فضل الله العمري القاضي
فضل الله العمري القاضي شهاب الدين أبو العباس أحمد بن يحيى بن فضل الله بن المجلي دعجان بن خلف، يتصل نسبه بعمر بن الخطاب.
ولد بمدينة دمشق في شوال سنة سبع مائة، وسمع بالقاهرة ودمشق من جماعة، وتخرج في الأدب بوالده، وبالشهاب محمود، قرأ العربية أولاً على الشيخ كمال الدين ابن قاضي شهبة، ثم على قاضي القضاة شمس الدين بن مسلم، والفقه على قاضي القضاة شهاب الدين ابن المجد عبد الله، وعلى الشيخ برهان الدين، وقرأ الأحكام الصغرى على الشيخ تقي الدين ابن تيمية، والعروض والأدب على الشيخ شمس الدين الصايغ، وعلاء الدين الوداعي، وقرأ جملة من المعاني والبيان على العلامة شهاب الدين محمود، وقرأ عليه جملة من الدواوين وكتب الأدب، وقرأ بعض شيء من العروض على الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني، والأصول على الشيخ شمس الدين الأصبهاني، وأخذ اللغة عن الشيخ أثير الدين ابن حنان، ورحل إلى بلاد كثيرة طلباً للعلم، فسمع في الحجاز ومصر والإسكندرية وبلاد الشام.
شغل أعمالاً كثيرة وتقلب في وظائف الدولة، فباشر كتابة السير للسلطان الناصر محمد بن قلاوون بالقاهرة، نيابة عن والده محيي الدين الذي ولي كتابة سر دمشق، ثم لما ولي والده كتابة السر بمصر أيضاً، صار هو يقرأ البريد على الملك الناصر محمد بن قلاوون، وينفذ المهمات، واستمر كذلك في ولاية والده الأولى والثانية، ثم إنه فاجأ السلطان بكلام غليظ، فقد كان قوي النفس، وأخلاقه شرسة، فتغير عليه السلطان فأبعده، وصادره وسجنه بالقلعة سنة ثمان وثلاثين وسبع مائة، ثم ولي كتابة السر بدمشق، وعزل ورسم عليه أربعة أشهر، وطلب إلى مصر، فشفع فيه أخوه علاء الدين، فعاد إلى دمشق، واستمر بعيداً عن أعمال الدولة، ولكنه انصرف إلى التأليف والتصنيف حتى توفي يوم عرفة سنة 749 هـ أي التاسع مع ذي الحجة.
آثاره
ترك ابن فضل الله العمري آثاراً متعددة في فنون مختلفة في الفقه والحديث والأدب والتاريخ والحضارة، ومنها: مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، دمعة الباكي، الشتويات، مختصر قلائد العقيان، النبذة الكافية في معرفة الكتابة والقافية وغيرها.(/)
[الجزء الثالث]
مقدمة المحقق
- 1-
أ- المؤلف:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين المبعوث رحمة للعالمين، أنطق العرب لسانا، وأفصحهم بيانا.
مؤلف كتاب «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار» هو أحمد بن يحيى بن فضل الله بن يحيى بن دعجان بن خلف بن نصر بن منصور بن عبد الله بن يحيى بن محمد بن أبي بكر بن عبيد الله بن أبي بكر بن عبد الله بن أبي سلمة بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر العدوي العمري.
وقد ذكره ابن حجر العسقلاني في درره، وابن تغرى بردى في نجومه وابن العماد في شذراته والسيوطي في المحاضرة وحاجي خليفة في كشف الظنون وابن الوردي في تاريخه، ولم يختلفوا حول اسمه ولقبه فهو شهاب الدين أبو العباس وهو القاضي الشافعي والمؤرخ الدمشقي.
- 2- ولد ابن فضل الله العمري في ثالث شوال سنة سبعمائة على حد قول جل المؤرخين باستثناء ابن ناصر الدين في الدّر الوافر والذهبي في تاريخ الإسلام والصافي في المنهل إذ ذكروا مولده في سنة 697 هـ، وكان مولده بدمشق ويوافق 1301 م.
- 3- قرأ ابن فضل الله العمري العربية على يد كمال الدين ابن قاضي شهبة، والفقه على يد ابن الفركاح وابنه برهان الدين وشهاب الدين ابن المجد، وقرأ الأحكام(3/5)
الصغرى على ابن تيمية والأدب على جماعة منهم ابن الصائغ الكبير وابن الزملكاني وأبي حبان وسمع الحديث على جماعة، وأخذ الأصول عن الأصفهاني.
- 4- كان أديبا، وناظما وناثرا ومؤرخا وفقيها، وكان يتوقد ذكاء مع حافظة قوية، وصورة جميلة واقتدار على النظم والنثر، مع سعة الصدر، وحسن الخلق وبشر المحيا.
كان حسن المذاكرة سريع الاستحضار جيد الحفظ فصيح اللسان جميل الأخلاق، يحب العلماء والفقراء.
- 5- عمل مع أبيه في كتابة السر، وكان يقرأ كتب البريد على السلطان ناصر الدين محمد بن قلاوون، وعمل كاتبا للسر في مصر ودمشق حتى تغير عليه السلطان سنة 738 هـ وسجنه بالقلعة لأنه فاجأ السلطان بكلام غليظ لقوة نفسه، ثم أطلق سراحه وولاه كتابة السر في دمشق حتى عزله، وظل بعدها حتى مات بالطاعون.
- 6- مات ابن فضل الله العمري يوم عرفة سنة 749 هـ أي التاسع مع ذي الحجة، وذكر ابن العماد الحنبلي أنه مات بالطاعون، وقال ابن حجر العسقلاني أنه مات بحمى أصابته.
- 7- ترك ابن فضل الله العمري آثارا طيبة في فنون مختلفة في الفقه والحديث والأدب والتاريخ والحضارة، ومنها: مسالك الأبصار في ممالك الأمصار والمؤلف سنة(3/6)
738 هـ، فواضل السمر (فواصل السمر) في فضائل آل عمر في أربعة مجلدات، والدعوة المستجابة، وصبابة المشتاق، ودمعة الباكي، ويقظة الساهي، ونفحة الروض، والتعريف بالمصطلح الشريف، وله ديوان في المدائح النبوية وأظنه صبابة المشتاق.
وله قصائد وأراجيز ومقطعات ودو بيت، وأنشأ كثيرا من التقاليد والمناشير والتواقيع.
وورد أيضا أن له كتابا بعنوان ممالك عبّاد الصليب وهو من الكتب النادرة التي تهتم بغير بلاد المسلمين كما أن له الدرر الفرائد وهو مختصر لقلائد العقبان لابن خاقان.
ب- المخطوط:
- 1- أهم مؤلفات ابن فضل الله العمري مسالك الأبصار في ممالك الأمصار (أخبار الملوك) ، وقد ذكره ابن حجر العسقلاني وابن تغرى بردى إنه في أزيد من عشرين مجلدا، وذكره ابن العماد الحنبلي أنه في سبعة وعشرين مجلدا، وورد بموسوعة العلوم الإسلامية إنه 32 جزءا.
وقسم فؤاد سزكين المخطوط إلى سبعة وعشرين سفرا.
- 2- وضع المؤلف هذا الكتاب سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة وقد ذكر ابن فضل الله هذا صراحة في ص 288 من السفر الثالث من المخطوط فقال: «وفي سنة تأليفي فيها هذا الكتاب وهي سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة» ، وهذا يعني أن المؤلف وضع هذا الكتاب خلال فترة عزله عن العمل في دمشق، وقبل موته بإحدى عشرة سنة.(3/7)
ولا يمكن أن نجزم بأن المؤلف قد خط مخطوطه هذا في سنة واحدة فقط، حيث يبلغ المخطوط إلى سبعة وعشرين جزءا- طبقا لتقسيم سزكين- ولعله يخص بهذا القول السفر الثالث فقط. والذي أنا بصدد تحقيقه.
- 3- السفر الثالث- طبقا لتقسيم سزكين- يتناول الممالك الإسلامية في مملكة الهند وبلاد المغول- مملكة القاآن الكبير، ومملكة إيران، ومملكة الجيل، ومملكة الجبال، ومملكة بلاد الروم، ومملكة مصر والشام والحجاز.
والمخطوط يقع في مائتين وست وثمانين صفحة من القطع المتوسط وعدد أسطر كل صفحة يصل إلى ثلاثة وعشرين سطرا.
- 4- والسفر الثالث من كتاب مسالك الأبصار في ممالك الأمصار منه عدة نسخ في طوبقابو سراي باستانبول بتركيا وأخرى بتونس. وثالثة بدار الكتب المصرية بمصر، وقد اعتمدت في هذا التحقيق على نسختي استانبول وتونس- والأولى هي أوالثانية ب وناسخ النسخة التركية التي اعتمدت عليها هو ناسخ تركي ويدعى أبو الفضل محمد، وسبب اعتقادي أنه تركي الأصل تلك الأخطاء التي وردت في نسخه للمخطوط. والتي لا تصدر إلا من أعجمي ومن أمثلة ذلك:
1- إنه كان يكتب الضاد ظاء مثل مضفور كتبها مظفور وكذلك الظاء ضادا مثل حظائر كتبها حضائر وهذا يرجع إلى أن مخارج نطق الضاد والظاء في التركية واحدة.
2- قلب الهمزة التي على نبرة ياء مثل خزائن وعمائم ونسائم وشمائل ومسائل، فكتبها خزاين وعمايم ونسايم وشمايل ومسائل، وهذا يتوافق مع ما عند(3/8)
الترك.
3- إنّ الناسخ يكتب الكلمات المنتهية بالألف المقصورة (ى) إلى ألف مثل:
أعلى وأقصى وأمسى وأفنى فيكتبها أعلا وأقصا وأمسا وأفنى.
4- استعمال حرف السين مكان الصاد أحيانا مثل: سلقه كتبها صلقه، وهذا لأن السين والصاد في التركية من مخرج واحد.
5- كتابة الهمزة على الواو أو الألف بشكل يخالف المعروف مثل مآذن والمؤدى كان يكتبها مواذن والمآد.
6- كتابة حرف الألف بعد الأفعال المنتهية بالواو في الفعل المضارع مع المفرد الغائب مثل يصفو، ينمو- يعلو يسمو، كان يكتبها يصفوا وينموا ويعلوا ويسموا.
7- كان الناسخ شيعيا حيث إنه كان يضيف «عليه السلام» عقب أي ذكر لأي من أئمة الشيعة، وهذا لا يمكن أن يكون من المؤلف فهو عمري وينتسب إلى الخليفة الراشد عمر بن الخطاب.
- 5- إن التقسيم الذي سلكه فؤاد سزكين في تقسيم الكتاب إلى أسفار، قد جانبه الصواب، حيث أن السفر الثالث- الذي نحن بصدده هو الجزء الثاني من الكتاب، وقد ورد في صفحة 110 من السفر الرابع تبعا لتقسيم سزكين إنه آخر الجزء الثاني من كتاب مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، يتلوه إن شاء الله تعالى في الجزء الثالث، الباب الخامس عشر في ذكر العرب الموحدين في زماننا وأماكنهم.
كما جاء في صفحة 111 من ترقيم سزكين من السفر الرابع عنوان «الثالث من مسالك الأبصار في ممالك الأمصار» .(3/9)
ج- منهج المؤلف في تأليف الكتاب
- 1- لقد سلك المؤلف منهجا فريدا في تأليف هذا السفر من كتابه «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار» حيث اعتمد على أكثر من منهج في التأليف.
أولها: منهج الرواية بالمشاهدة والرؤية وهذا فيما يتعلق باستعراضه لأحداث ووقائع عصره في ممالك مصر والشام والحجاز.
ثانيها: منهج الرواية بالسماع، وهذا قائم على سماع رواية الذين شاهدوا تلك البلاد وأطلعوا على أخبارها من التجار والزوار، وقد ذكر ذلك في أحداث ووقائع ممالك الهند وممالك قانات المغول وممالك بلاد الجيل والجبل وممالك الروم.
ثالثها: منهج النقل عن المتون السابقة، وهذا قليل للغاية، حيث يلجأ أحيانا إلى ذكر أحداث تاريخية قديمة وسابقة لعصره، فيلجأ إلى المؤلفات السابقة مثل تاريخ الطبري وتاريخ دمشق لابن عساكر وجها نگشاي لعلاء الدين عطا ملك جويني وجامع التواريخ لرشيد الدين فضل الله.
- 2- وفي منهجه القائم على المشاهدة والرؤية يتحدث حديث الخبير المتخصص، ولا يذكر مصدر روايته أو مشاهدته باعتباره الشاهد عليها، ولا تفوته شاردة ولا واردة إلا وذكرها مما قد يجهله كثيرون غير مقربين من الحضرة السلطانية، ولذلك وجدناه يطنب في الحديث عن مصر وأحوالها وأحوال سلاطينها إطنابا، ويرسل الحديث إرسالا في كل الجوانب التاريخية والحضارية.
- 3- وفي منهجه القائم على الرواية بالسماع، فقد تحدث عن ممالك الهند قائلا:(3/10)
«كنت أسمع الأخبار الطائحة والكتب المصنفة، ما يملأ العين والسمع، وكنت لا أقف على حقيقة أخبارها، لبعدها منا، وتنائى ديارها عنا، فلما شرعت في تأليفي هذا الكتاب، تتبعت ثقاة الرواة، ووجدت أكثر مما كنت أسمع وأجل مما كنت أظن» .
ويشرح هذا المنهج قائلا: كنت أسأل الرجل عن بلاده، ثم أسأل الآخر والآخر لأقف على الحق، فما اتفقت عليه أقوالهم، وتقاربت فيه أثبته، وما اختلفت فيه أقوالهم أو اضطربت تركته، ثم أنزل الرجل المسؤول مدة أناسيه فيها عما قال، ثم أعيد عليه السؤال عن بعض ما كنت سألت، فإن ثبت على قوله الأول، أثبت مقاله، وإن تزلزل أذهبت في الريح أقواله، كل هذا لأتروى في الرواية، وأتوثق في التصحيح.
وهذا المنهج العلمي الصحيح الذي سلكه ابن فضل الله العمري مع رواته ومصادر أخباره، تؤكد مدى أهمية ما أورده وما أثبته، ولعل وظيفته في البلاط السلطاني قد أتاحت له فرصة مقابلة العديد من الواردين إلى البلاط، ويقول في ذلك: أسأل كل وارد على باب سلطاننا- أعزه الله بنصره- من جميع الآفاق، ووافد استكن تحت جناح لوائه الخفاق، وما أحدث مع رسول يصل من ملوك الأرض في مطارحة حديث ومرواحة قديم وحديث إلا وجريت بذلا ذل السؤال عن بلادهم وأوضاع ملوكها، ووظائف الرعايا في سلوكها وما للجنود بها، وطبقات أرباب الرتب العالية من الأرزاق، ومقدار تفرقة خزانة الإخلاق، وكيف زي كل إناس، وما يمتاز به كل طائفة من اللباس.
- 4- وفي منهجه القائم على النقل من المتون السابقة والمؤلفات والكتب القديمة، فإنه يذكر عادة اسم المؤلف أو اسم الكتاب الذي أخذ عنه، ومن العجب أنه كان(3/11)
يثبت أسماء كتب مكتوبة باللغة الفارسية، ويتحدث عن مؤلفين ألفوا كتبا بالفارسية مثل علاء الدين عطا ملك جويني ورشيد الدين فضل الله، كما اعتمد على مؤرخين عرب كالطبري وابن عساكر والمسعودي.
- 5- والمؤلف في حديثه عن الممالك الإسلامية لا يستعرض أحداثا تاريخية بقدر ما يقدم لنا استعراضا حضاريا وإني لاعد كتابه هذا ضمن المؤلفات التي تؤرخ للحضارة فهو كتاب حضاري، يستعرض الجوانب الحضارية عند الشعوب في الهند والصين وبلاد ما وراء النهر وإيران وتركيا والشام ومصر والحجاز وبلاد أخرى، فهو يؤرخ للحضارة الإسلامية، وهذا النوع من المؤلفات قليل، ورجاله قلائل.
ونطالع في حديثه عن الممالك الإسلامية استعراضه لأوضاع الملوك والوظائف وأرباب الرتب العالية وما لهم من أرزاق، وزي الناس ولباسهم، وطعام الناس ومأكلهم، والميزان والمكيال والعملة ومقدار كل منها، ومقارنتها بالمصري والشامي، واستعراض الجيوش وتكوينها وتسليحها، وعددها وعددها ومخصصات أهلها، وما تنتجه أراضي الممالك من بقلها وفومها وأشجارها، وأنواع المعادن وقيمتها واستعمالها.
ولا يهمل الحديث عن كيفية جلوس السلاطين وأرباب الوظائف وتلقيهم القصص والشكاوى، وكيفية عرضها ووصولها إلى السلطان، وإصدار الفرمانات واليراليغ والأوامر، وختمها بالخاتم السلطاني.
ويتحدث عن القصور والبيوت والخركاوات وما تحتويه من وسائل معيشية، ويستعرض نظام الإدارة وتولية المناصب والوظائف في الممالك الإسلامية المختلفة.
نخلص من هذا أن المؤلف كان يسعى لتأريخ الحضارة الإسلامية في عصره، في الهند وإيران وبلاد الترك والصين والروم ومصر والشام والحجاز، مع عدم إهمال(3/12)
للجانب التاريخي.
د- التأريخ والمؤرخون في عصر المؤلف:
- 1- شهد أواخر القرن السابع الهجري والقرن الثامن الهجري مولد عدد من المؤرخين المعروفين من الفرس والعرب واشتهرت مؤلفاتهم في الأفاق، ومن ثم فإن ظهور ابن فضل الله العمري هو امتداد طبيعي لهذا الفيض من المؤرخين، ولما كان العالم الإسلامي متصلا ومتواصلا، ورحلات الرحالة وزيارات التجار والسفراء، وتنقلات العلماء والأدباء من وطن إلى آخر لا تنقطع، وكان سلاطين هذه العصور يهتمون بطرق التجارة والقوافل والبريد لذا أقاموا عليها العمارات وأنشأوا الرباطات، وأمنوا السالكين في الآفاق، ولذلك كانت أخبار الممالك الإسلامية معروفة ومتداولة، لا تخفى خافية عن جوابي البلاد من الرحالة والمؤرخين.
- 2- ظهر في أواخر القرن السابع الهجري المؤرخ الكبير علاء الدين عطا ملك جويني المتوفى 681 هـ. وكان مقربا من خانات المغول في عهد هولاكو وخلفه، وتولى حكم بغداد، وقد ألف كتابا من أفضل كتب التاريخ في العصر المغولي وهي جهانگشاي «فاتح العالم» وهو في ثلاثة مجلدات ضخمة تناول فيها عادات وتقاليد المغول والقواعد التي سنها جنگيز خان وفتوحات جنكيز وسلطنة اوگتاى وگيوك و چغتاي، كما تناول تاريخ الخوارزمشاهية وأحوال ملوك القراختاي والگورخانية، وتحدث عن منگوقاآن وهولاكو، وتوجه الأخير إلى بغداد للقضاء على الإسماعيلية.
وقد ترجم الجزء الأول منه على يد الاستاذ الدكتور السباعي محمد السباعي،(3/13)
وترجم الكتاب أيضا تحت عنوان تاريخ فاتح العالم جهانگشاي الدكتور محمد التونجي.
- 3- وكتاب نظام التواريخ للقاضي ناصر الدين البيضاوي والذي ألفه سنة 674 هـ من الكتب التاريخية التي تتناول التاريخ العام من عهد آدم إلى أواخر القرن السابع الهجري، ويتناول تاريخ الإسلام والملوك القدامى لإيران وأنبياء بني إسرائيل، وهو كتاب باللغة الفارسية.
- 4- وكتاب جامع التواريخ لرشيد الدين فضل الله الوزير والمؤرخ الكبير في بلاط المغول الإيلخانيين، ألفه بأمر غازان خان وابنه اولجايتو خدابنده سنة 710 هـ، وهو كتاب كبير في ثلاثة مجلدات، الأول عن تاريخ المغول في فصلين والثاني في التاريخ العام في فصلين والثالث في الأقاليم والأمصار.
والكتاب يتضمن وثائق ومستندات وشهادات حقيقية نظرا لأن مؤلفه شاهد على عصره، وهو قريب في منهجه من مسالك الأبصار في ممالك الأمصار.
وهذا الكتاب مؤلف بالفارسية وقد نقله إلى العربية محمد صادق نشأت ومحمد موسى هنداوي وفؤاد عبد المعطي الصياد.
- 5- وكتاب تاريخ بناكتي أو روضة أولى الألباب في تواريخ الأكابر والأنساب تأليف أبي سليمان داوود البناكتي من مؤرخي وشعراء بلاط غازان خان، وقد ألف الكتاب بالفارسية وقدمه إلى السلطان أبي سعيد بهادر في سنة 707 هـ، وقد قسمه المؤلف إلى تسعة أقسام تناول فيها تاريخ الأنبياء والملوك القدامي والرسول(3/14)
الكريم وخلفاءه وسلاطين إيران في عهد بني العباس واليهود والمسيحيين والفرنجة والهنود والصينيين والمغول.
- 6- وفي الثلاثينات من القرن الثامن الهجري ظهر كتاب مؤلفنا ابن فضل الله العمري سنة 738 هـ وفي نفس العام ظهر كتاب تاريخ وصاف أو تجزية الأمصار وتزجية الأعصار لشهاب الدين عبد الله الشيرازي المعروف بوصاف الحضرة وهو باللغة الفارسية في خمسة مجلدات تناول فيها تاريخ المغول وأمراء النواحي والأطراف في عهد أبي سعيد بهادر ويعد متمما لجهانگشاي جويني.
- 7- وظهر تاريخ گزيده لحمد الله المستوفى القزويني وهو تقليد وتلخيص لكتاب جامع التواريخ لرشيد الدين فضل الله، وقد قدمه المؤلف لابن رشيد الدين المسمى بغياث الدين وهو أيضا بالفارسية.
- 8- وكانت رحلة ابن بطوطة المعروفة بتحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار لمحمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم اللواتي الطنجي، من أهم مؤلفات القرن الثامن الهجري وقد كتبت هذه الرحلة سنة 757 هـ أي بعد تأليف مسالك الأبصار في ممالك الأمصار بفترة وجيزة، وقد جاب مؤلفها بلاد الهند والصين وإيران والشام ومصر وبلاد الروم وبلاد العرب، وقد قارنت بين أحداثه وأحداث ابن فضل الله العمري نظرا لقرب زمان التأليف.
- 9- ونشير إلى كتاب مجمع الأنساب لمحمد بن علي بن محمد الشبانكاره الذي(3/15)
وضعه بالفارسية سنة 743 هـ في التاريخ العام باعتباره يدخل ضمن ظاهرة التأليف والتصنيف في التاريخ الإسلامي.
هـ- منهج المحقق في تحقيق المخطوط:
- 1- تحدثت عن منهج المؤلف في التأليف، وكان لا بد لي من ملاحقته فيما ألفه، وأتبعت الخطوات التالية:
1- مراجعة المصادر التي استقى منها المؤلف معلوماته في نقوله عن الآخرين، فقد تحدث عن الطبري وابن عساكر والبلاذري، وذكر رشيد الله بن فضل الله وعطاملك جويني، فعدت إلى هذه المصادر لملاحقة النقول التي نقلها وأثبت ذلك في الحواشي.
2- مراجعة المصادر المماثلة والمعاصرة، فقد ألف وصنف في القرن الثامن الهجري عدة مؤلفات تاريخية وحضارية مماثلة منها ما هو بالعربية كرحلة ابن بطوطة ومنها ما هو بالفارسية مثل تاريخ جهانگشاي وجامع التواريخ.
3- تخريج النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية الشريفة، خاصة أن المؤلف كان يذكر أقوالا مشابهة للآيات القرآنية والأحاديث النبوية دون ذكر كون هذا آية أو حديث نبوي، كما استخرجت النصوص الشعرية التي ذكرها المؤلف والتي نقلها عن الشعراء كالمتنبي وابن عنين وامرئ القيس.
4- مراجعة الألقاب والرتب والاصطلاحات الفارسية الشائعة في عصره واستخراج مدلولاتها من القواميس الفارسية.
5- توضيح الأماكن الجغرافية والتاريخية، وقد قمت بإعداد خرائط توضيحية للمدن والأماكن التي ذكرها المؤلف، وأردفتها في آخر التحقيق.(3/16)
6- نظرا لكثرة أسماء الحكام والملوك لذا أضفت شجرات للأسر الحاكمة التي ورد ذكرها في ثنايا المخطوط مع تصحيح الأسماء والألقاب وذكر السنوات التي أهملها المؤلف تماما.
7- وضعت في آخر التحقيق فهرسا بالأعلام والأماكن الجغرافية والآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأبيات الشعر إكمالا للفائدة.
- 2- إن هذا العمل الحضاري الضخم الذي يتعهده قسم المخطوطات بدار الكتب الوطنية بالمجمع الثقافي بدولة الإمارات العربية المتحدة، ويقوم بتحقيقه وطبعه، أمر يستحق الإشادة، فهذا العمل يخلد اسم دار الكتب الوطنية في أبو ظبي، ويجعلها تقف على قدم واحدة مع المؤسسات العلمية والثقافية في العالم العربي، وتثبت للأجيال القادمة أنها لم تدخر أي جهد في سبيل إظهار حضارتنا العربية والإسلامية الزاهرة.
وأشكر قسم المخطوطات على دوره الفعّال في تنشيط الحركة الثقافية، وبناء الإمارات الحديثة.
رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ.
أبو ظبي 3/1993
أد. أحمد عبد القادر الشاذلي استاذ ورئيس قسم اللغات الشرقية كلية الآداب- جامعة المنوفية(3/17)
النّوع الثّاني في ذكر ممالك الإسلام جملة
ممالك الإسلام واقعة بحمد الله في أحسن المعمور شرقا وغربا وجنوبا وشمالا، لأنها لا تنتهي إلى غاية الحرارة المفرطة ولا إلى غاية البرد المفرط، إلا فيما قل [1] ، ولا يخرج عن حد المستطاب، وسيأتي بيان ذلك في تحديد كل مملكة، فغاية معمور الجنوب مساكن السودان من عبّاد النيران والأصنام، بما تغلغل من جزاير الهند وأطرافه «1» ، والنصارى بأطراف الحبشة، وعبّاد الحيّات [2] ، والهمج في سودان المغرب جنوب غانه.
وغاية معمور الشمال من النصارى والهمج ببلاد الصقلب [3] ، في شماليها أحد قسمي إيران المسمّاة «2» ببلاد القبجاق [4] ، وما سامت ذلك الخط من القسطنطينية، وما وراءها إلى جليقية والأرض الكبيرة وجزاير البحر الرومي [5] .
وغاية معمور الشرق من عباد النيران والأصنام بثالث أقسام توران [6] من بلاد
__________
[1] وردت بالمخطوط في ما قبل.
[2] وردت بالمخطوط وعبّاد بالحيّات.
[3] بلاد الصقلب هي شعوب تسكن بين جبال الآرال والبحر الأدرياتي في أوروبا الشرقية والوسطى، يتكلمون بلغات تنتمي إلى العائلة الهند وأوروبية، ويقسمون عادة إلى ثلاثة أقسام كبرى: صقالبة الغرب وصقالبة الشرق وصقالبة الجنوب وهم السلاف (انظر الموسوعة العربية الميسرة- أشراق محمد شفيق غربال- دار الشعب- وهم جيل حمر الألوان، صهب الشعور يتاخمون بلاد الخزر في أعالي جبال الروم وقيل بين بلاد البلغار وقسطنطينية (مراصد الاطلاع 2/847) فرانكلين 1959 ص 1126) .
[4] بلاد القبجاق هي بلاد القبجاق والقبجق الواقعة ما بين البحر الأسود وبحر خوارزم شمال بلاد الروم، قاعدتها السراي وهي تابعة لأبناء جوجي بن جنكيزخان (انظر الخرائط المرفقة) .
[5] البحر الرومي: يقصد به البحر الأبيض المتوسط.
[6] توران: هي البلاد الواقعة خلف نهر سيحون، وكانت لتوران بن فريدون- طبقا لشاهنامة الفردوسي والروايات التاريخية القديمة- وينسب الأتراك إلى ثور (انظر فرهنگ أدبيات فارسى- زهرا خانلرى كيا- چاپ سوم تونس 1366 ش ص 147) .(3/24)
الصين إلى المحيط، وأمّا الغرب فانتهى فيه الإسلام إلى البحر المحيط [1] وكلاطر [2] في الشرق، والغرب بلاد صالحة وإن لم تكن الغاية، فالغرب إلى منتهى الغاية في ممالك الإسلام، والصين وإن كان خارجا من دعوة الإسلام، فإنه ملك عظيم جليل القدر، ضخم الملك، وهو معظم توران، ولم يزل لملك الترك، وبه تخت [3] فانهم «1» الآن لقانهم [4] من أبناء جنكيز خان [5] ، وسيأتي ذكره عند ذكر أبناء جنكيز خان.
فممالك الإسلام واقعة على ما نذكره؛ فأوّلها الهند والسّند، وهو واقع في ممالك الإسلام بشرق محض آخذا في الجنوب على مسامت الصين، يحدها البحر من جنوبها، وبلاد الكفار من شرقيها، والإسلام في أحد قسمي توران «2» من شمالها، ثم أحد قسمي توران، مما بيد الإسلام، وهي مملكة تركستان [6] وما وراء النهر، وهي واقعة بشرق محضا آخذا إلى الجنوب، يحدها السّند من جنوبها، والصّين من شرقها، وممالك الإسلام وقسمها الثاني، وإيران (المخطوط ص 3) من
__________
[1] البحر المحيط: المقصود به هنا المحيط الهادىء، ويقصد به إجمالا البحر المحيط بالكرة الأرضية وقد ذكره أيضا عند ذكره للمحيط الأطلسي يقول: صاحب مراصد الاطلاع إنه بحر محيط بالأرض من كل جوانبها يتصل به البحران الشرقي والغربي (البغدادي بيروت 1954 ج 1/166) .
[2] كلاطر: هي كانتون، المدينة الواقعة على المحيط الهادي ببلاد الصين وكان العرب قد وصلوا إليها واطلقوا عليها اسمها الحالي.
[3] تخت: كرسي الحكم، مقر جلوس السلاطين، والكلمة بهلوية Taxt وفي الفارسية تخت- واستعملت في العربية في عصور استعلاء الفرس والترك (فرهنگ عميد، حسن عميد، چاپ سوم، تهران 1360 ش جلد اول 548) .
[4] القان: كلمة مغولية وهي في الأصل قاآن وتعني ملك كبير (فرهنگ عميد 2/1561) .
[5] ترد دائما جنكيز خان وصوابها جنكيز خان وسيرد ترجمته فيما بعد.
[6] تركستان: بلاد الترك- سيرد تفاصيل فيما بعد.(3/26)
جنوبها.
ثم القسم الثاني مما بيد الإسلام من مملكة توران، وهي خوارزم [1] وبلاد القبجاق، وهي واقعة في الشمال، آخذة إلى المشرق، يحدها أطراف الصين من شرقها، وبلاد الصقلب وما يليها من شمالها، فأما جنوبها فخراسان [2] وما سامتها «1» ، وغربها الخليج القاطع من بحر الروم على القرم [3] ، وراءها [4] ممالك الإسلام والروم، كلها من ممالك الإسلام، ثم إيران، وهي تلي قسمي توران المذكورين داخله، كالشعبة الفارقة بينهما، وذلك القسمان منشعب «2» عليهما مثل كمّى السراويل على سرجه، يحدها ممالك الإسلام من كل جهة، وفي بعض جنوبها لينتهي إلى البحر الفارسي [5] الآخذ على البصرة وما سامتها، وممالك كيلان [6] واللر [7] والشول [8] وشنكاره «3» [9] والأكراد [10] ، وبلاد أتراك الروم كلها في هذا القسم، خلا أن أتراك الروم وحدهم شمال «4» بلاد القسطنطينية ثم
__________
[1] خوارزم: إقليم في بلاد ما وراء النهر، ومدينة خوارزم، أكبر مدن الأتراك وأعظمها وأجملها وأضخمها (رحلة ابن بطوطة 239) .
[2] خراسان: إقليم بشرقي إيران قاعدته نيسابور وتابع في ذلك الحين لأولاد هولاكو.
[3] القرم: شبه جزيرة بجنوب روسيا 32 ساحل البحر الأسود من الشمال ترتبط باليابس ببرزخ بريكوب (الموسوعة العربية الميسرة 1377) .
[4] وردت بالمخطوط وراءها.
[5] البحر الفارسي: شعبة من بحر الهند الأعظم، وهو فوهة دجلة التي تصب فيه، وتمتد سواحله نحو الجنوب إلى قطر وعمان والشحر- (مراصد الاطلاع 1/166) ويقصد به الخليج العربي الآن.
[6] كيلان: وهي گيلان وجيلان شمال إيران.
[7] اللر واللور واللار: اللور قوم يسكنون اللار وهي منطقة بإقليم فارس ويسمى اللورستان، واللار: جزيرة بين سيران وقيس فيها مغاص اللؤلؤ (مراصد الاطلاع 3/1194) .
[8] الشول: قوم يقطنون إقليم فارس.
[9] وردت بالمخطوط سكاره وهي شنكاره.
[10] الأكراد: شعب يسكن هضبة فسيحة في آسيا الوسطى، وبلادهم موزعة بين تركيا وإيران والعراق وغيرهم.(3/27)
يليها مملكة مصّر والشام والحجاز وتلك عمود الإسلام وفسطاط الدين، يحدها ممالك الإسلام من كل جهاتها الأربع، منتهية في الجنوب إلى اليمن، واليمن والحجاز كلاهما من جزيرة العرب على ما يأتي تبينه، ثم إلى البحر الآخذ على جدة إلى آيله [1] وينتهي في الشمال إلى البحر الرومي، ثم اليمن، وهو جنوب «1» الحجاز في نهاية جزيرة العرب، يحدها من جنوبها البحر الآخذ إلى الهند، ومن شرقها البحر الآخذ إلى جدة، ومن شمالها الحجاز، ومن غربها بحر الحبشة، ثم ممالك الإسلام بالحبشة، فالحبشة «2» متصلة بأطراف الواحات، آخذة إلى الجنوب محيط بها بحر الحبشة من شرقها، وممالك نصارى الحبش من جنوبها، وكفارهم، ثم الصحارى القفار من غربها، وشمالها الواحات، ثم الكانم [2] ، وهو على ضفة النيل على مسامته دنقله [3] ثم يليها من وراء برقة، مملكة إفريقية، يحدها من جنوبها كفار السودان، وبقية حدودها منتهية إلى ممالك الإسلام من «3» شمالها البحر الشامي [4] ثم بر العدوة، يحدها ممالك الإسلام، من جنوبها بلاد البربر ثم ما
__________
[1] إيلة: مدينة على ساحل بحر القلزم مما يلي الشام قيل هي آخر الحجاز وهي الآن إيلات: ثغر شمال خليج العقبة وتسمى إيلة نسبة إلى إيلة ابن مدين، اشتهرت في القدم كان بها قلعة لابن طولون والغوري (مراصد الاطلاع 1/138، الموسوعة العربية الميسرة 291) .
[2] الكانم: من بلاد البربر- أقصى المغرب في بلاد السودان- وقيل: كانم: صنف من السودان.
[3] دنقلة: وهي دمقلة أو دمكلة مدينة كبيرة في بلاد النوبة (مراصد الاطلاع 3/1144) (مراصد الاطلاع 2/534) .
[4] البحر الشامي: هو البحر الرومي أو البحر الأبيض المتوسط.(3/28)
يلي، ومن شمالها بلاد إفريقية، (المخطوط ص 4) ومن غرب «1» البحر المحيط [1] ، ومن شمالها بحر الزقاق [2] إلى البحر الشامي «2» ، ثم بر العدوة، وشرقها القفار، ثم يليها ماء وما معها، جنوبها غانة وبلاد كفار السودان، وغربها المحيط، وشمالها جبال البربر وبر العدوة، وشرقها القفار ثم يليها جزيرة الأندلس، وهي نهاية ممالك الإسلام، ليست بجزيرة، ولكن «3» كالجزيرة، يحيط بها من جانبها الجنوبي البحر الشامي ومن غربها وشمالها البحر المحيط، ويبقى «4» شرقها مكشوفا متصلا بالأرض الكبيرة ذات الألسن الكثيرة، فلو مشى [3] ماش من نهاية غرب الأندلس عند مخرج بحر الزقاق، في الجانب الشمالي إلى ناحية شرقه انتهى «5» إلى الجبل المسمّى بهيكل الزهرة [4] ، وهو آخر حد الأندلس، وفيه الأبواب المفتوحة، وقد تقدم ذكرها.
ثم يمشي الماشي من تلك الأبواب إلى أن يخرج من شرقي هذا الجبل، ويدخل في الأرض الكبيرة، ويمشي فيها إلى حيث شاء من الأرض «6» شمالا وشرقا وجنوبا لا يقطعه بحر، حتى أنه إذا أراد مشى على ساحل البحر الشامي، وما هو متصل به
__________
[1] البحر المحيط يقصد به هنا المحيط الأطلسي (انظر مراصد الاطلاع 1/166) .
[2] الزقاق: بضم أوله وآخره، مجاز البحر بين طنجة مدينة المغرب على البر، والجزيرة الخضراء وهي في جزيرة الأندلس (مراصد الاطلاع 2/668) . وهو الآن مضيق جبل طارق.
[3] وردت بالمخطوط مشا.
[4] هيكل الزهرة أظنه جبال البرانس، والزهراء مدينة صغيرة قرب قرطبة (مراصد الاطلاع 2/677) .(3/29)
حتى ينتهي إلى حجزة، ثم يدور معها «1» عند حجزة ببلاد الشام على شرقه، ثم يدور معه على ساحله الجنوبي حتى يعود إلى نهاية الغرب قبالة المكان الذي بدأ منه عند مخرج الزقاق في الجانب الجنوبي، لا يقطعه دون ذلك قاطع، ولا يمنعه مانع.
واعلم أن الأمر في تحديد الأقاليم العرفية لا يجري في تحديد الدار أو البستان ونحوهما لأن غالب الدور والبساتين تكون قطعا مربعة أو مثلثة أو متساوية الجوانب، وليس الأمر في الأقاليم العرفية كذلك، فإن بعض جوانبها يكون مداخلا لإقليم آخر، وبعضها يكون فيه تقويس، وبعض جوانبها أعرض من بعض، والذي يحدد المكان إنما يحدده بالجهات الأربع، وهي الشرق والغرب والجنوب والشمال، وذلك لا يصفو [1] في الأقاليم العرفية، لما ذكرناه، ولو كانت الأقاليم قطعا مربعة أو متساوية الجوانب لأمكن فيها ذلك، فينبغي أن يعرف العذر في التقصير في تحديدها، لا سيما عند من لم يشاهدها وإنما (المخطوط ص 5) نقلها من الأوراق وأفواه الرجال، فإن عذره في التقصير أوضح، وأيضا فإن بعض الأقاليم يكون على شكل مثلث كجزيرتي الأندلس وصقلية [2] ، وبعضها يكون ذا خمسة أضلاع وأكثر وأقل، فيتعدد ذكر ذلك بجهاته الأربع على الصحة «2» ، ومن هذا نشرع في ذكر الممالك مملكة مملكة، وهذا الباب هو المراد من هذا الكتاب، وبسببه ألف
__________
[1] وردت بالمخطوط لا يصفوا، ويلاحظ وضعه حرف الألف أمام الأفعال المعتلة الآخر بالواو مثل يربو- يرنو- يسمو- ينجو- مع المفرد الغائب وقد حذفتها في الصفحات التالية دون الإشارة إليها.
[2] صقلية: جزيرة، وإقليم متمتع بالحكم الذاتي تتبع إيطاليا عاصمتها بالرمو، من أكبر جزر البحر المتوسط تقع بين بحر إيجه والبحر التريني (الموسوعة العربية الميسرة 1126) وهي من جزائر بحر المغرب مقابلة إفريقية (مراصد الاطلاع 2/847) .(3/30)
ولأجله صنف [1] ، ونحن نأخذ في هذا الباب على التحرير في أكثر ما عرفنا، والتحقيق لأكثر ما لم نعرف «1» بتكرار السؤال من واحد بعد واحد، عما يعلمه من أحوال بلاده وما فيها، وما اشتملت عليه في الغالب نواحيها، وكنت أسأل «2» الرجل عن بلاده ثم أسأل الآخر والآخر لأقف على الحق، فما اتفقت عليه أقوالهم أو تقاربت فيه أثبته، وما اختلفت فيه أقوالهم أو اضطربت [2] تركته، ثم أنزل الرجل المسؤول مدة أناسية فيها عما قال، ثم أعيد عليه السؤال عن بعض ما كنت سألت، فإن ثبت على «3» قوله الأول أثبت مقاله، وإن تزلزل، أذهبت في الريح أقواله، كل هذا ألا تروى [3] في الرواية وأتوثق في التصحيح مع أننا أهل بيت وظيفتهم «4» مجمع وفوده وموضع كل صدور وروده ولم نزل عند ملوك مصر والشام رحم الله من مضى منهم وحفظ من بقي بابهم المفتوح لكل طارق وسحابهم الممنوح به كل جود دافق فإلينا في أبوابهم أول كل وارد إليهم وآخر كل صادر عنهم ومنذ نيطت بي التمايم إلى أن اثبتت على العمائم [4] إلى أن صرت ركن هذا الباب وكن هذا السحاب اسأل كل وارد على باب «5» سلطاننا اعزه الله بنصره من جميع الآفاق
__________
[1] منهج ابن فضل الله العمري في تاريخه، وهو التأليف من المشاهدات والروايات التي سمعها والتصنيف مما قرأه.
[2] وردت بالمخطوط اطربت.
[3] وردت بالمخطوط ألا تروّى.
[4] يذكر الناسخ دائما الكلمات التي بها همزة في الوسط ياء مثل: مسائل عمائم، هيئة، خزائن، دقائق، وظائف يذكرها مسائل، عمايم، هيية، خزاين، دفاين، وظايف، مما يوحي بأن الناسخ ربما كان أعجميا فارسيا أو تركيا.(3/31)
ووافد استكن تحت جناح لوائه الخفاق وما أحدث مع رسول يصل من ملوك الأرض في مطارحة حديث ومراوحة قديم وحديث إلا وجريت بذلا ذل «1» السؤال عن بلادهم وأوضاع ملوكها ووظائف الرعايا في سلوكها وما للجنود بها وطبقات أرباب الرتب العالية من الأرزاق ومقدار تفرقة قرائن الإطلاق وكيف زى كل أناس وما يمتاز به أهل كل طائفة من اللباس على ما يذكر ذلك.
تعالى في مكانه، وبالله استعين، ومنه أسأل التوفيق ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وهذا النوع أربعة عشر بابا:
الباب الأول: في مملكة الهند والسند.
الباب الثاني: في مملكة بيت جنكيزخان:
وفيه أربعة فصول:
الفصل الأول: في الكلام عليهم جمليا.
الفصل الثاني: في مملكة القان الكبير صاحب التخت وهو صاحب الصين والخطا.
الفصل الثالث: في التوارنيين وهم فرقتان: الفرقة الأولى: ما وراء النهر، والفرقة الثانية؛ في خوارزم والقبجاق.
الفصل الرابع: في الإيرانيين.
الباب الثالث: في مملكة الجيل.
وفيه أربعة فصول:(3/32)
الفصل الأول: في بومن.
الفصل الثاني: في توليم.
الفصل الثالث: في كسكر.
الفصل الرابع: في رسفت.
الباب الرابع: (المخطوط ص 7) في مملكة الجبال.
وفيه أربعة فصول:
الفصل الأول: في الأكراد.
الفصل الثاني: في اللّر.
الفصل الثالث: في الشول.
الفصل الرابع: في شنكاره.
الباب الخامس: في مملكة الأتراك بالروم.
وفيه ستة عشر فصلا:
الفصل الأول: في مملكة كرميتسان.
الفصل الثاني: في مملكة طنغزلوا.
الفصل الثالث: في مملكة توازا.
الفصل الرابع: في مملكة عبدلي.
الفصل الخامس: في مملكة كصطمونيه.
الفصل السادس: في مملكة قاويا.
الفصل السابع: في مملكة برسا.(3/33)
الفصل الثامن: في مملكة اكيرا.
الفصل التاسع: في مملكة مرمرا.
الفصل العاشر: في مملكة مغينسا.
الفصل الحادي عشر: في مملكة نيف.
الفصل الثاني عشر: في مملكة بركي.
الفصل الثالث عشر: في مملكة فوكه.
الفصل الرابع عشر: في مملكة أنطاليا.
الفصل الخامس عشر: في مملكة قراصار.
الفصل السادس عشر: في مملكة أزمناك.
(المخطوط ص 8)
الباب السادس: في مملكة مصر والشام والحجاز.
الباب السابع: في مملكة اليمن.
وفيه فصلان:
الفصل الأول: فيما بيد أولاد رسول.
الفصل الثاني: فيما بيد الأشراف.
الباب الثامن: في ممالك المسلمين في الحبشة.
وفيه سبعة فصول:
الفصل الأول: في أوفات.
الفصل الثاني: في دوارو.(3/34)
الفصل الثالث: في اراتتسنى.
الفصل الرابع: في هديه.
الفصل الخامس: في شرخا.
الفصل السادس: في بالي.
الفصل السابع: في داره.
الباب التاسع: في مملكتي مسلمي السودان على ضفة النيل الممتد إلى مصر.
وفيه فصلان:
الفصل الأول: في الكانم.
الفصل الثاني: في النوبة.
الباب العاشر: في مملكة مالي.
الباب الحادي عشر: في مملكة جبال البربر.
(المخطوط ص 9)
الباب الثاني عشر: في مملكة أفريقية.
الباب الثالث عشر: في مملكة بر العدوة.
الباب الرابع عشر: في مملكة الأندلس.(3/35)
الباب الأول في مملكة الهند والسّند(3/37)
(المخطوط ص 9) .
هذه مملكة عظيمة الشأن، لا تقاس في الأرض بمملكة سواها لاتساع أقطارها، وكثرة أموالها وعساكرها، وأبهة سلطانها في ركوبه ونزوله ودست [1] ملكه، وفي صيتها وسمعتها كفاية، ولقد كنت أسمع من الأخبار الطائحة والكتب المصنفة ما يملأ العين والسمع، وكنت لا أقف على حقيقة أخبارها، لبعدها منا، وتنائى ديارها عنا، فلما شرعت في تأليف هذا الكتاب، وتتبعت ثقاة الرواة «1» ، وجدت أكثر مما كنت أسمع، وأجل مما كنت أظن، وحسبك ببلاد في بحرها الدر، وفي برها الذهب، وفي جبالها الياقوت والماس، وفي شعابها العود [2] والكافور [3] ، وفي مدتها أسرة الملوك، ومن وحوشها الفيل والكركدن [4] ، ومن حديدها سيوف الهند، وبها معادن الحديد والزئبق والرصاص، ومن بعض منابتها الزعفران [5] ، وفي بعض أوديتها البلور، خيراتها موفورة «2» ، واسعارها رخية، وعساكرها لا تعد،
__________
[1] دست ملكة: قاعدة ملكة، وكلمة دست فارسية بمعنى قاعدة ومقر (فرهنگ عميد 1/1945 فرهنگ جديد فارسي رازي، محمود سعيدي بور آذينفر- انتشارات خرد ص 332) .
[2] العود: شجر ينبت في الهند، ذو رائحة ذكية- أحسن أنواع البخور منه (فرهنگ عميد 2/1459) .
[3] الكافور نبات يزرع بالهند وإيران، أوراقه بيضاء اللون معطرة (فرهنگ رازي 681/فرهنگ عميد 2/1611- معجم الألفاظ العامية- أنيس فريحة بيروت 1973 ص 148- معجم الألفاظ الفارسية المعربة- آدي شير بيروت 1980 ص 136- الدخيل في لهجة أهل الخليج- أحمد الشاذلي- القاهرة 1992 ص 94) .
[4] الفيل والكركدن: حيوانان مستأنسان- الفيل من بيل بهلوية الأصل (فرهنگ عميد 2/1559) .
[5] الزعفران نبات منه الأصفر والأحمر، تستخدم زهوره في الأطعمة بالإضافة إلى رائحتها الذكية (فرهنگ عميد 2/1107) .(3/39)
وممالكها لا تحد، لأهلها الحكمة ووفور العقل، أملك الأمم لشهواتهم، وأبذلهم للنفوس فيما يظن به الزلفى.
قال محمد بن عبد الرحيم الأقليني الغرناطي [1] في تحفة الألباب [2] :
والملك العظيم والعدل الكبير «1» والنعمة الجزيلة والسياسة الحسنة والرخاء الدائم والأمن الذي لا خوف معه في بلاد الهند والصين، وأهل الهند أعلم الناس بأنواع الحكمة والطب والهندسة والصناعات العجيبة؛ التي لا يقدر على منالها «2» ، وفي جبالهم وجزائرهم ينبت شجر العود والكافور وجميع أنواع الطيب كالقرنفل وجوزبوا [3] والسنبل [4] والدار صيني [5] والقرفة والسليخة [6]
__________
[1] محمد بن عبد الرحيم الإقليني الغرناطي هو محمد بن عبد الرحيم بن سليمان بن ربيع المازني القيسي الأندلسي الغرناطي عالم وأديب وحافظ ورحالة ولد بغرناطة 473 هـ ومات بدمشق 565 هـ (انظر:
الصفدي في الوافي 3/245- الزركلي الأعلام 7/71 المقرئ في نفح الطيب 7/303- معجم المؤلفين لعمر كحالة 10/158) .
[2] تحفة الألباب: وهي رحلة ورد اسمها تحفة الأحباب ونخبة الأعجاب (معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة بيروت 10/158) .
[3] جوزبوا: جوز الطيب، شجر ينمو في الهند، قشرته تسمى بسباسه وجوزبوا هو تمر الشجرة التي تشبه البلوط- والكلمة فارسية من جوز وبو بمعنى رائحة (فرهنگ عميد 1/711) .
[4] السنبل: نبات له أوراق طويلة وورود بلون البنفسج يباع للزينة ويستخدم في أعياد النوروز (فرهنگ عميد 2/1233) .
[5] الدار صيني: نوع من الأفاوية شبيه بالقرنفل، استعمله العرب قديما على أنه البهارات، شجرته بالهند والصين ويسمى دار جين (انظر: الدخيل في لهجة أهل الخليج للمحقق- معجم الألفاظ الدخيلة في اللغة العربية طوبيا العنبسي- القاهرة 64- 1965 ص 19- معجم آدى شير 60- معجم الألفاظ العامية في دولة الإمارات العربية المتحدة فالح حنظل أبو ظبي 977 ص 208) .
[6] السليخة: دهن ثمرة شجرة البان ولحاء شجرة طيبة الرائحة شبيهة بالدار صيني (فرهنگ عميد 2/1223) .(3/40)
والقاقلة [1] والكبابة [2] والبسباسة [3] وأنواع العقاقير (المخطوط ص 10) ، وعندهم غزال المسك وقط الزباد، ويخرج من بلادهم أنواع اليواقيت، وأكثرها من جزيرة سرنديب [4] .
وقد حكى ابن عبد ربه [5] في العقد [6] عن نعيم بن حماد قال: بعث ملك الهند إلى عمر بن عبد العزيز [7] كتابا فيه من ملك الأملاك؛ الذي هو ابن ألف ملك وتخته [8] بيت ألف ملك، وفي مربطه ألف فيل، وله نهران ينبتان العود والأكوة [9] والجوز والكافور؛ الذي يوجد ريحه على اثني عشر ميلا، إلى ملك العرب؛ الذي لا يشرك بالله شيئا، أمّا بعد ... فإني بعثت بهدية وما هي هديّة
__________
[1] القاقلة: شجرة لها زهور بيضاء شبيهة بالصنوبر تنمو بالهند، تستخدم في الطعام شبيه بالهيل (فرهنگ عميد 2/1566- 2/1973) .
[2] الكبابة: شجيرة تنمو في الهند وجاوة وسومطرة ثمارها بلون القهوة وأقل حدة من الفلفل الأسود طعمها حار ومر- تستخدم في الطب (فرهنگ عميد 2/1618) .
[3] البسباسة: لحاء جوز الطيب- يستخدم في الطب (فرهنگ عميد 1/352- 1/711) .
[4] سرنديب: يفتح أوله وثانيه وسكون النون، والدال مهملة مكسورة وياء وباء وهي المنطقة التي هبط عليها آدم (انظر حاشية ابن الأثير 7/258) .
[5] ابن عبد ربه هو أحمد بن محمد بن عبد ربه بن حبيب القرطبي عالم وأديب وشاعر، ولد وتوفي بقرطبة عاش ما بين 246 هـ 328 هـ له عدة مؤلفات (انظر الذهبي: سير النبلاء 10/69) ابن خلكان: وفيات الأعيان 1/39- معجم الأدباء لياقوت 4/211 نفح الطيب للمقرىء 4/217) .
[6] العقد الفريد: أهم مؤلفات ابن عبد ربه، وقد رتبه على عدة فصول تشكل عقدا، وهو كتاب في الأدب (انظر البداية والنهاية لابن كثير 11/193- مصادر الأدب العربي للطاهر مكي القاهرة 1986) .
[7] عمر بن عبد العزيز بن مروان (682- 719 م) أحد خلفاء بني أمية، ولى الخلافة بعهد من الخليفة سليمان بن عبد الملك لم يأخذ من بيت المال شيئا، وأبطل سب علي، واشتهر بالتقوى (الموسوعة 1237) .
[8] التخت: هو العرش، وكرسي الحكم (فرهنگ عميد 1/548) وهو أيضا السرير (انظر الدخيل في لهجة أهل الخليج للمحقق ص 31) .
[9] الألو: فاكهة شبيهة بالطماطم- تستخدم كفاكهة وفي الطب، وهي أنواع، أسود وأصفر (انظر فرهنگ عميد 1/49) .(3/41)
ولكنها «1» تحية، وقد أحببت أن تبعث إليّ رجلا يعلّمني ويفهّمني الإسلام والسّلام، يعني بالهدية الكتاب «2» .
حدثني الشيخ العارف المبارك بقية السلف الكرام مبارك بن محمود الأنبائي من ولد مجدشاه أن حاجب خاصي [1] نفع الله ببركاته، وهو الثقة الثبت، وله الأطلاع على كل ما يحكيه لمكانته ومكانة أسلافه من ملوك هذه البلاد، قال: إن هذه المملكة متسعة غاية الاتساع، يكون طولها ثلاث [2] سنين «3» ، وعرضها «4» ما بين سومنات [3] وسرنديب [4] إلى غزنة وطولها من العرصة المقابلة لعدن إلى سد الإسكندر، عند مخرج البحر الهندي من البحر المحيط [5] ، متصلة المدن ذوات المنابر والأسرة والأعمال والقرى والضياع والرساتيق [6] والأسواق، لا يقطع بينها «5» ولا يفصل بينها خراب.
__________
[1] الحاجب الخاص: وهي وظيفة بالبلاط السلطان.
[2] وردت بالمخطوط ثلث، وكذلك ترد ثلثمائة وثلثين وثلثون ... وقد صححتها بالرسم الحديث ثلاث وثلاثة وثلاثمائة وثلاثين وثلاثون ... الخ.
[3] سومنات: موضع على المحيط الهندي في شبه جزيرة كاثباوار بالكجرات، وصل إليها السلطان محمود الغزنوى وفتحها أوائل القرن الخامس الهجري، كان بهار صنم كبير يتوجه إليه الهندوس (انظر: روضة الصفا في سيرة الأنبياء والملوك والخلفاء لميرخواند ترجمة د. أحمد الشاذلي القاهرة 1988 ص 152- آثار البلاد وأخبار العباد للقزويني 95- 96- ابن الأثير 7/320- طبقات أكبرى لنظام الدين أحمد ترجمة المحقق في رسالة دكتوراه بجامعة القاهرة 1/12- تاريخ گزيدة لحمد الله المستوفى 82) .
[4] سرنديب: سيلان وسيرلانكا الحالية، وهي جزيرة في بحر هركند بأقصى بلاد الهند (مراصد الاطلاع 2/710) .
[5] يقصد بحر العرب المؤدي إلى المحيط الهندي.
[6] الرستانيق جمع مفرده رستاق والرستاق معرب رستا وروستا وتعني القرية والريف وتأتي بالعربية رستاق ورزداق ورسداق، وأصل الكلمة يهلوي من) Rostak انظر: الدخيل في لهجة أهل الخليج 62،-(3/42)
قلت وفيما ذكره من هذه المسافة طولا وعرضا نظرا إذ لا يفي جميع المعمورة بهذه المسافة، اللهم إلا إن كان مراده أن هذه مسافة من يتنقل فيها حتى يحيط بجميعها مكانا فيحتمل على ما فيه.
قال: وفي طاعة هذا السلطان؛ أهل قراجل [1] ، لهم منه هدية وأمان، على قطائع تحمل إليه منهم، يتحصّل منها مال، وهذا جبل قراجل به معادن «1» ذهبا، يحصل منها ما لا يحصى، وجميع هذه البلاد برا وبحرا مجموعة [2] لسلطانها القائم الآن، إلا الجزائر الموغلة «2» في البحر، فأما الساحل فلم يبق به قيد فتر [3] إلا بيده، فتح مغالقه (مخطوط ص 11) ، وملك معاقله، وله الآن السكة [4] والخطبة في جميع هذه البلاد، لا يشاركه فيها مشارك.
قال: ولقد حضرت معه من الفتوحات العظيمة ما أقوله عن المشاهدة والعيان على الجملة لا على التفصيل خوفا من إطالة الشرح، فأول ما فتح مملكة تلنك، وهي واسعة البلاد، كثيرة القرى «3» ، عدة قراها تسعمائة ألف قرية، وتسعمائة قرية، ثم
__________
- القاموس المحيط للفيروزآبادى 3/243، واژهـ هاى فارسي در زبان عربي، محمد علي إمام شوشتري تهران 1346 هـ ش ض 287، فقه اللغة وسر العربية للثعالبي تحقيق سليمان سليم البواب، دمشق 1984 ص 68، الكتاب لسبيويه 4/304، فرهنگ عميد 2/1041، لسان العرب لابن منظور القاهرة دار الشعب 2/1640- 1641) .
[1] أهل قراجل: قراجل جبل كبير بالهند، بينه وبين دهلى مسيرة عشرة أيام، وأهله كفار (رحلة ابن بطوطة، تحقيق د. جمال الدين الرمادي، دار الكتاب اللبناني ص 322) .
[2] وردت بالمخطوط المغلفة.
[3] فتر مقياس يعادل الشبر، وردت شبر في نسخة ب 65.
[4] السكة: ضرب العملة والسكة والخطبة دليلان على سيطرته واستيلائه على البلاد.(3/43)
فتح بلاد جاجنكز، وبها سبعون قرية جليلة كلها بنادر على البحر [1] ، دخلها من الجواهر والفيلة والقماش المنوع والطيب والأفاوية، ثم فتح بلاد لكنوتى [2] وهي كرسي [3] تسعة [4] ملوك، ثم فتح بلاد دواكير، ولها أربع وثمانون قلعة، كلها جليلات المقدار.
قال الشيخ برهان الدين «1» ابن الخلال البزي [5] : وبها ألف ألف قرية ومائتا ألف قرية.
عدنا إلى حديث الشيخ مبارك «2» ، قال الشيخ مبارك: ثم فتح بلاد سمند، وكان بها السلطان بلال الديوا وخمسة ملوك [6] كفار، ثم فتح بلاد المعبر [7] ، وهو إقليم جليل، له تسعون مدينة، بنادر على البحر، يجيء من دخلها الطيب واللانس والقماش المنوع ولطائف الأفاق.
وحدثني الفقيه العلامة سراج الدين أبو الصفاء عمر بن إسحاق بن أحمد
__________
[1] بنادر وردت بالمخطوط بيادر وصوابها بنادر لوقوعها على البحر، والبنادر جمع مفرده بندر والبندر هو الميناء (الدخيل في لهجة أهل الخليج للمحقق 23، فرهنگ عميد 1/377 لسان العرب 1/358، تفسير الألفاظ الدخيلة 13) .
[2] وهي لكهنوتي: إحدى الولايات الهندية الواقعة شرق أيوديا وغرب بهار ذكرها ابن بطوطة لكنوتي (الرحلة 292) وردت في نسخة ب 65 النوتي.
[3] مقر حكم.
[4] وردت بالمخطوط تسع ملوك.
[5] برهان الدين بن الخلال البزي: ورد أكثر من شخص قريب من هذا الاسم إلا أن المعاصر لمؤلفنا هو محمد الخلال المتوفى 735 هـ وهو رجل فاضل من آثاره الجفر الكبير (معجم المؤلفين كحاله 10/16) .
[6] وردت بالمخطوط خمس ملوك في أ 11 وب 65.
[7] بلاد المعير هي أقصى بلاد الهند ناحية سيلان وأظنها المليبار (انظر رحلة ابن بطوطة 399) .(3/44)
الشبلي العوضي من إقليم عوض [1] من الهند، وهو من أعيان الفقهاء؛ الذين يحضرون حضرة السلطان بدهلى [2] : أن أمهات الأقاليم التي في مملكة هذا السلطان ثلاثة وعشرون إقليما وهي: إقليم دهلى، وإقليم الدواكير، وإقليم الملتان [3] وإقليم كهران، وإقليم سامانا [4] ، وإقليم سيوستان، وإقليم وجا، وإقليم هاسى [5] ، وإقليم سرستى، وإقليم المعبر، وإقليم تلنك، وإقليم كجرات، وإقليم بدوان، وإقليم عوض، وإقليم القنوج [6] ، وإقليم لكنوتى، وإقليم بهار، وإقليم كره، وإقليم ملاوه [7] ، وإقليم نهاور، وإقليم كلانور، وإقليم حاجنكز، وإقليم تلنج، وإقليم دور سمند، وهذه الأقاليم «1» تشتمل على ألف مدينة ومائتي مدينة، كلها مدن ذوات بنايات (المخطوط 12) كبار أو صغار، إذ بجميعها الأعمال والقرى العامرة الآهلة، ولا أعرف ما عدد قراها، وإنما أعرف أن إقليم القنوج [8] مائة وعشرون لكا [9] كل لك مائة ألف قرية، فيكون اثني عشر ألف ألف قرية، وإقليم
__________
[1] أظنه أوده التي هي الآن ايوديا وكانت من قبل الله باس ثم الله آباد.
[2] دهلي: مدينة بشمال الهند، اتخذها أسر كثيرة مقرا للحكم بها القلعة الحمراء وقطب منار، تقع على نهر جمنة (الموسوعة العربية المسيرة 800) وهي أربعة مدن هي: دهلي وسيري وتغلق آباد وجهان پناه (رحلة ابن بطوطة 276) .
[3] الملتان من بلاد السند أوردها العماد الحنبلي في تقويم البلدان المولتان وأن أهلها المطان، وذكره ابن حوقل بأنها أكبر من المنصورة (انظر روضة الصفا حاشية ص 176) .
[4] ويقصد ساماته: (انظر طبقات أكبرى لنظام الدين أحمد) .
[5] هاتس: (انظر منتخب التواريخ لعبد القادر بداوني) .
[6] قنوج: (انظر أكبرنامة لابي الفضل بن المبارك) .
[7] مالوه: (انظر تاريخ فرشته لمحمد قاسم فرشته) .
[8] وردت بالمخطوط الفتوح وهو قنوج.
[9] لك: كلمة هندية تعني مائة ألف، ويكتب لاكي ولكى وقد دخل اللفظ الأردية والفارسية والعربية، ويجمع بالعربية الكاك أو لكاك (انظر الدخيل في لهجة أهل الخليج 101- فرهنگ عميد 2/172- 2/1721.(3/45)
تلنك، وهو ستة وثلاثون لكا، فيكون ثلاثة آلاف ألف وستمائة ألف قرية، وإقليم مالوه أكبر من القنوج، ولكني لم «1» أحرّر كم عدده، وأما المعبر فيشتمل على عدة جزائر كبار، كل واحدة منها مملكة جليلة مثل كولم وفتن والسيلان ومليبار.
وقال الشيخ مبارك: وعلى لكنوتي مائتا ألف مركب صغارا خفافا للسّير، إذا رمى الرامي في آخرها سهما «2» [1] وقع في وسطها لسرعة جريانها، هذا غير الكبار، ولا تبلغ بعض هذا العدد، ومنها ما فيه الطواحين والأفران والأسواق «3» ، وربما لا يتعرف بعض سكانه ببعض إلا بعد مدة، لاتساعها وعظمها، وجردت من جغرافيا «4» تحقيقا طولها وهو من الواق واق [2] إلى قبالة عدن، وعرضها من سرنديب إلى بوارو الواقعة غربي قراقرم [3] ، وأقوله بعبارة البسط من هذا وأوضح لمن تأمل لوح الرسم في الجغرافيا الكاملة فنقول طولها من مخرج البحر الهندي من المحيط في نهاية الصين في المشرق دون جزيرة الجوهر والواق واق المائلة إلى الجنوبي آخذا في البحر إلى حيث ينعطف مغربا على جزيرة الموجه أم جزائر الصين مع طول البحر حتى ينتهي إلى فرصة المغرب، ثم يمتد من هناك برا وبحرا
__________
[1] وردت بالمخطوط سهم.
[2] واق الواق: جبال بنواحي الصين.
[3] قراقرم: عاصمة القاآن الكبير للمغول، أنشئت سنة 1235 وبنى اگداي بها أردوباليق واسكنها من الخطا والتركستان والفرس والمستعمرين (انظر: تركستان من الفتح العربي إلى الفتح المغولي، ف، ف، بارتولد ترجمه عن الروسية صلاح الدين عثمان هاشم، الكويت 1981 ص 650- 655) .(3/46)
آخذا في الشمال إلى بوارو غربي قراقرم على حد بلاد كاشغر [1] إلى حد بلاد مكران [2] ممتدا على نهر مكران إلى أن يدخل السّند في حدة قريب كرمان [3] ، ثم ينتهي هناك إقليم الهند في البر «1» وآخره المنصورة [4] ، وتتصل جزائره في البحر إلى قبالة عدن، وأمّا عرضه فمن سرنديب، وما هو في سمتها في الجنوب، إلى بوارو وما هو في سمتها إلى الشمال، وحدود هذه المملكة من الجنوب البحر وما يمتد معه من كورة [5] قراجل ومن الشرق لها ور [6] وكلاور، ومن الشمال بلاد الترك، ومن الغرب سيالكوت «2» [7] والمفازة.
(المخطوط ص 13) ومدينة دهلى [8] هي قاعدة الملك، ثم بعدها قبة الإسلام، وهي مدينة الدواكير، جددها هذا السلطان، وسماها قبة الإسلام «3» ، قال: ودهلى في الإقليم الرابع، قلت: وهكذا قال الملك المؤيد صاحب حماه رحمة الله في تقويم
__________
[1] وردت بالمخطوط كشتغد وهي كاشغر وهي وسط بلاد الترك، وهي مدينة وقرى ورساتيق (مراصد الاطلاع 3/1143) .
[2] مكران، إقليم من الأقاليم الإيرانية المجاورة لباكستان الحالية، ولاية واسعة غربيها كرمان وسجستان شمالها والبحر جنوبيها (مراصد الاطلاع 3/1302) .
[3] كرمان: إقليم إيراني مجاور لمكران، ولاية مشهورة بين فارس ومكران وسجستان وخراسان (مراصد الاطلاع 3/1160- 1161) .
[4] المدينة التي بناها محمد بن القاسم الثقفي فاتح السند سنة 96 هـ وقيل كان اسمها وهفافا، فسميت المنصورة على اسم لما حلها منصور بن جمهور (مراصد الاطلاع 3/1321) .
[5] كورة بمعنى ناحية أو منطقة (فرهنگ عميد 2/1662) .
[6] لهاور وهي لوهور مدينة عظيمة من بلاد الهند (مراصد الاطلاع 3/1212) .
[7] وردت بالمخطوط سايكوت.
[8] وردت بالمخطوط دهلا أ 13.(3/47)
البلدان [1] ، ونقله عمن يوثق به من أهل هذا الشأن.
قال الشيخ مبارك: وأما قبة الإسلام فتكون في الثالث، وفارقتها وما تكاملت، ولي الآن عنها ست سنين «1» ، وما أظنها تكون قد تكملت، لعظم ما حصل الشروع فيه من اتساع خطة المدينة، وعظم البناء، وإن هذا السلطان كان قد قسمها على أن تبنى محلات، لأهل كل طائفة محلة، الجند في محلة، والوزراء والكتاب في محلة، والقضاة والعلماء في محلة، والمشايخ والفقراء في محلة، والتجار والكساب في محلة، وفي كل محلة «2» ما يحتاج إليه من المساجد والمآذن [2] والأسواق والحمامات والطواحين والأفران وأرباب الصنايع من كل نوع حتى الصبّاغ والصباغين «3» ، والدباغين، حتى لا تحتاج أهل محلة إلى أخرى في بيع ولا شراء، ولا أخذ ولا عطاء، لتكون في محلة كأنها مدينة مفردة قائمة بذاتها، غير مفتقرة في شيء إلى سواها، وليس في هذه المملكة خراب، إلا تقدير عشرين يوما مما يلي غزنة [3] لتجاذب صاحب الهند وصاحب تركستان [4] وما وراء النهر [5] بأطراف
__________
[1] تقويم البلدان لعماد الدين إسماعيل بن محمد بن عمر، أبو الفداء متوفى سنة 732 هـ.
[2] وردت بالمخطوط المواذن أ 13، ب 66.
[3] غزنة: مدينة عامرة بأفغانستان الحالية، كانت قاعدة لملك السلطان محمود الغزنوي في النصف الثاني من القرن الرابع وأوائل الخامس الهجريين.
[4] تركستان: اسم جامع لجميع الترك وأول حدهم من جهة المسلمين فاراب، ومدائنهم المشهورة ستة عشر، مدينة (انظر مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع تأليف صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق البغدادي (م 739) تحقيق علي محمد البجاوي ط أولى، القاهرة 54- 1955 ج 1/259- وانظر تركستان، الفتح العربي حتى الغزو المغولي فاسيلي فلاديميروفتش بارتولد نقله عن الروسية صلاح الدين هاشم الكويت 1981 ج 1) .
[5] ما وراء النهر وهي البلاد الواقعة بعد نهر جيحون المعروف بآمودريا وهي ضمن بلاد التركستان وفيها بخارى وسمرقند وخوارزم وفرغانة.(3/48)
المنازعة أو جبال معطلة أو شعراء، مشتبكة، ومتحصلات تلك من نبات العطر والأفاويه والعقاقير الداخلة في أدوية الطب أعوّد نفعا من الغلات المزدرعة [1] بما لا يقاس.
قلت: وقد أوقفني الفاضل نظام الدين يحيى بن الحكيم «1» علي تأليف قديم في البلاد، وذكر فيه أن قرى جميع الملتان مائة ألف قرية وستة عشرون ألف قرية مثبتة في الديوان، وهو ودهلى في الرابع، ومعظم المملكة في الثاني والثالث، وكلها فسيحة، وبلادها صحيحة، إلا مزارع الأرز، فإنها وخيمة، وبقاعها ذميمة.
وحكى في ذلك التأليف أن محمد بن يوسف الثقفي [2] ، أصاب بالسند أربعين بهارا من الذهب، كل بهار ثلاثمائة (المخطوط ص 14) ، وثلاثة وثلاثون منا [3] قال: ومن بلاد غزنة والقندهار آخر حده، وسألت الشيخ مبارك: كيف بر الهند وضواحيه «2» ؟ فقال لي أن به أنهارا ممتدة، تقارب ألف نهر كبارا وصغارا، منها ما، يضاهي «3» النيل عظما، ومنها ما هو دونه، ومنها ما هو دون هذا المقدار، وما هو مثل بقية الأنهار، وعلى ضفاف «4» الأنهار، القرى والمدن، وبه الأشجار الكثيفة، والمروج الفيّح، وهي بلاد معتدلة «5» ، كل أوقاتها ربيع، وتهب بها الأهوية، ويتنسم النسيم «6» اللطيف، وتتوالى بها الأمطار مدة أربعة أشهر وأكثرها
__________
[1] يقصد المزروعة وقد استخدم أزدرع ومزدرع كثيرا.
[2] محمد بن يوسف الثقفي هو محمد بن القاسم الثقفي أول من فتح السند سنة 96 هـ.
[3] المن: نوع من الوزن، يختلف من بلد لآخر وهو يعادل الآن 3 كيلو في إيران و 4 كيلو في الإمارات و 14 رطلا في الكويت (فرهنگ عميد 2/1851، الدخيل في لهجة أهل الخليج 106) .(3/49)
في أخريات الربيع، إلى ما يليه من الصيف، وبها أنواع من الحبوب والحنطة والأرز والشعير والحمص والقدس، والماش [1] واللوبيا والسمسم وأمّا الفول فلا يكاد يوجد فيها.
قلت: أظن عدم وجود «1» الفول بها لأنها بلاد حكماء وعندهم أن الفول يفسد جوهر العقل، ولهذا حرّمته الصابئة [2] ، قال: وبها من الفواكه شيء من التين والعنب والرمان الكثير الحلو والمر والحامض والموز والخوخ والأترج [3] ، والليمون واللبم والنارنج والجميز والتوت الأسود المسمى بالفرصاد والبطيخ الأصفر والأخضر والخيار والقثاء والعجور والتين، والعنب هو أقل ما يوجد من بقية هذه الأنواع، وأمّا السفرجل فيوجد بها ويجلب إليها، وأمّ الكمثرى والتفاح فهما أقل وجدا من السفرجل، وبها فواكه أخر لا تعهد في مصر والشام والعراق وهي العنبا والمهوا واللكح والكريكا وايجلى والفكي والنغزك وغير ذلك من الفواكه الفائقة اللذيذة، فأما النارجيل وهو المسمى بالجوز هندي، (لا يعادله شيء، وهو أخضر مملوء بدهنه، وأما الحمر وهو المسمى بالتمر هندي) [4] فهو شجر بري يلو الجبال، والنارجيل والموز بدهلى أقل مما حولها من بلادها على أنه الموجود الكثير، وأما
__________
[1] الماش: نوع من الحبوب يشبه العدس، يطبخ، أبيض من الداخل وأخضر من الخارج (فرهنگ عميد 2/1737، الدخيل في لهجة أهل الخليج 104) .
[2] الصابئة: فرقة دينية عقائدها خليط بين اليهودية والمسيحية، عدها القرآن الكريم ضمن أهل الكتاب، ومنهم عبدة أصنام في حران (فرهنگ عميد 2/1348) .
[3] أترج: ضرب من الحمضيات بين البرتقال والليمون وهو يسمى ترنج وأترنج وترج وأترج وفي لهجة الخليج ترني (انظر: الدخيل في لهجة أهل الخليج 31- 32/لسان العرب 1/425 معجم الألفاظ الفارسية الدخيلة 34/معجم تيمور الكبير 2/312- 313.
[4] ورد بهامش المخطوط أ 14 العبارة التي بين القوسين وهي مكملة للمتن ووضعتها في موضعها، ومثبتة في ب 67.(3/50)
قصب السكر فإنه بجميع هذه البلاد كثير ممتهن، ومنه نوع أسود جف «1» صلب (المخطوط ص 15) العيدان، وهو أجوده للامتصاص لا للإعتصار، وهو مما لا يوجد في سواها، ويعمل من بقية أنواعه السكر الكثير العظيم الرخيص من السكر النبات والسكر المعتاد، ولكنه لا يجمد بل يكون كالسميد الأبيض، وبها الأرز؛ على ما حدثني الشيخ مبارك بن مجد شاذان؛ على أحد وعشرين نوعا، وعندهم اللفت والجزر والقرع والبادنجان والهليون «2» [1] والزنجبيل، وهم يطبخونه إذا كان أخضر، كما يطبخ الجزر، وله طعم طيب لا يعادله شيء، وبها السلق والبصل والفوم والشمار [2] والصعتر «3» [3] وأنواع الرياحين من الورد والنيلوفر [4] والبنفسج والبان وهو الخلاف، والنرجس، وهو العبهر [5] ، وثامر الحناء «4» ، وهو الفاغية، وكذلك الشيرج [6] ، ومنه وقيدهم [7] ، وأمّا «5» الزيت فلا يأتيهم إلا جلبا، وأما العسل فأكثر من الكثير، وأمّا الشمع فلا يوجد إلا في دور السلطان، ولا يسمح فيه لأحد،
__________
[1] الهليون: نوع من العشب يفسد سم الثعبان ولدغات الهوام (فرهنگ عميد 2/1974، قاموس الفارسية عبد النعيم حسنين بيروت القاهرة 1982 ص 607) .
[2] الفوم: الثوم، والشمار: الشمر.
[3] الصعتر هو الزعتر، وهو نبات صحراوي له أوراق ذات نكهة طيبة، يستخدم كعلاج لأمراض الرئة والمعدة (فرهنگ عميد 2/1206) .
[4] وردت بالمخطوط اللينوفر، والنيلوفر هو عشب ذات ألوان مختلفة يستخدم للزينة من الكلمة البهلوية) NiloPar فرهنگ عميد 2/1933) .
[5] العبهر: هو النرجس والياسمين (فرهنگ عميد 2/1425) .
[6] الشيرج: زيت السمسم معرب شيره الفارسية (الدخيل في لهجة أهل الخليج 77) .
[7] وقيد يعني وقود، وردت وقودهم ب 68.(3/51)
وما لا يحصى من الدواب السائمة من الجواميس والأبقار والأغنام والمعز، ودواجن الطير من الدجاج والحمام البلدي والأوز، وهو أقل أنواعه، فأما الدجاج الهندي فيكاد أن يكون كالأوز في عظم المقدار، وكل هذا يباع بأرخص الأسعار، وأقل الأثمان، وأما السمن واللبن على اختلاف أنواعه فكثير لا يعبأ به ولا له قيمة، ويباع بأسواقها من الأطعمة المنوعة كالشواء والأرز والمطجّن والمقلى والمنوع والحلوى [1] المنوعة [2] على خمسة وستين نوعا، والفقاع والأشربة ما لا يكاد يرى في مدينة سواها، وبها من أصحاب الصنائع للسيوف والقسى والرماح وأنواع الرماح والزردا، والصواغ «1» والزراكش [3] والسراجين وغير ذلك من أرباب كل صنف «2» مما يختص بالرجال والنساء وذوي السيوف والأقلام وعامة الناس ما لا يحصى لهم عدد، وأمّا الجمال فقليلة لا تكون إلا للسلطان ومن عنده من الخانات [4] والأمراء والوزراء وأكابر أرباب الدولة، وأما الخيل فكثيرة وهي نوعان (المخطوط ص 16) : عرّاب [5] وبراذين [6] ، وأكثرها مما لا يحمد فعله، ولهذا
__________
[1] وردت بالمخطوط الحلوا وهو عادة يكتب الألف المقصورة ألفا مثل أحلى، أعلى، أسمى، وقد كتبتها على الرسم المستعمل الآن، وذلك في نسخة أ، ب.
[2] انظر الزردخانة فيما بعد.
[3] الزراكش جمع مفرده زركش وتعني وضع خطوط ذهبية على الثوب ويسمى ذلك تذهيبا والثوب مذهبا وهو من الفعل الفارسي زركشيدن ويعني التذهيب ومنه في العربية مزركش ويزركش وزركشة (انظر الدخيل في لهجة أهل الخليج 66 فرهنگ عميد 2/1104، قاموس الفارسية 320) .
[4] الخانات جمع مفرده خان وهي كلمة تركية الأصل بمعنى رئيس وأمير وتطلق على رؤساء الترك والتاتار (انظر فرهنگ عميد 1/828، تفسير الألفاظ الدخيلة 23/معجم أنيس فريحة 42/معجم آدى شير 58، الدخيل في لهجة أهل الخليج 43) .
[5] العرّاب: الخيول العربية ذات الأصول الكريمة.
[6] براذين جمع مفرده برذون وهو الحصان التاتاري والبغل والحصان غير الأصيل (فرهنگ عميد 1/336) .(3/52)
تجلب إلى الهند من جميع ما جاورها من بلاد الترك، وتقاد إليها العرّاب من البحرين وبلاد اليمن والعراق على أن في دواخل الهند خيلا عرابا كريمة الأحساب، يتغالى في أثمانها، ولكنها «1» قليلة، ومتى طال مكث الخيل بها انحلت، وأما البغال والحمر «2» فما يعاب عندهم ركوبها، ولا يستحسن فقيه ولا ذو علم «3» ركوب بغلة، فأما الحمار فإن ركوبه عندهم مذلة كبرى «4» ، وعار عظيم، بل ركوب الكل الخيل، وأمّا الأثقال فخاصتهم يحمل على الخيل، وعامتهم يحمل على البقر، يحمل عليها الأكفاء، فيحمل عليها، وهي سريعة المشي، ممتدة الخطا.
وسألت الشيخ مبارك عن مدينة دهلى، وما هي عليه «5» ، فحدثني أن دهلى مدائن جمعت مدينة، ولكل واحدة اسم معروف، وإنما دهلى واحدة منها، وقد صار يطلق على الجميع اسمها، وهي ممتدة طولا وعرضا، يكون دور عمرانها [1] أربعين ميلا، بناؤها بالحجر والآجر، وسقوفها بالأخشاب، وأرضها مفروشة بحجر أبيض شبيه بالرخام، ولا يبنى بها أكثر من طبقتين، وفي بعضها طبقة واحدة، ولا يفرش بالرخام إلا السلطان.
قال الشيخ أبو بكر بن الخلال: هذه دور دهلى [2] العتيقة، فأما ما أضيف إليها فغير ذلك «6» ، قال: وجملة ما يطلق عليه الآن اسم دلى () أحد وعشرون مدينة،
__________
[1] دور عمرانها أي محيط عمراها، وليست جمع مفرد دار.
[2] يقصد دهلي، ودلي هو النطق الصواب للكلمة لأن د هـ حرف واحد في الأردية، ودهلي أو دلي هي العاصمة وحاضرة الدول الإسلامية التي حكمت الهند.(3/53)
وبساتينها على استقامة، كل خط اثنا عشر ميلا من ثلاث جهاتها، فأمّا الغربي فعاطل لمقاربة جبل لها به، وفي دهلى ألف مدرسة، وبها مدرسة واحدة للشافعية، وسائرها للحنفية، ونحو سبعين مارستانا [1] ، وتسمى بها دور الشفاء [2] ، وفيها وفي بلادها من الخوانق [3] والربط [4] عدة ألفين مكانا، وبها الديارات [5] العظيمة، والأسواق الممتدة، والحمامات الكثيرة، وجميع مياها من آبار محتفرة قريبة المستقى، أعمق ما يكون سبعة أذرع، عليها السواقي، وأمّا مشرب أهلها فمن ماء المطر في أحواض وسيعة تجتمع (المخطوط ص 17) فيها الأمطار، كل حوض يكون قنطرة، علوه سهم وأزيد، وبها الجامع المشهور المئذنة [6] ، التي قال أنه ما على بسيط الأرض لها شبيه في سمكها وارتفاعها [7] ، وقال الشيخ برهان الدين بن الخلال البزي الصوفي أن علوها ستمائة ذراع في الهواء.
قال الشيخ مبارك: وأما قصور السلطان ومنازله بدهلى فإنها خاصّة
__________
[1] مارستان: دار الشفاء، المستشفى، وهي بيمارستان ومارستان بالفارسية، وتأتي في العربية مارستان وبيمارستان وبيمارستان من بيمار بمعنى مرض وستان لاحقة تفيد المكان والكلمة فارسية (انظر الدخيل في لهجة أهل الخليج 104، معجم الألفاظ العامية لأنيس فريحة 166، معجم آدى شير 33- 145، فرهنگ عميد 1/409- 2/1734) .
[2] وردت بالمخطوط دو الشفا.
[3] الخوانق جمع مفرده خانقاه وهي مكان تجمع الصوفية، وهي الأماكن التي يأوي إليها رجال التصوف لعقد مجالس الذكر والعبادة (انظر فرهنگ عميد 1/829- فرهنگ أدبيات فارسي 191) .
[4] الربط جمع مفرده رباط، وتجمع أيضا رباطات وهي تماثل الخانقاه في وظيفتها بالإضافة إلى كونها أماكن على الطرق للتجار والمسافرين كما أنها أماكن متقدمة للقتال (انظر فرهنگ رازي 388) .
[5] الديارات جمع الجمع ديار.
[6] وردت بالمخطوط الأذنة أ، ب.
[7] أظنه يقصد مئذنة قطب منار المنسوب لقطب الدين أيبك أحد ملوك المماليك الغورية في الهند.(3/54)
بسكونه «1» وسكن حريمه ومقاصير جواريه [1] وحظاياه [2] ، وبيوت خدمه ومماليكه، لا يسكن معه أحد من الخانات، ولا من الأمراء، ولا يكون به أحد منهم إلا إذا حضروا للخدمة، ثم ينصرف كل واحد إلى بيته، وخدمتهم مرتين في كل نهار في بكرة كل يوم وبعد العصر منه، ورتب الأمراء على هذه الأنواع، أعلاهم قدرا الخانات ثم الملوك ثم الأمراء، ثم الأصبهلاريه [3] ثم الجند، وفي خدمته ثمانون خانا أو أزيد، وعسكره تسعمائة ألف فارس من هؤلاء، منهم من هو بحضرته، ومنهم في سائر البلاد، يجرى عليهم كلهم ديوانه [4] ، ويشتملهم إحسانه، وعساكره من الأتراك والخطا والفرس والهند، ومنهم البهالوين [5] والشكار [6] ، ومن بقية الأنواع والأجناس، كلهم بالخيل المسومة، والسلاح الفائق والتجمل الظاهر الزائد، وغالب الأمراء والجند تشتغل بالفقه،
__________
[1] وردت بالمخطوط جواره أ، جواريه ب 69.
[2] حظاياه جمع مفرده حظية وهن الجواري أصحاب فنون الغناء والموسيقى (انظر حظية فرهنگ عميد 1/798) .
[3] وردت بالمخطوط الأصفهسلايه وصوابها السبهسلارية وهي من سيه سالار، كلمة فارسية تعني قائد الجيش مأخوذ عن الپهلوية) SPah SalAx فرهنگ عميد 2/1168) .
[4] الديوان: الكتاب يكتب فيه أهل الجيش وأهل العطية، وأول من وضعه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، وأخذه عن الفرس وكان كسرى أنوشيروان ملك فارس قد أطلق اسم ديوان أو ديوانه على الموظفين الحكوميين (انظر: الدلالات اللفظية للكلمات الفارسية في كتاب سيبويه د. أحمد الشاذلي، المنوفية 1987 ص 28- واژهـ هاي فارسي در زبان عربي 273/275) .
[5] البهالوين: جمع مفرده بهلوان، والباء مثلثة، ومعربها فهوي، واللفظ فارسي بمعنى البطل والشجاع (انظر الدخيل في لهجة أهل الخليج ص 91، فرهنگ عميد 1/496) .
[6] الشطار جمع مفرده شاطر وهم جماعة تماثل العيارين والفتوة، وكانوا في القديم عبارة عن مشاة يسيرون أمام موكب السلاطين والأمراء في زمن خاص (فرهنگ عميد 2/1277- 1305) .(3/55)
ويتمذهبون [1] خاصة وأهل الهند عامة لأبي حنيفة رضي الله عنه، وله [2] ثلاثة آلاف فيل محققة، تلبس في الحروب البركصطوانات [3] الحديد المذهب، وأمّا في أوقات السلم فتلبس جلال الديباج [4] والوشى وأنواع الحرير، وتزين بالقصور والأسرة المصفحة، وتشد عليها البروج من الخشب المسمرة، ويتبوأ بها رجال الهند مقاعد القتال، ويكون على الفيل من عشرة رجال إلى ستة رجال على قدر احتمال الفيل، وله عشرون ألف مملوك أتراك.
قال البرس «1» وعشرة آلاف خادم خصى، وألف خزندار [5] وألف بشمقدار [6] وله مائتا ألف عند ركابيه [7] ، تلبس السلاح (المخطوط ص 18) ، وتمشي في ركاب السلطان، وتقاتل رجّالة بين يديه، وليس يستخدم أحد من الخانات والملوك والأمراء والأصفهلاريه «2» أجنادا، يقطع لهم الإقطاعات من قبلهم، كما هو في مصر والشام، بل ليس يتكلف الواحد منهم إلا نفسه وعدته من الجند، استخدامهم
__________
[1] أي يعتنق كل منهم مذهبا، ويتعمق فيه كالمالكية والشافعية والحنابلة.
[2] أي للسلطان.
[3] البركصطوانات: من الكلمة الفارسية برگستوان وتعني غطاء مخصوص من الصلب يضعونه أثناء الحرب على الجسم أو على الجياد والأفيال وهي من برگستوان وبرگستان (فرهنگ عميد 1/342) .
[4] الديباج: هو من اللفظ الفارسي ديبا بمعنى حرير وعربت ديباج ومنها الفعل ديج ويديج، والديباج حزب من الحرير، واللفظ الفارسي مأخوذ من الپهلوية (انظر لسان العرب 2/1316، قاموس شتايجس فارسي/ إنجليزي 551، فقه اللغة للثعالبي 325، واژهـ هاي فارس لشوشترى 268) .
[5] خزندار: الخازن من الكلمة العربية خزانة واللاحقة الفارسية دار، وخزندار من خزانة دار أي القائم بأعمال الخزانة (فرهنگ عميد 1/820) .
[6] بشمقدار من باشماق دار وباشماق تركية بمعنى حذاء وباشماقدار حامل الحذاء (فرهنگ عميد 1/306) .
[7] قواد الجيش.(3/56)
للسلطان، وأرزاقهم من ديوانه، ويبقى كلما تعين لذلك الخان أو الملك أو الأمير أو الأصفهلار خاص لنفسه والحجاب وأرباب الوظائف وأصحاب الأشغال من أرباب السيوف من الخانات والملوك والأمراء، لكل رتبة من يناسبها على مقدارها، فأمّا الأصفهلارية فلا يؤهل منهم أحد لقرب السلطان، وإنما يكون منهم نوع الولاة «1» ، ومن يجري مجراهم، والخان يكون له عشرة آلاف فارس، والملك ألف فارس، والأمير مائة فارس، والأصفهلارية دون ذلك.
وأما أرزاقهم فيكون للخانات والملوك والأمراء والأصفهلارية بلاد مقررة عليهم من الديوان، إن كانت لا تزيد، فإنها لا تنقص، والغالب أن تجيء أضعاف ما عبرت به.
ولكل خان لكان [1] ، كل لك مائة ألف تنكة [2] كل تنكة ثمانية دراهم، هذا خاص له، لا يخرج منه لجندي من أجناده شيء، ولكل ملك ستين ألف تنكة إلى خمسين ألف تنكة، ولكل أمير منه «2» أربعين ألف تنكة إلى ثلاثين ألف تنكة، والأصفهلارية من عشرين ألف تنكة وما حولها، وأما الجند فكل جندي من عشرة آلاف تنكة إلى ألف تنكة، وأما المماليك السلطانية، فكل مملوك من خمسة آلاف تنكة إلى ألف تنكة، وطعامهم وكساويهم وعليقهم [3] والجند والمماليك ليس لهم بلاد، وإنما يأخذون أموالهم نقدا من الخزانة، وأما أولئك «3» فبلاد تلك غيرها.
__________
[1] لكان: مثنى لك، والك مائة ألف (الدخيل في لهجة أهل الخليج 101) .
[2] تنگه: هي عملة فضية وذهبية، ولكنها في الغالب فضية (انظر معجم فريحة 23، فرهنگ عميد 1/628، الدخيل في لهجة أهل الخليج 35) .
[3] ما يقدم للحيوانات التي يستخدمها الأمراء وأرباب الوظائف من خيل وإبل وبغال وخلافه.(3/57)
قال: والآن إن لم يزد متحصلات البلاد المقتطعة لهم عن المعبر [1] وإلا فما تنقص، ومنهم من يحصل له قد عبرته مرتين وأكثر.
وأما العبيد فكل عبد منهم في كل شهر منان [2] من الحنطة والأرز طعاما لهم وفي كل يوم (المخطوط ص 19) . ثلاثة أسيار [3] لحم مما يحتاج إليه، وفي كل شهر عشر تنكات بيضا، وفي كل سنة أربع كساوي.
ولهذا السلطان دار طراز [4] ، فيها أربعة آلاف قزاز [5] تعمل الأقمشة المنوعة للخليع «1» [6] والكساوى والإطلاقات، مع ما يحمل له من قماش الصين والعراق والإسكندرية، وهو يفرق كل سنة مائتي ألف كسوة كاملة، مائة ألف كسوة في الربيع، ومائة ألف كسوة في الخريف.
فأما كسوة الربيع فغالبها من القماش الإسكندري، عمل الإسكندرية، وأما كساوى الخريف فكلها حرير من عمل دار السلطان الطراز بدهلى، وقماش الصين والعراق، ويفرق على الخوانق والربط الكساوى، وله أربعة آلاف
__________
[1] العير ما هو محدد ومقرر، الأراضي المحددة لكل صاحب وظيفة، تعادل كلمة اقطاع، وتعني خراج أيضا (فرهنگ عميد 2/1424) .
[2] منان مثنى من، نوع من الوزن (انظر الدخيل في لهجة أهل الخليج 106) .
[3] أسيار جمع مفرده سير، وهو وزن يعادل 16 مثقالا، ويأتي أيضا ستير من اللفظ الپهلوي) Ster انظر فرهنگ عميد 2/1241) .
[4] دار طراز: أي الدار التي يتم تطريز ونسج الملابس فيها، وتعني دار النقش والتطريز (فرهنگ عميد 2/1395) .
[5] قزّاز: وهو صانع القز، والقز والخز واحد وهو الحرير الخام (واژهـ هاي فارسي در زبان عربي 260) .
[6] الخليع: الملابس التي تخلع على الأمراء وأصحاب الوظائف وتسمى خلعا، وهي لفظة غير الخلع المعروف عند القبائل العربية.(3/58)
زركشي [1] ، يعمل الزراكش لباقي الحريم، ويعمل في مستعملاته، ولما يخلعه على أرباب دولته، ويعطى لنسائهم.
ويفرق في كل سنة عشرة آلاف فرس عربي من الخيل العراب المسومة منها ما هو مسرج ملجم، ومنها ما هو عربي بلا سرج ولا لجام، والمسرجات والملجمات على أنواع منها ما هو ملبس، ومنها ما هو محلى، ثم إن تلك الملبسات والملجمات.
منها ما هو بالذهب، ومنها ما هو بالفضة، فأمّا ما يعطى من الخيل والبراذين، فإنه بلا حساب، يعطى جسارات جسارات، ويفرق مئينا مئينا [2] .
وهو على كثرة الخيل ببلاد، وكثرة ما يجلب إليه يتطلبها من كل قطر، ويبذل فيها أكثر الأثمان، لكثرة ما يعطى ويطلق، وهي مع هذا غالية الثمن، مربحة المكاسب، لمن يتاجر فيها، لكثرة المكاسب والعساكر وجمهرة الخلق.
وحدثني علي بن منصور العقيلي «1» من أمراء عرب البحرين، وهم ممن يجلبون من البحرين، الخيل، إلى هذا السلطان؛ أن لأهل هذه البلاد علامة في الفريس، يعرفونها بينهم، متى ما رأوها «2» في فرس اشتروه بما عسى يبلغ ثمنه.
ولهذا السلطان نائب من الخانات يسمى أميرت «3» أقطاعه يكون قدر إقليم عظيم نحو العراق، ووزير؛ أقطاعه يكون قدر إقليم «4» العراق وله أربعة (المخطوط
__________
[1] الزركشي: مذهب، القائم بصناعة الملابس الموشاة بالذهب (الدخيل في لهجة أهل الخليج 66) .
[2] مئات مئات.(3/59)
ص 20) نواب، يسمى كل واحد منهم شق [1] ، ولكل «1» منهم أربعين ألف تنكة إلى عشرين ألف تنكة، وله أربعة دبيران [2] أي كتاب سر، لكل واحد مدينة من المدن البنادر العظيمة الدخل، ولكل واحد منهم بقدر ثلاثمائة كاتب أصغر من فيهم وأضيق رزقا له عشرة تنكة «2» .
وأما أكابرهم فله قرى وضياع، وفيهم من له خمسون قرية، ولصدر جهان [3] ، وهو اسم قاضي القضاة، وهو في وقتنا كمال الدين بن البرهان، عشرة قرى، يكون متحصلها قريب من ستين ألف تنكة «3» ويسمى صدر الإسلام، وهو أكبر نواب الحكم بالقضاء، ولشيخ الإسلام وهو شيخ الشيوخ مثله، وللمحتسب قرية، يكون متحصلها قريب «4» ثمانية آلاف تنكة.
وله ألف طبيب، ومائتا طبيب وعشرة آلاف بزدار [4] تركب الخيل، وتحمل الطيور المعلمة للصيد، وثلاثة آلاف سواق، تسوق لتحصيل الصيد، وخمسمائة نديم، وألف «5» ومائتان نفرا من الملاهي، غير مماليك الملاهي، وهم ألف مملوك، برسم تعليم الغناء خاصة، وألف شاعر من اللغات الثلاثة العربية والفارسية [5] والهندية [6]
__________
[1] شق كلمة عربية بمعنى ناحية، وجاءت منها شقدار أي صاحب الناحية.
[2] دبيران جمع مفرده دبير، وقد استخدم المؤلف الكلمة جمعا فارسيا وليس عربيا، وهي من الپهلوية DaPir ومعناها كاتب (فرهنگ عميد 1/926) .
[3] صدر جهان: قاضي القضاة.
[4] بزدار: بز رداء كتاني أو قطني وبزدار صاحب القماش (فرهنگ عميد 1/349) .
[5] كانت الفارسية هي اللغة المستعملة في بلاد سلاطين الهند المسلمين لأنها لغة الجيش.
[6] اللغة الهندية ليست هي الأردية، فالأردية هي لغة المسلمين واللغة الهندية هي اللغة المأخوذة عن السنسكريتية.(3/60)
من ذوي الذوق اللطيف، يجرى على هؤلاء كلهم ديوانه، وتدر عليهم مواهبه، ومتى بلغه أن أحدا من ملاهيه غنى لأحد، قتله، وساءلته عما لهؤلاء من الأرزاق، فقال: لا أعلم من أرزاق هؤلاء إلا ما للندماء، فإن لبعضهم قريتين، ولبعضهم قرية، ولكل واحد منهم من أربعين ألف تنكة إلى ثلاثين ألف تنكة إلى عشرين ألف تنكة، على مقاديرهم من الخلع والكساوى والافتقادات «1» .
(قال الشيخ أبو بكر بن الخلال البزي الصوفي: وله مائتا تبع تسافر بأمواله في البلاد تبتاع له ولكل واحد منهم في كل مدينة ألف تنكة) «2» قال الشيخ مبارك:
ويمد لهذا السلطان السماط أوقات الحزم في طرفي النهار مرتين، في كل يوم، ويطعم منه عشرون ألف نفر مثل الخانات والملوك والأمراء والأصفهلارية وأعيان الجند، وأما طعامه الخاص، فيحضر معه عليه الفقهاء، مائتا فقيه في الغداء والعشاء، ليأكلوا معه ويجثوا بين يديه.
قال الشيخ أبو بكر بن الخلال البزي: سألت طباخ السلطان كم يذبح في مطابخة «3» كل يوم؟ فقال: يذبح ألفين وخمسمائة رأس من البقر، وألفين رأس من الغنم غير الخيل (المخطوط ص 21) المسمنة، وأنواع الطير.
قال الشيخ مبارك: ولا يحضر مجلس هذا السلطان من الجند إلا الأعيان ومن دعته ضرورة الحضور لكثرة عددهم، وكذلك مجالسه الخاصة لا يحضر بها جميع أرباب الخدم من الندماء والمغاني إلا بالنوب، وكذلك أرباب الوظائف مثل الدبيران [1] والأطباء، ومن يجرى مجراهم لا يحضرون إلا بالنوب «4» ، وأما الشعراء
__________
[1] دبيران جمع مفرده دبير: وتعني الكاتب.(3/61)
فلحضورهم أوقات مخصوصة في السنة مثل العيدين والمواسم ودخول شهر رمضان وعند ما تتجدد نصره على أعداء أو فتح «1» من الفتوحات أو غير ذلك مما تهنىء «2» به السلاطين، أو يتعرض إلى مدحهم فيه.
وأمور الجند خاصة بل الناس عامة إلى آمريت [1] وأمور الفقهاء والعلماء والقاطنين والواردين كلها إلى صدر جهان وأمور الفقهاء القاطنين والواردين إلى شيخ الإسلام، وأمور عامة الواردين والوافدين والأدباء والشعراء القاطنين والواردين إلى الدبيران، وهم كتاب السر.
وحدثني قاضي القضاة أبو محمد الحسن بن محمد الغوري الحنفي أن السلطان محمد بن طغلقشاة «3» [2] كان قد جهّز مغصان؛ أحد كتاب سره إلى جهة السلطان أبي سعيد [3] «4» ، وبعث معه ألف ألف تنكة ليتصدق بها في المشاهد [4] بالكوفة والعراق وتلك الآفاق، وكان هذا مغصان مخبث النية، فجمع أحواله عازما
__________
[1] نائب السلطان.
[2] السلطان محمد بن تغلقشاه هو ابن السلطان تغلقشاه تولى حكم دهلي بعد وفاة أبيه، وهو أحد سلاطين المماليك القطبية الغورية (انظر: صفته عن ابن بطوطة 292- 310- طبقات أكبري لنظام الدين أحمد، ترجمة المحقق ج 2) .
[3] السلطان أبو سعيد بهادر آخر سلاطين الإيلخانيين (م 736 هـ) وهو ابن السلطان أولجايتو، حكم العراق وخراسان وآذربيجان والروم والجزيرة (انظر: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلاني بيروت ج 2/137- كتابنا عبيد زاكاني ومنظومته موش وگربه القاهرة 1990 ص 1- 10- تاريخ مفصل إيران لعباس إقبال تهران 1312 ش 1/38.
[4] المشاهد جمع مشهد وهي أماكن مدافن الأئمة الشيعة وأشهرها مشهد الإمام علي بن أبي طالب في النجف الأشرف ومشهد الإمام حسين بن علي في كربلاء ومشهد موسى الكاظم في الكاظمية ببغداد، ومشهد علي موسى الرضا في مدينة مشهد.(3/62)
على أنه لا يرجع إلى حضرة مرسله، وصادف وصوله وفاة أبي سعيد، فتمكن مما قصده، وحضر إلى بغداد ومعه نحو خمسمائة فرس له ولأصحابه، ثم توجه إلى دمشق، قال: ثم بلغني أنه عاد منها إلى العراق، وأقام ببغداد، واستوطنها.
قلت وقد حدثني بحال هذا، الفاضل نظام الدين أبو الفضائل يحيى بن الحكيم، وقال لي أنه رآه [1] بدمشق، لكنه «1» لم يذكر مبلغ هذه الصدقة، وكذا حكى لي عنه السبكي والملتاني والبزي، وإنما تخالفت ألفاظهم، فمعناها واحد، وقال كل منهم أن هذا مغصان من الفضلاء والأعيان والزينة الأخيار.
قال الشيخ أبو بكر «2» البزي: وهذا السلطان ترعد الفرائص لمهابته، وتزلزل الأرض لموكبه، وهو كثير التصدي (المخطوط ص 22) لأمور مملكته «3» (و) لأمور ملكه [2] ، وهو يجلس بنفسه لإنصاف رعيته «4» .
قال خواجه [3] أحمد بن خواجه عمر بن مسافر فيما حكاه عنه أنه يجلس لقراءة قصص [4] الناس عليه جلوسا عاما، ولا يدخل عليه من معه شيء من السلاح حتى ولا السكين، إلا كاتب السر لا غير.
والسلطان عنده سلاح كامل حتى التركاش [5] «5» والقوس والنشاب، حيث
__________
[1] وردت بالمخطوط رواه.
[2] ما بين القوسين إضافة المحقق لإتمام المعنى.
[3] وردت بالمخطوط خواجا وصوابها خواجه وتعني بالفارسية السيد، وهو لقب يحظى به أصحاب العلم والأدب (فرهنگ عميد 1/882 قاموس الفارسية 223) .
[4] القصص هي الشكاوى.
[5] التركاش هي تركش أو تيركش بفتح تاء وكاف كلمة فارسية تعني جعبة السهام (فرهنگ رازي 141) .(3/63)
قعد، لا يفارقه سلاحه، قال: وهذا دأبه دائما أبدا.
وأما ركوب هذا السلطان فإنه يختلف، تارة يكون للحرب، وتارة يكون للانتقال في دهلى من مكان إلى مكان، وتارة يكون في قصوره، وأما إذا ركب إلى حرب، فالجبال سائرة، والرمال سائلة، والبحار تتدفق، والبحور والبروق تلمع، وأمور يعتقد كذبها العيان، ويعتقل عن وصفها اللسان، وعلى الفيلة من الأبراج مدينة أو قلعة حصينة، ولا يرى الطرف إلّا النقع المثار، ودجى ليل ممتد على النهار، وشعار ولا يحمل أحد في الأعلام سواد إلّا له خاصة، وفي الميمنة له أعلام سود، وفي الميسرة أعلام حصر، وفيها التنينات الذهب، السلطان أعلام سود [1] ، في أوساطها تنين عظيم من الذهب، وأمّا بقية الأمراء فكل واحد يحمل ما يناسبه، وأما ما يدق للسلطان من الرهجيات [2] في الإقامة والسفر فإنه يدق له مثل الإسكندر ذي القرنين وهي مائتا جمل نقارات [3] ، وأربعون جملا من الكوسات [4] وعشرون بوقا، وعشرة صنوج [5] ، وتدق له النوب الخمس أيضا، ويحمل معه ما لا يحصى من الخزائن، وغير ذلك ما لا يكاد يعد من الجنائب.
وأمّا في «1» الصيد فإنه يخرج من خف، لا يكون معه أكثر من مائة ألف فارس،
__________
[1] الأعلام السود شعار الدولة العباسية.
[2] الرهجيات جمع مفرده رهج والرهج من الكلمة الفارسية ره گو وتعني المغني والمغنية والرهجيات المغنيات (فرهنگ عميد 2/1078) مركب من ره بمعنى نغمه أو لحن وگوى (گوينده) أي المغني (فرهنگ رازي 411.
[3] النقارات جمع مفرده نقاره والنقارة نوع من الطبل يضرب بعصاتين (فرهنگ عميد 2/19114) .
[4] الكوسات جمع مفرده كوس وهو الطبل الكبير ويسمى أيضا كوست وهو طبل الحرب، وهو عالي وشديد الإيقاع (فرهنگ رازي 732- عميد 2/1663) .
[5] الصنوج جمع مفرده صنج، من الآلات الموسيقية مكون من قطعتين تقرعان ببعضهما وهي في العربية صنج وسنج (الدخيل في لهجة أهل الخليج 75- فرهنگ عميد 2/1369) .(3/64)
ومائتي فيل، ويحمل معه أربعة قصور خشب على ثمانمائة جمل، كل قصر على مائتي جمل ملبسة جميعها ستور حرير سود مذهبة، وكل قصر طبقتان غير الخيم والخركاوات [1] .
وأمّا في الانتقال من مكان إلى مكان للتنزه أو ما هذا سبيله فيكون معه نحو ثلاثين ألف فارس، وهذه العدة من الفيلة وألف جنيب [2] مسرجة ملجمة ما بين ملبس بالذهب ومحلا «1» (المخطوط 23) ومطوق، ومنها المرصع بالجواهر واليواقيت.
وأما ركوبه في قصوره، فقال لي الشيخ محمد الخجندي، وكان ممن دخل دهلى، واستخدم في الجند بها، أنه رآه قد خرج من قصر إلى آخر «2» وهو راكب وعلى رأسه الجتر [3] والسلاح داريه [4] ، ورآه محمولا بأيديهم السلاح «3» ، وحوله قريب اثني عشر ألف مملوك، جميعهم مشاة؛ ليس فيهم راكب إلا حامل الجتر والسلاح داريه والجمداريه [5] حملة القماش.
__________
[1] الخركاوات جمع خركاه، والخرگاه بالكاف الفارسية خيمة كبيرة أو سرادق سلطاني وأميري (فرهنگ عميد 1/850- فرهنگ رازي 272) .
[2] جنيب مفرد وجمعه جنائب وهي الجياد السلطانية المزينة التي تقف أمام البلاط السلطاني (فرهنگ عميد 1/708) .
[3] جتر: كلمة فارسية بالجيم المثلثة وهي المظلة التي ترفع فوق السلطان (فرهنگ عميد 1/730 فرهنگ عميد رازي 215) .
[4] السلاح داريه: مفرده سلاح دار، وتعني حامل السلاح- لفظ عربي وفارسي (فرهنگ عميد 2/1220) .
[5] الجمدارية: مفرده جمدار من اللفظ الفارسي جامه دار وتعني المسؤول عن الملابس والقماش السلطاني (فرهنگ رازي 391) .(3/65)
وقال لي الشيخ مبارك أن هذا السلطان يحمل على رأسه «1» سبعة جتورة [1] منها اثنان مرصعان ليس لهما قيمة [2] ولدسته [3] من الفخامة والعظمة والقوانين الشاهنشاهيه [4] ، والأوضاع السلطانية، ما لم يكن فعله إلا للإسكندر ذي القرنين أو لملكشاه بن ألب أرسلان [5] .
وأما الخانات والملوك والأمراء، فإنه لا يركب أحد منهم في السفر والحضر إلا بأعلام، وأكثر ما يحمل الخان تسعة أعلام، وأقل ما يحمل الأمير ثلاثة، وأكثر ما يجرى الخان في الحضر عشرة جنايب، وأكثر ما يجرى الأمير في الحضر جنيبات.
فأمّا في الأسفار فمهما وصلت قدرة كل واحد منهم ووسعة صدره وكرمه «2» مع أنهم إذا حضروا باب السلطان، تضاءلوا لطمس شمسه كواكبهم، ولطم بحره سحابيهم، وهذا السلطان مع هذا ذو بر وإحسان وتواضع لله تعالى «3» .
حدثني أبو الصفاء عمر بن إسحاق السبكي [6] أنه رآه وقد نزل إلى جنازة فقير [7] صالح، ومات، وحمل نعشه على عنقه، وله فضيلة جمّة يحفظ كتاب الله
__________
[1] جتوره: جمع جتر.
[2] أي لا يقدران بمال، غالية الثمن.
[3] مجموعة من كلمة دستة الفارسية.
[4] الشاهنشاهية: السلطانية من اللفظ الفارسي شاهنشاه أي ملك الملوك.
[5] وردت بالمخطوط الملك شاه بن ألب أرسلان ويعني ملكشاه.
[6] أبو الصفا عمر بن إسحاق السبكي المتوفى 750 هـ (الدرر الكامنة 4/15) .
[7] الفقير هو المتصوف (فرهنگ رازي 643- عميد 2/1545) .(3/66)
تعالى «1» وكتاب الهداية [1] على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، ويجيد في المعقول، ويكتب خطا حسنا، وله يد ممتدة في الرياضة، وتأديب النفس، والأدب، ويقول الشعر، وينظمه، ويستنشده، ويفهم معانيه، ويباحث عنها «2» العلماء، ويناظر الفضلاء، ويؤاخذ خصوص الشعراء بالفارسية، فإنه عالق بأهدابها، عارف بشعابها.
قال «3» : ولقد سمعته يبحث في معنى تقدم الأمس على اليوم، من أي قبيل هو، لأنهم قالوا إنما التقدم إما أن يكون بالزمان أو بالرتبة أو بالذات، وهذا لا يجوز أن يكون واحد من هذه الأقسام، وقرر أن (المخطوط ص 24) قولهم انتقض بهذا، لأن الأمس متقدم لا بشيء من هذا.
قال: ولقد رأيته يأخذ بأطراف الكلام على كل من حضر على كثرة العلماء.
قال: والعلماء تحضر مجلسه، وتفطر في شهر رمضان عنده، ويأمر صدر جهان كل ليلة واحدا ممن يحضر بأن يذكر نكتة [2] ثم تتجاذب الجماعة أطراف البحث فيها بحضرة السلطان، وهو كواحد منهم، يتكلم معهم، ويبحث بينهم، ويرد عليه [3] ، وهو ممن لا يرخص في محذور، ولا يقر أحدا على منكر، ولا يتجاسر
__________
[1] كتاب الهداية في فقه الحنابلة لعبد الرحمن بن محمد بن علي بن محمد الحلواني البغدادي الحنبلي المتوفى سنة 546 هـ (انظر: إيضاح المكنون في الذيل في كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لإسماعيل باشا بن محمد أمين مير سليم الباباني أصلا البغدادي مولدا ومسكنا- بغداد ج 2/351) .
[2] النكتة هي المسألة الدقيقة في الأمور العلمية والفقهية والدينية.
[3] وردت بالمخطوط يورد عليه أ 24، ب 73.(3/67)
أحد أن يتظاهر في بلاد بمحرم، وأشد ما ينكر على الخمر، ويقيم الحد فيه، ويبالغ في تأديب من يتعاطاه من المقربين إليه.
حدثني السيد الشريف تاج الدين ابن أبي المجاهد الحسن السمرقندي أن بعض الخانات [1] الأكابر بدهلى، كان يشرب الخمرة، ويدمنها، ويصر عليها، وكان ينهى فلا ينتهى، فغضب عليه هذا السلطان غضبا شديدا، وأمسكه، وأخذ أمواله، فكان بحمله ما وجد له أربعمائة ألف ألف مثقال، وسبعة وثلاثون ألف مثقال ذهبا أحمرا، وفي هذه الحكاية كفاية في مبالغته في إنكار المنكر، وفي سعة أموال هذه البلاد، فإن هذا المال إذا حسب «1» بالقناطير المصرية كان ثلاثة وأربعين ألف قنطار أو سبعمائة قنطار ذهبا، وهذا مما لا يكاد يدخل تحت حصر ولا إحصاء.
وحكى لي هذا الشريف حسن السمرقندي، وهو ممن جال الأرض وجاب الآفاق، عن أموال هذه البلاد وما تحار العقول فيه من مثل هذا أو أشباهه، وله من وجوه البر، والصدقات ما تسطره الدنيا في صحائف حسناتها، وترقمه الأيام في غرر حياتها، سمعت منه أحاديث جملتها ما علمت تفصيلها حتى حدثني الشيخ المبارك «2» مبارك أن هذا السلطان يتصدق في كل يوم بلكين [2] لا أقل منهما، يكون عنهما من نقد مصر والشام ألف ألف وستمائة ألف درهم في كل يوم، وربما بلغت صدقته في بعض الأيام خمسين لكا، ويتصدق عند رؤية كل هلال من كل شهر بكلين، عادة دائمة لا يقطعها، وعليه راتب مستمر لأربعين ألف فقير () ، لكل واحد منهم في كل يوم درهم واحد وخمسة (المخطوط ص 25) أرطال خبز قمح أو أرز، وقرر ألف فقيه في مكاتب أرزاقهم على ديوانه، تعلم الأيتام وأولاد الناس
__________
[1] الأمراء الكبار.
[2] بلكين مثنى لك، والك مائة ألف (انظر الدخيل في لهجة أهل الخليج 101) .(3/68)
القراءة والكتابة، ولا يدع بدهلى سائلا يستعطى الناس، بل كل من استعطى منع من هذا، وأجرى عليه ما يجرى على أمثاله من الفقراء.
فأما إحسانه إلى الغرباء، ومن يؤمله، فما يكاد يخرج عن حد التصديق.
حدثني الفاضل نظام الدين أبو الفضائل يحيى بن الحكيم الطياري قال: كان عندنا بالأردو [1] في خدمة السلطان أبي سعيد [2] ، رجل اسمه عضد بن قاضي يزد، يروم الوزارة، ولا يؤهل لها، ولا يعد من أكفائها، فلا يزال «1» يشغب على الوزراء، ويفتن بين أهل الأردو، فاتفق رأيهم على إبعاده، فبعثوه رسولا إلى دهلى برسالة مضمونها السلام والوداد والسؤال والافتقاد، وعملوا هذه صورة ظاهرة لإبعاده، وكان قصدهم أن لا يعود، فلما حصل «2» في دهلى، وحضر في «3» حضرة هذا السلطان، وأدى الرسالة له، أقبل عليه، وشرفه بالخلع والعطاء، وأحله من كنفه في محل الرحب والسعة، وأطلق له حملا من المال، ثم لما أراد الانصراف عائدا إلى مرسله، قال له: أدخل الخزانة، وخذ مما شئت، وكان هذا السيد عضد رجلا داهية، فلما دخل الخزانة لم يأخذ سوى مصحف واحد، فسمع السلطان بهذا، فأعجبه، وقال له لأي شيء ما أخذت إلا هذا المصحف؟ فقال: لأن السلطان قد أغناني بفضله، ولم أجد أشرف من كتاب الله، فازداد إعجابه بفعله وبكلامه، ووقع منه
__________
[1] الأردو لفظ مغولي تعني المعسكر، وإنما سميت اللغة الأردية بذلك لأنها نشأت نتيجة لتعامل أهالي البلاد مع أهل الأردو (فرهنگ عميد 1/111) .
[2] أبو سعيد بهادر آخر سلاطين الإيلخانيين العظام تولى الحكم وهو شاب، ونشأ على الخير، وكان معه بلاد العراق وخراسان وآذربيجان والروم والجزيرة ومات سنة 736 (انظر: الشرق الإسلامي في عهد الإيلخانيين د. فؤاد عبد المعطي الصياد الدوحة 1987 ص 346- تذكرة الشعراء لدولتشاه السمرقندي لاهور 317) .(3/69)
موقع الاستحسان، وأعطاه مالا جما، منه ما هو خاص بنفسه، ومنه ما هو معه لأبي سعيد على سبيل المهاداة، وكان جملة ما اتصل إليه منه ما هو لأبي سعيد «1» وما هو له ثمانمائة، تومان [1] التومان عشرة آلاف دينار رايجا، الدينار ستة دراهم، فيكون هذا المبلغ ثمانية آلاف ألف دينار رايجا، عنها ثمانية وأربعون ألف ألف درهم، فلما عاد بهذا المال الممدود، خشى أن يؤخذ في الأردو ومنه، ففرقه أقساما، وغيبه عن العيون، وكان أمير أحمد بن خواجه [2] (المخطوط ص 26) رشيد، وهو أخو الوزير قد وقع له أمر أقتضى إخراجه من الأردو، وروعى لمكان أخيه الوزير غياث الدين محمد، فكتب له بأن يكون أمير الايلكاه [3] ، ومعنى هذا أنه يحكم حيث حل من المملكة حتى على حكامها، فصادف في طريقه هذا السيد عضد، فأخذ منه شيئا كثيرا، احتمل إنه عمل منه عدة حمول من أواني الذهب والفضة، ليقدمها إلى أبي سعيد والخواتين [4] «2» وأحسبه سبله له إلى العود إلى الأردو «3» ، فعاجله الموت، ثم مات أبو سعيد، والسيد عضد، وتصرمت تلك الأيام، وذهب الذهب، ولم يغن أحدا ما كسب [5] .
__________
[1] تومان: هو رقم عشرة ويستخدمونه على أنه عشرة آلاف، ويعني قائد ألف في العصر المغولي ومن متحصلات الأمير قائد الألف بالتومان- والتومان الآن عملة في إيران تعادل عشرة ريالات (انظر: فرهنگ عميد 1/234 فرهنگ رازي 179) .
[2] وردت بالمخطوط خواجا.
[3] أيلكاه: أيل كلمة تركية تعني قوم أو قبيلة وگاه لاحقة تفيد المكان، وايلگاه موطن القوم (فرهنگ عميد 1/277) .
[4] الخواتين جمع مفرده خاتون وهي زوجة وبنات الأمراء، اللفظ تركي مغولي يعني النساء ذوات النسب الرفيع (فرهنگ عميد 1/816) .
[5] إشارة إلى قوله تعالى: ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ
[سورة المسد، الآية: 2] .(3/70)
قال ابن الحكيم: وهذا السلطان صاحب دهلى، كرمه خارق، وإحسانه إلي الغرباء عظيم، قصده بعض الفضلاء من بلاد فارس، وقدم إليه كتبا حكيمة، منها الشفاء لابن سينا [1] ، واتفق أنه لما مثل بين يديه، وقدمه له، أحضر إليه حمل جليل من الجواهر الثمينة فحثا له منه ملء يده «1» ، وأعطاه له، وكان بعشرين ألف مثقال من الذهب، هذا غير بقية ما وصله به.
وحدثني الشريف السمرقندي، أن أهل بخاري [2] يقصدونه بالبطيخ الأصفر المبقى عندهم في زمن الشتاء، فيعطيهم عطاء جزيلا.
قال [3] : ومنهم واحد أعرفه، حمل إليه حملين من البطيخ، فتلف غالبه، ولم يصل معه إلا اثنتان وعشرون «2» بطيخة، فأعطاه ثلاثة آلاف مثقال من الذهب.
قال الشيخ أبو بكر بن أبي الحسن الملتاني المعروف بابن التاج الحافظ [4] : الذي بلغنا بالملتان، واستقاض عندنا «3» بها، ثم أنى سافرت إلى دهلي، وأقمت بها،
__________
[1] الشفاء: أحد كتب الشيخ الرئيس ابن سينا الطبيب والفيلسوف والأديب، الذي عمل في بلاط نوح الساماتي وخوارزم شاه علي بن مأمون وشمس الدين الديلمي وعلاء الدين كاكويه، له 240 كتابا ورسالة أهمها الشفاء والقانون والإشارات، مات سنة 428 هـ (فرهنگ أدبيات فارسي- زهرا خانلرى كيا 25) .
[2] بخارى أشهر مدن بلاد ما وراء النهر، سكنها العرب، منها أعظم رواة الحديث على رأسهم البخاري (انظر مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع لصفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق البغدادي (م 739 هـ) تحقيق علي محمد البجاوي ط 1 القاهرة 54- 1955 ج 1/169- تاريخ بخارى للنرشخي ترجمة د.
أحمد الساداتي القاهرة) .
[3] يقصد السمرقندي.
[4] ابن التاج الحافظ: هو إسحاق بن علي بن علي بن أبي بكر بن سعيد الصوفي البكري الملتاني مفسر وفقيه من آثاره: خلاصة جواهر القرآن في بيان معاني لغات الفرقان، خلاصة الأحكام بشريعة الإسلام والحج ومناسكه (معجم المؤلفين- كحالة 2/235) .(3/71)
ووجدت أيضا مستفيضا فيها، أن هذا السلطان التزم أنه لا ينطق في اطلاقاته بأقل من ذلك.
وحدثني الخجندي [1] قال: قصدته، واتصلت به، فأنعم عليّ بألف مثقال من الذهب، ثم سأل إن كنت أختار الإقامة أو العود، فقلت: اخترت الإقامة، فأجراني في جملة الجند.
وحدثني الشيخ أبو بكر بن الخلال البزي الصوفي، قال: بعث هذا السلطان مع جماعة أنا (المخطوط ص 27) منهم ثلاث لكوك [2] ذهبا إلى بلاد ما وراء النهر، لتفرق على العلماء لكا منها، ويتصدق على الفقهاء بلك منها، ويبتاع له باللك الثالث [3] .
قال: وقال لنا بلغني أن الشيخ برهان الدين الصاغرجي شيخ سمرقند [4] مزيد في العلوم والزهد، وأنه لا يثبت عنده مالا «1» ، فأعطوه أربعين ألف تنكة يتزود بها إلى الملتان [5] ، ثم إذا دخل بلادنا جدنا عليه بالأموال، ثم قال: وإن لم تجدوه، أعطوا هذا المبلغ لأهله، ليوصلوه إليه إذا جاء، وعرفوه بأننا نطلبه ليتزود إلى الملتان «2» .
قال: فلما وصلنا إلى سمرقند، وجدناه، قد دخل إلى بلاد الصين، فأعطينا المال
__________
[1] نسبة إلى خجند إحدى المدن الإيرانية الشهيرة.
[2] لكوك جمع لك وهي مائة ألف- انظر: فرهنگ عميد 2/1721) .
[3] ورد بالمخطوط بالك الثالث.
[4] سمرقند مدينة مشهورة ببلاد ما وراء النهر عاصمة الصغد (انظر مراصد الاطلاع ص 736) .
[5] الملتان: إقليم بالسند تقع عند التقاء فرعي نهر السند، مملكة إسلامية (انظر: روضة الصفا في سيرة الأنبياء والملوك والخلفاء ترجمة الشاذلي حاشية 176، وتقويم البلدان للعماد الحنبلي) .(3/72)
لجاريته، وعرفناها برغبة السلطان فيه، وحثه على طلبه.
وحدثني الفقيه أبو الصفاء عمر بن إسحاق الشبلي أن هذا السلطان لا يفارق العلماء سفرا ولا حضرا [1] ، قال: وكنا معه في بعض غزواته، فلما كنا في أثناء الطريق جاءته من مقدمة عساكره كتب البشرى بالفتوح، ونحن بين يديه، فحصل له السرور، وقال: هذا ببركة هؤلاء العلماء، ثم أمر بأن يدخلوا بيت المال، ويحملوا من بيت المال ما قدروا عليه، ومن كان منهم ضعيفا يستنيب من يحمل من ذلك المال عنه، قال: فدخلوا إلى الخزانة، ولم أدخل أنا ولا كثير من أمثالي لأننا لم نكن من تلك الطبقة، وحمل أولئك «1» كل واحد كيسين، كل كيس عشرة آلاف درهم إلا واحدا منهم، فإنه حمل ثلاثة أكياس، اثنين تحت إبطيه، وآخر فوق رأسه، فلما رآهم السلطان ضحك تعجبا من حرص الذي حمل الثلاثة، وسأل عن بقية الجماعة، ممن لم يدخل مثلي، فقيل له إن هؤلاء دون أولئك لأن هؤلاء من المدرسين، وهؤلاء من المعيدين، فأمر لكل واحد منا بعشرة آلاف درهم، ففرقت علينا.
قال: ومنار الشرع عنده قائم، وسوق أهل العلم لديه رائج، يشار إليهم بالتوقير والإجلال، وهم في غاية المحافظة على ما ينقام به ناموسهم من اصطلاح «2» الظاهر والباطن والمداومة على قراءة العلم (المخطوط ص 28) ، وإقرائه، والتحري في كل أمورهم، والاقتصاد في جميع أحوالهم، وهذا السلطان لا يتأنى عن الاجتهاد في الجهاد برا وبحرا، لا يثنى عنه عنانه ولا سنانه، ولا يزال هذا دأبه، نصب عينه، ودبر أذنه، وقد بلغ مبلغا عظيما في إعلاء كلمة الإيمان، ونشر الإسلام في تلك
__________
[1] عكس السفر ويعني الإقامة.(3/73)
الأقطار، حتى سطع في ذلك السواد ضوء الإسلام، وبرقت في تلك الأنواء بوارق الهدى، وهدم بيوت النيران، وكسر البدود [1] والأصنام، وأخلا البرّ ممن ليس ببر إلا من هو تحت عقد الذمة، واتصل به الإسلام إلي أقصى المشرق، وقابل مطلع الشمس لألاء الصباح المشرق، وأوصل راية الأمة المحمدية كما قال أبو نصر العتبي [2] إلى حيث لم تصل إليه راية ولا تليت به سورة ولا آية، فعمر الجوامع والمساجد، وأبطل التطريب «1» بالآذان، وأسكت المزمزمة بالقرآن، وبوأ أهل هذه الملة قمم «2» الكفار، وأورثهم- بتأييد الله- «3» أموالهم وديارهم وأرضا لم يطأوها [3] ، وهو مع هذا تمد له خافقة مع كل خافقة، ففي البر عقبان الأعلام، وفي البحر غربان السفن الجواري المنشآت كالأعلام [4] حتى أنه لا يخلو في يوم من الأيام من بيع آلاف مؤلفة من الرقيق بأقل الأثمان لكثرة السبى والأخذ.
حدثني كل هؤلاء أن الجارية الخادمة لا يتعدى ثمنها بمدينة دهلى ثمان تنكات، واللواتي يصلحن للخدمة والفراش خمس عشرة تنكة، وأما في غير دهلى فإنهن بأرخص من هذه الأثمان.
__________
[1] البدود جمع ومفرده بد وصوابه بت بضم الباء وسكون التاء وهي كلمة فارسية تعني صنم (فرهنگ عميد 1/317) .
[2] أبو نصر محمد بن عبد الجبار العتبي من أدباء ومؤرخي القرن الرابع والخامس الهجريين، له كتاب تاريخ يميني باسم السلطان محمود الغزنوي توفي 427 هـ (فرهنگ أدبيات فارسي 339) والعبارة عن محمود الغزنوي أصلا.
[3] إشارة إلى قوله تعالى: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً
[سورة الأحزاب، الآية: 27] .
[4] إشارة إلى قوله تعالى: وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ
[سورة الرحمن، الآية: 24] .(3/74)
وقال لي أبو الصفاء عمر بن أبي إسحاق الشبلي أنه اشترى عبدا مراهقا نفّاعا بأربعة دراهم، وقس على مثل هذا، قال: ومع رخص قيمة الرقيق، وهو أنه يوجد من الجواري الهنديات «1» من يبلغ ثمنها عشرين ألف تنكة وأكثر وهكذا.
قال لي ابن التاج الحافظ الملتاني، قلت: وكيف تبلغ الجارية هذا الثمن مع الرخص؟ قال لي: كل واحد في مجلس على انفراده لحسن خلقها، ولطف خلائقها، ولأن غالب مثل هذه الجوار يحفظن القرآن، ويكتبن (المخطوط ص 29) الخط، ويروين الأشعار والأخبار، ويجدن الغناء وضرب العود، ويلعبن [1] الشطرنج والنرد، وصل هذه الجواري يتفاخرن [2] في مثل هذا، فتقول الواحدة: أنا آخذ قلب سيدي في ثلاثة أيام، فتقول الأخرى: أنا آخذ قلبه في يوم، فتقول الأخرى: أنا آخذ قلبه في ساعة، فتقول الأخرى: أنا آخذ قلبه في طرفة عين.
قالوا: إن ملاح الهنديات أكثر حسنا من الترك والقفجاق مع ما يتميزن به من التخريج العظيم والتفنن الفاتن، وغالبهن ذهبيات الألوان، وفيهن بيض ذوات بياض ساطع مختلطا بالحمرة، وعلى كثرة وجود الترك والقبجاق والروم وسائر الأجناس عندهم، لا يفضل أحد على ملاح الهنديات سواهن لكمال الحسن والحلاوة وأمور أخرى تدق عنها العبارة «2» «3» .
حدثني سراج الدين عمر الشبلي أنه لا يلبس ثياب الكتان المجلوبة إلى هذه
__________
[1] وردت بالمخطوط يلعب.
[2] وردت بالمخطوط يتفاخرون.(3/75)
المملكة من الروس [1] ، والإسكندرية إلا من لبسه السلطان منهم وإلا قميصهم وثيابهم من القطن الرفيع، قال: تعمل منه ثياب شبيهات بالمقاطع البغدادية، ولكن أين المقاطع البغدادية والنصافي [2] منها، لرفعتها ولطافة بشرتها، فإن بعضها يوازي اللوانس [3] في رفعتها مع الصنق والمآبية «1» .
وحدثني الشيخ مبارك أنه لا يلبس ولا يركب بالسروج الملبسة أو المحلاة بالذهب إلا من أنعم السلطان عليه بشيء منها، فإذا أنعم عليه بشيء من المحلى بالذهب [4] ، كان إذنا له في اتخاذ ما شاء منه، أمّا عامة ركوبهم ففي الملبس أو المحلى بالفضة.
قال: والسلطان ينعم على من في خدمته على اختلاف أنواعهم من أرباب السيف والقلم والعلم، بكل شيء جليل ونوع نفيس من البلاد [5] والأموال، والجواهر والخيول والسروج المحلاة بالذهب والمناطق الذهبية [6] والأقمشة المختلفة الأنواع والأجناس إلا الفيلة فإنها لا تكون إلا له، لا يشاركه فيها مشارك من جميع الناس، قال: والفيلة لها رواتب كثيرة لعلوفاتها، فإنها لعل هذه الثلاثة آلاف فيل (المخطوط ص 30) لا يكفيها إلا دخل مملكة كبيرة، فسألته: كم لها؟ قال:
__________
[1] الروس: قوم يسكنون روسيا من أصل سلافي وهي مملكة واقعة غربي سيبيريا وشمالي الممالك الإسلامية (انظر: روس فرهنگ عميد 2/1072) وهم أمة من الأمم متاخمة للصقالبة والترك (مراصد الاطلاع 2/460) .
[2] النصافي نوع من القماش الجيد.
[3] لوانس قماش جيد.
[4] وردت بالمخطوط المحلا في أ، ب.
[5] أي البلاد التي يقطعها السلطان.
[6] المناطق جمع مفرده نطاق ما يلف حول الوسط.(3/76)
تختلف أجناسها وأشكالها، وعلى قدر اختلافها، علوفاتها، وأنا أقول لك أكثر ما يريد كل فيل في كل يوم، وأقل ما يريد، أما أكثر ما يريد [1] في كل يوم أربعون رطلا من أرز، وستون رطلا من شعير، وعشرون رطلا من سمن، ونصف حمل حشيش، وأما ما تريده سوّاسها [2] ، والقومة عليها فجملة كثيرة وأمور كثيرة، قال: وشحنه [3] الفيل رطل كبير من أكابر الدولة.
قال الشبلي: يكون أقطاعه قدر إقليم كبير مثل العراق وهيئته، وفوق ملوك هذه المملكة في مواقف الحرب.. أن يقف السلطان في القلب وحوله الأئمة والعلماء والرماة قدامه وخلفه، وتمتد الميمنة والميسرة موصولة بالجناحين، وأمامه الفيول الملبسة بالأركصطوانات الحديد، وعليها الأبراج المسمرة فيها المقاتلة «1» على ما قدمنا القول فيه، وفي الأبراج منافذ لرمي النشاب ومرمى قوارير النفط، وقدام الفيول العبيد المشاة في خفّ من اللباس، بالسيوف والسلاح يفسحون لمجال الفيول، ويعرفون الخيل بالسيوف، الرماة في الأبراج تكشف عليهم من خلفهم من فوق، والخيل في الميمنة والميسرة، تضم أطراف الأرض على الأعداء، وتقاتل من حول الفيول وورائها، فلا يجد الهارب مفرا ولا مدخلا، فلا يكاد ينجو قدامهم، لاحتياط «2» العساكر المحدقة بهم، ومواقع النشاب والنفط من فوقهم، ومخالسة الرجالة لهم من تحتهم، فيأتيهم الموت من كل مكان، ويحيط بهم البلاء من كل جهة.
__________
[1] كرر عبارة «واكثر ما يريد» .
[2] سواس هو السائس القائم على رعاية الحيوان.
[3] شحنة الفيل: حارس الفيل وراعيه، والشحنة هو الوالي أو الحاكم أو القيم وصاحب الشرطة (انظر فرهنگ عميد 2/1294- روضة الصفا ترجمة الشاذلي 176) .(3/77)
ولقد تهيأ لهذا السلطان القائم بها الآن ما لا تهيأ لأحد قبله من ملوك هذه المملكة من النصر والاستظهار وفتوح الممالك، وهدم قواعد الكفار، وحل عقد السحرة، وإبطال ما كانت تتعلل به الهنود من الصور والتماثيل، ولم يبق إلا ما هو داخل البحار من القليل الشاذر والناذر «1» [1] الذي لا حكم له، (ولا معلم لهم عهد هذا السلطات حتى يستكمله، ويغسل بالسيف ما بقي (المخطوط ص 31) منه) «2» ، فتضوعت أندية الهند من ذكره بأطيب من طيبها، وتحلى زمانه بها بأعلى قيمة من جواهرها، وهو اليوم جامع ذويل تلك الأقطار، وماسك نطاق البراري والبحار، وإذا قيل اليوم «3» سلطان الهند لا يطلق على سواه، ولا يصح هذا الاسم الكريم إلا على مسماه.
قال الشبلي: وحقيق على مسلم أن يدعو للسلطان هذا في الله جهاده، وذلك معروفه، وتلك سجاياه.
وحكى لي محمد الخجندي: إن لهذا السلطان في كل أسبوع يوما عاما يجلس فيه للناس جلوسا عاما، وهو يوم الثلاثاء «4» ، يجلس في ساحة عظيمة متسعة إلى غاية يضرب له فيها جتر [2] كبير سلطاني، يجلس في صدره على تخت [3] عال مصفح بالذهب مرصع بالجواهر، ويقف أرباب الدولة حوله يمينا ويسارا وخلفه
__________
[1] الشاذر والناذر: الشاذر من شذر وتشذر القوم أي تفرقوا- من نذر ونذروا الجيش جعلوه نذيرة أي طليعة ونذر نذرا به: علمه فحذره (انظر المنجد 379- 800 الشوزر الملحق- قميص دون كمين.
[2] المظلة التي ترفع على رأس السلطان.
[3] كرسي الحكم- عرش.(3/78)
السلاح داريه [1] والجمداريه [2] ، ومن حكمه بين أرباب الأشغال الخاصة حكمهم، وأرباب الوظائف على منازلهم ولا يجلس إلا على الخانات وصدر جهان والدبيران [3] يعني كتاب السر، بين يديه، والحجاب وقوف، وينادى مناداة عامة أنه من كان له شكوى يحضر، فيحضر كل من له شكوى أو حاجة يسأل السلطان فيها، فإذا حضر أو وقف «1» بين يديه، لا يضرب، ولا يمنع حتى ينهى إليه شكواه، ويأمر السلطان فيه بأمره.
وأما بقية الأيام فإنه يجلس في طرقى كل نهار ويركب في الخانات والملوك والأمراء جميعهم إلى بابه ومن رسمه أن أحدا لا يدخل عليه بسلاح كبيرا «2» ولا سكين صغيرة ومن جاء اعتبر قبل دخوله ودون المكان الذي يجلس فيه سبعة أبواب بعضها داخل بعض وعلى الباب الأول البراتي [4] منها رجل منها معه بوق فإذا جاء أحد من الخانات أو الملوك أو اكابر الأمراء نفخ في البوق اعلاما للسطان بأنه قد جاء كبير ليكون دائما على تيقظ واستعداد من أمره ومن جاء بابه كائنا من كان يترجل من الباب الأول البراني ويمشي إلى أن يدخل السبعة الأبواب إلى حضرة السلطان وثم من شرف بالإذن له بأن يعبر راكبا إلى الباب السادس ولا يزال البوق عمالا إلى أن يقارب الداخل الباب السابع ويجلس على ذلك الباب كل من دخل إلى أن يجتمعوا فإذا تكامل المجىء أذن لهم في الدخول إذا دخلوا جلس حوله من له أهلية الجلوس ووقف سائرهم وقعد القضاة والوزراء والدبيران وكتاب السر.
__________
[1] حملة السلاح.
[2] حملة الملابس والأقمشة.
[3] الكتاب- وهنا تعني كتاب السر.
[4] وهي من كلمة برون أو بيرون الفارسية بمعنى خارج، ودخلت العامية العربية، وصار منهابره وبراني.(3/79)
وهم الموقعون إلى جانب المكان، لا يقع فيه نظر السلطان عليهم، ومدت الأسمطة، وقدمت الحجاب القصص «1» [1] إلي حاجبي صاحبه، وهو الحاجب الخاص المقدم على الكل، فيعرضها على السلطان، ثم إذا قام السلطان، جلس إلى كاتب السر فأدى إليه الرسائل بما رسمه السلطان في ذلك، فينفذها، ثم إذا قام السلطان من المجلس، جلس في مجلس خاص واستدعى العلماء، فيحضر من له عادة فيجالسهم، ويؤانسهم، ويأكل معهم، ويتحدث هو وإياهم وهم بطانته الخاصة، ثم يأمرهم بالإنصراف، ويخلو بالندماء والمغاني، تارة ينادم بالحديث، وتارة يغنى له، وهو على كل حال في المحافل والخلوات، عفيف الخلوة، طاهر الذيل، يحاسب نفسه على الحركات والسكوت، ويراقب الله في السر والعلن، لا يرتكب محرما، ولا يفسح فيه.
قال لي الشبلي: حتى أنه لا يوجد بدهلى خمرا بالجملة الكافية، لا ظاهرا ولا مضمرا، لتشديد هذا الرجل فيه، وإنكاره على من يعانيه، قال: مع أن أهل الهند لا رغبة لهم في الخمر ولا في المسكرات استغناء بالتنبول [2] ، وهو حلال طيب لاشية فيه مع ما فيه من أشياء لا يوجد في الخمر بعضها، وهو أنه يطيب النكهة، ويصرف الأطعمة، ويبسط الأنفس بسطا عظيما، ويورثها سرورا زائدا، مع ثبوت العقل، وتصفية الذهن، ولذاذة الطعم، فأمّا أجزاؤه فهو ورق التنبول والقوقل ونون [3] «2» يعمل خاصة.
__________
[1] القصص هي الشكاوى.
[2] التنبول: هي تانبول شجيرة تنمو في الهند والصين وماليزيا، أوراقها معطرة (فرهنگ عميد 1/529) والتانبول شجر معظم عند الهنود (رحلة ابن بطوطة 175) .
[3] القوقل: هو پوپل بالباء المثلثة، شجرة تنمو في الهند والمناطق الحارة طولها يبلغ 15 مترا، طعمها لذيذ مثل طعم التمر (فرهنگ عميد 2/1555) والنون أيضا شجيرة (فرهنگ عميد 2/1927) .(3/80)
قال: ولا يعد أهل تلك البلاد كرامة أبلغ منه، فإنه إذا ضيف الرجل لآخر وأكرمه (المخطوط ص 33) بما عسى أن يكون من أنواع الأطعمة والأشربة «1» والرياحين والطيب، ولا يحضر معها التنبول لا يعتد له بكرامة، ولا يعد أنه أكرمه، وكذلك إذا أراد الرئيس إكرام أحد ممن يحضره، يناوله التنبول.
قلت: وهذا نظير مسلك الأياق [1] في ممالك أولاد جنكيز خان، والأياق هو قدح خمر أو تمر يمسكه الكبير لمن أراد إكرامه أو الرجل لمن أراد خدمته، وهو أبلغ خدمة عندهم، وسيأتي بمشيئة الله تعالى ذكر هذا في موضعه.
وحدثني العلامة سراج الدين أبو الصفاء عمر الشبلي أن هذا السلطان متطلعا «2» إلى معرفة أخبار ممالكه وبلاده، وأحوال من حوله من جنوده ورعاياه، وأن له ناسا يسمون المنهيين [2] ، وطبقاتهم مختلفة، فمنهم من يخالط الجند والعامة، فإذا علم ما يجب إنهاؤه إلى السلطان أنهاه إلى أعلى «3» طبقة منه، ثم ينهيها ذلك المنتهى، إلى آخر الأعلى فالأعلى إلى السلطان.
فأمّا أخبار البلاد النائية فإن بين حضرة السلطان وبين أمهات الأقاليم أماكن متقاربة، بعضها من بعض شبيهة بمراكز البريد في مصر والشام، ولكن هذه قريبة المدى بين المكا [3] والمكان بقدر أربع علوات نشاب أو دونها، وفي كل مكان عشر سعاة ممن له خفة في الجري، يحمل الكتب بينه وبين تاليه «4» [4] ، إذا أخذ أحدهم
__________
[1] مسك الإياق: الإياق كلمة تركية هي إياق وهي قدح خمر أو تمر يمسكه الرجل لمن أراد خدمته (فرهنگ عميد 1/273) .
[2] المنهيون جمع مفرده منهي وناه وهو من ينهي الأمر إلى من يعلوه حتى يصل إلى السلطان وقد وردت بالمخطوط المنهين.
[3] المكا هو الرسول ورجل البريد جمعه مكاكي، وردت في ب 79 المكان.
[4] وردت بالمخطوط تولية.(3/81)
الكتاب جرى به جريا قويا بأشد ما يمكنه أن يشتد، وأقوى ما يمكنه أن يجرى إلى أن يوصله إلي الآخر، فيجرى به كالأول إلى المكان الذي يليه، ويرجع حامله إلى مكانه على مهله، فيصل الكتاب من المكان البعيد إلى المكان البعيد في أقرب الأوقات أسرع من البريد والنجابة «1» .
قال: وفي كل مكان من هذه الأماكن المركزة مساجد تقام بها الصلوات، ويأوى إليها السفّار، وبرك ماء للشرب، وأسواق للبيع للمكاكل «2» [1] وعلوفة الدواب، ولا يكاد يحتاج إلى حمل ماء ولا زاد ولا خيمة.
قال: ومن جملة عناية هذا السلطان جعل بين قاعدتي ملكه وهما: دهلى وقبة الإسلام في هذه الأماكن (المخطوط ص 34) المعدة لإبلاغ الأخبار طبول، فحيثما «3» كان في مدينة وفتح باب الأخرى أو غلق يدق الطبل، فإذا سمعه مجاوره دق، فيعلم خبر فتح المدينة التي هو غاب عنها، وغلقه في وقت الحاضر كل يوم بنوبة.
ولهذا السلطان مهابة يسقط لها القلوب مع قربه من الناس، ولينه في كلامه وحديثه، وكل من أراد الوصول إليه وصل إليه، لا يبعده عظم حجاب، ولا عموم حجاب، وقد أدر الله في أيامه الأرزاق، وكثّر المواد، وضاعف النعم، على أن الهند ما زال موصوفا بالرخاء، معروفا بالسخاء.
حدثني الخجندي قال: أكلت أنا وثلاثة نفر رفاقا لي في بعض بلاد دهلى لحما بقريا وخبزا وسمنا حتى شبعنا بكتيل [2] «4» وهو أربع فلوس، وسأذكر معاملاتهم،
__________
[1] الرسل.
[2] كتيل يعادل 4 فلوس، جيتل ب 79.(3/82)
ثم ذكر الأسعار عندهم لأنها مرتبة على المعاملة وبها تعرف.
ولقد حدثني الشيخ مبارك قال: اللك الأحمر [1] مائة ألف تنكة، واللك الأبيض مائة ألف تنكة الذهب، وهي المسمى «1» عندهم التنكة الحمراء، ثلاثة مثاقيل، والتنكة النقرة [2] وهي تنكة الفضة، ثمانية دراهم هشتكانه [3] ، وهذا الدرهم الهشتكاني [4] هو وزن الدرهم النقرة معاملة مصر والشام، وجوازه «2» لا يكاد يتفاوت ما بينهما، وهذا الدرهم الهشتكاني هو أربعة دراهم سلطانية، وهي المسماة الدكانية، وهذا الدرهم السلطاني يجيء ثلث درهم ششتكاني، وهو درهم ثالث يتعامل به في الهند، وجوازه بنصف وربع درهم ششتكاني [5] (ولهذا الدرهم السلطاني نصف يسمى يكاني [6] وهو بكتيل واحد، وكلهم «3» درهم آخر اسمه شاتربكاني [7] جوازه بدرهمين، فحينئذ دراهم الهند ستة شاذودكاني ودوازديدكاني [8] هشتكاني [9] ششكاني [10] وسلطاني ويكاني [11] أصغرها
__________
[1] مائة ألف.
[2] النقرة كلمة فارسية بمعنى الفضة (فرهنگ عميد 2/1915) .
[3] وردت بالمخطوط فشتكانه.
[4] هشتكانه كلمة فارسية ومكونه من هشت تعني ثمانية وگانه لاحقة ويعني ثماني.
[5] ششگاني كلمة فارسية من شش بمعنى ستة وگانه لاحقة وتعني سداسي.
[6] اليكاني: من يك بمعنى واحد واليكاني يعني الأحادي.
[7] وردت شاذردگاني من الكلمة الفارسية شانزده أي ستة عشر وگانه لاحقة وتعني المكون من ستة عشر جزءا.
[8] دوازديدگاني: من الكلمة الفارسية دوازده گاني أي الاثنى عشري.
[9] الثماني: نوع من العملة.
[10] السداسي: نوع من العملة.
[11] الأحادي: نوع من العملة.(3/83)
السلطاني، وهذه الدراهم الثلاثة الأخيرة كلها مما يتعامل بها.
والمعاملات بينهم بها دائرة والأكثر بالدرهم السلطاني، وهو الذي تقديره ربع درهم من نقد مصر والشام، وهذا الدرهم السلطاني هو بثمانية فلوس، والثمانية فلوس هي جيتلان كل جيتل أربعة فلوس، فيكون الدراهم الهشتكاني، الذي هو مثل درهم النقرة، معاملة مصر والشام (المخطوط ص 35) اثنتين وثلاثين فلسا.
ورطلهم يسمى سير [1] وهو وزن سبعين مثقالا عنها بصنجة [2] الدراهم بمصر وفاته فإنه مائة ودرهمان وثلثان، وكل أربعين سيرا منّ [3] واحد، ولا يعرف عندهم الكيل.
وأما الأسعار فإن أوسطها القمح، كل منّ بدرهم ونصف هشتكاني «1» ، والشعير كل منّ بدرهم واحد منه، والأرز كل منّ بدرهم ونصف وربع منه إلا أنواعا معروفة من الأرز فإنها أغلى من ذلك، والحمص كل منّين [4] بدرهم واحد هشتكاني، ولحم البقر والمعز سعر واحد، ويباع كل ستة أسيار [5] بدرهم سلطاني، وهو ربع درهم هشتكاني، والغنم كل أربعة أسيار بدرهم سلطاني، والأوز كل طائر بدرهمين هشتكانيه، والدجاج كل أربعة طيور بدرهم هشتكاني، والسكر كل
__________
[1] ورد ستر وهي ترد سير وستير وأستر بمعنى واحد وهو نوع من الوزن (فرهنگ عميد 2/1241) .
[2] صنجة هي السنجة وهنا ليست الآلة الموسيقية وإنما أداة وزن (انظر: الدخيل في لهجة أهل الخليج 75) .
[3] المن: نوع من الوزن (انظر: الدخيل في لهجة أهل الخليج 106) .
[4] منين مثنى من نوع من الوزن (فرهنگ عميد 2/1851) .
[5] أسيار جمع مفرده سير نوع من الوزن (فرهنگ عميد 2/1241) .(3/84)
خمسة أسيار بدرهم هشتكاني، والنبات كل أربعة أسيار بدرهم منه، ورأس من الغنم الجيدة السمينة الفائقة بتنكة واحدة عنها ثمانية دراهم هشتكانية، والرأس البقر الجيد بتنكتين، وربما كان بأقل، والجاموس كذلك، وأكثر مأكلهم لحوم البقر والمعز.
قلت للشيخ مبارك: أهذا لقلة الغنم؟ قال: لا؛ ولكن «1» عادة؛ وإلا فالأغنام لا تعد في كل قرية في الهند بالآلاف المؤلفة، والدجاج كل أربعة طيور فائقة بدرهم واحد بالمصري، وأما الحمام والعصافير وأنواع الطير فبأقل الأشياء ثمنا.
وأما أنواع الصيد من الوحش والطير بها فكثير، وبها الفنك [1] والكركند [2] «2» ، وإنما فيلة الزنج أجل، وأمارتهم «3» في الملبوس، لبسهم البياض وثياب الجوخ وثياب الصوف، إذا جلب إليهم، يباع بأربع الأثمان، ولا يلبس الصوف إلا أهل العلم والفقر [3] .
ويلبس السلطان والخانات والملوك وسائر أرباب السيوف تتريات [4] وتكلاوات [5] وأقبية إسلامية مخصرة «4» الأوساط خوارزمية [6] وعمائم صغار لا
__________
[1] الفنك: حيوان شبيه بالثعلب ولكنه أصغر، له أذنان طويلتان (فرهنگ عميد 2/1552) .
[2] الكركند: حجر أحمر شبيه بالياقوت، وربما يقصد هنا حيوان الكركدن.
[3] التصوف.
[4] تتريات جمع تتر، وهي نوع من الحراب الخاصة بالتتار (انظر: فرهنگ عميد 1/538) .
[5] تكلاوات: نوع من الرماح.
[6] صنع خوارزم ببلاد ما وراء النهر.(3/85)
تعدى العمامة خمسة ستة أذرع من اللانس الرفيع.
وحدثني الشريف ناصر الدين محمد الحسيني الكارمي المعروف بالزمردى، وهو ممن دخل إلى الهند مرتين، وأقام عند السلطان قطب الدين [1] بدهلى، أن غالب (المخطوط ص 36) لباسهم البياض، وغالب جمعاتهم أكسباتهم «1» النتترية مزركشة بالذهب، ومنهم من يلبس مطرز الكمين بزرگش [2] ، ومنهم من يعمل الطراز بين كتفيه مثل المغل [3] وأتباعهم «2» ، مربعة الانبساط مرصعة بالجواهر، وغالب ترصيعهم بالياقوت والماس، وتضفير [4] شعورهم ذوءابات مرخية، كما كان يفعل عسكر مصر والشام، ويعمل في الذؤابات شراريب حرير، وتشد في أوساطهم المناطق [5] من الذهب والفضة وأخفاف ومهاميز [6] ، وأما السيوف فلا تشد إلا في الأسفار، وأما في الحضر فلا تشد، وأما الوزراء
__________
[1] قطب الدين أيبك: هو أحد سلاطين المماليك الغورية- استقل بدهلي وبنى قطب منار، قتله السلطان تغلق (انظر: رحلة ابن بطوطة 287- 289 طبقات اكبرى لنظام الدين أحمد ج 1) .
[2] يزركش: مذهب (عميد 2/1104) .
[3] المغل هم المغال والمنغول والمنغووا قبائل تركية سكنت في المنطقة الواقعة جنوبي سيبيريا على شاطىء نهر أونون، وهي القبائل التي جاء منها جنكيز خان (انظر كتابي فتوحات هولاكو خان في ميزان النقد التاريخي القاهرة 1990 ص 1/تاريخ الإسلام حسن إبراهيم حسن القاهرة 82 ج 4/130/تاريخ الأمم الإسلامية محمد الخضري بك القاهرة 1970 ص 467- أخبار الدول وآثار الأول في التاريخ للقرماني مخطوط سنة 1282 عن نسخة مصورة ص 286- جامع التواريخ لرشيد الدين فضل الله 2/219) .
[4] وردت بالمخطوط تطفير أ 36 وتطفير ب 81.
[5] المناطق جمع مفرده نطاق وهو ما يشد وسط المرء.
[6] مهاميز جمع مفرده مهماز ومهميز وهي آلة حديدية في رجل الفارس يحفز بها الجواد.(3/86)
والكتاب فمثل زي الجند، ولكن «1» لا يشدون المناطق، وبعضهم يرخى له عذبات [1] أمامهم، مثل عذبات الصوفية، وأما القضاة والعلماء فلبسهم فرجيات (شبيهات بالجندات ودرايع [2] ، وأما عامة الناس فقمص، وفرجيات مقتدرة ودرايع) «2» .
وحدثني الشبلي: أن أهل دهلى أهل ذكاء وفطنة فصحاء في اللسان الفارسي، والهندي، ومنهم من ينظم الشعر بالعربي ويجيد فيه النظم، وكثير ممن يمدح السلطان منهم ممن ليس لهم اسم في ديوانه، فيقبل عليهم ويجيزهم.
قال الشبلي: وأخذ دبيران السلطان له عادة أن يمدحه إذا تجدد له فتح أو أمر كبير ورسمه عليه أن يأمر بأن تعد أبيات قصيدته، ويعطى لكل بيت عشرة آلاف تنكة، وكثيرا ممن يستحسن السلطان منه شيئا، (أو يعلم له دررا،) [3] «3» فما يأمر له بشيء مخصوص على التعيين وإنما يأمره بأن يدخل إلى الخزانة ليحمل ما أطاق.
فلما رأني عجبت مما يحكيه من كثرة هذا الإنفاق والبسطة من المواهب والأطلاق، قال: وهو مع هذه السعة المفرطة في بذل الإعطاء، لا ينفق نصف دخل بلاده.
__________
[1] عذبات جمع مفرده عذبه- شيء يتدلى من العمامة على الكتفين (فرهنگ عميد 2/1430) .
[2] درايع جمع مفرده درعية، رداء يلبس على الصدر.
[3] وردت بالمخطوط ضررا.(3/87)
وحدثني شيخنا فريد الدهر «1» شمس الدين الأصفهاني، قال: كان قطب الدين الشيرازي رحمه الله [1] يثبت صحة الكيمياء، قال: فبحثت معه في بطلان الكيمياء، فقال لي: أنت تعلم ما يتلف (من الذهب) «2» في الأبنية والمستعملات، ومعادن الذهب لا يتحصل منها (المخطوط ص 37) نظير (ما يتلف) وينفذ، وأما الهند فإني حررت [2] أن له ثلاثة آلاف سنة، لم يخرج منه ذهب إلى البلاد، ولا دخل إليه ذهب، فخرج منه، والتجار من الآفاق تقصد الهند بالذهب العين، تتعوض عنه بأعراد، وحشائش وصموغ لا غير، فلولا أن الذهب يعمل لعدم بالجملة الكافية.
قال شيخنا شهاب الدين: أما قوله عما يدخل إلى الهند من الذهب ثم لا يخرج منه فصحيح، وأما إثباته لصحة الكيمياء فباطل لا صحة له.
قال [3] : بلغني أن ممن تقدم لهذا السلطان فتح فتوحا، فأخذ منه من الذهب وسق ثلاثة عشر ألف بقرة، قلت: والمشهور عن أهل هذه البلاد جمع الأموال وتحصيلها حتى أن بعضهم إذا سئل كم معك؟ فيقول: ما أعرف إلا أن ثاني ولد
__________
[1] قطب الدين الشيرازي: هو قطب الدين محمود ابن ضياء الدين مسعود الشيرازي المعروف بالعلامة الشيرازي، لبس خرقة التصوف عشر سنوات كان طبيبا، عمل بخدمة نصير الدين الطوسي ولازم جلال الدين الرومي، وأرسله السلطان أحمد تكودار بسفارة إلى مصر سنة 681 ومنها إلى الشام، عمل في بلاط آباقا خان وغازان خان، له مؤلفات منها: نهاية الإدراك في دراية الأفلاك، والتحفة الشاهية، وفتح المنان في تفسير القرآن، وشرح حكمة الاستشراق للسهروردي، توفي سنة 710 هـ (انظر: فرهنگ أدبيات فارسي 400) .
[2] أي كتبت.
[3] يقصد البزى.(3/88)
يجمع على مال جده أو ثالث ولد في هذا النقب أو في «1» هذا الجب، وما نعلم كم هو، وهم يتخذون أجبابا لجمع الأموال «2» ، ومنهم حق ينقب في بيته، ويتخذ به بركة ويسدها، ولا يدع إلا مقدار ما يسقط منه الدنانير ليجمع فيها الذهب، وهم لا يأخذون الذهب المصوغ ولا المكسور ولا السبائك خوفا من الغبن «3» ، ولا يأخذون إلا الدنانير المسكوكة.
وفي بعض جزائرهم من ينصب على سطح داره علما، كلما تكامل لأحدهم جرة ذهب، حتى يكون لبعضهم عشرة أعلام وأكثر.
وحدثني الشيخ برهان الدين أبو بكر بن الخلال محمد البزي الصوفي قال:
بعث هذا السلطان عسكر إلى بلاد «4» مجاورة للدواكير في نهاية حدودها، وأهلها كفار، يدعى كل ملك منهم الرا [1] «5» ، فلما نازله جيوش السلطان بعث يقول لهم، قولوا للسلطان أن يكف عنا، ومهما أراد من الملك «6» يبعث له ما أراد من الدواب لأحمله له «7» ، فبعث أمير الجيش يعرفه بما قال، فأعاد جوابه بأنه يكف عنهم القتال، ويؤمنه للحضرة معه، فلما حضر إلى السلطان أكرمه إكراما كثيرا، وقال له: ما سمعت مثل ما قلت، فكم عندك من المال حتى قلت إنا نبعث لك مهما أردنا من الدواب لتحملها؟ فقال: تقدمني سبع رآات [2] في هذه المملكة،
__________
[1] الرا تعني أمير في الهندية ومؤنثة راتا وراي لقب قديم لملوك الهند وحكامها وأمرائها (قاموس الفارسية د.
عبد المنعم حسنين بيروت 1982 ص 290) .
[2] الرآات جمع راي أي أمراء (انظر روضة الصفا ص 145، وحاشية روضة الصفا أيضا 178) .(3/89)
جمع كل واحد منهم سبعين ألف بايين [1] ، (المخطوط ص 38) أموالا، وكلها عندي حاصلة، فقال: والباءين هو صهريج متسع جدا ينزل إليه بسلالم من أربع جهات، فأعجب السلطان مقاله، وأمر بأن يختم على الأموال باسمه، فختمت باسم السلطان، ثم أمر الرا بأن يجعل له نوابا من مملكته، ويقيم هو بنفسه في حضرته بدهلى، وعرض عليه الإسلام فإني أقره على دينه وأقام في حضرته وجعل له نوابا في مملكته وأجرى السلطان عليه ما يليق بمثله وبعث إلى ملك المملكة أموالا جمة فرقت على أهله صدقة عليهم لكونهم انتظموا في عديد رعاياه ولم يتعرض إلى البائينات [2] وإنما ختم عليها وأبقاها على حالها تحت ختمه وقد ذكرت هذا على ما ذكره البزي وهو معروف بالصدق والعهدة عليه والعائد فيها أن كان يعود فإليه.
حدثني علي بن منصور العقيلي من أمراء «1» عرب البحرين قال إن اسفارنا ما تنقطع عن الهند وعندنا كثير من أخباره وتواترت الأخبار عندنا أن هذا السلطان محمد بن طغلقشاه «2» فتح فتوحات جليلة وأنه مما فتح مدينة لها بحيرة ماء في وسطها بيت بد [3] معظم عندهم يقصد بالنذور وكان كل نذر يجيء إليه يرمي في تلك البحيرة «3» وصرف الماء منها للى أن تصرف ثم أخذ ما كان هناك من الذهب وحمل منه وسعه مائتي قيل وآلاف من البقر قال وهو رجل جواد كريم
__________
[1] بايين تعني هنا مخزن وسرداب تحت الأرض، وهي كلمة فارسية من باءين أي أسفل (قاموس الفارسية 121 فرهنگ عميد 1/436) .
[2] البائينات جمع مفرده بايين وهو المخزن تحت الأرض (قاموس الفارسية 121، فرهنگ عميد 1/436) .
[3] وردت بالمخطوط بيت بد وصوابها بيت بت أي معبد الصنم، وبت فارسية بضم الباء وسكون التاء.(3/90)
يحسن إلى الغرباء سافر منا رجلان إليه وشملتهما السعادة بالحضور عنده فأنعم عليهما وشرفهما بالخلع وأجرى عليهما الأموال الجمة وكانا ممن لا يؤبه إليه من عربنا ثم خيرهما في المقام أو العودة فأختار الواحد منهما المقام فأعطاه بلدا جليلا ومالا جزيلا وأشياء كثيرا من مواشي الغنم والبقر وهو الآن هناك مملوءا فحولا [1] وأما الآخر سأل العود فأنعم عليه بثلاثة آلاف تنكة ذهبا وعاد محبوا محبورا [2] .
__________
[1] متحولا ب 82.
[2] سقطت من ب 82.(3/91)
الباب الثاني في ممالك بيت جنكيز خان
وفيه فصول:
الفصل الأول: في الكلام عليهم جمليا.
الفصل الثاني: في مملكة القان الكبير صاحب التخت وهو صاحب الصين والخطا.
الفصل الثالث: في التوارنيين وهم فرقتان:
الفرقة الأولى: فيما وراء النهر
الفرقة الثانية: في خوارزم والقبجاق.
الفصل الرابع: في الإيرانيين.(3/93)
الفصل الأول في الكلام عليهم جمليا(3/95)
(المخطوط ص 39)
جعلت هذا فصلا جامعا لذكرهم، قبل ذكرهم على التفصيل في ممالكهم، لأن هؤلاء منهم أربعة سلاطين «1» بيد كل منهم مملكة عظيمة، استولوا بها على غالب المعمور من حدود الفرات إلى نهاية الشرق على الخط المستقيم المتصل بالسند [1] ، فالمسمى بالقان [2] الكبير، وهو المتغلغل في الشرق، منهم، وهو القائم مقام جنكيز خان [3] ، والجالس على تخته [4] «2» وسيأتي ذكره إن شاء الله.
والثاني منهم، هو صاحب إيران بمجموعها، وهي التي كانت بيد الأكاسرة [5] ، والثالث منهم «3» ، هو صاحب القبجاق (والرابع منهم) «4» ، صاحب مملكة ما
__________
[1] السند: هو النهر الفاصل بين إيران والهند قديما، والسند إقليم بباكستان الحديثة ونهر يجري بها، وذكره ابن بطوطة پنج آب وهي خمسة أودية تصب في النهر الأعظم (رحلة ابن بطوطة بتحقيق د. جمال الدين الرمادي، دار الشعب القاهرة ص 262) .
[2] القان: كلمة مغولية وهي في الأصل فاآن وتعني ملك كبير وسلطان عظيم (فرهنگ عميد 2/1561) .
[3] ورد بالمخطوط جنكيز خان وكذلك في كثير من المصادر العربية، ويرد كذلك تنكيز خان (رحلة ابن بطوطة 244) وصوابه جنگيز خان أو جنگيز خان كما ورد في جامع التواريخ لرشيد الدين فضل الله وجهانگشاى لعلاء الدين عطا ملك جويني وتاريخ وصاف.
[4] تخت: كلمة فارسية تعني العرش، كرسي الحكم، من الكلمة البهوية Taxt تكلمت به العرب، ودخل في العربية بنفس المعاني ومعاني أخرى (انظر الدخيل في لهجة أهل الخليج، د. أحمد الشاذلي القاهرة 1992 ص 31- لسان العرب 1/422 قاموس والمعاني الفصيح 32 فرهنگ عميد 1/548) .
[5] الأكاسرة:، جمع مفرده كسرى، من اللفظ الفارسي خسرو، وهو لقب ملوك الفرس قبل الإسلام (فرهنگ جديد رازي، محمود سعيدي پورآذينفر انتشارات فرد 277) .(3/97)
وراء النهر، فانقسمت بينهم مملكة توران، وهي مملكة الترك القديمة، وبها كان افراسياب [1] وأما صاحب إيران، فهو يفخر على الملكين؛ صاحب القبجاق وصاحب ما وراء النهر؛ بأن جده الأكبر هولاكو بن تولى [2] ابن جنكيز خان، وهو جد القان الأكبر الآن.
والملكان [3] الآخران يفخران بأن جنكيز خان لما قسم البلاد بين «1» ابنيه، ملك جديهما [4] ، ولم يملك تولى ولا هولاكو ولده جد صاحب إيران، بل كان هولاكو ابن تولى مندوبا من جهة أخيه منكوكبكاخان [5] ، وارث الملك والتخت.
(حدثني الفاضل نظام الدين أبو الفضائل يحيى بن الحكيم نور الدين الطياري (المخطوط ص 40) الكاتب البوسعيدي [6] أنه كان أرسله لدفع
__________
[1] أفراسياب: أكبر الملوك الأسطوريين التورانيين من نسل تنورين افريدون، جلس على ملك توران بعد يشنگ (انظر: حماسهء سراي وإيران ذبيح الله صفا تهران 1369 ش 616- 626) .
[2] هولاكو بن تولوى (الابن الرابع لجنكيز خان) ابن سيورقوني بيگي من قبيلة الكرايت، والعامة يدعونه هلاوون، قاد جيوش المغول جنوب البلاد الإسلامية وقضى على الإسماعيلية والخلافة العباسية، واستولى على الشام، وهزمت جيوشه في عين جالوت سنة 658 هـ أمام المصريين وتوفي سنة 663 هـ (انظر: جامع التواريخ لرشيد الدين فضل الله ترجمة صادق نشأت وآخرين ج 2/219، وكتابي فتوحات هولاكوخان في ميزان النقد التاريخي- القاهرة 1990 ص 1- 6 تركستان لبارتولد 715) .
[3] وردت بالمخطوط المكان.
[4] جغتاي.
[5] منكوكبكاخان هو مونكو بن تولوي بن جنگيز خان حكم ما بين سنة 1251- 1258 نجان باليق (انظر:
تركستان لباتولة 715) .
[6] البوسعيدي نسبة إلى أبي سعيد هاد بن أولجايتو وخدابنده بن أرغون بن آباقا بن هولاكو، من سلاطين الإيلخانيين (انظر الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة ابن حجر العسقلاني حققه محمد سعيد جاد الحق القاهرة 1966 ج 3/469 وكذلك كتاب عبيد زاكاني ومنظومته موش وكربه د. أحمد الشاذلي القاهرة 1990 ص 7- 8) .(3/98)
الإسماعيلية [1] والأكراد [2] ، فلما أخذ بغداد [3] ، تمكن وعصا، واستقل بنفسه، والواضح الجلي ما سنذكره عن شيخنا الفرد نادرة الوجود أبي الثناء الأصفهاني [4] إن شاء الله في ذلك) «1» .
وأمّا أصل جنكيزخان، جد هؤلاء الملوك في النسب، فنحن نذكر منتهى نسبهم إلى أن نأتي إلى جنكيزخان (متبعهم، ومشرع الباسته [5] لهم) «2» ، ثم
__________
[1] الإسماعيلية: فرقة دينية تنسب إلى إسماعيل بن الإمام جعفر الصادق، والذي مات في عهد أمية سنة 143 هـ، واتباعه أسسوا مذهبا قائما على التأويل والتفكير الفلسفي، أظهر الفاطميون مذهبهم، وتفرقوا بعد ذلك إلى فرق منها الدروز والصباحية والبهرة والأغاضانية والمقصود بهم في هذا الكتاب هم الصباحية الذين يسمونه أيضا الباطنية والملاحدة والحشاشين (انظر كتاب حركات الغلو والتطرف أحمد الشاذلي القاهرة 1987 ص 35- 87) وكذلك روضة الصفا في سيرة الأنبياء والملوك والخلفاء ترجمة المحقق 232 وما بعدها- نزهة القلوب حمد الله قزويني 61) .
[2] الأكراد: شعب يسكن هضبة فسيحة في آسيا الوسطى، وبلادهم موزعة بين تركيا وإيران والعراق وغيرها (المعجم الوسيط ج 2/813) .
[3] بغداد: مدينة السلام، على نهر دجلة، كانت حاضرة الدولة العباسية أسسها المنصور، كانت أم الدنيا وسيدة البلاد فيها سبع لغات بغداد وبغذاذ وبغذاد ومغداد ومغذاذ ومغدان وبغدان (مراصد الاطلاع 2/209) .
[4] أبو الثناء الأصفهاني: محمود بن عبد الرحمن بن أحمد بن محمد الأصبهاني، مفسر وصوفي ومتكلم، ولد بأصبهان 674 هـ وقدم دمشق لازم المسجد الأموي ومات بالقاهرة 749 هـ (معجم المؤلفين لكحالة 12/177) .
[5] الياسا: الأحكام والقانون وهي بالمغولية يساي (انظر: تركستان لبارتولد 114) وترد في العربية يسق ويساق والكلمة مغولية تعني قانون، وهي ياسا وباسق وباسا، وهي مجموعة من القوانين التي وضعها جنكيزخان ليسير عليها قومه (انظر فرهنگ رازي 1034- وفتوحات هولاكوخان 7 (وهو كتاب القواعد الكبير (تاريخ جهانكشاي وعطا الله جويني ترجمة د. محمد التونجي حلب 1985 ج 1/62) .(3/99)
تفرع نسب كل ملك من هؤلاء الأربعة، فنقول وبالله التوفيق، (قيل) «1» أن جنكيزخان ينتهى (نسبه) «2» إلى امرأة تسمى آلان قوا [1] كانت متزوجة بزوج أولدها ولدين، اسم أحدهما بكتوت والآخر بلكوت، وأبناء هذين الولدين يسميان عند المغل [2] الدرلكيه، ثم مات زوجها، وبقيت مرحلة بغير زوج، فحملت فأنكر عليها المحمل، وحملت إلي من له الحكم بينهم، لينظر في أمرها، فسألها ممّن حملت؟ فقالت: ما حملت من أحد، إلا أني كنت قاعدة وفرجي مكشوف، فنزل نور دخل في فرجي ثلاث مرات فحملت منه هذا الحمل، وأنا حامل بثلاثة ذكور، لأن دخول ذلك النور كل مرة بولد ذكر، فأمهلوني حتى أضع، فإن وضعت ثلاثة ذكور، فأعلموا مصداق قولي، وإلا فرأيكم فيّ، فولدت ثلاثة أولاد ذكورا من بطن واحد؛ بوقن فوناغي، وبوسن سالجى، وبوذنجر، وهؤلاء الثلاثة هم المسمون بالنورانيين نسبة إلى النور الذي ادعت أمهم أنه نزل في فرجها [3] ، ولهذا يقال عن جنكيزخان أنه ابن الشمس وبوذنجر عليه عمود النسب إلى جنكيزخان.
فنقول: إن هذا بوذنجر ابن الآن قوا أولد بغا وبغا أولد ذو توم منن، وذو توم منن
__________
[1] آلان قوا وترد آلانقو (جامع التواريخ رشيد الدين فضل الله ج 2/25) وعند أحمد تبريزي شهنشاه نامة تبرزي آلان قوا ص 172- 164) .
[2] المغل هم المنغول شعب لم يكن على عهد جنكيزخان سوى مصطلح رسمي وكان مجهولا لدى بقية الشعوب، وكان حكام الصين يطلقون عليهم التتار (تركستان لبارتولد 545) والمغول هم المغال والمنغووا قبائل تركية سكنت قرب نهر اونون (تاريخ التمدن الإسلامي جرجي زيدان بيروت 3/508. القرماني 286) .
[3] انظر: قصة مشابهة مع اختلاف في الموضوع حول الشعاع الذي يبشر بالأولاد العظام، في حديث عطا ملك جويني عن الأويغور (انظر جهانگشاي الترجمة العربية 1/81) .(3/100)
أولد قيدو، وقيدو أولد باي سنقر، وباي سنقر أولد تومنيه خان، وتومنيه خان أولد قبل خان، وقبل خان أولد تربان «1» ، وتربان أولد بيسوكي بهادر، وبيسكوي بهادر أولد جنكيزخان، جد هؤلاء الأربعة.
(المخطوط ص 41)
ونحن الآن نسرد نسبه منه إلى الآن، فواصل «2» أن تفرع أنساب هؤلاء «3» الأربعة منه، فنقول جنكيزخان بن بيسوكي بهادر ابن تريان بن قبل خان بن تومنيه خان بن باي سنقر بن قيدو ابن ذو توم منن بن بغابن بوذنجر بن الآن قوا، إلى هذه المرأة منتهى نسبهم [1] «4» .
وهذه الحكاية في نسب جنكيزخان أكذوبة قبيحة، وأحدوثة غير صحيحة، وإن صحت عن المرأة، فلعلها احتالت على سلامة نفسها من القتل، ولعلها سمعت قصة مريم الزكية، فتعلقت بحبل الشبهة، حتى أضلت أقواما بشبيه ذلك الحق، وزورت كذبا على مثل هذا الصدق. [البسيط]
قد يبعد الشيء من شيء يشابهه ... إن السماء نظير الماء في الزرق
وها نحن نبدأ بذكر نبذة من ابتداء حال جنكيزخان وترقيه إلى أن ملك، ودانت له ملوك تلك الديار، وقبل الخوض في سياقة انتساب هؤلاء الملوك واتصالهم
__________
[1] يدعى جنگيزخان نسبة إلى قوتولةخان زعيم قبيلة الموتغكو، تتار باعتلائه عرش القبيلة، وهو ادعاء لا يرقى إلى الصواب (تركستان من الفتح العربي إلى الفترة المغولية- فاسيلي فلاديميرو باتولد نقله عن الروسية صلاح الدين عثمان هاشم الكويت 1401 هـ 1981 م ص 545.(3/101)
به، فنقول: حكى الصاحب علاء الدين عطا ملك الجويني [1] (أنه كان ملك الجويني) [2] ، أنه كان ملك عظيم في قبيلة عظيمة يدعى أونك خان [3] ، وكان مطاعا في قبيلته [4] ينقاد إليه عظماء رعيته، فتردد إليه جنكيزخان في حال صباه، وقربه وأدناه، وتوسم فيه النجابة والرياسة، فزاد في ارتقائه على أقربائه، وأعلاه على من سواه، حتى نشأ بينهما الاتحاد، وانتسج الوداد، فشبت نار الحسد في أقرباء ذلك السلطان، ونفخ في روعهم مخيل الشيطان. أن وضعوا لجنكيزخان المراصد والمصائد، ودفنوا له الأوابد والمكائد، وأعملوا الفكر في قطع حبل انفصال عنه، ووضع موجبات قتله واتصال منه، فلما بالغوا في الوقيعة، وأسرفوا في الغيبة والشنيعة، تغير أونك خان، على جنكيزخان تغيرا لم يظهره، وأسر كدرا لم ينقره، وجمع فكرا في ذنب يأخذه به، أو ينتحله، أو جرم يتقوله واستشار فيه أصحابه، وجعل التوقع لذلك دأبه، فاتفق أن سخط أونك خان على صبيين [5] (المخطوط ص 42) من مماليكه، فخافاه والتجأ إلى حوزة،
__________
[1] علاء الدين عطا ملك جويني هو علاء الدين عطا ملك بن بهاء الدين جويني من كتاب التاريخ الإيرانيين المعروفين في العصر المغولي، كان أبوه وأخوه أصحاب ديوان جوين عمل في بغداد أربعة أعوام، ولكنه قبض عليه بوشاية وزير باقاخان وتوفي سنة 781 هـ وأهم كتبه جهانگشاي (انظر عطا ملك جويني وكتابه جهانگشاي والسباعي محمد السباعي- رسالة دكتوراه؛ جامعة القاهرة- فرهنگ أدبيات فارسي زهرا خانلرى كيا چاپ سوم توس 1366 ش ص 167- تاريخ فاتح العالم جهانگشاي تأليف عطا ملك الجويني حاكم بغداد ترجمة د. محمد التونجي حلب 1985 مقدمة القزويني ج 1/27 وما بعدها) .
[2] جملة اعتراضية.
[3] أونك خان رئيس قبائل الكرايت (الكريت) والساتيز، وكان ذا قوة ومكانة تفوق غيرها من القبائل، وتمتاز قبيلته بالعدة والعتاد والعدد (جهانكشاي الترجمة العربية 1/69) وهو أيضا ونك خان زعيم الكرايت (تركستان؟ -؟ - بارتولد ترجمة صلاح الدين عثمان هاشم الكويت 1981 ص 545) .
[4] قبيلة الكرايت.
[5] كان الصبيان يدعى أحدهما كلك والثاني باده (جهانگشاي الترجمة العربية 1/70) .(3/102)
جنكيزخان [1] ، واستجارا به، فأحسن إليهما، وحنا عليهما، ووعدهما بإزالة كدر السلطان، وتلاقى ما كان، فأنطقهما لسان الإحسان بهذه:
«إذا التزم المقدار جبل سعادة ... أتاك جميع الكائنات مساعدا
«وإذا جري القضاء على صعب سهّله ... وإذا أرادك الله لأمر همّاك له»
وقالا له: إن السلطان أونك خان يتوقع لك الوقيعة، ويتربص لك الأجن الشنيعة، فخذ حذرك، وأصلح أمرك، فرحل من ليلته بأتباعه وجماعته، ودهمه أعداؤه سحرا، فلم يجدوا له أثرا، ولا عرفوا له خبرا، ونفر العسكر يتلوه، فلم يلقوه، وقيل بل لحقوه، فعطف بجماعته إليهم، وقاتلهم حتى أتى عليهم، وغنم مالهم، فلما جمع أتباعه وأقاربه، وأعز مقامه، وحمى جانبه، وربّ رجاله وآله، وبذل لهم قوته وماله، وخص بإحسانه دنيك الصغيرين دون الناس، وأنزلهما منزلة العينين من الراس، ويسمى كلا منهما ترخانا [2] ، وكتب له أمانا وفرمانا [3] بفراغه من جميع المؤن والكلف، وتفرغه لانتهاز الفرص، واقتطاف الطرف، وأن ينهب في الفتوح قبل كل ناهب، ويسلب قبل كل سالب، ويدخل على يده عامة البيوت فلا
__________
[1] يذكر ابن بطوطة أنه لم يكن إلا حدادا بأرض الخطا، وجمع الناس حوله، وصارت له جماعة، فقدموه على أنفسهم، وغلب على بلده وقوي واشتدت شوكته، فغلب ملك الخطا ثم على ملك الصين (رحلته 244) .
[2] ترخان: لقبه يحمله أمراء وملوك تركستان، ويأتي أحيانا طرخان، طرخون (فرهنگ رازي 274) ، وحامل لقب ترخان له مزايا عديدة ويمكنه مقابلة الملك في أي وقت- واللفظ تركي يعني في العربية رئيس ويجمع طراخنة (فرهنگ عميد 1/560- جامع التواريخ حاشية ج 2/17) . وقال عنه ابن بطوطة ترخان: الموضع المحرر من المغارم (رحلة ابن بطوطة 228) والطرخانات هم الطبقة الأب خراطية (جهانكشاي لعاط الله جويني 2/27- ابن العبري 395- تركستان لبارتولد 551- التاريخ السري للمغول طبقة كوزين 141- 167) .
[3] فرمان: أمر وحكم وهو هنا يعني أمر سلطاني واللفظ فارسي من الپهلوية Faraman ودخل العربية وبجمع فرامين وفرمانات (انظر الدخيل في لهجة أهل الخليج للمحقق ص 89- معجم الألفاظ الفارسية المعربة لآدي شير بيروت 1980 ص 119، تفسير الألفاظ الدخيلة في اللغة العربية لطوبيا العنيسي القاهرة 1964 ص 196 ص 51- معجم الألفاظ العامية لأنيس فريحة بيروت 1973 ص 129- فرهنگ-(3/103)
يمنع، ويحكم فلا يدفع، وأن لا يؤخذ بذنوب كثيرة ولو تكررت ذنوبه، واستمرت عيوبه، وأجرى ذلك لجملتهما، وآحادهما، وأن يستمر ذلك إلى سبعة أبطن [1] من أولادهما، ومن نسلهما الآن قوم لا عادية عليهم، ولا لوم، محترمون عند الملوك، جارون على ذلك النهج المسلوك.
ثم شرع في الإحسان إلى جميع من رحل عن أونك خان، وباعده، واتصل به، وعاضده، وأفشى فيهم الإنعام، وبث فيهم الإعزاز والإكرام، حتى تتالوا إليه أفواجا، وتواردوا إليه فرادى وأزواجا، وأولادهم الآن أقرب الأخصين، وأخص الأقربين، فقوى بذلك أمره وإمارته، واشتدت شوكته ومهابته، وراسل القواد، فانقادت، واستلان القلوب (المخطوط ص 43) فلانت أو كادت، فحينئذ جرد عسكرا كثيفا، وتبعا لفيفا لمحاربة السلطان أونك خان، وأمده بآخر يتلوه، فنازلته العساكر الجنكيزية، فقتل في أقرب أمد، وملك جنكيزخان ما كان له من عدة وعدد.
ثم بعث جنكيزخان إلى القبائل المتباعدة، والبطون المتباينة [2] ، بما عرفهم به من حاله وعدله وبأسه وفضله وعلو شأنهم إن انضموا إليه، وتأييد سلطانهم إن عكفوا عليه، فتوالوا إليه كالسيل ورمل الفلا ورجل الجراد.
وكان من أعظم القبائل المجيبة لدعوته، الداخلة في إيالته، القانعة برئاسته وباسته [3] قبيلتان، بالغتان في العدد، نهايتان في الاستعداد والعدد، إحداهما تدعى أويرات [4] ،
__________
- عميد 2/1529- فرهنگ رازي 632) .
[1] انظر: القصة كاملة في جهانگشاي الترجمة العربية 1/70- 71.
[2] أخضع جنكيزخان قبائل التتار، الكرايت والنايمان والأيغور والاويرات (انظر تركستان من الفتح العربي حتى الغزو المغولي، فاسيلي يمروفتش بارتولد، نقله عن الروسية صلاح الدين عثمان هاشم الكويت 1981- ح 1/400) ، وأرسل إلى قبائل اويرات وقنقورات (جهانگشاي الترجمة 1/71) .
[3] ياستة- قانونة (فرهنگ رازي 1034) .
[4] اويرات وإحدى القبائل المغولية (جهانگشاي الترجمة العربية 1/71- جامع التواريخ نشر برزين ج 1 ص 100) .(3/104)
والأخرى قنقورات [1] وأما القبيلة التي هي في خدمه، ومنها عظمه تسمى قيات [2] وهي أكثر القبائل شهرة، وأتمها كثرة، وكان اسمه القديم تموجين [3] فلما تؤخذ أمره، وعلا قدره، سمى جنكيز خان [4] .
نبذة من عقيدته وياسته وقاعدته وسيرته
قال الصاحب علاء الدين عطا ملك الجويني: الظاهر من عموم مذاهبهم الإدانة بوحدانية الله تعالى، وأنه خلق السماوات والأرض، وأنه يحيى ويميت، ويغني ويفقر، ويعطي ويمنع، وأنه على كل شيء قدير [5] .
قال مؤلف جهانگشاي [6] : إن من أولاده من كان بملة عيسى، ومن دان بملة موسى، ومنهم من أخرج الجميع، وكل من اعتقد من بنيه مذهبا لم يكن له
__________
[1] قنقورات قبيلة مغولية (جهانگشاي الترجمة العربية 1/71) .
[2] ورد أنه كان من بين قبائل المغول، وبرز أثناء محاربة التتار، وإنه اتخذ اسم المغول علما له وحل محل قوتوله خاقان حاكم القبيلة السابقة (تركستان لبارتولد 545) .
[3] تيموجين أو تمرجي أو تمجين (جهانگشاي الترجمة العربية 1/69) .
[4] ذكره ابن بطوطة جنكيز خان وأنه كان يعمل حدادا بأرض الخطا، وكان له كرم نفس وقوة وبسطة في الجسم، كان يجمع الناس ويطعمهم حتى صار له جماعة، فقدموه على أنفسهم، وغلب على بلده وقوي واستفحل أمره، فغلب على ملك الخطا وملك الصين والختن وكاشخر والمالق (رحلة ابن بطوطة 244) .
[5] انظر جهانگشاي عطا ملك جويني- الترجمة العربية ج 1/60) .
[6] جهانگشاي: من تواريخ العصر المغولي، تأليف علاء الدين عطا ملك جويني، ألف سنة 658 هـ ويضم ثلاثة مجلدات عن أحوال وقائع المغول حتى سنة 655 هـ- المجلد الأول عن عادات وتقاليد المغول القديمة وقوانين الياسا التي وضعها جنكيز خان، وفتوحات جنكيز خان. وسلطنة أوكتاي قاآن وگيوك خان وجغتاي، والمجلد الثاني عن تاريخ الخوارزمشاهية وأحوال ملوك القراختاي والجرجانية والثالث عن تتويج منكو قاآن وسلطنته وهولاكو خان وتوجهه إلى بغداد والقضاء على الإسماعيلية- (انظر: جهانگشاي عطا ملك جويني جاب تهران- عطا ملك جويني وكتابه جهانگشاي د. السباعي محمد السباعي رسالة الدكتوراه بجامعة القاهرة، فرهنگ أدبيات فارسي 114- 115) (تركستان من الفتح العربي إلى الغزو المغولي؟ -؟ بارتولد نقله عن الروسية صلاح الدين عثمان هاشم- الكويت 1981 هـ ص 841) .(3/105)
تعصب على غيره ومنهم من تقرب بالأصنام [1] ، وكان جنكيز خان [2] إذا تهدد أحدا من الملوك أو كاتبه بالتحذير من صولته، قال له: إن أطعت كان لك كذا وكذا من الإعزاز والتقريب، وإن عصيت فالله أعلم بما يكون حالك معنا، قال: ويلمح من هذا القول نوع من التوكل والتفويض.
وأمّا السياسة وأحوالها كثيرة، فمنها ما يوافق الشريعة المحمدية، قال: وليعلم أن هذا الرجل لم يقف على سيرة ملوك، ولا طالع كتابا، وجميع ما نسب إليه من ذلك صادر عن قوة ذهنه (المخطوط ص 44) وحسه، واستدراك الأصلح من قبل نفسه، فإنه استخرج لكل منهم مبهمّ، وقعد قاعدة مفردة، ولكل مذنب عقوبة مقدرة، وعين حدودا، لا إمهال له عندهم، ولا مغير، وأوعز أن يتعلم ذلك صغار أهله، ويسرى امتثاله عن عقب الرجل منهم، ونسله، بعد أن أثبتها في كتاب سماه الياسا الكبيرة [3] ، وأمر أن يوضع في خزانته، ويتوارثها أقارب عصبته وذريته [4] .
ونسخ ما كان لهم من قديم عواند مذمومة بتسليكات محمودة مفهومة، فمن ذلك أن من زنى سواء أن كان محصنا أو غير محصن قتل، ومن لاط قتل، ومن تعمد الكذب قتل، ومن سحر قتل، ومن يتجسس علي قوم قتل، ومن داخل بين اثنين يختصمان فأعان أحدهما قتل، ومن بال من الماء قتل، ومن أعطى بضاعة وخسر ثم أعطى ثانية وخسر إلى الثالثة قتل، ومن أطعم أسير قوم أو كساه أو شكاه بغير إذنهم قتل، ومن وجد هاربا أو أسيرا أو عبدا ولا يرده قتل.
