الفصل الثانى فى الإنصاف بين المشرق والمغرب على حكم التحقيق(5/95)
الفصل الثاني في الإنصاف بين المشرق والمغرب على حكم التحقيق
[خطا الأطوال والعروض ... الشرق والغرب أمر نسبي]
والذي نقوله على سبيل التحقيق أنّ الذي صوّر في لوح الرسم على ما رسمه صاحب (ص 23) جغرافيا قسمة المعمور على قسمين، شرقي يلاقي فيه خطان وهميان في الطول والعرض على زوايا قائمة، وهما خطا الأطوال والعروض سمّوا ملتقى الخطين حيث انفرق المعمور على قسمين بقبة أرين، وهو وسط خط الاستواء الخارجة عنه الأقاليم إلى الشمال، والمقدّران بإقليمين إلى جهة الجنوب، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا في مواضع في هذا الكتاب «1» ، فلما قسم المعمورة بقسمين وقع في الغربي منها أشرف البقاع: مكة والمدينة والقدس، والطور ومصر وطور سينا، والمواضع المذكورة بصريح الاسم في القرآن والمدائن المذكورة في الحديث المشهور على قائله أفضل الصلاة والسلام. وأجلّ الأقاليم الغربية كفارس والعراق والشام وجزيرة العرب، ولم يبق للشرق بقية يباهي بها المغرب، على أنّ الأمر ليس كذلك، والله أعلم. فإنّ كلا من الشرق والغرب من حيث هو أمر نسبي، ألا ترى أنّ أهل إفريقية يعدون برّ العدوة غربا، وبرقة شرقا، وأهل برقة يعدّون إفريقية غربا ومصر شرقا، وأهل مصر يعدّون برقة غربا، وأهل الشام شرقا، وأهل الشام يعدّون مصر غربا، والعراق شرقا، وهلمّ جرّا إلى نهاية المشرق، فتبيّن حينئذ أنّ قول الشرق والغرب أمر نسبي، وإذا تبيّن هذا، وقد تقرر أنّ العالم كروي «2» ، وأنّه لا يمتنع أن يكون ما انكشف عنه الماء من الناحية الأخرى مسكونا صار مشرق هذا العالم مغربا لتلك الجهة ومغربه مشرقا،(5/97)
فكيف يجوز الإطلاق، ولم يبق إلا المصطلح العرفي (ص 24) ، والمغاربة على هذا المصطلح أعني سكان الجانب الغربي عن مصر غاية ما سمت همتهم إليه، وتعلقت أيديهم بنسبته إلى قطرهم هو إقليم مصر. ألا ترى ما قدّمناه في الفصل الذي قبل هذا من قول ابن سعيد أنّ مصر أوّل المغرب والشام أوّل المشرق «1»
وكذلك مما قال في هذا المعنى غير ذلك، وابن سعيد هو واحد فضلائهم في هذا الشأن، ولقد تعصب لأبعد غاية التعصب ووضع في ذلك كتابه المسمى ب (المغرب في حلى المغرب) ، ومع هذا فما زاد على ما ذكرنا على أنه لم يأل جهدا، ولا ترك قدرة في المقال، ولو وجد حجة لأتى بها، أو شبهة لاستند إليها، وقال ابن سعيد في كتاب (المشرق في حلى المشرق) «2» جملة الحد في نسبهم أن الله قسم المشرق من المغرب بالبحار فما كان في شرقي بحر الإسكندرية وخليج القسطنطينية فهو من حساب المشرق «3» وما كان في غربي ذلك فهو من حساب المغرب.
[المشرق أطول من المغرب]
قال البيهقي: فيكون المشرق على هذا أطول من المغرب، لأن جملة المعمور اثنا عشر ألف ميل «4» ، وطول بحر الإسكندرية إلى وقوفه بسواحل الشام حسب أول المشرق أربعة آلاف ميل «5» ، فيبقى للمشرق ثمانية آلاف ميل، ويعضد ذلك الحساب بالدرج في الطول، وذلك أن العمارة تنتهي(5/98)
في الطول إلى مائة وثمانين درجة، فتحتاج أن يكون النصف حيث ينتهي إلى تسعين درجة، وذلك في خراسان حيث مرو وجهاتها، «1» ووجدنا بساحل البحر الشامي عسقلان «2» ينتهي في الطول إلى خمس وستين درجة، فهو قدر الثلث، والمشرق الثلثان، والمشرق مع ذلك أعمر من المغرب، وذلك أن الله تعالى قرن عمارة الأرض بقربها (ص 25) من البحار، وأن البحر إذا بعد من الأرض أكثر من خمسة عشر يوما بطلت عمارتها، والمشرق قد جعل الله في مواضع الحرارة منه حيث قلة السكنى في الإقليمين الأول والثاني، بحار الهند والصين والزنج التي خصت بكثرة الجزر العامرة، وما يقابل هذا المكان من المغرب صحار مقفرة، إلا خيط النيل المغربي بما على ضفتيه من بلاد السودان، والإقليم الرابع الذي هو معظم العمارة، والاعتدال استولى على أكثره بحر الرقاق»
وهو في المشرق بضد ذلك من اشتباك العمارة المتصلة. والمناظرة بين المشرق والمغرب تحتمل كتابا. وقد صنفته بالشام لضرورة دعت إلى ذلك، من شدة اتحاد المشارقة على المغاربة من كل جهة حتى قال ابن دحية «4» في خطبة كتابه في أخبار المغرب يخاطبهم: [الطويل](5/99)
وإن كنتم في العدّ أكثر مفخرا ... فلا تظلمونا في القليل الذي لنا
وسميت الكتاب الذي وضعته في ذلك (الشهب الثاقبة في الإنصاف بين المشارقة والمغاربة «1» ) والذي يسع هذا المكان أن يذكر ما استدل به المشارقة واستظهروا.
[للمشرق الفخر]
قال البيهقي: للمشرق الفخر بتقديمه في القرآن والحديث، وفي الحديث النبوي: (خير الأرض مشارقها) «2» قال وهي مطلع الأنوار، وإليها كانت قبلة الأوائل، وأنى للمغرب بمفاخرة المشرق، وعندنا ظهرت مباعث النبوة، وفينا نبتت شجرة الأبوة. ومنا نشأت الدول والملل، ومن أفقنا طلع العلم والعمل، وكل شيء يفخر به فإن المشرق فيه للمغرب رأس، وكلما أحكم عندكم بنيانه وإتقانه، فمنا كان فيه الأساس. وفاخر مشرقي مغربيا فطال بينهما (ص 26) الكلام إلى أن قال المشرقي: لو لم يكن لنا عليكم من الفضل إلا أن الشمس التي بها إنارة العالم وحياتهم تطلع من عندنا، فقال المغربي: ونحن أيضا تطلع من عندنا في وقت. فقال المشرقي: الله لا يرينا ذلك الوقت، قال وأنشدني العماد السلماسي «3» لنفسه: [المتقارب](5/100)
إذا ذكر الشرق في محفل ... فلا يذكرن به المغرب
طلوع الغزالة في أفقنا ... وفي أفقكم أبدا تغرب
وتشرق أنوارها عندنا ... وعندكم نورها يسلب
[قول ابن سعيد.. المحاسن مقسمة.. الأغلب على البلاد المشرقية]
ثم قال ابن سعيد ما صورته: فصل جامع مختصر يليق بهذا المكان. أمعنت النظر فيما دخلته من بلاد المغرب والمشرق، من البحر المحيط إلى خراسان، فرأيت المحاسن مقسمة لم يقصرها الله على مكان، ولا إنسان، لكن الأغلب على البلاد المشرقية التظاهر بالمروءات، والتكاثر بالمزارات «1» ، والمشاهد والمدارس، والربط «2» والأوقاف الدارّة «3» ، التي ينتعش بها الفقراء، ويستعين بها العلماء والمتعلمون، ويحدها «4» الملوك في بعض الأوقات الضرورية، لكن أسباب الرياسة والرفاهية، جبّارية الإمكان، عالية الإيمان، ومرافق المغرب في المركوب والملبوس والمأكول والمشروب أرخص، وأقرب مرارا، ويمكن المرء أن يتجزى «5» في المغرب بما لا يمكنه أن يتجزى بأضعافه في المشرق لكثرة تجبرهم في العظمة الكسروية، والنعم التي لا تطمح إليها نفوس المغاربة، ولا يألفها في المغرب، والمشارقة لهم التظاهر بأمور(5/101)
الرفاهية في مراكبهم ومجالسهم، فإذا دخلت منازلهم تعجبت من تفاوت بواطنهم عن ظهوارهم، بضد المغاربة، والأغلب على المشارقة التغاضي وترك الحقد، (ص 27) وقلة المؤاخذة على الأقوال والأفعال، ولكن تحت ذلك من المسامحة في القول والإخلاف للوعد، وقلة المبالاة والارتباط ونبذ الحقوق، ومراعاة الآداب الإنسانية، ما يقطع النفس حسرات، ولهم من القيام والبشاشة في السلام ما يطول ذكره، إلا أهل بغداد. وقال: في (المغرب) يا لله لأهل المشرق قولة غاصّ بها شرق هلا نظروا إلى الإحسان بعين الاستحسان، ولم يخرجهم الإزراء بالمكان عن حد الإمكان، لئن أرهقت بصائرهم البصرة «1» ، وأرقتها الرقتان «2» ، ومرجنا نحن بحيث مرج البحرين يلتقيان «3» ، فإنّ منهما يخرج اللؤلؤ والمرجان «4» ، وننشد ما قاله بعض شعرائنا في هذا الشأن: [الطويل](5/102)
[رد ابن فضل الله العمري على ابن سعيد]
نراح لفضل أن يكون لديكم ... فما بالكم تأبون إن كان عندنا
وإن كنتم في العدّ أكثر مفخرا ... فلا تظلمونا في القليل الذي لنا
قلت: والذي قاله ابن سعيد منقوض عليه في أكثره. أما قوله إن المحاسن مقسمة لم يقصرها الله على مكان ولا إنسان، لكن الأغلب على البلاد المشرقية التكاثر بالمزارات والمشاهد إلى غير ذلك مما ذكره فصحيح، وإنما الكثير الغالب قسم الشرق في المحاسن، ومن نظر بعين التحقيق إلى الحيوان والنبات والمعادن، وعدّ ورجّح الأكثر علم أن حظّ الشرق أوفر.
وأما قول ابن سعيد إنّ أسباب الرئاسة والرفاهية في المشرق جبّارية غالية، ومرافق المغرب أرخص وأقرب مراما. فحسبنا منه هذا القول، فإنّ المعالي غير رخيصة، ولا يخفى على ذي عقل سليم وفكر صحيح أن المدح الصريح للشرق فيما ذكره ابن سعيد، وقد كفانا الرجل (ص 28) بقوله همّ البحث معه ومنا قضته فإنه فرق بيّن بين من يلبس الحرير والسمور والعتك، ويركب جياد الخيل، ويقتني الغلمان الأتراك، ويأكل لحم الضأن والدجاج والإوز والحلوى، ويتخذ الطهاة لأنواع المآكل، ويدخن بالعنبر واليلنجوح، ويتطيب بالمسك، ويدّهن بالغالية. ويفخر بعضهم على بعض بكثرة الإنفاق، ولا يقنع في شيء بالقليل- وبين من يقضي أوقاته بضد ذلك: جلّ ملابسه الصوف والقطن، وأطيب مأكله العجين والزيت والسمن وأكثر ما يفخر الرجل منهم إذا كانت له فرس واحدة، أو اقتنى عبدا زنجيا، أو علجا فرنجيا، فإن دخّن كان باللادن، وإن تطيب كان بالغسول، أو ادّهن كان بالزيت، لا يتنافسون في فخار، ولا يحصلون من دنياهم على طائل.
وأما قوله والمشارقة لهم التظاهر بأمور الرفاهية في مراكبهم ومجالسهم فإذا(5/103)
دخلت منازلهم تعجبت من تفاوت بواطنهم عن ظواهرهم، بضد المغاربة- فهذا الكلام باطل منقوض، فإن المشارقة لهم في بيوتهم من الفرش الغالية، والخدم والقيان المطربات، وغير ذلك من أنواع الرفاهية ما لا هو لأهل المغرب، بل ولا تسمح نفوس ملوكهم في هذا بما تسمح به نفوس آحاد من أنعم الله عليه من المشارقة، من السوقة وعوام الناس. وهل خرج توظيف الوظائف، وترتيب طبقات الخدم إلّا من المشرق، كالطسخاناه «1» ، والفراش خانه «2» ، والشراب خاناه «3» ، وسوى ذلك، فهل للمغاربة هذا التوظيف في باطن أمر أو ظاهره، ويا ليت شعري هل صنّف كتاب الأغاني «4» في بواطن أحوال المشارقة أو المغاربة؟؟؟ وكله بل غالبه وصف أحوال المشارقة في مجالس أنسهم، وأوقات خلواتهم بالمطربين والمطربات، والجواري الحسان المثمنات، وتفريق الجوائز والصلات.
فهل للمغاربة شيء من ذلك؟؟ وإن كان لبعض ملوكهم تلذذ فلعله لا يبلغ ما لبعض سوقة المشارقة «5» .(5/104)
وأما قوله: (والأغلب على المشارقة التغاضي وترك الحقد وقلة المؤاخذة على الأقوال والأفعال، ولكن تحت ذلك من (ص 29) المسامحة في القول والإخلاف بالوعد، وقلة المبالاة والارتباط، ونبذ الحقوق ومراعاة الأخلاق الإنسانية ما يقطع النفس حسرات) «1» .
فأول هذا القول صحيح لا شك فيه إن عندهم التغاضي وترك الحقد، وقلة المؤاخذة. وهذا دليل رزانة حلومهم، وكرم شيمهم، ومؤاخذة الآباء للأبناء بحسن التخلق بأخلاق الكرماء، والتأدب بآداب الآباء والعظماء حتى صار هذا طبعا لهم، يتوارثه منهم خلف عن سلف.
[ما فعله يوسف بن تاشفين مع بني عباد ملوك الأندلس]
وأما آخر هذا الكلام فهو غير مسلّم والدليل عليه سير الخلفاء والملوك في الأفقين، وما يعجبني من حسن وفاء المغاربة إلا ما فعله يوسف بن تاشفين «2» ملك المغرب وبرّ العدوة مع بني عباد ملوك الأندلس فإنهم أدخلوه إلى بلادهم، وبذلوا له الطاعة، وقدموا إليه نفائس الأموال، وأخدموه البنين والبنات. فكافأهم(5/105)
بانتزاع الملك، وأخذ ابن عباد «1» وأهله الأخذة الرابية، وقيده بالحديد، وغله وسلسله، وحمله هو وأهله في الفلك إلى أن سجنه بأغمات «2» ، ورمى أهله بالتفرق والشتات، ولم يجر عليه وهو في حبسه ولا رغيفا واحدا من الخبز، حتى كنّ «3» بناته يغزلن للناس بالأجرة، ويطعمن أباهم، ودخل إليه بعض بناته في يوم مطير ذالق ووحل، وهي حافية القدم، لعدم قدرتها على مشترى حذاء، فبكى على حاله، وقال في ذلك الأشعار المشهورة «4» ، والأقوال المذكورة، وأدى(5/106)
حال بعض بنيه بعد الملك الضخم إلى أن صار أجير صائغ يعمل بالأجرة.
ولابن اللبانة «1» شاعره في وصف حاله وحال أولاده ما يبكي السامع، ويحزن الفرح المسرور «2» (ص 30) فهذا من وفاء المغاربة، وعليه فقس بقية الأمور، وأما قوله ولهم من القيام والبشاشة في السلام ما يطول ذكره، فصحيح وهو مما تقدم القول فيه من مكارم الأخلاق، وحسن التخلق مع الناس، وللناس الظاهر والله يتولى «3» السرائر. ولله (در) «4» القائل: [البسيط]
لقد أطاعك من يرضيك ظاهره ... وقد أجلك من يعصيك مستترا
وإن سلم إلى ابن سعيد أنّ للمشارقة حسن الظاهر دون الباطن، فلقائل أن يقول: صدقت للمشارقة حسن الظاهر دون الباطن، والمغاربة لا لهم ظاهر ولا باطن «5» .
وأما قوله: (نحن بحيث مرج البحرين يلتقيان، ومنهما يخرج اللؤلؤ والمرجان) فصحيح أن منهما يخرج اللؤلؤ والمرجان، وإنما اللؤلؤ من البحر(5/107)
الهندي، وما خرج منه، وأما البحر المغربي فليس فيه إلا المرجان، ليس إلا، فتأمل فرق ما بين الاثنين في اللون والكون والقيمة. وإنما تكثر ابن سعيد بما ليس له، ولو اقتصر على المرجان لسلمنا إليه، فإنه في بحر المغاربة، وإلا من أين هم واللؤلؤ وهو من بحر المشارقة!؟ والذي يظهر في معنى قوله تعالى:" مرج البحرين" «1» أنه عن الهندي والشامي، وحيث يلتقيان في المحيط لمخرجهما منه.
وأما قول ابن سعيد: (فإن كنتم في العد أكثر مفخرا) البيت فهذا إقرار صريح منه، وممن قاله للمشارقة.
[الموازنة بين المشرق والمغرب]
ثم قال: (وللمشرق على المغرب الفخر في كتاب الله تعالى في قوله عزّ وجل رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ
«13» وإن كانت الواو لا ترتبه فلا يخفى ما في التقديم، لا سيما إذا تكرر في أماكن من الاعتناء وقد تقدم مثل هذا. ثم قال:
(وأما الحديث فللمغرب فيه الفخر على المشرق، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:" لا يزال (ص 31) أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة" «2» رواه ابن بشكوال مما أخرجه مسلم في صحيحه، وقد ذكر البخاري في تاريخه الكبير عن عمرو بن الحمق الخزاعي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه(5/108)
قال:" ستكون فتنة خير الناس فيها الجند المغربي" «1» وعن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" لا تزال عصبة من أمتي بالغرب يقاتلون على الحق لا يضرهم من خالفهم، حتى يروا قوما قياما، فيقولون غشيتم، فيبعثون سرعان خيلهم، فينظرون ويرجعون إليهم، فيقولون: الجبال سيّرت، فيخرون سجدا فتقبض أرواحهم" «2» . قال رسول الله صلى الله عليه(5/109)
وسلم:" خير الأرض مغاربها" «1» ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من فتنة المشرق. وقال ابن سعيد: (حسب المغرب وأهله هذه الأحاديث، التي لا يوجد مثلها في ذكر المشرق. «2» وفي أماكن من المشرق وأماكن من المغرب ما هو مذكور في القرآن والحديث مثل مكة والمدينة وبابل من المشرق، ومصر من المغرب، ومكة والمدينة والشام من المشرق، وذلك كثير، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أربع مدائن من الجنّة: مكة والمدينة وبيت المقدس ودمشق، وأربع مدائن من النّار: رومية وقسطنطينية وأنطاكية وصنعاء" «3» وقد قال إدريس: يعني أنطاكية المحرقة.
وقال أبو عبد الله السفطي: إن المراد صنعاء بأرض الروم، وليست التي باليمن.
قال ابن سعيد: فخرج من هذا الحديث أن ليس بالمغرب مدينة من هذه المدن، التي هي من الجنة. كما أنّ لهم الفخر أيضا بأن أنهار الجنة على ما جاء (ص 32) في الحديث:" الفرات وسيحان، وجيحان والنيل" «4» ، وليس منها في المغرب إلا واحد وهو النيل.(5/110)
قلت: فانظر إلى ابن سعيد مع فرط تعصّبه للمغرب وأهله ما قدرأن يدعي أنّ من المغرب أشرف البقاع، ومدن الجنة، فلما ذكر الأنهار الأربعة قال: وليس منها في المغرب إلّا واحد، وهو النيل، فما تجاوز مصر في الدعوى على كثرة ما نظر في لوح الرسم المصوّر، وطالع الكتب الموضوعة عليه، والمقالات المتفرعة فيه، ولكنه ما (تحلى بما ليس له كلابس ثوبي زور) «1» ، ولا ادعى دعوى يفضحه فيها الحق، وهذا منه غاية الإنصاف والإذعان للحق وأهله، ولو وجد في الحق سبيلا بحق إلى سوى هذا لقاله، فإذا لم يدع هذا للغرب مغربي لا يدعيه له مشرقي.
ثم قال ابن سعيد- نقلا عن البيهقي-: إن حد المغرب من الجهة التي ذكرها بطليموس في أنّ الله تعالى قسم الأرض نصفين ببحر جدّة وخليج القسطنطينية، على أن يجعل الديار المصرية أول الغرب، وكل هذا يؤيد بعضه بعضا في إثبات الفخار للمشرق لاشتماله «2» على أشرف البقاع، ومدن الجنة وأجل الأقاليم العرفية كالشام والعراقين وأذربيجان وخراسان إلى نهاية المشرق.
وكلام ابن سعيد كله لمن تأمله إثبات لفضل المشرق وأهله على الغرب وأهله، وهو الحق الذي لا يمترى فيه، وقد قال الرئيس أبو علي بن سينا «3» المدن المشرقية صحيحة «4» جيدة الهواء، تطلع على ساكنها الشمس في أول النهار،(5/111)
وتصفي هواءهم ثم تنصرف عنهم وقد تصفى، وتهبّ عليهم رياح لطيفة، ترسلها عليهم الشمس آخر النهار، ثم يتبعها طلوع الشمس في أول النهار الثاني وحال (ص 33) خروج الشمس عنهم حال دخول الهواء إليهم فهي صحيحة لذلك، والمدن المغربية لا توافيها الشمس إلى حين تنكب، وكما توافيها تأخذ في القصد عنها، لا في القرب إليها، فلا تلطّف هواءها، ولا تخففه، بل تتركه رطبا غليظا، وإن أرسلت رياحا إليهم أرسلتها ردية «1» ، وأرسلتها ليلا، فتكون أحكامها أحكام البلاد الرطبة المزاج، الغليظة المعتدلة الحرارة، ولولا ما يعرض من كثافة الهواء لكانت تشبه طباع الربيع، لكنها تقصر عن صحة هواء البلاد المشرقية قصورا كثيرا، فلا يجب أن يلتفت إلى قول من قال إن قوة هذه البلاد قوة الربيع قولا مطلقا، بل إنها بالقياس إلى البلاد التي في الأغوار جيدة، ومن المعنى المذموم أن الشمس لا توافيهم إلا وهي مستولية على تسخين الإقليم لعلوها، فتطلع عليهم لذلك دفعة بعد برد الليل، والرطوبة أمزجة هوائهم تكون أصواتهم باحة، وخصوصا في الخريف، وتكثر في بلادهم النوازل. انتهى كلام ابن سينا.
وقد ذكرنا في الفصل المتقدم ما ذكره ابن سعيد من أن المشرق أتمّ وأعمد، وأن الجزائر بالبحر الهندي أعظم وأكبر، وبيّنا السبب في اتساع الشرق بما اقتطعه البحر الشامي من أجل الأقاليم المعمورة، كالثالث والرابع والخامس، الواقع فيها معظم العمارة ووقوع البحر بالشرق في جنوبه حيث لا مبالاة به من الأول والثاني، فتعطل في المغرب المعمور، ولم يتعطل في الشرق إلا العاطل، بل زاد موقع البحر هناك بالشرق عمارة للشرق وحسب ما قدمنا القول فيه لأنه رطّب هواءه، وأيفع ماءه وزاده عمارة، وزانه نضارة، وأوجب به العمارة، وراء خط الاستواء، وعمّر الجزائر فيما هو داخل (ص 34) الإقليمين اللذين أخذ فيهما ما(5/112)
لو قيس بالمعمور فيها بالمغرب لزاد عليه، فإن قيل كيف تكون جزائر في البحر أوسع من العمارة في البر المتصل؟ قلنا: الجواب أن العمارة في البر المتصل بالإقليم الأول والثاني ليست متصلة بعضها ببعض، بل يتخلل بين العمارة والعمارة من البراري والقفار أكثر مما يتخلل بين الجزيرة والجزيرة من المياه والبحار.
[الحيوان والنبات]
فأما الحيوان والنبات والمعادن فإنها بتلك الجزائر أعظم مما في عمارة البر المتصل المسامتة «1» بلا نزاع. وانظر أشرف الحيوان وهو الإنسان، كيف صور أهل الإقليم الأوّل والثاني بالغرب: من شدّة سواد الألوان، وقحل «2» الأجسام، وتفلفل «3» الشعر، وتشقق مواطئ الأقدام، وبشاعة المنظر، وخفة العقل، وكيف هم أهل الجزائر فيهما بالشرق من حسن السمرة، ونعومة الأجسام، واسترسال الشعر، والتيام «13» مواطئ الأقدام، وبهجة المنظر، ورزانة العقل، وهكذا الفرق بين بقية الحيوان بالجهتين.
وأما النبات فلا نزاع أن منابت الجزائر الشرقية وما هو في معناها كلها فاضلة كالعود الهندي «4» ، والصندل والفلفل «5» ، والكبابة «6» والإهليلجات «7» ،(5/113)
والنارجيل «1» ، والفواكه المستطابة، وليس هذا هكذا في الجانب الغربي.
وكذلك المعادن في الجهات الشرقية أفضل مما هي في الجهة الغربية، فإن قيل:
معادن التبر «2» بغانة في الغرب قلنا وسفالة التبر بالشرق- وهي كما نقله أصحاب هذا الشأن- أكثر مما في غانة، بما لا يقاس ويزيد بأرض الزنج، فمنها ما يكون ترابه حيث أوقدت به النار فضة خالصة لوقتها، من غير ريث «3» ، وقد ذكرنا من هذا في أوائل هذا الكتاب عند ذكر تقسيم الأقاليم ما فيه كفاية (ص 35) ولجميع ما ذكرناه للشرق على الغرب الفضل بلا نزاع، وبه القول الفصل بلا دفاع، فكان موقع البحر بالشرق زيادة فيه، وموقع البحر بالغرب نقصا له.
[المغرب والمشرق واللغة وبعض الشعراء]
وأهل المغرب أحسن رقما لديباجة الألفاظ «4» ، وأهل المشرق أحكم لقواعد المعاني، لأن الغالب على أهل المغرب العربية، وما هو منها من النظم والنثر، والغالب على أهل الشرق المعقولات وما هو منها، وإن كان في المشارقة من لا يقصر في غاية، وفيمن مضى منهم أكثر أفرادا: كبشار «5» ، ومسلم بن(5/114)
الوليد «1» ، وأبي نواس «2» ، وأبي عبادة «3» ، وعلي بن الرومي «4» ، وابن المعتز «5» والمتنبي «6» ، ومن هم من هذا النمط العالي، والسمط الغالي، سوى(5/115)
القدماء، ولكن لأهل الأندلس لطائف دقت عن تلك الأفهام ورقت عن مزاج ذلك الكلام، وإن كان من المشرق أصل ما عندهم من الأدب: [البسيط]
ففي السّلافة معنى ليس في العنب «1»
فلقد لطفوا مسالك الأدب، وأفادوا شرف الحضارة محاسن العرب، وقلبوا الأعيان وسحروا الألباب بالبيان، فجاؤوا بأعجب العجب، وزادوا بحسن السبك خالص الذهب، وإن كان الشرق قد أنتج من طبقة أهل الأندلس من لا تحجم به المفاخر، ولا تحجب به المفاخر، ولكن للأندلسيين لطائف أعلق بالقلوب، وأدخل على النفوس في كل أسلوب.
[العلوم العقلية]
وأما العلوم العقلية كالطبيعي والرياضي والإلهي «2» فلا نزاع في تقدم أهل المشرق فيها، وإن كان قد نشأ له بالغرب أناس، وبرقت له في الأندلس على عهد الحكم بن هشام «3» لامعة، فالشرق فيه (ص 36) لا يكابر ولا يكاثر، ولا يناضل(5/116)
ولا يناظر، وقد تقدّم في الفصل الخطابي الأول في هذا الباب ما إن قيل إنه خطابي فهو الحق الذي لا يجحد، والصحيح الذي لا يكذّب «1» .
[المتنزهات.. والقلاع والمدن والأنهار]
قال ابن سعيد: المتنزهات التي تقع المناظرة فيها بين المشرق والمغرب فإننا نبني الكلام فيها على ما ورد في الكتب، من أن المتنزهات المشهورة بالحسن والتقديم على سواها أربعة: وهي غوطة دمشق بالشام «2» ، والأبلّة بالعراق «3» ، وشعب بوّان بأرض فارس «4» ، وصغد سمرقند وراء النهر «5» . وقد ذكر أبو بكر(5/117)
الخوارزمي «1» : أنه رأى جميعها، فكان فضل غوطة دمشق عليها كفضل سائرها على متنزهات العالم، وجميع هذه الأماكن الأربعة قد أطنب في ذكرها البيهقي وعظمها على غيرها «2» .
وقد رأيت غوطة دمشق وتقدم أنها أفضلها، فنبني الحكم عليها، والتي تشبّه بها من أماكن المغرب غرناطة «3» ، فنتكلم في المدينتين ظاهرا وباطنا، كلاما موجزا يحتمله هذا الموضع، وكلاهما قد أبصرته وحررت المناظرة بينهما:
أما مسوّر بمسوّر فإن غرناطة أحسن من جهة أنّ سورها غير كدر اللون،(5/118)
كسور دمشق، تنبو عنه العين.
ومن جهة أن المدينة موضوعة على جبل ممتد السهل الأعلى بحيث تمهدت فيه الشوارع، وترتبت الأسواق، وقسمة النهر المعروف بنهر الذهب «1» ، وعليه قناطر يعبر الناس عليها، وهواؤها من أجل ارتفاعها أطيب وأصح، ولها زيادة أنها في وسط الإقليم الرابع المعتدل، ودمشق في الثالث، ولها كونها مكشوفة من جهة الشمال لها جبل يفصل بينها وبين هبوب (ص 37) النسيم الرطب ولها في الخبون جبل الثلج يهب منه في الصيف نسيم يتنسم منه روح الحياة، وهو الذي روّق أمزجة أهلها، وأكسبهم الألوان البديعة، من امتزاج الحمرة بالبياض، التي تخجل ورد الرياض، وتزيد عليها بأن المياه لا تنقطع منها صيفا ولا شتاء، لأن الأنهار تشقها وتدير الأرجاء، في داخل المسوّر، ودمشق محجوبة من الشمال منخفضة، إذا انقطع عنها الماء المجلوب لها في القنوات بقيت جيفة، وتزيد عليها غرناطة بكثرة الأنهار، فإن أنهار دمشق سبعة «2» ، وأنهار غرناطة التي تنصب إليها من جبل الثلج أكثر من ذلك، وأن أنهار غرناطة تنصب من الجبل على رؤوسها في صخور، تحسن بتقطيعها عليها، وجريتها ما بين الجنادل والحصى. وأنهار دمشق تأتي بين دمن البساتين في أرض سهلة رخوة، فيقل ماؤها، ويحدث منه من الوخامة ما هو مشهور، وكان القاضي الفاضل يقول ماء دمشق يتخلّل منه أراد أن الأزبال التي تتخذ للبساتين تمتزج معه، لأن أنهار الغوطة تشق بكليتها بساتينها، وأنهار غرناطة تخرج منها مذانب تنقي في تصرفها، ويبقى جماهير الأنهار تتخلل مروج البسائط، وتزيد غرناطة على دمشق في الفرجة العظمى بأنها تاج مشرف على بسيط يمتد نحو يومين، لا ترى(5/119)
فيه إلا أبراجا كبروج السماء، وأنهارا كأنهار المجرة «1» ، ومروجا كبسط الخز، وأشجارا كالعرايس، وأطيارا كالقيان، يسافر في جميع ذلك بصرك في دفعة واحدة، من غير انعطاف. فسبحان من أفرغها في قالب الحسن، الذي لم تر له عيني مثالا، وفيها يقول أبو جعفر بن سعيد «2» (ص 38) : [الكامل]
سرح لحاظك حيث شئت فإنه ... في كل موضع لحظة متأمل
وفيها يقول ابن أخيه: [المجتث]
غرناطة الحسن تيهي ... على دراري النجوم
أشرقت مثل عروس ... على بساط رقيم
وكلّ نهر عليه ... كمثل سلك نظيم
ما جرّدت كسيوف ... إلا لقتل الهموم
وقلعة غرناطة في أعلاها شديدة الامتناع، وقلعة دمشق مساوية معها يأخذها القتال، وتركبها المجانيق، لكنا لانغبن دمشق حسن واديها، والشرفين المحدقين به، وما احتوى عليه ذلك المنظر من القصور الزاهرة، والبساتين الفتانة، مع حسن ترتيب الأنهار واحدا تحت آخر، ومرورها في البساتين بمعظمها، ولقد نظرت من نهر ثورى «3» في مروره بمعظمه على البستان السلطاني، المعروف بالنيرب، وما(5/120)
عليه من المصانع الملوكية، وينبع ماء نهر يزيد من قلبه بحركات بديعة إلى منظر لم أر مثله في غرناطة. وتأملت الربوة «1» حيث مقسم الأنهار، وانحدار نهر يزيد في مبانيها، وانصبابه على رأسه منها، فرأيت منظرا فتانا، يجب أن يفتخر به ويذكر. وإذا صعد المتأمل هذه الربوة امتد بصره في ألفاف الأشجار المنخفضة عنه نحو مسيرة يوم، وبان له من ذلك الموضع المرتفع ما لا يوجد في غرناطة، لمن أشرف على بسيطها إلا أنه لا تبين له أنهارها لتكاثف الأشجار عليها كما تبين في بسيط غرناطة، وكل واحدة منها مما يجب أن يتمثل فيه (ص 39) : [الوافر]
ولو أني نظرت بألف لحظ ... لما استوفت محاسنك العيون
وفي المشرق والمغرب متنزهات كثيرة، هذان أشرفها ولو لم يكن في الأندلس إلا مدينة بلنسية «2» ، وما في ظاهرها من المياه والبساتين، والبحيرة التي تقابلها الشمس فيكثر منها نور بلنسية لكفاها، فكيف وكل مكان بها ترتاح إليه النفس، ويعظم به الأنس، وفي بر العدوة أماكن للفرجة متعددة أخذها بمجامع القلوب، وأزمّة الأبصار، بليونش متنزه بظاهر سبته «3» ، على البحر في نهاية من حسن الوضع، وانحدار المياه، التي لها على الصخور دوي، والتفاف الأشجار،(5/121)
وتزخرف المباني، وكثرة الفواكه الطيبة، المختلفة الأنواع، واجتمع على ابن سعيد صاحب كتاب المغرب «1» مع العماد السلماسي «2» في مجلس جرى بين أهله ذكر المشرق والمغرب، وزاد في ذلك المجلس من التنقص والتهكم بالغرب حتى كاد تقوم بينهم الحرب، فكتب إليه علي بن سعيد: لو ترك القطا ليلا لنام «3» ، وهذا ما أثاره ذلك المجلس ولا ملام، العجب ممن سأل عن المغرب في ذلك المجلس المعرب: هل فيه أنهار مثل المشرق؟ أو ليس فيه أنهار، بسؤال يظلم الجور على صفحاته، ويجول الازدراء في جنباته: [الطويل]
رمتني سهام الدهر من حيث لا أدري ... فما بال من يرمي وليس برام
وإني لأقسم بمن أجرى الأنهار من الصم الجبال، وسلك بها في بسيط الأرض ذات الجنوب والشمال لو أن السائلين عن المغرب هل به أنهار؟ عاينوا من نهر إشبيلية «4» نهرا يصعد من البحر المحيط فيه سبعون ميلا عابرا على المدينة، مصعدا إليها السفن بالأرزاق والبضائع من البحر، دون مكابدة، ثم يحدر(5/122)
(ص 40) أمثالها الجزر دون جهد، ولم تتغير عذوبة الماء بالبحر الملح، وقد طرز الله جانبيه بطرازين من ألفاف البساتين، ذوات الثمر والظلال، ورصعهما فيما بين ذلك بمصانع درّيّة الألوان، كأنما وضعهما الخالق جل وعلا من خيم الجنان لأقروا بالتسليم إلى ذلك، وأحالوا بالتقديم على ما هنالك، ولو عاينوا خضرة سرقسطة «1» التي حف بها من الجهات الأربع أربعة أنهار كأنما تغايرت عليها فمالت بالمصافحة والتقبيل من كل جهة إليها- لعذروا القائل: [الكامل]
نهر يهيم بحسنه من لم يهم ... ويجيد فيه الشعر من لم يشعر
ما اصفرّ وجه الشمس عند غروبها ... إلا لفرقة حسن ذاك المنظر
وليس هذا بموضع الإطناب، وقد عزمت أن أفرغ الفكر لكتاب أجعله بين الخصمين ميزانا، وأخلده عن الجهتين عنوانا. [الرجز]
لبّث قليلا يدرك الهيجا حمل
فأجابه العماد السلماسي كفى جوابا قول الله عز وجل (أتهلكنا بما فعل السفهاء منّا) «2» . لو لم يكن للمغرب إلا طلوعك علينا منه لصمتنا له عن كل نقيصة، وأغضينا عنه فكيف وقد ملئ فضائل، وطلعت علينا منه نجوم فوائد غير أوائل، نحن أولى بالثناء عليه من الذم، وماذا يبلغ من التكدير من رمى الحجر في اليم، وقد رأيت أن أشتغل برسالة أثني فيها على الغرائب، التي استفدناها من(5/123)
المجلس، وأفرد فيها من ملح فضلاء المشرق ما يستغرب بالمغرب، إلا أني وقع لي معنى يفخر به المشرق على المغرب، نظمته على جهة المداعبة، وبعثته طلبا للمجاوبة، وهو: [المتقارب]
[شعر في مدح المشرق والمغرب وغلمانهما]
(ص 41) إذا ذكر الشرق في محفل ... فلا يذكرنّ به المغرب
طلوع الغزالة في أفقنا ... وفي أفقكم نورها يغرب
وتشرق أنوارها عندنا ... وعندكم حسنها يسلب
فأجابه ابن سعيد: [مخلع البسيط]
يفخر بالشرق أهل فخر ... قولهم بهرج شتيت «1»
قالوا لنا الشمس في طلوع ... قلنا لهم عند من تبيت؟
تبيت حيث المهاد رحب ... والليل فيه مسك فتيت
قلت: وقد أنصف الوداعي «2» أحد شعرائنا المتأخرين إذ قال: [الوافر]
حوى كلّ من الأفقين فضلا ... يقرّبه الغبيّ مع النبيه
فهذا مطلع الأنوار منه ... وهذا منبع (الأيمان) «3» (فيه)(5/124)
وكذلك لقد أرضى جيراننا المغاربة بقوله: [المنسرح]
في الغرب خير وعند ساكنه ... أمانة أوجبت تقدّمه
فالشرق من يثريه عندهم ... يودع ديناره ودرهمه
ثم نعود إلى ما كنا فيه، وما نحن بصدده.
قال صاحب الكمائم «1» : إنّ الله تعالى جعل المعمور من الأرض مقسوما على سبعة أقاليم آخذة من مغرب الشمس إلى مشرقها، والمغرب والمشرق مشتركان فيهما بالسواء، لأن كل إقليم فيها للمشرق والمغرب فيه حظ، وإحكامه في المشرق من جهة الإقليمية، والتأثيرات النجومية إحكامه في المغرب، إلا أن لمشارق الشمس في مطالعها بالمشرق في تصفية الألوان والأذهان حكم يشبه الشمس عند شروقها، ولمغاربها بالمغرب في ضد ذلك حكم يشبه الشمس عند غروبها.
قال ابن سعيد: وقد أقر بهذا الشأن لأهل المشرق على أهل المغرب الحافظ أبو محمد بن حزم الأندلسي «2» : في رسالته حيث قال: فإن قرطبة مسقط رؤوسنا،(5/125)
ومعق تمايمنا مع سرّ من رأى في إقليم واحد، قلنا من الفهم والذكاء ما اقتضاه إقليمنا، وإن كانت الأنوار لا تأتينا إلا مغربة عن مطالعها على الجزء المعمور، وذلك عند المحسنين للأحكام التي تدل عليها الكواكب ناقص من قوى دلائلها، وقد جعل صاحب الكمائم ذلك (ص 42) سببا لتكدير أخلاق المغاربة في سائر أقاليمهم، وصيّر ذلك متعديا إلى مياههم. وقال إن الإقليم الرابع وإن كان أعدل الأقاليم فإن فعله في الألوان والخلق في رأس المشرق فوق فعله في ذنب المغرب، فقد عاينت من يرد من الغلمان الذين يفتنون الناظر من الأتراك، والخطا «1» الذين يسكنون الإقليم الرابع عن يمين خوارزم، وجهات تركستان، وعاينت جماعة ممن يصلون من إشبيلية وقرطبة إلى بغداد وإلى بلاد العجم، فكان بين الجنسين بالنظر إلى صفاء الألوان وحسن الصور بون لا يخفى على الناقد. قال ابن سعيد: نظر البيهقي من غلمان الأتراك والخطا الصور التي تنتخب في عنفوان شبابها وبهجتها، وتهدى إلى الملوك، وأراد أن يقيسهم مع أشياخ وكهول يصلون من إشبيلية وقرطبة، بعد ما قطعوا أكثر طول الأرض، وقد شربت الأهواء المختلفة، وأعالي السني المتوالية مياه وجوههم، وسودت بشائر الحسن خدودهم، فكسفت شموسهم، وخسفت بدورهم، وذوت غصونهم، وذبل وردهم، وطحلب وردهم «2» ، فكانوا كما قال ابن حريق البلينسي «3» في محبوبة(5/126)
له نظر لها، وقد أخذ منها السّن، وصوّرها في الدرك الأسفل من الحسن: [الرمل]
إنّ ما كان في وجنتها ... وردته السنين حتى نشفا
وذوى العنّاب من أنملها ... فأعادته الليالي حشفا «1»
وأقسم بما ضمنته الخدود من وردها، واشتملت عليه الثغور من وردها وأقلته الغصون من بدورها، واحتوت عليه الأزرار من عاج صدرها (ص 43) لو نظر البيهقي إلى غلمان إشبيلية، وما وشاهم الحسن به من بديع التوشية لعدل بالتفضيل إليهم، وأحال بالتقديم عليهم، وأنشد في كل واحد من سربهم ما قاله أبو القاسم بن طلحة الصقلي «2» ، وقد طلعت عليه إحدى شموسهم من أقصى مغربهم: [السريع]
أيتها النفس إليه اذهبي ... فحبه المشهور من مذهب
مفضض الثغر له مسكة ... قد طبعت في حدّه المذهب
أيأسني التوبة عن حبه ... طلوعه شمسا من المغرب
ولقد رأيت بالقاهرة غلمانا وصلوا إليها مع رسول الإمبراطور، من جزيرة صقيلية «3» ، وهي في الإقليم الرابع، قضيت العجب من كمال الحسن فيهم بين اعتدال قدّ، ودهم وهيف خصورهم، وصفاء ألوانهم، المشربة بالحمرة، التي(5/127)
تعشقها النفس، وتسرح فيها العين، وحسن مجموع صورهم وتفاريقها، (فتبارك الله أحسن الخالقين) «1» .
وكأن أهل القاهرة معجبون فيهم، وتهالك في الوجد بهم جماعة من الأمراء، وتوصلوا إلى إحضارهم في مجالس أنسهم، وكانوا يحسنون الكلام بالعربية، ويعلمون مواقع النوادر على عادة نصارى صقيلية، وخفي عن الناس هنالك مراد الإمبراطور بتوجيههم، وإنما أرادوا أن يتكشفوا «2» من الأحوال الباطنة على ما لا يتوصل إليه غيرهم، ممن لا يشفع في تقريبه حسنه، فما انفصلوا عن القاهرة إلا وقد حصلوا من الأخبار ما يسهّل طريقه إليهم، شفيع الحسن الذي لا يرد «3» . على أني أبصرت من غلمان الأتراك ذوي الأثمان الغالية ما أرجع فيه إلى الإنصاف. وأفضلهم على غلمان أصناف الرّوم.، الذين يجلبون إلى ملوك الأندلس، وسلاطين برّ العدوة، ولقد أخبرت أنه (ص 44) كان بحلب منذ مدّة قريبة مملوك تركي، خلف أحد المغاربة النقاد أنه لم ير أحسن من صورته في شرق ولا غرب، وأنه أعطي مولاه ثلاثين ألف درهم ناصرية «4» ، فامتنع من بيعه، فمات على إثر ذلك. ولو قيل بالمغرب إن مملوكا بلغ هذا الثمن لم يصدق الناقل، وجعل الناس يضحكون عليه من هذا الحديث. إذ المعتاد في المغرب ما خلا الديار المصرية، أن يكون المملوك الحسن الصورة من الإفرنج(5/128)
وغيرهم بخمس مائة درهم من هذه الدراهم، وهي ألف من الدراهم المغربية، فيكون عند الملك بدل هذا المملوك الذي هو بثلاثين ألف درهم كتيبة فرسان من ستين فارسا، على أنهم أكثر ما يبتاعون المماليك الذين قيمة الواحد منهم خمسمائة درهم مغربية، وستمائة ونحو ذلك. قال: وهمّم أهل المشرق في هذا الشأن مسلمة لهم، وكل هذا الذي ذكرناه هنا مما ذكره ابن سعيد. قلت: أما قوله عن علو ثمن المملوك ثلاثين ألف درهم ناصرية فهو معذور فيه، ولكنه ما عمر إلى إمام سلطاننا ورأى ما جلب إليه، وما بذل من الأثمان، ولو رأى ذلك لاحتقر ما استكبر، واستقل ما استكثر، وأما قوله: إن الدرهم الناصري بدرهمين مغربية، فقد قدمنا القول أن الدرهم الكاملي «1» معاملها اليوم بثلاثة دراهم مغربية عتق، وهو بدرهمين مغربية جدد، ولعله أراد الجدد، وإلا فحينئذ لا يقال إنها جدد لا تكون إلا ثلاثة بدرهم. والناصرية التي ذكرها ضرب الناصر بن العزيز «2» وهي دون «3» الكاملية بقليل.
أما الذي ذكره من حسن غلمان الروم فغير منكور، وإنما الترك أتم صورا(5/129)
وأكمل تخطيطا، وللترك حسن الوجوه، وللروم حسن الأبدان، فمحاسن الترك أفضل لأنها لا تغطى ولا تحجب، ومحاسن الروم أخفى لأنها تغطى وتحجب.
[الإسكندر وبلاد فارس وأرسطو وصاحب الصين]
فأما شرف الجنس وبعد الهمة ووفور العقل والشجاعة فأين الروم مما وهبه الله الترك من ذلك حتى إن الاسكندر «1» وهو أجل ملوك الروم بل الأرض، ولا خلاف في حكمته وفضله، وقد أقر للترك على نفسه، فإنه لا تطمح نفس أحد من الفرس إلى مطاولة الترك، وقد طاولت الروم، وكان لها الغلب على الروم غالبا، ولما أتى الإسكندر بلاد الفرس رأى من رجالهم ما بهر عقله فكتب إلى معلمه ووزيره أرسطو «2» يعلمه أنه شاهد بإيران شهر رجالا ذوي أصالة في الرأي، وجمالا في الوجوه لهم مع ذلك صرامة وشجاعة، وأنه رأى لهم (ص 45) هيئات وخلائق، ولو كان عرف حقيقتها لما غزاهم، إنما ملكها بحسن الاتفاق والبخت «3» ، وأنه لا يأمن إن ظعن عنهم وثوبهم، ولا تسكن نفسه إلا ببوارهم. فكتب إليه أرسطو:
فهمت كتابك في رجال فارس، فأما قتلهم فهو من الفساد في الأرض، ولو قتلتهم جميعا لأنبتت البلد أمثالهم، لأن إقليم بابل يولد أمثال هؤلاء الرّجال، من أهل العقول والسداد في الرأي، والاعتدال في التركيب، فصاروا أعداءك وأعداء عقبك بالطبع، لأنك تكون قد وترت القوم وأكثرت الأحقاد على أرض الروم منهم وممن بعدهم، وإخراجك إياهم في عسكرك مخاطرة بنفسك وأصحابك، ولكني أشير عليك برأي هو أبلغ لك في كل ما تريد من القتل، وهو أن تستدعي أولاد الملوك، ومن يستصلح للملك، وهو مرشح له، فتقلدهم البلدان، وتولهم الولايات ليصير كل واحد منهم ملكا برأسه، فتفرق كلمتهم(5/130)
ويجتمعوا على الطاعة لك، ولا يؤدي بعضهم إلى بعض طاعة، ولا يتفقوا على رأي واحد، ولا تجتمع كلمتهم، ففعل الإسكندر ذلك، فتم أمره. فانظر إلى ما في هذا الابتداء والجواب من تعظيم الإسكندر وأرسطو لرجال فارس، وقول أرسطو إن أرض بابل تولد مثل هؤلاء الرجال. وهذا الإسكندر قد جال الأرض غربا وشرقا فما تراه أكبر إلا أهل الشرق، ولا عظمّ إلا لهم، وإذا كان هذا قوله في فارس فكيف كان قوله في الترك وفي الهند، مع ما هو مشهور من حكايات الإسكندر مع صاحب الصين «1» ، مما اعترف له فيه بالحكمة، وأقرّ له بالفضل، مما ليس هذا موضع ذكره. فيا هل تراه ذكر أهل المغرب أو وصفهم بقول أو فعل.
[تشبيه ابن سعيد الأرض بطائر]
وقد ذكر ابن سعيد أيضا أن الأرض تشبه بطائر رجلاه بر العدوه والأندلس «2» ، وقد تقدم ذكر هذا (ص 46) التشبيه، ثم قال: ولا أسلم في تشبيه الأندلس برجل إلا إن أرادوا في الاعتماد عليها وعمارتها بمثل ما تعمر به رجل العروس الخالية من الخلاخل، وأشباه ذلك. وأنشد قول الصولي «3» يخاطب(5/131)
القائم بن عبيد الله الإسماعيلي «1» الذي خطب له بالخلافة في المغرب، وكان قد وجّه لبغداد قصيدة يفخر فيها ببيئته، وبما فتح من البلاد، فأجابه الصولي بقصيدة على وزنها ورويها: [الطويل]
فلو كانت الدنيا مثالا لطائر ... لكان لكم منها بما حزتم الذنب
قال ابن سعيد: وأنا استحسن هذا البيت فإنه وقع في موضعه لكون البلاد التي كانت بيد القائم في ذلك الزمان من الأرض بمنزلة ذنب الطير لكونها في آخر المعمور، وكونها رقيقة ضيقة العرض في المساحة قد خنقها البحر من جهة الشمال والصحراء من جهة الجنوب، وهذا البيت هو الذي حرّك همّة القائم، وقال والله لا أزال حتى أملك صدر الطائر ورأسه إن قدرت، وإلا أهلك دونه، فكابد على الديار المصرية من الحروب أهوالا، ومات ولم يظفر بحضرتها وإن كان قد عاث في أطرافها برا وبحرا على ما هو مذكور في التواريخ، وأوصى ابنه المنصور بما كان في عزمه، فشغلته الفتن التي دهمته في إفريقية، فكان الظافر بالديار المصرية المعزّ بن المنصور بن القائم «2» ، وتوالت عليها خلفاؤهم، وخطب لهم باليمن والحجاز والشام والجزيرة والعراق، وخطب لمستنصرهم الذي جاز في الخلافة ستين سنة «3» في حضرة الإمامة بغداد سنة، وخطب للنزارية(5/132)
الإسماعيلية «1» منهم ببلاد العجم.
قال ابن سعيد: وهم إلى الآن في بلد الموت، ولهم يخطب هؤلاء الإسماعيلية (ص 47) الذين في قلاع الشام فكان حديثهم المترتب على ذلك البيت من عجائب الدنيا، ولم تزل إمامتهم التي كانت قد رسخت في الأرض ودوخت الملوك «2» إلا السلطان الأعظم الناصر صلاح الدين بن أيوب رحمة الله عليه «3» . وملأ البلاد التي كانت بأيديهم بالخطب العباسية. قلت: لقد مرّت به(5/133)
ليال طوال من حذر الإسماعيلية الأدناس، وخوف ما يتوقاه منهم من غوائل البلية، ثم ما زال منذ طهّر مصر من تلك الأدناس، ونظفها من وسخ أولئك الناس، حتى انقاد معها له ما وراءها، وتبعها ما خلفها، وأعاد إليها طلاوة الدين، ورونق الإيمان على أننا لا ننكر لأواخر تلك الدولة المصرية فضلا سلف إلى سلفنا، وقد وردوا إليهم من المدينة الشريفة فأكرموا وفادتهم وأجزلوا صنائع الإحسان إليهم، ولكن الحق أحق أن يتبع، وما على قائل القول الصدق جناح، فرحم الله صلاح الدين، وأصلى نار الكمد قلوب المعتدين. هـ.
[من أحكام المناظرة بين المشارقة والمغاربة]
قال ابن سعيد ومما يتكلم فيه من أحكام المناظرة بين المشارقة والمغاربة- النبوة، وهذا الفخر مسلم للمشرق، وذكر ابن قتيبة «1» في كتاب المعارف أن الأنبياء عليهم السلام مائة ألف وأربعة وعشرون ألف نبي، الرسل منهم ثلاث مائة وخمسة عشر، منهم خمسة عبرانيون، وهم: آدم وشيث وإدريس ونوح(5/134)
وإبراهيم، وخمسة من العرب: هود وصالح وإسماعيل، وشعيب ومحمد.
وغيرهم من بني إسرائيل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين «1» ، وقد عدد صاحب الكمائم «2» مباعث الأنبياء في الأرض، وهي المواضع التي بعثوا فيها، ولم يذكر بالمغرب إلا منف «3» حاضرة مصر، التي بعث فيها موسى عليه السلام لفرعون، ويوسف عليه السلام، ودخلها يعقوب والأسباط ويوشع، وفرت مريم عليها السلام بابنها المسيح إلى البهنسا «4» من أرض مصر، فجمهور مباعث الأنبياء عليهم السلام بالمشرق (ص 48) والفضل العام منه للشام، والخاص لجزيرة العرب بخيرة الرسل صلى الله عليه وسلم، وعليهم أجمعين. ومباعث جزيرة العرب مكة، بعث فيا آدم عليه السلام إلى ولده، وبعده ابنه شيث»
، وبعث بها إسماعيل إلى إخوانه «6» ، وبعث فيها محمد صلى الله عليه وسلم، وذكر الأزرقي «7» في كتاب مكة أن ما(5/135)
بين الركن إلى المقام إلى زمزم قبور تسعة وتسعين نبيا، جاؤوا حجاجا فقبروا هنالك «1» . وتفخر المدينة وإن لم تكن مبعثا لنبي بأنها مهاجر سيد المرسلين وخاتم النبيين، ومدفنه صلى الله عليه وسلم. ومبعث هود بالأحقاف «2» ، مما يلي اليمن، وهنالك قبره، ومبعث صالح بوادي القرى بالحجاز، ومبعث شعيب في أرض مدين «3» ، التي تلي أرض مصر والشام.
وقد عدّ الماوردي «4» أنبياء جملة بعثوا إلى أرض سبأ «5» باليمن، وأن أهلها ما نزل بهم العذاب حتى كذبوهم، والرّسّ «6» من جهة عمان مبعث نبي،(5/136)
وكذلك حضور وعدن وبلاد بني عبس «1» . وأما الشام فالفخر الأعظم منها للبيت المقدس، بناه داود وأتمه سليمان عليهما السلام «2» ، وتوارثه بنوه، وهو كان يجمع أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام. وولد المسيح عليه السلام ببيت لحم «3» ، على مقربة منه، وقبور إبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف في المكان(5/137)
المعروف بالخليل «1» . ومدائن لوط محسوبة من الشام، والبثنيّة «2» من عمل دمشق، موضع أيوب على جميعهم السلام، وبعلبك «3» بعث إليها يحيى بن زكريا عليهما السلام، وبها قتل، ونينوى من بلد الموصل بعث إليها يونس عليه السلام «4» ، وبابل بعث إلى نمرودها إبراهيم عليه السلام «5» . ومواضع الأنبياء والصحابة ورؤوس «6» الصالحين مسلم الفخر الجمهوري فيها للمشرق، وقد كان بالمغرب (ص 49) الأقصى والأندلس من ادعى النبوة مثل صالح البرغواطي «7» ، والمعلم(5/138)
الشنتيري «1» ولا نعلم نبيا ظهر بالمغرب ما خلا الديار المصرية على ما ذكر قبل.
قلت: وهذا صالح البرغواطي والمعلم الشنتيري كلاهما نكرة ومجهول لا يعرف، وفي أفسح العذر من سمع بهما فقال: ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين.
[نشأة الخلافة]
قال: وأما الخلافة فشأنها أيضا مسلم للمشرق، إذ الخلفاء الأربعة رضوان الله عليهم منه ظهروا، وفيه كانت أقطاب خلافتهم، فأبو بكر «2» وعمر «3»(5/139)
وعثمان «1» رضي الله عنهم كان قطب خلافتهم المدينة، وبها قبورهم، وعلي «2» رضي الله عنه فكان قطب خلافته الكوفة «3» ، وبها قتل وفيها قبره على(5/140)
الاختلاف الذي جاء فيه، وفيها بويع بالخلافة الحسن بن علي كرم الله وجهيهما «1» . وأخذ ابن سعيد يذكر ما استقرت عليه قواعد الخلافة بالشام، ثم بالعراق، مما كله بالمشرق، وقد تقدمت الإشارة إلى مثل ذلك. ثم قال: وهذا هو الفخر المسلم. وقد كان بالمشرق أقطاب خلافة غير مجمع عليها، إلا أنها كانت خلال سحائب، ولمع بوارق. وأما المغرب في شأن الخلافة فلم يكن به قط خليفة يجتمع عليه، وكان فيه من الخلفاء المتفردين به إدريس بن عبد الله بن الحسن بن علي «2» رضوان الله عليهم وبنوه، خطب لنفسه بالخلافة في سبتة وجهاتها من المغرب الأقصى في مدة هارون الرشيد «3» ، وتوارث بنوه الخلافة هنالك، ودارت(5/141)
أقطابهم بين سبتة وبصرة المغرب «1» وفارس وتلمسان، وما قطع الخطبة لهم من المغرب إلا ظهور الخلافة العبيدية، التي أولها عبيد الله المهدي الإسماعيلي من ولد الحسين رضوان الله عليه «2» ، توارثها بنوه بعده بالمغرب ودارت أقطاب خلافتهم (ص 50) بين رقادة والمهدية والمنصورية «3» ، والقاهرة بمصر إلى أن أزالها السلطان الأعظم صلاح الدين رحمة الله عليه بخلع العاضد «4» آخر خلفائهم، ولم تكن بالمغرب خلافة أعظم منها، لأنهم كان يخطب لهم من(5/142)
الديار المصرية إلى البحر المحيط، جميع نصف المعمور في الطول، وخطب لهم بجزيرة صقلية، وفاضت خلافتهم من المغرب على المشرق، فخطب لهم باليمن والحجاز وعمان والبحرين، والشام والعراق والجزيرة، وخطب لهم في بغداد أيام فتنة البساسيري «1» ، وإخراج الخليفة القائم منها إلى جزيرة عافة، وما ردّ الخلافة العباسية إلى بغداد مع الاعتناء الإلهي إلا الدولة السلجوقية «2» ، إلا أنهم لم يخطب لهم بجزيرة الأندلس لأن أعداءهم (بني) «3» أمية كانوا قد استولوا عليها وتوارثوها، وأول من اقتطعها عبد الرحمن الداخل المرواني «4» ، فتوارثها بنوه ولم يخطب لهم بالخلافة إلى أن ولي الناصر عبد الرحمن المرواني «5» ، فخطب له بالخلافة في مدة المقتدر «6» ، وتوارث بنوه هذه السمة إلى أن وقعت الفتنة فيما بينهم، فدخلت عليهم الخلافة الحمّودية، وبنو حمّود من ولد إدريس الحسينيين المتقدمي الذكر «7» ، وعادت المروانية، ثم انقرضت. وأقطاب الخلافتين دائرة على قرطبة والزهرا والزاهرة، ثم ضعفت خلافة بني حمود وبقيت في مالقة وسبتة، ثم انقطعت إلى أن نشأت خلافة بني عبد المؤمن بقيام مهديهم محمد(5/143)
ابن تومرت «1» ، وهو ينسب إلى بني إدريس الحسنيين، وقد أثبت نسبة الشريف الإدريسي صاحب كتاب أجّارو كتاب (الدوحة المايسة في أخبار الأدارسة) «2» ، ولم يسم بخليفة ولا أمير المؤمنين، بل خطب له بالمهدي المعلوم للإمام المعصوم وعهد بالخلافة لعبد (ص 51) المؤمن «3» . وهو- أعني عبد المؤمن- قيسي ليس بقرشي، فلا يصح له خلافة. ثم قال: فتوارثها بنوه وخطب لهم من برقة إلى البحر المحيط وبجميع الأندلس.
[المناظرة بين الأشخاص: الخلفاء ونحوهم]
وإذا تعرضنا للمناظرة في الأشخاص سلمنا جمهور الفخر أيضا للمشرق، إذ الخلفاء الأربعة فيه، وغيرهم من الخلفاء المرضيين إلا أنهم شبّهوا الناصر المرواني «4» في حزمه وجبره للدولة وصولته بالمعتضد «5» ، وشبهوه في طول المدّة(5/144)
في الأمر بالناصر «1» لأنه ملك خمسين سنة ونصف، وشبهوه في كثرة البنيان وعظمة ما أنفق عليه بالمتوكل «2» ، وشبهوه بالحركات والغزوات بالمعتصم «3» ، وشبهوه في الجود بالرشيد «4» ، وشبهوا ابنه المستنصر «5» في العدل والزهادة وردّ المظالم، وتغيير المنكر بالمهتدي «6» ، وشبهوه في حب العلوم واقتناء كتبها(5/145)
بالمأمون «1» . وشبهوا المستعين «2» في التجرد لطلب ما خاصمه فيه الزمان من الخلافة ومآل أمره إلى القتل بسميه المستعين «3» ، وشبهوه في الشعر بالرشيد، وأنشد صاحب الذخيرة قول المستعين: [الكامل]
عجبا يهاب الليث حدّ سناني ... وأهاب سحر «4» فواتر الأجفان(5/146)
وأقابل «1» الأهوال لا متهيبا ... منها سوى الإعراض والهجران
وتملكت نفسي ثلاث كالدمى ... زهر الوجوه نواعم الأبدان «2»
هذي الهلال وتلك شبه «3» المشتري ... حسنا، وهذي أخت غصن البان
حاكمت فيهن السلوّ إلى الهوى «4» ... فقضى بسلطان على سلطاني
وأبحن «6» من قلبي الحمى وتركنني ... في عزّ ملكي كالأسير العاني «5»
إن لم أطع فيهن سلطان الهوى ... كلفا بهنّ فلست من مروان
وقول الرشيد: [الكامل]
ملك الثلاث الآنسات عناني ... وحللن من قلبي بكل مكاني
مالي تطاوعني البرية كلّها ... وأطيعهنّ وهنّ في عصياني
ما ذاك إلّا أنّ سلطان الهوى ... - وبه قوين- أعزّ من سلطاني «7»(5/147)
وفضّل أبيات المستعين وزهزه لها وأطنب في الثناء عليها «1» . وكان في خلفاء العبيدين ممن ذكرت صولته وعظمت آثاره المنصور بن القائم عبيد الله المهدي»
، وهو مشبّه عندهم بالمنصور العباسي «3» ، لأن كلا منهما «4» اختلت عليه الدولة وأصفقت عليه الحروب «5» وكاد يسلّ من الخلافة، فهب له ريح النصر وتراجع له أمره حتى لم يبق مخالف، وأخبارهما في ذلك مذكورة مشهورة «6» والمعز بن المنصور طمحت همته إلى أن ترك إفريقية لبعض غلمانه وخدامه، وتجهز إلى مصر بعد ما أنهض لها مولاه جوهرا «7» ففتحها وبنى له(5/148)
حضرة القاهرة، وسفرته من إفريقية إلى مصر وما ظهر منه من حسن التدبير، وهبوب النصر والحزم والاستيلاء، كسفرة المأمون «1» من خراسان إلى بغداد، وتسكينه ما اشتعل من نار الفتنة، وظهر من ابنه العزيز «2» من حسن المداراة والتسكين للناس ما ضرب من أجله المثل بأيامه في مصر، وصار يقال أحسن من أيام العزيز، وكان من عجائبهم المستنصر «3» فإنه جاوز في أمر الخلافة ستين سنة، ولم يبلغ هذه المدة خليفة في المشرق، وكانت له من خزائن الأموال وعظم الأسد ونفوذه، واتساع الخطبة وفيضها في أقطار المشرق والمغرب ما يطول ذكره، ثم انعكس عليه ذلك، فاقتنصت البلاد بالمشرق والمغرب منه (ص 53) واضطرمت الفتن بحضرته بالقاهرة، وافتقر وضعف أمره، وآل حاله إلى أن قال لشخص من خواصه طالبه بشيء: والله لقد أصبحت لا ينفذ لي أمر إلا من مكاني إلى باب قصري، ولا أملك مالا إلا ما تراه عليّ وتحتي «4» .
وعبيد الله المهدي أوّل خلفائهم «5» يشبّه بالسفاح أول خلفاء بني(5/149)
العباس «1» ، فإنّ السفاح خرج من الحميمة «2» بالشام طالبا الخلافة والسيف يقطر دما، والطلب مراصد، وأبو سلمة الخلال «3» يؤسس له الأمر، ويثبت دعوته، وعبيد الله خرج من سلمية «4» في الشام وفي رأسه طلب الأمر، والعيون قد أزكيت عليه، وأبو عبيد الله الشيعي يسعى في تمهيد دولته، وكلاهما تم له الأمر وبايعه صاحب دعوته. وقتل عبيد الله أبا عبد الله الشيعي القائم بدولته «5» ، وأصبح- أو سلمه- مقتولا في حضرة السفاح، فينسب قتله إليه.(5/150)
وأما أدارسة الغرب فإن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن رضي الله عنهم «1» فرّ من وقعة فخ «2» بظاهر مكة حين كانت الهزيمة على العلويين من قبل أصحاب الهادي «3» ، وقتل سليمان ابن عبد الله بن الحسن طالبا الخلافة «4» ، فتنكر إدريس وصار ملاحا في بحر جدة، وتنقل في بلاد المغرب إلى أن ثار(5/151)
وأدرك الخلافة بسبتة أقصى المغرب، وتوارثها بنوه، فكان أحد رجال العالم المتغلغلين في طلب الأمر حتى أدركوه، وهو مشبّه بالسفاح والمهدي في افتراغ الدول والابتداء لها، إلا أنهما كان لهما داع وطّد دولتهما، وإدريس ليس له داع إلا نفسه «1» .
[من عظماء الأدارسة ... الناصر علي بن حمود]
وكان من عجائب الأدارسة بالمغرب جنون بن أبي العيش ابن حنّون بن محمد بن القاسم بن إدريس بن إدريس «2» ، قدمه جميع بني إدريس عليهم، وصحت له الخلافة فيهم، وكان له خمسة وعشرون ولدا ذكرا منهم جنّون بن حنون (ص 54) الذي أضرم المغرب نارا. ومنهم محمد بن جنون نازع أباه رواء الخلافة، وحاربه واستولى على بصرة المغرب، وعظم فيها أمره. ومنهم الحسن الأعور ابن جنّون «3» ادعى النبوة في تسادلا في المغرب.
ومن عظماء الأدارسة الذين يجب أن ننوه بأفعالهم الناصر علي بن(5/152)
حمود «1» جاز من سبتة البحر إلى الأندلس وقلب الدولة المروانية وصيرها علويّة، واستولى على قطب الخلافة قرطبة، وسيق إليه الخليفة المستعين المرواني فضربت عنقه بين يديه «2» .
ورسخت الدولة الحمودية بالأندلس، وكان منهم العالي إدريس بن يحيى بن علي الناصر بن حمود «3» ، خطب له بالخلافة بمالقة وغرناطة وسبتة، وكان من ألطف الخلفاء مجالسة، وأحبهم في الأدباء والشعراء، وكان يشبّه بالرّاضي العباسي «4» ، وهو الذي(5/153)
لما أنشده ابن مقانا «1» الشاعر قصيدته التي منها: [الرمل]
وكأن الشمس لما أشرقت ... فانثنت عنها عيون الناظرين
وجه إدريس بن يحيى بن علي ... بن حمّود أمير المؤمنين
والعالي وراء الحجاب على عادة خلفائهم في ذلك، فلما بلغ الشاعر إلى قوله:
انظرونا نقتبس من نوركم ... إنه من نور رب العالمين «2»
أمر برفع الحجاب حتى نظر إليه.
[بنو عبد المؤمن]
وأما بنو عبد المؤمن وهم ينسبون إلى بني سليم بن قيس، فإنّ مهديهم نصّ على عبد المؤمن «3» فولي الخلافة وتوارثها بنوه، وهو الذي افتتح البلاد، وقهر العباد، واستولى على حضرة مرّاكش، وقتل أمير المسلمين تاشفين «4» ، وأخذ الأندلس من أيدي الثوار بها، والغرب الأقصى والغرب الأوسط وأفريقية والمهدية(5/154)
استرجعها من أيدي الفرنج فكان ممن عظم صيته (ص 55) وأغربت أخباره «1» ، وأعظم ولده الموسومين بالخلافة:
المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن «2» ظهرت منه شهامة عظيمة، وهمة عالية، واعتناء بالعلوم، وبنى المقابر العظيمة بمراكش، ورباط الفتح، وإشبيلية، وضبط الأمر بهيبة تملأ الصدور، وغزا بنفسه نصارى الأندلس فهزمهم الهزيمة التي أذلتهم، وأناح بعساكره على قاعدة أعظم ملك لهم وهي طليطلة، فحصرها وقطع أشجارها وعاث أجناده في ظواهرها، وفتح ما فتح من قلاعها «3» .(5/155)
[الشبه بين المأمون بن المنصور الموحدي والمأمون العباسي]
وكان منهم المأمون بن المنصور «1» قلب الدولة عن قواعدها، وأسقط اسم مهديهم من الخطبة، وارتكب من الأهوال ما لا يسع ذكره إلا ترجمته، وهو مشبه بمأمون بني العباس في القيام على أخيه، والنهوض في الفتن وقلب الدول، لأن المأمون صيّر الدولة علوية، وأزالها عن بني العباس. وكان قد نزع منزع المأمون «2» في التنويه بالعلماء والمناظرة في مجلسه، وإدرار الأرزاق عليهم، وكان للشعراء منه حظ عظيم. قال ابن سعيد: وإذا قايسنا بين سلاطين المشرق وسلاطين المغرب كان الفضل للمشرق، وذلك أنّ ما كان بأيدي المسلمين منه هو سلطنة السند التي تداولها القرشيون وتوارثوها، وكان سريرهم بها مدينة المنصور «3» ، وما زالوا يتوارثونها إلى أن غلبت عليهم سلاطين العجم، وأضافها السلطان محمود بن سبكتكين إلى بلاده «4» ، وملكها شهاب الدين الغوري، صاحب غزنة «5» ، وآل أمرها إلى أن ملكها خوارزم شاه محمد بن(5/156)
تكش «1» ، ولما فرّ أمام التتر ومات في بحر طبرستان تماسك ابنه جلال الدين بما بقي من العساكر والبلاد «2» تبعه التتر، وقاتلوه في بلاد السند (ص 56) وهزمهم وهزموه، وآل حاله معهم إلى أن أسلمها لهم، وطلب الغرب نحو أذربيجان وبلاد الكرج وأرمينيه، وكان بأيدي المسلمين من بلاد الهند ما يستحق أن يسمى سلطنة، لأنه كان عدة ممالك جليلة، ولا سيما مذ فتح فيها محمود بن سبكتكين ما فتح، وأضاف إلى ذلك شهاب الدين الغوري ما أضاف «3» ، وآل أمرها إلى أن ملكتها امرأة، واستولى عليها التتر بضرائب معلومة لهم «4» .(5/157)
وما وراء النهر كان سلطنة عظيمة ذات ممالك كبيرة افتتحت مذ أول الإسلام في زمن قتيبة بن مسلم «1» وعظمت شيئا فشيئا، وكان كرسي سلاطين بني سامان «2» فيها حضرة بخارى ومن بني سامان أخذها الأتراك الخانية «3» وكان بينهم وبين محمود بن سبكتكين مرة حرب، ومرة صلح «4» ، إلى أن استولى عليها السلجوقيون «5» ، ثم صارت بعدهم لخوارزم شاه محمد بن تكش، ومنه(5/158)
أخذها التتر «1» .
[خراسان سلطنة عريضة]
وأما خراسان فإنها سلطنة عريضة نابهة الذكر في القديم والحديث، وفيها قتل يزدجرد آخر سلاطين الفرس «2» ، فانقرضت دولتهم وكان سريرها في مدة طاهر بن الحسين «3» وبنيه مرو «4» ثم نيسابور «5» إلى أن أخذها منهم(5/159)
الصفار «1» ، ثم قبض عليه بنو سامان فانضافت إليها «2» ، واستولى عليها محمود ابن سبكتكين بعد ذلك، وتداول عليها ولاة بنيه، وسرير سلطانهم بمدينة غزنة إلى أن استولى عليها السلجوقية وعاث فيها الخطا «3» بعد ذلك، وكانت فيها فتن إلى أن انضافت للسلطان خوارزم شاه محمد بن تكش، ومنه أخذها التتر. وأما غزنة وما انضاف إليها من بلادها وجهاتها وبلاد الغور فإنها كانت في الدولة السامانية (ص 75) مخصوصة بسبكتكين، ولما استولى محمود على الممالك الجليلة والسلطنات العظيمة اتخذ غزنة سريرا له، وكذلك فعل بنوه إلى أن دخلها سنجر شاه سلطان السلجوقية «4» ، وآل أمرها بعد ذلك إلى أن ملكها(5/160)
الغوريون «1» ، واستحوذ عليها التتر عند خروجهم على خوارزم شاه. وأما خوارزم فقد كان السلاطين الذين ملكوها في مدّة السامانية يدارونهم ويخطبون لهم، لعظم السامانية إلى أن صارت لهم، ثم صارت لمحمود بن سبكتكين «2» ثم للسلجوقية، ثم ملكها تكش ثم ابنه محمد المعروف بخوارزم شاه «3» ، وجاءت الممالك إليه وانثالت من كل جهة عليه، وصارت له خوارزم وما وراء النهر وغزنة وخراسان وجرجان وما انضاف إليها من بسطام ودهستان ومازندران وعراق العجم وكرمان وسجستان وفارس فعظم أمره، وعزم على قصد العراق، فرده الله عنه، ثم دهمه خروج التتر فتشاغل بهم، فلما هزموه وفر أمامهم إلى بحر طبرستان فمات في جزيرة هنالك فاض التتر على بلاد هلك رأسها، وكان سرير سلطانه مدينة خوارزم على نهر جيحون غرقها التتر بالنهر المذكور «4» .
[سجستان ودولة بني الصفار]
وأما سجستان فإنها سلطنة مذكورة، وعظمت فيها دولة بني الصفار(5/161)
وتوارثوها «1» ، وهي الآن «2» من البلاد التي صارت في حكم التتر.
[كرمان وديلمان]
وأما كرمان فإنها سلطنة مشهورة «3» عظمت فيها دولة بني اليسع «4» ، وكانت في مدّة مضافة إلى بلاد بني بويه «5» .
وأما ديلمان «6» فهي سلطنة كبيرة سريرها مدينة الري، وينضاف إليها بلاد(5/162)
جرجان وبسطام ودهستان «1» وجبال الديلم، وجبال جيل وجيلان «2» ، وفيها قلعة (ص 58) الموت «3» التي توارثها النزارية «4» ولم يبرح التشيع فيها قديما، وأعظم السلاطين الذين اشتهروا بملكها بنو بويه، الذين منهم عضد الدولة «5» ، وآل أمرها إلى أن ملكها السلجوقية «6» ثم خوارزم شاه «7» ، ثم التتر إلا قلعة(5/163)
الموت وما صعب من جبال الديلم فإنها في نهاية من الامتناع، وقد كان أنو شروان عظيم سلاطين الفرس «1» ملك ما بين العراق ونهر جيحون إلا جبال الديلم، فإنها امتنعت عليه.
[مازندران (طبرستان) ]
وأما مازندران «2» فهي البلاد المعروفة بطبرستان، وتوالى عليها أئمة العلويين «3» ، الذين كانوا يخطب لهم بالإمامة بها، ولم تزل في معظم حالها مخصوصة بأئمة العلويين، لأن أهلها جبلوا على التشيع، وعلى هذا المذهب، فكانوا لا يرون عنه بديلا، وكانت من البلاد التي صارت لخوارزم شاه، وبها استجاز أمام التتر، وركب مركبا في بحرها إلى جزيرة هلك بها. وكانت مدينة آمل «4» من مدنها قطبا لأئمة العلويين بها.(5/164)
[عراق العجم]
وأما عراق العجم فهو المعروف في الكتب بالجبال «1» ، وهي سلطنة تلاصق العراق، وأعظم من توارث السلطان فيها بنو بويه «2» ، وكان سريرهم بها أصفهان «3» ، ولما صارت للسلجوقية واختاروا الإقامة فيها أكثر الأحيان، لتوسطها بين بلادهم اتخذوا همذان «4» سريرا. وهي من البلاد التي صارت لخوارزم شاه فاستولى عليها التتر.
[فارس]
وأما فارس فهي سلطنة القوم الذين عرفت باسمهم «5» وأعظم من ملكها في الإسلام وتوارثت بها دولهم بنو بويه، وملكها السلجوقية، وكان فيها من بقاياهم من امتنع بالحصون الشامخة، وجرت فيها خطوب طويلة.(5/165)
[خوزستان (الأهواز) ]
وأما خوزستان فهي المعروفة (ص 59) في الكتب بالأهواز «1» ، وقد كان يعقوب الصفار «2» الذي خرج من سجستان وعاث في الأرض اختار الإقامة فيها. وبها مات، وسرير السلطنة فيها مدينة تستر «3» التي تقولها العامة بإعجام السين.
[العراق السلطنة العظمى]
وأما العراق فهي السلطنة العظمى التي هي من الدنيا بمنزلة القلب من الجسد، ومن ملكها فله الفضيلة على سلاطين العالم «4» ، وبها كانت أكاسرة(5/166)
الفرس، وسريرهم المدائن «1» ، وكانت قبلها مدينة بابل «2» سريرا، ثم صارت في مدة بني العباس، أدامها الله مقرا للخلافة، وقطبها مدينة بغداد «3» وسامره «4» في بعض الأحيان.
[شهرزور]
وأما شهرزور «5» فإنها سلطنة تغلب عليها الجبال، وأكثر ما كان سلاطينها من الكرد على ما يذكرون، وآل أمرها إلى أن كانت للسلطان الأعظم صلاح الدين رحمة الله «6» عليه، وصارت لبيت (أوق سنقر) «7» وهم المعروفون(5/167)
بالأتابكية «1» .
[الجزيرة]
وأما الجزيرة فإن سلاطين الأثوريين «2» تداولوها قبل الإسلام فعرفت بجزيرة أثور، وكانت الأكاسرة والأقاصرة يتجاذبون بلادها بينهم، وتغلب كل منهم على ما يلي بلاده، وعظمت فيها سلطنة بني حمدان «3» إلى أن انقرضت وتوارثوها سلاطين بني عقيل «4» إلى أن غلبت عليها السلجوقية، وأسندوا أمرها إلى أتابك أق سنقر، وكانوا يجعلون فيها أولادهم، والأتابكية لأق سنقر ومن بعده من ولده، فتوارثوها إلى أن كان منهم السلطان الأعظم محمود بن زنكي «5» ، وآل(5/168)
أمرها إلى أن ملكها بدر الدين لولو الملقب بالملك الرحيم «1» ، ولم تكمل له سلطنتها، ولكن معظمها له.
[الشام سلطنة جليلة]
وأما الشام فهي سلطنة جليلة، كان فيها خلفاء بني أمية، واجتازوها على غيرها، وقطب إمامتهم دمشق «2» ، وكان (ص 60) منهم من يسكن البرية كهشام «3» في(5/169)
الرصافة «1» ، وسليمان «2» في مرج دابق «3» ، وتوالت عليها ولاة بني العباس، وعظم فيها سلطان بني طغج «4» الذين ملكوا الديار المصرية، وكذلك بنو طولون «5» ، وسيف الدولة بن حمدان «6» ، وكان سرير سلطانه حضرة حلب «7» ، وكان له معظم الشام لما ملك دمشق، ثم خرجت عن يده، وجرت بعده فتن، فلم تخلص السلطنة بكليتها لأحد إلى أن ملكها السلجوقية، ثم آل أمرها إلى أن(5/170)
استولى عليها السلطان محمود بن زنكي «1» ، ثم انضافت إلى البلاد التي استولى عليها السلطان الأعظم صلاح الدين «2» ، ولم تكمل بعده لسلطان إلى أن ملك معظمها السلطان الأعظم الناصر صلاح الدين ابن الملك العزيز ابن الملك الظاهر ابن السلطان الأعظم صلاح الدين «3» ، وملك من سلطنة الجزيرة مملكة ديار مصر.
[جزيرة العرب]
وأما جزيرة العرب فإنها قطعة عظيمة، الحجاز منها سلطنة ولكنها قليلة الخراج والعمارة، كثيرة البركة بالبيت الشريف، والنور المحمدي، زاده الله إشراقا وفيضا على أقطار الأرض، وقد كانت مقرا للخلفاء المرضيين رضي الله عنهم «4» ، والمدينة مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقطب الخلافة «5» ، وكان فيها من الطالبين للإمامة من هو مذكور في موضعه، والغالب فيها أن تكون مقسومة غير كاملة لسلطان من العلويين بل هي على ما يذكر.(5/171)
واليمن سلطنة ثانية من جزيرة العرب «1» ، فيها كانت تبابعة العرب في الجاهلية، وسريرهم ظفار «2» وصنعاء «3» وسبأ «4» ، وتداولت عليها ولاة الإسلام، وكان فيها من الملوك الذين توزعوا (ص 61) ممالكها جملة، وكملت سلطنتها لبني زياد الدّعي «5» ، ودامت وكملت للصليحيين «6» والزريعيين «7» ، إلا أن يكون أحد المنتزين في قلعة أوجهة لا يخلّ بمعظم السلطنة وعظم فيها أمر بني(5/172)
مهدي «1» ، وادّعوا الخلافة، وخطب بأمير المؤمنين، فكانوا من الخوارج، ومنهم أخذها السلطان الأعظم صلاح الدين، فصارت مضافة إلى بلاده، وآل أمرها إلى أن كانت للسلطان مسعود ابن السلطان الأعظم الملك الكامل «2» ، فورثها عنه نور الدين بن الرسول «3» ، وكان سريرها في مدة بني زياد مدينة زبيد، وفي مدة الصليحيين صنعاء وجبلة، وفي مدة الزريعيين الدّملوه، وفي مدّة المسعود تعز «4» وحضر موت سلطنة «5» ، ولكنها طويلة ضيقة ومتجاذبة البلاد من جيرانها، وكذلك الشحر «6» وعمان سلطنة أضخم وأنبه من حضر موت(5/173)
والشّحر «1» . إلا أنها تجتمع لسلطان واحد، لأن الخارج استولوا على جبالها، وتوارثوا هنالك دولتهم.
[وهجر سلطنة واليمامة]
وهجر سلطنة وتعرف أيضا بالبحرين «2» وأعظم دولة استبدت بها دولة القرامطة «3» دامت وورثت، ومن أصحابها من ملك الشام والحجاز ملك فتك ونهب، وأخبارهم هائلة.
واليمامة سلطنة صغيرة، وقد كان اقتطعها بنو الأخيضر العلويون، وتوارثوا بها الإمامة «4» .(5/174)
وأما البلاد التي في شمال بلاد الشام والجزيرة فإنّ أنبهها ذكرا،
[أذربيجان]
وأعلاها لجهة الشرق أذربيجان، وهي سلطنة جليلة وكان فيها صيت عظيم لأبي الساج، وبنيه «1» وبني البهلوان «2» ، وكانت من البلاد التي ملكها السلجوقية، وكان سريرها مدينة المراغة «3» (ص 62) وأما البيلقان فسلطنة تجاورها «4» سريرها(5/175)
مدينة شروان «1» .
وأما باب الأبواب وما انضاف إليها من بلاد الخزر فسلطنة سريرها مدينة الباب «2» . وأما الراز فسلطنة سريرها برذعة وتفليس، وقد يضاف إليها البيلقان والباب. وهذه كلها جهات متقاربة قد غلب عليها التتر «3» .
[أرمينية.. وبلاد الروم]
وأما أرمينية «4» فسلطنة كبيرة سريرها خلاط «5» ، وكانت من البلاد التي انضافت(5/176)
إلى بني أيوب رحمهم الله، وجرى فيها فتن كثيرة، وهي من بلاد التتر الآن.
وأما البلاد المعروفة ببلاد الروم التي في شرقي الخليج القسطنطيني «1» فإن السلجوقية افتتحوها، وهي بأيديهم إلى الآن يعني ابن سعيد في زمانه، وأما الآن فهي للتتر، وسرير سلطنتها قونيه «2» وقيصرية «3» ، ويشركهم فيها ملوك الأتراك بكلد شتى ودلبى مختلف «13» يخاطبون بالإمارة، قال ابن سعيد: وفي شمال هذه البلاد من بلاد أصناف الخزر والترك والبلغار والصّقلب «4» ما ذكر في هذا الكتاب في أوله، ولم يكن فيهم مسلمون إلا البلغار، وقد وصل التتر إلى بلادهم. وفي الهند والصين، التي بأيدي الكفار ممالك كثيرة عامرة جليلة، وقد داخل التتر أهل الصين في بلادهم، وسلطنة التتر «5» طمغاج، وسريرهم قراقرم،(5/177)
ومعناه الرمل الأسود «1» .
[سلطنات المغرب الديار المصرية]
وأما سلطنات المغرب، فأولها مما بأيدي المسلمين الديار المصرية، وهي عظيمة في الجاهلية والإسلام، وكان يعرف سلاطينها في الجاهلية بالفراعنة، وكان سريرهم مدينة منف «2» ، وجاء الإسلام وسرير سلطانها المقوقس مدينة الإسكندرية «3» ، ومدينة مصر التي تعرف الآن بالفسطاط «4» ، والجهة القديمة منها معروفة عندهم، ودام السرير بها في الإسلام، وأعظم من ملكها بنو طولون، بنو طغج «5» ، ومنهم (ص 63) أخذها العبيديون الذين خطب لهم بالخلافة،(5/178)
وصيروا القاهرة قطبا لإمامتهم «1» إلى أن أخذها منهم السلطان الأعظم الملك الناصر صلاح الدين فأبقاها سريرا لسلطانه «2» ، وكذلك من بعده إلى أن سكن السلطان الكامل قلعة الجبل «3» .
[برقة وإفريقية]
وتجاور الديار المصرية برقة وهي سلطنة طويلة قد استولت عليها العرب «4» ، وكان سريرها في القديم مدينة طبرق «5» ، وتليها إفريقية، وهي سلطنة شهيرة، كان(5/179)
يقال لسلطانها في الجاهلية جرجير «1» ، وكان سريره مدينة سبيطلة «2» ، ومدينة قرطاجنة «3» ، وصار سريرها في الإسلام القيروان «4» ، ثم هي الآن مدينة تونس «5» ، وتوارث سلطنتها في الأول بنو عقبة القرشيون وتوارثها بنو الأغلب التميميون، وأخذها منهم عبيد الله المهدي الإسماعيلي «6» فتوارث بها الإمامة بنوه إلى أن رحل المعز العبيدي إلى مصر «7» ، فولى على إفريقية صنهاجة من برابر(5/180)
إفريقية، وكان أعظمهم في الشهرة وحب الفضل المعز بن باديس «1» ، ثم أفسدت العرب سلطنته، ووزعتها بين ممالك، وبقي لابنه تميم المهدية «2» وما قرب منها، وتوارثها بنوه، وزال رسم السلطنة منهم إلى أن استولى عبد المؤمن «3» عليها فتوالت بها ولاته وولاة بنيه «4» ، وكان يحيى بن غانيه الميورفي الملثم يناكدهم فيها «5» ، إلى أن صفت للسلطان الأعظم الأمير أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص «6» ، وقد أضافت إليها همته العليّة وسعادته العلوية بلادا من برقة،(5/181)
ومن الجزر البحرية، ومن الغرب الأوسط ومن المغرب الأقصى ومن الأندلس، وسرير ملكه كان تونس، ويليها الغرب الأوسط، كان في صدر الإسلام قد (ص 64) أقطعه بنو رستم «1» ، وكانوا خوارج ادعوا الخلافة، وكان قطب إمامتهم مدينة تيهرت «2» إلى أن أزال أمرهم الشيعي القائم بدعوة العبيديين «3» ، ومن أعظم من ملك سلطنتها جعفر بن علي «4» الذي يمدحه ابن هاني الأندلسي «5» ، وكان(5/182)
سريره مدينة المسيلة «1» ، قلت: ومن قوله فيه: [الكامل]
المدنفان من البرية كلها ... جسمي وطرف بابليّ أحور «2»
والمشرقات النيرات ثلاثة ... الشمس والقمر المنير وجعفر
ثم نعود إلى تتمة كلام ابن سعيد، قال رحمه الله، وملكها بعد رحيل المعز العبيدي إلى مصر بنو حماد الصنهاجي «3» ، وتوارثوها وكان سريرهم قلعة حماد(5/183)
المنسوبة إلى جدهم «1» ، ثم صار مدينة بجاية «2» ،
[سلطنة المغرب الأقصى]
ويليها سلطنة المغرب الأقصى، وهو المعروف ببر العدوة، وهذه الجهة أعظم جهات المغرب لأنها ذات حواضر جليلة، وجبال مشحونة، وعرض وطول، وكانت قد اجتمعت للأدارسة، الذين خطب لهم بالخلافة «3» ، ثم اقتطع منها بنو مدران «4» مملكة سجلماسة «5» ، وحاكاهم غيرهم فاختل عليهم نظامها إلى أن صارت للعبيديين «6» ، وكان بنو أمية أصحاب الأندلس ينازعونهم فيها «7» ، وصفت(5/184)
لأمير المسلمين يوسف ابن تاشفين «1» ، وكان سريره حضرة اغمات «2» فبنى حضرة مراكش، وانتقل إليها وتداول عليها ولده إلى أن أخذها منهم عبد المؤمن الذي خطب له بالخلافة «3» .
[بلاد السودان]
وأما بلاد السودان فأعظمها عندهم من جهة قواعد السلطنة أرض الحبشة «4» ، وسمة سلطانهم النجاشي وسريره مدينة جرمي وأرض علوه، وما ينضاف إليها سلطنة.
[أرض النوبة والكانم]
وكذلك أرض النوبة وسريرها دنقله «5» وأرض الدمادم الذين خرجوا على أصناف السودان، فأهلكوا بلادهم وهم يشبهون بالتتر، وكان خروج الفريقين في عصر واحد «6» .(5/185)
وأرض الكانم «1» وما انضاف إليها من بلاد التكرور «2» سلطنة (ص 65) طويلة ضيقة على ضفتي النيل طولها أربعون يوما، سلطانها مسلم من ولد سيف ابن ذي يزن سلطان اليمن «3» . وأرض كفار التكرور سلطنة، ويليها من الأمم الكافرة إلى غانة إلى البحر المحيط مع طول النيل «4» .
[جزيرة الأندلس ومن تولى عليها]
وأما جزيرة الأندلس فهي قطعة عظيمة انقسمت على سلطنتين، سلطنة للمسلمين، وسلطنة للنصارى، فكانت سلطنة المسلمين من أولها عند الباب الذي يدخل منه إليها من الأرض الكبيرة مع الساحل الجنوبي، وكان السرير فيها قبل الإسلام إشبيلية وماردة وطليطلة «5» ، وفي الإسلام إشبيلية قليلا. ثم استقر(5/186)
بقرطبة «1» ، وتوالت عليها ولاة بني أمية من المشرق «2» إلى أن ملكها عبد الرحمن ابن معاوية المرواني، وتوارثها بنوه، ثم خطب لهم بالخلافة «3» ، واستولى المنصور ابن أبي عامر على خلافة المؤيد المرواني، فلم يكن له أمر «4» ، وورث السلطنة عنه(5/187)
ابنه المظفر ثم الناصر بن المنصور، فقتل وانقرضت سلطنتهم «1» . ولم تجتمع بعد ذلك سلطنة الأندلس لغير خلفاء بني مروان إلى أن ملكها بنو عبد المؤمن «2» . ولما ثار عليهم المتوكل بن هود اجتمعت سلطنة الإسلام بها، ولم يشذّ عنه إلى مملكة بلنسية «3» وكورة طبيرة وما انضاف إليها فاستحق اسم السلطنة بمعظمها، ولما مات توزعها ملوك «4» .
[سلطنات رومية والقسطنطينية]
وأما الأرض الكبيرة ذات الألسن الكثيرة فهي سلطنات مختلفات كثيرة، كسلطنة روميّة والقسطنطينية، وسلطنة البنادقة «5» ، وسلطنة الأنكبردا «6» وسلطنة الباشقرد والإسلام كثير في هذه السلطنة «7» .(5/188)
[الجندية في المشرق والمغرب رجالها عتادها وما يتبع ذلك وعطاؤهم]
قال ابن سعيد وأما الجنديّة فإنها في المشرق أرفه وأضخم، وفي المغرب أضبط وأنجد وذلك (ص 66) أنّ القاعدة لهم في الشرق، وبمثل ما شاهدته في حلب «1» فقد أجمع المسافرون على رفاهية جندها، وضخامتهم أن يكون للفارس الواحد من عامة الفرسان فرس يركبه، وفرس يركبه غلامه وبنده «2» في يده، وفرس يجنبه «3» إلا لجندي حظيّ ذي همة «4» . وأكثر الجند عندنا بالأندلس أن يكون للجندي فرس يركبه، وفرس يركبه الذي يحمل سلاحه، وفي برّ العدوة الحال أخف من ذلك، أكثر جند إفريقية والمغرب الأوسط والمغرب الأقصى لا يكون للواحد منهم إلا فرس واحد، ويكون فارس الأندلس مدرّعا «5» ، وإن كان ذا همة وقدرة يكون لفرسه درع، واعتماده على الرمح الغليظ الطويل، والترس على عادة النصارى الذين يقاتلونهم. ولا يكون مدّرعا من فرسان البربر إلا أولو الهمة والقدرة، ولا يقاتلون بترس ولا رمح طويل غليظ، بل بالسيوف والأرماح الخفيفة يزرقون «6» لها زرقا عجيبا، لا يكاد يخطئ، ويكون لهم بدل التراس «7» درق «8» تصنع في المغرب من جلد حيوان يعرف(5/189)
باللمط «1» تنبو عنها السيوف والرماح وأكثر السهام.
وفرسان برّ المغرب البربري أحسن تصرفا على الخيل من فرسان البر الأندلسي، لأن الأندلسي يثقله الترس والرمح الطويل الثقيل والدرع، فلا يستطيع التصرّف، وإنما يحرص على الثبات، وأن يكون مثل الجوشن «2» على فرسه، وربما كان له في السرج مخاطيف «3» ينشبها في وسطه حتى لا يسقط إذا طعن. وسروج جند الأندلس عالية المؤخر حفظا من الطعن، وليست كذلك سروج البربر. وركاب «4» الأندلسي طويل، وركاب البربري قصير، والأمير عندهم (ص 67) في المشرق يباح له ضرب الطبول، ولا يباح ذلك في المغرب إلا لمن يلي مملكة، أو من يحلّ محله من عظماء قواده. والأمير في المشرق يكون له في خاصته ما لا يكون للقائد في المغرب لجميع جماعته، فقد سمعت أنه يكون للأمير بحلب في خاصته ما لا يكون ذلك للقائد وجميع جماعته ثمانون ألف درهم في السنة. والجندي في المشرق يحتاج أن يكون معه رأس مال من خيل وعدة. والأمير في المشرق تلزمه كلفة عظيمة من مدّ السماط «5» بالطعام في كل(5/190)
يوم، والتجمل الكبير في الثياب الحريرية الرفيعة، ويكون معه في السفر خزانة لأمور الطبخ، وخزانة للأسلحة، وخزانة للفرش وآلات اللباس، وإن كان ذا همة كان معه من أنواع الأشربة والمعاجن والترياق «1» . ويكون له مملوك يحمل معه بقجة «2» للباسه، ويكون وراءه، وكذلك مملوك آخر يحمل على رأسه السلاح.
والفضيلة في جميع هذا تتبين للمشارقة على المغاربة.
ثم قال ابن سعيد أيضا: وإنما قلت إنّ جند المغرب أضبط وأنجد لأنهم في نهاية البعد عن الراحة والذم للرفاهية، وخصوصا الأندلس، يصيخون «3» لداع كلما سمعوا شعار الحركة بادروا، ومن أقام «4» مقدارا يزيد على العادة عوقب أشد العقاب، وربما أحل ماله ودمه، ويقيم الواحد منهم في الحصن الواحد عشر سنين وأكثر وأقل، لا ناصر لهم إلا سلاحهم، ومنعة قلعتهم، لا يسأمون الحصار، ولا يتذللون للغلبة. قلت: لو استحيا هذا الفاضل لما ذكر مع فخامة جند الشرق جند الغرب إلا أن جعل مصر كما قرر من الغرب، وما ذكر ذلك ههنا، ولو احتاج هذا إلى مؤاخذة له، وإقامة دليل عليه لو اخذته وأقمت الدليل عليه، ولكنه أوضح من النهار الشارق، وأظهر من الجبل الشاهق. والله لقد كان عند أمير من أمراء الدولة الناصرية بمصر مملوك محظيّ، أخبرت أن عنده ثمانين عليقة «5» ،(5/191)
وكان عند أمير آخر مملوك محظي أخبرت أن عنده أربعين عليقة، فأما قوله: إن للأمير ثمانين ألف درهم في السنة لخاصتة فقول حق. ولكن أين هو عما بلغ خواص الأمراء عندنا، بما يزيد خاص الرجل منهم في السنة عن مائتي ألف دينار مشية «13» كما كان لبلمر الساقي، وقوصون وبستاك «14» ، وأما من دون هؤلاء فعدد جم لهم الخواص الكثيرة، منهم من يزيد خاصه على مائة ألف دينار ومنهم من ينقص، فأما من له ثمانون ألف منهم فمن لا يرمق بطرف ولا يرمى بالتفات.
فأمراء الممالك الهولاكريتيه «1» فلرأيناهم «15» البحور التي لا تدرك أعماقها، والخزائن التي لا ينفد انفاقها. فأما الهند فعلى قدره وكفى قولنا هذا في تعظيم أمره «2» .(5/192)
وأما قوله: إن الأمير يكون له مملوك يحمل لباسه، ومملوك يحمل سلاحه، فكلام قاله على ما رأى أو ظن، فأما أمراؤنا فمنهم من ملك ثمانمائة مملوك ثم كل على قدره.
[الوزارة]
قال ابن سعيد: وأما الوزارة فالسفاح أول من استوزر بالمشرق «1» وهي بها أعظم من المغرب، كأن الوزير نائب للخليفة أو الملك «2» (ص 68) . قلت: وهذا مما لا تفاضل فيه، فإن وزراء الغرب لو جمعوا أولهم وآخرهم، وباقيهم وغابرهم ما جاؤوا بواحد من مشاهير وزراء الشرق، ولا أقول هذا إلا بحق، وسأذكر من هؤلاء وهؤلاء ما يعرف به القول الصدق، ليعلم من أجال في هذا المكان نظره، وحقق منه خبره، في أي القطرين الوزراء الذين تفتقر إليهم الدول، ويقتصر عليهم الأمل، وتقرطس «3» إلى الغايات سهامهم، وتقرطق «4» بجليّ التصرّف أيامهم، ويفسح ديمهم «5» نوالا، وتشمخ همهم بما بعد منالا، قد أرغمت أقلامهم معاطس «6» الرماح حتفا، وأحرجت صدور السيوف وأغصّتها شرقا، فاحتاجت الملوك إلى مؤازرتهم، واحتالوا على إدناء مجالسهم ومزاورتهم، وكان منهم أرباب سيوف وأقلام ماضية، وبالبؤس والنعيم قاضية، وترفعوا عن رتبة(5/193)
الوزارة إلى الملك والإمارة «1» ، وخرجت التواقيع تارة عنهم، وتارة مطرزة من أسمائهم بالإشارة، فبلغوا مبلغا عظيما، وحكموا في الممالك حكما عميما.
ومنهم من أعطى الأقاليم، وأمطى المعاقل «2» ووهب الجسيم، واستأثروا دون الخلفاء والملوك، ببعد السمعة والصيت، وحجتهم الوفود، ووقتت إليهم المواقيت، وقبلت لديهم الأرض، وشرّفت حصباءها «3» على الدرّ واليواقيت، ومدحتهم الشعراء بغر القصائد «4» ، ونصبت على سوانح جودهم أشراك المصايد، وتناقلت الرواة سيرهم، ودونت تواريخهم واستكفت غيرهم، وكانوا مصابيح صباحه ومجاديح «5» سماحه، ومفاتيح أبواب الرزق والراحة، وكان منهم قادة جنود كثر، وجيوش دثر (ص 69) .
[الكتاب بالمشرق]
وأما الكتّاب بالمشرق ففيهم من يندى قلمه غضاره «6» ، ويبدي كلمه كالروض المبتل نضاره «7» ، ويتلقف من أفواههم سحر الكلام، ويلتقط من(5/194)
أشباههم نجوم الظلام، ما منهم إلا من إذا كتب كبت «1» الصفايح، وكبت «2» وراءه القرائح، يحيد متسرعا، ويجيء بالدر، ولا تلقاه عما للناس إلا متورعا، يخرج زهره من أكمامه «3» ، وتخلف زهره النهار إذا وازاه جنح ظلامه، أو جناح غمامه.
[جاء في المتأخرين من لم يرض طرق المتقدمين]
وقد جاء في المتأخرين منهم من لم يرض طرق المتقدمين، ولم يرض جامح فكره حتى يلين، بل جاء بما هو أرق من النسيم نفسا، وأعذب مما ذاب في كؤوس الثغور لعسا «4» ، وتفنن «5» في الأساليب، وحكى ملحمة حرب ولا يظن سامعه إلا أنه فصل غزل أو نسيب «6» ، مع إحكام المعاني، وإتعاب من لها يعاني، واستيفاء شرط المعركة، وحظ شواجز «7» الرماح المشتبكة، لكن يكسوها من حلل ألفاظه ما يوهم السامع أن الحماسة غزل، وأن الأجفان «8» الأجنان «9» ، والسيوف(5/195)
المقل «1» ، فيفيدها حلاوة من نطف «2» ألفاظه العذاب، ولطف بدائعه التي تبدو في فيه كأنها الأري المذاب «3» ، واخترعوا أنواعا من البديع زادت كلامهم رونقا، ونشرت منه روضا مؤنقا، وجرت من ينابيع خواطرهم سلسلا متدفقا، وسيلا سبق ارتداد الطرف وكأنه جاء مترفّقا، وأتوا في هذا بما لا قدرت عليه الأوائل، وربّما أتي لهم وما أتوا فيه بباطل، وإن كان أصل ما جاء للمتأخرين مما غبر، فإن السيوف تجز الرقاب، وتعجز عما تنال الإبر، وكذلك إذا نظرت بعين المنصف، واطرحت هوى النفس لا تجد للمغرب لدى المشرق يدا في (ص 70) فضل ولا باعا في علياء، وإن كنت قد ذكرت هذا مجملا فأفصله، أو مبهما فسأبينه، ولله عليّ أن لا أعدل عن سراط «4» الحق السوي، ولا أنكب «5» عن قصد الإنصاف الأمم «6» ، ولا أدعي ذلك في الأفراد بل في الجملة، ولا في الجزء بل في الكل، وبالله أسترشد، ومنه أسأل الإعانة، ثم إني لا أقصر ما وجدت طلقا ممتدا، إلا إذا خشيت أن أملّ، ولا أطيل ما رأيت إيجازا مغنيا إلا إن خفت أن أخل، وها أنا أقول: إن الذي يعرف به التفاضل منحصر في الحيوان، والنبات والمعدن، وأشرف الحيوان الإنسان، وهو طبقات متفاوتة، أعلاها ذروة الأنبياء عليهم(5/196)
الصلاة والسلام، ثم من بعدهم أصحابهم، ثم الناس أشباه، وإن تفاوتت درجاتهم، وتباينت أقدارهم، لا يفضل فيهم إلا العلماء، الذين هم ورثة الأنبياء، والنفع بهم أعم من الأولياء.
فأما الأنبياء صلوات الله عليهم فقد تقدّم ما فيه كفاية من تقرير شرف المشرق بهم، وشرّف المغرب بسببهم، إذا كان بالمشرق مواضعهم ميلادا، ومباعثهم أحياء، ومدافنهم أمواتا، إلا من كان بمصر أو دخل إليها ممن ليس من أهلها، ثم خرج منها على ما بين فيما تقدم ببعض تفصيل فيه غنى «1» ، وكذا الشأن في الصحابة الفائزين بفضل السابقة، وقد مضت في هذا لمع أو مضت أشعتها «2» ، ومضت وبقيت في الآذان سمعتها، ولو عدلوا بنظير في المغرب لذكرناهم، فإذ لم يكن فلنضرب عن ذكرهم صفحا، ولنكن لهم دون منبلج «3» الليل صبحا، اللهم إلا من لزم ذكره مع طائفة لم يكن من ذكره معهم بدّ، ولا لسيل هذا التصنيف عنه مردّ، فإن انتصر منتصر للغرب فقال: لا يلزم من عدم الاطلاع على أن من الغرب أنبياء أنه لم يكن به أنبياء لقوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ
«4» ومن المحقق أن الغرب لم يزل فيه أمة بعد أمة. فالجواب:
إنه ليس في الآية ما يدل على ذلك، لأنه تعالى قال: (خلا فيها نذير) ولم يقل منها التي هي للتبعيض، ليكون النذير من أمة الغرب، كما هو في قوله تعالى:
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ
«5» بمن التي هي للتبعيض، وقد قرأ بعض(5/197)
القراء من أنفسكم، بفتح الفاء «1» ، فأفاد أن منهم من أشرفهم، فاحتمل أن يكون النذير فيها، وليس منها، ويبقى أن يكون النذير الذي فيها منها موقوفا على النقل، ولم نعلمه، فهذا أمر الأنبياء بالجانب الغربي، وأما من بعدهم فأعلاهم كعبا «2» القراء، ثم أهل الحديث (ص 71) الشريف، ثم الفقهاء ثم أهل اللغة، ثم أهل النحو، ثم الفقراء، أصحاب القلوب «3» ، ثم الحكماء وهم أصحاب العلوم الثلاثة، والوزراء والكتاب، والخطباء والشعراء، والأذكياء وعقلاء المجانين، والحمقى والمغفلين، وها أنا ذاكر لهم في كل من قسمي المشرق والمغرب، على هذا الترتيب، وأسوقهم زمرا للدخول في هذا التبويب، وآتي بمشاهيرهم، جاهلية وإسلاما، وأمواتا وأحياء إلى عصرنا التي بدأت شمسه تجنح، وآن لبحر الليل على نهر نهاره أن يطفح، وحان للثور الحامل للدنيا أن يلقى قرنه «4» ،(5/198)
ولإسرافيل الموكل بالنفخ في الصور أن يلقم قرنه، وللجديدين «1» أن يخلق ثوباهما، وللخافقين أن يلتقي جانباهما «2» ، وللأفق أن ينزع سواره من معصمه، وللشفق أن ينضح بماء الصباح ما تلطخ به ثوبه من دمه، ولقد كان لي بانتظار الأجل القريب «3» شغل عن زخرف القول الذي فيه تعليل لباطله، وتشقيق الكلام الذي فيه تعليق اللسان بحبائله، بل اللهم فيما أثبته ذكرى لمصارع الأموات، وبمواقع الصائد المجدّ في مصائد المنون، وقد ظنّ أنه قد سبق به الفوات، وإذ قد عرّضت عرضي بهذا التأليف هدفا لسهام الألسنة الراشقة «4» ، ودريئة «5» لرماح الطعن الماشقة «6» ، وسمحت به طرفة لكل خاطف، وثمرة لكل قاطف، ينهبه كل ناهب، ويذهب به كل ذاهب، وأقدمت على هذا البناء العظيم، ورعيت في هذا الكلام الوخيم، وهجمت على هذا الملأ، الذي لا أكاد أثبت معرفة واحد من أمه، ولا أميز صفه ذا غرة «7» من دهمه «8» ، واقتحمت هذا البحر وأنا أعرف خطره، ودخلت هذا البر وأنا أجهل خبره، قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون، فها قد رهنت بما قلت كلامي، وحاللت بما قالوا لوامي، وركبت الغمرة وأنا لا أعرف أسبح، وسريت الليل وأنا لا (ص 72) أدري فجره أين(5/199)
أصبح، على أنني أرغب إلى من أعازه أدنى تأمل، أن يكشف ليتبين أتيت صوابا أم خطأ، وأصالة أم خطلا، فو الله ما قصرت جهد المقدرة، ولا فعلت إلا فوق الطاقة إن قبل مني المعذرة، وقد دخل في ذيل الحكماء أرباب الكلام وأصحاب الموسيقا، واشتمل ثوب الأدباء على أعيان الوزراء. وعيون الكتاب والخطباء والشعراء، وقدمت الكتاب على الخطباء، لأن الكاتب لو شاء جرّد من نفائس تقاليده ومناشيره «1» وتواقيعه «2» دواوين خطب، وأفانين «3» تهز بجذع منبره بها من خطب، والخطيب قد لا يقدر على إنشاء رسالة واحدة، وكذلك أرباب المقامات «4» التي لو حقق ما وضعت له لم يكن فيه كبير فائدة. ثم أذكر بعد نوع الإنسان سائر الحيوان، ثم النبات، ثم المعدن، ناقلا له من كتب الأطباء والعشابين مصورا لما قدرت على تصويره منه، محررا له بغاية الإمكان، بعد أخذ(5/200)
رأي أرباب هذا العلم فيه. ثم طاف بنظره في كتابنا هذا في الجانبين، وكمل دورة المشرقين والمغربين، رأي الشرف لمكانه والفضل لأهله، وهذا أوان الشروع، وبالله التوفيق.
مشاهير قراء المشرق «13»
[مقدمة]
والبداءة بالقراء: وبدأنا بالقراء لشرف القرآن العظيم، ولما تضمنه من الآيات والذكر الحكيم، وإذ لا ترى إلا حائما على معينه، وهائما به، وما رأى أعين عينه «1» ، ومغري شغفا بسبب تنزيله «2» ، ومغرما «3» كلفا «4» بطلب تأويله، ومحتجا به لحقه، وآخر- وحاشاه- لأباطيله.
هذا وما رابهم من ليلى الغداة سفورها ولا راعهم وراء الحجب ستورها بل أضحت لهم سافرة القناع، بارزة على يناع «5» ، وضوح معنى، ونزوح معنى، تستنبط منه هذه الأمة على اختلاف فرقها، وتستنسل منه الأدلة أجنحة طرقها، لا تجد إلا من يرد حياضه المتأنقة «6» (ص 73) ويجمع بين ضوالّه المتفرقة، ويصل(5/201)
أعضاءه الموزعة وأشلاءه الممزقة، حتى فرق الخلاف للفرار من الاختلاف، لا ترى إلا من يدلي منه بدليل، ويصحح قوله الممرض منه بتعليل. (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة، أليس في جهنم مثوى للمتكبرين) ، وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ
«1» ، وهذا القول وحسبك. قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
. «2» واعلم أن بشرف القرآن العظيم شرف أهله، وتقدمهم تبع لفضله، وهم حملته البررة ونقلته وصدورهم له صحف مطهرة، وإذ هم حفظته هم به محفوظون. قال الله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ
«3» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) «4» . وقال: (ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن) «5» فجعلهم منه.
وهذا إلى ما لا يحصى مما جاء فيهم، وورد في فضلهم، وها نحن نذكر مشاهير قرّاء المشرق، حتى نتبع الأموات بالأحياء، ثم نتبعه بمثله في مشاهير قراء المغرب، وبدأنا بأبيّ بن كعب لأن منه زخر عباب هذا البحر الخضم، وإلى كنف الأخذ عنه أكثر القراء انضم، لقد فخر به المشرق حتى جر جلبابه خيلاء، وتهلل(5/202)
حتى أشرق وجهه «1» لألاء، وكذا بقية القراء السبعة، الذين آل إليهم التقصي، وانتهى الطلب المستقصي، ولقد أشرت إليهم في قول لي وهو «2» :
(ص 74) ثم على نحو هذا يكون الشأن في ترتيب أمثالهم في هذا القسم حتى ننتهي بعون الله إلى آخره، وتقف على ساحله، لا تبالي لخوض زاخره، وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله، ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب.
1- أبيّ بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك ابن النجار أبو المنذر الأنصاري
«3» أقرأ الأمة، وأرقأ «4» القراء رتبة، جلت ببدر الظلمة، شهد يومها المعلم، وكان ممن نفر يريد عير قريش مع النبي صلى الله عليه وسلم، حتى نصر الله نبيه، وأظهر معه من أبي أبيه، شرف بما عارضه به رسول الله صلى الله عليه وسلم من القراءة «5» . وشرع له في القراءة البدآاه «6» . وله سابق الصحبة، وسامق الرتبة من الأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان، وضمنوا النصر، وبذلوا نفوسهم في الضمان يحبون من هاجر إليهم، ويحبون إخوانهم بمشاطرة ما في يديهم، فعل من أحبّ الله وأحبّه، (رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه) . «7» عرض القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ القراءة عنه عبد الله بن عباس، وأبو هريرة، وعبد الله بن السائب، وعبد(5/203)
الله بن عياش بن أبي ربيعة، وأبو عبد الرحمن السلمي «1» . وحدث عنه سويد ابن غفلة، وعبد الرحمن بن أبزى وأبو المهلب وآخرون.
شهد بدرا والمشاهد كلها، ومناقبة كثيرة، وكان ربعة من الرجال، شيخا أبيض الرأس واللحية «2» . روى أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرحم هذه الأمة بها أبو بكر، وذكر الحديث، وفيه (وأقرأهم لكتاب الله أبي بن كعب) «3» .
وروى أبو قلابة مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (ص 75) قال: (أقرؤهم أبي بن كعب) «4» وقال ابن عباس قال عمر: (أقضانا علي، وأقرؤنا أبي) «5» .
وعن أنس أن صلى الله عليه وسلم قال لأبيّ: (إني أمرت أن أقرأ عليك، وفي لفظ (أن أقرئك القرآن.
قال: الله سماني لك؟ قال: نعم. فبكي أبي) «6» . وقال أبو المهلب: كان أبيّ يختم القرآن في ثمان، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيّ آية معك في كتاب الله أعظم؟ قال: الله لا إله إلا هو الحي القيوم. فقال: ليهنك العلم أبا المنذر) «7» . وقال عمر يوم موت أبي: اليوم مات سيد المسلمين «8» . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (استقرءوا القرآن من أربعة: عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة) «9»(5/204)
وتوفي أبيّ بالمدينة. قال ابن معين سنة عشرين أو تسع عشرة، وقال الواقدي وابن نمير والترمذي، وغيرهم سنة اثنتين وعشرين «1» .
2- ومن أعلام القراء أبو عبد الرحمن السلمي مقرئ الكوفة
«2» واسمه عبد الله بن حبيب بن ربيعة، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ووجد له ما يحق له أن يتقدم، لقي جلّ الصدر الأول حتى كاد يعدّ منهم «3» ، وصدر ريان «4» بما روى عنهم، قراءات «5» تلقى عنهم حفظها، وتلقن منهم لفظها، عرضها مكررا، وعرفها تدبرا، بحسن إيراد كأنه جني النحل المشار «6» ، وذكاء فهم كأنه ذكاء الشمس «7» ، ولهذا كان مثل عثمان «8» إذ سئل عن شيء إليه أشار.
قرأ القرآن وجوّده وبرع في حفظه، وعرضه على عثمان وعلي وابن مسعود، وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وحدث عن عمر وعثمان. وأخذ عنه القراءة عرضا(5/205)
عاصم بن أبي النجود، ويحيى بن وثاب وعطاء بن السائب، وعبد الله بن عيسى بن أبي ليلي، وأبو عون محمد بن أيوب الثقفي والشعبي وإسماعيل بن أبي (خالد) خلد، وعرض عليه الحسن والحسين، وقال أبو مرثد تعلم أبو عبد الرحمن (ص 76) السلمي القرآن من عثمان، وعرضه على علي، قال أبو إسحاق السبيعي: كان أبو عبد الرحمن يقرئ الناس في المسجد الأعظم أربعين سنة.
وقال سعد بن عبيد: أقرأ أبو عبد الرحمن في خلافة عثمان إلى أن توفي في إمرة الحجاج. وقال أبو عبد الرحمن أخذنا القرآن عن قوم أخبرونا أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزوهن إلى العشر الآخر حتى يتعلموا ما فيهن، فكنا نتعلم القرآن والعمل به، وإنه سيرث القرآن بعدنا قوم يشربونه شرب الماء لا يتجاوز تراقيهم، بل لا يجاوز ههنا، ووضع يده على حلقه «1» .
وجاء أبو عبد الرحمن إلى بيته فوجد فيه جلالا وجزرا، فقال: ما هذا؟ قالوا بعث بها عمرو بن حريث لأنك علمت ابنه القرآن. قال: ردوه إنا لا نأخذ على كتاب الله أجرا «2» .
وروى أبو عبد الرحمن عن عثمان أن النبي (قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) «3» قال أبو عبد الرحمن فذلك الذي أقعدني هذا المقعد. وقال إسماعيل ابن أبي خالد: كان أبو عبد الرحمن: يعلمنا القرآن خمس آيات، خمس آيات «4» . وقال أبو عبد الرحمن خرج علينا علي بن أبي طالب وأنا أقرئ، وكان أبو عبد الرحمن يسأل عثمان عن القرآن، وكان ولي الأمر، فشق عليه، فقال:(5/206)
إنك تشغلني عن أمر الناس، فعليك بزيد بن ثابت «1» ، فأقبلت على زيد فقرأت القرآن عليه ثلاث عشرة سنة «2» ، وقال أبو عبد الرحمن: حدثني الذين كانوا يقرئوننا:
عثمان وابن مسعود وأبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرئهم العشر فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل «3» . وقال عطاء بن السائب: دخلنا على أبي عبد الرحمن نعوده، فذهب بعضهم يرجّيه، فقال: أنا أرجو ربي قد صمت له ثمانين رمضانا. «4» وحديثه مخرج في الكتب الستة. توفي سنة أربع وسبعين، (ص 77) وقيل سنة ثلاث وسبعين، وقيل في إمرة بشر «5» على العراق، وقيل في أوائل ولاية الحجاج، والله أعلم. وأما قول بن قانع مات سنة خمس ومائة فغلط «6» .
ومنهم
3- مجاهد بن جبر الإمام
«7» أبو الحجاج المكي «8» المقرئ المفسر أحد الأعلام والمتقدمين من قرّاء الإسلام،(5/207)
وأهل الرواية في حديث النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، وممن يؤخذ عنه أسرار التنزيل، وحقائق التفسير بالنقل لا بالتأويل. بحر أخذ عن حبر الأمة علما جما غير قليل، وراو عن ابن عباس هو في سلسلة الذهب، كعب من كعابها أو قنديل.
قرأ على ابن عباس، وروى عن عائشة وأبي هريرة. وسعد وعبد الله بن عمرو وجماعة من الصحابة. وقرأ عليه ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن وغيرهم.
وحدث عن قتادة والحكم وعمرو بن دينار وخلق، وجاء عنه أنه قرأ القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة «1» . والذي صح عنه أنه قال: عرضت القرآن على ابن عباس: ثلاث «2» عرضات، أقفه عند كل آية، أسأله فيما نزلت وكيف كانت «3» . وروى عنه أبو مرثد أنه قال: ختمت القرآن على ابن عباس تسعا وعشرين مرة. قال قتادة: أعلم من بقي بالتفسير مجاهد «4» ، وقال سلمة بن كهيل: كان مجاهد ممن يريد بعلمه الله. وتوفي سنة ثلاث ومائة، وقد نيّف على الثمانين «5» .(5/208)
ومنهم
4- عبد الله بن عامر بن يزيد بن تميم بن ربيعة
«1» أبو عمران اليحصبي، إمام أهل الشام في القراءة، وأحد السبعة، لكن تقدمت وفاته، فحصلت به البداءة. قرأ القرآن وأمّ به، وحكم فقضى بموجبه، ونظر في أمر جامع دمشق حين أمر ببنائه، فشيد بناءه، وصرف إليه اعتناءه، ثم كان رئيسا به «2» ، لا يرى فيه بدعة إلا غيرها، ولا ثغرة إلا عمرها، وولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففاز ببركة ذلك (ص 78) المولد «3» ، ونشأ بين ظهراني الصحابة رضي الله عنهم في كرم المحتد، فأمسى وفضله تقصّ آثاره ولا يستقصى، وأصبح وبه شرف يحصب لا يحصى «4» . قال خالد بن يزيد المري:
سمعت عبد الله بن عامر يقول: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولي سنتان، وانتقلت إلى دمشق ولي تسع سنين، وقرأت على معاذ وأبي الدرداء، وقرأت على معاوية ووائل بن الأسقع وقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم «5» . وقيل إنه عرض على عثمان،(5/209)
وقيل لم يقرأ عليه بل سمع قراءته في الصلاة «1» ، وذكر الأهوازي «2» في الإيضاح في قراءة ابن عامر اثني عشر قولا، وروى يحيى بن الحارث عن ابن عامر أنه عرض على أبي الدرداء، وهو خبر غريب، وعليه اعتمد أبو عمرو الداني وغيره في قراءة ابن عامر على أبي الدرداء «3» . والذي عند هشام وابن ذكوان والكبار أن ابن عامر إنما قرأ على المغيرة المخزومي عن عثمان، وهذا هو الحق «4» .(5/210)
وذكر الأهوازي في الإيضاح ستة وأربعين نفسا أخذوا القرآن عن ابن عامر «1» .
ولي ابن عامر قضاء دمشق بعد أبي إدريس الخولاني وكان على نظر جامع دمشق. وقال يحيى بن الحارث: كان ابن عامر قاضي الجند، وكان رئيس المسجد لا يرى فيه بدعة إلا غيره «2» . وقال الهيثم بن عمران كان رأس المسجد بدمشق زمن عبد الملك، ومن بعده عبد الله بن عامر. وكان يغمز في نسبه «3» ، فجاء شهر رمضان فقالوا: من يؤمنا؟ فذكروا المهاجر بن أبي المهاجر، فقيل ذلك مولى ولسنا نريد أن يؤمنا مولى. فبلغت سليمان بن عبد الملك، فلما استخلف بعث إلى المهاجر فقال: إذا كان أول ليلة من رمضان فقف خلف الإمام فإذا تقدم ابن عامر فخذ بثيابه واجذبه وقل له تأخر فلن يتقدمنا دعيّ، وصلّ أنت يا مهاجر ففعل «4» . توفي ابن عامر سنة ثمان عشرة ومائة «5» .
(ص 79) ومنهم
5- عبد الله بن كثير بن عمرو بن عبد الله بن زاذان أبو معبد الكناني الداري المكي
«6»(5/211)
مولى عمرو بن علقمة الكناني «1» ، إمام المكيين في القراءة، أصله فارسي إلا أنه عجميّ أتقن الكتاب العربي حفظا وأداء. وأجاد فيه قراءة وإقراء، وكان بمكة المعظمة إمام حرمها، وغمام كرمها، وتصدر لإقراء القرآن الكريم في أول بقعة نزل بها، وصدع بنوره جنح غيهبها «2» ، فامتد بها مشرعة «3» حيث نبع، وتلألأ في جوانبها فجره حيث انصدع، وكان حول الكعبة البيت الحرام مدارس آياته، ومدار منطقته حلق «4» جماعاته، لوجيء إلى زمانه جدّه زاذان لا زدان «5» ، وحل محل سيف يزن «6» في غمد غمدان «7» .
قرأ على عبد الله بن السائب المخزومي ومجاهد ودرباس مولى ابن عباس «8» ، وتصدر للأقراء، وصار إمام أهل مكة في ضبط القرآن. قرأ عليه أبو عمرو بن(5/212)
العلاء، وخلق «1» . قال سفيان رأيته يخضب بالصفرة، ويقصّ للجماعة، وكان فصيحا بليغا مفوها، أبيض اللحية، طويلا جسميا، أسمر أشهل العينين، عليه سكينة ووقار «2»
، وكان داريا بمكة وهو العطار. وهو من أبناء فارس، الذين بعثهم كسرى إلى صنعاء، فطردوا عنها الحبشة «3» .
قال سفيان بن عيينة حضرت جنازة عبد الله بن كثير سنة عشرين ومائة.
وقال ابن سعد سنة اثنتين وعشرين، وقيل عاش خمسا وسبعين سنة «4» . وبعض القراء يغلط ويورد هذه الأبيات لعبد الله بن كثير «5» : [المتقارب]
بنيّ كثير كبير الذنوب ... ففي الحلّ والبلّ «6» من كان سبّه
وإنما هي لمحمد بن كثير أحد شيوخ الحديث بعد المائتين، والله أعلم «7» .
ومات شيخه عبد الله بن السائب بعيد السبعين، وقد قرأ على أبي بن كعب، وقرأ مجاهد على ابن عباس.(5/213)
(ص 80) ومنهم
6- يزيد بن القعقاع أبو فرج القاري أحد العشرة
«1» مدني مشهور «2» ، رفيع الذكر قرأ على مولاه المخزومي وفاقا، وعلى أناس آخرين ممن أنس منهم إشفاقا. وصلى بابن عمر إماما اتفاقا «3» ، أقرأ دهرا، وعمر ثاني المساجد «4» عمرا، وحلى أطراف آنائه بسبح تسابيحه، ونور جباه محاريبه، بأزهى من مصابيحه، وقرأ القرآن كما تلقاه عن النبي صلى الله عليه وسلم على ضريحه. وكان إذا جلس يقرئ القرآن الكريم أمال له رأسا، ولقي منه أمنة نعاسا، وكان يتحيل بأنواع الحيل لطرد طارق كراه «5» الملم لينفضه عن هدبه «6» ، ويرحضه لينقي دنس تغطيته على قلبه. ويحرص ولا يجد سبيلا إلى تمزيق ما خاطه النعاس وعلى جفنيه، ويجهد في نزع مخيطه، ولا يقدر عليه.
قرأ القرآن على عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي وفاقا، وقال غير واحد قرأ أيضا على أبي هريرة وابن عباس «7» عن قراءتهم عن أبي ابن كعب،(5/214)
وصلى بابن عمر. وحدث عن أبي هريرة وابن عباس «1» ، وتصدى لإقراء القرآن دهرا فورد أنه أقرأ القرآن في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم من قبل وقعة الحرة، وكانت الحرة «2» سنة ثلاث وستين، وأنه كان يمسك المصحف على مولاه عبد الله بن عيّاش «3» ، وأنه أتي به إلى أم سلمة وهو صغير، فمسحت رأسه، ودعت له بالبركة «4» ، وكان يقوم الليل، فإذا أصبح جلس يقرئ الناس، فيقع عليه النوم، فيقول لهم خذوا الحصى فضعوه بين أصابعي، ثم ضموها، فكانوا يفعلون ذلك، وكان النوم يغلبه، فقال: أراني أنام على هذا، فإذا رأيتموني قد نمت فخذوا خصلة من لحيتي فمدوها، قال: فيمر عبد الله بن عياش مولاه فيرى ما يفعلون به، فيقول: أيها الشيخ ذهبت بك (ص 81) الغفلة، فيقول أبو جعفر:
إن هذا الشيخ في خلقه شيء دوروا بنا وراء القبر موضعا لا يرانا «5» .
وقال سليمان بن مسلم «6» رأيت أبا جعفر القاري على الكعبة «7» ، فقلت:
أبا جعفر. قال: نعم، أقرئ إخواني السلام وأخبرهم أن الله جعلني من الشهداء الأحياء المرزوقين، وأقرئ أبا حازم السلام، وقل له: يقول لك أبو جعفر الكيس الكيس «8» ، فإن الله وملائكته يتراءون مجلسك بالعشيات. قال: وشهدت أبا(5/215)
جعفر حين احتضر جاءه أبو حازم ومسيخة فأكبوا عليه يصرخون به، فلم يجبهم، فقال ختنه شيبة: ألا أريكم منه عجبا؟ قالوا: بلى. فكشف عن صدره فإذا دوارة بيضاء مثل اللبن، فقال أبو حازم وأصحابه هذا والله نور القرآن «1» .
قال سليمان فقالت لي أم ولده بعد ما مات: صار ذلك البياض غرة بين عينيه.
وقال نافع: لما غسل أبو جعفر نظروا ما بين نحره إلى فؤاده مثل ورقة المصحف، فما شك من حضر أنه نور القرآن «2» . وتوفي سنة سبع وعشرين ومائة في قول محمد بن المثنى، وقيل سنة ثمان وعشرين، وقال خليفة: سنة اثنتين وثلاثين، وقيل سنة إحدى وثلاثين، وقيل سنة ثلاث وثلاثين عن نيف وتسعين سنة «3» .
ومنهم
7- عاصم بن أبي النجود بهدلة الأسدي
«4» مولاهم الكوفي القارئ الحناط الإمام أبو بكر «5» ، أحد السبعة، وواحد الكل(5/216)
في السمعة، ما قرأ عليه من حرم، ولا آوى منه إلى عاصم من أمر الله إلا من رحم.
من حاج به أسلت «1» مخاصما، ومن حادّ «2» به كان له من الخطأ عاصما، ذو همز ومد في القرآن لا يجاري البحر مده «3» ، ولا يستطيع البرق من الهمز ما عنده، ولم يكن مثله في نسك، شمّر له إزراره، وزهد غض بصره عن النهار الواضح فلم يرض فيما فضّض الضحى لجينه «4» (ص 82) ولا فيما ذهب الأصيل نضاره «5» ، مع ميل إلى المساجد حيث مر بها عاج «6» بركابه، وانصرف حتى يكون سرا يحني عليه أضالع محرابه، حميت منه أسد بليث عرينها، وغيث قرينها، وناسك حيها الذي تصيب سهام دعائه «7» ، ما أخطأته رواشق النبل أعين عينها «8» .
قرأ القرآن على أبي عبد الرحمن السلمي، وزر بن حبيش «9» ، وحدث عنهما وعن غيرهما، وقرأ عليه أبو بكر بن عياش، وأبو عمر البزار وخلق،(5/217)
واختلفوا اختلافا كبيرا في حروف كثيرة، وتصدى لإقراء كتاب الله تعالى، وانتهت إليه الإمامة في القراءة بالكوفة بعد شيخه أبي عبد الرحمن السلمي «1» ، وكان أحسن الناس صوتا بالقرآن. وقال أبو إسحاق السبيعي: ما رأيت أحدا أقرأ من عاصم بن أبي النجود «2» ، وقال حسن بن صالح: ما رأيت أحدا قط كان أفصح من عاصم بن أبي النجود، إذا تكلم يكاد يدخله خيلاء «3» . وقال عاصم:
ما قدمت على أبي وائل من سفر إلا قبل كفي «4» . وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألت أبي عن عاصم فقال: رجل صالح، خيّر، ثقة «5» ، فسألته أي القرّاء أحب إليك؟ قال: قراء أهل المدينة فإن لم يكن، فقراء عاصم «6» . وقال عاصم: مرضت سنتين، فلما قمت قرأت القرآن فما أخطأت حرفا «7» وكان عاصم صاحب همز ومد وقراءة شديدة، وسنة ونسك. قال ابن عياش: كان إذا صلى ينتصب كأنه عود وكان عابدا خيرا، أبدا يصلي ربما أتى حاجة فإذا رأى مسجدا قال: مل بنا إليه فإن حاجتنا لا تفوت، ثم يدخل فيصلي «8» ، قال:
ودخلت عليه فأغمي عليه ثم أفاق، فقرأ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ، أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ
«9» فهمز فعلمت أن القراءة سجية منه «10» .(5/218)
وقال عاصم: من لم يحسن من العربية إلا وجها واحدا لم يحسن شيئا «1» .
وقال حفص بن سليمان: قال لي عاصم: ما كان من القراءة التي أقرأتك بها فهي القراءة التي قرأتها على أبي (ص 83) عبد الرحمن السلمي، وما كان من القراءة التي أقرأت أبا بكر بن عياش فهي القراءة التي كنت أعرضها على زر بن حبيش عن ابن مسعود «2» .
وقال ابن عياش لم يكن عاصم يعد (ألم) آية ولا (حم) آية، ولا (كهيعص) آية، ولا (طه) ولا نحوها آية «3» .
توفي في آخر سنة سبع وعشرين ومائة، وقيل سنة ثمان وعشرين ومائة، فلعله في أولها. وكانت وفاته في الكوفة رحمه الله «4» .
ومنهم
8- حمزة بن حبيب الزيات
«5» حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل أبو عمارة الكوفي الزيات «6» ، أحد(5/219)
السبعة «1» ، مولى آل عكرمة بن ربعي التيمي «2» . إمام أنس بالقرآن، وغرس في القلوب شجراته المثمرة الأفنان، وتحلى بالعفاف، وتخلى إلا عما يقوم به من الكفاف، قنع بما يقتات به من ربحه متّجرا، وبما تفيأ يجرّ له من فضل التقى مئزرا «3» . ذو معرفة بالفرائض لا يخطئ في الذهن فرضه «4» ، ومعارض لا يخطف الأبصار إلا ومضه، يغنيك فهما بشرق فجره، وعلما يغرق بحره، وهو حجة أهل الكوفة في القراءة، وفي علم كتاب الله وما وراءه، ناهيك به علما فردا، وواحدا تجاوز حدا. وفريدا جاء من معجز القرآن بما يتحدى «5» .
ولد سنة ثمانين وأدرك الصحابة بالسّن، فلعله رأى بعضهم «6» ، وقرأ القرآن عرضا على الأعمش، وحمران بن أعين ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وغيرهم «7» ، وتصدر للإقراء مدّة، وقرأ عليه عدد كثير، منهم: أبو الحسن الكسائي «8» ، وحدّث عن خلق، وحدث عنه أمم، وكان إماما حجة(5/220)
قائما «1» بكتاب الله، حافظا للحديث، بصيرا بالفرائض والعربية «2» ، عابدا خاشعا، قانتا لله، ثخين الورع، عديم النظير، وكان يجلب الزيت من العراق إلى حلوان، ويجلب من حلوان أعواضه إلى الكوفة «3» ، قال أبو عبيد (ص 84) :
حمزة هو الذي صار أهل الكوفة إلى قراءته، من غير أن تطبق عليه جماعتهم.
وقال شعيب بن حرب: أمّ حمزة الناس سنة مائة «4» ، ودرس عليه سفيان الثوري القرآن أربع درسات «5» .
وقال حمزة: ولدت سنة ثمانين وأحكمت القرآن ولي خمس عشرة سنة.
وقال مندل «6» : إذا ذكر القرآن فحسبك بحمزة في القرآن والفرائض «7» .
وقال عبد الله العجلي: كان حمزة سنة يكون بالكوفة وسنة بحلوان فختم عليه رجل من أهل حلوان من مشاهيرهم، فبعث إليه بألف درهم، فقال لابنه:
كنت أظن لك عقلا أنا آخذ على القرآن أجرا؟ أنا أرجو على هذا الفردوس!!
وقال خلف بن تميم: مات أبي وعليه دين، فأتيت حمزة ليكلم صاحب(5/221)
الدين. فقال: ويحك إنه يقرأ عليّ القرآن، وأنا أكره أن أشرب الماء من بيت من يقرأ علي.
وقال حسين الجعفي: ربما عطش حمزة فلا يستسقي كراهية أن يصادف من قرأ عليه.
وقال جرير بن عبد الحميد: مرّ بي حمزة فطلب ماء فأتيته به فلم يشرب لكوني أحضر القراءة عنده «1» .
وقال أبو حنيفة لحمزة: شيئان غلبتنا عليهما، لسنا ننازعك فيهما: القرآن والفرائض «2» .
وروى مسلم في صحيحه عن علي بن مسهر قال: سمعت أنا وحمزة من أبان بن أبي عياش خمس مائة حديث أو ذكر أكثر، فأخبرني حمزة بن حبيب قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فعرضتها عليه فما عرف منها إلا اليسير خمسة أحاديث أو ستة، فتركت الحديث عنه. «3» توفي سنة ست وخمسين ومائة «4» .(5/222)
ومنهم
9- أبو عمرو بن العلاء المازني المقرئ النحوي البصري
«1» أحد السبعة، ومقرئ أهل البصرة، ومؤوي أهلها إلى جناح النصرة، ما فتحت على مثله البصرة بصرها، ولا منحت شبيهه ممن نصرها، عدّلت به مازن «2» ميزانها، (ص 85) وسوّت بالقبائل الرجّح أوزانها، كان شرفا مذ ترقى على أطمها «3» ، وشرفا مذ ساقه القدر في أممها، وشنفا «4» إلا أنه مع زينته أسمع آذانها من صممها، وصلاحا لها لم تشك بعده مسّ «5» سقمها، وصباحا ما تفرّى «6» عن مثل وجهه المنير من ظلّ النخيل المتراكم سدف «7» ظلمها، ناهيك(5/223)
رجلا ما بلّت الأبلّة «1» بمثله ريق نهرها «2» ، ولا حييت حدائق نهر معقل «3» شبيهه بيانع زهرها، ولا سلّمت سلامان «4» أنه دار على نظيره نطاق بحرها، ولا فساح البيد أنها ضمت برّا عديله إلى صدرها.
وقد اختلفوا في اسمه على تسعة عشر قولا «5» ، أصحها زبّان بالزاي والباء الموحدة «6» . ولد سنة ثمان وستين، وقيل سنة سبعين «7» ، وعرض بمكة على مجاهد وابن جبير وعطاء وعكرمة وابن كثير «8» . وقيل: إنه قرأ على أبي العالية الرياحي. ولم يصح مع أنه أدرك من حياته نيفا وعشرين سنة «9» ، وقيل إنه عرض بالمدينة على أبي جعفر ويزيد بن رومان وشيبة، وعرض بالبصرة على يحيى بن(5/224)
يعمر ونصر بن عاصم والحسن وغيرهم «1» .
وقرأ عليه خلق منهم اليزيدي، وعبد الوارث الثوري، وشجاع البلخي وعبد الله بن المبارك. وأخذ عنه القراءة والحديث والأدب أبو عبيدة والأصمعي وخلق «2» . وانتهت إليه الإمامة بالبصرة.
قال أبو عمرو: كنت رأسا والحسن حيّ «3» .
وقال اليزيدي: كان أبو عمرو قد عرف القراءات، فقرأ من كل قراءة بأحسنها، وبما يختار العرب وبما بلغه من لغة النبي صلى الله عليه وسلم وجاء تصديقه في كتاب الله «4» .
وقال شجاع بن أبي نصر: رأيت النبي (في المنام، فعرضت عليه أشياء من قراءة أبي عمرو، فما ردّ عليّ إلا حرفين، أحدهما (وأرنا مناسكنا) والآخر قوله (ما ننسخ من آية، أو ننسوها) «5» فإن أبا عمرو كانت قراءته (ص 86) أو (ننساها) . «6»(5/225)
وقال سفيان بن عيينة: رأيت النبي (في المنام فقلت: يا رسول الله، قد اختلفت عليّ القراءات، فبقراءة من تأمرني أن أقرأ؟ فقال: بقراءة أبي عمرو بن العلاء «1» ) .
وقال أبو عبيدة: كان أبو عمرو أعلم الناس بالقرآن والعربية. وأيام العرب والشعر وأيام الناس «2» .
وقال الأصمعي (قال لي أبو عمرو بن العلاء) «3» : لو تهيأ لي أن أفرغ ما في صدري من العلم في صدرك لفعلت، لقد حفظت في علم القرآن أشياء لو كتبت ما قدر الأعمش على حملها، ولولا أن ليس لي أن أقرأ إلا بما قرئ لقرأت كذا وكذا وذكر حروفا «4» .
قال أبو عبيدة: كانت دفاتر أبي عمرو «5» ملء بيت إلى السقف، ثم تنسك فأحرقها، وكان من أشراف العرب ووجوههم «6» .
وقال الأصمعي: قال أبو عمرو: إنما نحن فيمن مضى كبقل في أصول نخل طوال، وقال: سمعت أبا عمرو يقول: ما رأيت أحدا قبلي أعلم مني. قال الأصمعي: وأنا ما رأيت بعد أبي عمرو أعلم منه، وكان إذا دخل رمضان لم يتمّ(5/226)
فيه بيت شعر، وسمعته يقول: أشهد أن الله يضلّ ويهدي، ولله مع هذا الحجة على عباده «1» .
وقال أبو عمرو: نظرت في هذا العلم قبل أن أختن ولي أربع وثمانون سنة «2» ، وكان أبو عمرو متواريا، فدخل عليه الفرزدق فأنشده: [البسيط]
ما زلت أفتح أبوابا وأغلقها ... حتى أتيت أبا عمرو بن عمار
حتى أتيت فتى ضخما دسيعته ... مر المريرة حر وابن أحرار
تنميهم مازن في فرع نبعتها ... جدّ كريم وعود غير خوّار
وقال أبو عمرو: وأنا زدت هذا البيت في أول قصيدة الأعشى وأستغفر الله منه «3» . [البسيط]
وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا
وكان لأبي عمرو كل يوم بفلس كوز وبفلس ريحان، فيشرب في الكوز يوما، ثم يهبه، ويأمر (ص 87) فتدق الريحان مع الأشنان «4» .
قال الأصمعي وغيره: توفي سنة أربع وخمسين ومائة «5» .(5/227)
ومنهم
10- نافع بن عبد الرحمن الليثي أبو رويم المقرئ
«1» نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم الليثي مولاهم أبو رويم «2» المقرئ المدني، أحد السبعة الأعلام، وأوحد من له أثر في الإسلام بقراءة حرر مناهجها، وحقق بأداء الحروف مخارجها، وكان أخضر الجلدة من بيت العرب «3» ، مسكي الطينة إذا فاح طيبه، لا عجب كان ذا سواد «4» آذن بسؤدده، وأتباع تدل كثرتها على تفرده، وروي أنه كان يتضوع شذا المسك من كلمه «5» ، ويفوح طيبا وما مسه سوى أن رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في فمه «6» ، وحسبه به طيبا لا يحادثه الدهر بغيره، وروية رآها بعين بصيرته لما فاته أن يراها بعين بصره «7» . قرأ على طائفة من تابعي(5/228)
أهل المدينة «1» .
قال أبو قرة: سمعته يقول: قرأت على سبعين من التابعين «2» . وأقرأ الناس دهرا طويلا، وقرأ عليه خلق كثير، منهم من قرأ عليه، ومنهم من أخذ عنه الحروف.
قال مالك بن أنس: قراءة نافع سنّة، وهو إمام الناس في القراءة «3» . روى أبو خليد الدمشقي عن الليث بن سعد أنه قدم المدينة سنة عشر فوجد نافعا إمام الناس في القرآن لا ينازع. والمحفوظ عن الليث أنه قال: قدمت المدينة سنة ثلاث عشرة» .
وقال أحمد بن هلال المصري: قال لي الشيباني: قال لي رجل ممن قرأ على نافع: إن نافعا كان إذا تكلم شمّ من فيه رائحة المسك. فقلت له: يا أبا عبد الله أو يا أبا رؤيم: أتتطّيّب كل ما قعدت تقرئ؟ قال: ما أمس طيبا، ولكني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ في فيّ. فمن ذلك الوقت أشم من فيّ هذه الرائحة «5» .
وقال نافع: قرأت على هؤلاء فنظرت إلى ما (ص 88) اجتمع عليه اثنان منهم فأخذته، وما شذ فيه واحد تركته حتى ألفت هذه القراءة. وقال قالون:
كان نافع لا يهمز همزا شديدا «6» ، ويمد ويحقق القراءة «7» ، ولا يشدد، ويقرب(5/229)
بين الممدود وغير الممدود. وقال نافع إنّ هذا القرآن لعظيم جاء من عند عظيم، فإذا قرأت فلا تشتغلنّ بغيره، وانظر من تخاطب، وإياك أن تملّ منه أو تؤثر عليه غيره، فإني لم أزل أتردد إلى الأعرج حتى قلت: حسبي «1» . وقال نافع: أرسل إليّ بعض الخلفاء مصحف عثمان لأصلحه، فقلت له: إن الناس يقولون إن مصحفه كان في حجره حين قتل فوقع الدم على قوله: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
«2» قال نافع: فنظرت عيني الدم على ذلك. ولما حضرت نافعا الوفاة قال له أبناؤه أوصنا قال: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ
«3» الآية.
وتوفي سنة تسع وستين ومائة «4» وهو معدود في صغار التابعين «5» ، وأصله من أصبهان، وكان أسود اللون حالكا صاحب دعابة وطيب أخلاق.
ومنهم
11- إسماعيل بن عبد الله المخزومي قارئ أهل مكة
«6» إسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين أبو إسحاق المخزومي، مولاهم المكي المقرئ المعروف بالقسط «7» ، قارئ أهل مكة في زمانه، وآخر أصحاب ابن كثير(5/230)
وفاة «1» ، وأول أمثاله فضلا إذا قدّم به كفاه، تصدر في البلد الحرام، وتصدى حيث يأمن الحمام، وكان في مكة واحدا ضمه حرمها، وأرضعه زمزمها، وآواه البيت العتيق إلى حجره، وأضاء ليل الحجر الأسود بتبلج فجره، وعرفه ركن الحطيم، وألفه لتقلب وجهه في السجود مقام إبراهيم، وأفرج شعب بني مخزوم له عن سكنه، وتنحى له سهم بني سهم عن سننه، وتبدل منه بالعاصي الطائع.
وعوّض عن ذي النسب الصريح بخير منه مولى (ص 89) يقرئ الأميّ ويقري الجائع.
عرض على ابن كثير وعلى صاحبيه: شبل بن عباد ومعروف بن مشكان «2» ، وأقرأ الناس دهرا، وكان الناس يجيئون بمصاحفهم فيصلحون بقراءته، وكان يجلس على موضع مرتفع. قال أبو عبد الله الشافعي: قرأت على إسماعيل، وكان يقول: القران اسم وليس بمهموز «3» ، ولو كان من قرأت كان كل ما «4» قرئ قرآنا، ولكنه اسم للقران مثل التوراه «5» والإنجيل، تهمز قرأت ولا تهمز القران، نقل أبو عبد الله القصاع أن وفاة القسط سنة تسعين ومائة، قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي: فلعله سنة سبعين تصحفت عليه «6» .(5/231)
ومنهم
12- حفص بن سليمان أبو عمر الأسدي
«1» مولاهم الغاضري الكوفي البزاز صاحب عاصم وابن زوجته، كانت قراءته «2» تتصل بعلي رضي الله عنه نسبها، وتنشأ به عن عاصم نسجها، ضابطا للحروف التي قرأ عليه بها، كثير الفوائد لمن رغب إليه في طلبها، أقرأ الناس دهرا، رقّم صحفه، ونوّر أيامه وسدفه،. وجلّى به الليل وأماط سجفه «3» ، أقرأه عاصم بما أقرأه أبو عبد الرحمن السلمي فعقله «4» ، وأفاده خالص ذهبه الإبريز فحصّله، قال أبو هشام الرفاعي: كان حفص أعلمهم بقراءة «5» عاصم «6» . وقال أبو الحسين بن المنادي: قرأ على عاصم وكان الأولون يعدونه في الحفظ فوق أبي بكر بن عياش، ويصفونه بضبط الحروف التي قرأها على عاصم «7» . أقرأ الناس دهرا ممتدا، وكانت القراءة التي أخذها ترتفع إلى علي- «8» رضي الله عنه «9» .(5/232)
وقال يحيى بن معين: القراءة قراءة حفص بن سليمان «1» . وقال ابن مجاهد بينه وبين أبي بكر بن عياش من الخلف في الحروف في خمس مائة وعشرين حرفا في المشهور عنهما «2» . وقال حسين الجعفي سمعت حفص بن سليمان (ص 90) يقول: قلت لعاصم أبو بكر يخالفني. فقال: أقرأتك بما أقرأني أبو عبد الرحمن السلمي، وأقرأته بما أقرأني زر بن حبيش «3» . توفي سنة ثمانين ومائة ومولده سنة تسعين «4» .
منهم
13- سليم بن عيسى بن سليم بن عامر
«5» ابن غالب أبو عيسى، ويقال أبو محمد الحنفي مولاهم الكوفي المقري، الموفي على النجم إذا يسري، المولي مننا «6» تناط بالمسامع، وتنال بها الكلم الجوامع، غلب به غالب، وحضر به مجالس الذكر وهو غائب، وأصبحت سليم(5/233)
الحمراء تاسف إذ لم يكن إليه منتهى قبيلتها»
، ومنتأى فخذها وفصيلتها «2» ، بل لو فطنت مرها كل عين لما اكتحلت إلا بجوهري جوهره، ولو تنبه كل كحال لعز إلى التشيف «3» بأصغر سليم إليه نسبه «4» .
كان صاحب حمزة بن حبيب الزيات، وكان أمتن من أخذ عنه، وأحذقهم بالقراءة، وأقومهم بالحروف، وهو الذي خلف حمزة في الإقراء بالكوفة «5» . قرأ عليه خلف بن هشام البزار، وخلاد بن خالد الصيرفي، وأبو عمر الدوري «6» ، وعدد كثير حتى إن رفقاءه في القراءة على حمزة قرؤوا عليه لإتقانه، منهم: خالد الطبيب «7» وحمزة بن القسم «8» ، وجعفر الخشكني، وإبراهيم الأزرق، وعبد الله ابن صالح. وسمع الحديث من حمزة، وسفيان الثوري، وسمع منه جماعة «9» .(5/234)
قال يحيى اليزيدي: كنا نقرأ على حمزة ونحن شباب، فإذا جاء سليم قال لنا حمزة: تحفظوا وتثبتوا قد جاء سليم «1» . وقال الدوري: حدثنا الكسائي قال:
كنت أقرأ على حمزة فجاء سليم فتلكأت، فقال لي حمزة:
تهاب سليما ولا تهابني!!؟ فقلت: يا أستاذ أنت إن أخطأت قوّمتني، وهذا إن أخطأت عيّرني «2» . وقال خلف «3» : افتتحت بسورة يوسف فقرأتها على سليم. فقال لي: كيف ابتدأت بها؟ قلت لصعوبتها. ثم ابتدأت بالفاتحة فلم أزل إلى سورة النور، فلم أغلط، ولم ألحن حتى قلت: (ليس على الأعمى حرج ولا على المريض خرج) فأومأ إليّ سليم فلم أدر ورددت كذلك (ص 91) فأخرج رجله ونصبها، وكان أعرج، ثم قال: وأين أنا؟ فقرأتها. فقال: لو ختمت ولم تخطئ لقلت إنك منافق. وقال ضرار بن صرد: سمعت سليم بن عيسى وأتاه رجل فقال: يا أبا «4» عيسى جئتك لأقرأ عليك بالتحقيق «5» . فقال: يا ابن أخي شهدت حمزة وأتاه رجل في مثل هذا فبكى، وقال: يا ابن أخي التحقيق صون القرآن، فإن صنته فقد حققته، هذا هو التحقيق، فمضى الرجل ولم يقرأ. وقال سليم: قرأت على حمزة عشر مرات «6» . قال خلف وهارون بن حاتم: توفي سنة ثمان وثمانين ومائة «7» . وقال أبو هاشم الرفاعي: توفي سنة تسع وثمانين(5/235)
ومائة- «1» . ومولده سنة ثلاثين ومائة. وقال خلف: بل سنة تسع عشرة «2» .
ومنهم
14- علي بن حمزة الكسائي
«3» الإمام أبو الحسن الأسدي مولاهم الكوفي المقرئ النحوي، أحد الأعلام «4» ، لف الفضل كله كساؤه، وردّ على العلم جميعه رداؤه، ونشر كساء كسائية أضواء من ملاءة النهار، وأظهر من غرر فوائده أمتع من كواكب الأسحار «5» ، وأسعد الله بصلته ببيت الخلافة جدّه، ولازم تأديب الأمين بن الرشيد حتى أوتي رشده «6» ،(5/236)
وأغدقت عليه أم جعفر «1» المواهب، وأغصت بالعطايا إليه حلوق المذاهب، وأصبح بانضمامه إلى جناح ابنها يحلّق «2» حيث تقصّ القوادم «3» ، وتقصّر لوامع البروق «4» في الليالي العواتم، وعزّت إفاداته، حتى عدّت للقعود للطلبة أوقاته «5» . وكان لا يجلس إلا مجلسا عاما، وينصب له كرسيّ يصعده، وذو التحصيل يصغي إلى ما يقرأ به ويقيده، إذ كان زمانه لا يسع إشغال كل واحد بمفرده، ولا قوله بلسانه وتقييده بيده «6» . ولد في حدود سنة عشرين ومائة «7» ، وسمع من جماعة (ص 92) وقرأ القرآن وجوّده على حمزة الزيات «8» ، وعيسى ابن عمر الهمداني وزايده، ونقل أبو عمرو الداني وغيره أن الكسائي قرأ على محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى أيضا، واختار لنفسه قراءة «9» ، ورحل إلى البصرة فأخذ العربية عن الخليل بن أحمد «10» وأخذ الحروف أيضا عن أبي بكر ابن عياش وغيره «11» ، وخرج إلى البوادي فغاب مدّة طويلة، وكتب الكثير من اللغات والغريب عن الأعراب بنجد وتهامه، ثم قدم وقد أنفد خمس عشرة قنينة(5/237)
حبر «1» ، وقرأ عليه أبو عمر الدوري وأبو الحرث الليث وخلق سواهم «2» ، وانتهت إليه الإمامة في القرآن والعربية. قال ابن معين: ما رأيت بعيني أصدق لهجة من الكسائي «3» ، وقال أبو عبيد في كتاب القراءات: كان الكسائي يتخيّر القراءات، فأخذ من قراءة حمزة بعضا، وترك بعضا «4» ، وكان من أهل القراءة، وهي كانت علمه وصناعته، ولم يجالس أحدا كان أضبط ولا أقوم بها منه «5» . وقال خلف:
قرأ الكسائي على حمزة القرآن أربع مرات «6» ، وقال أبو بكر بن الأنباري اجتمعت في الكسائي أمور: كان أعلم الناس بالنحو، وواحدهم في الغريب، وكان أوحد الناس في القرآن، فكانوا يكثرون عليه، حتى لا يضبط الأخذ عليهم، فيجمعهم ويجلس على كرسي، ويتلو القرآن من أوله إلى آخره، وهم يسمعون ويضبطون عنه حتى المقاطع والمبادي «7» ، وكان في الكسائي تيه وحشمة، لما نال من الرياسة بإقراء محمد الأمين ولد الرشيد وتأديبه أيضا للرشيد، فنال ما لم ينله أحد من الجاه والمال والإكرام، وحصل له رياسة العلم والدنيا «8» . وقال خلف: عملت وليمة فدعوت الكسائي واليزيدي «9» ، فقال(5/238)
اليزيدي للكسائي: يا أبا الحسن أمور تبلغنا عنك ننكر بعضها فقال الكسائي:
أو مثلي يخاطب بهذا، وهل مع العالم (ص 93) من العربية إلا فضل بصاقي هذا، ثم بصق فسكت اليزيدي «1» . وكان الكسائي يؤدب الأمين بن هارون الرشيد ويعلمه الأدب، ولم تكن له زوجة ولا جارية، فكتب إلى الرشيد يشكو العزبة في هذه الأبيات: [الكامل المرفل]
قل للخليفة ما تقول لمن ... أمسى إليك بحرمة يدلي
ما زلت مذ صار الأمين معي ... عبدي يدي ومطيتي رجلي
وعلى فراشي من ينبهني ... من نومة «2» وقيامه قبلي
أسعى برجل منه ثالثة ... موفورة مني بلا رجل
وإذا ركبت أكون مرتدفا ... قدّام سرجي راكب «3» مثلي
فامنن عليّ بما يسكّن ... هـ عني وأهد الغمد للنصل
فأمر له الرشيد بعشرة آلاف درهم وجارية حسناء بجميع آلاتها، وخادم وبرذون بجميع آلاته «4» . واجتمع يوما محمد بن الحسن الشيباني «5» والكسائي في مجلس الرشيد «6» . فقال الكسائي: من تبحر في علم تهدّى إلى جميع العلوم. فقال له محمد: ما تقول فيمن سها في سجود السهو هل يسجد مرة أخرى؟ فقال الكسائي: لا. قال: لماذا؟ قال: لأن النحاة يقولون: المصغر لا(5/239)
يصغر «1» . فقال محمد: ما تقول في تعليق الطلاق بالملك؟ قال: لا يصح. قال:
لم؟ قال: لأن السيل لا يسبق المطر. كذا وردت هذه الحكاية في عدة مواضع.
وذكر أبو بكر الخطيب في تاريخه أن هذه القصة جرت بين محمد بن الحسن والفرّاء «2» .
وقال الكسائي: صليت بهارون الرشيد فأعجبتني قراءتي، فغلطت في آية ما أخطأ فيها صبي قط أردت أن أقول: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
«3» فقلت: لعلهم يرجعين. فو الله ما اجترأ هارون أن يقول أخطأت، ولكنه لما سلّم قال: أيّ لغة هذه؟ قلت: (ص 94) يا أمير المؤمنين قد يعثر الجواد. قال: أما هذا فنعم «4» .
وقال ابن الدورقي: اجتمع الكسائي واليزيدي عند الرشيد فحضرت صلاة فقدموا الكسائي يصلي فأرتج «5» عليه قراءة يا أيها الكافرون. فقال اليزيدي:
قراءة (قل يا أيها الكافرون) ترتج على قارئ الكوفة!!؟ قال: فحضرت صلاة فقدموا اليزيدي فأرتج عليه في الحمد فلما سلم قال: [الكامل]
احفظ لسانك لا تقول فتبتلى ... إن البلاء موكّل بالمنطق «6»
وعن الفرّاء قال: ناظرت الكسائيّ يوما وزدت فكأني كنت طائرا أشرب من(5/240)
بحر «1» . قال: وإنما تعلم النحو على كبر لأنه جاء إلى قوم وقد أعيى «2» فقال: قد عييت. فقالوا له: تجالسنا وأنت تلحن!؟ قال: كيف لحنت؟ قالوا له: إن كنت أردت من التعب فقل: أعييت، وإن أردت انقطاع الحيلة والحيرة في الأمر فقل:
عييت. فأنف من ذلك. وقام من فوره فسأل عمن يعلم النحو فدل على معاذ الهرّاء «3» فلزمه، ثم خرج إلى البصرة فلقي الخليل، ثم خرج إلى بادية الحجاز «4» . قال الشافعي: من أراد أن يتبحر في النحو فهو عيال على الكسائي «5» . وقال الفرّاء: لقيت الكسائي يوما، فرأيته كالباكي فقلت: ما يبكيك؟ فقال: هذا الملك يحيى بن خالد يحضرني فيسألني عن الشيء، فإن أبطأت في الجواب لحقني منه عتب، وإن بادرت لم آمن الزلل. فقلت: يا أبا الحسن من يعترض عليك؟ قل ما شئت فأنت الكسائي. فأخذ لسانه بيده وقال:
قطعه الله إذا إن قلت ما لا أعلم «6» . وروى نصير بن يوسف قال: دخلت على الكسائي في مرض موته فأنشأ يقول: [الكامل]
قدر أحلك ذا النخيل وقد أرى ... وأبي، ومالك ذو النخيل بدار(5/241)
إلا كداركم بذي بقر اللوى ... هيهات ذو بقر من المزدار «1»
(ص 95) فقلت: كلا ويمتع الله الجميع بك. فقال: لئن قلت ذلك: لقد كنت أقرئ الناس في مسجد دمشق فأغفيت في المحراب، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم داخلا من باب المسجد، فقام إليه رجل فقال: بحرف من تقرأ؟ فأومأ إليّ «2» .
وقال أبو سعيد السيرافي رثى يحيى اليزيدي محمد بن الحسن والكسائي، وكانا خرجا مع الرشيد فماتا في الطريق، فقال: [الطويل]
تصرمت الدنيا فليس خلود ... وما قد ترى من بهجة فيبيد «3»
لكل امرئ كأس من الموت مترع ... وما إن لبا إلا عليه ورود
ألم تر شيبا شاملا ينذر البلى ... وأنّ الشباب الغض ليس يعود
سيأتيك ما أفنى القرون التي ... مضت فكن مستعدا فالفناء عتيد «4»(5/242)
أسيت على قاضي القضاة محمد ... فأذريت دمعي والفؤاد عميد «1»
وقلت إذا ما الخطب أشكل من لنا ... بإيضاحه يوما وأنت فقيد
وأقلقني موت الكسائي بعده ... وكادت لي الأرض الفضاء تميد «2»
وأذهلني عن كل عيش ولذة ... وآرق عيني والعيون هجود
هما عالمانا أوديا وتخرّما ... وما لهما في العالمين نديد
فحزني أن يخطر على القلب خطرة ... بذكرهما حتى الممات جديد «3»
قال أبو عمر الدوري توفي الكسائي بالري بقرية أرنبويه، وقال مجاهد برنبويه سنة تسع وثمانين ومائة على الصحيح، وقيل إنه عاش سبعين سنة، ومات هو ومحمد بن الحسن في يوم واحد. فقال الرشيد: دفنا الفقه والنحو بالري «4» . وسمي الكسائي لأنه أحرم في كساء «5» .
(ص 96) ومنهم(5/243)
15- أبو بكر بن عياش بن سالم الأسدي الكوفي
«1» أحد الأعلام «2» ، كان ذا علم نافع لا يمنعه، وعمل صالح لا يقطعه، وزهد أقل شيء يقنعه «3» . أخذ عن عاصم فعصم، وعمّر دهرا لم يعم ولم يصم «4» ، متع بالعمر المديد، وأدرك سلطان بني أمية وعمّر إلى أيام الرشيد «5» ، وكان حجة لا يسع خصمها الجحود، ولا تحتاج مع الإقرار إلى أداء الشهود، في اسمه ثلاثة عشر قولا أصحها كنيته وشعبه «6» .
ولد سنة خمس وتسعين، وقرأ القرآن ثلاث مرات على عاصم وعمّر دهرا «7» ، وكان يقول أنا نصف الإسلام، وكان سيدا إماما حجة كثير العلم والعمل «8» ، منقطع القرين، قرأ عليه أبو الحسن الكسائي وجماعة، وروى عنه خلق «9» ، قال(5/244)
عثمان بن أبي شيبة أحضر الرشيد أبا بكر بن عياش من الكوفة، فجاء ومعه وكيع، فدخل ووكيع يقوده، فأدناه الرشيد وقال: أدركت أيام بني أمية وأيامنا فأينا خير؟ قال: أولئك كانوا أنفع للناس وأنتم أقوم بالصلاة، فصرفه الرشيد، وأجازه بستة آلاف دينار «1» ، وأجاز وكيعا بثلاثة آلاف دينار «2» . قال أبو عبد الله الحنفي لم يفرش لأبي بكر بن عياش فراش خمسين سنة «3» . وروي أنه مكث أربعين سنة يختم القرآن في كل يوم وليلة «4» . وقال يحيى بن سعيد زاملت أبا بكر بن عياش إلى مكة فما رأيت أورع منه، ولقد أهدى له رجل رطبا فبلغه أنه من البستان الذي أخذ من خالد بن مسلمة المخزومي «5» ، فأتى آل خالد فاستحلهم وتصدق بثمنه «6» .
وقال أبو عبد الله المعيطي رأيت أبا بكر بن عياش بمكة، فأتى سفيان بن عيينة فبرك بين يديه، فجاء رجل فسأل سفيان عن حديث فقال: لا تسألني ما دام هذا الشيخ قاعدا «7» . وقال أبو هشام الرفاعي: سمعت أبا بكر بن عياش يقول: أبو بكر خليفة رسول الله في القرآن إن الله تعالى (ص 97) يقول: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم) إلى قوله أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ
«8» فما سماه الله صادقا فليس يكذب، هم قالوا: يا(5/245)
خليفة رسول الله «1» .
وقال يحيى الحماني: حدثني أبو بكر بن عياش قال: جئت ليلة إلى زمزم فاستقيت منه دلوا لبنا وعسلا «2» .
وقال أبو هاشم الرفاعي: سمعت أبا بكر يقول: الخلق أربعة: معذور، ومخبور، ومجبور، ومثبور. فالمعذور الهائم «3» ، والمخبور ابن آدم، والمجبور الملائكة، والمثبور الجن «4» . وقال أبو بكر أدنى نفع السكوت السلامة، وكفى بها عافية. وأدنى ضرر المنطق الشهرة وكفى بها بلية «5» . وقال: من زعم أن القرآن مخلوق فهو عندنا كافر زنديق عدو لله لا نجالسه ولا نكلمه «6» .
وقال أبو بكر: الدخول في العلم سهل والخروج منه إلى الله شديد «7» .
وقال عبد الله بن المبارك: ما رأيت أحدا أسرع إلى السنة من أبي بكر «8» .
وقال الحماني لما حضرت أبا بكر الوفاة بكت أخته، فقال لها ما يبكيك «9» ؟
انظري إلى تلك الزاوية، قد ختمت فيها ثمانية عشر ألف 1»
ختمة. وتوفي في(5/246)
جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين ومائة «1» . قال أحمد بن حنبل: كان صاحب قرآن وخبر «2» .
ومنهم
16- يحيى بن المبارك بن المغيرة العدوي
«3» أبو محمد المقرئ النحوي اللغوي، عرف باليزيدي لاتصاله بيزيد بن منصور خال المهدي مؤدّب ولده «4» ، ويهدّب «5» سؤدده، وكان فصيح اللسان، صريح الإحسان، صحيح القصد في تصانيفه الحسان. علم هداية لا يضلّ من به اهتدى، ولا يضر من به اقتدى، قرأ عليه أعيان القراء «6» ، وكان له اختيار خالف(5/247)
فيه أبا عمرو «1» ، ولم يعدل عن الطريقة الغراء «2» . جوّد القرآن على (ص 98) أبي عمرو، وحدّث عنه وعن ابن جريج «3» ، وقرأ عليه الدوري والسوسي، وطائفة «4» ، وله اختيار كان يقرئ به أيضا، خالف فيه أبا عمرو في أماكن يسيره، وهو الذي خلف أبا عمرو في القيام بالقرآن بعده «5» . قال ابن مجاهد إنما عولنا على اليزيدي وإن كان سائر أصحاب أبي عمرو أجل منه، لأنه انتصب للرواية عنه، وتجرد لها ولم يشتغل بغيرها، وهو أضبطهم «6» . قال الفضل: كان اليزيدي معلما على باب أبي عمرو، وكان يخدمه في حوائجه، وربما أمسك المصحف على أبي عمرو فقرأ عليه، وكان أبو عمرو يدنيه، ويميل إليه لذكائه، وكان صحيح الرواية «7» . واتصل اليزيدي أيضا بالرشيد وأدّب المأمون، وكان ثقة علامة فصيحا مفوّها بارعا في اللغات والآداب «8» ، أخذ عن الخليل وغيره، حتى قيل إنه أملى عن أبي عمرو خاصة عشرة آلاف ورقة «9» ،(5/248)
وأخذ عن الخليل من اللغة شيئا كثيرا، وكتب عنه العروض في ابتداء وضعه له، إلا أنّ اعتماده كان على أبي عمرو أكثر لسعة علمه باللغة «1» ، وصنف عدة تصانيف «2» وله النظم الجيد، وشعره مدون «3» . قال: الأثرم: دخل اليزيدي يوما على الخليل بن أحمد وهو جالس على وسادة فأوسع له وأجلسه معه، فقال له اليزيدي: أحسبني ضيقت عليك. فقال الخليل: ما ضاق موضع على اثنين متحابين، والدنيا لا تسع متباغضين «4» . وسأل المأمون اليزيدي شيئا فقال: لا وجعلني الله فداك يا أمير المؤمنين. فقال: لله درك ما وضعت الواو قط في موضع أحسن من موضعها في لفظك هذا ووصله وحمله «5» . وقال اليزيدي:
دخلت على المأمون يوما والدنيا غضّة وعنده نعم تغنيه، وكانت من أجمل أهل دهرها فأنشدت: [الكامل]
وزعمت أني ظالم فهجرتني ... ورميت في قلبي بسهم نافذ
(ص 99) فنعم هجرانك «6» فاغفري وتجاوزي ... هذا مقام المستجير العائذ(5/249)
هذا مقام فتى أضرّ به الهوى ... قرح الجفون بحسن وجهك لائذ
ولقد أخذتم من فؤادي أنسه ... لا شلّ ربي كف ذاك الآخذ
فاستعادها المأمون الصوت ثلاث مرات، ثم قال: يا يزيدي أيكون شيء أحسن مما نحن فيه؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين. قال: فما هو؟ قلت: الشكر لمن خوّلك هذا الإنعام الجليل العظيم، فقال: أحسنت وصدقت ووصلني، وأمر أن يتصدّق بمائة ألف، وكأني إلى البدر «1» وقد أخرجت، والمال يفرق «2» .
توفي اليزيدي سنة اثنتين ومائتين، وله أربع وسبعون سنة «3» ، وكان له عدة أولاد فضلاء علماء «4» ، أخذوا عنه، وأخذ عنه أيضا ابن ابنه أحمد بن محمد.
ومنهم
17- يعقوب بن إسحاق بن يزيد بن عبد الله «5»
ابن أبي إسحاق الحضرمي بالولاء البصري المقرئ، المشهور قارئ أهل البصرة(5/250)
في زمانه، أبو يوسف أحد القراء العشرة «1» ، وهو المقرئ الثامن، وكان بالبصرة قائما بمعناها، وعامرا لمغناها، يكاثر بعلمه مدّها، ويقادح بفهمه زندها، ويجلّي بقيامه في دياجي الليل مسودّها، يحيي بتهجده موات لياليها، ويصل في مواضع صلاته مساحة نواصيها، يأوي منه إلى أروح من ظلّ نخيلها، ويروى عنه أعذب من نطف سلسبيلها، ينافح طيبها الهندي أرجاه، ويفاخر لؤلؤها البحري ملجاه، ويحدّث عن عجائبه فيها، ما لا يقدر الواصف وإن جهد يوفيها.
قرأ القرآن على أبي المنذر سلّام بن سليمان، وعلى أبي الأشهب العطاردي وغيرهما، وسمع من حمزة الزيات، وجماعة «2» ، وبرع في الإقراء، وكان أقرأ أهل زمانه، وكان لا يلحن في كلامه، وله في القراءات (ص 100) رواية مشهورة منقولة عنه، وكان من بيت العلم بالقراءات والعربية وكلام العرب، والرواية الكثيرة الحروف، والفقه وكان من أقرأ القرّاء، وأخذ عنه عامة حروف القرآن مسندا وغير مسند من قرّاء الحرمين والعراقين وأهل الشام، وغيرهم خلق كثير «3» ، قال أبو حاتم- وهو من بعض تلامذته-: هو أعلم من رأيت بالحروف والاختلاف في القرآن وعلله ومذاهبه، ومذاهب النحو «4» . وقال أبو القاسم(5/251)
الهذلي «1» : لم ير في زمن يعقوب مثله، كان عالما بالعربية ووجوهها، والقرآن واختلافه، فاضلا تقيا نقيا ورعا زاهدا، بلغ من زهده أنه سرق رداؤه عن كتفه وهو في الصلاة، وردّ إليه ولم يشعر، لشغله بالصلاة، وبلغ من جاهه بالبصرة أنه كان يحبس ويطلق «2» ، ولبعضهم «3» : [الطويل]
أبوه من القراء كان وجدّه ... ويعقوب في القراء كالكوكب الدّري
تفرّده محض الصواب ووجهه ... فمن مثله في وقته وإلى الحشر
قال طاهر بن غلبون: وإمام أهل البصرة بالجامع لا يقرأ إلا بقراءة يعقوب، يعني في الصلوات «4» . قال ابن سوار «5» وغيره، توفي في ذي الحجة سنة خمس ومائتين، عن ثمان وثمانين سنة «6» .
ومنهم
18- يحيى بن آدم بن سليمان أبو زكريا القرشي
«7» مولى أبي معيط الكوفي، صاحب أبي بكر بن عياش، روى حروف عاصم(5/252)
سماعا، وروى بسلسلة العذب أسماعا، وكان للعلم جمّاعا، وللفهم زند ذكاء يقدح شعاعا «1» ، ولأهل الطلب قمرا يسوق وراءه النجوم أتباعا، وحدّث عن جماعة، وأخذ عنه أضعافها، ومثلت بين يديه الأهلة فلم ير إلا من مرآة قلمه أنصافها، (ص 101) وقد كان رأسا في زمانه، كما كان قبله الثوري فيمن غبر، وقيل كان فلان ثم فلان، كل واحد في وقته منه إلى عمر «2» . سئل أبو داود عنه، فقال ذاك واحد الناس «3» ، وقال علي بن المديني: يرحم الله يحيى ابن آدم أيّ علم كان عنده «4» . وقال أبو أسامة: ما رأيت يحيى بن آدم إلا ذكرت الشعبي «5» يعني أنه كان جامعا للعلم. كان عمر في زمانه رأس الناس، وكان بعده ابن عباس، ثم كان بعده الشعبي في زمانه، وكان بعد الشعبي الثوري في زمانه، وكان بعد الثوري يحيى بن آدم «6» ، وأثبت الروايات عن أبي بكر رواية يحيى بن آدم «7» ، وما ذكر صاحب التيسير «8» غيرها، وهي كما قال سماع لا تلاوة، وقال يحيى بن آدم سألت أبا بكر عن حروف عاصم التي(5/253)
في هذه الكراسة أربعين سنة فحدثني بها كلها، وقرأها عليّ حرفا حرفا «1» .
وتوفي يحيى بفم الصلح «2» في ربيع الأول سنة ثلاث ومائتين، وهو في عشر السبعين «3» .
ومنهم
19- حسين بن علي الجعفي مولاهم الكوفي «4»
أبو عبد الله الزاهد، أحد الأعلام «5» ، أشار الكسائي إلى فضله «6» ، وعلم الرشيد بنبله «7» ، وقبّل سفيان يده، ولو مكنه لما استنكف من تقبيل رجله، وأتاه قادما فوثب له قائما «8» ، وقال قدم أفضل رجل «9» ، وكان في عصره أجلّ من ينفض عليه صبغ أصل «10» ، وأقرأ من ترمي إليه متون الأينق «11»(5/254)
الذلل «1» ، ما اشتمل في زمانه على مثله ضحى ولا هزيع «2» ، ولا اكتنفه أو انفرج عنه صدى «3» مساء ولا صديع «4» . قرأ القرآن على حمزة، وأخذ الحروف عن أبي عمرو وأبي بكر بن عياش «5» ، وبرع في القراءة والحديث، وأقرأ الناس بعد حمزة «6» . قال أحمد بن حنبل ما رأيت أفضل (ص 102) منه. وقال قتيبة قيل لسفيان بن عيينة قدم حسين الجعفي فوثب قائما، وقال: قدم أفضل رجل يكون قط «7» ، وقال موسى بن داود كنت عند ابن عيينة فأتاه حسين الجعفي فقام سفيان وقبل يده «8» .
وعن الكسائي قال: قال لي الرشيد: من أقرأ الناس؟ قلت حسين الجعفي «9» .
وقال أحمد بن عبد الله «10» : كان حسين يقرئ القرآن، ورأس فيه، ولم أر(5/255)
رجلا قط أفضل منه، وهو ثقة، ولم نره إلا مقعدا، ولم يطأ قط، وكان جميلا لبّاسا يخضب وخلف ثلاثة عشر دينارا «1» . وقال يحيى بن يحيى النيسابوري إن كان بقي من الأبدال أحد فحسين الجعفي «2» ، توفي في ذي القعدة سنة ثلاث ومائتين، عن أربع وثمانين سنة «3» .
ومنهم
20- قالون أبو موسى
«4» واسمه عيسى بن مينا بن وردان بن عيسى الزرقي مولى بني زهرة، قارئ أهل المدينة في زمانه ونحويهم «5» . كان لأهل المدينة المشرفة حلية مسجدهم، وزينة(5/256)
معبدهم، وأنس قائمهم ومتهجدهم، لا يذمّ فيه المغالون، ولا يطاول به المتغالون، تزاحم عليه القراء حلقا، وتوكل به إسماعا وحدقا، وهم لسواه قالون «1» . وإليه غاية منتهاهم إذا قال قالون، غني بإفاك التربية عن شافع «2» ، وكفى في ثبوت فضله فلم يحتج إلى إبداء دافع «3» ، ووقي فلم يخش ضرا إذ أخذ عن نافع «4» .
قيل إنه كان ربيب نافع «5» ، وهو الذي لقبه قالون لجودة قراءته، وهي لفظة رومية، معناه جيد، لم يزل يقرأ على نافع، حتى مهر وحذق «6» ، وتبتل لإقراء القرآن والعربية، وطال عمره، وبعد صيته، وكان شديد الصمم، وكان يقول للقارئ: لو رفعت صوتك لا إلى غاية لا يسمع، وكان ينظر إلى شفتي القارئ فيردّ عليه اللحن والخطأ «7» ، وقال قالون: قال لي نافع: كم تقرأ (عليّ) «8» (ص 103) اجلس إلى أسطوانة حتى أرسل إليك من يقرأ، وتوفي سنة عشرين(5/257)
ومائتين، وله نيف وثمانون سنة «1» .
ومنهم
21- أحمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم بن أبي بزة
«2» أبو الحسن البزّي «3» المكي، قارئ مكة ومؤذن المسجد الحرام، ومولى بني مخزوم. ثلاثة لكل منها فضل معلوم: يقرأ كتاب الله المنزل لدن بيته الحرام.
ويؤذن والمؤذن ثاني الإمام، ومولى بني مخزوم. ومولى القوم منهم، ومن له بأن يكون من قريش!!؟ ومنهم النبي عليه أفضل السلام. وهو ممن أقرأ في أواخر المفصل بالتكبير «4» ، وبه إلى الآن يعمل، يعمل إذا ختم كتاب الله المنير.
مولده سنة سبعين ومائة «5» ، وقرأ القرآن على عكرمة بن سليمان «6» ، وأبي الإخريط «7» ، وعبد الله بن زياد «8» عن أخذهم عن إسماعيل بن عبد الله(5/258)
القسط «1» . وأذن في المسجد الحرام أربعين سنة، وأقرأ الناس بالتكبير من والضحى «2» ، وروى في ذلك خبرا غريبا عن عكرمة بن سليمان قال: قرأت على القسط فلما بلغت والضحى قال: كبر عند خاتمة كل سورة حتى تختم، وأخبره ابن كثير أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك، وأخبره مجاهد أن ابن عباس أمره بذلك، وأخبره ابن عباس أن أبي بن كعب أمره بذلك، وأخبره أبي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بذلك. قال الحاكم هذا صحيح الإسناد «3» . وقال الحسين بن الحباب:
سألت البزيّ كيف التكبير فقال: لا إله إلا الله والله أكبر. توفي البزي سنة خمسين ومائتين «4» .
ومنهم
22- خلاد بن خالد
«5» وقيل ابن عيسى أبو عيسى وقيل أبو عبد الله الشيباني مولاهم الصيرفي(5/259)
الكوفي الأحول المقرئ صاحب سليم «1» (ص 104) وساحب ذيل ما تكشف عن مثله غيم الصيرفي، الذي لا يدخل عليه زيف، الكوفي الذي لا يسأل عن شيء وجّهه بكيف، له فضل نفس ووالد، وحسن ذكر إن نسب إليه فهو خلاد، أو إلى أبيه فهو خالد «2» . أقرأ الناس مدّة، وحدث عن زهير بن معاوية، والحسن ابن صالح بن حيّ «3» ، وقرأ عليه محمد بن شاذان الجوهري «4» ، ومحمد بن الهيثم قاضي عكبرا «5» ، ومحمد بن يحيى الخنيسي «6» ، والقاسم بن يزيد الوزان «7» ، وهو أنبل أصحابه «8» . وحدّث عنه أبو زرعة وأبو حاتم «9» ، وكان صدوقا. توفي سنة عشرين ومائتين «10» .(5/260)
ومنهم
23- خلف بن هشام بن تغلب أبو محمد البغدادي المقرئ البزار
«1» أحد الأعلام، وجدّ الكلام، الذي أنفق للتحصيل ما شاء مالا «2» ، وأنفد لما تبقى مالا، فضل بفضله من سلف، وخلى وراءه في الأعقاب شكرا، لا يذمّ معه خلف، كان بزازا «3» إلا أنه ينشر حللا لا ترقم الأنامل طرزها، ولا ترقى يد الدهر الغالبة لتبتزها «4» ، ولا تحكي سجوف الغمام في الدفع بزّها، ولا تصنع مثلها صنعاء إذا حبت تعزها «5» ، له اختيار أقرأ به وخالف فيه حمزة «6» ، وكان عابدا فاضلا، قال حمدان بن هانئ المقرئ: سمعت خلف بن هشام يقول: أشكل باب(5/261)
من النحو، فانفقت ثمانين ألف درهم حتى حذقته «1» ، وقال خلف: أعدت الصلاة أربعين سنة كنت أتناول فيها الشراب على مذهب الكوفيين «2» ، وقال إدريس: سمعت خلفا يقول: قرأت القرآن على سليم مرارا، وكنت أسأله عند الفراغ من آخر القرآن: أأروي عنك هذه القراءة التي قرأت عليك عن حمزة الزيات؟ فيقول نعم «3» . وسمعت خلفا يقول: حفظت القرآن وأنا ابن عشر سنين «4» (ص 105) وأقرأت أول شيء ولي ثلاث عشرة سنة. وورد أن خلفا كان يصوم الدهر «5» ، وقال قدمت الكوفة فصرت إلى سليم، فقال ما أقدمك؟
قلت: أقرأ على أبي بكر بن عياش، فقال لا تريده، قلت: بلى، فدعا ابنه وكتب معه ورقة إلى أبي بكر، لم أدر ما كتب فيها، فأتيناه فقرأ الورقة وصعّد فيّ النظر، ثم قال: أنت خلف؟ قلت: نعم. قال أنت لم تخلّف أحدا في بغداد أقرأ منك؟
فسكت. فقال لي: اقعد هات اقرأ. قلت عليك؟ قال نعم. قلت لا والله لا أقرأ على رجل يستصغر رجلا من حملة القرآن. فوجه إلى سليم يسأله أن يردّني فأبيت، ثم ندمت واحتجت فكتبت قراءة عاصم عن يحيى بن آدم عنه «6» ، توفي في جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين ومائتين، ومولده سنة خمسين(5/262)
ومائة «1» .
ومنهم
24- الليث بن خالد أبو الحارث البغدادي المقرئ
«2» ذو العلم المروي «3» ، والفهم الموري «4» ، لا يوصف باع من نكل عنه بالقصور، ولا يطاق منه مغالبة الليث الهصور «5» ، لا تكشف عن مجادلته(5/263)
المباحث، ولا تقتحم عليه غابته «1» وهو الليث وهو أبو الحارث، تقدّمه آفاق العراق حيث تعدّ جلتها، وتنقع أكناف «2» بغداد به من ما لا يبل إدامه دجلتها «3» ، وكان صاحب الكسائي، والمقدم من بين أصحابه «4» ، قرأ عليه وسمع الحروف من حمزة بن قاسم الأحول، وأبي محمد اليزيدي، «5» قال أبو عمرو وقد غلط أحمد بن نصر في نسبته، فقال الليث بن خالد المروزي. وذاك رجل آخر سمع من مالك بن أنس وجماعة يكنى أبا بكر «6» ، وممن قرأ على الليث: سلم بن عاصم ومحمد بن يحيى الكسائي الصغير «7» ، توفي سنة أربعين ومائتين «8» .(5/264)
ومنهم
25- عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان
«1» أبو عمرو (ص 106) البهراني الدمشقي «2» مقرئ دمشق وإمام الجامع «3» .
ومدام «4» حانها إلا أنه الذي يشرب بالمسامع حاشى «5» لله بل هو مصباح مسجدها، وصنو «6» فرقدها «7» ، وأثبت ما تعدّه منها، إرم ذات العماد من عمدها «8» ، ما الذي يوصف منه بالمدام إن لم يكن خلقه الدمث، ووجهه المنبسط وكفه المنبعث، لا بل هو أرق هواء، وأقل شغبا من المدام والتواء، بل هو النار توقّد ذهن، وتوفر حلم، يغدو والجبال معه كالعهن «9» ، كأن الذكاء أربى لابن ذكوان، والفطنة لا يشاركه فيها شريك إلا توقّد ذكاء إن كان، ولد يوم(5/265)
عاشوراء سنة ثلاث وسبعين «1» ، وقرأ على أيوب بن تميم وغيره «2» ، وقيل إن الكسائي قدم دمشق فقرأ عليه ابن ذكوان «3» ، قال أبو زرعة: لم يكن بالعراق ولا بالحجاز ولا بالشام ولا بمصر ولا بخراسان في زمن ابن ذكوان أقرأ عندي منه «4» . وقال محمد بن الفيض الغساني: جاء رجل من الحرجلّة «5» يطلب لأخيه لعّابين لعرسه «6» ، فوجد ولي الأمر قد منعهم، فجاء يطلب المغبّرين «7» ، فلقيه صوفي ما جن فأرشده إلى ابن ذكوان وهو خلف المنبر، فجاءه وقال: إن السلطان قد منع المخنثين «8» ، فقال أحسن والله، فقال نعمل العرس بالمغبّرين وقد أرشدت إليك، فقال: لنا رئيس فإن جاء معك جئت «9» ، وهو ذاك وأشار إلى(5/266)
هشام بن عمار «1» ، فقام الرجل إليه وهو متكئ بحذاء المحراب، فقال لهشام: أبو من؟ فردّ عليه ردا ضعيفا وقال: أبو الوليد. قال: يا أبا الوليد أنا من الحرجلّة، قال: لا أبالي من أين كنت. قال إنّ أخي يعمل عرسه. قال فماذا أصنع؟ قال:
قد أرسلني أطلب المخنثين له يعني المغاني، قال لا بارك الله فيهم ولا فيك.
(ص 107) قال: وقد طلب المغبرين فأرشدت إليك، قال ومن أرشدك؟ قال:
ذاك الرجل. فرفع هشام رجله ورفسه وقال: قم، ثم صاح يا ابن ذكوان قد تفرغت لهذا!!؟ قال إي والله أنت رئيسنا لو مضيت لمضينا «2» . وقيل إن هشاما كان الخطيب «3» ، وكان ابن ذكوان يؤم في الصلوات، أو لعله كان نائب هشام.
وتوفي ابن ذكوان يوم الاثنين لليلتين بقيتا من شوال سنة اثنتين وأربعين ومائتين «4» .
