلد «1» ، إذا هو برجل قد بسط كساءه وألقى عليه عقاقير كثيرة، وقام يصف دواء معجونا. فقال: هذا دواء لكذا وكذا، وعدّد أسقاما كثيرة، وأدواء مختلفة، حتى لم يدع عارضا إلا ذكر أن ذلك الدواء شفاؤه. فتبسّم منكة ثم قال: على كل حال ملك العرب جاهل، لأنه إن كان الأمر على ما يقول هذا فما الذي حمله على أن حملني من بلادي إليه، وأبعدني عن أهلي، وتكلّف الكثير من مؤونتي، وهو يجد هذا نصب عينيه، وإزاء ناظره؟.
وإن كان على غير ما يقول فلم لا يقتله لأن الشريعة قد أباحت دم هذا ومن أشبهه لأنه إن قتل إنما هي نفس يحيا بموتها أنفس، وإن ترك وهذا الجهل قتل كل يوم أنفسا، وهذا فساد في الذهن، ووهن في الملك.(9/485)
ومنهم:
119- صالح بن بهلة الهندي «13»
طبيب بيّن الانحراف والاعتدال، والصحة والاعتلال، حدس ما حدث، وبرّ وما حنث، اطّلع على كل سبب من الأسباب، وجمع بين طرفي الإيجاز والإسهاب، ورتّب لكلّ ذي سنّ ما يليق به من المداواة وما لا يطيق معرفته سواه، وشفع هذا بفضائل أخرى جتال بها فخرا، فحوى محاسن لا تعدّ كثره، ولا يزول لها أثره، وطالما حكيت عن طبّه عجائب ومحاسن ما فيها قول لعائب.
قال ابن أبي أصيبعة:" كان من علماء الهند، خبيرا بالمعالجات التي لهم، وله قوة وإنذارات في تقدم المعرفة، وكان بالعراق على عهد الرشيد.
قال يوسف الحاسب المعروف بابن الداية «1» ، عن مولى سلام الأبرش: أن مولاه حدّثه أن الموائد قدمت بين يدي الرشيد يوما، وابن بختيشوع غائب، فطلبه في كل مكان فلم يجده، فطفق يلعنه، وإذا به قد دخل والرشيد يلعنه، فقال: لو اشتغل أمير المؤمنين بالبكاء على ابن عمه إبراهيم بن صالح كان أشبه به من تناولي «2» .
فقال له: وما خبره؟. فأعلمه أنه خلفه ومعه رمق ينقضي آخره وقت صلاة العتمة» .(9/486)
فاشتدّ جزع الرشيد عليه، وأمر برفع الموائد. فقال جعفر بن يحيى: إن طبّ بختيشوع رومي، وطب ابن بهلة هندي؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بإحضاره ليعرف ما عنده؟. فأمر بمصيره إليه، فجسّ عرقه، ثم قال: لا أخبر الخبر إلا أمير المؤمنين. فأخبر الرشيد، فأدخل عليه ابن بهلة، فلما مثل بين يديه قال: يا أمير المؤمنين! أنت الإمام وعاقد ألوية القضاء للحكام، ومهما حكمت به لم يجز لحاكم فسخه، ولا لمعقّب بعدك نسخه، وأنا أشهدك عليّ، وأشهد من حضرك أن إبراهيم بن صالح إن مات في هذه الليلة بل في هذه العلّة يكون كل مملوك لصالح بن بهلة حرّا لوجه الله، وكل دابّة له تكون حبسا «1» في سبيل الله، ويكون كل ما يملكه صدقة على الفقراء، وتكون كل امرأة له طالقا ثلاثا بتاتا.
فقال الرشيد: حلفت ويلك! يا صالح على غيب.
فقال صالح: كلا يا أمير المؤمنين!. إنما الغيب ما لا علم لأحد به، ولا دليل عليه، ولم أقل ما قلت إلا بدليل واضح، وعلامات بينة.
قال: فسرّ الرشيد بقوله، وأحضر الطعام، فأكل وشرب، فلما كان وقت صلاة العتمة أتى الخبر بوفاة إبراهيم بن صالح!؛ فاستقبل الرشيد ورجع يلعن ابن بهلة وطب الهند، ثم بكّر إلى دار إبراهيم فأتى ابن بهلة فوقف بين يديه، فلم يناطقه إلى أن سطعت روائح المجامر وقد غسل إبراهيم وكفّن، فصاح به ابن بهلة عند ذلك: يا أمير المؤمنين! الله الله أن تحكم عليّ بطلاق زوجتي وخروجي من نعمتي، وتدفن ابن عمك حيا، فو الله ما مات!. فأطلق له الدخول عليه، والنظر إليه، ثم خرج وهو يكبّر، ثم قال: قم يا أمير المؤمنين حتى أريك عجبا.
فقام معه، ثم أخرج ابن بهلة إبرة كانت معه، فأدخلها بين ظفر إبهام يد(9/487)
إبراهيم اليسرى ولحمه، فجذب إبراهيم يده!، فقال ابن بهلة: يا أمير المؤمنين! هل يحسّ الميت بالوجع؟. فقال له: لا. فقال ابن بهلة: لو شئت أن أعده يكلم أمير المؤمنين الساعة لفعلت، ولكن أخاف إن عالجته وأفاق وهو في كفن فيه رائحة الحنوط أن ينصدع قلبه فيموت موتا حقيقيا، ولكن يأمر أمير المؤمنين بتجريده من الكفن، وردّه إلى المغتسل، وإعادة الغسل عليه حتى تزول رائحة الحنوط عنه، ثم يلبس مثل ثيابه التي كانت عليه، ويحوّل إلى فراش من فرشه التي كان يجلس عليها حت أعالجه، فيكلّمه من ساعته.
فأمر بذلك، ففعل، ثم دعا ابن بهلة بكندس «1» ومنفحة، ونفخ الكندس في أنفه، فمكث قدر سدس ساعة ثم اضطرب جسده وعطس، وجلس قدّام الرشيد، وقبّل يده، فسأله الرشيد عن حاله؟ فذكر أنه كان نائما نوما لا يذكر أنه نام مثله قط طيبا، إلا أنه رأى في منامه كلبا عضّ إبهام يده اليسرى عضّة يجد وجعها، وأراه إبهامه الذي أدخل فيه الإبرة، وعاش بعد ذلك دهرا طويلا، ثم تزوّج بالعباسة بنت المهدي، وولي مصر وفلسطين، وتوفي بمصر وقبر بها.(9/488)
أطبّاء الشّام(9/489)
منهم:
120- أبو الفرج جرجس بن توما بن سهل بن إبراهيم اليبرودي «13»
من النصارى اليعاقبة، رجل اهتم لسعادته، وتكلّم فأصاب فما خرج عن عادته، شكر بين الأطباء، وذكر ذكر الألبّاء، انتقل إلى الحاضرة «1» ، واشتغل بالمعالجة الحاضرة، وكان إذا دعي لتطبيب العلل طبّبها بما يقلّ لبثها، ويقلل بثّها «2» ، ويعجل للأجسام بإعادة صحتها، ويرخص لها ما يسام من عادة منحتها، فينهض من جدها العاثر، ويؤثر فيها ما يشاء الآثر، ولم يتعوّد طول العيادة، ولا غرابة الدواء خلاف العادة.
قال ابن أبي أصيبعة:" كان فاضلا في صناعة الطب، عالما بأصولها وفروعها، معدودا من جملة الأكابر من أهلها، والمتميزين في أربابها، دائم الاشتغال، محبا للعلم، مؤثرا للفضيلة.
حدّثني شرف الدين ابن عنين «3» - رحمه الله تعالى- أن اليبرودي كان لا يمل من الاشتغال ولا يسأم منه. قال: وكان أبدا في سائر أوقاته لا يوجد إلا ومعه كتاب ينظر فيه.(9/491)
وحدّثني بعض النصارى بدمشق- وهو السني البعلبكي الطبيب- قال:
كان مولد اليبرودي ومنشؤه بيبرود، وهي ضيعة كبيرة من صيدنايا، وبها نصارى كثيرون، وكان اليبرودي بها كسائر أهلها النصارى من معاناتهم الفلاحة، وما يصنعه الفلاحون، وكان أيضا يجمع الشيح «1» من نواحي دمشق القريبة من جهته، ويحمله على دابّة، ويأتي به إلى داخل دمشق يبيعه للذين يقدونه بالأفران وغيرها، وإنه لما كان في بعض المرّات وقد عبر من باب توما، ومعه حمل شيح، رأى شيخا من المتطبّبين وهو يفصد إنسانا قد حصل له رعاف شديد من الناحية المسامتة للموضع الذي ينبعث منه الدم، فوقف ينظر إليه وقال له: لم تفصد هذا ودمه يجري بأكثر مما يحتاج إليه؟.
فعرفه أنه إنما فعله لينقطع عنه الدم الذي ينبعث من أنفه لكونه يجذبه إلى مسامتة الجهة التي ينبعث منها.
فقال له: إذا كان الأمر هكذا فإننا في مواضعنا قد اعتدنا أنه متى كان نهر جار، وأردنا أن نقطع الماء عنه، فإنا نجعل له مسيلا إلى ناحية أخرى غير مسامتة، فينقطع من ذلك الموضع ويعود إلى الموضع الآخر. فأنت لم لا تفعل هكذا، وتفصده من الناحية الأخرى؟.
ففعل ذلك وانقطع الرعاف عن الرجل، وقال ذلك الطبيب لليبرودي: لو أنك تشتغل بصناعة الطب جاء منك طبيب حاذق.
فمال اليبرودي إلى قوله، وتاقت نفسه إلى العلم، وبقي متردّدا إلى الشيخ في أوقات وهو يعرفه، ويريه أشياء من المداواة، ثم إنه ترك يبرود وما كان يعانيه وأقام بدمشق يتعلّم أشياء من المداواة، وصناعة الطب، فلما تبصّر في أشياء(9/492)
منها، وصارت له معرفة بالقوانين العلمية، حاول مداواة المرضى، ورأى اختلاف الأمراض وأسبابها، وعاماتها، وتيقّن علاجاتها، سأل عمّن هو إمام في وقته بمعرفة صناعة الطب جيدا؟.
فذكروا له أنّ ببغداد أبا الفرج ابن الطيّب كاتب الجاثليق، وإنه فيلسوف متفنّن، وله خبرة وفضل في صناعة الطب، وفي غيرها من الصنائع الحكمية.
فتأهّب للسفر، وأخذ سوارا كان لأمّه لينفقه، وتوجّه إلى بغداد، وصار ينفق عليه ما يقوم بأوده، ويشتغل على ابن الطيب إلى أن مهر في صناعته، وصارت له مباحثات جيدة، ودربة فاضلة في هذه الصناعة، واشتغل أيضا بشىء من المنطق والعلوم الحكمية، ثم عاد إلى دمشق وأقام بها.
ونقلت هذه الحكاية المتقدمة أو قريبا منها، وإن كانت الرواية مختلفة عن شيخنا الحكيم مهذّب الدين أسعد بن إلياس ابن المطران، قال: حدّثني أبي، قال: حدثني أبو الفرج ابن الحديد، قال: كان بدمشق فاصدا يقال له: أبو الخير، ولم يكن من المهرة، وكان من أمره أنه فصد شابّا، فوقعت الفصدة في الشريان، فتحير وتبلّد، وطلب قطع الدم، فلم يقدر على ذلك، فاجتمع الناس عليه، ففي أثناء ذلك طلع صبيّ عليه وقال: يا عماه! افصده في اليد الأخرى!.
فقال: شدّ الفصد الأول. فشدّه ووضع عليه لازوقا كان عنده، وشدّه. فوقف الدم وانقطع الجميع.
ووجد الصبي بالسوق معه دابة عليها حمل شيح، فتشبّث به، وقال: من أين لك ما أعلمتني به؟.
قال: إن أبي في وقت سقي الكرم إذا انفتح شق من النهر وخرج الماء منه بحدّة لا يقدر على إمساكه دون أن يفتح فتحا آخر ينقص منه الماء الأول الواصل(9/493)
إلى ذلك الشق، ثم يسده بعد ذلك.
قال: فمنعه الجرائحي من بيع الشيح واقتطعه، وعلّمه الطب، وكان منه اليبرودي، وهو من مشاهير الأطباء الفضلاء.
وكان لليبرودي مراسلات إلى ابن رضوان بمصر، وإلى غيره من الأطباء المصريين، وله إليهم مسائل عدة طبية، ومباحث دقيقة، وكتب بخطه شيئا كثيرا من الطب، ولا سيما من كتب جالينوس، وشروحها، وجوامعها.
وحدّثني السني البعلبكي: أن اليبرودي عبر يوما في سوق جيرون بدمشق «1» ، فرأى إنسانا وقد بايع على أن يأكل أرطالا من لحم الفرس مسلوقة، مما يباع في السوق، فلما رآه وقد أمعن في أكله بأكثر مما تحمله قوته، ثم شرب بعده فقاعا كثيرا «2» ، وماء بثلج، واضطربت أحواله، فتفرّس فيه أنه لا بدّ أن يغمى عليه، وأن يكون في حالة أقرب إلى الموت، إن لم يتلاحق، فتبعه إلى المنزل الذي له، واستشرف إلى ماذا يؤول أمره، فلم يكن إلا أيسر وقت وأهله يصيحون ويضجّون بالبكاء، ويزعمون أنه قد مات فأتى إليهم، وقال: أنا أبريه، وما عليه بأس. ثم إنه أخذه إلى حمّام قريب من ذلك، وفتح فكيه كرها، ثم سكب في حلقه ماء حارا، وقد أضاف إليه أدوية مقوية للقيء، وقيّأه برفق، ثم عاله، وتلطّف في مداواته حتى أفاق وعاد إلى صحته، فتعجّب الناس منه في ذلك الفعل، وحسن تأنّيه إلى مداواة ذلك الرجل، واشتهرت عنه هذه القضية، وتميّز بعدها.(9/494)
وهذه الحكاية التي قصد اليبرودي أن يتتبّع أحوال الرجل فيها، ويشاهد ما يكون من أمره أن يكون عنده معرفة بالأعراض التي تحدث له، وأن ينقذه أيضا مما وقع فيه إن أمكنه معالجته.
ومثل ذلك أيضا ما حكاه أبو جعفر أحمد بن محمد بن الأشعث في كتاب" الغاذي والمغتذي" وذلك أنه قال: إن إنسانا رأيته يوما وقد بايع أن يأكل جزر قدّره بحدّ ما، فحضرت أكله لأرى ما يكون من حاله لا رغبة مني لمجالسة من هذه حاله، ولا لي بذلك عادة والحمد لله، بل لأرى إيراد الغذاء على المعدة قسرا إلى ماذا يكون هذا الفعل، فرأيته يأكل من حائط ليري من حوله ويضاحكهم، حتى إذا مرّ على الكثير مما كان بين يديه، فرأيت الجزر ممضوغا قد خرج من حلقه، ملتفا، متحبلا، متعجبنا بريقه، وقد جحظت عيناه، وانقطع نفسه، واحمرّ لونه، ودرّت أوداجه وعروق رأسه، وأزبد، وكمد وجهه، وعرض له من التهوّع «1» أكثر مما عرض له من القذف، حتى رمى من ذلك الذي أكله شيئا كثيرا، فركنت «2» أن انقطاع نفسه لدفع المعدة حجابه إلى نحو الفم، ومنعها إياه من الرجوع إلى الانبساط إلى النفس، وأما ما عرض إلى لونه من الاحمرار، ودرور وداجيه وعروقه، فزكنت «3» أنه لإقبال الطبيعة نحو رأسه، كما يعرض لمن شدّ يده للفصد، أن تقبل الطبيعة نحو الجهة التي استنهضت نحوها.(9/495)
فأما ما عرض لوجهه من الاربداد «1» والكهوبة «2» ، فرأيت أيضا أنه لسوء مزاج قلبه، وأنه لو لم يخرج ما خرج، ودافعت المعدة حجابه هذه المدافعة التي قد عاقته آلته من التنفس، عرض له الموت بالاختناق، كما قد رأينا ذلك في عدد كثير ماتوا بعقب القذف، فزكنت من ذلك أن التهوّع لشدة اضطراب في ذلك الفصل، وحسن تأتيه، ونقي المعدة.
قال ابن أبي الأشعث بعد ذلك: إن الغذاء إذا حصل في المعدة وهو كثير الكمية تمدّدت تمدّدا يبسط سائر غضونها، كما رأيت ذلك في سبع شرّحته حيا بحضرة الأمير الغضنفر، وقد استصغر بعض الحاضرين معدته، فتقدمت بصب الماء في فيه، فما زلنا نصب الماء في حلقه دورقا «3» بعد أخرى، حتى عددنا من الدواريق عددا كان مقدار ما حوت معدته نحو أربعين رطلا ماء، فنظرت إذ ذاك إلى الطبقة الداخلة وقد امتدت حتى صارت له سطحا مستويا ليس بدون استواء الخارج، ثم شققتها، فعندما اجتمعت عند خروج الماء منها عاد غضون الداخلة والبواب يشهد الله في جميع ذلك، لا يرسل نفسه.
وحدثني الشيخ مهذّب الدين عبد الرحيم بن علي قال: حدثني موفق الدين ابن أسعد بن إلياس ابن المطران قال: حدثني أبي عن خالي أبي الفرج بن حيان، قال: حدثني أبو الكرم الطبيب قال: كنت يوما أساير الشيخ أبا الفرج اليبرودي،(9/496)
إذ اعترضه رجل فقال: يا سيدي!، كنت في صناعتي هذه في الحمام، وحلقت رأسي، وأجد الآن في وجهي كله انتفاخا وحرارة عظيمة. قال: فنظرنا إلى وجهه يربو وينتفخ، وتزيد حمرته بغير توقف ولا تدريج.
قال: فأمره أن يكشف رأسه ويلقى به الماء الجاري من قناة كانت بين يديه، وكان الزمان إذ ذاك صميم الشتاء، وغاية البرد، ثم لم يزل واقفا حتى بلغ ما أراد مما أمر به، ثم أمر الرجل بالانصراف، وأشار إليه بالأوفق، وهو تلطيف التدبير واستعمال النقوع الحامض مبردا، وقطع الزّفر، قال: فامتنع أن يحدث له شرّ ما.
وقال الطرطوشي في كتاب" سراج الملوك" «1» : حدثني بعض الشاميّين، أن رجلا خبازا بينما هو يخبز في تنّوره بدمشق، إذ عبر عليه رجل يبيع المشمش، فاشترى منه، وجعل يأكله بالخبز الحار. فلما فرغ سقط مغشيا عليه، فنظروا، فإذا هو ميت!؛ فجعلوا يتربصون به، ويحملون له الأطباء، فيلتمسون دلائله، ومواضع الحياة منه، فلم يجدوا؛ فقضوا بموته، فغسل وكفّن، وصلّي عليه، وخرجوا به إلى الجبانة، فبينما هم في الطريق على باب البلد إذ استقبلهم رجل طبيب يقال له اليبرودي، وكان طبيبا ماهرا حاذقا، فاضلا عارفا بالطب، فسمع الناس يلهجون بقضيته، فقال: حطّوه حتى أراه!.
فوضعوه، فجعل يقلبه، وينظر في أمارات الحياة التي يعرفها، ثم فتح فمه وسقاه شيئا، أو قال: حقنه، فاندفع هناك، فإذا الرجل قد فتح عينيه، وتكلم، وعاد إلى حانوته كما كان!!.
وحدّثني الشيخ مهذّب الدين عبد الرحيم بن علي عن موفق الدين أسعد بن(9/497)
إلياس بن المطران قال: حدثني أبي قال: حدثني عبد الله بن رجاء بن يعقوب، قال: بلغني أن أبا الفرج جرجس بن يوحنا أن اليبرودي لما توفي ظهر في تركته ثلاث مائة مقطع رومي، وخمس مائة قطعة فضة، ألطفها ثلاث مائة درهم.
قال موفق الدين بن المطران: وليس ذلك بكثير، لأن الشخص متى تحقّقت أعماله، وصفت نيته، وطلب الحق، وعامل بالصحيح، واجتهد في معرفة صناعته، كان حقا على الله أن يرزقه، ومتى كان بالضد عاش فقيرا، ومات بائسا «1» .
ومنهم:
121- ظافر بن جابر السكري أبو حكيم «13»
حظيّ كان معانده يتلظّى، وحاسده يتشظّى «2» ، نهض للطلب أول ما قام على ساق، وتم لهلاله اتّساق، ولم يملّ سعيا ولا أخلّ وعيا، ولا خلّى زمانه سقيا له ورعيا، حتى شذا من كل علم يتعلمه منه طرفا، وخلف من كان يتقدّمه وراء القفا، فصفت مناهله، وصمت مباهله «3» ، ولم يستتم غصنه الورق، ولا اشتدّ(9/498)
مجلسه بالكلبة وانتطق، حتى عدّ من العلامات، وتأكّدت الأسباب له بالعلامات.
قال ابن أبي أصيبعة:" كان مسلما فاضلا في الصناعة الطبية، متقنا للعلوم الحكمية، متحليا بالفضائل وعلم الأدب، محبا في الاشتغال والتطلّع في العلوم، وكان قد لقي أبا الفرج ابن الطيّب ببغداد، واجتمع به واشتغل عليه، ومعه، وكان ظافر بن جابر موجودا في سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة، وهو موصلي، وإنما انتقل من الموصل إلى مدينة حلب، وأقام بها إلى آخر عمره.
ومن شعره: [الكامل]
ما زلت أعلم أولا في أول ... حتى علمت بأنني لا علم لي
ومن العجائب أن أكون جاهلا ... من حيث كوني أنني لا أجهل
ومنهم:
122- أبو الحكم عبيد الله بن المظفر بن عبد الله الباهلي «13»
أبو الحكم، وأخو الحكم.
علم الفضلاء، وعصم أهل الولاء، إلا أنه كان للأعداء سماما، وللإعداء(9/499)
هماما، وكان كثيرا ما يهيج للمباهلة، ويهاجى ولا يخاف، ونسبه من باهلة.
أتى دمشق فرتع في جنانها، وغاص في غياض أفنانها، وبات قري جفونها المراض وجفانها، وآب إلى أندية سيادتها، فأناخ في ذلك الذرى واستطاب المناخ والقرا.
قال ابن أبي أصيبعة:" كان فاضلا في الحكمة والطب، معتنيا بالأدب، كثير المجون، محبا للشراب، فإذا طرب خرج في بابة «1» الخيال، وكان يضرب بالعود، وله مدائح في أبق «2» ، وبني الصوفي، وكان يهاجي الشعراء، وفي هجائه يقول عرقلة «3» : [السريع]
لنا طبيب شاعر أشتر «4» ... أراحنا من شخصه الله
ما عاد في صبحة يوم فتى ... إلا وفي باقيه رثاه
ومن شعره قوله [الوافر]
ألا يا من لصبّ مستهمام ... معنّى لا يفيق من الغرام
وكيف يفيق محزون كئيب ... أضرّ بجسمه طول السقام؟!
وقوله: [المنسرح]
ويح المحبّين ليت لا خلقوا ... ما برحوا في العذاب مذ عشقوا
ولا رجوا راحة ولا فرحا ... إلا وسدّت عليهم الطرق(9/500)
ومنهم:
123- ابنه: أبو المجد [محمد] بن أبي الحكم؛ أفضل الدولة «13»
متقن لكل رياضي، وممعن في كل سماء وأرضي. رمى كل أفق بنظره، وغلب كل شارق بنيره، وخلّف وراءه الأقران، وألقى في ذروة السؤدد الجران «1» .
والتفت إليه السلطان بوجه الإقبال، وحباه حتى أمن الإقلال، فتأخّر نظراؤه، وتقدّم إماما، وردّ نوءهم وسحّ غماما، وجدّل ذوي الجدال إذ جدّ اهتماما.
قال ابن أبي أصيبعة:" من الحكماء المشهورين، والعلماء المذكورين، والأفاضل في الطب، والهندسة، والنجوم، والموسيقى. ويجيد الغناء والإيقاع، والزمر، وسائر الآلات، وعمل الأرغن، وبالغ في إتقانه، وكان العادل نور الدين محمود زنكي يرى له ويحترمه، وجعل له الأمر في مارستانه بدمشق، وكان يقرأ عليه الطب في إيوان المارستان «2» ، وتقدّم في زمانه".(9/501)
ومنهم:
124- ابن البذوخ: أبو جعفر بن موسى بن علي القلعي «13»
كان من أعلام أهل الفضائل، وأواخر من لحقه السلف من الأوائل، جنى بيده الأدوية وركّبها، وعرف مقادير رتبها ورتّبها، إلى سوى هذا مما قضى فيه أيام عمره، وذهب وقد أبقى للناس من ثمره، وكان كأنه ما مات، ولا أكلت أنواره الظلمات، ومضى وهذا أثره، وبقي ذباب «1» السيف وهو أكثره.
قال ابن أبي أصيبعة:" كان عارفا بالأدوية المفردة والمركبة، وله حواش على كتاب" القانون" «2» ، وله اعتناء بعلم الحديث، والشعر، وعمّر عمرا طويلا، وضعف عن الحركة، ثم عمي في آخر عمره بماء نزل في عينيه".(9/502)
ومنهم:
125- حكيم الزمان أبو الفضل عبد المنعم بن عمر بن عبد الله بن حسان الغساني الجلياني «13»
حسنة من إحسان، وبقية من آل غسان، طلع من المغرب، وسمع منه المطرب، ولا عجب أن سمي حكيم الزمان، ولقط منه نظيم. وتلقّته الملوك واصطفته، وناصفته في مجالسها وأنصفته، ومذ أنس بفطنه لم يستوحش لوطنه، ولا ظهر عليه قشف «1» البين، ولا عرف له في بشر إلا حسن أثر وعين.
قال ابن أبي أصيبعة:" كان علامة زمانه في الطب والكحل، بارعا في الأدب والشعر، أتى من الأندلس إلى الشام، وأقام بدمشق، وعمّر عمرا طويلا، وله في السلطان صلاح الدين مدايح كثيرة، وصنّف له كتبا، وكان له منه الإحسان الجزيل، والإنعام الكثير.
ثم خدم بصناعة الكحل الملك الأشرف أبا الفتح موسى بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وتوفي بالرّها سنة نيف وعشرين وستمائة.
ومن شعره قوله [الطويل](9/503)
على فرط شوقي تستقل الركائب ... وعن صون دمعي تستهلّ السحائب
وما البرق إلا من حنيني نابض ... وما الرعد إلا من أنيني نادب
نأيتم فلا صبر من القلب حاضر ... لديّ ولا قلب عن الذكر غائب
فيا ليت شعري بعدنا من صحبتم ... فما بعدكم غير الهوى لي صاحب
وقوله [البسيط]
قالوا نرى نفرا عند الملوك سموا ... وما لهم همة تسمو ولا ورع
قد يكرم القرد إعجابا بخسّته ... وقد يهان لفرط النخوة السّبع
ومنهم:
126- المهذّب ابن النقاش «13»
أبو الحسن علي بن عيسى بن هبة الله.
طبيب لو أخذ عن جالينوس لأتاه العلم بمنصوصه، أو لزم ابن سيناء لأقبل عليه على خصوصه، أو سبق ابن عربي لاستبقى بقية من نقشه لفصوصه «1» .(9/504)
وكان لا يقصر في طلب، ولا يقص النسر له جناحا إذا طلع أو غرّب، فلم يلمّ به ملل، ولا كان له في العلم أمل.
قال ابن أبي أصيبعة:" كان مولده ومنشؤه ببغداد، وكان عالما بالعربية والأدب، وقرأ الطب على- أمين الدولة- ابن التلميذ، ولازمه مدة، واشتغل بعلم الحديث على ابن الحصين «1» ، وحدث معه، وسمع منه القاضي عمر بن القرشي «2» .
وقال الأصفهاني في الخريدة: أنشدني مهذب الدين ابن النقاش لوالده: [المتقارب]
إذا وجد الشيخ في نفسه ... نشاطا فذلك موت خفي
ألست ترى أن ضوء السراج ... له لهب عند ما ينطفي؟!
قال ابن أبي أصيبعة:" لما وصل المهذب ابن النقاش إلى دمشق، دبّ بها، وكان له مجلس عامّ للمشتغلين عليه، ثم توجه إلى مصر، وأقام بالقاهرة مدة، ثم رجع إلى دمشق وخدم نور الدين- أي الشهيد- بالطب، وكان له منه إحسان، وتوفي يوم السبت ثاني عشر المحرم سنة أربع وسبعين وخمسمائة، ودفن بجبل قاسيون.(9/505)
ومنهم:
127- سكرة اليهودي الحلبي «13»
حكيم فضائله غير منكرة، وطبيب حلا وصفه فقيل سكّره، وكانت له همم تواتيه، وله شمم ما خرج به من التيه، انقاد له الحظ، وأتاه بأدنى فكرة ولفظ، وأنجبت له ذرّيّة أسلموا بعده وسلّموا ولايات عدة، وذلك بعد أن رفع عليهم علم الإسلام، ودان لهم قلم الكتابة بسلام.
قال ابن أبي أصيبعة:" كان له دربة بالعلاج، وتصرّف في المداواة. حكي أنه كان لنور الدين بقلعة حلب حظيّة يميل إليها، فمرضت مرضة أعيت على الأطباء، فأحضر إليها سكّرة الحكيم، فوجدها قليلة الأكل، متغيرة المزاج، فسألها عن جنسها؟ فأخبرته بأنها علّانية «1» ، ثم سألها عما كانت تأكل في بلادهم؟.
فقالت: لحم البقر. فسألها عما كانت تشرب؟. فقالت: الخمر.
فقال لها: أبشري بالعافية. ثم ذهب فاشترى عجلا وسلق من لحمه، ثم عمل معه شيئا من لبن وثوم، وأخذ معه خمرا، وأتى به إليها، فأطعمها، وأكلت منه بنهمة كبيرة، ثم سقاها، فطلبت النوم، فنامت وغطيت بدثار، فعرقت عرقا كثيرا، وأصبحت في عافية، ولازمها بمثل ما عالجها به، حتى برئت، فبعثت إليه بصينية مملوءة من الحلي، ثم كتبت إلى نور الدين تعلمه بعجز الأطباء عنها، وإن عافيتها كانت على يده. فلما قرأ الكتاب، طلبه وعرّفه بما قالت، ثم منّاه، فسأله(9/506)
عشرة أفدنة في قريتي" صمع، وعيدان"؛ فكتبها له ملكا ثم عاد إلى حلب، وكثرت أمواله، ولم يزل في نعمة طائلة هو وبنوه.
ومنهم:
128- أسعد بن [إلياس بن جرجس- موفق الدين] «1» ابن المطران «13»
طبيب على نصرانيته «2» وتدينه بدنيّته، قد تحلّى بمحاسن الشيم، وحلّ الغاية لولا الشمم، ودنا من الملوك مجلسا، وترك حاسده المضنوك مبلسا، وأطالت النعم رياشه، ونفضت على فائض النوء رشاشه، وأثري بالحضرة الصلاحية «3» حتى ابتلّ عوده في الثرى، وشمخ هرم ماله إلى الذرا، وكان على هذا الوفر والحظ الذي ما ذهّب بمثله سفر، يتجنّى على السلطان والذنب ذنبه، ويتناوم عليه ولا يهدأ جنبه.
قال ابن أبي أصيبعة «4» :" كان للسلطان صلاح الدين- رحمه الله تعالى-(9/507)
فيه اعتقاد، وأسلم في أيامه، وكان يغلب على ابن المطران الكبرياء، حتى على الملوك، وكان يعلم صلاح الدين ذلك منه.
حكى عنه من كان معه في بعض غزواته أن صلاح الدين كان ينصب له في أوقات حروبه خيمة حمراء، بدهليز أحمر، وميضأة حمراء؛ فبينا هو راكب وإذا به قد نظر إلى خيمة حمراء ظنّها خيمته؛ فسأل: لمن هي؟. فقيل له: لابن المطران الطبيب. فضحك وقال: والله قد عرفت هذا من حماقته. ثم قال: ما بنا إلا أن يعبر أحد من الرسل، فيعتقد أنها خيمة أحد الملوك، وإذا كان لا بد، فليغير ميضأتها.
فصعب هذا على ابن المطران، وبقي يومين لا يأتي الخدمة حتى ترضّاه صلاح الدين، وأعطاه مالا".
وشكا أبو الفرج النظروي الطبيب إلى صلاح الدين ضرره ببنات له يريد تجهيزهنّ. فأمره أن يكتب ورقة بما يحتاج إليه، فكتب شيئا بنحو ثلاثين ألف درهم، فأمر له بما تضمّنته ورقته، فبلغ ذلك ابن المطران، فقصر في الخدمة، وتبين لصلاح الدين هذا من تغير وجهه، فأمر بأن يحسب جملة ثمن ما اشترى به جهاز بنات أبي الفرج، ويعطى ابن المطران نظيره.
وحكى المهذب عبد الرحيم بن علي أن أسد الدين شير كوه صاحب حمص طلب ابن المطران، قال: فتوجّه وأنا معه، فبينما نحن في بعض الطريق، وإذا رجل مجذوم قد استقبله، وكان المرض قد قوي به حتى تغيرت خلقته، وتشوّهت صورته، فاستوصف منه ما يتناوله، ويتداوى به، فبقي كالمتبرّم به، ثم قال له:
كل لحوم الأفاعي، فعاوده، فقال: كل لحوم الأفاعي، فإنك تبرأ، يكررها عليه، ثم مضينا إلى حمص، وأقمنا بها نعالج المريض الذي طلب لأجله، إلى أن صلح،(9/508)
ثم رجعنا فلما كنا في الطريق وإذا شابّ حسن الصورة، كامل الصحة، قد سلّم عليه، وقبّل يده، فقال له: من أنت؟. فقال له: أنا صاحب ذلك المرض الذي كنت شكوت إليك، وإنني استعملت ما وصفت لي، فصلحت من غير أن أحتاج معه إلى دواء آخر.
وتوفي ابن المطران في ربيع الأول سنة تسع وخمسمائة، بدمشق «1» .
ومنهم:
129- ابن اللبّودي: يحيى بن محمد بن عبدان بن عبد الواحد «13»
الصاحب نجم الدين، أبو زكريا.
مشيّد بيت، ومحيي فضل غير ميت، وإلى الآن بقيته، وكان وما هانت بليته.
وترقّى إلى أن وزر، واتّشح برداء الكبرياء واتّزر، إلا أنه لدى ملك لم يفخر لديه خديم ولا أثرى بندى يديه عديم، لضيق نطاقه، وعدم رواج الفضل عنده ونفاقه، لصغر بلده، وقلّة ذات يده.(9/509)
قال ابن أبي أصيبعة:" أوحد في الطب، قدوة في الحكم، مفرط الذكاء، فصيح اللفظ، شديد الحرص في العلوم، متقن في الآداب، فما يدانيه في شعره لبيد، ولا في ترسّله عبد الحميد «1» . [الطويل]
ولما رأيت الناس دون محلّه ... تيقّنت أن الدهر للناس ناقد «2»
مولده بحلب سنة سبع وستمائة، وأتى دمشق وقرأ على المهذب عبد الرحيم، وخدم المنصور إبراهيم صاحب حمص، وكان يعتمد عليه، وأحواله تزداد لديه حتى استوزره واعتمد عليه بكليّته، فلما توفي المنصور بعد كسره الخوارزميّة «3» ، توجّه إلى الخدمة الصالحية النجميّة «4» بمصر، فأكرم وجعل له كل شهر ثلاثة آلاف درهم، وبقي على ذلك مدة، ثم وجه إلى الشام ناظرا على الديوان، بجميع الممالك الشامية".
وله نثر؛ منه قوله وقف الخادم على المشرفة الكريمة:" أدام الله نعمة المنعم بما(9/510)
أودعها من النعم الجسام، واقتضته من الأريحية «1» التي أربى فيها على كل من تقدّمه من الكرام، وأبان فيها عما يقضي على الخادم بالاسترقاق، وللدولة- خلّدها الله تعالى- بمزايا الاستحقاق، وكلما أشار المولى إليه هو كما نص عليه، لكنه يعلم بسعادته أن الفرض تمر مرّ السحاب، [وأن الأمور المعينة في الأوقات المحدودة تحتاج إلى تلافي الأسباب] «2» ، وقد ضاق الوقت بحيث لا يحتمل التأخير، والمولى يعلم أن المصلحة تقديم النظر في هذا المهم على جميع أنواع التدبير. وما الخادم مع المولى في هذا إلا كسهم: والمولى مسدّده، والسيف:
والمولى مجرّده، فالله الله في العجلة، والبدار البدار، فقد ظهرت مخايل السعادة والانتصار، والحذر الحذر من التأخير والإهمال، فيفوت- والعياذ بالله- الأوقات التي ترجو فيها بلوغ الآمال، والمسؤول من كرم الله تعالى أن ينهض المملوك في خدمة السلطان بما يبيّض وجه أمله، ويكون ذلك على يد المولى وبقوله وعمله".