__________
[1] انظر: جهانگشاي الترجمة العربية ج 1/63.
[2] ظل جنكيز خان متمسكا بديانته الشامانية (تركستان لبارلوله 560) .
[3] كتاب القواعد الكبير (جهانگشاي الترجمة العربية 1/62) أي القانون العرفي للمغول (تركستان لباتولد 373) .
[4] دونت الياسا باللغة الأويغورية بالإضافة إلى تعاليم جنكيز خان المسماة (بيللك) (انظر: تركستان ص 559) وانظر تفاصيل الياساي في جهانكشاي 1/62) .(3/106)
وكانوا يعتمدون في ذبح الحيوان أن تكتف قوائمه ويشق جوفه، ويدخل أحدهم يده إلى قلبه ويهرسه فركا حتى يموت أو يخرج قلبه، ومن ذبح كذبيحة المسلمين ذبح، ومن وقع جمله أو فرسه وثقله في كر أو فر، ومر عليه من يتلوه بعده، ولم ينزل لمساعدته قتل، وقيل كانت لهم ياسه قديمة أن من ارتمس في الماء قتل.
وكان جنكيز خان يعظم رؤساء كل أمة وملة، ويتخذ تعظيمهم، وسيلة إلى الله تعالى.
قال: والمشهود من حالهم إسقاط المؤمن والكلف عن العلويين [1] والفقراء [2] والقراء والفقهاء والأطباء وأرباب العلوم على اختلافهم والزهاد حتى عن المؤذنين ومغسلي الموتى.
ومن آدابهم المستعملة وقوانينهم أشياء كثيرة؛ منها أن لا يأكل أحد من يد أحد طعاما حتى يأكل المطعم منه أولا، ولو كان المطعم أميرا والمطعم أسيرا، ولا يختص أحد بالأكل وحده دون أن يطعم جميع من وقع نظره عليه ذلك الطعام، ولا يمتاز أمير بالشبع من الزاد دون أصحابه، بل يقسمون الزاد بالسوية، ولا يرمى أحد بالمأكول رميا، وقد قابل (المخطوط ص 45) مناولة باليد، ولا يخطو أحد موقد نار ولا طبق زاد، ومن اجتاز بقوم يأكلون فله أن يجلس إليهم، ويأكل معهم من غير استئذان، وأن لا يدخل الإنسان يده في الماء بل يأخذ ملء فيه، ويغسل يديه ووجهه، ولا يبول أحد على الرماد، ولا يطأ عتبة الخرگاه [3] .
__________
[1] العلويون هم أتباع الإمام علي بن أبي طالب، وتطلق على الشيعة إجمالا إلا أن فرقة النصيريين وهي إحدى الفرق الشيعة الغلاة يسمون بالعلويين (حركات الغلو والتطرف في الإسلام د. أحمد الشاذلي القاهرة 1987 ص 92- 93) والعلويون هنا المقصود بهم أولاد وأحفاد الذين أقاموا جماعات علويين لهم في أنحاء متفرقة من إيران.
[2] الفقراء: المتصوفة.
[3] الخرگاه: خيمة كبيرة سرادق سلطاني (فرهنگ رازي 272) ، الخرگاه بيت يسمى عندهم الخرقة، هي-(3/107)
قال: وسمعت أنهم كانوا لا يرون غسل الثياب البتة، ولا يميزون بين ما يميزه المسلمون في شيء من طاهر ونجس البتة [1] .
قال: ومن قوانينهم التي ألفت منهم أن لا يتعصبوا لمذهب من المذاهب على مذهب، وأن لا يفخموا الألفاظ والألقاب من كلام بل يتلفظ باسم السلطان كما يسمى غيره، فيقال قد تقدم قاآن أو خان [2] بكذا وكذا، وأن لا يتعرضوا لمال ميت أصلا، ولو ترك ملأ الأرض ولا يدخلونه خزانة السلطان.
قال: وأما ترتيب العساكر والقانون المقرر في ذلك، فأعلم أنه لا ينقل في تاريخ قديم ولا حديث أن عسكرا اجتمع لسلطان كثرة كما اجتمع لهم كثرة عدد وعدد وقوة وصبرا وطاعة لسلطانهم إلا لأجل مشاهرة، ولا توقع مال وجاه بل لمجرد الطاعة حسب، ثم إذا رجعوا من القتال وكرب الحرب إلى السكون، والسلم [3] ، أخذ السلطان فيهم القلان [4] والقبجور [5] والأولاق [6] والبدرقة [7] من غير ضجر
__________
- عصى من الخشب يجمع شبه قبة، وتجعل عليها اللبود ويفتح أعلاه ولدخول الضوء والريح جعل البادهنج ويسد متى أحتيج إلى سده (رحلة ابن بطوطة 200) .
[1] انظر جهانكشاي، الترجمة العربية 1/61- 680) .
[2] القاآن: أول مرة يكتبها المؤلف صوابا، ويبدو أنه نقلها عن علاء الدين عطا الله جويني، والقاآن هو الملك الكبير والخان هو الأمير.
[3] انظر: جهانكشاي 1/63.
[4] القلان: دراهم ترصد برسم الكلق مقررة على البلاد (حاشية المخطوط ص 48) ضريبة كانت موجودة قبل القويجور، تجبى من المسلمين وغير المسلمين (تركستان 656) .
[5] القبجور: من نوعه (أي أنه رسم مقرر) (حاشية المخطوط ص 45) القوپجور ضريبة تجبى (رأس من كل مائة رأس) وتوزع على الفقراء والمعوذين (تركستان 656) ويقول عن ابن العبري: مراعي ذوات اوربع (ابن العبري 459) .
[6] الأولاق: خيل البريد (حاشية المخطوط 45) الولاق هو خيل البريد (رحلة ابن بطوطة 262) وهو اولاغ وهو البريد عامة والبريد الخاص يسمى ناريت أو بارين تاريت والبريد العادي بيات أو تيان ينات (تركستان 657) .
[7] البدرقة: في معنى البائزة: البائزة لوح البريد (حاشية المخطوط 45) والبائزة كانت عبارة عن لوحة من-(3/108)
منهم، ولا تأسف منهم، بل يؤدونه إليه مختارين، ومتى تجهزوا للقتال، عرضوا آلات الحرب وغيرها على أمرائهم حتى تعتبر أمراؤهم الخيط والإبرة، ويؤاخذونهم على تجويد آلة أو تقصير في سلاح.
قال: وأغرب من ذلك أن نساءهم [1] تنهض في حال بعدهم وسفرهم بجميع ما يتوجه على رجالهم الغياب من الطلب والسخر السلطانية، ومن ذلك أن كل بنت حسناء تجمع من كل مكان، ويحملن جميعا في رأس كل سنة إلى السلطان، فيختار منهن ما يصطفيه له ولأولاده، ويرد الباقي.
ومن أحسن الترتيبات وضعهم أمراء الألوف [2] والمئات [3] والعشرات [4] فهو أضبط نظام لما يحاولونه، وأسرع إفهام لما يطلبونه.
ومن جملة ياسهم أنه إذا كان أمير في غاية القوة والعظيمة وبينه وبين السلطان كما بين المشرق (المخطوط ص 46) والمغرب، حتى أذنب ذنبا يوجب عقوبة، بعث إليه ولو من أخس أصحابه من يؤذ به بموجب ما يقتضيه ذنبه، ولو كان من ذنبه ما يوجب قتله، ألقى نفسه بين يديه ذليلا، وأخذه الرسول بموجب جرمه حقيرا كان أو جليلا. [5]
ومنها أن كل أمير لا يتردد إلي سواه، ولا يتغير عن موضعه [6] فإن فعل ذلك
__________
- الذهب أو الفضة وفي بعض الأحيان من الخشب، وذلك حسب رتب الأشخاص (حاشية جامع التواريخ ج 1/247) وجميع بايز. بايزات (تركستان 688- 738) .
[1] وردت بالمخطوط نسائهم.
[2] أمير الألف أي تحت إمرته ألف جندي وهو عادة لا يقل عن خان ويقال عن أمراء الألف هزاره (رحلة ابن بطوطة 227) .
[3] أمير مائة أي تحت إمرته مائة جندي وهو عادة لا يقل عن بيگ.
[4] أمير عشرة أي تحت إمرته عشرة جنود ويسمى أو نباشي وأدنى بمعنى عشرة وباشي بمعنى رئيس.
[5] قوانينهم، ينقل ابن فضل الله العمري القوانين نقلا جيدا يكاد يترجمها من أصلها الفارسي انظر الترجمة (جهانگشاي 1/61- 68) .
[6] انظر جهانگشاي 1/67.(3/109)
عوقب أو قتل، لا يتردد إلى أحدهم أولاده.
ومنها وضعهم البريد بكل مكان، طلبا لحفظ الأموال، وسرعة إيصال الأخبار، ومستجدات الأحوال.
وكان لجنكيز خان عادة مستمرة، وإن كانت إلي الآن سارية في الأولاد، وهي وفور الرغبة في الصيد والأمر به والركوب إليه، في كل وقت يتفرغ فيه من القتال، والمنازلة، وربما اشتملت حركته على مسيرة ثلاثة أشهر، يحافظ العسكر على ما تحويه تلك الحلقة [1] ، ويضايقون ما بين الخراكي [2] والبيوت بالحبال، ولم يكن غرض السلطان من ذلك مجرد الصيد خاصة، وإنما مراده تمرين عساكره، واستمرار أوامره، وإدمانهم علي استعمال السلاح، وسفك الدماء، وتغلب القوة الغضبية والمضاهرة على الأرواح.
ومن عاداتهم أنه متى خرج من قبل واحد منهم شيء من الصيود أدب بحسب ما تقدم من أمره بل ربما قتلوه، ويسوقون تلك الصيود كسوق الغنم [3] ، وتواتر الرسل إلى السلطان بصورة حالها وكثرتها وقلتها، فإذا ضاقت الحلقة، وتراكمت الصيود، مشحونة بغرائب الوحوش، والحيوانات السهلية والجبلية، ودخل هو وأولاده وخواصه، وتفوقوا في القتل والقبض والتفرج، وربما استثرف القان من مكان عال، لينظر فروسية أولاده، وقوة مراسهم، فإذا تخلف من تلك الصيود بعد ذلك شيء، اجتمع ولدانهم وصبيانهم، وشفعوا إلى السلطان في إطلاق ذلك المتخلف.
وحكى أن في بعض صيودهم واجتماع ما اجتمع في بعض تلك الحلق لهم من الوحوش، وضاقت عليهم المذاهب، وعاينت التلف، فاستقبلت السلطان بوجهها
__________
[1] انظر جهانگشاي 1/63.
[2] الخراكي جمع مفرده خركاه- خيمة كبيرة (فرهنگ رازي 272) والخركاه غير البارگاه فالثانية بيت كبير له أربعة أعمدة من الخشب ومكسورة بصفائح الفضة (رحلة ابن بطوطة 227) .
[3] انظر جهانگشاي 1/64.(3/110)
وجاءت إليه بالصياح العالي على هيئة المستعطف (المخطوط ص 47) المستجير، فيتقدم بفك الحلقة، وإطلاق تلك الوحوش [1] .
قال الصاحب علاء الدين الجويني [2] كان له عدة أولاد ذكور وإناث من الخواتين [3] والسراري [4] وكان أعظم نسائه أوبولجين بيگي، وفي رسم المغول تعظيم الولد بنسبة والدته، فكان له من هذه المذكورة، أربعة أولاد معدين للأمور الخطرة وهم لتخت ملكه بمنزلة أربعة قوائم سدته، وكان أكبرهم توش والد قردوا [5] وباته [6] وبركه [7] وتركجار [8] ، فرتب توش على الصيد والقبض لأنه أمر محبوب إليهم موصوف عندهم، ورتب چغتاي [9] الذي هو أصغر منه لتنفيذ الياسات والأرغوا [10] والمقابلات وأمثال ذلك، ورتب أوكتاي [11] لما يتعلق بالعقل والرأي والتدبير والولاية والعزل واختيار الرجال واختيار الأعمال وعرض الجيوش
__________
[1] انظر: جهانگشاي 1/65.
[2] أولاد جنكيز خان المذكور هم: جوجي وجغتاي واوگداي وتولوي (تركستان 715) .
[3] الخواتين جمع مفرده خاتون وهي السيدة عريقة النسب (فرهنگ رازي 255) زوجة الملك (المسعودي:
مروج الذهب ج 4/144) .
[4] السراري جمع سرية وهي الجارية (فرهنگ عميد 2/1205) .
[5] توشي ولد قرد ولعله يذكر جوجي بن جنكيز خان (انظر شجرة نسبه تركستان 715) .
[6] باتن هو باتو بن جوجي (شجرة النسب عند بارتولد ص 715) .
[7] بركة: هو نفسه بركا وبركاي وبركاء (انظر جامع التواريخ 1/14- 2/232 وما بعدها) ، هو بركة بن جوجي بن جنكيز خان حكم في القبيلة الذهبية ص 1237- 1256 م (انظر شجرة النسب في تركستان لبارتولد 719) .
[8] تركجار: لعله يقصد تولوي الابن الرابع لجنكيز خان رتب للثلاثة الأول ولم يذكر الرابع منهم.
[9] جغتاي هو جغتاي بن جنكيز خان حكم سنة 1227- 1242 م في مملكة بين القاآن الأكبر ومملكة جوجي وهولاكو (انظر الخريطة المرفقة) .
[10] الأرغوا: هو يرغو أو يارغو- كلمة مغولية بمعنى العدل والقانون ويارغوجي بمعنى القاضي (جامع التواريخ ج 1/227) (انظر: تركستان 559- 683) .
[11] أوكتاي: هو أوگتاي قاآن بن جنكيز خان (جامع التواريخ 2/21) وهو أوكداي خلف جنكيز خان 1229- 1241 م (تركستان 715) .(3/111)
وتجهيزها.
وحكى أنه قال لأولاده في جملة وصاياه إليهم، وحقه لهم على المؤالفة، وإجراء الأمور على انقياد الصغير للكبير، وضرب لهم أمثالا منها أنه دفع إليهم عدة أسهم مفردة، وأمر بكسر كل واحد منهم، فكسر في أسرع وقت، ثم جمع من تلك الأسهم عدة كثيرة، وأمر كل واحد منهم بكسرها مجتمعة، فعجزوا، قال: كذا حالكم في الوهن متفرقين.
ولما عرضت لهم الممالك، وذلت لهم المسالك، عين لكل منهم إقليما بمفرده، ومنزلا يختص بحشده وعدد، فعين لأخيه أو تكين نويان [1] حدود بلاد الختا [2] وعين لولده الكبير توشى من حدود قيالق إلى أقصى شفشين وبلغار [3] ، وعين لچغتاي من حدود الأويغور [4] إلى سمرقند وبخاري، وجعل لنفسه مقاما في قياس مجاور أرمالق، وجعل ولده أوكتاي ولي عهده، وكان موضعه في عهد حدود آمل وقراباق [5] ، فلما جلس على تخت السلطان، انتقل إلى الموضع الأصلي بين الختا
__________
[1] أوتكين نوين ويقصد به تولوي حيث كان يحمل لقب نوين الأكبر وكان أصغر إخوته، واللقب بالمغولية يكه نوين وبالتركية الوغ نوين (رشيد الدين فضل الله جامع التواريخ طبعة برزين ق 8/127) .
[2] الختا: الختا والخطا قبائل سكنت شمال شرقي إيران في عهد السلاجقة وأقاموا دولة سنة 518 هـ كانت بين ممالك المغول وخوارزم، قضى عليهم سنة 609 هـ (انظر دولة السلاجقة د. عبد المنعم حسنين القاهرة 1975- 98- 100 المغول في التاريخ د. فؤاد عبد المعطي ص 6) وهم شعوب الختن بكسر الخاء- يعرفون لدى المغول باسم خادقوت (جامع التواريخ 1/115) . (انظر) تركستان 81 وما بعدها) .
[3] البلغار: من بلغار القولجا (انظر: رحلة ابن بطوطة 225) وانظر: الخرائط المرفقة أخر الكتاب- والبلغار مدينة للصقالبة شديدة البرد لا يكاد البرد يقلع عن أرضهم صيفا ولا شتاء (مراصد الأطلاع 1/219) .
[4] الأويغور: قوم من الأتراك يدينون بالمسيحية واليهودية والمانوية، وهم بصفة عامة أكثر أقوام الأتراك والمغول تمدنا، كانوا يقطنون شمال شرقي تركستان، وشمال نهر قاريم، وأهم مدنهم تورفان وبيش باليغ وبرقول وقره شهر وآلماليغ، كان لهم خط خاص لهم وهو الخط الأويغوري (انظر حاشية جامع التواريخ 1/195- تركستان لبارتولد 553- 554) .
[5] قراباق: هي قره باغ أي الحديقة السوداء، أرض تقع ببلاد آذربيجان الحالية.(3/112)
وبلاد الأويغور، وأعطى ذلك الموضع لولده كيوك [1] وكان ولده تولى [2] متصلا به، وبالجملة كان موضعه نقطة دائرة ملكه، وبنوه حوله كمحيط الدائرة.
وكان أولاده وأحفاده أزيد من عشرة آلاف، هذا ما ذكره الصاحب علاء الدين، وقد سألت شيخنا فريد الدهر شمس الدين (المخطوط ص 48) الأصفهاني [3] عن بني جنكيز خان فقال: إن جنكيزخان أولد أربعة أولاد وهم جوجى [4] وجداري [5] وتولى [6] واوكتاي [7] فقتل جوجى في حياة أبيه، وكان أكبر أولاده، وأعزهم وخلف أولادا.
قال ابن الحكيم: هو باتو [8] وأورده وبركه وتووك وجمنى [9] .
قال شيخنا شمس الدين: المشهور باتو وبركة ابنا جوجي، فلما قتل أبوهم كان جنكيز خان؛ أبوه، قد عين له دمشق القبجاق [10] ، وما معه، وأضاف إليه آراك [11]
__________
[1] هوكويوك بن أوكداي حكم ما بين 1246- 1248 م وهو ثالث القانات الكبار (تركستان لبارتولد 715) .
[2] تولوي بن جنكيز خان.
[3] شمس الدين الأصفهاني: شمس الدين محمد بن سعيد فخر الأصفهاني من أدباء وشعراء القرن الثامن الهجري ألف بالفارسية كتابا بعنوان معيار جمالي، عاشر الشيخ أبي إسحاق اينجو (فرهنگ أدبيات فارسي 305) .
[4] ورد بالمخطوط جوخي وتصويبها جوجي استنادا إلى جهانكشاي وجامع التواريخ.
[5] يقصد جغتاي الذي حكم ما بين 1227- 1242 م.
[6] ورد بالمخطوط طولي وصوابه تولوي وتولي- لم يحكم.
[7] ورد بالمخطوط لو كداي وصوابه أوكتاي بناء على ما ورد في جهانگشاي أو أوكداي بناء على ما ذكره بارتولد ص 715.
[8] ورد بالمخطوط باتوا وهو باتوي.
[9] أولاد جوجي هم آوردا وباتو وبركه وبوال وسيبان (انظر: شجرة نسب آل جنكيز خان بارتولد ص 719) .
[10] دشت القبجاق: صحراء القبجاق.
[11] آراك: مدينة إيرانية.(3/113)
وتبريز [1] وهمدان [2] ومراغه [3] ، وأوصى جنكيز خان بأن يكون تخته لولده الصغير اوكتاي [4] وأن تكون مملكة ما وراء النهر وما معه لولده الآخر جداي [5] ولم يجعل لتولي [6] شيئا، فاستقل اوكتاي بتخت أبيه جنكيز خان، واستقل بدشت القبجاق وما معه، ولم يتمكن جداي مما له من ممالك ما وراء النهر.
ثم مات اوكتاي وارث التخت، وملك بعده ولده كيوك، وكان رجلا شريرا جبارا متسلطا قوي النفس، فقوى على بني أبيه، وحكم عليهم حكما قاهرا [7] ، وهم بمعاندة باتو، ونزع يده، وبعث أميرا اسمه الجكداي إلى آران وبقية المضافات معها إلى باتو، وأمره بإمساك نواب باتو بها، وحملهم إليه، وسمع نواب باتو بذلك، فكتبوا إلى باتوا بالاستئذان على ما يكون اعتمادهم عليه.
وصل الجكداي المجهز من جهة كيوك، وفي تلك الساعة بعينها، عاد جواب باتو على نوابه بمسك الجكداي، وتقييده، وحمله إليه، فقامت شيعة أولئك النواب المقيدين، ففكوا قيودهم، وأمسكوا الجكداي، وقيدوه وحملوه إلى حضرة باتو، فسلقه [8] بالماء، فلما بلغ هذا كيوك مرسله عز عليه، وعظم لديه، وجمع ستمائة ألف فارس، وسار كل واحد منهما لملتقى الآخر وقتاله.
__________
[1] تبريز هي كوريز، كان بها مقر حكم هولاكو، أشهر مدن آذربيجان (انظر: تقويم البلدان 400- 401- مراصد الاطلاع 1/252) .
[2] همدان وهمذان اسم لمدينة إيرانية مشهورة- وهي مدينة من الجبال أعذبها ماء وأطيبها هواء وهي أكبر مدينة بها (مراصد الاطلاع 3/1464) .
[3] مراغة: من قواعد آذربيجان تقع غربي تبريز، بها مرصد بناه نصير الدين الطوسي (انظر تقويم البلدان 398- مراصد الاطلاع 3/1250) .
[4] ورد بالمخطوط لو كداي وهو أوكتاي أو أوكداي.
[5] جداي: وهو گداي أو أوگداي.
[6] ورد بالمخطوط طولي وهذا موجود في كثير من مصادر العربية.
[7] كان كيرك سفاحا، عقد حلفا بين المغول والعالم المسيحي ضد المسلمين (تركستان 694) .
[8] ورد بالمخطوط فصلقة.(3/114)
فلما تقاربا حتى كان بينهما نحو عشرة أيام مات كيوك [1] ، فاضطرب من كان معه، ثم اتفق رأي الخواتين والأمراء على مكاتبة باتو، فكتبوا إليه بإعلامه بموت كيوك، وأنه هو أحق بتخته، فيفعل ما يراه.
فقال باتو: لا حاجة لي به وإنما أبعث إليه بعض أولاد تولي، وعين له منكوقان [2] بن تولى، وجهزه إليه هو وأخوه قبليه قان [3] (المخطوط ص 49) وهولاكو وجهز معهم باتو أخاه بركه في مائة ألف فارس من بهادرته [4] العسكر ليجلسه على التخت، ثم يعود.
فأخذه معه وتوجه به ثم أجلسه، وعاد، فلما مر ببخارى، اجتمع بالشيخ سيف الدين الباخرزي [5] من أصحاب شيخ الطريقة نجم الدين كبرى [6] وحسن موقع كلام الباخرزي عنده، وأسلم على يده، وتأكدت الصحبة بينه وبين الباخرزي، فأشار عليه الباخرزي بمكاتبة المستعصم الخليفة [7] ومتابعته ومهاداته، فكاتب الخليفة، وبعث إليه هدية، وترددت بينهما الرسل والمكاتبات والتحف والمهاداة.
__________
[1] مات كويوك سنة 1248 م.
[2] منگوقاآن (جامع التواريخ مجلد 2 ج 2/82) مونكوين تولوي بن جنكيز خان حكم ما بين 1251- 1258 م (تركستان 715) .
[3] قبيلة قان هو قوبلاي قاآن أو قوبيلاي بن تولوي بن جنكيز خان حكم ما بين 1260- 1294 م.
[4] بهادرته: أي أبطاله وشجعانه من اللفظ الفارسي والتركي بهادر بمعنى شجاع، وكان هؤلاء يشكلون فرقة للحرس الخاص للقاآن (انظر تركستان 549) .
[5] الشيخ سيف الدين الباخرزي من شعراء ق 6 هـ ومن مشايخ المتصوفة، كان مريدا للشيخ نجم الدين كبرى، عاصر العطار، أشعاره بالفارسية. مات 629 هـ (فرهنگ أدبيات فارسي 83) .
[6] نجم الدين كبرى هو أبو الجناب أحمد بن عمر من رجال التصوف، مؤسس السلسلة الكبروية قتل سنة 610 هـ له فواتح الجمال ورسالة الخائف الهائم، وله أشعار كثيرة، فقتل في هجوم المغول (فرهنگ أدبيات فارسي 502) .
[7] المستعصم: هو آخر الخلفاء العباسيين، تولى الخلافة العباسية سنة 640 هـ وقتل سنة 656 هـ على يد المغول، كان متدينا محبا للكتب، ولكنه ضعيف الرأي لم يكن له من الحكم شيئا، سيطر عليه نساؤه ووزراؤه (انظر كتابي فتوحات هولاكو خان في ميزان النقد التاريخي 31- تاريخ الخلفاء 464- البداية والنهاية 13/200 الفخري 333- أخبار الدول 180) .(3/115)
ثم أن منكوقان لما استقل بالتخت ملك أولاد جغتاي [1] مملكة ما وراء النهر، تنفيذا لما كان جنكيز خان أوصى به لأبيهم چغتاي، ومات دونه.
وعلت كلمة منكوقان، وجاءت إليه رسل أهل قزوين وبلاد الجبال [2] يشكون من سوء مجاورة الملاحدة [3] ، وضررهم بهم، فجهزهم [4] أخاه هولاكو في جيوش جمة لقتال الملاحدة، وأخذ قلاعهم [5] ، وقطع دابر دولتهم.
فحسن هولاكو لأخيه منكوقان أخذ ممالك الخليفة وخرج على هذا، فبلغ هذا بركة بن جوجي، فصعب عليه، لما تأكد بينه وبين الخليفة من الصحبة [6] ، وقال لأخيه باتو: إننا نحن أقمنا منكوقان، وما جزانا منه أنه يكافئنا بالسوء في أصحابنا، وينقض عهدنا، ويحقر ذمتنا، ويتعرض إلى ممالك الخليفة، وهو صاحبي وبيني وبينه مكاتبات وعقود مودة، وفي هذا ما فيه من القبح.
وقبح على أخيه باتو فعل هولاكو، فبعث باتو إلى هولاكو بأنه لا يتعدى مكانه، فجاءه رسالة باتو وهو وراء نهر جيحون ما غيره، فأقام في موضعه بمن معه سنتين كاملتين حتى مات باتو، وتسلطن أخوه بركة بعده، فحينئذ قويت أطماع هولاكو، وبعث إلى أخيه منكوقان يستأذنه في إمضاء ما كان أمره به، من قصد
__________
[1] وردت بالمخطوط جغطاي وصوابها جغتاي.
[2] بلاد الجبال هي گيلان وطبرستان الواقعة جنوبي بحر قزوين.
[3] الملاحدة: هم الإسماعيلية والإسماعيلية فرق والفرقة المقصودة هنا هم الصباحية أتباع حسن الصباح المسمى بشيخ الجبل، وآخر حكامهم خورشاة المعتزل سنة 655 هـ، سكنوا قلاع أصفهان وقهسقان وأشهر قلاعهم آل موت (انظر: كتبي: فتوحات هلاكو خان 7- 10- حركات الغلو والتطرف في الإسلام- الشيعة الفاطميون يحكمون مصر- وترجمة روضة الصفا 235- 261) .
[4] وردت بالمخطوط منجزهم.
[5] أهم قلاع الملاحدة، آل موت وكردكوه ولا مستر وميمون درّ وطبس وجور وجوسف وزوزن وقاين (انظر نهاية الأرب في فنون الأدب شهاب الدين أحمد النوري تحقيق فوزي العنتيل- القاهرة 1985/ج 26/254) .
[6] كان هذا سببا في العداء المستحكم بين هولاكو وبركة (انظر جامع التواريخ 2/332 وما بعدها) .(3/116)
ممالك الخليفة وانتزاعها منه، وحسّن له ذلك، فأجابه إليه [1] .
ودخل هولاكو إلى البلاد، وأوقع بالملاحدة [2] واتهم سبعمائة نفر من أكابر همذان وتلك البلاد المضافة إلى باتو ثم إلى بركة (المخطوط ص 50) بالميل إلى بركة والمباطنة على هولاكو ومنكوقان، وقتلهم عن آخرهم، وامتد في البلاد، وقصد دست [3] القبجاق، وعدى إليه، وأقام ثلاثة أيام، لا يجد مقاتلا، فلما كان في اليوم الرابع دهمتهم الخيل، وداسهم بركة بجنوده وعساكره، ودارت الدائرة على هولاكو حتى هم بالهزيمة، فترك أمير كبير [4] كان معه اسمه سنتاي، وهو المنسوب إليه عقبة سنتاي بالعراق، وأمسك برأس فرس هولاكو، وقال له: أين تروح؟ ثم استمر القتل في أصحابه فتأخر حتى صار نهر الكر، بينه وبين بركة [5] .
وجاء بركة على نهر الكر، ولم يجد له سبيلا إلى العبور، ورجع هولاكو، وعاث في البلاد، وعام في تيار الفساد، وفعل فعلته، وقويت العداوة بينه وبين بركة قاآن [6] وخف حاذه من الجيش لمقاومة أعدائه.
ثم لما جرى على بغداد ما أجرى العيون دما، وأسال النفوس أسفا، استأثر
__________
[1] لم ترد هذه الرسالة عند رشيد الدين فضل الله في كتابه جامع التواريخ.
[2] سنة إيقاع هولاكو بالملاحدة 654- 655 هـ (انظر فتوحات هولاكو خان 14- 17- روضة الصفا 259- 260- جامع التواريخ 1/243- 259- إسماعيليان در تاريخ- يعقوب آزند جاب دوم تهران 339) .
[3] أي عاصمة القبجاق.
[4] أمير كبير وظيفة تعادل وظيفة الوزير.
[5] كانت الحرب بينهما سنة 1263 م.
[6] قال بركاي (بركة) : إنه قد دمر جميع مدن المسلمين، وقضى على أسر ملوك الإسلام جميعهم، ولم يميز بين الصديق والعدو، وأعدم الخليفة دون مشورة كبار الأسرة، فلو أمدني الله تعالى لطالبته بدماء الأبرياء (انظر: جامع التواريخ 2/332) .(3/117)
هولاكو بجلال الدين بن الدوادار [1] الخليفتي المستعصمي [2] ، واتخذه هولاكو موضع رأيه، ومكان سره، فلما كسر هولاكو، وتضعضعت رعان جيشه، كما ذكرنا، شكا إلى جلال الدين بن الدوادار ما أصابه من الكسرة وفناء جنوده، فقال له جلال الدين: عندي عسكر جيد خير من هؤلاء، قال: من هم؟ قال: عسكر الخليفة فإن ابن العلقمي [3] قطعهم وإلا فهم أحياء موجودين وأنا أجيبهم إليك، فأعجب هولاكو كلامه، ووقع منه موقعا حسنا، وكتب له يراليغ [4] مضمونها إننا قد جهزنا جلال الدين بن الدوادار في شغل مهم لنا، ورسمنا له بما يفعل، ومرسومنا أن يمتثل جميع الخواتين والأمراء والنواب والقراولات [5] وكافة الناس أمر جلال الدين المذكور، وأنه مهما شاء فعل، يقتل من يريد، ويخلى من يريد، وأن لا يعارض في أمر من الأمور، ولا يعترض عليه بسبب من الأسباب.
ومن هذا ومثله فتوجه جلال الدين، وحط يده في كل من بقى بحده من أمراء المغل وأكابرهم، والمقربين عند هولاكو، وفعل فيهم ما أراد، وفتك فيهم أنواع الفتك، حتى وصل إلى بغداد واستعد فيها (المخطوط ص 51) لما يريد أن يعمله، وأخذ منها ما أراد ومن أراد، ودخل البرية هاربا من هولاكو على عزم الوصول إلى مملكة مصر، فأدركه أجله قبل الوصول إليها.
__________
[1] جلال الدين بن الدوادار أحد أركان الحكم في عهد الخليفة المستعصم آخر الخلفاء العباسيين، وكان ينوي خلع الخليفة وإجلاس آخر (انظر: تاريخ الخلفاء للسيوطي 464) .
[2] نسبة إلى الخليفة المستعصم آخر الخلفاء العباسيين والمقتول سنة 656 هـ.
[3] ابن العلقمي: مؤيد بن محمد بن أحمد العلقمي، وزير المستعصم بالله، كان شيعيا، اختلفت الروايات حول موقفه من المغول، واتهم بأنه كان وراء هجوم المغول على بغداد، كان أديبا، جعله هولاكو وزيرا كما كان في عهد الخليفة (انظر: شذرات الذهب 5/272- الفخري 337- تاريخ ابن خلدون 5/1149- تاريخ الخلفاء 465- البداية والنهاية 13/196- مآثر الأناقة 2/92) .
[4] يراليغ جمع مفرده، يرليغ، كلمة مغولية بمعنى حكم وأمر تعادل كلمة فرمان الفارسية (فرهنگ رازي 1038- صبح الأعشى للقلقشندي 4/423) - وهي ترد بارليغ مفرد (تركستان 588- 669) .
[5] ورد بالمخطوط العراولات وأظنها القراولات ومفردها قراول وتعني الحارس من الكلمة التركية قراول (فرهنگ رازي 659) .(3/118)
وبلغ هولاكو ما فعله جلال الدين في المغل من الفتك والقتل والتنكيل، ثم ما أخذه من بعده، وخرج به هاربا منه، فانفطرت كبده، ومات غبنا منه.
قال شيخنا شمس الدين الأصفهاني: ومات هولاكو [1] ولم يملك ملكا مستقلا، وإنما كان نائبا عن أخيه منكوقان ثم كان هكذا أبغا [2] ومن بعده، إلى أن استقل أرغون بن أبغا [3] بالملك، وأضاف اسمه في السكة إلى اسم صاحب التخت أمير لا يزال مقيم في مملكة إيران مع هولاكو وبنيه له عندهم حرمة كبيرة ومكانة محفوظة حتى ملك محمود غازان بن أبغا [4] فكتب اسمه بمفرده على السكة، وأسقط اسم القان صاحب التخت وأهان أمر أميره حتى لم يبق له وضع ولا حرمة وامتهن ذلك الجانب، واستقل بالملك والسلطنة في أولاده.
وقال: أنا ما أخذت البلاد إلا بالسيف، وقام الأمر على هذا مدة محمود غازان ومن بعده.
قال الشيخ: ولهذا ينتقص ملوك بني جنكيز خان بيت هولاكو، يقولون أنهم ما نقلوا [5] الملك عن جنكيز خان ولا عن وارث [6] تخت جنكيز خان، وإنما أخذوه
__________
[1] مات هولاكو سنة 663 هـ، أثناء توجهه لحرب بركاي (بركة) ودفن في جبل شاهو في- مواجهة دهخوارقان (تاريخ مغول از حملهء جنگيز خان تا تشكيل دولت تيموري- عباس إقبال تهران 1364 ش ص 197) .
[2] أبغا بن هولاكو، هو آباقا حكم بعد والده ثمانية عشر عاما، ومات سنة 680 هـ (انظر ابن كثير 13/297- جامع التواريخ لرشيد الدين فضل الله مجلد 2 ح 1/3- 86) .
[3] أرغون بن أبغا هو أرغون بن آباقا حكم بعد أبيه (683 هـ/ 284- 690 هـ/ 1291 م) انظر جامع التواريخ م 2 ح 1/123- 167) .
[4] محمود غازان بن أبغا هو محمود قازان بن آباقا صاحب العراقين وخراسان وفارس وآذربيجان والروم، اسلم وحسن إسلامه سنة 694 هـ، وفشا الإسلام في التتار، طرق الشام وغلب عليه، مات قرب همدان سنة 703 هـ/ 1304 م (فوات الوفيات 4/97- جامع التواريخ 2/14) .
[5] وردت ما نقولوا.
[6] وردت بالمخطوط وراث.(3/119)
باليد والعداوات ومطاولة الأيام.
وسأذكر في ترجمة مملكة إيران شبهة أخرى في دعوى ملوك دشت القبجاق أن مراغة [1] وتوريز [2] لهم على ما كان يبلغنا من أخبارهم في كل وقت، ثم ما حدثني به الفاضل نظام الدين أبو الفضائل يحيى بن الحكم، وسألت ابن الحكيم والشريف محمد بن حيدرة الشيرازي، عمن يعلمانه بقى من أولاد هولاكو، فقال كل منهما أنه لم يبق أحد محقق النسب إلا ما قيل عن محمد المنسوب إلى عنبرجي [3] على كثرة اختلاف فيه، ثم جاءت الأخبار وصحت بعدم هذا محمد.
وقال لي (المخطوط ص 52) نظام الدين بن الحكيم أهل هذا البيت، تفانوا بعضهم على بعض، لخوف القائم منهم على ملكه، حتى أن كثيرا من أبناء ملوكهم كانوا يتخفون من الملك القائم حتى أن بعضهم كان يخلد إلى الحرف والمهانات لتستسقط همته، فيترك، ويجعل هذا سبيله للخلاص وطلبا للسلامة، حتى أن بعضهم كان قد عمل نساجة، وبعضهم عمل في الأدم [4] وبعضهم باع الشعير علافا، ومن هذا قال ويقال في أنساب كل منتسب منهم لكثرة التخليط من الأمهات، ومخالط آبائهم للعوام حتى خفت أنسابهم، فجهلت أحوالهم «1» .
وأخبرني الأمير الكبير المقدم نسيب السلطنة طايربغا أنه أول من استقبل من هذا البيت بسلطان جدهم جنكيز خان [5] ،
__________
[1] مراغة: من قواعد آذربيجان تقع غربي تبريز، وبها بنى نصير الدين المرصد الفلكي (تقويم البلدان 398) .
[2] توريز هي تبريز، كان بها مقر هولاكو، أشهر بلد في آذربيجان (تقويم البلدان 400- 401) .
[3] لم يرد اسم محمد عند أحد من المنتسبين إلى هولاكو سواء عند رشيد الدين فضل الله أو عند ابن بطوطة في رحلته ص 154:.
[4] صناعة الجلود.
[5] حكم بعد محمود غازان بن أرغون، أولجايتو خدابنده رغون (703- 716 هـ) وأبو سعيد بهادر بن أولجايتو (716- 736 هـ) واياخان بن ارتو، وموسى خان بن علي ومحمد خان بن منگو تيمور-(3/120)
والتلفظ الصحيح جنكص خان [1] بالصاد ثم اوكديه والتلفظ الصحيح به اوكداي [2] «1» ثم كيوك قان [3] ثم مونككا قان [4] (بن طولى بن جنكيز خان) «2» ثم ادي يكا ثم قتلى قان [5] ثم دمرقان [6] ثم برياي ثم تزي طيزى ثم قيسان قان ثم سندمرقان، فأما نسبه إلى جنكيز خان فهو سند مرقان بن طرمالايا بن جمكم بن قبلى قان بن طولا بن جنكيز خان وهذا نسبه [7] .
وأما ملوك الترك وهي تركستان وما وراء النهر وأولهم جغطاي بن جنكيز خان [8] ، وقد نبهنا على أنه لم يستقل، ثم (ولده مكتوكان [9] ثم ابنه قرا هولاوو [10] ثم ولده مباركشاه [11] ثم أن القان بلغه أن قيدو بن تاشى بن كيوك
__________
- (736- 739 هـ وساتي بيگ بنت أولجايتو (739 هـ 739 هـ) وشاهجهان تيمور بن آلافرنگ (739- 740 هـ) وسليمان خان (741- 745 هـ) وطغا تيمور خان (746- 753 هـ) وانوشيروان العادل (754- 756 هـ) (انظر: جامع التواريخ ج 2/14) .
[1] حكم ما بين 1206- 1227 م.
[2] حكم ما بين 1229- 1241 م.
[3] حكم ما بين 1246- 1248 م.
[4] حكم ما بين 1251- 1258 م.
[5] قوبيلاي قاآن 1260- 1294 م.
[6] تيمور قاآن 1294- 1307 م.
[7] الاسم ورد عند بارتولد من حيث الحكام آخرهم طغان تيمور 1332- 1370 سبقه رينجن بال إخوة 1332 ومن قبله أبوه قوتوقتو 1329- 1332 م ومن قبله طوطوق تيمور عن أبيه يسون تيمور (1323- 1329) وقبلهما ككن (1320- 1323 م) وبويانتو (1311- 1320 م) وفايشين (1307- 1311 م) ثم تيمور بن جينغكين (1294- 1307) عن جده قوبيلاتي.
[8] جغتاي بن جنكيز خان حكم (1727- 1242 م) .
[9] مكتو خان بن جغتاي أو منككو قاآن (جامع التواريخ 2/16) هو يسومونكو حكم سنة 1246- 1251 م بعد ابن أخيه أورقن بن موتكن.
[10] قرا هولاود بن مكنوقان هو قرا هولاكو القاآن الرابع حكم ما بين سنة 1251- 1260 م.
[11] مباركشاه بن قراهولاود هو مباركشاه بن قراهولاكو بن بيسوتوي بن مواتوكان بن جغتاي (جامع-(3/121)
بن أوكداي بن جنكيز خان [1] تسلطن لهذه المملكة، فخافه لكوت كيوك عمه، كان وارث التخت عن أبيه اوكداي، وأبوه اكداي كان وارثه عن أبيه جنكيز خان، فسير براق [2] بن بسنطو ابن منكو كان بن جغطاي لدفع قيدو، فدفعه، وتعد مكانه) «1» ، ثم استقل براق ثم دوا [3] ولد براق ثم أولاد دوا واحدا بعد واحد وهم كنجك [4] ثم اسنيغا [5] ثم كيك [6] ثم الجكداي [7] ثم دواتمس [8] ثم ترماشيرين [9] رحمه الله ثم رجل ليس هو بابن دوا اسمه توزون [10] بن أو باكان «2» ابن (جنكيز خان) «3» وتخلل من خلال هؤلاء من توثب على الملك، ولم ينتظم لهم حال (المخطوط ص 53) ولا علت لهم أعلام دولة.
__________
- التواريخ 2/18) ومباركشاه حكم سنة 1266 بعد ألغو بن بايدر بن جغتاي.
[1] قيدو بن تاش بن كيوك بن أوكداي ليس هذا صوابا وصوابه قايدو بن قاشين بن أوكداي (انظر شجرة النسب تركستان 715) .
[2] هو براق بن اسن دوا بن موتكن بن جغتاي حكم ما بين 1266- 1271 م.
[3] دوا بن براق حكم ما بين سنة 1282- 1307 م وهو الحاكم العاشر في السلسلة الجغتاتية.
[4] هو قونجوق بن دوا حكم سنة 1308 م.
[5] هو ابن بغا بن دوا حكم ما بين 1310- 1318 م.
[6] كيك: كان كافرا تولى حكم ما وراء النهر (رحلة ابن بطوطة 246) حكم ما بين سنة 1318- 1326 م.
[7] جكداي: هو الجكطي كان كافرا تولى الحكم بعد أخيه كبگ (رحلة ابن بطوطة وهو ايلجيداي بن دوا حكم سنة 1326 م.
[8] هو دواتمر بن دوا حكم سنة 1326 م.
[9] ترماشيرين: سلطان ما وراء النهر هو طرمشيرين، عظيم المقدار، كثير الجيوش والعساكر، ضخم المملكة، شديد القوة، عادل الحكم، بلاده متوسطة بين أربعة ملوك (رحلة ابن بطوطة 246 هو ابن دوا حكم 1326- 1334 م.
[10] هو بوزن بن دوا تيمور حكم سنة 1334 م.(3/122)
وممن أراد الملك، وعلت كلمته، ولم يملك بيساوون ابن اركتمر بن بغاتمر بن براق «1» ، وبقى الملك بعد موت ترماشيرين رحمه الله متخبطا، حتى قام هذا جنغصوا «2» ، فأما نسبه إلى جنكيز خان [1] فهو جنغصو بن دراتمر بن طر بن براق بن بسنطو بن مكتوكان بن جغطاي بن جنكيز خان، (اسمه جداي وهو مصحح لما يقول عارف به) [2] «3» .
وأما ملوك دشت القبجاق، فأول من ملك منهم باتو بن جوجى «4» بن جنكيز خان ثم أخوه بركة «5» .
ثم وجميع ملوك بني جنكيز خان يغلب عليهم الكرم، وتخويل من قصدهم، لا يرضى أحد منهم بالقليل، فأما القان الكبير منهم صاحب الخطا فتلك شيمته لا تسح إلا بالذهب ديمته، ليس هذا من واحد بعينه، بل كل من تسنم [3] منهم ذروة ذلك التخت، كانت هذه سجاياه.
أما ما يحكى في القديم منهم عن منكوقان بن طولى «6» ابن جنكيز خان، فيخشى حاكيه أن ينسب إلى الخرافة حديثه والمجاذفة في قوله.
حكى الشيخ الفاضل شمس الدين أبو العباس أحمد بن أبو المحاسن الغيبي
__________
[1] ذكره بارتولد بوزن بن دواتيمور بن دوا بن براق بن آسن دوا بن موتكن بن جغتاي (شجرة النسب 721) .
[2] بركه بن جوجي هو بركاي جوجي بن جنكيز خان حكم ما بين 1257- 1266 م، (جامع التواريخ 2/332) .
[3] تسنم: ارتقى.(3/123)
قال: حدثني عز الدين أبو البقاء الأردويلي، قال: سمعت بكرم القان منكوتمر، فقصدت حضرته متفرجا بتلك البلاد، ومتوصلا إليه، ولازمت بابه مدة، ومالي من يوصلني إليه، ولا إلى أحد من أرباب دولته، فبينما أنا ذات يوم هناك من جملة الناس طلبت على التخصيص، فحملت إلى رجل سريّ بباب منكوتمرقان [1] ، فأمر الترجمان ذلك الرجل فسألني عن اسمي وبلدي وحالي ومقدمي، فشرحت له أمري، فقال: أشرف القان فرآك فاستغربك، فأمر بالسؤال عنك، ونحن نعلمه، ثم ذهب الرجل (هنيهة) «1» ، ثم طلبني فأحضرت إلى بين يدي منكوتمرقان وهو في خف من الناس، وبقى يحدث ذلك الرجل، وهو يحدث الترجمان، ويسألني عن أشياء من أمور بلادي، وطريقي وما رأيت، ثم قال: القان يقول لك: ما جاء بك من بلادك البعيدة إلى هنا؟ وأي شيء معك من طرف البلاد تقدمه له؟ فقلت (المخطوط ص 54) له: ما جاء بي إلا ما سمعت من كرم القان، وليس معي شيء، ولو كان معي شيء ما فارقت أهلي ووطني وجئت، فلما أعادوا عليه كلامي، ضحك خفيا ثم أشار إليهم، أي أنه صدق، وأمر ليّ بشيء ما فهمته، فلما خرجت قال لي ذلك الرجل المخاطب لي: قد أمر لك القان بما يصل إليك، ثم قال لي: على أي جهة تعود إلى بلادك؟ قلت: له: في البحر إلى الحجاز لأحج ثم أعود إلى بلادي، فحمل لي إلى المركب هناك أمتعة، بعتها بعدن، ومكة بألف ألف درهم.
وحكى لي الفاضل نظام الدين أبو الفضائل يحيى بن الحكيم قال: قصد رجل منكو تمرقان بزجاج من عمل حلب، ووصل إليه، وقدمه له، فشرب في بعض أوانيه، فأعجبه ما شف من جوهر الزجاج عن حمرة الشراب، فقال: هذا من أين؟
فقيل له: من حلب، فقال: يعطي له حلب، فقال بعض وزرائه، وإن حلب ليست
__________
[1] منكو تمرقان هو موتكو تيمور بن كوقوخان بن باتوين جوجي حكم ما بين سنة 1267- 1280 م (انظر:
شجرة النسب، تركستان 719) .(3/124)
لنا قال: فيوقف هذا الرجل ويصب عليه الذهب حتى يغطيه، فقالوا له: نوقفه في خرگاه ويصب عليه الذهب، فقال: أنتم غرضكم بهذا أن يموت ولا يكون من فضاء، فعملوا ما قاله، فجاء جملا كثيرة عظيمة، فجمعوها، وقالوا له: قد عملنا ما رسم القان، ولكننا نريد أن يقع نظر القان عليه قبل أن يأخذه فقال: هاتوه، فلما رآه قال: أنتم ما قصدكم إلا أني أبصر هذا فاستكثره، أعطوه هذا وقدره معه مرة أخرى فأعطوه.
وحكى أيضا أن فراشا كان يخدم تولي بن جنكيز خان أبا منكوتمر، ثم خدم منكوتمرقان بعده، ثم عدم، وتطلبه منكوتمر فلم يجده، فبينما هو يوما في الصيد رأى الفراش في بعض الجبال، وقد ساءت حاله، وطال شعره وظفره، فقال له: أين كنت؟ فقال: في هذه البرية، فقال: ما حملك على هذا؟ قال: القسمة قال: لا قل لي الصحيح، فقال: هو ما أقول للسكان، فقال له منكوتمر: لا حملك على هذا إلا العشق، فأطرق، فقال له منكوتمر؛ فلمن أنت عاشق، فسكت، فعلم منكوتمر أنه عاشق في أحد من جهته، فقال له: كأنك عاشق فلانة (المخطوط ص 55) لا، إلا فلانة لا إلا فلانة، يعد عليه واحدة بعد واحدة من خواتينه وأتباعهن، وهو يقول: لا إلى أن ذكر واحدة من أجلّ حظاياه، فسكت الفراش، فقال منكوتمر: أنت عاشق في هذه بلا شك، ثم أنه طلبها، وقال لها: فلان له علي أبي حق وعليّ، وهو عاشق فيك، وماله في هذا ذنب، ولا لك هذا شيء يتعلق بقلبه، ما له فيه حيلة، وأريد أزوجك به، فبكت وقالت: ياقان بعدك أتزوج بهذا، فقال: سوف تبصرين ما أعمل، ثم أنه عمل طودا، وسأل الأمراء أن ينصب للفراش كرسيا فوقهم، وأجلسه فوق الجميع، فقالوا له: الأمر أمر القان، فنصب له كرسيا فوقهم، وأجلسه عليه، وزوجّه بتلك الحظية [1] ، وعمل له يرتا [2] عظيما لا يصلح إلا
__________
[1] الجارية.
[2] برت: كلمة مغولية أصلها يورت أو أورت أو بورط وتعني خيمة أو مقر إقامة (فرهنگ عميد 2/2001) .(3/125)
للتوامين [1] الكبار، وأجراه مجرى واحد منهم.
قلت: ومن تأمل هذه الحكاية عرف سعة إحسان هذا الرجل وكرمه، فإنه أخذ غلاما لا يؤبه إليه، جعله ملكا، وسمح له بما لا يسمح بمثله من المال والجاه والمحبوب.
__________
[1] توامين جمع مفرده تومان والتومان يعني أمير عشرة الآلاف، لأن التومان وحدها بمعنى عشرة (فرهنگ رازي 179) .(3/126)
الفصل الثاني في مملكة القان الكبير(3/127)
صاحب التخت، وهو صاحب الصين والخطا، قد ذكرنا في صدر الفصل الأول «1» أن القان الكبير هو القائم مقام جنكيز خان والجالس على تخته «2» ، وهو أجل ملوك توران، التي من مملكة الترك [1] من قديم الدهور والآباد، وبها أو بما جاورها أو قاربها كان أفراسياب [2] ، غير أنه خرج عن هذا القان ما هو الآن لأبنيّ عمه؛ الذين تقدم ذكرهما «3» ، وإلى هذا القان إشارة الثلاثة أبناء عمه وهو كالخليفة عليهم، فإذا تجدد من مملكة أحد منهم مهم كبير [3] مثل لقاء عسكر أو قتل أمير كبير بذنب أوصله إليه اليسق [4] أي الحكم أو ما يناسب هذا، أرسل إليه وأعلمه، ولا افتقار إلى استئذانه ولكنها «4» عادة مرعية.
(المخطوط ص 56) قال الفاضل نظام الدين ابن الحكيم الكاتب البوسعيدي [5] «5» : أن هذا القان ما يزال يكتب إلى كل من القانات [6] الثلاثة،
__________
[1] المغول فرع من الأتراك.
[2] بطل أسطوري توراني قديم، حارب رستم حروبا طويلة، وأخيرا قتله رستم، وهو جزء من الصراع الإيراني التوراني (انظر: شاهنامة الفردوسي 35) .
[3] أمر هام مشكلة كبرى ويسمى هذا الاجتماع باسم الطوى أي الضيافة (رحلة ابن بطوطة 248) أما القوريلتاي فهو اجتماع لتنصيب القاآن (تركستان 649) .
[4] اليسق هي الياسا والياصا وهي الحكم والقاعدة (فرهنگ عميد 2/1991) واليساق (تركستان 114- 131) .
[5] نسبة إلى أبي سعيد بهادر بن أولجايتو خدابنده بن أرغون بن القاآن هولاكو.
[6] القانات جمع مفرده قان، وهي في الأصل قاآن تعادل كلمة شاهنشاه وخاقان وقيصر- والقان سمة لكل من يلي الملك عند المغول (رحلة ابن بطوطة 423) .(3/129)
يأمرهم بالاتحاد والألفة، وأنه إذا كتب إليهم بدأ باسمه قبلهم، وكلهم مذعنون له بالتقدم عليهم.
وحدثني بكثير مما عليه صاحب هذه المملكة، وأنهم على ما هم عليه من الجاهلية؛ على السيرة الفاضلة الشاملة لأهل مملكته، ومن يرد إليها من الجافهم «1» ، بجناح العدل والإحسان، ومعاملتهم بقشور من لحاء شجر التوت [1] ، مطبوعا باسمه، فإذا عتق ذلك المتعاطى به «2» ، حمله إلى ثواب هذا القان، وأخذ عوضه مع خسارة لطيفة [2] ، كما يؤخذ من دار الضرب على ما يؤخذ إليها «3» من الذهب والفضة، ليضرب بها.
وأهل مملكته هم أهل الأعمال اللطيفة والصنائع البديعة التي سلمت إليهم فيها الأمم، وقد ملئت الكتب عن أحوالهم بما أغنانا عن ذكره.
ومن عادة المجيدين في الصنائع أنهم إذا عملوا عملا بديعا، حملوه إلى باب الملك، وعلق به ليراه الناس، وتبقى سنة كاملة، فإن سلم من عائب، أسدى إلى صانعه صنائع الإحسان، وإن عيب عليه، وتوجه العيب، وضع قدر الصانع، وإن لم يتوجه العيب، قوبل من عاب عيبا غير متوجه قصد الأذية.
ومما حكى في هذا أن صانعا منهم صور في نقوش الثياب الكمخاء عصفورا على سنبلة حتى مثله كأنه حقيقة، فلما علقه حيث يعلق مثله، استحسنه كل من
__________
[1] هي نوع من العملة المستعملة، فهناك عملة من الذهب والفضة ولحاء الشجر وتسمى جميعها بايزه (حاشية جامع التواريخ 1/247) .
[2] وتسمى كانمد وهي مختومة بخاتم السلطان (رحلة ابن بطوطة 415) .(3/130)
رآه، حتى مر به رجل، فعابه، فسئل لأي شيء عبته؟ فقال: لأن العصفور إذا قعد على سنبلة أمالها، وهذه مستقيمة ما هي مائلة، فاستحسن قوله، ووضع قدر الصانع.
هذا مما يحكى عنهم، وأما ما يحكى لي عن المشاهدة والعيان، فحكى لي الصدر [1] بدر الدين حسن الأسعردي التاجر، أن بعض صناعهم عمل سرجا من أختاء البقر ودهنه، وأبدع صناعته، ثم قدمه إلى القان، فأعجبه، ووقع منه موقع الاستحسان، ولم يشك أنه معمول من خشب (المخطوط ص 57) مثل بقية السروج، فقال له صانعه: أما علمتم هذا مما خشبه؟، فقالوا: لا، فأوقفهم على أنه من أختاء البقر، فاستحسنوا جودة صناعته، ولطف تدقيقه.
وحكى لي أن بعض صنّاعهم عمل ثيابا من الورق، وباعها من التجار على أنها من الكمخاوات الخطائية [2] ، لا يشك فيها أحد، ثم أنه لما جاز هذا عليهم، أطلعهم على حقيقة حالها، فعجبوا لهذا.
قال بدر الدين حسن: ولقد رأيت منهم من هذه الأعمال ما تحار فيه العقول، وتذهل الأفكار، وأما ما حدثني به السيد الشريف تاج الدين حسن بن الجلال السمرقندي، وهو ممن جال في الأرض، وجال في الآفاق وهو من الثقات، وقد دخل الصين، وجاز بلاده، وجاب آفاقه، وجاس خلاله، وجال في أقطاره، قال: إن قاعدة الملك به مدينة خان بالق [3] ، وهي مدينتان قديمة وجديدة، والجديدة بناها ديدو أحد ملوكها، سميت باسمه ديدوا، وفي وسط مدينة ديدوا المذكورة منزل القان
__________
[1] الصدر، هي وظيفة مرموقة تقارب وزير، وصدر أعظم الآن بمعنى رئيس الوزراء في الأردية، وصدر تعني هنا الزعامة الدينية ومنها صدر جهان وصدر الصدور وهي ألقاب تمنح لرجال الدين آنذاك.
[2] الخطائية نسبة إلى الخطا، وهم قوم من الترك سبق التعريف بهم- وتأتي الخطا والختا والقراخانية.
[3] مدينة خان بالق أو خان بالغ أو باليق اسم قديم لمدينة بكين الحالية عاصمة الصين (انظر: فرهنگ عميد 1/828) وخان بالق من أعظم مدن الدنيا- مدينة السلطان في وسطها (رحلة ابن بطوطة 423) .(3/131)
الكبير، وهو قصر عظيم يسمى كوك طاق ومعناه في اللغة المغولية «القصر الأخضر» لأن القصر عندهم «طاق» والأخضر «كوك» وهي خلاف اللغة التركية، فإن كوك فيها هو الأزرق.
ونزول الأمراء حوله خارج قصره، قال: وأما ترتيب هذه المملكة فإن لهذا القان أميرين كبيرين هم [1] الوزراء ويسمى كل من يكون في هذه الرتبة جنكصان [2] ، ودونهما أميران آخران يسمى كل من يكون في هذه الرتبة بنجار «1» ودونهما أميران آخران يسمى كل من يكون في هذه الرتبة سمجين، ودونهما أميران آخران يسمى كل من يكون في هذه الرتبة يوجين، ورأس الكتاب ويسمى كل من يكون في هذه الرتبة كنجون «2» وهو بمنزلة كاتب السر.
ويجلس القان كل يوم في صدر دار فسيحة تسمى شن «3» هي عندهم من دار العدل عندنا، ويقف حوله الأمراء المذكورون عن اليمين وعن الشمال على مقادير الرتب، ورأس الكتاب (المخطوط ص 58) المسمى لنجون في آخرهم، فإذا شكى أحد شكوى أو سأل حاجة المذكور، فيقف عليها (هو ومن معه في الرتبة) «4» ، ثم يوصلانها إلى من يليهما في الرتبة «5» ، وكذا إلى أن تصل إلى القان، ويأمر فيها بما يراه مع العدل التام، والإنصاف المفرط.
قال: وهذا القان الكبير، ذو ملك كبير، وعسكر مديد، قال: والذي أعلم من أمره أن له بزدارا «6» تركب الخيل، وعساكره من المغل عشرون
__________
[1] هما.
[2] جنكسان: أمير يعادل درجة وزير وهي جنكساتك.(3/132)
توماتا [1] وهي مائتا «1» ألف فارس، وأما من الخطا فما لا يحصى.
قال: وبلاد الصين تشتمل على ألف مدينة، ورث كثيرا منها، والطريق إلى سمرقند إلى خان بالق على ما يذكر من سمرقند إلى نيلي عشرون يوما، ونيلي هي أربعة مدن، بين كل مدينة والأخرى فرسخ واحد، ولكل واحدة منها اسم يخصها، فالواحدة نيلي والأخرى نيلي بالق، والأخرى لنجك والأخرى تلان، ومن مدينة نيلي المذكورة إلى المالق عشرون يوما، ومن المالق إلى قراجواجا إلى قمحو هي أول بلاد الخطا، أربعون يوما، ومن قمحوا إلى خان بالق أربعون يوما، ثم من خان بالق إلى الخنسا [2] طريقان؛ طريق في البر، وطريق في البحر، وفي كل منهما من خان بالق إلى الخنساء أربعون يوما، وطول الخنساء [3] يوم كامل، وعرضها نصف يوم، وفي وسطها سوق واحد ممتد من أولها إلى آخرها، وكل شوارعها وأسواقها مبلطة بالبلاط، وبناؤها خمس طبقات، بعضها فوق بعض، وكلها مبنية بالأخشاب والمسامير، وشرب أهلها من الآبار، وأهلها في قشف عيش، وغالب أكلهم لحوم الجواميس والأوز «2» والدجاج، والأرز والموز وقصب السكر والليمون، وقليل رمان وهي شبيهة بمزاج مصر في حرها وهوائها، وأسعارها متوسطة، ويجلب إليها الغنم
__________
[1] تومان: كتيبة من عشرة آلاف جندي وهي تعادل لقب ونشى واللقب الصيني يوان- شواي أي القائد الأكبر ولقب بخشى بزرگ كما استعمله رشيد الدين فضل الله تايشى (انظر: تركستان لبارتولد 560) .
[2] الخنساء: هي كانتون الآن وهي ميناء صيني، اسماه ابن بطوطة الخنساء أو الخنسا (رحلة ابن بطوطة 420) والبحارة العرب اطلقوا عليها اسم الخنساء وحرف إلى خانسو ثم كانتون (انظر العالم الإسلامي- محمود شاكر القاهرة 1981 ص 203) .
[3] انظر: وصف الخنساء وهي عاصمة الصين الجنوبية آنذاك بتاريخ وصاف المعروف بتجزية الأمصار وتزجية الأعصار لعبد الله بن فضل الله الشيرازي، وكذلك عند ابن بطوطة ص 420.(3/133)
والقمح، ولكنه «1» قليل، ولا يوجد بها من الخيل إلا ما قل عند الأعيان الأكابر، وأما الجمال فلا يوجد بها شيء منها البتة، فإن دخل إليها جمل عجبوا منه.
قال الشريف هلال الدين حسن السمرقندي: وأما مدينة خان بالق، فمدينة طيبة وافرة الأقوات، رخية الأسعار، ويجمد بها الماء في زمن (المخطوط ص 59) الشتاء، ويسيل إلى الصيف، فيبرد به الماء، ويشق أحد المدينتين منها، وهي مدينة ديدوانهر.
وبها أنواع الفواكه إلا العنب، فإنه قليل، وليس بها نارنج ولا ليمون ولا زيتون، ويعمل بها السكر والنبات [1] مما يحمل إلينا من مدينة الزيتون، وأما ما بها من الزروع والدواب الجمال والخيل والأبقار والأغنام، فما لا يدخل في الإحصاء.
قال: وبين خان بالق ومدينة الزيتون شهر واحد تقديرا، ومدينة الزيتون بندر على البحر المحيط [2] ، وهي آخر العمارة.
قال: وأما مدينة قراقرم [3] فإنها مدينة جليلة، فيها غالب عساكر القان العظيم «2» ، ويعمل بها القماش المليح الفاخر والصنائع الفائقة، وغالب ما يحتاج القان إليه يستدعى منها، لأنها دار استعمال، وأهلها أهل صناعات فائقة وأعمال.
قال الشريف حسن السمرقندي: وبلاد الصين كلها عمارة متصلة من بلد إلى بلد ومن قرية إلى قرية، ومعاملتهم بورق التوت، ومنها كبار ومنها صغار، فمنها ما
__________
[1] يقصد به السكر النبات.
[2] مدينة الزيتون على المحيط الهادىء وهي مدينة ليس بها زيتون وهي مدينة كبيرة تصنع بها ثياب الكمخا والأطلس وتعرف بالنسبة إليها، وبها مرسى كبير (رحلة ابن بطوطة 417) .
[3] قرام قورم- جهانگشاي علاء الدين عطا الملك جويني ج 2/101.(3/134)
يقوم في المعاملة مقام الدرهم الواحد، ومنها ما يقوم مقام درهمين، ومنها ما يقوم مقام خمسة دراهم وأكثر إلى ثلاثين وأربعين وخمسين ومائة، وهو يؤخذ من لحاء شجر التوت اللين، ويختم باسم القان، وتجري به المعاملات، (فإذا عتق) «1» ، واضمحل، حمل إلى الخزانة، وأعطى عوضه مع غرم قليل [1] .
قال لي الشريف السمرقندي: ومن عجائب ما رأيت في مملكة هذا القان الكبير، أنه رجل كافر، وفي رعاياه من المسلمين أمم كثيرة، وهم عنده مكرمون محترمون، ومتى قتل أحد من الكفار مسلما، قتل الكافر القاتل، هو وأهل بيته، وتنهب أموالهم، وإن قتل مسلم كافرا، لا يقتل وإنما يطلب بالدية، ودية الكافر عندهم حمار، لا يطلب غير ذلك.
وسألته عن أهل الصين، وما يحكى عنهم من رزانة العقل، وإتقان الأعمال، فقال: هم أكثر مما يقال، وكنا جماعة بحضرة سيدنا وشيخنا مزيد الدهر وارث العلم والحكمة شمس الدين (المخطوط ص 60) أبي الثناء محمود الأصفهاني فقال الشريف السمرقندي: أنا أحكي لكم ما جرى لي: كنت أشكو ضرسا في فمي، فرآني بعض من كنت ألغت به في بلاد الصين، وأنا أتألم لشدة الضربان، فسألني عما بي، فشكوت إليه وجع ضرس، فاستدعى [2] شخصا حطابا قصير القامة، فقال له: أبصر حال هذا المسكين، فنظر في فمي وبقى يقلب أضراس بيده هنيهة، ثم أخرج ضرس الواحد ونصف الآخر، ولم أشعر لهما بألم، ثم أخرج من خريطة له، كانت معه أضراسا كانت كوامل وأنصافا وأثلاثا وأرباعا معدة عنده لوضعها في مواضع ما يقلع، ثم لم يزل يقيس مواضع ما قلع لي حتى وضع موضعها من تلك
__________
[1] انظر: المخطوط ص 156 به نفس المعلومة وانظر رحلة ابن بطوطة ص 415.
[2] وردت بالمخطوط فأسند لها.(3/135)
الأضراس، ثم ذر عليها ذرورا، ودهنها بدهن، التأمت به لوقتها، وأمرني أن لا أشرب عليها الماء يومي كله، ففعلت كأني ما قلعت شيئا، وأراني «1» أضراسه، فوجدناها كأحسن ما يكون فلا أن المستجدين «2» ظاهر عليها أنه ليسوا «3» من نوع البقية والضرس المشعوب، يظهر أن نصف الشعب من غير النصف الأول.
وحدثني الفاضل نظام الدين علي بن الحكيم أن لأهل هذه البلاد عقولا راجحة وأعمالا دقيقة وهم يقولون الفرنج «4» عور وباقي الناس عمى يعني أن صنائعهم صناعة يصير لعين وباقي الناس صناعتهم صناعة من هو أعمى ما يبصر ما يعمل وحكى لي من أحوال هؤلاء القوم ما ينبئ عن عقول جمة وترتيب حسن وفقهته [1] في الأمور «5» .
فمما يحكى عنهم أن في مدن الخطا مطابخ يطبخ فيها الأطعمة الفائقة والمشروب اللذيذ مما لا يوصف حسنه أن يقدم منه إلى الملوك معدة لمن يشتري منه من الأكابر حتى أن أحدهم إذا اهتم لضيافة كبير بعث إلى صاحب المطبخ من تلك المطابخ وقال له عندي ضيف وأريد له ضيافة بكذا في وقت كذا فإذا كان ذلك الوقت حمل إليه ما يناسب ارادته وشرطه من بدائع المأكول والمشروب كل شيء في وقته إن كان المضيف ماله مكان يصلح للضيافة أعد له صاحب المطبخ مكانا بكل ما يحتاج إليه من البسط والفرش والآلات والغلمان على قدر ما حده له المضيف من القيمة حسب صاحب المطبخ حساب مكسبه من كان ذلك عن أجرته والمطبخ
__________
[1] فهقنه: أي دراية وعلم من فقه ويفقه.(3/136)
والدار والفرش وكلفة الطعام والشراب واتمام كل شيء بحسابه بقانون متفق لا يزيد ولا ينقص من غير أن يحصل على المضيف تفريط ولا خيانة في شيء مما قل أو جل قلت وحدثني الشريف الفاضل أبو الحسن الكربلائي التاجر رحمه الله وكان قد اجتمع بقان هذه البلاد وكثير من ملوك الأرض مما شاهده من عظمة سلطان هذه السلطان وطاعة رعاياه له وأمنهم في دولته وقال لي أن لهذا القان أربعة وزراء يصدرون الأمر في مملكته كلها ولا يراجع القان إلا في القليل النادر ووصف لي أنه إذا أراد الركوب أنه لا يركب إلا في محقة لا يظهر للناس إلا في يوم واحد وهو مثل يوم مولده من كل سنة فإنه يركب فرسا ويخرج إلى الصحراء ويعمل بها الأطعمة والسماطات ما يغمر الناس ويكون مثل يوم العيد عندهم وحدثني الصدر بدر الدين عبد الوهاب بن الحداد البغدادي التاجر أنه وصل إلى الخنساء ووصف عظمة بنائها وسعة رقعة مدينتها مع تشكط الأقوات بها ووفور المكاسب فيها ورخص الرقيق الجيد فيها، ومن كل تلك البلاد قال وأهلها يتفاخرون بكثرة الجواري والسراري حتى أنه ليوجد لأحد التجار وآحاد الناس أربعون سرية فما زاد على ذلك قلت وكل ما ذكرناه في هذا هو على سبيل الاستطراد لبسط المقصود أن هذا القان هو أكبر الملوك الجنكيز خانيه الأربعة.(3/137)
الفصل الثالث في التورانيين وهم فرقتان(3/139)
(المخطوط ص 62) الفرقة الأولى: فيما وراء النهر، الفرقة الثانية: في خوارزم والقبجاق «1» .
الفرقة الأولى فيما وراء النهر وما قبلها وما بعدها «2» من ممالك تركستان، هي من أجل الممالك، وأشهرها، والنهر المشتهر لهم هو جيحون [1] ، وهو النهر الذي ينبع من ونج [2] حتى يصب في بحيرة خوارزم [3] وهي ممالك طائرة السمعة، طائلة البقعة، أسرة ملوك وأفق علماء ودارة أكابر، ومقعد ألوية وبنود [4] ومجرى سوابق وجنود، كانت بها سلطنة الخانية [5] وآل سامان [6] وبني سبكتكين [7]
__________
[1] نهر جيحون ببلاد ما وراء النهر ويعرف في الفارسية بآمودريا والاسم الآري القديم له فخشوا أو وكشو وأحد روافده الآن وخش وعرف عند العرب تجربات (تركستان 146) .
[2] ونج وهي ونه وهي ببلاد ما وراء النهر (انظر: ياقوت الحموي 4/931) .
[3] بحيرة خوارزم هي بحيرة آرال في الوقت الحاضر ويصب بها نهري سيحون وجيحون.
[4] بنود جمع مفرده بند، والعبد هو العلم الكبير (المعجم الوسيط إبراهيم مصطفى وآخرون القاهرة 1972 ج 1/73- انظر: كتابي الدخيل في لهجة أهل الخليج 23) .
[5] يقصد خانية خوارزم، والخانية هو إقليم أو منطقة وخوارزم أكبر مدن الأتراك وأعظمها وأجملها وأضخمها، لها الأسواق المليحة والشوارع الفسيحة والعمارة الكبيرة والمحاسن الأثيرة (رحلة ابن بطوطة 239) .
[6] آل سامان: هم أولاد سامان المنسوب إلى بهرام جوبين، وكان أسد بن سامان في خدمة غسان بن عباد وإلى خراسان فأكرمه وأنعم على أولاده وجعلهم ولاة على سمرقند وفرغانة واشروسنه وهرات، وقد استقلوا فيما بعد وأسسوا دولة آل سامان التي تكونت على يد إسماعيل الساماني سنة 279 هـ واستمرت حتى قضى عليها محمود الغزنوي أواخر القرن الرابع الهجري (انظر: روضة الصفا لميرخواند ترجمة د. أحمد الشاذلي القاهرة 1988 ص 79 وما بعدها- زين الأخبار گرديزى ترجمة د. عفاف زيدان ص 19) .
[7] بنو سبكتكين: هم أولاد ناصر الدين سبكتكين، كان علاما تركيا وليتّكين صاحب خراسان في عهد منصور بن نوح الساماني، ولما مات اليتكين وابنه إسحاق استقل سبكتكين بحكم غزنة سنة 366 هـ وأسس الدولة الغزنوية (انظر: روضة الصفا النسخة الفارسية 4/28- النسخة العربية 129- ابن الأثير 7/86- ابن كثير 11/286) .(3/141)
والغورية [1] ومن أفقها بزغت شمس آل سلجوق [2] وامتدت في الإشراق والشروق، وغير هذه الدول مما طم سيول هذه الممالك على قربها.
فأما قبل انتقالها إلى الإسلام فكانت في ملوك الترك لا تروم، ولا ترام، ولا تشق لها سهام، خيم بها الإسلام، وجازت ملكها هذه الأمة، برقت بالإيمان أسرتها، وتطرزت بالجوامع والمساجد قراها، ثم بنيت بها المدارس والخوانق والربط والزوايا، وأجرى الوقف عليها، وكثر من العلماء أهلها، وسارت لهم التصانيف المشهورة في أهل البحث والنظر، ولبخاري [3] من هذه المزايا الفاضلة أوفر الأقسام، ولم يعد علم الفقه والبحث والنظر، ولبخاري [3] من هذه المزايا الفاضلة أوفر الأقسام، ولم يعدّ علم الفقه هذه الأفاق مشرقا، ولم يعد علم هذه الأرض محققا، وما يقال في مملكة من بلادها بخاري وسمرقند [4] ، وترمذ [5] ، وخجند [6] ،
__________
[1] الغوريون: هم أهل بلاد الغور، حارب قائدهم محمد بن سوري محمود الغزنوي وذكر صاحب طبقات ناصري أنهم أسلموا في عهد خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ونقصه ذلك القول العتبي في تاريخ يميني، وقد أسس الغوريون دولة واتخذوا من غزنة عاصمة لها (انظر: روضة الصفا- الترجمة العربية للمحقق 141- طبقات أكبرى ترجمة المحقق 1/23 تاريخ گزيده 5/ر 4
[2] آل سلجوق: ظهر السلاجقة في بلاد ما وراء النهر واستولوا على خراسان بقيادة طغرل بيگ السلجوقي وحاربوا مسعود الغزنوي حتى طرده خارج خراسان وغزنة وأسسوا دولة السلاجقة.
[3] بخارى: قاعدة ما وراء نهر جيحون، ينسب إليها إمام المحدثين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، خربها اللعين تنكيز خان (رحلة ابن بطوطة 244- مراصد الاطلاع 1/169) ما زالت بخارى قائمة الآن في جمهورية أزبكستان.
[4] سمرقند: من أكبر المدن وأحسنها وأتمها جمالا، مبنية على شاطىء واد يعرف بوادي القصارين عليها النواعير (رحلة ابن بطوطة 251) مدينة ما زالت قائمة في جمهورية أزبكستان، بلد معروف مشهور بما وراء النهر (مراصد الاطلاع 1/736) .
[5] ترمذ: مدينة كبيرة حسنة العمارة والأسواق، تخترقها الأنهار بها البساتين الكثيرة (رحلة ابن بطوطة 252) .
[6] خجند هي خجنده من أعمال فرغانة ثم صارت في القرن العاشر الهجري وحدة إدارية قائمة بذاتها، ومدينة خجند من كبريات مدن ما وراء النهر بها قلعة وشهرستان وريصة (الاصطخري 333- ابن حوقل 394- 395- الطبري 2/1439) .(3/142)
والمالق [1] وغزنة [2] وأخوات هذه الأمهات، وأخبارها مشهورة، وآثارها مشهودة، ومن نظر من كتب التواريخ رأى مثل عين المتوشم من أحوال هذه البلاد، ومن فيها، وهي وافقة في «1» (الرابع ونادر منه في الثالث أو تمايل إلى الخامس، ولا يكاد يبلغه) «2» من أوسط المعمورة، وأوسع الأرض إذا قيل أنها أخصب بلاد الله، وأكثر ماء ومرعى، لم نعد القائل الحق في أوصافها ذات الأنهار السارحة والمروج الممتدة، كأنما نشرت الحلل على آفاقها، أو كسرت الحلى على حصبائها، وهذه المملكة طولها من ماء السند إلى ماء ايلا (المخطوط ص 63) المسمى قراخوجا وهو يلى بر الخطا، وعرضها من ونج، وهو منبع ماء جيحون إلى حدود كركانج [3] ما عدا خوارزم، وحدها من الجنوب جبال البتم [4] ، وماء السند الفاصل بينها وبين السند، ومن الشرق أوائل بلاد الخطا على خيلام وكلسكان وما هو على سمت ذلك من الشمال مراعي بارات «3» وخجند وبعض خراسان إلى بحيرة خوارزم، ومن الغرب بعض خراسان إلى خوارزم إلى مجرى النهر آخذا إلى الختل [5] .
__________
[1] المالق: الماليق أو الماليغ: مدينة كانت تقع بالقرب من مدينة كولجه الحالية على شاطىء نهر أيلي الذي يصب في بحيرة بلكاشن (انظر: حاشية بلوشيه على جامع التواريخ 410- 411) .
[2] غزنة: هي غزني وغزنين، بلد محمود الغزنوي، شديدة البرد (رحلة ابن بطوطة 261) وهي قاعدة ملك محمود الغزنوي، وتقع الآن في أفغانستان.
[3] كركانج: هي جرجانية حاضرة أمراء المأمونية في خوارزم، وهي گرگانج (تركستان 248- 250- فرهنگ أدبيات فارسي 26) وأطلق العرب عليها جرجانية وأطلق عليها المغول أرگينج (المقدسي 288- 289) .
[4] البتم مرتفعات وجبال ينبع منها نهر زرفشان وهي أيضا تأتي بتمان (تركستان 168) .
[5] الختل: مقاطعة واقعة بين نهري ينج ووخش وهي تسمى ختل وختلان، وأهم نواحيها وادي نهر كجي سرخاب (تركستان 151) .(3/143)
ومن بلاد هذه المملكة فرغانة [1] والشاش [2] واستيجاب [3] وأسروشنه (آه) [4] «1» وبلاد الختل، وفيها طرف من السند من غزنة إلى جنوبها وأقاليم هذه المملكة واقعة فيها على ما يذكر، وبلاد الختل آخذة على جانب جبال اليتم مغربا بشمال، ويليها الصعورانات في الشمال، ثم تزيد إلى ما يتاخم خوارزم وبلاد فرغانة، آخذة على جانب جبال اليتم شرقا بشمال ويليها بلاد السابون في الشمال ثم الشاش وأعمالها إلى حائط عبد الله بن حميد المعروف بحائط القلاص في خارجه بلاد استيجاب في الشمال بشرق «2» .
وبلاد الغزنة ممتدة في نهاية الشمال من أطراف بحيرة خوارزم في الغرب إلى بلاد استيجاب في الشرق ومراعي باران، وخجند داخل بلاد الغزنة، بينها وبين حائط القلاص، وبلاد أشروسنة في الوسط على نهاية الأنهار النازلة من جبال اليتم من جهة المشرق.
وأما أكابر مدنها المشهورة وهي القواعد العظام والأمهات الكبار، فإقليم غزنة وإقليم ما وراء النهر وهو بخاري وسمرقند وخجنده وترمذ، وإقليم الشاش وهو الشاش. ومغالاق، وإقليم فرغانة، وهو بدغينان [5] ورباط سرهنك وايدكان وأوش
__________
[1] فرغانة: مدينة عامرة في بلاد ما وراء النهر، ما زالت حتى الآن تابعة لجمهورية أزبكستان- (انظر: وصف فرغانة عند بارتولد 272 وما بعدها) .
[2] الشاش هي جاج من أعمال أشروسنة، وهي ناحية من نواحي ما وراء نهر سيحون متاخمة لبلاد الترك وهي أكبر ثغر كان في وجه الترك وجاج هي طشقند الحالية (انظر آثار البلاد 548- تاريخ بخارى لغامبري ترجمة د. أحمد الساداتي 94) انظر الخريطة المرفقة.
[3] استيجاب هي اسفيجاب أو اسبيجاب وهي قرب الشاش من بلاد فرغانة- معجم البلدان 4/1014) انظر الخريطة المرفقة.
[4] اسروشنة: من قصبات ما وراء النهر من أعمال بخاري (آثار البلاد 540) (انظر الخريطة المرفقة) .
[5] مرغينان: وهي أهم مدن القرا خانيين ومن أشهر نواحي فرغانة (ياقوت المعجم 4/500) .(3/144)
وإقليم تركستان شهر كند وجند وفارجند ووأطرار [1] وشبرم وجكل وجاص كن وبرساكن وامزدابان ونيلي وكنجك وطران، وهو المسمى بلاس، ونيكي كن وسيكول والمالق وبيش مالق وحبوك وقرشي وختن وكاشغر وبدخشان ودراوران.
(المخطوط ص 64) ودرّه وبلاصاغون، كل واحدة ذات مدن وأعمال ورساتق [2] وقرى وضياع، مأوى الأتراك، وغيل أسودهم وجو عقبانهم.
وقرشي قاعدة الملك بها الآن وهي علي نهر قراخوجا في نهاية الحد، ثم بخاري ثم سمرقند ثم غزنة وإن كانت بخاري مما لا تسير إليها ركابهم ولا ترسى عليها خيامهم، ولكن «1» لعظمة مكانها، وسالف سلطاتها، وسيأتي ذكر هذه القواعد في مواضعها.
ولم يسلم ملوك هذه المملكة إلا من عهد قريب فيما بعد خمس وعشرين وسبعمائة [3] ، أول من أسلم منهم ترماشيرين [4] رحمه الله، وأخلص لله وأيد الإسلام [5] ، وقام به أشد القيام وأمر به أمراءه وعساكره فمنهم من كان قد سبق إسلامه، ومنهم من أجاب داعيه، وأسلم، وفشا فيهم الإسلام، وعلا عليهم لواؤه، حتى لم تمض عشرة أعوام حتى اشتمل فيها بملأته الخاص والعام، وأعان على هذا ما
__________
[1] أطرار وهي أترار: مدينة من بلاد الترك آخر ولاية خوارزمشاه قتل حاكمها جماعة من التجار المغول سنة 617 هـ، وكان هذا سببا في غزو المغول للمسلمين (ابن الأثير 12/361- 362) .
[2] رساتق جمع مفرده رستاق وهي القرية (فرهنگ رازي 408) .
[3] علاء الدين طرمشيرين (ترماشيرين) سلطان ما وراء النهر ولى الملك بعد أخيه وكان أخوه كافرا ويدعى الجكطي كما كان أخوه الملك الأسبق كبگ كافرا وقد أسلم طرمشرين، وملك بلادا واسعة (انظر: رحلة ابن بطوطة 246- 248) .
[4] ورد بالمخطوط برماسيرين.
[5] اسخط ترماشيرين المغول عليه بسبب ميله إلى الإسلام والحضارة الإسلامية، ولم يراع الياساق (تركستان 131) .(3/145)
في تلك الممالك من الأئمة العلماء والمشايخ الأتقياء، فاغتنموا من الترك فرصة الإذعان، فعاجلوهم بدعوة الإيمان، وهم الآن على ما اشتهر عندنا، واستفاض، أحرص الناس على دين «1» ، وأوقفهم عن الشبهات بين الحلال والحرام، وعساكرهم هم أهل النجدة والبأس، لا يجحد هذا من طوائف الترك جاحد، ولا يخالف فيه مخالف [1] .
حدثني خواجا مجد الدين إسماعيل السلامي قال: إذا قيل في بيت هولاكو أن العساكر قد تحركت من باب الحديد [2] يعني من بلاد خوارزم، والقبجاق لا يحمل أحد منهم لم هما، فإذا قيل أن العساكر تحركت من خراسان يعني من جهة هؤلاء السقط «2» ، لأن هؤلاء أقوى ناصرا، وأولئك أكثر عددا، لأنه يقال أن واحدا من هؤلاء بمائة من أولئك «3» .
وقال: ولهذا خراسان عندهم ثغر عظيم لا يهمل سداده، ولا يزال فيه من يستحق ميراث التخت أو من يقوم مقامه لما وقر لهؤلاء في صدورهم من مهابة لا يقلقل طودها، فإنهم طال ما يلوهم في الحروب، وابتلوا بهم فيها.
وحدثني الفاضل نظام الدين أبو الفضائل يحيى بن الحكيم ما معناه أن بلاد هؤلاء متصلة (المخطوط ص 65) بخراسان متداخلة بعضها ببعض، لا يفصل بينهما بحر ولا نهر ولا جبل «4» ولا شيء مما يمنع أهل هذه البلاد عن قصد خراسان، وبينهما وبين خراسان أنهار جارية ومراع متصلة، فإذا أرادوا خراسان تنقلوا في المرعى
__________
[1] انظر: رحلة ابن بطوطة ص 248.
[2] باب الحديد باب في بخارى (تركستان 197) وباب في كش من بلاد الصفد (تركستان 238) .(3/146)
واستدرجوا استدراجا لا يبين ولا يظهر أنه لقصد بلاد بل للتوسع في المرعى، فلا يشعر بهم إلا وهم بخراسان، حتى إذا صاروا فيها، جاسوا بها خلال الديار، وعاثوا فيا عبث الذئاب، وهم مع سيرهم المجد من بلادهم إلى خراسان لا مشقة عليهم ولا على دوابهم، لأنهم من ماء إلى ماء، ومن مرعى إلى مرعى.
قال ابن الحكيم: ولهذا يخاف ملوكنا عادية هؤلاء لأنهم لا يعلمون بهم إلا وهم معهم.
قلت: ومن هذه البلاد نجم الدولة السلجوقية [1] في عهد السلطان مسعود السبكتكين [2] «1» ، ما بزغ كوكبهم ثم استعلى نيرهم ونبع معيتهم، ثم فاضت أبحرهم، وكان الاحتجاج بالتنقل في المرعى هو السبب لجر الملك إليهم حتى اشتهر من أعلامهم، وانتشرت أيامهم على ما هو مرقوم في صدر السير وصفحات التواريخ.
ولم يزل لأهل هذه (المملكتين (قديمة) «2» وكان سكان الهند لا يلزمون مقاومتهم، ولا يتقون إلا بصدور الأفيال مصادمتهم، حتى علت والحمد لله بالهند دولة الإسلام، وزادت اليوم بلسطانها القائم علوا، وتناهت غلوا، فنامت عيون أهل هذه البلاد لهيبة ذلك السلطان لعدم هجوده، وسكتت ثعالبهم المخاتلة بزئير أسوده، ولقد كان أهل هذه المملكة لا تزال تجوس أطراف الهند خيولهم، وتحتجف به الأموال والأولاد سيوفهم، حتى نشأ بالهند سلطانه الآن، وشمر للحرب ذيله،
__________
[1] دولة السلاجقة.
[2] مسعود بن محمود الغزنوي حكم سنة 422 هـ بعد حبس أخيه محمد، ولم يستطع أن يواجه السلاجقة والغوريين ففر ألى الهند ولكنه قتل على يد جماعة من أتباع ابن أخيه أحمد (روضة الصفا 160- 164) .(3/147)
وجاهد الأعداء في كل قطر، واختلفت كلمة أهل هذه البلاد على ملوكها، فانكفوا لبأس ذلك السلطان، واختلاف ذات البين، وكان ملوك هذه المملكة من أولاد جنكيز خان، وأتباعهم من المحافظة على ياسة «1» جنكيز خان، والتعبدات المعهودة (المخطوط ص 66) . من أهل هذا البيت من تعظيم الشمس، والميل إلى آراء البخشية [1] ، تابعين لما وجدوا عليه آباءهم، يعضون عليه بالنواجذ، مثل تمسك القان الكبير، ومن إلى مملكته بها، بخلاف الفخذين الآخرين ببلاد خوارزم والقبجاق، وأهل مملكة إيران، وإن كان الملوك الأربعة من أولاد جنكيز خان، ومن تبعته تبعوا، ومن أفقه طلعوا، لكن «2» بهذه المملكة والخطا، أشد بياسته تمسكا، ولطريقته إتباعا، وهما مع هذا أعدل بني أبيهما حكما وأنشرهما له في بلادهما ورعاياهما.
وقد قدمنا التنبيه على أن رعايا هذه المملكة وقرارية أهلها من قدما الإسلام السابقين إليه، وكانوا مع كفر [2] ملوكهم في جانب ألا تزان «3» ، لا تتطرف إليهم أذيه في دين ولا حال ولا مال، فلما آل الملك إلي ترماشيرين [3] كما ذكرنا، دان بالإسلام، وأظهره في بلاده، ونشر في خانقى ملكه، واتبع الأحكام الشرعية،
__________
[1] البخشية: كانت ديانة المغول الشامانية وهي عبادة الخان الأعظم ابن الإله المعبود (فتوحات هولاكو 5- 6) ولفظ بخشى من السنسكريتيت Bhikkshu وهو لقب يطلق في الأصل على الرهبان البوذيين (تركستان 555) .
[2] وردت بالمخطوط كفرهم.
[3] وهو السلطان المعظم علاء الدين طرمشيرين (ابن بطوطة 246) وهو ترمشيرين بن دوا بن براق بن آسن دوا بن موتكن بن جغتاي بن جنكيز خان حكم خانية جغتاي ما بين سنة 1326- 1334 م.(3/148)
واقتدى بها، وأكرم التجار الواردين عليه من كل صوب، وكانت قبله الطرقات لا تفتح لتجار مصر والشام إليها، ولا يهم مضطرب «1» في الأرض منهم بالمرور عليها، فلما ملك ترماشيرين، كثر قصد التجار له، وعادوا شاكرين منه، حتى صارت بلاده لهم «2» طريقا قاصدا، ومنهجا مسلوكا [1] .
حدثني الصدر بدر الدين حسن الأسعردي التاجر بما كان ترماشيرين يعامل به التجار والواردين عليه من الإكرام ومزيد الإحسان، وأخذ قلوبهم بكل إمكان.
قال صاحب كتاب صفة أشكال الأرض ومقدارها [2] ، ما وراء النهر من أحضب الأقاليم منزلة، وأنزهها، وأكثرها خيرا، وأهلها يرجعون إلى رغبة في الخير، واستجابة لمن دعاهم إليه مع قلة غائله، وسلامة ناحية وسماحة بما ملك أيديهم، مع شدة شوكة ومنعة وبأس ونجدة وعدة وعدة وآلة وكراع وبسالة وعلم وصلاح.
فأما الخصب فليس من إقليم ألا يقحط أهله مرارا قبل أن يقحط ما وراء النهر (المخطوط ص 67) من واحدة ثم أن أحسوا ببرد أو بحراد أو بآفة تأتي على زروعهم وغلاتهم، ففي فضل ما يسلم في عروض بلادهم، ما يقوم بأودهم حتى يستغنوا به عن شيء، ينقل إليهم من غير بلدهم، وليس بما وراء النهر مكان يخلو من مدن أو قرى أو مراع لسوائمهم [3] ، وليس بشيء لا بد للناس إلا وعندهم منه ما يقيم به أودهم، ويفضل عنهم لغيرهم.
فأما طعامهم في السعة والكثرة فعلى ما ذكرناه، وأما مياههم فإنها أعذب المياه وأبردها وأخفها، قد عمت جبالها وضواحيها ومدنها إلى التمكن من الجمد في
__________
[1] انظر: رحلة ابن بطوطة ص 246- 248.
[2] كتاب صفة أشكال الأرض ومقدارها.
[3] السوائم مفردها سائمة وهي كل إبل أو ماشية ترسل للرعي ولا تعلف (المعجم الوسيط 1/483) .(3/149)
جميع أقطارها، والثلوج من جميع نواحيها، وأما الدواب ففيها من النتاج ما فيه كفايتهم، ولهم من نتاج الغنم الكثير، والسائمة المفرطة، وكذلك الملبوس فإن لهم من الصوف والقز [1] وطرائف البز [2] ، وببلادهم من المعادن وخصوصا الزئبق الذي لا يقاربه في الغزارة والكثرة معدن، وأمّا فواكههم فإنك إذا توطنت [3] السغد وأسروشنه [4] وفرغانة والشاش، رأيت في فواكههم ما يزيد على سائر الآفاق، حتى ترعاها دوابهم، ويجلب إليها من محاسن الأشياء، وطرف البلاد ما يتنافس الملوك فيه.
وأما سماحتهم فإن الناس في ما وراء النهر كأنهم في دار واحدة، ما ينزل أحد بأحد إلا كأنه رجل دخل دار نفسه، لا يجد المضيف من طارق يطرقه كراهية، بل يستفرغ جهده في إقامة أوده، من غير معرفة تقدمت، ولا توقع لمكافأة بل اعتقاد السماحة بأموالهم، وهم في كل امرئ [5] على قدره فيما ملكت يده، وحسبك أنك لا ترى صاحب ضيعة يستقل بمئونته إلا كانت همته اقتناء قصر فسيح، ومنزل للأضياف، فتراه نهاره في إعداد ما يصلح لمن يطرقه، وهو متشوق إلى وارد عليه ليكرمه، فإذا حل بأهل ناحية طارق، تنافسوا فيه، وهم فيما بينهم يتبارون في مثل هذا الشأن، حتى يجحف بأموالهم، كما يتبارى سائر الناس في الجمع والمكاثرة والمال.
قال: ولقد شهدت (المخطوط ص 68) آثار منزل بالصغد [6] ، قد ضربت الأوتاد على باب داره بخيول الضيفان، أن ما بها مكث لا يغلق ما يزيد على مائة
__________
[1] القز وهو الخز ويعني الحرير الخام.
[2] البزّ: نوع من الثياب (المعجم الوسيط 1/56) .
[3] وردت بالمخطوط تبطنت.
[4] وردت بالمخطوط أسروشة.
[5] وردت بالمخطوط أمرء.
[6] ترد بالسين والصاد- السغد والصغد من بلاد ما وراء النهر (انظر: الخرائط المرفقة) .(3/150)
سنة: لا يمنع من نزولها طارق، وربما نزل به ليلا على بغتة المائة والمائتان والأكثر من الناس بدوابهم وحشمهم، فيجدون من طعامهم ودثارهم وعلف دوابهم ما يكفيهم، من غير أن يتكلف صاحب المنزل أمرا بذلك، أو يتجشم عبئا، لدوامه مع البشاشة بأضيافه لعلم سروره بهم كل من شهده.
قال: وترى الغالب على أهل المال والثروة صرف أموالهم على خاصة أنفسهم في الملاهي، وما لا يرضى الله تعالى، والمنافسات فيما بينهم، والغالب على أهل الثروة والمال في ما وراء النهر صرف أموالهم في عمل المدارس وبناء الرباطات وعمارة الطرق والأوقاف على سبيل الجهاد ووجوه الخير وعقد القناطر إلا القليل من ذوي البطالة، وليس من بلد ولا سبيل مطروق ولا قرية آهلة إلا وفيها من الرباطات [1] ما يفضل عمن ينزل به.
قال: وبلغني أن بما وراء النهر زيادة على عشرة آلاف رباط في كثير منها، إذا نزل النازل أطعم وعلق على دابته.
قال: وقلّ ما رأيت خانا [2] أو طرف سكة أو محلة أو مجمع ناس بسمرقند في المدينة وظهرها إلا وبه ماء مسبل بجمد.
قال: وحدثني من له خبرة أن بسمرقند وظواهرها ما يزيد على ألفي مكان يسقى فيها ماء الجمد مسبل عليه الوقوف، من بين سقاية مبنية وجباب نحاس منصوبة وقلال خزف مثبتة في الحيطان [3] .
وأما بأسهم فمشهور مستفيض، وفي بعض الأخبار أن المعتصم سأل عبد الله [4]
__________
[1] مفرده رباط وهو ملجأ الفقراء من المتصوفة (المعجم الوسيط 1/335) .
[2] الخان مكان فسيح خاص لنزول التجار، وهو مكون من طابقين، طابق لنزول الدواب والثاني لإقامة التجار (انظر: فرهنگ رازي 260) والخان: الفندق (المعجم الوسيط 1/272) .
[3] وردت بالمخطوط الحيطا.
[4] عبد الله بن طاهر بن الحسين، تولى أمر خراسان لمدة سبع عشرة سنة كان كاتبا وأديبا وقائدا مشهورا، كان-(3/151)
أو كتب إليه يسأله عن من يمكنه حشده من خراسان وما وراء النهر، فأنفذ إلى نوح ابن أسد بن سامان [1] فكتب إليه أن ثم ثلاثمائة ألف قرية، إذا خرج من كل قرية فارس وراجل لم يتبين أهلها فقدهم.
قلت: ولقد حدثني الصدر مجد الملك يوسف بن زاذان (المخطوط ص 69) البخاري أنه يوجد عند آحاد العامة من عشرين دابة إلى خمسمائة دابة، لا كلفة عليه في اقتنائها لكثرة الماء والمرعى.
قال: وهم أهل طاعة لسلاطينهم، وانقياد لأمرائهم حتى أن المتولى لأمورهم يتصرف في أموالهم وأمورهم وسائر أحوالهم تصرف المالك في ملكه، والمستحق في حقه، متبسطا في ذلك، مادا يده لا هو يتحشى، ولا صاحب المال والحال يتشكى، كلاهما طيب القلب، قرير العين، راض بصاحبه.
وحدثني الشريف السمرقندي أن أهل هذه البلاد في الغالب، لهم بواعث هم على طلب العلم، والمظاهرة على الحق والمضاهاة في الخلال الحميدة، إلا من قل وقليل ما هم.
وقد ذكر علي بن مشرف [2] في كتاب ألفه باسم الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل [3] ، ذكر فيه ما وراء النهر فقال: وهي في الدنيا أنموذج الجنة في
__________
- عادلا وكريما، له أشعار بالعربية (انظر روضة الصفا 50- زبن الأخبار گرديزي 14- مروج الذهب للمسعودي 4/200- ابن الأثير 9/8- ابن كثير 1/35) .
[1] نوح بن أسد بن سامان: تولى أمر سمرقند من قبل والي ما وراء النهر غسان بن عباد، وهو أحد أبناء أسد بن سامان مؤسس الدولة السامانية (روضة الصفا ص 79- 80) .
[2] علي بن مشرف: هو علاء الدين أبو الحسن علي بن مشرف المارد بني الشافعي الأديب، كان في حدود سنة 620 هـ، له إثبات الدليل في صفات الخليل وهو ديوان شعر (انظر: هدية العارفين 1/705) .
[3] بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل في عهد أرسلان شاه بن مسعود ثم في عهد ولده القاهر، ولما توفي القاهر سنة 615 هـ، انفرد بالسلطة ودام حكمه ثلاثة وأربعين عاما، وقد صالح هولاكو، ودخل في طاعته وحمل إليه الأموال في بغداد، توفي سنة 656 هـ (انظر: أبو الفداء 3/198- تاريخ ابن خلدون 5/1151- دائرة المعارف البستاني 5/241- 243) .(3/152)
الآخرة، لا يحمل المسافر فيها ماء ولا زادا، ولا يحتاج رفيقا، ولا يستشكل طريقا مكان فاتك وناسك، ورد إليها قفل تجار [1] مات منهم واحد، له بضائع جليلة، وأموال كثر، ولم يكن ثم له وارث، فاحتاط نواب الديوان على ماله، وبلغ هذا سلطان الناحية، فأنكر غاية الإنكار، فقال: ما لنا نحن ولأموال التجار، ومعه رفاق هم أعلم بحاله، فإن كان له وارث بلغوه أمانتهم من ميراثهم، وإلا فهم أحق برفيقهم، وأولى بماله، ثم طلب التجار، وأمرهم بتسليمه، فامتنعوا، وقالوا: هذا رجل لا وارث له منا، ولا في بلده، ولا نعرف له وارثا بالجملة، ولا نعلم (من) [2] يرثه إلا بيت المال، وتجارته تقارب ثمانمائة ألف درهم، وقد مات منا، وأنتم أحق به، فغضب، وقال: لا والله نحن ما نأخذ إلا ميراث من مات من بلادنا، ولا وارث له، وأما هذا فملك بلاده، وأحق بميراثه، خذوا المال، فاحملوه إليه، قال: فأخذوه معهم إلى توريز [3] ، وأعطوه لصاحبها، لأن الرجل كان منها.
ورأيت في كتاب آخر سماه مؤلفه تفضيل الرحلة ألفه لبدر الدين لؤلؤ أيضا، ولم يسم مؤلفه نفسه، قال: (المخطوط ص 70) ، وعبرنا [4] في طريقنا إلى خان بالق ببلاد كثيرة، أجلها ما وراء النهر، وهي مما تنفذ العبارة دونها ما شئت من حسن وإحسان وحور وولدان وفاكهة صنوان وغير صنوان [5] وماء- كما قال- عن برد إحسان ملك كبير، وخير كثير، وأقوام لهم يلذ العيش ويليق عند ثباتهم الطيش، قوم كرام لا يخف لهم أطواد أحلام، ومن بلادهم معادن أشرفها الرجال،
__________
[1] قفل تجار: أي قافلة تجار.
[2] ما بين القوسين للمحقق.
[3] يقصد تبريز: وقد ذكرها توريز في مواضع كثيرة كما فعل أمثاله من المؤرخين العرب.
[4] وردت بالمخطوط وعبر.
[5] إشارة إلى قوله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
[الرعد: الآية 4] .(3/153)
ومنها اللعل الأحمر واللازورد الأزرق، وما هو من هذه الأمثال.
قلت: وبالغ في وصفها وهي كذلك، وأما ما أشار إليه من المعادن فيها فهو بدخشان، وهي مع مملكة ما وراء النهر، وليس حقيقة منه، ولا من تركستان، بل هو إقليم قائم بذاته [1] معدود للمحاورة مع أخواته، قد حوى كل بديع من حيواته، ومعدته، ونباته.
قلت: وبلغني ممن أثق به منهم أن من يسق [2] ملوكهم أنه إذا راح من عساكرهم ألف فارس إلى مكان وقتل منهم تسعمائة تسعة وتسعون فارسا، وسلم ذلك الفارس الواحد، قتل ذلك الواحد لكونه لم يقتل مع البقية، اللهم إلا أن حصل النصر لمن سلم.
وملوك هذه المملكة من بني جنكيز خان، وقد قدمنا القول أن أحوال بني جنكيز خان متقاربة في ممالكهم، لمشيهم على ياسة جنكيز خان، ولا تكاد تمتاز أهل مملكة من ممالكهم عن الآخرين إلا فيما قل.
ومعاملة ممالك قسمي إيران هؤلاء، وأهل خوارزم، والقبجاق ومعظم إيران بالدينار الرائج وهو ستة دراهم، وفي بعض هذه بالخراساني وهو أربعة دراهم، ودراهم أهل هذه المملكة خاصة من فضة خالصة غير مغشوشة، فهي وإن قل وزنها عن الدرهم معاملة مصر والشام فإنها تجوز مثل جوازها لخلوص هذه الدراهم وغش تلك، لأن ثم أن تلك الدراهم نوعان؛ درهم بثمانية فلوس ودرهم بأربعة فلوس، ويوجد بهذه المملكة من الحبوب القمح والشعير، والحمص والأرز والدخن وسائر الحبوب خلا الفول.
وأسعارها جميعا رخية (المخطوط ص 71) فإذا غلت فيها الأسعار أغلى [3]
__________
[1] ورد بالمخطوط بدادته.
[2] يسمى هي الياسا والياصا الجنگيزية.
[3] وردت بالمخطوط أغلا.(3/154)
الغلو، كانت مثل أرخص الرخص بمصر والشام.
وبها من الفواكه المنوعة الثمار العنب والتين والرمان والتفاح والكمثرى والسفرجل والخوخ والعين والمشمش والتوت والبطيخ الأصفر والأخضر والبطيخ الأصفر بهذه البلاد نهاية، والبخاري والسمرقندي أحسن أنواعه، وإن كان الخوارزمي يزيد عليه في الحسن واللذاذة على ما نذكره في مكانه.
وبها الخيار والقثاء واللقف والجزر والكرنب والباذنجان والقرع وسائر أنواع البقول وأنواع الرياحين من الورد والنرجس والآس والنيلوفر [1] والحبق والبنفسج وإن قل، ولا يوجد بها الأترج والنارنج والليمون والليم ولا الموز ولا قصب السكر ولا القلقاس ولا الملوخيا، فإنها من ذلك عارية الحدائق، خالية الدوح، إلا ما يأتي من المحمضات إليها مجلوبا. فأما الدواب والخيل والبغال والحمير والإبل البخت [2] والبقر والغنم، وأقلها البغال والحمر وأكثرا الأغنام فإنها في هذه البلاد كما يقال أعورتها الزرائب بالمالق، وما يليها بملأ الفضاء، ويسد عين الشمس، وهي بلاد قريبة من الاعتدال، لا تفرط في حر ولا برد، ذات عيون دافقة، وأنهار سارحة، ومراع متسعة مربعة، وخصب مفرط، يزكو حيوانها ونباتها ومعادنها.
قال لي الشيخان صدر الدين محمد ومحمد الخجنديان الصوفيان بالخانقاه الفوهية أنه لولا موتان يقع في خيل المالق [3] وأغنامها في بعض السنوات، لما أبتيعت، ولا يوجد من يشتريها، لكثرتها وبركات نتاجها.
قالا: ومدينة بدخشان [4] بها معدل اللعل البدخشاني لم يمكنا أن نتكلم
__________
[1] وردت بالمخطوط الليفوفر.
[2] الإبل البخت: هي الإبل الخراسانية واحدها بختى. وجمعها بخاتي وبخات (المعجم الوسيط 1/42) .
[3] المالق أو الماليق مدينة كانت قرب كولجه الحالية على شاطىء نهر إيلي الذي يصب في بحيرة بالكاش (انظر حاشية بلوشيه على جامع التواريخ 410- 411) .
[4] وردت بالمخطوط برخشان.(3/155)
بشيء قبله، فقال له: كم قيمة هذه القطعة يا نجم الدين؟ فقال ما يعرف قيمة هذه إلا من ملك مثلها، أو رأى مثلها، وأنا وأنت والسلطان وجميع من حضر ما رأى مثلها، ولا قريبا منها، فكيف نعرف قيمتها؟ فاستحسن هو وكل من حضر قوله وصالحوا صاحبها وهو المسمى في البلاد بالبلخش ومعدن اللازورد الفائق وهما في جبل بها يحفر عليهما في معادنهما فيوجد اللازورد بسهولة ولا يوجد اللعل إلا بنقب كبير وانفاق زائد وقد لا يوجد بعد النقت الشديد والانفاق الكبير ولهذا عز وجوده وغلت قيمته فكثر طالبه والتقت الأعناق إلى التحلي به. قلت: وأنفس قطعة وصلت إلى بلادنا من البلخش قطعة وصلت مع تاجر في الأيام العادلية الزينية واحضرت إلى العادل كتبغا [1] وهو بدمشق إذ ذاك. قال لي أحمد ناظر الصاغة أحضرني الصاحب شهاب الدين أحمد الحنفي ومن يعرف الجوهر وجماعة من الأكابر منهم نجم الدين الجوهري وارانا ملك القطعة فرأيناها قطعة جليلة مسننة على هيئة المشط.... زنتها خمسون درهما وهي نهاية في الحسن وغاية في الجود كاد يضيء إليها المكان وسألنا عن قيمتها كم تساوي [2] فأشرنا إلى نجم الدين الجوهري لأنا لا يمكننا أن نتكلم بشيء قبله، فقال له: كم قيمة هذه القطعة يا نجم الدين؟ فقال ما يعرف قيمة هذه إلا من ملك مثلها أو رأى مثلها وأنا وأنت والسلطان وجميع من حضر ما رأى مثلها ولا قريبا منها فكيف نعرف قيمتها؟
فاستحسن هو وكل من حضر قوله وصالحوا صاحبها.
وسنذكر جملة مما هي عليه قواعد هذه البلاد، وأول ما نبدأ بفريبي [3] قاعدة الملك بها، وإن لم تكن شيئا مذكورا، ولها شيء على اختلاف حالات الزمان شهرة
__________
[1] العادل كتبغا هو أنو شيروان بن طغا تيمور حكم ما بين 744 هـ- 756 هـ (جامع التواريخ 2/14) .
[2] وردت بالمخطوط كم تسوى.
[3] فرسبي أو فريبي، لم أعثر عليها وربما يقصد مدينة فروان أو يروان التي ما زالت تحتفظ بهذا الاسم حتى الآن مع أن عاصمة بدخشان هي جرم قرب فيض آباد- (بدخشان دائرة المعارف الإسلامية مادة بدخشان) .(3/156)
تذكر، ولكن لما شملتها به في دولة ملوكها الآن من نظرات السعادة لنسبتها إلا أنها سكن لهم، وإن كانوا ليسوا بسكان جدار ولا متدبرين في ديار، ولكن لاسم وسمت به.
وأما بخاري فأم أقاليم، ويم تقاسيم، وقد كانت للدولة السامانية قطب نجومهم السائرة، ومركز أفلاكهم الدائرة، وكانت تلك الممالك كلها تبعا له، وكان آل سامان بها، وإن لم يتسموا بالسلطنة، ولا وسموا بغير الإمرة كالخلفاء لا يباشروا الأمور إلا نوابهم، ولا يخرج إلى الحروب إلا قوادهم، ودست قواعد [1] دولتهم، وأذعنت لهم ملوك الأقطار، ولم تكن ملوك بين بويه [2] على عظمة سلطانهم إلا كالأتباع لهم، يحملون إليهم الحمول والقماش المطرز بأسمائهم وأسماء أرباب دولتهم كالوزير والحاجب.
وحكى أبو نصر العتبي [3] :....... [4] (المخطوط ص 73) وكتب نوح [5] بن إلى ابن بويه كتابا يهدده فيه، فكتب جوابه: يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا، فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين، ثم لم يرسل هذا الجواب، خوفا لما وقر في صدورهم من مهابة آل سامان إلى أن قضى الله فيهم بأمره، وولى زمانهم،
__________
[1] دست: مقر حكم السلاطين (فرهنگ رازي 332) صدر المجلس (المعجم الوسيط 1/292) .
[2] بنى بويه: ينسبون إلى بهرام گور، وقيل إنهم من نسب ديلم بن ضبة وذكرهم ابن مسكوية في تجارب الأمم إنهم يزعمون إنهم أبناء يزدجرد واكد ذلك صاحب الكامل في التاريخ، جدهم أبو شجاع بويه استولى أبناؤه على بلاد الديلم طبرستان وكيلان ومازندران والري وقزوين وهمدان وأصفهان، وسيطروا على الخليفة العباسي، واستمرت دولتهم حتى سنة 487 هـ (انظر: روضة الصفا 181 وما بعدها- تجارب الأمم لابن مسكويه 6/279- ابن كثير 11/173 وما بعدها- ابن الأثير 7/231 وما بعدها) .
[3] أبو نصر العتبي: أبو نصر محمد بن عبد الجبار العتبي من المؤرخين والأدباء في القرن الرابع والخامس الهجري، عاصر الغزنويين، له كتاب تاريخ يمينى ألف للسلطان محمود الغزنوي توفي سنة 427 هـ (فرهنگ أدبيات فارسي 239) .
[4] فراغ مقداره سطر ونصف.
[5] فراغ مقداره 3 سم.(3/157)
وجاء زمان سبكتكين على إثره، قال العتبي: وخمدت تلك الشعلة.
قال صاحب كتاب أشكال الأرض ومقدارها: لم أر، ولم أسمع بظاهر بلد أحسن من بخاري، لأنك إذا علوت ولم يقع نظرك من جميع النواحي إلا على خضرة تتصل خضرتها بلون السماء فكأن السماء مكبة زرقاء على بساط أخضر، تلوح القصور فيما بين ذلك كالتراس الشتية والحجب الملطية وكالكواكب العلوية بياضا ونورا بين أراض وضياع مقسومة بالاستواء، مهذبة كوجه المرأة بغاية الهندسة، وليس بما وراء النهر ولا غيرها من البلاد أحسن قياما بالعمارة للضياع منهم، مع كثرة متنزهات في سعة المسافة وفسحة المساحة، متصلة بعضد سمرقند.
قال: ويحيط ببخاري وقراها ومزارعها سور [1] ، قطره اثنا عشر فرسخا في مثلها، كلها عامرة ناضرة زاهرة، ولبخاري سبعة أبواب حديد وهي: باب المدينة، وباب بوت، وباب جفره، وباب الحديد، وباب قهندز [2] وباب بني أسد [3] ، وباب بني سعد [4] ، ولقهندز هنا بابان أحدهما يعرف الريكستان [5] ، والأخرى باب الجامع [6] ، يشرع إلى المسجد الجامع، وعلي الربض دروب، فمنها درب يخرج
__________
[1] انظر: أسوار القلعة وأبوابها في تاريخ بخارى للنرشخي وتاريخ بخارى لفامبري ترجمة د. أحمد الساداتي) .
[2] يقصد به كهن دز، وقد أوردها في كل المخطوط قهندز، وكهن دز تعني القلعة القديمة (فرهنگ رازي 331- 737) .
[3] بني أسد وبني سعد بطون من قبائل عربية الأصل، صحبت قتيبة بن مسلم الباهلي عند فتحه بخارى، واستوطنت بجوار المدينة القديمة وبعضهم استقر بالمدينة (انظر: التخطيط المرفق في آخر الكتاب) .
[4] يذكر الإصطخري أن أبوابها كانت أحد عشر بابا وهي: باب الميدان، إبراهيم، الريو، المردكشان، كلاباذ، النوبهار، سمرقند، فغاسكون، الراميثنة، حدشرون، غشج (المسالك والممالك 306 وما يليها) .
[5] الريكستان في الغرب، وكان يسمى باب علف خروشان أو كاه فروشان (أي باعة العلف) (تاريخ بخارى نرشخى 7/22) .
[6] باب المسجد الجامع في الشرق وأطلق عليه النرشخي باب غوريان.(3/158)
إلى خراسان، يعرف بدرب الميدان، ودرب يلى المشرق، ويعرف بدرب إبراهيم، ويليه درب يعرف بالربعة، ويليه درب المردكسان [1] ، ويليه درب كلاباذ [2] ، ويليه درب الوفهار [3] ، ويليه درب سمرقند، ويليه درب (المخطوط ص 74) بغاشلوز [4] ، ويليه درب الرامينية [5] ، ويليه درب حدس [6] ، ويليه درب غشج [7] .
وليس في مدينة بخاري ولا قهندزها [8] ، ماء جار لارتفاعها، ومياهها من النهر الأعظم الجاري من سمرقند، ويتشعب من هذا النهر الأعظم في مدينة بخاري نهر يعرف بنهر فنتيرديز [9] فيأخذ من نهر بخاري، ويجري في درب المردكشان على حد باب إبراهيم حتى ينتهى إلى باب البلعمي [10] ويقع في نهر ميركيده [11] ، وعلى هذا النهر نحو ألفي بستان وقصور وأراض كثيرة، وشهرتها منه.
ومن فم هذا النهر إلى مفيضه نحو فرسخ ونهر يعرف بجوي بار بكار [12] يأخذ
__________
[1] المردكشان وهو باب سلخانه الحالي (تركستان 196) .
[2] كلّاباذ وهو باب كوله (قرشي) الحالي (تركستان 196) .
[3] وهو النوبهار وهو الآن باب مزار.
[4] فغاسكون وهو باب إمام خاليا.
[5] الراميثنة وهو الآن باب أوغلان.
[6] باب حدشرون وهو الآن باب طليج.
[7] باب غشج وهو الآن باب شيركيران.
[8] القلاع القديمة.
[9] وهي منارة زر الكبرى كما ذكرها الإصطخري ص 307 وما يليها.
[10] باب الشيخ الجليل أبي الفضل هذا هو اسمها ويقصد به أبا الفضل البلعمي وزير السامانيين المتوفى سنة 329 هـ (تركستان 199) .
[11] هو قناة نوكنده وتأخذ من القناة الرئيسية عند دار حمدونه وهي مصب لبقية القنوات.
[12] هو جويبار بكار وتعني المجرى الذي تعم به الفائدة ويخرج من موضع وسط المدينة.(3/159)
من المذكور آنفا في وسط المدينة بموضع يعرف بمسجد أحمد [1] وبغيض بني كنده [2] ، وعلى هذا النهر مشرب بعض الربض ونحو ألف بستان ونهر يعرف بجود بار القواريريين [3] يأخذ من النهر المذكور بموضع يعرف بمسجد العارض، فيسقى بعض الربض، وهو أغزر وأعمر الأراضي من نهر بكار ونهر نوكنده يأخذ من النهر المذكور ومن المدينة عند رأس سكة ختع [4] ، فيسقى بعض الربض ويغيض في المفازة [5] ، ويليه نهر الطاحونة يأخذ من النهر المذكور في المدينة بموضع يعرف بالنوبهار [6] ، وعليه بيوت أهل الربض ويدير أرجية كثيرة حتى ينتهى إلى بيكند [7] ، ومنه شرب أهل بيكند، ونهر يعرف بنهر كشنه [8] ، يأخذ من النهر في المدينة عند النوبهار، عليه شرب أهل النوبهار، فيفضي «1» إلي حصون وضياع وبساتين حتى يجاور كشنه، ونهر يعرف بنهر تاج [9] يأخذ من النهر المعروف بالريكستان، ويسقى بعض الربض، وينتهى إلى قصر رباح، فيسقى نحو ألف بستان وقصور هناك وأراضي كثيرة دون البساتين.
__________
[1] مسجد أحيد (تركستان 199) .
[2] نوكنده.
[3] جويبار القواريريين (أي مجرى صناع الزجاج) .
[4] أي المرشد.
[5] الصحراء.
[6] النوبهار: موضع قديم كان به صنم، وبه معبد يعد من أعظم بيوت الأصنام في بلخ ببلاد خراسان والتي بناها منوجهر بن إيرج بن افريدون (آثار البلاد 9/476) .
[7] بيكند: اسم مدينة ببلاد ما وراء النهر قرب بخارى، وبيكند هنا قناة تأخذ من القناة الرئيسية وتصب في نوكنده.
[8] انظر: تركستان لفامبري ص ر 200
[9] هو نهر رباح ويخرج من القناة الرئيسية قرب الريكستان وتصل إلى قصر رباح.(3/160)
ونهر الريكستان يأخذ من النهر المذكور بقرب إلى الريكستان ومنه يشرب الريكستان وأهل القهندز ودار الإمارة حتى ينتهى إلى قصور جلال ديزه.
ونهر يأخذ من النهر المذكور بقرب قنطرة حمدونه تحت الأرض إلى حياض بباب بني أسد [1] ، ويقع فضله في فارقين القهندز.
وهذه الأنهار طائفة ببخاري وجنانها «1» ولها رساتق [2] «2» كثيرة، ونواح نفيسة وأعمال جليلة وضياع ليس (المخطوط ص 75) مثلها لأهل بلد، وإن كان لأهل ناحية أو إقليم ما يضاهى بعضها، فليس كهي، على وفورها وكثرتها.
وجميع أبنية بخاري على استماك البناء والتقدير في المساكن وارتفاع أراضي الأبنية، فهي محصنة بالقهندزات [3] وليس في داخل هذا الحائط جبل ولا مغارة ولأرض عامرة، وأقرب الجبال إليها جبل وزكر، ومنه حجارة أبنيتهم، وفرش أرضهم، ومنه طين الأواني والكلس والجص، ولهم خارج المدينة ملاحات، ومحتطبهم من بساتينهم، وما يحمل إليهم من المفاوز من الفضاء والطرق.
وأراضي بخاري كلها قريبة من الماء لأنها مغيض ماء السغد [4] ، ولذلك لا تنبت الأشجار العالية بها مثل المركب «3» والجوز وما أشبهها، وإذا كان من هذا الشجر شيء فهو قصير غير تام.
__________
[1] انظر: تركستان لبارتولد 200.
[2] رساتق مفرده رستاق بمعنى قرى (فرهنگ عميد 2/1072) .
[3] قهندزات جمع مفرده قهندز وهي بالفارسية كهن درّ أي القلعة القديمة (فرهنگ رازي 331) .
[4] وردت بالقاموس ماء السعد.(3/161)
ومن عمارة بخاري أن الرجل ربما أقام على الجريب [1] الواحد من الأرض، فيكون فيه معاشه وكفافه، هو وجماعة أهله.
ولبخاري مدن في داخل حائطها وخارجه، فأما داخله فالطواويس [2] ومخلسب ومغركلن وزبيده وحجاره [3] ، وهي كلها في داخل الحائط، وكلها ذوات منابر، ومن خارجه بيكند وفرير وكرمنينه وجدمنكن وجزعامكت ومديا مجكث [4] ، وجميع المدن التي داخل الحائط متقاربة في القدر والعمارة ولجميعها قهندزات عامرة، وأسواق جادة، وبساتين كثيرة، سيما ما كان بييكند فإن بها من الرباطات ما ليس ببلدان ما وراء النهر كرباط هوا، وما يقاربه، ويقال أنه كان بها ألف رباط، ولها سور عظيم حصين، ولها مسجد جامع «1» تونق فيه، وفي بنائه، وزخرف محرابه، وليس بما ما وراء النهر أحسن زخرفة منه.
وقرير مدينة قريبة من جيحون ولها قرى عامرة، وهي في نفسها حصينة، مقصودة بفاخر المطاعم والمآكل الطيبة اللذيذة، وهي مدينة بقية الحفاظ قدوة أهل المشرق والمغرب أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري وكفى [5] به فخرا باقيا،
__________
[1] الجريب: مساحة من الأرض المزروعة تعادل عشرة آلاف متر مربع (فرهنگ رازي 196) وتعني المزرعة ومكيال مقداره أربعة أقفزة (المعجم الوسيط 1/119- انظر: مادة جريب بدائرة المعارف الإسلامية وبتاج العروس 1/179) .
[2] الطواويس على مسافة سبعة أو ثمانية فراسخ من بخارى، ولكنها داخل السور الذي يحيط ببخارى ضواحيها وقد أخذت اسمها منذ سنة 91 هـ حين شاهد العرب الطواويس، وكان الاسم القديم لهذه الناحية أرفود (انظر: الاصطخري 313- المقدسي 281 الطبري 2/1230- ياقوت المعجم 1/209) .
[3] وردت المدن التالية زرمان وربنجن وحذيمتكن وطواويس (انظر الإصطخري 334- ابن خرداذبة 26- الطبري 2/1529 النرشخي 10- ياقوت 4/268) .
[4] خراجر كرمينية وخديمنكن وجرغا نكث ومذيا مجكث.
[5] أضاف في الهامش (لأهلها وغيرهم) .(3/162)
وذكرا دائما، وأهل بخاري يرجعون إلى أدب وعلم وفقد وديانة وأمانة وحسن سيرة وجميل معاملة وإفاضة خير وبذل معروف وسلامة نية ونقاء طويلة.
ويتحدث أهل بخاري على قديم الأيام بطريف من أحاديثهم، وهو أنهم يتفاوضون من غير خلاف، أن من بركة طلعهم وقدرهم «1» أنه ما خرج منها جنازة وال قط، ولا عقد فيه لواء، ولا راية خرجت منه، وكان أول من اتخذها دارا، وجعلها قرارا من آل سامان أبو إبراهيم إسماعيل بن أحمد [1] ، فإنه جاءته ولاية خراسان وهو مقيم بها، فنزل بساحتها، واتخذها قاعدة له، ثم توالى عليها بنوه إلى آخر أيامهم، وانقضاء أحكامهم على ما قدمنا.
وأما سمرقند فإنها «2» مدينة مرتفعة، ولها قهندز [2] وربض يشرف الناظر بها على شجر أخضر وقصور تزهر وأنهار تطرد وعمارة تتقد، لا يقع الطرف بها على مكان إلا ملأه ولا بستان إلا استحسنه.
قال صاحب كتاب أشكال الأرض: وقد قصصت أشكال السرو «3» ، فشهت بطرائف الحيوان من الأفيلة والإبل والبقر والوحوش المقبلة بعضها على بعض كالمناجية، هذا إلى أنهار تطرد وبرك منجورة «4» ظريفة المعاني وقصور مستشرفات.
قال مسلم بن قتيبة: لما أشرفت على سمرقند، شبهوها، فلم يأتوا بشيء،
__________
[1] إسماعيل بن أحمد الساماني: أول سلاطين السامانيين، تولى أمر بلاد ما وراء النهر سنة 279 هـ، وقضى على عمرو بن الليث الصفار كان خيرا كريم الطبع مات سنة 295 هـ (انظر: روضة الصفا، الترجمة العربية 81- الطبري 10/74- ابن الأثير 6/77- حمد الله المستوفى 4- تاريخ بخارى لفامبري 122- زين الأخبار 21- 22- ابن كثير 11/104) .
[2] قلعة.(3/163)
فقال: كأنها السماء في الخضرة، وكأن قصورها النجوم الزاهرة، وكأن جداولها أنهار المجرة، فاستحسنوا هذا التشبيه.
وبسمرقند حصن ولها أربعة أبواب، باب مما يلي المشرق، ويعرف بباب الصين، مرتفع عن وجه الأرض ينزل إليه بدرج كثيرة، مطل على وادي السغد، وباب مما يلي المغرب يعرف بباب النوبهار، وهو على نشز من الأرض، وباب مما يلي الشمال، يعرف بباب بخاري، وباب مما يلي الجنوب، يعرف بباب كش [1] .
وفي سمرقند ما في المدن العظام من الأسواق الحسان والحمامات والخانات [2] والمساكن، ولها مياه جارية، تدخل إليها في نهر، وقد بني عليه مسناة عالية من الأرض (في بعض المواضع، بل) «1» في وسط المشرق من حجاره يجرى عليها الماء من موضع يعرف بالصفارين [3] ، إلى أن مدخل باب «2» (المدينة خندق عظيم مستقل فاحتيج إلى مسناه في هذا الخندق (المخطوط ص 77) حتى يجرى الماء إلى المدينة، وهو نهر قديم جاهلي في وسط أسواقها بموضع يعرف برأس الطاق [4] ، من أعظم موضع بسمرقند، ولهذا النهر على حاشيته مستغلات موقوفة على مرماته ومصالحه، وعليه الحفظة صيفا وشتاء، وليس [5] لسور الربض بها أبواب تغلق،
__________
[1] ذكر الإصطخري أن لها أربعة أبواب هي باب الصين، وباب النوبهار أو الحديد، وباب بخارى أو أشروسنة، وباب كش أو الباب الكبير (المسالك والممالك 316- 317- ابن حوقل 365- 366 المقدسي 378- 279) .
[2] الخانات مفردها خان وهو بناء لإقامة التجار يدعونه أحيانا الفندق كما عند ابن بطوطة.
[3] الصفارون جمع مفرده صفار بفتح الصاد وتشديد الفاء بمعنى صانع النحاس (فرهنگ رازي 562) .
[4] انظر: ياقوت المعجم 1/446 فقد وصف نفس الوصف وذكرها السمعاني دروانوه كش.
[5] وردت بالمخطوط ليسوا.(3/164)
ويزعم بعض الناس أن تبعا المسمى أسعد أبا كرب ابتنى مدينة سمرقند، وأن هذا القرنين أتم بعض بنائها.
قال صاحب كتاب أشكال الأرض: وأخبرني أبو بكر الدمشقي قال: رأيت على بابها الكبير صفيحة حديد [1] ، وعليها كتابة زعم أهلها أنها بالحميرية [2] وأنهم يتوارثون ذلك، إنها من صنعة تبع [3] ، وبعض الكتابة أن من صنعاء إلى سمرقند ألف فرسخ.
قال: ثم وقعت الواقعة بسمرقند، وأحرق الباب الذي كانت عليه هذه الصفيحة، وأعاده أبو المظفر محمد بن لقمان بن نصر بن أحمد بن أسد [4] ، حديدا، كما كان من حديد وتغيرت الصفيحة.
قال بعض الأطباء: تربة سمرقند صحيحة يابسة، ولولا كثرة البخارات من المياه الجارية في سكنهم «1» ودورهم، وكثرة أشجار الخلاف عنده لا ضربهم فرط يبسها، وبناؤها من طين وخشب.
وكان أهلها من إظهار المروءات أكثر «2» من سواهم والبلد كله طرقه وسككه وأسواقه وأزقته مفروشة بالحجارة، ومياههم من وادي السغد، وهذا الوادي من بلاد البتم [5] على ظهر الصاغانيان [6] ، وله مجمع ماء يعرف بمجيء مثل بحيرة،
__________
[1] ذكر الإصطخري نفس هذا القول ص 318.
[2] الحميرية: لغة أهل اليمن، وحمير دولة ذات حضارة قامت في اليمن عقب دولة معين وقبيل دولة سبأ، وينسب إليها الخط واللغة الحميرية.
[3] تبع: لقب أعاظم ملوك اليمن وجمعه تبابعه (المعجم الوسيط 1/85) وهي مثل شاه ملك وقيصر وكسرى وخان.
[4] ابن عم الأمير نصر بن أحمد بن إسماعيل الساماني المتوفى 331 هـ (روضة الصفا 89) .
[5] هي بلاد البتم وهي جبال ومرتفعات.
[6] هي الصغانيان (الإصطخري 340- 341- المقدسي 283) .(3/165)
حواليها القرى، ومن مبدأ هذا الوادي إلى أن ينتهى إلى سمرقند أزيد من عشرين فرسخا، فإذا جاور سمرقند بنحو مرحلتين، انشعب منه نهر يعرف بقى، وليس بالصغد نهر أوفر عمارة منه، ولا أعظم قصورا وقرى وماشية.
ونهر قي [1] وهو ثلث السغد، ويتشعب «1» من وادي السغد أنهار كثيرة إلى حد بخاري حيث تأخذ منه أنهار بخاري المذكورة ستة مشتبكة القرى والبساتين والأنهار (المخطوط ص 78) .
ولو اطلع مطلع من الجبل على وادي السغد لرأي خضرة متصلة لا يرى من أضعافها غير قهندز أبيض [2] أو قصر سامق مشيد، فأمّا فرجة مقطعة عن الخضرة أو أرض بائرة أو غابرة فقلما ترى.
قال صاحب كتاب «2» أشكال الأرض: ومن حد بخاري إلى وادي السغد يمينا وشمالا ضياع «3» تتصل إلى جبال البتم لا ينقطع خضرتها، ومقدارها في المسافة ثمانية أيام، مشتبكة البساتين الخضرة، والرياض محفوفة بالأنهار الجارية والأحواض في صدور رياضها، ومبانيها مخضرة، الأشجار والزروع ممتدة على جانبي واديها من وراء الخضرة، ومن وراء الخضرة على جانبي النهر مزارعها وقصورها، والقهندزات من كل مدينة ومدينة تبصر «4» في أضعاف خضرتها كأنها ثوب ديباج أخضر، قد سير بمجارى مياهها، وزينت بين صيف قصورها في أبهى بلاد الله وأحسنها أشجارا وأطيبها ثمارا.
__________
[1] نهر فى بين اشتيخن وكشانيه (ياقوت الحموي 3/963) .
[2] قلعة بيضاء.(3/166)
وعامة مساكن سمرقند بالبساتين والحياض والمياه الجارية، فما تخلو سكة ولا محلة ولا ناحية ولا سوق ولا دار ولا قصبة من نهر جار أو بركة واقفة ...
وبسائر ما وراء النهر من الأنهار المتخرقة [1] والرياض المتصلة، والأشجار الملتفة، والثمار الكثيرة ما لا يوجد مثله في سائر الأمصار، ولا دمشق ولا غيرها، وإن قيل أن متنزهات الدنيا أربعة غوطة دمشق أحدها، وقال بعضهم أنها أفضلها، ولكن [2] سغد سمرقند [3] أطول وأعرض وأفسح وأكثر ماء، وأمد مدى، تجول العين في فضائه.
حدثني السيد الشريف جلال الدين حسن بن أبي المجاهد الحسيني [4] السمرقندي عن طول مدى السغد فقال: بقدر عشرة أيام بالسير المعتاد.
قلت: وقد قال صاحب أشكال الأرض أنه يكون ثمانية أيام، فقال: لا لا يكاد يقصر من عشرة أيام، فأين غوطة دمشق من هذا أو كلها من منبع الماء من واديها إلى تناهيه، لا يبلغ نصف يوم مع كون السغد مكشوفا، تسافر العين من أوله إلى آخره (المخطوط ص 79) في فرد مدى نظر، وما غوطة دمشق هكذا، لاكتناف الجبلين لواديها، ولأن أنهار السغد واضحة في خلال خمائلها، ممتدة في بسيط الخضرة، لا يحتجب ولا يخفى عن العين، وليست الأنهار بدمشق [5] مكشوفة إلا في مجرى الوادي بها، فأما إذا أشرف المستشرف عليها، فإنه لا يرى إلا ما يليه، ولا تقع عينيه إلا على ما يحاذيه، ولقد بقى من سمرقند متعة الأبصار على ما نابها من النوائب، وأعترت أنهارها من الشوائب، وبليت به أغصانها مما تشيب له الذوائب
__________
[1] الحاربة ب 94.
[2] لاكن ب 94.
[3] أفضل ب 94.
[4] الحسنى ب 95.
[5] كذا ب 95.(3/167)
أيام جنكيز خان وأبنائه، وما رميت به من حوادث الحدثان في تلك المدد، وإذا حصل الاتصاف قيل أن غوطة دمشق قطعة من سغد سمرقند.
وأما البتم فهو جبال شاهقة سامقة «1» منيفة، والغالب عليها «2» النزهة والخضرة والبقلة المعروفة بالطرخون [1] ، وهي قرى آهلة بالناس.
وبالبتم حصون منيعة جدا، وفيها معادن ذهب وفضة وزاج ونوشادر، وفي كل جبل من جبال البتم كالغار، وقد بني عليه، وأستوثق من أبوابه وكواه.
وفيها عين يرتفع منها بخار يشبه الدخان بالنهار والنار بالليل، فإذا تلبد هذا الدخان في حائط ذلك البيت وسقفه قلع منه النوشادر، وداخل هذا البيت من شدة الحر ما لا يتهيأ لأحد أن يدخله إلا احترق، إلا أن يلبس اللبود المبلولة، ويدخل كالمختلس، ويأخذ ما يقدر عليه من ذلك.
قال: وهذا البخار ينتقل من مكان إلى مكان فيحضر عليه حتى يظهر، فإذا خفى في مكان حضر عليه في آخر إلى أن يوجد، وإذا لم يكن عليه مبنيا يمنع البخار من التفرق، لم يضر من قاربه، حتى إذا اختنق من بيت، احترق من يدخله لشدة الحر.
وإما غزنة فكانت مستقر سبكتكين [2] والد السلطان يمين الدولة وأمين الملة محمود، فلما انقرضت الدولة السامانية [3] بابتداء أيامه، وتبدلت ملاهيهم بحد
__________
[1] الطرخون: هو الترخون نوع من الخضروات (فرهنگ رازي 574) بقلة زراعية معمرة، أوراقها تؤكل (المعجم الوسيط 2/573) .
[2] سبكتكين هو ناصر الدين سبكتكين، كان مملوكا لأليتگين وعمل بحجابة أبي إسحاق حتى مات الأخير فتولى أمر غزنة وأسس دولة الغزنويين (انظر: أخبارها في زين الأخبار گرديزي 54- روضة الصفا 129 وما بعدها- ابن كثير 11/286- ابن الأثير 7/86) .
[3] جرجان هي گرگان، إقليم في شمال إيران محاور لخوارزم ويقع الآن في جمهورية تركمانستان.(3/168)
حسامه، وكانت غزنة دارهم ومثواهم، استمروا بها، ونقلوا عن بخاري قاعدة الملك إليها، ثم تناوب بنوه (المخطوط ص 80) الجلوس على سريرها، ثم استقرت ملوك الغورية [1] ، وقاعدة سلطانهم ومنبع أعوانهم.
وغزنة مخصوصة بصحة الهواء وعذوبة الماء، والأغراض «1» بها قليلة، وأرضها لا تولد الحيات والعقارب والحشرات المؤذية، ومنها خرج الرجال الأنجاد، وتأمل مواقف ملوكها في غزو الهند والترك، وذبهم عن بيضة الإسلام والملك ما أبقيت الغورية رحمهم الله على قصور عددهم، وقصر مددهم.
لقد كملوا ما بدأ به السلطان محمود بن سبكتكين في غزوات الهند، وسنوابها الفتوح حتى دخل الإسلام تلك الممالك العظمى «2» ، وعلي الحقيقة ما فتحوا الهند بل «3» فتحوا الدنيا، وبذلك على هذا ما تقدم ذكره.
وأما غزنة [2] فهي مدينة مضايقة للسند «4» ، وقيل أنها منها، وقال صاحب كتاب صفة الأرض أن غزنة من بلاد السند وهي واقعة في الثالث.
قال أبو سعيد منصور زعيم جرجان، ولم أر بلدة في الصيف أطيب، وفي الربيع أشبه، وفي الخيرات أنظف من غزنة، وهي قليلة الأشجار، ولهذا صح هواؤها،
__________
[1] التتار وتتر والتاتار قبائل سكنت شمال وسط آسيا وجاورت قبائل المغول، وضمها جنكيز خان إلى قبائله ومن التاتار قبائل همجية وأخرى متحضرة، لهم جمهورية ذات حكم ذاتي الآن في الاتحاد الروسي هي تتارستان.
يقول بارتولد: أن التتار عرفوا بهذا الاسم منغوليا وعرفوا في الصين باسم مونغكو- تتا (تركستان 545) .
[2] غزنة: بلد السلطان المجاهد محمود بن سبكتكين، كانت كبيرة، شديدة البرد (رحلة ابن بطوطة 261) .(3/169)
وسلم من مرورها على النقائع الوخمة «1» ، وأصول الشجر العفنة.
وأما تركستان فمملكة لو انفردت لكانت ملكا كبيرا، وسلطنة جليلة، زهرة الدنيا، وطراز الأرض، بلاد الترك حقيقة، من كناسها رتعت غزلانها، ومن غاباتها سرحت ليوثهم، وهي أقليم فسيح المدى قديمة الذكر، منشأ حماة، ومشب كماه، وهي المرادة بقولهم بلاد الأتراك، ولم تزل الملوك تلحظها لإتقاء بوادرها، والتقاء زواخرها، فأشد ما نكرت الأيام معالمها، وغيرت الغير أحوالها، ولقد صادفت حدة التتار في أول التيار، فجاءت قدامهم في سورة غضبهم، ولفحة نارهم، وأمالت السيوف حصائد آجالهم، ولم يبق إلا من قل عديده.
حكي لي من رجال في رساتيقها [1] وجاز في قراها أنه لم يبق من نعالها إلا رسوم دائرة، وأطلال بالية على البعد «2» القرية مشيدة البناء مخضرة الأكتاف فيأنس لعله يجد بها أنيسا ساكنا، فإذا جاءها، وجدها عالية البنيان خالية من الأهل والسكان، إلا أهل العمد، وأصحاب السائمة، ليست بذات حرث ولا زرع، وإنما خضرتها مروج أطلقها باريها، وبها من النباتات البرية لا يذرها باذر، ولا زرعها زارع، ويوجد بها خلف من بقايا العلماء، ويجري التيمم بالترب لعدم الماء.
وأما الشاش [2] فمقدار عرضها مسيرة يومين في ثلاثة أيام، وليس بخراسان ولا ما وراء النهر أقليم صغير على قدرها في صغر المساحة، أكثر منها منابر وقرى عامرة، وقوة شوكة، وهي في أرض سهلة ليس بها جبل ولا أرض مرتفعة حزقة هي أكثر نفر، وأبنيتهم من طين، وعامة دورهم تجرى فيها المياه، وكلها مستترة بالخضرة، ولها مدن كثيرة تتدانى وتتقارب مسافتها.
__________
[1] قراها.
[2] الشاش: هي جاج من أعمال أشروسنة (آثار البلاد 548- تاريخ بخارى لفامبري 94) .(3/170)
وأما استيجاب [1] فمدينة لها قهندز وربض، أما القهندز فخراب. والمدينة والربض عامران، وعلى المدينة سور ويحيط بها مقدار فرسخ، وفي ربضها مياه وبساتين، وبناؤها بطين، وهي مستوى من الأرض، ولها أربعة أبواب، وهي مدينة ذات خصب وسعة، ولا خراج عليها، ومن مدنها الطراز [2] وتوجكرت وكجنده «1» .
وإما باراب فهو اسم الناحية، ومقدارها في الطول والعرض أقل من يوم، وبها منعة وبأس، وهي في سبخة، ولها غياض ومزارع، وقصبتها تسمى كندر، ومنها فيلسوف الإسلام [3] أبو نصر البارابي «2» [4] مفسر كتب القدماء، (المتقدم في العلوم العقلية على كل متقدم ومتأخر، والناس يقولون الفارابي) «3» والصحيح الباربي بالباء الموحدة لأن هذه تسمية تركية، وليس في اللغة التركية [5] فاء.
وأما خجنده [6] فإنها متاخمة لفرغانه، وهي في جملتها، وهي منفردة بأعمال خاصة، وهي على نهر الشاش في غربيه، وطولها أكثر من عرضها، وبساتينها ودورها متفرقة، ولها قرى يسيره، وهي مدينة نزهة، وفواكهها حسنة (المخطوط
__________
[1] استيجاب هي استيجاب واسييجاب قرية قرب الشاش من بلاد فرغانة (معجم البلدان 4/1014) .
[2] الطراز هي تلاس الواقعة في صحراء لامس (الجويني 2/77- 91) .
[3] أبو نصر الفارابي: هو أبو نصر محمد بن محمد الفارابي من أعظم الفلاسفة، ولد في فاراب ببلاد ما وراء النهر، رحل إلى بغداد وتعلم العربية ودرس كتب أرسطو وسافر دمشق وحلب، وشرح آثار أرسطو حتى لقب بالمعلم الثاني له كتب كثيرة مات سنة 339 هـ (انظر: فرهنگ أدبيات فارسي 365- 366) .
[4] وباراب تقع على ضفتي سير دريا (سيحون) (تركستان 292) .
[5] وردت بالمخطوط تركية.
[6] لينين آباد الحالية في تاجيكستان.(3/171)
ص 82) ولكنها تنبق بها من ذرعاتها فتجلب الغلات من فرغانه وأشروسنه «1» إليها، وينحدر إليهم بها السنن من نهر الشاش، وهو نهر عظيم، ويعظم بأنهار تجتمع إليه في حدود الترك، وعموده نهر يخرج من بلاد الترك في حدود دوازكند، ثم يجتمع إليه أنهار فيغزر، ويمتد على خجنده يمر على ساكت، فيجرى إلى باراب، وإذا جاوز حد صيران جرى في برية يكون في حاشية بلد الأتراك الغربية، فيمتد حتى يقع في بحيرة خوارزم.
قال صاحب كتاب أشكال الأرض [1] : وهو نهر إذا امتد يكون نحو ثلثي نهر جيحون.
وأما فرغانة فهو اسم الإقليم وهو عمل عريض موضوع على سعة مدنها وقراها، وقاعدتها مدينة اخشيلب [2] ، وهي على شط نهر الشاش، على أرض مستوية، ولها قهندز وربض، ومقدارها نحو ثلث فرسخ، وبناؤها من طين، وعلى ربضها سور وعليه أبواب من المدينة، وفي الربض مياه جارية وحياض كثيرة، وكل باب من أبواب ربضها يفضى إلى بساتين ملتفة، وأنهارها لا تنقطع مقدار فرسخين، ويحاذيها إذا عبر الشاش مروج ومزارع كثيرة، رمال مقدار مرحلة، ويليها مدينة قنا «2» وهي من فرغانة، من أنزه مدنها لها قهندز وربض القهندز خراب والجامع من القهندز، وأسواقها من ربضها، ودار الإمارة في الربض، وعليه سور محيط به، ولها بساتين كثيرة، ومياه غزيرة ويليها في الكبر أوش [3] من فرغانة، ملاصقة
__________
[1] سقطت كلمة الأرمن.
[2] هي أخسيكث قصبة فرغانة آنذاك- جنوب غربي نامجان تقع على نهر سردريار الأيمن، لها خمسة أبواب (انظر: وصفها عند ابن حوقل 393- 394، المقدسي 371) .
[3] أوش: إحدى مدن فرغانة، وكانت من أكبر مدن الثغور مع الترك، وهي ثالث مدن فرغانة من حيث الرقعة وتتكون من شهرستان وقلعة وربض (الإصطخري 335) .(3/172)
للجبل، وهي مدينة عامرة ذات قهندز عامرة، ولها ربض، وعليه سور ولها ثلاثة أبواب [1] وأوزكند [2] وهي آخر مدن فرغانة لها قهندز وربض، وأسواقها في الربض مطرزة بالبساتين والمياه الجارية.
قال صاحب كتاب أشكال الأرض: وليس بما وراء النهر أكثر قرى من فرغانة، وربما بلغ حد القرية مرحلة لكثرة أهلها، وانتشار مواشيهم في المرعى، وسألت عن هذا العميد أبا المكارم حميد بن محمد الفرغاني فقال: كانت أكثر مما قال، والبلاد باقية على هذه الحال في الاتساع (المخطوط ص 83) ولكن قد قل ناسها.
وأما أشروسنه [3] فهو اسم لإقليم كالسغد، وقاعدتها مدينة تومجكت [4] ، وبها من المدن ارسبانيكث [5] وعرق [6] وفنكت [7] وساباط [8] ورامين [9] .
قال صاحب الروض المعطار في أخبار الأقطار [10] : أشروسنة أرض يحيط بها
__________
[1] الأبواب الثلاثة هي: باب الجبل، وباب النهر، وبابا مغكدره (تركستان 267) .
[2] أوزكند: تكتب أيضا يوزكند بها شهرستان وقلعة وربض ولها أربعة أبواب، وتقع على نهر قرادريا (ابن خرداذبه 30) .
[3] أشروسنة: إقليم من بلاد الترك عاصمته بونجكث وهي تكتب أسروشنة (انظر: ابن خرداذبة 29، الإصطخري 343.
[4] نومجكث هي بونجكث أو ينجكث كانت تتكون من قلعة وشهرستان يشقه النهر، وربض (الإصطخري 326- 327، ابن حوقل 379- 380، المقدس 377) .
[5] هي مدينة ارسبانيكث أو ارسيانيكث، على حدود فرغانة (المقدسي 365) .
[6] عرق وهي غزن على فرسخين من فغكث وستة من خجند (الإصطخري 326) .
[7] فنكث هي فغكث على ثلاثة فراسخ بونجكث على طريق خجند (ابن حوقل 404، الإصطخري 326) .
[8] ساباط: وتقع ما بين سمرقند وخجند، بينها وبين زامين ثلاثة فراسخ (انظر: الإصطخري 343، المقدسي 342، ابن خرداذية 27) ، ويذكر اسكفارسكي إنها قرية اسكي سقط (تركستان حاشية ص 279) .
[9] رامين: هي زامين الواقعة على ضفتي نهر، بجوار مدينة سرسنده الجديدة (ابن حوقل 380- 381، المقدس 277) .
[10] الروض المعطار في أخبار الأقطار.(3/173)
من إقليم ما وراء النهر من شرقيها بعض فرغانة، ومن غربيها بلاد الصغد والصغانيان، وشمالها بلاد الشاش، ولأشروسنه مدن كثيرة، ومملكتها واسعة جليلة، ويقال أن فيها أربعمائة حصن ولها واد عظيم يأتي من نهر سمرقند، ويوجد في ذلك الوادي سبائك الذهب.
وقال صاحب كتاب أشكال الأرض: أما مدينة تومجكث [1] فهي مسكن الولاة، تحزر رجالها نحو عشرة آلاف رجل [2] ، وبناؤها بطين وخشب، وعليها سور، ولها ربض وعلى ربضها سور، ولها سور ثالث من وراء ذلك.
وللمدينة الداخلة بابان [3] ؛ وداخل المدينة المسجد الجامع والقهندز ودار الإمارة في الربض في مربعة الأمير.
ويجري بالمدينة «1» نهر كبير عليه رحى [4] وأسواقها في المدينة الداخلة، وبها بساتين وكروم وزروع، وذلك كله دون السغد، ولها أربعة أبواب، ولها ستة أنهار، جميعها من عين واحدة، ومنبع واحد، مقدار ما بها يزيد على عشرة أرحية [5] ومن المدينة إلى منبع الماء مقدار نصف فرسخ، ويليها في الكبر مدينة زامين [6] ، وهي على طريق فرغانة إلى السغد، وباقي بلادها متقاربة في الكبر والنزهة والبساتين والمياه.
__________
[1] بونجكث كبرى مدن أسروشنة وقصبتها.
[2] في القرن العاشر الهجري (انظر الإصطخري 327) .
[3] الباب الأعلى وباب المدينة (ابن حوقل 379- 380) .
[4] وردت بالمخطوط رحا وهي الناعورة- الساقية (839- 97) .
[5] جمع رحى.
[6] زامين: تقع على ضفتي نهر ليس بعيدا عن مخرجه من الجبال (ابن حوقل 380- 381، المقدسي 277) .(3/174)
الفرقة الثانية في خوارزم والقبجاق
«1» حدثني الشيخ نجم الدين بن الشحام الموصلي أن هذه المملكة متسعة الجوانب طولا وعرضا، كثيرة الصحراء، قليلة المدن، وبها عالم كثير، لا يدخل تحت حد، وليس لهم كبير نفع لقلة السلاح ورداءه الخيل (المخطوط ص 84) .
وأرضهم سهلة قليلة الحجر لا تطيق خيل، ربيت فيها الأوعار «2» ، فلهذا يقل غناء أهل هذه المملكة في الحروب، وليس لملوكهم عظيم عناية بالأوضاع، وترتيب سلطان هذه البلاد في أمور جيشه «3» وسلطانه ترتيب مملكة العراق والعجم، في عدة الأمراء والأحكام والخدم، ولكن «4» ليس لأمير الألوس [1] والوزير بها تصرف أمير الألوس والوزير بتلك المملكة، ولا لسلطان هذه المملكة نظير ما لذلك السلطان من الدخل والمجابي وعدد المدن والقرى، ولا مشى أهل هذه المملكة على قواعد الخلفاء مثل أولئك «5» .
ولخواتين هؤلاء مشاركة في الحكم معهم، وإصدار الأمور عنهم مثل أولئك وأكثر إلا ما كانت عليه بغداد بنت جوبان [2] امرأة أبي سعيد بهادر بن خدابنده،
__________
[1] الإلوس: كلمة مغولية تعني قبيلة وجماعة، فهناك الوس جوجي والوس جغتاي والوس هولاكو.
[2] بغداد بنت جوبان: هي بنت جوبان أمير أمراء أبي سعيد بهادر وقد قتل أبو سعيد بهادر أخاها ثم قتل أبوها وأخويها على يد حاكم هراة، وتزوج أبو سعيد بهادر من بغداد خاتون وكانت أجمل النساء وتحت الشيخ حسن فطلقها الشيخ حسن وتزوجها، وكانت أحظى النساء لديه حتى قتلت أبا سعيد بهادر لأنها هجرها فقتلها الشيخ حسن وجلس على العرش (رحلة ابن بطوطة 152- 154) .(3/175)
فإننا ما رأينا في زماننا، ولا سمعنا عمن قارب زماننا أن امرأة تحكمت تحكمها، وقد وقفت علي كثير من الكتب الصادرة عن ملوك هذه البلاد من عهد بركة [1] وما بعده، وفيها وانفقت آراء الخواتين والأمراء على كذا أو ما يجري هذا المجرى.
وقاعدة الملك بها السراي [2] ، وهي مدينة صغيرة بين رمل ونهر، وقد بنى بها سلطانها القائم بها الآن ازبك خان [3] مدرسة للعلم، وهو معظم لجانب العلم وأهله.
وحدثني الصدر زين الدين عمر بن مسافر أن هذا السلطان أزبك غير ملتفت من أمور مملكته إلا إلى جمليات الأمور دون تفصيل الأحوال، يقنع بما جمل إليه، ولا يفحص عن وجوهه في القبض والصرف، وإن لكل امرأة من خواتينه جانبا من الجمل [4] ، وهو يركب كل يوم إلى امرأة منهن يقيم ذلك اليوم عندها، يأكل في بيتها، ويشرب [5] ، وتلبسه بذلة قماش كاملة، ويخلع التي كانت عليه، على من يتفق ممن حوله، وقماشه ليس بفائق الجنس، ولا غالي الثمن، وهو مسلم، حسن
__________
[1] بركاي خان من نسل جغتاي حارب هولاكو خان وابنه آباقا خان، وكان قد أسلم وحسن إسلامه (انظر:
جامع التواريخ 1/341- ح 2/14) وهو بركة بن جوجي حكم ما بين سنة 1257- 1266، تركستان 719) .
[2] مدينة السراي: حاضرة السلطان أزبك، وهي من أحسن المدن قال عنها ابن بطوطة أنها في بسيط من الأرض تغص بأهلها كثرة، حسنة الأسواق متسعة الشوارع بها الآص وهم مسلمون والقفجق والجركس والروس والروم وهم نصارى (رحلة ابن بطوطة 237- 238) .
[3] أزبك خان: أحد الملوك السبعة الذين هم كبار، عظيم المملكة شديد القوة كبير الشأن، رفيع المكان، قاهر لأعداء الله أهل قسطنطينية العظمى، مجتهد في جهادهم، وبلاده متسعة، ومدنه عظيمة منها الكفا والقرم والماجر وآزاق وسودان وخوارزم وحاضرته سرا (رحلة ابن بطوطة 220) وهو أزبك بن طوغريلجه بن مونكو تيمور بن توقو خان بن باتو بن جوجي حكم ما بين 1313- 1341 م (تركستان 719) .
[4] وكذلك كان يفعل أبو سعيد بهادر (انظر رحلة ابن بطوطة 154) .
[5] تكون كل خاتون من خواتينه على حدة في محلتها، فإذا أراد أن يكون عند واحدة منهن، بعت إليها يعلمها بذلك فتتهيأ له (رحلة ابن بطوطة 221) .(3/176)
الإسلام، متظاهر بالديانة، والتمسك بالشريعة، محافظ على إقامة الصلاة، ومداومة الصيام مع قربه من الرعايا والقاصدين إليه «1» .
وليست يده بمبسوطة «2» بالعطاء، ولو أراد هذا لما وفي له به دخل «3» بلاده، وغالب رعاياها أصحاب عمد «4» في الصحراء، أقواتهم من مواشيهم من الخيل والبقر والغنم، والزرع عندهم قليل، وأقله القمح والشعير، وأما الفول فلا يكاد يوجد، وأكثر الموجود عندهم من الزروع، والدخن منه أكلهم، وعليه فيما يخرج الأرض كلهم، والأسعار في جميع هذه المملكة رخية إلى غاية.
الاكركانج [1] أم إقليم خوارزم، وهي المعبر عنها بخوارزم، فإنها متماسكة فيها أسعار الغلات، قل أن ترخص، بل هي إما مغلية أو متوسطة، لا تعرف الرخص أبدا، وأما اللحوم فإنها رخيصة، وكثيرا ما تذبح الخيل بهذه البلاد.
وأما سكان البر منهم فإنه لا يباع ولا يشترى بينهم اللحم، وغالب أكلهم من لحوم الصيد واللبن والسمن والدخن، فإن تلفت لأحد منهم دابة مثل فرس أو بقرة أو شاة، ذبحها، (وأكل هو، وأهله منها) «5» ، وأهدى إلى جيرانه، فإذا تلفت لهم أيضا شاة أو بقرة أو فرس، ذبحها، وأهدى إلى من أهدى إليه، فلا تكاد تخلو بيوتهم من اللحم بهذا السبب لأن هذا معروف بينهم كأن هدية اللحم بينهم قرض يؤتى.
__________
[1] ي گرگانج التي سماها العرب المسلمون جرجانية وسماها المغول أوركنج.(3/177)
وفي سلطان هذه المملكة طوائف الجركس [1] والروس [2] والآص [3] «1» وهم أهل مدن عامرة وآهلة، وجبال مشجرة مثمرة، ينبت عندهم الزرع، ويدر الضرع، وتجري الأنهار، وتجنى الثمار، ولا طاقة لهم بسلطان هذه البلاد، وهم معه، وإن كانت لهم ملوك كالرعايا فإن داروه بالطاعة والتحف والطرف، كف عنهم، وإلا شن عليهم الغارات، وضايقهم بالحصار، وكم مرة قتل رجالهم، وسبى نساءهم وذراريهم، وجلب رقيقهم إلى أقطار الأرض.
ومما ينضم إلى جناح هذا السلطان قوم من الترك في نهاية الشمال من حدوده، وهم في جهد من قشف العيش، لأنهم ليسوا أهل حاضرة لهم زرع، وشدة البرد تهلك، مواشيهم، وهم همج رعاع لا لهم مسكة بدين ولا رزانة في عقل، وهم لشدة ما بهم من سوء الحال إذا (المخطوط ص 86) وجد أحدهم لحما سلقة [4] ولم ينضجه، وشرب مرقه، وترك اللحم ليأكله مرة أخرى، ثم يجمع العظام، ويعاود سلقها «2» مرة أخرى، ويشرب مرقها، وقس على هذا بقية عيشهم.
وأخبرني الصدر جمال الدين عبد الله الحصني التاجر؛ أن ليس كثير من أهل
__________
[1] الجركس: أو الشركس أو نشر كسيا، قوم يقطنون إقليما شاسعا من ولاية كوبان في روسيا أوروبا، والشراكسة رعاة ومقاتلة، في الغالب طوال القامات، عراض المنكبين، نحاف الجسوم صغار اليدين والرجليين، (دائرة معارف البستاني 10/439) .
[2] الروس: قوم كانوا ضمن أملاك الوس جوجي وأولاده وكان بعضهم يسكن مدينة السرا عاصمة دولتهم في القرن الثامن الهجري، وكانوا في المنطقة الواقعة شرقي جبال آرال.
[3] الآص: هم الآس ويعرفون عند بعض الكتاب بالآلان والأوسنيت (جامع التواريخ ح 1/212) والأوسيت الآن إقليم ذات حكم ذاتي في الاتحاد الروسي وتسمى أوسيتيا الشمالية وآخر تابع لجورجيا ويسمى أوسيتيا الجنوبية وبها يسكن الآص.
[4] ورد بالمخطوط صلقه.(3/178)
بادية هذه المملكة الجلود، سواء أن كانت مذكاة أو ميتة، مدبوغة أو غير مدبوغة، من الحيوان الطاهر أو غير الحيوان [1] الطاهر «1» ، ولا يعرفون في المأكل ما يعاف مما لا يعاف ولا التحريم من التحليل، وأنهم في الأزمات يبيعون «2» أولادهم ليتقوتوا بأثمانهم إذا ضاقت بهم الأحوال في بعض السنين، ويقولون عمن يبيعونه من أولادهم: نعيش نحن (ولا) [2] وهو خير مما نموت نحن وهو.
وجاريت «3» الصدر زين الدين عمر بن مسافر في حديث هذه البلاد، وسألته عما قاله عبد الله الحصني، فقال: كل ما أخبرك به صحيح.
قلت: وترك هذه البلاد هم خيار الترك أجناسا، لوفائهم وشجاعتهم، وتجنبهم الغدر مع تمام قاماتهم، وحسن صورهم، وظرافة شمائلهم، ومنهم معظم جيش مصر لأن سلاطينها وأمراءها منهم منذ رغب الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل [3] في مشترى المماليك القبجاق، ثم انتقل الملك إليهم، مالت ملوكهم إلى الحبشية [4] ، ورغبت في الاستكثار منهم، حتى أصبحت مصر بهم آهلة المعالم، محمية الجوانب، منهم أقمار مواكبها، وصدور مجالسها وزعماء جيوشها «4» وعظماء أرضها، وحمد الإسلام مواقفهم في حماية الدين، وجهادهم أقاربهم،
__________
[1] تكرار لعبارة غير الحيوان.
[2] أظنها زائدة.
[3] الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل: آخر سلاطين الدولة الأيوبية في مصر، حارب الفرنجة، ومات وخلفه ابنه تورانشاه ولكنه قتل وتولت حكم البلاد شجرة الدر ثم عز الدين أيبك ثم تولى حكم المماليك وانتهى عصر الأيوبيين بموته (انظر: دائرة المعارف الإسلامية) .
[4] المماليك الذين يجلبون من الحبشة.(3/179)
وأهل جنسهم، من الله، (لا تميل لهم جنة) «1» ، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، وكفى بالخيرة الأولى نوبة عين جالوت [1] لما خرج الملك المظفر قطز، صاحب مصر [2] ، إذ ذاك في سنة ثمان وخمسين وستمائة، وكسر عساكر هولاكو أعلى عين جالوت، ورحل هولاكو عن حلب، عائدا، ونهض الجيش المصري بما عجزت عنه ملك أقطار الأرض مع اجتهاد السلطان جلال الدين محمد بن خوارزمشاه [3] (المخطوط ص 87) رحمه الله، حتى قتل.
ولم يكن الجيش المصري بالنسبة إلى الجيوش الجلالية إلا كالنقطة في الدائرة، (والنغبة من البحر) «2» ، والله يؤيد بنصره من يشاء، وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين [4] .
«3» ، وهذا من المعجزات النبوية وهو قوله صلى الله عليه وسلم [5] لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين
__________
[1] عين جالوت: من مدن الشام، وفيها وقعت معركة حامية بين المغول والمصريين بقيادة قطز في 2 سبتمبر سنة 658 هـ (النجوم الزاهرة 7/79، ابن كثير 13/220، السيوطي 475، ابن إياس 1/306، القلقشندي 2/105) .
[2] قطز: الملك المظفر قطز المعزى، هزم التتار في عين جالوت، كان أتابك الملك المنصور علي بن عز الدين أيبك، وعزله، وقام في السلطة مكانه، قتله الظاهر بيبرس سنة 658 هـ بعد موقعة عين جالوت (العبر 5/247، ابن كثير 13/222، المقريزي ق 1 ج 2/434) .
[3] جلال الدين محمد بن خوارزمشاه وآخر سلاطين الدولة الخورازمية حارب التتار وقاومهم، وضاعت دولته في أول هجماتهم، قتل سنة 629 هـ (العبر 5/114) ، وهو جلال الدين منكبرتي أو منكبرتي بن علاء الدين محمد ابن نكش بن إيل أرسلان بن أتسز بن قطب الدين محمد بن أنوشتكين غرجة حكم 1220- 1231 م (تركستان 511) .
[4] إشارة إلى قوله تعالى: ... قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ
[البقرة: من الآية 249] .
[5] انظر: الحديث النبوي الشريف في سنن الترمذي 2192، مستدركات الحاكم تصوير بيروت 4/550، سنن ابن ماجه، عيسى الحلبي القاهرة 6.(3/180)
على من عاداهم إلى يوم القيامة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ألا وهم الجند الغربي.
وقوله ألا وهم الجند الغربي زيادة في الروايات، وهذه الرواية إن لم تصح روايتها، صحت بالمعنى، لأن هذه الطائفة وهي كانت الطائفة الظاهرة التي أرادها النبي صلى الله عليه وسلم في قولهم «1» وعناهم بها، لأنه لم يظهر على التتار سواهم، وبهذه النصرة، دامت النصرة على التتار، وكانت بهم لا بغيرهم مع كثرة من كان من ملوك الإسلام، واجتهادهم في الجهاد، فتماسك بهذه المرة رمق الإسلام، وبقيت بقية الدين، ولولا هم لا نصدع شعب الأمة، وو هي عمود الملة، ووصلت خيل عبدة الشمس إلى أقصى المغارب، ودكت جميع رعان «2» الأرض.
وهذه جملة معترضة ساقها الاستطراد بذكر أهل تلك البلاد، ونعود الآن إلى ذكر «3» ما كنا فيه من ذكر بلادهم وأحوالهم فيها.
هذه البلاد أكثر الأرض ماء ومرعى وأخصبها زرعا إذا زرع بها، ولكنهم أهل حل وترحال، أصحاب ماشية، ليس لهم مبالاة بالزرع والغراس، ولقد كانت قبل استيلاء التتار عليها، معمورة الجوانب، وهي الآن في بقايا تلك العمارة «4» فيها الأشجار المختلفة الأنواع، من الفواكه العنب والرمان والسفرجل والتفاح والكمثرى والمشمش والخوخ والجوز، وبها فاكهة تسمى بلغة القبجاق بابيك شبيهة بالتين، والفواكه الموجودة عندهم الآن من بقايا ما باد من غراس من كان قبل هؤلاء ممن كان لهم عناية بالزرع والنصب، وهي كثيرة الوجود في جبالهم، وما يحدث إلى المدن (المخطوط ص 88) مع كثرة ما بادوا.(3/181)
وأما البطيخ فسحت عندهم سحابه، وشحت على غيرها خاصة الأصغر، فإنه ما يبقى عندهم طول السنة، ويقدد منه وهو في غاية صدق الحلاوة، وطيب الطعم مع ما يحكى من كثرة وجوده ورخصه، ومنهم من يستخرج ماءه ويعقد منه الحلوى.
وبمدنهم كثير من الخضراوات كاللفت والجزر والكرنب وغير ذلك، فأما في مدن الجركس والروس واللاص فإنه كثير عندهم جدا، وبها العسل الكثير الأبيض اللون اللذيذ الطعم الخالي من الحدة، وقد نشأ الآن فيهم الإسلام، وأشرق على أقطارهم نور الإيمان.
وكان أول من دان بالدين الحنيف من ملوكهم بركة بن جوجي [1] «1» بن جنكيز خان ومنه لمعت في آفاقهم الشوارق إلى أن صدع الآن الضحى، وتقلصت في جمهورهم «2» المعظم جلابيب الدجى، إلا في النادر القليل، ومع استعلائهم على جيوش الجركس والروس والماجار [2] والأرمن [3] «3» تختلس تلك الطوائف أولاد هؤلاء وتبيعهم من التجار، ومع ظهور الإسلام في هذه الطائفة، وإقرارهم بالشهادتين فهم مخالفون لأحكامها في كثير من الأمور، وأول هذه الطائفة وآخرها لا يقفون مع ياسه «4» جنكيز خان وقوف غيرهم مع مؤاخذة بضهم لبعض أشد
__________
[1] أسلم بركة بن جوجي بن جنكيز خان على يد معلمه المسلم (طبقات ناصري طبعه سخاو 446) .
[2] الماجار: قوم من الترك كانوا يسكنون في مدينة الماجر وهي مدينة كبيرة من أحسن مدن الترك على نهر كبير وبها البساتين والفواكه الكثيرة (انظر: رحلة ابن بطوطة 219) .
[3] الأرمن هم أهل أرمينية (أرمنستان) الذين بقاياهم ببلاد سيس (صبح الأعشى 1/370) وهي الآن جمهورية أرمينيا.(3/182)
المؤاخذة في الكذب والزنى ونبذ المواثيق والعهود.
ومن شأن ملوكهم إذا غضبوا على أحد من أتباعهم أخذوا ماله، وباعوا أولاده، وكذلك إذا سرق سرقة استحق المسروق له مال السارق وأولاده، وباعهم، ومن خطب إلي أحد «1» بنته، وأعطاه القليل، زوجه لها ثم لا يعود يسأله عنها كما ذكرنا في مملكة ما وراء النهر.
وقال لي المولى الفاضل نظام الدين أبو الفضائل يحيى بن الحكيم، أن لسلطان هذه المملكة على جميعهم خراج، يتأدى منهم زرعا «2» ، طولبوا بالخراج في سنة ممهلة لوقوع الموتان بدوابهم أو سقوط الثلج (وجماد الجمد) «3» ، فباعوا أولادهم لأداء ما عليهم.
وحدثني الشريف (المخطوط ص 89) شمس الدين محمد الحسيني الكربلائي التاجر في شهر رجب الفرد «4» سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة حالة عوده من هذه البلاد، وكان قد تجول فيها في سفره وتغرب فيها، ووصل إلى أقجاكرمان وبلاد البلغار، وقال لي: أنه اشترى في سفرته هذه مماليك وجواري من آبائهم وأمهاتهم لإحتياجهم لخروج يسق [1] ملكهم إليهم بالركوب «5» إلى بلاد إيران، واحتاجوا إلى بيع أولادهم وجلب منهم رقيقا عاليا غاليا.
وهذه المملكة قديما هي بلاد القبجاق فلما فاضت عليها التتار صارت القبجاق لهم رعايا، ثم خالطوهم وناسبوهم، وغلبت الأرض على الجبلة والأصل، فصار الكل كالقبجاق كأنهم جنس واحد لسكن المغل بأرض القبجاق ومصاهرتهم لهم،
__________
[1] اليسق؛ الأمر والحكم.(3/183)
وبلادهم في أرضهم، وهكذا طول المكث في كل بلد وأرض تجوز التجايز «1» إليها، ويحول الغرائز إلى طباعها كما قدمنا ذكره، (وقد يقل اختلاف الألوان ويزيد لسبب آخر غير البلدية) «2» .
قلت: ولقد كان في السرب والبلغار من قديم دار إسلام ومستقر إيمان، ذكر هذا المسعودي في مروج الذهب [1] «3» .
فأما الآن فقد تبدلت بإيماتها كفرا وتداولتها طائفة من عبّاد الصليب، ووصلت منهم رسل إلى حضرة سلطان «4» مصر سنة إحدى وثلاثين بكتاب إلى سلطانها من صاحب السرب والبلغار، يعرض نفسه على مودته، ويسأل منه سيفا يقلده «5» ، وسنجقا يقهر أعداؤه به، فأكرم رسوله، وأعد نزله وجهز له معه خلعة كاملة، طرد وحش مقصب بسنجاب مقندس على مفترح اسكندري، وكلوته زركش وشاش بطرزين رقم ومنطقة ذهب وكلاليب ذهب وسيف محلي، وسنجق سلطاني أصفر [2] مذهب، وهم يدارون سلطان القبجاق لعظمة سلطانه عليهم (المخطوط ص 90) وأخذه بخناقهم لقربهم منه.
قلت: والقسطنطينية [3] مجاورة لأطراف ملك القبجاق، وملك الروم معه في
__________
[1] مروج الذهب ومعادن الجوهر من أهم كتب التاريخ في القرن الرابع الهجري مؤلفه أبو الحسن بن علي حسين المسعودي المتوفي سنة 346 هـ، ويتناول الكتاب وقائع البشر من مولد آدم حتى سنة 332 هـ وهذا الكتاب مطبوع في أربعة مجلدات في عدة طبعات في القاهرة وبيروت ودمشق.
[2] سنجق: اللواء (المعجم الوسيط 1/471) .
[3] القسطنطينية: مدينة متناهية في الكبر، منقسمة قسمين بينها نهر، عظيم المد والجزر، أحد القسمين يسمى إصطنبول والثاني الغوطة (رحلة ابن بطوطة 232- 233) .(3/184)
طلب دائم، واقتراحات متعددة في كل وقت وملك الروم على توقد جمرته وكثرة حماته وأنصاره يخاف عادية شره، ويتقرب إليه بالمداراة، ويدافع معه الأيام من وقت إلى وقت، وما زالت الأيام هكذا وما زالت تلك حالهم مع ملوك هذه من أبناء جنكيز خان، منذ تدبروا هذه الأرض، وما تخلو منهم «1» مدة من تجديد عهود، ومسالمة إلى مدد تؤجل بينهم، وأشياء تحمل من جهة ملوك الروم إلى القان بمملكة القبجاق.
ذكر العز الحسن الأربيلي أن بدر الدين حسن الروسي التاجر السفّار، حدثه أن حدود هذه المملكة من جهة جيجون خوارزم وصقناق وسوداق وباركند. وجند وسراي ومدينة ماجروازاق والجاكرمان وكفه سوداق وسقسين والكل وبلغار، وأعمال سبروابو (وباشغرد، وجولمان ثم بصر جولمان يتصل حدود أعمال سبر بأوائل) «2» حدود بلاد الخطا.
قال: ومدينة باكو [1] هي أحد مدن أقليم شروان [2] ، وعندها الباب الحديد الذي يسميه الترك دمرقبو ومن الباب الحديد الذي هو عبارة عن مدينة باكو إلى حدود بلاد الخطا من جهة سبر وأبر يكون مسير القفل مسيرة خمسة أشهر، هذا هو طول هذه المملكة «3» وفي هذه المملكة من الأنهار الكثيرة المشهورة، سيحون، وجيحون، وطونا، وايتل، وباين، وتن، وطرلو، فمن سيحون إلى طونا مسيرة أربعة أشهر، وبين سيحون وجيحون خمسة عشر يوما، ومن جيحون إلى باين خمسة عشر يوما، ومن باين إلى أتيل عشرة أيام، ومن أتيل إلى تن شهر واحد، ومن تن
__________
[1] باكو مدينة عامرة على شاطىء بحر الخزر، عاصمة جمهورية آذربيجان الحالية.
[2] شروان: إقليم في بلاد القوقاز وهي غير شيروان إحدى قرى بخارى بجوار بمجكث، وذكر البغدادي شروان قرب بحر الخزر (مراصد الاطلاع 2/793) .(3/185)
إلى طرلو عشرة أيام، ومن طرلو إلى طونا شهر واحد، ويقلب «1» جيحون وأتيل إلى بحر القلزم وسيحون (المخطوط ص 91) منهى إلى مقصبة «2» ، ورمل تحت مدينة جند بثلاثة إيام فيقلب هناك، وتأتي الأنهر المذكورة تقلب إلى بحر عمان، وهذه السبعة أنهر في هذه المملكة، ويتصل منها إلى أقليم ما وراء النهر سيحون وجيحون.
قلت: الذي يصح أن جيحون يقلب في بحيرة ملح نحو مائة فرسخ، ويقع بها نهر الشاش أيضا، وأما من زعم أن جيحون يرمى في القلزم [1] فغلط منه، وإنما اشتبه ذلك لعظم هذه البحرة «3» ، وبين مرمى جيحون ونهر الشاش نحو من عشرة أيام، وتعرف هذه ببحيرة خوارزم [2] ، وعلى وسطها جبل يسمى جفر يجمد عنده الماء حتى يبقى إلى الصيف.
قال الأربيلي: ومن مشاهير مدنها بلغار، وأقصر ليلها أربع ساعات ونصف.
قال حسن الرومي: ثم سألت مسعود الموقت بالبلغار عن هذا فقال جربناها بالآلات الرصدية، فوجدناه أربع ساعات ونصف تحريرا، وهو غاية نقصان الليل بها.
وأما قصبة [3] افتكون فحررناها فوجدنا أقصر ليلها ثلاث ساعات ونصف أقصر من ليل البلغار بساعة واحدة.
قال: وبين بلغار وافتكون مسافة عشرين يوما بالسير المعتاد، والقصبة في مصطلح العجم المدينة الصغيرة.
__________
[1] القلزم أيضا هو البحر الأحمر الآن، نسبة إلى مدينة على ساحل بحر اليمن (الأحمر) وهي على آخره من جهة مصر وهي السويس حاليا (انظر: مراصد الاطلاع 3/1117) .
[2] بحيرة خوارزم: يصب بها ماء جيحون وسيحون، ماؤها ملح ولا ينقص (مراصد الاطلاع 1/168) .
[3] القصبة: المدينة (المعجم الوسيط 2/766) .(3/186)
قال: وبعد افتكون بلاد سبر، وأبر، ثم بعدها بلاد جولمان فإذا سافر المسافر من جولمان على شرقيها يصل إلى مدينة قراقرم ثم إلى بلاد الخطا وبها القان الكبير، وهي من بلاد الصين، قال وإن سافر المسافر على غربيها وصل إلى بلاد الروس، ثم إلى بلاد الفرنج وسكان البحر الغربي، (قلت: أما الآن فمقر القان خان بالق) «1» ، قال وبلاد السبر وجولمان مضافة إلى باشغرد [1] وفي بلاد باشغرد قاضي مسلم معتبر، وبلاد السبر وجولمان شديدة البرودة لا يفارقهم الثلج مدة ستة أشهر، لا يزال يسقط على جبالهم وبيوتهم وبلادهم ولهذا (المخطوط ص 91) ولهذا تقل مواشيهم عندهم، وهم سكان قلب الشمال، والواصل عندهم «2» وإليهم من الناس قليل، والأقوات عندهم قليلة، ويحكى عنهم أن الإنسان منهم يجمع عظام أي حيوان كان، ثم أنه يغلي عليها بقدر كفايته ثم يتركها وبعد سبع مرات لا يبقى فيها شيء من الدهن.
قال: وهم مع ضيق العيش ليس في أجناس الرقيق أنعم من أجسامهم ولا أحسن من بياضهم، صورهم تامة الخلقة في حسن وبياض ونعومة عجيبة زرق العيون.
وقال العز حسن الأربيلي: وحسن الرومي سافر في هذه البلاد وذكر أكثرها، وقال: قال لي «3» الشيخ علاء الدين بن النعمان الخوارزمي أن طول هذه المملكة من بحر اسطنبول إلى نهر أرلين ستة أشهر، وعرضها من بلغار إلى بلاد بلغار إلى باب الحديد أربعة أشهر تقريبا، وأما الشبهة «4» في دعوى ملوك القبجاق أن توريز،
__________
[1] باشغرد هي باشكرد أحد أقاليم بلاد ما وراء النهر، وهم جنس من الترك باسم البشكرديه لهم إقليم مستقل الآن داخل الاتحاد الروسي. وباشغرد بلاد بين القسطنطينية وبلغار (مراصد الاطلاع 1/153) .(3/187)
ومراغة [1] لهم على ما أخبرني به المولى نظام الدين أبو الفضائل يحيى الطياري أن القان الكبير، لما جرد هولاكو لقتل الإسماعيلية، ومن كان يتعصي بالجبال، سأله هولاكو في تكثير الجيوش معه، فجرد معه من عسكر كل واحد من ملوك بني جنكيز خان عسكرا.
فلما فتح بهم ما فتح من البلاد بقيت تلك العساكر معه فرتب لكل فرقة منهم علوفة على قطر من الأقطار، فكان ما رتب للعسكر المجرد معه من جهة صاحب بلاد القبجاق وخوارزم على توريز ومراغه، فبقوا يأخذوا علوفتهم منها، ثم لما مات هولاكو، وملك ولده ابغا خادعوه بطريق «1» أن سلطانهم بركة يريد أن يبنى جامعا بتوريز فمكنهم منه، فبنوه، وكتبوا عليه اسم السلطان بركة؛ ثم سألوا أن يعملوا لهم كرخاناه [2] «2» لاستعمال أقمشة لهم بها فمكنهم منها، وبقوا يستعملون بها القماش للسلطان بركة، ودام الحال على هذا إلى أن وقع بينهما، وتلاقيا، وكسر بركة لابغا فحنق أبغا (المخطوط ص 93) وأبطل الكرخاناه.
ثم لما نسيت تلك الواقعة الكائنة وهدىء ما بين ملكي الملكين، أعيدت الكرخاناه، على أنهم هم يحضرون من بلادهم أموالا لاستعمال ما شاءوا فيها، فلما تمادت المدد، وجعلوا الجامع والكرخاناه المبنين باسم «3» السلطان بركة سببا لهذه «4» الدعوى، ولقد جاءت رسلهم إلى محمود غازان يطلب توريز ومراغه، وقالوا له هذه جيوش أبينا، فتحها بسيوفهم، وهي لنا وحقنا بالإرث عنهم، فأعطنا حقنا،
__________
[1] وردت مراغا.
[2] كرخاناه هي كارخانه وتعني مصنع أو معمل من الكلمة الفارسية كارخاته بنفس المعنى (فرهنگ رازي 676) .(3/188)
فقال لهم قازان [1] : أنا ما أخذت الملك إلا بالسيف لا بالميراث، وما أخذته وحزته بسيفي توريز ومراغه، وبيني وبينكم السيف فيها، ثم لم يزل السلطان أزبك القائم الآن بمملكة القبجاق يتعلق بحبال هذه الشبهة ويطالب بدعوى هذه الوراثة، وسئل الشيخ علاء الدين بن النعمان عن جيوشه فقال كثيرة تفوق الحصر، فقال كم هم بالتقريب؟ فقال لا أعلم، لكن خرج مرة عليه وعلى القان الكبير أسنبغا [2] سلطان ما وراء النهر، وتغلب، وقطع الطريق، وقال: أنا أحق بالملك منهما، ونهب السيارة، وأخرج يدا عن طاعة القان فكتب القان إلي تقنقا بأن يقاتله، فجرد إليه من كل عشرة واحد، فبلغ عدد المجردين مائتا وخمسين ألفا، قال:
النعمان وهذا الذي دخل تحت العدد والإحصاء سوى المجتمعة والطماغة.
قال: وألزم كل فارس بغلامين، وثلاثين رأسا من الغنم وخمسة رءوس من الخيل وقدرين نحاسا، وعجلة يرسم حمل السلاح، وغزا استنبغا، وكسره، وانتصر عليه نصرة ظاهرة، ثم عاد مؤيدا منصورا.
قال: النعمان مبدأ عرض هذه المملكة من دمر قبو وهي مدينة من بناء «1» الإسكندر كان عليها باب من الحديد، وليس هو الآن، إلى بلاد بوغزة، وطولها من ماء لمرنس «2» ، وهو أعظم من نيل مصر بكثير من ناحية بلاد الخطا إلى اصطنبول [3] وتجاوز هذا الطول قليلا إلى بلاد تمسى نمج [4] .
__________
[1] قازان هو غازان بن أرغون بن آباقا بن هولاكو حكم ما بين سنة 1295- 1304 م (تركستان 717) .
[2] أسن بغا بن دوا بن براق بن أسن دوا بن موتكن بن جغتاي حكم ما وراء النهر 1310- 1318 (تركستان 721) .
[3] إصطنبول: هي أسطنبول، وهي القسم الواقع بالعدوة الشرقية من النهر وهي مدينة في سفح جبل داخل البحر نحو تسعة أميال وهي قسم من القسطنطينية (رحلة ابن بطوطة 233) وهي الآن إستانبول وأسلامبول والأستانة.
[4] نمج من بلاد الروس.(3/189)
(المخطوط ص 94) .
قال: وبلاد نمج مشتركة بين بلاد الروس والفرنج.
قال النعمان: والتجار لا يتعدون مدينة بلغار يسافرون إلى بلاد جولمان، وتجار جولمان يسافرون إلى بلاد بوغزه لأنها في أقصى الشمال وليس بعدها عمارة غير برج عظيم من بناء الإسكندر على هيئة المنارة العالية وليس بعده مذهب إلا الظلمات [1] ، فسئل: أي شيء عندك الظلمات؟
قال: صحار وجبال لا يفارقها الثلج والبرد، ولا تطلع عليها الشمس ولا ينبت فيها نبات، ولا يعيش فيها حيوان أصلا [2] ، متصلة ببحر أسود لا يزال يمطر، والغيم منعقد عليها، ولا تطلع عليه الشمس أصلا أبدا.
قال: النعمان: «1» إن الإسكندر مر بأطراف أوائل جبال الظلمات القريبة من العمارة فرأى فيها إنسانا من جنس الأتراك أشبه الناس بالوحوش، لا يعرف أحد بلغتهم، وإذا مسكهم أحد فروا من يده، يأكلون من نبات الجبال المجاورة لهم، فإذا قحطوا أكل بعضهم بعضا فمر بهم ولم يعترضهم.
قال: النعمان وقد ذكر صاحب مملكة القبجاق، وأكثر رعية هذا الملك سكان غربي الشمال، وهم أمم لا يحصون، وأكثر هم روس، ثم من بعدهم أتراك دشت القبجاق، وهم قبائل كثيرة، فيهم مسلمون، وفيهم كفار، ويبيعون أولادهم وقت الغلاء والقحط، وأما في الرخص فيسمحون ببيع البنات دون البنين، ولا يبيعون الولد الذكر إلا عن غلبة.
__________
[1] أرض الظلمة (انظر: الحرائط المرفقة) .
[2] والسفر إليها لا يكون إلا في عجلات صغار تجرها كلاب كبار فإن تلك المفازة فيها الجليد، فلا تثبت قدم الآدمي ولا حافر الدابة فيها، والكلاب لها الأظفار فتثبت أقدامها في الجليد (رحلة ابن بطوطة ووصف أرض الظلمة 225- 226) .(3/190)
وحدثني الفاضل شجاع الدين عبد الرحمن الخوارزمي الترجمان أن مدينة السراي بناها بركة قان على شط نهر توران [1] ، وهي في أرض سبخة بغير سور، ودار الملك بها قصر عظيم، على عليائه هلال ذهب قنطاران بالمصري، ويحيط بالقصر سور به أبراج مساكن لأمرائه، وبهذا القصر مشتاهم.
قال: وهذا النهر يكون قدر النيل ثلاث مرات أو أكثر، وتجري به السفن الكبار (المخطوط ص 95) تسافر إلى الروس والصقلب [2] ، وأصل هذا النهر أيضا من بلاد الصقلب.
قال: وهي يعني السراي [3] مدينة كبيرة ذات أسواق وحمامات ووجوه «1» مقصودة بالأجلاب في وسطها بركة ماءوها «2» من هذا النهر، يستعمل ماءوها للاستعمال، وأما شربهم فمن النهر، يستقى لهم في جرار فخار، ويصف على العجلات، وتجر إلى المدينة، وتباع بها، وبعدها عن خوارزم نحو شهر ونصف، وبينها وبين السراي مدينة «3» وحق ومدينة قطلوكت، ودينارهم رائج عنه ستة دراهم.
قال: والأسعار في خوارزم والسراي لا يكاد يتباين ما بينهما، والرطل الخوارزمي وزنه ثلاثمائة وثلاثون درهما، وأقواتها فيما يذكر من القمح والشعير
__________
[1] نهر توران: اسم منطقة يحدها من الغرب خوارزم ومن الجنوب نهر جيحون (تقويم البلدان 483) ومدينة سراي بركة وسراي واقعة على نهر يسمى الآن بنهر أتيل (انظر: الخرائط المرفقة) وذكره ابن بطوطة نهر اتل (رحلة ابن بطوطة 237) .
[2] الصقلب: هم الصقالبة، جيل من الناس كانت مساكنهم إلى الشمال من بلاد البلغار وانتشروا الآن في كثير من شرقي أوروبا وهم المسمون الآن بالسّلاف.
[3] هناك مدينتان باسم السراي، إحداهما باسم سراي بركة والأخرى السراي ويقعان على نهر واحد مع بلغار.(3/191)
والدخن ويسمى عندهم الأزرن [1] والماش [2] والجاورس [3] وهو شبيه بحب البرسيم وليس يباع عندهم هذه الحبوب إلا بالرطل يقال كل حمل حمار بكذا، وحمل الحمار عندهم مائة رطل، بهذا الرطل، والسعر المتوسط للقمح بدينارين ونصف، وكذلك الماش والشعير بدينارين، وكذلك الدخن وكذلك الجاورس أو أزيد، والغالب أن يكون سعره قياس سعر القمح، وسعر الشعير واللحم الضاني على السعر المتوسط في كل ثلاثة أرطال بدرهم.
وبها من أنواع الفواكه إلا النخل والزيتون وقصب السكر والموز والأترج والليمون والنارنج، وفيها من أنواع الطير والوحش، وبها الغزلان كبارا جدا، يكون الغزال قد «1» بقر الوحش.
وبها معدن يخرج منه أحجار يعمل منها قدور، تقيم القدرة نحو ستين سنة، ولا يتغير، وبها جبل يقال له جبل الخيل «2» من خوارزم، به عين تعرف به «3» ذوو الأمراض المزمنة، يقيمون عندها سبعة أيام في كل يوم يغتسلون بمائها بكرة وعشية، ويشربون عقيب كل اغتسال إلى أن يتضلعوا «4» فيحصل له البرء، ويجيحون سمكة لا يوجد بها عظم إلا الميل الذي في سلسلة الظهر بشعب وإلا فكلها لحم ورأسها (المخطوط ص 96) غضروف.
وخوارزم [4] على جيحون بين شعبتين منه مثل السراويل، وبخوارزم مائة بيت
__________
[1] الأزرن: نوع من الحبوب شبيه بالأرز وليس هو وقريب من القمح والشعير (فرهنگ عميد 1/112) .
[2] الماش: نوع من الحبوب يشبه العدس وهو من نوعية القمح (انظر: فرهنگ عميد 2/1737) .
[3] الجاورس هو گاورس الذرة العويجة، نوع من الذرة ثمرته في أعلاه (انظر: فرهنگ عميد 2/1674) .
[4] أكبر مدن الأتراك وأعظمها وأجملها وأضخمها، لها الأسواق المليحة والشوارع الفسيحة والعمارة الكبيرة.
(رحلة ابن بطوطة 239) .(3/192)
يهود، ومائة بيت نصارى لا غير، ولا يسمح لهم في الزيادة على ذلك.
ويلي خوارزم أرض مدورة وتسمى هذه الأرض المدورة منقشلاغ «1» [1] ، طولها خمسة أشهر، وعرضها كذلك، وكلها صحراء، وسكانها أمم كثيرة من البرجان، ويفصل بين هذه الأرض وبين جيحون جبل اسمه آق بلقان شمالي خراسان، وخوارزم أقليم منقطع عن خراسان وعما وراء النهر، ويحيط فيها المفاوز من كل جانب، وحده متصل بحد الغربة مما يلي الشمال، والغرب وجنوبيه وشرقيه خراسان، وهي على جانبي جيحون، وقصبته في الجنوبي الشمالي منه، ويسمى كات «2» [2] باللغة الخوازرمية، وفي الجانب الجنوبي الجرجانية «3» .
