فاهتمت الدولة بأمرهم وجهزت جيشا من حلب وآخر من أطنه تصحبهم الأرزاق والمهمات الحربية وكان الوقت شتاء والأمطار غزيرة والثلوج متراكمة في الطريق المؤدية إلى الزيتون فلقيت العساكر بالوصول إليها الشدائد من البرد والثلج والجوع مات منهم بسبب ذلك عدد غير قليل. وأخذت البلدية في حلب من الناس عددا عظيما من الدواب كالجمال والبغال والخيل لتحمل عليها المهمات إلى الزيتون على أن تعوض أصحاب الدواب قيمتها بعد انقضاء تلك الحادثة فلم تعوض عنها سوى نحو عشرها وضاعت بقية الدواب على أهلها.
ولما علم الأرمن الثائرون في الزيتون أن العساكر سائرة إليهم جزعوا واضطربوا وتحققوا أن لا قبل لهم في النصرة عليهم فأخذ زعماؤهم يخابرون لجانهم الكبرى في البلاد الأوربية فاستغاثت تلك اللجان بالدول الأجنبية وطلبت منها السعي بإنقاذ أولئك الثوار وانتشالهم من مخالب العساكر التركية. فأصدرت كل من دولة إنكلترا وألمانيا وفرانسة وإيطاليا أمرا إلى قنصلها في حلب بأن يتوجه إلى الزيتون ويتوسط الصلح بين الحكومة العثمانية وبين الأرمن الثائرين. وفي أسرع وقت سافرت القناصل إلى الزيتون ولقوا من الطريق برحا من شدة البرد وقد استمروا في الزيتون زهاء ستة أشهر إلى أن أخلد الثوار إلى الطاعة وصدر العفو عنهم وتقرر بأن يكون القائممقام في قضاء الزيتون مسيحيا وله معاون مسلم. وفي هذه السنة حدثت المشاغب الأرمنية في مدينة أورفه ومرعش وعينتاب وكلز وبيره جك من ولاية حلب ووان وبتليس وغيرهما من بقية البلاد العثمانية وقتل من الأرمن في هذه المشاغب على رواية مائة ألف نسمة. وكان الباعث على هذه المشاغب قيام الأرمن على الحكومة وإقلاقهم راحتها في طلب انفصالهم عنها وبقائهم دولة مستقلة أو تحت نفوذ دولة روسيا أو إنكلترة. ونحن لا نشك أن تلك المشاغب كانت بإشارات خفية وأوامر برقية مرموزة من السلطان عبد الحميد إلى ولاته وأمرائه العسكرية في ممالكه رغما عما كانت الحكومات تختلق لكل مشغبة سببا غير معقول لدى أرباب العقول. على أن جميع البلاد السورية بل سائر البلاد العربية لم يحدث فيها شيء من تلك المشاغب والسبب في هذا عدم الإيعاز من قبل السلطان عبد الحميد إلى أهلها بإحداث تلك المشاغب لعلمه أن أهلها لا يلبون طلبه ولا يلبث أن يذيعوا ذلك السر الذي لا يخفى عليهم.
استطراد في الكلام على الأرمن ومدينة الزيتون:
نورد في هذا الاستطراد بعض ما وقفنا عليه من الأحوال الروحية والتقاليد القومية،(3/328)
التي سارت على سننهما الهيئة الاجتماعية من الطائفة الأرمنية التي مضى على مجاورتنا إياها بضع سنوات غبّ أن هاجرت إلى حلب بعد الحرب العالمية، وقد أصبح فيها منهم العدد الكبير الذي يقدر بستين ألف نسمة، فنقول:
الأرمن- مهما اختلفت أجناسهم وتباينت أقطارهم- أمة نشيطة جدية عاملة منصرفة عقليتها إلى الماديات دون المعنويات، وهي ثابتة في مقاصدها قوية الإرادة في منازعها، تمارس من صعاب الأمور ما يعجز عنه غيرها من أمم الشرق، لا تعتمد إلا على نفسها ولا يعوقها عائق في سبيل غاية تطلبها. ترى كل فرد من أفرادها- ذكرا كان أم أنثى، كبيرا كان أم صغيرا- مكبّا على عمله مهرولا إلى حانوته مبكرا لمزاولة مهنته التي ارتضتها له قوة جسمه وسعة مداركه، فمنهم التجار بأنواع البضائع الشرقية والغربية، ومنهم الصيدلي والطبيب والمحامي، والمهندس والصرّاف والخادم والكاتب، والميكانيكي والخياط والحائك، والنجار والحداد والحجّار، والمعمار والطاهي واللحّام، وصاحب المقهى والمنزل، وبائع الخضر والبقول، وغير ذلك من المهن التي لا تخلو واحدة منها، شريفة كانت أم حطيطة، إلا والمشتغلون بها من الأرمن عدد كبير يزاولونها باعتناء وإتقان لا مزيد عليهما. وهم- على اختلاف مهنهم وحرفهم- يقنعون بالربح اليسير ويقتصدون بالإنفاق على أنفسهم، الأمر الذي أكسد سوق نظرائهم من الحلبيين وضيّق عليهم أسباب معايشهم، لأنهم لا يقنعون بالربح اليسير لتعوّدهم على التوسع بالإنفاق دون الاقتصار على ضروريات الحياة.
كل فرد من أمة الأرمن- ذكرا كان أم أنثى- لا يرضى أن يكون عاطلا عن العمل متقاعدا عن الاحتراف، ولذا لا ترى منهم متسوّلا ولا متشردا، ولا من هو عيلة على غيره، سوى من أعجزته العاهات والزّمانات «1» عن النهوض بعمل ما، وسوى الأيتام الذين ليس لهم مال ولا أولياء ينفقون عليهم، فإن هؤلاء الجماعة قد تكفلت بإعاشتهم الجمعيات الخيرية الأرمنية المؤلفة في حلب وغيرها من بلاد أميركا وأوربا، ففتحت لهم دور العجزة والمياتم والمدارس، وأغنتهم عن الحاجة إلى غيرهم وعنيت بأمورهم أحسن عناية.(3/329)
أما نساء أمة الأرمن فإنهن يرين للرجل حق السيطرة عليهن، فهن بهذه العقيدة من أطوع نساء العالم لأزواجهن، وهن بعيدات (إلا ما شذّ منهن) عن معانقة الأزياء الغربية في لباسهن وزخارفهن، إذ قلما تجد على أرمنيّة ثوبا يبدو منه الذراعان إلى قرب الكتف ويظهر منه الكاهل والنحر وأعالي الصدر. كما أنك لا تجد فيهن واحدة تستعمل في وجهها وشفتيها- وما بدا من يديها- التمويه بالبياض والحمرة. قد اعتضن عن ذلك كله بنظافة بشرتهن واعتدن على الاغتسال بالحمّام والتردد إليه من حين إلى آخر، والتزمن في لباسهن جميعا زيا واحدا، وهو ثوب بسيط بأكمام، يستر المرأة من رقبتها إلى ما تحت ركبتيها ساترة ساقيها بجورب منتعلة بحذاء (قندرة) له كعب عال، فاتحة على رأسها شبه طيلسان «1» أسود اللون مثلث الشكل، قد أرسلت خلفها زاويته الوسطى تستر بها ظهرها وضفيرتها.
ومنهن من تفتح على رأسها منديلة صفيقة سوداء، ترخي منها ذؤابة على ظهرها تخالط بها شعرها، فلا يفرق الناظر إليه بينه وبين ذؤابة المنديلة. على أن هذا النسق من اللباس والطيلسان لا يكاد ينقص عن الإزار الشرعي سوى عدم ستره جميع الشعر. وقلّ منهن من تلبس القبعة (البرنيطة) في رأسها.
ما تؤاخذ به أمة الأرمن:
إن هذه الأمة على ما هي عليه من المزايا الحسنة لم تتنزه عن بعض هنات تستوجب عليها المؤاخذة وهي:
(1) التعصب المفرط الخارج عن دائرة الاعتدال، فإن كل واحد من الأرمن يرى الصواب كله فيما هو عليه من العقيدة والتقاليد والعادات، وأن ضد ذلك فيما هو عليه غيره. على أن هذه العقيدة هي التي تجعل الأرمني بعيدا عن معاشرة غيره منكمشا عن صحبة الناس، غير مؤتلف ولا مختلط معهم.
(2) التهوّر وقصر النظر وقلة التبصر بالعواقب، وعدم وزن القدرة في القيام على طلب الاستقلال الذي طالما جلب على أمة الأرمن البوار والدمار، وأفنى منها ما يعدّ بألوف الألوف، دون الحصول على ما تبتغيه، غير متعظة بقول الحكيم:(3/330)
إذا لم تستطع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
وكيف تريد أن تدعى حكيما ... وأنت لكلّ ما تهوى تبوع؟
(3) الإلحاح بالانتقام من عدوهم إذا ظفروا به، حتى إنهم ليبطشون ببعضهم إذا طرأ بينهم خصام ونزاع، فترى سورة الغضب في أحدهم تحمله على أقصى ما تجود به قوته من الضرب والبطش.
إن التهور وقلة التبصر في العواقب قد كلّفا الأرمن أن يريقوا من دمائهم بحارا دون أن يحصلوا من ذلك على جدوى.
إن من تصفح التاريخ ونقّب فيه عن حوادث الزيتون والأرمن، وعما طرأ على مرعش من الخراب المتكرر، يظهر له جليا أن قيام الأرمن وتمردهم على الحكومات الإسلامية لم يخل منها زمن من الأزمان، يقومون على الحكومات تارة بأنفسهم وأخرى بواسطة الروم الذين يشنون الغارات على جهات الأناضول بإغراء الأرمن والالتجاء إليهم، ينضمون إلى الصليبيين تارة وإلى التاتار أخرى، فلا ينالون من ذلك سوى الفشل الذي كان الأحرى بهم أن يقودهم إلى العيش مع جيرانهم بالمسالمة والوفاق كما يعيش غيرهم من بقية الطوائف المسيحية التي تعيش في غبطة من السلام والوئام.
انظر إلى ما كتبناه في الكلام على مرعش يظهر لك أن هذه البلدة خربت بمشاغب الأرمن خمس مرات، أعاد بناءها في المرة الأولى معاوية، وفي الثانية العباس بن الوليد، وفي الثالثة الوليد بن هشام، وفي الرابعة صالح بن علي- في خلافة المنصور- وفي الخامسة سيف الدولة بن حمدان. ثم تنقلت عليها الولاة المسلمون حتى استولى عليها كيخسرو بن قليج أرسلان السلجوقي، وكأنه استصعب حفظها والقيام بها فوهبها لبعض طهاته، وهو حسام الدين، ثم انتقلت عنه لأولاده إلى أن كانت سنة 656 فعجز عماد الدين- آخر من تولاها من أولاد حسام الدين- عن ضبطها لتواتر غارات الأرمن عليها، فعرضها على كيكاوس صاحب الروم فأباها، فعرضها على السلطان صلاح الدين فأباها أيضا، فرحل عنها وتسلمها الأرمن حتى أخرجهم منها سنة 900 علاء الدولة بك أحد أمراء الدولة ذي القدرية «1» وعمرها في موضعها الحالي وأجلى الأرمن عنها إلى أن(3/331)
كانت سنة 928 دخلت تحت سلطة الدولة العثمانية، وكان جاليتها الأرمن ومن اختاروا التوطن في ضواحي قلعة الزيتون الخربة التي هي في وسط جبال وعرة المسالك جدا، تحصّنا وتمنعا عن الحكومة التي تهددهم بقوتها إذا حاولوا التمرد عليها.
ونقلت من كتاب «فظائع الأرمن» التركيّ العبارة ما خلاصته أن الأرمن في حدود سنة 952 هـ رأسوا منهم أربعة أشخاص سموهم (إيشخان- برنس) وقسموا مدينة الزيتون بينهم أربعة أقسام، أقاموا على كل قسم منها واحدا يحكمها من هؤلاء الأربعة، وعقدوا جمعية سموها (فه أودال) جعلت وظيفتها السعي وراء تأييد السلطة الأرمنية على أهل تلك النواحي المجاورة لهم. فاستفحل أمر هذه الجمعية وامتدت سلطتها إلى القرى المجاورة لها، حتى صارت تجبي الضرائب من أهلها بواسطة جباة ينصبونهم، حتى إن كثيرا من القرى الإسلامية القريبة من الزيتون خربت وجلا أهلها عنها فرارا من ظلم الزيتونيين وتعدّيهم، وكانوا كثيرا ما يتمردون على الحكومة بدعوى كثرة ضرائبها عليهم، حتى إنهم قاموا مرة عليها بزعم أن ضرائبها البالغة في السنة 15 ألف قرش لا يقدرون على دفعها، ثم إنهم لما رأوا أن لا مناص لهم من دفعها أذعنوا للطلب ودفعوها ثم تجاهروا بالعصيان وقاموا عليها في سنة 1197 ثم تكرر منهم هذا التمرد في كل من سنة 1201 و 1223 و 1224 و 1241 و 1247 و 1258.
وفي سنة 1270 حضر إلى الزيتون قسيس اسمه (ملكيان أورزروفي) ليكون عضوا عاملا في العصابة العصيانية. وعندها انتخب الإيشخانيون القسيس (ديراسويان) مشاور الحكومة، فنصبوه حاكما عاما على الأرمن في تلك النواحي. فتوجه هذا إلى دولة روسية ليؤيد حاكميته الموهومة. وبينما هو في الطريق إذ ألقي القبض عليه في مدينة أرضروم وحضر إلى الزيتون شابّ اسمه (هاروتيون جاقريان) وهو زيتوني الأصل، وكان من مأذوني مكتب الأرمن في «غلطة» فتعين عضوا عاملا في جمعية الزيتون، فنفخ هذا الشاب في أدمغة الأرمن روح استقلال الأرمن وانفكاكهم عن الدولة العثمانية.
ومن ذلك الوقت أخذوا يشدّدون الوطأة على من حولهم من أهل القرى المسلمين، وأخذوا يستعطفون أمة الأرمن ويطلبون منهم المدد والمعونة على مشروعهم فصارت الإعانات ترد إليهم تباعا من أميركا ومصر وغيرهما، حتى إن أرمنيا اسمه (مياسيال أنيكه)(3/332)
الزيتوني المقيم في مصر، تبرع على هذه الجمعية بأربعمائة ليرا، وأرسل إلى مكاتب الأرمن في الزيتون معلمين خصوصيين، وصار يحضر إلى الزيتون- من غير أهلها- جماعة تمكنت فكرة الاستقلال من رؤوسهم، منهم رجل أعطوه لقب (برنس) حرروا له محضرا عاما ليقدمه بنفسه إلى نابليون الثالث إيمبراطور فرانسة، قالوا فيه إنهم يسترحمون من حضرة الإمبراطور باسم سبعين ألف بطل أرمني أن يظاهرهم على الاستقلال. فاهتم الإمبراطور بهذا الطلب أولا ثم لما تأمل المحضر وعلم ما فيه من المبالغة في العدد والتظلم طرحه وراء ظهره.
قال في الكتاب المذكور: وفي سنة 1282 سرى تمرد الزيتونيين إلى استانبول بواسطة مرخّصي الأرمن الزيتونيين. وفي تلك الأثناء عينت الحكومة للزيتون قائمقام، فقام بعضهم يطلبون من البطركية رفعه، وظهر واحد من شجعانهم اسمه (بابيك باشا) وصار يتعاطى الدعارة وقطع الطريق إلى أن مات. وفي سنة 1297 بدأ الاختلال في تلك الجهة وكان زعيمه رجلا اسمه بابيك، وقد دام هذا الاختلال إلى سنة 1313 وقد حدث في هذه المدة عدة وقائع أهمها الواقعة التي تقدم ذكرها، التي بدأت سنة 1313 وقد اشترك في هذه الواقعة عامّة الأرمن الجبليين، سوى أفراد قليلين منهم. واستغرق هذا الاختلال مدة خمسة وأربعين يوما. ثم تداخلت القناصل ووقفت هذا الاختلال كما قدمناه.
قال صاحب الكتاب المذكور: والغريب أن زعماء هذا الاختلال قاموا في أوله على قصد النهب والسلب، ثم بدا لهم أن يفرغوه في قالب سياسي، وبذلك اغتنموا فرصة جمع مبلغ عظيم من النقود، جمعوها من الأرمن ودلّوها في جيوبهم. وكان الغرض الحقيقي من هذه المشاغب الدعوى للمداخلة الأجنبية، وإضعاف الدولة العثمانية والتأمين على استقلال الزيتون. اه الاستطراد.
وفي هذه السنة 1313 استولى الخوف على الناس في حلب وصار لا يمرّ يوم وإلا ويقع فيه الرعب من الثورة، فيغلق الناس حوانيتهم ويتراكضون إلى بيوتهم. وفيها- في ثاني عشر آذار- سطع بين العشاءين ضياء دهش له الناس، استغرق نحو خمس دقائق. وقد انتبه له الناس من داخل خلواتهم وجعلوا ينظرون إليه، وبينما كانوا يرونه جرما ملتهبا آخذا بالهبوط، إذ بصروا به جرما عظيما كأنه قطعة سحابة نارية يتطاير منها شرر كثير كأنها(3/333)
جمرة تتلظى، ثم أخذ لونها بالبياض حتى عادت كأنها غمامة بيضاء استمرّت تشاهد في الجو نحو ساعتين. وقد ترك حين نزوله من العلوّ أثرا محمرا بقي قدر ساعتين. وشوهد هذا الحادث أيضا في جزيرة قبرص وقونية وأدرنة.
وفيها استتب الأمن في الزيتون وأقلعت عنها طوابير الرديف إلى مراكزها، فوصل منها في يوم الجمعة 19 ذي القعدة عدة كتائب سافرت في ثاني يوم إلى أزمير. وفيها عمر في قرية قره أغاج قرب مدينة إسكندرونة جامع على نفقة الخزينة الخاصة. وفيها أضيفت ناحية تركمان إلى ناحية حرّان، وجعلت قضاء سمّي «قضاء حرّان» ألحق بمتصرفية أورفة. وفيها صدر الأمر بأن يعمر على الساحل الممتد من بياس إلى السويدية إحدى عشرة مخفرة لتكون بالمرصاد على الأرمن الذين يقدمون من أميركا وأوربا إلى البلاد العثمانية بقصد تهييج المشاغب وطلب الاستقلال.(3/334)
سنة 1314 هـ
في صفر هذه السنة اهتم مجلسنا البلدي برحبة السقاية- المعروفة بسبيل الدراويش- في شمالي حلب على بعد ميلين منه، فعمر فيها غرفتان على طرز جميل، وأنشئ تجاههما بستان فسيح، وجعل ذلك المكان محلا لنزهة العموم. وفي ربيع الثاني منها تواردت الأخبار من الآستانة بأن عصابة من الأرمن أثاروا فيها وفي غيرها من البلاد مشاغب شديدة، فعوقبوا على عملهم وعاد الأمن والسلام إلى مجراه القديم، ودعت حكومة حلب علماءها وأعيانها ورؤساء الكهنة فيها وألقت عليهم النصائح اللازمة وحثتهم على الوفاق والمسالمة لبعضهم، وحذّرتهم عاقبة المخالفة. ثم فرقت الحكومة على الناس بواسطة عرفاء المحلات نشرة مآلها: أن بعض أولي الفساد من طائفة الأرمن العاملين على إثارة الفتن والقلاقل في الآستانة قد عقدوا النية على إثارة ذلك أيضا في عامة البلاد العثمانية، وغرضهم من هذا العمل إغضاب المسلمين ليوقعوا بالأرمن، فيبرهن الأرمن لأوروبا بأنهم مظلومون وأن المسلمين لهم ظالمون فتنهض أوروبا لإنقاذهم من ظلمهم وتقع الدولة العثمانية في خطر سياسي جديد. فالواجب على كل فرد من أفراد الرعية العثمانية أن يلزم جانب السكون والحياد ولا يتعرض إلى ما لا يعنيه، فإن الحكومة وحدها هي المسؤولة عن إخماد كل ثائرة وقطع دابر كل فساد.
وفي أيلول منها وقع في السويدية مطر غزير انقضّت في أثناء وقوعه صاعقة على زورق في الميناء حطمت ساريته. وفيها ورد الأمر بأن إحدى عشرة قرية- بعضها في قضاء حارم من أعمال ولاية حلب، وبعضها الآخر في قضاء الخاصة من أعمال ولاية أطنة- تسلخ عن هذين القضاءين وتضاف إلى قضاء بيلان، وهي: دده جنار، وبوز هيوك، وقره بابو، وبرته لى، وباصي بورت، وبلانقوز، وزنكي، وجام صاري، وطوسون هيوكي، وكوز كجه، وقره مان قاش. وفيها تم بناء الثكنة العسكرية في زيتون.(3/335)
حدوث حرب اليونان:
وفيها بدأت دولة اليونان تتحرش بجزيرة كريد وتثير فيها الفتن والقلاقل بواسطة عصابات يونانية تمدهم بالأموال والسلاح، فيقطعون السبل ويشنون الغارات على القرى وينهبون ويقتلون. وكان الحامل لدولة اليونان على هذا العمل اغتنامها فرصة اشتغال الدولة بحوادث الأرمن وعجز ماليتها عن الحرب. وفيها رأت الدولة العثمانية وجوب حرب اليونان وردعها لتماديها في غيّها. إلا أن مالية الدولة في عجز عظيم عن الإنفاق على هذه الحرب، فاضطرها الحال إلى أن تفرض على المملكة إعانة سمّتها إعانة التأسيسات العسكرية، قدرها 5852250 قرشا. فلحق مدينة حلب منها 947750 قرشا وقضاء أنطاكية 664500 قرشا، وقضاء عينتاب 762750 قرشا، وقضاء كلّز 759750 وقضاء إدلب 531250 وقضاء الباب 230750 وقضاء الجسر 279750 وقضاء حارم 289500 وقضاء بيلان 82000 وقضاء إسكندرون 144000 وقضاء المعرة 173750 وقضاء منبج 18500 وقضاء الرقة 69750 وقضاء جبل سمعان 251250 وشعب الأملاك السنية 657000 قرش.
وفيها عين السلطان عقيب حوادث الأرمن ومشاغبها مشيرا جوالا في الولايات الشاهانية ليفحص عن وجوه الإصلاح التي تحتاجها كل ولاية، وكان تعيين هذا المشير صوريا، الغرض منه التمويه على الدول الأجنبية التي تطلب حماية الأرمن وتطهير البلاد من الظالمين والمستبدين. والمشير المشار إليه: اسمه شاكر باشا، فطاف عدة ولايات وكتب ما رآه من وجوه الإصلاح اللازم إجراؤها في تلك الولايات. ثم في العشر الثاني من رمضان هذه السنة وصل إلى حلب قادما إليها من الرقة فخفّ لاستقباله إلى ناحية بابلّي في شمالي حلب قائد العسكرية أدهم باشا وعدد عظيم من الجنود الشاهانية وأعيان البلد، ونزل ضيفا كريما في منزل بني العادلي في محلة السفاحية، وكان معه حسيب أفندي مستشار السفارة العثمانية في طهران ومادر كورداتو أفندي معاون المشير، وغيرهم من الحاشية والمعاونين، فنزل كل واحد منهم في منزل واحد من أعيان حلب، وكانت زوجة المشير معه وهي مسيحية روسية تخرج للناس غير محتجبة. وبعد أن استراح بضعة أيام أعلن أنه يقبل كل لائحة تبحث في إصلاح حلب وجميع ولايتها. فأقبل عليه الكتّاب وأولو العقول الثاقبة باللوائح المتنوعة الطافحة بالفوائد الآيلة لإصلاح أحوال الولاية وتحسين أمورها، من تأسيس(3/336)
مكاتب علمية وصناعية وتجارية وزراعية، وافتتاح طرق ومعابر، وإحضار معامل وأوائل وتخفيض رسوم وتكاليف واحداث غيرها، وتأليف ضابطة من الملل الثلاث وغير ذلك.
فكان يتلقى تلك اللوائح بكل ارتياح ويظهر بها إعجابه. ويعد بتنفيذها مع أنه لم يظهر لها بعد ذلك أدنى أثر ولا خبر.
وفيها حوّل أدهم باشا قائد حلب إلى القائدية العامة في حدود اليونان لحرب المتعدّين على كريد، فبارح حلب على الفور متوجها إلى جهة الحدود المذكورة، وكان أدهم باشا صار بعد حادثة الزيتون قائدا عاما فوق العادة على حلب وأطنة وما جاورهما قصد استطلاع أخبار الأرمن ومراقبة أحوالهم. فلما تحول إلى حدود اليونان، خلفه في القائدية العامة المذكورة علي محسن باشا. وفي شوال هذه السنة المصادف شباط سنة 1312 تظاهرت دولة اليونان بالعداء على الدولة العثمانية، فجهزت دارعة (لورييورم) وشحنتها بالعساكر وأمرتهم أن يخرجوا إلى (كوكيمباري) فعارضتهم دارعة إنكليزية وساقت دارعتهم (لورييورم) مخفورة إلى خانية، وكانت الدولة العثمانية قد جهزت مائة واثنين وتسعين طابورا وعزمت أن تجعل هذه القوة مائتين وعشرين طابورا، وصدرت الأوامر للحامية العثمانية المرابطة في حدود ألاصونيا وتساليا بأن تكون على قدم الدفاع.
وفيها صدر الأمر بجمع إعانة اسمها إعانة المعابد الإسلامية، وبجمع إعانة أخرى اسمها إعانة مهاجري كريد المسلمين. وهكذا كان لا يمر في تلك الأعصار العجيبة شهر أو شهران إلا وتصدر الأوامر بجمع الإعانات على اختلاف أسمائها ومقاصدها، فكأن أموال الدولة على كثرتها كانت في تلك الأوقات ترمى في عرض البحار، كما أن تلك الإعانات- التي أضجرت الناس وأزعجتهم- كانت تدفن في الأرض. وفي شهر ذي القعدة الموافق نيسان سنة 1313 بدأت تتوارد الرسائل البرقية من الصدارة والنظارة الداخلية إلى ولاية حلب، نقلا عن القائد العام في جزيرة كريد، مبشرة بظفر العساكر العثمانية واستيلائهم على البلاد اليونانية وحصونها، بلدة بعد بلدة وحصن بعد حصن. وكان حضر إلى حلب عدد وافر من مسلمي جزيرة كريد مهاجرين منها فرارا من تعدي اليونان عليهم وإيقاعهم بهم، فقر رأي المرحوم والي حلب رائف باشا ومجلس إدارة الولاية على أن تلك الرسائل البرقية التي ترد تباعا تعرّب وتطبع وتباع وتصرف قيمتها المتحصلة في مصالح المهاجرين المذكورين، فكلفني الوالي المشار إليه بتعريبها حسبة، فصرت أعربها ثم تطبع في مطبعة(3/337)
الحكومة وتباع، ويصرف الحاصل من ثمنها في مصالح المهاجرين.
وفي يوم الخميس 21 ذي القعدة سافر من حلب شاكر باشا المشير المفتش العام المتجول في ولايات الأناضول وقد تقدم الكلام فيه. وفيها ورد أمر بجمع إعانة لمهاجري مسلمي كريد الذين وصلوا إلى الآستانة، ويبلغ عددهم مائة ألف وخمسة آلاف إنسان، منهم 60 ألفا لا يملكون قوت يومهم. وفيها توالت انتصارات العساكر العثمانية وفشل الجنود اليونانية، ففتّ ذلك في عضد ملك اليونان فاستغاث بقيصر روسيا والتمس منه أن يتوسط بينه وبين السلطان ففعل.(3/338)
سنة 1315 هـ
في محرّم هذه السنة تم الصلح بين الدولة العثمانية واليونان على غرامة حربية تدفعها الثانية للأولى قدرها أربعة ملايين ليرة، وأن يرد إلى اليونان جميع البلاد التي أخذت منها في هذه الحرب، وبقيت جزيرة كريد تحت حماية الدول العظمى ريثما يتفقون على طريقة في شأنها، ثم اتفقوا على أن تكون لليونان.
قصيدة من نظم الشاعر الأديب عبد الفتاح الطرابيشي الحلبي «1» ، نوّه بها بذكر ما أحرزه العثمانيون من الظفر في حربهم مع اليونان وما فتحوه عنوة من البلدان والمواقع:
الحمد لله حقّ النصر والظفر ... وأقبل الدهر في ذا الفتح يفتخر
وأصبحت دولة الإسلام سائدة ... وسيفها في قفا الأعداء مشتهر
ودولة العسكر اليونان خائفة ... مثل الشيّاه إذا أسد الشرى نظروا
والجيش سدّ عليهم كل ناحية ... حتى تخيّل أن الناس قد حشروا
لله درّ جيوش المسلمين فقد ... أبدت فعالا لها طول المدى سير
هم الليوث إذا نار الوغى استعرت ... والواردون إذا عنها العدى صدروا
أقلّهم يلتقي الآلاف مبتسما ... تحت الغبار بقلب دونه الحجر
أمسى تلذّذهم، والحرب دائرة، ... صوت المدافع، والتصهال، لا الوتر
يقودهم كلّ ندب، حسن سيرته ... يثني عليها قضاء الله والقدر
وكلّ شهم مشير لا نظير له ... يكاد يعطيه كنه العبرة النظر
هانت بهمّتهم كلّ الصعاب كما ... دانت لحزمهم الأمصار والقطر
يا يوم (لاريس) «2» والأبطال غائرة ... هل أنت إلا على أعدائنا سقر(3/339)
حيث المدافع رعد والدخان به ... سحب وما قذفت من جوفها المطر
يوم به جاءنا عزّ ومنفعة ... وللأعادي أتاها الذلّ والضرر
و (طرنوى) أصبحت تهتزّ من جزع ... مثل النزيف الذي قد هزّه السّكر
لاقت رجالا تروع الأسد حملتهم ... ويرهب الجنّ لقياهم وهم بشر
باعوا نفوسهم لله وانتدبوا ... نحو الأعادي فما أمسى لهم أثر
حازوا غنائمهم والسلب أجمعه ... وأطلقوا السبي عفوا بعد ما أسروا
(ترحالة) خبّرينا ما نظرت فقد ... حارت بمخبرك الألباب والفكر
وحذّر «1» الروم من قوم جبابرة ... إذا نضوا سيفهم لا ينفع الحذر
فإن يظنّوا الجبال الشمّ تعصمهم ... إن الجبال لدى فرساننا مدر
يفضّلون المنايا في مقاصدهم ... على الدنايا ولا يثنيهم الخطر
يلقون أنفسهم في كل مهلكة ... كأنهم للقا الأعداء قد فطروا
و (غولس) صار بالتسليم مأمنها ... وزال عنه العنا والهمّ والكدر
وقد غدت في جيوش النصر زاهية ... زهو العروس التي قد زانها الخفر
والحرب حرب (ولستين) فتلك غدت ... ممّا يقصّر عنها الوصف والخبر
أحاطها الجند من بعد الهجوم لها ... حزنا وسهلا، فمنها لم يفز نفر «2»
لله (لورس) ما لاقت وما نظرت ... من فعلهم وظلام الليل معتكر
قد هاجموها مساء والعدوّ بها ... ما أدبر الليل حتى أقبل الظفر
أمسوا تذمّهم الأعداء وتمدحهم ... أهل الشجاعة حتى السّبع والنّمر
قولوا لمن ظنّ أن العجز أقعدنا ... عن ردّهم حينما في عهدهم غدروا
هلا سمعت بما قد قلت من مثل ... لا يحمد القطف حتى يوجد الثمر
دوموا أيا عصبة الأعداء في قلق ... والدمع منهمر والقلب منفطر
فإنّ أوطارنا تقضى بهمّتنا ... لا بالخيانة منا يبلغ الوطر
سلوا (زراقا) و (كروانا) فقد شهدا ... فعال أبطالنا والحرب تستعر(3/340)
تخبّرا عن رجال ليس يأخذهم ... فيما يرومونه أين ولا ضجر «1»
(فرسالة) نبّئينا عن فوارسنا ... هل عاقهم عنك ذاك المسلك الوعر
أم هل حصونك أجدت يوم حملتهم ... نفعا، وهل صدّهم عن أخذك البهر «2»
يومان قد ظلّ فيها الطعن متصلا ... حتى توالت على أعدائنا الغير
هيا (لدومكة) وانظر معالمها ... فالعين تشهد ما لا يشهد الخبر
حلّوا ذراها وساروا نحو (أرمية) ... بعارض هطله النيران والشرر
أروا عدّوهم حربا فسالمهم ... لمّا تحقق لا منجى ولا وزر
وقائد الجيش قسطنطين حين رأى ... جيوشه نكّسوا الرايات وانكسروا
ولّى ولم يلتفت خوفا إلى أحد ... من بعد ما زاغ منه القلب والبصر
لا غرو إن مرّ وانشقّت مرارته ... فمن فوارسنا الأطواد تنفطر
يا أدهم الاسم يا قاني الحسام ويا ... مردى أعاديك إن قلّوا وإن كثروا
أنت المشير الوزير الفارس البطل ... م الليث الغيور الكميّ الصارم الذكر
تركت فعلا لدى اليونان مشتهرا ... متى جرى ذكره أودى بها الذعر
جزاك ربّك عنّا كلّ مكرمة ... فليس منا يفيك الحمد والشكر
يا للبرية ما هذا المشير وما ... تلك الفوارس والأبطال والبشر؟
أولئك الحزب حزب الله من شهدت ... بحسن حزمهم الأرماح والبتر
مظفّرين بعزم من مليكهم ... عبد الحميد الذي تزهو به العصر
ربّ السياسة منشي العدل مالكه ... بحر الدراية سامي القدر معتبر
أفكاره شهب أقواله قضب ... إنعامه سحب تهمي وتنهمر
من فضله عامل الأعداء مذ كسروا ... بالصفح عن عظم ذنب ليس يغتفر
كم من مليك قبيل الحرب أنذرهم ... خوفا عليهم فما أغنتهم النذر
خليفة الله دم فالنصر مقتصر ... عليك إذ أنت في الشدّات مختبر
يا معشر الناس هنّوا ذا المليك فقد ... أضحى بتاريخه «3» من دأبه الظفر(3/341)
وعظّموا همة منه قد اشتهرت ... يقول تاريخها «1» من دأبها الظفر
إلى آخره. وهي قصيدة طويلة اكتفينا منها بهذا القدر.