ومن شعره قوله يمدح سيدنا- على نبينا وعليه الصلاة والسلام-: [الكامل]
هذي المهابة والجلال الهائل ... بهرا، فماذا أن يقول القائل؟
وبك اقتدى جلّ النبيين الألى ... ولديك أضحت حجة ودلائل
أظهرت إبراهيم أعلام الهدى ... والخير والمعروف جودك عامل
شيدت أركان الشريعة معلنا ... ومقرّرا أن الإله الفاعل
ما زلت تنقل للنبوة سرها ... حتى غدا بمحمد هو واصل
وقد التجأت إلى جنابك خاضعا ... متوسّلا وأنا الفقير السائل(9/511)
ومنهم:
130- الرضي الرحبي، يوسف بن حيدرة بن الحسن أبو الحجاج «13»
حكيم لو استجارت به الأرواح لكلأها، أو أملى المسامع لملأها، كم شكيت إليه الأسقام فأبرأها، وتواثبت الأيام فردّ أجرأها، مذ وكّلت به رعاية الأبدان حرست، ومذ أترست به الأعضاء رأست. شدّ البناء وشدّد الأبناء، فقامت به الأجسام، وكانت تئن سقما، وتدافع ضعفا فتح لها فمه ملتقما، فتمّت به محاسن الوجوه الوسام، وترضى الأرواح للأجسام فخصّ بالحباء «1» وزيادة الاحتباء، فأقبل المال يتدفّق عليه تدفّق السيل، ويفيض عنده على الميزان والكيل.
قال ابن أبي أصيبعة فيه:" من الأكابر في صناعة الطب، والمتقدّمين من أهلها، وله الذكر الشائع، ولم يزل مبجّلا عند الملوك. وكان عالي الهمّة كبير النفس، كثير التحقيق، شديد الاجتهاد في مداواة المرضى، ما عرف منه أنه آذى أحدا، ولا تكلّم فيه بسوء. وكان لابنه نظر في الطب، إلا أن صناعة الكحل(9/512)
كانت أغلب عليه، وبها عرف، وولد ابنه الرضي بالجزيرة في جمادى الأولى سنة أربع وثلاثين وخمسمائة، ونشأ بها، وأقام بنصيبين، ثم الرحبة، ثم سافر إلى بغداد وغيرها، واشتغل في علم الطب، وتميز فيه، ثم أتى مصر واجتمع بالموفق بن جميع المصري، وانتفع به، وكان قدومه دمشق في الأيام النورية، فرأى ابن النقاش وأخذ عنه، ولزمه، فنوّه بذكره، وقدر له بالمثول الحضرة الصلاحية، فحسن موقعه إليها، ورتب في المارستان النوري، وأطلق له إدرار سلطاني ودام إلى أيام المعظم، وأشغل خلقا كثيرا صاروا شيوخ إقراء، حتى كان لو اعتبر أطباء الشام لم يوجد منهم إلا من قرأ عليه أو على من قرأ عليه. وممن قرأ عليه" المهذب": عبد الرحيم بن علي، وكان لا يرى أن يقرئ ذميا ولا عادم أهلية.
وكان يلازم في طبه قوانين حفظ الصحة الموجودة، وكان يتوقى صعود السلالم، ويقول: السلم منشار العمر.
ومن نوادره في طبه: أن ابن مرزوق ذكر أن الصاحب ابن شكر كان يلازم أكل الدجاج، فلحقه شحوب، فشكاه إلى الأطباء، فوصفوا له أنواعا من الأشربة وغيرها، فلما شكا إلى الرحبي قال: يحضر الجواب، ثم نهض فأحضر له قطعة من صدر دجاجة، وقطعة حمراء من لحم ضأن، ثم قال له: أنت تلازم أكل لحم الدجاج، فلا يأتي الدم المتولّد منه إلا شبهه، ولو أكلت من لحم الضأن لأتى الدم المتولد منه يشبهه، فاترك لحم الدجاج، ولازم لحم الضأن، وما تحتاج إلى علاج.
ففعل ذلك، فزال شحوبه، وصلح لونه.
وتوفي يوم عاشوراء سنة إحدى وثلاثين وستمائة، ودفن بقاسيون.(9/513)
ومنهم ابنه:
131- الشرف علي شرف الدين أبو الحسن «13»
حكيم أينع في جرثومة «1» الطبّ عذقه «2» ، وصحّ في نظر المستطب حذقه، لم تخط تجاربه، ولم تخف مآربه، أحسن طبّه علاج الأمراض، وقوّم مزاج الأعراض، وعرف منه ما لم يخف على أحد، ولا عرف أن أحدا له جحد، وكان طبه شافيا للأسقام، وكافيا في الداء العقام، ولم تمسّ يده مريضا إلا مسح بيده سقمه، وسلّه من قم دائه الذي التقمه، فكان لهذا يرغب في تطبيبه، ويرى من استطب غيره سقامه من طبيبه.
قال ابن أبي أصيبعة فيه:" سلك حذو أبيه، واقتفى ما كان يقتفيه، وأشبهه خلقا وخلقا، وطريقة وحذقا، ولم يزل منذ نشأ متوفرا على قراءة الكتب وتحصيلها، ونفسه تشرئبّ إلى طلب جمل الفضائل وتفصيلها.
قرأ على أبيه، وعلى الموفق عبد اللطيف البغدادي، وأخذ عن السّخاوي(9/514)
وغيره، وأجاد إتقان الأدب، وكان يحب التخلي للقراءة والدرس، والاطلاع على آثار القدماء، والانتفاع بتصانيف الحكماء.
ولد بدمشق سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة.
وحكي أنه قبل مرض موته بمدة كان يخبر أنه بعد قليل يموت، ويقول:
وذلك عند قران الكوكبين، ثم يقول: قولوا هذا للناس حتى يعرفوا مقدار علمي في حياتي، وفي وقت موتي، فكان كما قال.
وتوفي بذات الجنب «1» ، حادي عشر المحرم، سنة سبع وستين وست مائة.
ودفن بقاسيون.
ومن شعره قوله: [الطويل]
سهام المنايا في الورى ليس تمنع ... فكل له يوما- وإن عاش- مصرع
فقل للذي قد عاش بعد قرينه ... إلى مثلها عما قليل ستدفع
فتبا لدنيا ما تزال تعلّنا ... أفاويق كأس مرّة ليس تقنع
أفق وانظر الدنيا بعين بصيرة ... تجد كل ما فيها ودائع رجّع
وقوله: [الطويل]
تساق بنو الدنيا إلى الحتف سرعة ... ولا يشعر الباقي بحالة من يمضي
كأنهم الأنعام في جهل بعضها ... بما تم من سفك الدماء على بعض(9/515)
ومنهم:
132- عمران [بن صدقة] الإسرائيلي «13»
واسم أبيه: صدقة، ويلقّب بالأوحد.
حكيم حكم له على نظرائه، وحتم بصواب آرائه، لنظر كان له أثقب من نظر الغراب، وأحدّ من السيف عند الضراب، حتى ظهر ظهور الشمس، واشتهر اشتهار ما كان في أمس، فاستدعته الملوك إلى مجالسها، وأدنته إدناء مجالسها، فأخذ منها بحظ أزلف له الغدف «1» ، وأشرف له على أبعد مشترف، وقدّمه لديهم لفضل طار به محلّقا، وأطال باعه محقّقا، وعرف بحسن التدريب، وصحة التجريب، فأجزلت له الجوائز حتى كان يأخذها آلافا، ويعجل لها إتلافا وإخلافا، وهلك بعد السرف، وكثرة ما صرف، وأمواله قد زادت على القياس.
قال ابن أبي أصيبعة:" كان أبوه طبيبا مشهورا، واشتغل هو على الرضي الرحبي، وتميّز في الطب، وحظي عند الملوك، واعتمدوا عليه في المداواة والمعالجة، ونال من جهتهم الأموال الجسيمة والنعم ما يفوق الوصف، وحصّل من الكتب الطبية وغيرها ما لا يكاد يوجد عند غيره، ولم يخدم عند أحد من الملوك في الصحبة، ولا تقيّد معهم في سفر، وإنما كان كل منهم إذا عرض له مرض أو لم يعز عليه طلبه، ولم يزل يعالجه ويطبّبه بألطف علاج وأحسن تدبير إلى أن يفرغ من مداواته، ولقد حرص به الملك العادل أبو بكر بن أيوب بأن(9/516)
يستخدمه في الصحبة فأبى، وكذلك غيره من الملوك.
وحدّثني الأمير صارم الدين التبنيني رحمه الله: أنه لما كان بالكرك وصاحبه الملك الناصر داود بن الملك المعظم، وكان الملك الناصر قد توعّك «1» مزاجه، واستدعى الحكيم عمران إليه من دمشق، فأقام عنده مديدة، وعالجه، حتى صلح، فخلع عليه، ووهب له مالا كثيرا، ورتب له جامكية «2» في كل شهر ألف وخمسمائة درهم ناصرية، ويكون في خدمته، وأن يسلف منها عن سنة ونصف: سبعة وعشرين ألف درهم.
أقول «3» : وكان السلطان الملك العادل لا يزال يصله بالأنعام الكثير، وله منه الجامكية الوافرة، والجراية، وهو مقيم بدمشق، ويتردّد إلى خدمة الدور السلطانية، والقلعة، وكذلك في أيام الملك المعظم، وكان قد أطلق له أيضا جامكية وجراية تصل إليه، ويتردّد إلى البيمارستان الكبير، ويعالج المرضى به، وكان به أيضا في ذلك الوقت شيخنا مهذّب الدين عبد الرحيم بن علي رحمه الله، وكان يظهر من اجتماعهما كل فضيلة ويتهيّأ للمرضى من المداواة كل خير، وكنت في ذلك الوقت أتدرب معهما في أعمال الطب، ولقد رأيت من حسن تأتّي عمران في المعالجة وتحقيقه للأمراض ما يتعجّب منه، ومن ذلك أنه كان يوما قد أتى إلى البيمارستان وبه مفلوج، والأطباء قد ألحّوا عليه باستعمال المغالي وغيرها من صفاتهم، فلما رآه وصف له في ذلك اليوم تدبيرا يستعمله، ثم بعد ذلك أمر بفصده، ولما فصد، وعالجه، صلح وبرئ برءا تامّا، وكذلك(9/517)
رأيت له أشياء كثيرة من صفات مزاوير، وألوان كان يصفها للمرضى على سبيل شهواتهم، ولا يخرج عن مقتضى المداواة، فينتفعون بها، وهذا باب عظيم في العلاج، ورأيته أيضا وقد عالج أمراضا كثيرة مزمنة، كان أصحابها قد سئموا الحياة، ويئس الأطبّاء من برئهم، فبرؤوا على يديه، بأدوية غريبة يصفها، ومعالجات بديعة قد عرفها، وقد ذكرت من ذلك جملا في كتاب" التجارب والفوائد".
توفي الحكيم المذكور في مدينة حمص، في جمادى الأولى سنة سبع وثلاثين وست مائة، وقد استدعاه صاحبها لمداواته.
ومنهم:
133-[موفق الدين] يعقوب بن صقلاب النصراني «13»
حكيم أطاح طبه رداء السقم، وأطار عن الأعضاء لوثة السأم، فقامت به الأجسام كأنما نشطت من عقال، أو حودثت بعد صدأ الأسقام بصقال، فحظي عند الملوك حظوة زادت في أنسه، وقضى بها يعقوبه حاجة كانت في نفسه.
هذا إلى علم بصناعة الطب حفظت له فيه دروس، ونشأت له به غروس، وكان كأنما خلق من طينة أفلاطون، وجالس جالينوس، حتى اخترمته المنون.
قال ابن أبي أصيبعة:" كان أعلم أهل زمانه بكتب جالينوس ومعرفتها، دائم الاستحضار لها، كأنها مصورة بين عينيه، لا ينقل إلا عنه، وكان يشرح كتب أبقراط، ويورد نص ما قاله جالينوس في شرحه، وكان يجتمع هو والمهذب عبد الرحيم بدمشق، بدار السلطان، ويجري بينهما مباحث، وكان المهذب أفصح(9/518)
عبارة، وأقوى براعة، وأحسن بحثا، وابن صقلاب أكثر سكينة، وأبين قولا، وأوسع نقلا.
وكان في معالجاته غاية في الجودة والنجح، لأنه كان لا يداوي حتى يجيد تحقيق المرض، وكان المعظّم يشكر هذا من فعله، ويصفه به، ويقول: لو لم يكن في الحكيم يعقوب إلا استقصاء الأمراض ليعالجها على الصواب ولا يشتبه عليه شيء من أمرها لكفاه.
وكان متقنا للسان الرومي، ونقل كتاب" حيلة البرء" وغير ذلك من كتب جالينوس، منها إلى العربي.
قال: كان مولده بالقدس، وأخذ الطبيعي والهندسة والحساب والنجوم عن فيلسوف كان قد ترهّب بها في دير السيق. قال: وكانت له في النجامة أحكام صحيحة، وإنذارات عجيبة، وعلت مكانته عند المعظم حتى أراد أن يوليه بعض تدبير دولته، فامتنع، وكان قد عرض له نقرس في رجليه، فكان المعظم إذا سافر أخذه معه في محفّة. وقال له يوما: يا حكيم، لم لا تداوي هذا المرض الذي في رجليك؟. فقال له: الخشب إذا سوّس ما يبقى في إصلاحه حيلة. وأدرك الناصر داود بعد أبيه.
وولد بدمشق «1» سنة إحدى وستين وخمسمائة، وتوفي بها يوم فصح النصارى سنة خمس وعشرين وستمائة.(9/519)
ومنهم:
134- رشيد الدين الصوري أبو المنصور ابن أبي الفضل بن علي «13»
رجل تهادته الملوك، وهادنته الأيام لحسن السلوك، وكان الحظّ معه حيثما خيم، والسعد قرينه أينما يمّم، وهو من بيت تعد معه رجال، وتمتع الدهر بهم إلى آجال، وطالما زهت بهم الأيام الخوالي، وحسنت بهم الليالي الحوالي، وكان هو آخرهم، الذي كان لمسكهم ختاما، وضرب لهم حول قباب الجوزاء خياما.
قال ابن أبي أصيبعة:" اشتمل على جملة من الصناعة الطبية، واطلع على محاسنها الجلية والخفية، وكان فريدا في الأدوية المفردة وماهياتها، واختلاف أسمائها وصفاتها، وتحقيق خواصّها وتأثيراتها. اشتغل على عبد اللطيف البغدادي بالقدس سنتين، وصحب الجياني، وكان عارفا بالأدوية المفردة، فانتفع به، واشتغل بها مع ما هو عليه من المروءة التي لا مزيد عليها، والعصبية التي لم يسبق إليها، والمعرفة المذكورة، والشجاعة المشهورة. وخدم بالطب: العادل «1» ، ثم صار إلى المعظّم «2» ، وحضر معه دمياط. ثم صار إلى الناصر داود، فلما توجه إلى الكرك أقام الرشيد بدمشق، وكان يشتغل بها.
ولأبي نصر المهذب الحلبي «3» فيه مديح، منه: [الطويل](9/520)
سرى طيفها والكاشحون «1» هجود «2» ... فبات قريبا والمزار بعيد
وتالله ما عاد الخيال وإنما ... تخيله الأفكار لي فيعود
فيا لائمي كف الملام ولا تزد ... فما فوق وجدي والغرام مزيد
ألا في سبيل الحب من مات صبوة ... ومن قتلته الغيد فهو شهيد
ولم تر عيني مثل أسماء حلة ... تضنّ بوصلي والخيال يجود
وبتّ وجنح الليل مرخ سدوله ... أضمّ غصون البان وهي تذود
إلى أن تبدّى الصبح غير مذمّم ... وزال ظلام الليل وهو خميد
وكيف أذم الصبح أو لا أودّه ... وإن ريع مودود به وودود
وكل صباح فيه للعين حظوة ... بوجه رشيد الدين وهو سعيد
فقل لبني الصوري قد سدتم الورى ... وما الناس إلا سيد ومسود
وما حزتم إرث العلى عن كلالة ... كذلك آباء لكم وجدود
ومن بأبي المنصور أصبح لائذا ... فقد قاربته بالنجاح سعود
فيا كعبة الآمال يا ديمة الندى ... ويا من به روض الرجاء مجود
ومن عنده يوم السماحة حاتم ... كما عند مدحي في علاه عبيد
أياديك عندي لا أقوم بشكرها ... فما فوق ما أولت يداك مزيد
ولد سنة: ثلاث وتسعين وخمسمائة بصور، ونشأ بها، وتوفي بدمشق يوم الأحد غرة رجب سنة تسع وثلاثين وستمائة «3» .(9/521)
ومنهم:
135- سديد الدين بن رقيقة «1» ، أبو الثناء، محمود بن عمر بن محمد بن إبراهيم، ابن شجاع الحانوي، الشيباني «13»
طبيب كان كالنسيم في لطف العلاج، والصباح الوسيم عند الانبلاج، وكان لا يبارى في خفة يد، ولعب أنامل في جد، مهما تقدم له مما تقدم به في ذوي الحظوظ، فما قاوى جدول تياره، ولا طاولت الحباحب «2» ناره، وكان يستحق هذا من أيامه الذاهبة، وفي زمانه وعطايا إنعامه الواهبة.
ذكره ابن أبي أصيبعة فقال:" ذو النفس الفاضلة، والمروءة الكاملة، جمع من الطب ما فاق به أقوال المتقدمين، وتميز على جميع نظرائه من الحكماء والمتطبّبين، هذا مع الفطرة الفائقة، والألفاظ الرائقة، والنظم البليغ، والترسل البديع.
ولازم ابن عبد السلام المارديني «3» ، وأخذ عنه الطب والحكمة، وكانت لابن(9/522)
رقيقة يد طولى في الكحل والجراح، وعمل الحديد، وداوى أمراض العين، وقدح الماء النازل، وأنجب عمله، وكان المقدح الذي له مجوّفا، وله عطفة ليتمكن وقت القدح من امتصاص الماء، ويكون العلاج به أبلغ.
واشتغل بعلم النجوم، ونظر في حيل بني موسى، وعمل فيها أشياء مستظرفة.
ولد الحانوي «1» سنة أربع وستين وخمس مائة، وعالج صاحبها الأرتقي «2» من مرض في عينيه، فرأى سريعا، وكان إذ ذاك دون العشرين، فاستخدمه عنده. ثم خدم المنصور صاحب" حماه" مدة، ثم سافر إلى" خلاط" «3» ، وكان صاحبها الأوحد أيوب ابن العادل «4» ، فخدمه، وخدم صهره صلاح الدين ابن باغيسان «5» ، وكان زوج ابنة الأوحد، وكانت بنت الأوحد محسنة إليه، ثم خدم بعده الأشرف ملكشاه أرمن، ثم أتى إليه إلى دمشق، فأكرمه، واستخدمه لحرم، وفي البيمارستان، ولم يزل بها إلى أن توفي سنة خمس وثلاثين وست مائة.
وله شعر منه: [الكامل]
يا ملبسي بالنطق ثوب كرامة ... ومكمّلي ودا به ومقوّمي
خذني إذا أجلي تناهى وانقضى ... عمري على خطّ إليك مقوم
فقد اجتويت ثواي ثم ومن يكن ... دار الغرور له محلا يسأم(9/523)
دار يغادر بؤسها وشقاءها ... من حلّها وكأنه لم ينعم
لا ترتضي الدنيا الدنية موطنا ... تعلى على رتب السواري الأنجم
فتشاهدي ما ليس تدرك كنهه ... بالفكر أو يتوهم المتوهم
وتجاوري الأبرار في مستوطن ... لا داثر البقيا ولا متهدم
يا أيها المغرور شبت ولم تعد ... عما لهجت به ولم تتندّم
لا تحسبنّ الشيب فيك لعلّة ... عرضت ولا لتلزج في البلغم
لكن شبابك كان شيطانا ومن ... يك ماردا بالشهب حقا يرجم
والشيب إشراق الحجا وضياؤه ... فأهن هواك وإن شيبك يكرم
يا جابر العظم الكسير وغافر ... الجرم الكبير لكل عبد مجرم
ما لي إليك وسيلة وذريعة ... أنجو بها إلا اعتقاد المسلم
وقوله: [الخفيف]
لا تكن ناظرا إلى قائل القو ... ل بل انظر إليه ماذا يقول
وخذ القول حين تلقيه معقو ... لا ولو قاله غبي جهول
فنباح الكلاب مع خسة فيها ... على منزل الكريم دليل
وكذاك النضار معدنه الأر ... ض ولكنه الخطير الجليل(9/524)
ومنهم:
136- صدقة بن منجا بن صدقة السامري «13»
رأس حكمة وأدب، وحلف همة لم يقصّر في دأب، لم يلف مثله سامريا، ولا مضطلعا سام ريا، ورد على الغمام حياضها، وراد في جنبات المجرة رياضها، طالما سهر الليالي الطوال، وأكثر في طلب العلم السؤال، إلى أن جمع على الفضائل ردنه، واتخذ كرم الفعائل خدنه، إلا أنه لم ينزع حب دينه، ولا جفا ما جفّ في طينه.
قال ابن أبي أصيبعة «1» فيه:" من الأكابر في صناعة الطب، والتميزين من أهلها، والأماثل من أربابها، وافر العلم، جيد الفهم، قويا في الفلسفة، وكان يدرس في الطب وله فيه وفي الحكمة تصانيف، وخدم الأشرف شاه أرمن، وكان يحترمه غاية الاحترام، ويكرمه كل الإكرام، ويعتمد عليه، وتوفي بحرّان فيما ينيف على سنة عشرين وستمائة، وخلّف مالا جزيلا، ولم يخلّف ولدا.
ومن كلامه قوله:" الصوم منع البدن [من الغذاء] وكف الحواس عن الخطاء، والجوارح عن الآثام، [وهو كف الجميع عما يلهي عن ذكر الله] «2» ."(9/525)
وقال:" [اعلم أن جميع الطاعات ترى إلا الصوم لا يراه إلا الله، فإنه عمل في الباطن بالصبر المجرد] ، واللصوم ثلاث درجات: صوم العموم، وهو كف البطن والفرج. وصوم الخصوص، وهو كف السمع والبصر واللسان، وصوم خصوص الخصوص، فصوم القلب [عن الهمم الدنية] ، والأفكار [الدنياوية] «1» .
وقوله:" ما كان من الرطوبات الخارجة من الباطن ليس مستحيلا «2» ولا له مقر فهو طاهر، كالدمع والعرق، واللعاب، والمخاط. وأما ما له مقر وهو مستحيل فهو نجس كالبول، والروث".
ومن شعره قوله [مخلع البسيط]
يا وارثا عن أب وجدّ ... فضيلة الطب والسداد
وضامنا رد كل روح ... همت عن الجسم بالبعاد
أقسم لو كان طب دهرا ... لعاد كونا بلا فساد «3»
وقوله: [السريع]
مهندس في طول أيامه ... مع قصره يبتلع الساريه
مثلث يدعمه قائم ... لأنه منفرج الزاويه(9/526)
ومنهم:
137- المهذب يوسف بن أبي سعيد بن خلف السامري «13»
سامري لم يخفر ذمته، ولم تقصر في طلب العلياء همته، حتى دانى الغاية على قلة ناصريه، وكثرة حسّاده في معاصريه، ولم تزل العداوة تشب اللهب، وتجلل الرماد الذهب، فألصقت به العيوب، وخرّقت إليه أستار الغيوب، ولم تزل تزعزعه العواصف إلى أن زحزح، وتكشف غماره حتى صحصح.
قال ابن أبي أصيبعة «1» :" أتقن الطب والحكمة، واشتغل بعلم الأدب، وبلغ في الفضائل أعلى الرتب، وكان كثير الإحسان، غزير الامتنان، فاضل النفس، صائب الحدس، قرأ في الخدمة الصلاحية «2» ، على شمس الحكماء إبراهيم السامري، وعلى إسماعيل بن أبي الوقار الطبيب، وعلى أبي اليمن الكندي، والمهذّب ابن النقاش، وتميّز في الطب، واشتهر بحسن العلاج، وعالج ست الشام بنت أيوب من دوسنطاريا كبدية، بالكافور القيصوري «3» ، بحليب بزر بقلة محمصة، وشراب رمان، وصندل، فسارعها الدم، ثم لاطفها، حتى برأت.
وخدم فرخشاه بن أيوب، ثم خدم ابنه الملك الأمجد، وأقام عنده ببعلبك،(9/527)
وحظي عنده، وكان يستشيره، ويعتمد عليه، ثم استوزره، وحصّل بسببه الأموال.
وقال فيه فتيان «1» : [المنسرح]
الملك الأمجد الذي شهدت ... له جميع الملوك بالفضل
أصبح في السامري معتقدا ... ما اعتقد السامري في العجل
قال ابن أبي أصيبعة «2» :" ولم يزل المهذّب على علو منزلته، حتى كثرت الشكاوى من أقاربه السامرة، وما كثر منهم من العسف والظلم، وأكل الأموال، وإفساد الحريم، ولامت الملوك الملك الأمجد عليه، فقبضه، وقبض على أقاربه، واستصفى منهم أموالا كثيرة، واعتقله ثم أطلقه، فأتى دمشق، وأقام بها في داره.
ومن شعره قوله: [المجتث]
إن ساءني الدهر يوما ... فإنه سرّ دهرا
وإن دهاني بمال ... فقد تعوّضت أجرا
الله أغنى وأقنى ... والحمد لله شكرا
ومنهم:
138- أمين الدولة أبو الحسن بن غزال بن أبي سعيد السامري «13»
وزير الصالح إسماعيل. كان سامريا وأسلم، ولقب كمال الدين، وكان(9/528)
المهذب السامري عمه، وكان لا يطمع في معاضلته، ولا يقدر على مناضلته، إلا أنه قتل نفسه بحمقه، وتبرد بالنار من حرقه، ولم يزل منذ أخذ في الطلب يترقى ويبرّز بين المعامل ولا يتوقى، حتى تسنّم ذرى الوزارة، وغلط طيفها في غفلة الحلم وزاره، فتصدى للأموال حتى صادها، وأقام على الأعيان أرصادها، إلا أنها فرّت من شباكه، وأنفت أن تستقر في أملاكه، ثم كان آخر ما حمله عليه الهوج «1» ، وطلب به استقامة حاله من العوج، أنه أقيم من الدست الذي لم يقدّمه أحد إلى صدره، ولا جزي به بعد طول الحبس على عاقبة صبره، ثم أخذ وشنق، وكان قد أبرم بيده حبل سعادته فخنق.
قال ابن أبي أصيبعة:" كان له الذكاء الذي لا مزيد عليه، والعلم الذي لا يصل سواه إليه، والإنعام العام والإحسان التام، والهمم العالية، والآلاء المتوالية. قد بلغ من صناعة الطب إلى غاياتها، وانتهى إلى نهاياتها، وفاز بمحصولها، وأتقن علم فروعها وأصولها، حتى قلّ له المماثل، وقصر عن معانيه كل فاضل.
كان أولا عند الأمجد «2» صاحب بعلبك طبيبا، فلما توفي بدمشق، استقلّ أمين الدولة بالوزارة العمادية، فساس أحسن السياسة، وبلغ في التدبير نهاية الرياسة، وثبت قواعد الملك، وأبّدها، ورفع مباني الفضل وأيدها، وجدّد معالم العلم والعلماء، وأوجد من الفضائل ما لم يكن لأحد من القدماء، ولم يزل عالي القدر نافذ الأمر، مطاع الكلمة، كثير العظمة، إلى أن ملك دمشق الملك الصالح أيوب، وجعل نائبه بها [معين الدين] ابن شيخ الشيوخ، وأعطى الصالح إسماعيل بعلبك، فانتقل إليها، وبقي وزيره بدمشق، وقد جمع له ولصاحبه أموالا عظيمة جدا، أخذها من أهل دمشق، بموافقة القاضي الرفيع الجيلي، فاتّفق(9/529)
ابن شيخ الشيوخ والصاحب ابن مطروح «1» على مكيدة عملت، وهو أنهما طلبا أمين الدولة، فلما أتى قاما له، وقالا له: إن أردت الإقامة بدمشق فابق على حالك، وإن أردت أن تلحق صاحبك فتقيم عنده فافعل. فقال: لا والله بل ألحق مخدومي، وأكون عنده. ثم إنه خرج بجميع أمواله وذخائره، وأحواله، وخواصّه، وجميع ما يملكه حتى أثاث بيته، وحصر دوره. فلما صار ظاهر دمشق بما معه قبض عليه وأخذ جميع ما كان قد جمعه، وأحيط على أملاكه، واعتقل، ثم حمل إلى القاهرة، فأودع السجن بقلعة الجبل مع جماعة أخر من الحاشية العمادية، فلما أتى الملك الناصر يوسف ابن العزيز من حلب إلى دمشق، وملكها، صار معه الصالح إسماعيل وسائر ملوك الشام، ثم توجه يريد مصر، فخرجت إليه عساكر المعز أيبك، وكان قد ملك بعد مولاه الصالح أيوب، فلما التقوا كانت الكسرة أولا على العسكر المصري، ثم دارت الدائرة لهم على العسكر الشامي، وقبض الصالح إسماعيل، وجماعة من الملوك والأمراء، وحبسوا بمصر، ثم أطلق بعضهم. وأما الصالح إسماعيل فكان آخر العهد به.
وحكي أن أمين الدولة لما سمع بما كان من ظهور العسكر الشامي على المصريين، على ما كان أولا وعد المتحدث في القلعة عند طلوع الملوك بمواعيد أطمعته، فأخرج من كان عنده وكانوا ثلاثة: أمين الدولة، وناصر الدين ابن يغمور، وأمير كردي «2» ، فقال الكردي: يا قوم، لا تستعجلوا واقعدوا مكانكم، فإن كان الأمر صحيحا، فأستاذنا يخرجنا، ويحسن إلينا، وإن كان غير صحيح، فقعودنا أصلح لنا.
فلم يلتفت أمين الدولة وابن يغمور إليه، وخرجوا، وتأخر هو، وقعد الوزير(9/530)
أمين الدولة وابن يغمور في القلعة، وأمروا، ونهوا، فلما جاءت الأخبار المؤكدة بعكس ما طار إليهم به أول الخبر، أمر المعز بقتل ابن يغمور، وشنق أمين الدولة، وإطلاق الكردي، فأطلق الكردي، وقتل ابن يغمور، وشنق أمين الدولة.
قال ابن أبي أصيبعة:" وحكى لي من رآه لما شنق وعليه قندورة «1» عتابي خضراء، وفي رجله سرموزة «2» . قال: ومن العجائب أن أمين الدولة لما حبس أرسل إلى منجم بمصر كانت له إصابات لا تخرم، وسأله عما كان وما يكون من حاله؟! «3» ، فأخذ طالع الوقت، ورسمه، ثم قال: يخلص هذا من الحبس، ويخرج منه فرحا مسرورا، ويبقى له أمر مطاع، يمتثل فيه أمره ونهيه. ففرح، فلما جاءه ذلك الخبر ظنّ أنه يبقى وزيرا بمصر، فتمّ له ما ذكره المنجّم في يوم خروجه، ثم لم يعلم ما يجري له بعده. وكان ذلك في الكتاب مسطورا.
ومنهم:
139- المهذّب الدّخوار: أبو محمد عبد الرحيم بن علي بن حامد «13»(9/531)
طبيب نهض به طيب العناصر، ونهى علمه أن تعقد على غيره الخناصر. كان في الحكماء علما، وفي إثبات الحكم قلما، عزّ وجوده وقلّ ما، فاض إناؤه، وآض «1» اجتناؤه، وكان لفروع الطب شجرة يكاد زيتها يضيء، ويقال «2» في ظلها ويفيء. كأنما جالس أرسطوطاليس، وجال مع تلك الجماعة في تقرير تلك النوامس «3» ، ولهذا اشتهر، وملأ العيون وبهر. وكان ممن يستصحّ برأيه، ويستصبح بذكائه. هذا إلى خطّ أوتيه، وحظّ كان يواتيه.
قال ابن أبي أصيبعة «4» :" إليه انتهت رياسة صناعة الطب ومعرفتها على ما ينبغي، ولم يكن في اجتهاده من يجاريه، ولا في علمه من يماثله، أتعب نفسه في الاشتغال وكدّ خاطره في تحصيل العلم حتى فاق أهل زمانه، وحظي عند الملوك، ونال من جهتهم من المال والجاه ما لم ينله غيره من الأطباء، وكان في مبدأ أمره كحّالا، وكذلك كان أخوه حامد بن علي، وكان الدّخوار يكتب خطا منسوبا، ونسخ الكثير، وقرأ النحو على الكندي، والطب على الرضي الرحبي، ثم لازم الموفق ابن المطران، ثم أخذ عن الفخر المارديني، لما قدم دمشق، وخدم الملك العادل بن أيوب، ثم لم يزل تسمو منزلته عنده حتى صار جليسه، وصاحب مشورته، وظهرت له منه نوادر في تقدم المعرفة، منها: أن العادل عرض له مرض وأشار الدخوار عليه بالفصد، فلم يوافقه بقية الأطباء على ذلك، فقال(9/532)
لهم: والله إن لم يخرج دما وإلا خرج الدم من غير اختياره، فما مضى أيسر وقت حتى طفر الدم من أنفه، ورعف رعافا كثيرا، وصلح، فعلم أنه ليس في الكل مثله.
ومنه: أنه كان يوما على باب دار السلطان في جماعة من الأطباء، إذ خرج خادم ومعه قارورة جارية يستوصف لها لشيء شكت منه، فلما رأوها، وصفوا لها ما حضرهم. فقال الدخوار: إن هذا الذي شكت منه ما يوجب صبغ الماء هكذا، ويوشك أنه من حناء اختضبت به. فقال له الخادم: نعم، تخضّبت بحناء. فأخبر العادل بذلك، فتزايد حسن اعتقاده فيه.
ومن أحسن ما يؤثر عنه أن الملك العادل كان قد غضب على قاضي القضاة محيي الدين ابن الزكي لأمر نقمه عليه، وأمر باعتقاله بقلعة دمشق، إلى أن يزن عشرة آلاف دينار مصرية، وشدّد عليه، فأقام في السجن والمطالبة، ووزن البعض، وعجز عن البقية، وقال السلطان: إن لم يزن وإلا عذّبته. فتحيّر القاضي وباع جميع موجوده وأثاث بيته، حتى الكتب التي له، وتوسّل إلى السلطان بكثير من الأمراء والخواص في المسامحة أو التقسيط، فلم يقبل، فأتى الدخوار إليه ليتفقده لمودة قديمة بينهما، فشكا إليه حاله، وما قد تم عليه، فوعده بالمساعدة بحسب الطاقة، ثم قام فدخل على أم الصالح إسماعيل ابن العادل، وكانت ممرضة، فلما دخل عليها عرّفها بحديث القاضي وأنه مظلوم، وسألها في أمره، فقال: كيف أحدّث السلطان في أمر من لا أعرفه؟ ولو كان طبيبا يدخل علينا أو تاجرا نعامله لأمكن الكلام فيه. فقال لها: فثمّ طريق آخر يحصل به القصد. قالت: وما هو؟.
قال: في وقت يكون السلطان نائما عندك تظهرين له أنك رأيت مناما يقتضي أن القاضي مظلوم، وعرّفها ما تقول. فقالت: هذا يمكن. فلما عوفيت أتاها الملك العادل، فنام عندها وهي إلى جانبه، فلما كان آخر الليل انتبهت وأظهرت(9/533)
أنها مرعوبة، وأمسكت فؤادها وبقيت ترتعد وتتباكى. فانتبه السلطان وقال لها:
مالك؟ وكان يحبها حبا كثيرا، ثم جعل يرشّ عليها من ماء الورد وقال لها: ما الذي بك؟ فقالت: رأيت مناما عظيما هالني، وكدت أموت منه، وهو أنني رأيت كأن القيامة قد قامت في بهو عظيم، وبها خلق عظيم، ونيران كثيرة تشعل، وناس يقولون: هذه للملك العادل لكونه ظلم القاضي!!. ثم قالت:
هل فعلت قط بالقاضي شيئا؟ فما شك في قولها، وانزعج ثم قام لوقته، وطلب الخدام، وقال: امضوا إلى القاضي وطيبوا قلبه، وسلموا عليه عني وقولوا له يجعلني في حل مما تمّ له، وإن جميع ما وزنه يعود إليه، وما أطالبه بشيء. ثم لما أصبح أمر له بخلعة كاملة، وبغلة، وأعاده إلى رتبته وأعاد إليه جميع ما وزنه، واستردّ له ما باعه.
وقال: مرض العادل بالشرق مرضا صعبا، وولي علاجه الدخوار، إلى أن برئ، فلما عوفي حصل له نحو سبعة آلاف دينار، وبعث له أولاد العادل وسائر ملوك الشرق، وأكابر الأمراء الخلع والبغال بأطواق الذهب، وغير ذلك.
ومرض الكامل «1» فعالجه، فلما برأ حصل له نحو اثني عشر ألف دينار، وأربع عشرة بغلة بأطواق الذهب، وخلع كثيرة من الأطلس وغيره، وولي ذلك الوقت رئاسة الأطباء.
وخدم مرة الأشرف، وأعطاه إقطاعا جليلا، ووقف داره بدمشق بالمناخليين مدرسة على الطب، ووقف عليها عقارات له «2» .(9/534)
ومنهم:
140- الرشيد علي بن حليقة بن يونس بن أبي القاسم بن خليقة الأنصاري الخزرجي «13»
من ولد سعد بن عبادة رضي الله عنه.
طبيب لو شكا إليه البرق اختلاف نبضه لأبراه، أو حاول منه الرعد ما في صحف النهر لأقراه.
من أسرة سارت بهم الأمثال، وسراة أسفا على عقدهم كيف انثال، أراق الكرى عن كؤوس أجفانه، وجعل طوارق السهاد «1» من ضيفانه، همه يقظ، وعزمه حتفظ، حلّ بها أجلّ الرتب، وجلا بها عن الجسوم الريب، وكان لا يفقد السبات، ولا يخرج إلى حدّ الإعنات، لعلاجه بالملائم، واحتجاجه بما يكفي الملاوم، هذا إلى تفنّن في علوم أخر، وفضائل كأنها البحر إذا زخر، ومحاسن لو أراد بها لفخر.