وفي هذا الإقليم عدة مدن، وأول مدن خوارزم بلد يسمى الظاهرية مما يلي آمل، وتمتد العمارة في جانبي جيحون معا، وملوك هذه المملكة مشتاهم السراي كما ذكرنا، ومصيفهم بم.
وجميع «4» ملوك توران وتتارها بجبل اسمه آراق طاغ طوله من أقصى الصين إلى أقصى الغرب، ينقطع بالبحر المحيط عند منتهى سبته، ويقع البحر الرومي، وكلما أشتق منه وسائر بلاد توران في جنوبه.
وحدود مجموع مملكة أزبك طولا من درغان خوارزم من المشرق إلى كاشغر [3] «5»
__________
[1] منقشلاغ، شبه جزيرة (انظر: معجم البلدان 4/670) .
[2] كاث: رستاق عاصمة خوارزم (تركستان 250) .
[3] وردت بالمخطوط باشغر.(3/193)
وعرضا من خوارزم إلى أقصى «1» بلاد سبر [1] التي يجلب منها السمور والسنجاب، وهي من بلاد الصقالبة، قال: وليس بعدهم في العمارة شيء «2» .
وقال: وقد جاء بعدي فتى من بعض «3» أهلها كيف تكون صلاة أهل بلد لا يغيب عندهم الشفق حتى يطلع الصبح لسرعة انقضاء الليل؟ قال: فلما صارت هذه المملكة بعد ملوك الخوارزمية إلى بني جنكيز خان استمروا بعساكر خوارزم على حالهم على إقطاعاتهم، وكل من كان بيد آبائه شيء، هو الآن بيد ابنائه «4» .
قال: والأمراء لهم بلاد منهم من يغل «5» (المخطوط ص 97) بلاده في السنة مائتي ألف دينار رائجا وما دون ذلك إلى مائة ألف دينار رائجا «6» .
وأما الجند فليس لأحد منهم إلا نقود تؤخذ من علي النطع، وكلهم سواء، لكل واحد منهم في السنة مائتا دينار رائجا، وقد كان زيهم زي عسكر مصر والشام في الدولة الإسلامية، وما يناسب ذلك فأما الآن فزيهم زي التتار إلا أنهم بعمائم صغار مدورة.
__________
[1] يقصد بلاد سيبر وهي سيبيريا الآن، وهي أرض الظلمة التي ذكرها ابن بطوطة في رحلته ص 225.(3/194)
الفصل الرابع في مملكة الإيرانيين(3/195)
«1» وهي العراق والعجم [1] وخراسان [2] ، هذه المملكة طولا من نهر جيحون المحيط بآخر حد خراسان إلى الفرات القاطع بينها وبين الشام، وعرضا من كرمان المتصل بالبحر الفارسي المنقسم من البحر الهندي إلى نهاية ما كان بيد بقايا الملوك السلجوقية بالروم، على نهاية حدود العلايا وأنطاكية من البحر الرومي [3] ، ويفصل في الجانب الشمالي بين هذه المملكة وبين بلاد القبجاق النهر المجاور لباب الحديد، وهو المسمى باللغة التركية دمرقابو [4] ، وبحر طبرستان وهو المسمى ببحر الخزر وبالقلزم [5] .
أخبرني الفاضل نظام الدين أبو الفضائل يحيى بن الحكيم الطياري أن هذه المملكة تكاد تكون تربيعة [6] ، فيكون طولها بالسير المعتاد أربعة أشهر، وعرضها أربعة أشهر، وهذه هي المملكة الصائرة إلى بيت هولاكو بن تولي «2» بن جنكيزخان، وتداولها السلاطين من أبنائها «3» إلى الآن.
وهي متوسطة في المعمور؛ من أجلّ ممالك الأرض وأوسطها في الطول والعرض، وبها تخت الأكاسرة [7] إلى أن تسلمه الإسلام، ثم استقرت بها قاعدة الخلافة
__________
[1] إيران: العراق العجمي.
[2] خراسان: أحد الأقاليم الإيرانية المشهورة يقع شمال شرق إيران، وعاصمته نيسابور.
[3] البحر الرومي: البحر الأبيض المتوسط.
[4] دمرقابو: من اللغة التركية بمعنى الباب الحديد.
[5] ويدعى أيضا بحر قزوين وبحر مازندران وبحر طبرستان وبحر گيلان.
[6] أي مربعة الشكل.
[7] جمع مفرده كسرى وهو حاكم الفرس من الكلمة البهلوية خسرو (فرهنگ رازي 277) .(3/197)
العباسية إلى آخر الأيام، ذات أقاليم كثيرة. ومدن كثيرة «1» ، مشتملة على رساتيق [1] وأعمال وخطط وجهات.
وقاعدة الملك بها الآن توريز [2] ثم السلطانية وبيت هولاكو يرون أن الملك من قعد على التخت باوجان وأوجان (المخطوط ص 98) في ظواهر توريز.
وفيها من الممالك العظيمة العراقان؛ عراق العرب، وعراق العجم وخراسان وكرمان وفارس وآذربيجان وآران والري والجبال وديار بكر وربيعة والجزيرة وأرمينية [3] وكرجستان [4] والروم [5] ، وإذا أنصفت هذه المملكة كانت قلب الدنيا على الحقيقة.
وهذه المملكة تندرج في مطاويها عدة ملوك كلهم عبيد سلطانها، كصاحب هرى [6] ، وأصل اسمها «2» هراة، وصاحب كرمان [7] وصاحب كيلان [8] ، وصاحب سمنان وصاحب مالاين «3» وصاحب أرزن، ونحن نتكلم على قواعد الملك بها.
أما توريز فواقعة في آذربيجان، وهي مدينة قديمة، أغرقت «4» في السعادة أنسابها، وثبتت في النعمة قواعدها.
__________
[1] جمع مفرده رستاق وتعني قرى (فرهنگ رازي 408- فرهنگ عميد 2/1072) .
[2] وهي تبريز.
[3] هي جمهورية أرمينيا الآن.
[4] هي جمهورية جورجيا الآن.
[5] هي جمهورية تركيا الآن.
[6] هرى وهراة: وهي مدينة قائمة الآن في أفغانستان.
[7] كرمان: إقليم شرقي إيران.
[8] كيلان هي گيلان وجيلان.(3/198)
وأما السلطانية فواقعة في عراق العجم بناها السلطان محمد خدابنده أو بخانتوين «1» أرغون بن أبغا بن هولاكو [1] ، «2» بناءها، ووسع فناءها، وأتقنت قسمتها في الخطط والأسواق وجلب إليها الناس (من أقطار الأرض) «3» ، ومن أقطار مملكته، واستجلبهم إليها بما بسط لسكانها من العدل والإحسان، وهي الآن عامرة آهلة، كأنما مرت عليها مئين [2] سنين، لكثرة من استوطنها، وتأهل بها وأولد من الولد فيها، وقد مضت عليها مدة بلغ بنوها مبالغ الرجال، ومنهم من جاز إلى رتبة الاكتهال.
وأما أوجان فهي بظاهر توريز ذات مروج ممتدة وماء جم، وبها قصر اتخذه أواخر ملوكهم صار معدا لمنزل السلطان، وبنى أكابر الأمراء قصورا لمنازلهم حوله، فأما عامة الخواتين والأمراء والكراء «4» ، فإنهم يتخذون زروبا [3] من القصب كالحظائر، ينزلون بها أيام نزولهم بأوجان [4] في مشاتيهم، وينصبون مع حظائرهم [5] الخركاوات [6] والخيم، وتمتد الأسواق، وتبقى مدة مشتهاهم بها «5» ، مدينة متسعة
__________
[1] أولجايتو بن أرغون بن آباقا بن هولاكو المعروف عجمد خربنده ثم خدابنده حكم ما بين 1304- 1316 في إيران والعراق وهو السلطان الثامن في سلسلة أبناء هولاكو (تركستان 717) .
[2] أمئات أو مئوية.
[3] زروبا جمع مفرده زريبة وهي الحظيرة.
[4] وردت بالمخطوط أوجاب.
[5] وردت بالمخطوط حضائرهم.
[6] خركاوات جمع مفرده خركاه وهي خيمة كبيرة (فرهنگ رازي 272، فرهنگ عميد 1/850) .(3/199)
الجوانب، فسيحة المذاهب، حتى إذا رجعوا (عنها) «1» إلى مصيفهم راحلين عنها، أحرقوا تلك الحظائر، لكثرة ما يتولد فيها يحرق من الأفاعي (المخطوط ص 99) والحيات.
أخبرني الفاضل نظام الدين أبو الفضائل يحيى بن الحكيم أنه يغرم على تلك الحظائر خزائن أموال ثم يحرقونها لا يبالون؛ وملوك هذه المملكة مشتاهم باوجان، وفي بعض السنين ببغداد، وأما مصيفهم في قراباغ [1] «2» باللغة التركية وحتى البستان الأسود، وتربته سوداء، ثم قرى ممتدة، وهو صحيح الهواء والماء، كثير المرعى، وإذا نزل به الأردو، والأردو [2] هو محلة السلطان، وأحدث الأمراء به والخواتين منازلهم ينصب به مساجد جامعة وأسواق منوعة، يوجد بها من كل ما [3] في أمهات المدن الكبار، (حتى يكون للخياطات أسواق ومحلات) «3» ولا ينكر على أحد بل كل امرئ وما استحسن، وإنما الموجودات على كثرتها من (الملابس) «4» والمأكل والمشارب والماعون، وأجر الصنائع غالية جدا، لكلفة المحمل، ومؤنة الأسفار، حتى يبلغ الشيء ثمن مثله مرتين وأكثر.
وأما الكلام في توريز فإنها مدينة غير كبيرة المقدار والماء مساق «5» إليها، وبها أنواع الفواكه، ولكنها ليست بغاية في الكثرة.
__________
[1] قراباغ: إقليم ذات حكم ذاتي تابع لأرمينيا وواقع في آذربيجان، وهو قره باغ أي الحديقة السوداء باللغة التركية.
[2] المعسكر.
[3] وردت بالمخطوط كلما.(3/200)
وأما أهلها فمن أظهر الناس حشمة، وأكثرهم تظاهرا بالنعمة، ولهم الأموال المديدة والنعم الوافرة والنفوس الأبية للدنايا، ولهم التجمل في زيهم جميعه من المأكول والمشروب، والملبوس والمركوب، وما منهم إلا من يأنف أن يذكر الدرهم في معاملته بل لا معاملة بينهم إلا بالدينار وهو مسمى عندهم بالرائج، عندهم ستة دراهم، هو معاملة تلك المملكة إلا بغداد وبلادها «1» وخراسان.
فأما معاملات بغداد فستأتي في مكانها، وأما خراسان فدينارها أربعة دراهم، كما تقدم ذكره في مملكة ما وراء النهر، وفي بعضها هذا الرائج.
ولنرجع إلى ما كنا في ذكره من أمور توريز، فذكرنا أنها مدينة ليست بخارقة في الكبر، ولا لها حواضر في خارجها، وهي اليوم أم إيران جميعا لتوجه القاصد (المخطوط ص 100) من كل جهة إليها، وبها محط رحال التجار والسفّار، وبها دور أكثر الأمراء الكبراء المصاحبين لسطاتها، لقربها من أوجان، وهي مستقر أكثر أوقاتهم، ويشتد البرد بتوريز كثيرا، وتتوالى الثلوج بها حتى أنه ليتخذ سروات أهلها في أدرهم أدر [1] «2» مستوية لا انفراج «3» وفي سقوفها ولا في دوائرها ولا ضوء لها إلا ما تؤديه طاقات حيطانها من وراء الزجاج المركب عليها.
وأما السلطانية فأوسع بقعة وقضاء وأكثر فاكهة وماء، وهي مع كون بعض سلاطين هذا البيت أنشأها، إلمامهم بها أقل من توريز، وبها قلعة مبنية مرجلة على بسيطها، فأما الموجود بتوريز وبالسلطانية من الفواكه فمن أنواعها خلا ما لا يطلع في البلاد المفرطة البرد كالأترج والنارنج والليم والليمون والرطب والقصب والموز، وما يجري هذا المجرى، فإنه لا يجيء إليها إلا محمولا من العراق، هي بلاد ما
__________
[1] أدر جمع مفردة دار، وتجمع دور وأدر.(3/201)
للزيتون بها نبات، فأما ما عدا هذا من الثمار والرياحين وغالب الخضروات، فإنها لا تعدم، وأنواعها من كثير ومتوسط وقليل على اختلاف الشجر والنبات والقمح والشعير والحمص والعدس، والفول متوسط الوجود بها، ولو توفرت الدواعي على الفلاحة والزرع لكثرت مغلاتها، وعظمت جباياها «1» لكن «2» ملوكها لا التفات لهم إلى ذلك.
فأما الأسعار بتوريز والسلطانية فمتى نزل السلطان على جهة، غلت أسعارها لكثرة أتباعه والنازلين معه، مع قلة الزرع في الأصل، وأما ما لا ينزل عليه السلطان، فأسعاره رخية، ولا إلى غاية، ولا يباع بتوريز والسلطانية وبلادهم (يعني أهل هذه المملكة غالبا) «3» ، في الغالب قمح ولا شعير ولا شيء مما سوى هذا إلا بالميزان، وليس لهم إلا المن [1] وهو بتوريز رطلان بالبغدادي فيكون زنته مائتين وستين درهما، وبالسلطانية المن زنته ستمائة درهم وأما معاملتهم فكما تقدم بالدينار الرائج.
سألت الفاضل نظام الدين أبا الفضل يحيى بن (المخطوط ص 101) الحكيم عن السعر المتوسط في توريز والسلطانية، فقال: أما مع نزول السلطان فغلاء حيث كان، وأما مع عدم نزوله فلا يكاد يتفاوت، يباع الخبز كل منين بسدس دينار، وهو درهم واحد، وهكذا الشعير إذا رخص قليلا، وأما في السلطانية فعلى نسبة هذا السعر، وأما ما يباع بالأردو، فأغلى [2] لتكليفه حمولته، وأما اللحم في الكل فكثير جدا.
ومما لابد من ذكره في هذه المملكة مدينة بغداد دار السلام ومدار الإسلام لأنه مما لا يجوز إهمال ذكرها وإخلاء هذا الكتاب من شيء عن حالها، فإنها، وإن لم
__________
[1] المن: ميزان يختلف مقداره من مكان لآخر.
[2] وردت بالمخطوط أغلا.(3/202)
تكن اليوم كرسي ملك، فإنها كرسي ملك الوجود، وقد تقدم القول أن المنصور أبا جعفر [1] «1» بناها، وهي جنبان على ضفتي دجلة، شرقي وغربي كل منهما مدينة كبيرة عظيمة غنية بنفسها عن الأخرى، إحداهما بناء المنصور، والأخرى بناها «2» المهدي [2] موضع معسكره، وبينهما جسران منصوبان، أحدهما يعرف بالعتيق والثاني بالجديد [3] ، وهما منصوبان على دجلة شرقا بغرب على سفن وزواريق أوقفت في الماء، ومدت بينها السلاسل الحديد المكعبة بالكعاب الثقال، وفوقها الخشب الممدد وعليهما التراب مغدف بالقير [4] يمر عليها أهل كل جانب إلى الآخر بالجمال والخيل والحمول، وعلى ضفتي دجلة قصور الخلافة والمدارس والأبنية العلية، بالشبابيك والطاقات [5] المطلة على دجلة.
وبناؤها بالآجر وهو المسمى بمصر الطوب، ومن بيوتها ما هو مفروش بالطوب وما هو مفروش بالقير، ولهم الصنائع العجيبة في التزويق بالطوب، وبها تتلاقى دجلة والفرات، وبها البساتين المونقة، والحدائق المحدقة.
وأما النخيل فلثمراتها فضل على ما سواها من أنواع منوعة من التمر والرطب
__________
[1] أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي الثالث، أنشأ بغداد ما بين سنة 145- 146 هـ وسماها مدينة السلام (انظر: بناء مدينة بغداد في كتاب تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج 1/66- 79) .
[2] المهدي: محمد بن المنصور ثالث خلفاء الدولة العباسية 158- 169 هـ/ 775- 785 م، اشتهر بحروبه مع البيزنطيين أنشأ الطرق العامة وحسن جهاز البريد (انظر تاريخ بغداد أو مدينة السلام لأبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي المتوفى 463 هـ دار الفكر بيروت) .
[3] انظر: ابن بطوطة 149.
[4] مغدف بالقير: مغطى بالقير، من غدف وأغدف وأغدف الليل أرخى ستوره، والغدافى ما كان لونه أسود (المعجم الوسيط 2/669) .
[5] طاق: فتحة جمعه طاقات وتعني النوافذ.(3/203)
وبها أنواع الرياحين والخضروات والغلال، وسعرها متوسط في الغالب، لا يكاد يرخص، بها ديناران أحدهما يسمى العوان عنه اثنا عشر درهما، الدرهم بقيراط وحبتين، وذلك الدينار عشرون قيراطا (المخطوط ص 102) ، كل قيراط ثلاث حبات، كل حبة أربع فلوس نقرة [1] عن كل «1» فلسان أحمران.
والثاني الدينار المرسل به أكثر ومبايعاتهم ومعاملات تجارهم عنه عشرة دراهم.
فأما الرطل البغدادي فوزنه مائة وثلاثون درهما، والمن بها مثله من توريز، وهو رطلان بالتوراني، وأما كيل الغلال بها فأكثرها الكز [2] ، وهو ثلاثون كاره [3] وكل كاره قفيزان فيكون الكز ستون «2» قفيز [4] ، والقفيز مكوكان «3» والمكوك [5] خمس عشر آق [6] .
وتختلف الكاره في الغلال والقمح والهرطبان «4» ، وهو كارة كل منهما مائتان وأربعون رطلا، وكارة الأرز ثلثمائة رطل، وكارة كل من الشعير والحمص والعدس
__________
[1] النقرة هي الفضة (فرهنگ عميد 2/1915، فرهنگ رازي 959) .
[2] الكز: گز مقياس يعادل متر، وهو كز بالكاف الفارسية (فرهنگ رازي 758) .
[3] كاره: مقياس قديم.
[4] وردت بالمخطوط قفيزان، والقفيز مقياس قديم (فرهنگ رازي 665) .
[5] مكوك: مكيال قديم يختلف مقداره باختلاف اصطلاح الناس عليه في البلاد، قيل: يسع صاعا ونصفا، جمعه مكاكيك (المعجم الوسيط 2/917) .
[6] آق: هي آقة: نقل قدره أربعمائة درهم أو ثمانية وأربعون ومئتان وألف جرام، بطل استعمالها في مصر جمعه أقق (المعجم الوسيط 1/22) .(3/204)
(والهرطبان) «1» مائتا رطل، وكارة الحبة السوداء المسماه بالشونيز مائة رطل.
قال الفاضل نظام الدين أبو الفضائل يحيى بن الحكيم إن القانون ببغداد أن كز القمح تسعة وثلاثون دينارا ونصف دينار، والشعير خمسة عشر دينارا، كلاهما من العوان «2» .
قال: ولعل هذا السعر المتوسط، لا يكاد يميل فيه القانون عن معدله، وأما إذا كان المشتى ببغداد، فناهيك بقلة الأقوات والغلاء الزائد، وإذا شتى السلطان ببغداد (ناهيك بقلة الأقوات) «3» ، نزل بدار تعرف بالجاثليق [1] من أدر الخلافة، وهي الآن باقية البناء تامة البهجة صالحة لمنازل الملوك.
قال قاضي القضاة أبو محمد الحسن الغوري أنها ليست من ديار الخلفاء، بل هي دار الدوادار [2] الكبير وكان قد نزلها الجاثليق في زمان هولاكو، وكان معظما عنده لمكانته من قطر خاتون زوجة هولاكو [3] .
ولقد «4» سألت الصدر مجد الدين «5» بن الدوري عن السبب في قلة الغلال ببلاد العراق مع امتداد سوادها وقبول أرضها للنبات، فقال: لهذا سببان قلة الزّراع لما استهلكه القتل زمان هولاكو، ومبرة العراق لما جاوره من البلاد.
__________
[1] الجاثليق: رئاسة الكهنة السريان في بلاد المشرق (الأعلام للزركلي 5/308 ومقدم الأساقفة جمعه جثالقة (المعجم الوسيط 1/111) .
[2] الدوادار: من الكلمة دوات دار أي صاحب الدواة، يعني الكاتب (انظر: فرهنگ رازي 356) .
[3] قطر خاتون زوجة هولاكو هي دوقوز خاتون كانت مسيحية وهي ابنة ملك الكرايت (جامع التواريخ 2/220) .(3/205)
وببغداد خاصة وهذه المملكة عامة الآثار الجميلة والآثار الباقية من الجوامع والمساجد والمدارس والخوانق [1] (المخطوط ص 103) والربط والبيمارستانات [2] «1» والصدقات الجارية ووجوه البر المتعددة.
ومن يوفى صفات محاسن العراق «2» ، وقد كانت قبلة ملوك الآفاق، وما بالعهد من قدم، ومنها قلائد الأعناق، وترابها لمى القبل وإثمد الأحداق.
وسألت الفاضل نظام الدين أبا الفضائل يحيى بن الحكيم إن كانت الأوقاف باقية في نواحي هذه المملكة عليها الآن أم تناولتها أيدي العدوان، فأخبرني بأنها جميعها جارية من مجاريها، لم يتعرض إليها متعرض لا في دولة هولاكو ولا فيما بعدها بل كل وقف بيد متوليه ومن له الولاية عليه وكل ما يقال من نقص أحوال الأوقاف بإيران جميعا هو من سوء ولاة أمورها لا من سواهم.
وحدثني هذا الفاضل نظام الدين أبو الفضائل يحيى بن الحكيم الطياري بكثير من أحوال هذه المملكة وقواعد ملوكها وترتيب جنودها وجيوشها، فمما حدثني أن السلاطين بها لا التفات لهم إلى أمر ولا نهي في البلاد، ولا في متحصلات الدخل والخرج فيها بل الوزير هو حامل هذه الأعباء، وله التصرف المطلق في الولاية والعزل والعطاء والمنع، لا يشاور السلطان إلا على ما جل من المهمات، وفيما قل من الأمور، بل هو السلطان حقيقة، وصاحب البلاد معنى، وإليه ترجع الأمور كلها، وبيده عقدها وحلها.
فأما أمر الجيوش والعساكر فإلى كبير أمراء الألوس وهو المسمى بكلاري بك،
__________
[1] خوانق جمع مفرده خانقاه، مكان يقيم فيه المتصوفة، وهي الصومعة والتكية (فرهنگ رازي 261) .
[2] البيمارستانات جمع مفرده بيمارستان، وترد أحيانا مارستان في الفارسية وغالبا في العربية وهي دار الشفاء (فرهنگ رازي 74) ويذكرها ابن بطوطة مانستار (رحلته ص 235) .(3/206)
أي أمير الأمراء، كما كان قطلوشاه [1] مع السلطانيين محمود غازان وأخيه محمد خدابنده وجوپان مع محمد خدابنده ثم بعده مع ولده السلطان بو سعيد بهادرخان، وهذا القائم الآن الشيخ حسن بن حسين بن آقبغا [2] مع أنه السلطان محمد بن طشتمر [3] بن استمر بن عبرجى «1» وأمراء الألوس أربعة بكلاري بك، وثلاثة آخر، ويسمى هؤلاء الأربعة أمراء القول، ويشترط أن يكون هؤلاء هم الذين تكتب أسماؤهم في اليراليغ [4] والفرمانات [5] بعد اسم السلطان، ثم اسم الوزير بعدهم ولا يتوقف في كتابة (المخطوط ص 104) اسم من الأسماء ممن هو غائب منهم عن الأردو، بل تكتب أسماؤهم كلهم، حضر منهم من حضر وغاب منهم من غاب، وكل ذي سيف لا يخرج أمره عن القائم بهذه الوظيفة التي هي إمرة أمراء الألوس، وكل ذي قلم ومنصب شرعي لا يخرج عن الوزير، وطبقات الأمراء أعلاها والنوين [6] وهو أمير عشرة آلاف، ثم أمير ألف، ثم أمير مائة، ثم أمير عشرة، هذه طبقات رتبهم لا نقص فيها ولا مزيد عليها وعامة العسكر لا تزال أسماؤهم في دواوينهم على الإفراد بل كل طائفة عليهم في الديوان فارس معين، إذا رسم له بالركوب، رعبوا «2» منهم العدة المطلوبة.
__________
[1] قطلوشاه أو قتلوشاه من كبار القادة المغول، قتل سنة 707 هـ (انظر: الدرر الكامنة 7/339) .
[2] حسن بن حسين بن أقبغا وهو ابن عمة السلطان أبو سعيد بهادر وقد تغلب على الملك بعد موت السلطان (انظر رحلة ابن بطوطة 154) .
[3] طشتمر بن اسنتمر بن عبرجي هو طاش دمر.
[4] يراليغ جمع مفرده يرليغ وهي كلمة مغولية بمعنى حكم أو أمر (فرهنگ رازي 1038) .
[5] الفرمانات جمع مفرده فرمان والفرمان هو الحكم والأمر.
[6] نوين: نوين ونويان، لفظ مغولي لأمراء وقواد المغول الكبار (فرهنگ رازي 971، فرهنگ عميد 1/234- 235) ونوين معناها رئيس تومان أي رئيس فرقة مكونه من عشرة آلاف (انظر حاشية كاترمير على جامع التواريخ 86- صبح الأعشى 4/423) .(3/207)
وسألت الفاضل أبا الفضائل يحيى بن الحكيم عن مقدار عدة الجيش فقال: أما المنزل في دواوينهم فما يبلغ عشرين تومانا [1] ، وأما إذا أرادوا ركبوا بثلاثين تومانا، وما يزيد عليها وهم اليوم في انبتات شمل «1» ، وشتات آراء، لا يلتم لهم جمع، ولا يضمهم وفاق، قلت له: فكم مقدار «2» ما لهؤلاء من الأرزاق؟ فقال: أما ما هو مستقر لهم في دواوينهم من زمان هولاكو فلا يرضى أحدهم من كبارهم به ولا بأضعافه مرات، وأما الصغار فما يتجاوز واحد منهم المستقر له.
قلت: فكم هو المستقر في الديوان؟ وبكم يقنع كبارهم الآن؟ فقال لي: المقرر من قديم لكل نوين أمير تومان، تومان وهو عشرة آلاف دينار رائج عنها ستون ألف درهم، وأما اليوم فما يقنع النوين منهم إلا بخمسين تومان وهي خمسمائة ألف دينار رائج، عنها ثلاثة آلاف ألف درهم، ومن خمسين تومان إلى أربعين تومان، وأما كبيرهم بكلاري بك فالذي استقر لجوبان ثم لمن بعده ثلاثمائة تومان، وهي ثلاثة ألف ألف دينار عنها ثمانية عشر ألف ألف درهم، مع ما يحصل لكل من أمراء الألوس الأربعة من الخدم الكثيرة في البلاد جميعها عند تقديرات الضمان لها على ضمانها، على ما تنبه عليه في موضعه.
قال: وأما أمير الألف ومن دونه فلا يتجاوز أحد منهم مقرره القديم في الديوان لأمير الألف ألف دينار رائج عنها ستة آلاف (المخطوط ص 105) درهم، وأما أمير المائة والعشرة «3» ، وكل واحد من العسكرية أي الجند، فمائة دينار رائج، عنها ستمائة درهم لا تفاوت بينهم، هذا هو المقرر الجاري من قديم، وإنما تبقى مزية أمير المائة أو العشرة أنه يأخذ لنفسه شيئا مما هو للعسكرية.
__________
[1] تومان: قائد ألف في العصر المغولي (فرهنگ عميد 1/234) وهي تعادل عشرة آلاف دينار (فرهنگ رازي 179) وتومان تعني عشرة ريال في العصر الحديث.(3/208)
ولكل طائفة أرض لنزولهم توارثها الخلف عن السلف منذ ملك هولاكو هذه البلاد، فيها منازلهم، ولهم بها مزدرع لأقواتهم، لكنهم «1» لا يعيشون بالحرث والزرع.
هذه جملة ما هو لعساكر إيران مما ازداد، وما هو مستقر في الديوان، وأما الخواتين فالذي لهن الآن منه ما يبلغ للخاتون الواحدة، مائتا تومان، وهو ألف ألف دينار، عنها اثنا عشر ألف ألف درهم، وما دون ذلك إلى عشرين تومان، وهو مائتا ألف دينار عنها ألفان ألف ومائتان ألف درهم.
وقال لي الفاضل أبو الفضائل [1] يحيى بن الحكيم: وهذا قد يزيد وينقص.
وأما الوزير فله مائة وخمسون تومانا، هو ألف ألف وخمسمائة ألف دينار رائج، عنها تسعة آلاف ألف «2» درهم، قال: ولا يقنع بعشرة أضعاف هذا في تقارير البلاد.
وأمّا الخواجكية [2] من أرباب الأقلام فمنهم من يبلغ في السنة ثلاثين تومانا، وهي ثلاثمائة ألف دينار عنها ألف ألف. وثمانمائة ألف درهم، قال: وبهذه المملكة ما لا يحصى من الإدرارات والمعيشات والمرسومات، حتى أن بعض الرواتب تبلغ عشرين ألف دينار، وأما الإدرارات من المبلغ أو القرى فإنها تبقى لصاحبها كللك «3» يتصرف فيه كيف شاء، من بيع وهبة ووقف لمن أرادوا المعايش لمدة الحياة غير المرسومات والإنعامات، قال: وهي ما لا يحصى.
__________
[1] ورد بالمخطوط أبي الفضائل.
[2] الخواجكيه جمع مفرده خواجه وهو لقب يعادل كلمة السيد والرئيس، وهنا تعني الكاتب، وكان هذا اللقب يطلق على أهل العلم والأدب (انظر: فرهنگ رازي 290) .(3/209)
قال: ومن هؤلاء من المستوفيين [1] من له الضبط على اتساع أقطار الممالك.
قال: وأما وظيفة القضاة فعادة هذه المملكة أن يكون بها في صحبة السلطان قاضي قضاة الممالك وهو يولى في جميع المملكة على تنائى أقطارها إلا العراق، فإن لبغداد قاضي قضاة (المخطوط ص 106) مستقل بها، يولى بها، وفي بلادها جميع عراق الغرب «1» .
وقال لي قاضي القضاة أبو محمد الحسن الغوري، أن آخر ما استقر له ست قرى وتومان «2» عشرة آلاف دينار في السنة.
قال الفاضل نظام الدين أبو الفضائل يحيى بن الحكيم: أن ملوك هذه المملكة وأمراءها «3» لهم ميل كلي إلى الشراب، فملوكها «4» اشتغالهم كله «5» بلذاتهم، وأمور دولتهم منقسمة بين أمراء الألوس والوزير على ما تقدم، ولاشتغال سلاطينهم «6» باللذات وانعكافهم «7» على منى نفوسهم، ومنتهى شهواتهم أعرضوا عن تدبير البلاد وأحوالهم، ولم يفكروا في مالها أن كثر أو قل، وبمملكتهم كيش [2] ونعمان، وهما مغامس اللؤلؤ، وبالدامغان في جبلها معدن ذهب.
قال لي شيخنا الإمام العلّامة فريد الدهر شمس الدين أبو الثناء محمود
__________
[1] المستوفى، هو المحاسب والمحصل للحقوق وهي وظيفة (انظر: فرهنگ رازي 860) .
[2] كيس: تعجيم قيس، جزيرة في وسط البحر تعدين أعمال فارس وتعد من أعمال عمان (مراصد الاطلاع 3/1192) وهي الآن جزيرة كيش.(3/210)
الأصفهاني: إن هذا المعدن قليل المتحصل لكثرة ما يحتاج من الكلف حتى يستخرج، وبشتكاره شرقي العجم البازهر [1] الحيواني، يوجد بمعاليق الأيائل وهو الذي لا يباريه شيء في مقاومة السموم.
قال ابن البيطار [2] وأجوده الأصغر ثم الأغبر وخاصته النفع من السموم الحيوانية والنباتية، ومن عض الهوام ولدغها، وإذا شرب منه مسحوقا أو مسحولا وزن أثنى عشر شعيرة، خلص من الموت، وإذا امتصه تبادر للسم نقعه، وإن نثر على موضع لسع الهوام حين يلسع اجتذب السم، وبها الإثمد على مسافة يوم من أصبهان [3] في حفر بالأرض، وهو الذي لا يقوم شيء مقامه، وإنما قل النوع الجيد الآن.
سألت شيخنا شمس الدين محمود الأصفهاني عن سبب قلته، فقال: لانقطاع عرقه، فما بقى منه يوجد إلا ما لا يرى منه.
وبهذه المملكة مستعملات «1» القماش الفاخر من النخ والمخمل [4] والكمخا والعتابي والنصافي والصوف الأبيض المارديني [5] ، وهو في النهاية في بابه، ويعمل
__________
[1] البازهر: هو من الكلمة الفارسية پادزهر المأخوذة من الپهلوية Patyahr وتعني ضد السم، الترياق المضاد للسم (فرهنگ عميد 1/417) .
[2] ابن البيطار: أبو محمد عبد الله بن أحمد ضياء الدين ابن البيطار المالقي عالم النباتات والأعشاب، ولد أواخر القرن السادس الهجري، له الجامع في الأدوية المفردات أو الجامع لمفردات الأدوية والأغذية (دائرة المعارف الإسلامية 1/226- 227) .
[3] أصبهان هي أصفهان إحدى المدن الإيرانية مجاورة لبلاد اللور (ياقوت الحموي 2/404) .
[4] النخ والمخمل: النخ نوع من القماش القطني أو الحريري (فرهنگ رازي 944) والمخمل نوع من القماش الناعم (فرهنگ رازي 839) .
[5] الكمخا والعتابي والنصافي والمارديني: أنواع من الأقمشة.(3/211)
البسط الفاخرة في مواضع بها مثل شيراز [1] وأقصرا [2] وتوريز.
وحدثني (المخطوط ص 107) شيخنا فريد الدهر شمس الدين أبو الثناء محمود الأصفهاني أن بمدينة قمشمير مسرة «1» ثلاثة أيام عن أصفهان عين ماء سارحة نزرة «2» ، يسمى ماؤها بماء الجرادلة، خاصيته أن يحمل من مائها في إناء إلى الأرض التي أتاها الجراد، فيعلق ذلك الإناء في تلك الأرض، فيقصدها ما لا يحصى من طير، يقال له سار [3] يأكل ما فيها من الجراد حتى يفنى «3» .
قال شيخنا شمس الدين: وتعليق هذه الإناء شرط في خاصيته، بحيث لا يمس الأرض من طريقه ولا في مكان تعليق.
وحكى لي الأمير السيد المجيد في كتابه محمد بن حيدر الشيرازي أنه بين الدامغان واسترآباذ من خراسان عينا ظاهرة إذا ألقى فيها نجاسة، فار ماؤها وأزيدت وتكدر جوها [4] «4» .
وحدثني شيخنا فريد الدهر شمس الدين الأصفهاني أن بمازندران، وهي المسماة طبرستان عين ماء، من حمل من مائها، تبعته دودة طول أنملة الإنسان، فلو
__________
[1] شيراز: قاعدة فارس، وهي مدينة أصيلة البناء، تضارع دمشق (انظر: وصفها عند ابن بطوطة ص 136) .
[2] أقصرا: من بلاد الروم وتابعة لملك العراق (انظر: رحلة ابن بطوطة 196) .
[3] سار: طائر صغير أكبر من العصفور يظهر أول الربيع غذاؤه العنب والتوت، لحمه حلال (فرهنگ عميد 2/1143) .
[4] وردت هذه القصة عند كثير من المؤرخين وفي أماكن أخرى فقد ذكرها ميرخواند في كتابه روضة الصفا (انظر: الترجمة العربية ص 132) كما ذكرها نظام الدين أحمد في طبقات الكبرى (انظر: الترجمة في رسالة دكتوراه للمحقق بجامعة القاهرة 1/6، وعند ابن الأثير في كامله 7/87، وابن كثير في البداية والنهاية 11/286) .(3/212)
حمل الماء تسعة، وكان معهم عاشر لم يحمل الماء، تبع كل واحد ممن حمل دودة، ولم يتبع العاشر الذي لم يحمل شيئا، فإن قتل واحد منهم تلك الدودة استحال الماء مرا لوقته، واستحال ماء كل من هو وراءه مرا، وأما من هو على جانبه فلا يستحيل ماؤه.
ومن عادة هذا السلطان أن يصحبه في الأردو في كل حل ومرتحل أعيان من العلماء والمدرسين برواتب جاريات «1» على السلطان، ومع كل منهم فقهاء وطلبه، وهؤلاء هم المسمون بمدرس السيارة، ومعهم أعيان الحواصلية الرؤساء، وطوائف الدواوين والكتاب ومن جميع أرباب الصنائع والمهن، حتى يكون الأردو كالمدينة العظيمة، ينزل ويرحل معه «2» ، وأخبرني الصدر مجد الدين إسماعيل السلامي أنه يوجد بالأردو خيم وخركاوات منصوبة تكترى للناس [1] لمن يصحب الأردو وماله مأوى أو من يجيء غريبا إليه، يكتريها، وينزل فيها، وبها الكبار والمتوسطات والصغار وأسواقهم «3» ، وهي المسماة بالبازار [2] ، مشتملة على ما يكون في المدن العظام من الملبوس والمطعوم والمشروب وغير ذلك بما لا حاجة بنا إلى ذكره، وليس يعترض ناسكهم على فاتكهم، ولا قاتلهم من باسلهم.
ومن قاعدة هذا السلطان أنه إذا نزل منزلا وهو المسمى عنده البيرق [3] ، ينصبه بالبعد منه علمان لا يتجاوزهم راكبه، وأمراؤه يلتزم معه أعظم الآداب، فما منهم أحد إذا قارب خركاه القان على نحو عشرين علوة نشاب أو أكثر إلا ينزل عن فرسه ويمشى.
__________
[1] تؤجر للناس.
[2] البازار: السوق (فرهنگ رازي 42) .
[3] يرق: وهي يورت بمعنى مقام، خيمة (فرهنگ رازي 1043) وتأتي بمعنى أردو (تركستان 561) .(3/213)
قال لي الصدر مجد الدين إسماعيل أنه رأى جوبان على ما كان بلغ من العظمة، وبو سعيد معه اسم بلا معنى، وهو متى وقعت عينه على الأردو، نزل، ومشى، فيتعب لبعد المسافة، فيقعد على كرسي صندلي [1] ليستريح، ثم يمشي، ثم يقعد ليستريح مرات حتى يصل إلى باب الكرباس [2] وهو باب الخان.
قال: ولكل من الخواتين، وكل من الأمراء الأكابر يرق [3] بذاته، ينزل فيه، وكل يرق من هذه كاهل بالأسواق، وكل ما يحتاج إليه من عادة هذا السلطان أن لا يعمل مراكب ولا يجلس لخدمة، ولا لقراءة قصص [4] عليه، وإبلاغ مظالم إليه بل له من أبناء الأمراء خاصة له، يقال لهم الأبناء، فيه هؤلاء هم «1» ، لا يكاد منهم من يفارقه.
فأما الأمراء فإنهم يركبون في غالب الأيام إلى باب الكرباس [5] ، وينصب لهم هناك كراسي صندليه [6] «2» ، يجلس كل أمير على كرسي بحسب مراتبهم الأعلى ثم الأدنى، ويدخل الوزير في بكرة كل يوم على القان، ويبقى الأمراء على باب الكرباس، إما يخرج القان أو يأذن لهم أو لا هذا ولا هذا، فإذا حضر طعام القان، بعث إلى كل أمير منهم شيئا للأكل بمفرده، يأكل هو ومن انتظم معه، لم يتفرقون كل واحد إلى برية من أنفق يخصون من الأمراء من حضر ومن لم يحضر لم يطلب بحضور إلا أن دعت الحاجة إلى طلب أحد منهم طلب.
__________
[1] صندلي: وهو الكرسي (رازي 564) .
[2] الكرباس: بفتح كاف، قماش من خيوط القطن ينسج باليد (فرهنگ رازي 695) .
[3] يرق وهي يورت بمعنى المقام والخيمة.
[4] شكاوى.
[5] الكرباس: قماش قطني مصنوع باليد.
[6] كراسي صندلية: وهي كنبة بمخدع، كرسي مخصوص بجوانب (فرهنگ رازي 564) .(3/214)
ولهؤلاء شغل شاغل بالركوب إلى الصيد في غالب أيامهم فهم يجتمعون بعضهم ببعض «1» ، ولهذا ما لهم يوم مخصوص بموكب ولا خدمة، فأما من له ظلامة، فشكواه إن كانت متعلقة بالعسكرية (المخطوط ص 109) إلى أمير الألوس، وإن كانت متعلقة بالبلاد والأموال والرعايا فشكواه إلى الوزير، وفي الغالب ما يكون أمير الألوس بالأردو، ولانفراد في المصيف أو في المشتى أو الصيد أو قصد ثغر من الثغور، فغالب الشكاوى على إطلاقها مردودة إلى الوزير.
وليست في هذه للبلاد قاعدة «2» محفوظة تمشي على نظامها، بل كل من انضوى إلى خاتون من الخواتين أو أمير من الأمراء أو كبير من الخواصكية، قام بأمره إما في قضاء حاجة يطلبها أو إزالة ظلامة يشكوها حتى من الخواتين والأمراء، من يقتل ويوسط بيده بغير أمر القان ولا أمير الألوس.
وأما اليرالغ [1] والأحكام الصادرة عنهم فالمتعلق بالأموال يسمى الطرطمغا [2] ، وهذه صادرة عن رأي الوزارة، وأمره والمتعلق بالألجية [3] «3» وهو البريد يسمى ... [4] «4» وهي أيضا صادرة عن الوزير، قد أقام لها أناسا بذاتهم، ومرجوعهم إليه، والمتعلق بالعسكر يسمى ... [5] «5» ، وهو صادر عن أمير الألوس.
__________
[1] اليراليغ جمع مفرده يرليغ، لفظ مغولي بمعنى حكم، مرسوم (صبح الأعشى 4/423- 428) .
[2] الطرطمغا: المرسوم الخاص بالأموال يسمى بهذا الاسم.
[3] الالجية: المرسوم الخاص بالوزارة.
[4] فراغ بمسافة 3 سم.
[5] فراغ بمسافة 1 سم.(3/215)
وليس لأحد على الجميع خط إلا الوزير، وإنما العادة أن يأمر الوزير بكتابة ما يرى، ثم تؤخذ خطوط المحدثين في ذلك الذي يكتب، ثم تحرر مسودة، وتعرض على الوزير، فيأمر بتبيضها، فإذا بيضت كتب- كما نبهنا عليه فيما قبل- اسم السلطان، ثم تحته اسم الأمراء الأربعة ويخلى تحته مكان، هو موضع خط الوزير، ثم يكمل اليرليغ [1] أو الحكم، ويختمه بالتاريخ شخص معد لذلك، غير من يكتب، ثم يأتي الوزير ويكتب في المكان الخالي فلان سوري «1» ، أي هذا كلام فلان، يسمى نفسه، ثم إن كان متعلقا بالمال، أثبت حيث يثبته مثله، وإلا فلا، وأما المتعلق بالعسكر فمنشأ الأمر فيه عن أمير الألوس، يأمر به ثم على بقية الترتيب، ولا خط لأمير الألوس بيده.
وقاعدة أصحاب الولائم من الدواوين عندهم كما هو بمصر والشام، لا يعلم صاحب علامة حتى يرى خط نائبه عليه أولا، ليعلم أنه قد نزل عنده.
وأخبرني الفاضل أبو الفضائل يحيى بن الحكيم أن الذي للأمراء والعسكرية لا يكتب (المخطوط ص 110) مرسوم، لأن كل طائفة ورثت [2] مالها في ذلك عن آبائها، وهم على الجهات التي قررها لهم هولاكو لا يتغير بزيادة ولا نقص، إلا أكابر الأمراء الذين حصلت لهم الزيادات، فإن ذلك الوقت كتب لهم بها بأمر القان، أصدر بها الوزراء عنه.
قال: ومن الخواتين والأمراء من أخذ بماله أو بعضه بلادا مما له، وكثير من أخذ بلدا عن مبلغ متحصل ذلك الملك أضعافه.
وأهل هذه المملكة قد داخلهم العجم، وزوجوهم وتزوجوا منهم، وخلطوهم بالنفوس «2» في الأمور فلهذا تفخمت قواعدهم، وجرت على عوائد الخلفاء والملوك
__________
[1] اليرليغ: مرسوم.
[2] كررت عبارة (طائفة ورثت) .(3/216)
في غالب الأمور قوانينهم، ولقد كان هولاكو من أول ما أخذ بغداد على نية إجراء الأمور في مجاريها، وإبقاء الأحوال على ما كانت، ولكنه ما تهيأ له لشدة من كان معه على المغولية، وإفراط تخوف الناس منهم، فإنهم لكثرة خوفهم منه تجنبوا لقاءه، فزالت عنهم رتبهم، وتغيرت عليهم أحوالهم، ولقد كان يقنع منهم بالطاعة والانقياد والمداراة بالمال عن استئصال البلاء، ولكن المقادير لا ترد سهامها، ولا تصد أحكامها.
وفي هذه المملكة عدة ملوك مثل صاحب هرى [1] ، وهي هرى «1» من خراسان في أخريات البلاد، مجاورة لكرمان، وبها ملك من بقايا ملوك السبكتكينية [2] يتوارثون ملكها، ذات بلاد وأعمال وجباية وأموال ولسلطانها عسكر يقال أنها عشرون ألفا، وهم لا يبلغون ذلك، وكان قد آل ملكها إلى غياث الدين محمد السبكتكيني [3] ، وإليه لجأ جوبان بن جلو أمير ألوس إيران في واقعته مع السلطان بو سعيد، فإن لصحبة كانت بينهما، وكان مع جوبان ولده خلوقان [4] وهو ابن السلطان «2» محمد اولجايتو خدابنده وهي أخت السلطان أبو سعيد، فتلقاهما وأنزلهما في القلعة عنده، ثم خنقهما، تقربا إلى السلطان بو سعيد، وبعث بإبهام جوبان، وكان بها (المخطوط ص 111) أصبع زائدة، إلى حضرة بو سعيد، إعلاما بتحقيق قتله.
__________
[1] هراة: مدينة عظيمة من مدن خراسان بناها الإسكندر وحولها سور عظيم، وليس بخراسان أجمل ولا أعمر ولا خصب ولا أكثر خيرا منها (آثار البلاد 481) ولأهلها صلاح وعفاف وديانة (رحلة ابن بطوطة 254) .
[2] نسبة إلى سبكتكين.
[3] انظر القصة في رحلة ابن بطوطة 152- 153.
[4] أولاد جوبان هم حسن وطالش ودمرطاش وقد فر الأخير إلى مصر وهناك قتل (رحلة ابن بطوطة 153) .(3/217)
وكان بو سعيد قد تزوج ببغداد خاتون بنت جوبان بعد تحيده منه، فأمر بإقامة العزاء عليهما، ثم نقل جثتيهما إلى حضرته، وجدد العزاء عليهما، ثم حملا إلى مكة المعظمة، فطيف بهما، ثم حملا إلى المدينة الشريفة النبوية، فدفنا بالبقيع منها [1] ، ومات غياث الدين المذكور، وانتقل الملك بعده لولده.
وهذه هرى مدينة جليلة من أجل مدن خراسان، مشهورة موصوفة بالحسن والنعمة، وبها الماء السارح والشجر الكثير، رخية الأسعار، حكمها حكم ما سواها من خراسان، إلا أنها مملكة تتداولها ملوك، وكلهم في طاعة صاحب إيران، وتحت أمره، وعسكر هرى من الفرس، وفيهم البهالوين [2] ذوو البأس والقوة.
وأخبرني شيخنا فريد الدهر شمس الدين أبو الثناء محمود الأصفهاني، أن بالقرب من هرى شيخ موجود اسمه شهاب الدين أحمد الجامي، جليل القدر، واسع الحرمة والمال، له خمسة آلاف مملوك يصرفهم في أرزاقه، ومكاسبهم كثيرة ومستغلات أملاكه وزروعه وتربية دودة القز واستخراج الحرير له وعمله بما يجيء منه الجمل الكثيرة التي لا تكاد تحصر.
قال: وهذا الجامي مرعى الجانب عند سلاطين إيران، كان يفرش سجادته إلى جانب السلطان خدابنده، فقيل لخدابنده: كيف بلغ هذا منك هذه الرتبة؟ قال:
كنت مجردا في زمان أخي محمود غازان بستين ألف فارس، فضاق بنا الوقت لقلة ما نأكل نحن ودوابنا، فأقام بنا جميعنا هذا الشيخ أربعة أشهر من ماله.
وحكى لي من أثق بقوله أنه رآه على منى وهو حاج ومعه ألف جمل «1» وأثقل عليها «2» أمواله وأثقاله.
__________
[1] دفنا في مكة (رحلة ابن بطوطة 154) .
[2] البهالوين جمع مفرده بهلوي ويعني الشجاع والبطل.(3/218)
قال: ورأيت غياث الدين صاحب هرى واقفا في خدمة الجامي [1] ، والجامي قاعد لا يكترث بوقوف صاحب هرى بين يديه.
وبهذه المملكة أبلة البصرة [2] وشعب بوان [3] ، (المخطوط ص 112) وهما نصف متنزهات الدنيا الأربعة ذات المحاسن المنوعة.
فأما الأبلة فمدينة قديمة دثرت الآن، وبقى متنزهها على ما كان، والأبلة نهر مشتق من دجلة، مرفوع إلى البصرة يسقى بساتينها، والبصرة أشهر من أن توصف حدائقها الملتفة، وجداولها المحتفة، وما تفتر به رياضها من بدائع الزهرات، وتفردت به حدائقها من يانع الثمرات.
قال الجاحظ [4] ، ونهر الأبلة سعة زيادة مقابلة نهر معقل، وبينهما البساتين والقصور العالية والمباني البديعة، يتسلسل مجراه، وتتهلل بكرة وعشاياة، وتظله الشجر، وتغنى به زمر الطير، وهي من الحسن حيث يشهد، العيان، ويظهر فنون الأفتان، والأبلة هي المدينة القديمة، وإنما اختطت البصرة، عوضها، وفيه يقول القاضي التنوخي [5] . [الكامل] .
__________
[1] جامي: أبو نصر أحمد بن أبو الحسن المعروف بشيخ جام من مشايخ المتصوفة في النصف الأول من القرن السادس الهجري قضى عمره في الرياضة والإرشاد، مات سنة 536 هـ وله عدة كتب أهمها: أنيس التائبين، كنوز الرحمة، روضة المذنبين، بحار الحقيقة ومفتاح النجات وهو غير الشاعر عبد الرحمن الجامي المتوفى 898 هـ. (انظر: فرهنگ أدبيات فارسي 157) .
[2] أبلة البصرة: بينها وبين البصرة عشرة أميال، كانت مدينة عظيمة يقصدها التجار من الهند وفارس (رحلة ابن بطوطة 127) .
[3] شعب بوان: شعب بإقليم فارس به الرياض والأشجار الكثيفة والزهور الرقيقة، وهو مكان بديع.
[4] الجاحظ: أبو عثمان عمرو بن بحر المعروف بالجاحظ، من كبار الأدباء العرب، ولد بالبصرة، كان معتزليا، عمر طويلا ومات سنة 255 هـ له: البيان والتبيين، والبخلاء، والحيوان، والتاج في أخلاق الملوك.
[5] هو محمد بن محمد بن منجا زين الدين التنوخي (نسبة إلى عدة قبائل تدعى بتنوخ أقاموا بالبحرين) وهو الدمشقي ثم البغدادي الأديب المتوفي سنة 748 هـ، له: أقصى الغرب في صناعة الأدب (انظر: هدية العارفين لإسماعيل باشا البغدادي، استانبول 1955 ج 2/154) .(3/219)
أحببت إليّ بنهر معقل الذي ... فيه التسلى عن همومي معقل
عذب إذا ما حل فيه ناهل ... فكأنه في ريق حبّ ينهل
متسلسل وكأنه لصفائه ... دمع نجدى كاعب يتسلل
وكأنه ياقوتة أو أعين ... زرق تلام فينها وتفصل
عذب فما تدري أماء ماءوها ... عند المذاقة أم «1» رحيق سلسل
وله بمد بعد جزر ذاهب ... جيشان يذهب «2» ذا وهذا يقبل
وإذا نظرت إلى الأبلة خلتها ... من جنة الفردوس حين تخيل
كم منزل من نهرها إلى السرو ... رفإنه في غيرها لا ينزل
وكأنما تلك القصور عرائس ... والرّوض حلي وهي فيه ترفل
غنت قيان الطير في أرجائها ... هزجا يقل لها الثقيل الأول
وتعانقت تلك الغصون فاذكرت ... يوم الوداع وغيرهم يترحل
ربع الرّبيع بها فحاكت كفه ... حللا بها عقد الهموم تحلل
(المخطوط ص 113) .
فمديح وموشح ومدثر ... ومعمّد ومحبّر ومهلل
فتخال ذاعينا وذا خدا وذا ... ثغرا يعضض مرة ويقبّل
ويحيط بالأبلة نهرها المشتق لها، ونهر معقل فلهذا صارت بين سلكيهما في أبهى منظر وأحرز معقل، وبها النخيل المايسات، القدود المائلات في خضر البرود، لا يفوق شيء رطبها الجنية، وثمراتها الهنية كأنها السكر المذاب بل شفاه لعمر معسولة الرضاب.
وأما شعب بوان فهو بظاهر همدان، يشرف عليها من جبل يقال له بالفارسية(3/220)
الرند، والشعب في سفحه تضاحك الأفق ثغر صبحه، والأنهار تنحدر «1» عليه من أعلى الجبل، ويناجيه صبها برقة الغزل يتيه «2» على أنديتها مقبلا، ويترامى على شفاهها الخو مقبلا، قد تكسرت على رباها، فأوهمت الغواني في حلاها، بقلب عواضها المخضرة كالعذار، والتفتت حدائقها إليها كأنها اعتذار، وهو من أبدع بقاع الأرض منظرا، وأندى دوحا نضرا.
قال المبرد [1] : أشرفت على شعب بوان، فنظرت فإذا بماء منحدر كأنه سلاسل فضة، وتربة كالكافور، وروضة كالثواب الموشي، وأشجار متهادلة، وأطيار متجاوبة.
ولقد حدثني من رآها، وطيب مفارقة بثراها، إنها تذهب بالألباب ويذهب بها عصر الشباب، لا تكاد الشمس تسقط من أردائها، ولا الكواكب تغيب من فرجات أغصانها.
ولقد مر أبو الطيب المتنبي [2] بشعب بوان لما توجه إلى عضد الدولة بن بويه [3] واستطابة واستطال «3» نزولا به، واستطار إعجابا بما هزه فيه هزه الحمام من طربه، فلما سمع لغة أهل العجم، وقاس إلى فصاحة قومه البكم، استغرب بينهم
__________
[1] المبرد (أبو العباس) 826- 898 م نحوي، ممثل مذهب البصرة، تلميذ المازني والسجستاني، علّم في بغداد من أشهر مؤلفاته الكامل المنجد في الأعلام 519) .
[2] أبو الطيب المتنبي هو أبو الطيب أحمد بن الحسين الكوفي الكندي، ولد بالكوفة سنة 303 هـ، نبغ في الشعر ومدح سيف الدولة الحمداني في سيفياته وكافور الإخشيدي في كافورياته وقتل سنة 354 هـ.
[3] عضد الدولة بن بويه هو أبو شجاع فغا خسرو بن ركن الدولة حسن بن بويه، جلس على كرسي حكم فارس دكرمان سنة 338 هـ ثم أصفهان وضواحيها 356 هـ ثم الموصل وديار بكر وبغداد، وتوفي سنة 372 هـ (انظر: تاريخ گرديزى 146، ابن الأثير 7/100- 111، تكملة تاريخ الطبري 407، ابن الأثير 11/263، ابن مسكويه 2/300، روضة الصفا 188- 192) .(3/221)
نفسه، فقال [1] : [الوافر]
مغاني الشّعب طيّبا في المغاني ... بمنزلة الربيع من الزّمان
ولكنّ الفتى العربيّ فيها ... غريب الوجه واليد واللّسان
ملاعب جنة لو سار فيها ... سليمان لسار، بترجمان
(المخطوط ص 114) .
«طبت فرساننا «1» والخيل حتى ... خشيت «2» وإن كرمن من الحران
«غدونا تنفض الأغصان فيها ... على أعرافها مثل الجمان»
«فسرت وقد حجبن الشمس عنّي ... وجيز من الضّياء بما كفاني»
«وألقى الشرق منها في ثيابي ... دنانيرا تفرّ من البنان»
«لها ثمر تشير إليك منه ... بأشربة وقفن بلا أوان»
يقول بشعب بوان حصاني ... أعن هذا يسارعن الطعان «3»
وقد ذكرنا ما اشتملت عليه هذه المملكة الجليلة من الأقاليم، وجمل من محاسن هذه المملكة، ترتيبها، وسنذكر الآن ما لا بد منه فمن ذلك بلاد الجبال وهي تشمل على المياه التي تجري على البصرة والكوفة، وحدها الشرقي مفازة خراسان وفارس وأصبهان، والغربي آذربيجان، والشمالي الديلم والري وقزوين، والجنوبي العراق وخوزستان وتشتمل على مدن مشهورة ذكرناها فيما تقدم من الكتاب، وبلاد الديلم، وهي سهل وجبلان، فأما السهل فهو بلاد الجيل وما معها، وهي الآن بمجموعها تسمى كيلان [2] ، والجبل ممتد عليها من الجنوب إلى
__________
[1] تم تشكيل الأبيات من الديوان.
[2] كيلان هي گيلان وجيلان وبلاد إگليل. والجبل بين قزوين وبحر الخزر (آثار البلاد 353) .(3/222)
الشمال، وطبرستان هي كيلان أو في حكمها وكذلك مازندران وكيلان، وإن كان من هذه المملكة فإنها مقررة لملوك سيأتي ذكرهم، وسجستان.
ومنها هرمز بلاد تحيط بها مما يلي الشرق مفازة بين أرض بكران وأرض السند وبين سجستان وفارس، ومن ناحية الغرب خراسان وشيء من أرض الهند، وما يلي الشمال أرض الهند، ومما يلي الجنوب المفازة التي بين سجستان وفارس وكرمان وخراسان، ويشتمل على كور ويحيط به من شرقيه نواحي سجستان وبلاد الهند، وجبال الغور، وغربية مفازة القرية وناحية جرجان، وشماليه ما وراء النهر وشيء من بلاد الترك، وجنوبيه مفازة فارس وريفه، ومن الغرب من حبر قوس إلى الغرب، وفيها من حد جرجان وبحر الخزر إلى خوارزم تقويسا على العمارة.
ومن الناس من بعد هراة (المخطوط ص 115) من خراسان ومنهم من بعدها بذاتها وأقدم مدنها بناء مرو الشاهجهان، يقال أنها من بناء ذي القرنين وهي أرض مستوية بعيدة عن الجبال، لا يرى فيها جبل، وهي كثيرة الرمال وفيها ظهرت دولة بني العباس في دار آل أبي النجم المعيطي، وأحصن مدنها مدينة نسا، وهي في غاية الحصانة كثيرة المياه والبساتين ومن خراسان قوهستان وأهلها كلهم شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وأرمينية وآران وآذربيجان حدودها مما يلي الشرق الجبال وبلاد الديلم، وشرقي بحر الخزر ومما يلي الغرب حدود بلاد الأرمن، ومن جهة الشمال اللان وجبال القبق، ومن الجنوب العراق وبعض الجزيرة، وأجل هذه النواحي أذربيجان وأجل مدنها قديما أردبيل.
قال: الزواوي: تكون أعمالها ثلاثين فرسخا، وبها كانت كبار الإمارة في صدر الإسلام ثم كانت تليها مراغة، وكانت قديما مقرا للجند وتليها أرمينية، وبينها وبين مراغة بحيرة كبودان وهي مالحة وليس بها سمك ولا دابة، وتختلف فيها المراكب بين أرمينية ومراغة وطولها نحو عشرين فرسخا، فأما قد بنيت توريز لم تبق بذكره معها سواها، وفي آران باب الأبواب وهي مدينة على بحر الخزر وهي ميناء ذلك البحر وإليها مرس السفن.(3/223)
وكرجستان هي داخلة في حدود ما ذكرنا مع أرمينية ومدينتها تفليس [1] على نهر الكر، وقد تقدم ذكر الحال مفصلا فيما تقدم، والجزيرة وديار بكر وربيعة ومضر وهي ملاحقة لبلاد العراق وجزيرة العرب، والجزيرة بين الفرات ودجلة وقد كانت هذه بمجموعها مملكة جليلة قائمة بذاتها في الدولة الأتابكية وخوزستان وشرقيها حد فارس وأصبهان، وغربها رستاق واسط، وشماليها حد الصيمرة والكرج، كرج أبي دلف، وهو قصور مفرقة، والكر حتى يتصل على غربي الجبال أي إلى أصبهان، والجنوبي ينتهى بعضه إلى بحر فارس وبعضه (المخطوط ص 116) إلى رستاق واسط والبحر دائر عليها من آخر الشرقي إلى أول الغربي وجبال القفص والبلوص في حدها الجنوبي مما يلي الجنوب، قريبة من البحر وقريبها جبال الفضة، قريب مدينة جيرفت من كرمان وكلها جبال عامرة.
وأما البلوص ففي سفح الجبال القفص، ولا يخاف أهل القفص من أحد إلا منهم وهم بادية يسكنون بيوت الشعر ولا يؤذون أحدا، وجبال بادن خصبة منيعة ذات أشجار، وكان أهلها مجوسا زمان بني أمية ثم أسلموا في أوائل الدولة العباسية وبقوا في منعة حتى وليّ يعقوب [2] وعمر ابنا الصفار [3] فملكوا جبالهم وكرمات، ومدينتهم السيرجان ثم جيرفت، وهي بلد متجر خراسان، والأختان التوأمان، وقد رخص فيهما الجمع بين الأختين والفريدتان اليتيمتان، ولا يوصف باليتم إلا الواحدة إلا إذا كانت اثنتين السمع والبصر، والبحر والمطر، وأفضل ما جهز له أبو بكر الجيوش، وفتحه عمر الفرقدان المعنقان والنيران المتألقان، مركز الأعلام،
__________
[1] هي تبليس الحالية عاصمة جمهورية جورجيا.
[2] يعقوب بن الليث الصفار، كان يعمل صفارا، استولى على بست وعلى سيستان، ثم استولى على إيران كلها وهدد بغداد، كان جاهلا، أسس الدولة الصفارية (انظر: روضة الصفا 57- 61، زين الأخبار 10، تاريخ گزيده 2، ابن الأثير 5/338) .
[3] ورد بالمخطوط عمر، وهو في الأصل عمرو بن الليث الصفار أخو يعقوب، حكم بعده ولمدة ثلاث وعشرين سنة، حاربه إسماعيل الساماتي وقبض عليه وأرسله إلى الخليفة، ومات في حبسه (انظر: روضة الصفا 60- 64، الطبري 9/545، زين الأخبار 15، ابن الأثير 6/22، ابن كثير 11/38) .(3/224)
والأعلام والسيوف والأقلام، قطبا تلك الدائرة وأفتا نجومها الزاهرة عراق العرب، وعراق العجم، وعراق العرب، والأول أكبر، والثاني أشهر لمكان الخلفاء منها، وكور عراق العجم عظيمة جليلة.
ذكرنا فيما تقدم عنه ذكر الأقاليم ما نبني عليه، وأما عراق العرب فهو دونه، وإن كان غاية من الفخامة ونهاية في الضخامة، وكان ملوك الفرس دليران إيران [1] ومعناه....... [2] وهو اثنا عشر كورة.
وقال الفاضل أبو الفضائل يحيى بن الحكيم الطياري البوسعيدي أن كل كورة منها استان [3] وطساسجه [4] ستون طسوجا وترجمة إجازة، وترجمة الطسوج ناحية، فالكورة الأولى كورة ستارسان فيروز وهو خمسة طساسيج وطسوج خانقين، ومن الجانب الشرقي سقى تامرا.
والكورة الثانية كورة سار شادمهر وهي ثمانية طساسيج طسوج بشابور وطسوج نهر بوق وطسوج كلواذا وبها كلواذا، وهي (المخطوط ص 117) مدينة قديمة، وبها يسمى الكلدانيون الطائفة المشهورة المعدود منها كيومرث [5] وطهمورث [6]
__________
[1] يقصد بعراق العجم إيران.
دليرات إيران: أبطال إيران، ودليرات جمع مفرده دلير وهي كلمة فارسية بمعنى شجاع وبطل (فرهنگ رازي 350) .
[2] فراغ بمسافة 5 سم.
[3] استان: إقليم أو محافظة، كلمة فارسية من البهلوية Ostan وتعني ولاية (فرهنگ عميد 1/134) .
[4] طساسجة جمع مفرده طسوج وهي من تسو التركية بمعنى جزء من أربعة وعشرين جزءا (انظر: فرهنگ عميد 1/576) .
[5] كيومرث: أول ملك أسطوري حكم على الأرض وهو في العربية جيومرث وبالبهلوية گيومرد أوكيه مرت (حماسهء سراي در إيران تأليف د. ذبيح الله صفا تهران 1369 ش جاپ بنجم ص 399) .
[6] طهمورث: تهمورث ملك أسطوري حكم بعد هوشنگ ورد في شاهنامة الفردوسي بأنه تعلم ثلاثين لغة وحكم ثلاثين عاما (حماسة سراي در إيران 418- 423) .(3/225)
وجمشيد [1] والضحاك [2] وطسوج نهر بين طسوج جازر وطسوج المدينة العتيقة، وطسوج زاذان الأعلى، وطسوج زاذان الأسفل.
والكورة الثالثة كورة سارشادقناد، وهي ثمانية طساسيج، طسوج رستاقياذ، وطسوج مهرود، وطسوج ستسل، وطسوج جلولاء، وطسوج الدسكرة والرساتيق.
والكورة الرابعة كورة بارنجان خسره، وهي خمسة طساسيج، طسوج النهروان الأعلى، وطسوج النهروان الأوسط، وطسوج النهروان الأسفل، وطسوج بادريا، وطسوج باكسايا والكورة الخامسة كورة سارشاد سابور وهي خمسة طساسيج، طسوج دجلة والفرات، وطسوج الزندورة، وطسوج الثرثور، وطسوج الآسان، وطسوج الخوارج.
والكورة السادسة، كورة ساشاد بهمن، وهو أربعة طساسيج، طسوج بهمن أردشير، وطسوج ميسان، وطسوج دست ميسان وهو الأبلة، وطسوج أثر قتادة.
والكورة السابعة كورة ستان العليا وهي أربعة طساسيج، طسوج فيروز سابور وهي الأتيار، وطسوج مسكن وهو دحيل، وطسوج قطربل، وطسوج بادروبا.
والكورة الثامنة وهي كورة سان سيربايكان وهي خمسة طساسيج طسوج نهر سبر وطسوج الرومتان، وطسوج كومي، وطسوج درفيط، وطسوج نهر جوير.
والكورة التاسعة وهي كورة بدروبرشان وهي الروابي وهي ثلاثة طساسيج، طسوج الزاب الأعلى، وطسوج الزاب الأوسط، وطسوج الزاب الأسفل.
والكورة العاشرة وهي كورة سنان تهقياد الأعلى وهي ستة طساسيج، طسوج بابل، وطسوج خطروبه (المخطوط ص 118) ، وطسوج الفلوجة العليا، وطسوج
__________
[1] جمشيد: هو ابن تهمورث، حكم بعد أبيه، وهو أيضا من الملوك الأسطوريين (حماسهء سراي در إيران 424) .
[2] الضحاك: هو الضحاك بن مرداس العربي الذي قتل جمشيد، وحكم بلاد إيران حتى قتله أفريدون البطل الأسطوري الإيراني (حماسه ءسراي در إيران 451 وما بعدها) .(3/226)
الفلوجة السفلى، وطسوج النهرين، وطسوج عين التمر.
والكورة الحادية عشر هي كورة ستان تهقياد الأوسط وهي أربعة طساسيج، طسوج الحبة والدواه، وطسوج سوار وباروسما، وطسوج باروسما، وطسوج نهر الملك.
والكورة الثانية عشرة وهي تمام وهي كورة ستان تهقياد الأسفل، وهي خمسة طساسيج، طسوج فرات وبادفلى، وطسوج النسالحين، وطسوج تستر، وطسوج رومستان، وطسوج هرمز دخره.
قلت: ولم أذكر مدن هذه المملكة هنا لكثرتها ولأنها قد تقدم عند ذكر الأقاليم بالا يحتاج معه إلى إعادة، ولا فيه نقص يفتقر إلى زيادة، والذي ذكرناه الآن من كور العراق هو عمل بغداد الداخل حسابه فيما يختص بها من السواد دون ما هو مفرد لبقية ما معها من المدن والبلاد، والذي أعدنا ذكره هنا مما تقدم ذكره إنما هو للإعلام بمقدار هذه الملكة، وما جمعت أطرافها من الأقاليم والأمصار «1» والممالك العظيمة والمدن الكبار، مما اجتمعت في جمعة الأكاسرة، ودأبت الدولة العباسية في تحصيله، وقد صارت كلها بيد ملوك بيت هولاكو.
وهي واسطة الأرض وخالصة المعمور وسرة الدنيا وأسرة العلياء، فسبحان الله العظيم الوهاب الكريم يرزق من يشاء بغير حساب، ويعطى بلا احتساب لا راد لما قضى ولا مانع لما أعطى، يؤتى الملك لمن يشاء، وينزع الملك ممن يشاء [1] .
على أن هذا البيت في وقتنا هذا قد وهي نظمه، وهوى نجمه، وهوان «2» على الناس أمره، وخمدت تحت الرماد جمرة منذ مات بو سعيد بهادر خان آخر ملوكهم،
__________
[1] إشارة إلى قوله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
[آل عمران 3: الآية 26] .(3/227)
المجمع على طاعته، ثم هم بعده في دهياء «1» مظلمة، وعمياء معتمة، لا يقضي ليلتهم إلى الصباح «2» ، ولا جملتهم المفرقة إلى اجتماع، ولا فساد ذات بينهم إلى صلاح، في كل ناحية هاتف يدعى باسمه (المخطوط ص 119) وخائف، آخذا جانبا إلى قسمه، وكل طائفة تتغلب وتقيم قائما، يقول هو من أبناء القان، وتنسبه إلى فلان بن فلان، ثم يضمحل أمره عن قريب، ولا تلحق دعوته تبلغ حتى يدعى فلا يجيب، وما ذلك من الدهر بعجيب، وملوك هذا البيت، وإن كانوا ملوكا من قديم الزمان، وبينهم ما يكون بين الملوك من الشنآن، وكان متألفهم على ما وجدوا عليه آباءهم، لا ينيبون «3» للإسلام ولا يتركون آباءهم، فإنهم أهل همم تذل لها الجبال، وكرم تذهب به الأموال، فأما نجدتهم وبأسهم فأول دليل على مبلغهم منه ما ملكوه بسيوفهم من المشرق إلى الشام والي الآن ما تقادمت الأيام، وأما كرمهم قد ذكرنا منه ما يدل عليه.
حدثني شيخنا فريد الدهر أبو الثناء محمود بن أبي القسم «4» الأصفهاني أطال الله بقاه أن خواجا رشيد الدولة [1] . وله ألف كتابا (سماه ... [2] ) «5» وقدمه
__________
[1] خواجه رشيد الدولة هو فضل الله بن عماد الدولة أبي الخير الملقب برشيد، من وزراء وأطباء ومؤرخي إيران الكبار في العصر المغولي ولد في همدان سنة 645 هـ، والتحق ببلاط آباقا خان ثم غازان خان وكذلك خدم في عهد محمد خدابنده، قتل سنة 718 هـ، كان مؤرخا معروفا له مؤلفات مشهورة أهمها: جامع التواريخ وقد ترجم إلى العربية محمد صادق نشأت وآخرون (انظر: جامع التواريخ، رشيد الدين فضل الله الهمذاني نقله إلى العربية محمد صادق نشأت وآخرون القاهرة 1960، المقدمة ج 1/2 وما بعدها.
[2] فراغ بمقدار 4 سم وأظنه كتاب جامع التواريخ.(3/228)
للسلطان خدابنده، وقال له أن أرسطو عمل كتابا (المسمى ... «1» ) [1] وقدمه للاسكندر، فأجازه عليه ألف ألف دينار، وما أنت ممن يرضى أن يكون دون الإسكندر، فقبل خدابنده الكتاب، وأمر له بنظير ما أمر به الاسكندر لأرسطو، فأخذ به خواجة رشيد الدولة أملاكا وعقارا قيمتها قدر المبلغ ثلاث مرات، قال:
والأملاك إلى الآن في يد أولاده وذريته.
قلت: وأحب السلطان المذكور على ما بلغنا امرأة مغنية من بغداد، فأطلق لها ما لا يحصى وما لا يدخل في حساب.
وحدثني من أثق به أن أبغا بن هولاكو كان يأنس برجل، فاتفق أن صحبه في سفر إلى جهة ما، وكانت يوم ذاك خزانة أموالهم، فأمر به أن يدخل إليها [2] ويأخذ ما أراد منها، فلما دخل إليها لم يأخذ سوى دينار واحد عمله في فيه، فلما حضر بين يديه سأله عما أخذ، فألقى الدينار من فيه، وقال: ياقان شبعت وامتلأت حتى خرج من فمي، فضحك، وأعجبه منه ما قاله، وأمر له بعشرة توامين؛ عنها مائة ألف رائج، بستمائة ألف درهم، فأخذها.
وحدثني قاضي (المخطوط ص 120) القضاة أبو محمد الحسن الغوري أن فقيرا وقف بكيخيتو [3] في أيام سلطنته، وشكا إليه ضرره، فأمر له بثلاثة توامين، وهي ثلاثون ألف رائج بمائة وثمانين ألف درهم، فاستكثر هذا طاجار وزيره، (وما تجاسر أن يشاوره،) «2» فسكبها على نطع في طريق كيختو ليبصرها، فيستكثر المبلغ،
__________
[1] فراغ بمقدار 4 سم.
[2] تكرار «يدخل إليها» .
[3] هو كيخانو بن آباقا خان بن هولاكو حكم ما بين سنة 690- 694 هـ (جامع التواريخ ج 2/14، تركستان 818) .(3/229)
فلما عبر عليها كيخبتو رآها، سأل عنها: فقيل له هذا الذي رسمت به لذلك الفقير، فقال هذا هو بس؟، قالوا: نعم قال: والله مسكين أنا، والله «1» كنت أعتقد أنا أعطيناه شيئا، وهذا ما هو شيء، أعطوه مثله مرة أخرى، فأعطوه [1] .
__________
[1] سبق للمؤلف أن ذكر قصة مشابهة مع القان الكبير.(3/230)
الباب الثالث في مملكة الجيل
وفيه أربعة فصول:
الفصل الأول: في بومن.
الفصل الثاني: في توليم.
الفصل الثالث: في كسكر.
الفصل الرابع: في رسفت.(3/231)
«1» ونحن نذكر في هذا الباب في رسفت «2» من مملكة الجيل [1] ما تيسر لنا ذكره جملة.
حدثني الشريف محمد بن أحمد بن عبد الواحد الجبلي أن بلاد كيلان في وطأة يحيط بها أربعة [2] حدود، من الشرق إقليم مازندران [3] ، ومن الغرب موقان [4] ، ومن الغرب «3» عراق العجم، يفصل بينهما جبل يعرف مازندران «4» يعرف بأشناده في سفحه الجنوبي قرى ممتدة تسمى بلاد التارم [5] داخلة في مملكة كيلان، وبأيدي ملوكها، وهو جبل عال لا يرقى إلا من طلوع الشمس إلى العصر، وهو جبل مشجر.
فيها «5» عيون كثيرة، وبه سكان من الأكراد، ومن الشمال بحر القلزم، ويأخذ على توريز فيه، وكيلان مشتمل على أربعة مدن كبار، لكل مدينة منها في الغالب ملك ينفرد بذاته بها، وأعمالها المضافة إليه «6» وهي بومن قريبة من الجبل إلى
__________
[1] الجيل: طائفة تسكن گيلان أو جيلان، والجيلان نزل قوم من أبناء فارس من أهل اصطخر من طرف من البحرين (مراصد الاطلاع 1/368) .
[2] وردت أربع.
[3] مازندران: اسم ولاية طبرستان (مراصد الاطلاع 3/1219) .
[4] موقان: ولاية فيها قرى ومروج يحتلها التركمان للرعي وهي من آذربيجان (مراصد الاصلاع 3/1335) .
[5] بلاد التارم: كورة واسعة في الجبال بين قزوين وجيلان (مراصد الاطلاع 1/249) .(3/233)
وسطه، وتوليم تليها إلى البحر بشرق، وكسكر [1] «1» تليها إلى جهة موقان مصاقبة للبحر، وطول مجموع كيلان مما في أيدي هؤلاء الملوك الأربعة وهو شرق بغرب نحو عشرة أيام، وعرضها، وهو جنوب بشمال نحو ثلاثة أيام تزيد وتنقص، وجميع أهلها حنابلة.
قال: وهي شديدة الأمطار والأنهار كثيرة، والفواكه خلا النخل والموز وقصب السكر (المخطوط ص 121) والمشمش، ويجلب إليها المحمضات من مازندران، ومدن كيلان غير مسورة، ولملوكهم قصور علية، وجميع مباني كيلان بالطوب المشوي، مفرشة بالطوب مثل بغداد، مسقفة «2» بالخشب، وبعضها معقودة أقباء، وعليها قش مضفور [2] «3» ، وفي غالب ديارها آبار قريبة المستقى نحو ذراعين أو ثلاثة أو أقل، والأنهار تحكم «4» كل مدينة.
وغالب أقوات كيلان الأرز، يعمل منه خبز مليح، ورقاق مع تيسر القمح والشعير، والغنم، والبقر كثيرة عندهم، وأسعارها متوسطة إلى أرخص «5» .
وبها المساجد الجليلة ومدارس تسمى عندهم الخوانق، وزوايا وحمامات لطاف، يجرى إليها الماء من الأنهار، وبها الحرير الكثير، ولها حصون في نواحي مازندران وجزائر في القلزم، وبها رمان وبلوط وفواكه، ولا يجري بها ماء، وبها تحصنهم عند مغالبة العدو لهم.
__________
[1] كسكر: كورة واسعة وقصبتها واسط القصب التي بين الكوفة والبصرة (مراصد الاطلاع 3/1166) وهي الآن تابعة لإقليم فارس.
[2] وردت بالمخطوط مظفور.(3/234)
ولملوكهم زي جميل على قدر دخل بلادهم، فإنه ليس بالكثير لضيق بلادهم، ولأنها لا مكس بها ولا مؤذي فيها، لهم أمراء الطبلخانات [1] ويركب الملك بالرقبة «1» السلطانية، والحجاب والسلاح داريه [2] والجمدارية [3] ، والجنائب المجرورة، ويركب الأمير ووراءه صاحب أربعة وخمسة «2» وأكثر، ولباسهم أقبية إسلامية ضيقة الأكمام وتخافيف صغار، ويشدون المناطق والبنود [4] ، وخيلهم براذين جياد مشكورة، وسروج منها المحلى بالفضة، وزيهم كلهم قريب من الزي العسكري الخوارزمي، ويتخذ بظواهر قصور [5] ملوكهم ميادين خضرا يعمل في أوساطها قصورا صغارا من الخشب، فيها جلوسهم للخدم والمظالم.
وجميع جنود هؤلاء الملوك الأربعة نحو عشرين ألف (فارس ما بين ميدونه [6] ومطوعه [7] ممن يضمهم الجموع والحشود من الفارس والراجل) «3» ، وهؤلاء الملوك الأربعة لا يزال بينهم الخلق «4» حتى إذا قصدهم عدو (خارجي
__________
[1] الطبلخانات جمع مفرده طبل خانه، بيت الطبل والمقصود بها هنا الأمراء الذين يدقون لهم الطبل.
[2] السلاح داريه جمع مفرده سلاح دار وتعني حملة السلاح.
[3] الجمدارية جمع مفرده جمدار وهو من اللفظ الفارسي جامة دار أي حملة الملابس (فرهنگ رازي 191) .
[4] البنود جمع مفرده بند وتعني العلم الكبير.
[5] وردت بالمخطوط قصورهم.
[6] ميدانه أي المسجلين في الديوانه، والديوان وهو الدفتر يكتب فيه أسماء الجيش وأهل العطاء المعجم الوسيط 1/316) .
[7] مطوعة هم المتطوعة الذين يتطوعون للجهاد ونحوه، يقال: لهم مطوعة بتخفيف الطاء (المعجم الوسيط 2/591) ويأتي اللفظ باسم غازيان واحدات (انظر: تركستان 1347) .(3/235)
عنهم) «1» ، تألفت قلوبهم، واجتمعت كلمتهم، وصاروا حزبا واحدا على عدوهم، ولقد قصدوا أيام هولاكو فما قدر عليهم «2» ، ثم قطلو شاه في سبعين ألف فارس، وانتصر على صاحب (المخطوط ص 122) تومن وكسكر، وامتنع صاحب توليم، وضرب معه مصافا بالفارس والراجل، وحمل بنفسه قطلوشاه على أنه مقفل إليه، فلما قاربه أحسّ قطلوشاه بالغدر منه، فولى منهزما، فطعنه، فألقاه عن فرسه قتيلا، فنزل إليه، وقطع أذنيه بالحلقتين اللتين فيهما «3» ، ثم ركب وساق إلى التتار، وقطع عليهما المياه، وسد عليهم الطرق بالأخشاب العظيمة، فأفناهم إلا الشريد، وراحوا كلهم بين قتيل وغريق متوحل في الطين، وضال بالجبال وهم بحصانة بلادهم بالبحر من جانب وتوعير «4» المسالك إليهم، لا يدينون لملوك إيران ولا يطمع أحد في ملكهم.
وطبرستان ومازندران والجبل كما قال الله تعالى وفي الأرض قطع متجاورات، ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود [1] .
قلت: وبما ذكر من شدة بأس أهلها ذكرت قول صاحب شاه آعا في تاريخ الفرس. وقد ذكر مازندران وعصيان أهلها قال: وهم مردة «5» .
قال الشريف: وبلاد الجبل مقسومة بين ثماني «6» ملوك ملك باللاهجان [2]
__________
[1] إشارة إلى قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ
[فاطر: الآية 27] .
[2] وردت اللاهجان وهي اللاهيجان وهي بلدة منحازة عن بقية بلدان جيلان، يقطع بينهما نهر، وأهلها روافض زيدية في القرن الثامن الهجري (مراصد الاطلاع 3/1195) .(3/236)
وملك سخام وملك يرشب وملك تسفت وملك بومن وملك توليم وملك كسكر وملك بنفس «1» ، منهم أربعة كبار وهم ملك بومن وملك توليم وملك كسكر وملك رست، والملوك «2» الأربعة الآخرون دون هؤلاء، ومع هذا فلا ينقاد منهم ملك لملك ولا يذعن أحد لآخر:
قال: وجملة بلاد الجبل بلاد خصبة ورخاء ولحم وحب وفاكهة، أقطارها سخية، وأسعارها رخية، ولا يخطب بها للتتار، وإنما تضرب السكة باسم ملوك التتار، لأنه لو ضرب واحد من ملوك الجبل السكة باسمه، لم تخرج دراهمه في بلد جاره الآخر لشدة ما بينهم من الحقد، والجفوة «3» .
قال: ولا يدخل بلاد الجبل مملوك ولا جارية بل كل أهلها أحرار، ولا يتعدى واحد منهم شأن أبيه، وما كان عليه حتى أن الفلاح منهم ليقتني العدد الكثير (المخطوط 123) من الخيل ليبيعها، ويربح بأثمانها، ومع هذا لا يتجاسر على ركوبها، ولو ركبها قتل، وبالجبل ربض وخوانيق وغالب ما يجري بها من أحكام مذهب الإمام أحمد بن حنبل [1] رضي الله عنه، ونحن لا نذكر ملوكها إلا أربعة «4» المشاهير المترجم لهم في هذا الكتاب على ما ذكرناه.
__________
[1] أحمد بن حنبل: أحد الأئمة أصحاب المذاهب الأربعة الكبار عاش ما بين 164- 241 هـ من أهل بغداد، اتصف بشدة تمسكه بالنزعة السلفية ومخالفته للرأي، قاوم المعتزلة من مشكلة خلق القرآن، سجن في عهد المأمون والمعتصم وعفا عنه المتوكل، له المسند (المنجد في الإعلام 6- 7) .(3/237)
الفصل الأول في بومن(3/239)
«1» صاحب بومن شافعي المذهب، دون من معه من بلاد الجبل، مذهب نشأ عليه ملوكها، وعسكره يزيد على الألف فارس، وهو صاحب اللاهيجان، بلادهم قليلة، وإنما غالب دخلها من التجار والحرير بهما كثير، ولهذا بينهما وبين التتار مكارمة ومهاداة، لدخول التجار لبلادهما «2» لجلب الحرير منهما، واحتياجهما «3» إلى ما عندهما من الحرير، على من يدخل إليهما «4» ، وبقية بلاد الجبل محتاجة أيضا إلى بومن، واللاهيجان من أجل هذا، وحاجتهما إلى بومن أكثر، لما يوجد بها من القماش والمعمولات، وبها فيما يحاذيها من الجبل معدن حديد.
قال: وصاحب بومن يدعى النسب إلى بيت الشرف «5» ، وله اعتناء بأهل العلم والفضل، ولباس الملك والجند، والملك بها نوع من لباس التتار، ولباس علمائها قريب من زي التجار، ولهم عذبات [1] كالصوفية إلى قدامهم، وعامة أهلها كعامة من جاورهم.
__________
[1] عذبات جمع مفردها عذبة والعذبة طرف الشيء يقال: عذبة السوط وعذبة اللسان وعذبة العمامة (المعجم الوسيط 2/611) .(3/241)
الفصل الثاني في صاحب توليم(3/243)
«1» صاحبها أمره قريب من صاحب بومن، ولكن لا حرير ببلاده، وهو حنبلي المذهب، وعدة عسكره نحو ألف فارس وهم أفرس إخوانهم «2» ، ولصاحبها في وقتنا هذا على ملوك الجيل سيما استظهار، لأن عسكر توليم كان لهم في واقعة قطلوشاه اليد الطولى، والبطش الغالب، فثبت لهم في قلوب جيرانهم ما هو ظاهر عليهم إلى الآن، وزيها كزي أخواتها.(3/245)
الفصل الثالث في كسكر(3/247)
«1» وصاحبهما له جولة في ملوك توليم، وجيشه أكثر عددا من بقية ملوك الجيل، وبلاده أوسع وأرضه أخصب وأكثر حبا وفاكهة (المخطوط ص 124) وأغناما وأبقارا مما حولها، ولها رفق زائد ممن يجاورها من الأكراد، وما يجلبه إليها من الأجلاب، وأسعارها أرخى وأرخص مما سواها، وزيها كزي أخواتها.(3/249)
الفصل الرابع في رسفت(3/251)
«1» وهم أميل إلى الجبل، وأبعد عن البحر، وإنما رسفت أونى إلى الجبل منها، وهي مناسبة لأخواتها في غالب أحوالها، وهي كثيرة السمك والطير، ومنها الشيخ العارف السيد «2» عبد القادر الكيلاني [1] قدس الله روحه ونور ضريحه، وهو القليل مثلا، العديم «3» مثلا، الواحد علما وعملا، (وستأتي إن شاء الله ترجمته في مكانها) «4» .
__________
[1] عبد القادر الكيلاني هو عبد القادر الجيلاني من أئمة التصوف، أمام زاهد من كبار المتصوفة، مؤسس الطريقة القادرية، عاش ببغداد، من آثاره الفتح الرباني والغنية لطالبي طريق الحق، فتوح الغيب توفي 561 هـ (المنجد في الأعلام 367) .(3/253)
الباب الرابع في مملكة الجبال
وهي أربعة فصول:
الفصل الأول: في الأكراد وفيه فصل جامع لأحوال سكان الجبال.
الفصل الثاني: في اللّر.
الفصل الثالث: في الشول.
الفصل الرابع: في شنكاره.
وبلادهم جميعا بلاد خصب زائد ومزارع وموارد وزروع وفواكه، وثمر متشابه وغير متشابه، وكلهم أهل غناء ودفاع وحصانة وامتناع.(3/255)
الفصل الأول في الأكراد(3/257)
«1» الذي نقول وبالله التوفيق، أن الأكراد، وإن دخل في نوعهم (كل جنس أتى ذكره في هذه الفصول، فإنهم جنس خاص من نوع) [1] عام وهم ما قارب العراق وبلاد «2» العرب دون من توغل في بلاد العجم، ومنهم طوائف بالشام واليمن، ومنهم فرق مفترقة في الأقطار، وحول العراق وديار العرب جمهرتهم، وغلب في زماننا بما يقارب ماردين، منهم إبراهيم بن علي المسمى بالعزيز مالو [2] ، واستفحل أمره، وقويت شوكته، واجتمعت عليه جموع وبرقت بها اسنة ودروع، وثوب باسمه الداعي، وتقيدت دون غايته «3» المساعي، ثم مات، وقام ابنه بعده، ولكنه ما حكى «4» الوالد الولد ولا سد الشبل موضع الأسد.
وأما الفصل الجامع لأحوال سكان «5» الجبال (هؤلاء) «6» وغيرهم فإنا نقول وبالله التوفيق، أن المراد بالجبال على المصطلح (المخطوط ص 125) هي الجبال الحاجزة بين ديار العرب وديار العجم «7» ، وابتداؤها جبال همذان وشهرزور [3] ، وانتهاؤها صياصي الكفرة من بلاد التكفور [4] ، وهي مملكة سيس وما هو مضاف إليها بأيدي بيت لادن.
__________
[1] وردت هذه العبارة التي بين القوسين في الحاشية.
[2] هو إبراهيم شاه ابن الأمير سنيته تغلب على الموصل وديار بكر (رحلة ابن بطوطة 154) .
[3] شهرزور كورة واسعة في الجبال بين إربل وهمذان (مراصد الاطلاع 2/822) .
[4] بلاد التكفور هو تكفور ابن السلطان جرجيس وهي القسطنطينية العظمى (رحلة ابن بطوطة 232- 233) .(3/259)
ولم أذكر من عشائرهم إلا من كنت به خبيرا، ولم أسم فيها منهم إلا بيت ملك أو إمارة ابتداء «1» بجبال همذان وشهرزور وأربل [1] ، وتنتهي إلى دجلة الجزيرة من كوار إلى الموصل، ونترك ما وراء النهر دجلة إلى نهر الفرات لقلة الاحتفال به على أن الذي ذكرته هو خلاصة المقصود إذ لم يبق إلا أكراد الجزيرة وقرى ماردين [2] ، وهم لكل من جاورهم «2» من الأعداء الماردين «3» ، مع أن أماكنهم ليست منيعة ومساكنهم للعصيان غير مستطيعة، فمنهم طائفة بجبال همذان وشهرزور يقال لهم الكورانية منهم جند ودعية، وكلهم أولو شوكة وحمية، مقيمون «4» ، بموضع يقال له ريادشت الأمير محمد، ومكان ثان يقال له درتنك «5» (أميرهم الأمير محمد) «6» .
وعدة القوم تزيد على خمسة آلاف، لا بين بينهم ولا خلاف، ومن بعدهم الكلالية وهم قوم لهم مقدار وكمية، تعرف بجماعة سيف الدين صبور، ومقامهم دانترك ونهاوند إلى قرب شهرزور، وعدتهم ألف رجل مقاتلة وقوية وأميرهم يحكم على من جاورهم من العصابة الكردية حكم الملك على جنده ويقدر على جمع عدد أصناف عشيرته، لأنهم واقفون بصدق كلمته، وحسن سيرته.
ومن الكلالية سوى هؤلاء [3] طائفتان؛ إحداهما مقيمة بنواحي دقوق وعددهم
__________
[1] إربل: مدينة كبيرة في فضاء من الأرض واسع (مراصد الاطلاع 1/51) في شمال العراق.
[2] ماردين: مدينة عظيمة على سفح جبل، من أحسن مدن الإسلام، لها قلعة تسمى الشهباء (رحلة ابن بطوطة 159) .
[3] وردت بالمخطوط هاولاء.(3/260)
ألف أو دونها، والأخرى باشنة من نواحي آذربيجان عدة رجالها مائتان، وكانوا أكثر من ذلك عددا، وأوفر مددا، لما كان الملك شرف الدين بن سلار صاحب أربل من جهة التتر قتله رجل من الكفار فعصى قومه على الكفار، وهاجر بعضهم إلى مصر والشام، وبقى ولده الأمير محمد حاكما على باشنه (المخطوط ص 126) من قبيلته وولده الأمير عثمان أميرا لمن أقام بوطنه من عشيرته، فلما توفى ولده توفاهم «1» سواهم.
ويلي الكلالية بجبال همذان قوم يقال لهم رنكليه، أصحاب شجاعة وحيلة وعدتهم ألفان، يقال لهم جماعة جمال الدين بالان، يحكم على بلاد كنكور وما جاورها من البقاع والكور.
وأما بلاد شهرزور فكان يسكنها طوائف من الأكراد قبل خراب البلاد، أكثرهم رجالا وأوفرهم أموالا إلا طائفتان؛ إحداهما يقال أنها اللوسة، والأخرى تعرف بالبابيرية، رجال حرب وإقبال وطعمة وضرب، نزحوا عنها بعد واقعة بغداد في عدد كثير من أهل السواد بالنساء والأولاد، وأخلوا ديارهم، ووفدوا إلى مصر والشام، وتفرقت منهم الأحزاب، وأصابتهم الأوصاب، وعظم فيهم المصاب، ولكل أجل كتاب، وقد بقى في أماكنهم، وسكن في مساكنهم قوم يقال لهم الخريسة «2» ، ليسوا من صميم الأكراد وببلاد شهرزور قوم أخر بينها وبين باشنة، يبلغ عددهم ألفي نفر، يقال لهم السيولية، ذوو شجاعة، وحمية لهم، وهم قسمان قسم تورك بن عز الدين محمود، والآخر قسم يعرف بالأمير داود، ويعرف بداوود بدران ثم يليهم الفرماوية وهم يسكنون بعض بلاد بستار، وبيدهم «3» من بلاد أربل أماكن أخر، يزيد عددهم على أربعة آلاف نفر، كان أميرهم أبو بكر [1] يلقب بسيف الدين، وتولاهم بعدهم «4» ولده شهاب الدين.
__________
[1] وردت بالمخطوط أبي بكر.(3/261)
ثم يليهم قبيلة يقال لهم الحسنائية، ذوو أنفس قوية، ينقسمون على ثلاثة بطون وهم نحو الألف، أكبر بطونهم طائفة عيسى بن شهاب الدين كراتي، ولهم الجفر لقلعة بري والحامي.
وثاني بطونهم نفران نفر يقال لهم البلية والآخر يعرف بالجاكية «1» ، وكان الأمير عبد الله بن شهاب الدين زنكي أمير النفرين، وثالث بطونهم كان (المخطوط ص 127) لفخر الدين أمير قيم، والآن أخوه اختيار الدين عمر بن أبي بكر.
وتختص الحسائية ببلاد الكركار «2» ، وتشاركهم الفرماوية في الخفارة المأخوذة «3» بدربند قرايلي مشاركة الآخرين.
ثم يليهم «4» بلاد الكرجين ودقموق الساقية «5» ، عدتهم تزيد على سبعمائة، وكان أميرهم شجاع الدين بابكر، رمامي، ذابا عن دينه، محاربا عن حزبه، ومن ذلك موضع يقال له بين الجبلين من أعمال إربل، قوم يتخدمون للدولتين، ويدارون الفئتين، فهم في الشتاء يعاملون التتر بالمجاملة، وفي الصيف يعينون سرايا الشام في المجاملة، وعددهم كعدد الكلالية، وكان أميرهم تاج الدين الخضرين سليمان كاتبا ذابنان ولسان وفد إلى الباب الملكي المنصوري السيفي قلاوون [1] بمصر ثم اخترمته المنية، وعاد أولاده الأربعة إلى أوطانهم في الأيام العادلية الزينية مع عز الدين سنقر «6» من الشهرزورية والمبارز بن شجاع الدين من الأرخية، وبهاء الدين ابن
__________
[1] قلاوون: من أكابر الأمراء المماليك زمن الظاهر بيبرس، تولى الحكم في مصر سنة 678 هـ، كسر التتار في حمص وغزا الفرنج غير مرة، توفي سنة 689 هـ (العبر ج 5/363) .(3/262)
جمال الدين خوش من الحميدية، إذا لم يجدوا لهم في الدولة الزينية حرمة مرعية ولا أخبارا مرضية.
ثم يلي هؤلاء من أربل المازنجانية، وهم طائفة ينسبون إلى الحميدية «1» ، لم يبق لهم أمير غير أمرائهم، وعدتهم تنضاف إليهم في شدتهم، ورخائهم، ولا تنقص عدة الحميدية عن ألف مقاتل، وهؤلاء هم المازنجانية، يتعانون الصلافة، ويتشبهون بالناس «2» في الآلات واللباس، لأن أميرهم كان من أمراء الخلافة من الدولة العباسية، لقب من ديون الخلافة بمبارز الدين واسمه كنك، وكان يدعى الصلاح وتنذر له النذور، فإذا حملت إليه قبلها، ثم أضاف إليها مثلها من عنده وصدق بهما معا «3» .
قال الحكيم الفاضل شمس الدين أبو عبد الله محمد بن ساعد الأنصاري، وقد ذكره كان ذا شجاعة وصبر وتحيل ومكر وعقل وفكر وتدبير وسياسية وتثبت ورئاسة (المخطوط ص 128) لا يهمل عدوا لصغره وحقارته، ولا يهاب من أراد به سوءا [1] لعظمته وجسارته.
نقل عن ابن الصلايا رحمه الله أنه قال حين أعطاه خبز «4» أبيه سيف الدين محمد، وحياه، لقد توسمت في هذا الشاب سعادة لم أتوسمها في أحد سواه، فكان كما توسمه الصاحب رحمه الله، فرآه كذلك، إذ أقام في «5» التتر في ذلك المقام، وتمكن ابن يافث من ابن سام، وتشتت «6» أهل الإسلام، وانحل ما عهد من النظام، ولم يبق من الرجال القادرين على القتال إلا سكان الجبال فما أعجز الكفار
__________
[1] وردت سواء أ 128.(3/263)
استئصالهم، وتحققوا أن سهامهم لا تنالهم، عاملوهم بالمكر والخديعة، وهادنوهم على تخلية الخراج، سدا للذريعة، وقدموا منهم اثنتين، وحكموهما عليهم من الوجهين.
فما كان من وجه بلاد العجم كان مبارز الدين كنك، متحدثا فيه، وما كان من مدن العجم كان الأسدين منكاكين الحائز لنواحيه، وجعلوهما ملكين، وأعطوهما بائزتين «1» [1] ، ثم استنابوا لمبارز كنك في أربل وأعمالها، وصرفوه في سيفها ومالها، وأقطعوه عقر سوس «2» بكمالها، وأضافوا إليه هراوتل هفتون، وقدموه على خمسمائة فارس أو يزيدون.
وسعد بسعادته قومه، وأناف على أمسه يومه، وكثر في عشيرته الأمراء لاشتباكهم معه في النسب، وغلب على أقرانه بعناية الدولة والدنيا لمن غلب، وكان ترى همته همة الشبان، وهو ابن تسعين، وتولى هذه المملكة وهو ابن نحو عشرين، ما قصده عدو إلا مكنه الله منه، ولا رسم ملك من ملوك التتر بقتله إلا هلك قبل نفاذ أمره وامتثاله، ولم يبلغ ما بلغ من ملكه «3» ، وكثرة رجاله، ولا تمنعه جباله، لكن سعادته وإقباله، ثم مات وخلقه ولده عز الدين وكان يكنى به «4» فيما ألف منه وعرف عنه، ثم أخوه نجم الدين خضر.
وكان من الرفاهية على سرر مرفوعة، وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة، وزرابي مبثوثة [2] ، ونعم مما ترك أبوه موروثه إلي (المخطوط ص 129) حاشية
__________
[1] يائزتين مثنى يايزة وهي مثل يارليغ (انظرهما: في موضع سابق) .
[2] إشارة إلى قوله تعالى: فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ، وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ
[الغاشية:
الآيات 13- 16] .(3/264)
وغاشية، وعقار وماشية، وسعادات قديمة وناشئة، ومكانة في الدولتين الإسلامية والتتارية لا تطاول، ورتبته عالية في الجهتين لا تحاول، وانبساط في اللذات، وشرف بالعرض والذات، ويد لا تقصر في أدب، ولا تبالي بلاغتها بما تنفق من كنوز الفضة والذهب.
وكانت ترد على الأبواب السلطانية بمصر ونواب الشام منه كتب، تنهل بماء الفصاحة كالسحب، وتسرح «1» من إحبائها الأبكار العرب، ثم مات رحمه الله، وخلفه ولده، وجرى على سنته، وتمت به في أهل بيته منيته «2» .
ويلي يسار وأعمالها وتل حفتون وبلادها، وبلاد السهرية المشهورين باللصوصية، وهي من بلاد شقلاباد [1] إلى خفتيان [2] أبى على، ويعرف بخفتيان الصغير، وما بين ذلك من الدست والدربند [3] الكبير، وهم قوم لا يبلغ عددهم ألفا، وحبالهم عاصية، ودربندهم بين جبلين شاهقين، يشقهما الزاب [4] الكبير، ويتقلب على صخورهما بصوت مفرع وهدير قوي، عليه ثلاث «3» قناطر اثنان منهما بالحجر والجير، والوسطى مضفور [5] من الخشب كالحصير علوها عن جهة «4» الماء مائة ذراع في الهواء، وطولها بين الجبلين خمسون ذراعا، في عرض
__________
[1] شقلاباذ: قرية كبيرة في سفح الجبل المطل على آربل، بينها وبين إربل ثمانية فراسخ (مراصد الاطلاع 2/806) .
[2] خفثيان: قلعتان عظيمتان من أعمال أربل إحداهما على طريق مراغة والأخرى في طريق شهرزور (مراصد الاطلاع 1/475) .
[3] دربند بشروان وهو باب الأبواب (مراصد الاطلاع 2/521) .
[4] هو الزاب الأعلى بين الموصل وإربل (مراصد الاطلاع 2/652) .
[5] وردت بالمخطوط مظفور.(3/265)
ذراعين، وقد ينقل تارة من أرضه فينقص من طوله أو يزاد في عرضه، ثم تمر عليه الدواب بأحمالها، والخيل برجالها وهي ترتفع وتنخفض، وتبسط وتنقبض، يخاطر المجتاز عليها بنفسه، ويغامر بعقله، وهم يأخذون الخفارة عندها يخيلون ما شاءوا بعدها.
فإن الدربند مضيق على نهر عميق، وهم أهل غدر وخديعة، وقبائح شنيعة، لا يستطيع المسافر مدافعتهم فيه، بل ترضيه سلامته بنفسه.
قال الحكيم شمس الدين محمد بن ساعد أن نسب أحد من الأكراد إلى الجن فهم هؤلاء حقا، وإن صعب مسلك دربند، فهذا أصعب المسالك، وأشقى، كان أميرهم الحسام بن عم قميان، أنقى ما ترك ولا أبقى، ومجاورهم قوم يقال لهم الزرزارية وهي كلمة أعجمية معناها ولد الذئب. (المخطوط ص 130) .
ويقال أنهم ممن تكرد [1] من العجم المنسوبين إلى ملوكهم، ذكره بعض أهل التاريخ، ولهم عدد جم، منهم زراع وأمراء وأغنياء وفقراء، تبلغ عدة رجالهم خمسة آلاف، قليل بينهم الخلاف، ومنهم زهاد يشار إليهم، وفقهاء يعتمد في الفتوى عليهم.
مساكنهم من مرت [2] إلى جبل جنجرين المشرف على أسنة من ذات اليمين، وهو جبل عال، مشرف بمكانه على جميع الجهات «1» ، كان هواه الزمهرير وكأنه للسحب مغناطيس، يجذبها بالخاصة، قد نصب عليه للتخدير ثلاثة أحجار، طول كل حجر «2» عشرة أشبار، وعرضه ربع هذا المقدار، وثخانته «3» تزيد على ذراع في
__________
[1] أي صار كرديا.
[2] مرت: قرية بينها وبين أرمية منزل واحد في طريق تبريز (مراصد الاطلاع 3/1254) .(3/266)
التقدير، على كل من الثلاثة كتابة قديمة، لم يبق منها سوى المعالم، وهي من الحجر المانع الأخضر الذي لا يغيره البرد ولا الحر، ولا يتأثر «1» إلا في ألوف سنين، تاثير «2» لا يكاد يبين، فالوسط منها على بسطة رأس الجبل، والآخران في ثلث عقبتيه لمن صعد أو نزل، يقال أنها نصبت لمعنى الإنذار، وأن المكتوب عليها أخبار من أهلكه الثلج والبرد في الصيف، وهم يأخذون الخفارة تحته، ويدركون أو يوارون من هلك ببرده.
وبيد الزرزاريه أيضا بلاد ملازكرد والرستاق بقلاعها ومزارعها وضياعها، ولا يحملون لأحد شيئا من ارتفاعها، وكان لهم أمير جامع لكلمتهم، مانع لشوكتهم «3» يسمى نجم الدين بن باساك ثم توفى، وتولاهم من بعده ولده المسمى جيده «4» ، ولما أدركه الأجل وتوفى، تولاهم ولده عبد الله، وكان لهم أيضا أمير شجاع عفيف له رأي وتدبير يقال له الحسام شير الصغير، حوله من عشيرته عصبة تسير بسيرته، وكذلك كان لهم أمير آخر جيدا «5» يسمى باساك. ابن الحسام شير الكبير، وآخر منهم له بأس قوى يدعى بهاء الدين بن جمال الدين أبي علي، وأمراء غير هؤلاء ممن ينطوى في طاعتهم ويدخل في جماعتهم، إذ لا يبلغ قدر استطاعتهم يستغنى عن ذكر اسمه بمن تقدم.
وينضم إلى الزرزارية شرذمة قليلة العدد هي لهم كالمدد تسمى (المخطوط ص 131) باسم قرينتها بالكان، منفردة بمكان، مشرف على عقبة الخان، يأخذون عليها الخفارة باليد القوية، ويجولون بين الحسائية، قتل أميرهم توبك «6» مع نجم الدين، وعاد قومه لهم بالرعية «7» ، يبلغ عدتهم ثلاثمائة رجل.
ومنهم الجولمركية [1] ، وهم قوم نسبوا إلى الوطن، لا إلى النفر، بل هم طائفة
__________
[1] جولمكرية نسبة إلى جولمكر.(3/267)
من بني أمية، يقال أنها حكمية [1] ، اعتصموا بالجبال، عند غلبة الرجال عليهم، واستغنوا بمنعتها عند استعمال البأس، ومخالطة الناس، طلبا للسلامة من أعدائهم، وفرارا من اعتدائهم، فانخرطوا في سلك الأكراد، فسلموا، وهم الآن في عدد كثير، يزيدون على ثلاثة آلاف، كان ملكهم عماد الدين بن الأسد بن متكلان، ثم خلفه ولده الملك أسد الدين، وتحت يده المعادن ما ينقل من الزرينجين، إلى سائر الأماكن، وكان ظهر له معدن اللازورد، فأخفى، لئلا يسمع به ملوك التتر، فيطلبونه.
ومعقله الذي يعتمد عليه من أمنع المعاقل على جبل عال، مقطوع بذاته، قرين الجبال قائم في وسطها مع الانفصال شامخ في الهواء راسخ فيما حوله من الماء، والزاب الكبير محدق به، فاصل بينه وبينها بإذن ربه، لا محط «1» للجيش عليه، ولا وصول للسهام إليه، سطحه للزراعة متسع، وفي كل ضلع من جوابنه كهف «2» مرتفع، يأوى إليه من شاء للامتناع، فيمتنع، والماء محيط بأساسه، والثلج لا يزال يشتغل، سببه برأسه، والصعود إليه في بعض الطريق يستدعى العبور على أوتاد مضروبة مصلحة لمن يطيق، ومن لا يستطيع التسليق، جر بالحبال (يعلق بها) «3» وكذلك ترفع البغال للطواحين والذخائر التي يحتاج إليها في كل حين.
والملك عليهم معتبر عند الأكراد، ولهم على كلمته اعتماد، يدعى بهاء الدين بن قطب الدين، وولده في الملك يجرى مجراه، ويخلف في سيرته أباه، وكان له ابن عم آخر يدعى بشمس الدين داود، عصا على دولة الأعداء مدة، وعجزوا عنه، وقد اجتهدوا في غيلته بكل حيلة، فلم يقدروا عليه، فبالغوا في الإحسان إليه،
__________
[1] حكمية نسبة إلى مروان بن الحكم.(3/268)
وأمروه بالانتقال عن الجبل ليأمنوا اعتصامه، فاحتصن التوصل في التوسل، حتى سكن ببعض المدن (المخطوط ص 132) فلما قر في دار كانت بنيت للسلطان، وغرس في ما حولها «1» بستانا جامعا لأشجار ذات أفنان، مختلفة الثمار، ومحفوفة بالارتفاع «2» ارتفاع مغلة «3» من دنانيرهم عشرون ألف ألف دينار، والدار أعظم. ما يكون من دار السلطنة لما فيها من البسط والآلات المثمنة، فخولوه في سكنها، وسمحوا له بالفاكهة وثمنها، إلى أن اخترمه ريب المنون، فترك ولده الحركة، وعاد إلى حربهم، يؤدي إليه خراج بلاده، ويقطع منها ما شاء من أقاربه وأجناده، ويأخذ الخفارة من جميع الطرقات، من آذربيجان من تبريز إلى خوى ونقشوان [1] ، وكل وظائف مستخدميه بضمان من الكتاب والمنتدين والنواب والمتصرفين والوكلاء، ولا يقدم طعامهم ضيفانه إلى ثلث الليل المعلوم إلى نصف النهار أي غذاء كان، ولا يطعم ضيفانه إلي ثلث الليل عشاء، ولا يجعل في خبزه ملحا ليأكل منه من كان حربا وصلحا.
ويجاور الجولمركية من الأكراد قوم يسكنون الجبال من بلاد تدعى مركوان، كثيرة الثلوج والأمطار مخصبة ربيعها زاهر بأنواع النبات والأزهار، وصيفها منوط بألحان الأطيار، وشتاءوها وافر الأسمان والألبان غزير اللحوم المنوعة، وهي مترخمة لأرمية «4» من بلاد آذربيجان، وكان لهم بها أميران بدر الدين والأمير حسن، أخوان شقيقان، وبالرعايا رفيقان، تبلغ عدتهم ثلاثة آلاف، وهم لمن جاورهم من الزرزارية والجولمركية أخلاف، ويعاملونهم بالرأفة والإحسان.
ويجاور الجولمركية من قبل بلاد الروم جبال وبلاد يقال لها كواره، ذات سعة وإمكان «5» ، ومرعى للحيوان، وخصب مستمر في سائر الأحيان، وإليها ينسب من
__________
[1] هي تخجوان وهي منطقة واقفة الآن بين إيران وأرمينيا وتابعة لآذربيجان.(3/269)
بها من السكان، فيحسبانه من قبيله.
وكان الأمير شمس الدين هو المداري عنهم، وعدة قومه ثلاثة آلاف، ويلي الجولمركية وجه عقر شوشن وبلاد العمادية، وبلاد الزيبار وبلاد الهكلر «1» .
أما الزيبارية فيبلغون خمسمائة عددا، أصحاب بازاريه [1] «2» ، لهم سوق وبلد، وكان حروب بينهم وبين المازنجانية (المخطوط ص 133) مددا، ثم قر قرارهم، (واتحدوا) «3» ، وكان ملكهم «4» أحدهما الأمير إبراهيم بن الأمير محمد الزابي، وكان موقرا في زمن الخلافة، معروفا بالحشمة، وبقى ولده بعده صغيرا، فاحتاج إلى الاعتضاد بالمبارز كنك، ليكون له ظهيرا، والثاني الشهاب بن بدر الدين برش، توفى أبوه، وخلفه كبيرا، ولولا المازنجانية لم يدع لهم سواه أميرا، فاستولى علي الرعية استيلاء كبيرا «5» .
وأمّا الهكارية فإنهم مقيمون في بلاد العمادية، تزيد عدتهم على أربعة آلاف حربية «6» ، وكانت إمارتهم إلى أميرين أخوين، أحدهما الأمير أبو بكر، والآخر الأمير علي، يعرف والدهما بالطوراشي، فأما أبو بكر فإنه كان ممتنعا برجاله، وكثرة احتياله وقوة جباله ونوابه وجيوشه وأحزابه، وبقى مدة لا يعبأ بهم ولا به، مع أنه سير له العساكر، واستعان عليه بكل ماكر، إلى أن حكم بالموصل نصراني يقال له مسعود البرقوطي، وعزل عنها الأمير رضى الدين بابا القزويني البكري رحمه الله، فاحتال النصراني على الأمير أبي بكر بكل حيلة، وأعانه عليه في المكيدة بعض القبيلة، فحسنوا له الوثوق إليه، والنزول في الطاعة على يديه، وسير له الرهائن أربعة من الصبيان إلى السلطان، أحدهما مباركشاه والثاني سيف الدين بن
__________
[1] بازارية ونسبة إلى بازار بمعنى السوق، وتعني هنا رجال السوق والتجار.(3/270)
المبارز كنك، الذي استنابه في العقد أبوه، والآخران أحمد وجركتم والدهما، فبلغ بكر الدين، كان باربل «1» نائبا في ذلك الزمان، فاغتر ونزل الباب، وبقى عند السلطان معظم المقدار، إلى عدت فيه ذوو الاعتراض، وقالوا أن أحضر ولده وأهله، فما عليه اعتراض، ولما طلبوا معه سيّر اليهم «2» بالنزول، فلم يأخذوا أمره بالقبول، وعاد مؤكدا لطلبهم برسول، وتأخر حضورهم، فاشتبهت على السلطان أمورهم، فأمر بالاحتياط عليه وعلى من معه من أصحابه، وكان إذ ذاك متوجها إلى حمص في أحزابه فلما وصلوا إلى مراغة آذربيجان، توجه حسان «3» ، إجابة داعي السلطان؛ وكان موثقا عنده في المكان (المخطوط ص 134) فانتهز الفرصة في الخروج من الوثاق، وخلص من معه من الرفاق [1] ، وركب ما وجد من الخيل عربا وساق، بناء على أن الجبل قريب، وطمعا في أن يدركه الليل، فيستتر، فلما أحسن القوم بفراره، خافوا صولة سلطانهم، ونادوا: أولام أولام على أثاره، فتنبه عليه قوم من الإختاجية «4» ، وهم رعاة الخيل، (وهو يحث فرسه) «5» بكزلك، وهي مذبة، فرماه أحدهم بسهم، أصابه به، وتواثبوا عليه أصحابه، فلم ينج منهم أحد إلا رجل كان، لما انهزموا قد دخل البلد.
وأما أكثر الرهائن فإن البارز شيرسير من سرق ولده، وهرب كل منهم، فلحق ولده، وبقى الأمير علي، أخوه مستقلا بالهكارية وحده إلى أن أتاه اليقين، فخلف فيهم ولده غرس الدين صاحب قلعة هروز، ونشأ الأمير محمد بن الأمير أبي بكر شجاعا، فقصد قلعة الجبال، فأخذها، وأحرق ما بها من الدور، وأراد أن يقيم بها،
__________
[1] عبارة مكررة.(3/271)
إن ساعده القدر المقدور.
والهكارية يأخذون الخفارة في أماكن كثيرة من بخاري إلى جبل «1» الجزيرة، ويليهم من قبل المرج جبال القمرانية وكهف داود، وهذه الأماكن أوطان البستكية «2» وقليل ما هم، لكنهم حماة رماة وطعامهم مبذور على خصاصة، وعدتهم لا تزيد على خمسمائة، وأميرهم مقيم بالقمرانية يقال له ... [1] ويقابل الجولمركيه من قبل الموصل البختية، وهم قوم كانوا يضاهون الحميدية، لكنهم شعبهم أكثر، وقبيلهم أكثر، فكان لهم كبراء وأعيان فهلك أمراؤهم، وتشتت كبراؤهم، وتفرق جمعهم المعهود، ولم يبق منهم إلا شرذمة قليلة، تفرقت بين القبائل والشعوب، وكان من بقايا أمرائهم فخر الدين خدم صاحب ماردين فأبعده لأقوال قيلت.
وشعبهم كثيرة، وقبائلهم متفرقة «3» منهم السندية وهو أكثر شعبهم عددا، وأوفرهم مددا، يبلغون ثلاثين ألف مقاتل مختال مخاتل والمحمدية، وكان أميرهم شروين «4» ، لا تزيد على ستمائة رجل، والراستية كانوا أولى عدد وعدد وجمع ومدد إلى أن نزح أميرهم البدر بن كيايك) المخطوط ص 135) من ذلك البلد، بالأهل والولد، إلى متعة وقد تشتت شملهم، وتفرق جمعهم وعات، عدتهم لا تزيد في بلد الموصل، لا تزيد على ألف رجل، وأميرهم علاء الدين كورك بن إبراهيم، ولا ينقص من بلد القعر «5» في خمسمائة وأميرهم عمر بن أبي علي وموسى بن بهاء الدين، والدينلية وهم يسكنون الجبال المقلوب، والمختار مطلوبون بالخفارة أميرهم كلتي، ولا تزيد عدتم على ألف متفرقين في البلاد، متمزقين في كل واد «6» .
__________
[1] فراغ بمسافة 4 سم.(3/272)
الفصل الثاني في اللر(3/273)
«1» وهؤلاء طائفة؛ كثيرة العدد، ومنهم فرق مفرقة في البلاد، وفيهم ملك وإمارة، وإقدام وشطارة، ولهم خفة في الحركات، وصدق في القول، يقف الرجل منهم إلى جانب البناء المرتفع، ويلصق بطنه بأحد الزوايا القائمة به، ثم يصعد فيه إلى أن يرتقى صهوته، العليا، ومنهم من يخالس الرجل ماله، ويأخذه منه، وهو لا يدري.
وربما أمسك الرجل منهم، وضرب بالسياط، وعوقب أشد العقاب، فلا يقر أنه أخذه، ولا يعرفه، فإذا حلف بستر الله، وأقسم عليه به، أقر واعترف.
وفي بلاد مصر والشام منهم طوائف، وفي بلاد الشامية معظمهم، ولهم في هذا وقائع مشهورة، وأحوال مشهودة.
وما يحكى أن السلطان صلاح الدين أبا المظفر يوسف بن أيوب [1] رحمه الله، حضر إليه رجل منهم، وأظهر له أشياء من أفعاله اللطيفة، وحركاته الخفيفة، حتى أنه وقف إلى جانب بناء مرتفع، وارتفع والتصق به، وارتفع حتى استوى على أعلاه، وصلاح الدين رحمه الله يظهر العجب من شطارته، وخفة حركته، وقدرته على ما لا يقدر عليه مثله، فلما نزل خلع عليه، وأكرمه، وحمله على فرس وأقطعه أقطاعا جليلا، وقال له: اشتهى أن يكون عندنا جماعة منكم، فإننا ما نستغنى عنكم لنتوصل بكم (المخطوط ص 136) إلى حصون الأعداء [2] .
فبقى هذا اللرى [3] يجلب له واحدا بعد واحد ممن يقدر على هذا منهم، فكلما جاء واحد منهم أكرمه صلاح الدين، وخلع عليه، وأقطعه الأقطاع، حتى لم
__________
[1] صلاح الدين الأيوبي: تولى وزارة العاضد لدين الله الفاطمي عقب وفاة أسد الدين شيركوه، وفي سنة 557 هـ أسقط اسم العاضد من الخطبة، وأسس دولة الأيوبيين التي حكمت مصر والشام حتى قيام دولة المماليك (انظر روضة الصفا 231- 232) .
[2] وردت بالمخطوط الحصون الأعداء.
[3] اللرى نسبة إلى اللر هي اللار وهي من بلاد إقليم فارس تقع قرب شيراز وهي أيضا اللور.(3/275)
يبق أحد منهم، وبقى مدة لم يحضر أحدا إلى صلاح الدين، فقال له: لأي شيء ما عدت جبت «1» لنا أحدا؟ فقال: والله يا مولاي ما بقى أحد يقدر على هذا مثلنا، فلما تحقق صلاح الدين في ذلك، أسرها في نفسه، ثم جمعهم، وأوقف خلف كل رجل منهم رجلا، وأومأ إليه، فضربوا رقاب أولئك النفر، لأن صلاح الدين لما رأى ذلك [1] . فزع منهم على نفسه، وخاف إن هو قتله وجده، يبقى وراءه من يفعل مثل فعله، فاحتال عليهم بذلك لئلا ينزل عليه أحدهم فيقتله به.
وأما ما يروى من مشى هذه الطائفة على الحبال المنصوبة، على قامات من الأرض، وانقلابهم عليها في الهواء، حتى يصير رأس الرجل منهم منكوسا إلى الأرض، ورجله متعلقة بالحبل ثم يستوى على قامته، ثم يمشي على الحبل بالقبقاب، ويلعب فوقها بالمخاريق، ما تحار له الألباب، ويحاك فيه نوادر العجب العجاب، وإن نساءهم يفعلن «2» ، وتركضها أشد مركض، ثم تطيح عنها في قوة جريها إلى الأرض ثم تثب عليها فيستوى على ظهرها، ثم تصير حزاما لبطنها، ثم تنزل صهوة الفرس، وتعنق العنق تارة من أعلاها وتارة من تلقاء صدرها إلى غير ذلك من عجائب الأفعال وغرائب الخفة في المجال.
ودأب من هو منهم في الشام أحد ما قدروا عليه ووصلت أيديهم إليه، وقد عرف صبرهم على الضرب، فما بقى يضرب، أحد منهم إذا اتهم بل يحلف بستر الله ويقسم عليه به، فيقر، ويعترف، ويرد ما أخذه، ويقول: نحن نأخذ قبيح، ونحن نرد مليح «3» .
__________
[1] عبارة مكررة.(3/276)
وقد أوردنا هاتين اللفظتين بعبارتهم على ما هي عليه، وهم ببلادهم أهل منعة، وهي اللر، إن كبير وصغير ومأمور وأمير وسارقهم لا يقطع على السرقة هكذا جرت عادتهم في بلادنا.(3/277)
الفصل الثالث في الشول(3/279)
«1» وهؤلاء حكمهم حكم شنكاره «2» ، وما يبعد بعضهم عن بعض في موازنة العقول، إلا أنه لا يخلو بينهم من دماء تطل، ومواثيق فيما بينهم تحل، وفيهم كرم وسماح، يقصدهم الفقراء [1] وتنزل في قراهم، وتقيم في ضيافتهم وقراهم، ولهم فيها، ولهم فيهم حسن الظن «3» إذا أنزلهم الفقير أنزلوه في بيوتهم، يمسي ويصبح عندهم وبين نسائهم، فإن اطلعوا على أحد منهم أنه خان أو تطرق إلى حريم، أخرجوه من بيوتهم، وتبعوه، فإما نجا وإما أدرك، فقتل ولا يقتلون أحدا منهم في بيوتهم، سترا على حريمهم، وخوفا من تنفير الفقراء عنهم، لحسن ظنهم فيهم.
__________
[1] المتصوفة.(3/281)
الفصل الرابع في شنكاره(3/283)
«1» وهم أحسن من اللر طريقا «2» ، وأقل فريقا، وفيهم رعاية الذمام، وتمسك من الشريعة المطهرة «3» بزمام، ولهم بأس وشجاعة، وعندهم لأمرائهم سمع وطاعة، على أنهم أشد من الأسود إذا غضبوا، وأخف من البروق إذا وثبوا، يكون الرجل منهم في أسفل الجبل العالي، ثم يأخذ في الصعود، ويرشق محاربه «4» السهم، فيكاد يسبق السهم، وقد بلغ غايته، وما انحدر أو يوافى هو وإياه على قدر.(3/285)
الباب الخامس في مملكة الأتراك بالروم(3/287)
أما المسماة الآن بمملكة الروم فقد كانت مملكة لا ترام، ولا يلحق إليها مرام، وهي مما هو من الخليج القسطنطيني [1] ممتدا على جنوب بحر بنطس [2] «1» ، وماء «2» بنطس محجوزة بجبال يزل الطرف عن صهواتها، ويخل الطرف بعوائدها، في اقتحام حجراتها، وكانت آخر وقت زمان، بقايا بني سلجوق، معدن الخيرة والخير، ومسلك «3» مسكن الملك، صاحب القبة والطير، وكان لسلطانها من إرث آبائه حرمة محفوظة، ونعمة على معاطف الملوك ملحوظة، وقد تقدم (المخطوط ص 138) في هذا الكتاب ما ينبه على ما لهذه البلاد في المجد من الطارف والتلاد «4» .
كانت على عهد الروم؛ الباقي عليها نعتهم، إلى الآن محتبك الأعنة، ومشتبك الأسنة، دار القياصرة، ومكسر الأكاسرة، وكان لملكها الرتبة العلياء، وكانت بقسمة التعديل ثلث الدنيا، لأنه لم يكن يسمى «5» من ملوك الأرض إلا ملوك الفرس والروم والترك.
وهكذا قسم فريدون [3] ، حد هؤلاء الملوك الثلاثة الأرض بينهم بالإثلاث،
__________
[1] الخليج القسطنطيني هو بحر مرمرة أو بحر إيجة الواصل بين بحر بنطس والبحر الرومي.
[2] بحر بنطس هو البحر الأسود، وهو في وسط المعمورة بأرض الصقالبة والروس، يخرج منه خليج يمر بسور قسطنطينية، ولا يزال يتضايق حتى يقع في بحر الشام (مراصد الاصلاع 1/165) انظر: الخريطة المرفقة.
[3] فريدون: من الأبطال الأسطوريين عند الفرس، وهو من نسل جمشيد، أبوه آبتين وأمه فرانك، قتل الضحاك، وله ثلاثة أولادهم: ايرج وسلم وتور، قسم عليهم العالم المعروف آنذاك فكان هناك التوارنيون والإيرانيون أما سلم فكان في الشام وما يليها (حماسة سراي 461- 469) .(3/289)
فالروم لهم الثلث وهم أهل التثليث [1] وهذا الذي نحن في ذكره الآن، مما وقع في قسمهم، وطبع إلى وقتنا بطبائع اسمهم، هو الذي «1» الواقع على شرقي الخليج القسطنطيني متصلا بأرمينية وديار العرب والعواصم والشام.
وهو أثرى الممالك بلا احتشام خلا أنه بكثرة الثلوج كالح الوجه، في شبابه أشيب اللمة في قبابه «2» لا يستسقى به محب لأتراك، (ولا يسأم، ولا بارق فيه لعارضة برق) «3» [2] ، ولا يشأم، إلا أن صخوره تتفجر ماء وتتفجر أنواء، يعقد دون السماء بسماء، فتخصب زرعها، ويحطم المحل ضرعها، وتخصف ورق الجنّة على الخلائق، تمرها وينعها، وتطرب ورقها لمنظرها البديع، ومخبرها من صناعة صنعاء الربيع، فلا تسمع إلا كل مطربة تناجي النجى وتشجى الشجى، وتخلب قلب الخلي، وتهب الغواني ما في أطواقها من الحلى، يعجب ثوبها السندس، ونباتها المتعلق بذيل النهار «4» سجافها القندسي، فلا تجول في أرضها إلا على أرائك ولا ينظر إلا نساء كالحور العين، وولدانا كالملائك.
وآخر ما كانت في أيام السلجوقية على ما قدمنا ذكره دار بهجة وسناء، ومجلس أنس لكؤوس وغناء، انتهبوا العيش بها نهبا وقطعوا الأيام بالمسرات فيها وثبا، ثم جرى عليها ملك أولاد جنكيز خان، لما فاضوا على الأرض من كل مكان، إلا أنهم أبقوا على بقايا السلجوقية الملك بالروم، وحكموا معهم من يمنع أسودهم
__________
[1] لقولهم الأب والابن والروح القدس.
[2] ما بين القوسين زائد.(3/290)
الرابضة أن تثب وتشتد، ولهم عبر ما خلوا من الثدي ويحتلب، ثم إزالتهم الأيام، وأزاحتهم، لتمتد ستور الظلام.
وكان من دخول الملك الظاهر أبي الفتح بيبرس البندقداري [1] (المخطوط ص 139) الصالحي، إلى قيسارية، ما هو مشهور، وكسر عليها طائفة من رؤوس التتار، ثم عاد، ولم يقر له بها قرار، بعد أن جلس على تخت آل سلجوق، ولبس التاج، وضرب باسمه الدينار والدرهم واستبشرت به أهل تلك الدار، لكنه خاف عاقبة لموافقة طالع الوقت لنجم سعدهم ورجم ضدهم، ولم يكن قد آن لجمرتهم أن يخمد لهبها، ولا لجدول سيوفهم أن يجمد عليها قربها، فاستمرت أيدي المغل عليها، واضمحل ملك آل سلجوق حتى سقط في «1» يديها، فغلبت طوائف الأتراك هنالك على كثير من تلك الممالك؟ إلا بقية «2» حفظت المغل من مطالع أفقها، وأمسكت آخر رمقها، ودارت طوائف الأتراك ملوك المغل على ما غلبت عليه، وبقى منهم من يدخل في طاعتهم على أنه يسلم إليهم، ولا يخرج شيء من يديه، واستمرت أحوالهم معهم من الطاعة والعصيان والتذكار والنسيان حتى تمادت المدد، وخر رواق الدولة الجنكيز خانية أو وهي منه بعض العمد، فحينئذ ثبتت أقدامهم، وثبتت في مغارس الاستمرار أيامهم.
ومنذ غلبوا على الروم، كاتبوا ملوك مصر [2] ، واتخذوهم ظهرا، وعدوهم
__________
[1] الظاهر بيبرس: ولد ببلاد القبجاق سنة 625 هـ تقريبا، وأسر وبيع وحمل إلى القاهرة، كان من المماليك البحرية، تسلم السلطنة بعد السلطان قطز سنة 658 هـ تصدى للتتار والفرنجة توفي سنة 676 هـ (انظر:
فوات الوفيات 1/235) .
[2] يقصد مكاتبات بركة خان إلى الظاهر بيبرس والتي بدأت سنة 1262 م. (386.D'ohsson.IIIP ,Histoire Des Monqols(3/291)
لحوادث الأيام ذخرا، حتى أن منهم من رغب في تقليد يكتب له بالنيابة فيما هو فيه، فكتب له وجهز إليه بالصناجق [1] والألوية والأعلام والتشاريف التمام والسيف المحلي والحصان المركوب والجنائب، وهم إلى يومنا هذا أهل ود وصفاء وحسن عهد ووفاء، لكثرة ما خلطهم به الامتزاج وصل منهم من اتخذ مصر والشام دارا، وأخذ بهما الإمرة «1» والأقطاع، وجرى فيها تحت حكم الأمر المطاع، ورسلهم حتى الآن لا تنقطع عن مصر والشام، والمكاتبات واردات وصادرات، والهدايا مقيمة وسائرات، ومع هذه كله كل واحد منهم بما أتاه الله من فضله ونحن الآن نذكرهم على التفصيل، ونكتفي بالقليل.
وها نحن نشرح حال كل طائفة متغلبة على هذه البلاد والمملكة التي استولت عليها، وما استقر «2» (في يديها على ما تنبه عليه في موضعه) «3» .
وقد ذكر أبو الفضل (المخطوط ص 40) عبد الله بن عبد الظاهر [2] دخول الملك الظاهر رحمه الله هذه البلاد، وخروجه في رسالة قال فيها: وسرنا لا يستقر
__________
[1] الصناجق جمع مفرده صنجق أو سنجق وهو اللواء وحاكم اللواء.
[2] عبد الله بن عبد الظاهر بن نشوان الجذامي الروحي السعدي القاضي محي الدين، مؤرخ مصري عاش ما بين 620- 692 هـ (1223- 1292 م) نشأ بالقاهرة وخدم السلاطين الثلاثة الأوائل في دولة المماليك البحرية في مصر وهم الظاهر بيبرس، والمنصور قلاوون، وخليل بن قلاوون، وصارت له رئاسة ديوان الإنشاء له ثلاثة مؤلفات عن السلاطين الثلاثة وهي «الروض الزاهر في سيرة المالك الناصر، وتشريف الأيام والعصور في سيرة الملك المنصور، والروضة البهية الزاهرة في خطط المعزية القاهرة (موسوعة العلوم الإسلامية والعلماء والمسلمين- حققها وراجعها بول غليونجي وآخرون- بيروت 1/130) وكتاب الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر- تحقيق ونشر عبد العزيز الخويطر الرياض 1976- وكتاب تشريف الأيام والعصور في سيرة الملك المنصور تحقيق د. مراد كامل القاهرة 1961.(3/292)
بنا قرار، ولا يقتدح من غير سنابك الخيل نار، ولا نقيم إلا بقدر ما يتزيد الزائر من الأهبة، أو يتزود الطائر من التغبة، تحمل همنا الخيل العتاق، ويكبوا البرق خلفنا إذا حاول بنا اللحاق، وكان السلطان من حلب قد أمر جميع عساكره بإدراع لامات حربهم، وحمل آلات طعنهم وضربهم، ورحلوا من حلب جرائد على الأمر المعهود، قد خفقوا كل شيء حتى عن السيف الغمود، فسرنا في جبال تشتهي فيها سلوك الأرض، وأودية تهلك الأسواط فيها إذا ملئت الفروج من الأرض، واستقبلنا الدرب كما قال المتنبي [1] : [الطويل]
رمى الدّرب بالخيل العتاق إلى الورى ... وما علموا أن السّهام خيول [2]
فلما تجلى من دلوك وصنجة ... علت كل طود رنة وعويل [3]
على طرق فيها على الطّرق رفعة ... وفي ذكرها عند الأنيس خمول [4]
ومررنا من دلوك وهي رسوم باكية على سكانها، ضاحكة عن تبسم أزهارها، وتقهقه غدرانها، ذات بروج مشيدة، وأركان موطدة، ونيران تزاويق موقدة في عمد من كنائسها ممددة، وسرنا إلى مرج الديباج نتهادى، وذلك في ليلة مدلهمة ذات أندية، وإن لم تكن من جمادى، لا يثبت تربها تحت قدم المار وكأنما ساكنها يمشي على شفا جرف هار [5] .
وبتنا نستخف بالنسبة إليها ليلة الملسوع، وتتمنى العين فيها هجمة هجوع،
__________
[1]
رمى الدّرب بالجرد الجياد إلى العدا ... وما علموا أن السّهام خيول
(ديوان المتنبي شرح عبد الرحمن البرقوقي بيروت 1980- ج 3/221) .
[2]
رمى الدّرب بالجرد الجياد إلى العدا ... وما علموا أن السّهام خيول
(ديوان المتنبي شرح عبد الرحمن البرقوقي بيروت 1980- ج 3/221) .
[3]
بوجهك ما أنساكه من مرشّة ... يضيرك منها رنة وعويل
(ديوان المتنبي 3/228) .
[4]
على طرق فيها على الطّرق رفعة ... وفي ذكرها عند الأنيس خمول
(ديوان المتنبي 3/222) .
[5] إشارة إلى قوله تعالى: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
[التوبة، الآية: 109] .(3/293)
وأخذنا في اختراق غابات أشجار تخفى الرفيق عن رفيقه، وتشغله عن افتقار طريقه، حولها معاثر أحجار كأنها قبور تغيرت، أو جبال تفطرت، بينها مخائض لإبل مغائص كأنها بحار فجرت [1] ، ما خرجنا منها إلا إلى جبال قد تمنطقت بالجداول، وتيممت بالثلوج، وعميت مسالكها فلا أحد إلا وهو قائل، فهو إلى خروج من سبيل أو إلى سبيل من خروج، تضيق مناهجها بمشي الواحد وتلتف شجراتها التفات (المخطوط ص 141) الأكمام بالساعدة ذات أوعار زلقة، وصدور شرقة، وأودية بالمزدحمين مختنقة.
حتى وصلنا إلى الحدث الحمراء المسمى الآن بكينوك ومعناها المحترقة، كان قسطنطين والد صاحب سيس [2] قد أخذها من أصحاب الروم، وأحرقها وتملكها، وعم بها الضرر لبلاد الإسلام، سيّر السلطان إليها عسكرا من حلب، فافتتحها بالسيف، وقتل كل من بها من الرجال وسبى الحريم والذرية، وخربت من ذلك الحين، وما بقى منها من يكاد يبين.
وشاهدنا منها ما بناه سيف الدولة بن حمدان [3] ، فالقنا يقرع بالقنا، وموج المنايا تتلاطم، وقيل لسلطاننا هناك على قدر أهل العزم تأتي العزائم [4] ، غضب الدهر والملوك عليها فبناها في وجنة الدهر خالا.
فبتنا بها وجيادنا إذا زلفت مشت كالأراقم على البطون، وإن تكاسلت جر بعضها بعضا بالصهيل والحديث شجون، وخضنا في أثناء ذلك مخائض سواقع،
__________
[1] إشارة إلى قوله تعالى: وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ
[الانفطار، الآية: 3] .
[2] سبس: هي سيواس من بلاد ملك العراق، حسنة العمارة واسعة الشوارع على حدود الروم (رحلة ابن بطوطة 197) .
[3] سيف الدولة بن حمدان، هو أبو الحسن علي المعروف بسيف الدولة الحمداني، أشهر أمراء الدولة الحمدانية من قبيلة تغلب مات سنة 356 هـ.
[4] تضمين لقول أبي تمام:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم(3/294)
كأنها لأجل عموم الخيل بها سمى كل منها لأجل ذلك سابح، كلما قلت هذا بحر قد قطعناه أعرض لنا جبل، وكلما لنا هذا جبل قد طلعناه بان لنا واد، يشتهون دون الهوى فيه نفاد الأجل. ثم وصلنا إلى كوك صو، وهو النهر الأزرق الذي رد الملك الكامل منه سنة الدربندات، لما قصد التوجه إلى الروم، وللوقت عبرنا ركضا وأعجلت الخيل، فما درت هل خاضت لجة أم قطعت أرضا، وبات الناس من بر هذا النهر الآخر، وأصبحوا متسللين في تلك الشم، ووقع السنابك يسمع من تلك الجبال الصم، حتى وصلوا إلى أمجاد دربند، فما ثبتت يد فرس لمصالحة صفاها، ولا بغلة لمكافحة رحاها، ولا رجلة لمطارحة قواها.
وتمرنت الخيل على الاقتحام والازدحام في التطرق وتعودت ما تعودت الأوعال في الأوعار من الشرب والتسلق تنحط انحطاط الهيدب، وترتفع ارتفاع الكوكب، حتى حصل الخروج من منتهى الدربند، وبات السلطان في وطاة هناك، وسمحت السحب بما شاءت من برد وبرد (المخطوط ص 142) ، وجاءت الريح بما ألم الجار، واستنفذ الجلد، وانتشرت العساكر حتى ملأت المفاوز، وملكت الطرق على المار، وأخذتها على الجائز، وقد تقدم سنقر الأشقر في الجاليش [1] فوقع على ثلاثة آلاف فارس من التتار، مقدمهم كراي، فانهزموا من بين يديه، وأخذ منهم من قدم للسيف السلطاني، فأكل تهمته وأمتار، واستمرت تلك منه فيمن يؤخذ من التتار، ويؤسره، وبات التتر على أجمل ترتيب ونظر، وبات المسلمون على أجمل تيقظ وحذر. فلما كان يوم الجمعة عاشر ذي القعدة تتابع الخبر بعد الخبر، بأن القوم قد قربوا، وأنهم تأبوا ووثبوا، ووصى السلطان جنوده في التثبت على ما يجب، وأراهم من نور رأيه ما لا يحتجب.
وطلعت العساكر من جبال مشترفة على صخرات منا من بلد ابلستين، وكان العدو ليلته تلك بايتا على نهر زمان، وهو أصل نهر جهان، وأصل اسمه جيحان،
__________
[1] الجاليش: هم جماعة مقاتلة وهي جالش (فرهنگ رازي 213) .(3/295)
فترتب المغل أحد عشر طلبا [1] كل طلب يزيد على ألف فارس، وعزلوا عسكر الروم خيفة منهم، وجعلوا عسكر الكرج [2] طلبا منهم واحدا بمفرده، ولما شاهدوا صناجق السلطان ومن حولها، وعليهم الخوذ الصفر المقترحة، وكأنها في شعاع الشمس نيران مقتدحة، رجعوا إلى ما كانوا عقدوا من العزائم فحلوا، وسقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا، وأنصبت الخيل إليهم من أعلى [3] الجبل انصباب السيل، وبطلت الحيلة منهم وبقى الحيل، فشمروا عن السواعد، ووقفوا وقفة الرجل الواحد. وكان هؤلاء المغل قد اختارهم آبقا من كل ألف مائة، ومن كل مائة عشرة، ومن كل عشرة واحد، لأجل هذا اليوم، وكان فيهم من المقدمين الكبار تداون، وتقووا إليه أمر بلاد الروم، وأرختو أخو تداون ونمادربخشى، ومن أمراء الألوف زيرك وصهر آبغا وقراق وأخلدت من المغل فرقة إلى الأرض فقاتلت، وعاجت على نفوسهم وعاجلت، وجاء العدو الموت من كل مكان، وأصبح ماهان منهم وقدهان، وكم فيهم من شهم ما سلم قوسه حتى لم يبق في كنانته سهم، وذي سن طارح (المخطوط ص 143) فما طارحه حتى تثلم، واشتدت فرقة من العدو من جهة الميسرة، معرجين على الصناجق السلطانية. [الوافر]
فلزهم الطراد إلى قتال ... أدلّ سلاحهم فيه الفرار
وثاب السلطان إليهم وثب عليهم فضحى منهم بكل أشمط، وأقرى سباع الوحش والطير فأفرط، ولحق من قصد التحصن في الجبال فأخذهم من كل رابية الأخذة الرابية، وقتلهم فهل ترى لهم من باقية، وانهزمت جماعة يسيرة، طمع فيها من العوام من لا كان يدفع عن نفسه، وأخذتهم المهاوي فما نجا منهم إلا آيس من
__________
[1] الطلب: فرقة مقاتلة.
[2] الكرج: جبل من النصارى كانوا يسكنون في جبال القبق وبلاد السرير، ثم قويت شوكتهم، وملكوا مدينة تفليس، ولهم ولاية تنسب لهم وملك ولغة وشوكة وعدد (ياقوت الحموي 4/446، صبح الأعشى 1/369) ، وهي الآن دولة جورجيا.
[3] وردت بالمخطوط أعلا.(3/296)
حياة عده في أمسه. [الوافر]
مضوا متسابقو [1] الأعضاء فيها ... لأرجلهم بأرؤسهم عثار
إذا فاتوا الرماح تناولتهم ... بأرماح من العطش القفار
ووصدت ميمنة عسكرنا جماعة من المغل، ذو بأس شديد، فقاتلهم المسلمون حتى ضجر الحديد من الحديد، وأما العدو فتقاسمت الأيدي ما يمتطونه من الصواهل والصوافق، وما يصولون به من سيوف وقسى وكتاين [2] ، وما يلبسونه من خوذ وذروع وجواشن [3] ، وما يتملونه من جميع أصناف المعادن، فغنم ما هنالك، وتسلم من استشهد من المسلمين رضوان، ومن قتل من التتار مالك، وأورث الله المسلمين منازلهم، فنزلوها ووطاقاتهم وخركاواتهم فتمولوها، وكان السلطان مع أعدائه كما قيل: [الوافر]
فمساهم وبسطهم حرير ... وصبحهم وبسطهم تراب
وأصبح الأعداء كأنما جزر أجسادهم، تتخللها من الدماء السيل، وكأنما رؤوسهم المجموعة لدى الدهليز المقصور أكر، تلعب بها صوالح الأيدي والأرجل من الخيل، وكم فيهم من مهيب الهامة حسن الوسامة، يتفرس في جهامة وجهه الفخامة، قد فض الرمح فاه، فقرع السن على الحقيقة قدماه، وكثرت الأساري، فاختار السلطان من كبرائهم البعض وعمل بقول الله ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ
(المخطوط ص 144) لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ
[4] ودخل البرواناه [5]
__________
[1] وردت بالمخطوط متسابقي.
[2] كناين جمع مفرده كنانة وهي جعبة السهام.
[3] جواشن جمع مفرده جوشن، والجوشن هو الدرع بالفارسية (فرهنگ رازي 207) .
[4] إشارة إلى قوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
[الأنفال: الآية: 67] .
[5] البرواناة هو حامل الرسائل وهو مشتق من الكلمة الفارسية پروانه أي الخادم (انظر: تركستان حاشية ص 359) .(3/297)
مدينة قيصرية في سحر يوم الأحد ثاني عشر الشهر.
فأفهم غياث الدين سلطانها الصاحب فخر الدين عليا والأتابك مجد الدين والأمير جمال الدين المستوفى والأمير بدر الدين ميكائيل النائب، والأمير الطغرائي [1] وهو ولد عز الدين أخي البرواناه، وهو يكتب طرز المناشير، أن المسلمين كسروا بعض المغل وبقيتهم منهزمون، ونخشى منهم دخول قيصرية، واتلاف من يكون بها، فاحذر زوجته كرجى خاتون بنت غياث الدين صاحب أزر، وأمها ملكة الكرج وزوجها السلطان غياث الدين صاحب الروم في أربعمائة جارية.
وكان لها ما لا كان لصاحب الروم من النجاتي والخيام والآلات، وتوجهوا كلهم إلى جهة توقات وهو حصن عن قصيرية أربعة أيام، وهوّل على بقية أمراء الروم، فاتبعوه إلا قليل منهم، وأخفى البرواناه أمره وأمر من معه حتى لا يخبر عنهم.
ورحل السلطان فنزل قريب قرية رمان، وبيوتها حول سن جبل قائم كالهرم إلا أنه ملموم، وعمرت البيوت في سفحه حوله بيتا فوق بيت، وبدت كأنها مجرة النجوم وما منها بيت إلا وبه مقاعد ذوات داربيزينات [2] منجورة (ورواشون) قد بدت في أحسن صورة، يحمها من أعلاها أحسن بنيان، ويعلوها من رأسها منزل مسنم الرأس كما يعلوه الصعدة السنان، ويطوف بها الجبال كأنها لها أسوار بل سوار، وكأنها في وسطها إناء فيه جذوة نار، وفيها أنهار ذوات قناطر لا تسع غير راكب، مضائق لا تلقى غيرها مناكب، فنزلنا قريبا منها حتى تخلص من تخلص وحضر من كان في المضائق قد تربص.
وقال كل الآن حصحص، ورحلنا والسماء قد حبت الأرض تيجان أمطارها،
__________
[1] الطغرائي: من يقوم بوضع الشعار السلطاني على الرسائل (انظر: طغرا- فرهنگ رازي 575) .
[2] درابيزينات جمع مفرده درابيزين وهي كلمة فارسية وتعني سياج يتكئ عليه المرء أثناء صعوده على السلالم أو على الكراسي (انظر: فرهنگ عميد 1/928) وهي تأتي في العربية طرابزين.(3/298)
وأغرقت الهوام في أحجارها، والقبح في أوكارها، وأصبحت الأرض لا تتماسك حتى ولمرور الأراقم، والجبال لا تتمالك أن تكون للعصم عواصم، تضع بها من الدواب كل ذات حمل، وتزلق على صقليها أرجل النمل.
سرنا على هذه الحالة نهارنا كله إلى قريب الغروب وقطعناه بتسلمنا (المخطوط ص 145) أيدي الدروب من الدروب، فنزلنا عشاء في مستنقع أرض يطوف بها جبال شاهقة، ومياه دافقة، تعرف قاعدة تلك الأرض بوطأة فشلارهار من أعمال صاروس العتيق، ويضرب من تلك الجهة معدن الفضة.
وبينما نحن قد شرعنا في أهبة المبيت، ولم تجمع الشمل الشتيت، وإذا بالصارخ قد عقر عقيرته، بأن فوجا من التتار هنالك في فجوة قد استتروا وفي فجوة نفرة قد انتظروا، فركب السلطان والناس في السلاح، وعزموا على المطار، فعاقهم تتابع الغيث، وكيف يطير مبلول الجناج، ثم لطف الله وعاد السلطان وهو يقول لا بأس، فنمنا نومة السليم، وصارت أفكارنا سالمة شاعرة في كل واد تهيم، وأصبحنا فسلكنا جبالا، لا يحيط بها الوصيف، ونبسط عذر الطرف فيها حين يكبو الطرف، ينحط منها إلى جنادل تضعف عن الهوى، إليها قوى الأجادل، ومررنا على قرية أوزاك، وتحتها قناطر وخان من حجر منحوت ثم خان للسبيل على رأس رابية، هناك قريب حصن سمند والذي عرض أبو الطيب به في قوله:
فإن يقدم فقد زرنا سمند ... وإن يحجم فموعده الخليج [1]
وكان السلطان قد سير إليها خواصه بكتاب إلى نائبها فقبله وقبله وأذعق بالتسليم لحصنها المنيع، والنزول لأمر السلطان عنها أن استنزله، فشكر السلطان له تلك الإجابة، ووفاه من الشكر حسابه.
وكذلك إلى قلعة درنده وإلى قلعة دوالوه، فكلهم أجابوه وأطاعوه، ولكلمة
__________
[1] انظر: ديوان المتنبي شرح عبد الرحمن البرقوقي 1/362.(3/299)
الإذعان والوه، ونزلنا في وطأة قريب من قرية تعرف بحمرهاه، وكان الناس قد فرغت علوفات خيلهم أو كادت، وباتت الخيل ليالي بلا عليق، فمالت ومادت، وشاركها خيول الكسوب في عليقها، وما ساعدتها في طروقها ولا طريقها، فصادفنا في هذه الليلة بعض أتيان، أمسكت أرماقها، وأحسنت إرفاقها، وأصبحنا راحلين من جبال كأنها تلك الأول، وهابطين في أودية (المخطوط ص 146) يتمنى سالكها لشدة مضائقها لو عاد ترقى قبه الجبل. ثم أشرفنا على خان هناك يعرف بقرطاي، يدل على شرف همة بانيه، وطلب ثواب الله تعالى فيه، وهو من أكبر الأبنية سعة وارتفاعا، وأحسنها شكلا وأوضاعا، كله مبنى بالحجر المنحوت المصقول الأحمر الذي كأنه رخام، ومن ظاهر أسواره وأركانه نقوش، لا يمكن أن يرسم مثلها بالقلم، وله خارج بابه مثل الربض ببابين بأسوار حصينة، مبلط الأرض، فيه حوانيت، وأبواب الخان حديد من أحسن ما يكون استعماله، وداخله اواوين [1] ضيقة، وأمكنة شتوية، واصطبلات على هذه الصورة، لا يحسن الإنسان يعبر عنها بكيف؟ ولا منها إلا ما يعده الكافر رحلة الشتاء والصيف [2] وفيه الحمام والمرستان [3] والأودية والفرش والأواني والضيافة لكل طارق على قدره. وحمل إلى السلطان لما مر عليه وكثر الناس فما وصل أحد إليها ولا إليه، وعليه أوقاف عظيمة، وضياع كثيرة حوله وفي غيره من البلاد، وله دواوين وكتاب ومباشرون، يتولون استخراج أمواله، والإنفاق فيه، ولم يتعرض التتار إلى أبطال شيء من رسومه، وأبقوه على عوائد تكريمه، وأهل الروم يبالغون في تبجيل بانيه- رحمه الله- وتعظيمه، فنزلنا تلك الليلة قريب قرية قريبة من قيصرية شرقي الجبل المعروفة بعسيب [4] وفيه قبر امرئ [5] القيس الشاعر وفيه يقول: [الطويل]
__________
[1] إواوين جمع مفرده إيوان، فضاء مسقوف (فرهنگ رازي 38) .
[2] إشارة إلى قوله تعالى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ
[قريش، الآية: 1- 2] .
[3] دار الشفاء: المستشفى.
[4] جبل عسيب: جبل قرب دومة الجندل.
[5] وردت في المخطوط أمرء.(3/300)
أجارتنا إن الخطوب تنوب ... وإني مقيم ما أقام عسيب
اجارتنا إنا غريبان هاهنا [1] ... وكل غريب للغريب نسيب
وهذا الجبل يعلوه جبل أرجاش وهو الذي يضرب به الروم الأمثال لتساميه، وتتضاءل الجبال في جميع الدنيا العالية، لا تسحب ذيول السحاب إلا دون سفحه، ولا يعرف شتاؤه من صيفه من ثلوجه ولا لهيال الأبخرة المتصعدة، وعشاؤه من صبحه.
فلما كان يوم الأربعاء منتصف ذي القعدة، وهو يوم شرق الزهرة، ركبت العساكر المنصورة مترتبة، وملأت الفضاء (المخطوط ص 147) متسربة، فركب السلطان في زمرته، ودوى أمره وإمرته، يختال به جواده في أفسح ميدان ويصيح به مرحا وفرحا كأنه نشوان درى إنه سلطان.
تظل ملوك الأرض خاشعة له ... تفارقه هلكى وتلقاه سجدا
وخرج أهل قيصرية وعلماؤها [2] وزهادها وتجارها ورعاياها ونساؤها وصغارها، فأكرم السلطان ممساهم وشكر مسعاهم، وتلقى قضاتهم وعلماؤهم ركبانا وحادثهم إنسانا إنسانا، وحصلت لجماعة من الفقراء والناس حالات جد مضطربة [3] وصرخات ذكر معجبة، وكان شعار السلطان غياث الدين صاحب الروم وخيامه، وشعار سلطنته قد بقى جميعه في وطأة قريب الجوسق والبستان المعروف بكيخسرو، فترجل الناس على اختلاف طبقاتهم في الركاب الشريف من ملك وأمير ومأمور، وارتفعت الأصوات بالتهليل والتكبير، ونزل السلطان في تلك المضارب، وضربت نوبة بني سلجوق على باب دهليزه على العادة.
__________
[1] ههنا (ديوان امرئ القيس دار صادر بيروت 1958 ص 79) .
[2] وردت بالمخطوط وعلمائها.
[3] وردت بالمخطوط مطربة.(3/301)
وإذن السلطان للناس في التقرب إلى شريف فسطاط، وحضر أصحاب الملاهي، فما ظفروا بغير النواهي، وقيل لهم: ارجعوا وراءكم، فالتمسوا وذهبوا إلى واد غير هذا الوادي فاقت سوءه هذه الهنات، لا تتفق هنا، وما هذا موضع الغناء بل موضع الغنى.
وشرع السلطان في إنفاق اللها وعين في كل جهة شخصا وقال: أنت لها، وحكم وحكم، وعلم وعلم، واعتمد على الأمير جاليش في النيابة وأعطى كلا بيمينه كتابه [1] وأقام الحجة على من نزح بالاستعطاف، وتأمين من خاف، فلما علم أنهم لا يفلحون، ولغير التتار لا يصلحون، وإنهم إن أصبحوا في الطاعة لا يمسون، وإن أمسوا لا يصبحون، عاد عن تلك الوعود، وأختار أن ما بدا إليه يعود، فركب يوم الجمعة سابع عشر ذي القعدة مستقبلا من الله الخير، ونصب خبر بني سلجوق على رأسه، فرأى الناس منه صاحب القنة والسّبع، وصاحب القبة والطير، ودخل قيصرية في بكرة هذا اليوم، وكانت دار السلطنة قد فرشت لنزوله، وتخت بني سلجوق قد هيئ لحلوله، وهي (المخطوط 148) منازل تزهو، ومفازة من يتعبد ويلهو، أنيقة المبتنى، تحف بها بساتين عذبة المجتبى، جدرانها بأحسن أصناف القاشاني مصفحة، وبأجمل نقوشه مصرحة، فجلس السلطان في مرتبة الملك في أسعد وقت ونال التخت بحلوله أسعد البخت.
«وما كان هذا التخت من حين نصبه لغير المليك الظاهر الندب يصلح» .
«مليك على اسم الله ما فتحت له صوارق البيض المواضي وتفتح» .
«أتته وفود الروم والكل قائل رأيناك تعفو عن كثير وتصفح» .
«فأوسعهم حلما وجادلهم ندى [2] وأمسوا على من وأمن وأصبحوا» [3] .
__________
[1] إشارة لقوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ
[الحاقة، الآية: 19] .
[2] وردت بالمخطوط يدي.
[3] من شعر المؤلف.(3/302)
وأقبل الناس على السلطان يهنونه. وعلى كفه الشريف يقبلونه ثم حضرت القضاة والفقهاء والصوفية ودور الرواتب من أصحاب العمائم على عادة بني سلجوق في كل جمعة، ووقف أمير المحفل وهو كبير المعدلة عندهم، وله وسامه وفخامه، وله أوسع كم وأكبر عمامة.
وأخذ في ترتيب المحفل على قدر الأقدار، وانتصب قائما بين يدي السلطان منتظرا ما إليه به يشار، وشرع القراء يقرءون [1] جميعا وفرادي بأحسن تلحين وأجمل تحسين، فلما فرغوا شرح أمير المحفل صارخا، وبكور فمه نافخا، فأنشد وأورد بالفارسية، ما يعجب مدلوله، ويهول مقوله، وأطال وما أطاب، واستصوب من يعرف مقاله قوله، والله أعلم بالصواب.
ولما انقضى ذلك مدوا سماطا ليس يناسب همم الملوك، فأكل الناس منه للشرف لا للسرف، ثم عاد كل إلى مكانه فوقف، وقام السلطان إلى مكان الراحة، فأقام ساعة أو ساعتين، ثم عاد إلى مخيمه قرير العين، وكان بدار الملك حرم السلجوقية، على أبوابهم أسمال ستور حرير، ومشايخ خدام، يستحق لكل منهم أن يدعى بالكبير، فجبرهم السلطان، وآنسهم، وأحسن إليهم، وتوجه إلى صلاة الجمعة بقيصرية، وبها سبع جمع تقام فيها خطبا إلا أنهم كالأنعام فصلينا في جامع السلطان، وهو جامع لا يدل على (المخطوط ص 149) احتفال ملوكها ببيوت عباداتهم، ولا فيه دلائل الخير ما تقضى بحسن إرادتهم.
فحضر أهل المدينة وأكابرها، وجلسوا حلقا لا صفوفا وأجروا من البحث بالعجمية صنوفا، واجتمعت جماعة من حفاظ الكتاب العزيز فتخارجوا القراءة آية آية، وهي قراءة بعيدة عن الدراية بل إنها تبرزها أصوات مترنمة، والحان لتفريق الكلمات مقسمة، ينطقون بالحروف كيف اتفقت، ولا يتوقفون على مخارج الحروف إنها بها نطقت ولا نطقت، ولما آن وقت الآذان، قام صبي عليه قباء، من
__________
[1] وردت بالمخطوط يقرون.(3/303)
وسط جماعة عليهم أقبية، قعود على دكة المؤذنين، فابتدأ بالتكبير أولا وثانيا بمفرده من غير إعانة ولا إبانة، ولمّا تشهد ساعدوه جميعهم بأصوات مجمجمة ملعلعة، ونغمات متنوعة يحيكون له النغم بأطيب تلحين، ويترنمون بالأصوات إلى آخر التأذين، وفرغ الآذان، وكلهم قعود، ما منهم أحد غير الصبي قد وقف وما منا أحد لكلمة من الأذان عرف، ولما فرغ الآذان، طلع شيخ كبير السن يعرف بأمير محفل المنبر، فصعد ذروة المنبر، وشرع في دعاء لا نعرفه، وادعاء لا نألفه، كأنه مخاصم أو وكيل شرع أحضره لمشاورة خصمه خصم بين يدي حاكم، وطلع الخطيب بعد ذلك فخطب، ودعا للسلطان بغير مشاركة، وانفضت الجمعة على هذه الصورة المسطورة.
وضربت السكة باسم السلطان، وأحضرت الدراهم إليه في هذا اليوم فشاهدنا وجها متهللا باسمه الميمون، وأقرت الألسنة [1] بهذه النعمة، وقرت العيون، وشاهدت بقيصرية مدارس وخوانق وربطا، تدل على اهتمام بانيها، ورغبتهم في العلوم الشريفة، مشتدة بأحسن الحجار الحمر المصقولة المنقوشة وأراضيها بأجمل ذلك مفروشة، وأواينها وصففها مؤزرة بالقاشاني الأجمل صورة، وجميعها مفروشة بالبسط الكرخية [2] والقالية [3] ، وفيها المياه الجارية، ولها الشبابيك على البساتين الحسنة.
وسوق قيصرية طائف بها من حولها، وليس داخل المدينة دكان ولا سوق، والوزير في بلاد الروم يعرف (المخطوط ص 150) بالصاحب فخر الدين خواجا علي، وهو لا يحسن الكتابة، ولا الخط، وخلفه من مماليكه خاصة مائتا مملوك، ودخله غير دخل أولاده وغير الإقطاعات التي له ولأولاده وخواصه سبعة آلاف درهم
__________
[1] وردت بالمخطوط الآستانة.
[2] البسط الكرخية المصنوع في الكرخ إحدى ضواحي بغداد.
[3] القالية من قالى وهي كلمة تركية بمعنى السجادة الكبيرة من الصوف بألوان ونقوش مختلفة (فرهنگ عميد 2/1566، فرهنگ رازي 655) .(3/304)
سلطانية، ولقد شاهدت في مدرسته من خيامه وخركاواته شيئا لا يكون لأكبر الملوك، وله بر ومعروف وبالخير معروف.
وأما معين الدين سليمان البرواناه وزوجته كرجى خاتون فظهر لهم من الوجود البادي للعيون كل نفيس، واستولى السلطان من موجودهما على ملك سليمان [1] وعرش بلقيس [2] ولما أقام بقيصرية هذه المدة، فكر في أمر عساكره، ومصالحهم بما لا يعرفه سواه، ونظر في حالهم بما أراه الله، وذلك لأن الأقوات قلت، والسيوف من المضاربة ملت، والسواعد من المصارمة كلت. وأنه ما بقى بالروم من الكفار من يغزى، ولا بجزاء السوء يجزى، وما بقى في البلاد إلا رعايا كالسوائم الهاملة، ولا دية لكفر منهم على عاقل ولا عاقلة، وإن أقام بالبلاد لا تحمله، ومواد بلاده لا تصله، وأعشاب الروم بالدوس قد اضمحلت، وعلوفاتها قد قلت، وزروعها لا ترجى لكفاية، ولا ترضى خيول العساكر المنصورة بما ترضى به خيول الروم من الرعى والرعاية، وإن الحسام الصقل الذي قلت به التتار في يد القاتل، وإنه إن كان أعجبهم عامهم فيعودون إلى الروم من قابل.
فرحل يوم الاثنين العشرون [3] من ذي القعدة بعد أن أعطى أمراءه وخواصه كلما أحضر إليه من الأعنة والأزمة، وكلما يطلق على غولة اسم النعمة، فنزل في منزلة تعرف بقبر لولو، فيها وصل إليه رسول غياث الدين والبرواناه، يستوقفونه، وكان الأمر شائعا إنها إلى سيواس، فعدد السلطان عليه حسن وفاء عهده، وأنه أجاب دعاهم مرة بعد مرة، من أقصى ملكه مع بعده، وأنهم ما وقفوا عند الشرائط المقررة، ولا وفوا يمضمون الرسائل المسيرة، وأنه لما جاء الحق وزهق الباطل [4] طلبوا نظرة إلى ميسرة، وعلم (المخطوط ص 51) السلطان أن عساكر الروم أهل البداد لا
__________
[1] نبي الله سليمان عليه السلام.
[2] بلقيس ملكة سبأ باليمن.
[3] وردت بالمخطوط العشرين.
[4] إشارة إلى قوله تعالى: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً
[الإسراء، الآية: 81] .(3/305)
أهل نفاذ، وأهل طرف لا أهل حرب، وأهل طيبة عيش لا قواد جيش فرد إلى سليمان البرواناه وهدده، وقال: قل له أني قد عرفت الروم وطرقاته، وأمه أسيرة معي وابن بنته وولده، ويكفينا ما جرى من النصر الوجيز، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز [1] ، ولا كل من قضى فريضة الحج تجب عليه المجاورة، ولا بعد هذه المهاجرة مهاجرة، ونحن فقد ابتغينا فيما أتانا الله من حقن دماء أهل الروم، وعدم نهب أموالهم، الدار الآخرة، وما كان جلوسنا في تخت مملكتكم لزيادة تنجح بتخت آل سلجوق إلا لتعلمكم أنه لا عائق لنا عن أمر من الأمور، يعوق، وأن أحدا لا ينبغي له أن يأمن لنا سطوة، وليتحقق كل أن كل مسافة جمعة لنا خطوة، وسروجنا بحمد الله أعظم من ذلك التخت حلالا، وأرفع منالا، وكم في ممالكنا كرسي ملك نحن آية ذلك الكرسي وكم لنا فتح، والحمد لله فوق الفتح القدسي.
واستصحب السلطان معه أكابر الروميين، ثم رحل فنزل قريب خان السلطان علاء الدين كيقباد، ويعرف بكرواصواي، وهذا الخان بنية عظيمة من تشبه خان قطراي، وعليه أوقاف عظيمة، من جملتها أغنام كثيرة، يذبح نتاجها للواردين عليه، ثم نزلنا في وطأة رويزان كودلوز كودلو، اسم جبال تلك الوطأة، ثم رحلنا فعارضنا نهر في وطأة خلف حصن سمند ومن طريق غير التي كنا توجهنا عليها بمكان يعرف بنهر قزل صو، وهو صعب المخاض، واسع الاعتراض، عالي المهبط، زلق المسقط، مرتفع المرتقى، بعيد المستقى، لا يجد السالك من أوحال حافتيه إلا صعيدا زلقا.
فوقف السلطان عليه بنفسه وجرد سيفه بيده، وباشر العمل هو وجميع خواصه، حتى هيأ المكان جميعه، ووقف راحلا يعبر الناس أولا فأولا من كبير وصغير وغلام، وهو في أثناء ذلك يكبر على من يزدحم، ويكرر التأديب (المخطوط ص 152) لمن يطلب بأذية رفيقة أنه يقتحم، فلما خفت البرور، ولم يبق إلا المرور،
__________
[1] إشارة إلى قوله تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ
[الحج، من الآية: 40] .(3/306)
ركب فرسه، وعبر الماء.
ونزل في واد هناك به مرعى ولا كالسعدان ومرائي ولا لشعب بوان، ثم رحل، فنزل عند صخرات قراجا حصار، وهي قرية كانت عامرة فيما مضى قبالة بازاربلو، وهذا البازار [1] هو الذي كانت الخلائق تجتمع إليه من أقطار الأرض، ويباع فيه من كل شيء يجلب في الأقاليم.
ثم سرنا حتى نزلنا وطأة الأبلستين، وعبر السلطان على مكان المعركة المتقدمة مع التتار، ورأى كيف تعاقبت عليهم من العقبان كواسرها، ومن النسور مناسرها، وكيف أصبحوا لا تندبهم إلا البوم، وكيف تحققوا أن التي أهلكهم زرق الأسنة لا زرق الروم، وشاهدهم والهوام في أجسامهم متصرفة، قد هزأ بهم كل شيء حتى الوحوش والرياح، فهذه من صديدهم متكرعة، وهذه عليهم متقصفة.
«قد سودت شجر الجبال شعورهم فكان فيه مسفه الغربان» .
وحضرت من أهل الابلستين هناك جماعة من أهل التقى والدين، فاستخبرهم السلطان عن عدة قتلى المغل، فقالوا: ما شأن العاديين، فاستفهم من كبيرهم عن عدة المغل كم من قتيل؟ فقال: قل الله أعلم بعدتهم، ما يعلمهم إلا قليل [2] ، فقال الذي عنده علم من الكتاب [3] أنا أعددت سبعة آلاف وسبعمائة وسبعين نفرا وضاع الحساب، هذا غير من آوى إلى جبل يعصمه من ماء السيوف [4] فما عصمه، ومن اعتقد أن فرسه يسلمه فما سلمه.
__________
[1] السوق.
[2] إشارة إلى قوله تعالى: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً
[الكهف، الآية 22] .
[3] إشارة إلى قوله تعالى: قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ...
[النمل، الآية: 40] .
[4] إشارة إلى قوله تعالى: قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ ...
[هود، الآية: 43] .(3/307)
فنزلهم السلطان، ورسم بتقدير الأثقال والخزائن والدهليز على أمجاد ربند، ثم أقام يومين ينتظر صعيدا من العدو يعن أو دما من دمائهم إلى السيف يحن، فلما لم يجد أحدا، رحل من طريق غير التي حضر منها، فسلك على الأوعار طريقا يبسا، وطلع من قنن الجبال في هضاب كان كلا منها كف حملت من الأنجم قبسا، فقاس الناس في هذا اليوم من الشدة ما لا يدخل في قياس.
(المخطوط ص 153) وكاد الناس أن يهلكوا لولا أن الله تدارك الناس، فساقوا ولكن على مثل حد السيف، وتسللوا ولكن سل حوافر الخيل كيف، وهبطوا من جبال يستصعبها كل شيء حتى طارق الطيف، يستصحب الحجر المحلق وقوعه في عقابها ويستهول النجم الثاقب تعلقه بشعابها.
وعد بباكوك صو وهو النهر الأزرق، وبات السلطان هناك، وكان قضيم الخيل في تلك الليلة ورق البلوط إلا من أمست عناية الله له بيسير شعير محوط، ورحل السلطان ونزل كينوك المقدم ذكرها، وعدل إلى طريق مرعش فزال بحمد الله عقاب تلك العقاب.
وقالت الأنهار المتلقية لكل منا أركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب [1] ، ونزلنا قريب قلعة خراب، تعرف بالاسكركيس إلى جانب نهر يعرف بالخان، ثم رحل السلطان قريب بركلوجا من بلاد مرعش ثم رحل فنزل عقبة مرى أحد دربندات سيس إلى جانب النهر الأسود، ورحل فنزل قبالة دريساك، ورحل فنزل قبالة حارم، فنزل قريب منزله الذي كان به فيما تقدم، وألقى عصا النسيان، وقال لأهل الخيام هذه الخيام ولأهل هذه الدرار هذه الدر.
هذه الرسالة كافية في كثير من أحوال الروم، وفيما ذكره عن دخل هذا الوزير ومن له المماليك غير بقية من لعله يكون له من الجند والأتباع ما يعرف به عظم
__________
[1] إشارة إلى قوله تعالى: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ
[ص، الآية: 42] .(3/308)
شأن هذه المملكة ووفور دخلها ووفود السعود إلى محلها، وتستر أبناء الزمان من عين دهرها بظلها.
ولو قد اجتمعت هذه البلاد لسلطان واحد، وكفت بها أكف المفاسد، لما وسع ملوك الأرض إلا انتجاع سحابه وارتجاع كل زمان ذاهب في غير جنابه، وهذا الذي ذكره، دخله الملك الظاهر بيبرس من بلاد الروم، وهو بعض ما لبيت جنكيز خان وهو من جلالة المقدار، وكثرة المال، على ما قد أشرنا إليه، فكيف جميع ما هو الخليج القسطنطيني (المخطوط ص 154) إلى بحر نيطش.
الله أكبر أن ذلك فلك عقيم، وسلك نظيم وسلطنة كبرى ودنيا أخرى، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم [1] .
وأما ما نحن بصدد ذكره من ممالك الأتراك في الروم، فقد حدثني الشيخ حيدر العريان السبر حصري الرومي، وهو من أهل مدينة سبر حصر من بلاد الروم، مما هو في أيدي ملوك بيت جنكيز خان، قال: إن لهؤلاء أمراء الأتراك نقود ألا يخرج نقد واحد منهم في بلاد الآخر، ودرهمهم في الغالب في تقدير نصف وربع درهم من نقدنا، والرطل مختلف عندهم، وأكثرها بالتقريب زنة اثني عشر رطلا بالمصري، وأقلها زنة ثمانية أرطال.
قال: وأما الغلات فتباع بكيل لهم يعرف بالوط، وهو يجيء تقدير أردب ونصف بالمصري.
قال: وهذه البلاد بل الروم جميعه فيه من أنواع الفواكه. كلها إلا الحوامض كالليمون والنارنج وما لا يوجد في الصرود كالرطب والموز، وقد يوجد ما قل من الحوامض في بعضها مما هو على ساحل البحر.
__________
[1] إشارة إلى قوله تعالى: ... ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
[الحديد، من الآية:
21] .(3/309)
وأما الدواب والسوائم فأكثر من أن يقع عليها إحصاء أو حساب من الخيل والغنم والبقر، وأعظمها عددا وأنماها ولدا الغنم، فإنها تبسط فرش الأرض منها المعز الموغر ذوات الأوبار المضاهية لأنغم الحرير، وغالب قنية أهل الشام وديار بكر والعراق وديار العجم، وذبائحهم مما يفضل عنها، ويجلب إليها منها، وهي أطيب أغنام البلاد لحما، وأشهى شحما، وبها العسل المضاهي للثلج بياضا، والسكر في اللذاذة طعما، لا حدة فيه ولا إفراط حلاوة توقف الأكل.
والأسعار كلها بالروم رخيصة لأسباب منها قلة المكوس وكثرة المراعي المباحة، واتساع سبب التجارة، واكتتاف البحر.
قال: وقيمة الغلات بها دون قيمتها بمصر والشام.
وقيمتها أو مثلها في الغالب، فأما اللحم واللبن على اختلاف أنواعها فرخية رخيصة، أما الغنم فخيار رأس يكون لا يجاوز (المخطوط ص 155) اثني عشر درهما من دراهمهم، يكون بنحو تسعة دراهم من دراهمنا إلى ما دون ذلك.
وأما اللبن وما يعمل منه فما هو مما يسأل عنه بكيف؟ 1 لكثرته، وأما في زمن الربيع فإنه لا يوجد له من يشتري ولا من يبيع لأنه لا يكاد يخلو أحد في الروم من أغنام تحلب له اللبن فلا يحتاج ليشتريه، ولا يحتاج إليه فيبيعه له.
قال: وأما العسل فلا تتجاوز الرطل ثلاثة دراهم برطلهم وهو ذلك الرطل الكبير، ودرهمم وهو ذلك الدرهم الصغير، وأما الفواكه في أوانها حكم الألبان في زمان الربيع.
وقال: وبلاد الروم إذا غلت وأقحطت كانت بسعر الشام، وإذا أقبل أرخص.
قال: ومع نواب بيت جنكيز خان بالروم ثلاثة معادن فضة أحدها بأراضي مدينة لؤلؤة، والثاني بأراضي مدينة لبن، والثالث بأراضي مدينة باجرت.
قال: وهي إلي أن فارقتها في حدود سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة، عماله(3/310)
مستمرة تستخرج الفضة الخالصة بها.
قال: والروم شديد البرد، لا يوصف شتاءوه إلا أن سكانه تستعد له قبل دخوله، وتحصل ما تحتاج إليه، وتدخره في بيوتها، وتستكثر من القديد والأدهان والخمور، فتأكل طول مدة الشتاء تلك الأيام بهنية العيش عندهم ولا تخرج من بيوتها، ولو أرادت ذلك لما قدرت حتى تذوب الثلوج، فتخرج إلى معايشها.
وذكر هذا الشيخ حيدر العريان أن جملة ممالك الأتراك بالروم أحد عشر مملكة غير ما بيد بيت جنكيز خان، وهذا هو خلاف ما تبين على ما سنذكره نقلا عن يليان الجنوبي ويليان أدرى.
فأما ما عده العريان من ممالك الأتراك فهو مملكة انطاليا [1] ، وصاحبها خضر بن دندار [2] ، وقال: أن لصاحبها مدينة افنيكا [3] ، وأميرها الذي هو بها الآن من قبله، وهو من أولاد منتشا، وقال: إن عدة عسكره نحو أربعين ألف فارس.
قلت: ولهؤلاء بني دندار إلى ملوك مصر انتماء، ولهم من (المخطوط ص 156) تحف سلاطينها نعما، وكان بمصر منهم من له إمرة فيها، ثم عاد إلى بلاده بعد مهلك تمرتاش بن جوبان [4] لأنه كان قد ترك بلاده لأجله، وفر هاربا من يده لعداوة كانت قد اضطرمت بينهما شرورها، واضطربت أمورها، فلما خلت من مجاورة
__________
[1] انطاليا هي أنطاليه وهي من بلاد الروم من أحسن المدن، متناهية في اتساع المساحة والضخامة، أجمل ما يرى من البلاد، وأكثر عمارة وأحسنه ترتيبا، فيها البساتين والفواكه وعيون الماء وهي غير أنطاكية (رحلة ابن بطوطة 189- 190) .
[2] خضر بن دندار: هو خضر بك بن يونس بك (رحلة ابن بطوطة 191) ، حكم من سنة 728 هـ- 776 هـ (انظر: معجم الأنساب والأسرات الحاكمة 229) .
[3] أفنيكا هي مدينة الفنيكة على ساحل الخليج القسطنطيني وهي صغيرة لكنها حسنة مانعة، وكنائسها وديارها حسان والأنهار تخترقها والبساتين تحف بها (رحلة ابن بطوطة 231) وهي فنكة (معجم الأنساب والأسرات الحاكمة، زامباور أخرجه زكي محمد حسن وآخرون، القاهرة: 1951 ص 230) .
[4] هو دمرطاش بن جوبان: فر إلى مصر، فأكرمه ملكها الناصر، وأعطاه الإسكندرية، فأبى من قبولها وقال: إنما أريد العساكر لأقاتل أبا سعيد وأظهر أمورا أوجبت قتله (رحلة ابن بطوطة 153) .(3/311)
تمرتاش تلك البلاد، عاد وأخبرني يليان الجنوبي الآتي ذكره، أنه قتل هناك، وما استقر له حال، ولا سلمت له بلاد.
ومملكة رملاش [1] بلاد ابن منتشا [2] ، وقال: عسكره لا يزيد عن ثلاثة آلاف فارس.
ومملكة بركري [3] بلاد محمد بن ايدين [4] ، وأن عسكره نحو عشرة آلاف فارس، وهذا ابن آيدين ما أعرف بأن له من حوله من ملوك الممالك الماما، ولا أن له أخيارا ترد طروقا ولا لماما، بل هو في عزلة من كل جانب، ولا مخالط ولا مجانب.
ومملكة كاس برديك [5] بلاد صاروخان، قال: وعسكره إذا جمع بقارب ثمانية آلاف فارس.
ومملكة بالي كسرى [6] بلاد دمرخان بن قراشي [7] قال: وله مدينة كردما وبينهما يومان، وأمير كردما من قبيلة واسمه سبغا، قال: وهذه البلاد محصنة منيعة، ولها أقطار رخية وسيعة، ومع هذا فعسكره قليل ضئيل، لا يجاوز مائتي فارس، لكنه مطمئن بمنعة بلاده، ولا ينافسه فيها منافس.
__________
[1] هي مملكة بيلاس ومدينتها ميلاس من أحسن بلاد الروم وأضخمها، كثيرة الفواكه والبساتين (رحلة ابن بطوطة 194) .
[2] هو شجاع الدين أرخان بك بن المتتشا من خيار الملوك حسن الصورة والسيرة (رحلة ابن بطوطة 195) .
[3] هي بركي (انظر: رحلة ابن بطوطة 199- معجم الأسرات الحاكمة 227) .
[4] محمد بن آيدين من خيار السلاطين وكرمائهم وفضلائهم (رحلة ابن بطوطة 199) حكم في بركي وأربا وصرت وكوشك وآقجشهر وأماكن أخرى سنة 734 هـ (معجم الأسرات الحاكمة 227) .
[5] وهي مملكة مغنيسة وسلطانها صارو خان من سلاجقة أوج أميرا (معجم الأسرات الحاكمة 226) ومغنيسة مدينة كبيرة حسنة في سفح جبل وبسيطها كثير الأنهار والعيون والبساتين والفواكه (رحلة ابن بطوطة 203) .
[6] هي مملكة بلى كسرى وهي مدينة حسنة، كثيرة العمارات مليحة الأسواق (رحلة ابن بطوطة 204) وهي باليكسر وتابعة لبني قراس (معجم الأسرات الحاكمة 225) .
[7] سلطانها دمور خان ولا خير فيه (رحلة ابن بطوطة 204) .(3/312)
ومملكة بلاد أورجادين عمان قال: وعسكره خمسة وعشرون ألف فارس، وهو مجاور الخليج القسطنطيني، وبينه وبين صاحب القسطنطينية الغلب، ولها في صدور الروم سهام تشق صدور القلب، ولهذا يداريه ملك الروم على مال، يحمله إليه كل هلال، قال: ولقد جاز البحر مرة إلى بلاد النصارى، وعاش في نواحيها، وشد على بطارقتها [1] لا فلاحيها، وألقى علوجها بحيث تعتلج سيول الدماء، وتختلج سيوف النصر (المخطوط ص 157) من الأعداء، أمده الله بتأييده، وأذلّ رخم الكفر بعقبان صناديد.
ومملكة كرميان [2] بلاد أرغدشار [3] ، قال: كرسي مملكة كوناي، قال:
ومالكها الآن كرميان بن غدشار، هكذا قال الشيخ حيدر العريان، وهو أمير مطاع، وقائد جيوش لبوارق سيوفهم متاع، وأمراء الأتراك تتقيه ببذل كل منهم في متاقاته ما استطاع، قال: وعسكره يقارب أربعين ألف فارس، وهم فوارس وغي، وفوارع عليا لا تبتغي.
مملكة كرداله [4] بلاد شاهين، قال: وعسكره نحو خمسة آلاف فارس.
ومملكة كونيك حصار بلاد أمير جاكو، قال: وعسكره ثلاثة آلاف فارس.
ومملكة كصطمونيه [5] بلاد سليمان باشا [6] ، قال: وصاحبها الآن إبراهيم بن
__________
[1] بطارقتها جمع مفرده بطريق وبطرك وبطريرك وهو مقدم النصارى ورئيس رؤساء الأساقفة (المعجم الوسيط 1/63) .
[2] بكوتاهية واوشاق وقولا وبازار وصارى كيوك (معجم الأسرات الحاكمة 227) .
[3] زكرزمباور إنه محمد بن يعقوب والذي حكم ما بين 706 هـ إلى 779 هـ (معجم الأسرات الحاكمة 227) .
[4] كرده بولي (معجم الأنساب والأسرات الحاكمة 223) .
[5] وهي قسطموني وسينوب وبرغلد وحاكمها هو غياث الدين إبراهيم بن سليمان حكم 740 هـ وبعده يعقوب بن تمر 742 هـ (معجم الأنساب وكصطمونيه من أعظم المدن وأحسنها، كثيرات الخيرات، رخيصة الأسعار (رحلة ابن بطوطة 210) .
[6] سليمان باشا السلطان المكرم، حسن الوجه، طويل اللحية صاحب وقار وهيبة يجالسه الفقهاء والصلحاء(3/313)
سليمان باشا [1] ، وله مدن وقلاع، ومن مشهور ماله منية سنوب، وأميرها من قبله، واسمه غازي جلبى، وبودي وأميرها مراد بك.
قلت: وصاحب كصطمونيه ممن له بملوك مصر اتحاد، وبينه وبينهم مكاتبات ووداد ونحوه على ما يقال لنا ويبلغنا نحو ثلاثين ألف فارس أو يزيدون، وببلاده الخيل المخاص الرومية الفائقة، المفضل بعضها على كل سابق من الخيل العرّاب، وهي بيوت مشهورة مثل خيول العرب، بأنساب محفوظة وأحساب ملحوظة، ويغالى في أثمانها، خصوصا في مكانها حتى أن قيمتها لتبلغ قيمة ألف دينار ذهبا، ومنها ما يتجاوز هذا المقدار ويزيد قيمته على ألف دينار، ولا يستكثر من يعرفها فيها بذل مال، ولا يستغلى اشتطاط السوم، وإذا قصد في بلاد الروم بيع اكديش [2] خال منها بالثمن الغالي، قال: هذا كصطموني يشرفه بهذا الوسم، وينفقه في البيع تجاه هذه النسبة.
ومملكة أرمصال [3] وهي بلاد ابن قرمان [4] ، وصاحبها الأمير محمد بن قرمان، من أهل بيت توارثوا (المخطوط ص 158) هذه البلاد، ولا يخاطب قائم منهم إلا يأمره، وفي ساحل بلاده مدينة العلائية المعروفة على ألسنة الناس بالعلايا، وأميرها من قبله اسمه يوسف، وله مدينة وهي عنه على ثلاثة أيام، وأميرها من قبله واسمه إسحاق بك، ولأولاد قرمان عصبة ذات أيد ويد وجيوش كثيرة العدد، وهم أصحاب
__________
(رحلة ابن بطوطة 211) .
[1] إبراهيم بك ابن السلطان سليمان هو ولي عهد سليمان ووالي مدينة حينوب (رحلة ابن بطوطة 212، انظر: معجم الأنساب والأسرات الحاكمة 225) .
[2] أكديش يجمع أكاديش وهي نوع من الخيول تجلب من آزاق ببلاد الروم، والأكاديش معروفة في مصر وهي كالغنم في تلك البلاد (رحلة ابن بطوطة 218) .
[3] أرمصال هي بلاد العلايا، وهي أول بلاد الروم ومن أحسن الأقاليم، وجمع الله فيه ما تفرق من المحاسن في البلاد فأهله أجمل الناس وأنظفهم وأطيبهم مطاعم (رحلة ابن بطوطة 188) .
[4] ابن قرمان هو والد يوسف وإسحاق وقد كانا في فترة رحلة ابن بطوطة (انظر: الرحلة ص 188- 189) وكانوا في لارنده وسيواس وقونية وأرمناك (معجم الأنساب 236) .(3/314)
الحروب التي ضعضعت الجبال، وأنتجت الحرب الحيال، ولهم مع الأرمن وبلاد التكفور [1] وقائع لا يجحدها إلا الكفور، تتخطفهم عقبانه القشاعم، وتلتهم أسوده الضراغم.
ببلادهم معدن حديد، لهم به بأس شديد، ومنه درق مديد، وهم أهل بيت ألقى الله عليهم محبة منه، وإذا شاء أميرهم جمع أربعين ألفا، وهو ما هو عليه، يدارى ملوك التتار، وهواه هو ومن سلف من أهل بيته مع ملوك مصر، لا تغب المكاتبات بينهم، ولا ينقطع بذل خدمته لهم، وإقبالهم عليه، واعتدادهم بموالاة، وقد كان منهم من قد طلب تقليدا بمصر بإتيائه ما بيده من بلاد الروم، فكتب له، ثم أن سلامش الحاكم بالروم كان انحرف عن سلاطين بيت هولاكو، وكتب إلى الأبواب السلطانية بمصر يسأل تقليدا بملك حكم الروم أجمعه، وأن تكون أولاد قرمان ومن سواهم في طوعه، فكتب من إنشاء شيخنا أبي الثناء محمود بن سلمان بن فهد الحلبي الكاتب رحمه الله، ومنه وبعد فإن أولى من أصغت عزائمنا الشريفة إلى نداء إخلاصه، وأجابت مكارمنا العميمة دعاء تميزه بالولاء واختصاصه، وقابلت مراسمنا استنصاره في الدين بالنفير لإعانته على ما ظفر باقتلاعه من يد الكفر، واقتناصه (تكرار من أول وقابلت إلى اقتناصه) وتكفلت له مهابتنا بالأمن على ملك مذ وسمه باسمه الشريف، يئس العدو من استخلاصه، وأتت كتبه (المخطوط ص 159) في الاستنجاد ليرعان الكتائب، ولمعان القواضب، وتتابع إمداد جيوشا التي ستنوء بحملها كواهل المشارق والمغارب، وتدفق أمواج عسكرنا الذي ينشد طلائعها ملوك العدى أين المفر؟ ولا مفر لهارب وتألق بروق النصر، من خفق ألويتنا، الشاهدة بأن قبيلنا إذا ما التقى الجمعان أول غالب، وفوضت إليه مراسمنا الحكم بالعدل والإحسان، وقلدته أوامرنا من عقود النظر في تلك الممالك ما تود جباه الملوك لو حلت بدره معاقد التيجان، وعقدت به من الأوامر ما تنفذ بنا
__________
[1] وهو تكفور بن السلطان جرجيس (رحلة ابن بطوطة 232) .(3/315)
مواقعه، وكذا الأمور المعتبرة ما تنفذ إلا بسلطان من ألقى الله الإيمان في قلبه وهداه إلى دين الإسلام، فأصبح على بينة من ربه، وأراد به خيرا فنقله من حزب الشيطان إلى حزبه، وأيقظه من طاعتنا التي أوجبها على الأمم لما أبصر به رشده، ورأى قصده، وعلم به أن الذي كان فيه كسراب بقيعه [1] ولم يجده شيئا، وأن الذي انتقل إليه، وجد الله عنده وأنهته من موالاتنا بما حتم به النهوض على من كان مسلما وأخرجه بنور الهدى من عداء أعدائه الذين تركهم خوفنا، كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما، وأراه الرشد ما علم به أن الله تعالى أورثنا ملك الإسلام، فبطاعتنا يتم الانتماء إليه، وأعطانا مقاليد البسيطة، فمن اغتصبت منها شيئا [2] ، انتزعه الله بجنوده المسومة من يديه فلجأ من أبوابنا العالية إلى الظل الذي يلجأ إليه كل ذي منير وسرير، ورجاء من كرمنا الاعتصام بجيوشنا التي مارمينا بها عدوا إلا ظن أن الرمال تسيل (والجبال تسير [3] ) وتخير منا إلى فئة الإسلام، وانتصر بسيوفنا التي هي تعلم كيف يسلمها على الأحلام، ومتّ إلينا بذمة الإسلام، وهي أبر الذمم، وطلب تقليده الحكم منا من معادنه إذا رأته النظرات الصادقة أن كان يسحب الشحم فيمن تحمه ورم، وعقد بنا رجاؤه، وهل لمسلم من ملك الإسلام من معدل (المخطوط ص 160) وأنزل بنا كتائب آماله، وهل تعد راحة لرام من منزل فتلفت نغمها كرائم قصده بالترحيب، وأحلت وفادة انتمائه بحرمنا الذي شاءه بعيد ونصره قريب، وتسارعت إلى نصرته جنودنا التي هي مشهورة في عددها، وآثارها، مشكورة في رواحها وغدوها، وأعلامها منصورة في انتزاحها ودنوها، وتوالت تبايع بعضها بعضا، تتابع الغمام المتراكم، والموج المتلاطم، وتقدم غلبه بالنصر القريب من الأمد البعيد، وتعلم بوادرها أن طلائعها عنده، وبانيها
__________
[1] إشارة إلى قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ
[النور، الآية: 39] .