رجعنا إلى تتمة حوادث هذه السنة: في أواخر محرّمها تم بناء مستشفى الغرباء تحت القلعة. وفيها عمر في مدينة الرقة جامع ومكتب وبعض خلوات للطلبة وكانت النفقة على ذلك- وقدرها 156500 قرش- من أموال الخزانة الخاصة. وفي هذا الشهر أيضا كان الاحتفال بمنتزه السبيل المتقدم ذكره بالغا حدّ الغاية من الرونق والبهاء. وفي صفر منها الموافق تموز سنة 1313 أحيت الحكومة في المكتب الإعدادي ليلة طرب وعزف، صرفت مجموع دخلها على تجهيز هدية لجرحى الجنود العثمانية في حرب اليونان وأيتام شهداء الجنود وأراملهم. وكانت تلك الليلة بالغة منتهى الرونق والبهاء، وكان مجموع دخلها 1015 ليرا عثمانية و 24875 قرشا.
وفي شهر جمادى الثانية منها الموافق تشرين الأول سنة 1313 وقع في جهات السويدية مطر يتخلله برد، الواحدة منه في ثقل 33 درهما تقريبا، مستمرا ذلك نحو خمسين دقيقة، فحطم عروق الأشجار وقتل كثيرا من الطيور وانقضّ في خلال ذلك عدة صواعق لم تعقب ضررا. وفي رجب منها وردت الأوامر بأن يؤخذ على كل شاة تذبح أربعون، وعلى كل معزاة ثلاثون، وعلى كل بقرة مائة وعشرون بارة، يؤخذ ذلك وقتيا إعانة لمحاويج مسلمي كريد المهاجرين. وعليه صار هذا الرسم يؤخذ في مسلخ حلب، وهو فوق ما كان يؤخذ من الرسم قديما باسم الذبحية من جهة البلدية. وقد انقضت حادثة كريد وعاد مهاجروها إليها وبقيت هذه الإعانة تؤخذ على الوجه المذكور، إلا أنها صارت تصرف بعد رجوع المهاجرين إلى أوطانهم، نصفها على مكتب الصنائع ونصفها الآخر على المكاتب الابتدائية، وكان يبلغ مجموعها في السنة نحو مائة ألف قرش. وفيها في كانون الأول توالت الأمطار في مرعش بضعة أيام فانهدم فيها جامع آراسته عن آخره ولم يبق منه سوى منارته. وفيها عمر تجاه منتزه السبيل مخفرة عسكرية بإعانة جمعت من أهل الخير.
وفيها- في كانون الأول- بينما كانت قافلة كبيرة تسير إلى مرعش إذ هبت عليها- وهي قرب قمة جبل آخور- عاصفة ثلجية وقفتها عن السير، وكادت تهلك عن(3/342)
آخرها لولا أن اتصل خبرها بمرعش وترسل الحكومة لإنقاذها عددا من العساكر وأهل البلدة، ومع ذلك فقد هلك فيها 13 حمارا و 6 شياه. وفيها- في كانون الثاني- ورد من مرعش أن الثلوج تتساقط عليها مدة ثلاثين ساعة متوالية فتكاثفت في الجبال قدر ذراعين. وفي مدينة مرعش قدر ذراع، وأنه هلك في عواصف الثلج مسافر وسبعة دواب معه، وانقطع من كثرة الثلوج سير القوافل بين مرعش والبستان والزيتون وأندرين، وهلكت دابة البريد وصقع «1» في مرعش طفل رضيع، وأتى البرد القارس على كثير من الوحوش والضواري. وورد من معرة النعمان أن الثلج فيها كثير والقرّ شديد. وجاء من عينتاب ما يشعر بذلك وأنه صقع في إحدى الطرق المؤدية إليها رجل. وورد من إدلب أن شدة البرد قتلت في إحدى ضواحيها رجلا، وأنه لم يحدث في إدلب نظير هذا البرد منذ خمسين سنة.
وفيها فتحت جادة الخندق الممتدة بين العوينة وباب حديد بانقوسا، وهدم خان الدلال باشي وصار بعضه جادة. وفيها- في آذار- شعر الناس في حلب بهزّة أرض، وحدث مثلها في أورفه ومرعش وعينتاب وكلّز وإسكندرونة وبيلان والجسر وإدلب والبيرة والباب والزيتون والبستان وأرسوز لكنها لم تعقب ضررا. وفي آذار هاجت عندنا العواصف، وقرس «2» البرد وكثر المطر والثلج. وفيها في نيسان كثر تهطال الأمطار على القرى القريبة من عينتاب، وتساقط معها برد كثير، وانقضّ صاعقة على جدار فهدمته وقتلت عشرين شاة، وجرف السيل من قرية أولو معصرة وحصانا «3» و 36 ماعزا ومن قرية أخرى نيفا وأربعمائة شاة، وراعيا. وأفسد البرد كثيرا من الزروع. وفيها أحضرت البلدية من أوروبا دولابا للماء يدور بالهواء نصبته على بئر في منتزه سبيل الدراويش، وهو أول دولاب أحضر من أوروبا على هذا الطرز.(3/343)
سنة 1316 هـ
فيها نقلت دار حكومة قضاء حارم من قصبة حارم إلى قرية كفر تخاريم، وبنيت فيها دار حكومة بإعانة جمعت من أهل ذلك القضاء. وفي شهر صفر منها خسف القمر مبتدئا بالخسوف في نحو الساعة الثالثة ليلا، وتكامل خسوفه نحو الساعة الرابعة والنصف، ثم في نحو الساعة السادسة انتهى انجلاؤه. وفي أثناء خسوفه أخذ الناس يطلقون البنادق ويضربون على النحاس ويدقون بالهاونات جريا لعاداتهم حين خسوف القمر من قديم الزمان، زاعمين أن خسوف القمر سببه حوت يبتلعه وأنه إذا سمع أصوات البنادق وتلك الأصوات المزعجة يخاف فيمجّ القمر «1» . وفي هذا الشهر بوشر بتعمير المخفرة الكائنة في سفح جبل البختي، تجان منتزه السبيل من شرقيه، وقد عمرت من إعانة جمعت من أهل الخير.
وفيها حدث في أنطاكية أن امرأة أحبت شابا فاحتالت على زوجها وأطعمته كبّة نيئة وضعت فيها شيئا من الشك المعروف بطعم الفار، وأكل معه على غير قصد منها بنت وولد لها، فلحقت الولد وأخرجت اللقمة من فمه فلم يلحقه ضرر، وأرادت أن تخرج اللقمة من فم البنت فلم تتوفق، وابتلعت البنت الطعام وبعد ساعة ماتت البنت وأبوها من السم.
وشاعت هذه الحادثة في أنطاكية وحكم على المرأة بالقتل قصاصا. وسيأتي بقيّة خبرها.
وفيها وضع أساس منارة الساعة في حضرة باب الفرج، في موضع قسطل كان يعرف بقسطل السلطان. وقد جرى لوضع هذا الأساس احتفال باهر حضره الوالي والأمراء والأعيان والوجهاء، فكلفني الوالي إلقاء خطبة في هذا الموضوع فقلت على الفور والبديهة بعد البسملة:: الحمد لله مبدع الكائنات، خالق الأوقات والساعات، منشئ الأملاك ومسيّر(3/344)
الأفلاك، الملك الوهاب، جاعل الشمس ضياء والقمر نورا، وقدّره منازل لنعلم عدد السنين والحساب. أما بعد فإن أولى ما يفتتح به الكلام في هذا المقام رفع أكفّ الضراعة والابتهال إلى المولى المتعال، مانح النوال وسامع السؤال، بدوام أيام مولانا إلخ. وهو دعاء طويل سلكنا فيه على أسلوب ذلك الزمن. ثم قلت بعد ذلك: هذا وإن بلدتنا الشهباء لم يمض عليها غير ردح من الزمن تحت ظل عناية هذا السلطان الأعظم حتى استبدلت خرابها بالعمار، ووحشتها بالأنس وخمولها بالانتباه وخوفها بالأمن، فاتسعت فيها الشوارع وكثرت المهايع «1» وأقبل الناس بكل جد ونشاط على تملك الأراضي، واتسع نطاق العمران وأصبحت الشهباء بسعتها وضخامتها ضعفي ما كانت عليه. كل ذلك في برهة من الزمن يصعب على من كان غائبا عن حلب أن يتصورها.
بلغت هذه الغاية العظيمة بأقل من نصف قرن. وها هي الآن يتعزز جمالها ويتتوج هام كمالها بتاج يحلو للعيون منظره، ويلذّ للآذان خبره، ويعمّ نفعه البعيد والقريب، ويشمل شرفه الوطنيّ والغريب، به تفصل الشهور والأعصار، وتعلم الأوقات من الليل والنهار، ألا وهو الساعة التي كانت ولادتها في الشرق وحضانتها في الغرب فما أحرى بالوالد أن يحضن ولده وبالممدّ أن يتفقد مدده، وهذا هو أسّ منارتها التي ستكون بعظمتها ناطقة بهمم الرجال أولي المجد والإقبال إلخ.
وقد أرخها الشاعر الأديب عبد الفتاح الطرابيشي بقوله:
قد شاد «2» بالشهبا منارة ساعة ... تزهو بإتقان وحسن صناعة
في دولة الملك الحميد المرتجى ال ... ثّاني الذي ساس الورى بدراية
وبهمة الوالي الرؤوف أخي الحجا ... وصنيع قوم من أعاظم سادة
فهم رجال قد روى تاريخهم: ... لعلائهم حتى قيام الساعة
وقال أيضا:
لقد شيد في الشهبا منارة ساعة ... بعصر حميد عن علاه غدت تروي(3/345)
وجاءت كما يهواه رائف أرّخوا: ... تنبّه للأوقات من كان في لهو
وفيها عمر مستودع للرديف في قصبة كفر تخاريم تبرّع بالإنفاق عليه جماعة من متموّلي القضاء. وفيها بلغنا أن امرأة من قرية تغله، في قضاء كلّز، بينما كانت جالسة في بيتها إذ دخل عليها شاب من أهل القرية شاكي السلاح يريد مواقعتها، فاستغاثت به على أن يكف عنها فلم يفعل، وحينئذ قامت إلى بندقية مزدوجة معلقة بالجدار وأخذتها وأطلقت عيارها عليه فأصابت رصاصتها كبده، فما كان منه إلا أن أطلق عليها عياره فأصاب كبدها ووقعا قتيلين. وفي ذي الحجة منها توفي في مدينة إسكندرونة غلام في سن الخامسة عشرة وهو ابن فضل الله زريق، وقد حضر إليه- وهو على النعش- أحد أقاربه المسمّى قيصر، فأكبّ عليه يقبّله، ولفرط حزنه عليه فاضت روحه ولحق به في الحال.
فيها تم بناء منارة الساعة.(3/346)
سنة 1317 هـ
وفي صفر منها الموافق حزيران سنة 1315 بوشر بتجفيف مستنقع إسكندرونة، فبي عليه سد عظيم طوله خمسمائة متر، وتقرر أن يكون طوله 950 مترا ثم فترت الهمة وبقي المستنقع على ما كان عليه. وفيها هدم مسجد كان عند باب حديد بانقوسا توسعة للطريق، وبني بدله في موضعه مسجد بديع الطّرز مع مكتب ابتدائي في قربه. وفيها وصل إلى حلب دولاب طولمبة «1» يدور بقوة الهواء فنصب عند العوينة وعمر له في قربه حوض عظيم ينفذ ماؤه إلى كيزان مطمورة في الأرض ممتدة إلى قرب باب الفرج، قد جعل لها منافذ لولبية يوضع فيها خرطوم للرش، وقد استعمل مدة قليلة ثم تعطل الدولاب، وكانت البلديّة صرفت على ذلك زهاء ثلاثة آلاف ذهب عثماني. وقد نصب نظير هذا الدولاب في محلة الجميلية وبعض البساتين فلم ينجح.
وفيها تم بناء العمارة على عين الموقف في إسكندرونة وجرت لها حفلة فائقة. وفي جمادى الأولى منها قدم على حلب سيف الدولة ابن شاه إيران قاصدا زيارة مقامات أهل البيت النبوي في حلب وغيرها من البلاد الشامية، فاستقبلته الحكومة استقبالا باهرا ونزل ضيفا عند شهبندر «2» دولة إيران فبقي بضعة أيام ثم سافر إلى جهة مقصده. وفيها تم عمل خريطة لمدينة حلب اعتنى بوضعها منهدس الولاية شارتيه أفندي وراغب بك ابن رائف باشا والي الولاية، وقد أخذت في الفوطغراف على مقياس جزء من أربعين جزءا، وهي أول خريطة وضعت لمدينة حلب وجاءت غاية بالضبط والإتقان. وفيها نجز فتح جادة العطوي ووصلت بطريق المركبات الآخذ إلى إسكندرونة المارّ قرب محلة السليمية- المعروفة بالجميلية- وهي تبتدىء من مزار السهروردي آخذة إلى طريق المركبات،(3/347)
من وسط بستان باقي جاويش وبستان إبراهيم آغا مارة على الجسر الجديد الذي تم بناؤه في هذه الأيام وهو من أحسن جسور نهر قويق وأفخمها.
وفي هذه السنة كان الشتاء شديدا وكثرت فيه الثلوج والأمطار وغرق في السيول كثير من الناس والدواب في حلب وغيرها، وكثر الهدم- خصوصا في عينتاب- وقرس البرد ولا سيما في البلاد الشمالية، فقد تعددت فيها حوادث توقف القوافل في الطرقات وموت الكثيرين من الناس والدواب بالقرّ. وفي ضاحية كلّز هجم وحش شبيه بالكلب على صغار يمرحون فاختطف منهم بنتا وغاب بها وبعد أن تعقبه جماعة من الشجعان وجدوا رأس البنت وذراعها على سفح جبل ولم يظفروا بالوحش.(3/348)
سنة 1318 هـ
عزل رائف باشا عن ولاية حلب:
فيها عزل المرحوم رائف باشا عن ولاية حلب، وكان وزيرا شهما جمع بين القوة والأمانة. وقد أثر في حلب آثارا حسنة، منها منتزه السبيل وبرج الساعة والجادة الكبرى الممتدة من حضرة مزار السهروردي إلى محطة الشام، والجسر العظيم المضروب على نهر قويق في هذه الجادة الذي تضاف إليه. وله في حلب غير ذلك من الآثار التي يثني عليه لسان حالها مدى الأدهار. وكان السلطان عبد الحميد يحذره ويسيء به ظنونه، لاعتقاده به أنه يسير في الدولة على منهاج مدحت باشا بطل الدستور العثماني، لأنه كان معاونا له في ولايته على بغداد.
ولما عزل الآن عن ولاية حلب أسرع الرحيل عنها إلى وطنه استانبول فتوجه إليها بحرا عن طريق إسكندرونة. ولما وصل إلى المحل المعروف باسم قرق خان قرب مدينة بيلان وصل إلى وكيل الوالي بحلب- علي محسن باشا- رسالة بالبرق فحواها أنه صدرت إرادة سنيه بتوقيف رائف باشا عن السفر إلى استانبول. فبلّغه وكيل الوالي هذه الرسالة وهو في قرق خان، فبقي هناك مدة كالمنفيّ. ثم وردت رسالة أخرى بعوده إلى حلب فعاد إليها ونزل ضيفا كريما في منزل المرحوم أحمد أفندي كتخدا. وكان سبب توقيفه عن السفر أن بعض كبار الأتراك المنفيين في حلب سعوا به سرا لدى السلطان عبد الحميد وألصقوا به تهمة الطعن والتنديد بالسلطان، وأنه أزال أثرا عظيما من آثار السلطان سليمان خان، وهو القسطل المعروف باسم قسطل السلطان- الذي أسلفنا الكلام عليه في محلة بحسيتا من الجزء الثاني- وأنه بعد أن محا أثره بنى في موضعه برج الساعة الذي هو من بدع الفرنج. وأنه فعل غير ذلك من الأمور التي لا تنطبق على أحكام الشرع الشريف،(3/349)
ولا تروق للسلطان عبد الحميد الذي كان مبدؤه التظاهر بالأعمال الدينية إرضاء للرعية، فيتوخى كلّ عمل يلائم أفكارهم.
وألصق به هؤلاء المنفيون غير ذلك من التهم التي هو براء منها والتي لم يقصد من عملها سوى خدمة الوطن وتحسين أحوال البلدة. وكان الباعث لهؤلاء الطغمة الشريرة على وشايتهم به أنه كان مدة ولايته في حلب يعارضهم في أعمالهم الاستبدادية، ويمنعهم عن تداخلهم في شؤون الحكومة، وكان أسلافه الولاة يهابونهم ولا يعارضونهم في تداخلهم، أما هو فإنه ضرب على أيديهم ووقف تيار استبدادهم وأعلمهم بأنهم هم منفيون ليس لهم من الأمر شيء.
بقي رائف باشا ضيفا كريما في منزل أحمد أفندي كتخدا مدة تزيد على شهرين، وهو في أثنائها في ضنك عظيم يتوقع كل لحظة صدور أمر السلطان بجعله من جملة المنفيين، غير أن السلطان تحقق في هذه المدة بواسطة جواسيسه الصادقين أن رائف باشا من المخلصين في ولائه وأن جميع ما ألصقه به أعداؤه من التهم كذب وبهتان، فأصدر إرادة سنية ترخّص له الحضور إلى استانبول، فتوجه إليها. وفي يوم خروجه من حلب خفّ لوداعه عدد عظيم من العلماء والأعيان إلى منتزه السبيل، فجلس هناك برهة من الزمن ثم استأنف المسير إلى جهة إسكندرونة، فأسف عليه الناس أسفا عظيما ودعوا له بالسلامة وطول البقاء.
ولاية أنيس باشا في حلب:
وقبل سفر رائف باشا إلى استانبول بأيام قلائل، حضر إلى حلب أنيس باشا واليا عليها فنزل في دار البلدية وأقبل الناس عليه للسلام. وفي ثاني يوم من وصوله نزل إلى الجامع الكبير وزار المرقد الشريف، وطاف في البلدة وزار مراقد الأولياء والصالحين وعاد إلى منزله. ومضى على قدومه إلى حلب عدة أيام ولم تزره قناصل الدول المعظمة. ثم شاع عنهم أنهم يطلبون من السلطان تبديله وأنهم لا يعترفون بولايته على حلب زاعمين أنه هو الذي أغرى الأمة في ولاية ديار بكر- حينما كان واليا عليها- بالقيام على الأرمن وقتلهم. ولما أصر القناصل على عدم الاعتراف بولايته على حلب ورد إليه أمر مرموز بأن يبقى مختبئا في منزله لا يظهر إلى أحد حتى يأتيه أمر آخر يوضح له ما يجب عليه عمله.
فبقي هذا الوالي المسكين مختبئا في منزله كالمحبوس مدة شهرين أو أكثر لا يظهر لأحد،(3/350)
وقام بأمور الولاية بدله علي محسن باشا القائد العام على حلب وأطنه وما والاهما. ثم ورد له الأمر بالظهور ومباشرة العمل.
رأى السلطان عزل أنيس باشا عن ولاية حلب- لمجرد رفض القناصل ولايته عليها- وهنا في سطوته وإخلالا بشرف سلطنته، فأبقاه مختبئا تلك المدة مغالطة وإيهاما بأنه قد عزله. ثم استرضى السفراء على إبقائه واليا في حلب فبقي أمره نافذا ولم ينكسر للأجانب، وعدّ تدبيره هذا من جملة دهائه ونبوغه في فنون السياسة.
وفي جمادى الأولى منها تم بناء مستودع المواد النارية العسكرية- المعروف باسم جبخانة- خارج حلب في شرقيها إلى الشمال قرب تكية الشيخ أبي بكر الوفائي وكانت المواد النارية قبلا تحفظ في مستودع داخل القلعة وبعضها يحفظ في مستودع داخل الثكنة العسكرية المعروفة بقشلة الشيخ يبرق، فخيف من حدوث حريق يتصل بهذين المستودعين فينجم عنه أضرار عظيمة فنقل ما فيهما إلى المستودع الجديد. وفي هذه السنة كان الشتاء شديدا والثلوج كثيرة وأخبار الهالكين بالقرّ والصقيع وفيرة، خصوصا في جهات مرعش والبستان وتلك الجهات.
وفي ذي القعدة منها تمّ إنشاء حديقة محلة العزيزية المعروفة بالمنشية، وركب على بئر- حفر فيها- دولاب هوائي يرفع الماء إلى برميلها ثم ينحدر إلى حوض مهندم في الحديقة كأنه حوض طبيعي. وقد جاءت الحديقة غاية باللطافة وحسن المنظر. وفي هذا الشهر كان الاحتفال بتأسيس الثكنة العسكرية في مدينة إسكندرونة. وفيها انتهت جميع متممات مستشفى الغرباء الكائن تحت القلعة قرب سوق الضرب، وفرش بالأسرة ودخلت إليه المرضى من الفقراء وهو مستشفى حافل يقل نظيره في البلاد العثمانية، قد اشتمل على غرف للرجال وأخرى للنساء وخلوات للممرضين والأطباء وأماكن للتشريح والأعمال الجراحية وأهراء «1» للمؤنة وغير ذلك.(3/351)
سنة 1319 هـ
وفي صفر منها فتح في حلب مكتب للصنائع، وهي النجارة والخياطة وعمل الأحذية- المعروفة بالقندرات- ونسج الأقمشة الغزلية ونسج الجوارب. والنفقات الأولية لهذا المكتب جمعت من دخل مسارح التياترو والنفقات الدائمة من إعانة وضعت على اللحم قبل بضع سنوات باسم إعانة مهاجري كريد، وقد وليت إدارته فأسست صنائعه ورتبت أموره وبقيت مديرا فيه مدة أربع سنوات. وفيها حضر إلى حلب آلة لحفر آبار شبيهة بالأرتوازية، وحضر مع الآلة أستاذان فباشرا مهنتهما في جهة من جادة الخندق- بين باب النصر والسهروردي- وعملا هناك بئرين فما مضى عليهما غير قليل من الزمن حتى تعطلا، وانصرف الأستاذان من حلب بما معهما من الآلات. على أن هذه الآبار يستخرج منها الماء بواسطة طلنبة «1» مركبة على فوّهة الأنبوب الذي يخترق الأرض ويصل إلى منبع الماء.
وفي فصل الربيع من هذه السنة الموافقة سنة 1317 رومية تساقط على ولاية حلب برد كثير- لا سيّما في جهات مرعش والبستان- وكان كبير الحجم، بعضه في حجم البيضة، وقد قتل عدة أوادم ومواشي «2» ، وأفسد كثيرا من الزروع. وفيها ورد من البستان أن سبعة أشخاص أكلوا نوعا من الفطر فماتوا كلهم، واتصل الخبر بحكومة ذلك القضاء فأصدرت أمرا يقضي بمنع بيع الفطر. وفيها- في التاسع والعشرين أيار- سقط في إسكندرونة صاعقة على زاوية غرفة في الطابق العلوي من شرقي فندق فهدمت جانبا من الزاوية ودخلت الغرفة فصدمت قائمة سرير حديدي كان نائما عليه رجل فاحترقت حاشية السرير ولم يتضرر النائم بشيء من جسمه، ثم خرجت من الغرفة وصدمت قنطرة(3/352)
في جهة النهر فهدمت أكثر من نصفها، ورفعت حصانا كان هناك وألقته على بعد عشرة أمتار من موضعه فهلك.
وفي ليلة الخميس عشرين من جمادى الثانية- في نحو الساعة السادسة منه- شبّت النار من دكان روّاس في سوق العرصة من عينتاب وسرت إلى ما جاورها فأتت على ثلاث دور ومائتين وسبعين دكانا واثني عشر فرنا وسبعة بيوت قهاوي وثمانية مخازن ومطحنة وأتت على جانب عظيم من خان وعشرين دكانا ثم خمدت. وفي آذار السنة الرومية- بعد العشاء الأخيرة- انقضّ على ردهة دار بني صولا- أحد بيوتات المسيحيين التليانيين في محلة الجلوم الكبرى بحلب- صاعقة دخلت من داخن الموقد المعروف بالصوبا، وكانت الردهة خالية من الناس، فحطمت الصاعقة شيئا من زجاج النوافذ، وصدمت بعض عقود قناطرها فنفر من اللطمة قدر قيراطين، ثم خرجت الصاعقة من النافذة التي حطمت زجاجها ودرجت على الزنك الذي هو سقف الدرج وصدمت قنطرة باب الدار الذي غلقه من الحديد فأبقت في القنطرة أثرا دخانيا وتطايرت المسامير المغروسة في باب الحديد، وهكذا انتهت حركتها. وفيه هاج في اسكندرونة إعصار دمر منها عدة منازل على البحر. على أن هذه المدينة لا تكاد تسلم من الإعصار في مثل هذه الأيام كل سنة.(3/353)
سنة 1320 هـ
فيها كان افتتاح مربى الخيل المعروف باسم حارة في جهة الحمرة. فقام الوجهاء وأكابر المأمورين يتزلفون إلى السلطان بإهداء الخيول الأصائل التي تربّى في ذلك المحل. وفي مدة وجيزة نجح المربى نجاحا باهرا ثم أخذ يتقهقر إلى أن اضمحل في بضع سنوات ولم يبق له ذكر. وفيها نصب على قنّة جبل البختي- تجاه منتزه السبيل في ظاهر حلب- طاحون يدور بالهواء على الطرز الجديد، فاشتغل مدة ثم تعطلت آلاته وبطلت حركته.
وفي هذه السنة- في كانون الأول- توالت الأمطار على حلب وعينتاب وأنطاكية، فحملت السيول وطغت الأنهار طغيانا عظيما وانبسطت على الحقول والعمران، فهدمت البيوت وأتلفت الزروع، وأغرقت عدة أوادم ودوابّ. وفيها عزل والي حلب أنيس باشا من ولايته وكان عفيفا متدينا محبا للخير، وقد بذل ما في وسعه لنجاح مكتب الصنائع وغيره من المباني الخيرية. وقد ولي حلب بعده مجيد بك.
وفيها- في كانون الأول- أنبأت حكومة دمشق أن الهواء الأصفر قد تفشّى فيها، فأرسل من حلب ضابط ومعه عدد كاف من الجندرمة «1» الفرسان إلى كل موضع من المواقع الكائنة وعلى حدود ولاية دمشق، وهي خان شيخون والهبيط وقلعة المضيق والحمراء، لتكون هذه القرى تحت نظارة الضابط ومن هو في صحبته من الجنود. ثم فتح في خان شيخون محجر صحي، فيه الأطباء وأدوات التبخير لفحص من يمرّ من هناك قاصدا جهات حلب، وضرب على قرية الهبيط والمضيق والحمراء نطاق صحي. وفيها انتهى تعمير مخفرة في السويدية من أعمال أنطاكية عمرت من إعانة جمعت من أهل الخير.
وفيها- في شباط- زالت علة الهواء الأصفر من دمشق ورفعت المحاجر الصحية(3/354)
(الكورنتينة) من خان شيخون والهبيط والمضيق والحمراء. وفيها عملت الحكومة إحصاء مواليد ووفيات في الجهات الآتي ذكرها، في غضون ستة أشهر من هذه السنة، فكانت كما يأتي «1» :
وفيات/ مواليد الإناث/ الذكور/ الإناث/ الذكور/ جمع الوفيات/ جمع المواليد/ اسم/ القضاء 95/604/565/926/701/1491/قضاء أنطاكية 434/464/432/601/898/1033/- حارم 33/72/112/136/105/288/- إسكندرون 322/888/165/848/1110/1494/- كلّز 79/111/179/187/190/366/- المعرة 156/307/384/482/464/866/- جسر الشغور 848/597/606/777/1345/1384/- إدلب//// 4883/6922/960/1687/2575/3048/2647/5623/لواء مرعش//// 7420/12545 وأحصيت المواليد والوفيات في لواء مرعش في غضون ستة الأشهر المذكور، فبلغت مواليده 5623 الذكور منهم 3048 والإناث منهم 2575 ووفياته 2647 الذكور منهم 1687 والإناث منهم 960 نسمة. وفيها ورد من متصرفية مرعش أن بقرة في قرية جلكي- في قضاء البستان- ولدت ثلاثة عجول في بطن واحد وبعد أربعة وعشرين ساعة هلكت العجول وأمّهم «2» .(3/355)
سنة 1321 هـ
فيها مدّ السلك البرقي من حلب إلى الباب. وفيها- في أوائل آب- فتح في المكتب الإعدادي الملكي- الكائن في محلة الجميلية ظاهر حلب- معرض عام لتشهير البضائع التجارية والصناعية الوطنية: كالمنسوجات القطنية والحريرية والقصبية الفضية، والمصنوعات التطريزية والغلات الزراعية والحيوانية، والمصوغات الفضية والذهبية، والعروض الخفافية والسراجية والحديدية والنحاسية، والنجارية والترابية والدباغية والعطرية، من حلب وأكثر البلدان الكبار في ولايتها كعينتاب والرها ومرعش. وزيّن المكتب داخلا وخارجا بالرايات وأنواع السجّاد- الذي هو من مصنوعات حلب- والقطع الجميلة، وأنير في الليل بالأضواء الساطعة، وأقيمت في رحبته الألعاب التريّضية المعروفة باسم (جيمنستق) ، وفي الليل الخيالية المعروفة باسم (سينه توغراف) وهرع إليه الناس من حلب وغيرها، واستمر مفتوح الأبواب كذلك مدة شهر وزيادة، والبضائع التي حازت فيه قصب السبق وصارت محل إعجاب الجميع هي منسوجات حلب. وقد أخذت فيه غرفة لعرض مصنوعات مكتب الصنائع، فأقبل الناس على شرائها باليانصيب فراجت وربحت. ثم زاحمني على الغرفة نجيب بك ابن الوالي، أخذها مني لرجل يعينه على فجوره، فاستأت من هذا العمل واستقلت من مديرية المكتب. وبلغ الخبر والده فاستاء منه وزجره واسترضاني فعدت إلى إدارة المكتب.
وفيها في آب سنة 1319 ظهر في حلب مرض مشكوك به ثم تحقق الأطباء أنه مرض الهواء الأصفر، وكان قبلا ظهر في دمشق وفتك في أهلها فتكا ذريعا، وزحفت جراثيمه إلى حماة ومنها إلى جسر الشغر وإدلب والبيرة وكلّز وعينتاب، ثم ظهر في حلب وأحصي عدد من مات فيها في برهة أسبوع فكانوا أحد عشر شخصا. فاهتمت الحكومة في قضية الكنس والرشّ وتنظيف الشوارع والأزقة من القمامات والأقذار. وكان قبل أيام من ظهوره وصل إلى حلب طبيب ألماني اسمه فونسكي أفندي، ومعه عدد من الأطباء أمر(3/356)
السلطان بإشخاصهم إلى حلب للاهتمام بالأسباب الواقية من تطرق هذا المرض إلى حلب من البلاد التي ظهر فيها في الولاية وغيرها. فأوعز هؤلاء الأطباء إلى البلدية بأن تعزز وسائط النظافة وتلتفت إلى الفواكه المضرّة فتمنع بيعها، وأن تعمر على كل حوض مكشوف في المساجد وغيرها جدارا يمنع تناول الماء من الحوض رأسا منعا للتلويث، بل يكون تناول الماء من الحوض بواسطة مبذل «1» .
فقامت البلدية بجميع ما أمرها به الأطباء، ولكن مع هذا كله ما برح هذا المرض يفتك في النفوس حتى أوائل تشرين الثاني من سنة 1319 إلا أنه كان خفيف الوطأة بحيث لم تزد وفياته اليومية في شدّة بحرانه «2» على خمسين نسمة. ثم إنه بعد أيام تقلص ظلّه من إدلب وعينتاب وبيره جك وإسكندرونة وحماة وحمص وطرابلس الشام وبقية بلاد سورية، ورفعت عنها مناطق الحجر الداخلية والخارجية وعادت مياه الصحة إلى مجاريها. وفيها- في حادي عشر تشرين الثاني- هطلت أمطار غزيرة على عينتاب وضواحيها، فحملت منها السيول على قرية «تنب» القريبة من عينتاب وأتت على قرباط هناك تحت بيوت الشعر فأغرقت منهم ثلاثة وعشرين إنسانا وثلاثة حمير وثلاث رمكات «3» . وبعد أن انحسر الماء عن ذلك الموضع التقطت جثث الغرقى ودفنت.
وفاة علي محسن باشا:
وفي أول يوم من شوال هذه السنة توفي في حلب الفريق علي محسن باشا ابن كل حسن باشا، أحد ياوري «4» السلطان عبد الحميد، ووكيل القائد العام فوق العادة في حلب وأطنة (آذنة) وضواحيهما. أمضى في حلب نحو خمس عشرة سنة. وحينما حضر إليها كان برتبة القائممقام، ثم حاز رتبة الفريق، ثم في حادثة الزيتون صار وكيل القائدية العامة المذكورة ليكون واقفا لحوادث الأرمن بالمرصاد، وهي وظيفة وقتية ألغيت بعد انقلاب الحكومة العثمانية إلى الحكومة الدستورية. وكان علي محسن باشا جوادا كريما حلو الشمائل(3/357)
محسنا للحلبيين متلطفا بهم محبا لصالحهم، كما أن أهل حلب كانوا يحبونه كثيرا. وقصره في محلة السليمية- المعروفة بالجميلية- هو ثاني قصر بني فيها. ولما توفاه الله بلغ منهم الأسف عليه مبلغا عظيما رجالا ونساء، ومشى في جنازته منهم زهاء ثلاثين ألف شخص، سوى من كان واقفا منهم على أسطحة البيوت الكائنة في ممر الجنازة من محل سكناه في السليمية إلى التكية المولوية خارج باب الفرج حيث دفن. وقد عمل على قبره الرخام الأبيض المؤزر البديع الصنعة وكان مولده سنة 1268 وهذا العدد يوافق عدد حروف (علي محسن) وهو اسمه.