قال ابن أبي أصيبعة «2» :" إنه عمه، وأنه ولد بحلب سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وقال: إن جدّه معروف بابن أبي أصيبعة، وكان قد توجه إلى مصر إذ استقلت بها الدولة الصلاحية، وإن الشهاب يوسف الكحال، وابن أبي الحوافر(9/535)
كانا من أصدقائه، فلما أتيا مصر أشارا عليه بإشغال ولديه في الطب، يعني المؤرخ عمه هذا وأباه، فأمرهما بملازمة ذينك الرجلين، وأن أباه أكثر الأخذ عن الشهاب يوسف، ثم قرأ على الرئيس موسى وأهل طبقته، وأن همّه كان أو اشتغاله على أبي التقى صالح بن أحمد المقدسي، ثم لازم ابن أبي الحوافر، وكان إذ ذاك رئيس الأطباء في أيام العزيز، ثم باشر المرضى بالمارستان، ثم أخذ صناعة الكحل عن النفيس بن الزبير، وقرأ على عبد اللطيف البغدادي، وكان يشتغل بالسديد المنطيقي، واشتغل بعلم النجوم، وأخذ الموسيقى عن ابن الديجور المصري، وعلي ابن التبان «1» ، ثم اجتمع بأعيان المصنفين فيه، ثم لما عاد أبوه إلى الشام انتقل معه واجتمع بمن به من المتعينين، وباشر المارستان النوري، ثم خدم الأمجد صاحب بعلبك، ثم خدم العادل ثم المعظم، ثم الناصر ابنه، وتوفي في الثاني والعشرين من ربيع الآخر سنة ست عشرة وستمائة، ودفن بمقبرة باب الفراديس.
ومن كلامه قوله:" ما أحسن الصبر لولا أن النفقة عليه من العمر".
وقوله:" الأصدقاء كنفس واحدة في أجساد متفرقة".
وقوله:" المال مغناطيس أنفس الجهلاء، والعلم مغناطيس أنفس العقلاء".
وقوله:" القانع مساعد على بلوغ مآربه".
ومن شعره: [الكامل]
يا صاحبيّ سلا الهوى وذراني ... كفّا الملام عن المحب العاني
لا تسألاه عن الفراق وطعمه ... إن الفراق هو الممات الثاني(9/536)
نادى الحداة دنا الرحيل فودعوا ... ففجعت في قلبي وفي خلاني
وبكيت وجدا بعد ذاك فلم يفد ... أني وقد صار اللقاء أماني
وقوله: [الكامل]
أرأيتما يا صاحبي فتى تذل ... له الأسود تذلة الغزلان
ما كنت ممن يسترق فؤاده ... عشق ولكن الهوى سلطان
ومنهم:
141- ابن قاضي بعلبك: المظفر بن عبد الرحمن بن إبراهيم «13»
الحكيم الفاضل الملاطف بدر الدين أبو التأييد.
فاق في علم وقراءة، وفهم تقدم به والناس وراءه، قدّمه فضله واستحقاقه، ونبله الذي ضرب على ربى المجرّة رواقه، ولحق في أوانه بجلّة الرؤساء، وحلّ من أئمة زمانه محلة الجلساء، وسبق أهل جيله حيث لا يلحقه إحضار، وخلق مع أبناء جنسه إلا أن طينته جبلت من معدن النضار «1» ، ولم يعالج عليلا ثم أصبح ببقائه ليس ينتفع، ولا دافع مطل إلا ثم أضحى بملاطفته لا ينتفع، وكان لا يطبّب إلا بالأهون على العليل، والأحب إليه وإن كان النفع به من القليل، على أنه البحر الذي لا يشق له عباب، والوقوف عليه إذا لم يوجد باب. وألقيت عليه من الله محبة لم يره إلا من شغف بحبه، وشغل بطبه، وفضله على كل نكرة(9/537)
ومعروف، وكل ذي طب يسرح نظرا بإحسان ويمسك يدا بمعروف، ولم ألحق أحدا من الكبراء وأهل العلم إلا من كان يحسن عليه الثناء، ويحلو بأوصافه الحسناء.
قال لي عمي الصاحب شرف الدين أبو محمد عبد الوهاب- رحمه الله تعالى-: هو آخر الأطباء الذين رأتهم عيني.
وسألت عنه شيخنا شهاب الدين أبا الثناء الحلبي فقال: كان يقال هو جالينوس وقته. ثم أخذ في وصفه، وذكر ما كان عليه من حسن الملاطفة وإحسان العلاج.
قال ابن أبي أصيبعة «1» :" كان أبو مجد الدين قاضيا ببعلبك، ونشأ هو بدمشق، واشتغل بها في الطب على المهذب عبد الرحيم بن علي، وجمع له العلم الغزير، والذكاء المفرط، والمروءة التامة، وكانت له همة عالية في الاشتغال، ونفس جامعة لمحاسن الخلال، وكان لا يخلو له وقت من التزيد في العلم، والعناية بالمطالعة والفهم، وكان قد توجه صحبة المهذب لما طلبه الملك الأشرف، وخدم بالمارستان بالرقة، وصنّف مقالة حسنة في" الرقة"، واشتغل بها في الحكمة على الزين الأعمى رحمه الله، وكان إماما في العلوم الحكمية.
ثم عاد ابن قاضي بعلبك إلى دمشق، فلما طلبها الجواد يونس «2» ، حظي عنده وتمكن في دولته، واعتمد عليه في صناعته، وولّاه، الرياسة على الأطباء والكحالين، والجرائحية، وكتب له توقيعا «3» بذلك، فجدّد من محاسن الطب(9/538)
مادرس، وأعاد من الفضائل ما دثر، ولم يزل مجتهدا حتى اشترى أدرارا كثيرة جوار المارستان النوري، وهدمها وبناها، وأضافها إليه.
ثم خدم الصالح أيوب، وأرصد لمعالجة الحرم، وجدد له توقيعا بالرئاسة على أطباء الشام، ثم خدم من بعده من الملوك ولم يغير عليه عادة مستمرة له، ثم تجرّد لعلم الفقه، وسكن بيتا بمدرسة ابن قليج «1» ، وكانت جوار داره، وتصدى لحفظ القرآن الكريم، ومعرفة القراءات والتفسير، وقراءة الفقه، وفنون الأدب، ولازم أبا شامة، ودأب في العبادة والدين.
قلت: قال لي والدي رحمه الله: كان ابن قاضي بعلبك مختصا بصحبتنا، وكان يعود من مرض منا، ويتولى معالجته، وكان لا يرى التعمق في الوصف ولا المداواة بالكريه.
ويقول: ما ينتفع المريض بالكريه بقدر ما يتضرر به، لكراهيته له.
ويقول: ما لم يكن من المريض إقبال على الدواء لا تقبله أعضاؤه.
ويقول: ربما صار الدرياق سما والدواء داء بإفراط كراهية المريض.
قال والدي رحمه الله تعالى، وقد ذكره يوما: رحم الله ابن قاضي بعلبك، لم يكن في زمانه مثله في حسن شكله وسمته، وحسن حديثه وصحة صحبته، ولطف علاجه، وتبرّك الأعلّاء «2» بمقدمه لرفقه بهم، وعدم إكراهه لهم على الكريه.
وقال: دخل علينا يوما ونحن نأكل طعاما فيه باذنجان قد قلي بدهن(9/539)
الألية «1» ، فقعد فأكل، وكان أكثر أكله منه، فقلت له: يا حكيم.... الباذنجان مولد للأخلاط السوداوية، كما يقال.
فقال: ذلك الباذنجان الأسود الشديد الحرافة، فأما هذا الأبيض باذنجان دمشق المقلو بدهن الألية فلو رآه جالينوس لجعله دواء للسوداء.
ومنهم:
142- العماد الدّنيسري: محمد بن العباس بن أحمد بن عبيد الربعي أبو عبد الله «13»
رجل يرجع إلى كرم خيم، وينفع فيه كثرة التفخيم، تفنّن في فضائل، وتيقن أن كل عظيم عنده متضائل، بعزم أطلّ على النجوم في آفاقها، وعلم استخدم السعود بأوفاقها، ولطف ذات، وظرف أدوات، وكمال محاس بجدّه بلغها، وأخذ مع توسّع حظّه بلغها، وقد كان للزمان روحا، وإلى الغايات طموحا، وكانت به الأيام سوافر، ومنه حظ للناس وافر، إلى أن عشّشت المنايا في هامته، وصرعته من قامته، ووسّدته التواب، وأفسدته على الأتراب، وخرس منه لسان كان يجادل، وسكن منه محرك تحت حصى وجنادل.
ذكره ابن أبي أصيبعة: ولقّب أباه بالقاضي الخطيب تقي الدين، وقال في(9/540)
عماد الدين: هو ذو الأريحية التامة، والعوارف العامة، مولده بدنيسر «1» ، سنة خمس وستمائة، ونشأ بها، واشتغل بالطب إشغالا برع به.
قال: واجتمعت به فوجدت له نفسا حاتمية، وشنشنة أخزمية، وخلقا ألطف من النسيم، ولفظا أحلى من مزاج التسنيم، وأسمعني من شعره البديع معناه، والبعيد مرماه، وهو في علم الطب قد تميّز على الأوائل والأواخر، وفي الأدب قد عجّز كل ناظم وناثر، وكان قد سافر من دنيسر إلى مصر، ثم رجع إلى الشام، وأقام بدمشق، وخدم الآدر الناصرية اليوسفية بقلعة دمشق، والمارستان النوري.
ومن شعره: [الطويل]
نعم فليقل من شاء عني فإنني ... كلفت بذاك الخال والمقلة الكحلا
فلا تعذلوني في هواه فإنني ... حلفت بذاك الوجه لا أسمع العذلا
وقوله: [السريع]
عذارك المخضر يا منيتي ... لما بدا في الخد ثم استدار
فكان في ذاك لنا آية ... إذ جمع الليل معا والنهار
وقوله: [الطويل]
حلفت له لا حلت عن ولهي به ... وقلبي على ما قد حلفت له حلف
إذا باعني منه الوصال لمهجتي ... شربت، وها قلبي أقدّمه سلف
وقوله: [الكامل](9/541)
وحياة ناظره وعامل قدّه ... روحي بعارض خدّه متململه
هب أنّني متجنّن في حبه ... فعذاره في خدّه من سلسله
وقوله: [المتقارب]
إذا رفع العود تكبيره ... ونادى على الراح داعي الفرح
رأيت سجودي لها دائما ... ولكن عقيب ركوب القدح
ومنهم:
143- العز السويدي: إبراهيم بن محمد الأنصاري الأوسي، عز الدين أبو إسحاق «13»
من ولد سعد بن معاذ رضي الله عنه.
طبيب تؤخذ عنه الصناعة، وإمام يقدّم على الجماعة.
تقدم في عصره تقدم استحقاق، وعرف علم الطب والطبيعة وما ناسبه معها، ولم يكن مثله في علا، ولا شبهه فيمن خلا، فشفيت به الأجساد، وأمنت مما يعرض للكون من الفساد، ورأيت من خطه ما كأنه ريش الطاووس، أو عذار الغلام وسالفة العروس، لا يقاس به خط قابوس ولا على صحائف النهر أشعة الشموس.
قال ابن أبي أصيبعة «1» :" مولده سنة ستمائة بدمشق، ونشأ بها، وهو علّامة أوانه، وأوحد زمانه، مجموع الفضائل، كريم الأبوة، غزير الفتوة، وافر السخاء، حافظ الإخاء، اشتغل بالطب حتى أتقنه، ولم يصل أحد من أربابه إلى ما وصل إليه. أخذ عن أكابر الحكماء كالمهذب عبد الرحيم، وغيره، وقرأ في علم الأدب(9/542)
وهو أسرع الناس بديهة، وكان أبوه تاجرا من السويداء بحوران، حسن الأخلاق، طيب الأعراق.
وقال الحكيم عز الدين: هو أجلّ الأطباء قدرا، وأفضلهم ذكرا، وأعرف مداراة، وأنجح علاجا، وأوضح منهاجا، ودرّس بالدخوارية «1» ، وخدم السلطان والمارستان، وكتب خطا منسوبا لطريقة ابن البواب، وخطّا يشبه مولّد الكوفين وكل خط أحسن من الرياض المونقة، وأنور من الشموس المشرقة.
ومن شعره قوله: [السريع]
وناسك باطنه فاتك ... يا ويح من يصغي إلى مينه
منزله أحرج من صدره ... وخلقه أضيق من عينه
وتوفي بدمشق في [سنة 690 هجرية] «2» ودفن جوار الشبلية بالسهم الأعلى، بتربة أعدها لنفسه.
ومنهم:
144- موفق الدين يعقوب السامري أبو يوسف يعقوب بن غنائم «13»
بحر طبّ لم يبق إلا من ملأ من قليبه «3» ، ولم يبعد يدا من قريبه، وأتته(9/543)
الطلبة حتى ملأ كل سقاءه، وأمّل بقاءه، وكان لا يعدم منتابا، ولا يدع مرتابا، ولا يسمح أن يكون أحد عند مغناه، فسعد بمحضره جلساؤه، ووضح الصباح وجلاؤه، وكان في مثل هذا موفقا، وفي نقل الطب موثّقا.
قال ابن أبي أصيبعة فيه:" رئيس زمانه، وعلّامة أوانه، مولده ومنشؤه بدمشق، بارع في الصناعة الطبية، جامعا لعلوم الحكمة، قد أتقن صناعة الطب علما وعملا، واحتوى على معرفتها تفصيلا وجملا، وكان محمود المداواة، مشكور المداراة، متعينا عند الأعيان، متميزا في كل مكان، مؤيدا في اجتلاب الصحة، وحفظها على الأبدان، واشتغل عليه جماعة المتطبّبين، وانتفعوا بفضله المبين، وله التصانيف الصحيحة العبارة، الفصيحة الإشارة، قوية المباني، بليغة المعاني، وعدّدها.
ومنهم:
145- أبو الفرج يعقوب بن إسحاق بن القف النصراني «13»
بيعة قوم توقّد نبراسها، ودوحة علم مثمرة غفل حراسها، فاق بطبّ له بالأبدان امتزاج، ويدان في تعديل كل مزاج، فطبّب كل داء، ولاطف لطف الأدواء، وكان ذا فهم كأنما كشفت له السجف «1» ، وعلم هو البئر الذي لا ينزح،(9/544)
وأبوه القف ولم يزل على وثبات تقدمه وثبات قدمه، حتى قيّدت الحتوف خطاه، وأثقلت المنون مطاه، فما استقلت له قدم، ولا شبع للموت به قرم.
ذكره ابن أبي أصيبعة وقال «1» :" مولده بالكرك، لسبع بقين من ذي القعدة سنة ثلاثين وستمائة، وكان أبوه الموفق يعقوب صديقا لي، مستمرا على أكيد مودّته، حافظا لها طول أيامه ودهره، يستحلى نفائس مجالسته، وتستجلى عرائس مؤانسته، ألمعيّ أوانه، وأصمعي زمانه، مجيدا في حفظ الأشعار، علّامة في نقل التواريخ والأخبار، متقدّما في علم العربية، فاضلا في الفنون الأدبية، اشتمل في الكتابة على أصولها وفروعها، وبلغ الغاية من بعيدها وبديعها، وله الخط المنسوب الذي هو نزهة الأبصار، والعناية التي لا تلحق في جميع الأقطار والأمصار، وكان في أيام العزيز كاتبا بصرخد، والنجابة تلوح على ولده أبي الفرج من صغره كما تحقق منه في كبره، وافر الذكاء، محبا للعلماء، فسألني أبوه في تعليمه، فقرأ عليّ ما عرف به أقسام الأسقام وحسم العلل، ثم انتقل أبوه إلى دمشق وخدم بها، وسافر معه ولده، ولقي العلماء، ولازم الفضلاء، وقرأ الحكمة على الخسرو شاهي، والغنوي الضرير، وقرأ الطب على علي بن المنفاخ، والموفق السامري، وقرأ أقليدس على المؤيدي العرضي، وفهمه فهما فتح به مقفل أقفاله، وحلّ به مشكل إشكاله، ثم خدم بقلعة عجلون، ثم عاد إلى دمشق، وخدم السلطان بها.
وذكر الجزري في تاريخه قال: سألت أبا الفرج ابن القف عن مرض قاضي القضاة عز الدين ابن الصايغ، فقال: يموت بعد مدة عيّنها، وعن نفسه أنه يموت بعده بمدة عينها، فقلت له: أيش سبب ذلك؟.(9/545)
فقال: القاضي كذب عليه فحصل له مراقيا «1» سوداوية، غارت إلى قلبه فقتلته سريعا. غير أني أشرب الخمر فأظهره الشراب إلى ظاهري، فأورثني الصفرة في جميع البدن، فأنا أبقى بعده مدة عينها، فاعتبرت قوله، فكان كما قال، وقلت له: أنت من كبار الفضلاء، ولك تصانيف في الطب ما تدفع عنك!، فقال: علة الموت ما لها دواء. وكان يتحسّر على نفسه.
قلت: وأنشدني القاسم بن المظفر بن محمود بن عساكر لنفسه إجازة في مرض الحكيم ابن القف المذكور: [الخفيف]
قيل إن ابن القف أشفى على المو ... ت ولم يبق منه غير رسيس
ما نرى طبه أفاد ولا رد ... د الردى عنه قول جالينوس
قلت كفوا أما سمعتم بما قيل ... وسارت به حداة العيس
لو نجا الطب فاضلا كان بقراط ... ولم يعبث الردا بالرئيس
إنما غاية الطبيب مع العلّ ... لة تخفيف ضرها المحسوس
قال الجزري: توفي أبو الفرج ابن القف في سنة خمس وثمانين وستمائة.
ومنهم:
146- المهذب يوسف كاتب الزردكاش
والناس فيه وفي النفيس على خلاف، ولكل واحد منهما فريق يتعصب له، ويقطع بتفضيله، والإنصاف أن النفيس كان أقعد بالعمليات، والمهذب كان أقعد بالعلميات، لكونه كان يشغله خدمة الأمراء عن المباشرة، وكان رأس أهل زمانه في التعليم والتقريب إلى الأفهام، وكان جامعا للطب، بارعا في فنونه،(9/546)
مفترعا لأبكاره وعونه، وكان يربأ بنفسه عن التمحض للاسترزاق بالطب، وكانت له بلة «1» من الرزق تعلّه، وقليل من متاع الدنيا يغنيه قله، ونشأت له عدة وافرة من التلاميذ، وتقدّموا واشتهروا باسمه وبانتسابهم إليه، وإلى اشتغالهم عليه، وهو والد الحكيم الفاضل غنائم الآتي ذكره والوافي كما يجب شكره.
ومنهم:
147- النفيس أبو الفرج ابن إسحاق بن أبي الخير السامري
طبيب جرى في مجالس جالينوس وتقدم، وإن جاء بعد اسفلنيوس، لو رآه الدخوار لخار، أو الرئيس صاحب الدلالة لحار، وابن التلميذ لتتلمذ لطبّه، أو الرحبي لرحّب به، وفقد حاسة بصره لا بصيرته، وحناه الكبر وهو على وثيرته، ولم يبق في وقته من أكابر الأطباء، إلا من كان يحسده على فضله، ولا يسعه إلا الاعتراف، فإذا أراد التنقّص به لا يجد سبيلا أكثر من أنه يقول إنه فقد حاسة البصر، وبها كان يرى السحنة التي يستدل بها، ويرى بها العلامات، وكان جل زمانه للإقراء والاشتغال في علم الطب وفروعه، والتوقيف على دقائقه، والإجادة في حسن التعليم والتفهيم، والتوقيف والتشقيف، فأنشأ أهل ذلك الجيل، وتخرّجوا عليه حتى تأهّلوا وبرعوا في الطب، وزكوا، وأذن لهم في الطب والتصرف وكلهم من عذبه الزلال استقوا، ومن شعبه ذي الأطلال ارتقوا. وكان النفيس ريّض الأخلاق، طويل الروح، كثير الاحتمال، كان للأمين سليمان رئيس الأطباء بمصر لفتات عليه، ويتنقّص به ويسمعه القبيح ويفاجئه بالصريح وهو لا يتأثّر، ولا يتقلّل بكلامه، ولا يتكثّر، وعلماء الدهر، وفضلاء العصر، كلهم(9/547)
على خلاف قول الأمين سليمان فيه، ويصفه بالفضل كل طبيب فاضل وفقيه، ولما كبر انحنى ظهره، وتأطّر رمحه، فلما احدودب، كان يقال له: صندوق العلم، يسميه بهذا عامة الناس، ويعتقد فيه الفضل ويشهد له جمهور الخلق من عرفه منهم ومن لم يعرفه بالتقدم في الطب، والتبريز على كل معاصر، وكان له تفقّه في الطب، وآراء في المداواة، وتفنّن في العلاج، ولم يزل مشارا إليه إلى أن هلك، ومتبوعا في الطب أين سلك.
ومنهم:
148- الأمين سليمان الحكيم وهو سليمان بن داود «13»
أمين الدين أبو الربيع، رئيس الأطباء بالشام. لحق بالأوائل، وعرف العلم بالدلائل، لو عالج المعتذر لأزاح علله، أو شاء إصلاح ما بين الأفقين لسدّ خلله، لم يتقدّمه جالينوس إلا بالزمان، ولا ابن سينا إلا بكثرة الإدمان، نسي به كل من تقدّم، ونسب إليهم من الفضل ما قدّم.
قرأ على العماد الدنيسري، والعز السويدي، والموفق السامري «1» ، وأخذ عن تلك الطبقة، إلا أنه كان إلى الدنيسري أشدّ انقطاعا، وإليه صارت كتبه وعليه وقف أملاكه، وكان وارث علمه وماله، وخلفه في كل أحواله، وكان منه أصل ثروته، وما حصّله وأثره وأثله.
وحكى لي من رآه في حال صباه، وغصنه رطيب، ومفرقه كله مسك(9/548)
وطيب، وخده مصقول السوالف، وطرفه إما ساحر أو سائف، ولأهل بلده به فتون، وفي كمده فتون، والدنيسري قد اعتلقه، وخيل إليه دوام الحياة بقربه، فاعتنقه. قال: وكان على هذا لا يخلو منه للحكماء ملعب، ولا للعلماء ندي فضل به يستوعب، فلما صارت إليه الرياسة وسارت به النفاسة قال بعض حسّاده: [الكامل]
يا معشر الحكماء لا تتسخّطوا ... لعظيم ما قد تمّ في ذا العالم
هذا سليمان بن داود الذي ... نال الرياسة دونكم بالخاتم
قلت: وإنما نيح القمر وعارض أدنى البحر، وهيهات أن تغطي السماء بالسحاء، أو يضارّ في رؤيته ذو نظر، فلقد كان فردا في الزمان منقطع القرين، معدوم النظير، شارك في الحكمة، وبرّز في علم الطب، وصار علما فيه، وتقدّم باستحقاق وألقي عليه القبول، ومال إليه الحقير والجليل، واقتصرت على طبه الأكابر، ومالت إليه العلماء وأثنى عيه شيخنا ابن الزملكاني، وحصلت بينه وبين ابن الوكيل منافرة، ثم اتفق لابن الوكيل أن ركّب للأفرم نائب الشام سفوفا «1» يعينه على الهضم، ويسهله، فلما أخذ منه الأفرم أفرط به الإسهال، ووثب مماليك الأفرم بابن الوكيل ليقتلوه، فأتى الأمين سليمان وكفهم عنه ثم دخل على الأفرم، واعتبر إعراضه، ثم أعطاه أمراق الفراريج، وشرع في إعطاء المسهلات له، واستفرغه حتى كمل إخراج تلك المادة التي اندفعت، ثم أعطاه المقبّضات والممسكات، فبرأ وأفاق.
قلت: إنما أعطاه أولا المسهّلات مع وجود الإسهال، لأنه رأى السفوف قد هيج مادّة رديّة، ولم يتم اندفاعها، وإن انحباس بقيتها مفسد للبدن، فاستعمل(9/549)
استفراغ تلك المادة الردية، ثم أمسك ما سواها، وهذا من محاسن العلاج، وله غير هذا من الغرائب والعجائب في صناعة الطب. منها: أن بعض بني صصري كان يشكو نزلة متقدمة به، لا تزال تعاوده، ويلتاث جسمه ببقاياها، فشكا إليه ما يجده منها، فأمره بالحمية، وتعهّد الحمّام، حتى لطف أخلاطه، ثم أخرجه من الحمام وكشف رأسه عقيب خروجه منه حتى نزلت به نزلة أخرى، ثم استمر به على الحمية، وشرع في معالجته، وأعطاه المسهلات حتى استفرغ مواد تلك النزلة، واندفعت معها مواد النزلة القديمة، وبرأ الرجل وأفاق.
ومنها: ما حكاه لي الشيخ أحمد بن براق قال: كنت عند الأمين سليمان فأتى رجل قد حصل له ورم في وجهه، وقد تلوّن بالحمرة والزرقة، فلما رمى عمامته عن رأسه، وكانت عمامة كبيرة، وبقي الرجل يخاف من البرد، وسليمان يقول له ارمها بلا فشار، ثم أمر بسطل من الماء البارد فصبّه على رأسه، وكان الفصل شتاء، ثم نقله إلى المارستان، وشرع في معالجته، وسئل عن هذا فقال:
كانت قد تحركت مادة في دماغه أردت أن أجمّدها قبل أن تنصبّ جملة واحدة.
قلت: وقد تقدم مثل هذا عمن تقدم، وله كل معالجة طائلة، وحدس صحيح، وتجربة محققة. ولما مرض الكرجي وهو في نيابة طرابلس، حارت فيه الأطباء فاستدعاه واستطبّه، فبرأ بقدرة الله على يده، فغمره بالإحسان، وحصل له منه ومن حاشيته نحو أربعين ألف درهم، ما هو دراهم وقماش وغير ذلك، ثم عاوده المرض فاستدعاه وطبّبه، وبرأ فحصل له منه نحو عشرين ألف درهم.
وحكي لي: أنه كان أقل ما يدّخر في كل يوم دينار من الذهب، بعد كلفه وسائر نفقته، وإنه على هذا منذ بلغ عشرين سنة من العمر، وإلى آخر وقت.
وكان صحيح الإسلام، حسن المعتقد، جميل اليقين، وحجّ مرات إلى البيت(9/550)
الحرام، وزار النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وكان إذا أتى المدينة الشريفة لزم المسجد وأكثر الصلاة.
ولم يزل على رتبته ومكانته حتى سعي عليه عند تنكيز نائب الشام، وغير عليه خاطره، هذا إلى ما كرهه منه من قوة النفس، وكثرة الجرأة والإقدام، فعزله عن الرياسة، وحطّه عن رتبته، وأغري بذمته، والتنقّص به، وقام عبد المولى اليهودي لعناده ورماه سليمان بالبرص، وكشف فلم يصح قوله فيه، وولي عوضه جمال الدين محمد ابن الشهاب الكحال، فجرت بينهم عواصف، وتمت بينهم مع تعمّد الظلم مناصف ونامت على بغضاء تنكز له الأيام والليالي، ثم عطفته عليه عاطفة الرضا، فأقبل عليه كل الإقبال، واستصحبه في سفرة كنت فيها إلى جهة غزة، وأتينا بأنواع من الطعام فيها من السمك واللبن، فقلنا له من أيهما نأكل؟. فقال: أنا طبيبكم وكلوا مما آكل. ثم أكل من السمك، وأكلنا معه حتى كاد يشبع، ثم ترّد خبزا في اللبن، وأكل منه بالملاعق، وأكلنا معه، ثم قال: علينا بالمصلح. فقلنا: ما هو؟. فقال: العسل. فأتينا به، فلعق منه لعقا كثيرا، ولعقنا معه، ثم مكث ساعات، ثم أمر فعملنا شرابا من السكر والليمون، فشرب وشربنا معه، ثم قال: علمنا اليوم بطب الهند. قالوا: أما أن يكون أحدهما أبرد من الآخر أو هما سواء في الدرجة، فإن كان أحدهما أبرد من الآخر فالآخر مصلح له، فإن كانا سواء في الدرجة كنا كمن أكل من شيء واحد، واستكثر منه.... ثم طلب الأمين سليمان إلى باب السلطان ولحق به لتطبيب القاضي علاء الدين ابن الأثير كاتب السر- رحمه الله تعالى- من فالج أصابه، فجاء وطبّبه فلم ينجع، وسعى لأمر فما أنجع، ولم يقع من السلطان بموقع، ولا لقي أطباء الحضرة، بما يجب، فتقهقر وذمّ وأعيد إلى دمشق مبرقع الوجه بالخجل، خائب الظنة والأمل. ثم عقد له مجلس بحضرة تنكز لدواء وصفه(9/551)
لابنه، وكان قد جمد اللبن في معدنه، فوصف له أنفحة الجداي، فأنكرت الأطباء ذلك، فادّعى الصواب، وحضر المجلس المعقود له أعيان الفقهاء والحكماء، وطولب بالنقل، فأحضره، فلم ينهض بصدق دعواه، وعلى هذا فلم ينقم عليه تنكز كراهيته له، وتوفي في.... «1» .
ومنهم:
149- أحمد بن شهاب الدين أبو محمد الكحال الجرائحي «13»
ذو يد في صناعته ولسان، وأسى لأعمال يديه وإحسان، جرى ممتد الأرسان، واتخذ يدا عند كل يد وصنيعة عند كل إنسان، وكان رب علم يدرس وينسخ، وعمل يقطع لأجل ميل منه مائة فرسخ، فطالما بصّر من عمي، وحقن دما إذ أراق دما، بعلاج كم جبر من كسر، وأطلق من أسر، وظهر بأشتات من المحاسن جمع منها عديدا، وجعل سيف النظر بالجلاء مجوهرا وكان حديدا، هذا إلى خبرة بمفردات الأكحال وترتيبها، ومجمعات أجزائها وتركيبها، فكم سوّى منها ما خلق، وداوى رمد العين وقد خلق الإنسان من علق.
ومنهم:
150- الفتح السامري: هو ابن يوسف بن إسحاق بن مسلم «14»
من سبط يوسف على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهو آخر من بقي في(9/552)
الإقليمين، وصلح للتعليمين، برع في الحكمة على إطلاقها، وأعرف عن بدائع اخلاقها، وأتقن فروع الطب حتى أصبحت به فروعها مثمرة، وأغصانها على أصول الحكمة نضرة، وقرأ جانبا من النحو أقام به أود لسانه، وقام به في جدد الإحسان، وكتب خطا كما حشي عنبر الأصداغ، وسلك طرقا من العبارة لها من نطف القلوب مساغ.
قرأ الطب على النفيس السامري، وغيره، وتخرّج مع سلف الأطباء، وزاحم بقايا تلك القنن، وطبّب وعالج، وظهر حسن أثره، وعرف يمن علاجه، وأثنى عليه الأفاضل، وشهدت له الأطباء بالإجادة، وكان شيخنا ابن الزملكاني يقول:
ما رأيت في المسلمين أصح من ذهن البرهان الزرعي، وفي غير المسلمين من أبي الفتح السامري، قلت له مرة: فأيهما أصح ذهنا؟. قال: أبو الفتح. وكان رحمه الله يدع مشاهير الأطباء في زمانه، ومنهم الأمين سليمان، وهو أصدق صديق له، وأصحب صاحب يعتمد عليه، ويطلب الحكيم أبا الفتح ويستطبّه، وإذا حضر هو وغيره من الأطباء وهم كهول، وهو شاب، ترك أقوالهم واتبع قوله، وجعل عمدة طبه عليه.
وحكى لي ولده تقي الدين عبد الرحمن قال: مرض أبي مرضة استشعر في مباديها أنها ستطول به مدتها، وتثقل عليه، فطلبني وقال: يا بني، أنا ما أعتمد في الطب إلا على أبي الفتح السامري، فإن ثقل بي المرض وغاب ذهني عني بالحمى أو غير ذلك لا تعدل بي عن طبه ومعالجته، وإياك أن تغتر وتميل إلى قول سواه، فإن أبا الفتح صحيح الحدس في معرفة المرض، وعليه رتب المداواة.
قال: وكان كثير الثناء عليه، ولما كنا بحلب كان يقول إذا ذكر دمشق وحسنها يقول: كيف لا أتأسف على دمشق وفيها ربيت ونشأت؟ وفيها مثل(9/553)
أبي الفتح، وكان لا يزال يشتاق إليه ويتأسف عليه.
قلت: والحكيم أبو الفتح هو اليوم واحد زمانه، منقطع القرين، ما له نظير في معرفة علم الطب، وحسن العلاج، ولطف المداواة، إلى حسن الوجه، والشكل، والعبارة، والخط، وما عليه من القبول مع إذعان كل حكماء زمانه وأطباء دهره له بالتقدم والتفرد وحده في الرتبة والمكان، وما خلا الوقت ومثله موجود في الزمان.
ومنهم:
151- غنائم السامري، وهو ابن المهذب يوسف كاتب الزردكاش «13»
ملاطف ملأ طيف كل جفن من كرى، وعدل مزاج الزمان لم يدع منكرا.
أبطل ذكر ابن بطلان، وأسخط علي بن رضوان، وأتى بما لو رآه ابن ماسويه لمسّه الإعجاب، أو حنين بن إسحاق لما وسعه إلا أن يتستّر بما طال من الثياب.
قرأ على أبيه المهذّب، وأخذ عن النفيس، وأذن له في الطب، وتصرّف وطبّب، واشتهر بالعلم والاستحضار للنقل والمفردات، والعلاج الحسن، والملاطفة التامة، وغرائب المداواة، وهو ممن تزهو به دمشق، وتستطيل في الفخار، مع ما طبع عليه من أناة ورفق، وتودّد، وحسن تبصّر، ومعرفة لا تقصر، ورأيت من يرجّحه على أبيه، ويصفه ويبالغ فيه، والناس فيه وفي الحكيم أبي الفتح على قولين، وعلى الجملة فأين مثلهما أين؟.(9/554)
فأما أطباء الغرب بما وقع في جانبه من مصر والاسكندرية،
فمنهم:
152- إسحاق بن عمران «13»
حلّق تحليق العقاب، وحلّ حيث لا يعاب. وافى ديار مصر فكان زلالا، وأتى المغرب فكان هلالا، فطاب به الواديان، وكان كقاب قوسين منه الواليان، واستوطن أفق المغرب وشمسه ما أذنت بأفول، وشهبه ما آن لقلائصها قفول، ثم كان يتشوق العراق، وبرد نسيمه، وورد تسنيمه، ولكن لم تدن له الأماني، ولم تدن لسعيه المتواني، ولم يتمناها إلا حين لا أوان وحيث دنت وقد حيل بين العير والنزوان.
قال ابن أبي أصيبعة:" كان طبيبا مشهورا، وعالما مذكورا، ويعرف بسم ساعة، قال ابن جلجل: كان مسلم الدين، بغدادي الأصل، بعث إليه ابن الأغلب «1» ألف دينار وراحلة، وكتاب أمان بخط يده أنه متى أحب الانصراف إلى وطنه انصرف، واستجلبه، حتى دخل أفريقية على شروط ثلاثة، لم يف له بواحد منها.
قال: وبه ظهر الطب في الغرب، وعرفت الفلسفة، وكان خبيرا بتأليف الأدوية المركبة، بصيرا بتفرقة العلل، أشبه الأوائل في علمه وجودة قريحته.
استوطن القيروان حينا، وألف سكنه، وألّف فيه كتبا منها: كتابه في داء(9/555)
الماليخوليا، لم يسبق إليه، ثم توحّش له ابن الأغلب، وكان نهما، وكان إسحاق يمنعه من كثير من المآكل، فقدم عليه حدث يهودي من الأندلس، فكان يخالف إسحاق فيما يشير به على ابن الأغلب، فقدّم إليه يوما لبن، وكان يشكو ضيق نفس، فنهاه إسحاق عن أكله، وهوّنه اليهودي عليه، فأكله، فعرض له في الليل ما أشرف منه على الهلاك، فأرسل يقول لإسحاق: هل عندك علاج؟. فقال: لا.
فقيل له: هذه خمس مائة دينار، وعالجه. فأبى، فلم يزل حتى أوصل إلى ألف دينار، فأخذها، وأطعمه الثلج حتى امتلأ، ثم قيّأه، فخرج جميع اللبن، وقد تجبّن ببرد الثلج، فقال له إسحاق: أيها الأمير، لو دخل هذا اللبن أنابيب رئتيك ولج فيها أهلكك بضيق النفس، لكنني أجهدته وأخرجته قبل وصوله، فقال ابن الأغلب: باع والله إسحاق روحي في البدء اقطعوا رزقه. فخرج إسحاق إلى مكان من رحاب القيروان، وصار يكتب الصفات «1» كل يوم بدنانير كثيرة، فقيل لابن الأغلب: طردت إسحاق أو دللته على الغنى؟ فسجنه، فتبعه الناس إلى السجن يستوصفونه، فأخرجه ليلا ثم كانت له معه حكايات ومعاتبات أحنقته عليه، ففصده في ذراعيه حتى مات، ومكث حتى عشّش في جوفه الطير.
ومنهم:
153- إسحاق بن سليمان الإسرائيلي أبو يعقوب «13»
المعروف المشهور، والمألوف طبه المشكور، طالما وهب الكواكب أيقاظ نومه،(9/556)
ومنح الغياهب «1» أنقاض يومه، ودانى العلياء لو حفظ لسانه، ولفظ إلا إحسانه، لم يسلم من عثرات لا تقال، وتحفظ ولا تقال «2» ، لعجلة كانت له خلقا، وكالت بالمكاييل عليه الشقا، فلم يخل من ملام، وكلام مثل كلام «3» .