[2] ترد بالمخطوط شياءا.
[3] ما ورد بين القوسين جاء بالهامش.(3/316)
بالصعيد، ولما كان فلان هو الذي أراد الله به الخير، ما أراد، ووطد له بعنايته أركان الرشاد وشاد وجعل له بعد الجهل به علما، وتداركه برحمته فما أمسى للإسلام عدوا، حتى أصبح هو ومن معه سلما، قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا، وبكرمه العميم فليستفتحوا صدورهم ويشرحوا وبإرشاده الجلي وهدى نبيه فليدعوا قومهم إلى ذلك وينصحوا، وحين وضحت له هذه الطرف أرشدته من خدمتنا الشريفة إلى الطاعة، وبادلته على مولاة ملك الإسلام التي من لم يتمسك بها فقد فارق الجماعة، فإن الله تعالى قرن طاعته وطاعة رسوله (صلى الله عليه وسلم) بطاعة ولي الأمر، وحث على ملازمة الجماعة في وقت يكون التمسك فيه بدينه كالقابض على الجمر [1] وهذا فعل من أراد الله به خيرا وسعى من يحسن في دين الله سيرة وسيرا، ولذلك اقتضت آراءونا الشريفة إمضاء عزمه على الجهاد بالانجاد، وانقاذ سهمه في أهل العناء بالإسعاف الإسعاد، وأرسلها الجيوش كما تقدم شرحه يطأون الصحاصح، ويستقربون المدى النازح ويأخذون كل كمى، فلو استطاع السماك لم يتسم بالرامح، ويحتسبون النفقة في طلب علو الإسلام علما أنهم لا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة، ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم به عمل صالح، فرسم بالأمر الشريف لا زال يهب (المخطوط ص 161) الدول ويقلد أجياد العظماء ما تود لو تحلت ببعض فرائده تيجان الملوك الأول، أن يفوض إليه نيابة المملكة الرومية تفويضا، ليصون قلاعها ويصول به على من حاول انتزاعها من يده، واقتلاعها، ويجرها على ما ألفت ممالكنا، من أمر لا يروع سربه، ولا يكدر شربه، ولا يوحد فيه باغ يخاف السبيل بسببه، ولا من يجرد سيف بغى وإن جرده قتل به، وليحفظ من الأطراف ما استودعه، وهذا التقليد حفظه، وليعمل في قتال مجاوريه من العد [2] ،
__________
[1] إشارة إلى الحديث النبوي الشريف: «القابض على دينه كالقابض على الجمر» (انظر: الحديث في مسند أحمد بن حنبل 2/290) .
[2] وردت بالمخطوط بالعدى.(3/317)
بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً
[1] ، وليعلم أن جيوشنا في المسير إليه متى قصد عدوا، سابقت خيولها خيالها، وجادت جيادها طلاها، وأنفت سنابكها أن تجعل غير جماجم الأعداء نعالها، وها هي قد تقدمت وأقدمت، ونهضت لإنجاده، فلو سامها أن تخوض البحار في سبيل الله لخاضت، أو قصد الجبال لصدمت، والشرع الشريف مهمة المقدم، وأمره السابق على كل ما تقدم، فليعل مناره، وليستشف في أموره وأنواره، وينقذ أحكامه، ويعضد حكامه، ومن عدل عن حكمه معاندا، أو ترك شيئا من حكمه جاحدا فقد برئت الذمة من دمه، حتى يفيء إلى أمر الله، ويرجع عن عناده وينيب إلى الله، فإن الله يهدى إليه من أناب وهو الذي يقبل التوبة عن عباده.
__________
[1] جزء من الآية 123 من سورة التوبة 9.(3/318)
(وكان من حديث هذا اسلامش المذكورة) إن السلطان محمود غازان قصد أعداءه [1] فأراد الانحياز إلى الشام، وكاتب الملك المنصور لاجين [2] ، فأرسل شخصا من جهته يعرف بالمخلص الرومي، فأقبل السلطان وأرباب الدولة عليه، وقيل إنّا لا نكره من هاجر إلينا، واتصل بالسلطان محمود غازان مراسلة المصريين، فبعث إليه عسكرا لمحاربته، فالتقوا معه ببلاد الروم، فلما التحم القتال خامر عليه (المخطوط 162) بعض من كان معه، فبقى في قل من أصحابه، وحقت عليه الهزيمة فالتحق بالشام في قل من جيشه، فلما أتى حلب جهز معه من يحضره إلى الأبواب السلطانية بمصر، فلما وصل عومل بالإكرام، وعوجل بالإنعام وخير في المقام بمصر إن شاء أو الشام، فذكر أنه ترك وراءه ماله وأهله وأولاده، وسأل تجريد عسكر لإحضارهم ليقيم بالبلاد الشامية، مقطوع الالتفات عما سواها، فجهز معه من العسكر الجلو [3] طائفة مع بكتمر الجلمى، دخل بهم بلاد الروم على بلاد الأرمن.
وبلغ متملك سيس الخبر، وكان عنده طائفة من التتار فأمسكوا عليهم الدروب، وعاجلوهم باللقاء فما كان بأسرع من أن قتل الجلمى، وفر سلامش، ولجأ إلى قلعة من قلاع الروم، فأرسل السلطان محمود غازان في طلبه، فأحضر إليه، فقتله شر قتلة، وذبحه على غير قبلة.
وكان سلامش قد خلف بالأبواب السلطانية بمصر أخا له اسمه قطقطو والمخلص
__________
[1] وردت بالمخطوط أعدائه.
[2] المنصور حسام الدين لاجين المنصوري، نائب السلطان قلاوون بدمشق سنة 678 هـ تولى السلطنة سنة 698 هـ ولمدة سنتين (انظر: فضل الله بن أبي الفخر الصقاعي في تالي وفيات الأعيان تحقيق جاكلين سوبلة من منشورات المعهد القرنسى للدراسات العربية دمشق 1974 ص 132، المنجد في الأعلام، الشيخ عبد الله العلايلي وآخرون بيروت 1987 طبعة 15/ص 546) .
[3] العسكر الجلو: عسكر الطليعة وجلو هي الطليعة من اللغة الفارسية (فرهنگ رازي 200) .(3/319)
الرومي، فاستقرا بها، وأقطعا إقطاعا بها، وأجرى عليهما راتبا فيها.
وإنما ذكرنا حديث سلامش في هذا المكان لتعلقه بالروم، ولأن أمراء بني قرمان هم كانوا المؤلفين بينه وبين المنصور لاجين، والداخلين معه أولا وآخرا فيه وهؤلاء أولاد قرمان هم الذين لا يرتاب في رأيهم، ولا يظن في دينهم، فمهما ورد من جهتهم تلقى بالقبول، وحمل على أحسن المحامل.
وكذلك طلب ارتنا [1] تقليدا ناصريا بنيابة الروم، وتردد في هذا سراج الدين قاضي قيسارية فكتب له، فخلص الموالاه، وأقام دعوة الخطبة الناصرية. على منابر البلاد الرومية، وضرب السكة بالاسم الشريف وجهز معه الدراهم المضروبة وذلك كله أظهر طاعة لا إذعان لحكم، ولقد حدثني من تردد إليهم، وعرف ما هم عليه، أنهم رجال صدق، وقوم صبر لا يستخف لهم حفيظة، ولا يرد بحنقها لهم صدور مغيظة، ولهذا أمراء الروم لا يطأون لهم موطئا بغيظ، ولا يواطئون لهم عدة شهور (المخطوط 163) مشتى ولا مغيظ، وما أحد ممن يحسدهم على ما أتاهم الله من فضله إلا من يستجيش عليهم بالتتار، ويعدد عليهم عظائم الذنوب الكبار، ووقاية الله تكفيهم، وحياطته عن عيون القوم تحفظهم.
ولقد كان السلطان محمود غازان يقول أنا أطلب الباغي [2] شرقا وغربا، والباغي في ثوبي، عن أولاد قرمان، ومع هذا لم يسلط عليهم.
وحكى لي الصدر شمس الدين عبد اللطيف أخو النجيب أنه قال يوما لولا الأكراد وأولاد قرمان وتركان الروم دست بخيلي مغرب الشمس، قال: وكان لا يريد
__________
[1] أرثنا: أمير بلاد التركمان المعروفة ببلاد الروم أيضا (رحلة ابن بطوطة 154) وبنو أرثنا كانوا بسيواس وقيصرية ونيكده وأماسية وقراصار وكمش وقد حكم علاء الدين أتنا بن جعفر سنة 736 هـ واستقل بسيواس بعد موت أبي سعيد بهادر وخلفه غياث الدين محمد أرثنا سنة 753 هـ (معجم الأنساب والأسرات الحاكمة 232) .
[2] الياغي كلمة تركية بمعنى المتمرد (فرهنگ رازي 1034) .(3/320)
بعد الشام إلا هم، ومع هذا ما قدر عليهم، ولولا خلا وجهه لما انصرف إلا إليهم.
ولما استفحل أمير جوبان بك [1] بمملكة إيران، وكان هو حقيقة السلطان، واستولى ابنه تمرتاش [2] على الروم، وانتزع به عدة ممالك، وجد في طلب الباقي، رأت أولاد قرمان مصافاة أبيه جوبان، واستدفعت به شرايينه طول ذلك الزمان مع ما كان لهم من العناية الإلهية، والإعانة من سلطاننا أعز نصره، ولولا هذا لأتى عليهم، وسلبوا النفس والنفائس لما كان عند جارهم الجائر من الاستعداد، لموالاة التكفور متملك الأرمن، لرفع الشكوى عليهم في كل وقت، وتضرره مما ينوب أهل بلاده منهم، وتضرره مما ينوء به من ثقل وطأتهم، وكانوا في تلك السنين خائفين، يترقبون المصابحة والمماساة، وينتظرون البيات والمقيل.
قلت: ولأهل هذا البيت روعة في قلوب التكفور والأرمن، وفي كل بيت يبعث التكفور يسأل بروز المراسم المطاعة إلى أميرهم بالكف عن بلاده، وهو لا يتعمد سيف جهاده، لا يرعى للأرمن حق جواره، ولا يدخل في سمعه لضجيجهم جواءر، يشن عليهم في كل وقت غاراته، ويجوس خلال ديارهم جيوشه وسراياه، وكرسيه مدينة أرمناك على ذروة جبل.
أرزاقه متسعة وجيرانه كثيرة، وبينها وبين العلاية ثلاثة أيام، وقد يحكى عن أميرهم القائم الآن بدر الدين أنه افتض ألف بكر (المخطوط ص 164) .
ويوصف من كرمه أنه يطلق على كل ما يملك من صامت وناطق حتى أنه لا يدع له شيئا البتة، ثم يتحول فإذا أثرى أطلق كل ما يملكه حتى لا يدع له شيئا،
__________
[1] كان جوبان أمير الأمراء في عهد السلطان أبي سعيد بهادر خان، وقد استولى على الأمر، وحجر على تعرفات السلطان حتى لم يكن بيده من الملك إلا الاسم، وكان ابن جوبان المسمى خواجه يفتك بحريم والد السلطان، فقتل أبو سعيد ابن الجوبان وثار جوبان وأولاده وقتل والي خوارزم جوبان وولدا له (رحلة ابن بطوطة 152- 153) .
[2] هو دمرطاش بن جوبان وكان قد فر إلى مصر وقتل هناك (رحلة ابن بطوطة 153) .(3/321)
هكذا دأبه، وبهذا يعرض على الله حسابه.
قلت: ولقد وصل من سنين أخواه الأمير بهاء الدين موسى ابن قرمان إلى الحضرة السلطانية، وأقام مديدة بالباب الشريف ثم توجه لأداء فريضة الحج، وعاد إلى الحضرة، وحرك العزائم الشريفة على الأرمن، وارتجاع ما يلي الممالك الإسلامية من نهر جهان، ثم عاد إلى بلاده، وعومل بالجميل في إصداره، وإيراده، وأجلس أكابر الأمراء، أمراء المشورة، وأجرى في تكبير القدر مجراهم، وطلب منشورا سلطانيا ببلاد من مملكة التكفور، تولى سيفه انتزاعها واستعاد ضالتها من أيديهم وارتجاعها فكتب له على ما طلب، وما أخذها إلى الآن، ولكنه في الطلب.
هذه جملة بمعنى ما ذكره العريان وما انساق في تبيانها من أمور هذه البلاد.
وأما ما ذكره بلبان الجنوى عتيق الأمير الكبير بهادر المعزى، وهو ممن له الخبرة التامة بما يحكيه، وهو الذي أفاد كيفية تصوير هذه البلاد، واسم هذا بلبان في بلاده دوما نوكين دور بابن بادا دور بار هو من بيت حكيم في جنوة [1] ، اتفق أنه جمعت بيني وبينه المقادير في الاعتقال وعنه أحدث ما قال.
حدثني أن هؤلاء أمراء الأتراك الذين بالروم الآن أبناء أمرائها الأول، وممن تأخر عن سالف تلك الدول، وهم فيها إلى يومنا هذا من بقايا تلك البقية وممن فصحت عنهم برود الأيام السلجوقية، استقر بأيديهم الجبل، وبأيدي بيت هولاكو السهل، وجميع هؤلاء الأمراء الأتراك تقر لصاحب كرمان، وتذعن له بعض الإذعان، وتجريه في كثير من أحوالها مجرى السلطان، وتعترف له بالتقديم، وله على بعضهم مقرر لا ينقص، وعلى بعضهم هدايا بحسب الأوقات.
(المخطوط ص 165) وهو في ظاهر الحال فيهم الملك المطاع، والبقية له أتباع، أو كالاتباع، تكاتبه في معضلات الأمور، وتتيمن برأيه ويقوي بعضهم على بعض
__________
[1] كان أهل جنوه أهل سفر وترحال لهم حي في القسطنطينية.(3/322)
بمعاضدته [1] ، وتسر بخلعه وإنصافه وتقاليده وتكريماته، وهو وإن لم يقدر على إمضاء الولاية والعزل فيهم، فإن له عندهم مكانة لا يجهل مقدارها، وغاية لا ينازع فيها، ومع هذا ففي أمره معهم شبه بأواخر الخلفاء مع ملوك البلاد، يلزم معه قاعدة الأدب في مخاطبتها لتعظيم، وهو مع من غلب أو كحال آل سامان في آخر الزمان، وهو أوسع الكل بلادا أو أكثر الكل رعايا وأجنادا.
وأما ما هو لبيت جنكيز خان فإنه لم يزل بأيدي نوابهم مع بقايا السلاجقة من غير زيادة عليه، ولا نقص منه، وبينهم وبين هؤلاء الأتراك مداهنة لا مهادنة، حتى حكم تمرتاش بن جوبان فاستضاف من ممالك الأتراك إليه، ما يلفت قدرة سيوفه، وهو جانب كبير، وممالك لها قدر جليل فمن ذلك ...
مملكه ابن شرف [2] وموقعها في شمال الروم غربي مملكة أولاد درندار [3] ، وجنوبي بلاد ابن قرمان، وشرقي بلاد بيت جنكيز خان بشمال، وكانت مستقلة بذاتها، وكرسيها بكسرى، وعساكرها تتناهز سبعين ألف فارس هم إلى الآن.
وتجمع هذه المملكة خمسة وستين مدينة ومائة وخمسة وخمسين، أمسك تمرتاش [4] صاحبها، وقتله، ومثل به، وقطع ابنيه، وعلقهما في عنقه.
وكذلك مملكة ابن طرغت، وهي غربي ابن أشرف وكرسيها قراصار [5] ، وله مدينة سكنجر، وعسكره خمسمائة فارس.
__________
[1] وردت بالمخطوط بمعضادته.
[2] وكانت في آقشهر وسيدي شهرى بكشهري (معجم الأنساب ب 231) .
[3] كانت مملكة أولاد درندار في مدينة أكريدور وهي على مسافة يومين من آقشهر وكان سلطانها في عهد ابن بطوطة القريب من عهد ابن فضل الله هو أبو إسحاق بك بن الدرندار بك (رحلة ابن بطوطة 191) .
[4] رواية ابن فضل الله العمري تختلف عن رواية ابن بطوطة، فعند العمري صار تمرتاش صاحب مملكة، وعند ابن بطوطة أنه قتل في مصر.
[5] قرا حصار استولى عليها أحمد بن محمد سنة 730- 750 هـ (معجم الأنساب والأسرات الحاكمة 223) .(3/323)
وكذلك بلاد شجاع الدين أعزلو، ومدنها لوليا وكمش سار، وعسكره يزيد على عشرين ألف فارس، وموقع بلاده هذه غربي ابن طرغست، وبلاد عزلو هذه لم ينتزعها منه، بل أبقاها بيده، كأنه من قبله، وهذه كمسر سهرهى ذات معدن يخرج منه الفضة هذا ما ذكره هذا (المخطوط ص 166) بلبان.
وأما ما ذكره العريان، فإنه قال: يخرج من لوليا وقد تقدم ذكره ...
وكذلك أخذ بلاد طوعان جق وهي غربي طرابزون وجنوبي بلاد سليمان باشا، وبين كرمبان في مشاريق كرميان، ومغاريب سليمان باشا.
وكذلك أخذ بلاد يعقوب، وهي قيراسارى، وجار على كل مجاور، وكان تارة يصالب بالسيف وتارة يداور بالخديعة حتى دوخ الممالك، وفتح المعاقل، وامتدت أعماله، واتسعت شعوبه وكثر جباياته، وعظم خراجه، وقويت شوكته في ذلك الإقليم، وطلب في وقت الاستقلال بالملك.
وخطب لنفسه وضرب السكة باسمه، وهوى مثل ملك آل سلجوق أو أجل، وقام بهذا العبء واستقل، وقرر به تسع تومانات [1] من المغل، ومن التركمان مثلهم أو أكثر، وصار لا يقاوم ولا يقاول، ولا يحارب ولا يحاول، وما هذا موضع ذكره، وإنما ذكرناه لذكر ما بأيدي بيت جنكيز خان من الروم، وقد ذكرناه في موضعه.
وأما نفوذ هذه البلاد ومعاملاتها لتختلف في بلادها باختلاف حكامها، واعتيادها، والذي نذكره الآن ما هو بيد الأتراك الآن خاصة، وهو ست عشرة مملكة على ما ذكره بلبان الجنوي، وأجلها مملكة كرميان، وهي أقربها إلى ما بيد بيت جنكيز خان، وموقع كرميان منها شمالا يمتد شرقا بغرب، وما بأيدي بيت جنكيز خان جنوبها، وقد دارت عليها ممالك الأتراك من شرقها. فطاقت نطاقا وراء
__________
[1] وردت بالمخطوط تمانات.(3/324)
نطاق، فالنطاق الأول وهو الأقرب إليها المماس لحدودها من شرقيها ثلاث ممالك، أخذت من الجنوب إلى الشمال كأنها قوس، تفصل بينها وبين بلاد كرميان جبل ممتد على هذه الهيئة.
وأول هذه الممالك الثلاثة مما يلي الجنوب جبل القسيس وهو جبل عظيم منيع مشجر بأنواع الفواكه، وكل أشجاره مثمرة وفيه هذا الجبل وسفوحه مسكونة، ويمشي في طوله عدة أيام بغير زاد ولا ماء، فيه من كل الثمرات (المخطوط ص 167) رزقا من عند الله، لا بغرس غارس، ولا باحتجاز مالك، بل هو مباح لمن أكل وحمل، من سبق إليه اجتنى، ومن وضع يده على شيء من شجرة اقتنى، هو من عجائب الوجود، وغرائب ما من به إلا له المعبود، وفي أخريات هذا الجبل مملكة طغرلو في شماليه، ثم يليها في شماليها مملكة تواز، ثم يليها في شماليها مملكة عميد لي ثم تنتهي مملكة الأتراك هناك إلى ما كان بيد ابن أشرف وآخذة بيت جنكيز خان.
ثم يلي هذه الممالك على شرقيها النطاق الثاني، وهو اثني عشر مملكة آخذة عنها من الجنوب إلى الشمال كأنها قوس، يفصل بينها وبين تلك جبل ممتد على هذه الهيئة، فهذه خارج تلك الممالك الثلاثة، وتلك الممالك الثلاثة خارج كرمينان، وكرمينان خارج بيت جنكيز خان، وهذه الممالك الاثنا عشر التي أشرنا إليها أولها مما مال إلى الجنوب مملكة كصطمونية ثم يليها مملكة فاديا ثم يليها مملكة بعرشا، ثم يليها مملكة اكيرا، ثم يليها مملكة نيف، ثم يليها مملكة مغيسا، ثم يليها مملكة مرمرا، ثم يليها مملكة برلي، ثم يليها مملكة توله، ثم يليها مملكة انطاليا، ثم يليها ملكة قراصار، ثم يليها مملكة ازمناك، وها نحن نذكرها مفصلة.(3/325)
الفصل الأول في مملكة كرمينان(3/327)
«1» وهي مثل قرن الجاموس، أحاط بها جبل في مشاريقها كالقوس أخذ عليها جنوبا بشمال، وأحاط بها في مغاريبها جبل أخذ غربا بشمال ثم عطف مشرقا ثم أخذ شمالا بغرب حتى لاقى الجبل الأول فاجتمعا، فكان كأنه قرن الجاموس، فسبحان الخلاق العظيم.
وهذه المملكة قد تقدم من ذكرها ما فيه منتفع، وينزل من جبلها الغربي نهر مندروس الأعظم، وهو إذا نقص كان كالنيل فأما إذا زاد فبحر زاخر لا له أول ولا آخر، وهو يشق هذه البلاد، ويجري، وسطها بحيرة جليلة نافعة، يصطاد بها الحيتان، وتتنزه فيها أهل تلك الديار، ثم يمضي مندروس على مقطع في الجبل الشرقي حتى يخرج (المخطوط ص 168) إلى بلاد طغرلوا، ثم يمر عليها ثم يخرج إلى بلاد بركي ثم يصب في البحر المالح المؤدي [1] من الخليج القسطنطيني، إلى ماء بنطس.
وهذا نهر مندروس مجرى السفن والمراكب، تصعد وتنحدر فيه، ويخرج منه الملح، ومن الملح إليه لأهل تلك البلاد، به مرافق في الأسفار ومنه يتجهز الغزاة والبحار، وهو قاطع البرد، لا يكاد يتغير، ولا يؤثر الهواء إذا سخن فيه، لكثرة مائه، واتساع جوانبه.
وصاحب كرمينان هو أكبر ملوك الأتراك، وله تسلط على الجميع، وتبسط في ملكهم الوسيع، وكرسي ملكه مدينة كونتاي [2] ، وهي مدينة كبيرة، ذات قلعة
__________
[1] وردت بالمخطوط الماء.
[2] هي كوتاهية وحاكمها هو محمد بن يعقوب بن عليشير (كرميان خان) استولى على الحكم سنة 706 هـ وظل حتى 779 هـ (معجم الأنساب 227) .(3/329)
جليلة، وأعمال وسيعة، ورساتيق من كل مكان، وبلاد ذوات دواب سائمة، وعمار وسكان ويقال أن له نحو سبعمائة مدينة، وقلعة، وله عساكر كثيرة.
قال العريان: له أربعون: ألف فارس مديونه، وقال بلبان أضعافها وأكثر، فقال:
أنه إذا جمع وحشد، جمع مائتي ألف مقاتل ما بين فارس وراجل ورامح ونابل، قال: وهم أهل حرب وقتال، ومخاتلة واحتيال، ولهم عدد حصينة، وسلاح للحرب وللزينة، من الفولاد المجوهر، والأطلس الأحمر، وما يذهب هذا المذهب.
ولهم مال جم من صامت وناطق، ونعم لا يحصيها إلا الخالق، وخيلهم نهاية في الروميات، لا يسبقها سابق، ولا يتعلق بغبارها الغبراء، ولا يلحقها لا حق، مسومها عندهم بما غلا من الأثمان معروفة بينهم هذه أمه فلان، وهذا أبوه فلان، وله على صاحب القسطنطينية أتاوة مقررة نحو مائة ألف دينار قسطنطينية، ويتحفه معها بتحف فاخرة، وهدايا مستحسنة، وهو في كل وقت يعرض جيوشه بالخيل والعدد والسلاح ويستعد ويعد أماكن الحرب والكفاح.
وله أمراء ووزراء وقضاة وكتاب وحاشية وغلمان وخزائن واصطبلات (المخطوط ص 169) ومطابخ وبيوت ورخت [1] ملوكي، وهيئة سلطاني، وأبهة ملكية.
وله مدينة كمش ساراي [2] ، مدينة الفضة، وهي غير ما بأيدي بيت جنكيز خان، وهو معدن كبير المتحصل، جليل الفائدة جزيل العائدة، أعظم من الذي بأيدي بيت جنكيز خان، وأجود فضة، وأسهل مكانا، وأهون تخليصا واستخراجا.
وكذلك بها معدن يباع منه بحمل أموال، وله مدينة سركوي وهي مدينة لا تزرع إلا الأرز، وأهل هذه الملكة كرام، ولكنهم لا يفكرون في حلال ولا حرام،
__________
[1] رخت: فرش، كلمة فارسية وتركية وتعني في العربية سرخ الحصان (فرهنگ رازي 392) .
[2] هي من بلاد ملك العراق، مدينة كبيرة عامرة، بها معادن الفضة (رحلة ابن بطوطة 198) .(3/330)
أهون ما عليهم سفك الدماء واراقتها، تنهل كمزاود الماء لا يبالون بما فعلوا، ولا يعبأون بمن قتلوا، لهم في كل أوان موارد مسوغة، ومعاهد أعداء بأنياب الأسنة محصنة، لا يردى في الحروب سيوفهم العطاش، ولا يردى لو بل نبلهم رشاش، ولا تزال ظباء الروم تتكاثر من سيوفهم على خداش صخر الحديد، ولم يضجروا، ومضت أعمار الأيام وما قالوا ولا هجروا، مالهم يسوى ما هم فيه التذاذ، ولا بغير أن تخرج وجوههم، وهي سواهم معاذ ولأهل هذه الدولة تصرف في أنواع المعابس والأسباب، وأصناف الاكتساب.
قال: وأما لبسهم ولبس جميع الروم فهو زي واحد لا يكاد يختلف، ودرهم هذه المملكة نصف وربع درهم فضة خالصة، والرطل بها زنته تحريرا ثلاثة آلاف ومائة وعشرون درهما، وكيلها يسمى المد [1] وهو نحو أردب وربع مصري تقريبا، هذا ما قاله فيه بلبان، وقد تقدم ما قاله العريان.
قال: وأما السعر المتوسط فمد القمح خمسة عشر درهما، وكذلك الشعير، أو دونه بقليل، واللحم كل رطل بدرهم واحد، وأما الفواكه والألبان والأعسال فرخيصة جدا، وأوقات الرعايا والفلاحين والزراع طيبة، كأنهم فيها في بكر مفضضة، وآصال مذهبة.
ومن جملة بلاده بلاد ابن السّائب وهذا ابن السائب صاحبها (المخطوط 170) هو صهر صاحب كرمينان، ولولا مصاهرته له ما كانت بقيت [2] إلى الآن، لأن بلاده هذه هي خارجة عن كرمينان، مجاورة لها من غربها، وهي من بلاد بيت جنكيز خان في شرقها.
__________
[1] المد: مكيال قديم اختلف الفقهاء في تقديره بالكيل المصري فقدره الشافعية بنصف قدح وقدره المالكية بنحو ذلك وهو رطل وثلث عند أهل الحجاز وعند أهل العراق رطلان جمعه أمداد ومداد (المعجم الوسيط 2/893) .
[2] عبارة مكررة.(3/331)
ولما امتد تمرتاش إلى من جاوره من الأتراك، وأخذ بلادهم ارتمى صاحب كرمينان، وانتمى إليه، وصاهره، وقوى على تمرتاش بيده القاهرة، واعتصم به، ونامت عينه الساهرة، واستمر على مصافاته الظاهرة، وامتنع على من جاهده وجاهره.
وكرسيه قراساي، وهي مدينة مشهورة، ويحيط بها وببلادها جبل استدار عليها استدارة الحلقة، وأحاطها إحاطة بالحدقة وحكمها اليوم وحكم بلاد كرمينان، وابن السائب وإن كان صاحبها، فهو الآن كأنه من قبله فيها، وليس له مدينة سوى قراساري، ولها ألف قرية، وعسكره يقارب أربعة آلاف فارس وبلاده حصينة بما أحاط بها من الجبال، وشمخ من ذوائبها التي سما بها فرع إلى النجم لا ينال.(3/332)
الفصل الثاني في مملكة طغرلو(3/333)
«1» وهي أول النطاق الأول، وهذه المملكة صاحبها اسمه يلنج [1] ، ويشقها نهر مندروس، وهي إلى جانب جبل القسيس، في غربه بشمال، وموقعها جنوبي ما بين مرمر إلى بركي، ومدينة طغرلو كرسيه، وكأنها دمشق في تصوير خطة وبساتين حولها مختطة، لكنها أكثر من دمشق ماء وفاكهة، وأوسع غوطة، ولكن ليس لصاحبها مدينة سواها، ولا عمل إلا إياها، إلا أن لها قاعدة قرى وضياع ليست بكثيرة، ولا كثيرة ازدراع، وأكثر ما فيها من الفاكهة الرمان وهو على عدة ألوان، ويباع ألف بدرهم، وكله بلا عجم له، مكسّر كأنه شرارنار أو بهرمان، أدرج في ثوب نصار، أو مدامع عشاق في نهود أبطار، وهو في غاية الكثرة والرخص، ولذاذة المأكل، ويعتصر ماءوه، ويعمل منه دبس إذا نزل هو والعسل، إيهم (المخطوط ص 171) الفرق ما بينهما، وأشكل، ويعمل منه شراب أشد إسكارا من الخمر، وأقرب إليه مشابهة مما يعمل من التمر، وهم أكثر معاطاة له من الخمر على كثرته عندهم.
وما ذاك إلا لأمر سألت بلبان عن السبب في هذا مع إجماع العقلاء على تفضيل الخمر على كل مسكر، فقال: أنه لا يعلم السبب، ولا يوجب الحب لها إلا مضاحكة الجنب.
قال: وأهل هذه البلاد، كأنما خلقوا لارتضاع كؤوس، ولإماطة نقب عن شموس فمالهم غير اغتباق [2] كأس من معين، واعتناق مائس من قدود الخرد العين، فهم أبدا في بلهينة في الوطم، وأمنية مع الظفر، ولأميرهم عليهم عدل، ولا يشكون معه الأجور الساقي، ولا يخافون معه إلا عقرب صدغ أعجزت الراقي، أو دم عاشق يطل أو على خدود الغانيات الباقي.
__________
[1] هو شجاع الدين تنج بك علي بك حكم سنة 735 هـ (معجم الأنساب والأسرات الحاكمة 229) .
[2] اغتباق من الغبوق وهو خمر المساء.(3/335)
قال: وأكثر ما تكوى القرى والضياع بطغرلو أربعمائة قرية كلها في حواضرها القريبة، ولصاحبها نحو عشرة آلاف فارس وراجل، ودرهمهم نصف درهم فضة خالصة، ورطلهم نحو سبعة أرطال بالمصري، ومدهم نحو نصف [1] وربع أردب، وأسعارهم مشابهة لكرمينان، ومقاربة لها في اختلاف كل أوان.
__________
[1] عبارة مكررة.(3/336)
الفصل الثالث في مملكة توازا(3/337)
«1» وهي ثانية النطاق الأول، وهذه المملكة صاحبها على أزبية، وهي تقع شرقي كرمينان محضا، وموقعها ما بين جنوبي بركي إلى فوكه، وكرسيه توازا، ولصاحبها أربع قلاع ونحو ستمائة قرية، وعساكره نحو أربعة آلاف فارس وعشرة آلاف راجل، ودرهمهم ورطلهم ومدهم مثل كرمينان، وهو كثير الترامي إلى صاحب كرمينان.
ولأهل هذه الملكة حسن بديع ببياض وحمرة كأنها ضربيا لبن وخمرة، مع لين بشرة، وصهوبة شعره، كأن عليهم ثوب صباح مسبول، وعلى ضفائرهم [1] برادة ذهب مسحول، مع حلاوة تأكل النظر ومأكلها، ولهجة توقد حجرات الحسن وتشعلها (المخطوط ص 172) .
__________
[1] وردت بالمخطوط ظفائرهم.(3/339)
فصل الرابع في مملكة عبدلي(3/341)
وهي ثالثة النطاق الأول، وهذه المملكة صاحبها دندار [1] أخو يونس صاحب أنطاليا، وكرسيه مدين برلو [2] ، وهي أم إقليم عبدلي وموقعها من فوكه [3] إلى قراصار [4] ، ولصاحبها أيضا إقليم يلواج، وإقليم فرا عاج وإقليم اكرى دور، وهذه بلاد مدنها قليلة، وقراها كثيرة، ومداها ممتد، يقال أن له تسعة مدن، وخمسة عشر قلعة، وعسكره خمسة عشر ألف فارس، ومثلهم رجاله، وهو في كل وقت يتفقد فرسانه ورجاله، ويتأهب للحرب، ويوسع مجاله، ويقاتل العدو، ويهب للسيوف آجاله، وهذه هي آخر الممالك الثلاثة، التي تلي كرمينان، وهي نهاية ما أخذ إلى الشمال، وبها تم النطاق الأول ونحن نعقبها بذكر الممالك التي تليها، وهي النطاق الثاني عليها في شرقيها وعدتها اثنتا عشرة مملكة، وأولها هو ما نذكره الآن.
__________
[1] الدندار بك من كبار سلاطين تلك البلاد، خلفه ابنه أبو إسحاق بك (رحلة ابن بطوطة 191) وهو ينسبون إلى حميد بك أو فلك الدين دندار الذي حكم الروم من قبل المغول سنة 724 هـ وقتله تيمور تاش (انظر:
معجم الأنساب 229) .
[2] ذكر ابن بطوطة أن مدينة برلو مدينة صغيرة على تل تحتها خندق، ولها قلعة بأعلى شاهق وأميرها علي بك بن سليمان پادشاه.. أما ابن الدندار فكان في أكريدور (210 و 191) .
[3] هي فوجة على ساحل البحر على مسيرة يوم من مغنيسة (رحلة ابن بطوطة 203) .
[4] يقصد أكريدور: وهي مدينة عظيمة، يسافر المركب فيها يومين إلى آقشهر وسلطانها ابن الدندار (رحلة ابن بطوطة 191) .(3/343)
الفصل الخامس في مملكة كصطمونية(3/345)
وهي هذه مملكة سليمان باشا، وهي الآن لولده إبراهيم شاه، وكان في حياة أبيه صاحب سنوب [1] ، ثم جرت له مع أبيه أمور لا حاجة بنا إلى ذكرها، إلى أن ملك، واستمرت سنوب له مع ملك أبيه، وولى سنوب من قبله.
وهذه هي شمال بلاد طوغان حق، وما جاورها، وجنوبي بلاد سلطان بوى المصاقبين لممالك بيت جنكيز خان، وهي أول الممالك الاثنا عشر المشار إليها من الشرق، وهذه المملكة على ضفة بحر بنطس، وقبالتها جزيرة زك، ومن ركب البحر من سنوب خرج إلى سوداق [2] لأنها أقرب مدن ذلك البر إليها، ويقع طرف بلاد طرا بزون الشرقي على أول حد هذه البلاد، ولأجل هذا نقصد هذه الأرض لجواز البحر إلى بر القبجاق [3] وبلاد الخزر والروس والبلغار [4] .
وكرسي هذه المملكة كصطمونية [5] ، ولصاحبها نحو أربعين مدينة وقلاع مثلها أو أزيد، وعسكره نحوه خمسة وعشرين ألف فارس، وخيلهم هي النهاية في جنسها (المخطوط ص 173) والغاية في نفسها، وقد تقدم القول في ذلك وبها البلغار والبزاة [6] والشواهين [7] ، في غاية الجودة، وهي منفردة بمحاسن هذه الأنواع، ومنها يشترى ويبتاع، وحسنها لا مخالفة فيه ولا نزاع.
وأما الجمال فلا توجد عندهم البتة قد عدم العربي منها خطة والبختي [8] بختة، لأنها بلاد جبال وعرة، يود كل متعلق بها لو تعلق بشعرة، وملوك هذه
__________
[1] جبينوب: مدينة يحيط بها البحر من ثلاث جهات (رحلة ابن بطوطة 212) .
[2] سوداق هي سردق مدينة على ساحل البحر مرساها من أعظم المراس وأحسنها وبخارجها البساتين والمياه (رحلة ابن بطوطة 229) .
[3] القبجاق: القفجق طائفة على دين النصرانية في أيام ابن بطوطة (انظر: رحلته 214) .
[4] بلغار انظر: الخريطة المرفقة في آخر المخطوط.
[5] كصطمونيه هي قصطمونية من أعظم المدن وأحسنها (رحلة ابن بطوطة 211) .
[6] البزاة جمع مفرده باز نوع من الصقور.
[7] الشواهين جمع مفرده شاهين نوع من الصقور.
[8] البختي نوع من الإبل الخراسانية جمعها بخت وبخاتي وبخات (المعجم الوسيط 1/42) .(3/347)
المملكة لهم مع ملوكنا- ملوك مصر- انتظام، وتشرق بمواهبهم الجمة، وأياديهم العظام، وتتابعت رسلهم إلى سلطاننا مدد الفجاج، ونظرت لديه إلى سماء العلياء من وراء زجاج، واستنصرت بها على الأعداء، وهي قاطعة البحر الأجاج، وعادت عليهم الأجوبة الشريفة بقطع الحجاج والحجاج وهم حتى الآن في الدولة القاهرة الناصرية، وفي حزبها في حسب ديحها.
وأما رعايا هذه البلاد منهم أهل طاعة لأمرائهم، وإقبال على مصالحهم ودولتهم، ودرهمهم نصف درهم فضة خالصة، ورطلهم نحو ستة عشر رطل بالمصري، ومدهم نحو أردب مصري، وأسعارهم نحو كرمينان.(3/348)
الفصل السادس في مملكة فاويا(3/349)
وهي الثانية من النطاق الثاني، وصاحبها مراد الدين حمزة، ومملكته تجاوز سمسون من غربها، وبلاد سليمان باشا المقدم ذكره جنوبها، وجبل القسيس غربيها، وبلاد طريق السفار إلى سمسون، وسمسون هي شرقي هذه البلاد خارج الجبل المار على رساتيق بلاد الأتراك بالروم على ضفة بحر بنطس، من ركب البحر منها إلى بر القبجاق كان خروجه على الكفا [1] أقرب مجلبة وتبقى زك جنوبية، وعلى بلاد هذا مراد الدين حمزة، أكثر طرق المترددين من التجار والسفار المتوجهين من مصر والشام إلى تلك البلاد.
وكرسي هذه المملكة مدينة فاويا، لصاحبها عشر مدن ومثلها قلاع، وعسكره نحو سبعة آلاف فارس، فأما الرجالة فكثير عددهم، متى أراد استجاش بهم، وجمع (المخطوط ص 174) أمما، وشرع أسنة وهمما وليست للأعداء معه طالعة، ولا لهم في رداء ملكه منازعة، لا تتفرزن البياذق من رخاخة، ولا تتجاسر العصافير أن تسقط على فخاخة، وأهل هذه البلاد قوم أمته، لا يستحيل بودهم يوم ولا سنة، درهمهم ومدهم وأسعارهم مثل كصطمونيه بل هي ولكثرة الأجلاب لا تكاد تكون دقلية.
__________
[1] الكفا: مدينة عظيمة على ضفة البحر (رحلة ابن بطوطة 214) .(3/351)
الفصل السابع في مملكة برسا(3/353)
وهي الثالثة من النطاق الثاني، وصاحبها أرخان بن طمان، وكرسيه مدينة برسا [1] ، وموقعها شرقي بلاد مران الدين حمزة، وغربي بعض سمسون وبعض سنوب، وجيل القسيس غربيها، ولصاحبها خمسون مدينة وعدد قلاعه أكثر من ذلك، وعساكره نحو أربعين ألف فارس، وأما الرجالة فلا تكاد تعد، خصوصا إذا استجاش وحشد وجاش، لكن يقال أنه قليل غناهم، تهول صورتهم لا معناها، وهو كثير المسالمة لمن جاوره، والمناصرة لمن ناصره ومع هذا له حروب سجال، ودروب في إرغام أنوف رجال، وخيول تقتنص عليها الأرواح، فرسان عجال، وإنما قلة غناء عسكره، لعدم استقامة الرعية، ومشاقة بعض المجاورين له، يقال أن رعاياه أخبث، تنطوي بواطنهم على الغل، وعمائمهم على المكزتلات، وهذه البلاد درهمها وزن الدرهم الكاملي، وهو فضة خالصة، وهو مدها ورطلها مثل كرمينان، وسعرها أرخص في غالب الأوان، وفي هذه ثلاثمائة جمة يطلع منها الماء السخين الناضج، ويقصدها المرضى بالبلغم البارد والفالج، ليغتسل فيها، ويستشفى بها، وغالبهم يبرأ بإذن الله عز وجل ويجد الشفاء والصحة عليها.
قلت: الحمامات كثيرة في البلاد، وأقطار الأرض، ولكني لا أعرف اجتماع هذا العدد الكثير في مكان واحد سوى هذا، وأظنه لأن تكون هذه الأرض كلها كبريتية سواخة، فلهذا كثرت فيها هذه الحمامات (المخطوط ص 175) هذا ما اتصل بنا علمه، وفوق كل ذي علم عليم، والله بغيبه أعلم.
__________
[1] برسا هي برصا: مدينة كبيرة عظيمة حسنة الأسواق فسيحة الشوارع تحف بها البساتين من جميع جهاتها سلطانها اختيار الدين ارخان خان وهو ابن السلطان عثمان جوق وهو من أكبر ملوك التركمان وأكثرهم مالا وبلادا وعسكرا (رحلة ابن بطوطة 205) .(3/355)
الفصل الثامن في مملكة اكيرا(3/357)
وهي أربعة النطاق الثاني، وصاحبها ومرخان بن قراشي [1] ، وبلاده تجاور بلاد أرخان آخذة إلى الشمال، وجبل القسيس جنوبها على تغريب، وسنوب شمالها، وهي طريق من طرق سنوب.
وهذه المملكة مدنها وقلاعها وعساكرها أكثر من بلاد أرخان، وأهلها أطول باع في المكنة والمكان والإمكان، وصاحبها ذو حرب ويد وأيد، وقوة لا تدفع بكيد، وله في البحر مع الروم حروب، تطير بها الفائن، وتهتز لها المدائن، كم طاروا من الغراب على جناح، وسخر لهم في سبيل الله ما سخر لسليمان من الرياح.
وهذه البلاد يخرج منها ما لا يحصى من الحرير واللاذن ويحمل إلى بلاد النصارى منه، وحريرها يوافق الديباج الرومي والقماش القسطنطيني، ومنه يعمل غالبه، ودرهمها مثل الذي قبلها، ورطلها ثمانية أرطال بالمصري، ومدها نحو أردب ونصف، وأسعارها رخيصة جدا، على حال واحد لا تكاد تتجاوزه ولا تتعدى.
__________
[1] ورد في معجم الأنساب أن بني قراسى حكام باليكسر وأن حاكمهم سنة 737 هـ هو تيمور بك بن عجلان (ص 225) .(3/359)
الفصل التاسع في مملكة مرمرا(3/361)
وهي خامسة النطاق الثاني، وصاحبها يحيى بن قراشى أخو دمرخان [1] المقدم ذكره، وبلاده جوار بلاد أخيه غربا بشمال، وطرف بلاده جنوبا على شمالي طغرلو، ولصاحبها نحو خمسة عشر مدينة، ومثلها قلاع وكلها على جبال شاهقة، على البحر المالح، وعكسره نحو عشرين ألف فارس، ولا رجالة له، وهو مثاغر للروم، وله معهم ثارات، يقصد فيها ويقوم، وعسكره نفاع، له قوة ودفاع، وقد ذللت لهم المراكب، فامتطوا في البحر منونها، وأطاروا غربانها وأجروا نونها ولهم اسطول [2] مجهز للركوب على ظهور الفائن والتصريف بها كالصوافن، طالما صبح بلاد الروم منها غراب ناعق، وسبح راكبها، وتعجب لقدرة الخالق، وزحقت لها (المخطوط 176) مدن، وزحفت لها أعداء إلا أنه من الجبن.
وأهل هذه المملكة غزاة، لا تستكين سراة حصانهم، ولا تلين سراة، لا ينزل لهم لبد عن جواد، ولا قلع عن سفين، ولا يحجبهم عن بلد سوره، ولا عن ساكن برخباؤه، ولا يغلبهم سرب، تقتض بهم من الروم جآذره، ومن الخزر ظباؤه، وهذه البلاد درهمها نصف درهم فضة خالصة، ورطلها أربعة أرطال بالمصري، ومدها أردب واحد، وسعرها رخيص، والرقيق بها لكثرة السبي كثير.
ولا تخلو لأجل هذا من تجار وجلابة ومن دخل في هذه البابه.
__________
[1] هو دمور خان حاكم بلى كسرى (رحلة ابن بطوطة 204) .
[2] وردت بالمخطوط اصطول.(3/363)
الفصل العاشر في مملكة نيف(3/365)
وهي سابعة النطاق الثاني، وصاحبها علي باشا أخو صارو خان، وهو جاره في المكان، وكرسيه مدينة نيف، وبلاده شمالي طغرلوا وجنوبي بيد رول، وهذه بيدرول شماليها من خارج الجبل الشرقي المحيط ببلاد الأتراك خارجة في البحر، ولصاحبها ثمان مدن ونحو ثلاثين قلعة، وعسكره ثمانية آلاف فارس، وخلق كثير من الرجالة، أكثرهم رماة نبالة، ومملكته كلها على قنن الجبال، لا يلحقها الغمام بريته ولا يلحقها نسر السماء لتعشيشه، تهوى وفود الرياح دون أوديتها، وتستقى السحب فائض أنيتها، ولا يمر بها البرق إلا وهو مجتار، ولا البرق إلا وهو على أوفار، تميل قبل رؤيتها العمائم، وتتوسوس وعليها من النجوم تمائم، ودرهمها ورطلها ومدها وسعرها من نسبة مغنيسيا.(3/367)
الفصل الحادي عشر في مملكة مغنيسيا(3/369)
وصاحبها صارو خان [1] وكرسيه مغنيسيا [2] ، وهذه البلاد تجاور مملكة يخشى غربا بشمال [3] ، وجنوبها طغرلو وقبالتها [4] في البحر جزيرة كيول، ولصاحب هذه المملكة نحو خمسة عشر مدينة وعشرين قلعة، وعسكره يزيد على عشرة آلاف فارس، وهم أهل حرب وطعن، يضيق به فم الدرب، ومنهم غزاة في البحر كأنهم الملوك على الأسرة (المخطوط ص 177) لا تهتبل لهم نمرة، وحالهم في هذا مثل حال جارهم الأول، ولكل منهما جهاد عليه يعول، ودرهمها ورطلها ومدها وسعرها كذلك، ومن نسبة ما قبلهم أو ما يقارب ذلك.
__________
[1] صارو خان من سلاجقة أوج أميرا حكم سنة 700 هـ إلى 746 هـ (معجم الأنساب 226) .
[2] وهي مدينة كبيرة حسنة في سفح الجبل (رحلة ابن بطوطة 203) .
[3] يقصد برغمة وسلطانها يخشى خان ويخشى يعني الجيد (رحلة ابن بطوطة 204) .
[4] عبارة مكررة.(3/371)
الفصل الثاني عشر في مملكة بركي(3/373)
وهي ثامنة النطاق الثاني، وصاحبها ابن أندين [1] ، وكرسيه مدينة بركي [2] ، وموقعها شمال طغرلو، وتوازا وجنوبي تدرقل ولصاحبها نحو ستين مدينة [3] وثلاثمائة قلعة أو أزيد، وعسكره سبعون ألف فارس أشلاء حرب وكفاح، وعرضه سيوف ورماح، ولهم مع الروم والفرنج وطوائف بني الأصفر، حروب عظيمة وأيام لها غور وحجول معلومة، ضج البر والبحر من وقائعها، ومع السجايا تصعد إليه من بقائعها، لا تهدأ لهم مضاجع ولا تراهم إلا بين متأهب لغزوة وآخر راجع، سدوا فروج البر خيلا، وأوقروا صدور البحر سفنا، وجروا لكاتب برسي على هذا حبالا، وتسرى على ذاك مدنا، وكل ملوك الأتراك في غزوات الكفار، عليهم عيال وبسيوفهم المهندة الذكور يلفح الحرب الجبال لا يرضى إلا بصيد المهج، ولا يمضي يوم إلا بقتيل لها لا إثم فيه ولا حرج، كأنما كونوا من جناح غراب أو صهوة مطهم أو خلقوا المطية نقارا وأدهم، لا تفرغ لهم شمال ولا يمين، هذه بعنان جواد، وهذه بقلع سفين، ولمهابتهم في قلوب ملوك بني الأصفر ما يختلج به ضمائرهم وتختلف الأتي، الإجماع عليه سرائرهم، وإذا قيل أنه قد تحرك منهم متحرك طيب، إنه يريد نفوسها وسكت في حياتها حتى تلمس رؤوسها بيديها.
وملك هذه البلاد أثابه الله تعالى وجنوده أجمعين [4] على هذه العزيمة، لا يفل وحدها، ولا حديدها، ولا يكف والدها ولا وليدها، وهم سبب كثرة السبي، ومن يجلب إلى الآفاق من أولاد الروم ونسائهم، فأمدهم الله بالظفر وأعلى كلمتهم على من كفر، وهذه البلاد دهمها ومدها نحو مملكة صارو خان، فأما رطلها فستة عشر (المخطوط 178) رطلا بالمصري، وأسعارها رخية، وثمارها مما يحمل البحر وتنبت الأرض سخية.
__________
[1] هو محمد بن آيدين من خيار السلاطين وكرمائهم وفضلائهم (رحلة ابن بطوطة 199) .
[2] بركى مقر حكمه بها محيي الدين والقاضي عز الدين فرشتي (رحلة ابن بطوطة 199) .
[3] منها أريا وصرت وكوشك وقراجة فيونلو وآقجشهر وبلين بولى (معجم الأنساب 227) .
[4] وردت أجمعون.(3/375)
الفصل الثالث عشر في مملكة فوكه(3/377)
وهي تاسعة النطاق الثاني وصاحبها أورخان بن منتشا [1] وكرسيه مدينة فوكه [2] ، وبموقعها شمالي مشاريقها جزيرة دفنوسة، وقبالة هذه البلاد جزيرة المصطكي تقع وراء بلاده سواء بسواء، ولهذا صاحب فوكه نحو خمسين مدينة [3] ، ومائتي قلعة وحصن، وعساكره مائة ألف أو يزيدون، وله سيف لا يألف غمده، ولا يكف حده، يقاتل من عاده برا، وبحرا، ويخاتل من ناوأه مسلما كان أو كافرا، يركب السفن والخيل، ويخوض النهار والليل، لا يطمئن به وساد، ولا يستكن له مفرش جهاد، ولا يزال له ولإعدائه وقائع تشيب مفرق الوليد، وتذيب قلب الحديد، وتبيت الدهر منها على وعد أو وعيد، يبث سراياه في كل صوب، ويحث مطاياه في البر والبحر، في كل توجه وأوب، فما رأت الكفار حيلة، ولا طفقت تتنهّد، ولا أقبلت طلائعه على سفائنها إلا ورفعت سبابات صواريها تتشهد، وهذه العساكر ميمونة النقيبة، سعيدة التحركات، قلّ أن توجهت إلى جهة، وظفرت بمرادها وبلغت قصدها من أعدائها، وهذا هو المعروف منهم، والمستفاض حديثه عنهم، لا يخالف في هذا ممن يعرفهم، مخالف ولا يخالط، هذا شك عندهم في حديث، ولا سالف ولا يتم من يداريه، صاحب كرمينان من أمراء الأتراك سواه، ويراهنه ويقنع بأيسر موالاة منه، ولا يقدم عليه إلا صاحب كرمينان، فأما كل من سواه فدونه قدرا، ومكانة وله عليهم المزية والمزيد ودرهم هذه المملكة، ورطلها ومدها وأسعارها مثل كرمينان.
__________
[1] هو حاكم مبلاس وليست فوكه (رحلة ابن بطوطة 194) .
[2] فوجه: مدينة للكفار على الساحل البحر على مسيرة يوم من مغنيسة، أهلها يبعثون هدية في كل سنة إلى سلطان مغنيسة (رحلة ابن بطوطة 203) .
[3] منها معلابالاط ومبلاس ومكرى ومرمرس (معجم الأنساب 230) .(3/379)
الفصل الرابع عشر في مملكة إنطاليا(3/381)
وهي عاشرة النطاق الثاني، وصاحبها خضر بن يونس [1] وكرسيه إنطاليا [2] ، وهي شمالي مملكة عبدلي بلاد ابن درندار، وهي على ضفة البحر والسفر إليها ومنها (المخطوط ص 179) والأخبار عليها وعنها، ولصاحبها اثنا عشر مدينة، وخمسة وعشرون قلعة، وعسكره ثمانية آلاف فارس، وليس بأهل حرب طائل، ولا منهم هائب ولا هائل، ودرهمها نصف درهم فضة خالصة، ورطلها أربعة أرطال بالمصري ومدا أردب واحد.
__________
[1] خضر بك بن يوسف بك بن يونس (رحلة ابن بطوطة 189) .
[2] أنطالية: من أحسن المدن، متناهية في اتساع المساحة والضخامة أجمل ما يرى من البلاد، وأكثره عمارة وأحسنه ترتيبا (رحلة ابن بطوطة 189) .(3/383)
الفصل الخامس عشر في مملكة قراصار(3/385)
وهي حادية عشر النطاق الثاني [1] ، وصاحبها زكريا وهي مملكة ضيقة إلى غاية، وهي شمالي إلى عبدلي بغرب، وكرسي صاحبها قراصار، وله ثلاث مدن، واثنا عشر قلعة على ضيق الرقعة، وقرب مدى البقعة، وعسكره ألف وخمسمائة فارس، وكان أصل هذا زكريا؛ مملوك يونس صاحب أنطاليا، ثم لما مات تقوى على ولده، وغالبه فغلبه، وأخذ الملك بيده، ودرهمهم ورطلهم ومدهم مثل أنطاليا، وهذه البلاد من ملك مقتطعة ومما كان في يد مالكها مرتجعة.
__________
[1] وردت قل حصار عند ابن بطوطة ووصفها بأنه مدينة صغيرة بها المياه من كل جانب، لا طريق لها إلا طريق كالجسر مهيأ بين القصب والمياه (رحلة ابن بطوطة 192) .(3/387)
الفصل السادس عشر في مملكة أزمناك(3/389)
«1» وهي ثانية عشر النطاق الثاني، وصاحبها ابن قرمان، وكرسي مملكته أزمناك، وله نحو أربعة عشر مدينة، ومائة وخمسين قلعة وعسكره يناهز خمسة وعشرين ألف فارس، ومثليهم رجّالة، ومن مشاهير مدنه مدينة أرندة [1] ، وهي مدينة جليلة، ومدينة العلائية، وهي المسماة باعلايا [2] عند العوام، وموقع هذه البلاد شرقي بلاد الأرمن بشمال، وبلاد ابن شرف جنوبها، وأقرب مدن الأرمن جنوبها، إليها طرسوس واذنه، وهذه البلاد على ضفة البحر الملح، وقد تقدم ذكر هذه المملكة وما هم عليه، وموالاتهم لسلطاننا صاحب مصر خلد الله ملكه، وميلهم إليه، وما هم عليه من الجهاد في الأرمن، ومن ساكنهم من الكفار، وتجريد سيوف غزوهم آناء الليل والنهار، وبهذا تم ذكر ممالك الأتراك، وما هي عليه على ما بلغنا، وتبين لنا وقد أوضحنا طرق الروايتين على ما فيها من الخلاف (المخطوط ص 180) على أنني اجتهدت والعهدة على الناقل.
ونحن نذكر تتمة ما كنا أشرنا إليه من أحوال الروم عند غلبة التتار ودخول طوائفها هاتيك الديار.
فنقول أنه لما استقلت قدم التتار فيها وأستنهلت غمائم كتائبهم على جهاتها، بقى ملوك آل سلجوق معهم بالاسم لا غير لا لهم حكم ولا تصرف بل لهم ما يقيم بهم، وبيوتهم، وشعار ملكهم الظاهر ونفقاتهم اللازمة، والأمر كله لنواب التتار، وعنهم الإيراد والإصدار وباسم الملوك الجنكيز خانية يخطب ويضرب سكة الدرهم والدينار، فلما ضعفت الدولة السلجوقية، وآذنت أيامها بذهاب تلك البقية،
__________
[1] مدينة اللارنده، مدينة حسنة كثيرة المياه والبساتين سلطانها بدر الدين بن قرمان (انظر: رحلة ابن بطوطة 196) (انظر: معجم الأنساب 236) .
[2] باعلايا وهي العلايا: أول بلاد الروم، من أحسن الأقاليم وأجمل الناس حاكمها يوسف بن قرمان (رحلة ابن بطوطة 88) .(3/391)
وكانت المغول لا تقدر على صعود تلك الجبال، ولا تعرف الحصار ومطاولة المعاقل والقلاع، فغلب طوائف الأتراك هنالك على كثير من تلك الممالك ولولا قوة شوكة التتار، وسطوتها التي عمت الأقطار، لاستولت على السهول مع الجبال، وأخذت بجنباتها من كل مكان.
مع أنها ملكت معظم البلاد إلا بقية حفظت المغل مطالع أفقها وأمسكت آخر رمقها، ودارت إذ ذاك طوائف الأتراك، ملوك المغل على ما غلبت عليه وبقى كل منهم يدخل في طاعتهم على أنه يسلم إليه، ولا يخرج بشيء من يديه، واستمرت أحوالهم معهم على الطاعة والعصيان، والتذكار والنسيان. حتى تهادت المدد، وخر رواق الدولة المغولية، أو وهي منه بعض العمد، فحينئذ ثبتت أقدامهم، ونبتت في مفارس الاستمرار أيامهم، ومنذ غلبوا على ما بأيديهم من الروم لصاحب كرمينان عليهم مزيد الفضل كما ذكرنا.
وكل واحد من هؤلاء الأتراك مستقل بمكانة مشتغل بشأنه وتبسطوا في جهاد من جاورهم من الكفار، وصار هذا دينهم، وبقى بينهم من التنافس ما يكون بين النظراء، ولهذا كاتبوا عظماء الملوك ليتقوا بمظاهرتهم ويطيروا بريح (المخطوط ص 181) سعادتهم وأكثرهم كاتبوا سلاطيننا ملوك مصر رحم الله من مضى منهم، وحفظ من بقى وأدام حياة سلطاننا مالك ملوك الأرض، صاحب الدولة الملكية الناصرية، وخلد سلطانه خلود الليالي والأيام، ولا ذوا بهذه الأبواب العزيزة، وتطيعوا بالميل إلى هذه الدولة القاهرة حتى صارت المولاة في طباعهم كالغريزة، فاتخذوا ملوك مصر، نصرهم الله، لهم ظهرا، وعدوهم للحوادث ذخرا، حتى أن منهم من رغب في تقليد يكتب له بالنيابة فيما هو فيه، فكتب إليه وجهز بالصناجق والألوية، والأعلام والتشاريف التمام، والسيف المحلي والحصان المركوب والسرج الذهب، والعدة الكاملة والجنائب الطائلة، وما منهم إلا من تدخل وترامي، وانشرح مراما والأنعامات تغمرهم، والصدقات الشاملة تعمهم، وهم إلى يومنا هذا(3/392)
أهل ود وصفاء، وحسن عهد ووفاء، وبكثرة ما خلطهم به الامتزاج وصل منهم من اتخذ مصر والشام دارا، وأخذ بهما الإمرة والإقطاع وجرى فيهما تحت الأمر المطاع، ورسلهم حتى الآن لا تنقطع بصدق نية، وإخلاص طوية، والمكاتبات واردة وصادرة، والهدايا مقيمة وسائرة، ومع هذا كله كل واحد منهم غنى مما آتاه الله، وأمراء الأتراك على ما هم عليه من الامتناع، والتحصن بشوامخ الجبال والقلاع وبعدهم عن المغل، وقوتهم بكثرة العديد والعدد والسلاح، ووفور ذات اليد، تداري ملوك جنكيز خان، وتخدم ملوكهم، ومن يصل منهم ويتردد من جهتهم، وتهاديهم، وتعضد بالمقربين إليهم لكل واحد منهم في الأردو، ومن هو من ورائه ومتكفل بالمدافعة عنه، ويخطب في بلادهم للقائم من بيت هولاكو، وتضرب السكة بأسمائهم. وكتائب الروم عليهم ألطاف وتحف يتأقونه بها، ويتوقون من خلفه من قانات المغل بالأخذ بخاطر نائبهم. (المخطوطة ص 182) هذا لأنه جارهم المجاور لهم، وهم رهن ما يكتب به إلى الأردو وفي حقهم، ولما كان تمرتاش بن جوبان، قد استقل بهذه النيابة ورست فيها أعلامه، وفتح الفتوحات، وأباد المجاور لهم، وهم رهن ما يكتب به إلى الأردو وفي حقهم.
ولما كان تمرتاش بن جوبان، قد استقل بهذه النيابة ورست فيها أعلامه، وفتح الفتوحات، وأباد المخالفين له بها، خافت أمراء الأتراك بأسه، وكاتبت أباه جوبان، وتسترت بظله، وتترست من مواقع سيوف تمرتاش تجاهه، وقضت تلك المدة معه بهذا وأشباهه، ومع هذا كله يرميهم بالبوائق، ويترصد لهم غفلات الوقت.
وقال: غفلات بيت جنكيز خان ما قاله بهرام جوبين [1] في الأكاسرة [2] ، قال وما الله (تعالى) جعل حتما على العباد أن تبقى دولة آل ساسان [3] إلى آخر
__________
[1] بهرام جوبين: قائد كسرى برويز، ثار على كسرى، وفر برويز إلى الروم واستعان بالروم لاستعادة ملكه، وتمكن كسرى من قبل بهرام جوبين (انظر: حاشية روضة الصفا ص 122) .
[2] الأكاسرة جمع مفرده كسرى.
[3] آل ساسان: آخر الإمبراطوريات الفارسية قبل الإسلام والتي قضى عليها المسلمون عند فتحهم لبلاد فارس.(3/393)
الزمان، وأظهر ما كان يسره من هذا الأمر، وباح به وهم وما فعل، فبلغ ذلك أبا سيعد بهادر خان سلطان ذلك الوقت، فعتب على أبيه جوبان، فقرأ جوبان من فعل ولده تمرتاش، ونهض إليه في وقت شتاء لا طاقة لأحد بسلوكه، وقطع إلى الروم كل جبل ثلج نزل عنه النظر، وأراد تمرتاش أن يضرب معه مصافا، فلاطفه أبوه، وراسله حتى كف وأذعن، وأخذه أبوه وأحضره إلى الأردو في هيئة المأسور المقهور.
وجوبان يظهر هذا، ويسر خلافة، ويبطن مخادعة السلطان أبي سعيد في أمره، فلما مثل تمرتاش بين يديه، فك إساره، وخلع عليه وتركه بالأردو مدة، ثم أعاده إلى الروم على ما كان عليه، وزاد في تخويله والتنويه بقدره.
ثم لما آن لدولة جوبان وبنيه الزوال، وكان منهم ما كان قويت أمراء الأتراك بالروم، وانتعشت قواهم ثم هم إلى الآن على هذا الحال على كثرة اضطراب أمر المغل وتفرق أهوائهم.
في هذه المدد كلها مع هذا ما استطاع أحد من أمراء الأتراك إلى (أن) يلتفت إلى شيء مما بأيديهم من الروم (المخطوط 183) لا ولا ارتجاع شيء مما كان تمرتاش بن جوبان قد أبان ملوكه وافتتحه واستضافه إلى ما بيده.
وهذه جملة ما حمله مقدار هذا التأليف من أخبار الروم، ما تضمنه مما دخل فيه بدلالة اللزوم، وبالله نسترشد ونستهدي، وعليه نتوكل وإليه ننسب.
وأما ما هو بأيدي النصارى فقد قال بلبان الجنوي: أن ممالك الروم كلها تترامى إلى رومية، موضع الباب ثم مملكة القسطنطينية ثم طرابزون.
فأما مملكة طرابوزن [1] ، فهي من ممالك عباد الصليب مملكة جليلة القدر، وعلى ساحل البحر على خرجة ماء ينطش، وهي مملكة أخذت غربا بشرق على أطراف مملكة الأتراك في البر المتصل بنا، وهي في جنوبي الروم، دق طرفاها واتسع
__________
[1] طربيزون وطرابزون مملكة واقعة بين بلاد الروس وبلاد اليونان (ابن الأثير 12/160) .(3/394)
وسطها، كأنما دار على جانبها الفرجار [1] من خارج المركز، فجاءت على شكل الإهليلجة، وعلى هذا التصور صورها بلبان الجنوي.
وقال: وصاحبها ملك رومي عريق في الملك من أولاد قسطنطين، باني مدينة القسطنطينية، وهو صاحب تخت وتاج، ووظائف ملكية، وحاشية سلطانية، وقدر رفيع عند الباب، وهو وجميع أهله، الغابر منهم والباقي، أهل جمال فائق، وحسن فاتن إلا أن أهل هذا الملك القائمة بها الآن وإياه لكل منهما على عجم الصلب سلعة [2] رقيقة ممتدة بارزة، تكون طول الإبهام وعرضه كأنها ذنب خارج.
وقال: وفي هذه المملكة قوم فيهم مثل هذا، ولما قال لي هذا توقفت عن نقله عنه وشككت فيه حتى حدثني بمثل هذا بهادر الإيواني، وحكى مثل هذا آخر من أهل السير وآخر ثم آخر حينئذ نقلته في كتابي هذا والعهدة عليهم، والقدوة صالحة، والله سبحانه وتعالى فاعل مختار ويخلق ما لا تعلمون [3] فسبحان من بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون.
قال وأهل طرا بزون أهل نجدة وبأس وعليهم طريق مسلوك لمن أم بلاد القزم وصحراء القبجاق وطوائف سكان الشمال.
قال: ومملكة طرابزون أوسع من (المخطوط ص 184) مملكة الكرج، وأجل مقدارا عند ملوك النصرانية، وإنما أولئك أشد أيد وقوة.
قال: وملك طرابزون يسمى التكفور كما يسمى ملك الأرمن، وهو أعلى نسبا من ملك الروم القائم الآن في المملكة بها، وله عليه فخر لا يعلى على منصبه، ولا يعلى رداؤه عن منكبه، قالوا: وجنده ليسوا بذي عدد غالب ولا مدد مغالب، وإنما
__________
[1] وردت بالمخطوط البيكار، ويعني اليركار وهو بالعربية الفرجار، آلة هندسية (فرهنگ رازي 96) .
[2] أظنها صلعة.
[3] إشارة إلى الآية 8 من سورة النحل 16.(3/395)
هم أقران فوارس وأعيان ليوث، لا يحلى لها فرائس، قال: وأحوالها كلها تشابه ما يليها من ممالك الأتراك.
قال بلبان الجنوي:
وأما مملكة القسطنطينية وهي الآن تسمى اصطنبول [1] وقديما ببرطانية، فإنها كرسي مملكة الروم، ولملوكها التقدم على جميع ملوك عباد الصليب، ومن أهلها الملك القائم القديم وكانت لهم اليد العليا على بني العمودية، وجميع طوائف العيسوية.
وهي مملكة قيصر [2] بها كان تخت الاسكندر وتداولتها دول الروم من أولاد قسطنطين، وخرجت عليهم خوارج، ثم هبت للفرنج بها ريح ملك، واشتعلت لهم بها ذؤابة دولة، واشتعلت لهم بها نار عليه، ثم عادت إلى الروم واستمرت إلى اليوم.
قال: والفرنج تزرى بالروم لخروج ملك الشام عنهم وتغيرهم بغلبة العرب عليهم، يعني في مبدأ الإسلام، وتعيبهم بهذا، وتوسعهم الملام.
قال: ومع هذا فلا يسع ملوك الفرنج إلا إجلال هذا الملك الرومي، وتوفيه حقه من التعظيم، وعساكره مائتا ألف فارس مديونه، ما فيهم إلا صاحب أقطاع أو نقد، وأرزاقهم لكل واحد منهم في السنة مائتا دينار إلى ألف وخمسمائة دينار، وفيهم من يبلغ ألفي دينار، والدينار اثنا عشر درهما، وهو درهم ينقص عن البندقي بقليل، والدينار ما هو دينار مسمى بل حقيقة دينار مسكوك من ذهب مغشوش، فلهذا نقص ثمنه، قال: واسم هذا الدينار برير.
__________
[1] وردت اصطنبول وهي قسم من مدينة القسطنطينية بالعدوة الشرقية من النهر وفيها سكنى السلطان وأرباب دولته وسائر الناس، وهي بسفح جبل داخل في البحر نحو تسعة أميال (رحلة ابن بطوطة 233) وهي استانبول وأسطنبول وأسلامبول.
[2] قيصر لقب ملوك الرومان يعادل القاآن عند المغول وتبع عند اليمن وكسرى عند الفرس وراجا عند الهنود.(3/396)
وقال: وأما الإمرة عند الروم فإنها محفوظة في بيوت قديمة، يتقدم في إمرة كل واحد منهم يتوارثها كابر عن كابر (المخطوط 185) ويورثها أول لآخر.
قال: ولملك القسطنطنية قدرة [1] ، ليست لأحد من الملوك النصرانية سواه، قال: لأنه يركب في كل يوم إلى الكنيسة العظمى بها، ومعه البطريرك، ويقف على كل باب من أبواب الكنيسة على كثرة أبوابها [2] فرس للملك وبغلة للبطريرك.
وشعار سلطنته كامل بجميع ما يحتاج إليه الملك، بما لا بد للموكب الملوكي منه، فمن أي باب خرج من أبواب الكنيسة، هو والبطريرك ركبا، وسار الملك في أبهة الملك التمام، وشعار السلطنة الكامل بما كان معدا له على الباب الذي خرج منه دون ما كان معدا على بقية الأبواب وعلى كل باب منها نظير ما كان على الباب الذي خرج منه الملك، وسار بشعار الملك الكامل.
قال: وللملك ميزة يتميز بها، وهو أنه لا يلبس أحد في مملكته جميعها خفا أحمر غيره، وزي الروم في لباسهم من نوع زي الأتراك والمغل من الأقبية التترية والمحضرة، خلا أن الكبائس على رؤوسهم متسع مرحرح، كأنه الطبق، ويشدون في أوساطهم المناطق والسيوف، ومناطقهم ثقال، وسيوفهم كالسيوف المغربية، أخف من العربيات، وعلى أشكالها، ولباسهم الجوخ والصوف والحرير الأطلسي والديباج وسائر أنواع الحرير.
قال: وللملك داران معروفتان بدار المملكة، الواحدة قديمة من بناء الاسكندرية، خارجة في كبد البحر، ذات حارات طوال ودهاليز بعيدة نائبة، وفي جانبيها تماثيل نحاس على صورة الإنسان وسائر أنواع الحيوان، وفيها صوة فرسان على خيل وحيوانات وأشكال آخر، وكلها أكبر من الحيوانات المعروفة بما يزيد زيادة ظاهرة على الأشكال الطبيعية، وهي في غاية الصنعة الأحكام بالنقوش العجيبة
__________
[1] هو تكفور ابن السلطان جرجيس (رحلة ابن بطوطة 232) .
[2] ثلاثة عشر بابا (رحلة ابن بطوطة 234) .(3/397)
والتخاطيط الغريبة، ولا يعرف هل عملت لظاهر الزينة أو لباطن من الحكمة وهي دار عظيمة هائلة البناء، بعقود منظمة وأبنية رفيعة واسعة رحبة مفروشة بالرخام الأبيض والجزع والملون وضروب من المسن الأخضر. (المخطوط ص 186) قال:
والملوك لم يسكنوها منذ عصر ميتشامون بها، ويقولون أنها مسكونة بمردة وفساق الشياطين، وأن فيهم من يتراءى [1] على مثال أصلة لا نطاق، والدار الأخرى هي التي يسكنها الآن الملوك، وتسكن إليها وهي على جلالة مكانها وفخامة قدرها لا تقارب دار الاسكندر ولا تدانيها في الإمكان والتشييد ورونق التأنيق والتنميق.
قال: ولقد كانت ملوك القسطنطينة تراقب ملوك القبجاق، وتؤدي إليهم القطيعة حتى تزوج هذا السلطان أزبك خان منهم فأمنهم ووضع عنهم أثقال تلك القطيعة، وأصر تلك الأتاوة وناموا الآن في مهاد الأمن، ورفعت عنهم غمم التكليف.
وقال لي غيره وقد سألته عن عدد جيوش الروم، فقال: هم عدد بلا نفع، قلت:
وهذا هو المشهور عندهم في كل زمان ومكان والمأثور عنهم أنهم وإن كانوا ذووي عدل ليسوا من الشيء شيء وإن كانوا، وإن هان أقوى اعتدادهم المخمر والخمير وأوفى حبهم الديباج والحرير، ما فيهم ضارب إلا بجنك [2] أو عود، ولا طاعن إلا بين أعكان ونهود، ولا يشربون دما إلا من فم إبريق جريح، ولا يرون قتيلا إلا شخص زق طريح، ولا لهم وقائع إلا في طبقات الصحاف، ولا مواقع إلا بين فراش ولحاف.
لا يعرفون البيض الأبيض الدمى، ولا السمر إلا كل سمراء الدمى، ولا العجاج إلا من دخان عنبر، ولا أثر السيوف إلا في ثغر شنيب كأنه عقد جوهر ولا مقام إلا في مجلس راج، ولا اهتمام إلا بمجلس أفراح، ولا التماس إلا لغبوق أو اصطباح [3]
__________
[1] وردت بالمخطوط تيرآاي.
[2] جنگ: وهي آلة موسيقية وهي جنگ أو الصنج (فرهنگ رازي 564) .
[3] الغبوق خمر المساء والاصطباح هو خمر الصباح ويسمى الصبوح.(3/398)
ولا اقتباسه إلا مما تتوقد ناره في كأس أو يقتدح من أقداح ما منهم راكب جواد إلا اللذة، ولا صاحب جهاد إلا في فرصة مستلذة، ولا عوال تلعلع أسنتها غير الشمع، ولا عويل إلا مما يتخير من مآقى الغيد من الدمع.
قال بلبان: وطوائف الروم لا معروفة لهم بامتطاء البحر ولا عادة بركوب السفن، وأبعد سيارتهم فيه إلى مواضع النزهة، وإنما هم أصحاب خيل، ولا تعد خيالهم في جياد الخيل وإنما يجلب إليهم كرائمها (المخطوط ص 187) من بلاد الأتراك من قاطع الخليج، وإنما هم بغال تباع بغال.
ولهم تجمل دبر في الملابس والمراكب والفروش، وفي أهلها الجمال البديع والكمال التام، وفي المثل وجوه الترك وأجسام الروم وظرف العرب.
قال: فأما منابت القسطنطينية فكلها أرض جيدة صالحة للزروع والثمار، ولها نهر متوسط المقدار، عليه مساقي زرع وأشجار والأرزاق بها كثيرة الوجود والرطل القسطنطين نظير الرطل المصري وكيل الطعام بها المسمى مدني، وهو حمل جمل يكون أردبين ونصف بالمصري، وبه يباع الغلال الكثيرة، فأما القليل منها، فيباع بالرطل.
قال: وهذا الملك لا يفارق مجلسه الطرب، ويضرب له بالآلة المعروفة بالأرغل [1] وهي ذات وضع عجيب وألحان غريبة مطربة تأخذ بمجامع القلب، قلت: وقد رأيت هذا الأرغل بدمشق ثم بالقاهرة فقلت هذا للضارب به، فقال لي:
هذا أرغل صغير يفكك ويحمل وما معه أصوات تسير له الضرب، والذي يضرب به لملوك الروم البحر الكبير مستقر في مكان لا يزايله، وله عدة من أصحاب الأنغام المطربة، تسير له، وله بذلك رونق لا يكون في مثل هذا، وصورة الأرغل خشب مركب، وله بكر نحاس وأوتار شريط نحاس، ونحر بمثل كور الصائغ، ونغمه شبيه
__________
[1] الأرغل هو الأرغول.(3/399)
بالآلة التي تسمى القانون. ثم نعود إلى تتمة الحديث.
قال بلبان: والملك لا يمد الطعام إلا بين سماطين من المغاني وأصحاب الملاهي.
حدثني آقسنقر الرومي أحد أمراء العشرات بالأبواب السلطانية، وهو من بعض بيوت العشرة الآمرة القديمة بالقسطنطينية وكان قد حضر في جملة الرسل إلى الأبواب العالية، وأسلم وشمله التشريف والأنعام الشريف، والإقامة في الخدمة السعيدة السلطانية بمثل هذه الأحوال، وسمعته يبالغ في تعظيم شأن ملوكهم، ويصفهم بحسن الموافاة والمراعاة لمصالح (المخطوط ص 188) أولياء دولتهم ورعاياهم.
وقال: إن عادتهم جارية بأنه إذا من مات من أمراء الروم جرى على أكبر أولاده ما كان يجري على أبيه، فإن لم يكن له ولد كان على أكبر أهله، فإن انقرض تصرف الملك فيه برأيه، فإن ترك الميت أولادا لا يقوم بهم ما كان لأبيهم ولا يكفيهم إذا توزع عليهم جرى على الأماثل ما كان لأبيهم، ونظر في حال البقية.
قال: وعادة هؤلاء الملوك أن لا يعطى ولد أمير رزقا من جهتهم ما دام أبوه حيا يرزق، بل ارتزاقه مما لأبيه، وإن أراد الملك أن يعطيه شيئا أعطى لأبيه مقدار ما يريد أن يجعله لابنه، ثم أمره أن يجريه هو على ولده من جهة لا من جهة الملك.
قال: وهم أهل عدل فلا يظلم أحد منهم ولا يستحسن الظلم ولا يفسح فيه ولا يتطلع إلى شيء مما في أيدي الناس من أرباب دولته ورعايا مملكته، ولا يعرف هذا عندهم.
قال: وجميع من هو في خدمة ملوك الروم لا حجر عليهم ولا تضيق في الإكرام بحضور خدمة مرتبة ولا أخذ دستور في أمر من الأمور، فخلي بين نفسه وما يريد في الركوب والنزول والسفر إلى الصيد والتنزه وإلى جهات أملاكهم وأقطاعاتهم بل هو في ذلك كله مع رأيه يسافر متى أراد إلى جهة أراد، ويغيب ما يقدر له أن(3/400)
يغيب بغير إذن لملك ولا لأحد ممن ينوب عنه، وفيهم من يغيب السنة فما فوقها، ولا يقال له لم سافرت؟ ولا كيف أبطأت؟ ولا لأي شيء انقطعت عن الخدمة؟ ولا يعتب ولا ينكر عليه، ولا لملك تشديد عليهم في أمر إلا في الإلزام بالتوجه إلى حرب أو المؤاخذة بحق.
قال: وما أهل مملكة الملك فهم منه في أرغد عيش، لا يقوض له بناء، ولا يكف له إناء، قالوا: كلهم والبطريرك هو الحاكم على الملك، لأنه لا معول إلا على رأيه، ولا يفصل حكم إلا بقضائه وله رزق عظيم، يعدل معدلة دخل إقليم، وإليه أمر الكنيسة العظمى، وسائر الكنائس والديارات (المخطوط ص 189) ويحصل لها في كل سنة أموال جمة طائلة من الوقوف والنذور والقربانات والتحف، ومهاداة الملوك والكنود والتجار.
وفيما يزعم الروم أن بلاد مقدونية جميعها. وقف على الكنيسة العظمى التي لهم المسماة بالأوصفية [1] ، وبلاد مقدونية هي الاسكندرية، وما هي مضاف إليها، وكان ذلك في قديم الزمان مصر كلها بأسرها إلا الصعيد الأعلى، وعلى هذا جاء الفتوح في صدر الإسلام.
قلت: والروم تبالغ في تعظيم هذه الكنيسة وتعتقد في كرامتها، وينقل من التواريخ أن بها كان اجتماع قسطنيطين على التدين بدين النصرانية، وإن عقد الاتفاق كان على المذبح بها، وفيها ما يقول صليب الصلبوت وعصا موسى وزنار مريم ومسح المسيح مما يقال أنه صار إليها من طليطلة، وفي زمان الملك الناصر صلاح الدين قدس الله روحه، جاءت إليه رسل الفرنج تسأله في إرسال صليب الصلبوت إليها، وزعموا أنه قد صار إلى خزائن العبيدين واتصل إليه، ثم أن صلاح الدين
__________
[1] الأوصفية: هي كنيسة أياصوفيا ويذكر أنها من بناء آصف بن برخيا وهو ابن خالة سليمان عليه السلام، وهي من أعظم كنائس الروم عليها سور يطيف بها، فكأنها مدينة، وأبوابها ثلاثة عشر بابا (رحلة ابن بطوطة 234) وهي الآن متحف آيا صوفيا في تركيا.(3/401)
ظفر به في بعض حروبه بالرجل الذي كان حضر في طلب الصليب، فأمر به فصلب، وكتب الفاضل رحمه الله كتابا ذكر هذا فيه.
فقال: وحصل الظفر بمن كان تقدم حصون في طلب صليب الصلبوت، وأطلقه في ذلك الوقت، وعلم أنه لا يفوت، فلما ظفر به الآن آمر به أن يصلب، وجعله مثلة، وسمره على الصليب الخشب، وجعلة مثله (مثله) هذا ما ذكره في هذا المعنى.
وأما الشائع الذائع على ألسنة الناس وكلام المتجولين في الأرض، وطلبة الكنوز والخبايا، فهو أن علم الكنوز في كنيسة القسطنطينية، ثم صارت إلى القسطنطينية، ومنهم من يقول أن الروم لما خلت عن الشام وبلاد القبط، اكتنزت كثيرا من أموالها في مواضع كانت تعدها لذلك، وكتبا بها كتبا بإعلام مواضعها، وطرق الوصول إليها، وأودعت تلك الكتب مكانا في كنيسة القسطنطينية، وإن منها تستفاد معرفتها، ومنهم من زعم (المخطوط ص 190) أن سكان الشام من الروم، لم يكنزوا، وإنما ظفروا بكتب بمعالم كنوز من كان قبلهم من اليونان والصابئة والكلدانيين ومن تقدمهم من الأمم الأول، فلما غلبوا على الشام، واستصحبوا تلك المعالم فأودعوها الكنيسة، أنه لا يصل إليها إلا من خدم الكنيسة مدة معلومة عندهم، فإذا انقضت، أعطى ورقة واحدة بخطه، ونصيب فيما يدل عليه، ولهم في هذا ومثله حكايات بجنسها، وأنا لا أصدقها ولا أكذبها، وإنما ذكرت منها هذا هنا على سبيل الحكاية والتندير إذ كان هذا ما يدور ذكره في حديث الناس إذا ذكروا هذه الكنيسة، وهو مما لا يستبعد إما كله وإما شيء منه لدخوله في حيز الإمكان، ولأنه لا يخلو من فواضل أهل زمان.
وهؤلاء العرب [1] تكتنز أموالها في قدور بسلاسل طوال تدفنها في مواضع متغلغلة في البر، وتعلمها بأعلام لا تتغير من الجبال والربى، وما أشبه ذلك، فأما ما
__________
[1] ربما يقصد الروم.(3/402)
لا شك فيه فهو أن في القسطنطينية كتبا جليلة من كتب حذاق الحكماء والفلاسفة القدماء، ما لا خرج عن دار قومه ولا وصل إلى فلاسفة الإسلام منه شيء، لضنانة بطارقتهم [1] ، وسوء سهم به، ومحافظة خزانة على خزنة وحفظه، ويقال أن فيها دقائق الموسيقى مما لو عمل به أهل هذا الشأن والقوة على أصحاب الأصوات المطاوعة لاستغنوا به في معالجتهم به من العقاقير حتى يقال أن فيها ما يلين القاس، ويقاد الصعب، ويضحك ويبكي ويندم.
ويدعى أصحاب علم الكيمياء أن فيها كتبا جليلة فيها العلم الصحيح بأسهل الطرق وأقربها إلى الوصول، وتدعى أنه مما تلقى عن موسى صلوات الله عليه.
قال: ويقال أن فيها أثرا من علوم الخضر والاسكندر وذي القرنين تفتح به المغالق، وتتسلم المعاقل، وتملك النواصي، وتهزم الأعداء، فإذا حوجج أحد ممن يقول هذا القول وحوقق وقيل له (المخطوط ص 191) ، أنتم تلوون ضلوعكم على الداء الدقيق [2] ، غيظا على أخذ الشام منكم، فهلا أخذتم بتلك الآثار، وبلغتم المراد وكفيتم المهم ايلسوا وسكنوا، ولم تكن لهم حجة إلا أن يقولوا ما بقى من يعرفها أو ذهب زمانها أو تزيد طوالع أو باد من يعلمها أو ما تم من هو مشتغل بها.
وأما الذي هو الآن عندهم ظاهر من بقايا ذخائر العلماء الحكماء فهو الطين المختوم، ورأيت أطباء الزمان، ومنهم بالديار المصرية رؤساء أفاضل وعلماء لا تقصر عن درجات الأوائل، ما فيهم من يثبته على التحقيق، لكنها تستحسنه، وتقول هو طين مليح يحصل به القصد، ويتوقف، ولا يجزم بأنه هو الطين المختوم، ويقول الطين المختوم طين عمل وطبع وختم على عهد جالينوس.
ويقال كانت امرأة في جزيرة في البحر تجلس على هيكل على قراره أو بركة
__________
[1] بطارقتهم وبطاركتهم جمع مفرد بطريك وبطريرك.
[2] وردت بالمخطوط الدوين.(3/403)
يأتيها السيل، فتذبح هناك التيوس على سبيل القربان في وقت معلوم من السنة، ويؤخذ من التراب مما جف عنه السيل وجمد عليه الدم، وقالوا: إنه يجبل بالدم في طالع مخصوص، ويقرص أقراصا، ويطبع بطابع متخذ لها، ومنهم من يقول إن فعله إنما هو لخاصية تلك البقعة، ومنهم من يقول للطالع المخصوص، ومنهم من يقول بل لشيء أفيض عليه في الهيئة الاجتماعية.
وهذا الطين المختوم المجلوب الآن هو على نوعين أبيض ونوع أحمر، فأما الأبيض فمنه أغبر ومنه شديد البياض، أما الأحمر فمنه وردي ومنه ما يشوبه سواد كأنه لون المغرا أو طوابعه مختلفة، وهذا الاختلاف مما أوقف الأطباء عن الجزم به، أنه هو هو ولأنه لم يجدوا فيه كل ما ذكرت القدماء في أوصافه.
وقال لي الرئيس أمين الدين سليمان بن داوود المتطبب رحمه الله، وقد رأيته منه هذا ما هو الطين المختوم، والطين المختوم عمل على عهد جالينوس، وكان مقدارا ليس بالكثير ثم لم يعمل بعده، وغطى البحر على تلك الجزيرة، والناس منذ عمل تستعمل منه، ولهذا زمان طويل ولولا كان (المخطوط ص 192) بقدر ما عمل أضعافا مضاعفة لكان قد فرغ، وإنما هو شيء يشبه، وليس به.
وأكثر ما يحمد الأطباء من هذا الطين المشتبه بلون المغرا، ثم أن الوردي، فأما الأبيض فما رأيت أحدا [1] منهم يقدمه، إذا رآها في وصف، ولا يعبأ به، فأما جلابته من القسطنطينية فتذكره وتصف صفاته الروم، والذين جربت منه، فحمدت من أنواعه هو المشبه بالمغرا وقد ذكرت هذا المحل الفائدة، ثم نعود إلى الكلام على القسطنطينية.
قال آقسنقر الرومي وبلبان الجنوي وعلي بن بلبان الجلبي قالوا كلهم، وقال غيرهم: إن القسطنطينية على جزر من البحر، يدخل منه ماء إلى الميناء في جانب
__________
[1] وردت بالمخطوط أحد.(3/404)
القسطنطينية، ويدخل مسورها والتجار والسفارة من سائر الأقطار من المسلمين والنصارى وغيرهم، يأتي إليها وينزل بها، ويبيع ويشتري فيها، ولا حرج عليهم ولا تضييق.
والمسلمون فيها على جانب أعزاز وإكرام، فيها سكان من المسلمين يسكنونها إلى اليوم، لا يمسهم ولله الحمد ذل ولا هوان، ولهم مساجد وأئمة تصلي بهم الجماعة، فتظاهر فيها بشعائر الإسلام، وللملك اهتمام بكف الأذية عنهم، وإذا شكى المسلم إليه على أحد من النصارى، ولو أنه من عظماء البطارقة، أشكاه وأنصفه منه، ولا اضطهاد، ولا ضيم في جميع مملكة هذا الملك عليهم ولو تغيرت الملوك، واختلفت الأحوال، لا يقدر الملك على تغيير حاله في هذا، ولا مخالفة لمن تقدمه فيه لأنها عادة تدين بها ملوكهم، وسارت بها في ملوك النصرانية سيرهم، فلو عدل الملك عنها، لمنعه البطريرك، وو آخذه به وآخذه بالرجوع إلى عادة أسلافه، واشتد في منعه، فإن رجع، وإلا كان السبب بتحريمه، فإن رجع، وإن كان السبب لخلعه.
والروم أسخى من جميع الطوائف النصرانية، واسمك في الكرماء نفوسا، وأمسك ناموسا، ومع هذا فما فيهم من يداني العرب في كرم، ولا يقاربهم في جود، والشح غريزة في طباع النصارى، لا ينفق إلا فيما (المخطوط ص 193) يتنغم به، فينفقه في اللهو والطرب، والنخوة فيهم قليلة، وهذه جملة ما ذكروه من أخبارهم، وفهم من كلامهم.
ومما أقوله أن أول دليل على عظم القسطنطينية ومالها من الممدود غزوة هارون الرشيد إياها سنة خمس وستين ومائة، كان أبوه المهدي قد وجهه إليها وهو إذ ذاك ولي عهد أبيه المهدي، فخرج يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة [1] غازيا إلى بلاد الروم، وضم إليه المهدي الربيع مولاه، فتوغل هارون الرشيد
__________
[1] وردت بالمخطوط جمدى الآخرة.(3/405)
في بلاد الروم، فافتتح ماجده ولقيه خيول بقطياقوس القوامسة فبارزه يزيد بن مزيد، فأرجل يزيد ثم سقط بقطيا، فضربه يزيد حتى أثخنه، وانهزمت الروم، وغلب يزيد على عسكره، وسار هارون الرشيد بمن معه في مائة ألف ألف دينار وثلاثة وسبعين ألف ألف وأربعمائة وخمسين دينارا ومن الورق مائة ألف ألف وإحدى وعشرين ألف ألف وأربعة عشر ألف وثمانمائة درهم، وسار هارون الرشيد حتى قطع خليج القسطنطينية، وصاحب الروم يومئذ عسطه امرأة النون وذلك أن ابنها كان صغيرا، قد هلك أبوه وهو في حجرها، فجرت بينها وبين الرشيد السفراء في طلب الصلح والموادعة، وإعطاء الفدية فقبل ذلك منها هارون الرشيد، وشرط عليها الوفاء بما أعطت، وأن تقيم له الأدلاء والأسواق في طريقه، وذلك أنه دخل مدخلا ضيقا تخوفا على المسلمين.
قال أبو جعفر الطبري [1] : وسار هارون في خمسة وتسعين ألف وسبعمائة وثلاثة وسبعين رجلا من المرتزقة سوى المطوعة ثم ذكر مثل هذا، وقال: إنه جرت بينها وبين هارون الرسل والسفراء في طلب الصلح فشرط عليها الوفاء وأن تقيم له الأولاد والأسواق في طريقه فأجابته، والذي وقع عليه الصلح بينه وبينها سبعون ألف دينار تؤديها في نيسان [2] الأول (المخطوط ص 194) في كل سنة، مثله في حزيران [3] ، وقيل ذلك منها، وأقامت الأسواق في منصرفه، ووجهت معه رسلا إلى المهدي بما بعثت له وربما بذلت على أن تؤدي ما يتيسر من الذهب والفضة والعرض، وكتبوا كتاب الهدنة إلى ثلاث سنين، وكان الذي أفاء الله على هارون إلى أن أذعنت الروم بالجزية خمسة آلاف رأس وستمائة وثلاثة وأربعون رأس، وقتل من الروم في الوقائع أربعة وخمسون ألف وقتل في الأساري صبرا ألفان وتسعون
__________
[1] الطبري: محمد بن جرير من الفقهاء والمؤرخين الكبار في القرن الثالث والرابع الهجريين له جامع البيان في تفسير القرآن وله تاريخ الرسل والملوك مات سنة 310 هـ.
[2] أبريل.
[3] يونيو.(3/406)
أسيرا، وبيع البرذون بدرهم، والبغل بأقل من عشرة دراهم، والدرع بأقل من درهم، وعشرون سيفا بدرهم.
فقال مروان بن أبي حفص يمدح الرشيد [1] .
«لطفت بقسطنطينية الروم مسندا إليها القنا حتى أكتسى الذل سورها» .
«ومارمتها حتى أتتك ملوكها بجزيتها والحرب تغلى قدورها» .
«وجزت إليهم مالح البحر لم تنل به ووفود الموج دان سيرها» .
«وأخرجت منها من خزائن قيصر ألوف قناطير عظيم يسيرها» .
«فبورك هارون الندى ابن محمد ودام على الأعداء منه منيرها» .
«لقد جرد المهدي منه مهندا يعض به يوم اللقاء صدورها» .
«على سمته سرا ينوه لائح من وجهه الوضاح أشرق نورها» .
«لقد أصلح الرحمن أمة أحمد لمسعاهما حتى استقامت أمورها» .
«أيمتد عدل حيث حلت بلادها وكل سرير للملوك سريرها» .
وقد ذكر الطبري هذه الواقعة في أحداث هذه السنة بهذه المقاصد، وقد الحقت هذه الفصل بشيء مما ذكره الحافظ أبو القسم ابن عساكر [2] في تاريخه [3] في ترجمة أبي محمد البطال [4] .
قال عبد الله بن يحيى الأنطاكي [5] ، كان ينزل انطاكية قال: وكان ممن خرج
__________
[1] مروان بن أبي حفصة شاعر مخضرم مدح المهدي والرشيد ومعن بن زائدة عاش ما بين 724- 298 م (المنجد في الأعلام ط 15 ص 530) .
[2] الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله الشافعي المتوفى 571 هـ.
[3] تاريخ مدينة دمشق ص 256.
[4] عبد الله أبو يحيى المعروف بالبطّال (تاريخ مدينة دمشق 39/356) .
[5] أبو مروان الأنطاكي (تاريخ ابن عساكر 39/356) .(3/407)
مع مسلمة بن عبد الملك بن مروان إلى بلاد الروم، قال: لما أراد عبد الملك أنه يوجه مسلمة إلى بلاد الروم، قال: قد أمرّت (المخطوط ص 195) عليكم مسلمة بن عبد الملك، قال: وولى على رؤساء أهل الجزيرة والشام البطّال، وأمره، فليعس بالليل العسكر، فإنه ثقة أمين شجاع مقدام، فخرج مسلمة، وخرج عبد الملك يشيعه إلى باب دمشق.
وذكر الحافظ [1] بسنده عن الوليد بن مسلمة، قال: حدثني بعض شيوخنا أن مسلمة بن عبد الملك عقد للبطّال على عشرة آلاف من المسلمين، فجعلهم سيادة ما بين عسكر المسلمين وما يليهم من حصون الروم، ومن يتخوفون اعتراضه في نشر المسلمين وعلاقاتهم، ويخرج المسلمون يتعلقون فيما بينهم وبين العسكر، فيصيبون ويخطئون فيأمن بهم العسكر [2] .
وقال الوليد بن مسلم: حدثني أبو مروان الأنطاكي عن البطال أنه قال: سألني بعض ولاة بني أمية عن أعجب ما كان من أمري فيهم، فقلت، خرجت في سرية ليلا، وخرجنا إلى قرية، وقلت لأصحابي: أرخوا لجم خيولكم، ولا تحركوا أحدا بقتل ولا سبى حتى تشحنوا [3] [4] القرية، فإنهم في نومة، قال: ففعلوا، وتفرقوا في أزقتها، ودفعت في ناس من أصحابي إلى بيت يزهر سراجه، وامرأة تسكت ابنها من بكائه، وهي تقول، لتسكتن أو لأدفعنك إلى البطّال ثم انتشلته من سريره، فقالت: امسك يا بطال، فأخذته.
وقال الوليد حدثني أبو مروان أنه سمعه يحدث، قال: خرجت ذات يوم متوحدا على فرسي لأصيب غفلة مسمطا مخلاة فيها عليق فرسي، ومسربل فيه خبر وشواء، فبينما أنا أسير إذ مررت ببستان فيه بقل طيب فنزلت، فعلقت على
__________
[1] انظر: تاريخ مدينة دمشق (لابن عساكر 39/357) .
[2] انظر: تاريخ مدينة دمشق (لابن عساكر 39/357) .
[3] تفتحوا القرية.
[4] انظر: تاريخ مدينة دمشق 39/358.(3/408)
فرسي، وأصبت من ذلك الشواء يتصل البستان، إذ أسهلني بطني، فاختلفت متواريا، فأشفقت من دوامه، وضعفي عن الركوب، فبادرت، فركبت، ولزمت طريقا، واستفرغني على سرجي كراهية أن أنزل، وضعفت عن الركوب حتى لزمت عتق فرسي، خوفا أن أسقط عنه وذهب لي لا أدري أين يذهب لي، إذ سمعت وقع حوافره على بلاط، ففتحت (المخطوط ص 196 عيني فإذا دير فوقف بي في وسط الدير، وإذا نسوة يتطلعن من أبواب الدير.
فلما رأين حالي وضعفي عن النزول [1] ، فأتتني جارية صاحية منهن حتى وقفت عليّ، ونظرت في وجهي، ورطنت لهن، فنزعن ثيابي وغسلن ما بي، ودعت بثياب فالبستنيها، وترياق أو دواء فشربته، ثم أمرت بي، فجعلت على سرير لها ودثار، وأمرت بطعام تهىء لي فأتت به وأقمت يومي وتلك الليلة لا أدري ما أنا فيه، ومكثت يومين وليلتين حتى ذهب عني السبات، وأنا ضعيف عن الركوب.
فلما كان اليوم الثالث [2] جاءها من يخبرها أن فلانا البطريق قد أقبل في موكبه.
فأمرت نفرسي فغيب، وأغلق عليّ باب بيتي الذي أنا فيه، ثم أنزلت البطريق وأصحابه، وكان قد جاء خاطبا لها، فبينما هو على ذلك، إذ جاءه من يخبره عن موضع فرسي، وإغلاقهم عليّ فهم أن يهجم عليّ، فأقسمت إن هو تعرضني، لأنال حاجته، فأمسك وأقام قائلة ذلك اليوم، ثم تزوج، وخرجت فدعوت بفرسي فخرجت إليّ، فقالت [3] :
إني لا آمن أن يكمن لك، دعه يذهب، فأبيت عليها، وركبت فقفوت أثره
__________
[1] قارن: تاريخ ابن عساكر. مع اختلاف يسير في الألفاظ 39/359.
[2] قارن: تاريخ ابن عساكر 39/359.
[3] تاريخ ابن عساكر 39/359.(3/409)
حتى لحقته وشددت عليه، فانفرج عنه أصحابه فقتلته وطلبت أصحابه فهربوا عني، وأخذت فرسه وسمطت رأسه، ورجعت إلى الدير فألقيت الرأس، ودعوتها ومن معها من نسائها وخدمها.
فوقفت بين يدي، وأمرتها بالرحلة، ومن معها على دواب الدير وسرت بهن إلى العسكر، حتى دفعت بهن إلى العسكر حتى دفعت بهن إلى الوالي فجعل نفلي منهن، فتنفلت المرأة بعينها، وسلمت سائر الغنيمة في المقسم واتخذتها أم أبني.
قال: أبو مروان، وكان أبوها بطريقا من بطارقة الروم له شرف يهاديه ويكارمه ويكاتبه.
وقال الوليد: سمعت عبد الله بن راشد الخزاعي يخبر عمن سمعه من البطال:
يخبر أن هشاما أو غيره من خلفاء بني أمية كان قد (المخطوط ص 196) استعمله على ثغر المصيصة وما يليها، وأنه ران عليه خبر الروم، فوجه سرية لتأتيه بالخبر، فتوجهوا واجلتهم أجلا، فاستوعبوا الأجل.
قال: فأشفقت من مصيبتهم، ولائمة الخليفة، فخرجت متوحدا حتى أوغلت في الناحية التي أمرتهم بها، فلم أجدلهم خبرا، فعرفت أنهم أخبروا بغفلة أهل الناحية الأخرى، فتوجهوا إليها، وكرهت أن أرجع لهم، ولم استنقذهم مما هم فيه، إن كان عدوا يكاثرهم، وأعرف من خبرهم ما أسكن إليه، فلم أجد أحدا يخبرني بشيء، فمضيت حتى أقف على باب عمورية فضربت بابها، وقلت للبواب أفتح لفلان سياف الملك ورسوله، وكنت أشبه به [1] .
فأعلم ذلك صاحب عمورية، فأمره بفتح الباب ففعل وأدخلني، فلما صرت إلى بلاطها، وقفت وأمرت من يشتد إلى بيت يدي إلى باب بطريقها ففعل، ووافيت باب البطريق قد فتح، وجلس لي ونزلت عن فرسي، وأنا متلثم بعمامتي فأذن لي،
__________
[1] تاريخ ابن عساكر 39/360.(3/410)
ومضيت حتى جلست إلى جانبه فرحب بي فقلت له: أخرج من هنا لكلام حملت إليك، فأخرجهم وغلق الباب، وعاد إلى مجلسه، فاخترطت سيفي وضربت على رأسه، ثم قلت له: قد وقعت بهذا الموضع، فأعطني عهدا حتى أكلمك بما أريد، ثم أرجع من حيث جئت، ولا يتبعني منك خلاف، ففعل.
فقلت: أنا البطال، فأصدقني عما أسألك عنه، وأنصحني وإلا أتيت عليك [1] .
فقال: سل عما بدا لك، فقلت: السرية.
فقال: نعم وافت البلاد غارة لا تدفع أهلها يد لامس، فوغلوا في هذه البلاد، وملأوا أيديهم غنائم، وهذا آخر خبر جاءني، إنهم بوادي كذا، فغمدت سيفي.
وقلت: أدع لي بطعام فدعا، فأصبت منه، ثم قمت فقال لمن حوله: كونوا معه حتى يخرج، ففعلوا ثم قصدت السرية حتى أتيتها وخرجت بها، وبما غنمت فهذا من أعجب ما كان مني [2] .
ثم قتل رحمه الله شهيدا في غزاة غزاها، وقتل معه خلق كثير من المسلمين وفيها يقول الشاعر: [الوافر]
(المخطوط ص 198)
ألم يبلغك من أنباء جيش ... باقرن غودروا جثثا رماما
تقودهم حتوف لم يطيقوا ... لها دفعا هناك ولا خصاما
معارك لم تقم فيها بشجو ... نوائح يلتزمن به التزاما
ولم تهمل على البطّال عين ... هناك بعبرة تشفى الهياما
__________
[1] تاريخ ابن عساكر 39/360.
[2] تاريخ ابن عساكر 39/361.(3/411)
عشية باشر الأهوال صبرا ... بخيل تخرق الجيش اللهاما
إذا ما خيله حملت عليهم ... تداعوا من مخافته اهتزاما [1]
فلا تبعد هنالك من شهيد ... فإنك كنت للهيجا حساما [2]
__________
[1] انهزاما (تاريخ ابن عساكر 39/363) .
[2] كنت: سقطت من الأصل، وأضيفت من تاريخ ابن عساكر. القصيدة وشرح بعض ألفاظها بتاريخ ابن عساكر 35/363.(3/412)
الباب السادس في مملكة مصر والشام والحجاز
[ذكر مملكة المصر](3/413)
هذه الممالك هي مملكة واحدة، يقع معظم مصر في أوائل الثالث، ومعظم الشام في أواخره، وحلب منه في الرابع، وهي مملكة كبيرة، وأموالها كثيرة، وقاعدة الملك بها قلعة الجبل [1] ثم دمشق وهي من أجل ممالك الأرض لما حوت من الجهات المعظمة، والأرض المقدسة، والجهات «1» والمساجد التي هي التقوى مؤسسة «2» بها المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا إليها [2] وقبور الأنبياء صلوات الله عليهم [3] والطور [4] والنيل [5] والفرات [6] وهما من الجنة.
وبها معدن الزمرد ولا نظير له في أقطار الأرض، وحسب «3» مصر فخرا بما تفردت به من هذا المعدن، واستمداد ملوك الآفاق له منها.
__________
[1] قلعة الجبل: هي القلعة التي بناها قراقوش: بهاء الدين أبو سعيد لصلاح الدين الأيوبي، والتي اتخذت مقرا للحكم وهي الآن تقع بموقعها الكائن بالقاهرة بمنطقة القلعة عند سفح جبل القطم.
[2] إشارة إلى قول الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) : «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى ... » جزء من حديث للبخاري في باب التطوع (التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح للإمام الحسين بن المبارك، بيروت ط 2 سنة 1980 ج 3/557) .
[3] بها قبور إبراهيم وموسى وهود وصالح وشعيب وأيوب ولوط ويوسف وإدريس ويعقوب وآخرون.
[4] الطور: جبل بسيناء ناجى منه موسى عليه السلام ربه وهو المذكور في قوله تعالى: وَطُورِ سِينِينَ
[التين، الآية 2] وهو جبل أضيف إليه سينيين وسنين شجر (مراصد الاطلاع 2/896) .
[5] ونيل مصر يفضل أنهار الأرض عذوبة مذاق، واتساع قطر وعظم منفعة، والنيل أحد أنهار الدنيا الخمسة الكبار (رحلة ابن بطوطة 34) ونيل مصر قيل هو تعريب نيلوس (مراصد الاطلاع 3/1413) .
[6] الفرات: أحد الأنهار الخمسة الكبار، يجري في العراق وسوريه وتركيا، واسمه بالفارسية فالاذروذ (مراصد الاطلاع 3/1021) .(3/415)
«1» أخبرنا العدل عبد الرحيم شاهد المعدن بما أذكره من أحواله قال: إن بينه وبين قوص [1] ثمانية أيام بالسير المعتدل المعتاد، والبجاه [2] تنزل حوله وقريبا منه لأجل القيام بحفره وحفظه، وهذا المعدن وهو في الجبل الآخذ شرقي النيل في بحرى، قطعة عظيمة من هذا الجبل تسمى قرشنده، وليس في الجبال التي هناك أعلى [3] ولا (المخطوط ص 199) أشرف منها، وهو في منقطع من البر، لا عمارة عنده، ولا حوله ولا قريبا منه، والماء عنه على مسيرة نصف يوم منه أو أزيد، وهو ما يحصل من المطر، (ويعرف بغدير أعين بكثرة مطر [4] ) ، ويقل بقلته.
وأما هذا المعدن فهو في صدر مغارة طويلة في حجر أبيض منه يستخرج الزمرد [5] ، والحجر الأبيض المذكور ثلاثة أنواع، أحدهما يقال له طلق كافوري، والثاني يقال له طلق فضي، والثالث يقال له حجر خروي، يضرب من هذه الحجارة حتى يخرج الزمرد وهو كالعروق فيه، والذي يخرج من أجوده، وأنواع الزمرد ثلاثة الدبائي وهو أفخرها، ولكنه قليل بل أقل من القليل بل لا يكاد يوجد.
__________
[1] قوص: مدينة عظيمة لها خيرات عميمة، بساتينها مورقة وأسواقها مونقة ولها المساجد والمدارس وهي منزل ولاة الصعيد (رحلة ابن بطوطة 41- 42) مدينة كبيرة وهي قصبة صعيد مصر (مراصد الاطلاع 3/1133) .
[2] البجاة قوم سود الألوان يلتحفون ملاحف صفراء ويشدون على رؤوسهم عصائب يكون عرض العصابة منها أصبعا ومقرهم عيزاب وملكهم يدعى الحدربي (رحلة ابن بطوطة 42) .
[3] وردت بالمخطوط أعلا.
[4] ما بين القوسين ورد بالحاشية.
[5] الزمرد هو الزبرجد جوهر ثمين (انظر: الدخيل في لهجة أهل الخليج 65 القاموس المحيط 1/308) .(3/416)
قال العدل عبد الرحيم: أنه ما رآه في مدة مباشرته ولا خرج منه شيء في طول تلك المدة.
قال: وهو يستخرج في طول السنة مهما وجد من يعمل فيه، قال: وليس فيه عدة محصورة بل هم تارات بحسب الاهتمام وعدم الاهتمام باستخراج هذا المعدن.
قال: وإذا استخرج الزمرد يلقى في الزيت الحار ثم يحط في قطن، ويصير ذلك القطن في خرق خام، وما يجري مجراه.
قال: والاحتراز على هذا المعدن كثير جدا، والفعلة تفتش عند خروجهم منه في كل يوم حتى يفتش منهم أماكن لا يليق ذكرها هذا ما أخبرني به.
وحدثني آخر له معرفة بهذا المعدن وأحواله أن هؤلاء الفعلة في هذا المعدن مع هذا الاحتراز الشديد لهم حيل كثيرة في سرقة الزمرد، منها أن الرجل منهم يسرق ما يمكنه من الزمرد ويعمله في كيس صغير من معد منه لذلك، ويربطه ثم يعلقه بخيط ابريسم [1] مبروم مشدود فيه بين أضراسه الدواخل، ويكون رأس الخيط معقودا عقدا وثيقا، فإذا علق الخيط أخرج تلك العقدة بين الضرسين إلى جهة الشفة، فيبقى ناشبا به، فإذا خرج إلى ظاهر المعدن، وصار (المخطوط ص 200) جنب بأمن أخرجه وأخذ ما فيه «1» .
وبها البلسان [2] وهو ما هو وملوك النصرانية تترامى على طلبه، والنصارى
__________
[1] أبريسم هو بريسم وبريشم نوع من الصوف من الكلمة الفارسية بريسم (انظر: معجم تيمور 2/8 الدخيل في لهجة أهل الخليج 16) .
[2] البلسان: شجر له زهر أبيض صغير كهيئة العناقيد، وهو من الفصيلة البخورية، يستخرج من بعض أنواعه دهن عطر ينبت بعين شمس بظاهر القاهرة (المعجم الوسيط 1/71) .(3/417)
كافة تعتقد فيه ما تعتقد، وترى أنه لا يتم تنصير نصراني حتى يوضع شيء من دهن البلسان في ماء العمودية «1» عند تغطيسه فيها.
فأما وجوه دخل هذه المملكة وخراجها وعساكرها وأجنادها وما أوى «2» إليها من الأمم، وسكنها من أشتات الخلائق، وعرفت به سلاطينها من حسن السياسة وقدم «3» الرئاسة فأمر لا يخفى له خبر، لا يغطى «4» ضوءه على ذي بصر، وقد تقدم في مواضع من هذا الكتاب ويأتي في مواضع أخرى منه، ما يحقق ما قلناه، ولا يعتقد معتقد أو يظن ظان أنى قلت في هذا بغرض لكوني من أهل هذه البلاد وتحت ظل ملوكها، وربيب أنا وآبائي في نعم سلاطينها «5» ، فمعاذ الله أن أقول إلا الحق أو أسطر عني «6» غير الصحيح، لا سيما فيما يحدث به جيل بعد جيل بل لهذا اختصرت في القول.
ومعاملتها الدراهم، ثلثاها فضة، والثلث نحاس، والدرهم ثمانية عشر خروب، الخروبة ثلاث قمحات، والمثقال أربعة وعشرون خروبة، والدرهم منها قيمته أربعة وعشرون فلسا، والدينار الجيشي مسمى عنه ثلاثة عشر درهما وثلث درهم من العادة عنه مسمى أربعون درهما سوداء الدرهم منها ثلث درهم مما ذكر، ولا يوجد بالديار المصرية من الدراهم السود إلا المسميات لا الأعيان.
فأما بالاسكندرية فإنها توجد بها وهي كل اثنين «7» بدرهم وأما الكيل فيختلف، فبمصر الأردب، وهو ست ويبات [1] «8» أربعة أرباع، الربع أربعة
__________
[1] الإسكندرية: الثغر المحروس والقطر المأنوس العجيبة الشأن، الأصيلة البنيان، بها ما شئت من تحسين وتحصين لها أربعة أبواب وبها المنار وعمود السواري (رحلة ابن بطوطة 21- 22) (انظر: مراصد الاطلاع 1/76) .(3/418)
أقداح، القدح، مائتان واثنان وثلاثون درهما، هذا أردب مصر وفي أريافها يختلف الأردب عن هذا المقدار إلى أنهى ما ينتهى «1» ثمان ويبات [1] ، وإنما المعهود المتعامل إنما هو بالأردب المتقدم ذكره، والرطل هو اثنا عشر أوقية، الأوقية اثنا عشر درهما، فيكون الرطل مائة وأربعة وأربعون درهما.
وأما دمشق فهي بنظير المعاملة المذكورة خلا أن الصيحة «2» تتفاوت، فينقص كل مائة مثقال شامي مثقالا وربعا بمصر [2] ، وكذلك الدراهم والرطل اثنا عشر أوقية، الأوقية خمسون درهما، فيكون الرطل ستمائة درهم.
والغرارة «3» للغلات وهي اثنا عشر كيلا، كل كيل ستة أمداد، المد ينقص قليلا عن الربع المصري، ونسبة ما بين الغرارة والأردب، أن كل غرارة ومد نصف ثلاثة أرادب بالمصري تحريرا وفي بر دمشق ربما زاد الرطل والغرارة على الدمشقي حتى يكثر تفاوت ما بينهما لعظم زيادة بعض المواضع، لكن كيل دمشق، ورطلها هو المعتبر وإليه المرجع.
وأما حلب وحماة وحمص فأرطلها [3] أزيد من الدمشقي ولا تعرف الغرائر، وإنما تعرف المكاكيك [4] ، وتختلف زيادة بعضها على بعض، منها ما هو معتدل الغرارة مكوكان ونصف وما بين ذلك، كل ذلك تقريبا.
__________
[1] ويبات جمع مفرده ويبة. والويبة كيلتان والأردب ست ويبات (المعجم الوسيط 2/1104) .
[2] الصنجة: وهي السنجة من سنگ الفارسية وهو الحجر المستعمل في الوزن، عيار وزن والهاء للنسبة (فرهنگ عميد 2/1246 والدخيل 75) .
[3] الغرارة: وعاء من الخيش ونحوه يوضع فيه القمح ونحوه، وهو أكبر من الجوالق جمعه غرائر (المعجم الوسيط 2/672) .
[4] مكاكيك جمع مفرده مكوك، مكيال قديم يختلف مقداره باختلاف اصطلاح الناس عليه في البلاد، قيل: يسع صاعا ونصفا (المعجم الوسيط 2/917) .(3/419)
فأما مصر فمزروعها «1» على النيل بعد زيادته وعمومه البلاد، سوى قليل لا يعتبر به في بلادها مما يزرع على المطر، كأطراف البحيرة وما يزرع على الأنهر كالفيوم [1] ، وماؤها من البحر المنهي اليوسفي المشتق من النيل، لا ينقطع جريه أبدا على ما هو معروف من أمره.
وأكثر محاسن مصر مجلوبة إليها حتى بالغ بعضهم فقال: إن العناصر الأربعة مجلوبة إليها، الماء وهو النيل مجلوب من الجنوب، والتراب مجلوب من حمل الماء وإلا فهي رمل محض ولا ينبت الزرع، والنار لا يوجد بها شجرته وهو الصوان إلا إذا أجلب إليها، والهواء لا يهب إليها إلا من أحد البحرين إما الرومي [2] وإما الخارج من القلزم [3] إليها.
ولقد زاد هذا في تحامله وهي كثيرة الجنوب من القمح والشعير والفول والحمص والعدس والبسلة واللوبيا والدخن والأرز وبها الرياحين الكثيرة كالحبق «2» والآسن، والورد والنيلوفر والنسرين والبان «3» والتمر حنة [4] والمنثور والياسمين والأترج والنارنج والليمون والحامض الكباد والموز الكثير وقصب السكر الكثير، والرطب (المخطوط ص 202) ، والعنب والتين والرمان والتوت والفرصاد والخوخ واللوز والجميز والنبق والبرقوق والقراصيا والتفاح «4» .
__________
[1] الفيوم، ولاية غربية بينها وبين الفسطاط أربعة أيام (مراصد الاطلاع 3/1053) .
[2] البحر المتوسط (انظر: الخريطة آخر الجزء الثالث) .
[3] القلزم: هو بحر اليمن (مراصد الاطلاع 3/1116) وهو البحر الأحمر الآن.
[4] وردت بالمخطوط التامر صفا أ 201 ب 132.(3/420)
وأما السفرجل والكمثرى فقليل وكذلك الزيتون مجلوب إلا قليل في الفيوم، لا اعتبار به، ولا من الجوز إلا ما قل جدا ولا يوجد بها الفستق ولا البندق، وبها البطيخ الأصفر أنواع والأخضر أنواع والخيار والقثاء على أنوع، والقلقاس واللفت والجزر والقرنبيط [1] والفجل والبقول المنوعة.
وبها أنواع الدواب من الخيل والجمال والبغال والحمر والبقر والجواميس والغنم والمعز، ومما يوصف من دوابها بالجودة الحمر لفراهتها، والبقر والغنم لعظمها.
وبها الأوز والدجاج والحمام، ومن الوحش الغزلان والنعام والأرنب، فأما من أنواع الطير، فكثير كالكركي والأوز وغير ذلك وأوسط الأسعار في غالب أوقاتها الأردب القمح بخمسة عشر درهما، والشعير بعشرة، وبقية الحبوب على هذا الأنموذج، وأما الأرز فيبلغ أكثر من ذلك، وأما اللحم فأقل سعره الرطل نصف درهم وفي الغالب أزيد، والدجاج يختلف سعره بحسب اختلاف أحواله فجيده الطائر بدرهمين، ومنها ما هو بثلاثة، وقد يزيد، ومنها ما هو بدرهم واحد.
ويعمل بمصر معامل [2] كالتنانير [3] ، ويعمل بها البيض بصنعة وتوقد، يحاكي بها نار الطبيعة في حضانة الدجاجة البيض، ويخرج في تلك المعامل الفراريج، وهي معظم دجاجهم.
وبها ما يستطاب من الألبان والأجبان، وبها العسل بمقدار متوسط بين الندرة والقلة، وأما السكر فكثير جدا، وقيمته المعهودة منه على الغالب من السعر «1» ،
__________
[1] وردت بالمخطوط القنبيط، وهو بقلة زراعية من الفصيلة الصليية، تطبخ وتؤكل وتسمى في مصر والشام القرنبيط (المعجم الوسيط 2/791) .
[2] المعامل هي المصانع.
[3] التنانير جمع مفرده تنور وهو الفرن (فرهنگ رازي 170) .(3/421)
الرطل بدرهم ونصف «1» ، ومنها يجلب السكر على اختلاف أنواعه إلى كثير من البلاد، وقد نسى بها ما كان يذكر من سكر الأهواز.
وبها الكتان المعدوم المثل المنقول «2» ، ومما يعمل من قماشه إلى أقطار البلاد، ولقد أراني خواجا جمال الدين (المخطوط ص 203) يوسف الماحوزي [1] مقاطع شربا «3» أبيض من الصنف الممرش، استعملها بالاسكندرية على أنه يقدمها للسلطان أبي سعيد كأنها جناح الزنبور. لا أظن أنه يعاد لها في الدنيا قماش، قال: أنه استعملها [2] ، يقوم «4» كل مقطع منها (ساذجا) «5» بسبعمائة درهم ورقا، ويقوم طرزه وهو ساذج (بمثل ذلك) «6» ، فيقول جملة المقطع الواحد بألف وأربعمائة درهم ورقا عنها سبعمائة درهم نقرة [3] ليس فيه إلا الكتان.
وبها قليل من الحرير في طرز على أنه لا يكون غالب الطرز إلا من الكتان، فإن الأبيض فيه لا يكون من الحرير أبدا، ومنه تكون الكتابة وهي حلى الطراز، وقال لي إن الكتان لا يباع الدرهم منه، وأما ما يدخل في الطرز فيباع بنظير وزنه مرات عدة.
قلت: وهذا الشّرب هو الذي تفوق به الاسكندرية البلاد أكثر مما يعمل فيها من القماش على اختلاف أجناسه وأنواعه.
__________
[1] الشيخ جمال الدين الحويزائي ذكره ابن بطوطة ضمن علماء مصر وأعيانها (رحلة ابن بطوطة 38) .
[2] صنعها.
[3] الفضة.(3/422)
ثم نعود إلى ذكر مصر فنقول: وأما مبانيها فقليل منها بالحجر وأكثرها بالطوب وأفلاق النخل والجريد، وخشب الصنوبر مجلوب إليهم من بلاد الروم من البحر ويسمى عندهم النقي. وبها المدارس والخوانق والربط والزوايا والترب الضخمة والعمائر الجليلة الفائقة والأماكن المعدومة المثل، المفروشة بالرخام، المنقوشة بالأخشاب، المدهونة بأنواع الأصباغ، الملمعة «1» بالذهب واللازورد، ومن حيطانها ما هو مؤزر بالرخام، وتختلف المباني بحسب اختلاف أصحابها.
وحاضرة مصر تشتمل على ثلاث مدن عظام، الفسطاط وهو بناء عمرو بن العاص [1] وهي المسماة عند عامة أهل مصر بمصر العتيقة [2] ، والقاهرة المعزية بناها القائد جوهر [3] لمولاه الخليفة المعز بن القائم بن المهدي [4] ، وقلعة الجبل بناها قراقوش [5] للملك الناصر صلاح الدين أبي المظفر يوسف بن أيوب رحمه الله تعالى، وأول من سكنها أخوه العادل، وقد يفصل «2» بعض هذه الثلاثة ببعض بسورما، بناه قراقوش بها، إلا أنه قد يقطع الآن في (المخطوط ص 204)
__________
[1] هو عمرو بن العاص الذي فتح مصر وخط مدينة الفسطاط وهي قاعدة مصر لزمن طويل.
[2] ما زال هذا الاسم معروفا حتى الآن باسم مصر العتيقة ومصر القديمة.
[3] جوهر: هو جوهر الصقلي، قائد المعز لدين الله الفاطمي، فتح مصر وبلادا كثيرة في شمال أفريقيا والشام، وأسس ملكا واسعا للفاطميين (روضة الصفا 221- 222، الخطط المقريزية 1/27) .
[4] المعز لدين الله الفاطمي ابن القائم المهدي، كان ملكا شجاعا صاحب رأي، تولى حكم الدولة الفاطمية سنة 341 هـ، وانتقل إلى مصر سنة 361 هـ ومات سنة 365 هـ (انظر: روضة الصفا 221- 223، العبر وديوان المبتدأ والخبر 4/47، ابن الأثير 6/354، ابن كثير 11/233 حمد الله المستوفى 464) .
[5] قراقوش هو بهاء الدين أبو سعيد المعروف بقراقوش ومعناه بالتركية القصاب أو النسر الأسود، نشأ في خدمة صلاح الدين، وناب عنه في بعض الأحيان، بنى سور القاهرة وقلعة الجبل وقناطر الجيزة توفي سنة 1201 هـ اشتهر بأحكامه التعسفية التي هي محل شك المؤرخين (انظر: الموسوعة العربية الميسرة، شفيق غربال وآخرون 1373) .(3/423)
بعض الأماكن.
وهذا السور هو الذي ذكره الفاضل في كتاب كتبه إلى صلاح الدين فقال:
والله يحيى الموتى «1» حتى يستدير بالبلد من بنطاقه ويمتد عليها رواقه، فيها عقيلة ما كان معصمها ليترك بغير سوار ولا خصرهما ليخلى بلا منطقة نضار، والآن قد استقرت خواطر الناس وآمنوا به من يد تتخطف ومن طمع مجرم يقدم ولا يتوقف وقد عظمت، وبها المارستان [1] المنصوري [2] المعدوم «2» النظير لعظمة بنائه، وكثرة أوقافه، وسعة انفاقه، وتنوع الأطباء وأهل الكحل [3] والجراح «3» به، وهو جليل المقدار، جميل الآثار جزيل الإيثار، وقفه السلطان الملك المنصور قلاوون [4] رحمه الله.
وبها البساتين الحسان والمناظر النزهة والأدر المطلة «4» على البحر وعلى الخلجانات الممتدة فيه أوقات مدها، وبها القرافة تربة عظمى لمدفن أهلها.
وبها العمائر الضخمة، وبها المتنزهات المستطابة، وهي من أحسن البلاد أيام ربيعها للقدر [5] الممتدة من مقطعات النيل بها، وما يحفها من زروع أخرجت
__________
[1] دار الشفاء.
[2] نسبة إلى المنصور سيف الدولة قلاوون الذي حكم مصر سنة 1279 م- 1290 م (المنجد في الأعلام ص 546) .
[3] أطباء العيون.
[4] الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي وكان معروفا بالألفى لأن الملك الصالح أيوب اشتراه بألف دينار ذهبا وهو من بلاد القبجاق، تولى حكم مصر ما بين سنة 1279 م- 1290 م (انظر:
رحلة ابن بطوطة 36) توفي 21 ذي الحجة 741 هـ (النجوم الزاهرة ج 10 أحداث سنة 741 هـ) .
[5] الغدر جمع مفرده غدير وهو النهر الصغير (المعجم الصغير 2/669) .(3/424)
شطآها [1] وفتقت أزهارها. وبها الآثار القديمة الدالة على حكمة بانيها كالأهرام وأشهرها الهرمان الكبيران بالجيزة [2] ، وبرابي أخميم [3] ، فأما بقية ما يذكر من البرابي والملاعب بالأشمونين وألصنا وقيط وعين شمس ومنارة الإسكندرية والبيت الأخضر بمصر يوسف عليه السلام، فكل هذه قد غير الدهر معالمها، وطمس آثار غالبها، وشرع الخراب بالهرمين الكبيرين والبراي بأخميم لأخذ حجارتها، وتغيير بهجتها [4] . وبها الصنم المقارب للهرمين المسمى عند العامة بأبي الهول وهو صنم كبير لا يبين منه إلا إلى قريب نصفه.
والقول في الأهرام والبرابي «1» كثير، والأقرب أن الأهرام هياكل لبعض الكواكب، فأما البرابي فقال لي الحكيم شمس الدين أبو عبد الله محمد بن شقير الدمشقي أنه رآها وأجاد تأملها، فوجدها مشتملة على جميع أشكال الفلك، وأن الذي ظهر له أنه لم يعملها حكيم واحد ولا ملك (المخطوط 205) واحد بل تولى عملها قوم بعد قوم حتى تكاملت في دور كامل وهو ستة وثلاثون ألف سنة [5] ، لأن مثل هذه الأعمال لا تعمل إلا بأرصاد، ولا يكتمل
__________
[1] إشارة إلى قوله تعالى: ... وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ ...
[الفتح، من الآية 29] .
[2] يقصد هرم خوفو وخفرع ولم يذكر هرم منقرع حيث كانت الرمال ترتفع حوله، ولم يحدد ابن بطوطة المعاصر للمؤلف عدد الأهرامات (رحلة ابن بطوطة 36) .
[3] البرابي جمع مفرده بربى وهو مبني بالحجارة في داخله نقوش وكتابة للأوائل لا تفهم في هذا العهد، أما أخميم فهي مدينة عظيمة البنيان عجيبة الشأن (رحلة ابن بطوطة 41) .
[4] أكد ذلك ابن بطوطة في حديثه عن أخميم 41.
[5] ذكر ابن بطوطة إنها بنيت في ستين سنة وكتب عليها، بنينا هذه الأهرامات في ستين سنة، فليهدمها من يريد ذلك في ستمائة سنة، وقول ابن بطوطة عن المدة الزمنية أقرب إلى الصواب أما العبارة التي ذكرها فهي منكرة لأنه لم يكن قد تم فك رموز اللغة الهيروغليفية وكما ذكر هو نفسه أنها لا تفهم (انظر الرحلة ص 36- 41) .(3/425)
رصد المجموع «1» في أقل من هذه المدة المذكورة، هذا ما أخبرني به عنها.
وكتب القاضي محيي الدين بن الزكي إلى القاضي الفاضل كتابا ذكر فيه مصر وسماها بالمومسة، فعز ذلك عليه، وذكر في جوابه إليه، وهجم بي التأمل على لفظة أطلقها على مصر، وكنى بها عنها، ووصمها بما وسمها، وبث في القلوب عصمها، وأظنه عاقبها بذنب فرعون حين قال: أنا ربكم الأعلى [1] وحين قال أليس لي ملك مصر كما فعل الرشيد [2] ، وولى الخصيب [3] ، فإن كان إلى ها هنا ذهب، فقد غاب عاقبها بذنب لم يجبه، وهدمها بأمر لم تنبه، وعلى كل حال فلو كان على نفس لكنت معه عليها، ولو بعث سهما إليها لتولت يدي إيفاده إليها، فلقد أخرجني من أرضي بسحره، وندم خادمه على ما فات فيها من عمره، فهو الآن لا يرفع إليها طرفا من كسله، (ولا يرى نيلها إلا أقل من مسل برد أو وشلة) «2» وإذا رأى دينارها الأحمر، قال: به حمرة من خجله، وإذا رأى ابريزها [4] الأسود، قال: من سواد عمله، وإذا رأى هرميها، قال: انكسر نهداها، وإذا رأى ملتها الحاقة قال: شاب قوادها، ثم راجع النظر فإذا اللفظة التي أطلقها سيدنا عليها وهي المومسة تأبى العلقة، فكيف له أن يقذف المستورة بهذا القذف؟ ويهجم على خدرها بهذا الوصف؟! وقد وفد إليها عن شامه حين أخذ الكفر بمخنق إسلامه، فانجدته واصرخته، وسكنت الروع
__________
[1] إشارة إلى قوله تعالى: فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى
[النازعات، الآية: 24] .
[2] يقصد هارون الرشيد الخليفة العباسي.
[3] الخصيب: غضب الرشيد على أهل مصر فولى عليهم أحقر عبيده. وأصغرهم شأنا، قصدا لإذلالهم والتنكيل بهم وكان خصيب أحقرهم وكان يتولى تسخين الحمام، فولاه مصر، فسار فيهم سيرة حسنة غير ما كان الرشيد يبغيه (رحلة ابن بطوطة 40) .
[4] وردت بالمخطوط إبليزها ويقصد العملة السوداء أ 205 ب ر 135(3/426)
وأفرحته، وعاد إلى الفائت الدرك، وقالت الناس ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك [1] وإذا كانت دمشق من عتقاء مصر فلا فخر لها أن تكن مولاتها مومسة، وقد سترت هذه اللفظة، فما كأنها دخلت كتابه ولا مجلسه.
قلت: وأما الشام فيزرع غالبه على المطر، وهو من جميع ما ذكر في مصر من الحبوب، ومنه ما هو على سقى الأنهار وهو قليل.
وبها أنواع الأشجار وأجناس الثمار (المخطوط ص 206) من التين والعنب والرمان والسفرجل والتفاح والكمثرى والأجاص والقراصيا والتوت والفرصاد والمشمش والزعرور والخوخ وهو المسمى عندهم الدراقن، وأجلها بدمشق من غالب ذلك على أنواع منوعة وأجناس متعددة شتى، ومنها فواكه تأتي في الخريف وتبقى إلى الربيع كالسفرجل والتفاح والرمان والعنب وبها الجوز واللوز والفستق والبندق، وبها الليمون والأترج والنارنج والكباد والموز وقصب السكر، من أغوارها يحمل إليها من نحو يومين وأزيد.
وبها البطيخ الأصفر والأخضر على أنواع والخيار والقثاء واليقطين واللفت والجزر والقرنبيط [2] ، والهليون والباذنجان والملوخية والبقلة اليمانية والرجلة «1» ، وغير ذلك من أنواع الخضروات المأكولة.
ونهر دمشق الخاص بها بردى [3] ، وبها غيره من الينابيع والأنهار المارة «2» فيما حولها.
__________
[1] إشارة إلى قوله تعالى: ... وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ
[يوسف، من الآية:
31] .
[2] وردت بالمخطوط القنبيط.
[3] وردت بالمخطوط بردا وهو نهر بردى.(3/427)
وبها الأوز والدجاج والحمام وكثير من أنواع الطير، ولا تكون الفراريج إلا بحضانة لا كما يعمل في مصر، ولقد ذكر أنه جاءها شخص من مصر زمن الصيف، وعمل بها في حاضرة العقيبة «1» مع الفراريج، وطلعت به الفراريج، فلما أتى زمن الخريف لم تطلع معه وخسر وترك ذلك وعاد إلى مصر، وأسعار اللحم أرخص من مصر، وأما الدجاج فنظيرها.
وأما الأوز فأغلى، وبها العسل متوسط، ويعمل بها السكر، ومنه المكرر، وهو بأزيد من سعره بمصر، ولا يكثر، وبها أنواع الرياحين الآس والورد والبنفسج والنيلوفر والخلاف والنرجس والمنثور والياسمين والترنجان «2» والمرزنجوش [1] والنمام والنسرين، وإلى وردها وبنفسجها النهاية حتى أنه «3» عطل وردها، وما يستخرج من مائة ما كان يذكر من حور ونصبين وماء الورد ينقل «4» إلى غالب البلاد (وبالشام الزيتون الكثير ومنه يحمل إلى كثير من البلاد) «5» وبها أشياء كثيرة خاصة بها.
وغالب مباني الشام بالحجر، ودورها أصغر مقادير من دور مصر، ولكنها أزيد زخرفة منها، وإن كان الرخام بها أقل، وإنما هي أحسن أنواعا وعناية أهل دمشق بالمباني كثيرة، ولهم في بساتينهم منها ما تفوق به (المخطوط ص 207) وتحسن به، وإن كانت حلب أجل بناء لعنايتهم بالحجر، فدمشق أزيد وأكثر رونقا لتحكم الماء على مدينتها، وتسلطه على جميع نواحيها.
__________
[1] المرزنجوش: عشب طيب الرائحة، له فروع طويلة وأوراق دقيقة، وأزهار بيضاء تميل إلى الحمرة، يستخدم في الطب يسمونه بالعربي آذان الفار، الكلمة فارسية مرزنگوش (فرهنگ عميد 2/1788) .(3/428)
وبجميع الشام وجوه الخير كثيرة من المدارس والخوانق، والربط والزاويا، للرجال والنساء والمارستانات [1] وأوقاف البر والصدقات على اختلافها، وخصوصا دمشق، فإنه لا يطاول في ذلك باعها، ولا يحاول في هذه الغاية ارتفاعها.
فأما مسجدها الجامع [2] فهو الفارق «1» بينها وبين ما سواها «2» والفائق بحسنه على كل المباني، في هذه المملكة مصر والشام، من محاسن (الأشياء ولطائف الصنائع، ما تكفى شهرته، وبها من أنواع الصناع في الأسلحة «3» والقماش والزركش [3] والمصوغ والكفت وغير ذلك مما يكاد يعد تفردها به، والرماح التي لا يعمل في الدنيا أحسن منها.
وأما عساكر هذه المملكة فمنهم من هو بحضرة السلطان، ومنهم من فرق في أقطار هذه المملكة وبلادها، ومنهم سكان بادية كالعرب والتركمان.
وجندها مختلط من أتراك وجركس وروم وأكراد وتركمان، وغالبهم من المماليك المبتاعين، وهم طبقات، أكابرهم من له إمرة مائة فارس، وتقدمة ألف فارس من هذا القبيل يكون أكابر النواب، وربما زاد بعضهم بالعشرة فوارس والعشرين، ثم أمراء الطبلخانات [4] ، ومعظم «4» من تكون له إمرة «5» أربعين
__________
[1] دور الشفاء.
[2] يقصد المسجد الأموي بناه الوليد بن عبد الملك بن مروان وهو من أعظم المساجد وأتقنها صناعة وأبدعها حسنا وبهجة وكمالا، ولا يعلم له نظير ولا يوجد به شبيه (انظر: وصف ابن بطوطة رحلته 163) .
[3] المذهب.
[4] الذين يدق لهم الطبل وهم عادة قواد أربعين فما فوق.(3/429)
فارسا، وقد يوجد فيهم من له أزيد من ذلك إلى السبعين.
ولا تكون الطبلخانات لأقل من أربعين، ثم أمراء العشرات ممن تكون له إمرة عشرة، وربما كان فيهم من له عشرون فارسا، ولا يعد إلا في أمراء العشرات، ثم جند الحلقة وهم لا تكون مناشيرهم من السلطان، كما أن مناشير الأمراء من السلطان، وأما أجناد الأمراء فمناشيرهم من أمرائهم وهؤلاء جند الحلقة لكل عدة أربعين نفرا مقدم منهم، ليس له عليهم حكم إلا إذا خرج العسكر، كانت مواقفهم معه، وترتيبهم في موقفهم إليه.
ويبلغ بمصر أقطاع بعض أكابر الأمراء المئين المقربين من السلطان مائتي ألف دينار حبشية وربما زادت على ذلك، وأما غيرهم فدون ذلك [1] ودون (المخطوط ص 208) دونه، ودون دونه، ودون دونه إلى ثمانين ألف دينار، وما حولها.
وأما الطبلخانات فتبلغ الثلاثين «1» ألف دينار وما يزيد وينقص عليها إلى ثلاثة وعشرين ألف دينار.
وأما العشرات فنهايتها سبع آلاف دينار إلى ما دون ذلك.
وأما إقطاعات جند الحلقة فمنه ما يبلغ ألف وخمسمائة دينار.
ومن هذا المقدار وما حوله إقطاعات أعيان الحلقة المقدمين عليهم، ثم ما دون ذلك إلى مائتين «2» وخمسين دينارا، وأما إقطاعات جند الأمراء فإلى ما يراه الأمير من زيادة بينهم ونقص.
وأما إقطاعات الشام فلا تقارب هذا المقدار، بل تكون على الثلثين منها خلا ما ذكرناه عن بعض أكابر أمراء المئين المقربين، فإن هذا نادر لا حكم له، ولا أعرف
__________
[1] عبارة مكررة.(3/430)
في الشام ما يقارب هذا المقدار إلا ما هو لنائب الشام، وكل جند الحلقة والإمرة «1» تعرض بديوان جيش السلطان، ويثبت باسمه وهيئته وحليته «2» ، ثم لا يستبدل به أميره إذا شاء إلا بتنزيل عوضه وعوض العوض.
وللأمراء على السلطان في كل سنة ملابس، فأما من بحضرته فحظهم في ذلك، وأقر لهم الخيول في كل سنة، ينعم بها عليهم، ولأمراء المئين مسرجة ملجمة، والبقية عرى، وتمتاز خاصتهم على «3» عامتهم بذلك، ولجميع الأمراء بحضرته من المئين والطبلخانات والعشرات الرواتب الجارية في كل يوم من اللحم وتوابله كلها والخبز والشعير والزيت، ولبعضهم الشمع والسكر والكسوة في السنة، وكذلك لجميع مماليك السلطان وذوي الوظائف من الجند. وإذا نشأ لأحد الأمراء ولد، أطلق له دنانير ولحم وخبز وعليق إلى أن يتأهل «4» الإقطاع في جملة الحلقة، ثم منهم من ينقل إلى العشرة أو إلى الطبلخانات على حسب الحظوظ والأرزاق، وإذا ركب هذا السلطان إلى الميدان يلعب الكرة [1] ، يفرق حوائص ذهب على المقدمين وركوبه إلى الميدان يكون دائما يوم السبت في قوة الحر نحو شهرين من السنة، يفرق كل ميدان على اثنين بالنوبة، فمنهم من تجىء نوبته بعد ثلاث سنين (المخطوط 209) أو أربع سنين، ولكل ذي إمرة بمصر من خواص عليه السكر والحلوى [2] من رمضان والأضحية في عيد الأضحى على مقادير رتبهم والبرسيم لتربيع [3] دوابهم، ويكون في تلك المدة بدل العليق «5»
__________
[1] لعبة الصولجان المسماة بالفارسية جوگان وهي عصاة معقوفة يلعب بها الفارس وهو فوق حصانه بضرب الكرة على الأرض.
[2] وردت بالمخطوط الحلوا.
[3] علف الدواب في فصل الربيع.(3/431)
المرتب لهم.
ومن مصطلح صاحب مصر أن تكون تفرقته الخيل «1» على أمرائه في وقتين، أحدهما عند ما يخرج إلى مرابط خيله في الربيع عند اكتمال «2» تربيعها. وفي ذلك الوقت يعطي أمراء المئين مسرجة له ملجمة، بكنابيش [1] مذهبة، والطبلخانات عريا، وعند لعبه بالكرة في الميدان، وفي ذلك الوقت يعطى الجميع مسرجة ملجمة بلاكنابيش بفضة خفيفة، وليس للعشرات حظ في ذلك إلا ما يتفقدهم به على سبيل الأنعام، والخاصة المقربين من الأمراء المئين والطبلخانات زيادات كثيرة في ذلك بحيث يصل إلى بعضهم «3» المائة فرس في السنة.
وله أوقات أخرى يفرق فيها الخيل على مماليكه، وربما أعطى بعض مقدمي الحلقة، وقاعدة عنده أنه إذا كل من نفق له من مماليكه فرس يحضر من لحمه والشهادة بأنه نفق، ويعطيه فرسا عوضه.
وأما أمراء الشام فلاحظ لأحد منهم في أكثر من قباء واحد يلبس في وقت الشتاء إلا من تعرض يقصد السلطان، فيحسن إليه، ولخاصة المقربين أنواع من الإنعامات كالعقار والأبنية الضخمة، التي ربما أنفق على بعضها أزيد من مائة ألف دينار، وكساوي القماش المنوع، وفي أسفارهم في أوقات خروجهم إلى الصيد، وغيرها العلوفات والإنزال.
ومن عادة هذا السلطان أن الخروج إلى الصيد مرات في السنة، فإذا خرج أنعم على أكابر أمراء المئين، ولا أعني المقربين، بل أكابرهم قدرا وسنا، كل واحد منهم بألف مثقال ذهبا، وبرذون خاص به مسرج ملجم وكنبوش مذهب، ومن
__________
[1] كنبوش: جمع كنابيش وهو البرذعة تجعل تحت السرج، فارسية، وهو برقع يغطى به الوجه، وهنا يعني برذعة (انظر كنبوش في المنجد في اللغة ط 29 بيروت دار المشرق 1960 ص 699) .(3/432)
عادته أنه إذا مر في متصيداته بأقطاع أمير كبير قدم له من الغنم والأرز والدجاج وقصب السكر والشعير ما تسمو همة مثله إليه، فيقبله منه، وينعم عليه بخلعة كاملة، وربما أمر لبعضهم بمبلغ من المال، (المخطوط ص 210) .
ومن شعار سلطنة هذه المملكة أن يركب سلطانها في يوم (دخوله إلى مدينة يحبها، ويوم العيد وأيام ركوبه إلى الميدان للعب) «1» الكرة برقبة، وهي بزرگش ذهب على أطلس أصغر يعمل على رتبة الفرس من تحت أذنيه إلى نهاية العرق، ويكون قدامه اثنان من أوشاقيته راكبين على حصانيين أشهبين برقبتين نظير ما هو راكب كأنهما معدان لأن يركبهما، وعلى الوشاقيين [1] المذكورين قباءان [2] أصفران «2» من حرير بطرازين مزركش بالذهب «3» وعلى رأسيهما قبعان مزركشان وغاشية السرج محمولة أمامه دائما [3] «4» وهي أديم مزركش بذهب يحملها بعض الركاب دائرة قدامة، وهو ماش في وسط الموكب، ويكون قدامه فارس يشبب بسبابة «5» ، لا يقصد بنغمها الإطراب بل ما يقرع بالمهابة سامعه، ومن خلفه الجنائب، وعلى رأسه العصائب السلطانية، وهي صفر مطرزة بذهب بألقابه واسمه في يوم العيدين ودخول المدينة، يزيد على ذلك برفع المظلة على رأسه، وهي الجتر [4] ، وهو أطلس أصفر مزركش على أعلاه قبة وطائر من فضة مذهبة يحملها يومئذ بعض أمراء المئين الأكابر، وهو راكب فرسه إلى جانبه،
__________
[1] الوشاقين جمع مفرده وشاق بكسر الواو من أوشاق التركية وتعني الغلمان ذوي الوجوه الجميلة، (فرهنگ رازي 996) .
[2] وردت بالمخطوط قباوان.
[3] وردت بالخطوط دايم.
[4] المظلة السلطانية.(3/433)
وأرباب الوظائف والسلاح كلهم خلفه وحوله وأمامه الطبردارية [1] وهم طائفة من الأكراد، ذوي الإقطاعات والإمرة يكونون مشاة وبأيديهم الأطبار [2] مشهورة.
ومن رسم الأمراء أن يركب الأمير منهم حيث يركب وخلفه جنيب، وأما أكابرهم فربما ركب بجنيبين، هذا في المدن والحاضرة، وهكذا في البر، ويكون لكل منهم طلب مشتمل على أكثر مماليكه قدامهم خزانة محمولة للطبلخانات على جمل واحد يجره راكب آخر على جمل، والمال على جملين وربما زاد بعضهم على ذلك، وأمام الخزانة عدة جنائب تجر على أيدي مماليك ركاب خيل وهجن في ركابه من العرب على هجن، وأمامها الهجن بأكوارها مجنوبة للطبلخانات قطارا واحدا وهو أربعة (المخطوط ص 211) ومركوب الهجان والمال قطاران، وربما زاد بعضهم وعدد الجنائب في كثرتها وقلتها إلى رأي الأمير وسعة نفسه.
والجنائب على ما تراه منها ما هو مسرج وملجم ومنها ما هو بعنانه لا غير، وأهل هذه المملكة يضاهي بعضهم بعضا في الملابس الفاخرة والسروج المحلاة والعدد الفاخرة.
وأما زيهم فالأقبية التترية والتكلاوات [3] «1» فوقها، ثم القباء الإسلامي
__________
[1] الطبردارية جمع مفرده طبردار وهو من اللفظ التركي تبر بمعنى بلطة وهي آلة حرب قديمة ودار بمعنى صاحب والطبردارية هم حملة البلط (فرهنگ عميد 1/534) .
[2] أطبار جمع طبر، والطبر هي تبر التركية بمعنى سلطة، وآلة حرب قديمة (فرهنگ رازي 128) .
[3] التكلاوات جمع مفرده تكلاة وهي قبعة ذات قرن تلبس على الرأس وهي قلنسوة مغولية في الأصل حيث تشبه قرن الحيوان (فرهنگ عميد 1/604) .(3/434)
فوقها، وعليه تشد المنطقة والسيف، ثم الأمراء المقدمون وأعيان الجند تلبس فوقه أقبية قصيرة الأكمام أقصر من القباء التحتاني بلا تفاوت كثير في قصر الكم والطول وكلوتات [1] صغار غالبها من الصوف الملطي الأحمر، وعليها عمائم صغار ومهاميز على الأخفاف، ويعمل المناديل على الحياصة على الصولق من الجانب الأيمن.
هذا هو زي أهل هذه المملكة ومعظم حوائصهم الفضة ومنهم من يعملها من الذهب، وربما عملت باليشم [2] ولا ترصع بالجواهر إلا في خلع السلطان لأكبار المئين، ومعظمهم يلبس المطرز ولا يكفت مهمازه بالذهب أو يلبس المطرز إلا من له أقطاع في الحلقة، وأما من هو يقدر بالجامكية [3] فإنه لا يتعاطى على ذلك، وعلى الجملة فزيهم ظريف وعددهم فائقة نفيسة، وملبوسهم منوع من الكمخا والخطائى والكبخى والمخمل والاسكندراني والشرب والنصافي والأصواف.
__________
[1] كلوتات جمع مفرد. كلوته وهي قلنسوة من القطن تغطي الأذنين (فرهنگ عميد 2/1648) .
[2] البشم والصوف (فرهنگ رازي 108) .
[3] الجامكية: حملة القماش والثياب.(3/435)
ذكر هيئة جلوسه للمظالم
عادة هذا السلطان أن يجلس بكرة الاثنين [1] ما كان بالقلعة خلا شهر رمضان، فإنه لا يجلس فيه هذا المجلس، ومجلسه هذا هو في أبواب ظاهر قصره قريبا من بابه، وهو إيوان متسع على عمد منه مرتفع السمك أمامه رحبة فسيحة، يسمى هذا الإيوان «دار العدل» وفيه تكون الخدمة العامة، واستحضار رسل الملوك غالبا، فإذا قعد للمظالم كان جلوسه على كرسي، إذا قعد عليه تكاد تلحق الأرض رجليه، وهو منصوب إلى جانب المنبر الذي هو تخت الملك ويجلس على يمينه قضاة القضاة من المذاهب الأربعة [2] ثم الوكيل عن بيت المال ثم الناظر (المخطوط ص 212) في الحسبة، ويجلس على يساره كاتب السر، وقدامه ناظر الجيش وجماعة الموقعين تكملة حلقة دائرة وإن كان، ثم وزير من أرباب الأقلام، كان بينه وبين كاتب السر، وإن كان الوزير من أرباب السيوف كان واقفا [3] على بعد مع بقية أرباب الوظائف وكذلك إن كان:
ثم نائب يقف «1» مع أرباب الوظائف، ويقف من وراء السلطان صفان عن يمينه وشماله «2» من السلاح داريه [4] والجمداريه [5] والخاصكية [6] ويجلس
__________
[1] ذكر ابن بطوطة أنه كان يجلس الاثنين والخميس (ص 37) .
[2] وهم قاضي الشافعية وقاضي الحنفية، وقاضي المالكية وقاضي الحنبلية.
[3] عبارة مكررة.
[4] السلاحدارية: حملة السلاح.
[5] الجمدارية: حملة الملابس والقماش.
[6] الخاصكية: وهم الخاصة من اللفظ الفارسي خاصگان (فرهنگ عميد 1/821) .(3/436)
على بعد تقدير خمسة «1» ذراعا عن يمينه ويسرته ذوو السن من أكابر «2» أمراء المئين، وهم أمراء المشورة، ويليهم من أسفل منهم أكابر الأمراء وأرباب الوظائف وقوف، وبقية الأمراء وقوف من وراء أمراء المشورة، ويقف خلف هذه الحلقة المحيطة بالسلطان الحجاب والدواداريه [1] ، لإحضار قصص الناس. وإحضار المساكين، وتقرأ عليه، فما احتاج إلى مراجعة القضاة راجعهم فيه وما كان متعلقا بالعسكر تحدث مع الحاجب وكاتب الجيش فيه، ويأمر في البقية بما يراه.
__________
[1] الدوادارية: الكتاب.(3/437)
ذكر هيئة في بقية الأيام
عادة هذا السلطان في يوم الاثنين ما تقدم ذكره، وكذلك في يوم الخميس على مثل هذه الهيئة أيضا إلا أنه لا يتصدى فيه لسماع القصص ولا يحضره أحد من القضاة وكاتب الجيش والموقعين إلا عرضت حاجة إلى طلب أحد منهم وهذا القعود عادته في طول السنة ما دام أنه بالقلعة في الاثنين والخميس غير رمضان أيضا.
وأما بقية الأيام فإنه يخرج من قصوره الجوانية إلى قصره «1» الكبير البراني، وهو بشبابيك مطلة على اصطبلاته، وفي صدره تخت الملك المختص، فيقعد تارة عليه، وتارة «2» دونه على الأرض، والأمراء وقوف على ما تقدم خلا أمراء المشورة والغرباء منه كأنه «3» ليس لهم عادة بحضور هذا المجلس ولا يحضر هذا المجلس من الكبار إلا من دعت الحاجة إلى حضوره ثم يقوم في الثالثة (المخطوط 213) من النهار، ويدخل إلى قصوره الجوانيه، ثم إلى دار حريمه ونسائه، ثم يخرج في أخريات النهار إلى قصوره الجوانية لمصالح ملكه، ويعبر إليه عليها خاصته من أرباب الوظائف في الأشغال المتعلقة به على ما تدعو [1] الحاجة إليه.
__________
[1] وردت بالمخطوط تدعوا.(3/438)
ذكر هيئته في الأسفار
قد تقدم ذكر هيئته في الأعياد وأيام المؤادين، فأما في الأسفار فإنه لا يتكلف إظهار كل ذلك الشعار، بل يكون الشعار في موكبه السائر فيه جمهور مماليكه مع المقدم عليهم، واستاذ دار [1] ، وأمامهم الخزائن والجنائب والهجن، وأما هو بنفسه فإنه يركب ومعه عدة كثيرة من الأمراء الكبار والصغار من الغرباء والخواص ونخبة من خواص مماليكه، ولا يركب في السير برقبه ولا بعصائب، بل تتبعه جنائب خلفه، ويقصد في الغالب تأخير النزول إلى الليل، فإذا جاء حملت قدامه فوانيس كثيرة ومشاعل، فإذا قارب مخيمه تلقى بشموع مركبة في شمعدانات [2] كفت، وصاحت الجاويشيه [3] بين يديه، وترجلت الناس كافة إلا حملة السلاح داريه [4] والوشاقية وراءه، ومشت الطبرداريه حوله حتى يدخل الدهليز الأول، ثم ينزل ويدخل إلى الشقة وهي خيمة مستديرة متسعة، ثم منها إلى شقة مختصرة، ثم إلى لاجوق، ومدار كل خيمة من جميع جوانبها من داخل سور خركاه [5] .
وفي صدر ذلك اللاجوق قصر صغير من الخشب ينصب له للمبيت فيه، وينصب بإزاء الشقة الحمام بالقدور والرصاص والحوض على هيئة الحمام المبني في المدن، إلا أنه مختصر، فإذا نام طافت به المماليك دائرة بعد دائرة، وطاف
__________
[1] استاذدار: هو المسؤول عن نفقات ومصاريف القصر من نفقات يومية على البلاط والمطبخ والاصطبل والمهام التترية (فرهنگ عميد 1/132) .
[2] شمعدانات جمع مفرده شمعدان بمعنى حامل الشمع مكون من كلمة عربية ولا حقة فارسية (فرهنگ رازي 541) .
[3] الجاويشية: لفظ تركي من جاووش بمعنى نقيب ومقدم الجيش، ومقدم الرحلة (فرهنگ عميد 1/726) .
[4] وردت بالمخطوط إلا حملت السلاح وراءه.
[5] خرگاه: الخيمة السلطانية (صبح الأعشى 2/131) .(3/439)
بالجميع الحرس، وتدور الزفة [1] حول الدهليز في كل ليلة مرتين الأولى عندما يأوى إلى النوم والثانية عند قعوده من النوم، كل زفة يدور بها أمير بابدار [2] ، وهو من أكابر الأمراء، وحوله الفوانيس والمشاعل والطبول والبياته «1» وينام على باب الدهليز النقباء وأرباب الدول «2» ، والنوب من الخدم.
ويصحب هذا السلطان في أسفاره من غالب ما تدعو الحاجة إليه حتى (المخطوط ص 214) يكاد يكون معه مارستان [3] لكثرة من معه من الأطباء وكثرة «3» أرباب الكحل [4] والجراح والأشربة والعقاقير وما يجري مجرى ذلك، وكل من عادة طبيب ووصف له ما يناسبه يصرف من الشراب خاناه [5] والدواخاناه [6] المحمولين في الصحبة.
ومن عادة هذا السلطان مد السماط طرفي النهار في كل يوم لعامة الأمراء خلا البرانيين وقليل ما هم، وأما بكرة فيمد سماط أول لا يأكل منه السلطان، ثم كان بعده يسمى الخاص قد يأكل منه السلطان وقد لا يأكل، ثم ثالث بعده ويسمى الطارئ ومنه مأكول السلطان.
__________
[1] وردت بالمخطوط الذفة.
[2] بإبداء: البواب، المسؤول عن الباب.
[3] دار الشفاء.
[4] أطباء العيون.
[5] الشراب خاناه هي شراب خانه أي بيت الشراب، ويعني مكان شراب السلطان (انظر: فرهنگ عميد 2/1297) ويعني هنا الصيدلية.
[6] الدواخاناه: هي دوا خانه وتعني صيدلية وتأتي أيضا دارو خانه، من اللفظ الفارسي (فرهنگ عميد 1/973) .(3/440)
وأما في أخريات النهار فيمد سماطان الأول والثاني المسمى بالخاص ثم إن استدعى بطار «1» حضر، وإلا فلا خلا المشوى منه فإنه ليس له عادة محفوظة النظام، بل هو على حسب ما يأمر به.
وفي كل هذه الأسمطة يؤكل ويفرق نوالات، ويسقى بعدها الأقسماء المعمولة من السكر، والأفاويه المطيبة بماء الورد والمبردة، ومن عادة هذا السلطان أن يبيت قريب مبيته في كل ليلة أطباق فيها أنواع من المطجنات [1] والبوارد والقطر والقشطة والجبن المقلي والموز والكيماخ، وأطباق فيها الأقسماء والماء المبرد برسم أرباب النوبة في السهر حوله ليتشاغلوا بالمأكول والمشروب عن النوم.
والليل مقسوم بالنوبة بينهم على الساعات الرمل [2] فإذا انتهت نوبة، نبهت التي تليها، ثم ذهبت هي فنامت (هي) «2» إلى الصبح هكذا أبدا سفرا وحضرا، وتبيت في المبيت المصاحف الكريمة لقراءة من يقرأ منهم، ويبيت الشطرنج ليتشاغل به عن النوم. وهذا السلطان يخرج أيام الجمع إلى الجامع «3» المجاور لقصره في القلعة، ومعه خاصة الأمراء، ويجيء بقية الأمراء من باب آخر للجامع، وأما السلطان فيصلى عن يمين المحراب في مقصورة خاصة به ويجلس عنده أكابر خاصته، ويصلي معه الأمراء خاصتهم وعامتهم خارج المقصورة عن يمينها ويسرتها على مراتبهم، فإذا سمع الخطبة وصلى صلاة الجمعة، دخل إلى قصوره ودور خدمه «4» (المخطوط ص 415) وحرمه، وتفرق الناس كل واحد إلى مكانه.
__________
[1] وردت بالمخطوط المطجنانات.
[2] كانت الساعات الرملية هي المستعملة.(3/441)
ذكر انتهاء الأخبار إليه
عادة هذا السلطان أن يطالعه نوابه في مملكته مما يتجدد عندهم من مهمات الأمور أو ما قاربها، وتأخذ أوامره، وتعود أجوبته عليهم بما يراه، وبين السلطان وجميع بلاد ممالكه مراكز بين المركز والمركز أميال، في كل مركز عدة خيل بريد للسلطان من الجند أناس بريديه في حضرته، وفي كل بلد لحمل الكتب والعود بأجوبتها، فإذا ورد بريدي بلد من بلاد مملكته أو عاد المجهّز من بابه، أحضره أمير جاندار [1] «1» ، وهو من أمراء المئين، والدوادار وكاتب السر بين يديه، فيقبل الأرض ثم يأخذ الدوادار الكتاب فيمسحه بوجهه البريدي، ثم يناوله السلطان، فيفتحه، ويجلس كاتب السر، فيقرأه عليه، ويأمر فيه بأمره.
ومما ينهى إليه من الأخبار ما يكتب في ورق خفيف صغير ويحمل على الحمام الأزرق، وللحمام مراكز كل مركز منها ثلاثة من مراكز خيل البريد أو أزيد، لا يتعدى الحمام ذلك المركز، ولا يمكنه تجاوزه، فإذا حمل الكتاب خلوه بنوع معزى «2» ليعرف، فلا يعارض ثم يسرح «3» ، فإذا وصل إلى المركز المعد له أخذ عنه، ونقل على حمام غيره، من ذلك المركز من مكان إلى مكان إلى حضرة السلطان.
__________
[1] جاندار: من اللفظ الفارس جانه دار وتعني الحرس الخاص بالسلطان، وكان يحمل سيفا ويسير بجوار السلطان، وهو بالعربية جندار وجمعه جنادره (فرهنگ عميد 1/673) .(3/442)
ومن عادة هذه المملكة «1» أن ولاة أمور المدينة، وهم أصحاب الشرط تستعد مجددات «2» ولا يأتهم في كل نهار ممن هم على المحلات من قبلهم، ثم يكتب متولى الشرطة مطالعة جامعة ما يبعث إنهاؤه من ذلك، وعمل إلى السلطان هذا بمتجددات ما يقع من قتل يقع أو حريق كبير [1] ، ويجرى مجرى ذلك، فأما يتبع الناس في أحوال أنفسهم فلا.
__________
[1] وردت بالمخطوط كبيرا.(3/443)
فصل
ومن عادة «1» جيوش هذه الممالك الركوب في يومي الاثنين والخميس في الموكب، وهو مكان فسيح يكون بكل مدينة بها عسكر فيسيرون به، ثم يقف العسكر مع نائب السلطان أو الحاجب، إن لم يكن، ثم نائب، وينادى على الخيل بينهم وربما نودى على كثير من آلات «2» الجند والخيم والخركاوات والأسلحة، وربما نودى على كثير من «3» العقار، ثم أن كانوا بمصر طلعوا إلى الخدمة السلطانية بالقلعة على ما قدمنا ذكره، والإذن لهم على الانصراف بعد أكل السماط، وإن كانوا في غير مصر نزلوا في خدمة النائب إلى مكان سكنه، وهو دار السلطنة، ويجلس النائب، وتقرأ عليه القصص، وينصف «4» المظلومين، ويمد السماط، ويأكل عامة الأمراء والجند، ثم ينصرفون، وتزداد عساكر الشام بركوب يوم السبت على هذين اليومين.
والنواب تقعد لقراءة القصص الاثنين والخميس والسبت، وربما قعدوا طرفي النهار في هذه الأيام كذلك، ومن عادة هذا السلطان أنه يكتب خطه على ما يأمر، وأما مناشير الأمراء والجند، وكل من له إقطاع فإنه يكتب عليه علامته وعلامة السلطان القائم الآن، السلطان الناصر [1] «5» ناصر الدنيا والدين أبي
__________
[1] الملك الناصر أبو الفتح محمد ابن الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي الألفي، وله سيرة كريمة وفضائل عظيمة، كفاه شرفا انتماؤه لخدمة الحرمين الشريفين (رحلة ابن بطوطة 36) كان ابن بطوطة في القاهرة وقت كتابة هذا المخطوط.(3/444)
المعالي محمد ابن الملك المنصور قلاوون، خلد الله دولته، الله أملى.
وأما تقاليد النواب وتواقيع أرباب المناصب من القضاة والوزراء والكتاب، وبقية أرباب الوظائف، وتواقيع أرباب المناصب من القضاة وتواقيع الرواتب والإطلاقات فإنه يكتب عليها اسمه واسم أبيه صورته محمد بن قلاوون.
وأما كتب البريد وخلاص الحقوق والظلامات، فإنه يكتب عليها أيضا اسمه، وربما كرم من يكتب إليه، فأما من كرمه من ذوي السيوف كتب له والده محمد بن قلاوون، وأما من كرمه من ذوي العمائم المدورة من القضاة والوزراء كتب أخاه بدلا من والده.
فأما الإقطاعات فالرسم فيها أن يقال (خرج الأمر الشريف، وأما الوظائف والرواتب والإطلاقات فالرسم فيها أن يقال) «1» رسم بالأمر الشريف، وليس بموضع استيعاب أوضاع المكاتبات ولو أخذنا في هذا لطال، ولكننا نذكر نبذة تتعلق بالمناشير والتقاليد والتواقيع إذ كانت هي الأصل لجريان الأرزاق بها فأعلاها ما أفتتح بخطبة الحمد لله (المخطوط ص 217) ثم ما افتتح بخطبة أولها أما بعد حمد الله حتى يأتي على خرج الأمر في المناشير أو رسم في الأمر بالتواقيع «2» ، ثم بعد هذا أنزل الرتب، وهو أن يفتتح في المناشير خرج الأمير، وفي التواقيع رسم بالأمر.
ويمتاز المناشير المفتتح فيها بخطبة الحمد لله بطغرا [1] بالسواد تضمن اسم السلطان وألقابه، ومن عادة السلطان في الإقطاعات للجند أن يتولى بنفسه
__________
[1] الطغرا: لفظ تركي وهو يعني التوقيع أو العلامة التي تكون على الرسائل والمسكوكات السلطانية ويقوم بها طغرائي (فرهنگ عميد 2/1400) .(3/445)
استخدامهم، فإذا وقف قدامه من يطلب الإقطاع المحول «1» ، ووقع اختياره على واحد أمر كاتب الجيش بالكتابة له، فكتب ورقة مختصرة تسمى المثال [1] ، مضمونها خبز فلان كذا ثم يكتب فوقه رسم المستقر له ويناولها السلطان، ويكتب عليها بخطه «2» ، ويعطيها الحاجب لمن رسم له، فيقبل الأرض ثم يعاد إلى ديوان الجيش، فتسك شاهدا عندهم، ثم تكتب مربعة مكملة بخطوط جميع الديوان الإقطاع، وهم ديوان الجيش وعلائمهم «3» ؛ ثم يؤخذ «4» عليها خط السلطان، ثم تحمل إلى ديوان الإنشاء بالمكاتبات، فتكتب المناشير ثم يعلم السلطان عليها علامة على ما تقدم ذكره، ثم يكمل ذلك المنشور بخطوط ديوان الإقطاع بعد المقابلة على صحة أصله.
فأما الاستخدام في البلاد النائبة فليس للنواب مدخل في تأمير أمير عوض أمير مات، بل إذا مات أمير سواء كان كبيرا أو صغيرا، طولع السلطان بموته، فأمر من أراد عوضه، أما فمن في حضرته ويخرجه إلى مكان الخدمة أو فمن في مكان الخدمة أو نقل إليه من بلد آخر على ما يراه في ذلك.
فأما جند الحلقة فإذا مات أحد منهم، استخدم النائب عوضه، فكتب على نحو من ترتيب السلطان المثال ثم المربعة، وتجهز المربعة مع البريد إلى حضرة السلطان، فيقابل عليها في ديوان الإقطاع «5» ، ثم يكتب عليها من ديوان الإنشاء كما تقدم في الجند الذين بالحضرة، وإن كان ما يمضيها السلطان،
__________
[1] المثال هي الأقصوصة وتعني المنحة والعطية التي يمنحها السلطان مكتوبة على ورقة وتأتي أحيانا بمعنى القصص.(3/446)
أخرجها لمن يرى، ثم يكون حكم الكتابة به حكم ما تقدم.
ومن مات من الأمراء والجند (المخطوط ص 218) قبل استكمال «1» مدة الخدمة حوسب وراثه على حكم الاستحقاق، ثم إما ترتجع منهم أو يطلق على قدر حصول العناية بهم.
وإقطاعات الأمراء والجند منها ما هو بلاد يستغلها مقطعها كيف شاء، ومنها ما هو نقد على جهات يتناولها منها، فأما أرزاق ذوي الأقلام من مبلغ يعين وغلة ولأعيانهم الرواتب الجارية في اليوم من اللحم بتوابله أو غير توابله والخبز والعليق، ولأكابرهم السكر والشمع والزيت والكسوة في كل سنة والأضحية.
وفي رمضان السكر والحلوى وأكبر من هؤلاء كالوزير له في المدة مائتان وخمسون دينارا حبشية، ومعه ما ذكر من الأصناف والغلة إذا تسطر ونمت كانت بنظيرها ثم ما دون ذلك وما دون دونه، ومن هو في الحضرة آمين في ذلك.
وأما القضاة والعلماء، فالقضاة أرزاقهم على السلطان وأكثرها خمسون دينارا كل شهر، ولهم المدارس التي يستدر من أوقافها، وفي دمشق معالم حكامها على وقف بمصالح المسلمين مضاف إلى مال مسجدها الجامع.
وأما العلماء فليس لأحد منهم شيء إلا من أوقاف مدارسه إلا من له على سبيل الراتب أو الإدراري [1] ، وذلك قليل نادر لا حكم له، فنعرج على ذكره.
ولهذا السلطان صدقات جارية ورواتب داره منها ما هو أرض من بلاد، ومنها ما هو مرتب على جهات من مبلغ وغلة وخبز ولحم وزيت وكسوة، واللحم والزيت والكسوة قليل نادر لمن حصلت له عناية، فأما الأرض والمبلغ
__________
[1] الإدرار هو الأراضي والعقارات التي تكون دخلا على صاحبها.(3/447)
والغلة والخبز فكثير جدا، ومتسع مرة «1» ، وفي الغالب يتوارثه الأبناء عن الآباء، والأخ عن الأخ وابن العم عن ابن العم حتى أن كثيرا ممن يموت، ويخرج أدراره من مرتبه لأجنبي فيحضر القريب بعد ذلك، ويقدم قصته، يذكر فيها أولويته بما كان لقريبه فيستعاد له.
وفي هذه المملكة قائمة شعائر الإسلام بالمساجد والخطبات في جميع القرى، وأما الأرزاق والإدرارات فلا تؤخذ إلا بتواقيع (المخطوط ص 219) السلطان ما قل منها وما جل.
وهذه المملكة تشتمل على عدة من القلاع والحصون والمعاقل وبكل منها نائب وحاكم شرعي وخطيب ومؤذن وكحال وجرائحي وحفظة ولحفظتها جوامك [1] لا إقطاعات وبها آلات التحصين وذوو أعمال وصناعات والحجارين والنجارين والحدادين وما تدعو إليه الضرورة في مثل ذلك.
__________
[1] جوامك: مفردها جامك وجومك وهو المقرر الخاص بموظفي الدولة والجيش (فرهنگ عميد 1/670) .(3/448)
زي ذوي العمائم المدورة
نبدأ بالقضاة والعلماء، وزيهم دلق متسع بغير تفريج فتحة على كتفه، وشاش كبير منه ذؤابة بين الكتفين طويلة، وأما من دون هؤلاء فالفرجية الطويلة الكم بغير تفريج والذؤابة أيضا، فأما زهادهم فيقصر الذؤابة ويميلها إلى الكتف الأيسر على المسنون، ولا يلبس أحد منهم الحرير ولا ما فيه الحرير، ومنهم من يلبس الطيلسان.
فأما قاضي القضاة الشافعي، فرسمه الطرحة «1» ، وبها يمتاز ويركب أعيان هذه الطائفة البغلات بسروج غير مفضضة ويتخذ عوض الطمنكيات [1] «2» في السروج عرقشينات [2] وهي شبيه بثوب السرج، مختصر منها، وهو من جوخ، وقد يكون من أنواع الأديم، ويشق ويعمل بين السرج ومثرته، وقضاتهم تعمل بدلا من الكنبوش [3] الزناري وهو من الجوخ شبيه بالعباءة المجوبة الصدر مستدير من وراء الكفل، لا يعلوه لا ذنب ولا قوش وربما ركبوا بالكنابيش وهؤلاء لجمهم كبار ثقال الوزن «3» .
وأما الوزراء والكتاب فزيهم الفرجيات المفرجة من الصوف ومن المحبرات
__________
[1] الطمنكيات.
[2] عرقشينات: من عرقجين وهي نوع من اللباس تحت السرج لامتصاص العرق (انظر: عرقجين فرهنگ عميد 2/1433) .
[3] الكنبوش: البرذعة التي توضع على ظهر الفرس تحت السرج.(3/449)
عمل الإسكندرية وغير ذلك، والنصافي والبياض، ويعمل أكابرهم البادهنجات [1] «1» في الأكمام، ويلبس البغالطيق من تحت فراجيهم، وربما لبسوا الجباب المفرجة من ورائها، ويختلف ركوبهم، وغالبه شبيه بالجند أو يقارب له، وتجمل هذه الطوائف بمصر أقل مما هم عليه بالشام في زيهم وملبوسهم ومركوبهم، إلا ما يحكى عن قبط مصر في بيوتهم من اتساع الأحوال والنفقات حتى أن الواحد منهم يكون في ديوانه بأردأ [2] اللباس ويأكل أدنى المأكل، ويركب (المخطوط ص 220) الحمار حتى إذا صار في بيته، انتقل من حال إلى حال، وخرج من عدم إلى وجود.
ولقد يبالغ الناس فيما يحكى من ذلك عنهم، لبعد أحوالهم [3] وتباين أمورهم [4] «2» فأما التجار وأخلاط عامة الناس، فتختلف أحوالهم في الملابس والزي حتى أن الفقراء وإن جمعهم زي الفقر وزيقه «3» ، وضمهم لباس التصوف، فإنهم تتباين حالاتهم في الملابس وأطوارهم في التشكلات.
__________
[1] البادهنجات جمع مفرده بادهنج وهي من الكلمة الفارسية بادآهنگ، فتحة تهوية (فرهنگ عميد 1/286- 291) .
[2] وردت بالمخطوط بأردى.
[3] وردت بالمخطوط أحاليهم.
[4] وردت بالمخطوط أمريهم.(3/450)
الكلام على أرباب الوظائف في هذه المملكة
نقول أن جميع الوظائف التي في حضرة السلطان لا تذكر منها إلا أعيانها، وأما صغار الوظائف فجزء من كل، فلا حاجة بنا إلى ذكرها، وكل ما نذكره مما هو في الحضرة نظيره في كل مدينة من قواعد مدن هذه المملكة، ويبقى الفرق ما بينهما الفرق بين «1» المكانين، فالوظائف الكبار «2» فمن ذوي السيوف، إمرة السلاح الدوادارية [1] «3» الحجوبية [2] ، إمرة جاندار [3] الاستاذ دارية [4] هي المهمندارية [5] ، نقابة الجيوش، الولاة، ومن ذوي الأقلام؛ الوزارة، كتابة السر، نظر الجيش، نظر الأموال، نظر الخزانة، نظر البيوت، نظر بيت المال، نظر الإصطبلات، ومن ذوي العلم؛ القضاة، الخطباء، وكالة بيت المال، الحسبة.
ثم نقول: إن هذا السلطان أبطل النيابة والوزارة بحضرته «4» ، وكان هو الذي يفرق الإقطاعات، ويعين الإمرة «5» ، وفي هذا القول كفاية.
__________
[1] الدوادارية: مفرده دوادار وهو الحاجب أو المسؤول عن توصيل الرسائل والشكاوى إلى السلطان، ويعرض البريد على السلطان.
[2] الحجوبية نسبة إلى الحاجب وهو القائم بالعرض على الملك (فرهنگ عميد 1/769) .
[3] جاندار: مقدم البريد (فرهنگ عميد 1/673) .
[4] استاذدار: المشرف على نفقات القصور السلطانية (فرهنگ عميد 1/132) .
[5] المهمندارية: المسئولون عن استقبال الضيوف (فرهنگ عميد 2/1875) .(3/451)
وأما الوزارة فكان يليها من أرباب السيوف والأقلام على قدر ما ينفق، وكان الوزير ثاني النائب في المكانة، فأما الآن فإن السلطان بقى المفرد بما كان للسلطنة من العظمة والنيابة في التصرف.
وأما الوزارة فإنه أبطلها واستخدم في أيام هذا السلطان وظيفة يسمى مباشرها نظر الخاص (المخطوط ص 221) أصل موضوعها «1» أن يكون مباشرها متحدثا فيما هو خاص بمال السلطان، ويتحدث في موضوع السلطان، وفي مجموع الأمر في الخاص بنفسه، وفي القيام بأخذ راية فيه، فبقى تحدثه فيه، وبسببه كأنه هو الوزير لقربه من السلطان، وزيادة تصرفه، ولنذكر وضع كل وظيفة مما ذكرنا.(3/452)
ذكر الوظائف
أما النيابة فقد تقدم قولنا أنه سلطان مختصر في ما هو ناء عن الحضرة، وأن النائب هو المتصرف المطلق التصرف في كل أمر يراجع في الجيش والمال والخبر، وهو البريد وكل ذي وظيفة في نيابته، لا يتصرف إلا بأمره، ولا يفصل أمرا معضلا إلا بمراجعته، وهو يستخدم الجند، ويرتب في الوظائف، وأما ما هو جليل منها كالوزارة والقضاء وكتابة السر والجيش، فإنه ربما عرض على السلطان من يصلح، وقل أن لا «1» يجاب، وربما سمى أكابر هؤلاء النواب ملك الأمراء، وإن حصلت المناقشة لا يستحقها إلا من هو بدمشق لأنه «2» ليس بالشام قاعدة الملك سواها.
وأما النيابة العظمى فهي نيابة الحضرة ويسمى هذا النائب، كافل الملك، وقد نبهنا فيما تقدم على كبير محله، وهو السلطان الثاني، وجميع نواب الممالك تكاتبه في غالب ما يكاتب فيه السلطان، ويراجعونه فيه كما يراجع السلطان، وهو يستخدم الجند من غير مشاورة، ويعين الإمرة، ولكنه بمشاورة السلطان وعادته أن يركب بالعسكر في أيام المواكب، وينزل الجميع في خدمته، فإذا مثل في حضرة السلطان وقف في ركن الإيوان، فإذا انقضت الخدمة مضى «3» إلى داره والأمراء معه، ومدلهم السباط [1] «4» كما يمد السلطان، ويجلس جلوسا عاما للناس، ويحضره أرباب الوظائف، ويقف قدامه الحجاب، وتقرأ عليه القصص، فيقدم إليه الشكاة، ثم يصرف الناس، ولما كانت النيابة قائمة على هذه الصورة،
__________
[1] السماط.(3/453)
لم يكن السلطان يتصدى بنفسه لقراءة القصص [1] (المخطوط ص 222) عليه، وسماع الشكوى بل كان يكتفى بالنائب ثم أن النائب إذا قرئت عليه القصص «1» فما كان يكفي فيها مرسومه، أصدره عنه، وما لم يكن فيه بد من صدور مرسوم سلطاني فيه أمر بكتابته عن السلطان وإصداره، فيكتب وينبه فيما يكتب أنه بإشارته، ثم يصدر ما كان من الأمور المعضلة التي لا بد له من إحاطة علم السلطان بها، يعلمه تارة منه إليه وقت اجتماعه به، وتارة يرسل من يعلمه بها ويأخذ أمره فيها.
وكان ديوان الأقطاع، وهو الجيش في زمان النيابة ليس لهم خدمة إلا عنده ولا اجتماع إلا به ولا اجتماع «2» لهم بالسلطان «3» في أمر من الأمور.
وأما الوزير وكاتب السر فقد يراجعانه في بعض الأمور دون بعض، ثم اضمحلت النيابة بالحضرة وتقهقرت [2] أوضاعها، وأما الآن فقد بطلت.
وأما الحجبة فهي موضوعة لأن صاحبها ينصف من الأمراء والجند تارة بنفسه وتارة بمشاورة السلطان وتارة بمشاورة النائب إن كان، وإليه تقديم من يعرض، ومن يرد، وعروض الجند وما ناسب ذلك، وأما مع عدم النيابة فهو المشار إليه في الباب والقائم مقام النواب في كثير من الأمور، وأما إمرة جاندار فصاحبها كالمتسلم للباب، وله به البردداريه [3] وطوائف الركابية
__________
[1] الشكاوى.
[2] وردت بالمخطوط تقهرقهرت.
[3] البرددارية: مفرده برده دار وهو الحاجب، أو الشخص الذي يرعى بلاط السلطان (فرهنگ عميد 1/449) .(3/454)
والحريسانية [1] والجاندارية وهو يقدم البريد مع الدوادار، وكاتب السر على ما قدمنا ذكره.
وإذا أراد السلطان تقرير أحد أو قتله، كان على يد صاحب هذه الوظيفة، وهو المتسلم الزردخانة [2] «1» ، التي هي أرفع قدرا في الاعتقالات من السجن المطلق، ولا تطول مدة المعتقل بها بل إما أن يعمل تخليه سبيله أو تلاف نفسه.
وقد قدمنا القول أن صاحب هذه الوظيفة يدور بالزفة حول السلطان في سفره مساء وصباحا.
وأما الأستاذدار [3] فإليه أمر بيوت السلطان كلها من المطابخ والشرابخاناه [4] «2» والحاشية والغلمان، وهو الذي يمشي بطلب السلطان والحكم في غلمانه وباب داره [5] (المخطوط ص 223) وإليه أمور الجاشنكيريه [6] وإن كان كبيرهم نظيره في الإمرة من ذوي المئين، وله حديث مطلق وتصرف تام في استدعاء ما يحتاجه كل من في بيت السلطان من النفقات والكساوى، وما يجري مجرى [7] ذلك.
__________
[1] الحريسانية: هم حراس جدار يعمل للحفاظ على الغنم (فرهنگ عميد 1/789) .
[2] الزردخانة: الزرّاد خانه مصنع لصناعة الأسلحة ومخزن الأسلحة (انظر: فرهنگ عميد 2/1100) .
[3] المسؤول عن نفقات القصور السلطانية.
[4] الشرابخانه: بيت الشراب.
[5] بابدار: المسؤول عن الباب، البوّاب.
[6] الجاشنكيرية: مفرده جاشنكير وهو الشخص المرتدي للدرع من الكلمة الفارسية جوشن گير (فرهنگ عميد 1/713) .
[7] وردت بالمخطوط مجرا.(3/455)
وإما إمرة سلاح فهو مقدم السلاح داريه، والمتولى لحمل سلاح السلطان في المجامع الجامعة، وهو المتحدث في السلاح خاناه [1] ، وما يستعمل لها، وما يقدم إليها، ويطلق منها وهو من أمراء المئين.
وأما الدواداريه فهم لتبليغ الرسائل عن السلطان، وإبلاغ عادة الأمور، وتقديم القصص إليه والمشاورة على من يحضر إلى الباب «1» وتقديم البريد هو وأمير جاندار وكاتب السر كما تقدم، ويأخذ خط السلطان على عموم المناشير والتواقيع والكتب، وإذا خرج عن السلطان بمرسوم يكتب «2» وتعين رسالته.
«3» وأما نقابة الجيوش فهذا كأحد الحجاب الصغار، وله تخلية الجند في عرضهم، ومعه يمشي النقباء، وإذا طلب السلطان أو النائب أو الحاجب أميرا أو خدما قالوا له أرسل إليه وأحضره، وإذا أمروا بالترسيم على أحد من هؤلاء «4» أمروه فرسم عليه وهو بمن يطلب بالخزانة في الموكب وفي السفر.
وأما الولاية فهم أصحاب الشرطة وطبقتهم معروفة معلومة وأما وظائف أرباب الأقلام فأجلها الوزارة لأن ربها ثاني السلطان إذا أنصف وعرف حقه، ولكن في هذه المدد حدث عليها النيابة، وتأخرت الوزارة حتى قعد بها مكانها، وقد تقدم قولنا على أنه وليها أناس من أرباب السيوف والأقلام بأرزاق على قدر الإنفاق، ووظيفة الوزارة أشهر من أن يذكر وضع مباشرها، لنفاذ كلمته، وتمام تصرفه، ولكنها في أخريات هذه الأيام تقهقرت [2] حتى كان المتحدث فيه
__________
[1] بيت السلاح.
[2] وردت بالمخطوط تقهقهرت.(3/456)
كناظر المال، لا يتعدى الحديث في المال، ولا يتسع له في التصرف بمجال ولا تمتد يده في الولاية والعزل لتطلع السلطان إلى الإحاطة بجزئيات [1] الأحوال، ثم أن السلطان أبطل هذه الوظيفة، وعطل جيد الدولة من عقودها (المخطوط ص 224) وصار ما كان إلى الوزير منقسما إلى ثلاثة؛ إلى ناظر المال إرشاد الدواوين أمر تحصيل المال، وصرف النفقات والكلف، وإلى ناظر الخاص تدبير جملة الأمور وتعيين المباشرين، وإلى كاتب السر التوقيع في دار العدل مما كان يوقع فيه الوزير بمشاورة واستقلال ثم أن كلا من المتحدثين الثلاثة لا يقدر على الاستقلال بأمر إلا بمراجعة السلطان، ومراجعته عليه.
وأما كتابة السر فقراءة الكتب الواردة على السلطان وكتابة أجوبتها وأخذ خط السلطان عليها، وتسفيرها، وتصريف المراسم ورودا وصدرا والجلوس لقراءة القصص بدار العدل والتوقيع عليها، وقد صار يوقع فيما كان يوقع عليه بقلم الوزارة على حسب ما يرسم له به السلطان.
وأما نظر الجيوش فقد تقدم في ذكر الإقطاعات وعند ذكر النيابة ما يدل على حال صاحب هذه الوظيفة مما فيه كفاية «1» وهذا الناظر معه من المستوفيين [2] من يحرر كليات المملكة وجزئياتها فرأسهم هو مستوفى الصحبة، وهو يتحدث في جميع المملكة مصرا وشاقا، ويكتب مراسيم يعلم عليها السلطان تارة تكون بما يعمل في البلاد؛ بإطلاقات، وتارة باستخدامات كتاب في صغار الأعمال، ومن هذا، وما يجرى مجراه، وهي وظيفة جليلة تلي النظر.
وأما بقية المستوفين فكل منهم حديثه مقيد لا مطلق، فإنه لا يتعدى حديثه
__________
[1] وردت بالمخطوط بجزئيات.
[2] مفرده مستوفى وهو المحصل وجامع الأموال المستحقة.(3/457)
قطرا من أقطار المملكة، وهذا الديوان هو أرفع ديوان الأموال «1» ، هو فرع هذا الديوان وإليه يرفع حسابه وتتناهى أسبابه.
وأما نظر الخزانة فكانت الخزانة أولا كبيرة الوضع لأنها مستودع أموال المملكة، فلما استحدثت وظيفة الخاص ضعف أمر هذه المسماة بالخزانة، وصارت تسمى بالخزانة الكبرى، وهو اسم أزيد من مسماه، ولم يبق بها الآن إلا خلع تخلع منها، ولا يحضر عليها ويصرف أولا فأولا، وفي غالب ما يكون ناظرها من القضاة، أو ممن يلتحق بهم.
وأما نظر البيوت فهو ناظر جليل، وهو منوط بالاستاذداريه (المخطوط ص 225) فكل ما يتحدث فيه استاذدار له فيه مشاركة الحديث، وقد تقدم تفصيل حال وظيفة أستاذدار فيما تقدم.
فأما نظر بيت المال فهي وظيفة جليلة معتبرة وموضوعها حمل حمول المملكة إلى بيت المال، والمتصرف منه تارة بالميزان وتارة بالتسبيب بالأقلام، ولا يلي هذه الوظيفة إلا من ذوي العدالة المبرزة.
وأما نظر الاصطبلات فهو ديوان جليل، مباشرته في اصطبل السلطان، وله الحديث في أنواع الاصطبلات والمناخات [1] وعليقها وأرزاق المستخدمين فيها ومالها من الاستعمالات والإطلاق، وكل ما يبتاع لها أو يبتاع بها «2» .
وأما وظائف ذوي العلم فقد تقدم القول أنها القضاة والخطابة ووكالة بيت المال والحسبة، وهذه وظائف معروفة ومباشرات أربابها معلومة لأنه لا يكاد تخلو مملكة من ممالك الإسلام فيها.
__________
[1] المناخات جمع مفرده مناخ حيث تنيخ الإبل.(3/458)
فصل
وفي هذه المملكة وما هو متعلق «1» بها مجموع المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا إليها، المسجد الحرام والبيت المقدس ومسجد النبي (صلى الله عليه وسلم) ، وأول ما تبدأ به ما هو محقق في هذه المملكة، ودخل في حدودها وهو القدس وبه المسجد الأقصى والصخرة التي هي أول القبلتين، وإليه كان إسراء النبي (صلى الله عليه وسلم) من المسجد الحرام كما قال الله عز وجل سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ
[1] وبجانبه الأيمن الطور وعليه كانت مخاطبة موسى عليه السلام وفيه وفيما حوله غالب مدافن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. «2»
قال التيفاشي [2] في كتاب سرور النفس بمدارك الحواس الخمس [3] وذكرت الرواة أن هذه الأرض التي بارك الله فيها وحولها [4] أربعون ميلا عرضا في تدوير
__________
[1] إشارة إلى قوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ
[الإسراء، الآية: 1] .
[2] التيفاشى هو القاضي أبو العباس أحمد بن يوسف التيفاشي القفصى الطبيب الأديب المتوفى 651 هـ له من التصانيف أزهار الأفكار في جواهر الأحجار الدور الفائقة في محاسن الأفارقة، رجوع الشيخ إلى صباه في القوة والباه، سجع الهديل في أخبار النيل، الشفا في الطب المسند على المصطفى، فصل الخطاب، سرور النفس وغير ذلك (انظر: هدية العارفين، أسماء المؤلفين وآثار المصنفين لإسماعيل باشا البغدادي استانبول 1951 ج 1/72) .