وفي هذه السنة اهتم يحيى بك ألاي بك الجندرمة الدمشقي- من بني الشمعة- بافتتاح مكان في منزله في محلة «الجديدة» لنسج السجاد الذي كان لا يوجد من صنّاعه في حلب سوى شخص أو شخصين. وقد أحضر يحيى بك صناعا من البلاد الشمالية، وعمل في ذلك المحل مكانين أحدهما للرجال والآخر للنساء، فما مضى غير زمن قليل حتى ظهر من المتعلمين بارعون في هذه الصنعة واستغنوا عن المعلمين، وفشت هذه الصنعة في أكثر محلات حلب وصار السجاد الحلبي مما يتنافس فيه أهل الولع في السجاد. على أن هذه الصنعة كانت معروفة في حلب منذ دهر قديم ثم فقدت إلى أن جددها يحيى بك المومأ إليه.(3/358)
سنة 1322 هـ
فيها تم تعمير مستشفى الغرباء في اسكندرونة وسمي المستشفى الحميدي، وهو مشتمل على ثمانية مخادع، كبرى سفلى وعليا، وعلى سبعة مخادع صغرى، والقسم العلوي منه يستوعب اثنين وخمسين سريرا. ويشتمل أيضا على قاعة كبرى تعرف بالصالون وكانت النفقة على تعميره من بلدية اسكندرونة. وفيها كان الشروع بإحصاء سكان ولاية حلب، فقسمت مدينة حلب إلى أربعة «1» مناطق، عينّ لكل منطقة منها لجنة تتجول في محلاتها وتحصي أهلها. وفيها كان الشتاء شديدا والبرد قارسا، وكثرت أخبار الغرق والهدم وسقوط الصواعق وموت الناس والدوابّ بالبرد في شمالي الولاية. وفيها عزل مجيد بك عن ولاية حلب ووليها عثمان كاظم بك، وكان مجيد بك عفيفا عاقلا غير أن ولده نجيب»
كان سفيها مسلطا على المستخدمين بأخذ أموالهم بالتخويف والتهديد، وكانت أفعاله سببا لعزل والده.(3/359)
سنة 1323 هـ
فيها عزل عثمان كاظم بك عن ولاية حلب ووليها ناظم باشا الشروع بأعمال سكة حديد حلب- حماة
فيها تم الاتفاق بين الحكومة العثمانية وبين شركة سكة حديد حماة وحلب على أن تدفع الحكومة للشركة ثلاثة عشر ألفا وستمائة وستة وستين فرنكا باسم تأمينات عن كل كيلومتر من الخط المذكور الذي تقرر مده من حماة إلى حلب، والمسافة بينهما 143 كيلومتر.
وشاع أن الشركة مزمعة على أن تجعل محطة حلب في غربي البلدة، أي في محلة السليمية بعد أن كانت مصممة على جعلها في محلة قارلق. فقام أهل المحلات الشرقية من حلب وقعدوا وخابروا قائدية العسكرية ووعدوه بإعطاء أراض كثيرة في جوار المحطة التي تكون في ضاحية محلاتهم، فوعدهم بأنه سيجعل المحطة في قارلق. فعارض بذلك أهل المحلات الغربية وكثر اللغط، وحينئذ رأى الوالي ناظم باشا بأن يجمع عددا وافرا من أهل الزراعة والتجارة ويرى أيّ الفريقين أكثر، القائلين بجعل المحطة في قارلق أم القائلين بجعلها في السليمية؟ فانتخب نحو خمسين شخصا وكلفهم الاجتماع عنده وبيان رأيهم لديه.
فاجتمعوا في دار الحكومة نهار الثلاثاء عشرين رجب. وكان قبل الاجتماع بساعة تولّد في هذه المسألة رأي جديد، وهو جعل المحطة في خراب تحت القلعة. فلما اجتمع الناس في ذلك اليوم تبين أن القائلين بجعل المحطة في قارلق ثمانية وفي السليمية ثلاثة وعشرون، وفي خراب تحت القلعة واحد وعشرون شخصا. فأنهى الوالي بذلك إلى المراجع العليا، وتهافت كل حزب على التلغراف يرفعون فيه الرسائل بطلب جعل المحطة في الموضع الذي أراده. فلم يفدهم ذلك شيئا لأن الشركة والمراجع الاختصاصية متفقون منذ بضع سنوات على جعل المحطة في السليمية.(3/360)
ثم في أوائل رجب بدأ العملة يشتغلون بحفر الأسس وتمهيد الأرض في محلة السليمية عند المحطة الحالية. وتتابع العمل، وفي برهة وجيزة من الزمن ارتفعت المباني وتحقق الناس أن المحطة لا تكون إلا في هذه المحلة. وفيها تم إحصاء النفوس في حلب وملحقاتها فزاد فيه عدد أهل حلب بالنسبة إلى الإحصاء السابق 14585 شخصا، ومع ذلك لم يكن الإحصاء مدققا فإن الناس الذين أخفوا أنفسهم من التسجيل في حلب- ولا سيما في ملحقاتها- لا يقلون عن الثلاثين في المائة، عدا سكان البوادي الرحل فإنهم لم يسجل من عددهم عشرة في المائة. وفيها ورد من قائمقام قضاء إدلب وحارم إلى والي حلب أن بغلة شقراء عند أحمد الحمودي من عشيرة البقّارة وأهل قرية «عري» في قضاء حارم، وبغلة أخرى عند صون آغا تومي- من قرية بقسمتة في قضاء إدلب- ولدت كل واحدة منهما بغلا، وقد أحضر فلو «1» إحدى البغلتين إلى حلب وشاهده كثير من الناس.
ضريبة جديدة:
وفيها ورد الأمر بفرض ضريبة جديدة على الناس اسمها «ويركو شخصي» وذلك بأن يطرح على كل ذكر بالغ صحيح الجسم مقدار من المال يدفعه عن كل سنة إلى جهة الحكومة، بحيث يكون ملحوظا في مقدار المال حالة الشخص من جهة الفقر والغنى، على أن تكون أقل المراتب خمسة عشر قرشا في السنة وأكثرها مائتي قرش، وأن المستخدمين في الحكومة يحسم عن كل واحد منهم في السنة من راتبه الشهري راتب يومين إن كان راتبه يبلغ خمسمائة قرش في الشهر، وراتب أربعة وعشرين يوما إن كان راتبه فوق خمسمائة قرش. وقد استاء الناس من هذا الأمر ولا سيما الفقراء منهم، وانتدب كثير من أهل الجد والنشاط يرفعون شكاياتهم إلى السلطان ويسترحمون منه مسامحتهم عن هذه الضريبة الجديدة فلم يلتفت إلى استرحامهم.
وكانت الحكومة باشرت جمع هذه الضريبة في جهات الأناضول، فهاج أهل أرزروم وماجوا وامتنعوا عن دفع الضريبة وهجموا على الوالي وأهانوه وكادوا يوقعون به. وتفاقم الأمر في تلك البلدة فخافت الحكومة سوء العاقبة وصدر الأمر بإبطال هذا المكس الجديد(3/361)
الذي لم تمتنع الرعية عن دفعه إلا لعلمها بأنه سيكون من جملة ما يصرف على الخونة والمستبدين والجواسيس اللائذين بقصر يلديز، فقد كان القسم الأعظم من مداخيل الدولة تدخل هذا القصر وتختفي فيه، وما يبقى منها خارجه يصرف في سبيل الفسق والفجور، وجنود الدولة وحماتها والمستخدمون فيها ومن له راتب على وظيفة شرعية يتململون على نار الفقر والفاقة لتأخر رواتبهم وحبس جراياتهم عنهم بسبب فقر بيت المال، وما فيه من فقر ولكن الظالمين كانوا متسلطين عليه. وفي هذه السنة كان الجراد في ملحقات حلب كثيرا ولا سيما في قضاء الباب. ولما كان فصل الشتاء اهتمت الحكومة بجمع بزره وإتلافه فجمع من ذلك القضاء فقط 3395 شنبلا حلبيا ومجموع ذلك 169150 أقة.(3/362)
سنة 1324 هـ
فيها- في آذار- كان البرد في ولاية حلب شديدا والأمطار غزيرة، وقد تواردت الأخبار من أورفة وإدلب وجسر الشغور بموت عدة أشخاص على الطرقات من شدة البرد وكثرة الأمطار وزوابع الثلج. وفي هذه السنة قدم على حلب عدد عظيم من مهاجري قافقاسيا وداغستان وغيرهما من الأمم الإسلامية الذين هم تحت حكم الدولة الروسية، وقدم آخرون من مهاجري جزيرة كريد، فاهتمت الحكومة بإسكانهم في ولاية حلب، وخصصت لهم في أكثر أقضيتها جهات عمرت لهم فيها المنازل، وأعطت كل ذي عائلة منهم قدر ما يكفيه من الأراضي ليزرعها ويعيش من خيراتها. والجهات المذكورة هي قرية خناصر- في قضاء منبج- وقرية رعده لى في قضاء كلز، وقطعة أرض من مدينة إسكندرونة، وقرية بالطه جي في قضاء أنطاكية، وقطعة أرض في مدينة الرقة.
وصول قطار سكة الحديد إلى حلب:
وفي يوم الخميس 12 جمادى الثانية الموافق 20 تموز سنة 1322 رومية وصل إلى محطة شمندوفر «1» حلب وحماة- المتقدم ذكرها- قطار من واغونات (عجلات) العمليات، وهي أول عجلات سكة حديدية وصلت إلى حلب، وكان الناس قبل أيام يخرجون إلى المحطة ألوفا مؤلفة للتفرج على مدّ قضبان الحديد، ومنهم من يتوجه إلى جهة جسر الحج للتفرج على أعمال السكة، إلى أن كان مساء يوم الخميس المذكور أقبل القطار المتقدم ذكره وهو مزين بأنواع الرايات، وحوله في المحطة ألوف من الناس يشاهدون وصوله.
ثم في يوم الخميس 16 شعبان الحادي والعشرين من أيلول سنة 1322 رومية جرى(3/363)
الاحتفال بتدشين سكة حديد حلب وحماة على صفة باهرة، فحضر الوالي وقائد العسكرية ومن دونهما من المأمورين والأمراء والأعيان والوجهاء، وبعض أدباء حلب وبيروت وتلامذة المكاتب، فتليت الخطب وعزفت الموسيقى العسكرية، ثم ذبحت القرابين ودخل عظماء الناس إلى حجرة من من حجرات المحطة أعدّت فيها أنواع من الأطعمة الباردة فأكلوا ثم ركبوا عجلات الشمندوفر وهي مزدانة بالرايات العثمانية. وكان واقفا على طول الخط من المحطة إلى قرب جبل الجوشن صف من الناس يعدون بالالوف، وركب جوق الموسيقى العسكرية عجلة أخرى وطفق يترنّم باللحن الحميدي والأنغام المطربة. ثم سار القطار إلى قرية الوضيحي التي تبعد عن حلب مسافة خمسة عشر (كيلومتر) وهناك استراح الركاب قدر نصف ساعة ثم عاد بهم القطار إلى حلب وهم يشنّفون أسماعهم بأنغام الموسيقى.
ولما وصل إلى المحطة أكرم الحاضرون بالمرطبات والقهوة وانصرفوا إلى أماكنهم.
وفيها ألحق بقضاء أنطاكية عدة قرى كانت من أعمال جسر الشغر، وهي: جقصونية وجوقاق وسيلوه، وشمره جق وجيله وجوراق، وميادون وباملكه وحاجي باشا، وكولي وطاملاينه وعاقليه ودوايته، وأوج أغز وجقور أوراق، وقارلق وباسيه وعين فوار. وألحق بقضاء الجسر عدة قرى كانت من أعمال قضاء أنطاكية وهي: زرزور وهبته وعين ثابت، وبيرون ودوز أغاج والحمام، ودستور فوقاني وعين سماق وعين الخنزير، وأستاريه وتروف وكوجوك كين، وباغ ببلي وموبلين وزنباقيه وحسيني قرب. وفيها اهتمت البلدية بفرش البلاط على الجادة الكبرى الممتدة من باب دار الحكومة إلى حضرة السهروردي. فاختل بعد مدة وجيزة وأكلته بكرات العجلات فقلبته البلدية وفرشت الجادة بحجر أسود فاستقام أمره. وفيها- في كانون الثاني- كثر تساقط الثلوج على مرعش وضواحيها واشتد القرّ فهلك بسبب ذلك عدد من الناس والدوابّ.(3/364)
سنة 1325 هـ
مصابيح لوكس:
فيها أحضرت البلدية من مصنع لوكس نحو سبعة مصابيح وركزتها في أشهر فسحات حلب، وهي أول مرة استصبح فيها بحلب بالمصابيح المذكورة، والناس في حلب يسمونها الكهرباء.
وفيها- في حزيران- خصصت الحكومة في المكتب الإعدادي بحلب مكانا لأعمال تربية دودة القز، وأباحت الدخول إليه كلّ من أراد أن يشتغل بتربية الدودة المذكورة، ووعدت السابق منهم بنوط «1» ونقود. فأقبل على ذلك المكان صنّاع القز من حلب وأنطاكية وأعطت السابق منهم الجائزة الذي وعدت بها. وفيها في أيلول أجرت الحكومة سباق الخيل في أرض الحلبة ووعدت من يحوز قصب السبق بجائزة نقدية قدرها ليرتان إلى خمس وعشرين ليرا، أدنى السابقين ليرتان وأعلاهم خمس وعشرون ليرا. وكان ذلك اليوم مشهودا حضره الأمراء وعظماء المأمورين والوجهاء والأعيان وألوف من الناس. وهي أول مرة أجرت الحكومة العثمانية في حلب سباق الخيل.
وفيها وضع في خان أقيول مطحنة إفرنجية عظيمة قوة محرّكها 58 حصانا تنقّي الحبوب وتغسلها وتطحنها وتنخلها، وهي تدور بقوة تسمى الغاز الفقير، يتولد من الفحم الحجري أو النباتي. وهي أول مطحنة من هذا النوع وضعت في حلب، وكان وضع قبلها بسنة في برية المسلخ مطحنة بقوة خمسة وأربعين حصانا يدور محركها بقوة زيت البترول المعروف بالكاز. وقبلها وضع في حلب وغيرها من بلدانها مطاحن عديدة من هذا النوع، وهي ومعامل الجليد آخذة بالزيادة يوما فيوما.(3/365)
سنة 1326 هـ
فيها- في حزيران- ورد من الجهات الشرقية جراد طيّار نزل في حلب وضواحيها وكثير من مضافاتها، فأكل الزروع الصيفية كالقطن والسمسم والبطيخ، وما يوجد في بساتين حلب من الخضر كالباذنجان والخيار والقثاء، حتى غلت أسعارها وعزّ وجودها.
وكان يتهافت على قناة حيلان ونهر قويق تهافت الفراش على النار، ففسد ماؤهما وخيف من ضرره، فقطعت البلدية ماء القناة عن حلب وصرفته إلى النهر، وكان الحر شديدا فاشتد احتياج الناس إلى الماء وصاروا يتكبدون في الحصول عليه مشقة عظيمة. وفي محرّم هذه السنة قدم على حلب والدة شاه العجم وأخوه ناصر الدين ميرزاخان واحتفلت الحكومة باستقبالهما وإكرامهما.
النداء بالدستور وقلب الحكومة العثمانية من الحالة المطلقة الاستبدادية (الأتومقراطية) إلى حالة المشروطية المقيدة (الدمقراطية)
في تاسع تموز سنة 1324 رومية المصادف شهر جمادى الثانية من هذه السنة ورد من استانبول بلسان البرق رسالة بتوقيع سعيد باشا الصدر الأسبق، مآلها أنه تعيّن الآن لمسند الصدارة. ثم في ثاني يوم ورد منه بلسان البرق رسالة أخرى تشعر بأن السلطان قد أمر بإعادة مجلس النواب- المعروف بمجلس المبعوثان- الذي مضى على إغلاقه بضع وثلاثون سنة. ثم أخذت الرسائل البرقية والكتب المرسلة مع البريد تتوارد كل يوم مذيعة أنه نودي في الآستانة بالحرية والمساواة.
العفو عن المنفيين:
وعقيب ذلك بأيام قلاقل وردت الأوامر إلى الحكومة بصدور العفو العام عن المنفيين(3/366)
في جميع جهات البلاد العثمانية، الذين كان نفيهم لجرائم سياسة (المراد هنا بالجرائم السياسية غضب السلطان عبد الحميد عليهم بسبب مسّهم إياه بكلمة، أو إشارة إلى بعض مظالمه) .
وكان منهم في حلب زهاء خمسين منفيا، عدا من كان يوجد منهم في بقية بلاد حلب، وهم ما بين أمير ملكي وقائد عسكري، وأديب وكاتب، ومهندس وطبيب. فسرّوا من هذا الخبر سرورا عظيما، وأخذوا يسافرون إلى أوطانهم زمرة بعد زمرة حتى لم يبق منهم واحد. وكان أكثرهم مقيما في محلة الجميلية، ففرغت منهم المنازل التي كانوا يسكنونها وهبطت أجورها، وبقي الكثير منها فارغا مدة طويلة.
صدور الأمر بإطلاق السجناء:
وفيها ورد الأمر بصدور العفو عن السجناء المحكومين بجرائم سياسية. وفي ثاني يوم من ورد هذا الأمر اجتمع تجاه دار السجن جماعة من كبار الموظفين الملكيين والعسكريين، وأخرج من السجن نحو عشرين شخصا محكومين بجرائم سياسية وأكثرهم من الأرمن، فألقيت عليهم الخطب الحبيّة، وخوطبوا بالإخاء وبنوة الوطن، والتوجع والأسف على ما كان من حبسهم واضطهادهم ظلما وعدوانا في أيام الاستبداد الحميدي. ثم عانقهم أكثر الحاضرين وودعوهم وانصرفوا إلى أوطانهم وكان ذلك الموقف مؤثرا لم تملك العيون فيه دموعها. وفي هذا اليوم جرى مثل ذلك في جميع سجون الولاية من الألوية والأقضية.
إبطال التجسس:
وفي هذه الأيام أبطلت الجاسوسية المعروفة باسم: خفية. وفيها- في 24 تموز- ورد بلسان البرق أن كامل باشا الصدر الأسبق قد تبوأ مسند الصدارة بدل سعيد باشا.
صدور الترخيص بالسفر:
وفي هذا التاريخ ورد من نظارة الداخلية بلسان البرق صدور الإذن العام لكل عثماني أراد السفر من بلده إلى بلدة أخرى من البلاد العثمانية أو غيرها من البلاد الأجنبية. فسرّ الناس من هذا الإذن سرورا زائدا، خصوصا طائفة الأرمن وبقية الطوائف المسيحية، وذلك أن من كان يريد السفر من بلده في أيام الاستبداد الحميدي فرارا من الظلم والجور يتكبد عرق القربة بالحصول على تذكرة المرور. هذا إذا كان سفره لغير أميركا، أما إذا(3/367)
كان سفره إليها فإنه يكاد يستحيل عليه أن يسافر إليها إلا هربا، خصوصا إذا كان من جماعة الأرمن، حتى إنه كان يوجد في كثير من ثغور البحر الأبيض- كبيروت وحيفا وصيدا- شركات لتهريب المسافرين إلى البلاد الأميركية، فكانت الشركة تأخذ ممن يريد السفر إلى تلك الجهات ليرتين إلى عشر ليرات، وتهرّبه بواسطة زورق تحمله فيه من فرضة عسرة المسلك أو بعيدة عن العمران. وكثيرا ما كان ولاة بيروت ورجال الدرك فيها يأخذون من تلك الشركات شيئا معلوما على كل مسافر فيجتمع لهم من ذلك مقدار عظيم من المال.
وفي أوائل رجب منها قرر أمراء العسكرية وضباطها- ومن انضم إليهم من موظفي الحكومة والأعيان في حلب- بأن يحتفلوا بزينة وإحياء ليلة لسماع الموسيقى وآلات الطرب وإلقاء الخطب التي موضوعها التنويه بالحمد والشكر على المناداة بالقانون الأساسي، وعود مجلس المبعوثان، وانتشار راية الحرية والعدل والمساواة بين جميع العناصر العثمانية، على أن يكون إحياء تلك الليلة في بستان الشاهبندر ليلة الاثنين 6 رجب الموافق 22 تموز الرومي. وفي مساء يوم الأحد أقبل الناس إلى البستان المذكور، ولما انتظم عقد المدعوين قام الخطباء يتلو بعضهم بعضا يلقون الخطب باللغتين التركية والعربية، مآلها ما ذكرناه، وهي أول خطب ألقيت في حلب بعد قرون طويلة لم ينقل إلينا التاريخ في أثنائها أن أحدا ألقى في حلب خطبة سياسية على رؤوس الأشهاد، فيها بيان خطأ سلطان أو خليفة أو أمير، حتى زالت هذه الملكة من علماء حلب وكتّابها، وصار يعسر على النابغة منهم إيراد خطبة ولو على المنبر خصوصا في أيام السلطان عبد الحميد. ولذا كانت تلك الليلة مما دهش له الناس حينما سمعوا الخطباء تنطق ألسنتهم في مدح العدل والحرية والمساواة والتنديد بالظلمة والمستبدين. غير أن بعض من لا خلاق لهم من العامة أصبحوا بعد تلك الليلة يتظاهرون بالفسق والفجور وعدم المبالاة بالحكومة، لفهمهم بأن الحرية التي نودي بها هي عبارة عن الرخصة لكل إنسان أن يعمل كل ما يريده دون قيد أدبي أو ديني.
وبعد هذه الليلة بدأ الحزب المتقهقر قبل إعلان الحرية يطلقون ألسنتهم علنا بذكر مظالم السلطان عبد الحميد وتنفير القلوب منه، وذكر مساوىء حاشيته وأعوانه وجواسيسه ويصرّحون بشتمهم ولعنهم. فارتاع لذلك أهل الصيّال قبل الإعلان المذكور في حلب وغيرها، وظهر على عظمائهم وعتاتهم الذل والانكسار، فانزووا عن الناس ولزموا بيوتهم.(3/368)
ثم بعد أيام قليلة تألّف في المكتب الإعدادي الملكي جمعية عظيمة قوامها الضباط وبعض المأمورين وجمهور من أهل البلدة، فاختاروا من الحاضرين جماعة سموّهم جمعية الاتحاد والترقي العثماني، وألقي في ذلك الاحتفال الخطب التي مآلها مدح الحرية والمساواة وبيان مظالم بعض الأسر الحلبية وكثرة جورهم وتعديهم. وقد جعلت هذه الجمعية فرعا لجمعية الاتحاد والترقي العثماني في سلانيك المنعقدة تحت رياسة أنور بك ونيازي بك بطلي هذا الانقلاب. وقد تحالفت هذه الجمعية بجميع فروعها على التفاني والتهالك في سبيل المحافظة على تنفيذ أحكام القانون الأساسي والضرب على يد كل من خالفها وحاول المروق عنها.
وجعل لهذه الجمعية فروع في جميع ألوية الولاية وأقضيتها أسوة بأمثالها من الولايات العثمانية، وعمل لها زينة في كل لواء وقضاء، وعين لها مكان للاجتماع يسمى (كلوب) .
وأول شيء قامت به هذه الجمعيات هو السيطرة على المأمورين وتدقيق أحوالهم فكانت الجمعية متى سمعت بموظف يميل إلى الرشوة والمحاباة ترسل إليه من يتهدده ويتوعده فلا يلبث غير قليل حتى يستقيل من وظيفته. وبهذه الواسطة استقال نحو نصف الموظفين الذين كانوا متخذين الوظيفة وسيلة لجمع المال، غير مبالين- في سبيل الوصول إلى رغائبهم- من تضييع الحقوق وتخريب البيوت وتخليد الأبرياء في السجون. على أن كثيرا من ذوي الأغراض والمقاصد السيئة صاروا ينسبون أنفسهم إلى هذه الجمعية الحرة ويتسلطون على الحكّام والموظفين البريئين من دنس الجرائم. ولهذا بدأ الناس ينقمون على الجمعية بعض أعمالها وينددون بانحرافها عن جادة العدل التي لم تنعقد الجمعية إلا لأجل السلوك عليها.
وقد جرى نظير ذلك في الآستانة وأكثر البلاد العثمانية، حتى فطن مركز الجمعية الكبرى في سلانيك بأعمال هؤلاء المتطفلين عليها، فصارت ترسل إنذاراتها إلى الولاة وتحذرهم من مجاراة أولئك المتطفلين، وتظهر تبرّؤها منهم ومن أعمالهم. غير أن الولاة كانوا لا يقدرون على منعهم والتعرض إليهم فوقعوا تحت نير تسلطهم وصاروا مغلوبين على أمرهم مغلولة أيديهم عن مباشرة إصلاح أحوال ولاياتهم وتنظيم أمورها، فأصبحت الحالة بسبب ذلك شبيهة بالفوضى، وكثر التجاهر بالمعاصي والفجور، ونهض أهل الدعارة واللصوص في المدن والقرى يتصدّون لقطع الطرق وسلب أموال الناس، وقام القرويون يطردون من قراهم أصحابها وينتهبون مدخرات حبوبهم وأصبح الناس في أمر مريج.(3/369)
وفيها- في أواخر فصل الربيع- قدم على حلب والجهات الشرقية من ولايتها جراد كثير أتى على ما في البساتين من الخضر والبقول، وأكل ما في القرى من الزروع الصيفية كالبطيخ والقطن والسمسم، ثم غرز في الجهات المذكورة، فخاف الناس ضرره في العام التالي وضنّ أهل الثراء من المزارعين والمحتكرين بما عندهم من الحبوب فحبسوها عن البيع، فارتفعت أسعارها ارتفاعا فاحشا، وبيع شنبل الحنطة بمائة وعشرة قروش بدل ثمانين قرشا.
وكان شمندوفر «1» حلب وحماة ينقل من حلب كل يوم إلى ثغر بيروت نحو خمسمائة شنبل، فقام فقراء الناس وغوغاؤهم واجتمعوا، وأقبلوا جماهير على دار الحكومة يطلبون منها منع تسفير الحبوب بالشمندوفر. فلم تلتفت الحكومة إلى طلبهم مستندة على قاعدة (التجارة حرة) وحينئذ اجتمع من عامة الناس جمهور عظيم.
وفي ضحوة يوم الخميس 24 رجب والسابع من آب هاجوا وماجوا وتراكضوا في الأسواق والشوارع، ينهبون ما يجدونه في الدكاكين والخانات من الأموال والأقوات ويصيحون ويضجون، فأجفل الناس من أمامهم وأسرعوا لقفل حوانيتهم، ووقع الفزع في قلوبهم فتراكضوا إلى منازلهم. ونمي الخبر إلى الوالي ناظم باشا والقائد العسكري باكير باشا فأسرعا الكرّة نحو باب الجنان لردع هؤلاء الغوغاء وصدّهم عن خانات الحبوب الموجودة هناك، وصحبا معهما عددا كافيا من العساكر فلم يبال الدّعّار بذلك ظنا منهم أن الحرية تبيح لهم هذا العمل، فظلوا منهمكين بنهب الحبوب والتطاول على الناس. وحينئذ أمر القائد بعض الجنود بإطلاق الرصاص عليهم تهديدا وتخويفا، فأطلقوا عياراتهم فخافت تلك العصابة من هجوم العساكر عليهم فوقفت عن حركتها، ثم هرب بعضها وألقي القبض على آخرين وزجّوا في السجن. ثم تتبعت الحكومة المنهزمين وقبضت عليهم وزجّتهم في السجون، وبعد الفحص والتحقيق عنهم أطلقت البريء منهم ونفت المتعدّي إلى البستان وغيرها. حتى إذا كانت أوائل شوال هذه السنة أطلقت سراحهم من المنفى.
على أن الحكومة بعد انقضاء هذه الحادثة رأت طلب الناس منع إخراج الحبوب إلى خارج الولاية صوابا، فأصدرت أمرها إلى البلدية بمنع تسفير الحبوب بالسكة الحديد، وأقامت الخفراء لمنع التسفير على محطة حلب والوضيحي، وبو الظهور، وأمّ ارجيم(3/370)
والحمدانية. فانقطع تسفير الحبوب ووقفت أسعارها عن التصاعد. وكان هذا المنع صوابا لأن الجراد الذي كان غارسا في جهات الولاية لم يأت عليه شهر نيسان حتى نقف وأخذ يزحف على الزروع، فأكل جميع حقول الشعير، ونحو ثلاثة أرباع حقول الحنطة والقطاني، فارتفعت الأسعار ارتفاعا فاحشا وبيع شنبل الحنطة بمائة وخمسين إلى مائة وثمانين بدل مائة وعشرين قرشا. هذا مع منع تسفير الحبوب ومجيء الحبوب والدقيق من حماة ودمشق كل يوم. ولولا ذلك لعدمت الأقوات وأكل الناس بعضهم، وقد تبعت أسعار الأقوات بعضها فارتفع سعر الزيت من 15 إلى 30 وسعر السمن من 35 إلى 70.
خطبة عامة في الجامع الكبير:
وفي أواخر شعبان هذه السنة قدم من استانبول على حلب رجل من أذكياء علماء كركوك يقال له الشيخ عناية الله أفندي، وكانت جهة مقصده الموصل وهو عضو سيّار في جمعية الاتحاد والترقي العثماني. وفي يوم قدومه إلى حلب قصد منزل الوالي ناظم باشا واستدعى بواسطته طائفة من علماء حلب فأطلعهم على منشور عضويته، وكلفهم أن يسعوا بحشد الناس وجمعهم في مكان فسيح ليلقي عليهم خطبة أمرته الجمعية بإلقائها في جميع البلدان التي يتجول بها. فقر الرأي على حشد الناس في الغد في الجامع الكبير. وفي صبيحة الغد خرج أشخاص ينادون في الأسواق بما معناه: (معاشر الناس من كل ملة ودولة، سيلقى بعد الظهر في الجامع الكبير خطبة فاحضروا لسماعها) .
وبعد ظهر ذلك اليوم أقبل الناس إلى الجامع الكبير مسلمين ومسيحيين وإسرائليين وإفرنج حتى غصت بهم رحبة الجامع، وكان الشيخ عناية الله واقفا على الدكّة الحجرية في وسط رحبة الجامع، ومعه الوالي وجماعة من أهل العلم. فاعتلى كرسي الخطابة وافتتح خطبته بصوت جهوري وما زال يتلوها مرتلة حتى أتى على آخرها، وقد استغرفت تلاوتها نحو نصف ساعة، وخلاصتها: حمد الله تعالى وشكره على نعمة الحرية والمساواة والعدالة والاتحاد، ومدح هذه الخلال وبيان فضائلها والحثّ على التزامها وعدم الحياد عنها، وأن تكون الأمة العثمانية على تمام الوفاق والتحابب مع بعضها مهما اختلفت مذاهبها ومشاربها، وأن هذه الأمور هي أقصى غايات جمعية الاتحاد والترقي العثماني التي سعت بقلب الحكومة العثمانية من الحكومة المطلقة إلى الحكومة المقيدة المعروفة بالمشروطية، وأن المشورة من(3/371)
المسائل التي أمرت بها الشرعية «1» المحمدية بلسان القرآن العظيم، وأن مجلس المبعوثان هو عبارة عن مجلس الشورى وأن الواجب على الأمة ألّا تنتخب لهذا المجلس إلا من عرف بالعلم والاستعداد والصلاح والتقوى إلخ ما قال.
افتتاح نادي جمعية الاتحاد:
وفي أواخر شعبان أيضا فتح في فندق خان قورت بك مكان سمي منتدى جمعية الاتحاد والترقي العثماني ويعرف عند الأتراك باسم (كلوب) ، يجتمع فيه أعضاء الجمعية المذكورة للمذاكرة والمفاوضة. وقد أقبل الناس عليه يسجلون أسماءهم بدفتر الجمعية، وبعد أن يحلفوا للجمعية يمين الإخلاص تعتبرهم من حزبها. وفي يوم افتتاح هذا المنتدى حضر الوالي والقائد العسكري وجمهور من العلماء والأعيان ولفيف من كهنة الطوائف المسيحية وتليت فيه الخطب باللغة التركية والعربية، وكلها ترمي إلى غرض واحد وهو مدح المشروطية والحرية والاتحاد والعدل والمساواة.
انتهاء مرمّات الجامع الكبير:
وفي رمضان من هذه السنة انتهت مرمّات الجامع الكبير التي كان الشروع فيها منذ سنة، وهي تجصيص أكثر جدران الجامع داخلا وخارجا وترميم الرواق الشرقي من جهة الحجازية، وتوسيع باب الحجازية المذكورة وتوسيع شبّاكها وفرشها بالرخام، وتجديد رخام الرواق الشرقي والرواق القبلي، وتوسيع باب قبلية الأحناف من جهة الغرب وتوسيع باب القوافين وغير ذلك، ورفع طرابزون كان يتوسط القبليتين ويقطعهما شطرين طولا من الشرق إلى الغرب، ونقل سدّة قبلية الأحناف إلى محلها الحالي، وفرش هذه القبلية بالسجاد الجديد وتنويرها بمصابيح لوكس وغير ذلك.