قال ابن أبي أصيبعة:" كان طبيبا فاضلا، بليغا عالما، مشهورا بالحذق والمعرفة، جيد التصنيف، عالي الهمة، وهو الذي شاع ذكره وانتشرت معرفته بالإسرائيلي، وهو من أهل مصر، وكان يكحّل في أوليته، ثم سكن القيروان، ولازم إسحاق بن عمرن، وتتلمذ له، وخدم المهدي عبيد الله «4» بالطب، وعمّر إلى أن نيّف على مائة سنة، ولم يتزوج امرأة، ولا ولد ولدا، وقيل له: أيسرك أن تخلف ولدا؟.
فقال: أما إذا بقي بعدي كتاب" الحميّات" فلا!. يعني: أن بقاء ذكره بهذا الكتاب الذي صنفه أكثر من بقاء ذكره بالولد.
ويروى أنه قال: لي أربعة كتب تحيي ذكري أكثر من الولد «5» .
وحكى قال: لما قدمت من مصر على ابن الأغلب، بعث إليّ بخمس مائة دينار، قويت بها على السفر، فلما وصلت أدخلت عليه ساعة وصولي، فسلمت عليه بالإمرة، وفعلت ما يجب أن يفعل للملوك من التعبد، فرأيت(9/557)
مجلسه قليل الوقار، والغالب عليه حب اللهو، فابتدأني بالكلام، فقال ابن حبيش «1» المعروف باليوناني: تقول: إن الملوحة تحلو؟. قلت: نعم. قال:
فالحلاوة إذا هي الملوحة، والملوحة هي الحلاوة، فقلت: إن الحلاوة تحلو بلطف وملائمة، والملوحة تحلو بعنف. وتمادى على المكابرة، وأحب المغالطة، فلما رأيت ذلك منه قلت له: أنت حيّ؟. قال: نعم. قلت: والكلب حي. قال: نعم.
قلت: فأنت الكلب، والكلب أنت!. فضحك ضحكا شديدا، فعلمت أن رغبته في الهزل أكثر من الجد.
قال: فلما وصل داعي المهدي «2» إلى" رقادة" «3» أدناني وقرّبني، وكانت به حصاة في الكلى، فعالجته بدواء فيه العقارب المحرقة، فجلست ذات يوم مع قوم من كنانة، فسألوني عن صنوف من العلل، وبقيت كلما أجبتهم لا يفقهون قولي، فقلت لهم: إنما أنتم بقر!، فبلغ الخبر داعي المهدي، فقال لي: أتقابل إخواننا المؤمنين بما لا يجب! وتالله الكريم لولا أنني أعذرك بأنك جاهل بحقهم، وبما صار إليهم من معرفة الحق وأهله لأضربنّ عنقك.(9/558)
ومنهم:
154- أحمد بن إبراهيم بن أبي خالد المعروف: بابن الجزار القيرواني أبو جعفر «13»
طبيب كان في فعله محمودا، وعلى فضله محسودا، يكاد طبّه يدافع الآجال، ويضيّق على جالينوس المجال، إلى دقائق أخرى، وحقائق أبقت له إلى الأخرى، مع رتبة لو أنها للنجوم لتقرّطت بأشنافها «1» ، أو بالعلوم لما كانت إلا لأشرافها. وكان لا يشمخ الكبر بعرنينه «2» ، ولا يطمع الببر «3» في دخول عرينه، وإنما كان يتحلى بالاتّضاع، ولا يروّع بفصال له من رضاع، ثم سكن الترب مضجعا، وساء شامتا ومتوجّعا، وأمسى رهين عمله، وضمين اليأس لانقطاع أمله.
قال ابن أبي أصيبعة:" طبيب ابن طبيب ابن طبيب، ممن أخذ عن إسحاق بن سليمان، وكان من أهل الحفظ والتطلع، والدراسة في الطب وسائر العلوم، حسن الفهم لها.(9/559)
قال ابن جلجل: كان قد أخذ لنفسه مأخذا في سمته وهديه وتعدّده، ولم تحفظ له زلة، ولا أخلد إلى لذة، وكان يشهد الجنائز والأعراس، ولا يركب إلا إلى المهدي عبيد الله، وإلى عمه أبي طالب، فإنه كان له صديقا حميما، وأليفا قديما، وكان يأتيه في كل يوم جمعة، وكان ينهض في كل عام إلى رباط البحر فيكون طول مدة القيظ، وعالج ولد النعمان القاضي «1» ، فبعث إليه بمنديل مملوءة بكسوة وثلاثمائة دينار، فلم يأخذ شيئا، فقيل له: رزق ساقه الله إليك.
فقال: والله لا كان لرجال معد قبلي نعمة.
وعاش نيفا وثمانين سنة، وترك أربعة وعشرين ألف دينار، وخمسة وعشرين قنطارا، من كتب طبية وغيرها.
ومنهم:
155- حمدون أثا «13»
شفى المرض بطبه، وهوّن عن المريض همّ خطبه، وأحسن علاجا، وأحسن في ليل المساءة انبلاجا، وسلك من طرق القدماء أحصنها، وأحلّ من رمق الذماء «2» أحسنها، وكان لا يكره على مرّ الدواء، ولا يضيق في علاج الداء، لمعرفته بالأبدال، وقدرته إذا جد الجدال، فلم يزل محظيا، ولم يبرح في قومه رضيا.(9/560)
قال ابن أبي أصيبعة:" كان في أيام محمد بن عبد الرحمن الأوسط، وكان حاذقا مجربا، وكان صهر بني خالد، وله بقرطبة أصول ومكاسب، وكان لا يركب الدواب إلا من نتاجه، ولا يأكل إلا من زرعه، ولا يلبس إلا من كتان ضيعته، ولا يستخدم ببلاده إلا من أبناء عبيده".
ومنهم:
156- يحيى بن إسحاق «13»
حكيم لم يكذب صدق حدسه، ولا خفي غامض على حسّه. كان بصره منوّرا، ونظره لخفايا البواطن متصورا، ولهذا قرطس سهمه، وقرّط بالثريا اسمه، وسبق اسمه النجوم وقطعها، وسار في جميع الأرض كأنه أقطعها «1» ، وكان أهل زمانها يتهادونه الرياحين، ويظنون أنهم يحيون به إلى حين، وهيهات فيم يفخرون، وهيهات إذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون.
ذكره ابن أبي أصيبعة وقال:" كان طبيبا بصيرا بالعلاج، صانعا بيده، وكان في صدر دولة عبد الرحمن الناصر، بمكان الثقة، وكان يطلعه على الكرائم والخدم، وكان قد أسلم.
قال ابن جلجل عن رجل كان بباب داره إذ أتى بدوي على حمار وهو(9/561)
يصيح، فخرج إليه وقال له: ما بالك يا هذا؟ فقال: أيها الوزير، ورم في إحليلي منعني من النوم منذ أيام كثيرة، فقال له: اكشف عنه. فكشف فإذا هو وارم، فقال لرجل كان مع العليل: اطلب له حجرا أملس، فأتاه به، فقال: ضعه على كفك، وضع عليه الإحليل، ففعل، فلما تمكن إحليل الرجل من الحجر، جمع الوزير يده وضرب على الإحليل ضربة غشي على الرجل منها، وجرى من الإحليل صديد الدم إلى أن نزف، ثم فتح عينيه، وبال البول، فقال له: اذهب فقد برئت، وأنت كنت قد عيّثت فأتيت بهيمة في دبرها! فصادفت شعيرة من علفها، فلجّت في عين الإحليل، فورم لها، وقد خرجت الآن في الصديد!!.
فقال الرجل: قد كان ذلك مني، وأقرّ بفعلته.
ومنهم:
157- أبو داود بن جلجل: وهو سليمان بن حسان المعروف بابن جلجل الحكيم «13»
فاض بحره التيار، وفات سرى الكواكب ذكره السيّار، وحام على المجرّة ووردها، وجفا بطبه بنات نعش ووأدها، ولجّ على عارض الحرارة وأطفأ موقدها، وحلّ مجالس الملوك وحل عقدها، وخزي به المرض واكتأب، وحصّل بصناعته الأموال واكتسب، ولم يكن ممن يتهوّر في إقدام، ولا يتصور أن ينقل إلى ذي سفالة أقدام، فكان مدة حياته موقرا، لا يطأ أخمصه إلا حريرا وعبقرا.(9/562)
قال ابن أبي أصيبعة:" كان خبيرا بالمعالجات، جيد الصرف في صناعة الطب، وكان في أيام هشام المؤيد، وخدمه، وله اعتناء بقوى الأدوية، وفسّر أسماء الأدوية المفردة من كتاب ديسقوريدس العين زربي، وأفصح عن مكنونها، وأوضح مستغلق مضمونها، وهذا الكتاب ترجمه اسطفان «1» أيام المتوكل، وفسّر من مفرداته ما عرف له اسم في اللغة العربية، وأبقى اسم ما لم يعرف له اسم.
قال: وأهدى أومانون صاحب القسطنطينية إلى عبد الرحمن الناصر هدايا جليلة عظيمة المقدار، منها كتاب ديسقوريدس مكتوبا بالإغريقي، وهو اليوناني، مصورا بالتصوير الرومي العجيب، وكتب إلى الناصر يقول له: إن هذا الكتاب لا يجتنى فائدته إلا برجل يحسن العبارة باللسان اليوناني، ويعرف أشخاص الأدوية. فإن كان في بلدك من يحسن هذا، فزت بفائدة هذا الكتاب؛ فبقي في خزانة الناصر، ثم بعث أرمانوس إلى الناصر راهبا اسمه نقولا، ففسّر من أسماء عقاقير ما كان مجهولا، وهو أول من عمل بقرطبة درياق الفاروق.
قال ابن جلجل: واجتمع أطباء قرطبة مع نقولا على معرفة أشخاص الأدوية المذكورة في كتاب ديسقوريدس قال: وأدركت نقولا الراهب ومن اجتمع معه في أيام المستنصر الحكم، في صدر دولته، وصحبتهم فصحّ ببحث هؤلاء الوقوف على أشخاص هذه العقاقير بمدينة قرطبة، وتصحيح أسمائها إلا القليل الذي لا بال به ولا خطر له، وذلك يكون في مثل عشرة أدوية.(9/563)
ومنهم:
158- أبو جعفر يوسف بن أحمد «1» بن حسداي «13»
حكيم جلّ قدره، وجلا الظلماء بدره، تصدى طبه للأدواء فحسمها، وشدّ بها بناء الأعضاء وقد حطمها، وسرى علاجه في العلل الجسام، سريا لأرواح في الأجسام، وبهذا ثبت زلزالها وردّها إلى مصاحبة الجسوم وقد نوت اعتزالها، وفعل في هذا الغاية بلطف مداراته، وكف ما لم يقدر الثوب على مواراته، ثم لم يغن عنه طبه إذ حان حينه «2» ، وقرب ما بينه وبين الموت بينه.
قال ابن أبي أصيبعة فيه:" من الفضلاء في صناعة الطب، وله اعتناء بالغ بالاطلاع على كتب أبقراط، وجالينوس، وفهمهما، وكان قد سافر من الأندلس إلى مصر، واشتهر بها ذكره في أيام الآمر «3» ، وكان خصيصا بالمأمون الآمري الوزير، وكان قد أمره المأمون بشرح كتاب الإيمان لأبقراط، فشرحه. وكان مدمنا للشراب، وعنده دعابة ونوادر. حكي أنه كان قد رافق بعض الصوفية في سفرة سافرها من الإسكندرية إلى القاهرة، فقال له الصوفي: أين تنزل في القاهرة حتى أكون أراك؟.
فقال: ما في نيّتي أنزل إلا في الخمارة، وأشرب!. فغضب الصوفي عليه. فلما أتيا القاهرة تفرّقا، فلما كان في بعض الأيام مر ابن حسداي في السوق، وإذا بأفواج(9/564)
الناس مزدحمة، وبينهم صوفي يعزّر، فنظر إليه فإذا هو صاحبه قد أمسك وهو سكران، فقال له ابن حسداي: والله ما قتلك إلا الناموس «1» .
ومنهم:
159- الغافقي: وهو أبو جعفر أحمد بن محمد بن سند «13»
رسا في العلم ورسخ، وأنسى ما في كتب القدماء ونسخ، وطلع في هالات الأهلّه، وأراع علالات العله، وناسب ما يلائم النفوس وصفا، وورد مثل زرق النطاق وأصفى، ولم يعد مريضا إلا كشف غمّاء المرض، وكف إيماء المرض، وكان يتبرّك بعيادته، ويتيمن تيمنا كان سببا لسيادته، إلا أنه بمعرفة قوى الأدوية أدرب، وحدسه فيها أأرب، وكلامه فيها كلام من رأى وجرّب.
قال ابن أبي أصيبعة فيه:" إمام فاضل، وحكيم عالم، ويعدّ من الأكابر، وكان أعرف أهل زمانه بقوى الأدوية المفردة، [وكتابه في الأدوية المفردة] «2» لا نظير له في الجودة، ولا شبيه له وقد استقصى فيه ما ذكره ديسقوريدس والفاضل(9/565)
جالينوس بأوجز لفظ، وأتم معنى، ثم ذكر ما تجدّد للمتأخرين فيها من الكلام، وما ألمّ به كل واحد منهم، فجاء كتابه جامعا لما قاله الأفاضل فيها ودستورا يرجع إليه فيما يحتاج إلى تصحيحه منها.
ومنهم:
160- أبو بكر عتيق بن تمام ابن أبي النوق «1» الأزدي «13»
طبيب أبرأ الأسقام، وأريت له من الفضل أوفر الأقسام، جرى في طلق الوفا، وجرب منه مطلق الشفا، هذا وهو شاعر لا يذعر «2» له جنان، ولا يشعر إلا وفي فيه سنان، يبعث سمام الأرقم، ويجرع الحمام في كأس العلقم.
قال ابن رشيق:" غلب عليه اسم الطب، فعرف به لحذقه، ومكان أبيه منه، وهو شاعر حاذق، مفتوق اللسان، حاضر الخاطر، لم أر قط أسهل من الشعر عليه، يكاد لا يتكلم إلا به، وأكثر تأدبه بالأندلس، لقي بها ناسا وملوكا، وأخذ الجوائز، وقارع فحول الشعراء.
ومما أنشده له قوله: [الطويل]
فلم أنسها كالشمس أسبل فوقها ... من الشعر الوحف «3» الأثيث «4» عذوق
فلو ذاب ذا أو سال جريال «5» خدها ... جرى سيح «6» منه وسال عقيق(9/566)
قال: فأنت ترى الطبع كيف حمل هذا المعنى، كما تحمل الأرواح الأجسام، ولو وضع بين فسطاط المحرزين، وحمل على مذاهب المتعصبين، لرأيته أثقل من العذل، وأقتل من الجهل، لأن التصنع تكلّف، والتكلّف مغصوب مكره، غير أن القسم الآخر منقول بذاته من شعر ابن هانىء في وصف فرس.
ومن أبيات ابن أبي البوق: [الطويل]
فمت تسترح يا قلب إن كنت عاشقا ... فإنك فيها بالممات خليق
ومن لم يمت في إثر إلف مودع ... فليس له بالعاشقين لحوق
ومما أنشد له أيضا قوله «1» : [البسيط]
يحمّل المرهقين الطائعين له ... في منتهى الحط أو في منتهى الفتن
حتى إذا انكشفت عن عارض حسن ... سحب تصدى لها بالمنصل الخشن
أراه ضربا يريه أهله معه ... ويقدح النار بين الرأس والبدن
تركت أهلي وأوطاني لقصد فتى ... يداه أخصب من أهلي ومن وطني
عليّ «2» الماجد الحرّ الجواد ومن ... في حزمه جمع الأشتات للحسن
ومن إذا استمطر العافون راحته ... سقتهم فوق سقي الوابل الهتن
ومن حوى رتبا لم يحوها بشر ... إلا الذي ولدوه معدن المنن
والفرع عن جده ينمي ومحتده ... والخير والشر مشروبان في اللبن
تجري النجابة طبعا في شمائله ... والمجد والبشر جري الماء في الغصن(9/567)
وقوله: [السريع]
يا قائدا ما مثله قائد ... يشكره القائم والقاعد
وواحدا ما إن له مشبه ... وماجد ما فوقه ماجد
ومن غدا بأبيه والدا ... برا لمن ليس له والد
إن قلت: كالبحر عطاء فإ ... نّ البحر لا يشكره الوارد
أو قلت كالقطر سماحا فإ ... نّ القطر مع كثرته نافذ
أو قلت كالبدر فقد ين ... قص البدر وهذا أبدا زائد
هذا عليّ واحد للعلى ... أوحده في عصره الواحد
أنا الفتى الشاكر إحسانه ... والله والله أبدا شاكد «1»
ومنهم:
161- أبو محمد المصري «13»
الحكيم لا يقصر في حكمه، ولا يعجز أن ينطق من تمادى في بكمه، جرى الأدب بقلمه، وسرى نفس في كلمه، وحظي بقبول كان يتلقاه حيث حل،(9/568)
ويحله أكرم محل، ويتحفه بحباء الملوك بما ينعم به بالا، ويعم حساده وبالا، قد أوثقته الحدق النجل جراحا، وأوبقيته الذوائب فلا يجد سراحا، وكان كالخمر في سلب العقول، وكالسحر في الخلب بما يقول، حاذقا بصيد الدراهم، واستخراج خبايا الحبوب، ولو زرّرت بحدق الأراقم.
قال ابن بسام فيه:" شيخ الفتيان، وآبدة الزمان، [وخاتمة أصحاب السلطان] وكان رحل إلى مصر واسمه خامل، وسماؤه عاطل، فلم ينشب أن طرأ على الأندلس، وقد نشأ خلقا جديدا، وأجرى إلى النباهة طلقا بعيدا، فتهادته الدول، وانتهت إليه التفاصيل والجمل، وكلما طرأ على ملك فكأنه معه ولد، وإياه قصد، فجرى مع كل أحد، وتموّل في كل بلد، وتلوّن في العلوم بلون الزمان، وتلاعب بالملوك بأفقها تلاعب الريح بالأغصان، حتى ظفر به ابن ذي النون، فشد عليه يد الضنين، فوجد كنفا سهلا، وسلطانا غفلا، فسرّ وساء، وارتسم في أي الدواوين شاء.
وكان بالطب أكلف، وعليه أوقف، فتعلّق بسببه حتى اشتهر به. وكان حسن البيان، مليح المجلس، حاضر الجواب، كثير النادر، راوية للشعر والمثل السائر، نسّابة للمفاخر، عارفا بالمثالب والمناقب، وكان بالجملة روضة أدب، وهيهات أن يأتي الدهر بمثله. وتحيز إلى إشبيلية فأنس المعتمد بمكانه، وجعل له حظا من سلطانه، ثم بقي بعده على حاله مشتملا بفضل إقباله، ممتعا مقبلا على لذاته.
ومما أنشد له قوله: [البسيط]
قال الوشاة ودمع العين منحدر ... ودمعه فوق روض الورد قد حارا
النار يحرقها قلبي بزفرته ... من العجيب فؤاد يحرق النارا!!(9/569)
وقوله:
ظلك أضحى لي بلا مرية ... مؤثرا في خدك الناضر
ما أرفق الله بأهل الهوى ... إذ صيّر الجور على الجائر
وقوله: [الطويل]
ومن أصبحت فيه المكارم جوهرا ... بلا عرض فالمدح فيه قبيح
ولكن رأيت الشعر يثبت ذكره ... فلا غرو أن يهدى إليك مديح
وقوله- وهو معنى قول أبي نواس ولكنه نقله-: [الوافر]
وما يحتاج يوم الحرب جيشا ... فإن عداه كالزرع الحطيم
وإن أبقى لهم فرعون سحرا ... ففي يده عصا موسى الكليم
وقوله في مهر قتله تغالب الفحول عليه: [البسيط]
يا يوسف الخيل يا مقتول إخوته ... قلبي لفقدك بين الحرب والحرب
إن كان يعقوب لم يقنع بكذبهم ... إني لأقنع منهم بالدم الكذب
وما التناسب في القربى بنافعة ... إن لم تكن أنفس القربى ذوي نسب
وقوله يصف قصر طليطلة «1» : [الكامل]
قصر يقصر عن مداه الفرقد ... عذبت مصادره وطاب المورد
وكأنما الأقداح في أرجائه ... درّ جماد ذاب فيه العسجد
وقوله يصف القبة: [الكامل]
شمسية الأنساب بدرية ... يحار في نسبتها الخاطر
كأنما المأمون بدر الدجى ... وهي عليه الفلك الدائر(9/570)
وقوله: [مخلع البسيط]
أي هلال أطلّ فينا ... مطلعه الطوق والجيوب
يقودنا كيف شاء طوعا ... لأن أعوانه القلوب
ومنهم:
162- أبو الصلت أمية بن عبد العزيز بن أبي الصلت الداني «13»
رجل يرتع في حديقته، ويرجع الفضل إلى حقيقته، لا يقف سيف ذهنه عند حد، ولا يخرج ما سمع في حافظته من لجد حسيا في الطلب، لا ينال باللمس، ونسبا في الأدب إلا أن أمية بن عبد العزيز لا يقاس به به أمية بن عبد شمس.
قال ابن خلكان:" كان فاضلا في علوم الآداب، صنّف كتابه الذي سماه:
الحديقة. على أسلوب يتيمة الدهر للثعالبي وكان عارفا بفن الحكمة، وكان يقال له الأديب الحكيم، وكان ماهرا في علوم الأوائل، وانتقل من الأندلس، وسكن الإسكندرية، ثم انتقل إلى المهدية، فمات بها، وذكره العماد في الخريدة وأثنى عليه".
وذكره ابن أبي أصيبعة، وقال:" وهو من الأكابر الفضلاء في الطب وغيره،(9/571)
وبلغ في الطب مبلغا لم يصل إليه غيره من الأطباء، وحصل من الأدب ما لم يدركه كثير من الأدباء، وكان فريدا في علم الرياضي، مجيدا في صنعة الموسيقى، جيد اللعب بالعود، لطيف النادرة، فصيح اللسان، جيد المعاني، لشعره رونق، وأتى مصر وأقام مدة بالقاهرة، ثم عاد إلى الأندلس، وحبس بالإسكندرية، لأنه كان قد غرق بها مركب فيه أموال جليلة، فالتزم بعمل آلات يخرج بها المركب بما فيه، وشرع في عمل الآلة بحبال الإبريسم، تنطوي على دواليب، ليرفع بها المركب الغارق، فغرم عليها جملة طائلة، فلما ظهر المركب الغارق وقارب الخارج، ثقل على الحبال، فقطعها وسقط إلى قعر البحر، فغضب الوالي عليه، وحبسه، فكتب إلى ابن الصيرفي يستشفع به، وبعث إليه بقصيدتين، يمدح بهما الأفضل ابن أمير الجيوش.
وأول الأولى: [مجزوء الكامل]
الشمس دونك في المحل ... والطيب ذكرك بل أجل
وأول الثانية: [الكامل]
نسخت غرائب مدحك التشبيبا ... وكفى بها غزلا ونسيبا
فأجابه بجواب وهو: [الطويل]
لئن سترتك الجدر عنا فربما ... رأينا جلابيب السحاب على الشمس
وردتني رقعة مولاي فأخذت في تقبيلها كأني ظفرت بيد مصدّرها، أو تمكنت من أنامل مسطرها، ووقفت على ما تضمنته من الفضل الباهر، وما أودعته من الجواهر التي قذف بها فيض الخاطر: [الطويل]
نكرر طورا من قراة فصوله ... فإن نحن أتممنا قراءته عدنا(9/572)
إذا ما نشرناه فكالمسك نشره ... ونطويه لا طيّ السآمة بل ضنّا
فأما ما اشتملت عليه من الرضا فحكم الدهر ضرورة، وكون ما اتفق عارض بتحقق ذهابه ومروره ثقة بعواطف السلطان ومراحمه، وسكونا إلى ما جبلت النفوس عليه من معرفة فواضله ومكارمه، فهذا قول مثله ممن طهر الله دينه ونزّه من الشكوك ضميره ويقينه: [الكامل]
لا يؤيسنك من تفرج كربة ... خطب رماك به الزمان الأنكد
صبرا فإن اليوم يتبعه غد ... ويد الخلافة لا تطاولها يد
وأما ما أشار إليه من أن الذي مني به من تمحيص أوزار سبقت، وتنقيص ذنوب اتفقت، فقد حاشاه الله من الدنايا، وبرأه من الآثام والخطايا، بل ذلك اختبار لتوكله وثقته كما يبتلى المؤمنون الأتقياء، ويمتحن البررة الأولياء، والله يدبره بأحسن التدبير، ويقضي له بتسهيل كل عسير، وقد اجتمعت بفلان فأعلمني أنه تحت وعد، وأنه ينتظر فرصة من التذكار ينتهزها ويغتنمها، ويرتقب فرجة للتقاضي يتولجها ويقتحمها، والله يعينه على ما يضمر من ذلك وينويه، ويوفقه فيما يحاوله ويبغيه، وأما القصيدتان فما عرفت أحسن منهما مطلعا ولا أجود متصرفا ومتقطعا، ولا أملك للقلوب والأسماع، ولا أجمع للإغراب والإبداع، ولا أكمل في فصاحة الألفاظ وتمكن القوافي، ولا أكثر تناسبا على كثرة ما في الأشعار من التباين والتناهي، ووجدتهما يزدادان حسنا في التكرير والترديد، وتفاءلت فيهما بترتيب قصيدة الإطلاق بعد قصيدة التقييد، والله يحقق رجائي في ذلك وأملي، ويقرب ما أتوقعه، فمعظم السعادة فيه لي، ثم أطلق سراحه.(9/573)
ومن شعره: قوله في حالي نجم الثريا مشرقا ومغربا، وطالعا: [المتقارب]
رأيت الثريا لها حالتان ... منظرها فيهما معجب
لها عند مشرقها صورة ... يريك مخالفها المغرب
فتطلع كالكأس إذ تستحث ... وتغرب كالكأس إذ يشرب
وقوله «1» : [المنسرح]
لله يومي ببركة الحبش ... والأفق بين الضياء والغبش
ونحن في روضة مفوفة ... دبّج بالنور عطفها ووشي
قد نسجتها يد الربيع لنا ... فنحن من نسجها على فرش
وأثقل الناس كلهم رجل ... دعاه داعي الصبا فلم يطش «2»
فعاطني الراح إن تاركها ... من سورة الهم غير منتعش
وأسقني بالكبار مترعة ... فتلك أروى لشدة العطش
وقوله: [الكامل]
وا رحمتاه لمعذب يشكو الجوى ... بمنعّم يشكو فراغ البال
نشوان من خمرين خمر زجاجة ... عبثت بمقلته وخمر دلال
لا يستفيق وهل يفيق لحاله ... من ريق فيه سلافة الجريال «3»
علم العدو بما لقيت فرقّ لي ... ورأى الحسود بليتي فرثى لي(9/574)
وقوله: [الطويل]
إذا كان أصلي من تراب فكلها ... بلادي وكل العالمين أقاربي
ولا بدّ لي أن أسأل العيس حاجة ... تشق على شم الذرى والغوارب
وقوله: [الكامل]
دب العذار بخده ثم انثنى ... عن لثم مبسمه البرود الأشنب
لا غرو إن حشي الردى في لثمه ... فالريق سم قاتل للعقرب
وقوله:
كيف لا تبلى غلائله ... وهو بدر وهي كتان!
وقوله يصف فرسا أشهب:
وأشهب كالشهاب أضحى يجو ... ل في مذهب الجلال
من أنجم الصبح بالثريا ... وأسرج البرق بالهلال
وقوله في طبيب اسمه شعبان: [الرمل]
يا طبيبا ضجر العا ... لم منه وتبرم
فيك شهران من العا ... م إذا العام تصرّم
أنت شعبان ولكن ... قتلك الناس محرم
وقوله: [الطويل]
يقولون لي صبرا وإني لصابر ... على نائبات الدهر وهي فواجع
سأصبر حتى يقضي الله ما قضى ... وإن أنا لم أصبر فما أنا صانع
وقوله: [السريع](9/575)
ساد صغار الناس في عصرنا ... لا دام من عصر ولا كانا
كالدست «1» مهما هم أن ينقضي ... عاد به البيدق»
فرزانا «3»
وقوله وقد رأى مليحا أبيض قد قام فجاء قبيح أسود قعد مكانه: [الطويل]
مضت جنة المأوى وجاءت جهنم ... فقد صرت أشقى بعد ما كنت أنعم
وما هي إلا الشمس حان أفولها ... وأعقبها قطع من الليل مظلم
وقوله: [الطويل]
وقائلة: ما بال مثلك خاملا ... أأنت ضعيف الرأي أم أنت عاجز؟
فقلت لها: ذنبي إلى القوم أنني ... لما لم يحوزوه من المجد حائز
وما فاتني شيء سوى الحظ وحده ... وأما المعالي فهي عندي غرائز
وقوله: [الرجز]
جدّ بقلبي وعبث ... ثم مضى وما اكترث
وا حربا من شادن «4» ... في عقد الصبر نفث
يقتل من شاء بعيني ... هـ ومن شاء بعث!
فأي ودّ لم يخن ... وأي عهد ما نكث!؟
وقوله: [الكامل](9/576)
ومهفهف تركت محاسن وجهه ... ما مجّه الكاس من إبريقه
ففعالها في مقلتيه ولونها ... من وجنتيه وطعمها من ريقه
وقوله: [البسيط]
وقمت إذ قعد الأملاك كلهم ... تذب عنه وتحميه وتنتصر
بالبيض تسقط فوق البيض أنجمها ... والسمر تحت ظلال النقع تشتجر
بيض إذا خطبت بالنصر ألسنها ... فمن منابرها الأكباد والقصر «1»
وذبّل من رماح الخط مشرعة ... في طولهن لأعمار العدا قصر
تغشى به غمرات الموت أسد شرى ... من الكماة إذا ما استنجدوا ابتدروا
مستثلمين «2» إذا سلّوا سيوفهم ... شبهتها خلجا مدت بها غدر
ترتاح أنفسهم نحو الوغى طربا ... كأنما الدم راح والظّبى زهر
الله زان بك الأيام من ملك ... لك الحجول «3» من الأيام والغرر
وللعجاج «4» على صم القنا طلل ... هي الدخان وأطراف القنا سرر
إذ يرجع السيف يبدي خده علقا ... كصحفة البكر أدمى خدها الخفر
أما يهولك ما لاقيت من عدد ... سيان عندك قلّ القوم أو كثروا
فاضرب بسيفك من ناواك منتقما ... إن السيوف لأهل البغي تدّخر
ما كل وقت ترى الأملاك صافحة ... عن الجرائر تعفو حين تقتدر
ومن ذوي البغي من لا يستهان به ... وفي الذنوب ذنوب ليس تغتفر
إن الرماح غصون يستظلّ بها ... وما لهنّ سوى هام العدا ثمر(9/577)
أضحى شهنشاه غيثا للندى غدقا ... كل البلاد إلى سقياه تفتقر
الطاعن الإلف إلا أنها نسق ... والواهب الألف إلا أنها بدر «1»
ملك تبوّأ فوق النجم مقعده ... فكيف تطمع في غاياته البشر؟
يرجى نداه ويخشى عند سطوته ... كالدهر يوجد فيه النفع والضرر
ولا سمعت ولا حدّثت عن أحد ... من قبله يهب الدنيا ويعتذر
ولا بصرت بشمس قبل غرته ... إذا تجلى سناها أغدق المطر
ولم أطلها بأني جد معترف ... بأن كل طويل فيه مختصر
وأورد له ابن سعيد قوله في الرقص لمن جاد عليه قبل مديحه: [الكامل]
لا غرو إن سبقت يداك مدائحي ... فتدفقت جدواك ملء إنائها
يكسى القضيب ولم تجن أثماره ... وتطوق الورقاء قبل غنائها
ومنهم: بنو زهر، فمنهم:
163- أبو مروان عبد الملك بن محمد بن مروان بن زهر الإيادي الإشبيلي «13»
حكيم دافع قوى الضراء، وتابع صواب الآراء فراد الأسقام ومانع الداء، وقد(9/578)
فتح فاه للالتقام، على لطف في علاجه، وتسكين لثوائر المرض وعجاجه، ورفق زانه في تأنّيه، وزاده في تأتّيه، فكان يعد فردا، ويعد من أم مشربه وردا، ثم لم يخلف له موعد، ولا يخاف معه من سحابه مرض مرعد، لكنه لم تغن عنه حيله، ولم يكن له بدّ أن يأتيه أجله.
قال صاعد:" إنه دخل القيروان ومصر، وتطبّب بها زمانا طويلا، ثم رجع إلى الأندلس، وقصد مدينة دانية، واتصل بمجاهد ملكها، وأمره أن يقيم عنده فحظي واشتهر بالتقدم في الطب، وشاع ذكره منها في الأقطار، وله في صناعته إرشاد منه منعه من الحمّام لاعتقاده فيه أنه يعفّن الأجسام، ويفسد تركيب الأمزجة". قال: وهذا رأي يخالفه فيه الأوائل، ويشهد بخطئه فيه الخواص والعوام، بل إذا استعمل على الترتيب الذي يجب بالتدريج الذي ينبغي كان رياضة فاضلة، ومهنة نافعة، لتفتيحه للمسام وتطريقه للفضول، وتلطيفه لما غلظ من الكيموسات" «1» .
قال ابن أبي أصيبعة:" وأقول إنه انتقل إلى إشبيلية ولم يزل بها إلى أن مات، وخلّف أموالا جزيلة، ونظيرها من الرياع والضياع".
ومنهم:
164- أبو العلاء زهر بن عبد الملك «13»
فرد في بني آدم، وواحد ما أتى بمثله وقد تقادم، ابن أبيه وفوق كل من يليه، لم يقف سيف ذهنه عند حده، ولا جارى البرق وقد أضمر له نار حقده، وأمسى وهو أبو العلاء، وأخو النجم في الاعتلاء. ربّي في حجر العلم ربيبا، وأصبح منذ(9/579)
كان في سن الوليد حبيبا، فطلع بدرا كامل الأنوار، وطء بحرا يتمسك له بجوار حتى استهل سحابا، واستقل انسكابا، وكان لبيته تقف عليه زمر، وركبا يحج إليه ويعتمر.
قال ابن أبي أصيبعة فيه:" مشهور بالحذق والمعرفة، وله علاجات مختارة تدل على قوته في الصناعة، واطّلاعه على دقائقها، وكانت له في هذا نوادر، ومعرفة بأحوال المرضى من غير أن يستخبرهم، بل لمجرّد جسه لعروقهم ونظره إلى قواريرهم، وحظي في دولة المرابطين".
وقال ابن جميع «1» أن رجلا من التجار جلب نسخة فائقة من كتاب القانون إلى الأندلس، فأتحف أبا العلاء بن زهر بن تقرّبا إليه، ولم يكن وقف عليه، فلما تأمّله ذمّه واطّرحه ولم يدخله خزانة كتبه، ثم جعل يقطع من طرره «2» ويكتب فيها نسخ الأدوية للمرضى.
وقال أبو يحيى اليسع بن حزم «3»
أن أبا العلاء زهرا كان مع صغر سنه تصرخ النجابة بذكره، وتخطب المعارف بشكره، ولم يزل يطالع كتب الأوائل متفهما، ويلقى جلة الشيوخ متعلما، حتى برز في الطب إلى غاية عجز الطلب عن مرامها، وصرف الفهم عن إبرامها، إلى أن خرجت عن قانون الصناعة إلى ضروب الشناعة، يخبر فيصيب، ويضرب في كل ما ينتحله بأوفى نصيب، ويستغرف المدى ويغبر في وجوه سوابق الفضلاء علما ومحتدا، ويفوق الجلة سماحة لا توصف، وندى لولا بذاذة لسان وعجلة ركب عليها الإنسان، وأي الرجال تكمل(9/580)
خصاله وتتناسب أوصاله؟! «1» .
قال ابن أبي أصيبعة: توفي بإشبيلية ودفن بها.
ومما أنشد له قوله: [البسيط]
يا راشقي بسهام ما لها غرض ... إلا الفؤاد وما لها منه عوض
امنن ولو بخيال منك يطرقني ... فقد بسد مسدّ الجوهر العرض
ومنهم:
165- ابنه أبو مروان ابن أبي العلاء، واسمه عبد الملك «13»
شيخ الجلالة وفتى العلم الذي ما ورثه عن كلالة، ارتقى الذروة والغارب، وفاض على المشارق والمغارب، جنى من الفضل غضّه، وختم ختامه وفضّه، مهّدت له المضاجع ليالي اشتغاله فأقضّها، وزفّت عليه المعالي أبكارا فافتضّها، فلم يستدر لثام عارضه ولا تمت أيام رائضه إلا وهو رأس الأكابر الجلّه، ثم لم يصد شيء عن حائمات الحمام «2» ، ولا رثاه إلا نائحات الحمام.
قال ابن أبي أصيبعة:" لحق بأبيه في المعالجة، وشاع ذكره في الأندلس وغيرها، وعكف الأطباء على مصنفاته، ولم يكن في زمانه من يماثله في صفاته، وله حكايات كثيرة في حسن العلاج مما لم يسبق إلى مثله، وخدم الملثمين، وحصل من جهتهم النعم، وفي وقته الذي كان فيه دخل ابن تومرت الأندلس، ومعه صاحبه عبد المؤمن، وشرع في بث الدعوة له دونه، وقرب عبد المؤمن ابن زهر(9/581)
هذا، واعتمد عليه في الطب، وأناله فوق أمنيته، وله ألّف:" الدرياق السبعيني" واختصره عشاريا، ثم اختصره سباعيا. ويعرف بدرياق الأنتلة.