ومنهم
26- هشام بن عمار بن نصير
«5» ابن ميسرة أبو الوليد السلميّ، ويقال الظفري الدمشقي، شيخ أهل دمشق(5/267)
ومفتيهم، ومحدّثهم وخطيبهم ومقرئهم «1» ، رفعت به سليم رايتها الحمراء، ومهدت له دمشق بتربتها الخضراء، ونسب إلى ميسرة فتيسّر ما صعب من أمثلة القصي، وظفر بإجابة دعائه فلا عجب أن عرف بالظفري، تيمن المنبر، منبر المسجد الجامع، وتفنن فأودع الدرّ المسامع، وحدّث وخطب، وأقرأ وهو في هذا أحمد «2» وفي هذا قس «3» وفي هذا نافع «4» . ولد سنة ثلاث وخمسين ومائة «5» ، وقرأ القرآن على عراك بن خالد، وأيوب بن تميم وغيرهما من أصحاب يحيى الذماري «6» ، وسمع من مالك بن أنس «7» وخلق كثير، وحدّث عنه البخاريّ في صحيحه وأبو داود والنسائي وابن ماجه في سننهم، وحدّث الترمذي عن رجل عنه، وكان طلّابة للعلم واسع الرواية متبحرا في العلوم «8» ،(5/268)
روى عنه عبدان الأهوازي، قال: ما أعدت خطبة منذ عشرين سنة «1» . وقال عبدان أيضا ما كان في الدنيا مثل هشام. وقال محمد بن خريم: كان هشام فصيحا (ص 108) مفوها سمعته يقول في خطبته: قولوا الحقّ ينزلكم الحقّ منازل أهل الحق يوم لا يقضى إلا بالحق «2» . وقال هشام: سألت الله سبع حوائج: سألته أن يغفر لي ولوالديّ، فما أدري ما صنع في هذه، وسألته الستة فقضاهنّ لي وهي الحج والعمرة، وأن يعمرني نحو المائة، وأن يجعلني مصدّقا على حديث نبيه، وأن أخطب على منبر دمشق، وأن يرزقني ألف دينار حلالا، وأن يغدو الناس إليّ في طلب العلم، فقيل له من أين لك الذهب؟ قال وجّه المتوكل بولده ليكتب عني لما قدم إلينا، فجلست فانكشف ذكري، فقال الغلام:
يا عم استتر. فقلت: رأيته أما إنك لن ترمد فلما دخل على المتوكل ضحك، فسأله فأخبره، فقال: حسن «3» من الشيخ، احملوا إليه ألف دينار. فحملت إليّ من غير مسألة ولا استشراف نفس «4» ، وكان يخطب ويصلي بالناس الجمعة فقط «5» .
قال أبو علي الأصبهاني لما توفي أيوب بن تميم رجعت الإمامة في القراءة إلى رجلين: ابن ذكوان وهشام. قال: وهشام كان مشتهرا بالنقل والفصاحة والعلم والرواية والدراية، رزق كبر السّن وصحة العقل والرأي، فارتحل الناس إليه في(5/269)
القراءات والحديث «1» . زاد على ابن ذكوان بأخذه القراءة عن الوليد بن مسلم «2» ، وسويد بن عبد العزيز «3» ، وصدقة بن يحيى «4» وغيرهم، قال البخاري وغيره: مات في آخر المحرّم سنة خمس وأربعين ومائتين «5» .
ومنهم
27- أبو عمر الدوري
«6» واسمه حفص بن عمر بن عبد العزيز بن صهبان، ويقال: صهيب الأزدي البغدادي، المقرئ النحوي الضرير، نزيل (ص 109) سامراء مقرئ الإسلام، وشيخ العراق في وقته «7» ، والمحيط درّحبه كل كوكب عن سمته، يقال إنه أول من جمع القراءات وألفها، وبين للناس الروايات وأحرفها «8» ، وكان ممن تضرب(5/270)
إليه الإبل آباطها «1» ، وتشد إليه الكران «2» مناطها «3» ، وتأتي إليه أفواج الطلبة لا تمدّ عليهم سجوف «4» المجرة «5» أنماطها «6» . ولا تفرش لهم إلا نمارق «7» البيد بساطها، وتقتحم إليه حوامل المزن «8» ترمي إليه من زناد «9» البروق أسقاطها، وتخوض إليه لجج الليل لا تستسقي إليه من نجوم الجوزاء أرسيتها «10» ولا من كواكب الدلو أقساطها «11» .(5/271)
قرأ على إسماعيل بن جعفر، والكسائي، ويحيى اليزيدي «1» ، وسمع الحروف من أبي بكر «2» ، وروى عن أحمد بن حنبل، وهو من أقرانه «3» . وطال عمره، وقصد من الآفاق، وازدحم عليه الحذاق لعلو سنده وسعة علمه.
قال الدوري: قرأت على إسماعيل بن جعفر ختمة بقراءة أهل المدينة، وأدركت حياة نافع ولو كان عندي عشرة دراهم لرحلت إليه «4» .
وقال الأهوازي: رحل الدوري في طلب القراءات، وقرأ بالحروف السبعة وبالشواذ، وسمع من ذلك شيئا كثيرا «5» ، وذهب بصره في آخر عمره، وكان ذا دين وخير «6» . وقال أبو داود: رأيت أحمد بن حنبل يكتب عن عمر الدوري «7» . توفي في شوال سنة ست وأربعين ومائتين «8» .(5/272)
ومنهم
28- أبو شعيب السوسي
«1» واسمه صالح بن زياد بن عبد الله بن إسماعيل الرستبي الرقي «2» ، حسبك به من صالح، ومن ابن زياد لأنه بالزيادة رابح، ومن أبي شعيب تشعبت طرق رواته، ومن رستبي ينمي في ثدي إسماعيل «3» عرق شجراته «4» ، قرأ وسمع وتبع وتبع، وجمع القراءة ثم له جمع، ما عرف (ص 110) قبله، رقيّ ترهف الأبصار نواحيه، ولا سوسي غيره لا يرغب إلا فيه. قرأ القرآن على اليزيدي «5» ، وسمع بالكوفة عبد الله بن نمير وأسباط بن محمد، وبمكة سفيان بن عيينة. وقرأ عليه جماعة «6» ، وأخذ عنه الحروف أبو عبد الرحمن النسائي «7» . قال المروذي:
أخبرت أحمد بن حنبل أنّ أبا شعيب السوسي الرقي زوج بنته رجلا، فلما وقف في القرآن فرّق بينه وبين ابنته، وقد كان شاور النفيلي فأمره أن يفرّق بينهما.(5/273)
فقال أحمد: أحسن السوسي، عافاه الله «1» ومات السّوسي في أول سنة إحدى وستين ومائتين. وقد قارب تسعين سنة «2» .
ومنهم
29- قنبل مقرئ أهل مكة
«3» أبو عمر محمد بن عبد الرحمن المخزومي، مولاهم المكي «4» ، والبحر الزاخر لا الدّكي «5» كأنه ما سمّي قنبل إلا فراسة صدقت بأنه ينبل، رزن وقد خفّت الأجبل، وجمع وقد أنبتت الأحبل، وقرأ بمكة المعظمة وولي شرطتها، وما نقصه ولايتها، ولا غصّصه غايتها «6» ، وكان بها في سرّة بطائحها تسبل عليه الكعبة الغرّاء ستورها، وتشكر الصّفا والمروة لمساعيه بينهما مرورها، وتشرق به ليالي مني حتى كأنّها منه بسنا الصّباح تطرّف، وتشرف منه ثنية كدى(5/274)
وكداء «1» على ما لا ينفرد به جمع ولا ينكره المعرّف. جوّد القراءة على أبي الحسن القوّاس «2» ، وأخذ القراءة عن البزّي أيضا، وانتهت إليه رئاسة الإقراء بالحجاز «3» ، وقرأ عليه خلق كثير، منهم أبو بكر بن مجاهد، وأبو الحسن بن شنبوذ. وولي الشرطة بمكة في وسط عمره فحمدت سيرته، ثم إنه طعن في السّن وشاخ، وقطع الإقراء قبل موته بسبع سنين «4» ، قيل إنه كان يستعمل دواء يسقى للبقر يسمى قنيبل، فلما أكثر (ص 111) من استعماله عرف به، ثم خفف وقيل قنبل. وقيل هو من قوم يقال لهم القنابلة «5» . مولده سنة خمس وتسعين ومائة، وتوفي سنة إحدى وتسعين ومائتين «6» .
ومنهم:
30- أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد شيخ العصر أبو بكر البغدادي
«7» الأستاذ مصنف كتاب القراءات السبعة «8» ، ومشنف من أمال إليه سمعه، لم(5/275)
يكن أكثر منه عدد طالب «1» ، ومدد راغب، وجدد فوائد تغصّ بها المذاهب، منور الآناء بقراءة لا يونّي في تلاوتها، ولا يولي وجهه صادا عن إبلاغ أمانتها، حتى قصد من شاسع الأرجاء «2» ، وأقدم على التحصيل منه طامع الرجاء، وكان عصره به ضحى، وبقي فضله أثرا على جبين الدهر إلا أنه ما انمحى.
قرأ على ابن عبدوس عشرين ختمة، وعلى قنبل المكي، وسمع القراءات من طائفة كثيرة، ذكرهم في صدر كتابه، وسمع للحديث وتصدر للإقراء، وازدحم عليه أهل الأداء، ورحل إليه من الأقطار، وبعد صيته، وفاق في عصره سائر نظرائه من أهل صناعته، مع اتساع علمه وبراعة فهمه، وصدق لهجته، وظهور نسكه «3» .
وتصدر للإقراء في حياة محمد بن يحيى الكسائي الصغير «4» . قال أبو الحسن بن سالم البصري: سمعت ابن مجاهد يقول: رأيت ربّ العزة في المنام فختمت عليه ختمتين، فلحنت في موضعين فاغتممت. فقال يا ابن مجاهد الكمال لي الكمال (لي) «5» .(5/276)
وحكى ابن الأخرم أنه دخل بغداد فرأى في حلقة ابن مجاهد نحوا من ثلاث مائة متصدر «2» ، وسأل رجل أبا بكر بن مجاهد: لم لا يختار الشيخ لنفسه حرفا يحمل عنه؟؟ فقال نحن إلى أن نعمل أنفسنا في حفظ ما مضى عليه أئمتنا أحوج منا إلى اختيار حرف (ص 112) يقرأ به من بعدنا «3» .
وانفرد ابن مجاهد عن قنبل بعشرة أحرف لم يتابع عليها. وكان في حلقته أربع وثمانون خليقة يأخذون عن الناس «4» ، وخمسة عشر رجلا أضرّاء «5» يتلقّنون لعاصم «6» .
ومولده سنة خمس وأربعين ومائتين بسوق العطش ببغداد، وتوفي في شعبان سنة أربع وعشرين وثلاثمائة «7» .(5/277)
ومنهم: «13»
31- محمد بن أحمد بن أيوب بن الصلت «1» ابن شنبوذ «2» البغدادي «3» .
شيخ الإقراء بالعراق مع ابن مجاهد «4» ، ذو الرحلة التي وسعت الدنى حتى لم يجد مركنا «5» ، ودعت إليه علنا، ورعت حقه حين صوبت إليه أسنة الأعداء ألسنا «6» ، كان رجلا متبحرا، وعالما متكثرا، إلا أنه ما سلم من عثرة راعى له فيها دينه، فأقيلت «7» ، وزلة لم يكن قصدها، فإنها قيلت.
قرأ القرآن على عدد كثير بالأمصار، وكان يرى جواز الصلاة «8» بما جاء في(5/278)
مصحف أبي «1» ، ومصحف ابن مسعود «2» ، وبما صح في الأحاديث، ويتعاطى ذلك، وكان ثقة في نفسه صالحا ديّنا، متبحرا في هذا الشأن، لكنه كان يحط على ابن مجاهد، ويقول: هذا العطشي «3» لم تغبّر قدماه في طلب العلم- يعني أنه لم يرحل من بغداد-، وليس الأمر كذلك، قد حج وقرأ على قنبل «4» ، ولكن أين هو من سعة رحلة ابن شنبوذ، ولقيّه الأعيان في الأقطار؟
وكان ابن شنبوذ إذا أتاه رجل من القراء، قال له: هل قرأت على ابن مجاهد؟ فإن قال: نعم، لم يقرئه. «5»
قال أبو عمرو الداني «6» : حدّثت «7» عن إسماعيل بن عبد الله الأشعري، حدثنا أبو القاسم بن زنجي الكاتب الأنباري قال: حضرت مجلس أبي علي بن مقلة «8» -(5/279)
وزير الراضي «1» - وقد أحضر ابن شنبوذ، وجرت معه مناظرات في حروف حكي عنه أنه يقرأ بها، وهي شواذ «2» ، فاعترف بها بما عرف، مما عمل به محضر بحضرة (ص 113) أبي علي بن مقلة، وأبي بكر بن مجاهد، ومحمد بن موسى الهاشمي، وأبي أيوب محمد بن أحمد- وهما يومئذ شاهدان مقبولان-.
نسخة المحضر «3» :
سئل محمد بن أحمد المعروف بابن شنبوذ عما حكي عنه أنه يقرؤه، وهو:
(فامضوا إلى ذكر الله) «4» فاعترف به، وعن (تجعلون شكركم أنكم(5/280)
تكذبون) «1» فاعترف به، وعن (كل سفينة صالحة غصبا) «2» فاعترف به، وعن (اليوم ننحيك ببدنك) «3» فاعترف به، وعن: (تبت يدا أبي لهب وقد تب) «4» ، فاعترف به، وعن (فلما خرّ تبينت الأنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولا في العذاب المهين) «5» فاعترف به، وعن (الذكر والأنثى) «6» فاعترف به، وعن: (فقد كذب الكافرون فسوف يكون(5/281)
لزاما) «1» ، وعن: يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
«2» ، وعن وَفَسادٌ كَبِيرٌ
«3» فاعترف بذلك «4» .
وفيه: اعترف ابن شنبوذ بما في هذه الرقعة بحضرتي، وكتب ابن مجاهد بيده يوم السبت لست خلون من ربيع الآخر سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة.
ونقل ابن الجوزي «5» - وغير واحد- في حوادث سنة ثلاث هذه أن ابن شنبوذ أحضر، وأحضر عمر بن محمد بن يوسف القاضي، وابن مجاهد، وجماعة من القراء، ونوظر، فأغلظ للوزير في الخطاب، وللقاضي، ولابن مجاهد، ونسبهما إلى قلة المعرفة، وأنهم ما سافروا في طلب العلم كما سافر، فأمر الوزير بضربه سبع درر «6» وهو يدعو على الوزير بأن يقطع الله يده، ويشتت شمله، ثم(5/282)
أوقف على الحروف التي يقرأ بها، فأهدر منها ما كان شنعا «1» ، وتوبوه عن التلاوة بها غصبا «2» ، وقيل: إنه أخرج من بغداد، فذهب إلى البصرة «3» .
(ص 114) .
ثم إن ابن مقلة عزل بعد نكبة الشيخ بسنة واحدة، فجرى عليه من الإهانة بالضرب، والتعليق والمصادرة أمر عظيم، ثم آل أمره إلى قطع يده ولسانه.
وابن شنبوذ ما كان مصيبا فيما ذهب إليه، لكن خطأه في واقعة لا يسقط حقه من حرمة أهل القرآن والعلم، وكان الرفق أولى به من إقامته مقام الذعّار «4» والمفسدين، وكان اعتقاله والإغلاظ له كافيا «5» .
وذكر ابن خلكان «6» أن ابن شنبوذ كتب بخطه ما صورته:
يقول محمد بن أحمد بن أيوب- المعروف بابن شنبوذ- ما في هذه الرقعة صحيح، وهو قولي، واعتقادي، وأشهد الله- عز وجل-، وسائر من حضر على(5/283)
نفسي بذلك، وكتب بخطه، فمتى خالفت ذلك، أو بان مني غيره، فأمير المؤمنين في حل من دمي وسعة، وذلك يوم الأحد لسبع خلون من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، في مجلس الوزير أبي علي بن مقلة أدام الله توفيقه.
وكلم أبو موسى السمسار «1» الوزير أبي علي في أمره، وسأله إطلاقه، وعرفه أنه إن صار إلى منزله قتلته العامة، وسأله أن ينفذه في الليل سرا إلى المدائن «2» .
وتوفي ابن شنبوذ يوم الاثنين لثلاث خلون من صفر سنة ثمان وعشرين، وثلاثمائة «3» . وفيها هلك ابن مقلة.
ومنهم:
32- محمد بن النضر بن مرّ بن الحر الربعي الإمام أبو الحسن ابن الأخرم الدمشقي «4» .
سيد ربيعة «5» ، وسند أهل الشريعة، وابن الحر الذي ما مسه رق الصنيعة،(5/284)
والفاخرة دمشق بطلوع نيّره «1» المحمدي في أفقها، والرابية جناتها المزخرفة من أبيه النضر أينع من ورقها، والمتصدر والناس دونه، والإمام وسهيل «2» قائم، وصفوف النجوم وراءه تتمنى أن تكونه (ص 115) .
قرأ على هارون بن موسى بن شريك «3» ، وجعفر بن أحمد بن كزاز «4» ، وأحمد بن نصر بن شاكر «5» .، وانتهت إليه رئاسة الإقراء بالشام، وكانت له حلقة عظيمة، وتلامذة جلة.
قال أبو عمرو الداني: روى القراءة عنه عرضا جماعة لا يحصى عددهم «6» . قال علي بن داود «7» : لما قدم ابن الأخرم بغداد حضر مجلس ابن مجاهد، فقال لأصحابه: هذا صاحب الأخفش الدمشقي فاقرؤوا عليه.(5/285)
قال الشنبوذي «1» : قرأت على أبي الحسن ابن الأخرم، فما رأيت «2» أحسن معرفة منه بالقرآن، ولا أحفظ، وكان مع ذلك يحفظ تفسيرا كثيرا، ومعاني، قال لي: إن الأخفش لقنه «3» القرآن.
وقال عبد الباقي بن الحسن «4» : قال لي ابن الأخرم: قرأت على الأخفش، وكان يأخذ علي في منزلي.
قال عبد الباقي: كان أبوه يخلّص «5» للأخفش رزقه من السلطان في كل سنة. وحكى الأهوازي «6» عن ابن الأخرم قال: قدمت بغداد سنة عشرين وثلاثمائة في وفد الدمشقيين، فأتيت مسجد ابن مجاهد فحزرت «7» أن فيه ثلاثمائة متصدر، ولم أجد فيه موضعا، فجلست في أقصاه، فسمعت رجلا يقرأ على واحد منهم لابن عامر «8» ، ويغلط فيه، فرددت عليه، فانتهرني، وصاحوا علي فخرجت، فإذا بخياط، فجلست إليه ليخيط خرقا في درّاعتي «9» ، فقال:(5/286)
من أين أنت؟ فقلت: من الشام، جئت إلى ابن مجاهد، فلم أصل إليه. قال: له امرأة شامية، فامض وسل عنها.
فمضيت، وسألت عنها، فخرجت جارية، فقالت: من أي موضع أنت بدمشق؟ قلت: من قينية «1» - وكانت قائمة وراء الباب تسمع- فقالت:- هي بنفسها-: كيف مولاي أبو الحسن ابن الأخرم، وأخوه؟ قلت: أنا هو، ففرحت بي فرحا كادت أن تظهر لي، وأخذت تسألني عن (ص 116) أهلي، وجيراني، وقالت: ألك حاجة؟ قلت: أريد أن أقرأ على الشيخ. قالت: إذا كان من الغد، فاذهب إلى المسجد، فإنك تصل إلى ما تريده.
فلما أصبحت وقفت على باب المسجد، فإذا الشيخ قد أومأ إلي بالدخول، وإذا جماعة من أصحابه قد تبادروا إلي، ووسعوا لي، فلما جلست، قال: أنت ابن الأخرم؟ قلت: نعم. فأخذ يسألني عن الحروف، وأنا أجيبه عن الغريب، وعن الشواذ، وعن معاني ذلك، فجذبني إلى عنده، وأقعدني بجنبه، ثم قال لأصحابه: هذا صاحب الأخفش.
فلما قام ابن مجاهد، اجتمع إليّ جميع أصحابه، وقرأوا علي، وأدخلني ابن مجاهد على الوزير ابن عيسى «2» ، فقضى حوائجنا «3» ، وألزمني الوزير بالمقام(5/287)
عنده، فلم أزل ببغداد سبع سنين، وبالجهد حتى أذن لي وقت وفاة أخي بالرجوع إلى دمشق قال أبو القاسم بن عساكر «1» : طال عمر ابن الأخرم، وارتحل الناس إليه، وكان عارفا بعلل القراءات، بصيرا بالتفسير والعربية، متواضعا، حسن الأخلاق، كبير الشأن. «2»
قال محمد بن علي السلمي: قمت ليلة المؤذن الكبير «3» لأخذ النوبة على ابن الأخرم، فوجدت قد سبقني ثلاثون قارئا، فلم أدرك النوبة إلى العصر.
وتوفي ابن الأخرم سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة، وقيل سنة اثنتين.
وقال عبد الباقي بن الحس؟؟؟: توفي بعد سنة أربعين، وصليت عليه في المصلى بعد الظهر، وكان يوما صائفا وصعدت غمامة على جنازته من المصلى إلى قبره، فكانت شبه الآية له «4» . رحمه الله، ومولده سنة ستين ومائتين «5» .(5/288)
ومنهم:
33- عبد الواحد بن عمر بن محمد «1» بن أبي هاشم «2» أبو طاهر (ص 117) البغدادي المقرئ.
أحد الأعلام ومصنف كتاب البيان،، ومن انتهى إليه الحذق بأداء القرآن، تنصت لتلاوته، وينصف إذا قيل الزخرف من بدائعه، وجنى النحل من حلاوته، ذو فضل لو تمثل لتهدلت أفنانه بالثمر، وفعل ماذا يقال عنه إلا ما يحدث عن ابن عمر.
قرأ القرآن على أحمد بن سهل الأشناني «3» ، وجماعة. وقرأ القرآن على ابن مجاهد. وأطنب أبو عمرو الداني في وصفه، وقال: لم يكن بعد ابن مجاهد مثله في علمه وفهمه مع صدق لهجته واستقامة طريقته، قرأ عليه خلق كثير، وكان ينتحل في النحو مذهب الكوفيين، وكان بارعا فيه.
قال القفطي في تاريخ النحاة «4» : قرأ كتاب سيبويه «5» على ابن(5/289)
درستويه «1» الفارسي، ولم ير بعد ابن مجاهد في القراءة مثله.
قال الداني: سمعت عبد العزيز الفارسي «2» يقول: لما توفي ابن مجاهد «3» يوم موته أجمعوا على أن يقدموا شيخنا أبا طاهر، فتصدر للإقراء في مجلسه، وقصده الأكابر، فتحلقوا عنده، وكان قد خالف أصحابه في إمالة الناس لأبي عمرو «4» ، وكانوا ينكرون ذلك عليه.
قال الخطيب «5» : كان ثقة أمينا. ومات في شوال سنة تسع وأربعين وثلاثمائة.
وقال غيره: عاش سبعين سنة.(5/290)
ومنهم:
34- محمد بن الحسن بن محمد بن زياد أبو بكر النقاش الموصلي ثم البغدادي
«1» المقرئ المفسر أحد الأعلام. فضله البحر الذي ما زجر «2» ، وعلمه النقش في الحجر، فهما يجلي الغبش، وثباتا لا يمحو الدهر منه ما نقش، يفوق نقشه ما تتزين به الخدود، وتتسهم البرود «3» ، وينقش شبيهه الغمام الصناع زخرفا في حلل الروض المجود «4» .
ولد سنة ست (ص 118) وستين ومائة، وعني بالقراءات من صغره وسمع الحروف من جماعة كبيرة، وطاف في الأمصار، وتجول في البلدان، وكتب الحديث وقيد السنن، وصنف المصنفات «5» في القراءات والتفسير، وطالت أيامه(5/291)
فانفرد بالإمامة في صناعته، مع ظهور نسكه وورعه، وصدق لهجته، وبراعة فهمه، وحسن اضطلاعه، واتساع معرفته.
روى القراءة عنه عرضا خلق الحصى عددهم.
قال أبو بكر الخطيب: كان النقاش عالما بالحروف، حافظا للتفسير، صنف التفسير، وكتبا في القراءات، وغيرها، وسافر الكثير شرقا وغربا وكتب بمصر والشام والجزيرة وخراسان وما وراء النهر، وفي حديثه مناكير «1» بأسانيد مشهورة «2» .
وقال الداني: سمعت عبد العزيز بن جعفر يقول: كان النقاش يقصد في قراءة ابن كثير «3» ، وابن عامر «4» لعلو إسناده «5» وكان له بيت ملآن كتبا، وكان الدارقطني يستملي له، وينتقي من حديثه، وقد حدث عنه ابن مجاهد، وكان حسن الخلق، ذا سخاء.
وقال أبو الحسين القطان «6» : حضرت أبا بكر النقاش، وهو يجود بنفسه في(5/292)
ثالث شوال سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة، فجعل يحرك شفتيه، ثم نادى بأعلى صوته لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ
«1» يرددها، ثم خرجت نفسه- رحمه الله- «2» .
ومنهم:
35- محمد بن أحمد بن إبراهيم أبو الفرج البغدادي «3» المقرئ الشنبوذي غلام ابن شنبوذ «4» .
وإمام فضل عنه مأخوذ، [و] علم علم نافع، وأدب واسع، وطلب وجّه ركابه إلى كل شاسع، وحفظ لا يتخونه النسيان، وزكي من العلم مورود، لا يبلغ حاجته منه الصديان «5»
، حصل ما قصّر دونه جهد ابن مجاهد، وعزّ على ابن شنبوذ أن يأتي منه بشاهد، وانخرم على ابن الأخرم به نظامه، ونفذ (ص 119) إلى نفطويه «6» منه ما أحرقه ضرامه.(5/293)
ولد أبو الفرج سنة ثلاثمائة، وقرأ على ابن شنبوذ، وابن مجاهد، وإبراهيم نفطويه، وابن الأخرم، وغيرهم، وأكثر الترحال في طلب القراءات وتبحر فيها، واشتهر اسمه، وطال عمره، وقرأ عليه خلق، وكان عالما بالتفسير، وعلل القراءات «1»
قال أبو بكر الخطيب: سمعت «2» عبيد الله بن أحمد «3» يذكر الشنبوذي، فعظم أمره «4» وقال: سمعته يقول: أحفظ خمسين ألف بيت من الشعر شواهد للقرآن «5» .
وقال أبو عمرو الداني: مشهور، نبيل، حافظ، ماهر، حاذق، كان يتجول في البلدان، سمعت عبد العزيز بن علي المالكي يقول: دخل أبو الفرج- غلام شنبوذ- على عضد الدولة «6» زائرا، فقال له: يا أبا الفرج، إن الله يقول يَخْرُجُ(5/294)
مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ
«1»
ونرى العسل يأكله المحرور «2» فيتأذى به، والله الصادق في قوله؟
قال: أصلح الله الملك، إن الله لم يقل فيه الشفاء- بالألف واللام- اللذين يدخلان لاستيفاء الجنس، وإنما ذكره منكّرا، فمعناه فيه شفاء لبعض الناس دون بعض «3» .
قال التنوخي: توفي أبو الفرج في صفر سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة «4» .
ومنهم:
36- علي بن داود أبو الحسن «5» الداراني «6» القطّان «7»
إمام جامع دمشق ومقرئه، حقيق أن يتنافس الناس على إمامته وتتحاسد(5/295)
الأرض على إقامته، وتوجأ «1» أعناق المنابر إليه متلفتة، وتهدأ له هام المحاريب مخبتة، قطع الدنيا زهدا، وعاش في الأنام فردا، ما وقعت العيون عل صفاته الممثلة، ولا رأت في كل داراني مثل قطوفه المهدلة. (120) ولا أتى عنقود الثريا «2» منه بحبة، ومما «3» استعان بالسنبلة «4» ، ولا ادعت جني كرمه الكرام، ولا طمعت في رشف ريقته الآثام، ولا سمعت له قهقهة إبريق لأن الداراني لا يعصر منه المدام «5» .
قرأ القرآن بالروايات على طائفة منهم: ابن الأخرم، وسمع من جماعة وقرأ عليه آخرون. قال رشأ بن نظيف «6» : لم ألق مثله حذقا وإتقانا في رواية ابن(5/296)
عامر «1» .
وقال عبد المنعم النحوي: خرج القاضي أبو محمد العلوي «2» ، وجماعة من الشيوخ إلى داريّا، إلى ابن داود، فأخذوه ليؤم بجامع دمشق في سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، وجاءوا به بعد أن منعهم أهل داريا، وتنافسوا.
قال الحافظ ابن عساكر: سمعت ابن الأكفاني «3» يحكي عن بعض مشايخه «4» أن أبا الحسن بن داود كان إمام داريا، فمات إمام الجامع، فخرج أهل البلد إلى داريا ليأتوا به، فلبس أهل داريا السلاح، وقالوا: لا نمكنكم من أخذ إمامنا، فقال أبو محمد عبد الرحمن بن أبي نصر «5» : يا أهل داريا، ألا ترضون أن يسمع في البلاد أن أهل دمشق احتاجوا إليكم في إمام «6» ؟ فقالوا: رضينا، فقدمت له بغلة القاضي، فأبى، وركب حماره «7» ، ودخل معهم، فسكن في(5/297)
المنارة الشرقية، وكان يقرأ بشرقي الرواق الأوسط، ولا يأخذ على الإمامة رزقا، ولا يقبل ممن يقرأ عليه برا، ويقتات من غلة أرض له بداريا، ويحمل ما يكفيه من الحنطة «1» ، ويخرج بنفسه إلى الطاحون، فيطحنه، ثم يعجنه ويخبزه، وانتهت إليه الرئاسة في قراءة الشاميين، ومضى على سداد، وكان يذهب مذهب أبي الحسن الأشعري «2» .
وتوفي في جمادى الأولى سنة اثنتين وأربعمائة «3» ، وقد نيف على الثمانين «4» .(5/298)
(ص 121) ومنهم:
37- علي بن أحمد بن عمرو بن حفص «1» أبو الحسن ابن الحمامي «2» البغدادي.
مقرئ العراق، ومسند الآفاق، وصدر قرّاء دار الخلافة بالاستحقاق، وشمس الشرق المشرقة بالعراق في أفق بغدادها، وبدر بلادها المتألق في جنح سوادها، الساطع بصاحبه الذي لا يمشي في ضوئه مريب، والطالع كوكبه الذي لا يخاف عليه مغيب، والجامع فضله الذي استمد منه جني الخطيب.
قرأ على النقاش «3» ، وجماعة، وبرع في الفن، وسمع الحديث من خلق كثير، وحدث عنه أبو بكر الخطيب، والبيهقي «4» ، وطراد الزينبي «5» ، وغيرهم.(5/299)
قال الخطيب: كان صدوقا، ديّنا، فاضلا تفرد بأسانيد القراءات، وعلوها «1» .
مولده سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، وتوفي في شعبان سنة سبع عشرة، وأربعمائة، وهو في تسعين سنة «2» .
ومنهم:
38- أبو علي «3» الأهوازي «4» واسمه: الحسن بن علي بن إبراهيم المقرئ الأستاذ المحدث.
بقي سهما في الكنانة «5» واحدا، ومخلفا لأهل جيله فاقدا، وأتته الوفود(5/300)
تحث قلاصها «1» ، وتتمايل فوق ظهور المطي «2» أشخاصها، حتى انتهى به أجله، وارتمى إلى الغاية أمله، فأوتر له هلال الأجل قوسه، ثم رمى به إلى هدف ترابه، وأطاحه، وما نجا به ريش العقاب كاسره، ولا جرّه، وكان لابد أن سيرمى به، أو يكسر السهم كاسره.
ولد سنة اثنتين وستين وثلاثمائة، وقدم دمشق سنة إحدى وتسعين فاستوطنها، وكان أعلى من بقي في الدنيا إسنادا في القراءات «3» ، عني بالرواية والأداء من صغره، وصنف عدة (ص 122) كتب في القراءات، ورحل إليه القراء لتبحره في الفن، وعلو إسناده، وكان عالي الرواية في الحديث أيضا، وله تواليف في الحديث، فيها أحاديث واهية، وله أيضا مصنف في الصفات «4» ، أورد فيه أحاديث موضوعة، فتكلم فيه الأشعريون لذلك، ولأنه كان ينال من أبي الحسن الأشعري، ويذمه «5» .(5/301)
قال ابن عساكر: «1» كان يقول بالظاهر، ويتمسك بالأحاديث الضعيفة «2» ، وقد تلقى القراء رواياته بالقبول، وكان يقرئ بدمشق في حياة بعض شيوخه من بعد سنة أربعمائة.
وتوفي في رابع ذي الحجة سنة ست وأربعين وأربعمائة.
ومنهم:
39- عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن «3» بن بندار «4» الرازي «5» العجلي «6»
المقرئ، أبو الفضل، أحد الأعلام، وشيخ الإسلام. قطع الأرض شتاتا،(5/302)
ولقي الناس أشتاتا «1» ، وقنع باليسير، لا يملك بياتا، مع كسب له في عجل إلا أنه هدى قومه، وما أضل، وقضى يومه في الرشد، وظل، ولو بصر به السامري لحدثه عن موسى- صلوات الله عليه- بالأثر المنقول، وقال: فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ
«2» بل لو رأى هو قريبه أبا دلف العجلي «3» لم يجعل له دالة بالقرى عليه، ولتنحى عن سحابه لئلا يدب دلف كرمه الدلفي إليه.
وزد أن مولده بمكة، وما زال يتنقل في البلاد على قدم التجريد، والأنس بالله.
قال أبو سعد السمعاني «4» : كان مقدما فاضلا كثير التصانيف حسن السيرة، زاهدا متعبدا، خشن العيش، منفردا، قانعا باليسير يقرئ أكثر أوقاته، ويروي الحديث، وكان يسافر وحده، ويدخل البراري.
سمع بمكة والري، ونيسابور، وأصبهان، وطوس، وجرجان وبغداد،(5/303)
والكوفة والبصرة ودمشق، ومصر..
قال: (ص 123) وكان الشيوخ يعظمونه، وكان لا ينزل الخوانق «1» ، بل يأوي إلى مسجد خراب، فإذا عرف مكانه تركه، وإذا فتح عليه بشيء آثر به.
قال يحيى بن منده «2» في تاريخه: قرأ على «3» جماعة، وخرج من أصبهان إلى كرمان، وحدث بها، وبها مات، وهو ثقة ورع، متدين عارف بالقراءات، والروايات، عالم بالآداب، والنحو أكبر من أن يدل عليه مثلي، وهو أشهر من الشمس، وأضوأ من القمر، ذو فنون من العلم، مهيب، منظور، فصيح، حسن الطريقة.
بلغني أنه ولد سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة. وله شعر رائق في الزهد.
وقال أبو عبد الله الخلال»
: لما توجه أبو الفضل من أصبهان إلى كرمان خرج الناس يشيعونه، فصرفهم، وقصد الطريق وحده، وقال: [الطويل]
إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا ... كفى لمطايانا بذكراك حاديا
قال الخلال: وكان في طريق، ومعه خبز، وشيء من الفانيذ «5» ، فقصده(5/304)
قطاع الطريق، وأرادوا أن يأخذوا ذلك، فدفعهم بعصاه، فقيل له في ذلك، فقال:
إنما منعتهم منه لأنه كان حلالا، وربما كنت لا أجد حلالا مثله.
ودخل كرمان في هيئة رثة «1» ، فحمل إلى الملك، وقالوا جاسوس، فسأله الملك: ما الخبر؟ فقال: إن كنت تسألني عن خبر الأرض ف كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ
«2» وإن كنت تسألني عن خبر السماء كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ
«3» فتعجب الملك من كلامه، وهابه، وأكرمه، وعرض عليه مالا، فلم يقبله.
وتوفي «4» في جمادى الأولى سنة أربع وخمسين وأربعمائة.
ومنهم:
40- أبو علي «5» - غلام الهراس «6» - واسمه: الحسن بن القاسم ابن علي (ص 124) الواسطي «7» المقرئ(5/305)
شيخ القراء، ومسند العراق، ومسار الركائب إليه من الآفاق، خلّف بعد جيله، وخلي فردا في قبيله، وأقام بمكة شرفها الله لاجئا إلى أبطحها، حائلا في أنيق مسرحها، حتى كان يقال له: إمام الحرمين. لتقدمه على أهل زمانه، وتأخرهم، وهو نزيل ذلك الحرم، ومصدّر ذلك المحراب الذي هو قبلة الأمم.
ولد سنة أربع وسبعين وثلاثمائة، ورحل في القراءات شرقا وغربا، وقرأ على صاحب ابن مجاهد، وعمّر، وتأخرت وفاته عن رفقائه، وقرأ بالروايات قبل الأربعمائة، وبعدها على طائفة بواسط، وبغداد، والكوفة، والبصرة، وحرّان، ومصر، وقرأ بدمشق على أبي علي الأهوازي «1» ، وغيره، وتصدر للإقراء بدمشق في حياته، ثم حج، وجاور، وكان بفرد عين، ثم شاخ وعمي «2» ، ورحل الناس إليه من الآفاق وقرءوا عليه وكان يلقب" إمام الحرمين".
وتوفي «3» يوم الجمعة السابع من جمادى الأولى سنة ثمان وستين وأربعمائة.(5/306)
ومنهم:
41- أبو الطاهر «1» بن سوار «2» الضرير الحنفي صاحب المستنير في القراءات العشر،
أحد الحذاق المنور قلبه لا بصره، المسور، وما أسواره المنيعة إلا سوره، ابن سوّار، ومن للهلال أن يكون له سوارا، أبو طاهر كناية عن التصريح أنه المطهر إزارا، المأخوذ عنه كتاب الله يندى غضارة «3» ، وينأى أن يجف نضاره «4» ، القاهر هوى شهواته في طلبه، القائم به في قهر الأعداء متحصنا بيلبه «5» .
ولد سنة اثنتي عشرة وأربعمائة. وقرأ القراءات «6» على عتبة بن عبد الملك العثماني «7» ، وأبي علي الشرمقاني «8» ، والحسن بن علي العطار «9» ، وجماعة(5/307)
وسمع الحديث (ص 125) الكثير من طائفة، وقرأ عليه القرآن أبو علي بن سكرة الصدفي «1» ، وجماعة، وحدث عنه آخرون.
قال ابن سكرة: هو حنفي المذهب، ثقة، خير، حبس نفسه على الإقراء، والتحديث.
وقال ابن ناصر «2» : نبيل ثقة، ثبت، متقن.
وقال السمعاني: كان ثقة أمينا، مقرئا، حسن الأخذ للقرآن، ختم عليه جماعة كتاب الله، وكتب بخطه الكثير من الحديث.
قال السلفي «3» : سمعت منه معظم المستنير.
وتوفي في شعبان سنة ست وتسعين وأربعمائة ببغداد «4» .
واسمه: أحمد بن علي بن عبيد الله بن عمر بن سوار البغدادي.(5/308)
ومنهم:
42- محمد بن الحسين «1» بن بندار «2»
الأستاذ «3» أبو العز الواسطي «4» القلانسي «5» ، ومقرئ العراق، وصاحب التصانيف «6» ، وحاصب الدر في العقود بحسن التأليف، الواسطي الذي ما جالت في يد مثله أقلامها، ولا جاءت بشبيهه تحت ثياب العشي أيامها، ما التقى على شروى «7» ليث سراه رافداها، ولا طافت على نظير نضاره «8» دجلة،(5/309)
وقد طفح جانباها، ولقد فخر به سالف نسبه، وكان لبندار البدار إلى ما أولاها.
قرأ الروايات المشهورة، والشاذة على غلام الهراس «1» ، وغيره، وأخذ أيضا عن أبي القاسم الهذلي «2» ، ورحل إلى بغداد سنة إحدى وستين وأربعمائة، وسمع من جماعة، وتصدر للإقراء دهرا، ورحل إليه من الأقطار، وكان بصيرا بالقراءات وعللها، وغوامضها، عارفا بطرقها، عالي الإسناد.
مولده سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، وتوفي بواسط في شوال سنة إحدى وعشرين وخمسمائة.(5/310)
ومنهم:
43- عبد الله بن علي بن أحمد «1» . الأستاذ البارع أبو محمد البغدادي (ص 126) النحوي «2»
سبط أبي منصور الخياط «3» ، ممن يطرب له السماع، وأيّد بالملائكة، إذ أيّد بالشياطين ابن جامع «4» ، يحن إليه الجماد، ويحج «5» إليه أهل البلاد اتقانا في فنه، وإحسانا. ما مال إليه السامع حتى عاد بملء أذنه، له المحاسن الشاملة، والمصنفات المفيدة كتمام ميقات موسى تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ
«6» .(5/311)
ولد سنة أربع وستين وأربعمائة، وسمع من جماعة، وقرأ القراءات على طائفة كثيرة، وأقرأ الناس بمسجد ابن جردة «1» ، وأمّ به دهرا، وكان رئيس المقرئين في عصره، ختم عليه خلق كثير، وعرض عليه جماعة، وكان إماما محققا، واسع العلم، متين الديانة، وكان أطيب أهل زمانه صوتا بالقرآن على كبر السن، صنف التصانيف المليحة نحو العشرة «2» .
قال أبو سعد السمعاني: كان متواضعا متوددا حسن القراءة في المحراب، سيما ليالي رمضان، كان يحضر عنده الناس لاستماع قراءته. له تصانيف في القراءات خولف في بعضها، وشنع عليه، وسمعت أنه رجع عن ذلك- والله يغفر لنا وله-.
وقال أحمد بن صالح الجيلي «3» : سار ذكر سبط الخياط في الأغوار، والأنجاد، ورأس أصحاب الإمام أحمد، وصار واحد وقته، ونسيج وحده «4» ، لم أسمع في جميع عمري من يقرأ الفاتحة أحسن، ولا أصح منه، وكان جمال العراق بأسره، وكان ظريفا، كريما لم يخلف مثله في أكثر فنونه، وكان أيضا من كبار أئمة اللغة، ومن شعره: [الخفيف]
أيها الزائرون بعد وفاتي ... جدثا ضمني ولحدا عميقا(5/312)
سترون الذي رأيت من الموت ... عيانا وتسلكون الطريقا
وتوفي في ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وصلى عليه الشيخ (ص 127) عبد القادر الجيلي «1» ، ودفن عند جده أبي منصور على دكة «2» الإمام أحمد، وكان الجمع يفوت الإحصاء، وغلق أكثر البلد ذلك اليوم.
قال ابن الجوزي «3» : ما رأيت جمعا أكثر من جمع جنازته- رحمه الله-.
ومنهم:
44- الحسن بن أحمد بن الحسين بن أحمد بن محمد «4» . الأستاذ أبو العلاء الهمذاني «5» العطار الحافظ المقرئ شيخ أهل همذان.
كل ما عنده من العلم الجم، والفضل الذي تم، هو العطار الذي عنده كل دوا،(5/313)
ولديه كل ما يصلح للهوى، وهو القرآن الذي هو شفاء لما في الصدور، وصلاح لفساد الأمور، وكان يعنى بالعلم لتعليمه، ويقيده بالضبط لزيادة تفهيمه، رافقا ولو عمل عمل يوم في شهر، قاصدا للإصلاح، وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر؟.
ولد سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وارتحل إلى أصبهان، فقرأ بها القراءات والحديث على أبي علي الحداد «1» ، وإلى بغداد، فقرأ على أبي عبد الله البارع «2» وغيره، وإلى واسط فقرأ على أبي العز القلانسي «3» ، وسمع من ابن بيان «4» وطبقته، وحصل الأصول النفيسة، والكتب الكبار، وانتهت إليه مشيخة العلم ببلده، وبرع في فني القراءات والحديث، وروى عنه خلائق، وقد أثنى عليه عبد القادر «5» ، وقال: تعذر وجود مثله في أعصار كثيرة، وأربى على أهل زمانه في كثرة السماعات مع تحصيل أصول ما سمع، وجودة النسخ، وإتقان ما كتب،(5/314)
فما كان يكتب شيئا إلا معربا منقوطا، وبرع على الحفاظ «1» ، جاءته فتوى في أمر عثمان بن عفان، فكتب فيها من حفظه، ونحن جلوس درجا «2» طويلا «3» .
وله التصانيف في الحديث، والزهد، والرقائق، وصنف" زاد المسافر" في خمسين مجلدا، وصنف في القراءات العشر، والوقف، والابتداء (ص 128) ، والتجويد، ومعرفة القراء، وأخبارهم، وهو كبير، وكان إماما في النحو، واللغة.
سمعت أنه حفظ كتاب" الجمهرة" «4» ، وكان من أبناء التجار، فأنفق جميع ما ورثه في طلب العلم حتى سافر إلى بغداد، وأصبهان مرات ماشيا، وكان يحمل كتبه على ظهره، قال لي: كنت أبيت في بغداد في المساجد، وآكل خبز الدخن «5» ، إلى أن قال عبد القادر: ثم عظم شأنه حتى كان يمر بالبلد «6» فلا يبقى أحد رآه إلا قام، ودعا له حتى الصبيان واليهود.
وكان يقرئ نصف نهاره القرآن، والعلم، ونصفه الآخر الحديث «7» وكان لا يغشى السلاطين، ولا تأخذه في الله لومة لائم، وكانت السنة شعاره، ودثاره «8» اعتقادا،(5/315)
وفعلا، ولا يمس جزء الحديث إلا على وضوء» .
توفي في تاسع عشر جمادى الأولى سنة تسع وستين وخمسمائة.
ومنهم:
45- عبد الله بن منصور بن عمران بن ربيعة «2» ، الأستاذ أبو بكر الربعي «3» الواسطي «4» ، المعروف بابن الباقلاني
«5» . مسند القراء بالعراق، ومورد الظماء ما راق، كم زاد منتجع «6» ربيعة، ورام مثله فلم يكن إلا من ربيعه، عرف بابن الباقلاني لأنه من خليطي المسك والكافور مصور، وعرف به أرج ذكره لو تضور «7» ، وجاء برواياته الباقلانية، وكان سوادها في البياض زهره المنور.(5/316)
ولد في أول سنة خمسمائة، وقرأ القراءات على أبي العز القلانسي «1» ، وسبط الخياط «2» ، وغيرهما، ونظر في الفقه والعربية، وقال الشعر، وقدم دمشق، فسمع بها، وانتهى إليه علو الإسناد، ورحل إليه الطلبة، وطار ذكره، وبعد صيته، وروى عنه من شعره ابن السمعاني، وابن عساكر «3» ، وماتا قبله بدهر، وقرأ عليه بالروايات أبو الفرج ابن الجوزي، وابنه يوسف «4» وجماعة، ودار عليه (ص 129) إسناد العراق، وذكره ابن عساكر، فقال: قدم دمشق ومدح بها بعض الناس بقصيدة يقول فيها «5» : [البسيط]
بأي حكم دم العشاق مطلول ... فليس يودى لهم في الشرع مقتول
ليت البنان التي فيها رأيت دمي ... يرى بها لي تقليب وتقبيل
وقال ابن الدبيثي «6» : انفرد في وقته برواية العشرة «7» عن أبي العز(5/317)
القلانسي، وادعى رواية شيء آخر من الشواذ عنه، فتكلم الناس فيه، ووقفوا في ذلك، واستمر هو على رواية المشهور والشاذ شرها منه، وكان عارفا بوجوه القراءات، وحسن التلاوة، وأقرأ الناس أكثر من أربعين سنة.
وتوفي في سلخ ربيع الأول سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة.
وقال عبد المحسن بن أبي العميد الصوفي: رأيت في النوم كأن شخصا يقول لي: صلى عليه سبعون وليا لله.
ومنهم:
46- عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم «1» العلّامة ذو الفنون شهاب الدين أبو القاسم المقدسي ثم الدمشقي الشافعي «2» المقرئ النحوي الأصولي عرف ب" أبي شامة"
صاحب التصانيف المتنوعة، والتواليف المبدعة، والفضائل الذي لا ينتهى إلى قرارها، والفواضل التي لا يسع معها طوائف الحساد غير إقرارها، كان في وجنة الشام شامة، وفي وجنة جنانها رضوانا، أو عليه علامة. ما ألمت قبله بعيون دمشق سنتها، ولا سمّت فاضلها بأبي شامة إلا وهو حسنتها، يجف اللسان، وما بلغ في وصفه أدنى مناه، وتبذخ الشهب خيلاء إذا لقب بنعت أحدها، وأين(5/318)
النجم من (ص 130) هدايته، والشهاب من سناه.
ولد في أحد الربيعين سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وقرأ القرآن صغيرا «1» ، وأكمل القراءات على شيخه السخاوي «2» سنة عشرة وستمائة، واعتنى بأولاده قبل الأربعين، وأسمعهم الكثير، وقرأ بنفسه، وكتب الكثير من العلم، وأحكم الفقه، ودرس وأفتى، وبرع في العربية، وصنف، وشرح واختصر «3» ، وحصل له الشيب، وهو ابن خمس وعشرين سنة، وولي مشيخة القراءة بالتربة الأشرفية «4» ، ومشيخة الحديث بالدار الأشرفية «5» ، وكان مع فرط ذكائه، وكثرة علمه(5/319)
متواضعا، مطرحا للتكلف، وربما ركب الحمار بين المداويز «1» .
وفي جمادى الآخرة سنة خمس وستين وستمائة جاءه اثنان من الجبلية «2» وهو في بيته عند طواحين الأشنان «3» فدخلا يستفتيانه، فضرباه ضربا مبرحا كاد أن يأتي على نفسه، ثم ذهبا، ولم يدر من سلطهما عليه، فصبر واحتسب.
وتوفي في تاسع عشر من رمضان من السنة المذكورة «4» .
وكان فوق حاجبه الأيسر شامة كبيرة فلذا قيل له أبو شامة.
ومنهم:
47- أحمد بن يوسف «5» بن حسن بن رافع «6» ، أبو العباس «7» موفق الدين الكواشي «8» الشافعي المقرئ المفسر الزاهد.
بقية الأعلام، وطوية خير أظهرها الله به للإسلام تفسيره الذي صنفه علما باقيا، وعلما هاديا من الضلال واقيا، صدر عن صدر ماج البحر في جانبه، ومال(5/320)
الطود من مناكبه، وبر تقي ما شحب الفلك الدوار على نظير سبايب سباسبه «1» ، إن لقب بالموفق فهو الذي ما عدمه، أو عرف بالكواشي «2» فلأن كل شيء من علم كتاب الله علمه، أو ولد مثله الزمان فإنه حمد بعده عقمه.
ولد في ربيع الأول سنة إحدى وتسعين «3» وخمسمائة وقرأ (ص 131) على والده، وقدم دمشق، وأخذ عن السخاوي «4» وغيره، وسمع من ابن روزبة «5» ، وتقدم في معرفة القراءات، والتفسير والعربية، وكان منقطع القرين، وعديم النظير زهدا وصلاحا وصدقا، وتبتلا وورعا، واجتهادا، صاحب أحوال، وكرامات، وكان السلطان فمن دونه يزورونه، فلا يقوم لهم، ولا يعبأ بهم، ولا يقبل صلتهم، أضر قبل موته بسنوات «6» ، وصنف التفسير الكبير، والتفسير الصغير «7» قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي: بلغنا أنه اشترى قمحا من قرية" الجابية" «8» لكونها من فتوح عمر ثلاثة أمداد، وحملها إلى الموصل، فزرعها(5/321)
بأرض البقعة «1» ، وخدمها بيده، ثم حصده، وتقوت منه، وخبأ بذارا، ثم زرعه، فنمى، وكبر إلى أن بقي يدخل عليه من ذلك القمح ما يقوم به وبجماعته من أصحابه، وكان إذا أرسل إلى عند صاحب الموصل لا يرده «2» .
وتوفي في سابع عشر جمادى الآخرة سنة ثمانين وستمائة.
وكواشة: قلعة من بلاد الموصل «3» .
ومنهم:
48- إبراهيم بن عمر بن إبراهيم «4» الأستاذ برهان الدين أبو محمد الربعي «5» الجعبري المقرئ الشافعي النحوي.
شيخ بلد" الخليل"- عليه السلام- «6» بل شيخ القراء في وقته والسلام، نزيل(5/322)
ذلك الحرم، وضيف ذلك الكرم، وجليس ذلك المحراب المعمور، وأنيس ذلك المكان المتألق مع وجود ذلك النور، المتقلل من كثير من الدنيا والموفي بنذره في طلب العليا، المناجي بلسان الخليل أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا
«1» ، المنقطع إلى من تسمى باسمه إبراهيم، المجمع على أنه لا يرحل عن جواره الكريم، الذي ساد، وما خلت البقاع، وأشرق وما أطل فرع الليل البهيم.
قرأ بالسبع «2» على أبي الحسن الوجوهي «3» صاحب (ص 132) الفخر الموصلي «4» ، وبالعشر على المنتجب بن حسن التكريتي «5» ، وروى القراءات بالإجازة «6» ، وتصدر للإقراء دهرا، وصنف التصانيف الرائقة في فنون العلم، وهاجر إليه الطلبة من الآفاق، وله شرح الشاطبية «7» كامل في معناه، وآخر للرائية «8» ، ونظم في السبع، والعشر، والرسم، والتجويد، وله نحو من مائة مصنف.(5/323)
ولد في حدود سنة أربعين وستمائة، أو قبلها بقلعة جعبر «1» ، واشتغل ببغداد، ثم قدم دمشق، فنزل بالسميساطية «2» ، وأعاد بالغزالية «3» ، ثم ولي مشيخة حرم الخليل بعد البديع «4» ، فبقي هناك إلى أن توفي في شهر رمضان سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة.
ومنهم:
49- محمد «5» بن بصخان «6» بن عين الدولة الإمام بدر الدين بن السراج.
متقدم بالعلم، ومفضل يحتج به أهل الإيمان، ومحلا ورده للطالب لا يرد عنه(5/324)
بغلته «1» ظمآن، ومهنأ بفضل ما أوتي لا يضره فيه أهل الشنآن «2» ، وله في الموسيقا ما يقرع له العود، ويقر له الحسود، ويقرر أنه ما غاب نصيبه مما قيل اعملوا شكرا آل داود «3» ، إلا أنه لم يكن معتدل المزاج، ولا معتد الجسم للعلاج، لإفراط «4» سوداء «5» به منعته من المأكل كل بيضاء شحمة، وكل حمراء لحمة، وكل خضراء نضرة نعماء، وكل زرقاء نطفة ماء «6» ، وكل صفراء فلذة حلواء، تسمى باسم من الأسماء»
، فقضى مدة حياته منغصا، واستوفى رزقه من الدنيا إلا أنه أخذه منقصا، وهيهات هيهات بتجنب الطيبات من الرزق طول طيب الحياة: [الكامل]
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع
ولد سنة ثمان وستين، وسمع الكثير بعد الثمانين، واعتنى بالقراءات سنة (ص 133) تسعين وبعدها، وحج غير مرة، وانجفل «8» إلى مصر سنة سبعمائة «9» ،(5/325)
وجلس في حانوت تاجرا، ثم أقبل على العربية فأحكمها «1» ، وقدم دمشق بعد ستة أعوام، وتصدر «2» لإقراء القراءات، والنحو «3» ، وقصده القراء والمشتغلون، وظهرت فضائله، وبهرت معارفه، وبعد صيته، ثم إنه أقرأ لأبي عمرو بإدغام الْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها
«4» وبابه، ورآه واسعا «5» في العربية، والتزم إخراجه من القصيد «6» ، وصمم على ذلك مع اعترافه بأنه لم يقرأ به «7» ، وقال: أنا قد أذن لي أن أقرئ بما في القصيد وهذا مخرج منها، فقام عليه التونسي «8» ، وابن الزملكاني «9» وغيرهما، فطلبه قاضي القضاة" ابن صصرى" «10» بحضورهم، وراجعوه، وناظروه، فلم يرجع، وأصر فمنعه الحاكم المذكور من الإقراء به، وأمره بمراجعة «11» الجمهور فتألم، وانقطع في بيته، وامتنع من الإقراء جملة، ثم استخار الله تعالى، واستأذن الحاكم من الإقراء بجامع دمشق، فأذن له، وجلس للإفادة، وازدحم عليه الطلبة، وأخذوا عنه القراءات والعربية.(5/326)
وكان له ملك يقوم بمصالحه، ولم يتناول من الجهات درهما، ولا طلب جهة مع كمال أهليته، ثم ولي مشيخة الإقراء بتربة أم الملك الصالح «1» بعد التونسي لكونه أقرأ من وجد بدمشق من المتصدرين، وكذلك ولي إمامة مسجد أبي الدرداء بقلعة دمشق، ثم تركها، وانتهت إليه رئاسة الإقراء بالشام.
وتوفي في ذي الحجة سنة ثلاث، وأربعين، وسبعمائة.
وهذا آخر من كان يعد في فنه واحدا في الزمان، وفردا لا يلز «2» بثان، فلما قرّ القبر بإيابه، ونفضت الأيدي من ترابه تساوت بعده الأنظار، وتواست «3» لواحد في عدم الإقرار على أن في الأيام منهم شموسا لوامع، وفي الليالي بدورا طوالع، إلا أنه لم ينبغ منهم في هذا الفن متفردا (ص 134) به واحد، ولا قنع به دون ضم أطراف العلوم الشوارد، بل ما في جلة الوقت ممن أتقن القراءات إلا من جعلها تماما لحليه «4» من غير نقيصة، ومشاركة في عموم معارفه، لا خصيصة، قلما من تمخض للقراءات، فما منهم رأس ارتفع، ولا واحد عليه مجتمع، وكان موته إذ حمل على أعناق الرجال، وقدم له النعش للارتحال، كما زعم الأول وقال:(5/327)
تساوت الناس ومات الكمال
تغمده الله بالرحمة والرضوان، وآنسه بالقرآن، فبموته ختم قراء الجانب الشرقي، وتظلّم لحظة الشقي «1» .(5/328)
[قراء الجانب الغربي]
فأما القراء بالجانب الغربي، ومن قرأ في بلاد البرابرة «1» العجم «2» الكتاب المنزل باللسان العربي، فسأذكر منهم طائفة لولا مصر لما جمع منهم جمع كثرة ولا قلة، ولا من يروي منه بنهله ولا عله «3» ، وها أنا أقول:
منهم:
50- محمد بن عمر بن خيرون المعافري «4» أبو عبد الله المغربي
«5» . شيخ الإقراء بالقيروان «6» ، مضى زمن وهو صدر ذلك الأوان، عمت به الإفادة، وحصل بجده محصل من جده من خير وزيادة، رحل وقرأ، وحذق في(5/329)
قراءة ورش «1» ، وله مسجد بالقيروان منسوب إليه.
قال أبو عمرو الداني: روى عنه عامة أهل القيروان، وسائر المغرب، وكان رجلا صالحا فاضلا كريم الأخلاق، إماما في القرآن «2» ، شديد الأخذ، ولم يكن يقرأ أهل إفريقية بحرف نافع «3» إلا خواص حتى قدم ابن خيرون، فاجتمع عليه الناس «4» .
وتوفي بمدينة سوسة «5» في نصف شعبان سنة ست وثلاثمائة.(5/330)
ومنهم:
51- أبو عمر «1» الطلمنكي»
، واسمه: أحمد بن محمد بن عبد الله المعافري «3» الأندلسي المقرئ، الحافظ.
نزيل قرطبة إذ كانت تزهر بحدائقها، وتزهى (ص 135) كالغادة العذراء بألايقها «4» ، وكان لقرطبة قرطا لأذنها، وللزهراء زهر [ا] تفيح في فننها، يفيد أهلها، ويفيت «5» الرياح اللواقح «6» أن يلحق فضلها، تقلدت منه صارما أفتك من يهزها، وأثبت على عواتقها من مستقر الخلافة في صدرها، فقام والدهر قد(5/331)
قعد، وسح حبا فأنجز حر منه ما وعد.
ولد سنة أربعين وثلاثمائة، وسمع سنة اثنتين وستين، وهو أول سماعه، وقرأ على أبي الحسن علي بن محمد الأنطاكي «1» ، وأبي الطيب بن غلبون «2» ، ومحمد بن علي الأذفوي- «3» وقيل: سمع منه ولم يقرأ عليه-.
وروى عن جماعة، ورجع إلى الأندلس بعلم جم.
وروى عنه: أبو عمر بن عبد البر «4» ، وأبو محمد بن حزم «5» ، وطائفة كثيرة.
وكان رأسا في علم القرآن وإعرابه، وأحكامه، وناسخه ومنسوخه، ومعانيه، رأسا في علم الحديث، ومعرفة طرقه، حافظا للسنن، ذا عناية بالآثار والسنة، إماما في عقود الديانات، ذا هدي، وسمت، ونسك، وصمت.(5/332)
قال أبو عمرو الداني: كان فاضلا ضابطا، شديدا في السنة.
وقال ابن بشكوال- في كتاب الصلة-: كان سيفا مجردا على أهل الأهواء، والبدع، قامعا لهم، غيورا على الشريعة، شديدا في ذات الله، أقرأ الناس محتسبا، وأسمع الحديث، وأمّ بمسجد منعة «1» ، ثم إنه خرج إلى الثغر، فجال فيه، وانتفع الناس بعلمه، ثم قصد بلده في آخر عمره، فتوفي في ذي الحجة سنة تسع وعشرين وأربعمائة.(5/333)
ومنهم:
52- مكي بن أبي طالب «1» حمّوش «2» (ابن محمد بن مختار) القيسي المغربي القيرواني، ثم الأندلسي القرطبي «3» العلامة المقرئ
الماشي رويدا، والسحاب خلفه يجري، سمح به- على بخله الزمن-، وأصاب به من لم يقس قيسا بيمن، ووجلت منها يمن حتى حملت شعارها «4» الأصفر إشعارا بأنها من ذممها «5» ، وأوجفت عليها قيس (ص 136) تحت رايتها الحمراء مخضبة بدمها، ولقد عرفت له دعوة مجابة، وساعة ما مد فيها يده حتى فتحت له أبواب السماء بالإجابة.(5/334)
ولد سنة خمس وخمسين وثلاثمائة بالقيروان، وحج وسمع بمكة، وقرأ القراءات على أبي الطيب بن غلبون «1» ، وابنه طاهر «2» ، وسمع من محمد بن علي الأذفوي «3» ، وكان متبحرا في علوم القرآن، والعربية، حسن الفهم، والخلق، جيد الدين، والعقل، كثير التأليف في علوم القرآن، محسنا مجودا، عالما بمعاني القراءات، سافر إلى مصر، وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وتردد إلى المؤدبين بالحساب، وأكمل القرآن، ورجع إلى القيروان، ثم رحل، فقرأ القراءات على ابن غلبون سنة ست وأربعين، وقرأ بالقيروان- أيضا- بعد ذلك، ثم رحل سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة، وحج، وجاور ثلاثة أعوام، ودخل الأندلس سنة ثلاث وتسعين، وجلس للإقراء بجامع قرطبة، وعظم اسمه، وجل قدره.
قال ابن بشكوال: قلده أبو الحزم [ابن] جهور «4» خطابة قرطبة بعد يونس ابن عبد الله القاضي «5» ، وكان قبل ذلك ينوب عن يونس، وله ثمانون تأليفا، «6» وكان خيرا متدينا، مشهورا بالصلاح، وإجابة الدعوة، دعا على رجل(5/335)
كان يسخر به وقت الدعاء «1» ، فأقعد ذلك الرجل.
توفي ثاني المحرم سنة سبع وثلاثين وأربعمائة.
ومنهم:
53- أبو عمرو «2» الداني «3» : واسمه عثمان بن سعيد بن عثمان بن سعيد ابن عمر الأموي «4» - مولاهم-
القرطبي، الإمام، العلم المعروف- في زمانه- بابن الصيرفي، وفي زماننا بأبي عمرو الداني لنزوله بدانية، وتزوجه منها إلى حيث النجوم بانية، هو أبو عمرو «5» وقته، ونافع «6» زمانه، أو مساميه في سمته الذي لم يتأخر إذ جاء في آخر الزمان،(5/336)
ولم يتعذر ملاقاة القراء السبعة الأول، على من لم (ص 137) يعاصرهم وعاصر منهم عثمان.
ولد سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة.
قال أبو عمرو: ابتدأت بطلب العلم في سنة ست وثمانين وثلاثمائة، ورحلت إلى المشرق سنة سبع وتسعين، فمكثت بالقيروان أربعة أشهر أكتب، ثم دخلت مصر في شوال من السنة، فمكثت بها سنة، وحججت، ودخلت الأندلس في ذي القعدة سنة تسع وتسعين، وخرجت إلى الثغر سنة ثلاث وأربعمائة، فسكنت سرقسطة «1» سبعة أعوام [ثم رجعت إلى قرطبة، قال:
وقدمت دانية سنة سبع عشرة.
قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي «2» : فاستوطنها حتى مات] ، وقرأ بالروايات.(5/337)
وسمع كتاب ابن مجاهد «1» في اختلاف السبعة، وسمع الحديث.
وقال ابن بشكوال «2» : كان أبو عمرو أحد الأئمة في علم القرآن، رواياته وتفسيره، ومعانيه، وطرقه، وإعرابه، وجمع في ذلكم «3» كله تواليف حسانا مفيدة يطول تعدادها «4» ، وله معرفة بالحديث وطرقه، وأسماء رجاله ونقلته، وكان حسن الخط، جيد الضبط، من أهل الحفظ، والذكاء «5» ، والتفنن، دينا فاضلا، ورعا، سنيا.
وقال المغامي «6» : كان أبو عمرو مجاب الدعوة مالكي المذهب.
ومن تصانيفه: كتاب" الأرجوزة في أصول السنة"، منها يقول: [الرجز]
كلم موسى عبده تكليما ... ولم يزل مدبرا حكيما
كلامه وقوله قديم ... وهو فوق عرشه العظيم
والقول في كتابه المرتل ... بأنه كلامه المنزل
على رسوله النبي الصادق ... ليس بمخلوق ولا بخالق «7»(5/338)
من قال فيه إنه مخلوق ... أو محدث فقوله مروق
أهون بقول جهم الخسيس ... وواصل وبشر المريسي «1»
(ص 138) وتوفي بدانية يوم الاثنين منتصف شوال سنة أربع، وأربعين وأربعمائة، ودفن ليومه بعد العصر، ومشى صاحب دانية أمام نعشه، وشيعه خلق عظيم.(5/339)
ومنهم:
54- سليمان بن أبي القاسم «1» : نجاح أبو داود المقرئ- مولى الأمين المؤيد بالله ابن المستنصر
الأموي «2» الأندلسي. سند الإقراء، ومسند القراء، وعمدة الأداء، وعدة الظفر على الأعداء، أيد به المؤيد، ونصر المستنصر إذ كان له أبا، السيد الذي عمت تصانيفه نفعا، ونمت، فكادت لا تحصى جمعا، المتيقظ لكتاب الله يدرسه والعيون هجود «3» ، المستوقف بقراءته حتى الطير في السماء «4» ، ولا ينكر لسليمان أن يرث مزامير داود «5» .(5/340)
أخذ القراءات عن أبي عمرو الداني، ولازمه مدة، وأكثر عنه، وهو أجل أصحابه، وقرأ عليه بشر كثير.
قال ابن بشكوال: كان من جلة المقرئين، وفضلائهم، وأخيارهم عالما بالقراءات وطرقها «1» ، حسن الضبط، ثقة دينا «2» ، له تواليف كثيرة «3» (عدتها ستة وعشرون مصنفا) «4» ، أخبرنا عنه جماعة «5» ، ووصفوه بالعلم والفضل، والدين، ومن تصانيفه كتاب" البيان الجامع لعلوم القرآن" في ثلاثمائة(5/341)
مجلد «1» ، و" عقود الديانة" «2» وهي أرجوزة ثمانية عشر ألف بيت، وأربعمائة وأربعون بيتا.
قال ابن بشكوال: ولد سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، وتوفي ببلنسية في سادس عشر رمضان سنة ست وتسعين وأربعمائة، وتزاحموا على نعشه.(5/342)
ومنهم:
55- عبد الرحمن بن أبي بكر عتيق بن خلف «1» ، العلامة الأستاذ أبو القاسم ابن الفحام الصقلي «2» المقرئ.
صاحب كتاب التجريد «3» ، والمعروف في القراءة بالتجويد، الصقلي الصقيل المرآة، الجميل مرآه (ص 139) ابن الفحام الذي أفحم كل ذي جدل، وسود وجه كل معارض بما اختنق من دم الخجل، الموافق لابن الصديق «4» فما نقص ولا زاد عبد الرحمن بن أبي بكر عتيق، ولعله ما قيل: إنه عتيق إلا لأنه جواد.
قرأ القراءات على أبي العباس أحمد بن سعيد بن نفيس «5» ، وأبي الحسين(5/343)
نصر بن عبد الغافر الفارسي «1» ، وعبد الباقي بن فارس، وأبي إسحاق إبراهيم بن إسماعيل المالكي «2» .
وقرأ العربية على ابن بابشاذ «3» ، وشرح مقدمته، وانتهت إليه رئاسة الإقراء بالإسكندرية علوا ومعرفة.
قال سليمان بن عبد العزيز الأندلسي: ما رأيت أحدا أعلم بالقراءات منه لا بالمشرق ولا بالمغرب.
وثقه السلفي، وقرأ عليه «4» ، وقرأ عليه- أيضا- أبو العباس بن الخطية، ويحيى بن سعدون «5» شيخ الموصل، وعبد الرحمن بن خلف بن عطية، وغيرهم.
توفي في ذي القعدة سنة ستة عشرة وخمسمائة، وقد جاوز التسعين، وتردد في مولده هل هو في سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، أو في سنة خمس وعشرين، والله أعلم.(5/344)
ومنهم:
56- علي بن محمد بن علي بن هذيل الإمام. «1» أبو الحسن البلنسي «2» المقرئ
الزاهد المقر بفضله الخصم فلا يحتاج إلى شاهد، المتفرد كأنه سهيل، والراد به عصر أبي ذؤيب في هذيل، والنابه به الغرب على الشرق إذا جاء بابن هذيله، العلاف ليماثله، أو أقبل بجدله، وأكثره الباطل على هذا في الحق ليجادله.
لازم أبا داود سليمان بن أبي القاسم مدة من الزمن «3» بدانية، وبلنسية، ونشأ في حجره «4» لأنه كان زوج أمه، فقرأ عليه القراءات «5» ، وسمع عليه شيئا كثيرا «6» ، وهو أجل أصحابه وأثبتهم، وصارت إليه أصوله (ص 140) العتيقة «7» ، وانتهت إليه رئاسة الإقراء في زمانه.
قال الأبار: كان منقطع القرين في الفضل والدين، والورع والزهد «8» مع العدالة، والتواضع والإعراض عن الدنيا، والتقلل «9» صواما قواما كثير الصدقة(5/345)
كانت له ضيعة يخرج لتفقدها، فتصحبه الطلبة، فمن قارئ وسامع وهو منشرح الصدر لذلك طويل الاحتمال على فرط ملازمتهم ليلا ونهارا «1» وعمّر، وهو آخر من حدث عن أبي داود «2» .
وانتهت إليه رئاسة الإقراء عامة لعلو رتبته، وإمامته من الإتقان والتجويد، وحدث عنه جلة لا يحصون، وروى العلم نحوا من ستين سنة «3» .
وولد سنة سبعين وأربعمائة، أو سنة إحدى وسبعين. وتوفي يوم الخميس سابع عشر رجب سنة أربع وستين وخمسمائة بحضرة السلطان أبو الحجاج يوسف بن سعد «4» ، وتزاحم الناس على نعشه ورثاه ابن واجب «5» بقوله: [البسيط](5/346)
لم أنس يوم تهادي نعشه أسفا ... أيدي الورى وتراميها على الكفن
كزهرة تتهاداها الأكف فلا ... تقيم في راحة إلا على ظعن
قال الأبار: قال لنا «1» محمد بن أحمد بن سلمون: هذا صحيح كان الناس يتعلقون بالنطق «2» ، والسقف «3» ليدركوا النعش بأيديهم، ثم يمسحون بها على وجوههم «4» . وكان يتصدق على الأرامل واليتامى، فقالت له زوجته: إنك لتسعى بهذا في فقر أولادك. فقال لها: لا والله، إلا أني شيخ طماع أسعى في غناهم «5» .(5/347)
ومنهم:
57- القاسم «1» بن فيرة «2» بن خلف بن أحمد أبو محمد، وأبو القاسم الرعيني «3» الشاطبي «4» المقرئ الضرير
أحد الأعلام، والمتحدي بمعجزة في شاطبيته «5» على علماء الإسلام، والفرد بلا نظير على كثرة الأنام، ولا شبيه (ص 141) يطمع أن يرى مثله حتى ولو «6» في المنام، المبصر قلبه لأن القرآن نوره، والإيمان مشكاة فهمه إذا اشتبهت أموره،(5/348)
الذي قل من لا استقى من بحره، أو اغترف غرفة بيده من نهره «1» ، أو جاء بعده من القرّاء مجيد إلا وقصيدته" حرز الأماني" تميمة «2» معلقة على نحره.
ولد في آخر سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة، وقرأ ببلده القراءات، وأتقنها، ثم ارتحل إلى بلنسية- وهي قريبة من شاطبة- فعرض بها القراءات والتفسير من حفظه، وسمع الحديث، وارتحل ليحج «3» ، واستوطن مصر، واشتهر اسمه، وبعد صيته، وقصده الطلبة من النواحي، وكان إماما علامة(5/349)
ذكيا كثير الفنون «1» ، منقطع القرين، رأسا في القراءات، حافظا للحديث، بصيرا بالعربية، واسع العلم، قد سارت الركبان بقصيدتيه" حرز الأماني" و" عقيلة أتراب القصائد" اللتين «2» في القراءات والرسم، وحفظهما خلق لا يحصون، وخضع لهما فحول الشعراء وكبار البلغاء، وحذاق القراء، فلقد أبدع «3» وأوجز، وسهّل الصعب «4» . وقرأ عليه بالروايات عدد كثير.(5/350)
قال الأبار في تاريخه: تصدر للإقراء بمصر، فعظم شأنه، وبعد صيته، وانتهت إليه الرئاسة في الإقراء «1» ، وكان موصوفا بالزهد والعبادة، والانقطاع، ومن شعره: [مجزء الكامل]
قل للأمير نصيحة ... لا تركنن إلى فقيه
إن الفقيه إذا أتى ... أبوابكم لا خير فيه
وعاش اثنتين وخمسين سنة، وتوفي بمصر في خامس عشر من جمادى الآخرة سنة تسعين وخمسمائة.
(ص 142) ومنهم:
58- «2» علي بن «3» عبد الصمد بن عبد الأحد بن عبد الغالب أبو الحسن الهمداني السخاوي
«4» علم الدين المقرئ المفسر النحوي شيخ القراء بدمشق في(5/351)
زمانه «1» إلا أنه مما جاز الغرب دينار شمسه، وهنأ موضع منشئه، ثم ضنّ بكوكبه الدري أن يهيئ له موضع رمسه، ما أهدى لغرب مثل نسيمه الخفاق، ولا أمد الشرق في نهاره المتدفق شبيه نهره الدفّاق، ولا قرّ هنا في قراره الغرب حتى كادت تتجاذبه الآفاق، لقد سخت سخا منه بما يعذر فيه الشحيح، ويحذر في مثله آفة ذي الفهم الصحيح، وصعد إلى السماء فجنى النجوم زهرات، وظهر على السحاب فرمى البروق زفرات، ووطئ جبهة الأسد وداس، وذل الجبل فما ارتفع له راس،، وغطس في البحر، فجاء بما لا قدر عليه قبله ابن غطاس.
ولد سنة ثمان أو تسع وخمسين وخمس مائة، وقدم من" سخا" فسمع الحديث، وأخذ القراءات عن الشاطبي «2» ، وأبي الجود اللخمي «3» وغيرهما، واقتصر في إسناد القراءات عليهما، وأقرأ الناس نيفا وأربعين سنة، وقرأ عليه خلق كثير بالروايات، وكان إماما كاملا، ومقرئا محققا، ونحويا علامة، مع بصره بمذهب الشافعي «4» ، ومعرفته بالأصول، وإتقانه للغة، وبراعته في التفسير، وإحكامه لضروب الأدب، وفصاحته بالشعر، وطول باعه في النثر مع الدين والمروءة والتواضع، واطراح التكلف، وحسن الأخلاق، ووفور الحرمة، وظهور(5/352)
الجلالة، وكثرة التصانيف «1» ، وكان من أفراد العالم، ومن أذكياء بني آدم، حلو النادرة، مليح المحاورة، ومن شعره: [السريع]
قالوا غدا نأتي ديار الحمى ... وننزل الركب بمغناهم
وكل من كان مطيعا لهم ... أصبح مسرورا بلقياهم
(ص 143) قلت: فلي ذنب فما حيلتي؟ ... بأي وجه أتلقاهم
قيل: أليس العفو من شأنهم ... لا سيما عمن ترجاهم
ومن غرائب الاتفاق أن الشيخ علم الدين السخاوي مدح السلطان صلاح الدين «2» ، ومدح الأديب رشيد الدين الفارقي «3» ، وبين وفاتي الممدوحين مائة(5/353)
سنة «1» .
وتوفي الشيخ علم الدين في ثاني عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين وستمائة بمنزله بالتربة المعروفة بأم الملك الصالح «2» وهو أول من أقرأ بها، وكان يقرئ أيضا بالجامع الأموي عند قبر زكريا- عليه السلام- «3» .
ومنهم:
59- أبو عبد الله «4» الفاسي
«5» الإمام العلامة جمال الدين محمد بن حسن بن محمد بن يوسف بن حسن(5/354)
المغربي نزيل حلب، إلا أنه من طينة الغرب بعث، وروحه من نسيمه الغربي نفث، نزل بحلب تحلب «1» منه أسطرها «2» ، وتجلب منه أسطرها، ودفن في ترابها، ودفع إذ ذكرناه إلى أقصى الغرب، وما عد من أترابها «3» ، لأنه ما أتى حلب إلا مكتهلا «4» ، ولا قدم إليها إلا وقد رأى شيب رأسه مشتعلا «5» ، لكنه جرّ عليها ذلاذل «6» قطره، وحمل إليها أنفاس غربه، ما تضوع قطره الندي «7» من قطره.
ولد بفاس سنة نيف وثمانين وخمس مائة، وقدم مصر بعد موت أبي الجود «8» فقرأ على اثنين من أصحاب الشاطبي «9» ، وأخذ القراءات بحلب عن(5/355)
بهاء الدين بن شداد «1» ، وتفقه على مذهب أبي حنيفة، وكان إماما متفننا ذكيا متقنا، واسع العلم، كثير المحفوظ، بصيرا بالقراءات وعللها، مشهورها وشاذها، خبيرا باللغة، مليح الكتابة «2» ، وافر الفضائل، موطأ الأكناف، متين الديانة ثقة حجة، انتهت إليه رئاسة الإقراء ببلد حلب «3» ، ومات «4» سنة ست وخمسين وستمائة.
(ص 144) ومنهم:
(60) - محمد بن عبد الرحيم بن الطيب «5» أبو القاسم القيسي
«6» الضرير مقرئ المغرب «7» ، وموري المغرب، ومظهر المعجب، وممطر روض المجرة «8»(5/356)
المعشب، كفاه أنه من قيس في سرواتها «1» ، وفي حيث ينقطع عنده غاية رواتها، هو ابن الطيب، ولهذا ذكاؤه ينفح، وغلاؤه لا يستكثر فيه بما يسمح، وأرجه «2» تتقاذف به الأرجاء، وورقه يندى، وقمريّه «3» يصدح «4» ، ولا عيب فيه ولا عيب «5» ، إلا أنه لا يبخل لكنه بما لا يزر عليه الجيب.
ولد في حدود الثلاثين وستمائة بالجزيرة الخضراء «6» ، وقرأ القرآن على(5/357)
خطيبها أبي محمد الرعيني، وعلى أبي عبد الله الشريشي «1» ، ثم تحول إلى سبتة، فألزمه أميرها أبو القاسم محمد بن أبي العباس العزفي «2» ، فلما جاء رمضان سأله أن يقرأ السيرة على الناس، فصار يدرس كل يوم ميعادا ويورده، وكان من أسرع الناس حفظا، وأحسنهم صوتا، وكان إليه المنتهى في معرفة القراءات، وضبطها، وآدابها، وكان عارفا بالتفسير، والعربية، والحديث، حمل عنه أهل سبتة، وتوفي سنة إحدى وسبعمائة في رمضان.
ومنهم:
61- أحمد بن إبراهيم بن الزبير «3» ، أبو جعفر الثقفي الغرناطي
المقرئ الحافظ أحد الأعلام بالأندلس. والأعلام الشاهقة في القبور الدرس «4» ، لعمر أبيك قد سترت به ثقيف سوءة حجّاجها «5» ، وصدرت وتاج(5/358)
الثريا فوق حجاجها «1» ، تاهت به عروس غرناطة، وتطاولت، ونسر دمشق الجاثم على قبة جامعها قد أظهر انحطاطه، بقية العلماء المكثرين، والفضلاء المتبحرين، والقراء الذين لكلام الله بهم بلاغ، ودونك هو، وانفض يديك للفراغ.
ولد سنة سبع وعشرين وستمائة، وقرأ (ص 145) بالروايات على أبي الحسن علي بن محمد الشاري «2» ، وسمع التفسير من أبي عبد الله بن جوبر «3» البلنسي، وسمع الحديث من أبي الخطاب بن خليل «4» ، وأبي عبد الله الأزدي «5» ، وخلق، وانتهت إليه معرفة الحديث ورجاله «6» ، ثم معرفة القراءات «7» ، وقرأ عليه(5/359)
خلق لا يحصون، ومات بغرناطة «1» في آخر سنة ثمان وسبع مائة، قال أبو عبد الله الذهبي: وقفت على إجازة ابن الزبير بالسبع لجماعة، وفيها فوائد نفيسة تدل على براعته، وأنه قرأ على جماعة، وقد أفردت ذلك في كراس.
وبهذا ختمت القراء المقطوع بأنهم من أهل الغرب، وسأتبعهم بمن ألحق بهم من أهل مصر، إن لم يكن دون ذلك طعن وضرب، ليتلاحق المدد، وتتسابق الجياد والكل إلى أمد. فأقول:(5/360)
[قراء مصر]
منهم:
62- عثمان بن سعيد بن عبد الله بن سليمان «1» أبو سعيد المصري القبطي
«2» مولى آل الزبير بن العوام الملقب بورش، ويقال له الروّاس «3» لأنها كانت صناعته، ولأنه رأس ثقة، سكنت إليه النفوس، وخضعت أولا وآخرا له الرءوس، ما بلغ بلاغته ساكن المشان، ولا صحت فصاحته لذي شان، ولا تكلم إلا وسكت كل قائل، وقال في فنه ورش، أو غرد على فننه ورشان، بيانا يصدع العشاء، وقرب مستقى لم يحتج به أحد عند ورش يطيل الرشاء «4» .
ولد سنة عشر ومائة «5» ، وقرأ القرآن، وجوده على نافع «6» عدة ختمات في(5/361)
حدود سنة خمس وخمسين ومائة، ونافع هو الذي لقبه" ورش" لشدة بياضه، والورش شيء يصنع من اللبن، ويقال: لقبه" ورشان" «1» وهو طائر معروف «2» ، فكان يقول: اقرأ يا ورشان، وهات يا ورشان، ثم خفف، وقيل: ورش. وكان لا يكرهه، ويعجبه، ويقول: أستاذي سماني به «3» ، وكان (ص 146) أول أمره رأآسا»
، ثم اشتغل بالقرآن، والعربية، ومهر فيها، وكان أشقر أزرق «5» ، سمينا مربوعا «6» ، يلبس مع ذلك ثيابا مقدرة «7» ، وإليه انتهت رئاسة الإقراء بالديار المصرية في زمانه، قال أبو يعقوب الأزرق «8» : لما تعمق ورش في النحو، وأحكمه اتخذ لنفسه مقرئا، يسمى مقرء ورش.
وقال ورش: خرجت من مصر لأقرأ على نافع، فلما وصلت إلى المدينة صرت إلى مسجد نافع، فإذا هو لا يطاق القراءة عليه من كثرتهم، وإنما يقرئ ثلثين،(5/362)
فجلست خلف الحلقة، وقلت لإنسان: من أكبر الناس عند نافع؟ فقال لي:
كبير الجعفريين، فقلت: كيف به؟ قال: أنا أجيء معك إلى منزله، وجئنا إلى منزله، فخرج شيخ، فقلت: أنا من مصر، جئت لأقرأ على نافع، فلم أصل إليه، وأخبرت أنك من أصدق الناس له، وأنا أريد أن تكون الوسيلة إليه. فقال: نعم وكرامة، وأخذ طيلسانه، ومضى معنا إلى نافع، فقال له الجعفري: هذا وسيلتي إليك جاء من مصر ليس معه تجارة، ولا جاء يحج، إنما جاء للقرآن خاصّة. فقال:
ترى ما ألقى من أولاد المهاجرين والأنصار! فقال صديقه: تحتال له. فقال لي نافع: أيمكنك أن تبيت في المسجد؟ فقلت: نعم. فبت في المسجد، فلما أن كان الفجر جاء نافع، فقال: ما فعل الغريب؟ فقلت: ها أنا- رحمك الله- قال:
أنت أولى بالقراءة «1» . قال: وكنت مع ذلك حسن الصوت، مدّادا به، فاستفتحت، فملأ صوتي مسجد رسول الله فقرأت ثلاثين آية، فأشار بيده أن اسكت، فقام إليه شاب من الحلقة فقال: يا معلم، أعزك الله، نحن معك، وهذا رجل غريب، وإنما رحل للقراءة عليك، وقد جعلت له عشرا، وأقتصر على عشرين «2» ، فقال: نعم (ص 147) وكرامة، فقرأت عشرا، فقام فتى آخر فقال كقول صاحبه «3» ، فقرأت عشرا، وقعدت حتى لم يبق أحد ممن له قراءة، فقال لي: اقرأ، فأقرأني خمسين آية، فما زلت أقرأ خمسين آية حتى قرأت عليه قبل أن أخرج من المدينة ختمات.
وفي رواية: قال ورش: فكانوا يهبون لي أسباعهم حتى كنت أقرأ عليه كل(5/363)
يوم سبعا، وختمت في سبعة أيام، فلم أزل حتى ختمت عليه أربع ختم في شهر، وخرجت من المدينة «1» . توفي ورش بمصر سنة سبع وتسعين ومائة.
ومنهم:
63- عبد الله بن مالك «2» بن سيف أبو بكر التجيبي «3» المصري
شيخ الإقليم في الإقراء «4» في زمانه، وفي استحقاق البداءة به على أقرانه، طالت مدة إفادته، ودامت جدة «5» سعادته، وثبت بحره على الوفاء مع أخذه في زيادته، كأنما طبع من سيف جده زبرة «6» ذهنه، واستمد بحده قوة أمام وهنه فقوي من سلفه بما تجيب «13» ، ودعا من أبيه مالكا لو سمع بواعثه من وراء البحار لما عجزت أن تجيء وتجيب، قرأ القرآن على أبي يعقوب الأزرق «7» ، وعمّر دهرا طويلا،(5/364)
وحدث عن محمد بن رمح «1» ، صاحب الليث بن سعد «2» ، وقرأ عليه خلق «3» ، وتوفي في جمادى الآخرة سنة سبع وثلاثمائة، كذا أرخه أبو سعيد ابن يونس «4» ، وحدث عنه في تاريخه.
ومنهم:
64- محمد بن علي بن أحمد
«5» الإمام أبو بكر الأذفوي المصري المقرئ النحوي، المفسر، والصدر المتصدر، والمقرئ المقرر، والنحوي الذي لا يعجزه في توجيه غريب الإعراب متعذر،(5/365)
والحافظ المجيد الذي ما (ص 148) هو بحلة الكسائي «1» متشبع، ولا بما عند ابن كثير «2» متكثر، فإن في تنقيح ما صنف، وتصحيح ما كتب، لا بل ما قرط «3» بحبب «4» لؤلؤه الحائل مسامع الإملاء وشنّف «5» ، وترجيح آراء وإن عنّ «6» وعنّف «7» ،
قرأ القرآن على أبي غانم المظفر بن أحمد «8» ، وسمع الحروف من أحمد بن(5/366)
جامع «1» ، وسعيد بن السكن «2» ، ولزم أبا جعفر النحاس «3» ، وحمل عنه كتبه، وبرع في علوم القرآن، وكان سند «4» أهل عصره بمصر.
قال أبو عمرو الداني: انفرد أبو بكر بالإمامة في وقته في قراءة نافع «5» مع سعة علمه، وبراعة فهمه، وصدق لهجته، وتمكنه من علم العربية، وبصره بالمعاني، روى عنه القراءة جماعة من الأكابر، وله كتاب التفسير في مائة وعشرين مجلدا وهو موجود بالقاهرة «6» .
قال سهل بن عبد الله البزاز: صنف شيخنا أبو بكر الأذفوي كتابه" الاستغناء في علوم القرآن" في اثنتي عشرة سنة.
وتوفي في سابع ربيع الأول سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، وعاش خمسا وثمانين سنة «7» ، سكن مصر، وكان خشابا يتجر.
وأذفو: قرية من الصعيد مما يلي أسوان «8» .(5/367)
ومنهم:
(65) - غياث بن فارس بن مكي «1» الأستاذ أبو الجود اللخمي «2» المنذري «3» المقرئ، الفرضي
«4» أعلى قدرا، وأغلى سعرا، وأفضل ما تعاملت به الناس، وتماثلت، إلا أنه إذا غاب والكرام أجناس استمدت منه، ولم ينقصه الاقتباس، ورأت منه غياثا، لا بل استمطرت غيثا لا يعرف الاحتباس، وقهرت به القاهرة المعزيّة «5» ما سواها، وعزت لا بل عزّ عليها أن تنبت مثله، وإن سقاها النيل ورواها.(5/368)
قرأ القراءات على الشريف أبي الفتوح الخطيب «1» ، وسمع (ص 149) من عبد الله بن رفاعة «2» ، وتصدر للإقراء من شبيبته، وتلا بالتيسير وطرقه «3» ، واشتهر، وقرأ عليه خلق كثير منهم: علم الدين السخاوي «4» ، وخلق. آخرهم وفاة أبو الطاهر إسماعيل بن هبة الله المليجي «5» .(5/369)
قال الحافظ زين الدين المنذري «1» :
أقرأ الناس دهرا، ورحل إليه، وأكثر المتصدرين للإقراء بمصر أصحابه، وأصحاب أصحابه «2» ، وكان ديّنا فاضلا، بارعا في الأدب، حسن الأداء «3» ، متواضعا، كثير المروءة، لا يطلب منه قصد أحد في حاجة إلا يجيب، وربما اعتذر إليه المشفوع إليه، فيطلب منه العود، فيعود، تصدر بالجامع العتيق بمصر «4» ، وبمسجد الأمير موسك «5» بالقاهرة، وبالمدرسة الفاضلية «6» إلى أن توفي في تاسع رمضان سنة خمس وستمائة، ومولده سنة ثمان عشرة وخمسمائة رحمه الله تعالى.
ومنهم:
66- محمد بن أحمد بن عبد الخالق بن علي بن سالم بن مكي (الشروطي)
«13» الإمام المقرئ مسند العصر، بقي الدين أبو عبد الله الصائغ المصري الشافعي(5/370)
الشروطي، هو الصائغ المصري، والسائغ «1» ورده «2» الكوثري، المنوع فنونا، المنوه باسمه فتونا، المنوّل ما ترك البرق مضطربا يهجس ظنونا «3» ، لم يبق من قراء مصر إلا من نقع منه غلله «4» ، وأعرض عن النيل، وقنع بعقده المنظّم، وحلّى التاج بسبع وجوه، وجين الجبهة «5» ، وقد غصّ بالإكليل «6» .
قرأ بعدّة كتب «7» وحصّل الفقه والقراءات وطرفا من العربية، وأعاد بالطيبرسية»
وغيرها، وولي عقد الأنكحة وعمر دهرا، وازدحم عليه القراء(5/371)
لتفرده، فتلا عليه بالسبع طلبة الديار المصرية، وكان عارفا بالقراءات معرفة جيدة، متين الديانة (ص 150) ، قوي العربية، وحجّ وجاور أشهرا، ولم يبق في طبقته إلى بعد العشرين وسبع مائة أحد. وكتب له شيخنا العلامة أبو حيان في إجازة شهد عليه فيها: أشهدني شيخنا الإمام العلامة شيخ المقرئين، ورئيس المتصدرين، حامل راية الرواية والإسناد، ملحق الأحفاد بالأجداد تقي الدين بما وضع به خطه في سنة تسع عشرة وسبع مائة. توفي الصائغ في صفر سنة خمس وعشرين وسبع مائة. و (كان) مولده سنة ست وثلاثين وستمائة.
وبذكر هذا تم ذكر القراء، ونمّ «1» المسك بختام أهل الإقراء، وسنعقب بذكر المحدثين المفضلين بالاستقراء، ونصل بضوء الصباح سنا الليلة القمراء ليجيء الشيء ومثله، وينضم الشكل وشكله، ويعلم إذا انقضى ما ذكرنا من قراء الأمة في كل زمان، وكبراء الأئمة من حفظة القرآن أنه قد تم بهم الختمة، وكملت في الشرق والغرب بهم القسمة، ولم يبق إلا أن يلحق بأهل الكتاب أهل السنة.(5/372)
[المحدّثون من أهل المشرق]
وسنبدأ بالمحدّثين بالجانب الشرقي أخذا بالترتيب، وأبتدئ بالبحر الزاخر، ثم القليب «1» ، ونفتتحهم بالإمام العلم أحفظ أهل الأرض، وهو:
67- أبو هريرة الدوسي اليماني
«2» صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. هو وإن كان من في الرواية واحدا من ركب نهلوا «3» من مكرع «4» ، وشربوا جميعهم من منبع، فإنه أمسّ هنا بالذكر من(5/373)
بقية أصحابه لأنه هو الذي تروّى «1» حتى روي، وروّى، وربما تدأدأ «2» دون المطلع وتكأكأ «3» عن بعض ما عليه اطلع، خوفا في تلك الأيام التي وقدت «4» فتنتها، وقدّت «5» الطلا «6» والأبدان محنها، فكتم ولم يبح (ص 151) وكعم فمه «7» ولم ينح، وقعد قائمه عن شعب تلك الأهواء ولم يرح، وخمد برقه في عوارض «8» تلك الفتن ولم يلح، وروي أنه كان يقول: الصلاة خلف علي أفضل، وطعام معاوية أدسم، والقعود فوق التل أسلم، وقد كان أكثر القوم ملازمة للنبي صلى الله عليه وسلم.
قال: كنت ألزمه لشبع بطني، وإخواننا يلهيهم البيع، والصفق بالأسواق «9» .(5/374)
واسمه- على الأشهر-: عبد الرحمن بن صخر في الإسلام، وفي الجاهلية" عبد شمس" «1» وكني بأبي هريرة لأنه كان يرعى غنما، فوجد هرة وحشية، فلما أبصرههن، وسمع أصواتهن، أخبر أباه، فقال له: أبا هر «2» .
قال أبو هريرة: نشأت يتيما، وهاجرت مسكينا، وكنت أجيرا لابنة غزوان «3» بطعام بطني، وعقبة رحلي، أحدو بهم إذا ركبوا، وأحتطب إذا نزلوا، «4» فالحمد لله الذي جعل الدين قواما، وأبا هريرة إماما «5» .(5/375)
وقدم مهاجرا ليالي فتح خيبر «1» ، وذلك في صفر سنة سبع «2» ، وحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم الكثير،، وروي له نيفا وخمسة آلاف حديث «3» .
قال الإمام أبو عبد الله البخاري «4» : روى عنه ثمان مائة نفس أو أكثر «5» .
وقال أبو هريرة: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائين فأما أحدهما فبثثته للناس، وأما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم" «6» .(5/376)
وقال أبو صالح السمان «1» : كان أبو هريرة من أحفظ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم «2» .
وقال أبو هريرة: لا أعرف أحدا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحفظ لحديثه مني «3» .(5/377)
وقال الشافعي: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره «1» .
وكان أبو هريرة من كبار أئمة العلم، والفتوى مع الجلالة، والعبادة، والتواضع، وكثرة التلاوة، والذكر.
قال أبو عثمان النهدي «2» : تضيفت (ص 152) أبا هريرة سبعا، وكان هو وامرأته «3» يعتقبون الليل أثلاثا، يصلي هذا، ثم يوقظ الآخر فيصلي، ثم يوقظ الثالث.
وكان أبو هريرة من أصحاب الصّفّة «4» فقيرا، ذاق الجوع، ثم بعد النبي صلى الله عليه وسلم(5/378)
صلح حاله، وكثر ماله.
وقال أبو هريرة: لقد رأيتني أصرع من الجوع بين القبر والمنبر حتى يقولوا مجنون، فيجلس الرجل على صدري، فأرفع رأسي، فأقول: ليس الذي ترى، إنما هو الجوع «1» .
ثم إن أبا هريرة ولي إمرة المدينة، وناب- أيضا- عن مروان «2» في إمرتها، وكان يمر في السوق يحمل الحزمة، وهو يقول: أوسعوا الطريق للأمير «3» .
وكان يقول لابنته: لا تلبسي الذهب، فإني أخشى عليك من اللهب «4» .
وقال أبو هريرة: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تسألني من هذه الغنائم؟ فقلت:
أسألك أن تعلمني ما علمك الله تعالى، فنزع نمرة على ظهري، فبسطها بيني وبينه حتى كأني أنظر إلى القمل يدب عليها، فحدثني حتى إذا استوعب حديثه، قال: اجمعها، فصرها إليك، قال: فأصبحت، وأنا لا أسقط حرفا «5» .(5/379)
وقال أبو هريرة: إني لأستغفر الله تعالى، وأتوب إليه كل يوم اثني عشر ألف مرة، وذلك على قدر ديتي «1» . وكان له خيط فيه ألفا عقدة لا ينام حتى يسبح به «2» ، وكان آدم «3» ، بعيد ما بين المنكبين، أفرق الثنيتين «4» ، له ضفيرتان، يخضب بالحمرة، وكان من أصحاب الصفة، وله مسائل معروفة، أفتى بحضرة فقهاء الصحابة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" اللهم حبب عبيدك هذا- يعني أبا هريرة- وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحببهم إليهما. «5» "(5/380)
توفي سنة ثمان وخمسين- في قول جماعة-، وقيل سنة سبع وخمسين، وقيل سنة تسع «1» . (ص 153)
وأما ما نذكره من مشاهير الحفاظ، فمنهم:
68- محمد بن مسلم بن عبيد الله «2» بن عبد الله بن شهاب «3» القرشي الزهري المدني الإمام
والمدني ما نأى على الأفهام، المتوقد لأنه ابن شهاب، المتوقل «4» لأنه على ذيل الأصحاب، المتوفي الزلل فما حفظ شيئا ثم نسيه، ولا استحضره ثم غاب، الناهض به شرف الأسرة في زهرة بن كلاب، والنابض عرقه في أعراق(5/381)
السراب «1» ، والنافض صبغ دجى الليل بضوء صبحه المجاب «2» ، والناقض حبال الآراء إنكاثا «3» برأيه الصواب، الطالع في أقمار زهرة حيث تشرق خؤولة النبوة «4» ، ويشرب في قلوب الآباء حب البنوة، وتلوي ذوائب لؤي بن غالب على ما تجل مفارقه أن تمس بالطيب، أو تدخن باللألؤة «5» .
ولد سنة خمسين، ورأى جماعة من الصحابة، وحدث عنهم، وعن كبار التابعين، وروى عنه جماعة من الأئمة منهم: مالك بن أنس «6» ، والسفيانان «7» .
وقال أبو داود «8» : حديثه ألفان ومائتان، النصف منها مسند.(5/382)
وقال أبو الزناد «1» : كنا نطوف مع الزهري على العلماء، ومعه الألواح والصحف يكتب كل ما سمع «2» .
وقال الليث «3» : ما رأيت عالما قط أجمع من الزهري يحدث في الترغيب، فنقول: لا يحسن إلا هذا «4» وإن حدث عن العرب، والأنساب، قلت: لا يحسن إلا هذا، وإن حدث عن القرآن والسنة، فكذلك «5» .
قال الزهري: ما صبر أحد على العلم صبري، ولا نشره أحد نشري.
وقال عمر بن عبد العزيز «6» : لم يبق أحد أعلم بسنة ماضية من(5/383)
الزهري «1» .
وقال مالك: بقي ابن شهاب، وماله في الدنيا نظير.
وقال عمرو بن دينار «2» : ما رأيت الدينار عند أحد أهون منه عند الزهري كان بمنزلة البعر. (ص 154) وروي عن عمرو بن دينار أنه قال: أي شيء عند الزهري؟! أنا لقيت ابن عمر، وابن عباس- رضي الله عنهم- ولم يلقهما، فقدم الزهري مكة، فقال عمرو: احملوني إليه.- وكان قد أقعد- فحمل إليه، فلم يأت إلى أصحابه إلا بعد ليل، فقالوا له: كيف رأيته؟ فقال: والله، ما رأيت مثل هذا الفتى القرشي.
وقيل لمكحول «3» : من أعلم من رأيت؟ فقال: ابن شهاب.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق: عليكم بابن شهاب، فإنكم لا تجدون أحدا أعلم بالسنة الماضية منه.(5/384)
وقال سعيد بن عبد العزيز «1» : أدى هشام «2» عن الزهري سبعة آلاف دينار، وكان يأدب ولده، ويجالسه.
وقال سعيد- أيضا-: سأل هشام بن عبد الملك الزهري أن يملي على بعض ولده شيئا، فأملى عليه أربعمائة حديث، وخرج الزهري، فقال: أين أنتم، يا أصحاب الحديث، فحدثهم بتلك الأربع مائة، ثم لقي هشاما بعد شهر، أو نحوه فقال للزهري: إن ذلك الكتاب ضاع، فدعا بكاتب، فأملاها عليه، ثم قابل الكتاب الأول فما غادر حرفا واحدا.
ومن حفظ الزهري: أنه حفظ القرآن في ثمانين ليلة، وقال: ما استعدت «3» عالما قط.
وقال مالك: قدم الزهري المدينة، فأخذ بيد ربيعة «4» ، ودخلا بيت الديوان، فلما خرجا وقت العصر، خرج ابن شهاب وهو يقول: ما ظننت أن بالمدينة مثل ربيعة، وخرج ربيعة وهو يقول: ما ظننت أن أحدا بلغ من العلم ما بلغ ابن شهاب.
وقال معمر: كنا نظن أنا قد أكثرنا عن الزهري، حتى قتل الوليد بن(5/385)
يزيد، فإذا الدفاتر قد حملت على الدواب من خزائنه، نقول: من علم الزهري «2» .
وكان الزهري إذا جلس في بيته وضع الكتب حوله يشتغل بها عن كل شيء من أمور الدنيا، فقالت له امرأته- يوما-: والله، لهذه الكتب أشد علي من ثلاث ضرائر «3» .
ولم يزل الزهري مع (ص 155) عبد الملك، ثم مع هشام بن عبد الملك، وكان يزيد بن عبد الملك قد استقضاه.
وتوفي ليلة الثلاثاء لسبع عشرة خلت من شهر رمضان سنة أربع وعشرين ومائة، وقيل: بعد ذلك «4» ، ودفن في ضيعته" أدامى" «5» بين الحجاز والشام.(5/386)
ومنهم:
69- قتادة بن دعامة بن قتادة الحافظ
«1» العلامة، أبو الخطاب السدوسي «2» البصري الأكمه «3» المفسر، الأكمل في فتح المعسر، الأكمد «4» بسبقه لقلب البرق المتلظي «5» ، ونفس الرعد المتحسر، حجة إليه يرجع، وقدوة عنه لا يرجع، لم تعرف بعده تيها خطا البصرة كيف تدوس، ولا ضربت ترددا في رأيها أخماسها في أسداسها سدوس، ولا قدر أن(5/387)
يستثبت شعاعه ذو نظر حسير «1» ، ولا ينازع ذو عينين أنه هو بالنسبة إليه ضرير، لا يطاوله ممتد، إلا ويرجع، وباعه القصير، ولا يناظره إلا ويعود، وقد ظهر عجزه، وقال قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ
«2»
قال معمر «3» : أقام قتادة عند سعيد بن المسيب «4» ثلاثة أيام، فقال له في اليوم الثالث، ارتحل يا عمي «5» ، فقد أنزفتني «6» .
وقال قتادة: ما قلت لمحدث قط: أعد عليّ، وما سمعت أذناي شيئا قط إلا وعاه قلبي.
وقال ابن سيرين «7» : قتادة أحفظ الناس.
وقال معمر: سمعت قتادة يقول: ما في القرآن آية إلا وقد سمعت فيها شيئا.(5/388)
وقال أحمد بن حنبل «1» : قتادة عالم بالتفسير، وباختلاف العلماء «2» .
ووصفه بالفقه والحفظ.
وقال: قل أن تجد من يتقدمه.
وقال قتادة: (ما أفتيت بشيء من رأي) «3» منذ عشرين سنة «4» .
قال معمر: قلت للزهري: أقتادة عندك أعلم أو مكحول؟ قال: بل قتادة.
وقال أحمد بن حنبل: كان قتادة أحفظ أهل (ص 156) البصرة لا يسمع شيئا إلا حفظه، قرأت «5» عليه صحيفة جابر «6» ، فحفظها.
وقال شعبة «7» : قصصت «8» على قتادة سبعين حديثا كلها يقول فيها:
سمعت أنس بن مالك إلا أربعة.
ومع حفظه، وعلمه بالحديث كان رأسا في العربية، واللغة «9» ، وأيام العرب،(5/389)
والنسب.
وقال أبو عمرو بن العلاء «1» : كان قتادة من أنسب الناس.
وقال بكر بن عبد الله «2» : من سره أن ينظر إلى أحفظ من أدركنا، فلينظر إلى قتادة.
وقال ابن المسيب: ما أتانا عراقي أحفظ من قتادة.
ومات بواسط في الطاعون سنة ثماني عشرة ومائة، وقيل: سنة سبع عشرة، وله سبع وخمسون سنة.(5/390)
ومنهم:
70- شعبة بن الحجاج بن الورد
«1» الحجة الحافظ شيخ الإسلام «2» أبو بسطام الأزدي «3» العتكي «4» - مولاهم- الواسطي، نزيل البصرة، ومحدّثها وله قديمها ومحدّثها، زادت به الأزد أزد شنوءة شرفا في يمنها، وإشرافا على هامة ابن ذي يزنها «5» بقية فضل سبأ سبأها، وسبق على جناح الهدهد «6» نبأها، وأخرج بفيه الدر والبحر الذي صدره خبأها،(5/391)
وأمد بقريحته «1» الرياح اللواقح، وأمسكت المهات «2» هبأها، وكان متحرجا في دينه لا يوسعه السمح به، ولا التبجح به «3» إلا في منقلبه، بقي يبذخ «4» بشرفه ويشمخ لولا التواضع في لين منعطفه «5» .
قال الحاكم «6» : سمع من أربعمائة من التابعين «7» .
وقال ابن المديني «8» : له نحو ألفي حديث «9» .
وكان الثوري «10» يقول: شعبة أمير المؤمنين في الحديث.(5/392)
وقال الشافعي «1» : لولا شعبة لما عرف الحديث بالعراق.
وقال أبو بحر البكراوي «2» : ما رأيت أحدا أعبد لله من شعبة، لقد عبد الله حتى جف جلده على عظمه واسودّ.
وقال عمر بن هارون «3» : كان يصوم الدهر.
وقال أبو قطن «4» : ما رأيت شعبة قد ركع إلا ظننت (ص 157) أنه نسي، ولا سجد «5» إلا قلت: نسي، وكانت ثيابه لونها كالتراب، وقال أبو داود:
سمعت من شعبة سبعة آلاف حديث.
وقال أحمد بن حنبل: كان شعبة أمة وحده في هذا الشأن- يعني الرجال وبصره في الحديث- ووهبه المهدي «6» ثلاثين ألف درهم فقسمها، وأقطعه ألف جريب «7» فقدم البصرة فلم يجد شيئا يطيب له فتركها.(5/393)
وقال الأصمعي «1» : لم نر أحدا قط أعلم بالشعر من شعبة، قال لي: كنت ألزم الطّرمّاح «2» أسأله عن الشعر «3» .
وقال شعبة: كان قتادة يسألني عن الشعر، فقلت: أنشدك بيتا وتحدثني حديثا.
وقال أبو قطن: قال لي شعبة: ما شيء أخوف عندي أن يدخلني النار من الحديث.
اتفقوا على موته سنة ستين ومائة.
ومنهم:
71- عبد الرحمن بن مهدي
«4» أبو سعيد البصري الحافظ الكبير والعلم الشهير «5» ، والعلي الذي لا يتناولها(5/394)
من النجوم منير، وقارا لا تفتح لديه عين، واستحضارا لا تمد عليه غين اشتهارا تخفى معه الشموس، وتغض مقل «1» النجوم الشوس «2» ، بحفظ لا تنافره الشوارد «3» ، ولا تنافيه الموارد «4» ، ولا تنافحه الصبا «5» ، إلا ويعد من فعلها البارد، ولا يشغله ورق «6» الدنيا عن الدين، ولا يشغفه شك الباطل بحق اليقين.
قال أيوب بن المتوكل «7» : كنا إذا أردنا أن ننظر إلى الدين والدنيا ذهبنا إلى دار عبد الرحمن بن مهدي.
وقال إسماعيل «8» : سمعت علي بن المديني يقول: أعلم الناس بالحديث عبد(5/395)
الرحمن بن مهدي.
قلت له- وقد أتقنت حديث الأعمش-: من يفيدني عن الأعمش «1» ؟
فأطرق ثم ذكر ثلاثين حديثا ليست عندي (ص 158) تتبع أحاديث الشيوخ الذين لم ألقهم «2» .
وقال محمد بن أبي بكر المقدمي «3» : ما رأيت أحدا أتقن لما سمع، ولما لم يسمع، ولحديث الناس من عبد الرحمن بن مهدي، إمام ثبت، أثبت من يحيى ابن سعيد «4» ، وكان عرض حديثه على سفيان «5» .
وقال القواريري «6» : أملى عليّ ابن مهدي عشرين ألف حديث.
وقال ابن مهدي: ما تركت حديث رجل إلا دعوت الله له، وأسميه.
وقال يحيى بن عبد الرحمن: قام أبي ليلة- وكان يحيي الليل- فلما طلع الفجر رمى نفسه على الفراش حتى طلعت الشمس، فجعل على نفسه أن لا(5/396)
يجعل بينه وبين الأرض شيئا، فقرحت فخذاه.
وقال ابن مهدي: لو كان لي سلطان لألقيت من يقول بخلق القرآن في دجلة، بعد أن أضرب عنقه.
وقال العجلي «1» : شرب ابن مهدي حب البلاذر «2» ، فبرص «3» ، وكان فقيها بصيرا بالفتوى، عظيم الشأن، وكان لا يتحدث في مجلسه، ولا يبرى قلم، ولا يقوم أحد، كأنما على رؤوسهم الطير، وكأنهم في صلاة.
وقال علي بن المديني: لو حلفت بين الركن والمقام لحلفت أني لم أر مثل عبد الرحمن.
وكان يقول: أعلم الناس بقول الفقهاء السبعة «4» : الزهري، ثم بعده مالك،(5/397)
ثم بعده ابن مهدي، وكان ورده كل ليلة نصف القرآن «1» .
وقال الذهلي «2» : ما رأيت في يد عبد الرحمن كتابا قط.
ومات في جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين ومائة، وورثه بنوه، وأبوه مهدي- وكان عاميا-.
ومنهم:
72- أبو داود الطيالسي
«3» واسمه سليمان بن داود بن الجارود الفارسي الأصل البصري «4» ، من أهل الطلب الذين بلغوا الفضل، وتداولوه، ورجال (ص 159) فارس الذي لو كان(5/398)
العلم في الثريا لتناولوه «1» . روى الحديث، ولقي أهله، وتروى منه، ولم يقنع بنهله «2» ، وعجل إليه تلقفه من الأفواه، وتلقمه فم القلم، وحلق الدواة، وإشفاقا أن يختانه «3» النسيان، أو يحتاله الضياع في الأحيان، على أنه ما خلا من تغليط، ولا خبا كوكبه، وقد أكثر عليه غبش «4» غلبه التخليط.
قال الفلاس «5» ، وابن المديني «6» : ما رأينا أحفظ منه.
وقال رفيقه ابن مهدي «7» : هو أصدق الناس.
قال أبو داود: كتبت عن ألف شيخ.(5/399)
وقال وكيع «1» : ما بقي أحد أحفظ لحديث طويل من أبي داود، فبلغه ذلك، فقال: ولا قصير.
وقال عمر بن شبة «2» : كتبوا عن أبي داود من حفظه أربعين ألف حديث «3» .
قال الذهبي: كان يتكل على حفظه فغلط في أحاديث «4» .
مات سنة أربع ومائتين»
، وكان من أبناء الثمانين.(5/400)
ومنهم:
73- يحيى «1» بن يحيى
«2» أبو زكريا التميمي «3» النيسابوري «4» الحافظ شيخ خراسان «5» وموضع نطق كل لسان، نسب إلى نيسابور، وحسب أنه الطود «6» الصبور، وصدرت منه في خراسان ما ملأ كل صدر، وخبأ الخمول معه كل قدر، عجائب شيبت لمم جبالها، وشببت ديم «7» أنوائها رواشق «8» نبالها، كان تميمة لتميم، وضميمة إليه غولة «9» كل حميم «10» ، أنشز «11» من رفاتها كل رميم «12» ،(5/401)
وأنشق «1» من عبق ريحها كل شميم، وأنسأ عهد كل سالف إلا أنه غير ذميم «2» .
قال الحاكم: هو إمام عصره بلا مدافعة، ولد سنة اثنتين وأربعين ومائة.
قال ابن راهويه «3» : ما رأيت مثل يحيى بن يحيى، ولا أظنه رأى مثل نفسه.
وقال أحمد بن حنبل: ما رأى يحيى بن يحيى مثل نفسه «4» . (ص 160) .
وقال الذهلي: ما رأيت أحدا أجل، ولا أخوف لربه من يحيى بن يحيى، ولو أشاء لقلت: هو رأس المحدثين في الصدق.
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل «5» : سمعت أبي يثني على يحيى، ويقول: ما أخرجت خراسان مثله «6» ، كنا نسميه" يحيى الشكّاك" من كثرة ما كان يشك في الحديث- يعني- «7» أنه كلما توقف في كلمة أبطل سماعه لذلك الحديث، ولم يروه.(5/402)
وقال ابن راهويه: ظهر ليحيى نيف وعشرون ألف حديث، ومات يوم مات، وهو إمام أهل الدنيا «1» .
ومات في صفر «2» سنة ست وعشرين ومائتين، وكان أسن من الشافعي بثمانية أعوام «3» .
ومنهم:
74- علي بن عبد الله «4» بن جعفر بن نجيح «5» السعدي
«6» - مولاهم- المديني «7» ثم البصري، حافظ العصر، وقدوة أرباب هذا(5/403)
الشأن، صاحب التصانيف الكثير عددها، الكبير مددها، النثير «1» كالنجوم بددها «2» ، الغزير معينها لا تدرك أقمارها داديها «3» ولا ددها «4» ، ولا يعادل وزنه الرجيح، ولا يوازي حبه وهو نجيح، حفظ المضاع»
، وحيز له الحديث كأنما تلقاه بولادته في سعد من الرضاع «6» .
ولد سنة إحدى وستين ومائة «7» .
قال أبو حاتم: كان ابن المديني علما في الناس في معرفة الحديث والعلل، وما سمعت أحمد بن حنبل سماه قط، إنما كان يكنيه تبجيلا له.
وقال ابن عيينة: تلومونني على حب ابن المديني، فو الله لما أتعلم منه أكثر مما يتعلم مني. وكان ابن عيينة يسميه" حية الوادي".(5/404)
وقال عبد الرحمن بن مهدي: أعلم الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن المديني، وخاصة بحديث سفيان «1» .
وقال النسائي «2» : كأنّ ابن المديني خلق لهذا الشأن.
وقال البخاري «3» : ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند (ص 161) علي بن المديني.
وقال أبو داود: علي بن المديني أعلم من أحمد باختلاف الحديث «4» ، ومناقبه جمة لولا ما كدرها بتعلقه بشيء من مسألة القرآن، وتردده إلى أحمد بن أبي دؤاد «5» إلا أنه تنصل، وندم، وكفّر من قال بخلق القرآن «6» ، فالله يرحمه.
ومات بسامراء في ذي القعدة «7» سنة أربع وثلاثين ومائتين.
قال العلامة أبو زكريا النووي «8» : لابن المديني نحو مائتي مصنف.(5/405)
ومنهم:
75- يحيى بن معين بن عون «1» بن زياد بن بسام البغدادي
«2» الحافظ المشهور، الحامل سحابة المشرق على الربى أنار ذيله المجرور، الذي تدفق منه ابن معين، وأشرق به على بغداد ليل طلع صباحه من كمين «3» ، وعلا نسبه إلى بسام وضحاك سرورا بما قدم، وحبورا بأنه على ما أسلف من عمل صالح تقدم، ويقينا بأنه سيقدم على الله تحت راية رواية حديث نبيه صلى الله عليه وسلم.
كان أبوه كاتبا لعبد الله بن ملك، وقيل: إنه كان على خراج الري، فمات، فخلف لابنه يحيى المذكور ألف ألف درهم، وخمسين ألف درهم، فأنفق المال جميعه على الحديث حتى لم يبق له نعل يلبسه، وسئل: كم كتبت من الحديث؟ فقال: كتبت بيدي هذه ستمائة ألف حديث «4» .(5/406)
وخلف من الكتب مائة قمطر «1» ، وأربع حباب «2» شرابية «3» مملوءة كتبا.
وهو صاحب الجرح والتعديل، وروى عنه الحديث كبار الأئمة كالبخاري، ومسلم، وأبي داود «4» ، وغيرهم من الحفاظ، وكان بينه وبين الإمام أحمد من الصحبة والألفة والاشتراك في الاشتغال بعلوم الحديث ما هو مشهور لا حاجة إلى الإطالة بذكره.
وقال أحمد بن حنبل: كل حديث لا (ص 162) يعرفه يحيى بن معين فليس هو بحديث.
وكان يقول: صاحبنا خلقه الله لهذا الشأن، ويظهر كذب الكذابين- يعني يحيى بن معين-.(5/407)
وقال علي بن المديني: انتهى العلم بالبصرة إلى يحيى بن أبي كثير «1» ، وقتادة، وعلم الكوفة إلى أبي إسحاق «2» ، والأعمش، وعلم الحجاز إلى ابن شهاب، وعمرو بن دينار «3» ، وصار علم هؤلاء الستة بالبصرة إلى سعيد بن أبي عروبة «4» ، وشعبة «5» ، ومعمر «6» ، وحماد بن سلمة «7» ، وأبي عوانة «8» ، ومن أهل الكوفة سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، ومن أهل الحجاز إلى مالك بن(5/408)
أنس، ومن أهل الشام إلى الأوزاعي «1» ، وانتهى علم هؤلاء إلى محمد ابن إسحاق «2» ، والهيثم «3» ، ويحيى بن سعيد «4» ، وابن أبي زائدة «5» ، ووكيع «6» ، وابن المبارك «7» ، وهو أوسع هؤلاء علما، وابن(5/409)
مهدي «1» ، ويحيى بن آدم «2» ، وصار علم هؤلاء جميعا إلى يحيى بن معين «3» ، وكان يحج، فيذهب إلى مكة على المدينة، ويرجع على غير المدينة، فلما كان آخر حجة حجها، خرج على المدينة، ورجع على المدينة، فأقام بها ثلاثة أيام، ثم خرج حتى نزل المنزل مع رفاقه، فباتوا، فرأى في النوم هاتفا يهتف به: يا أبا زكريا، أترغب عن جواري؟ فلما أصبح، قال لرفاقه: امضوا، فإني راجع إلى(5/410)
المدينة، فمضوا ورجع، فأقام بها ثلاثا، ثم مات، فحمل على أعواد النبي صلى الله عليه وسلم «1» وذلك سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، كذا قال الخطيب.
ومنهم:
76- عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان العبسي
«2» - مولاهم- الكوفي أبو بكر الحافظ «3» ، العديم النظير، الثبت النحرير، صاحب المسند والمصنف، والمقلد، والمشنف، حرر النقول، وحبّر تصانيفه بأحاديث الرسول، وأبقى بعده ما هو قدوة للأتباع، وذروة للاتباع، وأسوة في (ص 163) إزالة الابتداع. علما ظهر، وفضلا بهر، ورواية لا تحدث كإروائها عن البحر ولا النهر، وتفننا لا يلقط شبيه أفنانه من الثمر ولا الزهر، وظهورا كالشمس لا بل ما سار ضوءها مثله ولا اشتهر «4» .
قال الفلاس وأبو زرعة الرازي «5» : ما رأينا أحفظ من أبي بكر بن أبي شيبة.(5/411)
وقال أبو عبيد «1» : انتهى الحديث إلى أربعة فأبو بكر بن أبي شيبة أسردهم له، وأحمد أفقههم له، وابن معين أجمعهم له وابن المديني أعلمهم.
وقال صالح بن محمد «2» : أعلم من أدركت بالحديث وعلله علي بن المديني، وأحفظهم له عند المذاكرة أبو بكر بن أبي شيبة.
وقال أبو عبيد: أحسنهم وضعا لكتاب أبو بكر بن أبي شيبة.
وقال الخطيب «3» : كان أبو بكر متقنا حافظا، صنف المسند والأحكام والتفسير.
قال البخاري «4» : مات في المحرم «5» سنة خمس وثلاثين ومائتين.(5/412)
ومنهم:
77- عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل
«1» ابن بهرام بن عبد الصمد التميمي الدارمي «2» السمرقندي «3» صاحب المسند العالي والمقلد «4» بالدر الغالي، والذي إذا عرضت على مناقبه الدرر قال:
لا تصلح هذه اللآلي إلا لي، تعرضت له الدنيا، فأعرض عن زخارفها، وتنكر لها لمعرفته بمعارفها، وردّ عليها ما خولت «5» من غرورها «6» ، ونولت «7» من سرورها، هذا وهو بسمرقند حيث يضرب المثل رونق صغدها «8» ، ومونق رغدها، ومشرق(5/413)
ضحوات يومها وغدها، أنفة أن يتدنس بآثامها، أو يفتن بما تحت لثامها ورعا وزهدا، ودينا، عمر به دارا ولحدا «1» ، سمع بالحرمين ومصر والشام والعراق وخراسان، وحدث عنه مسلم وأبو داود والترمذي وخلائق.
قال (ص 164) أبو بكر الخطيب: كان أحد الحفاظ والرحّالين «2» ، موصوفا بالثقة والزهد، والورع، استقضى على سمرقند، فقضى قضية واحدة ثم استعفى، فأعفي، وكان على غاية العقل، وفي نهاية الفضل يضرب به المثل في الديانة والحلم «3» والاجتهاد والعبادة، والتقلل، صنف المسند والتفسير وكتاب الجامع.
وذكر أحمد بن حنبل الدارمي، فقال: عرضت عليه الدنيا فلم يقبل.
وقال رجاء بن مرجّا «4» : رأيت الشاذوكني «5» ، وابن راهويه، وسمى جماعة، فما رأيت أحفظ من الدارمي.
وقال أبو حاتم «6» : عبد الله الدارمي إمام أهل زمانه.(5/414)
توفي يوم التروية «1» سنة خمس وخمسين ومائتين.
ومنهم:
78- الإمام العلم أبو عبد الله البخاري
«2» واسمه محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي- مولاهم- صاحب الجامع الصحيح المقدم على الصحاح، والمجرب للنجاح، والمشهور منه في نوب النوائب «3» سلاح يعرف على التجريب، ونجاح يتحف بالفرج القريب، وجناح يلحف «4» بشعار «5» النصر، وقد كادت سهام الأعداء تصيب، والمعد(5/415)
مفتاحا لأبواب الحوائج إذا تعسرت أقفالها، وصلاحا لأدواء الأيام إذا فسدت أحوالها، وصباحا إذا طغت في سيل الليل النجوم، وطفئت ذبالها «1» ، وهو الذي ما سبق إلى ترتيبه، ولا عرف كيف الوصول إليه من تبويبه، ولا ادّعى أحد مثل ضبطه، ولا قدر على التوفية بشرطه وما برح من فضله يغترف، وبتفضيله يعترف، وأكثر الناس على أنه في كتب الحديث أصح كتاب، وأسح سحاب «2» ، وأفسح مغنى «3» ، يدخل إليه من كل باب. تدفق فاستوشلت «4» (ص 165) البحار، وتألق فتدأدأت «5» الأقمار، وطلع من بخارى فعقد الشكر عليها سحاب عنبر من بخار، وهمع «6» ما وراء النهر نوءه «7»(5/416)
فرقصت في وشاح «1» الجيب «2» الأنهار، وقطع مؤلفه به الدنيا حتى دخلت عليه الملائكة قائلة: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ
«3» .
رحل في طلب الحديث «4» إلى أكثر محدثي الأمصار، وكتب بخراسان والجبال ومدن العراق والشام ومصر والحجاز، ولما قدم «5» اجتمع إليه أهلها واعترفوا بفضله، وشهدوا بتفرده في علم الرواية والدراية.
قال محمد بن أبي حاتم الوراق «6» : قلت لأبي عبد الله البخاري: كيف كان(5/417)
بدء أمرك في طلب الحديث؟
قال: ألهمت حفظ الحديث، وأنا في الكتّاب، وقد أتى علي عشر سنين أو أقل، ثم خرجت من الكتّاب بعد العشر، فجعلت أختلف إلى" الداخلي" وغيره، وقال يوما- فيما كان يقرأ للناس-: سفيان على «1» أبي الزبير عن إبراهيم، فقلت له: إن أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم، فانتهرني، فقلت له: ارجع إلى الأصل، إن كان عندك، فدخل ونظر فيه ثم خرج، فقال لي: كيف هو يا غلام؟
فقلت: هو الزبير بن عدي عن إبراهيم، فأخذ القلم مني، وأحكم كتابه.
فقال: صدقت. فقال له بعض أصحابه: ابن كم كنت إذ رددت عليه؟
فقال: ابن إحدى عشرة سنة، فلما طعنت في ست عشرة سنة حفظت كتب ابن المبارك ووكيع، وكلام هؤلاء، ثم خرجت مع أمي وأخي أحمد إلى مكة، فلما حججت رجع أخي أحمد، وتخلفت بها في طلب الحديث، فلما طعنت في ثماني عشرة جعلت أصنف" قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم «2» " وذلك أيام عبيد الله بن موسى «3» عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم في الليالي المقمرة.
وقال الفربري «4» : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال لي: أين تريد؟
فقلت: أريد محمد بن إسماعيل. فقال (ص 166) : أقره مني السلام.(5/418)
وكان البخاري إذا كان أول ليلة من شهر رمضان يجتمع إليه أصحابه فيصلي بهم ويقرأ في كل ركعة عشرين آية، وكذلك إلى أن يختم القرآن، وكان يقرأ في السحر ما بين النصف إلى الثلث من القرآن، فيختم عند السحر في كل ثلاث ليال، وكان يختم بالنهار كل يوم ختمة، ويكون ختمه عند الإفطار كل ليلة، ويقول: عند كل ختم دعوة مستجابة.
وقال البخاري: أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحدا، وكان يصلي ذات يوم فلسعه الزنبور سبع عشرة فلما قضى صلاته قال: انظروا إيش هذا الذي آذاني في صلاتي، فإذا الزنبور قد ورمه في سبعة عشرة موضعا، ولم يقطع صلاته.
وقال محمد بن بشار «1» : حفاظ الدنيا أربعة: أبو زرعة بالري، ومحمد بن إسماعيل ببخارى، ومسلم بن الحجاج بنيسابور، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي بسمرقند.
وقال البخاري: ذاكرني أصحاب عمرو بن علي «2» بحديث فقلت: لا أعرفه، فسروا بذلك وصاروا إلى عمرو فقالوا: ذاكرنا محمد بن إسماعيل بحديث فلم يعرفه، فقال: حديث لا يعرفه محمد بن إسماعيل ليس بحديث.
وقال أبو علي البغدادي: كان البخاري يجلس ببغداد وكنت أستملي له، ويجتمع في مجلسه أكثر من عشرين ألفا.(5/419)
وقال أبو أحمد بن عدي «1» : سمعت عدة مشايخ يحكون أن البخاري قدم بغداد فسمع به أصحاب الحديث فاجتمعوا، وعمدوا إلى مائة حديث، فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متن هذا الإسناد لإسناد آخر، وإسناد هذا المتن لمتن آخر، ودفعوا إلى عشرة أنفس إلى كل رجل عشرة أحاديث، وأمروهم إذا حضروا المجلس يلقون ذلك على البخاري، وأخذوا الموعد للمجلس، فحضر المجلس جماعة أصحاب الحديث (ص 167) من الغرباء من أهل خراسان وغيرها، فلما اطمأن المجلس انتدب إليه رجل من الغرباء فسأله عن حديث من تلك الأحاديث، فقال البخاري: لا أعرفه فسأله عن آخر، فقال: لا أعرفه، فما زال يلقي عليه واحدا بعد واحد حتى فرغ من عشرته، والبخاري يقول: لا أعرفه، فكان الفقهاء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون: فهم الرجل، ومن كان منهم غير ذلك، يقضي على البخاري بالعجز والتقصير، وقلة الفهم، ثم انتدب رجل آخر من العشرة، فسأله عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة، فقال البخاري:
لا أعرفه، فسأله عن آخر فقال لا أعرفه، حتى فرغ من عشرته، والبخاري يقول في كل ذلك: لا أعرفه. ثم انتدب إليه الثالث ثم الرابع، إلى تمام العشرة حتى فرغوا كلهم من الأحاديث المقلوبة المائة، ولا يزيدهم البخاري على قوله لا أعرفه، فلما علم البخاري أنهم قد فرغوا التفت إلى الأول منهم، وقال: أما حديثك الأول فهو كذا، وحديثك الثاني كذا والثالث والرابع على الولاء حتى أتى على تمام العشرة، فرد كل متن إلى إسناده وكل إسناد إلى متنه، وفعل بالآخرين مثل ذلك، ورد متون الأحاديث إلى أسانيدها وأسانيدها إلى متونها، فأقر له الناس بالحفظ،(5/420)
وأذعنوا له بالفضل «1»
وقال سليم بن مجاهد: كنت عند محمد بن سلام البيكندي «2» ، فقال لي:
لو جئت قبل لرأيت صبيا يحفظ سبعين ألف حديث.
قال: فخرجت في طلبه حتى لقيته، فقلت: أنت الذي تقول: أنا أحفظ سبعين ألف حديث؟ قال: نعم. وأكثر منه، ولا أجيئك بحديث من الصحابة أو التابعين إلا عرفت مولد أكثرهم، ووفاتهم ومساكنهم (ص 168) ولست أروي حديثا من حديث الصحابة أو التابعين إلا ولي في ذلك أصل أحفظه من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو سعيد بن منير: بعث الأمير خالد الذهلي «3» والي بخارى إلى البخاري: أن احمل كتاب الجامع والتاريخ وغيرهما لأسمع منك. فقال البخاري لرسوله: أنا لا أذل العلم، ولا أحمله إلى أبواب الناس، فإن كانت لك إلى شيء منه حاجة، فاحضرني إلى مسجدي، أو في داري، فإن لم يعجبك هذا فأنت سلطان فامنعني من المسجد ليكون لي عذر عند الله يوم القيامة، لأني لا أكتم(5/421)
العلم لقول النبي صلى الله عليه وسلم «من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار» «1»
قال: وكان سبب الوحشة بينهما هذا.
وقال ابن أبي حاتم «2» : كان البخاري إذا كنت معه في سفر يجمعنا بيت واحد إلا في القيظ أحيانا، فكنت أراه يقوم في ليلة خمس عشرة مرة إلى عشرين مرة، في كل ذلك يأخذ القداحة، فيوري نارا بيده، ثم يخرج أحاديث، فيعلم عليها، ثم يضع رأسه، وكان يصلي في وقت السحر ثلاث عشرة ركعة يوتر بواحدة، وكان لا يوقظني في كل ما يقوم، فقلت له: إنك تحمل على نفسك كل هذا، ولا توقظني، قال: أنت شاب فلا أحب أن أفسد عليك نومك، ورأيته استلقى على قفاه يوما، ونحن بفربر في تصنيف كتاب التفسير، وكان أتعب نفسه في كثرة إخراج الحديث، فقلت له: يا أبا عبد الله سمعتك تقول يوما: إني ما أتيت شيئا بغير علم قط منذ عقلت، قلت: وأي علم في هذا الاستلقاء؟ قال: أتعبنا نفسنا في هذا اليوم، وهذا ثغر من الثغور خشيت أن يحدث حدث من أمر العدو، فأحببت أن أستريح (ص 169) وآخذ أهبة ذلك، فإن عافصنا «3» العدو كان بنا حراك «4» .(5/422)
وقال البخاري: صنفت كتابي الصحيح في ست عشرة سنة، وخرجته من ستمائة ألف حديث، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى، وما وضعت فيه حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك، وصليت ركعتين، وكتبت عن ألف شيخ، وأكثر ما عندي حديث إلا أذكر إسناده، ورب حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام، ورب حديث سمعته بالشام كتبته بمصر.
وقال عبد القدوس بن عبد الرحمن السمرقندي: جاء البخاري إلى خرتنك وكان له بها أقرباء «1» فنزل عندهم، قال: فسمعته ليلة من الليالي وقد فرغ من صلاة الليل يدعو ويقول في دعائه:
" اللهم إنه قد ضاقت علي الأرض بما رحبت فاقبضني إليك"
قال: فما تحرّ الشهر حتى قبضه الله إليه، وقبره بخرتنك.
وقال عبد الواحد بن أحمد الطواويسي: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم ومعه جماعة من أصحابه، وهو واقف في موضع ذكر، فسلمت عليه، فقلت: ما وقفك يا رسول الله؟
فقال: أنتظر محمد بن إسماعيل البخاري.
فلما كان بعد أيام بلغني موته، فنظرنا، فإذا هو قد مات في الساعة التي رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وكان ذلك ليلة السبت عند صلاة العشاء، وكانت ليلة عيد الفطر بعد صلاة الظهر سنة ست وخمسين ومائتين بخرتنك، ومولده يوم(5/423)
الجمعة بعد صلاة العشاء لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال سنة أربع وتسعين ومائة.
ومنهم:
79- محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس
»
أبو عبد الله النيسابوري «2» الذهلي «3» - مولاهم- شيخ الإسلام وحافظ نيسابور وحافل سحابها المجرور (ص 170) حفظه متسع ولفظه يدل على أنه مطلع، ورده عدّ وفرنده «4» عقد، استفاء «5» من إليه آوى، واستفاد من أقبل عليه(5/424)
وروي بتقريب يسوّغ «1» لطالب موارده المناهل «2» ، ويفطّن الراغب لفوائده، وما هو عن ذهلية الحي ذاهل، تفردا في ذلك الأوان، وإشحاء ما زاد قرنه الذي قطعه الحصر معه على أن تعرّض للهوان، وأظهر المسالمة لجملة قومه، وقال: صفحنا عن بني ذهل وقلنا القوم إخوان.
سمع بالحرمين ومصر والشام «3» ، والعراق، والري وخراسان، واليمن والجزيرة، ونزع إلى هذا الشأن، وحدث عنه خلق، والجماعة «4» سوى مسلم «5» ، وانتهت إليه مشيخة العلم بخراسان مع الثقة والصيانة والدين، ومتابعة السنن.
وقال محمد بن سهل بن عسكر «6» : كنا عند أحمد بن حنبل، فدخل محمد بن يحيى الذهلي فقام إليه أحمد، وتعجب الناس منه، وقال لأولاده، وأصحابه: اذهبوا إلى أبي عبد الله، فاكتبوا عنه، وقال أحمد: ما رأيت أحدا أعلم بحديث الزهري من محمد بن يحيى.(5/425)
وقال الذهلي: قال علي بن المديني: أنت وارث الزهري.
وقال أبو حاتم: هو إمام أهل زمانه.
وقال أبو بكر بن زياد «1» : كان الذهلي أمير المؤمنين في الحديث.
وقال الذهلي: ارتحلت ثلاث رحلات، وأنفقت على العلم مائة وخمسين ألفا.
وقال الدارقطني «2» : من أراد أن يعرف قصور علمه، فلينظر في علل حديث الزهري لمحمد بن يحيى «3» .
وقال أبو عمرو أحمد بن نصر الخفاف «4» : رأيت محمد بن يحيى «5» ، فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي قلت: فما فعل بحديثك؟ قال: كتب بماء الذهب، ورفع في عليين. توفي في ربيع الأول سنة ثمان وخمسين ومائتين، وهو في عشر التسعين (171) .(5/426)
ومنهم:
80- أحمد «1» بن الفرات «2» الحافظ الحجة أبو مسعود الرازي
«3» ، محدث أصبهان وصاحب التصانيف الحسان، رقت حواشيها، وقرت عيونا بأن النجوم لا تماشيها، صنفها ابن الفرات، وكأنها بين ضفتيها تترقرق وبين دفتيها تجمع من جدا جداولها ما تفرق، فهي عذبة سلسال ذات تدفق واسترسال، وسعت الزمان إملاء فيما يفيد، وأخذت الزمام وقد ضاقت بمدارجها البيد، أكثر الترحال في لقي الرجال.
قال أبو مسعود: كتبت عن ألف وسبع مائة شيخ، فعملت من ذلك في تواليفي خمس مائة ألف حديث «4» .
وقال أحمد بن حنبل: ما أظن بقي أحد أعرف بالمستندات من ابن الفرات.
وقال- أيضا-: ما تحت أديم السماء أحفظ لأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن الفرات.(5/427)
وقال ابن عدي: لا أعرف له رواية منكرة، وهو من أهل الصدق والحفظ «1» .
وكانت وفاته في شعبان سنة ثمان وخمسين ومائتين «2» .
ومنهم:
81- مسلم بن الحجاج «3» بن مسلم «4» القشيري النيسابوري
أبو الحسن، أحد الأئمة الحفاظ أعلام المحدّثين، وفي أعلى مقام المتقدمين والمحدثين، المفضل- بعد صحيح البخاري- كتابه، إلا ما ذهب إليه بعضهم من أنه هو المقدم، والأولى بأن يقدم، وحذاق المحدثين إذا خرجوا مما خرجاه- مما اختلفا في لفظه- جعلوا اللفظ لمسلم على ما خرجه في صحيحه، وعملوا عليه لكثرة تصحيحه، وعنت تنقيحه، ولأهل المغرب في التعويل عليه ميل، ولهم إلى الانصباب إليه سيل، وعذرا، لمن أغري بصحيحه (ص 172) عذرا لقد وفى في شروط تصحيحه نذرا، حتى لقد كاد يعدّ فردا لا يقاس إلى شبهه وراويا للخير يجيء به كما قيل في حديث عائشة في الأضاحي" لقد أتتك بالحديث على(5/428)
وجهه".
لقد أبطل شبهة كل مضل مذ جلا كل مظلم وأزال دعوى كل باطل بما صح من حديثه، فإنه لا شيء أصح من حديث مسلم.
رحل إلى الحجاز والعراق والشام ومصر «1» ، وقدم بغداد غير مرة، وآخر قدومه إليها سنة تسع وخمسين ومائتين.
قال مسلم: صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة.
وقال الحافظ أبو علي النيسابوري «2» : ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم في الحديث «3» .
وقال أحمد بن سلمة «4» : رأيت أبا زرعة، وأبا حاتم يقدمان مسلم بن الحجاج في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما.
وقال أحمد بن عمر الزاهد: سمعت الثقة من أصحابنا- وأكبر ظني أنه أبو سعيد بن يعقوب- يقول: رأيت فيما يرى النائم كأن أبا علي الزغوري يمضي في(5/429)
شارع «1» الحيرة «2» ، وفي يده جزء من كتاب مسلم، فقلت: ما فعل الله بك؟
قال: نجوت بهذا وأشار إلى ذلك الجزء.
وقال أحمد بن سلمة: عقد لأبي الحسين مسلم مجلس للمذاكرة، فذكر له حديث لم يعرفه، فانصرف إلى منزله وأوقد السراج، وقال لمن في الدار: لا يدخل أحد منكم هذا البيت، فقيل له: أهديت لنا سلة فيها تمر. فقال:
قدموها، فقدموها إليه، وكان يطلب الحديث، ويأخذ تمرة تمرة، فيمضغها، فأصبح وقد فني التمر، ووجد الحديث.
قال الحاكم: زادني الثقة من أصحابنا أنه منها مات «3» .
قال الحاكم: قرأت بخط أبي عمرو المستملي «4» : أملى علينا إسحاق بن منصور «5» سنة إحدى وخمسين ومائتين، ومسلم ينتخب عليه، وأنا أستملي، فنظر إسحاق بن منصور إلى مسلم، فقال له: لن نعدم الخير ما أبقاك الله للمسلمين. (ص 173) .(5/430)
توفي مسلم عشية يوم الأحد، ودفن يوم الاثنين لخمسين- وقيل: لست- بقين من رجب سنة إحدى وستين ومائتين بنيسابور، ومولده سنة ست ومائتين وقيل: سنة أربع ومائتين.
ومنهم:
82 «1» - عبيد الله بن عبد الكريم «2» بن يزيد بن فروخ القرشي
«3» - مولاهم- الرازي «4» : أبو زرعة سيد من سادات القوم وسند ما انقطع إلى اليوم، من موالي قريش النجباء، وبقاياهم الألباء «5» ، فضل الصريح «6» ، وفضّل بالصحيح، اشتهر فيمن روى الحديث، ورأى أدنى مطالبه موكلا بالسير(5/431)
الحثيث «1» ، فشد (ص 174) اليعملات، وسدّ مهابّ الفلاة حتى وسع فروج الارتحال «2» وخروج التحصيل به من حال إلى حال، حتى صار مأوى إليه تحط الرحال، وحقا «3» في الطلب بلا محال.
سمع بالحرمين، والشام ومصر والعراق، والجزيرة وخراسان، وكان من أفراد الدهر حفظا وذكاء، ودينا وإخلاصا، وعلما وعملا.
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: نزل عندنا أبو زرعة، فقال لي أبي: يا بني قد اعتضدت على نوافلي بمذاكرة هذا الشيخ.
وقال أبو زرعة: كتبت عن ابن أبي شيبة مائة ألف حديث، وعن إبراهيم بن موسى الرازي مائة ألف حديث. فقيل له: تقدر أن تملي ألف حديث من حفظك؟
قال: لا، ولكني إذا ألقي علي عرفت.
واستفتى رجل أبا زرعة قال: حلفت بالطلاق أنك تحفظ مائة ألف حديث.
فقال: تمسك بامرأتك.
وقال ابن أبي شيبة «4» : ما رأيت أحفظ من أبي زرعة.
وقال علي بن الجنيد: ما رأيت أعلم من أبي زرعة.(5/432)
وقال أبو يعلى الموصلي «1» : كان أبو زرعة مشاهدته أكبر من اسمه، يحفظ الأموات والشيوخ والتفسير.
وقال صالح- جزرة «2» - سمعت أبا زرعة يقول: أحفظ في القراءات عشرة آلاف حديث.
وقال يونس بن عبد الأعلى «3» : ما رأيت أكثر تواضعا من أبي زرعة.
وقال عبد الوارث بين غياث «4» : ما رأى أبو زرعة مثل نفسه.
وقال أبو حاتم: ما خلف أبو زرعة بعده مثله، ولا أعلم منه كان يحفظ هذا الشأن مثله «5» ، وقلّ من رأيت في زهده.(5/433)
توفي أبو زرعة في آخر يوم من سنة أربع وستين ومائتين.
ومنهم:
83- «1» - محمد بن يزيد «2» بن ماجه الربعي
«3» - بالولاء- القزويني أبو عبد الله الحافظ، مصنف كتاب السنن وحسبك بابن ماجه بحرا ماج فطفا من دره ما رسب، وطودا مال لو لم يمسك الغمام من ذيله بحسب، وحبرا مار «4» ما رأى أحدا أفضل مما منه يكتسب، ربعي بالولاء، لا بل هو ربيع توالى قطره الساكب، وتولى الغمام ثم جرى في أرضه نهرا، لأنه ما استطاع أن يمر بها وهو راكب، طاف وارتحل، وطاب موقعه كالغيث حيث حل، وأعمل نظره فيما فرضه الشارع وسنه، وفسّر كتاب الله، وروى حديث رسوله فقام بالكتاب والسنة.
كان إماما في الحديث عارفا بعلومه، وجميع ما يتعلق بعلومه، وارتحل إلى العراق والبصرة، والري والكوفة وبغداد ومكة والشام ومصر لكتب الحديث،(5/434)
وله: تفسير القرآن، وتاريخ مليح، وكتابه أحد الكتب الستة.
توفي يوم الاثنين، ودفن يوم الثلاثاء لثمان بقين من شهر رمضان سنة ثلاث وسبعين ومائتين وصلى عليه أخوه أبو بكر، ومولده سنة تسع ومائتين.
ومنهم:
84- سليمان بن الأشعث «1» بن إسحاق بن بشير الأزدي «2» السجستاني «3» أبو داود
أحد حفاظ الحديث، وعلمه، وعلله، وحيفاز الفهم الصحيح في معرفة سداده «4» وخلله «5» ، ممن فقه في الدين، وفهق «6» غديره الصافي مما امتلأ(5/435)
للواردين، زاد على من سبقه (ص 175) وما قصروا ذكاء وفهما، وأصاب وما أخطأوا ظنا ومرمى، وأشبهت فطنته السليمانية «1» فطنة مسماه، فوافق المسمى المسمي «2» وما تعداه، لقد أظله وإياهم سحاب تغشاهم رحمته، إلا أنه أخطأهم، وقدح له ولهم زنادا «3» أراهم ضياه، لكنه أصابه وما أخطاهم، ثم قال التثبت إذ سبق الأوائل: مهلا سبقت، وما توانى أولئك أناة وحلما، وقال الفهم حين أصاب الصواب (ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما) «4»
كان في الدرجة العالية من النسك والصلاح.
طوّف البلاد وكتب عن العراقيين والخراسانيين والشاميين، والمصريين، والجزريين «5» ، وجمع كتاب السنن قديما، وعرضه على أحمد بن حنبل فاستجاده «6» واستحسنه، وعده أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الفقهاء من جملة أصحاب الإمام أحمد.(5/436)
قال إبراهيم الحربي «1» - لما صنف أبو داود كتابه السنن-: ألين له الحديث كما ألين لداود الحديد «2» .
وكان يقول: كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس مائة ألف حديث انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب- يعني السنن- جمعت فيه أربعة آلاف وثمان مائة حديث ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه، ويكفي الإنسان من ذلك أربعة أحاديث «3» :
أحدها: قوله: «الأعمال بالنيات «4» »(5/437)
والثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه «1» »
والثالث: قوله: «لا يكون المرء مؤمنا حتى يرضى لأخيه ما يرضاه لنفسه» «2»
والرابع: قوله: «الحلال بيّن والحرام بيّن» «3»(5/438)
وجاء سهل بن عبد الله التّستري «1» ، فقيل له: يا أبا دواد هذا سهل قد جاءك زائرا، قال: فرحب به وأجلسه، فقال: يا أبا دواود لي إليك حاجة (ص 176) قال: وما هي؟
قال: حتى تقول قضيتها. قال: أقضيها مع الإمكان.
قال: أخرج لسانك الذي حدثت به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبّله. قال:
فأخرج لسانه فقبّله.
توفي بالبصرة يوم الجمعة منتصف شوال سنة خمس وسبعين ومائتين.
ومولده سنة اثنتين ومائتين.
ومنهم:
85- محمد بن إدريس «2» بن المنذر الحنظلي
«3» أبو حاتم الرازي أحد الأعلام، وأحد سيوف الإسلام، ممن تجوّل وطاف لا(5/439)
تسعى به إلا قدمه، ولا تصحبه إلا هممه، يقطع الأرض ركضا، ويقنع بما هو عليه من الدأب، ويرضى؛ حتى أخذ من الحديث الشريف النبوي- زاده الله شرفا- ما شد به إليه لأجله الرّحل «1» والقتب «2» ، وألاق «3» له كل طالب دواته وكتب.
قال أبو حاتم: أول ما رحلت أقمت سبع سنين، ومشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ، ثم تركت العدد وخرجت من البحرين إلى مصر ماشيا، ثم إلى(5/440)
الرملة «1» ماشيا، ثم إلى طرسوس «2» ولي عشرون سنة، وكتبت عن النفيلي «3» نحو أربعة عشر ألفا.
قال موسى بن إسحاق الأنصاري: ما رأيت بعد محمد بن يحيى الذهلي أحفظ للحديث، ولا أعلم بمعانيه من أبي حاتم.
وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: قلت على باب أبي داود الطيالسي «4» : من أغرب عليّ حديثا صحيحا «5» ، فله درهم. وكان ثمة خلق أبو زرعة، فمن دونه، وإنما كان مرادي أن يلقى عليّ ما لم أسمع به، لأذهب إلى راويه، وأسمعه، فلم يتهيأ لأحد أن يغرب عليّ.
قال: وسمعت أبي يقول: قدم الري محمد بن يحيى «6» ، فألقيت عليه ثلاثة عشر حديثا من حديث الزهري، فلم يعرف إلا ثلاثة أحاديث.
وقال: بعت ثيابي (ص 177) سنة أربع عشرة ونفقت «7» ثمنها حتى نفد، وجعت يومين، فأعلمت رفيقي، فقال: معي دينار، فأعطاني نصفه، وطلعنا مرة من البحر «8» قد فرغ زادنا، فمشينا ثلاثة أيام لا نأكل شيئا، فألقينا بأنفسنا، فسقط(5/441)
رفيقنا شيخ مغشيا عليه، فجئنا نحركه وهو لا يعقل، فتركناه ومشينا فرسخا، فسقطت مغشيا علي، ومضى صاحبي، فرأى على بعد سفينة، فنزلوا الساحل، فلوّح بثوبه فجاءوه، فسقوه، فقال: أدركوا رفيقين لي، فما شعرت إلا برجل يرش على وجهي، ثم سقاني، ثم أتوا بالشيخ، فبقينا حتى رجعت إلينا أنفسنا.
توفي أبو حاتم في شعبان سنة سبع وسبعين ومائتين، وله ثنتان وثمانون سنة.
ومنهم:
86- أبو عيسى الترمذي
«1» محمد بن عيسى بن سورة بن موسى ابن الضحاك السّلمي «2» الحافظ «3» المشهور.
أحد الأئمة المقتدى بهم في علم الحديث، والمقتفي وفد الرياح إليه في السير الحثيث، أخذ عن البخاري وما نهنه «4» عن طلبه، ولا ضحضح «5» في قلبه حين(5/442)
استقى من سحبه، وارتوى بأعذبه، حام حيث حلق، وطار معه أو به تعلق، وأتقن التصنيف، وقال وحقق، فاز قدح ترمذ منه بأحد الأئمة المشاهير، وعاشت به ما عاشت، وما علمت أن ابنها من قريش في الجماهير، كيف لا يكون منهم وقد ذكر من حديث سيدهم، بل سيد البشر ما كأنه حضر به معهم في أنديتهم، وعلم من أخبارهم ما كأنه كان به في جلابيب «1» أرديتهم وتبرحت «2» سليم فخرا به، وسرورا بنسبه، لقد أعقبت ابن مرداسها العباس «3» بجده الضحاك «4» ، وقاست به من مضى ثم قالت: أين- لولا سابق الصحبة- هذا من ذاك، ثم نقعت «5» قبيلته غلل «6» صداها «7» (ص 178) بكوثره.(5/443)
وجلت «1» حايل «2» قذاها «3» منه بما لا يعزوه الكمال إلى سليم من نفع أصغره «4» .
صنف كتاب الجامع «5» والعلل «6» تصنيف رجل متقن، وكان يضرب به المثل في الحفظ وهو تلميذ أبي عبد الله البخاري، ومع هذا فشاركه في بعض شيوخه «7» .
«8» ................ .............
توفي ليلة الاثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من رجب سنة تسع وسبعين ومائتين.(5/444)
ومنهم:
87- أبو عبد «1» الرحمن النسائي
«2» . أحمد بن علي بن شعيب «3» بن علي بن سنان بن بحر الحافظ.
أنسى كثيرا ممن تقدم، وأرسى ثبيرا «4» أو يلملم «5» ،(5/445)
وأشرى «1» للطلب والريح قد ونت «2» ، والنجم قد هوّم «3» ، وكان بجديه لا يجبن له جبان، ولا يخطا نحره، ولا ترد له حمله وهو يطعن بسنان، ويكاثر ببحر، رفعت به متلعة «4» جيدها نسا، وطلعت في سطور تصانيفه الشموس مسا، وقام في أهل دمشق ليقوم مناد نصبهم «5» ، ويقشع «6» عنهم مدهام «7» غضب ربهم، وأراد أن يكرمهم بما لعلي- كرم الله وجهه- من علو قدر، وسابقة إن أنكرتها الطلقاء «8» ، فسل عنها سيفه يوم بدر، فعجلت الحمية لهم نار الغضب، وكوت حنق صدورهم ببعض ما أعد لهم في المنقلب، ووثبوا بالرجل، ولكن الطود لا يزعزعه من وثب، وكان إمام عصره في الحديث (ص 179) سكن مصر، وانتشرت بها تصانيفه وأخذ عنه الناس.(5/446)
قال محمد بن إسحاق الأصبهاني «1» : سمعت مشايخنا بمصر يقولون: إن أبا عبد الرحمن فارق مصر في آخر عمره، وخرج إلى دمشق فسئل عن معاوية وما روي من فضائله، فقال: أما يرضى معاوية أن يخرج رأسا برأس حتى يفضل.
وفي رواية أخرى: ما أعرف له فضيلة إلا" لا أشبع الله بطنك «2» " وكان يتشيع، فما زالوا يدفعون في خصييه حتى أخرجوه من المسجد، ثم حمل إلى الرملة فمات بها.
وقال الدارقطني: لما امتحن النسائي بدمشق، قال: احملوني إلى مكة، فحمل إليها، فتوفي بها، وهو مدفون بين الصفا والمروة.
وكانت وفاته في شعبان سنة ثلاث وثلاثمائة.
وقال أبو نعيم: كان قد صنف كتاب الخصائص في فضائل علي بن أبي طالب وأهل البيت، وأكثر روايته فيه عن أحمد بن حنبل، فقيل له: ألا تصنف كتابا في فضل الصحابة؟.
فقال: دخلت دمشق والمنحرف عن علي كثير، فأردت أن يهديهم الله بهذا الكتاب، وكان يصوم يوما، ويفطر يوما، وكان مليح الوجه ظاهر الدم مع كبر(5/447)
السن، يؤثر لباس البرود النوبية «1» والخضر «2» ، ويكثر الاستماع «3» ، ويكثر أكل الديوك الكبار، تشترى له وتخصى وتسمن، وكان موصوفا بكثرة الجماع.
قال ابن عساكر: كان له أربع زوجات يقسم لهن وسراري.
وقال ابن يونس في تاريخ مصر: قدم أبو عبد الرحمن النسائي مصر قديما، فكان إماما في الحديث ثقة ثبتا حافظا، وخرج من مصر في ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثمائة، ثم حكى وفاته كما قدمناه «4» .
قال ابن خلكان «5» : ورأيت في مسوداتي أن مولده بنسا سنة خمس عشرة ومائتين.(5/448)
ومنهم:
88- أبو جعفر «1» الطبري
«2» محمد بن جرير بن يزيد (ص 180) بن كثير «3» الإمام العلم الفرد صاحب التصانيف، فلا لمخر «4» البيداء، ولحر يهب ظلم الليلة السوداء، بل ركب جنح غمامها المربدّ «5» ، وقبل ثغر برقها المبيض، عارضه المسود، وقذف في فائض بحره سفنه، ومدّ مع عارض فجره سنه «6» ، وألقى حبل حوزائه «7» على(5/449)
غاربه «1» ، وحدا «2» ظعن «3» ظلماته إلى مغاربه، وأقبل يشق الأرض شقا، ويمشق «4» حروف المطي في سطر المهمه «5» الممتد مشقا، لا يدع سهلا حتى يطوي ذيل نمرقه «6» ، ولا جبلا حتى يغصه فوق مفرقه، ولا بحرا إلا قطعه، ولا ألا إلا قطّعه، إلى أن لقي بغيته وأحرزها، ومطلبه وحصل جواهره وكنزها، لكنها علوم نافعة، وغيوم ناقعة «7» ، وحديث نبوي جمع أطرافه، وضم أطرافه، حتى صنف التفسير الذي صدقت فيه الأحلام وسبقت لتلقيه الأقلام، أنقذ به من الضلالات، وأخرج إلى نور المعرفة من ظلم الجهالات، وأقام به الحق بأوضح الدلالات بفرط اجتهاد شق به الصديعين «8» ، وشد رحلة الشتاء والصيف والربيعين، ولم ير هلال شهر ثم عرف متى انمحق «9» ، ولا كيف اتصل بالعدم والتحق، لشواغله بالطلب الذي لا ينتهي والأرب الذي بغيره لا يلتهي، والفضل(5/450)
المكتسب الذي لو قال له: ما مناك في الدنيا؟ لقال: أنت هي. ولا كان تخاط جفنة «1» بغرار «2» ولا يحاط قلبه بقرار، ولا يزال يهمه رجل يلقاه، وعلم لا يضره أنه يحصله، ويموت إذا أبقاه.
قال أبو بكر الخطيب: كان ابن جرير أحد الأئمة «3» يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله، وجمع العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظا لكتاب الله «4» بصيرا بالمعاني فقيها في أحكام القرآن (ص 181) عالما بالسنن وطرقها، سقيمها وصحيحها، ناسخها ومنسوخها، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين «5» ، بصيرا بأيام الناس وأخبارهم، له الكتاب المشهور الكبير في تاريخ الأمم «6» ، وله كتاب التفسير الذي لم يصنف مثله، وله كتاب تهذيب الآثار لم أر مثله في معناه «7» ولم يتمه، وله في الأصول والفروع كتب كثيرة «8» ، وله اختيار من أقاويل الفقهاء، وقد تفرد بمسائل حفظت عنه، قيل: إن المكتفي «9» أراد أن يقف وقفا يجتمع عليه أقاويل العلماء، قال: فأحضر له ابن(5/451)
جرير، فأملى عليهم كتابا لذلك، فأخرجت له جائزة، فلم يقبلها، فقيل له: فلا بد من قضاء حاجة، قال: أسأل أمير المؤمنين أن يأمر بجمع السائلين من الفقراء يوم الجمعة- يعني في المساجد- ففعل ذلك.
وكذا التمس منه الوزير أن يعمل له كتابا في الفقه، فلما ألّفه، وجه إليه ألف دينار، فردها.
وقيل: مكث أربعين سنة يكتب كل يوم أربعين ورقة.
وقال تلميذه أبو محمد الفرغاني «1» : حسب تلامذة أبي جعفر منذ احتلم إلى أن مات، فقسموا على المدة مصنفاته، فصار لكل يوم أربع عشرة ورقة.
وقال أبو حامد الإسفراييني «2» : لو سافر رجل إلى الصين في تفسير ابن جرير لم يكن كثيرا.
وقال أبو بكر بن خزيمة «3» : ما أعلم على أديم الأرض أعلم من محمد بن جرير.(5/452)
وقال الفرغاني: كان ابن جرير لا تأخذه في الله لومة لائم مع عظم ما يؤذى، فأما أهل الدين، والعلم فغير منكرين عمله، وزهده، ورفضه للدنيا، وقناعته بما يجيئه من حصة خلفها له أبوه بطبرستان.
وقال عبيد الله بن أحمد السمسار: قال ابن جرير- يوما- لأصحابه: هل تنشطون لتاريخ العالم. قالوا: كم يجيء؟ فذكر نحو ثلاثين ألف ورقة (ص 182) قالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه، فقال: إنا لله، ماتت الهمم، فأملاه في نحو ثلاثة آلاف ورقة.
ولما أراد أن يملي التفسير، قال لهم كذلك، ثم أملاه على نحو من التاريخ.
وقال الفرغاني: بث ابن جرير مذهب الشافعي ببغداد سنين، واقتدى به، ثم اتسع علمه، وأداه اجتهاده إلى ما اختار في كتبه، وعرض عليه القضاء، فأبى.
وقال ابن جرير: من قال: إن أبا بكر وعمر ليسا بإمامي هدى يقتل.
توفي «1» عشية الأحد ليومين بقيا من شوال سنة عشر وثلاثمائة، ودفن بداره برحبة يعقوب. [وشيعه إلى المسجد، ثم إلى القبر خلق لا يحصرون، وصلى على قبره عدة شهور، ورثاه أهل الأدب والدين»
] ، وكان السواد فيه كثيرا، ولم يغير شيبه، وكان أسمر إلى الأدمة، أعين «3» ، نحيف الجسم فصيحا.(5/453)
ومنهم:
89- محمد بن إسحاق بن خزيمة «1» أبو بكر السّلمي النيسابوري
«2» إمام الأئمة، شيخ الإسلام، ومن شهد له خزيمة فحسبه «3» ، ومن جحد فضله فجحوده حصبه «4» ، فاحت خزامى «5» تصانيفه مما قصم دونه القيصوم «6» ، وتحدر عن لمم الشيح «7» لؤلؤ الطل المنظوم، وغدا بها أبو بكر من كل تصنيف وأخو كل عذراء، من كل معنى لطيف، وهيّج بها كل وجد، وجاء يقص بها الأخبار عمن حل بنجد، فما انتظر بها جفن صب خيالا من أميمة، ولا أنكر(5/454)
شنشنة «1» قال: أعرف هذه من أخزم ولا شيمة «2» ، قال: وهذه أعرفها من ابن خزيمة.
ولد سنة ثلاث وعشرين ومائتين، وعني بهذا الشأن في الحداثة، وسمع فأكثر، وجوّد، وصنّف، واشتهر اسمه وانتهت إليه الإمامة والحفظ بخراسان، وحدّث عنه الشيخان في غير الصحيحين، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم «3» أحد شيوخه، وخلق لا يحصون.
قال ابن خزيمة: كنت إذا أردت (ص 183) أن أصنف الشيء دخلت في الصلاة مستخيرا حتى يفتح لي فيها، ثم أبتدئ ثمّ.
قال أبو عثمان الزاهد: إن الله ليدفع البلاء عن أهل نيسابور بابن خزيمة.
وسئل ابن خزيمة: من أين أتيت العلم؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ماء زمزم لما شرب له «4» » وإني لما شربت ماء زمزم سألت الله علما نافعا.(5/455)
وقيل له: لو حلقت شعرك في الحمّام، فقال: لم يثبت عندي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل حماما، ولا حلق شعره- يعني في غير حج أو عمرة- إنما يأخذ شعري جارية لي بالمقراض.
وقال حفيده محمد بن الفضل بن أبي بكر «1» : كان جدي لا يدّخر شيئا جهده، بل ينفقه على أهل العلم ولا يعرف الشّحّ، ولا يميز بين العشرة والعشرين.
وقال أبو أحمد حسينك «2» : سمعت أبا بكر بن خزيمة يحكي عن علي بن(5/456)
خشرم «1» عن ابن راهويه «2» أنه قال: أحفظ سبعين ألف حديث، فقلت لأبي بكر: فكم يحفظ الشيخ، فضربني على رأسي، وقال: ما أكثر فضولك، ثم قال:
يا بني ما كتبت سوادا في بياض إلا وأنا أعرفه.
وقال أبو علي النيسابوري: كان ابن خزيمة يحفظ الفقهيات من حديثه كما يحفظ القارئ السورة.
وقال أبو حاتم محمد بن حبان: ما رأيت على وجه الأرض من يحسن صناعة السنن، ويحفظ ألفاظها الصحاح، وزياداتها حتى كأن السنن كلها بين يديه إلا ابن خزيمة فقط.
وحكى أبو بشر القطان: أن جارا- من أهل العلم- لابن خزيمة رأى كأن لوحا عليه صورة نبينا صلى الله عليه وسلم وابن خزيمة يصقله، فقال المعبر: هذا رجل يحيي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن سريج «3» :- وذكر له ابن خزيمة- فقال: يستخرج النكت من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنقاش (ص 184) .
وقال الحاكم- في علوم الحديث «4» -: فضائل ابن خزيمة مجموعة عندي في(5/457)
أوراق كبيرة، ومصنفاته تزيد على مائة وأربعين كتابا سوى المسائل المصنفة، وهي أكثر من مائة جزء، وله في فقه حديث بريرة «1» في ثلاثة أجزاء.
وسئل ابن أبي حاتم [عنه] «2» ، فقال: ويحكم، هو يسأل عنا، ولا نسأل عنه، وهو إمام يقتدى به.
توفي في ذي القعدة سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، وهو في تسع وثمانين سنة.(5/458)
ومنهم:
90- أبو عوانة «1» الإسفراييني
«2» يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم بن يزيد النيسابوري «3» الحافظ صاحب المسند الصحيح «4» المخرج على كتاب مسلم بن الحجاج «5» ، المسلم إليه في الاحتجاج، الإسفراييني الذي ما حط له رحل من سفر، ولا حل له عقد منى إلا عن ظفر، ولا تجنّب ناحية من الأرض إلا وهو نحو أخرى يريدها، ولا أقل مدة مقام في بلد إلا لمدة في سواها يستزيدها، رميت الفجاج منه بحليم، يوقر بوخد «6» مطيه(5/459)
سفهها، وعليم يجلي بصدق يقينه مشتبهها، طاف البلاد حتى ملت من سراه، وواصل الأيام حتى يئست الليالي من كراه، «1» وانتهت السباسب «2» وخدا، وأفنى الحقائب «3» شدا، وطلب الحديث فحصله حتى صار سواء عليه ما أعاد، وما أبدى.
طاف الشام، ومصر، والبصرة، والكوفة، وواسط، والجزيرة، وأصبهان، وفارس، والري، والحجاز، واليمن، وحج خمس مرات.
قال الحاكم: أبو عوانة من علماء الحديث، وأثباتهم، ومن الرحالة في أقطار الأرض لطلب الحديث.
توفي سنة ست عشرة وثلاثمائة «4» ، وقبره بإسفرايين مزار العالم، ومتبرك الخلق.(5/460)
ومنهم:
91- عبد الله بن أبي داود «1» - سليمان بن الأشعث- الأزدي السجستاني
«2» (ص 185) أبو بكر العلامة قدوة المحدثين صاحب التصانيف والمقتدر على حسن التصريف، رحل رحلة بعدت أطرافا، وعقدت على مشرق الشمس ومغربها طرافا وعمدت إلى الأرض من جانبيها تحاول عليها إشرافا، وتقاول على طرفيها إسرافا، ثم قال «3» في بلد دار الخلافة، وقال: ولا مخافة، وأملى وما أمل، وقال ما لا قلّ، وجلب طريف الحديث إلى تلك السوق، وطفق يحث الركاب مسحا بالأعناق والسوق «4» ، وحل ببغداد، وأشامها «5» ، وقال: لا مسك الأين والتعب بعدها يا نوق.
ولد بإقليم سجستان، سنة ثلاثين ومائتين وسمع سنة أربعين باعتناء أبيه ولذكائه بخراسان والعراق، والحرمين ومصر والشام، وغير ذلك، وبرع وساد(5/461)
الأقران، وحدث عنه خلق كثير.
قال الخطيب: رحل به أبوه من سجستان فطوف به شرقا وغربا يسمع ويكتب، واستوطن بغداد وصنف المسند والسنن والتفسير والقراءات، والناسخ والمنسوخ، وغير ذلك، وكان فقيها عالما حافظا.
قال عبد الله بن أبي داود: دخلت الكوفة ومعي درهم واحد فاشتريت به ثلاثين مد «1» باقلا «2» ، فكنت آكل منه وأكتب عن الأشج «3» ، فما فرغ الباقلا حتى كتبت عنه ثلاثة آلاف حديث ما بين مقطوع «4» ومرسل «5» .
قال أبو بكر بن شاذان: قدم ابن أبي داود أصبهان- وفي نسخة سجستان- فسألوه أن يحدثهم، فقال: ما معي أصل، فقالوا: ابن أبي داود، وأصل؟! قال:
فأثاروني، فأمليت عليهم من حفظي ثلاثين ألف حديث، فلما قدمت بغداد، قال البغداديون: مضى إلى سجستان ولعب بهم، ثم فيجوا فيجا «6» اكتروه بستة(5/462)
دنانير إلى سجستان ليكتب لهم النسخة، فكتبت وجيء بها وعرضت (ص 186) على الحفاظ، فخطئوني في ستة أحاديث ثلاثة منها حدثت بها كما حدثت، وثلاثة أخطأت فيها «1» .
وقال الحاكم: سمعت أبا علي الحافظ «2» يقول: ألزموني فحدثت من حفظي بأصفهان بستة وثلاثين ألفا، الوهم منها في سبعة أحاديث، فلما انصرفت وجدت في كتابي خمسة منها على ما كنت حدثتهم به.
وقال الحافظ أبو بكر الخلال «3» : كان ابن أبي داود أحفظ من أبيه.
وقال صالح بن أحمد الهمذاني «4» الحافظ: كان ابن أبي داود إمام أهل العراق ونصب له السلطان المنبر، وكان في وقته في العراق مشايخ أسند منه، ولم يبلغوا في الآلة والإتقان ما بلغ هو.
وقال ابن شاهين «5» : أملى علينا ابن أبي داود، وما رأيت بيده كتابا إنما كان(5/463)
يملي حفظا، وكان يعقد على المنبر بعد ما عمي، ويقعد دونه بدرجة ابنه بيده كتاب، فيقول له: حديث كذا فيسرده من حفظه، حتى يأتي على المجلس. قرأ علينا يوما حديث القنوت من حفظه، فقام أبو تمام الزينبي، وقال: لله درك ما رأيت مثلك إلا أن يكون إبراهيم الحربي «1» ، فقال: كل ما كان يحفظ إبراهيم الحربي، فأنا أحفظه، وأنا أحفظ النجوم وما كان يعرفها.
وكان أبو بكر مع سعة علمه قوي النفس مدلا «2» .
حكى أبو حفص بن شاهين أن علي بن عيسى الوزير «3» أراد أن يصلح بين ابن أبي صالح «4» وبين ابن أبي داود، فجمعهما، وحضر أبو عمر(5/464)
القاضي «1» ، فقال الوزير: يا أبا بكر، أبو محمد أكبر منك، فلو قمت إليه، قال: لا أفعل، فقال الوزير: أنت شيخ زيف «2» ، قال: الشيخ الزيف الكذاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الوزير: من الكذاب على رسول الله؟ قال: هذا، ثم قام، وقال: تتوهم أني أذل لك لأجل رزقي، وأنه يصل على يدك؟ والله لا أخذت من يدك (ص 187) شيئا.
قال: وكان المقتدر «3» يزن رزقه بيده، ويبعث به في طبق على يد الخادم، وكان قد روى شيئا من قول النواصب، فأخطأ بنقله، فشنع عليه أنه نال من علي رضي الله عنه فسعي في قتله، فخلصه من القتل عبد الله بن حفص الذكواني «4» ، ونقله ابن الفرات «5» من بغداد إلى واسط، ثم رده علي بن(5/465)
عيسى، فحدث، وأظهر فضائل علي، ثم تحنبل، فصار شيخا فيهم.
قال محمد بن عبيد الله بن الشخير: كان ابن أبي داود زاهدا ناسكا، صلى عليه يوم مات نحو من ثلاثمائة ألف إنسان، وأكثر، ومات في ذي الحجة سنة ست عشرة، وثلاثمائة، وله سبع وثمانون سنة، وصلي عليه ثمانون مرة «1» .
ومنهم:
92- عبد الرحمن بن أبي حاتم «2» محمد بن إدريس بن المنذر التميمي الحنظلي الرازي أبو محمد
شيخ الإسلام، سنىّ لتميم طريق الفخار، وسنّ لها عدم الفرار، وزاد كرم أسرتها المفضلة، وأعذب مشارعها «3» ، فحلى مر، ولم يعد الحلاوة حنظلة،(5/466)
ولدت منه تميميا لا ينبو منه سيغها «1» ، ولا يجفو حلم الزابن «2» طيفها، كفاك به، وحبك رجلا، ملأ قلوبا، وجلا، طاف البلاد، وجاء بالحديث عجلا وطاب مجناه «3» كأنما قطف نواره «4» بكرا، وقاله مرتجلا.
ولد سنة أربعين ومائتين، وارتحل به أبوه، فأدرك الأسانيد العالية، وسمع بالأقاليم خلائق لكنه لم يرحل إلى خراسان.
قال أبو يعلى الخليلي «5» : أخذ علم أبيه، وأبي زرعة، وكان بحرا في العلوم، ومعرفة الرجال، صنف في الفقه، واختلاف الصحابة والتابعين، وكان زاهدا يعد من الأبدال «6» ، «7» وكتابه في الجرح والتعديل يقضي له بالرتبة المنيفة في الحفظ (ص 188) ، وكتابه في التفسير عدة مجلدات، وله مصنف(5/467)
كبير في الرد على الجهمية «1» يدل على إمامته «2» .
قال علي بن أحمد الفرضي: ما رأيت أحدا ممن عرف عبد الرحمن ذكر عنه جهالة قط. ويروى أن أباه كان يعجب من تعبد عبد الرحمن، ويقول: من يقوى على عبادة عبد الرحمن لا أعرف له ذنبا.
وقال علي بن إبراهيم الرازي الخطيب: كان عبد الرحمن قد كساه الله بهاء ونورا يسرّ به من نظر إليه.
سمعته يقول: رحل بي أبي سنة خمس وخمسين، وما احتلمت بعد، فلما بلغنا ذا الحليفة «3» احتلمت، فسر أبي «4» حيث أدركت حجة الإسلام.
وقال ابن أبي حاتم: كنا بمصر سبعة أشهر، لم نشرب فيها مرقة، نهارنا ندور على الشيوخ، وبالليل ننسخ، ونقابل، فأتينا يوما أنا ورفيق لي شيخا، فقالوا: هو(5/468)
عليل، فرأينا سمكة أعجبتنا، فاشتريناها، فلما صرنا إلى البيت حضر وقت مجلس بعض الشيوخ، فمضينا، فلم تزل السمكة ثلاثة أيام، وكادت تتغير، فأكلناها نية، ولم نتفرغ نشويها، ثم قال: لا يستطاع العلم براحة الجسد.
وقال ابن أبي حاتم: وقع عندنا الغلاء، فأنفذ بعض أصدقاء لي حبوبا من أصبهان، فبعته بعشرين ألفا، وقال: اشتر لي بها دارا، فأنفقتها على الفقراء، وكتبت إليه: اشتريت لك بها قصرا في الجنة، فقال: رضيت إن ضمنت.
فكتبت على نفسي صكا بالضمان، فأريت في المنام: قد قبلنا ضمانك، ولا تعد لمثل هذا «1» .
وقال محمد بن مهرويه «2» : سمعت ابن الجنيد «3» يقول: سمعت يحيى بن معين: إنا لنطعن على أقوام لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة من مائتي سنة «4» .
قال محمد بن مهرويه: فدخلت على ابن أبي حاتم، وهو يحدث بكتاب الجرح والتعديل، فحدثته بهذا، فبكى، وارتعدت (ص 189) يداه، وسقط الكتاب، وجعل يبكي، ويستعيدني الحكاية «5» .
توفي في المحرم سنة سبع وعشرين وثلاثمائة.(5/469)
ومنهم:
93- أحمد بن محمد بن سعيد أبو العباس الكوفي
«1» - مولى بني هاشم «2» - المعروف بابن عقدة «3» . حافظ العصر، والمحدث البحر، والمصيب في اللبة «4» والنحر، لولا كثرة تخليطه، وتسليط نار الأعداء على سليطه «5» ، لكان قبسا لهدى، وملتمسا لندى، لكنه خبط العشواء «6» ،(5/470)
وخطب عقيلة الشمس العشاء «1» ، فحبط عمله أو كاد، وأنبت أمله أو ماد «2» ، ونسب إليه الرفض «3» ، والله أعلم ببواطن الاعتقاد، والله المجازي، وإنما للناس الانتقاد «4» حدث عن أمم لا يحصون، وكتب العالي «5» والنازل «6» والحق والباطل، حتى كتب عن أصحابه، وكان إليه المنتهى في قوة الحفظ، وكثرة الحديث، وصنف وجمع، وألف في الأبواب «7» والتراجم، ورحلته قليلة، فلهذا كان يأخذ عن الذين رحلوا إليه، ولو صان نفسه وجوّد لضربت إليه أكباد الإبل، ولضرب بإمامته المثل، لكنه جمع فأوعى، وخلط الغث «8» بالسمين «9» ، والخرز بالدر الثمين، ونسب إلى التشيع «10» فمقت.(5/471)
قال الدارقطني: أجمع أهل الكوفة أنه لم ير بالكوفة من زمن ابن مسعود إلى زمن ابن عقدة أحفظ منه.
وقال أبو أحمد الحاكم «1» : قال لي ابن عقدة: دخل البرديجي «2» الكوفة، فزعم أنه أحفظ، فقلت: لا تطوّل، نتقدم إلى دكان وراق، ونزن بالقبان من الكتب ما شئت، ثم يلقى علينا، قال: فبقي «3» .
وقال الدارقطني: قال ابن عقدة: أنا أجيب في ثلاثمائة ألف حديث من حديث أهل البيت وبني هاشم.
وقال ابن عقدة: أحفظ مائة ألف حديث بأسانيدها.
وقال الدارقطني: يعلم ما عند الناس، ولا يعلم (ص 190) الناس ما عنده.
وقال أبو سعد الماليني «4» : أراد ابن عقدة أن ينتقل، فكانت كتبه ستمائة حملة «5» .(5/472)
مولده سنة تسع وأربعين ومائتين، وتوفي سنة إحدى، وقيل: سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة.
ومنهم:
94- محمد بن حبان بن أحمد بن حبان «1» الحافظ العلامة أبو حاتم التميمي «2» البستي
«3» صاحب كتاب الانواع والتقاسيم «4» ، وهو الذي ما سبقه إلى مثله مؤلف،(5/473)
ولا سمق «1» فرع برق إلا وقلمه له ورآه مخلّف، وضرب مؤلفه سرادقه «2» في علياء العلم على رباه، واحتبى «3» مصنفه له فما حلت سوى الفرائض حباه، وسرت نوافحه فود «4» مسكي السحر لو غلف به صباه، وتمكن حب حباته من القلوب، فلم يبق سويداء قلب إلا أمدت نقشه «5» ، ولا سواد طرف إلا حباه بكر ما افترعته «6» كف حادثه لتأليف، ولا اخترعته فكرة قريحه، وإنما هو بنص الحديث لا بتزويق التصنيف، سمع أمما لا يحصون من مصر إلى خراسان، وحدث عنه خلق.
قال أبو سعد الإدريسي: كان على قضاء سمرقند زمانا، وكان من فقهاء الدين، وحفاظ الآثار عالما بالظن والنجوم، وفنون العلم. صنف المسند الصحيح، والتاريخ، وكتاب الضعفاء «7» ، وفقه الناس بسمرقند.(5/474)
وقال ابن حبان في كتاب الأنواع: لعلنا قد كتبنا عن أكثر من ألفي شيخ «1» .
وقال الحاكم: كان ابن حبان من أوعية العلم في الفقه واللغة، والحديث والوعظ، ومن عقلاء الرجال.
وذكره ابن الصلاح «2» في طبقات الشافعية، وقال: ربما غلط الغلط الفاحش في تصرفاته.
توفي في شوال سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، وهو في عشر الثمانين (ص 191) .(5/475)
ومنهم:
95- أبو بكر «1» بن الجعابي «2»
واسمه: محمد بن عمر بن محمد بن سلم التميمي البغدادي قاضي الموصل، الحافظ فريد الزمان، ولسان الإحسان وإن مان من مان «3» ، رمي بأنه كان يتشيع، ومضى إلى الله واتبع لهذا القول يتتبع، جرح وهو لا يتكعكع «4» ، وطعن فيه وهو لا يتضعضع، وتكلم فيه الناس، ومن هو الذي من أيديهم سلم! أو بمضارب ألسنتهم الحداد ما ثلم «5» ، من رام منهم السلامة طلب شططا «6» ، وظن غلطا، وضل (وكان أمره فرطا) «7» هيهات، هل هم إلا نار تأكل بعضها بعضا، وفأر تأكل نابا بناب قرضا، وقالوا: رافضي. أكلّ من أحب آل بيت محمد سموه بهذا، وسموا حبه رفضا؟! سمع، وصنف الأبواب والشيوخ، والتاريخ،(5/476)
وحدث عنه الدارقطني، وابن شاهين «1» ، وابن رزقويه «2» ، وأبو عبد الله الحاكم «3» ، وأبو نعيم «4» الحافظ- وهو خاتمة أصحابه- وخلق.
قال أبو علي النيسابوري: ما رأيت في أصحابنا أحفظ من أبي بكر الجعابي، وذلك أني حسبته من البغداديين الذين يحفظون شيخا واحدا، وترجمة واحدة، أو بابا واحدا، فقال لي أبو إسحاق بن حمزة «5» يوما: يا أبا علي لا تغلط، ابن الجعابي يحفظ حديثا كثيرا، قال: فخرجنا يوما من عند ابن صاعد «6» ، فقلت له: يا أبا بكر إيش أسند الثوري «7» عن منصور «8» ، فمر بي في الترجمة، فما زلت أجره من مصر إلى حديث الشام إلى العراق، وإلى أفراد الخراسانيين، وهو يجيب إلى أن قلت: فإيش(5/477)
روى الأعمش «1» عن أبي صالح «2» عن أبي هريرة «3» ، وأبي سعيد «4» بالشركة، فذكر بضعة عشر حديثا، فحيرني حفظه.
وقال ابن الجعابي: دخلت الرقة وكان لي ثمّ قمطرين «5» كتب، فجاء غلامي مغموما، وقال: ضاعت الكتب، فقلت: يا بني لا تغتم (ص 192) فإن فيها مائتي ألف حديث لا يشكل علي منها [حديث] لا إسناده ولا متنه «6» .
وقال أبو علي التنوخي «7» : ما شاهدنا أحدا أحفظ من أبي بكر ابن الجعابي، وسمعت من يقول: إنه يحفظ مائتي ألف حديث، ويجيب في مثلها، وكان يفضل الحفاظ بأنه كان يسوق المتون بألفاظها، وأكثر الحفاظ يتسمحون في ذلك، وكان إماما في معرفة العلل، وثقات الرجال، وتواريخهم، وما يطعن على الواحد منهم، لم يبق في زمانه من يتقدمه.(5/478)
وروى الخطيب بسنده عن الجعابي قال: أحفظ أربع مائة ألف حديث، وأذاكر بستمائة ألف حديث.
[وقال الخطيب: سمعت ابن رزقويه «1» يقول: كان ابن الجعابي يمتلئ مجلسه، وتمتلئ السكة التي يملي فيها، والطريق، ويحضر ابن المظفر «2» ، والدارقطني «3» ، ويملي الأحاديث بطرقها من حفظه.] .
وروى عن رجاله «4» أن الجعابي كان يشرب في مجلس ابن العميد.
وقال السلمي «5» : سألت الدارقطني عن ابن الجعابي، فقال: خلط، وذكر مذهبه في التشيع.
قال الدارقطني: وحدثني ثقة أنه خلي ابن الجعابي نائما «6» ، قال: فكنت أراه ثلاثة أيام لم يمسه الماء.(5/479)
قال الأزهري «1» : لما مات ابن الجعابي أوصى أن تحرق كتبه، فأحرقت، فكان فيها كتب الناس، فحدثني أبو الحسين ابن البواب: أنه كان له عنده مائة وخمسون جزءا، فذهبت في جملة ما احترق.
وقال محمد بن عبيد الله المسبحي «2» : كان ابن الجعابي قد صحب قوما من المتكلمين، فسقط عند كثير من المحدثين، وأمر عند موته أن تحرق دفاتره بالنار، فاستقبح ذلك منه.
وكان وصل إلى مصر، ودخل إلى الإخشيد «3» ، ثم مضى إلى دمشق، فوقفوا على مذهبه فشردوه، فخرج هاربا.
قال ابن شاهين «4» : دخلت أنا وابن المظفر «5» والدارقطني على ابن الجعابي وهو مريض، فقلت له: من أنا؟ قال: سبحان الله، ألستم فلانا وفلانا، وسمانا، فدعونا وخرجنا (ص 193) .(5/480)
فمشينا خطوات وسمعنا الصائح بموته، ورجعنا من الغد، فرأينا كتبه تل رماد.
توفي ابن الجعابي ببغداد في رجب سنة خمس وخمسين وثلاثمائة.
قال الأزهري: كانت سكينة نائحة الرافضة «1» تنوح في جنازته، ومولده في صفر سنة أربع وثمانين ومائتين.(5/481)
ومنهم:
96- سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي «1» الشامي الطبراني
«2» . أبو القاسم، مسند الدنيا، وآية الزمان الكبرى، خاض القفار لا يتخشى «3» زاخرها، ولا يتخشع «4» أولها، ولا آخرها، بعزيمة لا يفل «5» مضربها، ولا يفك مضرّبها، ولا تنقص من السفر نهمتها «6» ، ولا تفرغ من الوطر «7» همته، يركب الحزن «8» ، والسهل، ويبعث عند الأجنبي والأهل، ويقطع بها الليل، لا يلائم(5/482)
جنبه أرضا، ولا يطعم جفنه غمضا، ولا يعد الغربة إلا إذا كان في وطنه مبوّءا «1» ، وفي سكنه مهنّأ، حرصا على طرائف الفائدة، وطلبا للمعارف الزائدة، حتى حصل من الحديث ما أوقر «2» منه أثباج «3» الإبل، وملأ حضن «4» المحتبل «5» ، وحفظ منه الخلف نعم ما أحرزه السلف، وأتى منه بهدى ضل بعده من شك، أو اختلف.
ولد سنة ستين ومائتين، وسمع سنة ثلاث وسبعين، وهلم جرا بمدائن الشام، والحرمين، واليمن، ومصر، وبغداد، والكوفة، والبصرة، وأصبهان، والجزيرة، وغير ذلك، وحدث عن ألف شيخ، أو يزيدون، وصنف المعجم الكبير، وهو المسند، سوى حديث أبي هريرة، فكأنه أفرده في مصنف، والمعجم الأوسط في ست مجلدات كبار على معجم شيوخه، يأتي عن كل شيخ بما له من الغرائب، والعجائب، فهو نظير كتاب الأفراد للدارقطني، بيّن فيه فضيلته، واسعة روايته، وكان يقول: (ص 194) هذا الكتاب روحي، فإنه تعب فيه، وفيه كل نفيس، وعزيز، ومبتكر، وصنف المعجم الصغير، وهو عن كل شيخ له(5/483)
حديث واحد، وصنف من المسانيد، وغيرها شيئا كثيرا، وكان من فرسان هذا الشأن مع الصدق والأمانة، وسئل عن كثرة حديثه، فقال: كنت أنام على البواري «1» ثلاثين سنة.