وقد بلغت النفقات على هذه الإصلاحات زهاء ثلاثمائة ألف قرش هي بدل أحكار معجّلة عن أراض ظهرت جديدا في جهات التلل قرب محلة العزيزية وكانت قبلا غير معروفة أنها من جملة أوقاف الجامع. وكان العمدة في هذا الترميم مفتي حلب الشيخ محمد العبيسي(3/372)
الحموي. وللوالي ناظم باشا في هذا الترميم واستحصال الأرض سعي يستحق أن يذكر فيشكر.
وفي هذا الشهر أيضا ورد على حلب وفد من جمعية الاتحاد والترقي العثماني، فاحتفلت الحكومة باستقبالهم وأنزلتهم في فندق دوبارك في بستان الشاهبندر، على نفقة البلدية التي عملت لهم ضيافة حافلة حضرها الوالي والقائد العسكري وغيرهما من كبار الموظفين، وتليت الخطب وعزفت الموسيقى العسكرية، وكانت ليلة حافلة.
إبراهيم باشا ابن معمو التمّو:
وفي هذا الشهر أيضا مات إبراهيم باشا ابن معمو التمّو الكردي، في الموضع المعروف بتل شرّابة، بين قضاء نصيبين ولواء الزور، وهو من عشيرة كردية يقال لها عشيرة الملية تبلغ زهاء أربعمائة بيت، تقيم تحت خيام الشعر في جهات «ويران شهر» من أعمال قضاء رأس العين التابعة لواء الزور. والرجل المذكور شيخها ورئيسها، وكان والده توفي في حلب في حدود سنة 1295 ودفن في زاوية الشيخ جاكير خارج باب النيرب فخلفه ابنه هذا في المشيخة على عشيرته، وكان يعرف إذ ذاك بإبراهيم آغا. وبعد أن صار شيخ العشيرة المذكورة اقتفى أثر آبائه وأجداده في شن الغارة على العشائر الكردية والعربية وأسرف بالنهب والسلب، خصوصا في عشيرة قره كج فإنه لم يبق لها سبدا ولا لبدا «1» .
ولما كثر تشكي هذه العشائر منه أمسكته حكومة ولاية ديار بكر ونفته إلى سوارك، فبقي فيها إلى حدود سنة 1297 وفيها استغاث بوالي حلب جميل باشا وقدم له تقدمة جزيلة، فسعى باستقدامه إلى حلب فحضر إليها ومعه الخيول المطهّمة «2» العربية هدية خص بها الوالي المشار إليه، فشفع به عند السلطان عبد الحميد وصدر العفو عنه وعاد إلى وطنه «ويران شهر» . ولما تألفت الكتائب الحميدية من سكان البوادي مضاهاة لكتائب القوزاق في دولة روسية، جعل إبراهيم آغا مقدّم مائة ثم مقدّم ألف ثم أمير لواء، ومن ذلك الوقت صار يدعى إبراهيم باشا. وقد كثرت أتباعه وشيعته واستقدم إلى الآستانة لعرض كتيبته فشخص إليها مع عدد وافر من عشيرته الجند «الحميدي» البالغ حد النهاية بحسن البزّة(3/373)
والرونق. وقدّم إلى السلطان عبد الحميد من الخيول العربية والسّمن العربي ما جعله يعتقد أنه من خواصّ محبّيه ومواليه. واتصل بوالدة السلطان وقدّم لها مبالغ طائلة فسرّت منه أيضا ودعته بقولها: أنت ابني. وأحسن إليه السلطان بالأوسمة العظيمة وأمر بأن يبلّغ سلامه.
ثم عاد إبراهيم إلى وطنه فازدادت سطوته وعظمت نكايته وصارت أتباعه تشنّ الغارة على العشائر المجاورة له، والقرى التي هي من أعمال أورفه وولاية ديار بكر. حتى خرب الكثير منها بسبب جلاء أهله عنه وضرب على القفول والكروان «1» التي تمر من تلك النواحي ضريبة من المال تدفع إليه وإلا سلّط أتباعه عليها وانتهبوها. فضج أهل تلك الجهات من جوره وواصلوا الشكايات عليه لحكوماتهم مدة طويلة فلم يجدهم ذلك نفعا، لأن الولاة كانوا لا يجسرون على الإيقاع به لعلمهم بالتفات السلطان إليه. ولشدة اشتهار أتباعه ومواليه بالنهب والسلب صار كثير من الدعّار والشطّار الأجانب عنه يقطعون الطرقات ويتسمّون بأسماء أتباعه وأعوانه. فعظم ضرر الناس من ذلك وأخذوا يوالون التشكي عليه إلى الدوائر الكبرى في الآستانة: كالباب العالي، ونظارة الداخلية والكتابة الأولى في «المابين» «2» . وشخص جماعة من بلاد الرها إلى الآستانة للتشكي عليه وبذلوا في إزالة ضرره النفيس والغالي، فلم يحصلوا على طائل ورجعوا بالخيبة لأن تلك الدوائر كانت تعلم أيضا أن إبراهيم ملحوظ السلطان وأحد منابع استفادته.
ثم شرع الناس يتشكون منه لذات السلطان على لسان البرق مخاطبين إياه بلهجة عنيفة غير مبالين بما كان عليه من الشدة والجبروت، وتجهز منهم جماعة من أهل الثراء وسافروا إلى الآستانة بقصد التظلم من أعمال هذا الرجل وصرفوا على نوال غايتهم المبالغ الوفيرة والأعوام العديدة فأخفق سعيهم وعادوا خائبين. وكان هذا الرجل لا يفتر شهرا واحدا عن تقديم الهدايا إلى السلطان ووالدته وكبار جواسيسه ومطبخه وإصطبله، يقدّم إلى السلطان ووالدته وبعض جواسيسه النقود الكثيرة، وإلى المطبخ صناديق السمن، وإلى الإصطبل الخيول الأصائل. وبهذه الواسطة كان السلطان لا يسمع فيه وشاية ولا يصغي(3/374)
لشكوى أحد منه. ثم لما تمادى الرجل على بغيه وعدوانه هاج الناس وماجوا في ولاية ديار بكر وحلب وأخذوا يوالون فيه الرسائل البرقية المشتملة على أشد العبارات التي يخاطب بمثلها ذلك السلطان العظيم. وقد ساعدهم والي حلب ووالي ديار بكر وأيّدا شكاويهم وجعلاها مصبوغة بصبغة سياسية.
وحينئذ خشي السلطان عاقبة الإغضاء عنه إلى ذلك الحد فأصدر إرادته بتأليف لجنة من عدة أشخاص للفحص عن أحوال هذا الرجل على أن يكون محل اجتماع هذه اللجنة في مدينة ديار بكر وأن يكون ثلاثة أشخاص من هذه اللجنة من مدينة حلب وشخص من مدينة حماة وآخر من أورفة وبقية أعضاء اللجنة من ديار بكر ورئيسها واليها. فاختار مجلس إدارة حلب أن يعيّن لهذه اللجنة من ديار بكر، ورئيسها واليها. فاختار مجلس إدارة حلب أن يعيّن لهذه اللجنة مرعي باشا الملاح والشيخ حسين أفندي الأروفه وي وأحمد أفندي ميسّر. وبعد أن أخذوا نفقات طريقهم وفرض لكل واحد منهم يومية كافية، سافروا إلى ديار بكر واجتمعوا مع باقي إخوانهم وشرعوا يفحصون أحوال هذا الرجل فحصا مدققا، فظهر لهم صدق شكاوي الناس عليه وأنها غير مبالغ فيها، إلا أنهم رأوا أن تمام التحقيق عنها متوقف على استجوابه عما نسب إليه لعله يدلي به عذرا، فأرسلوا بطلبه فلم يحضر وأرسل يعتذر بأنه منحرف الصحة، فلم يجسروا على إحضاره قسرا لعدم الرخصة لهم بذلك. ولما لم يروا فائدة من مثابرتهم على التحقيق عن أحواله حلّوا عقدة اجتماعهم وعاد الغرباء منهم إلى أوطانهم بعد أن غابوا عنها زهاء ستة أشهر.
ثم في شعبان هذه السنة أصدر السلطان إرادته بإشخاص إبراهيم باشا المذكور إلى الحجاز لينضم إلى الجنود السلطانية المخيّمة هناك ويعاونهم على ردع قبيلة عوف وهوازن وغيرهما من القبائل العربية التي قامت تعارض الدولة في مدّ السكة الحديدية من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة. فامتثل إبراهيم الأمر ونهض من محلّه «ويران شهر» وقصد الحجاز من طريق حلب فوصل إليها في بضعة أيام، ونزل هو وعساكره الحميدية في الميدان الأخضر تحت خيام قدمت لهم مع الأطعمة والعلف من قبل الثكنة العسكرية. وقد استقبله الوالي والقائد العسكري واحتفلت الحكومة بنزوله احتفالا باهرا. وبعد أن بقي في حلب بضعة أيام بارحها إلى جهة دمشق على قطار السكة الحديدية، وما كاد يستقر في دمشق قراره إلا وحدث الانقلاب ونودي بالدستور، فارتاع إبراهيم باشا من ذلك وخاف أن يلقى القبض(3/375)
عليه لما يعلمه من نفسه بأنه أول من يستحق العقوبة والتنكيل على سابق أعماله، فأظهر للمشير في دمشق أنه يريد الرجوع إلى حلب ليحضر بقية جنوده. وقبل أن يأذن له المشير بالرجوع إلى حلب نهض من دمشق في الليل وكرّ راجعا إلى وطنه من طريق حلب إلا أنه لم يدخلها بل توجه إلى جهة «ويران شهر» من خارج حلب.
وحينما تحققت الحكومة هربه أرسلت في طلبه الجنود من حلب يقتفون أثره فلم يدركوه إلا في جهات ماردين معتصما في جبل هناك، فشددوا عليه الحصار مدة شهر، ولما علم بأن لا مناص له من سطوة الجنود ركب جواده وقصد أن يسلم نفسه طائعا مختارا. وكان التعب والسهر قد أنهكا جسمه واستولى عليه الهم والغم، وبينما هو راكب جواده إذ وقف ونزل إلى الأرض وفي برهة دقائق فاضت نفسه. والمروي عن هذا الرجل أنه كان يوجد عنده نحو مليونين من الليرات وأنه عمل نفقا خفيا في الأرض وكنزها فيه، وأن المعمار الذي عمل له هذا النفق قتله حالما فرغ من عمله كيلا يخبر عنه. وقيل إن هذا النفق لا يدري مكانه سوى ولده الكبير والله أعلم. وعلى كل حال فإن إبراهيم باشا كان على جانب عظيم من السخاء والدهاء والشجاعة، يتكلم باللغة الكردية التي هي لغة آبائه وأجداده وعشيرته، وباللغة العربية التي هي لغة أمه وزوجته، وباللغة التركية التي هي لغة الدولة.
ويذكر أنه أنشأ في سواريك مكانا شبه تكية يطعم فيها الفقراء والمسافرون رحمه الله.
الشروع بانتخاب النواب المعروفين بالمبعوثان:
وفيها في رمضان وردت المضابط من مراكز أقضية الولاية تفيد بأن عدد ذكور الولاية الذين أعمارهم فوق الخامسة والعشرين 284102 نسمة، فاتضح من ذلك أن عدد المبعوثين الذي يجب انتخابهم من ولاية حلب ستة أشخاص لكل خمسين ألف ذكر تقريبا شخص.
تنازل السلطان عن أملاكه ومزارعه:
في هذا الشهر تنازل السلطان عبد الحميد خان إلى بيت المال عن دخل جميع المسقّفات المعروفة باسم الأملاك السنية، والقرى والمزارع المعروفة باسم الجفاتلك الهمايونية في سائر البلاد العثمانية. وكان دخلها يقدر بربع دخل جميع المملكة العثمانية، وكان السلطان يستأثر(3/376)
به وحده علاوة على رزقه من بيت المال الذي كان لا يقل عن تسعين ألف ذهب عثماني في الشهر.
ما هي الأملاك السنية والجفاتلك الهمايونية؟
لما استولت الدولة العثمانية على هذه البلاد كان العمار غالبا على برّها، والزراعة سائدة في أكثر أنحائها، ثم لم تلبث غير قليل بسبب سوء إدارة حكامها إلا وأخذ العمار ينزح عنها ويحل محله الخراب حتى كاد يعم جهتي الجنوب والشرق من ولاية حلب. وكانت جهة الجزيرة في منتهى درجات العمار بحيث كانت ولاية عظيمة عاصمتها الرقة، ولما دخلت تحت استيلاء الدولة العثمانية اعتبرتها أيضا ولاية واستمرت ترسل إليها واليا يحكمها على انفرادها، إلى أن أخذ عمرانها بالانحطاط صارت تعهد بالولاية عليها إلى والي حلب وتسمّيه والي حلب والرقة. وما زال الخراب يشن عليها غاراته حتى ألقى فيها جرانه «1» وخلت من السكان الحضر، ولم يبق من أرضها معمورا سوى واحد في المئة وخلت مدينة الرقة من الحكومة وأصبحت عاصمة الرشيد قرية يسكن أهلها تحت مضارب الشعر مستمرة على هذه الحالة نحوا من قرن ونصف.
ولما جلس السلطان عبد المجيد خان على العرش العثماني ألفت نظره إلى جميع ما في المملكة العثمانية من القفار الواسعة والمفاوز الشاسعة، خصوصا ما كان من ذلك في الشام والجزيرة والعراق، فاعتبر السلطان هذه البراري، مواتا وعزم على إحيائها لتكون ملكا له بحكم:
«من أحيا مواتا فهي له» «2» . فعمل لأجل هذه الغاية ديوانا خاصا جعل وظيفته السعي والاهتمام بإحياء هذه الأراضي، وأمده بشيء من ماله لينفقه في هذا السبيل ودعا هذا الديوان (جفتلك همايون إداره سى) إدارة المزارع السلطانية، وفوضه أن يشتري له مسقّفات وأملاكا في البلاد العثمانية. فباشر هذا الديوان وظيفته واشترى له عدة أملاك وعقارات في حلب وغيرها كالخانات والحمامات والبساتين. ومن جهة أخرى بذل الديوان اهتمامه بإحياء الأراضي واستعان على إعمارها بالولاة والأمراء العسكريين، وبعد العناء الطويل(3/377)
تمكن الديوان من تحضير بعض العشائر البدوية وإسكانها في قرى حقيرة بنيت لهم في تلك البراري. ومن ذلك اليوم عادت روح العمار تدبّ رويدا رويدا في جهتي الشرق والجنوب من ولاية حلب، وجهة الجزيرة التي عاصمتها الرقة.
ولما جلس السلطان عبد الحميد خان على كرسي المملكة العثمانية سنة (1293) اهتم بهذه المسألة اهتماما عظيما وأسس لها في استانبول ديوانا خاصا سماه (خزينه خاصه نظاره سى) نظارة الخزينة الخاصة. وجعل له فرعا في كل بلدة يوجد في برّها أراض موات، سماه إدارة الجفتلك الهمايوني. فاجتهدت هذه الإدارة بإعمار القرى على أطلالها القديمة وأسكنتها جماعة من العربان وقدّمت لهم ما يحتاجونه من الدواب والمؤنات وآلات الحراثة، وسامحتهم من الجندية وسائر الضرائب الأميرية سوى رسوم عدّ الغنم التي توجد في هذه القرى أو التي تمر منها، وسوى الأعشار وكومة الطابو، فإن الإدارة جرت في أخذها من الزراع على قاعدة سمّتها التخمين، وهي أن يقدر أهل الخبرة البيدر- قبل أن يدرس- بقدر معلوم من الحب ويكتب على صاحبه سبعة عشر في المئة من مجموع الحبّ المقدر، عشرة من هذه السبعة عشر هي العشر الشرعي، والباقي- وهو سبعة أجزاء- أجرة الأرض وتسمى كومة الطابو، وبعد أن تتم دراسة البيدر ويتمحض الحب يحمل صاحبه القدر المفروض عليه إلى المستودع المعين لناحيته ويسلّمه إلى حافظ المستودع ويأخذ به وصلا. وكانت إدارة الجفتلك هذه تأخذ العشر الشرعي أيضا لنفسها مع أن العشر حق بيت المال كما لا يخفى.
وقد نجحت هذه الفروع في أعمالها، وجد في ولاية حلب قرى كثيرة يربو عددها على الخمسمائة، وكثر عدد سكان الرقة واستعمل عليها حاكم صغير باسم مدير، ثم زاد العمار في جهاتها وأنشأ فيها السلطان جامعا وجعلت مركز قضاء وتعين لها قائمقام. وهكذا كان العمل في منبج. وقد بلغ دخل السلطان من هذه القرى التي هي في شرقي الولاية وجنوبها سبعين ألف ذهب عثماني في السنة المتوسطة بين الخصب والجدب، وذلك عدا رسوم الأغنام التي كان يستأثر بها السلطان أيضا. ولما خلع هذا السلطان وضعت الحكومة يدها على سائر الأملاك والمزارع المذكورة وسمتها الأملاك المدورة ثم الأملاك الأميرية وصارت تجبي غلاتها على قاعدة التخمين السالفة الذكر إلى جهة خزانة الحكومة، وألغيت النظارة الخاصة في استانبول وفروعها في خارجها وأنيط النظر في الأملاك المذكورة بدواوين مالية الدولة(3/378)
التي تعرف باسم المحاسبة وسميت هذه الأملاك بالأملاك الأميرية.
وفي هذه السنة ورد من نظارة المعارف رخصة بإصدار عدة صحف إخبارية مثل جريدة الشهباء وصدى الشهباء والشعب والتقدّم وغيرها، فصدرت أكثر هذه الجرائد وأقبل الناس عليها ولا إقبال الجياع على القصاع، لأنهم في عهد الاستبداد الحميدي كانوا لا يطّلعون على جريدة مصرية أو بيروتية إلا بشق الأنفس. وفي هذه السنة أعلن البلغاريون استقلالهم بالروملّي. وفيها انتهت أعمال سكة حديد الحجاز وبدأ القطار يسير من دمشق إلى المدينة المنورة.(3/379)
سنة 1327 هـ
فيها ولي حلب رشيد بك وكان من دهاة الرجال.
وفي صفرها فتح في جادة باب الفرج تجاه التكية المولوية مكان جديد تأسست فيه جمعية جديدة سميت جمعية الإخاء العربي. وكان الاحتفال بهذا المنتدى بالغا حد النهاية بالرونق والبهاء. وقد أقبل الناس على الاكتتاب به أفواجا، ثم لم يلبث غير قليل حتى اختل أمره وانحلّت رابطته. وكان الغرض منه ظاهرا التعاضد على تأييد أحكام القانون الأساسي والمطالبة بحقوق الأمة العربية فيما يتعلق بخدم الدولة، وباطنا الضرب على يد جمعية الاتحاد والترقي والوقوف لها بالمرصاد وقيام العرب على جمعية الاتحاد والترقي انتصارا للسلطان عبد الحميد وهو الذي ندب إليه سرا.
وفي هذه السنة وصل إلى حلب أول مرة عجلات الأتومبيل المعروفة بالسيارات أحضرها من أوربا أحد التجار الحلبيين المسيحيين المعروف باسم الخواجا يوسف أندريا ليشغلها بين حلب واسكندرونة فلم تنجح.
خلع السلطان عبد الحميد
في اليوم السابع من شهر ربيع الأول من هذه السنة- وفي 19 نيسان سنة 1325 رومية- خلع السلطان عبد الحميد خان الثاني العثماني، وخلفه على عرش الملك السلطان محمد رشاد الخامس، وأعلن في حلب خلعه وجلوس أخيه مكانه بإطلاق مئة مدفع ومدفع من قشلاق «1» حلب وقلعتها. وفي الليل قامت في البلدة مظاهر الزينة وأطلق فيها من العيارات النارية ما يعد بعشرات الألوف. كان خلع هذا السلطان مبنيا على أسباب يعلمها القارئ من الفتوى التي أصدرها شيخ الإسلام بوجوب خلعه ونصها بعد الترجمة:(3/380)
إذا كان زيد إمام المسلمين طوى وأخرج من الكتب الشرعية بعض المسائل المهمة الدينية، ومنع الكتب المذكورة وخرق حرمتها وأحرقها، وتصرّف في بيت المال بالتبذير والإسراف بغير مسوّغ شرعي، وقتل وحبس وغرّب الرعية بلا سبب شرعي واعتاد جميع المظالم، ثم حلف اليمين على الرجوع إلى الصلاح وعاهد على ذلك، ثم حنث بيمينه وأصرّ على إثارة فتنة عظيمة وإيقاع قتال يجعل به أمور المسلمين مختلّة اختلالا كليا، ثم وردت الأخبار متوالية من جهات متعددة من بلاد المسلمين يقولون بها إن زيدا المزبور «1» تغلب على منصة المسلمين وإنهم لذلك يعتبرونه مخلوعا، ثم لوحظ أن في إبقائه ضررا محققا وفي إزالته صلاحا؛ فهل يجب على أرباب الحل والعقد تكليفه أن يتنازل عن الإمامة والسلطنة أو يخلع منهما، وهل لهم ترجيح إحدى الصورتين؟
الجواب: نعم.
كتبه الفقير السيد محمد ضياء الدين عفي عنه
ذكر شيء من سيرة هذا السلطان
خصصت هذا السلطان بذكر شيء من سيرته لغرابة أحواله ولأنه كان من أجلّ ملوك زمانه وأعظمهم دهاء وأعلاهم كعبا في فنون السياسة، ولأنه آخر سلطان عثماني يستحق أن يسطر له شيء من سيرته في صفحات التاريخ، ولأنه كان حصنا حصينا لدولة بني عثمان مدة سلطنته، فلما خلع أخذت صنوف البلاء تنصب على هذه الدولة يوما بعد يوم حتى تدهورت إلى الدرك الأسفل وكادت تمحى سطورها من صحائف الوجود.
كم سنة بقي سلطانا:
كان جلوسه على عرش الخلافة الإسلامية والسلطنة العثمانية مدة اثنتين وثلاثين سنة وسبعة أشهر وسبعة وعشرين يوما وست عشرة ساعة وخمسا وأربعين دقيقة.
قبض هذا السلطان على رقبة ذلك الملك العظيم بيد من حديد طول هذه المدة، ولم(3/381)
يضع منه سوى النزر اليسير الذي ربما كان هو المتساهل بحفظه ليكون فداء عن باقي دولته وليتمكن من التنكيل بأعدائه وإبادتهم.
إن بقاءه سلطانا وسلامة ملكه من أيدي الأغيار تلك المدة- مع فقر خزائن الدولة وخلّو مدخراتها من السلاح وبحارها من الأساطيل- لما يدهش له الإنسان ويأخذه منه العجب كل مأخذ. غير أنه إذا أمعن النظر بالأسلوب الذي كان يسير عليه في سياسة الأمة وإدارة الملك لا يلبث أن يزول عنه العجب ويقنع بأن ذلك الأسلوب حقيق أن ينتج عنه تلك النتيجة.
كيف كانت سيرته في رعيّته:
كانت الطبقة الدنيا والوسطى من الرعية على اختلاف عناصرها تخافه وتحبه:
تخافه لقوة بطشه وعظيم دهائه وتمكنه من الاطلاع على أحوال رعاياه، فإنه كان لا تخفى عليه خافية من أحوالهم وكل ذي شخصية بارزة في ممالكه معروف عنده واقف تمام الوقوف على ما هو عليه من المحاسن والمساوئ.
وتحبه رعاياه لأنه كان لا يحب أن يبهظهم بالضرائب، فكان الرخاء في أيامه شاملا والرعية راتعة في بحبوحة التنعم والرفاهية، وكان عظيم العناية بكل ما يرضي رعاياه لا سيما البسطاء منهم، غير متوان عن الإتيان بكل ما ينطبق على رغائبهم، خصوصا بما كان له علاقة بالدين كخدمة شعائره وإعمار المعابد، فقد عمر في أيامه ما يعسر على القلم إحصاؤه من المساجد والجوامع والمدارس الدينية والزوايا والتكايا وأضرحة الأولياء والصالحين. وكان من أجل آثاره وأكبر حسناته- وأقواها اجتذابا لقلوب المسلمين عامة وقلوب رعيته خاصة- سكة الحديد الحجازية فإنه هو وحده الساعي بإنشائها وبسعيه المشكور تم أمرها. وكان لا يقصر بإنقاذ المستغيثين به من مخالب الظلم ما لم يكن الظالم من مردته وأتباعه.
عدم سماحه عمن يمسّ شخصه وسلطانه، وكيف كان يعاقب المسيء إليه بالنفي وغيره من العقوبات:
وهو لا يؤاخذ أحدا على إطلاق لسانه بالظلمة والمستبدين من مستخدمي الحكومة(3/382)
أو متنفذي الرعية، فقد كان الإنسان في أيامه يطلق لسانه بما شاء وبمن شاء لا بأس عليه بذلك، إلا أن يتكلم بما يمس سلطانه فإنه لا يسامحه بأقل كلمة سوء تصدر منه في حقه فيعاجله بالنفي عن وطنه، لكن مع تعيين راتب شهري له يقوم بتمام كفايته حسب مقامه.
وهذه العقوبة جعلها مختصة بمن يتجرأ عليه بقول أو عمل يشتمّ منه رائحة المساس بشخصه أو سلطانه ولو من مسافة بعيدة. على أن العقوبة بالنفي على هذه الصفة كانت تعدّ من أهون العقوبات وأخفها عبئا على من يستحقها.
سألت الفريق عابد باشا- أحد كبار المنفيين إلى حلب- عن سبب نفيه فقال:
حدثت في استانبول هزة أرض لم ينجم عنها ضرر، فقلت لجماعة من أصحابي وأترابي:
«بظلّ ملجأ الخلافة لم يحصل من هذه الهزة خطر» . قلت ذلك بلسان تهكم وسخرية، أعني بهما المتملقين من اللائذين بقصر يلديز وكتبة الجرائد الذين يأتون بهذه العبارة في مقدمة كل مقال ينمقونه بالإخبار عن كل حادث، طبيعيا كان أم مفتعلا. مثلا يقولون:
بظلّ ملاذ الخلافة وقع في حلب مطر غزير، وبظلّ حامي حمى الخلافة بني في دمشق مكتب للإناث، وبظلّ السلطان الأعظم كانت هذه السنة ذات فيض وبركة. قال عابدين «1» باشا: فاتصلت كلمتي تلك بسمع السلطان بواسطة أحد جلسائي الذين قلتها بحضورهم، مع أنني لم أفه بها إلا وأنا معتقد أنهم جميعا من خواص أصحابي وأترابي ولم يخطر لي على بال قط أن بينهم متجسّسا لعبد الحميد.
وحكى لنا عزيز بك- وهو من كبار المنفيين أيضا- أن سبب نفيه «2» أنه كان أمّ السلطان مرادا بصلاة التراويح. وحكى لي عثمان بك أحد المبعدين إلى حلب- وهو ممن غلب عليه البله، وكان يعاني في استانبول مهنة الحلاقة- أن السلطان عبد الحميد نفاه لأنه كان يبري الأقلام للسلطان رشاد وكان عثمان بك حسن الخط.
هكذا كان السلطان عبد الحميد يعاقب بالنفي على أدنى كلمة وأقل حركة يرى بها مساسا لشخصه أو سلطنته ولو توهما وتظنيا.
أما عقوبته بالتغريق أو الاغتيال أو الحبس فقد جعلها نصيب من يتوهم منه صدور(3/383)
شيء له مغزى سياسي يقصد به خلعه أو اغتياله. مثلا أطلق مسدسه الذي يصحبه دائما على إحدى حظياته فأرداها في الحال، وذلك لأنها دخلت عليه دون استئذان منه، فأطلق عليها عياره قبل أن تفوه بكلمة متوهما أنها أتت لاغتياله، وكم مرة أمر بتغريق إنسان لمجرد ما أخبر به عنه جواسيسه من أنه أثنى على مدحت باشا ورحّم عليه «1» ، أو لمجرد ما بلغه عنه أنه مرّ من قدام قصر السجين السلطان مراد، أو قصر السجين الآخر محمد رشاد.
استخدامه الرجال في مآربه وكيفية سياسته معهم:
كان من جملة المؤيدات لبقائه على كرسي السلطنة- طيلة هذه المدة- استعماله سياسة التفريق، وذلك أنه حشد حوله أشخاصا لهم ظهور في أقوامهم من كل ملة تستظل بالراية العثمانية، اختار من كل إقليم منها رجلا فأدناهم من حضرته وطفق ينهال عليهم بالعطايا الجزيلة والمرتبات الشهرية والرتب السنية والأوسمة العلية، فملك أفئدتهم وأدهش عقولهم وكمّ أفواههم عن إظهار مساويه، وأطلق ألسنتهم بحمده وشكره وإذاعة محاسنه يملؤون بذلك صفحات المؤلفات وأعمدة صحف الأخبار. وكل واحد منهم يرى من قدس واجباته استمالة قلوب أهل إقليمه إلى محبة هذا السلطان والإخلاص بولائه، قد أرصد نفسه لأجل إقليمه وناحيته ونصبها لهم كالباب المفتوح يتوصلون بواسطته إلى السلطان لقضاء أوطارهم التي هي طلب المعاش أو الرتب أو الأوسمة أو الإنقاذ من الظلم أو إحقاق الحق أو إبطال الباطل أو عكس ذلك. ولا تسل عما كان يتسرب إلى هذا الباب من الأموال والتحف والطرف التي يعجز اليراع عن إحصائها.
وكان عبد الحميد سيّىء الظن حازما محترزا، يخشى من أن يجرّ البطر وسعة النعمة أولئك الرجال إلى الانقلاب عليه، وأن تدعوهم الضمائر الحرة إلى التبرم من جبروته، ويتفقوا على إظهار حقيقته أو على الأقل أن يخفوا عنه ما يجري حوله من مناوئيه، وما يدبره له أعداؤه ورقباؤه من أسباب البوار والدمار كما دبروا لعمّه السلطان عبد العزيز خان.
فكان السلطان- دفعا لهذه الاحتمالات- يستعمل مع الرجال المشار إليهم سياسة التفريق، فلا يغفل في كل حين وآخر عن إلقاء الشحناء والبغضاء بينهم. وطريقته في ذلك(3/384)
أنه كان يلتفت إلى زيد من أهل الإقليم الفلاني مدة فينهال عليه بالعطايا والرتب والأوسمة وقضاء المآرب، وفي الوقت نفسه يلفت نظره عن عمرو- الذي هو من ذلك الإقليم- فيهجره ويبقيه مطروحا في زوايا الإهمال والنسيان، فيستوحش عمرو من هذا الإهمال وينكسر قلبه وتدبّ في فؤاده نار الحسد لزيد، ويرى أن هذا الأنكيس «1» لم يأته إلا من قبل زيد، وأنه لا يعود التفات السلطان إليه إلّا بتنكيس أعلام خصمه زيد وسبقه عليه بنقل الأخبار إلى السلطان وإعلامه بما يجري حوله من الأمور والأحوال التي تمس شخصه وسلطنته، ويكون زيد قد انتبه إلى مكايد عمرو واجتهاده بالتقرب إلى السلطان وإبعاد خصمه عنه، فيقابل عمرا بمثل عمله فيقع بينهما التحاسد والتنافس. والسلطان أذن صاغية لكل واحد منهما، يبقى على ذلك مدة من الزمن إلى أن يستوفي ما في وطاب «2» المتجاولين ويستفرغ ما حواه جرابهما فينقلب على زيد ويقبل على عمرو، ويعود بينهما الدرس الأول.
وهلم جرا.
بهذه السياسة المدهشة كانت ولايات البلقان منقادة إلى طاعة هذا السلطان في كل هذه المدة، رغما عما أظلته سماؤها من تعدد العناصر واختلاف الملل. ومثلها الولايات العربية.
استخدامه صحف الأخبار الأجنبية في مآربه:
وكان يدرّ إنعاماته الوافرة على أصحاب الجرائد الأجنبية الممتازة فتذكر محاسنه وتغضّ الطرف عن مساويه وتنوّه بعظمته وقوة دهائه، وتجسّم خطورة مناوأته في مخيلات عظماء الرجال من الدول الأجنبية اللواتي لهن مستعمرات إسلامية، بما كانت تبثّه في تضاعيف عباراتها من الكلمات التي مفهومها أن عامة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يدينون بمحبة السلطان عبد الحميد وولائه، وأنهم على اختلاف أجناسهم وعناصرهم منقادون لسلطانه الروحي عليهم، وأن أدنى إشارة منه إليهم تثير فيهم الحمية الدينية فيهبون لقيام عام يزحزح أركان السلام ويقلب الأرض ظهرا لبطن.(3/385)
رغبته بالمستخدم المبتلى بهوس ما، وعدم رغبته بالمستخدم المتنفذ:
ومن غرائب السنن التي كان يسير عليها في استخدام بعض الموظفين أنه كان يسرّ جدا من المستخدم إذا كان ممحونا بمحنة متمكنة منه تضطره مباشرتها إلى استغراق وقته وتجعله غير مكترث ولا عان بأن يشتغل بغيرها من الأمور السياسية أو بالبحث عن أحوال السلطان وغيره. وعليه فإن المستخدم المحبوب عنده هو المصاب بهوس المقامرة، والميل إلى الأحداث أو بنات الهوى أو بنت المدام، أو بغير ذلك من المحن والشوائب. ذلك المستخدم الذي يتمسك به ولا يسمع فيه شكوى شاك وكأن لسان حاله يقول:
أذني لحبيبي صاغية ... صمّت عند الواشي السّمج
حكاية عن مستخدم من هذا القبيل:
حكى لنا زين العابدين بك مكتوبي الولاية سنة (1328) حكاية فحواها من هذا القبيل فقال: كنت مكتوبيا في إحدى ولايات البلقان، وكان واليها ممتحنا بوجع الظهر منهمكا بالرشوة، فكثرت عليه الشكايات فلم يعرها السلطان أذنا. ثم إن أحد الدهاة العارفين بالطرق التي تثير حفيظة السلطان دسّ في شكاية عليه كلمة مؤداها أن الوالي يجتمع عنده نفر من شبان «جون ترك» ويتفاوضون بأمور تمس حضرة ملجأ الخلافة. قال زين العابدين: وحينئذ أصغى السلطان إلى هذه الشكوى وسرعان ما أصدر إرادته السنية بإحضاري إلى استانبول لأسأل عن حقيقة هذا الوالي. فشخصت في الحال إلى استانبول وحضرت توا إلى «المابين» «1» ولما أعلم السلطان بحضوري أمر رئيس كتّابه أن يستقصي مني أحوال الوالي، وقد وقف السلطان من وراء الحجاب يسمع كلامي. فقال لي رئيس الكتاب: أصحيح أن والي ولايتكم يجتمع عنده نفر من شبان «جون ترك» ويتفاوضون بمسائل السياسة؟ فأجبته على الفور: إن هذا الرجل ممحون بوجع الظهر، وبالكاد «2» أن يتسع له الوقت لأجل استيعاب اشتغاله بمداواة محنته، وإن الشبان الذين يجتمعون عنده ليسوا سوى الشبان الذين يطيّبون مرضه.(3/386)
قال زين العابدين: فسمعت قهقهة السلطان من وراء الحجاب، ثم خرجت من «المابين» وقد تبعني رئيس الكتاب يقول لي: إن ولي النعم قد سرّ من كلامك وأمر لك بمائة ذهب. وفي المساء اجتمعت مع ناظر الداخلية وحكيت له ما جرى، فقال:
إنك مدحت الوالي وثبتّه بوظيفته من حيث لا تدري. فقلت له: وكيف كان ذلك؟
قال: أو ما قذفته بوجع الظهر؟ قلت: بلى، أو لم يكن هذا المرض موجبا لعزله؟ قال:
بل هذا المرض هو الذي جعل السلطان يتمسك به ويثبته في وظيفته لأنه- كما قلت- يعوقه عن الاشتغال بغيره من أمور السياسة والبحث عن أحوال السلطان. قال زين العابدين: وكان الأمر كما ذكر ناظر الداخلية، فإن السلطان قد أبقى الوالي بولايته ولم يصغ فيه إلى واش أو رقيب.