واحتاج عبد المؤمن إلى شرب دواء مسهل، وكان يكره الدواء، فعمد ابن زهر إلى كرمة في بستانه، وجعل الماء الذي يسقيها به ماء قد أكسبه قوة الأدوية المسهلة التي أرادها لإسهاله، فطلع فيها العنب وفيه تلك القوى، فحمي عبد المؤمن وأتاه بعنقود منها، وقال له: كل منه. وكان حسن الاعتقاد فيه، فلما أكل منه وهو ينظر إليه، قال له: حسبك يا أمير المؤمنين، فقد أكلت عشر حبات من العنب، وهي تخدمك عدد هذه الحبات [عشر] «1» مجالس، فقام العدة التي ذكرها، ووجد الراحة واستحسن منه فعله، وتزايدت به منزلته عنده.
وكان يجد في مروره إلى دار الخلافة مريضا به سوء قتبه «2» ، وقد كبر جوفه واصفر لونه، فلما كان في بعض الأيام وقف عنده ونظر إليه، فوجد عند رأسه إبريقا عتيقا يشرب منه الماء، فقال له: اكسر هذا الإبريق، فإنه سبب مرضك، فقال له: لا بالله يا سيدي، فإنه ما لي غيره، فأمر بعض خدمه بأن يكسره، فكسره، فطلع منه ضفدع وقد كبر مما له فيه من طول الزمان!. فقال له زهر:
خلصت يا هذا من المرض".
وحكي أنه كان بإشبيلية حكيم فاضل في الطب، يعرف بالفار، صنف كتابا في الأدوية المفردة، كان يرى ابن زهر كثيرا يأكل التين الأخضر، وكان الفار لا يأكله إلا نادرا، فكان يقول لابن زهر لا بدّ أن يعرض لك بمداومة أكل التين علة النغلة، وهي الدبيلة «3» ، فقال له ابن زهر: وأنت لكثرة حميتك لا بدّ أن يعرض(9/582)
لك علة التشنج، فلم يمت ابن زهر إلا بدبيلة في جنبه، ولا مات الفار إلا بعلة التشنج. قال: وكان ابن زهر يداوي دبيلته فيقول له لو زدت هذا الدواء كذا أو أبدلته بكذا، أو عملت كذا، فكان يقول له: يا بني إذا أراد الله تغيير هذه البنية فإنه لا يقدر لي أن أستعمل إلا ما تتم به مشيئته.
ومنهم:
166- أبو محمد ابن الحفيد أبي بكر بن زهر «13»
نير في سماء، وكوثر في عذب الماء، من بيت زاحم الإيوان «1» ، وأزاح عن رتبته كيوان «2» ، وأسس على خيط المجرّة بيت علاه، ولبس من حلية الشفق والأصيل حلاه، ولم يزل منذ سن اللبون يصول صولة البزل «3» القناعيس «4» ، ولا يقنع إلا أن يكون في أول العيس «5» ، فطالما حصّل الفوائد الغزار، وحلل الفراقد «6» وقد سلبت من جفنه الغرار «7» ، وبات الليالي في طلب العلم، لم(9/583)
يطعم غمضا، ولا شام لغير سنا الصباح إلى الصباح ومضا.
قال ابن أبي أصيبعة:" كان جيد الفطرة، حسن الرأي، جميل الصورة، مفرط الذكاء، محمود الطريقة، معتنيا بالطب. اشتغل على أبيه وأطلعه على كثير من أسرار هذه الصناعة وعملها، وكان الناصر أبو عبد الله يرى له ويحترمه، ويعرف مقدار علمه ويثق به.
وروي أنه لما خرج إلى حضرة مراكش احتاج في نفقة سفره إلى عشرة آلاف دينار، فلما حضر لدى الناصر شكر سالف إحسانه وإحسان سلفه إليه وإلى سلفه، ثم قال: وبيدي مما سلف ووصل إلى أبي من إنعامكم ما يغنيني مدة حياتي، وإنما أتيت لأكون في الخدمة كما كان أبي، وأجلس في الموضع الذي كان يجلس فيه بين يدي أمير المؤمنين، فأكرمه كثيرا وأطلق له مالا جزيلا، وخوّله في النعم الجمّة، وأجلسه في مجلس أبيه، وكان قريبا منه.
حكى القاضي أبو مروان الباجي عنه قال: كنت يوما معه، وإذا به قد قال:
إنني رأيت البارحة- أي في النوم- أختي، وكانت أخته قد ماتت. قال:
فقلت لها: بالله عرّفيني كم يكون عمري؟. فقالت: طابيتين ونصف!، والطابية هي الخشب يكون طولها عشرة أشبار تتخذ للبناء. قال: فقلت لها: أنا أقول لك الجد، وأنت تجيبيني بالهزء!. فقالت: لا والله ما قلت إلا جدا. وإنما أنت ما فهمت! أليس في الطابية عشرة أشبار، فانظر إلى الطابيتين ونصف خمسة وعشرين شبرا فيكون عمرك خمسا وعشرين سنة!.
قال القاضي أبو مروان: فقلت له: لا تتوهم من هذا فلعلّه أضغاث أحلام، قال: فلم تكمل تلك السنة إلا وقد مات! فكان عمره كما قال لم يزد ولم ينقص.(9/584)
وخلّف ولدين كل واحد منهما فاضل في نفسه، كريم في أبناء جنسه، وهما: عبد الملك، وأبو العلاء. ولأبي العلاء نظر جيد في كتب جالينوس، وصناعة الطب، وكانا بإشبيلية.
قلت: كانا علمي طرازها، وآيتي إعجازها على سن شبيبه، ووقت اشتغال بحبيب أو حبيبه.
ومنهم:
167- أبو جعفر ابن الغزال «13»
من أهل المرية «1» ، تغرّب عن الأوطان حتى تقرّب إلى السلطان، وباشر في الخدم من أجلها، وحصّل من النعم جلّها، فكان واسطة العقد «2» ، ولاقطة المنهل العدّ، وحلّ محلّ الثقة من خليفته، وكان مكان المقة «3» في وظيفته، لفضائله التي ثبتت عند إمامه، وأوجبت له أن يتسلم عقد زمانه، فعلا رتبه، وامتدت إليه الأيدي رغبه.
ذكره ابن أبي أصيبعة:" قرأ على الحفيد ابن زهر وعلى غيره، وأتقن الطب، وخدم المنصور به، وكان خبيرا بالمفردات، وكان المنصور يعتمد عليه في الأدوية(9/585)
المفردة والمعاجين، ويتناولها منه، وكان المنصور قد أبطل الخمر وشدّد فيه، ثم إنه أمر ابن الغزال أن يجمع حوائج الدرياق ويركبه، فجمعها، ثم أعوزه الخمر لعجنه، فأنهي ذلك إلى المنصور فقال: تطلبه من كل ناحية وانظر لعله أن يكون عند أحد منه، ولو شيء يسير. فتطلّبه فلم يجد شيئا منه، فأعلم المنصور، فقال: والله ما كان بي تركيب الدرياق في هذا الوقت إلا لأعتبر هل بقي عند أحد من الخمر شيء أم لا؟! ".
ومنهم:
168- أبو العباس ابن الرومية، وهو أحمد بن محمد بن مفرّج النباتي «13»
من أهل إشبيلية، جوال في كل تنوفة «1» ، وجوّاب لكل مخوفة، نزل بكل أرض مخيّما، وطالما جنى النبات وجاء منها بالبينات، وشخصها بأشخاصها وبيّن ما بين عامّها وخاصّها، فعلا محلّا، وطاف كالسحاب فلم يدع محلا «2» .
قال ابن أبي أصيبعة:" من أهل إشبيلية، ومن أعيان علمائها، وأكابر(9/586)
فضلائها، قد أتقن علم النبات، ومعرفة أشخاص الأدوية وقواها ومنافعها، واختلاف أوصافها، وتباين مواطنها، وله الذكر الشائع وحسن الوصف الجامع، قد شرف نفسه بالفضائل، وسمع الحديث وانتفع الناس به، وأتى مصر والشام، وعاين فيها نباتا كثيرا لا ينبت بالمغرب، وشاهد أشخاصها في منابتها، ونظرها في مواضعها، ولما قدم الإسكندرية كان الملك العادل ابن أيوب بالقاهرة، فاستدعاه وأكرم ملتقاه، وأراده على الإقامة عنده، فقال: إنما أتيت لأحجّ ثم أعود إلى بلدي وأهلي وولدي، ثم قضى فريضة حجّه وعاد".
ومنهم:
169- ابن الأصم «13»
وهو ابن الأصمّ إلا أنه كان أسمع، وانعقد عليه التفضيل وأجمع، وكان يكرم أبا، ويعد منه والدا لو كان من الشهور لكان رجبا، إلى طبّ طالما صاد به المنون، وصاد ما لم تجله الظنون، وانتاش مهجة لم يبق منها إلا آخر الذماء «1» ، وردّ مرضا لم يطل زاخر الدماء، وكانت إشبيلية به في حلل المفاخر تختال، وتكف بأس من يغتال، وتتيه بنسبته إليها وسمته التي دلّت دليل نسيم السحر عليها.
قال ابن أبي أصيبعة:" هو من الأطباء المشهورين بإشبيلية، وله قوة نظر في الاستدلال على الأمراض ومداواتها، وله حكايات مشهورة، ونوادر في معرفته بالقوارير، وإخباره عندما يراها بجملة حال المريض، وما يشكوه وما قد تناوله من الأغذية. حدثني أبو عبد الله المعري قال: كنت يوما عند ابن الأصم، وإذا(9/587)
بجماعة قد أقبلوا إليه ومعهم رجل وفي فمه حية قد دخل بعضها مع رأسها في حلقه، وبقيتها ظاهر، وهي مربوطة بخيط قنب إلى ذراع الرجل، فقال لهم: ما شأن هذا؟ فقالوا له: إن من عادته أن ينام وفمه مفتوح، وكان قد أكل لبنا ونام، فلما جاءه هذه الحية لعقت من فيه ودخلته وهو نائم، فأحست بمن أتى فخافت وانساب بعضها في حلقه، وأدركناها فربطناها بهذا الخيط لئلا تدخل في حلقه، وقد أتينا به إليك. فلما نظر إلى ذلك الرجل وجده وهو في الموت من الخوف، فقال: لا بأس عليك، كدتم تهلكون الرجل. ثم قطع الخيط فانسابت الحية، وبلغت إلى جوفه واستقرت. فقال له: الآن تبرأ. وأمره أن لا يتحرك، وأخذ أدوية وعقاقير فأغلاها في الماء غليا جيدا وجعل ذلك الماء في إبريق وسقاه الرجل، وهو حارّ فشربه وصار يجس معدته حتى قال: ماتت الحية، ثم سقاه ماء آخر مغليا فيه حوائج، وقال: هذه تهريء الحية مع هضم المعدة، وصبر مقدار ساعتين وسقاه ماء قد أغلي فيه أدوية مقيئة، فجاشت نفس الرجل وذرعه القيء، فعصب عينيه وبقي يتقيّأ في طست فوجدنا تلك الحية هي قطع، وهو يأمره بكثرة القيء حتى تنظفت معدته، وخرجت بقايا الحية، وقال له: طب نفسا فقد تعافيت، وذهب الرجل مطمئنا صحيحا بعد أن كان في حالة الموت.
أما أطباء مصر:
فمنهم:
170- بليطيان «13»
وهو رجل مشهور في النصارى، معروف بينهم معدود في بطاركتهم، طبيب تدارك النفوس وسيوف المنايا تنوشها، ومواقيت الآمال قد قامت لها(9/588)
نعوشها. رأس في ملته، وكان رئيس محلّته، لخلال حمدت، وأفضال شعله ما خمدت، وكان من أئمة العيسوية، وذوي القسمة بالسوية، إلى صحة حدس وذكاء نفس وكرم عشيرة، وشيم بالتقلل مشيرة.
قال ابن أبي أصيبعة:" كان نصرانيا من الملكية «1» ، عالما بشريعة النصارى، وجعل بطرك الإسكندرية. حكي أنه كان للرشيد جارية مصرية كان يحبها، فاعتلت علة عظيمة، فعالجها الأطباء فلم تنتفع بشيء، فقيل له: لو بعثت إلى عاملك بمصر ليبعث إليك بطبيب منها، فإنه أبصر بهذه الجارية من أطباء العراق.
فكتب إليه فبعث إليه ببلطيان، وكان طبيبا عارفا حاذقا، فأخذ معه من كعك مصر، والصير «2» المعمول بها، فلما أتى بغداد ودخل على الجارية أطعمها من الكعك والصير فرجعت إلى طبعها، وزالت عنها العلة، ووهب له الرشيد مالا جزيلا وكتب له منشورا بإعادة كل كنيسة تغلّب اليعاقبة «3» فيها على الملكية، ثم أمر بأن يكون يحمل مثل هذا الكعك والصير إلى خزانة السلطان في كل وقت، فكان ذلك لا يزال يحمل موظفا فيما يحمل إليها إلى آخر أيام المتوكل.(9/589)
ومنهم:
171- سعيد بن توفيل «13»
جمرة تشتعل توقدا، وجملة لا يضم إليها إلا فرقدا، سعى للعلم سعيا، وأوعاه وعيه، حظي بالخدم، وحلّ حيث لا تنصب الخيم، إلا أن الأيام قلبت له ظهر المجن، وحققت له خلاف ما ظن، فأفلتت رداءه وأشمتت به أعداءه، ولم يجن ذنبا سوى نصحه الذي حمل على الغش، وقتل عقابا به جانيه عليه ولم يعش.
قال ابن أبي أصيبعة:" كان طبيبا نصرانيا يخدم ابن طولون «1» ولا يفارقه، فلما أدركت ابن طولون الهيضة «2» التي مات بها طلبه فلم يجده إلا بعد يومين، فعنّفه ثم قال له: ما الصواب؟ قال: أن لا تقرب غذاء. قال: أنا والله جائع وما أصبر. فقال له: هذا جوع كذاب لبرد المعدة. فلما نصف الليل استدعى بشيء يأكله، فجيء بفراريج كردناج «3» حارة، وجدي بارد، فأكل منها فانقطع الإسهال عنه، فخرج نسيم الخادم وسعيد في الدار، فقال له: أكل الأمير!. فخفّ(9/590)
عنه القيام، فقال سعيد: الله المستعان، ضعفت قوته الدافعة بقهر الغذاء لها، وستتحرك حركة منكرة، فما وافى السحر حتى قام قياما كثيرا، وخرج من أنطاكية وعلّته تتزايد ثم أتى مصر على عجلة تجرّ بالرجال، فلما أتى الفرما «1» شكا انزعاجا فركب الماء إلى الفسطاط، وضربت له بالميدان قبة نزل فيها، ثم ظهرت منه لسعيد بن نوفل نبوة وشكاه إلى كاتبه إسحاق بن إبراهيم، فأخذ يلوم ابن نوفل فقال: والله ما خدمتي له إلا خدمة الفار للسنور والسخلة للذئب. قال نسيم الخادم: وكان ابن توفيل آيسا من حياته، لأن ابن طولون امتنع من مشاورته، ويعتقد فيه أنه فرّط في أول أمره، وجيء بفاكهة من الشام، فقال له:
ما تقول في السفرجل؟. فقال: تمصّ منه على خلو المعدة. فلما خرج سعيد من عنده أكل سفرجلا عقيب عصيدة كان قد أكلها على غير رأي سعيد، فعصرها فتدافع الإسهال، فدعا به ثم قال: يا ابن الفاعلة! قلت إن السفرجل نافع لي، وقد عاد الإسهال. فقام فنظر المادة ورجع إليه، فقال: هذه العصيدة التي حمدتها وقلت إني غلطت في منعها عصرها السفرجل، وأنا ما أطلقت لك السفرجل وإنما أشرت بمصه، فقال: يا ابن الفاعلة! تريد تحجني وأنت صحيح سوي، وأنا عليل مدنف؟. ثم ضربه مائتي سوط، وطاف به على جمل، ونودي عليه: هذا جزاء من اؤتمن فخان، وأمر ببيته فنهب، ثم لم يعش سعيد بعد ذلك إلا يومين ومات.(9/591)
ومنهم:
172- سعيد بن البطريق «13»
طبيب طالما خلّص الأجسام من دائها، واستلّ النفوس من أعدائها، مع علم بشريعته، وعمل حسن في شيعته، إلا أنه لم تصف له موارد الأيام، ولم ينصف على عوائد الأنام، وبلي باختلاف قومه، وما برحوا في شقاق ولا صحوا من سكرة إشفاق، ولم يزل عودهم معه في التواء، وعودهم إليه بغير استواء، هذا ولم يكن غرّا ولا رأى وجوه التجارب إلا غرّا، مع سعة اطّلاع كأنما أشرف عليه من عالي التلاع «1» ، واضطلاع قلّ أن حنيت عليه حنايا أضلاع، ويد ما قصّرت في ضبط ولا غرب عنها ما في قطّ قط، ولكنها الأيام وعاداتها، ومواهبها واستعداداتها.
قال ابن أبي أصيبعة:" كان من أهل مصر، وكان طبيبا نصرانيا مشهورا عارفا بعلم صناعة الطب وعملها، وكانت له دراية بعلوم النصارى ومذاهبها، ثم صيّر في أول يوم خلافة القاهر «2» بطرك الإسكندرية، وكان في زمانه شقاق عظيم،(9/592)
وشرّ متصل بينه وبين شيعته، وله تصانيف كثيرة «1» وتواريخ محرّرة، ولحقه إسهال مات به بالإسكندرية.
ومنهم:
173- التميمي: وهو أبو عبد الله محمد بن سعيد التميمي «13»
جادة إحسان، ومادة بقاء الإنسان، عرف الأدوية لطول ما ألفها، وركّب مفرداتها وألّفها، وجناها من رؤوس الشجر ومما يعرشون، ويبسطون من الأرض ويفرشون، إلى إتقان لقواعد الطب وأصوله، وعوائد المستطب في العام وفصوله، حتى إنه إليه المرجع وعليه الاعتماد في كل دواء ينجع.
ذكره ابن أبي أصيبعة «2»
وقال:" كان مقامه أولا بالقدس ونواحيه، وله معرفة جيدة بالنبات وماهياته، وكان متميزا في صناعة الطب، والاطلاع على دقائقها، وله خبرة بتركيب المعاجين والأدوية المفردة، واستقصى معرفة الدرياق الكبير الفاروق وتركيبه، وركّب منها شيئا كثيرا على أتم ما يكون من حسن الصنعة، وانتقل إلى مصر، وأقام بها حتى مات".
قال ابن القفطي «3» :" إن التميمي هو الذي أكمل الدرياق الفاروقي، بما زاده فيه من المفردات، وكان خصيصا بالحسن بن عبد الله بن طغج صاحب الرملة،(9/593)
وعمل له معاجين ولخالخ «1» طبية، وأنواع دخن دافعة للوباء وركب سفوف الرجفان الحادث عن المرة السوداء المحترقة، وكان يذكر أنه نقله عن راهب كان بالقدس فاضلا في الحكمة والطب، وأدرك الدولة العلوية «2» بمصر، وصحب يعقوب بن كلس «3» ، وزير المعز والعزيز، ولقي الأطباء بمصر وناظرهم. وحكي عن أبيه أنه سكر مرة سكرا مفرطا غلب على عقله، فسقط في بعض الخانات من موضع عال إلى أسفل الخان وهو لا يعقل، فحمله صاحب الخان وخدمه حتى أدخله الحجرة التي كان ساكنها، فلما أصبح قام وهو يجد وجعا ووهنا في مواضع من جسده، ولا يعرف لذلك سببا، فركب وتصرف في بعض أموره، إلى أن تعالى النهار، ثم رجع فقال لصاحب الخان: إني وجدت في جسدي وجعا وتوهّنا شديدا لست أدري ما سببه. فقال صاحب الخان: ينبغي أن تحمد الله على سلامتك. قال: فماذا؟. قال: أو ما علمت ما نالك البارحة؟. قال: لا.
قال: فإنك سقطت من أعلى الخان إلى أسفل، وأنت سكران. قال: ومن أي موضع؟. فأراه الموضع. فلما رآه حدث به للوقت من الوجع والضربان ما لم يجد معه سبيلا إلى الصبر، وأقبل يصيح ويتأوّه، إلى أن جاؤوه بطبيب ففصده، وشد على مفاصله المتوهّنة جبارا، وأقام أياما كثيرة إلى أن برأ وذهب عنه الوجع.
أقول: ومما يناسب هذه الحكاية أن بعض الناس كان في بعض أسفاره في مفازة، ومعه رفقة له، فنام في منزلة نزلها في الطريق ورفقته جلوس، فخرجت حية من بعض النواحي، فصادفت رجلا، فنهشته فيها، وذهبت، وانتبه مرعوبا من الألم وبقي يمسك رجله ويتأوه منها، فقال له بعضهم ما عليك مددت(9/594)
رجلك بسرعة وقد صادفت رجلك شوكة في هذا الموضع الذي يوجعك. وأظهر له أنه أخرج الشوكة وقال: ما بقي عليك باس، وسكن عنه الألم بعد ذلك ورحلوا، فلما كان بعد عودهم بمدة وقد نزلوا في تلك المنزلة قال له صاحبه:
أتدري ذلك الوجع الذي عرض لك في هذا الموضع من أي شيء كان؟. فقال:
لا. فقال: إن حية ضربتك في رجلك ورأيناها، وما أعلمناك، فعرض له في الوقت ضربان قوي في رجله وسرى في بدنه، إلى أن قرب من قلبه وعرض له غشي، ثم تزايد به إلى أن مات، وكان السبب في ذلك أن الأوهام، والأحداث تؤثر في البدن تأثيرا قويا، فلما تحقّق أن الآفة التي عرضت له كانت من نهشة الحية تأثر ذلك وسرى ما كان في ذلك الموضع من بقايا السم في بدنه، ولما وصل إلى قلبه أهلكه.
قلت: ومن نسبة ما حكى عن أبيه ما شاهدته بعيني سنة ست وسبع مائة، وذلك أنه كان عندنا صغير في سطح الدار يلعب، وبيده تفاحة، فجعل يلقيها من يده ثم يجري وراءها، ويأخذها، وألقاها مرة فتدحرجت وجرى هو خلفها، فوقعت من طاقة في السطح معدة لرمي الثلج ترمى إلى الطريق علوها عن الأرض يقارب عشرين ذراعا، واستمر هو جاريا خلفها ليأخذها، فوقع من ذلك العلو إلى الأرض قائما على قدميه، واستمر جاريا خلف التفاحة حتى أخذها ولم يضره شيء البتة، وكان سداسي السن وكنت قريبا من سنه وأنا أشاهده، وأنا على باب الدار، فسبحان الله اللطيف بخلقه.(9/595)
ومنهم:
174- ابن الهيثم: وهو أبو علي محمد بن الحسن بن الهيثم البصري ثم المصري «13»
رجل أخذ الفرائد فنظمها، والفوائد فأجلّها قدرا في الصدور وعظّمها، بطرف طموح وطرف تحت عقد بيانه جموح «1» ، فأثبت الغرر، وأنبت الدرر، وصاغ النجوم وأشباهها، وتبجّس فحكى الغيوم وأمواهها، لفضائل حصّلها من الصّغر، وورد منها أصفى المناهل ولم يعرف الصّدر، فبقيت كتبه قدوة للمتأمّل، وجلوة مثل الصباح المتهلّل.
قال ابن أبي أصيبعة:" أصله من البصرة، ثم انتقل إلى مصر فأقام بها إلى آخر عمره، وكان فاضل النفس، قوي الذكاء، مفننا في العلوم، وكان كثير التصنيف، ظاهر الزهد، ولخّص كثيرا من كتب أرسطو وجالينوس، وشرح العويص، وكان حسن الخط، جيّد العربية".
حكي أنه كان قد وزّر بالبصرة ونواحيها، فمنعته عن النظر، فآثر التجرّد ليتوفّر على العلم، فأظهر خبالا في عقله وتغيّرا في تصوّره، حتى تمكن من مراده، ثم أتى مصر، وأقام بالجامع الأزهر، ثم كان يكتب" أقليدس، والمجسطي" ويتقوّت بالثمن.(9/596)
وقيل: إنه بلغ الحاكم أنه كان يقول: لو كنت بمصر لعملت في النيل عملا يحصل به النفع في كل حال من حالاته من زيادة ونقص. فاستدعاه ومشى إليه، فلم يجد أنه يتم له ما أراده، فعاد خجلا واعتذر إلى الحاكم بما قبل منه ظاهره، ثم إنه ولاه بعض الدواوين، فوليها رهبة لا رغبة، ثم تحقّق غلطه إذ قيل لكثرة استحالة الحاكم وإقدامه على سفك الدماء، فلم يجد طريقا إلا معاودة الجنون، فاحتيط على موجوده «1» وقيّد، ووكّل به من يخدمه ويقوم بمصالحه، فلما مات الحاكم أظهر العقل وعاد إلى ما كان عليه، وأعيد عليه ماله، فاستوطن قبة على باب جامع الأزهر ملازما وظائف الاشتغال والإفادة والتصنيف حتى مات.
ومنهم:
175- علي بن رضوان «13»
رجل كان جمال إيوان، وكمال ديوان، ورئيس قوم، ورأس ذكر باق إلى اليوم، طالما أخليت له المجالس، وخليت الصدور له ولمن يجالس، فطال في الدولة الفاطمية ذيلا، ومال به الدهر ميلا، وحصّل من أولئك الكرام المرام، وبلغ لديهم غاية الاحترام، وفضائله تقول: هل من مزيد، وتتدفق فوق بردى ويزيد، حتى آن(9/597)
أن يخلق رداء مفاخره، وينتهي كل شيء إلى آخره.
قال ابن أبي أصيبعة:" مولده ومنشؤه بمصر، وبها تعلم الطب، وحكي عنه أنه قال: أخذت في تعلم الطب ولم يكن لي مال أنفق منه، فلذلك عرض لي في التعليم صعوبة ومشقّة. قال: إنه ولد بالجيزة، وكان أبوه فرّانا، ولم يزل ملازما للاشتغال والنظر في العلم إلى أن تميز وصار له الذكر الحسن، والسمعة العظيمة، على سفهه وإزرائه بالعلماء، وخدم الحاكم وجعله رئيسا على الأطباء، ثم أخذت يتيمة كان ربّاها مالا جليلا كان له نحو عشرين ألف دينار، وهربت به فاختل عقله".
ومنهم:
176- افرائيم [بن الزفّان] الإسرائيلي «13»
طبيب صفت له المشارب، وصحت معه التجارب، واتصل بالدولة الفاطمية اتصال اليد بالعنان، وطال بها طول الرمح بالسنان، وكان منها مكان الشجاعة من الجنان، وقرّ لديها استقرار الخاتم في البنان، ثم جاءته منيته وقرعت بصفا اللحود ثنيته.
قال ابن أبي أصيبعة:" وهو من الأطباء المشهورين بديار مصر، وخدم الخلفاء الذين كان في زمانهم، وحصل من جهتهم من الأموال والنعم شيئا كثيرا، وكان(9/598)
قد قرأ صناعة الطب على أبي الحسن علي بن رضوان وهو من أجلّ تلامذته، وكانت له همّة عالية في تحصيل الكتب، وفي استنساخها، حتى كانت عنده النسّاخ يكتبون، ولهم ما يقوم بكفايتهم منه، ومن جملتهم: محمد بن سعيد بن هشام الحجري، وهو المعروف بابن ملساقة، ووجدت بخط هذا عدة كتب وعليها خط أفرائيم.
وحدثني أبي أن رجلا من العراق وكان قد أتى إلى مصر ليشتري كتبا ويتوجّه بها، وأنه اجتمع بأفرائيم، واتفق الحال فيما بينهما أن اباعه أفرائيم من الكتب التي عنده عشرة آلاف مجلدة، وكان ذلك في أيام الأفضل ابن أمير الجيوش. فلما سمع بذلك أراد أن تلك الكتب تبقى بالديار المصرية، ولا تنتقل إلى موضع آخر، فبعث إلى أفرائيم والعراقي عليها، ونقلت الكتب إلى خزانة الأفضل، وكتب عليها ألقابه، ثم خلف من الكتب ما يزيد على عشرين ألف أخرى، ومن الأموال والنعم شيئا كثيرا جدا".
ومنهم:
177- سلامة بن رحمون أبو الخير «13»
قرن لا يمل المصاع «1» ، ولا يكايل بالمد والصاع، فكان لو عوّقه في طريقه جبل لاقتلعه، أو أشرقه «2» بريقه أسد لابتلعه، إلا كدية عرضت له فلم يستطع(9/599)
صعود ذروتها، ولا بدر على ارتقاء صفاها ولا مروتها، فباء بخجلته وبقي تحت مذلة مضلّته.
قال ابن أبي أصيبعة:" كان يهوديا له أعمال حسنة، واطّلاع على كتب جالينوس، والبحث عن غوامضها، ولما وصل أبو الصلت إلى مصر اجتمع به وجرت بينهما مباحث ومشاغبات، وقد ذكر أبو الصلت في رسالته المصرية قال:
وأشبه من رأيته منهم وأدخله في عداد الأطباء رجل من اليهود يدعى أبا الخير سلامة بن رحمون، فإنه لقي أبا الوفاء المبشر بن فاتك، وأخذ عنه شيئا من صناعة المنطق، تخصص بها، وتميز على أضرابه، وأدرك أبا كثير بن الزفان تلميذ أبي الحسن بن رضوان، فقرأ عليه بعض كتب جالينوس، ثم نصّب نفسه لتدريس جميع المنطق، وجميع كتب الفلسفة الطبيعية والإلهية، وشرح بزعمه، وفسر، ولخّص، ولم يكن هنك في تلخيصه وتحقيقه واستقصائه عن لطيف العلم ودقيقه، بل كان يكثر كلامه فيضل، ويسرع جوابه فيزل، ولقد سألته أول لقائي له واجتماعي به عن مسائل استفتحت مباحثته بها مما يمكن أن يفهمها من لم يكن يمتد في العلم باعه، ولم يكثر تبحره واتساعه، فأجاب عنها بما أبان عن تقصيره ونطق بعجزه، وأعرب عن سوء تصوره وفهمه، وكان مثله في عظم دعاويه وقصوره عن أيسر ما هو متعاطيه، كقول الشاعر: [المتقارب]
يشمر للج عن ساقه ... ويغمره الموج في الساحل
أو كما قال الآخر: [المتقارب]
تمنيتم مائتي فارس ... فردّكم فارس واحد
قال أبو الصلت: وكان بمصر طبيب من أهل أنطاكية يسمى جرجس، ويلقب بالفيلسوف على ما قيل في الغراب أبي البيضاء، وفي اللديغ سليم، قد(9/600)
تفرغ بالتولّع بابن رحمون والإزراء عليه، وكان يزوّر فصولا طبية وفلسفية، يقررها في معارض ألفاظ القوم وهي محال لا معنى لها، وفارغة لا فائدة فيها، ثم إنه ينفذها إلى من يسأله عن معانيها، ويستوضحه أغراضها، فيتكلم عليها، ويشرحها بزعمه، دون تيقظ ولا تحفظ بل باسترسال واستعجال، وقلة اكتراث واهتبال، فيوجد فيها عنه ما يضحك منه. وأنشدت لجرجس هذا عنه وهو أحسن ما سمعته: [السريع]
إن أبا الخير على جهله ... يخفف في كفته الفاضل
عليله المسكين من شؤمه ... في بحر هلك ما له ساحل
ثلاثة تدخل في دفعة ... طلعته والنعش والغاسل
ومنهم:
178- بلمظفر ابن معرف: وهو نصر بن محمود بن المعرّف «13»
عالم بأسرار الطبيعة، وعارف بأخبار الشريعة، وفاضل كاد يحوز الفضل جميعه، وكان محبا لكثرة الثراء، ومبلّلا بثرى تربته الخضراء، لا يعدل شيء عنده نعمة الغنى، ولا يصرف إلى غيرها همة المنى، وعانى الصنعة فلم يبتل له منها عود بماء، ولا حصل له صاد الصديق ولا كاف الكيمياء، مهما أنفق من مال، وأخفق من مآل.(9/601)
ذكره ابن أبي أصيبعة وأثنى على فضله، وقال:" كان مغرما بصناعة الكيمياء والاجتماع بأهلها، وكتب بخطه كثيرا من الكتب التي صنفت فيها، وفي الطب والحكمة، وكانت له همة عالية في تحصيل الكتب وقراءتها، قال: ومن أعجب شيء منه أنه كان قد ملك ألوفا كثيرة من الكتب في كل فن، ولا يوجد شيء منها إلا وقد كتب على ظهره ملحا ونوادر مما يتعلق بالعلم الذي صنف ذلك الكتاب فيه، وقد رأيت كتبا كثيرة من كتب الطب وغيرها كانت له وعليها اسمه، وما منها شيء إلا وعليه تعاليق حسنة وفوائد متفرقة.
وأنشد من شعره قوله [المتقارب]
وقالوا الطبيعة مبدا الكيان ... فيا ليت شعري ماذا الطبيعه؟
أقادرة طبعت نفسها ... على ذاك أم ليس بالمستطيعه؟
وقوله [المتقارب]
وقالوا الطبيعة معلومنا ... ونحن نبيّن ما حدّها
ولم يعرفوا الآن ما قبلها ... فكيف يرومون ما بعدها؟!
ومنهم: أولاد أبي الحفائر وكلهم أفاضل أطباء، وأماثل ألبّاء، خدموا الملوك، وأحسنوا السلوك، ولا طفوا الأمزجة، وشارفوا في العلم أعلى درجه، لو استسقى بهم الحظ العليل لبرأ، أو سكن بهم عاصف الريح العقيم لما درأ.(9/602)
منهم:
179- أبو عمر وعثمان بن هبة الله بن أحمد بن عقيل القيسي جمال الدين «13»
هو الذي شيّد بناء البيت، ومهّد لمشاهيره الحي منهم والميت.
قال ابن أبي أصيبعة فيه:" أفضل الأطباء، وسيد العلماء، وله اشتغال بالأدب، وشعره صحيح المباني، بديع المعاني، خدم العزيز ابن صلاح الدين «1» ، ودام حتى خدم الكامل «2» .
ومنهم:
180- ابنه الفتح [فتح الدين بن جمال الدين بن أبي الحفائر] «14»
وكان مثل أبيه، وإن لم يكن مثله فيدانيه.
وقال ابن أبي أصيبعة فيه:" كان نزيه النفس، صائب الحدس، حسن المداواة، لطيف المداراة، فصيح اللسان كثير الإحسان، خدم الكامل والصالح «3» ، وفي أيامه توفي بالقاهرة".(9/603)
ومنهم:
181- ابنه المهذب [شهاب الدين ابن فتح الدين] «13»
زاد على أبيه فضله، وزان علا سلفه نبله.
وقال ابن أبي أصيبعة فيه:" جمع بين الفضائل، وتميز على الأواخر والأوائل، علامة وقته في حفظ الصحة ومراعاتها، وإزالة الأمراض وعلاجاتها، اقتفى سيرة آبائه، وفاق نظراءه في همته وإبائه": [الكامل]
ورث المكارم عن أبيه وجده ... كالرمح أنبوبا على أنبوب
فأما من سواهم: فمنهم:
182- الخونجي: محمد بن ناماور أفضل الدين أبو عبد الله «14»
قاضي القضاة، تمام الأفاضل، وإمام كل فاضل، ولهذا لقب بأفعل التفضيل، ولقي الود من كل فضيل، إلى علوم شرعية، وعلو قدر لرتبة مرعية، هذا إلى وفور إحسان، وظهور أياد حسان، مع سلامة صدر، وسذاجة مفرطة بلا قدر، فلم(9/604)
يكن مثل بزّه الرفيع الساذج، ومهزّه الرطب عند قضاء الحوائج.
قال ابن أبي أصيبعة فيه:" اجتمعت به ووجدته الغاية القصوى في سائر العلوم، وكان يعرض له انشداه خاطر لكثرة انصباب ذهنه إلى العلم، وتوفّر فكره عليه، وولي قضاء القضاة بمصر وأعمالها".
ومنهم: بنو فانه:- أهل بيت تنسقوا في الفضائل، وتناسبوا في كرم الشمائل، وتناسلوا لا تكذب فيهم المخايل كأنما توالدوا من ظهور إقلينوس، أو تعاقدوا على حل مشكلات جالينوس، لو جلسوا في رواق أرسطو لسطا بهم في النظر وسما بهم إلا أنه يرضى جنب القمر.
وأولهم:
183- أبو سليمان داود بن أبي المنى ابن فانة «13»
وكان في أهل ملته يأوي إلى جناب منيع، ويهمي بسحاب لا يجحد له حسن الصنيع، وهذا إلى فهم ثاقب، وعزم لا يوني في طلب المناقب.
قال ابن أبي أصيبعة:" كان طبيبا نصرانيا من أهل القدس، حظيا عند الخلفاء، فاضلا من فضلاء الأطباء، وأخذه الملك ماري من مصر إلى القدس «1» ليقيم عنده به، ولما وقع الفقيه عيسى عنده في الأسر مرض مرضا أشفى منه، فأمر ماري ابن فانة بمعالجته، فلما رآه مثقلا بالحديد في قعر الجب قال لماري: هذا رجل ذو(9/605)
نعمة، ولو سقيته ماء الحياة على مثل هذه الحال لم ينتفع به، فأطلقه من الحديد والجب وأكرمه فإنّ ذلك كاف في علاجه.