وقال أبو نعيم: دخل الطبراني أصبهان سنة تسعين، فسمع، وسافر، ثم قدمها، فاستوطنها ستين سنة.
وقال ابن فارس «2» - صاحب اللغة-: سمعت الأستاذ ابن العميد «3» يقول:
ما كنت أظن أن في الدنيا كحلاوة الوزارة، أو الرئاسة التي أنا فيها حتى شاهدت مذاكرة الطبراني، وابن الجعابي بحضرتي، فكان الطبراني يغلبه بكثرة حفظه، وكان أبو بكر الجعابي يغلبه بفطنته حتى ارتفعت أصواتهما، فقال ابن الجعابي:
عندي حديث ليس في الدنيا إلا عندي، فقال: هات. فقال: حدثنا أبو خليفة «4» ، حدثنا سليمان بن أيوب ... وذكر حديثا، فقال الطبراني: فأنا(5/484)
سليمان بن أيوب، ومني سمعه أبو خليفة، فاسمعه مني عاليا، فخجل ابن الجعابي، فوددت أن الوزارة لم تكن، وكنت أنا الطبراني، وفرحت كفرحه.
وقال ابن عقدة «1» : ما أعرف لسليمان بن أحمد نظيرا.
توفي لليلتين بقيتا من ذي القعدة سنة ستين وثلاثمائة، وقد كمل من العمر مائة عام، وعشرة أشهر.
ومنهم:
97- «2» أبو الحسن الدارقطني
«3» واسمه: علي بن عمر بن أحمد بن مهدي البغدادي الحافظ المشهور.
والحامل راية الرواية إلى يوم النشور، الدارقطني، ولا قطن إلا ما رآه بياضا من نور شيب الإسلام، أو نشره من صحيفته البيضاء بأيدي الملائكة الكرام، أو طهربه(5/485)
قلبه الأبيض المطهر (ص 195) من دنس الآثام، أو بدا من عرضه النقي في غرر الأيام، أو غسل به من جبال فيها من برد «1» ، أو ندفه من قطن الثلج قوس الغمام، ابن مهدي الذي ما عدل عن آثار مهديه، ولا عدا طريقة سلف له من أهل العلم، ويهاب كل منهم على انفراده، ويخضع له في نديه «2» .
كان عالما حافظا فقيها على مذهب الشافعي، أخذ الفقه عن أبي سعيد الإصطخري «3» ، وقيل: بل أخذه عن صاحب لأبي سعيد، وأخذ القراءة عرضا، وسماعا عن النقاش «4» ، ومن في طبقته، وتصدر في آخر أيامه للإقراء ببغداد «5» ، وكان عارفا باختلاف الفقهاء، ويحفظ كثيرا من دواوين العرب منها: ديوان السيد الحميري «6» ، فنسب إلى التشيع لذلك، روى عنه الحافظ أبو(5/486)
نعيم «1» وجماعة كثيرة، وقبل القاضي ابن معروف «2» شهادته في سنة ست وسبعين وثلاثمائة، فندم على ذلك، وقال: كان يقبل قولي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بانفرادي، فصار لا يقبل قولي على نقلي إلا مع آخر.
وصنف كتاب السنن، والمختلف والمؤتلف، وغيرهما، وخرج من بغداد إلى مصر قاصدا أبا الفضل جعفر بن الفضل «3» ، وزير كافور الإخشيدي ليساعده على تأليف مسند عزم عليه الوزير، فأقام عنده مدة، وبالغ أبو الفضل في إكرامه، وأنفق عليه نفقة واسعة، وأعطاه شيئا، وحصل له بسببه مال جزيل ولم يزل عنده حتى فرغ المسند، وكان يجتمع هو والحافظ عبد الغني بن سعيد «4» على تخريجه إلى أن نجز.
قال الحافظ عبد الغني بن سعيد: أحسن الناس كلاما على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة:
علي بن المديني «5» في وقته(5/487)
وموسى بن هارون «1» في وقته، والدارقطني في وقته (ص 196) .
وسأل الدارقطني- يوما- بعض أصحابه: هل رأى الشيخ مثل نفسه، فامتنع من جوابه. وقال: قال الله تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ.
«2» فألح عليه، فقال: إن كان في فن واحد، فقد رأيت أفضل مني، وإن كان من اجتمع فيه ما اجتمع فيّ فلا.
وقال الحاكم: صار الدارقطني أوحد عصره في الحفظ والفهم، والورع، وإماما في القراء، والنحويين، وأقمت في سنة سبع وستين ببغداد أربعة أشهر، وكثر اجتماعنا، فصادفته فوق ما وصف لي، وسألته عن العلل والشيوخ وله مصنفات يطول شرحها فأشهد أنه لم يخلف على أديم الأرض مثله.
وقال الخطيب: انتهى إليه علم الأثر، والمعرفة بالعلل، وأسماء الرجال مع الصدق والثقة، وصحة الاعتقاد، والاضطلاع من علوم كالقراءات فإن له فيها مصنفا سبق إلى عقد الأبواب قبل فرش الحروف «3» ، وتأسى القراء به بعده، ومن ذلك المعرفة بمذاهب الفقهاء، بلغني أنه درس الفقه على أبي سعيد الإصطخري، ومنها المعرفة بالأدب والشعر، فقيل: كان يحفظ دواوين جماعة.
قال: وحدثني الأزهري «4» قال: بلغني أن الدارقطني حضر في حداثته(5/488)
مجلس إسماعيل الصفار، فقعد ينسخ، والصفار «1» يملي، فقال رجل: لا يصح سماعك وأنت تنسخ فقال: فهمي خلاف فهمك، أتحفظ كم أملى الشيخ؟
قال: لا أدري، قال، أملى ثمانية عشر حديثا، الحديث الأول عن فلان عن فلان، ومتنه كذا، والثاني عن فلان عن فلان ومتنه كذا، ومر في ذلك حتى أتى على الأحاديث، فتعجب الناس منه.. أو كما قال.
وقال أبو الطيب الطبري «2» : الدارقطني أمير المؤمنين في الحديث.
وجاء أبو الحسين البيضاوي إلى الدارقطني برجل غريب، وسأله أن يملي عليه أحاديث (197) فأملى عليه من حفظه مجلسا تزيد أحاديثه على العشرين، متون جميعها" نعم الشيء الهدية أمام الحاجة «3» " فانصرف الرجل، ثم جاءه بعد وقد أهدى له شيئا، فقربه وأملى عليه من حفظه سبعة عشر حديثا(5/489)
متونها" إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه" «1» «2»
مولده في ذي القعدة سنة ست وثلاثمائة، وتوفي يوم الأربعاء لثمان خلون من ذي القعدة- وقيل ذي الحجة- سنة خمس وثمانين وثلاثمائة ببغداد.
وصلى عليه أبو حامد الإسفراييني «3» الفقيه، ودفن قريبا من معروف الكرخي «4» .(5/490)
قال أبو نصر ابن ماكولا «1» : رأيت كأني أسأل عن حال الدارقطني في الآخرة، فقيل لي: ذلك يدعى في الجنة الإمام.
ومنهم:
98- محمد بن إسحاق بن محمد بن أبي زكريا يحيى بن منده
»
أبو عبد الله الإمام الحافظ الجوال، محدث العصر، تقاذفت المطي منه بجواب كل تنوفة «3» ، وجوّال كل مخوفة، ونزّال كل وهدة «4» بالماء محفوفة، وطلاع كل بلية بالسماء مكفوفة، حتى كادت تعرض به المهامه «5» ، وتدحض حجج سراه أقطار البر المتشابه، فلم يبق بلد لم يطأها منسمه «6» ، ولا جهة لم يشرق عليها(5/491)
منسمه، ولا ثغر ناحية لم يقبله في البرق الضاحك مبسمه إلى أن نظم البلاد سلكا، وركب إليها الركائب فلكا، واخترق إليها الفجاج، والرياح قد ألقت جنبها إلى الأرض، وأقبلت تشتكي، أوقرت كتبه الإبل وشق ظهورها، وأملت على الصحف ملء صدورها، وحدث عمن لقي وهيهات أن أحدا يؤبه إليه من أهل الأرض بقي.
ولد سنة عشر وثلاثمائة، وقيل: في التي تليها، وسمع بالبلاد من ألف وسبع مائة شيخ، ولما رجع من الرحلة الطويلة كانت كتبه (ص 198) عدة أحمال حتى قيل: إنها كانت أربعين حملا، وكان ختام الرحالين، وفرد المكثرين مع الحفظ والمعرفة والصدق، وكثرة التصانيف.
وقال الباطرقاني «1» : حدثنا أبو عبد الله إمام الأئمة في الحديث لقاه الله رضوانه.
وقال الحافظ أبو نعيم «2» - في تاريخه «3» -: هو حافظ، من أولاد المحدثين، اختلط في آخر عمره، وتخبط في أماليه، ونسب إلى جماعة أقوالا في المعتقدات لم يعرفوا بها، وهذا قول لا يعبأ به من الحاكم «4» للعداوة المشهورة بينه وبين ابن منده.(5/492)
وقال عبد الرحمن بن أبي عبد الله «1» : كتب أبي عن أربعة مشايخ أربعة آلاف جزء، وهم: ابن الأعرابي «2» ، والأصم «3» ، وخيثمة «4» ، والهيثم بن(5/493)
كليب «1» .
وقال جعفر المستغفري «2» : ما رأيت أحدا أحفظ من أبي عبد الله بن منده، سألته يوما: كم تكون سماعات الشيخ؟ قال: تكون خمسة آلاف من- والمن عشرة أجزاء كبيرة-.
وقال أحمد بن جعفر: كتبت عن أزيد من ألف شيخ ما منهم أحفظ من ابن منده.
وقال أبو إسماعيل الأنصاري «3» - شيخ هراة-: أبو عبد الله بن منده سيد أهل زمانه.
وقال الباطرقاني: سمعت أبا عبد الله يقول: طفت الشرق، والغرب مرتين.
توفي في سلخ ذي القعدة سنة خمس وتسعين وثلاثمائة.(5/494)
ومنهم:
99- أبو عبد الله الحاكم
«1» واسمه: محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نعيم الضبي «2» الطهماني «3» النيسابوري الحافظ المعروف بابن البيّع «4» .
له التصانيف، والأمالي، والأسانيد عن العوالي، لو بذلت تصانيفه للعيون لسرح فيها الأمل، أو ضنّت «5» أماليه على الأسماع لما كانت إلا صمّا كالجبل، بل لو تقدمت كتبه المصنفة لضببت «6» عليها ضبة أبوابها،(5/495)
وفضضت «1» بلجين قراطيسها (ص 199) البيض أحسابها، بل لو حملت معه في ذلك الأوان لقال قومه: نحن بنو ضبة أصحاب الجمل، وانتصروا بأقلامه إذ كتب، ولم يقولوا: نبغي ابن عفان بأطراف الأسل «2» ، بل لو تحاقت «3» البلاد، وتحاكمت في فضل الميلاد لقضت على ما سوى بلده نيسابور بأن تبور «4» ، وأذنت بأن كل بناء يحق له أن يهدم إلا ما شيّد بناءه سابور «5» ، بل لو تفاضلت الأوقات لأجمعت على وقته الفكر، وفضل بتصنيفه أمالي العشيات «6» سواد العشايا على بياض البكر «7» .
كان إمام الحديث في عصره، ألف فيه الكتب التي لم يسبق إلى مثلها، وتفقه على أبي سهل الصعلوكي الشافعي، ثم انتقل إلى العراق، وقرأ على أبي علي بن أبي هريرة الفقيه، ثم طلب الحديث، وسمعه سنة ثلاثين، وغلب عليه، فاشتهر به، وسمعه من جماعة لا يحصون كثرة، فإن معجم شيوخه يقرب من ألفي رجل، وصنف في علومه ما يبلغ ألفا وخمس مئة جزء «8» منها:(5/496)
الصحيحان «1» ، والعلل، والأمالي، وفوائد الشيوخ، وأمالي العشيات «2» ، وأملى بما وراء النهر سنة خمس وخمسين، وبالعراق سنة سبع وستين، وأما ما تفرد بإخراجه «3» : فمعرفة علم الحديث «4» ، وتاريخ علماء نيسابور، والمدخل إلى علم الصحيح، والمستدرك على الصحيحين، وما تفرد به كل واحد من الإمامين، وفضائل الإمام الشافعي «5» .
وله إلى الحجاز، والعراق رحلتان، وكانت الرحلة الثانية سنة ستين وثلاثمائة، وناظر الحفاظ، وذاكر الشيوخ، وكتب عنهم أيضا، وباحث الدارقطني، فرضيه، وتقلد القضاء بنيسابور سنة تسع، وخمسين وثلاثمائة في أيام الدولة السامانية «6» ، ووزارة أبي نصر العتبي «7» ، وقلد بعد ذلك قضاء جرجان،(5/497)
فامتنع، وكانوا ينفذونه في الرسائل إلى بني بويه «1» (ص 200) .
وقال عبد الغافر بن إسماعيل: أبو عبد الله الحاكم هو إمام أهل الحديث في عصره، العارف به حق معرفته، ولقد سمعت مشايخنا يذكرون أيامه، ويحكمون أن متقدمي عصره مثل الصعلوكي، وابن فورك «2» ، وسائر الأئمة يقدمونه على أنفسهم، ويراعون حق فضله، ويعرفون له الحرمة الأكيدة، وأطنب في تعظيمه.
وقال الخطيب: كان يميل إلى التشيع، جمع أحاديث، وزعم أنها صحاح على شرط البخاري، منها حديث الطير «3» ، وحديث" من كنت مولاه «4» ،(5/498)
فأنكرها عليه أصحاب الحديث، ولم يلتفتوا إلى قوله، وقد أخرج حديث الطير في المستدرك، قال ابن طاهر «1» : كان شديد التعصب للشيعة في الباطن، وكان يظهر التسنن في التقديم والخلافة، وكان منحرفا عن معاوية، وآله، ويتظاهر بذلك، ولا يعتذر منه، ومع هذا فهو معظم للشيخين بكل حال، فهو شيعي لا رافضي.
مولده في شهر ربيع الأول سنة إحدى وعشرين، وثلاثمائة بنيسابور، وتوفي بها يوم الثلاثاء ثالث صفر سنة خمس وأربع مائة.
وقال الخليلي «2» :- في كتابه الإرشاد- توفي سنة ثلاث، وأربع مائة، وكان دخل الحمام، واغتسل، وخرج، فقال: آه، وخرجت روحه، وهو متزر لم يلبس قميصه بعد.(5/499)
ومنهم:
100- أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق «1» بن موسى بن مهران المهراني «2» الأصبهاني الصوفي الأحول الحافظ.
صاحب كتاب" حلية الأولياء"، وراقي ذروة العلياء، محدث ضابط، ومؤرخ لا يفرط عليه فارط، مهر لأنه ابن مهران، ووطئ الجبال الصم لأنه سكن أصبهان، ضبط قلمه التاريخ، واقتصر به على أهل بلده، وأخذ الفوائد قبضا بيده، وأصبح به عراق العجم يهنئ أم ممالكه أصفهان بمولده، ولد سنة ست وثلاثين (ص 201) ، وثلاثمائة، وأجاز له مشايخ الدنيا سنة نيف، وأربعين، وثلاثمائة، وله ست سنين، وتهيأ له من لقي الكبار ما لم يقع لحافظ، وتفرد في الدنيا بالإجازات من جماعة، وبالسماع من آخرين، ورحلت الحفاظ إلى بابه لعلمه، وحفظه، وعلو أسانيده.
قال ابن مردويه «3» : كان أبو نعيم في وقته مرحولا إليه، لم يكن في أفق من(5/500)
الآفاق أحد أحفظ، ولا أسند منه، كان حفاظ الدنيا قد اجتمعوا عنده، وكل يوم نوبة واحد منهم يقرأ ما يريده إلى قرب الظهر، فإذا قام إلى داره ربما كان يقرأ عليه في الطريق جزء، وكان لا يضجر، لم يكن له غداء سوى التسميع، والتصنيف.
وقال حمزة بن العباس العلوي: بقي أبو نعيم أربع عشرة سنة بلا نظير، لا يوجد شرقا ولا غربا أعلى إسنادا منه، ولا أحفظ منه، وكانوا يقولون- لما صنف كتاب الحلية-: حمل في حياته إلى نيسابور فاشتروه بأربع مئة دينار.
وله كتاب" تاريخ أصبهان"، و" دلائل النبوة"، و" المستخرج" على كل واحد من الصحيحين، و" فضائل الصحابة" وغير ذلك من تصانيف كبار، وصغار.
توفي في صفر، وقيل: في الحادي والعشرين من المحرم سنة ثلاثين، وأربعمائة بأصبهان.(5/501)
ومنهم:
101- أبو ذر الهروي
«1» واسمه عبد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن غفير «2» الأنصاري المالكي «3» ، عرف بابن السماك.
شيخ الحرم، طلع على الكعبة الغراء حيث يطلع سهيل، وأرسى بمكة البطحاء حيث يرسي السيل، وزمزم «4» الحادي له بذكر زمزمها، وزمّ «5» المطي إلى مأزمها «6» ، فاتخذ الله جارا، وأقام ببيته بالبلد الحرام دارا، وكان من أفضل(5/502)
من ضمه في عصره أخشباها «1» ، وحوته أباطح «2» مكة، ورباها، وأشرقت به تلاع «3» ذلك الوادي حيث لعبت بأعطاف (ص 202) المبان مهات صباها.
سمع بهراة، وسرخس، وبلخ، ومرو، والبصرة، وبغداد، ودمشق، ومصر، وجاور بمكة، وألف معجما لشيوخه، وعمل الصحيح، وصنف التصانيف.
قال أبو بكر الخطيب: قدم أبو ذر بغداد، وأنا غائب، فحدث بها، ثم حج، وجاور، ثم تزوج في العرب، وسكن السروات «4» ، فكان يحج كل عام، ويحدث، ويرجع، وكان ثقة ضابطا دينا.
وقال الحسن بن بقي المالقي: حدثني شيخ قال: قيل لأبي ذر: أنت هروي، فمن أين تمذهبت بمذهب مالك، ورأي الأشعري؟ قال: قدمت بغداد، وكنت ماشيا مع الدارقطني، فلقينا القاضي أبا بكر بن الطيب «5» ، فالتزمه الدارقطني،(5/503)
وقبل وجهه، وعينيه، فلما افترقنا قلت: من هذا؟ قال: هذا إمام المسلمين، والذاب عن الدين، القاضي أبو بكر بن الطيب، فمن ذلك تكررت إليه، وتمذهبت بمذهبه.
وقال عبد الغافر- في تاريخ نيسابور-: كان أبو ذر زاهدا ورعا سخيا لا يدخر شيئا، وصار من كبار مشيخة الحرم مشارا إليه في التصوف، خرج على الصحيح تخريجا حسنا «1» ، وكان حافظا كثير الشيوخ.
قال: وتوفي سنة خمس وثلاثين، وأربع مائة.
والصواب قول أبي علي بن سكرة أنه توفي في عقب شوال سنة أربع وثلاثين.، وقال الخطيب: في ذي القعدة سنة أربع (مائة) .(5/504)
ومنهم:
102- أحمد بن الحسين «1» بن علي بن عبد الله البيهقي
«2» الخسرو جردي «3» الفقيه الشافعي، الحافظ المشهور أبو بكر واحد زمانه، وفرد أقرانه، أجل أصحاب أبي عبد الله الحاكم في الحديث، ثم الزائد عليه في أنواع العلوم، لا بل أنواء «4» الغيوم، لا بل أنداء»
معين الصباح (ص 203) الطافي على حدائق النجوم، تتجلى الشمس لمشابهة علمه المضيء، بما اتفق، ويتسلى(5/505)
البدر لمشابكة أصله البيهقي فيما يرمى به من البهق «1» ، قام بنصر الشافعي إمامه، ونشر أيامه، وتخريج الحديث الصحيح أدلة على أحكامه، وكان متقللا إلا من الخير ومتعللا باليسير من الدنيا مخفا لسرعة السير، لم يعد طريقة من مضى، ولم يعدّ عليه ما يعاب به في مدة حياته، رحمه الله حتى قضى.
أخذ الفقه عن أبي الفتح ناصر بن محمد العمري المروزي «2» ، وغلب عليه الحديث وأشهر به، ورحل في طلبه إلى العراق والجبال والحجاز، وسمع بخراسان من علماء عصره، وكذلك ببقية البلاد التي انتهى إليها، وشرع في التصنيف، فصنف كثيرا حتى قيل: تبلغ تصانيفه ألف جزء، وهو أول من جمع نصوص الشافعي في عشر مجلدات، ومن مشهور مصنفاته: السنن الكبير والسنن الصغير، ودلائل النبوة، والسنن والآثار، وشعب الإيمان، ومناقب الشافعي، ومناقب أحمد، وكان قانعا من الدنيا بالقليل.
وقال إمام الحرمين «3» : ما من شافعي المذهب إلا وللإمام الشافعي عليه منة إلا أحمد البيهقي فإن له منة على الشافعي، وكان من أكثر الناس نصرا لمذهب الشافعي.
وطلب إلى نيسابور لنشر العلم، فأجاب، وانتقل إليها، وكان على سيرة السلف، وأخذ الحديث عنه جماعة من الأعيان منهم زاهر الشحامي «4» ،(5/506)
ومحمد الفراوي «1» ، وعبد المنعم القشيري «2» .
ومولده في شعبان سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، وتوفي في عاشر جمادى الأولى سنة ثمان وخمسين وأربع مائة بنيسابور، ونقل إلى بيهق، رحمه الله تعالى.
(ص 204) ومنهم:
103- الخطيب أبو بكر بن أحمد بن علي بن ثايت بن أحمد البغدادي، خطيب بغداد
«3» الحافظ حقا، والحافل سحابا قدح فهمه برقا، والحافز صبا «4» هبت غربا،(5/507)
ونشأت شرقا، والحافر معدنا لا يذهب ذهبه، ولا تبقى جذوة الشرق، إلا أنها لا تتلهب وحلة بغداد، ودجلة كمها الأزرق، وشعاع البدر طرازها المذهب، شرف منبرها برقيه، وواصل سندها، وعن أبي بكر يروي حديث علية، وصاحب تاريخها الذي فل «1» معه جمع ابن عساكر، وصديت مرآة ابن الجوزي في وجه الناظر، وأصبح كل معجم سبق قبله لا يبين، أو جاء بعه منقطع القرين، لا بل كل تاريخ جرى به سابق قلم، وراءه قد وقع مغشيا عليه، ساكت الحس، خافت الأنين.
كان من الحفاظ المتقنين، والعلماء المتبحرين، ولو لم يكن له سوى التاريخ لكفاه، فإنه يدل على اطلاع عظيم، وصنف قريبا من مائة مصنف، وفضله أشهر من أن يوصف، أخذ الفقه عن أبي الحسين المحاملي «2» ، وأبي الطيب الطبري «3» ، وغيرهما، وكان فقيها، فغلب عليه الحديث، والتاريخ.
قال ابن ماكولا: كان أبو بكر الخطيب آخر الأعيان ممن شاهدناه معرفة، وحفظا، واتقانا، وضبطا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفننا في علله، وأسانيده، وعلما بصحيحه، وغريبه، وفرده، ومنكره، ومطروحه.
قال: ولم يكن للبغداديين بعد الدارقطني مثله.(5/508)
وقال أبو إسحاق الشيرازي «1» : أبو بكر الخطيب يشبه بالدارقطني، ونظرائه في معرفة الحديث، وحفظه.
وقال السمعاني: كان الخطيب مهيبا وقورا، ثقة، متحريا، حجة، حسن الخط، كثير الضبط، فصيحا، ختم به الحفاظ.
وقال الفضل بن عمر النسوي: كنت بجامع صور عند الخطيب، فدخل عليه علوي، وفي كمه دنانير، فقال: (ص 205) هذا الذهب تصرفه في مهماتك، فقطب، وقال: لا حاجة لي فيه، فقال: كأنك تستقله. ونفض كمه على سجادة الخطيب، وقال: هي ثلاثمائة دينار، فخجل الخطيب، وقام، وأخذ سجادته وراح، فما أنسى عز خروجه، وذل العلوي، وهو يجمع الدنانير.
وقال أبو الفرج الإسفراييني «2» : كان الخطيب معنا في الحج، فكان يختم كل يوم قريب الغياب، قراءة ترتيل، ثم يجتمع عليه الناس، وهو راكب، يقولون: حدثنا، فيحدث.
وقال عبد المحسن الشيحي «3» : عادلت الخطيب من دمشق إلى بغداد، فكان له في كل يوم، وليلة ختمة، وقيل: إن الخطيب قدم بغداد، فظفر بجزء فيه سماع(5/509)
القائم بأمر الله «1» ، فأتى دار الخلافة يستأذن في قراءة الجزء، فقال الخليفة: هذا رجل كبير، وليس غرضه السماع، فانظروا، هل له حاجة؟ فسألوه: ما حاجته؟
قال: أن يؤذن لي في أن أملي بجامع المنصور، فأذن له.
وحكى ابن عساكر «2» بسنده أن الخطيب ذكر أنه لما حج شرب من ماء زمزم ثلاث شربات، وسأل الله ثلاث حاجات أخذا بالحديث، فالأولى: أن يحدث بتاريخ بغداد بها.
والثانية: أن يملي بجامع المنصور.
والثالثة: أن يدفن عند بشر الحافي. فقضى الله ذلك.
ومولده في جمادى الآخرة سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، وتوفي في سابع ذي الحجة سنة ثلاث وستين وأربعمائة ببغداد.
وقيل: إن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي من جملة من حمل نعشه لأنه انتفع به كثيرا، وكان يراجعه في تصانيفه.
والعجب أنه كان في وقته حافظ المشرق، وأبو عمر بن عبد البر حافظ المغرب، وماتا في عام واحد.
وذكر ابن النجار في تاريخه: أن أبا بكر بن زهر كان قد أعد لنفسه قبرا إلى جانب بشر الحافي، وكان يمضي إليه كل أسبوع مرة، وينام فيه، ويقرأ القرآن كله، فلما مات أبو بكر (ص 206) الخطيب وكان قد أوصى أن يدفن إلى جانب(5/510)
قبر بشر الحافي فجاء أصحاب الحديث إلى أبي بكر بن زهر، وسألوه أن يدفن الخطيب في القبر الذي كان أعده لنفسه، وأن يؤثره به فامتنع من ذلك امتناعا شديدا، وقال: موضع أعددته لنفسي من مدة سنين يؤخذ مني! فلما رأوا ذلك جاؤوا إلى والد الشيخ أبي سعد، وذكروا له، فأحضر الشيخ أبا بكر بن زهر وقال: أنا لا أقول لك أعطهم القبر، ولكن أقول: لو أن بشر الحافي في الأحياء وأنت إلى جانبه فجاء أبو بكر الخطيب يقعد دونك، كان يحسن بك أن تقعد أعلى منه؟ قال: لا، بل كنت أقوم وأجلسه مكاني. قال: فهكذا: ينبغي أن يكون الساعة. قال: فطاب الشيخ، وأذن لهم في دفنه، فدفنوه إلى جانبه بباب حرب.
وكان قد تصدق بجميع ماله، وهو مائتا دينار فرّقها على أرباب الحديث والفقهاء والفقراء في مرضه، وأوصى أن يتصدق بجميع ما عليه من الثياب، ووقف جميع كتبه على المسلمين، ولم يكن له عقب، وصنف أكثر من ستين كتابا «1» ، ورويت له منامات صالحة بعد موته، وكان قد انتهى إليه علم الحديث وحفظه في وقته.(5/511)
ومنهم:
104- أبو نصر بن ماكولا
«1» واسمه: علي بن هبة الله بن علي بن جعفر بن علي بن محمد بن دلف بن الأمير الجواد أبي دلف القاسم بن علي العجلي الجرباذقاني «2» ، ثم البغدادي الأمير الكبير الحافظ النسابة، نبعة من ذلك العرق، ولمعة من ذلك الحذق، طلع حيث لا يوقد قبس، وجرى حيث ينقطع كل نفس، وسرى وريح السعادة يجري السفن على اليبس، واقتعد «3» ذروة كل بازل «4» ، وأطل على كل نازل،(5/512)
وفرى «1» جلد كل ليل عن صباحه، وقطع نهر كل نهار يتدفق في بطاحه، حتى طاف أكثر البلاد، وأطال عمر الكد والاجتهاد، حتى تلقى العلم، وتلقنه، (ص 207) وانتقى محاسنه، وأتقنه، وعدّ لكل سيئة من سيئات السرى ألف حسنة لا بل يزيد، إنما هذا شيء يجري على الألسنة، هذا إلى ما ينقل من أنساب، ويعرف به أيم قلمه إذا انساب، وغير هذا مما أوتي منه بغير حساب.
مولده في شعبان سنة اثنتين وعشرين، وأربعمائة بعكبرا «2» ، وسمع ببغداد، ودمشق، ومصر، وبما وراء النهر، وخراسان، والجبال، والجزيرة، والسواحل، ولقي الحفاظ، والأعلام، وحدث عنه شيخه أبو بكر الخطيب، وآخرون.
وقال شيرويه «3» في طبقاته: كان الأمير أبو نصر يعرف بالوزير سعد الملك ابن ماكولا، قدم رسولا مرارا «4» ، وكان حافظا متقنا، وعني بهذا الشأن، ولم يكن في زمانه بعد الخطيب أحد أفضل منه،
حضر مجلسه الكبار من شيوخنا، وسمعوا منه.(5/513)
وقال أبو القاسم بن عساكر: وزر للقائم أمير المؤمنين «1» ، وولي عمه قضاء القضاة ببغداد، وهو الحسين بن علي.
قال: وولد في شعبان سنة إحدى وعشرين «2» .
وقال الحميدي «3» : ما راجعت الخطيب في شيء إلا وأحالني على الكتاب، وقال: حتى أكشفه، وما راجعت ابن ماكولا في شيء إلا وأجابني حفظا كأنه يقرأ من كتاب.
وقال السمعاني «4» : كان ابن ماكولا لبيبا عالما عارفا حافظا، ترشّح للحفظ حتى كان يقال له: الخطيب الثاني، وكان نحويا مجودا، وشاعرا مبرزا، جزل الشعر، فصيح العبارة، صحيح النقل، ما كان في البغداديين في زمانه مثله، طاف الدنيا، وأقام ببغداد.
وقال ابن النجار «5» : أحب العلم من الصبى، وطلب الحديث، وكان(5/514)
يحضر المشايخ إلى منزلهم، ويسمع منهم، ورحل، وبرع في الحديث، وأتقن الأدب، وله النظم، والنثر، والمصنفات، ونفذه المقتدي بالله «1» رسولا إلى سمرقند، وبخارى لأخذ البيعة (ص 208) له على ملكها طمغان الخان.
وقال هبة الله بن المبارك «2» : اجتمعت بالأمير ابن ماكولا، فقال لي: خذ جزأين من الحديث، فاجعل متون هذا الجزء لأسانيد هذا الجزء، ومتونه لأسانيد الأول حتى أرده إلى حالته الأولى.
وقال مؤتمن الساجي «3» : لم يلزم ابن ماكولا طريق أهل العلم، فلم ينتفع بنفسه.
وقال ابن عساكر: سمعت إسماعيل ابن السمرقندي- يذكر أنّ ابن ماكولا كان له غلمان ترك أحداث، فقتلوه بجرجان سنة نيّف وسبعين، وأربعمائة.
ونقل ابن النجار أنه كان قد سافر نحو كرمان، ومعه مماليكه الأتراك، فقتلوه، وأخذوا ماله سنة خمس وسبعين، وأربعمائة.
وفي تاريخ قتله خلاف كثير.(5/515)
ومن شعره: [البسيط]
قوض خيامك عن دار أهنت بها ... وجانب الذلّ إن الذلّ يجتنب
وارحل إذا كانت الأوطان مضيعة ... فالمندل الرطب في أوطانه حطب
ومنه: [الطويل]
ولما تواقفنا تباكت قلوبنا ... فممسك دمع العين يوم ذاك كساكبه
فيا كبدي الحرّى البسي ثوب حسرة ... فراق الذي تهوينه قد كساك به
ومنهم:
105- أبو الفضل محمد بن طاهر بن علي المقدسي
«1» الحافظ المكثر الجوال،- ويعرف بابن القيسراني- الشيباني، وليس هو من أولاد القيسراني الكذاب.
سرى «2» للطلب سري الخيال، وركب شهب الأيام، ودهم «3» الليال، وقطع قفر البيد يلمع آله، «4» ويجمع الشتات ضلاله، وسلك منه مسالك تجار الرياح في أفواجها، ويغرق الصباح في أمواجها، ويصدى صديع(5/516)
النهار «1» بظلمها «2» (ص 209) وتخفق أحشاء النجوم في عتمها، إلى أن آب مملكا، وآل أمره إلى أن أصبح كما أمسى الليل مدركا.
سمع ببلده، وبمكة، ومصر، والثغر، ودمشق، وحلب، وبغداد، والجزيرة، وأصبهان، ونيسابور، وهراة، وجرجان، وآمد، واسترآباذ، وبوشنج، والبصرة، والدينور، والري، وسرخس، وشيراز، وقزوين، والكوفة، والموصل، ومرو الروز، وتوقان، ونهاوند، وهمذان، وواسط، وساوة، واسترآباذ «3» ، والأنبار، وأسفرايين، وآمل، والأهواز، وبسطام، وخسرو جرد، وغير ذلك.
قال ابن عساكر: سمعت إسماعيل بن محمد الحافظ «4» يقول: أحفظ من رأيت محمد بن طاهر.
وقال أبو زكريا ابن منده «5» : كان ابن طاهر أحد الحفاظ، حسن الاعتقاد، جميل الطريقة، صدوقا، عالما بالصحيح، والسقيم، وكثير التصانيف، لازما للأثر. قال السلفي: سمعت ابن طاهر يقول: كتبت الصحيحين، وسنن أبي داود سبع مرات بالأجرة، وسنن ابن ماجه عشر مرات بالري.(5/517)
وقال ابن طاهر: بلت الدم في طلب الحديث مرتين، مرة ببغداد، ومرة بمكة، كنت أمشي حافيا في الحر، فلحقني ذلك، وما ركبت دابة في طلب الحديث قط، وكنت أحمل كتبي على ظهري، وما سألت في حال الطلب أحدا، كنت أعيش على ما يأتي.
وقيل: كان يمشي دائما في اليوم والليلة عشرين فرسخا، وكان قادرا على ذلك.
ومصنفاته كثيرة لكنه كثير الوهم، وكان لحنة، «1» ويصحّف، ويرى إباحة السماع «2» ، ومولده سنة ثمان وأربعين، وأربعمائة.
قال ابن شيرويه- في تاريخ همذان-: ابن طاهر سكن همذان، وبنى بها دارا، وكان ثقة حافظا، عالما بالصحيح والسقيم، حسن المعرفة بالرجال، والمتون، كثير التصانيف، جيد الخط، لازما للأثر، بعيدا عن الفضول والتعصب، خفيف الروح (ص 210) قوي السير في السفر.
قال شجاع الذهلي «3» : مات عند قدومه بغداد من الحج يوم الجمعة في ربيع الأول سنة سبع وخمسمائة.(5/518)
من شعره: [البسيط]
ساروا بها كالبدر في هودج ... يميس محفوفا بأترابه
فاستعبرت تبكي فعاتبتها ... خوفا من الواشي وأصحابه
وقلت: لا تبك على هالك ... بعدك ما يبقى على ما به
وأحسن الموت بأهل الهوى ... من مات من فرقة أحبابه
ومنهم:
106- إسماعيل بن محمد بن فضل بن علي القرشي التيمي الطلحي «1» الأصبهاني،
شيخ الإسلام، أبو بكر، الملقب" بقوام السنة"، صاحب الترغيب والترهيب من قريش في شذر «2» ذؤاباتها «3» ، وزأر «4» غاباتها، وزهر سماواتها، الممرعة «5» الحدائق، المرتفعة الطرائق، المسرعة الأنواء، وسهيل عائم، وصاحب السفينة غارق، رغب في الخير، وعمله، ورهب من الشر، وسوء عاقبة دوله، ودعا به إلى سبيل ربه بالحكمة، والموعظة الحسنة، والموقظة التي لم تدع على(5/519)
جفن وسنه «1» ، ووسع صدره الإخوان على ضيق ما في يده، وقلته، وتقاعد الزمان عن سد خلته، وتقاعس عنان الحظ في يده إذ جمح، وسن مداه «2» لخلده «3» إذ جرح.
ولد سنة سبع وخمسين، وأربعمائة، ورحل، وسمع بعدة مدائن، وأملى، وصنف، وتكلم في الرجال، وأحوالهم، وحدث عنه خلق.
وقال أبو موسى المديني «4» : إسماعيل الحافظ إمام وقته، وأستاذ علماء عصره، وقدوة أهل السنة في زمانه، لا أعلم أحدا غاب عليه قولا، ولا فعلا، ولا عانده أحد إلا ونصره الله عليه، وكان نزه النفس عن المطامع لا يدخل على السلاطين، ولا على من اتصل بهم، قد أخلى دارا من ملكه لأهل العلم مع خفة ذات يده، ولو أعطاه الرجل الدنيا بأسرها لم يرتفع عنده، أملى ثلاثة آلاف، وخمس مائة مجلس، وكان يملي على البديه، وأصمت في صفر سنة أربع وثلاثين، ثم فلج بعد مدة.
وقال يحيى بن منده: كان حسن الاعتقاد، جميل الطريقة، قليل الكلام، ليس في وقته مثله.
وقال عبد الجليل بن محمد: سمعت أئمة بغداد يقولون: ما دخل بغداد بعد الإمام أحمد أفضل، وأحفظ من الإمام إسماعيل.
قال أبو موسى المديني- في ذكر من هو على رأس المائة الخامسة-: لا أعلم(5/520)
أحدا في ديار الإسلام يصلح لتأويل الحديث «1» إلا إسماعيل الحافظ.
قال أبو موسى: صنف التفسير في ثلاثين مجلدا سماه" الجامع"، وله تفسير آخر في أربع مجلدات، والموضح في التفسير في ثلاث مجلدات، وكتاب" المعتمد" في التفسير عشر مجلدات، وله مصنفات كثيرة مفيدة، وكان عالما باللغة، والأدب، عارفا بالأسانيد، والمتون، ووهب أكثر أصوله في آخر عمره.
قال: وكانت وفاته يوم الأضحى سنة خمس وثلاثين، وخمس مائة، واجتمع في جنازته خلق كثير لم أر مثلهم كثرة- رحمه الله تعالى-.(5/521)
ومنهم:
107- أبو سعد عبد الكريم بن تاج الإسلام «1» أبي بكر بن محمد بن منصور التميمي السمعاني «2» المروزي، صاحب التصانيف.
قسما لقد أسمع بها السمعاني آذانا، ولقد طرق بها القلوب لا يطلب استئذانا، ولقد رحل، فلم يدع موضعا يسمع به أذانا، ولقي الرجال فما خلى جماعات، ولا شذانا «3» ، طلبا اتسع به ذيل ارتحاله، واندفع سيل جداله،(5/522)
وضخم به قدر معجمه، وفخم (ص 212) طرر «1» معلمه «2» ، وفخر لظهور تقدمه، وأدّبه طول التغرب، فصفا زلالا «3» ، وأدّى به إلى أن شف «4» ذبالا «5» ، حتى قيل: السمعاني، فسكت من أراد أن يتكلم، وطارت سمعته، فوقع دونه كل من حوّم، وخاض تيار الكفار لزيارة شدّ إليها رحله، ولم يهب موجهم المتلاطم، وشق شقاشق «6» رعودهم، ولم يخف نوأهم المتراكم.
ولد في شعبان سنة ست وخمس مائة، وحمله والده إلى نيسابور في آخر سنة تسع، فلحق بحضوره عدة شيوخ، ومات أبوه سنة عشر، فتربى مع أعمامه، وأهله، وحفظ القرآن والفقه، ثم حبب إليه شأن الحديث، فاعتنى به، ورحل إلى(5/523)
الأقاليم النائية، وعمل المعجم «1» في عدة مجلدات، وكان ذكيا فهما، سريع الكتابة، مليحها، درّس، وأفتى، ووعظ، وأملى، وكتب عمن دب، ودرج، وكان ثقة، حافظا حجة، واسع الرحلة، عدلا، دينا، جميل السيرة، حسن الصحبة، كثير المحفوظ.
قال ابن النجار: سمعت من يذكر أن عدد شيوخه سبعة آلاف شيخ، وهذا شيء لم يبلغه أحد، وكان مليح التصانيف، كثير النشوار «2» ، والأناشيد، لطيف المزاج، ظريفا، سمع منه مشايخه، وأقرانه، ثم سرد ابن النجار تصانيفه، ونقل أسماءها من خطه في نيف وعشرين سطرا «3» .
وقد ذهب أبو سعد إلى بيت المقدس، وزاره، والنصارى يومئذ ولاته، وكانت وفاته في ربيع الأول سنة اثنتين وستين وخمس مائة «4» .(5/524)
ومنهم:
108- أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين بن عساكر
«1» الإمام الحافظ، فخر الأئمة، محدث الشام، ثقة الدين، صاحب التصانيف، والتاريخ الكبير، ممن ولدتهم دمشق، وولته ما يستحق، وشرّفته على أبنائها، وصرّفته في أنبائها (ص 213) ، وعرفته أسرار بنائها، وأخبار أنبيائها، وأوقفته على أندية «2» سكانها، ووافقته على تطهير أوطانها، وخاطبته شفاها لو أنها(5/525)
تتكلم، ولاعبته أعطاف «1» صباها، فإما عرف حقائق أخبارها، وإما تنسم «2» ، فاستطالت به، وطال لسانها، وشكر إحسانها، وعاد بها عصر آل جفنة وحسانها «3» ، ومثلت خلفاؤها من بني مروان، ومن خلفهم إلى من آواهم ذلك الأوان، ومن وفد عليها، وورد إليها، وبحث عما بين العريش «4» إلى الفرات حتى حسرت عن كنوزها، وسحرت برموزها، وشنأت «5» العراق، وعيرتها بغدر ابن جرموزها «6» ، وعابتها إذ ذكرت أيام صفين «7» بنشوزها، وأصغرت قدر تاريخها،(5/526)
وقد جهد فيه الخطيب، وحمد عليه، وما اهتز غصنه الرطيب، حمية توقدت بين جانبيه لبلدته التي أخرجته من أقدم بيوتها، وجاءت به مفاخرها لثبوتها من بقية كان زمان يزيد بن معاوية أولهم، ثم انتهى إليه موئلهم، ثم ما ارتفع بعده لبيته المنيف جدار، ولا ألمّ الفضل له بدار.
ولد سنة تسع وتسعين، وأربع مائة في أولها، وسمع سنة خمس، وخمس مائة باعتناء أبيه، وأخيه الإمام صائن الدين هبة الله «1» ، وعدد شيوخه ألف وثلاثمائة شيخ، ونيّف، وثمانون امرأة، وصنف التاريخ في ثمانين مجلدا «2» ، وله مصنفات أخر تقارب ثلاثين مجلدا، وأما الأجزاء فشيء كثير، وأملى في أبواب العلم أربع مائة مجلس، وثمانية مجالس «3» ، وخرج لجماعة.
قال السمعاني «4» : أبو القاسم حافظ، ثقة، ديّن، خيّر، حسن السمت، جمع بين معرفة المتن، والإسناد، وكان كثير العلم، غزير الفضل، صحيح القراءة، متثبتا، رحل، وتعب، وبالغ في الطلب، وجمع ما لم يجمعه غيره، وأربى على الأقران (ص 214) .(5/527)
وحكي عن الفراوي «1» قال: قدم ابن عساكر، فقرأ ثلاثة أيام، فأكثر، وأضجرني، وآليت على نفسي أن أغلق بابي، فلما أصبحنا قدم علي شخص، وقال: أنا رسول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إليك، قلت: مرحبا بك فقال:
قال لي في النوم: امض إلى الفراوي، وقل له: قدم بلدكم رجل شامي، أسمر اللون، يطلب حديثي، فلا تمل منه. قال الراوي: فما كان الفراوي يقوم حتى يقوم ابن عساكر.
وقال المحدث بهاء الدين القاسم «2» : كان أبي- رحمه الله- مواظبا على الجماعة، والتلاوة، ويختم كل جمعة، ويختم في رمضان كل يوم، ويعتكف في المنارة الشرقية، وكان كثير النوافل والأذكار، ويحيي ليلة النصف، والعيدين بالصلاة، والذكر، ويحاسب نفسه على لحظة تذهب، قال لي: لما حملت أمي، قيل لها في منامها: تلدين غلاما يكون له شأن.(5/528)
وحدثني أن أباه رأى رؤيا معناها: يولد لك ابن، يحيي الله به السنة.
وقال أبو المواهب بن صصرى «1» : كنت أذاكر أبا القاسم الحافظ عن الحفاظ الذين لقيهم، فقال: أما ببغداد فأبو عامر العبدري «2» ، وأما بأصبهان فأبو نصر اليونارتي «3» ، لكن إسماعيل بن محمد «4» الحافظ كان أشهر، فقلت: فعلى هذا، ما رأى سيدنا مثل نفسه! قال: لا تقل هذا، قال الله: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ
«5» قلت:: فقد قال وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ
«6» فقال: لو قال قائل:
إن عيني لم تر مثلي لصدق.
قال أبو المواهب: وأنا لم أر مثله، ولا من اجتمع فيه ما اجتمع فيه من لزوم طريقة واحدة مدة أربعين سنة من لزوم الصلوات في الصف الأول إلا من عذر، والاعتكاف في رمضان، وعشر ذي الحجة، وعدم التطلع إلى تحصيل(5/529)
الأملاك، وبناء الدور، قد أسقط ذلك عن نفسه، وأعرض عن طلب المناصب (ص 215) من الإمامة، والخطابة، وأباها بعد أن عرضت عليه، وأخذ نفسه بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
قال لي: لما عزمت على التحديث- والله المطلع أنه ما حملني على ذلك حب الرئاسة، والتقدم بل قلت: متى أروي كل ما سمعت؟ وأي فائدة في كوني أخلفه صحائف- فاستخرت الله، واستأذنت أعيان شيوخي، ورؤساء البلد، وطفت عليهم، فكلهم قال: من أحق بهذا منك؟! فشرعت في ذلك سنة ثلاث وثلاثين، وخمس مائة، وكان حافظ العصر أبو الحجاج المزي «1» يميل إلى أن ابن عساكر لم ير مثل نفسه.
وقال الحافظ عبد القادر «2» : ما رأيت أحفظ من ابن عساكر.
وقال ابن النجار «3» : أبو القاسم إمام المحدثين في وقته، انتهت إليه الرياسة في الحفظ، والإتقان، والثقة، والمعرفة التامة، وبه ختم هذا الشأن، وكان فقيها أديبا سنيا.(5/530)
[كان قد توجه لزيارة القدس، ثم أتى مصر، فأكرم الملك العزيز»
مقدمه، وسرّ به كافة أهل مصر، كتب الفاضل «2» إلى الملك الناصر «3» في أمره كتابا منه:" المملوك يقبل الأرض بين يدي مولانا الملك الناصر لا زالت عواطفه مرجوة، ومحاسنه متلوة، وعوارفه برة بالحظوظ المحفوة، ومكارمه تأخذ كتاب السؤال بقوة، وينهي- إن كان وصل الخبر- بأن الشيخ الفقيه الإمام الحافظ أبا القاسم بن عساكر قد زار بيت المقدس، قدّس الله فاتحه، ومنح النصر مانحه، فاستشرف أهل مصر شرف منادمته لقربه، واستشفعوا بالإمام «4» أولادهم للقراءة، والإجازة، فلما توجه منصب إمامته «5» ولا خفاء عن مولانا أنه أقرب رسل(5/531)
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذه الأمة عهدا، إسنادا عاليا، وفهما واعيا، وأدبا، ولسانا راويا، ولما لقيه المملوك عرفه أنه جمع بين الغرضين، وهو الزيارة الشافعية، والإسماع لأهل الديار المصرية، ومن الوفادة على مولانا عز جنابه، وسعد بالوافدين بابه، ذكر منه ما استأذن عليه أن يحيى به.] «1»
توفي في حادي عشر رجب سنة إحدى وسبعين، وخمس مائة، ورئي له منامات حسنة، ورثي بقصائد، وقبره يزار بباب الصغير «2» .(5/532)
ومنهم:
109- أبو موسى «1» المديني
«2» واسمه محمد بن أبي بكر عمر بن عيسى الأصبهاني «3» الحافظ المشهور فما به حاجة إلى التعريف، والمشهود فضله نورا يشف في زجاج التصنيف، الأصبهاني الذي ما تنور البصائر إلا بكحل مداده، ولا يجلو بياض العين أنفع من كحل سواده، وزنت به الجبال فرجح على سؤددها «4» ، وازّينت به أصفهان،(5/533)
وليس سوى سيادته صيت «1» إثمدها «2» ، رحل عن بلده أصفهان، ثم عاد إليها مشرفا مدينيّه «3» لمدينتها، مشرفا أسوارها لحمايتها به ولزينتها، فحل بها حيث يأوي الأسد من الغيل «4» ، وأقام يدوس لممها، وغيره يتمنى أن يكتحل من ترابها بميل «5» .
(ص 216) ولد في ذي القعدة سنة إحدى وخمس مائة بأصبهان، وكان إمام عصره في الحفظ والمعرفة، وله في الحديث تواليف مفيدة، وصنف كتاب" المقيت" كمل به كتاب" الغريبين" «6» للهروي «7» ، واستدرك عليه، وله مصنفات أخر، ورحل من أصبهان في طلب الحديث، ثم رجع إليها، وأقام بها، وانتهى إليه التقدم في هذا الشأن مع علو الإسناد، والمعرفة التامة، والرواية الواسعة.
قال الدبيثي «8» : عاش أبو موسى حتى صار أوحد وقته، وشيخ زمانه(5/534)
إسنادا، وحفظا. وقال عبد القادر «1» : حصل من المسموعات بأصبهان ما لم يتحصل لأحد في زمانه، وانضم إلى ذلك الحفظ، والاتقان، وله شيء يسير يتريح به، وينفق منه، ولا يقبل من أحد شيئا قط، أوصى إليه غير واحد بمال فردّه، فيقال: فرقه على من ترى. فيمتنع، وكان من التواضع بحيث إنه يقرئ الصغير والكبير، ويرشد المبتدئ، رأيته يحفظ الصبيان القرآن في الألواح، ويمنع من يمشي معه «2» ، فعلت ذلك مرة، فزجرني، وترددت إليه نحوا من سنة، ونصف، فما رأيت منه، ولا سمعت عنه سقطة تعاب عليه.
وكان أبو مسعود كوتاه «3» يقول: أبو موسى كنز مخفي.
وقال الحسين بن يوحن الباورني «4» : كنت في مدينة الخان «5» ، فسألني سائل عن رؤيا قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توفي، فقلت: إن صدقت رؤياك يموت إمام لا نظير له في زمانه، فإن مثل هذا المنام رؤي حال وفاة الشافعي،(5/535)
والثوري، وأحمد، فما أمسينا حتى جاءنا الخبر بوفاة الحافظ أبي موسى، وكانت وفاته ليلة الأربعاء تاسع جمادى الأولى سنة إحدى وثمانين وخمس مائة بأصبهان (ص 217) .
قال عبد الله بن محمد الخجندي: لما مات أبو موسى لم يكادوا أن يفرغوا حتى جاء مطر عظيم في الحر الشديد، وكان الماء قليلا بأصبهان.(5/536)
ومنهم:
110- عبد الغني بن عبد الواحد «1» بن علي بن سرور المقدسي «2» ، ثم الصالحي «3» الحنبلي الحافظ، تقي الدين، أبو محمد.
صاحب التصانيف، والجبل الذي لا تنسفه الزعانيف «4» ، والقائم في ذات(5/537)
الله لا تأخذه لومة لائم، تمضّه «1» تعنيفه، ويمضي فيه تصريفه، ويقضي عليه سيفه الماضي إما يقتله، وإما يخيفه، ما لان لمن قصد به غضاضة «2» ولا هان، وقد قذف نجمه يريد انقضاضه، بل رفعه الله من حيث أراد العدو أن يضعه، وقربه من حيث أبعد موضعه، ما ضره وهو الغمام أن أنأى محله، ولا نقصه- وهو الذهب- حيث أحله، وعاش لا يبالي بالخمول، وقد أنامه في مرقده وأسكنه في قرارة ملحده «3» ، وألقاه في جانب بيته لا يستطيع حراك لسانه ولا يده، وبقي لا يشكو قترا ولا قتارا «4» ، ودام على هذه الحال حتى مات فتعوض خيرا من الأهل أهلا، ومن الدار دارا.
ولد سنة إحدى وأربعين وخمس مائة، هو وابن خالته موفق الدين «5»(5/538)
بجماعيل «1» ، واصطحبا مدة في أول اشتغالهما ورحلتهما، وحدث أبو محمد بالكثير وصنف في الحديث التصانيف الحسنة، وكان غزير الحفظ، من أهل الإتقان والتجويد، قيّما بجميع فنون الحديث، تكلم في الصفات والقرآن بشيء أنكره أهل التأويل، فعقد له مجلس بدار السلطان بدمشق، فأصر وأباحوا قتله، فشفع فيه أمراء الأكراد على أن ينزح من دمشق فذهب إلى مصر، وأقام به خاملا إلى أن مات (ص 218) قال أبو موسى المديني: قل من وفد علينا من الأصحاب من يفهم هذا الشأن كفهم الإمام عبد الغني زاده الله توفيقا، وقد وفق لتبيين هذه الغلطات- يعني التي في كتاب معرفة الصحابة لأبي نعيم «2» -، ولو كان الدارقطني وأمثاله في الأحياء لصوبوا فعله، وقل من يفهم في زماننا ما فهمه.
وقال الحافظ ضياء الدين «3» : خرج عبد الغني إلى أصبهان، وليس معه كيس فلوس، فسهل الله من حمله، وأنفق عليه، فأقام بأصبهان مدة، وحصل بها الكتب الجيدة، قال: وسمعت إسماعيل بن ظفر «4» يقول: جاء رجل إلى الحافظ عبد الغني، فقال: رجل حلف بالطلاق أنك تحفظ مائة ألف حديث.
فقال: لو قال أكثر لصدق.(5/539)
قال: وشاهدت عبد الغني- غير مرة- بجامع دمشق يسأله بعض الحاضرين، وهو على المنبر: اقرأ لنا من غير الجزء. فيقرأ علينا بأسانيدها عن ظهر قلبه، فقيل له: لم لا تقرأ دائما من غير الجزء؟ فقال: أخاف العجب.
وقال تاج الدين الكندي «1» : لم يكن بعد الدارقطني مثل عبد الغني المقدسي، قال: ولم ير مثل نفسه.
وقال الشيخ موفق الدين: كان عبد الغني رفيقي، وما كنا نستبق إلى خير إلا سبقني إليه إلا القليل، وكمل الله فضيلته بابتلائه بما أوذي به، وصبر عليه، ورزق العلم، وتحصيل الكتب الكثيرة إلا أنه لم يعمر حتى يبلغ غرضه في روايتها، ونشرها.
وقال الضياء: كان عبد الغني لا يرى منكرا إلا غيره بيده، أو بلسانه، وكان لا يأخذه في الله لومة لائم، رأيته مرتين يريق خمرا، فسل صاحبه السيف، فلم يخف، وكان قويا، فأخذ السيف من الرجل، وكان يكسر الشبابات «2» ،(5/540)
والطنابير «1» (ص 219) .
قال: وسمعت أبا بكر بن أحمد الطحان يقول: جعلوا الملاهي عند باب جيرون «2» ، فجاء الحافظ عبد الغني، فكسر كثيرا، وصعد المنبر، فجاء رسول القاضي يطلبه ليناظره في الدف «3» ، والشبابة، فقال: ذاك حرام، ولا أمشي إليه، إن كان له حاجة يجيء هو. قال: فعاد الرسول يقول: لا بد من مجيئك، قد أبطلت هذه الأشياء على السلطان، فقال: ضرب الله رقبته، ورقبة السلطان، فمضى الرسول، وخفنا من فتنة، فما أتى من جديد.
قال أبو موسى عبد الله بن عبد الغني: مرض والدي أياما ووضأته وقت الصبح، فقال: يا عبد الله صلّ بنا، وخفف فصليت بالجماعة وصلى معنا جالسا ثم قال: اقرأ عند رأسي (يس) فقرأتها، وقلت: هنا دواء تشربه، فقال، ما بقي إلا الموت. فقلت ما تشتهي شيئا؟ قال: أشتهي النظر إلى وجه الله فقلت: ما أنت عني راض؟ قال: بلى. وجاءوا يعودونه، ففتح عينيه، وقال: ما هذا؟ اذكروا الله، قولوا" لا إله إلا الله" ثم دخل درع النابلسي فقمت لأناوله كتابا من جانب(5/541)
المسجد، ورجعت، وقد توفي يوم الاثنين الثالث والعشرين من ربيع الأول سنة ستمائة بمصر.
قال الضياء: وسمعت يقول لي: رأيت أخاك عبد الرحيم في المنام، فقلت:
أين أنت؟ قال: في جنة عدن فقلت: أيما أفضل الحافظ عبد الغني، أو الشيخ أبو عمر؟ فقال: لا أدري، وأما عبد الغني فينصب له كرسي تحت العرش، وينثر عليه الدر، وهذا نصيبي منه، وأشار إلى كمه.
وكان عبد الغني ليس بالأبيض الأمهق «1» ، يميل إلى سمرة، حسن الثغر، كث اللحية، واسع الجبين، عظيم الخلق، تام القامة، كأن النور يخرج من وجهه، ضعف بصره من كثرة النسخ، والمطالعة، والبكاء وكان جوادا كريما لا يدخر درهما، وقيل: كان يخرج ليلا بالقفاف فيها الدقيق (ص 220) فإذا فتحوا له ترك ما معه، ومضى لئلا يعرف، وربما كان عليه ثوب مرقع «13» .(5/542)
111- ومنهم محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن السعدي «13» المقدسي ثم الدمشقي الصالحي
«1» الحنبلي ضياء الدين أبو عبد الله الحافظ، الحجة محدّث الشام شيخ السنة.
طلب «2» وما نهنه «3» ، ولغب «4» وما أغبّ «5» المهمه «6» ، ولم يلق حبل قلمه عن غاربه «7» ، ولم يلق مداد دواته إلا بعرق متاعبه «8» ، أخذ لرحلته أهبتها، وعاجل الأيام ووثبتها، وشدّ نسوع نجائبه «9» ، وأجدّ شسوع مذاهبه «10» ، وتعب حتى استراح، وتمنّى حتى فرّغ الامتراح «11» ، ولم يدع واديا(5/543)
تفد «1» ، أفواج ريحه، ولا جبلا تسرّج لمم شيحه «2» ، حتى جال بين جنبيه، أو داس مفرقه وصعد عليه، إلى أن ضبط عن كل امرئ ما هو به لافظ، وهبط عن مطامطيّه «3» وهو يدعى للإمام الحافظ.
ولد سنة تسع وستين وخمس مائة، ورحل مرتين إلى إصبهان وسمع بها مالا يوصف كثرة، وحصّل أصولا كثيرة، ونسخ وصنّف وصحح وليّن، وجرح وعدّل، وكان مرجوعا إليه في هذا الشأن، قال تلميذه عمر بن الحاجب «4» :
شيخنا أبو عبد الله شيخ وقته، ونسيج وحده علما وحفظا وثقة ودينا، من العلماء الربانيين، وهو أكبر من أن يدلّ عليه مثلي، وكان شديد التحرّي في الرواية، مجتهدا في العبادة.
ذكروه فأطنبوا في حقه، ومدحوه بالحفظ والزهد. وقال ابن النجار «5» :
حافظ، متقن، حجة، عالم بالرجال، ورع تقي، ما رأيت مثله، توفي في جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين وستمائة.(5/544)
ومنهم
112- محمد بن محمود بن الحسن بن هبة الله بن محاسن البغدادي، المعروف بابن النجار
«1» صاحب التصانيف، بحر فسيح الجوانب، طليح المقانب «2» ،/ (ص 221) متسع المدى، لا تحصى لديه ذنوب المذانب «3» ، ورث من جده محاسن، وأرّث بجهده الأحاسن، ورحل رحلة أمضت أكثر العمر، وأفنت الليالي العتم والقمر، ولقي جما غفيرا، وسمع خلقا كثيرا، كأنما ضرب لهم نفيرا، وأعار التاريخ طرفه فما فاته منه طرفة عين، ولا طرفه عين «4» ، ولا بقي في بغداد من لا ضبط قلمه، وضمّه لقمه «5» ، وحواه تأليفه، وآواه تصنيفه، واراه أو وازاه تصريفه.
ولد سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، وسمع وله عشر سنين، واعتنى بالطلب وهو ابن خمس عشرة سنة، وتلا بالروايات الكثيرة، وسمع بأصبهان ونيسابور «6»(5/545)
وهراة ودمشق ومصر وغير ذلك، وكتب العالي والنازل، وجمع فأوعى، وخرّج لغير واحد، وجمع تاريخ مدينة السلام، ذيّل «1» به واستدرك فيه على الحافظ أبي بكر الخطيب «2» ، ومقداره ثلاثمائة جزء، وكان من أعيان الحفاظ الثقات، مع الدين والصيانة والنسك والفهم وسعة الرواية، وكانت رحلته سبعا وعشرين سنة، واشتملت مشيخته «3» على ثلاثة آلاف شيخ، ووقف كتبه ومصنفاتة وهي تزيد على خمسة عشر مصنفا «4» بالمدرسة النظاميّة وكان من محاسن الدنيا رحمه الله، توفي في خامس شعبان سنة ثلاث وأربعين وستمائة.(5/546)
ومنهم
113- القاسم محمد بن يوسف بن محمد بن يوسف بن محمد بن أبي يدّاش البرزاليّ «1»
الإشبيلي الأصل الدمشقي الشافعي أبو محمد الحافظ، عمدة الحفاظ مؤرخ الشام، ممن ولدته دمشق والفحل فحل معرق «2» ، وأوجدته الأيام فسطع ضوؤها المشرق، وتمخضت منه الليالي عن واحدها وأحد أهل/ (ص 222) المشرق، ومشى فيها على طريق واحد ما تغيّر عن سلوكها، ولا تقهقر في سلوكها، يصحب الخصمين وهما من هما «3» ، والنظيرين والضرغامة الأسد منهما، وكل منهما راض بصحبته واثق به لا يعدّه إلا من أحبته.
كان عند شيخي الإسلام آخر المجتهدين ابن تيمية «4» وابن الزملكاني «5» .(5/547)
وما منهما إلا من هو عليه مرتبط، وبه مغتبط، يذيع إليه سرّه في صاحبه، ويتبسّط لديه في معاتبه. وهو ساكت لا ينطق بحرف، ولا يشارك حتى ولا بإيماء طرف، وعرف بهذا واشتهر حتى صار عندهما موضع الثقة، ومكان المقة «1» . ومحل الصداقة المحققة، ثم كان يسعى في صلاح ذات بينهما فيعجز، ويعده كل منهما به ولا ينجز، فأغمد لسانه، وترك كلّ امرئ منهما وشأنه، وكان ممن ينفع الطلبة، ويستلذ في راحتهم تعبه، ويحرص على إسماعهم، ويقيّد مجالس سماعهم، لا يشغله عنهم ما كان معدّا له من حضور مجالس الحكام، والتسجيل عنهم بالأحكام، وحضور الوظائف، ومجالسة أكثر الطوايف، ثم بلغني أنه توجه إلى الحج فمات بخليص «2» وقد استقبل مكة ميمما، وكفّن في ثياب إحرامه ليبعث يوم القيامة ملبيا محرما «3» .
ولد في عاشر جمادى الأولى سنة خمس وستين وستمائة، واعتنى بالرواية من صغره، فقرأ بنفسه الكتب الكبار، ورحل إلى الديار المصرية، والثغر «4» والبلاد الشمالية، وسمع مما ينيف على ألفي شيخ، وأجاز له ألف آخر، فاشتمل معجمه على نيف وثلاثة آلاف شيخ، وكتب من الأثبات «5»(5/548)
والتعاليق «1» والأجزاء والتاريخ «2» والتخاريج «3» ما لا يحصى كثرة، وحرّر مسموعاته، وصار مقتدى به مرجوعا إليه في هذا الشأن مع الحفظ والإتقان والصدق والتحري، وكتب الشروط «4» / (ص 223) فأحكمها، والسجلات «5» فأتقنها، وله فيهما مصنفات وكان محسنا إلى الطلبة متلطفا بهم، صبورا على التعليم، سهل العارية لكتبه وأجزائه، يقضّي أوقاته في السماع والتسميع، وكتابة الطباق «6» ، وقضاء حوائج الناس، والمواظبة على وظائفه من غير انقطاع إلا لعذر مانع شرعا. وولي المشيخات «7» ، وصحب الأكابر من أهل العلم، وولد له عدة أولاد توفوا كلهم في حياته، فصبر واحتسب، منهم المحصّل بهاء الدين أبو الفضل محمد اعتنى به واجتهد إلى أن حفظ المحافيظ، وقرأ القرآن للسبع، وشهد على الحكّام ولم ينبت، وحج به، وتوفي وهو شاب «8» ، ومنهم فاطمة، اجتهد عليها وعلمها الخط، وكتبت ربعة «9» شريفة، وشرعت في صحيح البخاري، فكتبت منه مقدار النصف، ثم حصل لها نفاس، وأعقبها مرضا، أشرفت فيه على الموت مرات، حتى إن كثيرا من الأعيان كانوا يبطلون مهماتهم ويتهيؤون لتشييع(5/549)
جنازتها، ثم نقهت من ذلك، فأكملت الصحيح كتابة في ثلاثة عشر مجلدا بخط واضح، فلما فرغت، شرعت في تحصيل الورق وغيره لكتابة صحيح مسلم، فتوفيت قبل شروعها في الكتابة، وذلك بعد فراغها من صحيح البخاري بنحو شهر. وحكى والدها: أنها كانت في أثناء مرضها المذكور، كانت تتأسف على عدم تكميل البخاري، وتودّ لو عاشت إلى أن تكمله ثم تموت، فكان كذلك، وصبر والدها واحتسبها عند الله، وقابل النسخة المذكورة مرتين، واعتنى بها، وصارت عمدة في الصحة، وحج أبو محمد البرزالي خمس حجج سمع وأسمع فيها بدرب الحجاز والحرمين والأماكن المعظمة ثم قصد الحج مرة سادسة عقب مرض فعاوده بدرب الحجاز، ودخل المدينة النبوية محمولا لمرضه، ثم أحرم فتوفى بخليص بكرة الأحد رابع ذي الحجة سنة تسع وثلاثين وسبع مائة، فعزم على نقله ودفنه بمكة، فحصل خلاف بين الفقهاء الحجاج في هذه السنة، وكانوا جماعة من شيوخ المذاهب في جواز النقل «1» ، وخيف عليه من الحر، فصلّي عليه بمخيم الحاج ودفن إلى جانب البرج بخليص، ووصل خبره إلى الديار المصرية ثم إلى دمشق في خامس المحرم سنة أربعين، وصلّي عليه صلاة الغائب بالبلاد، ووقف كتبه وأجزاءه، وتصدق بثلث ماله، (ص 224) وقلت أرثيه لما بلغني وفاته، وكنت إذ ذاك بالقاهرة المعزّية: [البسيط](5/550)
تراهم بالذي ألقاه قد علموا ... شطّ «1» المزار وبان البان «2» والعلم
لهفي عليهم وقد شدّوا ركائبهم ... عن الديار ولا يثني بهم ندم
قد كان يدنيهم طيف يلمّ بنا ... فالآن لا الطيف يدنيهم ولا الحلم
الله أكبر كم أجرى فراقهم ... دمعا وعاد بمن لا عاد وهو دم
أمّوا الحجاز فما سارت مطيّهم ... حتى استقلت نعوشا قدّمت لهم
وأحرموا لطواف البيت لا حرموا ... من لذة العيش طول الدهر ما حزموا
زاروا النبيّ وساروا نحو موقفهم ... حتى إذا قاربوا مطلوبهم جثموا
يا سائرين إلى أرض الحجاز لقد ... خلّفتم في حشاي النار تضطرم
هل منشد فيكم أو ناشد طلبا ... أضللته وادلهمّت بعده الظلم
قد كان في قاسم من غيره عوض ... فاليوم لا قاسم فينا ولا قسم «3»
من لو أتى مكة مالت أباطحها ... به سرورا وجادت أفقها الديم «4»
أقسمت منذ زمان ما رأى أحد ... لقاسم شبها في الأرض لو قسموا
هذا الذي يشكر المختار هجرته ... والبيت يعرفه والحل والحرم
ما كان ينكره ركن الحطيم به ... لو أخّر العمر حتى جاء يستلم
له إليه وفادات تقرّ بها ... جبال مكة والبطحاء والأكم
محدّث الشام صدقا بل مؤرخه ... جرى بهذا وذا فيما مضى القلم
يا طالب العلم في الفنّين مجتهدا ... في ذا وهذا «5» ينادى المفرد العلم(5/551)
تروى حديث العوالي عن يراعته ... وماله طاعن فيها ومتّهم
(ص 225) قد كان يدأب في نفع الأنام ولا ... يزلّه ضجر منه ولا سأم
وحقّق النقد حتى بان بهرجه «1» ... وصحّح النقل حتى ما به سقم
وعرّف الناس كيف الطرق أجمعها ... إلى النبي فما جاروا «2» ولا وهموا
وبعض ما جهلوا أضعاف ما علموا ... وعلّم الخلق في التاريخ ما جهلوا
يريك تاريخه مهما أردت به ... كأنّ تاريخه الآفاق والأمم
ما فاته فيه ذو ذكر أخلّ به ... ولو يروم لعادت عاد «3» أو إرم
إذا نشرت له جزأ لتقرأه ... تظل تنشر أقواما وهم رمم
يا أيها الموت مهلا في تفرّقنا ... شتّت شمل المعالي وهو منتظم
تجدّ فينا وتسعى في تطلّبنا ... اصبر سنأتيك لا تسعى بنا قدم
ها قد ظفرت بفرد لا مثيل له ... وإن أردت له مثلا فأين هم
يا ذاهبا مالنا ألّا تذكّره ... آها عليك وآه كلها ألم
جادت عليك من الغفران بارقة ... غراء يضحك فيها البارد الشّبم «4»
تروي ثراك وتسقى من جوانبه ... إلى جوانب حزوى «5» البان والسّلم «6»
وحل أرض خليص كلّ ريح صبا ... بنشرها تبعث الأرداف «7» واللمم(5/552)
وختّمت دون عسفان «1» لها سحب ... تسقى بأنوائها السكان والخيم
لهفي عليك لتحرير بلغت به ... ما ليس تبلغه أو بعضه الهمم
ما الحافظ السلفي الطّهر إن ذكرت «2» ... أسلافك الغرّ والآثار والكرم
قطعت عمرك في فرض وفي سنن ... هذي الغنيمة والأعمار تغتنم
/ (ص 226)
ومنهم
114- يوسف بن الزّكي عبد الرحمن بن يوسف بن عبد الملك القضاعي
الكلبي المزّي الدمشقي أبو الحجاج جمال الدين «3» الحافظ الجهبذ «4» حجة الحفاظ، انتهت إليه معرفة الرجال، ومدد الآجال، وزمر البطايا «5» منهم(5/553)
والعجال، إتقانا للمواليد والوفيات، والتكميل والفوات، والجرح والتعديل بالأمور الظواهر والخفيّات، وصنّف الكتب التي ما شنّف بمثلها قبله أذن الدنيا مشنّف، ولا صنف مثله قبلها مصنّف، سعة معرفة لا يضيق بها حصر، ولا يضيع في جانبها أهل عصر، مع اطلاع على اللغة آنس به غريبها، وحبس عليه عريبها «1» ، بمعارف قصرت مدته عن تحصيلها، وجملته عن تفصيلها، إلا أن الله سهّل له صعابها، وهوّن عليه أتعابها، فبلغ منها ما لم يصل إليه أمل آمل، ونبغ فيها وأنبه أهل زمانه معه خامل، إلا أنه كان ظاهر الجمود، لا يتكلم كأنه جلمود «2» ، ولم يكن فيه وحاشاه ما يعاب، ولا ما يدنّسه من قبح العاب «3» ، إلا أنه كان يتهوّس بالمطالب والكنوز، ويتفّرس أنه لها بمساعيه يحوز، وكان يتبذّل لأجلها مع العوام، ويقتحم بسببها الموت الزؤام «4» ، ولا يدع نفسه النفيسة، ويدعّ عنها أطماع هذه الخسيسة، وهيهات لقد ظفر من حديث الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام بمطلب لا يفنى، وذهب خلاص لابل أين الذهب من ذلك الجوهر الأسنى، فوا أسفا لرتبته العليا، ووالهفا كيف ضيّع وقتا من أوقاته بطلب سحت «5» الدنيا.. «6»(5/554)
مولده بظاهر حلب سنة أربع وخمسين وستمائة، ونشأ بالمزّة «1» وحفظ القرآن، وتفقّه قليلا ثم أقبل على هذا الشأن، ورحل سنة ثلاث وثمانين «2» ونسخ بخطه المليح المتقن كثيرا لنفسه ولغيره، ونظر في اللغة ومهر/ (ص 227) فيها وفي التصريف، وقرأ العربية، وأما معرفة الرجال فهو حامل لوائها، والقائم بأعبائها، لم تر العيون مثله، وخرّج لغير واحد، وأملى مجالس وأوضح مشكلات ومعضلات، ما سبق إليها من علم الحديث ورجاله، وكان ثقة كثير العلم، غزير الفضل، حسن الاخلاق، كثير السكون، قليل الكلام جدا، صادق اللهجة، لم تعرف له صبوة، وكان يطالع وينقل الطباق «3» إذا حدّث، وهو في ذلك لا يكاد يخفى عليه شئ مما يقرأ، بل يرّد في المتن والإسناد ردا مفيدا «4» ، بحيث يتعجب منه فضلاء الجماعة وكان متواضعا حليما صبورا مقتصدا في ملبسه ومأكله، كثير المشي في مصالحه.(5/555)
ترافق هو وشيخ الإسلام ابن تيمية في سماع الحديث، وفي النظر في العلم، وكان يقرّر طريقة السلف في السنّة، ويعضد ذلك بمباحث نظريّة وقواعد كلامية، وكان له عمل كثير في المعقول «1» ، وما وراء ذلك بحمد الله إلا حسن إسلام وخشية لله، وصحب في وقت العفيف التلمساني «2» ، فلما تبيّن له انحلاله واتحاده تبرأ منه وحطّ، وكان ذا مروءة وسماحة، وتقنع باليسير، باذلا لكتبه وفوائده ونفسه، كثير المحاسن، ولقد آذاه أبو الحسن ابن العطار «3» وسبّه فما تكلم فيه ولا فيمن آذاه، وقرأ بدمشق مرة تاريخ بغداد للحافظ أبي بكر الخطيب «4» ، فوثب عليه جماعة من الروم الحنفية، ورفعوه إلى قاضي القضاة، حسام الدين الرازي «5» ، وهو إذ ذاك حاكم بدمشق فتلطف الحاكم المذكور مع الفقهاء الحنفية المذكورين، ووعدهم ومنّاهم وعفا عنه، ومنعه بالحسنى منهم(5/556)
وأخرجه ليلا فغيّب مدة حتى سكنت الثائرة، وخمدت الفتنة وعصمه الله منهم، وكانوا قد عزموا على قتله بأيديهم «1» ، وكانت وفاته في ثاني عشر صفر سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، وصليّ عليه الغد بجامع دمشق ودفن بمقبرة الصوفية.
ومنهم
(ص 228) /
115- محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز ابن الذهبي أبو عبد الله شمس الدين
«2» بقية الحفاظ. هو شمس العصر لا غابت، ولا اعتلت أصلها ولا خابت، بقي في هذا الزمن الأخير بقاء الشمس في العصر، وتفرّدها بالمحاسن التي تجل عن الحصر، فضائل لا يستطيعها أهل التحصيل، وفواضل تحلي ذهبيّ العصر بمثل ذهبيّة العصر من الأصيل»
، معدن لا غرو أن نسب إلى ذهبيّة الذهب أو حسب للهبيّة «4» ما لا ينكر لقريحته من اللهب، ما المزّيّ عنده إلا ممّن تمزّز وما شرب حتى اضطلع «5» ، ووقف دون العقبة الكؤود وما طلع، فاقه بل ساوى كل سابق(5/557)
متقدم إن لم يكن فاقه، وضبطه فيما قيّده ثم ما حلّ وثاقه، علم حديث وتاريخ أصبح فيهما فردا لا يخلف، وسابقا ونحن نسأل الله أن يتخلّف «1» ، وإماما بقي في أثناء الدهر حتى صلوا خلفه وسلّموا، وعرفوا حقه فودّوا أن يتأخر ويقدّموا، وواحدا لو أن لأهل هذا الزمان همّة من كان قبلهم لشدوا إليه المطي تلطم وجوه السباسب «2» ، وتشق جلباب الضحى والغياهب «3» ، ولا تزال تحط لديه رجال وتشدّ رحال، وتعدّ سويّ لقيّه محالا كل حال «4» .
مولده في ربيع الآخر سنة ثلاث وسبعين وستمائة «5» ، وعمل مع والده صناعة الذهب، ثم في سنة تسعين أحب القراءات، فقرأ التجويد وقرأ للسوسي بالإدغام «6» في سنة إحدى وتسعين، وقرأ لنافع «7» بكماله على الشيخ محمد(5/558)
المزراب «1» ولازمه وحصّل شرح الشاطبي «2» ، وفي أيام العريق «3» منها شرع في القراءات السبعة جمعا على الشيخ جمال الدين الفاضلي «4» ، وذهب إلى الجمال البدوي «5» فوشمه «6» في كيفية الجمع، ومات الفاضلي وقد جمع عليه إلى أواخر القصص سنة اثنتين وتسعين، في ربيع الآخر.
قال الذهبي: فتألمت لكوني لم أكمّل، ففتح الله علينا/ (ص 229) بشمس الدين الدمياطي «7» ، فذهبنا إليه وكلمناه، فوجدناه ذاكرا للقراءات ذكرا جيدا، أجود من الفاضلي، فإن الفاضلي كان قد استولى عليه الفالج، وتغيّر حفظه،(5/559)
فقعد لنا الدمياطي في الكلاسة «1» طرفي النهار، وكان مستحضرا للشاطبية، فكمّلت عليه القراءات في مدة يسيرة، وكذا ابن بضحان «2» وابن غدير «3» ، وقرأت عليه ختمة واحدة لابن عامر «4» ، وكملت القراءات على الإسكندري «5» في تلك المدة، وقرأت في تلك المدة على الشمس(5/560)
الحياضري «1» ، وكملت عليه في أول سنة ثلاث وتسعين، ثم لازمت الشيخ مجد الدين التونسي «2» في أثناء سنة اثنتين وتسعين، وشرعت عليه في ختمه للسبعة، وبرّحنا «3» عليه في القصيد أنا وابن غدير والعلم الحلبي «4» وابن بضحان، وتفقهنا في بحوث القراءات به، وقرأت النحو على ابن أبي الفتح «5» ، وحضرت دروس النحو في العادلية «6» عند الشيخ شرف الدين(5/561)
الفزاري «1» ، وقرأت النحو أيضا على الشهاب «2» الشاغوري.
وفي رجب سنة اثنتين وتسعين سمعت الحديث أول ما سمعت فيها على ابن عساكر «3» ، وابن البزوري «4» ، وعائشة بنت المجد «5» وجماعة، ثم دللت على(5/562)
ابن القواس «1» بعربيل «2» فأخذت المبهج «3» في القراءات، وطلعت إليه، فقرأت عليه يومئذ منه نحو عشرة كراريس، وذلك أول يوم من سنة ثلاث، ثم دخل المدينة «4» ، وسمعت عليه الحديث، وغويت بالحديث «5» ، وقرأت على النظام التبريزي «6» ختمة لأبي عمرو «7» ثم استأذنت والدي في الرحلة إلى بعلبك «8» فأذن لي بعد تكرر سؤالي له فلازمت التاج عبد الخالق «9» والموفق بن قدامة «10» والشيوخ نسمع، وقرأت على الشيخ موفق الدين بن قدامة ختمة للسبعة في نحو(5/563)
خمسين يوما، وكملتها في سلخ سنة ثلاث وتسعين، وقرأت في تلك المدة عدة كتب من المسندات، ثم عزمت على الرحلة إلى الديار المصرية فاستأذنت والدي فغضب/ (ص 230) وضج وحلف بالطلاق أنه ما يعطيني فلسا إن رحت، فحزنت وقعدت أنسخ بالأجرة، حتى كنت أحس ظهري ينقطع وأنا أتجلد وأكابد، حتى إني كنت يوم سبت في بستان ضمنّاه، وهم فيما هم، وأنا قد شددت خلف ظهري دفّة خشب من الوجع، وأنا لا أستريح، وصمّدت مائة وثمانين درهما ثم مرضت وبرد عزمي، وأيست من السفر، ثم هيّجني السفر قليلا، فألقيت في ذهن أمي السفر، فقالت لوالدي، وقلت: معي هذه الدراهم أتوصل بها، فقال والدي: إن الغريب الطويل الذيل ممتهن، فكيف حال غريب ماله قوت وضرب لي الأمثال، ثم قال: قد بلشت باليمين «1» ، فأعطتني أختي خواتيم ذهب وغير ذلك، فسافرت في رجب سنة خمس وتسعين، ومعي ما قيمتة ثمانمائة درهم، فسمعت بالبلاد التي بالطريق، ونزلت بزاوية ابن الظاهري «2» ، وقرأت السيرة(5/564)
لابن هشام «1» على الأبرقوهي «2» في ستة أيام فكنت أقرأ من بكرة النهار إلى المغيب، في النهار نستريح ساعة في وسط النهار، ثم سافرت في أوائل رمضان إلى الإسكندرية في النيل، فلقيت بها يحيى بن الصواف «3» ، فرغت عليه في ختمة جمعا فأقرأني آيات، وقال: قف وكان قد أصمّ وعمي، وهو عسر الأخذ، وانقطع صوتي مما أرفعه ليسمع، فسلوته وسمعت عليه ثلاثة أجزاء من الخلعيات، ثم مضيت إلى سحنون «4» ، فكنت أقرأ عليه من القرآن كل يوم جزئين وأكثر لنافع «5»(5/565)
وعاصم «1» ، فأكملت عليه الختمة في أحد عشر يوما، ومات ثاني يوم ختمت، وذلك في رابع شوال، ثم رجعت في خليج الإسكندرية إلى القاهرة، وشرعت في تتمة ما قدّر لي أن أسمعه، وعدت إلى دمشق، وزرت الخليل (عليه الصلاة والسلام) «2» والقدس.
وقرأت على الجعبري «3» كتابه في القراءات العشر الذي نظمه مرموزا كالشاطبية وسمعت بنابلس من العماد بن بدران «4» / (ص 231)
هذا ملخص ما ذكره في ابتداء طلبه، ثم إنه ولي خطابة قرية كفر بطنا من قرى غوطة دمشق، فسكنها مدة ولازم الاشتغال والتخريج والاختصار والتصنيف، ولم يكن له هم غير ذلك، ولا له عنه شاغل.
ثم انتقل عن الخطابة المذكورة لما ولي مشيخة دار الحديث الظاهرية «5» ،(5/566)
وولي معها مشيخة الحديث بتربة أم الملك «1» الصالح، ومشيخة الدار «2» التنكزية ومشيخة الدار النفيسية «3» ، وانتهت إليه الرئاسة في معرفة الحديث وعلله، وصحيحه وسقيمه ورجاله، وجرح وعدّل، وصحّح وضعّف، واستدرك على الحفاظ، ولم يزل يكتب وينتقي ويصنف الكتب الكبار، هذا دأبه، مع مباشرة الوظائف وإفادة الطلبة إلى أن أضر بأخرة «4» .
وأما التاريخ فتفرد بمعرفته وصنّف فيه تاريخ الإسلام في أحد وعشرين مجلدا واختصر تاريخ بغداد، وتاريخ دمشق في عشر مجلدات، وتاريخ ابن المديني «5» ، وانتخب كثيرا من تاريخ ابن النجار «6» ، وذيل السمعاني «7»(5/567)
ووفيات المنذري»
، والشريف «2» والبرزالي «3» ، واختصر تاريخ نيسابور «4» وتاريخ أبي شامة «5» . وصنّف طبقات القرّاء مرتين، الثانية مهذّبة، وطبقات الحفّاظ المهرة في مجلدين، وعمل ميزان الاعتدال في نقد الرجال ثلاث مجلدات، ونبأ الدجال، وألّف كتاب المشتبه في الأسماء والأنساب، ومناقب العشرة، وكتاب العبر في خبر من غبر مجلدين، وتاريخ دول الإسلام مجلد وتجريد أسماء الصحابة مجلد كبير، وكتاب المغني في الضعفاء مجلد، والضعفاء كتاب آخر أصغر من المغني، وكتاب النبلاء في شيوخ الأئمة الستة، وكتاب مختصر الكنى، وصنّف تراجم أعيان النبلاء من الأئمة والحفاظ والكبراء والوزراء والملوك في عشرين مجلدا، وكتاب الممتع في ستة أسفار.
وأما ما صنّفه من المسائل وغيرها من الأبواب مما هو جزء/ (ص 232) :
فكتاب الزيارة المصطفوية(5/568)
جزء، وآخر كبير، وآية الكرسي جزء، وسيرة الحلّاج «1» جزءان، وتحريم أدبار النساء صغير وآخر ضخم، وكتاب الكبائر ثلاثة كراريس، وجزء في الشفاعة، وجزءان في صفة الجنة، وجزء في حديث القهقهة، طرق حديث ينزل ربنا، طرق حديث الطير، طرق من كنت مولاه، ما تصح به التلاوة ثلاثة أجزاء، مسألة الاجتهاد، مسألة خبر الواحد، التمسك بالسنن، التلويح بمن سبق ولحق، معرفة آل منده «2» ، أهل المائة عام، مهم تقييد المهمل، مختصر في القراءات، الوصية العفيفية، اللآلي السفطية في الليالي الغوطية مجلد، هالة البدر إلى أهل بدر، مسألة السماع جزء، ومسألة الخميس، ومسألة الغيبة، جزء، الخضاب جزء أربعة تعاصروا، ومسألة الوعيد، وكتاب الموت وما بعده، رؤية الباري.
وأما ما اختصره من الكتب الكبار، فكتاب السنن الكبير للبيهقي «3» في(5/569)
مقدار النصف مع المحافظة على المتون، واختصر المدخل إليه، واختصر الروض الأنف واختصر من تهذيب الكمال تجريد الأسماء، عمله عشر طبقات، وكتابا سماه تذهيب التهذيب، واختصر منه الكاشف مجلد، واختصر الفاروق وهذّبه، واختصر الرد على ابن طاهر «1» ، وكتاب جواز السماع لجعفر الأدفويّ «2» .
واختصر المحلّى لابن حزم «3» في ثلاث مجلدات ونصف سماه المستحلى، واختصر المستدرك للحاكم «4» ، واختصر الأطراف في مجلدين، واختصر تقويم البلدان لصاحب حماه.
وأما ما خرّجه لكبار شيوخه من المعاجم الكبار والصغار فينيف على(5/570)
العشرة، وخرّج لنفسه معجما مرتين ومعجما لطيفا منقى، وغالب مصنفاته موشحة بمروياته.
قال وعملت عدة تواليف في السنّة والعرش أخفيتها خوف الفتن والأهواء «1» .
هذا ما حضرني من كتبه،/ (ص 233) وبه تمام حفاظ المشرق، وسحب هذا النوء المغدق، ولا أعرف معه آخر فأذكره، وأشهده محفل هذا الكتاب وأحضره.(5/571)
فأما الحفاظ بالجانب الغربي
فلولا مصر ما نهضت قوادمهم «1» المحصوصة «2» ، وسدّت خصاصتهم «3» المعروفة بهم فواقرها «4» المخصوصة، وسأذكر من لاح نجمه مصوّبا في غربهم، وسقي صيّبا من «5» سحّهم:
فمنهم
116- يحيى بن يحيى بن كثير بن وسلاس
«6» الليثي الأندلسي، راوي كتاب الموطأ وعاقل الأندلس، وعاقد أزمّتها الشمس، والمقدّم في حفّاظها، والميمّم بقصد ألحاظها، والمعدود في معارف أعلامها، وثانيا في عوارف أيامها، وثالثا لدافق بحرها وساكب غمامها، ورابعا لنجوم سمائها وشموس ضيائها وبدور ظلامها، وخامسا إلى ما لا نهاية له من العدد من المحاسن المؤذنة بتمامها، مشدّد في دين، ومسدّد لا يلين، ومشيّد(5/572)
لأركان الشريعة فرد ماله خدين «1» .
سمع من مالك المؤطأ غير أبواب في الاعتكاف، شكّ في سماعها، فأثبت روايته فيها عن زياد بن عبد الرحمن اللخمي «2» عن مالك.
وسمع بمكة من ابن عيينة «3» وبمصر من الليث بن سعد «4» وعبد الله بن(5/573)
وهب «1» وعبد الرحمن بن القاسم «2» .
وتفقه بالمدنيين والمصريين من أكابر أصحاب مالك بعد انتفاعه بمالك وملازمته له، وكان مالك يسميه عاقل الأندلس، وكان سبب ذلك فيما روي:
أنه كان في مجلس مالك مع جماعة من أصحابه فقال قائل: قد حضر الفيل، فخرج أصحاب مالك كلهم لينظروا إليه ولم يخرج يحيى، فقال له مالك: ما لك لا تخرج تراه، لأنه لا يكون بالأندلس؟ فقال: أنا جئت من بلدي لأنظر إليك، وأتعلم منك هديك وعلمك، ولم أجئ لأنظر إلى الفيل. فأعجب به مالك وسماه/ (ص 234) عاقل الأندلس. ثم إن يحيى عاد إلى الأندلس وانتهت إليه الرئاسة بها، وبه انتشر مذهب مالك في تلك البلاد، وتفقه به جماعة لا يحصون عددا، وروى عنه خلق كثير، وأشهر روايات الموطأ وأحسنها روايته، وكان مع إمامته ودينه معظما عند الأمراء، مكينا عفيفا عن الولايات، متنزها، جلّت رتبته عن القضاء، فكان أعلى قدرا من القضاة عند ولاة الأمر هنالك لزهده في القضاء،(5/574)
وامتناعه منه، قال ابن حزم «1» : مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان مذهب أبي حنيفة، فإنه لما ولّى قضاء القضاة أبو يوسف «2» ، كانت القضاة من قبله فكان لا يولي قضاء البلدان من أقصى المشرق إلى أقصى إفريقية إلا أصحابه ومن انتمى إلى مذهبه، ومذهب مالك بن أنس عندنا في بلاد الأندلس، فإن يحيى بن يحيى كان مكينا عند السلطان مقبول القول في القضاة، وكان لا يلي قاض في أقطار بلاد الأندلس إلا بمشورته واختياره، ولا يشير إلا بأصحابه، ومن كان على مذهبه، والناس سراع إلى الدنيا، فأقبلوا على ما يرجون به بلوغ أغراضهم به على أن يحيى بن يحيى لم يل القضاء قط ولا أجاب، وكان ذلك زايدا في جلالته عندهم، وداعيا إلى قبول رأيه لديهم.
وقال أحمد بن أبي الفياض «3» : كتب الأمير عبد الرحمن بن الحكم «4»(5/575)
المرتضى صاحب الأندلس إلى الفقهاء يستدعيهم إليه، فأتوا إلى القصر، وكان عبد الرحمن المذكور قد نظر في شهر رمضان إلى جارية له كان يحبها حبا شديدا فعبث بها ولم يملك نفسه أن وقع عليها، ثم ندم شديدا، فسأل الفقهاء عن توبته من ذلك وكفارته، فقال يحيى بن يحيى: يكفّر ذلك يصوم شهرين متتابعين، فلما بدّر يحيى إلى هذه الفتيا سكت بقية الفقهاء/ (ص 235) حتى خرجوا من عنده، فقال بعضهم لبعض، وقالوا ليحيى مالك لم تفته بمذهب مالك؟ فعنده أنه مخير بين العتق والطعام والصيام، فقال: لو فتحنا له هذا الباب سهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة ولكن حملته على أصعب الأمور لئلا يعود.
وقال محمد بن عمر بن لبابة «1» : فقيه الأندلس عيسى بن دينار «2» ، وعالمها عبد الملك ابن حبيب «3» ، وعاقلها يحيى بن يحيى، وكان أحمد بن(5/576)
خالد «1» يقول: لم يعط أحد من أهل العلم بالأندلس منذ دخلها الإسلام من الحظوة وعظم القدر وجلالة الذكر ما أعطيه يحيى بن يحيى، وقال ابن بشكوال «2» : كان يحيى بن يحيى مجاب الدعوة، وكان قد أخذ في نفسه وهيئته ومقعده هيئة مالك. وحكي عنه أنه قال: أخذت ركاب الليث بن سعد «3» فأراد غلامه أن يمنعني، فقال: دعه، ثم قال لي الليث: خدمك العلم فلم تزل بي الأيام حتى رأيت ذلك. ثم قال ابن بشكوال: توفي يحيى في رجب سنة أربع وثلاثين ومائتين، وقبره بظاهر قرطبة بمقبرة ابن عيّاش يستسقى «4» به.
وزاد الحميدي «5» أن وفاته كانت لثمان بقين من الشهر المذكور.(5/577)
ومنهم
117- بقيّ بن مخلد
«1» الإمام شيخ الإسلام أبو عبد الرحمن القرطبي الحافظ صاحب المسند الكبير، والتفسير الجليل، والتقرير الجميل، والتقريب لما لم يدر في خلده، ولم يدر ما لابن مخلد منه خلد، أسوة أنظاره، وقدوة زمانه، والناس على آثاره، لو لم يكن للأندلس سواه لما فنيت عروشه، ولا فتئت في سن الفتاء «2» شموسه، ولا تجاسر الأصيل إذا غرّبت الشمس بذلك الأفق أن تشعشع كؤوسه، أقلع نوءه، وهذه غدره «3» وغاض بحره وهذه درره، وذهب زمانه وهذه/ (ص 236) مصنفاته وهذا خبره.
ولد في شهر رمضان سنة إحدى ومائتين، وطوّف الشرق والغرب وشيوخه مائتان ونيّف وثمانون شيخا، وروى عنه جماعة، وكان إماما علما قدوة مجتهدا لا يقلّد أحدا، ثقة حجة صالحا عابدا متهجدا أواها منيبا عديم النظير في زمانه.
قال أحمد بن أبي خيثمة «4» : ما كنا نسميه إلا المكنسة، وهل يحتاج بلد(5/578)
فيه بقي أن يأتي منه إلينا أحد، وقال أبو الوليد «1» الفرضي: ملأ بقي الأندلس حديثا، وقال أبو عبد الملك القرطبي «2» في تاريخه: كان بقي طوالا أقنى ذا لحية مضبّرا «3» ، وكان متواضعا، ملازما لحضور الجنائز، وكان يقول: إني لأعرف رجلا كان تمضي عليه الأيام في وقت طلبه ليس له عيش إلا ورق الكرنب «4» .
وقال بقي: لما رجعني من العراق أجلسني يحيى بن بكير «5» إلى جنبه وسمع مني سبعة أحاديث. وقد تعصبوا على بقي، لإظهاره مذهب أهل الأثر، فدفعهم عنه أمير الأندلس محمد بن عبد الرحمن «6» المرواني، واستنسخ كتبه، وقال(5/579)
لبقي: انشر علمك، وقال بقيّ لقد غرست للمسلمين غرسا بالأندلس لا يقلع إلا بخروج الدجّال. وقال ابن حزم «1» : كان بقي ذا خاصة من أحمد بن حنبل وجاريا في مضمار البخاري ومسلم والنسائي، وقال بقي: كل من رحلت إليه فماشيا على قدمي، وكان بقي مجاب الدعوة، ويؤثر عنه إيثار حتى بثوبه، وقيل إنه كان يختم القرآن كل ليلة في ثلاث عشرة ركعة، ويسرد الصوم، وحضر سبعين غزوة، ومات في جمادى الآخرة سنة ست وسبعين ومائتين.
ومنهم
118- محمد بن أبي نصر فتوح بن عبد الله بن فتوح بن حميد الأزدي الحميدي الأندلسي الميورقي
«2» الحافظ المشهور، تنازعت فيه الجزائر، وسارعت/ (ص 237) إلى تلقي خياله الزائر، أفرشه الأندلس نمارقه الخضر فأباها، وأحلّه مفارقه البيض فنفس بنفسه على رباها، وأخذ يسمو سمّو حباب «3» الماء حالا على حال، ويتعقب سفائن بحر وسفائن آل «4» ، إلى أن نزل بكنف بغداد المخصب، وتطرّف بمطرف «5» العراق(5/580)
المعشب، ثم حرّم على الرحال ظهورها، وإلى الارتحال ظهورها، وسكن بجانب دجلة لا يسقى إلا بمائها، ولا يظلّل إلا بسمائها، وحبّب إلى أهلها لوجود الملاءمة ووجوه المحاسن التي تخلّق بأخلاقها، وعداه اللائمة، أصله من قرطبة من ربض «1» الرصافة، وهو من أهل جزيرة ميورقة تجاه شرق الأندلس، روى عن أبي محمد ابن حزم واختص به، وأكثر من الأخذ عنه وشهر بصحبته، وعن أبي عمر بن عبد البر «2» وغيرهما من الأئمة، ورحل إلى الشرق سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، فحج وسمع بإفريقية والأندلس وبمكة حرسها الله وشرّفها، وبمصر والشام والعراق، واستوطن بغداد، وكان موصوفا بالنباهة والمعرفة والإتقان والدين والورع، وكانت له نغمة حسنة في قراءة الحديث. وقال أبو نصر بن ماكولا «3» لم أر مثله في عفّته ونزاهته وتشاغله بالعلم، وكان من اجتهاده ينسخ بالليل في الحرّ، وكان يجلس في إجانة «4» ماء يتبرد به وكان إماما في الحديث وعلله ورواته، متحققا في علم التحقيق والأصول على مذهب أصحاب الحديث، متبحرا في علم الأدب والترسل، وله كتاب الجمع بين الصحيحين، وهو مشهور، وأخذه الناس عنه، وله مصنفات أخر مفيدة، توفي ليلة الثلاثاء سابع عشر ذي الحجة سنة ثمان وثمانين وأربعمائة ببغداد، ودفن من الغد بالقرب من قبر الشيخ(5/581)
أبي إسحاق الشيرازي «1» ، وصلى عليه أبو بكر الشاشي «2» في جامع القصر، ثم نقل بعد ذلك في صفر سنة إحدى وتسعين وأربعمائة إلى/ (ص 238) مقبرة باب حرب، ودفن عند قبر بشر الحافي «3» ، ومولده قبل العشرين وأربعمائة، ومن نظمه: [الوافر]
لقاء الناس ليس يفيد شيئا ... سوى الهذيان من قيل وقال
فأقلل من لقاء الناس إلا ... لأخذ العلم أو لصلاح حال
ومنه قوله: [الوافر]
طريق الزهد أفضل ما طريق ... وتقوى الله بادية الحقوق
فثق بالله يكفك واستعنه ... يعنك وذر بنيّات الطريق
ومنه قوله: [الوافر]
كتاب الله عز وجل قولي ... وما صحّت به الآثار ديني
وما اتفق الجميع عليه بدءا ... وعودا فهو عن حق مبين
فدع ما صدّ عن هذي وخذها ... تكن منها على عين اليقين(5/582)
ومنهم
119- خلف بن عبد الملك بن مسعود بن موسى بن بشكوال أبو القاسم الأنصاري الأندلسي
«1» القرطبي، محدث الأندلس ومؤرخها، ومتعب المساعي في مجاراته وموبّخها، ومسمع رممها الأموات بنداء تاريخه ومصرّخها، وكاتب آثارها بيديه ومستنسخها، حفظ عن السلف، وتأخّر ونعم الخلف خلف، وفخر وما تكلم إلا تصنيفه وما ثمّ إلا معترف، وذخر وما هو إلا علمه الطود الذي ما نسف، والبحر الذي ما نزف.
ولد سنة أربع وتسعين وأربع مائة، قال أبو عبد الله الأبار «2» : كان متسع الرواية شديد العناية بها، عارفا أخباريا تاريخيا ذاكرا لأخبار الأندلس، سمع العالي والنازل وأسند/ (ص 239) عن شيوخه أزيد من أربع مائة كتاب، بين صغير وكبير، ورحل إليه الناس وأخذوا عنه، ووصفوه بصلاح الدخلة، وسلامة الاعتقاد، وصحة التواضع، وصدق الصبر للطلبة، وطول الاحتمال، ألّف خمسين تأليفا في أنواع العلم، وولي بأشبيلية قضاء بعض جهاتها نيابة لأبي بكر بن العربي»
،(5/583)
وعقد الشروط، ثم اقتصر على إسماع العلم وعلى هذه الصناعة، وهي كانت بضاعته، والرواة عنه لا يحصون، واستوعب ابن الزبير «1» ترجمته، وقال: كان يؤثر الخمول «2» والقناعة بالدون من العيش، ولم يتدنّس رحمه الله بخطة تحطّ من قدره، حتى لم يجد أحد إلى الكلام فيه من سبيل، توفي في ثامن شهر رمضان سنة ثمان وسبعين وخمسمائة عن أربع وثمانين سنة.
ومنهم
120- عبد الحق بن عبد الرحمن بن الحسين بن سعيد الحافظ أبو محمد الأزدي الإشبيلي
«3» ويعرف بابن الخرّاط، فاضل أرشفته الدنيا ريقها، وألحفته وريقها، ثم نغصت له جرعها، وخلعت عن منكبيه خلعها، واستردت منه أيّام عواريها، وردّت إليه سهام عواديها، وقلبت له ظهر مجنّها، ودهر أمنها، فنابته نوائبها، وأصابته صوائبها، وأخذ فيها من حيث ظنّ أنها سالمته، وقد اغترّ بأنها في زخرفها ساهمته، وخدعته بغرورها، وما عرف أنها أوهمته، سكن إليها وهي التي لا يسكن إليها ذو حجى، واطمأن بها وكيف يطمئن خابط في الدجى، سكن(5/584)
بجاية وقت الفتنة التي زالت فيها الدولة اللمتونية «1» فنشر بها علمه، وصنّف التصانيف واشتهر اسمه، وبعد صيته وسعد قسمه، وولي خطابة بجاية. ذكره أبو عبد الله الأبار «2» فقال:/ (ص 240)
كان فقيها حافظا عالما بالحديث وعلله، عارفا بالرجال، موصوفا بالخير والصلاح والزهد والورع، ولزوم السنة، والتقلل من الدنيا، مشاركا في الأدب وقول الشعر، وصنّف في الأحكام نسختين: كبرى وصغرى، سبقه إلى مثل ذلك أبو العباس بن أبي مروان «3» الشهيد بلبله، فحظي عبد الحق دونه، وله في الجمع بين الصحيحين مصنّف، وله أيضا مصنّف كبير جمع فيه بين الكتب الستة، وله مصنفات أخر، منها كتاب في اللغة حافل، ضاهى به كتاب الغريبين للهروي «4» . وتوفى ببجاية بعد محنة نالته من قبل الدولة في ربيع الآخر سنة إحدى وثمانين وخمس مائة. ومن شعره قوله: [الخفيف]
إن في الموت والمعاد لشغلا ... وادّكارا لذي النهى وبلاغا
فاغتنم خطّتين قبل المنايا ... صحة الجسم يا أخي والفراغا(5/585)
ومنه قوله: [السريع]
واها لدنيا ولمغرورها ... كم شابت الصفو بتكديرها
إنّ امرءا أمّن في سربه ... ولم ينله سوء مقدورها
وكان في عافية جسمه ... من مس بلواها وتغييرها
وعنده بلغة يوم فقد ... حيزت إليه بحذافيرها «1»
ومنهم
121- محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن سيّد الناس اليعمري الأندلسي الإشبيلي
«2» عالم المغرب، فاضل أشهر من ظهور النجوم في العتم، وأنفع من وجود الغنى في العدم، علم علم لا ينكر، وفضل لا يستحق معه أحد أن يذكر، وكان يرى مذهب أهل الظاهر لا يتعدّاه إلى قياس، ولا يوسع نظره في رأي خوف الالتباس، رقي صهوة المنبر معلنا بالخطب، وأعاد غصنا غضا/ (ص 241) تحته عود ذلك(5/586)
الحطب، ببلاغة جنى ثمرها يانعا، وجلا قمرها ولم يجد مانعا.
ولد سنة سبع وتسعين وخمسمائة، وذكره الشريف عز الدين «1» في وفياته فقال: كان أحد حفّاظ الحديث المشهورين، وفضلائهم المذكورين، وبه ختم هذا الشأن بالمغرب. وقال ابن الزبير «2» : أجاز له نحو من أربعمائة، وانتقل إلى حصن القصر، ثم إلى طنجة، وأقرأ بجامعها وأمّ وخطب، ثم انتقل إلى بجاية، فخطب بجامعها، ثم طلب إلى تونس، فدرّس بها وكان ظاهريّ المذهب، توفي في رجب سنة تسع وخمسين وستمائة.
وهذا آخر المحدّثين بالغرب الممحّض، ويأتي بعده من كان منهم بمصر، لأنها لسوء بختها في الغرب واقعة، وفي قسمها محسوبة إن لم يكن ثمّ أجوبة دافعة.
فمنهم
122- يزيد بن أبي حبيب الإمام الكبير أبو رجاء الأزدي
«3» مولاهم المصري، الفقيه الذي لو أودع الغمام لكان بجفنيه يقيه، ولو عقل الزمان لما سأل إلا أن الله (ينذر) حياته ويبقيه، أبدل أراجيف مصر سكونا، وتخاويف أهلها تأمينا، وسلّت فيها ملاحاة الملاحم، وملاواة الملاوم، حتى أعادها غرّآء آمنة في مدّته، بيضاء كصحيفة عمله الصالح لا جلدته، قال ابن يونس «4» : كان مفتي أهل(5/587)
مصر، وكان عليما عاقلا، وهو أوّل من أظهر العلم بمصر، والمسائل في الحلال والحرام، وقبل ذلك كانوا يتحدثون في الترغيب والملاحم والفتن.
وقال الليث بن سعد «1» : يزيد سيدنا وعالمنا، وقيل: إنّ يزيد أحد ثلاثة جعل إليهم عمر بن عبد العزيز «2» الفتيا بمصر، وقال ابن «3» لهيعة: كان أسود نوبيّا، ولد سنة ثلاث وخمسين، سمعته يقول: كان أبي من أهل دمقلة، ونشأت بمصر وهم/ (ص 242) علويّة يعني شيعة فقلبتهم عثمانية، وقال الليث:
حدّثنا عبيد الله «4» بن جعفر، ويزيد بن أبي حبيب- وهما جوهرتا البلاد- كانت البيعة إذا جاءت لأحد كانا أول من يبايع.(5/588)
وقال ابن لهيعة: مرض يزيد فعاده أمير مصر الحوثرة بن سهيل «1» ، فقال يا أبا رجاء ما تقول في الصلاة في الثوب فيه دم البراغيث؟ فحوّل وجهه، ولم يكلمه، فقام ونظر إليه يزيد، وقال: يقتل كل يوم خلقا، ويسألني عن دم البراغيث!! وقال يزيد: لا أدع أخا لي يغضب عليّ مرتين، بل أنظر الأمر الذي يكره فأدعه، وأرسل زبّان «2» بن عبد العزيز إلى يزيد ايتني لأسألك عن شئ من العلم، فأرسل إليه، بل أنت فأتني فإن مجيئك إليّ زين لك ومجيئ إليك شين عليك. توفي سنة ثمان وعشرين ومائة.
ومنهم
123- عبد الغني بن سعيد بن علي بن سعيد بن بشر بن مروان، الحافظ النّسابة أبو محمد الأزدي المصري
«3» مفيد تلك الناحية ومفيد شموسها الضاحية، وأيامها الممطرة إلا أنها الصاحية، ولياليها المطّهرة من قول اللّاحية «4» ، وأوقاتها التي جاءت بآية النهار لآية الليل ماحية، فطن لا يحتاج أن يكدح، وألمعيّ «5» في زناد ذهنه لا يقدح،(5/589)
عارف بالنسب تعد منه خصائله، وتعدد به قبائله، وشعوبه وفصائله، ردّ جوهر كل نسب إلى معدنه، وتبين من آدم مرمى كل فريق تفرّق وموطنه، عارف فيهم بالممادح والمذامّ لكنه لم يتعود من القول غير أحسنه.
قال البرقاني «1» : لما قدم الدارقطني «2» من مصر سألته هل رأيت في طريقك من يفهم شيئا من العلم؟ قال: ما رأيت في طول طريقي إلا شابا بمصر يقال له عبد الغني/ (ص 243) كأنه شعلة نار، وجعل يفخم أمره، ويرفع ذكره، وقال منصور بن علي الطرسوسي «3» : لما أراد الدارقطني الخروج من عندنا من مصر، خرجنا نودعه وبكينا، فقال: تبكون وعندكم عبد الغني بن سعيد وفيه الخلف، وقال عبد الغني: لما رددت على أبي عبد الله «4» الحاكم الأوهام التي في المدخل إلى الصحيح بعث إليّ يشكرني ويدعو لي، فعلمت أنه رجل عاقل.
وقال العتيقي «5» : كان عبد الغني إمام زمانه في علم الحديث وحفظه، ثقة مأمونا، ما رأيت بعد الدارقطني مثله، وقال البرقاني: ما رأيت بعد الدار(5/590)
قطني أحفظ من عبد الغني المصري، وقال الصوري «1» : قال لي عبد الغني ابتدأت بعمل كتاب المختلف والمؤتلف، فقدم علينا الدارقطني، فأخذت عنه أشياء كثيرة منه، فلما فرغته «2» ، سألني أن أقرأه (لأسمعه) «3» مني، فقلت:
عنك أخذت أكثره، فقال: لا تقل هذا، فإنك أخذته عني مفرّقا، وقد أوردته مجموعا، وفيه أشياء عن شيوخك، فقرأته عليه. وذكر أبو الوليد «4» الباجيّ عبد الغني فقال: حافظ متقن، قلت لأبي «5» ذر: أخذت عنه؟ قال: لا إن شاء(5/591)
الله، على معنى التأكيد، وذلك أنه كان له اتصال ببني عبيد «1» .
توفى في سابع صفر سنة تسع وأربعمائة، وكان له جنازة عظيمة، تحدث بها الناس، ونودي له: هذا نافي الكذب عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومنهم
124- أبو طاهر الأصبهاني واسمه أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن سلفة الأصبهاني
«2» صدر الدين، أحد الحفاظ المكثرين، أتى مصر، ومذهب الإسماعيلية «3» بها قد أخذ على كل مذهب، وأخذ بكل مذهب/ (ص 244) ، وعقارب تلك العقائد المسمومة قد دبّت في تلك الأقطار، وضلال تلك الأفاعي المساورة «4» قد تمكنت في تلك الديار، وقد أميت علم الحديث والتاريخ والنسب، وأفيت «5»(5/592)
في فايت الحقب، وجعل إلى أذية «1» من عرفه أو قال به أعظم سبب بأضعف سبب، ليحفوا «2» تلك الأنساب الدعية المدخولة، ويطيروا بقوادم تلك الأحساب الوضيعة المرذولة، فقام مشمرّا للعزائم مجاهرا لا ترده اللوائم، حتى أحيا ميت السّنّة، وأمات حيّ البدعة، وفعل ما شكر الله له والإسلام عليه صنعه، وكأنما كان ممهّدا لبني أيوب «3» ومقدما لمآثرهم التي أقسمت الأيام أنها بمثلها لا تؤوب.
رحل في طلب الحديث ولقي أعيان المشايخ، وكان شافعي المذهب، ورد بغداد واشتغل بها على الكيا الهرّاسي «4» في الفقه، وعلى أبي زكريا «5» يحيى(5/593)
التبريزي اللغوي في اللغة، وجاب البلاد وطاف الآفاق، ودخل ثغر الإسكندرية سنة إحدى عشرة وخمسمائة، وأقام به، وقصده الناس من الأماكن البعيدة، وسمعوا عليه وانتفعوا به، ولم يكن في آخر عمره في عصره مثله، وبنى له العادل أبو الحسن عليّ بن السلّار «1» وزير الظافر «2» صاحب مصر سنة ست وأربعين وخمسمائة مدرسة بالثغر المذكور، وفوّضها إليه، وهي معروفة به إلى الآن، وكتب الكثير، وأماليه وتعاليقه كثيرة، ومولده سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة تقريبا بأصبهان، وتوفي ضحوة نهار الجمعة، وقيل ليلة الجمعة خامس شهر ربيع الآخر سنة ست وسبعين وخمسمائة بالإسكندرية.(5/594)
ومنهم
125- عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن التوني الدمياطي الشافعي شرف الدين أبو محمد
«1» الفقيه الحافظ النّسابة، صاحب التصانيف، أكثر من أدركت/ (ص 245) بمصر من السادات- بل كلهم- عن علمه أخذ، ومن فهمه فلذ، وبسهمه نفذ فأصاب المفاصل، ونبذ به ماء جرى، رويقا في المناصل، ولم أجد إلا لهجا بذكره لا يفتر منه لسانه، ولا ينكر لديهم في غاية إحسانه، وكان الناس في رتبة ما عداه أشباه وأنظار ما فيهم غيره من تعقد عليه حباه، وله رحلة هي قصارى من ارتحل في زمانه، وحل بلادا غير بلاده، وأوطانا غير أوطانه.
ولد في آخر سنة ثلاث عشرة وستمائة بتونة «2» ، وتفقه بدمياط، وبرع ثم طلب الحديث فارتحل إلى الإسكندرية ومصر ودمشق وحماه وحلب وماردين وحرّان وبغداد.
وحمل عن ابن خليل «3» حمل دابّة كتبا وأجزاء وكتب العالي والنازل وجمع(5/595)
فأوعى وسكن دمشق فأكثر عن ابن مسلمة «1» وغيره.
ومعجم شيوخه يبلغ ألفا وثلاثمائة نفر، وكان صادقا حافظا متقنا جيّد العربية، غزير اللغة، واسع الفقه، رأسا في علم النسب ناقلا للقراءات دينا كيّسا، متواضعا بسّاما، محببا إلى الطلبة مليح الصورة، نقي الشيبة، كبير القدر.
قال أبو الحجاج المزي «2» : ما رأيت في الحديث أحفظ منه، وروى عنه، وتوفي فجأة بعد أن قرئ عليه الحديث، فأصعد إلى بيته مغشيا عليه في منتصف ذي القعدة سنة خمس وسبعمائة بالقاهرة. وصلّي عليه بدمشق في أول جمعة من ذي الحجة.
وبه تم الحفّاظ بالجانب الغربي ممن أخرج من سباسب «3» الأوطان، وأدرج في سبايب الأكفان، وأصبح أثرا بعد عين، وحبرا يسأل عنه بكيف بعد أين.
[فقهاء المحدثين: الجانب الشرقى]
وسنذكر بعدهم فقهاء المحدثين:
إذ كانوا المستنبطين لأحكامه، والمتبسطين لإحكامه، والمنبئين في علمه بالوصول، والمبينين بفهمه لمراد الرسول وتبيين ما أراده عليه أفضل الصلاة والسلام فيما يقول.
(ص 246) وأبدأ فيهم بالجانب الشرقي فأقول:(5/596)
منهم
126- علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك
«1» فقيه العراق، الإمام أبو شبل النخعي الكوفي، خال إبراهيم «2» ، وعم الأسود «3» .
لقن «4» بالحديث وفقهه، وفطن للأمر وشبهه، تصدر في الصدر الأول، وتصوّر الحقائق حتى كان عليه المعوّل، وكان في ذلك الجبل واضطربوا ولم ينكل «5» ، واضطروا إلى أن سألوا منه عما أشكل، ولم تكن لتعرض عليه مبهمة إلا يجليها لوقتها، ولا مشكلة إلا يزيل لباس مقتها «6» ، وكان مما إذا قرأ حرّك(5/597)
الجماد، وإذا قرر علما استنبط الثّماد «1» ، وإذا قدّر شيئا لا يخطئه ولو بعدت به الآماد.
ولد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولحق الجاهلية «2» وسمع من عمر وعثمان وعليّ وابن مسعود وأبي الدرداء.
وجوّد القرآن على ابن مسعود وتفقّه به، فكان أنبل أصحابه، حتى قال ابن مسعود: ما أقرأ شيئا وما أعلم شيئا إلا علقمة يقرؤه ويعلمه، وقال قابوس بن ظبيان «3» : قلت لأبي: لأي شئ كنت تدع الصحابة وتأتي علقمة؟ قال:
أدركت ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يسألون علقمة، ويستفتونه.
وكان فقيها إماما بارعا، طيّب الصوت بالقرآن، ثبتا فيما ينقل، صاحب خير وورع، كان يشبّه بابن مسعود في هديه وسمته ودلّه وفضله وكان أعرج، أخذ عنه طائفة، ومات سنة اثنتين وستين.
ومنهم
127- القاضي شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم الكندي
«4» هو الذي إلى الآن يضرب به المثل، ويحدّث عنه العجب، بحر لجيّ لا يمشى(5/598)
فيه إلا مساحله، وبرّ فسيح لا يسلك إلا مساهله، وربّ فضل لا تعدّ فواضله، وفعل يرضيك/ (ص 247) جدّه ويلهيك باطله، لا يسأم معه في مراح «13» ، ولا يسأم له حقّ يحببه مزاح.
أرضى مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضاؤه، ومات على الرضى عنه «1» وحسبك من مثل ذلك الشديد في دين الله إرضاؤه.
كان من كبار التابعين، وأدرك الجاهلية، واستقضاه عمر بن الخطاب على الكوفة، فأقام قاضيا خمسا وستين سنة، لم يتعطل فيها إلا ثلاث سنين امتنع من القضاء فيها، في فتنة ابن الزبير «2» ، واستعفى الحجاج بن يوسف «3» ، من القضاء فأعفاه، ولم يقض بين اثنين حتى مات، وكان أعلم الناس بالقضاء، ذا ذكاء وفطنة ومعرفة وعقل وإصابة.(5/599)
قال ابن عبد البر «1» : كان شاعرا محسنا، وهو أحد السادات الطلس «2» وهم أربعة: عبد الله بن الزبير، وقيس بن سعد بن عبادة «3» ، والأحنف بن قيس «4» - الذي يضرب به المثل في الحلم- والقاضي شريح المذكور.- والأطلس الذي لا شعر في وجهه- وكان مزّاحا، دخل عليه عديّ بن أرطأة «5» فقال له: أين أنت- أصلحك الله-؟ قال: بينك وبين الحائط، قال: اسمع مني. قال: قل أسمع، قال: إني رجل من أهل الشام، قال: مكان سحيق، قال: وتزوجت عندكم، قال:(5/600)
بالرفاه والبنين. قال: وأردت أن أرحلها «1» ، قال: الرجل أحق بأهله، قال:
وشرطت لها دارها. قال: الشرط لها. قال: فاحكم الآن بيننا، قال: قد فعلت، قال: فعلى من حكمت؟. قال: على ابن أمك، قال: بشهادة من؟ قال: بشهادة ابن اخت خالتك.
وروي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه دخل مع خصم ذميّ على القاضي شريح فقام له، فقال: هذا أوّل جورك، ثم أسند ظهره إلى الجدار، فقال:
أما إن خصمي لو كان مسلما لجلست بجنبه.
وتزوج شريح امرأة من بني تميم تسمى زينب، فنقم عليها شيئا فضربها، ثم ندم وقال: [الطويل]
رأيت رجالا يضربون نساءهم ... فشلّت يميني يوم أضرب زينبا/ (ص 244)
أأضربها من غير ذنب أتت به ... فما العدل مني ضرب من ليس مذنبا
فزينب شمس والنساء كواكب ... إذا طلعت لم تر منهن كوكبا
وروي أن عليا رضي الله عنه قال: اجمعوا لي القراء، فاجتمعوا في رحبة المسجد، فقال: أوشك أن أفارقكم، فجعل يسائلهم- يقولون في كذا ما تقولون في كذا- وشريح ساكت، فلما فرغ منهم، قال: اذهب فأنت من أفضل الناس، أو من أفضل العرب.(5/601)
ويروى أن زياد بن أبيه «1» كتب إلى معاوية «2» : يا أمير المؤمنين، قد ضبطت لك العراق بشمالي، وفرّغت يميني لطاعتك، فولّني الحجاز، فبلغ ذلك عبد الله بن عمر «3» ، وكان مقيما بمكة، فقال: اللهم اشغل عنا يمين زياد، فأصابه الطاعون في يمينه، فجمع الأطباء، واستشارهم فأشاروا عليه بقطعها، فاستدعى القاضي شريحا، وعرض عليه ما أشار به الأطباء، فقال له: لك رزق معلوم وأجل مقسوم، وإني أكره إن كانت لك مدّة أن تعيش في الدنيا بلا يمين، وإن كان قد دنا أجلك، أن تلقى ربك مقطوع اليد، فإذا سألك لم قطعتها؟ قلت: بغضا في(5/602)
لقائك. فلام الناس شريحا على منعه من القطع، لبغضهم له. فقال: إنه استشارني، والمستشار مؤتمن، ولولا الأمانة في المشورة، لوددت أن قطع رجله يوما، ويده يوما، وسائر جسده يوما يوما، ومات زياد في يومه ذلك. وتوفي شريح سنة سبع وثمانين وهو ابن مائة سنة، وقيل سنة ثمان وسبعين. قاله الحافظ أبو عبد الله الذهبي «1» .
ومنهم
128- سعيد بن المسيّب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عايذ بن عمران بن مخزوم القرشي المدني
«2» أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، والنبهاء الفضل الموقدينه، والنبلاء الممدين الغمام المرفدينه، أجل التابعين/ (ص 249) وأجدّ ما يلج المسامع طربا لو وعين، سر ذلك الصدر المكتنف، وعميم ذلك البر المؤتنف، والفطن كأنه إذا سئل يعلم المغيّب، والفذ الفريد وكفى إذا قيل قال أو فعل سعيد بن المسيّب.
ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر، وسمع منه شيئا وهو يخطب، وكان سيّد التابعين من الطراز الأول، جمع بين الحديث والفقه والزهد والعبادة والورع، قال عبد الله بن عمر لرجل سأله عن مسألة: إيت ذاك فسله- يعني سعيدا- ثم ارجع إليّ فأخبرني، ففعل ذلك وأخبره، فقال: ألم أخبركم أنه أحد العلماء(5/603)
السبعة؟ وقال في حقه أيضا لأصحابه: لو رأى هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لسرّه.
وكان قد لقي جماعة من الصحابة وسمع منهم، ودخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ عنهن، وأكثر روايته [المسندة] «1» عن أبي هريرة. وكان زوج ابنته «2» ، وسئل الزهري «3» ومكحول «4» : من أفقه من أدركتما؟ فقالا: سعيد بن المسيّب. وحج أربعين حجة، وقال: ما فاتتني التكبيرة الأولى منذ خمسين سنة، وما نظرت إلى قفا رجل في الصلاة منذ خمسين سنة، لمحافظته على الصف الأول، وقيل: إنه صلّى الصبح بوضوء العشاء خمسين سنة.
وكان واسع العلم، وافر الحرمة، متين الديانة، قوّالا بالحق، فقيه النفس، قال قتادة «5» : ما رأيت أحدا أعلم من سعيد بن المسيب، وكذا قال الزهري ومكحول وغير واحد، وصدقوا.(5/604)
وقال علي بن المديني «1» : لا أعلم في التابعين أوسع علما من سعيد، هو عندي أجل التابعين. وكان لا يقبل جوائز السلطان، وله أربعمائة دينار يتّجر فيها.
وقال سعيد: ما أعلم أحدا أعلم بقضاء قضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم/ (ص 250) ولا أبو بكر وعمر مني، وكان الحسن «2» إذا أشكل عليه شئ كتب إلى ابن المسيّب يسأله، وقال المطلب بن السائب «3» : كنت جالسا مع ابن المسيّب في السوق، فمرّ بريد لبني مروان «4» ، فقال له سعيد: من رسل بني مروان أنت؟
قال: نعم. قال: كيف تركت بني مروان؟ قال: بخير، قال: تركتهم يجيعون الناس، ويشبعون الكلاب؟ فاشرأب «5» الرسول، فقمت إليه، فلم أزل أرجّيه حتى انطلق، فقلت لسعيد: يغفر الله لك تشيط «6» بدمك بالكلمة هكذا تلقيها؟(5/605)
فقال: اسكت يا أحيمق، فو الله لا يسلمني الله ما أخذت بحقوقه.
وقال مصعب بن عثمان «1» : أراد مسلم بن عقبة «2» قتل سعيد بن المسيّب فشهد عمرو بن عثمان «3» ، ومروان بن الحكم أنه مجنون فخلى سبيله.
وقال ابن سعد توفي عبد العزيز بن مروان «4» ، فعقد عبد الملك «5» لابنيه «6» العهد، وكتب بالبيعة لهما إلى البلدان، فدعا هشام المخزومي «7» - عامله على المدينة(5/606)
- الناس إلى البيعة، فبايعوا، وأبى سعيد بن المسيّب أن يبايع لهما، وقال: حتى أنظر، فضربه ستين سوطا، وطاف به في تبان «1» من شعر حتى بلغ به رأس الثنيّة «2» ، فلما كرّوا به قال: إلى أين؟ قالوا السجن. قال: والله لولا أني ظننت أنه الصلب ما لبست هذا التبان أبدا، فردّوه إلى السجن، وكتب هشام إلى عبد الملك بخلافه، فكتب إليه عبد الملك يلومه فيما صنع به، ويقول سعيد كان والله أحوج إلى أن تصل رحمه من أن تضربه، وإنا لنعلم ما عند سعيد شقاق ولا خلاف، فندم هشام وخلّى سبيله.
وقال عمران بن عبد الله «3» : أرى نفس سعيد بن المسيّب كانت أهون عليه في الله من نفس ذباب.
ومن مفردات سعيد بن المسيّب أن المطلقة ثلاثا تحلّ للأول بمجرد عقد الثاني من غير وطء «4» / (ص 251)
توفي على الصحيح سنة أربع وتسعين.(5/607)
ومنهم
129- عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزّى القرشي الأسدي
«1» أحد الفقهاء السبعة بالمدينة. والعلماء أهل الدرجات المكينة، والصلحاء أصحاب الديانة المتينة، والأكفاء من رجال طيبة أخت البلدة الأمينة، والقرناء لما بين لابتيها «2» ونعم القرين ونعم القرينة، كان في صباه بين لدات من أقرانه وإخوته وإخوانه بالمسجد الحرام فتمنوا الأماني من الدنيا والملك وتمنى الجنة والنساء، فلم يبق رجل منهم حتى نال أمنيته، ونال الواحدة ولا عجب أن يكون بلغ الثانية لما بلغ منيّته.
ذكر العتبي «3» أن المسجد الحرام جمع بين عبد الملك بن مروان «4» ، وعبد الله بن الزبير «5» وأخويه مصعب «6» وعروة أيام تألفهم بعهد معاوية بن أبي(5/608)
سفيان، فقال بعضهم: هلمّ فلنتمنّه فقال عبد الله: منيتي أن أملك الحرمين وأنال الخلافة، وقال مصعب: منيتي أن أملك العراقين وأجمع بين عقيلتي قريش سكينة بنت «1» الحسين وعائشة بنت «2» طلحة، وقال عبد الملك بن مروان:
منيتي أن أملك الأرض كلها، وأخلف معاوية. فقال عروة: لست في شئ مما أنتم فيه، منيتي الزهد في الدنيا، والفوز بالجنة في الآخرة، وأن أكون ممن يروى عنه هذا العلم.
قال: فصرّف الدهر من صروفه إلى أن بلغ كل واحد منهم أمله، فكان عبد الملك بعد ذلك يقول: من سرّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة في الدنيا فلينظر إلى عروة بن الزبير.
ولد عروة سنة نيف وعشرين للهجرة وأمّه أسماء بنت أبي بكر الصديق ذات النطاقين «3» ، وإحدى عجائز الجنة، وهو شقيق عبد الله بن الزبير بخلاف مصعب فإن أمه غير أسماء(5/609)
وقد وردت الرواية عنه في حروف القرآن، وسمع خالته/ (ص 252) أم المؤمنين عائشة، وروى عنه خلق، وكان عالما صالحا، وأصابته الأكلة في رجله وهو بالشام عند الوليد «1» بن عبد الملك، فقطعت رجله في مجلس الوليد، والوليد مشغول عنه بمن يحدّثه، فلم يتحرك ولم يشعر الوليد أنها قطعت حتى كويت، فوجد رائحة الكيّ، كذا قال ابن قتيبة «2» ، ولم يترك ورده تلك الليلة، ويقال: إنه مات ولده محمد في تلك السفرة، فلما عاد إلى المدينة، قال: لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا، وعاش بعد قطع رجله ثمان سنين.
وذكر المبرّد «3» في كتاب التعازي أن عروة قدم على الوليد بن عبد الملك ومعه ولده محمد بن عروة، فدخل محمد دار الدواب فضربته دابّة فخر ميتا، ووقعت في رجل عروة الآكلة، ولم يدع تلك الليلة [ورده] «4»
فقال له الوليد اقطعها، قال: لا، فترقت إلى ساقه، فقال له الوليد: اقطعها وإلا أفسدت عليك جسدك، فقطعها بالمنشار، وهو شيخ كبير ولم يمسكه أحد، وقال: لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا.
وقدم على الوليد بن عبد الملك قوم من بني عبس تلك السنة فيهم رجل(5/610)
ضرير، فسأله الوليد عن عينه، فقال: يا أمير المؤمنين بت ليلة في بطن واد، ولا أعلم عبسيا يزيد ماله على مالي، فطرقنا سيل فذهب بما كان لي من أهل ومال وولد غير بعير وصبي مولود، وكان البعير صعبا فندّ، فوضعت الصبيّ واتّبعت البعير، فلم أجاوز إلا قليلا حتى سمعت صيحة ابني ورأسه في فم الذئب وهو يأكله، ولحقت البعير لأحبسه، فنفحني برجله على وجهي فحطمه وذهبت عيناي، وأصبحت لا مال لي ولا أهل ولا ولد ولا بصر. فقال الوليد: والله ما بك حاجة إلى المشي ولا أرب في السعي وقد تقدّمك عضو من أعضائك وابن من أبنائك إلى الجنة، والكل تبع للبعض/ (ص 253) إن شاء الله تعالى، وقد أبقى الله لنا منك ما كنّا إليه فقراء، وعنه غير أغنياء من علمك ورأيك، نفعك الله وإيانا به، والله وليّ ثوابك والضمين لحسابك «1» .
ولما قتل عبد الله بن الزبير قدم أخوه عروة على عبد الملك بن مروان، فقال له يوما: أن تعطيني سيف أخي عبد الله، فقال: هو بين السيوف ولا أميّزه من بينها فقال عروة: إذا حضرت السيوف ميّزته أنا، فأمر عبد الملك بإحضارها فلما حضرت أخذ منها سيفا مفلّل «2» الحد، فقال: هذا سيف أخي، فقال عبد الملك، كنت تعرفه قبل الآن، فقال: لا. فقال: كيف عرفته؟ فقال بقول النابغة الذبياني «3» : [الطويل]
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
واحتفر عروة بئرا بالمدينة وهي منسوبة إليه ليس بالمدينة بئر أعذب من مائها.(5/611)
وتوفي بالفرع «1» في سنة الفقهاء وهي سنة أربع وتسعين، ودفن هناك رحمه الله.
ومنهم
130- أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي
«2» أحد الفقهاء السبعة، الذين هم السبعة الشهب السواري، والكواكب الدراري، والأيام السبعة التي هي الدهر كله، والأفلاك السبعة التي هي العالم أو جلّه.
وكان يسمى راهب قريش لملازمة معبده، ومداومة تعبده، دينا عمّر باطنه، وعمّ مواطنه، حتى شفّ من وراء زجاجته، وخفّ معه فلم يقعد في طلب مراضي الله عن قضاء حاجته.
اسمه في الصحيح كنيته، ويقال: اسمه محمد، وكان من سادات التابعين، وانتشر عنه وعن باقي الفقهاء السبعة العلم والفتيا في الدنيا.
/ (ص 254) واستصغر يوم الجمل فردّ من عسكر طلحة «3» ، وكان ثقة(5/612)
فقيها إماما كثير الرواية، سخيا صالحا عابدا متألها وكان مكفوفا، توفي بالمدينة سنة أربع وتسعين، ومولده في خلافة عمر.
ومنهم
131- سعيد بن جبير الوائلي مولاهم الكوفي
«1» الفقيه أحد الأعلام والتابعين في صدر الإسلام، قتل في وفائه، وختل دون تكدير صفائه، أعطى موثقا لم يخنه والموت يصالته جهرا، والسيف ينظر إليه شزرا، وعدوا لله مبير «2» ثقيف تتوقد نار غضبه، وتثوقل «3» الكبرياء في هضبه، وهو بجنان لا يخامره الوهل، ولا يخادعه حبّ المهل، مقدما بين يديه المسير متقدما لا يحب التأخر لما يعرفه من حسن المصير.
سمع ابن عباس فأكثر عنه، وروى عن عدي بن حاتم «4» وعبد الله بن(5/613)
مغفل «1» وطائفة، وروى عنه خلق، وكان ابن عباس إذا حج أهل الكوفة وسألوه يقول: أليس فيكم سعيد بن جبير؟ وقال أشعت بن إسحاق «2» : كان يقال لسعيد بن جبير جهبذ «3» العلماء، وقال القاسم بن أبي أيوب «4» : كان يبكي بالليل حتى عمش، وسمعته يردد هذه الآية؟ واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله..
بضعا وعشرين مرة، وقيل: إنه قام ليلة في جوف الكعبة فقرأ القرآن في ركعة، وروي أنه كان يختم القرآن في كل ليلتين، وروى الثوري «5» عن عمر بن سعيد «6» قال: دعا سعيد بن جبير ولده لما قتل فجعل يبكي، فقال: ما يبكيك؟
قال: ما بقاء أبيك بعد سبع وخمسين سنة؟ وقال ابن عيينة «7» : لما أتي بسعيد ابن جبير إلى الحجاج، قال: أنت شقي بن كسير. قال: أنا سعيد بن جبير، قال:
لأقتلنك، قال: أنا إذا كما سمتني أمي. ثم قال:/ (ص 255) دعوني أصلي(5/614)
ركعتين، قال: وجهوه إلى قبلة النصارى، قال: «فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ»
البقرة/ 115، ثم قال: إني أستعيذ منك بما عاذت به مريم «إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا»
مريم/ 18، وقال عتبة «1» مولى الحجاج: حضرت سعيد بن جبير، فجعل الحجاج يقول له: ألم أفعل بك؟ فيقول: بلى، قال فما حملك على ما فعلت؟ قال: بيعة كانت عليّ، فغضب وصفّق بيديه، وقال: بيعة أمير المؤمنين كانت أسبق وأولى، وأمر به فقتل، وكان قتل الحجاج له لكونه قاتل مع ابن الأشعث «2» .
وكان سعيد قد هرب من الحجاج إلى مكة، فأرسل الحجاج [يطلب] «3» من الوليد «4» جماعة قد التجئوا إلى مكة، فكتب الوليد إلى عامله على مكة خالد ابن عبد الله القسري «5» يأمره بإرسال من يطلبه الحجاج، فطلب الحجاج سعيد(5/615)
ابن جبير وغيره، فأرسل خالد بن عبد الله كل من طلبه الحجاج، وكان فيهم سعيد بن جبير فقتله الحجاج.
وكان قتله في شعبان سنة خمس وتسعين، وله تسع وأربعون سنة على الأشهر، وقيل عاش بضعا وخمسين سنة، وكان أسود اللون، أبيض الرأس واللحية، قال ميمون بن مهران «1» ، مات سعيد وما على ظهر الأرض رجل إلا ويحتاج إلى علمه.
وكان لا يدع أحدا يغتاب عنده، وكان يصلي في الطاق «2» ولا يقنت في الصبح، ويعتمّ عمامة ويرخيها شبرا من ورائه.
ومنهم
132- إبراهيم بن يزيد بن الأسود الفقيه الكوفي النخعي
«3» أحد الأئمة المشاهير تابعي، ما خرج عن الطريق، ولوذعي تشبّ لنار فطنته حريق، وألمعي «4» لا يخطئ رأيه رائد التوفيق، تقيّل «5» سنّة داوود صياما، وتقلل من الدهر فقسّمه أياما مع خوف لمقام ربه، واستعداد للموت وكربه، حتى(5/616)
إذا حضره الموت، وحصره عدم الفوت، وتحقق المسير دون المصير، تمنّى بقاء حالة النزاع، ومعالجة سكرات الموت البشاع، خوفا مما لا يدري ما يقدم عليه ويقدّم إليه، قول صادق غير كاذب، ومنى حق لا يخادعها وحبل وريده في يد الجاذب.
رأى عائشة رضي الله عنها، ودخل عليها وهو صبي، ولم يثبت له منها سماع، وأخذ عنه خلق، وكان من العلماء ذوي الإخلاص، قال مغيرة «1» : كنا نهاب إبراهيم كما نهاب الأمير، وقال الأعمش «2» : ربما رأيت إبراهيم يصلي، ثم يأتينا فيبقى ساعة/ (ص 256) كأنه مريض. وقال الأعمش: كان إبراهيم صيرفيا في الحديث، وكان يتوقّى الشهرة، ولا يجلس إلى أسطوانة، وقال الحسن بن عمرو الفقيمي «3» : كان إبراهيم يشتري الوزّ ويسمّنه ويهديه إلى الأمراء، وقال ابن عون «4» : كان إبراهيم يأتي الأمراء ويسألهم الجوائز، وقال حماد «5» : بشّرت إبراهيم بموت الحجاج، فسجد وبكى من الفرح، وقال سعيد بن جبير:
تستفتونني وفيكم إبراهيم النخعي؟ وكان يصوم يوما ويفطر يوما، ولا يتكلم في العلم إلّا أن يسأل، ولما حضرته الوفاة جزع جزعا شديدا، فقيل له في ذلك،(5/617)
فقال: وأي خطر أعظم مما أنا فيه، أنا أتوقع رسولا يرد عليّ من ربي، إما بالجنة، وإما بالنار، والله لوددت أنها تلجلج «1» في حلقي إلى يوم القيامة. توفي سنة ست وقيل سنة خمس وتسعين للهجرة. قال الشعبي «2» : ما خلف بعده مثله.
ومنهم
133- عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي
«3» أحد الفقهاء السبعة وابن أخي عبد الله بن مسعود «4» ، لقي خلقا كثيرا من الصحابة رضي الله عنهم، حلّق إليهم فصحب، ولحق بهم وما سحب، وكان فيه ظرف عبّاد الحجاز، ولطف عشّاق ذلك الزمان مع الزيادة على ما فيهم من عفاف وكرم، وورع لا ينكر لأهل الحرم، كان من أعلام التابعين، وأعلى المتابعين، والمقفين على آثار من سلف تحت الشجرة «5» من المبايعين، والذين مضت فرّاطهم «6» أمما قبلهم ومضوا بعدهم متتابعين، سمع ابن عباس وأبا هريرة(5/618)
وعائشة: قال الزهري «1» : أدركت أربعة بحور فذكر منهم عبيد الله المذكور، وقال أيضا: سمعت من العلم شيئا كثيرا، فظننت أني اكتفيت حتى لقيت عبيد الله ابن عبد الله، فإذا كأني ليس في يدي شيء، وقال عمر بن عبد العزيز «2» : لأن يكون لي مجلس/ (ص 257) من عبيد الله أحب إلي من الدنيا، وكان ناسكا، وتوفي سنة ثمان ومائة، وله شعر، فمن ذلك ما أورده له صاحب الحماسة «3» فيها: [الوافر]
شققت القلب ثم ذررت فيه ... هواك فليم فالتأم الفطور «4»
تغلغل حب عثمة «5» في فؤادي ... فباديه مع الخافي يسير
توغّل حيث لم يبلغ سراب ... ولا حزن ولم يبلغ سرور
ولما قال هذا الشعر، قيل له: أتقول مثل هذا؟ فقال: في اللدود «6» راحة المفقود «7» ، وهو القائل لا بدّ للمصدور أن ينفث.
ومنهم
134- خارجة بن زيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد بن لوذان أبو زيد الأنصاري
«8» أحد الفقهاء السبعة، والعلماء أهل السمعة، ولد المستأمن على جمع القرآن،(5/619)
والمستأمر في عظيم هذا الشأن ابن كاتب الوحي، وصاحب الوعي، ما قصّر عن السّبق، ولا تأخر إذ حلّق، ولا انقطع عن ذيل ذلك السلف الذي به تعلّق، ما جحد علوّ قدره إلا من لا يعرف مدارجه، ولا أمّل الرقيّ إليه إلا أنكر معارجه، ولا فضّل عليه سواه إلا ظهر له باطل رأيه، فقال أردت عمرا، وأراد الله خارجة.
قال مصعب بن عبد الله»
كان خارجة بن زيد وطلحة «2» بن عبد الله بن عوف في زمانهما يستفتيان، وينتهي الناس إلى قولهما، ويقسمان المواريث من الدّور والنخل والأموال بين أهلها، ويكتبان الوثائق للناس.
وقال خارجة: والله لقد رأيتنا ونحن غلمان شباب في زمان عثمان، فدفن في مؤخّر البقيع، وقال ابن سعد «3» : قال خارجة: رأيت في المنام كأني بنيت سبعين درجة، فلما فرغت منها تدهورت، وهذه السنة لي سبعون سنة قد(5/620)
أكملتها، قال: فمات فيها./ (ص 258) قال الواقدي «1» والهيثم «2» بن عدي والجماعة: توفي سنة مائة، وقال الفلّاس «3» : توفي سنة تسع وتسعين، وقال رجاء بن «4» حيوة لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين قدم قادم الساعة فأخبرنا أن خارجة بن زيد مات، فاسترجع وصفق بإحدى يديه على الأخرى، وقال:
ثلمة والله في الإسلام.(5/621)
ومنهم
135- عامر بن شراحيل بن عبد بن ذي كبار الشعبي الكوفي
«1» ذو اللفظ المتشعب، والحفظ المستوعب، والفهم الذي يذلل المستصعب، والعلم المريح إلا أنه لغيره المتعب، وكان يدمّث حواشي علمه بمزاح يندى أطاريفه، وبسط يوطّا رئفه «2» ، فكاهة تصقل الأفهام، وتزيل صدى الأوهام، وتحلّ عقد النشاط، وتمد طرف الانبساط، يمزح ولا يعدو الحق وإن لعب، ولا يزيد على أن يريح من حبسه الانحصار التعب، ولد سنة إحدى وعشرين، وقيل قبل ذلك، ويقال إنه أدرك خمسمائة من الصحابة، وروي أن ابن عمر مرّ به يوما وهو يحدّث بالمغازي فقال: شهدت القوم وهو أعلم بها مني. وحكى الشعبي قال: أنفذني عبد الملك بن مروان إلى ملك الروم، فلما وصلت إليه جعل لا يسألني عن شئ إلا أجبته، وكانت الرسل لا تطيل الإقامة عنده، فحبسني أياما كثيرة، حتى استحثثت خروجي، فلما أردت الانصراف، قال: من أهل بيت المملكة أنت؟ فقلت: لا، ولكني رجل من العرب في الجملة، فهمس بشيء، فدفعت إليّ رقعة، وقال: إذا أديت الرسائل إلى صاحبك، فأوصل إليه هذه الرقعة، قال: فأديت الرسائل عند وصولي إلى عبد الملك، وأنسيت الرقعة، فلما صرت في بعض الدار أريد الخروج فذكرتها، فرجعت فأوصلتها إليه، فلما قرأها قال: أقال لك شيئا قبل أن يدفعها/ (ص 259) إليك، قلت: نعم، قال لي: من أهل بيت المملكة أنت؟ قلت لا، ولكني رجل من العرب في الجملة. ثم خرجت من عنده، فلما بلغت الباب رددت، فلما مثلت بين يديه، قال لي: أتدري ما في(5/622)
هذه الرقعة قلت: لا، قال: اقرأها، فقرأتها، فإذا فيها: عجبت من قوم فيهم مثل هذا كيف ملّكوا غيره؟ فقلت: والله لو علمت ما فيها ما حملتها، وإنما قال هذا لأنه لم يرك. قال: أفتدري لم كتبها، قلت: لا، قال: حسدني عليك، وأراد أن يغريني بقتلك. قال: فتأدّى ذلك إلى ملك الروم، فقال: ما أردت إلا ما قال.
وروي أن الشعبي كلّم [عمرو] بن هبيرة «1» أمير العراقين في قوم حبسهم ليطلقهم فأبى، فقال له: أيها الأمير: إن حبستهم بالباطل فالحق يخرجهم، وإن حبستهم بالحق فالعفو يسعهم، فأطلقهم. وكان قد ولد هو وأخ آخر في بطن، وأقام في البطن سنتين، ويقال: إن الحجاج قال له يوما: كم عطاءك في السنة؟
فقال: ألفين. فقال: ويحك كم عطاؤك؟ فقال: ألفان، فقال: كيف لحنت أولا؟
قال: لحن الأمير فلحنت، فلما أعرب أعربت، وما أمكن أن يلحن الأمير فأعرب أنا، فاستحسن ذلك منه وأجازه.
وكان مزّاحا، يروى أن رجلا دخل عليه يوما ومعه امرأة في البيت، فقال:
أيكم الشعبي؟ فقال: هذه. وكان نحيفا ضئيلا، فقيل له يوما: ما لنا نراك ضئيلا، فقال: زوحمت في الرحم، أشار إلى توءمه المذكور.
وكان إماما حافظا ذا فنون، قال أحمد العجلي «2» : مرسل الشعبي صحيح،(5/623)
لا يكاد يرسل إلا صحيحا. وقال الشعبي ما كتبت سوداء في بيضاء.
وروى عن جماعة من الصحابة، وروى عنه طائفة كبيرة منهم: أبو حنيفة «1» والأعمش «2» . توفي سنة أربع ومائة، ويقال: سنة ثلاث والله أعلم./
(ص 260) ومنهم
136- طاووس بن كيسان الخولاني الهمداني اليماني أبو عبد الرحمن
«3» من أبناء الفرس الذين سيّرهم كسرى إلى اليمن. أحد الأعلام التابعين، طار بجناح العلم المأنوس، وزاد به حسنا إذ جناح طاووس، ذو حق يلهو بمن مزح، ورياش ما فضل منه عن ريش طاووس إلا ما فضل لقوس قزح، وحلي ما ازدانت به عقايل «4» الأرض، وحلل ما لبست ثيابه الخود «5» والبعض أقصر من بعض، هذا من علم نافع به ينبّأ، وعمل صالح له يخبّأ، ويقين ما عليه أن الليل بفجره المماطل يربأ، ولا أنّ الصباح في جيشه المطل يعبأ، لنور جلاله الصدق صفيحته، وأري بصر بصيرته صبيحته.
قال عمرو بن دينار «6» : ما رأيت أحدا مثل طاووس.(5/624)
وقال قيس بن سعد «1» ، كان طاووس فينا مثل ابن سيرين في أهل البصرة، وقال ابن طاووس: إني لأظن طاووسا من أهل الجنة. وقال النعمان بن الزبير الصنعاني «2» : بعث أمير المؤمنين «3» إلى طاووس بخمسمائة دينار فلم يقبلها، وقال إبراهيم بن ميسرة «4» : ما رأيت أحدا الشريف والوضيع عنده بمنزلة إلا طاوسا.
وكان طاووس شيخ أهل اليمن وبركتهم ومفتيهم، له جلالة عظيمة، وكان كثير الحج، فاتفق موته بمكة قبل التروية بيوم سنة ست ومائة وصلى عليه هشام ابن عبد الملك «5» .(5/625)
وقال الحافظ أبو عبد الله الذهبي «1» : من زعم أن قبره ببعلبك فهو مخطئ غالط، ولعله قبر رجل آخر اسمه طاوس، كما يطابق قبر أبيّ وليس بالصحابي.
ومنهم
137- سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي
«2» أحد فقهاء المدينة، ابن ذينك الأبوين «3» ، وثالث ذينك الاثنين، ووارث ذلك التراث، وحايز ذلك الميراث، بقيّة طينة الضجيع، ولمعة ذلك السيف الصنيع.
قال عمر بن عبد العزيز «4» : لو كان لي من الأمر شئ- يعني بعده- لما عدوت بها القاسم بن محمد «5» أو سالم بن عبد الله أو إسماعيل صاحب الأحوص «6» ، وصدق عمر فإن الخلافة بعده كانت بعهد من سليمان «7» إلى أخيه يزيد بن عبد الملك «8» . وقد ضمّنت/ (ص 261) كتابي فواضل السّمر من ذكره ما هو المسك لمنتسق «9» والغاية لمستبق، وكان من سادات التابعين وعلمائهم وثقاتهم.(5/626)
روى عن أبيه وغيره، وروى عنه الزهري وطائفة.
قال أحمد «1» وإسحاق «2» : أصح الطرق: الزهري عن سالم عن أبيه. وقال ابن إسحاق «3» : رأيت سالما يلبس الصوف ويعالج بيديه ويعمل. وقال مالك «4» : لم يكن أحد في زمانه أشبه بمن مضى من الصالحين في الزهد والفضل [منه] «5» . وكان علج الخلق «6» ، شديد الأدمة «7» ، خشن العيش.
ودخل هشام بن عبد الملك «8» الكعبة فرأى سالما، فقال له: سلني حوائجك فقال: والله لا سألت في بيت الله غير الله تعالى.
وكان يأتدم الخل والزيت حتى كانت له منه عكنة «9» ، فقال له هشام وقد رأى(5/627)
عكنته-: ما إدامك؟ قال: الخل والزيت. قال: أفما تمله؟ قال: إذا مللته تركته حتى أشتهيه. فمرض سالم فمات. فقال أهل المدينة: إنه أصاب بعينه عالمنا. وكانت وفاته في آخر ذي الحجة سنة ست ومائة. وقيل سنة ثمان ومائة وكان هشام بن عبد الملك يومئذ بالمدينة، وكان قد حجّ بالناس تلك السنة، ثم قدم المدينة، فوافق موت سالم، فصلىّ عليه بالبقيع لكثرة الناس، فلما رأى هشام كثرتهم، قال لإبراهيم بن هشام المخزومي «1» : اضرب على الناس بعث أربعة آلاف فسميّ عام أربعة آلاف.
ومنهم
138- القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق القرشي التيمي
«2» أحد الفقهاء السبعة، سلالة ذلك الصديق، وسلافة «3» ذلك الرحيق، المفضّل العالم، والمفضل على سالم. وبه بدأ عمر بن عبد العزيز الثلاثة «4» ، وكاد ينص عليه باستحقاق على أنها لو أتته، وجاءته صفوا وواتته، لما قبل لوبها «5» ، ولا حمل(5/628)
حوبها «1» ، ولا/ (ص 262) رضي بها من تراث كريم لا يبالي العواقب، ولا يوالي إلا المناقب، وحسبك من رجل يفضّل حتى على سالم بن عبد الله بن عمر، وإن نبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر، كان أفضل أهل زمانه من سادات التابعين، روى عن جماعة من الصحابة، وروى عنه طائفة من كبار التابعين.
قال يحيى بن سعيد «2» : ما أدركنا أحدا نفضّله على القاسم بن محمد، وقال مالك: كان القاسم بن محمد من فقهاء هذه الأمة، وقال ابن إسحاق «3» :
جاء رجل إلى القاسم فقال: أنت أعلم أم سالم؟ فقال: ذاك مبارك، سالم، قال ابن إسحاق: كره أن يقول هو أعلم مني فيكذب، أو يقول: أنا أعلم فيزكي نفسه، وكان القاسم أعلمهما، وقال أبو الزناد «4» : ما رأيت فقيها أعلم من القاسم، وما رأيت أحدا أعلم بالسنّة منه، وقال ابن عيينة «5» : كان أفضل أهل(5/629)
زمانه، وأمه هي ابنة يزدجرد «1» ، وربيّ يتيما في حجر عمته عائشة رضي الله عنها، وتوفي سنة سبع ومائة بقديد «2» ، وقال: كفّنوني في ثيابي التي كنت أصلّي فيها، قميصي وإزاري وردائي، فقال ابنه: يا أبه ألا تريد ثوبين جديدين؟
فقال: هكذا كفّن أبو بكر في ثلاثة أثواب، والحيّ أحوج إلى الجديد من الميّت، وكان عمره سبعين سنة، وقيل اثنتين وسبعين.
ومنهم
139- سليمان بن يسار
«3» مولى ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنها، أبو أيوب، أحد الفقهاء السبعة، وآخرهم وفاة، ورع لا تجره المطامع، ولا تغرّه المجامع، ولا يسرّه خيلاء الكبر إذا ألقيت إليه المسامع، ولا يضره كلمة الحق إذا قالها وغصّت بها المدامع، مشرّف بولاء ذلك الحجاب الممنّع، والجناب الذي لا تعلّق به مطمع، والستر الذي يتدانى له السحاب ويخضع، ويخشع الرعد علما بأنه بوميض البرق لا يخدع، زهّده في الدنيا/ (ص 263) معرفته بحقيقتها، وأنفته من سوء طريقتها، لعلمه الغزير، ودينه وما هو منه بكثير، كان عالما ثقة عابدا ورعا حجة، قال قتادة «4» :(5/630)
قدمت المدينة فسألت من أعلم أهلها بالإطلاق؟ فقالوا: سليمان بن يسار، وقال الحسن بن محمد بن الحنفية «1» : سليمان أفهم عندنا من سعيد بن المسيّب «2» ، وكان المستفتي إذا أتى سعيد بن المسيّب يقول له: اذهب إلى سليمان بن يسار.
روى عن طائفة من الصحابة، وروى عنه جماعة من التابعين. قال مصعب ابن عثمان «3» : كان سليمان بن يسار من أحسن الناس، فدخلت عليه امرأة فراودته، فامتنع، فقالت: إذا أفضحك فتركها في منزله وهرب.
وهو أخو عطاء «4» وعبد الملك «5» ابني يسار، توفي في سبع ومائة، وهو ابن ثلاث وسبعين سنة، وقيل قبل ذلك.(5/631)
ومنهم
140- الحسن بن أبي الحسن يسار البصري أبو سعيد
«1» السيد المذكور، والفرد الموصوف، والندرة في الدهر، والواحد في الزمان، والعديم النظير على كثرة الأقران، ما كشفت البصرة عن مثله سجوف «2» مشارقها، ولا أبصرت شبهه أحداق حدائقها، ولا سقت نظير نضرة أبلّتها «3» . ولا شفيت بمثل رواء أريه غلّتها، ولا جال بين جنبي برها وبحرها أفضل منه بعد السلف الأوّل رجلا، ولا أرجى منه في الخلف الصالح عملا، ولا أسير في الآفاق وأعلق بالأسماع إذا ذكر مثلا.
ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر بالمدينة، ويقال: إنه ولد على الرق، فإن أباه مولى زيد بن ثابت «4» ، ويقال: مولى جميل «5» بن قطبة، وأمه(5/632)
خيرة «1» مولاة أم سلمة «2» زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت أمه ربما غابت في حاجة فيبكي فتعطيه أم سلمة رضي الله عنها ثديها، تعلّله به إلى/ (ص 264) أن تجيء أمه، فيدرّ ثديها عليه فيشربه، فيرون أن تلك الحكمة والفصاحة من بركة ذلك، ثم نشأ بوادي القرى وحفظ كتاب الله في خلافة عثمان وسمعه يخطب مرات، وكان يوم الدار «3» ابن أربع عشرة سنة، ثم كبر ولازم الجهاد والعلم والعمل وكان أحد الشجعان الموصوفين، يذكر مع قطري بن الفجاءة «4» ، وصار كاتبا في دولة معاوية لوالي خراسان، الربيع بن زياد «5» . قال ابن سعد: كان عالما رفيعا ثقة مأمونا عابدا ناسكا كثير العلم فصيحا جميلا وسيما، وما أرسله فليس(5/633)
بحجة. وقال أبو عمرو بن العلاء «1» : ما رأيت أفصح من الحسن البصري ومن الحجاج بن يوسف، وكان عرض زند الحسن شبرا.
ومن كلامه: ما رأيت يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه إلا الموت.
ولما ولي عمر بن هبيرة «2» الفزاري العراق، وأضيفت إليه خراسان في أيام يزيد بن عبد الملك «3» استدعى الحسن البصري ومحمد بن «4» سيرين والشعبي «5» ، وذلك سنة ثلاث ومائة، فقال لهم: إن يزيد خليفة الله استخلفه على عباده، وأخذ عليهم الميثاق بطاعته، وأخذ عهدنا بالسمع والطاعة، وقد ولّاني ما ترون، فقال ابن سيرين والشعبي قولا فيه بقيّة «6» . فقال ابن هبيرة: ما تقول يا حسن؟ فقال: يا ابن هبيرة، خف الله في يزيد ولا تخف يزيد في الله، إن الله يمنعك من يزيد، وإن يزيد لا يمنعك من الله، وأوشك أن يبعث إليك(5/634)
ملكا فيزيلك عن سريرك، ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، ثم لا ينجيك إلا عملك، يا ابن هبيرة إن تعص الله فإنما جعل الله هذا السلطان ناصرا لدين الله وعباده فلا تتركن دين الله وعباده بسلطان الله، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. فأجازهم ابن هبيرة وأضعف جائزة/ (ص 265) الحسن.
ورأى الحسن يوما رجلا وسيما حسن الهيئة، فقيل: إنه يسحر للملوك ويحبّونه فقال: لله أبوه ما رأيت أحدا طلب الدنيا بما يشبهها إلا هذا. ودخل يوما على أمه وفي يدها كرّاثة تأكلها، فقال لها: يا أمّ ألق هذه البقلة الخبيثة من يدك، فقالت يا بني إنك قد كبرت وخرفت، فقال: يا أمّه أينا أكبر؟ وأكثر كلامه حكم وبلاغة. ومناقبه كثيرة، وقد جمعها الحافظ أبو عبد الله الذهبي «1» في جزء سماه الزخرف القصري في مناقب الحسن البصري وتوفي بالبصرة في مستهل رجب سنة عشر ومائة عن ثمان وثمانين سنة وكانت جنازته مشهورة، وكان من بحور العلم، فقيه النفس، كبير الشأن، عديم النظير مليح التذكير، بليغ الموعظة رأسا في أنواع الخير رحمه الله.
ومنهم
141- مكحول بن عبد الله الشامي
«2» من سبي كابل مولى لامرأة من قيس لم يعده مأمول، ولم يعدّه سبب موصول، لعلم لم يسه عنه ولم يطر مذهول، ولم يله من غيره بأغرّ غضيض الطرف مكحول، تديّر بيروت مدة مرابطا حيث البحر تجول أساطيله، والعدو تجوز أباطيله، فلاطف بحسناه وإحسانه، وجاهد بسنانه ولسانه، وجرد لذلك(5/635)
البحر أمضى من صوارمه، وجلا في ذلك الثغر أضوأ من مباسمه، وأطال الحافظ ابن عساكر «1» في ترجمته التي ذكرها، وقالها على رؤوس العلماء فما فيهم من أنكرها. قال الزهري: العلماء أربعة: سعيد بن المسيب بالمدينة والشعبي بالكوفة والحسن البصري بالبصرة ومكحول «2» بالشام.
ولم يكن في زمنه أبصر منه بالفتيا، وكان لا يفتي حتى يقول:
/ (ص 266) لا حول ولا قوة إلا بالله، هذا رأي، والرأي يخطئ ويصيب، وكان سنديا لا يفصح وفي لسانه عجمة ظاهرة ويبدل بعض الحروف ببعض، وكان مقامه بدمشق، توفي سنة ثلاث عشرة ومائة.
ومنهم
142- عطاء بن أبي رباح
«3» القرشي مولاهم مفتي أهل مكة ومحدثهم، القدوة العلم أبو محمد، لقد عرّف به فضله حيث لا أنساب، وأعطي الزمان منه عطاء بلا حساب، لقد عبقت أرادنه «4» بمسكها، وفتّت كافور الصباح في مسكها «5» ، ووقفت عليه الركائب بمكة لتمام نسكها، لا يردّ عليه إذا أفتى، ولا يعدّ معه أكرم يدا منه ولا أفتى، ولقد كانت بقايا الصحابة تشير إليه بالتعظيم، وتشير منه بالتعليم، وتثير منه(5/636)
لأهل المطالب كنزا لا يردّ منه عديم، ولد في خلافة عثمان وقيل في خلافة عمر وهو أشبه، وسمع عائشة وأبا هريرة وابن عباس وطائفة، وروى عنه جماعة من الأئمة كابن إسحاق «1» والأوزاعي «2» وأبي حنيفة «3» ، وخلق كثير، وكان أسود مفلفلا فصيحا كثير العلم من مولّدي الجند، قال أبو حنيفة: ما رأيت أفضل من عطاء، وقال ابن جريج «4» : كان في المسجد فراشه عشرين سنة، وكان أحسن الناس صلاة، وقال الأوزاعي: مات عطاء يوم مات وهو أرضى أهل الأرض عند الناس. وقال إسماعيل بن أمية «5» : كان عطاء يطيل الصمت، فإذا تكلم خيّل إلينا أنه يؤيّد «6» ، وقال عبد الله بن عباس «7» : يا أهل مكة تجتمعون إلي وعندكم عطاء، وقدم ابن عمر مكة فسألوه، فقال: تجمعون لي المسائل وفيكم عطاء، وقال جعفر «8» الباقر: ما بقي على وجه الأرض أحد أعلم بمناسك الحج من عطاء.(5/637)
توفي في رمضان سنة أربع عشرة ومائة وقيل سنة خمس عشرة بمكة.
ومنهم
(ص 267) /
143- أبو الزناد عبد الله بن ذكوان المدني القرشي
«1» مولاهم أبو عبد الرحمن فقيه المدينة، وفقيد المثل لا تجد قرينه، بزغ في علم، ونزع حتى لا يراد منه إلا السّلم، كان إذا لذّ «2» بالقرناء وهزّ للفناء «3» ، طال وقصّروا، ونصر واستنصروا، واعترف له بالنجاحة، وعرف لمجاهدته في الليل ما ينوّر صباحه، وولىّ جند الحندس «4» مهزوما وفي جنبه البرق جراحه، سمع أنس ابن مالك «5» ، وأبا أمامة «6» بن سهل وعبد الله «7» بن جعفر وسعيد بن المسيّب،(5/638)
وهو راوية عبد الرحمن «1» الأعرج، وحدّث عنه «2» مالك وشعيب «3» بن أبي حمزة، والليث «4» والسفيانان «5» ، وابنه «6» عبد الرحمن، وخلق، وكان أحد الأئمة الأعلام، قال الليث بن سعد: رأيته وخلفه ثلاثمائة تابع من طالب فقه وطالب شعر وصنوف. قال ثم لم يلبث أن بقي وحده وأقبلوا على ربيعة، وقال أبو حنيفة: رأيت أبا الزناد وربيعة وأبو الزناد أفقه الرجلين، وقال أحمد بن حنبل: هو أعلم من ربيعة، قال: وكان سفيان يسمي أبا الزناد أمير المؤمنين في(5/639)
الحديث، وقال مصعب الزبيري «1» : هو كان فقيه أهل المدينة، وكان صاحب كتابة وحساب، وفد على هشام بحساب ديوان المدينة، وكان يعاند ربيعة، وقال إبراهيم بن المنذر «2» : كان هو سبب جلد ربيعة، فولي بعد أمير فطيّن على أبي الزناد بيتا، فشفع فيه ربيعة، وقيل: إن أبا الزناد هو ابن أخي أبي «3» لؤلوة قاتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، توفي سنة إحدى وثلاثين ومائة. وقيل سنة ثلاث وثلاثين.
ومنهم
144- ربيعة بن أبي عبد الرحمن فرّوخ مولى آل المنكدر
«4» التيمي، أبو عثمان، ويقال: أبو عبد الرحمن المعروف بربيعة الرأي فقيه أهل(5/640)
/ (ص 268) المدينة إمام ما دجت مشكلة إلا أن كان سراجها، ولا أعيت مسألة إلا فرى بأول ضربة أوداجها.
ولا فخرت رتبة إلا كان تاجها، ولا زخرت حجة إلا خرق برأيه الصائب أمواجها، سعد بن مالك وشقي، وتقدم عليه وبقي، وحدّث عنه والمسجد يجمعهما، وضيق ذكره الطائر مسالكه والمدينة تسعهما، رزق دونه الحظوة، وتمسك بذيله وحلّ قبله الذروة، ولم يؤخره إلا شقاشق «1» جعلت صواب مقاله هدرا، وصفو زلاله كدرا، وطالع نجمه منكدرا، ومحلّق سهمه منحدرا، وما هي إلا إحاظ قسّمت وجدود، وشقاوة قدّرت في سابق القدم وسعود، أدرك جماعة من الصحابة، وروى عن أنس وغيره وعنه أخذ الثوري ومالك وسليمان «2» بن بلال، وإسماعيل «3» بن جعفر وأنس «4» بن عياض، وكان حافظا حجّة فقيها(5/641)
مجتهدا حاذقا، قال بكر بن «1» عبد الله الصنعاني: أتينا مالك بن أنس، فجعل يحدثنا عن ربيعة الرأي فكنا نستزيده من حديث ربيعة، فقال لنا ذات يوم: ما تصنعون بربيعة وهو نائم في الطاق «2» ، فأتينا ربيعة فأنبهناه، وقلنا له: أنت الذي يحدث عنك مالك بن أنس؟ قال: نعم، قلنا: كيف حظي بك مالك، وأنت لم تحظ بنفسك؟ قال: أما علمتم أن مثقالا من دولة خير من حمل من علم، وكان ربيعة يكثر الكلام ويقول: الساكت بين النايم والأخرس، وكان يوما يتكلم في مجلسه، فوقف عليه أعرابي دخل من البادية، فأطال الوقوف والإنصات إلى كلامه، فظن ربيعة. أنه قد أعجبه كلامه، فقال له: يا أعرابي ما البلاغة عندكم؟ فقال: الإيجاز مع إصابة المعنى، فقال: وما/ (ص 269) العيّ قال: ما أنت فيه مذ اليوم، فخجل ربيعة، وكانت وفاته سنة ست وثلاثين «3» ومائة بالهاشمية وهي مدينة بناها السفاح «4» بأرض الأنبار، وكان يسكنها، ثم انتقل إلى الأنبار، قال مالك: ذهبت حلاوة الفقه منذ مات ربيعة.(5/642)
ومنهم
145- يحيى بن سعيد بن قيس بن عمرو الحافظ
«1» شيخ الإسلام أبو سعيد الأنصاري النجاري المدني، قاضي المدينة ثم قاضي القضاة للمنصور، المقدّم في سالف العصور، والمقدم على ذلك الليث الهصور، اختاره مثل ذلك الرجل، وأقامه حيث تضرب إليه آباط الأنياق الذلل، وقدّمه في ذلك الجيل، ولحظه بما يستحق من التبجيل، وأخلي له الميدان كيف شاء يجيل، فلهذا رمّ ما فسد، وتم له ما أرضى ذلك الضرغامة الأسد.
حدّث عن أنس بن مالك «2» ، والسايب بن يزيد «3» ، وأبي أمامة ابن سهل «4»(5/643)
وسعيد بن المسيّب «1» والقاسم بن محمد «2» وخلق، وروى عنه شعبة «3» ومالك «4» والسفيانان «5» والحمادان «6» وابن المبارك «7» ويحيى القطان «8» ، ويزيد ابن هارون»
، وأمم سواهم.(5/644)
قال أيوب السختياني «1» : ما تركت بالمدينة أحدا أفقه من يحيى بن سعيد، وقال أبو حاتم «2» : ثقة يوازي الزهري «3» ، وقال يحيى بن القطان هو مقدّم على الزهري، اختلف على الزهري، وهو لم يختلف عليه، وقال الثوري: كان من الحفّاظ، وقال سليمان بن بلال، كان يحيى بن سعيد قد ساءت حاله، وأصابه ضيق شديد، وركبه الدّين، فجاءه كتاب المنصور «4» بالقضاء، فوكّلني بأهله، وقال لي: والله ما خرجت وأنا أجهل شيئا، فلما قدم العراق كتب إلي،: والله لأوّل خصمين جلسا بين يدي، فاقتضيا شيئا، والله ما سمعته قط فإذا جاءك كتابي. فسل ربيعة «5» واكتب إليّ بما يقول، واكتم هذا./ (ص 270)
قال سليمان: ولما سار خرجت معه أشيعه، فاستقبله جنازة فتغيّرت فقال لي: يا أبا محمد أراك تغيرت؟! فقلت: اللهم لا طير إلا طيرك، قال والله لئن صدق طيرك لينعشنّ أمري، قال: فما أقام إلا شهرين حتى قضى دينه وأصاب(5/645)
خيرا، وقال أحمد بن حنبل «1» : يحيى بن سعيد أثبت الناس، وقال يحيى بن أيوب المقابري «2» : حدّثني أبو عيسى «3» وغيره: أن قوما كان بينهم وبين المسيّب بن زهير «4» خصومة فارتفعوا إلى يحيى بن سعيد قاضي أبي جعفر، فكتب إليه يحيى أن يحضر فأتوا المسيّب بكتابه فانتهرهم وتمنّع، فأتوا يحيى فأخبروه، فقام مغضبا، يريد المسيّب، فوافقه وقد ركب بين يديه نحو المائتين من الخشّابة «5» ، فلما رأوا يحيى أفرجوا له، فأتى المسيّب وأخذ بحمايل سيفه ورمى به إلى الأرض، ثم نزل عليه يحيى يخنقه، قال: فما خلص حمايل السيف من يده إلا أبو جعفر المنصور بنفسه. وقال يحيى بن سعيد: أهل العلم أهل توسعة، وما برح المفتون يختلفون، فيحلّل هذا ويحرّم هذا، فلا يعيب هذا على هذا، ولا هذا على هذا، وإن المسألة لترد على أحدهم مثل الجبل، فإذا فتح له بابها، قال:(5/646)
ما أهون هذه، وقال يزيد بن هارون «1» : حفظت ليحيى بن سعيد ثلاثة آلاف حديث فمرضت فنسيت نصفها.
توفي بالهاشمية سنة ثلاث وأربعين ومائة./ (ص 271)
ومنهم
146- سليمان بن مهران
«2» مولى بني كاهل أبو محمد المعروف بالأعمش الكوفي الإمام المشهور شهرة الأعلام، المذكور ذكر الروض للغمام، الدمث الأخلاق المنبعث انبعاث الشمس في الآفاق، المخضر عوده الرطيب، المفترّ ثغره الشنيب «3» ، المنهلّ ندى ورقاته، المخضلّ نديّ أوقاته للفاكهة تؤتي أكلها كل حين، وآداب لو تومي إلى الحنادس لمحين، مداعبه ألطف من كؤوس الأندرين «4» ، وأخفّ من وصل الحبايب إن درين.. قدم أبوه الكوفة وامرأته حامل بالأعمش، فولدته بها سنة ستين للهجرة، وقيل: إنه ولد يوم مقتل الحسين وهو يوم عاشوراء سنة إحدى وستين وحضر أبوه قتل الحسين، وعدّه ابن قتيبة «5» في المعارف في جملة من حملت به أمه سبعة(5/647)
أشهر، ولا يعرف بغير الكوفي، وكان يقارن الزهري «1» في الحجاز، ورأى أنس ابن مالك «2» ، وكلمه لكنه لم يرزق السماع عليه، وما يرويه عنه فهو إرسال، ولقي كبار التابعين، وروى عنه خلق كثير من جلّة العلماء، وقال أبو معاوية الضرير «3» : بعث هشام بن عبد الملك «4» إلى الأعمش أن اكتب لي مناقب عثمان ومساوي علي، فأخذ القرطاس وأدخلها في فم شاة فلاكتها وقال لرسوله:
قل له هذا جوابك، فقال له الرسول: إنه قد آلى أن يقتلني إن لم آته بجوابك، وتحمّل عليه بإخوانه، فقالوا: يا أبا محمد خلّصه من القتل، فلما ألحوا عليه، كتب: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد يا أمير المؤمنين، فلو كانت لعثمان مناقب أهل الأرض ما نفعتك، ولو كانت لعلي مساوي أهل الأرض ما ضرّتك، فعليك بخويصة نفسك. وقال زائدة بن قدامة «5» : تبعت الأعمش يوما، فأتى المقابر فدخل قبرا محفورا، فاضطجع فيه، ثم خرج منه وهو ينفض التراب عن رأسه/ (ص 272) ويقول: واضيق مسكناه. قال علي بن المديني «6» : له نحو(5/648)
ألف وثلاثمائة حديث، وقال ابن عيينة «1» : كان الأعمش أقرأهم لكتاب الله، وأحفظهم للحديث، وأعلمهم بالفرائض، وقال أبو حفص الفلاس «2» : كان الأعمش يسمّى المصحف من صدقه، وقال القطّان «3» : هو علّامة الإسلام، وقال وكيع «4» : كان الأعمش قريبا من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى. وقال الحربيّ «5» : ما خلف أعبد منه، وكان صاحب سنّة، وكان مع هذا كله مزّاحا جاء أصحاب الحديث يوما ليسمعوا عليه، فخرج إليهم وقال: لولا أن في منزلي من هو أبغض إليّ منكم ما خرجت إليكم، وجرى بينه وبين زوجته يوما كلام، فدعا رجلا ليصلح بينهما، فقال لها الرجل: لا تنظري إلى عمش عينيه، وحموشة ساقيه، فإنه إمام وله قدر، فقال له الأعمش خزاك الله ما أردت إلا أن تعرفها(5/649)
عيوبي، وقال له داود بن عمر الحايك «1» ما تقول في الصلاة خلف الحايك؟ فقال لا بأس بها على غير وضوء، قال: ما تقول في شهادة الحايك، قال تقبل مع عدلين، ويقال: إن الإمام أبا حنيفة عاده يوما في مرضه، فطوّل القعود عنده، فلما عزم على القيام، قال له: ما كأني إلا ثقلت عليك فقال: والله إنك لثقيل عليّ وأنت في بيتك، وعاده أيضا جماعة فأطالوا الجلوس عنده، فضجر منهم، فأخذ وسادته، وقام وقال: شفا الله مريضكم بالعافية، وله أخبار، وملح مشهورة. توفي في ربيع الأول سنة ثمان وأربعين ومائة.
ومنهم
147- محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى أبو عبد الرحمن
«2» الفقيه المقرى مفتي الكوفة وقاضيها، قام بها حتى أكمد قلوب المعتدين، وأرمد عيون أعداء الدين، بفضل يبهر الشموس اللامعة، والغصون اليانعة،/ (ص 273) والبروق الخواطف والسحب المبتلة المعاطف، لم تزل آفاته وإفادته للمستظل والمستبين، وفتاويه وفتوته للجهول والمسكين، بشيء تفرد به في زمانه سجيّة طبع عليها نقده المبين، وجمع عقده الثمين، فسلّم بها الكمال لواهبه، والجمال لما يزرّر عليه في جلاببه، حدّث عن الشعبي «3» وعطاء «4»(5/650)
والحكم «1» ونافع «2» وعمرو بن مرة «3» وطائفة، وكان أبوه من كبار التابعين، فتوفي وهو طفل فلم يدرك الأخذ عنه، وحدّث عنه شعبة «4» والسفيانان «5» وزائدة «6» ووكيع «7» وأبو نعيم «8» وعمران «9» ابنه، قال أحمد بن يونس «10» :
كان محمد بن أبي ليلى أفقه أهل الدنيا، وقال أحمد بن عبد الله العجلي «11» ،(5/651)
كان فقيها صدوقا، صاحب سنّة، جايز الحديث، صاحب سنة، جايزا عالما بالقرآن، قرأ عليه حمزة الزيات «1» ، وقال أبو حفص الأبّار «2» عن ابن أبي ليلى قال: دخلت على عطاء فجعل يسألني، فكأنّ أصحابه أنكروا ذلك، فقال: وما تنكرون هو أعلم منيّ، توفي في شهر رمضان سنة ثمان وأربعين ومائة.
ومنهم
148- عبد الملك بن عبد العزيز ابن جريج الرومي
«3» الأموي مولاهم المكي الحافظ صاحب التصانيف أبو الوليد فقيه الحرم، ونزيل ذلك الحمى الذي لم يرم، عالم كان يخاف منه الفوات، وتعج لديه الطلبة حتى لا يكاد تفهم بناديه الأصوات، انصبت سعوب «4» فكره، وأصبت تصانيفه لأنها عقايل «5» ما أوت غير خدره، وأتى منها بما لا يأتي به الصيّب من بدائع الألوان، ووشائع «6» الحبر التي لا تتغير بتغير الأوان.(5/652)
ولد سنة نيّف وسبعين، وأدرك صغار الصحابة لكنه لم يحفظ عنهم، وروى عنه أمم. قال أحمد بن حنبل «1» : كان من أوعية العلم، هو وابن أبي عروبة «2» ، أوّل من صنّف الكتب وقال/ (ص 274) عبد الرزاق «3» : ما رأيت أحسن صلاة من ابن جريج، وقال يحيى بن سعيد «4» القطان: لم يكن ابن جريج عندي بدون مالك «5» في نافع «6» ، وقال ابن المديني «7» : لم يكن في الأرض أعلم بعطاء «8» من ابن جريج. وقال ابن جريج: كنت أتتبع الأشعار العربية والأنساب، فقيل لي(5/653)
لو لزمت عطاء، فلزمته ثمانية عشر عاما. وقال جرير «1» : كان ابن جريج يرى المتعة، تزوّج ستين امرأة، وقيل: سمع من مجاهد «2» حرفين في القرآن، وكان إماما ثقة صاحب عبادة، وقيل: إنه جاز مائة سنة، وتوفي في أول الحجة سنة خمسين ومائة. ووهم ابن المديني حيث يقول: مات سنة تسع وأربعين.
ومنهم
149- عبد الرحمن بن عمرو بن محمد الأوزاعي
«3» إمام أهل الشام، وغمام برقه الذي يشام، وواحد زمانه ولا احتشام، كان في زمان بني أمية يرمى إليه طرف كل مؤمّر، ويومئ إليه حتى طرف البنان البنان المخمر، وجاءت الدولة العباسية فزادته راياتها السود المطلة سؤددا، وأعلمته أن مع اليوم غدا، وشدت باسمه محافلها، واقتدت بعلمه جحافلها، ولم يقدم لمكانه أمير جيشهم القادم إلى الشام على إسراف في إطلال الدماء، واستحلال لإتلاف نفوس أولئك العظماء إلا ما سبق السيف فيه العذل، وقبل سرعان الجيش من سومهم السائب ما بذل، حتى ألجمهم بفتياه «4» ، وألجأهم إلى الوقوف دون(5/654)
منتهاه، وكان ربّ جهاد في الثغر، وسدّاد للثغر، ينام والعدو الأزرق من البحر ينظر شزرا، وينوي للرقاب الممتدة جزرا، أقام ببيروت وكتب في عددها، وحسب ريادة في عمدها، وكان محط الرحلة، ومحل الفضل الذي لا يجنى مثله مجاجة «1» النحلة، علما جما ما نقص/ (ص 275) وفضلا مقبلا ما نكص، ورسائل هي قطع الروض المنوّر، وصفو الزلال المتحدّر.
وعدد النجوم إلا أنه يضعها غير متكثّر، ويفرعها الشامخ غير متكبّر، ولجلالة مكانه في العلم لم أذكره إلا لحلة فضله طرازا، ولجملة كماله تماما لا إعوازا، كل هذا إلى دين لا يجاذبه فيه منازع، وتقى كمن عساه يزع إن لم يكن منه للأوزاعي وازع.
ولد ببعلبك سنة ثمان وثمانين للهجرة، وقيل سنة ثلاث وتسعين، ونشأ يتيما، بالكرك بالبقاع، ثم نقلته أمه إلى بيروت، وكان فوق الرّبعة خفيف اللحية به سمرة، وكان يخضب بالحناء، ولم يكن بالشام أعلم منه، قيل: إنه أجاب في سبعين ألف مسألة، روي أن سفيان الثوري «2» بلغه مقدم الأوزاعي فخرج حتى لقيه بذي طوى، فحل سفيان رأس بعيره عن القطار، ووضعه على رقبته، فكان إذا مر بجماعة قال: الطريق للشيخ، قال إسماعيل بن عيّاش «3» : سمعتهم يقولون سنة أربعين ومائة: الأوزاعي اليوم عالم الأمّة، وقال أبو إسحاق(5/655)
الفزاري «1» : لو خيّرت لهذه الأمة لاخترت الأوزاعي يعني في الخلافة، وقال بشر ابن المنذر «2» : رأيت الأوزاعي كأنه أعمى من الخشوع، وقال أبو مسهر «3» : كان الأوزاعي يحيي الليل صلاة وقرآنا وبكاء، وقال الأوزاعي: رأيت كأن ملكين عرجا بي إلى الله فأوقفاني بين يديه، فقال: أنت عبدي عبد الرحمن الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟ قلت: بعزتك ربي، فردّاني إلى الأرض، وقال الوليد ابن مزيد «4» : تعجز الملوك أن تؤدّب أولادها أدبه في نفسه، ما سمعت منه كلمة إلا احتاج مستمعها إلى إثباتها عنه، ولا رأيته ضاحكا بقهقهة، ولقد كان إذا أخذ في ذكر المعاد أقول: ترى في المجلس قلب لم يبك؟ وقال أبو زرعة «5»(5/656)
الدمشقي: كانت صنعته/ (ص 276) الكتابة والترسل ورسائله تؤثر، فمما يؤثر من كلامه: عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإيّاك ورأي الرجال وإن زخرفوه بالقول، فإن الأمر ينجلي وأنت على طريق مستقيم، وقال: إذا بلغك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث فإياك أن تقول بغيره فإنه كان مبلغا عن الله، وقال:
ما ابتدع رجل بدعة إلا سلب ورعه، وقال: ويل للمتفقهين لغير العبادة، والمستحلين الحرمات بالشبهات. واجتمع سفيان «1» والأوزاعي وعبّاد «2» بن كثير، فقال سفيان: يا أبا عمرو حدثنا حديثك مع عبد الله بن علي «3» - يعني عمّ السفاح- فقال: لما قدم الشام وقتل بني أميّة جلس على سريره، وعبى أصحابه أربعة أصناف، مع كل صنف نوع من أنواع السلاح، ثم بعث إليّ، فلما صرت إلى الباب أنزلوني عن دابتي، وأخذ اثنان بعضديّ وأدخلوني بين الصفوف، حتى أقاموني بحيث يسمع كلامي، فقال لي: أنت عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي؟ قلت: نعم- أصلح الله الأمير، قال: ما تقول في دماء بني أمية؟
فقلت: قد كان بينك وبينهم عهود، كان ينبغي أن يفوا لك بها، قال: ويحك، اجعلني وإياهم لا عهد بيننا، فأجهشت نفسي وكرهت القتل، فذكرت مقامي(5/657)
بين يدي الله فلفظتها، فقلت: دماؤهم عليك حرام، فغضب، وانتفخت عيناه وأوداجه، فقال لي: ويحك، ولم؟ قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحل دم امرء مسلم إلا بإحدى ثلاث: ثيّب زان ونفس بنفس وتارك لدينه «1» . فقال: ويحك أو ليس الأمر لنا ديانة؟ قلت: كيف ذاك؟ قال: أليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى إلى عليّ؟ قلت: لو أوصى إليه ما حكّم الحكمين، فسكت، وقد اجتمع غضبا، فجعلت أتوقع رأسي يسقط بين يدي، فقال بيده هكذا يومئ أن أخرجوه، فخرجت، فما أبعدت حتى لحقني فارس/ (ص 277) فنزلت وقلت: قد بعث ليأخذ رأسي، أصلي ركعتين، فكبّرت وصليت، فسلّم، وقال: إن الأمير بعث إليك بهذه الدنانير، قال: ففرقتها قبل أن أدخل بيتي، وقال الأوزاعي: كنا نمزح ونضحك، فلما صرنا يقتدى بنا خشيت أن لا يسعنا التبسم، وكان أهل الشام، ثم أهل الأندلس على مذهب الأوزاعي مدّة، ثم فني العارفون به وبقي منه ما يوجد في كتب الخلاف. وقال عقبة بن علقمة البيروتي «2» : دخل الأوزاعي حماما في بيته، وأدخلت معه زوجته كانونا ليدفأ به ثم أغلقت عليه وتشاغلت فهاج الفحم فمات، قال عقبة فوجدناه متوسدا ذراعه إلى القبلة، قال أبو مسهر «3» : أغلقت عليه غير متعمدة فمات، فأمرها سعيد بن عبد العزيز «4» بعتق رقبة، ولم يخلّف(5/658)
إلا ستة دنانير، فضلت من عطائه، وكان قد كتب في ديوان الساحل، وكانت وفاته يوم الأحد لليلتين بقيتا من صفر، وقيل في ربيع الأول سنة سبع وخمسين ومائة ببيروت، وقبره في قرية على باب بيروت يقال لها: حنتوش «1» ، وأهلها مسلمون، وهو مدفون في قبلة المسجد، وأهل القرية لا يعرفونه، بل يقولون:
ههنا رجل صالح ينزل عليه النور ولا يعرفه إلا الخواص من الناس.
والأوزاعي منسوب إلى أوزاع بطن من ذي كلاع وقيل بطن [من همدان] «2» .