أما عدم رغبة السلطان بالمستخدم القوي فلأنه يخشى منه استعمال نفوذه بما يمس سلطنته فيجري عليه ما جرى على عمه السلطان عبد العزيز من وزيره مدحت باشا. ومما يحكى عن السلطان في هذا الصدد أنه هو الذي اقترح على غليوم إيمبراطور ألمانيا التخلص من داهية السياسة بسمارك المشهور، وذلك أن الإيمبراطور غليوم لما زار استانبول في المرة الأولى تحدث مع السلطان عبد الحميد عن نفوذ بسمارك في أوربا فقال له السلطان: أنا لا أحب أن يكون خادمي قوي النفوذ كهذا، أترغب جلالتكم أن ترى كيف أعامل خدمي؟ فقال غليوم: نعم. وحينئذ لمس السلطان الجرس المنبّه. ولما دخل الحاجب قال له: ادع كاملا (وكان كامل يومئذ صدرا أعظم) فأرسل الحاجب الخيّالة يبحثون عن كامل باشا فأحضروه، ولما دخل إلى المثول بين يدي السلطانين وقف مطرقا برأسه إلى الأرض مكتوف اليدين كأنه واقف في صفوف المصلين، فلم يلتفت إليه السلطان. وبعد برهة من الزمن قال له: لا لزوم للانتظار فالمسألة بسيطة. فسلّم الصدر سلام الخلافة وذهب ماشيا القهقرى حتى غاب عن نظر العاهلين. وقد انتبه الإيمبراطور غليوم إلى ما كان يراه من وزيره بسمارك من التوسع في الحرية حين مقابلته ومحادثته، فعزله عن وظيفته وحرم منه ذلك الدهاء الذي كان سياجا لسلطانه وملكه.
كان السلطان عبد الحميد لا تخفى عليه خافية من أحوال رجال «المابين» ومن هولائذ بقصر يلديز، فقد كان يعلم كل العلم أحوال كل واحد منهم على حدته، ويدري ما انطوت(3/387)
عليه سريرته من الخير والشر فكان لا يهمه من مكروه أوصافهم شيء ما دام أحدهم صادقا في خدمته مخلصا بولائه.
استكثاره من الجواسيس:
أكثر هذا السلطان من استخدام الجواسيس المعروفين بالخفية وجاد عليهم بالعطايا والمرتبات الوافرة، وبثّهم في جميع دوائر الحكومة وأزقة استانبول وخاناتها وفنادقها وجوامعها ومدارسها. وهم على هيئات مختلفة وأزياء شتى: ما بين كاتب وخادم ومتسول ودرويش وكسيح وسائح وأبكم وأعمى. ولم يكتف ببثّهم في دوائر الحكومة بل أقام منهم العدد الكبير في نفس بيوت المستخدمين مصطبغين بصبغة الخدم والحشم. بل بعض منازل المستخدمين كان لا يخلو من متجسس على المستخدم من أهله وذوي قرابته حتى صار الإنسان يحترز من زوجته وابنه وأخيه وهو في بيته فلا يجسر أن يفوه بأقل كلمة تمس حضرة السلطان لا سرا ولا علنا.
لم يرخص قط بدخول التلفون (الهاتف) إلى استانبول، ولا أن تستخدم فيها الكهرباء بجميع وظائفها منعا لسهولة التخابر بين مناوئيه ومعارضيه.
كراهيته الجمعيات، ومنعه استعمال بعض الألفاظ، وتضييقه على المؤلفات وصحف الأخبار:
ومن غرائب الأمور التي تذرّع بها للحيطة على نفسه وسلطنته: كراهيته الجمعيات حتى اجتماع الأصحاب مع بعضهم للمسامرة والمؤانسة. وكان المجتمعون يحذّر بعضهم بعضا خشية أن يكون بينهم من يتجسس للسلطان والأغراب من هذا أنه منع استعمال الكلمات الآتية الذكر تلفظا وكتابة وهي: (كلمة جمعية، وخان، وخونة، وعزل، وخلع) ، وما تصرف من هذه الكلمات، (ومراد، ورشاد، ويلديز) ، وغير ذلك من الألفاظ التي مفهومها التحزب والاجتماع والعزل والخلع، حتى إن هذه الكلمات هجرت «1» استعمالها في أيامه الصحف الإخبارية، والصكوك الشرعية، والنظامية، والمؤلفات العلمية، فلا يجوز لكاتب أن يأتي بكلمة: «جمعية» ، ولا لقاض، أن يقول(3/388)
في صكوكه: خالعت فلانة زوجها فلانا، ولا أن يقول في متولّ: عزل لأجل خيانة.
وكان شياطينه يتعقبون له هكذا ألفاظ، حتى في كتب الدين، وقد أمر مرة بأن يطبع كتاب صحيح مسلم، طبعا متقنا، فنفذ أمره، وبعد أن تم طبع الكتاب، أخبره بعض شياطينه بوجود حديث الإمامة فيه، وهو «الأئمّة من قريش» فأمر في الحال، بجمع نسخه، وإحراقها، وأن يعاد طبعه بعد حذف هذا الحديث منه «1» . وهذا هو المراد من قول شيخ الإسلام في الفتوى السابقة الذكر: «وأخرج من الكتب الشرعية بعض المسائل المهمّة» إلى آخره. وكان يبعثر أموال الدولة ويصرفها على كبار جواسيسه، وإعمار القصور في بلاطه المعروف باسم «يلديز» ، الذي لا يجسر أحد أن يلفظ به، حتى ولا بكلمة «نجم» التي هي ترجمته، ولا بكلمة «مراد» ، ومن كان مسمّى بهذا الاسم، فعليه أن يمسخه ويحرّفه حين يلفظ به- أو حين يكتبه- إلى «مرات» . وأغرب من هذا، أن البقل المسمى بالحرف، المعروف عند الحلبيين بالرشاد، قد طووا اسمه المشهور عندهم، وصاروا يشيرون إليه بقولهم: «أخو المقدونس» .
واتفق لي مرة- حينما كنت رئيس كتاب المحكمة الشرعية- أني أعطيت حجة شرعية في مخالعة جرت بين رجل وزوجته، فأرسل الرجل الحجة إلى المشيخة الإسلامية لأجل التدقيق فلم أشعر إلا والحجة قد أعيدت إليّ ومعها كتاب من شيخ الإسلام يقول فيه ما معناه: يعمل بمضمون هذه الحجة بعد إجراء بعض الإصلاح عليها. فأخذت الحجة وقرأتها بكل تدقيق وإمعان فلم يظهر لي فيها خلل من جهة ما فحرت في أمري ثم عدت إلى تصفحها وبذلت جهد المستطيع بتدقيقها، إذ بصرت بعض الكلمات منها قد سحب فوقها خط بالحمرة ضئيل جدا ربما كان أدق من الشعرة فعلمت حينئذ أن المراد من الخلل هو وجود تلك الكلمات فإذا هي كلمة: «خلعت، وخلعها، ومخالعة» ، وباقي ما يتفرع عن هذه الكلمة. فاضطررت آنئذ أن أعيد كتابة الحجة من جديد مع قيدها في السجل وأستبدل لفظة «المخالعة» ، وما تصرف منها، بكلمة «المبارأة» ، وما تصرف منها.(3/389)
كان محررو الجرائد من جراء هذا التدقيق المشين يتكبدون عرق القربة بتحرير صحفهم، إذ على المحرر منهم- بعد تحرير صحيفته وطبعها- أن يقدم أول نسخة منها إلى المراقب (السنسور) المعيّن، فمتى وجد فيها كلمة من الكلم التي سبق بيانها أو وجد فيها عبارة تشفّ- ولو من وراء ألف ألف حجاب- عن غمز أو لمز يقصد بهما السلطان، فإن حضرة (السنسور) لا يحجم لحظة واحدة عن تشذيب المقالة وضربها بقلمه القاسي ضربة تقضي على حياتها مهما كان موضوعها أديبا بديعا، وحينئذ يذهب تعب ذلك المحرر أدراج الرياح، ويضطر إلى تحضير مقالة بدلها ليملأ بها من جريدته ما حدث فيها من الفراغ. وبعد أن يطبعها أيضا يرفعها إلى حضرة المراقب فربما ضربها ضربة ثانية بذلك القلم الشبيه بمعول يهدم معاهد العلم وصروح الأدب، محتجا على محررها ولو بكلمة فيها حروف لفظة «عزل» مثلا كأن يقول: عزال، عزاليك، أو عزرائيل. ولا تسل حينئذ عن حال ذلك المحرر المنكود الحظ الذي قد يشتغل أسبوعا تاما بتحرير مقالة يرضي بها المراقب، وينفي فيها الشبهة الموهومة عن نفسه.
وكان المؤلفون الذين يصرفون من أعمارهم الثمينة الأعوام الطويلة في تأليف كتاب أدبي، أو علمي أو فني، مكلفين- لأجل الحصول على الرخصة في طبع مؤلفهم وتدوينه- أن يبيضوا منه نسختين يقدمونهما إلى نظارة المعارف في استانبول، وهي تدفع إحداهما إلى مراقبها الخاص فيفحصها على الصورة المتقدم ذكرها في فحص الجرائد، ولربما شذبها وضرب بقلمه المشؤوم تلك الضربات العنيفة فمحى نحو ثلث الكتاب أو نصفه، لوجود شيء في عباراته من الكلمات المتقدم ذكرها أو شيء مما يشبهها. وقد يستغرق (السنسور) في هذا العمل الذميم نحو سنة أو سنتين، وقد لا يرخص له بطبع ذلك الكتاب مطلقا بعد تلك المدة الطويلة.
وروى بعض أصدقائنا من منوّري شبان الأتراك أن بعض شياطين السلطان عبد الحميد استلفت نظره إلى ما في القرآن الكريم من الألفاظ المتقدم ذكرها، التي تنبو عن سمعه وتشذّ عن ذوقه وطبعه، فكاد السلطان يصدر أمره الكريم بتنقيح نسخة منه وتنظيفها من تلك الألفاظ وطبعها، مهذبة منقحة، غير أن بعض محبيه المخلصين بين له خطارة هذا العزم وما ينشأ عنه في العالم الإسلامي من الاضطراب فأمسك عن إصدار أمره المذكور.
وقد أسمعني ذلك الصديق أربعة أبيات باللغة التركية في هجاء مراقبي الكتب والمؤلفات(3/390)
في دولة السلطان عبد الحميد، وكلفني بنظمها بعد ترجمتها إلى اللغة العربية فقلت:
يا صاح نقّاد المعارف عندنا ... أعمت قلوبهم المناصب والرتب
كم من كتاب مفرد في بابه ... قد أفسدوا منه الصحيح المنتخب
هذا كتاب الله وهو منزّل ... ظنوه جهلا أنه قصص العرب
فتصفحوه ونقّحوه بزعمهم ... من كل ما تأبى السياسة والأدب
تحرزه المفرط في أكله وشربه ومحل نومه:
ومما بلغ فيه حد الإفراط تحرّزه في المأكل والمشرب، فقد كان من المحال أن يأكل طعاما أو يشرب شرابا قبل أن تتناول منهما والدته شيئا، إذ هي الموكول إليها أمر حراسة مأكوله ومشروبه وبمعرفتها ومراقبتها يطبخ ويجهز له ما يأكله ويشربه.
ومن جملة احترازه أيضا أنه كان لا ينام ليلتين متواليتين في غرفة معينة في قصر من قصور يلديز، بل كان في كل ليلة ينسلّ خفية تحت جناح الظلام إلى قصر من تلك القصور ويرقد على أحد سرره المنصوب في إحدى غرفها العديدة، التي له في كل واحدة منها سرير مطابق- بشكله وهيئته- بقية السرر المنصوبة في جميع الغرف مطابقة تامة.
غناه وحشده الأموال:
كان يعدّ في عصره أغنى ملك في الدنيا. ولم لا يكون كذلك ورزقه من بيت المال كل يوم أربعة آلاف ذهب عثماني قبل افتتاح مجلس النواب للمرة الثانية، وثلاثة آلاف كل يوم بعده؟ هذا عدا مداخيل أملاكه ومزارعه في الولايات العثمانية التي كانت تقدر بثلث أموال الدولة، وعدا ما يأخذه اعتباطا من صناديق الدوائر كصندوق الأوقاف وصندوق النافعة وصندوق المعارف، وعدا ما يأخذه نافلة من طلاب امتيازات المعادن ومدّ سكك الحديد وغيرها. وكان له في المصارف الأجنبية الكبيرة عشرات ألوف الألوف من الذهب، وكان البسطاء من الناس لا ينكرون عليه هذا الغنى لأنهم كانوا يزعمون أنه لم يحتكر تلك الأموال العظيمة إلا بقصد تهريبها من أيدي وزرائه الخائنين وادّخارها للمهمات الحربية التي قد تفاجىء الدولة في مستقبل الأيام. ونحن لا ندري ما فعل الله بتلك الأموال بعد وفاته: هل أنكرتها المصارف، أم استخلصها منها الاتحاديون فصرفوها في شؤون الدولة،(3/391)
أم وضعوا أيديهم عليها وصرفوها في شؤون أنفسهم؟
التغالي بألقابه ومدائحه:
تغالى المداجون من محرري الصحف وغيرهم بألقابه ومدائحه إلى غاية لم نسمع صدور نظيرها في ملك قبله ولا بعده. لقبوه بملك الملوك (شهنشاه) وملجأ الخلافة (خلافتبناه) وباني الدنيا (كيتى ستان) وظل الله في الأرض، والسلطان الأعظم، والذات الأقدس، وغير ذلك من الألقاب والكلمات التشريفية التي يصلح بعضها أن يطلق على منشئ العوالم وخالق السماوات والأرض. وهكذا كان تغاليهم بمدائحه.
الاحتفال بزينة عيدي ميلاده وجلوسه:
وكان الاحتفال بالزينة العامة في جميع الممالك العثمانية يحدث في العام مرتين، إحداهما في عيد ميلاده والأخرى في عيد جلوسه، وفي كل من الاحتفالين كانت الصحف الإخبارية تبرز يوم الاحتفال في ثوب قشيب من الزينة والبهاء. وفي كل صحيفة منها مقالة افتتاحية تستوعبها من أولها إلى آخرها محررة بمداد مذهّب، محفوفة بإطار ذهبي بديع، محشوة بعبارات أنيقة كلها مدح وإطراء في عدل السلطان وتعداد مآثره وشرف أخلاقه وأنه هو الملك الوحيد في الدنيا، وأن يوم ولادته ويوم جلوسه من أبرك الأيام وأشرفها وأسماها طالعا وأسعدها؛ لأن فيه كان بزوغ شمس العدالة في العالم المعمور وطلوع أقمار السعادة في سماء الربع المسكون. إلى غير ذلك من عبارات المدح والإطراء البالغة حد الغلو والاستغراق. وكان من الواجب في ذلك اليوم على كل مستخدم ووجيه في محلته أن يزين باب منزله بالسجاد وعروق الشجر، ويسرج عليه كثيرا من المصابيح التي ربما عدّت بالمئات. وكلما كان المزيّن أكثر مداجاة وأشد تزلفا للحكومة ازداد تأنقا في زينة باب منزله وأكثر عدد مصابيحه. ومنهم من يعد للمتفرجين على احتفاله بهذه الزينة مقاعد ومفارش، ويحضر لهم جماعة المطربين العازفين بآلات الطرب ويحرق الألعاب النارية ويكرم الزائرين بالمرطبات.
ويقدّر ما كان يصرف من الأموال في كل احتفال من هذين العيدين في حلب فقط بألوف الليرات. كان المداجون وأرباب الوجاهة منهم يتنافسون بهذه الزينات، لأن السابق(3/392)
منهم بزينته والمبرّز بها على أقرانه ربما يكافأ على إخلاصه برتبة أو وسام، وكانت جماعة الشرطة لا شغل لهم في تلك الليلة سوى التجوال في أزقة البلدة وشوارعها والبحث والفحص عن المزينين وعمن تكون زينته أعظم وأفخم، فيكتبون أسماء المزينين ويحررون عند اسم كل مزين منهم إشارة لرتبة زينته من العدد الأول إلى العدد السابع، وإذا سهت جماعة الشرطة عن مزيّن ولم تذكر اسمه فإنه في الغد يعترض ويطلب أن ينص على احتفاله بالزينة في جريدة الولاية، لأن هذه الجريدة تصدر في صبيحة ليلة الزينة محررة من أولها إلى آخرها بأسماء المزينين والإشارة إلى مراتب زينة كل واحد منهم، وإذا طوت الجريدة اسم أحد المزينين أو قصّرت في بيان رتبة زينته فلصاحب الزينة حق الاعتراض، وعليها أن تصحح الخبر في عددها التالي.
مواكب السلطان في صلاة الجمعة والعيدين:
كانت مواكب السلطان عبد الحميد في صلاة الجمعة والعيدين في استانبول من أجلّ وأفخم جميع مواكب ملوك الدنيا. وكان السيّاح يطوون للتفرج عليها المسافات الطويلة، وينتظرون حولها الساعات الوفيرة وكانت ذات جلال وبهاء يعجز القلم عن تصويرهما.
احتفال السلطان بالأضاحي في عيد الأضحى:
وصف الأستاذ الصابونجي «1» في كتابه (ديوان شعر النحلة) الاحتفال بأضاحي عيد النحر عند السلطان عبد الحميد فقال ما ملخصه: يأمر السلطان بالاستعداد إلى عيد الأضحى قبل حلوله بشهر، وبانتخاب عدد مفروض من الأكباش العظيمة وبعلفها(3/393)
وتسمينها وبالاعتناء بنظافتها وغسل صوفها وتمشيطه وجعلها في رادة «1» تصلح أن يتقرب بتضحيتها إلى الله تعالى، قيمة كل كبش منها، يضحّى عن السلطان، نحو ثلاثين ليرا ذهبا وعن أنجال السلطان 25 ليرا وعن حرمه 15- 20 ليرا، ويبلغ عددها مئة كبش وزيادة، ويهدي السلطان إلى كل موظف كبشا أو أكثر للتضحية يوم العيد. ومتى حل يوم العيد تصدر إرادة السلطان إلى جميع رجال الدولة ورؤساء الجيوش والقواد والصدور العظام بأن يقبلوا إلى قصر «طولمه بغجه» ببزتهم الرسمية ليرفعوا إلى أعتابه فروض التهاني بحلول العيد.
وفي أول يوم من العيد ينهض السلطان مبكرا ويؤدي صلاة العيد بموكب حافل في جامع بشكطاش، ثم يركب في موكبه ويسير إلى قصر «طولمه بغجه» تتقدمه كتائب الجيوش ويتلوها رجال «المابين» بملابسهم الرسمية المطرزة بالقصب وعلى صدورهم أوسمة الدولة العثمانية فقط. (لأنه لا يسوغ لأحد على الإطلاق أن يحمل وساما أجنبيا في حضرة (أمير المؤمنين) . وحينما يصل الموكب الملوكي إلى القصر ينزل السلطان عن المركبة ويرقى بوقار وإجلال درج الرخام المغطى بالسجاد، ثم يأخذ السكين من أحد الموظفين في المابين الملوكي. ويكون رعاة القصر قد أعدوا الكباش المعلوفة التي أسلفنا ذكرها، ومشطوا صوفها الأبيض الطويل وزينوا قرونها الكبيرة وجباهها وصوف ظهرها بورق الذهب وشرائط الحرير الأحمر والأزرق والأبيض، وجعلوا على رؤوسها تيجانا من الورق الذهب المزدان بالزهور المصنعة والريش وقطع من المرايا ووضعوها صفين بين يدي السلطان، وقبض كل جزار بيده اليمنى على قرن كبش من الكباش ولبث ينتظر الإشارة من حضرة السلطان لينحر الكبش. ويلبس كل جزار منهم في مثل هذا الوقت جبّة من الجوخ الأخضر تصل أذيالها إلى ما تحت ركبتيه وحواشيها مطرزة بأسلاك الذهب. ويضع على رأسه قبعا مخروط الشكل مصنوعا من الجوخ الأخضر، وعليه تطريز بأسلاك القصب، وله شرّابة طولها نحو نصف ذراع مصنوعة من الحرير الأخضر وأسلاك الذهب، وهو يرخيها من أمام على كتفه.
وحينما يحل وقت ذبح القرابين يسلّم السلطان السكين إلى رئيس أولئك الجزارين ويأمره بذبح القرابين نيابة عنه، ثم يصعد درج القصر ويدخل قاعة الاستراحة ويلبث هناك مدة قصيرة يتهيأ فيها للدخول إلى قاعة العرش.(3/394)
وصف قاعة العرش:
قال الأستاذ الصابونجي ما خلاصته: إن قاعة العرش في وسط قصر «طولمه بغجه» المشيد على ساحل البوسفور من جهة أوربا، وهي أكبر قاعة قام بناؤها على وجه الأرض كلها، في الطول والعرض والارتفاع. وعليها قبة عظيمة جميلة الشكل قامت على اثنين وأربعين عمودا. ومما زاد هذه القاعة حسنا وغرابة في السعة أن قبتها العظيمة مستندة إلى أعمدة ليست مركوزة في صحن القاعة بل هي مصطنعة صنعا ظريفا في لصق جدرانها، وقد بقي الصحن كله خاليا منبسطا يسهل الجولان فيه وينشرح به الصدر. قال الأستاذ:
وقد رأيت قصور ملوك فرنسا بباريس وفرسايل، وقصور ملوك الإنكليز بقرية وندرز ومدينة لوندره، وقصور ملوك إيطاليا بمدينة تورين ورومه، وقصر الباباوات والواتكان برومة، فما شاهدت قاعة بلغت من السعة وحسن هندسة البناء مثل قاعة «طولمه بغجه» .
وقد وضعوا في صدر القاعة- على نحو خمسة أو ستة أذرع من الجدار- عرش أمير المؤمنين متجها نحو البحر. وهذا العرش كرسيّ مستطيل الشكل كالسرير يبلغ طوله نحو ذراعين ونصف الذراع، وارتفاعه من أمام نحو ذراع، وكله قطعة واحدة من الذهب الابريز المسبوك سبيكة واحدة في قالب الهندام وحسن الصنعة، وعلى ظاهره نقوش محفورة في صلب الذهب وثخانة جدار العرش نحو ثلاث عقد، وعلى مقعده فرش محشوّ بريش النعام وغطاؤه قماش من الحرير الأحمر المنقوش بقصب الذهب.
كان هذا العرش سابقا لمماليك مصر من عائلة الغوري، غنمه منهم السلطان سليم لما فتح الديار المصرية سنة 922.
مفروش تجاه هذا العرش- مكان موطئ قدمي السلطان- سجادة من الحرير المطرز بأسلاك قصب الذهب تطريزا بديع الصنعة. وفي أربع زوايا قاعة العرش أربعة شمعدانات (منارات) من الفضة الخالصة يبلغ ارتفاع كل منها ثمانية أذرع. وله قاعدة مسدسة الجهات تبلغ ثخانتها نحو شبر ومحيطها نحو ستة أذرع، وعلى رأس كل شمعدان عشرون مشعلا لإيقاد نور الغاز الهيدروجيني، وعلى كل مشعل قبع من البلور المنقوش ليمنع نفوذ الغاز من المشعل بعد انطفائه. ويوجد كذلك في كل زاوية من أربع زوايا القاعة شمعدان من البلور النقي في شكل ثريا جمعت بين حسن الصنعة وجمال الهيئة.(3/395)
ثم يوجد ثريا أخرى عظيمة جدا في غاية الحسن وإتقان الصنعة وكلها من البلور النقي المثمن، معلقة في سقف قبة القاعة بسلسلة نصفها الأعلى منم الفضة ونصفها الأسفل من جنس بلور الثريا. ويبلغ طول هذه الثريا البديعة الصنعة نحو 40 ذراعا ومحيط دائرتها الوسطى نحو ثلاثين ذراعا. وهي مركبة من دوائر عديدة مختلفة القطر في الكبر، قد ركب بعضها فوق بعض بترتيب يناسب كبرها وصغرها، فإنك ترى قطر دائرتها السفلى أكثر من ذراع، وما فوقها من الدائرة يزيد قطرها درجة عما تحته. وكلما ارتفعت الدوائر يزداد قطرها بنسبة بعدها وارتفاعها، وتكبر بالتدريج حتى يبلغ قطر الدائرة الوسطى منها نحو ثلاثين ذراعا، ثم تأخذ الدوائر بأن تصغر بالتدريج حتى يصير قطر أعلى دائرة كقطر الدائرة السفلى. وفي هذه ما ينيف على ألفي مشعل لإيقاد نور الغاز الهيدروجيني، وعلى كل مشعل بلورة منقوشة في شكل قبع جعلت منعا لنفوذ الغاز من أنابيبه قبل الإشعال.
ثقل هذه الثريا (8500) أقة. اشتغل في تركيبها بالقاعة رجل أوربي نحو سنتين وكان راتبه الشهري ثلاثين ذهبا عثمانيا، وكانت الثريا صنعت في أوربا ونقلت إلى القاعة قطعا ثم ركبت.
أرض هذه القاعة مفروشة بتقاطيع خشب السنديان المصقول والمصبوغ بصباغ يحكي لون خشب الجوز. ويفرش الخدم القاعة يوم المعايدة سيورا من الطنافس الثمينة المنسوجة في المعمل السلطاني، يبلغ عرض كل سير منها نحو ذراع ونصف الذراع، ليمشي الزوار عليها وقاية من الزلق على خشب أرض القاعة المجلوّ جلوا صقيلا. أما سقف القبة وجميع جدران القاعة فمنقوش بالقلم والألوان نقوشا جميلة بديعة الصنعة، وفي الشقة العليا من القاعة أربعة أطناف «1» أحدها تجاه العرش يقف فيه جماعة الموسيقى السلطاني، والآخر عن يمين العرش مختص بسفراء الدول الأجنبية وحواشيهم الذين يقصدون التفرج على رسم المعايدة من ذلك العلو الشاهق، وقد أعد لهم من كرم السلطان مائدة عظيمة عليها من المأكول والمشروب والأقراص الحلوة أشكال وأفانين.
وصف المعايدة:
قال الأستاذ الصابنجي: ولما فرغ السلطان من إيفاء سنّة الأضاحي مشى إلى غرفة(3/396)
الاستراحة فلبث بها مديدة حتى تهيأت له مراسم المعايدة. ثم نهض إلى قاعة العرش ودخلها من باب بينها وبين غرفة الاستراحة وانتصب واقفا أمام العرش ووجهه إلى جهة البحر ولفيف الحرس السلطاني الخاص ورجال الموسيقى يكررون الهتاف بالدعاء الملوكي «بادشاهم جوق يشا» «1» ، ثم صدحت الموسيقى السلطانية بأنغامها المطربة يتراجع صداها في فضاء قبة القاعة، وينزل على الحاضرين كأنغام نازلة من السماء تسحر الألباب، وتهتز لها طربا ألياف القلوب ما دامت ذرات الهواء مهتزة بها في قلب الأثير. قال الأستاذ: وقد سمعت أنغاما موسيقية كثيرة في أوربا وأميركا ولم أسمع فيها أنغاما تشابه هذه في الطرب.
قال: ثم إن السلطان أصدر أمره إلى إبراهيم بك- رئيس التشريف- بالبدار إلى المعايدة. وفي الحال اصطف رجال «المابين» وراء العرش صفا واحدا في مقدمتهم رئيس الحجاب (سرقرنا حاج علي بك) ورئيس الكتاب (تحسين بك) والكاتب الثاني (عزت بك) مع لفيف الحجاب وآغاوات الحرم السلطاني، ثم أقبل نقيب الأشراف وهو لابس جبة خضراء وطأطأ رأسه ثلاثا وسلّم بسلام الخلافة ووقف تجاه العرش على بعد نحو عشرة أذرع، ثم بسط ذراعيه وتلا الفاتحة. وفعل السلطان فعله وتبعه الصدر الأعظم وباقي الوزراء، والسلطان واقف على قدميه في الطرف الشمالي من العرش وكفاه مجللتان بالقفّاز الأبيض، مستندتان إلى مقبض سيف الخلافة. وكان الصدر الأعظم واقفا على يمين العرش وقد حمل على كفيه سيرا من الحرير الأحمر المقصب بأسلاك الذهب المفتول، فإذا أقبل الوزير وصار على مقربة من العرش سلم ثلاث مرات بسلام الخلافة ثم دنا من العرش وقبّل طرف السير ورجع القهقرى وهو يسلم بسلام الخلافة ثلاث مرات إلى أن توارى. ثم انتقل الصدر الأعظم إلى يسار السلطان وأقبل عليه وزراء الجهادية فسلموا بسلام الجندية دون أن يحنوا ظهورهم ولثموا طرف السير ورجعوا.
خبر زلزال حدث في ذلك الوقت وثبات جأش السلطان:
ثم أقبل صف أصحاب الرتب وابتدؤوا بالمعايدة وكانت الساعة بلغت الرابعة إلا خمس عشرة دقيقة إذ سمع صوت رجة خفيفة حصلت من اصطكاك في بلور الثريا الكبيرة المتقدم ذكرها، ثم اشتد صوت الارتجاج رويدا رويدا حتى صار اهتزازا عنيفا تناثرت من قوته(3/397)
قطع بلور الثريا وسقطت على فرش القاعة وتكسرت إربا إربا، فاستولى الرعب على الحاضرين، وبينما كانت قلوبهم تهتز طربا بأنغام الموسيقى صارت أقدامهم تهتز بالزلزال هلعا ورعبا. غير أن السلطان لم يبرح جالسا على عرشه بجأش رابط وقدم ثابت، وقد هرع أكثر الحاضرين إلى القاعات المجاورة لقاعة العرش، ومن بقى منهم ضجوا يستغيثون بالله ويطلبون منه النجاة. ثم إن السلطان لما رأى انقطاع المعايدة وخروج الناس نهض عن العرش بوقار وهدوء ومشى الهوينى نحو قاعة الاستراحة.
قال الأستاذ: أما أنا فلبثت في قاعة العرش وقلت لنفسي: إلى أين الفرار من هذه القاعة السلطانية قاعة العظمة والجلال التي لا مثيل لها بين قاعات ملوك الدنيا كلها؟ فإذا كانت الزلزلة تهدم هذه القاعة (لا سمح الله) فتهدم معها القصر بتمامه، وإذا كان الأجل دنا فالموت في قاعة العرش الفسيحة وتحت قبتها العظيمة أمر عظيم لا يحصل كل يوم لأيّ من كان ولا أستطيع أن أختار له مكانا أحسن من هذا المحل.
ثم إن الهزة قد خفّت وزال الخطر وعاد السلطان إلى مكانه. وأتم بقية المعايدين فروض المعايدة على الوجه الذي سلف بيانه، ثم نهض السلطان بين هتاف الدعاء الملوكي والنغم الموسيقى وسار عائدا إلى قصر يلديز محفوفا بكتائب الجنود، والخدم ينثرون الدنانير في الطريق على الفقراء الذين كانوا يدعون للسلطان بالإقبال وطول العمر.
سلام الخلافة:
سلام الخلافة هو أن ينحني الإنسان إلى الأرض بنصف جسمه (كأنه راكع) ويمد يده اليمنى إلى أن تلمس الأرض ثم يرفعها إلى جبينه باحترام، ويكرر ذلك ثلاث مرات بين كل مرة وأخرى فترة من الزمن، كأنه يشير بذلك إلى أن تراب أقدام الخليفة على الرأس والعين. قال الأستاذ: ورأيت من كرر ذلك السلام أكثر من ثلاث مرات ومشى القهقرى مسافة طويلة، ووجهه يحاذي وجه السلطان ولا يلفت إليه ظهره حتى يغيب عن منظر السلطان.
نبذة في الكلام على الزلزلة:
قال الأستاذ الصابونجي: ولما كانت الزلازل من أعظم المصائب التي نكبت بها الكرة(3/398)
الأرضية مع سكانها، رأيت أن أذكر في هذا الباب شيئا من أحوالها وأسبابها تتمة للفائدة.