[3] كتاب سرور النفس بمدارك الحواس الخمس من تصانيف القاضي أبو العباس التيفاشي (انظر: هدية العارفين 1/94) .
[4] إشارة إلى الآية رقم 1 من سورة الإسراء.(3/459)
البيت المقدس [1] ، والبيت المقدس في وسطها، وكان اسمها في الزمن الأول ايليا [2] ، وقول الله تعالى يحقق أن بيت المقدس في وسط تربيع الأرض المقدسة التي بارك الله تعالى فيها، والمسجد الأقصى في قبة السلسلة (المخطوط ص 226) وكان مجلس داود عليه السلام.
وفيه أيضا الموضع الذي عرج بالنبي (صلى الله عليه وسلم) إلى السماء منه، وهو تحت قبة المعراج [3] ، وفيه موضع مصلى أيوب عليه السلام بالملائكة على قبة يقال لها قبة الملائكة، وفيه الصخرة التي كان يقرب عليها يوشع بن نون خلافة لموسى بن عمران وفيه محراب مريم، وفيه متعبد زكريا، وهو نفسه من بناء داود وسليمان عليهما السلام:
قلت «1» : وفيه قبر إبراهيم الخليل على الصحيح داخل السور المحيط بالمكان المعروف به الآن بقرية إبراهيم «2» المسماة الآن ببلدة الخليل [4] ، وإن لم يصح القبر المعين الآن بعينه «3» وقد تضمن كتاب الله العزيز والأحاديث الواردة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) من فضائله ما فيه كفاية.
والصخرة قبلة اليهود الآن وإلى القدس حجهم، وبالقدس القمامة [5] التي
__________
[1] بيت المقدس: بلدة كبيرة منيغة، مبنية بالصخر المنحوت بها المسجد المقدس (رحلة ابن بطوطة 45) .
[2] اسم مدينة بيت المقدس، عبري، قيل: معناه بيت الله (مراصد الاطلاع 1/138) .
[3] قارن ابن بطوطة في رحلته ر 45.
[4] به قبور إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام وأزواجهم (رحلة ابن بطوطة 44) .
[5] كنيسة للنصارى في وسط بيت المقدس، فيها قبة تحتها قبر، يقولون أن المسيح دفن فيه، ومنه قام، فلذلك تسميها النصارى القيامة (مراصد الاطلاع 3/1121) .(3/460)
يحجها النصارى من أقطار الأرض وأعماق البحر.
وإلى جانب القدس مدينة نابلس [1] محسوبة من الأرض المقدسة، وداخلة في حدودها وإلى طورها حج السامرة وهم طائفة من اليهود [2] ينتمي أئمتها «1» إلى بنوة هارون عليه السلام.
فالقدس الشريف معظم عند جميع «2» المسلمين واليهود والنصارى، ومكان زيارة لهم أجمعين، وإنما اختلافهم في أماكن الزيارة منه، وما نبهنا على هذا إلا لما فيه من الفائدة لإطباق الجميع على تعظيمه وقصده بالزيارة.
وأما الحرمان الشريفان مكة [3] والمدينة [4] زادهما الله جلالة وتعظيما، فهما من الحجاز ولم يزل أمراء المدينة الشريفة مترامين إلى صاحب مصر في غالب أوقاتهم، ومعظم أيامهم إلا القليل النادر، فإنه ربما عصى بعضهم، ومع هذا لا يترامى إلى سواه «3» . وأما أمراء مكة المعظمة فقد كان منهم من يسر حوافي من
__________
[1] نابلس: مدينة عظيمة كثيرة الأشجار، مطردة الأنهار، من أكثر بلاد الشام زيتوتا (رحلة ابن بطوطة 47) مدينة مشهورة بأرض فلسطين وهي مدينة السمرة (السامرة) (مراصد الاطلاع 3/1347) .
[2] طائفة اليهود يزعمون أن مسجد نابلس هو القدس وأن بيت المقدس المعروف ملعون عندهم (مراصد الاطلاع 3/1347) .
[3] مدينة كبيرة متصلة البنيان، مستطيلة في بطن واد تحف به الجبال، فلا يراها قاصدها حتى يصل إليها، بها المسجد الحرام ويؤدي بها مناسك الحج، أماتها في القرن الثامن الهجري كانت لأسد ابن رميثة وسيف الدين عطيفة ولدى أبي نمى بن أبي سعد بن علي ابن قتادة الحسنيين (رحلة ابن بطوطة 90 وما بعدها) سميت مكة لأنها تملك أعناق الجبابرة (مراصد الاطلاع 3/1303) .
[4] المدينة: هي مدينة الرسول (صلى الله عليه وسلم) المنورة بها مسجد الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأميرها في القرن الثامن الهجري كبيش بن منصور بن حجاز بعد عمه مقبل ثم تولى أخوه طفيل بن منصور، (رحلة ابن بطوطة 79 وما بعدها) (انظر: مراصد الاطلاع 3/1247) .(3/461)
ارتقاء يرضى صاحب مصر بأنه سامع له مطيع، ويقول لصاحب اليمن مثل ذلك، وكان أكثر ميلهم إلى صاحب اليمن حقيقة، هو أهم معه ثم تراموا إلى صاحب العراق لقوة سلطانه (المخطوط ص 227) .
وما برح هذا السلطان يجلس منهم ويطلق ويقيم الواحد بعد الواحد، ويجهز إليهم الجيش مرة بعد أخرى ليصفوا له كدرهم على علاتهم، فأما الآن فقد حكم عليهم حكما قاهرا حتى انقاد له صعبهم، ولانت له شكائمهم على إباء فيها واعوجاج بها، وذلك لما مات أبو سعيد بهادر خان بن محمد خدابنده سلطان العراق «1» وتشعبت بعده الأهواء، ولم يعد إلى بعد «2» تأليف (كتابي «3» هذا، أنهم يجمل) «4» ولا صلحت [1] لهم أمور وأمراء المدينة من بني الحسن بن علي رضي الله عنهما من أولاد جماز بن شيحه [2] .
وأمراء مكة المعظمة من أولاد الحسن بن علي بن علي «5» رضي الله عنهما من أولاد إدريس بن قتادة [3] ، وبكل منهما جماعة من الأشراف أقارب أمرائها، وهؤلاء أمراء مكة والمدينة على طاعتهم وعصيانهم لابد القائم منهم بالإمرة من ملاطفة صاحب مصر حتى يأخذ منه تقليدا [4] بالإمرة، لخوفهم من قربه ومواصلة ركبانهم إليهم من مصر ودمشق، وقد ذكرنا هذا توفية بشرط هذا
__________
[1] وردت بالمخطوط ولا صفحت أ 226 صلحت ب ر 148
[2] كبيش بن منصور بن حجاز وأخوه طفيل (انظر: رحلة ابن بطوطة 85) .
[3] أسد الدين رميثة وسيف الدين عطيفة ابني أبي نمى بن أبي سعد بن علي بن قتادة (رحلة ابن بطوطة 101) .
[4] وردت بالمخطوط تقليد.(3/462)
الكتاب، ولم نتعرض إلى ذكر فضائلهما كفى الحرمين عن ذلك، وفيهما البيت المحجوج المحجوب، ونبي هذه الأمة وشفيعها سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) ، فحسبهما بمكان بيت الله ورسوله المصطفى (صلى الله عليه وسلم) شرفا، تتطامن له أعناق السماء، ويمسك بأطراف البسيطين الثرى والماء.
ومما هو في حدود هذه المملكة مما له باسم سلطان حاكم وملك متصرف، حماة [1] وهي مدينة بين حمص [2] وحلب [3] وهي لبقايا ملوك بني أيوب من أراد صاحب مصر ولاه ومن أراد عزله، ولقد كانت انتزعت منهم بعد موت المظفر شادي بن المنصور محمد بن المظفر، ووليت لنواب كبقية نواب هذه المملكة ثم أن هذا السلطان أعادها إلى البيت الأيوبي، وملك بها المؤيد عماد الدين إسماعيل بن الأفضل «1» بن المظفر ابن عم الذي انتزعت بعد موته ثم بعده ولده الأفضل محمد وهو القائم بها الآن، يستقل فيها بإعطاء (المخطوط ص 228) الإمرة والإقطاعات وتولية القضاة والوزراء وكتابة السر وكل الوضائف، ويكتب المناشير والتواقيع من جهته، ولكن لا يمضي أمرا كبيرا في مثل إعطاء إمرة أو إعطاء وظيفة كبيرة، حتى يشاور صاحب مصر، وهو لا يجيبه إلا بأن الرأي ما يراه، وهذا ومثله.
وهذه حماة مبنية على نهر العاصي، وهي من أحاسن مدن الشام. ومما يجب
__________
[1] حماة: إحدى أمهات الشام الرفيعة، ومدائنها البديعة، ذات الحسن الرائق، والجمال الفائق، بها نهر العاصي (رحلة ابن بطوطة 51، مراصد الاطلاع 1/423) .
[2] حمص: مدينة مليحة، أرجاءوها مونقة، وأشجارها مورقة، بها جامع وخارجها قبر خالد بن الوليد (رحلة ابن بطوطة 51) بين دمشق وحلب (مراصد الاطلاع 1/425) .
[3] حلب: المدينة الكبرى والقاعدة العظمى، قدرها خطير، وذكرها من كل زمان يطير، قلعتها تسمى الشهباء (رحلة ابن بطوطة 52) وهي مدينة مشهورة بالشام (مراصد الاطلاع 1/417) .(3/463)
ذكره هنا ذكر بلاد سيس، وهي ما بين حلب والروم استولى عليها الأرمن من قديم، ومملكتها في بيت الأرد بن مليح الأرميني من مدة متقدمة.
وبلادها بعضها أغوار على ساحل البحر، وبعضها متعلقة بالجبال، وهي من العواصم، ومما يليها، وملكها مترام إلى صاحب العراق والعجم، ومنتظم في سلكه، وما خرج عسكره إلى الشام لقتال صاحب مصر إلا وخرج معهم، وكثر سواد عسكره، وبالغ في نكاية الإسلام وأهله، وهو مع هذا يدارى صاحب مصر ويداهنه ويحمل إليه ما لا في كل سنة، قطيعة مقررة، وفي كل وقت «1» وحين تغزوه عساكر مصر والشام في عقر البيره، وفتحت البلاد وسبى النساء والذراري في سنة تأليفي فيها هذا الكتاب، وهي سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة [1] ، جهز السلطان فرقة من العساكر إليها، فخاف صاحبها، وسلم جانبا من بلاده، مما يلي المملكة الإسلامية من نهر جيهان «2» إلى ما لاصق البلاد، وصارت بحمد الله في يد الإسلام، وقبضة السلطان، وقرر عليه القطيعة على باقي بلاده.
ومن خصاص هذه المملكة معدن الزمرد وهو بالحد المتصل بأسوان له من جهة السلطان ديوان وشهود، وينفق على العمال به، وتقام لهم المؤن لحفره واستخراج الزمرد منه، وهو في جبال هرمله، يحفر فيه، وربما سقط على الجماعة به فماتوا وتجمع ما يخرج منه، ويحمل إلى السلطان، ومنه يحمل إلى البلاد، ولقد رأيت منه قطعة وسطها أخضر، في نهاية الحسن، وأطرافه جميعه أبيض، ما بين وسطه وأطرافه بين اللونين، ثم كلما كان أقرب (المخطوط ص 229) إلى الوسط كان أقرب إلى الخضرة، كان إلى الطرف، كان أميل إلى البياض إلى أن كان آخره
__________
[1] سنة تأليف الكتاب 738 هـ وهو قبيل تأليف تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار لابن بطوطة والمكتوبة سنة 757 هـ.(3/464)
أبيض الوسط، أنضجته الطبيعة نضجا كاملا والأطراف لم يكمل نضجها، فسبحان الله مبدع كل شيء.
وبها البلسان وهو شجر قصار بالمطرية «1» [1]
حاضرة عين شمس «2» بالقرب من القاهرة، وتسقى من بير هناك، (ولا يكون إلا في تلك البقعة، وهذه البير) [2] تعظمها النصارى، وتقصدها وتغتسل بمائها، وتستشفى بها على زعمها، ويخرج لاعتصار البلسان أوان إدراكه من قبل السلطان، من يتولى ذلك ويحفظه، ويحمل إلى الخزانة ثم يحمل منه إلى قلاع الشام، والمارستانات [3] لمعالجة المبرودين، وملوك النصارى من الجيوش والروم والفرنج بها دون السلطان بسببه، (ويستهدونه منه) «3» لأنهم لا يصح عندهم تنصر إلا بالغمس في ماء العمودية وعندهم أنه لا بد أن يكون في ماء العمودية من دهن البلسان، هكذا أخبرني جماعة من النصارى، وهو ظاهر التقديم في معالجة الفالج وارتخاء الأعصاب وسائر الأمراض.
وفيها القرصفة والصنم السليماني، والسبسب من مكان يعرف بدار الغربة، قريب مصر، أنفع دواء للاستسقاء، ومنه الأفيون، وهو عصارة الخشخاش الأسود المصري، وكذلك الجوز المائل، وهو يطلع بدمياط [4] ، فأما ما يطلع بجبال
__________
[1] المطرية من قرى مصر بها البلسان (مراصد الاطلاع 3/284) .
[2] مدينة فرعون بمصر بينها وبين الفسطاط ثلاثة فراسخ (مراصد الاطلاع 2/978) .
[3] دور الشفاء.
[4] دمياط: مدينة فسيحة الأقطار، متنوعة الثمار، على شاطىء النيل، خربها الفرنج (رحلة ابن بطوطة 30- 31) على زاوية بين بحر الروم والنيل (مراصد الاطلاع 2/536) .(3/465)
القدس وبلاد فلسطين والأردن من الحشائش المنصوص عليها في كتب الأطباء فكثير جدا كالمرياقلوت [1] ذات الألف ورقة التي هي من أجل الباذزهرات [2] النافعة من السموم القتالة، ولم نذكر هذا إلا على سبيل العرض وإلا فليس هو من المقصود.
__________
[1] المرياقلوت: هو نبات يسمى أيضا مازريون بها أوراق تستخدم في الطب (فرهنگ عميد 2/1735) .
[2] الباذزهرات جمع مفرده بادزهر وهو الترياق المضاد للسم (فرهنگ عميد 1/417) .(3/466)
ذكر عادة هذه المملكة في الخلع ومراتبها
وهي ثلاثة أنواع؛ أرباب السيوف والأقلام والعلماء، فأما أرباب السيوف «1» أكابر ذوي المئين منهم الأطلس الأحمر الرومي وتحته الأطلس الأصفر الرومي وعلى الفوقاني طرز مزركش ذهب وتحته سنجاب، وله سجف من ظاهره مع الغشاء قندس وكلوته زركش ذهب وكلاليب ذهب وشاش لانس رفيع موصول به في طرفيه حرير أبيض مرقوم بألقاب السلطان (المخطوط ص 230) مع نقوش باهرة من الحرير الملون مع منطقة «2» ذهب، ثم تختلف أحوال المنطقة بحسب مقاديرهم، وأغلاها أن يعمل بين عمدها يواكر [1] أوسط ومجنبين مرصعة بالبلخش [2] «3» والزمرد، واللؤلؤ.
ثم ما كان بيكاريه واحدة مرصعة ثم ما كان بيكارية واحدة من غير ترصيع.
فأما من تقلده ولاية كبيرة منهم، فإنه يزاد سيفا محلى بالذهب «4» وفرسا مسرجا ملجما بكنبوش مذهب.
وصاحب حماة خلعته من أعلى هذه الخلع، وبدل الشاس اللانس بشاش يعمل بالاسكندرية من الحرير شبيه بالطول، ويمرج بالذهب، ويعرف بالمثمن،
__________
[1] بواكر: بوغاز، فتحات.
[2] البلخش هو البدخش نوع من الزمرد (فرهنگ عميد 1/324) .(3/467)
ويعطى فرسانا، أحدهما كما ذكر والآخر يكون عوض كنبوشة زناري أطلس أحمر، وقد استقر لنائب الشام مثل هذا وأزيد بتركيبه مزركش ذهب دائرة بالقباء الفوقاني، ودون هذه المرتبة في الخلع نوع يسمى الطرد وحش يعمل بدار الطراز بالاسكندرية وبمصر وبدمشق، وهو مجوخ جاخات كتابه بألقاب السلطان.
وجاخات طردوحش [1] أو طير، وجاخات ألوان ممتزجة بقصب مذهب تفصل بين هذه الجاخات نقوش وطراز، هذا من القصب وربما كبر بعضهم فركب عليه طراز مزركش بالذهب، وعليه السنجاب والقندس كما تقدم، وتحته قباء من المفرج الاسكندراني الطرح وكلوته زركش كلاليب وشاش على ما تقدم، وحياصة ذهب تارة تكون بيكارية وتارة لا تكون بيكارية.
وهذه لأصاغر أمراء المئين، ومن يلحق بهم ودون هذه الرتبة كنجى [2] عليه نقش من لون آخر غير لونه، وقد يكون من نوع لونه، يتفاوت بينهما بسنجاب مقندس والقباء «1» كما قدمنا ذكره، إلا أن الحياصة [3] والشاش [4] لا يكونان بأطراف رقم بل تكون مجوخة بأخضر وأصفر مذهب، لا يكون بيكارية [5]
__________
[1] جاخات طرد وحش وهي أقمشة ورداء خاص بالصيد ومطاردة الوحوش.
[2] كنجى: نوع من القماش المرصع بالذهب وأظنه نسبة إلى كنج وتعني الكنز من الفارسية.
[3] الحياصة: ذكر المقريزي عند الكلام على سوق الحوائصين (2/99) فقال، وتباع فيه الحوائص وهي التي تعرف بالمنطقة في القديم، فكانت حوائص الأجناد أولا بأربعمائة درهم فضة ونحوها ثم عمل المنصور قلاوون حوائص الأمراء الكبار ثلاثمائة دينار ... وصارت الحياصة من الذهب وما هو مرصع بالجوهر.
[4] الشاش: نسيج قطني أبيض رفيع (معجم الألفاظ العامية، أنيس فريحة 89) .
[5] بيكاريه: هو القماش المستدير، وتبكير أي استدار (معجم الألفاظ العامية أنيس فريحة 19) .(3/468)
ودون هذه الرتبة كنجى بلون واحد بسنجاب مقندس [1] والبقية على ما ذكر، وتكون الكلوتة خفيفة الذهب، وجانباها يكاد (المخطوط ص 231) أن يكونان خاليين بالجملة، ولا حياصة له ودون هذه الرتبة لا محرم لون واحد، والبقية على ما ذكر خلا الكلوته والكلاليب ودون هذه الرتبة محرم وقندس تحته قباء ملون بجاخات من أحمر وأخضر وأزرق أو غير ذلك من الألوان وسنجاب وقندس، وتحته قبائها إما أزرق أو أخضر أو شاش أبيض بأطراف من نسبة ما تقدم ذكره، ثم ما دون هذا النوع ولا بد من تنقيص ما.
وأما الوزراء والكتاب فأجل خلعهم كنجى أبيض مطرز برقم حرير ساذج وسنجاب وقندس ويبطن القندس بالسنجاب، وتملأ الأكمام به، وتحته كنجى أخضر وبقيار كتان من عمل دمياط مرقوم وطرحة، ثم دون هذه التربة عدم تبطين القندس بالسنجاب وأخلى الأكمام منه، ودونها ترك الطرحة، ودونها أن يكون التحتاني محرما، ودون هذا أن يكون الفوقاني من نوع الكنجي، لكنه غير أبيض ثم تحته عنابي طرح «1» أو ما يجرى مجراه، ثم ما دون ذلك ما قدمنا في خلع أرباب السيوف.
وأما القضاة والعلماء فخلعهم من الصوف بغير طراز، ولهم الطرحة، وأجله أن يكون أبيض وتحته أخضر ثم ما دون ذلك على نحو ما قدمنا.
وأما أهبة الخطباء فإنها من السواد للشعار العباسي وهو دلق مدور كما قدمنا وصفه في ذكر زي العلماء وشاش أسود وطرحة سوداء، وينصب على المنبر علمان أسودان مكتوبان بأبيض أو بذهب؛ ويخرج المبلغ من المؤذنين قدام
__________
[1] قندس: فروة حيوان القندس، وهو حيوان ذو فروة تستخدم في الملابس (المعجم الوسيط 2/791) .(3/469)
الخطيب، وعليه سواد مثل الخطيب، خلا الطرحة، وفي يده السيف، فإذا صعد الخطيب المنبر أخذ منه السيف فإذا رقى المنبر وسلم، أذن لابس السواد تحت درج المنبر، وتبعه المؤذنون، ثم ذكر الحديث الوارد؛ (إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة والإمام يخطب أنصت فقد لغوت) [1] ثم يبلغ عنه الصلاة والرضا والدعاء للخليفة (المخطوط ص 232) والسلطان هو ثم «1» المؤذنون ثم إذا انحط إلى الصلاة أخذ السيف من يده، وهذه الأهبة تصرف من الخزانة، ثم تكون في حواصل الجوامع، لتلبس في ساعات الجمع، فإذا خلعت أعيدت الخلعة في الخزانة، وصرف لهم عوضها.
__________
[1] قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : «إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت» .
(انظر: التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح للإمام الحسين بن المبارك، بيروت 1982، ص 77) .(3/470)
ذكر العيدين
قد تقدم ذكرنا لهيئة السلطان في ركوبه أيام الأعياد وبقى ما لابد من ذكره هنا، وهو أنه إذا ركب من باب قصره بقلعة الجبل، ونزل إلى منفذه من الإصطبل إلى ميدان العبيد الملاصق له، ينزل به في دهليز قد ضرب له على أكمل ما يكون من الأبهة «1» ، فيصلى، ويسمع الخطبة، ثم يركب ويعود إلى الإيوان الكبير المقدم. ذكره، ويمد به السماط، ويخلع على حامل الجتر [1] والسلاح واستاذدار، والجاشنكير «2» ، وكثير من أرباب الذين لهم خدمة في مهم العيد كنواب استاذدار [2] وصغار الجاشنكيرية ونقيب النقباء وناظر البيوت، ومثل هؤلاء.
ومن عادة هؤلاء أن يعد له كل عيد خلعه على أنها لملبوسه من نسبة خلع أكابر «3» المئين، فما يلبسها هو ولكن يخص بها من بعض أكابر أمراء المئين، يخلعها عليه.
ولصاحب مصر في مثل هذه اليد الطولى حتى بقى بابه سوقا ينفق فيه كل مجلوب، ويحضر إليه الناس من كل قطر حتى كاد هذا ينهك المملكة، ويؤدي «4» بمتحصلاتها عن آخرها، وغالب هذا ربما قدره هذا السلطان، ولقد يتعب من يجيء بعده بكثرة هذا الإحسان.
__________
[1] المظلة.
[2] المدرع: لابس الدرع، وهي وظيفة من وظائف القصر السلطاني.(3/471)
ولهذا السلطان عادات جميلة كلها من الخلع في أوقات لعبه بالكرة على أناس جرت لهم عنده عوائد بالخلع في ذلك الوقت كالجوكندار «1» [1] والولاه، ومن يجري مجراهم ممن له خدمة في ذلك عادة مما ينعم به ويطلقه (المخطوط ص 233) وإذا حصل لواحد شيئا مما يصيده في صيوده، خلع عليه، وأما إذا خرج إلى صيد الوحش وصادوا الغزلان والنعام فكل من أحضر له صيدا، خلع عليه قباء مستحبا بما يناسب خلعه مثله للكبير كبير وللصغير صغير كل واحد على قدره.
وكذلك البزداريه [2] وحملة الجوارح ومن يجري مجراهم عند كل صيد انعامات ينعم بها عليهم، ولغلمانه في الطاشتخاناه [3] والشرابخانات [4] والفراشخانات [5] ، ومن يجرى مجراهم، عوائد في كل سنة زمان الصيود، كل هذه العوائد «2» جارية لا تنقطع، ولكل من يتصل بخدمة هذا السلطان بمن يرد عليه أو بها جر من مملكة أخرى أنواع الإدرارات والأرزاق والإنعام، وغايات لا يبلغها قرارته في بلاده، ولا يزين بظله.
وكذلك التجار الذين يصلون إليه ويبيعون عليه، لهم عليه الرواتب الدائمة من الخبز واللحم والتوابل والحلوى والعليق والمسامحات بنظير كل ما يباع عليه من الرقيق المماليك والجواري مع ما يسامحهم به أيضا من حقوق تطلق أخرى.
__________
[1] جوكندار: جوگان دار لفظ فارسي وهو المسئول عن لعبة الجوگان المعروفة بالعربية بالصولجان وهي كرة تقذف بعصاه أثناء ركوب الخيل (انظر جوكندار، فرهنگ عميد 1/760) .
[2] البزدارية جمع مفرده بزدار وهي من بازدار أي المسؤول عن الصقر البازي الخاص بالصيد.
[3] الطاشتخاناه: هي اللفظ الفارسي طشت خانه أو تشت خانه وهو بيت الطست أو الطس أو الطشت، والطشت إناء مصنوع من معدن (فرهنگ عميد 1/578) .
[4] الشرابخانه: بيت الشراب.
[5] الفراشخانات جمع مفرده فراشخانه واللفظ فارسي بمعنى بيوت الفراش.(3/472)
وكل هؤلاء إذا باعوا عليه ولو رأسا واحدا من الرقيق لهم خلع مكملة، لكل واحد بحسبه خارجا من الثمن، وعما ينعم به على بعضهم أو يستقر به من مال السلطان على سبيل القرض، ليتاجر به.
فأما جلّابة الخيل من عرب الحجاز والشام والبحرين [1] وبرقة وبلاد العرب «1» فإن لهم من ذلك الحظ الوافر والنصيب الراجح، وربما أعطى عن الفرس نظير ثمنها عشر مرات وأكثر، غير الخلع والرواتب والعلوفات والإنزال ورسوم المقامات خارجة عن تثمين الخيول ومسامحات تكتب لهم بالمقررات عن تجارات يتجرون «2» بها، مما أخذوه من أثمان الخيول.
«3» (قلت: وبجنده المملكة جميع قبل الملل، أما القبلة الإسلامية فهو بيت مكة المعظمة، وهو بها كما تقدم، وأما اليهود فقبلتهم البيت المقدس (المخطوط ص 234) وقد كان القبلة الأولى في الملة الإسلامية، وهو بها، وأما الساحرة وهم فرع من اليهود فقبلتهم طور نابلس وهو بها عندهم أنه طور سيناء، وأما النصارى فلا قبلة لهم وتوجههم إلى الشرق لا لقبلة، وجميع معابدهم التي يعظمونها بها مثل قمامة [2] وهي بالقدس، وإليها حجهم، من أقطار الأرض يأتون إليها من البراري والبحار، وبيت لحم [3] به مولد عيسى المسيح عليه
__________
[1] البحرين: مدينة البحرين كبيرة حسنة، ذات بساتين وأشجار شديدة الحر، كثيرة الرمان، (رحلة ابن بطوطة 186) اسم جامع لبلاد على ساحل البحرين بالبصرة وعمان من جزيرة العرب، عمان آخرها ومدينتها هجر (مراصد الاطلاع 1/167) والبحرين الآن دولة.
[2] يقصد كنيسة القيامة، وهي تذكر دائما عنده وعند ابن بطوطة والبغدادي وغيرهم القمامة.
[3] بيت لحم: بلد قرب البيت المقدس، المشهور أن عيسى عليه السلام ولد به (مراصد الاطلاع 1/238) .(3/473)
السلام وكنيسة صيدنايا [1] ببر دمشق، وكنيسة صور [2] ، ومن ملوكهم من لا يصح تمليكه حتى يصلى عليه فيها، وكنيسة ماري حنا [3] «1» بالاسكندرية وهي معتقد اليعاقبة منهم، وبها بطريرك القبط، وملوك الحبشة [4] لعظم هذا البطريرك، وتشير إليه بالتعظيم، وإذا جاءهم كتابه «2» ، عملوا به، لا خروج لهم عنه، ولا مندوحة لهم عند حكمه، وهو يولى عليهم مطرانا بعد مطران، كلما مات واحد بعث غيره، نائبا له فيهم، وذلك المطران يقوم بالحبشة مقام البطريرك في الأمر والنهي فيهم، وانقيادهم أجمعين إلى طاعته من غير مخالفة له ولا عليه في شيء.
حدثني من أثق به أن بعض التجار بمصر جهز مالا له مع مسفر به «3» إلى الحبشة، فمات المسفر «4» وبئس صاحب المال من ماله، وكان مالا كثيرا، فعيل صبره، وشكا إلى السلطنة بمصر حاله، فقيل للبطريرك، فكتب كتابا إلى ملك الحبشة، يأمره بإعادة مال الرجل إليه ثم أن صاحب المال سفر رجلا أعهد عليه فما طال به المكث أتى «5» بجوابه بالامتثال، وأحضر معه جميع المال بعينه أصله
__________
[1] صيدنايا: كنيسة صيدنايا بمدينة صيداء، وهي على ساحل البحر (رحلة ابن بطوطة 48) من أعمال دمشق (مراصد الاطلاع 2/859) .
[2] صور: بلدة حصينة بالشام، بناؤها عجيب، البحر محيط بها من ثلاث جهاتها (رحلة ابن بطوطة 48) مدينة على بحر الشام (مراصد الاطلاع 2/856) .
[3] ماري حنا: كنيسة بالإسكندرية، وهي الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية.
[4] الحبشة: هي أثيوبيا الآن.(3/474)
وربحه.
وحكى عن تعظيم الحبشة لكتاب البطريرك أنه منذ دخل حدود بلاده وحدودهم «1» ، وعلموا بالكتاب، تلقاه عمال الأطراف بها ورفعوا الكتاب على رمح وحملوه هو ومحضره ومن حضر معه على أرفه «2» الدواب، ورتبوا له الإنزال والإقامات (المطوط ص 235) يوصله أهل كل عمل إلى الآخر على هذه الصورة حتى انتهى إلى حضرة الملك، فبالغ في إكرامه وإنزاله، وإضافته.
فلما كان يوم الأحد أخذ منه الكتاب وقرأه المطران في الكنيسة على الملك، وهو واقف مكشوف الرأس إلى أن فرغ ثم أمر بإحضار المال وتسليمه إليه، ولم يخرج منه مكانه حتى أوصل إليه المال ثم وصله بصلة جيدة، وإفادة مكرمة والإنزال جار عليه من عمل إلى عمل إلى أن خرج من حدوده.
قلت: ولهذا جميع ملوك النصرانية الملكية واليعاقبة تهادى صاحب مصر، وتراسله لاحتياجها لتمكين المترددين من عندهم من زيارة قمامة، وبقية مزاراتهم، واليعاقبة أكثر حاجاتهم إليه لمقام بطريركهم عنده، فإنهم لا باب لهم بخلاف الملكية فإن لأولئك الباب [1] وهو بروميه [2] .
قلت: والباب هو طاغيتهم العظمى عندهم أن الحلال ما حلل والحرام ما حرم، ولا لأحد عندهم مندوحة أن يتأخر عن أمره أو يتقدم «3» .
__________
[1] الباب وهو البابا وهو الرئيس الأعلى للكنيسة الرومانية الكاثوليكية، وأطلق أخيرا على رئيس الكنيسة الأرثوذكسية الضياء (المعجم الوسيط 1/37) .
[2] رومية: وهي روما، حيث يوجد الفاتيكان مقر البابا، وهي مدينة رياسة الروم وعلمهم (مراصد الاطلاع 1/642) .(3/475)
فصل
ومن شيعة هذا السلطان طائفة تعرف بالإسماعيلية [1] مساكنهم «1» في مصياف [2] ، وما معها من قلاع الدعوة «2» على مسافة ما بين حمص وحماة، متصلة بالبحر الرومي إلى جانب طرابلس الشام [3] ، وهؤلاء هم الذين يسمون في بلاد العجم تارة بالباطنية وتارة بالملاحدة، وملخص معتقدهم التناسخ، وهم يسمون «3» أصحاب الدعوة الهادية، وهم شيعة الخلفاء الذين كانوا بمصر وتسموا [4] بالفاطميين [5] ، وكان قد انتهت رئاسة هذه الطائفة إلى راشد الدين سنان، وكان صاحب سماء «4» ، أراهم بها ما أضل به عقولهم من تخيل أشخاص، فمن مات على طاعة أئمتهم في جنات ونعيم، وأشخاص فمن مات على عصيان أئمتهم في النار والجحيم، وهم يعتقدون أن كل من ملك مصر كان مظهرا لهم، فلهذا تتوالاه هذه الطائفة، وترى ائتلاف نفوسها في طاعته لما ينتقل
__________
[1] وهم الفداوية، وهم من اتباع الفرقة الصباحية الإسماعيلية وكان السلاطين يستأجرون هؤلاء الفداوية كما فعل سلطان مصر الناصر محمد بن قلاوون.
[2] مصياف: حصن حصين مشهور للإسماعيلية بالساحل قرب طرابلس وهي مصياب (مراصد الاطلاع 3/1280) .
[3] طرابلس الشام: إحدى قواعد الشام، وبلدانها الفخام، لها الأسواق العجيبة والمسارح الخصيبة، وهي تبعد عن البحر بميلين ويوجد طرابلس القديمة على البحر (انظر: رحلة ابن بطوطة 650، انظر: الضيا مراصد الاطلاع 2/882) .
[4] الباطنية سموا بذلك لأنهم يفسرون القرآن الكريم تفسيرا باطنيا، وأن القرآن له ظاهر وباطن.
[5] الفاطميون نسبة إلى فاطمة الزهراء، وقد أسسوا دولة في شمال أفريقية أمتدت إلى مصر والشام والحجاز وبغداد وانتهى أمرها سنة 557 هـ على يد صلاح الدين الأيوبي (انظر: روضة الصفا 219- 233، حركات الغلو والتطرف في الإسلام للمحقق 55 وما بعدها) .(3/476)
إليه من النعيم الأكبر.
ولصاحب مصر بتشيع هؤلاء مزية يخافه بها أعداؤه لأنه يرسل من هؤلاء إليه من يقتله، ولا يبالي أن يقتل معه، ومن بعثه صاحب مصر إلى عدو له ليقتله فجبن قتله أهله إذا عاد، وإن هرب اتبعوه وقتلوه.
ولقد سألت المقدم عليهم والمشار إليه فيهم وهو مبارك بن علوان عن معتقدهم، وجاذبته في هذا الحديث مرات، فظهر لي أن هذه الطائفة ترى أن الأرواح مسجونة في هذه الأجسام المكلفة بطاعة الإمام المظهر على زعمهم، فإذا انتقلت على الطاعة كانت قد تخلصت وانتقلت للأنوار العلوية، وإن انتقلت على العصيان هوت في الظلمات السفلية وعقيدتهم أن عليا رضي الله عنه، كان المظهر ثم الانتقال منه، وليس هذا بمكان التطويل فيه «1» .
«2» وأكابر المدن المشورة بهذه المملكة قاعدة الملك الكبرى وهي القاهرة، وقد تقدم القول على أنها هي والقلعة والفسطاط ثلاث مدن صارت مدينة واحدة، وقوص والاسكندرية ودمياط، ودمشق وهي قاعدة الملك الثانية ثم بعلبك [1] ثم حمص «3» ثم حماه ثم حلب ثم طرابلس ثم صفد والقدس والكرك [2] وغزة [3]
__________
[1] بعلبك: مدينة بينها وبين دمشق ثلاثة أيام، بها أبنية عجيبة وآثار عظيمة (مراصد الاطلاع 1/208) .
[2] الكرك: قلعة حصينة جدا في طرف الشام من نواحي البلقاء، وهي على جبل عال (مراصد الاطلاع 3/1159) .
[3] غزة: مدينة في أقصى الشام من ناحية مصر، فيها مات هاشم جد النبي (صلى الله عليه وسلم) (مراصد الاطلاع 1/993) .(3/477)
وتقدم القول على قلة والمدينة المعظمتين، وكيف دخولهما في المملكة على ما بيننا هناك.
أما قلعة الجبل فهي على نشز عال يسمى الجبل الأحمر من تقاطيع جبل المقطم «1» بناها قراقوش للملك الناصر صلاح الدين أبي المظفر يوسف بن أيوب رحمه الله، ولم يسكنها حتى ملك أخوه العادل أبو بكر فسكنها، وهي مبنية على ذلك النشز، ترتفع في موضع منه وتنخفض في آخر، يدور بها سور حجر بأبراج وبدنات إلى أن ينتهى إلى القصر الأبلق الناصري المستجد بناؤه، ثم من هناك تتصل بدور الملك، ليست على أوضاع أبراج القلاع، يدخل إلى القلعة من بابين أحدهما؛ (المخطوط ص 237) بابها الأعظم مواجه القاهرة، والثاني ينفذ إلى القرافة، وبينهما ساحة فسيحة في جانبيها قبلة بشرق، وشمالا بغرب بيوت وبالقبلى سوق للمأكل، وينتهى من صدر الساحة إلى دركاه [1] جليلة يجلس بها «2» الأمراء حتى يؤذن لهم بالدخول «3» ، وفي وسطها باب القلعة يدخل منه في دهاليز فسيحة إلى ديار وبيوت ومساكن وإلى المسجد الجامع، وقد كان لا مسجد لضيق بنائه، فبناه هذا السلطان بناء متسع الأرجاء، متسع البناء، مفروش الأرض بالرخام، مبطن السقوف بالذهب، وفي وسطه قبة علية تليها المقصورة مستورة هي والرواقات بالشبابيك الحديد المحكمة الصنعة، ويحف صحنه رواقات من جهاته، ويمشي من دهليز باب القلة المقدم ذكره «4» في مدخل أبواب إلى رحبة فسيحة في صدرها الإيوان الكبير، المعد لجلوس أيام المواكب، وإقامة
__________
[1] هي درگاه وتعني البلاط كلمة بهلوية) Dargah فرهنگ عميد 1/936) .(3/478)
دار العدل، وبجانب الرحبة ديار جليلة، وفي محنته ممر إلى باب القصر الأبلق تليه رحبة صغيرة، يجلس هناك خواص الأمراء قبل دخولهم إلى الخدمة الدائمة، ويمشى من باب القصر في دهاليز إلى قصر عظيم البناء شاهق في الهواء بإيوانيين أعظمهما الشمالي يطل منه على الاصطبلات السلطانية ويمتد النظر إلى سوق الخيل والقاهرة وحواضرها إلى بحر النيل وما يليها من بلاد الجيزة وقراها.
وفي الإيوان الثاني القبلي باب خاص لخروج السلطان وخواصه منه إلى الإيوان الكبير في أيام المواكب، ويدخل من هذا القصر إلى ثلثه قصور جوانية منها واحد مسامت الأرض هذا القصر الكبير، واثنان مرفوعان يصعد إليهما بدرج في جميعها شبابيك حديد تخترق إلى مثل منظر القصر الكبير، وفي هذه القصور مجاري الماء مرفوعا من النيل بدواليب تديرها الأبقار من مقره إلى أخرى حتى ينتهي إلى القلعة ثم يدخل إلى القصور (المخطوط ص 238) السلطانية ودور أكابر الأمراء الخواص المجاورين للسلطان يجرى في دورهم، وتدور به حماماتهم وهو من عجائب الأعمال لرفعته مما يقارب خمسمائة ذراع من مكان إلى مكان، ويدخل من القصور الجوانية إلى حرم الحريم وأبواب الستور السلطانية. وهذه القصور جميعها من ظاهرها بالحجر الأسود والأصفر، مؤزرة من داخلها بالرخام والفص المذهب والمشجر بالصدف والمعجون والطرقات «1» وأنواع الملونات والسقوف المبطنة بالذهب واللازورد يخرق الضوء في جدرانها بطاقات من الزجاج القبرسي الملون كقطع الجوهر المؤلفة في العقود، وجميع الأرض بها مفروشة بالرخام المنقول إليها من أقطار الأرض مما لا يوجد مثله، فأما الأدر السلطانية فعلى ما صح عندي خبرة ذوات بساتين وأشجار وساحات للحيوانات البديعة والأبقار والأغنام والطيور والدواجن «2» وباقي داخلها يعني(3/479)
القلعة للمالك السلطانية وخواص الأمراء بنسائهم وحرمهم ومماليكهم ودواوينهم وطشت خاناتهم وفراش خاناتهم وشراب خاناتهم ومطابخهم ووظائفهم.
والقلعة بها مساكن لأكابر الأمراء ومن كبر من الطبلخانات والعشرات، ومن خرج عن حكم الخاجكيه إلى طبقة البرانيين، ودار الوزارة ودار كاتب السر وديوان الإنشاء وديوان الجيوش وديوان الأموال والنقباء والزردخاناه والحبوس «1» والأسرى وما يجري في هذا المجرى، مقسمة المساكن، فيها المساجد والحوانيت والأسواق في جهاتها، هذه جملة العمارة.
ثم نذكر بقية ما يتعلق بالقصر السلطانية فنقول: أنه ينزل منه في جانب إيوان القصر إلى الإصطبلات السلطانية ثم إلى ميدان ممرج بالنجيل الأخضر فاصل بين الاصطبلات وبين سوق الخيل، في غربيه، فسيح المدى يسافر النظر في أرجائه، يركب السلطان من درج يلي قصره الجواني (المخطوط ص 239) وينزل إلى الاصطبل الخاص ثم إليه راكبا وخواص الأمراء في خدمته لعرض الخيول في أوقات طعم الطير، وربما وقف به راكبا، وربما نزل فيه، ولم ينصب عليه خيام وربما نصب عليه الخيام إذا طال مكثه، وكان زمان حر أو برد، وربما مد به السماط ثم يطلع راكبا إلى قصره.
وبهذا الميدان أنواع من الوحش المستحسن النظر، وتربى [1] به خواص الخيول للتفسح، وفي هذا الميدان يصلى السلطان وخواصه ومن لا يقدر يفارقه من ذوي الخدم، صلاة العيدين، ونزوله إليه وطلوعه، منه من باب خاص من دهليز القصر غير هذا المعتاد النزول منه لما قدمنا ذكره، وللسلطان عدة أبواب سر إلى القرافة وإلى غيرها، لا حاجة لنا إلى ذكرها.
__________
[1] وردت بالمخطوط تربا.(3/480)
قلت: هذه القصور والأيوان الكبير، والميدان الأخضر، والجامع، وغالب العمائر الضخمة بالقلة، والقلعة عمارة هذا السلطان، وبناؤه مطرزة الطرز فيها بألقابه واسمه، ترد الطرف كليلا بأنوارها، وترف القلوب على ما تفتح من نقوش نوارها، تقر الملوك بها، لعلو هممه وسعة إنفاقه وكرمه، تقف عليها الأبصار ويعرف من رآها أنه هان عليه العدو والدينار «1» .(3/481)
الباب السادس(3/483)
القاهرة
مدينة عظيمة مبنية في وطأة نائية عن ذروة الجبل، أرضها سباخ، ولأجل هذا يعجل إلى مبانيها الفساد.
والفسطاط [1] المسمى الآن على ألسنة العامة بمصر [2] مدينة مبنية على ضفة النيل الشرقية، وقد بنى قبالتها في الجزيرة المبنى بها المقايس، أبنية كثيرة، صارت كأنها فرقة من مصر، ومجرى النيل بينهما لمنظره بينهما عند امتداد ضوء القمر، أو إيقاد السرج بالليل، منظر يجذب القلوب وكل من مصر والقاهرة وحواضرها الممتدة ذات رباع عليه مبلغ بعضها أربع طبقات، في كل طبقة مساكن كاملة بمنافعها ومترفقها، وسطح مقتطع لها من الأعلى بهندسة محكمة وصناعة (المخطوط ص 240) عجيبة مع كوّن البيوت بعضها تحت «1» بعض، لا يرى مثل صناع مصر في هذا الباب، وفي كل من هاتين المدينتين وحواضرهما، القصور الشاهقة والديار العظيمة والمنازل الرحيبة، والأسواق الممتدة، والمدارس والخوانق، والربط والزوايا، والجميع على اتساع رقعة البناء، وفسحة الشوارع مزدحمة بالخلق سكنا وممشى «2» ، قد حشرت إليها الأمم، واختلفت إليها «3» أنواع الطوائف.
وقال لي غير واحد ممن رأى المدن الكبار، والخطط العظام في مشارق الأرض
__________
[1] الفسطاط: مدينة عمرو بن العاص التي بناها بعد فتحه لمصر (انظر: مراصد الاطلاع 3/1036) .
[2] مصر: سميت بمصر نسبة إلى مصر بن مصرايم بن حام ابن نوح (مراصد الاطلاع 3/1278) والمقصود هنا مصر القديمة أو العتيقة.(3/485)
ومغاربها، وبعيدها ومتقاربها: أنه ما رأى مدينة اجتمع فيها من الناس ما اجتمع في مصر والقاهرة وحواضرهما قال لي الصدر مجد الدين «1» اسماعيل السلامي، وقد سألته عن بغداد وتوريز، وهل يجمعان مثل مصر؛
فقال: في مصر خلق قدر كل من هو في جميع البلاد منها إلى توريز وغالب من فيها من العوام والباعة وأهل المهن والصنائع.
كما قال القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني رحمه الله: أهل «2» مصر على كثرة عددهم، وما ينسب من وفور المال إلى بلدهم، مساكين يعملون في البحر، ومجاهيد يدانون في البر «3» ، وأحمله على أنه قصد السجعة، إذ كل بلد فيها مجاهيد في أعمالهم، وما زال هذا في خاطري لا زيادة عندي عليه إلى أن أقمت بمصر، وسافرت في صحبة السلطان، غالب بلادها فرأيت خلقا ممن عليهم أرض مسجلة، قد ركب «4» المنخفص فيها، ولم يركب العالي وهم وقوف كل اثنين على مستنقع ماء، وبأيديهما قفة بخيط في أذنيها، وهما يترفان الماء بها، ضربا باليد إلى ورائهما من نقرة محفورة، يجتمع ما ينزح منها، ثم يصرف في مجاري إلى تلك الأعالي، ثم التي لم يركبها الماء ليسقوها [1] ، وهم من هذا في جهد جهيد، وأمر شديد، فعلمت أن هؤلاء الذين أراد القاضي الفاضل رحمه الله مجاهيد يعملون في البر، فإنه ليس في البلاد أشد جهدا منهم وأنهم (المخطوط ص 241) ملزمون بدرهم معين، وأردب معين، فإن لم يعملوا هذا
__________
[1] المقصود به الشادوف.(3/486)
أضنهم الطلب، ولم يجدوا جهة الوفاء.
وأما بر الديار المصرية فإنه «1» ريف ممتد بين حاجزين «2» ، وأعقبه رمل مفصل بالقرى، وهي مبنية بالطوب، سود الظواهر يحف بها نخل، وتقل في بعض وتكثر في الأخرى «3» ، كلها على أنموذج واحد، من رأى واحدة [1] منها فكأنما رآها كلها.
وقوص [2] مدينة على شرقي النيل في أعلى الصعيد، واقعة في الثاني ذات ديار جليلة وفنادق ورباع وحمامات ومدارس، يسكنها جلة من التجار والعلماء وذوي الأموال، وهي أول محط ركاب تجار الهند والحبشة واليمن والحجاز، الواصلون في البحر المالح «4» من صحراء عيزاب [3] ، وبها المكاسب ولها البساتين والحدائق ومنابت البقول والخضروات، لكنها شديدة الحر كثيرة العقارب والسام أبرص، وبها صنف من العقارب القتالات حتى أنه يقال فيها عن الملسوع أكلته العقرب، لأنه لا يرجى له إقامة.
قال لي عز الدين حسن بن أبي المجد الصفدي أحد العدول بالقاهرة: أنه عد في يوم صيف على حائط الجامع سبعين سام أبرص على صف واحد، والمستفاد
__________
[1] وردت واحد أ 241.
[2] قوص ذكرها ابن بطوطة المعاصر لابن فضل الله إنها مدينة عظيمة، لها خيرات عميمة، بساتينها مورقة وأسواقها مونقة، وهي منزل ولاه الصعيد (رحلة ابن بطوطة 41- 42) .
[3] عيزاب بها مدينة عيزاب، وهي كبيرة كثيرة الحون واللبن وأهلها البجاة وهم سود الألوان (رحلة ابن بطوطة 42) .
بليدة على ساحل بحر القلزم وهي مرسى المراكب التي تقدم من عدن إلى الصعيد (مراصد الاطلاع 2/974) .(3/487)
أن أهل قوص إذا تمشى أحد منهم في مكان أو خرج إلى بيته أو منه يأخذ بيده الواحدة مسرجة وفي الأرض مشك يشك به العقارب.
وفي الصعيد بقايا سحر قديم يحكى عنه أشياء، أصح ما سمعت منها ما حكى لي من أثق به عن طغصبا والي قوص؛
قال: أمسكت امرأة ساحرة فقلت لها: أريد أن «1» أبصر شيئا من سحرك؟
فقالت: أجوّد عملي أني أسحر العقرب. فقلت لها تسحري العقرب؟ قالت أسحره على اسم شخص مخصوص فلا تزال ذلك العقرب «2» تتبع ذلك الشخص حتى يلسعه «3» فيقتله.
فقلت: أريني هذا وأسحري العقرب على اسمي، فأخذت عقربا وسحرته وأرسلته «4» فبقيت كلما انحنى عنه وهو يتبعني، فجلست على تحت منصوب في بركة ماء، فجاءت العقرب إلى البركة وصارت (المخطوط ص 242) تحاول طلوعها إليّ ولا تقدر على اقتحام الماء فذهبت إلى الجدار فصعدت فيه وأنا أنظرها حتى ترقب إلى السقف وجاءت إلى ساحة مكاني ثم رمت بنفسها إلى أن نزلت إلى الأرض وقصدت مكاني، فضربتها بعصى في يدي فقتلتها ثم أمسكت تلك الساحرة فقتلتها لما رأيت من سحرها العظيم.
ويحكى كثير من هذا، ليس هذا موضع ذكره، ثم من قوص إلى أسوان ومن أسوان المؤجل إلى بلاد النوبة [1] ومن أسوان شعبة إلى الصحراء إلى عيزاب على ساحل البحر، يجاز منه على جده ميناء مكة المعظمة «5» ومن هذا البحر مسالك
__________
[1] النوبة: بلاد واسعة عريضة في جنوب مصر، أول بلادهم بعد أسوان (مراصد الاطلاع 3/1394) .(3/488)
للتجار إلى عدن، ثم إلى ما أرادوا من الهند واليمن والحبشة ولم نذكر قوص دون ما سواها من الصعيد إلا لأنها هي مدينتها الحاضرة وبها يحط مصعدا ومنحدرا زمر الرفاق المسافرة.(3/489)
الاسكندرية
والاسكندرية [1] مدينة قديمة جليلة عظيمة وكانت في القديم أكبر مما هي الآن وأعظم في كثرة الأهل والبنيان، بناها الاسكندر ذو القرنين على شاطىء البحر الرومي، وكان بها على ما يقال سرير ملكه ومستقر أمة وجميع بنايتها بالحجر والكلس، مبيضة البيوت باطنا وظاهرا، كأنها الحمامة البيضاء، ذات شوارع مشرعة الأرجاء «1» ، كل خط بذاته كأنها رقعة الشطرنج، يستدير بها أسوار ممنعة، وبروج محصنة، عليها الستائر المسترة، والمجانيق المنصوبة، وبها عسكر مستخدم لحفظها، وليس بالديار المصرية مدينة حاكمها مرسوم بنيابة السلطنة سوى الإسكندرية [2] .
لا يزال أهلها على يقظة من أمور البحر، ومخالسة العدو، وبها الديار الجليلة، والجوامع والمساجد، والربط والخوانق، والمشاهد [3] والفنادق، والرباع والأسواق الممتدة، ومعامل البز والقماش والطرز الفائق المثل، إليها تهوى ركاب التجار برا وبحرا من كل فج عميق ومكان سحيق، وليس في الدنيا نظير شربها، وطرازها المعمول بها والمحمول إلى أقطار الأرض شرقا وغربا، منها من الحفير المنسوج بالذهب والفضة (المخطوط ص 243) . والمقصب بالقصب، وطرد الوحش المنوع، والجر والمنقوش، والمنزج والمدفون والديبقى والمساذج، والمفرح والمقاطع، والممرش والشرب الخام والمقصور وبدلات المقانع وأنواع المقصبات
__________
[1] هناك أكثر من مدينة باسم الإسكندرية، والإسكندرية العظمى ببلاد مصر (مراصد الاطلاع 1/76) .
[2] حاكمها في ذلك الوقت هو زكريا أبو يحيى بن أحمد بن أبي حفص المعروف باللحياني.
[3] يقصد بها قبور الألياء مثل أبي العباس المرسي، لأن المشاهد معروفة عند الشيعة وتعرف بها قبور أئمتهم.(3/490)
والملون بالذهب والفضة والملاءات [1] والغوط من كل ما لا شبيه لرقمه ولا نظير لحسنه، يباع في «1» كل يوم فيها بآلاف مؤلفة من الذهب الأحمر، ولا ينفذ متاعها، ولا يقل موجودها وبالاسكندرية معاملة الدرهم السّواد حقيقة مقصورا عليها لا يخرج من سواها ولا يتعدى حاضرة أسوارها، وهو فيها كل درهمين سوداوين بدرهم واحد من نقد الدرهم المصري، يوجد بها الدراهم السود حقيقة اسم على مسمى.
وأما من بقية الديار المصرية فكما قدمنا يوجد اسما لا مسمى كل ثلاثة دراهم سودا بدرهم واحد من الدراهم المصرية.
والاسكندرية هي فرصة الغرب والأندلس وجزائر الفرنج وبلاد الروم وإليها ترد سوافنها، وتجلب بضائعها، ومنها تخرج أغراضها.
فأما دمياط فهي وإن كانت وسيلتها في هذا الباب، فإنه لا تشبه لها إلى الاسكندرية، وسيأتي ذكرها، والاسكندرية لها بحر خليج من النيل تصل فيه المراكب من مصر إليها، ومنها إلى مصر، وفي أوان زيادة النيل يمتلئ هذا الخليج «2» ، ويمد إلى صهاريج «داخل» المدينة معدة لإختزان الماء بها لشرب أهلها، نافذة من بعض الدور إلى بعض يمكن النازل «3» إلى صهريج منها الصعود من أي دار اختار، وتحت الصهاريج الآبار النبع بالماء المملوح، فهي طبقات ثلاثة، طبقة الآبار عليها طبقة الصهاريج عليها طبقة البناء ولا يعتني أهل الاسكندرية ببناء الطبقات على أعالي أبنيتهم لقوة الأمطار بها، وتجويف قرارها.
وعلى الاسكندرية البساتين الأنيقة والغيطان الفساح وفيها لجلة أهلها القصور الناهدة والجواسق الشاهقة، محصنة جميعها بأحكام البناء، وعلو الجدر
__________
[1] وردت الملآت.(3/491)
خشية من طرّاق الفرنج ودعّار العرب.
وبها من الفواكه المنتجة الثمار وهي تفوق (المخطوط 244) مصر بحسن ثمراتها، ورخص الفواكه بها، وليس للاسكندرية من ازدراع القمح والشعير والحبوب إلا ما قل، وغالب أقواتها محمول من أرياف مصر «1» .
«2» تنبيه: قد ذكرنا فيما تقدم أن الاسكندر هو الذي بنى الاسكندرية وذلك صحيح بمعنى أنه جددها وجدد بنائها، وأما سبب بنائها القديم فقد ذكره التيفاشي في كتاب سرور النفس بمدارس الحواس الخمس.
قال: ذكر أحمد بن مطرف [1] في كتاب الترتيب أن الذي بنى الاسكندرية أول أمرها جبير المؤتفكى، وأن الذي دعاه إلى بنائها أنه غزا بعض النساء اللواتي ملكن مصر، وكان اسمها حوريا بنت البرت، وأنه لما طال بينهما الحرب، انفذت إليه، نقول: أني قد رغبت في أن تتزوجني فيصير ملكنا واحدا، ودارنا واحدة، وأصير أنا ومملكتي لك، وذلك خير لك من أن تقيم على الحرب، فينفذ مالك، وتفنى رجالك، فإن ظفرت بي لم يحصل لك طائل، لأن الهزائم تذهب الأموال وتمحقها وإن أنت خذلت ذهبت وذهب جميع مالك، فأعجبه جميع مقالها وأجابها وعقد النكاح على ما كانوا يعتقدونه، والتمس الدخول بها، فقالت: إنه يفتح بي وبك أن نجتمع في غير مدينة تبنيها لهذا الأمر في أحسن موضع، وأجل مكان بحيث لم يكن فيه بناء قط غير ما تبنيه، وإنما كان ذلك منها مكرا به لتنقذ أمواله وتبلغ منه ما تريد في لطف وموادعه، فأجابها وأنفذ المهندسين
__________
[1] أحمد بن مطرف بن إسحاق اللغوي القاضي أبو الفتح المصري المتوفى سنة 413 هـ، له عدة مؤلفات أهمها كتاب اللغة كبير (هدية العارفين لإسماعيل باشا البغدادي 1/72) .(3/492)
إليها، وخيرها المواضع، فاختارت موضع الاسكندرية، وقسمت المدينة وصورها المهندسون، ثم عرفته ذلك، فأجاب إلى كل ما طلبت، وسار بجيشه فنزل على ذلك الموضع، وشرع في البناء، فكان كلما بنى بناء خرجت دواب البحر وعبثت به، وهدمته، فأقام زمانا، ونفذت الأموال، وضاق ذرعا فوفق له أن دل على بعض السحرة، فأحضره وشكا إليه ذلك الأمر، فوضع له طلسمات، وجعلها في آنية زجاج كالتوابيت فكانت في الماء حذاء (المخطوط 245) الأبنية، فإذا جاءت دواب البحر فرأت الطلسمات والتوابيت نفرت فثبت البناء، وبنيت المدينة، وتمت بعد زمان طويل، ثم راسلها في المسير، فسارت بجميع قللها وعساكرها حتى نزلت حذاء، عسكره، وراسلته أنى قد أحببت أنى أحمل عنك مؤنة الإنفاق على العسكريين في أطعمة تصلح وأشربة، وقد أعددت لوجود الأمراء والقواد خلعا وتحفا حملا عنك لكرمك في بناء المدينة، فأحب أن تجيبني إلى ذلك، فأجابها، وأمرت بذلك، فعمل وأنفذت إليه: أنا أحب أن أراك وأرى سائر عسكرك في الميدان يلعبون ضروب اللعب، ويكون متصرفكم بعد ذلك إليّ لحضور الطعام والخلع، فأجابها، وتقدم بركوب الجيش وحمل السلاح واللعب، فلما فعل واشتد عرق القوم، انصرفوا إليها جميعا، فتلقاهم أصحابها بالخلع المسمومة؛ فلبسها وجوه العسكر، ولبس الملك جبير خلعته، وكانت أقل سما من غيرها إبقاء عليه لتبقى فيه بقية لخطأ بها، فما أقاموا إلا ساعة بالخلع حتى طفئوا وماتوا: ورأى ذلك بقية العسكر، فعلموا موضع الحيلة، فبادروا مستأمنين فنودى فيهم بالأمان، وبقى الملك بقية من الحياة، فأمرت أنه يحمل إليها فلما رأته في السياق قالت له: إن ملكا أنفق ماله وأفنى زمانه، ونزل ملكه، وجاء شهوة لا يدري أينالها، ولملك سخيف، وكان آخر كلامها بخروج روحه، فمات، ودخلت هي المدينة، وأقامت بها زمانا، وعادت إلى مصر.(3/493)
ثم ملك الاسكندر فزاد في بنائها، وأطال في منارتها [1] وجعل فيها مرآة كان يرى منها مراكب العدو عن بعد، فإذا صارت بإزائها، وصدمها شعاعها أحرقها كما تحرق المهاة في الشمس ما قابلها من الخرق، وإن لم تتصل بها، فسميت الاسكندرية من حينئذ، وكان اسمها قبل ذلك وقوده، وبذلك يعرفها القبط في كتبهم القديمة.
وأقامت المرآة على ذلك زمانا، وشق ذلك على الروم، فاحتال حكيم من حكمائهم بأن وافق متملكهم على أن يبعث أموالا مع أصحاب له، فيدفنونها في مواضع متفرقة (المخطوط 246) من ثغور الإسلام، ثم عادوا بعد دفنها فصنع كتاب مطالب ذكر فيه المواضع وختمه بأن تحت المرآة التي في منارة الاسكندرية كنزا لا يحصى ما فيه من الأموال، وعتق ذلك الكتاب، ودفعه إلى إنسان ذكي، وأمر أن يسير به إلى بلد بلد، وأن يكون قصده إلى السلطان، كل بلد فيعرفه ما في ذلك البلد، ويخرجه، ويأخذ منه جزءا [2] يسيرا واتصلت الأخبار إلى سائر الثغور بذلك، فكان سلطان كل بلد ينفذ إليه من يتسلمه بعد أن يحضر أخراجه الكنز في البلد الذي هو فيه، فلم يزل إلى أن وصل إلى الاسكندرية، فقال لملكها ما قال في المرآة، وقال له: إذا قلعتها وأخذت الكنز أنا أردها إلى أفضل ما هي عليه الآن، فأجابه، وقلعت المرآة وشرع في هدم ما تحتها وانسل الإنسان ونزل ونزل تلك الأموال التي أخذها من الكنوز المتقدمة ليطمسوا ولا يجدوا في طلبه، وفاتهم، وحفروا فلم يجدوا شيئا، فعلموا أن ذلك كله كان حيلة على قلع المرآة، ولم يقدروا على ردها لأن واضعيها كانوا حكماء قد نصبوها بطالع مختار، واختلف الناس في هذا القول فمنهم من ذكره، ومنهم من ذكر غيره.
__________
[1] منارة الإسكندرية المشهورة إحدى عجائب الدنيا السبع كانت خرائبها لا تزال موجودة حتى عصر المؤلف والآن لم يصبح لها وجود.
[2] وردت بالمخطوط جزاء.(3/494)
قال: غير أني قرأت في بعض كتب التواريخ أن أعاجيب الدنيا أربعة فرس من نحاس بأقصى غرب الأندلس لا يتجاوزه أحد إلا ابتلعه الرمل، وشجرة من نحاس بروميه عليها صورة طائر من نحاس وهو الذي يسمى الزرزور، إذا كان أوان نضج الزيتون، فلا يبقى طائر من جنسه، وهو الطائر المعروف إلا أتى حاملا زيتونة في منقاره وزيتونتين في رجليه، فيلقيه عند الطائر النحاس المذكور، فيعصر أهل رومية من ذلك ما يكفي أدمهم، وسرج عامهم ذلك لأن روميه ليس بها زيتون، ومنارة من نحاس عليها راكب من نحاس بأرض عاد إذا كان في الأشهر الحرم، جرى منها الماء، ولا يجرى من غيرها، ومرآة بمنارة الاسكندرية ترى بها القطائع الحربية إذا تجهزت من القسطنطينية العظمى، فيرى أهل الاسكندرية أهل (المخطوط 247) القسطنطينية، وبينهما عرض البحر.
قال: وأما مساحة المنارة فهي ثلاثة طبقات، ومساحتها على ما ذكره بعض المحصلين مائتا ذراع وثلاث وثلاثون ذراعا، فالطبقة الأولى مربعة وهي مائة ذراع وإحدى وعشرون ذراعا، والطبقة الثانية مثمنة وهي إحدى وثمانون ذراعا ونصف ذراع، والطبقة الثالثة مستديرة وهي ثلاثون ذراعا ونصف ذراع «1» [1] .
قلت: وأما ما حكاه «2» عن منارة اسكندرية «3» ، فقد أصبحت كلها أثرا بعد عين، سقطت أعلامها، ومحيت آثارها، ولم يبق من المنارة، إلا دون العشرين [2] ذراعا، وأمر السلطان لها بالبناء، ولم يصرف إليها وجه الاعتناء وليس الناطور الآن إلا في منارة استحدثت على كوم عال داخل السور يعرف بكوم معلى لا له أساس ثابت ولا جدار معلى [3] .
__________
[1] انظر: وصف المنارة عند ابن بطوطة المصادر للمؤلف ص 22.
[2] وردت بالمخطوط العشرون.
[3] وردت بالمخطوط معلا.(3/495)
وأما عمود الصواري [1] فباق على حاله والطلل باق على هائل «1» ولا طائل، وهو من الاسكندرية على مسافة ونصف يوم من غربها البر الأقفر المتصل ببرقه إلى الغرب الأقصى.
والرطل الاسكندري يسمى الجروي وهو رطلان وأوقيتان بالمصري، وأراد بها ثمان ويبات بأردب وثلث بالمصري، وأسعارها أقرب إلى الرخاء، ولولا التهجير زادت رخاؤها، وعظمت أجلابها.
__________
[1] عمود الصواري هو عمود السواري وهو عمود من رخام هائل وهو متوسط في غابة نخل، وهو قطعة واحدة محكمة النحت، أقيم على قواعد حجارة مربعة، لا يعرف كيفية وضعه عليها (رحلة ابن بطوطة 22) .(3/496)
دمياط
ودمياط مدينة على ضفة البحر، عند مصب أحد فرقي النيل، بناؤها الآن غير موثق، يطوف بها جسر، يباري «1» النيل إلى مصبه، وهي موضع غرة للعدو من قبل البحر، وقد علقت بها جمة الكفر «2» زمانا طويلا حتى نصر الله عليهم في أخريات الدولة الأيوبية [1] .
حدثني من رأى دمياط أنها مدينة لطيفة فيها مدرسة واحدة وأسواق ليست بالكثيرة، ومنها الإفضاء إلى بحيرة تنيس المذكورة في القديم بحسن الأوضاع، وجودة القماش والمتاع، وإنما هي الآن جون من البحر المالح كالجون «3» .
وبدمياط وما يليها شجر الموز الكثير، ومنه مدد مصر والقاهرة وبلادهما.
«4» فائدة: قال (المخطوط ص 248) التيفاشي في سرور النفس: يقال أن تنيس [2] ودمياط والفرما [3] ثلاثة أخوة ملكوا هذه المدن الثلاثة، وسمى كل واحد منهم مدينته باسم نفسه، وكانت تنيس يقال لها تنيس الإخصاص، ويقال أن المسيح عليه السلام دخلها، فأكرمه أهلها، فدعا أن يبارك الله لأهلها فيها، وأن يأتيها الرزق في كل مكان، لما رآها وسط بحيرة، ولم يدخل دمياط.
وأما الجفار [4] فهي خمس مدن الفرما والبقارة والورادة
__________
[1] يقصد هجوم لويس التاسع على دمياط آخريات الدولة الأيوبية.
[2] تنيس: جزيرة في بحر مصر، قريبة من البر بين الفرما ودمياط (مراصد الاطلاع 1/279) .
[3] الفرما: مدينة على الساحل من ناحية مصر أو حصن لطيف فاسد الهواء، شرق تنيس (مراصد الاطلاع 3/1031) .
[4] الجفار: أرض مسيرة سبعة أيام بين فلسطين ومصر (مراصد الاطلاع 1/337) .(3/497)
والعريش [1] ورفح [2] والجفار، كله رمل وإنما سمى جفارا لشدة المشي فيه على الناس والدواب، لكثرة رمله وبعد مراحله، والجفار تحفر فيه الأبل وغيرها فتهلك، فاتخذ له هذا الاسم كما قيل للحبل، الذي لهجر به البعير هجار، والذي يحجر به حجار والذي تعقل به عقال، والذي تبطن به بطان، وكذلك خطام وزمام ونحوه.
والبقارة من البقر، والواردة من الورود والعريش أخذ من العرش ويذكر أنه نهاية التخوم من الشام وأن إليه كان ينتهي رعاة إبراهيم الخليل عليه السلام بمواشيه، وأنه اتخذ به عريشا كان يجلس فيه، ومواشيه تحلب بين يديه، فسمى بذلك، ورفح اسم رجل نسب إليه المكان «1» .
قلت: هذه جملة الكلام في مدن الديار المصرية الشهيرة وأما برها فيأخذ بخناقة جيلان، تضيقا «2» في أوله بأعلى الصعيد ثم يأخذ في التقليص [3] إلى الجزيرة، فانفرجا واتسع «3» مدى ما بينهما حتى انقطع بالبحر الرومي إلى آخر الأعمال، فأوسعه مدى نحو يومين وأضيفه نحو ساعة (نحو يومين نحو ساعة) ، [4] وغالبه نحو ساعتين وما بين ذلك، وهذا هو عرض الديار المصرية حقيقة «4» إلا أن نظرت إلى قفار موحشة تهاب الجن سلوكها، ويخاف الظلام اقتحامها على أن مدى العرض الذي ذكرناه عطل الجانبين عن الحرث والنسل «5» والزرع والغروس،
__________
[1] العريش: مدينة كانت أول عمل مصر من ناحية الشام على بحر الروم (مراصد الاطلاع 2/935) .
[2] رفح: منزل في طريق مصر (مراصد الاطلاع 2/623) وهي مدينة على الحدود المصرية الفلسطينية.
[3] وردت بالمخطوط التقليس أ 248 ب 158.
[4] زائدة في نسخة أ 248.(3/498)
خال من الأنيس الإسار في سبيل أوصال عن طريق، والعامر الآهل من هذا المدى ثلاثة والثلث كثير، لكن ذو ربع رابع، (المخطوط ص 249) ومتحصل كثير.
وبمصر من أنواع الثعابين والأفاعي والحيات والعقارب والفأر وسائر الحشرات لولا ما يهلكه النيل الفائض على البلاد في كل سنة، وما يفر من النيل فيقف أهل البلاد له على الطرق بأيديهم العمد والعصى لقتل ما يهاجمهم منها، لما سكنت مصر ولا تأهلت لها ديار، ولا استقر بها لأحد قرار.
وأما زمان ربيعها وما يبقيه من المقطعات نيلها وما يوشى حللها من نوار البرسيم والكتان، ويحشر في أرضها من الطير على اختلاف ذوات الجناح، فلا يملأ عينيك وسامة وحسنا، ويروقك صورة ومعنى، كأن بناءها زمردة خضراء، ومقطعاتها فيروزجه زرقاء ونوارها لكل فرط منه لؤلؤة بيضاء، عليها للطيور ظلل من الغمام، قد نصبت على فرشها «1» الاستبرق خيام، ولما رأيت منظرها البديع في زمان الربيع، وبين أكنافها المخضرة قرارا بناء كأنها النجوم في السماء: قلت:
«لمصر فضل باهر لعيشها الرغد النضر»
«في سفح روض «2» يلتقى ماء الحياة والخضر»
ونحن نقول: إن الديار المصرية وجهان؛ قبلي وبحري، جملتها خمس عشرة [1] ولاية، فالوجه القبلي أكبرهما، وهي تسعة أعمال وهي عمل قوص، وقوص شرقي النيل «3» ، وهو أجلها، ومنه أسوان، وعرب قموله، وأسوان نهاية حد المملكة من الجنوب، وعمل آخميم وهو شرقي النيل أيضا، وعمل
__________
[1] وردت بالمخطوط خمسة عشر أ 248 ب 159.(3/499)
سيوط [1] ، وعمل منفلوط [2] ، وعمل الأشمونيين، وبها الطحاوية «1» ، وعمل البهنسا [3] ، (وعمل العراني وهي عبارة عن غربي المنهى المؤدي [4] إلى الفيوم) «2» ، وعمل الفيوم، وهو منقطع، وعمل أطفيج [5] وهو شرقي النيل، وعمل الجيزة، والوجه البحري وهو ستة أعمال «3» ؛ عمل البحيرة [6] (وهو متصل البر بالاسكندرية، وبرقة [7] ، وعمل العزبية جزيرة واحدة، يشتمل على ما بين البحرين (المخطوط ص 250) والبحر المار ومسكبه عند دمياط، وهو المسمى بالشرقي، والبحر الثاني ومسكبه عند رشيد، وهو المسمى بالغربي) «4» ، والمنوفية وكانت منف «5» المنسوبة إليها هذا العمل هي مصر قديما [8] ، (ومنها أبيار
__________
[1] سيوط وهي أسيوط قال ابن بطوطة وهي مدينة بالصعيد رفيعة أسواقها بديعة (رحلة ابن بطوطة 40) كورة جليلة من صعيد مصر (مراصد الاطلاع 2/769) .
[2] منفلوط: مدينة حسن رواؤها، موفق بنائها على ضفة النيل، شهيرة بالبركة (رحلة ابن بطوطة 40) بلدة بالصعيد في غربي النيل (مراصد الاطلاع 3/1323) .
[3] بهنسا: مدينة كبيرة وبساتينها كثيرة تصنع بها ثياب الصوف الجيدة (رحلة ابن بطوطة 39) مدينة بمصر من الصعيد الأدنى (مراصد الاطلاع 1/235) .
[4] وردت بالمخطوط المآد.
[5] أطفيح: بلد بالصعيد الأدنى من أرض مصر على شاطىء النيل في شرقية (مراصد الاطلاع 1/92) .
[6] البحيرة: كورة معروفة بها قرى كثيرة (مراصد الاطلاع 1/168) وهي محافظة البحيرة الآن.
[7] برقة: اسم صقع كبير يشتمل على مدن وقرى بين الإسكندرية وأفريقية (مراصد الاطلاع 1/186) وهي مدينة عامرة بليبيا الآن.
[8] منف ليست هي المنوفية فمنف هي منفيس هي طيبة هي الأقصر وليست المنوفية، والمنوفية تنسب إلى منوف عاصمتها السابقة وعاصمتها الآن شبين الكوم.(3/500)
المسماة بجزيرة أبي نصر، وهي جزيرة وتأخذ في وسط البحر الغربي) «1» وعمل قليوب، وقليوب شرقي النيل، وعمل الشرقية وهو متصل البر بين الشام والقلزم والحجاز.
وكذلك أشموم [1] (ويعرف باشموم طناج) «2» [2] ومنها الدقهلية [3] ، والمرناحية، (وهنا موقع ثغر البرلس [4] ، وموقع ثغر رشيد [5] ، والمنصورة المبنية زمان حصار دمياط.
وفي هذه الوجه الاسكندرية ودمياط وهما مدينتان بندران [6] على البحر لا عمل لهما، وأما الواحات فمنقطعة وراء الوجه القبلي في مغاربيه، ولا تعد في الولايات ولا في الأعمال، ولا يحكم عليها من قبل السلطان وال، وإنما يحكم عليها من قبل مقطعها،) «3» وبلاد الواحات بين مصر والاسكندرية والصعيد والنوبة والحبشة، بعضها داخل بعض.
قال البكري: وهو بلد قائمة بنفسه غير متصل بغيره ولا مفتقر إلى سواه، وفي هذه الأرض شبيه وراجية وعيون حامضة الطعوم تستعمل كاستعمال الخل «4» مختلفة الطعوم من الحامض والقابض والملح ولكل نوع منها منفعة وخاصية.
__________
[1] اشموم: هما اثنان: اشموم طناح قرب دمياط وأشموم الجريسات بالمنوفية (مراصد الاطلاع 1/84) .
[2] وردت أيضا أشموم طناح وهي من أعمال الدقهلية (مراصد الاطلاع 1/84) .
[3] وردت بالمخطوط الدهقلية وهي الدقهلية إحدى الأقاليم المصرية وقاعدتها المنصورة.
[4] البرلس: بليدة على شاطىء نيل مصر قرب البحر من جهة الإسكندرية (مراصد الاطلاع 1/188) .
[5] رشيد: بليدة على ساحل البحر والنيل قرب الإسكندرية (مراصد الاطلاع 2/617) .
[6] بندران: بندر كلمة فارسية بمعنى ميناء.(3/501)
ومما يتعلق بذيل هذه المملكة
ذكر برقة
قال ابن سعيد: هي سلطنة طويلة وإن لم تكن يمكن بها استقلال، لأنه قد استولت عليها العرب، وكان سريرها في القديم مدينة طبرق [1] .
قلت: وليس لها سلطان بل ولا سوى أهل العمد [2] سكان، وقربها إلى أفريقية أكثر من قربها إلى مصر، ولكن ما دون العقبة، لصاحب مصر وأمرها إليه.
أخبرني الأمير الفاضل ناصر الدين محمد بن المحسني أنها بلاد كثيرة الماء، صحيحة الهواء، وأرضها محاجر وحزوز وعرة في الغالب، وبها المروج والأشجار الكثيرة، وبها المدن المبنية الباقية (المخطوط ص 251) البناء إلى الآن، وهي خالية من السكان.
وبها القصور العليّة، والآثار الدالة على ما كانت عليه من الجلالة، وهي اليوم بيد العرب، وهم أصحاب ماشية ودواب سائمة كثيرة من الإبل والغنم، ومنهم من يزرع في بعض أرضها، فتخصب زروعها، ولكنهم أهل بادية لا عناية لهم بعمارة ولا زرع.
وحدثني غير واحد ممن دخلها من العسكر المصري ممن كان جرد إليها، أنها شبيهة بأطراف الشام وجبال نابلس، في منابت أشجارها، وكيفية أرضها، وما كانت عليه، وأنها لو عمرت بالسكان، وتأهلت بالزراع كانت اقليما كبيرا يقارب نصف الشام، وقد كانت برقة مقطعة من مناشير صاحب مصر لابن
__________
[1] طبرق: هي طبرقة مدينة بالمغرب من ناحية البربر على شاطىء البحر، قرب باجه (مراصد الاطلاع 2/878) وهي مدينة طبرق الليبية الآن.
[2] الخيام.(3/502)
المحسنى، وكان يتوجه إليها، ويأخذ من العربان بهائم أقطعت لأمراء عربان مصر من سليم، وهم الآن يستأذون من عرب برقة العداد.
وحدثني الأمير فايد بن مقدم السلمي المقطعة له الآن وأن برقة من أزكى البلاد أرضا للدواب، وأمراها مرعى لها، وأما خيل برقة فهي من أقوى الخيل بناء، وإذا قيل الخيل البرقية كفى، وهم «1» مدورات، ليست بمقرطات العلو، ولكنها عراض مرددات صلبة الحوافر، قد جمعت بين سبق العربيات وقوة صدماتها وكمال تخاطيطها، وصلابة حوافر البراذين وثباتها على الجبال والوعور وإدمان الركوب.
وأما صورها فهي بين العراب والبراذين، عليا منها سمات الشبه، وهي إلى محاسن العرّاب أميل، وفحول الخيل البرقية انجب من إناثها، ولجند مصر بها عناية، وتباع بالأثمان الغالية، ولكنها لا تبلغ مبلغ خيل البحرين والحجاز والشام.
وطولها بالمسافة مقدار شهرين، وكانت قاعدة برقة مدينة انطابلس [1] ومن مدنها طبرق وقد تقدم ذكرها، وطجيشه ولبده وهي ذات رخام كثير عمد وألواح، وبها إلى الآن الرخام قائما ونائما، ومن مدنها المشهورة سرت [2] .
وحدثني قاضي الجماعة أبو إسحاق إبراهيم بن أبي سالم عن لبدة أنها مملوءة بالرخام الأبيض الفائق حتى شوارعها وممشى الناس في أسواقها، وأنها (المخطوط ص 252) لا يعوزها من العمارة إلا السكان.
__________
[1] طرابلس: هي طرابلس الغرب على جانب البحر (مراصد الاطلاع 2/882) .
[2] سرت: مدينة على بحر الروم بين برقة وطرابلس الغرب وأجدابية في جنوبها إلى البر (مراصد الاطلاع 2/704) .(3/503)
وحدثني الشيخ شرف الدين عيسى الزواوي قال: مررت ببلاد برقة فرأيتها كلها خرابا بيابا «1» مقفرة، ما فيها إلا بادية العرب، وبها القصور المبنية، ليس بها الأغلال مخزونة لهم، وقال لي أن في جبال برقة أشجار مثمرة من الزيتون والفواكه الكثيرة، ولكن ليس بها مدينة معمورة تذكر لها أخبار.
وسكان برقة كلهم أهل بادية، لا يتبايعون إلا بالأمتعة، حتى أن منهم من تكون معه دراهم فيعرضها للبيع فيقول من يشتري منى هذه الدراهم، لأنها ليست عندهم نقدا ولا معاملة.(3/504)
ذكر المملكة الثانية وهي مملكة الشام
وقاعدتها مدينة دمشق، وكانت الشام يقال لها أرض كنعان [1] ثم جابر بنو «1» إسرائيل، فقتلوهم بها، ونفوهم عنها، وبقيت الشام لبني إسرائيل إلى أن غلبت عليهم الروم، وانتزوعها منهم.
«2» قال التيفاشي في كتاب سرور النفس: قال الشريف الإدريسي [2] في حدود الشام: إنها من المشرق الجزيرة بينه وبين العراق، وسميت الجزيرة لأنها بين نهر دجلة والفرات، وهي أدنى الأرض التي ذكر الله عز وجل في سورة الروم [3] من بلاد الجزيرة بنينوى مدينة يونس عليه السلام [4] ، وقاعدتها اليوم الموصل [5] ، ومنها الرقة ونصبين [6] وديار ربيعة وبني تغلب وجزيرة هي التخوم الفاصلة بين الشام والعراق، وحدها النهران دجلة والفرات.
__________
[1] كان الكنعانيون سكان هذه البلاد نسبة إلى كنعان بن حام بن نوح عليه السلام.
[2] الشريف الإدريسي: أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس ولد سنة 493 هـ في سبتة وتوفي 560 هـ، صنف في الجغرافيا: روض الأنس ونزهة النفس، أو كتاب المسالك والممالك (انظر: دائرة المعارف الإسلامية مادة إدريس 2/488- 489) .
[3] إشارة إلى قوله تعالى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ
[الروم، الآيات: 1- 3] .
[4] مدينة يونس عليه السلام، وهي قرية كبيرة زارها ابن خلدون (رحلة ابن خلدون 158) .
[5] الموصل: مدينة عتيقة كثيرة الخصب، وقلعتها المعروفة بالحدباء عظيمة الشأن، شهيرة الامتناع (رحلة ابن بطوطة 157) .
[6] نصبين مدينة عتيقة متوسطة، في بسيط أفيح فسيح فيه المياه والبساتين والأشجار والفواكه (رحلة ابن بطوطة 158) .(3/505)
وحدود الشام من الجنوب وادي القرى، ومن الغرب عسقلان والحاجز الذي بين البحرين حيث مدائن لوط عليه السلام وطوله أكثر من شهر ونحوه، بعضه في الإقليم الرابع، وبعضه في الثالث، والتوجه في قبلته إلى الميزاب إلى الركن الشامي من جهة الشرق، وأكثر أهل يمن وفيهم معدنه [1] .
ثم قال: روى الحافظ أبو القسم علي بن الحسن ابن عساكر [2] في تاريخ الشام، بسنده إلى الشعبي قال: لما هبط آدم من الجنة وانتشر ولده، أرخ بنوه من هبوط آدم، وكان (المخطوط ص 253) . ذلك التاريخ حتى بعث الله نوحا، فأرخوا بمبعث نوح، حتى كان الغرق فهلك من كان على وجه الأرض، فلما هبط نوح وذريته وكل من كان في السفينة إلى الأرض، قسم الأرض بين ولده أثلاثا فجعل لسام وسط الأرض فيها بيت المقدس والنيل والفرات والدجلة وسيحون وجيحون [3] ، وذلك ما بين قيسبون إلى نهر النيل، وما بين منحر الريح الجنوب إلى منحر الشمال.
وجعل لحام قسمه غربي النيل مما وراءه إلى منحر ريح الدبور، وجعل قسمة يافث في قيسبون فما وراءه إلى منحر ريح الصبا، ثم تفرق بنو نوح من بابل إلى سائر جهات الأرض، فلحقت كل طائفة منهم بجهة.
وفي رواية الحافظ من طريق آخر عن هشام بن محمد عن أبيه [4] قال: كان الذين عقد لهم الألوية يعني ولد نوح عليه السلام، فنزل بنو سام المجدل صرة
__________
[1] أي عدنانية نسبة إلى عدنان.
[2] ابن عساكر أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين بن عساكر الشافعي المعروف بالحافظ الكبير ولد 499 هـ وتوفي 571 هـ (انظر: ترجمته في مقدمة كتابه تاريخ دمشق الكبير، هذبه ورتبه الشيخ عبد القادر بدران المتوفى 1346 هـ بيروت 1979 ص 7 وما بعدها) .
[3] وردت بالمخطوط سيحان وجيحان.
[4] ورد عن محمد بن السائب (انظر: تهذيب تاريخ دمشق الكبير 1/13) .(3/506)
الأرض [1] ، وهو ما بين ساندما [2] إلى البحر وما بين اليمن إلى الشام، وجعل الله النبوة والكتاب والجمال والأدمة والبياض فيهم.
ونزل بنو حام مجرى الجنوب والدبور، ويقال لتلك الناحية الداروم [3] وجعل الله فيهم أدمة وبياضا قليلا، وأغمر بلادهم، ورفع عنهم الطاعون، وجعل في أرضهم الأثل والآراك والعسر والغار [4] والنخل وجرت الشمس والقمر في سمائهم.
وبنو [5] يافث القصور [6] مجرى الشمال والصبا، ومنهم الحمرة والسناء، وأخلى الله أرضهم فأشتد بردها، وأجلى سماهم فليس يجرى فوقهم شيء من النجوم السبعة الجارية، لأنهم صدروا تحت نبات نعس والجدي والفرقدين، وابتلوا بالطاعون، ثم لحقت عاد بالشجر، فعليه هلكوا بواد يقال له مغيث، ولحقت عبيل بموضع يثرب، ولحقت العماليق بصنعاء قبل أن تسمى صنعاء، ثم انحدر بعضهم إلى يثرب فأخرجوا منها عبيلا [7] ونزلها موضع الجحفة، واقبل سبل فاجتحفهم، فذهب بهم فسميت الجحفة، ولحقت ثمود بالحجر وما يليه فهلكوا، ثم ولحقت طسم وجديس باليمامة، وإنما سميت اليمامة بامرأة منهم فهلكوا (المخطوط ص 254) ولحقت أميم بأرض أبار فهلكوا بها، وهي بين اليمامة والشحر، ولا يصل اليوم إليها أحد، غلبت عليها الجن، وسميت أبار
__________
[1] وردت بالمخطوط مسرة الأرض.
[2] سايبدما (تهذيب تاريخ دمشق الكبير 1/13) .
[3] الدارون (تهذيب تاريخ دمشق الكبير 1/13) .
[4] وردت عند ابن عساكر العشر والغاف 1/13) .
[5] وردت بالمخطوط وبنوا.
[6] الصفون (تاريخ ابن عساكر 1/13) .
[7] انظر: تهذيب تاريخ دمشق الكبير، قارن بين الاختلافات بين النصين 1/13.(3/507)
بابان بن أميم، ولحقت بنو يقطن بن عابر باليمن فسميت اليمن حين تيامنوا إليها، ولحق قوم من بني كنعان بن حام بالشام فسميت الشام حين تشاءموا إليها [1] .
وكانت الشام يقال لها أرض كنعان ثم جاء بنو إسرائيل فقتلوهم بها، ونفوهم عنها، وكانت الشام لبني إسرائيل، ووثبت على بني إسرائيل فقتلوهم؛ وأجلوهم إلى العراق إلا قليلا منهم وجاءت العرب فغلبوا على الشام.
قال أبو بكر محمد بن القسم الأنباري [2] : الشام فيه وجهان يجوز أن يكون مأخوذا من اليد الشومي وهي اليسرى ويجوز أن يكون فعلى من الشوم، ويقال انجداني نجدا، وأعرق دخل العراق، وأعمن أتى عمانا، وأشأم أي الشام، وبعّر وكوّف، وفي التنزل العزيز وأصحاب المشأمة [3] ورجل شأم من أهل الشام، وسميت اليمن لأنها عن يمين الكعبة، وسميت الشام لأنها عن شمال الكعبة، قيل كان اسم الشام أول الأمر سدريه [4] .
__________
[1] قارن مع ابن عساكر 1/14.
[2] انظر: تاريخ ابن عساكر 1/14.
[3] إشارة إلى قوله تعالى: وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ
[الواقعة، الآية 9] .
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ
[البلد، الآية: 19] .
[4] شورية (ابن عساكر 1/15) .(3/508)
ذكر دمشق وبنائها
روى عن كعب الأحبار قال: (أول حائط وضع على وجه الأرض بعد الطوفان حائط حران [1] ودمشق ثم بابل، وفي رواية أخرى أن نوحا لما نزل من الجبل، أشرف فرأى تل حران بين نهري جلاب وريصان فأتاه فبنى حائط حران، ثم سار فبنى حائط دمشق ثم رجع إلى بابل فبناها) «1» .
وفي رواية أخرى أن جيرون بن سعد بن عاد بن عوض نزل دمشق وبنى مدينتها، وسماها جيرون «2» ، وهي ارم ذات العماد [2] وليس أعمدة الحجارة في موضع أكثر منها بدمشق [3] .
«3» قال الحافظ [4] : وجدت في بعض الكتب أن جيرون وبريد كانا أخوين، وهما ابنا سعد بن لقمان بن عاد، وهما اللذان يعرف جيرون وباب البريد بدمشق بهما.
وفي رواية عن وهب بن منبه قال: ودمشق بناها العازر غلام إبراهيم الخليل عليه السلام، وكان حبشيا (المخطوط ص 255) وهبه له نمرود بن كنعنان حين خرج إبراهيم من النار، وكان اسم الغلام دمشق، وكان متصرفا في جميع مال إبراهيم [5] .
__________
[1] حران: من مدينة الجزيرة تقع على طريق الموصل والشام والروم (معجم البلدان 2/235) .
[2] إشارة إلى قوله تعالى: إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ
[الفجر، الآية: 7] .
[3] انظر: رواية ابن عساكر 1/15.
[4] انظر: رواية ابن عساكر 1/15.
[5] ابن عساكر 1/16.(3/509)
وروى الحافظ [1] إنه وجد في كتاب أبي عبيدة بن المثنى المسمى بفضائل الفرس [2] أن بنو آراسب الملك الكبراني بنى مدينة بابل، ومدينة صور ومدينة دمشق.
قال الحافظ [3] : وبلغني من وجه آخر أنه لما رجع ذو القرنين من الشرق، وعمل السد بين أهل خراسان وبين يأجوج ومأجوج وسائر بريد المغرب، فلما بلغ الشام، وصعد على عقبه. دمر حتى عبر هذا الموضع الذي فيه اليوم مدينة دمشق، وكان هذا الوادي الذي فيه نهر دمشق غيضه أرز، قيل أن الأرزة وجدت في سنة ثلاث عشر وثلاثمائة من بقايا تلك الغيضة، فلما نظر ذو القرنين لماء تلك الغيطة وكان هذا الماء الذي هو في هذه الأنهار اليوم مفترق مجتمعا في واد واحد فأخذ ذو القرنين يفكر كيف يبنى فيه مدينة، وكان أكثر فكره فيه وتعجبه منه أنه نظر إلى جبل يدور ذلك الموضع وبالغيضة كلها، وكان له غلام يقال له دمشقش [4] على جميع ملكه، وما نزل ذو القرنين من عقبة ومر سار حتى نزل في موضع القرية المعروفة ببلدا من دمشق على ثلاثة أميال، فأمر ذو القرنين أن يحفر له في ذلك الموضع حفيرة، ففعلوا ذلك، ثم أمر برد التراب الذي أخرج منها، فلما رد التراب لم تمتلأ [5] الحفيرة، فقال لغلامه دمشقش ارحل فإني كنت
__________
[1] لم يذكر ابن عساكر اسم الكتاب وإنما ذكر، مؤلف مسالك الأبصار، انظر: ابن عساكر 1/16.
[2] كتاب فضائل الفرس لأبي عبيدة معمر بن المثنى البصري المتوفى 210 هـ (كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون للعالم الفاضل الأديب والمؤرخ الأديب مصطفى بن عبد الله الشهير بحاجي خليفة وبكاتب جلبي، بغداد مكتبة المثنى 2/1276) .
ابن عساكر وذو القرنين وبناء دمشق.
[3] انظر: تاريخ ابن عساكر 1/16.
[4] دمشق (ابن عساكر 1/16) .
[5] وردت بالمخطوط تمتلء.(3/510)
نويت أن أؤسس في هذا الموضع مدينة فلما إذ بان لي هذا فما يصلح أن يكون هاهنا مدينة، فإنها لا يكون زرعها يكفي أهلها، قال: ثم رحل ذو القرنين حتى وصل إلى البثنية وحوران أشرف على تلك السعة، ونظر إلى تلك التربة الحمراء، فأمر أن يناول من ذلك التراب، فلما صار في يده، أعجبه، لأنه نظر إلى تربة كأنها الزعفران، فنزل هناك، وأمر أن تحفر حفرة فحفرت، وأمر برد التراب إلى المكان الذي أخرج منه فملأه [1] ، وفضل منه تراب كثير، فقال ذو القرنين لغلامه دمشقش: ارجع إلى ذلك الموضع الذي فيه الأرز فأقطع ذلك الشجر وابن على حافة الوادي (المخطوط ص 256) مدينة وسمها على اسمك، فهنا يصلح أن يكون مدينة، وهذا الموضع منه قوتها وعليه ميزتها [2] .
قال الحافظ [3] : وعلامة صحة ذلك أن أهل غوطة دمشق لا تكفيهم غلاتهم حتى يتكفوا من البثنية وحوران، فرجع دمشقش، وبنى المدينة، وعمل لها حصنا، وهي المدينة الداخلة وعمل لها أربعة أبواب جيرون مع باب البريد مع باب الحديد في سوق الأساكفة مع باب الفراديس الداخلة، هذه كانت المدينة إذا غلقت هذه الأبواب فقد أغلقت المدينة، وخارج هذه الأبواب كان مرعى، فبناها دمشقش، وسكنها ومات فيها، وكان قد بنى الموضع الذي هو الآن مسجدها الجامع كنيسة يعبد الله فيها إلى أن مات [4] .
وروى أن باني دمشق بناها على الكواكب السبعة، وأن المشتري كان طالع بنائها، وجعل لها سبعة أبواب، وصور على كل باب أحد الكواكب السبعة،
__________
[1] قارن تاريخ ابن عساكر 1/16.
[2] قارن تاريخ ابن عساكر 1/17.
[3] ابن عساكر 1/16.
[4] تاريخ ابن عساكر 1/17.(3/511)
وصور على كل باب كيسان صورة زحل، فخربت الصور التي على الأبواب كلها إلا باب كيسان فإن صورة زحل باقية إلى الآن.
وروى الحافظ عن أبي القسم تمام بن محمد قال: قرأت في كتاب عتيق باب كيسان لزحل، باب شرقي للشمس، باب توما للزهرة، باب الصغير للمشتري، باب الجابية للمريخ، باب الفراديس لعطارد، باب الفراديس الآخر المسدود للقمر [1] .
وروى الحافظ عن أبي مسهر قال: إن ملك دمشق بنى حصن دمشق الذي حول المسجد داخل المدينة على مساحة بيت المقدس، وحمل أبواب مسجد بيت المقدس فوضعها على أبوابه، فهذه الأبواب التي على الحصن هي أبواب مسجد بيت المقدس.
__________
[1] انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر 1/17.(3/512)
أسماء بعض جهاتها
خرّج الحافظ مرفوعا أن اسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام ولد له اثنا عشر ولدا، فسمى منهم دوما وبه سميت دومة الجندل، وفي رواية أخرى أنه كان للوط أربعة بنين وابنتان ماب وعمان وجلان وملكان والبنات زعز (المخطوط ص 257) والربة [1] ، فعمان مدينة البلقاء سميت بعمان وماب من سائر البلقاء سميت بماب، وعين زعز سميت بزعز بنت لوط والربة سميت بالربة.
قال الشرقي بن القطامي [2] : وسميت صيدا بصيدون بن صيدنا بن كنعان بن حام بن نوح، وسميت أريحا بأريحا بن مالك ابن ارفخشد بن سام بن نوح، وسميت البلقاء بأبلق عمان بن لوط لأنها ملكها وسكنها.
قال: وقيل أن الكسوة سميت بذلك لأن غسان قتلت بها رسل ملك الروم قدموا عليهم في طلب الجزية، فقتلوهم، وأخذوا كسوتهم، هذا آخر ما نقله التيفاشي [3] «1» .
قلت: وبدمشق مهبط عيسى عليه السلام، وهي فسطاط المسلمين يوم الملحمة الكبرى، وقد تقدم القول أن الخوارزمي قال: طفت جوانب الأرض «2» الأربعة فكان فضل غوطة دمشق عليها كفضلها على غيرها، كأنها الجنة صورت على وجه الأرض.
__________
[1] ماث وخلاب وعمان وملكان وزغر والربة (ابن عساكر 1/18) .
[2] ابن عساكر 1/18.
[3] واضح أن ابن فضل الله العمري ينقل عن التيفاشى والتيفياشى عن ابن عساكر.(3/513)
وأما وصفها فكثير جدا يعجبني منه قول ابن عنين [1] . [الطويل]
دمشق في شوق إليها مبرح ... وإنّ لج واش أو ألح عذول
بلاد بها الحصباء در وتربها ... عبير وأنفاس الشمال شمول
تسلسل فيها ماؤها وهو مطلق ... وصح نسيم الروض وهو عليل [2]
وقول عرقلة [3] : [البسيط]
ما بين شطري ومغربي جنة سرحت ... أنهارها في خلال الآس والبان
يظل منثورها في الأرض منتثرا ... كأنما صيغ من در ومرجان
فالطير تصدح في أغصانها سحرا ... هذا هو العيش إلا أنه فاني
وكذلك قول ابن عنين وقد نفى منها: [الكامل]
فسقى دمشق وواديها والحمى ... متواصل الإرعاد منفصم العرا
حتى ترى وجه الرياض بعارض ... أحوى ووجه الدوح أزهر نيّرا
وأعاد أياما قطعت حميدة ... ما بين حرة عالقين وعكبرا
(المخطوط ص 258)
تلك المنازل لا أعقة عالج ... ورمال كاظمة ولا وادي القرى
أرض إذا مرت بها ريح الصبا ... حملت من الأغصان مسكا أذفرا
فارقتها لا عن رضى وهجرتها ... لا عن قلى ورحلت لا متخيّرا
__________
[1] هو محمد بن نصر بن مكارم بن عنين الأنصاري الدمشقي له ديوان مشهور وهجو مؤلم كان بارعا في معرفة اللغة توفي 630 هـ (انظر: ديوان العبر لابن خلدون 2/122) .
[2] هذه الأبيات لشرف الدين بن محسن (انظر: قول ابن جزى في رحلة ابن بطوطة ص 62) .
[3] هو عرقلة الدمشقي الكلبي (انظر: رحلة ابن بطوطة ص 62) .(3/514)
وقول البحتري [1] : [البسيط]
العيش في ظل [2] داريّا إذا بردا ... والرّاح يمزجها [3] بالراح من بردا [4]
إذا أردت ملأت العين من بلد ... مستحسن، وزمان يشبه البلدا
أمّا دمشق فقد أبدت محاسنها ... وقد وفى لك مطريها بما وعدا
تمشى السّحاب على أجبالها فرقا ... ويصبح النّبت في حجراتها بددا [5]
ولست تبصر إلّا واديا خضرا ... أو يانعا خضلا أو طائرا غردا [6]
كأنّما القيظ ولى بعد جيلته ... أو الربيع أتى من بعد ما بعدا [7]
ومدامتها على الموصوفة «1» في الآفاق المعروفة في مغارسها بكرم الأعراق، تنشر كاساتها ألوية حمرا، وتوقد في صفحات الخدود جمرا، فمن حمراء كنار تتلهب، ومن صفراء كالزجاج المذهب، ومن بيضاء كأنها نقطة غدير أو فضة طافت بها قوارير أو وردية تتضاحك في الشفاه اللعس «2» ثغورها المعتبرة، ويخالطها الصفاء كخد أبيض تشرب بحمرة، تضىء في دجى «3» الليل
__________
[1] انظر: ديوان البحتري تحقيق حسن كامل الصيرفي، دار المعارف، القاهرة: 2/709- 710 (وانظر: الأبيات أيضا في تاريخ دمشق لابن عساكر في ترتيب مختلف 1/254) .
[2] ليل (الديوان 2/709) .
[3] تمزجها بالماء (الديوان 2/709) .
[4] من بردى (الديوان 2/709) .
[5] عيسى السحاب ... في صحرائها (الديوان 2/709) .
[6]
فلست تبصر إلا واكفا حضلا ... أو يانعا خضرا، أو طائرا غردا
(الديوان) .
[7]
كأنما القيظ ولى بعد جيئته ... أو الربيع دنا من بعد ما بعدا
(الديوان) .(3/515)
مصباحا، وتهدى إلى الجلساء بريحها تفاحا، وببلاد الشرق بها ما يرق عن الزجاج، ويخف عن مخالطة الامتزاج «1» ، فيعلق فوق الماء على الأقداح، وتتعلى حمرته عليه كالشفق على الصباح، يطير عليها الشعاع ويطيب إلى قهقهة قيانها السماع، وصيدنا يا «2» معدن ذهبها وافق كوكبها وإليها أشار ابن عنين [1] بقوله: [الكامل]
ومدامة من صيدنا يا نشرها ... من عنبر وقميصها من صندل
مسكية النفحات يشرف أصلها ... عن بابل ويحل عن قطربل «3»
وقد خالف القاضي الفاضل حيث قال بذم دمشق، ودخلت دمشق وأنا (المخطوط ص 259) ملتات لتغير مائها وهوائها وأبنيتها وأبنائها وأوديتها، ومن في مصر، فإني أبيع بردا [2] بشربة من مائها، فالطلل هائل ولا طائل، وما سمعناه من تلك الفضائل متضائل.
وقال فيها وقد وقع عليها الثلج وأما دمشق فأدرها اليوم للثلج قوالب، وقد أخذ أن يذوب، فالشوارع تحتاج إلى مرالاب [3] «4» ، وبدمشق من كل ما في مصر من الوظائف، وليس هذا في بقية بلاد الشام، مثل (قضاة) القضاة الأربعة
__________
[1] ابن عنين: هو أبو المحاسن محمد بن نصر الدين بن نصر بن الحسين بن عنين الأنصاري، طاف بلاد الشام والعراق والجزيرة ومصر وغزنة وما وراء النهر ولد بدمشق 49 هـ وتوفي بها 630 أو 634 هـ (دائرة المعارف، البستاني بيروت 620) .
[2] نهر بردى.
[3] زلاجات.(3/516)
من المذاهب الأربعة، وقاضي عسكر، وخزانة يخرج منها الانفاقات والخلع وخزائن سلاح وزردخانات [1] وبيوت تشتمل على حاشية سلطانية مختصرة، حتى لو حضر السلطان إليها جريدة، وجد بها من كل الوظائف القائمة بدولته، وكل أمير أمر فيها أو في غيرها من الشام أو أولى رب وظيفة وظيفة، من عادة متوليها أن يخلع عليه «1» خلعة أو إنفاقا، ولم يخلع عليه من مصر أو «2» ينعم عليه من مصر، كان من دمشق خلعة وإنعامه.
ومنها يخرج أعلام الإمرة وطلائعهم وشعار الطبلخانات، وفي خزائن السلاح بها معمل المجانيق [2] والسلاح، والزردخانات، وتحمل إلى جميع الشام، وتعمر به البلاد والقلاع، ومن قلعتها يجرد الرجال وأرباب الصنائع إلى جميع قلاع الشام، ويندب في التجاريد والمهمات.
وهي مدينة جليلة وقلعتهما مرحلة على الأرض يحيط بها وبالمدينة أسوار عليه، يحيط بها خندق، بطون الماء منه بالقلعة، وإذا دعت الحاجة، أطلق على جميع الخندق المحيط بالمدينة فيعمها، وهي في وطأة مستوية، بارزة عن الوادي المخط عن منتهى ذيل الجبل، مكشوفة الجوانب لممر الهواء إلا من الشمال؛ فإنه محجوب بجبل قاسيون [3] ،
__________
[1] زردخانات جمع مفرده زردخانه وهي بالفارسية زرّادخانه وهي مصنع صناعة السلاح (فرهنگ عميد 2/1100) .
[2] المجانيق: جمع مفرده منجنيق، آلة قديمة من آلات الحصار، وكانت ترمي الحجارة الثقيلة على الأسوار فتهدمها منجنيق كلمة فارسية (انظر: الكلمات الفارسية في كتاب سيبويه د. أحمد الشاذلي، المنوفية 1987 ص 43، المعجم الوسيط 2/855، فقه اللغة للثعالبي 323) .
[3] قاسيون جبل في شمال دمشق، والصالحية في سفحه وهو شهير البركة لأنه مصعد الأنبياء عليهم السلام (رحلة ابن بطوطة 72) .(3/517)
وبهذا تعاب وتنسب إلى الوخامة، ولولا جبلها الغربي الملبس بالثلوج صيفا وشتاء، لكان أمر في هذا أشد، وحال سكانها أشق، ولكنه ترياق [1] ذلك السم ودواء ذلك الداء.
وهي مدينة حسنة الترتيب جليلة الأبنية، (المخطوط ص 460) بالحجر والخشب والآجر، مضبب بين مداميك البناء بالخشب الملبن، وأخشابها من خير أخشاب الأرض، يسمى الحور، ينصب في بساتنيها، ويربي، ويقطع في انتهائه فيعطى اللبان، فإذا انكسر عود منها يبقى في مكانها متماسكا عدة سنين وأكثر ولو أنه متعلق بقدر شعرة واحدة [2] .
ولهذه المدينة حواضر «1» فسيحة من جهاتها الأربع، والماء حاكم عليها من جميع نواحيها بإتقان محكم على ما نذكره في صفة نهرها.
وهذه المدينة مقسمة على جوانب الجامع [3] بها لا على أنه واسطتها من كل الجهات «2» ، فإن ما بينه وبين نهاية المدينة من القبلة وما بينه وبين نهاية المدينة من الشرق أوسع مدى مما بينه إلى نهاية المدينة من الجانبين الآخرين الشمالي والغربي.
وأشرف هذه المدينة ما قرب من جامعها، وبها الديار الجليلة المذهبة السقوف المفروشة بالرخام، ومنها ما هو مرموز «3» الحيطان بالرخام والنوع المفصل بالصدف والذهب والبرك الماء الجارية، وقد تجري الماء في الدار في أماكن، وبها الطباق الرفيعة والأقنية الوسيعة «4» ، والأسواق المليحة الترتيب، والقياسر «5» الحصينة،
__________
[1] وردت بالمخطوط ذرياق ودرياق ب 162 أ 260.
[2] قارن وصف دمشق عند ابن بطوطة 61- 62.
[3] يقصد الجامع الأموي المشهور بدمشق والذي بناه الوليد بن عبد الملك بن مروان.(3/518)
وبها الصناع المبهرة في كل فن من البنائين [1] وصناع السلاح والمصوغ والزركش وغير ذلك، ونعمل بها لطائف الأعمال من كل نوع، وصناعها تفخر على بقية صناع هذه المملكة إلا فيما قل مما بمصر.
ومصر والشام والعراق والروم تستمد من لطائفها خصوصا في القس والنحاس الطعم والزجاج المذهب وجلود الخراف «1» المدبوغة بالقرط المضروب بها المثل وهي أحد جنات الدنيا الأربع.
وقال الخوارزمي، رأيت جنات الدنيا الأربع، وكان فضل غوطة دمشق عليها كفضلها على سواها كأنها الجنة على وجه الأرض حسبما ذكرناه، وبها البساتين الأنيقة يتسلسل جداولها، وتفيء دوحاتها، وتتمايل أغصانها، وتغرد أطيارها.
وبها بساتين «2» النزهة وبها العمائر الضخمة والجواسق العلية، والبرك العميقة والبحيرات (المخطوط ص 261) الممتدة عليها العرش المحددة «3» المظللة، تتقابل بها الأواوين والمجالس، ويحف بها العراس والنصوب المطرزة بالسرو الملتف البرود والجور الممشوق القدود، والرياحين المتأرجّة الطيب، والفواكه الجنية، والثمرات الشهية، والبدائع التي تعينها شهرتها عن الوصف، وبها في سفح جبل قاسيون الصالحية، وهي مدينة ممتدة في سفح الجبل بإزاء المدينة في طول مدى، ذات بيوت وجناين ومدارس وربط وترب جليلة وعمائر ضخمة ومارستان وأسواق جليلة بالبز وغيره وبأعاليها من ذيل الجبل المقابر العامة، وجميع الصالحية مشرفة على دمشق، وغوطتها وكل بساتينها وشرفها وميادينها ومجرى واديها وبجانبها القرى، كان دير مران المشهور مكانه الآن من المدرسة المعظمية إلى قريب عقبة
__________
[1] وردت بالمخطوط البناين.(3/519)
دمر ومنه وهناك بقايا آثار.
وأما حواضر دمشق فهي كما قدمنا القول جليلة من جميع جهاتها وأجلها ما هو في جانبها الغربي والشمالي، فأما الغربي فإنها تفضي من تحت القلعة بها في ساحة فسيحة هي سوق الخيل على ضفة الوادي، ويخرج إليها من جوانب المدينة من أمتعة الجند فتباع في أيام المواكب بها وتنتهي فيما يليها من الوادي إلى شرقي محيطين به قبلة وشاما «1» في ذيل كل منهما ميدان أخضر النخيل، والوادي يشق بينهما، وفي الميدان القبلي منهما القصر الأبلق، بناه الملك الظاهر بيبرس البندقداري الصالحي [1] وظاهر من وجه الأرض إلى نهاية أعلاه بالحجر الأسود والأصفر مدماكا من هذا ومدماكا من هذا بتأليف غريب وإحكام عجيب، ويدخل من دركاه [2] «2» له على جسر راكبا بعقد على مجرى الوادي إلى إيوان يراني بطل على الميدان القبلي استجده أقوس «3» الأقرم زمان نيابته بها، ثم يدخل إلى القصر من دهاليز فسيحة مشتمل قاعات ملوكية يستوقف الأبصار وتستوهب الشموس من أشعتها الأنوار بالرخام الملون قائما نائما في مفارشها وصدورها وأعاليها وأسافلها مموهة بالذهب (المخطوط ص 262) واللازورد والفص المذهب وأزر من الرخام إلى سجق السقوف.
وبالدار الكبرى «4» بها إيوانان متقابلان، تطل شبابيك شرقيها على الميدان الأخضر الممتد، وغربيها على شاطىء الوادي المخضر، والنهر به كأنه ذوائب
__________
[1] الظاهر بيبرس البندقداري من مماليك الصالح أيوب، تولى السلطنة في مصر بعد قتله للسلطان قطز، استمر في ملاحقة المغول له آثار طيبة (انظر: العبر 5/247، القريزي ق 2/429- 431، ابن كثير 13/220) .
[2] حاكم دمشق هو نائب السلطنة لأنه تابع لسلطان مصر ويعين بفرمان منه.(3/520)
الفضة، وله الرفارف العالية المناغية للسحب، تشرف من جهاتها الأربع على جميع المدينة والغوطة، والوادي كامل المنافع بالبيوت الملوكية والاصطبلات السلطانية، والحمام والمنافع المكملة لسائر الأغراض. وتجاه باب القصر باب من رحبته إلى الميدان الشمالي على الشرفين المقدم ذكرهما، أبنية جليلة من بيوت ومناظر ومساجد ومدارس وربط وخوانق وزوايا وحمامات ممتدة على جانبين ممتدين طول الوادي.
وقد بنى في هذه السنين نائب السلطنة [1] «1» بها على الشرف الشرقي «2» منهما جامعا بديعا، يليه تربة ضخمة ودارا ملوكية، ومد قبالة الجامع سوقا نظيفا وحماما فائقا، زاد المكان حسنا على حسن وإبداعا على إبداع.
وأما حاضرها الشمالي ويسمى العقبة «3» فهو مدينة مستقلة بذاتها ذات جوامع ومساجد ومدارس وربط وخوانق وزوايا وأسواق جليلة. وحمامات وبها ديار كثيرة للأمراء والجند.
وأما نهر دمشق وهو بردى [2] فمجراه من عينين، البعيدة منهما دون قرية تسمى الزبداني [3] «4» ، ودونها عين بقرية تسمى الفيحة بذيل جبل غزتا، والماء خارج من صدع في نهاية سفل الجبل، وقد عقد على مخرج مائة قبو رومي البناء، ثم ترفده منابع في مجرى النهر، ثم يقسم النهر أربعة؛ اثنان عن اليمين
__________
[1] وردت بالمخطوط بردا.
[2] الزبداني: بلدة صغيرة، كثيرة الفواكه قرب دمشق (رحلة ابن بطوطة 61) .
[3] نور الدين محمود زنكي ابن عماد الدين زنكي من حكام الدولة الأتابكية في الشام، له فضائل في جهاد الصليبين ورعاية العلم ولد 511 هـ وتوفي بدمشق سنة 569 هـ (ابن خلكان 5/184) .(3/521)
واثنان عن الشمال مرفوعان على مجرى النهر في قرارة الوادي دائمة بمقسم معلوم، وعليه التفاف بساتين «1» ممتدة من الجانبين إلى أن يمر على المكان المسمى بالربوة وقد بنى الملك العادل الشهيد نور الدين محمود بن زنكي [1] رحمه الله بها المقام المعروف بمهد عيسى «2» ، يقال أن مريم آوت إليه بولدها عيسى عليه السلام، وأن هذه الربوة هي المعنية بقوله تعالى: وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ.
(المخطوط ص 263) .
ومنظر هذا الوادي من أعجب المناظر لتراكم الظل والماء وأظلال الشمس والهواء، وأفراش الجبلين المحدقين به في أرضه بالبنفسج تحت الأشجار المتمايلة على غصون البان، تنفخ بينهما خدود الورد، ويفتر مباسم الياسمين، وتندلق ألسن السوسن، وتتجاوب فيها هدير الماء والحمام، وتتلاقى خيول «3» النسيمين الطائر من الشمال على منابت الشيح ومن القبلة على الحدائق الفيح.
وإنّ إلى جانب هذا الوادي في قبليه بشمال سطح ممتد على ظاهر المزية كأنه قطعة بيداء مقفرة ينبت بها الشيح والقيصوم، وتتلاعب بها الصبا والدبور [2] ، عرفت بصحة الهواء وفسحة الفضاء فطاب به ما جاورها، وصح لأجله ما قاد بها ثم نعود إلى ذكر النهر وتسمى الأنهار السبعة بحرى الوادي، والستة المقسومة فمجرى الوادي بردا فاق عليه هذا الاسم لا يعرف بغيره، وعلى سمت بردى في الجانب الغربي الأعلى الآخذ قبلة نهر داريا ودور المزية ودونه نهر القنوات، ودونه نهر باناس وعلى يسرة «4»
__________
[1] إشارة إلى قوله تعالى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ
[المؤمنون، الآية: 50] .
[2] رياح تهب عليها.(3/522)
بردى في الجانب الشرق الآخذ شمالا على نهر يزيد، ودونه نهر نورا.
فأما القنوات وباناس فهما نهر المدينة حاكمان عليها، ومسلطان على ديارها، يدخل باناس القلعة بها، ثم ينقسم قسمين؛ قسم للجامع، وقسم للقلعة، ثم ينقسم كل قسم منهما على تقاسيم تتفرق على أصابع في المدينة بأصابع مقسومة وحقوق معلومة، وكذلك تنقسم القنوات في المدينة، ولا مدخل له في القلعة ولا الجامع، ومجرى الماء في قنى مدفونة في الأرض إلى أن تصل إلى مستحقاتها، ويتسع في منابعها، ثم تنصب فضلات الماء والبرك ومجاري الميضاوات والمرتفعات إلى قنى «1» وسخ معقودة تحت أرجائي الماء المشروب، ثم تتجمع وتنهّر وتخرج إلى ظاهر المدينة لسقى الغيطان.
وأما بقية الأنهر خلا بحر بردى فإنها تتصرف إلى البساتين والغيطان وعليها القصور والبنيان خصوصا ثورا [1] ، فإنه نيل دمشق، عليه أجل مبانيهم، وبه متنزهاتهم، وإليه أكثر سيارتهم وتوجهاتهم، يخاله من يراه زمردة خضراء لتراكم الأفياء عليه، والتفاف الدوح من جانبيه، ويجرى (المخطوط ص 264) يزيد في ذيل الصالحية، ليشق خيطا من عمارتها، وأما مجرى بردى فإنه تتفرق منه فرقة بجانب المدينة، تدخل إلى داخل سورها، وتدور به أرجاؤها [2] وينصب باقيها إلى مجرى الوادي إلى أن يخرج من حدود العمارة، والأرجاء المنصوبة عليه إلى تتمة الوادي يحف به الفياض المتكاتفة من السفرجل والجوز والبساتين، ثم يرمى إلى ظاهر قرى دمشق، يسقى ما يحكم عليه ثم ينصب في بحيرة هناك متصلة
__________
[1] تورة: نهر يشق الربوة، في دمشق (رحلة ابن بطوطة 73) .
[2] ارحاؤها جمع مفرده رحاه وهي السواقي والنواعير.(3/523)
بالبرية.
هذه أمهات الأنهار من بردى، وما ينقسم منه على أن كل نهر من هذه الأنهار تنقسم منه أنهار كبار وصغار، وتتشعب من تلك الأنهار جداول، ثم تتفرق في البساتين والغيطان لسقى أراضيها، وإدارة أرحائها، مما لا يكاد يعد كثرة «1» .
فأما مسجدها الجامع فصيته دائر في الدنيا «2» ، كان هيكلا لعباد الكواكب، ثم كنيسة للنصارى [1] ، إلى أن فتحت دمشق على أيدي أبي عبيدة بن الجراح [2] وخالد بن الوليد رضي الله عنهما، فجرى عليه حكم المناصفة، فوقع
__________
[1] كان موضع كنيسة، حيث دخل خالد بن الوليد الكنيسة حتى منصفها أثناء فتح دمشق، وصالح أبو عبيدة بن الجراح على النصف الثاني، وبنى المسلمون مسجدا على النصف الأول، وعزم الوليد بن عبد الملك زيادة المسجد فأراد شراء النصف الثاني من الكنيسة فرفض الروم فأنتزعه عنوة وبنى هذا المسجد الأموي (رحلة ابن بطوطة ص 63) .
[2] ورد عبيدة بن الجراح أ 264 وورد صحيحا في ب 165.(3/524)
نصفه الشرقي للمسلمين، وبقى نصفه الغربي بأيدي الروم إلى خلافة الوليد بن عبد الملك، واستخلصه وأتمه جامعا للمسلمين، فهو بيت عبادة من قديم، وقد ذكرناه فيما تقدم.
جملة أعمال دمشق
«1» أما جملة أعمال دمشق فهي ثمانية وعشرون عملا، وهي ما يذكر عمل ضواحيها، وتسمى بولاية البر، وهي الغوطة والمرج وجبة عسال والإقليم، كل هذا عمل واحد، والبلاد الساحلية القبلية وما تبعها وهي عبارة عن بلاد غزة وعمل قريتا وما جاورها سهلا ووعرا وهي نسخة أعمال خاصة غزة ثلاثة أعمال وهي؛ عمل غزة وعمل قريتا، وعمل بيت جبريل، والساحل ثلاثة أعمال وهي عمل الرحلة وعمل قاقون وعمل لدّم، والجبل وهو ثلاثة أعمال، عمل نابلس وعمل القدس الشريف، وعمل بلد الخليل عليه السلام.
فهذه جملة هذه الأعمال والمشاهير منها مذكور في عمله، موصفة إلا نابلس فإننا نذكرها هنا فنقول إنها مدينة ممتدة يحتاج إليها، ولا يحتاج إلى سواها، والصّفقة القبلية وهي بلاد صوران والغور وما مع ذلك (المخطوط 265) وهي عشرة أعمال وهي؛ عمل بيسان وبيسان لها قليعة من بناء الفرنج، وهي مدينة الغور، وعمل بانياس وهي مدينة الجولان وبها قلعة الصبيبة، وعمل الشعراء، وعمل نوى وهي مدينة قديمة، وبها قبر أيوب عليه السلام، وعمل أذرعات هي مدينة البثنية.
قال البلاذري [1] ولما فتح المسلمون بصرى [2]
__________
[1] انظر: فتوح البلدان للإمام أبي الحسن البلاذري عنى بمراجعته والتعليق عليه رضوان محمد رضوان بيروت 1978 ص ر 120
[2] بصرى: في موضعين إحداهما بالشام وهي التي وصل إليها النبي (صلى الله عليه وسلم) للتجارة والأخرى من قرى بغداد (مراصد الاطلاع 1/201) .(3/525)
أتاهم صاحب أذرعات فلما جاءها عسكر هولاكو بعد أخذ دمشق فهدموا شرفاتها وأبقوها بيده، فجدد الملك الظاهر بيبرس البندقداري تحصينها وتحسينها، وصرخد مدينة حوران العليا، وعمل بصرى وهي مدينة حران السفلى، بل حوران كلها بل هذه الصفقة جميعها.
قال البلاذري [1] : وبصرى قصبة حوران، وهي مدينة على سيف البرية، ولها ذكر في حديث النبي (صلى الله عليه وسلم) ، ودخل إليها قبل بعثته وهو تاجر لخديجة بنت خويلد الأسدية رضي الله عنهما، وفيها لقى بحيرة الراهب، وبها قبره إلى عصرنا هذا.
قال البلاذري [2] : اجتمع المسلمون عند قدوم خالد بن الوليد على بصرى، ففتحوها صلحا ولبثوا على حوران فغلبوا عليها.
وقال ابن جرير [3] وقد ذكرها: في هذه الكورة قلعة صرخد، وهي محدثة ثم كان بها ملك بعد ملك.
__________
[1] البلاذري: أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البلاذري نشأ في بغداد ورحل إلى كثير من أنحاء البلاد وله فتوح البلدان الكبير، وفتوح البلدان، وأنساب الأشراف وعهد أردشير وكتاب الأخبار توفي 279 هـ (انظر مقدمة فتوح البلدان بيروت لجنة تحقيق التراث 1983 ص 5- 12) .
[2] انظر: فتح بصرى في كتاب فتوح البلدان، الإمام أبو الحسن البلاذري بيروت 1983 ص 116) .
[3] تاريخ الرسل والملوك المعروف بتاريخ الطبري لأبي جعفر محمد ابن جرير الطبري تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم بيروت 1967 ج 3/440.(3/526)
قلت: وهكذا جرت العادة في محضرنا وما تقدمنا مما قاربه أن يكون لمن أنزل عنه رتبة سلطنة أو ما قاربها، وعمل زرع فهذه جملة الأعمال والصفقة الساحلية والجبلية الشمالية، وهي أربعة أعمال وهي؛ عمل البقاع العزيزية والبقاع البعلبكية وعمل بيروت [1] ؛ وهي ثغر على صفة البحر، وعليها سور من حجارة وبها جبل فيه معدن حديد، ولها غيضة من أشجار الصنبور تكسيرها اثنا عشر ميلا، تتصل بلبنان، وشرب أهلها من الآبار، وهي بيدر فرصة دمشق، وعمل صيدا [2] ، وعليها سور حجر، وهي تنسب لرجل من ولد كنعان بن حام، وكورتها كثيرة الأشجار غزيرة الأنهار وتشتمل على نيف وستمائة ضيعة، وشرب أهلها من ماء يجري إليهم من قناة فهذه جملة هذه الأعمال.
والصفقة الشرقية الشمالية هي البلاد الحمصية، وهي أربعة أعمال وهي عمل حمص [3]
__________
[1] بيروت: مدينة صغيرة حسنة الأسواق، وجامعها بديع الحسن (رحلة ابن بطوطة 48) وهي الآن حاضرة لبنان.
[2] صيداء: على ساحل البحر، حسنة كثيرة الفواكة (رحلة ابن بطوطة 48، مراصد الاطلاع 2/859) .
[3] حمص: مدينة مليحة، أرجاؤها مونقة، وأشجارها مورقة، وأنهارها متدفقة، وأسواقها فسيحة الشوارع وجامعها متميز بالحسن الجامع في وسطه بركة ماء، وأهل حمص عرب لهم فضل وكرم (رحلة ابن بطوطة 51) .(3/527)
وعلى قارة وعمل سلمية وعمل تدمر وتدمر مدينة شامية عراقية لاتصالها ببر العراق وبر الشام وهي مدينة جليلة سليمانية البناء، وبها بساتين جليلة ومتاجر مفيدة لأهلها يسار ومنها تجار تضطرب في الأرض (المخطوط ص 267) فهذه جملة المملكة الدمشقية «1» .
بعلبك
وبعلبك [1] مدينة قديمة البناء، شمالي دمشق يقال أنها من بناء سليمان بن داود عليهما السلام، لها قلعة عظيمة مرجلة على وجه الأرض، مثل قلعة دمشق يستدير بها.
وبالمدينة سور منيع محصن عظيم البناء بالحجارة الثقل «2» الكبار من الصخر الشديد المانع، وبه ثلاثة أحجار عظيمة ممتده تحت برج وبدنتين كوامل ذوات «3» أطوال وعروض وسمك مرتفع كأفلاق «4» الجبال وفي القلعة عمد عظيمة شواهق وسيعة الدور منيفة العلو.
وفي هذه البقعة «5» من عمائر من تفرد بها من الملوك الأيوبية أثار ملوكية جليلة القدر جلية الحسن كالدار الأمجدية والمجرة.
__________
[1] بعلبك: مدينة حسنة قديمة من أطيب مدن الشام، تحدق بها البساتين الشريفة، والجنات المنيفة، تضاهي دمشق في خيراتها المتناهية، بها يصنع الدبس المنسوب إليها (انظر: رحلة ابن بطوطة 61 مراصد الاطلاع 1/208) .(3/528)
وأما المدينة فمختصرة من دمشق في كمال محاسنها في حسن الترتيب والبناء وجهات الوقف العامرة من الجامع والمسجد والمارستان ودار الحديث والمدارس والربط «1» والخوانق والزوايا والأسواق النظيفة المشتملة على أنواع المبيعات، وتخرق الماء في ديار هذه ومشارعها وأسواقها، ويعمل بها الدهان الفائق في الماعون مما يستحسن، ويحمل منه إلى كثير من البلاد، ويحف بالمدينة غوطة عظيمة أنيقة ذات بساتين مشتبكة الأشجار بأنواع الثمرات الحسان والفواكه المختلف الألوان [1] .
وبعلبك في ظاهرها عين ماء سارحة متسعة الدائرة مشهورة بالزينة، ماءوها في غاية الصفاء، عليها بهجة الحسن بين مسرح أخضر وبستان مونق، وعليها مسجد، واستجد إلى جانبها مسجد جامع كمل به طرازها المذهب، وجمالها المبدع، يمد منها نهر ينكسر على الحصباء في خلاف تلك المروج كنصل سيف يسن فوق مسن إلى أن يدخل المدينة، وينقم منه في بيوتها وجهاتها، ويسمى ماء رأس العين.
ولبعلبك عين أخرى أبعد من هذه الأولى مدى، يقال لها عين اللوجوج في طرف بساتينها البعيدة، خفيفة الماء هاضمة لا يشرب أكابر بعلبك، وأهل النعمة بها إلا من مائها، ويتصل منها فرع إلى الجانب الشمالي (المخطوط ص 268) من بعلبك، ويصب منه في قناة هناك، ويدخل إلى القلعة منه، وهو من الماء المستطاب الموصوف في البلاد.
وبعلبك بلد لطيف ظريف كثير الخير والأرزاق، أرخى أسعارا من دمشق،
__________
[1] قارن وصف بعلبك عند ابن بطوطة ص 61.(3/529)
كثيرة الأطايب، وبها الملبن المعمول على أنواع، يقل موجود مثلها من الأرض، ولا يكاد يفوتها من دمشق فائت.
وبها جبل لبنان المشهور المبارك البقعة موطن الأولياء «1» والصلحاء والسواح، يأوى إليه كثير ممن انقطع إلى عبادة الله عز وجل، وهو مدرج طريق الفقراء، وقطب مدار الأولياء، يقر بهذا من عرفه، ولا يستطيع إنكاره من جهله.
ومع ما ذكرنا من حسنها، قد ذمها القاضي الفاضل فقال: وكأني آليها من إحدى المضائق بل المطابق «2» المسماة بعلبك، وأنا نازل على عين يصم الشمع هديرها، فوق جبال يغمر العين حريرها «3» تحت سماء قد رابني منها الغداة سفورها، إما في قتال يدير كأس المنون فيه مديرها، ورأى أحجار المنجنيقات التي إذا زأرت نفطها حروف البروج محيت سطورها، والله المستعان على ما يصفون.(3/530)
حمص
حمص مدينة قديمة اسمها القديم سوريا، كانت معظمة عند ملوك الروم كرسي ملك لهم، ولم تزل يشار إليها بينهم بالتعظيم وهي في وطأة ممتدة على جانب نهر العاص في شماليه مبنية بالحجر الأسود الصغير، وبها قلعة لا تمنع ويستدير بها سور هو أمنع من القلعة، واسمح من أبراجها في الرفعة، ولها من العاص ماء مرفوع يجرى إلى دار نائب السلطنة بها، وبعض مواضع بها ولها من بر بعلبك أنواع البز، وظاهرها أحسن من باطنها، لا سيما في زمان الربيع، وما تلبس به ظواهرها من حلل الربيع الموشحة بالأزهار ما مد النظر، يرنو [1] بأحداق النرجس وثغور الأقاح وتتوسط بها البحيرة الصافية الماء الضافية النماء، ذات السمك المنقول من الفرات إليها حتى تولد فيها، والطير المبثوث في نواحيها [2] .
وبها إلى جانب مسجدها الجامع قبة العقارب لا يوجد (المخطوط ص 269) لها نظير، يقال أنها طلسم قديم موضوع لدفع العقارب عنها، ولأجل هذا لا يوجد بها شخص عقرب، ولا تجمل عقرب إليها إلا وتموت بها ومن أخذ ترابا من أرض حمص، وخلطه بماء حتى يصير طينا ثم ألصق تلك الطينة ببعض جدران تلك القبة من داخلها، وتركها حتى تسقط بذاتها من غير أن يلقيها أحد، ثم أخذها ووضع شيئا منه في بيت، لا تدخله عقرب «1» ، فإن ذر على عقرب منه أحدث بها مثل السكر وربما زاد عليها فقتلها هذا لا يحتاج يسأل عن تحقيقه، ولا يأبى من هو في غاية المشرق أو المغرب في تصديقه، بل والذي يقال أن هذا الأمر لا يختص بهذه القبة وإنما هو خاصة في عامة أرض حمص، لا تقرب عقرب
__________
[1] وردت بالمخطوط يرنوا ب 166- أ 268.
[2] انظر: وصف حمص لابن بطوطة في رحلته ص 51.(3/531)
ثيابه وأمتعته ما دام عليه من غبار ترابها.
حدثني خلق بهذا، ورأيت بعيني، وجربت ما يتعلق بالطين الملصق بالقبة، وإلى هذا أشار الفاضل في البشرى بفتوحها ودب إليها من عقارب المجانيق ما خالف عادة حمص في العقارب ورميت بها الحجارة على الحجارة، فظهرت العداوة المعروفة بين الأقارب وحمص تتلو اسكندرية فيما يعمل فيها من القماش الفائق على اختلاف الأنواع وحسن الأوضاع، لولا قلة مائه ونحولة جسمه مع أنه يبلغ الغاية في الثمن، وإن لم يلحق «1» اسكندرية مصر فإنها تفوق صنعاء اليمن.(3/532)
حماة
حماة [1] مدينة قديمة وهي في وهدة حمراء ممتدة عليها نشزان عاليان مطلان عليها، يسميان قرون حماة، ذكرها امرؤ القيس، هي وسيزر «1» في شعره لما مر بهما في طريقه إلى قيصر.
وهي مدينة «2» على ضفة العاص بناء مكينا بالحجارة، ولها قلعة ملونة الأحجار يستدير بها سور وبيوت ملوكها وسرواتها مطلة على النهر، بها القصور الملوكية والدور السرية والمساجد والمدارس والربط والزوايا والأسواق التي لا تعدم نوعا من الأنواع، ولا صنفا من الصنوف «3» ، جليلها وحقيرها.
وغالب مبانيها العلية وأثار الخير الباقية فيها من فواضل نعم (المخطوط ص 270) الدولة الأيوبية، ولها النواعير [2] المركبة على العاص تدور بذاتها، ويرفع الماء إلى الدور السلطانية، ودور الأمراء والبساتين والغيطان.
وفي بساتينها الأشجار والغراس المفنن الأفنان، وبها «4» بقايا الناس وأنموذج الكرام، يخدمهم العلماء بتصانيفهم، والشعراء بمدائحهم، ويقصدهم الفقراء والسؤال وطوائف بني الآمال، ويتفنن أرباب الصنائع في دقائق الأعمال، وتقدم إليهم التحف، ويخصهم التجار ببدائع الطرف، وكرمهم يربي على الأمل، ويزيد
__________
[1] حماة: إحدى أمهات الشام الرفيعة، ومدائنها البديعة، ذات الحسن الرائق، والجمال الفائق، تحف بها البساتين والجنات (انظر: رحلة ابن بطوطة ص 51) .
[2] النواعير جمع مفرده ناعورة وهي الساقية.(3/533)
على الرجاء حتى أن كل أحد ليعلق من ملوكها الطماعية بنصيب، ويفردهم بقصد، وهم أجود من الغمام السكوب، وأندى من الرياح ندى عند الهبوب.
ثم نعود إلى ذكر حماة فنقول: إنها لم تكن في القديم نبيهة الذكر، وكان الصيت دونها لحمص، ثم تنبه في الدولة الأتابكية ذكرها فلما جاءت الدولة الصلاحية الناصرية «1» [1] وانتقلت حماة إلى ملوك «2» بني أيوب مصروا مدينتها بالأبنية العظيمة والمساكن الفاخرة، وتأمير الأمراء فيها وتجنيد الجند بها، وعظموا أسواقها وزادوا فيها القصور والغراس، وجلبوا إليها من أرباب الصنائع كل من فاق في فنه، وبقى كل ما لمحل منها يكبر ويزداد «3» إلى أن أضحت الآن تامة المحاسن، معدودة في أمهات البلاد، وأحاسن الممالك.
وبها الفواكه الكثيرة والخيرات الغزار، وأسعارها رخية وسمتها ملوكية خلا أنها ذات وعر في الصيف بحجب الهواء عن اختراقها، ويعرض بها في الخريف، تغير ينسب إلى الوخم، ولا يبقى بها الثلج كما يبقى من بقية الشام مدخرا إلى الصيف، ولكنه يجلب إليها من جاورها.
وحول حماة مروج [2] ممتدة وبر فسيح يكثر به مصائد الطير والوحش، وليس بعد دمشق في الشام لها شبيه ولا يدانيها في لطف ذاتها من مجاوراتها قريب ولا بعيد وليس لها سوى عملين؛ عمل بارين وعمل المعرة.
__________
[1] نسبة إلى الناصر محمد بن قلاوون الصالحي.
[2] قارن وصف حماة عند ابن بطوطة 51.(3/534)
حلب
وحلب مدينة عظيمة قديمة، أم أقاليم وبلاد وأغوار وأنجاد؛ وبها معظم قلاع الشام ومعاقله وحصونه (المخطوط ص 271) وثغوره، وتسمى حلب الشهباء.
وهي ذات القلعة البديعة العلية المنار، وهي أعني حلب في وسط وطأة حمراء ممتدة، والقلعة على تل عليّ، كانت قد عظمت أيام بني حمدان، وتاهت بهم شرفا على كيوان ثم جاءت الدولة الأتابكية [1] فزادت فخارا، واتخذت لها من بروج السماء منطقة وأسوارا، ولم تزل على هذا يشار إليها بالتعظيم ويأبى أهلها في الفضل عليها لدمشق التسليم حتى وطئها هولاكو بحوافر خيله، وأقام عليها مفرقا في أقطار الشام بعوث سراياه وجنده، فهدمت أسوارها وخربت حوافرها، فأصبحت يرثى لها الشامت ويبكى بها اللاهى، وهي على ما توالى عليها من المحن، وأطاف بها من نوب الأيام مصر جامع، ومبصر رائع، مبنية بالحجر الأصفر، الذي لا يوجد مثله في البلاد، كأنها به رافلة في حلل الديباج، مائلة في ذهبية الأصيل.
وبها الديار العظيمة والجامع ذو المئذنة [2] العليا الفائقة والمارستان والمساجد والمدارس والربط والخوانق ووجوه البر الدائم والصدقات الجارية، ويجرى إلى داخل المدينة فرع ماء، يتشعب في دورها ومساكنها، وهو قليل نزر، لا يبل صداها، ولا يكفي بغيتها ولها الصهاريج المملوءة من ماء الأمطار، صافية الغطاف، باردة الزلال، منه شرب أهلها.
ويدخل إليها الثلج من بلادها وليس لأهلها إليه كبير التفات لبرد هوائهم
__________
[1] الدولة الأتابكية نسبة إلى الأتابك عماد الدين زنكي مؤسسها وكان مشهورا برعايته لأهل العلم، حارب هو وولده نور الدين محمود الصليبيين (انظر: ابن خلكان 5/184) .
[2] وردت بالمخطوط المأذنة.(3/535)
ومائهم، وقرب اعتدال صيفهم، وشتائهم، وبها نهر قويق، وهو «1» نهرها القديم، ونهر الساجور مستجد فيها ساقه هذا السلطان إليها، وحكمه جاريا عليها.
وحلب أوسع الشام بلادا وأوطأ أكتافها لخيل الأمل «2» مجالا، ولها المروج الفيح والبر الممتد حاضرة وبادية ومنازل عرب وأتراك [1] .
بها جند كثيف، وأمم من طوائف العرب والتركمان، وبها البطيخ القليل في الشام مثله وأنواع من الفواكه، أكثرها مجلوبة من بلادها، متصلة بسيس [2] والروم وبلاد ديار بكر وبرية (المخطوط ص 272) العراق، وفي أعمالها وادي الباب وبزاعة «3» وهو الوادي المشهور، نزل به المنازي الشاعر ووصفه بقوله: [الوافر]
وقانا لفحة الرمضاء واد ... وقاه مضاعف النبت العميم
نزلنا دوحه فحنا علينا ... حنو الوالدات على الفطيم
وأرشفنا على ظمأ زلالا ... ألذ من المدامة للنديم
يروع حصاه حالية العذارى ... فتلمس جانب العقد النظيم
صد الشمس أنّى واجهتها ... فيحجبها ويأذن للنسيم»
وأما أعمالها فهو كثير «4» منه قلاع وحصون، ومنه ما ليس له قلعة وعدة الجميع ثلاثة وعشرون عملا، وهي عمل شيزر المدينة المشهورة، وعمل الشغر
__________
[1] انظر: وصف حلب عند ابن بطوطة 52- 53.
[2] انظر: رحلة ابن بطوطة ص 55.(3/536)
ولكاس «1» [1] وهي قلعة، وعمل القصير [2] وهي قلعة، وعمل دبركوش، وعمل كارم، وعمل أنطاكية [3] المدينة العظيمة المشهورة المذكورة «2» ، وعمل يقراض [4] وهي قلعة حصينة ثغر الأرمن والدر يسال «3» وهي قلعة، وعمل حجر شعلان «4» وهي قلعة، وعمل الراوندان وهي قلعة، وعمل عيتبان وهي مدينة (مليحة) جليلة، وعمل مدينة بيشنا (وهي مدينة جليلة على ما يذكر) ، وعمل كركر وهي قلعة، وعمل الكحتا، وهي قلعة، وعمل البيرة وهي القلعة (الجليلة المشهورة) ، وعمل قلعة المسلمين (وهي قلعة جليلة) «5» وعمل منبج، وعمل الجول، وعمل بيرين [5] ، وعمل عزاز، وعمل سرمين ومعها الفويعة ومشيزر، وعمل كفرطات، وعمل الباب وبزاعه المقدم الذكر.
__________
[1] حصن الشغر بكاس (ابن بطوطة 56) .
[2] القصير حصن حسن أميره علاء الدين الكردي (رحلة ابن بطوطة 56) .
[3] أنطاكية: مدينة عظيمة، كان لها سور محكم، كثيرة العمارة دورها حسنة البناء، بخارجها نهر العاصي (رحلة ابن بطوطة 55) .
[4] وردت عند ابن بطوطة بغراس وهو حصن منيع لا يرام (ص 55) .
[5] وردت عند ابن بطوطة تيزين وهي على طريق قنسرين (ص 55) .(3/537)
طرابلس
طرابلس [1] قد قدمنا القول «1» على أنها بنيت عند الفتح عوض طرابلس العتيقة، وكانت تسمى قديما بدار العلم، وتداولها ملوك بني عمار، وكانوا في الأول لهم القضاء بها، ولما بنيت هذه المدينة الجديدة كانت وخيمة البقعة.
ذميمة المسكن، فلما طالت مدة سكنها، وكثر بها الناس والدواب وصرفت المياه الآسنة التي كانت حولها نقائع، وعملت بساتين ونصب بها المنصوب والغراس فخف ثقلها وقل (المخطوط ص 273) . وخمها، وقد كان بها أسد مر الكرجى «2» نائبا، وبقى لا يستقل من لوثة وخم، فشكا «3» إلى الحكيم الفاضل أمين الدين سليمان بن داود المتطبب، وخامتها، وسأله عما يخفف بعض ذلك، فأشار عليه أن يستكثر بها من الجمال وبقية الدواب ففعل ذلك، وأمر به الأمراء والجند، فخف ما بها، وكان الأمر كما أشار به الحكيم، وسألت عن تعليل هذا كثيرا من الأطباء فقال أنه لا يعرفه، وفوق كل ذي علم عليم.
وأما ما قاله لي الصدر بهاء الدين أبو بكر بن غانم رحمه الله فقال: إن السبب فيما تعرض للأجسام بها، أنها لمجاورة البحر وعره حارة فتكون في أول الليل كذلك، فلا يقبل فيها ثقيل الغطاء، فإذا نام النائم قليل الدثار [2] يفاجئه البرد الشديد في آخر الليل من قبل الجبال المجاورة لها، فيجيء البرد عقيب الحر، والمسام مفتحة، والنائم في غفلته فيحدث له ما يحدث.
__________
[1] طرابلس الشام وهي مدينة مشهورة بين اللاذقية وعكا (مراصد الاطلاع 1/91) .
[2] وردت بالمخطوط قليلا الدثار.(3/538)
ولها نهر يحكم على ديارها وطبقاتها، يتخرق الماء في مواضع من أعالي بيوتها التي لا يرقى إليها إلا بالدرج العلية، وحولها جبال شاهقة صحيحة الهواء خفيفة الماء ذوات أشجار وكروم ومروج وأغنام ومعز ويجتمع بها الجوز والموز وقصب السكر والثلج، ويعمل بها السكر ويهوى إليها، وفود البحر، وترسي بها مراكبهم: موضع زرع وضرع، وهي الآن مدينة ممتدة كثيرة الرخام، ذات مارستانين [1] ومساجد ومدارس وزوايا وأسوار جليلة وحمامات حسان موصوفة وجمع أبنيتها بالحجر والكلس مبيضا ظاهرا وباطنا تحيط بها غوطتها، ويحيط بغوطتها مواضع مزدرعاتها بديعة المشرف تحسن بعين من يشرف من هضبة عليها، وهي مملكة ذات جيش وتركمان، وخاصة لأهل الجبال، بها يد من الرمى على القوس الثقيل بالنشاب الخارق، ولها حصون وقلعة وتجاورها قلاع الدعوة المعروفة [2] وقاعدتها مصياف «1» ، ومن جملتها قلعة القدموس [3] وبها حمام يخرج بها أنواع حيات (المخطوط ص 274) كثيرة لا تحصى حتى أن القاعد في داخلها ليغتسل والحيات ظاهرة من الأنبوب مع الماء، حتى أن الخارج من الحمام ليرفع قماشه من الأرض ليلبسه والحيات تتساقط منه، ولكنها لا تؤذي أحدا، ولا أعرف هذا عنها في وقت من الأوقات، وبالقرب «2» من هذه القلعة قلعة الخوابي.
حدثني الأديب بدر الدين حسن الغزى أن سورها أغنى قلعة الخواي مكانا إذا لدغت أفعى أو حية أحدا، وحمل لكي يشاهد ذلك الموضع من سور الخواي
__________
[1] داران للشفاء.
[2] يقصد الدعوة الإسماعيلية فرجالها يسمون الدعاة.
[3] حصن القدموس أحد حصون الفداوية الإسماعيلية.(3/539)
بيته أو كان الملدوغ عاجزا، فأرسل رسولا له إلى ذلك الموضع، فأتى إليه وشاهده بعينه قبل عطب السليم الملدوغ «1» نجا السليم، وكانت عاقبته إلى سلامة.
وهذا من عجائب ما يحدث به في الآفاق مما أدى أهذا الطلسم هناك أو لخاصية في ذلك الحجر؟ وعلى كل الحالين هذا السر عجيب غريب، وأغرب ما فيه كون «2» هذا يفيد نفع اللديغ برؤية رسوله له إذا لم يره هو بنفسه، فسبحان من له الحكم وإليه مرجع الأمر كله.
ووادي الفوار قريب حصن الأكراد غربا بشمال على الطريق السالكة صفته هناك صفة بير قائمة في الأرض، وفي أسفل البئر سرداب ممتد إلى الشمال يفور في كل أسبوع يوما واحدا لا غير، فيسقى به أرض ومزروعات، وينزل عليه التركمان ويردوه، وبقية الأيام يابس لا ماء فيه، ويسمع له دوى كالرعد قبل فورانه، والسرداب خلفه البناء، وذكر من دخل السرداب أن في نهايته نهرا كبيرا آخذا من الغرب إلى الشرق تحت الأرض، وله جريان معين، وبه موج وريح عاصف، ولا يعرف إلى أين يجري، ولا من أي جهة يجيء.
وداخل البحر الشامي بطرابلس عند برج الخصاص بقدر «3» رمية حجر فوارة ماء حلو عذب، تطلع على وجه الماء علو ذراع أو أكثر بين ذلك عند سكون البحر لكل أحد.(3/540)
صفد
وصفد مدينة في سفح جبل، صحيحة الهواء، خفيفة الماء يحمل إليها (المخطوط ص 275) الماء على الدواب من واديها، وبها عين ماء لو أنها دمع لما بلت الآفاق، ولا ملت بلى البكاء به الأحداق وأكثر ما يدخل أهلها حمامات الوادي بها، ولا يرضى حمامات المدينة لقلة مائها، وسوء بنائها، وبها عسكر من الجند.
والحلية وهي على مسافة يومين من دمشق فحكها حكمها، وكل ما يوجد بدمشق فيها مما هو من صفد وبلادها، ومما هو مجلوب من دمشق إليها، وهي إلى جانب عكا، وقد خربت «1» عكا، وبقيت هي مدينة ذلك الساحل، وقاعدة ذلك «2» ، ولها قلعة قل أن يوجد لها شبيه، كأنما عليها من ذهب الأصيل تمويه، ولا تردم السحب إلا من جنب، ولا يطوف عليها سوى الشفق مدام عليه من مواقع النجوم حبب، ولا تجاور الأرض إلا وهي إذا رامت السماء لا يعوقها بسبب، ولما فتحها الملك الظاهر بيبرس، عظم أمرها وهي تستحق التعظيم، وتستوجب الرفعة، بما رفع الله من بنائها العظيم، ولقد ذكرها ابن الواسطي الكاتب فقال: وقلعة صفد بنتها الفرنج، وكانت أولا تلا عليه قرية عامرة تحت برج اليتيم، بنتها الداوية في سنة خمس وتسعين وأربعمائة.
وقال: وهي قلعة حصينة على جبل يحتف «3» به جبال وأودية، ولها أحد عشر عملا، وهي (ولاية برها) «4»(3/541)
وولاية الناصرة «1» [1] منيع الطائفة النصرانية، وولاية طبرية [2] ذات البحيرة المشهورة والحجة العجيبة، وطبرية من سفح جبل مطل على البحيرة، وطول البحيرة اثنا عشر ميلا، (وحمتها) «2» يقصدها المبرودون للاستشفاء ويكاد أن يلصق «3» بها البيض والجدا، وماؤها حلو، ويخرج منها نهر الأردن، «4» (ومن عملها قدس، وكان معها قديما السواد وبيسان [3] ، ثم خرجا عنها، وولاية بينين ومنها هونين [4] وهما حصنان منيعان بناهما الفرنج بعد الخمسمائة، وهما من جبل عاملة بين بانياس وصور، وولاية عثليث (المخطوط ص 276) ، وولاية عكا، وولاية صور وشهرتهما تعني عن ذكرهما، وولاية الشاغور، وولاية الإقليم، وولاية شقيف أرنون وعلى الشقيف قلعة حصينة، وبقاربها شقيف نيرون، وهو حصن جله مغارة منيعة، وما هي من صفد، وولاية جنين فهذه جملة أعمال صفد.
ومما يذكر فيها حيفا، وهي خراب على الساحل، وقلعة كوكب، وهي قال فيها العماد الأصفهاني، راسية راسخة شماء شامخة، وقلعة الطور وهي مفردة على جبل الطور بناها العادل أبو بكر بن أيوب ثم غالبه عليها الفرنج فهدمها.
__________
[1] الناصرة: قرية بينها وبين طبرية ثلاثة عشر ميلا منها أشتق اسم النصارى لأن المسيح سكنها فنسب إليها (مراصد الاطلاع 3/1348) .
[2] طبرية: من أعمال الأردن في طرف الغور، بليدة مطلة على البحيرة المعروفة بها (مراصد الاطلاع 2/878) .
[3] بيسان: مدينة بالأردن بالغور الشامي بين حوران وفلسطين (مراصد الاطلاع 1/241) .
[4] هونين: بلد في جبال عاملة مطل على نواحي مصرين (مراصد الاطلاع 3/1467) .(3/542)
القدس
«1» والقدس الشريف [1] الأرض المقدسة مشتملة على مدينة القدس وما حوله إلى نهر الأردن المسمى بالشريفة إلى فلسطين المسماة بالرملة [2] طولا، ومن البحر الشامي [3] إلى مدائن لوط عرضا، غالبها جبال وأودية إلا ما هو في جنباتها.
وأما مدينة القدس الشريف فعلى جبل «2» مدينة مستديرة في وسطها السور المحيط على الصخرة والمسجد المسمى الآن بالمسجد الأقصى [4] ، وإنما حقيقة المسجد الأقصى جميع ما يحيط به السور المذكور، وهي المعروف بالسور السليمان، ويشرف عليها من شرقيها جبل أعلى [5] منها، يفصل بينهما الوادي المعروف بوادي جهنم، ويعرف بالطور وبه إلى الآن بناء جليل رومي يقال أن منه كان صعود المسيح عليه السلام إلى السماء [6] وبهذا الوادي عين سلوان وهي تخرج من مكان في الجبل الذي عليه بناء مدينة القدس، ويجري في داخل ذلك الجبل أزيد من علوه نشاب تقديرا، ثم يخرج من صدع في الجبل إلى ساحة لطيفة في انفراجه في الجبل لا ترى إلا جدولا جاريا، والنبع من داخل الصدع،
__________
[1] القدس الشريف: بلدة كبيرة منيفة، مبنية بالصخر المنحوت بها المسجد المقدس والصخرة (انظر:
رحلة ابن بطوطة 45- 46) .
[2] الرملة في فلسطين: مدينة كبيرة، كثيرة الخيرات، حسنة الأسواق، وبها الجامع الأبيض (رحلة ابن بطوطة 47) .
[3] البحر الشامي هو البحر الرومي هو البحر المتوسط.
[4] المسجد الأقصى من المساجد العجيبة الرائقة، الفائقة الحسن (انظر: وصف المسجد عند ابن بطوطة 45) .
[5] وردت بالمخطوط أعلا.
[6] في شرقي البلد (انظر: رحلة ابن بطوطة 46) .(3/543)
ثم يسرح على وجه الأرض، وترمى إلى الوادي وتسقى المنازل، وماؤها قليل ليس بالكثير.
ومدينة القدس مبنية بالحجر والكلس وغالب حجرها أسود وهي وعرة المسالك وكان بها آثار (المخطوط ص 277) قلعة «1» قديمة خربة، جددت في أيام هذا السلطان سنة عشرة وسبعمائة على ما يذكر الجوكندار «2» . إذ كان كافل الممالك ووجودها وعدمها سواء، إذ لا نفع بها، ولا تحصين لها [1] .
وبالقدس مدارس وخانقاه وربط وزوايا وترب والمسجد الأقصى بها وقوف كثيرة جارية على مصالحه والمؤذنين به وخدمه وجماعة من العلماء والقراء به.
وقد تقدم القول في هذا الكتاب على أن في القدس لكل الملل معتقدا وإليه توجها، وأن اليهود تزوره والنصارى تحج به قمامة [2] وتزور كنيسة بيت لحم مكان مولد عيسى عليه السلام [3] .
وقد كانت مدينة القدس بعد تولي أيدي الفرنج عنها؛ تغلب عليها الهدم والخراب؛ إلى هذه المدة القريبة، انصرفت الهمم إلى عمارة أماكن بها، وتوفرت الدواعي عليها، ووفر نائب السلطان بالشام الآن الاهتمام بذلك، وساق إليها قناة بسطها إلى بركة هو مجتمع ترفدها بالماء زمان قلة الماء، وتجري إلى مدينة القدس، وتدخل إلى سور المسجد الأقصى، وتجري به.
وعمر نائب السلطان إلى ما جاورها الربط «3» المنصوري قلاووني مدرسة
__________
[1] كان حولها سور هدم الظاهر بيبرس بعض أجزائه خوفا أن يقصدها الروم فيمتنعوا بها (رحلة ابن بطوطة 45) .
[2] كنيسة القيامة.
[3] انظر: رحلة ابن بطوطة ص 45.(3/544)
جليلة، وقفها على مدرس وفقهاء ومتفقهة على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، وبأعلاها خانقاه مشرفة، وبحضرتها مكتب أيتام حصل له به الأجر التام، وللناس الرفق العام، أثابه الله وتقبل منه.
وعمر بها حمامين جليلين كانت أحوج شيء إليه لأنه لم يكن بها حمامات مرضية، وأنشأ بها الأسواق والعمائر وأصبحت مدينة القدس ضاحية (المواء آهلة) «1» الرحاب، وعادت إلى ما كانت عليه من التمدن بعد أن كانت لا تعد من القرى، ولا يندى في جوانبها الثرى.
وأما بلد الخليل [1] عليه السلام، وهي مزرعة إبراهيم فأبهى بلدة [2] غير مسورة، على نحو يوم من القدس بالسير المعتاد (المخطوط ص 278) ، وهي منطوية بين جبال، لا هي في صحراء، ولا في واد، وهي قرية أم عمل، ولولا مكان الخيل عليه السلام بها، لم تذكر فيما يذكر، وإنما عادت عليها بركات ذلك المثوى الكريم، فباهت الأقطار بفضلها وتأهلت الأمصار بأهلها، وأجرى بكتمر [3] الجوكندار قبل أن يكون كافل المماليك إليها عين ماء كانت على بعد منها ولقد شاهدت بها الماء جاريا في طبقة عليه يصعد إليها من نحو عشرين درجة في العلو.
والخليل عليه السلام «2» بها، يحيط به سور هو داخل ذلك السور ولا يصح مكان القبر به على التخصيص، وبه سرداب الخليل المنسوب إليه داخل ذلك
__________
[1] مدينة الخليل وهي مدينة صغيرة الساحة، كبيرة المقدار مشرقة الأنوار، حسنة المنظر، عجيبة المخبر (انظر: رحلة ابن بطوطة 44) .
[2] وردت بالمخطوط أبها بلدة.
[3] بكتمر هو الأمير بكتمور قتله الملك الناصر باسم (رحلة ابن بطوطة ص 36) .(3/545)
السور، يوقد عليه قنديل، ولهذا تقول العامة «صاحب السرداب والقنديل» وقد أشرنا إلى ذلك فيما تقدم.(3/546)
الكرك
والكرك مدينة ذات قلعة تعرف بكرك الشوبك، والشوبك «1» أقدم منها، والكرك مدينة محدثة البناء، كانت ديرا يتديره «2» الرهبان ثم كثروا «3» ، فكبروا بناءه، وكثروا أبناءه «4» ، وآوى إليهم أناس من مجاوريهم من النصارى، فقامت لهم به أسواق، ودارت لهم به معايش، وأوت إليه الفرنج، فأدارت أسواره فصار مدينة مشهورة، ثم بنوا حصته [1] فكانت قلعة مذكورة فاستولى عليها الفرنج حتى فتح الله في زمان السلطان الملك الناصر صلاح الدين أبي المظفر يوسف بن أيوب رحمه الله تعالى.
وهو مكان صعب المرتقى، لا تليق عقارب صخوره للرقى، قد زاحم الشعر القبور بمناكبه، وعلا في السماء فألقى الهلال نعل راكبه، قعد من البر المقفر على نشز عال لا يبلغه النسر إلا محلقا، ولا يغدو مصباح الصباح إلا على شرفاتها معلقا، فلهذا اتخذته الملوك لمآلها حرزا ولمالها كنزا، ولم يزل لأولاد السلاطين في الأمور ملجأ، ومن الدهور منجا، ماؤه من مطر السماء، وله واد يتفجر عيونه بالماء، وهو (المخطوط ص 279) بلد خصب وإقبال ومنبت زرع ومسرح مال «5» وفيه يقول القاضي الفاضل: وكان الكرك شجى في الحناجر، وقذى في الحاجر،
__________
[1] الكرك وحصن الكرك من أعجب الحصون وأمنعها وأشهرها ويسمى بحصن الغراب، والوادي يطيف من جميع جهاته، وله باب واحد قد نحت المدخل إليه في المجر الصلة (رحلة ابن بطوطة 78) .(3/547)
ورصد الطرقات المسلوكة وصير في السبل المشكوكة، قد أخذ من الأمان بمخنقها، وقعد بأرصاد العزائم وطرقها، وصار دينا للدهر في ذلك الفجر، وعذرا لتارك فريضة الله من الحج، وحبس من هام الإسلام مكان عمامته، وجثم على أنفاس الحجاز، فلم يدع نفسا يصعد من تهامته فؤاديه من مسائل المعاقل بجمعها، وظله من نجوم الأسنة بمطلعها، وهو والشوبك بسر الله الأمر كبيت الواصف للأسدين:
«ما مر يوم إلا وعندهما لحم رجال أو يولغان دما»
وكفى إشارة أنه مكان الغزاة وقعرها ومستودع الفريضة ومستقرها، مجاورته لتبوك [1] وغزاتها آخر الغزات النبوية، وإلى طريقه انتهت الخطا الحميدة المحمدية، والعمل على آخر الأعمال الشرعية، والوقوف عنده إشارة لا تخفى عن الإفهام اللوذعية، وتحف بهذه القلعة مدينة قد عقل الجبل حبولها وأزلق الغراب أن يطأ ذروتها، وعصم سوار الوادي الملوك معصمها، وحمت غرة الجبل المطل أدهمها فمنكبها حاطم، والله يحطمه، ولها من ندى الغمام راضع، ومهد المنجنيق يفطمنه، وهصروه هصرة فإذا البلد قائم على عروشه بل طريح على نعوشه، قد محيت سلة دنانيره، ومن الدور فما يتعامل بالسكن فيه أهل الغرور، وصار كل مديح في الكنيسة مربطا، وكل مصعد من قلة مهبطا، وكل مسقط رأس بالحقيقة لرأس مسقطا، وفيه يقول أيضا: ومما فتحه الله على سلطاننا بلاد الكرك وما أدراك ما هو قلعة، كانت على الإسلام أية مضرة بل كانت لكعبة الإسلام زادها الله شرفا أية ضرة، وإن نعم الله لأكثر من أن يقصر لها حديثا، وأن الله قد أغشى ليل الشرك (المخطوط ص 280) نهار الإسلام، يطلبه حثيثا، وما
__________
[1] تبوك: الموضع الذي غزاه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وفيه عين ماء تجود بشيء من الماء، ولما نزلها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جاءت بالماء وما زالت (رحلة ابن بطوطة 78) .(3/548)
أشك أن في أهل الحرم الشريف مع الرماة رماة بسهام الأسحار، ومجاهدون وبالمحاورة ما خرجوا ولا بعدوا عن البيكاد وكلا وعد الله الحسنى) «1» .(3/549)
الشوبك
والشوبك [1] المنسوب إليه الكرك مدينة صغيرة أكثر في البر دخولا منها، وانحرافا إلى التغريب في القبلة عنها ذات أكواب من جداول الأنهار موضوعة وسرر من مقاعد «1» الأبراج مرفوعة [2] وفاكهة كما قال الله تعالى في الجنة غير مقطوعة ولا ممنوعة [3] .
قلت: والشوبك فتح وقت فتح الكرك بعد أن دام الحصار سنتين على الكرك وأقطعها الملك الناصر لأخيه الملك العادل ولم يزالا في يده حتى أعطاهما لولده الملك المعظم عيسى، فصرف إليهما العناية حتى نزّل الكرك مدينة يعنى «2» بنفسها وزادها تحصينا وتحسينا، وجلب إلى الشوبك غرائب الأشجار حتى تركها تضاهي دمشق في روائها وتدفق مائها وتزيد بطيب هوائها.
قلت: وذكر ابن جرير كورة الجبال فقال: (وقد أحدثت بها مدينة تسمى الكرك، وقال البلاذري: في كتاب فتوح البلدان أن مدينة هذه الكورة الغرندك) «3» .
وأما أعمال الكرك (فهي أربعة؛ زغر [4] وهي مدينة قديمة حارة متصلة
__________
[1] الشوبك: قلعة حصينة في أطراف الشام بين عمان وإبلة قرب الكرك (مراصد الاطلاع 2/818) .
[2] إشارة إلى قوله تعالى: فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ
[الغاشية، الآيات: 13- 15] .
[3] إشارة إلى قوله تعالى: وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ
[الواقعة، الآيتان: 32- 33] .
[4] وردت عند ابن بطوطة زيزى، وعند البغدادي هي قرية بمشارف الشام قرب الكرك (مراصد الاطلاع 2/667) .(3/550)
بالبادية، وبها (تل) جيد، ومعان [1] وكانت مدينة قديمة خربت هي وعملها «1» ، ومؤته وهي باقية وواضعها معروف، وبها قبر جعفر بن أبي طالب (عليه السلام [2] ، والشوبك وهو محدث كما ذكرنا) «2» .
__________
[1] معان: آخر بلاد الشام (رحلة ابن بطوطة 78) مدينة في طرف بادية الشام تلقاء الحجاز من نواحي البلقاء (مراصد الاطلاع 3/287) .
[2] جعفر بن أبي طالب، تولى قيادة جيش مؤتة وقتل وسمى باسم الطيار.(3/551)
غزة
وغزة [1] وهي مدينة بين مصر ودمشق، بها دفن هاشم بن عبد مناف [2] وبها ولد الشافعي [3] رحمه الله، وهي مبنية بالحجر والكلس، مونقة البناء، على نشز عال، على نحو ميل عن البحر الشامي، ذات هواء صحيح، وماء مصرفها خم، لا يستلذ، وشرب أهلها من الآبار، ولها مجمع للمطر، يدوم به ماء الشتاء، لكنه يستثقل.
(المخطوط ص 281) ولها فواكه كثيرة أجلها «1» العنب والتين وبها مرستان [4] «2» بناه هذا السلطان أثابه الله لحوج ما كانت المارة إليه في مكانه، وبها من المدارس والترب (ما ازدانت به) «3» ، وهي نيابة جليلة، وبها طائفة من العسكر والعرب والتركمان.
وهي آخذة من البر والبحر جانبيها متصلة بتيه بني إسرائيل، من قبليها موضع زرع وماشية، وموضع «4» مجمع حاضرة وبادية، وقرارية أهلها عشر، أن
__________
[1] غزة: أول بلاد الشام مما يلي مصر، متسعة الأقطار، كثيرة العمارة، حسنة الأسواق، بها المساجد الكثيرة، والأسوار عليها (رحلة ابن بطوطة 43) .
[2] هاشم بن عبد مناف، متوفي 524 م تقريبا، من سادة قريش في الجاهلية، من بنيه النبي (صلى الله عليه وسلم) وإليه ينسب الهاشميين وقدم إلى الشام في تجارة وتوفي في غزة (المنجد في الأعلام 590) .
[3] الشافعي هو أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع، أحد الأئمة الأربعة، ولد بغزة 150 هـ وتوفي 204 هـ، مذهبه منتشر في مصر وسوريا وكردستان والحجاز وبلاد كثيرة (دائرة معارف البستاني 10/390- 12.
[4] مرستان: هي مارستان، هي بيمارستان، دار الشفاء.(3/552)
بعضهم عدو لبعض لولا مهابة الدولة لاخمدت فيها نار، ولا ألم فيها بالجفون غرار، لا يطمئن فيها ساكن، ولا يستقر ظاهر ولا باطن.
ومما استجد مضافا إلى هذه المملكة فهي البلاد الجهانية، ومحل النيابة بها مدينة إياس وهي الآن عامرة آهلة، وكذلك كاوزه واستفيد كار ونصف المصيصة، لأن الذي استقر للمسلمين هو كلما هو إلى هذه «1» الجهة الشامية من جهان ونصف إذنه منه ونصفها الآخر قاطع جهان من جهة الأرض فهو لهم، وأما ما خربه المسلمون وبقى عملهم بهم الهارونية وحميص وتل حمدون «2» والنقير وكل ذلك من دون جهان إلى الشام، وكذلك ما استجد قلعة جعفر وهي شرقي الفرات وقلعة درنده، وهي قاطع بهسني إلى الروم، فهذه جملة هذه المملكة.(3/553)
فائدة جليلة تتعلق بذكر غزة
«1» قالوا يجوز أن يكون اسمها مأخوذا من الغز والغز الشذق وهما غزان سميت بذلك لأنها في فم الشام مما يلي شقة البحرى، ويكون مأخوذا من قول العرب أغزت البقرة فهي مغز إذا عسر حملها سميت بذلك لعسر السير إليها على الناس والدواب للرمل المتاخم لها، وتعرف في القديم بغزة هاشم، سميت بهاشم بن عبد مناف جد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وإليها كانت رحلة قريش هي إحدى الرحلتين المذكورة في القرآن، رحلة الشتاء والصيف [1] وهي الصفية منها، وكان عليها حصن منيع قد بقيت منه بقية إلى الآن (المخطوط ص 282) هدمته قيس، لما جاء إليها بعض قبائل اليمن وفيها يقول أبو عامر السلمي في قصيدته المسماة بالذاهبة وهي ثلاثمائة بيت يهجو بها اليمن ويذكر مثالبهم في القرآن والأخبار، ويذكر مناقب قريش: [الوافر]
ونحن الموقدون على حروري ... ونحن لحصن غزة هادمونا
وفي غزة قبر هاشم بن عبد مناف، وبذلك قيل لها غزة هاشم، وهاشم أول من مات من بني عبد مناف، وكانوا أربعة أخوة؛ هاشم هذا وقبره بغزة، ثم مات بعده أخوه عبد شمس وقبره بمكة بالحجوان، ثم مات بعده أخوهما نوفل بطريق العراق بموضع يقال له سلمان وقبره هناك، ثم مات بعده أخوه المطلب بأرض اليمن في موضع يقال له ردمان وقبره هناك، فهؤلاء بنو عبد مناف الأربعة.
(تتمة في ذكر سبب سفرهم الموجب لموت من مات منهم غريبا)
اتفقوا على أنه كان لعبد مناف خمسة بنين وهم سادة قريش كلها هاشم
__________
[1] إشارة إلى قوله تعالى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ
[قريش، الآية: 1] .(3/554)
والمطلب ونوفل وعبد شمس، وأبو عمرو ومات صبيا ولم يكن له خبر مع إخوته، وكانت العرب وقريش كلها تسمى بني عبد مناف هؤلاء الأربعة فضاح النضار لشرفهم وجمالهم وبهائهم، وكانت قريش كثيرة التجارة إلا أنهم كانوا لا يخرجون من مكة والحجاز، وكانت الأعاجم تأتيهم بالبضائع فيشترون منهم ويبيعونهم، فأقاموا على ذلك زمانا طويلا حتى ركب هاشم بن عبد مناف فخرج إلى الشام فنزل بقيصر ملك الروم.
واسم هاشم يومئذ عمر العلي، فكان يذبح كل يوم شاة، ويصنع جفنه ثريد ويجعل اللحم عليها أوصالا، ويدعو من حوله فيأكلون معه، وكان هاشم من أحسن الناس وجها، وأكرمهم أخلاقا، فقيل لقيصر ها هنا رجل قريش يهشم الخبز، ويصب عليه المرق (الخطوط ص 283) ويجعل عليه اللحم، وإنما كانت العجم تجعل المرق في صحاف واللحم في المرق ويلتدمون بذلك، ولم يكونوا رأوا الثريد فسمى هاشما بهشيم الثريد، وفيه يقول شاعرهم بمكة: [الكامل]
عمرو العلى هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف
وهذا أول من فعله من العرب والعجم، فدعاه قيصر، فلما رآه وكلمه، أعجبه إعجابا عظيما، فقال له هاشم: أيها الملك إن لي قوما هم تجار العرب، فإن رأيت أن تكتب لي كتابا تؤمنهم فيه على أنفسهم وما معهم من المال والبضائع وغير ذلك فإنهم يقدمون عليك بما تستظرفه من أدم الحجاز وثمره وغير ذلك مما يصير إليهم ولا يبلغك من طرف البلاد، فأمر أن يكتب له كتاب جامع للعرب، وأخذه هاشم وسار فصار كلما جاء حيا من أحياء العرب على طريق الشام أخذ من أشرافهم إيلافا، والإيلاف أن يأمنوا عندهم وفي أرضهم على أنفسهم وأموالهم، وأخذ هاشم الإيلاف من جميع القبال ممن بينه وبين الشام حتى قدم مكة، فأتاهم بشيء لم يأتهم بمثله أحد قط فسروا بذلك سرورا عظيما، وخرجوا(3/555)
بتجارة عظيمة، وخرج هاشم معهم يحوطهم ويؤمنهم ويجمع بينهم وبين رؤساء العرب في جميع طريقهم حتى ورد بهم الشام فأحلهم غزة ومات هاشم في ذلك السفر، فدفن بغزة. [1]
ثم خرج أخوه المطلب إلى اليمن ففعل كفعل هاشم بالشام، وأخذ من ملوك اليمن عهدا لمن يجيء ويسافر إليهم من قريش، ثم أقبل يأخذ الإيلاف ممن يمر به من العرب حتى أتى مكة كما فعل هاشم، وكان المطلب أكبر ولد عبد مناف، وكان يسمى الفيض لكرمه وهلك عبد المطلب بردمان من أرض اليمن في سفرة سافرها.
وخرج عبد شمس بن عبد مناف إلى ملك الحبشة فأخذ منه كتابا وعهدا لمن يجيء من قريش، ورجع يأخذ (المخطوط ص 284) الإيلاف من كل من مر به من العرب من بلاد الحبشة إلى أن أتى مكة كما فعل هاشم والمطلب، فمات بمكة وقبره بالحجون، وكان أكبر من هاشم.
وخرج نوفل بن عبد شمس بن عبد مناف، وكان أصغر من إخوته إلى العراق، فأخذ عهدا من كسرى، ثم عاد يأخذ الإيلاف إلى أن أتى مكة، ثم رجع تاجرا إلى العراق، فمات بسلمان في طريق العراق.
تنبيه
البيت المقدم ذكره اختلف فيه، وأصح الروايات أنه لابن الزبعري، والزبعري في اللغة التعبير اللازب الكثير شعر الأذنين والرأس، وفيه قصر وغلظ، وهو من قصيدة له في هاشم وإخوته على أقواء في البيت الآخر منها وهي: [الكامل]
يا أيها [2] الرجل المحول رحله ... هلا مررت بآل عبد مناف
__________
[1] وردت في المخطوط مناف فقط.
[2] وردت بالمخطوط يايها.(3/556)
هبلتك أمك لو مررت بدارهم ... لحموك من جوع ومن إقراف
المطعمون إذا الرياح تناوحت ... والظاعنون لرحلة الإيلاف
والآخذون العهد من أكفافها ... والناهشون لمقدم الأضياف
عمرو العلى هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مستنون عجاف
قلت: وهذه خاتمة في ذكر الرحلة، جر الكلام إليها قربها من غزة، يقال أن الذي أحدثها سليمان بن عبد الملك بن مروان [1] ، وإن مدينة فلسطين كانت قبلها له، وأن سليمان وليها من قبل أبيه، وهو صبي، وكان معه من قبل أبيه من يدبره، ويشير عليه، والاسم في الإمارة لسليمان، وكان إلى جانب كنيسة لد بستان، حسن العمارة مليح الموضع، كثير الفواكه، وكان سليمان كثيرا ما يستحسنه، ويجلس فيه، ويستطيبه، فقال يوما للشيخ الذي يرجع إلى رأيه، وكان يسمى رجاء بن حيوة: أحب أن تشتري لي هذا البستان حتى أبني فيه من الأبنية ما يصلح لثلثنا، فكان البستان للقسيس الذي يتولى أمر الكنيسة، وأحضره رجاء وقال (المخطوط ص 285) له ذلك فقال: سمعا وطاعة أحضرني القاضي والشهود حتى أشهد على نفسي بذلك، وأفرغ منه الساعة، فأحضرهم وحضر القسيس فقال لهم جميعا: ألستم تعلمون أن هذا البستان لي، وفي ملكي ويدي، لا مانع لي ولا معارض لي فيه؟، فقال له القاضي والشهود: نعم؛ يريدون بذلك تصحيح الملك، ليصح البيع، فقال لهم: أشهدوا الآن أنى قد حبسته على الكنيسة حبسا تبتلا لا رجعة لي ولا مثنوية فيه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فسقط في أيديهم وتم مكره، وعظم ذلك على من حضر،
__________
[1] سليمان بن عبد الملك بن مروان 54- 99 هـ/ 674- 717 م الخليفة الأموي السابع، أسس مدينة الرملة في فلسطين، وحاصر القسطنطينية، ولم يقو على فتحها توفي في دابق (المنجد في الأعلام 307) .(3/557)
وهم سليمان بقتله، فمنعه من ذلك رجاء، ورفق به وشاغله، وقال له: سربنا نتفرج ونبرم أمرا يكون فيه هلاك الكنيسة وغيرها، فركبا، وأمر سليمان أن لا يتبعهما أحد، فلما فصلا من لد رأيا بيتا من الشعر مضروبا على ربوة من الأرض هي الآن موضع المصلى، وكان الحر قد اشتد، فقال له رجاء أعدل بنا إلى هذا البيت لتنظر من به، ونريح فيه إلى أن يبرد النهار، فقربا من البيت، وسلما على من فيه وهما لا يريان أحدا، فبرزت لهما منه امرأة ذات برقع ردت عليهما السلام بأحسن رد ولفظ، وسألتهما النزول عندها بلسان فصيح وعزم صحيح، فنزلا، وسألتهما أن يتخففا ويستريحا عندها، وأعجبهما فعلها، ونسى سليمان أمر البستان إعجابا بكرمها وعقلها، وسألاها عن اسمها فقالت: رملة وعرفتهما أن لها بعلا في ماشية اسمه لدّ، وعرضت عليهما الغداء واللبن، وقالت عندي اللبن الحلو واللبن الحامض والخبز الحار والخبز البارد، لأن إيثاري يخالف إيثار بعلى في الطعام، وأنا أعد له ما يؤثر، وأعد لنفسي ما أشتهيه، وقدمت لهما في كل شيء من ذلك، وثردت لهما، وقد ذهلا من حسنها وجمالها وأدبها وحسن فعلها في جميع ما تحاوله، وأقسمت عليهما ليأكلان، وقالت: لو جاز لي أن آكل معكما لفعلت، والطعام يدعو الكرام (المخطوط ص 286) إلى نفسه، فأكلا ونظرا إلى ما حول البيت من الشجر والضياع وغير ذلك، فاستحسنا الموضع، وإشرافه على ما حوله من العمارة.
فقال رجاء لسليمان: لو أمرت ببناء دير ها هنا للنصارى ومسجد للمسلمين، وأمرت في النداء بالناس من أحب أن يكون في حمى من المسلمين والنصارى، فليبن دارا إلى جنب مسجده وديره، لصارت مدينة، ولتعطلت الكنيسة بالدير، وهذا الموضع أحسن من موضع لد، وأعلى، ففعل ذلك، وتبادر الناس من كل أدب من المسلمين والنصارى يحيطون المنازل والقصور على قدر(3/558)
هممهم ونعمهم.
وكان سليمان خط مسجدا صغيرا ودارا للإمارة لطيفة، فقال له رجاء: غيّر هذا فإنها ستكون مدينة عظيمة فخط مسجدا عظيما كبيرا ودارا واسعة، وهو هذا الجامع، وهذه الدار المعروفة بدار الإمارة.
ثم أن سليمان أراد هدم الكنيسة وأخذ رخامها وعمدها للجامع فراجعه رجاء عند ذلك، وبعث إلى عبد الملك يخبره بما فعل القسيس من غدره ومكره وما فعلاه من بناء المدينة والجامع، وكتب عبد الملك إلى ملك الروم وكان الإسلام في ذلك الوقت ظاهرا على الروم، فأنقذ ملك الروم إلى عبد الملك من دله على موضع أخرج منه عمدا لم ير مثلها في الاعتدال والحسن، وأخرج معهما رخاما منشورا، وغير منشور ما كفى الجامع وفضل عنه.
يقال أنه كان في ضيعة من الداروم [1] ، داروم وغزة، يقال لها عمودا، وكان أكثر ما نال النصارى من ذلك أن ملك الروم ألزمهم نقل العمد والرخام من عمود إلى الجامع وسميت المدينة الرملة باسم المرأة المقدم ذكرها، وأحسن سليمان إليها وإلى بعلها.
__________
[1] الداروم: قلعة بعد غزة للقاصد إلى مصر (مراصد الاطلاع 2/508) .(3/559)
فهرس المحتويات
مقدمة المحقق 5
في ذكر ممالك الإسلام جملة الباب الأول: في مملكة الهند والسّند 37
الباب الثاني: في مملكة بيت جنكيز خان 93
الفصل الأول: في الكلام عليهم جمليا 95
الفصل الثاني: في مملكة القان الكبير 127
الفصل الثالث: في التورانيين وهم فرقتان 139
الفرقة الثانية في خوارزم والقبجاق 175
الفصل الرابع: في مملكة الإيرانيين 195
الباب الثالث: في مملكة الجيل 231
الفصل الأول: في بومن 239
الفصل الثاني: في صاحب توليم 243
الفصل الثالث: في كسكر 247
الفصل الرابع: في رسفت 251
الباب الرابع: في مملكة الجبال 255
الفصل الأول: في الأكراد 225
الفصل الثاني: في اللر 273(3/561)
الفصل الثالث: في الشول 279
الفصل الرابع: في شنكاره 283
الباب الخامس: في مملكة الأتراك بالروم 287
(وكان من حديث هذا اسلامش المذكورة) 319
الفصل الأول: في مملكة كرمينان 327
الفصل الثاني: في مملكة طغرلر 333
الفصل الثالث في مملكة توازا 337
الفصل الرابع: في مملكة عبدلي 341
الفصل الخامس: في مملكة كصطمونية 345
الفصل السادس: في مملكة فاويا 349
الفصل السابع: في مملكة برسا 353
الفصل الثامن: في مملكة اكيرا 357
الفصل التاسع: في مملكة مرمرا 361
الفصل العاشر: في مملكة نيف 365
الفصل الحادي عشر: في مملكة مغنيسيا 369
الفصل الثاني عشر: في مملكة بركي 373
الفصل الثالث عشر: في مملكة فوكه 377
الفصل الرابع عشر: في مملكة إنطاليا 381(3/562)
الفصل الخامس عشر: في مملكة قراصار 385
الفصل السادس عشر: في مملكة أزمناك 389
الباب السادس: في مملكة مصر والشام والحجاز 413
ذكر هيئة جلوسه للمظالم 436
ذكر هيئته في بقية الأيام 438
ذكر هيئته في الأسفار 439
ذكر انتهاء الأخبار إليه 442
فصل 444
زي ذوي العمائم المدورة 449
الكلام على أرباب الوظائف في هذه المملكة 451
ذكر الوظائف 453
فصل 459
ذكر عادة هذه المملكة في الخلع ومراتبها 467
ذكر العيدين 471
فصل 476
الباب السادس: القاهرة 485
الاسكندرية 490
دمياط 497(3/563)
ذكر برقة 502
ذكر المملكة الثانية وهي مملكة الشام 505
ذكر دمشق وبنائها 509
أسماء بعض جهاتها 513
جملة أعمال دمشق 525
بعلبك 528
حمص 531
حماة 533
حلب 535
طرابلس 538
صفد 541
القدس 543
الكرك 547
الشوبك 550
غزة 552
فائدة جليلة تتعلق بذكر غزة 554(3/564)
[الجزء الرابع]
مسالك الأبصار في ممالك الأمصار(4/3)
هذا الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فهذا هو السفر الرابع من" مسالك الأبصار في ممالك الأمصار" لشهاب الدين أحمد بن يحيى بن فضل الله العمريّ الدمشقيّ المتوفى بها سنة 749 هـ/ 1349 م، وفيه من الباب السابع إلى الباب الخامس عشر، وقد اختصّ به صاحبه ممالك الإسلام في اليمن، والغرب الإسلاميّ في امتداده الإفريقيّ (شمال ووسط إفريقية) ، والأوروبيّ (الأندلسي) ، إضافة إلى باب خاصّ عقده في ذكر العرب الموجودين في زمانه" لمناسبة بينه وبين الأبواب السابقة، إذ مساكن العربان متخللة لأكثر الممالك (المذكورة) ، أو مجاورة لها" «1» على حدّ تعبيره.
وقد بدأ العمريّ كتابه هذا في سنة 738 هـ/ 1337 م، واستمرّ به حتى سنة وفاته، ومات ولم يكمله، واعتمد في تصنيفه على طائفة من المصادر الخطية والشفهية تبدو أهميتها في الجانب الأول في الاحتفاظ بنصوص باتت مفقودة في وقتنا الحاضر كتلك النصوص التي نقلها من كتاب" المغرب في حلى المغرب" لابن سعيد المغربي «2» (ت 685 هـ/ 1286 م) ، وفي الجانب الثاني في التوفر على معلومات وأخبار تتعلق بالممالك- موضوع الكتاب- نقلها عن رجال زاروا تلك الممالك، أو أقاموا فيها، أو خدموا لدى سلاطينها.(4/5)
أما حضوره الشخصيّ في سياق الكتاب فيبدو محدودا لا يتعدى مواضع معدودة، قيّد فيها ما شاهده أو لمسه بنفسه في مصر، «1» والشام، «2» والحجاز «3» مما يتصل بموضوع الكتاب، إضافة إلى بعض المداخلات والتعليقات التي عبر عنها بقوله:" قلت"، ولعلّ العمريّ قد وجد في مصدريه السالفين (الخطيّ والشفهيّ) ما يحقق الغرض الذي من أجله شرع في تأليف موسوعته وهو معرفة ممالك الأرض، وأحوال كلّ مملكة في عصره، ومن بينها ممالك الإسلام في هذا الكتاب، خاصة وأنّ الأدوار الرفيعة التي شغلها في سلطنة الناصر محمد بن قلاوون (ت 741 هـ/ 1341 م) ومن بينها رئاسة ديوان الإنشاء، والدوادارية (ومنها قراءة البريد على السلطان) قد أتاحت له تكوين صورة وافية عن العالم الخارجيّ، كما هيأت له الاتصال بمصادر وقنوات إخبارية متعددة ومتنوعة.
ولقد سبق لكتابنا هذا أن ظهر في أجزاء متفرقة، وفي أزمان متباعدة، وعلى أيدي ناشرين مختلفين:
* فقد نشر أيمن فؤاد سيد الباب السابع الخاصّ بمملكة اليمن عن دار الاعتصام في القاهرة سنة 1394 هـ/ 1974 م.
وأعاد نشره مع الباب السادس (مملكة مصر والشام والحجاز) عن المعهد الفرنسيّ للآثار الشرقية في القاهرة سنة 1985 م.
* ونشر مصطفى أبو ضيف أحمد الأبواب من (8- 14) الخاصة بممالك المسلمين في(4/6)
إفريقية سنة 1988 م.
* ونشر حسن حسني عبد الوهاب منه وصف المغرب والأندلس في تونس سنة 1341 هـ.
* ونشرت الألمانية دوروتيا كرافولسكي (D.Krawulsky) الباب الخامس عشر الخاصّ بالقبائل العربية عن المركز الإسلاميّ للبحوث في بيروت سنة 1406 هـ/ 1985 م.
وها نحن نقوم بلمّ شتات هذه الأجزاء، وضمّ عناصرها بعضها إلى بعض في خطوة تعيد لهذه الموسوعة وحدتها التي أرادها لها المؤلف، دون أن يعني ذلك الانتقاص من جهود من سبقونا في مصافحة الكتاب، والتعرف عليه، وكما يقول سعيد بن المسيّب فيما نقل عنه:
" إنه ليس من شريف ولا عالم ذي فضل، يعني من غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، فمن كان فضله أكثر من نقصه، وهب نقصه لفضله".(4/7)
منهج التحقيق
1- وصف النسخ المعتمدة
اعتمدت في تحقيق هذا الكتاب على مصورة الأستاذ العلامة الدكتور فؤاد سزكين عن تتمة الجزء الثاني وتمام الجزء الثالث لنسخة مكتبة أحمد الثالث (Top Kapi Saray) رقم:
2797 «1» ، وهي نسخة كتبت في الأصل برسم خزانة السلطان المملوكيّ الملك المؤيّد شيخ ابن عبد الله المحمودي (ت 824 هـ/ 1421 م) ، وأوقفها صاحبها المؤيّد على طلبة العلم بجامعه (المؤيدي) في القاهرة.
يقع القسم الأول (التتمة) في (109) صفحات، من الصفحة (462- 570) ، ويغطي الأبواب (7- 14) .
أما القسم الثاني (الجزء الثالث) فيقع في (75) صفحة بما فيها العنوان من الصفحة (1- 75) ، وهو خاصّ بالباب الخامس عشر فقط.
وبالرغم من أنّ القسمين ينتميان إلى" نسخة"، أو" سلسلة" واحدة إلا أنّه لا يوجد ما يدعو إلى الاعتقاد بنسبتهما إلى ناسخ واحد (قارن بالنموذجات المصورة) وإن كانا يشتركان في صفة واحدة تكاد تكون ملازمة لكلّ منهما، وهي كثرة التصحيفات والتحريفات والأخطاء الواردة فيهما، وبصورة تضيق عن الحصر والاستيعاب.
أما الرسم الذي اتبع في كتابة هذه النسخة فيصعب حصره تحت قاعدة ثابتة حتى داخل الصفحة الواحدة، وخاصة فيما يتعلق بكتابة الهمز، والألف المتوسطة في الأسماء، وألف ابن، فقد تظهر في مواطن، وتختفي في مواطن أخرى، وقد يتصل العدد بالمعدود في(4/9)
الأعداد من (300- 900) وقد يفصل ما بينهما.
أما في مجال التنقيط، فقد توضع نقطتان تحت الكلمات المنتهية بألف مقصورة، في حين تترك الياء في الكلمات المنتهية بياء بغير إعجام، وبالعكس.
وفيما يخصّ الشكل، فإن النسخة بقسميها تبدو شبه مشكولة، وإن كان القسم الثاني (الباب الخامس عشر) يتميز بجدية أكثر في هذا المجال.
كما اعتمدت في تحقيق الباب الخامس عشر- إلى جانب نسختنا السالفة- على مطبوعة كرافولسكي لهذا الباب، واعتبرتها نسخة ثانية، ورمزت لها على مدار التحقيق بالحرف (ك) .
وقد أمكن لي عن طريق هذه المطبوعة ضبط بعض الكلمات أو العبارات غير الواضحة أو الساقطة في نسختنا، خاصة وأن كرافولسكي حشدت في تحقيقها إلى جانب نسختنا نسختين أخريين هما: نسخة آيا صوفيا، رقم: 3417، ونسخة بودليانا (أكسفورد) ، رقم:
288، فضلا عما تميزت به كرافولسكي من معرفة واسعة بالتاريخ والتراث الإسلاميين، الأمر الذي أتاح لها تقديم قراءة راقية للنص، وأتاح لنا في الوقت نفسه الانتفاع بهذه القراءة.
واعتمدت أيضا على" صبح الأعشى في صناعة الإنشاء" للقلقشنديّ (ت 821 هـ/ 1418 م) ، واعتبرته نسخة ثالثة، إذ لا يخفى حجم النصوص التي استمدّها القلقشنديّ حرفيا من" المسالك"، وأودعها في" صبحه"، غير أنّ العود إلى" الصبح" لم يكن كلّه أحمد، فقد أدى التباين في رسوم بعض الأسماء (أسماء الأشخاص، والقبائل، والأمكنة،(4/10)
والحيوان، والنبات) ما بين نسختنا من" المسالك" ونسخة القلقشنديّ إلى ضياع الصورة الحقيقية لهذه الأسماء، وزاد الأمر تعقيدا أنّ النسخة التي استخدمها الناشرون من دار الكتب المصرية في معارضة" الصبح"، قد خالفت في العديد من المواضع النسختين السالفتين معا، بحيث يمكن القول: إنّ فائدتنا من" الصبح" في المواطن التي تطلب فيها الفائدة، ويصبح الظفر بها ضرورة ملحة كانت معدومة، أو شبه معدومة.