ومنهم
150- سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب بن رافع بن عبد الله بن موهبة أبو عبد الله الثوري الكوفي الفقيه الإمام
«3» سيد الحفاظ، ومرتمى الألفاظ، ومرتمق الألحاظ، ذو المذهب الواضح، الذي لا يضل سالكه، ولا يظلم به إن دجى الليل حالكه، تمذهب به جماعة، وكاد الزمان يعقد عليه إجماعه، والآن هو إنما محي رسمه، وبقي حكمه، هذا وقد فرّقت أوصاله الدود، ومزقت أعضاءه اللحود، وأبلى جدته التراب، وأطال مدّته(5/659)
الذهاب، لكن هو العلم/ (ص 278) الذي يورث صاحبه الخلود، ويحييه وقد بليت محاسن أوجه وخدود، قال سفيان بن عيينة «1» : ما رأيت رجلا أعلم بالحلال والحرام من سفيان الثوري، وقال عبد الله بن المبارك «2» : كتبت عن ألف ومائة شيخ ما فيهم أفضل من سفيان الثوري، ولا أعلم على وجه الأرض أفضل من سفيان. وقال الأوزاعي «3» : لم يبق من تجمع عليه الأمة بالرضا والصحة إلا سفيان، وقال يحيى القطان «4» : سفيان فوق مالك في كل شئ، وقال أبو أسامة «5» : من أخبرك أنه رأى مثل سفيان فلا تصدقه، وقال ابن أبي ذئب «6» : ما رأيت بالعراق أحدا يشبه ثوريّكم، وقال سفيان: العالم طبيب الدّين، والدرهم داء الدّين، فإذا اجترّ الطبيب الداء إليه متى يداوي غيره، وقال القعقاع بن حكم «7» :(5/660)
كنت عند المهدي «1» وأتى سفيان الثوري، فلما دخل سلّم عليه تسليم العامّة، ولم يسلّم بالخلافة، والربيع «2» قائم على رأسه متكئا على سيفه، يرقب أمره، فأقبل المهدي عليه بوجه طلق، وقال له: يا سفيان تفرّ مناههنا وههنا، وتظن أنا لو أردناك بسوء لم نقدر عليك؟ فقد قدرنا عليك الآن، أفما تخشى أن نحكم فيك بهوانا؟ قال سفيان: إن تحكم فيّ يحكم فيك ملك قادر يفرق بين الحق والباطل. فقال له الربيع: يا أمير المؤمنين ألهذا الجاهل أن يستقبلك بمثل هذا؟
ائذن لي أن أضرب عنقه، فقال له المهدي: اسكت ويلك، وهل يريد هذا وأمثاله إلا أن نقتلهم فنشقى بسعادتهم؟ اكتبوا عهده على قضاء الكوفة، على أن لا يعترض عليه، فكتب عهده ودفع إليه، فأخذه وخرج فرمى به في دجلة وهرب، فطلب في كل بلد فلم يوجد، ولما امتنع من قضاء الكوفة وتولّاه شريك «3» بن عبد الله النخعي، قال الشاعر/ (ص 279) : [الطويل]
تحرر سفيان وفرّ بدينه ... وأمسى شريك مرصدا للدراهم
وحكي عن أبي صالح المدائني «4» أنه قال: إني لأحسب سفيان الثوري يوم(5/661)
القيامة حجة من الله على الخلق، يقال لهم: لم تدركوا نبيكم صلى الله عليه وسلم فقد رأيتم سفيان الثوري، هلا اقتديتم به؟ مولده سنة بضع وتسعين للهجرة، وتوفي بالبصرة سنة إحدى وستين ومائة متواريا من السلطان ودفن عشاء ولم يعقب.
ومنهم
151- حماد بن سلمة بن دينار
«1» الإمام الحافظ شيخ الإسلام أبو سلمة الربعي مولاهم البصري البزاز البطائني النحوي المحدّث، شرارة زند، ونوارة رند «2» ، وسحابة ندّ. وسحّاة عنبر ختم بها معاقد بند، سلّم به إلى أبيه سلمة، وحمد لدين ما أسلمه، جددا ما نكّب عن طريقه ولا كلّ عن فريقه، ولا نكّد به إلا عدوا جرّعه غيظا بريقه.
قال وهيب «3» : حماد بن سلمة: سيدنا وأعلمنا، وقال أحمد بن حنبل:(5/662)
حمّاد أعلم الناس بثابت البناني «1» ، وأثبتهم في حميد «2» ، وقال علي بن المديني «3» : كان عند يحيى بن ضريس «4» عن حماد عشرة آلاف حديث، وقال شهاب بن معمر «5» : كان حماد بن سلمة يعدّ من الأبدال. وهو أول من صنّف التصانيف مع ابن أبي عروبة «6» ، وكان بارعا في العربية فقيها فصيحا مفوّها صاحب سنة. وقال ابن مهدي «7» : لو قيل لحماد إنك تموت غدا ما قدر أن يزيد(5/663)
في العمل شيئا، وقال عفان «1» : ما رأيت أشدّ مواظبة على الخير وقراءة القرآن والعمل لله منه، وقال: عمرو بن عاصم «2» كتبت عن حماد بن سلمة بضعة عشر ألف حديث. وقيل إن حمادا تزوج سبعين امرأة ولم يولد له ولد، وقال أحمد بن حنبل: إذا رأيت الرجل ينال من حماد بن سلمة فاتهمه على الإسلام، توفي بعد عيد النحر سنة سبع وستين ومائة. وقد قارب الثمانين/ (ص 280)
ومنهم
152- عبد الله بن المبارك
«3» ابن واضح المروزي مولى بني حنظلة، والمؤتى من كل شئ أفضله، هو المبارك وابنه، وأصله الزاكي وغصنه لعلم جدّ جدوله، وصال منصله، وصاد الشوارد أجدله، هذا إلى دماثة خلق خف على القلوب محمله، وأسرع إلى الخواطر توصّله، ينزهه ورع ما رنّق غديره قذى، ولا نبع منه أذى، بنقاء سريرة أصفى من الماء في المزن،(5/664)
وأغسل للغماء من السرور غبّ الحزن، تفقه على الثوري «1» ومالك «2» وروى عنه الموطأ، وكان كثير الانقطاع محبّا للخلوة، شديد التورّع جامعا بين العلم والزهد، نقل أبو عبد الله الجبّائي «3» أن عبد الله بن المبارك سئل أيّما أفضل معاوية بن أبي سفيان «4» أم عمر بن عبد العزيز «5» ؟ فقال: والله إن الغبار الذي دخل في أنف معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من عمر بألف مرة، صلّى معاوية خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سمع الله لمن حمده، فقال معاوية ربنا ولك الحمد، فما بعد هذا؟ ومن كلامه: تعلمنا العلم للدنيا فدلنا على ترك الدنيا. ومن شعره: [البسيط]
قد يفتح المرء حانوتا لمتجره ... وقد فتحت لك الحانوت بالدّين
صيّرت دينك شاهينا تصيد به ... وليس يفلح أصحاب الشواهين
توفي منصرفا من الغزو بهيت في رمضان سنة نيف وثمانين ومائة، ومولده بمرو سنة ثمان عشرة ومائة.
ومنهم
153- سفيان بن عيينة بن أبي عمران ميمون الهلالي
«6» قمر طلع من هلال، ودرّ تجسّد من زلال، من خير من تنقلت به الأصلاب،/ (ص 281)(5/665)
ونفّلت له الأسلاب، ونقلت له خوص المطايا الأجلاب «1» ، وأقبلت إليه الطلبة في هيئة الأطلاب «2» ، وحطّت عليه بأملها الركايب الطلاح «3» ، وخطت إليه بفللها السحايب الدلاح «4» ، طالما شكم الموقف بالصخرات موقفه وحمد منه معرّف المعرفة، وأجمع جمع أنه ما رأى مثله بالعيان ولا بالصفة، ولد بالكوفة في منتصف شعبان سنة سبع ومائة، ونقله أبوه إلى مكة، وكان إماما عالما ثبتا زاهدا ورعا، مجمعا على صحة حديثه وروايته، وحج سبعين حجة، وروى عن جماعة من الأعيان، وروى عنه خلق كثير، قال ابن خلكان «5» رحمه الله: رأيت في بعض المجاميع أن سفيان خرج يوما إلى من جاءه يسمع منه وهو ضجر، فقال: أليس من الشقاء أن أكون جالست ضمرة بن سعيد «6» وجالس هو أبا سعيد الخدري «7»(5/666)
وجالست عمرو بن دينار «1» وجالس هو عبد الله بن عمر «2» ، وجالست الزهري «3» ، وجالس هو أنس بن «4» مالك حتى عدّ جماعة ثم أنا أجالسكم، فقال له حدث في المجلس أتنصف يا أبا محمد، قال: إن شاء الله تعالى فقال:
والله لشقاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بك أشدّ من شقائك بنا. فأطرق وأنشد قول أبي نواس «5» : [مجزوء الرمل]
خلّ جنبيك أرام «6» ... وامض عنه بسلام
مت بداء الصمت خير ... لك من داء الكلام
وتفرق الناس وهم يتحدثون برجاحة الحدث، وكان ذلك الحدث يحيى بن أكثم «7» ، فقال سفيان: هذا الغلام يصلح لصحبة هؤلاء، يعني السلطان. وقال(5/667)
الشافعي «1» : ما رأيت أحدا فيه آلة الفتيا ما في سفيان، وما رأيت أكف منه عن الفتيا، وقال سفيان: دخلت الكوفة ولم يتم لي عشرون سنة، فقال أبو حنيفة «2» لأصحابه،/ (ص 282) ولأهل الكوفة: جاءكم حافظ علم ابن دينار، قال: فجاء الناس يسألونني عن عمرو بن دينار، فأوّل من صيرني محدثا أبو حنيفة فذاكرته.
توفي بمكة في آخر جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين ومائة ودفن بالحجون.
ومنهم
154- إسحاق بن أبي الحسن إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم بن عبد الله الحنظلي المروزي المعروف بابن راهويه أبو يعقوب
«3» الحافظ الكبير، نزيل نيسابور وعالمها، إمام لا يعام في بحره، وتمام لا يغام على بدره، لسان جدل لا يحج، وبيان جدل للمحتج، أثنت عليه الأئمة، وثنت إليه الأزمّة، وخلف في الخير سالف الأمة، وخلف الناس بعده تتمة، وأقامت إليه المطيّ صدورها، وأدامت به سرورها، وترامت إليه بالطلبة أشباحها، وأمّت به حيث يطلع صباحها، وكان لحنا بالحجج إذا ناظر، محسنا إذا حاضر، لا تمل مجالسته ولا تخل بالصّواب مناقشته.
ذكره الدارقطني «4» فيمن روى عن الشافعي «5» ، وعدّه البيهقي «6» في(5/668)
أصحاب الشافعي، وكان قد ناظر الشافعي في مسألة جواز بيع دور مكة، فلما عرف فضله نسخ كتبه وجمع مصنفاته، قال أحمد بن حنبل: إسحاق عندنا إمام من أئمة المسلمين، وما عبر الجسر أفقه منه.
قال محمد بن أسلم الطوسي «1» لما بلغه موت إسحاق: ما أعلم أحدا كان أخشى لله من إسحاق، يقول الله إنما يخشى الله من عباده العلماء، وكان أعلم الناس، ولو كان الحمادان والثوري في الحياة لاحتاجوا إليه، وقال أحمد أيضا: لا أعلم لإسحاق نظيرا بالعراق لم يلق مثله، وقال إسحاق: أحفظ سبعين ألف حديث وأذاكر بمائة ألف، وما سمعت قط شيئا إلا حفظته، ولا حفظت شيئا قط فنسيته.
وقال أيضا: كأني أنظر إلى مائة ألف حديث/ (ص 283) في كتبي وثلاثين ألفا أسردها، وقال أبو داود الجفّان «2» : أملى علينا إسحاق من حفظه أحد عشر ألف حديث، ثم قرأها علينا فما زاد حرفا ولا نقص حرفا. وقال أبو حاتم «3» :
العجب من إتقانه وسلامته من الغلط مع ما رزق من الحفظ، وقال أبو زرعة «4» :
ما رؤي أحفظ من إسحاق، وله مسند مشهور، رحل إلى الحجاز والعراق واليمن والشام، وسمع ابن عيينة «5» وطبقته، وسمع منه البخاري ومسلم والترمذي،(5/669)
وكانت ولادته سنة إحدى وستين ومائة وسكن آخر عمره بنيسابور، وتوفي بها ليلة النصف من شعبان سنة ثمان وثلاثين وقيل سنة سبع وثلاثين ومائتين، وله سبع وسبعون سنة.
ومنهم
155- إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي الفقيه البغدادي أبو ثور
«1» ورد البحر فاستقل السواقي، وظفر بالمنى فهان عليه ما كان يلاقي، وصحب الإمام المعرق في قريش وأنشد:
كلما فات في الليالي المواضي ... فهو في ذمّة الليالي البواقي
صحب الإمام الشافعي، ونقل الأقوال عنه، وكان أحد الفقهاء الأعلام والثقات المأمونين في الدين، واشتغل أولا بمذهب أهل الرأي، حتى قدم الشافعي العراق، فاختلف إليه واتّبعه ورفض مذهبه الأول، ولم يزل كذلك إلى أن توفي لثلاث بقين من صفر سنة أربعين ومائتين ببغداد، وله الكتب المصنفة في الأحكام جمع فيها بين الحديث والفقه.
ومنهم
156- محمد بن نصر الإمام أبو عبد الله المروزي
«2» أحد الأئمة الأعلام، والأزمّة فيما تمليه الأقلام، ضرب الآفاق في طلب(5/670)
الحديث/ (ص 284) واغترب لا يقنعه السير الحثيث، ثم لم يرض بمجرد الرواية حتى وصلها بالدراية، وتفقه فيما اتصل به حتى أبرزه علما جليا، ومثّله عيانا مرئيا، ولد ببغداد، ونشأ بنيسابور، وسكن سمرقند وغيرها، وكان أبوه مروزيا.
تفقه أبو عبد الله على أصحاب الشافعي بمصر وعلى إسحاق بن راهويه «1» ، ورحل في طلب الحديث والعلم إلى الآفاق، قال الحاكم «2» : هو إمام الحديث في عصره بلا مدافعة، وقال الخطيب «3» : كان من أعلم الناس باختلاف الصحابة ومن بعدهم، وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم «4» : كان محمد بن نصر إماما بمصر فكيف بخراسان. وقال القاضي محمد بن محمد «5» كان الصدر الأول من مشايخنا يقولون: رجال خراسان أربعة: ابن المبارك «6» ، وابن راهويه، ويحيى بن يحيى «7» ومحمد بن نصر: وقال السليماني «8» : محمد بن نصر(5/671)
المروزي إمام الأئمة الموفق من السماء، له كتاب تعظيم قدر الصلاة، وكتاب رفع اليدين، وغيرهما من الكتب المعجزة، وكان له مال يقارض عليه وينفق عليه من غلته، وكان إسماعيل بن أحمد «1» والي خراسان وأخوه يصله كلّ منهما بأربعة آلاف في السنة، ويصله أهل سمرقند بأربعة آلاف، فكان ينفقها من السنة إلى السنة فقيل له: لو ادخرت لنا منه! فقال: سبحان الله أنا بقيت بمصر كذا كذا سنة قوتي وثيابي وكاغدي وحبري وجميع ما أنفقه على نفسي في السنة عشرون درهما، أفترى إن ذهب ذا لا يبقى ذاك، وقد ذكرت له كرامات، منها ما رواه أبو الفضل محمد بن عبيد الله «2» قال: سمعت الأمير إسماعيل بن أحمد يقول: كنت بسمرقند فجلست يوما للمظالم/ (ص 285) وجلس أخي إلى جنبي فدخل أبو عبد الله محمد بن نصر فقمت له إجلالا لعلمه، فلما خرج عاتبني أخي وقال: أنت والي خراسان تقوم لرجل من الرعية، هذا ذهاب السياسة، فبتّ تلك الليلة وأنا منقسم الفكر، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بعضدي، فقال لي: ثبت ملكك وملك بنيك بإجلالك محمد بن نصر، ثم التفت إلى إسحاق وقال: ذهب ملك إسحاق وملك بنيه باستخفافه بمحمد بن نصر. وقال(5/672)
ابن حزم «1» في بعض تواليفه: أعلم الناس من كان أجمعهم للسنن وأضبطهم لها وأذكرهم لمعانيها، وأدراهم بصحتها، وبما أجمع الناس عليه مما اختلفوا فيه، وما نعلم هذه الصفة بعد الصحابة أتم منها في محمد بن نصر المروزي، فلو قال قائل: ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم حديث ولا لأصحابه إلا وهو عند محمد بن نصر لما بعد عن الصدق توفي بسمرقند سنة أربع وتسعين ومائتين.
ومنهم
157- محمد بن إبراهيم بن المنذر أبو بكر النيسابوري
«2» الحافظ الفقيه شيخ الحرم مشكاة النقل، ومرآة العقل، ألقى ما أغلق إليه الأقاليد، وأقال عثرات دينه من آفة التقليد، وجعل كتبه حججا لا تخصم، ولججا ما منها معصم، لم يخلّ ثنيّة ما طلع، ولا خفيّة ما استطلع، فبنت مصنفاته مع الإعلاق، وحفظت حفظ الضنين من الإملاق، فكانت مما تغلق عليه الخزائن أبوابها وتقفل، ويتفطن للاحتراز عليها ثم لا يبالي بما تغفل.
عدّه الشيخ أبو إسحاق «3» في طبقات الفقهاء الشافعية، وقال: صنّف في اختلاف الفقهاء كتبا لم يصنّف أحد مثلها، واحتاج إلى كتبه الموافق والمخالف،(5/673)
ولا أعلم عمّن أخذ الفقه، قال: وتوفي بمكة سنة تسع أو عشر/ (ص 286) وثلاثمائة، وهذا لا يصح فإن ابن عمار «1» لقيه وسمع منه في سنة ست عشرة وثلاثمائة، وأرّخ ابن القطان «2» وفاته سنة ثمان عشرة وثلاثمائة، ومن مصنفاته كتاب المبسوط في الفقه، وكتاب الإشراف في اختلاف العلماء وكتاب الإجماع، وكان غاية في معرفة الخلاف والدليل، مجتهدا لا يقلد أحدا.
ومنهم
158- أبو سليمان الخطابي حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب القرشي العدوي البستي من ولد زيد بن الخطاب ابن نفيل
«3» ومن بقية أبناء ذلك القيل، وغدر ما غادر ذلك السيل، والطراز الذي امتد رقمه في ذلك الثوب من الكم إلى الذيل. هو ممن أتيت على ذكره في فواضل السمر، وهو به أولى ولهذا ما كدت أذكره هنا لولا أن مثله ممّن يباهى به، ويباهل الشرق والغرب بتذهيبه، سمع بالعراق أبا عليّ الصفار «4» وأبا جعفر(5/674)
الرذاذ «1» وغيرهما، وروى عنه الحاكم أبو عبد الله النيسابوري «2» ، وعبد الغافر الفارسي «3» ، وكان فقيها أديبا، صنّف التصانيف البديعة منها: غريب الحديث، ومعالم السنن في شرح سنن أبي داود، وأعلام السنن في شرح البخاري، وكان يشبّه في عصره بأبي عبيد القاسم بن سلّام «4» علما وزهدا وأدبا وورعا وتدريسا وتأليفا، توفي في ربيع الأول سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، وذكره صاحب اليتيمة، وأنشد له قوله: [الطويل]
وما غربة الإنسان في شقّه النوى ... ولكنها والله في عدم الشكل
وإني غريب بين بست وأهلها ... وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي
وقوله: [البسيط]
شر السّباع العوادي دونه وزر ... والناس شرهم ما دونه وزر(5/675)
كم معشر سلموا لم يؤذهم سبع ... وما ترى بشرا لم يؤذه بشر «1»
ومنهم/ (ص 287)
159- الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر بن علي أبو الفضائل القرشي العدوي العمري عرف بالصغّاني الحنفي
«2» المحدّث الفقيه اللغوي رضي الدين، صاحب التصانيف، إمام مشهور، وغمام مشكور، وكمام تفتّح بالشذور «3» ، وتمام سلّم مما يعتري من النقص للبدور، وقد ذكرته في فواصل السمر في فضائل آل عمر، وهو أمسّ به وأمدّ لسببه على أن المطنب فيه مقصر، والموفى متعذر، وهيهات أن تبلغ السماء أو تحصى الأسماء، أو توفّى حق شكرها النعماء.
ولد بمدينة كوهور من بلاد الهند في عاشر صفر سنة سبع وسبعين وخمس مائة ونشأ بغزنة، ودخل بغداد سنة خمس عشرة وستمائة، وسمع بعدّة بلاد قال عبد المؤمن الدمياطي «4» : كان شيخا صالحا صدوقا صموتا عن فضول الكلام(5/676)
ملازما للصوم، إماما في الحديث واللغة والفقه، وقال ابن الشعّار «1» في عقود الجمان: كان فاضلا في النحو والعربية، إماما في اللغة، قدم العراق، وأقام ببغداد مديدة ثم حج ودخل اليمن، ونفق له بها سوق، ثم قدم العراق وأقام ببغداد وتامر هناك، وكان عنده خبرة بلعب الرمح والنصال والنبل والخرندازات وركوب الخيل، والتصيد بالكلاب، وجميع الآداب الملوكية، وأثرى وكثر ماله، ونفّذ إلى الخليفة يشعره أنه قد حوى من الذهب العين سبعين ألف دينار، ومثل ذلك أثاث وقماش وكتب، وغير ذلك من آلات السلاح.
وله من المصنفات في الحديث والفقه واللغة والنحو والتصريف بضع وعشرون مصنفا، منها مشارق الأنوار في الجمع بين الصحيحين، وشرح البخاري، وكتاب في علوم الحديث، ووكف السحابة في وفيات الصحابة، وكتاب/ (ص 288) مجمع البحرين في اللغة اثنا عشر مجلدا، والعباب الزاخر واللباب الفاخر في اللغة أيضا عشرون مجلدا، وصنف كتابا في مناسك الحج ختمه بأبيات وهي: [البسيط]
شوقي إلى الكعبة الغراء قد زادا ... فاستحمل القلص الوخادة الزادا
إذا قلا الحنظل العامي منتجعا ... وعيرك انتجع السعدان والرادا «2»
أسرت سرحك حتى آض «3» عن كثب ... نياقها رازحا والصعب منقادا
فاقطع علايق ما ترجوه عن عرض ... واستودع الله أموالا وأولادا(5/677)
ومما أورد له ابن الشعار أيضا: [الوافر]
أطرف العين مالك لا تنام ... عسى طيف يؤرقه حمام
فينقع غلة وتثيب أجرا ... ويشفى من أضرّ به السّقام
تقضّت بالمنى أيام عمري ... وأخلق جدتي شهر وعام
ولي أرب لو ان الدهر يوما ... يقربه ويلبسني الحمام
لروض ما تصوّح من شبابي ... وأضحى الشيخ وهو به غلام
توفي ببغداد ليلة الجمعة تاسع عشر شعبان سنة خمسين وستمائة ودفن بداره ثم نقل إلى مكة شرفها الله تعالى بمقتضى وصيته وإعداده لمن يحمله إليها خمسين دينارا.
ومنهم
160- أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن موسى بن أبي نصر الكردي الشهرزوري، عرف بابن الصلاح
«1» تقي الدين الفقيه الحافظ شيخ الشافعية، رجل يرجع إلى فتاويه، ويمنع كبرياؤه من يناويه، دوّنت فتاويه وأشير إليها، وأدير زمانا العمل عليها، وكان لقنا بالحديث وأجوبته، ويفاضل ما بين رجاله وأسولته، أذهب في هذا صدر شبيبته، ولقي الخصم لا يبالي بصدم كتيبته ووطي حجج/ (ص 289) أهل المنازعة بكلكله، ورمى شمس أرباب المقاذعة بأنكله «2» ، وكان لا يعاين(5/678)
بترخيص في دين، ولا تنقيص إلا لمعتدين، لكنه كان يسرّ على ابن عبد السلام «1» دقائق الضغناء، ويشحن له باطنه بحقائق الشحناء، ويعين عليه غير أهل مذهبه، ولا يخليه من حريق لهبه، ويغري به الملك الأشرف «2» شاه، إن من موسني على ألسنة حاشيته، ويسري إليه المكايد في ليل ناشيته، ويسلط عليه قوارض الدياب، ويرمي على جسمه قوارض الذباب، إلى أن امتلأ صدر الملك الأشرف عليه حنقا، وابتدأ لا يبل عليه لغليله حرقا، لمكانة كانت لابن الصلاح ولأهل عصبيته من خاطره، ولانحراف منه على ابن عبد السلام كان يراه به قذى ناظره، إلى أن كان ما هو معروف، مما أرج به ذكر ابن عبد السلام، وعرج إلى حيث ينجلي عن الصبح الظلام، والسكوت أولى من نبش ما كان كامنا بين أئمة الإسلام، وكان أحد فضلاء عصره في التفسير والحديث والفقه وأسماء الرجال، وما يتعلق بعلم الحديث ونقل اللغة، وكان له مشاركة في فنون عديدة، وكانت فتاويه مسدّدة، قرأ الفقه على والده، وكان من جلة المشايخ الأكراد، المشار إليهم، ثم نقله والده إلى الموصل فاشتغل بها مدة ثم سافر إلى خراسان، وأقام بها مدة،(5/679)
وحصّل علم الحديث هناك، ثم رجع إلى الشام، وتولى تدريس المدرسة الصلاحية ببيت المقدس، وأقام مدة وأشغل الناس وانتفعوا به، ثم عاد إلى دمشق فولي تدريس الرّداحيه، ومشيخة دار الحديث الأشرفية، وتدريس الشامية التي داخل/ (ص 290) دمشق، وقام بالوظائف الثلاث من غير إخلال بشيء إلا لعذر شرعيّ، وكان من العلم والدين على قدم حسنة، وله مصنفات مفيدة وإشكالات على الوسيط، وجمعت فتاويه في مجلّد ولم يزل أمره جاريا على سداد وصلاح حال، واجتهاد في الاشتغال والنفع، إلى أن توفي يوم الأربعاء، وقت الصبح، وصلّي عليه بعد الظهر وهو الخامس والعشرون من شهر ربيع الآخر، سنة ثلاث وأربعين وستمائة بدمشق، ودفن بمقبرة الصوفية، ومولده سنة سبع وسبعين وخمس مائة.
ومنهم
161- يحيى بن شرف بن مزي بن الحسن بن الحسين الحزامي النووي
«1» الشافعي الحافظ شيخ الإسلام علم الأولياء، قدوة الزهاد محيي الدين أبو زكريا صاحب التصانيف، رجل علم وعمل ونجاح سؤل وأمل، وكامل وقلّ مثله في الناس من كمل، وفّق للعلم وسهّل عليه ويسّر له وسيّر إليه، من أهل بيت من نوى من كرام القرى وكرام أهل القرى، لهم بها بيت مضيف لا تخمد ناره ودار قرى لا يخمل مناره، طلع من أممهم سادات، وسمع لكرمهم عادات، وجمع لهممهم أطراف السعادات، ونبت فيهم نباتا حسنا، ونبغ ذكاء ولسنا، وأتى دمشق متلقنا للأخذ عن علمائها، متقللا من عيشها حتى كاد يعفّ فلا يشرب من مائها، فنبه شكره ونهب مدى الآفاق ذكره، وحلق اسمه، وذكر تصنيفه(5/680)
وعلمه، فلما سوّلت للملك الظاهر «1» بيبرس أمانيه، وحدثته نفسه من الظلم بما كاد يأتي/ (ص 291) قواعده من مبانيه، وكتب له من الفقهاء من كتب، وحمله سوء رأيه على بيع آخرته بشيء من الذهب، ولم يبق سواه فلما حضر هابه وألقى إليه الفتيا فألقاها وقال: لقد أفتوك بالباطل ليس لك أخذ معونة حتى ينفذ أموال بيت المال، وتعيد أنت ونساؤك ومماليكك وأمراؤك ما أخذتم زائدا عن حقكم، وتردوا فواضل بيت المال إليه. وأغلظ له في القول، فلما خرج قال:
اقطعوا وظائف هذا الفقيه ورواتبه، فقيل: إنه لا وظيفة له ولا راتب، قال: فمن أين يأكل؟ قالوا: مما يبعث إليه أبوه من نوى، فقال: والله لقد هممت بقتله، فرأيت كأن أسدا فاغرا فاه بيني وبينه لو عرّضت له لالتقمني. ثم وقر له في صدره ما وقر، ومدّ إليه يد المسالمة يسأله وما افتقر.
ثم كانت سمعة النووي التي شرّقت وغرّبت، وبعدت وقربت، وعظم شأن تصانيفه، وبيان البيان في مطاوي تواليفه، ثم هي اليوم محجة الفتوى وعليها العمل وما ثمّ سوى سببها الأقوى.
ولد في المحرّم سنة إحدى وثلاثين وستمائة، وقدم دمشق سنة تسع وأربعين فسكن في الرواحية، وتناول خبز المدرسة، وحفظ التنبيه في أربعة أشهر ونصف، وقرأ ربع المهذب حفظا في باقي السنة، ثم حجّ مع أبيه، ومرض أكثر الطريق، قال مخبرا عن نفسه: إنه كان يقرأ كل يوم اثني عشر درسا على(5/681)
مشايخه، شرحا وتصحيحا في الحديث والفقه والنحو والأصلين والتصريف، وأسماء الرجال. قال: وكنت أعلّق جميع ما يتعلق بها من شرح مشكل ووضوح عبارة، وضبط لغة، وبارك الله لي في وقتي، وخطر لي أن أشتغل في/ (ص 292) الطب واشتريت كتاب القانون، فأظلم قلبي، وبقيت أياما لا أقدر على الاشتغال، فأفقت على نفسي، وبعت القانون فأنار قلبي.
وسمع الكتب الستة والمسانيد والموطأ وغير ذلك، ولازم الاشتغال والتصنيف ونشر العلم، والعبادة والأوراد، والصيام والذكر، والصبر على العيش الخشن في المأكل والملبس ملازمة كلّية لا مزيد عليها، ملبسه ثوب خام، وعمامته شبختانيّة صغيرة، وتخرّج به جماعة من العلماء، وكان لا يضيّع له وقتا في ليل ولا نهار إلا في اشتغال حتى في الطرق، ودام على هذا ستّ سنين، ثم أخذ في التصنيف والإفادة والنصيحة، وقول الحق مع ما هو فيه من المجاهدة لنفسه والعمل بدقائق الورع والمراقبة، وتصفية النفس من الشهوات والشوائب ومحقها من أغراضها، وكان حافظا للحديث وفنونه ورجاله وصحيحه وعلله، رأسا في معرفة المذهب، [حكى أبو الحسن ابن العطار «1» عنه أنه قال: كنت مريضا بالرواحية فبينا أنا ليلة في الصفة (الشرقية) بها ووالدي وإخوتي نائمون إلى جانبي إذ عافاني الله من ألمي ونشطني للذكر فجعلت أسبّح بين السر والجهر، فبينما أنا كذلك إذا بشيخ حسن الصورة جميل المنظر يتوضأ على البركة قريبا من نصف الليل، فلما فرغ من وضوئه أتاني وقال لي: يا ولدي لا تذكر فتزعج(5/682)
أباك وإخوتك وأهل المدرسة فقلت: يا شيخ من أنت؟ قال: أنا ناصح لك، ودعني أكون من كنت، فوقع في نفسي أنه إبليس، فقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ورفعت صوتي بالتسبيح، فأعرض عني ومشى نحو باب المدرسة، فقمت أتبعه فلم أجده، ووجدت الباب مقفلا، وفتشتها فلم أجد أحدا فيها، غير من كان فيها، فقال لي والدي: ما خبرك يا يحيى؟ فأخبرته، فجعل هو وإخوتي [يتعجبون وقعدنا كلنا نسبح ونذكر ... «1» ] .
قال ابن فرح «2» : صار الشيخ محيي الدين إلى ثلاث مراتب كل مرتبة منها لو كانت لشخص لشدّت إليه الرحال: العلم والزهد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. حكى لي العلامة أبو اليسر «3» : أنه جرى في مجلس أبيه قاضي القضاة أبي عبد الله بن الصايغ «4» ذكر النووي وشيخه العالم الرباني أبا إبراهيم إسحاق(5/683)
ابن أحمد بن عثمان المغربي «1» الشافعي رحمهما الله، فقال ابن الصايغ: لو أدرك القشيري «2» - صاحب الرسالة- النووي وشيخه لما قدّم عليهما أحدا من مشايخ الرسالة، لما جمع فيهما من العلم والعمل والزهد والورع والنطق بالحكم وغير ذلك.
[وحكى الشيخ القدوة المسلك أبو الحسن علي «3» المقيم بجامع بيت لهيا «4» بها قال: مرضت بالنقرس رجلي فعادني النووي فلما جلس إلي جعل يتكلم في الصبر، وجعل الألم الذي بي يذهب، فلما انتهى كلامه جميعه زال الألم جميعه، فعلمت أن ذلك ببركته. أو كما قال] . «5»(5/684)
وقال شمس الدين بن «1» الفخر كان إماما بارعا حافظا متقنا، أتقن علوما شتىّ وصنّف التصانيف الجمّة، وكان شديد الورع والزهد، تاركا لجميع ملاذ الدنيا من المأكول إلا ما يأتيه به أبوه من تين وكعك، وكان يلبس الثياب المرقّعة الرثّة ولا يدخل الحمام، ولا يأكل الفواكه، ولم يتناول من الجهات درهما، وحكى أبو الحسن ابن العطار أنه عذل في عدم دخوله الحمام، وتضييق العيش في مأكله وملبسه وأحواله وخوّف/ (ص 293) من مرض يعطّله عن الاشتغال. فقال: إنّ فلانا صام وعبد الله حتى اخضر جلده، وكان يمتنع من أكل الفواكه والخيار، ويقول: أخاف أن ترطّب جسمي وتجلب النوم، وكان يأكل في اليوم والليلة أكلة، ويشرب مرة واحدة عند السحر. قال ابن العطار: كلمته في الفاكهة، فقال: دمشق كثيرة الأوقاف، وأملاك من تحت الحجر والتصرّف لهم لا يجوز إلا على وجه الغبطة لهم، ثم المعاملة لهم فيها على وجه المساقاة، وفيها خلاف، فكيف تطيب نفسي بأكل ذلك. [وأيضا فغالب من يطعم إنما يأخذ الأقلام والعين غصبا أو سرقة، لأن أحدا ما يهون عليه بيع أقلام أشجاره وكشط لحائها، ولا جرت بذلك عادة ولا تجارة أحد من خلق الله تعالى، فيطلع الثمر في نفس ذلك المغصوب أو المسروق، فتكون الثمرة ملكا لصاحب القلم أو العين لا لصاحب الشجرة ويبقى بيعه وشراؤه حراما] . «2»
وكان لا يقبل من أحد شيئا إلا في النادر ممّن لا يستغل عليه، أهدى له فقير(5/685)
إبريقا فقبله، وعزم عليه البرهان الإسكندري «1» للفطر عنده في رمضان، فقال أحضر الطعام إلى هنا ونفطر جملة فأكل من طعامه، وكان لونين، وربما جمع بعض الأوقات بين أدمين، وكان يواجه الملوك والظلمة بالإنكار ويكتب إليهم ويخوّفهم بالله، كتب مرة إلى سلعك الخزاندار «2» كافل الممالك:
من عبد الله يحيى النووي سلام الله ورحمته وبركاته على المولى المحسن ملك الأمراء بدر الدين أدام الله له الخيرات وبارك له في جميل أحواله آمين، ونهي إليّ العلوم الشريفة، أن أهل الشام في ضيق وضعف حال بسبب قلة الأمطار، وذكر فصلا طويلا، وفي طيّ ذلك ورقة إلى الملك الظاهر «3» ، وله غير رسالة إلى الملك الظاهر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووافقه مرة بدار العدل، فحكى أن الظاهر قال: أنا أفرغ منه، وحدث له معه فصول، ثم إن الشيخ سافر فزار القدس ثم عاد إلى نوى، فمرض عند والده وحضرته المنية، فانتقل إلى الله عز وجل في الرابع والعشرين من شهر رجب الفرد سنة ست وسبعين وستمائة، وقبره ظاهر مقصود بالزيارة رحمه الله تعالى. [وحكى لنا أخوه الشيخ عبد الرحمن عنه أنه لما مرض مرض موته اشتهى التفاح فأتي به فلم يأكله، فلما مات رآه بعض أهله فقال له: ما فعل الله بك فقال: أكرم نزلي وتقبل عملي، وأوّل قرى جاءني التفاح، وحكى لنا أنه لما دفن حيث هو إلى أن أراد أهله أن يبنوا على ضريحه قبّة فرأته عمته وهو يقول لها: قولي لأخي والجماعة لا يفعلوا هذا الذي عزموا عليه من البنيان عليه، فإنهم كلما بنوا شيئا يهدم عليهم] . «13»(5/686)
ومنهم
162- أحمد بن عبد الحليم (ابن تيمية)
«1» (ص 294) أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الحراني العلامة الحافظ الحجة المجتهد المفسر شيخ الإسلام، نادرة العصر، علم الزهاد تقي الدين أبو العباس ابن تيمية، هو البحر من أي النواحي جئته، والبدر من أي الضواحي أتيته، جزت آباده لشأو «2» ما قنع به، ولا وقف عنده طليحا «3» مريحا من تعبه طلبا لا يرضى لغاية، ولا يقضى له بنهاية، رضع ثدي العلم منذ فطم، وطلع وجه الصباح ليحاكيه فلطم «4» ، وقطع الليل والنهار دائبين، واتخذ العلم والعمل صاحبين، إلى أن أنسى السلف بهداه، وأنأى الخلف عن بلوغ مداه:»
[الوافر](5/687)
وثقّف الله أمرا بات يكلؤه ... يمضي حساماه فيه السيف والقلم
بهمة في الثريا أثر أخمصها ... وعزمة ليس من عاداتها السأم
على أنه من بيت نشأت منه علماء في سالف الدهور، ونشأت منه عظماء على المشاهير الشهور، فأحيا معالم بيته القديم إذ درس، وجنى من فننه الطريب ما غرس، وأصبح في فضله آية، إلا أنه آية الحرس، عرضت له الكدى «1» فزحزحها، وعارضته البحار فضحضحها «2» ، ثم كان أمة وحده، وفردا حتى نزل لحده، أخمل من القرناء كل عظيم، وأخمد من أهل الفناء كل قديم، ولم يكن منهم إلا من يجفل عنه أجفال الظليم «3» ، ويتضاءل لديه العديم.
ما كان بعض الناس إلا مثلما ... بعض الحصا الياقوتة الحمراء
جاء في عصر مأهول بالعلماء مشحون بنجوم السماء، تموج في جانبيه بحور خضارم، وتطير بين خافقيه نسور قشاعم «4» ، وتشرق في أنديته (ص 295) بدور دجنّة، وصدور أسنّة، وتثأر جنود زعبل «5» ، ويزأر أسود عيل «6» ، إلا أن(5/688)
صباحه طمس تلك النجوم، وبحره طمّ على تلك الغيوم، ففاءت سمرته على تلك التلاع، وأطلت قسورته على تلك السباع، ثم عبيت له الكتائب فحطّم صفوفها وخطم أنوفها، وابتلع غديره المطمئن جداولها، واقتلع طوده «1» المرجحن جنادلها «2» ، وأخمدت أنفاسهم ريحه، وأكمدت شراراتهم مصابيحه. [الوافر]
تقدم راكبا فيهم إماما ... ولو لاه لما ركبوا وراءه
فجمع أشتات المذاهب، وشتات المذاهب، ونقل عنه أئمة الإجماع فمن سواهم مذاهبهم المختلفة واستحضرها، ومثل صورهم الذاهبة وأحضرها، فلو شعر أبو حنيفة «3» بزمانه وملك أمره لأدنى عصره إليه مقتربا، أو مالك «4» لأجرى وراءه أشبهه ولو كبا، أو الشافعي «5» لقال: ليت هذا كان للأم «6» ولدا وليتني كنت له أبا، أو الشيباني ابن حنبل «7» لما لام عذاره «8» إذا غدا منه، لفرط(5/689)
العجب أشيبا، لا بل داود الظاهري «1» وسنان الباطني «2» لظنا تحقيقه من منتحله، وابن حزم والشهرستاني لحشر كل منهما ذكره أمة في نحله «3» ، والحاكم النيسابوري والحافظ السّلفي لأضافه هذا إلى استدراكه وهذا إلى رحله «4» . ترد إليه الفتاوى ولا يردها، وتفد عليه فيجيب عليها بأجوبة كأنه كان قاعدا لها يعدها. [الكامل]
أبدا على طرف اللسان جوابه ... فكأنما هي دفعة من صيّب
يغدو مساجله بغرّة صافح ... ويروح معترفا بذلة مذنب
ولقد تضافرت عليه عصب الأعداء فأقحموا إذ هدر فحله، وأفحموا إذ زمزم (ص 296) ليجني الشهد نحله، ورفع إلى السلطان غير ما مرة ورمي بالكبائر، وتربصت به الدوائر، وسعي به ليؤخذ بالجرائر، وحسده من لم ينل سعيه وكثر فارتاب، ونم وما زاد على أنه اغتاب، وأزعج من وطنه تارة إلى مصر ثم إلى(5/690)
الإسكندرية، وتارة إلى محبس القلعة بدمشق «1» ، وفي جميعها يودع أخبية السجون، ويلدغ بزباني المنون، وهو على علم يسطر صحفه، ويدخر تحفه، وما بينه وبين الشيء إلا أن يصنفه، ويقرظ به، ولو سمع امرئ واحد ويشنفه، حتى تستهدي أطراف البلاد طرفه، وتستطلع ثنايا الأقاليم شرفه، إلى أن خطفته آخر مرة من سجنه عقاب المنايا، وجذبتها إلى مهواتها قرارة الرزايا، وكان قبل موته قد منع الدواة والقلم، وطبع على قلبه منه طابع الألم، فكان مبدأ مرضه ومنشأ عرضه حتى نزل قفار المقابر، وترك فقار المنابر، وحل ساحة تربه وما يحاذر، وأخذ راحة قلبه من اللائم والعاذر، فمات لا بل حيي، وعرف قدره لأن مثله ما ربي، وكان يوم دفنه يوما مشهودا، ضاقت به البلد وظواهرها، وتذكّرت به أوائل الرزايا وأواخرها، ولم يكن أعظم منها منذ مئين سنين جنازة رفعت على الرقاب، ووطئت في زحامها الأعقاب، وسار مرفوعا على الرءوس متبوعا بالنفوس «2» ،(5/691)
تحدوه العبرات وتتبعه الزفرات، وتقول له الأمم لا فقدت من غائب، ولأقلامه النافعة لا أبعد كن الله من شجرات، وكان في مدد ما يؤخذ عليه في مقاله، وينبذ في حفرة اعتقاله، لا تبرد له غلة بالجمع بينه وبين خصمائه بالمناظرة، والبحث حيث العيون ناظرة، بل يبدر حاكم فيحكم باعتقاله، أو يمنعه من الفتوى أو بأشياء من نوع هذه البلوى (ص 297) أبعد إقامة بيّنة ولا تعدم دعوى ولا ظهور حجة بالدليل ولا وضوح محجة للتأميل، وكان يجد لهذا ما لا يزاح فيه ضرر شكوى، ولا يطغى ضرم عدوى، وكل امرئ حاز المكارم محسود: [الكامل]
كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسدا وبغضا إنه لدميم
كل هذا لتبريزه في الفضل حيث قصرت النظراء، وتجليته كالمصباح إذ أظلمت الآراء، وقيامه في دفع حجة التتار، واقتحامه وسيوفهم تتدفق لجة البدار، حتى جلس إلى السلطان محمود غازان «1» ، حيث تجم الأسد في(5/692)
آجامها «1» ، وتسقط القلوب في دواخل أجسامها، وتجد النار فتورا في ضرمها، والسيوف فرقا في قرمها «2» ، خوفا من ذلك السبع المغتال، والنمروذ المختال، والأجل الذي لا يدفع بحيله محتال، فجلس إليه وأومأ بيده إلى صدره، وواجهه ودرا في بحره، وطلب منه الدعاء فرفع يديه، ودعا دعاء منصف أكثره عليه، وغازان يؤمن على دعائه، وهو مقبل إليه، ثم كان على هذه المواجهة القبيحة، والمشاتمة الصريحة أعظم في صدر غازان، والمغل من كل من طلع معه إليهم، وهو سلف العلماء في ذلك الصدر، وأهل الاستحقاق لرفعة القدر، هذا مع ماله من(5/693)
جهاد في سبيل الله، لم يفزعه فيه طلل الوشيح «1» ، ولم يجزعه فيه ارتفاع النسيح «2» ، مواقف حروب باشرها، وطوائف ضروب عاشرها، وبوارق صفاح كاشرها، ومضايق رماح حاشرها، وأصناف خصوم لد اقتحم معها الغمرات، وواكلها مختلف الثمرات، وقطع جدالها قوي لسانه، وجلادها «3» سبا سنانه، قام بها وصابرها، وبلي بأصاغرها، وقاسى أكابرها، (ص 298) وأهل بدع قام في دفاعها، وجهد في حط يفاعها، ومخالفة ملك بين لها خطأ التأويل، وسقم التعليل، وأسكت طنين الذباب في خياشم رؤوسهم بالأضاليل، حتى ناموا في مراقد الخضوع، وقاموا وأرجلهم تتساقط للوقوع بأدلة أقطع من السيوف، وأجمع من السجوف، وأجلى من فلق الصباح، وأجلب من فلق الرماح: [الطويل]
إذا وثبت في وجه خطب تمزقت ... على كفتيه الدرع وانتثر السرد
إلا أن سابق المقدور أوقعه في خلل المسائل، وخطل خطأ لا يأمن فيه مع الإكثار قائل، وأظنه- والله يغفر له- عجّلت له في الدنيا المقاصّة، وأخذ نصيبه من بلواها عامة وله خاصّة، وذلك لحطّه على بعض سلف العلماء، وحلّه لقواعد كثيرة من نواميس القدماء، وقلّة توقيره للكبراء، وكثرة تكفيره للفقراء «4» ،(5/694)
وتزييفه لغالب الآراء، وتقريبه لجهلة العوام وأهل المراء، وما أفتى به آخرا في مسألتي الزيارة والطلاق «1» ، وإذاعته لهما حتى تكلم فيهما من لا دين له ولا خلاق، فسلّط ذبال الأعداء على سليطه، وأطلق أيدي الاعتداء في تفريطه، ولقّم نارهم سعفه «2» ، وأرى أقساطهم «3» شرفه، فلم يزل إلى أن مات عرضه منهوبا، وعرضه موهوبا وصفاته تتصدع، ورفاته لا يتجمع، ولعل هذا الخير أريد به، وأربع «4» له لحسن منقلبه، وكان لتعمده للخلاف، وتقصده لغير طريق الأسلاف، وتقويته للمسائل الضعاف، وتقويضه عن رؤوس السعاف، تغير مكانته من خاطر السلطان، وتسبب له التغرّب عن الأوطان، وتنفذ إليه سهام الألسنة الرواشق، ورماح الطعن في يد كل ماشق، فلهذا/ (ص 299) لم يزل منغصا عليه طول مدّته، لا تكاد تنقدح عنه جوانب شدّته، هذا مع ما جمع من الورع، وإلى ما فيه من العلى، وما حازه بحذافير الوجود من الجود، كانت تأتيه القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث فيهبه بأجمعه، ويضعه عند أهل الحاجة في موضعه، لا يأخذ منه شيئا إلا ليهبه، ولا يحفظه إلا ليذهبه، كله في سبيل البر، وطريق أهل التواضع «5» لا أهل الكبر، لم يحل به حب الشهوات، ولا حبب إليه من ثلاث الدنيا غير الصلاة، ولقد(5/695)
نافست ملوك جنكيزخان عليه، ووجهت دسائس رسلها إليه، وبعثت تجدّ في طلبه فنوسيت «1» عليه الأمور أعظمها خوف توثبه، وما زال على هذا ومثله إلى أن صرعه أجله، وأتاه بشير الجنة يستعجله، فانتقل إلى الله، والظن به أنه لا يخجله.
ولد بحرّان يوم الاثنين عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة، وقدم مع والده وأهله دمشق وهو صغير «2» ، فسمع ابن عبد الدائم وطبقته «3» ، ثم طلب بنفسه قراءة وسماعا من خلق كثير، وقرأ بنفسه الكتب، وكتب الطباق والأثبات ولازم السماع مدّة سنين واشتغل بالعلوم، وكان من أذكى الناس، كثير الحفظ، قليل النسيان، قلّما حفظ شيئا فنسيه «4» ، وكان إماما في التفسير، وعلوم القرآن، عارفا بالفقه واختلاف الفقهاء، والأصلين والنحو وما يتعلق به، واللغة والمنطق، وعلم الهيئة والجبر والمقابلة وعلم الحساب، وعلم أهل الكتابين وأهل البدع، وغير ذلك من العلوم النقلية والعقلية، وما تكلم معه فاضل في فن من الفنون إلا ظن أن ذلك الفنّ فنّه، وكان حفظة للحديث مميّزا بين صحيحه وسقيمه، عارفا برجاله متضلعا من ذلك، وله تصانيف كثيرة وتعاليق مفيدة «5» ، (ص 300) وفتاوى مشبعة في الفروع والأصول كمل منها جملة في الفقه والحديث وردّ البدع بالكتاب والسنة، مثل كتاب الصارم المسلول على منتقص الرسول، وكتاب تبطيل التحليل، وكتاب اقتضاء الصراط المستقيم، وكتاب(5/696)
تأسيس التقديس في عشرين مجلدا وكتاب الرد على طوائف الشيعة أربع مجلدات، وكتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام، وكتاب السياسة الشرعية، وكتاب التصوف، وكتاب الكلم الطيب، وكتاب المناسك في الحج «1» . وكان من أعرف الناس بالتاريخ، وكثير من مصنفاته مسوّدة ما بيّضت، وتوفي والده وهو شاب فولي مشيخة الحديث بدار الحديث السكرية «2» ، وحضر عنده جماعة من الأعيان، فشكروا علمه وأثنوا عليه، وعلى فضائله وعلومه، حتى قال الشيخ إبراهيم الرقي:
الشيخ تقي الدين يؤخذ عنه ويقلّد في العلوم، فإن طال عمره ملأ الأرض علما، وهو على الحق، ولا بدّ ما يعاوده الناس فإنه وارث علم النبوة، وقال ابن الزملكاني: لقد أعطي ابن تيمية اليد الطولى في حسن التصنيف وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتبيين، وقد ألان الله له العلوم كما ألان لداود الحديد، ثم كتب على بعض تصانيف ابن تيمية من نظمه هذه الأبيات: [الكامل المرفل]
ماذا يقول الواصفون له ... وصفاته جلت عن الحصر
هو حجة لله قاهرة ... هو بيننا أعجوبة العصر «3»
هو آية في الخلق ظاهرة ... أنوارها أربت على الفجر «4»
ثم نزغ الشيطان بينهما وغلبت على ابن الزملكاني أهويته، فمال عليه مع من مال، ولما سافر على البريد إلى القاهرة سنة سبعمائة نزل عند عميّ الصاحب شرف الدين تغمده الله «5» / (ص 301) برحمته، وحضّ على الجهاد في سبيل(5/697)
الله، وأغلظ في القول «1» ، ورتّب له مرتب في كل يوم، وهو دينار وصحفة (طعام) وحاجته بقجة قماش، فلم يقبل من ذلك شيئا «2» ، وقال القاضي أبو الفتح ابن دقيق العيد: لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلا، كل العلوم بين عينيه، يأخذ ما يريد ويدع ما يريد، وحضر عنده شيخنا العلامة شيخ النحاة أبو حيّان وقال: ما رأت عيناي مثله ثم مدحه أبو حيان على البديّة في المجلس بقوله: [البسيط]
لما أتينا تقي الدين لاح لنا ... داع إلى الله فرد ماله وزر
على محياه من سيما الألى صحبوا ... خير البريّة نور دونه القمر
حبر تسربل منه دهره حبرا ... بحر تقاذف من أمواجه الدرر
قام ابن تيمية في نصر شرعتنا ... مقام سيد تيم إذ عصت مضر
فأظهر «3» الحق إذ آثاره درست «4» ... وأخمد الشرّ إذ طارت له شرر «5»
كنا نحدث عن حبر يجئ بها «6» ... أنت الإمام الذي قد «7» كان ينتظر
قلت: ثم دار بينهما كلام جرى فيه ذكر سيبويه فتسرّع ابن تيمية فيه بقول نافره عليه أبو حيان وقطعه بسببه، ثم عاد أكثر الناس ذما له، واتخذه له ذنبا لا يغفر «8» .(5/698)
ولما قدم غازان «1» دمشق خرج إليه ابن تيمية في جماعة من صلحاء الدماشقة، منهم القدوة الشيخ محمد بن قوام فلما دخلوا على غازان كان مما قال ابن تيمية للترجمان: قل للقان: أنت تزعم أنك مسلم ومعك قاض وإمام وشيخ ومؤذنون على ما بلغنا فغزوتنا، وأبوك وجدّك هولاكو كانا كافرين وما عملا الذي عملت عاهدا فوفيا، وأنت عاهدت فغدرت وقلت فما وفيت.
وجرت له مع غازان وقطلو شاه ومولاي أمورونون قام فيها كلها لله وقال الحق، ولم يخش إلا الله. أخبرنا قاضي القضاة أبو العباس ابن صصري «2» : أنهم لما حضروا مجلس غازان، قدم لهم طعام فأكلوا منه إلا ابن تيمية، فقيل له: لم لا تأكل؟ فقال: كيف آكل من طعامكم وكله مما نهبتم من أغنام الناس، وطبختموه مما قطعتم من أشجار الناس. ثم إن غازان طلب منه الدعاء. فقال في دعائه: اللهم إن كنت تعلم أنه إنما قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وجهادا في سبيلك فأن تؤيده وتنصره، وإن كان للملك والدنيا والتكاثر، فأن تفعل به وتصنع- يدعو عليه وغازان يؤمّن على دعائه- ونحن نجمع ثيابنا خوفا أن يقتل فتطرطش بدمه، ثم لما خرجنا قلنا له: كدت تهلكنا معك، ونحن ما نصحبك من هنا، فقال: ولا أنا أصحبكم. فانطلقنا عصبة، وتأخرت خاصة من معه، فتسامعت الخواص والأمراء فأتوه من كل فج عميق، وصاروا ملاحقون به ليتبركوا برؤيته، فأما هو فما وصل إلا في نحو ثلاثمائة فارس في ركابه، وأما نحن فخرج علينا جماعة فشلحونا.
وكان لا يسمح لما ظهر في بلوغ مرادهم من ضرورة ويقول: مالي وله. وكان(5/699)
قاضي القضاة أبو عبد الله الحريري «1» يقول: إن لم يكن ابن تيمية شيخ الإسلام فمن هو.
ثم بعد ذلك تمكن ابن تيمية في الشام حتى صار يحلق الرءوس ويضرب الحدود، ويأمر بالقطع والقتل «2» ، ثم ظهر الشيخ نصر المنبجي، واستولى على أرباب الدولة القاهرة، وشاع أمره وانتشر، فقيل لابن تيمية إنه اتحادي وإنه ينصر مذهب ابن العربي (ص 302) وابن تشفين «3» فكتب إليه نحو ثلاثمائة سطر ينكر عليه، فتكلم نصر المنبجي مع قضاة مصر في أمره، وقال هذا مبتدع، وأخاف على الناس من شره، فحسّن القضاة للأمراء طلبه إلى القاهرة وأن يعقد له مجلس، فعقد له مجلس بدمشق فلم يرض المنبجي «4» ، وقال لابن مخلوف «5» : قل للأمراء: إن هذا يخشى على الدولة منه، كما جرى لابن تومرت «6» في بلاد المغرب، فطلب من الأفرم نائب دمشق فعقد له مجلس ثان، وثالث بسبب العقيدة الحموية «7» ثم سكنت القضية إلى أيام الجاشنكير، فأوهمه الشيخ نصر(5/700)
أن ابن تيمية يخرجهم من الملك ويقيم غيرهم، فطلب إلى الديار المصرية، فمانع نائب الشام وقال: قد عقد له مجلسان بحضرتي، وحضرة القضاة والفقهاء، وما ظهر عليه شيء، فقال الرسول لنائب دمشق: أنا ناصح لك وقد قيل: إنه يجمع الناس عليك، وعقد لهم بيعه فجزع من ذلك، وأرسله إلى القاهرة في رمضان سنة خمس وسبعمائة «1» ، وكتب معه كتابا إلى السلطان، وكتب معه محضر فيه خطوط جماعة من القضاة وكبار الصلحاء والعلماء بصورة ما جرى في المجلسين، وأنه لم يثبت عليه فيهما شيء، ولا منع من الإفتاء، فما التفت إلى شيء من ذلك، وسجن بالإسكندرية مدة ثم عاد إلى دمشق «2» [وحكي من شجاعته في مواقف الحرب فوق شقحب وبون كسروان «3» ما لم يسمع إلا عن صناديد الرجال وأبطال اللقاء وأحلاس الحرب «4» تارة يباشر القتال وتارة يحرض عليه، وركب البريد إلى مهنّا بن عيسى واستحضره إلى الجهاد «5» وركب بعدها إلى السلطان واستنفره وواجه بالكلام الغليظ أمراءه وعسكره «6» ، ولما جاء السلطان إلى شقحب لاقاه إلى قرن الحرة، وجعل يشجعه ويثبته فلما رأى السلطان كثرة التتار قال: يا لخالد بن الوليد، فقال له: لا تقل هذا بل قل يا الله، واستغث بالله ربك ووحده وحده ينصر، وقل: يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين، وما زال ينفتل تارة على الخليفة وتارة على السلطان ويهدئهما،(5/701)
ويربط جأشهما حتى جاء نصر الله والفتح.
وحكي أنه قال للسلطان: اثبت فأنت منصور، فقال له بعض الأمراء، قل إن شاء الله، فقال إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا، فكان كما قال «1» .
وحكى أبو حفص عمر بن علي بن موسى البزاز البغدادي قال: [حدثني الشيخ المقري تقي الدين عبد الله بن سعيد قال: مرضت بدمشق مرضة شديدة، فجاءني ابن تيمية فجلس عند رأسي وأنا مثقل بالحمى والمرض، فدعا لي، ثم قال: قم جاءت العافية، فما كان إلا أن قام وفارقني وإذ بالعافية قد جاءت، وشفيت لوقتي «2» . قلت: وكان يجيئه من المال في كل سنة مالا يكاد يحصى، فينفقه جميعا آلافا ومئين، لا يلمس منه درهما بيده ولا ينفقه في حاجة له، وكان يعود المرضى، ويشيّع الجنائز ويقوم بحقوق الناس ويتألف القلوب «3» ، ولا ينسب إلى ناحب لديه مذهبا ولا يحفظ المتكلم عنده زلة، ولا يشتهي طعاما، ولا يمتنع من شيء منه بل هو مع ما حضر، لا يتجهم مرآه ولا يتكدر صفوه ولا يسؤم عفوه] «4»
وآخر أمره أنه تكلم في مسألتي الزيارة والطلاق، فأخذ وسجن بقلعة دمشق في قاعة، فتوفي بها في العشرين من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، وحضر جمع كبير إلى القلعة وأذن لبعضهم في الدخول، وغسّل وصلي عليه بالقلعة ثم حمل على أصابع الرجال إلى جامع دمشق ضحوة النهار، وصلي عليه(5/702)
به، ودفن بمقبرة الصوفية، وما وصل إلى قبره إلى وقت العصر «1» ، وخرج الناس من جميع أبواب البلد، وكانوا خلقا لا يحصيهم إلا الله تعالى، وحرز الرجال بستين ألفا والنساء بخمسة آلاف امرأة، وقيل أكثر من ذلك «2» ، ورؤيت له منامات صالحة، ورثاه جماعات من الناس بالشام ومصر والحجاز والغرب من آل فضل الله عليه:
/ (ص 303) ورثيته بقصيد لي وهي «3» : [البسيط]
أهكذا بالدياجي يحجب القمر ... ويحبس النور حتى يذهب المطر
أهكذا تمنع الشمس المنيرة عن ... منافع الأرض أحيانا فتستتر
أهكذا الدهر ليلا كله أبدا ... فليس يعرف في أوقاته سحر
أهكذا السيف لا تمضي مضاربه ... والسيف في الفتك ما في عزمه خور
أهكذا القوس ترمي بالعراء وما ... تصمي «4» الرمايا وما في باعها قصر
أهكذا يترك البحر الخضمّ ولا ... يلوى عليه وفي أصدافه الدرر
أهكذا بتقي الدين قد عبثت ... أيدي العدى وتعدّى نحوه الضرر
ألا ابن تيمية ترمى سهام أذى ... من الأنام ويدمى الناب والظفر
بذّ السوابق ممتد العبادة لا ... يناله ملل فيها ولا ضجر
ولم يكن مثله بعد الصحابة في ... علم عظيم وزهد ماله خطر(5/703)
طريقة كان يمشي قبل مشيته ... بها أبو بكر الصديق أو عمر
فرد المذاهب في أقوال أربعة ... جاؤوا على أثر السبّاق وابتدروا
لما بنوا قبله عليا مذاهبهم ... بنى وعمّر منها مثل ما عمروا
مثل الأئمة قد أحيا زمانهم ... كأنه كان فيهم وهو منتظر
إن يرفعوهم جميعا رفع مبتدأ ... فحقه الرفع أيضا إنه خبر
أمثله بينكم يلقى بمضيعة ... حتى يطيح له عمدا دم هدر
يكون وهو أمانيّ لغيركم ... تنوبه منكم الأحداث والغير
والله لو أنه في غير أرضكم ... لكان منكم على أبوابه زمر
مثل ابن تيمية ينسى بمحبسه ... حتى يموت ولم يكحل به بصر
(ص 304) مثل ابن تيمية ترضى حواسده ... بحبسه أو لكم في حبسه عذر
مثل ابن تيمية في السجن معتقل ... والسجن كالغمد «1» وهو الصارم الذكر
مثل ابن تيمية يرمى بكل أذى ... وليس يجلى قذى منه ولا نظر
مثل ابن تيمية تذوي خمائله ... وليس يلقط من أفنانه الزهر
مثل ابن تيمية شمس تغيب سدى ... وما ترق بها الآصال والبكر
مثل ابن تيمية يمضي وما عبقت ... بمسكه العاطر الأردان والطرر «2»
مثل ابن تيمية يمضي وما نهلت ... له سيوف ولا خطيّة سمر «3»(5/704)
ولا تجارى له خيل مسوّمة ... وجوه فرسانها الأوضاح والغرر
ولا تحف به الأبطال دائرة ... كأنهم أنجم في وسطها قمر
ولا تعبّس حرب في مواقفه ... يوما ويضحك في أرجائه الظفر
حتى يقوّم هذا الدين من ميل ... ويستقيم على منهاجه البشر
بل هكذا السلف الأبرار ما برحوا ... يبلى اصطبارهم جهدا وهم صبر
تأسى بالأنبياء الطهر كم بلغت ... فيهم مضرّة أقوام وكم هجروا
في يوسف في دخول السجن منقبة ... لمن يكابد ما يلقى ويصطبر
ما أهملوا أبدا بل أمهلوا لمدى ... والله يعقب تأييدا وينتصر
أيذهب المنهل الصافي وما نقعت ... به الظماء وتبقى الحمأة الكدر «1»
مضى حميدا ولم يعلق به وضر «2» ... وكلهم وضر في الناس أو وذر «3»
طود من الحلم لا يرقى له قنن «4» ... كأنما الطود من أحجاره حجر
بحر من العلم قد فاضت بقيّته ... فغاضت الأبحر العظمى وما شعروا
يا ليت شعري هل في الحاسدين له ... نظيره في جميع القوم إن ذكروا
(ص 305) هل فيهم لحديث المصطفى أحد ... يميز النقد أو يروى له خبر «5»
هل فيهم من يضمّ البحث في نظر ... أو مثله من يصمّ «6» البحث والنظر
هلا جمعتم له من قومكم ملأ ... كفعل فرعون مع موسى لتعتبروا(5/705)
قولوا لهم قال هذا فابحثوا معه ... قدّامنا وانظروا الجهّال إن قدروا
تلقى الأباطيل أسحار لها دهش ... فيلقف الحق ما قالوا وما سحروا
فليتهم مثل ذاك الرهط من ملأ ... حتى تكون لكم في شأنهم عبر
وليتهم أذعنوا للحق مثلهم ... فآمنوا كلهم من بعد ما كفروا
يا طالما نفروا عنه مجانبة ... وليتهم نفعوا في الضيم «1» أو نفروا
هل فيهم صادع بالحق مقولة ... أو خائض للوغى والحرب تستعر
رمى إلى نحر غازان «2» مواجهة ... سهامه من دعاء عونه القدر
بتل راهط «3» والأعداء قد غلبوا ... على الشآم وطال الشر والشرر
وشق في المرج والأسياف مصلتة ... طوائفا كلّها أو بعضها التتر
هذا وأعداؤه في الدور أشجعهم ... مثل النساء بظل الباب مستتر
وبعدها كسروان والجبال وقد ... أقام أطوادها والطور منفطر «4»
واستحصد القوم بالأسياف جهدهم ... وطالما بطلوا طغوى وما بطروا
قالوا قبرناه قلنا إنّ ذا عجب ... حقا أللكوكب الدريّ قد قبروا
وليس يذهب معنى منه متقد ... وإنما تذهب الأجسام والصور
لم يبكه ندما من لا يصب دما ... يجري به ديما تهمي وتنهمر «5»
لهفي عليك أبا العباس كم كرم ... لما قضيت قضى من عمره العمر(5/706)
سقى ثراك من الوسمي «1» صيّبه «2» ... وزار مغناك قطر كله قطر
(ص 306) ولا يزال له برق يغازله ... حلو المراشف «3» في أجفانه حور «4»
لفقد مثلك يا من ماله مثل ... تأسى المحاريب والآيات والسور «5»
يا وارثا من علوم الأنبياء نهى ... أورثت قلبي نارا وقدها الفكر
يا واحدا لست أستثني به أحدا ... من الأنام ولا أبقي ولا أذر
يا عالما بنقول الفقه أجمعها ... أعنك تحفظ زلات كما ذكروا
يا قامع البدع اللاتي تجنّبها ... أهل الزمان وهذا البدو والحضر
ومرشد الفرقة الضلّال نهجهم ... من الطريق فما حاروا ولا سهروا
ألم يكن للنصارى واليهود معا ... مجادلا وهم في البحث قد حصروا «6»
وكم فتى جاهل غرّ أنبت له ... رشد المقال فزال الجهل والغرر»
ما أنكروا منك إلا أنهم جهلوا ... عظيم قدرك لكن ساعد القدر
قالوا بأنك قد أخطأت مسألة ... وقد يكون فهلّا منك تغتفر
غلطت في الدهر أو أخطأت واحدة ... أما أجدت إصابات فتعتذر(5/707)
ومن يكون على التحقيق مجتهدا ... له الثواب على الحالين لا الوزر
ألم تكن بأحاديث النبي إذا ... سئلت تعرف ما تأتي وما تذر «1»
حاشاك من شبه فيها ومن شبه ... كلاهما منك لا يبقى له أثر
عليك في البحث أن تبدي غوامضه ... وما عليك إذا لم تفهم البقر
قدّمت لله ما قدّمت من عمل ... وما عليك بهم ذمّوك أو شكروا
هل كان مثلك من يخفى عليه هدى ... ومن سمائك تبدو الأنجم الزّهر
وكيف تحذر من شيء تزل به ... أنت التقي فماذا الخوف والحذر(5/708)
(ص 307)
فأما من نذكر من مشاهير الجانب الغربي فمنهم:
163- أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري القرطبي
«1» إمام عصره في الحديث والأثر «2» ، وكتبه زمام من استقام أو عثر، بحر يتموّج، وصبح ينبلج، وضيغم «3» إلا أنه لا يخاف، ومفعم «4» إلا أنه بطيب ما جمع من تفاريق الكتب واللخاف «5» ، هو ممّن شيّد مباني الأندلس، وجدّد معالمه الدرس، بكتبه التي صقل منها حسنه اليوسفي «6» مرآة الشمس ثم لم يصدها، ومعارفه التي ما أسرّها في نفسه ثم لم يبدها.
روى بقرطبة عن جماعة «7» ، وكتب إليه من الشرق جماعة، قال أبو الوليد الباجي: لم يكن بالأندلس مثل أبي عمر بن عبد البر في الحديث، وهو أحفظ(5/709)
أهل المغرب «1» ، طلب العلم بقرطبة، وتفقه بها ولزم أبا الوليد بن الفرضيّ الحافظ، وأخذ عنه كثيرا من علم الحديث، ودأب في طلب العلم وتفنن فيه وبرع براعة فاق فيها من تقدمه من رجال الأندلس، وألّف في الموطأ كتبا مفيدة منها كتاب التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد «2» ، ومنها كتاب الاستذكار لمذاهب الأمصار فيما تضمنه الموطأ من معنى الرأي والآثار «3» ، ومنها كتاب الاستيعاب في أسماء الصحابة «4» ، وله غير ذلك «5» .
وكان موفقا في التأليف معانا عليه، ونفع الله به، وكان مع تقدمه في علم الأثر وبصره بالفقه ومعاني الحديث، له بسطة كثيرة في علم النسب. وفارق قرطبة وجال في غرب الأندلس مدة ثم تحوّل إلى شرق الأندلس، وسكن دانية من بلادها وبلنسية وشاطبة في أوقات مختلفة، وتولى قضاء الأشبونة وشنتزين في أيام مالكها المظفّر بن الأفطس «6» .
وتوفي في يوم الجمعة آخر يوم من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وستين (ص 308) وأربعمائة بمدينة شاطبة من شرق الأندلس، ومولده يوم الجمعة وقت(5/710)
الخطبة لخمس بقيت من ربيع الآخر سنة ثمان وستين وثلاثمائة «1» .
ومنهم
164- أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر التميمي المازري
«2» الفقيه الحافظ المالكي، أحد الأعلام المشار إليهم في حفظ الحديث، والكلام عليه، والاهتمام الذي صرف إليه «3» ، شرح فشرح الصدور، وكتب فكبت البدور، هذا إلى تنوع ما نقص به في مشاركه، ولا قصّر به عن علم تضع له أجنحتها الملائكة، مقترنا بآداب أغضّ من تفاح الخدود، وأهزّ من رماح القدود، أحلى من رشفات الرّضاب، وأغلى من مشنّفات النبت في أكاليل الهضاب، يزين هذا جميعه ورع قام باسمه ونهض «4» ، وأجمع على علمه وأبرم ثم ما نقض، وناضل بسهمه حتى سبق إلا أنه لغباره في وجوه الكواكب نفض.
شرح صحيح مسلم شرحا جيدا، وسماه كتاب المعلم بفوائد مسلم، وعليه بنى القاضي عياض كتاب الإكمال «5» ، وله أيضا المحصول من برهان الأصول، وله(5/711)
في الأدب كتب متعددة «1» ، وكان فاضلا متقنا زاهدا ورعا، توفي في ثامن عشر شهر ربيع الأول سنة ست وثلاثين وخمسمائة، وقيل في ثاني الشهر بالمهدية، وعمره ثلاث وثمانون سنة «2» .
ومنهم
165- القاضي أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي
«3» السبتي أبو الفضل، الفقيه الحافظ جمال الأعلام «4» ، وقدوة أئمة الإسلام، شغف بخير الخلق حبّا، وكلف بنبي الله حبّا «5» ، وهام بسكان العقيق «6» حتى(5/712)
أجراه دمعا، وبنزال الأبيرق «1» حتى كاد يفنيه جزعا وولع بأهيل الحيّ حتى ظلّ دمعه بالحمى صبّا «2» ، وبات (ص 309) كراه «3» لا يلائم مضجعه من الجفون جنبا، وتشوّق ديارا كان يودّ لو طاف بربوعها، وطاح مرطه في مسارح ربيعها، وأسف لزمان أخّره عن زمان تلك الأقمار الطّلع، والسمّار ومقل الكواكب مفضية لا تجسر أن تتطلّع وغشيان نادي النبوة والقرآن ينزل عليه، وجبريل يؤدي ما اؤتمن على إبلاغه إليه، وسيّد الكونين محمد خاتم الأنبياء، وإمام الأتقياء حيّ يأتلق قمره في ذلك النادي، ويتدفق مطره في ذلك الوادي، وطيبة «4» به تأرج «5» جنبات أرجائها نشرا.
وتخلّق أردان فنائها بشرا، وتلك المعالم مأهولة بأهلتها، وتلك المعاهد معهودة لا تستسقي السحب لغلتها، فلما فاته سالف تلك الأيام أن يكون من بينها، وبعدت عليه شقة تلك المنازل أن يكون فيها، جعل فيها غرر تأليفه، ودرر تصنيفه، وصنف كتاب الشفا في شرف المصطفى «6» ، وأوقد مصباحه مذ(5/713)
كان فما انطفى، ينطق بغرام برسول الله صلى الله عليه وسلم أسكنه شغاف قلبه، وأنزله سعاف حبه، وذكر في في تعظيمه أوصاف ربّه، وأخلص فيه النية، فما جاء بعده كتاب ألّف في بابه ثم كان له مدانيا، ولا منه دانيا، بل عليه المعتمد دون بقيّة تلك الكتب على كثرتها، والمخصوص بالأثرة عليها على أثرتها، وجرّب أنه لم يكن عند رجل فنكب، ولا في رحل فأخذ، ولا في بيت فخرب، ولقد كان مصنفه رحمه الله أنفع لمدينته سبتة «1» من بحرها، وأجمع لقطريها مما تخنقه جوانبها الثلاث من برها.
وقد ذكره الفتح فقال: جاء على قدر، وسبق إلى نيل المعالي وابتدر، فاستيقظ لها والناس نيام، وورد حياضها وهم حيام «2» ، فتحلت به للعلوم نحور، وتجلّت له منها حور، كأنهن الياقوت/ (ص 310) والمرجان، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان، وقد ألحفته الأصالة رداءها، وسقته الجلالة أنداءها، وأزرت محاسنه بالبدر اللياح «3» ، وسرت فضائله سرى الرياح، فتشوفت لعلاه الأقطار، ووكفت «4» تحكي نداها الأمطار، وهو على اعتناء بعلوم الشريعة، واختصاصه بهذه الرتبة الرفيعة، يعني بإقامة أود الأدب، وتنسلّ إليه أربابه من كل حدب، إلى سكون ووقار كما رسا الطود، وجمال مجلس كما حلّيت الخود «5» ،(5/714)
وعفاف وصون ما علما فسادا بعد الكور «1» ، ورواء لو رأته الشمس ما تاهت بأضواء الخضر، أو كان الصبح ما لاح ولا أسفر، قال ابن بشكوال: دخل الأندلس طالبا للعلم فأخذ بقرطبة عن جماعة «2» ، وجمع من الحديث وكان له عناية كبيرة به، وبالاهتمام بجمعه وتقييده، وهو من أهل التفنن في العلم، واستقضي بسبتة مدة طويلة، فحمدت سيرته فيها ثم نقل عنها إلى قضاء غرناطة «3» ، فلم يطل أمده فيها، صنف التصانيف المفيدة منها: كتاب الإكمال في شرح مسلم كمّل به كتاب المعلم لأبي عبد الله المازري «4» ، وله كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى «5» ، لم يسبق إلى مثله، وله مشارق الأنوار في غريب الحديث، المختص بالموطإ والبخاري ومسلم «6» ، وله كتب أخر «7» ، وكان إمام وقته في الحديث(5/715)
وعلومه، والنحو واللغة وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم.
ومن نظمه قوله في خامات زرع بينها شقائق نعمان هبت عليه ريح: [السريع]
انظر إلى الزرع وخاماته ... تحكي وقد ماست أمام الرياح
كتيبة خضراء مهزومة ... شقائق النعمان فيها جراح «1»
(ص 311) ومنه قوله: [البسيط]
الله يعلم أني منذ لم أركم ... كطائر خانه ريش الجناحين
فلو قدرت ركبت البحر نحوكم ... فإن بعدكم عني جنى حيني «2»
وأورد له العماد في الخريدة في لزوم ما لا يلزم: [المتقارب]
إذا [ما] نشرت بساط انبساط ... فعنه فديتك فاطو المزاحا
فإن المزاح كما قد حكى ... ألو العلم قبلي عن العلم زاحا
ومدحه أبو الحسن المالقي الفقيه بقوله: [الكامل]
ظلموا عياضا وهو يحلم عنهم ... والظلم بين العالمين قديم
جعلوا مكان الراء عينا في اسمه ... كي يكتموه وإنه معلوم
لو لاه ما فاحت أباطح سبتة ... والروض حول فنائها معدوم «3»
مولده بسبتة في نصف شعبان سنة ست وسبعين وأربعمائة وتوفي بمراكش(5/716)
يوم الجمعة سابع جمادى الآخرة، وقيل في رمضان سنة أربع وأربعين وخمسمائة «1» .
ومنهم
166- أبو بكر محمد بن عبد الله بن أحمد المعروف ب (ابن العربي) المعافري
«2» (ص 312) الأندلسي الحافظ المشهور «3» ، والحامل له الزمان راية الظهور، تجوّل في الأرض طلبا للعلم، وتقديما لأمره المهم، وتكميلا لمعوز فضله ليتم، ورحل من أقصى الأندلس حتى أتى الحجاز وخيّم بالعراق، وعاد من الشرق بما ملأ الغرب بالإشراق، وتنقل في أفقيها فتهلل هذا فرحة باللقاء، وعلت الآخر صفرة الفراق، قال ابن بشكوال: هو الحافظ المستبحر ختام علماء الأندلس، وآخر أئمتها وحفاظها، لقيته بمدينة إشبيلية في جمادى الآخرة سنة ست عشرة(5/717)
وخمسمائة فأخبرني: أنه رحل إلى الشرق مع أبيه سنة خمس وثمانين وأربعمائة، وأنه دخل الشام ولقي بها أبا بكر الطرطوشي، وتفقه عنده، ودخل بغداد وسمع بها من جماعة «1» من أعيان مشايخها، ثم دخل الحجاز وحج سنة تسع وثمانين ثم عاد إلى بغداد، وصحب أبا بكر الشاشي «2» وأبا حامد الغزالي «3» وغيرهما من العلماء والأدباء ثم صدر «4» عنهم ولقي بمصر والإسكندرية جماعة من المحدثين فكتب عنهم، واستفاد منهم وأفادهم، ثم عاد إلى الأندلس سنة ثلاث وتسعين، وقدم إشبيلية بعلم كثير لم يدخل به أحد قبله ممن رحل إلى الشرق، وكان من أهل التفنن في العلوم والاستبحار فيها، والجمع لها، مقدما في المعارف كلها متكلما في أنواعها نافذا في جميعها، حريصا على آدابها ونشرها، ثاقب الذهن في تمييز الصواب منها، ويجمع إلى(5/718)
ذلك كله آداب الأخلاق مع حسن المعاشرة، وكثرة الاحتمال، وكرم النفس، وحسن العهد، وثبات الود.
استقضي ببلده فنفع الله به أهلها لصرامته وشدته، ونفوذ أحكامه، وكانت له في الظالمين سورة «1» مرهوبة، ثم صرف عن القضاء وأقبل على نشر العلم/ (ص 313) وبثه، وسألته عن مولده فقال: ولدت يوم الخميس لثمان بقين من شعبان سنة ثمان وستين وأربعمائة، وتوفي في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، ودفن بمدينة فاس، ومن مصنفاته: عارضة الأحوذي في شرح الترمذي.(5/719)
ومنهم:
167- أبو القاسم «1» السهيلي «2» عبد الرحمن بن عبد الله ابن أحمد بن أبي الحسن
الخثعمي «3» ، ويكنى أيضا أبا زيد «4» ، الإمام المشهور صاحب التصانيف البديعة، والتفاويق «5» الصنيعة «6» ، ما جمع مثله ليل، ولا طلع به ولا علا(5/720)
شبهه سهيل، كان بحضرة مرّاكش، بغداد المغرب نجم هداها الطالع، وطود حجاها «1» ، الأشب «2» المطالع، يملأ أكنافها، ويكلأ أضيافها، وينشر فيها من علومه المفننة ضرائر «3» الحبرات «4» ، ونظائر ما تجره وشائع «5» البيض «6» الخفرات «7» ، كان ببلده يتسوّغ «8» بالعفاف، ويتبلغ «9» بالكفاف «10» ، حتى نمي خبره إلى صاحب مراكش، فطلبه إليه، وأحسن إليه، وأقبل بوجه الإقبال عليه، وأقام بها نحو ثلاثة أعوام كأنها ساعة منام، وكان إماما محدثا فقيها(5/721)
أصوليا تصريفيا عروضيا نحويا خبيرا بالأنساب والمشتبه منها «1» .
ومن مصنفاته كتاب الروض الأنف «2» في شرح السيرة النبوية لابن إسحاق «3» ، [أملاه في نحو خمسة شهور من نيف على مائة، وعشرين ديوانا غير ما نقحه فكره، ولقنه عن مشيخته] «4» وكتاب التعريف والإعلام فيما أبهم في القرآن من الأسماء والأعلام «5» ، وكتاب نتائج الفكر ومسألة رؤية الباري في المنام ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم، والسر في عور الدجال، «6» ومسائل كثيرة مفردة لم(5/722)
يسبق إليها ولا حام أحد قبله عليها، وغالب مصنفاته إملاء، فإنه كان مكفوفا.
وتوفي بحضرة مراكش يوم الخميس، ودفن وقت الظهر سادس عشر من شعبان سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، ومولده سنة ثمان، وخمسمائة بمالقة- رحمه الله-. (ص 314) .
قال أبو الخطاب ابن دحية: أنشدني السهيلي، وقال: إنه ما سأل الله تعالى بها حاجة إلا أعطاه إياها، وكذلك من استعمل إنشادها، وهي: [الكامل]
يا من يرى ما في الضمير ويسمع ... أنت المعد لكل ما يتوقع
يا من يرجّى للشدائد كلها ... يا من إليه المشتكى والمفزع
يا من خزائن رزقه في قول: كن «1» ... امنن، فإن الخير عندك أجمع
ما لي سوى فقري إليك وسيلة ... فبالافتقار إليك ربي أضرع
ما لي سوى قرعي لبابك حيلة ... فلئن رددت فأي باب أقرع
ومن الذي أدعو، وأهتف باسمه ... إن كان فضلك عن فقيرك يمنع
حاشا لمجدك أن يقنّط عاصيا ... الفضل أجزل والمواهب أوسع «2»(5/723)
ومنهم:
168- أبو الخطاب «1» عمر بن الحسن بن علي بن محمد بن الجميل بن فرح بن دحية بن خليفة الكلبي
المعروف بذي النسبين «2» ، الأندلسي البلنسي «3» الحافظ. وقف للإطلاع على كل ثنية، وهتف للاستطلاع بكل قضية، وقاد نافر اللغة عنفا حتى جعل الغريب قريبا، والحوشي «4» ربيبا «5» ، وأتى بها إلى الحاضرة قسرا من باديتها، وقهرا في تأديتها، فعادت إلى الحسنى، ورقّ كلامها، ودق حتى خفي(5/724)
أكمامها «1» ، وله رسائل حوشية كتبها لتدل على غزارة مادته، وإنارة جادته، وقد أضربت عن ذكرها صفحا، ولم أسمع لها صدحا، لثقل وطأتها على الأسماع، وشدة نفرتها للطباع، كأنها كلام النائم، ونقيق الضفادع في الليالي العواتم، تظن أنها ليست مركبة من الحروف، ولا دالة على معنى معروف، على أن له في أخر ما يخف، ولكنه مما لا يشف، ولا يندى (ص 315) ورقه، ولا يرف، فلذلك- أيضا- ألغيتها، وأعرضت عنها، فما أردتها، ولا ابتغيتها.
كان من أعيان مشايخها، ومشاهير الفضلاء، متقنا لعلم الحديث النبوي، وما يتعلق به، عارفا بالنحو، واللغة، وأيام العرب وأشعارها.
اشتغل بطلب الحديث في أكثر بلاد الأندلس الإسلامية، ولقي بها علماءها، ومشايخها، ثم رحل منها إلى بر العدوة، ودخل مراكش، واجتمع بفضلائها، ثم ارتحل إلى إفريقية، ومنها إلى الديار المصرية، ثم إلى الشام، والشرق، والعراق، وسمع ببغداد من بعض أصحاب ابن الحصين «2» ، ودخل إلى عراق العجم، وخراسان، وما والاها، ومازندران «3» ، كل ذلك في طلب الحديث، والاجتماع(5/725)
بأئمته، وأخذ عنه وهو في تلك الحال، وقدم مدينة إربل سنة أربع وستمائة، وهو متوجه إلى خراسان، فرأى صاحبها الملك المعظم مظفر الدين «1» مولعا بعمل مولد النبي صلى الله عليه وسلم عظيم الاحتفال به، فعمل له كتابا سماه" التنوير في مولد السراج المنير"، وقرأه عليه بنفسه، وختمه بقصيدة طويلة، فأعطاه المعظم ألف دينار، وله عدة تصانيف «2» .
وتوفي يوم الثلاثاء رابع عشر ربيع الأول سنة ثلاث، وثلاثين، وستمائة بالقاهرة، ودفن بسفح المقطم، ومولده في مستهل ذي القعدة سنة أربع، وأربعين، وخمسمائة.(5/726)
ومن متقدميهم بالديار المصرية:
169- الحافظ الفقيه «1» أبو جعفر بن محمد بن سلامة الأزدي الطحاوي «2» الحنفي
. الذي جمع بفقهه بين المذهبين، وطلع بتصنيفه في المذهبين «3» ، تاهت به طحا، وباهت به الشمس في الضحى، وأصبحت تضاهي النجوم بقعتها، وتظاهر صفيح (ص 316) الغيوم نقعتها «4» ، وتشرق سنى، وتغدق منى، ويعرج عليها ساري كل ركاب، وسائر كل طلاب «5» ، ويقف بها مغبّطا لبلده الذي فتنت بفوائده، وكلفت «6» بعوائده، يهيم بغرر «7» فوائده الحسان، وقلائده المقلدة(5/727)
للإحسان، وقالت: [الطويل]
صحا بك نوء للإحسان سكوب ... وطحا بك قلب للحسان طروب
طحا بك بغل نوائب الزمان ... فهل نون مخلب كاسر أو نوب
ولد سنة تسع وثلاثين ومائتين، وتفقه بمصر على أبي جعفر أحمد بن أبي عمران «1» ، وبدمشق على القاضي أبي خازم «2» ، وتفقه عليه أحمد بن محمد بن منصور الدامغاني «3» ، وغيره، وحدث عن خلائق سمع منهم، وصنف التصانيف المطولة الدالة على تبحره، وتفقه أولا على مذهب الشافعي، ثم انتقل إلى مذهب أبي حنيفة، وسبب انتقاله أن خاله أبا إبراهيم المزني «4» - صاحب(5/728)
الشافعي- قال له يوما في أثناء مذاكرة-: والله لا جاء منك شيء. فغضب أبو جعفر من ذلك، وأنف «1» لنفسه، وانتقل إلى ابن أبي عمران، فأول ما صنف من الكتب" مختصره" في الفقه، وهو على ترتيب كتاب المزني، فلما فرغ منه قال: رحم الله أبا إبراهيم، لو كان حيا لكفّر عن يمينه «2» ، وذكر أبو يعلى الخليلي «3» في كتاب الإرشاد «4» أن إبراهيم بن محمد الشروطي قال: قلت للطحاوي: لم خالفت خالك، واخترت مذهب أبي حنيفة، قال: لأني كنت أرى خالي يديم النظر في كتب أبي حنيفة، فانتقلت إلى مذهبه لذلك.
وذكره الحافظ أبو محمد بن خلف في كتابه" الدر المنظّم فيمن دفن بسفح المقطّم" فقال: فريد دهره، ووحيد عصره، له التصانيف المفيدة، والآثار الحميدة، صاحب فقه، ورواية، ونظر، ومن تصانيفه الفقهيات المعروفات الكبار، والمختصرات/ الخالية من الإكثار، وكتبه في الوراقة مشهورة- أيضا-، وفضائله أكثر من أن تعد، ومناقبه أوفر من دخولها تحت الحصر والعد، وروى عنه القضاة المحققون، والعلماء المبرزون، وبلغ من العمر ثمانين سنة، وكان السواد أغلب على لحيته من البياض.
توفي في ذي القعدة سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة بمصر، ودفن بالقرافة، وقبره مشهور.(5/729)
ومن متأخريهم:
170- القاضي أبو الفتح «1» محمد بن علي بن وهب بن مطيع بن أبي الطاعة القشيري
«2» المنفلوطي «3» الصعيدي «4» المالكي «5» ، والشافعي تقي الدين، عرف بابن(5/730)
دقيق العيد «1» . صاحب التصانيف، آخر المجتهدين، وفاخر درر المقلدين، حجة العلماء، والأعلام، ومحجة القصد والسلام، رافع منار الشرع المطهر، ومعلي قدر فرقده «2» ، ومعلن اسم سؤدده، ومعلم البروق اللامعة بأنها لا طاقة لها بتوقده، ومعلق طيبه بمفرق الدهر مسك ليلته، وكافور غده، قام بالحق والكل قاعد، وهب، وكل على جفنه النوم عاقد، وتخلق بخلائق السلف الذي عليه مضوا، وبه جاءوا، وعليه قضوا، من علم تلافى الفساد، وأوفى بقدر السلف وزاد، وورعا ما دنّس ثوبه، ولا كدر صوبه «3» ، إلا أنه كان مغرى بالنكاح، مغرما منه بالمباح، يغالي في شراء الجواري، واستسراء قيم السواري، ولم تكن له جدة للإنفاق، فكان يشتريهن بالثمن الربيح إلى أجل يستدينه، فإذا حل يغدو وهو رهينه، فيتسامع به أهل اليسار ممن ربطه عليه حب علمه، وحسن ظنه في دينه، لا خاب في زعمه، فيتكفل بوفاء ذلك الدين (ص 318) وغسل ذمته، وتنقيته من ذلك الشين، حتى إذا صار بريئا من الطلبات، خالصا من المطالبات، عنّ له أن يشتري جارية، أو يزيد نفقة جارية، فلا يلبث شهرا، حتى يعود أثقل ما كان ظهرا، ويدوم على هذا في الزمان دهرا، فيقدر له آخر فيوفي عنه ما اشتغلت به(5/731)
ذمته، واشتعلت بسبب همه لمته «1» ، واستجيزت بسببه عند أهل الورع مذمته، هكذا كان دأبه، ودأب ما يحمل نفسه، من أثقال التكاليف وإنفاق جمل المصاريف، كأنه يحتقر الذهب، أو أن وفاء دينه على أهل الدنى وجب، وكان على فور علمه ودينه، وشواغله بالتصنيف «2» في كل حينه، يكمن تارة في زناده، ويحبس أواره «3» في فؤاده، ويلبس الرجال على بغضها، ويسلب كل الأعمال لبعضها، وربما قدر فعفر «4» ، وواخذ فما غفر، إلا أن التقوى كانت تمنعه من أليم المجازاة، وترده عن بلوغ الغاية من التشفي «5» ، وفي النفس(5/732)
حزازات «1» .
ولد في شعبان سنة خمس وعشرين وستمائة بقرب ينبع «2» من أرض الحجاز، وسمع الحديث، وخرّج لنفسه أربعين تساعية «3» ، وكان من أذكياء زمانه، واسع العلم كثير الكتب مديما للسهر، مكبا على الاشتغال، ساكنا وقورا، ورعا، قل أن ترى العيون مثله «4» ، وله اليد الطولى في الأصول والمعقول، وخبرة بعلل المنقول، ولي قضاء الديار المصرية سنوات إلى أن مات، وكان في أمر الطهارة والمياه في نهاية الوسوسة «5» .
قال الحافظ قطب الدين الحلبي «6» : كان إمام أهل زمانه، وممن فاق بالعلم(5/733)
والزهد على أقرانه، عارفا بالمذهبين، إماما في الأصلين «1» ، حافظا متقنا في الحديث وعلومه، يضرب به المثل في ذلك، وكان آية في الحفظ، والإتقان والتحري، شديد الخوف، دائم الذكر، لا ينام الليل (ص 319) إلا قليلا، ويقطعه فيما بين مطالعة، وتلاوة، وذكر، وتهجد حتى صار السهر له عادة، وأوقاته كلها معمورة، ولم ير في عصره مثله- وعدّ مصنفاته- ثم قال: عزل نفسه من القضاء غير مرة، ثم يسأل، ويعاد وقال: وبلغني أن السلطان حسام الدين «2» لما طلع الشيخ إليه، قام للقيه، وخرج عن مرتبته «3» ، وكان كثير الشفقة على المشتغلين، كثير البر لهم.
توفي في صفر «4» سنة اثنتين وسبعمائة.
ومن نظمه «5» : [البسيط]
الحمد لله كم أسعى «6» بعزمي في ... نيل العلى، وقضاء الله ينكسه(5/734)
كأنني النجم يبغي «1» الشرق، والفلك ال ... أعلى يعارض مسراه فيعكسه
ومنه قوله: [الطويل]
لعمري لقد قاسيت بالفقر شدة ... وقعت بها في حيرة وشتات
فإن بحت بالشكوى هتكت «2» مروءتي ... وإن لن أبح بالصبر خفت مماتي
فأعظم به من نازل بملمة ... يزيل حيائي، أو يزيل حياتي
ومنه قوله: [السريع]
تهيم نفسي طربا عندما «3» ... استلمع البرق الحجازيا
ويستخف الوجد عقلي وقد ... أصبح لي حسن الحجى «4» زيّا «5»
يا هل أقضّي حاجتي من منى ... وأنحر البزل «6» المهاريا «7»
وأرتوي من زمزم فهي لي ... ألذ من ريق المها «8» ريّا (ص 220)(5/735)
ومنه قوله: [البسيط]
أهل المراتب «1» في الدنيا، ورفعتها ... أهل الفضائل مرذولون بينهم
فما لهم في توقي ضرنا نظر ... ولا لهم في ترقي قدرنا همم
قد أنزلونا لأنا غير جنسهم ... منازل الوحش في الإهمال عندهم «2»
فليتنا لو قدرنا أن نعرّفهم ... مقدارهم عندنا أو لو دروه هم
لهم مريحان من جهل «3» وفضل غنى ... وعندنا المتعبان العلم والعدم
فناقضه في ذلك الفتح البققي- المقتول على الزندقة-، فقال: [البسيط]
أين المراتب، والدنيا ورفعتها ... عند الذي حاز علما ليس عندهم
لا شك أن لنا قدرا رأوه، وما ... لقدرهم عندنا قدر ولا لهم «4»
هم الوحوش ونحن الأنس حكمتنا ... نقودهم حيثما شئنا، وهم نعم
وليس شيء سوى الإهمال يقطعنا ... عنهم لأنهم وجدانهم عدم
لنا المريحان من علم ومن عدم ... وفيهم المتعبان الجهل والحشم
عدنا إلى ذكر قاضي القضاة أبي الفتح رحمه الله ومن شعره قوله: [الكامل]
نفرت سليمى نضرة لما رأت ... وضح المشيب بعارضيّ ومفرقي
قد أبصرت منه عدوا أبيضا ... أربى أذاه على العدو الأزرق
وقوله: [السريع]
كم ليلة فيك وصلنا السرى «5» ... لا نعرف النوم ولا نستريح(5/736)
وكادت الأنفس مما بها ... تزهق والأبدان منها تطيح
واختلف الأصحاب ماذا الذي ... يرد من شكواهم أو يريح
فقيل تعريسهم «1» ساعة ... وقلت: بل ذكراك، وهو الصحيح
قلت هكذا فليكن- وإلا فلا- أدب الفقهاء، وفي مثل هذا يذهب أهل الحزم أضعاف ذهب السفهاء، هذا الذي لا يقدر عليه من قدّر عليه رزقه، واتسم بسمة أهل الفضل وهو لا يستحقه.
ومنه قوله: [الطويل]
أتيتك والآمال تسري إلى مدى ... بعيد أراه باصطناعك يقرب
وقد شنع الأعداء أن مطالبي ... ترد على أعقابها وهي خيّب
وما تركوا من حجة أو أتوا بها ... على أنني مالي ببحرك مشرب
وو الله لا صدّقت أنك مربحي؟ ... لدفع ملمّ حادث فتخيب
وقوله: [الخفيف]
أنكرتني لما ادعيت هواها ... وأصرت على العناد جحودا
قلت إن الدموع تشهد لي قا ... لت صحيح، لكن قذفت الشهودا (321)
ومنه قوله: [الوافر]
أودّعكم وأودعكم حياتي ... وأنثر دمعتي نثر الجمان
وقلبي لا يريد لكم فراقا ... ولكن هكذا حكم الزمان(5/737)
ومن نثر القاضي أبي الفتح ما كتبه إلى نوابه بالحكم في الوجه القبلي البحري عند ما فوّض إليه قضاء القضاة بالديار المصرية، بعد البسملة:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ
«1»
صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس السامي وفقه الله لقبول النصيحة، وآتاه لما يقربه قصدا صالحا ونية صحيحة، أصدرناها إليه بعد حمد الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور «2» ، ويمهل حتى يلتمس الإمهال على المغرور، تذكرة بأيام الله وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ
«3» ، ويحذره صفقة من باع آخرته بدنياه فما أحد سواه مغبون «4» ، عسى الله أن يرشده بهذا التذكار وينفعه، وتأخذ هذه النصائح بمحجزته «5» عن النار فإني أخاف أن يتردى فيخرّ من ولّاه والعياذ بالله معه، والموجب لإصدارها ما تلمحناه من الغفلة المستحكمة على القلوب، ومن تقاعد الهمم عن القيام بما يجب للرب على المربوب، ومن أنسهم بهذا الدار وهم يزعجون «6» عنها، وعلمهم بما بين أيديهم من عقبة كؤود «7» ، وهم لا يتخففون منها، ولا سيما القضاة الذي تحملوا أعباء الأمانة(5/738)
على كواهل ضعيفة، وظهروا بصور كبار، وهمم نحيفة، وو الله إن الأمر لعظيم، وإن الخطب لجسيم، ولا أرى أن مع ذلك أمنا ولا قرارا ولا راحة، اللهم إلا رجلا نبذ الآخرة وراه واتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ
«1» ، وقصر همه وهمته على حظ نفسه ودنياه فغاية مطلبه/ (ص 322) حب الجاه، والرغبة في قلوب الناس، وتحسين الزي والملبس والمركب والمجلس، غير مستشعر خسة «2» حاله، ولا ركاكة مقصده، وهذا لا كلام معه، فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى
«3» وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ
«4» فاتق الله الذي يراك حين تقوم «5» ، واقصر أملك عليه، فالمحروم من فضله غير مرحوم، وما أنا وأنتم أيها النفر إلا كما قال الحبيب العجمي «6» - رضي الله عنه- وقد قال له قائل: ليتنا لم نخلق- فقال: قد وقعتم فاحتالوا. وإن خفي عليك بعض هذا الخطر، وشغلتك الدنيا أن تقضي من معرفته الوطر «7» ، فتأمل قوله «8» :"(5/739)
القضاة ثلاثة" «1» ، وقوله مشفقا:" لا تأمرن على اثنين ولا تلينّ مال يتيم" «2» ، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. [المتقارب]
وما أنا والسير في متلف ... نبرّح «3» بالذكر الظابط
هيهات، جف القلم، ونفذ أمر الله فلا راد لما حكم، إيه، ومن هنالك شم الناس من فم الصديق رائحة الكبد المشوي، وقال الفاروق: ليت أم عمر لم تلده، واستسلم عثمان وقال: من أغمد سيفه فهو حر. وقال علي والخزائن بين يديه مملوّة: من يشتري مني سيفي هذا، ولو وجدت ما اشتري به ما بعته. وقطع الخوف نياط قلب عمر بن عبد العزيز فمات من خشية العرض. وعلق بعض السلف في بيته سوطا يؤدب به نفسه إذا فتر. أفترى ذلك سدا؟ أم وضح أنا نحن المقربون، وهم البعدا، وهذه أحوال لا تؤخذ من كتاب السلم والإجارة والجنايات، نعم إنما تنال بالخضوع والخشوع، وبأن تظمأ وتجوع، وتحمي عينيك الهجوع، ومما يعينك على الأمر الذي/ (ص 323) دعوت إليه، ويزودك في مسيرك إلى العرض عليه، أن تجعل لك وقتا تعمره بالتفكر والتدبر، فإنها تجعلها معدة لجلاء قلبك، فإنه إن استحكم صداه «4» صعب(5/740)
تلافيه «1» ، وأعرض عنه من هو أعلم بما فيه، واجعل أكثر همومك الاستعداد للمعاد، والتأهب لجواب الملك الجواد، فإنه يقول فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ
«2» ومهما وجدت من همتك قصورا، أو استشعرت من نفسك عما يذللها نفورا، فاجأر «3» إليه، وقف ببابه واطلب منه، فإنه لا يعرض عمن صدق، ولا يعزب عن علمه خفايا الضمائر أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ
هذه نصيحيتي إليك، وحجتي بين يدي الله إن فرطت عليك، أسال الله لي ولك قلبا شاكرا، ولسانا ذاكرا، ونفسا مطمئنة بمنه وكرمه.
ومنهم:
171- علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام
«4» ابن يوسف بن موسى بن تمام من حامد بن يحيى بن عمرو بن عثمان بن علي ابن مسوار بن سليم الأنصاري الخزرجي السبكي ثم المصري الشافعي حجة المذاهب، مفتي الفرق، قدوة الحفاظ، آخر المجتهدين قاضي القضاة تقي الدين أبو(5/741)
الحسن صاحب التصانيف، التقي، البر العلي القدير سميّ العلي كرم الله وجهه، الذي هو باب العلم «1» ، ولا غرو إن كان هو المدخل إلى ذلك الباب، والمستخرج من دقيق ذلك الفضل هذا اللباب، والمستمير «2» من تلك المدينة التي ذلك الباب بابها، والواقف عليها مع سميّه فذاك بابها وهذا بوّابها، بحر لا يعرف له عبر «3» وصدر لا يدخله كبر، وأفق لا تقيسه كف الثريا بشبر، وأصيل قدره أجلّ مما يموه به لجين «4» النهار ذائب التبر «5» / (ص 324) إمام ناضح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنضاله «6» ، وجاهد بجداله، ولم يلطخ بالدماء حد نصاله «7» ، حمى جناب النبوة الشريف بقيامه في نصره، وتسديد سهامه للذب عنه من كنانة مصره «8» ، فلم يخط على بعد الديار سهمه الراشق «9» ، ولم تخف(5/742)
مشام «1» تلك الدسائس فهمه الناشق «2» ، ثم لم يزل حتى نقّى الصدور من شبه دنسها، ووقى من الوقوع في ظلم حندسها «3» ، قام حين خلّط على ابن تيمية «4» الأمر، وسوّل له قرينة الخوض في ضحضاح «5» ذلك الجمر، حين سد باب الوسيلة «6» ، يغفر الله له لا حرمها، وأنكر شد الرحال لمجرد الزيارة «7» لا واخذه الله وقطع رحمها، وما برح يدلج ويسير حتى نصر صاحب ذلك الحمى الذي لا(5/743)
ينتهك نصرا مؤزرا، وكشف من خبء الضمائر في الصدود عنه صدرا موغرا، فأمسك ما تماسك من باقي العرى، وحصل أجرا في الدنيا يسمع، وفي الآخرة يرى، حتى سهّل إلى زيارة صاحب القبر عليه الصلاة والسلام وقد كادت تزورّ «1» عنه قسرا، صدور الركائب وتجر قهرا، أعنة القلوب وهن لوائب «2» بتلك الشبهة التي كادت شرارتها تعلق بجذام الأوهام، وتمد عيهب «3» صدها صدأ على مرايا الأفهام، وهيهات كيف يزار المسجد ويجفى صاحبه أو يخفيه الإبهام، أو تذداد المطي عنه وهي تتراشق «4» إليه كالسهام، ولولاه عليه الصلاة والسلام لما عرف تفضيل ذلك المسجد، ولا تم إلى ذلك المحل تاميل المغير ولا المنجد، ولولاه لما قدس الوادي، ولا أسس على التقوى مسجد «5» في ذلك النادي، وكذلك قبلها شكر الله له قام في لزوم ما انعقد عليه الإجماع وتعد الظهور بمنلفته على الأطماع، ومنع في مسألة الطلاق أن يجري في الكفارة مجرى اليمين «6» ، وأن يجلى في صورة إن/ (ص 325) حققت لا تبين، خوفا على محفوظ الأنساب، ومحظوظ الأحساب، لما كانت تؤدي إليه(5/744)
هذه العظيمة، وتستوي عليه هذه المصيبة العميمة، وصنف في الرد في هاتين المسألتين كتابيه، بل جرد سيفه وأرهف ذبابيه «1» ، ورد القرن «2» وهو ألد «3» خصيم، وشد عليه وهو يشد غير هزيم «4» ، وقابله وهو الشمس التي تعشي الأبصار «5» ، وقاتله وكم جهد ما يثبت البطل لعلي وفي يده ذو الفقار «6» .
[الكامل]
وتطاعنا وتواقفت خيلاهما ... وكلاهما بطل اللقاء مقنع
وما زال حتى تفصدت «7» الصفاح «8» ، وتقصفت «9» الرماح وتحيّفت «10» الكلم الأدلة، وجف القلم حتى لم يبق فيه بلّة، وانجلت(5/745)
غياهب «1» ذلك العشير تبرق فيه صفحات الحق السوب «2» ، والحظ السعيد النبوي، والنصر المحمدي، إلا أنه بالفتوح العلوي، بجهاد أيّد صاحب الشريعة وآزره، ورد على من سد باب الذريعة وخذل ناصره، وأمضى يسابق إليه مرمى طرفه، جواد جرى على أعراقه «3» ، وجاء على أثر سبّاقه، من عصابة الأنصار حيث تعرف في الحب التليد «4» ، وتدخر شرف النسب للمواليد، وتصغّر عظائم الأخبار، وتصعّر «5» هامة «6» كل جبار، وتنثر ذو عابة يعرب على كتف شرفها، وتركز عصابة المجد المؤثل «7» لسلفها، ولله أوس آخرون وخزرج، لابل هو والله ممن تشيدت به حصونهم الحصينة، وحجبت به أن يدخل الدجال لنقاب المدينة «8» ، واستلّه الفقار من بقايا تلك الأسرة في أكرم ظهورها، وأعظم شموسها المجللة للآفاق بظهورها، وأعلى إبائها في مراقي الشريعة درجا، وأسرى في أرجاء طيبة الطيبة أرجا، وأحوى لعلومها أشتاتا «9» ، ولعلوها في أسانيد(5/746)
العوالي أثباتا،/ (ص 326) ولحنوها على من نزل بها فيما هو أدفأ وأكنّ أبياتا، وأسكن محافلها «1» من الأسرار، وأطلع في أفق جحافلها «2»
من الأقمار، نبوغ من مطلع الصحابة «3»
- رضي الله عنهم- ونزع به عرقه إلى التابعين «4»
لهم بإحسان وهو مثلهم إن لم يكن منهم، ثم خرج من بيت الوزارة حيث تتقاصر النجوم وتتناصر ثم تتناصف الخصوم، وتخفض أعناق الغيوم، وتجري رحضاء «5»
البرق كأنه محموم، وتحضر أندية الأفق وسهيل قد نبذ بالعراء كأنه ملوم «6»
، ويسري هودج النجم وكأنه برسن «7»
الجوزاء مزموم «8»
، ويبارى صدر صدره الليل فيرتد حنقا ولو ألقى في تياره لما استطاع أن يقوم، وتتطاير زبد شهبه ويتنغش «9»
سحره كأنه مظلوم، ويظهر على آخر فجره ثم يخفي كأنه غيظ مكظوم، ويضاهي مرآة الضوي النهار وأنى له ووجه صباحه كأنه من حمرة الشفق ملطوم، وهبدل ألفا مثل دينار شمسه لما بلغ ما يروم، وبرز في طلب العلم حتى أسكت لسان كل متكلم، وأمات ذكر كل متقدم، وأحيا أمامه الشافعي(5/747)
بنشر مذهبه، ونصر ذي النسب القرشي في علياء رتبه، وقام بالاحتجاج لإمام بني المطلب في الائتمام بشريعة سيد بني عبد المطلب، وإقامة الحجة في سبب تقديمه، وحسب ما أحرز في حديثه مضافا إلى قديمه، يحتج لقوليه ويحيل كتف مذهبه الممنع من طريقه، حتى أضحت تسفر له وجوهه سافرة الثغب «1»
، ظاهرة المحاسن من وراء الحجب، لا ترد الهيم «2»
إلا حياضه، ولا يفد المسيم «3»
إلا رياضه، حتى تفرّد والزمان بعدد أهله مشحون، والعصر بمحاسن نبيه مفتون، وساوى أهل مصر قاطبة، واستوطنها وضرتها الشام له خاطبة/ (ص 327) وكان بها لدين يقيمه، ويقين يديمه، وتقى هو وصفه، وعلى أراد مطاولته الطور وما هو نصفه، وقطع بها مدة مقامه في علم ينشره، وحق ينصره، وضالّ يهديه، وطالب يجديه، وسنّة يؤيّدها، وبدعة في دكادك «4»
الخذلان يلحدها، وزيغ يقوّم منماده، وزيف يعجّل انتقاده، وطريقة سلف ما عداها، وحقيقة صلف «5»
ما أنكرتها عداها، وفتاو يعتمد عليها فقهاء الآفاق ويستند إليها علماء مصر والشام والعراق، وتصانيف هي جادّة السبيل ومادة الدليل، وتصدّ الأضاليل، وتردّ الأباطيل، وترد على العلماء فغاية المجيد أن يستحضر ما حوته من نقول، أو(5/748)
يمتد إلى أن يعدّ نفيسه معه فلا يزيد على أن يكتب تحت خطّه كذلك أقول، ثم ولي قضاء الشام فزان عطله «1»
وأزال خطله «2»
، وأصلح فاسده، ونفّق كاسده، وتوقل «3»
ذروة منصبه حتى لا يمتطي السنام، ولا يستصلح الأنام، ولا يوجد المؤهّل واحد في مصر ولا شامه في الشام، فحكم بسيرة العمرين «4»
في الإنصاف، وحكى صورة القمرين في الأوصاف، وانتهت إليه مشيخة دار الحديث بالاستحقاق فوليها، وعرّضت له أخواتها فما رضيها، وتدارك العلم ولم يبق منه إلا آخر الرمق «5»
، وصان المذهب، وماله وجه إلا ظاهر الرهق «6»
، وانتاش «7»
الطلبة من مراقد الخمول، ومقاعد الونى «8»
عن أوابل الحمول «9»
،(5/749)
حتى نفضت كواكبهم عن مقلها الكرى، ورفضت سحائبهم إلا مواصلة السرى إلى أن كثر العلم وطالبه، وعدّ ذو الفضل وصاحبه، بكرم لله درّه ما أغزره، وجود ما أقل لديه جدا البحر وما أنزره، لو عاصره حاتم وهو (ص 328) في الكرم لما ذكره، أو كعب بن مامة «1»
وقد سمع حتى يخص جناحه لما شكره، بندى يغص به البحر شرقا، ويتفصّد جبين السحاب عرقا، ويتهيبه البرق فترتعد فرائصه فرقا، ويخشى صوائبه الرعد فيتعوّذ ولا تنفعه الرقى، هذا كله وهو بعض ما في كرم سجاياه، وأقل ما في كثير مزاياه، هذا إلى جبين كالهلال، ووقار عليه سيماء الجلال، وأدب أعذب في القيل من الماء الزلال، وأطيب في المقيل من برد الظلال، بنوادر أحرّ من الجمر، وألعب بالعقول- استغفر الله- من الخمر، حذا على طريق سلفه العرب ما قصّرت عن مداه الأوائل، واستجدت من نداه النائل، وطرّف علمه منه بمقدار ما أعانه على التفسير الذي أسكت عارضة كلّ قائل، وغير هذا من انتزاع المثل وإقامة الدلائل، ثم سرح إلى حيث يسرح الطرف ويذوب الظرف، ويلمّ بنادي المتيميّن، وينزل بوادي سّلف أهل الصبابة المغرمين، ويخالط تلك العصابة في كيسها، ويذكر حديث ليلى وقيسها، لطائف لو أنها لأهل ذلك الزمان السالف لما قالوا الأسمار إلا في طرائف طرائفها، ولا قالوا في سمرات الحيّ إلا في ظل وارفها، ولا زادوا من ربيع ابن أبي ربيعة إلا بعض زخارفها، ولا عدوّا جميلا إلا ما نشر من فضل مطارفها، ولا رجعوا عنها إلى مذهب جرير في أوبة، ولا ختموا غزل الأناشيد بتوبة، كل ذلك تطرّف أدب غض الجنى ليس منه إلا إطراب السامع، وتنويع مالا إثم فيه إذا قيل في فضله الجامع، هو والله الجامع الذي لا تضاهى بيوت عبادته المساجد، ولا تساهر مقل قناديلها (ص 329) طرفة الهاجد، ولا تضم ضلوع محاريبها مثل صدره، ولا يشتمل أحناء عقودها(5/750)
مثل سرّه، بسيرة زينها العفاف فما تدنست صحف أيامها وأقنعها الكفاف، فما رأت ما زاد عليه إلا من آثامها، وقد عادت دمشق به معمورة الندية، مأثورة الأنحية، باهرة العلماء، ظاهرة بزينة نجوم السماء، ماضية على منهج القدماء، قاضية على سواها بأن العلم فيها بالحقيقية وفي غيرها بالأسماء، وها هو اليوم- والله يبقيه- خير من أظلته خضراؤها، وصغرت لدى قدره الجليل كبراؤها، قد ملك أهواء القلوب المتنائية، وساق بعصاه سوائم شرّدها المتقاصية، واستوسق به أمر الشام لعليّ وكان لا يطيع إلا معاوية، مولده سنة ثلاث وثمانين وستمائة وسمع من الحافظ أبي محمد الدمياطي وطبقته، وبالثغر من يحيى بن الصواف وأقرانه، بدمشق من ابن مشرّف وابن الموازيني، وبالحرمين «1»
، وكانت رحلته إلى دمشق سنة سبع وسبعمائة، وقرأ الروايات على تقي الدين الصائغ، وصنّف التصانيف المتقنة، انتهت إليه رئاسة العلم في القراءات والحديث والأصلين والفقه، وخرج له الإمام شهاب الدين الدمياطي «2»
معجما كبيرا، وقصده به بدمشق، فحدث به بالكلاسة من جامع دمشق بحضره الحافظين أبي الحجاج المزي وأبي عبد الله الذهبي وجماعة من أعيان العلماء (ص 330) وأنشدني له تذييلا على قول عبد القاهر الجرجانيّ: [الوافر]
طلبت من الحبيب زكاة حسن ... على صغر من القمر البهيّ
فقال وهل على مثلي زكاة ... على رأي العراقيّ الكميّ
فقلت: الشافعي لنا إمام ... وقد فرض الزكاة على الصبيّ(5/751)
والذي قاله ذيلا على هذا. [الوافر]
فقال اذهب إذن فاقتصّ زكاتي ... بقول الشافعي من الوليّ
فقلت له فديتك من فقيه ... أيطلب بالوفاء سوى المليّ
نصاب الحسن عندك ذو امتناع ... بلحظك والقوام السمهريّ
فإن أعطيتنا طوعا وإلا ... أخذناه بقول الشافعيّ
قلت ولما وقع إليه ما صنّفه ابن تيمية في مسألة الطلاق، وجده قد أكثر ذكر/ (ص 331) ليلى ويمنها وردد ذكرها في غير موضع فلما ردّ عليه قال: [البسيط]
في كل واد بليلى واله شغف ... ما إنّ زال به من مسها وصب
ففي بني عامر من حبّها دنف ... ولابن تيمية من عهدها شغب
وأراد بعهد ليلى ظاهرا ما هو له وباطنا يمينها واليمين العهد.
ومن تصانيفه: الدر النظيم في تفسير القرآن العظيم، شفاء السقام في زيارة خير الأنام، إبراز الحكم من الحديث رفع القلم، السيف المسلول على من سبّ الرسول، تكملة المجموع في شرح المهذب في الفقه، الابتهاج في شرح المنهاج في الفقه، التجير المذهب في تحرير المذهب ولم يتمه، التحقيق في مسألة التعليق، رافع الشقاق عن مسألة الطلاق، وكلاهما في الرد على الشيخ تقي الدين ابن تيمية، منبه الباحث عن حكم دين الوارث، الرياض الأنيقة في مسألة الحديقة، أمثلة المشتق، إحياء النفوس في إلقاء الدروس، كشف القناع عن حكم الامتناع، ضوء المصابيح في صلاة التراويح، واختصره مرات، أحكام كلّ وما عليه تدلّ، القول الموعب في القضاء بالموجب، المناسك، المناسك الصغرى، منتخب طبقات الفقهاء، القراءة خلف الإمام، المناسخات، تلخيص التلخيص وتاليه، الرد على الشيخ زين الدين ابن الكناني، المناقشات المصلحيّة، جواب سؤال على ابن عبد(5/752)
السلام، كشف اللبس، منتقى من المكمل، نقد الاجتماع والافتراق، بيع المرهون في غيبة المديون، بيان حكم الربط في اعتراض الشرط على الشرط، نور الربيع من كتاب الربيع، الرقم الإبريزي في شرح مختصر التبريزي في الفقه، رفع الحاجب عن مختصر ابن حاجب في الأصول، الإبهاج في شرح المنهاج في الأصول، فصل المقال في هدايا العمال، عقود الجمان في عقود الرهن والضمان، طليعة الفتح والنصر في صلاة الخوف والقصر، كشف الغمة في ميراث أهل الذمة/ (ص 332) التهدّي إلى معنى التعدي، حسن الصنيعة في أحكام الوديعة، الطوالع المشرقة في الوقف على طبقة بعد طبقة، الغيث المغدق في ميراث ابن المعتق، السهم الصائب في قبض دين الغائب، الاتساق في بقاء وجه الاشتقاق، العارضة في البنية المعارضة، قطف النور في مسائل الدور، الكلام على قوله (ما لم تمسوهنّ) وأما غير ذلك مما بسط فيه الكلام في المسائل المفردة، وأجوبة الفتاوى وغير ذلك فيزيد على ثلاثين مسألة، نفع الله بذلك.
آخر السّفر الخامس من كتاب مسالك الأبصار ويتلوه في السفر السادس إن شاء الله تعالى.
وإذ قد ختمنا فقهاء المحدثين بالجانبين، ولم ندع منهم زينة مشرق ولا مغرب، ولا مطلع هلال ولا كوكب الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا.
حسبنا الله ونعم الوكيل «13»(5/753)
فهرس المصادر والمراجع
- القرآن الكريم
1- آثار البلاد وأخبار العباد: الإمام العالم زكريا بن محمد بن محمود القزويني ط دار صادر. بيروت 1998.
2- أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد المقدسي مطبعة. بريل ليدن 1906.
3- أحمد بن حنبل- الإمام أحمد.
4- أبو حنيفة- الإمام أبو حنيفة.
5- أخبار العلماء- كتاب أخبار العلماء.
6- أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار: أبو الوليد محمد بن عبد الله الأزرقي، تحقيق رشدي الصالح ملحس. دار الأندلس. بيروت 1416 هـ 1996 م.
7- الأدارسة (ملوك تلمسان وفي وقرطبة) : إسماعيل العربي. دار الغرب الإسلامي بيروت. 1403/1983 م.
8- أدب الوزير: الإمام أبو الحسن الماوردي. تحقيق د. محمد سليمان داود، ود. فؤاد عبد المنعم أحمد. دار الجامعات المصرية الاسكندرية 1396 هـ/ 1976 م.
9- الأدب المفرد: الامام محمد بن إسماعيل البخاري بتحقيق محب الدين الخطيب، القاهرة.
10- أساس البلاغة: لأبي القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري، ط دار المعرفة.(5/755)
11- الاستذكار الجامع لمذاهب علماء الأمصار وعلماء الأقطار: الحافظ يوسف بن عبد البر. دمشق دار ابن قتيبة 1993 م.
12- الإسلام في آسيا منذ الغزو المغولي: د. محمد نصر مهنا. المكتب الجامعي الحديث/ الاسكندرية.
13- الإسلام والحضارة العربية: محمد كرد علي ط 2 القاهرة 1959.
14- أصول الحديث: علومه ومصطلحه أ. د محمد عجاج الخطيب دار الفكر لبنان/ دار المنارة جدة.
15- أطلس تاريخ الإسلام: د. حسين مؤنس، الزهراء للإعلام العربي القاهرة 1407 هـ/ 1987.
16- أعلام النساء في عالمي العرب والإسلام: عمر رضا كحالة، مؤسسة الرسالة بيروت 1977.
17- الأغاني: أبو الفرج علي بن الحسين الأصبهاني، المؤسسة المصرية 1948.
18- إكمال المعلم بفوائد مسلم: الحافظ أبو الفضل عياض بن موسى اليحصبي؛ بتحقيق يحيى إسماعيل؛ دار الوفاء المنصورة مصر.
19- الإمام أحمد بن حنبل: العلامة الشيخ محمد أبو زهرة دار الفكر العربي، القاهرة.
20- الإمام أبو حنيفة: الشيخ محمد أبو زهرة. دار الفكر العربي القاهرة.
21- الإمام الشافعي: الشيخ محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي القاهرة.
22- الإمام مالك بن أنس: الشيخ محمد أبو زهرة دار الفكر العربي القاهرة.
23- بلاد الشام إبان الغزو المغولي: أ. د محمد ألتونجي. دار الفكر بيروت 1998.(5/756)
24- تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي: د. حسن إبراهيم حسن؛ مكتبة النهضة القاهرة.
25- التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية: أ. د أحمد شلبي ط 4 1975 مكتبة؛ نهصة مصر.
26- تاريخ الأمم والملوك: الإمام المؤرخ أبو جعفر محمد بن جرير الطبري.
27- تاريخ الحكماء: الشيخ جمال الدين علي بن يوسف القفطي ط مصر.
28- تاريخ الحكماء: محمد بن محمود الشهرزوري الإشراقي، تحقيق عبد الكريم أبو شويرب ليبيا 1988.
29- تاريخ ابن خلدون- موسوعة ابن خلدون.
30- تاريخ علماء بغداد (المسمى منتخب المختار على تاريخ ابن النجار) محمد بن رافع السلامي؛ الدار العربية للموسوعات بيروت 2000 م.
31- الترغيب والترهيب: للإمام الحافظ زكي الدين المنذري، تعليق مصطفى محمد عمارة ط 3 1388 هـ 1968 م دار إحياء التراث العربي بيروت.
32- تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة: الحافظ (ابن عراق الكناني) بعناية د. عبد الوهاب عبد اللطيف.
33- تهذيب حلية الأولياء: أ. صالح أحمد الشامي المكتب الإسلامي دمشق وبيروت، وعمان 1419 هـ.
34- تيسير التفسير: الشيخ عبد الجليل عيسى ط 2 مصر.
35- ابن تيمية حياته وعصره: الشخ العلامة محمد أبو زهرة دار الفكر العربي القاهرة.(5/757)
36- ابن تيمية الفقيه المعذب: أ. عبد الرحمن الشرقاوي دار الشروق القاهرة 1410 هـ.
37- ابن تيمية وموقفه من أهم الفرق والديانات في عصره: د محمد حربي عالم، الكتب بيروت 1407.
38- الجامع لأحكام القرآن: للإمام المفسر محمد بن أحمد الأنصاري الأندلسي القرطبي، دار الكتب المصرية.
39- جمال القراء وكمال الإقراء: للعلامة أبي الحسن علم الدين علي بن محمد السخاوي (558- 643 هـ) تحقيق مروان العطية ومحسن خرابة دار المأمون دمشق هدية سمو الشيخ محمد بن راشد.
39- الجغرافية: ابن سعيد، العلامة الأديب علي بن موسى بن سعيد الأندلسي القرطبي الغماري بتحقيق أ. إسماعيل العربي المكتب التجاري للنشر بيروت 1970 م.
40- جمع الفوائد في الجمع بين جامع الأصول ومجمع الزوائد، للشيخ محمد بن محمد المغرب السوسيي المدينة المنورة، مكتبة النمنكاني.
41- جمهرة أشعار العرب في الجاهلية والإسلام: محمد بن أبي الخطاب القرشي، تحقيق علي محمد البجاوي دار. النهضة القاهرة، وطبعة بيروت 1984.
42- الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح: الإمام ابن تيمية مطبعة المدني القاهرة 1959 م.
43- حضارة العرب: غوستاف لوبون، ترجمة عادل زعيتر ط 3 القاهرة 1956.
44- حياة الحيوان الكبرى: كمال الدين الدميري مصر، وط دار الفكر بيروت.(5/758)
45- الحياة العربية من الشعر الجاهلي: أ. د أحمد محمد الحوفي دار القلم بيروت 1972.
46- خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب: الأديب عبد القادر بن عمر البغدادي، تحقيق أ. عبد السلام هارون. القاهرة مكتبة الخانجي.
47- خزائن الكتب العربية في الخافقين: ألفيكنت فيليب دي طرازي بيروت 1947/1948.
48- الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني دار الجيل.
49- الرسالة القشيرية: للأستاذ الشيخ أبي القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري الخراساني ط مصر، وبيروت.
50- السنة قبل التدوين: محمد عجاج الخطيب ط مصر مكتبة وهبة حسن وهبة، ودار الفكر بلبنان.
51- سير أعلام النبلاء: للإمام الحافظ محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي طبع مؤسسة الرسالة. وطبعة دار الفكر دمشق.
52- السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة: أ. د محمد محمد أبو شهبة دار القلم دمشق وبيروت.
53- الشعر والشعراء: عبد الله بن مسلم بن قتيبة، تحقيق أحمد شاكر مجلدان دار الحديث القاهرة.
54- الشفا بتعريف حقوق المصطفى: القاضي عياض، تحقيق علي محمد البجاوي. دار إحياء الكتب العربية 1977. مصر.
55- صبح الأعشى في صناعة الإنشاء: للأديب العلامة أحمد بن علي(5/759)
القلقشندي (- 821 هـ) شرح وتعليق محمد حسين شمس الدين، منشورات محمد علي بيضون بيروت، والطبعة الأميرية.
56- صدق الأخبار، تاريخ ابن سباط: حمزة بن أحمد بن عمر المعروف بابن سباط الغربي (توفي بعد 926 هـ) تحقيق عمر عبد الاسلام تدمري. جروس برس/ طرابلس ط 1 1413 هـ/ 1993 م) .
57- صحيح البخاري: محمد بن إسماعيل البخاري، بتحقيق. د مصطفى ديب البغا، دار ابن كثير واليمامة دمشق/ بيروت.
58- صحيح الجامع الصغير وزيادته الحافظ جلال الدين السيوطي تحقيق الشيخ ناصر الألباني المكتب الإسلامي بيروت.
59- صحيح مسلم بشرح النووي: الإمام شرف بن يحيى النووي دار أبي حيان 1415 هـ/ 1995 دمشق.
60- الطبقات الكبرى: (طبقات ابن سعد) المؤرخ محمد بن سعد كاتب الواقدي ط ليدن.
61- طبقات سلاطين الإسلام: استانلي لين بول الدار العالمية للطباعة 1406 هـ/ 1986 م.
62- طبقات فحول الشعراء: ابن سلام الجمحي.
63- العقد الفريد: شهاب الدين أحمد. ابن عبد ربه الأندلسي ط مصر، تقديم أ. خليل شرف الدين، منشورات دار الهلال. بيروت 1990 م.
64- العلم عند العرب وأثره في تطور العلم العالمي: الأدوميلي، ترجمة د.
عبد الحليم النجار ود. محمد يوسف موسى، طبع بإشراف الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية، 1381 هـ/ 1972 م.(5/760)
65- العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده: أبو علي الحسن بن رشيق الأزدي القيرواني، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، بيروت دار الجيل 1934. وط مكتبة الهلال بيروت 1416 هت/ 1996 م بعناية د.
صلاح الدين الهواري وأ. هدى عودة.
66- العلوم عند العرب: أ. قدري حافظ طوقان مكتبة مصر القاهرة 1960.
67- عوارف المعارف: شيخ الإسلام شهاب الدين عمر بن محمد بن عبد الله السهروردي، الجزء الأول منه بتحقيق، الإمام الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر والدكتور محمد الشريف دار المعارف مصر 1993.
68- فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية في التفسير: للإمام محمد بن علي الشوكاني، البابي الحلبي مصر.
69- الفتح الكبير في ضم الزيادة إلى الجامع الصغير: الشيخ يوسف بن إسماعيل النبهاني، بتحقيق محمد نزار وهيثم نزار تميم/ دار الأرقم بيروت، ومكتبة الصفا أبو ظبي 1995.
70- الفصل في الملل والأهواء والنحل: للإمام علي بن أحمد بن حزم الظاهري. مكتبة محمد أمين الخانجي 1321.
71- فضل العرب على أوربا: د. سيجريد هونكه، ترجمة وتعليق د. فؤاد حسنين علي، مصر 1964 م.
72- الفقه الإسلامي وأدلته: أ. د وهبة الزحيلي دار الفكر دمشق.
73- الفقه على المذاهب الأربعة، الجزيري، دار الفكر.
74- قاموس الحيوان: كوكب ديب دياب وجروس برس، طرابلس لبنان(5/761)
1415 هـ/ 1995 م.
75- قاموس الغذاء والتداوي بالنبات: أحمد قدامة، دار النفائس بيروت.
76- قصة الحضارة: ول وايزيل ديورانت دار الفكر دار الجيل بيروت، بالتعاون مع المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم- تونس.
77- كتاب إخبار العلماء بأخبار الحكماء: للوزير جمال الدين علي بن القاضي يوسف القفطي دار الآثار للطباعة والتوزيع والنشر بيروت.
كتاب الجغرفيا- الجغرافيا سبق ذكره.
78- كتاب المعجب في تلخيص أخبار المغرب: عبد الواحد المراكشي (ت 647 هـ) تحقيق أ. سعيد العريان، نشر المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية لجنة إحياء التراث القاهرة 1963 م.
79- لمحات في المكتبة والبحث والمصادر: أ. د. محمد عجاج الخطيب ط 19 مؤسسة الرسالة بيروت.
80- مجلة الرسالة السنة الرابعة: (أنقذوا تراث الأندلس) أ. محمد عبد الله عنان. القاهرة.
81- مجمع الأمثال: لأبي الفضل أحمد بن محمد الميداني، دار الكتب العلمية بيروت 1408 هـ/ 1988 م.
82- مختار الصحاح: محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، ط دار الكتاب العربي بيروت.
83- مختصر تفسير ابن كثير: الشيخ محمد علي الصابوني ط دار القرآن بيروت.
84- المسالك والممالك: لأبي القاسم عبيد الله بن عبد الله المعروف ب (ابن(5/762)
خرداذبه) (ت 300 هـ) ط مكتبة الثقافة الدينية بور سعيد.
85- معجم الحيوان: الفريق أمين المعلوف، ط دار الرائد العربي بيروت لبنان ط 3 1985.
86- معجم الحيوان: عبد الحافظ حلمي محمد. مؤسسة الكويت للتقدم العلمي الكويت 1999.
87- المعجم الذهبي فارسي عربي: د. محمد ألتونجي بيروت دار العلم للملايين 1980 م.
88- معجم الشعراء الجاهليين: د. عزيزة فوال بابتي ط دار صادر بيروت 1998.
89- المعجم الفارسي الكبير: فرهنك بزرك فارسي: د. إبراهيم الدسوقي شتا، مكتبة مدبولي القاهرة.
90- معجم الفلاسفة (الفلاسفة، المناطقة، المتكلمون، اللاهوتيون، المتصوفون) : جورج طرابيشي، دار الطليعة ط 2 1997 م.
91- معجم القراءات القرآنية مع مقدمة في القراءات وأشهر القراء: د. أحمد مختار عمر ود. عبد العال سالم مكرم، ط عالم الكتب القاهرة ط 3 1997 م.
92- مسالك الأبصار: العلامة ابن فضل الله العمري ط المجمع الثقافي أبو ظبي.
93- معجم النباتات الشافية: نقله إلى العربية وأحمد الطبال طرابلس لبنان 1989.
94- معجم النباتات الشافية لأكثر من 200 مرض: ميكائيل كاستلمان،(5/763)
ترجمة هلا طريفي دار المؤلف بيروت 1997.
95- المغرب في حلى المغرب: المؤرخ الأديب علي بن موسى (ابن سعيد الأندلسي، تحقيق خليل المنصور دار الكتب العلمية بيروت 1997.
96- معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار: الحافظ شمس الدين أبو عبد الله الذهبي، تحقيق الشيخ محمد سيد جاد الحق، ط 1 دار الكتب الحديثة القاهرة 1387 هـ/ 1967 م.
97- المعرب في ترتيب المعرب: الإمام اللغوي أبو الفتح ناصر الدين المطرزي، تحقيق محمود فاخوري وعبد الحميد مختار، كتبة لبنان ط 1 1999.
98- مغول إيران بين المسيحية والإسلام: د. مصطفى طه بدر، دار الفكر العربي القاهرة.
99- الملل والنحل للشيخ عبد الكريم الشهرستاني. دار المعرفة.
100- موسوعة ابن خلدون (تاريخ ابن خلدون) ط دار الكتاب المصري القاهرة ودار الكتاب اللبناني 1420 هـ/ 1999 م.
101- موسوعة أعلام الفلاسفة: أ. اروني إيلي ألفا، مراجعة د. جورج نخل دار الكتب العلمية بيروت 1412 هـ/ 1992.
102- موسوعة الحديث النبوي الكتب التسعة: صخر.
103- الموسوعة الفقهية: وزارة الأوقاف الكويت.
104- موسوعة الفلاسفة: د. فيصل عباس دار الفكر العربي 1996.
105- موسوعة المورد: منير البعلبكي دار العلم للملايين.
106- الوزارة- انظر أدب الوزير.(5/764)
107- أبجد العلوم: صديق حسن القنوجي (1307) هـ أعده للطبع عبد الجبار زكار- من منشورات وزارة الثقافة- دمشق (1978) م.
108- ابن عساكر" في ذكرى مرور تسعمائة سنة على ولادته" ط المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية- سورية.
109- أخبار القضاة: وكيع بن محمد بن خلف بن حيان (306) ت: عبد العزيز المراغي- مطبعة الاستقامة، القاهرة (1947، 1950) م.
110- الأدب المفرد للبخاري: محمد بن إسماعيل (256 هـ) ط. محمد فؤاد عبد الباقي، المطبعة السلفية (1375 هـ) .
111- إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب: انظر معجم الأدباء: ياقوت الحموي.
112- إرشاد طلاب الحقائق إلى معرفة سنن خير الخلائق للنووي (676 هـ) تحقيق د. نور الدين عتر، نشر دار البشائر الإسلامية- بيروت (1411 هـ) .
113- الاستبصار في نسب الصحابة من الأنصار، ابن قدامة عبد الله بن أحمد موفق الدين (620 هـ) تحقيق علي نويهضة، بيروت.
114- الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر (463 هـ) تحقيق طه الزيني- نشر مكتبة الكليات الأزهرية، ط. أولى القاهرة (مع الإصابة) .
115- أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير الجزري (631 هـ) تحقيق.
116- الإصابة لتمييز الصحابة لابن حجر أحمد بن علي العسقلاني (852 هـ) تحقيق طه الزيني، نشر مكتبة الكليات الأزهرية ط. أولى القاهرة.
117- الأعلام: خير الدين الزركلي (1396) هـ، ط 4 (1979) م.
118- أعمال الأعلام فيمن بويع قبل الاحتلام من ملوك الإسلام: لسان الدين الخطيب. محمد بن عبد الله (- 776 هـ) بالرمو 191، وبيروت 1956 م.(5/765)
119- أعيان الشيعة: العاملي السيد محسن الأمين (1371) هـ، ط 4، مطبعة الإنصاف، بيروت (1960) م.
120- الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف في الأسماء والكنى، والأنساب: ابن ماكولا الأمير علي بن هبة الله (475) هـ، دار الكتب العلمية، بيروت ط 1 (1411) هـ 1991 م.
121- الإقناع في القراءات السبع: ابن الباذش أبو جعفر أحمد بن علي بن أحمد بن خلف الأنصاري (540) هـ ت د. عبد الحميد قطامش. ط 1 دار الفكر بدمشق (1403) هـ- مركز البحث العلمي- جامعة أم القرى.
122- إنباه الرواة على أنباء النحاة: القفطي علي بن يوسف (646) هـ، ت:
محمد أبو الفضل إبراهيم القاهرة (1950، 1973) م.
123- الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل: مجير الدين عبد الرحمن بن محمد العليمي (928) هـ ط المطبعة الحيدرية بالنجف (1388) هـ.
124- الأنساب: السمعاني أبو سعد عبد الكريم بن محمد (562) هـ تعليق البارودي- (1988) م.
125- أنساب الأشراف: أحمد بن يحيى البلاذري (279) -، ت: د. إحسان عباس، المطبعة الكاثوليكية، بيروت.
126- البدء والتاريخ: مطهر بن طاهر المقدسي المنسوب إلى أبي زيد أحمد بن سهل البلخي- ت د. كليان هوار- مكتبة الأسدي- طهران (1920) م.
127- بدائع الزهور في وقائع الدهور، ابن إياس محمد بن أحمد (930) هـ، القاهرة، (1311) هـ.
128- إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون عن أسامي الكتب(5/766)
والفنون: إسماعيل باشا البغدادي (1933) هـ، مطبعة وكالة المعارف العثمانية- استانبول (1364 هـ/ 1945 م) .
129- البداية والنهاية: الحافظ ابن كثير المشقي (774) هـ- مكتبة المعارف بيروت، ط 5 (1403) هـ 1983) م.
130- بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة: السيوطي جلال الدين أبو بكر بن عبد الرحمن (911) هـ ت: محمد أبو الفضل إبراهيم، نشر الخانجي، القاهرة (1966) م.
131- بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس: أحمد بن يحيى بن أحمد بن عميرة الضبي (599) هـ، ت: روحية عبد الرحمن السيوفي، دار الكتب العلمية، بيروت ط 1 (1417 هـ/ 1997) م.
132- البيان المغرب في أخبار ملوك الأندلس والمغرب: ابن عذارى محمد المراكشي (695) هـ تحقيق: ج س. كولان، وليفي بروفنسال، دار الثقافة- بيروت- والجزء الرابع تحقيق إحسان عباس (1967) م.
133- البيان والتبيين: الجاحظ عمرو بن بحر ت: عبد السلام هارون- القاهرة (1948) م.
134- تاج العروس من جواهر القاموس للفيروز أبادي: محمد مرتضى الزبيدي الحسيني الواسطي الحنفي نزيل مصر (1205) هـ منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت (1413 هـ/ 1993 م) .
135- تاريخ أبي الفداء: انظر" المختصر في أخبار البشر".
136- تاريخ الأدب العربي: كارل بروكامان (1375) هـ، ترجمة عبد الحليم النجار، ط 3 القاهرة، دار المعارف (1974، 1977) م.(5/767)
137- تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام: الذهبي (748) هـ دار الكتاب العربي، بيروت.
138- تاريخ أصبهان لأبي نعيم: انظر ذكر تاريخ أصبهان.
139- تاريخ بغداد: الخطيب البغدادي علي بن أحمد بن ثابت (463 هـ) وطبعة السعادة، القاهرة (1394 هـ) .
140- تاريخ التراث العربي: فؤاد سزكين- الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة.
141- تاريخ جرجان: حمزة بن يوسف السهمي (427) هـ ت: المعلمي اليماني، ط عالم الكتب بيروت (1401) هـ.
142- تاريخ الجهمية والمعتزلة: القاسمي.
143- تاريخ الخلفاء: السيوطي جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (911) هـ، دار الفكر.
144- تاريخ خليفة بن خياط (240) هـ تحقيق: أحمد ضياء العمري، دار الفكر، دمشق، (1977) م.
145- تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس: حسين بن محمد بن الحسن الديار بكري (966) هـ القاهرة (1283) هـ.
146- التاريخ الصغير: البخاري محمد بن إسماعيل (256) هـ، ت: محمود إبراهيم زايد- دار الوعي والتراث حلب (1977) م.
147- تاريخ الطبري (تاريخ الأمم والملوك) أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (310 هـ) - ت: محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة.
148- تاريخ علماء الأندلس: أبو الوليد بن الفرضي عبد الله بن محمد بن يوسف الأسدي (403) هـ- الدار المصرية (1966) م.(5/768)
149- التاريخ الكبير: البخاري محمد بن إسماعيل (256) هـ، دار الفكر بيروت.
150- تاريخ مدينة دمشق: ابن عساكر أبو القاسم علي بن الحسن (571) هـ ت محب الدين عمر بن غرامة العمروي- دار الفكر (1418) هـ.
151- التاريخ: يحيى بن معين (233) هـ، مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى- مكة المكرمة.
152- تاريخ اليعقوبي: أحمد بن أبي يعقوب إسحاق الكاتب العباسي (284) - دار صادر دار بيروت (1960) م.
153- تالي وفيات الأعيان: فضل الله أبي الفخر الصقاعي ت: جاكلين سويليه- دمشق المعهد الفرنسي (1974) م.
154- التبصرة والتذكرة، شرح ألفية العراقي في المصطلح، للعراقي زين الدين عبد الرحيم بن الحسين (806 هـ) ، نشر دار الكتب العلمية- بيروت (1399 هـ) .
155- تبصير المنتبه بتحرير المشتبه: ابن حجر العسقلاني أحمد بن علي (852) هـ، ت: علي محمد البجاوي، الدار المصرية للتأليف والترجمة والنشر.
156- تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري: ابن عساكر أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله الدمشقي (571) هـ. نشر دار الكتاب العربي بيروت (1404 هـ/ 1984 م) .
157- تتمة المختصر: ابن الوردي عمر بن مظفر (749) هـ المطبعة الحيدرية النجف (1389) هـ.(5/769)
158- التحبير في المعجم الكبير: أبو سعد السمعاني عبد الكريم بن محمد التميمي (562) هـ. ت: منيرة ناجي سالم- مطبعة الإرشاد بغداد.
159- تدريب الراوي شرح تقريب النووي للسيوطي جلال الدين عبد الرحمن (911 هـ) تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، نشر دار إحياء السنة النبوية ط. 2 (1399 هـ) .
160- تذكرة الحفاظ: الذهبي (748 هـ) تعليق عبد الرحمن المعلمي، حيدر آباد الدكن الهند، نشر دار إحياء التراث العربي بيروت.
161- ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك: القاضي عياض اليحصبي ت: د. أحمد بكير محمود- مكتبة الحياة- بيروت (1968) م.
162- تسمية من أخرجهم البخاري ومسلم.
163- تفسير الطبري: (جامع البيان عن تأويل القرآن) .
164- تقريب التهذيب: ابن حجر العسقلاني (852 هـ) تحقيق محمد عوامة، دار الرشيد- حلب.
165- التقييد لمعرفة رواة السنن والمسانيد: ابن نقطة أبو بكر محمد بن عبد الغني البغدادي الحنبلي (629) هـ ت: كمال يوسف الحوت، دار الكتب العلمية بيروت ط 1 (1408 هـ/ 1988 م) .
166- التكملة لكتاب الصلة: ابن الأبار أبو عبد الله بن أبي بكر القضاعي البلنسي (658) هـ، ت: د. عبد السلام الهراس- دار الفكر بيروت (1415 هـ/ 1995 م) .
167- التكملة لوفيات النقلة: المنذري زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي(5/770)
(656) هـ ت: بشار عواد معروف- مطبعة الآداب، النجف (1388 هـ/ 1968 م) .
168- تلخيص مجمع الآداب في معجم الألقاب: كمال الدين عبد الرزاق ابن أحمد الفوطي الشيباني (723) هـ ت: د. مصطفى جواد- دمشق (1962) هـ.
169- تهذيب الأسماء واللغات: النووي أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف (676) هـ، دار الكتب العلمية بيروت، مصور عن المنيرية.
170- تهذيب تاريخ دمشق: عبد القادر بدران- دمشق (1329، 1358) هـ
171- تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني (852 هـ) تصوير دار صادر بيروت.
172- تهذيب الكمال: للمزي يوسف بن الزكي عبد الرحمن الكلبي القضاعي (742 هـ) تحقيق د. بشار عواد، نشر مؤسسة الرسالة، بيروت ط أولى (1400 هـ) .
173- الثقات: ابن حبان محمد البستي (354) هـ، ت: محمد عبد المعين خان، ط حيدر آباد الدكن، دائرة المعارف العثمانية (1973) م.
174- الثقات: ابن شاهين (385) هـ، ت: عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت.
175- جامع البيان عن تأويل القرآن: محمد بن جرير الطبري (310) هـ ت:
محمود محمد شاكر، ط دار المعارف، مصر، والبابي الحلبي القاهرة.
176- جامع الأصول: ابن الأثير الجزري المبارك بن محمد (606) هـ، ت:
الشيخ عبد القادر الأرناؤوط، المكتب الإسلامي دمشق (1969) م.(5/771)
177- جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله: يوسف بن عبد البر النمري القرطبي (463) هـ، ت: عبد الكريم الخطيب، دار الكتب الحديثة- بيروت.
178- الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي (463 هـ) تحقيق أ. د. محمد عجاج الخطيب (1412) هـ.
179- جامع المسانيد: أبو المؤيد محمد بن محمود الخوارزمي (665) هـ. دار الكتب العلمية بيروت.
180- الجامع المختصر في عنوان التواريخ وعيون السير: ابن الساعي علي بن أنجب (674) هـ، ت مصطفى جواد، بغداد (1934) هـ.
جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس: الحميدي محمد بن فتوح (488) هـ، الدار المصرية (1966) م.
181- الجرح والتعديل لابن أبي حاتم الرازي عبد الرحمن بن محمد (327) هـ، ط: حيدر أباد الدكن، الهند (1371) هـ.
182- الجمع بين رجال الصحيحين: ابن القيسراني أبو الفضل محمد بن طاهر بن علي المقدسي الشيباني (507) - دار الكتب العلمية- بيروت. (مصور) .
183- جمهرة أنساب العرب: ابن حزم الأندلسي أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد (456) هـ، ت: عبد السلام هارون، دار المعارف، القاهرة (1382 هـ/ 1962 م) .
184- جمهرة نسب قريش: الزبير بن بكار (256) هـ ت: محمود محمد شاكر، مكتبة دار العروبة القاهرة (1381) هـ.(5/772)
185- الجهاد لعبد الله بن المبارك (181) هـ، بيروت.
186- الجواهر المضيّة في طبقات الحنفية: أبو محمد عبد القادر بن محمد القرشي الحنفي (775) هـ، ت: عبد الفتاح محمد الحلو، ط عيسى البابي الحلبي (1399 هـ/ 1979 م) نشر مكتبة الإيمان.
187- حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة: السيوطي جلال الدين أبو بكر بن عبد الرحمن (911) هـ.
188- حلية الأولياء: أبو نعيم الأصبهان أحمد بن عبد الله بن أحمد المهراني (430) هـ مطبعة السعادة (1351 هـ) مصر.
189- الحوادث الجامعة: مؤلف مجهول، وينسب لابن القوطي عبد الرزاق ابن أحمد (723) هـ، ت مصطفى جواد، بغداد (1351) هـ.
190- خريدة القصر وجريدة العصر: للعماد الكاتب الأصفهاني محمد بن محمد (596) هـ.
(شعراء الشام) المطبعة الهاشمية، دمشق (1955، 1964 م) (شعراء مصر) ، لجنة التأليف والترجمة والنشر (1991) م.
(شعراء العراق) - مطبعة المجمع العلمي العراقي.
191- خلاصة تذهيب تهذيب الكمال في أسماء الرجال: صفي الدين الخزرجي ط مصر (1301 هـ) .
192- دائرة المعارف الإسلامية: أصدرها باللغة العربية أحمد الشنتناوي وإبراهيم خورشيد، وعبد الحميد يونس، مصر (1933) م.
193- دائرة معارف القرن العشرين: محمد فريد وجدي، ط 3، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت (1971) م.(5/773)
194- الدارس في تاريخ المدارس: عبد القادر محمد النعيمي الدمشقي (927) هـ دار الكتب العلمية، بيروت (1410) هـ.
195- دلائل النبوة: أبو نعيم الأصفهاني (430) هـ، ت: محمد رواس قلعجي، دار ابن كثير.
196- دلائل النبوة: البيهقي أحمد بن الحسين (458) هـ، ت: عبد المعطي قلعجي، ط: دار الكتب العلمية، بيروت (1405) هـ.
197- دول الإسلام: الذهبي محمد بن أحمد (748) هـ، دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد- الهند (1364، 1365) هـ.
198- الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب: برهان الدين إبراهيم بن علي ابن فرحون المالكي المدني (799) هـ القاهرة، ط 1 (1351) هـ.
199- الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة: ابن بسام الشنتري (542) هـ، ت:
إحسان عباس، دار الثقافة بيروت (1979 م) .
200- ذكر أخبار أصفهان (تاريخ أصفهان) : أبو نعيم أحمد بن عبد الله ابن أحمد المهراني الأصفهاني (430) هـ، ت: سيد كسوي حسن، دار الكتب العلمية- بيروت (1410 هـ/ 1990 م) .
201- ذيل تاريخ بغداد: ابن النجار محب الدين محمد بن محمود (643) هـ دائرة المعارف العثمانية- الهند (1398 هـ) .
202- ذيل تاريخ بغداد: الدبيثي محمد بن سعيد (637) هـ، ت: بشار عواد معروف بغداد (1394 هـ/ 1990 م) .
203- ذيل تاريخ بغداد: ابن الدمياطي أبو الحسين أحمد بن أيبك بن عبد الله الحسامي (749) هـ طبع مع تاريخ بغداد.(5/774)
204- ذيل تذكرة الحفاظ: الحسيني محمد علي، (765) هـ، دمشق، 1347 هـ.
205- ذيل التقييد في رواة السنن والمسانيد: تقي الدين أبو الطيب محمد ابن أحمد الفاسي المكي المالكي (832) هـ ت: كمال يوسف الحوت- دار الكتب العلمية- بيروت ط 1 (1410 هـ/ 1990 م) .
206- ذيل الروضتين: أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي الدمشقي (665) هـ القاهرة، ط 1 (1947) م.
207- ذيل طبقات الحنابلة: ابن رجب الحنبلي عبد الرحمن بن أحمد بن رجب السلامي البغدادي (795) هـ ت: محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية (1952) م.
208- ذيل العبر: الذهبي (748) هـ ملحق بالعبرات: زغلول، دار الكتب العلمية.
209- رجال صحيح البخاري (الهداية والإرشاد في معرفة أهل الثقة والسداد الذين أخرج لهم الباري في جامعه) : أبو نصر أحمد بن محمد بن الحسين البخاري الكلاباذي (398) هـ، ت: عبد الله الليثي، دار الباز مكة المكرمة، دار المعرفة بيروت (1407 هـ/ 1987 م) .
210- الرسالة المستطرفة في مشهور كتب السنة المشرفة: عبد الحي الكتاني- ت. محمد المنتصر الكتاني- دار الفكر- دمشق (1964) م.
211- الرسالة للإمام الشافعي (204 هـ) تحقيق أحمد محمد شاكر- مصطفى البابي الحلبي مصر (1358 هـ) .
212- روائع البيان في تفسير آيات الأحكام للشيخ محمد علي الصابوني- ط(5/775)
أولى دار القرآن الكريم بيروت.
213- روضات الجنات: الخوانساري محمد باقر الموسوي (1313) هـ، طهران (1347) هـ.
214- الروض المعطار: الحميري محمد عبد الله (900) هـ، تحقيق د. إحسان عباس.
215- الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية: أبو شامة شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل (665) هـ تحقيق: محمد حلمي محمد أحمد، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة (1956) م.
216- الزهد: أحمد بن حنبل (241) هـ، دار الكتب العلمية، بيروت (1403) هـ.
217- الزهد: عبد الله بن المبارك (181) هـ ت: الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي، دار الكتب العلمية.
218- السلوك لمعرفة دول الملوك: أبو العباس أحمد بن علي بن عبد القادر العبيدي المقريزي (845) هـ، ت: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية- بيروت (1418 هـ/ 1997 م) .
219- السنن: ابن ماجه محمد بن يزيد (273 هـ) تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ط عيسى البابي الحلبي، مصر.
220- السنن: أبو داود سليمان بن الأشعث (275 هـ) تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد إحياء التراث العربي.
221- السنن: الترمذي محمد بن عيسى بن سورة (279 هـ) تحقيق أحمد شاكر وفؤاد عبد الباقي نشر دار الفكر، بيروت.(5/776)
222- السنن: الدارقطني علي بن عمر (385 هـ) دار الفكر بيروت.
223- السنن: الدارمي أبي محمد بن عبد الرحمن (255 هـ) انظر فتح المنان.
224- السنن الكبرى: البيهقي أحمد بن الحسين (458 هـ) نشر دار الفكر بيروت.
225- السنن الكبرى: النسائي أحمد بن شعيب (303) هـ نشر دار الكتب العلمية بيروت- ط أولى (1411 هـ) .
226- السنن: النسائي: أحمد بن شعيب (303 هـ) نشر دار الفكر بيروت.
227- السنة لابن أبي عاصم. تحقيق الألباني- ط المكتبة الإسلامية- بيروت.
228- السيرة النبوية: لأبي محمد عبد الملك بن هشام (281 هـ) ، ط الكليات الأزهرية، القاهرة.
229- شجرة النور الزكية في طبقات المالكية: محمد بن محمد مخلوف، (1360) هـ دار الفكر، بيروت.
230- شذرات الذهب في أخبار من ذهب: ابن العماد الحنبلي عبد الحي (1089) هـ، دار الفكر، بيروت.
231- شرح السنة للبغوي: الحسين بن مسعود (510 هـ) تحقيق شعيب الأرناؤوط، طبعة المكتب الإسلامي، بيروت.
232- شرح علل الترمذي: ابن رجب الحنبلي زين الدين عبد الرحمن بن أحمد (795) هـ، ت: صبحي جاسم الحميد، وزارة الأوقاف، بغداد (1396) هـ.
233- شرح مشكل الآثار: لأبي جعفر الطحاوي: أحمد بن محمد بن(5/777)
سلامة (321 هـ) تحقيق شعيب الأرناؤوط، ط مؤسسة الرسالة (1415 هـ) .
234- شرح معاني الآثار للطحاوي، نشر دار الكتب العلمية بيروت (1399 هـ) .
235- الشعر والشعراء (طبقات الشعراء) : ابن قتيبة الدينوري أبو محمد عبد الله بن مسلم (276) هـ، ت: د. قميحة، دار الكتب بيروت (1985) م.
236- الصحاح" تاج اللغة وصحاح العربية": إسماعيل بن حماد الجوهري (393) هـ، ت: أحمد عبد الغفور عطار، ط 3، القاهرة (1402 هـ/ 1982 م) .
237- صحيح ابن حبان (375 هـ) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان لابن بلبان الفارسي (739 هـ) ط أولى، دار الفكر، بيروت.
238- صحيح ابن خزيمة: أبو بكر محمد بن إسحاق (311 هـ) تحقيق د.
محمد مصطفى الأعطي، المكتب الإسلامي بيروت (1391 هـ) .
239- صحيح البخاري: انظر فتح الباري.
240- صحيح مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (261 هـ) عناية محمد فؤاد عبد الباقي، مصر.
241- صفحات من صبر العلماء: الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ط حلب.
242- صفة جزيرة الأندلس: الحميري محمد بن عبد الله (900) هـ، القاهرة، (1937) هـ.
243- صفة الصفوة: ابن الجوزي أبو الفرج عبد الرحمن بن علي (597 هـ) نشر مكتبة الثقافة الدينية، مصر.
244- صلة الصلة في تراجم أعلام الأندلس: أبو جعفر أحمد بن الزبير(5/778)
الغرناطي (708) هـ، ت: ليفي بروفنسال، الرباط، المطبعة الاقتصادية (1937) م.
245- الصلة في تاريخ أئمة الأندلس، وعلمائهم، وفقهائهم، وأدبائهم: ابن بشكوال أبو القاسم خلف بن عبد الملك (578) هـ، ت: عزت العطار الحسيني، نشر مكتبة الخانجي القاهرة ط 2 (1414 هـ/ 1994 م) .
246- الطالع السعيد: كمال الدين بن ثعلب الأدفوي، ت: سعد حسن، الدار المصرية للتأليف والنشر والترجمة، القاهرة (1966) م.
247- طبقات الأطباء والحكماء: ابن جلجل سليمان بن حسان الأندلسي (377) هـ، ت: فؤاد السيد مؤسسة الرسالة، بيروت ط 2 (1985) م.
248- طبقات الأولياء: ابن الملقن تاج الدين أبو حفص عمر بن علي المصري (804) هـ، ت: نور الدين شريبة، ط 2، دار المعرفة- بيروت (1986) م.
249- طبقات الحفاظ: السيوطي جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (911) هـ، ت: علي محمد عمر، مكتبة وهبة، ط 2، مصر (1415 هـ/ 1994 م) .
250- طبقات الحنابلة: الفراء القاضي محمد بن محمد بن أبي يعلى (526) هـ، ت: محمد حامد الفقي، مصر.
251- الطبقات: خليفة بن خياط شباب العصفري (240) هـ، ت: د. أكرم ضياء العمري، دار طيبة، الرياض ط 2 (1402 هـ/ 1982) .
252- طبقات الشافعية، ابن قاضي شهبة، أبو بكر بن أحمد (851) هـ، ت:
عبد العليم خان، حيدر آباد 1978 م.(5/779)
253- طبقات الشافعية: أبو بكر بن هداية الله الحسيني (1014 هـ) حققه وعلق عليه عادل نويهض، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت (1402 هـ) .
254- طبقات الشافعية: الأسنوي جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن (772) هـ، ت: عبد الله الجبوري، بغداد (1970) م.
255- طبقات الشافعية الكبرى: تاج الدين عبد الوهاب بن تقي الدين السبكي (771 هـ) ط ثانية، نشر دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت.
256- طبقات الفقهاء: أبو إسحاق الشيرازي إبراهيم بن علي الشافعي (476) هـ، ت: د. إحسان عباس، دار الرائد العربي، بيروت (1970) م.
257- طبقات الفقهاء الشافعية: أبو عاصم محمد بن أحمد العبادي (458) هـ، ط بريل ليدن (1964) م.
258- الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد (230 هـ) دار التراث العربي، بيروت.
259- طبقات المحدثين بأصبهان والواردين عليها: أبو الشيخ أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان الأنصاري (369) هـ، ت: عبد الغفور عبد الحق حسين البلوشي، مؤسسة الرسالة، ط 1 (1407 هـ/ 1987 م) .
260- الطبقات: مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (261) هـ، تحقيق أبو عبيدة مشهور ط أولى (1411 هـ) .
261- طبقات المفسرين: الأدنوي أحمد بن محمد- ت: سليمان بن صالخ الخزي- ط مؤسسة الرسالة- نشر مكتبة العلوم والحكم المدينة المنورة (1417 هـ/ 1997 م) .
262- طبقات المفسرين: الداودي محمد بن علي بن أحمد (945) هـ ت:(5/780)
علي محمد عمر، نشر مكتبة وهبة، مصر، ط 1، (1392 هـ/ 1972) .
263- طبقات المفسرين: السيوطي جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (911) هـ، ت: د. هاينريخ أنجلين فايرز، بريل، ليدن (1839) م.
264- العبر في خبر من غبر: الذهبي شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز (748) هـ، دار الفكر- بيروت (1418 هـ/ 1997 م) .
265- العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين: محمد بن أحمد الفاسي المكي (832) هـ، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة (1378) هـ.
266- عمل اليوم والليلة: أبو بكر بن السني (364) هـ ت. عبد القادر عطا- دار ابن زيدون بيروت ومكتبة الكليات الأزهرية القاهرة- (1407 هـ/ 1987 م) .
267- عمل اليوم والليلة: النسائي: أحمد بن شعيب (305 هـ) تحقيق د.
فاروق حمادة.
268- عيون التواريخ: محمد بن شاكر الكتبي- ت: د. فيصل السامر، ود.
نبيلة عبد المنعم داود، وزارة الإعلام العراقية، بغداد (1977، 1980) م.
269- غاية النهاية في طبقات القراء: ابن الجزري محمد بن محمد الدمشقي (833) هـ، ت: برجشتراسر، القاهرة (1932، 1933) م.
270- الفائق في غريب الحديث لجار الله محمود بن عمر الزمخشري (538 هـ) تحقيق علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم طه، الحلبي ط 2.
271- فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني (852 هـ) الريان ط. الأولى.
272- فتح المنان شرح وتحقيق كتاب الدارمي أبي محمد بن عبد الله بن عبد(5/781)
الرحمن للسيد أبي عاصم نبيل بن هاشم الغمري- دار البشائر الإسلامية والمكتبة المكية (1419) هـ.
273- فتوح البلدان: البلاذري أحمد بن يحيى، (279) هـ، ت رضوان محمد رضوان، ط. السعادة، القاهرة (1959) م.
274- الفلاكة والمفلوكين: الدلجي أحمد بن علي (828) هـ، القاهرة (1322) هـ.
275- فهرسة ما رواه عن شيوخه: محمد بن خير بن عمر الأموي الأشبيلي (575) هـ، ط مكتبة المثنى بغداد (1893) م.
276- الفهرست: ابن النديم محمد بن إسحاق (380) هـ، المكتبة التجارية الكبرى، ومطبعة الاستقامة، القاهرة.
277- الفهرست: الطوسي أبو جعفر محمد بن الحسن (460) هـ، ت: السيد محمد صادق آل بحر العلوم، النجف، المطبعة الحيدرية (1961) م.
278- فهرست مخطوطات الظاهرية (حديث) الشيخ محمد ناصر الألباني- مطبوعات مجمع اللغة العربية- دمشق (1979) م.
279- فوات الوفيات: محمد بن شاكر الكتبي (764) هـ، ت: إحسان عباس، دار صادر بيروت.
280- القاموس المحيط: الفيروزآبادي محمد بن يعقوب (817) هـ، ط.
مؤسسة الحلبي، القاهرة.
281- القانون: ابن سينا، ط مؤسسة عز الدين، بيروت (1413) هـ.
282- القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية: شمس الدين محمد بن طولون الدمشقي (953) هـ، ت: محمد أحمد دهمان، دمشق، ط 2 (1401) هـ.(5/782)
283- الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة: الذهبي (748) هـ، دار الكتب العلمية بيروت.
284- الكامل (في التاريخ) : ابن الأثير الجزري أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد الشيباني (630) هـ، دار صادر بيروت.
285- الكامل في ضعفاء الرجال ابن عدي الإمام الحافظ أحمد بن عبد الله الجرجاني (365) هـ، ت: عادل أحمد عبد الموجود وآخرين، دار الكتب العلمية- بيروت (1418 هـ/ 1997 م) .
286- كشف الأستار إلى زوائد البزار للهيثمي: نور الدين علي بن أبي بكر (807 هـ) تحقيق: عبد الرحمن الأعظمي، نشر مؤسسة الرسالة، بيروت (1399 هـ) .
287- كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس: للشيخ إسماعيل العجلوني، مؤسسة الرسالة بيروت ط 7 سنة 1418 هـ/ 1997 م.
288- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون: حاجي خليفة (كاتب شلبي) (1067) هـ، دار الفكر، بيروت.
289- الكنى والأسماء: الدولابي محمد بن أحمد (310) هـ، دار الكتب العلمية، بيروت (1403) هـ.
290- اللباب في تهذيب الأنساب، لعز الدين بن الأثير الجزري علي بن أبي الكرم محمد الشيباني (630) هـ نشر مكتبة المثنى ببغداد.
291- لحظ الألحاظ بذيل طبقات الحفاظ: تقي الدين أبو الفضل محمد بن محمد بن فهد المكي (871) هـ، دار إحياء التراث العربي، بيروت.(5/783)
292- لسان العرب لابن منظور: محمد بن مكرم الإفريقي (711) هـ، ترتيب يوسف خياط ونديم مرعشلي، ط. دار لسان العرب، بيروت.
293- لسان الميزان: ابن حجر العسقلاني (852) هـ، مؤسسة الأعلمي- بيروت (1390) هـ.
294- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي، نور الدين علي بن أبي بكر (807 هـ) نشر دار الكتاب العربي، بيروت (1402 هـ) .
295- محاسن الاصطلاح وتضمين علوم الحديث لابن الصلاح لسراج الدين البلقيني عمر بن نصر (805 هـ) تحقيق د. عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) ط. دار المعارف، مصر (1411 هـ) .
296- المحتسب في تبيين وجوه القراءات والإيضاح عنها: أبو الفتح عثمان ابن جني (392) هـ ت: محمد عبد القادر عطا- نشر دار الكتب العلمية- بيروت لبنان (1419) هـ.
297- المحدث الفاصل بين الراوي والواعي لحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي (360 هـ) تحقيق أ. د. محمد عجاج الخطيب، دار الفكر بيروت (1404 هـ) .
298- مختصر تاريخ دمشق: ابن منظور محمد بن مكرم (711) هـ، ت:
مجموعة- دار الفكر- دمشق (1404 هـ/ 1984 م) .
299- المختصر في أخبار البشر: الملك المؤيد عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن علي بن محمود (732) هـ، علق عليه محمود ديوب، نشر دار الكتب العلمية- بيروت (1417 هـ/ 1997 م) .
300- المختصر المحتاج إليه من تاريخ ابن الدبيثي: الذهبي (748) هـ، ت: د.(5/784)
مصطفى جواد ود. ناجي معروف، المجمع العلمي العراقي (1397) هـ.
301- مرآة الجنان وعبرة اليقظان: أبو محمد عبد الله بن أسعد اليافعي اليمني (768) هـ، حيدر آباد الدكن، (1337، 1339) هـ.
302- مرآة الزمان في تاريخ الأعيان: سبط ابن الجوزي أبو المظفر قره أوغلي (654) هـ، ط حيدر آباد الدكن، الهند (1951) م.
303- مروج الذهب ومعادن الجوهر لأبي الحسن علي بن الحسين المسعودي (346 هـ) دار الكتاب اللبناني ومكتبة المدرسة، بيروت (1402 هـ) .
304- المستدرك على الصحيحين للحاكم أبي عبد الله النيسابوري (405 هـ) نشر دار المعرفة، بيروت.
305- المستفاد من ذيل تاريخ بغداد: أحمد بن أيبك الدمياطي (749) هـ، دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن، الهند (1399) هـ. وذكرت له نسخة أخرى في الذيول ملحقة بالتاريخ.
306- مسند ابن الجعد علي بن الجعد الجوهري (230 هـ) تحقيق عبد المهدي عبد الهادي مكتبة الفلاح، الكويت (1405 هـ) .
307- مسند أبي عوانة يعقوب بن إسحاق الإسفراييني (316) هـ، ط. حيدر أباد، الهند.
308- المسند: أبو يعلى أحمد بن علي التميمي (307 هـ) حققه حسين سليم أسد ط. دار المأمون، دمشق.
309- المسند: أحمد بن حنبل (241 هـ) ط المكتب الإسلامي، بيروت.
310- المسند: للحميدي عبد الله بن الزبير (219 هـ) تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، نشر عالم الكتب، بيروت.(5/785)
311- مسند الشهاب القضاعي (454 هـ) تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، مؤسسة الرسالة بيروت.
312- مسند الطيالسي: سليمان بن الجارود (204 هـ) ط. الهند (1321 هـ) .
313- المسند: عبد بن حميد (249 هـ) تحقيق: السامرائي والصعيدي، نشر عالم الكتب (1408 هـ) بيروت.
314- مشاهير علماء الأمصار: أبو حاتم بن حبان البستي محمد بن أحمد (354) هـ ت: مجدي بن منصور بن سيد الشورى، دار الكتب العلمية، بيروت ط 1 (1416 هـ/ 1995 م) .
315- المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي (623) هـ: تصنيف أحمد بن محمد بن علي المقرئ الفيومي (770) هـ، ط دار العلم- بيروت.
316- المصنف: ابن أبي شيبة عبد الله بن محمد (235 هـ) تعليق سيد اللحام، نشر دار الفكر، بيروت.
317- المصنف: عبد الرزاق بن همام الصنعاني (211 هـ) تحقيق الأعظمي، توزيع المكتب الإسلامي، بيروت.
318- المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية: ابن حجر العسقلاني (852) هـ- ط دار الكتب العلمية، بيروت.
319- المعارف: ابن قتيبة الدينوري أبو محمد عبد الله بن مسلم (276) هـ، ت: ثروت عكاشة، دار المعارف، القاهرة (1969) م.
320- معجم الأدباء: ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي (626) هـ ط 3، دار الفكر- بيروت (1400 هـ/ 1980 م) .
321- معجم البلدان: ياقوت الحموي (626) هـ، نشر دار صادر-(5/786)
بيروت (1955، 1957) .
322- معجم المؤلفين: (تراجم مصنفي الكتب العربية) : عمر رضا كحالة- دار إحياء التراث العربي، بيروت.
323- معجم الشعراء: المرزباني محمد بن عمران، (384) هـ، دار الكتب العلمية، بيروت.
324- معجم شيوخ الذهبي: شمس الدين محمد بن أحمد (748) هـ- ت.
روحية السيوفي، دار الكتب العلمية- بيروت ط 1 (1410 هـ/ 1990 م) .
325- المعجم في أصحاب أبي علي الصدفي: ابن الأبار محمد بن عبد الله القضاعي (658) هـ، القاهرة، (1967) م.
326- المعجم الصغير للطبراني (360 هـ) مع الروض الداني، تحقيق محمد شكور، المكتب الإسلامي بيروت (1405 هـ) .
327- معجم الفرق الإسلامية: شريف يحيى الأمين، دار الأضواء- بيروت- ط 1 (1406 هـ/ 1986 م) .
328- معجم القراءات القرآنية مع مقدمة في القراءات وأشهر القراء: د. أحمد مختار عمر ود. عبد العال سالم مكرم، ط 1 عالم الكتب، مصر.
329- معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع: البكري أبو عبد الله عبد الله بن عبد العزيز الأندلسي (487) هـ ت: د. جمال طلبة، دار الكتب العلمية- بيروت ط 1 (1418 هـ/ 1998 م) .
330- معجم المطبوعات العربية والمعربة: يوسف إليان سركيس- مطبعة سركيس، مصر (1346 هـ/ 1928 م) .
331- المعجم الكبير للطبراني، تحقيق السلفي ط. 2(5/787)
332- المعجم المختص بالمحدثين: الذهبي أبو عبد الله (748) - ت: محمد الحبيب، مكتبة الصديق، السعودية (1408) هـ.
333- المعجم المشتمل على ذكر أسماء شيوخ الأئمة النبل: ابن عساكر أبو القاسم علي بن الحسين هبة الله المشقي (571) هـ- ت: سكينة الشهابي- دار الفكر، بيروت (1979) م.
334- معجم مقاييس اللغة لأحمد بن فارس، تحقيق عبد السلام هارون.
335- المعجم الوسيط قام بإخراجه إبراهيم مصطفى وآخرون، ط مجمع اللغة العربية، مصر.
336- معرفة الصحابة: أبو نعيم الأصبهاني أحمد بن عبد الله بن أحمد (430) هـ- ت: عادل العزازي، دار الوطن للنشر، الرياض، السعودية، ط 1 (1419 هـ/ 1998 م) .
337- معرفة القراء الكبار: الذهبي أبو عبد الله (748) ت: محمد سيد جاد الحق، ط 1، دار الكتب الحديثة- مصر (1387 هـ/ 1967 م) .
338- المعرفة والتاريخ: أبو يوسف يعقوب بن سفيان الفسوي (277) هـ- ت:
أكرم ضياء العمري، مطبعة الإرشاد- بغداد (1394 هـ/ 1974 م) .
339- المعين في طبقات المحدثين: الذهبي أبو عبد الله () ت: د. همام سعيد- دار الفرقان- ط 1 (1404 هـ/ 1984 م) .
340- مفتاح السعادة ومصباح السيادة: أحمد بن مصطفى (طاش كبري زادة) (968) هـ ت: كامل بكري وزميله، مطبعة الاستقلال الكبرى، القاهرة (1968) م.
341- المفردات في غريب القرآن: أبو القاسم الحسين بن محمد (الراغب(5/788)
الأصفهاني) (502) هـ، ت: محمد سيد كيلاني- مصطفى البابي الحلبي- مصر (1381 هـ/ 1961 م) .
342- المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد: برهان الدين إبراهيم بن محمد بن مفلح (884) هـ، ت: عبد الرحمن بن سليمان العثيمين- مكتبة الرشد، الرياض (1410 هـ/ 1990 م) .
343- المكنز الكبير: طبع مؤسسة التراث، الرياض.
344- منادمة الأطلال ومسامرة الخيال: الشيخ عبد القادر بن أحمد بن بدران (1346) هـ- المكتب الإسلامي دمشق (1379) هـ.
345- منتخبات التواريخ لدمشق: محمد أديب الحصني (1358) هـ، بيروت 1979 م.
346- المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: أبو العز عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي (597) هـ، دراسة محمد عبد القادر عطا وأخوه- دار الكتب العلمية- بيروت.
347- المنتقى لابن الجارود عبد الله بن علي (307) هـ، نشر حديث أكادمي باكستان.
348- المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج للنووي أبي زكريا يحي بن شرف (676 هـ) نشر دار إحياء التراث العربي، بيروت (1392 هـ) .
349- المنهاج في شعب الإيمان للحليمي الحسين بن الحسن دار الفكر بيروت (1979 م) .
350- المنهج الأحمد: مجير الدين عبد الرحمن بن محمد العليمي (928) هـ.
ت عادل نويهض، عالم الكتب، بيروت (1403) هـ.(5/789)
351- المنهل الأوفى والمستوفى بعد الوافي: بن تغري بردي يوسف الأتابكي (874) هـ، ت: أحمد يوسف نجائي، القاهرة 1956 م.
352- موارد الخطيب: البغدادي: أ. د أكرم ضياء العمري، دار القلم.
353- موسوعة الفرق والجماعات الإسلامية: د. عبد المنعم الحفني، دار الرشيد، القاهرة (1413 هـ/ 1993 م) .
354- الموطأ لمالك بن أنس الأصبحي (179 هـ) الإمام، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ط. الحلبي، مصر.
355- مولد العلماء ووفياتهم: أبو سليمان محمد بن عبد الله بن زبر الربعي الدمشقي (379) هـ ت: د. عبد الله الحمد، دار العاصمة الرياض، ط 1 (1410) هـ.
356- ميزان الاعتدال في نقد الرجال: الذهبي أبو عبد الله محمد بن أحمد (748) هـ ت: علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت.
357- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي الأتابكي (874) هـ- طبعة مصورة عن طبعة دار الكتب المصرية- وزارة الثقافة المصرية.
358- نزهة الألباء في تراجم الأدباء: ابن الأنباري عبد الرحمن بن محمد (577) هـ، ت: إبراهيم السامرائي، بغداد (1959) م.
359- نزهة المشتاق في اختراق الآفاق: الشريف الإدريسي. مصر.
360- نسب قريش: مصعب بن عبد الله الزبيري (236) هـ، ت: ليفي بروفنسال، دار المعارف.
361- النشر في القراءات العشر: ابن الجزري أبو الخير محمد بن محمد(5/790)
الدمشقي (833) هـ، إشراف محمد علي الصباغ، دار الفكر، بيروت.
362- نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، وذكر وزيرها لسان الدين الخطيب: أحمد بن محمد المقري التلمساني (1041) هـ، ت: محمد محيي الدين عبد الحميد، ط المكتبة التجارية الكبرى- مصر (1367 هـ/ 1949 م) .
363- نكت الهميان في نكت العميان: صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي (764) هـ، المكتبة التجارية، القاهرة (1911) م.
364- نهاية الأرب في فنون الأدب: شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويري (732) هـ، دار الكتب المصرية (1374 هـ/ 1955 م) .
365- النهاية في غريب الحديث والأثر: ابن الأثير مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد الجزري (606 هـ) نشر دار الفكر، بيروت (1418 هـ) .
366- هدية العارفين (أسماء المؤلفين وآثار المصنفين) : البغدادي إسماعيل بن محمد بن أمين (1339) هـ.، ط 3، طهران- المكتبة الإسلامية، 1976 م.
367- الوافي بالوفيات: صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي (764) هـ عناية أيمن فؤاد السيد، دار النشر فرانز شتايز شتوتغارد (1411 هـ/ 1991 م) .
368- الوافي في شرح الشاطبية: عبد الفتاح بن عبد الغني القاضي (1403) هـ- مكتبة الدار- المدينة المنورة.
369- الوفيات: ابن رافع السلامي، ت: صالح مهدي عباس، مؤسسة الرسالة، بيروت (1983) م.
370- الوفيات: ابن قنفذ أبو العباس أحمد بن حسن بن علي الخطيب(5/791)
القسنطيني (809) هـ، ت: عادل نويهض، دار الآفاق الجديدة- بيروت، ط 4 (1403 هـ/ 1983 م) .
371- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان: أحمد بن محمد (ابن خلكان) (681) هـ- ت: د. إحسان عباس، دار صادر بيروت (1397 هـ/ 1977 م) .
والحمد لله رب العالمين(5/792)
فهرس الكتاب
مقدمة التحقيق 9
منهجنا في خدمة الكتاب 23
الفصل الأول وهو الخطابي 27
مقدمة المصنف 27
مشرق الأرض ومغربها 28
تشبيه بعض الحكماء للأرض 31
تفضيل المشرق على المغرب 32
الأنبياء والرسل 33
الجهات الشريفة 36
الحواريون والصحابة 36
جماهير الكرماء والعظماء في الجاهلية والإسلام 37
الأئمة والفقهاء 43
السادات الأولياء أئمة التحقيق 46
الفلاسفة والحكماء والأطباء ورجال الفلك والعلوم 50
أصحاب الموسيقى 59
حكم الشرع في السماع وآلاته (هامش) 60
قول ابن بسام في خطبة كتاب الذخيرة 68(5/793)
أصحاب الصنائع العملية (الكتابة) والفلاحة والسيوف، والرماح، والديباج 73
في الشرق رست قواعد الخلافة 76
المقايسة بين سلاطين المشرق والمغرب والخلافة 77
مسعود بن محمود بن سبكتكين 78
السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان 79
السلطان علاء الدين خوارزم شاه 81
الملك العادل، وجلال الدين محمد 82
فتنة البساسيري 83
الحيوان والنبات والمعادن 87
الجواهر والأحجار 89
العقاقير 92
بعض ما في المغرب مما سبق 92
الفصل الثاني في الإنصاف بين المشرق والمغرب على حكم التحقيق. 97
خطّا الأطوال والعروض.. والشرق والغرب أمر نسبي 97
المشرق أطول من المغرب 98
للمشرق الفخر 100
قول ابن سعيد.. المحاسن مقسمة.. الأغلب على البلاد المشرقية 101(5/794)
رد ابن فضل الله العمري على ابن سعيد 103
ما فعله يوسف بن تاشفين مع بني عباد ملوك الأندلس 105
الموازنة بين المشرق والمغرب 108
الحيوان والنبات 113
المغرب والمشرق واللغة وبعض الشعراء 114
العلوم العقلية 116
المتنزهات.. والقلاع والمدن والأنهار 117
شعر في مدح المشرق والمغرب وغلمانهما 124
الإسكندر وبلاد فارس وأرسطو وصاحب الصين 130
تشبيه ابن سعيد الأرض بطائر 131
من أحكام المناظرة بين المشارقة والمغاربة 134
نشأة الخلافة 139
المناظرة بين الأشخاص: الخلفاء ونحوهم 144
من عظماء الأدارسة ... الناصر علي بن حمود 152
بنو عبد المؤمن 154
الشبه بين المأمون بن المنصور الموحدي والمأمون العباسي 156
خراسان سلطنة عريضة 159
سجستان ودولة بني الصفار 161(5/795)
كرمان وديلمان 162
مازندران (طبرستان) 164
عراق العجم 165
فارس 165
خوزستان (الأهواز) 166
العراق السلطنة العظمى 166
شهرزور 167
الجزيرة 168
الشام سلطنة جليلة 169
جزيرة العرب 171
وهجر سلطنة واليمامة 174
أذربيجان 174
أرمينية.. وبلاد الروم 176
سلطنات المغرب الديار المصرية 178
برقة وإفريقية 179
سلطنة المغرب الأقصى 184
بلاد السودان 185
أرض النوبة والكانم 185(5/796)
جزيرة الأندلس ومن تولى عليها 186
سلطنات رومية والقسطنطينية 188
الجندية في المشرق والمغرب رجالها عتادها وما يتبع ذلك وعطاؤهم 189
الوزارة 193
الكتاب بالمشرق 194
جاء في المتأخرين من لم يرض طرق المتقدمين 195
* مشاهير قراء المشرق 201
مقدمة 201
1- أبي بن كعب بن قيس 203
2- أبو عبد الرحمن السلمي 205
3- مجاهد بن جبر 207
4- عبد الله بن عامر 209
5- عبد الله بن كثير 211
6- يزيد بن القعقاع 214
7- عاصم بن أبي النجود 216
8- حمزة بن حبيب الزيات 219
9- أبو عمرو بن العلاء المازني 223
10- نافع بن عبد الرحمن الليثي 228(5/797)
11- إسماعيل بن عبد الله المخزومي 230
12- حفص بن سليمان الأسدي 232
13- سليم بن عيسى 233
14- علي بن حمزة الكسائي 236
15- أبو بكر بن عياش بن سالم الأسدي الكوفي 244
16- يحيى بن مبارك بن المغيرة العدوي 247
17- يعقوب بن إسحاق 250
18- يحيى بن آدم بن سليمان 252
19- حسين بن علي الجعفي الكوفي 254
20- قالون أبو موسى 256
21- أحمد بن محمد (ابن أبي بزه) 258
22- خلاد بن خالد 259
23- خلف بن هشام بن تغلب البغدادي البزاز 261
24- الليث بن خالد أبو الحارث البغدادي 263
25- عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكون 265
26- هشام بن عمار 267
27- أبو عمر الدوري 270
28- أبو شعيب السوسي 273(5/798)
29- قنبل مقرئ أهل مكة 274
30- أحمد بن موسى بن العباس البغدادي 275
31- محمد بن أحمد بن أيوب (ابن شنبوذ) 278
32- محمد بن النضر بن مر (ابن الأخرم الدمشقي) 284
33- عبد الواحد بن عمر البغدادي 289
34- محمد بن الحسن بن محمد النقاش 291
35- محمد بن أحمد بن إبراهيم (الشنبوذي) 293
36- علي بن داود أبو الحسن الداراني 295
37- علي بن أحمد بن عمرو الحمامي البغدادي 299
38- أبو علي الأهوازي 300
39- عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن الرازي العجلي 302
40- أبو علي غلام الهراس 305
41- أبو الطاهر بن سوار 307
42- محمد بن الحسين بن بندار 309
43- عبد الله بن علي البغدادي النحوي 311
44- الحسن بن أحمد بن الحسين أبو العلاء الهمذاني 313
45- عبد الله بن منصور بن عمران (ابن الباقلاني) 316
46- عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي (أبو شامة) 318(5/799)
47- أحمد بن يوسف بن حسن الكواشي 320
48- إبراهيم بن عمر بن إبراهيم الربعي الجعبري 322
49- محمد بن بصخان (الإمام بدر الدين بن السراج) 324
* قراء الجانب الغربي 50- محمد بن عمر بن خيرون المعافري 329
51- أبو عمر الطلمنكي المعافري 331
52- مكي بن أبي طالب (حموش) 334
53- أبو عمرو الداني 336
54- سليمان بن أبي القاسم 340
55- عبد الرحمن بن أبي بكر عتيق الصقلي 343
56- علي بن محمد بن علي البلنسي 345
57- القاسم بن فيرة الشاطبي 348
58- علي بن عبد الصمد الهمداني السخاوي 351
59- أبو عبد الله الفاسي 354
60- محمد بن عبد الرحيم بن الطيب 356
61- أحمد بن إبراهيم بن الزبير الغرناطي 358(5/800)
* قراء مصر 62- عثمان بن سعيد القبطي 361
63- عبد الله بن مالك التجيبي 364
64- محمد بن علي بن أحمد الأذفوي 365
65- غياث بن فارس بن مكي اللخمي 368
66- محمد بن أحمد بن عبد الخالق الشروطي 370
* المحدثون من أهل المشرق 67- أبو هريرة الدوسي اليماني 373
68- محمد بن مسلم بن عبيد الله (ابن شهاب الزهري) 381
69- قتادة بن دعامة السدوسي 387
70- شعبة بن الحجاج 391
71- عبد الرحمن بن مهدي 394
72- أبو داود الطيالسي 398
73- يحيى بن يحيى التميمي النيسابوري 401
74- علي بن عبد الله السعدي المدني 403
75- يحيى بن معين 406
76- عبد الله بن محمد بن أبي شيبة أبو بكر الكوفي 411
77- عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي 413(5/801)
78- الإمام العلم أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري 415
79- محمد بن يحيى بن عبد الله الذهلي 424
80- أحمد بن الفرات أبو مسعود الرازي 427
81- مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري 428
82- عبيد الله بن عبد الكريم أبو زرعة الرازي 431
83- محمد بن يزيد (ابن ماجه) القزويني 434
84- سليمان بن الأشعث أبو داود السجستاني 435
85- محمد بن إدريس أبو حاتم الرازي 439
86- أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي 442
87- أبو عبد الرحمن أحمد بن علي النسائي 445
88- أبو جعفر محمد بن جرير الطبري 449
89- محمد بن إسحاق بن خزيمة 454
90- أبو عوانه الإسفراييني 459
91- عبد الله بن أبي داود السجستاني 461
92- عبد الرحمن بن أي حاتم الرازي 466
93- أحمد بن محمد بن سعيد أبو العباس (ابن عقدة) 470
94- محمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم البستي 473
95- أبو بكر بن الجعابي 476(5/802)
96- سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني 482
97- أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني 485
98- محمد بن إسحاق بن محمد (ابن منده) 491
99- أبو عبد الله الحاكم النيسابوري 495
100- أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني 500
101- أبو ذر الهروي (ابن السماك) 502
102- أحمد بن الحسين البيهقي 505
103- الخطيب أبو بكر بن أحمد بن علي البغدادي 507
104- أبو نصر بن ماكولا 512
105- أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي 516
106- إسماعيل بن محمد بن فضل الأصبهاني (قوام السنة) 519
107- أبو سعد عبد الكريم بن تاج الإسلام السمعاني 522
108- أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله (ابن عساكر) 525
109- أبو موسى المديني 533
110- عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي 537
111- محمد بن عبد الواحد السعدي المقدسي 543
112- محمد بن محمود بن الحسن بن هبة الله (ابن النجار) 545
113- القاسم محمد بن يوسف البرزالي 547(5/803)
114- أبو الحجاج يوسف بن الزكي عبد الرحمن المزي 553
115- محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي 557
* الحفاظ بالجانب الغربي 116- يحيى بن يحيى بن كثير الليثي الأندلسي 572
117- بقي بن مخلد 578
118- محمد بن أبي نصر فتوح الأزدي الأندلسي 580
119- خلف بن عبد الملك بن مسعود (ابن بشكوال) الأندلسي 583
120- عبد الحق بن عبد الرحمن الإشبيلي 585
121- محمد بن أحمد بن عبد الله اليعمري الأندلسي 586
122- يزيد بن أبي حبيب أبو رجاء الأزدي 587
123- عبد الغني بن سعيد بن علي الأزدي الحافظ النسابة 589
124- أبو طاهر الأصبهاني السلفي 592
125- عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن الدمياطي 595
* فقهاء المحدثين:
* الجانب الشرقي 126- علقمة بن قيس النخفي الكوفي 597
127- القاضي شريح بن الحارث 598
128- سعيد بن المسيب بن حزن القرشي 603(5/804)
129- عروة بن الزبير بن العوام 608
130- أبو بكر عبد الرحمن بن الحارث 612
131- سعيد بن جبير الوائلي 613
132- إبراهيم بن يزيد بن الأسود النخعي 616
133- عبيد الله بن عبد الله بن عتبة الهذلي (المسعودي) 618
134- خارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري 619
135- عامر بن شراحيل الشعبي 622
136- طاووس بن كيسان الخولاني 624
137- سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي 626
138- القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق 628
139- سليمان بن يسار 630
140- الحسن بن أبي الحسن البصري 632
141- مكحول بن عبد الله الشامي 635
142- عطاء بن أبي رباح 636
143- أبو الزناد عبد الله بن ذكوان المدني 638
144- ربيعة بن أبي عبد الرحمن (ربيعة الرأي) 640
145- يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري 643
146- سليمان بن مهران الأعمش 647(5/805)
147- محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى 650
148- عبد الملك بن عبد العزيز (ابن جريج) 652
149- عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي 654
150- سفيان بن سعيد الثوري 659
151- حماد بن سلمه بن دينار 662
152- عبد الله بن المبارك 664
153- سفيان بن عيينة بن أبي عمران الهلالي 665
154- إسحاق بن أبي الحسن إبراهيم (ابن راهوية) 668
155- إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي (أبو ثور) 670
156- محمد بن نصر الإمام عبد الله المروزي 670
157- محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري 673
158- أبو سليمان الخطابي حمد بن محمد البستي 674
159- الحسن بن محمد بن الحسن العدوي العمري 676
160- أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن (ابن الصلاح) 678
161- يحيى بن شرف بن مزي النووي 680
162- أحمد بن عبد الحليم (ابن تيمية) شيخ الإسلام 687(5/806)
* مشاهير الجانب الغربي 163- أبو عمر يوسف (ابن عبد البر) القرطبي 709
164- أبو عبد الله محمد بن علي المازري 711
165- القاضي أبو الفضل عياض اليحصبي 712
166- أبو بكر محمد (ابن العربي) المعافري 717
167- أبو القاسم السهيلي 720
168- أبو الخطاب عمر بن الحسن الكلبي (ذو النسبين) 724
ومن متقدميهم بالديار المصرية 169- الحافظ الفقيه أبو جعفر بن محمد بن سلامة الطحاوي 727
ومن المتأخرين 170- القاضي أبو الفتح محمد بن علي (ابن دقيق العيد) 730
171- علي بن عبد الكافي الأنصاري الخزرجي المصري الشافعي 741
* فهرس المصادر والمراجع 755
* فهرس الكتاب (الموضوعات) 797
والحمد لله رب العالمين(5/807)
[الجزء السابع]
مقدمة
لا يغمض لأرباب الأقلام جفن، ولا يهدأ لهم بال، ولا يسلك لهم بصر ما لم يروا أن نتاجهم قد اصفرّ سنبله، وآتى أكله، وردّدت الأروقة رجع صدى نتاجه من طالب العلم فيما كتبه.