فقال له: هذا عليه قطيعة «1» كثيرة وأخاف أن يهرب. فقال ابن فانة: أيها الملك! سلّمه إليّ وضمانه عليّ.
فقال له: تسلّمه، فإذا جاءت قطيعته لك فيها ألف دينار. ثم أخذه إليه وفكّ حديده وأخلى له موضعا من داره، وبالغ في إكرامه؛ فلما مضت ستة أشهر، أمره ماري بإحضاره، فأحضره، فوجد قطيعته قد جاءت في أكياس، فأعطى ابن فانة منها كيسا فيه ألف دينار، كما وعده وأطلق سراح الفقيه عيسى؛ فقال ابن فانة:
أيها الملك هذه الألف دينار قد صارت لي، وأتصرّف فيها تصرّف الملّاك في أملاكهم، قال له: نعم. فأعطاها للفقيه لوقته، وقال له: أنا أعرف أن هذه القطيعة ما جاءت وقد تركت خلفك شيئا وربما استدانوا لك فيها، فاقبل مني هذه في نفقة الطريق، فقبلها منه، وكان ابن فانة عارفا بالنجامة، ورأى أن صلاح الدين سيدخل القدس من باب الرحمة، فبعث ولده أبا الخير إليه مبشرا بذلك، فأجازه جائزة سنية، وأعطاه علما أصفر، ونشابة لأمانه، فلما دخل صلاح الدين إلى القدس دخل الفقيه عيسى داره وحماها أن تنال بسوء هي وجميع ما جاورها.
ومنهم:
184- ابنه: الموفق أبو شاكر موفق الدين «13»
لم يقف عند غاية أبيه وهي نائيه، ولم يقف آثاره والسحب وراءها غير متوانيه، تشرّف بالإسلام وتعرّف بالهدى وعداه الملام، وحظي ممن خدمهم من(9/606)
الملوك بما لم يحظ به من مخدوم وغلام. وقف له مثل العادة في نهجه، وأمطاه من كراكيبه ما ركب منه في غير سرجه.
قال ابن أبي أصيبعة:" قرأ على أخيه أبي سعيد، ثم تميز واشتهر، وحظي عند الكامل، وأقطعه ضياعا وغيرها، وكان يتفقّده بالهبات الوافرة والصّلات المتواترة، وكان يدخل في جميع قلاعه راكبا لا ينزل ثم أسكنه عنده بقلعة الجبل، وركبه العادل مرة بغلته التي كانت قد شدّت في النوبة له، وركب ووقف بين القصرين ينتظره حتى جاء ثم أخذ بيده وجعل يتحدث معه إلى أن أتيا دار الوزارة، وكان العادل يسكنها وهو معه راكب، والأمراء ومن سواهم مشاة في الخدمة.
وفيه يقول ابن منقذ: [المتقارب]
رأيت الحكيم أبا شاكر ... كثير المحب مع الشاكر
خليفة بقراط في عصرنا ... وثانيه في علمه الباهر
ومنهم:
185- الرشيد أبو حليقة: وهو أبو الوحش ابن الفارس ابن أبي الخير بن أبي سليمان داود ابن أبي المنى ابن فانة «13»
وسبب تسميته بأبي حليقة لأن أباه كان لا يعيش له ولد، فقيل لأمه: لو(9/607)
عملت في أذنه حلقة لعاش؛ فعملتها. والملك الكامل هو الذي سمّاه بهذا الاسم لأنه طلبه مع غلام فقال له: من هومن الأطباء؟ فقال هو أبو حليقة. فعرف بذلك، وكان مذ كان منقطع القرين مهيبا لا يقتحم له عرين، معظّما في النفوس، متمما لمحاسن أهل الشموس، تجلّه الملوك وتحلّه حيث لا يصل إليه سلوك.
قال ابن أبي أصيبعة بعد الثناء الجميل عليه بالعلم والدين والمروءة إنه:" ربي بجعبر، وكان أبوه يلبسه زي الجند، فدخل الملك الكامل مرة الحمام قريبا من داره، فبعث إليه أبوه معه ماء ورد، وأطباق فاكهة، فقبلها الأمير وملأ أطباقه تفاصيل سنية، ثم دخل به على ابنه الملك العادل فلما رآه قال: هذا ابن الفارس لأنه عرفه بالشبه، فقال له: نعم. فالتفت إلى أبيه وكان قائما في الخدمة وقال له:
ولدك هذا ذكي لا تعلّمه الخدمة، فالجند عندنا كثير وأنتم أهل بيت تبرّكنا بطبكم، فسيّره إلى عمه أبي سعيد إلى دمشق ليقرئه الطب، ففعل، فمهر، ثم رحل إلى القاهرة وخدم الكامل وحظي لديه، وأقطعه ثم خدم من بعده إلى الملك الظاهر بيبرس على أجمل العوائد.
قال: وكانت له نوادر في العلاج؛ منها: أنه كان يعالج حظيّة الكامل كانت معه بالعباسية، ثم عرض للرشيد شغل دخل لأجله إلى القاهرة، وأقام بها ثمانية عشر يوما، ثم عاد فوجد الأطباء قد تردّدوا إليها، فلما حضر باشر معهم، فقالوا له: إن هذه على موت، والمصلحة أن نعلم السلطان بهذا قبل أن يفجأه أمرها بغتة، فقال لهم: الذي عندي أن هذه ما هي في مرض الموت. فقال له شيخ منهم: أنا باشرت المرضى أكثر منك. فطالع السلطان فلم يوافقه. فأجمع الأطباء على المطالعة بهذا إلا هو، فكتبوا إلى السلطان بموتها، فأرسل إليهم رسولا ومعه نجار ليعمل لها تابوتا تحمل فيه؛ فأتيا والأطباء جلوس، فقال له الرشيد: ما هذا؟(9/608)
فأخبره بما أتيا له. فقال للرسول: أتضعها في التابوت وهي في الحياة؟. فقال:
لا، ولكن بعد موتها، فقال له: ارجع بهذا التابوت وقل للسلطان عني خاصة أنها لا تموت في هذه المرضة، فرجع وأخبره بذلك، فلما كان الليل استدعاه وقال له: أنت منعت عمل التابوت؟ قال له: نعم. قال له: بم عرفت ذلك دون الأطباء؟. قال: بمعرفتي بمزاجها دونهم. فقال له: امض فطبّبها، فطبّبها فعوفيت.
ومنها: أن الكامل لفّ مرة يده وأخرجها مع أيدي الحرم وهو يجس الأيدي، فلما انتهى إلى نبض الكامل قال: هذا نبض مولانا السلطان، وهو صحيح بحمد الله!.
ومنها: أنه جاءته امرأة من الريف ومعها ولدها شاب غلب عليه النحول لتريه إياه، واتفق أنها جاءت به إليه بالغداة، والوقت بارد، فجسّ نبضه، وبينما هو يجس نبضه، إذ قال لغلامه: ادخل ناولني الفرجية لألبسها، فتغير نبض الشاب عند قوله تغيرا كثيرا، فحدس أن يكون عاشقا، ثم جس نبضه بعد ذلك فتساكن، وعند ما خرج الغلام إليه وقال له: هذه الفرجية جس نبضه أيضا فوجده قد تغير.
فقال لوالدته: إن ابنك هذا عاشق، والذي يهواها اسمها" فرجية".
فقالت: إي والله يا مولاي هو يحب واحدة اسمها فرجية، وقد عجزت مما أعذله فيها، وتعجبت من قوله لها غاية العجب، ومن اطّلاعه على اسم المرأة من غير معرفة متقدمة له بذلك.
أقول: ومثل هذه الحكاية كانت عرضت لجالينوس لما عرف المرأة العاشقة، وذلك أنه كان استدعي إلى امرأة جليلة القدر وكان المرض قد طال بها، وحدس أنها عاشقة، فتردد إليها، ولما كان عندها وهو يجس نبضها، وكانت الأجناد قد ركبوا في الميدان وهم يلعبون، فحكى بعض الحاضرين ما كانوا فيه، وإن فلانا(9/609)
تبينت له فروسية ولعب جيد، فعند ذلك لما سمعت باسم ذلك الرجل تغير نبضها واختلف، ثم جسها بعد ذلك فوجده قد تساكن إلى أن عاد إلى حاله، ثم إن جالينوس أشار إلى الحاكي سرا أن يعيد قوله، فلما أعاده وجسّ نبضها وجده أيضا قد تغير فتحقّق من حالها أنها تعشق ذلك الرجل، وهذا مما يدل على وفور العلم وحسن النظر في تقدمة المعرفة.
ومنهم:
186- ابنه المهذب: أبو سعيد محمد بن أبي حليقة «13»
وأيّ الرجال المهذب؟، وأي الآصال عصره المذهب، وكان له أي مجلس مغشي، وأنس أضوأ من مصابيح العشي، يعشى إلى ضوء ناره، ويعزى الفضل إلى ساكن داره، ويوصف بخلائق تتكفل بري الظماء، وتلذ لذة العسل بالماء، ولم يزل فجره يتزيّد في إنارته، وبدره لا يخرج من دارته حتى طما على روضته سيل المنون، وطحنه تحت ضرسه المنجنون «1» .
قال ابن أبي أصيبعة فيه:" أوحد العلماء، وأكمل الحكماء، ولد بالقاهرة وسمي محمدا لما أسلم أيام الظاهر «2» . منحه الله من العقل أكمله، ومن الأدب(9/610)
أفضله، ومن الذكاء أغزره، ومن العلم أكثره، أتقن الطب وعرف الحكمة، ولا أحد يدانيه فيما يعانيه، ولا يصل إلى الخلائق الجميلة التي أجمعت عليه".
انتهى ذكرهم
فأما من سواهم؛ فمنهم:
187- أبو سعيد بن موفق الدين يعقوب «13»
ويلقب بالموفق، وكان في فعله موفقا، وفي نقله موثّقا، يصيب شاكلة الرمي، ويتلقى عدو المرض تلقي الكمي «1» ، وله علاج يقوم بالأبدان، ويدوم تهاديه في البلدان، وينقل من خبره ما يكون أرجا للمجالس، وحرجا للمنافس، وطالما طال أمثاله في البيع «2» ، وكانوا له كالتبع، ثم خدم السلطان فتم ممتد الاتّطان حتى شجب بعلته، وانتحب بالبكاء عليه أهل ملته.
قال ابن أبي أصيبعة:" هو من نصارى القدس، وكان خبيرا في الطب علما وعملا، حادّ الذهن، وخدم الكامل ثم ابنه الصالح، وعالجه وهو بدمشق من أكلة كانت في فخذه، وكانت بينه وبين الرشيد أبي حليقة منافسة، فقال أبو سعيد:
إن معالجة أبي حليقة على غير الصواب، فنظر الصالح إلى أبي حليقة نظرة غضب، فقام من بين يديه وقعد بباب الدار، ثم عرض أبو سعيد إليه مرة أخرى في مجلس السلطان، فعرض له فالج وبقي ملقى قدامه فأمر السلطان بحمله إلى داره، فمات بها بعد أربعة أيام، ثم عاد الصالح إلى مصر بعلّته وبها مات".(9/611)
ومنهم:
188- ابن البيطار: عبد الله بن أحمد المالقي النباتي، ضياء الدين أبو محمد «13»
سحاب أتى سيله فطمّ على القرى، وسحب ذيله فتم نشج العبقرى، وكأنما كان بأسرار الأدوية مناجي أو أوتي أجزل من ابن جزلة منهاجا، لعلم بالعقاقير وأشخاصها، وعموم منافعها واختصاصها، مع حسن جمع وإتقان ما يلج في سمع، وعرف فيها مقالات الحكماء وحزرها، وألّف فيها المطوّلات وحبّرها، وكان نسيج وحده، ووشيج جفان بأسده، تقلّب في البلاد وجلب ما يبقى على الآباد، ثم مات ولله في خلقه أمر، وجناها على نفسه وقال: بيدي لا بيد عمرو.
قال ابن أبي أصيبعة فيه:" أوحد زمانه، وعلّامة أوانه، في معرفة النبات وتحقيقه واختباره ومواضع نباته، ونعت أسمائه على اختلافها وتنوعها، سافر إلى بلاد الأغارقة، وأقصى بلاد الروم، ووجد جماعة ممن يعاني هذا الفن، وأخذ عنهم معرفة نبات كثير وعاينه في مواضعه، واجتمع أيضا في المغرب وغيره بكثير من الفضلاء في علم النبات، وعاين نباته وتحقق ماهيته، وأتقن دراية كتاب ديسقوريدس إتقانا بلغ فيه إلى أن لا يكاد يوجد من يجاريه فيما هو فيه، وذلك أنني وجدت عنده من الذكاء والفطنة والدراية في النبات وفي نقل ما(9/612)
ذكره ديسقوريدس وجالينوس فيه ما يتعجب منه. أول اجتماعي به كان بدمشق سنة ثلاث وثلاثين وست مائة، ورأيت أيضا من حسن عشرته، وكمال مروءته، وطيب أعراقه، وجودة أخلاقه، وكرم نفسه ما يفوق الوصف، ويتعجب منه، ولقد شاهدت معه في ظاهر دمشق كثيرا من النبات في مواضعه، وقرأت عليه أيضا تفسيره لأسماء أدوية كتاب ديسقوريدس، فكنت أجد من غزارة علمه ودرايته وفهمه شيئا كثيرا، وكنت أحضر لدينا عدة من الكتب المؤلّفة في الأدوية المفردة، مثل كتاب ديسقوريدس وجالينوس، والغافقي، وأمثالها من الكتب الجليلة في هذا الفن، فكان يذكر أولا ما قاله ديسقوريدس من نعته وصفته وأفعاله، ويذكر أيضا ما قاله جالينوس فيه من نعته وأفعاله ومزاجه وما يتعلق بذلك، ويذكر أيضا ما قاله المتأخرون وما اختلفوا، ومواضع الغلط والاشتباه الذي وقع لبعضهم في نعته، فكنت أراجع تلك الكتب معه، ولا يغادر شيئا بما فيها، وأعجب من ذلك أيضا أنه كان ما يذكر دواء إلا ويعين في أي مقالة هو من كتاب ديسقوريدس وجالينوس، وفي أي عدد هو من جملة الأدوية المذكورة، وفي تلك المقالة.
وكان في خدمة الملك الكامل محمد بن أبي بكر بن أيوب، وكان يعتمد عليه في الأدوية المفردة، والحشائش، وجعله في الديار المصرية رئيسا على سائر العشابين، وأصحاب البسطات، ولم يزل في خدمته إلى أن توفي الملك الكامل رحمه الله بدمشق، وبعد ذلك توجه إلى القاهرة ثم خدم الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل، وكان حظيا عنده، مقدما في أيامه، وكانت وفاة ضياء الدين العشاب- رحمه الله- بدمشق في شهر شعبان سنة ست وأربعين وستمائة. وكتابه الجامع في الأدوية المفردة لا يوجد كتاب في الأدوية أجلّ ولا أجود منه، وصنّفه للملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل.(9/613)
قلت: ويحكى أنه سمّ نفسه فمات!.
حدثني الحكيم أمين الدين سليمان بن داود المتطبّب قال: كان الملك الصالح قد أعطى ابن البيطار ألف دينار لينفقها على أثمان أدوية دعت إليها حاجته، واجتناء حشائش شامية ورومية، فلما أتى بيت المقدس رأى امرأة نصرانية اسمها مريم، فأحبّها وأنفق عليها ذلك المال حتى أنفده وأهمل حاجة الملك الصالح، فلما قدم الملك الصالح إما قال: القدس، أو قال: دمشق، لم يكن لابن البيطار دأب ليله أراد الصالح يدخل البلد في صباحها إلا أنه أحضر النصرانية، وبات معها في أكل وشرب واستماع غناء واستمتاع حتى كان الثلث الآخر فأخرج حشيشة معه فسحقها في هون ثم استفها ونام، وقال: غطوني، ثم إذا أصبحتم لا تسحقوا شيئا في الهون حتى تجيدوا غسله فإنه قد صار مسموما، فلم يفهموا مقاله إلى أن أصبحوا فرأوه ميتا، ففهموا ما كان قاله، وغسلوا الهون، فلما دخل السلطان سأل عنه فحكيت إليه القصة فقال: لقد أساء بنا الظن وأين مثله لأشتريه بشطر ملكي، والله لو علمت لأعطيته عشرة آلاف دينار يصرفها في لذته، وكان أمتعنا بنفسه.
قلت: ويحكى أنه ترك عقاقير كثيرة ومفردات عدة لم يذكرها في كتابه الجامع ضنا بها، وبخلا على غيره بمعرفتها. قال لي الحكيم صلاح الدين ابن البرهان: كان ابن البيطار يعرف مما يدخل في علم الكيمياء أشياء لم يذكره في جامعه.
قلت: وابن البرهان كان مغرى بالكيمياء، مصدقا بعلمها وإن كان لا يعملها بيده، ولهذا أظنه قال ما قال: [الوافر]
وكل يدعي وصلا بليلى ... وليلى لا تقر لهم بذاك(9/614)
ومنهم:
189- علي بن أبي الحزم: علاء الدين ابن النفيس القرشي الدمشقي «13»
فرد الدهر وواحده، وأخو كل علم ووالده، إمام الفضائل، وتمام الأوائل، والجبل الذي لا يرقى علاه بالسلالم، والحبل الذي لا يعلق به إلا الغريق السالم، لم يبق إلا من اغترف منه غرفة بيده، وأخذ منه حلية لمقلده، حلّ مصر في محل ملكها، ونسخت لياليها بإشراقه صبغة حلكها، وقرأ عليه بها الأعيان وكلأ فضله وأعان، ولم يكن على علم واحد بمقتصر، ولا شبهه بالبحر إلا مختصر، هذا إلى حسب غير مرءوس، وحسب مثل جناح الطاووس، وشرف قرشي لا يحل معه في بطحائه، ولا يحث في البيد قلاص بطائه، زكا محتدا، وزها بيتا لم يضرب غير متوسط السماء وتدا، وكمّل ذاته بكرم وخير، ومجد في أول وأخير، ومزايا استحقاق وسجايا كحواشي النسيم الرقاق، ومحاسن كطوالع النجوم ما فيها شقاق.
قال ابن أبي أصيبعة «1» :" نشأ بدمشق واشتغل بها في الطب على المهذّب(9/615)
الدخوار منجبا، تخرج عليه جماعة منهم: الرضي وابن قاضي بعلبك، والشمس الكلي، وكان علاء الدين إماما في علم الطب لا يضاهى في ذلك ولا يدانى، استحضارا واستنباطا، واشتغل على كبر وله فيه التصانيف الفائقة والتواليف الرائقة.
صنف كتاب" الشامل" في الطب، تدل فهرسته على أنه يكون في ثلاث مائة سفر، هكذا ذكر بعض أصحابه، وبيّض منها ثمانين سفرا، وهي الآن وقف بالبيمارستان المنصوري بالقاهرة، وكتاب" المهذب" في الكحل، و" شرح القانون" لابن سينا، في عدة أسفار، وغير ذلك في الطب، وهو كان الغالب عليه.
وأخبرني شيخنا أبو الثناء محمود أنه كان يكتب إذا صنف من صدره، من غير مراجعة حال التصنيف، وله معرفة بالمنطق، وصنف فيه مختصرا، وشرح الهداية لابن سينا في المنطق، وكان لا يميل في هذا الفن إلا إلى طريقة المتقدمين كأبي نصر، وابن سينا، ويكره طريقة الأفضل الخونجي «1» ، والأثير الأبهري «2» ، وصنف في أصول الفقه، والفقه، والعربية، والحديث، وعلم البيان، وغير ذلك، ولم يكن في هذه العلوم بالمتقدم إنما كان له مشاركة ما، وقد أحضر من تصنيفه في العربية كتابا في سفرين أبدى فيه عللا تخالف كلام أهل الفن، ولم يكن قرأ في هذا الفن سوى" الأنموذج" للزمخشري، قرأه على ابن النحاس، وتجاسر به على أن صنف في هذا العلم، وعليه، وعلى العماد النابلسي تخرج الأطباء بمصر والقاهرة، وكان شيخا طوالا، أسيل الخدين، نحيفا، ذا مروءة.(9/616)
وحكي أنه في علّته التي توفي فيها أشار عليه بعض أصحابه الأطباء بتناول شيء من الخمر! إذ كان صالحا لعلته على ما زعموا، فأبى أن يتناول شيئا منه، وقال: لا ألقى الله تعالى وفي باطني شيء من الخمر.
وكان قد ابتنى دارا بالقاهرة وفرشها بالرخام حتى إيوانها، وما رأيت إيوانا مرخما في غير هذه الدار، ولم يكن مزوجا. ووقف داره وكتبه على البيمارستان المنصوري، وكان يغض من كلام جالينوس، ويصفه بالعي والإسهاب الذي ليس تحته طائل، وهذا بخلاف النابلسي فإنه كان يعظّمه ويحث على قراءة كلام جالينوس.
وكان علاء الدين قد نزل يدرس بالمسرورية بالقاهرة «1» في الفقه، وذكروا أنه شرح في أول التنبيه إلى باب السهو شرحا حسنا، ومرض رحمه الله تعالى ستة أيام أولها يوم الأحد، وتوفي سحر يوم الجمعة الحادي والعشرين من ذي القعدة سنة سبع وثمانين وستمائة بالقاهرة.
قال أبو الصفاء: أخبرني الإمام العلامة الشيخ برهان الدين الرشيدي خطيب جامع أمير حسين بالقاهرة قال: كان العلاء ابن النفيس إذا أراد التصنيف توضع له الأقلام مبرية، ويدير وجهه إلى الحائط ويأخذ في التصنيف إملاء من خاطره، ويكتب مثل السيل إذا تحدّر، فإذا كلّ القلم وحفي رمى به وتناول غيره لئلا(9/617)
يضيع عليه الزمان في بري القلم.
قلت: وبهذا حدّثني شيخنا أبو الثناء محمود: قال أبو الصفاء: وأخبرني شيخنا نجم الدين الصفدي أن ابن النحاس كان يقول: لا أرضى بكلام أحد في القاهرة في النحو غير كلام ابن النفيس، أو كما قال.
وقد رأيت له كتابا صغيرا عارض به رسالة حي بن يقظان لابن سينا، ووسمه بكتاب:" فاضل بن ناطق"، وانتصر فيه لمذهب أهل الإسلام وآرائهم في النبوات والشرائع، والبعث الجسماني، وخراب العالم. ولعمري لقد أبدع فيها ودلّ ذلك على قدرته وصحة ذهنه، وتمكنه من العلوم العقلية.
وأخبرني السديد الدمياطي الحكيم بالقاهرة، وكان من تلاميذه قال: اجتمع ليلة هو وابن واصل «1» ، وأنا نائم عندهما، فلما فرغا من صلاة العشاء الآخرة شرعا في البحث وانتقلا من علم إلى علم، والشيخ علاء الدين كل ذلك يبحث برياضة ولا انزعاج، وأما القاضي جمال الدين فإنه ينزعج ويعلو صوته، وتحمر عيناه، وتنتفخ عروق رقبته، ولم يزالا كذلك إلى أن أسفر الصبح، فلما انفصل الحال قال القاضي جمال الدين: يا شيخ علاء الدين، أما نحن فعندنا مسائل ونكت وقواعد، وأما أنت فعندك خزائن علوم.
وقال أبو الصفاء: قال السديد أيضا: قلت يا سيدي لو شرحت" الشفاء" لابن سينا، كان خيرا من شرح" القانون" لضرورة الناس إلى ذلك. فقال:" الشفا"(9/618)
عليّ فيه مواضع تريد أيتها؟. قلت: يريد أنه ما فهم تلك المواضع لأن عبارة الرئيس في" الشفا" غلقه.
قال: وأخبرني آخر قال: دخل الشيخ علاء الدين مرة إلى الحمام التي في باب الزهومة، فلما كان في بعض تغسيله خرج إلى مسلخ الحمام واستدعى بدواة وقلم وورق، وأخذ في تصنيف مقالة في النبض إلى أن أنهاها، ثم عاد ودخل الحمام وكمل تغسيله!.
وقيل: إنه قال: لو لم أعلم أن تصانيفي تبقى بعدي عشرة آلاف سنة ما وضعتها، والعهدة في ذلك على من نقله عنه.
وعلى الجملة كان إماما عظيما وكبيرا من الأفاضل جسيما، وكان يقال: هو ابن سينا الثاني.
قال: ونقلت من ترجمته في مكان لا أعرف من هو الذي وضعه، قال: شرح" القانون" في عشرين مجلدا شرحا حلّ فيه المواضع الحكمية، ورتّب فيه القياسات المنطقية، وبين فيه الإشكالات الطبية، ولم يسبق إلى هذا الشرح لأن قصارى كل من شرحه أن يقتصر على الكليات إلى نبض الحبالى، ولا يجري فيه ذكر الطب إلا نادرا، وشرح كتب بقراط كلها، ولأكثرها شرحان؛ مطوّل ومختصر، وشرح" الإشارات" وكان يحفظ:" كليات القانون" ويعظم كلام بقراط، ولا يشير على مشتغل بغير القانون، وهو الذي جسّر الناس على هذا الكتاب، وكان لا يحجب نفسه عن الإفادة ليلا ولا نهارا، وكان يحضر مجلسه في داره جماعة من الأمراء، والمهذب ابن أبي حليقة رئيس الأطباء، وشرف الدين ابن صغير، وأكابر الأطباء، ويجلس الناس في طبقاتهم، ومن تلاميذه الأعيان: البدر حسن الرئيس، وأمين الدولة ابن القف، والسديد الدمياطي، وأبو(9/619)
الفرج الإسكندري، وأبو الفرج ابن صغير.
وحدثني عنه غير واحد منهم شيخنا أبو الفتح اليعمري قال: كان ابن النفيس على وفور علمه بالطب وإتقانه لفروعه وأصوله قليل البصر بالعلاج، فإذا وصف لا يخرج بأحد عن مألوفه، ولا يصف دواء ما أمكنه أن يصف غذاء، ولا مركبا ما أمكنه الاستغناء بمفرد، وكان ربما وصف القمحية لمن شكا القرحة، والتطماج لمن شكا هواء، والخروب «1» والقضامة لمن شكا إسهالا، ومن هذا ومثله ولكل بما يلائم مأكله ويشاكلها، حتى قال له العطار الشرابي الذي كان يجلس عنده: إذا أردت أنك تصف مثل هذه الوصفات اقعد على دكان اللحام، وأما إذا قعدت عندي فلا تصف إلا السكّر والشراب والأدوية.
وحكى لي شيخنا أبو الثناء الحلبي الكاتب قال: شكوت إلى ابن النفيس عقالا «2» في يدي، فقال لي: وأنا والله بي عقال، فقلت له: فبأي شيء أداويه؟.
فقال لي: والله ما أعرف بأي شيء أداويه!، ثم لم يزدني على هذا.
ومنهم:
190- أحمد المغربي «13»
شهاب الدين والد الرئيس جمال الدين إبراهيم ابن المغربي رئيس الأطباء بمصر والشام، وإليه انتهت الحشمة والاحتشام. كوكب الفضائل الطالع نيرا، والمشرق قمرا منورا.(9/620)
أخذ من كل العلوم الحكمية بنصيب موفّر الأجزاء، موفّر الجناب، يعزى إليه بالاعتزاء.
قدم مصر واستوطنها، وقطع بفضله من قطنها، وكان فريدا في أنواع العلم، إلا أنه عرف بالطب أكثر من بقية ما عرف به من المعارف، وحصل من التالد والطارف «1» ، وخدم السلطان وتقدم الرهط، وتفرد في جماعة الأطباء، وأقرأ العلم وأفاد، وباشر المرضى وأحسن العلاج، وعدّل منحرف كل مزاج، وكان وافر الحظ من السلطان والأمراء والوزراء، وسائر الكبراء، وكان بصيرا بالنجامة، متقدما في علمها، وكان يتكلم فيها مع السلطان وأرباب الدولة، وحصل النعم الجمّة، والأموال الجزيلة، وخدم بنوه السلطان، وتقدموا في الخدم، وصحب ابنه جمال الدين السلطان حين همّ بالحج أيام سلطنته الثانية، فلما أقام بالكرك أقام معه، وترك أسبابه وراءه بمصر منقطعة، فرعى له السلطان حق انقطاعه، وزاد في قدر إقطاعه، وولاه الرياسة حتى تجاوز قدر الرؤساء، وقرّبه حتى كان من أخصّاء الجلساء، وكان لا يزال يفاوضه في كل حديث ويطلعه على أكثر الأمور، ورفع إليه يوما الصلاح ابن البرهان قصة يسأل فيها الإعفاء من وظيفته في الطب بالخدمة، وكنت سفيره فيه، فقال لي السلطان: هذا الصلاح أفضل من إبراهيم- يعني ابن المغربي- وما يطلب ترك الخدمة إلا لأجله، لكونه مقدّما عندنا عليه، فقل له: نحن نعرف فضيلتك وكبر قدرك، وإنك أفضل من إبراهيم وأكبر، ولكن إبراهيم له علينا حق الخدمة من وقت كنا في الكرك، وهو صاحبنا ما هو طبيب عندنا. فبلّغته الرسالة بنصّها، فسكت على مضض!.(9/621)
قلت: هذا قول السلطان، وأما الرئيس جمال الدين إبراهيم فإنه من أعيان الأطباء، وأهل الفضل والتقدم في العلم والعمل في الطب وصناعته، والاجتهاد دائما في توفير بضاعته، ولهذا اكتفيت عن إفراده بترجمة.
ومنهم:
191- السديد الدمياطي «13»
اليهودي، يعرف بابن كوجك. وبنو كوجك وبنو صغير أهل بيت واحد، وهم من يهود بلاد العجم، وكلهم كانوا لا يعرفون إلا ببني كوجك، وكوجك باللغة العربية: صغير «1» ، فلما قدموا مصر عرّب فريق منهم اسم جدهم المنسوبين إليه وبقي فريق على اسمه الأعجمي، وكان" السديد" شديد المقال، مديد المجال، جالينوس زمانه في الطب الذي لم يبلغ، والعلم الذي لم يدرك.
قرأ على ابن النفيس، والنابلسي، وعلى ابن النفيس أكثر، ومن مدده استكثر.
أتقن الحكمة والطب، وأخذ من كل فن بطرف، وأذعن كل فاضل له واعترف، وكان يحفظ غالب ديوان أبي الطيب المتنبي، بل كله، وينشد منه، ويستشهد به في موضعه إذا تكلم، وخدم السلطان، وتقرّر لديه فضله، واستقرّ في كل خاطر أنه لا نظير له في الدهر، وتنافست الأمراء وأكابر الدولة في معالجته، وكانت الأطباء إذا اختلفت في حدس مرض أو وصف دواء عادوا إلى(9/622)
رأيه، ورجعوا إلى قوله، فإذا قال سكت كل قائل، وسلّم كل منازع، وكانوا إذا عرض للسلطان مرض وحضروا عنده تقدم السديد فأمسك يد السلطان وجسّ نبضه قبل الرئيس، وقبل كل أحد، وكان الرئيس هو السائل عن الأعراض بحضوره، ثم تحصل الشورى بينهم على ما يوصف، ويكون مدار الكل على كلام السديد، واعتماد السلطان عليه دون الكل.
وكان السديد رجلا عاقلا ساكنا لا يكاد يتكلم، حتى إذا تكلم كان البحر الزاخر، والسيل المنحدر، والضرام المتّقد، والأسد الصؤول، إلى نقول يستحضرها، وبحوث يحررها، وتجارب يذكرها.
وكانت له يد في علم الموسيقى والطرب، رأيت ابن كرّ «1» يصفه ويثني على علمه وينصفه. وكان على هذا الفضل الغزير والمدد الوافر لا يتوسع في الوصف ولا يخرج عن الجادة، ولا يعدل عن المعهود، ولا يرى التفقه في الطب كما كان عليه فرج الله بن صغير «2» ، وكان السديد اجتهاده لنفسه، وفرج الله اجتهاده للعليل، على أن السديد كان إذا لم يشاركه طبيب آخر يطبّب تطبيبا مستقصى، وإن لم يتوسع، فأما إذا شورك سكت وجمد واكتفى بقول المشارك له، وإن كان عنده في الباطن خلافه، وبالجملة كان من الأفراد، وممن يقدم إذا حضرت الأفاضل بالأعداد.(9/623)
ومنهم:
192- فرج الله بن صغير
طبيب لو حضر معه ابن ماسويه لما مسّ العلاج، أو أبو قريش «1» لما أقرّ له ابن اللجلاج «2» ، أو استشعر به حنين بن إسحاق «3» لحنّ إلى لقائه، أو كان في زمانه ابن الأشعث للمّ شعثه ببقائه، لنفع لو كان للمطجّن لأكل جديه الحنيذ «4» ، أو لأمين الدولة لكان عنده ابن التلميذ «5» ، وصدق ودّ لو أنه لابن كلدة لو كل إليه الوفاء، أو لسني لابن سيناء لنسب إليه دون الشفا، ولم يكن شرواه «6» في مداواة سقام، ومدافعة سمام، بملاطفة ما حظي بها النسيم، ولا عبث بشبهها في ملاعبه عطف الروض النسيم.
قال لي: إنه قرأ على أبيه وعلى ابن النفيس، وتلك الطبقة، واقتصر على علم الطب وحقّقه، وأذن له في الكحل ثم في الطب، وجلس للتطبيب، وعاد المرضى، وظهر أثر علمه، وكثر النفع به، وبرء المرضى على يده.
وخدم السلطان وأطلق له المعلوم الوافر والراتب الكامل، وتفرد بخدمة بكتمر(9/624)
الساقي «1» ، وكان يعتمد عليه دون سائر الأطباء، ويعمل بقوله في معالجته ومعالجة ولده وحريمه، وخواصه، وأعزائه. وكان سلطاننا الملك الناصر يثق به وأفرده بعد بكتمر الساقي لخدمة الدور السلطانية والنساء والحرم، مع مشاركة الجماعة في مباشرة طبه والحضور عنده، ولم يزل موفّر الحظ من الإكرام، وكانت بيننا وبينه صحبة، وله بنا خصوصية، وله من حسن الملاطفة في العلاج ما لم يكن لأحد سواه، وكان في هذا غاية.
جرى ذكره عند الحكيم الفاضل ناصر الدين محمد بن صغير، وهو عليل بدمشق، فقال: من كان مثل الحكيم فرج الله؟. وأخذ في وصفه ووصف فضيلته والثناء عليه، وبالغ في هذا وأطنب فيه، فقال له بعض من حضر: فكيف كان السديد الدمياطي؟. فقال: كان السديد يعمل في ما يصفه مصلحته، وفرج الله يعمل مصلحة المريض.
قلت: والأمر هو على ما قاله، فإن السديد قلّ أن كان يخوض الغمرات في الوصف، وفرج الله يخوض الغمرات في الوصف، ويودّ لو نزع من جسده ثوب العافية وألبسه المريض، وإذا كره المريض أو من حضره غذاء أو دواء، أبدله بغيره فإن كرهوا أبدله بغيره، يفعل هكذا حتى يصيب موافقة من رضاهم أو مقاربة، وكان يرى أن هذا أجدى في نفع المريض، وكانت له معالجات موافقة، وإصابات في تقدم المعرفة خارقة.(9/625)
حكى لي غير واحد من جيراننا بالقاهرة أنه كان معودا بمعالجة رجل بسويقة الصاحب، وقد عرف مزاجه ودربه، فمرّ به ذات يوم وهو راكب على حماره قد نزل من القلعة على بيته، فرأى ذلك الرجل جالسا على باب المدرسة الصاحبية «1» ، فوقف فرج الله قدامه، وذلك الرجل لا يشعر به، وأطال فرج الله النظر إليه، والتأمّل إلى سحنته، وهو صحيح سوي، لا يشكو مرضا ولا عرضا، ثم قال له: يا فلان هل عضّك في هذه الأيام كلب قطّ؟. فقال له: نعم، من أيام قلائل. فقال له: قم اقعد في بيتك والحق نفسك بالمداواة، ثم ساق حماره وأتى إلى أهل بيت الرجل، وقال لهم: اعلموا أنني رأيت صاحبكم ورأيت عليه علائم الكلب، فسألته إن كان عضّه كلب؟ فقال: نعم. فأمرته بأن يقعد في بيته، ويلحق نفسه بالمداواة والطب، فالله الله فيه والله الله في أنفسكم، فإنه قد كلب ويوشك أن يجفل من الماء بعد كذا وكذا يوم، ثم يموت بعد كذا وكذا!. فكان الأمر كما ذكره لم يخرم في شيء منه.
ولما اعتلّ والدي- رحمه الله- العلّة التي مات فيها كان أولها انصباب مادّة بلغمية إلى يده، فورمت منها يده، وهو ونحن لا نكترث بذلك ولا يهمنا، والأطباء تتردّد إليه في كل صباح ومساء لمعالجته، وفرج الله منهم، فأصبح ذات يوم وقد تصرّف الورم بجملته من يده وأصبح بارئا لا يشك في ذلك نحن ولا الأطباء، وكان منهم ابن البرهان، والسديد الدمياطي، فلما انصرفوا قال لي فرج الله: اعلم أن هذه المادة لم تتصرف، وإنما انصبّت بجملتها إلى مكان استضعفته من الأعضاء الباطنة، وأكبر ظني أن تكون انصبّت إلى قصبة الرئة، ولئن كان(9/626)
كذلك ليعرضن له آخر هذا اليوم ضيق نفس، ثم قلّ أن تنجع معالجته مع ما بلغه من هذا السن، فلم يأت آخر ذلك اليوم إلا وقد عرض له مبادي ضيق نفس، ثم لم يزل يتزايد إلى أن أتى عليه يوم لم نشك أنه لا يخرج عنه، فلما أتاه ورأى ماءه واستقرى أعراضه ووصف له ما وصف وقام، وذلك يوم نصف شعبان.