ولقد كان يمكن ل" قلائد الجمان في التعريف بقبائل عرب الزمان"، و" نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب" أن يسدّا جانبا من الثّلمة ما بيننا وبين" الصبح" في موضوع القبائل لولا أنّ يد التحريف قد طالتهما أيضا حتى إنك لتجد أحيانا للاسم الواحد في المصادر الثلاثة عدة رسوم وصور مختلفة، وكلّها لمؤلف واحد! «1» .(4/11)
2- خطة العمل
ما من شك، فإنّ نشر المادة التاريخية بالصورة التي وصلت فيها إلينا بدعوى الحفاظ على الأصل أو النصّ، لن يعدو أن يكون سوى إضافة مصورة جديدة إلى مصوراتها المحفوظة في المكتبات مهما بولغ في ترتيبها، وتزيينها، وحسن إخراجها، ناهيك عما لهذه الخطوة من مخاطر؛ كأن ننسب إلى المؤلف ما هو في الحقيقة من أخطاء الناسخ، أو تأخذنا مكانة المؤلف فننسب للناسخ ما هو في الحقيقة من أغلاطه، علما أن صحة النصّ وسلامته لا تتأتيان إلا باستنقاذه من كلّ ما علق به من أخطاء، وهو ما عملت جاهدا على تحقيقه في هذا الكتاب، يحدوني إلى ذلك أمل الوصول إلى ما كان ينوي المؤلف فعلا أن يقوله- خطأ كان أم صوابا- وأحسبني- ولا أزكي نفسي- قد قطعت شوطا ملحوظا في هذا المضمار على صعيدي الشكل والمضمون:
فعلى الصعيد الأول «1» :
1- احتفظت بالترقيم الأصليّ لصفحات المخطوط، وذلك بتخصيص قوسين داخل السياق لهذا الغرض.
2- كتبت النصّ وفق الرسم الكتابيّ الحديث والمتداول، متداركا بذلك ما قد سلف من الرسوم، وهو ما تطّلب مني تحقيق الهمز، وإثبات الألف المتوسطة في الأسماء، وحذف همزة (ابن) في حال وقوعها صفة مفردة بين علمين (اسم، كنية، لقب) ، وكذلك حذف ألف" مائة" والفصل بينها وبين العدد.(4/13)
3- قمت بضبط النصّ بالشكل استكمالا للصورة الأولية له، وهي صورة شبه مشكولة كما أسلفت.
4- أصلحت المواضع التي خرج فيها النصّ عن أحكام الإعراب، ووضعتها بين حاصرتين، ونبهت إليها في الهامش.
5- صوبت الأخطاء الكتابية التي لا يخفى صوابها على أحد، والتي لا يمكن أن تقرأ بغير الوجه الذي أثبتّها عليه، ولم أر ضرورة للتنبيه إليها، إذ لا فائدة ترتجى ولا حقيقة تجتلى من وراء ذلك، سوى أن تغمر الحواشي وجه النص، خاصة وأنّ هذه الأخطاء لا تعدو أن تكون من جنس الأخطاء الطباعية في وقتنا الحاضر.
6- أصلحت الكلمات والعبارات التي لحق بها طمس، أو محو، أو اضطراب، وأما ما استعصى على القراءة منها فقد مثلت له بنقاط، بحيث تدلّ كلّ ثلاث نقاط على كلمة واحدة.
7- أضفت إلى النصّ ما احتيج إليه من حروف، أو كلمات، أو عناوين اقتضاها السياق، وميزتها عن المتن بوضعها بين قوسين مكسورين: ()
وأما على الصعيد الثاني:
1- فقد قمت بردّ ما وقفت عليه من النصوص المنقولة إلى مصادرها الأصلية، ونبهت إلى طريقة المؤلف في استخدامها.
2- قمت بمناظرة الحوادث والأخبار الواردة في النصّ بما ورد بشأنها في المصادر التاريخية، وأشرت إلى ما بين رواية المؤلف وبين هذه المصادر من فروق، ورجّحت ما رأيته منها(4/14)
صوابا.
3- أصلحت الأخطاء الجغرافية والتاريخية الناجمة عن السهو، أو التي دلت قرينة واضحة من النصّ نفسه أو مصدر آخر على صوابها، ووضعتها بين حاصرتين، ونبهت إلى الأصل في الهامش.
وأما ما خالطني فيه تردد، أو كان له وجه آخر يحمل عليه فقد أبقيته على حاله منبها إليه في الهامش.
4- خرّجت الآيات القرآنية الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة، والأشعار.
5- عرّفت أسماء الأعلام، والشعوب والقبائل والجماعات، والأمكنة «1» ، وغيرها من أسماء الحيوان، والنبات، والملابس، والنقود، والمكاييل والموازين والمقاييس، سواء وردت هذه الأسماء نصا في السياق أو كانت هي المعنية فيه، أما المواضع التي تكفّل النصّ بتعريفها فقد اكتفيت بالإحالة إلى المصادر والمراجع الخاصّة بها تحاشيا للتكرار.
6- كما شرحت الألفاظ اللغوية والمصطلحات الفنية والحضارية، ووقفت بالتعليق على كلّ ما رأيته جديرا بالتعليق خدمة للنصّ، وسعيا وراء تأمين أكبر قدر من الاتصال بينه وبين القارئ.
هذا، ولن يفوتني في الختام أن أتوجه بالتحية إلى أسرة المجمع الثقافي، القائمين على نشر موسوعة «مسالك الأبصار» باذلين جهدا في سبيل إحياء تراثنا.
كما أحيي الأخ محمد حماد جاسم على ما تحلى به من صبر وحلم وطول أناة في أثناء(4/15)
طباعة الكتاب، وفي جميع مراحل التحقيق.
" ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله"
والله الموفق للصواب، وهو يهدي إلى سبيل الرشاد
د. حمزة أحمد عباس
ثغر الحديدة
5 جمادى الآخرة 1421 هـ
4 أيلول (سبتمبر) 2000 م(4/16)
3- الرموز المستعملة في التحقيق
الأصل: تتمة الجزء الثاني، وتمام الجزء الثالث لنسخة مكتبة أحمد الثالث بإستانبول، (Top Kapi Saray) رقم: 2797
المؤلف: ابن فضل الله العمري.
ك: مطبوعة كرافولسكي للجزء الثالث (الباب الخامس عشر) .
() : هذان القوسان العاديان لحصر أرقام صفحات المخطوطة.
() : هذان القوسان لحصر الآيات القرآنية الكريمة.
"": هاتان الفاصلتان المزدوجتان لحصر:
- الأحاديث النبوية الشريفة.
- النقول والاقتباسات الحرفية.
- أسماء الكتب.
... : هذه النقاط تستخدم للدلالة على الكلمات غير المقروءة، أو البياض الواقع في الأصل بحيث تدل كل ثلاث نقاط على كلمة واحدة.
[] : هاتان الحاصرتان تستخدمان لحصر.
- ما نقل من حاشية المخطوط إلى المتن.
- ما زيد على النص من مصادر أخرى.
- ما صوب من أخطاء، سواء من قبلنا، أو استنادا إلى مصادر أخرى.
() : هذان القوسان المكسوران يستخدمان لحصر كل ما احتيج إليه من حروف، أو كلمات، أو عناوين اقتضاها السياق.(4/17)
4- المختصرات الخاصة ببعض المؤلفين أصحاب الكتب المفردة وغيرهم
ابن بطوطة، يعني: تحفة النظار في غرائب الأمصار.
ابن حزم- يعني: جمهرة أنساب العرب.
ابن حوقل يعني: صورة الأرض.
ابن خلدون يعني: تاريخه: العبر وديوان المبتدأ والخبر ...
ابن خلكان يعني: وفيات الأعيان.
ابن عبد ربه يعني: العقد الفريد.
ابن العربي يعني: كتاب المغرب.
ابن هشام يعني: السيرة النبوية.
الإدريسي يعني: نزهة المشتاق في اختراق الآفاق.
الأشرف الرسولي يعني: طرفة الأصحاب في معرفة الأنساب.
الحميري يعني: الروض المعطار في خبر الأقطار.
الزركلي يعني: الأعلام.
الزهري يعني: الجغرافية.
السويدي يعني: سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب.
كحالة يعني: معجم قبائل العرب.(4/19)
وأخذت عن" معجم البلدان،" و" المشترك وضعا والمفترق صقعا" لياقوت، ورمزت للأول منهما فقط بياقوت.
كما أخذت عن" الإنباه على قبائل الرواة"، و" الاستيعاب في معرفة الأصحاب" لابن عبد البر، ورمزت للأول منهما فقط بابن عبد البر.(4/20)
5- نموذجات مصورة عن النسختين المعتمدتين في التحقيق
آ- تتمة الجزء الثاني- أحمد الثالث 2797/2
الباب السّابع في مملكة اليمن وفيه فصلان الفصّل الاول فيما بيد اولاد رسول الورقة (462) وتمثل بداية مملكة اليمن(4/21)
الورقة (463) وتمثل مستهل الحديث عن مملكة اليمن(4/22)
الورقة (570) وتمثل نهاية الجزء الثاني(4/23)
ب- الجزء الثالث- أحمد الثالث 2797/3
الورقة (الأولى) وتمثل طرة الجزء الثالث (الباب الخامس عشر) الخاص بقبائل العرب(4/24)
الورقة (الثانية) وتمثل جانبا من مقدمة المؤلف للجزء الثالث(4/25)
الورقة (75) وتمثل نهاية الجزء الثالث(4/26)
النص المحقق(4/27)
[تتمة النوع الثانى فى ذكر مماليك الاسلام]
الباب السابع في مملكة اليمن
وفيه فصلان الفصل الأول: فيما بيد أولاد رسول (463) الفصل الثاني: فيما بيد الأشراف(4/29)
(في مملكة اليمن) واليمن إقليم متّسع، وله ذكر قديم، ذكر البكريّ أن عرضه ست عشرة مرحلة، وطوله عشرون مرحلة، المرحلة ستّة فراسخ «1» ، وهو كرسيّ ملك التّبابعة من حمير «2» ، وبه كانت سبأ «3» ،(4/31)
وفيه كانت بلقيس وعرشها المذكور في القرآن الكريم «1» ، وحدوده من القبلة الموضع المعروف بطلحة الملك «2» ، ومن الشرق [حاء وحكم] «3» ، ومن الغرب ... «4» ، ومن [الجنوب] «5» عدن.
وهو يشتمل على عدة بلاد وقلاع وحصون حصينة، ولكنّ مدنه يفصل البرّ ما بين بعضها عن بعض، وبلادها مختلفة: نجود «6» ، وتهائم «7» ، فالنجود باردة الهواء، طيبة المسكن، والتهائم حارة شديدة الحرّ.
وقاعدة الملك بها تعزّ وزبيد، وتعزّ من النجود مبنية على جبل شاهق «8» ، وزبيد من(4/32)
التهائم مبنية في وطاءة.
واليمن مفرّق الملك بعضه بيد الشرفاء المطيعين لإمام الزيديّة «1» ، لا يطيعون إلا لأئمتهم القائمين منهم إماما بعد إمام، وقاعدة تملكه صنعاء، وبعضه بيد أكراد «2» عصاة على ملوك اليمن، وبعضه بأيدي عرب لا تطيع، وهذا الكلام عليها جمليا فلنتكلم عليها تفصيلا.(4/33)
الفصل الأول فيما بيد أولاد رسول «1»
فأمّا معظم اليمن فمع تعزّ وزبيد، وصاحبهما هو المشار إليه إذا قيل: صاحب اليمن، وأخبرني بجملة ما أذكر من أحوالها أبو جعفر أحمد بن محمد المقدسيّ عرف بابن غانم «2»
، وكان من كتّاب الإنشاء «3» بمصر وبدمشق، ثم دخل اليمن وخدم بها صاحبها إذ ذاك الملك المؤيد داود (بن يوسف) بن عمر «4» رحمه الله في كتابة الإنشاء واختصّ به،(4/35)
وأبو محمد عبد الباقي بن عبد المجيد اليمنيّ الكاتب «1» ، وجملة ما أذكره عنهما ولا أميّز الآن قول كلّ واحد منهما على التّخصيص، وهو: أنّ صاحب اليمن يصيف بتعزّ ويشتي بزبيد.
وتعزّ «2» بلد كثير الماء، بارد الهواء، كثير الفاكهة من العنب (464) والرمّان والسّفرجل والتفّاح والخوخ والتّوت والموز والبطيخ الأخضر والأصفر، ويوجد به كثير من أنواع الفاكهة، وإن كان قليل المقدار، فأمّا الموز والليمون والأترجّ «3» وما يناسبه فكثير إلى غاية، ويوجد بها كثير من الرياحين والزهور خلا البنفسج والنّيلوفر «4» ، وربما احتاج ساكنها إلى لبس الفراء في بعض أحيانها.
وأما زبيد «5» فإنها شديدة الحرّ ولا يبرد ماؤها ولا هواؤها، وهي أوسع رقعة، وأكثر بناء، ولها نهر جار بظاهرها.(4/36)
وأما مساكن الملك «1» فيهما فنهاية في العظمة، وفرش الرّخام والسّقوف المدهونة وأخصّاء الملك بها الخصيان هم خاصته المقرّبون وهو متوفر في غالب وقته على لذاته، والمتعة في قصوره بجواريه وقيانه، وله أرباب دولة ووظائف، ينحو في أموره منحى صاحب مصر «2» يتسمع أخباره، ويحاول اقتفاء آثاره في أحواله وأوضاع دولته غير أنه لا يصل إلى هذه الغاية، ولا تخفق عليه تلك الراية لقصور مدد بلاده، وقلة عدد أجناده.
أخبرني أقضى القضاة أبو الربيع سليمان بن محمد «3» بن قاضي القضاة الصدر سليمان الحنفيّ، وكان قد توجه إلى اليمن وخدم في ديوان الجيش «4» به أن مجموع جند(4/37)
اليمن ما يبلغ ألفي فارس، وينضاف إليهم من العرب الداخلين في طاعته مثلهم وأراني جريدته الموضوعة لذلك فوقفت على بعضها، وضاق وقتي عن الاستيعاب وهي تشهد بما قال. وصاحب هذه المملكة أبدا يرغب في الغرباء، ويحسن تلقيهم غاية [الإحسان] «1» ، ويستخدمهم فيما يناسب كلّا منهم، ويتفقدهم في كلّ وقت بما يأخذ به قلوبهم، ويوطّنهم عنده، وغالب جنده من الغرباء، وإذا دعت حاجة أحد من جنده وغلمانه وأهل خدمته أجمعين إلى شيء وإن قلّ كتب إليه قصة «2» يسأله حاجته فيها فيوقّع عليها بخطّه بإجابته إلى ما سأله، أو إلى بعض ما سأله (465) على ما يراه.
وهو قليل التصدي لإقامة رسوم المواكب والخدمة والاجتماع بولاة الأمور ببابه، فإذا احتاج أحد منهم إلى مراجعته في أمر كتب إليه قصة يستأمره فيها، فيكتب عليها بخطّه ما يراه، وكذلك إذا رفعت إليه قصص المظالم هو الذي يكتب عليها بخطّه مما فيه إنصاف الشاكي.
ورأيت علامة والد هذا السلطان القائم بها الآن على توقيع، وهو على المصطلح المصري ما مثاله: الشاكر لله على نعمائه في سطر، وتحته داود.
ولصاحب هذه المملكة البساتين والمتنزّهات الحسنة يتعهدها في الأحيان ويقيم بها للتنزه بها، وهذا الملك لا ينزل في أسفاره إلا في قصور مبنية له في منازل معروفة من بلاده، فحيث نزل في منزلة وجد بها قصرا مبنيا ينزل به.
وباليمن الخيل العراب الفائقة، والبغال نوعان: سروجية للركوب، وحبشية للأحمال، وبها الجمال والحمير وأنواع الدوابّ من البقر والغنم والطير من الإوزّ والد جاج والحمام وغير ذلك.(4/38)
وهي بلاد رخية كثيرة الحبوب، وأقلّ حبوبها القمح والشعير، وأكثرها الأرزّ والذرة والسّمسم، وبها العسل الكثير وأنواع المقل «1» ، ووقودها السّليط «2» وهو الشّيرج، ولا يوجد بها الزيت ولا الزيتون إلا إن جلب من الشام.
واليمن جميعه كثير الأمطار، ولا تنشأ به السحب، ويمطر المطر وقت الزوال إلى أخريات النهار، هذا وقت أمطارها في الغالب، وبها الأنهار الجارية، والمروج الفسح، والأشجار المتكاثفة في بعض أماكنها، ولها ارتفاع صالح من الأموال، وغالب أموالها من موجات التجار الواصلين من الهند ومصر والحبشة مع ما لها من دخل البلاد.
وأما الإمرة بها فقد تطلق على من ليس بأمير، وأما الإمرة الحقيقية التي ترفع بها الأعلام (وتدقّ لها) الكوسات «3» فإنها لمن قلّ، وربما أنه لا يتعدى عدة الأمراء بها عشرة نفر.
وباليمن أرباب وظائف (466) من النائب «4» والوزير «5» والحاجب «6» وكاتب(4/39)
السر «1» وكاتب الجيش وديوان المال، وبها وظائف الشادّ «2» والولاية على ما قدّمنا ذكره من أنّه يتشبه بالأحوال المصرية.
وباليمن عدن، وهي من أعظم المراسي بها، وتكاد تكون ثالثة تعزّ وزبيد في الذكر، ولها قلعة السمدان «3» المشهورة بالمنعة العظيمة، وبها قلعة، وهي خزانة مال ملوك هذا الإقليم.
وصاحب اليمن يهادي صاحب مصر ويداريه لمكان إمكان التسلط عليه من البحر والبرّ الحجازي، وقد كان ملكها الآن الملك المجاهد عليّ بن داود بعد موت أبيه المؤيد نجم عليه من أهله «4» من جاذبه رداء الملك، ونازعه في سلطانه، وأعان الناجم عليه كثير من مماليك أبيه وعسكر اليمن وأهله، فأرسل إلى صاحب مصر السلطان الملك الناصر أبي المعالي محمد بن قلاوون وصية كتبها الملك المؤيد صاحب اليمن قبل موته تتضمن أنّه أوصى إلى السلطان الملك الناصر صاحب مصر على ولده المجاهد علي، وبعث يترامى عليه، ويستمدّ الإعانة(4/40)
منه، فجهز إليه عسكرا»
منعه من عدوّه النّاجم عليه، ومكّن له في اليمن، وبسط يده به، ثم عاد العسكر المصريّ «2» ، وإن لم يكن هذا موضع هذا، ولكنّا ذكرناه تنبيها على تمكن صاحب مصر من (صاحب) اليمن إذا قصده، ثم نعود إلى ما كنا بصدده، فنقول:
إن صاحب اليمن لا يزال من الشريف الإمام الزيديّ صاحب صنعاء على مباينة تارة يكون بينهم عهد، وتارة ينبذ العهد بينهم، لأنّ الإمام الزّيديّ له قوة في مكانه ومنعة من أعوانه، ولو استقلّ اليمن لملك واحد كبر محلّه، وعظم قدره في الممالك الجليلة.
ولا تزال ملوك اليمن تستجلب من مصر والشام طوائف من أرباب الصناعات لقلة وجودهم باليمن، وليس باليمن أسواق مرضية دائمة، إنما بها يوم من الجمعة تجلب فيه الأجلاب (467) ، وتخرج أرباب الصناعات والبضائع ببضائعهم على اختلافها، وتقام في ذلك اليوم الأسواق، ويباع ويشترى، فمن أعوزه شيء في وسط الجمعة لا يكاد يجده، إلا(4/41)
المآكل فإنها دائمة (فيها) كغيرها من البلاد، والمعمولات من المآكل في أسواقها للبيع قليلة، بل من أراد شيئا عمله بنفسه.
فأما زيّ ملكهم وعامة الجند بها، فأقبية «1» إسلامية ضيقة الأكمام مزنّرة على اليد، ومناطق «2» ، وتخافيف لانس «3» ، ودلاكش، وهي أخفاف من القماش الحرير الأطلس والعتّابي «4» وغير ذلك، ولقد وقعت وحشة بين هذا (الملك) المجاهد وبين بعض أمرائه، وهو عليّ بن عمر بن يوسف الشهابي، فجاء إلى مصر وأقام بها وهو بهذا الزيّ خلا الدّلكش، فإنه قلعه، ولبس الخفّ المعتاد، وهو يحضر الموكب السّلطانيّ بمصر على هذا الزيّ إلى الآن.
وحدثني الحكيم الفاضل صلاح الدين أبو عبد الله محمد بن البرهان «5» ، وكان الملك المؤيّد [والد] «6» سلطانها الآن قد طلبه من مصر، واستدعاه، وأعذب ماءه ومرعاه، وأقام لديه حينا من الدهر، بين جنات ونهر، متنقلا معه في ممالكه، متوقّلا «7» على شرفات مالكه.(4/42)
قال: اليمن أميل إلى الحرّ، وهو كثير المطر في أخريات الرّبيع إلى وسط الصّيف.
قال «1» : ولقد أقمت مدة بعدن، وهي مدينة مجلوب إليها كلّ شيء حتى الماء، يحتاج المقيم بها إلى كلفة في النفقات لارتفاع الأسعار بها في المآكل والمشارب، ويحتاج المقيم بها إلى ماء يتبرّد به في اليوم مرات إبان قوة الحر، وإليها مجمع الرفاق، وموضع سفر الآفاق، يحطّ بها من الصين والهند والسّند والعراق وعمان والبحرين ومصر والزّنج «2» والحبشة، ولا يخلو أسبوع بها من عدة تجار وسفن وواردين وبضائع شتى ومتاجر، والمقيم بها في مكاسب وافرة وتجائر مربحة، ولا يبالي بما يغرمه بالنسبة إلى الفائدة، ولا يفكر في سوء المقام لكثرة الأموال النّامية.
(468) قال: ولحطّ المراكب عليها وإقلاعها مواسم مشهودة، وإذا أراد ناخوذة مركب فيها السفر إلى جهة، أقام علمه برنك «3» خاصّ له، فعلم التجا (ر) وتسامع الناس، وبقي كذلك أياما ويقع الاهتمام بالرحيل، ويسرع التجار في نقل أمتعتهم وحولهم العبيد بالقماش السريّ والأسلحة النافعة، وتنصب على شاطئ البحر الأسواق، ويخرج أهل عدن للفرجة عليهم.
قال الحكيم ابن البرهان:(4/43)
وأما ظفار «1» فهي لأولاد الملك الواثق «2» [عم] «3» صاحب اليمن، وهم وإن أطلق عليهم اسم الملك نواب له، وظفار أقصد إلى الهند من عدن، وهي على جون خارج من البحر، تنقل البضائع في زوارق صغار فيه حتى تقطع ذلك الجون، ثم توسق «4» ذلك في السّفائن.
قال الحكيم صلاح الدين محمد بن البرهان:
واسم اليمن أكبر [منه] «5» لا تعدّ في بلاد الخصب بلاده، وغالب دخله مما يؤخذ من التجار والجلّابة برا وبحرا، ومملكة بني رسول السواحل وما جاورها، ولهذا كانت مملكتهم أكثر مالا من مملكة الشرفاء بصنعاء وما والاها على ما يأتي ذكره في مكانه.
قال: وشعار هذا السلطان وردة حمراء في أرض بيضاء.(4/44)
قلت: ورأيت أنا السّنجق «1» اليمنيّ وقد رفع في جبل عرفات سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، وهو أبيض وفيه وردات حمر كثيرة.
قال: وإنما تجتمع لهم الأموال لقلة الكلف في الخرج والمصاريف التي تذهب في سعة النفقات والتكاليف، ولأن الهند يمدّهم بمراكبه، ويواصلهم ببضائعه.
وسألته عما بها من الفواكه فذكر غالب ما يوجد بمصر، غير أنّه بالغ في وصف السّفرجل بها.
وقال: إنّ القمح يوجد، ولكنه يغلو، واللحوم رخيصة، ويعمل بها السكر والصابون ولكنهما ليسا كما بمصر والشام.
قال: ولأهل اليمن سيادات (469) بينهم محفوظة، وسعادات عندهم ملحوظة، ولأكابرها حظّ من رفاهية العيش والتنعم والتفنن في المآكل، يطبخ في بيت الرجل منهم عدة ألوان، ويعمل فيها بالسكر والقلوب، وتطيّب أوانيها بالعطر والبخور، وتكون له الحاشية والغاشية، وفي بيته العدد الصالح من الإماء، وعلى بابه جملة من الخدم والعبيد والخصيان من الهند والحبوش، ولهم الديارات الجليلة والمباني الأنيقة إلا الرخام ودهان الذهب واللّازورد «2» فإن هذا من خواصّ السلطان لا يشاركه فيها مشارك من الرعايا ولا من الأعيان، وإنما فرش دورهم بالخافقيّ وما يجري مجراه، قال:
ولسلطانهم بستان يعرف [بثعبات] «3» يطلع إليه ويقيم فيه أياما للنزهة به، فيه قبة(4/45)
ملوكية ومقعد سلطانيّ فرشهما وأزرهما رخام ملون وبهما عمد قليلة المثل يجري فيها الماء من نبعات تملأ العين حسنا، والأذن طربا بصفاء ضميرها وطيب خريرها، وترمي شيئا سكيهما «1» على أشجار قد نقلت إليه من كلّ مكان تجمع بين فواكه الشّام والهند، ولا يقف ناظر على بستان أحسن منه جمعا، ولا أجمع [منه] «2» حسنا، ولا أتمّ صورة ولا معنى، يهزّ معاطف دوحه الصبا، كأنه في اليمن من بقايا سبا.
قال ابن البرهان:
وأما كتّاب الإنشاء عنده فإنه لا يجمعهم رئيس يرأس عليهم يقرأ ما يرد على السلطان، ويجاوب عنه، ويتلقى المراسيم وينفذها، وإنما السلطان إذا دعت حاجته إلى كتابة كتب بعث إلى كلّ منهم ما يكتبه، فإذا كتب الكاتب ما رسم له به بعثه على يد أحد الخصيان، وقدّمه إلى السّلطان فيعلّم عليه ويقرّه.
قال ابن البرهان:
وملوك اليمن أوقاتهم مقصورة على لذاتهم والخلوة مع حظاياهم وخاصتهم من الندماء والمطربين، فلا يكاد السلطان يرى بل (470) ولا يسمع أحد من أهل اليمن له على الحقيقة خبرا مع شدة ضبطهم لبلادهم ومن فيها، واحترازهم على طرقها برا وبحرا من كلّ جهة، فلا يخفى داخل يدخل إليها، ولا خارج يخرج منها.
وللتجار عندهم وضع جليل؛ لأن غالب متحصلات اليمن منهم وبسببهم كما قدمنا ذكره.(4/46)
قلت: وقد كان الملك المظفر «1» ثم ولده الملك المؤيد رحمهما الله تعالى مقصودين من آفاق الأرض، قلّ أن يبقى مجيد في صنعة من الصنائع إلا ويصنع (لأحدهما) شيئا على اسمه ويجيد فيه بحسب الطاقة ثم يجهزه إليه، أو يقصده به ويقدمه إليه من يده فيقبل عليه ويقبل منه، ويحسن نزله، ويسني جائزته، ثم إن أقام في بابه أقام مكرّما محترما، أو عاد عاد محبوا محبورا، ولهما ولع بحبّ الغرباء وكرم متسع في الحباء، يجزلون من نعمهم العطايا، ويثقلون بكرمهم المطايا، ولقد قصدهما كثير من الناس، وحصل [لهم] «2» البرّ والإيناس، ثم تنوّع لهم من الكرامة ما أنساهم أن ينفذوا بسلطان، وأسلاهم عن الأوطان، فحمدوا بالنجاح آمالا، ووردوا خفافا، وصدروا ثقالا، وكان من عادتهما رحمهما الله أن لا يسمحا بعود غريب، ولا يصفحا عن هذا عن بعيد ولا قريب قصدا لعمارة اليمن بإنارة آفاقه بكل شيء حسن، إلا من قدّم لديهما القول بأنه أتاهما راحلا لا مقيما، وزائرا لا مستديما، فإنّهما كانا لا يكلفانه مقاما لديهما ولا دواما في النّزول عليهما، بل يجزلان إفادته، ويجملان إعادته، وأما من جاء إليهما بنيّة مقيم، وأقام لديهما على أنّه لا يريم، فإنهما يرفعان مجده، ويوسعان رفده، ويجريان عليه الأدرار، وإليه السحاب المدرار، ويخليان له دارا، ويخلّيان مملوءا له بصفوف الخدم جدارا «3» ، فإذا أراد الارتحال عن دارهما، مكناه من العود كما جاءهما، وخرج عنهما على أسوأ حال، مسلوبا بما استفاد(4/47)
(471) عندهما من نعمة ومال، عقابا له على مفارقته لأبوابهما، لا بخلا بما جادت به بوادر سحابهما.
وحكى لي غير واحد ممّن قصدهما على أنه يقيم ثم فارقهما على هذا الحال الذّميم من حالاته بكلّ أعجوبة وما وجد، ثم فارقه من نعمهما الموهوبة المسلوبة «1» .
قلت: ولقد كانا يبعثان إلى مصر والشام والعراق من يتلقّط لهما محاسن الوجود وأحاسن الموجود، فلا تبقى طرفة من الطّرف إلا اشتريت لهما، ولا من مجيد في شيء من الأشياء إلا استميل إليهما، ورغب في الكثير حتى يقصد حضرتهما فيقيم عندهما، وقلّ من يعود عنهما: ومن وجد الأحباب قيدا تقيدا «2»
قلت: وصاحب اليمن لا عدوّ له لأنّه محجوب ببحر زاخر، وبرّ منقطع من كل جهة، والمسالمة بينه وبينهم، فهو لهذا قرير العين، خالي البال، لا يهمّه إلا صدّ، ولا يهيجه إلّا بلبال. «3»(4/48)
الفصل الثاني فيما بيد الأشراف «1»
قد تقدم القول على من قام باليمن من أهل هذا البيت الشريف، وهم إلى الآن، وأمرهم على ما كان، وأول قائم منهم:
الإمام يحيى الهادي بن الحسين الزاهد بن أبي محمد القاسم الرسّي بن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل الدّيباج بن إبراهيم الغمر بن الحسن المثنى بن السيد أبي محمد الحسن بن أمير المؤمنين أبي الحسن عليّ بن أبي طالب «2» سلام الله عليهم ورحمته وبركاته.
قام بهذه الدعوة في اليمن، وأعلن مناديه بالإمامة، ورفع بيته، وشيّد له الدّعامة، واستجاب الخلق لندائه، وصلّوا بصلاته، وأمّنوا على دعائه، وقام منهم مقاما محمودا، وأثر فيهم من الصلاح أثرا مشهودا، وفي ذلك يقول «3» : (الطويل)(4/49)
بني حسن إني نهضت بشأركم ... و [ثار] «1» كتاب الله والحقّ والسّنن
وصيّرت نفسي للحوادث عرضة ... وغبت عن الإخوان والأهل والوطن
(472) وأكثر ما أطاعت له في اليمن النجود، وانقادت إلى حكمه ودانت له ولإمامته، واجتهدت على استمرار أمره واستدامته.
وقام بعد الهادي ولده المرتضى «2» ، وتمت له البيعة ثم اضطرب أمره، واضطرّ إلى تجريد السّيف، وقاتله الناس، وفي ذلك يقول «3» : (الرمل)
كدّر الورد علينا بالصّدر ... فعل من بدّل حقا وكفر
أيها الأمة عودي للهدى ... ودعي عنك أحاديث البشر
عدمتني البيض والسّمر معا ... وتبدلت رقادا بسهر
لأجرّنّ على أعدائنا ... نار حرب بضرام وشرر
وكان رحمه الله خطيبا شاعرا ذا مقال يستفزّ ناظما وناثرا.
قال صاحب" التبيين في أنساب الطالبيّين": وهم الآن الأئمة باليمن.(4/50)
قلت: وحدثني الشيخ شهاب الدين أبو جعفر أحمد بن غانم أنه في عوده من اليمن فارا من صاحب اليمن، نزل بحماهم، ونزح إلى كنف نعماهم، فألحقه إمامهم القائم بظلّه الظليل، وأتحفه بفضله الجزيل، وأرشفه على ظمأ زلالا، وأنصفه من الأيام منّة وأفضالا، ووصله بمال، وأوصله إلى أحسن مآل.
قال: وهو في منعة منيعة، وذروة رفيعة، دار ملكه صنعاء، ولرعاياه من حياطة الله به استرعاء.
قال: وهو بنفسه يؤمّ بهم ويخطب، ويركب في نحو ثلاثة آلاف فارس، وأما عسكره من الرّجّالة فخلق جمّ، وأمم تموج كاليمّ.
وحدثني الشيخ تاج الدين أبو محمد عبد الباقي بن عبد المجيد اليمنيّ عما هو عليه هذا الإمام في قومه من الأمر المطاع حتى لا يخرج أحد منهم له عن نص، ولا يشاركه فيما يتميز به ويختص مع القوة في مباينته لصاحب اليمن، لا يخافه ولا يرجوه، والإهمال له فلا يستجيب له ولا يدعوه، مع أنه لا يزال صاحب اليمن يرعى جانبه، ويعقد بينهما العقود، وتكتب الهدن، وتوثّق المواثيق، وتشترط الشّروط.
قلت: (473) وقد أتى آت إلى الأبواب السلطانية الشريفة بمصر زعم أنه مرسل من حضرة هذا الإمام «1» ، وحدثني كثيرا من تفاصيل أحوالهم من التشدّد في الدين، وإقامة الحقّ والعمل والالتزام بموجبه، وأنّ الأئمة في هذا البيت أهل علم يتوارثه إمام عن إمام، وقائم بعد قائم، هذه جملة من أحوالهم ذكرناها.(4/51)
وأما صنعاء، فدار ملكهم، فقد تقدم في هذا الكتاب من أحوالها ما يغني عن إعادته هنا «1» ، وهي قاعدة ملك اليمن في قديم الزمان، وأوقاتها كلّها على مناسبة الاعتدال، لذيذة الهواء، كثيرة الفواكه، يقع بها الأمطار والبرد، ويكاد يجمد الجمد «2» ، وهي تشبه في اليمن ببعلبكّ في الشام لتمامها الحسن، وحسنها التمام.
وسألت الفاضل تاج الدين عبد الباقي اليمانيّ عما يعلمه من أحوال الأئمة بهذه المملكة فكتب إليّ أنه ما يعلم تفاصيل أحوالهم إذ هم كالبادية، وقال: وأئمة الزيديين كثيرون والمشهور منهم: المؤيّد بالله «3» ، والمنصور بالله «4» ، والمهديّ بالله، و [المطهر بن يحيى] . «5»(4/52)
قال: و [المهدي بالله] «1» هو الذي كان آخرا على عهد الملك المؤيّد داود بن يوسف صاحب اليمن، و [كانت] «2» الهدنة تكون بينهما.
قال: وابتداء دولة الزيديين [كان] «3» في أواخر دولة بني العباس، قال: وأظنّها من المستضيء «4» .
قال: ولهؤلاء دعوة بالجيلان «5» ، وهي كيلان، ولهم دعوة هناك، يجبون لهم الزكوات من تلك البلاد، و [ممن] «6» يجيب داعيهم فيها.
قال: وهم من أولاد زيد بن الحسن بن الحسن بن المثنى «7» ، قال: وشيعتهم كثيرة وأئمتهم لا يحتجبون، ولا يرون التفخيم والتعظيم، الإمام كواحد من شيعته في مأكله(4/53)
ومشربه وملبسه وقيامه وقعوده وركوبه ونزوله وعامة أموره، يجلس ويجالس، ويعود المرضى ويصلي بالناس على الجنائز، ويشيّع الموتى، ويحضر دفن بعضهم.
قال: وشيعته لهم في إمامهم حسن اعتقادهم، وهم يستشفون [بدعائه] «1» ، وبمرور يده على مرضاهم، ويستسقون المطر إذا جدبوا (474) به.
قال: وهم يبالغون في ذلك [مبالغتهم] «2» العظيمة.
سألته، فهل لهذه الدعوة حقيقة؟
قال: هذه أقوالهم التي كانت تبلغنا عنهم، وتصل إلينا من نحوهم، وما أجزم.
قلت: ولا يكثر لإمام هذه سيرته في التواضع لله، وحسن المعاملة لخلقه وهو من ذلك الأصل الطّاهر، والعنصر الطيب أن يجاب دعاؤه ويتقبل منه.
وحدّثني الحكيم الفاضل صلاح الدين محمد بن البرهان أن اليمن تنقسم إلى قسمين:
سواحل وجبال، فالسواحل كلّها لبني رسول، والجبال كلّها أو غالبها للأشراف وهي أقلّ دخلا من السواحل لمدد البحر لتلك واتصال سبيلها منه، وانقطاع المدد عن هذه البلاد لانقطاع سبيلها من كلّ جهة.
وحدّثني أبو جعفر بن غانم أن بلاد الشرفاء هؤلاء متصلة ببلاد السّراة «3» إلى الطائف إلى مكة المعظمة وأنها طريقه التي سلكها في عوده عن اليمن، قال: وهي جبال شامخة عليّة(4/54)
ذات عيون دافقة ومياه جارية على قرى متصلة الواحدة إلى جانب الأخرى، وليست لواحدة تعلق بالأخرى، [بل] «1» لكلّ واحدة أهل يرجع أمرهم إلى كبيرهم لا يضمّهم ملك ملك، ولا يجمعهم حكم سلطان، ولا تخلو قرية منها من أشجار وغروس ذوات فواكه أكثرها العنب واللّوز، ولها زروع أكثرها الشعير، ولأهلها ماشية أعوزتها الزّرائب، وضاقت بها الحظائر.
قال: وأهلها أهل سلامة وخير وتمسك بالشريعة ووقوف معها، يعضّون على دينهم بالنواجذ، ويقرون كلّ من يمرّ بهم ويضيفونه مدة مقامه حتى يفارقهم.
قال: وإذا ذبحوا لضيفهم قدموا له جميع لحمها ورأسها وأكارعها وكرشها وكبدها وقلبها، يأكل ما يأكل، ويحمل ما يحمل.
قال: وأهل هذه البلاد لا يفارق أحد منهم قريته مسافرا إلى الأخرى إلا برفيق يسترفقه منها ليخفره، وإلا فلا يأمن أولئك لعداوة بينهم وتفرق ذات بين.
ثم نعود إلى تتمة الكلام في مملكة الأشراف (475) ، فنقول وبالله التوفيق:
إنها تشتمل على عدة حصون منيفة وبلاد مخصبة مريعة، وقبائل عرب وحلفاء وأكراد في طاعة هؤلاء الشرفاء، ولأمراء مكة ميل كليّ «2» إليهم لقرابتهم بهم ولتمذهبهم بمذهبهم «3» والإمام في هذه البلاد يعتقد في نفسه ويعتقد أشياعه فيه أنّه إمام معصوم مفترض الطّاعة تنعقد به عندهم الجمعة والجماعة، ويرون أن جميع ملوك الأرض وسلاطين(4/55)
الأقطار تلزمهم طاعته ومتابعته حتى خلفاء بني العباس، وأنّ جميع من مات منهم مات عاصيا بترك متابعته ومبايعته، وهم يزعمون ويزعم لهم أن سيكون لهم دولة يدال بها [بين] «1» الأمم، وتملك منتهى الهمم، لا يهجع لها سيوف، ولا يخضع صفوف، وفي رأيهم أن الإمام الحجّة المنتظر في آخر الزمان منهم.
وزيّ هذا الإمام وأتباعه عندهم: زيّ العرب في لباسهم والعمامة والحنك «2» ويقال في الأذان عندهم: حيّ على خير العمل، ولا يظهر أحد منهم ولا عندهم بسبّ ولا تنقّص «3» على ما هو رأي الزيدية.
حدّثني من أقام بينهم مدة صالحة أنهم أهل نجدة وبأس وشجاعة ورأي، غير أنّ عددهم قليل، وسلاحهم ليس بكثير لضيق أيديهم، وقلّة دخل بلادهم، قال: ولقد فارقتهم في سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة وهم لا يشكون أنه قد آن أوان ظهورهم، وحان حين ملكهم، ولهم [رعايا] «4» تختلف إلى البلاد وتجتمع بمن هو على رأيهم يتربصون ضعف الدول في أقطار الأرض.
وحدثني شيخنا قاضي القضاة شيخ الإسلام كمال الدين أبو المعالي محمد بن عليّ الأنصاريّ بن الزّملكانيّ «5» رحمه الله عند عوده من قضاء حلب «6» عن رجل كان بها وأنّه(4/56)
مات وترك صندوقين كبيرين مختومين فظنّ أنّ فيهما مالا ففتحا فلم يوجد فيهما سوى كتب من أئمة هذه الجهة، ونسخ أجوبة عنها، منها ما هو إليه ومنه، ومنها ما كان إلى قدماء آبائه وأسلافه ومنهم، فسألته: كيف كانت؟ وما الذي كان مضمونها؟ فقال: أما كيف فعلى (476) نحو طريقة السّلف من فلان أمير المؤمنين وإمام الوقت إلى فلان أو لفلان، أما بعد، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأعلمك بكذا وكذا، وكذلك نسخ الأجوبة، ويبدأ باسم الإمام على عادة السّلف لا نقص فيها ولا زيادة سوى قوله وإمام الوقت، وأما مضمونها فيختلف، ومداره على استعلام الأخبار عامة، وأحوال الشيعة خاصة، والسؤال عن أناس منهم، وأنه قد ورد كتاب فلان، وأعيد جواب فلان عن أناس ما يعرف من هم بكنايات موضوعة، وفي بعضها حديث الخمس وذكر وصوله، أو التقاضي به.
قال: ورأيت في بعضها في هذا المعنى ما هذه عبارته وهي: ولا تؤخروا مدد من هنا من إخوانكم من المؤمنين في هذه البلاد الشّاسعة وهو حقّ الله فيه تزكية أموالكم ومدد إخوانكم من الضعفاء واتقوا الله، واسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً، يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً
«1» .
فسألته عما صنعوا بتلك الكتب، فقال: عرّفت الأمير أرغون «2» نائب السلطان بها، فقال: اغسلوها فغسلت.
هذا ما انتهى إلينا من أخبارهم.(4/57)
الباب الثامن في ممالك المسلمين بالحبشة
وفيه سبعة فصول الفصل الأول: في أوفات
الفصل الثاني: في دوارو
الفصل الثالث: في أرابيني
الفصل الرابع: في هدية
الفصل الخامس: في شرحا
الفصل السادس: في بالي
الفصل السابع: في دارة(4/59)
(ممالك المسلمين بالحبشة وهي سبع ممالك) وهذه الممالك السّبعة «1» بأيدي سبعة ملوك، وهي ضعيفة البناء، قليلة الغناء لضعف تركيب أهلها وقلّة محصول البلاد، وتسلّط ملك ملوك الحبشة صاحب أمحرة «2» عليهم مع ما بينهم من عداوة الدين ومباينة ما بين النصارى والمسلمين، ومع هذا (477) فكلمتهم متفرقة، وذات بينهم فاسدة.
وقد حكى لي الشّيخ عبد الله الزيلعيّ «3» وجماعة من فقهاء هذه البلاد أنّ هؤلاء الملوك السبعة لو اتفقت كلمتهم، واجتمعت ذات بينهم قدروا على المدافعة، أو التماسك، ولكنهم مع ما هم عليه من الضعف وافتراق الكلمة بينهم تنافس، ومنهم من يترامى إلى صاحب أمحرة ويميل إليه بالطباع، وهؤلاء مع الذلة والمسكنة عليهم لصاحب أمحرة قطائع(4/61)
محررة، تحمل [إليه] «1» في كلّ سنة وهي من القماش الحرير والكتان [مما] «2» يجلب إليهم من مصر واليمن والعراق، وقد كان الفقيه عبد الله الزيلعيّ قد سعى في الأبواب السلطانية بمصر عند وصول رسل صاحب أمحرة إليها في تنجّز كتاب البطريرك «3» إليه بكفّ أذيّته عن [بلاد المسلمين] «4» وأخذ حريمهم «5» ، ورسم له بذلك، وكتب البطريرك كتابا بليغا شافيا فيه معنى الإنكار لهذه الأفعال، وأنه حرّم هذا على من يفعله بعبارات أجاد فيها، وفي هذا دلالة على الحال، وسنذكر أمورهم مفصّلة في موضعها.
قال لي الشيخ الصالح عبد المؤمن «6» :
إنّ طولها برا وبحرا خاصا بها نحو شهرين وعرضها ممتد اكثر من هذا، لكن الغالب في(4/62)
[عرضها] «1» مقفر، وأما مقدار العمارة فهو ثلاثة وأربعون يوما [طولا وأربعون يوما] «2» عرضا.
وبهذه الممالك السّبعة الجوامع والمساجد والمواذن، وتقام بها الخطب والجمع والجماعات، وعند أهلها محافظة على الدين، ولا تعرف عندهم مدرسة ولا خانقاه «3» ولا رباط ولا زاوية، وليست لهم إبل، وهي بلاد حارة ليست بمائلة إلى الاعتدال، وألوان أهلها إلى الصّفار، وليست شعورهم في غاية التّفلفل كأهل مملكة مالّي وما معها وما يليها من جنوب المغرب.
وفيهم الزهاد والأبرار، وهذه البلاد هي التي يقال لها بمصر والشام بلاد الزيلع، وإنما الزيلع قرية بالبحر من قراها وجزيرة من جزائرها «4» وإنما غلب عليها اسمها، وبيوتهم من طين وأحجار وأخشاب مسقّفة جملونات و [قبابا] «5» ، وليست بذوات أسوار، ولا لها فخامة بناء، وقد أوردنا هذا على جهة الإجمال (478) ونحن نذكر ذلك فصلا فصلا إن شاء الله تعالى.(4/63)
الفصل الأول في أوفات
«1» حدّثني الفقيه عبد الله الزيلعيّ ومن معه من الفقهاء أنّ مملكة أوفات طولها خمسة عشر يوما، وعرضها عشرون يوما، بالسّير المعتاد، وكلّها عامرة آهلة بقرى متصلة وبها نهر جار [وهي] «2» أقرب أخواتها إلى الديار المصرية وإلى السواحل المسامتة لليمن، وهي أوسع هذه الممالك أرضا، والأجلاب إليها أكثر لقربها من البلاد.
وملكها يحكم على الزّيلع، والزّيلع اسم ميناء التجار الواردين إليها، وهو في وقتنا اليوم شافعيّ المذهب وغالبها شافعية.
وعسكرها خمسة عشر ألفا من الفرسان، ويتبعهم عشرون ألفا وأزيد من الرّجّالة، وهم يركبون الخيل عرايا بلا سروج، وإنما يوطئون لهم بجلود مرعز حتى الملك، وخيلهم عراب، وفي غالب الأوقات ركوبهم البغال، والملك عندهم أو الأمير يعدّ من حشمته إذا ركب بغلة (أن) يردف خلفه غلامه على كفل البغلة، وأما إذا ركب فرسا فإنه لا يردف أحدا عليه.
ويسمى الملك عندهم فاط، والملك يعتصب على رأسه بعصابة من حرير تدور بدائر رأسه، ويبقى وسط الرأس مكشوفا.
وأما الأمراء والجند فتعصّب رؤوسهم بعصائب من قطن على مثل هذا الوضع، ولا(4/65)
يعتصب بالحرير إلّا الملك، وقلّ من يلبس منهم قميصا أو ثوبا مخيطا وإنما يتزرون وزرات، وتلبس طائفة أرباب السيوف منهم سراويلات.
وأما الفقهاء، فتلبس العمائم، وعامة الناس تلبس كوافي بيضا طاقيات، ومن الفقهاء وأرباب النعم من يلبس القمصان وإلا فالجمهور الغالب [الوزرات] «1» كلّ واحد بوزرتين واحدة على كتفه متوشحا بها والأخرى في وسطه، وكلامهم بالحبشية وبالعربية.
ومما يعدّه أهل هذه المملكة من الحشمة أن الملك أو الأمير إذا مشى يتوكأ على رجلين من خاصّته، والملك يجلس على (479) كرسي حديد مطعم [بالذهب] «2» علوّه أربعة أذرع، ويجلس أكابر الأمراء حوله على كراسيّ أخفض من كرسيّه وبقية الأمراء وقوف، ويحمل رجلان على رأسه السلاح، وإذا ركب يحمل على رأسه جتر «3» حرير، [ثم إن كان الملك راكبا فرسا كان حامل الجتر ماشيا بإزائه والجتر بيده] «2» ، فإن كان الملك [راكبا] «4» بغلة كان حامل الجتر رديفه، والجتر بيده [على رأس الملك] «2» وقدامه حجّاب ونقباء تطرد الناس، وتضرب قدامه الشّبابة والبوقات من خشب اسمه البنبو المعمول منه في اليد وفي رؤوسها قرون بقر ويدقّ معها الوطواط وهي طبول معلقة في رقاب الرجال، ويكون قدام الجميع بوق اسمه(4/66)
الحبنا «1» وهو ملويّ من قرون الوحش، وحش عندهم اسمه عجزين «2» من نوع بقر الوحش يكون طوله ثلاثة أذرع [محروق] «3» من علوّه يسمع من قريب نصف نهار، فيعلم الناس ركوب الملك فيتبادر إليه من له عادة الركوب معه، ويتنحى عن طريقه من يحبّ أن يتنحّى.
وعنده قضاة وفقهاء، وليس فيهم بارع العلم، و [الملك] «4» يتصدى للحكم بين الناس، ويقصد الإنصاف.
وفي مملكته مدن أمهات، وهي «5» : بقلرز، وكلجور «6» ، وسبمق، وسوا، وعدل، وجبا، ولاو.
وأكثر قتال هذه المملكة بالحراب، وفيهم الرماة بالنشّاب، وأقواتهم القمح والذرة والطّافي وهو حبّ دقيق إلى غاية، أكبر من الخردل «7» ، وهو أحمر اللون لهم منه قوت، وعندهم الأبقار والأغنام كثيرة جدا، وكذلك السمن والعسل، وأما المعز فقليلة عندهم، وأسعارهم رخية.(4/67)
وكيلهم يسمى الرّابعيّة، وهذا الكيل مقداره ويبة مصرية «1» ، ورطلهم [اثنتا عشرة] «2» أوقية، وزن الأوقية عشرة دارهم نقرة «3» بصنجة مصر «4» .
وعندهم من قصب السكر مقدار صالح، ويخرج منه القند «5» ، ويعمل قطعا صغارا، وعندهم الموز والجمّيز والأترجّ والليمون وقليل من النارنج والرمان الحامض والمشمش والتوت الأسود والعنب الأسود، وهو والتوت قليلان، وعندهم تين بري، وخوخ بري، ولكنّهم لا يأكلون [الخوخ و] «6» التين، ولهم فواكه أخرى لا تعرف بمصر والشام والعراق، فمنها:
(480) شجر اسمه كشياد «7» يخرج ثمره أحمر صفة البلح، وهو حلو ماويّ، وشجر يعرف لمويه يخرج ثمره أسود صفة البلح، طعمه مزّ ماوي.
ومنها شجر يسمى كوسي يخرج ثمره مدورا شديد الاستدارة كالبرقوق، ولونه أصفر خلوقيّ كلون الشمس وهو مزّ ماويّ.(4/68)
ومنها شجر طانة يخرج ثمره أصغر من البسر، وفي وسطه شبيه النوى، وهو حلو صادق الحلاوة.
ومنها شجر اسمه أوجات «1» بفتح الواو والجيم تخرج ثمرته أكبر من حبّ الفلفل وطعمه شبيه به في الحرافة مع بعض حلاوة.
ومنها شجر اسمه جات «2» ، وهذه الجيم الموحدة نطقهم بها بين الجيم والشين لا ثمر له، وإنما المأكول قلوبه، وهو يزيد في الذكاء ويذكّر الناسي، ويفرج ويقلل الأكل والنوم والجماع، وكلّهم يأكلونه ويرغبون في أكله، وخصوصا طلبة العلم منهم، ومن يريد الاشتغال أو من يؤثر دوام السهر لسفر يسافره، أو لحرفة يعملها، وعنايتهم به شبيه بعناية أهل الهند بالتّنبول «3» وإن لم يكن هذا شبه ذلك، وحاشى ما يقال عن تلك الأفعال المحمودة من مشابهة هذا لما يدل عليه من زيادة تحقيقه بما يورثه من قلة النوم والأكل والجماع، ولقد أعجبني ما حكاه بعض هؤلاء الفقهاء المخبرين نيابة عن الملك المؤيّد داود صاحب اليمن رحمه الله، قال:
سافر بعض المسلمين من أهل بلاد الحبشة إلى اليمن، واتصل بالملك المؤيّد، وصار من خاصّته، فمنّاه يوما، فتمنّى عليه قلوب شجر [الجات] «4» ، فبعث من نقل إليه منها، وغرست باليمن، فأنجبت فلما آن اقتطاف قلوبها، سأله الملك المؤيّد عما يفيد، فوصف له ما(4/69)
يحدث عنها، فلما قال له: إنّها تقلل الأكل والنوم والجماع، قال له الملك المؤيّد: وأيّ لذة في الدنيا سوى هذا، والله لا آكله فإنني ما أنفق الأموال إلا على الثلاثة الأشياء فكيف استعمل ما يحول بيني وبين لذّاتي منها «1» .
ويزرع عندهم اللوبيا والخردل والباذنجان والبطيخ الأخضر والخيار والقرع والكرنب «2» وتطلع عندهم (481) الملوخيّة، وكذلك الشّمار «3» والصّعتر.
ويجلب إليهم الذهب من داموت وسحام وهما بلاد معادن بالحبشة، وتساوي الأوقيّة منه من ثمانين درهما إلى مئة وعشرين درهما على قدر جودة الذّهب ورداءته بقدر ما يخالطه من التراب والتربة، والطّيب من الذهب عندهم يسمى ... «4» .
وعندهم الدجاج الدواجن ولا لهم كثير رغبة في أكلها استقذارا لها لأكلها من القمامات والزّبل، وعندهم جواميس برية تصاد كما ذكر في بلاد مالّي، وبها من أنواع الوحش البقر والحمر والغزال والنّعام والمها والإبل والكركدن والفهد والأسد والضّبعة العرجاء، وتسمى عندهم مرغفيف «5» ، ويصاد عندهم دجاج الحبش المعروف، ويؤكل ويستطاب لحمه(4/70)
ويفاخر فيه.
وليس لأمراء هذا الملك ولا لجنده إقطاعات عليه ولا نقود، وإنما لهم الدوابّ الكثيرة السليمة، ومن شاء منهم زرع واستغلّ ولا يعارض.
ولهذا الملك سماط عامر ممدود بل له سماط له ولخاصته، ولكنّه يفرق في بعض الأحيان على أمرائه بقرا عوضا عن أكلهم على السّماط، وأكثر ما يعطى الأمير الكبير منهم [مئتا] «1» بقرة.
وليس بأوفات ولا بلادها دار ضرب ولا سكّة، ومعاملتهم بدنانير مصر، ودراهمها مما يدخل مع التجار إلى بلادهم.(4/71)
الفصل الثاني في دوارو «1»
حدّثني هؤلاء الفقهاء المتقدمون في الفصل قبله أنّ هذه المملكة طولها خمسة أيام، وعرضها يومان، وهي على هذا الضيق ذات عسكر جمّ نظير عسكر أوفات في الفارس والراجل، وزيّهم مثل زيّهم في اللبس والركوب والهيئة سوى أن ملكها لا يحمل على رأسه جتر، ولا يتوكأ الأكابر بها مثل الملك والأمراء على الأيدي، وأقواتهم والموجودات [التي] «2» عندهم من الحبوب والفواكه والخيول والدوابّ من نسبة ما تقدم إلا أنهم حنفية المذهب، ومعاملتهم بالحديد وتسمى الواحدة من تلك الحدايد حكنه بفتح الحاء المهملة وضمّ الكاف [والنون] «3» وهي في طول الإبرة (482) ولكنها أعرض من الإبرة تكون نحو عرض ثلاث إبر وما لها سعر تضبط به، وإنما تباع البقرة الجيدة بخمسة آلاف حكنه، ويباع الرأس الغنم الجيد بثلاثة آلاف حكنه، وهذه المملكة مجاورة لأوفات.(4/73)
الفصل الثالث في أرابيني
حدّثني هؤلاء الفقهاء أيضا أنّ هذه المملكة مربعة على شكل التّربيع، طولها أربعة أيام، وعرضها كذلك، وعسكرها يقارب عشرة آلاف فارس، وأما الرّجّالة فكثيرة جدا، وأهلها حنفيّة (المذهب) ، وهي تلي دوارو، وزيّ أهلها زيّ أهل دوارو، وفي كلّ شيء، والموجودات التي عندهم من الحبوب والفواكه والبقول والدّواب وغير ذلك مثل دوارو، ومعاملتهم بالحكنه كما تقدّم.(4/75)
الفصل الرابع في هدية «1»
حدّثني أيضا هؤلاء الفقهاء أنّ صاحب هدية أقوى إخوانه من ملوك هذه الممالك السبعة، وأكثر خيلا ورجالا، وأشدّ بأسا على ضيق بلاده عن مقدار أوفات، وهذه البلاد طولها ثمانية أيام، وعرضها تسعة أيام، وعرضها تسعة أيام، ولملكها من العسكر نحو أربعين ألف فارس من غير الرّجّالة فإنهم خلق كثير مثل الفرسان مرتين أو أكثر، وهم في زيّهم ومعاملتهم وما يوجد عندهم من الحبوب والفواكه والبقول مثل أرابيني ودوارو، وبلاد هدية تلي أرابيني، وإلى مدينة «2» تجلب الخدّام من بلاد الكفار.
حدّثني الحاجّ فرج الفويّ التاجر أنّ صاحب أمحرة يمنع من خصي العبيد، وينكر هذا ويشدد فيه، وإنما السّرّاق تقصد مدينة اسمها وشلوا «3» بفتح الواو والشين المعجمة واللام، وأهلها لا دين عندهم فيخصى بها العبيد، ولا يقدم على هذا في جميع بلاد الحبشة سواهم، وكذلك التجار إذا اشتروا العبيد وخرجوا بهم يعرجون إلى وشلوا ليخصوهم بها لأجل الزيادة في الثمن، ثم يحمل كلّ من خصي إلى مدينة هدية، فتعاد عليهم الموسى مرة ثانية لينفتح مجرى البول لأنّه يكون قد استدّ عند الخصي بالقيح، ثم إنهم يعالجون بهدية إلى أن يبرأوا؛ لأنّ أهل وشلوا (483) ليس لهم معرفة بالعلاج، فسألت الفويّ لأيّ شيء تختصّ بهذا هديه دون بقية أخواتها، فقال:(4/77)
لأنّها أقرب هذه البلاد إلى وشلو (ا) قد صار لأهلها دربة في علاج هؤلاء، قال: ومع هذا فالذي يموت منهم أكثر من الذي يعيش، وأضرّ ما عليهم حملهم بلا معالجة من مكان إلى مكان، ولو عولجوا في مكان خصيهم كان أصلح لهم، ولولا حملهم إلى مكان يعالجون به ما سلم- والله أعلم- أحد منهم.
وأهلها حنفيّة المذهب.(4/78)
الفصل الخامس في شرحا
حدّثني هؤلاء الفقهاء أنّ هذه المملكة طولها ثلاثة أيام، وعرضها أربعة أيام، وعسكرها ثلاثة آلاف فارس ورجّالة مثلها مرتين وأكثر، وهي كأخواتها دوارو وأرابيني في بقية أحوالها من الزيّ، والمعاملة، والحبوب، والفواكه، والبقول، وسائر ما لهم وما عليهم، وهي تلي هدية.
وأهلها حنفيّة المذهب.(4/79)
الفصل السادس في بالي
حدّثني هؤلاء الفقهاء أنّ هذه المملكة طولها عشرون يوما، وعرضها ستة أيام، وعسكرها ثمانية عشر ألف فارس والرّجّالة بها كثير «1» عددهم، وأهلها مثل باقي أخواتها في جميع زيّهم وأحوالهم وأقواتهم، والموجودات عندهم، ولكنّها أكثر خصبا، وأطيب سكنا، وأبرد هواء وماء، ولكنهم لا يتعاملون بالنّقود مثل أوفات، ولا بالحكنه مثل بقية ما تقدم، ولكن بالأعواض مثل البقر والغنم والقماش، وهي تلي شرحا.
وأهلها حنفيّة المذهب.(4/81)
الفصل السابع في دارة
حدّثني هؤلاء الفقهاء أنّ طولها ثلاثة أيام، وعرضها [مثله] «1» ، وهي أضعف أخواتها حالا، وأقلّها خيلا ورجالا، وعسكرها لا يزيد على ألفي فارس ومثلهم رجّالة، وهم في بقية أحوالهم وأحوالها مثل أخواتها ومعاملتها بالأعواض مثل بالي، وهي تليها.
وأهلها حنفيّة المذهب.
*** (484) هذه جملة ما علمنا من أحوال هذه [لممالك] «2» المسلمة في بلاد الحبشة، والمملكة منهم في بيوت محفوظة إلا بالي اليوم، فإنّ الملك بها صار إلى رجل ليس من أهل بيت الملك، تقرب إلى صاحب أمحرة حتى ولّاه مملكة بالي فاستقلّ ملكا بها ولا يبالي، وقد ولي بالي ومن أهل بيت الملك بها رجال أكفاء، والأرض لله يورثها من يشاء، وجميع ملوك هذه الممالك وإن توارثوها لا تستقلّ منهم بملك إلا من أقامه صاحب أمحرة.
وإذا مات الملك منهم ومن أهله رجال قصدوا جميعهم صاحب أمحرة، وبذلوا المقدرة في التقرب إليه فيختار منهم رجلا يولّيه، فإذا ولّاه سمع البقية وأطاعوا لأنّ الأمر له فيهم، وهم كالنواب له، ومع هذا فإنّ جميع ملوك هؤلاء الملك تعظّم مكان صاحب أوفات، وتنقاد له بالمعاضدة في بعض الأوقات، والطريق إلى هذه البلاد من مصر شعبة من الطريق العظمى(4/83)
الآخذة إلى أمحرة وسائر بلاد الحبشة، وتجار هذه البلاد الحبشية «1» ناصع «2» وسواكن «3» ودهلك «4» ، وليس بها مملكة مشهورة، ولا لها أخبار مذكورة، وكلّها مسلمون قائمون.
وأرضها أصعب مسلكا لكثرة جبالها الشامخة، وعظم أشجارها واشتباكها بعضها ببعض حتى أنه إذا أراد ملكها الخروج إلى جهة من جهاتها يتقدمه قوم مرصدون لإصلاح طرقها بآلات لقطع أشجارها ويطلقون فيها نارا لحريقها، وأولئك القوم كثير عددهم، ولم يملك بلادهم غيرهم من النوع الإنساني لأنهم أجبر بني حام، وأخبر بالتوغل في القتال والاقتحام، طول زمانهم مسافرون، وفي صيد وحش البرّ راغبون، ومما يدلّ على قوة جنانهم أنهم لا يلبسون ولا يلبسون خيلهم عند القتال شيئا، والمشهور عنهم مع ما لهم من الشجاعة (أنهم) يقبلون الحسب، ويصفحون عن الجرائم، والمصطلح بينهم أنّ من رمى سلاحه في القتال يحرّمون قتاله، والمجرم يتحسّب [ببرّ القادر] «5» (485) عليه فيتجاوز عن ذنبه، وقيل فيهم خلّة حسنة أيضا أنهم يحبون الغريب ويكرمون الضيف، ويحقق ذلك إكرام النجاشي قريشا عند ما هاجروا إليه، ويقال إنه قلّ أن يوجد عندهم رياء، والصديق عندهم(4/84)
لا ينقض عهدا لصديقه، وإذا تعاهدوا أكدوا المحبة وأظهروها، وإذا تباغضوا أعلنوا المباينة وأجهروها، غالبا يوجدون أذكياء أقوياء الحدس لهم علوم وصناعات بهم خصيصة، ومع كونهم جنسا واحدا ينطقون بألسنة شتى تزيد على خمسين لسانا وقلم قراءتهم واحد وهو الحبشي يكتب من اليمين إلى الشمال، عدّته ستة عشر حرفا لكلّ حرف سبعة فروع، الجملة من ذلك مئة واثنان وثمانون حرفا خارجا عن حروف أخر (ى) مستقلة بذاتها لا تفتقر إلى حرف من الحروف المعدودة المتقدم ذكرها، [مضبوطة] «1» بحركات نحوية متصلة به لا منفصلة عنه.
وهي بلاد تنقسم عندهم أقاليم، كما تنقسم الديار المصرية والبلاد الشامية أعمالا وصفقات وممالك الإسلام المتقدمة الذكر في ذلك، ونحن نذكر هاهنا جملة حال بلاد الحبشة مسلمها وكافرها.
قيل: إن أول بلادهم من الجهة الشرقية المائلة إلى بعض الجهة الشمالية بحر الهند واليمن، وفيها يمرّ البحر الحلو المسمى سيحون الذي يرفد منه نيل مصر المحروسة، والجهة الغربية إلى بلاد التكرور مما يلي جهة اليمين، وأولها مفازة تسمى وادي بركة، قيل:
يتوّصل منه إلى إقليم يسمى سحرت «2» ويسمّى قديما تكراي وكانت مدينة المملكة بهذا الإقليم في ذلك الزمان تسمى أخشرم «3» بلغة أخرى من لغاتهم، وتسمى أيضا: زفرتا «4» ، وكان النجاشيّ الأقدم بها ملكا على جميع البلاد، ثم إقليم أمحرة وهو الذي به الآن مدينة(4/85)
المملكة وتسمى بلغتهم مرعدي، ثم إقليم شاوه، ثم إقليم داموت، ثم إقليم لا منان، ثم إقليم السّيهو، ثم إقليم الزّنج، ثم إقليم عدل الأمراء، ثم إقليم حماسا، ثم إقليم باريا، ثم إقليم الطراز الإسلامي الداخلة في جملة جميع البلاد الحبشية (486) وملوكه سبعة كما تقدم تفصيلها إقليما إقليما، وكلّ إقليم من هذه الأقاليم له ملك وجيوش كما تقدم أيضا ذكره، وقيل: إنهم كلّهم تحت [سلطان] «1» ملكهم الأكبر المسمّى بلغتهم الحطّي، ومعناه السلطان، وهذا الاسم موضوع لكلّ من يقام عليهم ملكا كبيرا، واسم الملك المقام عليهم الآن عمد سيون وتأويله: ركن صهيون، وهي بيعة قديمة البناء بالإسكندرية معظمة عندهم يتعبّدون لله فيها، وقيل: إنه من الشجاعة على أوفر قسم وإنه أحسن السلوك عادل في رعيته يتفقد مساكنها، وقيل إن تحت يده من الملوك تسعة و [تسعين] «2» ملكا، وهو لهم تمام المئة في الأقاليم المذكورة والأقاليم المجهولة أسماؤها، لأنها كثيرة العدد غير مشهورة ولا معلومة، وقيل: إنّ الحطّيّ المذكور وجيشه لهم خيام ينقلونها معهم في السّرحات والأسفار، وإذا جلس يجلس حول كرسيّه أمراء مملكته وكبراؤها على كراسيّ حديد منها ما هو مطعم بالذهب، ومنها ما هو ساذج «3» على قدر مراتبهم.
والملك المذكور قيل إنه مع ما له من نفاذ الأمر يتثبت في أحكامه حتى يتبين.
فأما لباس أهل البلاد المذكورة في الشتاء فهو لباسهم في الصيف، الخواص منهم والأجناد قماش حرير وأبراد هندية وما شاكل ذلك، والعوام ثياب قطن منسوج غير مخيط لكل نفس ثوبان. واحد لشدّ وسطه، وآخر يلتحف به، وكذلك الخواصّ منهم في الحرير والأبراد يشتدّون(4/86)
ويلتحفون بمنسوج غير مخيط.
وسلاح المقاتلين منهم القسيّ والنبال الشبيهة بالنشّاب والسيوف والمزاريق والحراب، ومنهم من يقاتل بالسيوف وأتراس طوال وقصار، وغالب سلاحهم مزاريق تشبه الحراب الطوال، ومنهم من يرمي عن قوس طويل يشبه قوس القطن بالنبال، وهي سهام قصار، وقيل: إن نبال المقاتلين من أجناد الطراز الإسلامي أكبر، ولهم أبواق من خشب القنا المجوّف ومن قرون البقر المجوفة.
ومأكلهم (487) شحوم البقر والماعز وبعض شحوم الضأن، ومشروبهم اللبن البقريّ، وفي ضعفهم يتداوون باللبن المداف بالماء وسمن البقر، وعندهم نبات يسمى [جات] «1» يتناولونه لتجويد الفهم وتقوية الحفظ، وهو أشجار صغار وكبار ثمرته تشبه قلوب شجر النارنج وقد تقدم ذكره.
وغالب أهل البلاد المذكورة يتعاملون مقايضة بالأغنام والأبقار والحبوب وغير ذلك إلا في خمسة أقاليم من الطراز الإسلاميّ، وهي إقليم مدينة أوفات يتعاملون بالذهب والفضة، وإقليم [دوارو] «2» وإقليم أرابيني، وإقليم شرحة، وإقليم هدية يتعاملون بشيء عندهم يسمى الحكنه، وهي حديد مضروب كالإبر الطّوال كلّ ثلاثة آلاف بالعدد قيمتها درهم واحد.
وكلّ البلاد المذكورة والطراز الإسلاميّ يزرعون على الأمطار في السنة مرتين، ويتحصل لهم مغلات، والزمان الذي يحصّل فيه المغلّ الأول يأتي فيه مطر ثان يزرع عليه المغلّ الثاني، والمطر الواقع من زمن الشتاء يسمى بل، والمطر الواقع في زمن الصيف يسمى كرم بلغة الزيالعة.(4/87)
وأخبرني البطريرك بنيامين فيما حكى لي في كتابه عنهم أنه عند نزول الأمطار الكثيرة تقع صواعق، وأصناف زراعاتهم الغيطية القمح، والشعير، والحمص، والعدس، و [البسلّى] «1» ، والذرة، وبعض الباقلاء، وحبوب أخر (ى) غير ذلك منها حبّ يسمى قبانهلول «2» ، يستعملونه قوتا كالقمح، أما القمح فحبّه كالحنطة المالونه «3» ولونه كالقمح الشاميّ يباع منه في الطراز الإسلاميّ بالدرهم تقدير حمل بغل، والشعير ليس له قيمة، وحبّه أكبر مقدارا من حبّه بالديار المصرية، ومنه ضرب يسمى طمحة «4» ، و [لون] «5» الحمص [عندهم] «5» إلى الحمرة ما هو «6» ، والباقلّا «7» عزيز الوجود في أكثر البلاد، ولا يفتقر إليه دوابّهم في العلف لأنّ الأرض كثيرة المياه والمراعي.
وعندهم (488) حبّ يسمى بلغتهم طافي وحبّه بمقدار الخردل ولونه إلى الحمرة، ومكسره إلى السواد يتخذون منه خبزا، وهو يميل إلى القمح، وعندهم ببعض الأقاليم حبّ يسمى البنّ وهو شبه القمح، ولكنه بقشرين فينزعون قشوره بالهرس كالأرزّ ويتخذون منه طعاما ينوب عن القمح، وليس عندهم من أصناف المقاثي إلا القرع وفي بعض الأقاليم بطيخ(4/88)
صغير، وبزر الكتّان وحبّ الرشاد «1» واللّفت والفجل ومن البقول أيضا الثوم والبصل والكزبرة الخضراء.
وأشجارهم البستانية العنب الأسود، وهو قليل والتين الوزيريّ، وأصناف الحوامض خلا النارنج والموز، ورياحينهم الريحان، والقرنفل، ونبات أيضا يسمّى بعتران «2» ، وعندهم الياسمين البريّ، ولكنه غير مشموم لهم.
ومن أشجارهم الزيتون، والصنوبر، والجمّيز، وفي بعض بلادهم الآبنوس «3» ، وهو كثير الأشجار والمقل أيضا ببعض الأقاليم، وكذلك أشجار القنا وهي صنفان: أحدهما صامت والآخر أجوف، وبالطراز الإسلاميّ قصب السكّر كثير جدا، ويتخذون منه القند، وذكر أن الذي يوجد عندهم من المعادن معدن الذهب والحديد.
وذكر السيد الشريف عزّ الدين التاجر أنّ في بعض بلادهم يوجد معدن الفضة.
وعندهم من ذوات الأربع الخيل والبقر والغنم والبغال وما أشبه ذلك، وأغنامهم تشبه أغنام عيذاب «4» واليمن، ووحوشهم البرية الأسد والنمر والفهد والفيل والغزال على اختلاف الألوان في ذلك، وبقر الوحش وحمر الوحش والزرافة والقردة ووحوش أخر (ى) كثيرة.
وعندهم من الطيور: الجوية والأهلية والمائية.(4/89)
أما الجوية فهي: الصقور والنسور البيض والسود وأمثالها، والغربان والحجل وسائر طير الواجب والسّمّان والحمام والعصافير والبزاة وغير ذلك مما لم يوجد بالديار (489) المصرية.
وأما الأهلية والبرية فدجاج الحبش وأمثاله.
والمائية: فالبطّ، ودجاج أيضا يخرج من بركة ماء في إقليم هدية الإسلامي.
قال الشيخ جمال الدين عبد الله الزّيلعيّ:
إن العين المذكورة يتولد منها دجاج يأكلونه، ويأكلون من لحوم الطير الحمام والعصفور وغراب الزرع والدجاج البريّ والحجل، والسمك عندهم منه ما يشبه البوريّ، و [منه] «1» ما يشبه الثعبان يطول إلى مقدار ذراعين ونصف، ويغلظ إلى مقدار الخشب، ويطلع من بحرهم التمساح وفرس البحر.
أما عسل النحل فكثير في جميع البلاد يتربى في الجبال، ويأخذون منه العسل والشمع من غير حجر عليه، ومنه ما له خلايا خشب منقورة، وعسلهم مختلف الألوان بحسب المرعى.
ومساكنهم غالبها أخصاص من جملونات خلا المدن الكبار، فإنها مبنية من الحجر.
وأواني طعامهم فخّار مدهون أسود، وحمّامهم الاغتسال بالماء البارد، وبعضهم يتخذونه حارا.
ووقودهم الشمع، ومصابيحهم وقودها بشحوم البقر؛ لأن الزيت الطيب يجلب إليهم، ويدهن للرجال والنساء منهم بالسمن.
ومصاغهم الذهب والفضة والنحاس والرّصاص على قدر تمثال السّعر.(4/90)
هذا ما نقلته الثقات عنهم، ومع ما هم عليه من سعة البلاد وكثرة الخلق والأجناد يفتقرون إلى العناية والملاحظة من صاحب مصر، لأن المطران الذي هو حاكم حكام شريعتهم في جميع بلادهم النصرانية لا يقام إلا من الأقباط اليعاقبة بالديار المصرية، حيث تخرج الأوامر السلطانية من مصر لبطرك النصارى اليعاقبة بإرسال مطران إليهم، وذلك بعد سؤال ملك الحبشة المسمى بالحطّي بلغتهم، وإرسال رسله وهداياه، وهم يدّعون أنهم يحفظون مجاري النيل المنحدر إلى مصر، ويساعدون (490) على إصلاح سلوكه تقريبا لصاحب مصر، وإنما المشهود منهم والمعروف منهم الصدق والأمانة فهو مشهور، ولذلك يختار صاحب إقامتهم (منهم) أمناء على الحريم والأولاد والأرواح والأموال، وكذلك بعض التجار الكرّامية «1» و [ذوو] «2» الأموال يجعلونهم على حفظ أموالهم وتجاراتهم وبضائعهم الثمينة ومكاسبهم الجليلة إلى قريب [البلاد] «3» وبعيدها، وطويل المسافات وقصيرها.
وهذا ما وصلني من أخبارهم، والله أعلم بالحقّ، وعندهم وعنده العلم الصّدق.(4/91)
الباب التاسع في ممالك مسلمي السودان على ضفة النيل إلى مصر
وفيه فصلان
الفصل الأول: في الكانم الفصل الثاني: في النوبة(4/93)
الفصل الأول في الكانم
«1» (الكانم بلد) مسلم مستقل بينه وبين بلاد مالّي [مسافة بعيدة جدا، قاعدة ملكه] «2» بلد اسمها جيمي «3» ، مبدأ مملكته من جهة مصر بلدة اسمها زلا «4» وآخرها طولا بلدة يقال لها كاكا «5» وبينهما نحو ثلاثة أشهر، وعسكرهم يتلثمون، وملكهم على حقارة سلطانه وسوء بقعة مكانه في غاية لا تدرك من الكبرياء يسمح برأسه عنان السماء مع ضعف أجناد، وقلة متحصّل بلاد، محجوب لا يراه أحد إلا في يوم العيدين، يرى بكرة وعند العصر، وفي سائر السنة لا يكلمه أحد ولو كان أميرا إلا من وراء حجاب، وربما كان فيهم من أخذ في التعليم ونظر من الأدب نظرة النجوم، فقال إني سقيم، فما زال يداوي علل فهمه، ويداري جامح علمه حتى تشرق عليه أشعتها، ويطرز بديباجه أمتعتها.
غالب عيشهم الآن الأرزّ، والقمح، والذّرة، وببلادهم التين، والليمون، واللّفت، والباذنجان، (491) والرّطب.(4/95)
وأخبرني أبو عبد الله [السّلالجيّ] «1» أنّه أخبره الشيخ الصالح المنقطع عثمان الكانميّ وهو من أقارب ملوكها أنّ الأرزّ ينبت عندهم من غير بذر أصلا، وهو ثقة، قال السّلالجيّ:
وسألت عن ذلك غيره فأخبرني بصحة ذلك.
ويتعاملون بقماش ينسج عندهم اسمه دندي طول كلّ ثوب عشرة أذرع يشترون من ربع ذراع فأكثر، ويتعاملون أيضا بالودع والخرز والنحاس المكسور والورق لكنه جميعه يسعّر بذلك القماش.
وذكر ابن سعيد «2» أنّ في جنوبيّها شعار «3» وصحار (ى) فيها أشخاص متوحشة كالغول تؤذي بني آدم، ولا يلحقها الفارس وهي أقرب الحيوانات إلى الشكل الآدمي.
وذكر القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الملك المراكشيّ في كتابه المعجم المسمى ب" التكملة" «4» أبا اسحاق إبراهيم الكانميّ الأديب الشاعر، وحكى عنه أنه قال: يظهر ببلاد الكانم بالقرب [من] «5» أمام الماشي في الليل شبيه قلل نار تضيء، فإذا مشى ليلحقها بعدت عنه، ولو جرى إليها لا يصل إليها بل لا تزال أمامه، وربما رماها بحجر فأصابها فيتشظّى منها شرارات، نقل لي هذا على ما رآه في" التكملة" محمد السّلالجيّ.(4/96)
قال ابن سعيد:
وإنّ بها يقطينا تعظم اليقطينة إلى أن يصنع منها مركب تعبر فيه في النيل، قال: وهذا مستفيض، والعهدة على الحاكي.
وهذه البلاد بين إفريقيّة وبرقة ممتدة في الجنوب إلى سمت الغرب الأوسط، وهي بلاد قحط وشظف وسوء مزاج مستول عليها، وأحوالها وأحوال أهلها خشنة، وأول من نشر الإسلام فيها الهادي العثمانيّ، ادعى أنه من ولد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وصارت بعده لليزنيين من بني ذي يزن «1» ، والعدل قائم في بلادهم، ومذهبهم مذهب الإمام مالك رضي الله عنه.
وهم ذوو اختصار في اللباس، كايسون في الدين (492) وقد بنوا بفسطاط مصر مدرسة للمالكية ووفودهم ينزل بها.(4/97)
الفصل الثاني في النّوبة «1»
تلي مصر في نهاية جنوبها على ضفتيّ النيل الجاري إلى مصر، وقاعدتها دنقلة.
ومدنها أشبه بالقرى والضّياع من المدن، قليلة الخير والخصب، يابسة الهواء، وكذلك زهد فيها [بنو] «2» أيوب في مدة السّلطان صلاح الدين لما تجهز أخوه شمس الدولة «3» لأخذها «4» ، فعدل [إلى] «5» ، اليمن «6» لأنّهم خافوا من الشّهيد نور الدين محمود بن زنكي أن يقصدهم إلى مصر وينتزع المملكة من أيديهم، فأرادوا فتح بلاد من ورائهم تكون(4/99)
ملجأ لهم، فقصدوا النوبة، فلما رأوها بلادا لا تصلح لمثلهم عدلوا إلى اليمن «1» .
وأديان أهل هذه البلاد دين النصرانية، وملكهم كأنه واحد من العامة، ومن بلادهم لقمان الحكيم، وقد ذكره البيهقيّ في" مفاخر النّوبة"، ثم سكن مدينة أيلة «2» مع اليهود(4/100)
ورحل إلى بيت المقدس، ورأى أنبياء بني اسرائيل وجالس داود عليه السلام.
قال ابن سعيد:
رآه يصوغ الحديد ويصنع منه حلقا ولا يعرف ما يؤول إليه أمره، فصحبه على ذلك سنة ولم يسأله عما يصنعه إلى أن كمّل داود الدرع ولبسها، فقال لقمان: درع حصينة ليوم قتال، كفتني عيني مؤونة لساني، الصمت حكمة وقليل فاعله، قال:
ومنها ذو النون المصريّ أبو الفيض ثوبان بن ابراهيم «1» ، كان أبوه عبدا نوبيا، وقد تقدم ذكره في الفقراء «2» .
وقال صاحب كتاب" الأبرار" «3» : ومما سمع منه: (الطويل)
أموت وما ماتت إليك صبابتي ... ولا قضيت من صدق حبّك أوطاري
وأنت منى سؤلي وغاية مقصدي ... وموضع شكواي ومكنون أسراري
وخدمه رجل على أن يعلمه اسم الله الأعظم، فمطله زمانا ثم أمره أن يحمل من عنده(4/101)
طبقا مغطى إلى شخص بالفسطاط، فلما حمله استخفّه، فقال: (493) لأبصرنّ ما فيه، فكشفه، فخرجت منه فأرة، فاغتاظ، وقال: ضحك عليّ ذو النّون، فرجع إليه مغضبا، فلما رآه ذوالنون تبسم، وقال: يا مجنون ائتمنتك على فأرة فخنتني، فكيف ائتمنك على اسم الله الأعظم، قم عني فلا أراك بعدها.
وقيل له: المصريّ لأنه سكن مصر ومات بها، وقبره بالقرّافة «1» رحمه الله تعالى.
وملكها الآن مسلم من أولاد كنز الدولة «2» ، وهؤلاء أولاد الكنز أهل بيت ثارت لهم فيما تقدم ثوائر مرات، ولا يملك الآن بها ملك إلا من الأبواب السلطانية بمصر، وعلى ملوك دنقلة حمل مقرر لصاحب مصر، وهذه الإتاوة لا ذهب فيها ولا فضة، بل هي عدد من العبيد والإماء والحراب والوحش النّوبية.
وحدّثني غير واحد ممن دخل النّوبة أنّ دنقلة «3» مدينة ممتدة على النيل، وأهلها في شظف من العيش على أنهم أصلح من كثير ممن سواهم من السودان، وبها مسجد جامع تأوي إليه الغرباء، وتجيء رسل الملك إليهم تستدعيهم إليه، فإذا جاؤوا أضافهم ووهبهم وأكرمهم هو و [أمراؤه] «4» ،(4/102)
وأكثر (أ) عطياتهم إما عبد أو جارية، وأما أكثر (أ) عطياتهم فهي دكاديك، وهي أكسية غلاظ غالبها سود، واللحوم والألبان والسمك عندهم كثير، والحبوب قليلة إلا الذرة، وأفخر أطبختهم ما يعمل باللوبيا في مرق اللحم ويثرد ويصفّ اللحم واللوبيا على وجه الثريد، ويعمل اللوبيا بورقها وعرقها ولهم انهماك على السّكر بالمزر «1» ولهم ميل شديد إلى الطّرب.
وحدّثني أحمد بن المعظمي وكان قد دخل مع أبيه إلى هذه البلاد وما وراءها في الرّسلية مرات أنّ ملوك السودان يتخذون كلابا معلّمة تنام على التخوت حولهم هي كالحراس لهم.
والنّوبة لهم قتال، وبأسهم بينهم على ضعف قواهم وقلة بأسهم.(4/103)
الباب العاشر في مملكة مالي وما معها(4/105)
(في مملكة مالي وما معها «1» ) (494) اعلم أنّ هذه المملكة في جنوب نهاية الغرب متصلة بالبحر المحيط، قاعدة الملك بها مدينة ييتي «2» ، وهذه المملكة شديدة الحرّ، قشفة المعيشة، قليلة أنواع الأقوات، وأهلها طوال في غاية السواد، وتفلفل الشّعور، وغالب طول أهلها من سوقهم لا من هياكل أبدانهم، وملكها الآن اسمه سليمان «3» أخو السلطان موسى منسى «4» بيده ما كان قد جمعه أخوه مما فتحه من بلاد السّودان، وأضافه إلى يد الإسلام، وبنى به المساجد والجوامع والمواذن، وأقام به الجمع والجماعات والأذان، وجلب إلى بلاده الفقهاء من مذهب الإمام مالك رضي الله عنه، وبقي بها سلطان المسلمين، وتفقه في الدين.
وصاحب هذه المملكة هو المعروف عند أهل مصر بملك التّكرور، ولو سمع هذا أنف منه(4/107)
لأنّ التكرور إنما هو إقاليم من أقاليم مملكته، والأحبّ إليه أن يقال: صاحب مالّي لأنّه الإقليم الأكبر، وهو به أشهر.
وهذا الملك هو أعظم ملوك السودان المسلمين وأوسعهم بلادا، وأكثرهم عسكرا، وأشدّهم بأسا، وأعظمهم مالا، وأحسنهم حالا، وأقهرهم للأعداء، وأقدرهم على إفاضة النّعماء.
والذي تشتمل عليه هذه المملكة من الأقاليم: غانة «1» ، وزافون «2» ، وترنكا «3» ، وتكرور «4» ، وسنغانة «5» ، وبانبقوا «6» ، وزرنطابنا، وبيترا، ودومورا، وزاغا «7» ،(4/108)
وكابرا «1» ، وبراغوري «2» ، وكوكو «3» ، وسكان كوكو قبائل يرتان «4» .
وإقليم مالّي (هو) الذي به قاعدة الملك مدينة ييتي، وكلّ هذه الأقاليم مضافة إليه، والاسم المطلق عليه في هذه الأقاليم كلّها مالّي، قاعدة أقاليم هذه المملكة [ذات] «5» المدن والقرى والأعمال (وهي) أربعة عشر إقليما.
حدّثني الشيخ الثقة الثّبت أبو عثمان سعيد الدكّاليّ وهو ممن سكن مدينة ييتي خمسا وثلاثين سنة واضطرب في هذه المملكة أنها «6» مربعة طولها أربعة أشهر وأزيد، وعرضها مثل ذلك تقع جنوب مرّاكش ودواخل برّ العدوة «7» جنوبا بغرب إلى المحيط، وطولها من تولي إلى طوروا (495) وهي على المحيط، جميعها مسكونة إلا ما قلّ وإنّ في طاعة سلطان هذه المملكة بلاد مغزارة التبر يحملون إليه التبر في كلّ سنة وهم كفار همج، ولو شاء أخذهم، ولكنّ ملوك هذه المملكة قد جربوا أنه ما فتح منهم أحد مدينة من مدن الذهب وفشا بها الإسلام، ونطق بها داعي الأذان إلا قلّ بها وجود الذهب ثم يتلاشى حتى(4/109)
يعدم، ويزداد فيما يليه من بلاد الكفار، وأنه لما [صحّ] «1» هذا عندهم على التجريب «2» أبقوا بلاد التّبر بأيدي أهلها الكفار، ورضوا منهم ببذل الطاعة وحمول قرّرت عليهم.
وليس في مملكة صاحب هذه المملكة من يطلق عليه اسم ملك إلا صاحب غانة «3» ، وهو كالنائب له، وإن كان ملكا.
وفي شمال بلاد مالي قبائل من البربر بيض تحت حكم سلطانها وهم: نيتصر، ونيتغراس ومدوسة ولمتونة «4» ولهم أشياخ تحكم عليهم إلا نيتصر فإنهم يتداولهم ملوك منهم تحت حكم صاحب مالي، وكذلك في طاعته قوم من الكفار ومنهم من يأكل لحوم بني آدم، ومنهم من أسلم، ومنهم من هو باق على هذا، وقد ذكر هذا في موضعه.
ومدينة ييتي ممتدة طولا وعرضا تكون طول بريد «5» تقريبا، وعرضها كذلك لا يحيط بها سور وأكثرها متفرقة، وللملك عدة قصور، يستدير بها سور محيط بها، وفرع من النيل يستدير بهذه المدينة من جهاتها الأربع، وفي بعضها يخاض ويمشى فيه عند قلة الماء، وفي بعضها لا يعبر إلا بالمراكب.(4/110)
وبناء هذه المدينة بأياد من الطين «1» مثل جدران بساتين دمشق، وهو أنه يبنى تقدير نصف ذراع بالطين ثم يترك حتى يجفّ، ثم يبنى عليه مثله، ثم يترك حتى يجفّ ثم يبنى عليه مثله هكذا حتى يتناهى، وسقوفها بالأخشاب والقصب، وغالب سقوفها قباب أو جملونات كالأقباء، وأرضها تراب مرمل، وشرب أهلها من ماء النيل وآبار محتفرة، وجميع هذه البلاد مصخرة مجبلة، وجبالها ذوات (496) أشجار برية مشتبكة غليظة السوق إلى غاية تكون منها الشجرة الواحدة تظلّ خمس مئة فارس.
وغالب أقواتهم الأرزّ و [الفوني] «2» وهو دقّ مزغب يدرس فيخرج منه شبيه حبّ الخردل أو أصغر، وهو أبيض يغسل ثم يطحن تم يعجن ويؤكل «3» ، وعندهم الحنطة وهي قليلة، والذرة وفيها لهم قوت، وعليق خيلهم وطعم دوابّهم، وعندهم الخيل من نوع الأكاديش التترية، والبغال كلّها صغار المقادير جدا، وكذلك كلّ دوابّهم من البقر والغنم والحمر ليس يوجد منها إلا ذميم الخلق صغير الحبّة.
ويزرع عندهم شيء اسمه القافي «4» وهو عروق دقاق تدفن في الأرض فتزكو حتى تصير غلاظا طعمها شبيه بالقلقاس لكنّه ألذّ من القلقاس، وهو يزرع في الخلاء فإن اطلع الملك على أنّ أحدا سرق شيئا منه قطع رأسه و [علّقه] «5» مكان ما قطعه، هذه سنّة عندهم يتوارثها كابر عن كابر لا ترخصها مسامحة، ولا تنفع فيها شفاعة، ويزرع عندهم اللوبيا،(4/111)
والقرع، واللّفت، والبصل، والثوم، والباذنجان، والكرنب، ولكن الباذنجان والكرنب قليل عندهم، وتطلع الملوخيّة برية.
وعندهم من الفواكه البستانية الجمّيز وهو كثير عندهم، وتطلع عندهم أشجار برية ذوات ثمار مأكولة مستطابة فيها شجر يسمى نادموت «1» يحمل مثل القواديس في كبرها وفي داخلها شبيه دقيق الحنطة ساطع البياض مزّ لذيذ، ويعمل منه إذا جفّ في الحناء، فيسوده مثل النوشادر، وهو يدّخر عندهم للأكل والخضاب، ومنها شجر يسمى زبيزور تخرج ثمرته مثل قرون الخرّوب يخرج منه شبيه بدقيق التّرمس حلو لذيذ الطعم، وله نوى ومنها شجر يسمى شومي «2» يحمل شبيه السفرجل طعمه لذيذ يشبه طعم الموز، وله نوى شبيه [بغضروف العظم يأكله بعضهم معه، وشجر اسمه فاريتي يحمل شبيه] «3» الليمو (ن) وطعمه شبيه بطعم الكمّثرى بداخله نوى ملحم يؤخذ ذلك النوى وهو طريّ ويطحن فيخرج منه شبيه بالسّمن ويجمد مثله تبيّض به البيوت، وتوقد منه السّرج (497) والقناديل، ويعمل منه صابون، وإذا أريد أن يؤكل ذلك الدهن يحرق بتدبير، وصورة تدبيره أن يوضع على نار لينة ويغطى ويترك إلى أن يقوى غليانه ويبقى الذي يدبره يشارفه مشارفة في اختباره ويرضعه بالماء قليلا قليلا مرات وهو مغطى محترز عليه أن يتناهى على قدر القوة، ثم يترك حتى يبرد، ويستعمل في المأكل بالسمن، ومتى فوجئ بكشف الغطاء فار وطار وتصاعد إلى السقف، وربما انعقد منه نار فأحرقت الدار، وربما زاد فاحترقت البلد، وهذا الدّهن يخرق كلّ جلد وضع فيه ولا يحمله إلا ظروف القرع.(4/112)
ويوجد بها من الثمرات البرية ما هو شبيه بكلّ الفواكه البستانية على اختلاف أنواعها، ولكنها حرّيفة لا [تستطاب] ولا يأكلها إلا السودان، وهي قوت [كثير منهم] «1» .
وعندهم الملح موجود بخلاف الجوانيين والمسامتين لسجلماسة وما وراءها.
وفي صحاريهم الجواميس برية تصاد كالوحوش وصورة صيدهم لها أنهم يحملون من ... «2» الصغار، وما يربى عندهم في البيوت، فإذا أرادوا صيد الجواميس أخرجوا واحدا منها إلى موضع الجواميس لتراه وتقصده وتتآلف به ... «2» التي هي علة الضم، فإذا تآلفت بها رموها بنشّاب مسموم عندهم، ثم يقطعون مواضع السّم، وهو موضع الرّمية وما حوله، ثم يؤكل باقيه.
وأغنامهم ومعزهم لا مرعى لها وإنما هي جلّالات على القمامات والمزابل، وتلد الواحدة من المعز في بطن واحد سبعة وثمانية.
وبصحاريهم أنواع الوحوش من الحمر والبقر والغزلان والنّعام وما يجري مجراها، والفيلة والآساد والنمور وكلّها لا تؤذي إلا من تعرض لها أو تحرش بها، وربما مرّ الرجل بها إلى جانبها فلا تعترضه ما لم يهجها.
وعندهم وحش يسمى ترمّي- بضمّ التاء المثناة والراء المهملة وتشديد الميم- ولا يكون إلا خنثى له ذكر وفرج، مولّد بين الذئاب والضّباع.(4/113)
قال الشيخ سعيد (498) الدكّاليّ:
وقد رأيته بعيني، وهو خنثى قدر الذئب متى وجد في الليل آدميا صغيرا أو مراهقا خطفه وأكله، فأما بالنهار فلا يؤذي ولا له إقدام على الرجل التّمام، وهو ينعر كنعار الثور إذا أراد النّطاح، وهو ينبش الموتى ويأكلهم، وأسنانه كأسنان التمساح مصفّحة ذكر في أنثى.
وفي مجرى النيل عندهم تماسيح كبار هائلة المقادير يوجد منها ما يكون طوله عشرة أذرع وأزيد، قال الدكّاليّ:
وصيد منها تمساح وضع في قلبه رمح طوله عشرة أشبار، ومرارته سمّ، وهي تحمل إلى خزانة ملكهم، قال:
والفيل يصاد في بلاد الكفار المجاورة لهم بالسّحر حقيقة لا مجازا، والسحر بهذه البلاد كلّها [كثير] «1» إلى غاية، وخصوصا ببلاد غانة، وفي كلّ وقت يتحاكم عند ملكهم بسببه، ويقال إن فلانا قتل بالسحر أخي أو ولدي أو بنتي أو أختي، ويحكم على القاتل بالقصاص ويقتل الساحر.
وسلطان هذه المملكة يجلس في قصره على مصطبة كبيرة تسمى عندهم بنبي- بالباء الموحدة والنون والباء الموحدة- على دكّة كبيرة من آبنوس كالتخت يكون قدر المجلس العظيم المتسع، عليها أنياب الفيلة في جميع جوانبها الناب إلى الناب، وعنده سلاحه من ذهب كلّه، سيف ومزراق وتركاش «2» وقوس ونشّاب، وعليه سراويل كبير مفصل من نحو(4/114)
عشرين نصفية لا يلبس مثله أحد، ويقف خلفه نحو ثلاثين [مملوكا] «1» من التّرك «2» وغيرهم ممن يبتاع له من مصر بيد واحد منهم جتر حرير عليه قبة وطائر من ذهب، والطائر صفة [باز] «3» ، يحمل على يساره، وأمراؤه جلوس حوله (و) من تحته [سماطان] «4» يمينا ويسارا، ثم دونهم أعيان من فرسان عسكره جلوس، وبين يديه شخص يغني له وهو سيافه، وآخر سفير بينه وبين الناس يسمى الشاعر، وحولهم أناس بأيديهم طبول يدقون بها، وبين يديه أناس يرقصون (499) وهو يتفرج عليهم ويضحك منهم وخلفه صنجقان منشوران، وقدّامه فرسان مشدودان محصلان لركوبه متى شاء، ومن عطس في مجلسه ضرب ضربا مؤلما، ولا يسامح [أحد] «5» في هذا، وإنما إذا جاءت واحدا منهم عطسة انبطح على الأرض وعطس حتى لا يعلم به، وأما الملك فإنه إذا عطس ضرب الحاضرون بأيديهم على صدورهم.
ولباسهم عمائم بحنك مثل العرب، وقماشهم بياض من ثياب قطن يزرع عندهم، وينسج في نهاية الرّفع واللّطف يسمى الكميصيّا، ومنهم شبيه بزيّ المغاربة، جباب ودراريع بلا تفريج، وتلبس أبطالهم الفرسان أساور من ذهب، فمن زادت فروسيته لبس معها أطواقا، فإن زادت لبس معها خلاخل ذهب، وكلما زادت فروسية الفارس منهم لبسه الملك [سراويل] «6» متسعا، وكلما زادت فروسية البطل منهم يزيد في كبر سراويله، وصفة سراويلاتهم ضيق أكمام الساقين وسعة السّرج، ويمتاز الملك في زيّة بأنه يرخي له عذبة من(4/115)
بين يديه يكون سراويله من عشرين نصفية لا يتجاسر على لبس هذا أحد غيره.
وملوك هذه المملكة يجلب إليها الخيل العراب، وتبذل الأثمان الكثيرة فيها، ومقدار عسكره مئة ألف نفر منهم نحو عشرة آلاف فارس فرسان خيالة، وسائرهم رجّالة لا خيل لهم ولا مركب، والجمال والمراكب عندهم موجودة، ولا يعرف بها ركوب «1» ، و [الشعير] «2» معدوم عندهم بالجملة الكافية، لا ينبت عندهم البتة.
ولأمراء هذا الملك وجنده إقطاعات وإنعامات من أكابرهم من يبلغ ماله على الملك في كلّ سنة خمسين ألف مثقال من الذهب، ويتفقدهم بالخيل والقماش، وهمته كلّها في تجميل زيّهم، وتمصير مدنه، ولا يدخل أحد دار هذا الملك إلا حافيا كائنا من كان، فمن لم يخلع نعليه ساهيا كان أو عامدا قتل بلا عفو، وإذا قدم (500) القادم على الملك من أمرائه أو غيرهم أوقفه قدامه زمانا، ثم يومئ القادم بيده اليمنى مثل من يضرب الجوك «3» ببلاد توران «4» وإيران، فإذا أنعم على أحد بإنعام، أو وعده بجميل، أو شكره على فعل تمرغ ذلك المنعم عليه بين يديه من أول المكان إلى آخره، [فإذا] «5» وصل إلى آخره أخذ غلمان ذلك المنعم عليه أو من هو من أصحابه من رماد يكون موضوعا في أواخر مجلس الملك معدا هناك(4/116)
دائما لأجل مثل هذا، فيذرّ في رأس المنعم عليه، ثم يعود يتمرغ إلى أن يصل بين يدي الملك، ويضرب جوكا آخر بيده كما تقدم ثم يقوم، وأما صورة هذا المشبّه بضرب الجوك (فهي) أن يرفع الرجل يده اليمنى إلى قريب أذنه ثم يضعها وهي قائمة منتصبة ويلقيها بيده اليسرى فوق فخذه واليد اليسرى مبسوطة الكفّ [لتلقي] «1» مرفق اليمنى مبسوطة الكفّ مضمومة الأصابع بعضها إلى جانب بعض كالمشط [تماسّ] «2» شحمة الأذن.
وأهل هذه المملكة يركبون بالسروج العربية، وهم في غالب أحوالهم [في الركوب كأنهم من العرب] «3» ، ولكنهم يبدؤون في الركوب بالرجل اليمنى بخلاف الناس جميعا.
ومن عادتهم أن لا يدفن عندهم ميت إلا إذا كان ذا قدر وحشمة، وإلا فكلّ من سوى هؤلاء ممن لا قدر له، والفقراء والغرباء فإنه يرمى رميا في الفلاة مثل ما ترمى باقي الميتات.
وهي بلاد يسرع فيها فساد المدخورات وخصوصا السمن فإنه ينتن ويجيف في يومين.
قلت: وليس هذا بغريب لأن أغنامهم جلّالات تأكل القمامات والمزابل وبلادهم شديدة الحرّ سريعة [التحلل] «4» .
وملك هذه المملكة إذا قدم من سفر يحمل على رأسه الجتر راكب وينشر على رأسه علم، ويضرب قدامه الطبول والطنابير «5» والبوقات بقرون لهم فيها صناعة محكمة.(4/117)
ومن عادته أنه إذا عاد إليه أحد ممن ندبه في شغل أو مهمّ يسأله عن كلّ ما تمّ له من حال من حين مفارقته له إلى حين عوده (501) مفصلا.
والشكاوى والمظالم تنتهي إلى هذا الملك فيفصلها بنفسه، وفي الغالب لا يكتب شيئا بل أمره بالقول غالبا، وله قضاة وكتاب ودواوين، هذا ما حدثني به الدكاليّ.
وحكى لي الأمير أبو الحسن عليّ ابن أمير حاجب «1» أنه كان كثير الاجتماع بالسلطان موسى ملك هذه البلاد لما قدم مصر حاجّا، وكان هو نازلا بالقرّافة، وابن أمير حاجب والي مصر والقرّافة إذ ذاك، واتحدت بينهم الصحبة، وأنّ هذا السلطان موسى حدّثه بكثير من أحواله وأحوال بلاده ومن يجاورها من أمم السودان، قال:
ومما حدّثني به أن بلاده متسعة اتساعا كثيرا وهي متصلة بالبحر المحيط، فتح فيها بسيفه وجنده أربعا وعشرين مدينة ذوات أعمال وقرى وضياع، وهي كثيرة الدوابّ من البقر والغنم والمعز والخيل والبغال وأنواع الطير الدواجن كالأوزّ والحمام والدّجاج، وأن أهل بلاده عدد كبير وجم غفير، وهم بالنسبة إلى من جاورهم من أمم السّودان المتوغلين في الجنوب كالشّامة البيضاء في البقرة السّوداء، وفي مهادنته أهل منابت الذهب، وله عليهم القطيعة، قال، فسألته كيف نبات الذهب. فقال: يوجد على نوعين. نوع في زمن الربيع عقيب الأمطار ينبت في الصحراء، وله ورق شبيه بالنّجيل «2» أصوله التّبر، والنوع الآخر يوجد في جميع السنة في أماكن معروفة على ضفاف مجاري النيل، فيحفر هناك حفائر، فتوجد أصول الذهب كالحجارة والحصي فيؤخذ وكلاهما هو المسمى بالتّبر، والأول أفحل في العيار، وأفضل في القيمة. قال:(4/118)
وحدّثني السلطان موسى أن الذهب حمى له يجمع له متحصله كالقطيعة إلا ما يأخذه أهل تلك البلاد منه على سبيل السرقة.
قلت: والذي قاله الدكّاليّ إنه إنما يهادى بشيء منه كالمصانعة، ويتكسب عليهم في المبيعات، لأنّ بلادهم لا شيء بها، وقول الدكّاليّ أثبت.
قال ابن أمير حاجب:
(502) وشعار هذا السلطان أصفر في أرض حمراء، (و) تنشر عليه الأعلام حيث يركب، وهي ألوية كبار جدا، وخدمة القادم عليه أو المنعم عليه أن يكشف مقدم رأسه ويضرب بيده اليمنى جوكا إلى الأرض نحو ما يعمل التتار، فإذا احتاج إلى أكثر من هذه الخدمة تمرّغ بين يديه، قال ابن أمير حاجب: وأنا رأيت هذا بالمشاهدة والعيان، قال:
ومن عادة هذا السلطان أنه لا يأكل بحضور أحد من الناس كائنا من كان، بل يأكل دائما وحده بمفرده.
ومن عادة أهل مملكته أنّه إذا نشأ لأحد، منهم بنت حسناء قدمها له أمة موطوءة فيملكها بغير تزويج مثل ما ملكت اليمين، مع ظهور الإسلام بينهم وتمذهبهم بمذهب المالكيّة.
قال ابن أمير حاجب:
هذا مع كون السلطان موسى متدينا محافظا على الصلاة والقراءة والذّكر، قال، فقلت له: إن مثل هذا لا يجوز ولا يحلّ لمسلم شرعا ولا عقلا، [فقال ولا للملوك، فقلت: ولا للملوك] «1» وسل العلماء، فقال: والله ما كنت أعلم وقد تركت هذا [من الآن] «2»(4/119)
ورجعت رجوعا كليا عنه.
قال ابن أمير حاجب:
ورأيت هذا السلطان محبا للخير وأهله، وترك مملكته واستناب بها ولده محمدا، وهاجر إلى الله ورسوله فأدى فريضة الحج، وزار النبيّ صلى الله عليه وسلم وعاد إلى بلاده على أنّه يقرر لابنه الملك، ويتركه له بالكلّية، ويعود إلى مكة المعظمة، ويقيم مجاورا بها، فأتاه أجله، رحمه الله تعالى.
قال ابن أمير حاجب: وسألته إن كان له أعداء (بينه و) بينهم حروب وقتال، فقال: نعم، لنا عدو، وشديدهم في السودان كالتتار لكم، وبينهم وبين التتار مناسبة من جهات منها:
أنهم وساع الوجوه، فطس الأنوف، ولنا ولهم وقائع، ولهم بأس شديد بإصابة رميهم بالنّشّاب، وبيننا وبينهم نوب، والحروب ثارات.
قلت: وقد ذكر ابن سعيد في" المغرب" «1» طائفة الدّمادم «2» الذين خرجوا على أصناف (503) السودان، فأهلكوا بلادهم وهم يشبّهون بالتّتر، وكان خروج الفريقين في عصر واحد «3» ، انتهى كلامه في هذا المعنى.
قال ابن أمير حاجب: سألت السلطان موسى كيف انتقلت إليه المملكة، فقال: نحن أهل بيت نتوارث الملك، وكان الذي قبلي لا يصدق أنّ البحر المحيط لا يمكن الوقوف على(4/120)
آخره، وأحبّ الوقوف على هذا وولع به، فجهّز مئين [المراكب] «1» مملوءة من الرجال وأمثالها مملوءة من الذّهب والماء والزّاد ما يكفيهم سنين، وقال للمسفّرين فيها: لا ترجعوا حتى تبلغوا نهايته [أو] «2» تنفد أزوادكم وماؤكم، فساروا وطالت مدة غيبتهم لا يرجع منهم أحد حتى مضت مدة طويلة، ثم عاد مركب واحد منها، فسألنا كبيرهم عما كان من أثرهم وخبرهم، فقال: تعلم أيها السلطان أنّا سرنا زمانا طويلا حتى عرض (لنا) في لجّة البحر واد له جرية قوية وكنت آخر تلك المراكب، فأما تلك المراكب فإنها تقدمت فلما صارت في ذلك المكان ما عادت ولا بانت، ولا عرفنا ما جرى لها، وأما أنا فرجعت من مكاني ولم أدخل ذلك الوادي، قال: فأنكر عليه، قال: ثم إن ذلك السلطان أعدّ ألفي مركب، ألفا له وللرجال استصحبهم معه، وألفا للزاد والماء ثم استخلفني وركب بمن معه في البحر المحيط وسافر فيه، وكان آخر العهد به وبجميع من معه وانتقل إليّ الملك.
قال ابن أمير حاجب:
ولقد كان هذا السلطان مدّة مقامه بمصر قبل توجهه إلى الحجاز الشّريف وبعده على نمط واحد في العبادة والتوجّه إلى الله عزّ وجل كأنّه بين يديه لكثرة حضوره، وكان هو ومن معه على مثل هذا مع حسن الزيّ في الملبس والسكينة والوقار، وكان كريما جوادا كثير الصّدقة والبر، خرج من بلده بمائة وسق جمل «3» من الذّهب أنفقها في حجّته على القبائل بطريقه من بلاده إلى مصر ثم بمصر ثم من مصر إلى الحجاز الشريف في التوجه والعود حتى احتاج(4/121)
إلى القرض فاستدان على ذمته (504) من التجار بمكاسب كثيرة وافرة جعلها لهم بحيث حصل لهم في ثلاث مئة دينار سبع مئة دينار ربحا، ثم بعثها إليهم بالرّاجح.
قال ابن أمير حاجب:
وبعث لي خمس مئة مثقال ذهبا على سبيل الافتقاد، وأخبرني ابن أمير حاجب:
أنّ المعاملة في بلاد التكرور بالودع، وأنّ التجار أكثر ما تجلب إليهم الودع وتستفيد به فائدة جليلة، انتهى كلام ابن أمير حاجب.
قلت: وقد كان بلغني أول قدومي مصر وإقامتي بها حديث وصول هذا السّلطان موسى حاجا، ورأيت أهل مصر لهجين بذكر ما رأوه من سعة إنفاقهم «1» فسألت الأمير أبا العبّاس أحمد بن الجاكي المهمندار «2» رحمة الله عليه عنه، فذكر ما كان عليه هذا السلطان من سعة الحال والمروءة والدّيانة، وقال:
لما خرجت لملتقاه أعني من جهة السلطان الأعظم الملك الناصر أكرمني إكراما بليغا، وعاملني بأجمل الآداب، ولكنه كان لا يحدثني إلّا بترجمان مع إجادة معرفته للتكلم باللسان العربيّ، ثم إنّه قدّم للخزانة السلطانيّة جملا كثيرة من الذّهب المعدنيّ الذي لم يصنع وغير ذلك، وحاولته أن يطلع للقلعة «3» ويجتمع بالسّلطان فأبى عليّ وامتنع، وقال: أنا جئت لأحجّ لا لشيء آخر وما أريد (أن) أخلط حجي بغيره، وشرع في الاحتجاج(4/122)
بهذا، وأنه أفهم أنه يرى الحضور نقصا عليه لما يضطرّ إليه من تقبيل الأرض أو اليد، وبقيت أحاوله وهو يتعلّل ويعتذر والمراسم السلطانيّة تتقاضاني في إحضاره، فما زلت به حتى وافق، فلما حضر إلى حضرة السلطان قلنا له: قبّل الأرض، فتوقف وأبى إباء ظاهرا وقال:
كيف يجوز هذا، فأسرّ إليه رجل عاقل كان معه كلاما لا نعلمه، فقال: أنا أسجد لله الذي خلقني وفطرني، ثم سجد وتقدّم إلى السلطان فقام له بعض قيام، وأكرمه وأجلسه إلى جانبه، وتحادثا حديثا طويلا، ثم خرج السلطان موسى، وبعث إليه السلطان (505) بعدّة من الخلع الكاملة له ولأصحابه ولكلّ من حضر معه، وخيلا مسرجة ملجمة ولأعيان من معه، وكانت خلعته طرد وحش «1» [بقصب] «2» كثير بسنجاب مقندس «3» مطرز بزرگش «4» على مقترح إسكندريّ «5» ، وكلوتة زركش «6» وكلاليب «7» ذهب و [شاشا] «8» [بحرير ورقم] «9» خليفتي، ومنطقة ذهب مرصعة و [سيفا محلى ومنديلا مذهبا خزّا،(4/123)
وأعلاما] «1» وفرسين مسرجين ملجمين بمراكب ثقل «2» محلاة وأجرى عليه الإنزال والإقامات الوافرة مدّة مقامه، فلما آن أوان الحجّ بعث إليه دراهم [كثيرة وجمالا وهجنا خاصة] «3» كاملات الأكوار والعدد لمراكبه و [هجنا] «4» [أتباعا] «5» لأصحابه ومن حضر معه، وأزواد (اً) جمّة، ور كز له العليق في الطريق، ورسم لأمراء الركب بإكرامه واحترامه، ثم لما عاد تلقيته وأنزلته، واستمرّ على علوفاته وإنزاله، وأرسل إلى السلطان متبركا من هدايا الحجاز الشّريف، فقبله السلطان منه، وبعث إليه بالخلع الكوامل له ولأصحابه والألطاف والثوابي من البزّ الإسكندري والأمتعة الفاخرة ثم عاد إلى بلاده.
قال المهمندار:
ولقد أفاض هذا الرجل بمصر فيض الإحسان، لم يدع أميرا مقرّبا ولا ربّ وظيفة سلطانيّة حتى وصله بجملة من الذهب، ولقد كسب أهل مصر عليه وعلى أصحابه في البيع والشّراء والأخذ والعطاء ما لا يحصر، وبذلوا الذهب حتى أهانوا في مصر قدره، وأرخصوا سعره.
قلت: ولقد صدق المهمندار فإنّه حكى مثل هذا غير واحد، ولما مات المهمندار وجد الديوان فيما خلّفه آلافا من الذّهب المعدنيّ مما أعطاه له باقيا على حاله في ترابه لم يصنّع.
وحدّثني خلق من تجار مصر والقاهرة عمّا حصل لهم من المكاسب والربح عليهم، فإنّ الرجل منهم كان يشتري القميص أو الثوب أو الإزار وغير ذلك بخمسة دنانير (506) وهو لا يساوي دينارا واحدا، وكانوا في غاية سلامة الصّدر والطّمأنينة يجوّز عليهم مهما جوز(4/124)
عليهم، ويأخذون كلّ قول يقال لهم بالقبول والصّدق، ثم ساءت ظنونهم بأهل مصر غاية الإساءة لما ظهر لهم من غشّهم لهم في كلّ قول، وفي تزاحمهم المفرط عليهم في أثمان ما يباع عليهم من الأطعمة والسّلع حتى لو رأوا اليوم أكبر أئمة العلم والدين، وقال لهم إنّه مصريّ امتهنوه، وأساؤوا به الظنّ لما رأوا من سوء معاملتهم لهم.
وحدّثني مهنّا بن عبد الباقي العجرميّ الدليل أنّه كان في صحبة السلطان موسى لما حجّ، وأنّه أفاض على الحجيج وأهل الحرمين سجال الإحسان، وكان في غاية التجمّل وحسن الظنّ في سفره هو ومن معه، وتصدّق بمال كثير، قال:
ونابني منه نحو مئتي مثقال من الذّهب، وأعطى رفاقي جملا أخرى، وبالغ مهنا في وصف ما رآه منه من الكرم وسعة النفس ورفاهيّة الحال.
قلت: ولقد كان الذهب مرتفع السّعر بمصر إلى أن جاءوا إليها في تلك السّنة، كان المثقال لا ينزل عن خمسة وعشرين درهما وما زاد عليها، فمن يومئذ نزلت قيمته، ورخص سعره، واستمرّ على الرخص إلى الآن لا يتعدّى المثقال اثنين وعشرين درهما وما دونها، هذا من مدة تقارب اثنتي عشرة سنة إلى الآن لكثرة ما جلبوا من الذّهب إلى مصر وأنفقوه بها.
قلت: ولقد جاء كتاب من هذا السّلطان إلى الحضرة السلطانيّة بمصر وهو بالخطّ المغربيّ في ورق عريض، السّطر إلى جانب السّطر، وهو يمسك فيه ناموسا لنفسه مع مراعاة قوانين الأدب كتبه على يد بعض خواصّه ممن جاء يحجّ، ومضمونه السّلام والوصية بحامله، وجهّز معه على سبيل الهدية خمسة آلاف مثقال من الذّهب.
وبلاد مالّي وغانة وما معها يسلك إليها من (507) غربيّ صعيد مصر على الواحات «1»(4/125)
في برّ مقفر تسكنه طوائف من العرب ثمّ من البربر إلى عمران يتوصّل منه إلى مالي وغانة وهي مسامتة لجبال البربر في جنوب مرّاكش وما يليها في قفار طويلة وصحار ممتدة موحشة.
وحدّثني الفقيه العلّامة أبو الرّوح عيسى الزّواويّ «1» ، قال:
حدّثني السلطان موسى منسى أن طول مملكته نحو سنة، وبمثل هذا أخبرني عنه ابن أمير حاجب، وأما ما قاله الدكّاليّ فقد تقدم ذكره، وهو أنها أربعة أشهر طولا في مثلها عرضا «2» ، وقول الدكّاليّ أثبت لأن موسى منسى ربما عظّم شأن ملكه.
قال الزّواويّ:
قال لي هذا السّلطان موسى إنّ عنده في مدينة اسمها تكرا «3» معدن النّحاس الأحمر تجلب منه القضبان إلى مدينة ييتي «4» ، قال، وقال: ليس في مملكتي شيء يمكس سوى هذا النّحاس المعدنيّ الذي يجلب فإنه خاصة لا غير ونحن نبعثه إلى بلاد السودان الكفار نبيعه (كلّ) وزن مثقال بثلثي وزنه [ذهبا] «5» ، فنبيع كلّ مئة مثقال من النحاس بستة(4/126)
وستين مثقالا من الذهب وثلثي مثقال، قال:
وقال لي: إن عنده أمما من الكفار في مملكته وهو لا يأخذ منهم جزية وإنما يستعملهم في استخراج الذهب من معادنه، وقال لي: إن معادن الذهب تحفر الجورة عمق قامة أو ما يقاربها فيوجد الذهب في جنباتها وربما يوجد مجتمعا في سفل تلك الحفائر.
وملك هذه المملكة في جهاد دائم وغزو ملازم لمن جاوره من كفّار السودان، وهم أمم لا يستوعبهم الزمان.
قال لي الدكّاليّ:
وأهل هذه المملكة كثير فيهم السحر والسّم ولهم عناية بهما وتدقيق فيهما، وعندهم حشائش وحيوانات يركّبون منها السموم القتالة ولا سيما من نوع السمك، يوجد عندهم ومرارات التماسيح، فإنها سموم لا دواء لها.
وحدّثني الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد بن الصّائغ الأمويّ قال:
حدّثني الوزير أبو عبد الله محمد بن زاغنوه [من] «1» (508) أهل بلدنا المريّة بالأندلس، وهو ثقة من الفقهاء العلماء، قال:
ركبت في مركب لتجارة لي مع جملة تجار من فم الإيلاية وهو مدخل البحر المحيط قاصدين بعض بلاد (برّ) العدوة، فلعبت بنا الريح، و [تقاذفتنا] الأمواج إلى أن عدّينا المكان المقصود، وتمادى بنا الحال إلى أن عجزنا عن الإرساء إلى البرّ، ولم نزل على هذا نتغلغل في المحيط إلى الجنوب إلى أن دفعنا في ظلمات ممتدة إذا أخرج الإنسان بها يده لم يكد يراها، وأيقنا بالهلاك لوقوعنا في الظلمات، ثم لطف الله بسكون الريح فدارينا المركب، ورفقنا به وقصدنا جهة البرّ إلى أن وصلنا إلى البرّ وأرسينا به وخرجنا نطلب الخلاص لأنفسنا، فرأينا(4/127)
أعلام مدينة فقصدناها فوجدنا بها أمة من السودان لما رأونا بيضا عجبوا منا واعتقدوا أنا صبغنا جسومنا بالبياض، فحكّوا جلودنا باللّيف، فلما ظهر لهم أنها خلقة بقي كلّ واحد منهم يتعجب ويتحدثون بذلك بعضهم مع بعض، فأقمنا عندهم فوجدنا غالب أكلهم لحوم الثعابين والحيّات، وهي كثيرة في أرضهم جدا يتصيدونها ويأكلون لحومها ليس بأرضهم نبات ولا مرعى، فأقمنا عندهم مدة حتى خرج منهم ناس إلى بلاد مجاورة لهم في بعض أشغالهم فخرجنا معهم ثم تنقلنا من مكان إلى مكان إلى (أن) وصلنا إلى برّ العدوة.
وحدّثني أبو عبد الله بن الصائغ أن الملح معدوم في داخل بلاد السودان، فمن الناس من يغرر ويصل به إلى أناس منهم يبدّلون نظير كلّ صبرة ملح [مثلها] «1» من الذهب، قال:
وحدّثت أنّ من أمم السودان الداخلة بل لا يظهر لهم «2» بل إذا جاؤوا وضعوا الملح ثم غابوا فيضع السودان إزاءه الذهب، فإذا أخذ التجار الذهب أخذوا هم الملح.
وحكى لي عيسى الزواويّ قال:
حدّثت أنّ رجلا دخل بملح، ووصل إلى مدينة من مدن كفّار السّودان (قال) فأهديت إلى ملكها شيئا من الملح فقبله وبعث إليّ (509) بجاريتين من أحسن السّودان صورة، ثم حضرت عنده بعد أيام فقال: بعثنا إليك بتلك الجاريتين فاذبحهما وكلهما لأنّ لحمهما أطيب ما يؤكل عندنا فلأيّ شيء ما ذبحتهما، فقلت: ما يحلّ هذا عندنا، قال: فأيّ شيء تأكل؟ قلت: لحم البقر والغنم، فبعث ببقر وغنم، قال: وحدّثت أيضا أنّ في بلاد هؤلاء السودان جبلا عاليا لا يمكن الصعود إليه، به أنواع من الفواكه والثمار، ولا سبيل لهم إليها إلا بما ألقت إليهم الرياح مما يتساقط من أوراقها وثمارها.(4/128)
قلت: ولم يذكر هذا عن بلاد الكفار، وإن كان ليس من شرطنا، لكني ذكرته لغرابته وزيادة فائدة، ولأنه يتعلق ببلاد السودان.
وأما ما أقوله فإنّه قد كثر القول عمن يأكل من السودان لحوم الناس، وهم الذين بلادهم متوغلة في غاية الجنوب، ومنهم من الزّنج.
قال الجاحظ في كتاب" البيان والتبيين":
وقد ذكرنا الزّنج وإنهاء ثناياها «1» ، قال «2» : سألت مباركا الزّنجي الفشكار «3» ، فقلت: لم تنزع الزّنج ثناياها؟ ولم [يحدّد (د) ] ناس منهم أسنانهم؟ فقال: أما أصحاب التحديد فللقتال والنّهش، ولأنهم يأكلون لحوم الناس، ومتى حارب ملك ملكا فأخذه قتيلا أو أسيرا [أكله] «4» ، وكذلك إذا حارب بعضهم بعضا أكل الغالب منهم المغلوب، وأما أصحاب [القلع] «5» فإنهم نظروا إلى مقادم أفواه الغنم فكرهوا أن تشبه مقادم أفواههم مقادم أفواه الغنم.(4/129)
الباب الحادي عشر في مملكة جبال البربر(4/131)
(في مملكة جبال البربر «1» ) وبلاد السودان أيضا مثلثة: ثلاثة ملوك [مستقلين مسلمين] «2» بيض من البربر: سلطان أهير، وسلطان دموسة، وسلطان دامكّة.
هؤلاء الملوك الثلاثة البيض ملك أهير ودموسة «3» وتادمكّة «4» (510) ثلاثتهم ملوك مسلمون في جنوب الغرب (الأقصى) بين برّ العدوة مملكة السلطان أبي الحسن «5» وبين بلاد مالّي وما معها، وكلّ واحد منهم ملك مستقل بنفسه لا يحكم أحد منهم على الآخر، وأكبرهم ملك أهير.
وهم بربر زيّهم نحو زيّ المغاربة دراريع إلا أنها أضيق، وعمائم بأحناك، وركوبهم الإبل، ولا خيل عندهم ولا للمرينيّ عليهم حكم، ولا لصاحب مالّي «6» ، وعيشهم عيش أهل البرّ من اللحوم والألبان، والحبوب قليلة عندهم.
وحدّثني الشيخ سعيد الدكّاليّ أنّه مرّ بهم في بعض أسفاره ولم يقم عندهم، وهم في قلة أقوات.(4/133)
وحدّثني الزواويّ أن لهؤلاء البربر جبالا عامرة كثيرة الفواكه، وقال: إن [كلّ ما] «1» بأيدي هؤلاء الثلاثة يجيء قدر نصف ما [لملك] «2» مالّي أو أرجح بقليل، وإنما ذلك أكثر دخلا لقربه من بلاد الكفار، وبها منابت الذّهب، وهو قاهر عليهم، ودخله كثير بهذا السبب وبكثرة ما يباع بمملكته من السلع وما يكتسبه في الغزوات من بلاد الكفار بخلاف هؤلاء فإنّ بلادهم جدبة ولا يد تمتد لهم إلى كسب، وغالب أرزاقهم من دوابّهم، ودون هؤلاء مما بينهم وبين مرّاكش جبال المصامدة «3» ، وهم خلق لا يعدّ وأمم لا تحصى، وهم يفخرون بالشجاعة والكرم، فيهم أعيان الكرماء وبهم تظلّ [سواكب] «4» الدماء، وقد كانوا لا يدينون لسلطان من سلاطين برّ العدوة، ولا يقدر أحد من ملوكها يفتل لهم في غارب ولا ذروة، وقد وصلت الآن إلينا الأخبار بأنهم قد دانوا للسلطان أبي الحسن صاحب برّ العدوة الآن، وقد دخلوا تحت ذيل طاعته، وتقرب كلّ منهم إليه بما فيه وبما في قدر استطاعته، على أنهم لا يملّكون لأحد قيادهم، ولا يسلمون إليه بلادهم، وهم معه على كلّ حال، بين صحة واعتلال، وهذا ما انتهى إلينا من أخبارهم.(4/134)
(511) الباب الثاني عشر في مملكة إفريقيّة(4/135)
(في
مملكة إفريقيّة) هي مملكة عظيمة ولها شهرة عظيمة، صحيحة الهواء، عذبة الماء، وسيعة المدى. كانت في أول منشأ الدولة الفاطمية «1» [مقرّ] «2» ملكهم، طلعت بها شمسهم من المغرب، وظهرت آية المتعجّب، ثم صارت إلى بني باديس «3» ، واستقلوا بأعبائها، وامتدت لهم فيها أيام قضوا بلهنيتها، وبلغوا أمنيتها، ثم كانت في أيام جدود ملوكها الآن «4» ، ذات عزّ(4/137)
وسلطان، امتدّت بها مهابة الأمير أبي زكريّا «1» ، وادّعى بها ابنه المستنصر «2» الخلافة لما غلب على السبعة ملوك المنازلين له من الفرنج، ولم يخرج بنفسه إلى لقائهم، وإنما اكتفى بإخراج سبعة قواد نازلوهم ونصبوا محلاتهم بإزاء محلاتهم «3» وليس هذا مما نحن بصدده.
وإفريقيّة اسم الإقليم، وقاعدة الملك بها مدينة تونس وأضيف إليها مملكة بجاية ومملكة تدلس «4» يكون طولها خمسة و [ثلاثين] «5» يوما، وعرضها [عشرين] «6» يوما، وطولها من تدلس إلى حدود برقة «7» ، وطرابلس أول مدنها مما يلي برقة، وتدلس آخر مدنها مما يلي الغرب الأوسط.(4/138)
وحدّها من الجنوب الصحراء الفاصلة بينها وبين بلاد جناوة «1» المسكونة بأمم من السودان، ومن الشرق آخر حدود طرابلس وهي داخلة من المحدود.
ومن الشّمال البحر [الشماليّ] «2» البحر الشاميّ، ومن الغرب آخر حدود تدلس لجزائر بني مزغنّة «3» آخر عمالة صاحب برّ العدوة، وملوكها الآن من بني أبي حفص «4» أحد العشرة أصحاب محمد بن تومرت «5» أصحاب المغرب.
وحدّثني الشيخ العلامة ركن الدين أبو عبد الله محمد بن القويع القرشيّ التونسيّ «6» أنها بلاد خصب تزرع على الأمطار، ومعاملتها من الدراهم (512) نوعان: أحدهما يسمى القديم، والآخر الجديد ووزنهما واحد، ولكن نقد الجديد خالص [الفضة] ، «7» ونقد القديم(4/139)
مغشوش بالنحاس [للمعاملة] . «1» وإذا قيل: درهم ولم يميز يراد به العتيق، وتفاوت ما بينه وبين الجديد أن كلّ عشرة [دارهم] «2» عتق [بثمانية] «3» [دراهم] «2» جدد، وفي مصطلحهم أنّ كلّ عشرة دراهم من العتق دينار، وهذا الدينار هو دينار مسمى لا حقيقة له كالرائج بإيران والجيشيّ بمصر.
ورطلها ست عشرة أوقية، وزن الأوقية أحد وعشرون درهما من دراهمها، والكيل اثنان:
قفيز وصحفة، فأما القفيز فهو ست عشرة ويبة كلّ ويبة اثنا عشر مدّا قرويا يقارب المدّ النبويّ، وهي ثمانية [أمداد] «2» بالكيل الحفصيّ، والحفصيّ هو كيل قرره ملوكها الحفصيون آباء ملوكها الآن [بقدر مدّ ونصف من المدّ المقدم ذكره] «2» ، وأما الصّحفة فهي عشر صحاف كلّ صحفة اثنا عشر مدّا بالحفصي «4» .
وأوسط الأسعار بها في غالب أوقاتها كلّ قفيز [من القمح] «2» بخمسين درهما من العين، والشعير دون ذلك.
والموجود بها من الحبوب القمح، والشعير، [والحمّص] «2» ، والفول، والعدس، والذّرة، والدّخن، والجلبان، والبسلّة وتسمى بإفريقيّة النسيم «5» ، وأما الأرزّ فمجلوب إليها، وبها(4/140)
من الفواكه العنب والتين كلاهما على أنواع، والرمان الحلو والمزّ والحامض، والسّفرجل، والتفاح، والكمّثرى، والعنّاب، والزعرور، والخوخ أنواع، والمشمش أنواع، والتوت الأبيض والأسود المسمى بالفرصاد، والعين «1» ، والقراسيا، والزيتون، والأترجّ، والليمون، والليم، والنّارنج، وأما الجوز فقليل، وكذلك النخل، وأما الفستق والبندق فلا يوجد، وكذلك الموز، وبها فاكهة أخرى تسمى مصغ دون الجوزة المقشورة الصغيرة وأكبر من البندقة يجيء في زمان الشتاء، وطعمه بين الحموضة والقبض شبيه بطعم السفرجل، ولونه بين الحمرة والصّفرة وله نوى وهو يقطف من شجر (هـ) فجّا ثم يلبّس ويثقّل ويدفّأ [كما يعمل بالموز فينضج ويؤكل حينئذ] «2» .
(513) قلت: وهذا ذكره ابن وحشية في كتابه" الفلاحة النبطية".
وأما قصب السكر فيوجد منه ما قلّ بها ولا يعتصر، وبها البطيخ الأصفر على أنواع، والبطيخ الأخضر، ولكنه قليل ويسمى بها خاصة وبالغرب عامة الدلاع، وبها الخيار والقثّاء، وبها اللوبيا، واللّفت والباذنجان والقرنبيط والكرنب والبقلة اليمانية واسمها بليدس «3» ، والرّجلة «4» [والخسّ] «5» ، والهندباء على أنواع وسائر البقول والملوخية ولكنها قليلة وبها الهليون «6»(4/141)
والصّعتر، والشّمار بريّة كلّها [و] «1» بها الرياحين: الآس، والورد، ومعظمه أبيض، والياسمين، والنّرجس، والنيلوفر الأصفر، والتّرنجان، والمنثور، والمرزنجوش «2» ، والبنفسج، والسّوسن، والزّعفران، والحبق، والنّمام «3» .
وبها من الدوابّ الخيول العراب المشابهة لخيل برقة، والإبل، والبغال، والحمير، والبقر، والغنم، والمعز، وبها الإوزّ ولكن قليل، وأنواع الصيد من الكركيّ ويسمى عندهم الغرنوق، وكذلك الوحش بها الحمر الوحشية، والبقر، والنعام، والغزال وغير ذلك، وغالب سعر لحم الضّأن كلّ رطل إفريقيّ بدرهم عتيق، وبقية اللحوم دونه في القيمة، وفي الربيع يكثر ويرخص غير هذا رخصا كثيرا، والدجاجة الجيدة بدر همين جديدين، وأحوالها مقاربة للديار المصرية في مثل ذلك لقرب المجاورة.
وأما مدنها الكبار، فالقاعدة تونس والمشرقيات على الساحل: سوسة «4» ، والمهدية «5» ،(4/142)
وصفاقس «1» ، وقصر زياد، وقابس «2» ، والمغربيات على الساحل: بنزرت «3» وبلد العنّاب وهي: بونة «4» ، والقلّ «5» ، وجيجل «6» ، وبجاية، وتازروت «7» ، وآزفون، وتدلس وقبلي تونس إلى الجنوب القيروان «8» ، وجنوبيّها بلاد الجريد «9» وأمّها توزر «10» ، وبقربها(4/143)
تقيوس «1» ، وهي ثلاث بلاد ذات نخيل وزيتون، وكامة البهاليل بين توزر وتونس على طريق القيروان (و) قفصة «2» ذات نخيل وزيتون، وبغربي توزر على نصف يوم منها نفطة «3» ، وغربي تونس بعيدا من البحر باجة «4» (514) على يومين منها، وبالقرب خولان على نهر بجردة «5» في جنوبيّهما بغربي تونس جامة «6» ، وتبرسق، وكسرة، وبالقرب من ذلك مما يلي الغرب الأربس «7» ، وشقبناريّة، وفي [القرب] «8» منها مما يلي الغرب أبّة «9» ، وهي قصور مجتمعة نحو مئة وخمسين «10» قصرا، وبالقرب منها على(4/144)
مسيرة يوم قلعة سنان، وهي قصر لا يعرف على وجه الأرض أحصن منه على رأس جبل منقطع عن سائر الجبال [ليس في رأسها ماء إلا المطر بها خمس مراحل نقر في حجر] «1» ، وهو جبل عال يقصر سهم العقّار عن الوصول إليه ويرتقى إليها من سلّم نقر في حجر طوله مئة وتسعون درجة وبأسفلها قصبة بها عين ماء وبها فواكه وثمار.
ومن عمالتها قسنطينة «2» ، وهي بلد (ة) كبيرة متحضرة بها غاية الحصانة والمنعة.
فأما تونس فهي قاعدة الملك وبها مما يليها بجاية قاعدة ملك ثانية، وهي مدينة مسوّرة في وطاءة من الأرض بسفح جبل يعرف بأمّ عمرو، ويستدير بها خندق حصين وثلاثة أرباض كبيرة من جهاتها، وأرضها سباخ «3» ، وبها قصبة وهي القلعة في مصطلح المغاربة هي سكن السلطان، وجميع بناء تونس بالحجر والآجرّ [وأبنيتها] «4» مسقوفة بالأخشاب وتفرش ديار أكابرها بالرّخام، ومنذ خلا الأندلس من أهله وآووا إلى جناح ملوكها مصّروا إقليمها ونوعوا بها الغراس فكثرت متنزّهاتها، وامتدّ بسيط بساتينها على بحيرة من البحر الشاميّ خارجة إلى شرقيّها من فم ضيق.
قال أبو عبيد البكريّ:
دورها أربعة وعشرون ميلا في وسطها جزيرة يقال لها سكلة لا ساكن بها، وربما يركب إليها السلطان ويقطع في المراكب إليها زمان الربيع ويضرب أخبيته بها، ويقيم للتنزّه فيها(4/145)
أياما ثم يعود، على أنه لا ماء فيها ولا مرعى، ولكن لما تشرف عليه من البساتين المستديرة بتلك البحيرة وما فيها من الجواسق المشرفة ومنظر البحر.
وبتونس ثلاث مدارس: السماعية، والمعرضية، ومدرسة الهواء.
وبها الحمامات والأسواق (515) الجليلة، ويعمل بها القماش الإفريقيّ وهو ثياب رفاع من القطن والكتّان معا، ومن الكتّان وحده، وثيابها أمتع من النصافي البغدادي وأحسن، وهو أجلّ كساوي المغرب، وللسلطان بستانان أحدهما ملاصق (أ) رباض البلد اسمه رأس الطابية، والآخر بعيد من البساتين اسمه أبو فهر بينه وبين البلد نحو ثلاثة أميال، والماء مساق إليهما من ساقية زغوان من جبل «1» بعده يومان من تونس، ويدخل القصبة منه فرع وليس لأهل تونس شرب إلا من الآبار أشهرها بئر طبيان، وبالبيوت صهاريج تجمع مياه الأمطار لغسل القماش وغير ذلك.
وأما بجاية «2» فهي مدينة قديمة مسوّرة «3» أضيف إلى جانبها [ربض] «4» أدير على سور ضامّ لنطاق المدينة فصارا به كالشيء الواحد، والرّبض في وطاءة، والمدينة القديمة المتصلة به في سفح جبل «5» يدخل إليها جون من البحر الشاميّ يعبر بالمراكب إليها، وبها عينان اثنتان من الماء إحداهما كبيرة منها شرب أهل البلد، ولها نهر جار على نحو ميلين منها تحفّ به البساتين ليس إلا أن يصبّ في البحر الشاميّ، وبضفتيه بستانان للسلطان(4/146)
متقابلان شرقا وغربا، الشرقيّ يسمى الرفيع «1» ، ويسمى الغربيّ البديع هما مكان فرجته، ومحلّ نزهته، وفيهما يقول محمد بن محمد المكوديّ القابسيّ بديها حين رآهما:
(الكامل)
هذا البديع كما رأيت بديع ... وكذا الرفيع كما عهدت رفيع
هذي معاهد كلّها معشوقة ... والحسن فيها كلّه مجموع
وهي ثانية تونس في الرتبة والحال، وجميع المعاملات والموجودات والأحوال.
ولبجاية حصانة عظيمة ومنعة، ولها رفق كثير بمدخل السفن إليها من البحر.
وبقية مدن إفريقيّة جميعها ممنّعة ممدنة ذوات جوامع ومساجد وحمامات وطواحين وأسواق وديارات سريّة لكنها عاطلة من حلي البرّ والمعروف لا يكاد يوجد بها مدرسة ولا خانقاه ولا زاوية ولا رباط (516) ولا مارستان إلا فاس ومرّاكش وإن لم يبلغا أدنى رتب أمثالهما، ولا تعلّقا بأذيالهما على أنّ الذي بمرّاكش أجود وسيأتي ذكرهما في موضعه.
وحدّثني أقضى القضاة أبو الروح عيسى الزواويّ أن أبواب ملوك إفريقيّة كبيرة فإذا جلس سلطانها جلس حوله ثلاثة للرأي والمشورة، ويجلس دونهم عشرة من أكابر أشياخه، وقد يكون هؤلاء الثلاثة من العشرة المذكورين، وبعد هؤلاء خمسون نفرا «2» فإذا أمر السلطان بأمر بلّغه وزير الجند لآخر واقف وراءه، وبلّغه الآخر الآخر، وبلّغه الآخر لآخر إلى أن يسمع الأمر السلطانيّ من خارج الباب بنقل أناس [عن ناس] «3» كما ذكرنا.(4/147)
ويقف جماعة تسمى الوقافين بأيديهم السيوف حوله وهم دون الخمسين المذكورين في الرتبة.
وأما ركوبه إلى صلاة العيدين أو إلى سفر فهو على ما يذكر يركب السلطان ويمشي إلى جانبه رجلان مقلّدان سيفين رجّالة إلى جانبه يمسك أحدهما بركابه اليمين والآخر بركابه اليسار، ويليهما جماعة رجّالة من أكابر دولته مثل الثلاثة أصحاب الرأي والعشرة الذين يلونهم ومن يجري هذا المجرى من أعيان الجند، وتسمى هذه الجماعة ايربان يمشون حوله بالسيوف، وبأيديهم عكاكيز.
قال الزواويّ:
وربما مشى في هؤلاء قاضي الجماعة، وهو عندهم قاضي القضاة، وقدام هؤلاء الجماعة المشائين نفر كثير من الموجودين (من) أقارب السلطان بسيوف ومزاريق ويسمون بالمشاين «1» ، وقدامهم جماعة جفاوة «2» [وهم عبيد سود بأيديهم حراب في رؤوسها رايات من حرير وهم لابسون جبابا بيضا مقلّدون بالسيوف] »
، وقدامهم عبيد المخزن، وهو اسم لعوام البلد ينادى فيهم ليلة العيد أو ركوب السلطان لسفر فيخرج أهل كلّ صناعة ويبيت بظاهر البلد، فإذا أصبح مشوا قدام كفاوة وبأيديهم الدّرق والسيوف، ومعهم العلم الأبيض المسمى عندهم" العلم المنصور" [محمول] «4» بيد فارس وأهل الأسواق (517) [المسمّون] «5» بعبيد المخزن وحوله كما ذكرنا.(4/148)
وعلى يمين السلطان فارس وعلى يساره فارس هما من أكابر أشياخه من العشرة المقدّم ذكرهم.
وخلف السلطان فارس إليه أمور الأعلام والصّناجق يقال له صاحب العلامات مثل أمير علم، ووراءه أعلام القبائل، ولكلّ قبيلة في علمها ما تمتاز به من الكتابة، والكتابة مثل: لا إله إلا الله، أو الملك لله أو ما يناسبهما، ووراء الأعلام الطبول والبوقات وأصحاب النفير، وخلفهم فرسان يعرفون بمحركي الساقة بأيديهم عصيّ يرتّبون الناس، وهؤلاء هم بمنزلة النقباء.
وخلف هؤلاء العسكر والجند، والفارس الذي على يمين السلطان إليه أمر دقّ الطبول، يقول: دقّ فلان باسم كبير الطبالة.
ويخرج السلطان لصلاة العيدين من طريق، ويعود من أخرى، وهذا هو زيّ ملوك هذه المملكة وترتيبهم في الخروج للعيدين والأسفار، ولا يزال من حول السلطان ممن ذكرنا أنهم يمشون بقدر ساعة ثم يركبون و [يطوف] «1» بالسلطان جماعة يقرءون حزبا من القرآن الكريم، ثم يقف السلطان ويدعو ويؤمن الجند على دعائه، ويؤمن الناس على تأمينه، ويجدّ السلطان والناس السير فإذا كانوا في فضاء كان مشيهم على هذا الترتيب [وإن ضاق بهم الطريق مشوا كيف جاء على غير ترتيب] «2» إلا أنّ السلطان لا يتقدم عليه جنده، فإذا قربوا من المنزلة وقف السلطان ودعا وأمّن على دعائه كما تقدم.
وأعلام هذا السلطان الذي تحمل له سبعة أعلام التي تحمل وراءه الأوسط أبيض وإلى جانبه أحمر وأصفر وأخضر.(4/149)
قال العلامة أبو عبد الله محمد بن القويع: ولا أتحقق كيف ترتيبها.
وقد ذكر ابن سعيد أن شعار سلطان إفريقيّة يوم الجمعة لا يجتمع بأحد بل يخرج عندما ينادي المنادي [بالصلاة] «1» ويشقّ رحبة قصره ما بين خواص من المماليك الأتراك، فعندما يعاينونه ينادون: سلام عليكم نداء عاليا من صوت واحد يسمعه من يكون بالمسجد الجامع، ثم يتقدمه وزير الجند بين يديه في ساباط «2» يخرج هناك للجامع (518) عليه باب مذهب سلطاني، والوزير لا يخرج معه من هذا الباب بل يسبق فيفتح الباب، ويخرج السلطان منه وحده، ويقوم له جماعة الوقافين من أعيان الدولة، ولا يقوم له في الجامع غيرهم، وليس له مقصورة مخصوصة، فإذا انفصل عن الصلاة قعد في قبة كبيرة له في صدر الرحبة، وحضر عنده أقاربه ثم يدخل قصره.
قال: وربما خرج إلى بستان له من أعظم ما تهمّمت ببنيانه الملوك، واحتفلت بغرسه السلاطين، ويخرج في نحو مئتي فارس من شباب أرباب دولته يعرفون بالصّبيان يوصلونه إلى البستان ويرجعون، ويبقى وزراؤه نوابا له وهم ثلاثة: وزير الجند، وهو بمنزلة الحاجب بمصر، ووزير المال وهو المسمّى صاحب الأشغال، ووزير الفضل وهو كاتب السرّ، ومهما تجدّد عند كلّ واحد منهم أمر يطالعه بالمكاتبات فيما يتعلق بشغله المنوط به، ويجاوبهم بما يراه.
قلت: وركوبه إلى البستان في زقاق من قصبته إلى البستان محجوب بالحيطان لا يراه فيه أحد، والمشهور أنّ سلطانها الآن قليل الرّكوب، فإذا ركب إلى البستان لا يكون معه إلا جواريه وخدمه.(4/150)
قال [ابن] «1» سعيد:
ويوم السبت مخصوص عنده لأن يقعد في القبة الكبيرة، يعني بقصبته ويحضر عنده أعيان دولته وأقاربه والأشياخ، والجانب الأيمن لأقاربه والأيسر للأشياخ، وبين يديه وزير الجند ووزير المال وصاحب الشرطة والمحتسب وصاحب كتب المظالم، قلت: هو الموقع على القصص، قال:
ويقرأ- يعني قصص المظالم- الكاتب المعين بما وقع إليه، ويردّ إلى وظيفة القصّة المتعلقة بوظيفته وينفّذ الباقي «2» .
قلت: والمشهور على ألسنة التونسيين أنّ سلطانهم الآن كثير الاحتجاب بخلاف جميع سلفه، قليل الاعتناء بالنظر في مصالح أهل دولته ورعاياه، مقتصر على لذاته مع ما هو عليه من الشجاعة والإقدام وإباء النفس، ويحكى عنه في أوائل طلبه للملك ومنازعته الثوار عليه ما أقرت له به الأبطال، وقرت بزلزلته الجبال، ويدلّ على قوله فعله، وعلى فعله (519) قوله «3» : (البسيط)
انظر إلينا ترانا «4» ما بنا دهش «5» ... وكيف يطرق أسد الغابة الدّهش(4/151)
لا تعرف الحادث المرهوب أنفسنا ... فإنّنا بارتكاب الموت ننتعش
من كفّ ظبي سقاني من مدامته ... لنرتوي عطشا فازداد بي العطش
كأنّ وجنتها من حمرة شفق ... وشعرها غسق بالجسم مفترش
فالقوس حاجبها والسّهم مقلتها ... وإن فررت فإنّ السالف الخلس «1»
فانظر ما نطق به أول هذه الأبيات من إقدامه ثم ما جذبته إليه دواعي النفس من ذكر حبيبه ومدامه.
وأما ما هو ممحض بوصف شجاعته وجلده فهو قوله «2» : (الطويل)
وأزماننا لم تعد عنها «3» الغرائب ... مواطننا في دهرهنّ عجائب
مواطن لم تحك التواريخ مثلها ... ولا حدّثت عنها الليالي الذواهب
وأدلّ ما فيها على فعله قوله في الاعتذار عن هزيمة لاقى بها كلّ عظيمة: (الطويل)
ومن قاتل الصفّين وامتاز مانعا ... وقد نهلت منه الظّبى وهو غالب
قال هذه الأبيات التي هي من قصيدة طويلة عقيب وقعة جرت بينه وبين قواد السلطان أبي تاشفين عبد الرحمن «4» صاحب تلمسان قريب قلعة سنان، وثبت لملاقاة عدوّه ثباتا(4/152)
كثيرا، وقد انهزم كلّ جنده حتى جرح ثلاث جراحات، وأخذ له ولدان «1» من أولاده وحظا (يا) هـ فقال هذه الأبيات، ومدح في آخرها سلطان المغرب «2» وذكر فيها بعثه ولده أبا زكريا «3» في البحر لاستنجاده فمدّ له ساعدا، وسدّد لأعدائه سهما قاصدا «2» ولما أخذت أولاده صبا إليهم واشتاقهم وقال يتسلى بعدهم وفراقهم «4» : (الطويل)
طمت في دموعي للفراق بحور ... وأجّج ما بين الضلوع سعير
وفارقت قلبي يوم فارقت صبيتي ... فلله أحياء خلت وقصور
وقلت له يا قلب صبرا فقال لي ... حنانيك إني نحوهنّ أسير
(520) عسى الله يدني للمحبين أوبة ... فتشفى قلوب منهم وصدور
وكم من قصيّ الدار أمسى بحزنه ... فأعقبه عند الصباح سرور
ثم لجأ إلى بلد العنّاب، ثم إلى بجاية وبعث ولده كما ذكر إلى أبي سعيد عثمان والد سلطانها الآن يستصرخ به فطلع إلى قريب تلمسان لنصرته، ثم ردّ لمرض عرض له، وأوصى(4/153)
ولده السلطان أبا الحسن الآتي ذكره في ذكر برّ العدوة بإتمام ما بدأ به من نجدتهم، ثم إنّ صاحب إفريقّة بعث الشيخ العارف أبا الهادي إلى صاحب تلمسان فأعاد عليه ابنيه أحمد «1» وعمر «2» ومربيته لاعب، وأما الحظايا فأبت له نفسه استردادهن، وهذه الواقعة من الأسباب في أخذ صاحب برّ العدوة لتلمسان، وسيأتي هذا في مكانه «3» ، وهذه فائدة جاءت عرضا في هذا التأليف وإن لم تكن من شأنه.
ونعود إلى ما كنا فيه من ذكر قصص الظّلامات، قال ابن سعيد:
والذي يتولى إبلاغ الظّلامات إلى هذا السلطان يسمى صاحب الرقاعات يأخذ براءات المتظلمين أي قصصهم ويعرضها ويخرج بجوابها، قلت: وهذا بمثابة الدّوادار «4» .
قال ابن سعيد في" المغرب"، وقال العلامة أبو عبد الله بن القويع: فيما حدّثني به أنّ هذا السلطان لا يعلّم على شيء يكتب وإنما يعلّم عنه صاحب العلامة الكبرى، قال ابن القويع:
وفي الغالب يكون صاحب العلامة الكبرى كاتب السرّ، وهذا في الأمور الكبار(4/154)
والعلامة: الحمد لله والشّكر لله، وأما مادون هذا فإنما تكون الكتابة فيه عن وزير الجند يكتب عليه صاحب العلامة الصغرى اسم وزير الجند، ومن خاصة كتب هذا السلطان أن يكتب في ورق أصفر، وأما ما يكتب عن وزير الجند ففي غير الأصفر، ومن عادة المغاربة كلّهم أن لا تطول كتبهم ولا تبعد بين سطورهم كما جرت بها العادة في مصر والشام وإيران.
وسألت الإمام أبا عبد الله بن القويع عن طبقات الجند في هذه المملكة ومبلغ أرزاقهم في ديوانه، فقال:
هؤلاء على ما قرّره لهم المهديّ يعني مهديّهم محمد بن تومرت، هكذا (521) كان عبد المؤمن «1» وأبناؤه لما كان لهم المغرب ليس لهم أمراء ولا أتباع يطلب بعدتهم كعدة الأمراء بمصر، وإنما لهم أشياخ من أعيانهم لا عدة لهم ولا جند ولا المرء منهم إلا بنفسه، وإنما هم أعيان الجماعة ممن يحضر عند سلطانهم الرأي والمشورة.
قلت: وقد تقدم القول عليهم، قال: ولكلّ طائفة مزوار، وهو كبير لهم يتولى النظر في أحوالهم، وأمّا الجند فهم من الموحّدين والأندلسيين ومن قبائل العرب، وقليل ممن هرب وأقام عندهم من مصر، والفرنج هم خاصة السلطان، يقال لهم العلوج لا يطمئنّ إلا إليهم.(4/155)
وأما أرزاقهم فإنّ أعظم بركاتهم يعني أرزاقهم التي بمعنى الإقطاعات بمصر [وهو الجماعة الموحدين والسلطان يأخذ معهم كواحد معهم سواء بسواء] «1» وهذه البركات تفرّق أربع مرات في كلّ سنة، في عيد الفطر تفرقة، وفي عيد الأضحى تفرقة، وفي ربيع الأول المبارك تفرقة، وفي رجب تفرقة، ولا يصيب كلّ واحد من الموحدين في كل تفرقة من هذه التفريقات الأربع إلا أربعون دينارا المسماة فتكون بثلاث مئة درهم عتيقة، ولأكابر هؤلاء مع هذه التفرقات أراض مطلقة تحرث وتزرع لهم، أو تحكر ويكون لهم عشر ما يطلع منها.
قال القاضي أبو القاسم بن بنون:
طبقات الجند بإفريقيّة أشياخ كبار، وأشياخ صغار، ثم الوقّافون، ثم عامة الجند، فأما البركات فهي ما ذكروا، وأما مقدار ما لكلّ واحد فحرث عشرة أزواج بقرا، والزوج هو محرث أربع من البقر لأن الزوج بشعبتين، والشعبة رأسان من البقر.
قلت: وهذه الشعبة هي المسماة في بلد دمشق بالفدان فتكون جملة ما لكلّ واحد من أهل هذه الطبقة العالية في كلّ سنة مئة و [عشرين] «2» دينارا مسماة عنها ألف ومئتا درهم مغربية عنها من تفصيل مصر والشام ستّ مئة وخمسة وسبعون درهما «3» ، وما يتحصل من مغلّ [عشرين] «4» فدانا لعلّه لا يكون بأكثر من مثلها، فيكون تقدير جملة ما لهذا الرجل الكبير في الدولة في كلّ سنة (522) [ألفا] «5» وثلاث مئة وعشرة دراهم(4/156)
[نقرة] «1» ، وهذا بمنزلة أحد الأمراء الألوف «2» بمصر والشام والنوين أمير التومان «3» بإيران، قال:
وأما الأشياخ الصغار [لهم] «4» مع ذلك البركات لكلّ [واحد منهم] «1» محرث خمسة أزواج من البقر، قال: ولعامة الأشياخ الكبار والصغار والوقّافين والجند شيء آخر يفرقه السلطان عليهم يسمى المواساة، وشيء آخر يسمى الإحسان، فأما المواساة فهي غلة تفرّق عليهم عند تحصيل الغلات التي تتحصل في المخازن، وأما الإحسان فمبلغ يفرّق عليهم، وكلاهما من السنة إلى السنة، قال: وهذه الإحسان والمواساة «5» ، ليست بمضبوطة بقدر مخصوص بل على قدر ما يراه السلطان، وبحسب أقدار الناس، وإنما هو شيء ... «6» الجميع ويتفاوت مقدار العطايا بينهم، قال: وأما القبائل ومزاويرهم فمما يناسب هذا، ولكني لا أحرره.
قال ابن القويع:
والجند الغرباء يتميزون في العطيات على الموحّدين، وسألته عن حقيقة معنى الوقّافين ما هم، فقال: هؤلاء لهم خاصّية بالسّلطان يسكنون معه في القصبة يعني القلعة، وهم(4/157)
طبقتان: [وقّافون كبار و] «1» وقّافون صغار وهؤلاء كلّهم يقفون بين يديه في أوقات جلوسه إذا جلس للناس، وهم بمنزلة الأمراء الخاصكيّة «2» بمصر.
وقال لي القاضي أبو القاسم بن بنون:
إنّ سلاطين إفريقيّة ليس يخلعون على من يولّونه وظيفة مثل ما يعمل في مصر، وإنما إذا أرادوا أن يخلعوا على أحد لأمر ما يكسونه، والكسوة [هي] «3» قماش يعطى للإنسان تفاصيل غير مفصلة يتصرف بها كيف أراد.
وسألت الإمام أبا عبد الله بن القويع عن أرزاق القضاة والوزراء والكتاب، فقال: ليست بطائلة، وأما وزير الجند فهو مثل واحد من الأشياخ.
قال ابن بنون:
ومبلغ ما لقاضي الجماعة فهو خمسة عشر دينارا مسماة في كلّ شهر، وكان له معها عليق لبغلته، فقطع العليق، وما أعرف غير هذا وعلى هذا فقس.
[وسألت] «4» (523) ابن القويع عن أرباب الوظائف ما هم؟ فقال:
شيخ الموحّدين كأنّه نائب [السلطان] «5» ، ويسمّى الشيخ المعظّم، وهو يتولى عرض الموحّدين وأمورهم.(4/158)
وأما الوزير فليس له كثير أمر ولا وضع ولا لسائر الوظائف إلا الأسماء، قال أبو عبد الله بن القويع:
وعدّة العسكر لعلّها لا تبلغ عشرة آلاف فارس، وأمّا العرب أهل البادية فعدد جم، ولهم إقطاعات كثيرة، وشوكتهم قوية، ومنهم من يخرج مع السلطان إذا استدعاهم القائم بسلطنتها الآن، فأما [من] «1» قبله [فقلما] «2» كان يسكن شغبهم، أو يسكن أبيهم لانتظام أمر هذا السلطان وما طبع عليه من الشجاعة، ولاعتقاده بالسلطان أبي الحسن المرينيّ صاحب برّ العدوة منذ تزوج بنته «3» أبو الحسن فثبت بنيانه، ونفذ أمر سلطانه، وسيأتي ذكره في موضعه بما فيه دلالة.
وأما زيّ صاحب إفريقيّة القائم الآن في لبسه فهو عمامة ليست بمفرطة في الكبر بحنك وعذبة صغيرة وجباب، ولا يلبس هو ولا عامة أشياخه وجنده خفا إلا في السّفر، وغالب لبسه ولبس أكابر أشياخه من قماش يسمى السّفساري يعمل عندهم من حرير وقطن أو حرير وصوف إما أبيض أو أحمر أو أخضر، وقماش يعرف بالحريري وهو صوف رفيع جدا، وقماش يعرف بالتلمساني مما يعمل بتلمسان، وهو نوعان: مختّم وغير مختّم، منها صوف خالص، ومنها صوف وحرير.
قال ابن بنون:
والسلطان يمتاز بلبس الخزّ ولونه لون الخضرة والسواد، قال: وهذا اللون هو المسمى بالجوزي وبالغبار وبالنفطي.(4/159)
قال ابن سعيد:
وهو مما يخرج من البحر بصفاقس المغرب، وأنا رأيته كيف يخرج، يغوص الغواصون في البحر فيخرجون كمائم [شبيهة] «1» بالبصل بأعناق في أعلاها زوبرة فتنشر في الشمس فتنفتح تلك الكمائم الشبيهة بالبصل عن وبر فيسمط ويخرج صفوه ويغزل ويعمل منه طعمة لقيام حرير وينسج منه ثياب مختّمة وغير مختّمة، وهو أفخر ثياب السلطنة بتونس، ويبلغ ثمن الثوب مئتي دينار من دنانيرهم (524) المسمّاة فيكون ثمن الثوب ألف درهم من نقد مصر والشام.
قلت: وقد رأيت من هذا القماش على بعض أكابر الكتّاب بدمشق، ثم رأيته على بعض سفلة الكتّاب بمصر، وهو المسمّى بمصر والشام بوبر السّمك.
وأما لبس الأشياخ والدّواوين والوقّافين والجند والقضاة والوزراء والكتاب وعامة الناس فعلى زي واحد، لا يكاد يتفاوت العمائم والجباب، ولا يمتاز الأشياخ والوقّافون والجند إلا بشيء واحد لا يكاد يظهر ولا يبين وهو صغر العمائم وضيق القماش.
ولباس أهل إفريقيّة من الجوخ ومن الثياب الصوف ومن الأكسية، ومن الثياب القطن فمن لبس غير هذا «2» مما يجلب من طرائف الإسكندرية والعراق كان نادرا شاذا.
قلت: وقد ذكر ابن سعيد في" المغرب" جملة من ترتيب سلاطين إفريقيّة زمان [سلطانها] «3» عبد الواحد بن أبي حفص «4» مما أذكره هنا لأنّه ليس بالعهد من قدم،(4/160)
والسلطان القائم الآن من أبناء ذلك السلطان، ولو تغيرت الأحوال ما تغيرت [وزالت] «1» بالجملة، فلهذا نذكر ما ذكره ابن سعيد، قال:- وقد ذكر عبد الواحد بن أبي حفص- ما معناه: أنه كان يجلس في يوم السبت لمطالعة ما يقرأ عليه من قصص المتظلمين والسائلين حتى من شكا إليه الغربة سأل عنه، فإن كان مشكور السيرة أطلق له الصّداق وأجرى عليه رزقا.
وذكر في ترجمة ولده أبي زكريا بن عبد الواحد أنّه يلبس الثياب الصوف الرفيعة ذوات الألوان البديعة، وأكثر ما يلبس المختّم الممتزج من الحرير والصوف، وكمّاه طويلان من غير كثرة طول، ضيّقان من غير أن [يكونا مزنّرين] «2» ، وثيابه دون شدّ نطاق إلا أن يكون في الحرب، فإنّه يشدّ المنطقة، ويلبس الأقبية، وله طيلسان «3» من صوف في غاية اللّطافة كأنّه شرب يتردى به، ولا يضعه على رأسه، وله عمامة كبيرة من صوف أو كتان، وفيها طراز من حرير، ولا يعمم أحد من أهل دولته على قدرها في الكبر، قد اختصت (به) وبأقاربه، وليس له أخفاف في الحاضرة (525) ولكنّه يلبسها في السّفر، وله عذبة خلف أذنه اليسرى، وهذه العذبة مخصوصة به وبأقاربه، وجنده مختلفو الأجناس، فمنه الموحّدون الذين أسّسوا له دولة يعني من أصحاب مهديّهم ابن تومرت، قال:
ومن قبائل زناتة «4» المنضافين إليهم أصناف مشهورون بالفروسية وجموع من الغزّ «5» .(4/161)
القدماء الذين هاجروا إلى المغرب في مدة بني عبد المؤمن، ونحو ألف فارس من المماليك الترك ابتيعوا له من مصر، وجميع الجموع من الأندلس والغرب.
وقاعدته في مدينة مملكته يعني تونس أنه يخرج با (كر) كلّ يوم إلى موضع يعرف بالمدرسة، ويبعث خادما صغيرا يستدعي وزير الجند من موضعه المعين له فيدخل عليه رافعا صوته ب" سلام عليكم" من بعد من غير أن يومئ برأسه، ولا يقوم له السلطان، ويجلس بين يديه، ويسأله السلطان عما يتعلق بأمور الجند والحروب، ثم يأمره باستدعاء من يريد من أشياخ الجند أو العرب، أو من له تعلق بوزير الجند، ثم يأمر باستدعاء وزير المال وهو المعروف بصاحب الأشغال فيأتي معه ويسلمان جميعا من بعد على السلطان، وإن كان قد تقدم سلام وزير الجند ولكنّه عادة الدخول إليه، فيتقدم وزير المال إلى بين [يديّ] «1» السلطان، ويتأخر وزير الجند إلى مكان لا يسمع فيه حديثهما، ثم يخرج وزير المال، ويستدعي من يتعلق به، ثم يحضر صاحب الطعام بطعام الجند ويعرضه على وزيرهم لئلا يكون فيه تقصير، ثم يقوم السلطان من المدرسة إلى موضع مخصوص، ويستدعي وزير الفضل يعني كاتب السرّ، ويسأله عن الكتب الواردة من البلاد وعما تحتاج إليه خزانة الكتب، وعما تجدّد في الحضرة وفي البلاد مما يتعلق بأرباب العلم وسائر فنون الفضل والقضاة، ويأمره باستدعاء من يخصّه من الكتاب ويملي عليهم وزير الفضل ما أمر بكتابته ويعلّم عليه وزير الفضل بخطّه، والعلامة هي أن يكتب بعد بسم الله الرحمن الرحيم وصلّى الله على نبيّه محمد وآله اسم السلطان (526) . وفي ذلك المجلس يستدعي السلطان من شاء من العلماء والفضلاء ويتحاضرون محاضرة خفيفة، وإن كان وزير الفضل قد رفع قصيدة لشاعر وافد أو مرتب في معنى استجدّ أمر السلطان بقراءتها عليه إن لم يأمر بحضور الشاعر، وينشدها قائما أو قاعدا على ما يؤهل له، ويتكلم السلطان مع وزير الفضل ومن يحضر في ذلك، ويوقع على كلّ قصيدة بما يراه.(4/162)
قال ابن سعيد:
وقواعد الشعراء أن ينشدوا بين يديه في الأعياد والخروج إلى الأسفار أو القدوم منها.
قلت: ومواضع مما ذكره ابن سعيد قد تقدم شيء منه، وإنما ذكرناه هنا لاتصاله شيئا بشيء، وليؤكد بعضه بعضا، وليعلم في بعض ما بينهما مقدار التّفاوت مما تغيّر مع قرب الزمان واقتفاء الولد لآثار الوالد، وكيف يكون مقدار التفاوت فيما يغيّر بدخول دول الأعداء بعد الأعداء وبعد الزمان.
قلت: وهؤلاء ملوك الموحدين لم يزالوا منذ ملكوا ممد (و) حين تصغي إلى المديح مسامعهم، وتهتزّ به أنديتهم ومجامعهم، ومنهم من له النظم الفائق والنثر الفائت، ولأهل إفريقيّة لطف أخلاق وشمائل بالنسبة إلى أهل برّ العدوة وسائر بلاد المغرب، وما ذاك إلا بمجاورتهم لمصر وقربهم من أهلها ومخالطتهم لهم ولمن سكنها من أهل إشبيلية «1» ، وهم من هم خفة روح وحلاوة نادرة، وهم على كلّ حال أهل انطباع وكرم طباع، وسأذكر لهم عنوان قولهم.
وأما اتصال الأخبار بين السلطان ونوابه، فإنّه إذا كتب الكتاب يجهّز مع من يقع الاختيار على تجهيزه من نوع النقباء أو الوصفان، وهم عبيد السلطان، ويركب ذلك المجهّز على بغل إما أن يكون ملكا له، أو يستعيره من أصحابه، ويسافر عليه إلى الجهة المجهّز إليها، فإذا أعيا بغله في مكان تركه عند الوالي بذلك المكان، وأخذ منه بغلا عوضه يعيره الوالي له، أو يسخره من الرعايا لركوبه إلى أن يبلغ جهة قصده إلى أن يعود، ووالي المدينة هو المسمى عندهم بالحافظ والمحتسب (527) بها، فإذا تجدّد عندهم أمر أعلموا به وزير الجند.(4/163)
ومن عجائب إفريقيّة ما حدّثني به القاضي أبو الروح عيسى الزواويّ وأبو عبد الله السّلالجيّ [قالا] «1» :
إن بين توزر قاعدة بلاد الجريد وبين بشترى «2» من بلاد نفزاوة «3» سبخة عظيمة آخذة في الجنوب إلى الصحراء المجهولة المسالك، (و) في وسط هذه السّبخة مع طرفها الشّمالي طريق سالكة للمارة يسلكها من يطلب السرعة لقريب مداها مع المخاطرة في سلوكها، لأنها طريق قليلة العرض، ضربها الله طريقا يبسا في وسط تلك السّبخة، من خرجت رجله عنها ولو قيد شبر واحد نزلت به قدمه، وهوى في تلك السّبخة وغاص فيها إلى أن يذهب، فلا يبين له أثر، ولا يعرف له خبر، ورفيقه إلى جانبه يراه وهو نازل ولا يقدر (أن) ينفعه بشيء، ولا (أن) يمدّ يده إليه خوفا أن يغوص معه، وهي مهلك عظيم، سباخ من ملح لا ماء [فيها] «4» كم خرج فيها عن تلك الجادة إنسان وفرس وجمل فهلك. قالا:
وعلى جنبتي هذه الطريق أعلام منصوبة من الخشب يمنة ويسرة، والطريق بينهما، ولولاها لهلكت المارة من الجهال بها.
قال السّلالجيّ:
وسمعت أنّ هذه الأعلام نصبها هناك أبو إبراهيم إسحاق بن غانية الميورقيّ «5» الثائر على(4/164)
الموحّدين بإفريقيّة.
وقال لي الزواويّ:
وفي هذه الطريق ضرر آخر على السفّار، وهو أنّه أيّ من وضع إناء ماء حلو على الأرض صار مرا زعاقا لوقته وساعته، و [إذا] «1» احتاج المسافر في ذلك الطريق أن يضع إناءه يعمل تحته شيئا يحول بينه وبين الأرض، قال: وطول هذه المسافة أكثر من نصف نهار، مقداره من الطريق الأخرى السالكة في العمران يوم وليلة، قال الزواويّ:
وفي وسط هذه الطريق الآخذه في السّبخة فرجة يستريح فيها بالقعود السفّار، قال: وأنا سلكتها، ورأيت هذا كلّه بالمشاهدة والعيان.
قال السّلالجيّ:
نحن جئنا إلى أطراف هذه السّبخة، ولم ندخلها خوفا منها.
(528) قال الزواويّ:
والمشهور بين أهل تلك البلاد كلّها أنّ الصحراء التي في جنوب هذه السّبخة ما سلكت ولا تسلك، ولا يقدر أحد على سلوكها.
وحكى لي السّلالجيّ أنّ أهل الجريد يتحدثون فيما بينهم أن رفقة كبيرة وقع أهلها في هذه السّبخة فلم يطلع أحد منهم، ولا عاد منهم ولا عنهم مخبر.
قال أبو عبد الله السلالجيّ:
ووقفت في تونس على شرح القصيدة الشّقراطسية «2» الشهيرة البديعة وتخميسها،(4/165)
وشارحها القاضي الإمام أبو عبد الله محمد بن عليّ التوزريّ المصريّ «1» ، ورأيته قد تكلم في أوائلها عند ذكر ناظم هذه القصيدة، وتعرضه لموطنه ومسقط رأسه وهي شقراطس، وهي- غالب ظني على ما ذكر- من إقليم الجريد، ثم آخر كلامه إلى ذكر توزر، ومدحها وأثنى عليها، وذكر هذه السّبخة والصحراء التي تليها، وقال: إنّ مدينة النحاس بها مما يلي هذه السّبخة.
قال السلالجيّ: وقفت على أول مجلدة من هذا الشرح، وهو يكون في أربع مجلدات كبار بمدينة تونس استعرته من بعض فضلاء أهل توزر لمطالعته، وشارح هذه القصيدة ناقل الحكاية أيضا، وهو مشهور ثقة مأمون معروف من أهل العلم المشاركين في كلّ علم، وله تصانيف كثيرة في الفقه والأدب.
قلت: وهذه القصيدة الشّقراطسيّة في المديح الشريف النبويّ زاده الله شرفا، وأولها:
(البسيط)
الحمد لله منا باعث الرسل ... هدى بأحمد منا أحمد السّبل(4/166)
الباب الثالث عشر في مملكة برّ العدوة(4/167)
(في
مملكة برّ العدوة) هو الآن مجموع لسلطان واحد «1» ، وفيه ثلاث ممالك: فاس وهي أعظمها، ومملكة تلمسان، ومملكة سبتة «2» مع ما أضيف إليه من بلاد الأندلس على ما يأتي ذكره.
وبلاد برّ العدوة بلاد خصيبة ذات زرع وضرع (529) وفواكه.
قال ابن سعيد:
وبرّ العدوة في الثالث والرابع، ثم قال: والإقليم الثالث صاحب سفك الدماء والحسد والحقد والغل وما يتبع ذلك، ثم قال: وأنا أقول: إن الإقليم الثالث وإن كثر فيه الأحكام المرّيخيّة على زعمهم، فإن للغرب الأقصى من ذلك الحظّ الوافر ولا سيما في جهة سوس «3»(4/169)
وجبال درن «1» فما قتل الإنسان عندهم إلا كعصفور، وكم قتل قتيل على كلمة، وبالقتل يفتخرون، ثم قال ابن سعيد:
وأنا أقول: إنّ الغالب على أهل المغرب الأقصى كثرة التنافس المفرط، والمحاققة، وقلة التقاضي، والتهور، والمفاتنة، وليس البخل إلّا في أراذلهم، وفي كثير من أغنيائهم سماحة مفرطة ومفاخرة بإطعام الطعام، والاعتناء بالمؤمّل والقاصد، ولكنّ الأوقاف عندهم على عظمة سلطنة بني عبد المؤمن «2» والمرابطين «3» قبلهم قليلة: لا يقولون بها، ولا يرون الصّدقة على صحيح سويّ ولا بنيان المدارس، وقد بنى المتأخرون بها ما قلّ.
قال أبو عبد الله محمد بن محمد السّلالجيّ: إن بمدينة فاس أربع مدارس وخانقاه واحدة.
قلت: وكان الأليق بهمة أهل تلك الممالك مع أصالتهم في الدين وتمسكهم بسببه(4/170)
المتين لو عمروا المدارس لينتشر العلم، ويتوفر الطالب على النفقة ولا تنقسم أفكاره، وتتشعب في طلب المعاش والاكتساب فيقلّ تحصيلهم. وأقول: فالأمر على ما ذكره ابن سعيد الآن في قلة الأوقاف والمدارس عندهم، وفي جمهورهم البخل وسوء الخلق، إلا الرؤساء، فإنّ الرئيس في كل أفق مطبوع على الرئاسة أو منطبع بها، له أتباع يحتاج (أن) يبسط لهم خلقه ويده، وأن لا يتجنبه من لا يعرفه، وينفر عنه من يعرفه.
وقال ابن سعيد:
والمغرب قليل الصواعق والزلازل.
قلت: ومكان السلطان من برّ العدوة هو بفاس الجديدة (530) المسماة بالبيضاء «1» في دار لا يختصّ فيها بزيادة رفعة على نشز ولا ربوة، وتسمى القصر، وهو عالي البناء ذو قباب علية ضخمة لائقة بالملوك، وغرف مرتفعة ورفارف علوية، ومجالس سلطانيّة، وبداخلة القبة المعروفة بقبة الرّضا، وهي قبة عظيمة الارتفاع خارقة الاتّساع، وقدّامها بركة ممتدة بها مركب لاتساعها وكبرها، وخلفها بركة أخرى مثلها، بها مركب آخر لاتساعها وكبرها، ومساحة البركتين واحدة، والقبة العظمى بينهما، وفي نهاية كلّ بركة قبة لطيفة المقدار، وفي جميع جدر القباب شبابيك مطلة، والبستان حافّ [بالجميع] «2» ، وهو بستان جليل منوّع بصفوف الأشجار والغراس على اختلافها، ويجري الماء إلى قصر السلطان(4/171)
من مكان يعرف بأساليس على بعد نصف نهار أو أقلّ مرفوعا في قناة على قناطر مبنية إليها، وإصطبلاته إلى جوانب قصره لا يسكن معه في قصوره إلا حريمه وفتيانه وهم الخدم الخصيان، ويبيت حوله في ظاهر قصره طائفة من الفرنج، وأناس يعرفون بالعدويين بمنزلة النّقباء، ووصفان السلطان و [البوابون] «1» ولا ينازله في قصره أحد من الأشياخ ولا الجند ولا الغرباء، ومرجع ملوك بني مرين سلاطين برّ العدوة في زناتة، وكذلك مرجع بني عبد الواد سلاطين تلمسان.
فأما بنو مرين فملوكهم في بني عبد الحقّ، ومن قبائلهم: «2» بنو عسكر وبنو وطّاس، وبنو اتكاسن، وبنو بايان، وبنو اتنالفت وبنو بزنت، وبنو برلبان، وأما أتباعهم فهم الحسم وبنو فودود مع ما ينضاف إلى هؤلاء من الأفراد والأنجاد ممن له فروسية وشجاعة وهم كثير جدا فيدخلون في سلك وصفان السلطان أو وصفان أشياخ هذه القبائل المذكورة، وهم بنو مرين غير هؤلاء الأفراد.
والذين كانوا مع بني عبد الواد (531) مغراوة وهم أفخاذ كثيرة، وبنو راشد، وبنو توجين، وبنو مليكس، وبنو سدويكش، ومن بني توجين بنو عبد القويّ، ومن بني عبد القويّ من كان قد تغلب وملك حتى قهرهم بنو عبد الواد وملكوا عليهم، واتخذوهم أعوانا، وقد صار الكلّ لهذا السلطان جندا مع من كان معه من قبائله، ومن جملة عساكره(4/172)
قبائل من العرب كثيرة، منهم بنو حسان «1» ، والعاصم «2» ، وبنو جابر «3» ، والحلوط، ورياح، وسويد، والشّبانات، وبنو عامر «4» ، وبنو سالم، وغيرهم، وله في عسكره من الغزّ مقدار ألف وخمس مئة فارس، ومن الفرنج مقدار أربعة آلاف فارس أو أزيد، وهم يركبون خاصة خلف ظهره، وله علوج مماليكه مسلمون مقدار خمس مئة فارس فرسان رماة، ومن الجند رماة وهم الأندلسيون يرمون بقوس الرّجل أزيد من ألفي فارس، وطائفة كبيرة يقال لهم الوصفان خاصّون بالسلطان، يسكنون حواليه، وينزلون في السفر إلى جوانب محلته دائرين في جملة نواحيه يقال لهم أهل الدوّار، وكلّ جيوشه فرسان أبطال نقاوة لا يطاق هياج أسدهم ومصالتة سيوفهم.
قال لي أقضى القضاة أبو الروح عيسى الزواويّ: إن بعض أبطال الغرب قال: إنه إذا كان منّا مئة ولاقاهم زناتي واحد هربوا قدّامه ولم يتجاسروا على إقدامه ولا ملاقاته «5» .
وقال لي: إذا جاء الزناتيّ مغيرا فلا يعتقد أنّ أحدا يهجم عليه، وأما إذا طمع وأخذ الأخيذة وولى فربما ينال منه غرض.
وقال شيخنا حجّة الأدب ولسان العرب أثير الدين أبو حيّان «6» : إنّ بني مرين يعدّ(4/173)
منهم كلّ فارس شجاع مثل عنترة وأمثاله.
قال لي السّلالجيّ:
مثل أولاد إدريس عامر وحسين ومحمد ومثل ريان بن أبي يعلى وعامر بن عبد الله «1» وعبد الحقّ بن كندوز وعبد الحقّ بن عثمان وأبي رزين ثابت ابن أخيه [وهما] «2» اللذان قتلا مع (532) أبي تاشفين عبد الرحمن العبد الوادي حين دخلت عليه تلمسان «3» ، ومثل عثمان بن أبي العلاء «4» وأولاده وبني عمّه أولاد سوط النساء، وسيف المغراوي الباقي في قيد الحياة الآن وغيرهم من المشاهير، قال: ويقال إنّ كلّ واحد من هؤلاء يعدّ بخمس مئة فارس، وقد صوّرهم الفرنج عندهم في كنائسهم لعظم ما لاقوا بهم.(4/174)
وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد العقيليّ «1» :
إنّ أبا يعقوب «2» أراد إنهاد ألف فارس لجهة من جهة أعدائه فعيّنت خمس مئة فارس فقيل له: وأين تكملة الألف، فقال: يوسف بن محمد بن أبي عياد بن عبد الحقّ «3» يقوم مقام الخمس مئة الأخرى، فكان كذلك، قال، ولقد خالف هذا يوسف بن محمد على أبي ثابت بمراكش، وخرج في نحو أحد عشر فارسا، ثم حمل بمفرده على سبع مئة فارس من العساكر ففرقها، قال:
ومن هؤلاء يعيش بن يعقوب بن عبد الحقّ «4» تعرض له مرة نحو خمس مئة فارس، وهو مرتحل بأهله وعياله من بلاد [هسكورة] «5» إلى مراكش، فلما رأى عياله حداق الفرسان دهشوا فقال لهم: ما عليكم سيروا أنتم، ثم إنّه دفع فيهم ففرق جمعهم، ونجا بجميع أهله(4/175)
وما معه، وقد كانوا أول خروجهم جهلة لا تختطم أنوفهم، قال رجل منهم اسمه أبو عامر عبد الله المعروف بالعجب: «1» ما أسفي إلا كوني لم أكن في زمان عليّ بن أبي طالب حتى ألقاه. «2» وعلى هذا، فقس ما كان في رجال هؤلاء القوم من الشجاعة والجهل.
قال السّلالجيّ:
وهم على شجاعتهم وأزيد، وأما جهلهم فزال من أكثرهم لسكناهم بالحاضرة ومداخلتهم الناس، قال: ولا تعدّ للكثرة فرسانهم، ولا تحصى في الأبطال وقائعهم، قال: وهذا عثمان بن أبي العلاء، وسيف المغراويّ وعبد الرحمن بن يعقوب وأخوه [الوطاسيان] «3» لم يزالوا في الأندلس تشدّ على الفرنج حملاتهم، وتعدّ على قلتهم في كثرتهم فتكاتهم، قال: ولقد أنشأ هذا السلطان من (533) فرسان هذا الزمان ورجالات الدهر من أخمل كلّ مذكور، وغلب على كلّ مشهور، مع ما هم عليه من العلم والتّقى لا يقدر أحد منهم لمهابته على ارتضاع كأس ولا إهمال صلاة، يناقشهم على هذا، ويؤاخذهم به حتى إذا كانوا في السفر وأذّن المؤذنون نزل ونزلوا حتى تقام الصلاة و [يصلوا] «4» جماعة.
وحدّثني أبو عبد الله محمد بن محمد السّلالجيّ أن هذه المملكة طولها ... «5» يوما(4/176)
أو أزيد، وعرضها ثلاثون يوما بالسّير المعتاد، وطولها من جزائر بني مزغنّانة، وهي بلد (ة) حسنة على ساحل البحر الشاميّ واقعة قبالة جزيرة ميورقة «1» بانحراف يسير، وبعدها عن بجاية ستة أيام إلى البحر المحيط، وعرضها من ساحل الزّقاق من سبتة إلى نهاية بلاد البربر المتصلة بالصحراء الكبيرة الفاصلة بين برّ العدوة وبين بلاد السّودان لم يخرج عن مملكة هذا السلطان من برّ العدوة الأندلس وأعمالها، خرج سلطان برّ العدوة الآن عنها للموحدين أصحاب إفريقيّة، وهبها إحسانا منه لكونها كانت قديما لهم، وانتزعها بنو عبد الواد أصحاب تلمسان منهم، وحدّ هذه المملكة من الجنوب الصحراء الكبيرة الآخذة طولا من بلاد البربر إلى جنوب إفريقيّة، ومن الشرق جزائر بني مزغنّانة وما هو آخذ على حدّها إلى الصحراء الكبيرة، ومن الشمال البحر الشاميّ، ومن الغرب المحيط.
وقاعدة الملك بها مدينة فاس «2» ، ثم مرّاكش وهي التي كانت قديما في زمان بني عبد المؤمن قاعدة الملك العظمى، فلما انتقل الملك إلى بني مرين، وتحلّى جيده بعقدهم الثّمين أبو إلّا (أن) يتّخذوا لهم مدينة فاس دار ملك، فاستوطنوها وبنوا معها ثلاث مدن موازية لها على ضفة الوادي المعروف بوادي الجوهر غربا بقبلة.
فأولها المدينة البيضاء، وتعرف بالبلد الجديد بناها أبو يوسف يعقوب بن عبد الحقّ وهو أول من استقلّ بالملك بعد الموحدين لأنّ أخاه [أبا يحيى] «3» أبا بكر ثار عليهم ومات وما(4/177)
استقلّ له سلطان (534) ، ولا استقرّ له من عزّ الملك أوطان.
ثم مدينة حمص ويعرف موضعها بالملاح، بناها ولده أبو سعيد عثمان بن أبي يوسف والد سلطانها القائم الآن، بناها إلى جانب البيضاء.
وربض النصارى المتّخذ لسكنى الطّائفة الفرنجية المختصة بخدمة السلطان، ويطلق على هذه الثّلاث المتّخذات «1» اسم فاس الجديدة.
وهذه المتّخذات كلّها على ضفة الوادي الغربية على ترتيب ما نذكره.
فربض النصارى يقع قبالة فاس القديمة على بعد من ضفة الوادي من غير مسامتة ولا بر، والبيضاء وهي المسماة بفاس الجديدة آخذ (ة) من شمالي ربض النصارى إلى ضفة النهر، ويقع أول عمارة فاس الجديدة قبالة آخر عمالة فاس العتيقة.
وحمص راكبة على النهر بشمال على جانب فاس الجديدة، آخذة إلى ربض النصارى (وقد) عقد على الوادي قناطر، وبنيت حمص على ضفّتيه، وهي فوق الجميع لأنّ الوادي منها ينحدر على ما بيّنته، وهو أنّ هذا النهر ينصب من الجنوب إلى الشّمال، ثم ينعطف على زاوية آخذا من الغرب إلى الشرق [حتى يصير] «2» كأنّه ينحدر من الغرب، وحمص على مجراه هناك، ثم يمرّ آخذا إلى الشرق على حاله فوق فاس الجديدة، ثم ينعطف عليها زاوية إلى الجنوب، ثم ينعطف إلى الشرق جائزا بها.
وهناك فاس العتيقة على الضفّة الشمالية، والقصبة بها في غربيّها مرجلة على الأرض لا(4/178)
تتميز على المدينة برفعة ولا ببناء عال، وتلك المتّخذات كلّها على الضفة الغربية، ويبقى النهر مستديرا بفاس الجديدة من جانبي الشّمال على المجرى المركبة عليه حمص، ومن الشرق حيث انعطف النهر [عند] «1» فاس العتيقة، وهذا الوادي هو متوسط المقدار يكون عرضه في المكان المتسع قريب أربعين ذراعا وفي المضايق دون هذا، وربما تضايق إلى خمسة عشر ذراعا وأقلّ من ذلك، وعمقه في الغالب يقارب قامة رجل، وعليه النّاعورة المشهورة برفع الماء إلى بستان السلطان المعروف بالمصارة، وهو بستان جليل (535) ، له فيه قصر جليل جميل، وهذا البستان خارج المدينة الجديدة، وهذه الناعورة مشهورة الذكر يضرب بها المثل، ويتحدث بها الرّفاق.
وفاس العتيقة ذات عيون جارية، فيقال إنّ فيها أربع مئة عين سارحة.
قال الإمام أبو عبد الله العقيليّ «2» :
إنّها ثلاث مئة وستون عينا معدودة، والماء مسلّط على ديارتها ومساكنها، وأما المتّخذات فإنها على علو لا عيون بها، ولا يحكم الوادي عليها، وجميع أرض فاس العتيقة مجبلة غير مستوية، وأما المتّخذات فمستوية، وعلى كلّ من عتيقها وجديدها أسوار دائرة محصنة ذوات بروج وبدنات، وجميع أبنيتها من الحجر والآجرّ والكلس، موثقة البناء، مشيدة الأركان، وتزيد فاس الجديدة على فاس العتيقة في الحصانة والمنعة، والعتيقة بسور واحد من الحجارة، والجديدة بسورين من الطين المفرغ بالقالب من التراب والرمل والكلس المضروب، وهو أشدّ من الحجر، ولا تعمل فيه المجانيق ولا تؤثر فيه.(4/179)
ويلي القصبة القديمة مخازن الغلال داخلها المطامير، وهي مجموعة في مكان واحد، يستدير بها سور منيع، عليه باب وغلق، ويسمى هذا الموضع بالمرسى القديم.
وأبنية فاس ومتّخذاتها جميعها جليلة مفخمة وإن كانت لا تلحق بمرّاكش فيما كانت عليه من عظمة مبانيها وفخامة مغانيها، وهو باق منه كليل على ما كان، وسيأتي ذكرها في موضعه.
وبفاس العتيقة داخل سورها جنائن ورياض ذوات أشجار ورياحين في دار الكبراء وبيوت الأعيان، وبها أرحاء كثيرة دائرة على الماء، قال السّلالجيّ:
تقارب أربع مئة رحا، وبكلّ من فاس القديمة وفاس المجدّدة المسماة بالبيضاء وحمص الجوامع والمساجد والمواذن والحمامات والأسواق، فأما المدارس والخوانق والرّبط فما خلت صحائف حسنات أهل المغرب من أجورها إلا النزر اليسير جدا.
وبفاس العتيقة مارستان، وعمائر العتيقة كما قدمنا (536) القول فيه بالآجرّ، فأما المتّخذات فغالبها بالقالب من نسبة أسوارها، وسقوفها بالأخشاب، وربما قرنصت بعض السقوف بالقصدير والأصباغ الملونة، وتفرش بالرّخام دياراتهم وبالزّيلخ «1» وهو نوع من الآجرّ [مدهون بدهان ملون] «2» كالقاشاني بأنواع الألوان البيض والسود والأرزق والأصفر والأخضر وما يتركب [من] «2» هذه الألوان وغالبه بالأزرق الكحلي، ومنهم من يتخذ منه وزرات لحيطان الدور، وأما دور هؤلاء فتفرش بآجر يسمى المزهري.(4/180)
ولأهل فاس ولع ببناء القباب فلا تخلو دار كبير (ة) في الغالب من قبتين أو أزيد، وصورة تفسير أبنية دورهم مجالس متقابلة على عمد من حجر وآجرّ، ورفارف مطلة على صحن الدار، وقدّامها طفافير يجري إليها الماء، ثم يخرج إلى بركة في وسط الصّحن، وتسمى البركة عندهم صهريجا، وغالب أعيانهم يعملون لهم حمامات في بيوتهم أنفة من الدخول مع عامة الناس، لأنّ حماماتهم صحن واحد لا خلوة فيها تستر بعض الناس من بعض، ولهم تأنق في البناء، و [همم لا تقصر] «1» بهم عن الغاية فيه.
قلت: وثمّ فائدة لا بأس بذكرها والتنبيه عليها، ذكرها ابن سعيد في" المغرب"، وهي أن فاسا القديمة هي أيضا مدينتان، أقدمهما المعروفة بمدينة الأندلسيين بنيت في زمان إدريس ابن عبد الله الحسنيّ «2» أحد خلفاء المغرب، ثم المعروفة بمدينة القرويين «3» بنيت بعدها.