ولعمري إنّ هذا الطموح لهو أحقّ بما هو مخطوط من تراث الأمم من غيره؛ لأنّ جهد العلوم لا ينمو غرسه إلّا فيما هو موروث من مداد أولئك الأئمة الأعلام الذين ذابت أفئدتهم، وتقرّحت أجفانهم بين المحابر والمنابر، ولم تثن عزيمتهم عوادي الزمن، أو غضب الأيام؛ وإنّما كسروا قيود المحال، وشمّروا عن سواعد الجدّ، فجادت نفوسهم بزاد المعاد الذي ما فتئت الأمم تتبارى متفاخرة به في ميدان سباق العلوم والآداب.
لقد حقّ ل (شهاب الدين أبو العبّاس، أحمد بن يحيى بن فضل الله بن مجلّي القرشي العمري الشافعي القاضي الكبير، الإمام الأديب البارع) (700- 749 هـ) أن تبصر جهوده النور، كما كان يطمح إليها، وعلى وفق مراده، لكنّما ذلك لم يكن بالأمر اليسير، فالنسخة التي قام عليها التحقيق تناءت عن زمنة، لما خالطها من جهالة لا يمكن أن تكون إلا من فعل النسّاخ المتكسبين في تحرير المخطوطات، ممّا وقعوا فيه من هنات، لا يقوى أحد على أن ينسبها إلى مؤلفها الذي يشهد له ببراعة الخط، وجودة الأسلوب، والتصرّف الرفيع في صياغة العبارة (المسجوعة) الموشّاة بأبهى الصور البلاغية التي عهدت في قلم ابن فضل الله؛ لأنه كان وزيرا للإنشاء، خلفا لأبيه، وزير الإنشاء عند حكام مصر آنذاك؛ لذا عجّت المخطوطة بالكثير من اللحن والخطأ الإملائي، وإهمال النقاط، وإضافة الهمزة إلى كلمة (ابن) الواقعة بين اسم الابن وأبيه، والاستعاضة بالمدّة الخنجرية عن الألف في مفردات، وعدم استعمالها في مفردات أخر، ممّا يدلّ على أن أقلاما عديدة تعاورت على نسخ المخطوطة؛ إذ وردت بعض الحروف معجمة تارة، وغير معجمة تارة أخرى، كالباء والياء والنون والغين؛ وإن كانوا قد توحّدوا في قلب الهمزة ياء، في مثل: فوايد، ومسائل والسايل.(7/5)
إن استخلاص المفردات وتحقيقها من قلم ناسخ التوت حروفه، وتعثّرت نقطه بعد أن عفت الأيام رسومها، وحارت أنامله بعد أن زاغت عيناه في فكّ طلاسم نسخة اعتمدها لأمر بالغ الصعوبة، بل هو أصعب من خلع ضرس غير مرّة وإنما هو عند كل مفردة وفي صفحات عديدة؛ لأنّ الناسخ- كما هو ماثل في المخطوطة- كان ينقل كثيرا من المفردات رسما من نسخته المعتمدة، ولهذا جاءت كثرة من الأبيات الشعرية، فيما استشهد له ابن فضل الله غير موزونة أحيانا ومبتورة، أو مسطورة من غير تشطير؛ فضلا عن أنّ النتف والمقطوعات الشعرية الواردة في ثنايا المخطوطة لم ينسب الكثير منها إلى قائليها، ممّا جعلني أجهد في ردّها إلى أصحابها، ممّن عرفوا بالشهرة وذيوع الصيت. أما الآيات القرآنية الكريمة فجاءت مبثوثة في ثنايا السطور من دون إسنادها إلى سورها، الأمر الذي حدابي إلى وضعها بين قوسين صغيرين، مع بيان رقم السورة والآية، وبالنسبة إلى المفردات التي توجّب إضافتها في التحقيق عضدناها بين عضادتين، فضلا عن الاهتمام بالشكل والترقيم، مع ضبط القصائد وزنا وشكلا وإسنادها إلى بحورها.
اختص السفر السابع من «مسالك الأبصار» الذي وقفت على تحقيق نسخته بتراجم أهل النحو وأرباب المعاني والبيان من الجانب الشرقي (العراق) ، والجانب الغربي (الأندلس) ، ثم مصر، حيث بدأها ابن فضل الله ب (النّضر بن شميل) (- 204 هـ) ، وختمها ب (ابن أبي الإصبع) (- 624 هـ) ، وإن كان قد أفاض في ترجمة بعض أعلامها، وأوجز (مقلّا) عند بعضهم، كما هو الحال فيما ذكره عن السكّاكي (- 626 هـ) ، حيث لم يتجاوز فيه خمسة الأسطر من دون أن يذكر له مؤلّفا، أو إبداعا واحدا.
لقد أفاض ابن فضل الله في ترجمة (أبو حيان الأندلسي) (- 745 هـ) ، وأطنب كثيرا في تدوين قصائده التي كان أغلبها مناجاة ومساجلات بينهما؛ ناهيك عن الإطراء والمديح الذي أثنى فيه عليه؛ بوصفه شيخا من شيوخه الذين درس عليهم، وأتقن صنعة الكتابة بهم. كما أفاض كثيرا في ترجمة ابن المعتز (- 247 هـ) سالكا درب المؤرخين فيه، ومعرّجا على ريادته لفنّ البديع، واصفا إياه- بحقّ- رائدا لهذا اللون من فنون البلاغة، مع عدم(7/6)
تقصيره فيما دوّن له من قصائد شعرية عصماء، جادت بأبهى الصور البديعية، ذاكرا له بعض القصائد والمقطوعات الشعرية التي لم يحفل بها محقق ديوانه، الدكتور يونس أحمد السامرائي. ولعلّ إفاضته في حياة ابن المعتز وشعره له ما ينصفه ويثني عليه؛ وذلك لأنه (ابن المعتز) علم البديع، ومصنّف أبوابه وأشكاله، وصاحب أفضل القرائح نظما واتّساق أسلوب، وأمهر الشعراء في خلق الصورة البديعية، الأمر الذي دفع ابن فضل الله إلى أن يفتي بنزاهة ابن المعتز، وإبعاد كلّ ما لا يليق بشخصه، على الرغم ممّا ورد في قصائده التي تعبّر عن حاله وحياته التي تعجّ بما يناقض ذلك.
لقد اعتمد ابن فضل الله في تراجمه على مصادر جعلها موردا ينهل منه تاريخ مولدهم ووفاتهم، وما يؤثر عنهم بعد أن يفيض بسجعه عليهم؛ فكان (وفيات الأعيان وأنباء أنباء الزمان) لابن خلكان (- 681 هـ) المصدر الأول له، واعتمد أيضا على (تاريخ إربل) لابن المستوفي (- 637 هـ) ، لكنّ إشارات ابن فضل الله لهذا الكتاب فيما حققه الدكتور سامي الصقّار غير واردة، وربّما يكون لما ورد ذكره من مدوّنات ابن المستوفي التي ولمّا تزل تئنّ من وطأة تراكم غبار السنين ترقب أكفّ المحققين في إنقاذها. وهو الحال نفسه مع كتاب (بغية الألبّاء) الذي ورد ذكره كثيرا، وكان من المكانة في الاعتماد عليه، ممّا يجعله بعد كتاب وفيات الأعيان، إلّا أن هذا الكتاب مفقود هو الآخر. كذلك اعتمد ابن فضل الله على كتاب (خريدة القصر وجريدة العصر) لعماد الدين الأصبهاني (- 597 هـ) ، الذي حقّقه الأستاذ محمد بهجت الأثري.
جاءت المخطوطة التي عني بإحياء إصدارها الأستاذ فؤاد سزكين، من معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية في جامعة فرانكفورت- ألمانيا الاتحادية-، وقد بدأت بعبارة: (وأمّا من حفظ ألسنة العرب، وسعى في تحصيل لغاتها، وانتهت بعجز بيت مقطوعة شعرية: (ولكنّه من مقتلي سرق المعنى) لابن أبي الإصبع، ولم يرد فيها من البياض إلا القليل، ولم يكن فيها من (خرم) الصفحات، وكان تعداد صفحاتها ثلاثمئة وأربعا وخمسين صفحة. في كل صفحة عشرون سطرا، وفي كل سطر عشر كلمات، قياس كل صفحة ثمانية عشر سنتمترا(7/7)
طولا، وأحد عشر سنتمترا عرضا، ربط فيها ابن فضل الله بين تراجمه بكلمة (ومنهم) ، مع الإشارة إلى ما نقله كثيرا بكلمة: قال ابن خلكان، وقال ابن المستوفي، وجاء في بغية الألبّاء.
لقد حرصت كثيرا على إنعام النظر وإمعانه في كل مفردة، عصيّة كانت أم يسيرة في أثناء التحقيق لهذه المخطوطة؛ لكنّما لا أبرئ نفسي من الوقوف عند فهم بعضها، ممّا كان لا يقصده ابن فضل الله، وهذا أمر غير غريب على المحققين كافة، ولا سيّما في كلامه المسجوع الذي بدأ به ترجماته إلّا أنّ ذلك لا يضاهي النهوض بالكشف عنه وتحريره، مما يدعو الباحث والقارئ على حدّ سواء إلى إسداء الشكر والعرفان للجهود القيّمة التي عني بها المجمع الثقافي في أبو ظبي، لحرصه واهتمامه بإحياء التراث العربي والسعي الحثيث لدى القائمين عليه في البحث عن مكنونات كنوز التراث العربي الإسلامي لتبصر النور ثانية، ولتأخذ دورها في تبصرة الجيل القادم بما له من أهمية في إنهاض أسباب المعرفة.
ولا يفوتني أن أثني على جهود ذلكم الفريق الذي ظل يؤازر أقلام التحقيق، ويمدها بالعون على الوصول إلى أمهات الكتب ومصادرها من أجل التثبت والتوثيق.
والله أسأل التوفيق والسّداد، إنّه نعم المولى، ونعم النصير.
عبد العباس عبد الجاسم أبو ظبي 12/آب/ 2001(7/8)
الورقة الأولى من المخطوطة(7/9)
الورقة الأخيرة من المخطوطة(7/10)
[أهل اللغة بالجانب الشرقي](7/11)
1- النضر بن شميل «13»
وأمّا من حفظ ألسنة العرب. وسعى في تحصيل لغاتها واضطرب فأعلام لا تخفى، وسرج لا تطفى. فأمّا من كان منهم بالجانب الشرقي، ممّن غبر منهم وبقي، فمنهم أبو الحسن النضر ابن شميل التميمي المازني النحوي البصري، عالم قلّما بقوته، وعادم نضير لا يسع مناظره إلا خفوته، سلك لغة العرب فذلّل مطاياها، وقلّل بالنسبة إليه عطاياها. ترع الثنايا، وطلع شعاب الأماني قبل المنايا، فأصاب الرمية، وصال في لسان الأمّة، فجمع الغرائب، وجرع في مناهل الرغائب، حتى توفّر قيسمه، وظفر فوق الأسماء اسمه، وأصبح باللغة قيّما، وأبكار الكلم يعرض عليه بكرا وأيّما «1» .
قال ابن خلّكان «2»
: كان عالما بفنون من العلم صدوقا ثقة، صاحب غريب وفقه ومعرفة بأيام العرب، ورواية الحديث، وهو من أصحاب الخليل بن أحمد وذكره أبو عبيدة «3»
، وقال: ضاقت عليه المعيشة بالبصرة فخرج يريد خراسان، يشيّعه من البصرة نحو من ثلاثة آلاف رجل ما فيهم إلّا محدّث أو نحوي، أو لغوي أو عروضي أو أخباري. فلمّا صار بالمربد جلس، فقال: يا أهل البصرة يعزّ عليّ فراقكم، وو الله لو وجدت كل يوم كيلجة «4»
باقلّاء ما فارقتكم، فسلّم فيهم أحدا يتكلّف له ذلك، وسار حتى وصل خراسان فأفاد بها مالا(7/13)
عظيما، وأقام بمرو، وصحب المأمون «1» ، وحظي عنده فقال المأمون له يوما: حدّثنا هشيم «2» عن مجالد عن الشعبي عن ابن عباس، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيه سداد من عوز (بفتح سين سداد) .
فأعاد النضر الحديث بكسر السين، فاستوى المأمون جالسا وقال: يا نضر أتلحنني؟ فقال: إنما لحن هشيم، فتبع أمير المؤمنين لفظه. فقال: ما الفرق بينهما؟ فقال: السداد بالفتح في الدّين والسبيل والسّداد بالكسر، البلغة «3» ، وكلّما سدد به شيئا فهو سداد (بالكسرة) .
وأنشد من عمرو العرجي «4» : [الوافر]
أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر
فأمر له المأمون بخمسين ألف درهم.
سمع الحديث، وسمع من هشام بن عروة، وإسماعيل بن أبي خالد وحميد الطويل، وعبيد الله بن عوف، وهشام بن حسان وغيرهم من التابعين. وروى عنه يحيى بن معين، وعلي ابن الديني، وكل من أدركه من أئمة عصره.
ودخل نيسابور غير مرّة، وأقام بها زمانا، وسمع منه أهلها. وله تصانيف كثيرة مفيدة، وتوفي سلخ ذي الحجة سنة أربع ومئتين بمرو، من خراسان وبها ولد، وإنما نشأ بالبصرة فكذلك نسب إليها.(7/14)
ومنهم:
2- أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي «13»
بالولاء، تيم قيس، البصري النحوي العلّامة، وافته كرائم العرب فجدّد إحسانها، وأكدّ أحصانها. هذا ولم ينزل بهدونها «1» ولا قنع بهونها، وإنّما اقتطفها قطف الثمار، وكشفها كشف الخمار. وكان أوسع القوم رواية وأرفعهم راية. وقف مع النقل، وقام فيه بالفرض والنّفل، فأخذ باللغة وترائبها «2» ، وبلغ قصارى مراتبها ثم دوّن غريبها، ودوّر على السنة قريبها. قال الجاحظ في حقه: لم يكن في الأرض خارجي ولا جماعي أعلم بجميع العلوم منه. وقال ابن قتيبة: كان الغريب أغلب عليه وأخبار العرب وأيامها، وكان مع معرفته ربّما لم يقم البيت إذا أنشده حتّى يكسره، وكان يخطئ إذا قرأ القرآن، وكان يبعض العرب، وألّف في مثالبها كتبا، وكان يقوّي رأي الخوارج.
وقال غيره: أقدمه الرشيد من البصرة إلى بغداد سنة ثمان وثمانين ومئة وقرأ عليه وأسند الحديث إلى هشام بن عروة وغيره، وروى عنه ابن المغيرة الأثرم، وأبو عبيد القاسم بن سلّام، والمازني والسجستاني، وعمرو بن شيبة النميري وغيرهم.
وقال أبو عبيدة: أرسل إليّ الفضل بن الربيع إلى البصرة في الخروج إليه، فقدمت عليه، وكنت أخبر عن تجبّره، فأذن لي فدخلت عليه، وهو في مجلس طويل عريض فيه بساط واحد قد ملأه، وفي صدره فرش عالية، لا يرقى عليها إلّا بكرسيّ، وهو قاعد على الفرش، فسلمت عليه بالوزارة، فردّ وضحك إليّ واستدناني حتى جلست مع فرشه، ثم سألني(7/15)
وبسطني، وتلطّف بي، وقال أنشدني، فأنشدته من عيون أشعار أحفظها، جاهلية. فقال:
قد عرفت أكثر هذه، وأريد من ملح الشعر، فأنشدته فضحك وطرب وزاد بساطا. ثم دخل رجل في زيّ الكاتب، وله هيئة خشنة، فأجلسه إلى جانبي. وقال له: تعرف هذا؟ فقال:
لا، فقال: هو أبو عبيدة، علّامة أهل البصرة، أقدمناه لنستفيد من علمه، فدعا له الرجل، ثم التفت إليّ، وقال لي: كنت إليك مشتاقا، وقد سألت عن مسألة، أفتأذن لي أن أعرّفك إياها، فقلت: هات، فقال «1» : قال الله تعالى: «طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ «2» »
، وإنما يقع الوعد والإيعاد بما قد عرف مثله، وهذا لم يعرف. قال: فقلت: إنّما كلّم الله تعالى العرب على قدر كلامهم، أما سمعت كلام امرئ القيس: [الطويل]
أتقتلني والمشرفيّ مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال «3»
وهم لم يروا الغول قطّ؛ ولكنّه لمّا كان الغول يهولهم أرعدوا به، فاستحسن الفضل ذلك واستحسنه السائل. وأزمعت من ذلك اليوم أن أضع كتابا في القرآن لمثل هذا وأشباهه، ولما يحتاج إليه من علمه. فلمّا رجعت إلى البصرة عملت كتابي الذي سميته (المجاز) ، وسألت عن الرجل فقيل لي هو من كتّاب الوزير وجلسائه.
وقال المازني: سمعت أبا عبيدة يقول: أدخلت على الرشيد فقال لي يا معمر بلغني أنّ عندك كتابا في صفة الخيل، أحبّ أن أسمعه منك، فقال الأصمعي: وما نصنع بالكتب؟
يحضر فرس، ونضع أيدينا على عضو عضو منه، ونسميه ويذكر ما فيه. فقال الرشيد:
يا غلام. فرس. فقام الأصمعي، فجعل يده على عضو عضو منه، ويقول هذا كذا، قال فيه الشاعر كذا، قال فيه الشاعر كذا حتى انقضى قوله. فقال لي الرشيد ما تقول فيما قال؟
قلت: أصاب في بعض وأخطأ في بعض، والذي أصاب فيه متى تعلّمه، والذي أخطأ فيه ما(7/16)
أدري من أين أتى؟ وزعم الباهلي «1» أن طلبة العلم كانوا إذا أتوا مجلس الأصمعي اشتروا البعر في سوق الدّر، وإذا أتوا مجلس أبي عبيدة اشتروا الدرّ في سوق البعر؛ لأنّ الأصمعي كان حسن الإنشاد والزخرفة، رديء الأخبار والأشعار حتى يحسن عنده القبيح، وإن الفائدة عند ذلك قليلة. وانّ أبا عبيدة كان معه سوء عبارة مع فوائد كثيرة وعلوم جمّة، ولم يكن أبو عبيدة يفسّر الشعر.
قال المبرد: كان أبو زيد سعيد بن أوس الأنصاري أعلم من الأصمعي وأبي عبيدة بالنحو، وهما بعده يتقاربان، وكان أبو عبيدة أكمل القوم، وكان ابن المديني يحسن ذكر أبي عبيدة، ويصحّح روايته، ولا يحكي عن العرب الشيء الصحيح، وحمل أبو عبيدة والأصمعي إلى الرشيد للمجالسة، فاختار الأصمعي؛ لأنه كان أصلح للمنادمة وكان أبو نواس يتعلم من أبي عبيدة، وينصفه وينسى الأصمعي ويهجره، فقيل له: ما تقول في الأصمعي؟ فقال: بلبل في قفص. قيل: فما تقول في خلف الأحمر؟ فقال: جمع علوم الناس وفهمها. قيل: فما تقول في أبي عبيدة؟ فقال: ذاك أديم طوي على علم، قال عن تصانيفه تقارب مئتي تصنيف.
وقال أبو عبيدة: لمّا قدمت على الفضل بن الربيع، قال لي: من أشعر الناس؟ قلت:
الراعي «2» . فقال: كيف فضلته على غيره؟ فقلت: لأنه ورد على سعيد بن عبد الرحمن الأموي، فوصل في يومه الذي لقيته فيه، فقال يصف حاله معه؟ [الوافر]
وأنضاء «3» تحنّ إلى سعيد ... طروقا «4» ثمّ عجّلن ابتكارا
حمدن مناخة وأصبن منه ... عطاء لم يكن غده ضمارا(7/17)
فقال له الفضل: ما أحسن ما اقتضيتنا يا أبا عبيدة، ثمّ غدا إلى الرشيد فأخرج له صلة، وأمر لي بشيء من ماله وصرفني.
وكان أبو عبيدة لا تقبل شهادته؛ لأنه كان يتّهم بالميل إلى الغلمان. قال الأصمعي دخلت أنا وأبو عبيدة يوما المسجد، فإذا على الأسطوانة التي يجلس إليها أبو عبيدة:
[البسيط]
صلّى الإله على لوط وشيعته ... أبا عبيدة قل بالله آمينا
فقال: يا أصمعي أمح هذا، فركبت ظهره ومحوته بعد أن أثقلته إلى أن قال: أثقلتني، وقطعت ظهري، فقلت له بقيت الطاء، فقال ويحك هي شرّ. حروف هذا البيت، كتبه أبو نواس. ولد في رجب سنة عشر ومئة، وقيل غير ذلك، والأول أصح لأنه سئل متى ولدت" فقال: قد سبقني إلى الجواب عن مثل هذا عمر بن أبي ربيعة، وقد قيل له متى ولدت؟
فقال: في الليلة التي مات فيها عمر بن الخطاب، فأي خير رفع، وأي شرّ وضع؟ واني ولدت في الليلة التي مات فيها الحسن البصيري، فجوابي جواب عمر بن أبي ربيعة. وتوفي سنة تسع ومئتين، وقيل غير ذلك بالبصرة، وكان سبب موته أن محمد بن القسم بن سهل البوسجاني أطعمه موزا فمات منه، ثم أتاه أبو العتاهية فقدم إليه موزا فقال له: ما هذا يا أبا جعفر؟ قتلت أبا عبيدة بالموز، وتريد أن تقتلني به، استحليت قتل العلماء.
ومنهم:
3- إسحاق بن مرّار الشيباني «13»
مولاهم أبو عمرو النحوي اللغوي صاحب العربية كوفي، نزل بغداد. عرف القبائل بتفضيلها، ركب قفار الفقار «1» وقرأ أسفار الأسفار، وولج البوادي ولجّ حتى جفّت في فم(7/18)
السحاب ريقه الغوادي ونزل على كل خباء، وفصّل عنه بأنباء، ولم يسلم على حفاظه ومحاسنه على ألفاظه؛ بل قبل فيه، وأظهر ما يخفيه، على أنه ما أضاع وتوقى أفاويق «1» الرضاع.
قال ابن خلكان «2» ، هو من رمادة الكوفة، ونزل إلى بغذاد، وحاور شيبان للتأديب فيها فنسب إليها، وكان من الأئمة الأعلام في فنونه، وهي اللغة والشعر والذي قصّر به عند العامة أنه كان مشتهرا بشرب النبيذ، وأخذ عنه جماعة كبار، كالإمام أحمد بن حنبل، وأبي عبيد القاسم بن سلّام، ويعقوب بين السكيت. وقال في حقه: عاش مئة وثماني عشرة سنة، وكان يكتب بيده إلى أن مات، وكان قد قرأ دواوين الشعراء على المفضل «3» ، وكان الغالب عليه النوادر وحفظ الغريب، وأراجيز العرب. قال ولده عمر: ولما جمع أبي أشعار العرب ودوّنها كانت نيّفا وثمانين قبيلة، وكان كلّما عمل منها قبيلة وأخرجها إلى الناس كتب مصحفا، وجعله في مسجد الكوفة، حتى كتب نيفا وثمانين مصحفا بخطّه.
ومنهم:
4- سعيد بن أوس بن ثابت بن زيد بن قيس بن النعمان بن مالك بن نوليّة بن كعب ابن الخزرج «13»
الأنصاري اللغوي البصري أبو زيد، حسبه محض، ولبنه لا يحتاج إلى(7/19)
مخض «1» ، باقي طراز الحسب المذهّب، والنسب الذي يرغب إليه ويرهب. لم تنس أيامه الأول ولا إقدامه أمام الدول، هذا القديم عليا، وعميم سابقه لا يدرك بالأعيا. نشرت أيامها أجنحة نورها، وحدّقت على الليالي وراء سورها، وبرّزت عقايل شموسها تتبرج في لجبها، وتوشّع «2» حلل النهار بذهبها، والزمان كلّه نوائب ويشرق، والضحى لجنبه جامد وذوائب، فبلغ من المجد قصاراه، ونال جلّ ما سمعه ورواه.
قال ابن خلكان: كان من أئمة الأدب، وغلبت عليه اللغة والنوادر والغريب وكان يقوّي رأي القدر، وكان ثقة في روايته.
قال المازني: رأيت الأصمعي وقد جاء إلى حلقة أبي زيد فقبّل رأسه، وجلس بين يديه، وقال: أنت سيّدنا ورئيسنا منذ خمسين سنة.
وقال أبو زيد: حدّثني خلف الأحمر، قال: أتيت الكوفة، لأكتب عنهم الشعر، فبخلوا عليّ به، فكنت أعطيهم المنحول وآخذ الصحيح، ثم مرضت فقلت لهم: ويلكم أنا تائب إلى الله هذا الشعر لي، فلم يقبلوا منّي، فبقي منسوبا إلى العرب. وحكى بعضهم أنه كان في حلقة شعبة بن الحجاج فضجر من إملاء الحديث، فرمى بطرفه فرأى أبا زيد الأنصاري في أخريات الناس فقال: يا أبا زيد: [البسيط]
استعجمت دارميّ ما تكلّمنا ... والدار لو كلّمتنا ذات أخبار
إليّ يا أبا زيد، فجاءه فجعلا يتحدثان ويتناشدان الأشعار، فقال له بعض أصحاب الحديث: يا أبا سطام، نقطع إليك ظهور الإبل لنسمع منك حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فتدعنا وتقبل على الأشعار؟ قال: فغضب شعبة غضبا شديدا، ثم قال: يا هؤلاء، أنا أعلم بالأصلح لي، أنا والله الذي لا إله إلا هو في هذا أسلم مني في ذاك، وقارب المئة، ومات بالبصرة سنة خمس عشرة، وقيل أربع عشرة، وقيل ست عشرة ومئتين «3» .(7/20)
ومنهم:
5- عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع بن مطهّر بن رباح بن عمرو بن عبد شمس الباهلي أبو سعيد الأصمعي البصري «13»
إزاره كميش «1» وإيناره يحيي من يسمع، تتبع ألسنة العرب وجال في آفاقها، وركب واضطرب فيها الصعب والذلول. وصحب المحافظ والملول، ولم يخف هجيرا تلفّح سمومه، ولا برّا بقدح ديمومه؛ بل شقّ الرمال شقّ الأراقم، وشدّ الرحال على الخطب المتفاقم، وسرى وسرّ الليل مبهم والفجر وهم لمن يتوهّم، وقذف في النهار سفن عيشه، وألقى عن الوجناء منن تعريشه «2» ، حتى ولج الأحيا، وتجنب في سؤاله الحيا، فعاد بأمنيّته، وبلغ سؤله قبل منيّته، وهو أحد أئمة اللغة والنحو والغريب والأخبار والملح والنوادر قال يحيى بن معين «3» : كان أعلم الناس بفنه. قال الربيع: سمعت الشافعي يقول: ما عبّر أحد من العرب بأحسن من عبارة الأصمعي. وقال الشافعي: ما رأيت بذلك العسكر أصدق لهجة من الأصمعي. وقال عمر بن شبه «4» ، سمعت الأصمعي يقول، أحفظ ستة عشر ألف أرجوزة. وقال أبو داود السخي، سمعت الأصمعي يقول: إن أخوف ما أخاف على طالب العلم إذا لم يعرف النحو أن يدخل في جملة قول النبي صلى الله عليه وسلم «من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار «5» » لأنه عليه السلام لم يكن يلحن، فمهما رويت عنه ولحنت فقد كذبت عليه.(7/21)
وقال أيضا: من لم يحتمل ذلّ التعليم ساعة، بقي في ذلّ الجهل أبدا. وقال الأصمعي:
رآني أعرابي وأنا أطلب العلم، فقال: يا أخا العرب عليك بلزوم ما أنت عليه؛ فإن العلم زين في المجلس. وصلة من الأحزان وصاحب في الغربة، ودليل على المروءة، ثم أنشأ يقول:
[الطويل]
تعلّم فليس المرء يخلق عالما ... وليس أخو علم كمن هو جاهل
وإنّ كبير القوم لا علم عنده ... صغير إذا التفّت عليه المحافل
وتوفي الأصمعي سنة ثلاث عشرة، وقيل خمس عشرة، وقيل سبع عشرة ومئتين.
ومنهم:
6-[أبو] عبيد القاسم بن سلام الأنصاري «13»
مولاهم البغدادي القاضي، ذكر استحقاقا لا حظّا، واسترقاقا للفضل معنى ولفظا، تقدم في أول السلف وتناسب فعله فما اختلف، زاحم الشماريخ «1» الشمّ وأسمع الآذان الصمّ وهم السادة الجحاجح، وأهل السيادة الرواجح، فأعجز الأنظار وأعجب النظّار، وفاق الأمثال وفات المثال، فجرى ذكره نورا في الأمصار، وحلي لمى في كل ذوق ونقع صدى لكل شوق ثم غيّبه الضريح، ومات فلم يرف دمعه الجفن القريح. أحد أئمة الإسلام فقها ولغة وأدبا، صاحب التصانيف المشهورة، والعلوم المذكورة.
قال محمد بن سعد: كان مؤدبا صاحب نحو وعربية، طلب الفقه والحديث، وولي قضاء ترسوس أيام ثابت بن نصر بن ملك، ولم تزل معه ومع ولده، وقدم بغداد، فسّر بها غريب(7/22)
الحديث وصنّف كتبا، وسمع الناس منه، وحجّ. توفي في مكة سنة أربع وعشرين ومئتين، وقال إبراهيم بن أبي طالب: سألت أبا قدامة عن الشافعي وابن حنبل وإسحاق وأبي عبيد، فقال: أما أفهمهم فالشافعي، وأما أورعهم فأحمد بن حنبل، وأما أحفظهم فإسحاق، وأما أعلمهم بلغات العرب فأبو عبيد، وقال إسحاق بن راهويه: «1» لله أبو عبيد الله، أفقه مني وأعلم مني، أبو عبيد أوسعنا علما، وأكثرنا أدبا، وأجمعنا جمعا. إنّا نحتاج إلى أبي عبيد، وأبو عبيد لا يحتاج إلينا.
وقال الإمام أحمد: أبو عبيد ممن يزداد كل يوم عندنا خيرا. وقال أيضا: أبو عبيد أستاذ.
وقال يحيى بن معين: ثقة. وقال، وقد سئل عن أبي عبيد: أبو عبيد يسأل عن الناس. وقال أبو داود: ثقة مأمون. وقال الدارقطني: إمام ثقة جلّ وسلّام والده رومي. وقال الإمام: هو الإمام المقبول عند الكل. وقال إبراهيم الحربي: أدركت ثلاثة لن ترى مثلهم أبدا، تعجز النساء أن تلد مثلهم، رأيت أبا عبيد القاسم بن سلّام، ما سألته إلّا كأنه جبل نفخ فيه روح ورأيت بشر بن الحارث «2» فما شبّهته إلا برجل ملئ من فرقه إلى قدمه عقلا، ورأيت أحمد ابن حنبل فرأيت كأنّ الله جمع له علم الأولين من كل صنف، يقول ما يشاء ويمسك ما شاء وقال أحمد بن حنبل بن خلف القاضي: كان أبو عبيد فاضلا في دينه وعلمه، ربانيا مفتيا في أصناف من علوم الإسلام من القرآن والفقه والأخبار والعربية، حسن الرواية صحيح النقل، لا أعلم أحدا من الناس طعن عليه في شيء من أمره ودينه.
وقال عبد الله بن أحمد: عرضت كتاب الغريب لأبي عبيد على أبي فاستحسنه، وقال جزاه الله خيرا. قال وكتبه أبي. قال الحارث بن أبي أسامة: حمل غريب الحديث لأبي عبيد إلى عبد الله بن طاهر، قال: فلما نظر فيه قال: هذا رجل عاقل دقيق النظر، فكتب إلى إسحاق بن إبراهيم بأن يجري عليه في كل شهر خمسمئة درهم وقال هلال بن العلا الرقّي:(7/23)
منّ الله على هذه الأمة بأربعتهم في زمانهم بالشافعي يفقه بحديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وبأحمد بن حنبل ثبت في المحنة، ولولاه كفر الناس. ويحيى بن معين «1» نفى الكذب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وبأبي عبيد القاسم بن سلام فسّر الغريب من حديث رسول صلى الله عليه وسلم، ولولا ذلك لا قتحم في الخطأ. وكان أبو عبيد قد جزّأ الليل ثلاثة أجزاء، فثلثا ينام وثلثا يصلّي وثلثا يطالع الكتب، وصنّف كتبا كثيرة في القرآن والفقه وغريب الحديث وغريب المصنّف والأمثال ومعاني الشعر، وغير ذلك نحو بضعة وعشرين كتابا. وقال الفسطاطي: كان أبو عبيد مع عبد الله بن طاهر فوجّه إليه أبو دلف يستهديه أبا عبيد منه شهرين، فأنفذ أبا عبيد إليه فأقام شهرين، فلمّا أراد الانصراف وصله أبو دلف ثلاثين ألف درهم، فلم يقبلها، وقال: أنا في جنّة ما تحوجني إلى صلة غيره، ولا أجد ما فيه على نقص، فلمّا عاد إلى ابن ظاهر وصله بثلاثين ألف دينار بدل ما وصله أبو دلف، فقال له: أيها الأمير قد قبلتها منك، ولكن قد أعييتني بمعروفك وبرّك وكفايتك عنها، وقد رأيت أن أشتري بها سلاحا وخيلا، وأوجّه إلى الثغر؛ ليكون الثواب متوفرا على الأمير ففعل. قال البخاري: مات أبو عبيد سنة أربع وعشرين ومئتين، وقال غيره سنة ثلاث وعشرين بمكة، وقيل سنة ثلاثين في خلافة المعتصم.(7/24)
ومنهم:
- 7- أبو عبد الله محمد بن زياد «13»
المعروف بابن الأعرابي الكوفي اللغوي، مولى آل العباس ابن محمد الهاشمي، حذّ ركابه أغذاذا «1» وقطّع اغترابه كبد الفلاة أفلاذا وعلا اهتماما. ورشا شماما «2» ، وأفاد جلّ الفوائد، وولّد الكلم مع ألف وائد «3» ، وكان سريع الاستحضار، سري الحصار تحضره الأماثل، وتنتابه وتقدمه على المماثل، وتهابه كشقق من أكنار «4» ، ويعطي عطاء الإينار، أشرقت ليلة مولده بنجمه الطالع، وقد أودعت الثرى قمرها، وظن الموت أنه قد قبرها، فما أبعدت إلّا كارتداد الطرف، ووفت بقيمه الدنيا الذي قبضه الصّرف.
قال ثعلب: لزمت ابن الأعرابي تسع عشرة سنة، وكان يحضر مجلسه زهاء مئة إنسان، ما رأيت بيده كتابا قطّ. وسمعته يقول: ولدت في الليلة التي مات فيها أبو حنيفة سنة خمسين ومئة «5» ، وذكره أبو منصور الأزهري الهروي «6» في كتابه. فقال، كوفي الأصل، صالح زاهد، ورع صدوق، حفظ من الغريب والنوادر ما لم يحفظه غيره، وسمع من الأعراب(7/25)
الذين ينزلون بظاهر الكوفة، بني أسد، وبني عقيل، فاستكنّ. وأخذ عن الكسائي النحوي، وكان أبوه سنديا، أكثر السماع من المفضّل الضبّي، وهو زوج أمه، وله عدّة تصانيف، توفي سنة إحدى وثلاثين ومئتين، ولم يكن في الكوفيين أشبه برواية البصريين منه. يزعم أنّ الأصمعي وأبا عبيد لا يعرفان شيئا.
ومنهم:
8- أبو يوسف يعقوب بن السكّيت «13»
رجل قصده معروف، ورفده في سبيل الخير مصروف حاط العلم فلم يخرج عن دائرته، ولم يلج جحر غيره لمعايرته، علق بالخليفة، ووضحت إليه سبله، وسفحت سحابه ووبله، فاستوثق بسبب هاشمي لا ينقطع، وشدّ منه بوتد لا ينقلع فمدّ عليه الظل كهفه، وامتدّت إليه بالفضل كفّه، وكان ممن يسرف بالحضور لديه ويوالي السرور بالإقبال عليه، وكان خليقا يقرب إمامه وورث صنيعه واهتمامه، لم يوله الدهر إلا ما استحق، ولا قضى له إلّا بحق.
ذكره الحافظ ابن عساكر فقال: حكى عن أبي عمرو وإسحاق بن مراد ومحمد بن مهنى وابن السماك الواعظ، وحكى عنه أحمد بن الفرج المقري «1» ، ومحمد بن عجلان، وأبو عكرمة الضبّي وأبو سعيد السكري، وميمون بن هارون الكاتب، وكان يؤدب أولاد المتوكل. وروي عن ابن السماك أنه قال: من عرف الناس داراهم، ومن جهلهم ماراهم ورأس المداراة ترك المماراة. وروى أيضا عن الأصمعي، وأبي عبيدة والفراء وغيرهم، وهو مؤلف كتاب إصلاح المنطق، وغيره، ولم يكن له نفاذ في علم النحو، وكان يميل إلى مذهب من(7/26)
يرى تقديم علي بن أبي طالب رضي الله عنه «1» .
قال أحمد بن عبيد «2» : وشاورني ابن السكيت في منادمة المتوكل فنهيته فحمل قولي على الحسد. ونادمه، فبينا هو مع المتوكل إذ أقبل ابناه المعتز والمؤيد، فقال المتوكل: يا ابن السكيت، أيّما أحبّ إليك ابناي هذان أم الحسن والحسين؟ فغضب ابن السكيت من ابنيه، وذكر الحسن والحسين بما هما أهله، فأمر الأتراك فداسوا بطنه، فحمل إلى داره فمات. وقيل إنه قال: والله إنّ قنبر خادم عليّ (رضي الله عنه) خير منك ومن ابنيك. فقال: سلّوا لسانه من قفاه، ففعلوا ذلك، فمات، وذلك لخمس خلون من شهر رجب سنة أربع وأربعين ومئتين، وقيل سنة ست وأربعين. وبلغ عمره اثنتين وخمسين سنة.
وقال المبرد: ما رأيت للبغداديين كتابا أحسن من كتاب ابن السكيت في المنطق «3» .
وقال: أجمع أصحابنا أنه لم يكن بعد ابن الأعرابي أعلم باللغة من ابن السكيت. قال ابن أبي شدّاد: شكوت إلى ابن السكيت ضائقة، فقال: هل قلت شيئا؟ قلت: لا. قال: فأقول أنا، ثم أنشدني: [البسيط]
نفسي تروم أمورا لست مدركها ... ما دمت آخذ ما يأتي به القدر
ليس ارتحالك في كسب الغنى سفرا ... لكن مقامك في ضرّ هو السفر
وقال: كتب رجل إلى صديق له قد عرضت لي قبلك حاجة، فإن نجحت فألفاني فيها حظي والباقي حظك. وإن تعذرت فالخير مظنون بك والعذر مقدم لك والسلام.
ولمّا جاءه المعتز ليؤدبه، فقال له: بأي شيء تبدأ؟ أتريد من العلم؟، فقال المعتز بالانصراف. قال له ابن السكّيت، فأقوم، فقال له المعتز: فأنا أخفّ نهوضا منك، فقام، فاستعجل، فعثر بسراويله فسقط، والتفت إلى ابن السكّيت خجلا، وقد احمرّ وجهه،(7/27)
فأنشد ابن السكيت: [الطويل]
يصاب الفتى من عثرة بلسانه ... وليس يصاب المرء من عثرة الرّجل
فعثرته في القول تذهب رأسه ... وعثرته بالرّجل تبرى على مهل
فلما كان من الغد دخل ابن السكيت على المتوكل، فأخبره بما جرى، فأمر له بخمسين ألف درهم، وقال له، قد بلغني البيتان. وقال ابن خلكان: وكان لا بن السكّيت شعر، وهو ممّا تثق النفس به، فمن ذلك قوله: [الوافر]
إذا اشتملت على اليأس القلوب ... وضاق لما به الصّدر الرّحيب
وأوطنت المكاره واستقرّت ... وأرست في أماكنها الخطوب
ولم تر لا نكشاف الضرّ وجها ... ولا أغنى بحيلته الأريب
أتاك على قنوط منك غوث ... تمنّ به اللطيف المستجيب
وكلّ الحادثات إذا تناهت ... فموصول بها فرج قريب «1»
ومنهم:
9- سهل بن محمد بن عثمان بن يزيد الجشمي السجستاني «13»
اللغوي المقري أبو حاتم، نزيل البصرة وعالمها وسابح لججها الغزار، وعائمها. سبق في الأدب إحسانا، ونطق للعرب لسانا، وكان لا يفلّ غربه «2» ، ولا يستنفذ عضبه «3» ، ولم يكن مثله من جشم ولا مثله مهابا في غير حشم، لم يزل تؤم منه سهلا، ويؤمل منه ما كان(7/28)
له أهلا، تتوسّمه فلا ترى محيّاه إلا طلقا، ولا ترد ماءه إلّا طرقا «1» . ولم يكن شبهة في حساب، ولا في خلائق بغير اكتئاب.
قال ابن خلكان «2» : كان إماما في علوم الآداب، وأخذ عنه علماء عصره، كابن دريد والمبرّد وغيرهما، وكان حسن العلم بالعروض، وإخراج المعمّى، وكان صالحا عفيفا، يتصدّق كل يوم بدينار، ويختم القرآن في كل أسبوع. وكان إذا اجتمع مع المازني في دار عيسى بن جعفر الهاشمي يشاغل حلقته، وكان غلاما وسيما، فقال فيه أبو حاتم: [مجزوء الكامل]
ماذا لقيت اليوم من ... متمجّن خنث الكلام
حركاته وسكونه ... تجنى بها ثمر الأنام
وإذا خلوت بمثله ... وعزمت فيه على اعتزام
لم أعد أفعال العفا ... ف وذاك أوكد للغرام
نفسي فداؤك يا أبا ال ... عبّاس جلّ بك اعتصامي
فارحم أخاك فإنّه ... نزر الكرى بادي السّقام
وأنله ما دون الحرا ... م فليس يرغب في الحرام
ومن شعره قوله، وأظنه في المبرّد أيضا: [مجزوء الخفيف]
أبرزوا وجهه الجمي ... ل ولاموا من افتتن
لو أرادوا عفافنا ... ستروا وجهه الحسن
وكانت وفاته في المحرم، وقيل في رجب سنة ثمان وأربعين ومئتين بالبصرة.(7/29)
ومنهم:
10- أبو الفضل العباس الفرج الرياشي النحوي اللغوي البصري «13»
ذو حّد. ترك السيف مسلولا، وردّ الجيش مفلولا، كان يرجع إلى أكرومة وحسب وأرومة «1» وحبّ بكرم على الوجود مطلولا، والجود مملولا، ولم يزل منذ كان خيط عهاده محلولا، ومنهل ورّاده معلولا. عانى الطلب ففتح عليه، ومنح ما لم يصل فسعى إليه. ولم يبق تخوما «2» قصده، ولا عدوا ما حصده، ولا نجم عليا ما رصده، فما وفى بحق شكره لسان ولا سطع مثله محمر ورد عليه كافور سوسان.
قال ابن خلكان: كان راوية ثقة عالما بأيام العرب كثير الاطلاع. وروى عن الأصمعي وأبي عبيدة، وروى عنه الحربي وابن أبي الدنيا. ومما روى عن الأصمعي قال: مرّ بنا أعرابي ينشد ابنا له، فقلنا: صفه لنا، فقال، كأنه دنينير، فقلنا له: لم نره، فلم نلبث أن جاء بصغير أسود كأنه جعل «3» ، قد حمله على عنقه، فقلنا له، لو سألتنا عن هذا لأرشدناك، فإنه ما زال اليوم بين أيدينا، ثم أنشد الأصمعي: [المنسرح]
نعم ضجيع الفتى إذا برد اللي ... ل سحيرا وقرقف الصّرد
زيّنها الله في الفؤاد كما ... زيّن في عين والد ولد
قتل بالبصرة بأيدي الزنج في شوال سنة سبع وخمسين ومئتين وسئل في عقب ذي الحجة سنة أربع وخمسين ومئتين، كم تعد سنة قال: أظن سبعا وسبعين «4» .(7/30)
ومنهم:
11- أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدّينوري «13»
وقيل المروزي النحوي اللغوي، بلغ من الغاية مبلغها، وملك من مطالع الشموس مبزغها، رغب في العلم فحصر الخلطا وحنى البطا «1» ، وقرب الأمد، وقصّر المدد، وكان يرجع إلى ورع، يكفّ الخطرات وينم عرفه عن برودة العطرات، فسقت عهده السماء بريعها، وحفظت دهمه في مراعيها وأخذ عنه الثقات، والتقت عليه الطرقات، ثم كان في الفضائل بدر أفقها وبحر تدفّقها، وسحاب علمها الممتدّ الطراف، ومعلم علمها المذهّب الأطراف.
قال ابن خلكان: كان فاضلا ثقة ديّنا، سكن بغداد، وحدّث بها عن ابن راهويه، وأبي إسحاق الزيادي، وأبي حاتم السجستاني، وروى عنه أحمد وابن درستويه، وتصانيفه كلّها مفيدة وله: المعارف، وأدب الكاتب «2» ، والإقواء «3» وغير ذلك.
ولد سنة ثلاث عشرة ومئتين، وتوفي فجأة في ذي القعدة سنة ست وسبعين على أصح الأقوال. وذكر محمد بن اسحاق النديم أن ابن قتيبة كوفي، ولي قضاء الدينور. وقال غيره إنه أكل هريسة حارّة فصاح منها ثم هذى، فمازال يتشهد إلى السحر ومات.(7/31)
ومنهم:
12- أبو بكر بن دريد «13»
وهو محمد بن الحسن بن دريد بن عتاهية بن حنتم الأزدي اللغوي البصري. رجل كلامه يداوي المغيظ، وكرمه يفرج اللظيظ «1» ، وعلمه يعلّم الجهول، ويفهّم الذهول، ويعرّف بلسان العرب من جهله، ويرد بإحسان الطلب منهله، بفطن أذابت ما جمد من الألباب، وأذكت ما خمد من الالتهاب، ففتّقت كمام الأفهام، ودفقت جمام الإبهام، فأبدت دقائق العلم وبينت فيه شرفه المخول المعم، فمدّت إليه وهو أخفى من مدارج النمال، وأسرع تغيرا من مناهج الرمال، فأضرب كل ضريب عن مداناته، ولم يحمل فهمه السقيم قدر مداواته.
قال المسعودي: كان ابن دريد ببغداد ممن برع في زماننا هذا في الشعر وانتهى في اللغة، فقام مقام الخليل بن أحمد فيها، وكان يذهب إلى الشعر كل مذهب، فطورا يجزل وطورا يرق، وشعره أكثر من أن نحصيه أو نأتي على أكثره، ومن جيّد شعره مقصورته الفائقة.
قال: وقد عارضه فيها جماعة من الشعراء، منهم أبو القاسم بن أبي الفهم الأنطاكي. ومن ملح شعره: [الكامل]
غرّاء لو جلت الخدور شعاعها ... للشمس عند طلوعها لم تشرق
غصن على دعص تأوّه فوقه ... قمر تألّق تحت ليل مطبق
لو قيل للحسن احتكم من بعدها ... أو قيل خاطب غيرها لم ينطق
وكأننا من فرقها في مغرب ... وكأننا من وجهها في مشرق
تبدو فيهتف في العيون ضياؤها ... الويل حلّ بمقلة لم تطبق «2»(7/32)
ولد بالبصرة في سكة صالح سنة ثلاث وعشرين ومئتين، ونشأ بها وأخذ عن السجستاني والرياشي وغيرهما، ثم انتقل إلى عمان وأقام بها اثنتي عشرة سنة، ثم عاد إلى البصرة، وسكنها زمانا، ثم خرج إلى نواحي فارس بصحبة ابني ميكال، وعمل لهما كتاب الجمهرة، وقلّداه ديوان فارس، وكانت الكتب تصدر عن رأيه، ولا ينفذ إلا بعد توفيقه، فأفاد أموالا عظيمة، وكان لا يمسك درهما سخاء وكرما، ثم أتى بغداد سنة ثمان وثلثمئة بعد انتقال بني ميكال إلى خراسان. وأجرى عليه المقتدر خمسين دينارا في كل شهر، ولم تزل عليه إلى حين وفاته.
وكان واسع الرواية لم ير أحفظ منه، تقرأ عليه دواوين العرب، ويسابق إلى إتمامها حفظه.
وسئل الدارقطني أثقة هو أم لا، فقال: تكلموا فيه. وقال الأزهري: دخلت عليه فرأيته سكران، فلم أعد إليه. وقال ابن شاهين: كنا ندخل فنستحي مما نرى من العيدان المعلقة والشراب المصفّى. وذكر أن سائلا سأله أشياء فلم يكن عنده غير دنّ من نبيذ فوهبه له، فأنكر عليه بعض غلمانه، وقال: تتصدّق بالنبيذ، فقال: لم يكن عندي شيء سواه، ثم أهدي له بعد ذلك عشرة دنان من النبيذ فقال لغلامه: أخرجنا دنا فجاءنا عشرة.
وعرض له رأس السبعين من عمره فالج ثم سقي الترياق فبري وصحّ، ورجع الى أحسن أحواله، ثم عاوده الفالج بعد سنة لغذاء كان يتناوله فظل ثم كان يقول: [الطويل]
فواحزني أن لا حياة لذيذة ... ولا عمل يرضى به الله صالح
وتوفي يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقين من شعبان سنة إحدى وعشرين وثلثمئة، ودفن بالمقبرة المعروفة بالعباسية، وهو اليوم الذي مات فيه الجبائي المتكلم. فقال الناس اليوم مات علم اللغة والكلام.(7/33)
ومنهم:
13- إسماعيل بن القاسم بن عيذون بن هارون بن عيسى بن محمد بن سليمان القالي «13»
اللغوي مؤلف غرائب سهل مساغها وحجل أرساغها، فردّ منها ما ندّ، وأقبل ما صدّ.
ربى في ظلّ دوحة فرعاء، وأهل أمانة واستدعاء، فحلّق قشعما، وقشع من عمى، فكفى النوازغ، وكفل الأهلة البوازغ، ودجت الشبهة فكشط جلدتها، وحفظ المعاني وجدّتها، فسالت العلوم بالمذانب، وسارت بالمقالب، وجلس جلوس الشيوخ في ثبات «1» المراتب، وجرى جريا قصرت دونه خطا الأرانب، وطار من مشرق الشمس إلى مغربها، وأتى ملوك تلك البلاد بأدبها، وكان بأماليه للجحور مالئا وللثغور كالئا «2» ، إلا أنه هجر أوطانه ساليا، وترك بلاده، فلا عجب إن قيل قاليا. هذا إلى سعة معارف، وسمعة عوارف. جازبها البلاد برّا وبحرا وأفنى من بطون الجواري وظهور الخيل بطنا وظهرا.
[قال] ابن خلكان: كان أحفظ أهل زمانه في اللغة والشعر ونحو البصريين، أخذ الأدب عن ابن دريد وابن الانباري ونفطويه وغيرهم، وطاف البلاد.
سافر إلى بغداد ثم خرج إلى الأندلس، ودخل قرطبة واستوطنها، ومولده في جمادى الآخرة سنة ثمان وثمانين ومئتين، وتوفي في ربيع الآخر وقيل في جمادى الأولى سنة ست وخمسين وثلثمئة ليلة السبت لست خلون منه «3» .(7/34)
ومنهم:
14- أبو منصور محمد بن أحمد بن الأزهر «13»
الأزهري الهروي اللغوي الإمام المشهور في اللغة. حاز صنوف الفضائل وجمعها، وشذّب أنوف القبائل وجدعها، علا محلّا وفضل كل مجلّى ... ، وترقى غاية تتشكى دونها الرياح الكلال، ويتوقى الليل منجنون «1» الهلال، فجمع مالم يجمع، وسمع ما لم يسمع، فقصّر فيه الإطناب، ومدّ على السماء الأطناب، وملأ عجبا بما نشر، وبلغ طلبا ما كان ليظنّ لبشر، فتقدم ذكرا، وكفل أيامى الكلم وكأنما كفل كلّا منهن بكرا.
قال ابن خلكان: كان فقيها شافعي المذهب، غلبت عليه اللغة فاشتهر بها متفق على فضله وثقته ودرايته وورعه. روى عن المنذري اللغوي وعن ثعلب وغيره، ودخل بغداد وأدرك بها ابن دريد، ولم يرو عنه، وأخذ عن نفطويه، وابن السراج، وقيل إنه لم يأخذ عنه.
وطاف في أرض العرب في طلب اللغة، وروى بخطه قال:
امتحنت بالأسر سنة عارضت القرامطة الحاج بالهبير، كان القوم الذين وقعت سهمهم عربا نشأوا في البادية، يتبعون مساقط الغيث أيام النجع «2» ، ويرجعون إلى إعداد المياه في محاضرهم زمان القيظ، ويرعون النعم، ويعيشون بألبانها، ويتكلمون بطباعهم البدوية، ولا يكاد يوجد في منطقهم لحن أو خطأ فاحش، فبقيت في أسرهم دهرا طويلا. وكنّا نشتي بالدهناء ونربع بالصّمّان ونقيظ بالسّتارين «3» . واستفدت من محاورتهم ومخاطبة بعضهم(7/35)
بعضا ألفاظا جمّة، ونوادر كثيرة، أوقعت أكثرها في كتابي، يعني التهذيب «1» . وذكر في تضاعيف كتابه أنه أقام بالصمّان شتوتين. وكان أبو منصور المذكور جامعا لشتات اللغات مطلعا على أسرارها ودقائقها.
وصنّف في اللغة كتاب التهذيب، وهو أكثر من عشرة مجلّدات، وله تصنيف في غريب الألفاظ التي يستعملها الفقهاء في مجلّد واحد. وهو عمدة الفقهاء في تفسير ما يشكل عليهم من اللغة المنغلقة بالفقه وكتاب التفسير، وكتب ولادته سنة اثنتين وثمانين ومئتين، وتوفي سنة سبعين وثلثمئة في أواخرها، وقيل سنة إحدى «2» بمدينة هراة رحمه الله تعالى.
ومنهم:
15- أبو عمر محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم البغدادي «13»
المعروف بالمطرّز غلام ثعلب. بحر لا يقاس، وجواد لا يخوّف بلزز «3» ، ملك ألسنة العرب بأطرافها، وقاد وشزب «4» اللغات بأعرافها، ولم ينس ما حفظ، ولا غاب عنه ما لحظ، فكان لا يذهب محفوظ من ذاكرته ولا يرهب عند محاضرته. وقد جدّ به أهل النقد فلم يروا له زيفا، وجهدوا ولم يروعوا له طيفا، فخجل مبكوه، ووجل قوم ظنّوا أن يسكتوه، وعلم أنّه الحافظ الذي قلّ أن ينسى، والمحافظ الذي به يتأسى، فلم يبق إلّا من علم أنه المبرّز؛ وأنّ علم ردائه لا يرقم مثله إلّا المطرّز.(7/36)
قال الخطيب: سمعت غير واحد يحكي عن أبي عمران: الأشراف والكتّاب كانوا يحضرون عنده؛ ليسمعوا منه كتب ثعلب وغيرها، وكان له جزء قد جمع فيه فضائل معاوية، فكان لا يترك واحدا منهم يقرأ عليه شيئا حتى يبتدئ بقراءة ذلك، وكان جماعة لا يوثّقون أبا عمر في علم اللغة حتى قال لي عبيد الله بن أبي الفتح فقال: إن أبا عمر لو طار طائر لقال حدّثنا ثعلب عن ابن الأعرابي، ويذكر في معنى ذلك شيئا. فأما الحديث فرأيت جميع شيوخنا يوثّقونه فيه. وحدثنا ابن أبي علي عن أبيه قال: ومن الرواة الذين لم نر أحفظ منهم أبو عمر غلام ثعلب، أملى من حفظه ثلاثين ألف ورقة لغة فيما بلغني، وجميع كتبه إنما أملاها بغير تصنيف ولسعة حفظه اتّهم، وكان يسأل عن الشيء الذي يقدّر السائل أن واضعه مجيب عنه، ثم يسأل غيره بعد سنة فيجيب بجوابه؛ أخبرت أنه سئل عن قنطرة صحفت، فقيل له: ما القنطرة؟، فقال: هي كذا. قال: فتضاحكنا.
ولمّا كان بعد شهور هيّأنا من سأله عنها، فقال: أليس قد سئلت عن هذه منذ شهور وأجبت.
قال الخطيب: حكى لي رئيس الرؤساء أبو القاسم علي بن الحسن «1» عمّن حدّثه أن أبا عمر الزاهد كان يؤدب ولد القاضي أبي عمر محمد بن يوسف، فأملى يوما على الغلام ثلاثين مسألة لغة، وختمها ببيتين. وحضر ابن دريد وابن الأنباري، وأبو بكر بن مقسم عند القاضي، فعرض عليهم المسائل، فقال ابن الأنباري: أنا مشغول بتصنيف مشكل القرآن، وقال ابن مقسم: أنا مشغول بالقراءات، وقال ابن دريد هي من وضع أبي عمر: فبلغ أبا عمر ذلك، فسأل القاضي إحضار دواوين جماعة عيّنهم له، ففتح خزانته، وأخرج تلك الدواوين.
فلم يزل أبو عمر يعمد إلى كل مسألة، ويخرج له شاهدا ويعرضه على القاضي حتى تمّمها. «2»
ثم قال: والبيتان أنشدناهما ثعلب بحضرة القاضي، وكتبها القاضي على ظهر الكتاب(7/37)
الفلاني، فأحضر القاضي الكتاب فوجدهما، وانتهى الخبر إلى ابن دريد، فما ذكر أبا عمر بلفظة حتى مات. ثم قال رئيس الرؤساء: وقد رأيت أشياء كثيرة ممّا استنكر على أبي عمر ونسب إلى الكذب فيها مدوّنة في كتب أئمة العلم وخاصة في غريب «1» المصنف لأبي عبيد، أو كما قال.
قال عبد الواحد بن برهان: لم يتكلم في علم اللغة أحد من الأولين والآخرين أحسن من كلام أبي عمر الزاهد، وله غريب الحديث ألّفه على مسند أحمد.
وقال أبو الحسن بن المرزبان: كان ابن ماسي ينفذ إلى أبي عمر غلام ثعلب وقتا بعد وقت كفايته ما ينفق على نفسه، فقطع مدة لعذر، ثم أنفذ إليه جملة ما كان في رسمه وكتب إليه يعتذر فردّه، وأمر من كتب على ظهر رقعته، ألزمتنا فملكتنا ثم أعرضت عنّا فأرحتنا.
قال الخطيب: وابن ماسي لا أشكّ أنه إبراهيم بن أيوب والد أبي محمد.، وأخبرني عباس بن عمر. قال: سمعت أبا عمر الزاهد يقول:
ترك قضاء حقوق الإخوان مذلة، وفي قضاء حقوقهم رفعة.
توفي أبو عمر سنة خمس وأربعين وثلثمئة.
واعتلّ أبو علي محمد بن الحسن الحاتمي، فتأخر عن مجلس أبي عمر، فسأل عنه فقيل إنه كان عليلا، فجاءه من الغد، فاتفق أن كان في الحمام، فكتب بخطّه على بابه. [المتقارب]
وأعجب شيء سمعنا به ... عليل يعاد فلا يوجد(7/38)
ومنهم:
16- أبو علي الحسين بن محمد بن خالويه «13»
النحوي اللغوي. أتته الغرائب فداوى دويّها ودارى سويّها، فأكفى موادّها وألفت صوادها، وقرّبها للمتناول وقرّبها في يد المتطاول، فقصّر طيلها «1» ، وغلب حيلها، ويسّرها للطالب فدنت لمرامه، وذكت في ضرامه، وحسرت له عن لثامها، وحذرت إلّا من لمامها، ثم لم يبرح في كسر بيته، ومعادا له أكثر قوته، حتى عوجل بموته، ومدّ حجاب الصريح دون صوته، إلا أنه لم يخل مثله في سالف العصور، ولا نهض مثل نهضه الليث الهصور.
قال ابن خلّكان: أصله من همذان، دخل بغداد، وأدرك جلّة العلماء، وبها أبو بكر الأنباري، وابن مجاهد المقرئ «2» ، وأبو عمر الزاهد، وابن دريد وأخذ عنهم، وقرأ على السيرافي، وانتقل إلى الشام واستوطن حلب، وصاربها أحد أفراد الدهر في كل قسم من أقسام الأدب، وكانت إليه الرحلة من الآفاق، وآل حمدان يكرمونه. وقال: دخلت يوما على سيف الدولة بن حمدان، فلّما مثلت بين يديه، قال لي: اقعد ولم يقل اجلس، فتبينت اعتلاقه بأهداب الأدب أن يقال للقائم اقعد، وللنائم أو الساجد اجلس.
ولا بن خالويه مع المتنبي مجالس ومباحث عند سيف الدولة، وله شعر. وأنشد الثعالبي في كتاب اليتيمة قوله: [الطويل]
إذا لم يكن صدر المجالس سيد ... فلا خير فيمن صدرّته المجالس
وكم قائل مالي رأيتك راجلا ... فقلت له: من أجل أنّك فارس(7/39)
وتوفي بحلب سنة سبعين وثلثمئة للهجرة «1» .
ومنهم:
17- أبو محمد يوسف بن أبي سعيد بن الحسين بن عبد الله بن المرزبان السيرافي «13»
النحوي اللغوي الأخباري الفاضل ابن الفاضل أبو المناضل ابن الناضل «2» ؛ بزّ السلف الخالي، وبرز في الخلف التالي. لم يعقه السؤدد عن تأدية المفترض، ولا أوقف سهمه ذو الغرض، شرّف قدره العلم وأحلّه، وعلّمه حتى قهر حاسده، وأذلّه وحيّره على علم وأضلّه.
وكان يهب الدهر ذنوبه ويستر على التقصير عيوبه، ويباري البحر العذب ويستل الغطا، فلا يكشفه الجدب لفضائل لم تملك غيره فهاما ملك، ولا سلك منها فوق سبيل الجرّة ما سلك.
قال ابن خلكان: كان عالما بالنحو، وتصدّر في مجلس أبيه بعد موته، وخلفه على ما كان عليه، وكان يفيد الطلبة في حياة أبيه، وأكمل كتابه المسمى بالإقناع، وهو كتاب جليل، ثم صنّف كتبا عدة جلائل، وكانت كتب اللغة تقرأ عليه مرة رواية ومرة دراية، ولد سنة ثلاثين وثلثمئة، وتوفي ليلة الأربعاء لثلاث بقين من ربيع الأول سنة خمس وثمانين وثلثمئة للهجرة، وعمره خمس وخمسون سنة وشهور، ودفن من الغد «3» .(7/40)
ومنهم:
18- أحمد بن فارس بن زكريا بن محمد بن حبيب الرازي اللغوي، أبو الحسين، نزيل همذان «13»
لا يدركه سعي مجد ولا يفركه سعد مستجد، اغتنى به مجده، واعتلى برتبه جدّه حتى تدفقت المجرّة نهرا في حديقته، ودلّت تباشير الصبح على حقيقته، وقامت وراءه الثريا تقتفي آثار خطاه والجوزاء تحدب ممتطاه، حتى لم ير الشمس دون قلله إلا زائلة.
قال ابن خلكان «1» : إمام في علوم شتى، وخصوصا في اللغة، فإنه أتقنها وألف كتابه (المجمل في اللغة) ، وهو على اختصاره، جمع شيئا كثيرا، وكان مقيما بهمذان، وعليه اشتغل بديع الزمان، وأنشد له قوله: [السريع]
مرّت بنا هيفاء مجدولة ... تركية تنمي لتركيّ
ترنو بطرف فاتر فاتن ... أضعف من حجّة نحويّ
[وقوله] «2» : [مجزوء الكامل]
اسمع نصيحة ناصح ... جمع النّصيحة والمقه «3»
إياك واحذر إن بلي ... ت من الثّقات على ثقه
وقوله: [المتقارب]
إذا كنت في حاجة مرسلا ... وأنت بها كلف مغرم
فأرسل حكيما ولا توصه ... وذاك الحكيم هو الدرهم(7/41)
وتوفي بالريّ سنة خمس وسبعين وثلاثمئة، وقيل سنة سبعين، وقال ياقوت سنة تسع وتسعين.
ومنهم:
19- أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري «13»
أنس بالقفار واجتنى كلّ خلوة، قرّب لغة العرب وآنس منها ما اغترب، وكفى شرّ ألّا يجاحّ «1» ، وجاء بما لا ينكر للجوهري من الصحاح. هو الذي فاق سعادة جدّه، وأمات ذكره كل كتاب في جلده. لم يسبق إلى وضعه، وما أتى فيه من صنعه لما أتى به فيه من حسن الترتيب وقرب المأخذ في التبويب، فجمع في الأمور ملاكها، ومن لغة الجمهور أسلاكها، وهو اليوم مرادّ الأمل ومراد العمل، وشهرته وافية بذكره، كافية في شكره. يعتّق منه الألوة «2» ، ويشرق المحاسن المجلوة، ولا تتميز قيم الفرائد ما لم تكن منسوبة إلى صحاحه، ومحسوبة فيما وسم بصلاحه فلو دعا الأصمعي لعذر مثله في السرد، أو انتظمت أقوال النظّام لأنبت به الجوهر الفرد.
وهو من أعاجيب الدنيا ذكاء وفطنة وعلما. وأصله من الفاراب من بلاد الترك. وكان يضرب به المثل في اللغة وفي حسن الكتابة، ويذكر خطّه مع خط ابن مقلة ومهلهل واليزيدي. وكان يؤثر الغربة على الوطن، ودخل بلاد ربيعة ومضر في طلب الأدب، وحين قضى وطره من قطع الآفاق، والأخذ من علماء الشام والعراق عاود خراسان، فأنزله أبو علي الحسن بن علي الكاتب عنده، وبالغ في إكرامه ثم سكن نيسابور يدرّس ويؤلف ويعلّم(7/42)
الكتابة ويكتب الختم.
ومن العجب أن أهل مصر يروون صحاحه عن ابن القطّاع، ولا يرويه أحد بخراسان، وقد قيل: إن ابن القطّاع رتب له طريقا لمّا رأى رغبة المصريين فيه فرواه لهم في كتابه أشياء لا شك أنها نقلت من صحف فصحفت على الجوهري فانتدب لها علماء مصر وأصلحوا أوهامها. وقيل إنّه اختلط في آخر عمره ومات مترديا من سطح داره بنيسابور في شهور ثلاث وتسعين وثلاثمئة وقيل في حدود الأربعمائة.
قال ياقوت الحموي: جاريت أبا الحسن علي بن يوسف القفطي أمر الجوهري. وما وقع له من حسن التصنيف، ثم قلت: ومن العجب أني بحثت عن مولده ووفاته بحثا شافيا، وسألت عنها الواردين من نيسابور فلم أجد مخبرا عن ذلك. فقال لي: لقد بحثت قبلك عن ذلك فلم أر مخبرا عنه. فلمّا كان من غد ذلك اليوم جئته فقال لي: ألا أخبرك بطريقة أني رأيت في بارحتنا في النوم قائلا يقول لي: مات إسماعيل بن حماد الجوهري سنة ست وثمانين وثلاثمئة. ولعمري، وإن كان المنام ما لا يقطع به، ولا عمل عليه فهذا بلا شك زمانه وفيه كان أوانه. وكان يجيد الشعر.
فمنه قوله: [السريع]
لو كان لي بدّ من النّاس ... قطعت حبل الناس بالياس
العزّ في العزلة لكنّه ... لا بدّ للنّاس من النّاس
وقوله: [الوافر]
فها أنا يونس في بطن حوت ... بنيسابور في ظلم الغمام
فقلبي والفؤاد ويوم دجن ... ظلام في ظلام في ظلام
قوله: [السريع]
يا صاحب الدّعوة لا تجزعن ... فكلّنا أزهد من كرز(7/43)
والماء كالعنبر في قومس «1» ... من عزّه يجعل في الحرز
فأسقنا ماء بلا منّة ... وأنت في حلّ من الخبز
وقوله «13» : [المتقارب]
رأيت فتى أزرقا أشقرا ... قليل الدّماغ كثير الفضول
يفضّل من حمقه دانيا ... يزيد بن هند على ابن البتول
وقوله: [مخلع البسيط]
يا ضائع العمر بالأماني ... أما ترى رونق الزّمان
فقم بنا يا أخا الملاهي ... نخرج إلى نهر بستغان
لعلّنا نجتني سرورا ... حيث جنى الجنّتين
كأننا والقصور فيها ... بحافتي كوثر الجنان
والطير فوق الغصون تجلي ... بحسن أصواتها الأغاني
وراسل الورق عندليب ... كالزّبر والتمّ والثّاني
وبركة حولها أباحت ... عشر من الدّلب وابنتان «2»
فرصتك اليوم فاغتنمها ... فكلّ وقت سواه فاني
قال ابن خلكان: كان أحد الأعلام المشاهير المطبقين المكثرين. أخذ الأدب عن أبي عمر الزاهد، وروى عنه جماعة من النبلاء بينهم أبو القاسم التنوخي، وهو صاحب الواقعة مع أبي الطيب المتنبي، وله الرسالة التي ذكّرها موافقة المتنبي قدماء الحكماء في كثير من حيل المعاني. ولمّا قدم المتنبّي بغداد، وترفع عن مدح الوزير المهلبي ذهابا بنفسه عن مدح غير الملوك شقّ ذلك على المهلبي، وأغرى به شعراء بغداد «3» ، وفيهم ابن الحجاج وابن شكر(7/44)
الهاشمي والحاتمي وأسمعوه ما يكره وتماجنوا وتنادروا عليه، فلم يجبهم ولم يفكر فيهم، فقيل له في ذلك: أني قد عزفت من إجابتهم بقولي لمن هو أرفع طبقة في الشعراء منهم.
[الوافر]
أرى المتشاعرين غروا بذمّي ... ومن ذا يحمد الداء العضالا
ومن يك ذا فم مرّ مريض ... يجد مرّا به الماء الزّلالا «1»
ومنهم:
20- أبو علي الحاتمي «13»
واسمه محمد بن الحسن بن المظفر، الكاتب اللغوي البغدادي، عقد شوارد اللغة وقد نفرت إبلها، وأقفرت سبلها، وراضت فدلّت صنعته أيّ إدلال، واهتدت بعد أي إضلال، وأضحت لا تفارق أوطانها، ولا تألف إلّا أعطانها «2» ، فاستفاد القصي واستعاد العصيّ، وجرت على ألسنه الكلم الفصاح وانتظمت في سلكه الجواهر الصحاح، وقد كان قصد أبا الطيب المتنبي في أبهة ورواء وهيبة، لا تخفى على ذوي الآراء، فما رفع إليه رأسا ولا صنع به إيناسا، فواجهه بما فيه. إعضاض القدر وإغضاض الصدر؛ هذا وأبو الطيب قد ترفع عن رتبة السّوقة وقعد في غلمان روقة، ثم قطع بينهما الخصام، ومرمر برهما وأشرف على الانفصام إلّا أن الصلح كان أقرب للتقوى وأغلب عندهما على ما يقوى إلى أهل العلم فهجاه ابن الحجاج وغيره بأهاج مرّة، وتوفي سنة ثمان وثمانين وثلاثمئة.
ومن شعره قوله في قصر الليل: [البسيط](7/45)
يا ربّ ليل سرور خلته قصرا ... كعارض البرق في أفق الدّجى برقا
قد كان يعثر أولاه بآخره ... وكان يسبق منه فجره الشفقا
كأنّما طرفاه طرن إذ نفر ال ... حصان منه على الأطراف وافترقا
وقوله في وصف الثريا: [الطويل]
وليل أقمنا فيه نعمل كأسنا ... إلى أن بدا للصّبح في اللّيل عسكر
ونجم الثّريّا في السّماء كأنّه ... على حلّة زرقا حبيب مدثّر
ومنهم:
21- جنادة بن محمد اللغوي الأزدي الهروي «13»
أبو أسامة، إمام كلم سبّاق جناتها، وواصل وثباتها فأوثق سببها وحقق نسبها، فجوهر تلك الألفاظ وعنبر أنفاسها ما يفوق مسك الألحاظ، فأترعت جلابها «1» الدوافق، وجابت أجلابها إلى سوقه النافق، فقيّد تلك النوافر، وقلّد ذهب الشفق صبحها السوافر. وأوسعت له المواهب فضل عطاياها، وأسرعت إليه قصد مطاياها، حتى أصبح يفدى بالنجايا «2» ، ويتقرّى له سواد الليل عن كل السؤدد لا بقايا.
قال ابن خلكان: كان مكثرا من حفظ اللغة ونقلها، عارفا بحوشيّها ومستعملها لم يكن في زمانه مثله في فنّه. وكانت بينه وبين الحافظ عبد الغني بن سعيد المصري وأبي الحسن علي بن سليمان المقرئ النحوي الأنطاكي مؤانسة واتحاد كثير، وكانوا يجتمعون في دار العلم، وتجري بينهم مذاكرات ومفاوضات في الآداب. ولم يزل ذلك دأبهم حتى قتل الحاكم(7/46)
صاحب مصر أبا أسامة هذا وأبا الحسن الأنطاكي في يوم واحد من ذي القعدة سنة تسع وتسعين وثلاثمئة، واستتر الحافظ عبد الغني خوفا منه «1» .
ومنهم:
22- أحمد بن محمد بن أبي عبيد العبدي الهروي الفاشاني «13» «2»
المؤدب، أبو عبيد صاحب كتاب الغريبين.. مقدم لا يلحق في عمل، ولا يلحى في أمل، ولا يلحظ مثله إلّا القمر في السماء مع أنه ما كمل. وفي تصنيفه ما يدل على حسن تصريفه.
قال ابن خلكان: وكتب على ظهر كتابه في الغريبين، إنه أحمد بن محمد بن عبد الرحمن والله أعلم.
وقال: كان من العلماء الأكابر، وكان يصحب أبا منصور الأزهري اللغوي، وعليه اشتغل، وبه انتفع، وكتابه المذكور. وجمع فيه من غريب القرآن الكريم والحديث النبوي، وسار في الآفاق، وهو من الكتب الشافعية. وقيل إنه كان يحب البذلة «3» ويتناول في الخلوة «3» . ويعاشر أهل الأدب في مجالس اللهو والطرب. وكانت وفاته في رجب سنة إحدى وأربعمائة.(7/47)
ومنهم:
23- أبو القاسمي عبد الله، وقيل عبد الكافي بن محمد بن ناقيا «13»
اللغوي الشاعر «14» . رجل مشهور، وعالم يومه بشهور. لم يكن وقته مضيّعا، ولا يومه بغير الطلب مشبعا حتى ملأ صدر زمانه، وأعلى قدر جمانه «1» . ولم يمض طفل «2» يوم من الأيام ولا تجلت سحابة ليله مطبقة الظلام إلّا عن علم ازداد وعمل ضاعف فيه إمداد. ولم يقف عند طلب ولا قصّر حتى ولا في الطرب، وكان إماما لا يعنيه تقدم صفّ، ولا انقباض في ظرف، حتى مضى على هذا عمره، وذهب وما أبدى عذره.
قال ابن خلكان: كان فاضلا بارعا، له مصنفات كثيرة حسنة مفيدة. ومن شعره ما كتب به إلى بعض الرؤساء وقد اقتصد «3» : [الخفيف]
جعل الله ذا المواهب عقب ... اك من الفضل «4» صحة وسلامه
قل ليمناك كيف شئت استهلّي ... لا عدمت النّدى فأنت غمامه
ولد منتصف ذي القعدة سنة عشر وأربعمائة، وتوفي ليلة الأحد رابع المحرم سنة خمس وثمانين وأربعمائة، ودفن بباب الشام.(7/48)
ومنهم:
24- أبو زكرياء يحيى بن علي بن محمد بن الحسن بن بسطام الشيباني الخطيب «13»
فرد لا تسلك له مناهج ولا تملك مباهج، أظل على الجوزاء من فوقها، وأمسك جيد العذراء بطوقها، أناف رتبة على العلماء وزينة للسماء، وفخرت به شبيبة شيبان وشيبها، وبعيد أنسابها وقريبها. هذا على هنات قلّت وعثرات ما أقلّت، وأخذ في الارتحال، والتنقل من حال إلى حال، حتى أسفرت له حنادس الظلماء، وسما سموّ حباب الماء.
قال ابن خلّكان: أحد أئمة اللغة. له معرفة تامة بالأدب والنحو واللغة قرأ على المعري وأبي القاسم الرقي وأبي محمد الدهان وغيرهم، وسمع الحديث وروى عنه أبو بكر خطيب بغداد وغيره، وتخرّج عليه خلق كثير. وأثنى عليه السمعاني وعدّد فضائله، ثم قال: ما كان بمرضي الطريقة وذكر عنه أشياء، ثم قال: لكنه كان ثقة في اللغة، وما كان ينقله. وله المصنفات المشهورة المفيدة. وكان قد دخل مصر في عنفوان شبابه، وقرأ على ابن بابشاذ ثم عاد إلى بغداد، واستوطنها حتى مات.
وله شعر، منه قوله: [الوافر]
فمن يسأم من الأسفار يوما ... فإني قد سئمت من المقام
أقمنا بالعراق على رجال ... لئام ينتمون إلى لئام «1»
وروى عن أبي الحسن محمد بن المظفر بن تحرير البغدادي قوله: [الطويل]
خليليّ ما أحلى صبوحي بدجلة ... وأطيب منه بالصّراة غبوقي(7/49)
شربت على المائين من ماء كرمة ... وكانا كدرّ ذائب وعقيق
على قمري أفق وأرض تقابلا ... فمن شائق خلو الهوى ومشوق
فمازلت أسقيه وأشرب ريقه ... وما زال يسقيني ويشرب ريقي
وقلت لبدر التمّ تعرف ذا الفتى ... فقال نعم هذا أخي وشقيقي
وروي عنه أيضا قوله: [المديد]
يا نساء الحيّ من مضر ... إنّ سلمى ضرّة القمر
وبياض الثّغر أسكنها ... في سواد القلب والبصر
ولد الخطيب التبريزي سنة إحدى وعشرين وأربعمائة وتوفي فجأة يوم الثلاثاء لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسمئة ببغداد.
ومنهم:
25- أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم الميداني النيسابوري «13»
أبو الفضل، سابق لا يلحق في ميدان، ولا يدانيه عبد المدان، تهدّلت أفنانه فنونا، وسلبت حسانه فتونا، وضربت به الأمثال أمثال ما جمع وأضعاف ما ليس لأحد معه طمع، وله من كل فن أحسنه وأحسبه إذن عرف حسنه، وتضاعيفه تمتع العين وتوسع الطروس بمثل الذهب العين «1» .
قال ابن خلكان: كان أديبا فاضلا عارفا باللغة، اختص بصحبة الواحدي صاحب التفسير، ثم قرأ على غيره، وأتقن من العربية، خصوصا اللغة وأمثال العرب. وله كتاب الأمثال، ولم يعمل مثله في بابه، قال: وكان ينشد بيتين وأظنهما له: [الطويل](7/50)
تنفّس صبح الشّيب في ليل عارضي ... فقلت عساه يكتفي بعذاري
فلمّا فشا عاتبته فأجابني ... ألا هل ترى صبحا بغير نهار «1»
وله أيضا: [السريع]
يا كاذبا أصبح في كذبه ... [أعجوبة] «2» أية أعجوبه
وناطقا ينطق في لفظة ... واحدة سبعين أكذوبه
شبّهك الناس بعرقوبهم «3» ... لما رأوا أخذك أسلوبه
فقلت كلّا إنّه كاذب ... عرقوب لا يبلغ عرقوبه
ولما صنّف كتاب الأمثال وقف عليه الزمخشري فحسده وأخذ القلم وزاد في لفظة الميداني سنّة «4» فصار النميداني، ومعناه بالفارسية الذي لا يعرف شيئا. فلما وقف الميداني على ذلك أخذ بعض تصانيف الزمخشري وزاد في نسبته سنة وعمل الميم نونا ومعناه بالفارسية تابع زوجته. وكان جماعة من كبار أصحابه يقولون: لو كان لنا للذكاء والشهامة والفضل صورة لكان الميداني تلك الصورة.
توفي يوم الأربعاء لخمس بقين من رمضان سنة ثمان عشرة وخمسمئة بنيسابور.(7/51)
ومنهم:
26- أبو منصور موهوب بن أبي طاهر أحمد بن الخضر الجواليقي «13»
البغدادي، رجل لم يخف ضلالا، ولم يخش ملالا، تزينت به بغداد فأصبح من شموسها المشرقة وعروسها المونقة، ولم يزل بها في جدّ شمّر له ساعده، وهجر به منامه وباعده وقاطع به اللذات، ومانع به الملذات حتى أصبح كامل الذات، فاضل النفس التي لا تتبع بالأذى، ثم كان ابن بجدتها «1» وأخاها الملتف في شملتها، واتصل بالخلافة حتى كان طوقا لمجلسها وغلا لمبلسها، مجليا لديا جيرها، وركنا لمستجيرها، ثم أتته المنايا سرعا وبدأته وما دعا.
قال ابن خلكان: هو من مفاخر بغداد، قرأ الأدب على الخطيب التبريزي، ولازمه حتى برع في فنّه، وهو ثقة عزيز الفضل، وافر العقل مليح الحظ كثير القسط، حسن التصانيف المفيدة، وانتشرت عنه، وكان يختار في بعض مسائل النحو مذاهب عربية وكان في اللغة أمثل منه في النحو، وكان إماما للإمام المقتفي «2» يصلي به الفرائض وألّف له كتابا لطيفا في العروض، ودخل عليه أول دخلة فما زاد أن قال السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال له ابن التلميذ الطبيب «3» ، وكان قائما بين يدي المقتفي وله إدلال الخدمة والصحبة، ما هكذا يسلّم على أمير المؤمنين، فلم يلتفت ابن الجواليقي إليه، وقال للمقتفي:
يا أمير المؤمنين سلامي هو ما جاءت به السنة النبوية، وروى له خبرا في صورة السلام ثم قال يا أمير المؤمنين لو حلف حالف أن يهوديا أو نصرانيا لم يصل إلى علمه نوع من أنواع العلم(7/52)
لما لزمه كفارة الحنث؛ لأن الله تعالى ختم على قلوبهم، ولن يفكّ ختم الله إلا الإيمان، فقال له: صدقت وأحسنت فيما نقلت، وكأنما ألجم ابن التلميذ مع فضله وغزارة أدبه «1» .
وسمع ابن الجواليقي من مشايخ زمانه وأكثر، وأخذ الناس عنه علما جمّا ونوادر كثيرة.
ولد سنة ست وستين وأربعمائة، وتوفي يوم الأحد منتصف المحرّم سنة تسع وثلاثين وخمسمئة.
ومنهم:
27- سعيد بن المبارك بن علي الأنصاري أبو محمد المعروف بابن الدهان «13»
البغدادي صاحب لغة رقّى صفيحها «2» وأبقى صحيحها، روى عن أعرابها وتروّى في إعرابها، وما زال يدعو إليها حتى أغرى بها، وأزال إغرابها فأقام من أمتها «3» ، وجمع بين الكلمة وأختها فاستقامت من عوجها واستقلت من عرجها، وأصبحت به أوانس خدور، وكوانس نجوم وبدور. لا يخاف من نفار ولا يخفى في أسفار، ولا تزال بها الكتب مفتحة للأبواب مصفحة الفواتح بالذهب والخواتم بالصواب.
قال ابن خلكان فيه: وكان في زمن أبي محمد ببغداد من النحاة ابن الجواليقي وابن الخشاب، وابن الشجري، وكان الناس يرجحون أبا محمد عليهم مع أن كل واحد منهم إمام ثم إن أبا محمد رحل عن بغداد إلى الموصل قاصدا جناب الوزير الجواد جمال الدين(7/53)
الأصفهاني فتلقاه بالإقبال وأحسن إليه وأقام مدة في كنفه، وعمي لكثرة ما كان يحرر كتبه التي علقت بالأذن. ومولده عشية الخميس لخمس بقين من رجب سنة أربع وتسعين وأربعمائة وتوفي يوم الأحد من شوال سنة تسع وستين وخمسمئة.
وله شعر أنشد له، قوله: [البسيط]
لا تجعل الهزل دأبا فهو منقصة ... والجدّ تعلو به بين الورى القيم
فلا يغرّنك من ملك تبسّمه ... ما تصخب السّحب إلا حين تبتسم
وقوله: [المجتث]
لا تحسبن أنّ بالشّع ... ر مثلنا ستصير
فللدجاجة ريش ... لكنّها لا تطير
وقوله: [مجزوء الكامل]
لا غرو أن أخشى فرا ... قكم وتخشاني اللّيوث
أو ما ترى الثّوب الجدي ... د من التفرّق يستغيث
وكان له ولد وهو أبو زكريا يحيى، وكان أديبا شاعرا. ومن شعره: [الخفيف]
إن مدحت الخمول نبّهت أقوا ... ما نياما فسابقوني إليه
هو قد دلّني على لذّة العي ... ش، فما لي أدلّ غيري عليه
وقوله: [الوافر]
وعهدي بالصّبا زمنا وقدري ... حكى ألف ابن مقلة في الكتاب
فصرت الآن منحنيا كأني ... أفتّش في التّراب على شبابي «1»
وقوله مما يعزى إليه وإنما هي لأبيه: [البسيط](7/54)
بادر إلى العيش والأيّام راقدة ... ولا تكن لصروف الدّهر تنتظر
فالعمر كالكأس يبدو في أوائله ... صفو وآخره في قعره الكدر
وقال ابن عساكر: سمعت سعيد ابن الدهان يقول، رأيت في النوم منشدا ينشد محبوبه: [مجزوء الرمل]
أيّها الماطل ديني ... أسليّ وتماطل
علّل القلب فإني ... قانع منك بباطل
وهذا آخر ما ذكرناه من أهل اللغة بالجانب الشرقي إلى حين انقطع بهم الزمان ولم يوجد من نصلهم به إلى الآن.(7/55)
[أهل اللغة من الجانب الغربي](7/57)
1- أبو بكر اللؤلؤي القيرواني «13»
فأمّا من الجانب الغربي من أهل هذا الشأن فإنما طّنت لغة العرب في آذانهم وتعلّموا النطق بلسانهم بعد أن أتى عليهم حين من الدهر، وأمسكت مخانقهم بيد القهر، فمنهم أحمد ابن إبراهيم بن أبي عاصم، أبو بكر اللؤلؤي النحوي القيرواني صاحب لغة، حقق علومها وحرّر عمومها، وحطّم أنوفها، وعلم صنوفها واقتادها ذللا ونشرها حللا، وجمع شتاتها واستدرك فوائتها ولم يقنع من الدنيا بدونها، ولا ترك بأرض هدونها «1» ، يخيم بشرف على الهضاب، وحتم ألّا يرشف إلّا الرضاب، وكان لا يسرح إلّا في أنية مرهومة «2» ، ولا يرى لديه إلّا أردية مرقومة، والعزوم قدّامه جاثية، والأيدي ممّا لديه حاثية «3» . وكان من النقّاد العلماء في الغريب والنحو وشعر العرب، وله الشعر الفائق، ثم تركه في الآخر وأقبل على طلب الحديث والفقه. توفي سنة ثمان عشرة وثلاثمئة وله ست وأربعون سنة.(7/59)
ومنهم:
2- أحمد بن أبان بن سيّد اللغوي «13»
صاحب شرطة قرطبة، دافع الصفوف ودارى الصروف، وتفرّغ للعلم، والموانع شاغلة، والمواضع فتنها شاملة، والأوقات أضيق من حلقة الخاتم، وأتعب من قعدة الجاثم. لا يقلّب المحدّق بصرا، ولا ينطق المنطق حصرا. وكان إذا سئل ورد الجياد ساحته، ولم يخرج النطق منه إلا حاجته؛ هذا لأنه لم يتكلم بمجان، ولا يزال كأنه يتكمم ولسانه يهتز كأنه جانّ، وكان ظنّه يصدق ولا يتوهم، وفنّه وما راق من برد الليل المسهم. وكان مقدما في معرفة اللغات ذا قلم جار، صنّف كتاب العالم في اللغة مئة مجلد على الأجناس. وتوفي سنة اثنتين وثمانين وثلاثمئة.
ومنهم:
3- تمام بن غالب بن عمر اللغوي «14»
المرسي، أبو غالب التيّاني من أهل قرطبة سكن مرسيّة «1» ، بلغ فضله حدّ الاستفاضة، وصعب جامح العلم فراضه، وقضت له الرتبة أن يكون صدر مجالسها وأنس مجالسها فأضاء في غسقها، وأضاف فرائده إلى نسقها، ولم يزل يحوط أوانسها، ويجمع كوانسها، فقرّر القواعد وأنجز المواعد وأسعفه الزمان المساعد، وعني بالغرائب حتى ردّها إلى الرياض،(7/60)
وأوردها على الحياض، فوصل الأسباب، وسمعت منه كل طنانة لغيره منها هرج الذباب.
كان مقدما في علم اللسان، أجمعه مسألة له اللغة. طلب إليه أبو الجيش مجاهد بن عبد الله العامري لما غلب على مرسيّة أن يزيد في كتابه في اللغة مما ألفه أبو غالب لأبي الجيش مجاهد ووجه إليه بألف دينار فامتنع وقال لا استجير الدنيا بالكذب؛ فإنما صنفته للناس عامة، توفي بالمرسيّة سنة ست وثلاثين وأربعمائة.
ومنهم:
4- علي بن أحمد وقيل ابن إسماعيل أبو الحسن ابن سيدة «13»
الأندلسي الضرير رجل مشهور، كان الداعي باسمه صرّح، وكان الدهر بعلمه لمّا تقدّم فسح، لم يقاومه بصير، ولا لازمه إلا من حسن له المصير، أحاط باللغة علما، وكشف منها كلّ معمّى، وبصر بطرقها وهو أعمى، وجمع ما ضرب عليه نطاقها، وجذبت إليه بناقها «1» ، وصعد لارتقائه الكتب، وحط عن نقابه في المكتب ثم عمل له صوانا، وجعل له ديوانا، ومنه يكشف كلّ مبهم ويكفّ من لم يفهم، فمنه غاية الكشف وبه نهاية الكف.
قال ابن خلكان: كان إماما في اللغة والعربية، استولى في آخر عمره على صاعد البغدادي «2» وعلى أبي عمر الطلمنكي «3» ، وألّف المحكم في اللغة نحو عشرين مجلدا، لا يعرف قدره إلّا من وقف عليه. فلو حلف أنه لم يصنّف مثله لم يحنث، وكان نادرة وقته،(7/61)
وله شعر جيّد، وكان منقطعا إلى الأمير أبي الجيش مجاهد بن عبد الله العامري، وكان أعمى ابن أعمى، توفي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة. وكانت وفاته بدانيه لأربع بقين من ربيع الآخر «1» .
ومنهم:
5- علي بن جعفر بن علي السعدي الصقلّي اللغوي الكاتب المعروف بابن القطّاع «13»
بطل لا يناجز وجبل لا يناهز، أعجز بحره من عام به، ورد بحره كل كميّ هز عامله، قعد للإفادة كل أيامه. متح غدر طرفيها ورادا، ويلزّ بنقعها سعدا وورّادا حتى أفاق آنية أفهامهم فأترعها، وأخصب أندية أيامهم فأمرعها «2» ، ونقلت الألسنة [ما] سمعتها فملأت بها الآذان، ونقلتها إلى حيث تسمع الأذان، تجاوز محدودا ولم يكن مثله في القوم على كثرتهم معدودا، فلهذا عرف معماه، وبقي اسمه وقد ذهب مسمّاه.
ولد بصقلية سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، وقرأ على ابن البرّ اللغوي وله التصانيف المفيدة، ورحل عن صقلّية لما أشرف الفرنج على تملّكها، وقدم مصر في حدود الخمسمائة، وأكرم في الدولة المصرية، وقد كان نقدة المصريين ينسبونه الى التساهل في الرواية. فمن ذلك لما قدم، سألوه عن كتاب الصحاح للجوهري فذكر أنه لم يصل إليهم، ثم لما رأى اشتغالهم به ركب له طريقا، وأخذ الناس عنه مقلدين له. وكان ذكيا شاعرا. توفي في صفر سنة خمس عشرة وخمسمئة.(7/62)
ومنهم:
6- أبو عبد الله محمد بن الصايغ القرشي «13»
الأموي، أغزر من أغرف أدبا، وألّف في تحصيله دأبا، وأنقد من رأيت لمعنى، وأوقد من رضيت ذهنا. هو في اللغة إمام مبرّز بجميع كلام العرب، محرز مع نحو ما ترك منه شعبا، ولا خلّى من العربية ذلولا ولا صعبا. ملك نوافر الكلم حتى اقتاد جوامحها، وارتاد مسارحها، وسدّ في العروض خلل الخليل «1» ، وبرز على التبريزي في مصنّفه الخليل، وطرق قدامة بن الحاجب حاجبا، وانقطع ابن القطّاع وما أدّى واجبا، وركب بحوره ولم يخش الغرق، وأتى بقوافيه وما أزعجها في أماكنها القلق. وله في الصناعتين ما فاق الدرر، مفرطة وسلكا، ولم يخط خطوة منهما مخلوجة. وسلكيّ أدب ولذي وثب. فرائده لديّ طالما اجتنيت منه ثمرا واجتلبت منه بالمذاكرة سمرا. وهو ممن يأوي بالمرتبة إلى بيت عريق، وأصل مرواني أينع له غصن وريق، ذكر أنه من ولد هشام بن عبد الملك، وأنه من النسب الأموي في السنام لا في الورك، نسبة تداولتها ولاة بيته، ورواة بلده عن حيّه وميته. وها هو الآن بالقاهرة أحد أعلامها المطبب لسقام آلامها والمطنب في محاسن كلامها.
وما النيل من خلائقه الحسنى بأعذب، ولا المغناطيس من إبداعه بأجذب. ومن نثره قوله:
وقف الحجاح ووقفنا دون ما عهد إلينا ... وسعوا وسعينا فما تعود لائمته علينا
قوله:
نفروا وانقلبنا بالوزر عن الارتكاض ... وأفاضوا وأفضنا بقداح القدح في الأعراض(7/63)
قوله:
ران الهوى على القلب ففسد ... وسرى الحسد فينا سريا في الجسد
قوله:
وحضرت مجالس الذكر وكان ليس بالمحاضر ... قست القلوب فما تتأثر لزجر زاجر
قوله:
حاضر استيقظوا فقد لاح نور الصباح ... وأجيبوا فقد حيعل داعي الفلاح
وأصلحوا أحوالكم فقد فاز بالجنّة أهل الفلاح
قوله:
واضرعوا إلى الله فيما ينجّيكم ... وتوسّلوا إليه يطعمكم فيما لديه ويرجّيكم
ومن شعره قوله: [الكامل]
برق الثنيّة أم ثناياك التي ... خطف الفؤاد ببرقها الخطّاف
مراك بستاني وذكرك مطربي ... وهواك سكري لا كؤوس سلاف
سلسال ورد لو يباح لظامئ ... ورياض ورد لو دنت لطّاف
غارت فغارت منه أقمار الدّجى ... لمّا انجلى في فرع ليل صافي
تقسو عليّ وما بها لو أنّها ... رقّت لرقّة قلبي التّرجاف
سائل رياض الحسن من وجناتها ... ما أنبت الأغصان في الأحقاف(7/64)
وقوله: [الكامل]
بعد المزار ولوعة المشتاق ... حكما بفيض مدامع الآماق
أمعلّلي إنّ التواصل في غد ... من ذا الذي لغد فديتك باق
عج بالمطيّ على الحمى تسقي الحمى ... صوبا كصيّب دمعي الرّقراق
منه لدى القلب السليم وداده ... قلب سليم ماله من راق
قلب عداه فراقكم فارقته ... لا كان في الأيّام يوم فراق
وهذا آخر ما ذكرناه من أهل اللغة بالجانب الغربي.(7/65)
[أهل اللغة في مصر](7/67)
1- جمال الدين بن المكرّم «13»
فأمّا من وقع بمصر منهم وأمثالهم. ومنهم جمال الدين بن المكرّم، وهو من ولد رويفع بن رفاعة الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، مقيم لأثره إحسان ومقيل لعثرة لسان. حصل على شرف لا ينال، وطرف دونه النجم في المنال، ولم يتخذ سوى الليل سميرا، ولا غير طلب العلم ضميرا، فلم يذق النوم إلّا عرارا «1» ولا عرف الليل إلّا سرارا «2» ، وكتب على عينه السهر ومنادمة الكواكب إلى السحر فأحيا الليالي، وقد مات حنين النهار في أحشائها، وذهب لجين الصباح في ذهب غشائها. وتوقّد وقد أطفئت شعلة المريخ، ولم يحصل شفق النهار إلّا على التلطيخ، فكتب أوقارا، وذاب ليلا ونهارا حتى كفّ بصره، وثنى عنانه مقصره على أنه كان مولعا برضاع الكؤوس ورضى الكاعب العروس. وولي التتار حين غلبتهم، وجرى معهم في حلبتهم، ثم ذهب وكان يقال: إنه يكون منظرا، ووجدوا ما عملوا محضرا، وكان أبوه جلال الدين مكرم ممن له اتصال بخدمة الملك الكامل وحضور في مجلسه الخاص كالنديم له، وكان من ذوي المروءة والعصبية كثير العناية بالناس، وقضاء حاجة ذوي الحاجات، ودام على هذا إلى الممات وفيه قيل: [مجزوء الكامل]
قالوا المكرّم قد مضى ... قلت السّلام عليك مصر
ما بعد يوم مكرّم ... للفضل إمّا عاش عذر
ونشأ ولده وقرأ وتأدب، وصحب شرف الدين أبا العباس التيفاشي، وأخذ عنه واستمد منه وألّف كتاب سرور النفس مما كان التيفاشي جمعه، وضنّ به فما أبرزه من خدره ولا أطلعه. هو كتاب ممتع، وفيه لأهل المحاضرة مقنع. وكتب جمال الدين بديوان الإنشاء بمصر،(7/69)
وترقّى حتى جلس في الدست «1» لقراءة القصص، والتوقيع عليها. ولمّا قدم السلطان محمود غازان دمشق، كان فيمن كتب له وكتب التقاليد لقبجاق وبكتمر السلحدار، والفارس البكي. وكان قادرا على كثرة الكتابة مطيقا لها مع اطلاع كثير على فنون عدّة. وألّف في اللغة كتابا جليلا أظنّه سمّاه نهاية الأدب في لغة العرب «2» ، جمع فيها مشاهير كتب اللغة الجليلة ورتّبه ترتيب الجوهري لكتاب الصحاح، وكتب عليه شيخنا أبو الثناء محمود الحلبي وأبو حيّان تقريض الكتاب وشكره، ووقفت على أجزاء منه على كل منها تقريض خاص، منه قول شيخنا أبي الثناء: وكان ابن المكرم مغرى باختصار الكتب المطولة، فممّا اختصر، تاريخ الحافظ أبي بكر الخطيب، والذيل عليه لابن النجار، وتاريخ الحافظ أبي القسم ابن عساكر، والجامع في المفردات لابن البيطار، ورأيت أطباء ديار مصر الأجلاء كالسديد الدمياطي وفرج الله بن صغير، وغيرهما يثنون على حسن اختياره، ويقولون: إنه مع اختصاره لم يخلّ فيه مقصد من مقاصده، ولا ترك موضعا لم يأت عليه من فوائده إلى غير هذا مما كتب وآونة احتطب. وكان على هذا كله مقصّرا في صناعة الإنشاء غير محصد الرشاء على أنه كان يأتي بالأبيات من الشعر؛ وإن لم يكن ممّا يبهر حسنها، ولا يسرف فنّها.
وكلّها من باب المقبول أو ما يدانيه، ويقال: إنّه كتب بخطّه خمسمئة، وكان كلّما يكتب على طريقة واحدة بقلم دقيق كتابة مغلقة التعليق لا يكاد يبين. ولم يزل يكتب ويسهر الليل في الكتابة، حتى كان يقضي الليالي الطوال كلها سهرا لا يلمّ فيها بكرى، ولا يطعم جفونه فيها بهجعة، وكان يتخذ إلى جانبه إناء فيه ماء، فإذا غلبه السهر وكاد يصرعه الكرى، أخذ من الماء فسكب في عينيه فعمي وعدم نور بصره، وجلس في مجلس العمى في آخر عمره، وكان مع هذا رجلا مغرما بالنساء مغرى بالنكاح، لا يكاد تربط له تكّة، ولا يقبضه عنه مسكة إلى ولع كما يقال بالخمر عفا الله عنه لا يترك كؤوسها عن مطي(7/70)
راحه «1» ، ولا يتعدّاها أمل اقتراحه، وكان رفقته يعيرونه بشرب الخمر، ويسمعونه فيها الملام، ويلحقون بسببه عليه الكلام، وكان يحتمل ويتذرع الصبر ويستملّ. فإذا أمضته ألسنتهم الراشقة، وطعنته أسنّتهم الماشقة قال: لو كان للزنا واللواط رائحة تشم مثل الخمر حتى نهتك كلّ مستتر، ولكن بليته بما تشمّ له رائحة، وابتلوا بما لا تشمّ له رائحة. وتزوج قريب موته بنت أقوش قتّال السبع، وكان أحد أمراء الدولة الأكابر، فكان يطير بجناحه ويقاتل رفاقه المعتدين عليه بسلاحه وكان ينتسب إلى قضم الأعراض وهتك الأحساب، والتجوز في الأذى والتقصد والضرر.
ومنهم:
2- محمد بن إبراهيم النجادي البجلي
لغوي سوى كلامه الذي يلقى وغير مكامن النقص الذي به يطغى، أتقن لغة العرب وضبطها، وقيّد شواردها النادّة كالإبل وربطها، لا يدانيه ابن قريب «2» ، ولا أبو عبيدة له إلّا من عبيد الغريب، زيّن هذا بتفنّن في الأدب وتنوع في العلم مكتسب، وكان يتونس في ذرى ملك كساه العلا أثواب البقا، وعلا السماء مرتقى، وفضل أجود من الغمام، وإن لم يسأل حوى سبقا، فقات الأمم وفاء، محاماة على الذمم، وقد ذكره شيخنا أبو حيّان، وأثنى عليه بما لا تذهبه الأحيان، ومما أنشد له قوله: [مجزوء الرجز]
كم قلت إذ غادر من ... كان الفؤاد منزله
أأشعريّ خدّه ... أم من المعتزله(7/71)
وقوله: [البسيط]
قطفت باللحظ من بستان وجنته ... تفاحة ضرّجتها حمرة الخفر «1»
وقلت هذا أمان من قطيعته ... فالشّرع قد نصّ أن لا قطع في الثمر(7/72)
أهل [علم النحو](7/73)
1- أبو الأسود الدؤلي «13»
وأما علم النحو الذي هو رأس علوم الإسلام، وبه تتبين سبل الكلام؛ فإنما نبع من المشرق وامتدّ منه سحابه المغدق، ثم منه بقية الآفاق امتاروا، وحملت أهل المغرب أوقار «1» الركائب وساروا. وسنذكر إن شاء الله مشاهير أهله، وننبّه على فضل كل منهم ونبله، ونبدأ بأول من وضع هذا العلم، وهو أبو الأسود الدؤلي ظالم بن عمر بن سفين بن جندل بن يعمر ابن حلس بن بقاية بن عدي بن الدئل بن بكر بن عبد مناة، أول أهل النحو. هذا الذي استنبط معينه واستنشط معينه، وانتصر للعرب وقد فسدت ألسنتها وضفيت حسنتها، وقام قياما حملته عليه العربية وحمية الغضب لهم والعصبية، ورأى العرب وقد استوطنت ريف العراق، كثر اختلاطها بفارس والروم وسائر أخلاط العجم، وانحبس من قطرها ما انسجم، وزاده استفهام ابنته عن الأحسن من نجوم السماء ما زاد باعثه وأحدث حادثه، فبات بليلة كأنما قصّت قوادم غرابها ولم ير من عدد الصباح إلّا لوامع سرابها. فلمّا انفجر دمّل ليله، وقرّت في منبثق النهار قرارة سيله أتى مدينة العلم من بابها، وهبّ لحاجته ما أعدّ من أسبابها، فقوّم له أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ذلك المناد «2» ، وعاد صلاحه على ذلك الفساد، وعلّمه كلمات بها تاب الله على لسان العرب وأمسك منه ما كان قد اضطرب.
ويروى أن الذي قال له: الكلمات ثلاث لم يزده عليها، وقال بعضهم قاله: الكلمات ثلاث اسم وفعل وحرف. قال آخرون: قال له، اعلم أنّ الكلمات ثلاث لا يمكن الزيادة عليها، ولا النقص منها وهي اسم وفعل وحرف. وقد زعم كثير أنه إنما استأذن في ذلك زياد(7/75)
ابن أبيه، فقال له هذا الكلام، والأول أثبت لصحبته لعليّ رضي الله عنه، ولأن الحكمة منه أشبه.
قال ابن خلكان: كان من سادات التابعين، وصحب علي بن أبي طالب رضي الله عنه وشهد معه صفّين، وهو مصري، وكان من أكمل الرجال رأيا وأشدهم عقلا وهو أول من وضع النحو. فقيل إن عليا رضي الله عنه وضع له الكلام فقال: الكلام كلّه ثلاثة أضرب اسم وفعل وحرف، ثم دفعه إليه وتمّم على هذا. وقيل إنه كان يعلّم أولاد زياد بن أبيه وهو والي العراقين يومئذ، فجاءه يوما فقال: أصلح الله الأمير إني رأيت العرب قد خالطت هذه الأعاجم وتغيرت ألسنتهم، أفتأذن لي أن أضع للعرب ما يعرفون كلامهم، قال: لا. فجاء رجل إلى زياد وقال:
أصلح الله الأمير:، توفّي أبانا وترك بنون. قال: ادعوا لي أبا الأسود، فلمّا حضر قال: ضع للناس الذي كنت نهيتك أن تضع لهم. وقيل: إنه دخل يوما بيته فقال له بعض بناته: يا أبت ما أحسن السماء، فقال: إني لم أدر أيّ شيء منها أحسن وحكى ولده أبو حرب، قال: أول باب وضع أبي باب التعجب، وسمّي النحو نحوا لأن أبا الأسود قال: استأذنت على علي بن أبي طالب أن أضع نحو ما وضع، فسمي لذلك، وكان لأبي الأسود بالبصرة دار وله جار يتأذى منه، فقيل له: بعت دارك، فقال بعت جاري، فأرسلها مثلا.
وأنشد من شعره قوله: [الوافر]
وما طلب المعيشة بالتّمنّي ... ولكن ألق دلوك في الدّلاء
تجيء بملئها طورا وطورا ... تجيء بحمأة وقليل ماء
وقوله: [الكامل]
صبغت أميّة بالدّماء أكفّنا ... وطوت أميّة دوننا دنياها «1»
ويحكى أنه أصابه الفالج، وكان يخرج إلى السوق يجرّ رجله، وكان موسرا ذا عبيد وإماء، فقيل له: قد أغناك الله عن السعي في حاجتك، فلو جلست في بيتك فقال: لا؛(7/76)
ولكني أخرج وأدخل فيقول الخادم قد جاء ويقول الصبي قد جاء. ولو جلست في البيت، فبالت عليّ الشاة ما منعها أحد عني. وكان معروفا بالبخل، وكان يقول: لو أطعنا المساكين في أموالنا لكنّا أسوأ حالا منهم.
وقال لبنيه: لا تجاودوا الله فإنه أجود وأمجد، ولو شاء أن يوسع على الناس كلهم لفعل.
ولا تجهدوا أنفسكم في التوسع فتهلكوا هزالا. وسمع رجلا يقول: من يعشّي الجائع؟ فقال:
عليّ به، فعشّاه ثم ذهب ليخرج فقال: أين تريد؟ فقال: أهلي فقال: هيهات، ما عشّيتك إلّا على أن لا تؤذي المسلمين الليلة. ثم وضع في رجله القيد حتى أصبح. وتوفي بالبصرة سنة تسع وستين من الهجرة «1» .
ومنهم:
2- عبد الله بن أبي اسحاق الحضرمي «13»
أبو بحر النحوي العلّامة البصري، حليف عبد شمس. رجل لا ينال بالآمال، ولا يطال بالأعمال، طار وراء الظلماء وسبح في غدير السماء. سخت سماوات أمطاره، وسمحت غايات أوطاره، وكان في يده قلم التصنيف فتصادحت الحمائم على أنهاره، وصدحت حديدة ليله بفضة نهاره. طالما قاطع جفنه الكرى على أن لا يعود، ولا يطمع إنسان «2» عينه منه بوعود، فما رفقت سنة في أجفانه، ولا تدفقت إلّا شعبة من طوفانه.
قيل: إنّه من أوّل من صنّف، وقيل، بل هو من دوّن النحو، وقيل غير هذا. أخذ القرآن عن(7/77)
يحيى بن يعمر ونصر بن عاصم، وأثنى عليه يونس بن حبيب وبالغ في وصفه.
وقال محمد بن سلام «1» : أول من بعج النحو، ومدّ القياس وشرح العلل عبد الله بن أبي إسحاق، وكان أسدّ قياسا، وكان أبو عمرو بن العلاء أوسع علما بكلام العرب وجمع بينهما بلال بن أبي بردة «2» أيام هشام بن عبد الملك.
قال يونس: قال أبو عمرو: فغلبني ابن أبي إسحاق يومئذ بالهمز ففطرت فيه بعد وبالغت فيه.
وقال يونس: كان أبو عمرو أشدّ تسليما للعرب. وكان ابن أبي إسحاق وعيس بن عمر يطعنان على العرب. توفي سنة سبع وعشرين ومئة، وهو ابن ثمان وثمانين سنة، وكان يعيب الفرزدق في شغله، وينسبه إلى اللحن فهجاه الفرزدق بقوله: [الطويل]
فلو كان عبد الله مولى هجوته ... ولكن عبد الله مولى مواليا
فقال له عبد الله: لحنت في قولك مولى مواليا، ينبغي أن تقول: مولى موال.
ومنهم:
3- أبو عمرو عيسى بن عمر الثقفي «13»
البصري المقرئ النحوي، ألّف أشباها وألف طريقة لا يخاف اشتباها، وقام بالعربية مقام أحراسها، وجاء يسوقها بأخلاسها «3» ، فنطق بلسانها، وسبق إليها من عدا بلبانها، ووجّه بفطنته. عمل العوامل ولم يقبل بفطرته عذل العواذل ولم يزل حتى انقادت له في إتيانها(7/78)
وعادت إليه بعد ليانها، فقلّدته السراة النّحور، وفدته مما بين الحضور والنّحور فزاد على المراد، وأتاه النحو نحو ما أراد.
قيل، هو مولى خالد بن الوليد، نزل في ثقيف وكان من طبقة أبي عمرو بن العلاء، وعنه أخذ الخليل بن أحمد. ونذكر أن عيسى صنّف نيفا وسبعين مصنّفا في النحو وأن بعض الأغنياء جمعها وأتت عليها آفة فهلكت، وقيل: إن مادة كتاب سيبويه من كتاب الجامع لعيسى بن عمر. وله كتاب الإكمال، وفيه أنشد الخليل بن أحمد يخاطب سيبويه:
[الرمل]
بطل النحو جميعا كلّه ... غير ما أحدث عيسى بن عمر
ذاك إكمال وهذا جامع ... فهما للنّاس شمس وقمر
وقال محمد بن سلام الجمحي، كان عيسى بن عمر ينزع إلى النصب إذا اختلفت العرب، ويقال، إن أبا الأسود الدؤلي لم يضع من النحو إلّا باب الفاعل والمفعول فقط وإن عيسى بن عمر وضع كتابا على الأكثر بوّبه، وكان يطعن على العرب، ويخطّئ مثل النابغة، وكان صاحب تقعير «1» في كلامه، واستعمال للغريب، وكان بعض جلساء خالد بن عبد الله القسري قد أودعه شيئا فنمى ذلك إلى يوسف بن عمر، وكتب إلى واليه بالبصرة، يأمره بحمل عيسى بن عمر مقيدا، فدعا به وأمر الحداد بتقييده وقال، لا بأس؛ إنما أرادك الأمير لتأديب ولده، قال، فما بال القيد إذن، فبقيت مثلا بالبصرة.
فلما ضربه يوسف بالسياط جزع وأقرّ، فأخذت الوديعة منه، وأدركه بعد ذلك ضيق نفس، فكان يداويه بإجاص يابس وسكّر.
وقال ابن معين: عيسى بن عمر بصري ثقة، ووقع مرّة في الطريق من ضيق النّفس، فدار الناس حوله، يقولون، مصروع، فمن بين قارئ ومعوّذ، فلمّا أفاق نظر ازدحامهم، فقال، مالي(7/79)
أراكم تكأكأتم عليّ كتكأكئكم على ذي جنّة افرنقعوا عنّي، فقال رجل، إنّ جنيّه هذا يتكلم بالهندية، توفي سنة تسع وأربعين ومئة قبل أبي عمرو «1» بخمس سنين.
ومنهم:
4- عبد الحميد بن عبد المجيد أبو خطاب الأخفش الكبير «13»
مسرج حدوه ومبهج جلوه، امتدّت أفياؤه، واعتدت للمحاسن أحياؤه، وتحصّنت ربائبه في كناسها، وتحسنت في أجناسها، وضاءت في الليل البهيم، وضاعت في ربا الروض النسيم، وأتت مسرج طرف ومطمح رجاء من صرف، وكان لا يخلو مجلسه من منتدين، ويكنسه من ضلال للمهتدين، هذا وهو أحد الأئمة الذين يهدون، وأعلام الأئمة الذين يهتدون. وكان بحرا لا النوء بعض نبقه «2» تسد ولا يجاريه إلا بغير غمام وإطناب برقه، وأخذ عن أبي عمرو بن العلاء وطبقته وأخذ عنه أبو عبيدة، وسيبويه والكسائي ويونس ابن حبيب، وكان ديّنا ثقة ورعا. قال المرزباني، هو أول من فسّر الشعر تحت كل بيت منه، وما كان الناس يعرفون ذلك قبله؛ وإنما كانوا إذا فرغوا من القصيدة فسروها.
وحدّث الأصمعي، قال وقف أبو الخطاب على أعرابي يريد الحج، فقال، أتقرأ أشياء من القرآن قال نعم. قال فاقرأ، قال: [الطويل]
فإن كنت قد أيقنت أنك ميّت ... وأنك مجزيّ بما كنت تفعل
فكن وجلا من سكرة الموت خائفا ... ليوم به عنك الأقارب تشغل(7/80)
فقال: ليس هذا من القرآن، قال: بلى. فأقرأ أنت، فقرأ: «وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ «1» »
، فقال: هذه أخت التي تلوتها سواء إلّا أنها بعد لم تنتظم لك، وكان له أشياء ينفرد بها عن العرب. والأخافش أربعة، هذا أولهم والأوسط سعيد بن مسعدة صاحب سيبويه، والصغير علي بن سليمان، والرابع اسمه عبد العزيز بن أحمد المغربي الأندلسي أبو الإصبع.
ومنهم:
5- الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي «13»
الأزدي، أبو عبد الرحمن، هو من أغصان الأدب ووريقها «2» ، ورشف ألسنة العرب وريقها. وهو إمام القوم ولسان القول. رأس أهل التعليم، والخليل وحاسده الكليم، ومؤسس القواعد، وإن لم يكن الخليل إبراهيم ومستنبط العلم الذي ما سبق إليه، ولا وقع خاطر امرئ قبله. افترع منه العذراء «3» واخترع منه ما ضبط به الشعراء. أتى منه بعلم جليل وأحسن إحسانا، أصبح فيه الناس ضيوف الخليل. استخرجه من صوت جرّة تقرعها جارية تتغنى عليها، وصنّفه بمكة وشرع فيه وهو طائف بالكعبة. وقد حكى صاحب بغية الألبّاء في ذلك عن عبد الله ابن المعتز أن الخليل مرّ في سكة الصفارين بالبصرة، فسمع دقّ الكوادين بأصوات مختلفة فوقف يسمع اختلافه، قال: والله لأضعنّ على هذا المعنى علما غامضا، فوضع العروض. وحدّث النضر بن شميل، قال: كان أصحاب الشعر يمرّون بالخليل(7/81)
فيتكلمون في النحو، فقال الخليل: لا بدّ لهم من أصل، فوضع العروض، وخلا في بيت ووضع بين يديه طستا، وما أشبهه، وجعل يقرعه بعود، يقول: مستفعلن فاعلن فعولن، فسمعه أخوه، فخرج إلى المسجد، فقال إن أخي قد أصابه جنون، وأدخلهم وهو يضرب الطست، فقالوا: يا أبا عبد الرحمن مالك، أصابك شيء، أتحب أن نعالجك؟ فقال: وما ذاك؟ قالوا: أخوك يزعم أنك قد خولطت، فأنشأ يقول: [الكامل]
لو كنت تعلم ما أقول عذرتني ... أو كنت تعلم ما تقول عذلتكا
لكن جهلت مقالتي فعذلتني ... وعلمت أنّك جاهل فعذرتكا
ويروى أن ابنه فعل ذلك.
قال ابن خلكان: كان إماما في علم النحو، وهو الذي استنبط علم العروض، وحصر أقسامه في خمس دوائر، يستخرج منها خمسة عشر بحرا، وزاد فيه سعيد بن مسعدة الأخفش الأوسط بحرا سمّاه الخبب، وهو المتدارك. وقيل إن الخليل دعا بمكة أن يرزق علما لم يسبقه إليه أحد ولا يؤخذ إلا عنه. فلما رجع من حجّه فتح عليه بعلم العروض وكانت له معرفة بالإيقاع والنغم «1» .
وقال حمزة بن الحسين الأصفهاني «2» في حقه: وبعد فإن دولة الإسلام لم تخرج أبدع للعلوم الذي لم يكن لها عند علماء العرب أصول من الخليل، وليس على ذلك برهان أوضح من علم العروض، الذي لا عن حكيم أخذه، ولا عن مثال تقدمه احتذاه إنما اخترعه من ممرّ له بالصفارين من وقع مطرقة على طست، ثم قال: فلو كانت أيامه قديمة ورسومه بعيدة لنسك فيه بعض الأمم لتصنيفه مالم يصنفه أحد منذ خلق الله الدنيا. قال ابن خلكان:
وكان الخليل رجلا صالحا عاقلا حليما وقورا ومن كلامه: لا يعلم الإنسان خطأ معلّمه حتى يجالس غيره.(7/82)
وقال تلميذه النضر بن شميل: أقام الخليل في خصّ من أخصاص البصرة، لا يقدر على فلسين وأصحابه يكسبون بعلمه الأموال. ولقد سمعته يوما يقول: إني لأغلق بابي فما يجاوزه همي. وكان له راتب على سليمان بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة، وكان والي فارس والأهواز، فكتب إليه يستدعيه، فكتب الخليل إليه: [البسيط]
أبلغ سليمان أنّي عنه في سعة ... وفي غنى غير أني لست ذامال
سخّى بنفسي أنّي لا أرى أحدا ... يموت هزلا ولا يبقى على حال
والرّزق في «1» قدر لا الضّعف ينقصه ... ولا يزيدك فيه حول محتال
والفقر في النّفس لا في المال نعرفه ... ومثل ذاك الغنى في النّفس والمال
فقطع سليمان عنه الراتب فقال الخليل: [السريع]
إن الذي شقّ فمي ضامن ... للرزق حتّى يتوفّاني
حرمتني مالا قليلا فما ... زادك في مالك حرماني
فبلغت سليمان فأقامته وأقعدته، وكتب إلى الخليل معتذرا إليه، فقال: [البسيط]
وزلّة يكثر الشّيطان إن ذكرت ... منها التعجّب جاءت من سليمانا
لا تعجبنّ لخير زلّ عن يده ... فالكوكب النّحس يسقي الأرض أحيانا
وأنشد ولم يذكر لنفسه أو لغيره: [الطويل]
يقولون لي: دار الأحبّة قد دنت ... وأنت كئيب إنّ ذا لعجيب
فقلت: وما تغني الديار وقربها ... إذا لم يكن بين القلوب قريب «2»
وتوفي بالبصرة سنة ستين ومئة، وقال ابن الجوزي سنة ثلاثين ومئة، وهو غلط ولكن نقله الواقدي. وكان سبب موته أنه قال: أريد أن أقرّب نوعا من الحساب تمضي به الجارية إلى(7/83)
إلى البياع ولا يمكنه ظلمها. ودخل المسجد وهو يعمل فكره في ذلك فصدمته سارية وهو غافل عنها بفكره فانقلب على ظهره فكانت سبب موته. والفراهيد بطن من الأزد كذلك يحمد.
ومنهم:
6- يونس بن حبيب النحوي، أبو عبد الرحمن «13»
قائم بقسط «1» ، وعالم بما في قسط، ومدن لنازح، ومجنّ لنافح، ومغن دونه كلّ ناصح.
وضح بارقا وأضحى لا يردّ طارقا، فهبّ والناس نائمون، وذهب وأجناس الطلبة قائمون.
وحصل ما لم تنله أيديهم ولم تصله ليالي أقمارهم، ولاذ أدبهم حتى عرس في عرسه «2» العلم، وقد أخلته أسوده لثعالبه وحلّته حماته لغالبه، فأقر فيه أسوده: وسرّه، وأكمد حسوده.
قال المرزباني في المقتبس في أخبار النحويين، مولده سنة تسعين، ومات سنة اثنتين وثمانين ومئة «3» ، وكان يقول: أذكر موت الحجاج. قال: ويقال: إنّ مولده سنة ثمانين، وعاش مئة سنة وسنتين. وأخذ الأدب عن أبي عمرو بن العلاء، وحماد بن سلمة «4» ، وسمع من العرب، وروى عن سيبويه، وسمع منه الكسائي والفرّاء. وله قياس في النحو، ومذاهب ينفرد بها. وكانت حلقته بالبصرة يرتادها الأدباء وفصحاء العرب وأهل البادية.(7/84)
قال أبو عبيدة: اختلفت إلى يونس أربعين سنة أملأ كلّ يوم ألواحي من حفظه.
وقال أبو زيد الأنصاري: جلست إلى يونس عشر سنين وجلس إليه قبلي خلف الأحمر عشرين سنة. وقال لي يونس: قال لي رؤبة بن العجاج: حتّام تسألني عن هذه البواطل وإن حرّفتها لك، أما ترى الشيب قد بالغ في لحيتك. وقال إسحاق الموصلي: قارب يونس تسعين سنة ولم يتزوج ولم يتسرّ، وكان يونس يقول: ما بكت العرب على شيء في أشعارها كبكائها على الشباب وما بلغت كنهه. قال: يقول العرب: فرقة الأحباب سقم الألباب.
ومنهم:
7- عمرو بن عثمان بن قنبر أبو بشر [سيبويه] «13»
أبو الحسين. جمع الأزمّة، وشرع في الأمور المهمة. عرف العلم بتفصيله، وأجمع عليه المنجد والمتهم والمعرق والمشئم، وتساوى في وصفه العجمي والعربي والمشرقي والمغربي.
تكلّم بألسنة كل القبائل وحوى حسنه كل قائل، وتدفقت شعوبه بالمسائل، وذهبت أيامه كلّها مذهب الأصائل. فمذهبه هو اليوم الجاد، والمهيع «1» والطريق المتبع، وعليه المنهج المسلوك، ولديه ما يؤخذ وما سواه متروك. وكان شيخنا أبو حيان يقول: لا يقاس في هذا العلم رجل بسيبويه. ولمّا قدم شيخ الإسلام من مصر في بعض قدماته لازمه أبو حيان ومدحه وأطنب في شكره، وذكر فضله ولم يزل على هذا حتى ذكر يوما سيبويه بنقص، فهجر ابن تيميه وقاطعه وأخذ في ذكر عيوبه وتعديدها وكان يقول: لو كان ابن تيمية عاقلا لما ذمّ سيبويه. وما برح هذا قوله فيه إلى آخر ما فارقه في شوال، سنة ثلاث وأربعين وسبعمئة.(7/85)
قال ابن خلكان: كان أعلم المتقدمين والمتأخرين بالنحو، ولم يوضع فيه مثل كتابه.
وذكره الجاحظ يوما فقال: لم يكتب الناس في النحو كتابا مثله، وجميع كتب الناس عليه عيال.
وقال الجاحظ: أردت الخروج إلى محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم، ففكرت في شيء أهديه له، فلم أجد شيئا أشرف من كتاب سيبويه، فلما وصلت إليه قلت، لم أجد شيئا أهديه لك مثل هذا الكتاب، وقد اشتريته من ميراث الفرّاء، فقال: والله ما أهديت لي شيئا أحبّ إليّ منه. ورأيت في بعض التواريخ أن الجاحظ لما وصل إلى ابن الزيات بكتاب سيبويه أعلمه به قبل إحضاره، فقال له ابن الزيات: أو ظننت أن خزانتنا خالية من هذا الكتاب، فقال الجاحظ: ما ظننت ذلك ولكنها بخط الفرّاء وقائله الكسائي وتهذيب عمرو ابن بحر الجاحظ
فقال ابن الزيات: هذه أجلّ نسخة توجد، وأعزّها فأحضرها إليه، ووقعت منه أجلّ موقع.
وأخذ سيبويه النحو عن الخليل بن أحمد وعيسى بن عمر ويونس بن حبيب وغيرهم، وأخذ اللغة عن أبي الخطاب المعروف بالأخفش الأكبر وغيره وقال ابن النطاح: كنت عند الخليل بن أحمد، فأقبل سيبويه، فقال الخليل: مرحبا بزائر لا يملّ.
وجرى للكسائي مع سيبويه البحث المشهور في قولك، كنت أظنّ لسعة العقرب أشدّ من لسعة الزنبور فإذا هو هي، فقال الكساني، فإذا هو إيّاها، وانتصر الخليفة للكسائي فحمل سيبويه من ذلك هّما فترك العراق ودخل إلى شيراز، وتوفي بقرية من قرى شيراز يقال لها البيضاء في سنة ثمانين ومئة.
وقال ابن قانع: توفي بالبصرة في سنة إحدى وستين ومئة، وقيل سنة ثمان وثمانين. وقال الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي توفي سنة أربع وتسعين ومئة، وعمره اثنان وثلاثون، وإنه توفي بمدينة ساوة.(7/86)
وذكر الخطيب في تاريخ بغداد عن ابن دريد أنه قال، مات سيبويه بشيراز وقبره بها، وقيل إن ولادته كانت بالبيضاء المذكورة، لا وفاته.
قال أبو سعيد الطّوال: رأيت على قبر سيبويه هذه الأبيات وهي لسليمان بن يزيد العدوي.
[الكامل]
ذهب الأحبّة بعد طول تزاور ... ونأى المزار فأسلموك وأقشعوا
تركوك أوحش ما تكون بقفرة ... لم يؤنسوك وكربة لم يدفعوا
قضي القضاء وصرت صاحب حضرة ... عنك الأحبّة أعرضوا وتصدّعوا
وقال معاوية بن بكر العليمي، وقد ذكر عنده سيبويه، رأيته وكان حدث السنّ وكنت أسمع في ذلك العصر أنه أثبت من حمل عن الخليل بن أحمد، وقد سمعته يتكلم وكنت أسمع في ذلك العصر. وقال أبو زيد الأنصاري، وكان سيبويه غلاما يأتي مجلسي وله ذؤابتان، فإذا سمعته يقول، حدثني من أثق بعربيته فإنما يعنيني. وكان سيبويه كثيرا ما ينشد هذا البيت:
[الطويل]
إذا بلّ من داء به ظنّ أنه ... نجاوبه الداء الّذي هو قاتله
وسيبويه لقبه وهو لفظ فارسي، معناه بالعربية رائحة التفاح. وقيل إنما لقّب به لأنه كان جميل الصورة، وجنتاه كأنهما تفاحتان «1» .(7/87)
ومنهم:
8- أبو فيد مؤرّج بن عمرو بن الحارث السّدوسي «13»
النحوي البصري، صدر ملئ علما وتلي فضله المفضل لما شيل منه غّما، ولم يكن فيه سبيل للنازعات ولا عبس إلا لوجوه المنازعات. اشتدت به قوادمه حيث خلق، وامتدت قوائمه فلم تلحق، بعلوم برقت لها السحب الهوامل، ونزلت إليها البدور الكوامل، ونزعت إلى نحو ظهرت فيه العوامل، فلم يكن له إلا من يعترف، ويعرف أنه لا ينصوف.
قال ابن خلكان: أخذ العربية عن الخليل بن أحمد، وروى الحديث عن سعيد بن الحجاج وأبي عمرو بن العلاء وغيرهما. وكان يقول: قدمت من البادية ولا معرفه لي بالقياس في العربية؛ وانما كانت معرفتي قريحة، وأول ما تعلمت القياس في حلقة أبي زيد الأنصاري، وله عدّة تصانيف. وممّا أورد له من شعره ابن المنجم:
[البسيط]
ورّعت بالبين حتّى ما أراع به ... وبالمصائب من أهلي وجيراني
لم يترك الدهر لي علقا أضنّ به ... إلا اصطفاه بنأي أو بهجران
قال ابن المنجم: وهذان البيتان من أملح ما يقول في معناهما. ونقل ابن النديم أو وجد بخط ابن المعتز مؤرخا، مات سنة خمس وتسعين ومئه، في اليوم الذي توفي فيه أبو نواس.
قال ابن خلكان وهذا ما يستقيم إلا على أحد الأقوال في تاريخ وفاة أبي نواس «1» .(7/88)
ومنهم:
9- قطرب أبو علي محمد بن المستنير «13»
وهو النحوي اللغوي البصري، وقيل اسمه أحمد بن محمد، وقيل الحسن بن محمد، والأول أصح. بجلي «1» غيهب، وحافظ متاع لا يذهب. هبت صباه ونعاماه، ونهبت الأفئدة أنكاده وأياماه، وفشت أعين عينه، وتفجّرت ينابيع معينه، وأصبت محاسن حسانه، وظهرت معادن إحسانه، وحلبت سوقه الطلاب، وأدنت المرام والطلاب، فأتعب المتسامي، وبصّر حاسده المتعامي وقرّح قلب عدوّه، وأجفانه الدوامي، وزاد على مدد البحار والسحب الهوامي. قال ابن خلكان «2» : أخذ العلم عن سيبويه وغيره، وكان يبكّر إلى سيبويه قبل حضور التلاميذ. فقال له: ما أنت إلا قطرب ليل، فبقي عليه ذلك اللقب. وله التصانيف المفيدة، وهو أول من وضع المثلث في اللغة، وكتابه وإن كان صغيرا فله فيه فضيلة السبق. وكان قطرب يعلّم أولاد أبي دلف. وروى له ابن المنجم في كتاب البارع قوله:
[البسيط]
إن كنت لست معي فالذّكر منك معي ... يراك قلبي إذا عيّيت عن بصري
والعين تبصر من تهوى وتفقده ... وباطن الأرض لا يخلو من النّظر
وتوفي سنة ست ومئتين.(7/89)
ومنهم:
10- أبو زكرياء يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الأسلمي الديلمي الفرّاء «13»
الكوفي، روى العطش وأورى الغطش «1» ، وكان يبكر إلى العلم والليل ما نصل خضابه، والظل ما رشف من ثغور الأقحوان رضابه، ويواصل على هذا الاجتهاد أزمنته ويفرج بهذا الجهاد أزمّته؛ انفرج عنه صدر النهار، واندفق به سيل النضار وطال ظلّ منتابيه «2» ، وقال مادحه لا يحابيه، ثم أتاه أجله وجمع إليه مستعجله، ومات إلا إفاداته، ونسي إلا عاداته.
قال أبو العباس ثعلب: كان السبب في إملاء الفرّاء في المعاني أن عمر بن بكير كان من أصحابه، وكان منقطعا إلى الحسن بن سهل فكتب إلى الفرّاء أن الأمير الحسن بن سهل ربّما سألني عن الشيء بعد الشيء من القرآن فلا يحضرني فيه جواب، فإن رأيت أن تجمع لي أصولا، أو تجعل في ذلك كتابا أرجع فيه، فقال الفرّاء لأصحابه اجتمعوا حتى أملي عليكم كتابا في القرآن، وجعل لهم يوما، فلما حضروا خرج إليهم، وكان في المسجد رجل يؤذن ويقرأ بالناس في الصلاة، فالتفت إليه الفرّاء، فقال له: اقرأ فاتحة الكتاب ففسّرها، ثم مدّ في الكتاب كلّه يقرأ الرجل، ويفسّر الفرّاء، فقال أبو العباس: لم يعمل أحد قبله مثله، ولا أحسبه أحدا يزيد عليه. قال ثعلب: وكان السبب في إملائه الحدود «3» أن جماعة من أصحاب الكسائي صاروا إليه وسألوه أن يملي عليهم أبيات النحو ففعل ذلك، فلما كان المجلس الثالث قال بعضهم لبعض: إن دام على هذا علم النحو الصبيان، والوجه أن يقعد عنه، فقعدوا عنه فغضب، وقال سألوني القعود، فلما قعدت تأخّروا، والله لا سهلنّ النحو ما اجتمع اثنان، فأملى ست عشرة سنة ولم ير في يده كتاب إلا مرة واحدة.(7/90)
قال ثعلب: وكان الفرّاء يجلس للناس بمسجد إلى جانب منزله، وكان الواقدي ينزل بإزائه. قال: وكان الفرّاء يتفلسف بالتفاته وتصنيفاته حتى يسلك في ألفاظه كلام الفلاسفة. وكان أكثر مقامه ببغداد، وكان يجمع طوال دهره، فإذا كان آخر السنة خرج إلى الكوفة فأقام بها أربعين يوما في أهله يفرق فيهم ما جمعه ويبرّهم. قال النديم: ولم يؤثر من شعره غير هذه الأبيات، رواها أبو حنيفة الدّينوري: [الخفيف]
يا أميرا على جريب «1» من الأرض ... [له] تسعة من الحجّاب
جالسا في الخراب يحجب فيها ... ما سمعنا بحاجب في خراب
لن تراني لك العيون بباب ... ليس مثلي يطيق ردّ الجواب
وتوفي بطريق مكة سنة سبع ومئتين.
ومنهم:
11- سعيد بن مسعدة المجاشعي
بالولاء، النحوي البلخي أبو الحسن الأخفش الأوسط «13» ، أحد نحاة البصرة، محكم أواخي ومحكم تدنّ في زمن متراخي، فقام بالأعباء وقال بلا إعياء، فأخرس ألسنة لدّا، وأنطق أسنة ملدا «2» ، وقد كان في بلهنية شبابه، وزمان نفاق رتبه على أحبابه، قد أتعب نفسه حتى أراحها، وجنى من المأساة أفراحها، وكانت أيامه محلاة الأطراف لمعانيها محشاة الأصايل بما تنير عليها الشموس من معادنها. كأنما غمز الحبايب أو إيماء العشاق بالحواجب.
ولم يكن في لياليه ما تعاب به غير تقاصرها، ولا في أيامه ما تعاف له إلّا قلّة تناصرها، مع(7/91)
ما جمع من صنوف شتات، وجدع من أنوف شبهات قعدت وبدا وبقي مثل السيف فردا.
قال ابن خلكان: كان من أئمة العربية، وأخذ النحو عن سيبويه، وكان أكثر منه. وكان يقول: ما وضع سيبويه في كتابه شيئا إلا وعرضه عليّ، وكان يرى أنه أعلم به منّي.
وحكى ثعلب عن آل سعيد بن سلمة، قالوا: دخل الفراء على سعيد المذكور فقال لنا قد جاءكم سيّد أهل اللغة، وسيّد أهل العربية، فقال الفرّاء: ما دام الأخفش بعائش فلا. قال:
وهذا الأخفش هو الذي زاد في العروض بحر الخبب، وكانت وفاته سنة خمس عشرة ومئتين، وقيل بل سنة إحدى وعشرين [ومئتين] ، ونسبته إلى ولاء المجاشع بن دارم التميمي «1» .
ومنهم:
12- صالح بن إسحاق الجرمي «13»
النحوي أبو عمرو، صاحب المختصر في النحو. بصري سام في القدماء شططا، وسار في السماء خططا، وأينعت له ثمرته فهذّبها، وتنوعت له مسرتها فنهبها، وعزت عليه أعماله فما أذهبها، كان لا يضيع الأعمال في غير عمل يقدّمه، وميل يقوّمه، وأود يقيمه، وحدد لاحب «2» يديمه. عاهد زمانه على عرض يقيه وعلم يبقيه وعمر في غير التقوى لا يبليه، وكرم في سوى الجميل لا يوليه، فحمدت مدّته، وحسنت على طوال الليل جدّته، وكان ذا فكر لا يحتجب عليه مخبأة في خدر، ولا محجبه من وراء ستر، فلم يباعده مدام، ولم(7/92)
يجالسه [إلا] الكرام.
قال ابن خلكان: كان فقيها عالما بالنحو واللغة، وهو من البصرة وقدم بغداد وأخذ عن الأخفش وغيره، ولقي يونس بن حبيب ولم يلق سيبويه، وأخذ اللغة عن أبي عبيدة، وعن أبي زيد الأنصاري والأصمعي وطبقتهم، وكان ديّنا ورعا حسن المذهب صحيح الاعتقاد، وحدّث عنه المبرّد. قال قرأت ديوان هذيل على الأصمعي، فلما فرغت منه قال، يا أبا عمر إذا فات الهذلي أن يكون شاعرا أو راميا أو ساعيا فلا خير فيه، وأنشد له قوله: [الوافر]
يكلّفني سويق الكرم جرم ... وما جرم وما ذاك السويق
ولا شربته جرم وهو حلّ ... وما غالت به مذ كان سوق
فلمّا نزّل التحريم فيها ... إذا الجرميّ منها لا يفيق
قال: وكنّى بالسويق عن الخمر لاتّساقها الخلق، فسمّاها سويقا لذلك «1» وتوفي سنة خمس وعشرين ومئتين.
ومنهم:
13- بكر بن محمد بن عثمان
وقيل عديّ بن حبيب المازني «13» البصري النحوي أبو عثمان. أقامت به مازن أوزانها، ولبست بمفاخره مازانها، وكان من ثعلبة في وسط وجارها «2» ، وخطته النجوم وجارها، طالما(7/93)
حسده من لم يحم معه على المناهل، وشغل بغيره، فقيل متى أنت عن دهليّة «1» الحي داهل، هذا مع ورع كلّه تقى لا يقيه، ومآثر سلفت لسلفه. وكانت لجدّه بقية نسب لو عرف به الليل لما وسم ينكره، أو آل إلى وائل لقدّمه بكره لم يجهل بالفضل اعتناقه ونهوضه، بما لو أنه لبكر سواه لشدّ خناقه.
قال ابن خلّكان: كان إمام عصره في النحو والأدب، أخذ الآداب عن أبي عبيدة والأصمعي وأبي زيد، وأخذ عنه المبرّد، وبه انتفع، وكان في غاية الورع. وبذل له بعض الذمّة «2» مئة دينار على إقراء كتاب سيبويه له فامتنع. قال المبرّد: فقلت له جعلت فداك أتردّ هذه المنفعة مع فاقتك وشدّة إضاقتك. فقال: إنّ هذا يشتمل على ثلاثمئة كذا وكذا آية من كتاب الله عزّ وجلّ، ولست أرى أن أمكّن منها ذميّا غيرة على كتاب الله وحميّة له، قال: فاتفق أن غنّت جارية بحضرة الواثق تقول للعرجي: [الكامل المرفل]
أظلوم إنّ مصابكم رجلا ... أهدى السّلام تحية ظلم «3»
فاختلف في إعراب، رجل، فمنهم من نصبه وجعله اسم، إنّ، ومنهم من رفعه على أنه خبرها، والجارية مصرّة على أن أبا عثمان لقّنها إياه بالنصب، فأمر الواثق بإشخاصه، قال أبو عثمان: فلما مثلت بين يديه، قال ممّن الرجل؟ قلت. من بني مازن، قال: أيّ الموازن، أمازن تميم أم مازن قيس أم مازن ربيعة؟ قلت: من مازن ربيعة، فكلمني بكلام قومي، وقال ما اسبك؛ لأنهم يقلبون الميم باء والباء ميما، فكرهت أن أجيبه على لغة قومي لئلّا أواجهه بالكبر، قلت، بكر يا أمير المؤمنين، ففطن لما قصدته، وتعجّب، وقال: ما تقول في قول الشاعر:
أظلوم إن مصابكم رجلا
أترفع رجلا أم تنصبه؟ فقلت: بل الوجه النصب يا أمير المؤمنين، فقال ولم ذلك: فقلت؟(7/94)
إنّ (مصابكم) مصدر بمعنى إصابتكم فأخذ الزيدي «1» في معارضتي، فقلت، هو بمنزلة قولك إنّ ضربك زيدا، فالرجل مفعول مصابكم، وهو منصوب به، وقال هل لك من ولد؟
قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: ما قال لك عند مسيرك. قلت أنشدت قول الأعشى:
[المتقارب]
يا أبت لا ترم عندنا ... فإنا بخير إذا لم ترم
أرانا إذا أضمر تك البلاد ... بها «2» وتقطّع منّا الرّحم
فما قلت لها، قلت قول جرير: [الوافر]
ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالنّجاح
قال: على النجاح إن شاء الله، ثم أمر لي بألف دينار، وزودني مكرما، فلما عاد إلى البصرة، قيل لي كيف رأيت يا أبا العباس؟ [قلت] : رددنا لله مئة، فعوضنا ألفا «3» وتوفي سنة تسع وأربعين ومئتين، وقيل سنة ثمان وأربعين بالبصرة.
ومنهم:
14- المبرد أبو العبّاس محمد بن يزيد بن مالك بن الحارث الثّمالي «13»
الأزدي البصري، رام العلياء فنالها، وأمّ النجوم فأدنى منالها، فصار علما يعشى إلى ضوء ناره، وقمرا يهتدى بأنواره، تميّز في إعلام زاد صيته فهمّ على الغيوث السواكب وتزينت الأرض بهم زينة السماء بالكواكب، فشاع فضله، وشاء الله أن يمتد ظلّه، ففضل على إياس في ذكائه، وحفظ به الفضل بعد ذهاب دمائه، ولم تذهب(7/95)
ساعة من أيامه إلّا في محاضرة، ولا لفظة من كلامه إلّا في مناظرة، إلى أن كان سهمه من الحظ موفرا، وقيل كلّ الصيد في جوف الفرا، فأخذ في كل فنّ، وشذّ وجود مثله في ظنّ، حتى كان إليه المرجع في كل مرام، والمبرّد الذي لا يخبو له ضرام. قلت. جرى مرة ذكر علم النحو وأهل العلم به، وانتصر رجل حضرنا لليزيدي وفضّله على المبرّد، وسئلت في ذلك فقلت: [الطويل]
لئن أصبحت أهل العلوم مواردا ... ويصدر عنها بالرواء ويورد
فورد اليزيديّ الذي ليس مثله ... لديّ عطاش والشّراب المبرّد
قال ابن خلكان: نزل بغداد، وكان إماما في النحو واللغة، وله التواليف النافعة في الأدب، منها الكامل والروضة والمقتضب، أخذ عن المازني والسجستاني وأخذ عنه نفطويه وغيره، وكان المبرد وثعلب صاحب الفصيح عالمين متعاصرين قد ختم بهما تاريخ الأكفاء، وكان المبرد يحب الاجتماع بثعلب للمناظرة والاستكثار منه، وكان ثعلب يكره ذلك، ويمتنع منه، وكان المبرّد كثير النوادر. حكي أن المنصور ولى رجلا على الإجراء على العميان والأيتام والقواعد من النساء، فدخل عليه بعض المتخلفين ومعه ولده، فقال له: إن رأيت أصلحك الله أن تثبت اسمي مع القواعد، فقال له القواعد نساء، فكيف أثبتك فيهنّ، قال:
ففي العميان، قال: أما هذا فنعم؛ لأن الله تعالى يقول لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، فقال: وتثبّت ولدي في الأيتام، فقال هذا أفعله أيضا، فإنه من تكن أنت أباه فهو يتيم وقد عناه ابن المعذل فقال: [الوافر]
سألنا عن ثمالة كلّ حيّ ... فقال القائلون ومن ثماله
فقلت محمد بن يزيد منهم ... فقالوا زدتنا بهم جهاله
فقال لي المبرّد خلّ عنّا ... فقومي معشر فيهم نذاله
وقال ابن خلكان: ويقال إنّ المبرّد قال هذه الأبيات لتحفظ [و] ليشتهر نسبه في ثمالة.
ولد المبرّد يوم عيد الأضحى سنة عشر، وقيل سنة سبع وثلاثين وتوفي في ذي الحجة سنة ست وثمانين، وقيل في ذي القعدة سنة خمس وثمانين ومئتين ببغداد. وفي ثعلب قال أبو(7/96)
بكر بن العلاف: [الكامل]
ذهب المبرّد وانقضت أيّامه ... وليذهبن إثر المبرّد ثعلب
بيت من الآداب أصبح نصفه ... خربا وباقي بيتها فسيخرب
فابكوا لما سلب الزمان ووطّنوا ... للدّهر أنفسكم على ما تسلب
وأرى لكم أن تكتبوا أنفاسه ... إن كانت الانفاس مما يكتب
والمبرد لقب غلب عليه، قيل إنه كان عند بعض أصحابه، وإن صاحب الشرطة طلبه للمنادمة، فكره المبرّد ذلك، وألحّ الرسول عليه، وكان هناك مزملة لتبريد الماء فارغة، فدخل المبرّد فيها واختفى في غلاف المزملة، فدخل الرسول في تلك الدار وفتش على المبرّد فلم يجده، فلما مضى الرسول جعل صاحب الدار يصفق وينادي على المزملة المبرّد المبرّد وتسامع الناس بذلك فلهجوا به وصار لقبا عليه «1» .
ومنهم:
15- أحمد بن يحيى بن زيد بن سيار «13»
النحوي الشيباني بالولاء، أبو العباس المعروف بثعلب، إمام الكوفيين في العربية. ذو أمد لا يغلب وصيد للشوارد لا يعرف [إلا] من ثعلب، لا يحاذر الصقر المحلّق، ولا يبادر السهم المخلّق، لأفعاله طراوة، ولمقاله طلاوة، ولم يوجد مثله بالأشقرا «2» ، ولا حصل مثله عند الفرا «3» ، ولا نظن إلّا تغلّبه، ولا نعدّ في غير السباع ثعلبه. طالما قهر به المغالب، وودّت قمم(7/97)
الأعداء لو أنها وجار الثعالب. فلم يزل مناظره معه يتغلب، ويعطيه حلاوة من طرف اللسان ويروغ كما يروغ الثعلب، فلم تعرف له أوقات فراغ، ولا وصف وصف ثعلب ذهب فراغ، فحمد رايته رأيه في مطلع ومغيب، وطلع عليه فقال: صباحك ثعلب ومساك ذيب.
قال ابن خلكان: كان إمام الكوفيين في النحو واللغة، وكان ثقة حجة صالحا مشهورا بالحفظ وصدق اللهجة والمعرفة بالعربية، ورواية الشعر القديم، مقدما منذ هو حدث. وكان ابن الأعرابي إذا شكّ في شيء قال له: ما تقول يا أبا العباس في هذا؛ ثقة بغزارة حفظه.
وكان يقول: نظرت في حدود الفرّاء وسنّي ثماني عشرة سنة وبلغت خمسا وعشرين سنة، وما قرئت عليّ «1» إلا وأنا أحفظها.
وقال أبو بكر بن مجاهد المقرئ «2» ، قال لي ثعلب: يا أبا بكر اشتغل أصحاب القرآن بالقرآن ففازوا، واشتغل أصحاب الحديث بالحديث ففازوا، واشتغل أصحاب الفقه بالفقه ففازوا، واشتغلت أنا بزيد وعمرو، فليت شعري ماذا يكون حالي في الآخرة، فانصرفت من عنده فرأيت النبي صلى الله عليه وسلّم في تلك الليلة في المنام فقال لي: أقرئ أبا العبّاس عنّي السلام، وقل له أنت صاحب العلم المستطيل. قال أبو بكر: أراد أن الكلام به يكمل والخطاب به يحمل، وأن جميع العلوم مفتقرة إليه. وكان له شعر. قال أبو بكر بن القاسم الأنباري: انشدني ثعلب ولا أدري هي لغيره أم لا.
[الطويل]
إذا كنت قوت النفس ثم هجرتها ... فكم تلبث النّفس التي أنت قوتها
ستبقى بقاء الضبّ في الماء أو كما ... يبقّي لدى ديمومة البيد حوتها «3»(7/98)
ولد في سنة مئتين لشهرين مضيا منها، وتوفي يوم السبت لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى، سنة إحدى وتسعين ومئتين ببغداد.، وقيل إنه قال: رأيت المأمون لمّا قدم من خراسان في سنة أربع ومئتين، وقد خرج من باب الحديد يريد الرصافة والناس صفّان فحملني أبي على يده، وقال هذا المأمون وهذه سنة أربع فحفظت ذلك عنه إلى الساعة. وكان سبب وفاته أنه خرج من الجامع يوم الجمعة بعد العصر، وكان قد لحقه صمم لا يسمع إلا بعد تعب فصدمته فرس فألقته في هوّة، فأخرج منها وهو كالمختلط «1» ، فحمل إلى منزله على تلك الحال وهو يتأوه فمات ثاني يوم، وكتب إليه ابن المعتز: [الرّجز]
ما وجد صاد في الجبال موثق ... بماء مزن بارد مصفّق
بالرّيح لم يطرق ولم ترنّق ... جادت به أخلاق دجن مطبق
في صخرة لم ترشمسا تبرق ... فهو عليها كالزّجاج الأزرق
صريح غيث خالص لم يمذق «2» ... إلا كوجدي بك لكن أتّقي
يا فاتحا لكلّ باب مغلق ... وصيرفيّا ناقدا للمنطق «3»
إن قال هذا بهرج لم ينفق ... إنّا على البعاد والتفرّق
لنلتقي بالذكر إن لم نلتق ... إنّا على البعاد والتفرّق
لنلتقي بالذكر إن لم نلتق ...
فأجابه من رقعة نحن كما قال، وفيه: [الرّجز]
إني وإن [لم] ترني فإنّني ... أراك بالغيب وإن لم ترني(7/99)
ومنهم:
16- سليمان بن محمد بن أحمد النحوي البغدادي أبو موس الحامض «13»
عرف بين البرية بفضل نسكها، وقوة مسكها، وصلاح سيرتها وإصلاح سريرتها، أضاءت به الأسارير وأضيئت اللجج كأنها صرح ممرّد من قوارير، ففاقت سمراته، وفات ضوء النهار مقمراته وأبعد وضوحا، وأوعد الصباح فصوحا، ولم يزل يحاول الغاية في العلم وتحصيله، وإطالة غرته منه وتحجيله، حتى استملّ السنام، واستمسك به الأنام، فطفحت المجرّة دون مجراه، ولم تتنبه النجوم لمسراه.
قال ابن خلكان: كان أوحد المذكورين من العلماء بنحو الكوفيين، أخذ عن ثعلب وهو المتقدم من أصحابه، وجلس موضعه وخلفه بعد موته، وصنّف كتبا حسانا في الأدب، وكان ديّنا صالحا، وكان أحد الناس في البيان والمعرفة بالعربية واللغة والشعر. وكان قد أخذ عن البصريين أيضا وخلط النحوين، وكان يتعصب على البصريين، وكان حسن الوراقة في الضبط. وتوفي لتسع بقين من ذي الحجة سنة خمس وثلثمئة ببغداد «1» .
ومنهم:
17- أبو عبد الله محمد بن العباس بن محمد اليزيدي «14»
النحوي. رجل يطير بجناحي المضرحي «2» ، ويسلك الفجاج سلوك الأداحي «3» . طالما(7/100)
بكر مجدّا والليل ما انشقّ رداؤه، والسّحر ما بلّت أعطاف الزهر أنداؤه، واستدام حتى هدم النوم، وحرّم على الجفن جفا النوم. فامتلأ ما وسعه إناؤه، وأودعه منه الدهر وآناؤه، ثم أضحى يصول صولة الشجاع، ويفرق تفاريق الشعاع.
قال ابن خلكان: كان إماما في النحو والأدب، ونقل النوادر وكلام العرب. ومما رواه أن أعرابيا هوي أعرابية، فأهدى إليها ثلاثين شاة وزقا من خمر مع عبد له أسود، فأخذ العبد شاة في الطريق فذبحها، وأكل منها وشرب بعض الزقّ، فلما جاءها بالباقي عرفت أنه خانها في الهدية، فلمّا عزم على الانصراف سألها، هل لك من حاجة، فأرادت إعلام سيّده بما فعل العبد، فقالت: اقرأ عليه السلام وقل له إن الشهر كان عندنا محاقا، وإن سحيما راعي غنمنا جاء مرثوما «3» فلم يعلم العبد ما أرادت بهذه الكتابة. فلمّا عاد إلى مولاه أخبره برسالتها، ففطن ما أرادته، فدعا له بالهراوة، وقال: لتصدقني وإلا ضربتك بهذه ضربا مبرحا، فأخبره الخبر فعفا عنه. وهذه من لطايف الكنايات وأحلى الإشارات «4» .
وله تصانيف مذكورة، وطلب آخر عمره ليعلّم أولاد المقتدر. وتوفي لا ثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة سنة عشر وثلثمئة.(7/101)
ومنهم:
18- ابن السراج «13» أبو بكر بن محمد بن السري بن سهل
النحوي، صاحب المبرّد. نحوه «1» لا يملك، ونحوه لا تسلك، بعد مرمى، وصعد منمى، وحمد منه كل وصف يقال فيه، لمّا لاح في سماء السعد فرقدا، وفاح للعبنر الورد موقدا، وبات الأدب يشب على نار خاطره، ويثب بسقيا ماطره، وزيّن شعره بالغنا، وزيد قدره على نفع الغذا. وكان من حلفاء العشاق، وخلفاء الروض في الانتشاق. وكأن رايته لا تزال تعلق به نظرته وتعبق بأدبه حضرته فلا يملّه جليس، ولا يملّه حلّ عقدة تكة أو كيس.
قال ابن خلكان: كان أحد الأئمة المشاهير، المجتمع على فضله ونبله وجلالة قدره في النحو والآداب. أخذ عن المبرّد وغيره، وأخذ عنه السيرافي والرماني وغيرهما، ونقل عنه الجوهري في الصحاح في مواضع عديدة، وله التصانيف المشهورة في النحو. وأنشد ما ذكر أنه منسوب إليه وهو: [الكامل]
ميّزت بين جمالها وفعالها ... فإذا الملاحة بالخيانة لا تفي
حلفت لنا أن لا تخون عهودنا ... فكأنما حلفت لها أن لا تفي
والله لا كلّمتها ولو أنّها ... كالبدر أو كالشّمس أو كالمكتفي «2»(7/102)
ومنهم:
19- أبو الحسن علي بن سليمان بن الفضل «13»
الأخفش الأصغر. تعين فضله وتحتّم، وتزين بالثريا. ونصب على مدرجة الطريق خيامه، وأكثر ولعه بالفضائل وهيامه. وقد فصل عن العظام، وحلّ من قمطه القدام «1» ، يكلف العلم كلف غيلان بمي، ويهيم في طلبه هيام قيس في كل حيّ، حتى صفّت له عدد الطناف «2» ، ودنت إليه ثمرة للقطاف. قال ابن خلكان: روى عن المبرّد وثعلب وغيرهما.
قال المرزباني: لم يكن بمتسع في الرواية والأخبار والعلم «3» بالنحو، وما علمته صنّف مسألة ولا قال شعرا وكان إذا سئل عن مسائل النحو ضجر وابتهر كثيرا ممّن تواصل، كثير الطيرة.
وكان الأخفش كثير المزاح، فكان يباكر قبل كل أحد فيطرق الباب على ابن الرومي، فيقول من بالباب، فيقول الأخفش: حرب من مقاتل وما أشبه ذلك، فكان ابن الرومي كثير الهجاء للأخفش، فلمّا رأى ابن الرومي أنه لا يألم بهجائه ترك هجوه، ومدحه بعد ذلك. وكان الأخفش يواصل المقام عند أبي علي بن مقلة، ويراعيه أبو علي ويبرّه، فشكا إليه في بعض الأيام الإضاقة، وسأله أن يكلم أبو الحسن علي بن عيس، وهو يومئذ وزير في أمره، ويسأله إجراء رزق عليه أسوة بأمثاله، فخاطبه أبو علي في ذلك، فانتهره علي بن عيس وردّ عليه في مجلس حافل، فشقّ على ابن مقلة ما عامله به، وقام من مجلسه، وقد اسودّت الدنيا في عينيه، وصار إلى منزله لائما لنفسه على سؤال علي [بن] عيسى ما سأله، وحلف أنه يجرد في السعي عليه. ووقف الاخفش على الصورة فاغتمّ وانتهت به الحال إلى أن أكل(7/103)
السلجم «1» النيئ، فقيل: إنه قبض فمات فجأة، وذلك في شعبان سنة خمس عشرة، وقيل سنة عشر وثلثمئة «2» .
ومنهم:
20- إبراهيم بن السريّ بن سهل الزجّاج 1»
النحوي، أبو إسحاق. كان يؤخذ من أدبه، ويدرأ في نحور الأعداء بكتبه، ولا عذر لمن وجد الجوهر ألا يلتقطه، ولمن ملك الجوهر ألا يخترطه، وكان قدر هذه في الدنيا معرفته بها وقطعه عنه صلته بسببها. وكان ما يتصدّق به أحب مآليه إليه، وأعزّ ما يدّخره ما يقدّمه مما في يديه لديه. لا يخيفه سؤال، ولا يخفيه عذر عن نوال. وصحب بني وهب، وعني به الوزير فبيّض سواد أمله، وروّض سوءة ممحله. وكان الوزير ممّن خلقت يده للجود، ورفده لما لا يسع معه الجحود، فاتسعت جوانب ماله، وسعت مواهب كفه لماله.
ذكره ابن خلكان وقال: كان من أهل العلم بالأدب والدين المتين، وأخذ الأدب عن المبرّد، وثعلب، وكان يخرط الزجاج ثم تركه واشتغل، واختص بصحبة الوزير عبيد الله بن سليمان بن وهب، وعلّم ولده القاسم الأدب، ولمّا استوزر أفاد بطريقته مالا جزيلا. وحكى أبو علي الفارسي، قال: دخلت مع شيخنا أبي إسحاق الزجاج على القاسم بن عبد الله الوزير، فسارّه خادم له بسرّ استبشر له ثم نهض، ولم يكن أسرع مما عاود في وجهه أثرا لوجوم فسأله شيخنا عن ذلك فقال له: كانت تختلف إلينا جارية لأحد الفتيان فسميتها أن تتبعني أياما فامتنعت من ذلك، ثم أشار عليها أحد من ينصحها بأن يهديها إليّ رجاء أن(7/104)
أضاعف لها ثمنا، فلمّا جاءت أعلمني الخادم بذلك، فقمت مستبشرا لا فتضاضها، فوجدتها قد حاضت، فكان مني ما ترى، فأخذ شيخنا الدواة من بين يديه وكتب:
[المديد]
فارس ماض بحربته ... حاذق بالطّعن بالظّلم
رام أن يدمي فريسته ... فاتّقته من دم بدم
قلت: وقد مرّ قبل هذا في ذكر المأمون، ويحتمل أنّ الزجاج يمثل بهما.
وتوفي سنة إحدى وعشرين وثلثمئة «1» .
ومنهم:
21- إبراهيم بن محمد بن عرفة «13»
ابن سليمان بن المغيرة بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي، أبو عبد الله الملقب نفطويه النحوي الواسطي. ذو الفضائل الحسان والآداب والفضائل التي ما تمسك فيه بالأهداب، وله قريحة أكرم من الغمام، وأندى من الزهرة في الكمام. على أنه لم يخل من حاسد، ولا جاء إلا في زمن فاسد، فما بلغ مدى الاستحقاق، ولا بكّ بغير الدمع الآماق.
ذكره ابن خلكان وقال: كان عالما بارعا، ولد سنة أربع وأربعين ومئتين، وقيل سنة خمس بواسط، وسكن بغداد، وتوفي في صفر سنة ثلاث وعشرين وثلثمئة، يوم الأربعاء لست خلون منه بعد طلوع الشمس بساعة. وقيل: توفي سنة أربع وعشرين. ولقّب نفطويه على(7/105)
مثال سيبويه؛ لأنه كان ينسب في النحو إليه، ويجري على طريقته ويدرس كتابه، وأنشد له قوله: [الكامل]
قلبي أرقّ عليك من خدّيكا ... وقواي أوهى من قوى جفنيكا
لم لا ترقّ لمن يعذّب نفسه ... ظلما ويعطفه هواه عليكا
وفيه قال أبو عبد الله محمد بن زيد الواسطي المتكلم المشهور: [السريع]
من سرّه ألّا يرى فاسقا ... فليجتهد ألّا يرى نفطويه
أحرقه الله بنصف اسمه ... وجعل الأرض صراخا عليه «1»
وأنشد نفطويه أيضا لنفسه: [السريع]
الإلف لا يصبر عن إلفه ... أكثر من يوم ويومين
وقد صبرنا عنكم جمعة ... ما هكذا فعل المحبّين
ومنهم:
22- أبو بكر ابن القاسم بن محمد بن بشار الأنباري «13»
النحوي، صاحب التصانيف المشهورة في النحو والأدب، وساحب ذيول المفاخر المجرورة لفضائل، يروي كلّ صاديه، وترد كلّ صافيه بكل بديعة جلست مع الملاح في مقاصيرها، وهبّت مع الرياح أعاصيرها. رفضت عن المدام ختاما، وفوضت عن الغمام خياما، فهطلت(7/106)
سكابا، وطلعت مع كل ناشبة «1» سحابا.
قال ابن خلكان: كان علّامة وقته في الأدب، وأكثر الناس حفظا لها، وكان صدوقا ثقة ديّنا خيّرا من أهل السنّة، وصنّف كتبا كثيرة. وذكره الخطيب في تاريخ بغداد «2» وأثنى عليه.
وقال: بلغني أنه كتب عنه وأبوه حيّ، وكان على ناحية من المسجد وأبوه في ناحية أخرى. وكان أبوه عالما في الأدب، موثقا في الرواية أمينا، سكن بغداد.
قال القالي: كان أبو بكر الأنباري يحفظ ثلثمئة ألف بيت شاهد في القرآن الكريم. وقيل له: قد أكثر الناس في محفوظاتك، قال: أحفظ ثلاثة عشر صندوقا.
وقيل: إنه كان يحفظ مئة وعشرين تفسيرا للقرآن بأسانيدها.
وحكى الدارقطني أنه حضر مجلس إملائه يوم الجمعة، فصحّف اسما أورده في حديث. قال الدارقطني: فأعظمت أن يحمل عن مثله، وهممت أن أوقفه على ذلك، فلما انقضى الإملاء تقدمت إلى المستملي فذكرت له وهمه، وعرّفته صواب القول فيه وانصرفت، ثم حضرت الجمعة الثانية في مجلسه، فقال أبو بكر: عرّف الجماعة الحاضرين أنّا صحّفنا الاسم الفلاني لما أملينا حديث كذا في الجمعة الماضية، ونبهنا ذلك الشاب على الصواب، وهو كذا، وعرّف ذلك الشاب أنّا رجعنا إلى الأصل فوجدناه كما قال «3» .
ولد لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب سنة إحدى وسبعين ومئتين، وتوفي ليلة النحر سنة ثمان وعشرين، وقيل سبع وعشرين وثلثمئة. وتوفي أبوه سنة أربع وثلثمئة ببغداد، وقيل في سنة خمس.(7/107)
ومنهم:
23- عبد الله بن جعفر بن درستويه «13»
ابن المرزبان، أبو محمد الفارسي الفسوي النحوي. مغامر جاز أودية الظنون، وحارب أردية المنون، وجال إذ مدّت له ميدانها السنون فشبّ عمره معه، حتى نوّر أقاح مشيبه، وأخذ شعرة من تفضيضه بعد تذهيبه، إلا أنه كبر وعمره منتهب. وبرد ولم يخمد له لهب، ولم يفقد طالب منه طول مدّته إحسانا، ولا جنى منه في غمرته إلا آسا وسوسانا «1» ، وخفقت عليه راية الرواية، وحققت فكره ورايه، ودان لسانا متكلما وبنانا. لازمه الفن متسلما وعرى حين دنا حينه «2» من برديه، ولم يعد من فوائد منكب، ولا علا بأحد معه منصب، فمذ مات تساوى الناس، وتشابهت الأعضاء بذهاب الراس.
روى عن المبرد، وعبد الله بن سلمة بن قتيبة، وقدم بغداد شابا وسكنها، وتصانيفه في غاية الجودة، منها: تفسير كتاب الجرمي، وكتاب الهجاء، هذا من أحسن كتبه، ومعاني الشعر، وشرح الفصيح، وغريب الحديث، والردّ على ثعلب في اختلاف النحويين، وتصانيف أخر ذكرها القفطي «3» .
ولد سنة ثمان وخمسين ومئتين. وكان شديد الانتصار لمذهب البصريين في المذهب والنحو واللغة، وهو من مسند المحدّثين.(7/108)
روى عنه جماعة من الحفاظ كالدارقطني وابن المظفر شاهين وابن مسندة وابن رزقويه، وأبي علي بن شادان، ووثّقه ابن مسندة وغيره.
وتوفي في صفر سنة سبع وأربعين وثلاثمئة.
ومنهم:
24- الحسن بن عبد الله بن المرزبان السيرافي «13»
النحوي، المعروف بالقاضي أبو سعيد، نزيل بغداد. صنو البحر الذي هو سور سيراف، وذيل بلده الممتد الطراف. علّامة العلما، وغمامة السما، وشمس النهار المشرقه، وسحابة الأنواء المغرقه. تجلى بالورع ولبس التقى، وادّرع فلم يكن بمشتبه، ولا رئي مثله هاجع ولا منتبه.
قال ابن خلكان: سكن بغداد وتولى القضاء بها نيابة عن أبي محمد بن معروف وكان من أعلم الناس بنحو البصريين، وشرح كتاب سيبويه، وأخذ اللغة عن ابن دريد، والنحو عن ابن السرّاج، وكان الناس يشتغلون عليه في عدّة فنون في القرآن الكريم، وفي علومه، وفي النحو واللغة والفقه والفرائض والحساب، والكلام والشعر والعروض والقوافي.
وكان نزها عفيفا جميل الأثر، حسن الأخلاق، وكان معتزليا، ولا يظهر ذلك عليه.
وكان لا يأكل إلا من كسب يمينه، ينسخ ويأكل منه. وكان أبوه مجوسيا اسمه بهزاد، فأسلم، فسمّاه ابنه عبد الله. وكان كثيرا ما ينشد في مجالسه: [الكامل المرفل]
اسكن إلى سكن تسرّ به ... ذهب الزمان وأنت منفرد
ترجو غدا وغد كحاملة ... في الحيّ لا يدرون ما تلد(7/109)
وكانت بينه وبين أبي الفرج الأصفهاني صاحب الأغاني ما جرت العادة بمثله بين الفضلاء من التنافس. فقال أبو الفرج فيه: [الخفيف]
لست صدرا ولا قرأت على صد ... رولا علمك البكيّ بشاف
لعن الله كلّ نحو وشعر ... وعروض يجيء من سيراف
وتوفي يوم الاثنين، ثاني رجب سنة ثمان وستين وثلاثمئة ببغداد، وعمره أربع وثمانون سنة «1» .
ومنهم:
25- الحسن بن أحمد بن عبد الغفار
ابن محمد بن سليمان بن أبان، أبو علي الفارسي «13» الفسوي النحوي، رجل خط بيراعه، وحطّ الصبح عن قناعه، وكفّ الدهر عن قراعه فلفّ المجد في ملائه، وخفّ الوفد إلى آلائه. وسعت إليه الزمر، وسعدت لديه بالثمر، وجاءته الوفود، وتزاحمت لديه على الورود.
وصدرت عنه الركائب وقد أودعت «2» حقائبها طيبا وحقائقها ما كان لسقام الأفهام طبيبا.
وكان على هذا لا يسلم من لسان حاسد وثالب حاشد، وثباته على هذا عجب، وإثباته في أهل التقدم قد وجب.
قال ابن خلكان: ولد بمدينة فسا، واشتغل بمدينة بغداد، وكان إمام وقته في علم النحو.
ودار البلاد، وأقام بحلب عند سيف الدولة بن حمدان مدة وجرت بينه وبين المتنبي مجالس،(7/110)
ثم انتقل إلى بلاد فارس، وصحب عضد الدولة بن بويه، وتقدّم عنده، وعلت منزلته؛ حتى قال عضد الدولة: أنا غلام أبي علي الفسوي في النحو. وصنّف له كتاب الإيضاح والتكملة في النحو.
ويحكى أنه كان يوما في الميدان بشيراز، يساير عضد الدولة فقال له: لم انتصب المستثنى زيدا؟ فقال له عضد الدولة: هلّا رفعته، وقدرت الفعل، نحو: امتنع زيد، فانقطع أبو علي «1» ، وقال له: هذا الجواب ميداني، ثم إنه لمّا رجع إلى منزله وضع في ذلك كلاما، وحمله إليه فاستحسنه. وذكر في الإيضاح، أنّه بالفعل المقدّم بتقوية إلّا.
وحكى أبو القاسم أحمد الأندلسي، قال: جرى ذكر الشعر بحضرة أبي علي وأنا حاضر، فقال: إني لأغبطكم على قول الشعر فإن خاطري لا يوافقني على قوله، مع تحقيقي العلوم التي هي مراده، فقال له رجل: فما قلت قط شيئا منه؟ قال: ما أعلم أن لي شعرا إلا قولي في الشيب: [الوافر]
خضبت الشّيب لمّا كان عيبا ... وخضب الشّيب أولى أن يعابا
ولم أخضب مخافة هجر خلّ ... ولا عيبا خشيت ولا عتابا
قال ابن خلكان: «وقد أخذ في ذكره وبالجملة، فهو أشهر من أن يذكر فضله، ويعدّد.
وكان متهما بالاعتزال» .
ومولده سنة ثمان وثمانين ومئتين، وتوفي لسبع عشرة ليلة خلت من أحد الربيعين، سنة سبع وسبعين وثلاثمئة ببغداد. وفسا من بلد فارس «2» .(7/111)
ومنهم:
26- أبو الحسن علي بن عيسى بن عبد الله الرمّاني «13»
الورّاق، المعروف بالإخشيدي رجل صفو زلاله لم يكدر، وصنو حلال عليه لم يقدر، ورد العلّ والنهل «1» ، وجرى الناس وراءه وهو على مهل. وكم سبح في بحره السماكان، وما فيهما اسم كان، إلى [أن] فتل غارب الشارق، وفعل ابن ذكا «2» في المشارق. وقبس منه الضرام وأضاء نهاره، وغيّره بخيط في الظلام. كان إماما في علم العربية، علامة في الأدب في طبقة أبي علي الفارسي، وأبي سعيد السيرافي. أخذ عن ابن السرّاج وابن دريد والزجاج.
وله تصانيف في جميع العلوم، من النحو واللغة والنجوم والفقه والكلام على رأي المعتزلة.
وكان يمزج كلامه في النحو بالمنطق؛ حتى قال أبو علي الفارسي: إن كان النحو ما يقوله الرماني فليس معنا منه شيء، وإن كان النحو ما نقوله نحن فليس معه منه شيء. وكان يقول «3» : النحويون في زماننا ثلاثة: واحد لا يفهم كلامه وهو الرماني، وواحد يفهم بعض كلامه وهو أبو علي الفارسي، وواحد يفهم جميع كلامه بلا أستاذ وهو السيرافي.
وقال القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي «4» : سمعت شيخنا الرماني يقول، وقد(7/112)
سئل فقيل له: لكل كتاب ترجمة، فما ترجمة كتاب الله عزّ وجلّ؟ فقال: (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ، وَلِيُنْذَرُوا بِهِ «1» ) .
وقال أبو حيان التوحيدي: سمعت عليّ بن عيسى يقول لبعض أصحابه: لا تعادين أحدا وإن ظننته أنه لن ينفعك، فإنه لا تدري متى تخاف عدوّك أو تحتاج إليه، ومتى ترجو صديقك أو تستغني عنه. وإذا اعتذر عدوك فاقبل عذره، وليقلّ عتبه على لسانك. ومما تمثل به، وقد شتمه بعض سائليه عن مسائل أجاب عنها بما لا وصل إلى ذهن السائل:
[الوافر]
ولولا أن يقال هجا نميرا ... ولم يسمع لشاعرها جوابا
أغبنا عن هجاء بني كلاب ... وسوف يشاتم النّاس الكلابا
قال التنوخي: وممن ذهب في زماننا إلى أن عليا أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم من المعتزلة أبو الحسن الرمّاني الإخشيدي، ولعلّه كان تلميذ ابن الإخشيد المتكلم، أو على مذهبه. توفي في جمادى الأولى سنة أربع وثمانين وثلاثمئة، في خلافة القادر بالله «2» .
ومنهم:
27- محمد بن الحسين بن محمد بن عبد الوارث الفارسي «13»
النحوي، أبو الحسين ابن أخت أبي علي الفارسي. رجل تنقل في الارض تنقّل السحاب، وتوقّل «3» الذرى توقّل العقاب. وخاطر في اقتحام المهامه، وخاض غمرات الموت المشابه، ولم(7/113)
يهب جنح الدجى، ولا وقف دون مرتجى. فطوى البيد ونشرها، وساق البدر ونحرها حتى جال في القلوب، وجاب أكثر ما تحت السماوات، وسمابه الدهر حتى قرع باب السلطان، وولج سماه وابتهج نعماه، وحصل أضعاف ما تجرّه الموارث وساد فوق سؤدد آبائه وجدّه عبد الوارث. وكان أحد أفراد الدهر وأعلام الفضل. وهو الإمام في النحو بعد خاله، وعنه أخذ حتى استغرق علمه واستحق مكانه. أوفده خاله على الصاحب بن عباد، فأكرم مورده ومصدره، ونال منه أو فر حظ، ثم ورد خراسان، وأملى بنيسابور الأدب، ثم قدم على صاحب خوزستان وحظي عنده ثم رجع إلى غزنة ثم أتى نيسابور وأقام بأسفدانين ثم استقر بجرجان، وأخذ عنه أهلها فضلا كثيرا. ومن تلاميذه عبد القاهر الجرجاني. وتوفي سنة إحدى وعشرين وأربعمائة. ومن شعره قوله: [الكامل]
ومطهّم ما كنت أحسب قبله ... أنّ السّروج على البوارق توضع
فكأنما الجوزاء حين تصوّبت ... لبب «1» عليه والثّريا برقع «2»
ومنهم:
28- أبو منصور عبد الملك بن أحمد بن إسماعيل الثعالبي «13»
جامع أدب ما ترك، وسامع طرب لا يملك معه الحرك. ألف كتاب اليتيمة، وتصرف بها في سحاب دررما لها قيمة. جمع فيها فأوعى، لكن من مسك الحقائب، واستدعى لكن غرر الغرائب. وضمن فيها ذكر من لا شبهة في فضله، وضم الشيء إلى مثله، وأبدع في تأليفه، وشرع به منهجا جاء الدوح المثمر في لفيفه، والروض المزهر في(7/114)
تفويفه «1» ، والدرّ الثمين في ترصيفه، والشهب الرقى هنّ في تصنيفه، والقمر والهلال وهما لا يبلغان مدى مدّه، ولا تصنيفه بكلام تنكل السيوف عن حدّ مقوله، وتكل الأفهام في نسيج تأوّله، وتنكر لوامع البرق أن تقاس بتطوله، وتذكر الأيام لا بل نجوم الظلام. ولا تجاري نسبة الثعالبي ثعلب فخره ولا سرحان. أو له معجز يتحدى به على البلغاء ولا يغلب، وموجز يعطي من طرف اللسان حلاوة، ويروغ كما يروغ الثعلب وفيها يقول ابن قلاقس: [الرجز]
أبيات أشعار اليتيمه ... أبكار أفكار قديمه
ماتوا وعاشت بعدهم ... فلذاك سمّيت اليتيمه «2»
وقد مرّ في تراجم من تقدّم من الشعراء من كلامه ما حلي ذوقا، وتدفق نهرا شق عن مائه الفضي طوقا مما خفّ موقعه، وشفّ حتى كاد يراه من يسمعه وطفا، فالتقط الدرّ من يجمعه. ولم يبق إلا من كتبه ولوعا يحسنه، وتهافتا وهو غزير، وابتذل وهو في موضع من الضنانة حرير. فسار وما كان أحد لا عتلاقه به أخلى منه سمعه، وصار أرخص القيمة. كأنه الياسمين ما يساوي جمعه. ومن شعره المروي، بل نثره الذي لو ظفرت به ذات غيد لما ضاعت من سواه حلية سوارها الملوي.
وقوله: [الرجز]
إنسانة تيّاهة «3» ... بدر السّما منها خجل
إذا رنا طرفي بها ... بدمع عيني يغتسل
وقوله، وكتب به إلى الأمير أبي الفضل المكيالي: [الكامل]
لك في المفاخر معجزات جمّة ... أبدا لغيرك في الورى لم تجمع(7/115)
بحران بحر في البلاغة شأنه ... شعر البلاغ وحسن لفظ الأصمعي
كالنّور أو كالسّحر أو كالبدر أو ... كالوشي في برد عليه موسّع
شكرا فكم من فقرة لك كالغنى ... وافى الكريم بعيد فقر مدقع
وإذا يفيق بنور شعرك ناظر ... فالحسن بين مرصّع ومصرّع
أرجلت فرسان الكلام ورضت أف ... راس البديع وأنت أجمل مبدع
ونقشت في فصّ الزّمان بدايعا ... تزري بآثار الرّبيع الممرع «1»
وقوله: [البسيط]
لما بعثت فلم توجب مطالعتي ... وأمعنت نار شوقي في تلهّبها
ولم أجد حيلة تبقي على رمقي ... قبّلت عينيّ رسولي إذ رآك بها «2»
ومنهم:
29- أبو الفتح عثمان بن جني «13»
الموصلي النحوي، صاحب التصانيف؛ ناهيك به من أعور، عينه نضّاخة «3» ، وأرضه مما تنبت سوّاخه «4» . لم ير مثله في توجيه المعاني وشدّ بيوت القصائد الوثيقة المباني. وكان أبو الطيب المتنبي إذا سئل عن معنى قاله، أو توجيه إعراب حصل فيه إغراب دلّ عليه، وقال: عليكم بالشيخ الأعور ابن جني، فسلوه فإنه يقول ما أردت، وما لم أرد. ما أبقى له نهدا وفخرا بمثله يتميز، وبفضله يتعزّز.
قال ابن خلكان: كان إماما في علم العربية، وقرأ الأدب على أبي علي الفارسي ثم قعد(7/116)
للإقراء بالموصل، فاجتازبه شيخه فرآه، فقال له: زببت وأنت حصرم. فترك حلقته وتبعه، ولازمه حتى تمهّر. وكان أعور. وفي ذلك يقول: [المتقارب]
صدودك عنّي ولا ذنب لي ... يدلّ على نيّة فاسده
فقد وحياتك مما بكيت ... خشيت على عيني الواحده
ولولا مخافة أن لا أراك ... لما كان في تركها فائده
وسأل شخص المتنبي، فقال: كيف أتيت الأدب في قولك:
باد هواك صبرت أم لم تصبرا «1» ؟
فقال: لو كان هناك ابن جني أبو الفتح لأجابك. وولد قبل الثلاثين والثلاثمائة بالموصل.
وتوفي لليلتين بقيتا من صفر سنة اثنتين وتسعين وثلاثمئة «2» .
ومنهم:
30- أبو الحسن علي بن أحمد بن علي بن متّويه الواحدي «13»
صاحب التفاسير المشهورة. نجمه ما غرب، وسهمه موفّى لا من نبع ولا غرب. وشب كما شبّ الغلام؛ حتى افترّ له ثغر السؤدد وابتسم، واستهم على الفضل واقتسم؛ فما ثقل بيت عارضه إلا وقد نبت نباتا حسنا، وثبت ثباتا يجعل له الجوارح ألسنا وقنا. أقلت آثاره(7/117)
السهوب والسهول، وعلت به شباب تسامت للعلى وكهول.
قال ابن خلكان: كان أستاذ عصره في النحو والتفسير، ورزق السعادة في تصانيفه.
وأجمع الناس على حسنها، ومنها البسيط والوسيط، وشرح ديوان المتنبي شرحا مستوفى.
ليس في شروحه مع كثرتها ملّة. وذكر فيه أشياء غريبة منها أنه قال في شرح هذا البيت وهو: [الكامل]
وإذا المكارم والصّوارم والقنا ... وبنات أعوج كلّ شيء يجمع
تكلم على هذا البيت فقال: أعوج، أنه فحل «1» كريم كان لبني هلال بن عامر، وأنه قيل لصاحبه: ما رأيت من شدّة عدوه؟ قال: ضللت في بادية وأنا راكبه، فرأيت سرب قطا يقصد الماء فسقته، وأنا أغضّ «2» من لجامه حتى توافيا الماء دفعة واحدة وهذا أغرب شيء يكون؛ فإن القطا شديد الطيران، وإذا قصد الماء اشتدّ طيرانه أكثر من غيره قصد الماء، ثم ما كفى حتى قال: كنت أغضّ من لجامه، ولولا ذلك لكان يسبق القطا وهذه مبالغة عظيمة.
وإنما قيل له أعوج؛ لأنه كان صغيرا وقد جاءتهم غارة، فهربوا منها وطرحوه في خرج «3» ، وحملوه لعدم قدرته على متابعتهم لصغره، فاعوجّ ظهره من ذلك، فقيل له أعوج. وهذا البيت من جملة القصيدة التي رثا بها فاتكا «4» المجنون. وكان الواحدي المذكور تلميذ الثعلبي صاحب التفسير. وتوفي في جمادى الآخرة سنة ثمان وستين وأربعمائة بنيسابور «5» .(7/118)
ومنهم:
31- الشريف الشجري «13»
أبو السعادات هبة الله بن علي بن محمد بن حمزة الحسني. مطبل «1» غرر وسمات، ومزيل حسنات من سيئات. كان يتيما يرتع في ميدانه، ويربع على أخدانه، إذا به قد قطب، وتنكر، ورأى منه ما ينكر؛ ولكل امرئ نفسان، والخير والشر في اللسان، إلّا أنه كان علما، وكان وجود الناس سواه عدما؛ لفواضل كأنما جعلت رزقا للنسيم أو حقّا له منه أوفر القسيم.
قال ابن خلكان: كان إماما في النحو واللغة، وأشعار العرب وأيامها وأحوالها، كامل الفضائل، متضلعا من الآداب. صنّف فيها عدّة تصانيف أكثرها وأجلّها كتاب (الأمالي) ، وهو من الكتب الممتعة.
ولمّا فرغ من إملائه، حضر إليه ابن الخشاب، والتمس منه عليه فلم يجبه إلى ذلك، فعاداه وردّ عليه في مواضع منه، ونسبه فيها إلى الخطأ. فوقف عليها الشريف، فردّ عليه ردة، بيّن وجوه غلطه في كتاب جمعه، وسمّاه (الانتصار) . وهو على صغر حجمه مفيد جدا.
وكان حسن الكلام، حلو الألفاظ فصيحا، جيّد اللسان والتفهيم. وقرأ الحديث بنفسه على جماعة من المتأخرين، مثل أبي الحسن المبارك بن عبد الجبار الصرفي وابن شهاب الكاتب، وغيرهما.