ثم قال ما خلاصته: يحدث الزلزال في الليل أكثر من النهار. وقد أحصى المدققون نحو خمسمائة زلزلة وزلزلتين كان حدوثها في بلاد أسفيزرة، منها 320 زلزلة حدثت في الليل بين الساعة السادسة بعد الظهر وبين الساعة السادسة قبله، وإن التي تحدث قبل نصف الليل تكون أشد مما تحدث بعده.
وقالوا إن الزلزال في الأراضي البركانية أكثر من الزلزال في السهول. وإن حدوث الزلزال «1» في فصل الشتاء أكثر منها في فصل الصيف، وما يحدث منها في الكانونين يكون أشد من غيره وذلك لكثرة سقوط الأمطار التي تجري مياهها إلى شقوق الأرض وتتطرق إلى قلب الأرض وتصل إلى الصخور المسخنة بحرارة المواد النفطية المشتعلة فتحدث في الصخور انفجارا ينبعث عنه هزة في قشرة الأرض.
تنتشر الهزة التي تحدث في قشرة الأرض بسرعة عظيمة ربما بلغت سرعتها 20526 قدما في الثانية.
والزلازل التي كانت عواقبها وخيمة كثيرة، منها زلزلة حدثت في مدينة لزبون سنة 1755 م و 1169 هـ فقد دفنت تحت أنقاض المدينة نحو 10 آلاف إنسان، والأحياء الذين بقوا بعد الهزة الأولى التجئوا إلى رصيف الميناء فباغتتهم الهزة الثانية ورفعت مياه البحر إلى علو 50 قدما، ثم جرفت الرصيف وكل ما كان عليه إلى أعماق البحر، ثم انشقت الأرض تحت البحر وابتلعت جميع السفن التي كانت في الميناء ثم أطبقت عليها ولم يظهر منها فيما بعد أثر على وجه الماء.
أسباب الزلازل:
أسباب الزلازل كثيرة، منها ما هو معروف ومنها ما هو مجهول فالمعروف هو:
أولا: تأثير جاذبية القمر في قشرة الأرض.
ثانيا: المد والجزر في البحار.
ثالثا: ضغط الهواء على قشرة الأرض وسطح البحار.(3/399)
رابعا: الانفجار الذي يحدث في الجبال البركانية.
خامسا: الانفجار الذي يحدث أحيانا في معامل البارود.
سادسا: الانفجار الذي يحدث في قلب طبقات الأرض بسبب تطرق المياه إلى الصخور المسخنة باشتعال المواد النفطية فمتى لامس الماء هذه الصخور الشديدة الحرارة تفرقعت وأحدثت هزة عنيفة في قشرة الأرض.
سابعا: تموج المادة النارية المائعة في مركز الأرض، فهذه الكتلة من المادة المائعة إذا لامست جدران قشرة الأرض من داخل فعلت بها فعل أمواج البحر بصخور الساحل، أي إنها تجرف من جدران قشرة الأرض بعض الصخور العظيمة بقوة تفوق إدراك البشر، ومتى سقطت تلك الصخور في بحر تلك المادة النارية المائعة فرغ مكانها فيتدحرج إليه ما جاورها من الصخور ويشغله. وعلى هذا الأسلوب صخر يعقب صخرا في التدرج فيحصل من جراء ذلك ارتجاج وهزّة هائلة في قشرة الأرض ثم ينتشر إلى سطحها. وقد يكون مركز الهزة على عمق ثلاثين ميلا من سطح الأرض وربما كان أقل من ذلك إلى نحو ميل ونصف ميل، وهلم جرا.
ثامنا: إن السبب الأكبر لحدوث الزلازل في الكرة الأرضية وفي جميع الشموس والنجوم والكواكب، هو الله جل جلاله الذي وضع للمادة على الإطلاق نواميس لا تتغير تستن بها، ثم ساسها بحكمته الأزلية وسخرها متى شاء لإجراء إرادته الإلهية في خلائقه.
بقية حوادث سنة 1327:
في ربيع الثاني من هذه السنة حدث في كل من مرعش وأنطاكية، وقريتي كسب وقريق خان، مشاغب أرمنية قتل فيها عدة أشخاص من الأرمن والمسلمين، وعلّقت الحكومة بعض الرجال «1» من أعيان مسلمي أنطاكية وسكنت الفتنة.
مظاهرة في حلب ومقاطعة اليونان:
وفي ضحوة يوم الاثنين 29 رجب من هذه السنة احتشد الجم الغفير من أهل حلب(3/400)
في فسحة سوق الجمعة- وهو الفضاء الممتد من تجاه جامع الاطروش، إلى قرب باب القلعة إلى حمام الذهب، إلى سوق القصيلة- فأجرى المحتشدون مظاهرة حماسية طلبوا فيها من الحكومة عدم السماح بحقوقها من جزيرة كريد وقد تليت في هذه المظاهرة عدة خطب حماسية من قبل علماء المسلمين والرؤساء الروحيين المسيحيين. ثم جرت بعد ذلك عدة مظاهرات في حلب ومراكز أقضيتها وقوطعت اليونان في استانبول، أي أضرب الناس عن شراء بضائعها.
وفي رمضان هذه السنة ولي حلب فخري باشا ابن ناشد باشا، وهو وال حسن السيرة لولا ولعه بالميسر. وقد شدد العقوبة على المتجاهرين بالسكر وعاملهم بضرب أرجلهم بالسياط دون تمييز بين رفيع ووضيع فخافوه وقلّ تعاطي هذا المنكر. ثم اعترضت على هذا العمل مدّعية العموم في دائرة العدلية فأبطل الوالي تلك العقوبة وعاد السكيرون إلى ما كانوا عليه.(3/401)
سنة 1328 هـ
تجنيد المسيحيين والإسرائليين:
في هذه السنة صدرت أوامر الدولة بإبطال الجزية- وهي المسماة عند الدولة العثمانية باسم «البدل العسكري» - وأن يستعاض عنها تجنيد شبان الطائفتين أسوة بأمثالهم من طوائف الرعايا العثمانيين. وبناء على ذلك أجريت القرعة الشرعية على عامة شبان الرعية العثمانية، فجند فيها شبان الملل الثلاث المسلمون والمسيحيون والإسرائليون، وهي أول قرعة كانت على هذا النمط. وقد سرّت الطائفتان الأخيرتان من هذا الصنيع سرورا زائدا لتخلصهم من غائلة البدل العسكري. ثم انقلبت مسرّتهما إلى الاستياء بعد أن باشر شبانهما الجندية وزاولوا بعض ما فيها من المشقات العسكرية التي يصعب عليهم تحملها لعدم تعودهم عليها، فكانوا يتذمرون من الجندية ويتظاهرون بندمهم على تعرضهم إليها ولا تحين «1» ندامة.
كلمة في الجزية والبدل العسكري:
الجزية شيء معلوم من النقود يعطيها المعاهد من أهل الذمة على عهده في كل سنة وسميت جزية لاجتزاء المعاهد بإعطائها عن القيام بالجهاد، كما قاله الزيلعي. وهي بحكم الشريعة الإسلامية لا تؤخذ إلا من الحر البالغ الصحيح العاقل المحترف، فلا تؤخذ عن العبد ولا عن مكاتب ولا عن امرأة ولا عن صبيّ، ولا عن مجنون ولا عن مزمن وأعمى وفقير غير محترف، ولا من راهب لا يخالط، لأنها خلف عن النصرة وهؤلاء لا تجب عليهم النصرة.(3/402)
مقدار الجزية:
مقدار الجزية على نوعين: نوع يوضع على أهل الذمة بصلح وتراض، فتقدر بحسب ما يقع عليه الاتفاق فلا تزاد ولا تنقص، ونوع يبتدئ الإمام بوضعه إذا غلب على أرضهم، وهذه لا تزاد على ثمانية وأربعين درهما على الغني- تؤخذ منه على اثني عشر قسطا، في كل شهر أربعة دراهم- وأربعة وعشرين درهما على وسط الحال: تؤخذ منه في كل شهر درهمين، واثني عشر درهما على الفقير المعتمل تؤخذ منه كذلك في كل شهر درهما.
والفقر والغنى يعتبران بحسب عرف البلدة. ولو مرض الذمي السنة كلها ولم يقدر أن يعمل لا تؤخذ منه وإن كان موسرا، وكذا لو مرض نصف السنة أو أكثر.
والمعتبر في تعيين وزن الدرهم هو أن يكون كل عشرة دراهم بزنة سبعة مثاقيل. والمثقال الشرعي مقدّر بعشرين قيراطا كل قيراط مقدر بخمس قمحات معتدلة الوزن، فيكون المثقال بوزن مئة قمحة، والدرهم الشرعي مقدر بأربعة عشر قيراطا، كل قيراط مقدر بخمس قمحات كذلك، فعشرة دراهم تبلغ سبعمائة قمحة وهي سبع مثاقل «1» . وكانت الدراهم في أيام خلافة سيدنا عمر بن الخطاب مختلفة الوزن، فكان منها عشرة تزن عشرة مثاقيل، وعشرة تزن ستا، وعشرة تزن خمسا. فخشي الخليفة من تلاعب الجباة وتحيلهم بأن يأخذوا الجزية من نوع الدراهم التي تزن العشرة منها عشرة مثاقيل، فيظلموا أهل الذمة. فأخذ من كل نوع من هذه الأنواع الثلاثة ثلاثة دراهم ثم جمع الأثلاث إلى بعضها ووزنها فبلغت سبعة مثاقيل، فأمر الجباة أن يأخذوا دراهم الجزية على معدّل كل عشرة دراهم بزنة سبعة مثاقيل.
والذي تبين لي بعد الإمعان والتدقيق أن الدرهم الذي كان يؤخذ على المعدل المذكور يساوي في زماننا نصف فرنك تقريبا، أي قرشين ونصف القرش من النقود الرائجة التي هي أجزاء الذهب العثماني المقدر بمائة وخمسة وعشرين قرشا، والريال المجيدي المقدر بثلاثة وعشرين قرشا. وعلى هذا المعدل تبلغ جزية السنة كلها عن الغني مئة وعشرين قرشا، وعن المتوسط الحال نصفها، وعن الفقير المعتمل ربعها. لا جرم أن هذا غاية الرفق من الشريعة الإسلامية التي قنعت من الذمي بهذا القدر من المال وتكفلت بحماية نفسه وصون(3/403)
شرفه وساوت في الحقوق بينه وبين المسلم فجعلت له منها ما للمسلم وعليه ما على المسلم وكلفت المسلم أن يقاتل عنه ولم ترغمه على التجنّد بل تركت ذلك إليه إن رضي الدخول في الجندية، وإن لم يشأ كفّت عنه وقنعت منه بالجزية.
ومما يعدّ في الشريعة الإسلامية رفقا بالذمي جعلها الجزية على ثلاث مراتب، على الوجه الذي تقدم بيانه، كيلا يتحمل الذمي الفقير ما لا يطيقه، مع أنها لم تميز في الجهاد المفروض على المسلم بين الغني والفقير وذي العيال والمجرد بل جعلت المسلمين كلهم في مباشرة الجهاد بمنزلة واحدة.
ولو عملنا بمقتضى هذا الحساب معدل ما يدفعه المسلم المكلف للجهاد في كل عمره- لو أراد أن يجاهد بماله لا بنفسه- وبين ما يدفعه الذمي من الجزية وفرضنا أن كل واحد منهما يعيش سبعين سنة، لظهر لنا أن ما يدفعه المسلم ضعف ما يدفعه الذمي.
مثال ذلك: ثلاثة من أهل الذمة مكلفون للجزية وهم من المراتب الثلاث غني ووسط وفقير، جزية الأول عن السنة (48) وعن الثاني (24) وعن الثالث (12) فإذا جمعنا هذه المقادير إلى بعضها يبلغ المجموع (84) درهما. فإذا قسمنا هذا المبلغ على ثلاثة يصيب الواحد منهم (28) درهما في السنة فإذا ضربنا هذا المبلغ في (55) سنة وهي من السنة الخامسة عشرة من عمر الذمي إلى السبعين. يبلغ الحاصل (1540) درهما وهو جميع الجزية التي يؤديها الذمي في عمره- فأما المسلم المكلف للجهاد- سواء كان فقيرا أم كان غنيا- فإنه إذا عاش القدر المذكور من السنين فلا أقل من أن يطلب للجندية ثلاث مرات فلو دفع عن كل مرة ألف درهم على أقل تقدير لبلغ مجموع ما يدفعه في عمره (3000) درهم وهي ضعف ما يدفعه الذمي تقريبا.
ثم إن الدولة العثمانية لما رأت لاستثناء صاحب العيال من الدخول في الجندية لزوما «1» ، رفقا بعياله وصونا للتناسل من الانقطاع، استثنته من الجندية واستثنت معه العجزة والزّمناء»
، ثم عملت معدلا فظهر لها أن عدد الذين يكلفون للتجنيد في كل سنة: واحد من كل مئة وخمسة وثلاثين مسلما. وقد جعلت بدل الجندي من النقود-(3/404)
إذا أراد أن يدفعها بدلا عنه- خمسة آلاف قرش أي خمسين ذهبا عثمانيا، فاعتبرت كل مئة وخمسة وثلاثين شخصا من أهل الذمة كعسكري واحد، وكلفتهم دفع هذا المبلغ الذي هو خمسة آلاف قرش، واستثنت منهم المعلمين والمشتغلين في المكاتب العسكرية والطبية والطلبة والمستخدمين في الدرك والشرطة ما داموا في وظائفهم، واستثنت على الدوام من كان سنه دون الخامسة عشرة وفوق السبعين، وجماعة الكهنوت والفقراء والعجزة، وجعلت توزيع ذلك المبلغ على المكلفين بيد رؤساء الطوائف، وأن ما يلحق المستثنأين «1» يوزعونه على بقية الأفراد. وقد جعلت للمكلفين «2» حق الاعتراض على رئيس طائفته إذا لم يوزع عليه أسوة أمثاله، فتنظر الحكومة في شأنه فإذا رأت اعتراضه في محله فإنها تكلف الرئيس أن يساويه بأمثاله إلى آخر ما هو محرر في نظام البدل العسكري المذيل بتاريخ 9 ربيع الثاني عام 1311 و 7 تشرين الأول سنة 309 رومية.
تتمة حوادث سنة 1328:
وفي هذه السنة ورد الأمر بإلغاء أخذ تذاكر المرور لمن يريد السفر إلى داخلية الولاية.
وفيها وصل إلى حلب صديقنا الأديب الفاضل السيد بهاء الدين بك الأميري، وهو أحد مبعوثي حلب وقد عاد الآن إليها من استانبول ومعه شعرة من الحلية النبوية. فاستقبل بموكب حافل ووضعت الشعرة في قبلية جامع الحاج موسى. وفي رجب هذه السنة ثارت طائفة الدروز في الجبل المنسوب إليهم فأوقعوا بدرك الحكومة وامتنعوا عن دفع المرتبات فمشت عليهم جيوش الدولة وبعد حروب طاحنة تغلبت الجيوش عليهم فأخلدوا للطاعة وحكم بالإعدام على عدد من زعمائهم فعلّقوا ونشرت راية الأمن والسلام في جبل الدروز وبقية تلك النواحي.
وفي شعبان هذه السنة عزل فخري باشا والي حلب ووليها حسين كاظم بك. وفيها وردت الأوامر بإبطال التغالي باحتفال زينة الميلاد والجلوس السلطاني، وحينئذ قصرت(3/405)
الزينة في هذين المهرجانين على إسراج عدد قليل من المصابيح ونشر السجاد وعروق الشجر فوق أبواب الدوائر الرسمية وبعض بيوت الوجهاء على صفة بسيطة. وفيها ظهر في الجزيرة وقضاء الباب ومنبج جراد كثير أتلف مقدارا عظيما من الزروع، ثم في الشتاء التالي اهتمت الحكومة بجمع بزره فتلاشى وأمن من شره.(3/406)
سنة 1329 هـ
شدة الشتاء وكثرة القرّ والثلج:
في محرّم هذه السنة- الموافق كانون الثاني سنة 1326 رومية- كان الشتاء شديدا والقرّ والثلج في حلب وباقي جهاتها مما لم يسبق له نظير. وفي أثناء هذه الأزمة بعثت إلى السيد الماجد أمين بك التميمي قائممقام قضاء منبج كتابا نشرت في طيه نبأ هذه الحادثة الكارثة. ومنه يعلم القارئ ما أحدثه القرّ والثلج من البلاء في حلب وأنحائها على وجه التفصيل. وإليك صورة الكتاب، بعد ديباجته:
على أني أحرّر لكم حروف هذا الكتاب والقلم يكرع شرابه من محبرة جامدة، والفكر يستمد مادته من قريحة نارها بأنفاس البرد خامدة، ذلك لأن شتاءنا في هذه السنة أقبل علينا فاغرا فاه كالحا بوجهه مكشرا عن أنيابه، منيخا بكلكله حالّا بأثقاله قد قرس قرّه، واشتد أمره، وسكر زمهريره، وتكسرت على الأرض قواريره، فأحال الألوان، وقشفت به الأبدان «1» ، وكتعت الأصابع «2» ، وأرعدت الأضالع، وعصب الريق في الأشداق، وجمد الدمع في الآماق، تقلصت منه الشفاه، وكزّت له الأسنان في الأفواه، صفح بجليده الأنهار والبحيرات، وأسال لعابه من الميازيب والشرفات، يتساقط ثلجه على الأرض تساقط النّور من أشجار ثار بها إعصار، ويتهافت على الحضيض تهافت الفراش المبثوث على لهيب النار، كلّل بملاءاته رؤوس الأطواد، ومدّ بساطه اليقق «3» على الروابي والوهاد، فعادت به القيعان كأنها درّة، وأصبح من مرآة الغريب في كل عين قرّة، ورحم الله القائل:
كم مؤمن قرصته أظفار الشتا ... فغدا لسكان الجحيم حسودا(3/407)
وترى طيور الماء في وكناتها ... تختار حرّ النار والسفّودا
وإذا رميت بفضل كأسك في الهوى ... عادت عليك من العقيق عقودا
يا صاحب العودين لا تهملهما ... حرّك لنا عودا وحرّق عودا
وتحرير هذا الخبر هو أننا أمسينا يوم الخميس 30 كانون الأول الرومي والغيوم البيضاء متلبدة في السماء والهواء لطيف معتدل، وما كاد ينقضي الهزيع الأول من الليل حتى أخذ الثلج يتساقط بكثرة فاستبشرنا بذلك لأن الأرض كانت عطشى مشتاقة إلى الماء، وبعض الزروع الشتوية قد أشرف على التلف. فنمنا ليلتنا فرحين مسرورين إلى أن كان الصباح نهضنا من مضاجعنا لقضاء حوائجنا فما راعنا غير الثلج المتكاثف قدر ذراع وقد تغير الهواء وقرس البرد والغيوم باقية على تلبدها، تثلج مرة وتمسك أخرى، مستمرة كذلك مدة سبعة أيام متوالية، إلى أن كان مساء يوم الخميس سادس كانون الثاني اشتد الدمق «1» وبرد الهواء حتى هبط الزئبق إلى الدرجة العاشرة تحت الصفر في مقياس السانتغراد تحت السماء، فجمد الثلج القديم وتكاثف فوقه الثلج الحديث قدر ذراع والغيوم لم تزل متلبدة ترسل الثلج تارة وتمسكه أخرى، إلى أن انقضى كانون الثاني وتم العقد الأول من شباط. وفي هذه الأثناء قرس البرد حتى بلغ درجة لم نشهد نظيرها فيما مر من حياتنا ولا حدثنا الأشياخ أنهم شاهدوا نظيرها قطّ، فقد أصبحت أصقاعنا في هذه الأيام تضارع الأصقاع القريبة من القطب الشمالي المعروفة باسم (سبيريا) حيث يهبط الزئبق إلى الدرجة الثلاثين تحت الصفر، وقد هبط عندنا في هذه الأيام إلى الدرجة الرابعة والعشرين. وفي رواية- عمن عني بهذا الأمر وحققه- أن الزئبق هبط في بعض الأيام إلى الدرجة السابعة والعشرين تحت الصفر بالمقياس المذكور.
تأثير الثلج والقرّ:
وقد نجم عن هذا الثلج والقرّ العظيمين وقوف حركة القطار الناري مدة ثلاثين يوما بين حلب ودمشق وبيروت، ثم سار من حلب إلى حمص بعد عناء شديد وبقيت الطريق مسدودة من حمص إلى بيروت ودمشق إلى أوائل شباط، فكأن القطار كان يعتذر عن وقوف حركته في لبنان بقول المتنبي:(3/408)
وعقاب لبنان وكيف بقطعها ... وهو الشتاء، وصيفهنّ شتاء
لبس الثلوج بها عليّ مسالكي ... فكأنها ببياضها سوداء «1»
وقد انقطع سير القوافل من سائر الجهات القاصية والدانية، فغلت الأسعار لا سيما الفحم، فقد ارتفع ثمن رطله من قرشين إلى اثني عشر قرشا وثمن رطل الحطب من قرش إلى ثلاثة قروش، فقاسى الفقراء الشدائد والأهوال من قلة القوت وفقد مادة الوقود وقام الدعّار والشطّار ينهبون أغلاق أبواب قناء الماء ودفوف سقائف الأسواق وتسلطت الأمراض الصدرية والعصبية، فمات مئات من الناس بالأزمة والذبحة الصدرية وذات الجنب وذات الرئة والفالج وسكتة القلب، وكأن الصّقع «2» بدأ يجري على أهله الانتخاب الطبيعي فأخذ من يضعف عن برده وأبقى من يقوى عليه، وقد جمد عدد غير قليل ممن كان مسافرا على الطرق أو كان مضطرا لمعاناة خدمة شاقة في البلد فمات أو كاد يموت لو لم يتداركه الناس بالدّفء أو الأخذ إلى الحمام، ولذا ألزمت الحكومة أصحاب الحمامات بأن يفتحوها ليلا لتكون ملجأ لمن أصابه الجمد، ومأوى للفقراء الذين فقدوا وسائط الدّفء.
واهتمت الحكومة بجمع الإعانات من أصحاب الخير فجمعت زهاء ثلاثة آلاف ليرا، فرقت ثلثها على الفقراء نقودا وثلثها اشترت به طحينا وفرقته وثلثا أحضرت به فحما من جهات حمص وبعلبك شحنته مجانا إلى حلب، إلا أنه لما قارب حماه عارضته الثلوج التي تجدد سقوطها فبقي القطار هناك نحو خمسة عشر يوما إلى أن تمكن من المجيء إلى حلب في أوائل شباط، فبيع منه جانب برأسماله وفرق باقيه على الفقراء. وكانت الحاجة إلى الفحم كثيرة، الفقير والغني فيها على السواء وكان طلب الناس له أشد من طلب القوت، وسبب ذلك أن القوت كان وافرا في حلب بسبب جودة الموسم، أما الفحم فإنه كان- في الوقت الذي جرت العادة على ادّخاره- مفقودا لأن الدوابّ التي تحمله من محلاته في فصل الخريف كانت مشغولة بأعمال الحبوب وكان الناس مؤملين بكثرة وجود الفحم في فصل الشتاء حين تفرغ الدواب من نقل الحبوب، كما يقع ذلك في أكثر السنين التي يكون فيها الموسم جيدا والشتاء معتدلا يمكن أن تسير فيه قوافل الفحم من الجبال وغيرها. أما(3/409)
الآن فقد كاد يستحيل أن تسير القوافل إلى حلب ولو من أقرب محل إليها ولهذا عزّ وجود الفحم على الغني والفقير وصار من أحب الهدايا بين المتحابين وأفضل الصدقات عن المتصدقين، وكان الناس يستعملون بكثرة مواقد الكاز البترول بالطبخ ويحتالون باستعمالها للدفء بأن يرتكز عليها صفحة الحديد المعروفة بالصاج، ويضعون فيها رملا ويدفؤون عليه.
وفي هذه المدة هلك مئات من الكلاب في حلب وغيرها مما أبقته آفة التسميم التي سلطتها الحكومة عليها في الصيف الماضي، وقد هامت الوحوش والضواري على وجوهها في ضواحي حلب ومفاوزها وهجم بعضها على القصبات، وهلك وصيد ما لا يحصى من الغزلان والذئاب والضباع والنمور والثعالب والأرانب وأنواع الطيور الدواجن وغيرها، وتلف مقدار نصف مليون من غنم القنية «1» وغنم التجار المرسلة من جهات الموصل وأرضروم، ولحق تجار حلب من ذلك نحو سبعين ألف رأس، فانكشف حال كثيرين منهم وارتفعت أسعار اللحم والسمن خمسة وعشرين في المائة ووقفت حركة التجارة، وأقفلت أكثر حوانيت الباعة في الأسواق والخانات، وتعطل كثير من الأفران لفقد مادة الوقود وتهدم مقدار عظيم من سقائف الأسواق، بطبعه، أو هدمته الحكومة خوفا من خطره. وخرب في أنطاكية عدد غير قليل من البيوت لأن بناءها غير مستعد لتحمل أثقال الثلوج التي لا تقع هناك إلا نادرا. وجمد نهر العاصي على مقدار أربعة أذرع من جانبيه، وجمد نهر الفرات كله من بعض جهاته وتفطّر في بعض مساجد حلب أعمدة صخرية مر على ركزها في محلها ستمائة سنة فلم يحصل بها خلل سوى هذه السنة.
وبهذا يستدل على أن برد هذه السنة مما لم يسبق له نظير في حلب منذ ستمائة سنة، وتكسر كثير من الحجارة المرصوفة في سفل الأبواب المعروفة باسم البرطاش وعدد غير قليل من الأدراج الحربية، وتفرقع أكثر الرخام المفروش في المنازل والمساجد، وتحطم مالا يحصى من الأواني الزجاجية التي يحفظ فيها بعض المائعات كالخلّ والأشربة الحلوة، وتخرق الكثير من الظروف النحاسية واختلت طلنبات رفع الماء وتكسر أكثرها، وصقعت(3/410)
الخضر «1» والبقول الشتوية في البساتين كالسلق والإسفانج والقنّبيط، ولم يسلم منها سوى ذوات الجذور كالجزر واللفت، وعطب شجر البرتقال وما هو من هذه الفصيلة، وشجر التين والجوز والزيتون والرمان في حلب وأنطاكية والباب وأرمناز وسلقين وما قارب تلك النواحي، وقبحت مناظر المنازل والشوارع بما تراكم فيها من الثلوج وأكداس الجليد واندلاع ألسن الميازيب وسيلان أنوف الأسطحة مما تقشعرّ لمنظره النفوس وترتعد له الفرائص.
ولسان حال الناظر إلى ذلك يقول:
فإن كنت يوما مدخلي في جهنّم ... ففي مثل هذا اليوم طابت جهنّم
مناظر تخدع العين وتدهش العقل، فيحسب السائر في منازل حلب وشوارعها أنه سائر في خرابة عظيمة رومانية أخنى عليها الدهر وعاثت بها أيدي الأيام والليالي، حتى عادت أنقاض أطلالها ركاما وأبنيتها المتزاحمة وديانا. عطلت الحكومة جميع المكاتب والمدارس وانقطع البريد عن حلب من جميع الجهات مدة ثلاثين يوما، فاجتمع في ثغر بيروت من الكتب والرسائل ما يملأ ثلاثين عدلا. ثم في العشر الأول من شباط حملت في البحر إلى إسكندرونة ومنها إلى حلب.
وكان الناس في بحران هذه الأزمة «2» الشديدة قد لزموا منازلهم وانقطعوا عن السمر والسهر عند بعضهم، وكان كثير من العائلات المتوسطة في الحال- التي كانت العائلة الواحدة منها تسكن أفرادها متفرقة في خلوات الدار وغرفها- قد انضموا في أثناء هذه الشدة إلى بعضهم، وصاروا كلهم، كبار وصغار «3» ، يقومون ويقعدون في خلوة واحدة طلبا للدفء فلا يجدونه، وكان الإنسان يتدثّر بأثقل ما عنده من الدثار حتى يكلّ متنه ويوقد في خلواته المناقل العديدة فلا يتيسر له الدفء الذي يريده، وقد جمد مداد المحابر وما في ظروف الماء الموضوعة قرب منافذ الخلوة. وكنا نأخذ قطع الجليد ونذيبها في النار فلا تذوب إلا بعد بضع دقائق، وكأنها- لمّا كان جمودها ببرودة درجتها بضع(3/411)
وعشرون تحت الصفر- كان ذوبانها موقوفا على حرارة تعدل درجتها درجة برودتها.
ومن الغريب أن رجلا احتاج إلى منقل مهجور عنده فأسعر فيه النار وطبخ عليها قهوة البن ثم أراد طمر النار في رماد المنقل فأحسّ بجرم في أسفل المنقل تحت الرماد فعالجه فإذا هو قطعة جليد في أسفل المنقل لم تؤثر بها كل هذه النار ولا أذابتها. ومما تقشعر منه النفوس ويقطر له القلب دما موت كثيرين من عرب البادية المخيمين في بيوت الشعر في المفاوز المنقطعة. من ذلك ما حكاه صديق لي من تجار السجاد القافلين من بغداد في هذه الأيام، قال: لما بلغنا مدينة الدير الحمراء واشتد علينا البرد وكثر تساقط الثلج صرنا نسير في عربة مغطاة جلّلناها بالسجاد مع خيولها، ووضعنا فيها موقدة كاز استحضرناها معنا لمثل هذا الطارئ، ولولا ذلك لهلكنا وهلكت دوابنا.
قال: وبعد أن جاوزنا ضواحي الدير قاصدين حلب مررنا على واد لاح لنا فيه بعض بيوت من الشعر منغمسة بالثلج، قال: فنزلت من العربة وقصدت بيتا منها لأستأنس بأهله وأستطلع أحوالهم فوصلت إليه بعد مشقة زائدة، ثم رفعت طرف الخباء ولفتّ نظري إلى داخله فرأيت؛ ولكن ماذا رأيت، لا أراك الله مكروها؟ رأيت ما غشّى على بصري وأوهى عزائمي، رأيت كلبا وأربعة أوادم مطروحين على الأرض جثثا هامدة بلا روح، تبصّ «1» ذرّات الجمد من وجوههم وأيديهم، فعلمت أنهم من شهداء البرد، وعدت عنهم وقلبي يخفق وأعضائي ترتجف. قال: وشاهدت في أثناء الطريق على ضفاف الفرات مئات من جيف الأغنام التي اغتالها البرد. اه.
ورأيت رسالة واردة من بعض تجار اليهود في عينتاب أرسلها إلى شريكه في حلب يقول فيها: بلغ عدد ما افترسته الوحوش من الأوادم في عينتاب وضواحيها في أثناء الثلج بضعا وثلاثين شخصا. وذكر عن واحد قدم من ملطية في هذه الأيام أنه قال: شاهدت في أثناء الطريق المتوسطة بين ملطية وعينتاب نحو ألف صندوق من التفاح وغيره ملقاة على الأرض، قد تخفّف أصحابها بإلقائها وفازوا بأنفسهم ودوابهم.
والخلاصة أن تأثير هذه الحادثة الكارثة عظيم وأضرارها خطيرة لو أفضنا بذكرها لملأنا(3/412)
منها مجلدا على حدته. وقد استمر هذا الثلج والبرد إلى أواسط شباط الشرقي، ثم انقطع الثلج وخفّت وطأة البرد.
تتمة حوادث هذه السنة:
فيها كانت الكمأة كثيرة جدا، اكتفى بها سكان البوادي وأحضروا منها إلى حلب ما أغنتهم قيمته. وفي صفر هذه السنة بوشر بعمل محطة لسكة حديد بغداد في حلب وفيها حررت الحكومة الأملاك أي قدرت قيمتها بواسطة جماعة من أهل الخبرة بالأملاك. وكان هذا العمل شاملا أكثر البلاد العثمانية التي منها حلب. وفيها كان قيام الأرناؤد في جهات مكدونيا، وقد أرسل إليهم أحد علماء حلب فتوى بجواز قيامهم على الدولة، فوقعت الفتوى بيد الحكومة وهي مذيلة بعدة تواقيع من قبل تلاميذ ذلك المفتي، فألقي القبض عليهم جميعا وأرسلوا إلى الآستانة وهناك حكم عليهم بالنفي إلى جزيرة رودس، فأقاموا فيها إلى أن استولى عليها التليان في السنة التالية.
وفيها عزل والي حلب حسين كاظم بك وولي عليها مظهر بك ابن بدري بك، وهو من خيرة شبان دولة تركيا ونخبة ولاتها علما وعملا وعفافا. والوالي الذي كان قبله كاتب بارع غير أنه استهان بأعيان حلب ووجهائها وسمّاهم الأشراف المتغلبة والمتغلبة الأشراف، ونسب إليهم كثيرا من أعمال الاستبداد والتسلط على الفقراء والمزارعين. وفيها تقرر ربط خط بغداد بإسكندرونة بواسطة العثمانية. وفيها في شوال كان ابتداء حرب الدولة الإيطالية في ولاية طرابلس الغرب.(3/413)
سنة 1330 هـ
سير قطار بغداد:
فيها كان ابتداء سير القطار على سكة حديد بغداد من محطتها الأولى في حلب، الكائنة في كرم الخناقية، سار منها إلى جهة راجو ثم ما زال الخط يمتد حتى اتصل سنة 1335 بخط بوزنتي الكائن في جهة الأناضول المنتهي إلى محطة حيدر باشا في اسكدار إحدى محلات استانبول. وسار القطار من جهة أخرى حتى وصل إلى جرابلس وقد انعقد على الفرات عندها جسر خشبي وقتي يجتاز منه إلى الجزيرة، ثم ما زال الخط يمتد من هناك حتى جاوز ماردين. ثم وقف العمل بحدوث الحرب العامة.