قلت: وهاتان المدينتا (ن) هما المعبّر عنهما الآن بفاس العتيقة، فجملة فاس الآن ما يذكر: مدينة الأندلسيين ومدينة القرويين، ومدينة البيضاء، ومدينة حمص، وربض(4/181)
النصارى، والقصبة والذي يطلق على الجميع فاس القديمة، ولجميع الأندلسيين والقرويين وفاس الجديدة ولجميع البقية، وهي البيضاء، وحمص، والربض، ويطلق على الجميع اسم فاس، وقد ذكر ابن سعيد أنها إنما سمّيت [بفاس] «1» لأنهم لما شرعوا في بناء أساسها وجدوا فأسا فسموها به.
وقد ذكر ابن سعيد فاسا، فقال:
هي متوسطة بين مدن المغرب يعني الداخلة (537) من مرّاكش وسبتة وسجلماسة وتلمسان عشرة أيام.
قلت: ولتوسطها صلحت أن تكون قاعدة الملك ليقرب الملك من جميع نواحيه.
قال ابن سعيد:
ولها جنات كثيرة وزروع وضروع وخيرات، وعلى نهرها الأعظم الغربيّ نحو ثلاثة آلاف رحا، وعلى حافته القرى والضياع والمدن الجليلة، وهي تشبّه بدمشق وبغرناطة، والجبال تكتنفها، وهي ممتدة بنفسها، ونهرها يلاقي نهر وادي سبو «2» ، وهو أعظم أنهار المغرب يصبّ في المحيط بين سلا «3» وقصر عبد الكريم «4» ، وفوهته هناك متسعة، وأمواجه مضطربة، وهي أكثر مياها من دمشق ومن غرناطة.(4/182)
قال ابن سعيد:
ولم أر قطّ حمامات في داخلها عين تنبع إلا بها، وأثنى الشريف الإدريسيّ «1» في أخباره على مالكها ومآكلها ومطاعمها، ولأهلها اليد الطّولى في صناعة المخروطات من الخشب والنحاس، وهي تشبّه بدمشق في البساتين، وأهلها يشبّهون بأهل إسكندرية في المحافظة على علوم الشريعة وتغيير المنكر والقيام بالنّاموس، وفي عامتها الزعارة والمفاخرة بالقتل، وبها بستان ابن خيدن يشقّه نهر فاس، قال ابن سعيد:
وما [رأى] «2» أحد ما أنفق فيه من الأموال بين بنيان ونجارة وزخرفة وغرس، ثم قال:
وفي فاس وظاهر من الإيوان ما يفوق به غيرها من البلدان، وقد قال ابن منقذ «3» رسول الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى المنصور بن عبد المؤمن «4» رحمهما الله في رسالته(4/183)
المغربية: ولقد أخرجوني إلى بستان بفاس يقال له البحيرة، أتفرج فيه، ضمانه خمسة وأربعون ألف دينار، [وفيه بركة ذرع كلّ جانب منها مئتان] «1» وستة عشر ذراعا بالمرفق، ويكون دور البركة ثماني مئة ذراع وأربعة وستين ذراعا، وعندهم ما هو أكبر من ذلك.
والذي حكى لي السّلالجيّ أن أكثر عمائر المتنزهات في البساتين بها خفيفة الآن (538) [لا] «2» مبالغة لها ولا كلفة فيها، وقال: أما قول ابن سعيد، [إنّ على ضفة النهر ثلاثة آلاف رحا لا حقيقة له] ، «3» ولا [بعضه] «4» إلا ما تقدم ذكره.
وفاس وخيمة البقعة، ثقيلة الماء، يعلو وجوه سكانها صفرة، ويحدث لأجسادهم [كسل] «5» وفترة.
وقواعد الملك بهذه المملكة ثلاث، وهي: فاس وهي قاعدة الملك الثالثة، فأما سبتة، فإنا وإن كنا ذكرناها مملكة، وصدّرنا بها هذا الفصل بالممالك فإنّها ليست لملوك بني مرين بقاعدة، ولا ينظر إليها عندهم بعين الاحتفال، وأما كوننا ذكرنا هنا مرّاكش ولم نذكر (ها) في صدر هذا الفصل في الممالك فلأنها و [فاسا] «6» ذات مملكة واحدة، وإنما التقدمة اليوم لفاس، فلم يبق لذكرها معنى، وأما ذكرها هنا فلأنها ملحوظة عند ملوكها، يعدّونها بعد فاس.
وأما تلمسان: فمملكة تمادى الأمر عليها، وهي مستقلة بنفسها، وقد استضافها هذا(4/184)
السلطان إليه فصارت له قاعدة ثالثة.
وأما المدن الكبار بهذه المملكة فهي اثنتان وأربعون مدينة، القائم فيها هذا السلطان عن آبائه ست وعشرون مدينة «1» وهي: فاس، ومرّاكش، وأغمات «2» ، وآسفي «3» ، وآنفا «4» ، وآزمّور «5» ، وتيط «6» ، وسلا، وأزيلا «7» ، والعرائش «8» ، وطنجة، والقصر الصغير «9» ،(4/185)
وسبتة، وبادس «1» ، وتيجيساس «2» ، وعصاصة وهي المسماة باللدية البيضاء، و [قصر عبد الكريم] «3» ، وتازا «4» ، وصا، وسجلماسة، و [تطاوين] «5» ، ومليلة «6» ، والمزمّة «7» ، وتازوطة، ومكناسة «8» ، والمستجدّ لهذا السلطان عند فتحه بسيفه لمدينة تلمسان وقتل(4/186)
ملكها أبي تاشفين عبد الرحمن بن أبي حمو عبد الوادي «1» فهو تسع عشرة مدينة «2» ، وهي: تلمسان، ووجدة «3» ، ومديونة، و [ندرومة] «4» ، وهنين «5» ، ووهران، وتيمزغران «6» ، وبرشك «7» ، وشرشال «8» ، وتونت، ومستغانم «9» ، وتنس «10» ، والجزائر، والقصبات، ومازونة «11» ، وتاحجحمت، ومليانة «12» ، والمدية «13» ، وأما صفروي «14»(4/187)
وهي مما ورثه عن أبيه فهي قرية كبيرة لا مدينة، (539) [وكذا] «1» الطحا وتيمزّوعت مما فتحه، فمن عدّها في المدن جعل العدة خمسا وأربعين مدينة «2» ، وإلا فالصحيح ما بيناه، هذا ما تملّكه هذا السلطان مما على جنوب البحر الشاميّ من أول مخرج بحر الزّقاق المحيط إلى آخر عمالة جزائر بني مزغنّانة مع طول البحر وما يليه في الجنوب إلى الصحراء الكبيرة.
وله بالأندلس الجزيرة الخضراء، ورندة، ومربلّة، وما فتحه بجيوشه المجهزة بها فهو بلد طريف، وجبل الفتح فتكون جملة المدن الكبار المنتظمة في مملكته ثمانيا وأربعين مدينة بما لها من المعاملات والرّساتيق والقرى والضياع والقلاع والحصون والبوادي، كلّ هذا بيد سلطانها القائم الآن يتصرف تصرف الاستقلال فيه، وبقية الأندلس لولا جيوشه مع الله تعالى لما بقيت، وقد كان على ملكها للفرنج في كلّ سنة أربعون ألف دينار، فمذ أجال بالأندلس خيله قطع تلك القطيعة، وأنعش بها رمق الإسلام.
فأما إفريقيّة فقد نبهنا فيها على أنّه لولا إنجاد هذا السلطان لصاحبها على بني عبد الواد وعلى ذعّار العرب وثوار أهل بيته لما ثبتت له قدم، وقد ذكرنا أنّه أعاد عليهم مدينة تدلّس وبلادها، وكان قد أخذها بنو عبد الواد منهم.
وحدّثني غير واحد من أهل إفريقيّة أنّ صاحبها ما بعث بنته «3» إلى السلطان أبي الحسن المريني صاحب برّ العدوة إلا ليبقي عليه ملكه، وقد كان بعث بمفاتيح بجاية، وأشهد على نفسه أنه خرج عنها للسلطان المرينيّ، ومن وفائه أنه ردّها عليهم وصرفها(4/188)
إليهم، ولم يطمع لهم في شيء من بلادهم، بل أعاد لطارفهم وتلادهم مع المساعدة بالإنجاد حتى استولى على عدوّهم بالقتل، وتملك جميع بلاده كما قدمنا.
ونحن وإن كنا ذكرنا إفريقيّة بذاتها مفردة بسلطان، فإنها في الحقيقة جزء من مملكة صاحب إفريقيّة فيها كالنائب له، وإنما صاحب برّ العدوة ينظر إليه بعين الإجلال لكونه بقية الموحدين، وهم أهل بيت ملك، ولهم أصالة السلطنة، وصاحب إفريقيّة إنما اشتدّ بمصاهرته له، وبهذا تمّ له في إفريقيّة (540) سلطانه، وانكفّت أطماع العرب عنه بعد أن استخفوا في إفريقيّة بالسلاطين، وهان عليه أمر الأمراء، وكانوا بأيديهم تتولى الملوك وتسمن السلطنة وتهزل. فأما السبب الباعث لصاحب إفريقيّة على إرسال بنته إلى هذا السلطان أبي الحسن المرينيّ فهو أنّ سلطان بني عبد الواد صاحب تلمسان «1» كان قد حاصر بجاية، ونزل عليها، ونازلها وضايقها، ولم يطق صاحب إفريقيّة دفعه فأراد تأكيد معاضدة المرينيّ له، فزوجه ابنته في أيام أبيه أبي سعيد عثمان، وبعث إليه في البحر يستنجده، فخرج لإنجاده ثم مات، وأوصى ابنه [أبا] «2» الحسن بإتمام النجدة لهم، فلم يزل على محاصرة تلمسان، حتى كان من فتوحه لها ما كان.
وحدّثني من له إطلاع على ما حدّثني به، قال: وكان صاحب إفريقيّة مع انقياده إلى المرينيّ وعداوته لسلطان بني عبد الواد وقيام المرينيّ على عدوّه في هواه لا يؤثر في الباطن أنّ المرينيّ يظفر بصاحب تلمسان عدوّه، ليكون له به شغل عن قصده وانتزاع إفريقيّة منه لعلمه أنّ تلمسان حجاب بينهما، وأنّه لا طاقة له بالمرينيّ ولا قبل له به، ويحقّ له الخوف فإنّه في قبضته متى أراد.(4/189)
قلت: ومع ترامي صاحب إفريقيّة للمرينيّ وادعاءاته له لا يخطب له على منابره، ولا تضرب السّكّة باسمه، ومع اقتدار المرينيّ عليه وكونه لا يعدّ إلا كأحد نوابه ما طلب هذا منه، ولقد قال أبو الحسن المرينيّ في كتابه الوارد إلى حضرة السلطان بمصر مخبرا بفتوح تلمسان إنّ مملكته اتصلت من البحر المحيط إلى برقة، وهذا يؤكد ما قلناه من أن إفريقيّة كجزء من بلاده وأن صاحبها كالنائب له لأنّه قال إن مملكته إلى برقة، وإفريقيّة هي داخلة في هذا الحد، وهذه المملكة المجتمعة لهذا السلطان أبي الحسن فإنها هي الغرب بمجموعه، منها ما هو بيده، ومنها ما هو بيد ملوك في طاعته، وحيث يقال اليوم صاحب الغرب، فهو المراد، ولقد كان الناس زمان أبيه في جور حتى (541) ولي فبسط بساط العدل، وحمل على محجة الإنصاف، وأبطل المظالم و (ضرب) على يد كلّ ظالم، وأسقط المكوس، ولم يدع إلا الخراج والزكاة والعشر، وما يوجبه موجب طلب الشرع، وحلّ عقد (ة) الضمان، وكانت سببا للظلم والطلب المجحف، وكان يقال إنه بعد أن حلّ البلاد من الضّمان تنقص الأموال فزادت، وأدلّ الله بالعدل من البركات أضعاف ما كان.
قال أبو عبد الله السّلالجيّ: أما ما ازداد وتثمّر فلا أعلم كم هو، وأما ما كان في عقدة الضمان في زمان السلطان أبي سعيد والد هذا السلطان خارجا عما كان يؤخذ من أصحاب الماشية من الإبل والبقر والغنم فهو تفصيله:
فاس: مئة وخمسون ألف مثقال.
مرّاكش: مئة وخمسون ألف مثقال.
سبتة: خمسون ألف مثقال.(4/190)
آسفي: خمسة وعشرون ألف مثقال.
أغمات: خمسة وعشرون ألف مثقال.
آنفا: أربعون ألف مثقال.
آزمّور: عشرون ألف مثقال.
طنجة: ثلاثون ألف مثقال.
بادس: عشرة آلاف مثقال.
مكناسة: ستون ألف مثقال.
صفروي: ستة آلاف مثقال.
سجلماسة ودرعة «1» : مئة وخمسون ألف مثقال.
[تازا] «2» : ثلاثون ألف مثقال.
عصاصة ومليلة والمزمّة: ثلاثون ألف مثقال.
تيط: خمسة آلاف مثقال.
تيجيساس: خمسة آلاف مثقال.(4/191)
% قال السّلالجيّ: وهذا الضمان كان جاريا على جميع المجابي ما كان يستأدى من وجوه الخراج والزكاة والموجبات والمكوس خارجا عن عداد المواشي وغلات المجاسر والحصون والقلاع والمجاسر وهي القرى، قال:
وأما تطاوين، والقصر الصغير، وصا، فإنّها كانت بكفلها لا يتحصل شيء منها، قال:
هذا المبلغ هو الذي كان يجري عليه الضمان، وقد كان يزيد وينقص باختلاف الأحوال والأوقات، وإنما هذا هو الغالب، ولا كثير تفاوت فيما يزيد وينقص منه، قال:
والذي استفتحه الآن (542) لا يقصر عن نظر الثلاثين فإنما يقصر شيئا يسيرا، لأن تلمسان مملكة جليلة وسيعة المدى كثيرة الخيرات ذات حاضرة وبادية وبرّ وبحر.
وسألت السّلالجيّ عن عدّة العسكر لاختلاف الأقوال فيهم، فمن مكثر إلى غاية، ومن متقارب، وكان ابن جرار قد قال إلي: إنهم مئة ألف وأربعون ألفا، قال السّلالجيّ:
الذي نعرفه قبل فتح تلمسان فما كانت تزيد جريدة جيشه المثبتين في الديوان على أربعين ألف فارس لا غير، غير حفظة المدن والسواحل، وكان يمكنه إذا استجاش لحرب أن يخرج في جموع كثيرة جدا لا تنحصر بعدد ما، ويكون الآن قد زاد على ما أعرفه مثله لاستجداد تلمسان له، وهي مملكة كبيرة، وسلطنة جليلة تكون قريب الثلاثين مما كان بيده، ولطاعة أمم من أهل الجبال والأطراف، وقد كانوا يعصب رؤوسهم التيه، ويجنح بهم العصيان، وقد تثعلبت له اليوم آسادهم، وأصحرت له وعولهم.
قال العقيليّ:
أما جيشه الآن فيكون مئة وأربعين ألفا غير من يستجيش به.
وسألت السّلالجيّ عن مقدار عمارة فاس عتيقها وجديدها، فقال:(4/192)
تكون قدر ثلث مصر والقاهرة وحواضر هما لكن [عالمها] «1» أقلّ، وبالغ في وصف دياراتها وأوطانها، وما اشتملت عليه بساتينها المنوعة الثمار المطردة الأنهار، وما بها من الرّخاء الدائم والأمن والدعة، فسألته عن معاملاتها وأسعارها، فقال:
المثقال الذهب بمائة وعشرين درهما من الدراهم الصغار، وهي ستون درهما من الكبار، لأنّ كلّ درهم من الكبار بدرهمين من الصغار، وكلّ درهم من هذه الدراهم الكبار يكون نظير درهم أسود في مصطلح أهل مصر، والدرهم الأسود بمصر هو ثلث درهم نقرة من معاملة مصر والشام، قال السّلالجيّ:
وكلّ ثلاثة كبار بدرهم واحد نقرة من معاملة مصر والشام، هذا على جهة التقريب لا التحقيق.
وأما الدراهم الصغار (543) فكلّ درهم منها نصف درهم كبير، وهو نصف درهم أسود يكون سدس درهم نقرة من معاملة مصر والشام، وحيث يقال درهم ويسكت، لا يراد به إلا الدرهم الصغير، وهو سدس درهم إلا بمرّاكش وما جاورها وقاربها (فإنه) حيث قيل درهم لا يراد به إلا الدرهم «2» الكبير بيض على الصغير، «3» هذا في مرّاكش وعملها وما قاربها خاصة دون بقية برّ العدوة على الإطلاق.
والرّطل هو نظير رطل إفريقيّة سواء على ما تقدم ذكره، وأما الكيل فأكبره الوسق، ويسمى الصّحفة، وهو ستون صاعا من الصّاع النبويّ محررا، قال:
وأما الأسعار، فإن أواسط الأسعار كلّ وسق قمح بأربعين درهما من الصغار، والشعير دون(4/193)
ذلك، وكلّ رطل لحم بدرهم واحد من الصغار، وكلّ طائر من الدجاج بثلاثة دراهم من الصغار، هذا كلّه من المتوسط بالسعر المتوسط في غالب الأوقات.
وبرّ العدوة به من أرزاق الحبوب القمح، والشعير، والفول، والحمص، والعدس، والدّخن، والسلت وغير ذلك إلا الأرزّ فإنّه قليل، وإن ازدرع في بعض الأماكن من برّ العدوة، ولكنّه يجلب إليهم من بلاد الفرنج، وما لهم نهمة في أكله ولا عناية به، ويزرع به السّمسم، ولكنه ليس بكثير لا يعتصر منه بالغرب شيرج، ولا يأكل الشّيرج منهم إلا من وصفه له الطبيب، وإنما أكلهم عوضه الزيت ومزورات الضعفاء، وهم يعملون الحلوى بالعسل والزّيت.
وبها أنواع الفواكه المستطابة اللذيذة المتعددة الأنواع والأجناس من النخل والعنب، والتين، والرمّان، والزيتون، والسّفرجل، والتفاح على أصناف، والكمّثرى كذلك، ويسمى ببرّ العدوة الإنجاص كما يسمى بدمشق، والمشمش، والعين «1» والبرقوق، والقراسيا، والخوخ غالب ذلك على عدة أنواع، وأما التوت فقليل، وبها الجوز، واللّوز، ولا يوجد بها الفستق والبندق إلّا إن جاء مجلوبا.
وبها الأترجّ، والليمون، والليم، والنّارنج، والزنبوع، وهو المسمى (544) بمصر والشام الكبّاد، والبطيخ الأصفر، وأما الأخضر فهو يسمى عندهم بالدلاع، وهو قليل والموجود منه لا يستطاب.
وبها الخيار، والقثّاء، واللّفت، والباذنجان، والقرع، والجزر، واللّوبياء، والكرنب، والشّمار، والصّعتر، وسائر البقول، وأما القلقاس فلا يزرع عندهم إلا للفرجة على ورقه، «2» لا لأن يؤكل، ولا يوجد بها الموز إلا في بعض المواضع نادرا مما يهدى ويباع.(4/194)
وأما قصب السكر فهو بجزائر بني مزغنّا وبالسوس وبنواحي مرّاكش وبسلا كثير، ولولا عدم استقامة أهل السوس وتلك الأطراف وكثرة التوائهم لكان كثيرا جدا، والموجود منه يعمل منه قند، ويسبك منه السكر، ولكنّه متوسط المقدار.
وقد سألت ابن جرار عما يعمل بمرّاكش من السكر، فقال:
يعمل منه أنواع ويخلص منه مكرر يجيء في نهاية البياض والصلابة ولطافة الذّوق، ويقارب مكرر مصر إن لم يكن مثله، لكنّ نوع السكر المعمول به بالغرب غير كثير، قال:
ولو أنهم أكثروا من نصب الأقصاب لكثر.
قال العقيليّ:
إن بمرّاكش أربعين معصرة للسكر أو أزيد، وزادت على سوس، ومزارعه في أرض مرّاكش [بواد] «1» يعرف بوادي نفيس «2» ، وإنّ حمل حمار من القصب يباع بثلاثة دراهم يكون بدرهم واحد كامليّ، فسألته عن السبب المانع لهم من الاستكثار منه، فقال: لكثرة وجود عسل النحل واعتياد المغاربة لأكله، ووصف العسل عندهم ولذاذة طعمه وكثرة ألوانه.
ولقد سألت كثيرا من المغاربة حتى ممّن أقام بمصر وتمصّر عن السكر فوجدتهم مائلين بالطباع إلى تفضيل العسل في الأكل عليه، واستطابتهم له أكثر من السكر واستعمالهم للعسل بدلا منه في أطعمتهم وحلوائهم، وزعموا أنّ ما يعمل من العسل ألذّ مما يعمل من السكّر، وهذا مما لا نسلمه إليهم ولا يدّعي هذه الدعوى ذو ذوق سليم ولا نظر مستقيم.
ولقد قال لي كثير منهم إنّه ما يستعمل السكر عندهم في الغالب إلا المرضى والغرباء أو(4/195)
الكبار من الناس (545) [في] «1» المواسم والضيافات.
قالوا: وكذلك الأرزّ لا يؤكل عندهم إلا في يوم حفل أو دعوة أو مريض أو غريب اعتاد أكل الرزّ في بلاده، وقد طال ما جرّه الحديث في هذا، ونعود إلى تكملة ما يوجد في برّ العدوة.
قال السّلالجيّ:
بها من الرّياحين الورد، والبنفسج، والياسمين، والآس، والنرجس، والسّوسن، والبهار، وغير ذلك.
وبها من الدوابّ الخيل، والبغال، والحمير، والإبل، والبقر، والغنم، ولا يعدم عندهم إلا الجاموس فإنّه لا يوجد عندهم.
وبها أنواع من الطير من الأوزّ والحمام، والدجاج، وغير ذلك، والكركيّ كثير عندهم على بعد الديار وغربة الأوطان وتسمى عندهم الغرانيق، وهي عندهم صيد الملوك كما هو بمصر والشام، وفي صحاريها من أنواع الوحش الحمر، والبقر، والنّعام، والغزال، والمها، وغير ذلك.
وأما مرّاكش «2» فهي متوسطة بين المحيط إلى الصحراء إلى البحر أربعين ميلا وإلى الصحراء وهي كما قدّمنا ثانية قواعد الملك.
حكى لي غير واحد عن سعة دورها وضخامة عمائرها وما فيها من قصور بني عبد المؤمن وأولادهم وأجنادهم، حتى يقال إنّه إذا كان الرجل في صدر الدار ونادى رفيقه وهو في صدرها الآخر بأعلى صوته لا يكاد يسمعه لاتساعها.(4/196)
قال ابن سعيد:
ودورها سبعة أميال، وهي بسيطة يمتدّ فيها البصر بناها أمير المسلمين يوسف بن تاشفين «1» ، وأول ما بني بها القصر المعروف بقصر الحجر «2» ثم بنى الناس حوله، ثم إنّ يوسف العشريّ،- وهو أبو يعقوب بن عبد المؤمن- «3» كبّرها وفخّمها ومصّرها وضخّمها، وجلب إليها المياه والغراس، ومنارة جامعها المعروف بالكتبيّين «4» طولها مئة وعشرة أذرع من الحجر «5» وعلى باب جامعها ساعات ارتفاعها في الهواء خمسون ذراعا، ينزل عند انقضاء كلّ ساعة صنجة وزنها مئة درهم، يتحرك بنزولها أجراس يسمع وقعها من بعيد،(4/197)
وتسمى عندهم المنجانة، «1» وهي الآن بطّالة لا تدور.
قال ابن سعيد:
وحضرة (546) [مرّاكش] «2» مما سكنتها وعرفتها ظاهرا وباطنا، ولا أرى العبارة تفي بما تحتوي عليه، ويكفي أنّ كلّ قصر من قصورها مستقل بالديار والبساتين والحمام والإسطبلات والمياه وغير ذلك حتى يغلق الرئيس منهم بابه على جميع خوله وأقاربه وما يحتاج [إليه] «3» ، ولا تخرج له امرأة إلى خارج داره. ولا يشتري شيئا من السوق لمأكل ولا يقرئ أولاده في مكتب خارج، ويخرج هو من بيته راكبا لا تقع عليه العين راجلا، «4» [قال: ولا أدري كيف أصل إلى غاية من الوصف أصف بها ترتيب هذه المدينة المحدثة، فإنها من عجائب همّات السلاطين، ذات أسوار ضخمة وأبواب عالية.
وبظاهرها مدينة اختطّها المنصور يعقوب بن (يوسف) بن عبد المؤمن له ولخواصه تعرف بتامرّاكش، وبها قصر الخلافة الذي بناه] وبه ديار عظيمة منها دار البلّور، ودار الرّيحان، ودار المال، وكلّ دار منها لا تخلو من المياه والبساتين العجيبة والمناظر المرتفعة المشرفة على بسائط مرّاكش.(4/198)
ولها ثلاثة أبواب مختصة بها: باب البستان وكان لا يراه إلا خواص بني عبد المؤمن يفضي إلى بستان يعرف بالبحيرة طوله اثنا عشر ميلا، فيها العمائر الجليلة والمصانع العظيمة والبركة التي لم يعمل مثلها.
قال العقيليّ:
وطولها ثلاث مئة وثمانون باعا، على جانبها الواحد أربع مئة شجرة من النّارنج، وبين كلّ اثنتين إما ليمونة وإما ريحانة.
والباب الثاني: باب القراقين وهو في داخل المدينة مرّاكش، يتصرف منه إلى ما يحتاج إليه بالمدينة.
والباب الثالث: باب الرياض أمامه رحبة عظيمة تحمل طراد الخيل، وكان بها أنواع من الوحوش في زمان بني عبد المؤمن، وبها قبّة الخلافة إلى جانب الباب، كان يخرج إليها خليفتهم بكرة كلّ نهار، وتكون بها الخدمة، وفي رحبة القصر دار الكرامة والأضياف، وفيها (547) يقول أبو بكر بن مجير المرسيّ- «1» رحمه الله: (الخفيف)
ذاك داعي الهوى بمثوى الإمامه ... موجب للأنام دار الكرامه
قد دعا دعوة العموم إليها ... معلنا كالنّداء أو كالإقامه
فتباروا إلى نعيم عميم ... فتحوا بابه وفضّوا ختامه
خير قوم دعوا إلى خير دار ... هي للملك نضرة وكمامه
عالم السّبعة الأقاليم فيها ... وهمو في فنائها كالقلامه
ما توسّمت قبل جمع أتاها ... أنّ ذا الحشر قبل يوم القيامه(4/199)
تسام الريح حين تطوي مداها ... وتحول العيون دون بشامه
وفي هذه الرحبة المدينة، وهي مكان جليل به خزائن الكتب، وفيه كان خلفاء بني عبد المؤمن يجالسون العلماء، وفيها دار مخصوصة للوزارة المحلّاة بوزير الجند، وتفضي هذه الرحبة إلى باب السّادة وهو يفضي إلى خارج مرّاكش كان مخصوصا ببني عبد المؤمن، إليه ينتهون على خيلهم وعليه سلسلة منها ينزلون، وهناك مقابر أكابرهم وجنائز الأعيان في نهاية حسن المباني والغراس.
وفي الرحبة باب السقائف، وهو باب كبير يخرج منه إلى سقائف أهل الجماعة، وهم ذرية العشرة أصحاب مهديّهم ابن تومرت، وسقائف أهل الخمسين، وسقائف الطلبة، وهم أهل العلم والقراءة، وسقائف الحفاظ، وهم المقدّمون على الأعمال لحفظها، وسقائف أهل الدار، وهم غلمان الخلافة.
ثم يخرج من هذه الرّحبة إلى سقائف القبائل وأعيان الغزّ والجموع، ثم يفضي إلى رحبة عظيمة فيها سقائف جنفيسة وجدميوة، والقبائل هسكورة وصنهاجة، وهؤلاء هم قبائل الموحّدين، وبها موضع صاحب الشّرطة، وبإزائها الجامع المبنيّ في تامرّاكشت على صحنه شبك من الصفر الأندلسيّ وهو في غاية الزّخرفة والإتقان، ولا يبرح المنبر مستورا في بيت المقصورة (548) ، وهو والمقصورة مستوران إلى يوم الجمعة قريب الصلاة ترفع ستورها، والنهر الذي جلبه المنصور إليها يخترق قصوره ثم يمرّ على السقائف والرّحاب المقدمة الذكر، ثم يحدق بالجامع، ثم يمرّ بالجامع وبين الأسواق قدر ميل إلى أن يخرج على باب الصالحية من أبواب مرّاكش في هذه الرحبة المقدمة الذكر.
باب الكحل: كان منه دخول الموحدين، وأمامه فضاء عظيم يسع وقوف الخلائق و [صرفها] «1» .(4/200)
وباب الربّ لا يدخل هذا النوع إلا منه «1» لاحتمال أن يدخل المدينة خمر.
وبها الصّهريج الكبير، والصّهريج في [لغة أهل] «2» المغرب: البركة، وهي بركة عظيمة عليها سور وباب يصب فيها النهر الثاني الداخل إلى مرّاكش، وفيها يوزّع بقياس معلوم على قصور الناس، ثم ينحدر بقية الماء في نهر يشقّ المدينة «3» من جهة أخرى في وسط الأسواق وما يمرّ «4» ، وفيها برك تصبّ فيها المياه، وفي هذه الرّحبة باب الشريعة أمام مصلّى العيدين و [بينهما] «5» فسيح عظيم به سوق الخيل، وللسلطان به قصر مطلّ عليه.
ويليه باب نفيس يخرج منه إلى بلد نفيس «6» المفضلة بالمياه والأعناب، وقدامه بركة اقنا يتعلم فيها الصبيان العوم.
ويليه باب مخزن السلطان، كان به وإلى جانبه قصر سعيد، وقصر أمة العزيز، وقصر ابن جامع، لا يعلم كم غرّم على كلّ واحد منها حتى قال ابن سعيد في" المغرب" عن قصر ابن جامع وهو أحد وزراء بني عبد المؤمن: وإنّه كان في داره ساحة يلعب فيها خمس مئة جارية على خيل الخشب وتتطاعنّ.
ويلي ذلك باب مسوفة يفضي إلى المقابر.(4/201)
وباب دكّالة، وهو مفض إلى المتنزّهات.
ويليه باب الرخاء.
ويليه باب ناغورت.
ويليه باب فاس، وهو مفض إلى فضاء يفضي إلى نهر كبير لا يخاض إلا في زمان الصّيف، وعليه بساتين جليلة ومتنزّهات.
ويليه باب الدبّاغين.
ويليه باب سان «1» .
(549) ويليه باب إيلان «2» .
ويليه باب أغمات، وأمامه منازل المخدومين لا يمازجون الحضرة.
ويليه باب الصالحية، وخارجه مقابر وبساتين.
ولمرّاكش بواد فسيحة وما اختار ابن تاشفين بقعتها إلا لمراعي إبله حولها وبها [كثير من] «3» أرباب العمائر.
وأما تلمسان «4» وهي قاعدة الملك الذي فتحه هذا السلطان بسيفه، واستضافه إلى(4/202)
ملكه، قال الشّريف في كتاب [رجّار"] «1» وهي في سفح جبل وبها آثار الأول، وماؤها مجلوب من عيون على ستة أميال، ولها أسواق ضخمة، ومساجد جامعة، وأنهار وأشجار، وشجر الجوز كثير بها، وفيها المشمش المقارب في حسنه لمشمش دمشق وعلى نهرها «2» الأرحاء، ويصبّ نهرها في بركة عظيمة من آثار الأول، ويسمع لوقعه خرير على مسافة ثم يصبّ في نهر آخر «3» بعد ما يمرّ على البساتين، ويستدير بقبليّها وشرقيّها، وتدخل فيه السفن اللطاف حيث يصبّ في البحر.
وهي دار علم متوسطة في قبائل البربر، ومقصد تجار الآفاق، زكية الأرض من الزرع والضرع، وبها حصون كثيرة، وفرض عديدة أشهرها فرضة هنين وهي قبالة المريّة [من الأندلس] «4» ووهران [في شرقيّ تلمسان بشمال قليل على مسيرة يوم من تلمسان، ومستغانم تقابل دانية «5» من الأندلس] . «4»
وتلمسان على ما بلغ حدّ التواتر في غاية المنعة والحصانة مع أنها في وطاءة لكنها محصّنة البناء، ولقد أقام أبو يعقوب يوسف عمّ هذا السلطان أبي الحسن نحو عشر(4/203)
سنين «1» وبنى عليها مدينة سماها تلمسان الجديدة «2» ثم مات، وسمى أهل تلمسان تلك السنة سنة الفرج حتى كتبوا في سكّتهم ونقشوا: ما أقرب فرج الله، وشرع حينئذ أبو حمّو «3» بعد إتمام سنة من الفرج من رحيل بني مرين عنها، وهو والد سلطانها أبي تاشفين المأخوذة منه (في) تحصيل قوتها، وتحصين أسوارها، ولم يدع ما يحتاج إليه المحاصر لعدة سنين كثيرة حتى حصله من الأقوات والآلات «4» حتى سليت الشّحوم، وتملّيت بها الصّهاريج وملئت أبراج المدينة بالملح والفحم والحطب واختزن [أرضا] «5» (550) داخل المدينة كلّها زرع، ومات أبو حمّو وولي بعده أبو تاشفين فزادها تحصيلا من الأقوات، وتحصينا من الأسوار والآلات، وبنى بها البناءات العجيبة الشكل، والقباب الغريبة المثل، والبرك المتسعة، والقصور المنيفة، وغرس فيها بساتين، غرس بها من سائر أنواع الثمار إلى أن حاصر بجاية ونازلها وبنى عليها، فاستنجد الموحّدون المرينيّ، فأرسل إليه العلماء والصلحاء والأعيان، وندبوه إلى الصلح بينهم فأبى إلا عتوا وفسادا، فنهض إليه أبو الحسن وحاصره أشدّ حصار، وبنى عليه مدينة سماها المنصورة، وبقي أربع سنين محاصرا لها، مضيفا(4/204)
عليها آخذا بخناقها، ونصب عليها المجانيق، وأخذ عليها المسالك من كلّ جهة، ولم يدع طريقا لداخل إليها ولا لخارج منها، وسلطانها أبو تاشفين وجميع أهلها في ضيق الخناق معهم، ولا يفكّ لهم وثاق، ولا يحلّ لهم خناق، ولا تبرق لديهم بارقة خلاص، وكانوا مع هذا التشديد الشديد في غاية الامتناع، لحصانة بلدهم وكثرة ما بها من الماء والأقوات، وكان في المدينة عين ماء لا يقوم بكفايتها، وكان يجري إليها الماء من عين خارجة عن البلد لم يعرف لها [أحد] «1» منبعا أخفيت بكثرة البناء المحكم، ولم يظهر لها على علم إلى أن خرج أحد من يعرفها من البنّائين المختصين بسلطانها الكاشف عنها حين بنائها، فأظهرها للسلطان أبي الحسن وكشف عنها فقطعها عنهم، وأبعدها منهم، وصرفها إلى جهة أخرى فقنعوا بالعين التي في داخل بلدهم، واكتفوا بالبلالة، ولم يظهر منهم وهن ولا خور لانقطاع الميرة لما كان عندهم من المخزون حتى قدائد اللحوم ومسليات الشحوم ولم يتغير طعمها لأن بلاد الغرب مخصوصة بطول مكث المخزونات بها، فإنه ربما بقي القمح والشعير في بعض أماكنها ستين سنة «2» لا يتغير ولا يسوّس ثم يخرج بعد خزن هذه المدة الطويلة فيزرع وينبت وخصوصا تلمسان في برّ العدوة، وطليطلة «3» في الأندلس.(4/205)
حكى ابن ظافر «1» في كتابه (551) المترجم ب" سياسة الملوك" «2» أن القمح يقيم بطليطلة ثمانين سنة مخزونا في صهاريج، ثم يخرج ويزرع، قال: ولا يزيدها مدة الحزن إلا صفاء، ولا طول المكث إلا جدّة.
ونعود إلى ذكر تلمسان، فنقول: إنها منحرفة إلى الجنوب الشرقيّ (من) فاس، ولها ثلاثة أسوار ومن جهة القصبة ستة أسوار بعضها داخل بعض، ولم يهجس بخاطر أنها تؤخذ ولكن يسر الله لهذا السلطان أبي الحسن المرينيّ صعبها وذللّ له إباءها حتى ملك ناصيتها، وبلغ دانيتها وقاصيتها، وإذ قد ذكرنا قواعد الملك الثلاث فلنذكر ما لا بأس بذكره من هذه البلاد.
وأول ما نبدأ بذكره سبتة «3» لصيتها الطائر في الآفاق لمكان بحر الزّقاق منها، وهي على ضفة بحر الزّقاق الداخل من البحر المحيط، وهي في طرف من الأرض شديد الضيق من جهة الغرب، والبحر المحيط محيط بها شرقا وغربا وقبلة، ولو شاء أهلها أن يصلوها به من جهة الشمال لوصلوه فتكون جزيرة منقطعة، ولها فاكهة كثيرة وبها قصب سكر ليس بالكثير، وعليها أبراج كثيرة، وأسوارها عظيمة من صخر محيط بها، وكذلك يحيط بجبل مينائها الذي بشرقيّها وبربضها أسوار، وبها حمامات يجلب إليها الماء على الظهر من البحر في الشواني «4» وطول المدينة من السور الغربيّ المحيط على ربضها إلى آخر الجزيرة خمسة أميال،(4/206)
ولم تزل دار علم وفقه، وقد ذكر الحجاريّ «1» أول مصنفي كتاب" المغرب" أنها أول ما بني في برّ العدوة، وهي من فرض البحر العظيمة لكثرة ما يرد عليها من مراكب المسلمين والنصارى من كلّ جهة، وجميع طرف الدنيا أو غالبها موجود فيها، وهي مليحة نزهة، والبحر عندها ضيق، وإذا كان الصّحو بصر أهلها منها الجزيرة الخضراء المسامتة لها (552) من الأندلس، وشرب أهلها من الماء مجلوب إليهم من البحر من بليونش «2» وغيرها من متنزّهاتها، وفي داخلها صهاريج من ماء المطر، والأغنام تجلب إليها، والقمح لا يزكو نباته في أرضها، وإنما يجلب إليها جلبا كثيرا، وبها الصخرة التي يقال «3» إنّ موسى عليه السلام آوى إليها ولا يصحّ، وبها سمك كثير منه نوع يسمى سمك موسى نسبة إلى حوته الذي اتخذ سبيله في البحر سربا، ولحمه نافع من الحصا، مقوّ للباه، وهو يوجد بالبحر قريب جبل سبتة المعروف بجبل [موسى بن نصير] «4» ، وبه رمال ينبط منها الماء العذب، وينبعث من(4/207)
أجواف على ضفة البحر، ولقرب سبتة من الزّقاق الذي منه البحر الشاميّ يقال للبحر الشاميّ البحر السّبتيّ، وكانت سبتة دار ملك للعزفيين «1» حتى أخذها بنو مرين، تقرب بها صاحبها [إبراهيم] «2» إلى السلطان أبي سعيد «3» ، وتغلب له عليه صاحبها محمد بن القائد عليّ العزفيّ وأخذها بالملاطفة بالسيف وسلّمها إليه وعوضهم عنها بما أرضاهم من الإحسان والضّياع والمرتبات العظيمة، وأقاموا معه بفاس ملحوظين بالإكرام والتّقديم.
ثم نذكر طنجة «4» لأنها لا يخلو مصنف في هذا الشأن من ذكرها، لأنّها كانت دار ملك قديم وذكر شائع، وهي مدينة مسوّرة متقنة على ساحل بحر الزّقاق، وهو محطّ السفن اللطاف، وكانت قاعدة تلك الجهات قبل الإسلام وحين الكتب القديمة المصنفة في هذا الشأن ذكرها «5» ، وهي كثيرة الفواكه، وخصوصا العنب والكمّثرى، وأهلها مخصوصون ومشهورون بقلة العقل وسخف الرأي على أن أبا الحسن بن بيّاع الصّنهاجيّ الطّنجيّ منها، وقد أثنى عليه الفتح صاحب" قلائد العقيان" فقال: طود سكون ووقار، وروضة نباهة يانعة الأزهار، ووصفه بالعلم والبلاغة (553) والطبّ، وأنشد له أشعارا منها يصف روضة ممطورة: (الكامل)
وقفت عليها السحب وقفة راحم ... فبكت لها بعييونها وقلوبها(4/208)
فعجبت للأزهار كيف تضاحكت ... ببكائها وتباشرت بقطوبها
وقوله «1» : (الوافر)
لقد جثمت بقلبك متلفات ... بكلّ ثنيّة منها صريع
وقد تحمي الدروع من العوالي ... ولا تحمي من الحدق الدروع
ومن أهل طنجة أيضا أبو عبد الله محمد بن أحمد الحضرميّ الطّنجيّ القائل «2» :
(الطويل)
فؤادي وإن راموا الحمول حمول ... ودمعي وإن بثّوا الوصول وصول
ولم يرواش كالغرام بدمعة ... فإنّا سكتنا والدموع نقول
وقالوا: رحيل كان قلنا: فإنّه ... حياة لها عنا نوى ورحيل
وضنّوا بتوديع وجادوا بتركه ... وربّ دواء مات منه عليل
وقد ذكرنا فيما ذكره صاحب" القلائد"، وأخرجنا للتقليب هذه الفوائد، لنعرف به أنّ من طنجة على ما نسب إلى أهلها من الحمق من هذا عنوان عقله وتبيان فضله.
ثم نذكر سجلماسة «3» لأنها من أجلّ مدن برّ العدوة، وهي باب الصحراء إلى أرض السودان وبلاد مغزارة الذهب ولموقع عجيب في زرعها سنذكرها بمشيئة الله تعالى، فأول ما(4/209)
نقول:
إنّ سجلماسة مدينة جليلة في جنوبيّ برّ العدوة متصلة بالصحراء الكبيرة، من أكبر مدن الغرب وأشهرها ذكرا في الآفاق، وعليها نهر كبير «1» ، ذات قصور مشيدة، وأبنية عليّة وأبواب رفيعة، صحيحة الهواء لمجاورة البيداء، وأرضها سهلة سبخية، ولها أرباض كثيرة، مخصوصة بأن لا يجذم أحد من أهلها، لكن تلحقهم رطوبة في أجفانهم، وبها نخيل كثير، ثمره على أصناف يحمل منه إلى عامة الغرب، ويفضل ثمرها ما سواه حتى يضاهى به تمر العراق (554) وبتمرها يضرب في الغرب المثل، ولها بساتين خضرة نضرة، على قشف مكانها وجفاء سكانها.
قال ابن حوقل «2» : ونهرها يزيد في الصيف كزيادة النيل، ويزرع بمائه مثل زرع مصر، وربما زرعوا الزرع ثم حصدوه، ويبقى جذره في الأرض إلى السنة الآتية، ثم يسقى فيطلع ويحصد، هكذا سبع سنين يستغلّ سبع مغلّات ببذار واحد.
قال ابن سعيد: قال الجدّ «3» لي: مغلّ أول سنة هو القمح، ثم المغلّات الباقية السّلت وهو [حبّ] «4» ما بين الحنطة والشعير، قال ابن سعيد: وأهلها مياسير ولهم متاجر إلى بلاد السودان، قال: ولقد رأيت صكا فيه حقّ على رجل من سجلماسة لآخر من أهلها باثنين(4/210)
وأربعين ألف دينار «1» .
ومدينة سجلماسة آخر العمران ليس قبليّها عمران بل منها يدخل التجار إلى بلاد السودان بالملح والنحاس والودع، ويعودون بالذهب، وليس بعدها إلا [تافلالت] «2» في البرية إلى أولاتن وبينهما المفازة العظمى وهي أربعة عشر يوما لا يوجد بها ماء ولا يدخلها إلا الإبل المصبرة على الظمأ، وهي أرض موحشة الأقطار، مجهولة المسالك، لا يحمل سالكها على ركوب خطرها إلا الفائدة العظيمة على السودان، فإنهم يتوجهون بما لا قيمة له ويعودون بالذهب الصّامت وقر ركائبهم.
وأما زيّ هذا السلطان وزيّ الأشياخ وعامة الجند فهي عمائم طو (ا) ل رقاق قليلة العرض من كتّان ويعمل فوقها إحرامات يلفونها على أكتافهم من الجباب، ويتقلدون بالسيوف تقليدا بداويا، والأخفاف في أرجلهم وتسمى الأنمقة و [يشدّون] «3» المهاميز ولهم [فوقها] «3» المضمّات وهي المناطق ولكنهم لا يشدونها إلا في يوم الحرب، أو يوم التمييز وهو يوم عرض سلطانهم لهم، وتعمل من فضة، ومنهم من يعملها ذهبا، ومنها ما يبلغ [ألفي] «4» مثقال، ويختصّ سلطانهم بلبس البرنس الأبيض الرفيع لا يلبسه ذو (555) سيف سواه.(4/211)
فأما العلماء وأهل الصلاح واسمهم عندهم المرابطون، فإنهم لا حرج عليهم في لبسه هذا ما في البرانس البيض، فأما سائر الألوان فلا حرج عليهم في لبسها «1» كائنا من كان، ولا يدقّ طبل لأحد في سفر إلّا للسلطان خاصة لا غير.
حكى لي السّلالجيّ أنّ بعض أرباب الحلق من مصر دخل إلى فاس وعمل بها حلقة وبقي يدقّ بطبلة له على عادته وعادة أرباب الحلق فحصل عليه الانكار وأمر بإبطاله، وضرب الطبول محفوظ لأهل بيت خاص بهم من أهل مرّاكش، هذا لبس ذوي السيوف. فأما القضاة والعلماء والكتاب وعامة الناس فقريب من هذا الزيّ إلا أنّ عمائمهم خضر ولا يلبس أحد منهم الأنمقة وهي الأخفاف في الحضر، فأما في السفر فلا جناح منهم على من لبسها، وليس لهؤلاء سيوف، ومن عادة هذا السلطان أن يعرض جنده في رأس كلّ ثلاثة أشهر ليعرف منهم الحاضر والغائب والقادر والعاجز فيخرج إلى مكان معدّ لهذا بظاهر قصوره، ويجلس على علو في ذلك المكان، ويجلس تحته الكتاب ويستدعي عسكرة بالأسماء اسما اسما، ويقابل على أسمائهم وحلاهم «2» ثم يصرف على كلّ واحد منهم راتبه، هذا للجند الأندلسيين الذين يرمون بقوس الرّجل والفرنج، وأما سائر العسكر فلهم إقطاعات وبلاد وإحسان من رأس السنة إلى رأس السنة، والراتب يسمى بإفريقيّة البركة ويسمى بمصر والشام النقد أو الإقطاع، ولكنه لا يقاس إفريقيّة بها في هذا ولا يعرف في هذه المملكة ما هم الأمراء اسما ولا معنى كما هو بمصر وإيران بل الأشياخ الكبار والصغار كما تقدم القول فيه في إفريقيّة، فإنّه ليس في الغرب من يطلق عليه هذا الاسم كما يعرف في مصر والشام أن هذا الاسم يصدق على حقيقة رجل له عدّة من الجند.(4/212)
قال أبو عبد الله محمد بن محمد السّلالجيّ:
والذي للأشياخ الكبار على السلطان [الإقطاعات الجارية عليهم] «1» : يكون لكلّ واحد منهم (556) في كلّ سنة عشرون ألف مثقال من الذهب «2» يأخذها من قبائل وقرى وضياع وقلاع، ويتحصل له من القمح والشعير والحبوب في تلك البلاد نحو عشرين ألف وسق، و [لكلّ واحد مع الإقطاع الإحسان] «1» في [رأس] «1» كلّ سنة [وهو] «1» حصان بسرجه ولجامه، وسيف ورمح محلّيان وسبنيّة، وهي بقجة قماش فيها ثوب طرد وحش مذهب إسكندري ويسمى عندهم الزّردخانة، وثوبان بياض من الكتّان عمل إفريقيّة، وإحرام وشاش طوله ثمانون ذراعا، وقصبتان من ملفّ يعني من الجوخ من أيّ لون كان وربما يزيد الأكابر [على ذلك] «3» ، وربما ينقص من لم يلحق بهذه الرتبة من أصاغر الأشياخ.
وأما الأشياخ الصغار فيكون لهم من الراتب والمجاسر نصف ما للأشياخ الكبار، والحصان المسرج الملجم والسيف والرمح والكسوة، ومنهم من لا يلحق بهذه الرتبة فيكون أنقص.
وأما ما للجند فأعلى طبقات الجند [المقربون] «4» إلى السلطان فيكون للرجل منهم ستون مثقالا من الذهب في كلّ شهر وقليل ما هم، وأما المعظم فأعلى طبقتهم من يكون له في الشهر ثلاثون مثقالا ثم ما دونها إلى أن تتناهى إلى أقلّ الطبقات وهي ستة مثاقيل في كلّ شهر، هذا المستقرّ لهم وليس لأحد منهم بلد ولا مزدرع، قال: وجميع أرزاقهم ناصبة(4/213)
إليهم ميسرة عليهم، قال:
ومن عادة هذا السلطان أن يجلس في بكرة كلّ يوم، ويدخل عليه الأشياخ الكبار، وهم في «1» دولته بمنزلة أمراء التوّامين بإيران ومقدمي الألوف بمصر، ليسلموا عليه ثم يمدّ لهم سماط ثرائد في جفان، وحولها طوافير وهي المخافي فيها أطعمة ملونة منوعة، ومعها الحلواء منها ما هو [بالسكّر] «2» ومعظمها بالعسل، ومنها النوعان موجودان إلا أنّ السكّر قليل وجمهور ما يعمل من العسل من الحلواء بالزّيت، فإذا أكلوا الطعام تفرقوا إلى أماكنهم، وربما ركب السلطان بعد هذا [والعسكر معه وقد لا يركب] «3» فأما أخريات كلّ نهار فقلّ أن لا يركب إلى نهر هناك بعد العصر، ويخرج في مكان فسيح من الصحراء (557) فيقف به على نشز، ويركب العسكر حوله ويتطارد قدامه الخيل فتتطاعن الفرسان، وتتداعى الأقران، وتمثل الحرب لديه وتقام صفوفها المرصوصة بين يديه كأنّه حقيقة يوم الحرب واللقاء على سبيل التّمرين، ثم يعود في موكبه إلى قصره وتتفرق العساكر إلى أماكنهم، ويحضر العلماء والفضلاء والأعيان إلى مسامرته ويمدّ لهم سماط بين يديه [فيأكلون] «3» ، ويؤاكلهم في ذلك الوقت (و) لكاتب سرّه معه خصوصية اجتماع للأخذ في المهم وعرض القصص والرّقاع ويبيتون عنده أكثر الليالي إلا كاتب السرّ فإنه في بعض الليالي قد يأمره بالمبيت فيبيت بخاصته.(4/214)
وأما هيئة جلوسه للمظالم، فإنه يجلس على فرش مرفوعة في قبة معلومة للجلوس له بحضرته الأشياخ [مقلّدون] «1» بسيوفهم، فأما من لا له هذه الرتبة ولا له وضع من ذوي السيوف، فإنهم إذا دخلوا إلى مجلس السلطان وقفوا بعيدا منه مصطفين متكئين على سيوفهم، وإذا أراد صاحب الشكوى إبلاغ شكواه وهذا إنما يكون حين ركوبه وظهوره صاح من بعد: لا إله إلا الله انصرني نصرك الله، فيعلم أنه شاك فتؤخذ قصته وتعطى لكاتب سرّه فإذا رجع إلى مقرّه اجتمع مع كاتب سرّه، وقرأ عليه تلك القصة وغيرها فينظر في ذلك بما رآه، وإذا سافر السلطان وخرج من قصره، ونزل بظاهر بلده وارتحل من هناك ضرب له طبل كبير قبيل الصبح إشعارا بالسفر فيتأهب الناس ويشتغل كلّ أحد بالاستعداد للرحيل، فإذا صلّيت صلاة الصبح ركب الناس على قبائلهم وطبقاتهم ومنازلهم المعلومة، ووقفوا في طريق سلطانهم صفا بجانب صفّ ولكلّ قبيل وجند علم معروف به ومكان في الترتيب لا يتعداه، فإذا صلّى السلطان الصبح قعد أمام الناس ودارت عليه ما له من العبيد والوصفان و [العدويين] «2» الذين هم كالنقباء ويجلس حوله ناس يعرفون بالطلبة يجري عليهم ديوانه (558) يقرءون حزبا من القرآن الكريم، ويذكرون شيئا من الحديث الشّريف النبويّ على قائله أفضل الصلاة والسّلام، فإذا أسفر الصبح ركب وتقدم أمامه العلم الأبيض الذي هو سعد الدولة، ويقال له: المنصور، وبين يديه الرّجّالة بالسلاح والخيل المجنوبة «3» ببراقع الوشي، والبراقع من ثياب السّروج، وعندما يضع السلطان رجله في الرّكاب يضرب في طبل(4/215)
كبير ثلاث ضربات يقال له تريال إشعارا بركوبه، ثم يسير السلطان بين صفيّ الخيل ويسلم كلّ صفّ عليه بأعلا صوته: سلام عليكم، ويكتنفانه يمينا ويسارا، وحينئذ تضرب جميع الطبول التي تحت البنود الكبار الملونة خلف الوزير على بعد من السلطان، وربما ركب إلى جانبه، ولا يتقدم راكب إلا عن بعد كبير أمام العلم الأبيض إلا من يكون من خواص علوجه، وربما يأمرهم بالجولان بعضهم على بعض، ثم ينقطع ضرب الطبول إلى أن يقرب من المنزل، فإذا قرب السلطان من المنزل وضربت الطبول تتقدم الزّمّالة إلى المنزل، وهؤلاء هم الفرّاشون، وتضرب شقة من الكتّان في قلبها جلود تقوم بها عصيّ وحبال من القنّب في أوتاد، وتستدير على كثير من أخبية وبيوت الشّعر الخاصة به وبعياله وأولاده الصغار، وتكون هذه الشقّة كالمدينة لها أربعة أبواب في كلّ جهة «1» باب، ويحفّ به عبيده وعلوجه ووصفانه.
قال السّلالجيّ:
وهؤلاء [بنو] «2» مرين أكثر ميلهم إلى بيوت الشّعر على عادتهم الأولى في البداوة مع أنهم اليوم (من) أشياخهم من ضرب أخبية كثيرة مع البيوت ولهم في ذلك تنافس، قال:
ويضرب للسلطان أمام ذلك قبة كبيرة مرتفعة من كتّان تسمى قبة الساقة لجلوسه للناس فيها وحضورهم [عنده] «3» بها «4» ، وإذا ركب هذا السلطان لا يسايره إلا بعض الأشياخ الكبار من بني مرين أو بعض عظماء العرب، وكثيرا ما إذا استدعى أحدا (559) لا يجيء إليه إلّا ماشيا فربما حدّثه وهو ماش معه، وربما أكرمه فأمره أن يركب، وإذا عاد السلطان إلى(4/216)
حضرة ملكه ضربت البشائر «1» له سبعة أيام، وأطعم الناس طعاما شاملا في موضع يسع الجماهير.
وشعار هذه المملكة هو اللواء الأبيض المقدم الذكر، وهو المسمى عندهم" العلم المنصور" كما وصف، وهو أبيض مكتوب بالذهب نسيجا من الحرير آي من القرآن بدائر طرّته وحوله أعلام مختلفة الألوان.
ومن شعاره إذا ركب في سفره من مدينة أو يوم دخوله أو في يوم عيد أن يركب الأشياخ حوله، وقدامه محمول سيف ورمح وترس وهي الدارقة عندهم يحملها ثلاثة من خاصّته من الوصفان، وهم من خدمة السلطان أو أبناء خدم أسلافه، وحوله من أهل الأندلس رجّالة بأيديهم [الطّبرزينات] «2» ، وهي كالأطبار، وقواد النصارى الكبار بأيديهم ذلك وهم خلفه، وقدامه خمسون نفرا مشاة، وأوساطهم مشدودة (و) بأيديهم رماح «3» طوال ورماح قصار بيد كلّ واحد منهم اثنان طويل وقصير، [وكلّ منهم مقلّد] «4» مع ذلك بسيف، وأمامه الجنائب وتسمى عندهم المقادات يجرّها أناس مشاة وهي مسرجة ملجمة وعلى السروج براقع حرير منسوج بالذهب وهي ثياب السروج، والسروج مخروزة بالذهب خرزا شبيها بالزّركش، وركابها ذهب مسبوك زنة ركابي السرج ألف مثقال ذهبا، فأما تحلية(4/217)
السّروج بالأطواق وما يجري مجراها، فإنه لا يعرف عندهم. ومن عادته في العيدين أن لا تضرب الطبول خلفه إلا بعد أن يفرغ من الصلاة والخطبة.
قال السّلالجيّ:
وفي ليلة العيدين أو ليلة ورود السلطان على حضرته ينادي والي البلد في أهلها بالمسير، ومعناه أن أهل كلّ سوق يخرجون ناحية، ومع كلّ واحد منهم قوس أو آلة سلاح متجملين بأحسن الثياب، ويبيت تلك الليلة الناس أهل (560) كلّ سوق بذاتهم خارج البلد، ومع أهل كلّ سوق علم يختصّ بهم عليه رنك أهل تلك الصناعة بما يناسبهم، فإذا ركب السلطان بكرة اصطفوا صفوفا يمشون قدامه، وركب هو والعسكر ميمنة وميسرة، والعلوج خلفه [ملتفون] «1» به، والأعلام منشورة وراءه، والطبول خلفها حتى يصلي ثم يعود فينصرف أرباب الأسواق إلى بيوتهم، ولا يحضر طعام عيد السلطان إلا خواصّه وأشياخه، وله طعام عام يحضره الضعفاء والمساكين.
وسألت أبا عبد الله السّلالجيّ عن أرزاق القضاة والكتاب عنده، فقال:
أما قاضي القضاة فله في كلّ يوم مثقال من الذهب، وله أرض يسيرة يزرع فيها ما يجيء منه مؤونته وعليق دوابّه، وأما كاتب السرّ، وهو الفقيه الإمام العالم الفاضل أبو محمد عبد المهيمن بن الحضرميّ «2» ، فله في كلّ يوم مثقالان من الذهب، وله مجسران يعني قريتين يتحصل منهما متحصّل جيد وله رسوم كغيره على البلاد ومنافع وإرفاقات، ولكلّ واحد(4/218)
منهما في كلّ سنة بغلة بسرجها ولجامها وسبنيّة قماش برسم الكسوة نظير ما للأشياخ الكبار إلا الثوب الزّردخاناه يعني الطردوحش، قال:
وهذان هما المحبّيان «1» والبقية لا أعرف ما لهم، ولكن لا نسبة لأحد إلى هذين الرجلين، وإنما أعلم أنه تطلق الرواتب من المحارث والأرض للفقهاء والعلماء والفقراء والجسار وهم أرباب البيوت.
وأما ما يكتب عن هذا السلطان فمن عادته أنّه إذا كتب عنه كتاب يكتب في أوله بخطّ الكاتب بعد بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم من أمير المسلمين المجاهد بهم في سبيل ربّ العالمين [أبي الحسن عليّ ابن أمير المسلمين المجاهد بهم في سبيل ربّ العالمين] «2» أبي سعيد عثمان ابن أمير المسلمين المجاهد بهم في سبيل ربّ العالمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحقّ، فإذا انتهى الكتاب إلى آخره وختمه الكاتب بالتاريخ، كتب هذا السلطان بخطّه في آخره ما صورته: وكتب في التاريخ المؤرخ به.
قال أبو عبد الله (561) السّلالجيّ:
ولم يكتب أحد من ملوك بيته هذا بيده، بل كان كاتب السّر هو الذي يكتب هذا إلّا هذا السلطان أبو الحسن وأخوه أبو حفص عمر «3» حين حياته هذا مع وثوقه العظيم بكاتب السرّ الفقيه الفاضل أبي محمد عبد المهيمن بن الحضرميّ واعتماده عليه ومشاركته(4/219)
[له في كلّ أمره] «1» .
وأما هذا السلطان أبو الحسن في ذاته فإنه ممن أصلح الله باطنه وظاهره، وعمر بالتقوى قلبه وسائره «2» ، يساوي العلماء ويواسي الفقراء، معدود في أبطال الرجال وشجعان الفرسان، ترد علينا أخباره ما يراوح النسيم، ويفاوح التسنيم، تدارك الله به أهل الأندلس، وقد جاذبت معاقلهم الكفار، وثبّت مدنهم، وهي على شفا جرف هار، قد أجرى الله على يديه أجر بقائها في يد الإسلام، واستوقف به ظعائنها وقد أذنت بسلام، وهو في هذا الطرف ماسك بأوتاده، سالك فيه سبيل جهاده، رادّ لأعداء الله عن منى أطماعهم، ما لاذ به خائف إلا أجاره، ولا أمله آمل فخاب ظنّه، قد وسع الخلق بخلقه، وجمع أممهم على ما أطعمه الله من رزقه، ولقد حدّثني غير واحد عن خلقه وخلائقه الرضيّة، وآثاره الوضيّة، وكمالاته التامّة وفضائله المنقية المرضيّة، ما لحق به من سلف من السلف، وهو ممن لا يثنى له عن الجهاد عنان، ولا يغمد له سيف ولا سنان، حتى يستردّ باقي ضالته المفقودة، وما استولى عليه العدوّ من الأندلس من البلاد، وجدير بمن هذه نيته أن يسهل الله له ببلوغ مرامه، واستكمال ما بقي في أيامه، وهو رجل فتل الأيام، وفتل غارب الأنام، وخالط العلماء، وتأدب بآدابهم وخالل الشجعان وزاد عليهم، لو صدع الحجر لأنفذه، أو صدف المتردي من السماك لأنقذه، لا يلتفت طرفه إلى ما نبذه، ولا إلى ما تركه من الدنيا أو ما أخذه، فلو رمى البحر لما زخر زاخره، أو قذف الزمان لما دارت دوائره، وقد أحيا حوله من صنائع آبائه ومن اتبعهم بهم من صنائعه، أسود غيل، وجنود صرير وصليل، لا يبدرهم إلى إجابة صريح، ولا يخبرهم بألطاف المتجدد مسمع فرس يصيح، (562) بهمم غطت على(4/220)
من تقدّم، وأنست: عنتر والرماح كأنّها أشطان بئر في لبان الأدهم «1» .
وأما كيفية انتقال الملك إليه، فنقول وبالله التوفيق:
إنّ هذا السلطان ولد بفاس سنة ستّ وثمانين وستّ مئة، وأخذ الملك عن أبيه أبي سعيد عثمان، كان قد عهد إليه لما غضب على أخيه [أبي حفص] «2» عمر، وكان عمر المرشح عند أبيه أولا حتى خرج عمر على أبيه وغلبه على فاس ثم أخذها أبوه منه، وحاصره في المدينة البيضاء مقدار خمسة أشهر، وكان عمر في هذه المدة ضعيفا، فدخل العلماء والصلحاء بينهما فأعطاه سجلماسة، وأصار ولاية العهد إلى هذا السلطان أبي الحسن عليّ، ثم تغير عليه بسبب جرحه لقمر خادمه وهي التي بيدها مفاتيح بيت المال، وذلك أنّ أباه أبا سعيد عثمان سافر لزيارة ضريح سلفه بشآلة، وهو موضع على مقربة من سلا، وترك ولده عليا خلفا [عنه] «3» بفاس فاحتاج إلى شيء هو في بيت المال، فأراد أخذه، وطلب من قمر المهاجرة المفاتح فأبت أن تمكنه من ذلك ولا أن تبلغه (ما) هنالك، فاغتاظ عليها وجرّد سيفا كان معتقلا «4» به فجرحها فبلغ ذلك، أباه فغاظه ما سمع فكتب كتابا، وأمر بعض الأشياخ بمسيره إليه يأمره فيه بالخروج من البلد (ة) الجديدة، وسكناه بقصبة البلد العتيقة برأسه ليس إلّا على فرسه، وأن لا يركب معه أحد من جيشه، وسلبه عن كلّ شيء.
فلما بلغه الكتاب وهو في قصره حيث جلوسه للناس قرأه وعرف ما فيه فأخذه وألقاه على رأسه وقبله بفيه، وخرج من حينه إلى الموضع الذي رسم له فيه، وبقي محجورا مدة إلى أن(4/221)
دخل العلماء والصلحاء والخطباء والأعيان فشفّعهم فيه، ورضي عنه وأعاده إلى ولاية العهد.
ثم إنّ أباه توجّه على قصد تلمسان بسبب وصول الأمير أبي زكريا يحيى صاحب بجاية إليه لاستنجاده لهم على ما تقدمت إليه الإشارة على عدوّهم المحاصر لهم «1» ، فعرض له المرض، وصدّه عن الوصول إلى تلمسان ضعف أصابه في طريقه، فرجع إلى مدينة تازي وهناك (563) وصلته ابنة الأمير أبي بكر «2» في الأصطول الذي بعثه إليها فرجع إلى فاس واشتدّ به المرض فمات بعقبة البقر قريب فاس، وحين مات والده وقف أبو الحسن راكبا فرسه حتى بايعه الناس ثم دخل فاسا ودفن أباه، وجلس موضعه، واستقلّ بالملك، وكتب إلى أخيه عمر يعزّيه بأبيه ويقرّه على حاله، فأبى عمر، وخرج فجهز إليه أبو الحسن ولده يعقوب «3» ثم إنّه في آخر الأمر قصده بنفسه بالجيوش والعساكر، وأراد أن يقبض عليه، ثم دخل بينهما العلماء وأهل الصّلاح فعفا عنه وأقرّه على حاله، وكتبت بينه وبينه وثيقة مشهودة بذلك، ثم بعد ذلك خرج أبو الحسن قاصدا إلى قتال [أخيه] «4» عمر إلى ممالأة أهل تلمسان عليه، فضرب أبو الحسن وجهه عن تلمسان إلى سجلماسة قاصدا لأخيه عمر فحاصره مدة ثم إنّه دخل عليه سجلماسة، وأمسكه قبضا باليد، ووجده قد ارتكب فظائع من المحرّمات من قتل عمّه أبي البقاء يعيش، وجمع بين حرائر ذوات عقود أزيد مما أباحت الشريعة فاستفتى أبو الحسن عليه العلماء فأفتي بقتله، ففصده في يديه وتركه ينزف دمه حتى مات، واستقلّ حينئذ أبو الحسن، وثبتت قواعد أركانه وانتشرت أعلام سلطانه.(4/222)
ووالده أبو سعيد ورث الملك عن أمير المسلمين أبي الربيع سليمان بن عبد الله بن أمير المسلمين أبي يعقوب يوسف بن أمير المسلمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحقّ «1» .
وأبو الربيع ورث الملك عن أخيه لأبيه أمير المسلمين [ «2» أبي ثابت عامر «3» .
وأبو ثابت عامر ورث الملك عن جدّه أمير المسلمين أبي يعقوب يوسف بن أمير المسلمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحقّ] «4»
وأبو يعقوب ورث الملك عن أبيه أبي يوسف يعقوب بن عبد الحقّ «5» ، وهو أول من(4/223)
استقلّ بالملك من ملوك بني مرين «1» .
وكان أصل انتقال الملك إليهم أن دولة الموحدين بمرّاكش كان قد انحلّ عقد نظامها، وانثلّ عقد أيامها لانهماك آخرهم على اللذات وتشاغلهم بها عن الأخذ بالحزم في الأمور، وكانت قبائل بني مرين رحالة نزالة أهل بادية (564) ذوي بأس ومنعة، فثار فيهم أبو يحيى أبو بكر بن عبد الحقّ «2» ، وجمع الجموع وتغلب على فاس فملكها وملك غيرها من البلاد، ثم مات أبو يحيى بن عبد الحقّ، فقام أخوه أبو يوسف يعقوب «3» بن عبد الحقّ فقصد مرّاكش فخرج إليه أبو دبوس أبو العلاء إدريس «4» فقتل أبو دبوس وهو آخر من كان قد انتهى إليه الملك من بني عبد المؤمن بن عليّ «5» ومن يومئذ ظهرت دولة بني مرين واستقلّ سلطانهم بالمغرب الأقصى.(4/224)
الباب الرابع عشر في مملكة الأندلس(4/225)
(في
مملكة الأندلس) المملكة الإسلامية بالأندلس حماها الله تعالى طول مسافتها عشرة أيام، وعرضها ثلاثة أيام، وسلطانها الآن أعني عام ثمانية وثلاثين وسبع مئة هو يوسف بن إسماعيل بن فرج بن نصر «1» ، مستقرّه غرناطة «2» ، وهي الآن دار هذه المملكة، وأضخم بلادها.
مدينة كبيرة مستديرة رائعة المنظر، كثيرة الأشجار والأمطار والأنهار والبساتين والفواكه، قليلة مهبّ الرياح، لا تجري بها الريح إلا نادرا لاكتناف الجبال إيّاها.
وأصل أنهارها نهران عظيمان شنّيل وحدرّه، أما شنّيل فينحدر من جبل شلير بجنوبها، وهو طود شامخ لا ينفكّ عنه الثلج شتاء ولا صيفا، فهو لذلك شديد البرد، وغرناطة كذلك في الشتاء بسببه، إذ ليس بينها وبينه سوى عشرة أميال.
وفي برد غرناطة يقول [ابن صارة] «3» : (الطويل)
«4» أحلّ لنا ترك الصلاة بأرضكم ... وشرب الحميّا وهو شيء محرّم(4/227)
فرارا إلى نار الجحيم [لأنّها] «1» ... أرقّ علينا من شلير «2» وأرحم
لئن كان ربي مدخلي في جهنّم ... ففي مثل هذا اليوم طابت جهنّم
وفيه عيون ماء كثيرة، وأشجار مختلف ألوانها، وخصوصا التفاح والقراسيا البعلبكية التي لا تكاد توجد في الدنيا منظرا وحلاوة حتى إنها ليعصر منها العسل، وبها الجوز «3» ، والقسطل، والتين، والأعناب، والخوخ، والبلّوط وغير ذلك.
وبذلك الجبل عقاقير كعقاقير الهند، وعشب يستعمل في الأدوية يعرفها الشجّارون (565) لا توجد لا في الهند ولا في غيره.
ويمرّ شنّيل على غربي غرناطة إلى فحصها يشقّ منها أربعين ميلا بين بساتين وقرى وضيع كثيرة البيوت والعلالي «4» وأبراج الحمام وغير ذلك من المباني، وينتهي فحصها إلى لوشة حيث أصحاب الكهف على قول «5» .
وأما حدرّه فينحدر من جبل بناحية مدينة وادي آش شرقي شلير فيمرّ بين بساتين ومزارع وكرمات إلى أن ينتهي إلى غرناطة، فيدخلها على باب الدفّاف بشرقيّها يشقّ المدينة نصفين(4/228)
تطحن به الأرحاء بداخلها وعليه بداخلها قناطر خمس: قنطرة ابن رشبق، وقنطرة القاضي، وقنطرة حمّام جاش، والقنطرة الجديدة، وقنطرة العود «1» ، وعلى القناطر أسواق «2» و [مبان] «3» محكمة، والماء يجري من النهر في جميع البلد في أسواقه وقاعاته ومساجده، يبرز في أماكن على وجه الأرض ويخفي جداوله تحتها في الأكثر، وحيث طلب الماء وجد.
وقلعتها «4» حيث (مقرّ) سلطانها تعرف بالحمراء، وهي بديعة متسعة كثيرة المباني الضخمة والقصور، ظريفة جدا يجري بها الماء تحت بلط كما يجري في المدينة ولا يخلو منه مسجد ولا بيت، وبأعلى برج منها عين ماء، وجامعها وجامع المدينة «5» من أبدع الجوامع وأحسنها بناء، وتعلّق بجامع الحمراء ثريّات الفضة، وبحائط محرابه أحجار ياقوت مرصوفة (و) في جملة ما نمّق به الذهب والفضة، ومنبره عاج وآبنوس.
وبالمدينة جبلان يشقّان [وسطها] «6» ، وفحصها دور حسان وعلالي مشرفة على الفحص فترى منظرا بديعا من مزدرعاته، وفروع الأنهار تسقيها وغير ذلك مما يقصر عنه التخيل والتشبيه، يعرف أحد الجبلين بالخزّة وموزور، ويعرف الثاني بالقصبة القديمة وبالسّند.(4/229)
وهنالك برج الديك عليه ديك نحاس رأسه رأس فرس، وعليه صورة راكب بحربة ودرقة من حيث هبت الريح دار وجه الراكب وباقي المدينة وطئ ولها ثلاثة عشر بابا: باب البيرة، وهو أضخمها، وباب الكحل «1» وهو باب الفخّارين، وباب الخندق، وباب الرّخاء، وباب المرضى، وباب المصرع (566) ، وباب الرملة، وباب الدباغين، وباب الطوابين، وباب الفخارين «2» ، وباب الدفّات، وباب البنود، وباب [الأسدر] «3» .
وحول غرناطة أربعة أرباض: ربض الفخارين وربض الأجل، وهو كثير القصور والبساتين و [كلا] «4» الربضين يلي شنّيل وربض الرملة، وربض البيازين الذي بناحية باب الدفّاف، وهو كثير العمارة يخرج منه نحو من خمسة عشر ألف مقاتل كلّهم شجعان مقاتلون معتادون بالحروب، وهو ربض مستقل بحكامه وقضاته وغير ذلك.
وجامع غرناطة محكم البناء، بديع جدا، لا يلاصقه بناء، تحفّ به دكاكين للشهود والعطارين، وقد قام سقفه على أعمدة ظراف، وبداخله الماء، وبه أسانيد منتصبون لإقراء العلوم وهو معمور بالخير كلّ حين.
ومساجد المدينة و [رباطاتها] «5» لا تكاد تحصى لكثرتها ويقعد السلطان للناس بدار العدل بالسبيكة من الحمراء يوم الاثنين ويوم الخميس صباحا فيقرأ بمجلسه عشر من القرآن وشيء من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأخذ الوزير القصص من الناس، ويحضر معه المجلس الرؤساء من أقاربه ونحوهم.(4/230)
وأهل الأندلس لا يتعمّمون بل يتعهدون شعورهم بالتنظيف والحنّاء ما لم يغلب الشيب، ويتطيلسون فيلقون الطّيلسان على الكتف والكتفين مطويا طيّا ظريفا، ويلبسون الثياب الرفيعة الملونة من الصوف والكتّان ونحو ذلك، واكثر لباسهم في الشتاء الجوخ، وفي الصيف البياض، والمتعمم منهم قليل.
وأرزاق الجند بها ذهب بحسب مراتبهم، وأكثرهم من برّ العدوة من بني مرين وبني عبد الواد وغيرهم، والسّلطان يسكنهم القصور الرفيعة وبينهم وبين الإفرنج حروب ووقائع جمة في كلّ سنة إلّا أن يكون بينهم صلح إلى أمد، وحروبهم سجال تارة [لهم وتارة] «1» عليهم، والنصر في الأغلب للمسلمين على قلّتهم وكثرة عدوّهم بقوة الله تعالى.
وقد كانت لهم وقيعة في الإفرنج سنة تسع عشرة وسبع مئة على مرج (567) غرناطة قتل فيها من الإفرنج أكثر من ستين ألفا وملكان بطره وجوان عمّه، وبطره الآن معلق جسده في تابوت على باب الحمراء، وافتديت جبفة [جوان] «2» بأموال عظيمة، وحاز المسلمون غنيمة من أموالهم قلّما يذكر مثلها في تاريخ «3» وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ
«4» .
وبالبلاد البحرية أسطول حراريق «5» للغزو في البحر الشاميّ يركبها الأنجاد من الرّماة والمغاورين والرؤساء المهرة فيقاتلون العدوّ على ظهر البحر، وهم الظافرون في الغالب،(4/231)
ويغيرون على بلاد النصارى بالساحل أو بقرب [الساحل] «1» فيستأصلون أهلها ذكورهم وإناثهم ويأتون بهم بلاد المسلمين فيبرزون بهم ويحملونهم إلى غرناطة إلى السلطان فيأخذ منهم ما يشاء ويهدي ما يشاء ويبيع.
والبلاد البحرية أولها من جهة المشرق المريّة «2» ، وهي ذات مرسى على البحر الشاميّ، وهو أول مراسي البلاد الإسلامية بالأندلس، وكانت العمارة قبل [البجّانة] «3» فانتقلت إلى الساحل لمنافع الناس.
و [بجّانة] «4» على وادي المريّة، وهي الآن قرية عظيمة جدا ذات زيتون وأعناب وفواكه مختلفة وبساتين ضخمة كثيرة الثمرات.
ووادي المريّة يقال فيه إنّه أبدع الأودية على أنّ الماء فيه يقلّ في فصل الصيف، فيكون بالقسط للبساتين، ويبلغ متصلا بمرشانة «5» وقراها أربعين ميلا، والمريّة ثلاث مدن «6» :
الأولى من جهة الغرب تعرف بالحوض الداخليّ لها سور محفوظ من العدوّ بالسّمّار(4/232)
والحراس ولا عمارة بها، ويليها إلى الشرق المدينة القديمة، ويليها المدينة الثالثة المعروفة بمصلى المريّة، وهي أكبر الثلاث [ولها قلعة] «1» تحوز القديمة من جهة الشمال، وتسمى القصبة في ألسنتهم وهما قصبتان في غاية الحسن والمنعة.
وساحل المريّة أحسن السواحل، وحولها حصون وقرى كثيرة، وجبال شامخة وجامعها الكبير «2» بالمدينة القديمة، وهو بديع.
والمريّة كثيرة الفواكه، وأما الحنطة فبحسب السنين الممطرة لأنّ أكثر زرعها بالمطر، وترتفق بما يجلب إليها من الحنطة (568) من برّ العدوة.
وبها دار الصّناعة لإنشاء الحراريق لقتال العدوّ، ويليها الآن ولاة من صاحب غرناطة، وقد كانت فيما مضى مملكة مستقلة وبينها وبين غرناطة مسير «3» ثلاثة أيام.
ويلي المريّة من البلاد البحرية من جهة المغربين «4» شلوبين «5» ، وهي معدّة لإرسال من يغضب عليه السلطان من أقاربه ويرسل، ويزرع بها [قصب] «6» السكّر، وتقاربها المنكّب «7» ، وهي مدينة دون المريّة، وبها أيضا دار صناعة لإنشاء السفن، وبها قصب(4/233)
السكر، والموز، ولا يوجد شيء في بلد من البلاد الإسلامية هناك إلّا فيها إلا ما لا يعتبر، ويحمل منها السكّر إلى البلاد، وبها زبيب مشهور الاسم.
ويلي المنكّب بلّش «1» وهي كثيرة التين والعنب والفواكه، قال أبو عبد الله بن السّديد:
إنه ليس في الأندلس أكثر عنبا وتينا يابسا منها.
وأما مالقة «2» فمدينة بديعة كثيرة الفواكه، لها ربضان عامران أحدهما من علوّها، والآخر من سفلها، وبها دار صناعة لإنشاء الحراريق، وجامعها بديع وبصحنه نارنج ونخلة، وتختصّ بعمل صنائع الجلد كالأغشية والحزم والمدورات وبصنائع الحديد كالسكين والمقصّ، [وبها الفخار] «3» المذهّب الذي لا يوجد مثله في بلد، والتين الغزير الذي يجلب منها إلى جميع البلاد الغربية بالأندلس وغيرها فيعمّ البلاد شتاء وصيفا فلا يكاد يخلو منه دكان بياع، واللّوز مثله في الكثرة والحسن والطيب، وكذلك الزّبيب، وهي خصيبة جدا وفي تينها يقول الشاعر «4» : (السريع)
مالقة حيّيت ياتينها ... فالفلك من أجلك ياتينها
نهى طبيبي عنك في علّتي ... ما لطبيبي عن حياتي نهى(4/234)
قال ابن السديد: إن بها سوقا ممتدا لأطباق تعمل من الخوص إلى غير ذلك مما يعمل منه. ويلي مالقة مدينة مربلّة «1» ، وهي صغيرة كثيرة الفواكه والسمك.
وتليها أشبونة «2» ، وهي مثلها ساحلية كثيرة الفواكه.
ويلي أشبونة (569) جبل الفتح «3» وهو طود شامخ يخرج في بحر الزّقاق ستة أميال، وبحر الزّقاق أضيق مكان في البحر الغربيّ سعته ستة فراسخ «4» وجرية الماء به قوية، ولا يكاد يركد، ويسمى بحر القنطرة، والقنطرة جسر أخضر من شلش إلى ألش يراه المسافرون إذا سكن البحر «5» وشلش وألش «6» ما بين طريف «7» والجزيرة «8» ، وقد كان هذا الجبل تملكه الإفرنج منذ(4/235)
سنين، ثم أعلاه الله إلى الإسلام منذ قريب «1» وعمّره السلطان أبو الحسن المرينيّ، واتخذه عتادا لجنده إذا دخلوا الجزيرة لحرب الكفار، وقد كان أسكنه طائفة من عسكره، وأخذ الجزيرة الخضراء من السلطان يوسف بن الأحمر ملك الأندلس ليكون مستقرا لجيشه، وأعاضه عنها زروعا تؤدّى إليه، ومالا يؤدّى عنه، هكذا حدثني الثقات من بني مرين، والقاضي الفقيه إبراهيم بن أبي سالم، ثم أخذت الفرنج الجزيرة الخضراء حين قتل أبو مالك بن السلطان المرينيّ وانهزم جيشه «2» بعد النصرة العظمى «3» ، وحينئذ زادت الهمم المرينيّة في تشييد هذا الجبل وتحصينه وتعمير ما عمّر منه، والله يحمي هذا الملك لإكمال ما شرع فيه من غزو الفرنج واستعادة ... «4» الإسلام منهم، وينصره النصر المؤزّر، ويفتح عليه الفتح المبين، وهذا الجبل جبل منيع جدا يتمكن من حازه من الجزيرة وسبتة وما بينهما.
ويلي الجبل الجزيرة الخضراء «5» المشار إليها، وهي مدينة محكمة كثيرة الزرع والماشية، وبها نهر يعرف بوادي العسل عليه بساتين وأرحاء وغير ذلك، وبها دار صناعة لإنشاء الحراريق، وهي آخر البلاد البحريّة الإسلامية بالأندلس، وليس بعدها [لهم بلاد] «6» ، وهي(4/236)
بيد النصارى أعادها الله وقصمهم.
ومن البلاد الكبار غير البحرية رندة «1» ، وهي والجزيرة الخضراء والجبل ومربلّه وما والاهم تحت يد صاحب برّ العدوة السلطان أبي الحسن أحسن الله إليه مراعاته، وبين رندة والجزيرة الخضراء مسيرة ثلاثة أيام وهي جبلية كثيرة الفواكه والمياه والحرث (570) والماشية، وأهلها موصوفون بالجمال ورقّة البشرة واللّطافة.
ويليها بلدة أنتقيرة «2» ثم أرحصونة «3» ثم لوشة «4» وبين المريّة وغرناطة مدينة وادي آش «5» ، وهي بلدة حسنة بديعة منيعة جدا كثيرة المياه والفواكه والمزارع قريبة من شنّيل، فلذلك هي شديدة البرد بسبب الثلوج، وهي بلدة مملكة وأهلها موصوفون بالشّعر، ويحكم بها الرؤساء وهم من قرابة السلطان أو من يستقلّ بها [سلطانا] «6» أو من خلع من سلطان بنفسه، والمياه تشقّ أمام أبوابها كغرناطة.
ويليها مشرقا بسطة «7» ، وهي كثيرة الزرع، واختصّت بالزعفران، وبها [منه ما(4/237)
يكفي] «1» أهل الملة الإسلامية بالأندلس على كثرة ما يستعملونه.
وبهذه المملكة من البلاد برجة «2» وبيرة «3» وأندرش «4» ، وهي مدينة ظريفة كثيرة الخصب وتختصّ بالفخار لجودة تربتها، فلا يوجد في الدنيا مثل فخّارها للطبخ.
وحصونها كثيرة جدا فليس بها من بلد إلا وحوله حصون كثيرة محفوظة بولاة من السلطان ورجال تحت أيديهم وببعضها فرسان مرتّبون، وجند السلطان معظمهم بغرناطة ثم بمالقة وبيرة، وبالثغور البريّة.
وأما الثغور البحرية كالمريّة فليس لها حاجة بالخيل إلا قليلا، وحاجتها إلى الحراريق آكد لأنّ بلاد البرّ تغزو وتغزى من البرّ، وبلاد البحر بالعكس، وأخبار الأندلس كثيرة مما سبق عليه الكتاب، وسلف حديثه في سلف هذه الأبواب مما فيه كفاية، وإليه انتهت الغاية.(4/238)
آخر الجزء الثاني من كتاب" مسالك الأبصار في ممالك الأمصار"، يتلوه إن شاء الله تعالى في الجزء الثالث الباب الخامس عشر في ذكر العرب الموجودين في زماننا وأماكنهم.
والحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا.(4/239)
(2) الباب الخامس عشر في ذكر العرب الموجودين في زماننا وأماكنهم(4/241)
(توطئة)
في ذكر العرب الموجود [ين] «1» في زماننا وأماكنهم ومضارب أحيائهم ومساكنهم على افتراق فرقهم واختلاف طوائفهم وأشتات قبائلهم ومنازلهم من أطراف العراق إلى آخر المغرب دون من في اليمن وخراسان، فإنه لم يتحرّر لي [شيء] «2» من أمرهم، وإنما ذكرت من عرفت منهم إذ لم يكن بدّ من ذكرهم، وهم نزّال حول الحاضرة، و [ذوو] «3» ، توغل في البادية، ومنهم أسوار المدن، وحفظة الطرق، ولم يزل منهم أئمة للطلائع، و [جناح] «4» للجيش، ومنهم بممالكنا بمصر والشام حفظة الدروب، والقومة بخيل البريد، والحملة للسياق في غالب المملكة، ولم تزل الملوك تهش لوفادتهم، وتهب لهم جزيل الأموال، وتقطعهم جلّ البلاد، هذا إلى التنويه بأقدارهم، والتعويل على أخبارهم، ورفعهم في المجالس، وقد ذكرناهم على ما هم عليه الآن من النسب مع ما حصل من التداخل في الأنساب، والتّباين في الأسباب، والتنقل في الديار، والتبدل بالأوطان، واعتمدت في أكثر من ذلك على ما ذكره الأمير الثقة بدر الدين أبو المحاسن يوسف بن أبي المعالي بن زمّاخ المعروف بابن سيف الدولة الحمدانيّ المهمندار «5» ، وما حدثني به الشيخ الدليل النّسابة(4/243)
محمود بن [عرّام] «1» من أصحاب قناة بن [حارث] «2» وهو من ذوي الثقة والعلم بقبائل العرب وأنسابها وبلادها وتفرق فرقها [في أغوارها وأنجادها، وأبوه عرّام بن كويب بن خليل بن ماجد بن ثابت] «3» بن ربيعة الذي ينسب إليه آل ربيعة قاطبة، إلى ما كنت نقلته عن أحمد بن عبد الله الواصليّ وغيره من مشيخة العرب، وقد كان كلّ من الأمير فضل بن عيسى «4» وموسى (3) بن مهنّا «5» يحدثني بطرف من أخبار العرب، وكذلك ما نقلته عن الشريف أبي عبد الله بن عمير «6» بن الإدريسيّ من أخبار عرب الغرب، وعن الشيخ زكريّا المغربيّ.
وقد صحّحت ذلك بحسب [الجهد] «7» ، وما ألام في تقصير في هذا الباب الذي لم أتأنس قبلي بداخل منه، والطريق الذي لم أجد غيري سابقا فيه، ولا مستخبرا.
على أنه يلزم من ذكر العربان الموجودين في زماننا الكلام على قبائل العرب [البائدة] «8»(4/244)
والعاربة والمستعربة لأنّ هؤلاء أغصان تلك الشجرة، وفروع تلك الأصول، فلنتكلّم عليهم على مقتضى ما ذكره المؤرخون، و [نسقهم] «1» إلى أن بزغت شمس الإسلام، وآن مولد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وكان الأولى أن نذكر ذلك في جملة سكان الأرض لنلحق بعضه ببعض، وإنما أتينا به لمناسبة بينه وبين الأبواب السابقة في ذكر الممالك، إذ مساكن العربان متخللة لأكثر الممالك التي ذكرناها، أو مجاورة لها، وإذا تقدم شيء عن موضعه [لمعنى] «2» اقتضاه وأحيل على المتقدم في موضعه كان أولى من تأخيره وإلفات النظر إليه فنقول: قسّم المؤرخون العرب إلى ثلاثة أقسام: بائدة وعاربة ومستعربة «3» .
أما البائدة فهم العرب الأول الذين ذهبت عنا تفاصيل أخبارهم لتقادم عهدهم، وهم عاد وثمود وجرهم الأولى «4» .
وأما العرب العاربة، فهم عرب اليمن من ولد قحطان.
وأما العرب المستعربة، فهم من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السّلام.(4/245)
(العرب البائدة)
فالعرب البائدة: طسم وجديس، وكانت مساكن هاتين القبيلتين باليمامة «1» من جزيرة العرب، وكان الملك عليهم في طسم، واستمروا على ذلك برهة من الزمان حتى انتهى الملك إلى رجل ظلوم غشوم قد جعل (4) سنّته أن لا تهدى بكر من جديس إلى بعلها حتى تدخل عليه فيفترعها.
ولما استمرّ ذلك على جديس أنفوا منه، واتفقوا على أن دفنوا سيوفهم في الرمل، وعملوا طعاما للملك ودعوه إليه، فلما حضر في خواصّه من طسم عمدت جديس إلى سيوفهم فانتزعوها من الرّمل وقتلوا الملك وغالب طسم، فهرب رجل من طسم وشكا إلى تبّع بن حسّان ملك اليمن، فسار ملك اليمن إلى جديس وأوقع بهم وأفناهم، فلم يبق لطسم وجديس ذكر بعد ذلك «2» .(4/247)
(العرب العاربة)
والعرب العاربة: بنو قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام «1» ، فمنهم بنو جرهم ابن قحطان «2» ، وكانت منازلهم بالحجاز، ولما أسكن إبراهيم الخليل ابنه إسماعيل عليهما السلام مكة، [كانت] «3» جرهم نازلين بالقرب من مكّة واتصلوا بإسماعيل وزوّجوه منهم، وصار من ولد إسماعيل العرب المستعربة لأنّ أصل إسماعيل ولسانه كان عبرانيا، فلذلك قيل له ولولده العرب المستعربة.
ومن العرب العاربة: بنو سبأ، واسم سبأ عبد شمس، فلما أكثر الغزو والسّبي سمّي سبأ، وهو ابن يشجب بن يعرب بن قحطان، وسيأتي نسب قحطان، وكان لسبأ عدة أولاد، فمنهم حمير وكهلان «4» وغيرهم، وجميع قبائل اليمن وملوكها المتتابعة من ولد سبأ(4/248)
المذكور، وجميع تبابعة اليمن من ولد حمير بن سبأ خلا عمران «1» وأخيه مزيقياء «2» فانهما ابنا عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، والأزد من ولد كهلان بن سبأ، وفي ذلك خلاف فنذكر هنا أحياء عرب اليمن وقبائلهم المنسوبين إلى سبأ المذكور، ونبدأ بذكر بني حمير بن سبأ، فإذا انتهوا ذكرنا كهلان بن سبأ حتى آخرهم إن شاء الله [تعالى] «3» .(4/249)
(بنو حمير بن سبأ)
فمن بني حمير بن سبأ: التبابعة، ومنهم:
قضاعة، وهو قضاعة بن مالك بن عمرو بن مرّة بن زيد بن مالك بن حمير «1» ، وكان قضاعة «5» مالكا لبلاد الشّحر «2» ، وقبر قضاعة في جبل الشّحر.
ومن قضاعة كلب «3» ، وهم بنو كلب بن وبرة بن ثعلبة «4» بن حلوان بن [عمران] «5» ابن الحاف بن قضاعة.
وكانت بنو كلب في الجاهلية ينزلون في دومة الجندل «6» وتبوك وأطراف الشّام.(4/250)
ومن مشاهير كلب زهير بن جنّاب الكلبي «1» ، وهو القائل «2» : (الطويل)
ألا أصبحت أسماء في الخمر تعذل ... وتزعم أني بالسّفاه موكّل
فقلت لها كفي عتابك نصطبح ... وإلّا فبيني فالتعزّب أمثل
ومنهم: حارثة الكلبيّ «3» ، وهو أبو زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد أصاب ابنه سبي في الجاهلية، فصار إلى خديجة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، فوهبته للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنشد ابن عبد البرّ في كتاب" الصحابة" «4» لحارثة المذكور يبكي ابنه زيدا لما فقده «5» :
(الطويل)
بكيت على زيد ولم أدر ما فعل ... أحيّ يرجّى أم أتى دونه الأجل
تذكرنيه الشمس عند طلوعها ... وتعرض ذكراه إذا قارب الطّفل «6»(4/251)
وإن [هبّت] «1» الأرواح هيّجن ذكره ... فيا طول ما حزني عليه ويا وجل
ثم اجتمع حارثة بزيد ولده عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فخيّره رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختاره على أبيه وأهله.
ومن قضاعة بهراء «2» .
ومن قضاعة جهينة «3» ، وهو قبيلة عظيمة ينسب إليها بطون كثيرة، وكانت منازلها بأطراف الحجاز الشّماليّ من جهة بحر جدّة.
ومن قضاعة بليّ «4» .
ومن قضاعة تنوخ «5» ، وكان بينهم وبين اللّخميين ملوك الحيرة حروب.(4/252)
ومن قضاعة بنو سليح «1» ، وكان لهم بادية الشام فغلبهم عليها ملوك غسّان وأبادوهم.
ومن قضاعة بنو [عذرة] «2» منهم عروة بن حزام «3» ، وجميل صاحب بثينة.
ومن قضاعة بنو نهد «4» ، منهم الصقعب بن عمرو النّهديّ، وهو أبو خالد «5» بن الصّقعب، وكان رئيسا في الإسلام.
ومن بطون حمير «6» : شعبان «6» ، ومنهم عامر الشّعبيّ «7» الفقيه.
انتهى الكلام في بني حمير.(4/253)
(بنو كهلان بن سبأ)
ومن بني كهلان بن سبأ المذكور أحياء كثيرة والمشهور منها سبعة وهي: الأزد، وطيّ، ومذحج، وهمدان، وكندة، ومراد، وأنمار.
(الأزد)
أما الأزد «1» ، فهم من ولد الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن أدد بن زيد بن كهلان.
فمن قبائلهم الغساسنة «2» ملوك الشّام، وهم بنو عمرو بن مازن بن الأزد «3» .
ومنهم: الأوس والخزرج «4» أهل يثرب، وهم الأنصار رضي الله عنهم.
ومن الأزد: خزاعة، وبارق، ودوس، والعتيك، وغافق، فهؤلاء بطون الأزد.(4/254)
أما خزاعة «1» ، فإنها انخزعت عن غيرها من قبائل اليمن الذين تفرقوا من سيل العرم، وسكنت ببطن مرّ «2» على قرب من مكة، وحصلت لهم سدانة البيت والرئاسة، ولما اصطلح رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قريش في عام الحديبية دخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اختلف في نسب خزاعة بين المعدّية واليمانيّة، والأكثر أنّها يمانية، والذي تنسب إليه خزاعة هو كعب [بن عمرو] «3» بن لحيّ «4» بن حارثة بن عمرو [مزيقياء] «5» بن عامر بن حارثة ابن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، وقد ذكر عمرو [مزيقياء] «6» .
وما زالت سدانة البيت في خزاعة حتى انتهت إلى رجل منهم يقال له أبو غبشان «7» ،(4/255)
وكان في زمن قصيّ بن كلاب، فاجتمع مع قصيّ بالطائف على شرب، فأسكره قصيّ، وخدعه واشترى منه مفاتيح الكعبة بزقّ خمر، وأشهد عليه، وتسلم المفاتيح، وأرسل ابنه عبد الدار بن قصيّ بها إلى مكة، فلما وصل إليها رفع صوته، وقال:
يا معاشر قريش هذه مفاتيح بيت أبيكم إسماعيل قد ردّها الله عليكم من غير عار ولا ظلم، فلما صحا الخزا (عيّ) ندم حيث لا تنفعه الندامة، فقيل:" أخسر من بني غبشان" «1» ، وأكثرت الشعراء القول في (7) ذلك، فمنه: (البسيط)
باعت خزاعة بيت الله إذ سكرت ... بزقّ خمر فبئست صفقة البادي
باعت سدانتها بالنّزر وانصرفت ... عن المقام وظلّ البيت والنّادي
وجمع قصيّ أشتات قريش، وأخرج خزاعة من مكة.
ومن خزاعة بنو المصطلق «2» الذين غزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «3» .
وأما بارق «4» ، فهم من ولد عمرو مزيقياء الأزدي، نزلوا جبلا بجانب اليمن يقال له بارق فسمّوا به «5» .(4/256)
ومنهم معقّر بن حمار البارقيّ «1» ذكره صاحب" الأغاني"، وهو صاحب القصيدة التي من جملتها البيت المشهور: (الطويل)
وألقت عصاها واستقرّ بها النّوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر
وأما دوس «2» ، فهو ابن [عدثان] «3» بن عبد الله بن وهزان بن كعب بن الحارث بن كعب بن مالك بن نصر بن الأزد.
وسكنت بنو دوس إحدى السّروات المطلة على تهامة، وكانت لهم دولة بأطراف العراق، وأول من ملك منهم مالك بن فهم بن غنم بن دوس «4» ، وقد تقدم ذكر مالك بن فهم ومن ملك بعده «5» .
ومن الدّوس أبو هريرة، وقد اختلف في اسمه، والصحيح عمير بن عامر «6» .
وأما العتيك «7» وغافق «8» فقبيلتان مشهورتان في الإسلام، وهم من ولد الأزد.(4/257)
ومن الأزد: بنو الجلندى «1» ملوك عمان، والجلندى لقب لكلّ من ملك عمان منهم، وكان ملك عمان في أيام الإسلام، قد انتهى إلى [جيفر وعبّاد] «2» ابني الجلندى، وأسلما مع أهل عمان على يد عمرو بن العاص، انتهى الكلام في الأزد.
(طيئ)
وأما طيئ «3» ، فإنها نزلت بعد الخروج من اليمن بسبب سيل العرم بنجد الحجاز في جبلي أجأ وسلمى فعرفا بجبلي طيئ «4» إلى يومنا هذا.
وأما طيئ فهو [ابن] «5» أدد بن زيد بن كهلان «6» ، فمن بطون طيئ: جديلة «7» ونبهان «8»(4/258)
وبولان «1» وسلامان «2» وهنيء «3» وسدوس «4» - بضم السين- وأما سدوس «5» التي في قبائل»
ربيعة بن نزار فمفتوحة السّين.
ومن سلامان: بنو بحتر «6» . ومن هنيء: إياس بن قبيصة الذي ملك بعد النّعمان «7» .
ومن طيّئ: عمرو بن المسبّح»
، وهو من بني ثعل الطائيّ «9» ، وكان عمرو أرمى الناس، وفيه يقول امرؤ القيس: (المديد)(4/259)
ربّ رام من بني ثعل ... مخرج كفيه من ستره «1»
ومن بني ثعل الطائيّ زيد الخيل، وسمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير «2» .
ومن طيئ حاتم طيئ المشهور بالكرم.
(مذحج)
وأما بنو مذحج «3» ، واسم مذحج مالك بن أدد «4» بن زيد بن كهلان، وهم بطون كثيرة فمنها: خولان «5» و [جنب] «6» ، ومنهم معاوية الخير الجنبي «7» صاحب لواء مذحج في(4/260)
حرب بني وائل، وكان مع تغلب «1» .
ومن مذحج أود «2» قبيلة الأفوه الأوديّ الشاعر «3» .
ومن بني مذحج بنو سعد العشيرة «4» ، وسمّي بذلك لأنّه لم يمت حتى ركب معه من ولده وولد ولده ثلاث مئة رجل، وكان إذا سئل عنهم يقول: هؤلاء عشيرتي دفعا للعين عنهم، فقيل له: سعد العشيرة لذلك.
ومن بطون سعد العشيرة [جعفيّ] «5» ، وزبيد «6» قبيلة عمرو بن معدي كرب الزّبيديّ «7» .
ومن بطون مذحج النّخع «8» ، ومنهم الأشتر (النّخعيّ) واسمه مالك بن(4/261)
الحارث «1» صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
ومن النّخع سنان بن أنس قاتل الحسين.
ومنهم القاضي شريك «2» .
ومن مذحج عنس بالنون «3» ، وهي قبيلة الأسود الكذاب العنسي.
وعنس أيضا رهط عمار بن ياسر «4» صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(همدان)
وأما همدان «5» ، فهم من ولد ربيعة بن حيان بن مالك بن زيد بن كهلان، ولهم صيت في الجاهلية والإسلام.(4/262)
(كندة)
وأما كندة «1» ، فهم بنو ثور، وثور هو كندة بن عفير بن [عديّ] «2» بن الحارث من ولد زيد بن كهلان، وسمّي كندة لأنه كند أباه، أي كفر نعمته.
وبلاد كندة باليمن تلي حضرموت، وقد تقدم ذكر (9) ملوكهم «3» .
ومن كندة حجر بن عديّ «4» صاحب عليّ بن أبي طالب، قتله معاوية صبرا.
ومنهم شريح القاضي «5» .
ومن بطون كندة السّكاسك «6» .(4/263)
والسّكون بنو أشرس بن كندة «1» .
فمن السّكون معاوية بن خديج قاتل محمد بن أبي بكر الصّديق «2» رضي الله عنهما.
ومنهم حصين بن نمير السّكونيّ»
الذي صار صاحب جيش يزيد بن معاوية بعد مسلم بن عقبة (صاحب) نوبة الحرّة «4» بظاهر مدينة الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
(مراد)
وأما مراد «5» فبلادهم إلى جانب زبيد من جبال اليمن، وإليه نسب كلّ مراديّ من عرب اليمن.(4/264)
(أنمار)
وأما أنمار «1» ففرعان وهما: بجيلة وخثعم «2» ، وبجيلة رهط جرير بن عبد الله «3» صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يقال لهذا جرير يوسف الأمة «4» لحسنه وفيه قيل «5» : (الرجز)
لولا جرير هلكت بجيلة ... نعم الفتى وبئست القبيلة
(بنو عمرو بن سبأ)
وأما القبائل المنتسبة إلى عمرو بن سبأ «6» فمنهم لخم بن عديّ بن عمرو بن سبأ «7» .(4/265)
ومن لخم بنو الدار «1» رهط تميم الدّاريّ «2» . ومن لخم المناذرة ملوك الحيرة، وهم بنو عمرو ابن عديّ بن نصر اللخميّ «3» ، وكانت دولتهم من أعظم دول العرب، وقد ذكرناهم «4» .
ومنهم [جذام بن عديّ بن عمرو بن] «5» سبأ، وهو أخو لخم، وجميع جذام من ابنيه حرام وحشم «6» .
وكان في بني جذام «7» الشرف، ومن بطون حشم بن جذام عتيب بن أسلم «8» .
(بنو الأشعر بن سبأ)
أما بنو الأشعر بن سبأ «9» ، فهم الأشعريون، وهم رهط أبي موسى، واسمه عبد الله بن قيس «10» .(4/266)
(بنو عاملة بن سبأ)
وأما بنو عاملة بن سبأ «1» فمن القبائل الثمانية «2» التي خرجت إلى الشام زمن سيل العرم، ونزلوا قرب دمشق في جبل عاملة «3» . فمن عاملة عديّ بن الرّقاع «4» الشاعر.
(العرب المستعربة)
وأما العرب المستعربة فهم ولد إسماعيل، وقيل لهم المستعربة لأنّ إسماعيل لم يكن لغته عربية بل عبرانية (10) ودخل في العربية فلذلك سمّي ولده المستعربة.
سبب سكنى إسماعيل وأمّه مكة [أنّ] «5» ذلك كان بسبب سارة رضي الله عنها، وأنّ الله تعالى أمر إبراهيم أن يطيع سارة، وأن يخرج إسماعيل عنها، فخرج إبراهيم من الشام ومعه إسماعيل، وقدم بهما مكة، وقال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ
«6» فأنزلهما إبراهيم هناك وعاد إلى الشام، وكان عمر إسماعيل أربع(4/267)
عشرة سنة، وذلك لمضيّ مئة سنة من عمر إبراهيم، فمن سكنى إسماعيل عليه السلام مكة إلى الهجرة ألفان وسبع مئة وثلاث وتسعون سنة، وكان هناك قبائل جرهم، فتزوج إسماعيل منهم امرأة، وولدت له اثني عشر ولدا ذكرا فمنهم قيدار، وماتت هاجر ودفنت بالحجر «1» ، ومات إسماعيل ودفن معها، وقد اختلف المؤرخون كثيرا في أمر ملك جرهم على الحجازيين وبني إسماعيل، فمن قائل: الملك على الحجازيين في جرهم ومفتاح الكعبة في ولد إسماعيل، ومن قائل إنّ قيدار توّجته أخواله، وعقدوا له الملك عليهم بالحجاز، وأما سدانة البيت ومفاتيحه فكانت مع بني إسماعيل بغير خلاف حتى انتهى ذلك إلى نابت من بني إسماعيل، فصارت السّدانة بعده لجرهم، ويدلّ على ذلك قول عامر بن الحارث الجرهمي «2» من قصيدته منها: (الطويل)
وكنّا ولاة البيت من بعد نابت ... نطوف بذاك البيت والأمر ظاهر
كأن لم يكن بين الحجون «3» إلى الصّفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنّا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر
ثم ولد لقيدار ابنه حمل، ثمّ ولد لحمل نبت، ويقال: نابت، وقيل: هو ابن قيدار، وقيل: ابن إسماعيل، وفي ذلك خلاف.(4/268)
ثم ولد لنبت سلامان، ثم ولد لسلامان الهميسع، ثم ولد للهميسع اليسع، ثمّ ولد (11) لليسع أدد، ثم ولد لأدد أدّ، ثم ولد لأدّ ابنه عدنان «1» ثم ولد لعدنان ولدان، وهما عكّ، ومنه بنو عكّ «2» ، ومعدّ «3» ، ثم ولد لمعدّ قضاعة «4» ومنه بنو قضاعة، ونزار «5» .
(ذكر النسب النبوي الشريف)
ثم ولد لنزار أربعة فمنهم مضر «6» على عمود النّسب النّبويّ، وثلاثة خارجون عن النّسب.
أولهم إياد «7» ، وكان أكبر من مضر، وإليه يرجع كلّ إياديّ من بني معدّ، وفارق إياد الحجاز وسار بأهله إلى أطراف العراق، فمن بني إياد كعب بن مامة الإياديّ «8» ، وكان(4/269)
يضرب بجوده المثل.
والثاني ربيعة «1» ، ويعرف بربيعة الفرس لأنه ورث الخيل من أبيه، وولد لربيعة أسد «2» وضبيعة «3» ، فولد لأسد جديلة «4» وعنزة «5» ، ومن جديلة وائل «6» ، ومن وائل بكر «7» وتغلب «8» ، فمن تغلب كليب ملك بني وائل، وقتله جسّاس.
ومن بكر بن وائل بنو شيبان «9» ، ومن رجالهم مرّة «10» وابنه جسّاس قاتل كليب، وطرفة ابن العبد الشاعر.(4/270)
ومن بكر المرقشان الأكبر «1» والأصغر «2» .
ومن بكر بنو حنيفة «3» ، ومنهم مسيلمة الكذّاب.
وأما [عنزة] «4» بن أسد بن ربيعة فمنه بنو عنزة وهم أهل خيبر.
ومن بني عنزة القارظان «5» .
وأما ضبيعة بن ربيعة فمن ولده [المتلمّس] «6» الضّبعيّ الشاعر.(4/271)
ومن قبائل ربيعة النّمر «1» ، ولجيم «2» ، والعجل «3» ، وبنو عبد القيس «4» و [هم] «5» من ولد أسد بن ربيعة.
ومن ولد ربيعة سدوس «6» - بفتح السّين- واللهازم «7» .
والثالث أنمار «8» ، ومضى أنمار إلى اليمن، فتناسل بنوه بتلك الجهات، وحسبوا من اليمن.
(و) لما حضرت نزار الوفاة «9» ، دعا إيادا وعنده جارية شمطاء، وقال: هذه الجارية(4/272)
[الشمطاء] «1» وما أشبهها «2» لك.
[ودعا أنمارا، وهو في مجلس له، وقال: هذه البدرة «3» والمجلس وما أشبهها «2» لك] «1» .
ودعا ربيعة فأعطاه حبالا سودا من شعر، وقال: هذا وما أشبهه «2» لك. «4»
وأعطى مضر قبة حمراء، وقال: هذه وما أشبهها «2» لك، ثم قال: وإن أشكل عليكم شيء فأتوا الأفعى بن (12) الأفعى الجرهميّ «5» ، وكان ملك نجران.
فلما مات نزار ركبوا رواحلهم آمّين الأفعى، فلما كانوا من نجران على يوم إذا هم بأثر بعير، فقال إياد: بعير أعور، فقال أنمار: وإنّه لأبتر، فقال ربيعة: وإنه لأزور، وقال مضر:
وشارد لا يستقرّ، فلم ينشبوا أن وقع لهم راكب، فلما غشيهم قال: هل رأيتم من بعير ضال؟ فوصفوه له، فقال: إنّ هذه لصفته عينا فأين بعيري؟ قالوا: ما رأيناه، قال: أنتم(4/273)
أصحاب بعيري وما أخطأتم من نعته شيئا [فتبعهم حتى قدموا نجران] «1» ، فلما أناخوا بباب الأفعى واستأذنوه وأذن لهم، صاح الرجل بالباب، فدعا به الأفعى وقال: ما تقول؟ قال: أيها الملك ذهب هؤلاء ببعيري، فسألهم الأفعى عن شأنه فأخبروه، فقال لإياد: ما يدريك أنّه أعور؟ قال: قد رأيته قد لحس الكلأ [من شقّ] «2» والشّقّ الآخر وافر، وقال أنمار: إنّما رأيته يرمي بعره مجتمعا ولو كان أهلب لمصع به فعلمت أنّه أبتر، وقال ربيعة: [رأيت] «1» أثر إحدى يديه [ثابتا] «3» وأثر الأخرى فاسد (ا) ، فعلمت أنّه أزور، وقال مضر: رأيته يرعى الشّقّة من الأرض ثم يتعداها فيمرّ بالكلإ [الملتفّ] «1» الغضّ فلا ينهش منه شيئا فعلمت أنّه شرود، فقال الأفعى: صدقتم [قد أصابوا أثر بعيرك] «1» وليسوا بأصحابك فالتمس بعيرك.
ثم سألهم الأفعى عن نسبهم فأعلموه، فرحب بهم وحيّاهم ثم قصّوا عليه قصة أبيهم فقال لهم: كيف تحتاجون إليّ وأنتم على ما أرى؟ قالوا: قد أمرنا بذلك أبونا، فأمر خادم دار ضيافته أن يحسن إليهم ويكرم مثواهم، وأمر وصيفا له أن يلزمهم ويتفقد كلامهم، فأتاهم القهرمان بشهد فأكلوه، وقالوا: ما رأينا شهدا أعذب ولا أحسن منه، فقال إياد: صدقتم لولا أن نحله [ألقاه] «1» في هامة جبار، ثم جاءهم بشاة مشويّة فأكلوها واستطابوها، فقال أنمار (13) صدقتم لولا أنها غذّيت بلبن كلبة، ثم جاءهم بالشراب فاستحسنوه فقال(4/274)
ربيعة: صدقتم لولا أنّ كرمته نبتت على قبر، ثم قالوا: ما رأينا منزلا أكرم قرى ولا أخصب [رحلا] «1» من هذا الملك، فقال مضر: صدقتم لولا أنّه لغير أبيه، فذهب الغلام إلى الأفعى فأخبره، فدخل الأفعى إلى أمّه، فقال: أقسمت عليك إلا ما [أخبرتني] «2» [من أنا و] «3» من أبي، قالت: أنت الأفعى ابن الملك الأكبر، قال: حقا لتصدقينني، فلما ألح عليها قالت:
أيّ بنيّ: إنّ الأفعى كان شيخا قد أثقل فخشيت أن يخرج هذا الأمر عنا أهل البيت، وكان عندنا شاب من أبناء الملوك «4» اشتملت عليك منه، ثم بعث إلى القهرمان، فقال: أخبرني عن الشّهد الذي قدمته إلى هؤلاء النفر ما خطبه؟ قال: [أخبرنا بدبر] «5» في كهف «6» فيه عظام نخرة وإذا النحل قد عسلت في جمجمة من تلك العظام فأمرت باشتياره «7» فأتوا بعسل لم ير مثله قطّ، فقدمته إليهم لجودته، ثم بعث إلى صاحب مائدته، فقال ما هذه الشاة التي أطعمتها هؤلاء النفر؟ قال: إني [بعثت] «8» إلى الراعي أن يبعث لي بأسمن ما عنده، فبعث بها، فسألته عنها، فقال: إنها أول ما ولدت من غنمي فماتت أمّها [وكانت كلبة لي قد وضعت] «3» وأنست السّخلة بجراء الكلبة ترضع معهم فلم أجد في غنمي(4/275)
مثلها، فبعثت بها إليك، ثم بعث إلى صاحب الشراب فسأله عن شأن الخمر فقال: هي كرمة غرستها على قبر أبيك فليس في بلاد العرب مثل شرابها، فعجب الأفعى من القوم، وقال: ما هم إلا شياطين، ثم أحضرهم وسألهم عن وصية أبيهم.
فقال إياد: جعل لي خادما شمطاء وما أشبهها، فقال الأفعى: إنه ترك غنما برشا فهي لك ورعاؤها مع الخادم.
وقال أنمار: جعل لي بدرة ومجلسه وما أشبههما «1» ، فقال: لك ما ترك من الرقّة والأرض.
وقال ربيعة: جعل لي حبالا سودا (14) وما أشبهها «2» ، فقال: ترك أبوك خيلا دهما وسلاحا فذلك لك وما فيها من عبيد، فقيل: ربيعة الفرس.
وقال مضر: جعل لي قبة حمراء وما أشبهها «1» ، قال: إنّ أباك ترك إبلا حمرا فهي لك (وما أشبهها) ، فقيل: مضر الحمراء، فكانوا كذلك حينا من الدهر إلى أن أصابتهم سنة فهلكت الشاة وعامة الإبل [وبقيت الخيل] «3» وذهبت بالرقّة والمتاع، وكان ربيعة يغزو على خيله ويغير ويعول إخوته، وكان سبب تحول أنمار إلى اليمن أنّه تعرق عظما في جنح الليل ثمّ دحا به وهو لا يبصر فققأ عين مضر، فصاح مضر [عيني عيني] «4» وتشاغل به إخوته(4/276)
فاعرورى أنمار بعيرا من إبله فلحق بأرض اليمن.
ثم ولد لمضر المقدم ذكره إلياس «1» على عمود النسب، وولد له خارجا عن عمود النّسب قيس عيلان «2» بن مضر بالعين، وقيل: إنّ عيلان فرسه، وقيل: كلبه، وقيل: عيلان أخو قيس وهو [إلياس] «3» بن مضر، وقد جعل الله تعالى من الكثرة لقيس أمرا عظيما.
فمن ولده قبائل هوازن «4» ، ومن هوازن بنو سعد بن بكر بن هوازن «5» الذين كان فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رضيعا.
ومن قبائل قيس بنو كلاب «6» ، وصار منهم أصحاب حلب وكان أولهم صالح بن مرداس «7» .(4/277)
[ومن قبائل قيس بنو عقيل] «1» الذين كان منهم ملوك الموصل المقلد «2» والقرواش «3» وغيرهما. (و) من ولد قيس بنو عامر «4» ، وصعصعة «5» وخفاجة «6» ، وما زالت لخفاجة إمرة العراق من قديم وإلى الآن.
ومن هوازن أيضا بنو ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان «7» . ومن هوازن أيضا جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن «8» ومن جشم دريد بن الصّمّة «9» .(4/278)
ومن قيس أيضا بكر «1» ، وبنو هلال «2» ، وثقيف «3» ، واسم ثقيف عمرو «4» بن منبّه [بن بكر] «5» بن هوازن وقد قيل (15) إنّ ثقيفا من إياد، وقيل: من بقايا ثمود، وهم أهل الطائف.
ومن قيس عيلان أيضا بنو نمير «6» ، وباهلة «7» ، ومازن «8» ، وغطفان وهو ابن سعد بن قيس عيلان «9» . ومن قيس أيضا بنو عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان «10» ،(4/279)
وكان بين عبس وذبيان «1» حروب داحس المقدم ذكرها «2» .
ومن بني عبس عنترة العبسيّ، وادعاه أبو (هـ) شداد بعد أن كبر.
ومن قيس أشجع «3» ، وهم أيضا من ولد غطفان.
ومن قيس قبائل سليم «4» .
ومن قيس بنو ذبيان بن بغيض، ومن بني ذبيان المذكورين بنو فزارة «5» ، فمنهم حصن بن حذيفة بن بدر الذي يمدحه زهير بقوله «6» : (الطويل)
تراه إذا ما جئته متهلّلا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله
وأسلم حصن ثمّ نافق، وكان بين ذبيان وبين عبس إحن وحروب معروفة.
ومن بني ذبيان النابغة الذّبيانيّ.(4/280)
ومن قيس: عدوان بن عمرو بن قيس عيلان «1» ، وكانوا ينزلون الطّائف قبل ثقيف، ومنهم ذو الإصبع العدوانيّ الشاعر «2» .
انتهى الكلام عن قيس.
وولد لإلياس مدركة «3» على عمود النّسب، وولد له خارجا عن العمود طابخة «4» ، وبعضهم ينسب مدركة وطابخة «5» إلى أمّهما خندف واسمها ليلى بنت حلوان بن عمران ابن الحاف بن قضاعة «6» وجميع أولاد إلياس من خندف، وإليها ينسبون دون أبيهم فيقولون: بني خندف ولا يذكرون إلياس.
وصار من طابخة الخارج عن العمود قبائل فمنهم: بنو تميم بن طابخة «7» ، والرباب «8» ،(4/281)
وبنو ضبّة»
، وبنو مزينة «2» وهم بنو عمرو بن أد بن طابخة نسبوا إلى أمهم مزينة بنت كلب بن وبرة.
ثم ولد لمدركة بن إلياس خزيمة «3» على عمود النّسب، وولد له خارجا عن العمود هذيل «4» وغالب «5» وسعد «6» وقيس المنسوب إليهم أبناؤهم ومن هذيل (16) جميع قبائل الهذليين فمنهم عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو ذؤيب الهذليّ «7» الشاعر، وغيره.
ثم ولد لخزيمة المذكور كنانة «8» على عمود النّسب، وولد له خارجا عن العمود الهون(4/282)
وأسد ابنا خزيمة، فمن الهون «1» عضل، وهي قبيلة، أبو هم [عضل] «2» بن الهون بن خزيمة «3» . ومنه أيضا الدّيش بن الهون وهو أخو عضل «4» ويقال لهاتين القبيلتين وهما عضل والدّيش القارّة «5» .
وأما أسد بن خزيمة «6» فمنه الكاهلية «7» ودودان «8» وغيرهما، وإليه يرجع كلّ أسديّ.
ثم ولد لكنانة المذكور النّضر بن كنانة «9» على عمود النّسب، فكان للنّضر عدة إخوة ليسوا على العمود وهم ملكان «10» ، وعبد مناة، وعمرو، وعامر، ومالك أولاد كنانة،(4/283)
فصار من ملكان بنو ملكان، وصار من عبد مناة «1» عدة بطون، وهم بنو غفار «2» رهط أبي ذرّ، وبنو بكر «3» ، ومن بني بكر الدّئل «4» رهط أبي الأسود الدّؤلي «5» ، ومن بطون عبد مناة بنو ليث «6» ، وبنو الحارث «7» ، وبنو مدلج «8» ، وبنو ضمرة «9» ، وصار من عمرو ابن كنانة «10» العمريّون، ومن أخيه عامر «11» العامريون، ومن مالك بن كنانة «12» بنو(4/284)
فراس «1» ، ومن بطون كنانة الأحابيش «2» ، وليسوا من الحبشة بل هم من عرب كنانة فهؤلاء إخوة النّضر وولدهم، وأما النّضر فقيل إنه قريش، والصّحيح أن قريشا هم بنو فهر.
وولد للنّضر مالك «3» على عمود النّسب، (وولد له خارجا عن العمود) الصّلت «4» ، ويخلد «5» .
وولد لمالك فهر «6» على عمود النّسب، وفهر هو قريش وكلّ من كان من ولده فهو قرشي «7» وسمي قريشا لشدّتة تشبيها له بدابة من دوابّ البحر يقال لها القرش، وقيل: إنّ قصيّا لما استولى على البيت وجمع أشتات بني فهر حول الحرم سمّوا قريشا لأنّه قرشهم أي(4/285)
جمعهم كذا نقل ابن سعيد المغربي، فعلى هذا يكون لفظة قريش اسما لبني فهر لا له، ولم يولد لمالك (17) غير فهر على عمود النّسب.
وولد لفهر غالب «1» على عمود النّسب، وولد له خارجا عن العمود ولدان محارب والحارث.
فمن محارب «2» بنو محارب وهم شيبان «3» .
ومن الحارث «4» بنو الخلج «5» ، ومنهم أبو عبيدة بن الجراح أحد العشرة رضي الله عنهم.
ثم ولد لغالب لؤيّ «6» على عمود النّسب، وولد له خارجا عن العمود تيم «7» الأدرم، والأدرم الناقص الذقن، ومن تيم بنو تيم الأدرم، وكان لؤيّ سيد قومه فاق شجاعة وكرما وحلما وخطابة، وكان ذا مال وإبل كثيرة، وحكي أنه ندّ له بعير فخرج يردّه فاستصعب فتناول حجرا فضربه به في جبهته فأنفذه من الجانب الأخر، فعجب لذلك، ثم أخذ الحجر فوجده حديدا أخضر فأتى به قينا من يهود فقال له: اطبع هذا سيوفا، ثم أتاه يتقاضاه نجازها، وكانت قد نجزت، فأخذ القين سيفا منها وهزّه بيده ثم قال: (الطويل)(4/286)
سيوف حداد يالؤيّ بن غالب ... حداد ولكن أين بالسّيف ضارب
فتناوله لؤيّ بيده، وضرب به عنقه.
ثم ولد للؤيّ أولاد: كعب «1» على عمود النّسب وإخوته خارجون عن العمود، وهم سعد «2» ، وخزيمة «3» ، والحارث «4» ، و [هو] «5» جشم «6» ، وعوف «7» وعمرو وعامر «8» و [سامة] «9» أولاد لؤيّ بن غالب، ولكلّ منهم ولد ينسبون إليه خلا الحارث.
ومن ولد عامر بن لؤيّ بن عمرو بن عبد ودّ فارس العرب [الذي قتله] «10» عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
ثم ولد لكعب مرّة «11» على عمود النّسب، وولد له خارجا عن العمود هصيص وعديّ ابنا كعب.(4/287)
فمن هصيص «1» بنو جمح «2» ، ومن مشاهيرهم أمية بن خلف «3» عدوّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأخوه أبيّ بن خلف «4» وكان مثله في العداوة.
ومن هصيص أيضا بنو سهم «5» ، ومن بني سهم عمرو بن العاص السهمي.
ومن عديّ بن كعب»
بنو عديّ، ومنهم عمر بن الخطاب (18) وسعيد بن زيد «7» من العشرة رضي الله عنه.
ثم ولد لمرّة على عمود النّسب ابنه كلاب «8» ، وولد له خارجا عن العمود تيم ويقظة.
فمن تيم «9» بنو تيم، ومنهم أبو بكر الصدّيق، وطلحة من العشرة رضي الله عنهم.(4/288)
ومن يقظة «1» بنو مخزوم «2» ، ومنهم خالد بن الوليد رضي الله عنه، وأبو جهل بن هشام، واسمه عمرو المخزوميّ.
ثم ولد لكلاب قصيّ «3» على عمود النّسب، وولد له خارجا عن العمود زهرة «4» ، ومنه بنو زهرة (ومنهم) سعد بن أبي وقّاص أحد العشرة، ونسب آمنة أمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونسب عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم.
وقصيّ كان عظيما في قريش، وهو الذي استعاد سدانة البيت من خزاعة، وجمع قريشا، وأثّل مجدهم، وجاء الإسلام وهو على ذلك في التعظيم لشأنه، وكانوا لا يبرمون أمرا إلا بدار النّدوة لأنها كانت داره، وبه اجتمعت قبائل قريش في الحرم وفي ذلك يقول الشاعر «5» : (الطويل)
أبوكم قصيّ كان يدعى مجمّعا ... به جمع الله القبائل من فهر
ثم ولد لقصيّ عبد مناف «6» ، واسمه المغيرة على عمود النّسب، وولد له خارجا عن العمود عبد الدار وعبد العزّى ابنا قصيّ.(4/289)
فمن بني عبد الدّار «1» بنو شيبة «2» الحجبة.
ومن ولد عبد الدّار النّضر بن الحارث، وكان شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر صبرا «3» .
ومن عبد العزّى «4» خديجة بنت خويلد زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ومن عبد العزّى ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى.
ولبني عبد مناف في قريش النسب الصميم والحسب الكريم، وإلى هذا أشار أبو طالب عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله «5» : (الطويل)
إذا افتخرت يوما قريش بمفخر ... فعبد مناف أصلها وصميمها
(19) وولد عبد مناف أربعة أبناء، وهم: نوفل «6» وعبد شمس «7» والمطّلب «8»(4/290)
وهاشم «1» ، ويقال: إنّ عبد شمس و [هاشما] «2» شقّ التّوم، ولدا لبطن وجلداهما معتلقان، فلما فرّقا سال بينهما الدم، فقالوا: إنه سيكون بينهما، وهكذا كان، وقد تظارف من قال: (الخفيف)
عبد شمس قد أو قدت لبني ها ... شم نارا يشيب منها الوليد
فابن حرب للمصطفى، وابن هند ... لعليّ، وللحسين يزيد «3»
وكان نوفل وعبد شمس متآلفين بينهما منافرين [هاشما] «4» والمطّلب، وكذلك كان هاشم والمطّلب متآلفين بينهما منافرين لنوفل وعبد شمس مذ كانوا، ولم يفترق هاشم والمطّلب في جاهلية ولا إسلام، وإلى هذا أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: [ «إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام، وإنما هم بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد» ] «5» ، ولهذا حرّمت الصدقة على بني [المطّلب] «6» مع بني هاشم ولم تحرّم على نوفل وعبد شمس، وكلّهم لأب.(4/291)
فأما عبد شمس فهو أبو أمية «1» المنسوب إليه كلّ أمويّ، ومنه أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهو عثمان بن عفّان بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.
ومنه معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية.
ومنه مروان بن الحكم بن أبي العاصي بن أمية «2» ، وسيأتي إن شاء الله [تعالى] «3» ذكر معاوية ومروان وأبنائهما فيما بعد لمكانهما وأولادهما من الخلافة في موضعه.
ومن ولد المطّلب الإمام الشافعيّ، وهو محمد بن إدريس بن العباس [بن عثمان] «4» بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن [المطّلب] «5» .
وأما الابن الرابع من بني عبد مناف الذي علا قدره بأبنائه فهو هاشم، وعليه عمود النّسب فإليه انتهت سيادة قومه وكانت إليه الرّفادة والسّقاية، وكان رجلا موسرا، وكان إذا حضر الحجّ قام في قريش فقال «6» :
«يا معشر قريش! إنكم جيران الله وأهل بيته، وإنه يأتيكم في هذا الموسم زوار الله(4/292)
وحجّاج بيته (20) وهم ضيوف الله وأحقّ الضيف بالكرامة ضيفه، فاجمعوا لهم ما تصنعون لهم به طعاما أيامهم هذه التي لا بدّ لهم من الإقامة بها، فو الله لو كان مالي يسع ذلك ما كلفتكموه.
[فيخرجون] «1» لذلك خرجا من [أموالهم] »
كلّ امرئ بقدر ما عنده فيصنع به للحاجّ طعاما حتى يصدروا منها.
وكان هاشم أول من سنّ الرّحلتين لقريش رحلة الشتاء والصيف وأول من أطعم الثّريد بمكة، وإنما كان اسمه عمرا فسمي هاشما لهشمه الثّريد بمكة فقال بعض العرب «3» : (الكامل)
عمرو الذي هشم الثّريد لقومه ... قوم بمكة مسنتين عجاف
كانت إليه الرّحلتان كلاهما ... سفر الشتاء ورحلة المصطاف
وقبر هاشم بغزّة من الشام.
(و) ولد (هاشم) ولدين «4» : أحدهما أسد أبو فاطمة «5» أمّ أمير المؤمنين عليّ عليه(4/293)
السّلام، وعبد المطّلب «1» وعليه عمود النسب، وهو حفر بئر زمزم لرؤيا رآها، وكانت قد تتابعت على قريش سنون أقحلت الضّرع، وأذهبت العظم، فرأت رقيقة بنت [أبي] «2» صيفيّ بن هاشم «3» في منامها هاتفا يقول «4» : يا معشر قريش! إنّ هذا النبيّ المبعوث منكم قد أظلتكم أيامه فحيهلا بالخصب فانظروا رجلا منكم وسيطا، ووصف صفة عبد المطلب، فليخلص هو وولده وليهبط إليه من كلّ بطن رجل، فليسنوا من الماء «5» ، وليمسوا من الطيب واستلموا الركن ثم ارتقوا أبا قبيس، وليستسق الرجل وليؤمّن القوم فغثتم ما شئتم، فأصبحت رقيقة مذعورة، وقصّت رؤياها فقيل: هو شيبة الحمد عبد المطّلب ففعل ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام قد أيفع أو كرب، فقال: اللهمّ سادّ الخلّة وكاشف الكربة أنت معلّم غير معلّم، ومسئول غير مبخّل، وهذه عبدّاؤك وإماؤك بعذرات حرمك يشكون إليك سنتهم أذهبت الخفّ (21) والظّلف، اللهم فأمطر غيثا مغدقا ضريعا، قالت رقيقة:
فو ربّ الكعبة ما راحوا حتى تفجرت السّماء بمائها، واكتظّ الوادي بثجيجه، فسمعت سادات قريش يقولون لعبد المطّلب: هنيئا لك أبا البطحاء أي عاش بك أهل البطحاء، وقالت رقيقة: (البسيط)
بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا ... لما فقدنا الحيا واجلوّذ المطر(4/294)
فجاد بالماء جونيّ له سبل ... سحّا فعاشت به الأنعام والشّجر
مبارك الأمر يستسقى الغمام به ... ما في الأنام له عدل ولا خطر
وولد عبد المطّلب عشرة أولاد «1» الذين أعقب منهم ستة: حمزة والعباس رضي الله عنهما وأبو طالب وأبو لهب والحارث وعبد الله.
فأما حمزة فانقرض عقبه.
وأما العباس رضي الله عنه فكانت إليه السّقاية (و) الرّفادة بعد أبيه عبد المطّلب، وفي سقيا الحجيج والفخر بزمزم، يقول القائل «2» : (الهزج)
ورثنا المجد من آبا ... ئنا فسما بنا صعدا
ألم نسق الحجيج ونن ... حر الدلافة الرّفدا
فإن نهلك ولم نملك ... ومن ذا خالد خلدا
فزمزم في أرومتنا ... ونفقأ عين من حسدا
وهو أبو الخلفاء قدس الله أرواحهم، وسيأتي ذكرهم إن شاء الله تعالى في مكانه.
وأما أبو لهب والحارث فلهما عقب باق.
وأما أبو طالب فقد كثّر الله بركات البضعة الطاهرة النّبوية (من) أبنائه، ووصل نسبه وحسبه.(4/295)
وكان عمر رضي الله عنه خطب أمّ كلثوم «1» إلى عليّ رضي الله عنه فقال عليّ: إنّها صغيرة، فقال عمر: زوّجنيها يا أبا الحسن، فإني أرصد من كرامتها ما لا يرصد أحد، فقال له عليّ: أنا أبعثها إليك، فإن رضيتها فقد زوجتكها، فبعثها إليه ببرد، وقال لها: قولي له هذا البرد الذي قلت لك، فقالت ذلك لعمر، فقال: قولي له قد رضيته رضي الله عنك، ووضع يده على ساقها فكشفها (22) فقالت له: أتفعل هذا! لولا أنّك أمير المؤمنين لكسرت أنفك، ثم خرجت حتى جاءت أباها وأخبرته الخبر، وقالت: بعثتني إلى شيخ سوء، فقال: مهلا يا بنية فإنّه زوجك، فجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى مجلس المهاجرين في الروضة «2» (حيث) كان يجلس فيه المهاجرون الأوّلون، فجلس إليهم، وقال:
رفئوني، فقالوا: بماذا يا أمير المؤمنين؟ قال: تزوجت أمّ كلثوم بنت عليّ بن أبي طالب، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «3» :" كلّ نسب وسبب وصهر منقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي وصهري" فكان لي به صلىّ الله عليه وسلّم النسب والسبب وأردت أن(4/296)
أجمع إليه الصّهر فرفّؤوه.
وولد أبو طالب أبناء ثلاثة، وهم: عقيل، وجعفر الطيار، وأمير المؤمنين وابن عمّ سيد المرسلين الواجب الحبّ أبو الحسن عليّ عليه وعليهما السّلام «1» ، ولكلّ من عقيل وجعفر وعليّ أبناء «2» ، وسنذكر المشاهير من أبناء عليّ رضي الله عنه إن شاء الله، فعليهم عمود النّسب المتصل بالنبيّ صلى الله عليه وسلم.
وأما عبد الله فعليه عمود نسب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو أبو سيدنا ونبيّنا وشفيعنا محمد خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم.
انتهى الكلام على طوائف العرب البائدة والعاربة والمستعربة بتوفيق الله سبحانه وتعالى.(4/297)
(طوائف العرب الموجودين في زماننا)
(عرب الشام)
وأما طوائف العرب الموجدين في زماننا فهم: عرب الشّام ثعلبة «1» الشام تلي مصر إلى الخروبة «2» وهم من درما «3» [آل] «4» غياث الجواهرة «5» ، ومن الحنابلة «6» ، ومن بني وهم «7» ، ومن الصّبيحيين «8» ، ومن أحلافهم فرقة من النّعيميين «9» ، ومن العار والخمان «10» .
ثم جرم «11» ، وهي ببلاد غزة والداروم «12» مما يلي الساحل إلى الجبل وبلد الخليل عليه(4/299)
السّلام، وفي العروب «1» جروم كثيرة: جرم قضاعة «2» ، ومنهم بنو جشم «3» ، وبنو قدامة «4» ، وبنو عوف «5» ، (23) وجرم بجيلة «6» وجرم عاملة «7» وجرم طيئ «8» ، ومنها هؤلاء الذين نحن في ذكرهم.
قال الحمدانيّ: واسمه ثعلبة واسم أمّه جرم فحضنته فسمّي بها وهو [جرم بن عمرو بن الغوث] «9» بن طيئ وهم: [شمجى] «10» ، وقمران «11» ، وحيّان «12» ، قال: وكانوا متفقين مع ثعلبة بالشام يدا مع الإفرنج على المسلمين، فلما فتح السلطان صلاح الدين البلاد جاءت ثعلبة وطائفة من جرم ومضر وبقيت بقايا جرم مكانها، قال:(4/300)
والمشهور من جرم هذه الآن جذيمة «1» ، ويقال (إنّ) لهم نسبا في قريش، وزعم بعضهم أنها ترجع إلى مخزوم. وقال آخرون: بل من جذيمة بن مالك بن حسل «2» بن عامر بن لؤيّ ابن غالب بن فهر، قال: وجذيمة هذه آل عوسجة، وآل أحمد، وآل محمود، وكلّهم في إمارة شاور بن سنان ثم في بنيه، وكان لسنان أخوان فيهما سؤدد وهما غانم وخضر.
ومن هؤلاء جذيمة: جمائع الرائديين «3» جماعة منصور بن جابر، وجماعة عامر بن سلامة «4» .
[ومنهم] «5» بنو أسلم، قال: وهذه أسلم من جذام لا من جذيمة لكنها اختلطت مع جذيمة.
ومنهم شبل، ورضيعة (من) جرم، ونيفور «6» ، والقدرة جماعة عليم بن رميح، والأحامدة، والرفثة، وكور من جرم، جماعة جابر بن سعيد، وموقع، وكان كبيرهم مالك الموقعيّ، وكان مقدما عند السلطان صلاح الدين وأخيه العادل «7» .(4/301)
ومنهم بنو [عوف] «1» قال: ويقال إنهم من جرم بن [حرمز] «2» من سنبس «3» ، ومن هؤلاء العاجلة، والضمان، والعبادلة، وبنو تمام، وبنو جميل، ومن بني جميل، بنو مقدام، ومن بني [عوف] «1» أيضا [آل] «4» نادر وبنو غوث، وبنو بها «5» ، وبنو خولة، وبنو هرماس، وبنو عيسى، وبنو سهيل، وأرضهم الداروم وكانوا سفراء بين الملوك وجاورهم قوم من زبيد تعرف ببني فهيد، ثم اختلطوا بهم.
قال الحمدانيّ: فهذه جرم الشام (24) وحلفاؤهم ومن جاورهم ولاذ بهم، وبنو جابر [بدمرى] «6» من غزة وتعرف بالحريث (وهم) جماعة فهد بن بدران، وأما بنو صخر وهم الدعيجيّون «7» ، والعطويّون، والصّويتيون، وبلادهم ما حول الكرك «8» ومنهم طائفة بمصر، وبنو خصيب وهم أشتات بمصر والشام.(4/302)
وبنو هوبر، ووفدت منهم طائفة على المعزّ أيبك «1» بمصر وبقيتهم بالشام، وبنو مرّة خفراء القدس، وبنو فيض وبنو شجاع بالقدس أيضا، والعناترة ببلد الخليل عليه السّلام، وبنو أيوب بجينين «2» ، وبنو نمير بن قيس خفراء غور الكفرين ونمرين، وبنو وهران بجبل عوف «3» وبنو [عمرو] «4» عرب الصّلت «5» ومرجعها إلى جذام.
(و) بنو طريف من جذام. ومنهم مسهر، وعجرمة، ومهدي «6» ، وبنو مهديّ منهم:
المشاطبة ومنهم: أولاد ابن عسكر ومن الأدعياء جماعة نعيم «7» ، ومن بني مهديّ أيضا [العناترة] «8» جماعة أولاد راشد، والبترات، واليعاقبة، والمطارنة، والعفير، والرّويم، والقطاربة، وأولاد الطابية، وبنو دوس، وآل سيار، والمخابرة، والسماعة، والعجارمة من بني(4/303)
طريف، وكان شيخهم مسعود بن جرير ذا مكانة عند ولاة الأمور، وبنو خالد، والسلمان، والفرانسية، والدرالات، و [الحمالات] «1» ، والمساهرة، والمعاورة «2» ، وبنو عطاء، وبنو مياد، وآل شبل، وآل رويم وهم غير الرّويم «3» ، والمحارقة، وبنو عياض وهؤلاء ديارهم البلقاء «4» ، و [آل] «5» باير، و [آل] «5» الصوان و [آل] «5» علم أعفر، وهؤلاء بالبلقاء طائفة من حارثة، ولهم نسب بقرى بني عقبة «6» .
ومن بني مهديّ أيضا بنو داود، وجماعة فضل بن عليم من المشاطبة، وجماعة زائد بن بشير من العناترة، وجماعة فرسة «7» بن جريان من السّماعة، وجماعة غضبان بن عمرو بن جرير من العجابرة، وجماعة سلمان العبّاديّ من بني عبّاد، وجماعة (25) عساكر بن حياش، وهؤلاء ديارهم حول الكرك، وبنو جوشن خفراء الموجب «8» و [بنو بعجة] «9» من(4/304)
هلباء خفراء الزويرة، وبنو عجرمة خفراء الرقطانة والحسبة من بني عقبة، وعقبة من جذام وديارهم من الشّوبك «1» إلى حسمى «2» إلى تبوك إلى تيماء «3» إلى برد ورؤاف «4» إلى الحريداء «5» وهو شرقي الحجر «6» ، وآخر أمرائهم كان شطيّ بن عبيّة «7» وكان سلطاننا الملك الناصر قد أقبل عليه إقبالا أحلّه فوق السماكين، وألحقه بأمراء آل فضل وآل مرا، وأقطعه الإقطاعات الجليلة، وألبسه التشريف الكبير، وأجزل له الحباء، وعمّر له ولأهله البيت والخباء.
وبنو زهير «8» عرب الشّوبك أيضا، والحريث وهم بالساحل الغزاوي، وغزوا عسقلان «9» أيام الملك الصالح مع بيبرس الكنجيّ فأقطعهم هناك.
وبنو سعيد عرب صرخد «10» وهم من سعد جذام.(4/305)
وزبيد فرق شتى بصرخد «1» منهم، وبغوطة دمشق «2» ، وببلاد سنجار «3» ، وبالحجاز «4» ، وباليمن «5» والذين بصرخد منهم آل ميّاس، وآل صيفيّ، وآل برّة، وآل محسن، وآل جحش، وآل رجاء، وبغوطة دمشق آل رحّال، وآل بدّال، والدّوس، والحريث وهم جماعة نوفل الزّبيدي.
(آل ربيعة)
وأما آل ربيعة «6» - وهم ملوك البرّ وأمراء الشام والعراق والحجاز- فهم: آل فضل، وآل مرا، وآل عليّ من آل فضل.(4/306)
قال الحمدانيّ: وربيعة رجل من سلسلة «1» ، نشأ في أيام أتابك زنكي «2» وولده نور الدين «3» رحمهما الله تعالى ونبغ بين العرب، قال: ويقال إنّ أباه رجل من علقى «4» ، قال: وتقول ربيعة الآن إنّه من ولد جعفر بن خالد بن برمك «5» ، قال: وهذا ليس بصحيح.
قلت: وأصلهم إذا نسبوا إليه أشرف لهم لأنّهم من سلسلة بن عنين بن سلامان من طيئ، وهم كرام العرب، وأهل البأس والنجدة فيهم، والبرامكة (26) وإن كانوا قوما كراما(4/307)
فأنّهم قوم عجم وشتان بين العجم والعرب، وقد شرّف الله العرب إذ بعث فيهم محمدا صلىّ الله عليه وسلّم نبيّه، وأنزل فيهم كتابه، وجعل فيهم الخلافة والملك وابتزّ بهم ملك فارس والروم، وقرع بأسنتهم تاج كسرى وقيصر، وكفى بهذا شرفا لا يطاول وفخرا لا يقاول.
قال المهمندار الحمدانيّ: وزعموا أنّه من ولد جعفر من أخت الرشيد «1» التي عقد له عليها كما قالوا لتخرج عليه على أن لا يطأها فوطئها على حين غرّة فحبلت بغلام وكان هذا ربيعة من بنيه، قال: وهذا الخبر ليس بصحيح، وإن كان صحيحا فقد دفنت المرأة وولدها كما قيل في تمام الحكاية، ولم يعلم لهما أثر، قالوا: وكانت نكبة البرامكة بهذا السّبب ومما يدلّ على بطلان هذه الدّعوى ما نقل عن ثقات أنّ مسرورا الخادم سئل عن سبب الإيقاع بالبرامكة فقال: كأنّك تظنّ حديث المرأة [صحيحا] »
، وأنّ الإيقاع بهم كان بسببه، فقلت: نعم، فقال: ما لهذا الخبر صحة، وإنما حسد موالينا وملكهم.
قلت: ولا يبعد ذلك من ملك الملوك ولا سيما البرامكة كان قد علا صيتهم، وانتشر ذكرهم، وكثرت فيهم المدائح، وقصدهم الشعراء، ووفدت عليهم الوفود حتى تضاءلت الخلافة بهم.
قال الحمدانيّ:
والأصحّ في نسب ربيعة هذا أنّه ربيعة بن حازم بن عليّ بن مفرّج بن دغفل بن جرّاح بن شبيب بن مسعود بن سعيد بن حريث «3» بن السّكن بن رفيع بن علقى بن حوط بن عمرو(4/308)
ابن خالد بن معبد بن عديّ بن أفلت بن سلسلة بن عمرو «1» بن غنم بن ثوب بن معن بن عتود بن عنين بن سلامان بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيئّ، فهذا ما ذكره الحمدانيّ.
وأما نسب ربيعة إلى برمك، فقالوا: ربيعة (27) بن سالم بن شبيب بن حازم بن عليّ ابن جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك.
قال الحمدانيّ: ولد ربيعة أربعة، وهم: فضل، ومرا، وثابت، ودغفل، وسنذكرهم على ما هم في وقتنا على ما ذكره لي محمود بن [عرّام] «2» من بني ثابت بن ربيعة، قال:
(آل فضل)
فضل «3» منهم آل عيسى «4» وقد صاروا بيوتا: بيت مهنّا بن عيسى «5» وأميرهم(4/309)
وأمير سائر آل فضل أحمد بن مهنّا «1» وبيت فضل بن عيسى وأميرهم سيف بن فضل «2» ، وبيت حارث بن عيسى وأميرهم قناة بن حارث.
وأما أولاد محمد بن عيسى «3» ، وأولاد حديثة بن عيسى، وآل هبة بن عيسى فتبّاع، وهذا البيت أسعد بيت في العرب وفي وقتنا الذي أشرقت فيه طوالع سعودهم، وأينع [فيه] «4» مخضرّ عودهم.
وأما بقية بيوت آل فضل فمنهم آل فرج، والأمير فيهم زيد بن طاهر، وغنام بن وهيبة، وآل سميط، والإمرة فيهم في صافية بن حجير بن الصّميد، وآل مسلم والإمرة فيهم في طامي بن عباس، وآل عامر، والإمرة فيهم في بني عامر بن درّاج.
وأما آل عليّ، فهم وإن كانوا من [ضئضئ] «5» آل فضل، فقد انفردوا منهم واعتزلوا عنهم حين صاروا طائفة أخرى وسيأتي ذكرهم، فهؤلاء آل فضل.(4/310)
وأما من ينضاف إليهم ويدخل فيهم فمن يذكر وهم: زغب «1» والحريث «2» وبنو كلب وبعض بني كلاب، وآل بشار، وهم موال، وخالد حمص، وطائفة من سنبس، وسعيدة «3» ، وطائفة من فرير «4» ، وبنو خالد الحجاز، وبنو عقيل من كرز «5» ، وبنو رميم، وبنو حيّ، وقمران والسراحين، ويأتيهم من عرب البرّية من يذكر.
فمن غزيّة: غالب، وآل أجود، والبطنين، وساعدة.
ومن بني خالد: آل جناح، و [الصبيات] «6» من مياس، والجبور، والدّغم، والقرسة، وآل منيخر، وآل بيوت، [والمعامرة] «7» ، والعلجات وهؤلاء من خالد، وفرقة (28) من عائذ وهم آل يزيد وشيخهم ابن مغامس، والمرابدة وشيخهم كليب بن أبي محمد، وبنو سعيد وشيخهم محمد العليمي، والدواشر «8» وشيخهم رواء بن بدران، هؤلاء غير من يخالفهم في بعض الأحايين، على أنني لا أعرف في وقتنا من لا يؤثر صحبتهم ويظهر محبتهم، وأمير القوم كما تقدم أحمد بن مهنّا، وهذا نسبه إلى ربيعة [أبوه مهنّا بن عيسى بن مهنّا بن مانع بن حديثة بن عصيّة بن فضل بن ربيعة] «9» ، وديارهم من حمص إلى(4/311)
قلعة جعبر «1» إلى الرّحبة «2» آخذين على سعة الفرات «3» ، وأطراف العراق حتى ينتهي حدّهم قبلة بشرق إلى الوشم «4» وآخذين يسارا إلى البصرة، ولهم مياه كثيرة ومناهل مورودة: (الخفيف)
ولها منهل على كلّ ماء ... وعلى كلّ دمنة آثار
قلت: وكان من خبر هذا البيت الذي رفعت عمده، وشدّ بطنب الجوزاء وتده، يد سلفت لعيسى بن مهنّا عند الظاهر بيبرس «5» حال تشريده وتطريده احتاج فيها إلى فرس يركبه، فبالغ في إكرامه، وأركبه خير خيله، فلما ملك قلّده الإمرة ورقّاه وأنهله ريّ الأمل ورواه، ثم لم [يزل] «6» يزداد سموا ويترقى في علو حتى مات.(4/312)
وقلّد في الأيام المنصورية «1» مهنّا ولده الإمرة وعظم بنفسه وبأبيه، وعرف بعلوّ الهمم، وبلغ المرجوّ من رعاية الذّمم، وعفّ عن الفواحش إلا اللّمم، فزاد قدره ارتفاعا وصدره اتساعا.
قلت: هذا البيت أوله رجل من طيئ من بني سلسلة بن عنين بن سلامان.
نشأ هذا الرجل في أيام أتابك زنكي وأيام ولده نور الدين الشّهيد كما تقدم «2» ، وفد عليه فأكرمه وشاد بذكره، وإلى هذا عنين «3» ينتسب كلّ عرب عنين من كان من ولده أو من حلفائه أو من استخدمه الأمراء الذين من ولده، ومهنّا «4» جدّ مهنّا هذا [أبي أحمد] «5» الأمير الآن هو [ابن] «6» الأمير مانع بن حديثة [بن عصيّة] «6» بن فضل بن ربيعة الطائيّ (29) الشاميّ التدمريّ، وكان أمير عرب الشام في دولة طغتكين صاحب(4/313)
دمشق «1» ، ولم يصرح لأحد من هذا البيت بإمرة على العرب بتقليد من السّلطان إلا من أيام العادل أبي بكر أخي السّلطان صلاح الدين أمّر منهم حديثة ثم إنّ ابنه الكامل «2» قسّم الإمرة نصفين نصفا لمانع بن حديثة ونصفا لغنّام أبي طاهر بن غنّام.
ثم إنّ الإمرة انتقلت إلى أبي بكر [بن عليّ] «3» بن حديثة وعلا فيها قدره، وبعد صيته، فلما كان من البحرية «4» ما كان «5» ساقت تصاريف الدهر الملك الظاهر بيبرس إلى بيوتهم وهو طريد مشرّد، ولم يكن قد بقي معه سوى فرس واحد يعول عليه، فسأل عليّ ابن حديثة فرسا يركبه فلم يعطه شيئا، وكان ذلك بمحضر من عيسى بن مهنّا فأخذه عيسى(4/314)
وضمّه إليه وآواه وأكرمه وقراه وخيّره في رباط خيله، فاختار منها فرسا فأعطاه ذلك الفرس وزوده وبالغ في الإحسان إليه فعرفها له الظاهر، فلما تملّك انتزع الإمرة من أبي بكر بن عليّ وجعلها لعيسى بن مهنّا، وأتاه أحمد بن طاهر بن غنّام وسأله أن يشركه معه في الإمرة، فأرضاه أن يعطيه إمرة ببوق وعلم، وبقي أبو بكر بن عليّ شريدا طريدا تارة بنجد وتارة بأطراف الشام إلى أن مات، وأمّنه الملك الظاهر غير مرة وحلف له فما وثق به ولا اطمأنّ، ثم إنّ درجة عيسى بن مهنّا علت عند الملك الظّاهر، ولم يزل معظّما إلى أن مات، ثم إنّ الإمرة صارت [لولده] «1» الأمير حسام الدين مهنّا بن عيسى في أيام الملك المنصور قلاوون، وعلت مكانته في أيام المنصور أكثر من مكانة أبيه.
حكى لي شيخنا شهاب الدين أبو الثناء محمود «2» ، قال: حضرت طرنطاي المنصوريّ «3» وهو مخيم بالخربة «4» ، وقد حضره أحمد بن حجيّ «5» أمير آل مرا يدّعي(4/315)
بألف بعير أخذتها آل فضل لعربه، ومهنّا (30) حاضر، وكلّ منهما جالس إلى جانب من طرنطاي، فألحّ أحمد بن حجيّ في المطالبة، واحتدّ وارتفع صوته، ومهنّا ساكت لا يتكلم، فلما طال تمادى في الضجيج وتمادى مهنّا في السكوت، أقبل طرنطاي على مهنّا، وقال: ما تقول يا ملك العرب؟ فقال: وما أقول نعطيهم ما طلبوا هم أولاد عمّنا وإن كانت لهم عندنا هذه البعيرات أعطيناهم حقّهم، وإن كان ما لهم شيء فما هو كثير إذا أعطينا بني عمّنا من مالنا، فقال له أحمد: لا، ألا قل أتكلم، وزاد في هذا ومثله ومهنّا ساكت فلما زاد رفع مهنّا رأسه إليه، وقال له: يا أحمد إن كان كلامك عليك هينا فكلامي علي ما هو هين، وهذه الأباعر أقلّ من أن يحصل فيها كلام، وأنا معطيك إياها، ثم قام فقال طرنطاي: هكذا والله يكون الأمير «1» ، ودام مهنّا على هذا حتى جاءت الدولة الأشرفية «2» ، ولما خرج الأشرف لفتح قلعة الروم «3» مرت(4/316)
العساكر بسرمين «1» إقطاع مهنّا، فأكلت زروعها وآذت أهلها فشكوا إلى مهنّا أذية العساكر، فشكا إلى الأشرف فعزّ عليه واستنقص همته، وقال: كم جهد ما آذوا حتى تواجهني بالشكوى، وما كان يغتفر هذا الفعل لهذا الجيش العظيم الخارج لأجل إذلال العدوّ وقصّ جناح الكفر، وأسمعه من هذا ومثله.
ثم لما كان الفتح ركب الأشرف في الفرات في خواصّه ومعه جلساؤه من بني مهديّ، وكانوا يضحكونه، فجاء مهنّا بن عيسى فأمر بمدّ الإسقالة ليدخل فلما دخل عليها غمز عليه فحركت الإسقالة فوقع في الماء وتلوث بالطين فهزئت به بنو مهديّ وضحك الأشرف ومن حوله، وطوى مهنّا جوانحه على ألمها، ثم إنه استأذن في الانصراف إلى بيوته فأذن له وقال إلى لعنة الله، فأسرّها مهنّا في نفسه ولم يبدها، وركب من وقته، وتوجّه إلى أهله، وأقام عندهم على حذر ثم (31) عاد الأشرف ونزل بحماة بعث إليه مهنّا بخيل وجمال فقبلها وخلع على رسوله وبعث له خلعة سنيّة ليطمئنه ثم يكبسه، فلما جاءت لبسها إظهارا للطاعة، وارتحل لوقته ضاربا في وجه البرّ فلم يتمّ للأشرف ما أراده منه، وعاد إلى مصر وفي نفسه من إمساك مهنّا وإخوته وبنيه، وظنّ مهنّا أن لا حقد عنده، فلم يلبث الأشرف أن خرج إلى الكرك وخرج إلى دمشق، وخرج منها على أنه يصيد كباش الجبل، ثم إن مهنّا عمل له ضيافة عظيمة فحضرها الأشرف وأكل منها، ولما فرغ ذلك أمسك مهنّا ومعه جماعة وجهزهم إلى مصر وحبسهم ببرج في القلعة وضيق عليهم إلا في الراتب لهم، وكان مهنّا في الحبس لا يأكل إلا بعد مدّة، وإذا أكل ما يقيم رمقه ويصلي الصبح، ويدير وجهه إلى الحائط ويصمت ولا يكلم أحدا حتى تطلع الشمس، ثم يقوم بعجلة وسرعة ويأخذ كفا من حصى وتراب كان هناك ثم يزمجر ويرمي به إلى الحائط كالأسد الصائل، فلما خرج الأشرف إلى الصّيد ترك ذلك الفعل، فقيل له في ذلك، فقال: قضي الأمر، ولم ير(4/317)
منبسطا إلا في ذلك الحين.
قال، وحدثني مظفر الدين موسى ولد مهنّا، قال: لما كنا بالاعتقال كان عمي محمد بن عيسى مغرى بدخول المرتفق والتطويل فيه، وكان المرتفق مقاربا لدور حريم السّلطان ولبعض الأمراء، فقلت له في ذلك، [فقال:] «1» يا ولد مهنّا لعلي أسمع خبرا من النسوان فإنهنّ يتحدثن بما لا يتحدث به الرجال، فبينا نحن ذات يوم، وإذا بمحمد قد خرج، وقال:
بشراكم قد سمعت صائحة النساء تقول: وا سلطاناه!، فقلنا له: دعنا مما تقول، فقال: ما أقول لكم حقّ، وكان لنا صاحب من العرب تنكر وأقام بمصر، وكان يقف قبالة مرمى البرج الذي نحن فيه، ويومئ إلينا ونومئ إليه غير أنّه (32) لا يسمعنا ولا نسمعه، فلما كان في تلك الساعة ومحمد يحدثنا، وإذا بصاحبنا قد جاء وأومأ ثم مدّ يده الى التراب وصنع فيه هيئة قبر ونصب عليه عودا عليه خرقة صفراء كأنّها سنجق السلطان ثم نكسها، وقعد كأنه يبكي، ثم وقف قائما ورقص فتأكد الخبر عندنا بموت الأشرف، فلما فتح علينا من الغد سألنا الفتاح والسجّانين فأنكرونا ثم اعترف لنا بعضهم وكان ذلك أعظم سرور دخل على قلوبنا.
ولما خرجوا من السجن شكوا احتياجهم إلى النساء فأطلق لهم جماعة من الجواري الأشرفيات ولم يكن مرادهم بذلك إلا التشفّي، وأعيد الجماعة الى أهلهم إلا مهنّا فإنه أخّر مدة ثم جهّز فلما خرج من دمشق لحقه البريد إلى ثنيّة العقاب «2» بأن يعود فامتنع وقد توجّه إلى أهله وكانوا قد ندموا على إطلاقه، ثم إنّه قدم مصر بعد ذلك مرات وهو كالطائر الحذر الذي نصب له الشّرك بكلّ مكان، وآخر مدة قدمها في أوائل الدولة الناصريّة(4/318)
الأخيرة «1» سنة عشر وسبع مئة، وكان برلغي الكبير «2» مملوك مهنّا وهو الذي قدّمه «3» فلما وجده قد أمسك تحدث فيه مع السلطان، وقال: هذا مملوكي وقدّمته ليعطى إقطاعا في الحلقة، فأعطي فوق حقّه حتى جعلتموه ملكا من الملوك، وأنا أريد أن تأخذ كلّ ماله ومماليكه وتعطيني إياه برقبته ليكون عندي إلى أن يموت فوعد بذلك، ثم إنّ برلغي مات في ذلك الوقت فقيل له: قد مات، فعزّ ذلك عليه عدم قبول شفاعته مع ما كان يمتّ به من سوابق الخدم.
ولما كان السلطان في الكرك فخرج مهنّا، وقد طار خوفا ورعبا ولما اجتمع بقراسنقر «4» وكانت بينهما صداقة قديمة مؤكدة، وكلّ منهما مستوحش، [فجدّدا] «5» الأيمان والعهود على المضافرة وأن لا يسلم واحد منهما (33) صاحبه فلما توجه قراسنقر إلى حلب زاره مهنّا فخلا به مهنّا فأراه قراسنقر كتابا من السلطان فيه إعمال الحيلة على إمساك مهنّا، فقال له مهنّا: ما أنت صانع؟ فقال أنا أطيعه فيك وأجاهره وهو يجعلني دأبه ووكده فمن(4/319)
يحميني منه إذا قصدني فقال له مهنّا: تجيء إلينا فتحالفا على ذلك، ثم إنّ مهنّا [وفى] «1» لقراسنقر لما توجه إليه على ما هو معروف في موضعه حتى أنّ زوجة مهنّا عائشة بنت عسّاف بالغت في خدمة قراسنقر، وكانت تقول لمهنّا: يا مهنّا ذكر الدهر لا تدعه، وكذلك محمد بن عيسى «2» [إلا] «3» فضل بن عيسى أخو مهنّا فما كان رأيه إلا التقرب بإمساك قراسنقر والجماعة إلى السلطان، فكانت عائشة تقول: تعسا لأمّ ولدت الفضل بعد مهنّا و (محمد بن) عيسى.
وكتب مهنّا إلى السلطان يستعطفه ويقول: هؤلاء مماليكك ومماليك أبيك وكبار بيتكم وقد هربوا من الموت وسألوا أن تكفّ عنهم وتجعل البيرة «4» لقراسنقر، والرحية للأفرم «5» ، وبهسنا «6» للزّردكاش «7» ، وإذا حضر مهمّ جامع للإسلام حضروا إليه، وجاهدوا بين يديك(4/320)
فأجابهم بإطابة القلب، وأنه قد جعل الصّبيبة «1» لقراسنقر، وعجلون «2» للأفرم، والصّلت للزّردكاش، أو إمريّة كما كان فما اطمأنوا لذلك، وزادهم نفورا فجهزهم إلى خربندا «3» ، وقال له: متى حميت هؤلاء كنت أنا في طاعتك معهم، وأخفر الركب العراقيّ وسيّرهم مع ابنه سليمان «4» ، وبعث معهم من جهته لخربندا ومن حوله خيولا مسوّمة فقوبلوا بالإكرام والرعاية، وخلع على سليمان وأطلق له أموالا جمة، وجهّزت لمهنّا خلع وإنعامات وبرالغ «5» بالبصرة له ولأهله ومعها الحلّة والكوفة وسائر البلاد الفراتية، واشتدّت الوحشة بينه وبين السلطان الملك الناصر، وتأكدت فأعطى الإمرة لأخيه (34) فضل، وتظاهر مهنّا بالمنافرة والمباينة والوحشة، وحضر إلى عند خربندا فأكرمه غاية الإكرام وأجلّه نهاية الإجلال، وقرّر أمر الركب العراقيّ وأعطى عصاه خفارة لهم وتأمينا، وضاع الزمان وامتدت الأيام والليالي في المراوغة من مهنّا وهو يعد السلطان أنّه يحضر إليه ويمنيه، ويسوّف به من وقت إلى(4/321)
وقت، والبريد يروح ويجيء، والرسل تتردد، وجهز إليه أرسلان الدّوادار «1» وألطنبغا الحاجب «2» ، الذي عمل (في) نيابة حلب، والشيخ صدر الدين الوكيل «3» ولا ألوى ولا عاج، ثم كان أولاده وإخوته يتناوبون الحضور إلى السّلطان وهو ينعم عليهم بمئين ألوف وبالإقطاعات العظيمة والأملاك وهم يمنونه حضوره ويعدونه بقدومه، ومهنّا لا يزداد إلا حذرا، والسلطان لا يزداد إلا طمعا، وإذا حضرت للمسلمين نصيحة أو مصلحة كان مهنّا ينبه عليها ويشير بها، وكان السلطان يقبل نصحه ويعرف ديانته.
ثم لما كانت سنة أربع وثلاثين توجّه مهنّا بنفسه إلى السلطان ودخل إلى مصر فأكرمه غاية الإكرام، وأنعم عليه إنعامات كثيرة إلى الغاية، وعاد مهنّا راجعا إلى بلاده، ولم يزل إلى أن توفي في ذي القعدة سنة خمس وثلاثين وسبع مئة بقرب سلميّة، وأقاموا عليه المآتم ولبسوا السّواد وعاش نيّفا وثمانين سنة، وكان وقورا متواضعا لا يحتفل بملبس.
تتميم
وهؤلاء آل عيسى هم في وقتنا ملوك البرّ ما بعد واقترب، وسادات الناس ولا تصلح إلا عليهم العرب «4» ، قد ضربوا على الأرض نطاقا، وتفرقوا فجاجها حجازا وشاما وعراقا، أنى(4/322)
نزلوا خلت الأرض قد رمت أفلاذها أو السماء قد مرت رذاذها، ترتجّ بخيولها صهيلا، وتحتجّ (35) بسيوفها على الرقاب صليلا، تجمع قنابل «1» ، وتلمع مناصل، وتنبت قنا، و [تميت] «2» فتنا، قد نصبوا بمدرجة الطريق خيامهم، وأوقروا في علم الأسماع إعلامهم، أنّ الكرم أعلامهم، وتقارعوا في قرى الضّيفان، وسارعوا إلى تقريب الجفان، قد داروا على البلاد أسوارا حصينة، وسوارا على معصم كلّ نهر وعقدا في جيد كلّ مدينة، وأحاطوا بالبرّ من جميع أقطاره، وحالوا بين الطير المحلق وبين مطاره، وحفظوه من كلّ جهاته، وحرسوه من سائر مواضعه وآفاته، وصانوه من كلّ طارق يتطرق، وسارق يتسلّل أو يتسرق، فلا تبصر إلّا مرسى خيام، ومسرى هيام، ومورد كرام، وموقد ضرام، ومقعد همام، ومعقد ذمام، ومجال غمام وآجال رزق أو حمام، ومعهد أياد جسام، ومشهد يوم يرعف به أنف قناة أو حسام، وتكبير وتكثير [صلاة] «3» ومكان مفزع، وأمان من يجزع، وملجأ خائف، وملجم حائف، وسجايا ملكية، وعطايا برمكية، ومواهب طائيّة، ومذاهب حاتميّة، وبوادر ربيعيّة، ونوادر مرعيّة، وصوارم تتحسس بذيلها الرقاب، ومكارم يتحسر على آثارها السّحاب، لا يطرق لهم غاب، ولا يطرق لهم بذل رغاب، ولا يطرح لهم بيت مضيف، ولا يطيح إلا إليهم تابع مشتى ومصيف، لا يخلو ناديهم عن سيد مسوّد، وكريم مقدّم، وشجاع بطل، وجواد كريم، وحليم وقور، ووافد آمل، وقاصد [نائل] «4» وصارخ ملهوف، وهارب مستجير، لا تنفكّ لهم نارا قرى وقراع، ومنارا منى ومناع، يسرح عدد الرمل لهم إبل وشاء،(4/323)
ومدد البحر ما يريد المريد منهم وما يشاء، تطلّ منهم على بيوت قد بنيت بأعلا الرّبى، وبلغت السحاب وعقدت عليها الحبى «1» قد اتّخذت من الشّعر الأسود وبطّنت (36) بالدّيباج والحرير والوشي المرقوم، وفرشت بالمفارش الرومية، والقطائف الكرجيّة، ونضّدت بها الوسائد، وقامت حولها الولائد، وشدّت بوتد السماء أطنابها، وأعدت لطوالع النجوم قبابها، وأرخيت سجفها وشرعت أبوابها إلى الهواء، واستصرخت واستغيث بها لدفع اللّأواء ورفعت عمدها، ووضعت حجلاتها وقرّر في الأرض وتدها، وطلعت البدور في أكلّتها، ورتعت الظّباء في مشارق أهلّتها، وحولهم خيول تحمي حجبها وترمي إزاء البيوت سحبها، وتعرف بين العرب الأتراب عربها، وتعرض في الشهب الحسان نخبها من كرائم الخيل المخبورة، وعظائم السيل معنى وصورة، قد تمايلت ألوانا، وتقابلت في مناسب الخيل إخوانا، وتنوّعت شياتها فبرزت بستانا، وتسرّعت أعوجيّاتها السوابق، فقصر مدى لاحق، وتقدمت قدّامه ميدانا.
وتفرّعت من أصول العرب في ربيعة ومضر، وتبرّعت بما لا يلزمها، فمنها ما انتظر ما خلفه، ومنها ما فات النظر، وتقدمت وأمهلت وراءها الرياح، وأقدمت وأنهلت ظمأها مورد الصباح، ومرّ كلّ طرف منها وطرف البرق حائر، ومد [وجوار] «2» المجرّة ما فيها طريق لسائر، وحفّت والطير في وكناتها لم تبرح، ووفّت والوحوش في مكان بياتها لم تسرح، تمّت كأنّها كثبان، وهمّت كأنها عقبان، قد صلدت حوافرها كأنها قعب حالب، وصلدت مشاعرها كأنها وجه عاتب، واتّسع منخرها كأنّه وجار ثعالب، وارتفع مؤخّرها كأنه ربوة مراقب، وطال غرتها كأنّه انتظار غائب، ومالت نواصيها كأنها عقود ترائب ودقّ منخرها(4/324)
كأنّه طرف قاضب، ورقّ أديمها كأنه حديث حبايب، واتسع ذيلها كأنّه ذيل راهب، و [تلبد] «1» (37) مغرزها كأنه إقعاء أرانب، وقصر [عجب] «2» ذنبها كأنه بقاء ذاهب، ونهد موضع لببها «3» كأنه نهد كاعب، و [نتأ] «4» صدرها كأنّه نهضة واثب، وولولت، آذانها كأنها [أقلام] «5» كاتب، ولانت شعرتها كأنما عليها لوف سليط ذائب، ولانت عريكتها كأنها للتأديب لعبة لاعب، ونظرت نظر حادر «6» ، وتلفتت التفات ربائب، وأشبهت الوحش والطير، فطورا تحلق وطورا تواثب، وقد برزت شهبا ودهما وحمرا وشقرا وصفرا وخضرا وما بين هذه الألوان، وما بين [صنوان] «7» وغير صنوان «8» ، قد رتعت كالظّباء، ورفعت كالخباء، وطلعت [كالكواكب] «9» وتطلعت كالرقباء، وحالت أمام بيوت الحي تهزّ ندوة عطفه وخطوة فارسه المعلم في موقف صفّه، فكم ترى من سابق وسابقة توافقا فلم تر أيّهما سليلة سابقين تناحلاها، ولا بأيّهما تعقد الظبية الأدماء «10»(4/325)
طلاها «1» ، ولا أيّهما بلغ السماء واغتصب النجوم حلاها، ولا أيّهما الموصوف في كرائم الخيل، ولا أيّهما ائتزر «2» برداء النهار أو أطاح رداء الليل، من حصون كالحصون الشوامخ تتحصّن على صهواتها، ويتحصّل الظفر ولا تروى فواغر لهواتها، قد اشتدت مبانيها الوثيقة، وتشيدت فكانت حصونا لا حصنا على الحقيقة، ومن حجر كالحجر بل شيء أشدّ من الحجارة، وأشدّ من السّهم في مهاجمة الغارة، قد تبرجت تبرج الحسان، وتخرّجت تخرّج الكاعب وبرزت للفرسان، وأقبلت في ميدانها تتمطّر، وجالت وعنانها لا يزيد على أنّه «3» يتخطّر، كلاهما محفوظ النّسب، ملحوظ الحسب، محفوظ البخت لاعن غير سبب.
فمن قرطاسية بيض ذاب على أعطافها اللّجين، وبقي عليها أثر الفضة وذهب العين، أقبلت كأنها البيض الكواعب، واستقبلت كأنها أيام وصل الحبايب، كأنما جلّلت بالنهار، أو حولت (38) إلى مطالع الأقمار، أو خولت مما تلبس الشمس من حلل الأنوار، وجاءت قرطاسية لما قرطست سهامها، وقرّبت مواعيد الظفر أيامها.
ومن دهم لم ترض بالليل ردّ ردائها، ولا بلمم الشبيبة شبية ظلمائها، ولا بالأهلّة إلا تحت مواطئ حوافرها، ولا بالصباح إلا لما بين وظيفها ومشاعرها، فأما ما سأل أو استدار من الغدر الصّباح، فإنه مما قرّ أو [تموّج بين عينيها] «4» من لوامع الأسنة لا من طلائع الصّباح.
ومن حمر أوقد الشفق عليها جمره، وبدّد الشقيق على كأسها خمره، منها معصم بسواد(4/326)
كأنما ذرّ المسك على وردها، أو أمسك الليل فحمته [على] «1» وقدها.
ومنها كميت يميل براكبه ميل الكميت بشاربها، ويستطيل باقي ظلماته في شفق الصباح على ذاهبها.
ومنها ورد كأنه أباة قد قطف، أو رباة إذا شبّه بخدّ غانية أو وصف، وفيها صامت، وأعزّ منها ما طلع كوكب الصبح بمحلّقه، ومنها ما هاب خوض الدماء فتغطى بسجاف أفقه.
فأما الحجول فمنها ما أدار عليه جباها، ومنها ما قال هذه حيلة لنقيصة فأباها، وبدت تعرف الأنفة في مناخيرها الشّم، وتقوض الجبال إذا أقبلت شوامخها الصّم.
ومن شقر قدح الفرق فيها فما أفاد، وقرّح الذهب عينه حتى لبست منه جيدا من جساد، واصطدمت جياد الخيل فطار منها شرارة من زناد، واقتحمت حلبة السباق فجاءت سابقة عليها آثار الخلوق دون بقية الجياد، ومنها رافلة في أعلام الشيات، ومنها عاطلة من أعلامها، هذه قد تجلت بالغرر والحجول، وتلك جعلتها حلية لأيامها.
ومن صفر هي في العصر الأصائل، وفي الفجر آخر ما بقي من شعاعه السائل، شاقت اللهب «2» وهو الطائر والطائل، وفاقت الذهب وهو الحائر والحائل، وراقت فهي الشّمول، ورقّت (39) فهي الشمائل، وتاقت إليها لمع البرق فحال دونها حائل، وضاقت بها الحزم واتّسعت مصبّغات الغلائل، وساقت إليها الشمس وأوقعتها من خيط سوادها الممتد في الحبائل، ونوّهت بالحبش لما قيل إنها حبشيّة، وأفاضت [عليهم] »
النائل، من فواضل(4/327)
حللها الموشية، وسعد بها هذا الجنس لما نسبت إليه، وحمد لّما كان النّسب يصحّ أن يطلق عليها وعليه، وفخر كلّ حبشيّ لكونها تعدّ منه وهو من أعدادها، وتطاول حتى موّه عليها بالشبه، وأخذ في وجهه محاسن التخطيط من خطّ سوادها، فكأنها نار ترفع في الليلة الظّلماء لها لهب، فتوقدت شعلها إلا ما اعتلق به الليل من العرف والناصبة والذّنب.
ومن حصير ما منها إلا من بيت العرب، وما فيها إلا ما يهتدي إلا إلى الهرب، كأنها إليه ظلّ دائب أو علاها رحيق سحائب، أو ألقى عليها زبرجد، أو أبقي منها أثر شعاعة مهنّد، قد أفادتها الجباه نضرتها، والشّفاه من كثرة التّقبيل خضرتها، وبدت ولا هي بيض ولا جون، وغدت تنتشي وما قطعت بها عناقد النواصي ولا عصرت من أعطافها ابنة الزّرجون «1» .
ومن بلق كرام ما قعدت بها هجنة، ولا بعدت عن شبهين أخذت من كلّ منها حسنه، لا كما يقال إنّ الطبيعة قصّرت في إنضاجها، ولا إنّ حسنها كلّه ذهب في ديباجها، بل كلّ منهما علم على صاحبه يعرف به إذا ركبه، ويحلف أنه اقتاد الروض وتوقّل منكبه.
منها ما يقابل بين صباح وظلام، ومنها ما ماثل بين البياض والحمرة خدّ غلام، فأما الأول فقد طلع منظرا حسنا، وجمع بين ضدين لما اجتمعا حسنا «2» ، كأنه توليع السّحب وترضيع السّخب، أو قطع ليل يهزّ بالشهب، أو نقع (40) حرب ظهر في وجوه لمعان القضب، في كلّ منهما ما أظلم وما أنار «3» ، وما أظلّ جانبي الأرض ففي وقت واحد في هذا ليل وفي هذا نهار، وأما الثاني فكأنّه اختلاط ماء وراح، واختلاف مجاري شفق على صباح، لا(4/328)
يقاس [به] «1» البرق، وهو أحقر، ولا يتشبّه به إلا كان هو إلى التشبيه [به] «1» أفقر، ولا يبالغ واصفه إلا قال كظهر الحصان الأنبط البطن «2» يكشف الجلّ واللون أشقر، ومما سوى ذلك جميعه من ألوان الخيل مما يمزج من أحمر [وأبيض] «3» يقق «4» وأصفر أصيل وأخضر سحر، وأشهب نهار، وأدهم ليل.
ومنه كلّ ديزج «5» ، ذلك بفيروزج، كأنما لوّن من ماء يتموّج، أو كوّن من سماء صدره بصداد على سناه ينسج، وأصدأ لا يقدر جون الغمام لمعارضته يتصدى، وأكهب، لا هو كالأحمر أو كالأشهب، وهي فتيّة وما فيها إلا عتيق وكثيرة، وما فيها إلا ما هو قليل كالصّديق «6» ، ما استنكرها إلا من تجرّب، ولا استكبرها «7» إلا من جاء بنقعها في وجه السماء يترّب، وكأنما عنيتها، في قصيدة كنت في وصف الخيل بينتها «8» ، وهي: (الخفيف)
أقبلت في ميدانها تتجارى ... هي والريح في المدى تتبارى
ودعت سابق [الغمائم] «9» للسب ... ق فأضحى بذيلها يتوارى
سابقات ما قصّر البرق لما ... أدرك البرق بعدها الآثارا(4/329)
سابقات ما فاتت الطّرف حتى ... خلّت الشّهب في الظلام حيارى
وأرتنا يوم الرّهان أناسيّ ... سكارى وما هم بسكارى «1»
من جياد منسوبة في بيوت ... ليس ترضى من غيرها الإضمارا
كلّ حجر كأنه الحجر الصّل ... د لهذا تفجر الأنهارا
وحصان كأنه شعب رضوى «2» ... رابط الجأش لا يخاف وقارا
نخبة الخيل من خيول كرام ... ردّدت في اختيارها الاختيارا
(41) وأتت بالجياد من كلّ فجّ ... واستجادت منها الخيار خيارا
علمتها في حربها كلّ شيء ... في مجال للموت إلّا الفرارا
مشرقات كأنها روضة الحز ... ن بل الحزم أينعت أزهارا
أبيض جاء مثل يوم وصال ... قد تعالى ضياؤه واستنارا
ملفتا جيده إلى ذات حسن ... مثله قد بدت نهارا جهارا
لا يباري الشهباء شيء سواها ... ليس مثل الشّهباء مما يبارى
وكذا أخضر هو الآس غضالا ... أشبه المرد سالفا وعذارا
وأتانا ما بين لونيه يحكي ... مذ تبدّى مساءة واعتذارا
معه من شرواه «3» خضراء تجري ... حيث تجري زمرّدا منهارا(4/330)
وأغرّ كأنّه الليل إلا ... ما بدا بين مقلتيه نهارا
أدهم رقّ جلده فحسبنا ... منه ما رقّ في الدّجى إسحارا
وشبيه بجنسه بنت دهما ... ء ببهماء «1» لا تخاف القفارا
وكميت لو قابل في الكأ «2» ... س شربنا مما كساها العقارا
ثم ورد يطيب منه شميم ... قد قطفنا من غصنه أنوارا
بهما من لونيهما كلّ عذرا ... ء عليها يبدو حياء العذارى
وكذا أشقر كريم مفدّى ... جاء كالبرق يستطير شرارا
ثم شقراء كم تولّع صبّ ... بهواها وبات يشكو النارا
وكذا أصفر تراه أصيلا ... سار نجم منه وسال نضارا
ثم صفراء ما تشرّب طرف ... خمرها الحلّ ثم خاف الخمارا
ثم وافى عقيبها الأبلق الفر ... د يضمّ الظلام والأقمارا
معه مثله من البلق لاثت ... فوق ثوب الدجى عليها الإزارا
فهي تحكي بيضاء مظلومة «3» الجس ... م فبعض دجا وبعض أنارا
وكذا أبلق بأحمر قان ... فكّ عمدا عن جيبه الأزرارا
(42) ثم بلقاء أقبلت تخجل الخدّ ... بياضا من لونها واحمرارا(4/331)
تتهادى في مشيها كعروس ... أفرغوا فوقها الجيوب نثارا
ما كفاهم أن نقّطوها إلى أن ... نقّطوا كلّ درهم دينارا
ثم في الخيل ديزج ماج بحرا ... أو سماء وصارما بتّارا
ثم حجر [تلزّه] «1» فرأينا ... جدولا منه صادف التيّارا
ثم من سائر الجياد كرام ... أرسل الركض نوءها مدرارا
وتذكر مع السوابق أصدا ... مثل ما تصدأ السيوف مرارا
ثم صدياء لا تضاهى غمام ... مكفهرّ من سيلها الأمطارا
بعدها أكهب تحيّر لونا ... لا شقيقا حكى ولا نوّارا
لا ولكن بحكمها في امتزاج ... قد تردّى لذا وهذا شعارا
ثم يتلوه في المحاسن حجر ... مثله لا يميل عنه ازورارا
صافنات زادت على الخير حسنا ... في مداها وزانت الأخيارا
وأتت في [فعالها] «2» وحلاها ... بصفات تعجّب النّظّارا
ملكت حكم مالكيها الأماني ... وحوت للذي حواها الفخارا
سبّق تجعل الأنام جميعا ... من رعاياه والبسيطة دارا(4/332)
فأما هؤلاء العرب إذا ركبوا الهياج، أو وثبوا إلى معاركة الفجاج، سدّت الأفق قتاما، والطرف إبلا كراما، قد تقلدوا سيوفا تغرّق الأرواح [في] «1» لججها، وتقصّر مناظرات الرقاب لحججها، كأنما طبعت فيها حمر المنايا، أو أطبعت «2» عليها سود الرزايا، ترصّعت بالنجوم، وانتعلت بالهلال، وتقطّعت من الغيوم، وضربت مرهفات النصال، لا يخشى ورق حديدها الأخضر، ولا يجتلى وجه فرندها الصقيل ولا ينظر، قيل لها صوارم لأنها صرمت الأعمار، وقواضب لأنّها تقتضب الأجل وتعجّل الدمار، ومشرفيات لأنّها أشرفت على الرءوس، ومهنّدات (43) لأنها ترى رأي الهند في إحراق النّفوس، ومناصل لأنّها تتنصّل لا مما جنت، وقواطع لأنّها تقطع بالأمر أساءت أو أحسنت، كأنما تأكلّت فيها النار أو تشكّلت فيها الأنهار، وما على ضجيعها أين بات، ولا (على) قريعها عار لعدم الثبات، ولا على حاملها الجازر، إن كثرت لديه النحائر، أو كبرت عليه من حيث الأعداء الجرائر، كأنما رضعت زرق اليواقيت، أو علت قرى نمل أو قرى رمل لها فيها آثار مخافيت، وقد اعتقلوا من عوالي الرماح كل ردينية سمراء ما ماس مثلها قدّ، ولا مال أهيف ولعب مثلها دست بند «3» عواسل قصبها المرّان، عوامل شهبها تعمل في أطرافها النيران، تطاولت [لتثقب] «4» درّ الكواكب، أو لتنقب سدّ السحائب، ثم رأت أنّه لا تروى بغير الدماء حوائم أسنتها العطاش، ولا يقوم بكفايتها إلا ورود الوريد لا من المطر الرشاش، فرمت على لبّات الرجال عنقها، وبلّت صداها ونقعت [غليلها] «5» ، وما [رويت] «6» من دماء(4/333)
أعدائها، ما دارت دوائرها على عدوّ إلا وخاف أن يصعد على أسوارها أو يتسوّر، ولا صبحت [بمصاعها] «1» ذا عنق إلا تطاير بها وتشاءم بكعبها المدوّر، ورأيت من الرجال في تلك البيد صقورا [تحمي] «2» محارمها، وسيولا تطمّ فجاجها ليوثا ضراغم، و [عقبانا] «3» كواسر، وأبطالا لا تعبأ بمن لاقت، ورجالا لا تبالي أين نزلت، تدخل على عزيز قوم بلاده، وتحمي عليه أرضه وترد دونه ماءه وتمنعه شربه، وتردّ عليه قوله، وتصدّ عنه قومه وتأخذ ماله، إذا شاءت غصبا، وتقسمه اقتساما لا نهبا، لا تحرس «4» في ليل ولا تجتمع في نهار، كفتها المهابة أن تخاف، والمنعة أن تتوقى، فإذا سارت قلت: الشّهب سارت، والسحب سالت، والجبال مادت، والرمال (44) مالت، تركب النّجب، وتجنب الجياد، فتختال الأرض في حلبة السماء ببدور أخفاف المطيّ، وأهلّة حوافر الخيل، ونجوم أسنة الخرصان، توطأ لهم الرواحل، وتطوى بهم المراحل، وتبدو ركائبهم كأنها قلل جبال أو حلل نزال، تتسع مجال الرياح بين فروجها، وترتفع طوال الرماح فوق بروجها، تمدّ أعناقها طلبا لقرب المنزل، وتجدّ أشواقها إلى أرض وتصبح عنها بمعزل، كأنها لتمام الخلق بنيان، أو لأكام الأرض تبيان، لا يقرّ بعينها الزئبق المتد حرج، ولا في بينها سيرها المتلجلج، يتثنى راكبها كأنه شارب ثمل، ولا يستقرّ كأنّه بارق عمل، ركب من الإبل السحاب وهو محتفل، ووثب وكأنّه لتمايلها يتخبط تخبط الظبي في أشراك محتبل، من امتطاها وركبها أضرم نشاطه، ومن استبطأها فضربها ظلمها وظلم بالضّرب لها سياطه، والأكوار تتراءى عليها كأنّها أهلة على غمام، والمجرة البطان، والجوزاء الزّمام، وأمامهم الظعائن تجري بها في الآل السّفائن، وقد شدّ كلّ(4/334)
هودج على كور راحلته الثّريا، وسعد بسعدى وطاب بريّا، فسايرتها نظرات الأحداق، وعادت ولم تخرج وعاجت وما وقف لها سائق الركب ولا عاجت ربة الهودج، فما فازت إلا من بعيد بنظرة، ولا فاءت إلا وبين الجوانح حسرة، وتعرض لها فلم تفعل ولم تخرج، وتعرّف بها فما زاد على أن فقد قلبه وعاد، وهو محرج، حتى إذا نزلوا بليل، ونزحوا غدير النهار وجاء الظلام بسيل، أوقدوا نارا يشبّ بالمندل الرطب وقودها ويشدّ بعنان السماء عمودها، رقص بها الليل في قميص أرجوان، وتنقّص ظلامته بأدنى ضوئها وهو وإن تشعشعت كالسّلاف، وتورّعت إلّا عمّا [هو] «1» إرث عن الآباء والأسلاف، نار كرمية ترمي بكل شرارة كطراف، (45) ضرميّة تشبّ بالعراق، وضوؤها يعشى نائل وأساف، تهتدي الضيفان بها لا بصوت النابح، وترتدي بشعاع دماء القرى من كلّ بازل كوماء «2» وطرف سابح.
(آل علي)
وأما آل عليّ «3» فأميرهم رملة بن جمّاز بن محمد بن أبي بكر بن عليّ بن حديثة بن عصيّة بن فضل بن ربيعة «4» ، وقد كان جدّه أميرا ثم أبوه، وقلّد الملك الأشرف جدّه محمد بن أبي بكر إمرة آل فضل حين أمسك مهنّا بن عيسى، ثم تقلّدها من الملك الناصر أخيه(4/335)
حين بعث قجليس «1» في طرد مهنّا وسائر إخوته وأهله، ولما أمّر رملة كان حديث السّن فحسده أعمامه بنو محمد بن أبي بكر فقدموا على السلطان بتقادمهم وتراموا على الخواصّ وسائر الأمراء وذوي الوظائف، فلم يحضرهم السلطان لديه، ولا أدنى [أحدا] «2» منهم إليه، فرجعوا بعد معاينة الحين بخفّي حنين، ثم لم يزل [يتربصون] «3» به الدوائر و [ينصبون] «4» له الحبائل، ويقيه الله سيئات ما مكروا، ويدفع عنه بالسلطان ما قصدوا، وهاهو اليوم سيد قومه، وفرقد دهره، والمسوّد في عشيرته، المبيّض لوجوه الأيام بسيرته، وله إخوة ميامين كبراء أمراء فضل ومرا وهم أهل بيت عظيم الشأن مشهور السّادات إلى أموال جمّة، ونعم ضخمة ومكانة في الدول عالية، وديارهم مرج دمشق «5» وغوطتها بين إخوتهم آل فضل وبني «6» أعمامهم آل مرا ومنتهاهم إلى الجوف «7» و [الحيّانية] «8» ، إلى الشبكة «9» ، إلى تيماء، إلى البراذع.(4/336)
(آل مرا)
وأما آل مرا «1» ، فبيت الإمرة فيهم آل أحمد بن حجي، وبقيتهم آل منيخر وأميرهم سعد بن محمد، وآل نمي وأميرهم برجس بن سكال، وآل بقرة وأميرهم علوان بن أبي غراء، وآل شماء وأميرهم عمرو بن واصل، ثم صارت الإمرة في بيتين في آل أحمد (46) فمن بيت نجّاد بن أحمد، قناة بن نجّاد، ومن بيت سليمان بن أحمد [شطيّ] «2» بن عمرو بن توبة بن سليمان، وأحمد هذا هو ابن حجي بن يزيد «3» بن نبل بن مرا بن ربيعة، والإمرة مقسومة بين هذين الأميرين نصفين، ويدخل في إمرتهم من يذكر، وهم: حارثة، والحاص، ولام «4» ، وسعيدة، ومدلج، وفرير، وبنو صخر، وزبيد حوران وهم زبيد صرخد، وقد تقدم ذكرهم «5» ، وبنو غنيّ «6» ، وبنو عزّ، ويأتيهم من عرب البرية آل ظفير، والمفارجة، وآل سلطان، وآل غزّي، وآل برجس، والخرسان وآل المغيرة، وآل بني فضيل «7» ، والزّراق، وبنو حسين الشرفاء، ومطير، وخثعم، وعدوان، وعنزة.(4/337)
وآل مرا أبطال مناجيد، ورجال صناديد، وأقيال، قل: كونوا من حجارة أو حديد «1» ، لا يعدّ معهم عنترة العبسيّ ولا عرابة الأوسيّ «2» ، إلا أنّ الحظّ لحظ بني عمهم أتمّ مما لحظهم ولم تزل بينهم نوب الحروب، ولهم في أكثرها الغلب، وقد كانت لهم بأحمد ابن حجيّ الأنفة الشّماء، والرتبة التي لا تتطاول إليها السّماء، ثم قتلت بينهم القتلى، وأنزف قوة بأسهم سفك الدّماء، وتشتتت كلمتهم بقسمة الإمرة على أنّه لو لم تقسّم لظلّ بينهم كلّ يوم قتيل، وأخذ بجريرتهم قبيل، لإباء نفوسهم، وعدم انقياد نظير منهم لنظير.