وذكره السمعاني في الذيل، وكان الشريف أبو السعادات ينوب عن والده الظاهر في النقابة بالكرخ، وله شعر حسن، ومنه قوله: [الكامل](7/119)
هذي السّديرة والغدير الطافح ... فاحفظ فؤادك إنني لك ناصح
يا سدرة الوادي الذي إن ظلّه ال ... سّاري هداه نشره المتفاوح
هل عائد قبل الممات لمغرم ... عيش تقضّى في ظلالك صالح
ما أنصف الرّشأ الضّنين بنظرة ... لّماّ دعا مصغي الصّبابة طامح
شطّ المزاربه وبوّأ منزلا ... بصميم قلبك فهو دان نازح
غصن يعطّفه النّسيم وفوقه ... قمر يحفّ به ظلام جانح
وإذا العيون تساهمته لحاظها ... لم يرو منه النّاظر المتراوح
ولقد مررنا بالعقيق فشاقنا ... فيه مراتع للمها ومسارح
ظلنا به نبكي فكم من مضمر ... وجدا أذاع هواه دمع سافح
مرت «1» الشؤون رسومها فكأنما ... تلك العراص المفقدات نواضح
يا صاحبيّ تأمّلا حيّيتما ... وسقى دياركما الملثّ «2» الرايح
أدمىّ بدت لعيوننا أم ربرب ... أم خرّد «3» أكفالهن رواجح
أم هذه مقل الصوار «4» رنت لنا ... خلل البراقع أم قنا وصفائح
لم تبق جارحة وقد واجهتنا ... إلا وهنّ بصيدهنّ جوارح «5»
كيف ارتجاع القلب من أسر الهوى ... ومن الشّقاوة أن يراض القادح
لو بلّه من ماء ضارج «6» شربة ... ما أثّرت للوجد فيه لواقح
ولد في رمضان سنة خمس «7» وأربعمائة، وتوفي يوم الخميس، السادس والعشرين من(7/120)
رمضان، سنة اثنتين وأربعين وخمسمئة. وعندي ما ذكره ابن خلكان في مدة عمره نظر؛ فإنه قلّ أن يبلغ أحد هذا المدى من العمر في زماننا الأخير، الواقع في خطّه العمر القصير «1» .
ومنهم:
32- ابن الخشّاب «13» عبد الله بن أحمد بن أحمد
النحوي، تنكرت المعارج حتى أزاح شهبها، وأزال سمومها، وأزار الألباب نزهها، ففتح المغلق وأقاد الصعاب وأفاد الصحاب. وكان ندى يتفجر لآلا، ولا تعرف أيامه زوالا. وشقّ البحر وراءه والتطم، وبلغ السيل آثاره وارتطم. ورجع خلفه السحاب بغيظه محنقا، والبرق بناره محرقا. فما نهنه «2» في طلب، ولا رهزه لطرب، إلى أن فصّل عليه الكفن. ولم يشك أن ضافيه للشمس قد دفن.
قال صاحب بغية الألباء: كان غاية في الذكاء والفهم، آية في علم العربية خاصة، وفي سائر العلوم كافة. ورأيت قوما من نحاة بغداد يفضّلونه على أبي علي الفارسي. زعموا أنه كان يعرف ما عرف أبو علي، وزاد عليه في علم الأدب وغيره؛ لتفنّنه في جميع العلوم. قد سمع حديث النبي- صلى الله عليه وسلّم- وأكثر تفهّمه، وعرف صحيحه وسقمه، وبحث عن أحكامه وتبحّر في علومه. ورأيت بخطه كثيرا من كتب الحكمة. وكان حسن السيرة، سالكا طريقة الأوائل في هديه وسمته؛ لا يتكلف في شيء من أمر ملبوسه(7/121)
وهيئته. وإذا سمعت كلامه ظننته عاميّا لا يفقه شيئا.
وكان مع ما شاع من فضله مشتهرا بلعب الشطرنج. وكان رؤساء زمانه ووزراء وقته يودّون مجالسته، ويتمنون محاضرته، فيتركهم ويمضي إلى حريف «1» له زنجي قبيح الصورة سمج الألفاظ، يعرف بشنشل، فيجلس معه على قارعة الطريق في بعض الدكاكين، ويلاعبه ويسافهه، ويهزأ به، أو يمضي إلى الرحبة أو شاطىء دجلة فيقف على الخلق وأرباب الحكايات والشعبذة وما ناسبهم؛ فكان إذا لاموه على ذلك يقول: إنه يندر منهم نوادر لا يكون أحسن ولا ألطف منها، وصحة قرائحهم وتصدّيهم لما هم بصدده.
وكان مع ذلك لا يخلو كمّه من الكتب وأنواع العلوم. فكان بينما هو يمشي في الطريق يخطر له قراءة شيء، فيجلس كيف اتّفق، ويخرج الدفاتر فيطالع فيها. وكان يعتم العمّة فتبقى أشهرا معتمة حتى تتسخ أطرافها من عرقه فتسودّ. وكان إذا رفعها عن رأسه ثم أراد لبسها تركها على رأسه كيف اتفق. فتارة عدّيتها تلقاء وجهه، وتارة عن يمينه وتارة عن شماله فلا يغيّر.
فإذا قيل له في ذلك، قال: ما استوت العمّة على رأس عاقل، هذه كانت حجته. وكان الوزير ابن هبيرة «2» يلومه على تبذله فلا يلتفت إليه، ولا يتغيّر عن سجيّته. وما حلّت عليه ودام لا يصغي للائم، ولا ينقاد لمناف ولا ملائم. ومن نوادره [أنّ] بعض من كان يحضر مجلسه، قال له يوما: القفا، يقصر، أو يمدّ؟ ومنها: أن الكمال عبد الرحمن الانباري لمّا صنّف كتاب (الميزان) في النحو، وعرض على ابن الخشاب، قال: احملوا هذا الميزان إلى المحتسب ففيها عين «3» .
ومنها: أنه كان يوما في داره في وقت القيلولة، والحرّ شديد وقد نام؛ إذ طرق الباب عليه(7/122)
طرقا مزعجا، فانتبه وخرج مبادرا، وإذا رجلان من العامة، فقال: ما خطبكما؟ فقالا: نحن شاعران، وقد قال كلّ منّا قصيدة. وزعم أنها أجود من قصيدة صاحبه، وقد رضيناك.
فقال: لينشد أحدكما. قال: فأنشد أحدهما وهو مصغ إليه، فلمّا فرغ منها همّ الآخر بالإنشاد. قال ابن الخشاب: على رسلك، شعرك أجود. فقال: كيف خبرت شعري ولم تسمعه؟ فقال: إنه لا يمكن أن يكون شيء أنحس من شعر هذا.
قال أبو محمد بن الخشاب: خرجت من الحلّة «1» السيفية قاصدا زيارة مشهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وكان في الصحبة رجل من سكّان المشهد يعرف بابن الشوكية، علويّ، فنزل بنا على بطن من خفاجة؛ ليستصحب معنا منهم خفيرا. فأكرموا نزلنا، وجاء منهم في الليل صبيّ، ما أظنّه بلغ سبعا، وعليه آثار مرض قد نهكه، فسلّم علينا. فقال له العلوي: ما بك يا فلان؟ وسمّى الصبي. فقال مجيبا له: في أنّ لي مدّة أجهد وأمعد، يريد بأجهد، أفعل، من قولك: رجل مجهود، من جهد الحمّى. وأمعد، أن يصيبني وجع في المعدة. فقال: معّد، فهو ممعود، كما يقال: كبد فهو مكبود، إذا أصاب كبده مرض. وكذا:
فهد فهو مفهود. وباقي الأعضاء.
وكذا يقال فيمن أصيب هذا العضو منه برمية، فقال: أميديّ أم مرجول، أي: أصيبت يده أم رجله. فتعجبت من فصاحة الصبي.
وكان في الرفقة شيء من أهل المشهد، فسمعته، وقد أعيا من السير يقول لعبد له: يا مقبل فرّكني. فقلت لبعض من معنا: ما معنى قوله فرّكني؟ فقال: يريد اغمزني ليزول تعبي. فقلت: لا إله إلا الله، خالق ذلك الصبي وهذا الشيخ واحد، فكم بين اللسانين والسنّين.
وكان أبو محمد يؤدب أولاد المستنجد المستضيء، وأخاه الأمير أبو القاسم، فكان يشدّ(7/123)
عليهما في التعليم، فلمّا أفضى الأمر إلى المستضيء رضي ابن الخشاب أن يخلص منه رأسا برأس؛ وذلك أنه كان يظهر منه تفضيل أخيه عليه، فلم يذكره بنفسه.
قال العادل مسعود بن يحيى بن النادر: كنت يوما بين يدي المستضيء فقال لي: كلّ من نعرفه قد ذكرنا بنفسه، ووصل إليه برّنا إلا ابن الخشاب، فما خبره؟ فاعتذرت عنه بعذر، أقصاه الحال، ثم خرجت فعرّفت ابن الخشاب ذلك. فكتب إليه هذين البيتين: [الكامل]
ورد الورى سلسال جودك فارتوى ... فوقفت دون الورد وقفة حاتم
ظمآن أطلب خفّة من زحمة ... والورد لا يزداد غير تزاحم
قال ابن النادر: فأخذتها منه وعرضتها على المستضيء، فأمر له بمائتي دينار. فقال: لو زادنا لزدناه.
وأنشد لنفسه: [الكامل]
أفديه من متعتّب متجنّب ... قد ضنّ حتّى بالخيال الطّارق
ما زال يمطلني بوعد كاذب ... حتّى تكشّف عن صدود صادق
واجتمع جماعة من الحنابلة بمسجد ابن شافع، يسمعون كتاب ابن مندة في فضائل أحمد بن حنبل ومحنته في القرآن، وما جرى له مع الخلفاء من بني العباس، فذمّومهم ولعنوهم، وذمّوا فلانا وفلانا. وكان الكتاب يقرأ على ابن الخشاب، فأنكر عليهم إنسان دمشقي فقيه، وقال: هذا لا يجوز يلعنون أئمة المسلمين وفقهاء الدين. فقاموا إليه وسبّوه، وهمّوا به. ووصل الخبر إلى الخليفة، فتقدم إلى حاجب الباب يأخذهم، وأخذ ابن الخشاب وأن يركبوا بقرا ويشهروا في البلد. فقبض على جماعة منهم، وهرب ابن الخشاب، فلحق بالحلة إلى أن شفع فيه، فعاد، فقال ابن الخشاب في غيبته: [الوافر]
إذا دار السّلام نبت بمثلي ... فحبّبت السّلامة والسّلاما
ولا جرت الصّبا إلا سموما ... وهبّت [من] سحائبها شماما «1»(7/124)
ومن شعره قوله في زعيم الدين ابن جعفر، صاحب المخزن، وكان قد ورد من مكة يعتذر فيها عن تأخره عن قصده بطريق مرض عرض له في دجلة: [الطويل]
لئن قعدت بي عن تلقّيك علّة ... عدوت بها جلسا لربعي من شهر
رمتني في رجلي بقيد تقاصرت ... خطاي له والقيد ما زلال ذا قصر
إذا قلت قد أفرقت «1» منها تجدّدت ... فأودى بها نهضي وهيض «2» بها كسري
فما قعدت عنّي دعاء أفيضه ... ولا قصرت عنّي ثناء وعن سكري
قدمت علينا مثل ما قدم الحيا ... على بلد ميت فقير إلى القطر
فأصبح مغبرّ البلاد منوّرا ... به زهر غضّ كأخلاقك الزّهر
وعدت وبالبيت الحرام صبابة ... إليك وبالرّكن المعظّم والحجر
وقد صحب الحجّاج منك مباركا ... عزيز النّدى طلقا محيّاه ذا بشر
أخا كرم إن أخلف الغيث أخلفت ... يداه بمنهلّ من البيض والصّفر
فملكهم مثن عليك وشاكر ... لنعماك معمور بنائلك الغمر
خصصتك بالمدح الذي أنت أهله ... لجاهك من صدر امرئ ناحل الصّدر
وأيسر ما أخفيه ما أنا مظهر ... فدع عنك شعري جلّ قدرك عن شعري
وقوله فيه وقد ورد كتابه من فيد: [الوافر]
فإن تك محرما من ذات عرق ... فقد حرّمت غمضي بالعراق
شمائلك الشّمول فكيف تقضي ... فروض الحجّ بالكأس الدّهاق
وأنت الطّيب إن صافحت كفّا ... تحلّل محرما بدم مراق
ولما جاءت البشرى بكتب ... وكانت كالقميص على الحداق
ضممت إلى الفؤاد كتاب فيد ... فضاعف برده حرّ اشتياقي
فخبّر بالسّلام فثمّ بين ... بأنّ الماء ضاق على الرّفاق(7/125)
وكيف يضيّق ماء عن حجيج ... وسحب نداك غيث ذو انبعاق
سلمت على الأنام ولي خصوصا ... وحاطك رافع السّبع الطّباق
ومنهم:
33- أبو نزار الحسن بن أبي الحسن ملك النحاة «13»
النحوي. وشيخ الأوشاخ «1» وصبيّ العقل وقد شاخ. طلع من القدر، وطبع من المقدر.
وأيّ منه نوع وحي حيوان. عجيب لا يدخل عقله في حدّ، ولا يحصى جهله بعد. لو عجب أحد عليه، ونادى هلمّوا إليه لأتي الناس إليه إتيان الحجيج، ولم يسمع ما حوله من الضجيج، ورأوا عجبا ما رأوا مثله، ولا جاء نظير مثله. وكان له قطّ، له معه أسمار، وأحاديث يتحاكاها السمّار. وسيأتي من خبره وخبر قطّه العجب العجاب ويعرف به غدر القطاط إذا هرّت على الكلاب، إلى غير هذا من قلّة عقله وكثرة جهله، وسوء حركاته وفعله. وما لا ينكر من حاله ولا يتعجب من محاله. فشكرا لقبر أزاح معاينه، وأراح معاتبه. فلقد جبر القبر ذلك القبر المنهاض «2» ، وغطّى التراب ذلك الذي ما رمي في المرحاض؛ لكن التراب لم يوار سوءته، ولا أذهب هفوته. فعجبا لدود أكله كيف ما قاه! ولقبر حلّ فيه كيف ما كره بقاه! فجوزيت تلك العظام النخرة، وتلك النفس المفارقة لتلك الجيفة القذرة.
وقال فيه العماد الكاتب: أحد الفضلاء المبرزين؛ بل واحدهم فضلا، وماجدهم نبلا،(7/126)
وكبيرهم قدرا، ورحيبهم صدرا. قد غلبت عليه سمة ملك النحاة، وشهدت بفضله ألسن خلّانه، والعداة. سمح البديهة في المقاصد النبيهة. كثير الأبيّة «1» عن المطامع الدنيّة بالمطالب النزيهة، والمراتب الوجيهة. ولقد كانت تحاببه تحبيبة للنحاة بضاعة وافية، وبراعة براعته للكفاة كافية. يأخذ القلم فيمشق الطرس في عرضه نظما يعجز، ونثرا يعجب ونكتا ترقص ونتفا تطرب. طرق بلاد العجم، ولقي كرما [في] كرمان، ووصل إلى أصبهان. وكان مطبوعا مناسب الأحوال والأعمال. تحكم على أهل التمييز بحكم ملكه، فيقبل ولا يستثقل.
يقول: هل سيبويه إلا من رعيتي وحاشيتي، ولو عاش ابن جني لم يسعه إلا حمل غاشيتي «2» ، مرّ الشيمة، حلو الشتيمة. يضمّ يده من الذهب على المئة والمئتين، ويمشي منها وهو صفر اليدين. مولع باستعمال الحلاوات السكريه. وإهدائها لجيرانه وإخوانه، مغرى بإحسانه إلى خلصائه وخلّانه. وقد ناهز الثمانين، ولقي العرانين «3» . وجرّب الغثّ والسمين، وقد وصلت إليه خلعة مصرية وجائزة سنيّة، فأخرج القميص الدّبيقي «4» إلى السوق فبلغ دون عشرة دنانير.
فقال: قولوا هذا قميص ملك كبير، أهداه لملك كبير؛ ليعلم الناس قدره فخلّوا عليه البدر على البدار «5» ، وليحلوا قدره في الأقدار، ثم قال: أنا أحقّ به إذا جهلوا حقّه، وتنكّبوا سبل الواجب وطرقه.
قال العماد الكاتب: كتب إلي لمّا أخذت المدرسة بدمشق: أنا أهنئ تلك المدرسة(7/127)
بخصائص فلان، فإنها زالت عنها ظلمة الجهل إلى نور الفضل، وأنا بمشيئته وحسن توفيقه على عزم المسير إلى زيارته يوم الثلاثاء. [الخفيف]
فارتقب أيّها العماد حضوري ... وانتظر أن أزور يوم الثّلاثا
وارض بالعالم الوليّ ودع ... حبل المعالي يا ذا العلا أنكاثا «1»
والجانب الغربي، معتد لي بهذه، إلى أن أحضر؛ لأخدم فضله.
قال: وكتب إليّ أبياتا ومعها رقعة إلى نور الدين فيها: [السريع]
قولوا لنور الدّين يا مالكا ... إنعامه قام إلى النّاس
لا تنسني يا ذا العلا والنّهى ... حاشاك أن توسم بالياس «2»
أو حشني الدّهر وأنباؤه ... فاختر لك الخير بإيناسي
والرقعة أولها شكرت اهتمام فلان وسعيه، واعتذرت إليه من التصديع، ولكن نيّته وفضله يحثانه على احترام الفضل؛ فليس لغيره، وقد أثّرت فيّ الشيخوخة والكبر، ولولا ذلك لقصدت خدمته، وقد قال الأول: وما بقي في المستمتع إلا لساني وكفاني لسان.
والأبيات: [السريع]
قل لعماد الدّين يا كاتبا ... يفزع من أقلامه (الصابي) «3»
وشاعرا الفاظه عذبة ... إن كان لفظ الغير كالصّاب «4»
ويا فقيها راميا خصمه ... في الحفل إن جاثى بأوصاب «5»
قد كنت قبل اليوم أشعرتني ... بأن نور الدين أوصى بي
فأوصل المكتوب لي واستعض ... من فرط إجداب وإخصاب(7/128)
وكتب إليّ: [السريع]
قل لعماد الدّين وهو الّذي ... يمتّ بالفقه وبالشّعر
وإنّه يخجل إنشاؤه ... الصابئي ذا المجد والفخر
لا تنس حقّ العالم الأوجد ال ... ناجح بالنظم وبالنّثر
فإنني مثن على فضل ... ك الباهر في سرّ وفي جهر
ألا فاسعد وابق ما رجّعت ... صادحة في وضح الفجر
وكتب إليّ وقد طلب منّي السكّر فأبطأ عليه: [السريع]
قل لعماد الدين عنّي إذا ... رأيته في بهرة الحفل
ضننت بالسكّر يا من له ... سنّة فرض الفعل والنفل
فاستدرك الفارط «1» واسلم إذا ... ما صدحت ورقاء في أثل «2»
قال: ومكتوباته إليّ كثيرة؛ وإنّما أوردت هذه اللّمعة ليستدلّ بها على مذاهبه، ومآربه ورغائبه وغرائبه «3» . وقد ذكره ابن المستوفي، وفيما قال: إنه ولد ببغداد سنة تسع وثمانين وأربعمائة، وقرأ العلوم، وسمع من الشريف أبي طالب الزيتي، وقرأ علم المذهب على الشيخ أحمد الأسنهي، وقرأ علم أصول الدين على أبي عبد الله المغربي القيرواني، وقرأ أصول الفقه على ابن برهان، وقرأ علم الخلاف على أسعد المهيني. وقرأ النحو على الفصيح الاسترابادي وقرأ الفصحى على عبد القاهر الجرجاني وفتح له الجامع، ودرّس فيه، ثم سافر إلى بلاد خراسان وكرمان وغزنة، ثم دخل إلى الشام، ثم قدم دمشق وخرج منها ثم عاد إليها واستوطنها إلى أن مات بها. وذكر مصنفاته في النحو والعروض والفقه على مذهب الشافعي والأصول. وذكر أن له ديوان شعر، ومنه في المديح الشريف النبوي، زاده الله شرفا، قوله:
[البسيط](7/129)
لله أخلاق مطبوع على كرم ... ومن به تشرف العلياء والكرم
أغرّ أملح يسمو عن مساجلة ... إذا تذوكرت الأخلاق والشّيم
سمت علاك رسول الله فارتفعت ... عن أن يشير إلى آياتها قلم
يامن رأى الملأ الأعلى فراعهم ... بالعزّ وهو على الكونين يحتكم
يا من له دانت الدّنيا وزخرفت (م) ... الأخرى ومن بعلاه يفخر النّسم «1»
يا من به عاد وجه الأرض متّضحا ... من بعد أن ظوهرت بالباطل الظلم
ومن تواضع جبريل الأمين له ... ودون حقّ نهاه هذه القسم
علوت عن كلّ مدح يستعاض فما ... الجلال الذي تنحوه والعظم
على علاك سلام الله متّصلا ... ما شئت والصّلوات العزّ تبتسم
ومنه قوله: [السريع]
أراجع لي عيشي الفارط ... أم هو عنّي نازح شاحط
ألا وهل يسعفني أو به ... يسمو بها نجم المنى الهابط
أرفل في فرط ارتياح وهل ... يطرق سمعي هذه واسط
يا زمني عدلي فقد رعتني ... حتّى عراني شيبي الواخط «2»
لم أقطع البيداء في ليلة ... يقنص ظلّي خوفها الباسط
أأرقب الراحة أم لا، وهل ... يعدل يوما دهري القاسط
أيا ذوي ودّي أما اشتقتم ... إلى إمام حاله رابط
وهل عهودي عند كفم غضّة ... أم أنا في ظنّي إذن عابط «3»
ليهنكم ما عشتم واسط ... إني لكم يا سادتي غابط
وحكى فتيان الشاغوري ما معناه: أن ملك النحاة كان له سنّور يألفه ويقوم به. فدأبه يطعمه ويعلفه، ويغلق عليه الأبواب خوف نفاره، ويمسح عليه بيده. لا يخاف حدّ نابه(7/130)
وأظفاره. فبينما هو يوما يمر عليه بيده، ويريد أنسه وتودّده، وإذا به قد عضّه عضة زلزلت قوى الشيخ الفاضل وأنسته جميع الفضائل. فربطها بمنديل عظيم وتصدّى للعواد، وأضحك عليه حتى لم يبق مع أحد فؤاد. فقال فيه قيان: [المتقارب]
عتبت على قطّ ملك النّحاة ... وقلت أتيت بغير الصّواب
عضضت يدا خلقت للنّدى ... وبثّ العلوم وضرب الرّقاب
فأعرض عني وقال اتّئد ... أليس القطاط أعادي الكلاب
فلما بلغته الأبيات غضب حتى دارت أمّ راسه، وسلّت من قحفه خيوط العلم بأمراسه؛ إلا أنه لم يدر من رماه بداهيتها الدهيا وتركه لا يبصر في ليلته العميا. فانقطعت عنه حياء أن يقع على ظنّه العروف ويعلم فيها ما بشم من نفسه المعروف. وكتبت إليه شعرا أعتذر فيه وتبيينه على أنه قد يقدر في قول سفيه فكتبت إليه: [الخفيف]
يا خليليّ نلتما النّعماء ... وتنّسمتما العلا والعلاء
ألمما بالشّغور بالمسجد المعمو ... رواستمطرا به الأنواء
وامنحا صاحبي الذي فيه منّي ... كلّ يوم تحية وثناء
ثمّ قولا له اعتبر بالذي فه ... ت به مادحا فكان سماء
وقبلنا فيه اعتذارك عمّا ... قاله الجاهلون عنك افتراء
وكان هذا الفاضل بحمقه وخروجه عن طرقه مضغة «1» لكل ماضغ، وشغلا لكل فارغ.
يجرّب فيه كلّ أحد سيفه الكهام «2» ، ويجر إليه جيش حربه اللهّام.
وفيه يقول ابن منير: [المجتث]
يا نحاة الزموا الشكك «3» ... ثم حلّوا عن التكك «4»(7/131)
واكشفوا عن فقاحكم «1» ... قد أتت لحية الملك
لحية سرم «2» سيبويه ... عليها قد انتهك «3»
وحكي أن ملك النحاة كان يكثر ذكر مصر، ويؤمل حلولها، ويودّ أن يطلّ دمه ويروي طلولها. وكان بها رجل اسمه زيد صديقا لعرقلة الدمشقي فولي بها الحسبة «4» واستغرر في متاجرها كسبه، وأتت الأخبار بروايته وحصوله على أكثر من كفايته. فداخل ملك النحاة له الحسد. وقال: لو أتيت مصر لكسد.
فقال عرقلة: [مخلع البسيط]
قد جنّ شيخي أبو نزار ... يذكر مصر وأين مصر
والله لو حلّها لقالوا ... فقاه «5» يا زيد فهو عمرو
ووقف يوما عرقلة على حلقته وقد كبّر العمامة، وطوّل أكمامه ونفش سباله وفتل من شواربه الطوال حباله. وأخذ في ذكر علم النحو، وقد شمخ يماريه الاحتيال به والزهو.
فطلب عرقلة رجلا من الحلقة، فلما أتي جذبه على أنه يسرّ إليه في مقال، ثم رفع صوته وقال: [مجزوء الرّجز]
قل لابن صافي الحمل ... سارق علم الجمل
صدعت بالنّحو الورى ... ارحم عيال الدؤلي «6»
توفي يوم الثلاثاء، تاسع شوّال سنة ثمان وستين وخمسمئة.(7/132)
ومنهم:
34- البحراني «13»
وهو أبو عبد الله محمد بن يوسف بن محمد بن قائد الخطيب موفق الدين. سبوق لا تردّ له سائرة «1» وسبوح لا تجري معه في دائرة. طلع والشهب في مطالعها، والسحب في مطامعها، والليالي ثغور وكواكبها مقبلة ووجنات الأيام بخضرة أسحارها مبقلة «2» .
فانمحت آية الليل إذ طلع واستقام الزمان، وكان به طلع وسطع نهارا في تلك الدجنات، ونهارا يفوح في أيدي الجنّات، ثم لم يزل عليه عقد الجماعة، وعقد الخواطر للجمّاعة. فلما حمّ له أن يفارق، ويودّع وداع المفارق أبقى ما كنز، ومضى لطيته «3» وقضى بما في طويته «4» .
ذكره ابن المستوفي، قال: بحراني المولد والمنشأ، إربليّ الأصل. نسب أبيه وأهله في عداد الإربيليين الآن. وكان جدّه خطيبا. وسبب مولده بالبحرين، أنّ أباه (يوسف) كان تاجرا، وكان كثير السفر إلى البحرين لجلب اللؤلؤ، فتزوج امرأة من نساية. فحدثني أحمد بن علي بن محمد البحراني الحجازي أنها كانت تدعى الصوفية، فولدت له محمدا هذا، وأقام بالبحرين إلى أن ترعرع، وماتت أمه. وخرج من البحرين فصار إلى إربل، وهو على هيئة الحفاة من العرب.
وكان إماما في علم العربية، مقدّما، مفنّنا في أنواع الشعر معظما، واشتغل بشيء من علوم الأوائل. فحدثني القاضي أبو محمد جعفر بن محمد بن محمود بن هبة الله أنه حلّ(7/133)
كتاب أو اقليدس على المظفر بن المظفر القارئ الطوسي من رساتيق سوس في مدة ثلاثة أشهر. ورأيته حلّ كتاب الكرة والأسطوانة على نفسه من غير توقف، وأراد حلّ كتاب المجسطي، فحل منه جملة من أوله، ثم رأى أن ثمرة هذا العلم مرّ جناها، وعاقبته مذمومة أولاها وأخراها فنبذه وراء ظهره مجانبا، ونكّب عن ذكره جانبا. وكان حسن الظّنّ بالله واكب علم النحو فبلغ منه الغاية، وجاوز النهاية، وصار فيه آية، ولم يكن أخذه عن إمام قرأه عليه، ولا تناوله من عالم أسنده إليه؛ إنما كان يحل مشكله بنفسه، ويراجع في غامضه صادق حسّه؛ حتى جرى بينه وبين أبي حفص عمر بن محمد بن علي بن أبي نصير الموصلي المعروف بابن الشحنة مناظرة في قوله: [الطويل]
وقد علم الأيقاظ أخفية الكرى ... يرجّحها من حالك واكتحالها
علاه في جميعها، فلم يكن له قرار إلا أن قال: أنت صحفي.
فلحق بشيخنا أبي الحرم رحمهما الله، وأقام عنده مدة قريبة قرأ عليه أصول أبي بكر محمد بن السري السرّاج، وقرأ عليه كثيرا من الكتاب، ولم يفعل ذلك حاجة به إلى إفهام؛ وإنما أراد أن ينتمي على عادتهم في ذلك إلى إمام. وكان بينهما منافرة، فسمع عمر بن محمد بهذا، وكان شيخنا أبو الحرم كثيرا ما يراجعه في كثير من المسائل المشكلة، ويعاوده في عدّة من المواضيع المعضلة. وكان أبدا يرجع إليه في أجوبة ما يورد عليه.
قال ابن المستوفي: وأخبرني من أثق به أنه سمع عمر بن محمد يعتب عليه في هذه القصيدة أيضا قوله في الخمرة: [الكامل]
وكأنّها وجه ابن مودود إذا ... ما لاح رونق بشره للمجتدي «1»
فقال: فعل الله بوجهه، وصنع لا يكنى، كيف يشبه وجه ملك بالخمرة؟ وهذا ميل منه عليه؛ وإلا فما زال الشعراء يشبهون الخمرة بالشمس والمصابيح، ويبالغون في صفة نورها،(7/134)
وهذا معلوم لا يحتاج إلى برهان.
وإذا كان كذلك، فأيّ عيب إذا شبّه الوجه بما يشبه الشمس، وقد شبّه كلّ واحد منهما بها؟
وأكثر الدواعي الموجبة للمعاداة بينهما كون محمد بن عمر كان الولوع بشيخنا، أبي الحرم، شديد التعصب عليه؛ حتى إنه كتب إليه بعض المرات ونقلته من خطّه: [الكامل]
ثكلتك أمّك هبك من نفر الفلا ... ة أكنت تحظى مرّة بصواب
وكان أبو عبد الله محمد بن يوسف يتتبّع معايبه، ويشيع مثالبه؛ نصرة لشيخنا أبي الحرم، وذبّا عنه؛ لأن شيخنا لم يكن ممن يجيبه على قول يقوله ببنت شفة ولا يردّ عليه.
فحضرت شيخنا رحمه الله بعد أن توفي أبو عبد الله وقد أجري بين يديه ذكره، وأجمع الجماعة كلهم على تفضيله، فقال: كان لي منه العضد الأشدّ والساعد الأسدّ «1» ، أو كلاما هذا معناه، ثم بكى وأنشد: [البسيط]
لو كان يشكى إلى الأموات ما لقي ال ... أحياء بعدهم من شدّة الكمد
إذا شكوت وأشكاني وساكنه ... قبر بسنجار أو قبر على قهد
وقد أنشد من شعره جانبا، فمنه قوله: [الطويل]
كلا مدمعينا يا غمامة ساجم ... ولكنّ قلبينا سليم وسالم
لئن رويت منّي جفون نواهل ... لقد ظميت مني ضلوع جواثم
ومبتسم عن عقده عقد ثغره ... سقاني دهاقا والوصال منادم
بكأس يزيل العقل عن مستقرّه ... يطوف بها منها على الشّرب صارم
فلمّا سرت في كل عرق ومفصل ... جفاني وقد يجفو الحبيب الملائم(7/135)
وقوله: [الطويل]
هلمّوا فهذا الجود والحسب الغمر ... حموم العطايا لا بكيّ ولا نزر
تأملت مرتادا فقلت لصاحبي ... أبن لي أهذا البحر أم مثله البحر
وقوله منها:
يسرّ أناسا أن يقال به أذى ... فلا فرحوا أخرى الليالي ولا سرّوا
يودّون بالأهلين لو أنّ دارهم ... معالمها من ذكره طلل قفر
بواق شجاياه على وعكاته ... كراما يبقيها على الصدأ الأثر
يزيد القنا عمر النّفاق استقامة ... ويصفو من الأكدار باللهب النبر
ومنها:
أيوسف إن الفقر ساق مطامعي ... إليك ولم يظلم بما صنع الفقر
إذا كان عسر المرء ممّا يفيده ... لقاؤك فليفرح فداك هو اليسر
ثناؤك أحلى في القلوب من المنى ... وأشهى من الصّهباء خالطها عطر
وما طاب حتى طاب جودك قبله ... إذا ما زكا نبت الريّاض زكا البشر
أما وجلال الله إنك للّذي ... به تدفع البلوى ويستنزل القطر
إذا ما عذارى الشّعر كان لقاحها ... عطاؤك كانت من نتائجها الشّكر
إذا شئت أن أثني عليك تفرّضت ... غرائب حمد لا يحيط بها الفكر
وأوضح عذري أنّ وصفك معجز ... ولست بمعتوب إذا وضح العذر
وقوله: [الكامل]
قل للّذي اغبرّت فجاج بلاده ... بالجدب واسودّت وجوه طلابه
إن تبغ معروف المليك مهنّأ ... رغدا فشمس الدّين من أسبابه
والبحر لا يسقيك ماء فراته ... حتى يرقرق في أديم سحابه
وقوله: [الطويل](7/136)
ألا لكم البشرى فهذا أوانها ... ودونكم النّعمى طليقا عنانها
فإن التّقاويم التي مال صفوكم ... إلى حكمها ضلّ السبيل بنانها
وقالوا قرانات الكواكب تقتضي ... رياحا ونارا مدلهمّا دخانها
يذيب حصاة البين حرّ شواظها ... ويخمد أنوار الهدى لمعانها
أباطيل دعوى لا يقوم دليلها ... وظمآن زور لا يصحّ ضمانها
وهب أنه حقّ فما بالنا نرى ... نجوم الثريّا لا يضرّ اقترانها
وما بال أطراف القنا وهي أنجم ... إذا اجتمعت شاد المعالي طعانها
أفي كفّة الميزان فيما علمتم ... يخاف حلول الظّلم من شفآنها
أهاويل ما زالت تروّع جاهلا ... بأخبارها حتى تجلّى عنانها
أخوف ورايات ابن أيّوب يوسف ... يحوطك من ريب الزّمان أمانها
هي الآية الكبرى التي لا جنانها ... يطيش ولا يعنى بقول لسانها
يمدّ المعالي حلمه وبلاغه ... فيأنق فيها كعبها وسنانها
ويستغرب الآجال رجع حديثها ... إذا خاطبتها فالدّجى ترجمانها
أيا مالكا ألقى رحالة جوده ... بعلياء لا يخفى علينا مكانها
أتاك بأبكار القوافي وليّها ... وما يتساوى بكرها وعوانها
يؤمّل يسرا منك لا تستفزّه ... قطوب وكفّ لا يفيض سنانها
فكنت له كفؤا كريما ولم يزل ... يزفّ إلى الكفء الكريم حسانها
وقوله: [الطويل]
شربنا على ذكر الأمير فلم تزل ... ندامتنا من طيبه تتأرّج
هو المزن أمّا كفّه فسحابة ... دفوق وأمّا وجهه فهو أبلج
وقوله في لاعب بالكرة ضرب بعض أطرافه بالصولجان فتألم لذلك: [الكامل]
إن يجن كفّك مرة فلطالما ... كانت إغاثة كلّ جان محرم
وردت سبيل الدم إلا أنّها ... لم تخل يوما من نوال أو دم(7/137)
وقوله: [الخفيف]
لم يخف أنه يفتّت قلبي ... إنما خيفتي على أسراره
لا يكاد الإناء يحفظ ما اس ... تودع من أن يضيع بعد انكساره
وقوله في مليح كان أمرد فالتحى ورقم بالعذار خدّه، ثم فشا سواده فانمحى، وكان يعرف بالسهم، ويفعل في القلوب ما يفعل جنباته الوهم: [مخلع البسيط]
قالوا التحى السّهم قلت حصّن ... نفسك فالآن لا يطيش
لا ينفذ السهم في الرمايا ... إلا إذا كان فيه ريش
وقوله: [البسيط]
تخفي المدامة سرّي أن أبوح به ... وربّما كشفت أسرار أقوام
لم يبصر النّاس قبلي في محبّته ... من يستعين على سرّ بتمّام
وقوله: [المنسرح]
تساهم العاشقون واقتسموا ... وكنت حظّي فبئس ما اتّفقا
لا بارك الله في الهوى فلقد ... صيّرني عبرة لمن عشقا
إذا القرينان صحّ ودّهما ... وافترقا بعده فما افترقا
وقوله: [المنسرح]
وماجد ملء ثوبه كرم ... مثل أبي حامد إذا انتدبا
إذا اقتعدت الرجاء تطلبه ... رهوا «1» تلقّاك جوده خببا
وقوله: [البسيط]
يثني عليك بخير من بذلت له ... فضلا من العيش أو فضلا من النّسب
لا تأمنن من مرجّ أنت مانعه ... دوما ولو كان ذا قربى وذا نسب(7/138)
ما زلت أسمع لمّا كنت في حلب ... أحدوثة عنك تجلو غمّة الأدب
فلم أزل بالأماني كلّ بارقة ... أنوطها بك والأطماع تأخذ بي
حتى رأيتك بالحدباء فانقطعت ... تلك الأماني وقرّت سورة «1» الطلب
فالحمد لله إذ لم يأت بي حلبا ... فقد وقاني من الحرمان والتّعب
وقوله يمدح أتابك مسعود بن مودود، ويذكر إنجاده الملك الناصر بن أيوب على الفرنج:
[الكامل]
وأدرت كأسا للفرنج مديرة ... حمدت لدائف سمّها المنقوع
عرضت لدين الله تطفئ نوره ... ناهيك من أمر أتاه شنيع
نصبت عداوتها له فرددتها ... محفوظة بلوائك المرفوع
كالقوس قرّت في اليدين وصدّعت ... كبد الرمّي بسهمها المنزوع
ومما أورده من نثر قوله:
لمّا كانت الرسائل- أطال الله بقاء فلان- عنوان السرائر، وترجمان الضمائر ورائد المودّة إلى القلوب، ووصلة الحبل المقضوب؛ وناطقا لا يتجمّم، وبليغا لا يعجم. اكتفى بها المشتاق عن حثّ النياق، واستراحت إليها النجائب «2» عن خوض السباسب «3» . ولقد ورد كتاب فلان مشتملا من كريم، أجابه على ثناء جزيل، وحمد جميل، وفضل عريض طويل، مشحونا بحمد الله تعالى، والصلاة على رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فيما منّ به من قمع الفئة الطاغية واستئصال الشجرة الخبيثة الباغية، التي مرقت عن الدين، وجاهرت بعداوة أمير المؤمنين، صلوات الله عليه وعلى آبائه وأسلافه المنتجبين.
وبعد، فإنّ الخادم لم يرم سهما إلى نحورهم إلا وعزم المواقف الشريفة الإمامية الناصرية،(7/139)
أيّد الله اقتدارها مسدّدة، ولا أشرع سنانا في صدورهم إلا ونصر مورده، ولا حمل سيفا إلى هامهم إلا وتأييده مجرّدة. فما طاش له سهم، ولا ارتعش رمح، ولا فلّ نصل، وفات أعداء العتبة الشريفة، وأعاذ الله بين صريع مقتول وأسير مكبول، وطريد منهزم ومال مقتسم قد أدال الله من طاعنهم، وأمكن من نواصيهم. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وتأييد من المواقف الشريفة، وهمّة من المجلس الفلاني دام سعد الذي قام مقام الجيش العرمرم، وناب مناب كل حسام ولهذم «1» . ففتّ في عضدهم، وقذف الرعب في قلوبهم. ولولا ما منحنا الله به من نصر أمير المؤمنين وآرائه الباقية لكنّا على شفا جرف هار، فالحمد لله الذي وفّقنا لمرضاته، وهدانا إلى أوضح سبيله، وجعلنا ممّن يعمل بنفله وفرضه، ويرضي خليفته في أرضه.
وقوله:
وبلغني بفضل فلان، أنار الله نجم إقباله، وأسبغ عليه ثوب أفضاله وجعله قبلة للمحامد، وكعبة للصادر والوارد، وأوزعني شكر نعمائه، وألهمني نشر ثنائه، وكفاني في مودته مالا أتوقّع، وحرس لي مهجته بعينه التي لا تهجع. فلم يزدني ذلك زيادة على ما أعتقد فيه.
أدام الله نعمته من سحاجة «2» الأخلاق، وطهارة الأعراق؛ وإنما كانت تزيد في هذه التفضلات عقيدة في كرمه وجميل مودّته، لو كنت أتوسم فيهما نقيضه. فأما إذا تيقّنت كما هما، فلا. وأما الشكر فإن شكرت فأهل له، وإن أمسكت فمودة بيننا؛ أكرم من أن يحتاج إلى روابط الشكر.
وبعد، فقد رفّت عليّ من شوارد غرره، وفرائد درره عروس غضّة المعاني، عذبة الألفاظ حلوة الدلال، فاترة اللحاظ. قد بلغت النهاية في الإبداع حتى ملكت الأبصار والأسماع. وقد عوّزها فلان بتواضعه؛ ليصرف عنها عين الكمال، ويتكررها في حلل الجمال.(7/140)
فأما قوله: [الكامل]
طابت منابته فطاب وداده ... وزكا فيالك من أخ لك صالح
يوليك إشفاقا ومحض نصيحة ... فاشدد يديك على الشفيق النّاصح
فبيتان قد بلغا النهاية في الجودة من سلاسة اللفظ وسهولة المأخذ وبيان المعنى، وانتظام العروض، والمقابلة الصحيحة والترديد الرشيق، والتمثيل الناصح، وإن كانت لا تخلو مع ما أتيت فيها من إحسان. ولكن على هذين البيتين وقع اختياري.
وبعد فإنه أتى بالواضح معرّفة بالألف واللام في قافية عروض البيت الأول، ثم أتى بها فكرة في قوله: على سهل الطريقة واضح، وكذلك قوله: الصالح، مع قوله: صالح. وهذا جائز، وليس كل جائز بحسن. فليجتنب؛ فإنه يكاد يكون أبطأ، وليس هذا بردّ؛ إنما هو مطالبة بالأحسن ولله الحمد.
قال ابن المستوفي: وإنما أتيت هذه الرسالة لقلة رسائله وعدمها. وأردت ألا يخلو هذا الكتاب من شيء منها، فأثبتّ بها:
ولست بمعتوب إذا وضح العذر
وأنشدني لنفسه قبل وفاته: [البسيط]
إن الشّباب نذير الموت ثم إذا ... جاء المشيب فذاك القبر والكفن
ومرض مرض اليأس، وهو السل. وتوفي ليلة الأحد، لثلاث خلون من ربيع الآخر، سنة خمس وثمانين وخمسمئة «1» .(7/141)
ومنهم:
35- محمد بن الحسين الجفني البغدادي
من كرخ بغداد، يعرف بابن الدبّاغ «13» . رجل يخال به الليل يتضح، ويخاف النهار ألا يفتضح. أشرق ضيا وأشرف على الصباح في بقية حيا. لم تلد مثله بغداد في زمانه بين جانبي شطّها، ولا وفت بشبهه في شرطها. كاد بنار فطنته يتآكل، وبما فطرته مبهم، حتى ماء دجلة أشكل. هذا إلى أدب غضّ المكاسر، بضّ الجثم فيما يتجرد عنه الحاسر. جمع في الصناعتين أسناهما وطلع أسماهما، وأتى بهما ذللا، ونشرهما بعد طول اللطى طللا.
ذكره ابن المستوفي، وقرأ على ابن الشجري، وأقرأ النحو والقرآن. وتوفي سلخ رجب سنة أربع وثمانين وخمسمئة. وأورد له ابن المستوفي قوله: [البسيط]
سقى ديارك غاد ملؤه نعم ... كالقرم «1» يسدم «2» فهو الهادر الواغي «3»
وليفرع السعد فيه قادر صمد ... فلست أقنع من دجن بإفراغ
ما يوم خضل الجناب زجل الرباب «4» ، أدكن الجلباب، مذهّب الإهاب، مرج الحقاب «5» ، أرج النقاب «6» ، يزجّي العاميّ عشار غمامه المثقلة، وتمرّ الظباء جفل أخلاقه المهلّة، وتراعي قروم رعوده المجلجلة. وبقضب منابضة قواضب البوارق المسلّلة. عنبري الأرجاء عبيري(7/142)
الأجواء. درر مزنه دارية، وحجا نظره بدريّة. وأنفاس جوده نديّة، ومعشوقة يومه سعدية، وسيوف إيماضه هبرية، وشنوف «1» مزنه تبرية «2» ، ومطوقة اليوم كدريّه، ونفحات نسيمه عبيرية. عارض مغضب على المحل لا يخطر إلا وسيفه مسلول، والسحاب مرشوف الرضاب بمياسم الرياض والعبهر «3» مشغوف. يرنو الشقيق حدق مراض، وقيان الطير قد اصطفّت على أفنانها، وحبست مثاني عيدانها فسوّف ألحانها. مالك بأداة الطوق. ما أجمل غرامك والشوق! ضعفت فهتفت، وألقت فأشفت. ناحت فأسهرت، وبالهديل لإلفك سحرت ألّحت فأفضحت، ونحت فاسترجت، أصحرت بغرامك فسلمت، وأسمحت بزمامك فما أمّلت. [السريع]
هل لك يا ورقاء يا حمامه ... ناصبة بالوجد مستهامه
أن أكون في الحب تلميذك، وأتقلّد بهمّتك، وبعوذك الذي أردت من الوجدان يعيذك، فأبدي كما أبديت، وأنتهي إلى حيث انتهيت. وأمضى في ذاك الصريمة حتى أنسى مسمّها ندماني جذيمة. وأفضّ القيمة من كل لطيمة، بأطيب من لحظات أفضيهن بإسلام المكتوب العالي الفلاني، أدام الله سلطانه فإني ما أزال أدافع بلثمه فاه، وشوقي إلى ذلك الجلال وبرحاه، وأسكن به غلواء الزفر واعتلاه. [الطويل]
كتمت الهوى يوم النّوى فترفّعت ... به زفزات ما بهنّ جفاء
يكدن يقطّعن الحيازيم كلّما ... تمطّت بهنّ الزّفرة الصعداء
وبتّ يوم بهق «4» الأديم يقق «5» الضريم، سدر الصريم «6» ، حذر البريم «7» ، يحمد نفس(7/143)
المهجور، ويخمد قبس المسجور. قد أرزمت الحرجف «1» مرزمه، وهدمت من السماك لهدمه، وخذمت «2» من النسر قوادمه، وجذمت «3» من الأسد معاصمه. وألقمت العواء حجر جليدها، وزبنت «4» الزباني عن أن تبلغ جيدها، والضريب «5» شنب «6» في أفواه الغيران، ووضح في أديم النيران، وعذب على أعنان الرعان «7» ، والدجى لمى في شفاه القيعان، وكحل في أحداق القنان. وقد يدفع الصبر معارف صاحبه، وينير أشآب «8» الضباب، فودى حضن وأراب، وعمّم بالعبير يلملم، وشعفات «9» عمائه ويرمرم «10» . كان مصطليه والوقود يحفّه بحزم في الأطراف شوك العقارب. رددت زمهرير ذلك اليوم بأخفت أنفاسي الصعدا، وأضعف زفراتي البرما، مهيف الأحشاء، وميض الأجواء، أنفاس يومه محرقة، وظلاله مطرقة، يذيب الصيخود «11» أواره «12» ، ويمنع الجلمود شراره يحرق الحجر، ويعرق الشجر، ويذهل الحربا عن استجلاء عروس الخربا. ويشتد لي لهبه فنشده عن الضرير جندبه فتستعر أجدال الأجزال عنده نار الحباحب «13» ، ويتولج العفراء جليس الفقراء(7/144)
فيكون لها أسلم صاحب، فترى لغاب الغزالة دابيا، ومحيي اليوم ساحبا يلتهب فضاه، وينش أضاه، وتفوح رياضه، وتلوح حياضه. وقد غار في مكنس، وأخذ من اللهب الظبا والقسور.
ولم لا يطيل الشوق إلى ذلك الكرم الواسع، والجود المتتابع ليلي، وقد أساءت الأيام بتخلفي عن اعتمار ربعة العزيز من قسم السعادة كيلي. فكم ليلة بتّها نجيّ أرق، شكيّ حرق! ولي من الزفير فرق ومن الدمع شرق ومن اللّعج حرق، اطفئ بوهج الأضايع بتوكاف المدامع، وأتبرّم بالزهر الطوالع، والسهب النواصع، وأتمنى جفاهن وهن دراري دوافع، مسلّيات شوافع كأنمار بطن ناركان شروري «1» وأحضان متالع. وأقول والكمال وازع والجلد نازع: متى ينبعث ثقال الليل الكسير الطالع؟ متى يطير غرابه الواقع؟ متى يهتدي نجمه الحيران؟ متى يوسن طرفه اليقظان؟ متى يفتر غباشه الغيران؟ متى يميل النجم إلى غربه؟ متى يفل شنب ذؤاله مسنون غربه؟ متى يتوشّى أدهمه بالبلق؟ متى يغشى معلمه بالفلق؟ متى ينحر غسقه بالشفق؟ متى يسخر نسقه بالنفق؟ متى أرى زنجيّه قد أبق «2» ؟ متى يركب طبقا عن طبق؟
متى يكرع خطّاره في ذات الآصاد «3» من الصباح؟ متى يقطع أعوجيه مرر الشياح؟ هل جار الفسق فيرشد؟ هل طل الفلق فينشد؟ ثم إلى أن أصبح يقظا جسرا من مماصعة «4» الزفرات، ويصبو طليحا من مكافحة الحشرات وإلى الله سبحانه وتعالى أرغب في فك الأسير، وجبر الكسير، وتسهيل العسير في تقريب المسير إلى ذلك الجلال الأثير والمجد الخطير. فربّ عان في زيّ طليق، وربّنا بالإجابة جدير المثال العالي قد كان كنزه الاستلام والقبيل، وليس إلى نفع علّة الشوق إلا برشفة سبيل والإنعام العميم، والطول الجسيم مرجوّ في أن يشفع بمكتوب ثان أتخذه عوذة من ريب الزمان، كالسبع المثان. ولم أغلب في حساب الحول لأني كتبت ذلك المكتوب الأول في العام الماضي صبيحة ليلة النصف من شعبان والله سبحانه(7/145)
يقول: «وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ «1» »
. وأنا هاجرت بخدمتي في العام الأول وأتممت هجرتي، وكان مبداها صبيحة نصف شعبان. وعلى ذلك أجري الحساب على ممرّ الأحقاب. وكذا هذه الخدمة شرعت في سطرها صبيحة نصف شعبان من عامنا هذا، بعد أن ختمت عليها ختمات، أشفعهن بصالح الدعوات لمولانا أعزّ الله إبصاره وأعلى اقتداره.
كان مسلم بن قتيبة في مصاف الترك. فسأل عن محمد بن واسع، فقيل إنه في ناحية من الجيش متوكئا على سيّة قوسه، يشير بإصبعه إلى السماء. فقال: والله لتلك الإصبع الفاردة أحبّ إلي من عشرة آلاف ذراع، وأنا من متجندة الخدمة العالية في ليلي وإعلاني وإسراري، أرغب إلى الله سبحانه بالأدعية الصالحة لبهي دولته وسابغ نعمته إلى مضانّ الإجابة مشفوعة بصدق الإنابة. تقبّلها الله برحمته، والرأي أعلى. قال ابن المستوفي: ونقلت من خط ابن الجيمي، من شعر الجفني: [الطويل]
لهجت بليلى حبّها وودادها ... وأكرم بها في قربها وبعادها
يلذّ لعيني لادّكار وصالها ... وأيامنا بالجزع طول سهادها
وأخشى وعيد الطيف إن زار قائلا ... أعيناك تلتذّان طيب رقادها
فدع ذا وعدّ القول في ذكر ماجد ... تسنّم في العلياء أسمى نجادها
حلفت بها كالخال في جنة العلا ... تباري لدى أطوادها ووهادها
رحلن نواء كالهضاب توامكا «2» ... تناضل في غيطانها وصمادها «3»
فلم يزل الإيغال يعرق «4» لحمها ... ويجفن من نون الذؤوب وصادها
إلى أن بدت مثل الأهلّة شفّها ... نحول المحول في سنين جمادها(7/146)
عليها الملبّون الطلاح «1» يهزّهم ... إلى ركنها والخيف خوف معادها
يمينا لإبراهيم أكرم ماجد ... نخته المهارى أو شجا في اعتمادها
يرود النفوس في رياضه كماله ... وأخلاقه الحسنى كريم مرادها
طويل رداء الفضل والعلم والنّهى ... حميد قصير الرأي مولى سدادها
تمنّته عيني أن تراه وإنّه ... أعزّ وأوفى عندها من سوادها
ومنهم:
36- أبو حفص الضرير «13»
عمر بن أحمد بن أبي بكر بن أحمد بن مهران النحوي. رجل على ضرر عينيه وإظلام الأمور عليه مبصر بالتجارب، مدّرع لبسة المحارب. هذا على حبسة لسانه، وعدم امتداد أرسانه؛ إلا أنه كان سيفا لا يثلم، وسيلا لا يظلم. يحطّ من شاهق، ويردّ كلّ زاهق. ولم يزل به الجدّ حتى تجاوز الحدّ. وجاوز المدّ. وصارت آراؤه هدى وأنواؤه جدا وآلاؤه لا يكذب من قال لي إنها أكثر عددا. وأغزر من البحر مددا. قال ابن المستوفي: تخرّج على أبي الحرم، وبرع في علم النحو، وتصدّى بعد وفاته للقراءة عليه. له ذكاء وعنده فكرة حسنة. يقال:
إنه حفظ في ليلة واحدة ثلاثمئة بيت.
قال: وقيل: إن من الذي حفظه قول أمية بن أبي عائذ الهذلي «2» : [المتقارب]
ألا يالقوم لطيف الخيال ... أرّق من نازح ذي دلال(7/147)
وقدم إربل وأراد مناظرة ابن الأرملة فلم يجبه إلى ذلك؛ خوفا منه. وكانت في لسانه حبسة عظيمة، وعنده ثقل في كلامه لا يكاد يبين. وأنشد له شعرا، منه قوله: [مجزوء الكامل]
يا أيّها الدّهر الّذي ... قد لجّ في بغضي وفركي
اغمد حسامك إننّي ... مولى عماد الدّين زنكي
قوله: [الطويل]
إلام أقاسي لاعج الشّوق والحزنا ... ويضني هواكم والجفا جسدي المضنى
أأحبابنا إن حلتم عن عهودنا ... فإنا على تلك المواثيق ما حلنا
رعى الله أياما تقضّت بقربكم ... فما كان أحلاها لديّ وما أهنا «1»
أحنّ إليها بالاصائل والضّحى ... وما ينفع الصبّ الكئيب إذا جنّا
إذا لم يكن لي عندكم مثلما لكم ... بقلبي فلا أجدى الحنين ولا أغنى
فقد كان يغشى النّوم عيني بقربكم ... فمذ غبتم ما صافح النوم لي جفنا
وأحسنت ظنّي فيكم لا عدمتكم ... فما بالكم أخلفتم ذلك الظنّا
فما كان أغناكم سوانا فإنّنا ... على كلّ حال لم نجد عنكم مغنى
تشاغلتم عنّا بصحبة غيرنا ... وأظهرتم الهجران ما هكذا كنّا
وهذا البيت تضمين، سئل أن يضمّنه فقال هذه الأبيات، وضمّنه فيها. مات في حدود الستمائة «2» .(7/148)
ومنهم:
37- ابن الأرملة «13»
وهو أبو الثناء محمود بن الحسن بن علي بن الحسن كمال الدين الضرير العراقي. مبدي سلوك، ومهدي سلوك. لم يزل بفرائده العز منمّق تاج ومفتّق رتاج، ومولي جميل، ومولى جليل. ولسان قويم وإحسان دهر. ويوم جلّ به قدر بلده، وفخر، وبذل منه ما ذخر. تضافرت طلابه بأقصى المطالب، وأطيب المطارب. ولولاه لما بلغوا المناصب. ولنفضوا منها أيديهم نفض المناكب، ولأظلم في عيونهم سنا الكواكب. ولم تقل العلياء لأحد منهم أيها الراكب. وبقي إلى أن أذنه أجله بانصرامه، وهبت العواصف لإطفاء ضرامه. فقرّب مداه، وقرّت عيون عداه.
قال ابن المستوفي: أخذ النحو عن أبي المنقّى الموصلي. وابن الدهان البغدادي. انتقل إلى إربل، وكان صدر الجامع بها يقرئ القرآن والنحو. قال: وكان فيما نقل إليّ عنه كثير العصبية على الطالبيين، شديد العصبية للأمويين. وكان يسلك في أشعاره الوحشي المتكلف، والنأي المتعسّف ومن أجوده قوله كالمجير لقول ابن المهدي وهي عليه، وقد سئل ذلك: [الكامل]
ما إن عصيتك والغواة تمدّني ... أسبابها إلا بنيّة راجع
والذي قاله:
[و] مسيّر فعل المورّى أمره ... متمسك أخذ النبيّ الشّارع
قسما بمجدك إنني لك طائع ... ولأنت تعلم ما تحنّ أضالعي
قسما بتربة يوسف ما الغدر من ... شيمي ولا شرع العقوق شرائعي
يا أيها الملك الذي ملك الورى ... أين الفرار من القضاء الواقع
قال: وتوفي في سادس عشر ربيع الآخر سنة ست وستمئة.(7/149)
ومنهم:
38- أبو الحرم «13»
مكي بن ريّان بن شيبة بن صالح الماكسيني صائن الدين. لسان من ألسنة العرب، وإنسان لا يقاومه نبع ولا غرب. لا يكون البدر التمام إلا نحوه «1» ، ولا يسلك الصباح المعرب إلا نحوه «2» . انتفع به الخلق، وارتقع به من كلام العرب الخرق. وكان في بلده يستسقى صيّبه «3» ويستدنى أدبه. ولم يكن من أنباتها الطلبة، ورؤسائها أهل المرتبة إلا من ينظر حيث السهى، وترى أنه إذا بدا بالأخذ عنه انتهى.
قال ابن المستوفي: هو شيخنا جامع فنون الأدب، وحجة كلام العرب. واحد القصر وفريد الدهر، المجمع على دينه وعقله، والمتفّق على علمه وفضله.
ولد بماكسين من ولاية سنجار، ونزل الموصل بعد أن رحل في طلب العلم إلى بغداد، ولقي بها مشايخ النحو واللغة والحديث. وكان واسع الرواية، شائع الدراية.
أخبرني لما رحلت إليه الرحلة الثانية بالموصل سنة سبع وثمانين وخمسمئة أنه ورد إربل، وأقام بمسجد قريب من باب القلعة الغربي بعد أن أضرّ وكان سبب عماه جدريا لحقه، وهو ابن ثمان أو تسع سنين. وكان يقول: أعرف من الألوان الأحمر. وكان على غاية الذكاء والفطنة. فكنت أقرأ عليه كتاب المجمل، لأبي الحسين أحمد بن فارس معارضا بأصل، وهي من كتابة في وسطه. فلمّا انتهت بي القراءة إلى أول تلك الورقة، قال لي: هذه الورقة بغير خطّ الأصل؛ فتأنّ في القراءة ليصلحها المعارض «4» لك. وأحكم القراءات كلّها، الأصول(7/150)
منها والشواذ. وكان يقرأ عليه القرآن في كل يوم تلقينا وتحريرا جماعة تزيد على الخمسين، ونصّب نفسه للانتفاع عليه بالقرآن العزيز، وجميع ضروب الأدب. فكان لا يتفرّغ إلا للصلاة المكتوبة أو لما لا بدّ منه. ويخرج عليه جماعة من أصحابه شهّروابه سوى من تردّد إليه، فلم يظفر بمطلبه.
أخذ النحو عن أبي البركات الأنباري، وأبي محمد ابن الدهّان، واتصل أبو الحرم بالملك الظاهر غازي، وأقام بحلب مدّة، وهمت عليه سحب إكرامه واتصلت به ضروب إنعامه.
وكان حيث خرج من الموصل لم يمكّنه سلطانها من السفر، حتى ضمن على نفسه بالعود إليها، وكفله أبو السعادات ابن الجزري. وكان قد جعل سبب سفره زيارة بيت المقدس، فأقام بحلب. فلمّا بلغ تأخره صاحب الموصل، قال: ما يضرّ الموصل ألا يكون فيها أبو الحرم، فأحسن المحدّث له الاعتذار عنه، ثم وصل إلى الموصل عائدا من حلب في رمضان سنة ثلاث وستمئة، وأقام بها مريضا مدّة يسيرة، ثم توفي بها ليلة السبت سادس شوال منها، وخلّف ولدا صغيرا.
قال أبو المعالي ظافر بن الوهاب الموصلي: كان رحمه الله ربّما فرض في بعض الأوقات الأبيات من الشعر. ولم يكن شعره على قدر فضله؛ إذ هو فلك النكت والعيون، وأنا أورد من مختاره وجيّده، فمن ذلك قوله: [الوافر]
سئمت من الحياة فلم أردها ... تسالمني وتشجيني بريقي
عدوّي لا يقصّر في أذاتي ... وتفعل مثل ذلك في صديقي
وقد أضحت لي الحدباء دارا ... وأهل مودتي بلوى العقيق
قال: ومن جيّد قوله: [الطويل]
على الباب عبد يسأل الإذن طالبا ... به أدب لا أنّ نعماك تحجب
فإن كان إذن فهو كالخير داخل ... عليك وإلا فهو كالشرّ يذهب
وكان أبدا يتعصب لأبي العلاء المعرّي، ويطرب إذا قرئ عليه شعره للجامع بينهما من(7/151)
العمى والأدب، فسلك مسلكه في أبيات تائيته، أولها: [البسيط]
هات الحديث عن الخابور لا هيتا «1» ... ولا المحلّين بغداد وتكريتا
قومي وأين كقومي في الورى بشر ... يأتون في كل حال شئت ما شيتا
ومنها:
فيا أخلاي هنّيتم به قطنا ... وأنت أيضا بذاك السكن هنيّتا
إن فاتني فيكم عيش ألذّ به ... فإنّ شوقي إليكم قطّ ما فيتا
ويا منبّئي الأنباء عن بلدي ... إن كنت حيّيتهم عني تحيّيتا
هناهم بي في الآفاق طيب بنا ... يفوّق العرف عرف المسك مفتوتا
وقائل قال تسلاه فقلت له ... حبّ المواطن فرض كان موقوتا
وذكر بعد ذلك أسماء مواضع من بلد ماكسين ينفر عنها الطبع، ويمجها لغلظها السمع.
وقال يخاطب البرق المومض من نواحيها، ويأمره سقيا أماكن عدّدها فيها:
واذكر مغاني من أرض الحصين ومن ... تحناس والمنحنى إن كنت أنسيتا
وغير ناس إذا لم تنس جلدتها ... العليا وأوسعها هاميك نبيّتا
وأختهن عرايانا «2» ومجد لها ... ودامسا وصحاريها الأماريتا «3»
فإن فعلت وإلا كنت معتمرا ... أتى المقام ولم يأت المواقيتا
هم المعاشر لا مجد كمجدهم ... وأبعد الناس ما بين الورى صيتا
والقوم في الأمن أملاك مسالمة ... وفي الهياج يخالون العفاريتا
وفي الرّحال إذا صاحبتهم خدموا ... وفي المجالس توقيرا وتثبيتا
ويتلوه منها ما أغمض معناه وأبعد مغزاه قوله:(7/152)
لم يمس قوت امرئ من غيرهم نشبا ... إلا وأمسى لهم إعطاؤه قوتا
وطالما قلت والأشواق تلعب بي ... إليهم ويريني الناس مسبوتا
لو أنهم وصلوا حبلي بحبلهم ... جعلته من جميع الناس مبتوتا
قال ابن المستوفي: كتب إليّ أبو الحرم رحمه الله بخط أبي الحسن علي بن أبي بكر الصفّار يتنجّز فيه إعادة كتاب الهمز، وهو قصائد مهموزة بخط أبي منصور ابن الجواليقي، قرأتها عليه واستعرتها منه ونسختها. ولم يقع له بقية بعدها على يديه، فتأخّر ردّها، أو خشي فراق فلان، بلّغه الله أنفس الأعمار وأبلغ الأمد، وقربه من أبعد الأماني بعد بعد المدد، وأنجز أمل غايته وغاية أمله، وجمل غاية أمله بفسحة أجله؛ حتى يحوز من المراتب أسناها وتقتني من المعاني والمعالي منتهاها. ويشعره أن الحاجة داعية في هذا الوقت إلى كتاب الهمز، وقد تكررت كتبي في هذا المعنى، وما عرّفني سبب تعويقه وفي ذلك أقول:
[الطويل]
متى أنا راء نسخة الهمز في يدي ... وقلبي خلاء من مساورة الهمز
فإن يد الإنسان أهون عارضا ... من القلب يرمي بالوساوس والوخز
أفي خيمكم أني أعرّض للأذى ... وأنتم أولو الإحسان في اليأس والمزّ «1»
وقد كنت أرضى دفعكم عن حقيقتي ... إذا ما سواكم رام منّي ما يجزي
لك الله لا تذعر خليلا بشيء ... ولا تجزه إلّا جزاه الذي يجزي
فإن لم تعجّل لي جواب رسالتي ... شكوت إلى كافي الكفاة أبي العزّ
أبو العزّ، هو المظفر بن أحمد بن المبارك بن موهوب. وكنيته اسمه، إلا أنّ بعض الناس كان يسميه المظفر. وتوفي له ابن كان سمّاه محمدا، فكتب إليه أبو عبد الله البحراني كتابا يعزيه. أوّله: [الكامل]
لا زالت الأيّام واهية القوى ... تشكو مضاجعها جفاء العوّد
وتبدّلت أيامهنّ لياليا ... إذ كان فيها مثل يوم محمّد(7/153)
فكتب إليه رحمه الله: [الطويل]
محمّد إن غال الحمام محمدا ... فأنت لنا أخ وخلّ وناصح
فليت الليالي جدن منك بنظرة ... تعادي ولو أن الحمام يراوح
ومما رواه أبو الحرم عن علي بن موسى الرضا: ثلاثة موكل بها ثلاثة تحامل الأيام على ذوي الأدوات الكاملة، واستيلاء الحرمان على المتقدم في صنعته، ومعاداة القوام لأهل المعرفة.
ومنهم:
39- أبو عبد لله الحلي النحوي
وهو محمد بن أبي الفوارس بن أبي الهوا عفيف الدين المؤدب. ذو نظر أحسن مارمق، وأحسب إذ رتق. فكفى العظائم، وكيّف العزائم؛ خلا أنّه لم يخل من مبغض، ولم يجل عليه غير وجه حاسد برأسه مبغض، فلم يقدر له على اهتضام، ولم يقدّر له غير إجلال وإعظام؛ إلا أنه نغّص عليه ونقص، وإن لم يصل النقص إليه على عادة الدهر في الكبر على الأفاضل، ورجوع ذنب السهم على المناضل. وكان لا يزال منكّدا، ولا يبرح حاله بعضه لبعض مؤكّدا فلم تسق له زرع ولم يزل من دهر على جزع؛ حتى أرته المنية مؤدّه، وحنت إليها مورده. قال ابن المستوفي: قرأ شيئا من النحو على أبي البقاء، ثم قرأ على أبي الحرم مكي وانتقل إلى إربل، وأقام بها مدّة معلّما، ثم ترك التعليم واتصل بخدمة بعض الأمراء، فنقل عنه أشياء قبيحة توهن العرض فعاد إلى الموصل سنة ثمان وستمئة. ووصفه بأنه متشيع لا يعمل تآليفه. قال: وكتب إليّ صدر كتاب ولم يصل إليّ. وكان ذلك أول ما بدا عليه القول بالتشيع: [الرّجز]
يا غارسا غصن الحيا ... ة بجود راحته التقيّه
ومعوّدا كسب الثنا ... ء بحسن أخلاق زكيّه
قد صرت مأكولا لأبنا ... ء الجهالة والدنيّه
فانهض إليّ حمية ... فالحرّ تنهضه الحميّه(7/154)
ومما ذكره من نثر قوله:
إن تأخّرت كتبي، أدام الله أيام مولاي، وجعلها موشحة بالخلود منسمة بالإقبال والسعود ما لاحت ذكاء «1» ، وطلعت الجوزاء بمحمد وآله، فنشر نبأي وإخلاص دعائي يشفع إليه، ويوصلني إلى ما أعوّل عليه من جميل صفحه، وحسن تجاوزه. وكيف لا أرجو ذلك، وقد حيي غصن حياتي بحيا «2» جوده، وترعرع في ظل سعوده، فأطال الله بقاه، وصل أو قطع، وأهان أو أكرم.
وقوله نظما ونثرا: [الكامل]
يا غارسا بيدي أكفّ ظالما ... أترى به العافون وهو عميم
حاشا لمجدك أن أضام وأنت لي ... عضد وجاهي بالظلال وشيم
أو تستطيع يد الحوادث بسطة ... فيما يضعضعني وأنت سليم
حاش لله أن يعبث بي الزمان، وتهضمني العدوان، وأنا وسيم خدمته وغزير نعمته، لا سيّما وقد اعيرت اليّ حلقة عبيد، ألفيته مختارا لذلك، رغبة في معاليه، معترفا بأنعمه وأياديه، وقد صدر إليه تصور عبده من يد خصمه، مع تقدّم علمه بعناية فلان في إصلاح حاله وإعشاب أمحاله.
قال ابن المستوفي: وما أعلم الأبيات الميمية له أم لا، والظاهر أنّها له.(7/155)
ومنهم:
40- أبو المبارك ابن أبي طالب
المبارك بن الأزهر سعيد، الملقّب الوجيه المعروف بابن الدهّان «13» النحوي الضرير الواسطي. استفسر الفضائل فأصبحت، واستنفر الفواضل «1» فأصحّت. ودعا العربية فأطاعت، ودعا إلى الفنون الأدبية فبذلت ما استطاعت. وبرع في النحو فقوّم صعدته، وقدّم للنجار «2» عدّته. وكان على خفاء منهاجيه وانطفاء سراجيه ذا بصيرة بالحقائق منوّرة، وللدقائق مصوّرة. ينظر فطنته حوافيها، ولا يجد فطرته الخوافيها. فلبّسه الفضل حليته، ورأسه في حلبته، وكان مرج البحرين دون قلتيه، وسرهج النيرين عوض مقلتيه. ولد ببلده ونشأ به وحفظ القرآن هناك، وقرأ القرآن. واشتغل بالعلم، وسمع بها من أبي السوادي الشاعر. ثم قدم بغداد واستوطنها. وكان يسكن بالظاهرية وجالس أبا محمد ابن الخشاب.
وصحب أبا البركات ابن الأنباري، وجلّ ما أخذ عنه.
وسمع الحديث من أبي زرعة المقدسي. وتفقّه على مذهب أبي حنيفة بعد أن كان حنبليا، ثم شغر منصب تدريس النحو بالمدرسة النظامية، وشرط الواقف أنه لا يفوّض إلا إلى الشافعي المذهب، فانتقل الوجيه المذكور إلى مذهب الشافعي وتولّاه. وفي ذلك يقول المؤيد أبو البركات ابن زيد التكريتي. [الطويل]
ومن مبلغ عني الوجيه رسالة ... وإن كان لا تجدي إليه الرسائل
تذهّبت للنّعمان بعد ابن حنبل ... وذلك لمّا أعوزتك المآكل
وما اخترت رأي الشافعيّ تديّنا ... ولكنّما تهوي الذي منه حاصل
وعمّا قليل أنت لا شكّ صائر ... إلى مالك فانظر لما أنا قائل(7/156)
كانت ولادته سنة اثنتين وثلاثين وخمسمئة بواسط، وتوفي ليلة الأحد، السادس والعشرين من شعبان سنة اثنتي عشرة وستمئة ببغداد ودفن من الغد بالوردية.
ومنهم:
41- زيد بن الحسين بن زيد بن الحسن بن سعيد الكندي «13»
أبو اليمن تاج الدين البغدادي المؤلف والمنشأ، الدمشقي الدار والوفاة، المقرئ والنحوي الأديب. وهو الذي تضرب به النحاة المثل، وتضرب عنه الملل. بلغ شأو القدما، وزاد عليهم زيادة الألف والنون في بعض الأسما. أجمل بذكره المشاهير، فانسلخ أبو الأسود من جلدته، ويئس الكسائي من حدته، وفرّ الفرّاء، وعرف أن سبب موت سيبويه ممّا ضرب زيدا عمرا.
وعذر جمر نفطويه إذا أصبح وهو جامد، والمازني إذا لم يذكروا وقبله زيد وعمرو وبكر وخالد. أعملت الركائب إليه السير، وعرف الخير منه، فسميّ زيد الخير. تقدّم في الدولة الناصرية الصلاحية من أولها، وأثرى من تموّلها، وكان له من بني أيوب ما زاد في زهوه وأكرم به لذلك ونحوه. وكان عليه طريقنا في رواية أكثر كتب الأدب وتلقيها ممن كتب.
وهي على جلالته وعلمه الذي يسم منكره بجهالته ما خلا من غمز غامز، وذكر نقص، وما هو عايز؛ إلا أنه تلي شيطان ساء قرينا، وقال ولم يرقب دينا.
قال ابن خلكان: كان أوحد عصره في فنون الآداب، وعلوّ السماع، وشهرته تغني عن الإطناب في وصفه. أخذ عن الشريف الشجري وابن الخشّاب، وأبي منصور الجواليقي، وصحب عزّ الدين فرّخشاه «1» بن شاهنشاه ابن أيّوب، وهو أبن أخي الملك صلاح الدين.(7/157)
واختصّ به وسافر معه إلى مصر واقتنى من كتب خزانتها كل نفيس.
قال ابن الجيمي: كنت بالقاهرة، فكتب إليّ الشيخ أبو اليمن من دمشق أبياتا: [الخفيف]
أيها الصّاحب المحافظ قد حمّ ... لتنا من وفاء عهدك دينا
نحن بالشام رهن شوق إليكم ... هل لديكم بمصر شوق إلينا
قد عجزنا عن أن ترونا لديكم ... وعجزتم عن أن نراكم لدينا
حفظ الله عهد من حفظ العه ... د أوفى به كما قد وفينا
قال: فكتبت إليه من أبيات: [الخفيف]
أيّها السّاكنون بالشّام من كن ... دة إنّا بعهدكم ما وفينا
لو قضينا حقّ المودّة كنّا ... بحبّنا بعد بعدكم قد قضينا
وكتب إليه ابن الدهان الفرضي: [البسيط]
يا زيد زادك ربّي من مواهبه ... نعمى يقصّر عن إدراكها الأمل
لا غيّر الله حالا قد حباك بها ... ما دام بين النّحاة الحال والبدل
النّحو أنت أحقّ العالمين به ... أليس باسمك فيه تضرب المثل
ومن شعر الكندي وقد طعن في السنّ: [الطويل]
أرى المرء يهوى أن تطول حياته ... وفي طولها إرهان ذلّ وإرهاق
تمنّيت في عصر الشّبيبة أنّني ... أعمّر والأعمار لا شكّ أرزاق
فلمّا أتاني ما تمنّيت ساءني ... من العمر ما قد كنت أهوى وأشتاق
يخيّل لي فكري إذا كنت جالسا ... ركوعي على الأعناق والسّير إعناق «1»
ويذكرني منه النسيم وروضة ... حفائر يعلوها من الترب أطباق
وها أنا في إحدى وتسعين حجّة ... لها فيّ إرعاد مخوف وإبراق
يقولون ترياق لمثلك نافع ... وما لي إلا رحمة الله ترياق «2»(7/158)
وقوله: [الطويل]
عليك حقوق للمعالي وأنعم ... وأنت بها إن لم يحدّث بها رهن
حملت يدا من جود أفضل ذي يد ... هي المنّ لا يغتال رونقها المنّ
تو خّاك عزّ الدّين بالفضل باديا ... وحازك من وسميّ «1» نائله مزن
فريضا إذا شتم الرواة فريضة ... تمنت له لو أنّها للورى أذن
إذا شامت الهيجاء سيف انتقامه ... فليس له إلا رقاب العدا جفن
عنت لك سادات الشجاعة والنّدى ... ومن ذا الّذي يرنو إليك ولا يعنو
وقوله: [البسيط]
لولا ثقالة طبع فيّ أعرفها ... وحدي وإن أغفلتها خبرة الناس
لزرت لا أجعل الأعياب محمدة ... ولا أزال طفيليّا بإيناسي
لكن علمت نداي أنه خلق ... وماله غير ترك النّاس من آسي
واعذر فشعري كطبعي لست أنكره ... النّفس نفسي والأنفاس أنفاسي
وله: [الطويل]
فرخشاه عزّ الدين مكتفل العلا ... وباعث روح الجود والجود دارج
لئن حالت الأقدار دون ازدياره ... وسدّت بأعذار إليه المباهج
فمن ذكره عندي خيال مسامر ... ومن شوقه بين الجوانح لا عج
وكم عاشق يدنو المزار وقلبه ... يكابد أثقال النّوى ويعالج
وقوله: [مخلع البسيط]
ربّ مليح الدلال غرّ «2» ... داني الهوى صدره سليم
يسلبني عن ضنا فؤادي ... وهو بأسبابه عليم(7/159)
رغبت عنه إلى وداد ... على زوال الرّضا يقيم
محتضر بالوفاء باق ... يرنم «1» رضوا ولا يريم «2»
من ماجد الجود أريحيّ ... نصاب آبائه كريم
معشره في الوغى أسود ... وفي صميم العلا قروم
وفي الهدى والنّدى ملاذ ... فهم نجوم وهم غيوم
وله: [البسيط]
بدا النّوى لكؤوس الوصل خادجة ... ما راق إلا وللتفريق ترنيق «3»
يا من تكدّر صفو العيش بعدهم ... اليوم أيقنت أنّ الوصل راووق «4»
أستودع الله ربعا دون ساكنه ... لواحد العيش تغريب وتشريق
ولا سقى واصبا أصغو لزخرفه ... فإنه غمر الأحباب فاروق
وله: [الطويل]
بملكك فخر الدين رثّت ممالك ... تقضّت بأطراف الرماح العدا عنها
نهاها عن الرّشد المخالف حقبة ... فكنت له بالسّيف عن غيّه أنهى
بك اليمن الكبرى تضاعف يمنها ... فما يبلغ الوصل المحيط لها فيها
يمينا لقد حازت بمجدك سؤددا ... على المدن أضعاف الذي حزته منها
وله: [الطويل]
ذريني وخلقي ما أهمّ فإنني ... رأيت الذي اقنو الذي أنا أبدل «5»
عجبت لمن ينتابه الموت غيلة ... تروح به أو تغتدي كيف ينحل(7/160)
وهب أنه ممن محا الموت آمن ... مسرّته بالعيش لا تتبدل
أليس ترى أنّ الذي خلق الورى ... بأرزاقهم ما عمّروا يتكفّل
وله: [الخفيف]
أرعينا بكت بدمع فعيني ... عوض الدّمع قد بكت بالسّواد
أعوزتني الدّواة عند كتابي ... فأقامته لي مقام المداد
وله: [الخفيف]
لا مني في اختصار كتبي حبيب ... فرّقت بينه الليالي وبيني
كيف لي قد أطلت لكنّ عذري ... فيه أنّ المداد إنسان عيني «1»
وله: [الخفيف]
أيها الغمّ هل بذا القلب فرحه ... من غضوب ما زلت أطلب صلحه
يتجنّى ظلما ويمزح بالهج ... ر ومن ذا يطيق بالهجر مزحه
كلّ يوم يجني ذنوبا وعذري ... واقفا يرتجي رضاه وصفحه
طال ليلي مذ غبت عنه فما (م) ... أبصر إلّا يوم التواصل صبحه
لا مني فيه ناصح غير أنّي ... لست ذا سلوة فأقبل نصحه
ما ألذّ القبول لو نفحتني ... بالهنا من علا فرّخشاه نفحه
منحتني خدمة علياه فكا ... نت لديّ أشرف منحه
أخرستني عن مدحه بلساني ... ثم أملت من حسن حالي مدحه
لم تر النّفس فرجة من سرور ... في بعادي ولا رأى الجسم صحّه
بك أبصرت حسن وجه زماني ... حين غيري رأى بغيرك قبحه
وله: [الطويل](7/161)
أيا مالكي رقّي وليس بفرصة ... لنفسي إني بعد ملكي أعتق
لقد غشيتني حيرة في فراقكم ... تكاد لها نفس التحمّل تزهق
فوالله ما أدري إذا ما ذكرتكم ... وقد حال بعد بيننا وتفرّق
أأعلن بالشكوى إليكم من النّوى ... وما فعلت إني إذن متملّق
أأسكت أي أنّي جليد وصابر ... على فقدكم إني إذن متخلّق
سلام عليكم من مشوق لسانه ... بغير حديث عنكم ليس ينطق
وله: [الطويل]
أيا مالكا يقري صوارم عزمه ... إذا حلّ خطب بالكرامة نازل
أينكر إن ماجت بلادك مرّة ... بزلزلة ترتجّ منها المنازل
وأنت الذي هدّ الطّغاة ببأسه ... ففي كلّ قلب من سطاه زلازل
سرت رعدة الأجسام فيما اعترتهم ... إلى الدّار منهم فاعترتها الأكافل «1»
وله: [الطويل]
على جوجر «2» من شاطئ النيل منزل ... ..........
به ملك تزهى الصوارم والقنا ... به والوغى تزهى به والكتائب
عظيم فلا ترجى الطوائل عنده ... ولكنّه ترجى لديه الرّغائب
جواد بكى والبحر ينضب خجلة ... به وتحرّى أن تصوب السّحائب
ومن عبر أنّ الأحبّة أهله ... وإنيّ عنه بالعوائق غائب
فداؤك عزّ الدين كلّ مؤمّل ... لفضل وعنه من جنابك جادب
وهنّئت بالنّجل السّعيد الذي له ... تزقّ من اليوم العلا والمراتب
يلوح من المهد المجلّل ذكره ... كما لاح نجم في الدجنّة ثاقب
فلازلت للأحرار مولى وموئلا ... تحاذر إلا في ذراك العواقب(7/162)
وله: [البسيط]
قدّست من مرتد بالملك مؤتزر ... بالكبرياء ولكن بالورى رؤف
يشكو مطال اللّيالي كلّما وعدت ... بأن تزيل وصالا من نوى قذف
بالله أحلف أيمانا مغلّظة ... والله يعلم حسن الصّدق في حلفي
لو نلت في بعدك الدنيا بأجمعها ... ما كان في حرزها بالبعد عنك يفي
وله: [الطويل]
علقت بتسحار اللّواحظ فاتن ... كأنّ بعينيه بقايا خماره
يكسّر إعراضي بتكسير طرفه ... إذا ظلّ طرفي حائرا في احوراره
وله: [البسيط]
لم يسأل الله من جلّى مواهبه ... إلا وكنت له في السؤل أوّله
ولم يزر بابك الأعلى ليخدمه ... إلّا وقد رفض الأدمى وأهمله
وله: [البسيط]
بالله أحلف أيمانا مغلّظة ... وبالكتاب الذي يتلى ويعتقد
لو أن ألف لسان لي أبثّ بها ... شوقي إليك لما استوعبت ما أجد
وإن يكن ابطأت يوما مكاتبتي ... فما على مثل ودّي ذاك ينتقد
أنا الذي ليس يحصى ما أكابده ... من الصّبابة لا وصف ولا عدد
الصّحف لا تسع الشّكوى فاذكرها ... ولا المطايا بأعباء الهوى تجد
لم يخل ربعك من رسلي ومن كتبي ... إلا وذكرك مملوء به الخلد
ولست أنكر تقصيري على شغفي ... لكن على حسن ظنّي، فيك أعتمد
وله: [الطويل]
بنفسي من أعلقت ظنّي بحبله ... فأصبح لي من ذروة المجد غارب
تعمّد إيناسي إلى أن ألفته ... كأني له من ضجعة المجد صاحب(7/163)
وأدنى سراري من سرائر قلبه ... فلم يبق من دون الضّميرين حاجب
وكان عصا موسى لديّ وداده ... أصلّي ولي ما عشت فيه مآرب
ولا عجب أن غيّر الدّهر صاحبا ... وكل تصاريف الزّمان عجائب
وما كان ذنبي غير أني ذخرته ... لدهري إلا أنّي للدهر تائب
ولست على هجرانه الدّهر ناكبا ... على الودّ لكني على الوصل ناكب «1»
سأمنحه هجرا كما هو مشته ... فإنّي فيما يشتهيه لراغب
وإن هو بعدي جرّب النّاس كلّهم ... ليحظى بمثلي قد رمته التّجارب
وله أيضا: [الطويل]
قدمت فلم أترك لذي قدم حكما ... كذلك عادى في العدا والنّدى قدما
إذا وطئ الضّرغام أرضا تطانفت ... خطا وحشها عنه فوسّعها هزما «2»
كما مرّ باز بالفضاء محلّق ... رأته بغاث الطّير حتفا لها حمّا
وإن أك في صدر من العمر شاردا ... فكم نفر عن همّتي لقن الهمّا
سبقت إلى غايات كلّ فضيلة ... تعزّ على طلّابها العرب والعجما
وملّكني رقّ المناقب أنّني ... أحطت بآداب الورى كلّها علما
فما منصب ممن ترقّت به العلا ... ترى فرقه من أخمصي فوقه وصما
أبى لي مجدي أن يراني شاعرا ... يريه منانا أخذ جائزة غنما
ولكنّني أهدي الثّناء لأهله ... وأكبره عن أن أملّكه قدما
فآونة نثرا يحلّ [به] الحيا ... وآونة تنشا العقول بها نظما
قريضا هو السّحر الحلال بيانه ... تروق معانيه ولو ضمن الشّتما
تعظّم إلا عن عظيم محلّه ... يعظّم ما فيه من الحكمة العظمى
هو الفضل في الإنسان أمّا أعزّه ... فنقص إذا ما سامه الذلّ والهضما
ولولا على الملك الّذي عزّ مثله ... على الدهر فرّخشاه ذي الشرف الأسمى(7/164)
لأظمأني ثغر المراد ولم أرد ... به موردا عذبا ولا مشربا جمّا
وجدت به من كنت لولا لقاؤه ... يئست لعيني أن ترى مثله قرما
مليكا رأيت المجد والفهم عنده ... ولم أر خلقا جمّع المجد والفهما
متى عزّ أفراد المعالي فإنهّ ... لأوّل من يسمى وآخر من يسمى
إذا قوله والفعل في ملّة جرى ... يبدّيه في الآراء مقتضبا حكما
رأيت العقول الباهرات بهيرة ... فأفضلها ما كان بالحكم مؤتما
أرى فيه مولى كلّ مولى رأيته ... مناقب إلا عن نقيبته تحمى
يحاول كتمان العطاء بجهده ... ويأبى شروق الشّمس أن يألف الكتما
تصوب على ظنّ العفاة يمينه ... كما أرعفت في الحرب أرماحه الصمّا
تناهى وغالى في الشّجاعة والنّدى ... فأقنى الورى حربا وأعناقهم سلما
حوى من أبيه فخره بعد جدّه ... ومن عمّه الفخر الذي شاع بل عمّا
وبالله ما احتاجت مفاخر نفسه ... إلى نسب يبدي أبا، لا ولا عمّا
رويدك عزّ الدين لم تبق همّة ... ترقّى إلى حيث التقينا ولا وهما
ملكت على الأملاك في كلّ ساعة ... غدا عجزهم عنها عليهم بها وسما
وحزت العلا حتى كأنك أقسمت ... سجاياك لا خلّيت منها لهم قسما
وأوتيت حكم الشّيب في رنق الصّبا ... كما فقتهم رأيا ولم تبلغ الحلما
أقلني من بعد المعاني ولفظها ... وخذ بيدي إن زلّ فكري أو غمّا
فقرّك لا بل ندّ خاطرك الذي ... تدقّ معانيه إذا ما رمى أصمى «1»
وأنت الذي لو سمت كلّ مهذّب ... يخافك في فهم لسمّيتهم ظلما
ولست بمدحي تستزيد قمامة ... ولكن لي من مدحك الشرف الفخما
بقيت على الأيام في ظل نعمة ... بها البؤس للطاغي وللطائع النّعما
مراضيك تستدعى وراجيك يرتجى ... وعونك يستعدى وغيّك يستهما(7/165)
وله: [الطويل]
ومذ قيل لي تشكو سقام جفونه ... تغيّض بي وجدي وجفّ غرامي
فقير غريب في المناصل حمرة ... وغير عجيب في الجفون سقام
وكتب إليه ركن الدين الوهراني:
وصلت رقعة مولاي تاج الدين أطال الله بقاه بلفظ أحسن من نور يفتحه الصّبا، وخط كبيض العطايا في سواد المطالب. يشهد من رآه وسمعه أنه رجل عليّ الهمّة، ريّان من الحكمة والأدب. ولولا تفاضحه في أول لفظه فيه، وهي قوله: ما نقبا، فإنّها وإن كانت فضيحة عربية نطق بها الكتاب العزيز فإنها تقبله الحركة قليلة الاستعمال، لم يأت بعدها ما يناسبها من اللغة، كأنّها من حديث سكان نجد وتهامة، عليها روائح الشيح والقيصوم «1» .
فلو أنّ الشنفرى يخاطب عمر بن برّاق بها فما فهمها إلا بعد جهد جهيد. إنّها لا ينطق بها اللسان حتى ينخلع منك الفك مع ما فيها من الندّ يصرم، والرفاعة المعجونة بالتبصرم ولأجل ذلك جاوبتها الألسن بأنواع من الضراط.
فصل منها:
وأما كلامه على بيت المتنبي فلله درّه لقد جاءه ثابت الأصول سالم الفصول في نهاية ما يكون من الحسن والإتقان، وفرح الخادم به فرحا عظيما، كالخصيّ المفتخر بإحليل مولاه، وعرضه على طالبيه من أهل الأدب، فانتقده عليه أفضلهم وزيّف أكثر كلامه. وقال: المتنبي في واد وهذا المتكلم في واد. لعمري لقد حكم بالشهوة ومال مع الهوى: [الكامل]
كضرائر «2» الحسناء قلن لوجهها ... حسدا وبغيا إنه لدميم
حتى سجد له عجبا، وقام به وجدا. ورقص عليه طربا. والفضل ما شهدت به الاعداء.(7/166)
فالحمد لله الذي حقّق فيه الأمل، ونصر به الخاطر، ولم يخيّب فيه الظنّ والسلام.
فصل منها:
أليس يعلم بسعادته أن الإنسان إذا تعصب لا يحسن العالم جعله أوحد الزمان، ونصر بخاطره بالحق الباطل. ولا يشتهي أن يظهر من ذلك الشخص إلا الحسن الجميل؛ فلأجل هذا عيب عليه الخادم في قوله: تحرّك الحار العزيزي وشاه ظهور ذلك ما كان يحتاج إلى تأكيد. وأظنّه، ودام الله عزّه، خاف أن يقول: الحرارة العزيزية، فيشبه كلامه كلام العامة والسّوقة، وكوادن «1» الأطبّة، وجهّال الطبيعيين، فتخطّى هذه الطبقة إلى رتبة الفارابي وابن سينا، فحمل على أفلاطون عشرة آلاف حمار. يا مولاي تاج الدين لا تجرد على المدين الأنجس.
فصل: وأما تعريضه لخادمه بالقيادة وعتبه له على زواج النساء العواهر، فسيدنا معدود في ذلك؛ لأنه لم يذق حلاوة هذه الصناعة ولا تطعّم بنعيمها. ولو أنّه، أدام الله عزّه، خرج من بيته يوما، ولم ينزل لبيته إلا ثمن الخز والخبز، ورجع بعد ساعة وجد فيها المكائب الرفخة والسنبوسك المورّد والفراخ المصوص، والدجاج المسمّن والقناني المزوّقة والفاكهة النبيلة، والرياحين الطريّة، فيربع في الصدور، وجلس على بطون الفرش. وظهور المخادّ وهشم الثرائد، وفقء عيون البيض، وقطع قلوب الخسّ وأخذ الملآن وردّ الفارغ. واقترح الأصوات، واستعاد الغناء. ولم يخرج في هذا كلّه إلا التغافل وحسن الحظ، وقلّة الفضول لعشق هذه الحالة.
ودخل فيها بجملته، وسأل الله تعالى أن يحييه قوادا ويميته قوّادا ويحشره في زمرة القوادين. ويظن الخادم فيما يتلوه عليه من الأساطير كجالب التمر إلى هجر «2» . وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه. [البسيط](7/167)
وابن اللّبون إذا ما كنّ في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس «1»
ومهما فضّل من جهل النساء العواهر الحسان فلا يجهل أن أكل الحلاوة مع الناس خير من أكل الجزاء مفردا.
فصل: وأمّا اتّهامه للخادم بأنه استقرض منه البقيار «2» للبيع أنّه استعرض به للطلب، فقد حلف على نفي التهمة، وهو لا يصدقه، فما بقي إلا الكلاب على عيال من رآه أهلا لذلك قط. ويحمل الحمير على أم الذي يعطيه إيّاه أبدا. ولا شك أن الخوف على البقيار غلب عليه، حتى لو كتب إليه الخادم لا إله إلا الله. قال: هذا تعريض بالبقيار، كما قال تعالى: «يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ «3» »
، إذا رأى غير شيء ظّنه رجلا، فكيف يجوز للوهراني أن يطلب بقيارا جديدا من رجل بغدادي الحسب، تاجر المكتسب أشعري المذهب. كندي الأصل. وهذه الخلال لا تجتمع في كريم قط. ألا ترى أن أول من اجتمعت فيه ملك كندة امرؤ القيس بن حجر، وهو القائل يوم دارة جلجل، وقد نحر ناقة تساوي ثلاثة دنانير لنساء فيهن محبوبته: [الطويل]
ويوم نحرت للعذارى مطيّتي ... فواعجبا من رحلها المتحمّل
فظلّ العذارى يرتمين بلحمها ... وشحم كهدّاب الدّمقس المفتّل «4»
فلو كانت محبوبته عاقلة شحّمت وجوه العذارى بشحمها، وأدخلت ما بقي منها في استها. وهذا أبو الأسود الدؤلي شاعر مفلق، وهو أول من تكلّم في النحو. خرج ليلة من داره فسمع حمارا له يعتلف، فقال: إني لنائم في فراشي وأنت تسرّي «5» في مالي؟ والله لا بقيت لي في ملك. وأصبح به إلى السوق فباعه بأبخس الأثمان. وهذا أبو الطيب المتنبي،(7/168)
شاعر كندي، لمّا أفرغت بين يديه الجائزه المشهورة، وأمر بردّها إلى كيسها، فعلقت قطعة منها في خلال الحصير، فجعل يعالجها ويقول: [الطويل]
تبدّت لنا كالشّمس تحت غمامة ... بدا حاجب منها وطنّت بحاجب
ولمّا ظفر بها، وخاف العتب من الحاضرين، قال: لا تحقروها فإنّها تحضير المائدة. فكان عذره أنجس من ذنبه. ولو بيع هذا لطال، ودع عنك هذا كله لو كان الخادم ممّن يهون عليه التبذل لكدي بني شادي الذين هم فتيان الجود وبرامكة الزمان، لا سيّما المولى عزّ الدين أدام الله نعمته، الذي يمينه أندى من الغمام، وعزيمته أمضى من الحسام، ووجهه أبهى من البدر ليلة التمام. وهو على الحقيقة نهر للجود من ماء السماء ابن بحر السماح. [الكامل]
ورث المكارم من أبيه وجدّه ... كالرّمح أنبوب على أنبوب «1»
وأي رجل أخسّ وأعتى من رجل يكدي الكندي الذي لقبه أبى أن يأخذ ويترك المولى عزّ الدين الذي لقبه أبو المواهب. وما هو في ذلك إلا كرجل ورد على هذا النيل فتركه ناحية، وحفر إلى جانبه في أرض صلبة سبخة كبريتية، لعلّه أن يخرج له ماء ملحا زعاقا «2» ، ويترك الماء العذب الزلال بغير كلفة ولا عناء. وأنشد: [المتقارب]
وإني وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفّي زندا شحاحا
كتاركة بيضها بالعراء ... وملبسة بيض أخرى جناحا
كأني أدام الله عزّه إذا قرأ هذا البيت قال: أحسنت. وهذا ممّا كنّا فيه، لمّا يئس من العبد رجع إلى المولى. والله لا تمّ لي معي مضرب أبدا يئيس الأمن، كما ظنّ. والوهراني ما هو مجنونا يطمع فيّ فيمن يسمع قولك. ويرجع إلى رأيك، وأنت الغالب على أمر، امرأة الواهراني طالق ثلاثا البتة، لا آخذ منه درهما أبدا. وأشهد أنّ ماله عليه حرام، كالدم والميتة ولحم الخنزير.(7/169)
وأمّا تعريضه له بالصفع، فليته فعل حتى يستوفي ماله عليه، ويترادّ منه في الدنيا والآخرة. وهو أهون عليه من أن يستوفي ذلك منه في حظيرة الجحيم بأنامل من نار. ورأيه العالي في التقاضي والسلام.
ومولد الكندي بكرة نهار الأربعاء، لخمس بقين من شعبان سنة عشرين وخمسمئة وتوفي يوم الاثنين لخمس خلون من شوال سنة ثلاث عشرة وستمئة.
ومنهم:
42- ابن الشحنة الموصلي «13»
وهو أبو حفص عمر بن محمد بن علي بن أبي نصر. جدّ في اعتنائه، ووجد في اجتنائه.
ماثل الصباح باجتلائه، وقابل القمر الليّاح في اعتلائه. كتب لأخيه، وكبّ إلحاء إلى أضيق نواحيه. فسعدت به أصدقاؤه، وصعدت إذ علا به ارتقاؤه. وجهد في مقتبل عمره، وتلف شبابه في خضره وقطع الليل مواصلا للسهر، وواصلا عاتق العشاء بذيل السحر؛ حتى دعا بالإمامة وعرف بالعلامة، وانتصب للإقراء؛ وإنما نصّب للتمييز لا للإغراء. فلم يحجب عن علياء، ولا مشى على استحياء؛ لفضله البارع وإفضاله المسارع.
ذكره ابن المستوفي، وقال: عالم بالنحو واللغة، أخذ ذلك عن رجال بغداد العلماء، مثل ابن الأنباري وأبي الحسن القصّار، وغيرهما.
وسمع كثيرا من كتبهما، وسمع عليه كتاب إصلاح المنطق. وكان ختم القرآن، وقرأ بمستعمل القراءات «1» وشواذّها. وكان بينه وبين أبي الحرم شحناء عظيمة. كان أبدا يفتري(7/170)
عليه ويأخذ من عرضه، وشيخنا لا يجيبه عن ذلك؛ لورعه ودينه.
وكان خبيث اللسان سيّئ العقيدة، مقيما على شرب الخمر. يتمثل إذا أخذ منه السكر:
اليوم خمر وغدا أمر. هجّاء لكل من صحبه. لم يحسن أحد إليه إلا وقابله بالإساءة. كثير الاستهزاء بالأمور الدينية، كثير الخلطة لأوباش الناس والشرب معهم. رحل في صحبة أبي إسحاق إبراهيم بن عبد السلام إلى السلطان أبي المظفر يوسف بن أيوب، فمدحه فأحسن صلته. ولمّا وصل إلى الموصل تنكّر له صاحبها أبو الفتح مسعود بن مودود. فلمّا ولي ولده أبو الحرث أرسلان بن مسعود أحسن إليه، وولاه بعض أعماله. وكان يحضر مجلس شرابه، فنقل إليه أنه هجاه فلم يصدّق ذلك لعدم الموجب له. فاتفق أن أمر بإحضاره وسأله عن ذلك، فأنكر، فأمر بضربه بالدّرة، فلما ضرب سقطت ورقة من عمامته، فيها الهجو الذي نقل عنه، فشهره في الموصل بأسرها، وحلق لحيته وحبسه، فأقام مدّة طويلة. وولد له بالحبس ولد وتوفي، كما ذكر المواصلة «1» محبوسا.
قال ابن المستوفي: وحدثني أبو المهنّد سيف بن محمد الزيلعي قال: نزل بي إنسان بدوي، كان حبسه أتابك، أبو الحرث لمّا أسره مع من أسر من العرب في وقعة كانت له عليهم. قال: رأيت في محبس الموصل رجلا فاضلا شاعرا، فسألته عن سبب حبسه، فذكر أنه حبس لهجو بلغ عنه الأتابك. قال: وو الله ما هجوته؛ وإنما قلت قصيدة منها: [البسيط]
أعيذ مجدك من قدم أقول له ... إني زهير ولكن ليس لي هرم
فحبسني كما ترى.
ومن شعره قوله: [الكامل]
طربا أقول إذا الحمام ترنّما ... عيش لنا بالأنفقين تصرّما
قصرت مسافته فكان كزائر ... وافاك في سنة الرّقاد مسلّما
أشكوتنا عدة تعيّن كلّما ... نهنهت فيض دموعها فاضت دما(7/171)
فاعص اللوائم في هواك فإنّما ... رشد المتيم أن يعاصي اللوّما
واشرب على زهر الربيع مدامة ... كالشمس تبدي المرح فيه أنجما
أو ما ترى نوّاره وكأنه ... نشوان أصبح باكيا متبسّما
رقد النسيم بجانبيه فنبّهت ... أنفاسه منه عيونا نوّما
وسرى ينمنم وشيه فحسبته ... وافى بأخبار الأحبّة نعما
صقلت حواشي روضه فكأنّه ... من حسنه قد همّ أن يتكلّما
وكأنما ورق الحمام فواقد ... في الدوح يبكي النائح المترنّما
تشدو فتخبر مغرما عن مغرم ... فيها ويفصح معرب عن أعجما
بدع كبدع في السما حديثه ... كالغيث أنجد في البلاد وأتهما
أضحت أغضّ من الصبا وألذّ من ... شكوى المحبّ إلى حبيب أنعما
ملك له المجد القديم وكلّما ... قدمت مباني المجد أصبح محكما
متواضع وأقلّ ما يعتدّه ... فيه التواضع أن يكون معظّما
إن ضاق دهر كان مسرح همّه ... رحبا وإن عيش الزمان تبسّما
فإذا ارتقى من قلّة من سؤدد ... هتفت به أخرى لكي يتقدّما
راض الخطوب الجامحات فاصبحت ... وأعاد منأدّ «1» الزمان مقوّما
وتآلفت فيه القلوب فما ترى ... منهن إلا منبيا ومعظّما
تتلو الصوارم والقنا غبّ القنا ... في كفّه مفلولة ومحطّما
في كل أرض قد أقام لنصره ... عرسا ومن زاد الأعادي مأتما
تلك النواحي من نصيبين غدت ... غيرى وأم النشر ثكل أيّما
فالجوّ أكلف والجناب لحربه ... مجل وضوء نهارها قد أظلما
جور الصوارم في البرية عادل ... فإذا سفكن دما حقنّ به دما
لا يدرك الآمال من يقتاده ... وسن التعلّل نحو ليت وعلّما
هذا النبي وكان أفضل مرسل ... زجرت قريش منه طيرا أشأما(7/172)
حجدت نبوته فقام مجاهدا ... وأعاد مشركها حنيفا مسلما
قطعوا له الرحم القرينة بينهم ... عددا وقاطع مثلها أن يرحما
وافى ابن عمك حاسرا من كنزة ... رأسا فراح من الهوان معمّما
لا قى شكائم شدّة من فارس ... رجعت به مضمى وكان مضمّما «1»
لا قى الأماني عذبة حتى إذا ... ما ذاقها عادت أجاجا علقما
نجّاه ما نجىّ أباه وقد رأى ... طير المنايا من عباده حوّما
متدفّق لولا تمطّره به ... لرأيته بسنا الأسنّة ملخما «2»
لمّا رأى علميك ولّى معلنا ... بالويل منه وبالمذلة معلما
سدما تذم له قوائم سابح ... لو أنها غدرت به لتذمّما
لا يغرينّ به الملام فإنما ... يلقى المتيّم أن يكون متيّما
ومنها يطلب فرسا:
جد لي بأجرد إن تعرّض خلته ... سيدا تمطّر في الدّجى فتقحّما
ينمي إلى آل الوجيه ولا حق ... متلاحق الأقراب ليس بأهضما
مثل الظليم إذا تهادى مدبرا ... والظبي إن لاقيته متقدّما
متناصب الأذنين تحسب أنه ... بهما يحاول أن يرى أو يعلما
هرج الصهيل كأنّما ترجيعه ... ترجيع نشوان غدا مترنّما
ومن آخرها:
قيّدت بالإحسان نطقي أن يرى ... في غير حمدك معرقا أو مشئما
وحميتني غدر اللئام فإن أعد ... مرتادهم فغدوت منهم ألأما
فلقد نصبت من الثناء حباله ... فاصطدت حبّك لي جوادا منعما
وعلمت أن الشكر عندك غرسه ... يضحي لمن أولاه غرسا مطعما(7/173)
كن معدما ومن المعالي مقربا ... من جدّ في العلياء أصبح معدما
واسمع أقامت في جنابك دولة ... يخشى لها البؤسا ونرجو الأنعما
مدحا كنور بات يصقله الندى ... ليلا وباكره النسيم مهينما «1»
غرّا كريم الأيد غير مصونها ... إلا إذا ألفت أغرّ مكرّما
ما صافحت فكر الفصيح ونطقه ... إلا أعادته عييّا مقحما
لو شام رونقها الوليد جفالها ... أمحلّتي سلمى بكاظمة اسلما
واسلم ليسلم كلّ مجد إنّه ... لن تسلم العلياء حتى تسلما
شرّفت أبكار القوافي مثلما ... شرّفت دهرا كنت فيه القيّما
قال ابن المستوفي: نقلت من أوّل مجموع بخطّه ما صورته: لمّا أنفذ الله سبحانه وتعالى في سهام قضائه، وامتحنني في الدنيا ببلائه، ونظمني في سلك من غبر من أوليائه، ومن اجتباه من أنبيائه وأصفيائه الذين أنطق بمدحهم كتابه وأجزل لهم ثوابه. فقال: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ «2» »
، مدّت إليّ الأيّام باعها، وقرتني الأجداف ذراعها، وأدارت على كأس مدامها، وغرّتني بابتسامها؛ فلم أفق من نشوتها ولا فقأت خمّار خمرتها ألا وقد بدّلت بكل قريب بعيدا، وبكل وصل صدودا. وأصبح السجن لي منزلا أهلا، والأشجان لي مناهلا؛ حتى رمقتني من الله عين رحمته، وكنفتني ظلال رأفته، فأتاح لي جليسا، جعل الله بوحشة السجن به آنسة الربع والمربع، ومقر متارعه عذبة المكرع.
يقصر الخاطر عن تعداد معاليه، ويقصر النطق عن إظهار معانيه. وما محاسن شيء كلّه حسن؟
فاقترح عليّ أن أجمع تذكرة ممّا يمليه الخاطر عليّ، ونسخ به إليّ، تكون له، إن منّ الله تعالى علينا وعليه بفكاك الأسر؛ لمذاكرة أيّام البؤس، والزمن العبوس؛ ليواصل حمد الله سبحانه على ما انجاب من غمامها، وانجلى من ركامها. فأجبته إلى ذلك بصدر غير منشرح، وقلب غير فرح، والثغر يفتر، والأحشاء تحترق، والله المستعان وإليه الشكوى من كلّ بلوى.(7/174)
وهو حسبي ونعم الوكيل. فانجدر ما يبتدي به ما يغنينا من وصف حالنا، وهو ما يقال في السجن قد قيل: إنّ السجن محكّ العقول وتجربة المأمول. به يمتحن الصبر من الأحرار، ويكشف العقل والوقار. وألطف ما قيل فيه قول بعضهم، وهو معلقة: [البسيط]
السّجن أصبح مثل النار مضرمه ... والحرّ فيه إذا فكّرت كالذهب
يصلى بنار هموم في جوانحه ... تنفي المآثم من حسد ومن لغب «1»
وبشعره أبيات ابن الجهم «2» بين الناس لم يذكرها، وهي قوله: [الكامل]
قالوا حبست فقلت ليس بضائري ... حبسي وأيّ مهنّد لا يغمد
ولمعلقه: [البسيط]
لا عار في السجن للأحرار إن سجنوا ... لغير جرم ولكن سجنهم شرف
فإنّ آل رسول الله كان لهم ... منه نصيب ولم يجنوا ولا اقترفوا
كالسيف والدرّة الزهراء سجنهما ... خوفا وضنّا بها الأغماد والصدف
قال: وكتب: بعض الأوقات منضجعا في علوّ، كنت آوي أيّام سجني بقلعة الموصل، وإذا بحمامة تهتف في أعلى ذلك الموضع، فعرض لي طرب حزن، وجدت منه راحة بالبكاء.
فقلت: لله درّ غيلان «3» كأنه أوحى إليه قوله: [الطويل]
فإنّ انحدار الدمع يعقب راحة ... من الوجد أو يشفي نجيّ البلابل «4»
فعملت أبياتا، وهي: [الكامل]
وحمائم غنيّن في رأد الضحى ... طربا فقلت مقالة المحزون(7/175)
غنّين فالوجد الذي تبدينه ... وجدي المكتّم والشجون شجوني
ما جامدات الدمع كالجاري ولا ... حال الطليق كحالة المسجون
ثم كتبتها على حائط ذلك الموضع.
قال: ورأيت كثيرا من المتقدّمين يحكون عن دعبل الخزاعي أنه كان يقول: أين من قولي أنا: [مجزوء الكامل]
لا تعجبي يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى «1»
وليس هو بأجود من غيره على أنه أخذه من قول الحسين بن مطير الأسدي:
تضحك الأرض من بكاء السّماء «2»
ولي في هذه المعنى: [البسيط]
أما ترى الروض قد حيّاك مبتسما ... لمّا استهلّت عليه أعين السّحب
وغنّت الورق في أعلى الغصون ضحى ... حتى تمايلن أعطافا من الطرب
ولي في الورد: [البسيط]
روض أنيق يروض العين منظره ... أتاك في خير وقت غير منعوت
كأنما الطلّ في أوراقه سحرا ... لآلئ نثرت في صحن ياقوت
ولي في الشقائق: [البسيط]
هذا الشقائق قد أبدت محاسنه ... إلى العيون عيونا كلّها دعج «3»
كأنّه فوق ساق من زمرّدة ... مداهن من عقيق حشوها سبج «4»(7/176)
ولي في الثلج: [المنسرح]
أما ترى اليوم قد غدا ثملا ... من مستهل الغمام مخمورا
والجوّ في حلّة ممسّكة ... ينثر فوق الرياض كافورا
ومن قصيدة: [البسيط]
رقّ النسيم وراق الماء والراح ... وافترّ من حلل النوّار إصباح
هذا الربيع ينادينا علانية ... هبّوا فقد هبّ للأرواح أرواح
أما ترى الروض مهتز الغصون كما ... يهتز من ذكر الأحباب مرتاح
فللغمائم في إقطاره زجل ... وللحمائم في أعلاه إفصاح
فاتبع ضلال الهوى فالرشد مرتبع ... لا ظلّ فيه ولا روح ولا راح
واشرب مشعشعة كالشمس مشرقها ... على الندامى أباريق وأقداح
من كفّ معتدل لا عدل فيه ولا ... لطالب النّجح من أحيته إنجاح
لي من عذار به ريح ومن فمه ... خمر ومن خدّه ورد وتفاح
هذا النعيم فعاد اليوم فيه فتى ... له على القصف إصرار وإلحاح
واعمد إلى من بجاتيل «1» فإن به ... محاسنا لسرور النفس مفتاح
كم فيه من أشعث باد سجومته ... تهفو لرتبته تلك الأكيراح «2»
ولي في هذا الدير، والله يتجاوز عمّا عثر به اللسان، وأسأله الصفح: [الكامل]
يا من بجاتيل وإن بعد المدى ... سقّيت صوب سحائب وبوارق
يا حبّذا نوّار روضك إذ غدا ... يفترّ من دمع الغمام الدافق
معنى خلعت به العذار تصابيا ... في غنج أحداق وزهر حدائق
أيام أجري في ميادين الصّبا ... متخايلا جري الجموح السابق
أجتاب ثوب ظلالها فكأنني ... ما بينها طيف الخيال الطارق(7/177)
ألهو بنشوان القوام بوجهه ... شغل الخلي ونزهة للوامق «1»
ما زلت أسقيه ويسقيني إلى ... أن شيّب الظلماء وخط السّارق
كأسا إذا الساقي اجتلاها في الدّجى ... جعلت على خدّيه ثوب شقائق
طورا أنا شده النسيب وتارة ... يشدو فيطربني بلحن مخارق
حتى رأيت السّكر يخفض صوته ... وبدا النّعاس يحل عقد عقائق
فلثمته عند الكرى فإذا به ... سلس القياد مطيّة للفاسق
فجرت هنالك في مطاوي سرّها ... مرضاة إبليس وسخط الخالق
قال ابن المستوفي: ونقلت من مجموعه المذكور بخطّه ولمعلّقه: [الكامل]
يا من يدكّ على كريم في الورى ... حتى أملّكه كرائم مالي
هذا الزمان إذا تيمّم «2» آمل ... أحدا يعود مخيّب الآمال
ومنه قال معلقه: كان لي في عنفوان الشبيبة وزمن اللهو صديق كنت آنس به ويأنس بي، ويطلعني على الخاص من سرّه. وكان من أولاد الكتّاب، فهوي صبيا من أولاد الجند.
فكنت إذا ذكرته عنده يضرب عن ذكره صفحا، ويقول متمثلا: [الطويل]
ودع عنك نهبا صيح في حجراته ... ولكن حديثا ما حديث الرواحل
وان قلت له ها هو قد أقبل انظر إليه، يلوي وجهه عني. ومع هذا كله فكان به كلفا، وكنت أعلم ذلك منه. فقلت له يوما وقد خرجنا إلى بعض الرياض للخلوة: ما أبرد حبّك لمن لا يعلم به، ولا تعمل الحيلة في الوصول إليه، والجلوس معه؛ حتى إنك تضرب عن ذكره، وتكفّ نظرك عنه إذا قيل لك: قد أقبل.
فقال لي: يا هذا، إنّ غرامي به لأحرّ من لظى على ساكنها، ولكن أخاف الفضيحة. وإن يفطن به الناس، أو أني أنظر إليه فيستحي مني. فإن نظر إليّ قتلني لا محالة. فأريد أن(7/178)
تعمل في هذا المعنى شيئا. ثم قال: أزيدك شيئا إنني لأضرب عن الفكر؛ لتوهمي ربّما خطر ذلك بباله فيخجل منه.
فقلت له: يا سيدي، وإلى هذه الغاية؟ فقال: نعم. فعملت هذه الأبيات: [البسيط]
إني لأنساه خوفا أن يلمّ به ... فكري فيخرج منّي الفكر خدّيه
وأمنع الطرف يوما أن يلاحظه ... فإنّ سهم المنايا بين عينيه
هذا اعتذاري لخدّيه ومقلته ... فما يكون اعتذاري من عذاريه
قال معلّقه: كتبت إلى بعض إخواني في يوم دجن، وكان قد وقع فيه الميلاد، واتّفق أنه يوم سبت، ولم أقدر على الخروج من منزلي من كثرة الوحول والمطر، وشدّة القرّ. حبانا الله بلقيائك، وأحيانا ببقائك يوم طلعت سعوده وغاب حسوده، وتبرقعت بدجنّه شمسه، وانهزم من طلائع إقباله نحسه، ورقّت حواشيه، أمنّا رقى واشيه. لم يقترح مثله على الدهر مقترح، ولا ظفر بشكله مغتبق «1» ، ولا مصطبح. [البسيط]
سبت ودجن وكانون وميلاد ... وماجن لرياض اللهو مرتاد
وقهوة من محيّا من كلفت به ... أو كاعتقاد خليع فيه إلحاد
رقّت وراقت فخلنا أنها شفق ... ملألئ في نواحي الكأس وقّاد
تذكو فيطفئها بالمزج آونة ... عنّا ويجمح أحيانا وتنقاد
يسقيكها ذو دلال في لواحظه ... برء وسقم وموعود وإبعاد
ومجلس ظل محفوفا بأربعة ... تآلفت وهي في الأوصاف أضداد
فالبرق مبتسم والغيث منسجم ... والورق نائحة والغصن ميّاد
فوافيا دار تشويق يحط به ... موسوس همّه نسك وإرشاد
فليس يحظى بصفو العيش غير فتى ... يفنى بطالبه غيّ وإفساد
ولا يصاحبك من هذا الورى أحد ... إلا خليع وخمّار وقوّاد
عصابة رغبت فيما تعجّل من ... هذي الحياة وفيما قيل زهّاد(7/179)
وقال معلّقه: [الطويل]
سلوتك إن حدثّت نفسي بسلوة ... لحبّك مذ حدّثت أني هائم
وأصغيت نحو اللؤم إن كان مسمعي ... تغلغل فيه ما تقول اللوائم
أتيتك وجدا إن تلجلج منطقي ... به أفصحت عنه الدموع السواجم
فإن هيج ذا الشوق الحمائم في الضحى ... فمنّي استعارت شجوهنّ الحمائم
وفي آخره عند خاتمته هذه نفسه مصدور، وضجره مأسور، علقتها ولم أعد فيها نظري، ولا عددتها من مهام وطري؛ لأنني مثمود القريحة، دامي الجريحة، مأسور الخاطر والبدن، مشغول بصروف الزمن، وعلى الله، وهو المستعان.
وقد أورد ابن المستوفي من شعره قوله يمدح السلطان صلاح الدين رحمه الله: [الطويل]
سلام مشوق قد براه التشوّق ... على الحي من وادي الغضا إذ تفرّقوا
أأحبابنا كيف التداني وركبكم ... غدا مشئما حقا وركني معرق
فلمّا بلغ من مديحها قوله:
وقالت لي الآمال إن كنت لا حقا ... بأبناء أيّوب فأنت الموفّق
قال له السلطان رحمه الله: لقد وفّقت، وأجازه جائزة سنيّة. فكان هذا ممّا نقمه عليه أتابك، وأثّر في حاله عنده.
وقال ابن المستوفي: أنشدني ابن بكاجك، قال: أنشدني ابن الشحنة لنفسه، وأتمّها على أبيات الصوري التي أوّلها: [السريع]
يا جار إنّ الركب قد جاروا ... فاذهب تحسّس لمن النار
تبدو وتخبو إن بدت عرّسوا «1» ... وإن أضاءت لهم ساروا
كأنها برق بذات الغضا ... تبدو ودون البرق أستار(7/180)
عمرك إن آنست من أهلها ... فالمم بنا نحوك يا جار
لعلّها النار التي أضرمت ... في كبدي من أجلها النار
يطربني الشوق إليها جوى ... بطرب نحو النّوى ظار
ويطّبيني لادّكار الحمى ... شيئان أوطان وأوطار
قال: وأنشدني بعض المواصلة لابن الشحنة: [الكامل]
صلى الإله على أمية إنه ... بصلاتهم تتمحّض الآثام
قوم هم القوم الألى أيامهم ... عن ثغرها تتبسّم الأيام
لا مثل أقوام غدوا من هاشم ... ما سلّ فيهم للفخار حسام
أما النهار فسامدون «1» ودأبهم ... تحت الدياجي الفسق والأزلام
الفضل نزر والمثالب جمة ... والذمّ حلّ والثناء حرام
إن كان قائمهم يضاهيهم فلا ... نشرت له بين الورى أعلام
قال ابن المستوفي: وزاد فيها من أنشدني:
لا تفخروا بموالد فببعض ما ... تاقوا به تتقطع الأرحام
قال ابن المستوفي: أخبرت أنه توفي بالحبس في قلعة الجديدة سنة ست وستّ مئة.
ومنهم:
43- أبو زكريا يحيى بن سعيد بن المبارك «13»
ابن علي بن عبد الله، من ولد أبي اليسر كعب بن عمرو الأنصاري. همّه بقية الأولى، ورمية العلا. معدود في أبناء الصحابة، وممدود له في الإصابة.
قلّ قرينا، وقرّ؛ إذ كان بيته عرينا. لم يستطع دفاع سيله، ولا رفع شراع ليله.(7/181)
رمت به أرومته «1» على السما، وسقت جرثومته «2» طيب الما. ولم يحل معه قداحا، ولا عنت سواه امتداحا. وساق ابن المستوفي نسبه، وقال: يخرج على أبي الحرم. وكان نحويا جيدا فيه ذكاء. ورد إربل ثم عاد إلى الموصل. بشّر به أبوه وقد أسنّ. فقال: [مجزوء الرمل]
قيل لي جاءك نسل ... ولد شهم وسيم
قلت عزّوه بفقدي ... ولد الشيخ يتيم
ثم توفي أبوه وهو صغير، فلمّا كبر انقطع إلى أبي الحرم، فأخذ عنه النحو، وصرف إليه عنايته مراعاة لحقّ والده.
وأنشد ابن المستوفي أشعارا منها، قوله: [البسيط]
ما البدر حسنا يضاهي من خلقت «3» به ... ولا القضيب اعتدالا حين يعتدل
كم يعذلون «4» عليه لا أبا لهم ... وكم يلومون لا لاموا ولا عذلوا
قال: وبلغتني وفاته في ربيع الآخر سنة ست عشرة وستمئة.
ومنهم:
44- أبو البقاء، يعيش بن علي بن يعيش «13»
ابن أبي السرايا الموصلي الأصل، الحلبي المولد والمنشأ، موفق الدين المعروف بابن الصانع.
رجل يورد منه النيل والفرات ودجلة والصرات، ويقابل منه الأسد الضرغام، والذهب إلا أنه(7/182)
الذي لا يسكن الرغام «1» . هذا وغصنه في ورق شبابه، وطيبه يعبق في جلبابه. وازداد حين نوّر أقاحه، ودرّ درّه ولفاحه. واشتعل رأسه بالمشيب وراع العيون لباسه القشيب. وساوى النجوم ولم يبلغ حدّ الارتقاء. ومات وهو يذكر، أبو البقا.
قال ابن خلكان: قرأ على أبي السخاء الحلبي والنيروزي، وسمع الحديث على أبي الفضل الخطيب الطوسي، وابن سويدة التكريتي والثقفي والطرسوسي، وخالد ابن القلسواني وأبي اليمن الكندي وغيرهم. وحدّث بحلب. وكان ماهرا في النحو والتصريف.
رحل إلى بغداد؛ ليدرك أيام [أبي] البركات ابن الأنباري بالعراق، فأتاه في الموصل خبر وفاته. فأقام بالموصل مديدة، ثم عاد إلى حلب وتصدّر للإقراء. وكان حسن التفهيم لطيف الكلام طويل الروح على المبتدئ والمنتهي، خفيف الروح ظريف الشمائل، كثير المجون مع سكينة ووقار.
حكى ابن خلكان، قال: حضرت يوما حلقته وبعض الفقهاء يقرأ عليه اللّمع لابن جني، فقرأ بيت ذي الرمّة في باب النداء: [الطويل]
أيا ظبية الوعساء «2» بين جلاخل ... وبين النقا آأنت أم أمّ سالم «3»
فشرع الشيخ يبينه، ويقول: إن هذا الشاعر لعظم وجده بهذه المحبوبة وكثرة مشابهتها للغزال شبها غلبه الحال، هل هي امرأة أم ظبية؟
وبقي يعيد هذا القول ويكرّره؛ ليفهمه الفقيه، وهو منصب، فقبل على كلام الشيخ بكليته؛ حتى توهّم الحاضرون أنه قد فهم. فلما فرغ الشيخ قال له ذلك الفقيه: يا مولانا، أيش في المرأة الحسناء يشبه الظبية؟ فقال الشيخ: قرونها وذنبها. فضحك الحاضرون وخجل الفقيه، ثم ما عدت رأيته حضر مجلسه.(7/183)
ولد لثلاث خلون من رمضان سنة ثلاث وخمسين وخمسمئة بحلب، وتوفي بها في الخامس والعشرين من جمادى الأولى سنة ثلاث وأربعين وستمئة. ودفن بتربته بالمقام «1» .
ومنهم:
45- أبو عمرو عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس الدّولي «2»
ثم المصري، الفقيه المالكي المعروف بابن الحاجب «13» ، جمال الدين. فاضل أحسن في كل فنونه، وأحسب من داء الدهر وجنونه. شدّ جلابيبه للطلب واتّزر وقدّر، ولا عجب إن مدّ البحر وجزر، ولم يزل في جدّ يتزيّد، يزيد الأهلّة، ويتعهّد تعهّد السحب المستهلّة؛ إلى أن فّوض الدجى وأعجب، ورمّض الثرى فأعسب «3» ، فذلّل أعناق الكلام، وفتّق أخبية الكمام. وكان قديرا على الاختصار، مدبّرا للعلم على ما يريد من الاختيار فكلف بتصانيفه حذّاق المتكلمين، وجاء وفاق المتعلمين.
قال ابن خلكان: كان والده حاجبا للأمير عزّ الدين موسك الصلاحي، وكان كرديا، واشتغل ولده بالقاهره في صغره بالقرآن الكريم، ثم بالفقه على مذهب مالك، ثم بالعربية(7/184)
والقرآن وبرع في علومه وأتقنها غاية الإتقان، ثم انتقل إلى دمشق ودرس بجامعها في زاوية المالكية. وأكبّ الخلق على الاشتغال [عليه] «1» والتزم لهم الدروس، وتبحّر في الفنون.
وكان الأغلب عليه علم العربية. وصنّف مختصرا في مذهبه، ومقدّمة وجيزة في النحو، وأخرى مثلها في التصريف، وشرح المقدمتين، وصنّف في أصول الفقه وكلّ تصانيفه في نهاية الحسن والإفادة. وخالف النحاة في مواضع، وأورد عليهم إشكالات وإلزامات تبعّد الإجابة عنها، وكان من أحسن خلق الله ذهنا. ثم عاد إلى القاهرة وأقام بها، والناس ملازموه للاشتغال عليه. وانتقل في آخر عمره إلى الإسكندرية للألفة بها، فلم تطل هناك. وتوفي بها يوم الخميس، سادس عشر شوّال سنة ست وأربعين وستمئة «2» . ومولده بأسنا في أواخر سنة سبعين وخمسمئه.
ومن شعره قوله: [البسيط]
إن عبتم صورة عن ناظريّ فما ... زلتم حضورا على التحقيق في خلدي
مثل الحقائق في الأذهان حاضرة ... وان يرد صورة من خارج يجد
وقوله في المعنى: [الخفيف]
إن تغيبوا عن العيون فأنتم ... في قلوب حضوركم مستمرّ
مثل ما قامت الحقائق في الذ ... هن وفي خارج لها مستقرّ(7/185)
ومنهم:
46- ابن عدلان «13»
ابن حماد بن علي الموصلي عفيف الدين. شدّ للطلب فما تراخى، وامتدّ في أنفاق عمر وتساخى «1» . فحمد عار إنفاقه، وكسد كلّ سوق بنفاقه فأنس الحلم بعد نفاره، وارتوى من العلم حتى خرج من أظفاره. ولم يزل لتلك الأفاويق «2» مرتضعا، ولتلك التفاريق مجمعا.
لا يدع فيها موضعا؛ حتى رأس وساد، وثني له الوساد. فأمات حسادا، وبات وما أبقى فسادا.
قال ابن المستوفي: ورد إربل غير مرّة، وآخر ما وردها في شهر ربيع الآخر سنة أربع عشرة وستمئة من بغداد. وكان رحل إليها للاشتغال على أبي البقاء عبد الله بن الحسين وغيره، فأخذ عنه النحو. وكان قبل، فيما أظنّ قرأ على أبي حفص عمر بن رافع الضرير. وكان بينه وبين أبي عبد الله محمد بن أبي الوفاء القيبظي العمري منافرة. وأورد له شعرا ليس بطائل.
وأنشد عنه لرجل من أهل الحلّة: [الكامل]
وكأن نمنمة العذار «3» بخدّه ... خطّ من الظلماء فوق صباح
وكأن نملا قيّدت خطواته ... في عارضيه فدبّ في الأرواح
قال: ووجدت هذين البيتين في كتاب الخريدة، في ترجمة أبي الجوائز مقدار بن بختيار المطاميري «4» . ومن شعره فيه:(7/186)
وكأن خيط عذاره لمّا بدا ... خيط من الظلماء فوق صباح
قال: وأنشدنا لعلي بن محمد بن حسباني الكوفي، وكان عنده مع جماعة من الشعراء يداعبه: [البسيط]
داعبت وهنا فتى عدلان معتمدا ... إيقاد سمعته لما دجا الغسق
فاصفرّ ثم انثنى بالغيظ مشتغلا ... وأقبل الدمع من عينيه يستبق
فخلته شمعة أخرى وأقسم لو ... لم أطفها كنت بالأنفاس أحترق
فقال ابن بطريق:
موفق الدين يا من في فكاهته ... وفيه يحلو لعين الساهر الأرق
إنّ ابن عدلان في إيقاد شمعته ... ما شأنه الغيظ من نحل ولا الحنق
لكن رأى الليل أولى أن يقضّيه ... في نيّرات معان منك تأتلق
لا شيء أحسن منها إذ بدت شغلا ... شيء ينظم فيها لؤلؤ نسق
قال: ومرّ الكوفي برأس عين بعد مدة طويلة، فأنشد لنفسه في المعنى: [الطويل]
متى ما يصف ربع ابن عدلان متصل ... بأبيض مطروق العشيات مفضل
دعاني ملحّا فاستحيت ومن يكن ... أخا سعة في النّفس يدع ويفضل
فإذ كنت من سود النواحل سمعة ... إلى الدهر أبقى من شماريخ يذبل
توارثها آباؤه عن جدوده ... وكانت قديما عندهم للتجّمل
أضاءت لنا وهنا فأظلم وجهه ... وقال أتذكى شمعة عند مشعل
وذكره اليونيني في الذيل، وقال: كان عالما فاضلا أديبا مفنّنا شاعرا، ومولده بالموصل في الخامس والعشرين من جمادى الأولى، وتوفي تاسع شوال سنة ست وستين وستمئة.
«1»(7/187)
ومنهم:
47- أبو بكر ابن محمد بن إبراهيم عزّ الدين الإربلي النحوي
رجل سلك كلّ سويّ، وملك كلّ رويّ. ولّف بيوت الشعر فصارت مدنا، ومدّت سجفها «1» على بيوت الشعر ردنا. وأتمّ مقاصد القصائد، وكثّر قلائل القلائد. جاء بالأسنى، وحاز كالطيف إلى المقلة الوسنى، وهاجر من بلده حين اشتدّ بها عظائم البلاء، وسلّت يد الآلاء ونجا بنفسه؛ خوفا أن يغشاه اللّيل، وتخشاه في أحشائه اللّيل، فسلم من لفحتها وفرّ وقد أفرجت له السيوف عن صفحتها. ففرّ إلى دمشق وقرّبها. فلم يشق. ذكره ابن اليونيني «2» ، وقال: كان ديّنا خيرّا صالحا حسن العقيدة، كثير الذكر والتلاوة عارفا بالنحو والعربية. عنده فضائل تامة بحلّ المترجم، وله اقتدار على نظم الشعر. وتوفي بدمشق في ثالث عشر ذي القعدة سنة تسع وستين وستمئة.
وممّا أنشد له من شعره قوله: [الطويل]
وما زال يرميني بكل بليّة ... ويتحفني من هجره بالعظائم
إلى أن رماه الله بالحبّ بغتة ... وأصغر ممشاه إلى غير راحم
وقفت له كالمشتفي في طريقه ... وأنشدته بيتا كضرب الصوارم
بليت بما قد كنت تبلى بمثله ... ولا ظالم إلا سيبلى بظالم
وقوله: [الوافر]
رفضت هواهم وسلوت عنهم ... بلا جزع كذا فعل الكرام(7/188)
وها أنا قد هجرت النوم كيلا ... أرى منهم خيالا في المنام
وقوله: [الكامل]
ومورّد الوجنات معسول اللّمى ... يزهو كغصن التائه الميّاس
لما رأى ورد الملاحة يجتنى ... باللحظ سيّج خدّه بالآس
عجبا له حمل الثياب وجسمه ... كالماء كيف يضم قلبا قاسي
[وقوله] «1» : [الطويل]
يريك سواد العين في صحن خدّه ... فيحسبه خالا وليس بخال
وأعجب من ذا أنّ من رقّة به ... يؤثر فيه اللحظ كيف خيالي
ومنهم:
48- ابن مالك «13»
وهو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجيّاني النحوي جمال الدين.
مقيم أود «2» ، وقاطع لدد «3» ، ومزين سماء. موّهت الأصيل ديباجتها، وشعشعت البكر زجاجتها. وجاءت أيامه صافية من الكدر، ولياليه وما فيها شابية من الكبر. قد حلقها العشاء بردعه، وخلقها الصباح بريعه. فطالت النهار غررا، وأمدّت الأنهار غدرا. فكأن كل مستعين حول مسجده، وكل عين فاخرة بعسجده. هذا وزمر الطلاب وطلبة الأجلاب لا(7/189)
تزال تزجي إليه القلاص، ويكثر من سربه الاقتناص وكلها تفنن عيونا، وتحسن أبكارا وعونا.
قال أبو الفتح ابن اليونيني: كان أوحد عصره في علم النحو واللغة العربية مع كثرة الديانة والصلاح والتعبّد والاجتهاد. وسمع وحدّث. وكان مشهورا بسعة العلم والإتقان والفضل، موثوقا بنقله، حجّة في ذلك. وله عدّة تصانيف حسنة مفيدة، وإليه انتهى علم العربية. ولم يكن في زمنه من يجري مجراه، وفي غزارة علمه ووفور عمله. وكانت وفاته بدمشق في ثاني عشر شعبان سنة اثنتين وسبعين وستمئة. ودفن بسفح قاسيون، وهو في عمر الثمانين.
ورثاره ابن الظهير بقصيدة منها: [الخفيف]
أدرى الخطب من أصابت سهامه ... واستخفّ الحلوم حزنا حمامه
أم درى زائر المنيّة إذا قدّ ... م ماذا أذاقنا إقدامه
بالإمام ابن مالك فجع الدي ... ن فغشّى ضوء النهار ظلامه
بإمام أفنى اللّيالي والأيا ... م في البرّ والكتاب أمامه
خلّدت ذكره الجميل علوم ... خلّدتها من بعده أقلامه
كم سقيم من الكلام شفاه ... بعد ما أيأس الأساة سقامه
ومفهّم من الدقائق ما أم ... كن منها الفهوم إلا اهتمامه
خلّف الفاضل الفريد أبا بش ... روآنست أيّامه أيّامه
لو حواه ومن تقدّم عصر ... لأقرّت بفضله أعلامه
من لأهل الآداب من بعده ها ... د إلى منهج الصواب كلامه
فقروا راغمين منه أبا برّ ... اعطوفا فكلّهم أيتامه
أولع النقص بالكمال فما ... أوجب هذا السرار إلا تمامه(7/190)
ومنهم:
49- شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي الفتح ابن الفضل البعلي «13»
الحنبلي. متدارك للدما، سالك سبيل القدما. نهج إليهم سبيلا، واتّخذ لديهم قبيلا، ولم يرض من غيرهم قيلا، ولا في أكناف سواهم مقيلا. فما ترك من منهج، ولا أدرك إلا من أبهج. قيل إنّه طالما بادر السهر والنهار ما ارتحل، والليل طرفه بالظلماء أول ما اكتحل. وقام ليلته وشهبها قعود وفجرها لا ينتظر منه غير وعود. وكان على مثل هذا غمر نهاره الذاهب، وطول يومه إلى أن يلبس حلّة الراهب. عائما في نهره الطافح، ومحلقا تحت جانحه الطائح، إلى أن تقدّم إماما، وحاز الفضائل تماما. وحدث ابن أبي الفتح، قال: حدثني صاحبنا الفقيه أبو عبد الله محمد بن عبد المولى بن خولان الحنبلي، قال: لمّا كنت ببعلبك، كنت بمقبرة باب سطيحة من مقابر بعلبك في جماعة من الناس، منهم رجل صالح اسمه إسماعيل بن يعقوب الإسكافي، فقرأ القرّاء سورة تبارك، وإسماعيل المذكور تجاهي واقف، ولم يكن به مرض، بل كان سويّا. فلمّا سمع القراءة تغيّر وجهه، إلى أن وصلوا إلى قوله تعالى: «إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ «1» »
، رفع يديه كالمصلّي، وخرّ على وجهه وأنا أنظر إليه، فابتدره رجل فرفعه، فإذا هو ميّت، ثم كان بعد سبت خرجت إلى المقبرة القبلية في جنازة، فلما وضع الميّت في القبر شرع القرّاء في سورة تبارك، وكان القمر ابن عزائم واقفا تجاهي، فلمّا سمع القرّاء تغيّر لونه، فلما وصلوا إلى الآية المذكورة سقط على جنبه الأيمن، ولم يكن به مرض فابتدره رجل فرفعه مسرعا فإذا هو ميّت.
قال: فهاذان رجلان قتلتهما آية واحدة من كتاب الله. وأنا أنظر لمن يخبرني بذلك مخبر.(7/191)
ومنهم:
50- أحمد بن سباع بن ضياء الفزاري «13»
الشافعي الخطيب، شرف الدين أبو العباس. رجل وجد له إلى الخير ابتعاثا، وجدّ حتى علق الثريا رعاثا «1» . أعرف في فزارة، وأعتق إلى العلم قراره. وسكت فطنا، وسكن العلياء وطنا. ورقي المنابر فكان المنى بروائه، والريّ بأنوائه. فنوّر البصائر، وصوّر ما إليه المرء صائر.
هذا كله مع تجنّب التعقيد، وتسلية الفقيد، والتبصير بالدنيا وغرورها، والتذكير بما ردّ العقول إناثا من عدم سرورها. ولم يزل على هذا حتى صار مثلا من أمثالها العوابر.
وواحدا من سفارها إلى أن حضر المقابر فلا تسمع إلا همسا، ولا تطلع لهم إلى يوم القيامة شمسا.
كان من أكابر العلماء الفضلاء، بصيرا بالفقه، فردا في النحو والعربية ومعرفة اللغة، ضابطا محرّرا خطيبا فصيحا، لسنا كيّسا ظريفا، دمث الأخلاق ممهّد الأكناف. ليس بالجافي اللفظ، ولا بالشحيح، لكن إلى دين متين، وورع زائد، يحب الناس ويحبّونه، ويليهم ويلونه. من أخذ عنه أخذ، ومن أخذ عن غيره أتاه عند الانتهاء ليأخذ عنه، وإن كان في غنى بما حصل؛ تشرفا بالأخذ عنه والانتساب إليه. وكان على رأي أخي العلامة تاج الدين يحضر السماع، ويخرج إلى البساتين والمتنزّهات، ويتمشّى تحت قلعة دمشق، ويقف على الخلق بها.
وربّما قعد كيّسا وتطرّفا من غير كبر يرفعه ولا تبذّل يضعه، ومن كان فوق محلّ النجم موضعه. وكان يحب الوجوه الصباح، ويميل إلى الكلف بالملاح، مع عفاف يشهد به، ويتقرّى الليل عن صاحبه. وكانت تجري بينه وبين أخيه تاج الدين نوادر ما تراشق بمثلها(7/192)
الظرفا، ولا نودم بشبيهها الخلفا.
وحكى لي شيخنا ابن قاضي شهبه، رحمه الله: أنه كان معه مرة في بستان دعي إليه، فأقاموا به يومهم. فلما جاء وقت العشاء قدّمت إليهم أنواع من الأطعمة، منها لبنيّة، فلمّا أكلوا قال رجل هناك لأصحاب البستان: هذه اللبنية مليحة، بيّتوها لنا عندكم إلى غد.
فقال الشيخ شرف الدين:
لا والله لا كيد ولا كرامة بغد، إنها مليحة ما يبيتها إلا أنا ولا تبات إلا عندي.
وحكى لي المحبّر أبو القسم ابن مبشّر الحولاني، قال: لمّا شغرت وظيفة الخطابة بدمشق تطلّع كلّ متعيّن إليها. فقال والدك: مالها إلا الفزاري وعيّنه. فلمّا وصل التوقيع الشريف له بعثني به إليه، وهو لا يعلم، ففرح ثم قال: قل له يا سيدي قد وصلت الوريقة وبقيت الخريقة، يعني الخلعة. فأتيت والدك وبلّغته ما قال فضحك، ثم أمر بالخلعة فعينّت له وجهّزت إليه.
وحكى عنه اليونيني قال: حججت سنة خمس وسبعين وستمئة، فاجتمع في تلك السنة في الحج جماعة من علماء الأقطار: ابن العجيل من اليمن، وابن دقيق العيد من مصر، وأخي تاج الدين الفركاح من الشام في ناس آخرين، فاجتمعوا في الحرم، وكان عبد السلام بن غانم الواعظ قد حجّ من مصر، فجلس تجاه الكعبة المعظمة وحضر أمير مكّة، وأمر عبد السلام بأن يتكلّم، فقال: الحمد لله ذي القدرة التي لا تضاهى، والحكمة التي لا تتناهى، والقسمة التي لا يطيق خلق يتعدّاها. ثم ذكر خطبته، ومنها في ذكر الكعبة المعظمة. فسبحان من شرّف هذه البنيّة واصطفاها، وجعلها حمى لمن حول حماها، وحرما آمنا لمن وفّى عليه لما وافاها، ووجهة لمن واجهها اتجاها، وأراد عندها جاها فهي التي هاجر منها الحبيب وما هجرها ولا قلاها، وما انقلب قلبه إلى قبلة سواها حتى أنزل عليه جبريل في آيات تلاها: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها «1» .(7/193)
قوله: [الوافر]
فولّ بوجهك الحسن المفدّى ... إليها حيث وجّهت اتجاها
فإن أباك إبراهيم قدما ... لأجل رضاك عنّا قد بناها
وإسماعيل طاف بها ولبّى ... وطهّرها لمشتاق أتاها
هي البلد الأمين وأنت حلّ ... فطاها «1» يا أمين فأنت طه
فهلّل عند مشهده عيانا ... وزمزم «2» عند زمزمه شفاها
فيا حجّاج بيت الله طوفوا ... بكعبتها ولبّوا في ذراها
فهذا الفخر إن حاولت فخرا ... وهذا الجاه إن حاولت جاها
ومنهم:
51- كمال الدين عبد الوهاب بن محمد ابن ذؤيب الشهبي الشافعي
أبو محمد المشهور بابن قاضي شهبة «13» . حافظ بقية أحيا مواتها وحيي أمواتها. جهد دهره، وجهل من حسب يومه أو شهره. وجدّ لا يثنيه نهار يتوقد سعيره، ولا ليل يملّ منه سميره. وكان سواء عليه أقبل الصيف بقيظه، والحرّ يتحرق صدره بغيظه، وقد انتصبت حرباؤه وانتصفت من الليل حوباؤه «3» ، أوجاء الشتاء يمدّ مضارب غيومه ويقرر ضرائب عمومه. ويرشق نبال وبله، ويربط خيط سحابه الناس في حبله؛ بل لا يزال على حالة واحدة في الحالتين وعدم استحاله في بلواهما الحالتين.(7/194)
أخذ الفقه عن الشيخ تاج الدين، والنحو عن أخيه شرف الدين وغيره، وبرع فيهما، واقتصر من بقية العلوم عليهما. وعرف بالنحو حتى صار دليلا يرشد إليه، وعلما دالا عليه.
كان يجلس بمسجد الجامع الأموي للاشتغال ويقرئ الفقه والنحو. وكانت الرغبة في أخذ النحو عنه أكثر، وكان به أشهر وكان على سعة فضله وكثرة فقهه لا يفتي؛ تورعا. وإذا أتاه مستفت يقول له: رح إلى فلان. وأكثر ما يدل على ولد شيخه، الشيخ برهان الدين. وكان معظما في الصدور. أراده قاضي القضاة ابن صيصري على أن ينوب عنه فامتنع، ثم طلبه شيخنا قاضي القضاة القزويني الخطيب لذلك فأبى. وكان عنده وسواس، لا يمسّ كتابا بيده ولا ورقة ولا غير ذلك. فإذا أراد إمساك شيء أمسكه بمنديل، أو بطرف ثوبه، ثم يغسله بعد ذلك في الغالب. وكان رجلا ليّن الجانب حسن الخلق.
تحدث عن مشيخة الفزاريين، بما كان يجري بينهما من المحاورات الظريفة والمراجعات اللطيفة إلى غير ذلك ممّا هو مشهور عمّا كان يكون بينهما.
وأول ما قرأت النحو عليه في عنفوان العمر وأوان البداه. وكان يجيد التفهيم، ويقرّب طرق التعليم؛ ولهذا كانت الرغبة إليه مصروفة، والطلبة عليه موقوفة.
حكى لي من غريب الاتفاق: أنه لما كانت نوبة مرج الصفر، وبقي الناس بين قائل: إنّ السلطان خرج للقاء العدوّ، وقائل إنه ما خرج، قال: فبينما الناس في ذلك، وأنا في مكاني بالجامع، وإلى جانبي النبيه أخذ رفقتنا في الاشتغال؛ إذ أتاني رجل يريد القراءة عليّ، فشرعت اعتذر إليه بشغل الخاطر بما الناس فيه، ويأبى إلا أن يقرأ، فلمّا رأى النبيه الحاجة عزم على أن أقرئه، فقلت له: في أي شيء تريد أن تقرأ؟ قال: في كتاب الجمل للجرجاني وأخرج نسخته، فأخذها النبيه، وقال: نأخذ منها فألا للناس، فقلت له: وأي شيء يكون في هذا الكتاب؟ فقالك لا بدّ من أخذ فأل منه، ثم فتح الكتاب فإذا في أول الصفحة ما صورته، جاء زيد، وطاب الخبر، وذهب القوم. فاستبشرنا وقلنا: الله أكبر، جاء السلطان، وطاب خبر الناس، وذهب العدو وكان كذلك.(7/195)
وحكى لي أن أباه القاضي شرف الدين كان كثيرا ما يقول: يا ليت شعري ما في الأموات عاقل يرجع إلينا ويخبرنا بما جرى لهم. فلما مات جلسنا يوما على قبره، فذكرنا ما كان يقول، فقال رجل من أصحابه كان حاضرا عندنا:
يا قاضي شرف الدين، أنت رجل عاقل وقد صرت من الأموات، فهلا رجعت وخبّرتنا بما جرى لكم؟ وإذا برجلين مارّين على خيل لم يسمعوا كلامنا ولا يعرفهم منّا أحد، وإذا أحدهما يقول للآخر: تريد الصحيح، سلّم إلى الأنبياء تستريح. فقال: هذا والله الجواب، وهذا أيضا من عجائب الاتفاق، وهو من أول شيوخي الذين عليهم قرأت، ومنهم استمرأت، قرأت عليه النحو. ثم كان جلّ استفادتي على قاضي القضاة ابن مسلم رحمهما الله تعالى.
ومنهم:
52- الضياء العجمي
ذو جدّ. عدم الانبساط وعدل على الأقساط، فعكف عليه وعرف ما لديه. ترقّت أسارير مزنته، وصدقت تباشير منّته. فأعاد العلم إلى أحسن حاله، وجاد يخضّب أمحاله. وكان يأبى على الاستعجال بما يعجز على طول المجال؛ فلا يجسر أحد على بحره، ولا يسعه إلى الاستسلام لسحره؛ ولهذا كانت الطلبة تبتدر فوائده بدار الطير إلى طلب أقواتها، وتؤدي إليه الفرائض في أوقاتها. فكان الطالب لا يزال مغترفا من نهره، ولا يغتر بغيره متاعا من دهره؛ إلا أنه عرض له هوى جذبه بأطواقه، وسلبه إلا من أشواقه، إلى بعض أبناء الأمراء بدمشق، فطار هواه بلبّه، وأذكى جواه بقلبه. وكان الصبّي يعرف بابن دمرداش. وكان يعيّر الغزال إذا التفت، ويغيّر الهلال محاسنه إذا اختفت. وكان على هذا الحسن ذا كيس ينتهب الأحشاء ويحدث الانتشاء فآل به حاله في عشقه وتملّكه له، حتى يئس من عتقه إلا أنه سلب عقله، وأهمل غفله، وسافر إلى مصر سفرا ساقه لحينه، وسباه بطول بينه. وكان قد تمّ(7/196)
مقتله بسيف السلطان لا بالعشق وتسويل الشيطان. كان فقيرا متصوفا بالخانقاه السميساطية. وكان يجلس للإقراء بالكلاشة، ويقرأ عليهم النحو واللغة. وكان أكثر إقرائه في مقدّمة ابن الحاجب، وكان يحبّها. ويثني عليها ويقول: هي نحو ظريف، واستفاد به جماعة. وكان دمث الاخلاق حسن العشرة عشاقا طامح النظرات. وأحبّ في آخر عمره صبيا من أبناء الجند يعرف بابن الدمرداش. وكان له أخ أحسن منه، وكان يخرج إلى سوق الخيل فيقف به ليراه إذا مرّ به في المركب، فقال له شيخنا ابن الزملكاني: يا شيخ ضياء الدين، لأيّ الآتيين أنت عاشق؟ فقال: لغلام، سمّاه.
فقال له ابن الزملكاني: يا شيخ ضياء الدين، فلأي شيء ما عشقت هذا، فاعشق أنت ذاك. فقال له: إذا أذنت لي عشقته. فقال له: أنت ما تحتاج إلى إذن. قال: ولم قال لآذانك طوال؟
وكان يأخذ في يده حزمة من الرياحين، ويطوف بها أكناف المدينة، فإذا رأى مليحا أدنى إليه تلك الرياحين فشمّمه إيّاها، فإذا عتب به أحد من الرجال، وذو اللّحى، وقال له شمّمني قلب الحزمة وضربه بالعروق على أنفه. وقال له رجل يوما بحضوري: أنت لا تزال في عشقة بعد عشقة، فابتدرت منشدا قول القائل: [البسيط]
الحب أولى بي في تصرّفه ... من أن يغادرني يوما بلا شجن
فصاح صيحة عظيمة، ثم قال: أحسنت. اطّلعت على قلبي، وقلت بلساني، ثمّ خرّ مغشيّا عليه.
وأتى يوما ديوان الإنشاء، ونحن به، وشيخنا شهاب الدين أبو الثناء محمود جالس، ونحن عنده، فلمّا رأى ما به من البلاء، وخروجه حيّز العقلاء أنشده: [الطويل]
يقولون لو دبّرت بالعقل حبّها ... ولا خير في حبّ يدبّر بالعقل
فصاح صيحة شديدة، وقال: يا مولانا حبّه جنّة، ولم يزل يقولها إلى أن غاب عن صوابه، وسقط إلى الأرض مغشيا عليه، وبقي عامة نهاره ملقى على تلك الحال، ثم زاد به(7/197)
الحال، فخرج سائحا كالهائم على وجهه؛ حتى أتى مصر وكان له عكّاز يتوكأ عليه، وكان فيه سيف على عادة الفقراء المتجولين، فرأى نصرانيا نازعه في بعض الأمر، فاخترط السيف وضربه به، فأنهي أمره إلى السلطان وحمل عليه كريم الدين لتعصبه للنصرانية. ولم يزل به، حتى أمر السلطان به فقتل، وكان قد أتى خبره الفقراء المتصوفة بمصر والقاهرة فجسروا وطلعوا إلى القلعة ليخاطبوا السلطان فيه، فما وصلوا، حتى قضي الأمر فأخذوه، وتولّوا غسله وتجهيزه، والصلاة عليه ودفنه.
ومنهم:
53- علي بن داود «13»
ابن يحيى بن كامل بن يحيى بن جبارة بن عبد الملك بن يحيى بن عبد الملك بن موسى بن جبارة بن محمد بن زكرياء بن كليب بن جميل بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي الحنفي، أبو الحسن نجم الدين الفجفاري. علامة علما، وعمامة سما، ولسان عرب وبيان أدب، وملقي دروس، ومبقي سحب عنبر على كافور طروس. وفارس منبر وغارس موعظة في قلب من برّ. عرض عليه منصب القضا فلم يقابله بالارتضا زهدا في منصبه وكرها أن يسرح في مجدبه أو مخصبه. هذا مع كيف ممهد للمحاضر، ولطف منشط للمناظر، وحسن إقبال على الجليس وبشر، لولا أنه حنفي المذهب لما نظره بالبرق من يقيس. وكان ملجأ لمؤمل، ومنجى لسائر متحمل، وصار موئلا يثاب ومؤملا لديه حسن مآب، تتخذه الطلبة ثمالا وترد إليه خفافا وتصدر ثقالا. لم تزل تشدّ به افتقارها، وتوسق منه أوقارها «1» . ولم يبرح على هذا حتى أمسى بلدي المنايا، سلّوا ممزّعا، وقسما موزعا، بعد أن كان إنسان عين، وآي جمال وزين. مزنه سحاب، ومزيّه(7/198)
صحاب. بعد مفرعا وينشر أحسن من ثوب السماء مجزعا؛ ولكنها المنيّات وحوادث الدهر والبليّات.
شيخ أهل دمشق في عصره، خصوصا في العربيّة. قرأ عليه الطلبة وانتفع به الجماعة، وله النظم والنثر والكتابة المليحة القويّة المنسوبة.
قال أبو الصفاء الصفدي «1» : وله التبدير الحلو والتدريب الزايد، يكثر من ذلك في كلامه، ويشحن أشغاله الطلبة بالزوايد، ويورد لهم النوادر والحكايات الظريفة والوقائع الغريبة المضحكة. سمعته يوما يقول لمنصور الكتبي رحمه الله تعالى: يا شيخ منصور، هذا أوان الحج، اشتر لك منهم مئتي جراب، وارمها خلف ظهرك إلى وقت موسمها تكسب فيها جملة. فقال: والله الذي يشتغل عليك في العلم يحفظ منك جرابا قدره عشر مرّات.
وقال أبو الصفاء الصفدي: حكى لي نور الدين علي بن إسماعيل الصفدي، قال: أنشد الشيخ نجم الدين يوما لغزا للجماعة وهم بين يديه في الحلقة يشتغلون: [الرجز]
يا أيها الحبر الذي ... علم العروض به امتزج «2»
ابن لنا دائرة ... فيها بسيط وهزج
ففكّر الجماعة فيها زمانا، فقال واحد منهم: هذا في الساقية. فقال له: درت فيها زمانا حتى ظهرت لك. يريد أنه ثور يدور في الساقية.
وقرأ القرآن على ابن المطرّز، وأخذ الفقه عن ابن الحريري والصدر علي، وكذلك أخذ الفرائض عنه، وأصول الفقه والهيئة على ابن جماعة، وعن جلال الدين الجاري الأصول خاصة، والنحو عن الفزاري والتونسي، والبلاغة عن ابن النحوية، والمنطق والجدل عن السرّاج الرومي. وسمع الحديث من ابن الدرجي وجمال الدين الزواوي وشرف الدين البارزي.(7/199)
كتبت إليه: [المنسرح]
من زاخر البحر يلقط الدرر ... ومن فروج الغمامة المطر
ومن جنى الدّوح كلّ مانعة ... كأنها الشّهد واسمها النمر
ومن بديع الرّياض لا عجب ... إذا اجتنى من خلالها الزهر
ومن سنا النجم كلّ لامعة ... غرّا تجلّى بنورها البصر
نجم على هدي وفاض ندى ... وهكذا النجم بل هو القمر
حبر أعار الربيع حلّته ... حسنا إلام هذه الحبر «1»
مكمّل والبحار تشبهه ... لكنها من نداه تختصر
فواضل لا يعدّ أيسرها ... والرمل في العدّ ليس ينحصر
زادت على حاتم مكارمه ... ما حاتم عند جوده بشر
هذا عليّ وذو الفقار له ... من حلّة اللفظ هذه الفقر
فتى قريش ورأس سؤددها ... ما ضرّ رايته إن نأت مضر
لا يبلغ المدح فيه غايته ... أستغفر الله حيث أعتذر
من مثله والسماء موضعه ... والزاهر النجم رهطه الزّهر
أنعم بعيش النعمان حيث أتى ... وهو له في الحتوف ينتصر
وقوله الفصل فوق منبره ... لا الطول يسيء به ولا القصر
لو يحضر الفارقي خطبته ... لمّا تعدّى لسانه الحصر
وأبيض الوجه يوم قاصده ... فمن أبو الأسود الذي ذكروا
لو أنشد الغرّ من قصائده ... ليلا لطالت في دهمه الغرر
ولا لعبد الرحيم واجده ... شبيه إنشائه ولا الدّرر
إن لم تعدّوها فدونكم ... ممّا ادّعيناه البحث والنظر
يا طالبا في العلا طريقته ... أقصر وإلا سوف تقتصر
ويا مطيل المدى ليلحقه ... البرق في السّبق ماله أثر(7/200)
يا ابن البهاليل من بني أسد ... ومن سطاه الناب والظفر
يا ابن الزبير الذي يفلّ به ... حدّ المواضي وكلّها زبر
لكنا بالنّهى محجبة ... أنّى نراها وحجبها الفكر
وجاء يا ابن الزبير يخطبها ... إليك كفؤ وجدّه عمر
وأنت من لا يردّ سائله ... وها أنا للجواب منتظر
فكتب إليّ: [المنسرح]
يا منعما رمت شكر أنعمه ... فحال بيني وبينه الحصر
وأنفق الفكر واللسان معا ... عليّ واستعصيا ولا وزر
وأظهر العجز عن قيامهما ... بشكر ما لا يحصى ومنحصر
وبان لي في الإباء عذرهما ... ودافع الحق بالهوى بطر
والحرّ من دأبه وعادته ... يرقّ للحر حين يعتذر
وكيف لي بالذي أروم إذا ... لم يسعد النطق لا ولا الفكر
لكنني للحسود أذكر ما ... يخرج من ذاك صدره الوجر «1»
سحب أياد سحّت على جرز ... فأنبت الشكر سحّها الحصر
وغادرت من نميرها غدرا ... لا جنّ «2» ماؤها ولا كدر
أضحت ظلال الوداد وارفة ... به تهادى وأينع الثمر
في ضمن ذاك الحيا عقود ندى ... أصدافها السود حشوها الدّرر
يشرق منها الدجى مفصّلة ... بعنبر عرف طيبه عطر
تنعم ريّاه أنف كل فتى ... أذابه في حلى العلا غرر
وليس فيما وصفته عجب ... سيول غيث يزيدها بحر
يا ملبس الطّرس من بلاغته ... حلّة وشي بقوسها فقر(7/201)
وغارسا فيه كل عارقة «1» ... فرائد الجوهري لها ثمر
تودّ زهر النجوم من حسد ... لو أنّها في غصونها زهر
إذا تأملتها يقابلني ... من كل وجه من أفقها قمر
هذا وكم قلّدت عقود علا ... يمناك قيلا تحفّه زمر
وكم أمور أودعتها فغدت ... تشبه أرواح معشر قبر
مالي وعدّي لما حويت وهل ... بالعدّ تحصى الرمال والمطر
لكن جداي لبعضها منن ... حمّلتها عاتقي لها خطر
وحثّني نحوها مقالك لي ... بأنني للجواب منتظر
فسبقها سير وجهها يدها ... يمنعها كشفة لك الحقر
وكيف لا والذي آتيك به ... وطرفها بالحياء منكسر
هدية جلّ ثمرها حشف ... إلى كريم جنابه هجر «2»
فاقبل يسيري ولا تلم كرما ... منا فقا في ذراعه قصر
قد أعجزته عن القيام بما ... يلزم حالان الضعف والكبر
ومن نظمه قوله في المنثور: [الطويل]
ولم أر في المنثور عرفا ومنظرا ... وفرط سخاء في جميع البدائع
تراه إذا السارون مرّوا بغفلة ... عليه مشيرا نحوهم بالأصابع
وقوله وقد طلب منه في جارية اسمها قلوب: [السريع]
عاتبني في حبّكم عاذل ... يزعم نصحي وهو فيه كذوب
وقال ما في قلبك اذكره لي ... فقلت في قلبي المعنّى قلوب
وقوله: [السريع](7/202)
حاولت من أهواه في قتله ... فقال ما يشفق من عارضي
فقلت يا بدر الدجى مذهبي ... أنّي لا اعتدّ بالعارضي
وقوله: [السريع]
أضمرت في القلب هوى شادن ... مشتغل في النحو لا ينصف
وصفت ما أضمرت يوما له ... فقال لي المضمر لا يوصف
وقوله، صدر كتاب إلى ابن نصحان حين سافر إلى البلاد المصرية: [الكامل]
يا غائبا قد كنت أحسب قلبه ... بسوى دمشق وأهله لا يعلق
إن كان صدّك نيل مصر وأهلها ... عنهم فلا غرو إلا العدو والأرق
وقوله من أبيات أجاب بها الفاضل تاج الدين اليماني: [المديد]
أقبلت تختال في حلل ... وشيها من صنعة اليمن
فرعها يملي خلائطها ... ما يقول القرط في الأذن
ومن خطبه التي تلج القلوب، وتخرج إلى الإقلاع والإقلال من الذنوب قوله:
أيها الناس تأنّسوا في المكارم وسارعوا إلى المغانم، وجانبوا مكاسب المآثم؛ فإنها معادم.
وأيقظوا عيون العزائم فإنّها نوائم، واغتنموا أوقات الطاعات فإنها مواسم. هذا، عباد الله شعبان وأخذه بكم ركائبه، مملوءة بمتاجر أعمالكم حقائبه، فالسعيد من زكّى فيه بالإخلاص مكاسب أعماله، والشقيّ من أضحت زيوف المعاصي رأس مال آماله. سحقا له من مغبون. ما أخسر صفقته! ومدلج في دياجي الأطماع ما أبعد شقّته! باع الباقي بما يفنى، واعتاض عن النفيس العالي بالأدنى. تبرّجت له الدنيا فأخلد إليها، وضمنت له كواذب الآمال سلامته المآل فاعتمد عليها؛ حتى إذا استرجعت منه الأيام ما وهبت، وأخلفته الآمال المواعد وكذبت، ورأى وجود أمانيه عدما، وصحة ظنونه سقما، عضّ على يديه ندما، وبكى بذلّ الدموع بالدما، واستصرخ فلم يجد مسعدا ووجد منسي أعماله حاضرا، ولا يظلم ربك أحدا.(7/203)
وقوله:
اغتنموا أيام المهل قبل انقراضها. وداووا سقم النفوس بذكر هجوم الأجل قبل استحكام أمراضها، وروّضوها عن جماحها في الشهوات فإنّه لا نهاية لأعراضها. واعملوا ليوم لا يجزي فيه والد عن ولده ولا مولود عن والده. ولا محيد لمن غلبت عليه الشّقوة عن مناهل عذابه وموارده، وابتهلوا إلى ربّكم في أوقات البركات؛ فما حرم فيها من قصده بركة مقاصده.
ومنها الخطبة التي خطب بها أول جمعة أقيمت بالجامع السيفي يشكر كافل الممالك الشامية، وهي:
الحمد لله منشئ أصناف الأمم وصانعها، ومؤلف أشلائها بعد العدم وجامعها، ومنطق جوارحها بما اخترجت وسامعها، وباعث هممها على الخير ووازعها «1» ، ومجري سوابق آمالها في ميدان آجالها، نحو مطامع مطامعها الذي أجزل مواهب السعادة لمن شيّد بيوت العبادة، وشكر صنيع من قدح بالإحسان زناده؛ فوعده الحسنى وزيادة. وفضّل بقاع الأرض بعضها على بعض، فاعل في الشرف محلّها، وناط بها أسباب السيادة فاتخذها صالح عباده معاهد للعبادة. فطوبى لمن حلّها، وادّخر من القرب نفائس يحق في مثلها التنافس، ثم وفّق لها قوما كانوا أحقّ بها وأهلها.
أحمده على ما أسبغ من نعم زكت مغارسها فصفت ملابسها، وأولاه من منن صيغت مشارعها فنمت مراتعها. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. شهادة أحكم الإخلاص بالقلب معاقدها، وصفّي من شوائب أكدار الشكوك مواردها، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله، والكفر مخصبة مراتعه أهله بالأشقياء مرابعه، قد مدّ في الأرض خطاه، وتجاوز الحدّ في الطغيان وتخطّاه. فلم يزل صلى الله عليه وسلّم يهيج بنانه بجنوب الحق(7/204)
وضاه، وبيد طغاته رطى «1» الأثمان وشباه «2» ؛ حتى أصبح وارف زرعه غثاء، وأمسى أنس ربعه قواء «3» صلى الله عليه وعلى آله غدوة ومساء، صلاة يبلغهم بها من النعيم المقيم أملا، ويحقّق لهم رجاء.
أيها الناس جدّوا في الطاعة قبل تعذّر الاستطاعة، وجذّوا حبائل الأطماع بمدى القناعة.
فكم أطلعكم الدهر تقلّبه على الحقائق فاغفلتم اطّلاعه، وكم أسمعكم لسان حوادثه أبلغ المواعظ لو وعيتم إسماعه! فيالها غفلة شاملة، وأمنية باطلة وأطماعا كاذبة. وآمالا خابية وقلوبا عن العظات لاهية، وأسبابا من التعلّلات واهية، فوجهوا رحمكم الله إلى جهة الاعتبار عيون أفكارهم، وانبوا إلى تأمل الإشارات عنه أسماعكم وأبصارهم؛ فإن من استمع بخطوب الأيام غني عن خطب الأنام، ومن اقترع معالق الآثام استأذن على الانتقام.
ومن خطبة في رأس السنة:
الحمد لله الذي لا تدرك عظمته ثواقب الأفهام، ولا يحيط بمعارف عوارفه خطوات الأوهام، ولا يبلغ مدى شكر نعمه محامد الأيام. الذي طرّز بعسجد الشمس حواشي الأيام، ورصّع بجواهر النجوم حلّة الظلام، وفصّل بلجين الأهلة عقود الشهور والأعوام. أحمده على نعمه الجلائل العظام، ومننه الشوامل الجسام. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له شهادة لا ينقص لها تمام، ولا يحقر لها ذمام، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله وسوق الباطل قد قام، ومحبّ الضلال قد هام، وطرف الرشد قد نام، وأفق الحقّ قد عام. فجرّد سيف العزم وسام «4» ، وعنّف على الغي ولام، واقتاد الخليفة إلى السعادة بكل زمام. صلى الله عليه وعلى آله الخير الكرام، صلاة لا انفصام لمسابغها ولا انفصام.(7/205)
وقوله في خطبة عيد الأضحى:
الحمد لله العظيم شأنه، العزيز سلطانه، القديم إحسانه، الذي أسمع دعوته إلى عرفات عرفاته من كل طريق. قلّبتها قلوب أولي الإنابة، مسرعة في الإجابة، ووافتها من كل فجّ عميق. حمده على نعمته التي أحلّت مغنى الغنى فتحلّت بفرائد الأجياد، ومننه التي بلغت منى المنى، وكل الأيّام بها أعياد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة لا يخلق «1» الملوان «2» جديدها، ولا تنال يد الشك مشيدها. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. أرسله رحمة للبرايا، ومحذرا من سوء عواقب الخطايا، فطهّر من رجسها السجايا، وساق إلى محلها الهدايا، وبعث الهمم على الضحايا صلى الله عليه وعلى آله المنزّهين عن الدنايا، صلاة لا تنفكّ سعادة في البكر والعشايا.(7/206)
[علماء النحو بالمغرب](7/207)
وأما علماء النحاة بالمغرب فذو عدد، وأولو مدد، وأصحاب لسان فيه وتد «1» .
1- عبد الله بن محمود المكفوف النحوي القيرواني «13»
ذو ذهن ثاقب، وأخو علا ومناقب. ظهر في بلاد المغرب ظهور وجود من عدم، واشتهر اشتهار نار على علم، وكثرت بتلك الأرض أتباعه، وتنوّر باطنه لمّا انعكس إليه من ظاهره شعاعه. وكان مفرط الذكاء يكاد يتوقّد، ولا يزيد حفظ شيء سمعه إلا وكان قد «2» ؛ حتى كان لا يناضل إلا في الاعتلاء، ولا يفاضل إن كان إلا بينه وبين أبي العلاء.
كان من أعلم خلق الله بالعربية والغريب والشعر وأيام العرب، وأخبارها وله كتاب في العروض يفضله أهل اللغة على سائر الكتب. وإليه كاتب الرحلة من جميع إفريقية والمغرب.
وكان إذا قرئ عليه الكتاب مرتين حفظه. توفّي سنة ثمان وثلاثمئة.
ومنهم:
2- إبراهيم بن عثمان أبو القاسم ابن الوزّان القيرواني «14»
النحوي اللغوي. إمام الناس في النحو بالمغرب، والإلمام منه بكل مغرب. هذا إلى لغة(7/209)
جمع أطرافها ومدّ طرافها «1» ، وفصائل استتمّ أوصافها، واستكمل جملها لإنصافها. وكان لو وزن به فتى مازن، أو أبو عثمان لخفّ في كفّة ابن الوزّان. وكانت العلماء تجلّه، وتستملي منه وما تملّه. وكان ذا بصر حديد، وفكر نفسه مديد. حفظ كتاب العين للخليل والمصنّف لأبي عبيد وإصلاح المنطق لابن السكيت، وكتاب سيبويه وأشياء، وكان يميل إلى كلام أهل البصرة. ويفضل المازني في النحو، وابن السكّيت في اللغة، وقال فيه بعضهم: لو أن قائلا قال إنه أعلم من المبرّد وثعلب لصدّقه من وقف على علمه.
وذكر جماعة ممّن جالس ابن النحاس بمصر، وأكمل نظرا. ولقد كان يستخرج من العربية ما لم يستخرجه أحد. وكان غاية في استخراج المعمّى. توفي يوم عاشوراء سنة ست وأربعين وثلاثمئة.
ومنهم:
3- أبو بكر محمد بن عبد الله مذحج
ابن محمد بن عبد الله بن بشر الزبيدي الإشبيلي «13» نزيل قرطبة. رجل كانت له ظلاله وارفة، وأفعاله لا تخلو من عارفة. لم يزل وسنه لم يتغير، وفمه للاكتساب لم يفغر. يغادي العلم ويراوحه، ويماسي الطلب ويصابحه. يوافي كل شيء لميقاته، ويقطع فيه عمر أوقاته.
ورسنه ممتد، ووسنه قد أقسم لا يرتدّ. فلم يستدر خدّه بلثام عارضه، وحان خذّه «2» ألا يلتأم بسيف معارضه إلا وكان قسورة يتأبى مهاجمته، ويخاف أن يهجم عليه أجمته، فأعملت(7/210)
إليه اليعملات «1» ، وأضحت فوائده مؤمّلات. واهتدى به هدي الركائب بالعلم، واستهلّ استهلال السحائب، يرش رشاش ماء الورد.
قال ابن خلّكان: كان أوحد عصره في علم النحو وحفظ اللغة، وكان أخبر أهل زمانه بالإعراب والمعاني والنوادر، وعلم السّير والأخبار ولم يكن بالأندلس في فنّه مثله في زمانه.
أخذ عن القالي لمّا دخل الأندلس. وله كتب تدلّ على وفور علمه، واختاره المستنصر لتأديب ولده، وليّ عهده هشام المؤيد، فعلّمه الحساب والعربية، ونفعه نفعا كثيرا. ونال به الزبيدي دنيا عريضة. وولي قضاء إشبيلية والشرطة. وحصل نعمة ضخمة لبسها بنوه بعده زمانا. وكان يستعظم أدب المؤيد زمان صباه، ويصرف رجاحته وحجاه. وللزبيدي شعر كثير منه قوله: [الطويل]
أبا مسلم إنّ الفتى بجنانه ... ومقوله لا بالمراكب واللّبس
وليس ثياب المرء تغني قلامة «2» ... اذا كان مقصورا على قصر النّفس
وكان في صحبة المستنصر. وقد ترك جاريته بإشبيلية، فاشتاق إليها، فاستأذنه في العود إليها فلم يأذن له. فكتب إليها: [مخلع البسيط]
ويحك يا سلم لا تراعي ... لا بدّ للبيّن من زماع «3»
لا تحسبيني صبرت إلا ... كصبر ميت على النزاع
ما خلق الله من عذاب ... أشدّ من فرقة الوداع
ما بينها والحمام فرق ... لولا المناجات والنواعي
وعاش ثلاثا وستين سنة «4» ، وتوفي يوم الخميس، مستهلّ جمادى الآخرة سنة تسع وسبعين وثلاثمئة بإشبيلية.(7/211)
ومنهم:
4- محمد بن جعفر
أبو عبد الله القزاز «13» التميمي. لا ينسج له طرح، ولا يغار لبزّه على شرح. هو أدرى بنسيج حلله، وأعرف بقدر خلله.
يسلم القريض منه إلى بزازه. ويقدم منه إلى العلم بما هو أوفق لطرازه. لو سبق ميلاده في تميم لألحقته بفرزدقها «1» ، ولرنت شمسه فقمره في أفقها. قال ابن رشيق: كان الغالب عليه النحو واللغة والافتنان في التأليف. وله شعر ربّما جاء به مفاكهة وممالحة من غير تحضر له ولا تجفل. فبلغ بالرفق والدعة أهل القدرة على الشعر من توليد المعاني، وتوكيد المباني علما بمفاضل على الرحب والسعة أقصى ما يحاوله الكلام وفواضل النظام ومما أنشد له، قوله: [البسيط]
هذا أخي وشقيقي المرتضى ويدي (م) ... اليمنى وموضع أسراري وإعلاني
دعا فعمّ الورى طورا وأسقطني ... إسقاطك النون من ترخيم عثمان
وكنت في النفري «2» أدعى فصرت لقى «3» ... لا أوّل الجفلى أدعى ولا الثّاني
وقوله وذكر ثلاثة أقبر فاقتص أثر النجوى في الوزن والرويّ والمعنى ثم أجاد وزاد: [الطويل]
ألا قل لدهر فرّق الدهر شملهم ... فمن منجد بادي المحل ومتهم
إذا يمّم الحادي بكم قصد بلدة ... فسرتم على قبر هناك معظّم
تحلّ بمثواه الوفود رحالها ... وتنحر أبناء الجديل وشدقم «4»(7/212)
فعرّج به واستوقف الرّكب وابكه ... وصلّ على المقبور فيه وسلّم
ولا تطأ الأرض الفضاء وإن نأت ... بذي سنك رحب ولا ذات منسم «1»
فقد ضمّ قطراها ثلاثة أقبر ... تضمّ نواحيها ثلاثة أنجم
بعيدة مسرى الزائرين غريبة ... معظمة فيها رمائم أعظم
تمرّ عليها الريح وهي مريضة ... ويشفي ثراها كلّ بهتان منجم
وقد فرّقت أيدي الفراق لجودها ... أيادي سيأتي كلّ عقل ومعلم
كأن الردى خاف الرّدى في اجتماعهم ... فقسّمهم في الأرض كلّ مقسّم
فبالغدوة النّضوى من الغرب واحد ... واخر ضمّته رجام المقطّم
وبينهما قبر غريب ببرقة ... بنوه على بحر من الجود خضرم «2»
وأعجب شيء قيس شبر تضمّنت ... نواحيه قطري يذبل ويلملم
أمستودع الترب المضمّن جسمه ... طويل البلى من بعد طول التنعم
سأبكيك لا أنّ البكا عدل لوعتي ... ولا أنّ وجدي فيك كفء تنهّم «3»
وقلّ لعيني أن تفضّ دموعها ... عليك ولو أنّ الذي فاض من دم
وأغضي حياء أن أعيش مسلّما ... وما أنت ممن يتّقى بمسلّم
وقوله في اسم لؤلؤ ملغزا به: [الكامل المرفل]
لم يكفه أنّ اسمه علم ... ينبيك مبسمه بصورته
حتّى أراد بأن يعنونه ... فصفات صدغيه وطرّته
قال ابن رشيق: الاسم لؤلؤ وهو الذي أبانه المبسم، والأصداغ بوصف اللامات، والطور يشبه بالواوات، فكأن كلّ صدغ لام يليها واو من واوات الطرّة، فيصح ما أراد.(7/213)
ومنهم:
5- أبو محمد عبد العزيز بن أحمد بن السيد بن مغلّس الأندلسي البلنسي 1»
رجل لاين صعاب اللغة حتى اقتاد أنوفها، وارتاد صنوفها. حسن لما ساعده؛ حتى تسلّك سبلها وملك ذللها. وكانت قد لجّت نفارا، ودجت حتى جلاها، وجعلها في التصانيف أسفارا، وخلاها قدوة وأسوة النجوم للمهتدي. فملأ عين المطالع، وقطع بعدها بين طلب التزيد والمطامع.
قال ابن خلكان: كان من أهل [العلم] باللغة والعربية، مشارا إليه فيهما. رحل من الأندلس وسكن مصر، وقرأ على صاعد والنجيرمي، ودخل بغداد واستفاد وأفاد. وله شعر منه: [المتقارب]
مريض الجفون بلا علّة ... ولكنّ قلبي [به] ممرض
أعاد السّهاد على مقلتي ... بفيض الدّموع فما تغمض
وما زاد شوقا ولكن أتى ... يعرّض لي أنه معرض
وتوفي لست بقين من جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وأربعمائة بمصر ودفن بها.
ومنهم:
6- إبراهيم بن محمد بن زكريا
ابن مفرّج بن يحيى بن زياد بن عبد الله بن خالد بن سعد بن أبي وقاص القرشي الزهري أبو إسحاق المعروف بالإفليلي «14» من أهل قرطبة، وممّن أهل العلياء [في] المرتّبة. برزت به(7/214)
الأندلس في أثوابها القشب وظفرت أقطارها بقطار ينبت العشب. فجرّت به ذيل الأحيان، وهمت النجوم بالأعيان.
قال ابن خلكان: كان من أهل النحو واللغة، وله معرفة تامة بالكلام على معاني الشعر، حافضا للأشعار ذاكرا للأخبار وأيام الناس. وكان مصدّرا بالأندلس وإقراء الأدب. وولي الوزارة للمكتفي بالأندلس.
ولد في شوال سنة اثنتين وخمسين وثلاثمئة، وتوفي في ثالث عشر ذي القعدة سنة إحدى واربعين وأربعمائة «1» .
ومنهم:
7- أحمد بن عمار بن أبي العباس المهدوي «13»
النحوي المفسّر. نيّر لا يخفى وشمعة صباح لا تطفى. فتّق للعلم الأذهان، وفتح مقفله حتى هان. ونشأ بالمهدية، القرية التي هي حاضرة البحر، والضاربة منه في النحر كرسيّ الخلافة ومحلّ الأنافة. فكان حيث كان أسناها، ومكان حسناها. ولم يعد يذكر بحرها الزاخر معه، ولا ملكها المطاع إذا دخل معمعه. فسّر القرآن وألقى الجران «2» ، وأضهر الآي وكف اللأي. أجاد فيه الكلام، وأجال الرأي والأقلام. أصله من المهديّة من إفريقية، ودخل الأندلس في حدود الثلاثين وأربعمائة، وألّف كتبا نافعة مثل كتاب التفضيل في التفسير، وهو كثير مشهور في الآفاق. وله تعليل القرآن، أنفع من الحجة لابي علي الفارسي.(7/215)
ومنهم:
8- إسماعيل بن خلف بن سعد بن عمران الأنصاري
أبو الظاهر المقري النحوي الأندلسي السرقسطي «13» . جدع أنوف الأبطال، وقرع ومنع صنوف الرجال. وكرع وورد المناهل من برنق «1» ، ولم يقدر عليها النسيم إلا في آخر رمق.
فشرب واضطلع وأناف على الشرفات، واطلع فنشر ما طوي من الأيام السوالف، وأعاد الليالي في أحسن الطرر والسوالف. وغازل بألحاظ كلمه الفواتر، وقطع بألفاظ حكمه البواتر.
ذكره ابن خلكان: وكان إماما في علوم الآداب، ومتقنا لفنّ القراءات «2» وذكره ابن بشكوال في كتاب الصلة وأثنى عليه، وعدّد فضائله. وتوفي يوم الأحد مستهل المحرّم سنة خمس وخمسين وأربعمائة.
ومنهم:
9- أبو الحجاج يوسف بن سليمان بن عيسى
النحوي، المعروف بالأعلم «14» . كان من إخوان الصفا، وأخدان الوفا. برع في الفضائل، وترع مترع الأوائل. وكان على عمى عينيه ينظر في العواقب نظر البصير، ويعرف إلى أين(7/216)
المصير؛ إلى فصاحة لم تحل بالغلمة «1» ميمه، ولا أتت بها في أخواتها ضميمه. وكان بالعيوب منطقا، وبما يبريه من العيون ممنطقا. ولم يمت حتى أنذر بدنوّ أجله، وأخبر بقرب وفاته وعجله.
قال ابن خلكان: رحل إلى قرطبة سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، وأقام بها مدّة، وأخذ عن الإفليلي وأبي سهل الحراني، وأبي بكر ابن أحمد الأديب. وكان عالما بالعربية واللغة ومعاني الأشعار. كثير العناية بها مشهور بمعرفتها، حسن الضبط. أخذ الناس عنه كثيرا. وكانت الرحلة في وقته إليه. وأخذ عنه أبو علي الجيّاني وغيره. وكفّ بصره آخر عمره وله تصانيف عدّة. وكان مشقوق الشفة العليا شقاقا فاحشا. وهو العلم يعرف به.
ولد سنة عشر وأربعمائة. ومات في ذي القعدة سنة ست وسبعين وأربعمائة «2» .
قال الرعيني خطيب إشبيلية: مات أبو عبد الله محمد بن شريح يوم الجمعة منتصف شوال سنة ست وسبعين وأربعمائة، فسرت إلى الأستاذ أبي الحجاج الأعلم فأعلمته بوفاته؛ لأنهما كانا كالأخوين محبّة فانتحب وبكى كثيرا واسترجع ثم قال: لا أعيش بعده إلا شهرا. وكان كذلك.
ومنهم:
10- عبد الله بن محمد ابن السّيد البطليوسي «13»
النحوي، أبو محمد. مادة نحو وأدب، وتصنيف ولغة عرب، لا نحّى أحد معه فيها يد(7/217)
ولا تصنيف، ولا يعدّ في رحله شيء ولا مضيف. غطّى سيله على الفرا «1» وطفا درّه فكثر مدد الجوهرى. وكان عالما بالآداب واللغات متبحرا فيهما، مقدما في معرفتهما وإتقانهما.
سكن مدينة بلنسية، وكان الناس يجتمعون إليه، ويقرءون عليه ويقتبسون. وكان حسن التعليم جيّد التفهيم، ثقة ضابطا. ألّف كتبا نافعة ممتعة، وشرح عدّة كتب. وكل شيء يتكلّم فيه فهو في غاية الجودة. ومولده سنة أربع وأربعين وأربعمائة بمدينة بطليوس. وتوفي في منتصف رجب سنة إحدى وعشرين وخمسمئة.
ومن نظمه قوله: [الطويل]
أخو العلم حيّ خالد بعد موته ... وأوصاله تحت التّراب رميم
وذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى ... يظنّ من الأحياء وهو عديم
وقوله في طول الليل: [الطويل]
ترى ليلنا شابت نواصيه كبرة ... كما شبت أم في الجوّ روض بهار
كأن اللّيالي السّبع في الجوّ جمّعت ... ولا فصل فيما بينها بنهار
قوله من أول قصيدة مدح بها المستعين بن هود: [الطويل]
وهم سلبوني حسن صبري إذ بانوا ... بأقمار أطواق مطالعها بان
لئن غادروني باللّوى إنّ مهجتي ... مسايرة أضعانهم حيشما كانوا
سقى عهدهم بالخيف عهد غمائم ... ينازعها مزن من الدمع هتّان
أأحبابنا هل ذلك العهد راجع ... وهل لي عنكم آخر الدهر سلوان
ولي مقلة عبرا وبين جوانحي ... فؤاد إلى لقياكم الدهر حنّان
تنكّرت الدنيا لنا بعد بعدكم ... وحلّت بنا من معضل الخطب ألوان(7/218)
ومن المديح: [الطويل]
رحلنا سوام الحمد «1» عنها لغيرها ... ولا ماؤها صدّ ولا النّبت سعدان
إلى ملك حاباه بالحسن يوسف ... وشاد بها البيت الرفيع سليمان
من النّفر الشمّ الّذين أكفّهم ... غيوث ولكنّ الخواطر نيران
وهي طويلة.
ومنهم:
11- محمد بن الحسن بن سعيد الأستاذ «13»
أبو عبد الله ابن غلام القرشي الأندلسي الداني المقري النحوي. أحد الأئمة وأحد السيوف في الملمّة. دنت له لدانيه السما، ودرّت على أكتافه النعما. وأصبحت به أكناف الأندلس مخضرّة وأيام الأنس بها لا تخاف مضرّة. قد وضعت مباسمها، ونفحت نواسمها، وهبت أصلها الصحائح معتلّة، وغدت حدائقها المجنّنة بسلاسل الأنهار معتلّة. وكانت الحياة بها سهلة المحيّا، وأيامه الزّهر ودانية الدنيا.
قرأ القرآن واللغة. وارتحل بابنه إبراهيم سنة بضع وعشرين وخمسمئة، ورجع فتصدّر للإقراء والحديث وتعليم العربية. وكان صاحب ضبط وإتقان، مشاركا في علوم جمّة، يحقق بها. وكان حسن الخط أنيق الوراقة. وكانوا يرحلون إليه للسماع والقراءة. توفي بدانية في ثالث عشر المحرّم سنة سبع وأربعين وخمسمئة، وقد أصابه خدر قبل موته بسنة، مولده سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة. وكان ذا حظّ من علم الحديث ومعرفة رجاله. وولي خطابة دانية في آخر عمره.(7/219)
ومنهم:
12- عبد الله بن عيسى بن عبد الله بن أحمد بن أبي حبيب الاندلسي «13»
أبو محمد الخزرجي. من بيت علم وحشمة، وعلا وهمّة؛ إلا أن صروف النوى قذفت به وثلمت سيفه من غربه «1» ، فرمت به من حيث لم يك ظنّت، ولا قدّ لها ما تمنّت. فأهوي في الأرض هوي الأجدل «2» ، وانحطّ انحطاط الجندل. وشق المخارم بهوي مضيقها وفجاجها، وبرد عذبها وأجاجها حتى كاد ينسى من المغرب ذكر بلده، ويظن المشرق موضع مولده. وأتى خراسان ولم يعرف، أما لها من إحسان؟ وحلّ من ذلك الأفق دارا نسي بها قديم محتده، ولقّط من مطلع الشهب شيب بدده. ووقف على عين الشمس واغترف غرفة بيده.
أقبل على العلم بإشبيلية، وحصل ما لم يحصل غيره. وولي القضاء بالأندلس مدّة، ثم خرج عنها على عزم الحج. وجاوز سنة ودخل مصر ثم قدم العراق، ثم سار إلى خراسان، فنزل هراة مدة ومرو. وكان خبيرا بالحديث والفقه والنحو والأدب. وسمع وأفاد. ومولده سنة أربع وثمانين وأربعمائة. وتوفي بهراة في شعبان سنة ثمان وأربعين وخمسمئة.
ومنهم:
13- أبو موسى عيسى بن عبد العزيز بن يللبخت بن عيسى الجزولي «14»
إمام يلقب دونه النواظر، وتكف عليه المحاضر. أجاب مصرخا وانجاب به الروع مفرّحا.(7/220)
وسارت إليه الطلبة يستعجل الشوق حنانها، وتصل الأسباب ربّانها إلى رأي رصين، وعلم بالدين قد صين. فلم يكن مثله في العليا، وزهد خلص من الربا. فسار ذكره كالشمس مغذّا، ووجد له كالسحر إلى كل قلب نفذا.