قلت له: تقول يمسي عليه المساء؟. قال: نعم، ويمسك إلى آخر هذا الشهر، إلى خمسة، ستة أيام أخرى في شهر رمضان. فكان الأمر كما ذكره لم يخرم!.
قلت: وقلّ أن وصف لي دواء إلا وبين أثره ليومه، ثم حمدت عاقبته فيما بعد.
وعرض لي مرة دوار صفراوي، فأمر بماء فأسخن فوق الإسخان المستطاب، ثم شدّ قدمي بأنشوطة من فوق الكعبين، وأمر بتدليتهما في ذلك الماء، وتعجيل حل الأنشوطة عند تدليتهما في الماء، ففعل ذلك، ثم أمر بإطالة اللبث، ثم حكّهما بالحجر الخشن والملح والنخالة، فلم يكن بأسرع من زوال ذلك الدوار لانعكاس المادة، وتفتّح المسام في سفل القدم، وأثّر ذلك لساعته.
ولما أردت الحج في حجتي الثالثة كان الزمان صيفا، والحر شديدا إلى غاية، فسألته عما اعتمدته؟. فقال لي: إذا خفت الحرّلتّ «1» بزرقطونا «2» بماء، ثم أضف إليه شيئا من الخل الحاذق «3» الثقيف «4» ، وضمّد به صدرك ورقبتك،(9/627)
فإنك لا تبالي بالحر!. فو الله لقد كنت أنا ومن معي نعمله ونركب في الهواجر المتّقدة والقيظ المضطرم، ونحن نظن أن على صدورنا قطع الثلج، لا نحسّ ما الحر، وما ندري ما السموم، إلى غير هذا مما كان فيه من الفضائل وما فاق به الأنظار وفاق الأماثل. فليت الشمس لو أبقته قليلا، ووا أسفا على مثله كيف مات على اليهودية.
ومنهم:
193- محمد بن صغير، ناصر الدين
طبيب جامع، ولبيب بشرق كلماته في المسامع، وفاضل لم يقصّر في نوع من الفضائل على كثرة تشعّبها، مع أخلاق لو تخلّقت بها المدام لما قطّب شاربها، ولما قدر أن يذكرها عائبها.. إلى فضائل شريفة، وشمائل ظريفة، وأخوّة صحيحة الإخاء، صريحة الانتحاء، وقول جزم أنه قد أصبح اليوم فردا واحدا لما جمع من شتّى المحاسن، وكمال الأوصاف.
قرأ العلم واشتغل به، وخدم السلطان، وباشر المرستان، وقرأ النحو والأدب، وتطبّع به حتى صار خلقا له، وله في حسن العلاج يد طويلة، وآثار جميلة، وأفعال حسنة مشكورة، وهو يرى لطف التدبير في معالجة المرضى، وعدم الإقدام عليهم بالأدوية، وكان السلطان يشكره ويثني على نشأته الحسنة، إلى غير هذا مما يتفكّه به من جني الألسنة.(9/628)
آخر الجزء الثامن من كتاب: «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار» ويتلوه إن شاء الله تعالى: «وممن يعدّ مع الحكماء: أهل علم الموسيقى» والحمد لله رب العالمين «1» .(9/629)
مصادر التحقيق
1- الإعلام بوفيات الأعلام.
2- الأعلام لخير الدين الزركلي.
3- إغاثة اللهفان لابن قيم الجوزية.
4- الإكمال لابن ماكولا.
5- الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي.
6- الأنساب للسمعاني.
7- إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون للبغدادي.
8- البداية والنهاية لابن كثير.
9- بغية الطلب لابن العديم.
10- بغية الوعاة في طبقات النحاة لابن القفطي.
11- تاريخ ابن الفرات.
12- تاريخ ابن الوردي.
13- تاريخ الإسلام للإمام الذهبي.
14- تاريخ الحكماء للشهرستاني.
15- تاريخ الحكماء للقفطي.
16- تاريخ الخلفاء للإمام السوطي.
17- تاريخ الزمان للعبري.
18- التاريخ المظفري لابن أبي الدم.
19- التاريخ المنصوري.
20- تاريخ حكماء الإسلام للبيهقي.
21- تاريخ مختصر الدول للعبري.
22- تاريخ مختصر الدول.(9/631)
23- تراث العرب العلمي لطوقان.
24- التعريف بمصطلحات صبح الأعشى.
25- التقييد لابن نقطة.
26- تكملة إكمال الإكمال لابن الصابوني.
27- خزانة الأدب للبغدادي.
28- الدارس في تاريخ المدارس للنعيمي.
29- ديوان ابن الأبار الأندلسي.
30- ديوان ابن النواس.
31- ديوان ابن عنين- تحقيق خليل مردم بك.
32- ديوان الطغرائي.
33- ديوان المتنبي بشرح البرقوقي.
34- ديوان كثير عزة.
35- ذيل تاريخ بغداد لابن الدبيثي.
36- روضات الجنات للخوانساري.
37- الروضتين لابن أبي شامة، وذيله.
38- سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي.
39- شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي.
40- الشقائق النعمانية لطاش كبري زاده.
41- صبح الأعشى للقلقشندي.
42- صوان الحكمة للسجستاني.
43- طبقات الأمم لصاعد.
44- طبقات الحكماء لابن جلجل.
45- طبقات الشافعية الكبرى للسبكي.(9/632)
46- طبقات الشافعية لابن دقماق.
47- طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة.
48- طبقات الشافعية لابن هداية الله.
49- طبقات الشافعية للإسنوي.
50- طبقات الفقهاء لطاش كبري زاده.
51- طبقات المفسرين للإمام السيوطي.
52- العبر للإمام الذهبي.
53- عقود الجوهر للعظم.
54- عيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة.
55- الفلاكة والمفلوكون للدلجي.
56- فهرست ابن النديم.
57- الفهرست لابن النديم.
58- فواصل السمر في فضائل آل عمر لابن فضل الله العمري.
59- القاموس المحيط للفيروزآبادي.
60- قصد السبيل للمحبي.
61- القضاة الشافعية للنعيمي.
62- قضاة دمشق للنعيمي.
63- الكامل في التاريخ لابن الأثير.
64- الكتاب الذهبي للمهرجان الألفي لابن سينا.
65- كشف الخفاء ومزيل الإلباس للإمام العجلوني.
66- كشف الظنون لحاجي خليفة.
67- كنوز الأجداد لمحمد كرد علي.
68- لسان العرب لابن منظور.(9/633)
69- مؤلفات ابن سينا لأمين مرسي قنديل.
70- مؤلفات ابن سينا لجورج قنواتي.
71- المختار من تاريخ ابن الجزري.
72- معجم الأدباء لياقوت الحموي.
73- معجم الأدباء لياقوت الحموي.
74- معجم البلدان لياقوت الحموي.
75- معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة.
76- معجم المطبوعات ليوسف اليان سركيس.
77- المعرب للجواليقي.
78- مفتاح السعادة لطاش كبري زادة.
79- المقفى الكبير للمقريزي.
80- المنهل الصافي للصفدي.
81- ميزان الاعتدال للذهبي.
82- النجوم الزاهرة لابن تغري بردي.
83- نزهة الأرواح للشهرزوري.
84- نصارى بغداد لبابو إسحاق.
85- النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير الجزري.
86- هدية العارفين للبغدادي.
87- الوافي بالوفيات لابن شاكر الكتبي.
88- الوافي بالوفيات للصفدي.
89- وفيات الأعيان لابن خلكان.
90- الوفيات لابن قنفذ.
91- يتيمة الدهر للثعالبي.
وغيرها كثير ذكر كل في موضعه.(9/634)
الفهرست
مقدمة 9
هرمس الأول 15
هرمس الثاني 17
هرمس الثالث 18
فيثاغورس 20
5- سقراط 23
6- أفلاطون 28
7- أرسطوطاليس 31
8- يعقوب بن اسحاق الكندي 39
9- أحمد بن الطيب السرخسي 42
10- كنكه الهندي 43
11- صنجهل الهندي 44
12- أبو نصر الفارابي 45
13- يحيى بن عدي 54
14- أبو بكر محمد بن زكرياء الرازي 55
15- أبو سليمان السجستاني 59
16- ابن الخمار 62
17- أبو الفرج بن هندو 64
18- الشيخ الرئيس أبو على الحسين 69
19- أبو الفرج عبد الله بن الطيب 102
20- أبو المؤيد محمد بن المجلي 105
21- ابن الخطيب الرازي 110(9/635)
22- إبراهيم بن علي بن محمد السلمي 127
23- عبد اللطيف البغدادي 128
24- ابن الخوييّ شمس الدين أبو العباس 157
25- الرفيع الجيلي 160
26- الشهاب السهروردي 163
27- الخسرو شاهي (عبد الحميد بن عيسى) 175
28- السيف الآمدي 179
29- البديع الأصطرلابي 183
30- ابن الشبل البغدادي 185
31- النصير الطوسي 194
32- القطب الشيرازي 203
33- الشيخ صفي الدين الهندي 205
34- علاء الدين التبريزي 206
35- جلال الدين القزويني 211
36- السيد العبري برهان الدين 226
37- الشيخ شمس الدين الأصفهاني 229
38- يحيى بن يحيى (ابن السمينه) 253
39- ابن المجريطي 255
40- أبو القاسم أصبغ (ابن السمح) 256
41- أبو الحكم الكرماني 259
42- ابن واقد 260
43- محمد بن يوسف المنجم 262
44- أبو بكر باجة 263(9/636)
45- المبشر بن فاتك 267
46- الحفيد أبو بكر محمد 269
47- ابن القوبع محمد بن محمد بن عبد الرحمن 274
48- ابن البرهان الجرائحي 282
49- ابن الأكفاني 288
50- اسقليبوس بن ريوس 294
51- أيلق 297
52- الحارث بن كلدة الثقفي 301
53- النضر بن الحارث 314
54- عبد الملك بن ابجر الكناني 317
55- ابن اثال 318
56- أبو الحكم 318
57- حكم الدمشقي 324
58- عيسى بن حكم الدمشقي 327
59- تياذوق 331
60- زينب طبيبة بني أود 335
61- جورجيس بن جبريل 337
62- بختيشوع بن جرجس النصراني 340
63- جبريل بن بختيشوع 342
64- بختيشوع بن جبريل 350
65- جبيرائيل بن عبيد الله 366
66- خصيب النصراني 368
67- عيسى المعروف بأبي قريش 369(9/637)
68- ابن اللجلاج 373
69- عبد الله الطبقوري 374
70- إسرائيل بن زكريا 376
71- يزيد بن يوحنا 378
72- عبدوس بن يزيد 382
73- ماسرجوية 384
74- سلموية بن بنان 387
75- إبراهيم بن فزارون 388
76- إبراهيم بن أيوب 390
77- ماسويه أبو يوحنا 391
78- يوحنا بن ماسويه 393
79- ميخائيل بن ماسويه 408
80- حنين بن إسحاق 409
81- إسحاق بن حنين 413
82- يوحنا بن بختيشوع 415
83- ثابت بن قرة الحراني 416
84- سنان بن ثابت 420
85- ثابت بن إبراهيم 423
86- ابن وصيف الصابئ 427
87- غالب 428
88- صاعد بن بشر 429
89- ديلم 433
90- فنون المتطبب 434(9/638)
91- نظيف (القس الرومي) 435
92- ابن بطلان 437
93- أحمد بن أبي الأشعث 348
94- أبو سهيل النيلي 439
95- ابن الواسطي 440
96- أبو طاهر البرخشي 441
97- أبو غالب بن صفيه 442
98- أمين الدولة ابن التلميذ 444
99- أبو الفرج يحيى بن صاعد 450
100- أبو البركات 452
101- أبو القاسم هبة الله 456
102- فخر الدين المرديني 460
103- نصر المسيحي 461
104- أبو الفرج بن توما 465
105- تياذورس 469
106- ابن الطبري 469
107- علي بن سهل بن ربن 470
108- أحمد بن محمد الطبري 471
109- الحسن بن نوح القمري 472
110- أبو سهل عيسى بن يحيى 473
111- السيد أبو عبد الله محمد 474
112- أبو الريحان البيروني 475
113- أحمد بن عبد الرحمن بن مندويه 476(9/639)
114- أبو القاسم عبد الرحمن 477
115- السموأل بن يحيى 478
116- الشريف شرف الدين إسماعيل 479
117- شاناق الهندي 483
118- منكه الهندي 484
119- صالح بن بهلة الهندي 486
120- أبو الفرج جرجس 491
121- ظافر بن جابر السكري 498
122- أبو الحكم عبيد الله 499
123- أبو المجد محمد بن أبي الحكم 501
124- ابن البذوخ 502
125- أبو الفضل عبد المنعم بن عمر 503
126- المهذب بن النقاش 504
127- سكرة اليهودي الحلبي 506
128- اسعد بن إلياس 507
129- ابن اللبودي 509
130- الرضي الرحبي 512
131- الشرف علي شرف الدين 514
132- عمران بن صدقة 516
133- موفق الدين 518
134- رشيد الدين الصوري 520
135- سديد الدين بن رقيقة 522
136- صدقة بن منجا 525(9/640)
137- المهذب بن يوسف 527
138- أمين الدولة أبو الحسن 528
139- المهذب الدخور 531
140- الرشيد علي بن حليقة 535
141- المظفر بن عبد الرحمن 537
142- العماد الدنيسري 540
143- عز الدين أبو إسحاق 542
144- موقف الدين يعقوب 543
145- أبو الفرج يعقوب بن القف 544
146- المهذب يوسف 546
147- النفيس أبو الفرج 547
148- الأمين سليمان، الحكيم 548
149- أحمد بن شهاب الدين 552
150- الفتح السامري 552
151- غنائم السامري 554
152- إسحاق بن عمران 555
153- إسحاق بن سليمان 556
154- ابن الجزار القيرواني 556
155- حمدون أثا 560
156- يحيى بن إسحاق 561
157- ابن جلجل الحكيم 562
158- أبو جعفر يوسف بن أحمد 564
159- الغافقي 565(9/641)
160- أبو عتيق بن تمام الأزدي 566
161- أبو محمد المصري 568
162- أبو الصلت أمية بن عبد العزيز 571
163- أبو مروان الإشبيلي 578
164- أبو العلاء زهر بن عبد الملك 579
165- أبو مروان ابن أبي العلاء 581
166- أبو محمد بن الحفيد 583
167- أبو جعفر بن الغزال 585
168- أبو العباس ابن الرومية 586
169- ابن الأصم 587
170- بليطيان 588
171- سعيد بن توفيل 590
172- سعيد بن البطريق 592
173- أبو عبد الله التميمي 593
174- ابن الهيثم البصري 596
175- علي بن رضوان 597
176- زفرائيم بن الزفان 598
177- سلامة بن رحمون أبو الخير 599
178- نصر بن محمود بن المعرف 601
179- أبو عمرو بن عثمان القيسي 603
180- فتح الدين بن جمال 603
181- شهاب الدين بن فتح الدين 604
182- الخونجي محمد بن ناماور 604(9/642)
183- أبو سليمان داود 605
184- الموفق أبو شاكر موفق الدين 606
185- الرشيد أبو حليقة 607
186- أبو سعيد محمد بن أبي حليقة 610
187- أبو سعيد بن موفق الدين يعقوب 611
188- ابن البيطار 612
189- علاء الدين بن النفيس 615
190- أحمد المغربي 620
191- السديد الدمياطي 622
192- فرج الله بن صغير 624
193- محمد بن صغير، ناصر الدين 628(9/643)
[الجزء العاشر]
مسالك الأبصار في ممالك الأمصار(10/3)
صورة غلاف الجزء العاشر من مسالك الأبصار(10/5)
صورة الصفحة الأولى من المخطوطة فيها بداية الكتاب وختمان وتمليك الكتاب(10/6)
صورة الصفحة الثانية من الكتاب وفيها المصطلحات الموسيقية القديمة(10/7)
صورة الصفحة 252 وفي السطر الأخير بيان بنهاية الاختيار من كتاب أبي الفرج الأصفهاني(10/8)
صورة الصفحة 253 وفي أعلاها تعليق علي الحموي الحنفي(10/9)
صورة الصفحة 420(10/10)
صورة الصفحة 421 وهي ما قبل الأخيرة(10/11)
صورة الصفحة الأخيرة من الجزء العاشر وهي نهاية الجزء الخاص بالأغاني وفيها أشعار المصنف ابن فضل الله العمري(10/12)
المقدمة
هذا هو الجزء (السفر) العاشر من كتاب مسالك الأبصار في ممالك الأمصار للعالم الأديب البارع شهاب الدين أحمد بن يحيى بن فضل الله العمري المتوفى سنة 749 هـ، ويشتمل هذا الجزء على الغناء والموسيقا، وتراجم المغنين والمغنيات، وما يتعلق بذلك من شعر وأخبار وأحاديث مجالس الطرب. والكتاب ثروة أدبية وفنية نفيسة، وصورة من صور الحضارة الإسلامية في أزهى مظاهرها، على مدى ستة قرون أو تزيد، وقد جمع فيه المصنّف من الأشعار والأخبار وتراجم المغنين والمغنيات والشعراء والخلفاء والأمراء والوزراء وبقية الأعلام الكثير الغزير، فجاء بكل رائع ونفيس، وقد حفظ شعرا مختارا جيدا، كما حفظ كثيرا من الشعر الضائع أو المجهول الذي لم تحوه الكتب والدواوين التي وصلتنا، وحفظ كذلك تراجم المغنين والمغنيات الذين لم تصل تراجمهم وضاعت أخبارهم فيما ضاع من كتب التراث، ويعد هذا السفر مرآة واضحة صادقة للحياة العباسية في جانبها الفني المنصرف إلى الغناء والموسيقا ومجالس الأنس والطرب.
وصف مخطوطة الكتاب:
المخطوطة كما يظهر من صورة الغلاف فيها اسم الكتاب والجزء واسم المؤلف، ومكان المخطوطة (برسم خزانة السلطان المالك الملك المؤيد شيخ عصره، الجامع الذي أنشأه بباب زويلة عمرها الله ببقائه) وجاء بعدها بخط فارسي ذكر أن الكتاب وقف (الحمد لله وقف هذا الجزء وما قبله وما بعده الملك المؤيد أبو النصر نسخ على طلبة العلم بالجامع المؤيدي وشرط ألا يخرج منه) ، وهناك مطالعة لأحد العلماء على الجانب الأيسر بخط فارسي ولم يتضح اسم كاتبها.(10/13)
يبدأ هذا الجزء بقول المؤلف بعد البسملة: (ربنا افرغ علينا صبرا وأعن، وممن يعد من الحكماء أهل علم الموسيقا إذ هو من الطبيعي، وقد أتيت منهم على مشاهير أهل الغناء ممن ذكره أبو الفرج الأصفهاني في كتابه الجامع، وفي كتاب الإماء، وممن ذكره ابن ناقيا النحوي البغدادي في كتاب المحدث ثم ذيلت ذلك بما نظرته في الكتب والتقطته منها التقاط الفرائد من السحب) .
وفي جانب الصفحة الأولى في بداية الكتاب ختم دائري فيه: (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) وفيه أيضا رسم طغراء، وتحت الختم وبخط فارسي جميل: (وقف هذه النسخة الجليلة سلطاننا الأعظم الخاقان المعظم مالك البرّين والبحرين خادم الحرمين الشريفين السلطان بن السلطان، السلطان الغازي محمود خان، وقفا صحيحا شرعيا مصححا لمن طالع وتبصر واعتبر ويذكر لي أجزل الله تعالى لواءه المعظم أحمد شيخ زاده.. أوقاف الحرمين الشريفين غفر الله لهما) .
وفي الصفحة 253 من الأصل المخطوط تعليق لعلي الحمودي الحنفي بعد قول المصنف: (هذا آخر ما يقع عليه الاختيار من جامع أبي الفرج الأصفهاني، اقتصرت فيه على ما ذكره من مشاهير المغاني، وقد بقيت مدة لا أجد ما أذيل عليه، ولا ما أصله به إلى زماننا هذا على ما جرينا عليه في جميع هذا الكتاب) . ويعلق الحنفي على هذا الكلام بخط فارسي كبير في أعلى الصفحة:
(أقول إن المؤلف لم يحرر كلامه هنا ولم يستوف تراجم الأغاني، فإن كثيرا ممن ذكره هنا إلى آخر هذا الباب مذكور في الأغاني، يعلم ذلك من استوفى للأغاني نظرا، وقد طالعته ثلاث مرات، وأنت ترى جماعة من هذا الذيل قبل زمن أبي الفرج بمدد ولا يشذوا (كذا) عنه مع كثرة اطلاعه واستيعابه المجمع على سعة مادته وتقصيه وتغضيه، والمؤلف معذور طالت عليه الشقة وأراد التبجح عند من(10/14)
ليس له كثير اطلاع لعلمه باضمحلال أهل هذا الفن والمحرر له وذهل عن قوله:
جاء شقيق عارضا رمحه ... إنّ بني عمك فيهم رماح
ففي كل زمن بقية معتبرة، فكم ترك الأول للآخر؟ علي الحموي الحنفي،
وينتهي الجزء دون خاتمة أو ذكر اسم الناسخ، وكل جزء له ناسخه لاختلاف الخطوط، وآخر هذا الجزء أشعار للمؤلف ابن فضل الله العمري في ص 422 قوله: ومنها قولي:
يا أخلائي بنجد ... لي فؤاد مستهام
وجفون قد جفاها ... بعد أجفاني المنام
إن وصلتم فسرور ... واغتباط والتئام
أو هجرتم وكفينا ... فعلى الدنيا السلام
تقع مخطوطة هذا الجزء في 211 ورقة في 422 صفحة، في الصفحة 23 سطرا، في السطر 12- 14 كلمة، كتبت بخط نسخ جيد، والمخطوطة محفوظة بمكتبة السليمانية- أيا صوفيا بإستانبول تحت رقم 2423، وقد صور كتاب مسالك الأبصار كله معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية في إطار جامعة فرانكفورت، بألمانيا الاتحادية.
وعلى الرغم من جودة الخط وجماله ووضوحه، إلا أن الناسخ كان قليل الدراية باللغة العربية، فقد جاء فيها شكل قليل، وكثير من هذا الشكل غير صحيح، وكلماتها معجمة، ولكن هذا الإعجام غير مطرد ففيها كثير من الكلمات مهملة، والإعجام فيها لا يعتمد عليه فقد يكتب الياء ويريد التاء، ويكتب النون ويريد الباء، وهكذا، أما الأخطاء النحوية فكثيرة كثرة ملفتة للنظر، وقد نبهنا إلى بعضها وصححنا البقية دون تنبيه، وكثير من الأشعار فيها(10/15)
نقص أو تحريف أو خلل في الوزن، وكذلك أسماء الأعلام فيها المحرف والمغير.
الكتاب ومنهج مؤلفه:
هذا الجزء خاص بأهل الموسيقا والغناء، وهو في حقيقته إيجاز لأكثر ما جاء في كتاب الأغاني من تراجم المغنين والمغنيات وذكر أصواتهم وأشعارهم، والأشعار التي تغنوا بها، ويذكر المؤلف منهجه في الكتاب ومصادره، فيقول:
(وممن يعد من الحكماء أهل الموسيقا، إذ هو من الطبيعي، وقد أتيت منهم على مشاهير أهل الغناء ممن ذكره أبو الفرج الأصفهاني في كتابه الجامع، وفي كتاب الإماء، وممن ذكره ابن ناقيا النحوي البغدادي في كتاب المحدث «1» ، ثم ذيلت ذلك بما نظرته من الكتب والتقطته منها التقاط الفرائد من السحب) ، وكان اعتماد المؤلف على كتاب الأغاني وكذلك الإماء الشواعر واختياره منهما واعتماده عليهما في ثلثي الكتاب، والمغنون والمغنيات في هذا القسم هم من مشاهير أهل المشرق، أما الثلث الأخير الذي يبدأ من الصفحة 253 من الأصل المخطوط فهو مما التقطه من الكتب ومن كتاب ابن ناقيا، وهو خاص بمغنّي الأندلس والمغرب ومصر من المتأخرين بعد القرن الخامس الهجري إلى أوائل الثامن الهجري [الرابع عشر الميلادي] ، والمؤلف ينص على هذا في مقدمة الكتاب بقوله: (وواخيت أهل الجانب الشرقي بأمثاله في الجانب الغربي ومصر، وإن لم يطاول الماء السماء، وسقت في الجانبين إلى زماننا سياقة لم آل فيها الجهد) ، ثم يبين أسماء الألحان والأنغام عند القدماء، وما طرأ عليها من تغيير عند المتأخرين، ويذكر أسماء هذه الألحان والأنغام عند المتأخرين، ويشكو المؤلف من جهل المتأخرين وعدم عنايتهم بالغناء وسبب ذلك ويذكر مصادره في هذا القسم فيقول في ص(10/16)
253 من الأصل بعد أن ذكر اختياره من كتاب الأصفهاني: (وقد بقيت مدة لا أجد ما أذيل عليه ولا ما أصله به إلى زماننا هذا على ما جرينا عليه في جميع هذا الكتاب، لقلة اعتناء المتأخرين ولا سيما بهذا الفن الذي فني ولم يبق من يعاينه أو يسمعه، لرغبة ملوك زماننا فيما سوى هذا، وشواغل أبناء الزمان بالهموم الصادرة عن السرور، ثم ظفرت لابن ناقيا بتأليف جاء في تضاعيفه عرضا ذكر جماعة على ذيل زمان أبي الفرج، ثم اقتطفت من كتب التواريخ والأخبار المقيدة عن أواخر الخلفاء من بني العباس، وبقايا الخلفاء بالأندلس من بني أمية، وأعقاب الملوك والجلة من كل أفق ما جمعت مفرقه وألفت ممزقه، ثم اتبعته بما التقفته من ذماء بقية من أهل الاعتناء ممن تأخر بهم الأجل إلى هذا العصر وبذلت الجهد فيه حسب الطاقة ونقبت فيه حتى لم أجد، وأبديت فيه حتى لم أعد) .
وكتاب ابن ناقيا في الأغاني الذي نوّه به المؤلف ونقل منه واعتمد في هذا القسم عليه، فإنه لم يصلنا وكل ما لدينا منه ما حفظه المؤلف ابن فضل الله العمري من اقتباسات منه، وكان المؤلف في القسم الأول ينقل ويختار ويختصر متابعا نهج أبي الفرج، أما في القسم الأخير الخاص بالأندلس والمغرب ومصر، فإنه يحاول أن يتوسع في النقل والاستشهاد بالشعر، لقلة المعلومات والكتب عن المغنين والمغنيات، لذلك نراه حين يذكر اللحن والشعر الذي غني به من قصيدة، يذكر الأبيات، ثم يتبعها بذكر القصيدة أو الأبيات اللاحقة لأبيات الغناء، ويذكر أيضا مختارات من شعره هو مما يناسب معاني الأبيات المستشهد بها.
لقد اختار المؤلف في مجمل كتابه تراجم لعدد كبير من المغنين والمغنيات بلغ عددهم (189) مئة وتسعة وثمانين مغنيا ومغنية عدد المغنين منهم (130) مئة وثلاثون مغنيا وعدد المغنيات (59) تسع وخمسون مغنية وفيهن الشواعر(10/17)
وغير الشواعر، وكلهم مذكور في فهرس الموضوعات.
لقد حفظ هذا الكتاب ثروة كبيرة من شعر الشعراء، سواء الذي غني به أو لم يغن، وهذه الأشعار تغطي عصور الأدب من الجاهلي القديم وحتى عصر المؤلف مرورا بالعصر الأموي والعصور العباسية والأندلسية، وهناك أشعار كثيرة لم تحوها الدواوين لشعراء معروفين أو مجهولين، وخاصة في القسم الأخير الخاص بالشعراء المتأخرين، كما حفظ الكتاب روايات أخرى لأشعار الشعراء المشهورين وغير المشهورين، أما الأشعار التي لم تحوها الدواوين والكتب- وهي أشعار مستدركة على هذه الدواوين والكتب- فقد أشرت إليها ونبهت عليها بقولي:
(لم أجدها في ديوان فلان) ، ولم أستعمل لفظ القائلين: (أخل بها ديوانه) ، أو فات محقق الديوان هذا الشعر، لأن في هذا اتهاما للمحققين بالنقص في أعمالهم، وقد دأب على هذا بعض المحققين المبتدئين الذين يركبهم الغرور، لأن في تلك العبارات مسبّة وانتقاصا وعدوانية على محققي الدواوين وجامعي الشعر، ولا أحب العدوان والمعتدين، وجل من لا يغفل ويسهو.
وقد حوى القسم الأخير كذلك أسماء مغنين ومغنيات لم تعرف لهم تراجم، وأشعارا لشعراء من العصور المتأخرة التي لم تصلنا كتبهم ودواوينهم، فهو بذلك قد حفظ شعرا مجهولا وعرّف بأعلام غير معروفين لأهل المشرق خاصة، كما حفظ الكتاب المصطلحات الموسيقية المتأخرة التي لم يذكرها كتاب الأغاني ولم تكن معروفة في عصره وقد شاعت مسمياتها بعد عصر أبي الفرج الأصفهاني، ونعدّ كذلك من الفوائد التي حواها هذا الكتاب تلك النقول والاقتباسات التي نقلها عن كتب لم تصل، وليس لها ذكر في الكتب المتأخرة، وفيها أخبار المغنين والمغنيات ومصطلحاتهم الموسيقية واللحنية.
إن المؤلف كان واسع الثقافة غزير المعرفة، محبّا للشعر، وهو نفسه شاعر(10/18)
سجل بعض أشعاره في الكتاب، ولذلك فهو يكثر من التمثّل بالأشعار وحتى تضمينها في أسلوبه، ومنهجه في التعريف بالمغنين أن يبدأ بالترجمة لهم بأسلوبه هو، وأسلوبه يغلب عليه السجع، وهو أسلوب عصره، وفيه إطالة وإغراب وميل للكلمات الفصيحة والغريبة في الإشادة بالمغني أو المغنية، وهذا الأسلوب المسجوع قد يخرج به عن الموضوع والمعنى المراد ويضيع كثيرا من المعاني الدقيقة التي ينتظرها القارئ، ولكنه بعد ذلك حين ينتهي من الترجمة يتابع أبا الفرج في أسلوبه في عرض الأفكار والأشعار، ويعود إلى الأسلوب المرسل الذي لا سجع فيه، والمؤلف حين يقتبس من كتاب الأغاني أو غيره، يقتبس روايات منتقاة ويجردها من سند الرواة، ويختصر بعض الروايات، ويصوغ بعضها بأسلوبه.
وبعد: فالكتاب في جملته ثروة نفيسة، جمع فيه المصنف أخبار الغناء والمغنين، وأخبار الخلفاء والأمراء والوزراء المتعلقة بمجالس الغناء والطرب، وذكر لهم أشعارا كثيرة جيدة فيها كثير من النوادر، وكشف من خلال ذلك عن حياة العصور السابقة في جانبها الفني اللاهي، وفيه وصف وتصوير دقيق لمجالس الخلفاء وأحوال المطربين وأخبارهم ورواية لأحاديثهم وكشف لدقائق حياتهم، والكتاب صورة صادقة للحياة العباسية خاصة، والعصور التي تلتها عامة، وما فيها من مظاهر حضارية وثقافية وأدبية.
منهج التحقيق:
على الرغم من سعة الكتاب وضخامته، وما فيه من تراجم كثيرة وأشعار غزيرة، وأعلام بعضهم مغمور أو مجهول، لم نجد لهم ترجمة في المصادر، وعلى الرغم من الصعوبات التي تعترض كتابا كهذا يتعلق بالغناء والموسيقا، وما فيه(10/19)
من مصطلحات مختلفة المدلول حسب العصور، على الرغم من كل ذلك، فقد وجدت في هذا الكتاب متعة في قراءته وتحقيقه وجلاء غامضه، لما فيه من جيد الأخبار وجميل الأشعار وجودة المختار من تراجم الأعلام، وقد سرت في التحقيق على الوجه الذي يخدم النص تصويبا وتقويما، وهدفي أن أحرر نصا هو أقرب إلى ما أراده مؤلفه، وقد سرت في التحقيق على الوجه الآتي:
1- صححت النص وقومت ما فيه من أخطاء لغوية ونحوية وإملائية ووهم وتحريف وتصحيف، وقد جاء كثير من الألفاظ والعبارات محرفة أو خالية من الإعجام، أو أن إعجامها غير صحيح أو كان فيها لحن أو خطأ أو تحريف أو نقص، فاستدركت كل ذلك وأشرت لبعض التصويبات، وقد صححت الأخطاء ولم أشر إليها لكثرتها حرصا على عدم إثقال الهوامش بالتصويبات المتشابهة وهي كثيرة، ويبدو أن الناسخ كان قليل الدراية بالعربية، وقد تعزى الأخطاء الكثيرة إلى السهو والعجلة، وقد وضعت كل إضافة واستكمال أو تصويب بين عضادتين []
2- ضبطت الشعر بالشكل وكذلك الكلمات التي بحاجة إلى الضبط دفعا للبس والوهم في القراءة، وقد جاءت بعض الكلمات في الشعر مضبوطة في الأصل، ولكن ضبطها عند التحقيق غير صحيح وخاصة في الشعر، وقد يكون ضبطه مدعى إلى اللحن.
3- الكلمات في الأصل أكثرها معجمة وبعضها مهمل، ولكن الإعجام في كثير من الكلمات غير صحيح، فقد يكتب التاء ويريد الياء، وقد يكتب الباء ويريد النون، فأعجمت المهمل وصوبت المحرف والمصحف.
4- في بعض الأشعار نقص أو خلل في الوزن، فأتممت النقص وصححت(10/20)
الوزن، وأشرت إلى الأبيات التي لم أهتد إلى وجه الصواب فيها.
5- خرّجت الشعر بالرجوع إلى الدواوين والمصادر وبيّنت اختلاف الروايات وأشرت للروايات المهمة، وكان التخريج قد أعان في الوصول إلى صواب القراءة في الشعر المخطوء، وهناك أشعار لم أجد لها ديوانا أو مصدرا وخاصة ما يتعلق بالمتأخرين.
6- بينت بحور الشعر لكل قصيدة أو قطعة أو بيت.
7- شرحت الكلمات الغامضة والعبارات التي تحتاج إلى شرح وإيضاح.
8- ترجمت للأعلام الذين لهم صلة بالمضمون، واستثنيت من الترجمة المشهورين من الخلفاء والشعراء وغيرهم، وقد جاء كثير من أسماء الأعلام محرفة، فصححتها بالرجوع إلى كتب التراجم.
9- بينت معاني المصطلحات الموسيقية والألحان بالقدر الذي توصلت إليه من خلال كتب الغناء والموسيقا، وقد ذكرت موجزا بالمصطلحات الغنائية القديمة والمتأخرة كملحق لئلا يتكرر شرح المصطلحات وتكرارها كثيرا.
10- ترجمت للمواضع والبلدان الواردة في النص أو الشعر، وعرفت بالجماعات أو الشعوب حين تدعو الضرورة لذلك.
11- هناك نقص في بعض نصوص الكتاب نتيجة للاختصار والتلخيص، فأكملت النقص بالرجوع إلى الكتب المنقول عنها وأهمها كتاب الأغاني، وقد ترد عبارات هي خلاف المعنى المراد، فصححت ذلك وأرجعت العبارة إلى أصلها ووجهتها الصحيحة بالرجوع إلى المصادر.
وبعد: فلم آل جهدا ولم أدخر وسعا في سبيل خدمة هذا السفر الجليل، وقد(10/21)
انصرفت إليه بكلي وأعطيته عزيز وقتي وبقية عمري، مقرنا ليلي بنهاري، راجيا أن أكون قد أدركت بعض ما سعيت إليه من خدمة تراث الأمة الجليل، فإذا بلغت الغاية أو بعضها فلله الحمد على ما أعان ووفق، وإن قصرت وضللت فسبحان من له الكمال وحده، وأنا أحد بني آدم الذين لم يعصموا من النقص والجهل والتقصير.
والحمد لله أولا وآخرا.