وفيها انتهت الحرب بين تركيا وإيطاليا على طرابلس الغرب واستولت إيطاليا على طرابلس وجزيرة رودس وغيرها. وفيها في أثناء حصار إيطاليا للدردنيل- إرغاما لتركيا على تسليم طرابلس- حدث في حلب مظاهرة ضد إيطاليا لتنصرف عن الدردنيل. وفيها صدر الأمر بإجلاء التليان عن حلب سوى من كان منهم راهبا، وسوى الأرامل والعملة ومن يقبل الدخول في التابعية العثمانية. وفيها استقال والي حلب مظهر بك وتعيّن بدله رفيق بك والي سيواس الأسبق.
انتهاء حرب طرابلس وابتداء حرب البلقان:
وفيها انتهت حرب طرابلس الغرب كما قلنا سابقا وبدأت حرب البلقان بين تركيا ودول البلقان، وقد احتشد لتركيا من الجيوش عدد لا يحصى خصوصا ما احتشد لها من البلاد العربية، فإن شبان المسلمين من أبواب غزة إلى منتهى حدود البلاد الشامية لم يكد يتخلف واحد منهم عن التجند في هذه الجيوش، فكانوا يسيرون إلى جهة البلقان لحرب أعداء الدولة هناك بكل شوق وحماسة، رغما عما كان ينالهم وهم في أثناء الطريق من المشقات(3/414)
المضنكة كالبرد والجوع، وتحكم الأطباء عليهم وزعمهم أنهم موبوءون ومعاملتهم بكل غلظة وقسوة، وإعادة الكثيرين منهم إلى أوطانهم على أسوأ حالة. ولهذه الأسباب انتهت هذه الحرب بمدة وجيزة منجلية غياهبها عن انكسار جيوش تركيا وضياع جميع أملاكها في البلقان.(3/415)
سنة 1331 هـ
في هذه السنة والتي قبلها كانت المواسم جيدة والرخاء شاملا. وفي ربيع الثاني منها تعيّن واليا على حلب علي منيف بك. وفيه جدّت الحكومة بجمع إعانة سمّتها الإعانة الملّية.
وفي جمادى الأولى منها صدرت أوامر الحكومة بجواز قبول عرض الحال باللغة العربية في البلاد التي أكثر أهلها عرب. وفيه بوشر بانتخاب أعضاء المجلس العمومي وهو مجلس جديد حادث، وظيفته البحث عن المسائل التي تعود على الوطن بالرقي والعمار، ينعقد مدة أربعين يوما في السنة. وفي جمادى الثاني «1» منها وردت الأخبار بأن نيازي بك قتل شهيدا بيد أرنؤدي في مدينة أولونيا إحدى بلاد الأرناؤد. نيازي بك هذا هو رفيق أنور باشا في السعي بقلب الحكومة العثمانية إلى الديمقراطية.
وفيه أعطي امتياز بتجفيف بحيرة أنطاكية التي تبلغ مساحتها خمسين ألف هكتار وقد مضت المدة المضروبة للشّروع بأعمال التجفيف ولم يباشر صاحب الامتياز العمل ففسخ الامتياز وبقيت البحيرة على ما كانت عليه. وفي شعبان حول الوالي علي منيف بك إلى ولاية بيروت وتعين بدله في حلب جلال بك. وفيها استردت تركيا أدرنه وقرق كليسا.
وفيه تجاهر سكان بيروت ودمشق بطلب إصلاح بلادهم فأجيبوا إلى بعض مطالبهم، وشكر الدولة على ذلك بعض الشبيبة العربية. وفي شوال تم الصلح بين تركيا والبلغار.
وفي ذي القعدة بوشر بفرش جادة الخندق بالحجر الأسود وكانت مفروشة بحجر أبيض واختلّ بمدة وجيزة وأكلته بكرات العجلات. وفيه بوشر بفرع إسكندرونة من خط سكة حديد بغداد. وفيه صدرت الأوامر بتوحيد الساعات، أي بجعل عيار الساعات الفرنجية مبدؤه وقت الزوال. وفيها رخص بأن يكون التدريس في مكاتب الدولة باللسان العربي في البلاد العربية.(3/416)
سنة 1332 هـ
في أواخر محرّم هذه السنة قتل تعليقا في رحبة باب الفرج- قرب برج الساعة- أحد الشبان، قتل قصاصا منه على قتله غلاما من أسرة كريمة اغتاله في رمضان السنة السالفة. وكان الحامل على قتله إياه غيرته عليه وأمله الاجتماع معه في دار البقاء. والجنون فنون. وفيها جدّت الحكومة بجمع إعانة الأسطول في سائر البلاد الدولة العثمانية وألّفت لهذا الغرض في سلانيك لجنة خصوصية وحضر للحثّ على بذل هذه الإعانة وفد خاص من استانبول جمع لهذه الغاية مبلغا طائلا وكانت هذه الإعانة تجمع منذ سنتين من التجار والمأمورين على أنحاء شتى تؤخذ تارة مشاهرة وأخرى مسانهة «1» . وفيها أسست العدلية في منبج مركز هذا القضاء.
أول طيارة في جو حلب:
في شهر ربيع الأول من هذه السنة الموافق نيسان سنة 1329 رومية تراءى في سماء حلب لأول مرة طيارة وردت عليها من استانبول، تحمل أستاذين في فن الطيران وهما شابان تركيان غضّا الشبيبة، اسم أحدهما صادق والآخر فتحي، وكان وصولهما إلى حلب وقت الغروب وكانت مهدت لطيارتهما مسافة من الأرض قرب السبيل تجاه جبل البختي، ورشّ في هذه المسافة تراب أبيض، فنزلا بطيارتهما عليها بعد أن حلّقا في الجو برهة. وقد خرج لاستقبالهما والتفرج عليهما كبراء الحكومة والعسكرية وأعيان البلدة وألوف من أهلها.
ولما استقرت الطيارة في الأرض علا لها الهتاف والتصفيق وارتفعت الأصوات بالدعاء للدولة بالفوز والنصر. ثم إنهما أقاما في البلدة بضعة أيام أقيمت فيها لهما المآدب الحافلة ونالا من الناس إكراما زائدا. ثم نهضا من حلب على طائرهما الميمون قاصدين دمشق الشام فوصلا(3/417)
إليها في أقلّ من سحابة يوم وبقيا فيها أياما قليلة وحصل لهما فيها من الحفاوة والإكرام ما حصل لهما في حلب.
ثم نهضا من دمشق قاصدين القاهرة، وبينما هما يطيران في سماء ضواحي الأردن إذ عرض لطيارتهما عارض أبطل حركتها فخرّت بهما من الجو إلى الحضيض ودفعتهما عنها في أثناء هبوطها، فسقطا إلى الأرض سقوط الصاعقة وقد اندقّت أشلاء كل واحد منهما واختلطت ببعضها فصارت كأنها فدرة «1» لحم مدقوق. ولولا ما كان يحمله كل واحد منهما من الوثائق لما قدر أحد أن يميزه عن رفيقه. فحملت أشلاؤهما على عجلة إلى دمشق ودفنا في قبرين متجاورين في تربة المرحوم السلطان صلاح الدين، وكان أسف الناس عليهما شديدا.
كان الغرض من إرسال هذه الطيارة وباقي الطيارات التي أرسلت بعدها إلى هذه البلاد إعلام الشعوب العثمانية بأن الدولة مهتمة بترقية الفنون العسكرية كإحدى الدول المعظمة وأنها انتبهت من رقادها ونفضت عنها غبار التواني والتكاسل اللذين كانت عليهما.
الحرب العامة
الحرب العامة وما أدراك ما الحرب العامة؟ حرب كلح لها وجه الأرض وزلزلت جبالها وقلقت بحارها وكادت تميد لها الدنيا بأهلها. شبّت نيرانها في عاشر رمضان من هذه السنة الموافق 21 تموز سنة 1914 م وخمدت تلك النار الحاطمة في محرم سنة 1337 هـ وتشرين الثاني سنة 1918 م، فكانت مدتها أربعة أعوام وخمسة شهر تقريبا، نخرت في هذه المدة كبد العالم، أماتت أمما وأحيت أخرى. أقامت الأمم على بعضها، يسفكون دماءهم ويخربون بيوتهم وينهبون أموالهم ويعيثون فسادا في أعراضهم كأن رحم الإنسانية قد تقطعت بينهم، يستعملون في إبادة أنفسهم كل ما تصل إليه أيديهم من آلات التدمير ومعدات الهلاك والبوار حتى ظهر مصداق قول الملائكة الأبرار: «أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء، ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك «2» » .(3/418)
آفة على البشر أهلكت من النفوس ما يعدّ بعشرات ألوف الألوف، ماتوا ميتات مختلفة ما بين قتيل وغريق ومحروق ومفقود، وميت بالثلج والبرد وهالك بالجوع وأنواع الأمراض وغير ذلك من صنوف البلاء. ناهيك أن عدد الجيش العثماني كان في أثناء هذه الحرب الطاحنة مليونين و 850 ألف رجل استشهد منهم من ضبطت أسماؤهم فقط 325 ألف ضابط، وعدد الجرحى 400 ألف، ومجموع الأسرى والمنهزمين مليون و 565 ألف رجل. وإن ما أنفقته هذه الدولة في هذه الحرب من الأموال يبلغ نصف مليار من الذهب العثماني. هذه هي خسائر الدولة العثمانية فقط من الأموال والنفوس. ومنه يعلم بالقياس مقدار ما خسرته بقية الدول العظام من هذين النوعين. هلك في هذه الحرب للدولة العثمانية في حملتها على ترعة السويس فقط اثنا عشر ألف جمل، بله ما هلك فيها من بقية المواشي مما لا يدرك حدّه ولا يمكن عدّه فإن البغال والحمير والخيول في بلادنا كادت تدهى بغائلة الانقراض والانمحاء.
هذا وإن أخبار الحرب العالمية قد تستوعب مجلدات ضخمة تملأ المكتبات مما ليس الإتيان به في استطاعتنا، فضلا عن كونه ليس من واجباتنا في هذا التاريخ الخاص. وإنما علينا- قبل الشروع بسرد حوادث هذه الحرب في حلب وبعض ملحقاتها- أن نأتي بمقدمة إجمالية يتصور منها القارئ فداحة خطبها ويدرك شيئا من أحوالها وأسبابها على وجه الإجمال فنقول:
الدول المتحاربة مع بعضها:
الدول المتحاربة مع بعضها ثمان وعشرون دولة. وهي تقسم إلى فريقين، أحدهما نطلق عليه اسم (دول الاتفاق) والآخر نطلق عليه اسم (التحالف المربع) . أشهر دول الفريق الأول: إنكلترا، روسيا، فرنسا، أميركا، اليابان، الصين، بلجيكا، اليونان، الصرب، الحبل الأسود، رومانيا، البرتكيز، وغير أولاء الدول مما لا تخطر أسماؤهن في بالنا.
أما دول التحالف المربع فهن: دولة ألمانيا، النمسا، تركيا، البلغار.
جميع دول الاتفاق أعلن الحرب على دول التحالف المربع متعاقبات دولة إثر دولة.
إن عدد جيوش دول الفريق الأول يفوق بكثير جدا عدد جيوش الفريق الثاني، ومع هذا(3/419)
فإن النصر كان حليف الفريق الثاني لاجتماع كلمة دوله على غرض واحد وهو الفوز والانتصار، ولتوحيد حركاتهن طوعا لرأي واحد، ولانتظام مهماتهنّ وطواعية أجنادهن الذين يقاتلون بصدق وإخلاص ويسمحون بتضيحة أنفسهم دفاعا عن أوطانهم وحفظا لشرفهم لا طمعا بأجرة يرونها جزءا لا يتجزأ من ثمن أرواحهم.
ثم في آخر سنة من سني الحرب انضمت دولة أميركا إلى دول الاتفاق فانعكس الحال وانتهت الحرب بفوزها، وقد فتك الجوع بالنمسا واضطرها أن تنفرد بالصلح، ثم تبعتها البلغار وحذت حذوها. وبسبب ذلك انقطع خط الاتصال بين تركيا وحلفائها ودب الرعب في قلوب عساكرها وانكسرت معنوياتهم، فانسحبوا من سوريا تطاردهم جيوش الإنكليز بمعونة عرب الشريف. وحينئذ تقررت الهدنة ووقفت رحى الحرب.
أسباب هذه الحرب:
لهذه الحرب سببان: أحدهما أولي والآخر ثانوي نتكلم عليه بعد.
السبب الأوليّ:
السبب الأولي الذي اضطر كل دولة من دول الاتفاق إلى أن تطرح ما بينها وبين الدولة الأخرى من الدخل والضغن- ويكنّ جميعا يدا واحدة في إشهار هذه الحرب- هو تضخم دولة ألمانيا وتوجس الدول الخيفة من غائلتها، وتوهمهنّ أنها بعد قليل من الزمن ستجرها قوة معداتها البرية والبحرية ومهارتها في الفنون الحربية إلى الطمع باكتساح أوربا وابتلاع الدنيا، الأمر الذي كان يتجسم شبحه المريع في أعين دول الاتفاق غولا مرعبا مكشّرا عن أنيابه الحديدية يتطاير من عينيه الجهنميتين نار شرر حاطمة تلتهم أوربا بأسرها.
على أن بعض الساسة من الغربيين ينكر على دول الاتفاق ما يتوهمنه من غائلة هذا التضخم ويقول: إن جدّ ألمانيا في بلوغها تلك الدرجة من التضخم لم يكن لها من ورائه غرض ترمي إليه سوى ترقي اقتصادياتها وحفظ كيانها وصد هجمات المحدقين بها من أعدائها، وإنها لا تفكر قط بالفتح والاستعمار أو التعدي على الجوار والأغيار.
وسنورد بعد قليل نبذة من الكلام على تضخم إيمبراطورية ألمانيا وما بلغته من التفوق والعظمة في فنون الحرب والاقتصاد وغيرهما.(3/420)
هذا وإن لكل دولة من دول الاتفاق- في القيام إلى هذه الحرب- أغراض «1» خاصة (عدا الغرض العام) دعتها إلى القيام على ألمانيا ومحاربتها وقهرها.
وها نحن نتكلم هنا على ما علمناه لكل دولة من دول الاتّفاق من الأغراض الخاصة بهذه الحرب فنقول:
أغراض دولة بريطانيا العظمى من هذه الحرب:
هي حفظ سيادتها البحرية وإن شئت فقل سيادتها الدولية. المحاماة عن مستعمراتها في الكونغو التي قصدت ألمانيا تقسيمها سنة 1913 م/ 1332 هـ، دفع غائلة ألمانيا عن الهند لأنها بدأت تبذل جهودها في أسباب الوصول إليها، فعزمت على مدّ السكة الحديدية إلى العراق، وأخذت تمهد الأسباب لذلك في خليج البصرة. عزم بريطانيا العظمى على جعل شبه جزيرة العرب إمارات تحت نفوذ إمبراطورية عامة عربية خاضعة لإرادة إنكلترا، وهناك لهذه الدولة العظيمة مقاصد أخرى من هذه الحرب يطول شرحها.
أغراض دولة فرانسة من هذه الحرب:
هي أخذ الثار من ألمانيا واسترداد اللورين وقلعة متس والألزاس وستر برج وضمّ ما فيهما من الألمان- البالغ عددهم مليونا ونصف المليون- إلى الجمهورية الفرنسية. شلّ يد ألمانيا عن إنجاز وعدها لحكومة مراكش سنة 1905 م/ 1323 هـ بأنها ستمد إليها يد المساعدة على فرنسة. إرجاع ألمانيا عن طلبها من فرنسا سنة 1906 م/ 1324 هـ أن تتخلى لها عن حقوقها في تلك البلاد. صدّ ألمانيا عن بذل جهودها في مؤتمر الجزيرة المنعقد سنة 1907 م/ 1325 هـ بأن تنسحب فرنسا من مراكش. مجازاة ألمانيا ومعاقبتها على بذل مساعدتها سنة 1908 م/ 1326 هـ إلى النمسا على اغتصابها بوسنه سراي وهرسك، وعلى نقضها معاهدة برلين وتحرشها سنة 1910 م/ 1328 هـ بالفرقة التونسية وتعديها عليها وإرسالها سنة 1911 م/ 1330 هـ إنذارا ثانيا وأسطولا إلى أكادير محتجة على فرنسا بهجوم جيشها على مدينة فاس. ومن تلك الأسباب أيضا اتفاق ألمانيا مع بعض خونة من الوزراء(3/421)
على أن تأخذ ألمانيا مائتي ألف كيلومتر من الأراضي الفرنسية في مستعمرة الكونغو. ولها غير ذلك من المقاصد والمطالب.
أغراض الدولة الروسية من هذه الحرب:
هي تمزيق دولة تركيا والاستيلاء على استانبول. كانت دولة روسية منذ مئات من السنين تحاول الوصول إلى هذه الغاية، وكانت كل من دولة إنكلتر وفرنسا يحبطان مساعيها في ذلك الوقت. وفي النهاية أدركت روسية بعد معاهدة برلين أن استيلاءها على استانبول أصبح من رابع المستحيلات، فحوّلت وجه أطماعها إلى الهند. ولما أوصدت السياسة الإنكليزية في وجهها هذا الباب حوّلت أطماعها إلى الشرق الأقصى وقصدته فضربت دولة اليابان على يدها تلك الضربة الدامية، وحينئذ رأت روسية أنه لم يبق عندها لتوسيع أملاكها سوى الرجوع إلى تلك النغمة القديمة وتحقيق حلمها الأزلي، وهو تمزيق تركيا واستيلاؤها على استانبول تنفيذا لوصية بطرس الأكبر. رضيت بذلك إنكلترة لتحول قصد روسية عن الهند، وتجعل المملكة العثمانية ضحية عنها وتكون بذلك قد استفادت فائدة أخرى لها عندها أهمية كبرى، وهي تخلّصها من الخلافة العثمانية وسيطرتها الروحية على العالم الإسلامي في الهند. وقد أطلقت إنكلترا يد دولة فرنسة في سوريا لتسكت عن روسية في انقضاضها على ملك بني عثمان.
ومن جملة مقاصد روسية من القيام على ألمانيا والنمسا تحقيق حلمها الآخر الذي هو الاستيلاء على العنصر السلافي المنضوي تحت راية النمسا والمجر وضمّه إليها، وجمع شمل البعض الآخر من هذا العنصر في البلقان وجعله ولاية خاضعة لحكمها.
سبب دخول دولة أميركا إلى هذه الحرب:
كانت دولة أميركا- منذ نشبت الحرب العالمية إلى أن دخلت هي في غمارها- واقفة موقف الحياد تستغل الأرباح الطائلة من الفريقين المتحاربين اللذين يجتهد كل واحد منهما بأن يضمها إلى صفه. بقيت أميركا واقفة هذا الموقف حتى قدّم وزير خارجية إنكلترا المستر بلفور إلى المستر بايج- في أواخر شهر فبراير سنة 1917 م/ 1326 هـ- برقية فحواها أن ألمانيا تستعد الآن لمحاربة أميركا. وقد أرسل البرقية وزير خارجية ألمانيا عن(3/422)
طريق بطرسبرج إلى السفير الألماني في واشنطون ليرسلها إلى سفير ألمانيا في المكسيك ليطلب من رئيس جمهورية المكسيك أن تتحد مع ألمانيا على محاربة أميركا، وأن مكافأة جمهورية المكسيك على هذا الاتحاد ضم عدة ولايات إليها من أميركا. وفي هذه البرقية أيضا تكليف السفير الألماني إلى السعي بفصل اليابان عن دول الاتفاق وضمها إلى التحالف الألماني.
وكانت تلك البرقية محرّرة بالشفرة، وإنكلترا هي التي استحوذت عليها وفكّت طلاسمها لأنها تمكنت في أول الحرب من الاستيلاء على مفتاحها. ولما اطلعت أميركا على البرقية المذكورة عبأت جيوشها وانضمت إلى دول الاتفاق وخاضت معهن في عباب هذا البحر الطامي وكان من أمرها ما كان.
السبب الثانوي لهذه الحرب:
السبب الثانوي لهذه الحرب الضروس اغتيال عصابة صربيّة ولي عهد إيمبراطور النمسا وزوجته. وذلك أنهما في اليوم الثامن والعشرين من حزيران سنة 1914 م- الموافق أوائل شهر رمضان سنة 1332 هـ- بينما كانا في مدينة «بوسنه سراي» راكبين في سيارتهما متوجهين بين صفوف الموكب العسكري إلى إحدى كنائس المدينة، إذ فاجأتهما قنبلة متفرقعة وعيار ناري أوديا بحياتهما. وفي الحال ألقي القبض على من جنى عليهما هذه الجناية الفظيعة وهو البيكباشي (وجاتا نكوسك) و (ميلان سيغانوريك) كلاهما من عصابة سربية اسمها (نارودنا أو ديرانا) أخذت على عاتقها بذل الجهود بإقلاق راحة حكومة النمسا وفك بوسنه وهرسك عنها وربطهما بحكومة الصرب. وقد تبين من تقرير الجانيين المذكورين أنهما مدفوعان إلى هذا العمل من قبل كبار الموظفين في حكومتهم قصد إثارة فتنة يكون عقباها استيلاء حكومة سربيا على بوسنه سراي وهرسك المحايدتين لمملكتهما واللتين معظم أهلهما من العنصر السربي.
وبعد حدوث هذه النكبة بعثت حكومة النمسا في اليوم الثالث والعشرين من تموز إلى حكومة السرب إنذارا شديد اللهجة أمهلتها لإعطاء جوابه خمسة عشر يوما. فأرادت حكومة السرب قبول شيء من مضمون الإنذار ترضية لحكومة النمسا لتحققها من نفسها العجز من مقاومتها. فنهتها عن ذلك حكومة روسيا وشجعتها على الثبات أمام النمسا ووعدتها المساعدة عليها، فامتثلت حكومة السرب أمر روسيا وامتنعت عن جواب الإنذار، وحينئذ(3/423)
اضطرت حكومة النمسا إلى عمل مناورة حربية إرهابا لسربيا لتكرهها على قبول مضمون الإنذار، وأطلقت جنود الحكومة النمسوية بعض كرات مدافعها على حدود سربيا تهديدا لها. وكانت حكومة سربيا قد علا صراخها استنجادا بالدول العظمى، فقامت عساكر روسيه على حكومتها وأكرهتها على تعبئة جيوشها وإشهار الحرب على ألمانيا توصلا إلى محاربة حليفتها النمسا. ثم شبت نيران تلك الحروب على الوجه الذي سنبيّنه.
بيان أن هذه الحرب كانت مقررة قبل هذه الحادثة:
سمّيت هذه الحادثة سببا ثانويا للحرب لأن العقل يستبعد أن تكون هذه الحرب- التي قامت من أجلها الدنيا وقعدت- مسبّبة عن تلك الحادثة الاعتيادية التي يكثر وقوع نظائرها في أوربا فلا تأبه بها. غاية ما يمكن أن يقال في هذه الجريمة أنها كانت سببا لتعجيل إعلان الحرب لا سببا لوجودها. ودليلنا على ذلك ما كنا نراه في حلب من الحركات العسكرية الدالة على الاهتمام بالتأهب والاستعداد إلى مباغتة المستقبل بأمر عظيم، فإن الضباط العسكريين كانوا قبل إعلان الحرب بأشهر يحضرون بين حين وآخر إلى خانات التجار ويسجلون مقادير ما عند كل تاجر من البضائع والغلات وأحيانا يأمرون التجار بالإمساك عن بيع بعض البضائع الموجودة عندهم. ثم قبل إعلان الحرب بنحو شهر أو أكثر دعت جهة العسكرية عرفاء المحلات المعروفين بالمخاترة وأعطت كل واحد منهم مغلفا مختوما على صحيفة مكتوبة، وأمرته بحفظه عنده مع بقائه مختوما، وحذّرته من فتحه ووعدته بالقتل إن هو فتحه قبل أن تأمر بفتحه. فكان المختار يأخذ المغلّف ويحفظه في أحرز مكان عنده.
ومن الأدلة الساطعة على أن هذه الحرب كانت مدبرة مقررة- قبل حدوث نكبة الاغتيال- قول جمال باشا في مذكراته أثناء كلامه على التحالف التركي الألماني: إن عرض ألمانيا على تركيا التحالف معها لم يكن إلا لانزعاجها لتأهبات خصومها. وقال السير روجر كيسمنت الإرلندي في كتابه الذي ألفه تحت عنوان «الجريمة التي ارتكبت ضد أوربا» : إن الخلاف الذي وقع بين السرب والنمسا لم يكن سوى شطر يسير جدا من المسألة الكبرى التي قسمت أوربا على ما نراه فيها من الأقسام المسلحة. وأكبر دليل على ذلك تقرير أرسله السير «ج بوشنان» بمناسبة الطلب الذي قدمته حكومة روسيا إلى سفير(3/424)
حكومة إنكلترة في بطرسبرج. وهو أن يؤكد على حكومته أن تنضم إلى روسيا وفرنسة وتعضدهما في أعمالهما. فأجاب سفير إنكلترا على ذلك بقوله أن ليس لحكومته مصالح في السرب تقضي عليها اتخاذ هذه الخطوة، ثم إن الرأي العام الإنكليزي لا يمكن أن يقنع بوجوب اشتراك حكومته في هذه الحرب من أجل السرب فقط. فعند ذلك رد عليه ناظر خارجية روسيا بقوله: يجب علينا ألّا ننسى أننا في الحقيقة واقفون أمام المسألة الأوربية الكبرى، وما أمر السرب إلا جزءا يسيرا «1» منها. وأنا أظن أن إنكلترا لا يحسن بها أن تضيع الفرصة وتتغاضى عن المسألة التي نحن بصددها. اه.
أقول: من قرأ هذه المناقشة وأمعن النظر في فحواها علم علم اليقين أن هذه الحرب مدبرة قبل حادثة الاغتيال، وأن هذه الحادثة كانت سببا لتعجيل الحرب لا سببا لوجودها كما أسلفنا بيانه.
نبذة من الكلام على تضخم إيمبراطورية ألمانيا:
إن الأمة الألمانية ارتقت من بين الأمم الغربية المتمدنة الذروة العليا في جميع حاجيات الحياة. فكما أنها أحرزت قصب السبق في فنون الحرب ومهماته ومعدّاته، فقد حازت القدح المعلّى من فنون الاقتصاديات على كثرة أنواعها، ونالت النصيب الأوفر من العلوم الاجتماعية والسياسية وفنون الطب وحفظ الصحة التي بواسطتها لم تزل مواليدها بالنسبة إلى وفياتها آخذة بالازدياد يوما فيوما. كان عدد نفوس الإيمبراطورية الألمانية سنة 1816 م/ 1232 هـ يقدر ب (25) مليونا. ثم في سنة 1871 م/ 1288 هـ بلغ عدد نفوسها (41) مليونا. ثم في سنة 1888 م/ 1306 هـ بلغ (48) مليونا. وفي سنة 1911 م/ 1330 هـ بلغ (66) مليونا.
ومما برعت به الأمة الألمانية فلسفة الطبيعيات والكيميا اللتين أوصلتاها بالأبحاث الدقيقة إلى إخضاع القوات النارية والكهربائية إخضاعا لم يعهد له مثيل. فاستخدمت تلك القوات بالزراعة والصناعة على تعدد أنواعها: من سكب الحديد ونسج الأقمشة، وعمل السيارات والطيارات، والغواصات والقوات البحرية التي لا يباريها بها مبار.(3/425)
كان عدد حصن البخار عندها في سنة 1882 م/ 1300 هـ مقدرا بمليون ومائتي ألف حصان. ثم في سنة 1907 م/ 1325 هـ بلغ عدد هذه القوة نحوا من خمسة ملايين ومائتي ألف حصان.
على أن الذي أعان الأمة الألمانية على النبوغ في المسائل الاقتصادية والفنون الحربية، هو غناء بلادها من الحديد والفحم الحجري اللذين هما أس كل قوة آلية. وعليه فإن ألمانيا بمعاملها- التي تتحرك بالبخار والكهرباء والغاز الفقير والبترول والبنزين- قد فاقت بكثرتها، بالنسبة إلى عدد نفوسها، جميع الأمم في أوربّا وغيرها.
كانت صادرات ألمانيا قبل خمس وعشرين سنة من القطن تقدر ب 67 مليونا، فصارت الآن تقدر ب 421 مليونا من الماركات. وصادرات الصوف كانت تقدر ب 177 فصارت الآن تقدر ب 253 مليونا من الماركات. وعلى هذه النسبة زادت فيها صادرات الحرير والكتان وبقية المواد التي تنسج منها الأقمشة. وعلى هذه النسبة أيضا زاد فيها عدد التجار، فقد كان في سنة 1882 م/ 1300 هـ يقدر بمليون وخمسمائة ألف فصار الآن يقدر بثلاثة ملايين وأربعمائة وسبعة وسبعين ألفا وستمائة تاجر. وهكذا قل في زيادة الخطوط الحديدية وأسلاك البرق وأسلاك الهاتف والمواد الطبية والفنون الزراعية، وجميع البضائع التجارية، وصنوف الأصبغة والأشربة الروحية التي تصدرها دول العالم المتمدن من ممالكها، فإن ألمانيا قد برعت بها أيما براعة.
لم لم تتفق تركيا مع دول الاتّفاق، ولم لم تبق على الحياد؟
يؤخذ من مذكرات جمال باشا أن تركيا رغبت عقد التحالف مع دول الاتفاق، وأن جمال باشا سافر إلى باريز للحصول على هذا الغرض وقابل وزير خارجية فرانسة، وطلب منه- قبل إبرام عهدة الوفاق- حل مسألة الجزر بين تركيا واليونان. فكان جواب الوزير له ما معناه أن فرنسة لا يسعها الموافقة على هذا الطلب دون رضاء حلفائها. ومن هذا الجواب فهم جمال باشا أن دول الاتفاق لا ترغب التحالف مع تركيا، فعاد إلى استانبول بخيبة الأمل. وقابل فيها السير لويس ماليت سفير إنكلترا.
وبينما هو يحادثه إذ قال له السير لويس: أرغب منك يا جمال باشا أن تصرح لي بمطاليب الحكومة العثمانية في مقابلة بقائها على الحياد. فأجابه جمال باشا، بعد أن راجع الصدر(3/426)
الأعظم بقوله: إن الحكومة العثمانية تطلب- في مقابلة بقائها على الحياد- إلغاء الامتيازات، إعادة الجزر التي أخذتها اليونان من تركيا، حلّ مشكلة مصر، تعهد روسيا بعدم التدخل بشؤون تركيا الداخلية، معونة إنكلترا وفرنسة الفعلية فيما لو هاجمت روسيا بلاد تركيا. قال جمال باشا ما معناه: فأبلغ السير لويس حكومة لندره مطالب تركيا فكان جوابها هكذا:
لا يمكن التفكير بإلغاء الامتيازات، إنما يمكن لإنكلترا- بعد اتفاق حلفائها- أن تسمح بإلغاء بعض امتيازات مالية. وأما مسألة الجزر فيجب تأخيرها والنظر إليها فيما بعد، كما أن المسألة المصرية يترك الخوض فيها الآن، وإن روسيا لا تفكر مطلقا في مهاجمة تركيا. وإن إنكلترا تطلب- في مقابلة إلغائها بعض الامتيازات المالية- عدم إغلاق المضايق في وجه سفن روسيا.
فهم جمال باشا من هذا الجواب أن دول الاتفاق لا تود اشتراك تركيا بالحرب في جانبهن، لأن ذلك يضيع لروسيا فكرة الاستيلاء على استانبول وأن غرض دول الاتفاق السعي في منع تركيا عن القيام بشيء لغير مصلحتهن، وبالاحتفاظ في غضون الحرب بالاتحاد مع روسيا وإعطائها عند الفوز النهائي استانبول، ومنح الولايات العربية استقلالا داخليا يسهل فيما بعد سقوطها تحت حمايتهن ووصايتهن.
قال جمال باشا في مذكراته ما خلاصته: إن بقاء تركيا على الحياد، مع عدم معارضة الملاحة في المضايق، يسهل لروسيا بعد خروجها من الحرب العالمية ظافرة الانقضاض على استانبول والولايات الشرقية في الأناضول.
قال: وإذا قصدنا التخلص من هذه الغائلة وأردنا إقفال المضايق- مع أن دول الاتفاق لا تسمح لنا بقفلها- أمكن حينئذ دول الاتفاق أن تضغط علينا، بل ربما يقول لنا البعض منهن أن يحتل المضايق إلى أن تضع الحرب أوزارها وحينئذ نعيدها إليكم.
قال جمال باشا بعد هذا كله: فلم يبق لنا سوى الالتجاء إلى تحالف قوي.
تحالف تركيا مع ألمانيا:
قال جمال باشا في مذكراته أثناء كلامه على موقف دول الاتفاق حيال تركيا ما ملخصه:(3/427)
إن إنكلترا قد تمكنت من القطر المصري، وهي تجتهد بالحصول على العراق وفلسطين وتوطيد نفوذها في جميع أنحاء شبه جزيرة العرب. وإن روسيا لا تحتاج عداوتها لتركيا إلى دليل، وهي لا ترى لتحقيق مطامعها أفضل من عزلة تركيا. وأما دول التحالف الثلاثي فإن النمسا وإيطاليا لم يبق لهما مطامع أخرى نحو تركيا، فقد قدمتا لها كل ما استطاعتاه من الأذى فلم يبق لهما حاجة إلى مطمع جديد. وأما ألمانيا فإنها ترغب أن ترى تركيا عزيزة الجانب إذ لا يمكن ضمان مصالحها إلا بتقويتها.