قال ابن خلكان: كان إماما في علم النحو كثير الاطلاع على دقائقه وغريبه وشاذّه.
وصنّف فيه المقدمة التي سمّاها القانون. ولقد أتى فيها بالعجائب، وهي في غاية الإيجاز مع الاشتمال على شيء كثير من النحو، ولم يسبق إلى مثلها. واعتبرها جماعة من الفضلاء فشرحوها. ومنهم من وضع لها أمثلة. ومع هذا كلّه فلا تفهم حقيقتها. وأكثر النحاة ممن لم يكن أخذها عن موقّف يعترفون بقصور إفهامهم عن إدراك مراده منها، فإنها كلّها رموز وإشارات.
ولقد سمعت من بعض أئمة العربية المشار إليهم في وقته، وهو يقول: أنا ما أعرف هذه المقدمة، وما يلزم من كوني ما أعرفها ألّا أعرف النحو. وبالجملة فإنّه أبدع فيها.
قال: وسمعت أن له أمالي في النحو ولكنّها لم تشتهر. ورأيت له مختصر التفسير لابن جنّي في شبه ديوان المتنبي. ونقل أنه كان يدري شيئا من المنطق. ودخل الديار المصرية، وقرأ على الشيخ محمد بن بري المتقدم ذكره. وقد نقل «الجمل» «1» على ابن برّي، وسأله عن مسائل في أبواب الكتاب، فأجابه ابن برّي عنها، وجرى فيها بحث من الطلبة حصلت منه فوائد علّقها الجزولي مفردة فجاءت كالمقدمة، فيها كلام غامض، وعقود لطيفة وإشارات إلى أصول صناعة النحو غريبة، فنقلها الناس عنه واستفادوها منه، ثم قالوا هذا المصنف.
وبلغني أنه كان إذا سئل عنها، هل هي من تصنيفك؟ قال: لا؛ لانه كان متورعا: ولمّا كانت من نتائج خواطر الجماعة عند البحث من كلام شيخه ابن بري، لم يسعه أن يقول:
هي من تصنيفي؛ وإن كانت منسوبة إليه؛ لأنه الذي انعزل بترتيبها.
ثم رجع الجزولي إلى بلاد المغرب بعد أن حجّ وأقام بمدينة بجاية مدة، والناس يشتغلون(7/221)
عليه، وانتفع به خلق كبير.
قال ابن خلكان: ورأيت جماعة من أصحابه. توفي في سنة عشر وستمئة بمدينة مراكش رحمه الله تعالى. هكذا سمعت جماعة يذكرون تاريخ وفاته ثم وقفت على ترجمته وقد رتّبها أبو عبد الله ابن الأبّار فقال: توفي سنة ست أو سبع مات الجزولي «1» .
ومنهم:
14- علي بن محمد بن عبد الله
المعروف بالشلوبيني «13» الأندلسي الأشبيلي النحوي. بحر لا يشقّ، وسحاب لا يصدع إياه برق. تبوّأ فوق السماء مسكنا وفرّق النجوم سكنا. حلّ الذروة والغارب، وجلّت أصل ذكره المشارق والمغارب. أوضح النحو وبيّنه وجعل منه على بيّنة، فاستصحب آبيه، واستبحر آتيه؛ حتى فتح مقفله ووشم مغفله. فقرّ قراره، واستبشر البدر ولم يخفه سراره.
قال ابن خلكان: كان إماما في علم النحو. مختصرا له غاية الاختصار. اشتغل على أبي بكر محمد بن خلف بن محمد بن عبد الله بن صافي اللخمي الإشبيلي.
ومن شعره قوله: [البسيط]
قالوا حبيبك معلول فقلت لهم ... نفسي الفداء له من كل محذور
يا ليت علّته بي غير أن له ... أجر العليل وإني غير مأجور(7/222)
ولقد رأيت جماعة من أصحابه وكلّهم فضلاء، وكل واحد يقول: ما يتقاصر الشيخ أبو علي الشلوبيني عن الشيخ أبي علي الفارسي، ويغالون فيه مغالاة زائدة. وقالوا: فيه مع الفضيلة غفلة وصورة بله في الصورة الظاهرة؛ حتى قالوا: إنه كان يوما على جانب نهر وبيده كراريس، فوقع منه كرّاس في الماء، وبعدت عنه فلم تصل يده إليها ليأخذها، فأخذ كراسة أخرى وجذبها، فتلفت الأخرى بالماء. وكان له مثل هذه الأسباب الدالة على البله.
وشرح المقدمة الجزولية شرحين كبيرين. وله كتاب في النحو، سمّاه التوطئة. وكانت إقامته بإشبيلية، وأخباره متواصلة إلينا، وتلامذته واردة في كل وقت، وبالجملة؛ فإنه على ما يقال كان خاتمة أئمة النحو، وكانت ولادته بإشبيلية سنة اثنتين وستين وخمسمئة، وتوفي في آخر الربيعين، وقيل في صفر سنة خمس وأربعين وستمئة بإشبيلية «1» .
ومنهم:
15- أبو القاسم المغربي «13»
وهو محمد بن أحمد بن الموفق الأنصاري الأندلسي المرسي. رجل حظّه موفور، وسعيه غير مكفور. ركب البحر من بلده حين ضاق به جانب ذلك البرّ، وساءه طول المقام وأضرّ؛ فطارت به فتحا لا يردّ من جماحها، ولا يعد فضل جناحها. سمت به في أمواج كالجبال، وأفواج كقطع الجمال؛ حتى ألقاه البحر إلى الساحل، وآذى به السفر المراحل. وجعل الشام دار مقامه، ودواء أسقامه، ثم رحل مشرقا وجمع شتيت العلم مفرقا. وكان لا يعدّ الغربة إلا وطنه، والغلّة «2» إلا إذا ورد ماء بلده، أو سكنه. وهو معدود في أهل الحديث الشرقي؛ إذ قدم إليه أول ما عنّ تمائمه وريش قوادمه.(7/223)
ذكر ابن المستوفي أنه أخذ النحو عن الكندي وأبي البقاء العكبري، وأقام بدمشق سنتين، ثم قدم إربل سنة عشر وستمئة، وقد جاوز الأربعين.
قال: وأنشدني لنفسه: [الكامل]
درس الخلاف فما يقول مسلّم ... مني وقولي كلّه ممنوعه
إفساد وضع في سؤال محبّة ... أم أصله قد خالفته فروعه
إن فقت بين دلاله ودليله ... لمّا تبيّن في الدليل شروعه
الاقتصاص لعبده في ذاته ... يا ليت شعري ما يكون صنيعه
وأخذه من قول البستي «1» : [الطويل]
خذوا بدمي هذا الغزال فإنّه ... رماني بسهمي مقلتيه على عمد
ولا تقتلوه إنني أنا عبده ... وفي مذهبي لا يقتل الحرّ بالعبد
ومنهم:
16- يحيى المالقي «13»
وهو أبو زكريا يحيى بن علي بن أحمد بن محمد بن غالب الحضرمي الأندلسي المالقي.
رجل تحط دونه الأجادل «2» ، وتدك بأدناه الجنادل، ويسكت إذا ناباه من تجادل. نجم والرجال نبات، وانسجم والنوال مغمض الجفون بالسبات؛ فسما سمو حباب الماء حالا فحالا، ونما نموّ فروع الشجر أغصانا طوالا. ولم يبرح منه زنده يقدح شرارا. وندّه يفوح وإن لم يوقد نارا؛ إلى أن أخمده انصرام العمر المكتئب، وكمل له عمله واستتب.(7/224)
قال ابن المستوفي: ورد إربل سنة اربع عشرة وستمئة راحلا إلى خراسان لسماع الحديث، وكان قد أقام بدمشق، وأخذ عن أبي اليمن الكندي. قال: وحدّثني من أثق به أنه كان له حلقة بجامع دمشق للنحو وأثنى عليه أبو الحسن ابن علي بن عبد الكريم الجزري. وقال:
لطيف الأخلاق من بين المغربة، حسن العشرة. جرى بيني وبينه عدة مباحثات سألته عن مولده، قال: لا أحقه؛ إلا أني ولدت بمالقة.
وممّا أنشد له قوله: [الطويل]
فؤادك موقوف الهوى حين يمموا ... وأنت بهم هيمان صبّ متيّم
إذا أعرقوا أو أشأموا كنت سائما «1» ... بروقا بها سحب المدامع تسجم
يسائل عنهم كلّ يوم وليلة ... نسيم الصّبا أين استقلّوا وخيّموا
تفوت وجوه اليمن واليمن فيهم ... ويسترشدون النجم والنجم منهم
ومنهم:
17- زين الدين المالقي «13»
ضيف قوم كرام، وقطيف قوم بلغ المرام. برع نحوا وأدبا. يصلح لكل نجوى. أتى من الأندلس حاجا ومعتمرا، وركب ليلا دجوجيا ومقمرا؛ حتى قضى بقيته، وأمضى ما حمله عليه العزم وبغته. وقد قدم دمشق واستوطنها، واجتنى بطائنها، ونزل على بني السيرجي «2» . وسم في أرباب البيوت بها صدور مجالسها وجنى مغارسها، وامتار أسواقها، وأقمار أنديتها الطالعة من أطواقها؛ بيد أنهم من عدد عدولها، ومدد سيولها، وذوي(7/225)
التصرف في خدم السلطان وخدم الملوك منذ حلّوا تلك الأوطان، فألقى إليهم رحل رحلته، وجمع شمل شملته وأقام بينهم يرفد بالجنى الموفور، ويولي الأيادي التي ما استدت إليّ كنور وله فيهم مدائح كنت وقفت على بعضها، ووقعت بين دارين والشر في أرضها وفيما وقفت له على قصيدة وصف فيها طير الواجب تحرك إلى البزز لرمي البندق سواكن الهمم، وبعيد نشاط الشباب لأهل الهرم لعنة كانت لسببه هذا البيت في رمي الطير الجليل والخروج إليه بالصاحب والخليل.
وأولها: [الكامل]
ركب الدّجى لا يرهب الأخطارا ... ودنا على بعد المزار وزارا
ومن نثره من قدمة كتبها للصدر شرف الدين أبي الفتح أحمد ابن السيرجي أولها:
الحمد لله مسخّر الطير في جوّ السما، ومحيي الأرض بما منّ عليها من النعما. الواجب وجوده، فلا يغير بخلقه. المانّ بجوده، وكل حيّ يرزقه، المتفضّل على عباده بمحاسن الأخلاق، المتكفل الأجناس مخلوقاته بإدرار أنواع الأرزاق، الحاكم بإقعاد من انتهك حمى حرمه، القادر على إسعاد من تعرض لكرمه.
ومنها: فالربيع يكسب الأرض برطوبته جمالا وزخرفة، ويلبس الأرض من صنعة يد الشتاء حللا مفوّفة «1» ، وأشجاره ترشح من عيونها بماء ورد، وأشجاره تتنفّس فتخال تنفسها عنبرندّ؛ حتى كأن الجوّ عطار يعدّ طيبا والهزار قد أقام على رؤوس الأغصان خطيبا. ومخايل الأوراق قد لاحت على تلك الخمايل والورق قد غنت على عيدانه والغصن مايل، والروض قد وردت عليه من جداوله مسائل. والشتاء يجود على البطحاء بجود تهطّله، وتعقب ظله يصيب وبله. وترى سنا برقه بين رعد وسحاب، وتزخ دموعا شوقا لأيام الشباب، كأن السماء والرعد فيه تذكر أهوالهما فاستعبرت وتنهّدا.
ومنها: ولمّا كان فلان ثمرة غصن زكت مغارسه، ودرّة بحر قذفت نفائسه، وزهرة حديقة أينعت أرجاؤها، ونجل رئاسة تشرّف آباءها أبناؤها، من نسب يعقد بالنجوم دوالبه، وحسب(7/226)
تحط في مفارق النسر ركائبه، وعندما تمت أخلاقه الحميدة، وكملت والتحفت به هذه الأوصاف الجميلة واشتملت؛ رام أن يأخذ حبل السعادة بطرفيه، ويجمع بين محاسن الجدّ والهزل ليحصل من السعد على شرفيه، ولم يزل يقلّب طرفه في محاسن لهو برنصيه «1» ، ويدير فكره فما يصلح له فيقتضيه؛ إلى أن شهرا كذا من سنة كذا فعمد إلى نيته المقبولة فأمضاها، ولم تكن إلا حاجة في نفس فلان قضاها. فخرج وقد أرجت نوافح المسك الأذفر «2» ، وماست معاطف الزند الأخضر. والأنهار مطردة بمائها، والأطيار غردة بغنائها إلى مظان الطير الجليل ومكامنه. وطلب كمل يطلب الخير من معادنه، واستصحب معه من الرماة الأزكياء السادة الأذكياء، كل صادق القول زكيّ الفعل كثير الإمساك قليل المثل، ممّن برز في البرزات، وأظهر من يديه خوارق المعجزات. وله الوجوه المشكورة من غير نفاق، والنكت المشهورة بين الرفاق، وقد ارتدوا ملابس الغيار، وأطلعوا من أطواقها وجوها كالأقمار، وشدّوا بالمناطق خصورا تدقّ عن الأفكار، وتقلّدوا حمائل جيوش صانت النجوم عن الأبصار. والتثموا بفضلات العمائم، واستغنوا بالخالق عن الرقى والتمائم. وقصدوا في طالع السعد والأمان دير سلمان؛ فلما أذنت الشمس بالفراق، وكادت تبلغ نفس النهار التراق استدارت الجماعة استدارة الأنامل بالأقداح، وامتزاج الأشباح بالأرواح. ودارت عليهم بالسؤال للسرور كؤوس، ومالت منهم للطرب أعناق ورؤوس؛ فلما أنفقت خطتهم، وافترقت خلطتهم انتشروا في تلك الرياض انتشار العيوث «3» ، ووثبوا في تلك النواحي وثوب الليوث. فلله درّهم من فرسان مواكب وشجعان كتائب. إن ركبوا خلت آساد جفان، وإن ترجلوا قلت ظبا وغزلان. هذا وهو بينهم كالقمر بين النجوم، والشمس في خلال الغيوم.(7/227)
قوله: [الكامل]
السّعد في نظراته والموت في ... سطواته والفضل من أفضاله
والشمس تحجب وجهها عن وجهه ... والبدر يبدو خاضعا لجماله
وعند ما تهندمت الرماة من مواضعها، وبرزت الطيور التي كتب عليها القتل إلى مضاجعها، مرّت به جفة «1» من العنانيز «2» ، كانت على الميت حراصا، وعادت إلى مطرحها بطانا بعد أن راحت إلى مطرحها خماصا، فرنا إليها بطرف لو خطّ به الارض لاهتزّت وربت، ورمقها بنظر لو رمق به النجوم شررا لا نقضت وهوت وسار إليها مسير الشمس عند الشروق، وطرقها طروق الطيف، فحبّذا ذاك الطروق، وقد أغذّ في يمناه التي لو نازلتها السحب الهاطلة لخجلت، أو باهتها البحار الزاجرة لخلت. [البسيط]
فبطنها حجر الأسباط منبجس ... وظهرها حجر الإسلام مستلم
ندبا من البندق المنتسب شكله، الطيب أصله. بعيد الناظر، رزقا مقسوما، ويعدّه الطائر أجلا محتوما. وفي يسراه الميسرة للأزرق المعينة على الإطلاق. [الطويل]
هي البحر والطّرس النّفيس سفينه ... فآونة منجى وآونة يردى
قوس رشق خطار مستوي العنق والبستار، قد اختيرت له روق «3» الأوعال وسطانا الردينية العوال، فكأنه قضيب شيخ ارتدى بثوب نظار، أو سبيكة ذهب أحرق شطرها بنار وبدا للعيون عاريا؛ ولا إثم عليه في ذاك ولا عار. فياحسنه من موقف رأيت فيه القمر يقذف شيطان الهموم عن هلال بكوكب وضم كافور، يدير في بحر العطايا حركات المنايا بلولب.(7/228)
ولم يزل برقها حتى دخلت المقدار، ونادته السعادة البدار البدار، فأرسل إليها رسل المنايا من بنادقه، وأخرج إليها ضبايا الروايا من زوايا جلاهقه «1» ، فأصاب منها طائرا خرّ لديه صريعا، وناداه التقدير فأجاب، ولم يكن قبلها سامعا ولا مطيعا. [الرجز]
لم يدر من آمن ينجو خيفة ... وإنما الرّامي درى كيف رمى
وذكر في أحدها قصيدة البدر يوسف بن لؤلؤ، وهي: [الكامل]
هل ذاك برق بالغوير أنارا ... أم أضرموا بلوى المخصّب نارا
وكلاهما إن لاح من هضب الحمى ... لي شائق ومهيّج تذكارا
فيم التعلّل والشّتات منكّب ... عني وقد شطّ الحبيب مزارا
وقد استردّ الدهر أنواب الصّبا ... وكذاك يوجد ما يكون معارا
فارفق بدمعك في الفراق فما الذي ... يبقى ليسقي أربعا وديارا
ودع النسيم يراوح القلب الذي ... أورى زناد الشّوق فيه أوارا
مع أنني أصبو إلى بان الغضا ... إن سمت برقا أو شممت عرارا
فاليوم لا دار بمنعرج اللّوى ... تدنو بمحبوب لنا فيزارا
كلّا ولا قلبي المشوق بصائر ... عنهم فأبدت دمنة أودارا
فسقى اللّوى لا بل سقى عهد اللّوى ... صوت الغمائم هاميا مدرارا
ولقد ذكرت على الصّراة مراميا ... ينسى بحسن وجوهها الأقمارا
وعلى الحمى يوما ونحن بلهونا ... نصل النّهار ونقطع الأنهارا
في فتية مثل النجوم تطلّعوا ... وتخيرّوا صدق المقال شعارا
من كلّ نجم في الدياجي قد لوى ... في كفّه مثل الهلال فدارا
متعطّفا من جرم داود الذي ... فاق الأنام صناعة وفخارا
فالآن قد حنّ المشوق إلى الحمى ... وتذكّر الأوطان والأوطارا
وصبا إلى البرزات قلّت كلّما ... طارت به جزر اللغالغ «2» طارا(7/229)
فلأي مرمى أرتميه وليس لي ... قوس رشيق مدمج خطّارا
حليّ على ضعفي إذا استعطفته ... ألوى عليّ العنق والدستارا
نكت له من كل صنف قد حوى ... أعيا الرّماة بحسنها إكثارا
وبوجهه المنقوش أوّل ما بدا ... وبه أقام وأقعد الشّطّارا
وغدا بتحريمي بلا سبب بدا ... منّي وأودعه الرماة مرارا
يا حسنه من مخلف لكنّه ... في الجوّ عال لا يسفّ مطارا
ويطير حفظا عن مقامي عامدا ... ولشقوتي لا يدخل المقدارا
لا يندمي مهما خطرت بباله ... أنّى ينال مراوغا طيّارا
وسنان من جزر اللغالغ لم يزل ... يرعى الرّياض وليس يرعى الحارا
لا راحل بل قادم عنّي إلى ... ماء الفرات يخوض منه غمارا
وأنا تراني فاقدا ومنعّما ... في الجو ليلا خلفه ونهارا
وغنى فقد برد الهواء وقد أتى ... أيلول يطفي للهجير جمارا
ووراءه سربان جاء ورغده ... عجلان يحدو للسّحاب قطارا
والبارق الهامي على قلل الحمى ... سدّى هناك خيوطه وأنارا
والفيض طام ماؤه متدفق ... والطّير فيه يلاعب التيّارا
والنهر جنّ به فراح مسلسلا ... صبّا ببحر لا يصيب قرارا
نهر النواظر حيث آتت شطّه ... للناظرين شقائقا وبهارا
والصّبح في آفاقه يا سعد قد ... أخفى النجوم وأطلع العذّارا
فانهض إلى المرمى الأنيق بنا وقد ... هبّ الصباح ونبّه الأطيارا
وتتابعت خفقاتها في أفقها ... مثل النّعام قوادما تتبارى
من خود حوراء العراق قوادما ... يا مرحبا بقدومها زوّارا
فاصح إلى رشق القسيّ إذا ارتمت ... مثل الحريق أطار عنه شرارا
واطرب على نغمات أطيار بدت ... في الجوّ وهي تجاوب الأطيارا
من كلّ طيّار كأنّ له دما ... عند الرّماة فثار يبغي الثّارا
هل جاء في طلب القسيّ لحتفه ... أم جاء يطلب عندها الأوتارا(7/230)
فالتمّ يضرب بالجناح كأنّه ... أبدى البيان يحرّك الأوتارا
خاض الظلام وغبّ فيه فسوّ ... د الرّجلين منه وسوّد المنقارا
وأتى يبشّر باللقاء فضمّخت ... تلك المغارز عنبرا ونضارا
والكي «1» كالشيخ الرئيس مزّمل ... في بردتيه هيبة ووقارا
يسطو على الأسماك يوما كلّما ... أذكى له حرّ المجاعة ثارا
والوزّ همّ هاجنا تنغيمه ... ليلا وكم قد شاقنا أسحارا
فاذا تباشير الصباح ثنى له ... عطفا وصفّق بالجناح وطارا
وترى اللغالغ تستبيك بأعين ... حورية صفر الجفون صغارا
فكأن ورسا ذاب في أجفانها ... فحكى النّضار وحيّر النظّارا
وترى الانسياب النوافر تنثني ... بين الرّياض كأنهن عذارى
يسلبن أرباب العقول عقولهم ... ويرعن منه حيلة ونفارا
وترى الحبارى كالقطا أرياشها ... أو كالرياض تفتحا أزهّارا
هجرت مناهلها على برح الظما ... واستبدلته ذوبة وقفارا
والنّسر سلطان لها لكنّه ... لم تلفه لدمائها هدّارا
قد شاب منه رأسه من طول ما ... كثرت عليه عصوره أدوارا
أرخى جناحيه عليه كجوشن «2» ... لو كان يمنع دونه الأقدارا
وإذا العقاب سطا وصال بكفّه ... عاينت منه كاسرا جبّارا
يعطي ويمنع عزّة وتكرّما ... ويلجّ ممنوعا ويمنع جارا
وترى الكراكي «3» كالرماد وربما ... فرقت فأذكت في القلوب النّارا
قد سطّرت في الجوّ منها أسطرا ... وطوت سماء سجلّها أشعارا
فإن انصرعن فلا تكن ذا غفلة ... عن أن ينقّط حليهنّ مرارا(7/231)
وبدت غرانيق لهنّ ذوائب ... لولا البياض لخلتهنّ عذارى
حمر العيون تدير من أحداقها ... فينا كؤوسا قد ملين عقارا «1»
والصوغ في أفق السماء محلّق ... مثل الغمام إذا استقلّ وسارا
ذو مغرز ذرب فلو تسطو به ... فضح السنان وأخجل البتّارا
ومرازم بيض وحمر ريشها ... كمراوح أضرمن منه جمارا
وعجبت كيف صبت إلى صلبانها ... تلك الرماة وما هم بنصارى
وشبيطر ما إن يحلّ له دم ... مهما علا شجر وجلّ جدارا
والشرّ فيه إلفه لمنازل ... فاصبر له حتّى يفارق دارا
هل عبّ في صرف العقار بمغرز ... أم كان خاض من الدّماء بحارا
وهذه القصيدة وإن لم يكن هذا موضعها، ولا صاحب هذه الترجمة مسيّر شهبها ومطلعها، فقد ذكرتها للاستشهاد بها؛ لأنه كان من سببها. ولما تفرّدت من حسن مذهبها، وأظنّه إنّما قصد معارضتها بقصيدته التي ذكرت مطلعها:
إن السماء تطير الماء في الرّزق
ومنهم:
18- البياسي «13»
وهو أبو بكر سعيد بن أحمد بن محمد المغربي البياسي، عماد الدين لا يبلغ خضيضه، ولا يسوغ تذهيبه ولا تفضيضه. أحيا الليالي، وقد أمات النوء الثرى. وأبات السحاب. لا يغمض جفنه الكرى إلى هواجر كان يصلى تلهبها، ويغلّ في مديد لبّها. لا يتوسد إلّا مرفقيه، ولا يبيت غير النجم والسهاد مرافقيه؛ حتى مات فخشع له هامد التراب، وخضع له(7/232)
هامل السحاب، وبكى بكاء الأتراب. ذكره ابن المستوفي، ومما قال: إنه ورد الموصل فنزل في بعض مدارسها متفقها، واستظهر بعض كتاب سيبويه، واتصل بأبي الفضائل لؤلؤ المنصوري. مدّت وحسنت حاله عنده، ثم قطعه عنه، وأخذ جميع ما حصل بيده من مال وكتب، وضربه ضربا شديدا. ولم يظهر خبره، وذلك في شوال سنة ست عشرة وستمئة.
وكانت وفاته بقلعة الجديدة.
قال: وكان هذا المغربي كما قيل لي رديء الطبع. سمع أبو الفضائل لؤلؤ إنسانا يشكو منه، ويذكر أنه يأخذ من عرضه، فقال: لعلّك أحسنت إليه.
ومنهم:
19- الصهاجي «13»
وهو أبو علي عمر بن عبد النور بن ماخوخ بن يوسف النحاس النحوي الصهاجي اللزبي.
واللّزب قبيلته. أورق ظل الفضائل وأسبغها، وفوّف حلل العلوم حتى أجمل إصبعها. بهر به المشرق والمغرب، وتفرّد به المألوف والمغرب. وامتدّ ذكره من المغرب امتداد ظلاله، وورد على الشرق وزوّد زلاله؛ فنفث في روع المطلع الشرقي السحر الحلال، وحلي الجانب الغربي بما لاق بمعصم طوده المنيف من سوار الهلال.
ذكره ابن المستوفي، وأنشد له من شعره: [الكامل]
ومعقرب الصّدغين خلت عذاره ... نونا أتى في رسمه الخيلان
فوقفت أبكيه بعيني غزوه ... حزنا عليه كأنني غيلان
وله في كاتب: [الكامل]
إن كان وصلك قد تراه ممنعا ... خوفا عليك ملامة العذّال
فالآن مشرف عارضيك مخبّر ... أن العذار موقّع لوصال(7/233)
وحكى أنه أتى إلى الفقيه العلّامة كمال الدين بن يونس فألفاه على دجلة وحوله جماعة يتفقهون به، فرأى بحرمته ومنها وعجتين إذ أخذت عنه وعنها، فقال: [الوافر]
تجرّ الموصل الأذيال فخرا ... على كلّ المنازل والرّسوم
بدجلة والكمال هما شفاء ... بهيم أو لذي فهم سقيم
فذا بحر تدفّق وهو عذب ... وذا بحر ولكن من علوم
وحكى أنه أتى دمشق فرأى صبيا من أبناء الكتّاب، يعرف بابن عصيفير، قد عصفرت ديباجته، وتمت فيه من الحسن حاجته، فوقف حائرا، وسقط قلبه في يده طائرا، فقال: [الوافر]
متى نيل المؤمّل من غزال ... على الأحياء سلّط مقلتيه
كأنّ فؤاد عاشقه المعنّى ... سميّ أبيه يخفق في يديه
وهذا من قول المجنون: [الطويل]
كعصفورة في كفّ طفل يظلّها ... تقاسي حياض الموت والطفل يلعب «1»
عدنا إليه. حكى أنه كان يتعهد درس الفقيه العلامة كمال الدين بن يونس لصحبة كانت بينهما أكيده، وسوالف مدّه عديده. وكان ابن يونس لا يبقي من أهل الفضل محصل ولا من هو من أفنان العلم متوصل، حتى يحل بداره، ويحمل مما كنز تحت جداره، فأتاه يوما وقد حضر جماعة قد تطيلسوا «2» ، وتعاقدوا على إسكاته. فلما تكلم أبلسوا «3» ، فقال الصّهاجي: [الطويل]
كمال كمال الدين للعلم والعلا ... فها هو ساع في مساعيك يطمع(7/234)
إذا اجتمع النظّار في كل موطن ... فغاية كلّ أن يقول ويسمع
فلا تحسبوهم عن عناد تطيلسوا ... ولكن حياء واعترافا تقنّعوا
وحكي أنه مرّ ببلدة فرأى فيها غلامين كأنهما الفرقدان، أو النيران؛ إلّا أنهما أخدان قد تحابّا حبّا أكّد ألفتهما، ورأيت في ديوان المحبّة معرفتهما، يعرف أحدهما بابن صقر، والآخر بابن فهد، فقال: [الطويل]
أليس عجيبا جارحان تصايدا ... وذلك شيء لا يكاد يرام
فمن لي بفرخ الصّقر أمسك سبقه ... وأوتى بجرو الفهد ثمّ ينام
ومنهم:
20- محمد بن عبد الله بن محمد بن أبي الفضل السلمي الأندلسي النحوي «13»
شرف الدين أبو عبد الله. فريد كان بغير نفسه. لا يتأنس ولا يسامر إلّا من الجواري الكنّس. ألف الوحدة، وعرف بما تفرّد به وحده، ولم يجزم إلّا بفضله ولم يجرّ ذيل الأفق على مثله إلى دار حتى زهرتها، وجلا من تحت خدر المجرّة زهرتها، فبرزت باسمة لا تغيرها القطوب، ولا تنكرها الخطوب؛ كأنّما ضرّست بدرر، أو غرست في منابت اللآلئ، فضمتها غزلان المسك في السرّ.
وذكره ابن اليونيني، ووصفه بالمعرفة بالفقه على مذهب مالك، وبعلم الكلام والأصول، والتصنيف في التفسير.
وقال: مولده في ذي الحجة سنة تسع وستين، وقيل سنة سبعين، وقيل إحدى وسبعين(7/235)
وخمسمئة. وقرأ القرآن الكريم ببلده على أبي محمد بن غلبون، وأخذ النحو عن الشلوبين، وسمع بالمغرب والحجاز والشام العراق وخراسان. وحدّث بالكبير «1» ، وجاور بمكة زمانا طويلا. وكان من الأئمة العلماء الفضلاء، ذا معارف متعدّدة، بارعا في علم النحو واللغة العربية والتفسير. وهو على هذا كلّه متزّهد مطّرح تارك للرئاسة، حسن الطريقة قليل المخالطة للناس، كثير الصلاح والعبادة والحج. مقتصد في أموره. له قبول، لا يحل ببلد إلا ويكرمه رؤساؤه وأهله. وتوفي في خامس عشر ربيع الأول سنة خمس وخمسين وستمئة بين الزعقة والعريش وأنشد له: [الطويل]
أتجهل قدري في الورى ومكانتي ... تزيد على متن السّماكين والنّسر
ولي خصب «2» لو أنه متقسّم ... على أهل هذا العصر تاهوا على العصر
ومنهم:
21- حافي رأسه «13»
محمد بن عبد الله بن عبد العزيز بن عمر الزناتي المازني النحوي محيي الدين، أبو عبد الله. لا يعدل الدرّ لفظه الموزون، ولا ودائع المعادن حفظه المخزون. ولا يقاس أبو عثمان فتى مازن. عرف بحافي رأسه، وكان وافي رئاسه وكافي من شبهه بالبحر، أو قاسه. لم يجهد منهله المباح، ولم يجهل فضله المماح «3» . ذكره شيخنا أبو حيّان، وقال: كان شيخ أهل الإسكندرية في النحو. تخرّج به أهلها، وكان منجبا. ولا أعلمه صنّف شيئا في النحو.
رأيته في درس قاضي القضاة ابن المنير سنة تسع وسبعين وستمئة أول قدومي من الغرب، ثم رأيته سنة إحدى وتسعين وفيها توفي. وله نظم، فمنه قوله: [الطويل](7/236)
ومعتقد نيل الرئاسة في الكبر ... فأصبح ممقوتا بها وهو لا يدري
يجرّ ذيول الكبر طالب رفعة ... ألا فاعجبوا من طالب الرفع بالجر
وقوله في أهل الثغر: [الكامل]
يا منكرا من بخل أهل الثّغر ما ... عرف الورى أنكرت ما لم ينكر
أقصر فقد صحّت نتانة أهلها ... ومن الثغور كما علمت الأبخر «1»
قلت: والبيتات الأولان أنشدني إياهما الأديب جمال الدين محمد بن نباتة، وزعم أنهما للصاحب تاج الدين محمد بن جنا. وقول شيخنا أبو حيّان أثبت «2» .
ومنهم:
22- علي بن إبراهيم التّجاني البجلي «13»
بحرمته مدد القاله، ويدر عليه مجمع الهاله. كان بتونس صدر إقراء، يؤخذ من حفظه ورتبته الذرى، ذا قبس بلفظه وجلّى، وندي يد ملكها، وتفرّد في المكارم ومسكها.
وكان لا يعقب الصفو منه كدر، ولا يقاس بنائله المطر، ولا يشبه بسواه إلا إذا استوى حجر الياقوت والحجر. لعلم نفعه كثير، وحلم يغفر الذنب ويعفو عن كثير. يناظر به السحاب وقد تلظّى حقدا، وأعطى قليلا وأكدى. هذا إلى بأس يكاد منه قلب البرق ينفطر. وقد الخطا بناظر، وكان لا يزال يعمر به مجلسه، ويدنيه منه ويؤنسه، ويأخذ منه العلم ببلده ويغرسه.
وقد ذكره شيخنا أبو حيان في مجاني النصر، وقال فيه: أستاذ يقرأ عليه بتونس النحو والأدب، قدم علينا القاهرة حاجّا.(7/237)
وأنشد له قوله: [السريع]
إنّ الّذي يروي ولكنّه ... يجهل ما يروي وما يكتب
كصخرة تنبع أمواهها ... تسقي الأراضي وهي لا تشرب «1»
وقوله يمدح رجلا وهبه مالا عونا على الحج: [السريع]
يا سيّدا قامت لدهري به ... على الّذي بغيته الحجّه
جودك للنّاس ربيع ولي ... منك ربيعان وذو الحجّه
ومنهم:
23- أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن حبّان النّفزي «13»
سحاب الفضل المنهل وسخا ختام الفضل، من قبل طريقه سهل، وتحقيقه يثرى من ذا الجهل. تاه به الأندلس على كل إقليم، وملك به عنان التقديم. ولو تقدم عصره حتى كان منذ قرنين في ذلك المكان، حيث يتغادى على الآداب من ملوك الطوائف، وتتهادى رياحين تلك اللطائف، لما احتفظ صاحب الذخيرة بأكثر من جوهره. ولا استضاء الحميدي في جذوة المقتبس إلّا بنور نيّره؛ بل كان يفتح به القلائد الفتح بن خاقان، ويقدم ابن الإمام ذكره في سمط الجمان، ولما كان يسع ابن اليسع إلّا أن يقتصر عليه في المغرب، ولا يجيد ابن دحية في المطرب. ولكان في الاختيارات لأبي سهل حظّه الوافر، ولهان بدّرة اليتيم ما جاء به ابن بحر في زاد المسافر. بشرّ به التوحيدي أبو حيان، وبصّر. سمّى حفيده ابن حيّان. وقدم مصر منذ ستين حجّة، وأتمّ نسكه وحجّه، ثم عاد إلى القاهرة واستوطنها، واستطاب في(7/238)
الأرض وطنها. ومنذ قدمها خوطب بالإمام؛ ومع هذا ممّا تأبّى عن لقاء الأعلام. ولم يكن يقصر بجناح إلى تمام يقع في الأوهام؛ وإنما أراد الزيادة بما يحصل باقتداح الأفهام. ومنذ ذاك الطلبة إلى إفادته ومن حياض آفاته تكرع؛ حتى انتشر مددهم في البلاد انتشار الصباح، ونظر أهل الشغف بالعلم من كتبه ما ينظر في الوجوه الصباح. وهو الآن نفع الله به هودج اللآلئ الذاهبين وكنز الطالبين. كل الطلبة من عشبه درجوا ومن نبت دواسته خرجوا، وبشذاه أرّجوا، وبسناه سقوا عطاء الإفهام وفرجوا، وبشهاب توفيقه أدلجوا، ومن أثواب تصنيفه إلى العلم ولجوا. وأنا ممن قرأ عليه، وتشرفت لّما مثلت لديه.
وأمّا تصانيفه فسارت أوقار الإبل، وأما تفريقه للأدب بشيء عليه جبل. إن شعر أخفى ابن خفاجة، أو نثر كثم «1» خصاله ابن أبي الخصال وأطفأ سراجه فإذا نحا من شبه سيبويه، وإذا تكلّم في اللغة محا ابن سيده ما أحكم في المحكم وضرب عليه. وإذا روى عن الأعراب فإليه تقريب ابن قريب «2» ، وأبو عبيدة عبده الواقف بين يديه، وإن فسّر رأيت ابن عطية منقصا، والقرطبي لا يجد مثل بلدة الماسورة مخلصا، أو السريري قد علل إلى بعض الدواوين منكصا، وابن القيّم واقفا على بابه في يده العصا. مع رواية في حديث النبي صلى الله عليه وسلّم وفقه؛ كأنما طبع منه في مرآة جليّه، ودين يعتصم به المرء، وعدم محاباة إن لاقت به، فلا غرور مع ما بلغه من هذا السنّ والعمر الذي تهدأ به البديهة وتسكن، لا تخمد له قريحة ولا تطمئن به فكرة مريحة، ولا تعزب عن ذاكرته قضية ولو كانت حقيرة أو قصيّة؛ هبة من الله لا تكافى ولا تجدها في غيره، ولو عددت آلافا. قرأ القرآن بالروايات، وسمع الحديث بجزيرة الأندلس وبلاد إفريقية، وثغر الإسكندرية وديار مصر والحجاز، وحصل الإجازات من الشام والعراق، واجتهد وطلب وحصّل وكتب، وله اليد الطولى في علوم التفسير والحديث، والشروط والفروع وتراجم الناس وطبقاتهم وحوادثهم. وله التصانيف العديدة، وتنيف على خمسين مصنّفا. ولّما قدم البلاد لازم الشيخ بهاء الدين ابن(7/239)
النحاس كثيرا، وأخذ عنه كتب الأدب. وقرأت عليه الأشعار الستة، والفصيح لثعلب والمقصورة لابن دريد، وشعر أبي تمام إلى آخر المديح. وكتبت عنه من أخبار العرب وأدباء الأندلس وفوائد الأئمة شيئا كثيرا. وكانت المراجعات لا تكاد تنقطع بيني وبينه.
كتبت إليه:
يقبل البساط المنيف، بل البساط الشريف لا زال فوق السها «1» ، وفي الغاية التي لا تبلغ إلى منتهى، ويسأل في شيء مما سمح به فكره، وقذفه في البحر درّه من النثر الذي لا يقدر عليه في النظم المحضور بالقوافي، المقدور بالميزان. ولا يمكن الترجيح في وزنه الوافي؛ ليثبته في مكانه، وينبته روحا مثمرا في بستانه والمسؤول منه ما هو من الدرّ أعلى قمة وأخف حملا؛ مع التعجيل ببرقه المومض وودقه الذي لساعته يرفضّ «2» ؛ فإن الدفتر قد خرج صدره لكنه في شفافه، والناسخ قد فتح فاه لالتقافه، والقلم قد سابق البيان لا ختطافه، والسمع قد علّق مقطفه لاقتطافه، والمراد الإسراع قبل غلبة السكر بما يمنى من سلافه.
فكتب إليّ يقبل الباسط، ويقول: أشغل الخلّ أهله أن يعارا وينشد: [الطويل]
وبلّغت من عمري ثمانين حجة ... وسبعا أرى الأشياخ ليست كما هيا
وفي عيبتي اليسرى وفي شقّ هامتي ... وقلبي فكر يترك الفكر نابيا
ولا نظم إلّا بانتظام منيّتي ... ولا نثر إلّا بانتثار عظاميا
أيها الإمام اكفف عن عزمك فما نحن من ضربك من باراك بالنظم حتى بأبهى درّه، وجعلته يرفل في أسنى حبره، فأنت أشعر هذا الجنس، بل أنت أشعر الجنّ والإنس. إن أوجزت أعجزت، أو أسهبت دهيت، أو مدحت أعليت، أو قدحت أوريت.
وكتب من نثره قوله: وقد استوحش المملوك لمولانا عند التفرج في مصر ونيلها، وحادرها وحيلها، وبهجتها وخيرها، والصور المتولدة بين الترك وغيرها التي يجول السحر في(7/240)
عيونها والصبا في فنونها، ذوي الذوائب المضفرة، والمحاسن الموفرة. إن سدلوا الشعور فبدور تحت الدياجي، أو ضفروها فأراقم سواجي. من كل أملد «1» أهيف القوام، كأن ريقه مدام، وشعره ظلام، ووجهه بدر تمام؛ إن نطق فالسحر في كلامه، أو رشق فالموت في سهامه.
وقوله:
ورد على القلب ما شّرفه، وعلى السمع ما شنّفه «2» من الأدب الغضّ، والفضل الخالص المحض، نظم يودّ الغواني لو يكون لها عقدا على النحر، أو تاجا على الرأس فاق تأرّجه الزهر، وراق تبلّجه الأنجم الزهر. وكيف لا، ونور أهل الأدب من نور الشمس يستمد، ولتحصيل فضائله وفواضله يستعدّ؛ لكن صادف مني ذهنا كليلا، وجسما عليلا، وقلبا جريحا، وطرفا قريحا. وماء قريحة قد غاض وهمي تيه قد فاض. يتجلى في خلب كبدي، والمحبوب من ولدي، واغترافي من اللكن لفقد السكن، ومن الوجل يورد الخجل؛ ما حضر لساني أن يفوه في حق هذا الفاضل بما يحب، وأن يتهذب في الثناء عليه كما ينبغي أن ينتدب فعيّ فاضح، وعذري إليه واضح.
وقوله:
إن دفق فالبحر، وإن نطق فالسحر. ألفت إليه الآداب عنانها، وتفتقت به بديعها وبيانها.
وأطاعه عصيّها، ودنا إليه قصيّها. فمن فقره دره وتقسيم قسيم، وترجيز وجيز، وقافية وافية طرزت بأنواع البديع، ووشعت «3» به أحسن التوشيع؛ فأصبحت آدابها في جيد الزمان قلائد وفي سلك الأوان فرائد. يجنس فيها الجنس، وتنوّع وتأصل منها وتفرّع. نزلت من الآداب(7/241)
منزلة الإنسان «1» ، والذهب الإبريز من العين. وقضت بالتمييز على ذوي التبريز، وبالاختيار على ذوي الاختبار. تطرب الأسماع للسامع، وتحسد العيون عليها المسامع، وكالحميّا «2» شجت بماء غمامها، والثريا علّقت في مصامها. فكأن سامعها لا لتذاذه في أغناء الفجر، ووصل الحبيب بعد الهجر، يتوقل «3» منها نوعا نوعا، ويتعجب منها بما جمع فأوعى، ويوشّيها ما كان مرتّقا، وسبق إلى أعلى مرتفقا، وأضحى بها الفرد الذي لا نظير له في الاجساد، والأوحد الذي يرى فضله على الأنداد والأضداد.
وقوله:
وإني وإهدائي الصدف للدرر، والوشل «4» للذر كمهدي البرية إليهما والنغبة «5» للدما.
أما السيد عينه في قديم شرف ارتجاه الأكابر باتساق رباه، وفنيت المحابر في وصف محاسن محيّاه. تضمّخ النادي بنشره «6» ، وأعلن المنادي بنشره «7» ؛ فهو الشرف المشهد، والمحتد الذي شرف به المشيّد؛ ولكنها السيادة إلى مدى ما تحلت به المآثر، وتجلب به من المفاخر، ويظهر به من الأدب الغضّ ما يقال فيه، كم الأول للآخر، ولا يمكن أن يعصى الأمر، بل يمتثل ما رسمت به الأوامر.
وكان شيخنا أبو حيّان رحمه الله قد ذللت له صعاب اللغات فاقتادها بأعناقها، وجذبها أخذا بدائرة نطاقها. وتعدّى لغة العرب إلى العجم، فصنّف عدة كتب في تراجم اللغات المختلفة، والتزم فيها بالصحيح. وإن من تكلم فيها بلغه من تلك اللغات(7/242)
الشّتى على ما ضبطه كان خارجا عن النقل المسموع في تلك اللغة عن صريح أهلها. وكأن المتكلم به قد تكلّم بخطإ أو لحن؛ إما منه، وإمّا مما طرأ على أهل تلك اللغة بمداخلة من ليس منهم. كما داخل العرب بمداخلة النبط وفارس والروم؛ حتى كان ينكر على رجال من صليبة الترك، ورجال من صليبة الفرس في كلمات تقع على غير الصحيح في أصول لغاتهم.
ورأيت رجالا منهم ممن عرف معرفته يتحاكمون إليه فيما شجر بينهم في ذلك، ولقد أراني فيما صنّف في ذلك، فمنه: الإدراك في لغة الأتراك، ومنه: زهو الملك نحو الترك، ومنه: منطق الخرس في لسان الفرس، ومنه: جلاء الغبش في لسان الحبش، ومنه: المخبور في لغة الخمور، وهي لغة قديمة كانت لأهل دمياط، يتحدثون بها في قديم الزمان، فرأيت منها العجب، وعلمت بها أنه قد حكم على ألسنة العجم والعرب.
هذا ولم يكن رحمه الله يعرف هذه الألسنه معرفة يخيّل في ميدانها لسنه؛ وإنما كان قد أكثر التقصي عن كل لسان، والسؤال من أهل المعرفة عن مفردات كلمها اسماء وأفعالا وحروفا وتصريف الأفعال، وتركيب الكلم، ثم نزّلها على قواعد اللغة العربية، وأجراها عليها في مصطلح الترتيب بعد إتقان معرفة ما في تلك اللغة من صيغة الجمع والمثنى والمضاف والمضاف إليه، وغير ذلك؛ حتى ضبطه كلّ الضبط.
وكان يراني أتهلّل به بشرا وسرورا؛ باعتلاقي بسببه، وما يسّر لي من إدراك مثله والاستضاءة بقبسه. وكان لي من شكره حظّ علمه أهل عصري وحسدي عليه أهل مصري، ومنها: أنه لما أوقفني على هذه التأليفات الغرائب وأراني من بحره العجائب، أشار لتشريف قدري وتعريف نكري أن أكتب عليها ما يبلغ به الجاهل مبلغها، ومقدار النعمة التي سوّغها، ومدى الهمة التي حطّم بها أنوف هذه الصفات النوافر، وأبرز من ليل الأعجمية صباحها السافر فقيّدت في أسفارها ما سنح، وأعدت إليه ما منح، وأعدتها إليه إلّا منطق الخرس؛ فإن بعض الأصدقاء آثر الوقوف عليه، فأوقفته عليه، على أن يقضي منه أربه، ثم(7/243)
يوصله إليه. وعرضت لي عوارض حال، فيها الجريض دون القريض «1» ونوائب يكفي في ذكرها العريض. ثم تمادت المدّة وطالت ودالت دول الشواغل واستطالت. ومؤدى تلك الأمانة قد شغله عنها النسيان، وأغفله عنها عدم مرورها منه على الخاطر. وكان شيخنا رحمه الله على سعة بحره يظنّ من حزازاته حتى بقدر ظفر الإبهام، ويغزو بالمطالبة لها غزو الجيش اللهام. وداخله الظنّ أنني تعمّدت تأخيرها لقصورها عن حسن أخواتها، أو لأدرجها بالمطالة تحت ذيل قواتها، فكتب إليّ: [البسيط]
منطق الخرس صبرا لا يراك أبو ... حيّان حتى يعود القارظ العنزي
حصلت في كفّ شهم لا ينال له ... غور كريم الثنا والأصل محترز
إذا استعار كتابا لا يعود لمن ... أعاده فعل أب للضّيم محتجز
حبّ الفضائل قد ألهاه لا طمع ... منه ولا يحلّ إلى نداه عزي
هذا وشيمته بذل اللهى ويرى ... إسداءه للنّدى من أعظم النّهز
اضطرّ قلبي لتأليفي لتبصره ... عيني كما اضطرّ صدر اللّبيب للعجز
ومن يقابل بالنبراس شمس ضحى ... كمن يقابل لجّ البحر بالنّزز
وقد تشوّقت للبكر التي نشأت ... من فكره طفلة «2» ليست من العجر
فابعث بها يا إمام العصر سالمة ... وحلّها بنفيس الدرّ لا الخرز
بحر تناءى يفوق المسك نافحه ... إنّ الكرام لما قد حزت لم تحز
يسرى ثنائي في الآفاق منتهبا ... يجوز حيث الدّراري السبع لم تجز
ما فاز ذو شرف بالمدح من أحد ... إذا بمدح أبي حيّان لم يفز
ولم يمز جاهلا من عالم أحد ... إذا يكون أبو حيّان لم يمز
وقد جزيت مسيئا بالجميل فلا ... أكون ممن بسوء في الجميل جزي(7/244)
إني لأخزى بكثر الرّسل مطّلبا ... بنات فكري وغيري لا أراه خزي
وإنّ من سامني سوء الفعال كمن ... يرش بالطلّ صخر التّربة الجرز
أرض بها ينبت الشّري «1» الكريه فمن ... يذقه ذاق وجيّ الحبّة الجمز «2»
لكنّما صنعتي حول القريض فما ... نسجي سوى برد قدح معلم الطّرز
وقد تقدّم لي في مدحكم مدح ... قصائد ثبتنا عنه ولم نجز
ولما أتاني قاصده بهذه القصيدة وقف يطلب الجواب، وأبى أن ينصرف إلّا به. وألحّ في الطلاب هذا. وعندي من بقايا تلك الهموم ما أصدأ مرآة الخاطر وقشع سحاب الفكر الماطر، ولم يسعني إلّا إجابة داعيه، وإحالة رائد القريحة لمساعيه، فنقفت «3» ما حظر عليه. وكتبت به إليه وهو: [البسيط]
مديح مثلك كالعلياء بالطّرز ... في بعضه فرصة تبدو لمنتهز
لو جاء شعرك والصّهباء دائرة ... ورمت تمييزه في الذوق لم يمز
مكمّل ليس يحتاج الصّدور به ... إلى تتمّة ما ينساق في العجز
في كلّ بيت له معنى يتيه به ... وربّة البيت ذات الخصر والعجز
ممكورة طفلة عزّت أماثله ... يسقي عجوز طلىّ ليست من العجز
في طيّها كلّ ما يغنى الأنام به ... كأن أبياتها كنز من الكنز
بديع نظم أبو حيان ناظمه ... ولا قصيدي يحاكيه ولا رجزي
اسمع بقيت أبا حيّان ما بقيت ... زهر الكواكب قولا غير محتجز
ولا تبادر إلى عيني معاجلة ... واعرف حقيقة عذري حيث لم أجز
من ذا يطاول آفاق السّماء علا ... ومن يقابل نظم الدرّ بالخرز
والله يعلم أني لا أقول سدى ... قولا ولا المين «4» في طبعي بمرتكز(7/245)
وإنما العذر أبديه وتعلمه ... واسمع يميز مقالي أحسن الميز
بأننّي عند موت الوالد اجتمعت ... عليّ أنواع همّ دغدغت نشزي «1»
حتى رحلت ولا ألوي على أحد ... رحيل محتفل للبين محتفز
وعدت والسّقم ملتاث به جسدي ... ومثله سقم قلب حرّ كالحرز
وليتني لم أعد من سفرة كتبت ... عليّ حتّى يعود الفارط العنزي
وربّما قد علمت الحال أجمعه ... وكيف حال فتى فيما يحب رزي
وجاءت الرّسل تترى يستحثّ بها ... منطّق الخرس يبغي أعظم النّهز
ولم أكن شهد الله العظيم بمن ... يضيعه وهو عندي أشرف الحيز
لكنني كنت في نفسي يضيق به ... وسع الفضاء وحالي حال محترز
فلم أجد لي وقتا أستعين به ... على تطلّبه لو كان في حجزي
وعدت أرسلته مع من وثقت به ... وكان ظنّي به إيصاله فخزي
وما أضاع على علمي أمانته ... ما خان قطّ ولا هذا إليه عزي
أما يكون من النّسيان آخرها ... وإنه بعد بالعذراء لم يفز
اسمع وقيت أبا حيّان كلّ أذى ... وعشت شرّ العطايا غير ذي نزز
أفي كريريسة إن ضاع ضائعها ... يغدو كما لك فيها ظاهر العوز
إن فتّقت فمقالات وجدت لها ... من مثلها حلّةّ محبوكة الدرز
تقول من سامني سوء الفعال يرش ... بالظلّ حرّاء صخر التربة الجرز
بالله قل لي هذا منك عن حنق ... أو للفكاهة أو هذا من الطنز «2»
لو قال غيرك هذا كنت تنكره ... ولو سألناك عنه قلت لم يجز
ولو يكون سمين الضّأن قد جمعت ... لهان لكنّه عيب من المعز
واستغفر الله هذا نزعه عرضت ... كما الجواد بها من شدّة اللّزز
وأنت سيّدنا حقّا ووالدنا ... وحزت بالسّبق تفضيلا ولم يحز(7/246)
ومن تطير مع النّسرين أرجله ... فليس يدركه بضّي ولا خرزي «1»
فامنن بعفو جميل لا تكدّره ... فالعفو في شيم الأشراف كالطّرز
فكرّ رسوله راجعا في بكرة غده، وأتى إليّ بورقة يحملها في يده ثم ناولنيها، وقد برقعه الحياء بصفرة، وأطرق كأنه يردى في حفرة.
وكان الشيخ قد علّم ذلك الصبي هذه الحيلة، وأراد أن يكبر عندي هذه الطلابة القليلة.
وفطنت للمراد ووطيت من جمره على الرماد، وقرأت قصيدته غير مكترث، وقلت له: يعين الله على خلاصي من الذمة قول منبعث، فقال: أنا في قيد الجواب، لا أبرح حتى استصحبه، وأرى معي أبيات إنباته مصحبه، فتتبعت أثره ورددت عليه أو أكثره، وعدلت له فرحا بمصاب، وخلطت له عسلا بصاب، وعرّفته قدر صنائعه وقيمة رائعه وإنّ تحفته ليست سنيّه، وثمرات رطبه غير جنيّه. ثم ثبت له على الحق وقطعت بإرسالها سبية من غير رقّ؛ إلّا أنني أخّرت له أوراقا من الكتاب المعار، والطلب الذي عقد لأجله النقع المثار؛ حبّا لمداعبته، وإيثارا لدوام مطالبته. وكان الذي كتب إليّ: [البسيط]
ما إن للكرم الموعود إنجاز ... يا من له الفضل والإحسان ينجاز
أشبهت في النظم باللفظ البديع وبال ... معنى الغريب لنظم فيه إنجاز
ما يشبه البحر في أمواجه ثمد «2» ... ولا الصدور نشا المذكيّ إعجاز
إن كان أشبهك الأعلام في شرف ... فأنت بالعمّة العلياء تمتاز
سموت للعالم العلويّ حيث يرى ... للنيّرات به فخر وإعزاز
يمضي زمان ونور النيّرين معا ... يخفى وللشّهب في الآفاق إبراز
فلا يملن إلى ما كان من عرض ... للجوهر الفرد فالأعراض أوفاز
في لذّة العلم ما يعني الأريب به ... عن ريبه غيركم ما إن بها فازوا
ما كان إلّا انتقال من عل لعل ... فيه لمنصب فضل الله إحراز(7/247)
أنت الكبير وقد هدّيته زمنا ... وليس بينكم في الفضل إفراز
من ذايساميك في علم وفي أدب ... ما الجاسميّ ومن ضمّته شيراز «1»
إنّ البراعة قد حطّت براعتكم ... في طرس نفس به للملك أنشاز
لأنتم زهرة الدّنيا وبهجتها ... لها جمال بكم ما فيه إعواز
أثني عليك ولا أنفكّ ذا طلب ... فمنطق الخرس أوبى للثّرى حاز
فلا تجزني بوعد منك يمطلني ... إن الملحّ لعطف الجود هزّاز
الحجب في هزّ عطف للنّدى خطل ... خلّ الوعود فمثلي ليس ينجاز
وأما جوابها التي ملأته بما حوى، وعكست عليه ما نوى، وأتيت به على ما تفتحت به بادرة القريحة، وبلغته ركائب الخاطر وهي غير مستريحة، فهي هذه: [البسيط]
بديع شعرك للأعطاف هزّار ... وفيه معنى لقلب المرء جزّاز
خلطت بالصاب فيه الأري «2» فاختلطا ... حتّى تعذّر للتمييز إفراز
يلذّ في ذوق راويه وسامعه ... وكلّما قال إكرام وإعزاز
حلو اللّمى سكريّ الرّيق معدنه ... أرض الجزيرة لا مصر وأهواز
من المنكّب أو ما حلّ جانبه ... ووادي أشّ وفي الحمراء ركّاز
من أرض حيّان حيّان الحرير وذا ... بزّ الحرير وذا إذ بزّ بزّاز
ممكّن في القوافي القفر تعرف من ... صدوره ما حوته منه إعجاز
كأنّهنّ النجوم الغرّ واضحة ... وليس فيهنّ إلغاء وألغاز
بعثت لي يا أبا حيّان زائدة ... ومنه للرّوضة الغنّاء إحراز
أبديت لي آية غرّاء محكمة ... للخلق منها مع الإعجاب إعجاز
رفعت قدري بأبيات شرفت بها ... فيها من الفضل إيجاب وإنجاز
حزن الكمال فلا شيء يقال به ... هذا ينقّص أو ذا فيه إعواز
أصبحت بالحلم طودا لا ارتقاء له ... بل دونه فلك الأطواد أنشاز(7/248)
سبقت بالعفو ما ضاق المسيء به ... وحان من فعله المستور إبراز
بعثت لي تتقاضى الوعد بل تتقا ... ضى فورّي وبالأعضاء يمتاز
ولم أكن مهملا حتى تذكرني ... هل زاد جري جياد الخيل مهماز «1»
وقلت إنّيّ لا أنفكّ ذا طلب ... منطّق الخرس أوبي للنّدى حازوا
وما تأخّر إلّا أنّ حامله ... أمدّ أوقاته في البيت أوفاز «2»
أرسلت تلقاه في رسلي فما ظفروا ... به وجدّوا للقياه فما فازوا
ولم يزل دابيا حتى وقفت به ... وكاد يمنعه ظنّ وإحراز
منطّق الخرس كنز لا نفاد له ... وهل يجود بما في الكنز كنّاز
ولا أصرّح من هذا بقيّته ... فما الكريم على الإخوان غمّاز
وما أتيتك عذرا لست تعلمه ... وفي البريّة همّاز ولمّاز
من كان مثلك قد أبلى بهجرته ... هذا الزمان فقل لي كيف ينحاز
جاوزت في الأفق الجوزاء جوزتها ... وللكواكب في الآفاق أجواز
لا بل ديارك في أعلى منازلها ... وفي المنازل أطراف وأجواز
بلغت من قدرهم فوق الذي بلغوا ... وحزت من فضلهم أضعاف ما حازوا
مفسّر لكتاب الله يفهمه ... على الحقيقة فهم منك ممتاز
وعدتني بلقاء بتّ أرقبه ... ولي من القول نظّام ورجّاز
موكّل بطلوع النّجم في نظر ... كأنّما نظري للنجم جوّاز
فاسمح بزورتك الحسناء إنّ لها ... من النواظر حسنا حيث يجتاز
يكحّل الطرف مرآها بنور هدى ... يمتار من رشده الهادي ويمتاز
ودم وعش تمنح الآداب زاجره ... وأنت بحر وكلّ الناس أنزاز «3»
أبليتني بحروف الزاي أنظمها ... ثلاثة تتجافى وهي تنحاز
لقدّمت لي في الشطرنج واحدة ... وذي وتلك وحرف الزّاي معواز(7/249)
إن كنت مختبرا فاعنت وقل أبدا ... ما شئته لتراني لست أعتاز
ومن عديّ بن كعب أسرتي ولنا ... ببطن مكة في البطحاء أركاز
والآن أرسلت ما أرسلت تطلبه ... منطّق الخرس قول الحق أرماز
نجزت وعدك لّما قلت منتدبا ... ما إن للكرم الموعود إنجاز
فأخذ قاصده الجواب، ومعه منطّق الحزس، خلا ما أخرته؛ قصدا للمطايبة وحبّا لدوام المطالبة، ثم ذهب هذا وعمر اليوم قد تصرّم، ولهب الأصيل قد تضرّم، والنهار سائل لجينه على المغرب قد تكرم. والطير قد أكثر الصياح كأنه لفراقه قد تبرّم. وقطعت سواد تلك الليلة مفكرا في الشيخ ونشاطه وخفة روحه وانبساطه. ولا أظن أنه يزورني في صبيحة غد؛ ليتم ما يصنعه في الغضب، ولا يظهر أن زاخره الهائج نضب. فما كان إلّا أن شقّ النور ثوب الظلماء، وبدّل بياقوت الشفق لؤلؤ سماء، ووقت الفجر ما ضاق، وجدول الصباح قد شرع بتموج نهره الرقّاق؛ وإذا بالباب يطرق وحسّ حمار ينهق. فأمرت من حضر بفتح الباب للطارق، وزجر شيطان ذلك الحمار الناهق وقلنا: ألا طارق يطرق بخير، وراكب حمار لا يخاف منه ضير، وإذا بالشيخ قد دخل، وسلّم، وسكت وإلّا كان تكلّم. فلم أر ساعة أسرّ من حين مقدمه، ولا خفا كان وفيه أكثر من تقبيل قدمه، وما كان إلّا أن حضر يطوي ما كان في أمس وطلع علينا هو والشمس. وطلّنا في يوم لا عيب فيه غير قصر، وسرور لا شيء فيه إلا فرط نداه في يد مهتصر «1» . واستشدى موشحات كبت نظمها وبلغته، ولم يقف عليها ولا سوغته. فأبرزت له ما ظنّ أنه من الأندلس وزفّ من الغرب فاق العرس، فقال فيها ما هو أهله من الجميل، وما عهدت من جنابه الجزيل. ثم أخذ يسألني عن الشخص الذي أشرت إليه في القصيدة فوفيت بما ضمنت من كتمانه وبحثه عن طريقه؛ فظنّ أنّ الفاضل شمس الدين محمد ابن الصائغ الزمردي هو ذلك الشخص. وكان لا يراه إلّا بعين النقص فلما اشتدّ هذا عنده وتصوّره، ورجع بباطنه فيه إلى آرائه المنكره، فبعث إليّ بقصيدة يذكّر فيها، ويذكر الإمام أبا عبد الله ابن الصائغ الأموي ذكرى متوافية، ولم يك للأول كنت ولا للثاني،(7/250)
وانما أساء في ذلك الظن، وهذا ما جرّته القافية.
وهذه القصيدة هي التي بعثها، ولوافح سمومه التي نفثها: [الطويل]
أيا سيّدا جاز المعالي والمجدا ... ليهنك مولى محسن أنجز الوعدا
على أنه قد راح جزء من اوّل ... وجز آن فاختلّ الكتاب وما أجدى
يذكرني ما قد بقي حسن ما مضى ... فينشئ لي غمّا وينبت لي حقدا
وفقدي لبعض منه فقدي لكلّه ... فياليت أني كنت أذكره فقدا
فابكيه ما شبّته نار بفارس ... بطرف زكا دمعا وقلب ذكا وقدا
واندبه ندب الهلول «1» وحيدها ... وقد نظمت من دار أدمعها عقدا
ومن عرض الحسناء يبدى عصارة ... بلا خطأ من راغب في الورى نقدا
أراك ازدرت عيناك حسن شبابها ... فأزريت بالمهدى وما كان قد أهدى
ولو سحت نجلا لا غنى عزّ أمة ... فلم ينتجز وعدا ولم ينتهز ردّا
ولو كنت قد شطّت بنا غربة النّوى ... فأذكرني ما قد جرى السؤدد العدّا
فلا تعجبن من سيّد نجل سيّد ... يلاطف بالإحسان رقّا له عندا
ببابك أضحى الناس يجمعهم هوى ... ولم أر فيه من غدا للورى ضدّا
كمشتركين اسما ووصفا كلاهما ... يميّزه وصف غدا لقبا فردا
أنافا على الصّوّاغ في أذنيهما ... فمن صاعد نجدا ومن هابط وهدا
ينفّق بالإيمان سلعة ما ادّعى ... فيعرفه علما وينكره جحدا
كتابي ملكي إن أكن بائعا له ... ولا واهبا بل مزج نظم له أدّى
أيسلبه هذا الصّويّغ عنوة ... وأتركه إني إذن لم أكن جلدا
فلا تحسبن أني تروك طلابه ... ولو أنني في الرمس أسكنه لحدا
فإن أحضر الديوان يقضي إلى الرضا ... ويقضى له بالسّكن أتبعه حمدا
وإن لا يكن علما فإني أبينها ... عقارب سمّ تلسب «2» العظم والجلدا(7/251)
وهأنذا أرسلت سهوا رسالة ... يخبّطه مسّا ويربطه شدّا
يطوف به بحرا وبرّا إذا أتى ... بذنب فقد ألقى بها هائما بردا
يعلّم فيه النحو من كان من بني ... أبي مرّة عندى الطلى بدنا مردا
فيعنى بمرد الجنّ عن مرد إنسنا ... ينادمهم فيما أعاد وما أبدى
وما الشعر والآداب إلّا فكاهة ... ترى الجدّ هزلا أو ترى هزله جدّا
ومن لم يكن في طبعه أدب فما ... يلذّ به أن سمعه عنه قد سدّا
ومحكم نفح للكلام هو الذي ... يقلّب في أنواعه باذلا جهدا
يقبّل روض العلم أحصله الندى ... فيقطفه زهرا وينشقه ندّا
وينظم ممّا كان نثرا وينشر الّ ... ذي كان نظما سالكا منتهى قصدا
فلا بمدال اللفظ سوقية ولا ... بحوشية قد بات ينحته صلدا
ولكنّه سهل المناحي لطيفه ... فلذّ به سمعا ويرشفه شهدا
ومن حاز آدابا وعلما وسؤددا ... يكن كابن فضل الله أسنى الورى حدّا
على أنه لا مثل أحمد في الورى ... أعزّهم نفسا وأشرفهم جدّا
وأوقدهم ذهنا وأنقدهم لغا ... وأبعدهم صيتا وأقربهم ودّا
يلوذ الندى والعلم والحلم والتقى ... بحقويه «1» لا يلقى له أبدا ندّا
غنيّ بأوصاف الكلام فلا يرى ... يريد بمدح لا تجارا ولا مجدا
فوقفت على هذا الجواب، ورأيت السكوت الصواب؛ إذ لا يمكنني الممالاة عليهما، لا سيّما وهما أبريا. ولا الممالاة على الشيخ لما يقتضيه الحيا. واضطربت على القصيدة صفحا، وأضرمت خاطري فتآكل بنار لفحا. وخفت أن يؤدي الفحص إلى معرفة الشخص، فحيل الوفاء بالضمان، وبحل ما عقد الزمان. وقلت للرسول الحامل بصحيفته ما لا يحضرني الآن نصه، ولا أعرف كيف كان عنقه ونصّه؛ إلّا أنّ معناه المباسطة، وباطنه للمغالطة؛ خشية على تلك الشياه من ذلك الذئب الغائب والرجل المغايب. استغفر الله، بل الأسد الملتقم(7/252)
والبحر الملتطم، والسهم الذي لا يردّ إذا خرج من اليد، والسيف الذي إذا ضرب، لا يرجع حتى يفجع. والأرقم الذي لم يقبل بل أسقم. وتماديت على ناظر ما أسقطت، وإظهار الضنانة بما التقطت. فلم ألبث أن عاد رسوله إليّ مسرعا وسلّم عنه، إمّا أدى الأمانة أو قال متبرعا، ثم أخرج إليّ منه ورقة كاغد، فقرأتها، فإذا فيها: [الطويل]
أتاني من الأوراق ثنتان فلتجد ... بثالثة من كان جاد وأفضلا
بها يكمل الجزء الذي كان ناقصا ... وكم ناقص كمّلته فتكمّلا
وكم لشهاب الدين عندي من يد ... بتقبيلها كادت يدي أن تقبّلا
ومن يكن الفاروق جدّا له يكن ... لذي العالم العلوي أشرف منزلا
دعوت أمير المؤمنين لأنه ... به بدأ الإيمان واعتزّ واعتلى
فأنجله منه مشابه علمه ... وعزة نفس قد أتتّ أن تذلّلا
تجافى عن الدنيا وعن زهراتها ... وأعرض عمّا غيره كان مبتلى
فلا ذكر إلّا في علوم يبينها ... ولا فكر إلّا في القران إذا تلا
فأرسلت له الورقة المعوّزة، وتقاضيت بتجهيزها مدائحه المنجزة، وأعدت إليه الرسول على الحافر، بقصيدة تحكي صبحها السافر: [الطويل]
بقيت أبا حيّان كنزا مؤملا ... ودمت لأهل الفضل كهفا وموئلا
فأنت إمام العصر غير منازع ... ولا نازل إلّا السّماكين منزلا
سحاب الندى بحر الجدا علم الهدى ... خصيم الردى كبت العدا كوكب العلا
وأقسمت ما ضمّت شبيها لفضله ... مجاري مدار الشّهب برّا مفضّلا
إمام تقيّ ما تقدّم مثله ... أتى آخرا عصرا وقد بزّ أوّلا
عقائل تصبينا ولم تدر ما بنا ... لهان عليها أن تقول وتفعلا
أما وهواها لم أقل لصبابتي ... أما وهواها غدرة وتنصّلا
فعند رضا الأحباب جبر وديمة ... وعند العتاب الموجري متنصّلا
تألّق برقا ثم أرسل مزنة ... فخوّف أحيانا بها ثم حوّلا
أتاني قصيد منه ما السحر غيرها ... فكم غادرت لفظا لبالي مبلبلا(7/253)
بعثت أثير الدين بردا منمّقا ... بعثت أثير الدين عقدا مفصّلا
فيعذب فيها للمسامع مجتنى ... ويحسن فيها للنواظر مجتلى
بلا ميّة حسناء ما لام عارض ... بأحسن منها في الخدود مقبّلا
ومن قبلها جاءت على الدال مثلها ... وقد جليت مثل الأهلّة منجلى
فعاينت نور النيّرين مقابلا ... وعاينت نوء «1» الغيث والبحر مقبلا
بدال ولام بعدها قد توافيا ... وذلك ممّا دلّ فكرا مضلّلا
ذللت على ما ضاع لو كان لحظه ... له عن عواديه فداء معجّلا
صحيفة تصنيف أحاط بعينه ... بكل لغات الفرس في الدولة الألى
منطّق خرس لا يفوه بلفظة ... من القول لولاه ولم يدر مقولا
بألسن فرس كان يخفى حديثهم ... فعرّفنا منه طريقا موصّلا
وما هو إلا ترجمان لعلمهم ... سنفتح منه كلّما كان مقفلا
له الثمن الغالي على لطف حجمه ... كذلك حجم الدرّ في القدر والغلا
لبثنا على تلك الصحيفة مدّة ... نحاول منه للصحيفة صيقلا «2»
ونسأل عنها وهي ليست تجيبنا ... كذلك ذات الجود أن تتبدّلا
فعاد إليّ رسوله بالجواب إلّا أنه انتقل في الوزن والرويّ، وجاء بما أضاء به من قدح زنده: [البسيط]
منطّق الخرس إنس قد كملت فلا ... ترى كمثلك شعرا قد سما وعلا
لما اعتنى بك مولى لا نظير له ... صرنا بعزّك فينا نضرب المثلا
تزين الفلك الأعلى بزينته ... زان الوجود وزان النيرين علا
مولى بذكراه أفواه الورى أرجت ... مسكا ودافت بها من ذكره عسلا
قد زيّن الله بالتقوى سريرته ... وحسّن القول منه الله والعملا
رشيد فعل شديد في مقالته ... فلا نرى خطأ فيه ولا خطلا
فالقول آيات قرآن يردّدها ... بالفكر والعمل الزاكي به اتّصلا(7/254)
ومن يكن عمر الفاروق محتده ... فلا يكون بغير الله مشتغلا
ألهاه عن نهجه الدنيا وزهرتها ... علم ودين وزهد أبطل الأملا
وصبر نفسي على تقوى توصّله ... لجنّة الخلد إذ كانت له نزلا
فلم ألبث أن كتبت إليه، وأعدت رسوله بالجواب عليه: [البسيط]
هذا الفريق جنوبي الحمى فسلا ... إن كان قلبي من بعد الفراق سلا
وهل وقفت بربع دون كاظمة ... أبكي وأندب من أطلاله طللا
ماذا أقول لبرق بات يومض لي ... لولا الثنايا لما أذهبته قبلا
ما بتّ أنكر من حال الثغور به ... إلّا افتقادي به الصهباء والعسلا
بل كيفما نكر راح كنت أشربها ... ممّا جلاه أبو حيّان كأس طلا
صهباء يزداد عقل الشاربين بها ... ما نال عقلي بها قد راع أو عقلا
فرحت أهتن في بردي بها عجبا ... لا أنني رحت منها شاربا ثملا
إن لم يكن من رضاب الغيد ريقتها ... فإنّها قد أعارت سحرها المقلا
دعج تنهّض نحو الفتك ناظرها ... لكي يدرّ على أجفانها الكسلا
وأنت تذكر شيئا فات من زمن ... ما غاله النقص إلّا أنّه كملا
أقسمت ما كان محتاجا لتكملة ... وكيف يحتاج طرف الأكحل الكحلا
معرّب للسان الفرس ما نطقت ... إلّا به صادق في كلّ ما نقلا
منطّق الخرس لولاه لما عرفوا ... سبل الكلام ولا اقتادوا له الذللا
هو الأثير ومنه أهل عنصره ... أما تراه بنار الكفر مشتعلا
لقد أتاني فيه كلّ غانية ... قد حاكت الريم إلّا الصدر والكفلا
ترمّ بيتي لا بيتا لجارتها ... مثل السحابة لا ريثا ولا عجلا
خود عليها من اللامات سابغة ... فهل رأيت الرداح «1» الخود أو بطلا
لا بل هي الخود لكن حشو مقلتها ... بيض تسل لقدّ يشبه الأسلا
فمرحبا بأثير الدين حيث أتت ... فريدة أصبحت في حسنها مثلا(7/255)
عقيلة من بنات الفكر ما برزت ... إلّا ونكّس وجه البدر أو خجلا
عقد من الدرّ إلّا أنّ ناظمه ... خلّى به الدرّ ملقى يشتكي العطلا
ثنّى لبيدا بليدا والبعيث بلا ... بعيث رأي وألقى الأخطل الخطلا
هل كالإمام أبي حيّان قدوتنا ... من يأخذ العلم عنه يرتق العملا
وأين مثل أبي حيّان من رجل ... لا يعدل الدهر في الدنيا به رجلا
يمّم حماه ومعناه وصورته ... تلق الهدى والندى والبدر مكتملا
ليث الشّرى غضبا صوب الحيا كرما ... طود النهى شرفا أفق السماء علا
كأنّه البحر لا بل بعض فكرته ... كأنه السيل لا بل ذاك إن سيلا
لقد حباني بتشريف أجرّ به ... على المجرّة من أذياله حللا
في كل وقت توافي منه مكرمة ... يفوق آخرها في فضله الأولا
ومن يكن بأبي حيّان سلوته ... آتى بيانا إذا ما فارق الدولا
صدقت أني بزهد قاطع أملي ... لولا التفاؤل لم أبق لي الأملا
ومن نظم أبي حيّان رحمه الله تعالى، قوله: [السريع]
راض حبيبي عارض قد بدا ... يا حسنه من عارض رائض
وظنّ قوم إنّ قلبي سلا ... والأصل لا يعتدّ بالعارض
وقوله: [الخفيف]
سبق الدمع بالمسيل المطايا ... إن نوى من أحبّ عنيّ نقله
وأجاد السطور في صفحة الخ ... دّ ولم لا يجد وهو ابن مقله
وقوله: [الخفيف]
من نصير المشوق من لحظ خصر ... كلّم القلب كلمة ليس بترا
تبع القلب شخصه إذ تولى ... وكذاك الكليم «1» يتبع خضرا(7/256)
وقوله: [الطويل]
عداتي لهم فضل عليّ ومنّة ... فلا أذهب الرحمن عنّي الأعاديا
هم بحثوا عن زلتي فأجبتها ... وهم ناقشوني فاكتسبت المعاليا
وقوله: [المديد]
حبيس بها سود العيون وناظر ... ويا ظالما كاد الجنون يسودا
لقد طعنت والقلب ساه فما درى ... أبا لقدّ مهّى «1» أم بصعدة شمّرا
وقوله: [المديد]
قد سباني من بني الترك رشا ... جوهريّ الثغر مسكيّ النفس
ناظري للورد منه غارس ... ما له لا يجتني ممّا غرس
لست أخشى سيفه أو رمحه ... إنّما أرهب لحظا قد نعس
لمس الكأس لكي نشربها ... فاعتراه هزة ممّا لمس
ثم أدّى جوهرا من جوهر ... وتحسّى الكأس في فرد نفس
وبدا يمسح بالمنديل ما ... أبقت الخمرة في ذاك اللعس «2»
عجبا منها ومنه قهقهت ... إذ حساها وهو منها قد عبس
وقوله: [البسيط]
أرحت روحي من الإيناس بالماس ... لمّا غنيت من الإكياس بالياس
وصرت في البيت وحدي لا أرى أحدا ... بنات فكري وكتبي هنّ جلاسي
وقوله في مثلّم ثغر: [الطويل]
ثناياك درّ والرّضاب الذي بها ... رحيق وقد أضحى ختاما على الخمر
تأرّج منها عرفها فغدت بها ... نشاوى نفوس لا تملّ كما تدري(7/257)
ورامت وصولا للندامى فلم تجد ... سبيلا بفيض ما يعوق من الدرّ
فلا تحسبوا أنّ انكسار ثنيّه ... بشين فكل الخير في ذلك الكسر
تأشّر منها بعضها ولعابها ... وأحسن ما في الثغر إن صار ذا أشر «1»
وصرنا متى نلثمه نرشف رضا به ... فتجري لنا الصهباء من لثمة الثغر
رضاب به يشفى الأوام أخو الصبا ... فكالشّهد في طعم وكالمسك في نشر
حباني به فرخ من الترك لم يصل ... من العمر إلّا أربعا فوق ما عشر
يكوّن من نور قوافي نهاية ... من الحسن إذ أضحى كيوسف في مصر
أنسنا بقرب منه من بعد وحشة ... وأبدلنا الوصل المهنّأ بالهجر
وأمتعنا من ريقه وجبينه ... بأشهى من الصّهبا وأبهى من البدر
بجسم حكى لونا سبيكة فضّة ... وقد أشربت شيئا يسيرا من التّبر
وعين له لحظا لفتنة ناظر ... كأن بها هاروت ينفث بالسحر
تناسبت الأعضاء منه فلا ترى ... بهن اختلافا بل أتين على قدر
أسرّح عيني في الملاح فلا أرى ... شبيها له فيهم ولا جال في فكر
تمازج روحانا هوى وصبابة ... فبالجسم في شفع وبالروح في وتر
وجاء لنا طوع المراد فلا يرى ... عصيا لنا في الطوع والنهي والأمر
نقضي به عيشا من الدهر صالحا ... ونجني به الآمال دانية الثمر
ومنه قوله: [الطويل]
هي الوجنة الحمراء والشّفة اللميا ... لقد تركاني في الهوى ميتا حيّا
هما ألبسا جسمي سقاما وواريا ... فؤادي غراما حمله الصعب قد أعيا
فمن مهجتي نار ومن مقلتي حيا ... متى اشتعلت هذي يزيّد ذا جريا
وبي من إذا ناجيته ذبت هيبة ... وجانبته جهرا وهمت به خفيا
مليح إذا ما لاح أبهت من رنا ... فاردى الذي أنأى وأحيا الذي حيا
عليم بنيّات النفوس وما حوت ... كأن له من نجو أسرارها وحيا(7/258)
تجمعت الأضداد فيه محاسنا ... فعبسته موت وبسمته محيا
وغرّته بدر وطرّته دجى ... وأعطافه ظمأى وأردافه ريّا
أغار اعتدالا كلّ غصن كمثل ما ... أغار السنا والناظر الشمس والظيّا
وأخجل نور البدر لمّا تقابلا ... فكلفة وجه البدر من فرط ما استحيا
عجبت لخال حلّ في وسط أنفه ... وعهدي به وسط الخدود يرى وشيا
ولكنما خدّاه فيه تغايرا ... هوى فابتغى من وجهه أوسط الأشيا
وحسن الفتى في الأنف والأنف عاطل ... فكيف إذا ما الخال كان له حليا
أيا باخلا حتى بتقبيل كفّه ... على من سخا حتى بحوباه في الدنيا
ألم ترأني طوع حسنك دائما ... وقلبي لا يعصيك أمرا ولا نهيا
ومنه قوله: [المديد]
أدمعي أجرى ودمعي قد ملك ... قمر قد لاح من سحب الحلك
بدر حسن حين يبدو للورى ... كلّ قلب ودّ لو أضحى فلك
صيغ من نور فلا يعلم هل ... بشرا أنشاه ربّي أم ملك
من بني التّرك صغير لم يدع ... لفؤادي جلدا أو لا ترك
ناسم عن نفحة مسكيّة ... باسم عن لؤلؤ فيها احتبك
فتنة تدعو القلوب للهوى ... لو رآه ناسك لما نسك
ضاع قلبي في هواه فأنا ... لست أدري أيّ شعب قد سلك
يا غزال القفر عدني زورة ... تحيي قلبا في التصابي قد هلك
بين جسمي والضّنى صلح كما ... بين قومي وجفوني معترك
فغرامي في الهوى قد انتهى ... وسقامي مذ عرا قد انتهك
نصب المعشوق عينيه لنا ... شركا والقلب أضحى في الشّرك
ومنه قوله: [الطويل]
هو الحسن حسن التّرك يسبي الورى لطفا ... ويعطف سالي القلب نحو الهوى عطفا(7/259)
يدرن من اللحظ السواجي «1» مدامة ... فلله ما أحلى ولله ما أصفى
وينصبن من هدب المآقي حبائلا ... فكم أنفس أسرى لذي المقلة الوطفا
وبي قمر منهن تبدي فأصبحت ... منازله من جسمي القلب والطّرفا
حكى الشمس وجها والغزال التفاتة ... وغصن النقا «2» عطفا ودعص «3» اللوى ردفا
أبدر بني خاقان رفقا بعاشق ... براه النّوى حتى لقد كاد أن يخفى
وقد عدتني يوما فعدني بمثله ... لعلّي من الأوصاب إن زرتني أشفى
يداوى أناس بالبعاد فما شفوا ... ولا شيء أبرى من وصال ولا أشفى
وما أنس لا أنسى زيارة مالكي ... ألاحظ منه البذر والغصن والحشفا
هصرت بذيّاك القوام أراكه ... وأفنيت تلك الراح من ريقه رشفا
أيا ذهبيّ اللّون روحي ذاهب ... فرفقا بهيمان على الموت قد أشفى «4»
ومنه قوله: [الكامل]
شرف الحرير بأن غدا لك ملبسا ... لم لا وجسمك منه ألين ملمسا
يا شادنا ما ازداد مني وحشة ... إلا وزاد القلب فيه تأنّسا
طلست «5» عقول الناس لمّا أن غدا ... يمشي الهوينا في قباء أطلسا
متنسّم عن نفحة مسكيّة ... متبسم عن أنشبيّ في الغسا «6»
هو ثالث القمرين وهو أتمّها ... نورا وأبعدها مدى أن يلمسا
إنّ التفاوت في العلو لموضح ... من كان أعلى في المنازل مجلسا
فالبدر في أولى السما والشمس في ... وسطى ومن أهواه حلّ الأطلسا(7/260)
ومنه قوله: [الطويل]
وما كنت أدري أن مالك مهجتي ... يسمّى بمظلوم وظلم جفاؤه
إلى أن دعاني للصّبا فأجبته ... ومن يك مظلوما أجيب دعاؤه
قال شيخنا أبو حيان: أنشدت هذين البيتين قاضي القضاة تقي الدين ابن بنت الأعز، قال: وكان يشعر شعرا جيدا، لكنه لا يتظاهر به، فأنشدني لنفسه بيتين حفظت منهما الأول، وهو: [مجزوء الرمل]
أنت مظلوم بظلمي «1» ... لست مظلوما بظلمي
ولم أستبن الثاني.
وعدنا إلي أبي حيّان، ومنه قوله: [مجزوء الرمل]
أترى يدري حبيبي ... ما أقاسي من لهيب
يا حبيبي ذاب قلبي ... من غرامي ونحيبي
أنت بدر أنت شمس ... أنت معشوق القلوب
يا هلالا يا غزالا ... مالكا قلبي الكئيب
لك وجه قمريّ ... وقوام كالقضيب
وعيون راميات ... لي بالسّهم المهيب
وخدود داميات ... مثل تفاح خضيب
وفم عذب صغير ... منبت الدرّ العجيب
فيه شهد فيه مسك ... لمذاق ولطيب
يا غريب الحسن رفقا ... بمعنّاك الغريب
أنت في كل زمان ... لست تخلو من رقيب
فمتى يرجو محبّ ... اجتماعا عن قريب(7/261)
يا حبيبي إن يدم ذا ... متّ شوقا للحبيب
ومنه قوله: [الرمل]
وبروحي من إذا أبصرته ... ذهبت روحي عليه حسرات
شادن سكران من دلّ الصّبا ... منه أضحت مهجتي في حبكرات «1»
شبّهوه في الهلال بالسنا ... أين منه خفر في الوجنات
من بني الأتراك معسول اللّمى ... قمريّ الوجه نوريّ الصفات
أسمر قد هزّلي من قدّه ... أسمرا يدري بخطيّ القناة
قوسه الحاجب والسهم له ... طرفه والقدّ يسطو بالظبات
قد غدا في حسنه في شكّه ... يهزم العشاق منه بالتفات
إن دنوا منه فسيف ينتضى ... أو نأوا عنه فسهم منه آت
أو تكونوا بين قرب ونوى ... أعمل الخطيّ في ذي النظرات
ومنه قوله: [الطويل]
تلمّح في عشّاقه فأشاحا ... وشدّ على الخصر النحيل وشاحا
وأضفى على الجسم النحيل مفاضة ... فشاهدت ليلي قد أجنّ صباحا
وجرّ قناة كالقوام لدونه ... وسلّ حساما كاللّحاظ جراحا
وأوتر قوسا كالهلال انحناؤه ... وفوّق «2» سهما كالقضاء مباحا
رأى منه أوصافا فضمّ شبيهها ... إليهن فازداد المليح سلاحا
وقد كان يغنيه عن الدّرع درعه ... وعن رمحه ما قد يفوق رماحا
وعن قوسه والسهم قوس وحاجب ... وعن سيفه لحظ يفلّ صفاحا
مجذّب عين جاذب بفتورها ... إليه قلوبا بالحياة شحاحا
يقيّد من يرنو إليها بحسنها ... فمدنفها ما يستطيع سراحا(7/262)
وما ضاق منه العين إلّا لبخله ... بوصلي وإن فاق الأنام سماحا
أرى رشدا فيه الغواية مثلما ... فسادي أراه في هواه صلاحا
وقد جدّ حبّي في هواه نهاية ... وكان ابتداء الحبّ فيه مزاحا
وما الحبّ إلّا نظرة إثر نظرة ... تزيد نموا إن تزده لحاحا
ومنه قوله في طبيب: [الكامل]
كتم اللسان ومدمعي قد باحا ... وثوى الأسى عندي وأنسى الرّاحا
إني لصبّ طيّ ما نشر الهوى ... نشرا وما زال الهوى فضّاحا
وبمهجتي من لا أصرّح باسمه ... ومن الإشارة ما يكون صراحا
ريم أروم جفوّه وجنوحه ... ويروغ عني جفوة وجماحا
أبدى لنا من شعره وجبينه ... ضدّين ذا ليلا وذاك صباحا
عجبا لنا يأسو الجسوم بظنّه ... وكما بأرواح أثار جراحا
نادمته في ليلة لا ثالث ... إلّا أخوه البدر غار فلاحا
يا حسنها من ليلة لو أنها ... دامت ومدّت للوصال جناحا
وقوله: [المتقارب]
غزيّلة ترتقي في الحشا ... سميرا تزرّى بسمر الرّماح
حمى البطن عن بردها نهدها ... كما قد حمى المتن ردف رداح
شكى غلظ الساق خلخالها ... كما رقة الخصر تشكو الوشاح
فلو خطّ هذا بموضع ذا ... لقد كان هذا وذاك استراح
لها أعين هنّ غيّبنني ... سود تخيف أسود الكفاح «1»
فلا تغترر بسقام بها ... فكم كسّرت من قلوب صحاح
ولا تعتقدها سوى أسهم ... ألم تر ما أثّرت من جراح(7/263)
وقوله في غلام أسود عثمان، ومعه عبد له أسود: [الطويل]
وريم حكى بدر الدّجى في جماله ... وغصن النّقا في القدّ والظبي في اللّمح
شكا وهجا من طول صوم وحرّه ... فخفّف عنه بعض ذلك بالسّبح
تجرّد عن جسم سبيكة فضّة ... فيا حسن ما انشقّ الظلام عن الصّبح
وقارنه في العوم زنجي جلده ... فلاحا لنا ضدّين بالحسن والقبح
وقالوا غروب الشمس في البحر آية ... ونحن رأينا ذاك في الحلو لا الملح
وكم مرّ لي وقت تمنّيت وصله ... وذو الصبر للأيام يظفر بالنّجح
فسحقا لأيام تقضّت بخيلة ... وسقيا ليوم صالح بالمنى سمح
رأيت الذي أهواه فيه مجالسي ... تعاطى كؤوس الأنس بالجدّ والمزح
ويبسم عن سلك من الدّر أشنب ... وينسم عن مسك ذكيّ على النّفح
همو شبّهوا بالشمس نور جبينه ... وبينهما فرق سليم من القدح
تغيب ونور الشّمس لا شكّ واحد ... وعثمان ذو النورين يمشي كما يضحي
وما أنس لا أنس انفرادي بوصله ... عشية ما أشكو أقاسي من البرح
فنام قرير العين ملء جفونه ... وجفني ذو قرح ودمعي ذو سحّ
ومنه قوله: [الكامل]
ذو غرّة نوريّة ذو طرة ... ظلميّة فيها ضلال من اهتدى
شرك النواظر والخواطر طرفه ... فلكم به طير القلوب تصيّدا
ما إن يهزّ منفّقا من قدّه ... إلّا وكان به فؤادي مقصدا
ولما يسيل مهنّدا من لحظه ... إلّا غدا وسط الجوانح مغمدا
ولما يعنّيك الفريض مردّدا ... إلّا وأنساك العريض ومعبدا
غنّى فأطرب كل شيء لحنه ... حتى الجماد غداه منه ما غدا
كم حرّكت نغم له من ساكن ... ولكم بها نعما لدينا أوجدا
كادت تطير من السرور قلوبنا ... لو لم يكن قلب لجسم قيّدا
شرفت على أبصارنا أسماعنا ... إذ قام فيها بالأغاني منشدا(7/264)
فلئن غدا في الحسن أوحد عصره ... فلقد غدا في الحزن قلبي أوحدا
يا نائما ملء الجفون دع الجفا ... وارحم مليّا من هواك مسهّدا
ولقد بداه منك ودّ ظاهر ... يا ليت شعري ما حدا ممّا بدا
ومنه قوله: [الكامل]
نور بخدّك أم توقّد نار ... وضنى بجفنك أم خمار عقار
وشذى بريقك أم تأرّج مسكه ... وسنا بثغرك أم شعاع دراري
جمعت معاني الحسن فيك فقد غدت ... قيد القلوب وفتنة الأبصار
متصاون خفر «1» إذا ناطقته ... أغضى حياء في سكون وقار
في وجهه زهرات روض تجتلى ... من نرجس مع وردة وبهار
خاف اقتطاف الورد من وجناته ... فأدار من أسر سياج عذار
وتسلقت نمل «2» العذار «3» بخدّه ... ليردن شهدة ريقه المعطار
وبخدّه نار حمتها وردها ... فوقفن بين الورد والإصدار
كم ذا أواري في هواه محبّتي ... ولقد وشى بي فيه فرط أواري
حكم الجمال عليّ أني عبده ... وجماله مستعبد الأحرار
ومنه قوله: [البسيط]
عشقته عندما تمّت محاسنه ... وقد تسيّج ورد الخدّ بالزّغب
حلو الحديث لطيف الروح طيّبه ... كأنما صيغ من درّ ومن ذهب
مضارع لي فيما قد يروم به ... من غير فحشاء نأتيها ولا ريب
مكمّل الخلق من فرع إلى قدم ... مبرّأ الخلق من عجب ومن غضب
رشفت منه رضابا طيبا لعسا «4» ... وذقت من ريقه أحلى من الضّرب(7/265)
سكرت من ريقه المعسول إنّ به ... لخمرة هي تزرى بابنة العنب
جذبت من قدّه غصنا فجاذبني ... ما أثقل الغصن من أرادفه الكثب
وقد عجبت لبدر فوق خوطته «1» ... وقيل ما إن عهدنا البدر في القضب
وكان في خدّه خال ففارقه ... لما رأى حمرة ترميه باللهب
وفرّ محتميا بالأنف محتجبا ... واسودّ من لفحة أدنته للعطب
وخاف من حمرة نمل العذار وقد ... رام التنزل من علو إلى صبب
فظل حيران رفقا فوق عارضه ... يظما إلى شهده من ربقة الشّهب
ومنه قوله: [الرمل]
وبروحي شادن مسكيّه ... مقلة تهمي وقلب يجف «2»
قمريّ الوجه نوريّ السنا ... لو رآه هام فيه يوسف
غصن بان تحته دعص نقا ... فوقه شمس ولا ينكسف
عينه صاد ونون حاجب ... صدغه واو وقدّ ألف
عجبا للواو لا تعطفه ... وهي وسط خدّه تنعطف
بان عذري في عذار حلّ في ... أبيض تحميه سود وطف «3»
إن تك الأضداد فيه اتفقت ... فعلينا بالهوى نختلف
من نصيري من غزال غزل ... عن هواه الدهر لا أنصرف
قد كتمت عنه حبّي زمنا ... وهو لا شكّ به يعترف
كلّما كلّفت قلبي عنكم ... صبره زاد بقلبي الكلف
ومنه قوله: [الطويل]
إذا كان إحساني لكم تهدرونه ... على غير شيء كنت أولى لهم هدرا(7/266)
إذا كان بدر الأفق يأبى بزوغه ... عليّ منعت العين أن تنظر البدرا
إذا كان حلّى مظهرا لي تكبرا ... عليّ فإني أملأ الارض لي كبرا
إذا كان ذو جاه ومال تزوره ... سنين فلم ينفعك فاخطط له قبرا
إذا كان مأمولا ترجي بلوغه ... وفات فلا تحدث له أبدا ذكرا
إذا كان سرّ ضقت صدرا بحفظه ... فلا تعتبن من ضاق يوما به صدرا
إذا كان بعض المال يكفيك فاقتنع ... تصون به وجها وتحيي به حرّا
إذا كان عسر قد أضرّك فاصطبر ... له وارتقب من بعده عاجلا يسرا
إذا كان فضل المرء وافاك باديا ... أجزه به فضلا وزد فوقه شكرا
إذا كان سعد لم تبال بكل من ... يعاديك فاعمل صالحا وادّخر أجرا
إذا كان خبث في صديقك فاحترز ... فإنّ خفايا الخبث تبغي لك الشرّا
إذا كان ودّ المرء فيك معلّلا ... بأمر تقضّى إن قضى فلك الأمرا
إذا كان سوء الظنّ حزما فعوّلن ... عليه فحسن الظن يرجى لك الضرّا
إذا كان هفو من مواليك فليكن ... له منك عفو تلقه صاحبا برّا
ومنه قوله: [الوافر]
جديد الحسن في خلق تبدّى ... فحار الطرف وارتاع الفؤاد
فقلت وقد مضى قلبي إليه ... أعده فقال ماض لا يعاد
ومنه قوله: [الطويل]
فلما تدانينا ودون كلامنا ... كلام الرقاق البيض والذبّل السّمر
بكيت وأبدى ثغرها لي تبسما ... ولا عجب أن يبسم الزّهر للقطر
ومنه قوله: [الطويل]
على قدر حبّي فيك وافاني الصّبر ... فلست أبالي كان وصلك أم هجر
وهل نظري ألّا سلام ونظرة ... وقد حصلا والذلّ يأنفه الحرّ
سأسلوك حتى لا أراك بناظري ... وأنساك حتى لا يمرّ بك الفكر(7/267)
ومنه قوله: [الطويل]
وقالوا الذي تهواه أصبح قد بدا ... بخدّيه شعر سالب كلّ ناظر
وما الخدّ منه غير مرآة صيقل ... وما الشّعر فيه غير هدب النواظر
ومنه قوله: [البسيط]
وا رحمتا لفؤادي كم أعنّفه ... فليس يردعه قول ولا عمل
مرّت عليه دهور لا يصيح إلى ... داعي الهوى وله نحو الصّبا ميل
ومنه قوله: [مخلع البسيط]
بعيد ودّ قريب صدّ ... كثير عتب قليل عتبى
كالشمس طرفا «1» كالمسك عرفاى ... كالخشف ظرفا كالصخر قلبا
ومنه قوله: [البسيط]
إني لأسمع من خلد وحين أرى ... حتى يحدثني أصغي على صمم
كيما يلذّ بتكرار الكلام معي ... أدني ويلفظ منه الدرّ في الكلم
وحكى شيخنا أبو حيّان، قال: قدم علينا الشيخ المحدّث أبو العلا محمود بن أبي بكر البخاري الفرضي القاهرة في طلب الحديث، وكان رجلا حسنا طيب الأخلاق لطيف المزاج، فكنّا نسايره في طلب الحديث. فإذا رأى صورة حسنة، قال: هذا على شرط البخاري.
فنظمت هذه الأبيات: [الطويل]
بدا كهلال العيد وقت طلوعه ... وماس كغصن الخيزران المنعّم
غزال رخيم الدلّ «2» وافى مواصلا ... مواصلة منه على رغم لوّمي
مليح غريب الحسن أصبح معلما ... بحمرة خدّ بالمحاسن معلم
وقالوا على شرط البخاريّ قد أتى ... فقلنا على شرط البخاري ومسلم(7/268)
فقال مولانا: أنا البخاري فمن مسلم؟ قلت: أنت البخاري وأنا المسلم. قال: وتشبه هذه الحكاية ما جرى بين الحافظ أبي عمر ابن عبد البرّ النمري والحافظ أبي محمد علي بن أحمد اليزيدي، كانا يتسايران في سكة الخطابين من إشبيلية فاستقبلهما غلام وضيء الوجه. فقال أبو محمد: إن هذه لصورة حسنة. فقال أبو عمر: لعلّ ما تحت الثياب ليس هناك. فأنشد أبو محمد ارتجالا: [الطويل]
وذي عذل صعب سباني حسنه ... يطيل ملامي في الهوى ويقول
أفي حسن وجه لاح لم تر غيره ... ولم تدر كيف الجسم أنت قتيل
فقلت له أسرفت في اللّوم عاذلي ... وعندي ردّ لو أردت طويل
ألم تر أني ظاهريّ وأنني ... على ما بدا حتى يقوم دليل
وحكى أبو حيّان أيضا، قال: اجتمعت أنا والقاضي علاء الدين بن بنت الأعز والقاضي فخر الدين بن درباس في متنزّه، وإذا بغلام يعوم في النيل ويتلطخ بالتراب ويسبح، فنظم كلّ منّا قصيدة في ذلك من غير أن يطّلع على نظم الآخر أو يتقارب في المعنى: [الكامل]
ومترّب قد ظنّ أن جماله ... سيصونه منّا بترب أعفر
فغدا يضمّخه فزاد ملاحة ... إذ قد حوى ليلا بصبح أنور
وكأنما الجسم الصّقيل وتربه ... كافورة لطخت بمسك أذفر «1»
وقال القاضي علاء الدين: [الكامل]
ومترّب لولا التراب بجسمه ... لم تبصر الأبصار منه منظرا
وكأنه بدر عليه سحابة ... والتّرب ليل من سناه أقمرا
وقال القاضي فخر الدين: [الكامل]
ومترّب تربت «2» يدا من حازه ... لقضيب تبر ضمّخوه لعنبر(7/269)
وكأن طرّته ونور جبينه ... ليل أطلّ على صباح أنور
وتوفي رحمه الله ورثاه جماعة من الفضلاء. فمنهم الفاضل العلامة صلاح الدين أبو الصفاء الصفدي، رثاه بقوله: [السريع]
مات أثير الدين شيخ الورى ... فاستعر البارق واستعبرا
ورقّ من حزن نسيم الصّبا ... واعتلّ في الأسحار لمّا سرى
وصادحات الأيك في نوحها ... رثته في السجع على حرف را
يا عين جودي بالدموع التي ... يروي بها ما ضمّه من ترى
واجري دما فالخطب في شأنه ... قد اقتضى أكثر مما جرى
مات إمام كان في علمه ... يرى إماما والورى من ورا
أمسى منادي للبلى مفردا ... فضمّه القبر على ما يرى
يا أسفا كان هدى ظاهرا ... فعاد في تربته مضمرا
وكان جمع الفضل في عصره ... صحّ فلمّا أن قضى كسّرا
وعرّف الفضل به برهة ... والآن لمّا أن مضى نكّرا
وكان ممنوعا من الصرف لا ... يطرق من وافاه خطب عرا
لا أفعل التفضيل ما بينه ... وبين من أعرفه في الورى
لا بدل عن نعته بالتقى ... ففعله كان له مصدرا
لم يدّغم في اللحد إلا وقد ... فكّ من الصبر وثيق العرى
بكى له زيد وعمرو فمن ... أمثلة النحو وممّن قرا
ما أعقد التسهيل من بعده ... فكم له من عسرة يسّرا
وجسر الناس على حوضه ... إذ كان في النحو قد استبحرا
من بعده قد حال تمييزه ... وحظه قد رجع القهقرى
شارك من قد ساد في فنّه ... وكم له فنّ به استأثرا
دأب بني الآداب أن يغسلوا ... بدمعهم فيه بقايا الكرى
والنحو قد سار الردى نحوه ... والصرف للتصريف قد غيّرا(7/270)
واللغة الفصحى غدت بعده ... يلغى الذي في ضبطها قرّرا
تفسيره البحر المحيط الذي ... يهدي إلى وارده الجوهرا
فوائد من فضله جمة ... عليه فيها يعقد الخنصرا
وكان نبتا بقلة حجة ... مثل ضياء الصبح قد أسفرا
ورحله في سنّة المصطفى ... أصدق من يسمع إن خبّرا
له الأسانيد التي قد علّمت ... فاستثقلت عنها سواجي الذّرى
ساوى بها الاحفاد أجدادهم ... فاعجب لماض فاته من طرى
وشاعرا في نظمه مبلغا ... كم حذّر اللفظ وكم خبرّا
له معان كلّما خطّها ... يستر ما يرقم في تسترا «1»
أفديه من ماض لأمر الردى ... مستقبلا من ربّه بالقرا
ما بات في أبيض أكفانه ... إلّا وأضحى سندسا أخضرا
تصافح الحور له راحة ... كم تعبت في كلّما سطّرا
إن مات فالذّكر له خالد ... يحيا به من قبل أن ينشرا
جاد ثرى واراه غيث إذا ... مسّاه بالسقيا له بكّرا
وخصّه من ربه رحمة ... تورده في حشرة الكوثرا
وأحسن الله العزا فيه لل ... مولى فريد الدين بل للورى(7/271)
[علماء النحو بمصر](7/273)
1- أبو جعفر النحّاس «13»
وأما المصريون فمنهم أبو جعفر النحاس، أحمد بن إسماعيل بن يونس المرادي النحوي المصري. فقير لا يلحق بتابع، وممسك ضمت في راحتيه الأصابع. لو أن الماء في كفه لجمد، أو الضياء في وصفه لخمد. وكان لو أراد لتوسع كثرا، أو انقلب في الثرى لأثرى. هذا وفهمه لا يفشل وعلمه لا يستوشل، بفطنة أورى من الزناد، وأروى من العهاد «1» . تقدّم في أول الرعيل. ويتوقد وقد نفط نفطويه وخمدت نار الخليل. وكان عالما بالقرآن والفقه. رحل إلى العراق وأخذ عن الزجاج وكان ينظر بابن الأنباري ونفطويه. وكان ربّما وهبت له العمامة فيقطعها ثلاث عمائم، من شدة التقتير على نفسه. وصنّف إعراب القرآن، وكتاب المعاني وكتاب اشتقاق أسماء الله الحسنى، وتفسير أبيات كتاب سيبويه. وكلّ من جاء بعده استمدّ منه. وفسّر عدة دواوين وأملاها. وله رواية كبيرة عن علي بن سليمان الأخفش. ولقي بالعراق أصحاب المبرّد. وتوفي بمصر سنة سبع وثلاثين وثلاثمئة، وقيل سنة ثمان وثلاثين.(7/275)
ومنهم:
2- طاهر بن أحمد بن بابشاذ «13»
أبو الحسين النحوي المصري العراقي المحتد. رجل محتد ذكي الألعبة زكي اللوذعة «1» .
سديد النظر شديد الرأي المحتضر. دنا من مجالس الخلفا، ووسع لتقريبه محالّ الاصطفا.
وكان من وراء الخلفاء الجليس، الذي لا ينافس في دنوّ محلّ، ولا يناقش في إبرام عقد ولا حلّ؛ حتى كان فردا للنظرا، وقياس الآراء والمخصوص بخصب الجناب وقرب المحل قبل ابن الخبّاب. هذا إلى ما وكل به من تهذيب الكتب وتذييب تلك الأعلام الكثب. مع شيء قديم ومرمى قويم، ومال موروث وثرا، ومال منه فضل للفقرا، وكان جدّه جوهريا من بغداد.
قدم مصر تاجرا فسكنها، وكان متولى بتحرير الكتب الصادرة عن ديوان الإنشاء بمصر في الدولة المصرية. وله رزق سنيّ على ذلك، وعلا التصدر للإقراء بجامع عمرو بن العاص. ثم إنه في آخر عمره تزهد وانقطع في غرفة بالجامع، واشتمل على العبادة. وهو شيخ محمد بن بركات السعيدي اللغوي المتولي بعده لوظيفته. وقيل بسبب تزهده أنه كان له قط يأنس به قد ربّاه أحسن تربية، وكان طاهر الخلق لا يخطف شيئا ولا يؤذي، وأنه اختطف يوما من بين يديه فرخ حمام مشوي فعجب له، ثم عاد به لحظة فخطف فرخا آخر، فذهب فتبعه إلى خرق في البيت، فدخله وقفز منه إلى سطح قريب وقد وضع بين يدي قط هناك، فتأمل الشيخ القط فإذا القط أعمى مفلوج فخصره قلبه، واتعظ بذلك وتزهّد، وضمّ أطرافه وباع ما حوله. فبقي كذلك مدّة ثم خرج ليلة إلى سطح الجامع في بعض الطاقات، فسقط ميتا، وأصبح ميتا شهيدا وذلك في سنة أربع وخمسين وأربعمائة، وقيل بعد ذلك.(7/276)
ومنهم:
3- ابن برّي «13»
واسمه عبد الله بن برّي بن عبد الجبار بن برّي النحوي اللغوي المصري. دخل في خدمة الخلفاء على طريقة ابن بابشاذ، ورفعت به مصر رأسها على بغداذ، وكان من بيت المقدس تربته، ومن الأقصى بها غربته؛ على أن واديه المقدس كان أوطانه إليه وأوطاره. ولو خلع شراك جبينه قبل نعليه. بلغ بعد فراق بيت المقدس غاية في اللسان العربي، ورحل عن الطور فنودي من جانبه الغربي؛ إلّا أنه ما خلا ممّن تكلّم ورماه بسهامه. وما تألم إلّا أنه كان منغمسا في غمار الغفلة، وبعد الذهن الذي ما فيه قلّة، وتعوذ بالله من خلل النسا ولعب السفلة بالرؤساء. أرادت تهذيب أخلاقه فغدرته من مخ جحش شويا، كما حفظت قدرة للثرى كذا رفعت قربة للثريا.
ولد بمصر سنة تسع وتسعين وأربعمائة، وقرأ على مشايخ زمانه، وانفرد بهذا الشأن.
وقصده الطلبة من الآفاق، وكان عالما بكتاب سيبويه وعلله. قيمّا باللغة وشواهدها، وكان إليه التصفّح في ديوان الإنشاء، لا يصدر كتاب عن الدولة إلى ملوك النواحي إلّا بعد أن يتصفّحه ويصلح ما فيه من خلل خفيّ. وهذه كانت وظيفة ابن بابشاذ. وكان ينسب إلى الغفلة في غير العربية، وتجلّى عنه حكايات.
وتصدّر غير واحد من أصحابه وبرع، وكان قليل التصنيف. له مقدّمة سمّاها اللباب، وجواب المسائل العشر التي سأل عنها أبو تراب ملك النحاة. وحاشيته على صحاح الجوهري فإنها أفردت فجاءت ستة مجلّدات.
قال ابن خلكان: ورأيت له حواشي على درّة الغوّاص في أوهام الخواص للحريري. وله(7/277)
جزء لطيف في أغاليط الفقهاء. وله الردّ على ابن الخشاب في الكتاب الذي بيّن فيه غلط الحريري في المقامات، وانتصر للحريري وما أقصر فيما عمله. وتوفي بمصر في شوال سنة اثنتين وثمانين وخمسمئة وكان وسخ الثوب رديء الهيئة واللبسة. يحكي عنه المصريون عجائب منها: أنه اشترى لحما وخبزا وبيضا وحطبا، وحمل الجميع في كمّه، وجاء إلى منزله فوجد أهله قد ذهبوا لبعض شأنهم والباب مغلقا، فتقدّم إلى كوّة هناك تفضي إلى داره، فجعل يلقي منها الشيء بعد الشيء، ولم يفكر في تكسير البيض، وأكل السنانير اللحم والخبز إذا خلت به. ومنها أنه اشترى عنبا وجعله في كمّه، وحادث بعض أصحابه وجعل يعبث بالعنب حتى سال على رجليه، فقال لصاحبه: نجي المطر؟ فقلت: لا، فقال: فما هذا الذي سقط على رجلي؟ قال: فأملته، فإذا هو العنب، فاخبرته فخجل واستحيا ومضى.
ويحكون عنه من الحذق وحسن الجواب عمّا يسأل عنه ما يعجب. وله نسختان، الجامع بين الأضداد. ويحكى عنه أنه كان لا يتكلف في كلامه، ولا يتقيد في الإعراب بل يسترسل في حديثه كيفما اتّفق، حتى قال يوما لبعض تلامذته ممن يشتغل عليه: اشتر لي هندباء بعروقو، فقال له التلميذ: بعروقو، فعزّ عليه كلامه، وقال له: لا تأخذه إلّا بعروقو، وإن لم يكن بعروقو لا تأخذه. وكانت له ألفاظ من هذا الجنس، لا يكترث بما يقوله، ولا يتوقف على إعراب.
ومنهم:
4- بهاء الدين ابن النحاس «13»
محمد بن إبراهيم بن محمد ابن أبي نصر، أبو عبد الله الحلبي، شيخ العربية بالديار المصرية. طالما سهر جفنه للسهر بالإغراء، ورفع خبر ليله بمبتدأ الليلة الغرّا. برع بمصر ففاض فيض النيل في جنباتها، وقال مقيل النعيم في جنّاتها. وكان محسودا على ما أتاه الله من(7/278)
فضله، وواتاه من حسن فعله إلّا أنّ حساده على كثرة عددهم لم يجمعوا لديه إلا جمع القلّة، ولا متّ الصحيح إليه إلّا بما يلزمه من حروف العلّة؛ لعلوّ رتبة اخترق أطباقها، وجارى النجوم وبذّ «1» سباقها فحلّ النجاد «2» ، وخلّى البجاد «3» وأجاد، وغيره في أبي جاد.
ولد في سلخ جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين وستمئة بحلب. وسمع ابن الليثي وابن النفيس النحوي وابن رواحة وابن خليل ووالده. وقرأ القرآن على أبي عبد الله الفاسي، وأخذ العربية عن الجمال بن عمرون، واستوطن مصر لمّا خربت حلب.
وقرأ على الكمال الضرير وغيره. ثم جلس للإفادة، وتخرج به جماعة من الأئمة وفضلاء الأدب، وكان من الأذكياء. وله خبرة بالمنطق وأقليدس، وكان مشهورا بالصدق والعدالة والدين مع اطّراح الكلفة وصغر العمامة ويمشي في الليل بين القصرين بقميص وطاقية على رأسه. وكان حسن الأخلاق فيه ظرف النحاة، وكان له مكانة من الناس. وإذا انفرد بشهادة حكم فيها، واقتنى كتبا كثيرة نفيسة، ولم يتزوج. وكان له أوراد من العبادة، كثير التلاوة، كثير الذكر. يسعى في مصالح الناس.
قال أبو الصفا: حكى لي عنه القاضي عماد الدين إسماعيل ابن القيسراني أنه لم يأكل العنب، قال: لأنه كان يحبّه فآثر أن يكون نصيبه في الجنّة.
وقال: أخبرني الحافظ ابن سيد الناس اليغمري، قال: زكّى بعض الفقهاء تزكية عند بعض القضاة ما زكّاها أحد قطّ؛ لأنه أمسك بيد المزكي، وقال للقاضي: الناس ما يقولون: ما نؤمن على الذهب والفضة إلّا حمار. قال: نعم. قال: وهذا حمار. وانصرف بحكم القاضي بعدالة ذلك المزكي.(7/279)
قال: وأخبرني غير واحد عنه أنه لم يزل عنده في بيته من الطلبة ومن أصحابه من يأكل عنده على ما يديه، ولا يدخر شيئا، ولا يخبئه عنهم. ويدخل الداخل عليه فيجد في بيته هنا أناس يلعبون بالشطرنج وهنا أناس يطالعون وكل واحد في شأنه، لا ينكر أحد على أحد شيئا، ولا يزال رضيا حتى يكون وقت الاشتغال فيتنكّر. وكان ربّما تنسّم فقام وأكمل إلقاء الدروس للطلبة بين القصرين وهم يمشون. وكان لا يتكلم في حلّ النحو إلّا بلغة العوام، لا يراعي الإعراب.
قال شيخنا أبو حيّان: كان بهاء الدين ابن النحاس، ومحيي الدين محمد بن عبد العزيز الماروني، المقيم بالإسكندرية شيخي الديار المصرية، ولم ألق أحدا أكثر سماعا منه لكتب الأدب. وانفرد بسماع الصحاح للجوهري. وكان ينهى عن الخوض في العقائد، ويتردد إلى من ينتمي إلى الخير. ولي التفسير بالجامع الطولوني وبالقبة المنصورية، والتصدر بالجامع الأقمر وتصادير بمصر، ولم يصنف شيئا إلّا ما أملاه على سنان الدين الرومي شرحا لكتاب المقرّب، إلى أول باب الوقف أو نحوه. وكنت أنا وإيّاه يمشي بين القصرين فعبر علينا صبي يدعى بجمال وكان مصارعا، فقال ابن النحاس: لينظم كلّ منّا في هذا المصارع. فنظم ابن النحاس: [البسيط]
مصارع تصرع الآساد سمرته ... تيها فكل مليح دونه همج «1»
لما غدا راجحا في الحسن قلت لهم ... عن حسنه حدّثوا عنه ولا حرج
ونظم شيخنا أبو حيّان: [الطويل]
سباني جمال من مليح مصارع ... عليه دلال للملاحة واضح
لئن عزّ منه المثل فالكلّ دونه ... وإن خفّ منه الخصر فالرّدف راجح
وسمع شهاب الدين الفزاري بذلك فقال: [السريع](7/280)
هل حكم ينصفني في هوى ... مصارع يصرع أسد الشّرى
مذ فرّ مني الصبر في حبّه ... حكى عليه مدمعي ما جرى
أباح قتلي في الهوى عامدا ... وقال لي كم عاشق في الورى
رميته في أسرجيّ «1» ومن ... أجفان عينيه أخذت الكرى
قال أبو حيّان: وانشدني ابن النحاس لنفسه يخاطب الشيخ رضي الدين الشاطبي وقد كلّفه أن يشتري له قطرا: [الخفيف]
أيّها الأوحد الرضيّ الذي طا ... ل علاء وطاب في الناس نشرا
أنت بحر لا غرو إن نحن (م) ... واقيناك راجين من نداك قطرا
وقال يرثي الشيخ أحمد المصري النحوي: [الطويل]
عزاؤك زين الدين في الواحد الّذي ... بكته بنو الآداب مثنى وواحدا
هم فقدوا منه الخليل بن أحمد ... وأنت ففارقت الخليل وأحمدا
وقال مما يكتب على منديل: [الخفيف]
ضاع مني خصر الحبيب نحولا ... فلهذا الضّحى عليه أدور
لطفت حرقتي ورقّت فجلّت ... عن نظير مما حكتها الحضور
وقال: [الكامل]
إني تركت لذا الورى دنياهم ... وظللت أنتظر الممات وأرقب
وقطعت في الدنيا العلائق ليس لي ... ولد يموت ولا عقار يخرب
وقال: [الرمل](7/281)
قلت لمّا شرطوه وجرى ... دمعه القاني على الخدّ اليقق «1»
ليس بدعا ما أتوني فعله ... هو بدر ستروه بالشّفق
توفي بالقاهرة يوم الثلاثاء. سابع جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين وستمئة وغالب روايات شيخنا أبو حيّان. كتب الأدب عنه، وكتب الخط الفائق. وقيل: كان يحفظ ثلث الصحاح للجوهري.(7/282)
[أرباب المعاني والبيان](7/283)
وأما أرباب المعاني والبيان، وهم خواص أهل العربية وأعيان من نظر منهم في أسرارها ونقّب عن تمام بدورها الكوامل وسرارها «1» ، وقليل ما هم ومن هم.
وقد تكلموا على المعاني والألفاظ، وسمّوا الأول المعاني والبيان. وسمّوا الثاني البديع.
وهو كاشف عن عجائب الكتاب والسنّة، ومخرج من خبايا معانيه غرائب الأجنّة. وقد ذكر ابن أبي الإصبع في كتابه، تحرير التحبير أن ابن المعتزّ وقدامة أول من اعتنى بعلم البديع، وقال ما معناه: أن ابن المعتز هو الذي سمّاه البديع واختصر في كتابه بهذه التسمية على خمسة أبواب، قد ذكرها في العيون ضمن المعاطلة؛ لأنه قال: ولا أرى المعاطلة إلّا ما حسن من الاستعارة سمّاه المعاطلة. والحسن منها سمّاه ابن المعتز بديعا. ولم يبوب قدامة في المحاسن.
وانفرد ابن المعتز بتبويبه غاية في البديع، التجنيس والطباق متواردا مع قدامة عليهما، وردّ الأعجاز على الصدور منفردا به وختمها بخامس عزا تسميته إلى الجاحظ، وهو المذهب الكلامي منفردا به. وإن كان ما قبله من الأسماء قد سبقت المغرب إلى وضعها؛ لكن لا على مراد ابن المعتز وربّما سبق ابن المعتزّ إلى نقلها عن مسمياتها إلّا وله إلى ما أراد.
وقال ابن المعتز في صدر كتابه: وما جمع قبلي فنون البديع أحد، ولا سبقني إلى تأليفه مؤلف، وألّفته سنة أربع وستين ومئتين. وأول من نسخه مني علي بن يحيى بن منصور المنجّم. ثم قال بعد سياقه الأبواب الخمسة: وهم الآن، نذكر محاسن الكلام والشعر؛ وإن كانت محاسنها كبيرة، لا للعاقل العالم أن يدعي الإحاطة بها حتى تبرأ من شذوذ بعضها عن عمله. واجبنا بذلك أن نذكر فوائد كتاب للمتأدّبين ويعلم الناظر فيه أنّا قد اقتصرنا بالبديع على الفنون الخمسة؛ اختيارا من غير جهل بالطريقة، ولا ضيق في المعرفة. فمن أحبّ أن يقتدي بنا، ويقتصر عن تلك الخمسة بالبديع فليفعل. ومن أضاف من هذه المحاسن أو غيرها شيئا إلى البديع وارثا غير رأينا فله اختياره، وهذا ذكر المحاسن «2» . ثم ذكر(7/285)
الالتفات «1» . وقد توارد عليه هو وقدامة. وذكر اعتراض كلام في كلام لم يتم معناه، ثم يعود المتكلم فيتمه في بيت واحد أو جملة واحدة. وسمّاه قدامة، التمام. وسمّاه الحاتمي في الحلية، التتميم «2» . وهو ممّا توارد عليه قدامة وابن المعتز، ثم ذكر من المحاسن الخروج من معنى إلى معنى، وسمّاه الحاتمي الاستطراد، ناقلا تسميته لا مخترعا، وهو إفراد ابن المعتز. ثم ذكر تأكيد المدح بما يشبه الذم منفردا وذكر تجاهل العارف، وهو الذي سمّاه المتأخرون الإغباب والتشكيك.
والتشكيك باب مفرد، أورده بعضهم، وبينه وبين تجاهل العارف فرق، وتجاهل العارف من إفراد ابن المعتز، ثم ذكر الهزل الذي يراد به الجدّ منفردا به. وذكر الكناية منفردا به، وذكر الإفراد في الصنعة متواردا عليها مع قدامة، وسمّاها قدامة المبالغة. وذكر التشبيه متواردا عليه مع قدامة. وذكر عتاب المرء نفسه منفردا به وذكر حسن الانتداب منفردا به، وسمّاه من بعد، براعة الاستهلال.
فهذه اثنا عشر بابا من المحاسن تضاف إلى أبواب البديع الخمسة، فيصير بها ما أخبر عنه ابن المعتز جميعه من ذلك سبعة عشر بابا، وهي: التشبيه، والتمام، والمبالغة، والالتفات، والطباق، والجناس متواردا هو وابن المعتز على جميع ذلك، وانفراد قدامة بالتكافؤ «3» . وإن كان هذا تداخل على قدامة في باب الطباق وصحة الأقسام وصحة المقلابلات، وصحة التفسير، وإسلاف اللفظ مع المعنى، وهو باب فرّع منه قدامة ستة أبواب، وهي: المساواة والإشارة والإرداف والتمثيل، ثم فرّع من ائتلاف اللفظ مع المعنى أيضا الطباق والجناس. وقد تقدّم ذكر توارده مع ابن المعتز عليهما. وذكر ائتلاف اللفظ مع الوزن. وجعل المتأخرون هذين البابين بابا واحدا، وسمّوه التهذيب والتأديب؛ لكنّ قدامة خصّ بهما الشعر، وربّما(7/286)
من سمّاه تهذيبا لا يخصّ بهما الشعر دون النثر، ولا النثر دون الشعر. وذكر ائتلاف القافية مع ما يدل عليه سائر البيت، وسمّاه من بعده التمكين. وخصّ به الشعر أيضا وهو لا يخصّه. وفرّع قدامة من هذا بابي التوشيح والإيغال، وذكر الترصيع «1» في ائتلاف القافية مع ما يدل عليه سائر البيت في ضمن كلامه، ولم يفرده.
فهذه ثلاثة عشر بابا صحّت لقدامة بعد إسقاط ما تداخل عليه، وهو التكافؤ؛ فإذا أضيفت إلى ما انفرد به ابن المعتز من البديع، وأضافه إليه من المحاسن وتوارد عليه مع قدامة صارت هذه الأصول من كتابهما بعد حذف النوارد والتفاضل ثلاثين بابا سالمة من التداخل.
قال ابن أبي الإصبع: فهذه أصول ما ساقها الناس في كتبهم من البديع ثم اقتدى الناس بابن المعتز في قوله: فمن أحبّ أن يضيف فليفعل، فأضاف الناس المحاسن من البديع، وفرّعوا من الجميع أبوابا أخر، وركّبوا منها تراكيب شتّى، واستنبطوا غيرها بالاستقراء من الكلام والشعر؛ حتى كثرت الفوائد ورأو ابن المعتز قد غلّب اسم البديع على المحاسن، فسمى كتابه، البديع. وهو جامع لهما معا، فاقتدوا به؛ لانه المخترع الأول، فسمّوا أنواع كتبهم بالبديع؛ وإن سمّى كلّ منهم كتابه باسم مرجعه إلى معناه؛ إلّا أن يكون قد ألّف في مجموع البلاغة وكنه الفصاحة، فإن له أن يسميه بما شاء «2» . ثم إن ابن أبي الإصبع زاد في كتابه، تحرير التحبير، وجمع بعد ما تقدّم من أصول الأبواب ستين بابا من الفروع، وأضاف هذه الستين إلى الثلاثين الأصول، فصارت الفذلكة «3» تسعين بابا قال ابن أبي الإصبع: ثمّ عنّ لي استنباط أبواب تزيد بها الفوائد وتكبر بها الإمتاع، نسجا على منوال من تقدّمني، واتباعا لسنّة من سبقني ظني إلى شيء منها، اللهم إلّا أن يوجد في زوايا الكتب التي لم أقف عليها شيء مما اخترعته، فأكون أنا والسابق إليه متواردين عليه. وما أظنّ ذلك والله أعلم.
ثم قال: ولما انتهى استخراجي إلى هذا العدد أمسكت عن الفكر في ذلك، ليكون ما أتيت(7/287)
به وفق عدد الأصول، ثم سرد الثلاثين بابا بعد أن سرد الستين المضافة إلى الثلاثين الأصول التي اخترعها ابن المعتز وقدامة. ثم قال: فصارت أبواب هذا الكتاب مئة وعشرين بابا، سوى ما انشعب من أبواب الائتلاف وغيره. وجملة الأبواب على ضربين ضرب يختص بالشعر، وضرب يعمّ الشعر والسنن والنثر، وذلك ظاهر لمن تبحّر في الكتاب.
1- ابن المعتز
وهو أبو العباس عبد الله بن أبي عبد الله الزبير المعتز «13» بالله ابن جعفر المتوكل ابن محمد المعتصم ابن هارون الرشيد المهدي محمد ابن أبي جعفر عبد الله المنصور ابن محمد بن علي ابن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم. نسب كان عليه من شمس الضحى نورا، ومن فلق الصباح غمورا. ملك تفرّد بالصفات الحسان، وجمع العدل والإحسان، وأقدم وقد خرس كلّ لسان يقب «1» عن أسرار الكلام، وإخراج زهره من الكمام. فوضح البيان، ولمح ملء العيان. واجتليت أقماره الطوالع واجتنيت أفواده اللوامع. وكان زينة لسمائه، وحلية لصباح زمانه ومسائه. يخال ذكره عنبرا يفوح في الأسحار، وجوهرا يلوح في قلائد الأسمار. من أثرى من حاصل ديوانه أوسع إن كان منفقا، وأيسر ولو كان مملقا. وتقدّم والناس وراءه، والنهار يلبس آراءه. فوقف وقفة قدامه يتعلم، وقال أو سكت لا يتكلم. ولم يكن أولى منه بالخلافة، ولا أحقّ منه أن يرث أسلافه؛ وإنما أخّره تقدمه، وعرض سمهريّه على النار مقوّمه. وما زال الزمان مغرى بخط كل رفيع، ولا ساءه إلى من لا يحتاج محاسنه إلى شفيع، وله ذكر في الخلفاء. ولد لسبع بقين من شعبان سنة سبع واربعين ومئتين وأبوه المعتز.
أمه أم ولد، اسمها قبيحة، سميت بذلك لفرط حسنها. وزعم ابن خلكان أنه كان حنفي المذهب. قال: ويدل على هذا قوله في الخمرة المطبوخة: [الطويل](7/288)
وقتني من نار الجحيم بنفسها ... وذلك معروف لها ليس تجحد «1»
والأغلب والله أعلم أنه كان حنبلي المذهب على ما يأتي؛ وإنما قال هذا في الخمرة تفسحا في القول على عادة الشعراء في التقبيح في القول.
وأخذ الأدب عن المبرّد وثعلب وغيرهما. وكان محبّا للعلماء معدودا منهم ولم يزل مرشحا للخلافة مؤهلا للملك، يخاف ويرتجى إلى أن كان ما كان من المقتدر من فساد الأمور، وضياع الجمهور؛ لصغر سنّه، وغلبة النساء عليه. ورأى العباس بن الحسن الوزير أن هذا يفتقر إلى خلع المقتدر، ومبايعة أبي العبّاس فدعا إلى ذلك الحسن بن أحمد، فقام إليه داعيا، وتردّد في التمام له ساعيا إلى أن انقاد غالب العامة، وخاصة أرباب العقد والحل، كمحمد بن داود القاضي، وأبي المفتي أحمد بن يعقوب، وبدر الأعجمي، وصوارتكين التركي، ثم راسلوا أبا العباس فأجابهم على ألّا يسفك دم. ثم بدا للوزير لاقتداره على المقتدر وضعف أيسر أهل رأيه متخليا عن الفريقين، بعد أن شبّ نهارها، وشدّ أوزارها، فلحق به حمدان وبدر الأعجمي ووصيف فقتلوه، ثم قتلوا في غد ذلك اليوم فاتك المعتضدي، وكان عضدا للمقتدر، وذلك يوم السبت لتسع بقين من ربيع الأول سنة ست وتسعين ومئتين. وركض ابن حمدان إلى الخلية نحو المقتدر يطلبه بالتدمير، وكان المقتدر هناك يلعب بالكرة، فلما بلغه مقتل الوزير أطلق عنان جواده والتحق في القصر بأمداده، ثم أمر فغلّقت أبواب القصر وطوّق بالمقاتلة مستعدا للحصير، فكرّ ابن حمدان راجعا يتلظّى ندما؛ لكونه لم يبدأ به، وأحضر أبا العباس في يومه، وبايعه الناس بالخلافة على يد محمد بن سعيد الأزرق، ولقّب الغالب بالله، وقتل المتصف. والأول أصح. ولم يتأخر عن بيعه سوى الحسن بن الفرات فاستوزر محمد بن داود، وقلّد علي بن عيس الدواوين، وكتب الكتب ببيعته إلى الآفاق وأرسل إلى المقتدر يأمره بأن ينتقل إلى دار عبد الله بن طاهر، فأجابه بالامتثال، وسأله في المهلة، وأصبح ابن حمدان إلى دار الخلافة، والمقتدر بها ليخرجه منها فقاتله الغلمان والخدم عامة النهار، ولم يكن قد بقي مع المقتدر سوى مؤنس الخادم(7/289)
وبعض حاشية الدار. وتربّص ابن حمدان الغفلة، فلما نصل الدجى الذي صبغه المغرب، ووضع حمله الليل المقرّب، وجنين الفجر قد كاد أن يرمي سقطا، وأنامل الصبح قد كادت تأتي على دراهم النجوم لقطا، وقد تثاءب المشرق وآن المغرب الذي تمطّى، وتمشّى نسيم السحر وتخطّى فاقتعد جمله وقبل السرى أمله، والحذر يستطيره، والخوف يدني منه جناح طائر يستعيره ودام سارحا في نهاره، وساربا في أنهاره؛ حتى إذا دميت في الأصل أخفاف مطيه الخفيّة، وطفيت جديدة النهار في عين شمسه الحميّة، نزل ليريح ويقيم جنب نضوه الطريح؛ فبينما هو قد ترك بقيته، ومسك الليل قدد رقيته أدركته بادرة الخيل وألقته جدا سهيل. وكان سبب رحيله أن أبا العباس عدل بالحجبة عنه، وكان يريدها ويحضّها، ولو قطعت أوداجه ووريدها، فحقدها عليه وأرقدها لديه. ثم إن أهل القصر أجمعوا على الصعود من الماء لاغتيال ابن المعتز، فلمّا رآهم أصحاب ابن المعتز أكبروهم، وقالوا: هذا رأي ابن حمدان، ولهذا تركنا وفرّ، وظنّوها من رأيه، فخرج ابن المعتز، ومعه محمد بن داود الوزير، وبين أيديهما غلام ينادي، يا معشر المسلمين، ادعوا لخليفتكم هذا السني البربهاري؛ إشارة إلى أنه على مذهب أهل السنّة، خلافا للمقتدر، وأهل بيته. والبربهاري، هو أبو الحسن ابن أبي القاسم البربهاري مقدّم الحنابلة؛ وكان لأهل السنّة وسائر العامة فيه رأي جميل. وكان ابن المعتز على مذهبه، ثم سار إلى الصحراء وهو يظنّ أن الجنود تتلاحق وراءه فلم يلتحق به أحد، ولا مدّ إلى بصره مدى خطوة، ولا ساعد يد، فهم مقصد شرّ من راء ليشدّ بها سلطانه، ويجتمع عليه فيها، فلمّا أخفقت أمانيه نزل عن دابته، وقطع أطماع إرادته، والتحق بابن الجصاص الجوهري، فاستجار بجواره واختفى في داره، فوشى به خادم لابن الجصاص صغير، فأمسكه المقتدر وسلّمه إلى مؤنس لأمر قد قدر، فأخرج إلى أهله في اليوم الثاني من خلافته قتيلا في كساء لا ثائر له إلا دموع النساء. فرحمه الله وغفر له وأكرم لديه في الجنة نزله. ورثاه علي بن محمد بن بسام بقوله: [البسيط]
لله درّك من ميت بمضيعة ... ناهيك في العلم والآداب والحسب
ما فيه لوّ ولا لولا فتنقصه ... وإنما أدركته حرفة الأدب(7/290)
قلت: ومن غرائب الأمور وعجائب ما جرى به القدر المأمور أنّ ابن حمدان هذا؛ بل كل بني حمدان كانوا في غاية التشيع، وخصوصا هذا الحسن فإنه كان رأسا في الغلاة، وكان ذا لسن، وكان ابن المعتز غاية في التسنّن وخصما في الجدال، تخرس له الألسن. وكان ابن حمدان هو القائم في قيام ابن المعتز على بعد ما بينهما وتنائي جانبيهما، وكل واحد منهما لم يبرح للآخر مناقضا، ولقواعده في المذهب معارضا؛ إلّا أنّ الله إذا أراد أمرا أتمّه وكان أمر الله مفعولا.
وكان ابن المعتز رأس أهل اللغة والنحو، متقنا للأدب عالما بالبيان عارفا بفنونه، مطّلعا على مكنونه. أعرف أهل زمانه، بل الناس، مطلقا به، مائلا إلى الغزل وضروبه، مولعا بالتشبيه والأوصاف، مجيدا فيهما وفي التشبيه أكثر. وكان يقول: لو قيل لي: ما أحسن شعر؟ لقلت: قول العباس بن الأحنف: [البسيط]
قد سحّب الناس أذيال الظنون بنا ... وفرّق الناس فينا قولهم فرقا
فكاذب قد رمى بالظنّ غيركم ... وصادق ليس يدري أنه صدقا «1»
ومن مأثور كلامه في علم البديع قوله في الالتفات:
الالتفات، انصراف المتكلم عن الإخبار إلى المخاطبة، ومثاله من القرآن العزيز ب «الحمد لله ربّ العالمين» ثم قال: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ «2» »
. ومثاله في الشعر قول جرير: [الوافر]
متى كان الخيام بذي طلوح ... سقيت الغيث أيتها الخيام «3»
أو انصراف المتكلم عن المخاطبة إلى الإخبار، كقوله تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ «4»
. ومثال ذلك من الشعر قول عنترة: [الكامل](7/291)
ولقد نزلت فلا تظنّي غيرة ... منّي بمنزلة المحبّ المكرم «1»
كيف المزار وقد تربّع أهلها ... بعنيزتين وأهلنا بالغيلم
وقال: التمام، هو اعتراض كلام في كلام لم يتم معناه، ثم يعود المتكلم فيتمّه وهو أن الكلمة التي إذا طرحت من الكلام نقص حسن معناه ومبالغته أن لفظه يوهم بأنّه تام.
ومثاله، قول تعالى «مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً «2» » .
فقوله تعالى: «مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى»
تتميم، وقوله تعالى وهو مؤمن تتميم ثان في غاية البلاغة التي يذكرها ثم معنى الكلام. وقد ذكر شيخنا أبو الثناء الكاتب في البديع عتاب المرء نفسه، ولم ينشد فيه سوى بيتين، ذكر أن الآمدي أنشدهما عن الجاحظ، وهما: [الطويل]
عصاني قومي والرّشاد الذي به ... أمرت ومن يعص المجرّب يندم
فصبرا بني بكر على الموت إنّني ... أرى عارضا ينهلّ بالموت والدّم
قال شيخنا رحمه الله في حسن التضمين، ومن إنشادات ابن المعتز في هذا الباب: [السريع]
أعوذ لمّا بتّ ضيقا له ... أقراصه مني تناسين
فبتّ والأرض فراشي وقد ... غنّت قفانبك مصاريني
وذكر في الاستطراد أنّ ابن المعتز سمّاه: الخروج من معنى إلى معنى، وفسّره بأن قال: هو أن يكون المتكلّم في معنى فيخرج بطريق التشبيه، أو الشرط أو الإخبار أو غير ذلك إلى معنى آخر يتضمّن مدحا، أو قدحا، أو وصفا ما. وما أنشد فيه: [الطويل]
وإنّا لقوم ما نرى القتل سبّة ... إذا ما رأته عامر وسلول
وله نثر بديع منه قوله: والأرض عروس مختالة في حلل الأشجار، متوجة بأكليل الأزهار. والجوّ خاطب لها، قد جعل يشير بمحضرة البرق، ومتكلم بلسان الرعد، وينثر من القطر أبدع نثار.(7/292)
قوله: وطارت به كل خوّارة «1» العنان نازعة الأشطان، تنفر نفار الظليم «2» وتنظر بمقلة غزال تحت سالفة «3» ريم. كأنما خلقت قوائمها من الرياح، واعتصبت ثوب الظلام فلطمها في وجهها الصباح.
ومنه قوله: فكم تسنّم من حبل يعطس بأنف شامخ في الهواء ويتفنس، فتصدأ مرآة السماء منه.
وقوله: ولولا أن ساحة هذه الأيام قصيرة المساحة، يكاد يشير بالراحة لقصده سعيا على القدمين، ونقل التهنئة إلى قلبه من طريق السمع لا من طريق العين.
منه قوله: وسار فلان في جنود عليهم أردية السيوف وقمصان الحديد فكأن رماحهم قرون الوعول، وكأن دروعهم زبد السيول على خيل تأكل الأرض بحوافرها، وتمد بالنقع سرادقها. وقد نشرت في وجهها غرر كأنها صحائف البرق، وأمسكها تحجيل كأنه أساور اللجين، وقرطت غدرا كأنها الشنوف تتلقف الأعداء أوائله، ولم ينهض أواخره. قد صبّ الله عليهم وقار الصبر، وهبّت معهم ريح النصر ومن نظمه قوله: [الطويل]
لذي الدّار مني زفرة ونحيب ... وقلبي شج إن لم يمت فكئيب
خلا الرّبع من سكّانه ولقد يرى ... جميل بهم والمستزار قريب
إذ العيس حلو ليسن فيه مرارة ... هنيّ وإذ عود الزّمان رطيب
وفي كلّ تسليم الزّمان تحية ... وفي كلّ لحظ للحبيب حبيب
ومنه قوله: [الكامل]
وبكيت من طرب الحمائم غدوة ... تدعو الهديل وما وجدت سميعا
ساعدتهنّ بنوحة وتفجّع ... وغلبتهنّ تنفّسا ودموعا(7/293)
أفنى البكاء هموم قلب موجع ... لو كنّ في صخر لكنّ صدوعا
يا قلب ليس إلى الصّبا من مرجع ... فاحزن فلست بمثله مفجوعا
ومنه قوله: [الكامل]
كم ليلة شغل الرّقاد عذولها ... عن عاشقين قواعد اللّقياء
عقدا عناقا طول ليلهما معا ... قد ألصقا الأحشاء بالأحشاء
حتى إذا طلع الصّباح تفرّقا ... بتنفس وتلهّف وبكاء
ما راحنا تحت الدّجى شيء سوى ... شبه النجوم بأعين الرقباء
ومنه قوله: [الطويل]
أصانع أطراف الدّموع فمقلتي ... موقّرة بالدمع غربا على غرب «1»
وهل هي إلّا حاجة قضيت لنا ... ولوم تحمّلناه في طاعة الحبّ
ومنه قوله: [الكامل المرفل]
لمّا رأيت الدمع يفضحني ... وقضت عليّ شواهد الصبّ
ألفيت غيرك في ظنونهم ... وسترت وجه الحبّ بالحبّ
ومنه قوله: [المديد]
غضب الإدلال من رشأ ... لا بس للحسن جلبابا
غصن يهتزّ في قمر ... راكضا للوشي سحّابا
أثمرت أغصان راحته ... لجناه الحسن عنّابا «2»
ومنه قوله: [الطويل]
هي الدار إلّا أنها منهم قفر ... وإني بها ثاو وإنهم سفر(7/294)
حبست بها لحظي واطلقت عبرتي ... وما كان لي في الصّبر لو كان لي عذر
كأنّي وأيامي التي طوت النّوى ... نجيّان باتا دون لقياهما ستر
فدع ذكر شيء قد مضى ليس راجعا ... فذلك دهر قد تولّى وذا دهر «1»
وقوله: [المنسرح]
وشمس ليل طرقتها فبدا ... منها صدود ما كنت أحسبه
تقول من جاء وهي تعرفنى ... يا لصّة القلب جئت أطلبه «2»
ومنه قوله:
ثمّ أتيته بحسن صورته ... عبث الفتور بلحظ مقلته
وكأنّ عقرب صدغه احترقت ... لمّا دنت من نار وجنته
ومنه قوله: [البسيط]
قالوا الفراق غدا لا شكّ قلت لهم ... بل موت نفسي من قبل الفراق غدا
إني إذن لصبور إن بقيت وقد ... قالوا الفراق وإن لم يرحلوا أبدا
ومنه قوله: [الخفيف]
ربّ ليل أحييته بزفير ... وهموم تكوي الحشا والفؤادا
بات طرفي يشيّع النجم فيه ... كلّما خلته يسير تمادى
ومنه قوله: [الطويل]
ومستكبر يزهي بخصر وسارب ... وفترة أجفان وخدّ مورّد
تبسّم إذ ما زحته وكأنّما ... تكشف عن درّ حجاب زبرجد(7/295)
ومنه قوله: [السريع]
وفاحم مال على الخدّ ... مثل العناقيد على الورد
وصولجان الصّدغ مستمكن ... للضّرب من تفّاحة الخدّ
ومنه قوله: [الكامل المرفل]
لمّا وقفت بذلت بالهجر ... ورميتني من حيث لا أدري
ما كنت تدري كيف تقتلني ... فهجرتني وفطنت للهجر
ومنه قوله: [الخفيف]
يا هلالا يدور في فلك ال ... بارود رفقا بأعين النظّاره
قف لنا في الطريق إن لم تزرنا ... وقفة في الطريق نصف الزّياره
ومنه قوله: [السريع]
ما أقصر اللّيل على الرّاقد ... وأهون السّقم على العائد
تفديك ما أبقيت من مهجتي ... لست لما ألويت بالجاحد
كأنّني عانقت ريحانة ... تنفّست في ليلها البارد
فلو ترانا في قميص حسب ... تنا من جسد واحد
ومنه قوله: [السريع]
إن جاء في الليل تجلّى وإن ... جاء صباحا زادنا نورا
فكيف أحتال إذا زارني ... حتى يكون الأمر مستورا
ومنه قوله: [الكامل المرفل]
قالت لأختيها ألم تريا ... إن قد أجدّ البين بالسّفر
ما للمضاجع لا تلائمني ... وكأنّ قلبي ليس في صدري(7/296)
ومنه قوله: [الطويل]
ألست ترى النّجم الذي هو طالع ... عليك فهذا للمحبّين نافع
عسى يلتقي في الأفق لحظي ولحظه ... ويجمعنا إذ ليس في الأرض جامع
ومنه قوله: [الطويل]
ومن دون ما أبديت لي يقتل الفتى ... ويمشي جليد القوم وهو ضعيف
ولم أدر أنّ البان يغرس في النّقا «1» ... ولا أنّ شمسا في الظلام تطوف «2»
ومنه قوله: [البسيط]
إني لأحسد كاسا حين يلثمها ... حتى أبيت سخين العين مرتفقا
وتنطوي النّفس من وجد ومن أسف ... إذا غدا لنجاد السّيف معتنقا
ومنه قوله: [الكامل المرفل]
لجّ الفراق فويح من عشقا ... ما الدمع إلّا للنّوى خلقا
أرأيت لحظتها وما صنعت ... هل بعدها للعاشقين بقا
يا صاحبيّ ترقّبا تلفي ... إن لم يطر قلبي فقد خفقا
ومنه قوله: [الكامل]
ومتيّم جرح الفراق فؤاده ... فالدّمع من أجفانه يتدفّق
هزّته ساعة فرقة فكأنما ... في كلّ عضو منه قلب يخفق
ومنه قوله: [الخفيف]
شفّعيني يا شرّ في ردّ قلبي ... فلقد طال حبس قلبي لديك «3»(7/297)
وأذني في الرّقاد لي إنّ عيني ... تستعير الرّقاد من عينيك
أوهبي لي صبرا أردّ به الدم ... ع فإني أخاف دمعي عليك
ومنه قوله: [البسيط]
إنّ الّذين بخير كنت تذكرهم ... قضوا عليك وعنهم كنت أنهاكا «1»
لا تطلبنّ حياة عند غيرهم ... فليس يحييك إلّا من توفّاكا
ومنه قوله: [الطويل]
أعاذلتي لا تعذلي عاشقا مثلي ... ولكن دعيه واعذري الحبّ من أجلي «2»
ونوحي على صبّ بكت عائداته ... صريع القدود الميل والأعين النّجل
رمين فلما أن أصبن مقاتلي ... تولّين فانضمّت جراحي على النّبل
ومنه قوله: [المنسرح]
صدّت شرير فما تكلّمني ... كم ذا التجنّي على المحبّ كم
دعت خلا خيلها ذوائبها ... فجئن من رأسها إلى القدم
ومنه قوله: [مخلع البسيط]
تعال قد أمكن المكان ... واجسر على القلب يا جبان
عجّل فإنّ الزمان غرّ ... من قبل أن يفطن الزّمان
ومنه قوله: [الكامل]
كم ليلة عانقت فيها بدرها ... حتى الصباح موسّدا كفيّه «3»
ما زلت أشرب خمرة من ريقه ... وتحيّتي تفاحتا خدّيه
فسكرت لا أدري أمن حبل الهوى ... أم كأسه أم فيه أم عينيه(7/298)
ومنه قوله: [الوافر]
قلوب الناس أسرى في يديه ... وثوب الحسن مخلوع عليه «1»
أسرّ إذا بليت وذاب جسمي ... لعلّ الريح تحملني إليه
ومنه قوله: [الكامل]
وبكيت من جزع لنوح حمامة ... تدعو الهديل فظلّ غير مجيبها
نحنا وناحت غير أن بكاءنا ... بعيوننا وبكاءها بقلوبها
منع الزيارة من شريرة خائف ... لو يستطيع لبات تحت جيوبها
ساءت بك الدّنيا وسرّت مرة ... فأراك من حسناتها وذنوبها
ويجرّ لي بالمطل موعد حاجة ... لو شئت قد برد الغليل بطيبها
محبوسة في كفّ مطلك طالما ... عذّبتني وشغلت آمالي بها
ومنه قوله: [الكامل]
صدّت وأغرت طيفها بمتيّم ... إن الفراق لمغرم بالمغرم
وبدت فحسبك من وشاح ناطق ... كثرت وساوسه وحجل مفحم «2»
وكأن فاها بعد آخر رقدة ... متسحّر بعقاردنّ معلم
ومنه قوله: [المنسرح]
وكم عناق لنا وكم قبل ... مختلسات حذار مرتقب «3»
نقر العصافير وهي خائفة ... من النّواطير يانع الرّطب
ومنه قوله: [الخفيف]
قل لأحلى العباد شكلا وقدّا ... أبجدّ ذا الهجر أم ليس جدّا(7/299)
ما ترى في متيّم بك صبّ ... خاضع لا يرى من الذلّ بدّا
إن زنت عينه بغيرك فاجلد ... ها بطول السّهاد والدمع حدّا «1»
ومنه قوله: [الوافر]
لقد هتكت دموع العين ستري ... وأحرقني هواه بغير نار
ويخجل حين يلقاني كأني ... أنقّط خدّه بالجلّنار
ومنه قوله: [المتقارب]
وفي عطفه الصّدغ خال له ... كما أخذ الصولجان الكره
ومنه قوله: [البسيط]
سقى الجزيرة ذات الظل والشجر ... ودير عبدون هطال من المطر «2»
فطالما نبّهتني للصبوح بها ... في غرّة الفجر والعصفور لم يطر «3»
أصوات رهبان دير في صلاتهم ... سود المدارع نعّارين في السّحر «4»
مزنّرين على الأوساط قد جعلوا ... على الرءوس أكاليلا من الشّعر
لا حظته بالهوى حتى استقاد له ... طوعا وأسلفني الميعاد بالنظر
فقمت أفرش خدّي في الطريق له ... ذلا وأسحب أذيالي على الأثر «5»
وكان ما كان مما لست أذكره ... فظنّ خيرا ولا تسأل عن الخبر
ومنه قوله: [الطويل]
له شافع في القلب مع كلّ زلّة ... فليس بمحتاج الذّنوب إلى العذر(7/300)
تجاذبني الأطراف بالوصل والقلى ... فتختصم الآمال واليأس في الصّدر
ومنه قوله: [الطويل]
ولمّا لحقنا الظّاعنين وأرقلت «1» ... جمال بنا تشكو الكلال ونوق
أثرن على خوف بأغصان فضّة ... مقوّمة أثمارهنّ عقيق
سلاما كأسقاط النّدى تحت ليلة ... سرى حين لم يعلم إليه طريق
وشكوى لو انّ الدمع لم يطف حرّها ... تولّد منها بينهنّ حريق
ومنه قوله: [الطويل]
ألا لا أرى كالدّار إذ نحن جيرة ... تسافر فيما بيننا الكتب والرّسل
بسرّ أحاديث عذاب لو انّها ... جنى النّحل لم تلفظ حلاوتها النّحل
ومنه قوله وتروى لغيره: [الوافر]
نضت عنها القميص لصبّ ماء ... فورّد خدّها فرط الحياء
فلما أن قضت وطرا وهمّت ... على عجل لتأخذ بالرّداء
رأت شخص الرقيب على تدان ... فأسبلت الظلام على الضّياء
فغاب الصّبح منها تحت ليل ... وظلّ الماء يقطر فوق ماء
ومنه قوله: [الطويل]
فيا ربّ يوم لا يواري نجومه ... مددت إلى المظلوم فيه يد النّصر
فسبحان ربّي ما لقوم أرى لهم ... كوامن أضعان كواكبها تسري
إذا ما اجتمعنا في النديّ تضاءلوا ... كما خفيت مرضى الكواكب في الفجر
ومنه قوله: [الخفيف]
قد تردّيت بالمكارم حولي ... وكفتني نفسي من الافتخار(7/301)
أخزن الغيظ في قلوب الأعادي ... وأحلّ العدوّ دار الصّغار «1»
أنا جيش إذا غدوت وحيدا ... ووحيد في الجحفل الجرّار
ومنه قوله: [الطويل]
سلي [بي] «2» إذا ما الحرب دارت بأهلها ... ولم يك فيها للجبان قرار
وقام لها الأبطال بالبيض والقنا ... وهبّت رياح الآخرين فطاروا
إذا شئت أو قدت البلاد حوافرا ... وسارت ورائي هاشم ونزار
ومنه قوله: [الكامل]
كم فتنة لا قيت فيها فرصة ... فحسمتها ووثبت قبل وثوبها
أسد الفوارس في الوقائع لا تطا ... إلّا على الأقران يوم حروبها
راعيت جانبها بلحظ حازم ... فطن بعقرب غلّة ودبيبها
بعزائم أغمرتها في ضمنة ... لا يكشف الأوهام ستر غيوبها «3»
ولربّ سمع قد قرعت بحجّة ... هذّبتها من شكّها وعيوبها
أثنى عليها بالصواب حسودها ... وقضى عليها خصمها بوجوبها
أعطى لها التوفيق من قسماته «4» ... بيضاء ساطعة لمن يسري بها
ومنه قوله: [المديد]
جمّع الله «5» لنا في إمام ... قتل البخل وأحيا السّماحا(7/302)
إن عفا لم يلغ لله حقّا ... أو سطا لم يخش منه جناحا
وله من رأيه عزمات ... وصل الله بهن النّجاحا
ومنه قوله: [الكامل]
أو كالسّماء على الأنام فحيثما ... كنتم رمتكم لفتة من خالق «1»
لا تحسبوا اليوم الجديد كأمسكم ... أين الصباح من الظلام الغاسق
فطن الصنائع بالوفاء وأهله ... وسيوفه يعرفن كلّ منافق
ومنه قوله: [الطويل]
جفوني وراموا موضعي فسباهم ... قصورهم عني وإني مع النّسر
تميل صروف الدهر حيث أميلها ... وأقسمها حالين بالنهي والأمر
ومنه قوله: [البسيط]
تمري أنامله الدنيا لصاحبها ... ونصله من عداه قاطر دامي
كالسّهم يبعثه الرّامي فصفحته ... تلقى الرّدى دونه والصيد للرامي
مستيقظ لا يفكّ الشكّ عزمته ... كأن أوهامه أنصار أقوام
لا يشتكي الدهر إن خطب ألمّ به ... إلا إلى صعدة أو حدّ صمصام
ومنه قوله: [الطويل]
قدحتم زناد الحرب أول مرّة ... لنا وخلعتم بيننا ربقة «2» العهد
وفاخرتهم قوما بهم فاز قدحكم ... وهم علّموكم في الملا حبوة المجد
فلذنا بركن الصّبر وانتصفت لنا ... صوارم تعدينا إذا قلّ من يعدي(7/303)
ومنه قوله: [الطويل]
ولمّا تلاقينا وهزّت رماحنا ... وجرّد منها كلّ أبيض باتر
رأوا معشرا لا يبصر الموت غيرهم ... فما برحوا إلّا برجم الحوافر
ومنه قوله: [الكامل]
يا من يدس «1» لي العداوة صنعة ... أسريت لي فاصبر على الإدلاج
فتح العدا باب المكيدة والأذى ... فاعجب لخرّاج لها ولّاج «2»
أنا كالمنيّة سقمها قدّامها ... طورا وطورا تبتدي فتفاجي
ومنه قوله: [الطويل]
إذا أظلمت آراء قوم رماهم ... برأي يجلّي الخطب والخطب مظلم
ويرعى صواب القوم منهم بفكرة ... إذا جمعت أقطاره نطق الفم
له كرم من نفسه وعطائه ... وبعض عطاء المفضلين تكرّم
إذا ما جنى الجاني وإن جلّ جرمه ... فغفرانه في سخطه يتحكّم
ومنه قوله: [الطويل]
أبا حسن ثبّتّ في الأمر وطأة ... وأدركتني في المعضلات الهزائز
وألبستني درعا عليّ حصينة ... فناديت صرف الدهر هل من مبارز
ومنه قوله: [الكامل]
أبت الحوادث أن يدوم بقاء ... أو أن يردّ قضاءهنّ قضاء
يعدو فتفترس النفوس كأنّه ... أسد توثّب في السّوام «3» ضراء
والدّهر أهوج عاثر بخطامه ... عسر الخليقة هادم بنّاء(7/304)
ومنه قوله: [الطويل]
وغرس من الأحباب غيّب «1» في الثّرى ... وأسقته أجفاني بسحّ وقاطر
فأثمر همّا لا يبيد وحسرة ... لقلبي يجنّيها بأيدي الخواطر
ومنه قوله: [الكامل المرفل]
ما قرّ في أيدي قوابله ... حتى أذيق الصّاب بالعسل
والدّهر لا يبقي على أحد ... والموت هجّام على الأجل
ومنه قوله: [المتقارب]
وإن فرصة أمكنت بالعدوّ ... فلا تبد فعلك إلّا بها
فإن لم تلج بابها مسرعا ... أتاك عدوّك من بابها
ومنه قوله: [البسيط]
أشكو إلى الله أخدانا من الزمن ... برين جسمي بري القدح بالسّفن «2»
وكلّ بي دون خلق الله كلّهم ... فليتني لم أر الدنيا ولم ترني
يا نفس صبرا وإلّا فاهلكي جزعا ... إنّ الزمان على ما تكرهين بني
تلفّتي وسلي هذا وذاك وذا ... بأنهم لم يخس دهر ولم يخن
لا تحسبي أنعما سرّتك صحّتها ... إلّا مفاتيح أبواب من الحزن
ما المرء إلّا كعبد السّوء يضربه ... سوط الزمان ولا يمشي على السّفن
ومنه قوله: [الطويل]
مضى عجبي من كل شيء رأيته ... وباتت لعينيّ الأمور اللّوابس
فإني رأيت الدّهر في كلّ ساعة ... يسير بنفس المرء والمرء جالس
وتقتاده الآجال حتى تحطّه ... إلى تربة فيها لهنّ فرائس(7/305)
وأصدع شكّي باليقين وإنّني ... لنفسي على بعض المساءة حابس
ومنه قوله: [مجزوء الرمل]
إنما شيب الفتى ... ناصح إن فعلا
ما على الناصح أن ... ينتهي من جهلا
ومنه قوله: [الطويل]
رأت أقحوان الشّيب لاح وأذّنت ... ملاحات أيّام الظبا بوداع
فقالت محاك الدّهر من صبغة الصّبا ... وكنت من الفتيان خير متاع
ومنه قوله: [الكامل]
لا تقصرنّ عن الشّباب وطيبه ... ونفاق رتبته على الأحباب
واغمره باللّذات ما صلحت له ... فإذا مضى لم تبك فقد شباب
هذا الذي يبكي الشباب وطيبه ... أبدا ويرفع شيبه بخضاب
لو كان أعطى نفسه لذّاتها ... لتفرّغت بعد الصبا لمتاب
ومنه قوله: [المتقارب]
تفقّد مساقط لحظ المريب ... فإنّ العيون وجوه القلوب
وطالع بوادره في الكلام ... فإنك تحيي ثمار الغيوب
ومنه قوله: [مجزوء الكامل]
خلّ الذنوب صغيرها ... وكبيرها فهو التّقى
كن مثل ماش فوق أر ... ض الشّوك يحذر ما يرى
لا تحذرنّ صغيره ... إنّ الجبال من الحصى
ومنه قوله: [الطويل]
وكيف التّصابي بعد ما ذهب الصّبا ... وقد ملّ مقراضي عتاب مشيبي(7/306)
خلت من طروقي كلّه وحجالها ... وبانت كلاب الحي بعد هبوب
ومنه قوله: [الوافر]
فإن يكن المشيب طرا علينا ... وأودى بالبشاشة والشّباب
فإني لا أعذّبه بشيء ... أشدّ عليه من نتن الخضاب
رأيت الشّيب والحنّاء عذبا ... فسلّطت العذاب على العذاب
ومنه قوله: [السريع]
سابق إلى مالك ورّاثه ... ما المرء في الدنيا بلبّاث
كم صامت «1» يخنق أكياسه ... قد صاح في ميزان ميراث
ومنه قوله: [البسيط]
وعاقد فوق أموال يجمّعها ... قد أصبحت بعده محلولة العقد
ومبرم أمره والدهر ينقضه ... هل غالب الدهر يا للناس من أحد
وقوله في ضدّ هذا: [السريع]
يا ربّ جود جرّ فقر امرئ ... فقام للناس مقام الدّليل
فاشدد عرى مالك واستبقه ... فالبخل خير من سؤال البخيل
وقوله: [مخلع البسيط]
لم أخضب الشّيب للغواني ... أرجو به عندها ودادا
لكن خضابي على شبابي ... لبست من فقده جرادا «2»(7/307)
وقوله: [الكامل]
غضبت شرير وأزمعت هجري ... وصغت ضمائرها إلى الغدر «1»
قالت كبرت وشبت قلت لها ... هذا غبار وقائع الدّهر
وقوله: [الخفيف]
لست تنجو من كلّما حدت عنه ... فاسحب الصّبر دائما واستعنه
وتيقّظ إذا اضطررت إلى وص ... ل عدوّ وكن على الخوف منه
وقوله: [الطويل]
وقلت لنفسي هل لجهلك غاية ... فقالت قد انتهيت منه إلى العلم
تردّد أنفاسي بباقي حشاشة ... ضعيفة سلطان الحياة على جسمي
وأرخي لهم أنّي صحيح تجلدي ... وكم تحت صبري لو تكشّف من كلم
وقوله: [الطويل]
ألست ترى شيبا لرأسي شاملا ... ونت حيلتي فيه وضاق به ذرعي
كأنّ المقاريض «2» التي تعتور به ... مناقير طير تنتقي سبل الزّرع
وقوله: [المتقارب]
كأنّ نجوم الدّجى في الدّجى ... موار يفرّقن عن صائد «3»
وقوله: [الطويل]
وخلت نجوم اللّيل في حومة الدّجى ... حصاصا أرى منها النهار وأنقابا(7/308)
وقوله: [الطويل]
كأنّ نجوم الزهر في حجراتها ... دراهم زيف لم يحزن على نقد
وقوله: [الطويل]
وقفت نهار الصّبح ينتهب الدّجى ... بأضوائه والشّهب تركض في الغرب
وقوله: [الطويل]
كأنّ نجوم اللّيل في حومة الدّجى ... رؤوس مدار ركّبت في معاجز
وقوله: [الرجز]
كأنّما الجوزاء في أعلى الأفق ... أغصان نور أو وشاح من ورق
وقوله: [الطويل]
وقد صيغت الجوزاء حتى كأنّها ... وراء نجوم هاويات وغوّر
صنوج «1» على رقّاصة قد تمايلت ... لتلهي سربا بين دفّ ومزهر
وقوله: [السريع]
قد لاحت الشّعرى وجوزاؤها ... كمثل زجّ جرّه رامح
وقوله: [الطويل]
وقد لاح للساري سهيل كأنّه ... على كلّ نجم في السّماء رقيب
وقوله: [الكامل]
ورنا إليّ الفرقدان كما رنت ... زرقاء تنظر من نقاب أسود(7/309)
وقوله: [الرّجز]
قد صيغت العقرب للمغارب ... بذنب كصولجان اللّاعب
وقوله في الثريا، وتسمّيها العرب: النجم: [الرّجز]
والنجم في غرّة فجر مسرج ... كالمستظلّ باللهب المزجّج
وقوله: [الرّجز]
والنجم في طرّة ليل مسفر ... كأنه غرّة مهر أشقر
وقوله: [مجزوء الرمل]
والثّريّا مثل كأس ... حين تبدو ثم تغرب
وكأن الشرق ساق ... وكأن الغرب يشرب
وقوله: [الكامل]
وأرى الثّريّا في السماء كأنّها ... قدم تبدّت في ثياب حداد
وقوله: [الطويل]
فناولنيها والثريّا كأنّها ... جنى نرجس حيّا الندامى به السّاقي
وقوله: [مجزوء الخفيف]
والثّريّا كنور غصن ... على الغرب قد نثر
وقوله: [الطويل]
كأنّ الثّريّا في أواخر ليلها ... تفتّح نور أو لجام مفضّض
وقوله فيها وقد طلعت عند الصباح: [مجزوء الرجز]
والصّبح في أفقه ... ذو غرّة واقده
تهوي الثّريّا له ... في غربها ساجده(7/310)
وقوله: [الوافر]
وقد لاحت لساريها الثّريّا ... كأنّ نجومها نور الأقاحي
وقوله: [البسيط]
والنجم في أخريات اللّيل مضطرب ... كأنه خابط في لجّة غرق
وقوله فيها وقد طلعت عند الصباح: [مجزوء الرّمل]
وكأنّ الصّبح لمّا ... لاح من تحت الثّريّا
ملك أقبل في التا ... ج تقرّى وتحيّا
وقوله: [البسيط]
وقد هوى النجم والجوزاء تتبعه ... كذات قرط أرادته وقد سقطا
وقوله في النيرين: [مجزوء الكامل]
ولقد رأيت الشمس تت ... لو البدر في أفق السّماء
فكأنّها وكانّه ... قد حان من جمر وماء
وقوله في البدر تحت الغيم: [البسيط]
والبدر يأخذه غيم ويتركه ... كأنّه سافر عن خدّ ملطوم
وقوله في الهلال عند الصباح: [الرّجز]
إذا الهلال فارقته ليلته ... بدا لمن يبصره وينعته
كأنّه أسمر شابت لحيته
وقوله: [البسيط]
ولاح ضوء هلال كان يفضحنا ... مثل القلامة قد قدّت من الظفر(7/311)
وقوله: [الكامل]
هذا هلال الفطر جاء مبكّرا ... فالآن فاغد على الصّبوح وبكّر
وحكي أنه اجتمع هو وابن الرمي، فقال له ابن المعتز: أنا أحسن تشبيها منك. قال: بماذا؟
قال: بقولي في هلال الفطر، وانشده إيّاهما. فقال ابن الرومي: أنت ملك وأنا سوقة. وأنت شبهت بما له مثال عندك ولا مثال لهذا عندي؛ ولكن سلني تشبيه ما عندي، ففتح ابن المعتز كوّة في داره ترمي على صانع رقاق. فقال له: دونك وما شئت، فقال ولم يتوقّف: [البسيط]
ورب صانع خبز قد مررت به ... يدحي الرّقاقة وشك اللّمح بالبصر
ما بين رؤيتها في كفّه كرة ... وبين رؤيتها قوراء كالقمر
إلّا بمقدار ما تنداح دائرة ... في صفحة الماء تلقى فيه بالحجر
فقال له ابن المعتزّ: أحسنت والله، أنت أشعر منّي.