يحيى وهيب الجبوري(10/22)
[مقدمة المؤلف]
بسم الله الرحمن الرحيم
ربّنا أفرغ علينا صبرا وأعن
وممّن يعد من الحكماء أهل الموسيقا، إذ هو من الطبيعي، وقد أتيت منهم على مشاهير أهل الغناء ممن ذكره أبو الفرج الأصفهاني «1» في كتابة الجامع «2» ، وفي كتاب الإماء، وممن ذكره ابن ناقيا «3» النحوي البغدادي في كتاب المحدث «4» ، ثم ذيلت ذلك بما نظرته في الكتب، والتقطته منها التقاط الفرائد من السحب، وواخيت «5» أهل الجانب الشرقي بأمثال [هم] في الجانب الغربي ومصر، وإن لم يطاول الماء السماء وسقت في الجانبين إلى زماننا سياقة لم آل «6» فيها الجهد، وأتيت به على ترتيب ما وقع الاختيار منه، وجئت على حكمه بالدليل عليه. ومن تأمل ما أتيته علم مقدار جهدي المبذول في تحصيل ما حصلته،(10/23)
وكبر لديه ما جمعته، وشهد «1» لي بأني لم أقصر، وبالفضل لمن اتبعته، ورأيت بين القدماء والمحدثين اختلافا في ألقاب الأنغام التي صنعوا فيها الأصوات، اختلافا في الأسماء لا في المسميات. وكنت وقفت على كتاب ابن ناقيا في الأغاني، وهو على طريقة القدماء، ولم أجد على طريقة المحدثين ما أرجع إليه ولا أتفهّم «2» منه، وسألت جمال الدين عمر بن حضر بن جعفر، (عرف بابن زاده الديسني المشرقي) عن هذا ليبيّنه لي وهو عالم «3» هذا الشأن بالشام، فلجلج «4» ولم يبيّن، غير أنه قال: إنما غيرت التسميات إذ نشأ التوثي صاحب الأرمال الأربعة والأربعين ضربا، ثم سراج الدين الخراساني صاحب شيوه، وكلاهما من أهل ما وراء النهر، وكان ذلك بحضور الشيخ الفاضل شمس الدين محمد بن شكر الديري، فجعل يديه على الطريق وهو تارة وتارة، فآخر ما انتهى معه إليه أن قال: جسّ «5» لي هذه الأبيات، ثم جعل ينشده بيتا بيتا من الأبيات التي فيها أصوات الأول المسماة بمصطلحهم، إلى أن ظهر له اتفاق القدماء والمحدثين في المعنى واختلافهم في اللفظ، فنزّل أسماء «6» المحدثين على أسماء القدماء، ورتّب في هذا المقال، وفعل ما يعجز القرائح، ويرقّ عنها الأفهام «7» ، ثم لخص فيه ما مضمونه:
اعلم أن الأوائل رحمهم الله، رتبوا ألحانهم على نوعين:
ضرب ولحن، مسمّيات بأسماء اصطلحوا عليها، وجعلوا أنواع الضروب(10/24)
ستة: ثقيل أول «1» ، وثقيل ثان «2» ، وخفيف الثقيل [3] «3» ، ورمل وخفيف الرمل «4» وا [ل] هزج «5» ، وهذا كما يقال إن الضرب فيه نقرات «6» ثقال وخفاف، وخفاف الخفاف.
وأما الأصابع فهي الألحان عندهم، وهي ست كذلك: المطلق «7» والمعلق(10/25)
والمحمول «1» والمنسرح والمزموم «2» والمجنب «3» ، وإذا ضربت ثلاثة في ستة كانت ثمانية عشر رجوعا مع الضرب بالقوة، والضرب فيسمى كل واحد باسم، ولهذا يقولون: مطلق السبابة والوسطى والخنصر والشهادة أو مقبوضها، كل ذلك إشارة منهم إلى الألحان المختلفة، فسموا كل لحن باسم علم عليه، يعرف به لئلا يصل العلم عند التعليم، كذلك فعل المتأخرون من الفرس حين سمّوا هذه الأسماء الأعجمية المصطلح عليها في زماننا وهي: الراست «4» والعراق «5» والزيلكفند «6»(10/26)
والأصبهان والزنكلا والبزرك «1» والراهوي «2» والحسيني «3» والماآه وأبو سلمك «4» والنوى «5» والعشاق «6» ، وأوانها وهي:(10/27)
النيروز «1» والشهناز «2» والسلمك والحجاز «3» ، والكوشت على اختلاف في هذه التسمية فهذه تلك الست تضاعفت بثلاثة، بحسب التركيب، فبلغت ثمانية عشر، فالمطلق هو الراست، والمعلق هو العراق، والمحمول هو الزيلفكند، والمنسرح هو اصفهان، والمزموم زنكلا.
وتركبت الستة الباقية من الستة الأولى، فالرهوي من المطلق والمعلّق، والحسيني من المحمول، والمنسرح والماآه وأبو سلمك من المزموم، والنوى والعشاق من المجنب، ثم أخذ بالتركيب. النيروز من المطلق والمعلق لاختلاف الضرب، ثم الشهناز من المحمول والمنسرح، ثم السلمك من المزموم والمجنب ثم الزركشي من المحمول والمنسرح، والحجاز من المزمور «4» ، والكواشت من المجنب.(10/28)
أما الماخوري «1» والمحصور «2» والمشكول، فتأخر تسميته مع متأخري أوائلهم. وكذلك غيرها وتركيبها كتركيب الشاذ عند المتأخرين، والله أعلم.
فأما ما نحن بصدده ممن نذكره في المفاضلة بين الجانبين من أهل هذه الصناعة
[تراجم اهل الموسيقى]
فسنبدأ بالمختار من كتاب أبي الفرج الاصفهاني الجامع، ثم من كتاب الإماء «3» ، ثم ما ذكره ابن ناقيا «4» ثم ندخل حتى يرفل هذا الكتاب في فاصل برده، فمنهم:
1- ابن محرز
«5» محرز لغاية، ومبترز في غواية، تردد بين الحرمين، مكة والمدينة للقاء المحسنين(10/29)
والإلقاء من المغنّين، ثم لم يقنع حتى أتى بلاد فارس، وجنى من تلك المغارس، وأصبح لا يدع طرفا به إلا انسجم، ولا مختارا إلا مجموعا فيه عربا على عجم «1» ، فلم يبق في الغناء نادّة «2» حتى جازها ولا شاذة أعجزت [ص 4] من قبله من أهل الطرب حتى شانها «3» كأنّه لهذا خلق، وبه استحق التقدم، وإن سبق إلا أنّ داءه أزواه حتى كان بلقاء العيون وما رمق «4» .
قال أبو الفرج، قال إسحاق، كان يسكن المدينة مرة، ومكة مرة، فإذا أتى المدينة أقام بها ثلاثة أشهر، يتعلم الضرب من عزة الميلاد «5» ثم يرجع مكة، فيقيم بها ثلاثة أشهر، ثم صار بعد ذلك إلى فارس، فتعلم ألحان الفرس فأخذ غناءهم، ثم صار إلى الشام فتعلم ألحان الروم، فأخذ غناءهم، فأسقط من ذلك(10/30)
ما لا يستحسن من نغم الفريقين، وأخذ محاسنهما، ومزج بعضهما «1» ببعض، والّف منهما الأغاني التي صنعها من أشعار العرب، فأتى بما لم يسمع بمثله، وكان يقال له: صناج العرب.
قال إسحاق: وكان ابن محرز قليل المخالطة للناس، فأخمل ذلك ذكره، فما يذكر الآن غناؤه، وأخذت كل غنائه «2» جارية لصديق له من أهل مكة كانت تألفه، فأخذ الناس عنها، ومات بالجذام، قال إسحاق: خرج ابن محرز يريد العراق فلقيه حنين «3» فقال: كم منّتك نفسك من العراق، قال ألف دينار، قال: فهذه خمس مئة دينار، فخذها وانصرف، واحلف أن لا تعود. قال إسحاق: ولم يعاشر الخلفاء ولم يخالط الناس لأجل الداء الذي كان به، ولما شاع ما فعله حنين لامه أصحابه، فقال: لو دخل العراق لما كان لي معه خبز آكله، ولا طّرحت وسقطت إلى آخر الدهر.(10/31)
ومنهم:
2- ابن عائشة
«1» طوى زمان الغناء بموت قرنائه، وأنسى إحسان المحسنين بغنائه، وأسس مالم يشيد على بنائه، حتى كان مجمع أولئك العشاق وطراز حواشي تلك الأيام الرقاق، وألف من صغره مغازلة النساء، فجاء على غنائه تلك الرقة، وبان في أصواته الشّجية البكاء لتلك الفرقة، واتصل بالخلفاء اتصال أمثاله، واتصف بما فات مراد الظرفاء من آماله.
قال أبو الفرج، قال الوليد بن يزيد «2» لابن عائشة: يا محمد ألبغيّة أنت؟
قال: لا، ولكن كانت أمي يا أمير المؤمنين ما شطة، وكنت غلاما، وكانت إذا دخلت إلى موضع قالوا: ارفعوا هذا لابن عائشة، فغلبت على نسبي.
قال إسحاق: أخذ الغناء عن معبد ومالك، ولم يموتا حتى ساواهما، وكان حسن الصوت يفتن كل من سمعه، وابتداؤه الغناء كان يضرب به المثل، فيقال:
كأنه ابتداء ابن عائشة في الحسن. قال يحيى المكي: ثلاثة من المغنين كانوا أحسن الناس حلوقا: ابن عائشة [ص 5] وابن بيرق «3» وابن أبي اللباب، قال:(10/32)
رأى «1» ابن أبي عتيق يوما حلق ابن عائشة مخدّشا، قال: من فعل بك هذا؟
فقال: فلان، فمضى ونزع ثيابه، وجلس للرجل على بابه، فلما خرج، أخذ بتلابيبه «2» ، وجعل يضربه ضربا شديدا، والرجل يقول: مالك تضربني؟ أي شيء صنعت؟ وهو لا يجيبه حتى فرغ منه، ثم خلاه، وأقبل على من حضر فقال: أراد أن يكسر مزامير داود، شدّ على ابن عائشة فخنقه وخدش حلقه.
قال صالح بن حيّان «3» ، وذكر يوما المغنّين بالمدينة، فقال: لم يكن بها أحد بعد طويس «4» أعلم من ابن عائشة، ولا أظرف «5» مجلسا ولا أكثر طيبا، وكان يصلح أن يكون نديم خليفة وسمير ملك.
قال إسحاق: كان ابن عائشة تائها سيىء الخلق، فإن قال له إنسان تغنّ، قال:
ألمثلي يقال هذا؟ فإن قال له قائل وقد ابتدأ وهو يغني: أحسنت، قال: ألمثلي يقال أحسنت؟ وسكت، وكان قليلا ما ينتفع به، فسال العقيق مرة «6» ، فدخل(10/33)
الماء عرصة سعيد بن العاص «1» حتى ملأها، فخرج الناس إليها، وخرج ابن عائشة فيمن خرج، فجلس على قرن الثنيّة، فبيناهم كذلك إذ طلع الحسن «2» بن علي عليهما السلام، على بغلة وخلفه غلامان أسودان كأنهما الشياطين، فقال:
امضيا رويدا حتى تقفا بأصل القرن الذي عليه ابن عائشة، فخرجا حتى فعلا ذلك، ثم ناداه الحسن: كيف أصبحت يا ابن عائشة؟ فقال: بخير فداك أبي وأمي، قال: انظر من تحتك، فنظر فإذا العبدان «3» ، فقال له: أتعرفهما؟ قال نعم، قال: هما حرّان لئن لم تغنّ مئة صوت لأمرتهما بطرحك، وهما حرّان لئن لم يفعلا لأنكلنّ بهما «4» ولآمرنّ بقطع أيديهما، فاندفع ابن عائشة يغني، وكان أول ما ابتدأ به صوت، وهو: «5» [مجزوء الوافر]
ألا لله درّك من ... فتى قوم إذا رهبوا
«6» ثم لم يسكت حتى غنّى مئة صوت، فقال: إن الناس لم يسمعوا من ابن عائشة أكثر مما سمعوه ذلك اليوم، وكان آخر ما غنّى به: [البسيط] «7»(10/34)
قل للمنازل بالظّهران قد حانا ... أن تنطقي فتبيني اليوم تبيانا
«1» قال جرير: ما رئي يوم أحسن منه «2» ، وما بلغني أن أحدا تشاغل عن غنائه بشيء، ولا انصرف أحد لقضاء حاجة ولا لغير ذلك حتى فرغ، ولقد تبادر الناس من المدينة [ص 6] وما حولها حيث بلغهم الخبر لاستماع غنائه، فما يقال إنه رئي جمع في ذلك الموضع مثل ذلك اليوم «3» ، ولقد رفع الناس أصواتهم:
أحسنت والله، أحسنت والله، ثم انصرفوا حوله يزفونه إلى المدينة.
قال علي بن الجهم «4» : حدثني رجل أن ابن عائشة كان واقفا بالموسم متحيرا، فمر رجل من بعض أصحابه، فقال له: ما يقيمك هاهنا؟ قال: إني أعرف رجلا لو تكلم لحبس الناس، فقال له الرجل، ومن ذاك؟
قال: أنا، ثم اندفع يغني: «5» [الوافر]
جرت سنحا فقلت لها أجيزي ... نوى مشمولة فمتى اللّقاء
قال: فحبس الناس، واضطربت المحامل، ومدت الإبل أعناقها، وكادت الفتنة أن تقع، فأتي به هشام «6» ، فقال: يا عدو الله أردت أن تفتن الناس، فأمسك(10/35)
عنه، وكان تياها «1» ، فقال له هشام: ارفق بتيهك يا ابن عائشة، فقال: حقّ لمن كانت هذه مقدرة «2» أنّ القلوب أن يتيه، فضحك منه وخلّى سبيله.
قال عمر «3» بن شبة، قال شيخ من تنوخ: كنت صاحب ستر الوليد بن يزيد، فرأيت عنده ابن عائشة، وقد غنّاه: «4» [الكامل]
إني رأيت صبيحة النّفر ... حورا نفين عزائم الصّبر «5»
مثل الكواكب في مطالعها ... بعد العشاء أطفن بالبدر
وخرجت أبغي الأجر محتسبا ... فرجعت موفورا من الوزر
قال فطرب حتى كفر وألحد، فقال: يا غلام أسقنا «6» بالسماء الرابعة، وكان الغناء يعمل فيه عملا يضلّ عنه رشده من بعده، ثم قال أحسنت والله يا أمير المؤمنين «7» ، أعد بحقّ فلان، حتى بلغ من الملوك نفسه، فقال: أعد بحياتي، فأعاد، فقام إليه فلم يبق عضو من أعضائه إلا قبّله، وأهوى إلى هنه فضم [ابن عائشة] فخذيه، فقال: والله العظيم لا تريم حتى أقبله، فأبداه له فقبله، ثم نزع ثيابه فألقاها على ابن عائشة، وبقي مجرّدا إلى أن أتوه بغيرها، ووهب له ألف دينار وحمله على بغلة، فقال: اركبها بأبي أنت وانصرف، فقد تركتني على مثل المقلى من حرارة غنائك، فركبها على بساطه وانصرف.(10/36)
قال: وخرج ابن عائشة يوما من عند الوليد بن يزيد وقد غنّاه: «1» [الوافر]
أبعدك معقلا أرجو وحصنا ... قد اعيتني المعاقل والحصون [ص 7]
قال: فأطرق وأمر له بثلاثين ألف درهم، وبمثل كارة القصار «2» ثيابا «3» .
فبينا ابن عائشة يسير إذ نظر إليه رجل من أهل وادي القرى «4» ، كان يشتهي الغناء وشرب النبيذ فدنا منه غلامه وقال: من هذا الراكب؟ قال: ابن عائشة المغني، فدنا منه، فقال: جعلت فداك، انت ابن عائشة أم «5» أمير المؤمنين؟ قال لا، أنا مولى لقريش، وعائشة أمي، وحسبك هذا، ولا عليك أن تكثر. قال: وما هذا [الذي] أراه بين يديك؟ «6» قال: المال والكسوة «7» ، قال:
غنيت أمير المؤمنين صوتا فأطربه، فكفر وترك الصلاة، وأمر لي بهذا المال والكسوة، فقال: جعلت فداك، فهل تمنّ عليّ أن تسمعني ما أسمعته إياه، فقال له: ويلك أمثلي يكلم بهذا في الطريق؟ قال: فما أصنع؟ قال: الحقني بالباب، وحرك ابن عائشة بغله شقراء كانت تحته لينقطع عنه، فغدا معه حتى وافيا «8» الباب كفرسي رهان، فدخل ابن عائشة فمكث طويلا طمعا في أن يضجر فينصرف، فلم يفعل، حتى قال لغلامه: أدخله، فلما أدخله قال له: من أين صبك(10/37)
الله عليّ؟ قال: أنا رجل من أهل وادي القرى أشتهي هذا الغناء، قال له: هل لك فيما هو أنفع لك منه؟ قال: وما ذلك؟ قال: مئة «1» دينار وعشرة أثواب تنصرف بها إلى أهلك، قال له: جعلت فداك إن لي لبنية ما في أذنها- علم الله- حلقة من الورق «2» فضلا عن الذهب، وإن لي زوجة ما عليها- شهد الله- قميص، ولو أعطيتني جميع ما أمر لك به أمير المؤمنين على هذه الخلعة «3» والفقر الذي عرّفتكهما وأضعفت لي ذلك، لكان الصوت أحبّ إليّ، وكان ابن عائشة تائها لا يغني إلا لخليفة، أو لذي قدر جليل من إخوانه، فعجب منه وغناه الصوت، فطرب طربا شديدا وجعل يحرك رأسه حتى ظن أن عنقه ستنقصف، ثم خرج من عنده ولم يزوّده «4» شيئا، وبلغ الخبر الوليد بن يزيد، فسأل ابن عائشة عنه فجعل يغيب عن الحديث، فعزم عليه الوليد فعرفه، فأمر بطلب الرجل فأحضره ووصله بصلة سنيّة وجعله من جملة ندمائه ووكّله بالسّقي، فلم يزل معه حتى مات.
قال يونس الكاتب «5» : كنا يوما متنزهين بالعقيق أنا وجماعة من قريش، فبينا نحن [على] حالنا، إذ أقبل ابن عائشة ومعه غلام من بني ليث وهو متوكّئ على يده [ص 8] فلما رأى اجتماعنا وسمعني أغني، جاءنا فسلّم وجلس إلينا وتحدث معنا، وكانت الجماعة تعرف سوء خلقه وغضبه إذا سئل أن يغني، فأقبل بعضهم على بعض يتحدثون بأحاديث (كثيّر) و (جميل) وغيرهما،(10/38)
يستخرجون بذلك أن يطرب فيغني، فلم يجدوا عنده ما أرادوا، فقلت لهم أنا:
حدثني بعض الأعراب حديثا يأكل الأحاديث، فإن شئتم حدثتكم إياه، قالوا:
هات، قلت: حدثني هذا الرجل أنه مرّ بناحية الرّبذة «1» ، فإذا صبيان يتغاطسون في غدير، فإذا شاب جميل منهوك الجسم، وعليه آثار العلة، والنحول في جسمه بين، وهو جالس ينظر إليهم فسلمت فرد السلام وقال: من أين وضح الراكب؟ «2» فقلت: من الحمى «3» ، قال: ومتى عهدك به؟ قلت: رائحا، قال:
وأين كان مبيتك؟ قلت: ببني فلان، قال: أوّه، وألقى نفسه على ظهره وتنفس الصعداء تنفسا «4» قلت قد خرق حجاب قلبه، ثم أنشأ يقول: «5» [الطويل]
سقى بلدا أمست سليمى تحلّه ... من المزن ما يروي به ويسيم «6»
وإن لم أكن من قاطنيه فإنه ... يحلّ به شخص عليّ كريم
ألا حبذا من [ليس] يعدل قربه ... لديّ وإن شطّ المزار نعيم «7»
ومن لا مني فيه حميم وصاحب ... فردّ بغيظ صاحب وحميم
ثم سكت كالمغشي «8» عليه، فصحت بالصبيان، فأتوا بماء فصببته على وجهه، فأفاق وأنشأ يقول: «9» [الوافر](10/39)
إذا الصبّ الغريب رأى خشوعي ... وأنفاسي تزيّن بالخشوع «1»
ولي عين أضرّ بها التّفاتي ... إلى الأجراع مطلقة الدموع
إلى الخلوات يأنس فيك قلبي ... كما أنس الغريب إلى الجميع
فقلت له: أنزل فأساعدك، وأكثر عودي علي بذي الحمى، في حاجة إن كانت لك، أو رسالة؟ قال: جزيت الخير وصحبتك السّلامة امض لطلبتك، فلو علمتك أنك تغني عني شيئا لكنت موضعا للرغبة وحقيقا بإسعاف المسألة، ولكنك أدركتني في صبابة من الحياة يسيرة، فانصرفت وأنا لا أراه يمسي «2» ليلته إلا ميتا، فقال القوم: ما أعجب هذا الحديث [ص 9] فاندفع ابن عائشة فغنّى في الشعرين جميعا فطرب وشرب بقية يومه، ولم يزل يغنينا إلى أن انصرفنا.
قال: وتوفي ابن عائشة في أيام الوليد بن يزيد، وقيل في أيام هشام. قال المدائني [فحدثني] «3» بعض أهل المدينة قال: أقبل ابن عائشة من عند الوليد بن يزيد، وقد أجازه وأحسن اليه، فجاء بما لم يأت أحد بمثله من عنده، فلما قرب من المدينة نزل بذي خشب «4» على أربعة «5» فراسخ من المدينة، وكان واليها(10/40)
إبراهيم بن هشام المخزومي ولاه هشام وهو خاله، وكان في قصره هناك، فقيل له:
أصلح الله الأمير، هذا ابن عائشة قد أقبل من عند الوليد، فلو سألته أن يقيم عندنا اليوم فيطربنا وينصرف من غد، فدعاه فسأله المقام عنده، فأجابه إلى ذلك، فلما أخذوا في شرابهم، أخرج المخزومي جواريه، فنظر إلى ابن عائشة وهو يغمز جارية منهن، فقال لخادمه: إذا خرج ابن عائشة يريد حاجة فارم به، وكانوا يشربون فوق سطح يشرف على بستان، فلما قام ليبول، رمى به الخادم من فوق السطح فمات، فقبره هناك، قال: وقام قوم، بل قدم المدينة فمات بها. قال: فلما مات، قال [أشعب] «1» : قد قلت لكم، ولكن لا يغني حذر من قدر، زوجوا ابن عائشة من ربيحة الساسانية «2» يخرج من بينهما مزامير داود، فلم تفعلوا، وجعل يبكي والناس يضحكون منه.
3- حنين الحيري
«3» مطرب لا يرتفع لديه رأس مطرق، ولا ينتفع منه أمل متشوق، من سراة أهل الغناء، وسراة «4» الطرب للغناء، يكاد سامعه يخرج من إهابه ويحرق بالتهابه ما حرّك عوده إلا بغم «5» ، ولا بنت شفة إلا في نغم، لو سمعه جبل لتحرك، أو دخل(10/41)
في أذن سوقة لظن أنه قد تملك، وهو القائل: «1» [المنسرح]
أنا حنين ومنزلي النّجف ... وما نديمي إلا الفتى القصف
أقرع بالكأس بطن باطية ... مترعة تارة وأغترف
من قهوة باكر التّجار بها ... باب يهود قرارها الخزف
فالعيش غض ومنزلي خصب ... لم تعد لي شقوة ولا عنف
قال إسحاق: قيل لحنين، أنت تغني من نحو خميسن سنة، ما تركت لكريم مالا ولا عقارا إلا أتيت عليه، فقال: بأبي أنتم، إنما هي أنفاسي أقسمها بين الناس، أفتلوموني أن أغلي بها الثمن؟ وكان حنين قد رحل إلى عمر «2» الوادي وحكم الوادي «3» وأخذ منهما، وغنى لنفسه في أشعار الناس [ص 10] فأحكم الصنعة، ولم يكن بالعراق غيره، فاستولى عليه من عصره، وقدم ابن محرز حينئذ إلى الكوفة، فبلغ حنينا خبره، فخاف أن يعرفه الناس فيستحلونه ويسقط هو، فلقيه فقال: كم منّتك نفسك من العراق، قال: ألف دينار، قال: فهذه خمس مئة دينار فخذها وانصرف.
قال: وكان بعض ولاة الكوفة في أيام بني أمية يذم الحيرة، فقال له رجل من(10/42)
أهلها: أتعيب بلدة يضرب بها المثل في الجاهلية والإسلام، قال: وبماذا تمدح؟
قلت: بصحة هوائها، وطيب مائها، ونزهة ظاهرها، تصلح للخف والظلف «1» ، سهل وجبل، بادية وبستان، بر وبحر، محل الملوك ومرادهم ومسكنهم ومأواهم وقدمتها- أصلحك الله- مخفّا فأصبحت مثقلا، ووردتها مقلا فأصارتك مكثرا، قال: وكيف نعرف ما وصفتها به من الفضل؟ قال: تصير إليها، ثم ادع بما شئت من لذات العيش، فو الله لا أجوز بك الحيرة فيه، قال: فاصنع لي صنيعا، واخرج من قولك، قال: أفعل، فصنع لهم طعاما فأطعمهم من خبزها وسمكها، وما صيد من وحشها من ظباء «2» ، ونعام وأرنب وحبارى «3» ، وسقاهم ماءها في قلالها، وخمرها في آنيتها، وأجلسهم على رقمتها «4» ، ولم يستخدم لهم عبدا ولا حرا إلا من مولداتها ووصائف كأنهم اللؤلؤ، لغتهم لغة أهلها، ثم غناهم حنين وأصحابه فى شعر عدي بن زيد شاعرهم، وأعشى همدان، لم يتجاوزهما، وحياهم برياحينها، ونقلهم «5» بفواكهها، ثم قال: [هل] رأيتني استعنت على شيء مما «6» رأيت، وأكلت وشربت، وشممت وسمعت، بغير ما في الحيرة؟
قال: لا، ولقد أحسنت في صفة بلدك، وأحسنت نصرته، والخروج مما ضمنته، فبارك الله لكم في بلدكم.(10/43)
قال عبيد بن حنين الحيري: كان المغنون «1» في عصر جدي أربعة نفر، ثلاثة بالحجاز، وهو وحده بالعراق، فالذين بالحجاز «2» ابن سريج والغريض ومعبد، وكان بلغهم أن حنينا قد غنّى في هذا الشعر: «3» [الكامل] .
هلا بكيت على الزّمان الذاهب ... وكففت عن ذمّ المشيب الآيب
هلا وربّ مسوّفين سقيتهم ... من خمر بابل لذّة للشّارب
بكروا عليّ بسحرة فصبحتهم ... بإناء ذي كرم كقعب «4» الحالب
بزجاجة ملء اليدين كأنّها ... قنديل فصح في كنيسة راهب
قال: فاجتمعوا فتذاكروا [أمر] «5» جدّي، وقالوا: ما في الدنيا أهل صناعة شر منّا، لنا أخ بالعراق ونحن بالحجاز لا نزوره ولا نستزيره، اكتبوا إليه، فكتبوا إليه، ووجهوا إليه نفقة، وقالوا: نحن ثلاثة وأنت واحد، فأنت أولى بزيارتنا، فشخص إليهم، فلما كان على مرحلة من المدينة، بلغهم خبره، فخرجوا يتلقونه، فلم ير يوم كان أكثر حشدا ولا جمعا [من] «6» يومئذ، ودخلوا المدينة، فلما صاروا ببعض الطريق، قال لهم معبد صيروا [إليّ] ، قال ابن سريج: إن كان لك في اليسر والمروءة مالمولاتي سكينة بنت الحسين عطفنا إليك، فقال: مالي من ذلك شيء، فعطفوا على منزل سكينة، فأذنت لهم إذنا عاما، فغصّت الدّار بهم، فصعدوا في السطح، وأمرت لهم بالأطعمة، فأكلوا، ثم سألوا جدّي أن يغنيهم صوته:(10/44)
(هلا بكيت على الشباب الذاهب) «1» فغناهم بعد أن قال لهم: ابدأوا أنتم [فقالوا] : ما كنا لنتقدمك حتى نسمع هذا الصوت، فغناهم إياه، وكان من أحسن الناس صوتا، فازدحم الناس على السطح وكثروا يسمعونه، فسقط الرّواق «2» على من تحته، فسلموا جميعا وأخرجوا أصحابه سوى حنين، فإنه مات وحده تحت الهدم، فقالت سكينة: لقد كدّر حنين سرورنا، وانتظرناه مدة طويلة، كأننا كنّا نسوقه إلى منيّته.
[ومنهم]
4- الغريض
«3» لا يناضل على غرض ولا يفاضل في عرض كان أشجى من النوائح، وأهزّ للكريم من المدائح «4» ، لو أصغت إليه الحمائم لخلعت عليه أطواقها أو الحوائم لما بكت بعبرة أشواقها، لا يدع عبرة لم تسكب، ولا حشاشة لم تسلب، ولا زمان صبا لم يذكر «5» ، ولا ذيول صبابة لم تسحب. أخذ الغناء في أول أمره عن ابن سريج، لأنه كان يخدمه، فلما رأى ابن سريج طبعه وظرفه وحلاوة منطقه، خشي أن يأخذ غناءه فيغلبه بصوته وحسن وجهه، فحسده واعتلّ عليه، وجعل(10/45)
يتجنّى عليه فيطرده؛ فشكا «1» ذلك إلى مولياته وأعلمهنّ غرض ابن سريج في تنحيته إياه عنه، وأنه حسده على تقدّمه [ص 11] فقلن له: هل لك أن تسمع نوحنا على قتلانا، فتأخذه وتغنّى عليه؟ قال: نعم، فأسمعنه المراثي فاحتذاه، «2» فخرج غناؤه عليها، وكان ينوح مع ذلك، ويدخل المآتم، وتضرب دونه الحجب، ثم ينوح فيفتن كلّ من سمعه. ولما كثر غناؤه اشتهاه الناس وعدلوا إليه لما كان فيه من الشجا «3» ، وكان ابن سريج لا يغني صوتا إلا عارضه «4» ، فغنّى فيه لحنا آخر، فلما رأى ابن سريج موضع الغريض، اشتد عليه وحسده، فغنى الأرمال والأهزاج، فاشتهاها الناس، وقال [له] الغريض: يا أبا يحيى، قصرت الغناء وحذفته، قال: نعم يا مخنّث، جعلت تنوح على أبيك «5» وأمك.
قال إسحاق: سمعت جماعة من البصراء بالغناء قد أجمعوا على [أن] الغريض أشجى غناء، وابن سريج أحكم صنعة.
قال بعض أهل العلم بالغناء: لو حكمت بين أبي يحيى «6» وأبي يزيد لما فرقت بينهما، وإنما تفضيلي أبا يحيى بالسبق، فأما غير ذلك فلا، لأن أبا يزيد «7» عنه أخذ ومن بحره اغترف، وكذلك قالت سكينة لما غنّى الغريض وابن سريج: «8» [السريع](10/46)
عوجي علينا ربّة الهودج
والله ما أفرّق بينكما، وما أنتما عندي إلا كمثل اللؤلؤ والياقوت في أعناق الجواري الحسان، لا يدرى أي ذلك أحسن.
قال يونس الكاتب: «1» : أمر بعض أمراء مكة بإخراج المغنين من الحرم، فلما كانت الليلة التي عزم على النفي فيها، اجتمعوا في غدها إلى أبي قبيس «2» ، وكان معبد قد زادهم، فبدأ فغنّى: «3» [الطويل]
أتربيّ من عليا معدّ هديتما ... أجدّا البكا إنّ التّفرّق باكر
فما مكثنا دام الجميل عليكما ... بثهلان إلا أن تزمّ الأباعر
قال: فتأوه أهل مكة وأنّوا وتمحّصوا «4» ، واندفع الغريض يغني ويقول: «5»
أيها الرائح المجدّ ابتكارا «6» [المديد]
واندفع ابن سريج يغني ويقول: «7» [الخفيف]
جدّدي الوصل يا قريب وجودي ... لمحبّ خياله قد ألمّا
فاندفع الصراخ في الدور بالويل والحرب «8» ، واجتمع الناس إلى الأمير(10/47)
يستعفونه «1» [ص 13] من نفيهم فأعفاهم.
قال أبو الفرج، أخبرني عبد الرحمن بن محمد السعدي قال: حضرت شطباء المغنية جارية علي بن جعفر ذات يوم وهي تغني «2» : [الخفيف]
ليس بين الرّحيل والبين إلا ... أن تردّوا جمالهم فتزمّا
فطرب علي بن جعفر وصاح: سبحان الله لا يكون قربه ولا يشدون ألا يعقلون بشعره «3» ، لا تسلمون على جار، هذه والله العجلة.
قال إسحاق: بلغني أن سكينة حجّت، فدخل إليها ابن سريج والغريض، فقال لها ابن سريج: يا سيدتي إني كنت صنعت صوتا وحسّنته وتنوّقت «4» فيه، وخبّأته لك في درج مملوء مسكا، فنازعنيه هذا الفاسق- يعني الغريض- وأردنا أن نتحاكم إليك فيه، فأيّنا قدّمته [فيه] تقدّم، قالت: هاته، فغناها: «5» [السريع]
عوجي علينا ربّة الهودج ... إنّك إن لم تفعلي تحرجي
فقالت: هاته أنت يا غريض فغناها إياه «6» ، فقالت لابن سريج: أعده، فأعاده، فقالت: أعده يا غريض، فأعاده، فقالت: ما أشبهكما إلا بالجديين الحار والبارد، لا أدري أيهما أطيب.
قال إسحاق: ولي قضاء مكّة الأوقص المخزوميّ، فما رأى الناس مثله في عفافه(10/48)
ونبله، فإنه لنائم في جناح، إذ مرّ به سكران يغني:
عوجي علينا ربّة الهودج
فلم يجده، فقال له: يا هذا شربت حراما، وأيقظت نياما، وغنّيت خطأ، خذه عنّي، فأصلحه له وانصرف.
قال: خرج ابن أبي عتيق على نجيب له من المدينة، قد أوقره من طرفها المآرب «1» وغير ذلك، فلقي فتى من بني مخزوم مقبلا من بعض ضياعه، فقال:
يا بن أخي أتصحبني؟ قال: نعم، قال المخزومي فمضينا حتى إذا قربنا من مكة جزناها، فصرنا إلى قصر، فاستأذن ابن أبي عتيق، فأذن له، فدخلنا فإذا رجل جالس كأنه عجوز ويداه مختضبة لا شك في ذلك، فإذا هو الغريض قد كبر، فقال له ابن أبي عتيق: تشوّقنا إليك، وأهدى له ما كان معه، ثم قال: نحبّ أن نسمع:
عوجي علينا ربّة الهودج
فقال: ادعوا فلانة، جارية له، فجاءت فغنت، فقال لها: ما صنعت شيئا، ثم حلّ خضابه [ص 14] وغنّى:
عوجي علينا ربّة الهودج
فما سمعت أحسن منه، فأقمنا عنده أياما كثيرا، وخبّازه قائم، وطعامه كثير، ثم قال ابن أبي عتيق: إني أريد الشخوص، فلم يبق بمكة تحفة عدنيّ ولا يماني ولا عود إلا أوقر به راحلته، فلما رحلنا وبرزنا، صاح به الغريض: هى هى، فرجعت إليه، فقال: ألم ترووا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: (يحشر من بقيعنا هذا سبعون ألفا على صورة القمر ليلة البدر) ؟ فقال له ابن أبي عتيق:(10/49)
بلى، فقال: هذه «1» سنّ انتزعت فأحبّ أن تدفنها لي بالبقيع، فخرجنا والله ولم ندخل المدينة حتى دفناها بالبقيع.
قال: خرج الغريض مع قوم فغناهم هذا الصوت: «2» [الطويل]
جرى ناصح بالودّ بيني وبينها ... فقرّ بني يوم الحصاب إلى قتلي
فاشتد سرور القوم، وكان «3» معهم غلام فأعجبه، فطلب اليهم أن يكلّموا الغلام في الخلوة معه، ففعلوا، وانطلق مع الغلام حتى توارى بصخرة، فلما قضى حاجته أقبل الغلام إلى القوم، وأقبل الغريض يتناول حجرا حجرا ويقرع به الصخرة، ففعل ذلك مرارا، فقالوا: ما هذا يا أبا زيد «4» ؟
فقال: كأني بها وقد جاءت يوم القيامة رافعة ذيلها تشهد علينا بما كان منّا إلى جانبها، فأردت أن أجرّح شهادتها على ذلك اليوم، والشعر الذي غناه لعمر ابن أبي ربيعة:
جرى ناصح بالودّ بينى وبينها ... فقرّبني يوم الحصاب إلى قتلي
فقالت وأرخت جانب السّتر إنّما ... معي فتحدّث غير ذي رقبة أهلي
فقلت لها «5» ما بي لهم من ترقّب ... ولكنّ سرّي ليس يحمله مثلي
قال الزبير «6» : رأيت علماءنا جميعا لا يشكون في أن أحسن ما يروون في(10/50)
حفظ السّرّ قول ابن أبي ربيعة:
ولكنّ سرّي ليس يحمله مثلي
قال المدائني: بلغني أن الفرزدق سمع عمر بن أبي ربيعة ينشد هذه القصيدة، فلما بلغ إلى قوله:
فقمن وقد أفهمن ذا اللّبّ أنّما ... فعلن الذي يفعلن من ذاك من أجلي
فصاح الفرزدق وقال: [هذا] «1» والله الشعر [الذي] «1» أرادته الشعراء فأخطأته وبكت الديار [ص 15] .
قال مصعب الزبيري: اجتمع نسوة فذكرن عمر بن أبي ربيعة وشعره وظرفه وحسن مجلسه وحديثه، فقالت سكينة: أنا لكنّ به، فبعثت رسولا إليه، ووعد [ته] الصّورين «2» لليلة سمّتها له، فوافاها على راحلته ومعه الغريض، فحدّثهنّ حتى رأى الفجر وحان انصرافهن، فقال لها: والله إني لمشتاق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصلاة في مسجده، ولكن والله لا أخلط زيارتكن بشيء، ثم انصرف إلى مكة، فقال: «3» [البسيط]
ألمم بزينب إنّ البين قد [أفدا] ... قلّ الثّواء لئن كان الرّحيل غدا
قد حلفت ليلة الصّورين جاهدة ... وما على الحرّ إلا الصّبر مجتهدا
لأختها ولأخرى من مناصفها ... لقد وجدت به فوق الذي وجدا
لعمرها ما أراني إن نوى نزحت ... وهكذا الحبّ إلا ميّتا كمدا(10/51)