وديارهم من بلاد الجيدور «3» والجولان إلى الزرقاء «4» والضليل «5» إلى بصرى «6» ، ومشرقا إلى الحرّة المعروفة بحرّة كشب «7» قريبة مكة المعظمة إلى شعباء «8» إلى نير ابن مزيد إلى الهضب المعروف بهضب الراقي، وربما طاب لهم البرّ، وامتدّ بهم المرعى أوان خصب الشتاء، فتوسّعوا في الأرض وأطالوا عدد الأيام والليالي حتى تعود مكّة المعظمة وراء ظهورهم، ويكاد سهيل يصير شامهم، و [يصيرون] «9» مستقبلين بوجوههم الشام.(4/338)
وأما زبيد الغوطة والمرج (47) وقد تقدمت الإشارة إليهم «1» وإمرتهم في بني نوفل، وهم والمشارقة جيران، وليس للمشارقة إمرة، ولكن لهم شيوخ منهم، وأمر هؤلاء وهؤلاء إلى نواب الشام ليس لأحد من أمراء العرب عليهم إمرة.
وديارهم جميعا المرج والغوطة بدمشق إلى لاهة إلى أم أوعال «2» إلى الرّويشدات «3» ، وعليهم الدّرك وحفظ الأطراف، وبهم تم ذكر بني ربيعة.
قال الحمدانيّ، وقد ذكر أعيانهم:
وفي آل ربيعة جماعة كثيرة أعيان لهم مكانة وأبّهة، فأول من رأيت منهم مانع بن حديثة وغنامّ أبو الطاهر على أيام الملك الكامل، ثم حضر الكلّ في هذه الأيام إلى أبواب السلاطين من دولة المعزّ أيبك وإلى أيام المنصور قلاوون، وهم زامل بن عليّ بن حديثة، وأخوه أبو بكر بن عليّ، وأحمد بن حجيّ وأولاده وإخوته، وعيسى بن مهنّا وأولاده وأخوه، وهم رؤساء أكابر (و) سادات العرب ووجوهها، ولهم عند السلاطين حرمة كبيرة، وصيت عظيم إلى رونق في بيوتهم ومنازلهم «4» : (البسيط)
[من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسري بها السّاري](4/339)
قال الحمدانيّ: إلا أنهم مع بعد صيتهم قليل عددهم، قلت «1» : (الطويل)
تعيّرنا أنّا قليل عديدنا ... فقلت لها: إنّ الكرام قليل
وما ضرّنا أنّا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل
قال المهمندار الحمدانيّ: وقد وفد فرج بن حيّة على المعزّ [أيبك] «2» وأنزلناه بدار الضيافة، وقعد أياما، فجاء مقدار ما وصل إليه من عين وقماش وإقامة له ولمن معه ستة وثلاثين ألف دينار، واجتمع أيام الظاهر جماعة من آل ربيعة وغيرهم فحصل لهم من الضيافة خاصة في المدة اليسيرة أكثر من هذا المقدار، وكلّ ذلك على يدي (48) ، قال:
وما يعلم ما خرج على يدي من بيوت الأموال والخزائن والغلال للعرب خاصة إلا الله تعالى مما لا تحصيه إلا بالجهد فسبحان من سخرّ لهم وقسم.
قلت: قد قال الحمدانيّ هذا واستكثره، وأطال في هذا واستعظمه واستكبره، فكيف لو عمّر إلى زماننا، ورأى إليهم إحسان سلطاننا، ورأى العطايا كيف كانت تفيض فيهم فيضا من الذهب العين والدراهم بمئين ألوف، والخلع الأطلس بالأطرزة الزراكش وأنواع القماش الذي يفصّل لملبوسهم بالسّمور والوشق والسّنجاب «3» والبرطاسي والأطرزة [الزّركش] «4» والملمع والباهي، والساذج، والعتّابي من الإسكندري وفاخر المقترح والمصبوغات المجوهرة، والذّهب، وأنواع الزّركش لنسائهم والسّكر المكرّر والأشربة المختلفة بالقناطير المقنطرة، وأحمال الجمال المقطرة إلى ما ينعم به على أعيانهم من الجواري التّرك والخيل للنّتاج،(4/340)
والفحول للمهائر مع ما يطلق لهم من الأموال الجمة بالشام، ويقطع باسمهم من المدن والبلاد، ويملّك لهم من القرى والضّياع، ويعطى غلمانهم ويجرى من الإقطاعات لهم وللائذين بهم وللمتجوّهين بجاههم، مع المكانة العليّة والشّفاعات المقبولة في استخدام الوظائف وترتيب الرواتب وإقطاع الجند، والإطلاق من السّجون، والرعاية في الغيبة، والحضور، إلى غير ذلك من تجاوز أمثال الكفاية في الإنزال والمضيف لهم ولأتباعهم، منذ خروجهم من بيوتهم وإلى حين عودهم إليها مع مؤاكلة السلطان مدّة إقامتهم بحضرته غداء وعشاء، والدخول عليه في المحافل والخلوات، وملازمته أكثر الأوقات.
وإن وجدت لسانا قائلا فقل: وهم إلى الآن يقلعون بتلك الريح (49) ويستضيئون بتلك المصابيح.
قال الحمدانيّ: ولقد رأيتهم في الوقائع مع من غلب إلا نوبة حمص «1» يعني الكائنة أيام المنصور قلاوون، فإنهم أثّروا أثرا حسنا، وعملوا في التّتار عملا جيدا، وقاتلوا قتالا شديدا، وربما تقدموا الجيش في اللقاء، فكانوا سبب الكرّة، يعني المؤدية إلى النّصرة.
قلت: وحكى لي شيخنا أبو الثّناء محمود أنّه رأى آل مرا حين جاؤوا تلك المرة، قال:
كنت جالسا على سطح باب الإسطبل السّلطانيّ بدمشق، وقد أقبلوا زهاء أربعة آلاف فارس شاكين في السلاح على الخيل المسوّمة، والجياد المطهّمة، وعليهم الكزغندات «2»(4/341)
الحمر من الأطلس المعدنيّ، والدّيباج الرومي، وعلى رؤوسهم البيض «1» مقلّدين بالسيوف، بأيديهم الرماح كأنهم صقور على صقور، وأمامهم العبيد تميل على الركائب، ويرقصون بتراقص المهاري، وبأيديهم الجنائب التي ظلّت إليهم عيون الملوك صورا، ووراءهم الظعائن والحمول، قال: وكانت معهم مغنية لهم تعرف بالحضرميّة وكانت لها سمعة طائرة في زمانها، ورأيتها سافرة من الهودج وهي تغني «2» : (الطويل)
وكنّا حسبنا كلّ بيضاء شحمة ... ليالي لاقينا جذام وحميرا
ولما لقينا عصبة تغلبيّة ... يقودون جردا للمنية ضمّرا
فلما قرعنا النّبع بالنبع بعضه ... ببعض أبت عيدانه أن تكسّرا
سقيناهم كأسا سقونا بمثلها ... ولكنّهم كانوا على الموت أصبرا
فقال رجل كان إلى جانبي: هكذا يكون وربّ الكعبة، فكان الأمر كما قال، فإن الكسرة كانت أولا على المسلمين، ثم كانت النّصرة لهم، واستحرّ القتل بالتتار، فسبحان منطق الألسنة، ومصرّف الأقدار، فهو الفاعل لما (50) يشاء، الفاعل المختار.(4/342)
(بقية العرب وديارهم)
وإذ قد انتهينا [من] «1» ذكر آل ربيعة فلنذكر ما حضرنا من بقية العرب وديارهم فنقول:
(بنو خالد)
بنو خالد «2» عرب حمص: يدّعون النسب إلى خالد وقد أجمع أهل العلم بالنسب على انقراض عقبه «3» ، [ولعلهم] «4» من ذوي قرابته من مخزوم، وكفاهم ذلك فخرا أن يكونوا من قريش.
(بنو كلاب)
وبنو كلاب «5» : عرب أطراف حلب والروم، ولهم غزوات معلومة، وغارات لا تعدّ، ولا تزال تباع بنات الروم وأبناؤهم من سباياهم، وهم يتكلمون بالتركية، ويركبون الأكاديش، وهم عرب غزّ «6» ، رجال حروب وأبطال جيوش، ولإفراط نكاياتهم في الروم صنّفت السيرة(4/343)
المعروفة ب" دلهمة والبطّال" «1» منسوبة إليهم بما فيها من ملح الحديث، ولمح الأباطيل، والكذب فيها يغلب الصحيح، وقد «2» رأيت لعبد الوهاب ذكرا في سواها فقيل: عبد الوهاب بن نوبخت، وذكر الحافظ أبو القاسم بن عساكر البطّال وسمّاه عبد الله الأنطاكيّ «3» ، وذكر أنّه كان أيام بني مروان وفيها هلك، ومصنف هذه السّيرة قد جعله أيام بني العبّاس وذلك حديث خرافة، ولم أقف ل" دلهمة" على ذكر البتّة فيما يوثق به وقد نبّهت على هذا ليعرف.
قلت: وذكر لي رجال من بني [مروان] «4» أنهم ينتسبون إلى عبد الوهاب هذا.
قال المهمندار الحمدانيّ ما معناه: فأمّا بنو كلاب عرب الروم فقد كانوا ظهروا على آل ربيعة لأنّ الملك الكامل كان طلب من مانع بن حديثة وغنّام بن الظّاهر «5» جمالا يحمل(4/344)
عليها غلالا إلى خلاط «1» يقويها بها، فاعتذر (ا) بأنّ الجمال عزبت في البرية، وكان بعض بني كلاب حضورا لديه، فتكفل له بحاجته من الجمال، ووفى بقوله، فحقدها الكامل على مانع بن حديثة وغنّام بن الظّاهر، واستوحشا منه، ثم أتياه عند أخذه آمد «2» ، فوبّخهما (51) وقال: والله لو (لا) أنكما عربي لأفعلنّ بكما الواجب، فخرجا خائفين منه إلى أن فتح دمشق «3» فأتياه بأنواع التّقادم، وتقربا إليه بالخدمة، قال: وكانت بنو كلاب تخدم الملك الأشرف موسى «4» وتصحبه لمتاخمته لبلاد الروم «5» ، وكانوا مترصّدين لخدمه ومعدودين من خدمه.(4/345)
قلت: وكان سلطاننا لا يزال متلفتا إلى تألف بني كلاب، وكان أحمد بن نصير المعروف بالتّتريّ قد عاث في البلاد والأطراف واشتدّ في قطع الطريق، فأمّنه وخلع عليه وأقطعه فانقادت بنو كلاب «1» .
وحكى لي الأمير علاء الدين ألطنبغا أيام نيابته بالشام «2» أنّ بني كلاب أشدّ العرب بأسا، وأكثرهم ناسا، ولكنهم لا يدينون لامرئ منهم بجمع كلمتهم، قال: ولو انقادوا لأمير واحد لم يبق لأحد من العرب بهم قبل ولا طاقة، ولما توجه إلى حلب لإمساك طشتمر «3» أتاه مشاهير بني كلاب مثل أحمد بن نصير، ونديّ بن ضحّاك وغيرهم، فكانوا أعوانه وظهراءه، ولم يزالوا معه حتى حقّت عليه النوبة، ففارقوه من [المعيصرة] «4» وكان ذلك بمباطنة من سليمان بن مهنّا لهم، وكانوا قد صاروا أحلافا له، وكان الملك الناصر قد أمّره على عرب بني كلاب، وجعل عليه حفظ جعبر وما جاورها.(4/346)
(آل بشّار)
وآل بشّار «1» ديارهم الجزيرة»
، والأحصّ ببلاد حلب، والأحلاف «3» منهم حالهم في عدم الانقياد لأمير واحد حال بني كلاب، ولو اجتمعوا لما أمن بأسهم، وهم على تفرّق كلمتهم وتشتت جماعتهم لا يزال آل فضل منهم على وجل، وطالما باتوا وقلوبهم منهم ملأى من الحذر، وعيونهم وسنى من السّهر وبينهم دماء، وهم [وبنو ربيعة] «4» وبنو عجل «5» جيران، وديارهم من سنجار وما يدانيها إلى [البارة] «6» قريب الجزيرة العمرية «7» إلى أطراف بغداد.
غزيّة «8»
قال الحمدانيّ: هم بطون وأفخاذ، ولهم مشايخ منهم من وفد على السلاطين في(4/347)
زماننا. وهم متفرقون في الشام (52) والحجاز وبغداد وفيما بين العراق والحجاز.
فأما شيوخ غزيّة الذين في طريق بغداد إلى الحجاز الذين مياههم اليحموم «1» ، و [اللصف] «2» ، والنّخيلة «3» ، والمغيثة «4» ، مياه البطنين «5» ، ومياه الأجود لينة «6» ، والثعلبية «7» ، وزرود «8» .
فمن غزيّة البطنين منهم آل دعيج، وكان شيخهم مانع بن سليمان قد وفد (على) الديار المصرية سنة ثلاث وستّ مئة، وآل روق، وآل رفيع، وآل سريّة، وآل مسعود، وآل تميم، وآل [شمرود] «9» ، هذه البطنين من غزيّة.
(و) بطون الأجود من غزيّة: آل منيع، وآل سنيل «10» ، وآل سند، وآل منال «11» ، وآل أبي الحزم، وآل عليّ، وآل عقيل، وآل مسافر.
هؤلاء هم المشهورون من بطون غزيّة، والله أعلم، هذا ما ذكره الحمدانيّ.(4/348)
قلت: وذكر لي نصير «1» بن برجس المشرقيّ زيادة: أولاد الكافرة، وساعدة، و [بني] «2» جميل، وآل مالك «3» .
وأما أحلاف آل فضل فقد قدّمنا ذكرهم فيهم.
وديار آل أجود منهم: الرّخيميّة، والوقبى «4» ، والفردوس «5» ، ولينة، و [الحدق] «6» .
و [ديار] «7» آل عمرو بالجوف.
وديار بقاياهم: اللّصف، والكمن، واليحموم، والام، والمغيثة.
و [يليهم] «8» ساعدة وديارهم من [الحضر] «9» إلى برية زرود، ولا محيد للركب العراقي(4/349)
عنها، إلى سعارة إلى [البقعاء] «1» إلى التيب «2» إلى الساسة «3» إلى حفر «4» وخالد ودارها التنومة وضئيدة»
و [أبو الزيدان] «6» والقويع، وضارج «7» ، والكوارة، والنّبوان «8» ، إلى ساقة العرفة، إلى الرّسوس، إلى عنيزة «9» ، إلى وضاخ «10» ، إلى جبلة «11» ، إلى السّر، إلى العردة «12» ، إلى العشيرية، إلى الأنحل «13» .(4/350)
(خفاجة وعبادة)
وخفاجة «1» وعبادة «2» عرب بغداد والعراق، وقال ابن عرّام: منازل عبادة من بغداد إلى الموصل، وبمرج دمشق قوم من عبادة.
وخفاجة من هيت «3» ، والأنبار «4» ، إلى الحلّة «5» ، إلى بئر ملاحا «6» ، إلى الكوفة، إلى قائم عنقاء، والثّرثار «7» ، إلى [المثنّى] «8» دون البصرة، وهو غاية مرماهم ونهاية بعدهم.
قال الحمدانيّ: وفدوا على الدولة الظاهرية بعيد كسرة الخليفة المستنصر «9» المجهز من(4/351)
مصر (53) لاستفتاح العراق، وكان كبير جماعتهم خضر بن مقلد بن سلمان بن مهارش العبّادي، وشهرى بن أحمد الخفاجي في أشياخ منهم مقبل بن سالم، وعياش بن حديثة ووشاح وغيرهم، فأنعم الملك الظاهر عليهم وفتّاهم «1» ، وكانوا عينا له على التتار، وأعوانا له للانتصار.
عربان العذار
وهم عرب المسيّب بالبطائح «2» ، وقد كانوا يعصون على الخلفاء وملوك التتار لتمنعهم بالماء والمقاصب المعلقة والأجم المتأشّبة، ومقدمهم ابن رؤوف، وهم من سنبس، والجبور، وآل نطّاح، إلى بطون أخرى، وقد صاروا أهل مدرة وحلّال دارة لا يبارحونها، ورزقهم مقدّر عليهم.
عرب العارض
والعارض «3» وراء الوشم، والوشم هو الذي ينتهي إليه آل فضل إذا توسّعوا في البرّ، وهم بنو زياد، والجميلة، وعرب الخرج «4» وهم العقفان والبرحان، ومن بلادهم: البريك «5»(4/352)
والنّعام «1» ، و [هما] «2» قريتان في واد منيع إذا حصّن مدخله بسور كان أمنع بلاد الله.
قال ابن عرّام: وإلى هذا الوادي أزمع تنكز «3» على الهرب حين خاف من الملك الناصر، وعليه طريق ركب الحسا «4» وعليه ممرّ الركب من الحسا والقطيف «5» ، وفيه يقول بعضهم:
(الطويل)
لعلك توطيني نعاما وأهله ... ولو بان بالحجّاج عنه طريق
عائذ [بني سعيد]
«6» دارهم من حرمة «7» إلى جلاجل «8» والتوّيب ووادي القرى وليس الوادي المقارب للمدينة(4/353)
الشريفة النبوية «1» زادها الله شرفا، و [تعرف] «2» بالعارض ورماح «3» والحفر.
قلت: وحدّثني أحمد بن عبد الله الواصليّ أن بلادهم بلاد خير ذات زرع وماشية بقرى عامرة، وعيون جارية، ونعم سارحة، ولأرضهم بذلك الوادي منعة وحصانة، قال: وقد كان المظفر بيبرس الجاشنكير اهتمّ بقصده واللحاق به والمقام فيه، وأن يكون كواحد من أهله (54) مرتزقا من سوائم الإبل والشاء.
قال: ثم انثنى رأيه عن ذلك آخر وقت ولو وجّه إليه وجهه كان أحمد لمنتجعه، وأدنى لعوده إلى صلاح الحال ومرتجعه.
بنو يزيد
ودارهم ملهم «4» ، وبنيان «5» ، وحجر «6» ، ومنفوحة «7» ، وصباح «8» ، والبرّة «9» ، و [العويند] «10» ، وجو «11» .(4/354)
(المزايدة)
و [المزايدة] «1» دارها البخراء «2» ، وحرمة، وهي حرمة أخرى غير الذي تقدم ذكرها، وسبخة الدبيل «3» ، والحلوة «4» ، والهزيم «5» ، والبريك، ونعام، والخرج.
عقيل
وهم من آل عامر، قال الحمدانيّ: وهي غير عامر المنتفق، وغير عامر بن صعصعة «6» ، قال:
ومنهم القديمات، والنّعائم، وقبات، وقيس، ودنفل وحرثان وبنو مطرّق، وذكر أنهم وفدوا في الأيام الظاهريّة صحبة مقدّمهم محمد بن أحمد بن العقديّ بن سنان بن عقيلة بن شبانة بن قديمة بن نباتة بن عامر، وعوملوا بأتمّ الإكرام وأفيض عليهم سابغ الإنعام، ولحظوا بعين الاعتناء.
قلت: وتوالت وفاداتهم على الأبواب العالية الناصريّة وأغرقتهم تلك الصّدقات بديمها فاستجلبت النائي منهم، وبرز الأمر السّلطانيّ إلى آل فضل بتسهيل الطريق لوفودهم(4/355)
وقصّادهم وتأمينهم في الورد والصّدر، فانثالت عليه جماعتهم، وأخلصت له طاعتهم، وأتته بأجلاب الخيل والمهارى، وجاءت في أعنّتها وأزمّتها تتبارى، وكان لا يزال منهم وفود بعد وفود، وكان منزلهم تحت دار الضيافة لا يزال يسدّ فضاء تلك الرّحاب، وتغصّ بقبابه تلك الهضاب، بخيام مشدودة بخيام، ورجال بين قعود وقيام، وكانت الإمرة فيهم في أولاد مانع إلى بقية أمراء فيهم وكبراء لهم «1» ، ودارهم الإحساء والقطيف وملج «2» وأنطاع والقرعاء «3» واللهابة «4» وجودة «5» ومتالع «6» .
شمّر «7» ولأم «8»
من عرب الحجاز، وديارهم جبلا طيئ أجأ وسلمى، وظفير «9» من بني لام، ومنزلهم الظعن «10» قبالة المدينة النبوية (55) على ساكنها أفضل الصلاة والسّلام.(4/356)
حرب «1»
وهي ثلاثة بطون، بنو مسروج وهم بنو سالم، وبنو عبد الله «2» ومنهم: زبيد الحجاز و [بنو عمرو] «3» وهم من أكثر العرب عددا، وأجرأهم رجلا باطشة ويدا، ومساكنهم الحجاز.
أما بقية عرب الحجاز، والمصارحة، والمساعيد، والرزّاق وآل عيسى، ودغم، وآل جناح، والجبور، فدارهم تتلو بعضها بعضا بالحجاز، وقد تقدم من ذكر هؤلاء ما تقدم في آل ربيعة.
وأما أكلب فبطون كثيرة وهم من خثعم بن أنمار «4» وقيل: من ربيعة خثعم «5» .
قال الحمدانيّ: وهم جليحة «6» جماعة فروة «7» ، وبنو هزر، ومنازلهم بثينة «8» شرقيّ مكة المعظّمة.(4/357)
وأما خثعم فمنهم بنو منبّه، و [الفزع] «1» ، وبنو نضيلة «2» ، و [مغوية] «3» ، وآل مهدي، وبنو نضر، وبنو حام «4» ، والموركة، وآل زياد، وآل العصافير «5» ، والشمّاء «6» ، وبلوس، ودارهم غير متباعدة ممّن تقدّم.
(صليبة العرب)
قلت: وبالشام من صليبة «7» العرب أقوام شتى في البلاد قد خرجوا بها عن حكم العرب وصاروا بها أهل حاضرة ساكنة، وعمّار ديار قاطنة، فبمدينة غزة وبلد الخليل عليه السّلام معمور بني تميم الداريّ رضي الله عنه.
وبوادي بني زيد فرقة من بني جعفر بن أبي طالب، وفرقة من بني عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وبالقدس منهما وبنابلس كثير من قحطان وطائفة من مضر بن نزار وبجينين وبلادها أقوام من حارثة «8» ومن بكر بن وائل، وبجبل عاملة صليبة عاملة، وبالأغوار «9» أخلاط من(4/358)
الموالي، وبعجلون فرقة من بني عمر بن الخطاب، وبالبلقاء منهم ومن بني أمية ومن غسّان، وبصرخد وبلادها من عامر بن هلال يدّعون أنهم من بني جعفر بن أبي طالب، و [بعثليث] «1» وما ينضمّ إليها من بني أسد، وبزرع «2» وبصرى أقوام من تغلب، ومن الأزد وبأذرعات «3» قوم من بني جمح من قريش وفي بعض قراها قوم يدّعون أنهم من بني جعفر بن أبي (56) طالب، وباليرموك صليبة من غسان، وبنوى «4» قوم يذكرون أنهم من بني المنذر بن ماء السماء «5» ، وبالشّعراء «6» قوم من بني أمية، و [باللّجون] «7» قوم ينتسبون إلى كندة، وبمرج دمشق أخلاط من طوائف العرب، وبحمص قوم من غسّان، وبحماة أقوام من عبد الدار، ومن جهينة وشداد من الأنصار وبشيزر «8» قوم من بني كلب، وفرقة من بني مازن، وبالجبل المعروف بالظّنّيين «9» فرقة من همدان، وبسلميّة من بني(4/359)
الحسين بن عليّ، وبالمعرة «1» صليبة تنوخ، وبحلب وبلادها من بني الحسين بن عليّ، ومن بني عقيل، ومن بني كلاب، وكلب، [ومن جهينة، ومن بني قرّة «2» ، وبتدمر والمناظر رجال من أسلم وقوم من بني كلب] «3» وبالقريتين «4» نفر من بني تغلب، وبالرحبة المعروفة بمالك بن طوق قوم من بكر من وائل ورجال من مضر، وآخرون من ربيعة، وعامة أهلها من أبناء اليهود على ما يقال. وذكرت هذا مثالا لا استيعابا إذ لا قدرة على تحقيقه والإتيان [على جمعه] «3» .
(مصر ودمشق)
وأما مصر ودمشق فمصران جامعان، ولا يخلوان من بيوت العرب وذوي الحسب منهم والنسب.
عرب مصر
قيل: وبدمياط «5» سنبس، وهم من الغوث بن طيئ، وكان لهم أيام الخلفاء الفاطميين شأن(4/360)
وأيام، وهم الخزاعلة، وجموح، وعبيد «1» ، وحلفاؤهم من عذرة «2» فرقة غير من تقدّم ذكره، ومدلج، وديار هؤلاء من ثغر دمياط إلى ساحل البحر يجاورهم فرقة من كنانة بن خزيمة أتوا أيام الفائز الفاطميّ «3» في وزارة الصالح بن رزّيك «4» ومقدمهم لاحق، ومن ولده قاضي القضاة شمس الدين بن عدلان «5» ، وفرقة من بني عديّ بن كعب وفيهم رجال من بني عمر بن الخطاب ومقدمهم خلف بن [نصر] «6» العمريّ فنزلوا بالبرلّس «7» وكانوا(4/361)
هم والكنانيون من ذوي الآثار نوبة دمياط «1» .
قلت: ونحن من ولد خلف بن [نصر] «2» المذكور وهو شمس الدولة أبو عليّ وقد وجد خاصة والوفد الكنانيّ عامة من ابن رزّيك (57) فوق الأمل، وحلّوا محلّ التكرمة عنده على مباينة الرأي ومخالفة المعتقد وقد أتيت بذلك مفصّلا في كتاب" فواضل السّمر في فضائل آل عمر" «3» .
قلت: إنما قدمت هذا الفصل لغرض هو تعلقه بنسبي وقومي الذين أنا منهم.
قال الحمدانيّ: أول من سكن مصر جذام حيث جاؤوا مع عمرو بن العاص «4» ، وأقطعوا فيها بلادا بعضها بأيدي بنيهم إلى الآن، ثم عدّ من بها بالصعيد من العربان في زمانه، فقال: أولهم بنو هلال ولهم بلاد أسوان وما تحتها، ثم بليّ ولهم بلاد إخميم «5» وما تحتها،(4/362)
ثم جهينة ولهم بلاد منفلوط «1» وأسيوط، ثم قريش [ولهم] «2» بلاد الأشمونين «3» ، ثم لواثة «4» ويقال فيهم: لواثا ولهم معظم بلاد البهنسا «5» ، ومنهم أناس بالجيزة، وأناس بالمنوفية «6» ، وأناس بالبحيرة «7» ، وهم قبائل متفرقة تجمعهم لواثة.
ثم بنو كلاب ولهم بلاد الفيّوم «8» قال: وهؤلاء القبائل المشهورة في الصعيد، ثم ذكر جملا من أحوالهم، وقال:
فأما بنو هلال فيرجعون إلى عامر بن صعصعة من قيس عيلان، وكانوا أهل بلاد الصّعيد كلّها إلى عيذاب، وبإخميم منهم بنو قرّة، وبساقية قلتة «9» منهم بنو عمرو «10» وبطونهم،(4/363)
وهم: بنو رفاعة، وبنو حجير، وبنو غرير، وبأصفون «1» وإسنا «2» بنو عقبة، وبنو جميلة، ثم [بنو] «3» جميلة منهم نجم الدين الأصفونيّ «4» الوزير وكان فقيها كاتبا عارفا بأمور الديوان ضابطا للأموال، ثقل على الشّجاعي «5» وكان مشدا معه، ولم تمتد له معه يد في مال السلطان، فدسّ له سما في كعكة وأعطى عبدا كان له مئة دينار ليطعمها له بكرة يكون فطره عليها، وأوهمه أنها عملت للتأليف بينهما فأطعمها ذلك العبد الجاهل سيده فكان فيها حتفه واحتاط الشجاعيّ على تركته، وأمسك العبد وقتله وأخذ ما كان يملكه (58) ووجد معه الدنانير بصرتها فأخذها.
وأما بليّ فمن قضاعة وكانوا مفرقين فاتفقت هي وجهينة فصار لبليّ من جسر سوهاي «6» غربا إلى قريب قمولة «7» ، وصار لها من الشرق من عقبة فاو الخراب «8» إلى(4/364)
عيذاب، قال: والموجود اليوم في هذه البلاد من أصول بليّ بن عمرو بنو هني، وبنو هرم، وبنو سوادة، وبنو خارفة، وبنو رائس، وبنو ناب، وبنو شاد، وهم الأمراء الآن، وبنو عجيل بن [الذّيب] «1» ، وهم العجلة، وفيهم الإمرة أيضا، ثم قال:
ويقال إن بني شاد من بني أمية وصل يعني إذ طردوا إلى القصر الخراب المعروف بهم وكان معه رجل من ثقيف معه قوس فسمّوه القوس، وذريته يعرفون بالقوسية والقوسة، ودعوتهم لبني شاد وهم بطوخ «2» وكذلك يدعى لهم خلق سواهم منهم هذيل وهم بطوخ أيضا، ومنهم بنو حمّاد، وبنو فضالة بمنفلوط، وبنو خيار بفرشوط «3» ، وقال: إن قوما زعموا أن بني شاد من بني العجيل بن الذّيب وإنما هم إخوتهم، وإنما العجيل كان قد تزوج أخت إبراهيم بن شاد فولدت منه ولدا سمته شاديا فوهم الجهلة لذلك، قال:
وقد قال قوم إنّ عجيل بن الذّيب من ولد الشّمر «4» قاتل الحسين عليه السّلام، وليس كذلك.
وأما جهينة فمن قضاعة، وهم أكثر عرب الصعيد وكانت مساكنهم في بلاد قريش فأخرجتهم قريش بمساعدة عسكر الخلفاء المصريين فهم اليوم في بلاد إخميم أعلاها وأسفلها، قال:
وروي أنّ بليّا وبطونها كانت بهذه الديار، وجهينة بالأشمونين جيرانا بمصر كما هم بالحجاز، فوقع بينهم واقع أدى إلى دوام الفتنة، فلما أتى العسكر المصريّ لإنجاد قريش على(4/365)
جهينة خافت بليّ فانهزمت في أعلى الصعيد إلى أن أديلت قريش وملكت دار (59) جهينة ثم حصل بينهم جميعا الصلح على مساكنهم هذه التي هم بها الآن وزالت الشّحناء.
قلت: وفي المثل:" وعند جهينة الخبر اليقين".
قال أبو عبيدة: خرج حصن بن عمرو بن معاوية بن كلاب ومعه رجل من جهينة فنزلا منزلا فقتل الجهنيّ الكلابيّ، وأخذ ماله، وكانت للكلابيّ أخت اسمها صخرة فجعلت تبكية في المواسم، فقال الأخنس الجهنيّ فيها: (الوافر)
كصخرة إذ تسائل في مراح ... وفي جرم وأعلمها ظنون
تسائل عن حصين كلّ حيّ ... وعند جهينة الخبر اليقين
وقيل: بل كان جهينة يخدم ملكا يمانيا، وكان له وزير إذا غاب الملك خلفه الوزير على [بعض] «1» حظاياه، فتبعه جهينة بحيث لم يره فلما جلس الوزير على مقعد الملك في لبسه والحظيّة إلى جانبه غنى وقد أخذ منهما السّكر: (الوافر)
إذا غاب المليك خلوت ليلي ... أضاجع عنده ليلي الطويل
كأن مطارح الوشحات منها ... هنال يطّردن على وهيل
فلما دخل فيهما السكر قام جهينة فقتل الوزير ودفن رأسه تحت وسادة الملك فلما أتى الملك وفقد الوزير جهد في تعرف خبره فلم يقف عليه حتى سكر جهينة ليلة عنده فقال:
(الوافر)
تسائل عن نجيدة كلّ وقت ... وعند جهينة الخبر اليقين(4/366)
فسمعه بعض النّدماء فأخبر الملك فسأله «1» فأوقفه على الخبر فأمّره على بلاد كثيرة وأجزل له العطاء.
وأما قريش فمنهم الجعافرة وهم من الزّيانبة «2» .
ومنهم: الشريف [حصن الدين بن] «3» [ثعلب] «4» صاحب ذروة سربام «5» ، ومسكنهم المتمرع من بحري منفلوط إلى سملّوط «6» غربا وشرقا، قال: ولهم أيضا حدود ببلاد أخرى يسرة «7» .
قال: (60) وبجرجة منفلوط قوم من بني الحسن بن عليّ وفي سيوط أناس من أولاد إسماعيل بن جعفر الصادق يعرفون بأولاد الشريف قاسم.
ثم ذكر بطون الجعافرة فقال: منهم بنو أيمن وهم الحيادر (ة) منسوبون إلى جدّهم حيدرة.
ومنهم السّلاطنة أولاد أبي جحيش، والإمرة فيهم في بني تغلب، وسمت نفوسهم إلى الملك(4/367)
وخصوصا الشريف حصن الدين «1» وقد كان أنف من إمارة المعزّ والدولة التركية، وكاتب الملك الناصر بن العزيز «2» وأرسل إليه الفائزيّ «3» الوزير وغيره في جيوش، وكانت له ولهم أيام، وآخر أمره نصب له الظاهر بيبرس حبائل الغدر، وصاده بغوائل المكر حتى شنقه بالإسكندرية.
قال: وهذه نبذة من أخبار الأشراف بالصعيد، وحدود بلادهم وبلاد مواليهم وأتباعهم وحلفائهم من بلاد الأشمونين بالصعيد إلى بحري إتليدم «4» وما انحدر، ومعظمهم بالذّروة، قال: وأما غير الأشراف من قريش الساكنين بالصعيد فمنهم: بنو طلحة، وبنو الزّبير، وبنو شيبة، وبنو مخزوم، وبنو أمية، وبنو زهرة، وبنو سهم، [ومن موالي بني هاشم بنو منحر «5» ، وهم بنو قنبر] «6» مولى عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.(4/368)
(بنو طلحة)
فأمّا بنو طلحة فمن بني طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه «1» ، وهم ثلاث فرق هم وأقرباؤهم، وأطلق على الكلّ اسم بني طلحة.
فالأولى: بنو إسحاق، ويقال إن إسحاق ليس بجدّ لهم ولكن موضع تحالفوا عنده سمّوه إسحاق كناية كما تحالفت الأزد عند أكمة سمّوها مذحجا.
والثانية: فضا طلحة «2» وهم بطون كثيرة وأكثرهم أشتات بالبلاد لا حدّ لهم.
والثالثة: يعرفون ببني محمد من ولد محمد بن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنهما.
ومنازل بني طلحة (61) بالبرجين، وسفط سكّرة، وطحا «3» المدينة بالأشمونين.
(بنو الزّبير)
وأما بنو الزّبير «4» فمنهم بني عبد الله بن الزّبير، وهم بنو بدر، وبنو مصلح، وبنو رمضان، ومنهم بنو مصعب بن الزّبير «5» ، ويعرفون بجماعة محمد بن رواق، وبنو عروة بن(4/369)
الزّبير «1» ، وهم بنو غنيّ، وبلادهم بالبهنسا وما يليها، وأكثرهم ذوو معايش وأهل فلاحة وزرع وماشية وضرع.
(بنو مخزوم)
وأما بنو مخزوم فيدعون بنوة خالد بن الوليد، وكذلك ادعى ذلك خالد بالحجاز وخالد حمص وغير هؤلاء، وقد أجمع أهل العلم بالنسب على انقراض عقبه، ولعلّهم من سواهم فهم من أكثر قريش بقية، وأشرفهم جاهلية، وبلادهم متاخمة لما يليهم، وفيهم بأس ونجدة.
(بنو شيبة)
وأما بنو شيبة، فيعرفون بجماعة نهار، وهم من جماعة شيبة بن عبد الدار، وديارهم من نواحي سفط وما يليها ويقاربها ويدانيها.
وأما بنو أمية فمن بني أبان بن عثمان بن عفّان «2» ، وبني خالد بن يزيد بن معاوية «3» ، وبني مسلمة بن عبد الملك «4» ، وبني حبيب بن الوليد بن عبد الملك «5» ، وديارهم(4/370)
تندة «1» وما حولها، قال: ومن هؤلاء المراونة من ولد مروان بن الحكم، ولهم قرابات بالأندلس وأشتات في المغرب، ومرّت الدولة الفاطمية وهم بأماكنهم من ديار مصر، لم يروّع لهم سرب، ولم يكدّر لهم شرب، وهم إلى الآن.
وأما بنو سهم، فمن ولد عمرو بن العاص، وهم بالفسطاط وفرق منهم أشتات بالصعيد، ولهم حصة في وقف عمرو بن العاص على أهله بمصر.
قلت: وقد ذكر القضاعيّ في" خطط مصر" دور السّهميين، قال:
وهي حول المسجد «2» حيث كان الفسطاط، وهو موضع المحراب وما يليه من جانبيه إلى حيث السّواري القبلية، قال: وفي بلاد قريش أخلاط من الناس سواهم وذكرهم (62) فقال:
(كنانة طلحة)
وأما كنانة طلحة فهم من كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وهم بنو الليث وبنو ضمرة، وهما ابنا بكر بن عبد مناة بن كنانة، وبنو فراس بن غنم بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة، وفي بني فراس يقول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه لبعض من كان معه: لوددت أنّ لي بألف منكم سبعة من بني فراس بن غنم بن ثعلبة، قال: ولم تمكنهم قريش من التعدية إلى بلادها إذ أتوا من بلاد بادية الحجاز إلا بمراسلة بني إبراهيم بن محمد «3» وكان مع كنانة جماعة من أخلاط العرب دخلت في لفيفها، وديارهم ساقية(4/371)
قلتة وما يليها، وبنو الليث، ومنهم خاصة سكان ساقية قلته.
وأما الأنصار، فمنهم بنو محمد وبنو عكرمة بحري منفلوط، قال: وبنو محمد من حسّان ابن ثابت رضي الله عنه «1» وبنو عكرمة ينتمون إلى سيد الأوس سعد بن معاذ رضي الله عنه «2» .
وأما عوف «3» فمن بني سليم، وفي سليم عوف أخرى «4» ، قال: ومنهم في الصّعيد والفيوم والبحيرة أناس كثير وفي برقة إلى الغرب منهم ما لا يحصى.
وأما فزارة، فمن سعد بن قيس عيلان، فمنهم جماعة بالصعيد، وجماعة بضواحي القاهرة في قليوب»
وما حولها وبهم عرفت البلد المسمّاة بخراب فزارة، قال: وقد مضى ذكر قريش ومن ساكنها.
(لواثة)
وأما لواثة «6» ، وهم يقولون: إنهم من قيس [من] «7» غطفان بن سعد بن قيس (عيلان) .
وقال بعض النسابين: هم من ولد برّ من ولد قيدار بن إسماعيل كان قد ارتكب معصية(4/372)
فطرده أبوه، وقال له: البرّ البرّ، اذهب يا برّ فما أنت برّ، فأتى فلسطين، فتزوج امرأة من العماليق، فولد له منها أولاد منهم: لواثة ومزاتة، وزنّارة، وهوّارة، وزويلة ومغيلة، ومليكة، وكتامة (63) ، وغمارة، ونفوسة، وكانوا من ذوي جالوت، فلما قتل دخلوا المغرب وقيل:
إن البربر من ولد قفط بن حام، وقيل غير هذا كلّه.
عاد الحديث إلى لواثة، وهم: بنو بلار (و) حد وخاص، وبنو مجدول، وبنو حديدي، وقطوفة، وبركين، ومالو، ومزورة، قال:
وبنو حديديّ [تجمع] «1» أولاد قريش وأولاد زعازع وهم أشهر من في الصّعيد، وقطوفة تجمع مغاغة وواهلة، وبركين تجمع بني زيد وبني روحين، ومزورة تجمع [بني وركان] «2» وبني عرواس، قال: وأما بنو بلار ففرقتان: فرقة بالبهنساوية وفرقة بالجيزيّة، فالفرقة البهنساوية بنو محمد، وبنو عليّ، وبنو نزار، ونصف بني تهلان «3» .
وأما الفرقة التي بالجيزيّة، فبنو مجدول وسفارة «4» وبنو أبي كثير، وبنو الجلاس «5» ، ونصف بني تهلان.
قال، ويقال لهذه الفرقة حدو خاص، ويقال للأولى البلارية ومنهم مغاغة، ولهم سملّوط إلى الساقية ولبني بركين أقلوسنا «6» وما معها إلى بحري طنبدى «7» ولبني حدو(4/373)
خاص الكفور [الصولية] «1» وسفط (أ) بو جرجة «2» إلى طنبدى وإهريت «3» ، ومنهم بنو محمد وبنو عليّ المقدم ذكرهما وأمراؤهم بنو زعازع.
قال: ومزورة بنو وركان وبنو [عرواس] «4» ، وبنو جمّاز، وبنو الحكم، وبنو الوليد، وبنو الحجاج، وبنو المحربية «5» ، قال: ويقال إن بني الحجاج من بني حماس ولهذا [يؤدون معهم] «6» القطائع، وقال: وبنو نزار في إمارة بني زعازع وهم من بني رزب «7» ، ومنهم نصف بني عامر، والحماسنة والضباعنة وأفرد قوم منهم لإمارة تاج الملك عزيز بن [ضبعان] «8» ثم ولده.
ومنهم أيضا بنو زيد وأمراؤهم أولاد قريش ومساكنهم نويرة دلاص «9» ، وكان قريش عبدا صالحا كثير الصدقة وهو والد سعد الملك الباقي بنوه، قال: وفي المنوفية من لواثة أيضا(4/374)
جماعة يأتي ذكرهم في مكانهم، (64) قال: وبالصعيد من لخم قوم سكنهم بالبرّ الشرقي ومنهم من بني سماك: بنو مر، وبنو مليح، وبنو نبهان، وبنو عبس «1» ، وبنو كريم، وبنو بكر «2» ، وديارهم من طارق ببا «3» إلى منحدر دير الجمّيزة من البرّ الشرقي.
ومنهم من بني حدّان: بنو محمد، وبنو عليّ، وبنو سالم، وبنو مدلج، وبنو رعيس «4» وديار [هم] «5» من دير الجمّيزة إلى ترعة صول «6» .
ومنهم من بني راشد: بنو معمر، وبنو واصل، وبنو مرا «7» ، وبنو حبّان، وبنو معاذ، وبنو البيض، وبنو حجرة، وبنو سنوة، وديارهم من مسجد موسى «8» إلى أسكر «9» ونصف بلاد إتفيح، ولبني البيض الحيّ الصغير ولبني سنوة من ترعة شريف إلى معصرة بوش.
ومنهم من بني جعد: بنو مسعود، وبنو حرير «10» ، وبنو زبير، وبنو نمال، وبنو أنصار «11»(4/375)
وسكنهم ساحل إتفيح.
ومنهم من بني عديّ: بنو موسى، وبنو محرب، ومساكنهم بالقرب منهم، و (منهم) من بني بحر: بنو سهل وبنو معطار، وبنو فهم، وبنو عشير «1» ، وبنو مسند، وبنو سباع، ومسكنهم الحيّ الكبير.
ومنهم قسيس «2» ومساكنهم بلاد الأسكر، ولبني غنيم منهم العدوية»
ودير الطين «4» إلى جسر مصر، ومنهم بنو عمرو مساكنهم من الرستق، ولهم نصف حلوان «5» ، ولبني حجرة النصف الثاني ونصف طرا.
(عرب الحوف)
وأما عرب الحوف «6» فمنهم جذام وجذام من كهلان من اليمن، وقد قيل إنهم من ولد يعفر «7» بن مدين بن إبراهيم الخليل عليه السّلام.(4/376)
وروى محمد بن السائب «1» أنه وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد من جذام فقال «2» :" مرحبا بقوم شعيب وأصهار موسى"، وزعم بعضهم أنهم معدّ، وفي ذلك يقول جنادة بن خشرم «3» : (الوافر)
ألا من مبلغ المضرين أنّا ... غصبنا كل [أجوف كالهلال] «4»
وما قحطان لي باب وأمّ ... ولا يصطادني شبه الضلال
وليس إليهم نسبي ولكن ... معدّيا وجدت أبي وخالي
(65) قال: ومن إقطاعهم هربيط «5» ، وتلّ بسطة، ونوب «6» ، و [أم رماد] «7» وغير ذلك، وجميع إقطاع ثعلبة كان في مناشير «8» جذام من زمن عمرو بن العاص وإنما السلطان صلاح الدين وسّع لثعلبة في بلاد جذام ولذلك كانت فاقوس «9» وما حولها لهلبا سويد.(4/377)
(بنو زيد بن حرام بن جذام)
قال: ونبدأ قبل كلّ شيء بولد زيد بن حرام بن جذام «1» ، وهم [بنو] «2» سويد، وبعجة، وبرذعة، ورفاعة، وناتل، ومن هؤلاء بطون كثيرة فمنهم هلبا مالك، ومالك هو ابن سويد، ومنهم [بنو عبيد، وهم بنو عبيد بن مالك، ومن بني عبيد المذكور] «2» الحسنيون.
والغوارنة وهم أولاد الحسن والغور ابني [أبي] «2» بكر بن موهوب بن عبيد من مالك بن سويد، ومنهم بنو أسير وهو ابن عبيد بن مالك بن سويد، ومنهم العقيليون، [وهم] «3» بنو عقيل بن قرّة بن موهوب بن عبيد بن مالك بن سويد، وفيهم إمرة [وهي] «4» في نجم وبنيه، وفيهم من أمّر بالبوق والعلم وهو أبو رشد بن حبشي بن نجم بن إبراهيم بن مسلم بن يوسف بن واقد «5» بن غدير بن عقيل بن قرّة، ودحية وثابت [ابنا] «6» هانئ بن حوط بن نجم بن إبراهيم.
عدنا إلى بقية بطونهم، ومنهم:
اللّبيديون، ومنهم: البكريّون، وعدّ من أحلافهم أولاد الهوبربة والرداليين والحليفيين(4/378)
والحصينيين والربيعيين، قال ويعرفون بحلف بني الوليد «1» وهم أولاد شريف النجابين، وذكر أن لهم نسبا في قريش إلى عبد مناف بن قصي، وذكر من ولد الوليد بن سويد طريف ابن مكنون «2» الملقب رزين الدولة، قال: وكان من أكرم العرب وكان في مضيفته أيام الغلاء اثنا عشر ألفا يأكل عنده كلّ يوم، وكان يهشم الثريد في المراكب، ومن أولاده فضل بن شمخ بن كمونة، وإبراهيم بن غالي وأمّر كلّ منهما بالبوق والعلم.
عدنا إليهم [ومنهم] «3» الحيادرة من ولد حيدرة بن معروف «4» بن حبيب بن الوليد بن سويد وهم طائفة كثيرة، و [منهم] «5» بنو عمارة بن الوليد وفيهم عدد ولهم البيروم «6» ، والحييّون من بني حية بن راشد بن الوليد وأولاد منازل وكان منهم (66) معيد بن منازل وأمّر ببوق وعلم.
وهلبا سويد ومنهم العطويون، والحميديّون، والجابريّون، والغثاورة، ويقال لهم أولاد طرّاح المكوس، وحمدان، ورومان، وحمران وأسود ويعرف هؤلاء الأربعة بالأخيوة، واللكين، والقتلان.
قال: ومن بطون الحميديين أولاد راشد، ومنهم البراجسة، وأولاد سرير، والجواشنة، والكعوك، وأولاد غنّام «7» ، وآل حمود، والأخيوة، والزّرقان، والأساودة، والحماديون، ومن(4/379)
بني راشد: الحراقيص، والحنافيش، وأولاد غالي، وأولاد جوال، وآل زيد، ومن النجايبة:
أولاد نجيب، وبنو فضل.
قال: ومن ولد مالك بن هلبا بن مالك بن سويد نميّ أبو خثعم، وأقطع خثعم وأمّر واقتنى عددا من المماليك الأتراك والروم وغيرهم، وبلغ من الملك الصالح أيوب «1» منزلة ثم حصل عند الملك المعزّ على الدرجات الرفيعة وقدّمه على عرب الديار المصرية، ولم يزل على هذا حتى قتله غلمانه، فجعل المعزّ ابنيه سلمى ودغش عوضه فكانا له نعم الخلف، ثم قدم دغش دمشق فأمّره الملك الناصر ببوق وعلم، وأمّر الملك المعزّ أخاه سلمى كذلك فأبى حتى يؤمّر مفرج بن سالم بن راضي مثله فأمّره، ثم أمّر مزروع بن نجم كذلك في جماعة كثيرة من جذام وثعلبة، قال: فهذه هلبا سويد بأنفارهم.
(هلبا بعجة بن زيد)
قال: وأما هلبا بعجة بن زيد بن سويد بن بعجة «2» فهم: [بنو] «3» هلبا ومنظور، ورداد «4» ، وناتل، فمن ولد هلبا مفرّج بن سالم المقدم ذكره، ثم خلفه على إمرته ولده حسان، ومنهم أولاد الهريم من بني غياث بن عصمة بن نجاد بن هلبا بن بعجة، وجوشن(4/380)
صاحب السراة المضروب به المثل في الكرم والشجاعة من «1» منظور بن بعجة، والغويثية في عدد رداد بن بعجة.
قال: ولناتل البئر المعروف ببئر ناتل على رأس السراة، ومن ولده مهنّا بن علوان بن عليّ ابن زبير بن حبيب بن (67) ناتل، وكان جوادا كريما طرقته ضيوف في شتاء ولم يكن عنده حطب يقده لطعام أراد أن يصنعه لهم فأوقد لهم»
أحمال برّ كانت عنده، وكان له كفر برسوط بنواحي مرصفا «3» .
و [منهم] «4» بنو ردينيّ، وهم من بني ردينيّ بن زياد بن حسين بن مسعود بن مالك بن سويد.
ومنهم أولاد جياش بن عمران ولهم تلّ محمد «5» .
وأما أولاد [محريّة] «6» أخي زيد، وهو ابن أمية، [وقيل: ميّة، وقيل: ليس هو بأخي زيد بل هو ابن زيد بن أمية أو ميّة] «7» وقيل: هو وزيد ابنا الضّبيب، وقيل: بل الضّبيب، أبو أمية.
ومن بني محريّة أخي زيد رفاعة بن زيد بن ذؤيب «8» جدّ بني روح «9» وهو الذي وفد(4/381)
على النبيّ صلى الله عليه وسلم وعقد له على قومه «1» ، فتوجّه إليهم فأسلموا على يديه ووهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم مدعما العبد صاحب الشملة التي فيها الحديث «2» الذي [قيل] «3» بخيبر.
ومنهم الشّواكرة من شاكر بن راشد بن عقبة بن محريّة ولهم شنبارة بني خصيب «4» .
ومنهم أولاد العجار أدلاء الحاجّ من زمن السلطان صلاح الدين وهلمّ جرا إلى الآن.
ومنهم حميدة بن صالح بن أسد بن عقبة، وفي عقبة هذا عدد يعرفون به، وفرقة منهم بالحجاز من واصل بن عقبة.
قال:- فيما نقله عن المحدثين من ذوي المعرفة كما قال- إنّ عمرو بن مالك بن الضّبيب، وعثيرة، وزهير (ا) ، وخليفة و [حصنا] «5» أفخاذ من الضّبيبيين، وأنّ بني خليفة(4/382)
وحصن قد انضافوا إلى بني عبيد بالحلف، ولهم موضع من حقوق هربيط يعرف بالأحراز.
قال: وأما زهير فأكثرهم بالشام، والذين بمصر امتزجوا بولد زيد، وهم بحري الحوف إلى ما يلي أشموم وهم «1» بنو عرين «2» .
قال: ومن بني جذام بنو سعد، وفي جذام [خمسة] «3» سعود: سعد [بن] «4» إياس ابن حرام بن جذام، وسعد بن مالك بن زيد بن أقصى بن سعد بن إياس بن حرام بن جذام، وإليه ينسب أكثر السّعديين، وسعد بن مالك بن حرام بن جذام، (68) وسعد بن أيامة بن عنبس بن غطفان بن سعد بن مالك بن حرام بن جذام، وسعد بن مالك بن أقصى بن سعد ابن إياس بن حرام بن جذام.
قال: والخمسة اختلطت عندنا بمصر، وأكثرهم مشايخ بلاد وخفراؤها، ولهم مزارع ومآكل وفسادهم كثير (و) من مقدميهم أولاد فضل، والسلاجمة «5» وسكنهم منية غمر «6» إلى [زفيتا] «7» .
ومنهم شاور «8» الوزير العاضديّ، وإليه ينسب بنو شاور كبار منية غمر وخفراؤها، وذكر(4/383)
ابن خلّكان أنه من سعد حليمة مرضع النبيّ صلى الله عليه وسلم «1» .
ومنهم بنو عبد الظاهر «2» [الموقعون] «3» .
قلت: رأيته «4» ينسب نفسه إلى روح بن زنباع.
ومنهم أهل برهمتوش «5» ومشايخها ومن هؤلاء بنو شاس.
قال: وفي بني سعد عشائر كثيرة منهم شاس وجوشن وعلان «6» وفزارة بني سعد [في] «7» تلّ طنبيلول «8» إلى نوب طريف ومنهم [بدقدوس] «9» ودمريط «10» ووليلة(4/384)
وبشلوس «1» ، وهؤلاء جميعهم ديارهم ضواحي القاهرة إلى أطراف الشرقية.
وبالإسكندرية من جذام ولخم أقوام ذوو عدد وعدد وأهل شجاعة وإقدام وضرب بالسيف ورشق بالسّهام، ولهم أيام معلومة وأخبار معروفة ووقائع في البرّ والبحر مشهورة.
وبرشيد «2» القراططة ومصفونة من مرديش «3» ، وبالبحيرة والغربية طوائف من مزاته وبقليوب طوائف من فزارة، ومنهم بنو بعاية وهم أعيان، ودارهم أطراف الشرقية وما أخذ شرقا وقبلة.
وأما العائذ فكثير في العرب، والمشهور منها بمصر عائذ جذام، وبالحجاز عائذ ربيعة، وأما عائذ فرير، فلما تنافرت ثعلبة وجذام ادعوا في ثعلبة.
وبالمنوفية كما تقدم فرقة من لواثة منهم بنو يحيى والوسوة وعبدة ومصلّة، وبنو مختار (69) ، قال: ومعهم في البلاد أحلاف من مزاته، وزنارة، وهوارة، وبني الشعرية إلى قوم آخرين، ومن زنارة مرديش، وبنو صالح، وبنو مسام، وزمران، وورديغة، وعرهان، ولقان ومن هوّارة بنو محريش وبنو أسرات «4» وبنو قطران وبنو كبريث.
وأما ثعلبة مصر والشام فمن طيئ وفي كلّ من خندف وقيس ومراد ويمن وثعلبة قال:
وكانوا كما ذكر يعني ثعلبة مصر يدا مع الفرنج قديما لكنني لم أرهم إلا غزاة مجاهدين لهم آثار في الفرنج، وهي بطنان درما وزريق ابنا عوف بن ثعلبة، ويقال: بل ابنا ثعلبة لصلبه.
واسم درما عمرو، وإنما غلب عليه اسم أمّه درما، ومن أفخاذ درما بمصر: سلامة، والأحمر،(4/385)
وعمرو، وقصير، وأويس.
ومن أفخاذ زريق بها أشعث ولبنى، قال: وثعلبة، وعنين، ونيل إخوة، الثلاثة أولاد سلامان، قال ومن درما البقعة وشبل من ولد نافع بن قروان، والحنابلة وجدّهم حسين، والمراونة وجدّهم مروان والحيّانيون من ولد حيّان بن درما، ومن زريق بنو وهم، والطلحيون، وفي الطلحيين آل حجاج، وآل عمران، وآل حصيناة، والمصافحة، وكان مقدمهم سقير بن جرجي، وأمّر بالبوق والعلم.
عدنا إلى بني زريق، ومنهم: الصّبيحيون، وفي الصّبيحيين: الغيوث، والرموث، والروايات، والنمول، و [السحميون] «1» ، والسّعالى وهم بنو حصن، والرمالي، و [الوريثيون، والسّنديون] «2» ، والبحابحة.
عدنا إلى بني زريق ومنهم: العقيليون، والمساهرة، والجحافرة، ومنهم العليميّون وكان مقدّمهم عمرو بن عسيلة وأمّر بالبوق والعلم وفي العليميين القمعة، والرياحين [بنو] «3» مالك، والفرقة المعروفة بالأشعث بن زريق، وفيهم رجال ذوو ذكر ونباهة خدموا الدول وعضّدوا الملوك (70) وقاموا ونصروا.
قال: ومن ثعلبة الجواهرة جماعة سنجر بن عمر بن هندي.
وأما بنو بياضة، والأحادسة فبقطيا «4» وبنو صدر بالبدرية وهي طريق البرّ من الشام إلى مصر.(4/386)
وأما حرام فهي جذام وقليل في عرب مصر من يعرفها وفي الخزرج حرام وحرام، قال:
وما يدري أحد من أيّهما هذه التي بمصر.
وفي خندف حرام «1» وفي تميم حرام «2» ، قال: وحرام هذه القاطنة بمصر من الخزرج وهم بنو حية، وبنو ذبيان، قال: وهم أشتات بمصر وفيهم مشايخ بلاد، وخولة، وقضاة، وفقهاء، وعدول وليست لهم دار خاصة ولا مكان معروف، وقد عد الحمدانيّ جماعة منهم ليس فيهم شهير.
وفي الدقهلية والمرتاحية «3» عرب يدعون الجمارسة «4» ، وقوم ينسبون إلى قريش وهم نفر من بني عذرة وهم من كنانة بن عذرة «5» لا كنانة بن خزيمة.
ومنهم بنو شهاب وبنو رندة «6» والرواشدة وهم غير رواشدة هلبا سويد، وبنو عصا، وبنو محمد، وبنو سنان، وبنو حمزة، وبنو فراس وهم بمنية محمود «7» ، ومنية عدلان «8» ، وبنو(4/387)
لأم وليس بلأم الحجاز وبنو شمس والفضليون وقرارتهم كوم الثعالب «1» وما داناها، وبها فرق من عمرو وزهير المقدم ذكرهم، والحصنيين وردالة «2» ، والأحامدة وليسوا بأحامدة هلبا، و [الحمارنة] «3» ، وهم بنو حمران وبعضهم أصحاب إقطاع، وفي بني زهير هؤلاء من بني [عرين] «4» ، وبني شبيب، وبني عبد الرحمن، وبني مالك، وبني عبيد (غير عبيد) المقدم الذكر، وبني عبد القوي، وبني شاكر وهم غير شاكر عقبة «5» وبني حسن، وبني شمّاء وهم غير شمّاء آل ربيعة.(4/388)
بنو سليم
وهم أكثر قبائل قيس (عيلان) ، قال: ومساكنهم ببرقة مما يلي الغرب، ومما يلي مصر، وفيهم الأبطال الأنجاد والخيل الجياد (71) والإمرة فيهم في أولاد عزاز بن مقدم، ومنهم مزيد بن عزاز وكان رجلا جليل القدر جميل الذكر، معظما في الدول، وبنوه زايد وحميد وريان كلّهم كرام سراة أماجد وعطاء الله بن عمر بن عزاز وكان للقرى والقراع، مطاعا في قومه، وهو أبو خالد وهم أهل بيت فيهم عدد جمّ من ذوي القدر وبنوه معزّ وعمر، ومن المشاهير منهم علويّ بن إبراهيم بن عزاز، وسلطان بن زيدان بن عزاز، وعمر بن مشعل بن عزاز، ومن أكابر جماعاتهم جماعة ابن مليح المنصوريّ أصحاب غازي بن نجم، وعليان بن عريف، وبلبوش، وكان قد هرب من الملك الظاهر بيبرس فأنهد جيشا وراءه فقاتله ثم نصر الجيش عليه وأمسك واعتقل ثم أفرج عنه، وهو والد زيد بن بلبوش، وجماعة سعيد بن العريب بن الأحمر يقاربه، ومن ذوي مخالفيهم جماعة محمد الهواريّ.
قلت: وكان آخر عهدي أنّ الإمرة على عربان البحيرة لقائد بن مقدم، وخالد بن أبي سلمان، وكانا أميرين سيدين جليلين ذوي كرم وأمن يلاذ [بهما ويتحرم] «1» إلى شجاعة وإقدام وثبات رأي وإقدام ثم لم أعلم ما حالت به الأحوال، وجرت به بعدي تصاريف الدهور.(4/389)
(قبائل العربان من مصر إلى أقصى المغرب)
فأما منازل العرب من لدن الجيزيّة ضاحية القاهرة على البحيرة آخذا إلى أقصى الغرب فسأذكر منه ما أملاه الشيخ المقرئ الورع أبو يحيى زكريّا المغربيّ أحد الأئمة بقلعة الجبل، حرست [قال] «1» ، قبائل العربان من مصر إلى أقصى المغرب:
جماعة قائد: زنّارة، ومزاتة، وخفاجة، وهوّارة، وسماك، ومنازلهم من الإسكندرية إلى العقبة الكبيرة «2» .
ثم لبيد «3» وهم جماعة سلام: فزارة، محارب، قطاب، الزّعاقبة، بشر، الجواشنة، البعاجنة، القبائص أولاد سلمان، القصاص، العلاونة ومنازلهم من العقبة الكبيرة «4» (72) إلى السوسة.
ثم جماعة جعفر بن عمر وهم: قتيل، المثانية، الباسة، عرعرة، العظمة، العكمة، المزابيل، العزة، ومن جملة هؤلاء [العزة] «5» ، الجعافرة، جماعة جعفر بن عمر ومنهم البداري أيضا.
وكذلك منهم السهاونة والجلدة منهم أيضا.
وكذلك منهم أولاد أحمد أيضا، ومنازلهم من سوسة إلى بئر السدرة، وهي آخر حدود(4/390)
الديار المصرية، ومسافتها عن الإسكندرية نحو شهر بسير القوافل.
ثم منها طيموم العلاونة وهم غير أولئك، المهاملة، بنو بدر، ناصرة، وانتهاؤهم إلى قصر ابن أحمد في طرف مسراتة من الساحل، ومن القبلة أرض فزّان «1» وودّان «2» وحكمهما لأرض البرنو السودان ومسافة ما بين بئر السدرة وبين مسراتة عشرة أيام.
ومنهم من أرض مسراتة (إلى) بلاد طرابلس «3» : سليمان جماعة غانم بن زايد، ولهم الأرض من مسراتة إلى باب مدينة طرابلس، ثم من طرابلس إلى قابس ذباب «4» ، وهي تجمع المحاميد، والجواري جماعة عبد الله بن صابر، وملغم بن صابر وليسا بأخوين بل هم بنو عمّ من القبيلة.
قال الشريف أبو عمر عبد العزيز الحسنيّ الإدريسيّ: وهو من أهل غرناطة وله تعلق بخدمة السلطان أبي الحسن المريني، قال: ذباب مشيختهم لعبد الله بن رفيعة وأخيه إبراهيم، وأصلهم من سليم وأرضهم من طرابلس إلى قابس، ويجاورهم في هذه الأرض الجواري والمحاميد، وشيخ الجواري عبد الله بن سعيد (و) شيخ المحاميد عطية بن سعيد.
ثم تنقسم الطريق من قابس، فطريق جنوبية على الجريد وطريق شمالية على الساحل، فالجنوبية الآخذة على الجريد أول قبائلها آل حجر وفيهم عدة أشياخ منهم مرغم وذؤيب ابنا جعفر، وسفيان بن عطاء الله ورثيمة بن يخلف، وأرضهم من قابس إلى بشري وتأخذ في الساحل على الثنية (73) وبينهم أولاد صورة ومشيختهم في ابن مهلهل وأخيه جرموز،(4/391)
قال: وهم فرقة يسيرة وبينهم الكعبيون ويعرفون بالكعوب «1» ، وهم أكبر بيت بإفريقيّة من العرب ومشيختهم في قوم يعرفون بأولاد أبي الليل، وهم أربعة إخوة: يعقوب وأحمد وخالد وقتيبة و [يجاورهم قوم] «2» هم أعداء لهم يعرفون بأولاد أبي طالب ولهم شيوخ شتى، يعقوب ومحمد [ابنا] «3» طالب و [بنو] «4» عمهم سمير بن عبد الله، ويعقوب بن الحصين، والحاجّ عليّ بن شيحة، وأرضهم من بشري إلى بسكرة، ولهم في داخل البلاد إلى باب تونس، ولهم أماكن كثيرة.
ويليهم فرقة كبيرة تعرف برياح «5» ، وفيهم ملك العرب القديم بالمغرب، وشيخهم يعقوب بن عليّ بن أحمد، وكان أبوه في غاية الكرم، بعث إليه ملك إفريقيّة بثلاثين حملا من البزّ الرفيع والتحف السّنبة فوهبها ثلاثين من المستعطين لوقته، ويجاوره ابنا عمّه حلوف بن عليّ ابن جابر ونطاح أخوه، وهم أهل إبل يكون عند الرجل منهم نحو ستين ألف بعير، هكذا ذكر وعليه عهدته. قال:
ويليهم عرب الغرب الداخل، وأول بلادهم وطاءة حمزة وسكانها فرقة يسيرة تعرف بعوار تنزل حول قلعة حمّاد «6» .(4/392)
ويليهم عرب بلاد ريغو وأركلة، وهما مدينتان داخلتان في الصحراء، وهم من فزارة، وشيخهم طلحة بن معهود، قال: وهو رجل من أولياء الله والصالحين من عباده، وتنتهي أرضهم إلى المدية في الساحل.
ويليهم سويد «1» ، وشيخهم عريف بن عبد الله أبو زيدان وهو رجل جليل القدر، نبيه الذّكر، وافر العقل، مشارك في أنواع العلم والأدب والتاريخ والمعرفة بأيام العرب ووقائع الناس وصحبته في الحجّ سنة ثمان وثلاثين وسبع مائة فرأيت منه ما يملأ الصدر ويقرّ العين وهو بمنزلة من السلطان أبي الحسن المرينيّ لا تطاول ولا تحاول، ولا (74) يطمع بها طامح ولا طامع، وينتهي حدّهم إلى تافيللت من أرض سجلماسة.
قال هذا الشريف: ولأبي زيدان عدو من بني عمّه يسمى صقير بن عبد الله، قال: وهو أكبر [سنا] «2» منه وحسبا.
ويليهم عرب تعرف بالفرايض يملكون إلى البحر المحيط، وبلادهم حاحا وركراكة وسقساوة، ومسوفة هذه أهل لثام وبرقع أزرق لا يزال تمشي الرجال بتلك البراقع والنساء مكشفات الوجوه، وقال: وسبب براقعهم إظهار الحزن على المهديّ بن تومرت.
قال: وأما الطريق الثانية الشامية الآخذة من قابس على الساحل فغالب أهلها بربر ومصامدة سكان مدرة وأهل زرع وحرث، قال: يلي آل حجر الآخذين من قابس إلى إسفاقس فيما هو إلى المهدية طائفة تعرف بحكيم وشيخهم سحيم، وكان قد دخل الأندلس غازيا وحضر يوم طريف، ولهذه الطائفة إلى القيروان.
ويليهم دلاج، وكان شيخهم الحمير ثم قتل، وقام ولداه عبد الله ويحيى ابنا الحمير قال:
وهم رماة يرمون بقوس اليد رميا صائبا، ولهم تفرد بذلك دون بقية عرب الغرب، وأرضهم(4/393)
من سوسة إلى الحمامات إلى الجزيرة القبلية إلى تونس.
ويليهم طائفة من البربر من تونس إلى تبسّة إلى بلد العنّاب، قال: وهؤلاء من هوارة، ولهم أشياخ كثيرة، ومرجعهم إلى أولاد حمزة والكعوب.
ويليهم طائفة أخرى زراع من البربر وألهاصة وشيخهم صخر بن موسى.
ويليهم سدويكش، وبلادهم من [قسنطينة] «1» إلى بجاية، وشيخهم عبد الكريم بن منديل، وله اعتلاق بخدمة السلطان أبي الحسن.
ويليهم في جبال زواوة بربر من بني حسن وزواوة.
ويليهم أرض متيجة، وسكانها بنو عبد الواد أصحاب تلمسان (و) بنو عباد، وفرقة تعرف بمغراوة، قال: ومغراوة نحو ثلاثين ألف فارس.
(75) ويليهم تجين، وهم بأرض تلمسان على وادي شلف، قال: وكلّهم من بني عبد الواد وهم من زنانة، ويليهم بافراطة من تلمسان إلى فاس.
وأما مسون فخالية من العرب.
ويليهم من فاس إلى مرّاكش رياح أيضا، ثم المصامدة من مرّاكش إلى البحر المحيط.
فهذا ما ذكره الشريف أبو عمر عبد العزيز الإدريسيّ، وحدثني بذلك كلّه في صفر سنة تسع وأربعين وسبع مئة.(4/394)
(عرب الطرق المسلوكة إلى مكة المكرمة)
وأما عرب الطرق المسلوكة التي تتوجه فيها المحامل «1» إلى مكة المعظمة فقد ذكرنا فيما تقدم أنها أربعة طرق «2» ولا تقصد مكة غالبا إلا منها.
وهي أربع جهات مصر ودمشق وبغداد وتعزّ، وقد ذكرنا آنفا من العربان الذين بهذه الطرق من ملّاكها ومن يتحكم عليهم إذا حلّ بأرضهم كآل فضل، وآل مرا، وبني عقبة من لم يكن بدّ من ذكره فيما تقدم، ونحن الآن نسوقهم طريقا طريقا، وفريقا فريقا فيكون أوضح، إذ ذكر هذه الطرق وعربانها من المهمّ المقدّم.
(طريق الركب المصري)
فأما طريق الركب المصريّ فمن القاهرة «3» إلى عقبة أيلة لعائذ «4» ، ومن العقبة إلى الدأماء «5» ما دون [عيون] «6» القصب «5» لبني عقبة «7» .(4/395)
ومن الدأماء إلى أكدى، وهي فم الضيقة «1» لبليّ «2» .
ومن أكدى إلى نما «1» وهي آخر الوعرات لجهينة «3» .
ومن نما إلى نهاية بدر على الفرعاء «1» وإلى نهاية الصّفراء «4» على نقب «5» عليّ لبني حسن «6» أصحاب الينبع «7» . ويليهم من أقاربهم من بني حسن أصحاب بدر إلى رملة عالج «8» في طرف قاع [البزواء] «9» .
ومن الصفراء إلى الجحفة «10» ، ورابغ «11» لزبيد الحجاز «12» .(4/396)
ومن الجحفة على قديد «1» وما حولها إلى [الثنيّة المعروفة بعقبة السّويق «2» لسليم «3» .
ومن الثنيّة على خليص «4» إلى] «5» الثنيّة المشرفة على عسفان «6» للشريف جسّار من بني حسن.
ومن الثنيّة المشرقة على عسفان إلى الفجّ «7» ، وهو المسمى بالمحاطب لبني جابر «8» ، وهم في طاعة صاحب مكة المعظمة.
ومن المحاطب [إلى مكة] «5» لصاحب مكة المعظمة وبني حسن.
(طريق الركب الشامي)
وأما طريق الركب الشامي ... «9»(4/397)
[فهارس الكتاب]
1- فهرس المصادر والمراجع
1- المصادر
1- القرآن الكريم ابن الأثير: عز الدين علي بن محمد (ت 630 هـ/ 1233 م)
2- أسد الغابة في معرفة الصحابة، 7 أجزاء تحقيق: محمد إبراهيم البنا، ومحمد أحمد عاشور، ومحمود عبد الوهاب فايد، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1970- 1973 م.
3- الكامل في التاريخ، 13 جزءا دار صادر ودار بيروت، 1965- 1967 م.
ابن إياس: محمد بن أحمد المصري الحنفي (ت 930 هـ/ 1523 م)
4- بدائع الزهور في وقائع الدهور، 5 أجزاء، ط 2+ 3 أجزاء فهارس، ط 1 تحقيق: محمد مصطفى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1982- 1986 م ابن أبيك الدواداري: أبو بكر بن عبد الله (ت بعد 736 هـ/ 1366 م)
5- كنز الدرر وجامع الغرر* الجزء الثامن: الدرة الزكية في أخبار الدولة التركية.
تحقيق: أولرخ هارمان، (O.Harmann) القاهرة، 1971 م ابن بطوطة: محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي (ت 779 هـ/ 1377 م)
6- رحلته" تحفة النظار في غرائب الأمصار" دار صادر، بيروت (لا. ت) ابن تغري بردي: يوسف بن تغري بردي (ت 874 هـ/ 1470 م)(4/399)
7- المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي* الأجزاء: 1، 4 طبعة جديدة، تحقيق: محمد محمد أمين، ونبيل محمد عبد العزيز، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1984- 1986 م
8- الدليل الشافي على المنهل الصافي، جزءان تحقيق: فهيم محمد شلتوت، منشورات مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى، مكتبة الخانجي القاهرة، 1983 م
9- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، 16 جزءا الأجزاء 1- 12- دار الكتب المصرية، القاهرة، 1929- 1956 ما لأجزاء 13- 16، الهيئة المصرية العامة للكتاب، والهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة 1970- 1972 م ابن جبير: محمد بن أحمد الكناني الأندلسي (ت 614 هـ/ 1217 م)
10- رحلته" تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار"، ط 2 دار مكتبة الهلال، بيروت، 1986 م ابن حبيب: الحسن بن عمر بن حبيب الحلبي (ت 779 هـ/ 1377 م)
11- تذكرة النبيه في أيام المنصور وبنيه، 3 أجزاء تحقيق: محمد محمد أمين، مركز تحقيق التراث، القاهرة، 1976- 1982 م ابن حجر: أحمد بن علي العسقلاني (ت 852 هـ/ 1448 م)
12- الإصابة في تمييز الصحابة، 4 أجزاء مطبعة السعادة بمصر، 1328 هـ
13- الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، 5 أجزاء تحقيق: محمد سيد جاد الحق، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1385 هـ/ 1966 م(4/400)
ابن حزم: علي بن أحمد بن سعيد الأندلسي (ت 456 هـ/ 1064 م)
14- جمهرة أنساب العرب دار الكتب العلمية، بيروت، 1418 هـ/ 1998 م ابن حنبل: الإمام أحمد (ت 241 هـ/ 855 م)
15- مسند الإمام أحمد بن حنبل، ط 2 مؤسسة التاريخ العربي، ودار إحياء التراث العربي، بيروت، 1414 هـ/ 1993 م ابن حوقل: محمد بن علي (ت 367 هـ/ 978 م)
16- صورة الأرض منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، 1979 م ابن خلدون: عبد الرحمن بن محمد الحضرمي (ت 808 هـ/ 1406 م)
17- تاريخه" العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر"، 7 أجزاء، ط 1 تحقيق: تركي فرحان المصطفى، دار إحياء التراث العربي، ومؤسسة التاريخ العربي، بيروت، 1419 هـ/ 1999 م ابن خلكان: أحمد بن محمد بن إبراهيم (ت 681 هـ/ 1282 م)
18- وفيات الأعيان، 8 أجزاء تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1968- 1972 م ابن دقماق: إبراهيم بن محمد بن أيدمر (ت 809 هـ/ 1407 م)
19- الانتصار لواسطة عقد الأمصار تحقيق: كارل فوللرس،، (K.Vollers) أعادت تصويره دار الآفاق الجديدة، بيروت (لا. ت)(4/401)
ابن الديبع: عبد الرحمن بن علي بن محمد (ت 944 هـ/ 1537 م)
20- بغية المستفيد في أخبار مدينة زبيد تحقيق: عبد الله الحبشي، مركز الدراسات اليمانية، صنعاء، 1979 م
21- قرة العيون بأخبار اليمن الميمون، ط 2 تحقيق: محمد بن علي الأكوع الحوالي، (لا. م) ، 1409 هـ/ 1988 م
22- نشر المحاسن اليمنية في خصائص اليمن ونسب القحطانية صنع: أحمد حموش، دار الفكر المعاصر، بيروت، ودار الفكر، دمشق، 1413 هـ/ 1992 م ابن رافع: محمد بن رافع السلامي (ت 774 هـ/ 1373 م)
23- الوفيات، جزءان، ط 1 تحقيق: صالح مهدي عباس، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1402 هـ/ 1982 م ابن سعد: محمد بن سعد (ت 230 هـ/ 845 م)
24- الطبقات الكبرى، 9 أجزاء دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، 1405 هـ/ 1985 م ابن سعيد المغربي: علي بن موسى بن محمد (ت 685 هـ/ 1286 م)
25- الجغرافيا، ط 1 تحقيق: إسماعيل العربي، المكتب التجاري، بيروت، 1970 م
26- المغرب في حلي المغرب، جزءان، ط 3 تحقيق: شوقي ضيف، دار المعارف بمصر ابن شاكر: محمد بن شاكر الكتبي (ت 764 هـ/ 1363 م)
27- عيون التواريخ(4/402)
* الجزء العشرون، ط 1، تحقيق فيصل السامر، ونبيلة عبد المنعم داود، دار الرشيد، بغداد، 1980 م
28- فوات الوفيات، 5 أجزاء، ط 1 تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1973 م ابن شاهين الظاهري: خليل بن شاهين (ت 873 هـ/ 1468 م)
29- زبدة كشف الممالك وبيان الطرق والمسالك نشره: بول راويس، (P.Ravaisse) المطبعة الجمهورية، باريس، 1894 م ابن عبد البر: يوسف بن عبد الله بن محمد (ت 463 هـ/ 1071 م)
30- الاستيعاب في أسماء الأصحاب، 4 أجزاء طبع على هامش" الإصابة" المقدم ذكره لابن حجر العسقلاني
31- الإنباه على قبائل الرواة تحقيق: محمد زينهم محمد عزب، وعائشة التهامي، ومديحة الشرقاوي، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1418 هـ/ 1998 م ابن عبد ربه: أحمد بن محمد الأندلسي (ت 328 هـ/ 940 م)
32- العقد الفريد، 7 مجلدات، ط 1 دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1420 هـ/ 1999 م ابن عبد المجيد: عبد الباقي بن عبد المجيد اليمني (ت 743 هـ/ 1343 م)
33- بهجة الزمن في تاريخ اليمن، ط 1 تحقيق: عبد الله محمد الحبشي، دار الحكمة اليمانية، صنعاء، 1408 هـ/ 1988 م ابن عذاري: أحمد بن محمد (كان حيا سنة 712 هـ/ 1312 م)
34- البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، 4 أجزاء(4/403)
* الأجزاء: الثلاثة الأولى، ط 3، تحقيق ومراجعة: ج. س. كولان (S.G.
(
Colin
، وليفي بروفنسال (L.Provencal) .
* الجزء الرابع: تحقيق ومراجعة: إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، 1983 م ابن عساكر: علي بن الحسن بن هبة الله (ت 571 هـ/ 1175 م)
35- تاريخ مدينة دمشق، 71 جزءا، ط 1 تحقيق: محب الدين أبي سعيد عمر بن غرامة العمروي، دار الفكر، دمشق، 1416- 1419 هـ/ 1996- 1998 م ابن العماد: عبد الحي بن أحمد الحنبلي (ت 1089 هـ/ 1678 م)
36- شذرات الذهب في أخبار من ذهب، 8 أجزاء، ط 2 دار المسيرة، بيروت، 1399 هـ/ 1979 م ابن العميد: المكين جرجس (ت 672 هـ/ 1273 م)
37- تاريخ المسلمين* القسم الخاص ب" أخبار الأيوبيين"، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، (لا. ت) ابن الفرات: محمد بن عبد الرحيم بن علي (ت 807 هـ/ 1405 م)
38- تاريخ الدول والملوك، المعروف ب" تاريخ ابن الفرات"* الجزء الثامن، تحقيق: قسطنطين زريق، ونجلاء عز الدين، منشورات الجامعة الإمريكية، بيروت، 1936- 1942 م ابن فضل الله العمري: مؤلف الكتاب
39- التعريف بالمصطلح الشريف، ط 1 تحقيق: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، 1408 هـ/ 1988 م(4/404)
40- مسالك الأبصار في ممالك الأمصار* الباب السادس: في مملكة مصر والشام، دراسة وتحقيق: دوروتيا كرافولسكي، (D.Krawulsky) المركز الإسلامي للبحوث، بيروت، 1407 هـ/ 1986 م* الباب الخامس عشر: في ذكر العرب (القبائل) ، المحققة نفسها، المركز نفسه، 1406 هـ/ 1985 م ابن قيس الرقيات: عبيد الله (ت ما بين 84- 87 هـ/ 703- 706 م)
41- ديوان عبيد الله بن قيس الرقيات تحقيق: عمر فاروق الطباع، شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم، بيروت، (لا. ت) ابن كثير: إسماعيل بن عمر (ت 774 هـ/ 1373 م)
42- البداية والنهاية، 14 جزءا مطبعة السعادة، القاهرة، 1351- 1358 هـ ابن المجاور: يوسف بن يعقوب بن محمد (ت 691 هـ/ 1291 م)
43- تاريخ المستبصر (صفة بلاد اليمن ومكة وبعض الحجاز) ، ط 2 نشره: أوسكر لوففرين، (O.Lefevrin) منشورات المدينة، 1407 هـ/ 1986 م ابن منظور: محمد بن مكرم بن علي (ت 711 هـ/ 1311 م)
44- لسان العرب، 18 جزءا، ط 1 باعتناء: أمين محمد عبد الوهاب، ومحمد الصادق العبيدي، دار إحياء التراث العربي، ومؤسسة التاريخ العربي، بيروت، 1416 هـ/ 1996 م.
ابن هشام: عبد الملك بن هشام المعافري (ت 213 هـ/ 828 م)
45- السيرة النبوية، 4 أجزاء تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة ومطبعة الحاج عبد السلام بن محمد بن(4/405)
شقرون (لا. ت) ابن الوردي: عمر بن مظفر بن عمر (ت 749 هـ/ 1349 م)
46- تتمة المختصر في أخبار البشر، جزءان، ط 1 تحقيق: أحمد رفعت البدراوي، دار المعرفة، بيروت، 1389 هـ/ 1970 م أبو داود: سليمان بن الأشعث السجستاني (ت 275 هـ/ 888 م)
47- سنن أبي داود، مجلدان، ط 1 دار الجنان، ومؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، 1409 هـ/ 1988 م أبو شامة: عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي (ت 665 هـ/ 1267 م)
48- الذيل على الروضتين نشره: السيد عزت العطار الحسيني باسم" تراجم رجال القرنين السادس والسابع الهجريين"، القاهرة، 1947 م أبو الفدا: إسماعيل بن علي بن محمود (ت 732 هـ/ 1332 م)
49- تقويم البلدان نشره: رينو (J.T.Reinaud) ودي سلان، (M.C.De Slane) دار الطباعة السلطانية، باريس، 1840 م
50- المختصر في أخبار البشر، 4 أجزاء المطبعة الحسينية بمصر، 1325 هـ الإدريسي: محمد بن محمد بن عبد الله (ت 558 هـ/ 1163 م)
51- نزهة المشتاق في اختراق الآفاق مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة (لا. ت) - صفة المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة [لا. ت] الأشرف الرسولي: عمر بن يوسف (ت 696 هـ/ 1296 م)(4/406)
52- طرفة الأصحاب في معرفة الأنساب، ط 2 تحقيق: ك. ف. زترستين، (K.W.Zettersteen) منشورات المدينة، بيروت، 1406 هـ/ 1985 م الأصبهاني: أبو الفرج علي بن الحسين (ت 356 هـ/ 966 م)
53- الأغاني، 24 جزءا، ط 1 دار الفكر، دمشق، 1407 هـ/ 1986 م امرؤ القيس
54- ديوان امرئ القيس، ط 1 دار الكتب العلمية، بيروت، 1403 هـ/ 1983 م) بامخرمة: الطيب بن عبد الله بن أحمد (ت 947 هـ/ 1540 م)
55- تاريخ ثغر عدن، ط 2 نشره: علي حسن علي عبد المجيد، دار الجيل، بيروت، ودار عمار، عمان، 1408 هـ/ 1987 م البخاري: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم (ت 256 هـ/ 870 م)
56- صحيح البخاري، 4 مجلدات، ط 1 دار الفكر، بيروت، 1411 هـ/ 1991 م البكري: عبد الله بن عبد العزيز (ت 487 هـ/ 1094 م)
57- معجم ما استعجم من أسماء البلاد والبقاع، 4 أجزاء، ط 3 تحقيق: مصطفى السقا، عالم الكتب، بيروت، 1403 هـ/ 1983 م الجاحظ: عمرو بن بحر (ت 255 هـ/ 869 م)
58- البيان والتبيين، 4 أجزاء(4/407)
تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الجيل، ودار الفكر، بيروت (لا. ت) حاجي خليفة: مصطفى بن عبد الله (ت 1067 هـ/ 1656 م)
59- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، جزءان طبعة استانبول، 1941 م الحسيني: محمد بن علي بن الحسن (ت 765 هـ/ 1364 م)
60- ذيل العبر- للذهبي، ط 1 نشره: أبو هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول مع" ذيل العبر- للذهبي"، دار الكتب العلمية، بيروت، 1405 هـ/ 1985 م الحميري: محمد بن عبد المنعم (ت ترجيحا 727 هـ/ 1327 م)
61- الروض المعطار في خبر الأقطار، ط 2 تحقيق: إحسان عباس، مؤسسة ناصر للثقافة، بيروت، 1980 م الخزرجي: علي بن الحسن (ت 812 هـ/ 1409 م)
62- العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية، جزءان، ط 2 عني بتصحيحه: محمد بن علي الأكوع الحوالي، مركز الدراسات والبحوث اليمني، صنعاء، 1403 هـ/ 1983 م دوقلة المنبجي
63- القصيدة اليتيمة، ط 3 تحقيق: صلاح الدين المنجد، دار الكتاب الجديد، بيروت، 1983 م الذهبي: محمد بن أحمد بن عثمان (ت 748 هـ/ 1347 م)
64- سير أعلام النبلاء، 23 جزءا، ط 1 باعتناء مجموعة من المحققين، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1401 هـ/ 1981 م(4/408)
65- العبر في خبر من عبر، 3 أجزاء متسلسلة+ الجزء الرابع وهو:
66- ذيل العبر
طبعا معا بالإضافة إلى" ذيل العبر- للحسيني" المقدم ذكره الزهري: محمد بن أبي بكر (ت بعد 541 هـ/ 1154 م)
67- الجعرافية محمد حاج صادق، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، (لا. ت) زهير بن أبي سلمى
68- شرح ديوان زهير بن أبي سلمى، ط 1 صنعة: أبي العباس ثعلب، تحقيق: فخر الدين قباوة، دار الآفاق، بيروت، 1402 هـ/ 1982 م
69- شعر زهير بن أبي سلمى، ط 3
صنعة: الأعلم الشّنتمري، المحقق نفسه، الدار نفسها، 1400 هـ/ 1980 م سبط ابن الجوزي: يوسف بن قزأوغلي (ت 654 هـ/ 1256 م)
70- مرآة الزمان في تاريخ الأعيان، المجلد الثامن- قسمان، ط 1
دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن بالهند، 1370 هـ/ 1951- 1952 م السبكي: عبد الوهاب بن علي (ت 771 هـ/ 1370 م)
71- طبقات الشافعية، 6 أجزاء نشره: أحمد بن عبد الكريم القادري الحسني، المطبعة الحسينية، القاهرة، 1324 هـ
السموأل: ابن غريض بن عادياء
72- ديوان السموأل بن عادياء، ط 1(4/409)
عمر فاروق الطباع، شركة دار الأرقم، بيروت، 1417 هـ/ 1997 م
السيوطي: محمد بن عبد الرحمن بن محمد (ت 911 هـ/ 1505 م)
73- بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، جزءان
تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 1964- 1965 م
74- حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة، جزءان، ط 1
المحقق نفسه، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1387 هـ/ 1967- 1968 م الشوكاني: محمد بن علي بن محمد (ت 1250 هـ/ 1834 م)
75- البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، جزءان، ط 1
مطبعة السعادة بمصر، 1348 هـ الصفدي: خليل بن أيبك (ت 764 هـ/ 1363 م)
76- الوافي بالوفيات منشورات جميعة المستشرقين الألمان، 1931- 1982 م الصقاعي: فضل الله بن أبي الخير (ت 726 هـ/ 1326 م)
77- تالي كتاب وفيات الأعيان
تحقيق: جاكلين سوبلة، (J.Sublet) منشورات المعهد الفرنسي بدمشق، 1974 م
الطبري: محمد بن جرير (ت 310 هـ/ 923 م)
78- تاريخه" تاريخ الرسل والملوك"، ط 4
تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف بمصر (لا. ت) العلوي: علي بن محمد بن عبد الله العباسي(4/410)
79- سيرة الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين، ط 2 تحقيق: سهيل زكار، دار الفكر، بيروت، 1401 هـ/ 1981 م
عنترة بن شداد
80- ديوان عنترة العبسي
نشره: عمر فاروق الطباع، دار القلم، بيروت، (لا. ت)
الفيروزآبادي: محمد بن يعقوب (ت 817 هـ/ 1415 م)
81- القاموس المحيط، مجلد واحد، ط 4
بإشراف: محمد نعيم العرقسوسي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1415 هـ/ 1994 م الفيومي: أحمد بن علي (ت 770 هـ/ 1370 م)
82- المصباح المنير، جزءان
المكتبة العلمية، بيروت (لا. ت)
القلقشندي: أحمد بن علي بن أحمد (ت 821 هـ/ 1418 م)
83- صبح الأعشى في صناعة الإنشاء، الجزء 14، ط 1
دار الكتب العلمية، بيروت، 1407 هـ/ 1987 م
84- قلائد الجمان في التعريف بقبائل عرب الزمان
تحقيق: إبراهيم الأبياري، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1402 هـ/ 1982 م
85- نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب، ط 1
دار الكتب العلمية، بيروت، 1405 هـ/ 1984 م
لسان الدين: محمد بن عبد الله بن الخطيب (ت 776 هـ/ 1374 م)(4/411)
86- الإحاطة في أخبار غرناطة، 4 مجلدات، مج 1 ط 2، مج 2- 4، ط 1
تحقيق: محمد عبد الله عنان، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1973- 1977 م
87- اللمحة البدرية في الدولة النصرية، ط 3
دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1400 هـ/ 1980
88- معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار
تحقيق: محمد كمال شبانة، مطبعة فضالة بالمحمدية، المغرب (لا. ت)
المبرد: محمد بن يزيد (ت 285 هـ/ 898 م)
89- الكامل، 4 أجزاء، ط 2
تحقيق: محمد أحمد الدالي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1413 هـ/ 1993 م
المتنبي: أحمد بن الحسين (ت 354 هـ/ 965 م)
90- ديوان أبي الطيب المتنبي، مجلدان، ط 1
بشرح الشيخ ناصيف اليازجي دار مكتبة الهلال، بيروت، 1996 م
المخلافي: عبد الفتاح بن محمد (القرن العاشر الهجري/ السابع عشر الميلادي)
91- مرآة المعتبر في فضل جبل صبر، ط 1
محمد بن علي الأكوع، المعمل الفني للطباعة والتجليد، تعز، 1404 هـ/ 1984 م
المرزباني: محمد بن عمران بن موسى (ت 384 هـ/ 994 م)
92- معجم الشعراء
تحقيق: عبد الستار أحمد فراج، منشورات مكتبة النوري، دمشق، (لا. ت)
المسعودي: علي بن الحسين بن علي (ت 346 هـ/ 957 م)(4/412)
93- مروج الذهب ومعادن الجوهر، 4 أجزاء
دار الأندلس، بيروت، 1401 هـ/ 1981 م
مسلم: مسلم بن الحجاج القشيري (ت 261 هـ/ 874 م)
94- صحيح مسلم بشرح النووي، 6 مجلدات، ط 1
تحقيق: علي عبد الحميد بلطجي، دار الخير، دمشق، 1414 هـ/ 1994 م
المقدسي: محمد بن أحمد بن أبي بكر (ت 380 هـ/ 990 م)
95- أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، ط 3
مكتبة مدبولي، القاهرة، 1411 هـ/ 1991 م
المقري: أحمد بن محمد التلمساني (ت 1041 هـ/ 1631 م)
96- نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، 8 أجزاء
تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1388 هـ/ 1986 م
المقريزي: تقي الدين أحمد بن علي (ت 845 هـ/ 1442 م)
97- السلوك لمعرفة دول الملوك، 4 أجزاء
* الجزءان الأول والثاني: (6 أقسام) ، تحقيق: محمد مصطفى زيادة، دار الكتب المصرية، 1934- 1958 م
* الجزءان الثالث والرابع: (6 أقسام) ، تحقيق: سعيد عبد الفتاح عاشور، الدار نفسها، 1970- 1972 م
98- المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، جزءان
طبعة بولاق، 1270 هـ/ 1854 م
المنصوري: بيبرس الدوادار (ت 725 هـ/ 1325 م)(4/413)
99- زبدة الفكرة في تاريخ الهجرة، ج 9
ميكروفيلم عن مخطوط مكتبة المتحف البريطاني، رقم23325.Add:
الميداني: أحمد بن محمد بن أحمد (ت 518 هـ/ 1124 م)
100- مجمع الأمثال، 4 أجزاء
تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة عيسى البابي وشركاه، 1398 هـ/ 1978 م
النسائي: أحمد بن شعيب (ت 303 هـ/ 1915 م)
101- سنن النسائي بشرح الحافظ السيوطي، 4 أجزاء، ط 3
دار المعرفة، بيروت، 1414 هـ/ 1994 م
نشوان: ابن سعيد الحميري (ت 573 هـ/ 1177 م)
102- ملوك حمير وأقيال اليمن
تحقيق: علي بن إسماعيل المؤيد، وإسماعيل بن أحمد الجرافي، دار العودة، بيروت، 1986 م
الهمداني: الحسن بن أحمد (ت بعد 344 هـ/ 955 م)
103- صفة جزيرة العرب
تحقيق: محمد بن علي الأكوع الحوالي، دار اليمامة، الرياض، 1974 م
الهيثمي: علي بن أبي بكر (ت 807 هـ/ 1405 م)
104- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد
دار المعارف، بيروت، 1986 م
وهب بن منبه (ت 114 هـ/ 732 م)(4/414)
105- التيجان في ملوك حمير، ط 2
تحقيق ونشر: مركز الدراسات والأبحاث اليمنية، صنعاء، 1979 م
اليافعي: عبد الله بن أسعد (ت 768 هـ/ 1367 م)
106- مرآة الجنان وعبرة اليقظان، 4 أجزاء
دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن بالهند، 1337- 1339 هـ
ياقوت: الحموي (ت 626 هـ/ 1229 م)
107- المشترك وضعا والمفترق صقعا، ط 2
عالم الكتب، بيروت، 1406 هـ/ 1986 م
108- معجم البلدان، 5 أجزاء
دار صادر، بيروت، 1397 هـ/ 1977 م
يحيى بن الحسين: (ت 1100 هـ/ 1689 م)
109- أنباء الزمن في أخبار اليمن
تحقيق: محمد عبد الله ماضي، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، (لا. ت)
اليونيني: موسى بن محمد (ت 726 هـ/ 1326 م)
110- ذيل مرآة الزمان، 4 مجلدات
* بعناية: ف. كرنكو، (F.Krenkow) دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن بالهند، 1374- 1380 هـ/ 1954- 1961 م (يمثل هذا القسم المطبوع الجزءين الأول والثاني)
* مصورة مكتبة طوب قابي سراي باستنبول رقم 2907.Ms:عن الجزءين الثالث والرابع من" الذيل" المذكور.(4/415)
2- المراجع
آ- الكتب ابن العربي: الصديق
111- كتاب المغرب، ط 3 دار الغرب الإسلامي، ودار الثقافة، 1404 هـ/ 1984 م أبو سديرة: السيد طه
112- القبائل اليمنية في مصر منذ الفتح العربي حتى نهاية العصر الأموي مكتبة الشعب بالفجالة، القاهرة، 1408 هـ/ 1988 أحمد: محمد عبد العال
113- بنو رسول وبنو طاهر وعلاقات اليمن الخارجية في عهدهما دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1989 م بروفنسال: ليفي (Provencal ,L)
114- الإسلام في المغرب والأندلس ترجمة السيد محمود عبد العزيز سالم، ومحمد صلاح الدين حلمي، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، 1990 م البقلي: محمد قنديل
115- التعريف بمصطلحات صبح الأعشى الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1983 م حسين: حمدي عبد المنعم محمد(4/417)
116- تاريخ المغرب والأندلس في عصر المرابطين مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، 1986 م
117- مدينة سلا في العصر الإسلامي- دراسة في التاريخ السياسي والحضاري المؤسسة نفسها، الإسكندرية، 1993 م دهمان: محمد أحمد
118- ولاة دمشق في عهد المماليك، ط 2 دار الفكر، دمشق، 1401 هـ/ 1981 م دوزي: رينهارت بيتر آن (Dozy ,R.P.A)
119- تكملة المعاجم العربية، 5 أجزاء ترجمة: محمد سليم النعيمي، دار الرشيد، بغداد، 1981 م الزركلي: خير الدين
120- الأعلام، 8 أجزاء، ط 5 دار العلم للملايين، بيروت، 1980 م سالم: السيد عبد العزيز
121- تاريخ مدينة المرية الإسلامية- قاعدة أسطول الأندلس مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، 1984 م
122- تاريخ المغرب في العصر الإسلامي، ط 2 المؤسسة نفسها، الإسكندرية، 1982 م
123- المساجد والقصور في الأندلس المؤسسة نفسها، الإسكندرية، 1986 م(4/418)
سعيد: فرحان أحمد
124- آل ربيعة الطائيون، ط 1 الدار العربية للموسوعات، بيروت، 1983 م السويدي: محمد أمين البغدادي
125- سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب، ط 1 دار الكتب العلمية، بيروت، 1409 هـ/ 1989 م الشجاع: عبد الرحمن عبد الواحد
126- تاريخ اليمن في الإسلام حتى نهاية القرن الرابع الهجري، ط 1 دار الفكر المعاصر، صنعاء، 1996 م شرف الدين: أحمد حسين
127- اليمن عبر التاريخ، ط 3 مطابع البادية، الرياض، 1400 هـ/ 1980 م طرخان: إبراهيم علي
128- النظم الإقطاعية في الشرق الأوسط في العصور الوسطى دار الكتاب العربي، القاهرة، 1388 هـ/ 1968 م عاشور: فايد حماد
129- العلاقات السياسية بين المماليك والمغول في الدولة المملوكية الأولى دار المعارف بمصر، 1980 م(4/419)
العبادي: أحمد مختار
130- في تاريخ الأيوبيين والمماليك دار النهضة العربية، بيروت، 1995 م
131- في تاريخ المغرب والأندلس الدار نفسها، بيروت (لا. ت) العباس بن إبراهيم
132- الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام، 10 أجزاء تحقيق: عبد الوهاب بن منصور، المطبعة الملكية، الرباط، 1974- 1983 م عبد اللطيف: عبد الشافي محمد
133- العالم الإسلامي في العصر الأموي، ط 1 دار الوفاء، القاهرة، 1404 هـ/ 1984 م العرشي: حسين بن أحمد
134- بلوغ المرام في شرح مسك الختام في من تولى ملك اليمن من ملك وإمام عني بنشره: أنستاس ماري الكرملي، دار إحياء التراث العربي، بيروت (لا. ت) كحالة: عمر رضا
135- معجم قبائل العرب القديمة والحديثة، 5 أجزاء، ط 2 مؤسسة الرسالة، بيروت، 1398 م/ 1978 م كرد علي: محمد
136- غوطة دمشق، ط 3 دار الفكر، دمشق، 1404 هـ/ 1984 م(4/420)
ماير: ل. ا (.Mayer ,L.A) .
137- الملابس المملوكية ترجمة: صالح الشيتي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1972 م مختار باشا: محمد
138- التوفيقات الإلهامية في مقارنة التواريخ الهجرية بالسنين الإفرنكية والقبطية، مجلدان، ط 1 دراسة وتحقيق وتكملة: محمد عمارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1400 هـ/ 1980 م مخلوف: محمد بن محمد
139- شجرة النور الزكية في طبقات المالكية دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، (لا. ت)
140- المعجم الوسيط، جزءان في مجلد واحد (مجمع اللغة العربية بالقاهرة- الإدارة العامة للمعجمات وإحياء التراث) دار الدعوة، إستانبول 1989 م.
المقحفي: إبراهيم أحمد
141- معجم البلدان والقبائل اليمنية، ط 3 منشورات دار الكلمة، صنعاء، 1998 م الواسعي: عبد الواسع بن يحيى
142- تاريخ اليمن المسمى فرجة الهموم والحزن في حوادث وتاريخ اليمن، ط 2 مكتبة اليمن الكبرى، صنعاء، 1990- 1991 م(4/421)
ب- المجلات 143- المجلة التاريخية المصرية (القاهرة) :
أحمد: أحمد عبد الرزاق «الرّنوك في عصر سلاطين المماليك» المجلد 21 (1974 م) ، ص 67- 116 القوصي: عطية- «أضواء جديدة على تجارة الكارم» المجلد 22 (1975 م) ، ص 17- 39
ج- الموسوعات ودوائر المعارف 144- دائرة المعارف الإسلامية، 15 مجلدا (إصدار: أحمد الشنتاوي، وابراهيم خورشيد، وعبد الحميد يونس، مراجعة: محمد مهدي علام، دار المعرفة، بيروت، طبعة مصورة عن طبعة القاهرة، لسنة 1933 م) :
ايفر: ج (.Yver ,G)
- مادة" بجاية"، 3/350- 354
بارتولد: فاسيلي فلاديميروفتش (.Berthold ,V.V)
- مادة" البرامكة"، 3/492- 498
بل: الفرد (.Alfred ,B)
- مادة" تلمسان"، 5/458
جيس (.Gicse ,F) :
- مادة" بهنسا"، 4/267- 268
كارادي فو: البارون (.Carr De Vaux ,B)
- مادة" ذو النون"، 9/408- 410
كريفه (.Grafe ,E) :(4/423)
- مادة" دنقلة"، 9/298- 301
كور (.Cour ,A) :
- مادة" أبو زيان"، 1/341- 342
هنكمان (.Honigmann ,E) :
- مادة" الرّحبة"، 10/71- 79
145- الموسوعة العربية الميسرة، ط 2 (بإشراف محمد شفيق غربال، دار الشعب، ومؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، القاهرة، 1972 م) :
- مادة" نوبة"، ص 1851- 1852
146- الموسوعة اليمنية، ط 1 (إعداد وإشراف وتحرير مجموعة من الباحثين، مؤسسة العفيف الثقافية، صنعاء، 1412 هـ/ 1992 م) :
الأرياني: مطهر علي- مادة" أفعى نجران"، 1/121- مادة" مذحج"، 2/850- 851
أستون: فرانسين- مادة" تهامة"، 1/286- 289
السري: أحمد علي- مادة" الغساسنة"، 2/706- 707
عبد الله: يوسف محمد- مادة" تبع"، 1/220- 221- مادة" تعز"، 1/240- 242- مادة" حمير"، 1/424- 427- مادة" سبأ"، 2/503- 508(4/424)
العمري: حسين عبد الله- مادة" بنو رسول"، 1/173- 176- مادة" دولة الأئمة الزيدية"، 1/447- 459
المتوكل: إسماعيل محمد- مادة" القات"، 2/33- 735(4/425)
2- فهرس المحتويات
هذا الكتاب 5
منهج التحقيق 9
1- وصف النسخ المعتمدة في التحقيق 9
2- خطة العمل 13
3- الرموز المستعملة في التحقيق 17
4- المختصرات الخاصة ببعض المؤلفين أصحاب الكتب المفردة وغيرهم 19
5- نموذجات مصورة عن النسختين المعتمدتين في التحقيق 21
مسالك الأبصار في ممالك الأمصار السفر الرابع الباب السابع: في مملكة اليمن 29
الفصل الأول: فيما بيد أولاد رسول 35
الفصل الثاني: فيما بيد الأشراف 49
الباب الثامن: في ممالك المسلمين بالحبشة 59
الفصل الأول: في أوفات 65
الفصل الثاني: في دوارو 73(4/427)
الفصل الثالث: في أرابيني 75
الفصل الرابع: في هدية 77
الفصل الخامس: في شرحا 79
الفصل السادس: في بالي 81
الفصل السابع: في دارة 83
الباب التاسع: في ممالك مسلمي السودان على ضفة النيل إلى مصر 93
الفصل الأول: في الكانم 95
الفصل الثاني: في النّوبة 99
الباب العاشر: في مملكة مالي وما معها 105
الباب الحادي عشر: في مملكة جبال البربر 131
الباب الثاني عشر: في مملكة إفريقيّة 135
الباب الثالث عشر: في مملكة بر العدوة 167
الباب الرابع عشر: في مملكة الأندلس 225
الباب الخامس عشر: في ذكر العرب الموجودين في زماننا وأماكنهم 241
توطئة 243
العرب البائدة 247
العرب العاربة 248
العرب المستعربة 267(4/428)
ذكر النسب النبوي الشريف 269
طوائف العرب الموجودين في زماننا: 299
عرب الشام: 299
آل ربيعة 306
آل فضل ومنهم آل عيسى 309
آل علي 335
آل مرا 337
* بقية العرب وديارهم في الشام والجزيرة الفراتية والعراق والحجاز وغيرها
من جزيرة العرب 343
* صليبة العرب 358
* عرب مصر 360
* بنو سليم 389
* قبائل العربان من مصر إلى أقصى المغرب 390
* عرب الطرق المسلوكة إلى مكة المكرمة 395
1- فهرس المصادر والمراجع 399
- المصادر 399
- المراجع 417
2- فهرس المحتويات 427(4/429)
[الجزء الخامس]
مسالك الأبصار في ممالك الأمصار(5/3)
الورقة الأولى من المخطوط(5/5)
الورقة الثانية من المخطوط(5/6)
الورقة قبل الأخيرة من المخطوط(5/7)
الورقة الأخيرة من المخطوط(5/8)
مقدمة التحقيق
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، والصلاة والسلام على سيدنا محمد إمام المرسلين، وخاتم النبيين، المرسل رحمة للعالمين، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الكرام الميامين، وعلى أهل العلم العاملين، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد فإن بين أيدينا المجلد الخامس من كتاب" مسالك الأبصار في ممالك الأمصار" للعلامة المؤرخ الأديب، المدقق النحرير شهاب الدين أحمد بن يحيى بن فضل الله القرشي العدوي العمري (700- 749 هـ) ، أحد مجلدات موسوعته العلمية التاريخية الحضارية التي بلغت سبعا وعشرين مجلدة، إنها معلمة حضارية تاريخية شاملة. ضم هذا السفر القسم الثاني من الكتاب في سكان الأرض من طوائف الأمم، وهو أنواع:
النوع الأول: في الإنصاف بين المشرق والمغرب. وفيه فصلان:
الفصل الأول وهو الخطابي
الفصل الثاني في الإنصاف بين المشرق والمغرب على حكم التحقيق
في ظلال النوع الأول الذي وسمه" في الانصاف بين المشرق والمغرب" نلاحظ ابن فضل الله العمري في هذا العرض والموازنة الظاهرة بين المشرق والمغرب، يعرض لليونان والرومان والهنود والفرس قبل الإسلام، ثم يعرض لأكابر العلماء والحكماء في الإسلام في المشرق والمغرب، وأظنه قصد إبراز التواصل الحضاري(5/9)
بين اللاحق والسابق، وبيان حضارة الإسلام والمسلمين في مشارق الدنيا ومغاربها في مختلف مناحي الحياة وميادينها، وحرص المسلمين على البحث والعلم وتطبيقه ونشره، والإبداع فيه، والزيادة عليه وحفظه ونقله إلى الآفاق لخير الإنسانية، وإذا عرّج على ذكر الخلافة والممالك والسلطنات، إنما أراد أن يبرز حسن سياسة المسؤولين، وحسن إدارتهم وصيانة رعاياهم، ودفع أعدائه، وقطع أطماع المتربصين بهم..... وحملته الأمانة التاريخية أن يبين في كل جانب من الجوانب التي عرضها ما له وما عليه، ليفيد الخلف من تجارب السلف، مهما يكن الأمر نحن أمام موسوعة علمية شاملة، تناولت معظم جوانب الحياة العلمية، والاجتماعية والمعاشية والسياسية، والأرض وما فيها من إنسان وحيوان ونبات، وما في باطنها من جواهر ومعادن، وبعض الصنائع في مشرق الدولة الإسلامية ومغربها في نحو سبعة قرون، وقد أوغلت أحيانا في أعماق تاريخ ما قبل الإسلام.
وأما الفصل الأول الخطابي فقد ذكر في مطلعه أنه كان لا يرغب أن يفتح في هذا الفصل مغلق بابه، حتى لا يوغر عليه صدورا، ولأن فضل المشرق- في نظره- ظاهر كوضوح الشمس في رائعة النهار، ولكنه لما رأى تطاول بعض أهل المغرب وتفاخره بالمغرب- مع قصر باعه- على المشرق، رأى المؤلف أن يفتح هذا الباب، مع إقراره أن لكل من المشرق والمغرب فضله، ولا يخلو كل منهما من مدح وذم، فشرع ببيان فضل المشرق من حيث تقديم ذكر المشارق في القرآن الكريم على المغارب، وسعة سلطان المشرق، واتساع مساحة بره وزيادتها على المغرب، لدخول البحر المحيط فيه، فقلت مدنه وعمارته بالنسبة إلى المشرق التي اتصلت فيها العمارة فجاء كله مدنا آهلة وقرى عامرة، وقد أقر بهذا ابن سعيد المغربي (- 673 هـ) في كتابه الجغرافية، ثم انتقل من الأرض إلى ساكنيها،(5/10)
وأنكر أن تسوى بلاد جنوبها الهند، وهم من أهل العلم والحكمة.... وحسن الصور وما فيها من عقاقير وأغذية وتوابل وجواهر- ببلاد جنوبها حثالة السودان.... وهم أقل للمعارف تأويلا ... وعتب ابن العمري على ابن سعيد المغربي في قوله" فوجب التسليم من المغاربة للمشارقة، لأنه يجب للمشارقة على المغاربة التسليم في كل شيء شاؤوا أو أبوا، اللهم إلا في القليل النادر الذي لا حكم له (ثم بدأ يبين فضل المشرق بأنه مظاهر الأنبياء ومباعث الرسل، وفيه قبورهم ومهابط الوحي والتنزيل عليهم، وفيه معارج الملائكة، وفيه أنزلت كتب الله تعالى، ومنه انتشرت شرائعه، وعلت رايات الدين، ومنه نشرت الفرق والملل، ومن الشرق انبثت التصانيف شرقا وغربا، وفي الشرق جزيرة العرب بسلطانها ولسانها، فينابيع الشعر تفجرت منها، وعن العرب طارت شهرته، فهم نبع البيان وسحره، واستشهد بما ذكره عماد الدين الكاتب الأديب (519- 597) من فضل المشرق على المغرب في هذا الباب ... ثم أضاف ابن العمري أنه لم تقع الجهات الشريفة كالحرمين ومكة والمدينة وبيت المقدس «1» التي لا تشد الرحال إلا إليها، إلا في المشرق، وعرّج على ذكر الحواريين ثم الصحابة رضي الله عنهم، والصناديد الأبطال الذين لم يسمع عنهم إلا في المشرق، وبخاصة في جزيرة العرب وما والاها من الجانب الشرقي، ومشاهد الكرام والعظماء، الذين طارت شهرتهم في المشرق، ومن العظماء ممن لا يعدون كثرة من أكاسرة وقياصرة وملوك اليمن والترك والعرب والعجم كلهم من المشرق، ثم تساءل هل في المغرب مثل عنترة العبسي وذكر عددا من مشاهير الجاهلية والإسلام كالزبير بن العوام والمقداد بن الأسود، والأشتر النخعي ... وغيرهم من(5/11)
رجالات الفرس ... ثم عرض للأئمة الأعلام مثل أبي حنيفة والإمام مالك والشافعي وأحمد وغيرهم من أئمة التابعين وأتباعهم، وأئمة الحفاظ من المحدثين والتفاوت بين المشارقة والمغاربة في هذا الميدان ... ثم تساءل هل في الغرب من السادات الأولياء كما في الشرق كعبد الله بن المبارك، وعتبة بن إبان البصري، والجنيد وغيرهم ... وانتقل بعد ذلك إلى ذكر بعض المصنفات كرسالة القشيري، وحلية الأولياء وتاريخ السلمي، وعوارف المعارف للسهروردي، التي ظهرت في المشرق، وتساءل هل تجد للغرب مثل ذلك. وتساءل أي القطرين- الشرق والغرب- أقدم إسلاما وأكثر كراما، وأيهما بادر إلى حمل راية الفصاحة، وتلقين آية السماحة؟ ولم يصل إلى الغرب من السؤدد إلا ما فضل عن الشرق، ولم يتجل شيء من هذا قبل المائة الرابعة.
ثم عرج على فلاسفة المشرق وحكمائه وعلمائه من اليونان والهند، ثم من كان في الإسلام كابن المقفع والفزاري الفلكي والخوارزمي الرياضي الفلكي، والرازي الطبيب ... والفارابي فيلسوف المسلمين وابن سينا ...
ثم عرج على أصحاب الموسيقا وإجادة الغناء، وذكر أن المنصف يدرك أن قصبات السبق لرجال الشرق في هذا الميدان، وساق ثلاثة وعشرين من مشاهير هذا الفن من رجال ونساء ... " ممن يصغي الصم لسماعه، وتغني الطير على إيقاعه"، وذكر ثناء أديب الأندلس بل الغرب ابن بسام (- 542 هـ) على أدب أهل الأندلس في مقدمة كتابه (الذخيرة) إذ قال: (الذين صبوا على قوالب النجوم غرائب المنثور والمنظوم، بعجائب الأشعار والرسائل ... إلا أن أهل هذا الأفق أبوا إلا متابعة أهل المشرق، يرجعون إلى أخبارهم المعتادة ... ) .
وكفى- عند ابن العمري- قضاء هذا الأديب الفريد على أهل الأندلس،(5/12)
وهم صفوة أهل المغرب بولوعهم بما لأهل المشرق ... ".
ويعجب ابن فضل الله العمري ما حكي عن الصاحب بن عباد الوزير الأديب (326- 385 هـ) حين اطلع على كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي (246- 327 هـ) إذ قال: (هذه بضاعتنا ردت إلينا، ظننا أن هذا الكتاب يشمل على شيء من أخبار بلادهم، فإذا هو لا يشمل إلا أخبار بلادنا لا حاجة لنا فيه، وردّه) .
ثم أخذ بعرض أصحاب الصنائع العملية، وأشرفها رسم الكتابة، وذكر خمسة من أعلام الخطاطين في الشرق، وغالب ظنه أن المغاربة لا يتطاولون إلى مفاخرة أهل الشرق فيها.
ثم عرض لأصحاب الصنائع والمهن، وأجلها الفلاحة، وصناعة السيوف والرماح والأقواس العربية والدروع، والديباج، والأطلس والصوف، والوشي العراقي، وغضار الصين، وفخار قاشان وزجاج الشام في حين لا يسمع للمغرب في هذا حسّا، إلا ما كان من قباطي مصر، وأخيرا من قماش نيس ثم الإسكندرية، هذا لو سلم أن مصر من الغرب!!
ثم عرض للملك فأشاد برسو قواعد الخلافة في المشرق منذ الخلافة الراشدة إلى الخلافة العباسية، ورد دعوى من يرى بعض حلل الخلافة في المغرب، بأنه لم يذكر إلا الخلافة المجمع عليها، واستشهد بقول ابن سعيد المغربي:" إن الاصطلاح أن لا تطلق هذه السمة- أي السلطنة والملك- إلا على من يكون في ولايته ملوك، فيكون ملك الملوك مثل الشام أو مثل أفريقية، أو مثل الأندلس، ويكون عسكره عشرة آلاف فارس أو نحوها، فإن زاد بلادا أو عددا في الجيش كان أعظم في السلطنة.... فإن خطب له في مثل مصر والشام والجزيرة ... كانت(5/13)
سمته سلطان السلاطين ... والفضل في هذا للمشرق.
ومع هذا فإن ابن فضل الله العمري يرى أن ابن سعيد المغربي لم يوف الشرق حقه، وأن الفارق بين سلطنة المشرق، وسلطنة المغرب ما بين الأرض والسماء والدر والحصباء، وإن كان لا يغمط ابن العمري للغرب حقه، فنقل عن الثقات من أهل كل قطر ما هو عليه..
وعرض لخلافة بني العباس في المشرق وللسلطنة الغزنوية وأصناف عساكرها، وملوك جرجان وطبرستان والهند والسند والترك ... ومظاهر الملك فيها من فرش وتيجان مرصعة بالجواهر واليواقيت ... وإلى أسمطة الطعام والشراب وأوانيها بما يقصر الوصف عنها، وعرض لبعض سلاطين وأمراء السلاجقة الشجعان الذين اتسع سلطانهم وملكهم كالسلطان ملكشاه بن ألب أرسلان وذكر حسن تدبير وزيره، وعلاء الدين ملك خوارزم وسعة سلطانه وولده السلطان جلال الدين محمد، إذ كان جيش كل واحد منهم ستمائة ألف فارس ... وبوفاتهما طمى سيل التتار على الآفاق الإسلامية..
ورأى انه لا يقاس أهل الغرب بأهل الشرق، وذكر بعض طرائف لأهل المغرب وعرّج بعد ذلك إلى الكلام في الحيوان والنبات والمعادن في المشرق بما لا يماثله في الغرب، فعرض لأنواع الخيول في المشرق والبراذين والبغال والجمال والأغنام وغير ذلك من الحيوانات التي يستفاد من جلودها كالنمور والسنجاب والغزال وغيرها ثم عرض لمعادن المشرق من ذهب وبيّن مواضعه كما ذكر مواضع الذهب والفضة في المغرب.
وعرض لأنواع الجواهر في المشرق، ومنابت العود والصندل والكافور والراوند والقرنفل والفلفل وأنواع الطيب والعقاقير النافعة وأنه ليس في الغرب ما يضاهي(5/14)
هذه المحاسن ... ثم ذكر جواهر الغرب ومعادنه وبين مواطنها وأن الزمرد الذي بجهة مصر أفضل- حرصا منه على العدل والإنصاف بين المشرق والمغرب، ومع ثبوت المحاسن للشرق فما يسلب ابن فضل الله العمري من المغرب حلله، ولا ينقصه حقه ولا يدعي ما ليس له ... فذكر في أيامه في المغرب ملكا صب على الكفار، يدرأ في نحورهم ويجاهد في سبيل الله من جاوره منهم برا وبحرا، والغرب هو أحد جناحي الأرض وبه من كرائم الخيل والمعادن، ويقذف بحره الحيتان ... وفيه من العقاقير النافعة، وفيه الكتان المعدوم المثيل إن صح أن مصر في القسم الغربي.. وذكر أنه سيورد في كل موضع ما يليق به، ويذكر في خصائص كل أرض ما بها، ولا ينكر أن بالغرب سادة أجلاء وأئمة فضلاء من ذوي العلم والحكمة.. ومنهم الصلحاء الأفراد، وفيهم بقايا المسكة في الدين والتشدد في الحق، وأثنى على الأندلس زمان بني أمية، وملوك الطوائف بعدهم.. لكن الدهر شتت جمعهم (وطمس آثارهم، وبدّلهم بعبّاد الصليب والكنائس بالمساجد والمذابح بالمحاريب، والله يؤيد من يقوم لاسترجاع هذه الضالة، وانتزاع هذه الأخيذة، إنه على ما يشاء قدير..) . وفي الغرب (من شجعان الرجال ممن لا يقص بهم للغرب جناح، ولا يقصر طماح، وإن لم يكن كالشرق في اليسار، ولا هو من الطائر قادمته اليمين، فهو قادمته اليسار) بهذه العبارة ختم الفصل الأول من هذا النوع.
وأما الفصل الثاني: الإنصاف بين المشرق والمغرب على حكم التحقيق، فقد فصل القول فيما أجمله في الفصل الأول، وافتتحه ببيان حدود المشرق والمغرب، معتمدا على ما ذكره ابن سعيد المغربي في كتابه الجغرافية، ورأى أن ابن سعيد قد تعصب غاية التعصب للغرب، في كتابه (المغرب في حلى المغرب) ، واستعان ابن فضل الله العمري بما ذكره ابن سعيد في كتابه (المشرق في حلى(5/15)
المشرق) ، وانطلق في بيان وجه التناظر والموازنة بين المشرق والمغرب في البقاع الجغرافية، ورأى أن المناظرة بينهما تحتمل كتابا، صنفه في بلاد الشام حين رأى من شدة اتحاد المشارقة على المغاربة، سماه (الشهب الثاقبة في الإنصاف بين المشارقة والمغاربة) ، واستشهد بقول البيهقي في المشرق وفضله: (وكل شيء يفخر به فإن المشرق فيه للمغرب رأس) ، وذكر ما قاله ابن سعيد في المشرق والمغرب من فضائل ومظاهر اجتماعية وحضارية، ومآكل ومشارب ومراكب ومجالس، وغير ذلك من عادات وتقاليد مغربية ومشرقية، متفاوتة ومتباينة، وقد استشهد ابن سعيد بقول بعض شعراء المغرب للمشارقة:
نراح لفضل أن يكون لديكم ... فما لكم تأبون إن كان عندنا
وإن كنتم في العد أكثر مفخرا ... فلا تظلمونا في القليل الذي لنا
وبعد هذا انبرى ابن فضل الله العمري ينقض أكثر ما ذكره ابن سعيد، موازنا بين المشرق والمغرب في الملبس والمركب، والخدم والمأكل والمشرب، وفي الطهاة وأنواع المآكل والطيب وأمر الرفاهية، وتوظيف الوظائف، وترتيب طبقات الخدم.. الذي لم يخرج إلا من المشرق، ورد على ابن سعيد في اتهام المشارقة بخلف الوعد، ونبذ الحقوق بما فعله ابن تاشفين (- 500 هـ) ملك المغرب مع المعتمد بن عباد (431- 488 هـ) الذي كانت له يد عليه، وما آلت إليه حاله ممثلة بشعره، إذ يقول:
تبدلت من ظل عز البنود ... بذل الحديد وثقل القيود
وكان حديدي سنانا ذليقا ... وعضبا رقيقا صقيل الحديد
وقد صار ذاك وذا أدهما ... يعض بساقي عض الأسود
ووجه العمري أكثر ما استشهد به ابن سعيد لصالح المغرب ليصبح إقرارا منه(5/16)
في فضل المشرق، فقال: (وكلام ابن سعيد كله لمن تأمله إثبات لفضل المشرق وأهله على الغرب وأهله الذي لا يمترى فيه) ، ثم انتقل إلى الحديث عن جود مناخ المشرق ورطوبة هواء المدن المغربية.... وطوّف في الحيوان والنبات والمعادن في كل منهما، وعرض لألوان وهيئات أهل المشرق والمغرب، مشيدا بالمشارقة ... ثم أشاد بحسن ديباجة الألفاظ لدى المغاربة، وحسن إحكام قواعد المعاني لدى المشارقة وذكر سبعة من أعلام شعراء المشرق، وأثنى على لطائف أهل المغرب، بأنها أعلق بالقلوب، وأدخل على النفوس في كل أسلوب.
وعرض لتفوق المشرق في العلوم العقلية والرياضيات والإلهيات ... ثم طرق باب الموازنة بين المتنزهات في المشرق وما يناظرها في المغرب، ففصل القول في مواقعها وهضابها وأنهارها وأشجارها، ونسائمها ومناظرها وأسوارها، وبين خصائصها ومزايا بعضها على بعض، وذكر أقوال العلماء فيها وفي وصفها، وأقوال بعض الشعراء فيها، كما ذكر ما دار من سجال بين الشعراء في مدح متنزهات المشرق والمغرب، أو في مدحهما، كما ذكر أقوال بعض الرحالة الذين زاروا تلك الأقاليم، وتحدثوا في آثار البيئة في ألوان السكان وهيئاتهم وأخلاقهم وسلوكهم.... ومواليهم وغلمانهم، وذكروا الفروق بين أجناسهم، وبين خصائص كل جنس وأقوال المشاهير فيهم، حتى إن الإسكندر أجلّ ملوك الروم أقرّ بفضل الترك، واعترف بحكمة صاحب الصين وفضله ... واستجره الحديث عن الديار المصرية إلى الحديث عن حكامها من بعض الفرق الذين استعصوا على خصومهم إلا على صلاح الدين الأيوبي رحمه الله (532- 589 هـ) الذي طهر البلاد منهم.
ورأى العمري مما يتكلم فيه من أحكام المناظرة بين المشارقة والمغاربة في النبوة، وهذا الفخر مسلّم به للمشرق، فذكر الأنبياء والرسل وأعدادهم(5/17)
ومواطنهم من بلاد الشرق، ومواطن ولادتهم وأماكن قبورهم، ولا يعلم نبي ظهر في المغرب ما خلا الديار المصرية ...
ثم عرض للخلافة وبيّن أن شأنها مسلّم للشرق أيضا منذ الخلافة الراشدة، وذكر تعاقب الخلفاء والأمراء والسلاطين وأولادهم، وحكمهم وموطنه ومن توارثه، وفصل القول في أحوال الخلفاء وتعاقبهم، وانتقال الخلافة من أسرة إلى غيرها.
ثم عرض للمناظرة في أشخاص الخلفاء وأحوالهم، ومددهم بين أهل المشرق والمغرب في الحرب والسلم، والجود والكرم والفتنة والعدل والزهادة ... وحب العلوم واقتناء الكتب، وحب الشعر والشعراء، ومن ذكرت صولته وعظمت آثاره، وكثرت أسفاره وانتصاراته من المشارقة والمغاربة، وذكر بعض عجائب أولي الأمر فيهم، وعرض لعظمائهم وأكابر أمرائهم وذكر سلطنات ما وراء النهر وخراسان، وسجستان وكرمان والديلمان وطبرستان والجبال (عراق العجم) ، وفارس والأهواز والعراق وشهر زور والجزيرة، وبلاد الشام ومن تعاقب على ملك كل ما ذكر قبل الإسلام وبعده من خلفاء وأمراء، ومصر ومن تعاقب عليها من الجاهلية وبعد الإسلام إلى بني طولون، وعرّج على جزيرة العرب، وذكر من تعاقب عليها، وذكر سلطنات كثيرة في اليمن وحضر موت وهجر، واليمامة، ثم عرّج على البلاد في شمال بلاد الشام والجزيرة كأزربيجان والبيلقان، وباب الأبواب والراز وأرمينية، وبلاد الروم والصقلب، ولم يكن في هذه مسلمون إلا البلغار، ثم وصل التتر إلى بلادهم، كما تحدث عن ممالك الهند والصين الكثيرة، وداخل التتر أهل الصين في بلادهم.
ثم ذكر سلطنات المغرب وأولها مما بأيدي المسلمين الديار المصرية وهي(5/18)
عظيمة في الجاهلية والإسلام، ثم ذكر من تعاقب عليها إلى أن آلت إلى الناصر صلاح الدين، وعرّج على ذكر سلطنات برقة وأفريقية ومن توالى عليها من الأسر الحاكمة، وسلطنة المغرب الأقصى، وهي أعظم جهات المغرب، وقد توالى عليها الأدارسة ثم بنو مدران ثم يوسف بن تاشفين الذي بنى مراكش، ثم عرض للسودان، وأعظم قواعد السلطنة فيها الحبشة والنوبة، وبلاد التكرور سلطنة، وجزيرة الأندلس سلطنتان، سلطنة للمسلمين، وسلطنة للنصارى، وتوالى على سلطنة المسلمين ولاة بني أمية إلى أن ملكها صقر قريش، وتوارثها بنوه ثم بنو عبد المؤمن، كما عرض لغيرها من السلطنات في شمال البلاد الإسلامية.
ثم ذكر ما قاله ابن سعيد المغربي في الجندية في المشرق، وأهم خصائصها ومميزاتها، وموازنتها بخصائص الجندية في المغرب ومميزاتها، من خلال مشاهداته في رحلاته، ولقاءاته بالمسافرين، وبيان ما لكل فارس في المشرق من مركوب وعتاد ومساعدين، مما ليس لأمثاله في الأندلس والمغرب الأوسط والأقصى وأفريقيا، كما وصف أنواع أسلحة كل من الفريقين، كما وازن بين فرسان المغرب والأندلس ومهاراتهم، وما لأمراء الجيوش في المشرق من مظاهر لم يحظ بها قادة المغرب، ومثل هذا في أعطياتهم وطعامهم وفراشهم وآلات اللباس، والفضيلة في كل هذا واضحة للمشارقة على المغاربة، وأثنى على انضباط جند المغاربة وسرعة نجدتهم، وبيّن أسباب ذلك، وناقشه ابن فضل الله العمري في بعض ما أثنى به على الجند المغربي.
ثم عرض للوزارة في المشرق وأنها فيه أعظم منها في المغرب، وذكر مزايا الوزراء ودورهم في الحكم وآثارهم ... وعرض بعد ذلك لكتاب المشرق، وبراعتهم وسحر كلامهم، وأجاد في وصفهم، مما لا تجد للمغرب لدى المشرق يدا في فضل، ولا باعا في علياء.(5/19)
ومهّد بعد ذلك للحديث عن أهل الفضل في الشرق والغرب بعد الأنبياء، ورأى أن أعلاهم كعبا القراء، ثم أهل الحديث الشريف، ثم الفقهاء، ثم أهل اللغة، ثم أهل النحو، ثم الفقراء أصحاب القلوب، فالحكماء والوزراء والكتاب.... الذين سيذكرهم في قسمي المشرق والمغرب، وسيأتي بمشاهيرهم في الجاهلية والإسلام إلى عصره، وسيذكر بعد الإنسان سائر الحيوان، ثم النبات، ثم المعادن، ناقلا كل ذلك من مصادره التخصصية، مصورا لما قدر على تصويره منها،، وقد رأى أن يبدأ بالقراء، لشرف القرآن العظيم، وبشرف القرآن العظيم شرف أهله، وتقدمهم تبع لفضله ... ثم ترجم للقراء تراجم وافية، على النحو الآتي:
1- مشاهير قرّاء المشرق.
2- القرّاء بالجانب الغربي.
3- القرّاء في مصر.
4- المحدّثون بالجانب الشرقي.
5- المحدّثون بالجانب الغربي.
6- من كان منهم بمصر.
7- فقهاء المحدّثين بالجانب الشرقي.
8- فقهاء الجانب الغربي.
9- فقهاء الديار المصرية.
عرض ما قدمه بأسلوب إخباري حينا وتقريري أحيانا، وحواري في بعض الأحيان، ويؤيد ما يذهب إليه بالأدلة المنقولة، والوقائع التاريخية المشهورة،(5/20)
وكثيرا ما يرد على ما يدلي به غيره، بالشعر تارة، وبالنثر تارات، وقد غلب على بيانه السجع المقبول، وقد تضطره المحافظة على فاصلة السجع أن يستعمل غريب الألفاظ، هذا إلى جانب كثرة الصناعة البديعية، ولا سيّما تراجم العلماء، التي يورد فيها من الحقائق واللطائف والطرائف، ما يثلج الصدور، ويدخل على النفوس الحبور. جزاه الله تعالى خير الجزاء، فقد حفظ لنا في موسوعته الكثير الكثير، والخير العميم، نفع الله تعالى بها العباد والبلاد، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
أ. د محمد عجاج الخطيب
الاثنين 16 صفر 1423 هـ
الموافق 29 نيسان 2002 م(5/21)
منهجنا في خدمة الكتاب وتحقيقه
1- هذا السفر الذي بين أيدينا بخط نسخ جيد مقروء، إلا أنه في كثير من صفحاته لواحق تملأ حواشيها، وقد دوّن بعضها بخط غير مقروء، ساعدنا في التغلب على غامضه ومغلقه الرجوع إلى مظان المادة العلمية من مصادرها ومراجعها.
2- عزونا الآيات القرآنية إلى سورها وذكرنا أرقامها.
3- خرّجنا الأحاديث والآثار على وفق منهج المحدّثين وقواعدهم.
4- حاولنا ما بوسعنا عزو الأشعار إلى أصحابها.
5- عرّفنا بالأعلام الذين ورد ذكرهم في أخبار الكتاب تعريفا مختصرا.
6- كما عرّفنا بالأقاليم والمدن والأماكن والبحار والأنهار بما يناسب المقام.
7- شرحنا غريب الألفاظ بالاستعانة بالمعاجم اللغوية، كما عرّفنا ببعض النباتات والحيوانات والجواهر والمعادن التي ورد ذكرها بالاستعانة بالمصادر الخاصة بها.
8- وثّقنا المادة العلمية من مظان مصادرها الأصلية، ما أمكن السبيل إلى التوثيق.
9- حافظنا على نص المؤلف، ووضعنا ما اضطررنا إلى زيادته بين قوسين.
10- لم نكثر من بيان الاختلاف في رسم بعض الكلمات من مدود نحو" جمدى" بدلا من" جمادى" و" ثلث" بدلا من" ثلاث"، أو الاختلاف من الناحية الإملائية في وضع الهمزات، أو إهمالها في آخر الكلمة كالمقري في المقرئ، ولا إلى نقص النقاط أو سقوطها في أواخر الكلمات من" حمزة" أو"(5/23)
الكسائي" ونحوها، أو جيت بدلا من" جئت" والملكئة عوضا عن" الملائكة" والعائذ بدلا من العائذ حتى لا تكثر الحواشي.
11- ذكرنا أرقام صفحات الأصل المخطوط، عند أول كل صفحة منه نحو (ص 12) .
12- وضعنا فهرسا للآيات القرآنية الكريمة.
13- فهرسا للأحاديث النبوية.
14- وفهرسا للأشعار.
15- وفهرسا للأماكن.
16- وفهرسا للأعلام المترجم لهم.
17- كما وضعنا فهرسا لمصادر التحقيق ومراجعه.
18- وفهرسا للموضوعات.
سائلين الله تعالى أن نكون قد وفقنا إلى ما قصدنا، وأن يجعل عملنا خالصا لوجهه الكريم، وأن ينفع به العباد والبلاد، آملين أن يسددنا أهل العلم فيما أخطأنا، وأن يتجاوزوا زلاتنا، فالكمال لله وحده، وله الفضل والمنة في البدء والانتهاء.
والحمد لله رب العالمين(5/24)
القسم الثاني من الكتاب في سكان الأرض من طوائف الأمم، وهو أنواع: «1»
النوع الأول في الإنصاف بين المشرق والمغرب، وهذا النوع له شبهان: شبه بالقسم الأول بحسب موضوعه، وما اندرج معه وتعلق بذيل المفاخرة بين الجانبين من النبات والمعدن، وله شبه بالقسم الثاني بحسب ما اندرج فيه من ذكر طوائف العلماء الذين هم أعيان الناس، وذكر سائر الحيوان إلا أن هذا الشبه أقوى لأن المقصود من المكان ساكنه فألحقناه بهذا القسم
وفيه فصلان:
الفصل الأول: خطابي الفصل الثاني: على حكم التحقيق(5/25)
الفصل الأول: وهو الخطابي
[مقدمة المصنف]
اعلم أن هذا مغلق لم يكن في عزمي أن أفتح بابه، ولا أتعرض إليه لأمرين:
أحدهما لأني أخشى توغر صدر عليّ. والثاني لأن فضل الشرق ظاهر كوضوح الشمس منه، فلا يحتاج إلى قول.
ثم إنني رأيت من أهل المغرب من يطاول ممتد الشرق بباعه القصير، ويكاثر بحره الزاخر بوشله «1» القليل، على أننا لا نجحد أن لكل منهما فضلا، وأن في كل منهما للمدح والذم أهلا، ولكنّ الأغلب يغلّب. وقد ذكر الله تعالى المشارق والمغارب في غير موضع من القرآن، فبدأ بالمشارق، وإن لم تكن الواو تقتضي الترتيب، ولكن/ (ص 3) «2» مداومة تقديم المشارق لا يخفى ما فيها من معنى، ومحاسن كل شيء غالبا في الشرق أكثر، ودست «3» ما فيها كل سلطنة بها أعظم، ولا يخالف في هذا من لم ينازع الحقّ أهله، ولقد همّ ابن(5/27)
سعيد «1» في كتاب المغرب «2» بالتعصب لبلاده، ثم منعه الإنصاف، وإن كان في بعض الكلام قد أشار وما صرّح، مثل قوله وقد ذكر بعض الأقوال في مساحة الأرض من البحر المحيط بالصين، إلى البحر المحيط بالأندلس «3» ، وبرّ العدوة
[مشرق الأرض ومغربها]
وأن نصفها للمشرق، من البحر المحيط بالصين، إلى آخر الشام على البحر(5/28)
السبتي، «1» والنصف الآخر للمغرب، من أول الديار المصرية، وبلاد الحبشة، وما في غرب خليج القسطنطينية، وما في خطّيه عرضا، مارّا في الطول إلى البحر المحيط بالأندلس وبرّ العدوة. قال: وقد ذكر البيهقي «2» : أن من أصحاب المساحة من قال: إن المشرق أطول وأعرض من المغرب، ثم قال ابن سعيد: وقيل: إن الذي نقّص من طول المغرب دخول البحر المحيط فيه، من جزائر الخالدات «3» ، التي هي منتهى العمارة إلى برّ طنجة. وإن قسم المشرق من أول المشرق إلى(5/29)
الجزائر، التي في البحر المحيط بالصين المعروفة بصين الصين، هي أقرب في ذلك إلى المشرق من الجزائر الخالدات إلى أكثره في المغرب. ثم قال: وقد ذكر الإقليم الرابع الذي هو معظم المغرب والاعتدال «1» أنه ليس بالمغرب فيه إلا بعض الأندلس وبعض ساحل برّ العدوة، وجمهوره غلب عليه البحر، وقد ذكر البحر الرّومي يعني الشامي، الذي سماه هنا السبتي. قال: وفيه جزائر ليست مما تقارب جزائر الهند في الكثرة. ثم قال: والإقليم الرابع في المشرق بضد ذلك، يعني ضد ما هو عليه في المغرب، لأنه ليس فيه بحر يعطّله عن اتصال (ص 4) العمارة، وكثرة المدن المتوالية من الشام إلى الجزيرة، إلى عراق العجم، إلى خراسان، إلى ما وراء النهر، متصلا في بلاد الأتراك، إلى يأجوج ومأجوج «2» ، فلهذا كان الشرق أعظم عمارة من المغرب، وأكثر مدنا.
ومعنى كلامه أن البحر الرّومي «3» جاء في الجانب الغربي في موضع الإقليم(5/30)
الرابع إلا قليلا منه فلم يبق به مدن، بخلاف الشرق، فإنه خال من تعطيل البحر لأرضه، فقد جاء كله مدنا، آهلة، وقرى عامرة، ورساتيق «1» متصلة.
قال ابن سعيد: فوجب التسليم من المغاربة في هذه المزية.
[تشبيه بعض الحكماء للأرض]
ولما ذكر ابن سعيد: أن بعض الحكماء شبّه الأرض بجسد آدمي، وعدد أعضاءه، وجعل الصين والهند رأسه، والغرب رجله كما تقدم ذكره في هذا الكتاب «2» قال: وبهذا التشبيه للمشرق غاية الفخر أن سلّمه إليهم المغاربة.
قلت: وفي قول ابن سعيد (أن سلمه إليهم المغاربة) في هذا الموضع، وقوله فيما تقدم: (فوجب التسليم من المغاربة في هذه المزية) - من الشمس بمضاهاة الشرق ما فيه، ولو اكتفينا بهذه المزية لكان فيها كفاية، لأنه أي مماثلة لجهة، أكثر ما فيها بحار ملح غامرة، بجهة كلها أقاليم ممتدة، عامرة بالمدن والقرى، والثمار والزروع، والأناسي والدواب، يسافرها المسافر كيف شاء، ويضطرب فيها حيث أراد!!!؟ وكيف تسوى بلاد جنوبها الهند، وهم من أهل العلم والحكمة، مع صفاء الألوان، وحسن الصور، وكمال التخطيط، يعمّ الأرض طيبه، وينفحها أرجه «3» ، ويداوي مرضاها عقاقيره، ويصلح أغذيتها أفاويهه «4» ، ويزيّن أسرّة ملوكها جوهره- ببلاد جنوبها حثالة السودان المحترقة ألوانهم، المشوّهة صورهم،(5/31)
المختلفة/ (ص 5) تخاطيطهم، غاية الجهالة «1» ، والنفوس البهيمية، لا عقول لهم ولا أفهام، هم أقرب شبها من بني آدم بالأنعام. بل هم أضل سبيلا، وأذلّ قبيلا، وأقل للمعارف تأويلا.
[تفضيل المشرق على المغرب]
ولو أنصف ابن سعيد حق الانصاف، وأذعن لواجب الاعتراف، لما قال فوجب التسليم من المغاربة للمشارقة، لأنه يجب للمشارقة على المغاربة التسليم في كل شيء، شاؤوا أو أبوا، اللهم إلا في القليل النادر الذي لا حكم له. أو ليس مطاهر الأنبياء صلوات الله عليهم جميعا بالمشرق، إلا يوسف وموسى وهارون عليهم الصلاة والسلام، فإنهم كانوا بمصر وهي واقعة في القسم الغربي على قول ابن سعيد، إن سلم أهل مصر أنها من المغرب، أو سلم هذا من يدّعيه فيها، وعلى تقدير أن يسلم أن مصر من المغرب، فهذه السادة الأنبياء من الشرق، وكان من الشام منبعهم، وإليه عاد مرجعهم، فجموع الأنبياء صلوات الله عليهم(5/32)
من الشرق، فيه موالدهم،
[الأنبياء والرسل]
وإليه مباعث الرسل منهم، وبه قبورهم، ومهابط الوحي والتنزيل عليهم. وأما دخول يعقوب والأسباط ويوشع والمسيح عليهم الصلاة والسلام إلى مصر، فإنه ليس بدخول استمرار، ولا كانت بدار قرار، فهم لا يعدّون في أنبيائها، ولا يذكر خبرهم في أنبائها.
وبالشرق معارج الملائكة صلوات الله عليهم «1» ، وبه أنزلت كتب الله المنزلة، ومدّت ينابيع الشرائع، وعلت سرادقات الدين «2» ، ونشرت ملاءات «3» الملل، وتفرعت العلوم، وانبثت التصانيف شرقا وغربا، وبه جزيرة العرب، والسلطان سلطانها، واللسان لسانها.
فأما الشعر فمنهم طالت نبعته، وعنهم طارت سمعته، والشعر هو نبعه البيان، وحلته الفضل، ولله در العماد الكاتب «4» حيث تعصب لمشرقيته، والحق قال إذ ذكر المغرب،(5/33)
قال في كتاب كتبه: وأما المغاربة فعلى مشارع «1» المشارقة مغار حيلها «2» ، ومن مساربها «3» معار سبلها «4» ، ومن حررها»
شرقها. وفي موج بحرها غرقها، وعندها سور النور، وفيضه في غياضها تغور، وحسبها أن الغزالة الراتعة «6» في رياض الفلك، الكارعة «7» من حياض الملك، إذا وصلت إلى وردها، توردت بالشفق، واصفرت للفراق من الفرق، وأصابت عينها عين العين الحامية «8» ،(5/34)
وعانقتها عنقاء المغرب المعادية «1» ، ووقعت في قبضة طفل الطفل «2» كالعصفور، وقرب منالك معادها، غداة غد يوم النشور.
إن الله يأتي بالشمس من المشرق حجة بالغة، ومحجة واضحة للحق المحقق، والمنصف المصدّق، فإن تعلق المغربيون بأذيال السماء، ولووا الأنوار أجزاء.
فالمشرقيون احتابوا حللها القشب «3» أولا، وإن تعلقوا على أسوار أسأرها «4» ، فالعراقيون فتحوها معقلا، ثم ها أنا لي فيه كلمة قلتها: [مجزوء الكامل]
والصبح قد وافى البشي ... ر بقربه والليل ذائب
وسرى النسيم كأنه ... شكوى الحبائب للحبائب
قد جاء مبتل الردا ... ء تقول قد لمس السحائب
وأتى كغرة أدهم ... فجر تبدّى في الغياهب
أو ما ترى ضوء النها ... ر وقد بدا من كل جانب(5/35)
وسرت سراياه وقد ... غصت من الليل الكواكب
وبدا لنا وقت الصبا ... ح كأنه سمراء كاعب
ورأيت ثعلب فجره ... أكل الثريا وهو لاعب
وكأنما زهر النجو ... م دراهم في كف هارب
وانظر إلى قوس الهلا ... ل كأنه للصبح حاجب
هذي المجرة نهرها ... ما فيه من شيء لشارب
لكنما الشرق المني ... رأتى يدق قفا المغارب
[الجهات الشريفة]
ثم ها أنا أرجع إلى الجداد فأقول: وهل وقعت في غير الشرق الجهات/ (ص 6) الشريفة المعظمة، كالحرمين الشريفين، مكة، والمدينة وبيت المقدس، التي «1» لا يشدّ الرحال إلا إليها «2» ، وكذلك جبل الطور، وهو بين القدس والحجاز. فأما الجانب الغربي في قوله تعالى:" وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر" «3» . فالغربي بالنسبة إلى المكان المخصوص، لا إلى مطلق الغرب. وكان موسى حينئذ بالشام، ثم إلى جهة الشام فرّ من فرعون وملئه.
[الحواريون والصحابة]
ومن أي القطرين جماعة الحواريين؟ ثم الصحابة رضي الله عنهم، وقد سمعنا(5/36)
فيهم بفارسي ورومي، ولم نسمع بمغربي، وهل كانت عباديد الرجال «1» ؟
وصناديد الأبطال «2» إلا في جزيرة العرب وما والاها من الجانب الشرقي!؟
[جماهير الكرماء والعظماء في الجاهلية والإسلام]
وهل جماهير الكرماء ومشاهير العظماء إلا منهم؟ فمن كرمائهم حاتم طيء «3» ، وكعب بن مامه «4» ، ثم عبد الله بن جعفر «5» ، وعبيد الله بن العباس «6» ،(5/37)
ومصعب بن الزبير «5» . وغير هؤلاء ممن لا يحصر. وأما من عظمائهم فما لا يعدّ كثرة، كالأكاسرة والقياصرة، والتبابعة «1» ، وملوك الترك وفرسان العرب، وبهالوين العجم «2» .
وهل في الغرب مثل عنترة «3» وذي الخمار سبيع بن الحارث «4» ، وعمر بن ود(5/38)
العامري «1» ، ودريد بن الصمة «2» ، ومهلهل «3» وبسطام بن قيس «4» ، وزيد الخيل، المسمى بزيد الخير «5» ، وعمرو بن معدي كرب «6» ، والزبير بن(5/39)
العوام «1» ، والمقداد بن الأسود «2» ، وخارجة بن حذافة «3» ، وقيس بن(5/40)
سعد «1» والأشتر النخعي «2» ، أو مثل رستم بن دستان المسمى أبوه زال «3» واسفنديار(5/41)
بن كشتاسب «1» ، وبهرام جوبين «2» ، وبهرام الأرميني «3» مقاتل سعد بن أبي وقاص «4» .(5/42)
[الأئمة والفقهاء]
وهل شموس الأمة، وأقمار الأئمة إلا من المشرق!؟ مثل أبي حنيفة «1» ومالك «2» ،(5/43)
والشافعي «1» وأحمد «2» ، وبقية الأئمة الذين انقطعت الآن مذاهبهم (ص 7) وبقيت في أسماء التصانيف كواكبهم. مثل الحسن البصري «3» ،(5/44)
وسفيان الثوري «1» ، وطاوس «2» . ومن عاصرهم، أو تقدم أو تأخر عنهم، أو انسحب على آثارهم من ذوي العلوم المفنّنة، والأقوال المرجحة. وكذلك أئمة المحدّثين، وأعلام الحفاظ، وحسبك أصحاب الكتب الصحاح «3» ، الشرق دارهم، ومنه امتدت أنهارهم. وانظر إلى تفاوت درجات الرواة بين أهل القطرين، تعرف ما بين الأوج الحضيض، وتعلم أنهما الصحيح والمهيض «4» . وكفى المشارقة فخرا اتصال نسبهم القريب بالنبي صلى الله عليه وسلم في الرواية.
وهل أطلع الغرب مثل ما أطلع الشرق من السادات الأولياء، أقطاب الأرض(5/45)
[السادات الأولياء أئمة التحقيق]
من مشايخ الطريق وأئمة التحقيق. مثل عبد الله بن المبارك «1» ، وعتبة الغلام «2» ، وأبي القاسم الجنيد «3» وأبي يزيد البسطامي «4» وأبي الحسن النوري «5» ،(5/46)
ومعروف الكرخي «1» ، وبشر الحافي «2» ، وسري السّقطي «3» ، وإبراهيم بن أدهم «4» ، وأبي سعيد بن الجلّاء «5» ، ومن كان قبلهم، أو معهم أو جاء بعدهم من أهل هذا النمط. وتأمل رسالة القشيري «6» ، وحلية الأولياء لأبي نعيم «7» ، وتاريخ(5/47)
السّلمي «1» ، والمعارف للسّهروردي «2» ، وما في معناها. هل تجد للغرب مثل ما سبق الشرق بإدراك فضله، وتحلى به من أهلّة أهله!؟ على أن لكل أرض أقطابا عليهم مدارها، ولكنهم بالشرق أشهر، ومع مكاثرة أنوار النّبوّة بها أظهر.
وأي القطرين أقدم إسلاما؟ وأقوم أعلاما، وأكثر أولادا كراما، وآثر مآثر باقية وأياما. وأيهما بادر إلى تلقي راية الفصاحة، وتلقّن آية السماحة؟ وهل وصل(5/48)
إلى الغرب من السؤدد إلا ما فضل عن الشرق؟ أو لبس إلا ما أعاره من الخليع «1» المبتذل، لما دخل عبد الرحمن الداخل «2» ، من بني مروان إلى جزيرة الأندلس، واجتمع إليه من شذاذ (ص 8) القوم من نفضتهم مزاود المشارق، ولفظتهم أسرّة الملك، فحينئذ صار الناس بالغرب ناسا، وإلا فقد كانوا كالبهم السائمة، فمن ذلك الوقت تكلموا باللغة العربية، وامتازوا بالنطق على «3» الحيوان، وكان ما أخلقه الشرق لهم جديدا.(5/49)
هذا بالأندلس «1» ، و (بقيت) «2» بقية الغرب على ما هم عليه، ما تحلى لهم عاطل، ولا عرف منهم إنسان إلى المائة الرابعة، فدبّ فيهم ماء الإنسانية. وراقت فيهم بشاشة الأدب، وأضحت تعدّ مع المدن قراها، وتكلّم مع الناس أهلها إلى أيام المرابطين «3» ، ثم الموحدين «4» ، ثم ملوكها الآن من بني مرين «5» ، فإنهم مصّروا مدنها. ومدّنوا قراها، وأجلّوا جليلها، وكثروا قليلها، فصارت لا تقصّر في مضمار، ولا تردّ عن غاية.
[الفلاسفة والحكماء والأطباء ورجال الفلك والعلوم]
وهل في الغرب من الفلاسفة والحكماء مثل الشرق؟ فأما قبل الإسلام فالمرجع إلى حكماء اليونان والهند. ومن اليونان مثل فيثاغورس «6» ،(5/50)
وأرسطيغوس «1» ، وديوجانس «2» ، وفورون «3»(5/51)
وأفلاطون «1» ، وأرسطاطاليس «2» ، وسقراط «3» ، ومن الهند مثل(5/52)
كنكه الهندي «1» ، وطمطم الهندي «2» وصاحب كتاب السند هند في الفلك «3» ، وصاحب كتاب باقر في الموسيقا «4» ، وصاحب كتاب العدد «5» ، وصاحب كتاب كليلة ودمنة وهل مثل هذا الكتاب في إصلاح الأخلاق وتهذيب النفوس؟ «6» وأما من كان في الإسلام فمثل عبد الله بن(5/53)
المقفع «1» ، ومحمد بن إبراهيم الفزاري «2» ، والحسن بن الأدمي «3» ، وأبي جعفر محمد بن موسى الخوارزمي «4» ، ويحيى بن أبي منصور المنجم «5» ، وخالد بن عبد(5/54)
الله المروزي، والعباس بن سعيد الجوهري «1» ، وأحمد بن مروان السّرخسي «2» ، ومحمد بن زكريا الرازي، طبيب المسلمين غير مدافع «3» ، وأبي نصر محمد بن نصر الفارابي «4» فيلسوف المسلمين، غير مدافع، ويعقوب بن(5/55)
طارق «1» ، صاحب كتاب المثالات، وما شاء الله الهندي «2» وأبي محمد بن (ص 9) ذي الدمينة الهمداني «3» ، وعمر بن فرحان الطبري «4» ، وأبي سهل بن نوبخت «5» ، وأبي جعفر بن محمد البلخي منجم المسلمين غير مدافع «6» ، وطراز(5/56)
الدهر الرئيس أبي علي بن سينا «1» ، والإمام الحجة فخر الدين محمد بن عمر بن خطيب الري الرازي «2» .(5/57)
هل ولد الغرب أمثالهم، أم حدا في الأنموذج مثالهم؟ إن الدّهر بمثلهم لعقيم، ولا عصبية للعظم الرميم، بل هو منهج الحقّ القويم، ومبهج الصدق المستقيم.
فإن قلت أيها القائل لم خلطت بهؤلاء اليونان، ومدينتهم واقعة في الغرب بلا خلاف؟ قلنا: قد نسلّم إليك أن في الغرب مدينتهم، ومن أرضه طينتهم، ولكن من الشرق أصل مددهم، وحاصل ذات يدهم، فإنهم إنما أخذوا عن حكماء الهند غالب علومهم، وغامض معقولهم، ومنهم أوقدوا مصابيح أفهامهم. قال لي شيخنا الحجة فريد الدّهر، وارث العلم والحكمة، أبو الثناء محمود بن أبي القاسم الأصفهاني «1» - أطال الله بقاءه-: إن أرسطو استأثر بكتب الهند، لما غلب الإسكندر على أرضهم، واستعاد ما فيها، ثم أمر بها فحرقت «2» ، حتى لا تنسب حكمتها إلا إليه، ولا تعرف إلا به. فاعرف من أين الأصل، ولأيّ الأفقين الحكم الفصل. هذا إذا لم يرد عليك من يأتي بنيانك من القواعد، ويقول صحيح إن مدينة اليونان في الغرب، ولكن قد تدبّر الجانب الشرقيّ منهم أناس، وسكن شرقي الخليج القسطنطيني منهم فرق، وقد قرر ابن سعيد المتعصب لكم، والمنتصر لبلادكم أن الخليج القسطنطيني فاصل بين(5/58)
الشرق والغرب.
فأما غالب المتأخرين، بل جملة الآخرين فإنهم في الشرق بلا نزاع ولا دفاع، وفيه من بذّ «1» الأوائل واستدرك ما فاتهم من الفضائل. وأما حكماء الهند، وهم قبل اليونان السابقون الأولون، والحفظة المحصلون، فما سمع أن أحدا منهم تزحزح عن مكانه، ولا رضي مثل (ص 10) ما رضوا به بدلا من أوطانه. وهذا فخر لا يدفع، ودليل لا يرفع، وعلى تقدير أن يسلم أن مدينة اليونان مفضلة بهم، وإن برحوا عنها، وأن لليونان الفضل الباهر، اتبعوا أم ابتدعوا، فمدينتهم لتوغلها في الشمال أشبه بأن تنسب إليه من الغرب، وهي حقيقة أقرب إلى المحيط بالشمال منها إلى المحيط بالمغرب، وذلك مؤيد فيما ذكرناه لكل مقال، قاطع لكل جدال، فهي شمالية لا مغربية، لا شرقية ولا غربية.
[أصحاب الموسيقى]
فأما أصحاب الموسيقا وإجادة الغناء، فلمن تقدّم من هؤلاء الحكماء في الموسيقا ما يؤخذ عنهم علمه اليقين، وأما توقيع الألحان، وترتيب الأنغام، فإذا طالعت جامع أبي الفرج الأصبهاني «2» ، هداك النفس الطيب، وعلمت إلى(5/59)
الشرق أم إلى الغرب يميل سمعك، وبأيهما يهتز عطفك «13» ؟
[حكم الشرع في السماع وآلاته]
وما قصبات(5/60)
السبق إلا لمعبدها «1» ، مثل ابن مسجح «2» ،(5/62)
وابن محرز «1» ، وابن سريج «2» ، والهذلي «3» ، والغريض «4» ، ومالك بن أبي(5/63)
السمح «1» ، ومعبد «2» ، وحنين الحيري، «3» وحكم الوادي «4» ، وإبراهيم الموصلي «5» ،(5/64)
وإسحاق «1» ، وابن جامع «2» ، ويحيى المكي «3» ، ومخارق «4» ، وعزة(5/65)
الميلاء «1» ، وبصيص «2» ، وسلامة «3» ، وحبابة «4» ، والزرقا جارية ابن(5/66)
زامين «1» ، وعنان جارية الناطفي «2» ، وبدل الكبيرة»
، وعريب «4» ، وغير هؤلاء ممن تصغي الصمّ لسماعه، وتغني الطير على إيقاعه «5» ، يتمنى كل ذي أذن لو كان له مستمعا، ويودّ كل عضو لو تحوّل لأجله مسمعا «6» ، تملى نغماته على الأوتار، وتحلى أوقاته بالمسار «7» ، يطرّف السمع بطرائف «8» الأناشيد،(5/67)
ويطرب الجميع بلطائف الأغاريد، يسكر سامعه وما شرب بنت حان «1» ، ويهتز وما حركه سوى ألحان، تأخذ منه السعود بنصيب، ويعيد على العود شبابه وهو غصن رطيب، من كل مطرب ومطربة فاقا، وقاتا في صناعتهما حذّاقا، كما قال الحريري في جارية، قال: إن قرأت (ص 11) شفت المفؤود، وأحيت الموءود، وخلتها «2» أوتيت من مزامير آل داود، وإن غنت ظلّ معبد «3» لها عبدا، وقيل سحقا لاسحاق وبعدا «4» ، وإن زمرت أضحى زنام عندها زنيما «5» ، بعد أن كان لحيله «6» زعيما، وإن رقصت أمالت العمائم عن الرءوس، وأنشتك «7» رقص الحبيب في الكؤوس؛
[قول ابن بسام في خطبة كتاب الذخيرة]
وهذا أديب الأندلس بل الغرب أبو الحسن علي بن بسام «8» قد قال في خطبة كتاب الذخيرة، وقد ذكر ما لأهل الأندلس من فضل أدب(5/68)
فقال:
لعبوا بأطراف الكلام المشقق ... لعب الدجى بجفون المؤرّق،
وجدّوا بعيون السحر المنمق ... جدّ الأعشى ببنات المحلق «1» ،(5/69)
فصبوا على قوالب النجوم غرائب المنثور والمنظوم، وباهوا «1» غرر الضحى والأصائل، بعجائب الأشعار والرسائل، (نثر) «2» لو رآه البديع «3» لنسي اسمه، أو اجتلاه ابن هلال لولّاه حكمه «4» ، ونظم لو سمعه كثير «5» ما نسب ولا مدح، أو تتبعه جرول «6» ما عوى ولا نبح، إلا أن أهل هذا الأفق أبوا إلا متابعة «7» أهل المشرق، يرجعون (إلى) «8» أخبارهم المعتادة «9» ، رجوع الحديث إلى قتادة «10» ، حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب، أو طنّ بأقصى الشام(5/70)
والعراق ذباب، لحنوا «1» على هذا ضما، وتلوا ذلك كتابا محكما، ثم قال:
فغاظني منهم ذلك، وأنفت «2» مما هناك، وأخذت نفسي بجمع ما وجدت من حسنات دهري، وتتبعت محاسن أهل بلدي وعصري، غيرة «3» لهذا الأفق الغريب أن تعود بدوره أهلّة، وتصبح بحوره ثمادا «4» مضمحلة.
ثم قال: وليت شعري من قصر «5» العلم على بعض الزمان، أو خص أهل الشرق بالإحسان؟ «6»
قلت: وكفى المشرق قضاء هذا الأديب الفريد على أهل الأندلس، وهم صفوة أهل المغرب بولوعهم بما لأهل المشرق، حتى لو نعق غراب، أو طنّ ذباب، مع تصديقه لأبي علي البغدادي «7» في قوله، وقد قصد الأندلس: لما وصلت القيروان، وأنا أعتبر من مرّي من أهل الأمصار، فوجدتهم «8» درجات في(5/71)
الغباوة وقلة الفهم، بحسب تفاوتهم في المواضع منها، بالقرب والبعد حتى كأن منازلهم من الطريق هي منازلهم من العلم محاماة ومقايسة. قال: فقلت: إن نقص أهل الأندلس عن مقادير من رأيت في أفهامهم، بقدر نقصان هؤلاء عمن قبلهم، فسأحتاج إلى ترجمان بهذه الأوطان، ثم قال ابن بسام عنه وبلغني أنه كان يصله كلامه هذا بالتعجب من أهل هذا الأفق في ذكائهم ويتغطّى عنهم عند المباحثة والمقايسة، ويقول لهم: إن علمي لعلم رواية وليس بعلم دراية، فخذوا عني ما نقلت، فلم آل لكم أن صححت «1» . قلت: فهذه شهادة لا ترد من أبي عليّ على أهل المغرب إلا الأندلس، وإقرار ابن بسام له على قوله شهادة عنه، وهذا أيضا على كثير المغرب أهل المشرق، فأما أهل جزيرة الأندلس يلغى بها ما قاله ابن بسام عن فضلاء أهلها آنفا: أنه لو نعق بالمشرق غراب أو طن ذباب لحنوا عليه ضما وتلوه كتابا محكما، وأما ما زعم من أنّ أبا علي البغدادي كان يتغطى عنهم عند المباحثة والمناقشة، ويقول إن علمي لعلم رواية، وليس بعلم دراية. فهذا إن صحّ وسلم إليه، عنه جوابان:
الأول: أن أبا علي كما قال صاحب علم رواية، ليس عنده إلا ذلك، وقد يكون بلي برجل جدل، أو رجال كذلك فقصرت حجته عندهم بحق وبمعاناة، فقال ذلك، ولا يخلو قطر من ذي جدل فيه. فأما لو رموا بمثل ابن سينا وأضرابه، والفارابي وأشياعه لذابت حضارتهم فهامت خفافيشهم.
والجواب الثاني: أنهم قد ألجؤوه في وقت إلى تأويل باطل لم يمنعهم منه إلا التسليم إليهم، فمن لم يستجز ذلك فقطعهم بذلك القول عن الحيلة إلى الباطل.(5/72)
ويعجبني ما حكي عن الصاحب ابن عباد «1» . قيل إنه سمع بكتاب العقد، فحرص حتى حصل عنده، فلما تأمله قال: هذه بضاعتنا ردت إلينا، ظننا أن هذا الكتاب يشمل على شيء من أخبار بلادهم، فإذا هو لا يشمل إلا على أخبار بلادنا لا حاجة لنا فيه) «2» فرده «3» .
[أصحاب الصنائع العملية (الكتابة) والفلاحة والسيوف، والرماح، والديباج]
وليس في الغرب أحد في هذا الباب يذكر، ولا سمع له ما يذم ولا ما يشكر، اللهم إلا ما تكلفت له على ما يأتي، ثم نأخذ الآن في:
أصحاب الصنايع العملية، وأشرفها رسم الكتابة، وما أظن أن المغاربة تتطاول إلى مفاخرة أهل الشرق فيها، ولا تنازع أهلها في القطر الشرقي، مثل أبي الحسن علي بن هلال الكاتب المعروف بابن البواب «4» . والولي علي التبريزي «5» ، والشيخ الكاتب عماد الدين أبي عبد الله محمد بن محمد بن هبة الله بن الشيرازي «6» . وجمال الدين ياقوت المستعصمي «7» . وشرف الدين محمد بن(5/73)
الوحيد الزرعي «1» ، وغير هؤلاء من الكتاب ومن يطرب وضع خطهم الألباب.
وأما سائر أصحاب الصنائع والمهن وأجل الصنائع الفلاحة، ولا يقال إلا الفلاحة النبطية «2» أو الفلاحة الرومية. وهي قوام المعايش، ومادة الرزق، وسبب العمارة، وحفظ بقاء النوع. وسمعنا يقال سيف هندي، ورمح يزني «3» ، وقوس عربية، وسردة «4» داوودية، وبيضة عادية «5» ، وديباج خسرواني «6» ، وأطلس رومي «7» ، وصوف أذري «8» ، وقطن(5/74)
سابوري «1» ، وكتان روئي «2» وتوصف ملاءات «3» الهند، وحبرات «4» اليمن، وأبراد «5» صنعاء، ووشي «6» العراق، وغضار «7» الصين، وفخار قاشان «8» ، وزجاج الشام. ولا أسمع للمغرب هاتفة، ولا أحس به نابسة «9» ، إلا ما كان يقال من قباطي مصر «10» ، ثم في آخر العهد من قماش نيس، ثم الإسكندرية الآن، هذا إن سلم أن مصر من الغرب، وإلا فدون التسليم (ص 12) ألسنة «11» وحجج قاطعة.
فأما الملك فما أظنّ مغربيا تسمو همته إلى المجاذبة في هذا بأطراف النزاع ولا(5/75)
تتعرض لأطراق الشجاع.
[في الشرق رست قواعد الخلافة]
وبالشرق رست قواعد الخلافة مستقر الخلفاء الراشدين، وبني أمية، والدولة العباسية وما لمغربي أن يقول: كيف تلبّس الشرق حلل الخلافة، ويعرّي معاطف الغرب، وبها دولة الخلفاء من بني أمية، وبني حمّود «1» وبني عبد المؤمن «2» ، فجوابه أننا لم نذكر إلا الخلافة المجمع عليها، ولم نذكر الناجمين بالشرق، كالعلويين بآمل كرسي ما زندران المسماة بطبرستان «3» ، وبني الأخيضر العلويين باليمامة، وأئمة الزيدين باليمن، إذ كل خلافة سوى المجمع عليها شذوذ، ولو أننا- أيها المدعي للغرب على الشرق- نظرنا من بويع بالجهتين، ونظرنا بين الفئتين لمحت سطوركم، ومحقت بدوركم، وتوهدت رباكم، وتوهنت صباكم، بما نحن نردكم إذعانا وسف «4» طائركم خضعانا، وانقطعتم دون الغاية، واجتمعتم وما رفعت لكم راية، والتحق بالعدم وجودكم، والتحف جناح الخمول مجيدكم، ولات حين مناص «5» ، وهيهات من يد المؤاخذة خلاص.
وأما السلطنة والملك، فقد قال ابن سعيد عن السلطنة والملك: إن الاصطلاح أن لا تطلق هذه السمة إلّا على من يكون في ولايته ملوك، فيكون ملك الملوك، فيملك مثل الشام أو مثل مصر أو مثل إفريقية أو مثل الأندلس، ويكون عسكره عشرة آلاف فارس أو نحوها، فإن زاد بلادا أو عددا في الجيش(5/76)
كان أعظم في السلطنة، وجاز أن يطلق عليه السلطان الأعظم، فإن خطب له في مثل مصر والشام والجزيرة، ومثل خراسان
وعراق العجم وفارس «1» ، ومثل أفريقيا والغرب الأوسط والأندلس كانت سمته سلطان السلاطين كالسلجوقية «2» - وقال وإذا قايسنا بين سلاطين المشرق وسلاطين المغرب كان الفضل للمشرق. قلت: وهذا القول وإن أنصف فيه ابن سعيد، فإنه ما وفى الشرق حقه، ولا أوصل اليه مستحقه، لأنه لا نسبة لأوضاع السلطنة في المغرب بالنسبة إلى السلطنة في (ص 13) المشرق فأين وأين وبعد بين الأرض والسماء، والدر والحصباء، وان كنا لا نغمط الغرب حقه، ولا نجحد له فضله، وها قد نقلت عن الثقات من أهل كل قطر ما هو عليه، والمنصف لا يلجّ في الباطل ولا يجنح إلى النزاع.
[المقايسة بين سلاطين المشرق والمغرب والخلافة]
وأما الخلافة فأي خلافة طاولت بني العباس، وقد عمت غالب الأرض دعوتهم، والسلطنة الشرقية عجمية الأوضاع، والسلطنة الغربية عربية الاتضاع، وفي التواريخ والسير النبأ الصادق، وهل أحد من سلاطين الغرب يماثل السلطان محمود بن سبكتكين «3» في عظمة سلطانه واتساع بلاده، ومهابة أوضاعه؟(5/77)
ومن شك فليسأل أبا نصر العتبي «1» في تاريخه اليميني الموضوع باسم هذا السلطان، مما تقشعر الأرض وترجف به الآفاق،
[مسعود بن محمود بن سبكتكين]
ولقد حكى الصابي «2» عن بعض الرسل قال: دعينا إلى باب مسعود يعنى ابن محمود سبكتكين «3» بغزنة، فشاهدنا بالباب أصناف العساكر، وملوك جرجان وطبرستان وخراسان والهند والسند والترك، وقد أقيمت الفيلة عليها الأسرة، والعمّارات «4» الملبسة(5/78)
بالذهب مرصعة بأنواع الجواهر، وإذا بأربعة آلاف غلام مرد وقوف على سماطين «1» ، وفي أوساطهم مناطق الذهب، وفي أيديهم أعمدة الذهب، ومسعود جالس على سرير من الذهب، لم يوضع على الأرض مثله، وعليه الفرش الفاخرة، وعلى رأسه تاج مرصع بالجواهر واليواقيت وقد أحاط به الغلمان الخواص، بأكمل زينة، ثم قام مسعود إلى سماط من فضة عليه خمسون خوانا من الذهب، على كل خوان خمسة أطباق من ذهب، فيها أنواع من الأشربة، فسقاهم الغلمان، ثم قام مسعود إلى مجلس عظيم الأقطار، فيه ألف دست من الذهب، وأطباق (ص 14) كبار خسروانيّة «2» ، فيها الكيزان «3» ، وعلى كل طبق زرافة ذهب وأطباق ذهب، فيها المسك والعنبر والكافور، وأشجار الذهب مرصعة بالجواهر واليواقيت، وشموع من ذهب في رأس كل شمعة قطعة من الياقوت الأحمر تلمع لمعان النار، وأشجار العود «4» قائمة بين ذلك، وفي آخر المجلس رحى من ذهب تطحن المسك والكافور والعنبر، وفي جوانب المجلس بحيرة في جوانبها من الجواهر والعنبر والفصوص واللؤلؤ شيء يقصر الوصف عنها، وذكر أشياء أخر تحير الأسماء والأسماع. ثم قال: فما بقين ولا بقوا.
[السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان]
أو هل أحد مثل السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان «5» ، وما ضمّ سلطانه من(5/79)
الأقطار وحواه، مما تشتمل عليه برده الليل والنهار، فلقد ملك من الصين إلى آخر الشام، وهو مسيرة نصف يوم كالشمس أو أزيد، وخطب له على منابر هذه الممالك، من خان بالق «1» الى غزة، وفتح له الحجاز واليمن، ولا يعلم بموته، لبعد الديار، وتنائي البلاد.
وحدثني شيخنا العلامة فريد الدهر نخبة الآفاق، أبو الثناء محمود بن أبي القاسم الأصبهاني، أطال الله مدته «2» ، وقد ذكر حسن تدبير الوزير، وزير هذا السلطان، أن السلطان ملكشاه كان في بعض صيوده بخان بالق في الصين، وأنعم على بازيارييه، وهم البزادرة بمال، فأحالهم نظام الملك الوزير على انطاكية «3» من الشام، فشكوا إلى السلطان، فلام نظام الملك على البعد العظيم عنهم، فقال له: يا سلطان العالم أنا قصدت هذا حتى يقال إنك بالصين(5/80)
ومراسمك نافذة بالشام، وهذه بارقة تدل على ما بعدها، وعنوان ينطق بما في المضمون.
[السلطان علاء الدين خوارزم شاه]
أو هل يوجد مثل السلطان علاء الدين خوارزم شاه «1» أو (ص 15) ولده السلطان جلال الدين محمد «2» ، وكانت جريدة «3» كل واحد منهما ستمائة ألف فارس يجري عليهم ديوانه، ويفترض لهم إحسانه، سوى من ينضم اليهم وينتظم من أجناس الأمم فيهم، وما بالعهد من قدم، ولا بآثارها خفاء، ولقد كان على الاسلام السور المنيع، والحجاب المسبل، وقد حكى لي الملك الكامل محمد بن السيد عبد الملك «4» أن السلطان الملك العادل أبا بكر بن أيوب رحمه(5/81)
الله «1» كان يقوم بالليل فيتوضأ ويصلي، ويدعو الله ويقول في دعائه: اللهم انصر عبدك محمدا وأيده، وظفّره بأعدائه، ومكّن سيوفه من أعناقهم ومقاتلهم، وما هذا معناه،
[الملك العادل، وجلال الدين محمد]
فلما تكرر هذا منه قالت له أم ولده الصالح إسماعيل:
مسكين إسماعيل عن ابنها. فقال لها: كيف؟ حتى قالت «2» : لأنك ما تدعو إلا لولدك الكبير- تعتقد أنه يدعو للملك الكامل أبي المعالي محمد- فقال:
ما أقل عقلك أبالله في ظنك أني أدعو لابني محمد؟ فقالت: نعم. وإلا فلمن؟
فقال لا والله لا والله أنا ما أدعو إلا للسلطان جلال الدين محمد خوارزم شاه فإنه السدّ بيننا وبين التتار، وهو الستر الجميل على الإسلام، فو الله ما بيننا وبين رواح البلاد من أيدينا إلا أن ينكسر، وإلا فما دام قائما نحن بخير، نحن بخير(5/82)
يكررها، فلهذا أدعو له آناء الليل والنهار. قلت: ولقد صدق الملك العادل رحمه الله في قوله، فهكذا كان وما زال حمى الخلافة مصونا والبلاد محمية الأطراف متماسكة القوى حتى مات السلطان علاء الدين تكش «1» ، ثم ابنه السلطان جلال الدين محمد «2» رحمهما الله، فمالت التتار على الآفاق، وطمى سيلهم على الأرض فانتهكت حرمة الإسلام، وأخذت دار السلام، وأنهرت أوداج الأرض بالدماء، وسبت الكرائم، وترامت الهاشميات إلى دجلة، وقتل الخليفة، وشوهت الخليقة، وماج الثقلان، وكان ما كان، فرحم الله الملوك الخوارزمية، لقد (ص 16) جاهدوا في الله حق جهاده، وقاوموا التتار مدة سنين، إلى أن علا السيل الزبى، وبلغ الحزام الطبيبين، ولو شاء ربك ما فعلوه. فهل في الغرب من بلغ سلطانه هذا المبلغ، وعظم في الملك شأنه إلى هذا الحد، وهل فاض الملك من الشرق على الغرب، أم من الغرب على الشرق؟ قل وأنصف أيها المسؤول، ولا تقل عن المستنصر الفاطمي لما خطب له ببغداد،
[فتنة البساسيري]
فتلك سنة مظلمة كان سببها أرسلان البساسيري «3» ، لعداوة ابن(5/83)
رئيس الرؤساء «1» ، ثم عاد الحق إلى أهله، بيد بني سلجوق، وقام القائم في مقامه، وقال «2» المعاند في حر انتقامه. ولم تكن تلك العارضة إلا شبهة بقضية سليمان عليه السلام إذ ألقي الجسد على كرسيه «3» . وقد قال ابن سعيد: إن السلطان من بلغ جيشه عشرة آلاف، فأين هو ممن بلغ ستمائة ألف، ولكنه تكلم على أعظم ما عنده مما رآه في بلاده ولو تخطى خطا إلى المشرق لما قال هذا المقال، ولا ضرب عن ضرب مثل هذا المثال. ومن المشرق الأنوار تفيض وفي الغرب تغيض «4» ، فالشمس لا تصل إلى الغرب إلا وقد ضعف فعلها، وقل تأثيرها، فلا يقابلها أهل المغرب إلا منكبّة عن أفقها، مولية على أدبارها، فهي في الشرق فتية، وهي في الغرب هرمة، وشتان ما بين الحالين، وبون كبير بين الجانبين، فهذا لا يقاس أهل الغرب بأهل الشرق في حسن الصور، وبهجة المرائي، ويكفيك النظر إلى الوجوه والشمائل، وحسبنا حكاية حكاها ابن سعيد في(5/84)
المغرب، قال: إن تاجرا من أغنياء العجم سمع بسلطنة بني عبد المؤمن «1» فانتخب بالمشرق طرفا تليق أن تهدى إلى الملوك، وكتب الله سلامته حتى وصل إلى مراكش، وبها حينئذ العادل ابن المنصور «2» وهو يخطب (ص 17) له بالخلافة، فقدم له تلك الهدايا، وفي جملتها مملوك تركي زعم أن قيمته عليه عشرون ألف درهم مغربية، فلم يقبله العادل ولا وجد من يبتاعه منه، وصار إذا مشى به تعجب الناس من زيّه، وذهلوا في صورته التي لم يعتادوها، فبلغ ذلك قاضي القضاة وكان صاحب ناموس «3» مغربي، فأمره أن يغير زيّه بالزي المغربي، فقال ابن حوط كاتب العادل فيه: [الخفيف]
بأبي شادن «4» من الترك أبدى ... زيّه زهرة حوتها كمامه
متروا ردفه فأبدوا جبالا ... حين سارت قامت علينا القيامه
فلما لبس الزي المغربي قال أبو الربيع الداني: [البسيط]
يا حاكم المسلمين الله بينهم ... وبين جائر حكم أنت مظهره
غيّرت زيا لظبي الترك ذا بدع ... يسبي نواظر أهل اللطف منظره
قد كان ميّز منه كلّ جارحة ... بشكله يقرأ التفسير مبصره
حجّبه عن أعين العشاق إن قدرت ... قساوة منك دون الناس تهجره
وفيه قيلت هذه الأبيات مرافدة: [مجزوء الخفيف](5/85)
فتنة الترك قد أتت ... من بلاد المشارق
أيّ شخص بدا له ... دينه لم يفارق
إنّ أحدا قنا به ... أبدا في حدائق
لم نطق سلوة ... مذ بدا في المناطق
فها أنتم أهل المغرب رأيتم واحدا من أهل المشرق بزيه فتنكم حسنه، حتى خاف قاضيكم، المشفق عليكم الفتنة بحسنه وبحسن زيّه، وقال (ص 18) فيه شعراؤكم ما قالوا، حتى عرض أحدهم بمفارقة الدين في هواه، وما ترك خليفتهم- والله أعلم- قبوله نحلا بالعوض عنه، ولكن خوف الفتنة به، لإبداع حسنه في رأي عيون أهل المغرب، إذ لا نظير له عندهم فيقع في ظنونهم. إن مثل هذا لا صبر لأحد عنه، ولعل هذا المملوك ما كان حدّ نفسه، ولا واحد جنسه، وهل هو إلا واحد من أهل بلاد لا ينظر إليه فيها بعين الاستحسان، ولا يفرق فيها بينه وبين غيره من الغلمان. هذا وقد قال قائلكم واحتفل أن قيمة ذاك المملوك على ما زعم تاجره عشرون ألف درهم مغربية، ولعمرك لقد كثّر غير كثير، وعظّم غير عظيم، و «1» هل الدراهم المغربية إلا الدراهم السود كل ثلاثة بدرهم نقرة «2» من نقد مصر؟؟ وكان الترك في ذلك الوقت أغلى قيمة من وقتنا هذا بأضعاف مضاعفة، ولعله لو كان بمصر اليوم لما سوي أكثر من ألفي درهم. وكم في إصطبلات آحاد الأمراء مملوك بألفين وفوق الألفين، بل فيها من ثمنه عشرة آلاف درهم وما يزيد وينقص. فكيف لو رأيتم اليوم المماليك بمصر، وفيهم مع كثرة الجلب ورخص القيمة من بلغ ثمنه ثمانين ألف درهم، ثمنها من دراهمكم مائتا ألف وأربعون ألفا «3» لكنتم ترون ما تحار فيه عقولكم، ويعشي لمعانه أبصاركم، وأحسن ما فعله قاضيكم في تغيير زي هذا المملوك المشرقي بالزي(5/86)
المغربي، لو كان غير زيكم المغربي بالزي المشرقي فبدل القبيح بالحسن لا يعترض قائل، فيقول حسن في كل عين ما تود، وكل أحد يقول إن زيه هو الحسن، فجوابه أنه لو لم يكن في زي ذلك المملوك معنى يزيد في الحسن لما أمر قاضيكم بتغييره خوف الفتنة عليكم، كما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله (ص 19) عنه في حلق رأس نصر بن حجاج لما سمع الهاتفة باسمه وهي تقول:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج «1»
ولقد أجاد قاضيكم لكم الاختيار، إذ لم يأمركم بتغيير زيكم بمثل زي الرشاء الأغن الأغيد، فإنكم لو لبستم ذلك الزي لما يناسب معاطفكم الرشاق، وخصوركم الدقاق، ولكنه رحمه الله أحسن لكم النظر ولم يخط لكم في الاختيار.
[الحيوان والنبات والمعادن]
ثم نرجع إلى ما كنا فيه فنقول: وبالشرق ما لا يماثله ما في الغرب من الحيوان والنبات والمعادن، فأمّا الحيوان فأشرفه الإنسان، وقد بينا فضل أهل المشرق منهم على أهل المغرب، بمواهب الله من النبوة والولاية والخلافة والعلوم على أنواعها، والصور الجميلة على إطلاقها. فأما ما عدا الإنسان فللشرق أيضا في أكثره بل كله التفضيل. من الخيل العراب «2» بالحجاز ونجد والبحرين، وبلاد الفرات والشام وأطراف الجزيرة، وبراذين «3» الروم وكيلان، وبغال الروم وأرمينية والعواصم(5/87)
والشام، والجمال البغراوات البساريك «1» والبخت «2» ذوات السنامين، وذوات السنم، والعباديات «3» وجمال بغداد وحلب، ومهاري «4» بلاد مهرة وعمان والبحرين وأطراف العراق والشام، والأغنام التركية، ذوات اللوايا المستديرة، بخلاف أغنام المغرب اللواتي كأنها المعز لا لوايا لها «5» ، وغير ذلك من الحيوانات التي لا يفتخر شيء من الملابس على جلودها، كالسمور «6» والقندس «7» والقاقم «8» والوشق «9» والسنجاب والبرطاسي «10» ، والجلد الواحد من هذا الحيوان يقسم(5/88)
على أنواع، كلها حسن جميل وغزال (ص 20) المسك «1» ودابة العنبر «2» ، وقط الرناد «3» وحيوان اللؤلؤ «4» ودود الحرير «5» ، وحسن الخرنوت «6» ، والسرطان البحري «7» ، المجلوب من الصين.
وأما المعادن فكثيرة في الأرض، والذهب موجود في أماكن كثيرة بالجنوب، فبالشرق بالهند وبالدامغان «8» ، وبالغرب في غانة وبلاد السودان. وكذلك معادن الفضة في مواضع وحظ الشمال وافر منه، على أن المحيط يقذف منه ذهبا في بعض الأقطار الشمالية، على ما قدمنا ذكره.
[الجواهر والأحجار]
فأما الجوهر فللشرق معظمه وأثمنه وأعظمه وأحسنه، من البهرمان «9» واليواقيت(5/89)
على اختلاف أنواعها، والماس واللعل المسمى بالبلخش، والفيروزج وما يندرج في ذلك من الأحجار.
ومن ممتهنات الأحجار: اليشم «13» واليصم، ولو أنصفا لألحقا بالجواهر.
والفولاذ والرصاص القلعيّ.
ومن منابت الشرق العود «1» الهندي، والبلخوج «2» والصندل «3» والكافور «4» والرواند «14» التركي، والجوزبوا والسياسة والكباب «5» واللبان «6» الذي يزيد على الجاوي، والسنبل «7» والقرنفل «8» والفوفل والفلفل، وأنواع الطيب، والأفاويه والعقاقير النافعة، والمفردات التي لا تكاد تحمد، فهل في الغرب ما يضاهي هذه المحاسن؟؟ على أنني سأورد في ذكر كل جانب ما فيه، فإذا تأمله الناظر بعينه، وتدبره بفهمه، علم أنني لم أعدل عن الإنصاف، ولا قلت(5/90)
بالجزاف، وأي حاجة بنا إلى هذا نعوذ بالله من الجور في الحكم، والميل مع كفة الظلم، وقد قلنا ما بجنوب المغرب من معادن الذهب، وفي بر العدوة معادن الفضة، ولكنه لا يعود لها عائد نفع لكثرة ما يخرج على [قلة] «1» ما يتحصل منها مثل معدن الذهب بالدامغان، وما بين مصر وما يليها (ص 21) من بلاد السودان معدن الزمرد والزبرجد «2» ، وبالهند معدن زمرد وزبرجد وهو الزمرد الذي يسمى المكي، والذي بجهة مصر أفضل، إن صح أن مصر من بلاد المغرب، فهذا مما لا يجحد من فضائلها، لعظيم نفع الزمرد خصوصا الذبابي منه. وما نصت عليه الأطباء، ولكنه وإن عظم نفعا، وغلا قيمة، فإنه لا يبلغ أكثر من قيمة البلخش، أو بعض أنواع اليواقيت، والذبابي ولو غلا ما غلا، وعلا ما علا لا يبلغ قيمة البهرمان، ولا يدانيه في علو الأثمان، فإن قال: بعض المغاربة: فلم لا ذكرت مع هذه المسميات ما عندنا من البلور والمرجان؟ قلنا له: صحيح، ولكن انظر إلى تفاوت الأثمان، فإن تشبّع بما ليس له، وقال: فأين أنت من الزمرد الذّبابي؟ قلنا له: فأين أنت من الياقوت البهرمان؟؟ وهل يضرب إلا به المثل، وتنشق إلا عليه مرارة الزمرد، ويحمرّ خدّ البلحش من الخجل.
ومع ثبوت هذه المحاسن للشرق فما نسلب من المغرب حلله، ولا ننقصه حقه، ولا ندعي ما ليس له. بالغرب، في وقتنا ملك صبّ على عبّاد الصليب، يدرأ في نحور الأعداء، ويجاهد في سبيل الله من جاوره منهم برا وبحرا، والغرب هو أحد جناحي الأرض، وبه من كرائم الخيل والمعادن، ويقذف بحره(5/91)
العنبر «1» ، ويجيء منه الشكر لاط «2» المنوّع، الذي لا يوجد في غير جزائر القطر العربي، والمصطكا والزعفران «3» المنقول إلى الآفاق، وبه الدّمنج الأفرنتي وأين هو ومتى يوجد؟
[العقاقير]
وبه أنواع من العقاقير النافعة، والكتان المعدوم المثل إن صح أن مصر في القسم الغربي، على أن الهند والصين ومواضع من فارس بها الزعفران وبأودية سرنديب «4» البلور، وقد وردت من (ص 22) الآيات والأخبار النبوية في فضل المغرب وجنده، ما جاء مثله أو أزيد في مواضع بالشرق كمكة والمدينة والقدس والشام واليمن، وسنورد في كل موضوع ما يليق به، ونذكر في خصائص كل أرض ما بها،
[بعض ما في المغرب مما سبق]
ولا ننكر أن بالغرب سادة أجلاء، وأئمة فضلاء، من ذوي العلم والحكمة، وأجادوا في النحو والأدب، ومنهم الصلحاء الأفراد، وفيهم بقايا المسكة في الدين، والتشدد في الحق «5» . ولقد كان للأندلس بأهله حلية كأنما شعشعها الأصيل بذهبه، أو حلّاها الأفق بدرره، أو حيّاها النهار بشمسه، وحيّاها الليل بقمره، زمان بني أمية بقرطبة «6» ، وملوك الطوائف بعدهم «7» ،(5/92)
وأكثر ما أعنى بني عبّاد «1» بإشبيلية، فلقد كان الأدب بهم غضا جديدا، والإحسان طارقا تليدا، فشتت الدهر جمعهم، وطمس آثارهم، وبدلهم بعبّاد الصليب، والكنائس بالمساجد، والمذابح بالمحاريب «2» ، والله يؤيد من يقوم لاسترجاع هذه الضالة، وانتزاع هذه الأخيذة «3» ، إنه على ما يشاء قدير.
وأما بر العدوة الآن فهو على ما تقدم تفصيل حاله في موضعه، من اتساع الرقعة، وعظم السلطان، وكثرة العساكر والجيوش من شجعان الرجال، المعدود كل واحد منهم بزجال «4» ممن لا يقص بهم للغرب جناح، ولا يقصر طماح «5» ، وإن لم يكن كالشرق في اليسار، ولا هو من الطائر قادمته اليمين، فهو قادمته اليسار، وفيما ذكرناه كفاية.(5/93)