عدنا إلى أبي العباس ابن المعتز، ومنه قوله في محاق هلال الصيام مع طلوع الثريّا:
[المنسرح]
قد انقضت دولة الصّيام وقد ... بشّر سقم الهلال بالعيد
يتلو الثّريا كفاغر شره ... يفتح فاه لأكل عنقود
وقوله في هلال المحاق وطلوع الصبح مع المشتري: [الكامل]
في ليلة أكل المحاق هلالها ... حتى تبدّى مثل وقف «1» العاج
والصّبح يتلو المشتري فكأنّه ... عريان يمشي في الدّجى بسراج
وقوله في الليل المقبل: [مجزوء الكامل]
حتى رأيت الليل في ال ... آفاق مسودّ الذوائب
فكأنّه لمّا تبدى في ال ... مشارق خطّ شارب(7/312)
والشّمس تنزع نصفها ... والغرب محمرّ الجوانب
وقوله يصف الليل وهو من التشبيهات العقم: [المتقارب]
عسى الشمس قد مسخت كوكبا ... وقد طلعت في عداد النّجوم
وقوله في النهار ووصف قصره: [الطويل]
ألا ربّ يوم لي وقصر نهاره ... كسلّة سيف أو كرجمة كوكب
وقوله في الفجر: [الرجز]
حتى إذا النّجم بدا لي كالقبس ... قام النهار في ظلام قد جلس
والفجر في المشرق كالثغر النّسق ... كأنّه ألقى على الأرض الطبق
وقوله: [المنسرح]
أما ترى الفجر تحت ليلته ... كموقد بات ينفخ الفحما
وقوله في الصباح: [الوافر]
كأن الصّبح تحت الليل باد ... جواد أشهب ملقى الجلال
وقوله: [البسيط]
وقد أحاذي عنان الصبح مبتكرا ... واللّيل مفتضح الأكناف منصرف
والرّيح تصقله ريح شآمية ... والصّبح كالفرق تحت الليل منكشف
وقوله: [البسيط]
واللّيل كالحلّة السوداء لاح بها ... من الصباح طراز غير مرقوم
وقوله: [الرّجز]
قد أغتدي والصّبح في إهابه ... كالحبشي فرّ من أصحابه
والصّبح قد كشّف عن أنيابه ... كأنه يضحك من ذهابه(7/313)
وقوله في المزنة: [البسيط]
ومزنة جاد من أجفانها المطر ... فالرّوض منتظم والقطر منتثر
ترى مواقعه في الأرض لائحة ... مثل الدّراهم تبدو ثم تستتر
وقوله في مثله: [مجزوء الكامل]
وسحابة مملوءة حي ... لا رواياها مواقر «1»
تدع السّماء كأنّها ... وشل تكدّره الأعاصر
وقوله: [مجزوء الرجز]
باكية تضحك عن بروق ... سرت بجيب في الدّجى مشقوق
مالت إلى المحل اليبيس الرّيق ... كميل عشّاق إلى معشوق
تبكي بدمع الواله المعشوق «2»
وقوله في البرق خلل الرعد والودق: [الخفيف]
وكأنّ البرق مصحف قار ... فانطباقا مرة وانفتاحا
في ركام قد ضاق بالماء ذرعا ... حيثما مالت به الريح ساحا
لم يزل يطمع باللّيل حتّى ... خلته نبّه فيه صباحا
وقوله في البرق والودق: [الطويل]
لذي ليلة خوارة المزن كلّما ... تنفّس في أرجائها المزن أسبلا
كأنّ عليها من سقيط قطارها ... جمانا وهت أسلاكه فتفصّلا(7/314)
وقوله في البرق: [الكامل]
كم في ضمائر ومضة من روضة ... بمسيل ماء أو قرارة واد
تبدو إذا جاء السّحاب بقطرة ... فكأنّما كانا على ميعاد
وقوله: [المديد]
هل ترى برقا عناني سناه ... خاض نحو الليل والليل غمر
مثلما مدّ سرادق ملك ... فهو يسمو انارة وبحر
لاح لي أوّل ما لاح منه ... طائر في الأفق لا يستقر
وقوله: [الطويل]
وشقّق أعراف السحاب التماعه ... كما انصدعت بالمشرفي القوانس
كأن النساء البيض في حجراته ... تكشّف عن أجسادهن الملابس
وقوله: [الرمل]
من رأى خفقة برق لامع ... في أديم الأرض يفري ويدع
سابق حبل سحاب أوقرت ... تعد الوادي سيلا ما اتّسع
ضمنت أيدي جنوب أنّها ... أبدا تقبلها حتى تضع
وغدت تنفض ريحان النّدى ... كسراج في دجا اللّيل لمع
وقوله: [الطويل]
وإني بضوء البرق من نحو دارها ... إذا ما دعانا لمحة لموكّل
تشقّق واستدنى كما صدّع الدّجى ... سنا قبس في جذوة يتآكل
وقوله في البرق وقت الأصيل: [السريع]
شوّقنا البارق عند الأصيل ... والشمس ترمينا بلحظ كليل
يبدو ويخفى ضوؤه ساعة ... عنّا كتقدير زناد البخيل(7/315)
وقوله في رياح ساقت مطرا: [الكامل]
حملت كواهلها روايا مزنة ... كالبحر ذي الآذيّ والأمواج
مفتونة بالبرق يضحك أفقها ... في ليلة ظلماء ذات دواجي
فتحمّلت عقد السماء بوابل ... واهي المراد محلّل الأسراج
وقوله في الاستسقاء: [المنسرح]
قلت وقد ضجّ رافع يده ... دعوا البرايا فالله يكلأها
واستيقنوا منه بالرّواء كما ... أبطأ وقر الدلاء أملؤها
وقوله في زناد النار: [الطويل]
مشهّرة لا يحجب الخل ضوؤها ... كأن سيوفا بين عيدانها تجلى
تفرّح أغصان الوقود إذا ارتقت ... كما شقّت الجوزاء عن مسّها جلا
وقوله في النسيم الرطب: [الخفيف]
ونسيم يبشّر الأرض بالقط ... ر كذيل الغلالة المبلول
ووجوه البلاد تنتظر الغي ... ث انتظار المحبّ ردّ الرسول
وقوله في وصف الروض: [البسيط]
وروضة بات ظلّ الغيث يسجمها ... حتى إذا ألجمت أضحى يدبّجها
تبكي عليها بكاء الصب فارقها ... إلف فيضحكها طورا ويبهجها
إذا تنفّس فيها ورد نرجسها ... ناجى جنيّ خزاماها بنفسجها
وقوله: [البسيط]
تضاحك الشمس أنوار الرياض بها ... كأنما نثرت فيها الدنانير
وتأخذ الريح من دخّانها عبقا ... كان من تربها مسك وكافور(7/316)
وقوله في تبسم الزهر بعد تجهّم المطر: [مخلع البسيط]
في كلّ يوم جديد روض ... عليه دمع النّدى حبيس
ومأتم في السّماء يبكي ... والأرض من تحته عروس
وقوله فيه: [مجزوء الكامل]
دمن كأن رياضها ... يكسين أعلام المطارف
وكأنّما غدرانها ... فيها عشور في مصاحف
وكأنّما أنوارها ... تهتزّ بالرّيح العواصف
وكأنّ لمع بروقها في (م) ... الجو أسياف مناقف «1»
وقوله في النزول مع الصباح على عال من البطاح: [الطويل]
ولمّا تعرّى اللّيل من حلّة الدّجى ... وغمّض جفن النجم من مضض السّهر
نزلنا على علياء كالطّود يرتقى ... إليها نسيم ليس في صفوه كدر
وقوله يصف القصور بالثريا، وكتب بها إلى المعتضد: [الطويل]
حللت الثّريّا خير دار ومنزل ... فلا زال معمورا وبورك من قصر
وما زال يرعاه الإمام برأيه ... إلى أن تردّى فوق عطفيه بالفجر
وتمّ فما في الحسن شيء يزيده ... لسان ولا قلب بقول ولا فكر
جنان وأسحار تلاقت غصونها ... فأوقرن بالأثمار والورق الخضر
ترى الطير في أغصانهنّ هواتفا ... تنقّلن من وكر لهنّ إلى وكر
وبنيان قصر قد علت شرفاته ... كصفّ نساء قد تربّعن في الأزر
وأنهار ماء كالسّلاسل فجّرت ... لتوضع أولاد الرياحين والزّهر
وميدان وحي تركض الخيل وسطه ... فتأخذ منها ما تشاء على قسر(7/317)
وقوله يصف منزلا حسنا: [الكامل]
ما مثل منزلة الدّويرة منزل ... يا دار جادك وابل وسقاك
بؤسا لدهر غيّرتك صروفه ... لم يمح من قلبي الهوى ومحاك
لم يحل بالعينين بعدك منظر ... ذمّ المنازل كلّهن سواك
أيّ المعاهد منك أندب طيبة ... ممساك ذا الاصال أم مغداك
أم برد ظلّك ذي الغصون وذي الحيا ... أم أرضك الميثاء «1» أم ريّاك
وكأنّما «2» سطعت مجامر عنبر ... أم فتّ فأر «3» المسك فوق ثراك
وكأنّما حصباء أرضك جوهر ... وكأنّ ماء الورد دمع نداك
وكأنّما «4» أيدي الربيع صحية ... نشرت ثياب الوشي فوق ثراك
فكأن درعا مفرغا من فضّة ... ماء الغدير جرت عليه صباك
وقوله في مثله: [الخفيف]
يا ديارا في ربى الخلد أضحت ... تلبس الرّوض عليها وشاحا
لو حللناك وسط جنّة عدن ... لاقترحناك عليها اقتراحا
وقوله في منزل داثر: [مجزوء الكامل]
ولقد عفت آياته ... فكأنها ترقيش ساطر
وكأنّما سحبت علي ... ها الرّيح أطراف المآزر
وقوله: [الرجز]
على حفافي جدول مسحور ... أبيض مثل المهرق المنشور(7/318)
أو مثل متن المنصل المشهور ... ينساب مثل الحيّة المذعور
وقوله: [الخفيف]
فتبدّى لهنّ بالنجف المق ... فر ماء صافي الحمام عريّ
تتمشّى على حصى يسلب الما ... ء قذاه فمتنه مجليّ
وإذا ضاحكته ذرّة شمس ... خلته كسّرت عليه الحليّ
وقوله في منهل: [الطويل]
وكم «1» منهل ينضي المطايا طرقته ... وما صاحبي إلّا المطيّة والرحل
له طرق تأتيه من كل جانب ... جديد وبال مثلما نقض الحبل
يذيب عليه الظلّ أفنان سدرة ... كمهرة خيل مال عن متنها الحلّ
وقوله في لجّة صافية: [الطويل]
ترى فوقها مثل الدّروع وربّما ... رأيت لها أعكان «2» جارية بكر
يريك بعيد الماء صفو قريبها ... وتعطيك سرّ الأرض والأرض لا تدري
وقوله في النرجس: [البسيط]
وزعفرانيّة في اللون تحسبها ... إذا تأملتها في ثوب كافور
كأن حبّ سقيط الظل بينهما ... دمع تحيّر في أحداق مهجور
وقوله في الآذريون «3» : [مجزوء الرجز]
عيون آذريونها «4» ... للشّمس فيها كاليه «5»(7/319)
مداهن من ذهب ... فيها بقايا غاليه
وقوله في الشقيق: [الطويل]
تحمّل آذريونة فوق أذنه ... ككأس عقيق في قرارته مسك
وقوله في السرو: [الكامل]
حفّت بسرو كالقيان تلبّست ... خضر الثّياب على قوام معتدل
فكأنّها والريح يخصر بينها ... تنوي التعانق ثم يمنعها الخجل
وقوله في لجة أخرى في السفن: [السريع]
وخيل ماء لي طيّارة ... تدبر بي إن شئت أو تقبل
تلاطم الماء مجاذيفها ... موقورة حاملة تحمل
وقوله في السفينة: [الطويل]
كأن جواريها وقد حثّ جريها ... بهنّ نسور قد هوين إلى وكر
كستهنّ كفّ الماء أثواب طحلب ... فجئن لشطّ النّهر في حلل خضر
تراهنّ فوق الماء طورا موائلا ... وطورا كأمثال المثقّفة السّمر
كمثل النّشاوى تبصر الخمر مرّة ... عليهم وأخرى يبصرون على الخمر
سأختار من دهم السفين جنيبة ... مودّعة الجنبين والصّدر والنّحر
كريح سليمان النبي غدوّها ... مدى الشهر والإمساء منها مدى الشّهر
تخوض أهاويل الظّلام بصيرة ... شموسا ولكن لا تطيع على قسّر
إذا طرقت تحت الدّياجي رأيتها ... كأحشاء محبوب الفؤاد من الذّعر
وقوله في الدليل: [الكامل]
ثم استثارهم دليل فارط ... يسمو لغايته بعيني أجدل
سار بلحظته إذا اشتبه الهدى ... بين المجرّة والسّماك الأعزل(7/320)
وقوله في اتفاق القلوب: [الكامل المرفل]
يا ربّ إخوان صحبتهم ... لا يملكون لسلوة قلبا
لو تستطيع نفوسهم ركبت ... أجسامها وتعانقت حبّا
وقوله في الجلالة: [الكامل]
وإذا بدا ملأ العيون مهابة ... فتظلّ تسرق لحظها وتسرّه
وكأنما رفع الحجاب لناظر ... عن صبح ليل قد توقّد فجره
وقوله في حاسد مبتسم: [الكامل المرفل]
متضاحك نحوي كما ضحكت ... نار الذّبالة وهو يحترق
وقوله في ولد جميل جاء من سوداء: [الطويل]
وجاءت به أمّ من السود أنجبت ... كليلة سرّ طوّقت بهلال
وقوله في كتمان السرّ: [البسيط]
وربّ سرّ كنار الصّخر كامنة ... أمتّ إظهاره مني فأحياني
لم يتّسع منطقي فيه ببائحة ... حزما ولا ضاق عن مثواه كتماني
وقوله: [الرّمل]
لا تلم من لم يصن سرّك إذ ... لم تصنه وتوقّ وانتبه
لا يكون السرّ إلا كاسمه ... لا يسمّى السرّ ما قد بحت به
وقوله في كاتب: [البسيط]
تظل أقلامه ينظمن من حكم ... درّا مباحا لنا منه بلا ثمن
وقوله في كاتب حنكته التجارب: [الطويل]
عليم بأعقاب الأمور كأنه ... بمختلسات الظنّ يسمع أو يرى(7/321)
إذا أخذ القرطاس خلت يمينه ... تفتّح نورا أو تنظّم جوهرا
وقوله في عنين: [المتقارب]
وأفتى «1» النميري قوّاده ... وفتيا النّميري فسق ورعي
فإنّك «2» قين «3» تحدّ السلاح ... وليس عليه من القطع شيّ
وقوله يصف مصلحا: [الكامل المرفل]
إن يغفلوا يسرع لحاجته ... وإذا رأوه أحسن العذرا
فطن يؤدي ما يقول له ... ويزيد بعض حديثنا سحرا
وقوله وقد قصد الخليفة: [الخفيف]
إنما غيّب الطبيب سنا المب ... ضع في نفس مهجة الإسلام
وقوله في خيبة الآمال لذي قوم: [الطويل]
فاصبحت أرجوهم رجاء يكدّني ... فليس له حتى القيامة آخر
كمرسل دلو في رشاء موصّل ... يلاطم أرض البئر والبئر غامر «4»
وقوله يصف عوديه: [الطويل]
وقمريّة الأصوات حمر ثيابها ... تهين ثياب الوشي جرّا وتسحابا
وتلقط يمناها إذا ضربت به ... وتنشر يسراها على العود عنّابا(7/322)
وقوله يصف حسن الحديث: [المديد]
وحديث قد جعلت له ... دون علم النّاس حجّابا
لا يملّ السمع «1» رجعته ... مفتن يعجب إعجابا
وقوله في وصف الموتى: [الطويل]
وسكان أرض لا تزاور «2» بينهم ... على قرب بعض في التجاور من بعض
كأن خواتيما من الطين أفرغت «3» ... فليس لها حتّى القيامة من فضّ
وقوله في رؤوس حملت على رماح: [الكامل]
بيض «4» ومسّهم الهجير بسمرة ... مثل البدور سطعن تحت شحوبها
حتى بحمل رؤوسهنّ خطيئة ... لا يحسد الماشي علوّ ركوبها
وقوله يصف دواة من أبنوس محلّى بفضّة: [الطويل]
وزنجية رومية «5» الحلي فوقها ... جناح لها فرد على الماء يخفق
يؤدّبها أولادها بعصيّهم ... فتحبس قسرا كيف شاؤوا «6» وتطلق
وقوله في القلم: [الرجز]
أرقط ذو لون كشيب المكتهل ... يقيم وزن العقل حتى يعتدل
يخاطب اللّحظ بنطق لا يكلّ ... ولا يملّ صاحبا حتى يملّ(7/323)
وقوله في الأقلام: [الكامل]
يحملن وفد الشّكر فوق رحالها ... والشاكر النّعماء كالجازي بها
وقوله في انهمار الدرّ: [الطويل]
إذا ما أراد الله جادت بحافل ... كما سلّ خيط من سدى الثّوب فانسابا
رأيت انهمار الدرّ بين فروجها ... كما عصرت أيدي الغواسل أثوابا
وقوله إذا بشّر الديك في الصباح بالصياح: [المنسرح]
بشّر بالصبح طائر هتفا ... مستوفيا للجدار مشترفا
مذكّرا بالصلاة «1» قام بنا ... كخاطب فوق منبر وقفا
صفّق إمّا ارتياحه لسنا ال ... فجر وإما على الدّجى أسفا
وقوله في الحيّة: [البسيط]
وأنعت رقطاء لا نحيا للدغتها ... لو قدّها السيف لم يلحق به البلل
تلقى إذا انسلخت في الأرض جلدتها ... كأنّها كمّ درع قدّه بطل
وقوله يصفها: [البسيط]
كأنّها حين تبدو من مكامنها ... غصن يفتّح فيه النّور والبرق
يسلّ منها لسان تستغيث به ... كما تعوّذ بالسبّابة الفرق
وقوله في خيل دهم: [المديد]
وغدونا عنه على ظهر خيل ... تأخذ الأرض بأيد عجال
زيّنتها غرر ضاحكة ... كبدور في وجوه ليال(7/324)
وقوله: [الوافر]
خرجن وبعضهنّ قريب بعض ... سوى فوت العذار أو العنان
ترى ذا السّبق والمسبوق منها ... كما بسطت أناملها اليدان
وقوله يصف خيل السباق: [البسيط]
كأنهنّ قنا ليست لها عقد ... يهزها الشدّ «1» في كرّ وإقدام
قبّ «2» البطون كطيّ العصب مضمرة ... تقرّب الثأر بين البيض والهام
وقوله في الخيل: [المديد]
وجياد «3» تأكل الأرض شدّا ... ملجمات يبتدرن الصياحا
قاصدات كلّ غرب وشرق ... ناطقات بالصّهيل فصاحا
وكأنّ الركض ذرّ عليها ... سبخا من مائهنّ ملاحا
وقوله فيها: [الطويل]
وخيل طواها القود حتى كأنّها ... أنابيب سمر من قنا الحظ ذبّل
صببنا عليها ظالمين سياطنا ... فطارت بها أيد سراع وأرجل
وقوله [في] أشقر أغرّ محجّل: [الطويل]
ولي كلّ حوّار العنان مجرّب ... كميت عناه الجري فهو مطار
كأن الرياح الهوج تحمل سرجه ... إذا ابتلّ منه محزم وعذار(7/325)
[وقوله] «1» : [الكامل]
ولقد عدوت على طمرّ «2» سابح ... عقدت سنابكه عجاجة قسطل «3»
بأغرّ يفرق بين شطري وجهه ... نور تخال سناه سلّة منصل
ومحجّل غرّ اليمين كأنّه ... متبختر يمشي بكمّ مسبل
وكأنما تحت العذار صفيحة ... عنيت بصفحتها مداوس صيقل
متلثّم لجم الحديد يلوكها ... لوك القناة مساوكا من أسحل
وقوله في مثله، أشقر أغرّ: [الكامل]
وكأنّ غرّته إذا استقبلتها ... صبح تبسّم أفقه بطلوعه
وقوله في أدهم أغرّ: [الرجز]
أدهم مصقول ظلام الجسم ... منتعلا بجندلات صمّ
قد سمّرت جبهته بنجم
وقوله في أغرّ غرته سائلة: [البسيط]
نمّت له غرّة كالصبح سائلة ... يكاد سائلها من وجهه يكف
إذا تقرّط يوما بالعذار بدا ... كأنه غادة قد زانها «4» الشّنف «5»
وقوله في أغرّ: [الطويل]
إذا ما بدا أبصرت غرّة وجهه ... كعنقود كرم بين غصنين نوّرا(7/326)
وقوله في محجّل: [مجزوء الكامل]
من كل ورّاد العشيّ ... مروّع الغدوات
يحلو إذا ما ذاقه ... متعنّت النظرات
وكأنما يخطو من ال ... تحجيل في حلقات
وقوله في كميت: [الخفيف]
وشديد القوى كملمومة الصّخ ... ر كميت ينسيك لون الشراب
ضاق عنه القميص واتّسع المن ... خر عنه وطار عند الوثاب
وله أربع نراها إذا هم ... لج تحكي أنامل الحسّاب
وقوله في مثله: [الخفيف]
ولقد أغتدي على طرف اللّيل (م) ... بذي ميعة كميت مطار
بلّل الركض جانبيه كما ... فاضت بكفّ النّديم كأس العقار
معرق في الجياد يهدي إلى ال ... موت ولا يهتدي سبيل الفرار
وقوله يصف فرسا: [مجزوء الرجز]
قد أغتدي بقارح ... مسوّم يعبوب «1»
ينفي الحصا بحافر ... كالقدح المكبوب
قد ضحكت غرّته ... في موضع التّقطيب
إذا عدت أربعة ... لقنص مطلوب
لم ينقطع غبارها ... قبل دم مصبوب
وقوله: [السريع]
ويحسب الجالس في متنه ... بأنه في جدول سائل(7/327)
ولو عرى من سرجه تارة ... لكان مثل الغادة العاطل
وينثر الجوهر من نطقه ... من غير سكّيت ولا صاهل
وقوله: [الرّجز]
وقارح مسّوم يعبوب ... ذي أذن كخوصة العسيب
أو آسة أوفت على قضيب ... وحافر كقدم المسلوب
أكحل مثل القدح المكبوب ... ذي مخبر يحمد في التجريب
أسرع من ماء إلى تصويب ... ومن رجوع لحظه المريب
ومن يقود الفكر في القلوب ... يستغرق البعيد بالقريب
نار لظى باقية اللهيب
وقوله: [الرّجز]
وطائر شقّ الظلام كوكبه ... يفتن من يبصره ويعجبه
يكاد أن يحرقه تلهّبه ... أضيع شيء صوته إذ تركبه
شهاب نار يتعرّى لهبه ... ذو مقلة قلّت لديها رتبه
وأذن أمينة لا تكذبه ... يكاد أن يطير لولا لهبه
وقوله: [الطويل]
له أيطلا ظبي وساقا نعامة ... ووثبة نمر والتفات غزال
وأحسن من ذا كلّما خطّ حافرا ... يخط هلالا من وراء هلال
وقوله يصف فرسا مؤذيا: [الرّجز]
يدرك ما يشاء إن أطلقته ... ولا يعاصيك وفيه مرتقب
أسرع من لحظته إذا عدا ... أطول من عنانه إذا جذب
وقوله: [المديد]
ربما أسري وتحتي طرف ... لا حق بالهاديات طمرّ(7/328)
بحر يجري يملأ الأرض شدوا ... ما عليه لذوي الشدّ صبر
فهو نار والتراب دخان ... مستطير وحصا الارض جمر
وقوله: [الكامل]
يعطي العنان إذا نهاه رأسه ... طوعا ويعطي سوطه ما ينبغي
وكأنما شقّت عليه غلالة ... بيضاء من زبد الحميم المفرغ
وتخاله يوم الرّهان غمامة ... حفزت بريح في غمائم فرّغ
وقوله يصف جملا: [الكامل]
وكأن رحلي فوق أحقب «1» لاحه ... لفح الهجير بمشعل أجّاج
كالبرق يلتهم البلاد مجاهرا ... بالشدّ بين مفاوز وفجاح
وترى «2» السماء إذا غدت مملوءة ... من نقعه والأرض ذات ضجاج
وقوله في مثله: [الطويل]
وأصبح يجدي للنّوى كلّ بازل ... سفينة أسفار على الأرض تسفح
وقد ثقلت أخفافه فكأنها ... من الأين «3» أرجاء تسال وتطرح
وقوله يذكر ناقة: [الطويل]
وأرحل هو جاء البديهة حرّة «4» ... حفيفة وقع الرّجل محمودة الظهر
صقيلة أرجاء الأديم كأنما ... صببت على أرجائها ذائب التّبر(7/329)
وقوله فيها: [الكامل]
ولقد تجوب بي المهامه حرّة ... والصبح قد فلق الدّجى بعمود
شملالة «1» أخذ «2» كأن فروجها ... أبواب قصر فتّحت لوفود
وقوله في النياق: [مجزوء الكامل]
والعيس يخبطن السّر ... يح «3» كأنه مزق الجوارب
وكأنّما قطع الغمام ... على جوانبها عصائب
وكأنما أضلاعها ... للنبع أقواس مساحب
وكأنما أجفانها ... تقضي على قلب نواصب
وقوله فيها: [الطويل]
فلا يدرك الحاجات إلّا صريمة ... من الرأي حتما والقلاص الجوامز
حرقن إلى الإصباح أردية الدّجى ... فهنّ على حدّ النهار نوارز
لهمّ أزال القلب عن مستقرّه ... وبات له في جنّة القلب واجز
فداويته بالعيس تغترف الخطا ... كما ابتدرت غرفا لها لا نواهز
ضمنّ ضياء الصّبح في لجّة الدّجى ... فوفّى به وعد من السير راجز
وقوله فيها: [الطويل]
وعجّت بأعناق المطي كأنّها ... هياكل رهبان عليها صوامع
تلاعبه الأيدي على قلب الدّجى ... كأشطان بئر وهي منه نوازع
وقوله يذكر سيفا: [الطويل]
ولي صارم فيه المنايا كوامن ... فما ينتضى إلّا لسفك دماء(7/330)
ترى فوق متنيه الفرند «1» كأنه ... بقية غيم رقّ دون سماء
وقوله فيه: [المنسرح]
وقد تردّيت بابن صاعقة ... أخضر ما في عراره قلل
أبعد شيء بقايا غصّة ... وأدنى شيء له الأجل
وقوله في السيوف: [المتقارب]
وصلّت صوارم أيماننا ... تحسيهم الموت من غير كأس
يصلن السيوف بآجالها ... ويقطعن ما بين جسم ورأس
وقوله: [المديد]
والوغى يضحك عن بارقات ... باكيات بدماء الرجال
واقعات في نفوس الأعادي ... رويت من رونق وصقال
وقوله في النشّاب: [الخفيف]
وسهام تردي الرّدى من بعيد ... واقعات مواقع الأبصار
وقوله في نشاب: [الكامل]
وقضيب نبع كالشّجاع «2» معطّف ... لرسائل الموت الزّعاف مبلّغ
وقوله في الرمح: [الطويل]
وما راعه إلّا أسنّة عسكر ... كظلمة ليل ثقّبت بنجوم
وقوله في الدرع: [السريع]
كم بطل بارزني في الوغى ... عليه درع خلتها تطرد(7/331)
وقوله في البيض: [الطويل]
وبيض كأنصاف البدور أبيّة ... إذا امتحنتهنّ السيوف جبار
وقوله في موقف حرب: [المديد]
في مكرّ يحسب الهام فيه ... حنظلا في غمرة السيل طاحا
وقوله في جيش: [الطويل]
وجيش كمثل اللّيل سوّد شمسه ... ويحمرّ من أعدائه البرّ والبحر
وقوله في قوس البندق «1» : [المتقارب]
وماء به الطير مربوطة ... كأن الحليّ بأطواقها
عدونا عليه وشمس النها ... ر لم تكس حلّة «2» إشراقها
فظلنا وظلّت عيون القسيّ (م) ... ترمي الطيور بأحداقها
وقوله في الصقر: [الطويل]
إذا ما أراد الصيد حلّق نحوه ... وهزّ جناحيه كحاشيتي برد
وإن طار أعطى كفّه ما يعينه ... وقرّب منه ما يشاء على بعد
وقوله فيه: [الرجز]
وأجدل يزين «3» نطق الناطق ... ململم الهامة نجم العانق
طبّ بخطف السابحات حاذق ... ذو مخلب أقنى كنون الماشق «4»
وجؤجؤ «5» لابس وشي رائق ... كمبدأ اللّامات في المهارق(7/332)
أو كبقايا «1» الكحل في الحمالق ... يمر كالرّيح بعزم صادق
كما سمعت هجس الصّواعق
وقوله فيه: [الرجز]
وأجدل أحكم بالتأديب ... معمّم بالملبس القشيب
يهوي هويّ الدّلو في القليب «2» ... ما طار إلّا لدم مصبوب
وقوله في البازي: [الرجز]
وأقمر للصيد ذي ارتياح ... قمّص ريشا حسن الأوضاح
عليه منه لحباب الرّاح ... يركض في الهواء بالجناح
وقوله فيه: [الرجز]
قد أذعر الصّيد بباز أقمر ... ذو مقلة تسرح فوق المحجر
ومنسر «3» ماضي السنا كالخنجر ... تخاله مضمّخا بالعصفر
بهامة كالحجر المدوّر ... وجؤجؤ منمنم محبّر
كأنه رقّ خفيّ الأسطر ... وذنب كالمنصل المذكّر
قلّص فوق الدستبان الأحمر ... أرقط ريش الدفّتين أنمر
كأنه في جوشن «4» مزرّر
وقوله فيه: [الرجز]
ذو جؤجؤ مثل الرخام المرمار ... أو مصحف منمنم ذي أسطار
ومقلة صفراء مثل الدّينار ... ترفع جفنا مثل حرف الزّنار «5»(7/333)
ومخلب كمثل عطف المسمار ... آنس طيرا في خليج هدّار
مضطرب اللجّة صافي الأقطار ... سوابحا تفري حباب التيّار
من كلّ صدّاح العشيّ صفّار ... كأنّه مرجّع في مزمار
وذات طوق أخضر ومنقار ... كنصف مضراب يرى منه البار
فصاد قبل فترة وإضجار ... خمسين فيهنّ سمات الأظفار
يخبطها خبط مليك جبّار ... مظفّر يطلبها بأوتار
قد حكّمت سيوفه بالأعمار ... كأنه فيها شواظ من نار «1»
وقوله فيه: [الرجز]
مختضب في كل يوم بعلق ... ذو مقلة تصدقه إذا رمق
ينشب في الأثباج حتى ينفتق «2» ... مخالبا كمثل أنصاف الحلق
كأنما أترجّة بلا ورق «3» ... مبارك إذا رأى فقد رزق
إن رمته الكفّ وكاد يحترق ... يسبق ذعر الطّير من حيث رمق
وقوله في البزاة: [الوافر]
وفتيان سروا واللّيل داج ... وضوء الصبح متّهم الطلوع
كأن بزاتهم أسراء جيش ... على أكتافهم صدأ الدّروع
قوله في الزرّق: [الرّجز]
وزرّق ريّان من شبابه ... ذي مخلب مكّن من نصابه(7/334)
كأن سلخ الأيم «1» من أثوابه ... يكاد أن يخرج من إهابه
وقوله أيضا: [الرّجز]
وزرّق أرضى به وأرضى ... لمّا حملناه أراد النّهضا
أقلّ بعضا ومنعنا بعضا ... كما رأيت الكوكب المنقضّا
وقوله: [الرّجز]
وزرّق مجرّب ومقدام ... يضمن زاد الجحفل الهمام
كأنّه فوق يد الغلام ... صبح له درع من الظلام
ذو جؤجؤ كنمش الرّخام ... أو أسطر خفيّة الأقلام
بمقلة تسرج كالضّرام ... ومنسر عضب الشباة دامي
كعقدك الخمسين بالإبهام «2» ... منتزع لغامض الطعام
أشرع من بارقة الغمام ... ذو ذنب كطرف الحسام
يمرق عند الصيد كالسّهام
وقوله أيضا: [الرجز]
ذو جؤجؤ محبّر موشيّ ... بمقلة تلحق بالقصيّ
قد علقت بالشّبح الخفيّ ... كأنّه دينار صيرفيّ
وقوله في الباشق: [الرّجز]
وباشق يعطيك ما ابتغيت ... سهم مصيب كلّما رميت
لا عيب فيه غير عشق الموت(7/335)
وقوله في صيد الطيور والكلاب: [الطويل]
وقيدت لحتف الطير عصف كواسر ... كمثل قداح الباريات لحائف «1»
إذا انخرطت عنها القلائد خلتها ... ترامى بها هوج الرياح العواصف
تقاسمها قبض النفوس أجادل ... ففي الأرض نهّاش وفي الجو خاطف
كأن دلاء في السّماء تحطّها ... وترقى بها أيد سراع عوارف
يشقّق آذان الأرانب صكّها ... كما شقّ أنصاف الكوافير جارف
فأصبح خرّان القريّة عدوه ... شياطين في أفواههنّ المتالف
ونبّه وسنان التّراب صحية ... إلى الجوّ شدّ يأكل الأرض عاصف
وقوله في صفة فهدة تصيد: [المتقارب]
ولا صيد إلّا بوثّابة ... تطير عل أربع كالعذب
وإن أطلقت من قلاداتها ... وطار الغبار وجدّ الطّلب
فزوبعة من بنات الرّياح ... تريك على الأرض شدّا عجب
تضمّ الطريد إلى نحرها ... كضمّ المحبّة من لا يحبّ
إذا ما رأى عدوها خلفه ... تناجت ضمائره بالعطب
ومقلتها سائل كحلها ... وقد جليت سبحا في ذهب
غدت وهي واثقة أنها ... تقوم بزاد الخميس اللجب
فظلّت لحوم وحوش الفلاة ... على الجمر معجلة تنتهب
وقوله في الفهد: [الرجز]
ولاحق الوثبة ممتدّ النفس ... نعم الرديف نائبا عن الفرس
ينفي القذى عن مقلة فيها شوس «2»(7/336)
وقوله فيه أيضا: [الرّجز]
ومخطف ذي أربع خفاف ... يملأها شدّا بكيل وافي
كأنما أظفاره أسافي «1» ... ليس له غير الدّماء شافي
وقوله في كلاب الصيد: [الطويل]
وأطلقت أشباها يخلن عقاربا ... إذا رفعت عند الحفيظة أذنابا
فطارت سراعا فاغرات كأنّها ... تحاول سبقا أو تبادر إنهابا
وقوله فيها: [الرّجز]
أنعتها ضوامرا نواحلا ... حائلة تجاذب السّلاسلا
إذا ارتقت رأيتها مواثلا ... كمثل كفّ رفعت أناملا
وإن هوت حسبتها جداولا ... محفورة تطّلب المسائلا
كأنّ في أفواهها معاولا
وقوله فيها: [المتقارب]
يقود مكلّبنا ضمّرا ... سلوقية طالما قادها
معلّمة من بنات الرياح ... إذا سألت غدوها زادها
وتخرج من أفواهها ألسنا ... كسيف الخناجر أغمادها
وأمسكن صيدا ولم تدمه ... كضمّ الكواعب أولادها
وقوله في ذكر منها أو أنثى: [الرّجز]
قدنا لحتف الوحش والظّباء ... داهية محذورة اللّقاء
شائلة كالعقرب السّمراء ... تحملها أجنحة الهواء
أسرع من جفن إلى إغضاء ... ومخطف مليّن الأعضاء(7/337)
كأثر الشّهاب في السّماء ... بأذن ساقطة الأرجاء
كوردة السوسنة الشهلاء ... بمقلة قليلة الإقراء
صافية كقطرة من ماء ... تنساب بين أكم الصحراء
مثل انسياب حيّة الأنقاء
وقوله في الراح: [البسيط]
وآب في آب يجنيها لعاصرها ... كأنّ كفّيه قد علّت بحنّاء
كأنّه صبّ سلسال المزاج على ... سبيكة من بنات التّبر صفراء
وقوله فيها: [الكامل]
داو الهموم بقهوة صفراء ... وامزج بنار الرّاح نور الماء
لم يتّرك منها تقادم عهدها ... في الدنّ غير حشاشة صفراء
ما زال يصقلها الزمان بكرّة ... ويزيدها في رقّة وصفاء
حتّى إذا لم يبق إلّا روحها ... في الدنّ واعتزلت عن الأقذاء
وتوقّدت في ليلة من نارها ... كتوقّد المرّيخ في الظّلماء
بذلت كمثل سبيكة قد أفرغت ... أو حيّة وثبت من الرّمضاء
واستبدلت من طينة مختومة ... تفّاحة في رأس كلّ إناء
وقوله فيها: [الخفيف]
فتنته السّلافة العذراء ... فلها ودّ نفسه والصّفاء
روح دنّ لها من الجسم كأس ... فهي فيه كالنّار وهو هواء
فإذا مجّت الأباريق ماء ال ... مزن فيها شابت وشاب الماء
وكأن الحباب إذ مزجوها ... وردة فوق وردة بيضاء
وكأنّ النّديم يلثم فاها ... كوكب «1» كفّه عليه سماء(7/338)
وقوله في صفة فهدة تصيد: [المتقارب]
ولا صيد إلّا بوثّابة ... تطير على أربع كالعذب
وإن أطلقت من قلاداتها ... وطار الغبار وجدّ الطّلب
فزوبعة من بنات الرياح ... تريك على الأرض شدّا عجب «1»
وقوله فيها: [الخفيف]
قهوة زوّجت بدمع سحاب ... فكست وجهها نقاب حباب
مثل نسج الدروع أو مثل ... واوات تدانت سطورها في كتاب
وقوله فيها: [المتقارب]
وصفراء باكرتها والنّجوم ... خافقة كقلوب تجب
كأنّ الحباب إذا صفّقت ... سماء من الدرّ فوق الذّهب
وتحسبها قبسا مزعجا ... إذا خرسته الرّياح التهب
وقوله: [المنسرح]
يمجّ إبريقه المزاج كما ... امتدّ شهاب في إثر عفريت
كأنه فوق كأسها عجب ... كمثل نقش في فصّ ياقوت
وقوله: [الكامل]
ومدامة يكسو الزّجاج شعاعها ... كالخيط من ذهب إذا ما سلّت
قد حثّني بكؤوسها ذوعتّة ... صامت له صور الملاح وصلّت
وقوله: [الكامل]
من لي على رغم الحسود بقهوة ... بكر ربيبة حانة عذراء
موج من الذّهب المذاب يضمّه ... كأس كقشر الدرّة البيضاء(7/339)
وقوله: [البسيط]
أما ترى يومنا قد جاء بالعجب ... فلا تعطّله من لهو ومن طرب
فقام مثل قضيب حرّكته صبا ... حلو الشّمائل مطبوع على الأدب
يزفّ كأسا بمنديل متوّجة ... ورأسها فضة والجسم من ذهب
وقوله: [الخفيف]
شاب منها البياض لون اصفرار ... فلها لون عاشق مكروب
هي تدعو إلى الذّنوب ولكن ... هي للمرء حجّة للذّنوب
وقوله: [المنسرح]
قم فاسقني قهوة عروس (م) ... دساكير عليها طوق من الحبب
فصبّ في الكأس من أبارقه ... مائين من فضّة ومن ذهب
وقوله: [البسيط]
وقد يباكرني السّاقي فأشربها ... راحا تريح من الأحزان والكرب
وأمطر الكأس ماء من أبارقه ... وأنبت الدرّ في روض من الذّهب
وسبّح القوم لمّا أن رأوا عجبا ... نورا من الماء في نار من العنب
لم يبق منها البلى شيئا سوى شبح ... يقيمه الشكّ بين الصّدق والكذب
سلافة ورّثتها عاد عن إرم ... كانت ذخيرة كسرى عن أب فأب
وقوله: [البسيط]
حطوّا الرّحال إلى خمّار دسكرة «1» ... مستعجل بانفتاح الباب محثوث
تميل من غمرات السّكر قامته ... كمثل ماش على دفّ بتخنيث
وفضّ خاتمه عن رأس مدّخر ... من الدنان قديم العهد موروث
تحيي زجاجته هذا وتقتل ذا ... فالناس ما بين مقتول ومبعوث(7/340)
وقوله: [الخفيف]
وعروس زفّت على بطن كأس ... فوق كفّ منقّش بزجاج
فهي بعد المزاج توريد خدّ ... وهي مثل الياقوت بعد المزاج
وقوله: [البسيط]
أقول سرّا لساقينا وفي يده ... كأس كشعلة جمر إذ يؤجّجها
لا تمتزجها بغير الرّيق منك فإن ... تبخل يداك فدمعي سوف يمزجها
وقوله: [البسيط]
خضنا الظّلام إلى خمّار دسكرة ... منفّر النوم يقظان المصابيح
فصبّ في كأسه راحا معتّقة ... ظلّت تحدّث عن عاد وعن نوح
كمثل ياقوتة في كفّ تاجرها ... فكلّ يوم يلاقيها بتسبيح
وقوله: [الكامل]
خلّ الزمان إذا تقاعس أو جمح ... واشك الهموم إلى المدامة والقدح
واحذر فؤادك إن شربت ثلاثة ... واحذر عليه أن يطير من الفرح
هذا دواء للهموم مجرّب ... فاقبل مشورة صاحب لك قد نصح
ودع الزّمان فكم شقيق مصلح ... قد رام إصلاح الزّمان فما انصلح
وقوله: [الوافر]
خليليّ اتركا قول النّصيح ... وقوما فامزجا راحا بروح
فقد نشر الصّباح رداء روح ... وهبّت بالنّدى أنفاس روح
وحان ركوع إبريق لكأس ... ونادى الدّيك حيّ على الصّبوح
وحنّ النّاي من طرب وشوق ... إلى وتر يكلّمه فصيح
هل الدّنيا سوى هذا وهذا ... وساق لا يخالفنا مليح(7/341)
وقوله: [الكامل]
هذا العقار من الدّنان بزلتها ... فجلوتها بجواهر الأقداح
ناهيك روحا في الخدور مصونة ... محبوبة زفّت إلى الأرواح
وقوله: [الكامل]
وأتى بها كالنّار تأكل كفّه ... بشعاعها من شدّة الإيقاد
لمّا وجاها وجية في نحرها ... بمذلّق لطعانها معتاد
جادت له بدم كأنّ نفيّه ... شرر يطيّره بقرع زناد
وقوله: [الطويل]
ونار جناها لي سراعا بسحره ... متى ما ترقّ ما عليها توقّد
يجول حباب الماء في جنباتها ... كما جال دمع فوق خدّ مورّد
وقوله: [السريع]
شربتها صفراء كرخيّة ... كأنّها في كأسها تتّقد
وتحسب الماء زجاجا جرى ... وتحسب الأقداح ماء جمد
وقوله: [الوافر]
وليل قد سهرت ونام فيه ... ندامى صرّع حولي رقودا
أسامر فيه قهقهة القناني ... ومزمارا يحدثني وعودا
فكاد الليل يرجمني بنجم ... وقال أراه شيطانا مريدا
وقوله في خمرة مطبوخة: [الطويل]
خليليّ قد طاب الشّراب المبرّد ... وقد عدت بعد النّسك والعود أحمد
فهات عقارا في قميص زجاجة ... كياقوتة في درّة تتوقّد
يصوغ عليها الماء شبّاك فضّة ... لها حلق بيض تحلّ وتعقد
من الدّاء مسّتها من النّار لفحة ... فظلّت بما فيها تفور وتزبد(7/342)
وعنها لنا في جوفها حبشية ... عليها سراويل من الماء مجسد
فظاهرها حلم صبور على الأذى ... وباطنها جهل يقوم ويقعد
ولمّا جنيناها قطافا رويّة ... تذوب إذا مسّت عنا قيدها اليد
وقتني من نار الجحيم بنفسها ... وذلك معروف لها ليس يجحد
وقوله: [الخفيف]
علّلاني بصوت ناي وعود ... واسقياني دم ابنة العنقود
أشرب الرّاح وهي تشرب عقلي ... وعلى ذاك كان قتل الوليد
ربّ سكر جعلت موعده ال ... صّبح وساق حثثته بمزيد
وقوله: [مجزوء الكامل]
وكأنّما جنيت من الياقوت ... ليست بنت كرم
رقت ففاتت ناظرا ... يرنو فلم تدرك بوهم
وقوله: [الطويل]
خليليّ قم حتّى نموت من السّكر ... بحانة خمّار مماتا بلا قبر
ونشرب من كرخيّة ذهبيّة ... ونصفح عن ذنب الحوادث والدّهر
وقوله: [الكامل]
قد حثّني بالكأس أو من فجره ... ساق علامة ذنبه في خصره
وكأن حمرة لونها من خدّه ... وكأنّ طيب نسيمها من نشره
حتّى إذا صبّ المزاج تبسّمت ... عن لؤلؤ فحسبته من ثغره
ما زال ينجز لي مواعد عينه ... فمه وأحسب ريقه من خمره
وقوله: [المنسرح]
تخرج من دنّها وقد جدبت ... مثل هلال بدا بتقويس
من لا مني بالمدام فهو كمن ... يكتب بالماء في القراطيس(7/343)
وقوله: [المنسرح]
قد ركّبت كفّه مشعشعة ... إبريقها في الكؤوس هدّار
أودع صفو الزّجاج صفرتها ... كمثل نور ضميره نار
وقوله: [الوافر]
وبيضاء الخمار إذا اجتلتها ... عيون الشّرب صفراء الإزار
جموح في عنان الماء تنزو ... إذا ما راضها نزو المهاري
وقوله: [الطويل]
وكرخيّة الأنساب أو بابليّة ... ثوت جفنا في ظلمة القار لا تسري
نظرت صفاء الماء فوق صفائها ... فخلتهما سلّا من الشّمس والبدر
وقوله: [الرّجز]
وليلة من حسنات الدّهر ... سريت فيها بخيول شقر
سياطها ماء السّحاب الغرّ ... كأنه درب لجين يجري
وقوله: [المتقارب]
وشرب سقيتهم والصّباح ... في وكره واقع لم يطر
كأنّهم بينهم حري ... ق فأيديهم تستعر
وقوله: [الوافر]
شربنا بالكبير وبالصّغير ... ولم نحفل بأحداث الدّهور
وقد ركضت بنا خيل الملاهي ... وقد طرنا بأجنحة السّرور
وقوله: [الكامل المرفل]
ومهفهف يهدي إلى النّفس ... ذهبية صفراء كالورس
وكأنّ كفّيه تقسّم في ... أقداحنا قطعا من الشّمس(7/344)
وقوله: [الخفيف]
وشمول أرقّها الدّهر حتّى ... ما توارى قذاتها بلبوس
وردة اللّون في خدود النّدامى ... وهي صفراء في خدود الكؤوس
وقوله: [المنسرح]
لا عيش إلّا بكفّ جارية ... ذات دلال في طرفها مرض
كأنّ في النّاس حين تمزجها ... نجوم رجم تعلو وتنخفض
وقوله: [الطويل]
وشمس نهار قد سبقت طلوعها ... بشمس عقار في الزّجاجة تطلع
فما اشتهر الإصباح حتى رأيتني ... أقوم إلى برّ النّديم وأركع
وقوله: [الطويل]
يدور علينا الرّاح من يد شادن ... له لحظ عين تشتكي السّقم مدنف
كأن سلاف الخمر من ماء وجهه ... وعنقودها من شعره الجعد يقطف
وقوله أيضا وهما من جرثومة: [السّريع]
وقهوة في كأسها تزهو ... يفوح منها المسك والعنبر
يحثّها في كفّه شادن ... كأنّها من خدّه تعصر
وقوله يصفها في كأس أزرق: [الكامل]
وإذا رأى حمراء ساطعة السّنا ... أبقت بخدّ الشّرب منها عندما
وتوقّدت في جوف كأس أزرق ... كتوقّد المرّيخ في جوّ السّما
وقوله: [الطويل]
وناولني كأسا أضاء بيانه ... يدفّن ياقوتا ودرّا مجوّفا
ولما أذقناها المزاج تسعّرت ... فخلّت سناها بارقا متكشّفا(7/345)
وقوله: [الوافر]
وندمان سقيت الرّاح صرفا ... وأفق الصبح مرتفع السّجوف
صفت وصفت زجاجتها عليها ... كمعنى دقّ في ذهن لطيف
وقوله: [المنسرح]
اشرب عقارا كأنها قبس ... قد سبك الدّهر تبرها فصفا
أرتق فيها المزاج فاشتعلت ... كمثل نار أطعمتها سعفا
وقوله: [البسيط]
وقد يباكرني السّاقي فأشربها ... كأنّها قبس في الكف مشهور
يريق في كأسها من صوب غادية ... فالخمر يا قوتة والماء بلّور
وقوله: [المتقارب]
إذا ما طعنّا بطون الدّنان ... سال دم الكرم منهنّ سورا
كأنّ خراطيمها في الزّجاج ... خراطيم نحل ينقّبن نورا
وقوله: [الطويل]
وعاقد زنّار على غصن الآس ... دقيق المعاني مخطف الخضر ميّاس
سقاني عقارا صبّ فيها مزاجها ... فأضحك عن ثغر الحباب فم الكاس
وقوله: [المنسرح]
لا شيء تسلي همّي سوى قدح ... تدمى عليه أوداج إبريق
يكتب فيه كفّ المزاج لنا ... ميمات سطر بتعبير تعريق
وقوله: [البسيط]
ظبي تجلّى من الأحزان أو دعني ... ما يعلم الله من حزن ومن قلق
كأنّه وكأنّ الكأس في يده ... هلال أول شهر غاب في شفق(7/346)
وقوله: [الوافر]
وندمان دعوت فهبّ نحوي ... وسلسلها كما خرط العقيق
كأنّ بكاسها نارا تلظّى ... ولولا الماء كان لها حريق
وقوله: [الوافر]
كأن عمامة بيضاء بيني ... وبين الرّاح تحرقها البروق
وقوله: [الطويل]
ومشمولة صاغ المزاج لرأسها ... أكاليل درّ ما لمنظومها سلك
جرت حركات الدّهر فوق سكونها ... فذابت كذوب التّبر أخلصه السّبك
وقد خفيت من صفوها فكأنها ... بقايا يقين كاد يذهبه الشّكّ
وقوله يعارض من أنفق جراف «1» عمره في غير سرور المدام: [الطويل]
إذا شئت سقّاني غزال دساكر ... يبقّر أحشاء الدّنان بمبزل
يكلّل بالمنديل أقداح قهوة ... كجمر جلته الرّيح قدّام مصطلي
يطوف بها والصّبح عريان خالع ... بقية ليل كالقميص المرعبل «2»
على كلّ مجرور الرّداء سميدع ... جواد بما يحويه غير مبخّل
يصبّ ويسقي أو يسقّى مدامة ... كمثل سراج لاح في اللّيل مشعل
ولست تراه سائلا عن خليفة ... ولا قائلا من يعزلون ومن يلي
ولا صائحا كالعير في يوم لذّة ... يناظر في تفضيل عثمان أو علي
ولا حاسبا تقويم شمس وكوكب ... ليعرف أخبار العلوّ من اسفل
يقوم كحرباء الظّهيرة مائلا ... يقلّب في أسطرلابه عين أجول
ولكنّه فيما عناه وسرّه ... وعن غير ما يعنيه فهو بمعزل(7/347)
خليليّ بالله اقعدا نصطبح ولا ... [قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل] «1»
ويا ربّ لا تنبت ولا تسقط الحيا ... [بسقط اللّوى بين الدخول فحومل]
ولا تقر مقراة امرئ القيس قطرة ... من المزن وارحم ساكنيها بجندل
ولكن ديار اللهو ربّ فأسقها ... ودلّ على خضرائها كلّ جدول
وقوله: [المتقارب]
وخمّارة من بنات اليهو ... د ترى الزقّ في بيتها سائلا
وزنّا لها ذهبا جامدا ... فكالت لنا ذهبا سائلا
عقارا تنفّس عن مسكة ... ترى فوقها لؤلؤا جائلا
فلم أرهما سوى فقدها ... لا غيرها فرحا عاجلا
[وقوله] «2» : [الطويل]
إذا قرعت بالماء حلّ بكأسها ... مدبّ دبا «3» تعلو أكارعه رملا
مشعشعة كالشّمس تأكل نورها ... زجاجتها في كفّ شاربها أكلا
عروسا جعلنا مهرها بعض ديننا ... فما رضيت حتّى وهبنا لها العقلا
وقوله: [البسيط]
ولم يزل ليلنا يسقى مشعشعة ... كأنما الماء يغريها بتصميم
أبقى الجديدان «4» من موجودها عجبا ... لونا ورائحة من غير تجسيم
كأنّ في كأسها والماء يفرعها ... أكارع النمل أو نقش الخواتيم(7/348)
وقوله: [الطويل]
يمجّ سلاف الخمر في عسجديّة ... توهّج في يمناه كالكوكب الفرد
محفّرة فيها تصاوير فارس ... وكسرى غريق حوله حزق «1» الجند
وقوله: [الخفيف]
اسقني القهوة التي تصف العت ... ق بلون صاف وطعم زلازل
طعنت نحرها الأكفّ ولكن ... تأخذ الثّأر من عقول الرّجال
روح دنّ صفراء تستخلف (م) ... الشّمس سناها على سواد اللّيالي
وكأنّ السّقاة قد مسحوها ... بدهان في رأسها «2» وصقال
وقوله: [مخلع البسيط]
قد أظلم اللّيل يا نديمي ... فاقدح لنا النّار بالمدام
كأنّني والورى رقود ... أقبّل الشّمس في الظّلام
وقوله: [الطويل]
وصفراء من صبغ الهجير لرأسها ... إذا مزجت إكليل درّ منظّم
قطعت بها عمر الدّجى وشربتها ... ظلامية الأجسام نوريّة الدّم
وقوله: [السريع]
يا ربّ ليل سحر كلّه ... مفتضح البدر عليل النّسيم
لم أعرف الإصباح في ضوئه ... لمّا بدا إلا بسكر النّديم
وقوله: [الطويل]
كأنّ أباريق المدام لديهم ... ظباء بأعلى الرّقمتين قيام(7/349)
وقد شربوا حتّى كأنّ رقابهم ... من اللّين لم يخلق لهنّ عظام
وقوله: [الكامل]
وكأنّ إبريق المدامة بيننا ... ظبي على شرف أناف مدلّها
لمّا استحثّوه تذكّر إلفه ... فبكى على قدح النّديم وقهقها
وقوله: [الوافر]
سقاني من معتّقة الدّنان «1» ... مليح الدلّ مختضب البنان
وحمّل كفّه كأسا تلظّى ... بنار لا تقنّع بالدّخان
فلمّا صبّ فيها الماء سارت ... كما سار الشّجاع إلى الجبان
وقد لبست نقابا من حباب ... كسلخ الأيم أو درّ الجمان
فخلت الكأس مركز أقحوان ... وتربته سحيق الزّعفران
قوله: [مجزوء الرمل]
قل لمن حيّا فأحيا ... ميّتا يحسب حيّا
ما الذي ضرّك لو أب ... قيت لي في الكأس شيّا
أتراني كنت إلّا ... مثل من قبّل فيّا
واسقني في كلّ حين ... قهوة ذات حميّا
إن يكن رشدا فرشدا ... أو يكن غيّا فغيّا
وقوله: [الوافر]
وكأس من زجاج فيه [أسد] «2» ... فرائسهنّ ألباب الرّجال
إذا ما صرّعت منّا نديما ... توسّد باليمين وبالشّمال(7/350)
وقوله: [المديد]
قد أسقّى الراح صافية ... تنشر الإصباح في الظّلم
فإذا ما الماء خالطها ... راض منها سهلة الشّيم
واكتست من شكله حببا ... بين منثور ومنتظم
وتبدّت في أسرّتها ... أسطر مجهولة الكلم
رحلها كفّ تسير بها ... من فم الإبريق نحو فمي
وقوله في الهجاء: [الطويل]
وإخوان شرّ قد حرثت إخاءهم ... وكانوا لغرس الورد شرّ بقاع
قدحت زناد الوصل بيني وبينهم ... فأذكيت نارا غير ذات شعاع
وقوله في غدر بني الدهر: [المتقارب]
بلوت أخلّاء هذا الزّمان ... فأقللت بالهجر منهم نصيبي
وكلّهم إن تصفّحتهم ... صديق العيان عدوّ المغيب
وقوله في ذمّ القلم والكتابة: [الطويل]
وأجوف مشقوق كأنّ شباته «1» ... إذا استعجلته الكفّ منقار لاقط
وتاه به قوم فقلت رويدكم ... فما كاتب بالكفّ إلّا كشارط
وقوله في صديق مدّاح: [الطويل]
ولي صاحب في وجهه لي أوجه ... وفي فمه طبل تسرّي وتضرب
إذا ما خلا الإخوان كان مرارة ... يعرّض في حلقي مرارا وينشب
كماء طريق الحجّ في كلّ منهل ... يذمّ على ما كان منه ويشرب(7/351)
2- قدامة بن جعفر «13»
الكاتب، أبو الفرج. رجل طالما يقضي النهار وفرعه مهزوز، ويسهر الليل وبرقه كأنه عمود فضة محزوز، فأنهز للفضائل أوداجا، وكاشف الدجى وقد داجى ولم يزل يعري عن منكب الليل دواجا، ويساقط لؤلؤ الفرقدين أزواجا؛ إلى أن أصبح اسمه مثلا مضروبا، وعذبه الزلال منهلا مشروبا، ولهذا كل ذي قدم في البلاغة لا يشبه إلا بقدامه، ولا يقاس به الصابيّ ابن هلال فتجيء منه ثلامه. وناهيك برجل سعى صيته بين الخافقين، ووسع جنباه مثل النيل والفرات الدافقين. وطال الأمد عليه؛ وقد بلي جسده، وذهبت رحمته وحسّده.
والألسنة بذكره لهجة، وفضائله؛ وإن لم تهبّ من كراه مبتهجة.
كان نصرانيا وأسلم على يد المكتفي بالله، وكان أحد البلغاء الفصحاء والفلاسفة الفضلاء، وممّن يشار إليه في علم المنطق. وحضر مجلس الفضل بن جعفر ابن الزيّات، وقت مناظرة أبي سعيد السيرافي، ومتّى المنطقي سنة عشرين وثلاثمئة. ومات سنة سبع وثلاثين وثلاثمئة.
قال صاحب بغية الألباء: بلغني أن بعض متعاطي الأدب شرح المقامات الحريرية، فقال عند قوله، ولو أوتي بلاغة قدامة: إن قدامة بن جعفر كان كاتبا لبني بويه. قال: وجهل في هذا القول؛ فإن قدامة كان أقدم عهدا، وهو المذكور البغدادي من أهل الفضل، عالم الأدب، أدرك زمن ثعلب والمبرّد وابن قتيبة وطبقتهم.
وذكر شيخنا أبو الثناء الكاتب في التوشيح، قال: وقال قدامة: هو أن يكون في أول البيت معنى، إذا علم علمت منه قافية البيت؛ بشرط أن يكون المعنى المقدم بلفظه، كقول الراعي النميري: [الوافر](7/352)
فإن وزن الحصا فوزنت قومي ... وجدت حصاة ضربتهم رزينا
قال: السامع إذا فهم أن الشاعر أراد المفاخرة برزانة الحصا، وعرف وعرف القافية والروي علم آخر البيت.
ومنهم:
3- أبو عثمان الجاحظ «13»
واسمه عمرو بن بحر بن محبوب. بحر البيان الدافق ولسان الإحسان الناطق. المتكلم في كل شيّ، المقدّم في بابه على كل ميت وحيّ، الذي أدخله أرباب كل علم فيهم، وأطلعه أهل كلّ فهم قمرا في دياجيهم، الحكيم المطلق، والعميم المعرفة في اللغة بكل ما به ينطق.
الناقل لما يصدق، والنافل لما يحقق، والمملي لكل ما يعلق، والمولي من متن البيان ما لا يخلق. كأنما تصانيفه للأفهام مفاتيح أقفال، وفي دجا الأوهام مصابيح تشب لقفال. وله في البيان والتبيين أوضح النهار إذ يبين.
عجّل إلى الفضائل فما راث، وسبق الأوائل بلا اكتراث. مرّ على المجرّة فورد شطوطها، وكرّ على النيرة فمحا خطوطها. وهجم على الفضائل وأتاها منبتا وأخذها مصبحا ومثبتا؛ فملأ جوانح الغمام أوارا، وصاغ البدر التمام تاجا والهلال سوارا، بنبوغ حطّم به الجوزاء فكسر غرسها، وصاد طيور الفراقد ووزع ريشها؛ هذا إلى توسع في كل فن، وتحقيق لكل ظنّ بخاطر.
طالما قرع الفولاذ، وتهادى تهادي العروس في الملاذ. وكان لا يزال ليله مبصرا، وسيله لا ينثني مقصرا. ولم يبق علم لم ينظر فيه نظر المتبصر، ويجتهد له اجتهاد من لم يقصر؛ فلم يسأل عن شيء إلا كان به أدرى، ولم يبق طائفة أحق به من الأخرى. وقال فيه القاضي(7/353)
الفاضل رحمه الله، وقد ذكره وما منّا إلّا من دخل داره، وشنّ على كلامه الغارة، وخرج وعلى كتفه منه الكارة.
قلت: أخذ عن أبي عبيدة والأصمعي، وأبي زيد الأنصاري، وأخذ النحو عن الأخفش، وكان صديقه. وأخذ الكلام عن النظّام، وتلقف الفصاحة من العرب شفاها بالمربد.
حدّث أبو هفان قال: لم أر قطّ ولا سمعت أحبّ إلى الجاحظ من الكتب والعلوم؛ فإنه لم يقع بيده كتاب قط إلّا ليستوفي في قراءته كائنا ما كان؛ حتى إنه كان يكتري دكاكين الورّاقين ويبيت فيها. والفتح بن خاقان كان يحضر لمجالسة المتوكل، فإذا أراد القيام لحاجة أخرج كتابا من خفّه أو كمّه إلى حين عوده من الخلاء لمجالسة المتوكل، فإذا أراد القيام لحاجة قضى شغله.
وكان واسع العلم بالكلام، كثير التبحر فيه، شديد الضبط لحدوده، ومن أعلم الناس به وبغيره من علوم الدين والدنيا. وله كتب مشهورة جليلة في نصرة الدين، وفي حكاية مذاهب المخالفين والأخلاق والآداب، وفي ضروب الهزل والجدّ؛ وقد قرأها الناس وتداولوها وعرفوا فضلها. وإذا تدبّر العاقل المميّز كتبه علم أنه ليس في تلقيح العقول وشحذ الأذهان، ومعرفة أصول الكلام وجواهره، وإيصال خلاف الإسلام، ومذاهب الاعتزال إلى القلوب كتب تشبهها والجاحظ عظيم القدر في المعتزلة وغير المعتزلة.
قال الجاحظ: لمّا مسخ الله الإنسان قردا وخنزيرا وترك فيه شبها من الإنسان. ولما مسخ الله زماننا لم يترك فيه شبها من الزمان.
وقال الجاحظ: ليس جهد البلاء مدّ الاعناق وانتظار وقع السيف؛ لأنّ الوقت قصير والحس مغمور، ولكن جهد البلاء أن تظهر الخلّة وتطول المدّة، وتعجز للحيلة، ثم لا تعدم صديقا مؤنبا وابن عمّ شامتا وجارا حاسدا ووليّا ينتهرك.
وقال: إذا سمعت الرجل يقول: ما ترك الأول للأخير شيئا فاعلم ما يريد أن يفلح.
وقيل: إن الجاحظ خدم في ديوان الرسائل أيام المأمون ثلاثة أيام، ثم استعفى فأعفي.(7/354)
حدّث أبو العيناء، قال: كان لي صديق فجاءني يوما فقال لي: أريد الخروج إلى فلان العامل، وأحببت أن تكون معي إليه وسؤاله، وقد سألت من صديقه؟ فقيل لي: أبو عثمان الجاحظ، وهو صديقك، وأحببت أن تأخذ لي منه إليه كتابا بالعناية. قال: فصرت إلى الجاحظ فقلت له: جئتك مسلّما وقاضيا للحق، ولي حاجة لبعض أصدقائي، وهي كذا وكذا. قال: لا تشغلنا الساعة عن المحادثة وتعرف أخبارنا إذا كان في غد وجهت إليك بالكتاب، فقلت لولدي: هذا الكتاب لفلان ففيه حاجته. فقال لي: إنّ أبا عثمان بعيد الغور، فينبغي أن نقصّه وننظر ما فيه، ففعلت، فإذا في الكتاب: هذا كتابي مع من لا أعرفه، وقد كلمني فيه من لا أوجب حقّه، فإن قضيت حاجته لم أحمدك وإن رددته لم أذممك. فلما قرأت الكتاب مضيت إلى الجاحظ من فوري، فقال: يا أبا عبد الله قد علمت أنك أنكرت ما في الكتاب، فقلت: أو ليس موضع نكره، فقال: لا، هذه علامة بيني وبينه فيمن اعتنى به. فقلت: لا إله إلّا الله، ما رأيت أحدا أعلم بطبعك، ولا ما جبلت عليه من هذا الرجل، علمت أنه لمّا قرأ الكتاب قال: أمّ الجاحظ عشرة آلاف قحبة، وأم من يثبت له حاجة. فقلت له: ما هذا؟ أتشتم صديقنا؟ فقال: هذه علامتي فيمن أشكره، فضحك الجاحظ، وحدّث بذلك الفتح بن خاقان، وحدّث الفتح المتوكل، فذلك كان سبب اتصالي به، وإحضاري مجلسه.
ومن كلام الجاحظ: احذر من تأمن فإنك حذر على من تخاف. وقال: أجمع الناس على أربع. أنه ليس في الدنيا أثقل من أعمى، ولا أبغض من أعور، ولا أخفّ روحا من أحدب، ولا أقود من أجدب.
قال: أربعة أشياء ممسوخة، النيك في الماء، والقبلة على النقات «1» والغناء من وراء الستار «2» .(7/355)
وحدّث الجاحظ مرّة بحضرة السدوي، وكيف قال، لأنها تأخذ الدراهم وتمتّع بالناس والطيب، وتختار على عينها من تريد، والتوبة معروضة لها متى شاءت فقال: وكيف عقل العجوز؟ قال: هي أحمق الناس وأقلّهم عقلا.
وقال أبو سعيد السيرافي: حدثنا من الصابئين كتّاب، أن ثابت بن قرّة، قال: ما أحسد هذه الأمة العربية إلا على ثلاثة أنفس؛ فإنه: [الكامل المرفل]
عقم النّساء فلا يلدن شبيههم ... إن النّساء بمثلهم عقم
فقيل له: احص لنا هؤلاء الثلاثة: فقال: عمر بن الخطاب في سياسته وتقضيته وحدوده، وبحفظه ودينه وجزالته ونزالته وصرامته وشهامته، وقيامه في صغير أمره وكبيره بنفسه؛ مع قريحة صافية وعقل وافر، ولسان عضب وقلب شديد، وطوية مأمونة، وعزيمة مأمومة وصدر منشرح، وبال منفسح وبديهة نصوح، وروية لفوح، وسرّ طاهر وتوقيف حاضر، ورأي مصيب وأمر عجيب، وشأن غريب. دعم الدين وشيّد بنيانه، وأحكم أساسه ورفع أركانه، وأوضح حجته وأنار برهانه. ملك في زيّ مسكين. ما جنح في أمر ولا نوى، ولا غضّ طرفه على خنا. ظهارته كالبطانة، وبطانته كالظهارة. جرح وواسى، ولان وقسا، ومنع وأعطى، واستجدى وسطا. كل ذلك في الله ولله. ولقد كان من نوادر الزمان.
قال: والثاني، الحسن ابن أبي الحسن البصري؛ فلقد كان من دراري النجوم علما وتقوى وزهدا، ورعوى وعفّة، ورقة وتألّها وتنزها وفقها ومعرفة وفصاحة، ونصاحة. مواعظه تصل إلى القلوب، وألفاظه تلبس العقول. ما أعرف له ثانيا ولا قريبا ولا متدانيا. كان منظره وفق مخبره، وعلانيته في وزن سريرته. عاش سبعين سنة لم يعرف لمقاله سبقا، ولم يزلّ بريبة ولا فحشا. سليم الدين نقيّ الأديم، محروس الحريم يجمع مجلسه ضروب الناس وأصنافهم لما يوسعهم من بنانه، ويفيض عليهم بإحسانه. هذا يأخذ عنه الحديث وهذا يلقن منه التأويل، وهذا يسمع الحلال والحرام، وهذا يتبع من كلام العربية، وهذا يجوّد له المقالة، وهذا يحكي الفتيا، وهذا يتعلم الحكم والقضاء وهو في جميع هذا كالبحر الفجاج تدفقا، وكالسراج(7/356)
الوهّاج تألقا. ولا ننسى مواقفه ومشاهده بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الأمراء وأشباه الأمراء بالكلام الفصل، واللفظ الجزل والصدر الرحيب والوجه الصلب، واللسان العضب كالحجاج، وفلان وفلان مع سادة الدين وبهجة العلم. لا تثنيه لائمة في الله، ولا تذهله رابعة عن الله يجلس تحت كرسيّه قتادة صاحب التفسير وعمرو وواصل صاحب الكلام، وابن أبي اسحاق صاحب النحو، وفرقد السخي صاحب الرقائق، وأشباه هؤلاء ونظراؤهم. فمن ذا مثله ومن يجري مجراه؟.
والثالث، أبو عثمان الجاحظ، خطيب المسلمين وشيخ المتكلمين، ومدرة المتقدمين والمتأخّرين. إن تكلم حكى سحبان «1» في البلاغة، وإن ناظر سارع النظّام في الجدال، وإن جدّ خرج في ليل عامر بن عبد قيس، وإن هزل زاد على مريد حبيب القلوب ومزاح الأرواح.
وشيخ الآداب ولسان العرب. كتبه رياض زاهرة، ورسائله أفنان مثمرة. ما نازعه منازع إلّا رشأه أبقى ولا تعرّض له منقوص إلّا قدّم له التواضع واستبقى. الخلفاء تعرفه والأمراء تصفه والكبراء تنادمه، والعلماء تأخذ عنه، والخاصة تسلّم عليه والعامة تحبّه.
جمع بين اللسان والقلم، وبين الفطنة والعلم وبين الرأي والأدب، وبين النثر والنظم، وبين الذكاء والفهم. طال عمره وفشت حكمته، وظهرت حيلته، ووطئ الرجال عقبه، وتهادوا أدبه، وافتخروا بالانتساب إليه، ونجحوا بالاقتداء بما أوتي من الحكمة وفصل الخطاب.
قال صاحب بغية الألباء: هذا قول ثابت. وهو رجل صابئيّ، لا يرى للإسلام حرمة، ولا للمسلمين حقّا، لا يوجب لأحد منهم ذماما، وقد انتقد هذا الانتقاد ونظر هذا النظر، وحكم بهذا الحكم، وأبصر الحق بعين لا غشاوة عليها من الهوى، ونفس لا لطخ بها من التقليد، وعقل ما يحيل عليه بالعصبية. ولسنا نجهل مع ذلك فضل هؤلاء الثلاثة من السلف الطاهر والخلف الصالح ولكن عجبنا فضل عجب من رجل ليس منّا، ولا من أهل(7/357)
ملتنا ولغتنا، ولعلّه ما خبر عمر بن الخطاب كلّ الخبرة، ولا استوعب كلامه الحسن من المنقبة، ولا وقف على ما لجميع أبي عثمان من البيان والحكمة بقوله هذا القول، ويتعجب هذا التعجب ويحسد هذه الأمة بهم هذا الحسد، ويختم كلامه بأبي عثمان ويصفه بما يأتي الطاعن عليه أن يكون له شيء منه، ويغضب إذا ادّعى ذلك له، أو وقر عليه هل هذا إلّا الجهل الذي يرجم المثل به.
قيل لأبي هفّان: لم لم تهج الجاحظ؟ هدر دمك وأخذ بمخنقك. فقال: أمثلي يخدع عن عقله؟ والله لو وضع رسالة في أريبة أفعى لما أمست إلّا في الصين. ولو قلت فيه ألف بيت لما ظن منها بيت في ألف سنة. قال المبرّد: سمعت الجاحظ يقول: كل عشق يسمى حبّا وليس كل حبّ يسمى عشقا؛ لأن العشق اسم لما فضل من المحبّة، كما أن الشرف اسم لما جاوز الجود. والبخل اسم لما نقص عن الاقتصاد. والجبن اسم لما فضل عن شدّة الاحتراس.
والهرج اسم لما فضل عن الشجاعة.
وقال أبو الفضل ابن العميد: ثلاثة علوم، الناس كلهم عيال فيها على ثلاثة أنفس، الفقه فعلى أبي حنيفة؛ لأنّه دوّن وخلد، وجعل من يتكلم به بعده مشيرا إليه ومخبرا عنه، والكلام فعل أبي الهذيل، والفصاحة واللّسن فعل أبي عثمان الجاحظ.
وحدّت يموت بن المزرع عن خاله الجاحظ، قال: يحبّ للرجل أن يكون سخيّا لا يبلغ التبذّير، شجاعا لا يبلغ الهرج، متحرسا لا يبلغ الجبن، حبيّا لا يبلغ العجز، ماضيا لا بيلغ الفجه، قؤولا لا يبلغ الهذر، صموتا لا يبلغ العيّ، حليما لا يبلغ الذلّ، منتصرا لا يبلغ الذلّ، وقورا لا يبلغ البلاد، نافذا لا يبلغ الطيش. ثم وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد جمع ذلك في كلمة واحدة، وهي: خير الأمور أوساطها؛ فعلمنا أنه صلى الله عليه وسلّم قد أوتي جوامع الكلم، وعلم فصل الخطاب.
وقال أبو زيد البلخي: ما أحسن ما قال الجاحظ: عقل المنشئ مشغول وعقل المتصفح فارغ.
وحدّث المبرّد، قال: دخلت على الجاحظ في آخر أيامه، فقلت: كيف أنت؟ فقال:(7/358)
كيف يكون من نصفه مفلوج، لو حزّ بالمنشار ما شعر به، ونصفه الآخر منقرس، لو طار الذباب بقربه لآلمه. وأشدّ من ذلك نيف وتسعون ثم انشدنا «1» : [الوافر]
أترجو أن تكون وأنت شيخ ... كما قد كنت أيّام الشّباب
لقد كذبتك نفسك ليس ثوب ... دريس كالجديد من الثّياب «2»
وحدّث أبو محمد الحسن بن عمر الجرمي، قال: كنت بالاندلس، فقيل لي: إن هاهنا تلميذا لأبي عثمان الجاحظ، يعرف بسلام بن يزيد، فأتيته، فرأيت شيخا هرما، فسألته عن سبب اجتماعه بأبي عثمان، ولم يقع أبو عثمان إلى الأندلس، فقال: كان طالب العلم بالمشرق يتشرّف عند ملوكنا بلقاء أبي عثمان فوقع إلينا شيء من كتبه، فخرجت لأعرّج على شيء؛ حتى قصدت بغداد، فسألت عنه، فقيل لي بالبصرة. فانحدرت إليه، وسألت عن منزله فأرشدت إليه ودخلت إليه؛ فإذا هو جالس وحواليه عشرون صبيا، ليس فيهم ذو لحية غيره فدهشت، فقلت: أيّكم أبو عثمان؟ فرفع يده وحرّكها في وجهي، وقال: من أين؟ قلت: من الأندلس. فقال: طينة حمقاء. فما الاسم؟ قلت: سلام. قال: اسم كلب القرّاد. ابن من؟ قلت: ابن يزيد. قال: بحق ما صرت. أبو من؟ قلت: أبو خلف. قال: كنية قرد زبيدة. ما جئت تطلب؟ قلت: العلم. قال: ارجع بوقت فإنك لا تفلح. قلت: ما أنصفتني فقد اشتملت على خصال أربع، جفاء البلدية، وبعد الشقّة، وغرّة الحداثة ودهشة الداخل. قال: فترى حولي عشرين صبيا ليس فيهم ذو لحية غيري ما كان يجب أن تعرفني بها. قال: فأقمت عليه عشرين سنة.
وقال أبو العيناء: أنشدني الجاحظ لنفسه: [الوافر]
يطيب العيش أن تلقى حكيما ... غذاه العلم والرأي المصيب
فيكشف عنك حيرة كلّ ريب ... وفضل العلم يعرفه الأريب(7/359)
سقام الحرص ليس له شفاء ... وداء البخل ليس له طبيب «1»
وكان الجاحظ يقول: إن تهيأ لك في الشاعر أن تبرّه وترضيه، وإلّا فاقتله.
وقال ميمون بن هارون: قلت للجاحظ: ألك بالبصرة ضيعة؟ فتبسم وقال: إنما أنا وجارية، وجارية تخدمها، وخادم وحمار. أهديت كتاب الحيوان إلى محمد بن عبد الملك، فأعطاني خمسة آلاف دينار. وأهديت كتاب البيان والتبيين إلى أبي دؤاد «2» فأعطاني خمسة آلاف دينار، وأهديت كتاب الزرع إلى إبراهيم بن العبّاس الصولي فأعطاني خمسة آلاف دينار، فانصرفت إلى البصرة، ومعي ضيعة لا تحتاج إلى تجديد ولا تسميد.
وكتاب البيان والتبيين نسختان، أولى وثانية، والثانية أصح وأجود. وله من المصنّفات زيادة على مئة وعشرين مصنّفا. وتوفي الجاحظ سنة خمس وخمسين ومئتين. وقد جاوز التسعين. وكان يتعين تقديمه على ابن المعتز وقدامة؛ وانما ذكرناهما قبله لا عتنائهما بعلم البديع، وتصنيفهما أبوابه، فوصلنا تراجمهما بتفريعهما للفن، واختراج أقسامه استطرادا.
وذكره أبو القاسم الراغب في كتاب المحاضرات، في كثرة آيات الأنبياء وقلّتها. قال: قال العلماء: إنما كثر وكبر إعلام موسى؛ لأن علمه كان مع غباوة بني إسرائيل، ونقصان أحلام القبط.
قال الجاحظ: ومتى أردت معرفة ذلك فانظر إلى بقاياهم، هل لهم حكمة أو مثل أو شعر؟
ثم انظر إلى أولادهم مع طول لبثهم معنا، هل تغيّر بذلك أخلاقهم وشمائلهم وأحلامهم وآدابهم وفطنهم؟ ثم من غباوتهم ما حكى الله تعالى عنهم حيث قالوا: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ «3»
، وكقولهم: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً «4»
، وكقولهم: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ(7/360)
فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ «1»
. وآياتهم انقطعت بموتهم، وعرفها من بعدهم بأخبار سلفهم، وجعل من معجزات نبينا صلى الله عليه وسلّم القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأشرك فيه الخلف والسلف، وجعله باقيا على مرور الأيام وبعد الأحوال.
وقال أبو عثمان لغائب عليه كتب عيب الكتاب: ونعم الذخر والعقدة، ونعم النشرة والنزهة، ونعم المشتغل والحرفة، ونعم الأنيس ساعة الوحدة والمعرفة ببلاد الغربة، ونعم القرين والدخيل والوزير والتنزيل. والكتاب وعاء ملئ علما وظرف حشي ظرفا، وإناء سخّن مزاجا وجدّا؛ إن شئت كان أبين من سحبان وائل، وإن شئت كان أعيا من باقل، وإن شئت ضحكت من نوادره، وعجبت من غرائب فوائده. وإن شئت سختك مواعظه. ومن لك بواعظ مله، وببارد حار؟ ومن لك بطبيب أعرابي، وبرومي وهندي وبفارسي يوناني، وتقديم مولد ممتّع وبشيء يجمع لك الأول والآخر، والناقص والوافر، والشاهد والغائب والحسن وضدّه؟ وبعد، فمتى رأيت بستانا يحمل في ردن، وروضة في قلب؟ ينطق عن الموتى ويترجم كلام الأحياء. ومن لك بمؤنس لا ينام إلا بنومك، ولا ينطق إلّا بما تهوى؟ آمن من أرض وأكتم للسر من صاحب السرّ، واضبط بحفظ الوديعة من أرباب الوديعة، وأحفظ لما استحفظ من الأميّين، ومن الأعراب للمعربين؛ بل من الصبيان قبل اعتراض الاشتغال حين العناية تامة لم تنتقص، والأذهان فارغة لم تقتسم، والإرادات وافرة لم تتشعب، والطينة ليّنة؛ فهي أقبل ما يكون للطابع، والقضيب رطب فهو أقرب ما يكون من العلوق، حين هذه الخصائل لم يلبس جديدها، ولم تتفرق قواها كانت كقول الشاعر: [الطويل]
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبا خاليا فتمكّنا
وقال ذو الرمة لعيسى بن عمر: اكتب شعري، فالكتاب أعجب إليّ من الحفظ؛ لأن الأعرابي ينسى الكلمة، قد تعب في طلبها يوما أو ليلة فيضع موضعها كلمة في وزنها لم ينشدها الناس، والكتاب لا ينسى، ولا يبدّل كلاما بكلام وعيب الكتاب. ولا أعلم جارا(7/361)
أبرّ، ولا خليطا أنصف، ولا رفيقا أطوع، أقل صلفا وتكلفا، ولا أكفّ عن قتال وشغب ومراء من كتاب. ولا أعلم شجرة أطول عمرا ولا أجمع أمرا، ولا أطيب ثمرة ولا أقرب مجتنى، ولا أسرع إدراكا، ولا أوجد في كل أوان من كتاب. ولا أعلم نتاجا في حداثة سنّه وقرب ميلاده، وحضور ذهنه، وإمكان موجوده. يجمع من التدابير العجيبة والعلوم العربية، ومن آثار العقول الصحيحة، ومحمود الأذهان اللطيفة، ومن الأخبار عن القرون الماضية والبلاد المترامية، والأمثال السائرة، والأمم البادية مما يجمع الكتاب. والكتاب مع خفّة نقله وصغر حجمه صامت ما أسكتّه، وينبغ ما استنطقته، ومن لك بمسامر لا يبتديك في حال شغلك، ولا يدعك في أوقات نشاطك، ولا يحوجك إلى التجمل له، والتذمم فيه. ومن لك بزائر، إن شئت جعلت زيارته غبّا، وورده خمسا. وإن شئت لزمك لزوم ظلك، وكان منك مكان بعضك. والكتاب هو الجليس الذي لا يضرّ بك، والصديق الذي لا يغذيك، والرفيق الذي لا يملّك، والمستميح الذي لا يستزيدك، والجار الذي لا يستبطيك والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالملق، ولا يعاملك بالمكر والخديعة، ولا يخدعك بالنفاق والكذب.
والكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال إمتاعك وشحذ طباعك، وبسط لسانك وجوّد بيانك، وفخّم ألفاظك ونجّح نفسك وعمّر صدرك ومنحك تعظيم العوام وصداقة الملوك.
وعرفت به في شهر مالا تعرفه في دهر من أفواه الرجال مع السلامة من الغرم، ومن كدّ الطلب ومن الوقوف بباب المكتسب بالتعليم. وبالجلوس بين يدي من أنت أفضل منه خلقا، وأكرم منه عرقا، ومع السلامة من مجالسة البغضاء ومقارنة الأغبياء. وهو الذي يطيعك بالليل طاعته لك بالنهار، وفي السفر طاعته لك في الحضر. ولا يعتلّ بنوم ولا يغترّ به كلال الشهر. وهو المعلم الذي إن افتقرت إليه لم يحقرك، وإن قطعت عنه عدوك لم ينقلب عليك. ومتى كنت متعلقا به بسبب، ومعتصما منه بأدنى حبل لم يضطرك معه وحشة الوحدة إلى جليس السوء، لو لم يكن من فضله عليك وإحسانه إلا منعه لك من الجلوس على بابك، والنظر إلى المارّة منعما في ذلك من التعرض للحقوق التي تلزم، ومن فضول(7/362)
النظر، ومن عادة الخوض، ومن ملابسة صغار الناس وحضور ألفاظهم الرديّه الساقطة ومعانيهم الفاسدة، وأخلاقهم السيئة وجهالتهم المذمومة لكان في ذلك السلامة. ولو لم يكن في ذلك إلّا أنه يشغلك عن سخف البيت وعن اعتياد الراحة لقد كان في ذلك على صاحبه أسبغ النعمة وأعظم المنّة.
وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: قال المهلب لبنيه في وصيته: يا بنيّ لا تقوموا في الأسواق إلا على زاد أو وراق. وقال شيخ: قرئ عليك ما أثر غطفان ذهبت بالمكارم إلّا من الكتب.
وقال غيره: غبرت أربعين سنة ما قلت ولا بتّ ولا اتّكأت إلا والكتاب موضوع على صدري.
وقال ابن الجهم: إذا استحسنت الكتاب، ورجوت منه الفائدة، فلو تراني وأنا ساعة بعد ساعة أنظر كم بقي من ورقة مخافة استفادة وانقطاع المادّة وإن كان الدفتر عظيم الحجيم، وكان الورق كثير العدد. والإنسان لا يعلم حتى يكثر سماعه، ولا بدّ أن تصير كتبه أكثر من سماعه، ولا يجمع حتى يكون الاتفاق عليه ممّا لعدّته. ومن لم يكن نفقته التي تخرج من الكتب ألذّ عنه من إنفاق عساق «1» والمستهزءين بالبنيان لم يبلغ في العلم مبلغا.
وقال إبراهيم بن السندي: وددت أن الزنادقة لم يكونوا حرصا على المعالي بالورق النقي الأبيض، وتخيّر الحبر الأسود والخطّ الجيّد فإنني لم أركورق كتبهم ورقا، ولا لخطوطهم خطّا. وإني غرمت مالا عظيما مع حبّي للمال ونغصي للعزم لأن سخاء النفس بالإنفاق على الكتب دليل على شرف النفس، وعلى السلامة من شكر الآفات.
وقال أبو عمرو بن العلاء: ما دخلت على رجل قطّ، ولا مررت ببابه فرأيته ينظر في دفتر وجليسه فارغ إلا اعتقدت أنه أفضل منه وأعقل.(7/363)
وأنشد رجل يونس النحوي قوله: [البسيط]
استودع العلم قرطاسا فضيّعه ... فبئس مستودع العلم القراطيس
فقال: قاتله الله، فما أشدّ صبابته بالعلم، وأحسن صيانته له. إن عملك من روحك ومالك من بدنك فضعه مكان الروح، ومالك بمكان البدن.
وقال الخليل بن أحمد: لا يصل أحد من علم النحو إلى ما يحتاج إليه حتى يتعلم ما لا يحتاج إليه. قال غيره: فإذا الذي لا يحتاج إليه هو الذي يحتاج إليه إذا لم يوصل إلى ما يحتاج إلّا بما لا يحتاج إليه. وقد قال صلى الله عليه وسلّم: قيّدوا العلم بالكتاب. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: بقية عمر الإنسان لا يمنّ لها بدرك ما فاته ويحيي ما أماته، يبدل سيئاته حسنات. وقال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه: إن الله تعالى جعل محاسن الأخلاق وصلة بينه وبين عباده، فيحسب أحدكم أن يتمسك بحبل متصل بالله.
قيل لبعض الكذابين: كيف تحتال للكذب؟ قال: أكذب على الموتى وأستشهد الغيب.
وقيل لبعض الحكماء: متى تقضي له بالصدق؟ قال: إذا صدق فيما يضرّه كما يصدق فيما ينفعه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: المؤمن يألف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف. وقال صلى الله عليه وسلم: لم يكذب من قال خيرا ونمّى خيرا وأصلح بين الناس.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: من كان كلامه لا يوافق فعله فإنما يوبّخ نفسه وقال الجاحظ في كتاب البيان والتبيين: وقد صحت التجربة وقامت العبرة على أن سقوط جميع الإنسان أصلح في الإبانة عن الحروف منه إذا سقط أكثرها، وخالف أحد شرطيها للآخر، وقد رأينا تصديق ذلك في أفواه قوم شاهدهم الناس.(7/364)
قال: ومتى وجد اللسان في جميع جهاته شيئا يقرعه ويصكّه، ولم يمرّ في هواء واسع المجال، وكان لسانه يملأ جوف فمه لم يضره سقوط أسنانه إلّا بالمقدار المغتفر. ويؤكده قول صاحب المنطق إن الطائر والسبع والبهيمة كلّما كان لسان الواحد منها أعرض كان أفصح وأجلى لما يلقن، ولما يسمع، نحو الببغاء والغداف وغراب البين. قال: ويدل على أن عظم اللسان نافع لمن سقط جميع أسنانه. قول كعب بن جعيل ليزيد بن معاوية حين أمره بهجاء الأنصار: أرادّني أنت في الكفر بعد الإيمان، ولكني سأدلك على غلام في الحي كأنّ لسانه لسان ثور، يعني الاخطل.
وفي الحديث: إن الله يبغض الرجل تخلّل بلسانه كما تخلل الباقرة الحلا بلسانها.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان: ما بقي من لسانك؟ فأخرج لسانه حتى قرع بطرفه طرف أرنبته، ثم قال: والله لو وضعته على صخر لفلقه، أو على شعر لحلقه وما يسرني به مقول من مغل رائق السمط، ثم قال بعد ذلك: وقد قال بعض جهابذة الألفاظ، ونقاد المعاني القائمة في صدور الناس، المتصورة في أذهانهم، المتلجلجة في نفوسهم، والمتصلة بخواطرهم، والجارية على أفكارهم، مستورة خفيّة، محجوبة مكتوبة، موجودة معدومة. ولا يعرف الإنسان ضمير صاحبه، ولا حاجة أخيه إلّا بغيره؛ وانما يحيي تلك المعاني استعمالهم لها وإخبارهم عنها؛ فبهذا يقرب من الفهم وينجلي للعقل، ويجعل الخفي ظاهرا والغائب حاضرا. والمجهول معروفا، والوحشي مألوفا. وعلى قدر وضوح الدلالة وصواب الإشارة يكون إظهار المعنى. وكلّما كانت الدلالة أوضح وأفصح كانت الإشارة أبين وأنور. والدلالة الظاهرة على المعنى الخفي هو البيان الناطق به القرآن. والله جلّ ثناؤه يمدحه ويدعوه إليه ويحث عليه. وتفاخرت العرب وتفاضلت العجم، وهو اسم لما كشف قناع المعنى وهتك الحجاب؛ حتى يفضي السامع إلى حقيقته كائنا ما كان ذلك البيان، ومن أي جلس كان؛ لأن الغاية التي تجري إليها إنما هو الفهم والإفهام؛ فبأي شيء بلغت الإفهام وأوضحت المعنى فذلك هو البيان في ذلك الموضع، ثم اعلم أنّ حكم المعاني خلاف حكم الألفاظ؛ لأن المعاني مبسوطة إلى غير غاية، ممتدة إلى غير نهاية. وأسماء المعاني مقصورة(7/365)
معدودة، ومحصلة محدودة. وجميع أصناف الدلالات على المعاني من لفظ وغير لفظ خمسة أشياء، ولا تنقص ولا تزيد. وأولها اللفظ ثم الإشاره ثم العقد ثم الخط ثم النصبة، الحال التي تسمى نصبة. والنصبة هي الحال الدالّة التي تقوم مقام تلك الأصناف، ولا ينقص عن تلك الدلالات. ولكل واحدة من هذه الخمسة صورة بائنة عن صورة صاحبتها، وحلية مخالفة لحلية أختها. وهي التي تكشف عن أعيان المعاني، ثم عن حقائقها في التفسير وأجناسها وأقدارها، وخاصها وعامّها، وطبقاتها في السارّ والضارّ. والبيان نصر والعيّ عمى، كما أن العلم بصر والجهل عمى. والبيان من نتاج العلم، والعيّ من نتاج الجهل.
وقال يونس بن حبيب: ليس لعيّ مروءة، ولا لمنقوص البيان بها. ولو حلّ بنا فوجّه أعنان السماء.
قال: وأما الإشارة باليد وبالرأس وبالعين وبالحاجب وبالمنكب وبالثوب وبالسيف. وقد يتهدّد رافع السوط والسيف، فيكون ذلك زاجرا رادعا، ويكون وعيدا أو تحذيرا. والإشارة واللفظ شريكان، ونعم العون هو له ونعم الترجمان. وما تعذر الإشارة أن تكون ذات حلية موصوفة، وصورة معروفة. وفي الإشارة بالطرف والحاجب وغيرهما من الجوارح موفق كبير، ومعونة حاضرة في أمور يسترها بعض الناس من بعض، ويخفونها من الجليس وغير الجليس.
ولولا الإشارة لم يتناهم الناس ولجهلوا هذا الباب البتّة. وقد قال الشاعر: [الطويل]
أشارت بطرف العين خيفة أهلها ... إشارة مذعور ولم تتكلّم
فأيقنت أن الطّرف قد قال مرحبا ... وأهلا وسهلا بالحبيب المسلّم
هذا ومبلغ الإشارة أبعد من مبلغ الصوت، والصوت آلة اللفظ، وهو الجوهر الذي يقوم به التقطيع، وبه يوجد التأليف وحسن الإشارة باليد والرأس من تمام حسن البيان باللسان. وقد قال الشاعر: [الطويل]
إذا نحن خفنا الكاشحين فلم نطق ... كلاما تكلّمنا بأعيننا سرّا
فنقضي ولم يعلم بنا كلّ حاجة ... ولم تظهر الشكوى ولم نهتك السّترا(7/366)
فأما الخط فمّما ذكر الله فيه لنبيه صلى الله عليه وسلم اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ* «1»
. وأقسم بالكتاب المكنون، فقال: «ن والقلم وما يسطرون* «2» » . والقلم أحد اللسانين، وهو أبقى أثرا، واللسان أكثر هذرا.
وقال عبد الرحمن بن كيسان: استعمال القلم أجدر، وأن يحضّ الذهن على تصحيح الكتاب من استعمال اللسان على تصحيح الكلام. واللسان مقصور على القريب الحاضر، والقلم مطلق في الشاهد والغائب. وهو في الغابر الكائن مثله للقائم الراهن. والكتاب يقرأ بكل لسان، ويدرس في كل زمان؛ واللسان لا يعدو سامعه ولا يتجاوز مواضعه.
وأمّا العقد وهو الحساب دون اللفظ والخط. فالدليل على لفظه والانتفاع به قوله تعالى:
فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ «3»
. وقوله: الرَّحْمنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ* عَلَّمَهُ الْبَيانَ* الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ «4»
. وقوله: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ «5»
. وقوله: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ «6»
ولولا معرفة العباد معنى الحساب في الدنيا لما فهموا معنى الحساب في الآخرة. وأما النصبة فهي الحال الناطقة بغير اللفظ، والمشيرة بغير اليد؛ وذلك ظاهر في خلق السماوات والأرض، وفي كل شيء.(7/367)
وكذلك قال الاول: سل الأرض فقل: من شقّ أنهارك وغرس أشجارك وجنى ثمارك؟ فإن لم تجبك أجابتك اعتبارا.
وقال صالح بن عبد القدّوس: [الخفيف]
إن يكن لا تطيق رجع جواب ... فلقد ما ترى وأنت خطيب
واعظات وما وعدت تقول ... مثل وعظ بالصّمت إذا لا تجيب
وقال بعض الحكماء: أشهد أن السماوات والأرض آيات ودلالات وشواهد قائمات، كلّ يؤدي عنك الحجة، ويشهد لك بالربوبية.
وقال خطيب من الخطباء حين قام على سرير الإسكندر وهو ميت: الإسكندر كان أمس أنطق منه اليوم، وهو اليوم أوعظ منه أمس.
وقال عنترة وجعل نعيب الغراب خبرا للزّاجر «1» : [الكامل]
خرق الجناح كأنّ لحيي رأسه ... جلمان بالأخبار هشّ مولع «2»
وقال أبو الرديني العكلي، وذكر تنسم الذيب الريح، وصدق استراوحه، واستنشائه: [الرجز]
يستخبر الرّيح إذا لم يسمع ... بمثل مقراع الصّفا الموقّع
وقال آخر: [البسيط]
إنّ السّماء وإنّ الأرض شاهدة ... والله يشهد والأيّام والبلد
وقال الجاحظ: ومتى دلّ الشيء على معنى فقد أخبر عنه، وإن كان صامتا وأشار إليه، وإن كان ساكنا. وهذا القول شائع في جميع اللغات، ومتفق عليه مع إفراط الاختلافات.
وقال نصيب في هذا المعنى يمدح سليمان بن عبد الملك: [الطويل](7/368)
أقول لركب قافلين رأيتهم ... قفا ذات أو شال ومولاك لاعب
قفوا خبّروني عن سليمان إنّني ... لمعروفه من أهل ودّان طالب
فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكنوا أثنت عليك الحقائب «1»
وقال الجاحظ: قال عليّ كرّم الله وجهه: قيمة كل امرئ ما يحسن. فلو لم تقف إلّا على هذه الكلمة لوجدناها كافية شافية، ومجزية مغنية؛ بل لوجدناها فاضلة عن الكفاية، غير مقصودة عن الغاية. وأحسن الكلام ما كان قليله مغنيا عن كثيره، ومعناه ظاهر في لفظه.
وإذا كان المعنى شريفا، واللفظ تبليغا وكان صحيح الطابع بعيدا من التكلّف صنع في القلوب صنيع الغيث في التربه الكريمة وحينئذ لا يمتنع من تكليفها صدور الجبابرة، ولا يذهب عن فهمها عقول الجهلة. وقال عامر بن عبد القيس: الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تجاوز الآذان. وقد جمع الباقر صلاح شأن الدنيا بحذافيرها قال: صلاح جميع التغابن والتعاشر ملء مكيال، ثلثاه فطنة وثلثه تغافل.
قال الجاحظ: فلم يجعل لغير الفطنة نصيبا؛ لانّ الإنسان لا يتفاضل إلا عن شيء قد فطن له.
وقيل لا بن عبّاس: أنّى لك هذا العلم؟ قال: قلب عقول ولسان سؤول.
وقيل لمحمد بن علي والد الخليفتين: متى يكون وجود الأدب سرّا من عدمه؟ قال: إذا كثر الأدب ونقصت القريحة. وكان يقول: كفاك من علم الدين أن تعرف ما لا يسع جهله.
وكفاك من علم الأدب أن يروى الشاهد والمثل.
وقال أبو مسلم: سمعت الامام إبراهيم بن محمد يقول: يكفي من حفظ البلاغة ألّا يؤتى السامع من سوء إفهام الناطق، ولا يؤتى الناطق من سوء إفهام السامع. قال الجاحظ:
وأنا استحسن هذا الكلام جدّا.
ومن كلامه قوله: اللهم إنّا نعوذ بك من فتنة القول كما نعوذ بك من فتنة العمل. ونعوذ(7/369)
بك من التكلف لما لا يحسن، كما نعوذ بك من العجب بما يحسن، ونعوذ بك من السلاطة والهذر، كما نعوذ بك من العيّ والحصر.
وقوله أيضا: وذكر الله تعالى جميل بلائه في تعليم البيان، وقال: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ «1»
. ومدح القرآن بالبيان والإفصاح، وبحسن التفصيل والإيضاح وسمّاه فرقانا، كما سمّاه قرآنا.
وقوله: رأيت فلانا ينفض يده منك، وأنت تصادر على وصله، وكفى بالإعراض حاجبا والانقباض طاردا. ومن وقف في الإذن لك فقد حجبك، ومن تنكّر عن حكايتك فقد كذّبك، ومن حظر عنك سرّه فقد اتّهمك، ومن مطلك «2» ولو ساعة فقد حرمك، ومن تمنى فقدك فقد قتلك، ومن صادق عدوّك فقد عاداك، ومن عادى عدوّك فقد والاك، ومن صدقك عن عيبك فقد علّمك، ومن أقبل بحديثه على غيرك فقد طردك، ومن شكر إليك سواك سلّك، ومن سكت عن مديح الناس فقد ثلبك، ومن بلّغك شتمك، ومن استمهلك في الجواب فقد هابك، ومن أجرى ذكرك عند من لا تأمنه عليك فقد اغتابك، ومن نقل إليك فقد نقل عنك، ومن شهد لك بالباطل فقد شهد عليك، ومن وقع لك في أخيك فقد وقع لك فيك، ومن أحبّك لغير شيء فقد أبغضك لغير شيء، ومن أحسن إليك فقد استعان بالأيّام عليك؛ فإن شكرته جازتك عنه، وإن كفرته حاربتك دونه. ومن ألحّ في سؤالك فقد طرق لك إلى حرمانه، ومن أمرك بما لا تطيق فقد أغراك بعصيانه. جعلتك سهمي فيها، وأعطيتك ما أعطيت نفسي منها، فكن شفيقي إلى أذنك حتى تسمعها، ونفيع أذنك إلى قلبك حتى يفهمها، وشفيع إلى نفسك حتى تعمل بها.(7/370)
ومنهم:
4- أبو محمد عبد الله بن سعيد بن محمد بن سنان الخفاجي «13»
الحلبي. إن تكلّم في دقائق الأدب أتقنها، أو في لغة العرب قال متقنها بنظم أقوى من تركيب الأنابيب «1» ، وأحوى من الليل لشمل كل غريب. تنوّع في فنونه، وتسرّع إلى أخذ القلوب بفتونه. وترفّع في طبقاته فرأى الدراري من دونه. لمع بالتوشية برديه ووارى في التسوية النهار في وضوح ضحاه، وطيب أبرديه. وجارى البحر كلامه، فكأنه قذف من الدّر مالديه، وولّد فيه من التشبيه كلّ عقيم، ومن اللطائف ما يحسن على خدود الطروس عذاره الرقيم، ومن المعاني الواضحة الخفيّة ما يحاكي الظرف الصحيح السقيم. وله مع أبي العلاء محاورات أجلّ من محاورة الحبيب، ومجاراة أمتع من مجاراة الشادن الربيب. وقد ذكر ابن العديم منه شذورا وبلغ بها أماني كأنما وفّى بها نذورا. وكان الخفاجي شيعيا مبالغا في الغلوّ لا بل كان رافضيا، إن يزيد في الأرض إلّا الفساد والغلو. وفي شعره منه تلك التي تستك منها المسامع، وتستل دماء النفوس حسرات بها المدامع ذكر فيها السلف الأول بما برّأهم الله من عيابه وبرّاهم لردّ نباله الراشقة في جعابه، ولقد ذكر أبا بكر الصديق رضي الله عنه في معنى فدلّ بما يدرأ به هذا العظيم الغرابة في سحره، ويردّ به سهم هذا المنتصب عرضا إلى نحره ويرمي به شيطانه الإفك بزخره، ويعاد به حليّه؛ ولو كان العنبر الورد إلى شجره. فأما شعره فمما لا ينكر لؤلؤه لبحره. [الكامل]
عكس الأنام فإن سمعت بناقص ... فاعلم بأن لديه حظا زائدا
وتفاوت الأرزاق أوجب فيهم ... أن يجعلوه مصالحا ومفاسدا «2»
وقوله: [البسيط](7/371)
ومكبرين صغيرا من عقولهم ... لم يركبوا الخيل إلّا بعد ما كبروا
أخفوا بكيدهم عذرا فما عبأت ... سمر الرّماح بما همّت به الإبر «1»
منها:
جرّبتموه فأفنتكم صوارمه ... ولو عقلتم كفاكم دونه الخبر
وقد علا فوق أفلاك النّجوم بها ... فكيف يلحق من في باعه «2» قصر
حذّر بناس بني حمدان في أمم ... تأتي فقد ظهرت في هذه النّذر
واذكر لهم سيرا في المجد معجزة ... لولا الشّريعة قلنا إنها سور
السّابقون إلى الدّنيا بما ملكوا ... ما أورد النّاس إلا بعد ما صدروا
ومنها:
فرع أبان جناه طيب عنصره ... ما يعرف العود حتى يعرف الثّمر
منها:
منظومة فإذا فاه الرّواة بها ... ظننت أنّ نجوم اللّيل تنتشر
من معجزاتي التي لولا بدائعها ... في الشّعر شبّه قوم بعض ما سحروا
ومنه قوله: [الطويل]
وجذوة نار دون ذكر مكانها ... سريرة حبّ لا يخاف ظهورها «3»
تناهيت في كتمانه فنسيته ... فلله نفس غاب عنها ضميرها
وقوله: [الكامل]
ودع النّسيم يعيد من أخباره ... فله حواش للحديث دقاق
ما نمّ من علق العذيب بغائب ... إلا وقد شهدت به الآفاق(7/372)
وعلى الغضا إن كنت من جيرانه ... نار تقسّم حرّها الأشواق «1»
منها:
ومشتّت العزمات ينفق عمره ... حيران لا ظفر ولا إخفاق
أمل يلوح اليأس في أرجائه ... وغنى يشفّ وراءه الإملاق
يمري عقاقة ثروة لو أنّها ... نوم لما شعرت به الآماق
وقوله:
لو أنصفت زفّت إلى خطّابها ... والبدر تاج والنّجوم نطاق
لم تعترضها بالحجاب نقيصة ... ما كلّ ما ستر البدور محاق «2»
وقوله: [الطويل]
وهاتفة في البان تملي غرامها ... علينا ونتلو من صبابتها صحفا
عجبت لها تشكو الفراق جهالة ... وقد جاوبت من كلّ ناحية إلفا
ويشجي قلوب العاشقين حنينها ... وما فهموا ممّا تغنّت به حرفا
ولو صدقت فيما تقول من الأسى ... لما لبست طوقا ولا خضّبت كفّا
أجارتنا أذكرت من ليس ناسيا ... وأضرمت نارا للصّبابة لا تطفى «3»
منها:
لعمري لئن طالت علينا فإنّنا ... بحكم الثّريّا قد قطعنا لها كفّا
رمينا بها في الغرب وهي ذميمة ... ولم تبق للجوزاء عقدا ولا شنفا
كأنّ الدّجى لّما تولّت نجومه ... مدبّر حرب قد هزمنا لها صفّا
كأنّ عليه للمجرّة روضة ... مفتّحة الأزهار أو نثرة زغفا «4»
كأنّا وقد ألقى إلينا هلاله ... سلبناه تاجا أو فصمنا له وقفا(7/373)
كأن السّهى إنسان عين قريحة «1» ... من الدّمع تبدو كلّما ذرفت ذرفا
كأن سنا المرّيخ شعلة قابس ... تخطّفها عجلان يخطفها خطفا
كأن سهيلا فارس عاين الوغى ... ففرّ ولم يشهد طرادا ولا زحفا
كأن أفول النّسر طرف تعلّقت ... به سنة ما هبّ منها ولا أغفى
وقوله: [الكامل]
ما كان يعلم قبل فيض نواله ... أنّ الغمام إذا استهلّ بخيل
فرقت عزائمه فشاب لها الدّجى ... خوفا وأثّر في الهلال نحول
وقوله: [الرمل]
كلّ ميّاس جرت أعطافه ... وعواليه على حكم التثنّي
هزّة للجود صارت نشوة ... لم يكدّر عندها العرف بمنّ
وقوله: [الطويل]
وهل علم البرق اليمانيّ أنّنا ... طرقنا به طرفا من الليل أكحلا
وما باله خصّ الغضا بابتسامة ... وسلّ على رمل الشّقيقة منصلا
وهيفاء طوع الرّيح قد خلع الدّجى ... عليها هلالا بالنّجوم مكمّلا
لها من خلال المشرفيّ صقاله ... ومن شيم الخطّي أن يتميّلا «2»
وقوله: [الطويل]
وليس بكاء العين إلّا جناية ... ولا اللّوم إلّا أنّها بقيت معي
وكل أسى لا تذهب النّفس عنده ... فما هو إلّا من قبيل التّصنّع
وو الله ما وفّيت ودّك حقّه ... وهل هي إلّا لوعتي وتفجّعي
وأين وفائي لامدى الدّمع بالغ ... رضاي ولا جهد الصّبابة مقنعي(7/374)
وقوله: [الكامل]
أنفقت بعد أبي العلاء مدامعا ... حبست ذخيرتها على الآماق
وبكيته وجفونها موجودة ... مثل الحمام تنوح بالأطواق
وظننت في فيض الدّموع من الجوى ... فرجا فصار بمائها إغراقي «1»
قوله: [الكامل]
ومدامع سبقت خيال نديمه ... ما كنت إلا قطرة من ظلّها
وإذا القلوب ترادفت أحزانها ... فالدّمع يحمل شعبة من ثقلها
وقوله: [الطويل]
لحا الله مغلوبا على نصل سيفه ... مقيما على نهي الزّمان وأمره
أناخ بدار الهون حتّى كأنّما ... يرى الرّزق مقصورا على مستقرّه
وقوله: [الطويل]
وقلّ زمان العاجزين فإنّني ... لأكرم نفسي أن أقول زماني
إذا باعدت منّا المناسب قرّبت ... مودّة لا ناس ولا متوان
وإنّ سنان الرّمح ينجد ربّه «2» ... على بعده لا زجّة المتداني
وقوله: [الرّجز]
فربّ ليل في هضاب عاقل ... رقّ نسيما حين طاب ملبسا
يظنني الغيران قد شهدته ... وإنّما وصفته تفرّسا
وقوله: [الطويل]
ألوم عليك الوجد وهو مبرّح ... وأعتب فيك الدّمع وهو نجيع
وأعلم أنّي ما منحتك طائلا ... وهل هي إلّا زفرة ودموع(7/375)
وقوله: [الكامل]
وصبابة علقت بقلب متيّم ... وصل الغرام إليه قبل حجابه
وإذا الغريب صبا إلى أوطانه ... شوقا فمعناه إلى أحبابه
وقوله: [الطويل]
وظبي من الأعراب «1» رنّحه الصّبا ... فمال وفي أعطافه تقبس الخمر
إذا أخذ المرآة ينظر وجهه ... ظننتهما شمسين بينهما بدر
وقوله: [البسيط]
من كان يحمد ليلا في تقاصره ... فإنّ ليلي ما يرجى له سحر
لا تسألوني إلّا عن أوائله ... فآخر الليل ما عندي له خبر
وقوله: [الطويل]
فيا قلب قد حذّرتك النظرة الّتي ... خلست فما راقبت نهيا ولا زجرا
ويا قلب قد أرداك من قبل مرّة ... فويحك لم طاوعته مرّة أخرى
وقوله: [الكامل]
ومهوّن للوجد يحسب أنّها ... يوم العذيب مدامع وخدود
سل بانة الوادي فليس يفوتها ... خبر يطول به الجوى ويزيد
وانشد معي ضوء الصّباح وقل له ... كم تستطيل بك الليالي السّود
وقوله: [الرّمل]
يا عيونا بالغضى راقدةّ ... حرّم الله عليكنّ الكرى
لو عدلتنّ تساهمنا جوى ... مثلما كنّا اشترطنا نظرا
سل فروع البان عن قلبي فقد ... وهم البارق فيما ذكرا «2»(7/376)
وقوله: [الكامل]
واستخبروا ليلا رعيت شبابه ... ليلا ولم ينصل دجاه شبابي
سهرت كواكبه معي وبعدتم ... أنتم كواكبه وهنّ صحابي «1»
وقوله: [الكامل]
بيني وبين الذلّ عزّ قناعة ... نبذ الحمام إباؤها وتبرّضا
وسنان مطّرد الكعوب مثقف ... كالصل صرّح بالوعيد ونضنضا
إن ضاق مسرح ناقتي بفنائكم ... فزمامها بيدي وما ضاق الفضا «2»
وقوله: [المديد]
ما على العذّال لو نظروا ... ثم لاموا فيك واعتذروا
قمر ضلّ الأنام به ... ما بهذا يعرف القمر «3»
وقوله: [الكامل]
ومن العجائب أنّ بيض سيوفه ... تبكي دما وكأنّها تتبسّم
فالآن سلّمت القلوب إليكم ... وتيقنّت أنّ الخلافة فيكم «4»
وقوله: [الطويل]
وما أنا بالمشتاق إن قلت بيننا ... طوال العوالي أو طوال السباسب
فما لقلوب العاشقين مزيّة ... إذا نظرت أفكارها في العواقب
منها:
إذا كان عقل المرء أدنى خلاله ... فما هي إلا ثغرة للمصائب
وكم حبس القمريّ حسن غنائه ... وقيّدت البازيّ حجن المخالب(7/377)
منها:
تظنّ العدا أنّي مدحتك للغنى ... وما الشّعر عندي من كريم المكاسب
وما شئت إلّا أن تتمّ صفاته ... وللدرّ معنى في نحور الكواعب «1»
وقوله: [الرمل]
ما على أحسنكم لو أحسنا ... إنّما يطلب شيئا هيّنا
قد شجانا اليأس من بعدكم ... فادر كونا بأحاديث المنى
وعدوا بالوصل من طيفكم ... مقلة تعرف فيكم وسنا
لا وسحر بين أجفانكم ... فتن الحبّ به من فتنا
وحديث من مواعيدكم ... تحسد العين عليه الأذنا
ما رحلت العيس عن أرضكم ... فرأت عيني شيئا حسنا
يا بني عذرة إن خفناكم ... قدم الهرماس «2» منكم عدنا
أخذت سمركم الثّأر به ... لست أعني لكم السّمر القنا
وسللتم فيه ألحاظكم ... فعرفنا بالسّيوف اليمنا
هل لنا نحوكم من عودة ... ومن التّعليل قولي هل لنا
كم أسلّي النّفس عن حبّكم ... وهي لا تزداد إلّا حرنا
ولعمري لو وجدنا راحة ... من هواكم لطلبنا شجنا
يا نديميّ غفا ذكركم ... وحديث الشّوق قد أسكرنا
بين بصرى وضمير غرب ... يأمن الخائف فيهم ما جنى
كلّما شنّت عليهم غارة ... أغمدوا البيض وسلّوا الأعينا
طلعت للحسن فيهم مزنة ... أنبتت في كل حقف «3» غصنا
ما لقلبي ليس يشفى داؤه ... كلّما زال ضنا عاد ضنا
لو سلمنا من تباريح الجوى ... لذكرنا جملة من أمرنا(7/378)
وشكرنا لابن نصر منّة ... أنطقت بالمدح فيه الألسنا «1»
قوله: [البسيط]
إذا هجرتكم لم أخش سطوتكم ... وإن مدحت فما حظّي سوى التّعب
فحين لم ألف لا خوفا ولا طمعا ... رغبت في الهجو إشفاقا من الكذب
قوله: [الكامل]
هل تسمعون شكاية من عاتب ... أو تقبلون إنابة من تائب
أم كلّما يتلو الصديق عليكم ... في جانب وقلوبكم في جانب
أمّا الوشاة فقد أصابوا عندكم ... شرفا ينفّق كلّ قول كاذب
فمللتم من صابر ورقدتم ... عن ساهر وزهدتم في راغب
وأقلّ ما حكم الملال عليكم ... سوء القلى وسماع قول العائب «2»
وقوله: [الطويل]
وعلّمتوني كيف أصبر عنكم ... وأطلب من رقّ الغرام بكم عتقا
فما قلت يوما للبكاء عليكم ... رويدا ولا للشّوق نحوكم رفقا
وما الحبّ إلا أن أعدّ قبيحكم ... إليّ جميلا والقلى منكم عشقا «3»
وكان أبو محمد الخفاجي قد عصا بقلعة عزاز من أعمال حلب، وكان بينه وبين أبي نصر، محمد بن الحسن ابن النحّاس الوزير لمحمود وغيره مودّة أكيده. فأمر محمود أبا نصر أن يكتب إلى الخفاجي كتابا يستعطفه ويؤمنه. وقال: إنه لا يأمن إلّا إليك، ولا يثق إلّا بك.
فكتب إليه كتابا، فلما فرغ منه، وكتب: إن شاء الله، وشدّد النون من إن شاء الله. فلما قرأه الخفاجي خرج من عزاز قاصدا إلى حلب. فلما كان على ظهر الطريق أعاد النظر في الكتاب، فلمّا رأى التشديد على النون أمسك رأس رأسه وأفكر، وقال في نفسه: لم يكتب ابن النحاس هذا عبثا، فلاح له إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ «4»
، فرجع إلى عزاز ولم(7/379)
يدخل حلب. وكتب إليه الجواب: إنّا الخادم المعترف بالإنعام، وكسر الألف من، أنا، وشدّد النون وفتحها.
فلمّا وقف الشيخ أبو نصر على الكتاب سرّ بما فيه، وقصد بذلك: إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها «1»
: فكتب إليه يحذّره ويستصوب رأيه في ترك الحضور، ويستعلم أخباره فكتب إليه ابن سنان، وهو آخر شعر قاله: [البسيط]
خف من أمنت ولا تركن إلى أحد ... فما تزيد على غدر الأعاريب
تمسّكوا بوصايا اللّؤم بينهم ... وكاد أن يدرسوها في المحاريب
أعدّ قرب رحيلي منهم فرجا ... وما مقامي وعيش الدّهر يسري بي «2»
قال: فلما رأى محمود امتناع ابن سنان من حضور مجلسه، والركون إليه أخذ يفكر في حيلة يبلغه بها، فاستدعى أبا نصر ابن النحاس، وقال له: أنت أشرت عليّ بتولية هذا الرجل، ولا أعرف فراغ بالي منه إلا من جهتك، ومتى لم تفعل ما آمرك به قتلتك، وألحقت بك جميع من بينك وبينه حرمة. واعلم أن العلامة في نصحك وترك الغش منك لي موته. ومتى لم يقع هذا ألّا أقبل لك عذرا. وضربت عنقك. فقال له: مرني بأمرك. قال: تمضي إليه، وفي صحبتك ثلاثون فارسا، فإذا قاربته أنفذت من يعرفه حولك؛ فإنه إذا عرف ذلك لا يرى ترك النزول إليك والتلقي لك، فإذا فعل ذلك وسألك النزول عنده والأكل معه فامتنع، وعرّفه أني حلّفتك ألّا تأكل زاده، ولا تحضر مجلسه حتى يعطيك في الحضور عندي. وطاوله في المخاطبة حتى يقارب الظهر، ثم ادّع أنك قد جعت واخرج هذين الخشتنانكتين، فكل أنت هذه وأطعمه هذه، فإن استوفى أكلها عجّل الرجوع إليّ؛ فإن ميتته فيها.
فسار ابن النحاس مقدّما رجلا ومؤخرا أخرى، مقسّم الفكر في إتلاف مثل ذلك الأخ.
قال: وعزمت على الهرب، ثم فكّرت فيمن خلّفت من العائلة، فألجأته الضرورة إلى أن فعل(7/380)
جميع ما أمر به محمود. وكان بين ابن سنان وبين ابن النحاس من المودّة والصفاء ما لم ينكر معه شيئا ممّا جرى.
قال: وجعل والله يأكلها فلما استوفى أكل كشتنانكته صرفت رأس فرسي إلى حلب، مجدّا في السير، خوفا من الطلب، ورجع ابن سنان إلى مركزه من القلعة فلما استقرّ بها وجد مغصا شديدا، ورعدة مزعجة، ثم قال: قتلني والله أخي أبو نصر بما أطعمني من زاده.
وأمر بالركوب خلفه وردّه، فركبوا خلفه ففاتهم، ووصل ابن النحاس عشاء إلى حلب، وعرّف محمود بما جرى. فلمّا أصبح، كان من الغدو قد وصل من عزاز من أخبر أن ابن سنان في الشاقّ. واستدعى ابن سنان حضور الشريف أبي المعالي النقيب.
وحكى أبو الحسن علي بن معن، قال: كنت ممّن خرج من حلب إلى عزاز يومئذ فوجدنا الشيخ أبا محمد ابن سنان ليس له يد تتحرك، فجعل يتصفّح وجوهنا، ولا يستطيع كلامنا، ثم مات رحمه الله سنة ست وستين وأربعمائة.
ومنهم:
5- عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني «13»
الإسماعيلي النحوي، أبو بكر. الإمام في علم العربية، مجلي حنادس «1» ، ومصدّق ظن حادس. جعل فسحاء الكتب مراحه، وخالف زمانه على عدم الراحة، فكان يحمل نفسه فوق الطاقة، ولا يصالح شمسه بالعاقة «2» فلم يأته ليل إلا وجدّ زناده في شوقه، وجدّ عادة(7/381)
منه حتى فكّك أزرار نجومه من طوقه، ثم لم يزل حتى يخلط أول ليله بنهاره، ويجمع في طرفيه بين سقيفه ونهاره. فلا يخفف عنه شفقا، ولا يعرف أصيلا ولا شفقا؛ ولهذا ساد وساد ذكره بين تأويب وآساد. وهو من أئمة البيان، وأهله أهلّة الأعيان، أظهر اللطائف وبيّنها ومثّلها للعيان، وعيّنها، فأخرج خباياها، وأبدى خفاياها، وأتى فيها من شهد النحل ما ضمّت خلاياها، فأخذ اللبّ وترك القشور، وأبقى من صحفه ما لا يطوى إلى يوم النشور.
وأخذ النحو عن أبي الحسن، عبد الوارث ابن أخت أبي عليّ الفارسي. ولم يلق شيخا مشهورا غيره، لأنه لم يخرج عن جرجان. وكان ينتحل مذهب الشافعي، وأصول الأشعري.
وبرز على من تقدّمه، وأعجز من تأخّر عنه، وتوفي سنة إحدى وقيل سنة أربع وسبعين وأربعمائة. ومن شعره ما قاله ارتجالا، ممّا يكتب على القلم: [الكامل]
مهما حصلت بكفّ خير النّاس ... سعد جلوت المجد في القرطاس
ولقيت آمال العفاة بنجحها ... وقلعت بالنّعمى عروق الياس
وغدوت والسّيف المهنّد خادمي ... وترى الأسنّة لا تقوم لناسي
وقوله في معنى: [الوافر]
أتيه على الحسام إذا جرت بي ... يد الشّيخ الإمام أبي المحاسن
أقصّي الجود عنه في البرايا ... وأطلع بالمناجح والميامن
ومنه قوله: [مخلع البسيط]
أعرض عن العقل لا ترده ... ومل إلى الجهل ميل هايم
وعش حمارا تعش بخير ... فالسّعد في طالع البهائم
ومنه قوله: [السّريع]
لا تأمن الغيبة من شاعر ... ما دام حيّا لافظا ناطقا
فإنّ من يمد حكم كاذبا ... يحسن أن يهجوكم صادقا(7/382)
وقوله أيضا: [الكامل]
لا يوحشنّك أنّهم ما ارتاحوا ... ممّا جلاه عليهم المدّاح
فهم كقوم علّقت ثاراتهم ... بيض المرامي والوجوه قباح
ومنهم:
6- أبو الحسن الزمخشري «13»
محمود بن عمر بن محمد بن أحمد الخوارزمي. إمام أيّ بحر بين جنبيه، وأيّ طودخبا في ثوبيه. أيّ بدر طلع من عرفه، وأيّ برق تهلّل في شرفه. شهم أي شهم، وخاطر لا يمرّ به وهم؛ إلّا أنه كان من رؤوس الاعتدال، وصدور أهل الاعتلال، كلمة أجمع عليها أهل السنّة وأطلقت عليه بالتحقيق لا بالظنّة، بان بها انكشافه، وحقّق أمرها كشّافه، وجاور البيت الحرام بمكة باقي مدّته، وثوى بها ثواء لا هبوب من رقدته. وكان بها ربيعا لأهل ذلك الوادي، وضياء لأهلّة ذلك النادي. تسري الركائب إليه، وترى الوفود تمام الحج أن تقف المطايا عليه. وكان يسمّى جار الله وهكذا كان يكتب في الفتاوى. ويقال: إنه كان يرى جواز إباحة المنفعة، ولا يصرّح منه إلّا بطرف إيماء. وقيل: إنه ربّما فعله مع بعض أعزاء أضيافه وأخصّاء نزلائه من أهل ائتلافه.
كان واسع العلم كثير الفضل، غاية في الذكاء وجودة القريحة، متقنا لكل علم، معتزليا قويا في مذهبه، مجاهرا به، حنفيّ الفروع. ورد إلى بغداد غير مرّة، وجاور بمكة، وتلقّب بجار الله تشبيها بأبي المعالي الجويني «1» ؛ إذ يلقب بإمام الحرمين لمجاورته بهما. وكان يلقب(7/383)
أيضا بفخر خوارزم.
دخل عليه بعض الفضلاء، فقال له: بم عاجلك الشيب؟ قال: بمتابعة الأسفار ومطالعة الأسفار فقال الزمخشري: إنّ رواءه يدلّ على ما وراءه.
وأصاب الزمخشري في رجله خراج فقطعها، ووضع عوضها رجلا من خشب. وكان إذا مشى ألقى عليها ثيابه الطوال، فيظنّ من يراه أنه أعرج.
ومن شعره ما قاله في شيخه فريد العصر، أبي مضر محمود بن جرير الأصبهاني «1» :
[الطويل]
سلام عليكم أدمعي قلمّا ترقى ... إذا سمت من تلقاء أرضكم برقا
ومن عجب أنّي إذا لاح بارق ... بأرضكم استمطرت أجفاني الودقا
وما خلت هذا البرق إلا ابتسامة ... بسعدي أضاءت عند إيماضها الأفقا
أأومض برق أم سعاد تبسّمت ... فما تعرف العينان بينهما فرقا
تمنّيت لو يغني التمنّي لقاؤها ... بوقع رماح الخطّ من دون أن تلقى
خليليّ هل أيامنا بسويقة ... رواجع أو طارت بأيامنا العنقا
مقيل شباب قد تقلّص ظلّه ... ومشرع لهو آض سلساله رتقا
إذا الرّيح من شرقي لهو تبسّمت ... فيا برد صدري حين انشقها نشقا
ولهفي على عصر تقضّى مناسب ... سحابا فريد العصر أو وجهه الطلقا
وقوله يرثي شيخه المذكور: [الطويل]
وقائلة ما هذه الدّرر الّتي ... تساقطها عيناك سمطين سمطين
فقلت لها الدرّ الذي كان قد حشي ... أبو مضر فيه تساقط من عيني
وقوله: [الطويل](7/384)
أبادية الأعراب بعدا فإنّني ... بخاطرة الأتراك نيطت علائقي
وأهلك يا نجل العيون فإنّني ... بكيت بهذا الناظر المتضايق
وقوله: [الرجز]
تزهو علينا بقوس حاجبها ... زهو تميم بقوس حاجبها
وسمع الزمخشري قول القائل: إن السفيه إذا لم ينه مأمور، فحذا حذوه، فقال: [الكامل]
وإذا سفيه عضّني في مجلس ... ونهاك من غرر الأكارم معشر
فهم الألى عضّوا إذا ما هم رضوا ... وهم الألى نكروا إذا لم ينكروا
ومنهم:
7- السكّاكي «13»
فعله غير مشوّه، وفضله أيّ مموّه، ذو علوم، يترك آية الليل ممحوّة، وشفة السحر للمناداة حوّة. أضاءت داريه، وطالت متن البجاد أياديه. سعى للعلوم فحصّل طرائفها، وحضن تحت جناحه طوائفها. واهتزّ للمعاني اهتزاز الغصن للبارح، ولزّ من تقدّمه في الزمان لزّ الجدع القارح، فأضحى الفضل كلّه يزم بعنانه، ويذم السيف ونصله سنانه «1» .(7/385)
8- ابن أبي الإصبع «13»
وأما المغاربة فلم يقع إلينا من هذه الطائفة منهم أحد، ممّن هو على شرط هذا الكتاب.
وأما مصر فلم يقع إلينا من أهلها إلّا واحد، ولكنه أيّ واحد! واحد كالألف إن أقرعنا، وهو الزكي عبد العظيم بن عبد الواحد بن ظافر بن عبد الله بن محمد بن جعفر بن الحسن بن محمد العدواني المصري. عرف بابن الإصبع. جدّ حتى انقاد له الحظّ، وسهر حتى رقّ عليه قلب الليل الفظّ. طالما تمحّى ليل بإدراكه، وتنحّى سهيل فوقع في أشراكه. مرّ على قطائع الكواكب فساق قلائصها، وسام في طرائد الليل قنائصها. وكان بمصر، وله مثل مقطعاتها، ونضير مصبغات ربيعها ومصبغاتها، قطع شعر، هي السحر الحلال، والبارد العذب لا ماء النيل الزلال. وعليه تخرج جماعة المتأخرين من الأدباء. وكان الأديب أبو الحسين الجزار «1» يمتّ بحضوره لديه، وعرض أوائل شعره عليه. وله عمّ، أي الحسين بسببه حكايات ليس هذا موضعها. مولده سنة خمس، وقيل: سنة تسع وثمانين وخمسمئة بمصر. وتوفي في الثالث والعشرين من شوال سنة أربع وعشرين وستمئة. وله تصانيف مفيدة.
وذكر شيخنا أبو الثناء الكاتب في التوشيع، قال: وقال ابن أبي الإصبع: وما بشعر قلته في هذا الباب من بأس، هو: [البسيط]
بي محنتان ملام في هوى بهما ... يرمى لي القاسيان الحبّ والحجر
لولا الشقيقان من أمنيّة وأسى ... أودى بي الموديان الشوق والفكر
قال شيخنا أبو الثناء: ويحسن أن يسمى ما في بيته مطّرف التوشيع، إذ وقع المثنى في(7/386)
أول كل بيت وآخره. وذكر في التفريع، أن ابن الإصبع ذكره في صدر الباب، وقال: إنه هو الذي استخرجه، وهو أن يبتدئ الشاعر بلفظة، هي إما اسم أو صفة، ثم يكرّرها في البيت مضافة إلى أسماء أو صفات، تتفرع عليهما جملة من المعاني في المدح وغيره، كقول المتنبي: [المتقارب]
أنا ابن اللّقاء أنا ابن السّخاء ... أنا ابن الضّراب أنا ابن الطّعان
أنا ابن الفيافي أنا ابن القوافي ... أنا ابن السّروج أنا ابن الرّعان «1»
طويل النّجاد طويل العماد ... طويل القناة طويل السّنان
حديد اللّحاظ حديد الحفاظ ... حديد الحسام حديد الجنان «2» ، «3»
قال شيخنا: وفيما ذكره نظر؛ لانه باب تعديد الصفات أنسب.
وقال في الإبداع: قال ابن أبي الإصبع: وما رأيت فيما استقريت من الكلام كأنه استخرجت منها واحدا وعشرين ضربا من المحاسن، وهي قوله تعالى: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ «4»
، وهي المناسبة الثامنة بين اقلعي وابلعي، والمطابقة بذكر الأرض والسماء، والمجاز في قوله: (يا سماء) ؛ فإن المراد، والله أعلم، يا مطر السماء، والاستعارة في قوله:
(أقلعي) والإشارة في قوله تعالى (غِيضَ الْماءُ)
؛ فإنه عبرّ بها بين اللفظتين عن معان كثيرة.
والتمثيل في قوله سبحانه: (وَقُضِيَ الْأَمْرُ)
؛ فإنه عبّر عن هلاك الهالكين، ونجاة الناجين بغير لفظ المعنى الموضوع له، والإيذان في قوله تعال: (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ)
، فإنه عبرّ عن استقرارها بهذا المكان استقرارا متمكنا بلفظ قريب من لفظ المعنى والتعليل؛ لأن غيض الماء علة الاستواء، وصحة التقسيم، اذا استوعب سبحانه اقتسام أحوال الماء حالة نقصه؛ إذ ليس(7/387)
إلا الاحتباس لماء السماء، واحتقان الماء الذي ينبع من الأرض. وغيض الماء الحاصل على ظهرها والاحتراس في قوله: «وقيل بعدا للقوم الظالمين» ؛ إذ الدعاء عليهم يشعر بأنهم مستحقو الهلاك؛ احتراسا من ضعيف العقل، يتوهم أن العذاب شمل من يستحق ومن لا يستحق فتأكد بالدعاء كونهم مستحقين. والإيضاح في قوله تعالى؛ ليبيّن أن القوم الذين سبق ذكرهم في الآية المتقدمة، حيث قال: وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ «1»
هم الذين وصفهم بالظلم؛ ليعلم أنّ لفظة القوم ليست فضلة، وأنه يحصل بسقوطها ليس في الكلام والمساواة؛ لان لفظ الآية لا يزيد على معناها، وحسن النسق؛ لانه سبحانه وتعالى عطف القضايا بعضها على بعض بحسن وائتلاف اللفظ مع المعنى؛ لأن كل لفظة لا يصلح موضعها غيرها والإيجاز، لانه سبحانه وتعالى اقتصّ القصة بلفظها مستوعبة بحيث لم يحل منها في أقصر عبارة. والتسهيم؛ لأن أول الآية إلى قوله: أقلعي، يقتضي آخرها.
والتهذيب؛ لأن مفردات الألفاظ موصوفة بصفات الحسن، عليها رونق الفصاحة سليمة من التعقيد والتقديم والتأخير والتمكين؛ لأن ألفاظه مستقرة في قرارها، مطمئنة في مكامنها، والانسجام وهو يجدر الكلام بسهولة كما ينسجم الماء. وباقي مجموع الآية من الإبداع، وهو أن يأتي في البيت الواحد من الشعراء، والقرينة الواحدة من النثر عدّة ضروب من البديع بحسب عدد كلماته أو جمله «2» .
قال: فهذه سبع عشرة لفظة تضمنت واحدا وعشرين ضربا من البديع غير ما تكرر من أنواعه فيها.
وأنشد له ابن سعيد قوله في المريض: [المتقارب]
ولمّا رأيتك عند المديح (م) ... جهم المحيّا لنا تنظر
تيقّنت بخلك لي بالنداء ... لأنّ الجهامة لا تمطر(7/388)
ومن بقية ماله قوله: [الطويل]
وساق إذا ما ضاحك الكأس قابلت ... فواقعها من ثغره اللؤلؤ الرّطبا
خشيت وقد أمسى نديمي على الدّجى ... فأسدلت دون الصّبح من شعره حجبا
وقسّمت شمس الطاس في الكأس أنجما ... ويا طول ليل قسّمت شمسه شهبا
وقوله: [الطويل]
تبسّم لّما أن بكيت من الهجر ... فقلت ترى دمعي فقال ترى ثغري
فديتك لّما أن بكيت تنظّمت ... بفيك لآلي الدّمع عقدا من الدرّ
فلا تدّعي يا شاعر الثّغر صنعة ... فكاتب دمعي قال ذا النظم من نثري
وقوله: [الطويل]
أيا عبلة الألحاظ قلبك عنتر ... ومالي على غاراته في الحشا صبر
نعم أنت يا خنساء حسناء عصرنا ... وشاهد قولي أنّ قلبك لي صخر
ومنها:
أغاية قصدي بطن يمناك غاية ... بها أبدا للمجتدي ينبت التّبر
أغضت الحيا والبحر جودا فقد بكى ال ... حيا من حياء منك والتطم البحر
عيون معانيها صحاح وأعين ال ... ملاح مراض في لواحظها كسر
أضاعت عقولا حين ضاعت فما درى ... أبابل أهداها إليك أم السّحر
وقوله: [الطويل]
إذا الوهم أبدى لي لماها وثغرها ... تذكّرت ما بين العذيب وبارق
ويذكرني من أدمعي وقوامها ... بجرّ عوالينا ومجرى السّوابق
وقوله: [البسيط]
وقيّم كلّمت جسمي أنامله ... بغير ألسنة تكليم خرسان
إن رام مسك يميني كاد يخلعها ... أو سرّح الرأس بعد الغسل أبكاني(7/389)
فليس يمسك بالمعروف منه يدا ... ولا يسرّح تسريحا بإحسان
وقوله: [الطويل]
تصدّق بوصل إنّ دمعي سائل ... وزوّد فؤادي نظرة فهو راحل
فجدّ لموجود به البرّ والغنى ... وحسبك معدوم لديه المماثل
أيا قمرا من شمس وجنته لنا ... تطلّ عذاريه الضّحى والأصائل
تقلّب من طرف لقلب مع النّوى ... وهاتيك للبدر التّمام منازل
إذا ذكرت عيناك للصبّ درسها ... من السّحر قامت بالدّلال الدّلائل
جعلتك بالتّمييز نصبا لناظري ... فلا رفعت للهجر والهجر فاعل
ولمّا أضفت السّحر للجفن بيّنت ... به الكسر من غنج الجفون العوامل
أعاذلي قد أبصرت حبي وحسنه ... فإن لمتني فيه فما أنت عاقل
محيّاه قنديل لديجور شعره ... تعلّقه بالصّدغ منها السّلاسل
غدا القدّ غصنا منه يعطفه الصّبا ... فلا غرو إن هاجت عليه البلابل
ومنها:
له من ودادي ملء كفّيه صافيا ... ولي منه ما ضمّت عليه الأنامل
ومن قدّه الزّاهي ونبت عذاره ... صدور رماح شرّعته سلاسل
وقوله: [المتقارب]
تبسّم لمّا رأى راحنا ... لأقداحنا أبدا تلثم
فقال المدامة بنت الزّجاج ... فقلت التبسّم ابن الفم
وقوله يمدح الملك الأشرف ويذكر اجتماعه بالشمس خضر بالرقّة على شاطئ الفرات:
[الطويل]
قران أرانا برجه الشمس والبدرا ... فأضحى لنا بل للأنام به البشرى
بذا العالم السفلي بات فقد غدا ... على العالم العلوي يبدي به الفخرا(7/390)
غدا مجمع البحرين شرط قراننا ... ألم ير موسى فيه قد صادف الخضرا
به اجتمعا لكنّ ذا لم يقل لذا ... غداة اللّقا لن تستطيع معي صبرا
وأولها:
أرى الجدّ يبدي تارة جنّة خضرا ... أسطري به أم خطّ من صدغه سطرا
عجبت له خدّا تورّد خجلة ... تريك بآس الصّدغ فيه الدّجى ظهرا
رفعت له عن دمع عيني طلابة ... أروم بها عطفا فوّقع لي يجرى
وقوله في الزوبعة: [الطويل]
علا رهج الإعصار عند التفاته ... فأعجل عيني أن تغمّض جفنيها
كراقصة قد أسرعت دورانها ... اذا انقلبت لفّت على الخصر كميّها
وقوله فيها: [الخفيف]
قام في قائم الظّهيرة نقع ... مستطيل أثاره إعصار
مثل ظلّ الاشباح في الارض خطّا ... مستطيلا إذا تولّى النّهار
وقوله فيها: [السّريع]
أقول للنّاس وقد أنذر ال ... إعصار من شاهده في الهوا
تعوّذوا في الأرض من فتنة ... غبارها يصعد نحو السما
وقوله: [البسيط]
شكى البخار ببطن الأرض محبسه ... عساه يطلق فاهتزّت لشكواه
وكانت الأرض كالحبلى إذا صلح ال ... حنين في جوفها يهتزّ أعلاه
وقوله: [الرّمل]
قلت إذ زلزلت الأرض وما ... فوقها للعهد إلّا ناقص
حمّت الدّنيا من الغيظ على ... ساكنيها فاعتراها ناقص(7/391)
وقوله: [البسيط]
قامت إلى شمعة في اللّيل تصلحها ... بلا مقطّ فطارت مهجتي فرقا
فأدركتني وقالت لا تخف لهبا ... على بنان من الياقوت قد خلقا
وقوله: [الطويل]
أظنّ خيال العامريّة قد ضنّا ... وحاشاه لكن ليس لي مقلة وسنا
وكيف يزور الطّيف صبّا يراقب ال ... نجوم إذا ما ليلة موهنا جنّا
سميري ما للطّيف ذنب لأنّه ... رأى خدنه وهو الكرى قد جفا الجفنا
وكم ليلة فاوضته أن يلمّ بي ... إذا ما هدى ليل فعنّ وما عنّى
فأهدى لنا في الحضر بادية الفلا ... بها السّرب من ولد الضّراغم قد رعنا
قصدنا غزالا أعلقته حبائل ال ... منام ولولا أخته ما نجا منّا
ومنها:
بكيت فناداني أتبكي وبيننا ... بحكم التّداني قاب قوسين أو أدنى
فقلت كذا كنّا بمنعرج اللّوى ... ولكنّنا من بعد ذاك تفرّقنا
رأيت بفيه إذ تبسّم أدمعا ... فقلت وفى لي إذ بكى فمه حزنا
أجاد له في النّظم شاعر ثغره ... ولكنّه من مقلتي سرق المعنى
آخر الجزء الرابع، ويتلوه في الخامس إن شاء الله تعالى، فأما طوائف الفقراء، خلاصة ذوي القلوب، وخاصة المحبوب.(7/392)
فهرس التراجم
أهل اللغة بالجانب الشرقي 11
1- النضر بن شميل. 13
2- أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي. 15
3- أبو عمر والشيباني. 18
4- سعيد بن أوس الأنصاري (أبو زيد) . 19
5- الأصمعي. 21
6- أبو عبيد القاسم بن سلّام. 22
7- ابن الأعرابي. 25
8- ابن السكّيت. 26
9- أبو حاتم السجستاني. 28
10- الرّياشي. 30
11- ابن قتيبة. 31
12- ابن دريد. 32
13- أبو علي القالي. 34
14- أبو منصور الأزهري. 35
15- غلام ثعلب (أبو عمر الزاهد) . 36
16- ابن خالويه. 39
17- السيرافي. 40
18- ابن فارس. 41
19- إسماعيل بن حماد الجوهري. 42
20- محمد بن الحسن البغدادي [الحاتمي] . 45(7/393)
21- الهروى. 46
22- الهروي الفاشاني. 47
23- ابن ناقيا اللغوي. 48
24- الخطيب التبريزي اللغوي. 49
25- أحمد بن محمد النيسابوري. 50
26- الجواليقي. 52
27- ابن الدهان (سعيد بن المبارك) . 53
أهل اللغة من الجانب الغربي 57
1- أبو بكر اللؤلؤي القيرواني. 59
2- أحمد بن أبان اللغوي. 60
3- تمام بن غالب اللّغوي. 60
4- ابن سيده. 61
5- ابن القطّاع. 62
6- محمد بن الصايغ القريشي. 63
أهل اللغة في مصر 67
1- جمال الدين بن المكرّم (ابن منظور) . 69
2- محمد بن إبراهيم النجادي. 71
أهل علم النحو 73
1- أبو الأسود الدؤلي. 75
2- عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي. 77(7/394)
3- عيسى بن عمر الثقفي. 78
4- الأخفش الكبير (عبد الحميد بن عبد المجيد) . 80
5- الخليل بن أحمد الفراهيدي. 81
6- يونس بن حبيب. 84
7- سيبويه. 85
8- السّدوسي. 88
9- قطرب. 89
10- الفرّاء. 90
11- الأخفش الأوسط (سعيد بن مسعدة) . 91
12- أبو عمرو الجرمي. 92
13- أبو عثمان المازني. 93
14- أبو العبّاس المبرّد. 95
15- أبو العبّاس ثعلب. 97
16- أبو موسى الحامض. 100
17- محمد بن العباس اليزيدي. 100
18- أبو بكر بن السرّاج. 102
19- الأخفش الأصغر (علي بن سليمان) . 103
20- إبراهيم بن السريّ الزجاج. 104
21- نفطويه (إبراهيم بن محمد بن عرفة) . 105
22- أبو بكر الأنباري. 106
23- ابن درستويه. 108
24- القاضي أبو سعيد (السيرافي) . 109
25- أبو علي الفارسي. 110(7/395)
26- أبو الحسن الرمّاني. 112
27- محمد بن الحسين الفارسي. 113
28- أبو منصور الثعالبي. 114
29- ابن جنّي. 116
30- الواحدي النيسابوري. 117
31- ابن الشجري. 119
32- ابن الخشّاب. 121
33- ملك النحاة [الحسن بن صافي بن عبد الله بن نزار] . 126
34- البحراني. 133
35- ابن الدبّاغ. 142
36- أبو حفص الضرير. 147
37- ابن الأرملة. 149
38- أبو الحرم (مكي بن ريّان الماكسيني) . 150
39- أبو عبد الله الحلّي (عفيف الدين المؤدب) . 154
40- ابن الدهّان (المبارك بن الأزهر) . 156
41- زيد بن الحسين الكندي. 157
42- ابن الشحنة (أبو حفص عمر بن محمد) . 170
43- يحيى بن سعيد بن المبارك. 181
44- ابن يعيش. 182
45- ابن الحاجب. 184
46- ابن عدلان. 186
47- عزّ الدين الإربلي النحوي. 188
48- ابن مالك. 189(7/396)
49- البعلي. 191
50- أحمد بن سباع الفزاري. 192
51- ابن قاضي شهبة. 194
52- الضياء العجمي. 196
53- علي بن داود. 198
علماء النحو في المغرب 207
1- عبد الله القيرواني. 209
2- إبراهيم بن عثمان القيرواني. 209
3- أبو بكر الزبيدي الإشبيلي. 210
4- محمد بن جعفر القزّاز. 212
5- عبد العزيز الأندلسي البلنسي. 214
6- إبراهيم بن محمد بن زكريا الإفليلي. 214
7- أبو العباس المهدوي. 215
8- إسماعيل الأندلسي السرقسطي. 216
9- أبو الحجاج الأعلم [الشنتمري] . 216
10- السّيد البطليوسي. 217
11- محمد بن الحسن الداني الأندلسي. 219
12- عبد الله بن عيسى الأندلسي. 220
13- عيسى بن عبد العزيز الجزولي. 220
14- على بن محمد الشلوبيني. 222
15- أبو القاسم المغربي المرسي. 223
16- يحيى المالقي. 224(7/397)
17- زين الدين المالقي. 225
18- أبو بكر البياسي. 232
19- الصهاجي [عمر بن عبد النور بن ماخوخ] . 233
20- محمد بن عبد الله السّلمي. 235
21- حافي رأسه [محمد بن عبد العزيز الزناتي] . 236
22- علي بن إبراهيم البجلي. 237
23- أبو حيّان الأندلسي. 238
علماء النحو بمصر 273
1- أبو جعفر النحّاس. 275
2- ابن بابشاذ. 276
3- ابن برّي. 277
4- بهاء الدين ابن النحّاس. 278
أرباب المعاني والبيان 283
1- ابن المعتز. 288
2- قدامة بن جعفر. 352
3- الجاحظ [أبو عثمان عمرو بن بحر] . 353
4- ابن سنان الخفاجي. 371
5- عبد القاهر الجرجاني. 381
6- الزمخشري. 383
7- السكّاكي. 385
8- ابن أبي الإصبع. 386(7/398)
فهرس مصادر ومراجع التحقيق
- فوق المصادر: القرآن الكريم
...
- إشارة التعيين في تراجم النحاة واللغويين، عبد الباقي اليماني (- 743 هـ) ، تحقيق الدكتور عبد المجيد دياب، مطبعة شركة الطباعة العربية السعودية، ط 1، الرياض، 1986 م.
- الأعلام، خير الدين الزركلي، ط 1، مطبعة دار العلم للملايين، بيروت 1984 م.
- أعلام في النحو العربي، الدكتور مهدي المخزومي (- 1993 م) ، مطبعة دار الحرية للطباعة، بغداد، 1980 م.
- إنباه الرواة على أنباه النحاة، جمال الدين القفطي (- 624 هـ) ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الكتاب المصري، القاهرة، 1950 م.
- بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة للسيوطي (- 911 هـ) ، تحقيق محمد المصري، مطبعة جامعة دمشق، سوريا، 1972 م.
- البيان والتبين للجاحظ (- 255 هـ) ، تحقيق عبد السلام محمد هارون، ط 2، مطبعة، مكتبة الخانجي بمصر، ومكتبة المثنى ببغداد، 1961 م.
- تاريخ إربل لابن المستوفي (- 637 هـ) ، تحقيق الدكتور سامي خمّاس الصقّار مطبعة دار الرشيد، بغداد، (د. ت) .
- تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (- 462 هـ) ، مطبعة دار الفكر، بيروت، (د. ت) .
- تاريخ العلماء النحويين من البصريين والكوفيين وغيرهم، للقاضي محمد بن مسعر التنوخي (- 442 هـ) ، تحقيق الدكتور عبد الفتاح الحلو، مطبعة إدارة الثقافة والنشر، جامعة محمد بن سعود الإسلامي، المملكة العربية السعودية، 1981 م.(7/399)
- خريدة القصر وجريدة العصر، لعماد الدين الأصبهاني (- 597 هـ) ، تحقيق محمد بهجت الأثري، مطبعة دار الحرية للطباعة، بغداد، 1976 م.
- الددر الكامنة في أعيان المئة الثامنة، لابن حجر العسقلاني (- 852 هـ) ، مطبعة دار الجيل، بيروت (د. ت) .
- ديوان ابن سنان الخفاجي، تحقيق الدكتور عبد الرزاق حسين، ط 1، مطبعة المكتب الإسلامي، بيروت، 1988 م.
- ديوان امرئ القيس، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط 4، مطبعة دار المعارف، القاهرة، (د. ت) .
- ديوان دعبل بن علي الخزاعي، شرحه، حسن محمد، ط 1، دار الكتاب العربي، بيروت، 1994 م.
- ديوان شعر ابن المعتزّ، أبو بكر الصولي، تحقيق، يونس أحمد السامرائي، ط 1، مطبعة عالم الكتب، بيروت، 1997.
- ديوان عنترة ومعلقته، تحقيق، خليل شرف الدين، دار مطبعة الهلال، بيروت، 1997 م.
- ديوان مجنون ليلى، جمع وتحقيق، عبد الستار أحمد فرّاج، مطبعة دار مصر للطباعة، القاهرة، 1979 م.
- ديوان الهذليين، نسخة مصوّرة عن دار الكتب، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، 1965 م.
- سرّ الفصاحة، ابن سنان الخفاجي (- 466 هـ) ، ط 1، مطبعة دار الكتب العلمية، بيروت، 1982 م.
- شذرات الذهب في أخبار من ذهب، ابن العماد (- 1089 هـ) ، تحقيق، عبد القادر الأرناؤوط، ط 1، مطبعة دار ابن كثير، دمشق، 1992 م.
- شرح ديوان جرير، ضبط معانيه وشروحه وأكملها، إيليا الحاوي، دار الكتاب اللبناني، ط 1، بيروت، 1982 م.(7/400)
- صحيح البخاري، ضبطه، د. مصطفى ديب البغا، ط 3، مطبعة دار ابن كثير، دمشق 1987 م.
- طبقات الشافعية، ابن قاضي شهبة (- 851 هـ) ، تصحيح، د. عبد العليم خان، ط 1، مطبعة دار الكتب، بيروت، 1987 م.
- طبقات النحويين واللغويين، للزبيدي (- 379 هـ) ، تحقيق، محمد أبو الفضل إبراهيم، ط 2، مطبعة دار المعارف، مصر، 1984 م.
- العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب، ناصيف اليازجي، المطبعة الأدبية، بيروت، 1305 هـ.
- الفهرست، للنديم (- 380 هـ) ، تحقيق، رضاد تجدّد، (د. ط) ، (د. ت) .
- القاموس المحيط، للفيروز آبادي (- 817 هـ) ، ط 5، مطبعة مؤسسة الرسالة، بيروت، 1996 م.
- قدامة بن جعفر والنقد الأدبي، د. بدوي طبانة، ط 3، المطبعة الفنية الحديثة، القاهرة، 1969 م.
- كشف الظنون، حاجي خليفة (- 1067 هـ) ، مطبعة دار إحياء التراث العربي، لبنان، (د.
ت) .
- مختصر تاريخ دمشق، ابن عساكر (- 711 هـ) ، تحقيق، روحية النحاس وآخرين مطبعة دار الفكر، دمشق 1984 م.
- مروج الذهب، للمسعودي (- 346 هـ) ، تحقيق، محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة المكتبة التجارية، القاهرة، 1965 م.
- معجم الأدباء، لياقوت الحموي (- 626 هـ) ، تحقيق، إحسان عباس، ط 1، الناشر، دار الغرب الإسلامي، 1993 م.
- معجم لسان العرب، لابن منظور (- 711 هـ) ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1997 م.(7/401)
- معجم المؤلفين، رضا كحالة، مكتبة المثنى، بيروت (د. ت) .
- معجم المصطلحات البلاغية، الدكتور أحمد مطلوب، مطبعة المجمع العلمي العراقي، بغداد، 1983 م.
- المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، دار الحديث، القاهرة، 1996 م.
- مفتاح السعادة ومصباح السيادة، طاش كبري زادة (- 968 هـ) ، مطبعة العربي للنشر والتوزيع، القاهرة (د. ت) .
- ميزان الاعتدال في نقد الرجال، للذهبي (- 748 هـ) ، تحقيق، علي محمد البجاوي، ط 1، مطبعة دار المعرفة بيروت، 1963 م.
- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، ابن تغري بردي (874 هـ) ، مطبعة المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، القاهرة، 1963 م.
- نزهة الألبّاء في طبقات الأدباء، أبو البركات ابن الأنباري (- 577 هـ) ، ط 3، تحقيق، الدكتور إبراهيم السامرّائي، مطبعة المنار، بيروت، 1985 م.
- نور القبس المختصر من المقتبس، للمرزباني، اختصار الحافظ اليغموري (- 673 هـ) ، تحقيق، رودلف زلهايم، دار النشر، فرانتس شتاينر، فيسبادن، ألمانيا، 1964 م.
- وفيات الأعيان في أنباء أبناء الزمان، لابن خلكان (- 681 هـ) ، تحقيق، الدكتور إحسان عباس، مطبعة دار الثقافة، بيروت، (د. ت) .(7/402)
[الجزء الثامن]
[طوائف الفقراء الصوفية]
مقدمة المحقق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، حمدا يوافي نعمه، ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، سبحانك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. فلك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.
اللهم صلّ وسلم على سيدنا محمد في الأولين، وصلّ وسلّم على سيدنا محمد في الآخرين، وصلّ وسلم على سيدنا محمد في الملأ الأعلى إلى يوم الدين، وصلّ وسلم على سيدنا محمد حتى ترث الأرض ومن عليها وأنت خير الوارثين.
ورضي الله تعالى عن صحابة رسول الله أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فبين أيدينا اليوم كتاب عظيم، لمؤلف عظيم، ذو موضوع عظيم «1»
أما كونه الكتاب كتابا عظيما: فلأنه جزء من موسوعة ضمت بين جنباتها وما بين دفات أجزائها موضوعات شتى في مختلف العلوم والفنون، فقد ضمت هذه الموسوعة الشاملة تراجم لأكثر علماء هذه الأمة على مرّ سبعمائة سنة أو يزيد، فضلا عن التعريف بأماكن كثير(8/5)
من البلاد والمسالك والممالك، وتاريخ الأمم، وحضارات الدول، وما حلّ بها، وتاريخ بنائها، والأحداث التي عصفت بها، ثم تراجم عظماء من أبنائها سواء كانوا علماء، أو قرّاء، أو فقهاء، أو محدّثين، أو فلاسفة وحكماء، أو أطباء، أو مؤرخين، أو شعراء، أو كتاب إنشاء، أو ساسة وخلفاء، سواء كان ذلك في شرق الأرض أو غربها، جمع ابن فضل الله- رحمه الله تعالى مؤلف هذه المعلمة- ما وصلت إليه يده من سير أولئك الرجال، وتصرّف بنصوصها على طريقته، حتى قدم لنا هذه الموسوعة الشاملة الكاملة في مختلف العلوم والفنون لتكون أول موسوعة تاريخية جغرافية علمية شاملة من حيث تنوع موضوعاتها، وتشعّب عناوينها وتفريعاتها، حتى إن الإنسان ليعجب وهو يتناول تلك الموسوعة: كم أمضى صاحبها في تصنيفها من وقت؟، لا سيما وأنه قد كان من أرباب المناصب وكتّاب الدواوين- دواوين الإنشاء- في زمانه. لنلمس سعة اطلاعه، وعظم تجربته، وخبرته في كافة المواضيع المطروقة في هذه المعلمة التاريخية الجغرافية الأدبية الشعرية العلمية. وستجد- يا أخي القارئ الكريم- صدق ذلك أثناء تصفحك لأجزاء هذه الموسوعة بعد الانتهاء منها إن شاء الله تعالى في المستقبل القريب.
وأما عظمة هذا الكتاب من حيث مؤلفه: فلأن مؤلفه العالم الأديب المدقق والمحقق الأريب أحمد بن يحيى بن فضل الله القرشي العدوي العمري، شهاب الدين، المؤرّخ الحجّة في معرفة المسالك والممالك، وخطوط الأقاليم والبلدان، وإمام الترسّل والإنشاء، والعارف بأخبار رجال عصره وتراجمهم، وكان غزير المعرفة بالتاريخ ولا سيما تاريخ ملوك المغول من عهد جنكيز خان إلى عصره. وقد ولد رحمه الله تعالى سنة 700 هجرية، وتوفي في دمشق سنة 749 هجرية.
وتظهر لنا عظمة هذا الرجل إذا علمنا قصر عمره وما ترك من آثار جليلة لا زالت المكتبة العربية الإسلامية تفتخر بها، ولا زال كثير منها مخطوطا ومن هذه المخطوطات هذه الموسوعة الجليلة الموسومة ب:" مسالك الأبصار في ممالك الأمصار" والتي بلغ مجموع مجلداتها سبعة(8/6)
وعشرين مجلدا ضخما، قال عنها ابن شاكر الكتبي في فوات الوفيات:" كتاب حافل ما أعلم أن لأحد مثله". وللأسف الشديد أن هذه الموسوعة ما زالت مخطوطة في خزائن الكتب إلى أيام الناس هذه، حتى وفق الله العلامة الدكتور فؤاد سيزكين الذي نشط في نشر مصورات نفائس مخطوطاتنا العربية والإسلامية وذلك ضمن إطار معهد فرانكفورت- ألمانيا- ومن هذه النفائس مصورة مسالك الأبصار والتي اعتمدناها في هذا التحقيق فنفض عنها غبار السنين وقدّمها هدية للمثقف العربي، بعد أن كانت ممزقة الأشلاء يأتي كل من هب ودب ليستلّ منها بحثا لينال به رسالة علمية أكاديمية سواء رسالة ما جستير أو غير ذلك.
ثم وفق الله سبحانه وتعالى المجمع الثقافي ليأخذ على عاتقه إخراج هذه المخطوطة العظيمة إلى النور، أداء للأمانة التي حملها منذ أن تولى طباعة كتب تراث هذه الأمة المجيدة. ولا شك أن في طبع هذه الموسوعة إضافة إلى رصيده الكبير في إخراج تراث الأمة على خير وجه ممكن، ينال به الأجر والمثوبة من الله، والذكر الحسن في دنيا الناس.
ومن مصنفات عالمنا الجليل ابن فضل الله العمري:" مختصر قلائد العقيان"، و" الشتويات"، عبارة عن مجموع رسائل، و" النبذة الكافية في معرفة الكتابة والقافية"، و" ممالك عبّاد الصليب"، و" الدائرة بين مكة والبلاد"، و" التعريف بالمصطلح الشريف"، وهو في مراسم الملك وما يتعلق به. ومن مؤلفاته أيضا:" فواضل السمر في فضائل آل عمر" وهو في أربع مجلّدات، و" نفحة الروض" في الأدب، و" دمعة الباكي" في الأدب، و" صبابة المشتاق" في المدائح النبوية، في أربع مجلدات، وله شعر في منتهى الرقة.
وأما عظمة موضوع هذا الجزء: فلأنه تناول في ثناياه تراجم لأشهر أولياء هذه الأمة المباركة، بدءا من عصر التابعين إلى زمن المصنف- رحمه الله-، حيث ضم ترجمة لما يزيد عن مائة عالم عارف بالله تعالى، ذكر في ترجمتهم ما كانت عليه أحوالهم رضي الله(8/7)
عنهم، وبعضا من أقوالهم، مما زاد الكتاب نورا على نور، فكان هذا الجزء كتاب علم لمن يريد العلم، وكتاب تصوف لمن أراد التصوف والتعرف على سير الرجال الصالحين العظماء من هذه الأمة المباركة، ففيه كثير من رجال" الرسالة القشيرية"، إن لم يكونوا كلهم، وكذلك ضمّ الكثير من رجال" طبقات الأولياء" لابن الملقن، وبعضا من تراجم رجال" طبقات الصوفية" للسلمي، ورجال من رجال" حلية الأولياء" ورجال طبقات الصوفية" للمناوي" وغيرهم كثير.
ولقد كان المصنف- رحمه الله تعالى- أمينا في نقله غاية الأمانة، فإذا ما ذكر عن كتاب نقلا ما قال:" وقال فلان في كتاب كذا"، وينقل النص أحيانا بتمامه، وأحيانا بتصرف بسيط، أو اختصار غير مخلّ، ولعل أمانته تلك ساعدت كثيرا في إخراج الكتاب على أحسن وجه، ضبطا للنصوص، وتوثيقا للمواد.
ولعلّ الفائدة الكبرى من هذا الكتاب أيضا إضافته لتراجم كثير من رجال عصره ممن لم يرد أغلبهم في كتب التراجم، إلا في هذا الكتاب.
وهناك أمر آخر أيضا ينبغي أن نشير إليه لبيان أهمية هذا الكتاب، وهو أن المصنف رحمه الله تعالى أضاف إلى مواد الكتاب مواد ذكر عنها أنها لا توجد في غيره، كما جاء- على سبيل المثال- في ترجمته لعمر بن الفارض- رضي الله عنه- حيث نقل بعضا من قصائده وجد منها في ديوانه، وبعضها الآخر ذكر- هو نفسه- أنها ليست في ديوانه، وقد صدق في ذلك؛ فعند رجوعنا إلى ديوان ابن الفارض- بطبعاته المتعددة- لم نجد له تلك القصائد. فلله در ابن فضل الله على صنيعه ذاك!.
ومن هنا فإنه لا يرد على ابن فضل الله ما يورده البعض من أنه لم يضف في كتابه هذا شيئا جديدا، بل أضاف أشياء لا توجد في غيره من الكتب- وستجد يا أخي القارئ الكريم مصداق قولنا عند اكتمال هذه الموسوعة طبعا وتحقيقا، في كل جزء منه ستجد(8/8)
جديدا لا يوجد في غيره، وأدلّ دليل على ذلك أن كتاب" مسالك الأبصار" هذا يعتبر من المصادر التي رجع إليها كثير من العلماء والمصنفين الموسوعيين أمثال القلقشندي في كتابه" صبح الأعشى" وارجع إن شئت إلى فهرس" صبح الأعشى" للعلامة القلقشندي، وانظر كم استغرقت أرقام الإحالات إلى مسالك الأبصار هذا من صفحات.
ولا بد هنا من كلمة حول الموضوع الذي تناوله هذا الكتاب والذي تضمن ترجمة رجال التصوف وأقوالهم- رضي الله عنهم- ذلك أنه خلف في هذه الأمة خلق أفرطوا في الإساءة إلى أهل تلك الطريقة الشريفة، وتنكبوا عنها، ونفّروا الناس منها، وإن أمة يلعن آخرها أولها إنما هي أمة لن يكتب لها نصر ولا عز ولا تستحق الفخار، وأي مصيبة أدهى من أن تشتم أمة خيارها، وأجلّاءها، ومعقد عزها، وبركة وجودها من سلفها الصالح؟!.
والحقيقة التي لا ريب فيها أن تلك الطريقة الشريفة- أعني التصوف- قد دخلها- كما يدخل غيرها من المدارس- من أساء إليه، وعكّر صفوه، ومن بدّله فإنما إثمه على الذين يبدّلونه، لكن أصل الطريق واضح، عمادها الكتاب والسنة، وأقوال الأئمة العارفين، والمربين الصادقين، من الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان.
فالصوفية الحقيقيون رهبان بالليل، فرسان بالنهار، قدوتهم وأسوتهم العليا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم صحابته الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، فكانوا بهذه القدوة أهل الفداء، والتضحية، والجهاد في سبيل الله تعالى، وإقامة شريعته، وكانوا أهل الرباط في سبيله على مر العصور والأزمان والأجيال، فهم- رضي الله عنهم- أهل العلم والجهاد، منذ القرون الأولى وحتى أيامنا هذه، وما أصحاب الثورات ضد الاستعمار الفرنسي، والانكليزي، والإيطالي وغيره من المستعمرين في بلاد الشرق والغرب، ببعيدين عنا؛ فها هو الشهيد السعيد عمر المختار، والشيخ عبد الكريم الخطابي، والشيخ عبد القادر الجزائري، والشيخ عز الدين القسام، وشيوخ الأزهر في القاهرة، وشيوخ جامع القرويين في(8/9)
فاس، وعلماء جامع الزيتونة في تونس، وشيوخ المسجد الأموي في دمشق، جميعهم- رضي الله عنهم- كانوا من شيوخ التصوف، وسيرتهم وجهادهم معروفان لكل ذي عقل.
كانوا رضي الله عنهم أهل الفتوة والزهد، قادوا حركات التحرر، وخاضوا الحروب ضد الاستعمار، كما خاضها من قبلهم ضد التتار والصليبيين وغيرهم من أعداء الإسلام حتى رفعوا راية الدين عالية في كل أصقاع العالم.
وفي وقتنا الحاضر في البوسنة والهرسك، والشيشان، وقبلها أفغانستان- أيام الاحتلال السوفيتي البائد- ما قاوم الأعداء كما قاومتهم الطرق الصوفية، وأهل الله المجاهدين العارفين المتقين. ولست في هذا مدعيا، وما أتيت بهذا من عندي إنما أذكر ما تناقلته وكالات الأنباء من تقارير إخبارية مصورة، قيّض الله لها من نشرها عبر الفضائيات ليراها كل ذي عين، ويسمع بها كل ذي أذن.
فكانت مدارس السادة الصوفية الصادقين، العاملين بالكتاب والسنة، كانت مدارسهم مدارس تربية روحية، وتربية إيمانية، وتربية أخلاقية، وتربية سياسية، وتربية عسكرية جهادية، خاضوا بمريديهم معارك النضال، ضد الشيطان، وأتباعه من الإنس والجان، ولو لاهم لما وصل الإسلام إلى أقاصي العالم شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، حملوا راية الإسلام بيد، وجاهدوا أعداء الله من الكفرة بيد، حتى دحروا الأعداء، وأشرقت بهم الدنيا، وعاش العالم فترة ذهبية ما عرفها إلّا تحت ظل الإسلام الذي أتوا به مبشرين، وبأخلاقه عاملين، وبدعوته هادين مهتدين. فرحمهم الله وأجزل لهم المثوبة والجزاء.
ثم أتى ناس- في أيامنا- فوقعوا في أعراض أولئك الرجال القادة، والمصلحين السادة، وادعوا شبههم- ولا نسبة في الشبه-، وتقوّلوا على سادة الأمة أقوالا شنيعة، فكانت مقالتهم وبالا عليهم في الدنيا والآخرة.
أما كونها وبالا في الدنيا: فقد حرموا بها خير السلف الصالح وبركتهم، وسرهم،(8/10)
والاقتداء بالمتقين الخاشعين المهتدين المصلحين من عباد الله.
وأما في الآخرة: فاستمع- يا أخي الكريم! - إلى قول الله تعالى في حديثه القدسي الشريف الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (إن الله تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه. وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه: فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني أعطيته، ولئن استعاذني لأعيذنه) رواه البخاريّ.
وقوله سبحانه في هذا الحديث:" آذنته" أي: أعلمته بأني محارب له. وأي حرب أشد من حرب الله تعالى، ومن يطيق حربه سبحانه وتعالى؟. وما أعلن سبحانه وتعالى الحرب إلا على طائفتين:
أما الحرب الأولى ففي قوله تعالى في حق آكلي الربا: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ
سورة البقرة- الآيتان 278- 279".
وأما الحرب الثانية: فكانت على آكلي لحوم الأولياء، الواقعين في أعراضهم، كما جاء في الحديث القدسي السابق. نعوذ بالله من الخذلان، ونسأله السلامة من العصيان، والعفو والعافية إنه كريم منان.
فحذار يا أخي المسلم الحبيب! من الوقوع في أعراض إخوانك من المسلمين عامة، فضلا عن أعراض الصالحين من عباد الله المخلصين، وأوليائه العارفين، فتقع في المحذور، وتندم حين لا ينفع الندم، فإن لحوم هذه الطائفة الشريفة مسمومة- كما قيل- لا ينالهم أحد إلا وأصابه الخزي في الحال والمال والمآل، ويخشى عليه من سوء الخاتمة والعياذ بالله، فسلّم تسلم، وإياك والاعتراض إلا على الكفر البواح، وإذا ورد عليك من كلامهم أو أحوالهم ما(8/11)
أشكل عليك فهمه فأوّله ما أمكنك التأويل، إن كنت من أهل العلم والفهم والتأويل، وإلا فردّه إلى الله ورسوله وإلى أولي العلم من المخلصين والعلماء العاملين، الذين تربوا في مدارس الصالحين، وعاشوا في كنف الأولياء العارفين.
وتمثل قول الشاعر في ذلك؛ حيث قال:
فسلّم لأهل الله في كل مشكل ... لديك، لديهم واضح بالأدلة
نفعنا الله ببركاتهم، وحشرنا معهم وفي زمرتهم مع سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك مما لا نعلمه، وصلى الله على سيدنا محمد كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون، إلى يوم الدين، آمين.
وكتبه/ بسام محمد بارود عفا عنه الكريم المنان الودود
أبو ظبي: 5/شعبان/ 1421 هجرية
الموافق ل 1/11/2000 م(8/12)
صفحة العنوان(8/13)
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد
فأما طوائف الفقراء، خلاصة ذوي القلوب، وخاصة المحبوب، فقد ذكرت منهم من أمكن إلى زماننا، إذ كانت الأرض لا تخلو من قائم لله بحجة، ومهيمن على أتباع شرائع رسله، وقليل ما هم، وتعرفهم بسيماهم، كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه:" أشخاصهم مفقودة، وأمثلتهم في القلوب موجودة". فأما من سلك ضلالا سماه طريقة، وانتحل باطلا دعاه حقيقة، فعلى الدنيا العفاء.
وقد قال رجل القوم الجنيد رحمة الله عليه:" كل حقيقة لا تصدقها الشريعة فهي كفر".
وقد ذكرتهم من أهل الجانبين «1» جريا على العادة، وبالله التوفيق.(8/17)
فمنهم:
[اما من هو من اهل الجانبين]
1- أويس بن عامر القرنيّ «13»
وهو أويس بن عامر بن جزء بن مالك المرادي القرني، خير التابعين.
أشرقت لياليه المقمرات، ورشقت إليه القلوب رشق الحجيج الجمرات، أزهر بين تلك النيرات، وظهر بين تلك النفوس المطهرات، وقد ذهب بعض من تكلم على الحديث؛ أنه المعني بقوله صلى الله عليه وسلم: (إني لأجد ريح الرحمن من قبل اليمن) . «1»
وكان وضحه نورا وإشراقا وظهورا، سمق «2» فما شبه به أحد ولا أقرن وسبق، وسبق سبق الجواد فما لزّ «3» به سابق في قرن، وكان سراء ذلك الصدر، وبدرا في التمام وعلو القدر.
روى مسلم في صحيحه «4» : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن، سألهم: أفيكم أويس؟. [حتى أتى على أويس] «5» ، فقال: أنت أويس بن عامر؟. قال: نعم. قال: من مراد ثم من قرن؟. قال: نعم. قال: فكان بك برص فبرأت منه(8/19)
إلا موضع درهم؟. قال: نعم. قال: لك والدة؟ قال: نعم. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن «1» ، من مراد، ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم. له والدة هو بها برّ. لو أقسم على الله لأبرّه.
فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل". فاستغفر لي. فاستغفر له.
فقال له عمر: أين تريد؟. قال: الكوفة. قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟. قال: أكون في غبراء «2» الناس أحبّ إليّ.
فلما كان في العام المقبل، حجّ رجل من أشرافهم، فوافق عمر، فسأله عن أويس؟. قال:
تركته رثّ البيت «3» ، قليل المتاع. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" يأتي عليكم أويس بن عامر، مع أمداد أهل اليمن، من مراد، ثم من قرن. كان به برص، فبرأ منه، إلا موضع درهم. له والدة هو بها برّ. لو أقسم على الله لأبرّه. فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل". فأتى أويسا؛ فقال: استغفر لي. قال: أنت أحدث عهدا بسفر صالح. فاستغفر لي. قال: استغفر لي. قال: أنت أحدث عهدا بسفر صالح. فاستغفر لي.
قال: لقيت عمر؟. قال: نعم. فاستغفر له. ففطن له الناس، فانطلق على وجهه.
وروى مسلم أيضا «4» : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن خير التابعين رجل يقال له أويس، وله والدة. وكان به بياض؛ فمروه فليستغفر لكم) .
قال ابن الكلبي: قتل أويس مع علي رضي الله عنه يوم صفين «5» ، وكانت صفّين سنة(8/20)
سبع وثلاثين للهجرة. وليس لأويس حديث مسند. «1»
ومنهم:
2- أبو مسلم الخولاني «13»
(الزاهد سيد التابعين بالشام، أتى بصنو المعجزات، وجاء بالكرامات المنجزات، ولم يبال باقتحام الضرام، وفتح فمها للالتهام والالتقام، أوقدت له النار فخاضها مشمرا عن ساقه، ومحملا قرونها مل أوساقه، ويقينه يدفع عنه آلاما، ويقول: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً
«2» .
فاض لأجل موقوت، وخاض النار حتى انطفأت والياقوت ياقوت، فآب أحسن أوبة، وجاء بآية خليلية يضرب لها في أفق نوبة.
اختلف في اسمه على أقوال، أصحها: عبد الله بن ثوب «3» .
قدم من اليمن، وأسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وقدم المدينة في خلافة أبي(8/21)
بكر الصديق رضي الله عنه. وروى عن عمر، ومعاذ، وأبي عبيدة، وأبي ذر، وعبادة بن الصامت. وروى عنه جماعة من التابعين. وحديثه في صحيح مسلم، والسنن الأربعة.
قال إسماعيل بن عياش: حدثنا شرحبيل بن مسلم، قال: أتى أبو مسلم الخولاني المدينة وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستخلف أبو بكر.
ولما تنبّأ الأسود «1» باليمن، بعث إلى أبي مسلم؛ فأتاه بنار عظيمة، ثم إنه ألقى أبا مسلم فيها، فلم تضرّه، فقيل للأسود: إن لم تنف هذا عنك أفسد عليك من اتّبعك. فأمره بالرحيل، فقدم المدينة، فأناخ راحلته ودخل المسجد يصلي، فبصربع عمر رضي الله عنه، فقام إليه، فقال: ممّن الرجل؟.
قال: من اليمن. فقال: ما فعل الذي حرقه الكذّاب بالنار؟. قال: ذاك عبد الله ابن ثوب. قال: فنشدتك بالله أنت هو؟. قال: اللهم نعم. فاعتنقه عمر وبكى، ثم ذهب به حتى أجلسه فيما بينه وبين الصّدّيق، وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمّة محمد صلى الله عليه وسلم من صنع به كما صنع بإبراهيم الخليل. «2»
قال ابن عياش: عن شرحبيل بن مسلم، عن سعيد بن هانيء قال: قال معاوية: إنما المصيبة كل المصيبة بموت أبي مسلم الخولاني، وكريب بن سيف الأنصاري. «3»(8/22)
قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي: هذا حديث حسن الإسناد، يعطي أن أبا مسلم توفي قبل معاوية. «1»
قال المفضّل بن غسان: توفي علقمة وأبو مسلم سنة اثنتين وستين «2» ، ومعاوية توفي في قول أبي معشر وغيره سنة ستين.
ومنهم:
3- رابعة بنت إسماعيل العدويّة «13»
مولاة آل عتيك، الصالحة، المشهورة. «3»
كانت آية للمبصر، وغاية لم تقصر، سبقت فحول الرجال، وبسقت عند حلول الآجال، وأغرمت بحب السهر، وملكت نفسها ملك من قهر، فأصبحت لها شكيمتها «4» ،(8/23)
وأصبحت مثل الصباح شيمها، ودامت في أدويتها «1» هائمة، وفوق ألويتها حائمة، إلى أن دعيت فأجابت، وجالت المهامه وجابت، فتمت إرادتها، وختمت بالخير سعادتها، وبّأت الأرض المقدسة مدفنا، وحققت [أن رأي سواها كان يفنى] «2» .
كانت رضي الله عنها من أعيان عصرها، وأخبارها في الصلاح مشهورة، وذكر أبو القاسم القشيري في" الرسالة" «3» أنها كانت تقول في مناجاتها:" إلهي! أتحرق بالنار قلبا يحبك؟ ". فهتف بها مرة هاتف:" ما كنا نفعل هذا، فلا تظنّي بنا ظنّ السوء".
وقال سفيان الثوري رضي الله عنه عندها يوما: وا حزناه!. فقالت: لا تكذب بل قل: وا قلّة حزناه، لو كنت محزونا لم يتهيّأ لك أن تتنفس. «4»
وكانت رضي الله عنها تقول:" ما ظهر من أعمالي فلا أعدّه شيئا".
ومن وصاياها:" اكتموا حسناتكم كما تكتموا سيئاتكم".
وقالت عبدة بنت أبي شوّال «5» - وكانت تخدم رابعة-: كانت رابعة تصلي الليل كلّه، فإذا طلع الفجر هجعت في مصلّاها هجعة خفيفة حتى يسفر الفجر، فكنت أسمعها تقول إذا وثبت من مرقدها ذلك وهي فزعة:" يا نفس كم تنامين؟! يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا لصرخة يوم النشور". وكان هذا دأبها حتى ماتت.
ولما حضرتها الوفاة، دعتني وقالت: يا عبدة! لا تؤذني بموتي أحدا، وكفّنيني في جبتي هذه، وهي جبة من شعر، [كانت تقوم فيها إذا هدأت العيون، قالت: فكفّنّاها في تلك(8/24)
الجبة] «1» ، وفي خمار صوف كانت تلبسه، ثم رأيتها بعد ذلك سنة أو نحوها في منامي عليها حلة إستبرق خضراء، وخمار من سندس أخضر، لم أر شيئا قط أحسن منه، فقلت:
يا رابعة! ما فعلت بالجبة التي كفّنّاك فيها والخمار الصوف؟. قالت: إنه والله! نزع عني وأبدلت به ما ترينه عليّ. فطويت أكفاني وختم عليها، ورفعت في عليّين ليكمل لي بها ثوابها يوم القيامة. فقلت لها: لهذا كنت تعملين أيام الدنيا. فقالت: وما هذا عند ما رأيت من كرامة الله عزّ وجلّ لأوليائه؟. فقلت لها: فما فعلت عبيدة بنت أبي كلاب؟ «2» فقالت:
هيهات، هيهات! سبقتنا والله إلى الدرجات العلا، فقلت: وبم؟ وقد كنت عند الناس، أي أكبر منها؟. قالت: إنها لم تكن تبالي على أي حال أصبحت من الدنيا وأمست، فقلت لها: فما فعل أبو مالك؟. أعني ضيغما. قالت: يزور الله عز وجلّ متى شاء. قلت: فما فعل بشر بن منصور؟. قالت: بخ بخ، أعطي والله فوق ما كان يؤمّل. قلت: فمريني بأمر أتقرّب به إلى الله عز وجلّ، قالت:" عليك بكثرة ذكره، يوشك أن تغتبطي بذلك في قبرك"، رحمها الله تعالى.
وقال بعضهم: كنت أدعو لرابعة العدوية، فرأيتها في المنام تقول: هداياك تأتينا على أطباق من نور، مخمّرة بمناديل من نور. «3»
قال ابن الجوزي في" شذور العقود": توفيت سنة خمس وثلاثين ومائة.
وقال غيره: سنة خمس وثمانين [ومائة] «4» . وقبرها على رأس جبل يسمى" الطور" يطل على القدس، من شرقيه.(8/25)
وأغرب ما في هذا الجبل ما سمعناه بالقدس الشريف في ذي الحجة سنة خمس وأربعين وسبعمائة، إن الناس احتاجوا إلى استسقاء الغيث من الله عزّ وجلّ، قال: فصعد المسلمون واليهود، والنصارى، والسامرة، هذا الجبل، فاستقبل المسلمون الكعبة الحرام، واستقبل اليهود الصخرة المعظّمة، واستقبل النصارى الشرق، واستقبل السامرة جهة نابلس، فصارت كل طائفة إلى ظهور «1» سائر الطوائف، وهذا لا يتفق في مكان آخر. حكى ذلك الحافظ العلّامة أبو سعيد العلائي.
وأورد السهروردي في" عوارف المعارف" لرابعة رحمها الله تعالى:
إني جعلتك في الفؤاد محدّثي ... وأبحت جسمي من أراد جلوسي
فالجسم مني للجليس مؤانس ... وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي
ومنهم:
4- حبيب العجميّ «13»
أتى بخوارق مثل الإعجاز، وتدفق كالسحاب في الإنجاز، وأتى من قاصية بلاد، وجزّ ناصية الليالي والآباد، حتى جال في كل مجال، ووصل إلى حيث حصّل ما حصّل، وأتى من أرض بعيد مداها، بديع هداها، لا تفهم ألسنتها الأعاجم، ولا تفهم الحدّاث عنها إلا التراجم «2» ، فجاد لها مسعى، وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى، فلم يغلق دونه الباب،(8/26)
وكم تعلّق بغباره ذوو الألباب.
روي أنه كان يقول:" كل عمل لا يكون سرّه عندك آثر عندك من علنه فهو رياء".
قال بعضهم: صحبت في طريق الحجّ رجالا منهم حبيب العجمي، فكنت أظنّه غلامهم لقيامه بخدمتهم، فسألتهم عنه؟ فإذا هو سيدهم.
وقال عبد الله القاشاني: بقيت أياما أحدّث نفسي: أي الرجال أفضل درجة؟ - أعني من رجال القوم- فبينا أنا نائم ليلة من الليالي، وإذا أنا أنظر إلى السماء وهي كالصحيفة، وفيها مكتوب بخط من نور، سطر من المشرق إلى المغرب، فقرأته فإذا هو:" حبيب، حبيب، حبيب" مكرّرة ثلاث مرات.
وحكي عنه قال: كان حبيب بين جماعة في يوم شديد الحر في ذروة جبل مقفر، من أرض سجستان، فقالوا: لقد أضرّت بنا هذه الظهيرة، وقد حانت الصلاة، فكيف نقوم بها ونحن نكاد نتساقط؟. قال: فدمعت عين حبيب ثم قال:" اللهم إنهم عبادك يريدون طاعتك، اللهم فاسقهم". قال: فكأنما فتحت أبواب السماء بالمطر، وأتاهم عارض من برد، فابتردوا به وشربوا، وتوضئوا. ثم قاموا فصلّوا، فلما فرغوا أمسكت السماء.
وحكى عنه قال: حججت مرة، فلما كان يوم عرفة، صعدت الجبل حتى كنت بأعلاه، فنظرت بعيني؛ فإذا بالسهل والجبل قد فرشها الحجّاج، وكانت سنة جامعة، فاستكثرت أهل الموقف، فقلت في نفسي:" لعلّ في هؤلاء من لا يغفر له! " فسمعت قائلا يقول بصوت ملأ ما بين الجبلين:" هو أكرم من هذا".
قلت: ويقرب من هذا ما حكاه الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي في ترجمة" سليمان ابن داود المباركي عن التتائي قال:" أفضت من عرفات وقد مضى الناس، فبينما أنا أسير وحدي، إذا أنا برجلين يقول أحدهما لصاحبه: يا حبيب!. فقال الآخر: لبيك!. قال: أترى الذي تحاببنا فيه، يعذّبنا؟. قال: فسمعوا صوتا:" ليس بفاعل، ليس بفاعل".(8/27)
ومنهم:
5- أبو إسحاق إبراهيم بن أدهم بن منصور «13»
من كورة بلخ «1» ، [لات] بعطفيه حلل التقوى الفاخرة، وملك الدنيا فرغب في الآخرة، بلغ ما لا يتوهم، وسبق ولا غرر له وهو ابن أدهم، وكان أي رجل، لم تجرّه الدنيا بحبالها، ولم تغره الدنيا بخيالها، فأعرض عن الأعراض، وبقايا سورها «2» ، وقليل ميسورها، وزهد زهدا صار فيه مثلا يضرب، ورجلا حديثه يستغرب، إلى أن قطع الأجل كما يقطع المسافر المسافة، وحطّ رحله حيث أمن المخافة.
وكان من أبناء الملوك، فخرج يوما متصيّدا، فأثار ثعلبا، وقيل: أرنبا، فهتف به هاتف «3» : يا إبراهيم!، ألهذا خلقت، أم بهذا أمرت؟.
ثم هتف به من" قربوس" «4» سرجه: والله ما لهذا خلقت، ولا بهذا أمرت؟.(8/28)
فنزل عن دابّته، وصادف راعيا لأبيه، فأخذ جبّته، وكانت من صوف، فلبسها، وأعطاه ثيابه، وقماشه، وفرسه.
ثم دخل مكة، وصحب بها سفيان الثوري «1» ، والفضيل بن عياض «2» ، ثم ارتحل إلى الشام، وأقام بها.
وكان يأكل من عمل يده؛ مثل: الحصاد، وعمل البساتين، وغيرهما.
وصادف في بعض البراري رجلا علّمه" اسم الله الأعظم" فدعا به، فرأى الخضر عليه السلام. «3»
وكان- رضي الله عنه- كبير الشان في باب الورع:
يحكى عنه أنه قال:" أطب مطعمك، ولا حرج عليك أن لا تقوم الليل ولا تصوم النهار".(8/29)
وكان من دعائه:" اللهمّ! انقلني من ذلّ معصيتك إلى عز طاعتك".
وروي أنه كان يحفظ كرما؛ فمرّ به جندي، فقال: أعطنا من هذا العنب. فقال: ما أمرني به صاحبه. فأخذ الجندي يضربه بسوطه، فطأطأ رأسه وقال:" اضرب رأسا طالما عصى الله!! ". «1»
وقيل: مرّ إبراهيم بن أدهم بسوق البصرة، فاجتمع إليه الناس، وقالوا: يا أبا إسحاق! إن الله يقول في كتابه: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ
«2» ، ونحن ندعوه فلا يستجيب لنا!.
فقال: يا أهل البصرة! ماتت قلوبكم في عشرة أشياء:
أولها: عرفتم الله ولم تؤدّوا حقه.
والثانية: قرأتم كتاب الله ولم تعلموا به.
والثالثة: ادّعيتم حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركتم سنّته!.
والرابعة: ادّعيتم عداوة الشيطان ووافقتموه!.
والخامسة: قلتم: نحبّ الجنة، وما تعملون لها!.
والسادسة: قلتم: إن الموت حق، ولم تستعدوا له!.
والسابعة: قلتم: نخاف النار [ووهنتم] أنفسكم!.
والثامنة: اشتغلتم بعيوب إخوانكم ونبذتم عيوبكم!.
والتاسعة: أكلتم نعمة ربكم ولم تشكروها!.
والعاشرة: دفنتم موتاكم ولم تعتبروا بهم!.(8/30)
وقال إبراهيم بن بشار «1» : سألت إبراهيم بن أدهم عن العبادة؟ فقال:" رأس العبادة التفكر، والصمت، إلا عن ذكر الله تعالى".
وقد بلغني إنه قيل للقمان: ما بلغ من حكمتك؟ فقال: لا أسأل عما قد كفيت، ولا أتكلّف ما لا يعنيني.
ثم قال: يا ابن بشار! إنما ينبغي للعبد أن يصمت أو يتكلّم بما ينتفع به أو ينفع به من موعظة، أو تنبيه، أو تخويف، أو تحذير.
يا ابن بشار! مثّل لبصر قلبك حضور ملك الموت- عليه السلام- لقبض روحك، فانظر كيف تكون؟.
ومثّل هول المطلع، ومساءلة منكر ونكير. فانظر كيف تكون؟.
ومثّل القيامة وأهوالها، وأفزاعها، والعرض، والحساب، والوقوف، فانظر كيف تكون؟.
ثم صرخ صرخة، ووقع مغشيّا عليه.
وكتب عمر بن منهال القرشي إلى إبراهيم بن أدهم، وهو بالرملة: أن عظني موعظة أحفظها عنك. فكتب إليه:
" أما بعد ... فإن الحزن على الدنيا طويل، والموت من الإنسان قريب، وللنقص منه في كل وقت نصيب، وللبلاء في جسمه دبيب، فبادر بالعمل قبل أن ينادى بالرحيل، واجتهد في العمل بدار الممر قبل الانتقال إلى دار المقر".
وقال أحمد بن الفضل العكي: سمعت أبي يقول: مرّ إبراهيم بن أدهم بقيسارية «2» ، وقد(8/31)
تعجّل دينارا من نظارة كرم، فسمع صوت امرأة تصيح، فقال: ما لهذه؟. قالوا: تلد. قال:
وأي شيء نعمل لها عند ولادتها؟. قالوا: نشتري لها الدقيق، والزيت، والعسل، والسمن.
فصرف ديناره، واشترى زنبيلا «1» ، وملأه من هذه الأخبية، ثم حمله على رقبته إلى بابها، وقال: خذوا!. فنظروا ... وإذا هم أفقر بيت من أهل قيسارية، وأعبده لله تعالى!!.
وقال بقية بن الوليد «2» : سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: تعلّمت المعرفة من راهب يقال له: سمعان. دخلت عليه في صومعته، فقلت له: يا سمعان! منذ كم أنت ها هنا؟. فقال:
منذ سبعين سنة!، فقال: يا حنيفي! وما دعاك إلى هذا؟. فقلت: أحببت أن أعلم. ثم قلت له: ما الذي تأكل؟. قال: في كل ليلة حمّصة!. قلت: فما الذي يهيج قلبك حتى يكفيك الحمّصة؟. فقال: ترى الدير الذي بحذائك؟. قلت: نعم. قال: إنهم يأتوني في كل سنة يوما واحدا؛ فيزيّنون صومعتي، ويطوفون حولها، ويعظّموني بذلك، فكلّما تثاقلت نفسي عن العبادة، ذكرت تلك الساعة، فأنا أحتمل جهد سنة لعزّ ساعة، فاحتمل أنت يا حنيفي جهد ساعة لعزّ الأبد. فوقعت المعرفة في قلبي. ثم قال لي: حسبك أو أزيدك؟. قلت: زدني.
فقال: انزل عن الصومعة، فنزلت، فأدلى إلي ركوة فيها عشرون حمصة، وقال لي:
ادخل الدير، فقد رأوا ما أدليت لك، فلما دخلت الدير، اجتمع النصارى حولي، فقالوا: يا حنيفي! ما الذي أدلى لك الشيخ؟. قلت: من قوته. قالوا: وما الذي تصنع به؟. نحن أحقّ به، فبعناه. قلت: بعشرين دينارا؛ فاشتروه، ثم رجعت إلى الشيخ، فقال: يا حنيفي! لو التمست منهم عشرين ألف دينار لأعطوك!. ثم قال: هذا عزّ من لا تعبده، فكيف عزّ من عبده؟. يا حنيفي! أقبل على ربك، ودع المجيء والذهاب.(8/32)
وقال إبراهيم بن أدهم: مررت براهب في صومعته، والصومعة على عمود، والعمود على قلّة «1» جبل، كلما عصفت الريح تمايلت الصومعة. فقلت: يا راهب! فلم يجبني. ثم ناديته ثانيا، فلم يجبني. فقلت في الثالثة: بالذي حبسك في صومعتك إلا أجبتني.
فأخرج رأسه من صومعته، فقال: سمّيتني باسم لم أكن له بأهل!، قلت لي: يا راهب!، ولست براهب، إنما الراهب من رهب ربه عزّ وجلّ. قلت: فما أنت؟. قال: سجنت سبعا من السباع. قلت: ما هو؟. قال: لساني سبع ضار، إن أنا أرسلته مزّق الناس.
يا حنيفي! إن لله عبادا سلكوا خلال دار الظالمين، واستوحشوا من مؤانسة الجاهلين، وشابوا ثمرة العلم بنور الإخلاص، هم- والله- عباد كحّلوا أبصارهم بسهر الليل، فلو رأيتهم في ليلهم، قد نامت عيون الخلق وهم قيام على أطرافهم، يناجون من لا تأخذه سنة ولا نوم.
يا حنيفي!، عليك بطريقهم. قلت: فعلى الإسلام أنت؟. قال: ما أعرف غير الإسلام دينا، ولكن عهد إلينا المسيح عليه السلام، ووصف لنا آخر زمانكم، فخليت الدنيا، وإن دينكم لجديد، وقد خلق.
وقال إبراهيم: رأيت في المنام كأن جبريل- عليه السلام- نزل إلى الأرض، فقلت له:
لم نزلت؟. قال: لأكتب المحبين. فقلت: مثل من؟. فقال: مثل مالك بن دينار، وثابت البناني، وأيوب السختياني، وعدّ جماعة. فقلت: أنا منهم؟. فقال: لا. فقلت: فإذا كتبتهم، فاكتب تحتهم:" محب المحبين". فقال: قد أمرني الله تعالى أن أكتبك أولهم.
وقال:" نعم القوم السّؤّال «2» ، فإنهم يحملون زادنا إلى الآخرة".
وروي عنه أنه قال:" ما سررت في إسلامي إلا ثلاث مرات:(8/33)
كنت في سفينة وفيها رجل مضحاك، كان يقول: كنا نأخذ العلج في بلاد الترك هكذا!! وكان يأخذ بشعر لحيتي، ويهزّني، فسرّني ذلك، لأنه لم يكن في تلك السفينة أحقر في عينه مني!.
والثانية: كنت عليلا في مسجد، فدخل المؤذّن، فقال: اخرج، فلم أطق، فأخذ برجلي، وجرّني إلى خارج المسجد.
والثالثة: كنت بالشام، وعليّ فرو، فنظرت فيه أميّز بين شعره والقمل لكثرته،- وفي رواية- كنت يوما جاء إنسان وبال عليّ، وجاء آخر وصفعني! ".
وقال أبو عبد الله بن الفرج: اطّلعت على إبراهيم بن أدهم بالشام وهو نائم، وعند رأسه أفعى في فمها باقة نرجس تذبّ عنه حتى انتبه!. «1»
ومنهم:
6- الفضيل بن عياض «13»
أبو علي الخراساني.(8/34)
رجل رأى بعين البصيرة واطّبع، وتمثّل بصفاء السريرة هول المطلع، أسمعه النذير، وأسرعه النفير، وزجره واعظ القرآن فازدجر، وألان قلبه- وكان من حديد أو حجر-، وقد مضت عليه سنون كان سائحا في سنتها «1» طافحا بسمتها، وشبابه مقتبل، وشأنه أنه لغرّة العمر مهتبل، فردّ سيله قبل بلوغ القرآن، وأنام سيفه بعد ما فقد غراره «2» ، وذلك حين آن له المتاب، وسبق له الكتاب، فعمل بعمل أهل الجنة، وأظهر الله له من سرّه ما أجنّه.
وروى أبو القاسم القشيري بسنده قال: كان الفضيل شاطرا «3» يقطع الطريق بين أبيورد «4» وسرخس.
وكان سبب توبته: أنه عشق جارية، فبينا هو يرتقي الجدران إليها، سمع تاليا يتلو: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ
«5» ، فقال: يا رب! قد آن. فرجع، فآواه الليل إلى خربة، فإذا فيها رفقة «6» ، فقال بعضهم: نرتحل، وقال قوم: حتى نصبح، فإن فضيلا على الطريق يقطع علينا. فتاب الفضيل «7» ، وأمّنهم، وجاور الحرم حتى مات.
وقال الفضيل بن عياض:" إذا أحبّ الله عبدا أكثر غمّه «8» ، وإذا أبغض عبدا وسّع عليه دنياهء «9» ".
وقال ابن المبارك: إذا مات الفضيل ارتفع الحزن. «10»(8/35)
وقال الفضيل:" لو أن الدنيا بحذافيرها عرضت عليّ ولا أحاسب بها لكنت أتقذّرها، كما يتقذّر أحدكم الجيفة إذا مرّ بها أن تصيب ثوبه" «1»
وقال:" ترك العمل لأجل الناس هو الرياء «2» ، والعمل لأجل الناس «3» هو الشرك".
وقال أبو علي الرازي: صحبت الفضيل ثلاثين سنة، ما رأيته ضاحكا، ولا مبتسما «4» ، إلا يوم مات ابنه علي، فقلت له في ذلك؟. فقال:" إن الله أحبّ أمرا فأحببت ذلك".
وقال الفضيل:" إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق حماري وخادمي". «5»
حكى في" مناقب الأبرار" «6» عن سفيان بن عيينة- رضي الله عنه قال: قال لي الرشيد: أريد أن ألقى الفضيل بن عياض، لعلّ الله أن يحدث لي عظة أنتفع بها. فقلت له: والله! إنّ ذلك لحبيب إليّ، ولكنه رجل قد أخذ نفسه بخدمة الله تعالى، فما لأحد فيه حظ، وأكره أن تراه متصوفا في بعض حالاته من عبادة ربه- عزّ وجلّ- فتوهم عليه جفاء،(8/36)
وإن كنت والله أعرفه الرجل الكريم العشرة، الحسن الخلق، يوهم من شاهده من لينه أنه داخل في حكم العامة.
فقال لي: ما عزمت على لقائه حتى وطّنت نفسي على احتمال مشاهدتي أخلاقه. ثم قال: ويحك يا سفيان!، إن شرف التقوى شرف لا يزاحم عليه بإمرة ولا خلافة!. فأدّيت ذلك إلى الفضيل، فقال: إنه لحسن العقل، لولا ما ضرب به من فتنة هذه العاجلة!.
ويسوؤني أيضا، فأما ما يسؤوني منه فلم أر مثله يرفل في سوابغ النعم عريانا من الشكر، ثم قطّب بين عينيه، وقال: ما قدر من كان لله عاصيا؟. لا حاجة لي في لقائه.
فلم أزل أرفق به حتى أذن، فرجعت إلى الرشيد فأعلمته، وقلت له: ليس يطمع فيه إلا وقت إفطاره، وكان إفطاره كاختطاف الطائر حبّه.
فركب الرشيد، ولبس مبطنة، وطيلسانا، وغطاء رأسه، ومعه مسرور الخادم، وأنا؛ فدققت الباب؛ فنزل وفتح، ودخل، ودخلت معه، ووقف مسرور على الباب، فسلّم عليه الرشيد قائما، فتشمّ منه رائحة المسك، فقال الفضيل:" اللهمّ! إني أسألك رائحة الخلد التي أعددتها لأوليائك المتقين في جنات النعيم".
ثم تبادرت دموعه على لحيته، فقلت: يا أبا علي! هذا أمير المؤمنين واقف يسلّم عليك، فرفع رأسه، وقال: وإنك لهو يا حسن الوجه؟. ونظر إلى الرشيد وهو يبكي، فقال له: اعلم أن الأحكام قد سلبت فضيلة العدل، وهو في صحيفتك يدرج معك في كفنك ليوم النشور، وقد بدا إليك سرعة نفاذ ما أنت فيه من تقدّمك من آبائك، ثم نهض، وقال:" الله أكبر". فقلت له: يا أمير المؤمنين! أما إذا افتتح الصلاة فليس فيه حيلة.
وانصرفنا. فقال الرشيد وهو خارج: لولا خجلي منك لقبّلت ما بين عينيه، فقلت له: والله لوددت أن فعلت!.(8/37)
ولد الفضيل بسمرقند «1» ، ونشأ بأبيورد، وتوفي بمكة سنة سبع وثمانين ومائة.
ومنهم:
7- داود بن نصير الطّائيّ «13»
وصل إلى الغاية وبلغها، وتجنّب الغواية ومبلغها، تفقّه ثم اعتزل، وتنبّه ثم لم يزل، وقطع مدة البقاء على فرد قدم، وفرّ من الدنيا ولم يداخله ندم، وكان وشبابه غربيب «2» ، وجلبابه ما علق بريح حبيبة ولا حبيب، مجدّ في العلم وطلبه، مجدد بما يعلم دواعي طربه، يسعى إليه ولا يتكبّر، ويرعى ما يرد عليه ويتدبّر، ثم لما اضطلع من ذلك البحر الرواء، انخلع من ذلك الرداء، ولبس رتق الفقراء المبرّأ من الرياء، وطمّ طمعه فانفطم، وأحب الخلوة فكان لا يفارق ظلّ أطم. «3»(8/38)
قال أبو علي الدقاق: كان سبب زهد داود: أنه كان يمرّ ببغداد يوما، فنحّاه «1» المطرّقون «2» بين يدي حميد الطوسي، فالتفت داود، فرأى حميدا، فقال داود: أفّ لدنيا سبقك بها حميد!. فلزم البيت، وأخذ في الجهد والعبادة.
وقال القشيري: سمعت ببغداد بعض الفقراء يقول: إن سبب زهده أنه سمع نائحة تنوح وتقول:
بأي خدّيك تبدّى البلى ... وأي عينيك إذا سالا
وقيل: كان سبب زهده: أنه كان يجالس أبا حنيفة رضي الله عنه، فقال له أبو حنيفة يوما:
يا أبا سليمان! أما الأداة «3» فقد أحكمناها. فقال له داود: فأي شيء بقي؟. فقال: العمل به.
قال داود: فنازعتني نفسي إلى العزلة، فقلت لنفسي: حتى تجالسهم ولا تتكلم في مسألة. قال: فجالستهم سنة لا أتكلم في مسألة، وكانت المسألة تمرّ بي، وأنا إلى الكلام فيها أشدّ نزاعا من العطشان إلى الماء البارد ولا أتكلم. ثم صار أمره إلى ما صار. «4»
وقيل: حجم" جنيد الحجام" داود الطائي، فأعطاه دينارا، فقيل له: هذا إسراف. فقال:
" لا عبادة لمن لا مروءة له." «5»
وكان يقول بالليل:" إلهي! همّك عطّل علي الهموم الدنيوية، وحال بيني وبين الرقاد".
وقالت داية «6» داود الطائي له: أما تشتهي الخبز؟. فقال: بين مضغ الخبز وشرب الفتيت قراءة خمسين آية!.(8/39)
ولما توفي، رآه بعض الصالحين في المنام، وهو يعدو، فقال له: مالك؟. فقال:" الساعة تخلّصت من السجن". فاستيقظ الرجل [من منامه] ، وارتفع الصّياح [يقول الناس:] مات داود الطّائي.
وقال له رجل: أوصني.
فقال له:" عسكر الموت ينتظرونك".
ودخل عليه بعضهم، فرأى جرّة ماء انبسطت عليها الشمس، فقال له: ألا تحوّلها إلى الظلّ؟.
فقال:" حين وضعتها لم يكن شمس، وأنا أستحي أن يراني الله أمشي لما فيه حظّ نفسي «1» ".
ودخل عليه بعضهم، فجعل ينظر إليه، فقال: أما علمت أنهم كانوا يكرهون فضول النظر كما يكرهون فضول الكلام؟.
وقال أبو الربيع الواسطي: قلت لداود الطائي: أوصني. فقال:" صم عن الدنيا، واجعل فطرك الموت، وفرّ من الناس كفرارك من الأسد «2» ".(8/40)
قال ابن خبيق: ورث داود الطائي عشرين دينارا، فأكلها في عشرين سنة. «1»
وقال- رضي الله عنه-:" صاحب أهل التقوى فإنهم أقلّ مؤونة، وأكثر معونة".
وقيل له يوما: لو تنحّيت عن الشمس إلى الظل؟. فقال: هذه خطى لا أدري كيف تكتب؟. «2»
توفي داود الطائي- رضي الله عنه- سنة ستين ومائة. «3»(8/41)
ومنهم:
8- شقيق بن إبراهيم البلخي «13»
من مشايخ خراسان، وقف على الحقيقة، ورتع في حضرة القرب والحديقة، فأغرق في شيمه، وأغدق من شيمه، بعد ما قضى في طلب الدنيا زمانا، وعمره خضر، وعوده نضر، وليل شبابه ما صابح فيه نهار المشيب، وناعم جلبابه ما طاح عنه رداؤه القشيب.
وأول كراماته، وما عرف من مقاماته، ردّ سيل غرامه، وقد تحدّر وأطفأ وقد ضرامه، وقد قيل: إنه عليه لا يقدر، فقدر واحتكم، وكان شقيق النفس وإن لم يكن من حكم.
وهو أول من تكلم في علوم الأحوال بكور خراسان، وله لسان في التوكل. «1»
صحب إبراهيم «2» وأخذ عنه الطريقة، وهو أستاذ حاتم الأصم.
وسبب توبته: أنه كان من أبناء الأغنياء خرج للتجارة إلى أرض الترك، وهو حدث، فدخل(8/42)
بيتا للأصنام، فرأى خادما للأصنام فيه، قد حلق رأسه ولحيته، ولبس ثيابا أرجوانية «1» ، فقال شقيق للخادم: إن لك صانعا، حيا، عالما، قادرا، فاعبده ولا تعبد هذه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع!!.
فقال: إن كان كما تقول، فهو قادر على أن يرزقك ببلدك، فلم تعنّيت إلى ههنا للتجارة؟ «2» فانتبه شقيق، وأخذ في طريق الزهد بعد التوبة.
وقال:" احذر أن لا تهلك بالدّنيا. ولا تهتم! فإن رزقك لا يعطى لأحد سواك".
وقال:" التوكل أن يطمئن قلبك بموعود الله".
وقال:" تعرف تقوى الرجل في ثلاثة أشياء: في أخذه، ومنعه، وكلامه".
وقال:" الفقير هو الذي يخشى الغنى، ويغتنم الفقر".
وقال:" عملت في القرآن عشرين سنة، حتى ميّزت الدنيا من الآخرة، فأصبته في حرفين، وهو قول الله تعالى: وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها
«3» وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى
«4» .
وقال:" الزاهد الذي يقيم زهده بفعله، والمتزهّد الذي يقيم زهده بلسانه".
وقال:" إن حفظ الفقر أن ترى الفقر منّة من الله عليك، حيث لم يضمّنك رزق غيرك، ولم ينقصك مما قسم لك".
وقال:" ليس شيء أحبّ إليّ من الضيف، لأن رزقه ومؤونته على الله، ولي الأجر." «5»(8/43)
وقال حاتم الأصم: كان شقيق البلخي موسرا، وكان يتفتّى «1» ، ويعاشر الفتيان، وكان علي بن عيسى بن ماهان أمير بلخ، وكان يحب كلاب الصيد، ففقد كلبا من كلابه، فسعي برجل أنه عنده، وكان الرجل في جوار شقيق، فطلب الرجل، فهرب.. فدخل دار شقيق مستجيرا، فمضى شقيق إلى الأمير، وقال: خلّوا سبيله، فإن الكلب عندي، أردّه إليكم إلى ثلاثة أيام.
فخلّوا سبيله، وانصرف شقيق مهتمّا لما صنع، فلما كان اليوم الثالث، كان رجل من أصدقاء شقيق غائبا من بلخ، فرجع إليها، فوجد في الطريق كلبا عليه قلادة، فأخذه، وقال: أهديه إلى شقيق، فإنه يشتغل بالتفتّي.
فحمله إليه، فنظر شقيق؛ فإذا هو كلب الأمير!. فسرّ به، وحمله إلى الأمير، وتخلّص من الضمان، فرزقه الله الانتباه، وتاب مما كان فيه، وسلك طريق الزهد.
وقال شقيق: لقيت إبراهيم بن أدهم بمكة في سوق الليل، وهو جالس في ناحية من الطريق يبكي، فعدلت إليه، وسلّمت عليه، وقلت له: أيش هذا البكاء يا أبا إسحاق!؟.
فقال: حين عاودته مرة أو اثنتين، أو ثلاثة، فلما أكثرت عليه قال: يا شقيق! أنا أخبرك [بحديث فلا تحدّث به أو استره علي] .
فقلت: يا أخي! قل ما شئت.
فقال: اشتهت نفسي السكباج «2» منذ ثلاثين سنة، وأنا أمنعها جهدي، فلما كان البارحة، كنت جالسا وقد غلبني النعاس، إذا أنا بفتى شاب، وبيده قدح أخضر يعلو منه بخار، ورائحة سكباج، قال: فاجتمعت بهمتى عنه، فقرب مني، وقال: يا إبراهيم! كل.
فقلت: ما آكل شيئا قد تركته لله تعالى. فقال: وإن أطعمك الله فما تأكل؟. فما كان لي جواب إلا أنني بكيت. فقال لي: كل يرحمك الله. فقال إبراهيم: قد أمرنا أن لا نطرح في(8/44)
وعائنا إلا من حيث نعلم.
فقال: كل عافاك الله! فإنما أعطيت، وقيل لي: يا خضر! اذهب بهذا، وأطعم نفس إبراهيم بن أدهم، فقد رحمها الله من طول صبرها على ما يحملها من حين منعها.
توفي شقيق رحمه الله تعالى سنة أربع وتسعين ومائة. «1»
ومنهم:
9- معروف بن فيروز الكرخي: أبو محفوظ «13»(8/45)