لا تستطيع ألمانيا الاستيلاء على تركيا وتجعلها كمستعمرة؛ لأن المركز الجغرافي والموارد الألمانية يجعلان ذلك مستحيلا. فألمانيا إذن تعتبر تركيا بمثابة حلقة في سلسلتها التجارية، ولهذا أصبحت من أشد أنصارها ضد حكومات الاتفاق التي حاولت تمزيقها خصوصا لأن تصفية تركيا كان معناه تطويق ألمانيا بصفة نهائية، وذلك أن تركيا في الجنوب الشرقي من ألمانيا كغلق «1» لذلك الطوق، فالطريق الوحيد الذي تدرأ به ألمانيا ضغط الطوق الحديدي هو منع تمزيق تركيا.
ولما قنطت تركيا من التحالف مع دول الاتفاق على الوجه الذي أسلفنا بيانه، ورأت أن مطامع روسيا لا تتحقق إلا بعزلتها، أخذت تفكر في محالفة تنقذها من هذا الخطر.
وقد استغرق تفكّرها هذا نحو ستة أشهر. وبينما كان الوقت قد آذن بنشوب الحرب، وتركيا في قلق من عزلتها، إذ بألمانيا تعرض عليها عقد محالفة تتفق مع مصالحها وتضمن حقوق الطرفين. فلم تتأخر تركيا عن قبول المحالفة مع تلك الإيمبراطورية القوية البأس، فإن لهذه المحالفة محاسن كثيرة منها منع دول البلقان عن التدخل في شؤون حكومة تركيا.
ومنع دول الاتفاق عن الاستيلاء على بلادها. ومنها أن علماء ألمانيا وفنونها وخبراءها التجار يصبحون تحت تصرف تركيا. إلى غير ذلك من المحاسن والمزايا التي تستغلها تركيا من هذا التحالف. ثم إن دولتي النمسا وبلغاريا دخلتا مع ألمانيا في عقد هذا التحالف دون تردد ولا توقف لأن ما يهم ألمانيا يهمهما أيضا.(3/428)
تصريح بالفوائد التي تقصدها ألمانيا من محالفتها مع تركيا:
لألمانيا في عقد تحالفها مع تركيا مقصدان:
المقصد الأول:
هو حفظ مضايق استانبول من استيلاء روسيا عليها كيلا تفقد ألمانيا وأوستريا- حليفتها الأخرى- استغلال الفوائد الاقتصادية اللائي تجنيانها من قبل العالم الإسلامي القاطن وراء البحر الأسود والأبيض، ولتكون تركيا سدا منيعا لوصول المدد إلى روسيا من حلفائها إبان الحرب، إذ لا سبيل إلى إمداد حلفائها إياها من جهة البحر الأبيض إلا من طريق استانبول.
إن روسيا لو وصل إليها المدد من حلفائها من هذا البحر لما كانت ألمانيا حين نشوب الحرب العالمية تقوى على إخضاعها في تلك المدة القصيرة. وكيف يتصور العقل جواز قهر أمة- في تلك المدة الوجيزة- يبلغ عدد شعوبها زهاء مائتي مليون، وجنديها من أشهر جنود الدول البرية لو كان المدد واصلا إليها من حلفائها كما يجب. لا جرم أن المضايق لو كانت مفتوحة لإمدادها بالمعدات والمهمات الحربية لصعب على ألمانيا أن تضربها تلك الضربة القاصمة لظهرها التي لم تكن متوقعة من قبل. ناهيك دليلا على ما وقر في صدور الألمان من عظمة روسيا وضخامة ممالكها وكثرة شعوبها أن الإمبراطور غليوم سئل عن عدد الدول التي يحاربها في هذه المعركة فقال: «عدد الدول التي أحاربها الآن ثلاث، منها دولتان هما روسيا وحدها، والدولة الثالثة هي بقية الدول» . فاعتبر دولة روسيا وحدها دولتين واعتبر بقية الدول العديدة دولة واحدة.
المقصد الثاني:
هو: من المعلوم أن موقع المملكة الألمانية والنموسية من قارة أوربا متوسط، وهما معدودتان من الدول المركزية في هذه القارة، وأن المنطقة المحدقة بهما مفتوحة الغلق «1» من جهة تركيا فقط. ثم لا يخفى أن العالم الإسلامي يبلغ عدده نحو ثلاثمائة مليون من(3/429)
النفوس، وهو متبعثر في الربع المسكون ما بين محكوم بدولة إسلامية ضعيفة مضروب عليها نطاق السيطرة من قبل دولة أجنبية، وما بين قاطن بمستعمرات تحكمها دول أجنبية كالهند وتركستان وتونس والجزائر، فإنّ الحكومات المستولية عليها في تلك الأصقاع تتصرف بمقدراتها كما تشاء.
ولما رأت دولة ألمانيا أن العالم الإسلامي المتبعثر على هذه الصفة لو تألفت أجزاؤه وربطت ببعضها برابطة الدين لجاء منه قوة تهدد الأرض ببأسها، فرغبت «1» أن تكون هذه القوة بجانبها ورأت أن لا سبيل إلى استمالة هذه القوة إلى جانبها إلا بالاتفاق مع الدولة العثمانية مقرّ الخلافة التي يتعلق بعرشها عامة المسلمين. فبذلت الدولة المشار إليها جهدها منذ أعوام طوال بموالاة الدولة العثمانية والمحاماة عنها إلى أن اطمأنت تركيا منها، فمدت إليها ألمانيا يد الاتفاق، وعقدته معها على أن تكون الدولتان يدا واحدة في إنقاذ العالم الإسلامي وإرجاع مجده إلى ما كان عليه. حتى إن جمال باشا صرح في مذكراته عدة مرات أن أول غرض لتركيا من هذه الحرب هو خدمة العالم الإسلامي. لا ريب أن دولة ألمانيا لو كانت هذه الحرب منجلية عن فوزها وظفرها لكانت جذبت إليها بهذا الاتفاق قلوب عامة المسلمين واستمالتهم نحوها بحكم قاعدة: (من والى صديقك فقد والاك) فكانت تستفيد هي وأوستريا من استمالة العالم الإسلامي إليهما ثلاث فوائد:
الفائدة الأولى:
إشغال قوات عظيمة لأعدائها حين قيامهم عليها تتركها أعداؤها في مقابلة من جاورهم من الحكومات الإسلامية وإماراته المستقلة، حينما يحدث بين ألمانيا وأوستريا وأعدائهما حرب في أوربا.
الفائدة الثانية:
التي تستفيدها الدولة الألمانية من استمالة العالم الإسلامي إليها: هي جعل الدولة الإسلامية وإماراتها- في عامة الرّبع المسكون- جزءا من دول الاتفاق المربع لتقاتل معها كجيش من جيوشها حينما تسنح لها الفرصة بشن الغارة على إحدى مستعمرات دول(3/430)
الاتفاق في آسيا وأفريقيا، ولا سيما الهند التي هي مصدر قوة إنكلترا. وقد رأت دولة ألمانيا وغيرها من الدول المعظمة أنه لا سبيل إلى قهر الأمة البريطانية وجعلها في عداد الدول الثانوية إلا بسلب الهند من يدها وشن الغارة عليها من جهة آسيا ما دامت مخانق البحار في قبضتها وأن الأمم الإسلامية التي تعترض طريق الوصول إليها في آسيا مما لا يستغنى عن مظاهراتهم والاستنصار بقوتهم حين الإغارة على تلك الدولة، الأمر الذي تعده ألمانيا من مقدمة المقاصد من استمالة المسلمين إليها. ولا يخفى أن الدول الإسلامية وإماراتها في آسيا يتألف منها جيوش ضخمة تملأ الفضاء، وهي في منتهى درجات القوة والشجاعة بحيث إذا أمدت بالمعدات وقادها رجال محنكون عارفون بفنون الحرب لجاء «1» منها قوة لا تلبث معها أكبر دولة حتي تهن قوتها ويتلاشى معظم ملكها.
الفائدة الثالثة:
رواج البضائع الألمانية والنمسوية في الممالك الإسلامية. إذ من المعلوم أن الأمة الألمانية لم تدع لباقي الأمم مجالا للسبق في ميادين الصناعة والاقتصاديات كما أسلفنا بيانه. ولا يخفى أن استثمار هذا التقدم والرقي يحتاج محصوله إلى أسواق يروج فيها، وأن أول داع لرواج البضاعة رخص أسعارها ولا شك أن البضائع الألمانية- على اختلاف أنواعها- حائزة هذه المزية، ولهذا يتهافت الناس عليها في مشارق الأرض ومغاربها حتى إن كثيرا من شعوب الدول العظام- كشعوب إنكلترا وشعوب فرانسة- يرغبون بالبضائع الألمانية عن غيرها فيقبلون على شرائها بكل رغبة ونشاط، حتى إنك لتجد في نفس جزيرة بريطانيا كثيرا من المحركات الألمانية في المعامل الكبيرة، اختارها أصحاب تلك المعامل دون غيرها لإتقانها ورخصها.
ومع كثرة ما يصرف من البضائع الألمانية في أسواق أوربا وأميركا، فإنها لم تزل كثيرة وافرة يزيد محصولها على الصادر منها زيادة عظيمة، فرأت ألمانيا أن تفتح لها أسواقا جديدة في آسيا وأفريقيا تصرف فيهما ما توفر لديها من محاصيل البضائع. ولما كان العالم الإسلامي في هاتين القارتين يعدّ من الشعوب الكبيرة فقد رغبت ألمانيا أن تستميله إليها بواسطة الخلافة الإسلامية لتنال منه رغبتها في رواج محاصيلها، فيقبل عليها وتزداد بواسطة الخلافة فوائدها(3/431)
الاقتصادية التي تسابق بها دول الربع المعمور.
تصريح في البواعث التي حملت تركيا على الاتفاق مع دولة ألمانيا:
معلوم أن دولة تركيا أتى عليها زمن ورايتها تخفق فوق ممالك يربو عدد أهلها على مائة وعشرين مليونا. وكانت دول أوربا في ذلك الوقت يحسبن لها حسابا عظيما ويتسابقين مع بعضهن بالتزلف إليها. ثم لما تقلبت الدهور والأعصار عليها وأخذت ترجع القهقرى- سنّة الله في الأيام التي يداولها بين الناس- بقيت دولة بريطانيا على مجاملتها لتركيا، رعاية لخواطر رعاياها المسلمين المرتبطين بالخلافة العثمانية برابطة الدين وتوهينا لأعدائها عن تقربهم إلى مستعمرة الهند، كمحاماتها عنها في واقعة أبي قير، تلك الواقعة المدهشة، وكمحاماتها هي ودولة فرنسا في حادثة القرم التي كسرت فيها جيوش دولة روسيا أيما كسرة، توهينا لقوة هذه الدولة وإيقافا لها عند ذلك الحد.
ثم إن إنكلترا أمنت غائلة الروس باتفاقها مع دولة اليابان على دفع الروس عن الشرق الأقصى، وكانت دولة تركيا قد وصلت إلى دورها الأخير من التقهقر والانحطاط وأصبحت عرضة لاستيلاء الفاتحين، وقد ذهب قسم عظيم من بلادها في الحرب الأخيرة مع روسيا ولم يبق ريبة في عجز تركيا عن مقاومة أعدائها، فاستغنت دولة إنكلترا عن مجاملتها لتركيا ورأت أنها أولى من غيرها بالأكل من هذه المائدة المبسوطة لكل وارد وصادر، وأجدر من سواها بالاستيلاء على تلك البلاد، وأن المسألة الشرقية قد آن أوان مباشرتها، فاحتلّت- في حادثة اعرابي باشا- مصر. ومن ذلك الوقت بدأت تركيا تشعر بانحراف هذه الدولة عن مجاملتها، وكانت عيونها وقناصلها في الممالك الأجنبية تعلمها من وقت إلى آخر بأمور تدل على سوء مقاصد أوربا مع تركيا وعدولها عن مجاملتها واتفاقها على معاكستها، فتعكّر صافي اعتقادها بإخلاص أوربا، ثم ازدادت نفورا من دولها حينما تحققت أنهن يعاكسنها في جزيرة كريد ويساعدن مقاصد اليونان. وبعد مدة تأكدت بأنهن انقلبن ضدها انقلابا بينا وانضم إليهن عدوها الأكبر دولة روسيا وغيرها من باقي أعدائها مبرهنة هذا الانقلاب باتفاق الدول على حرمانها مما جنته سيوف جنودها من بلاد حكومة اليونان في حربها الأخيرة معها.(3/432)
وكان قد تواتر عند العثمانيين أن دول أوربا غير المركزية قد اتفقن على تقسيم بلاد تركيا فيما بينهم، وعلى إخراج نواياهن في المسألة الشرقية من حيز القوة إلى حيز الفعل. فلم ير السلطان عبد الحميد بدا من التمايل إلى دولة ألمانيا التي كانت تخطب صداقة تركيا منذ أمد بعيد تمهيدا لبلوغ مقاصدها التي أسلفنا ذكرها. فأحضر هذا السلطان جماعة من الألمان- أساتذة العلوم العمرانية والفنون العسكرية- إلى مدارس استانبول ووظّفهم بوظيفة التدريس والتعليم. ومن ذلك الوقت شرع هؤلاء الأساتذة يغرسون في أفكار التلامذة حب ألمانيا ويجسمون في مخيلتهم عظمة دولتهم وحبها لدولة تركيا، ويؤكدون لهم ما وقر في صدر دولة إنكلترا من المقاصد السيئة في حق تركيا وأنها قسمت بلادها بينها وبين باقي دول أوربا ودول البلقان. وكان التلامذة يعتقدون صحة هذه المبادىء ويثبتونها في أذهان الأمة حتى تمكنت من عقولهم واستحكمت في اعتقادهم.
ثم قام حزب الاتحاد والترقي على السلطان عبد الحميد وحملوه على العمل بالقانون الأساسي وقلبوا الحكومة إلى الديمقراطية ثم خلعوه. وقد ساعدت دولة إنكلترا الاتحاديين في هذا الانقلاب انتقاما من السلطان عبد الحميد على ميله إلى الألمان وتقريبه إياهم، واتخاذه منهم الأساتذة والمرشدين وبعض قواد عسكريين. ثم حدثت حرب طرابلس الغرب بين تركيا وإيطاليا. وكان الاتحاديون يأملون من دولة إنكلترا المساعدة في هذه الحرب فخاب أملهم ولم تساعدهم إنكلترا بشيء حتى ولا بإمرار قواتهم من مصر إلى جهة طرابلس.
فازداد نفورهم من إنكلترا وتأكدت رغبتهم بالميل إلى ألمانيا حينما لم يروا بدا من التجائهم إلى هكذا دولة قوية تساعدهم على خصمهم العظيم، خصوصا بعد أن خاب سعيهم بالتحالف مع دول الاتفاق الذي قدمنا بيانه. ثم حدثت حرب البلقان بين تركيا وحكومات البلقان، وانجلت هذه الحرب عن انكسار تركيا وخسرانها جميع ولاياتها في البلقان، وأعلنت البلغار استقلالها بالرومللي، والنمسا في البوسنه والهرسك. ثم إن تركيا سنحت لها فرصة أمكنتها بمساعدة ألمانيا استرجاع قسم كبير من ولاية أدرنة، وحينئذ رأت تركيا أن لا مناص لها عن أن تتفق مع ألمانيا لدفع العادية على ثمالة ممالكها «1» ؛ لأنها تحقق لديها من ماجريات هذه الأحوال أن جميع دول الاتفاق العظيمة تشرئب أعناق مطامعها إلى أخذ بلادها وملاشاتها مع ما هي عليه من الضعف والفقر، وأنه لا ينجيها من نشوب مخالب(3/433)
هذه الدولة سوى اتفاقها مع دولة عظيمة كألمانيا التي لم تمد من قبل إلى بلادها يدا ولن تقدر أن تمد إليها يدا لموقعها الجغرافي، مؤملة بذلك أن تحفظ كيانها بل طامعة بما سولته لها ألمانيا وبما علمته من قوتها وعظمتها بأن تعيد لها مجدها السالف لتحققها أنها وحلفاءها هم الغالبون، وأن كل من نواهم سيكون مغلوبا.
هذا ما دعا تركيا إلى الاتفاق مع ألمانيا وحلفائها: إيطاليا والنمسا والبلغار. وهذا هو اجتهاد الاتحاديين، أخصّهم بالذكر بطلهم وصنديدهم أنور باشا الذي نشأ في مدارس ألمانيا وتغذى بألبانها، وقد أداه سعيه إلى أن يكون الرجل الواحد في دولة تركيا لا يعارضه فيما أراد معارض ولا ينازعه منازع.
دولة إيطاليا حيال الدول المتحاربة:
كانت دولة إيطاليا متفقة منذ عهد قديم قبل الحرب مع دولة ألمانيا، فلما بدأت الحرب بقيت إيطاليا على الحياد مدة سنة أو أكثر، وكانت الأخبار تصل إلينا عنها ملونة، فمرّة يبلغنا عنها أنها لا بد وأن تبقى على اتفاقها مع ألمانيا، فهي عما قريب تعلن معها الحرب على دول الاتفاق، وأخرى يبلغنا عنها أنها ستنضم إلى المتحالفين وتعلن الحرب معهم على الاتفاقيين. والناس يبنون على دخولها مع أحد الفريقين رجحان كفة الميزان مع الفريق الذي تدخل معه. ثم في آخر الأمر انضمت إلى الاتفاقيين وأشعلت نار الحرب مع النمسا فلم تفز بطائل.
منذرات هذه الحرب في حلب قبل ظهورها:
قبل إعلان هذه الحرب بأعوام طويلة كانت بعض النفوس الحساسة في حلب تشعر بأنه لا بد وأن تقع هذه الحرب ولو بعد أعوام. وسبب الشعور بذلك هو ما يحس به الباحثون عن أحوال أوربا- خصوصا عما يجري بين الأمتين ألمانيا وفرانسة- من المراقبة والتحفز على بعضهما إذ أنهما ما برحتا منذ أربعين سنة- أي منذ انتهاء حرب السبعين حتى الآن- تجد كل واحدة منهما في إعداد المهمات الحربية الجهنمية استعدادا لهذه الحرب الطاحنة، فكأن نار حرب السبعين قد خمدت ظاهرا ولكنها في الباطن كانت تتأجج كالنار المدفونة في الرماد. ولذا قال بعض الساسة: إن الحرب العامة القائمة الآن لم تكن حربا(3/434)
جديدة محدثة، وإنما هي من تتمة حرب السبعين. ولذا كنت ترى حينا بعد حين في الصحف الإخبارية والمجلات العلمية أقوال المنجمين والمتكهنين المنذرة بهذه الحرب قبل ظهورها بعدة أعوام.
هذا، وفي أوائل هذه السنة وهي سنة 1332 بدأ بعض الناس في حلب يتحدثون سرا بأنه عما قريب تشتعل نار حرب حامية بين عامة الدول، مع أنه كان لا يوجد في صحف الأخبار ما يدل على ذلك. وكان هذا التحدث السري يتفشى بين الناس يوما فيوما حتى شاع بين جميع الطبقات غير أن من الناس من كان يستبعد الحرب، ومنهم من يرى أنها قريبة الوقوع. وكان أمراء العسكرية وضباطها يحضرون في بعض الأيام إلى خانات الغلّات، ويسجلون مقادير ما يجدونه فيها من الحبوب والذخائر، ويأمرون الخاني «1» بعدم بيعها أحيانا، ويرخصون له به أخرى. وربما طافوا في خانات التجار وأحصوا ما عند كل واحد منهم من الأقمشة والبضائع المأكولة وغيرها. فكان الناس يرتابون من هذه الأعمال لأنها مما لم يسبق لها نظير، وبسببها كانت تقوى عندهم صحة الشائعات المنتشرة فيما بينهم بخصوص الحرب العالمية.
تتمة حوادث سنة 1332 هـ
سباق الخيل:
وفي شهر جمادى الثانية من هذه السنة جرى في أرض الحلبة- ظاهر حلب- سباق خيل حافل، حضره كبار الموظفين من ملكيين وعسكريين وألوف من الأهليّين «2» . وأجازت الحكومة الحائزين قصب السبق بجوائز نقدية.
دعوة العرفاء إلى الثكنة العسكرية:
وفي هذه الأيام دعت جهة العسكرية إلى ثكنتها جميع عرفاء المحلات المعروفين بالمخاترة وأعطتهم المغلفات السالفة الذكر.(3/435)
إعلان تركيا النفير العام في ممالكها:
يوم السبت عاشر رمضان هذه السنة (1332) الموافق اليوم الحادي والعشرين من تموز سنة 1330 رومية واليوم الثالث من آب سنة 1914 م- أصبح الناس فرأوا في منعطفات الشوارع وأبواب الأماكن الشهيرة- كالجوامع والخانات- أوراقا ملصقة بالجدران مطبوعة ملونة فيها صورة الشعار العثماني، وتحته سطر واحد فيه كلمة (سفر برلك) أي النفير العام. فعلم الناس أن هذه الأوراق هي التي كانت في المغلفات التي سلمتها الجهة العسكرية إلى المخاترة وأمرتهم بحفظها. وقد عظم هذا الأمر على الناس وأصبح تحدّثهم به شغلهم الشاغل، وبعد أيام قليلة غلق بالشوارع من الجهة العسكرية إعلان فحواه: «أن كل من كان بالغا سن المكلفية العسكرية أن يحضر إلى المكان المعيّن (مثل برية المسلخ) ويثبت اسمه وكنيته في سجلات العسكرية في برهة أيام قليلة» .
فتسارع الناس إلى تلك الأماكن لتسجيل أسمائهم، وكان المسلمون صائمين والحر شديدا، فتكبدوا من أجل ذلك مشقة زائدة. وبعد أيام دعت الجهة العسكرية كل من أثبت اسمه وكنيته إلى حمل السلاح والدخول في السلك العسكري. ثم أذيع قانون عسكري مصرّح فيه بأن كل ذكر من الشعوب العثمانية يعتبر جنديا، مسلما كان أم غير مسلم، سواء كان له معين أم لم يكن. لا يستثنى من الجندية أحد بل كل عثماني يعتبر بحكم هذا القانون عسكريا. وأن المكلف المعذور بعذر شرعي معقول- يمنعه عن القيام بالجندية- يؤذن له بعد تحقق عذره بالانفكاك عن التجند مدة تلبّسه بالعذر. فإذا انقضت معذرته فعليه أن يعود إلى التجند.
هذا القانون قد استعظمه الناس وعدّوا أحكامه جائرة، لأنه لا يرحم الوحيد في عياله ولا الضعيف في بدنه، وقالوا: إنه مما جناه على الأمة جماعة حزب الاتحاد والترقي اقتداء بالحكومة الألمانية التي مشت على قاعدة التجنيد العام.
الإدارة العرفية:
في اليوم الثاني عشر من رمضان الجاري أعلنت العسكرية الإدارة العرفية في حلب.(3/436)
التكاليف الحربية وحجز أموال التجار:
في هذا الشهر بدأت الحكومة بأمر العسكرية تأخذ الأموال من التجار باسم التكاليف الحربية بالقيمة التي تقدرها لجنة سميت «لجنة المبايعة» ، وهي بعد أن تقدر للبضاعة المأخوذة قيمة وتأخذ البضاعة تسلم صاحبها مضبطة بالقيمة على أن تدفعها له بعد مدة غير معلومة.
تطواف الضباط العسكريين في الخانات:
في شوال هذه السنة بدأ الضباط العسكريون يطوفون خانات الغلات وخانات البضائع التجارية، ويكتبون كل ما عند بائع غلّة أو بضاعة تجارية، ويأمرونه بالإمساك عن بيع غلته وبضاعته حتى يصدر له الإذن ببيعها.
كيف بدأت هذه الحرب:
ذكرنا قبلا- في الكلام على السبب الثانوي لقيام هذه الحرب- كيف كان بدء الدخول إلى ميدانها والشروع بإشعال نيرانها. ونقول هنا: إن إيمبراطور ألمانيا لما بدأت الحرب على هذه الصفة اهتم بأمرها اهتماما عظيما، وأراد إطفاء نارها وتسوية الخلاف بين حكومتي النمسا وسربيا على صفة سلميّة، فأكثر في ذلك المخابرة مع إيمراطوري إنكلترا وروسية ورئيس جمهورية فرنسة والتمس منهم أن يسعوا بوقف هذا البلاء، ويحلوا عقدة الخلاف بين الحكومتين على طريقة سلمية ووعدهم بذل ما في وسعه لفضّ هذه الحادثة على صفة حبيّة. فلم يصغوا له ولا سمعوا صراخه وكان كل من دولتي روسية وفرنسة قد أعلن النفير العام وحشد الجيوش على حدود الإيمبراطورية الألمانية فاضطر حينئذ الإيمبراطور غليوم أن يصدر أمره إلى جيوشه بأن تكون على قدم الاستعداد منتظرة أول إشارة تصدر منه.
أول تحرش بألمانيا:
وفي اليوم الثاني من آب الغربي سنة 1914 م طار قسم من الطيارات الفرنسية إلى البلاد الألمانية مجتازة إليها من أراضي الفلمنك والبلجيك المتظاهرين بالحياد، فألقت هذه(3/437)
الطيارات قنابلها على بلاد ألمانية غير محصنة، فقابلتها الجيوش الألمانية بالمثل واجتازت طياراتها حدود بلجيكا إلى فرنسة، وكانت ألمانيا طلبت من هذه الدولة أن تسمح لها بإمرار جيوشها من بلادها إلى جهة فرنسة وتعهدت لها بتعويض كل ضرر يصيبها، فلم تجبها على طلبها.
وكانت ألمانيا قد تأكد لديها أن دولة بلجيكا متفقة في الباطن مع فرنسة وإنكلترة وأن تظاهرها بالحياد خدعة، ولهذا لم تلتفت ألمانيا إلى امتناع بلجيكا عن إجابة طلبها بل اعتبرتها دولة من جملة دول الاتفاق، وأمرت أسطولها الطيار بأن يجتاز حدودها إلى فرنسة بمقابلة اجتياز طيارات فرنسة إلى حدود الألمان.
إعلان روسية وإنكلترة واليابان الحرب على ألمانيا:
وفي اليوم الثالث من آب الجاري أعلنت روسيا الحرب على الألمان وزحفت جيوشها على حدودهم. ثم في السابع من هذا الشهر أعلنت إنكلترا الحرب عليهم بحجة أنهم خرقوا حياد بلجيكا ولم يحترموا العهود، وتلت دولة إنكلترة دولة اليابان فأعلنت الحرب عليهم.
توغل جيوش روسية في أراضي ألمانيا وطردهم منها:
وكانت جيوش روسية قد زحفت على حدود بلاد الألمان- كما قلنا- وتوغلت في أراضيها من الجهة الشمالية أي من جهة بروسية، واقتربت من برلين حتى أصبحت منها على بعد ستين كيلومترا. وعندها تأكد الإيمبراطور غليوم أن هذا الأمر مما دبّر بليل واضطره الجزع على ملكه إلى تجريد جيوشه تحت قيادة هندنبورغ القائد الشهير وسوقها إلى جهات روسية ليطردوا جيوشها عن بلاد الألمان، فكان النصر حليفهم لأنهم لم يلبثوا غير قليل حتى طردوا الروس من بلادهم.
إعلان إنكلترا وفرنسة وروسية على تركيا الحرب، وإعلان تركيا اتفاقها مع ألمانيا والنمسا وبلغاريا، ثم إعلانها الحرب على روسية وإنكلترا وفرنسة:
بعد أن أعلنت إنكلترا الحرب على ألمانيا بدأ أسطول إنكلترا يتجول في البحر المتوسط، وكانت الدارعتان الألمانيتان (جوين) و (برسلاو) قد خرجتا لهذا البحر للاستكشاف، فبصر بهما أسطول إنكلترة المتجول وجعل يطاردهما فلجأتا إلى الدردنيل ودخلتا فيه.
وأحس بذلك سفراء الأجانب وأغاظهم هذا الحال، وسألوا الصدر الأعظم عن رضائه(3/438)
بدخول هاتين الدارعتين إلى الدردنيل وأن هذا مما ينافي وقوف تركيا موقف الحياد. فأجابهم بقوله: إننا ابتعناهما من ألمانيا من قبل وقد تسلّمناهما الآن.
ثم إن تركيا سمّت إحداهما (ياوس) والأخرى (مديلى) وعلى أثر دخولهما أقفلت المضايق.
إعلان تركيا الحرب على الدول الثلاث:
ثم إن الأسطول الروسي هاجم الأسطول العثماني، فاضطر الأخير أن يطلق نيرانه على أودسا سباستبول وبعض موانئ أخرى، وذلك في عيد الأضحى من هذه السنة (1232) .
وفي ذلك الأثناء أعلنت روسية أولا، ثم فرنسة ثم إنكلترا، الحرب على الحكومة العثمانية.
وقد اقترحت تركيا عمل تحقيق مشترك لمعرفة أي الأسطولين كان البادئ بالعدوان؟ فأبت روسية ذلك، فاضطرت تركيا أن تعتبر نفسها في حال الحرب مع الحكومات المذكورة.
غير أن بعض وزراء الدولة العثمانية صرح بأنه يكره الحرب ولا يرضى به «1» ، فاستعفى من وظيفته. إلا أن الأكثرية الساحقة كانت تقول بالحرب، ومن هذه الأكثرية أعضاء مجلس النواب المعروف بمجلس المبعوثان وحينئذ أعلنت تركيا اتفاقها مع ألمانية والنمسا وبلغاريا وكانت وقّعت على عهدة الاتفاق مع تلك الدول في بدء الحرب غير أنها كتمت هذا الأمر وتظاهرت بوقوفها موقف الحياد ريثما تتمكن من تعبئة جيوشها. إلى أن كانت حادثة الأسطول الروسي وأعلنت دول الاتفاق الحرب عليها أعلنت هي أيضا اتفاقها مع حلفائها أولا ثم أعلنت الحرب على دول الاتفاق.
وكان من أعظم الأسباب التي دعت تركيا لإعلان الحرب على إنكلترا مصادرة الثانية مدرعتي (السلطان عثمان) و (رشادية) اللتين أوصت تركيا بعملهما بعض معامل إنكلترا، فإنهما بعد أن انتهى عملهما ودفعت تركيا آخر قسط من ثمنهما وتقدمت لاستلامهما أعلنتها إنكلترة بأنها قد صادرتهما.(3/439)
إعلان إنكلترة استقلالها بمصر:
في أواخر هذه السنة أعلنت تركيا استقلالها بمصر، وعينت لها خديويا فخامة حسين كامل باشا.
منع الحكومة إخراج الذهب:
وفي أواخر هذه السنة أيضا منعت الحكومة العثمانية إخراج الذهب من ممالكها، وأعلنت أن المسافرين الذين يوجد معهم ذهب أو نقود ذهبية يؤخذ مما يوجد معهم الزائد عن عشرة دنانير ويعطون بما أخذ منهم مضبطة يدفع بدلها إليهم بعد انتهاء الحرب.(3/440)
سنة 1333 هـ
فتوى شيخ الإسلام في النفير العام:
في محرّم هذه السنة أصدر شيخ الإسلام فتوى شرعية في وجوب النفير العام، وصرح فيها بأن كل مسلم قادر على حمل السلاح عليه أن يكون مجاهدا. وقد جرى لتلاوة هذه الفتوى في حلب اجتماع حافل في المكتب الإعدادي الكائن في محلة الجميلية، وتليت فيه المواعظ والخطب الحماسية وحضر فيه عشرات الألوف من الناس.
قدوم جمال باشا إلى حلب:
في هذا الشهر قدم إلى حلب جمال باشا وزير بحرية تركيا وقائد الجيش الرابع العثماني في عامة البلاد العربية العثمانية. فبقي في حلب يومين ثم توجه على القطار إلى دمشق.
أمر جمال باشا جلال بك والي حلب بحمل الناس على العمل في طريق المركبات:
ولما كان جمال باشا في حلب أصدر أمره إلى جلال بك والي حلب بأن يحمل الناس طوعا أو كرها على العمل بإصلاح طريق المركبات في جهة «راجو» ليشتغلوا كعملة في طريق سكة حديد بغداد. فأرهق الوالي الناس وأزعجهم بالسفر إلى تلك الجهة حتى إن الكثيرين منهم من أيقظوه من فراشه ليلا وساقوه إلى جهة راجو دون غطاء ولا وطاء «1» . فمنهم من سار مشيا على قدميه ومنهم من أمكنه أن يركب دابة وكانوا زهاء ألف إنسان.(3/441)
ولما وصلوا إلى راجو لم يروا فيها مأوى يأوون إليه ولا شيئا يقتاتون به ولا أداة كالمعول والمسحاة يشتغلون بها. وجدوا هناك بعض ضباط عسكريين فلما رأوا تلك الجموع مقبلة عليهم بادروهم بالسبّ والشتم وقالوا لهم: ما عندنا لكم طعام ولا مأوى ولا أدوات تشتغلون بها، فمن شاء منكم أن يرجع إلى حلب فليرجع ومن شاء فليبق هنا حتى يموت.
فعادوا إلى حلب على أسوأ حالة، وقد عرى أكثرهم الذّرب «1» من برد الخريف ووخامة الهواء. وعدّت هذه القضية أول فلتة من فلتات جمال باشا وأول سبب موجب لنفرة القلوب منه.
وفود استقبال العلم النبوي الشريف:
في هذا الشهر (محرّم) 1333 أوفدت كل من حكومة حلب وبيروت وطرابلس الشام وحمص وحماة- وغيرهما من حكومات البلاد السورية- وفودا إلى دمشق الشام لاستقبال العلم النبوي الشريف المحمول إليها من المدينة المنورة إيذانا بالنفير العام وإثارة لحمية الإسلام. وكنت من جملة وفد حلب مع رفقائي الآخرين وهم: مفتي حلب الشيخ محمد العبيسي، والسادة النبلاء الشيخ محمد رضا بن الشيخ محمد وفا الرفاعي، وعارف بك ابن عزّت بك قطار اغاسي، وأحمد بك بن حسين باشا المدرس، وعاكف بك بن نافع باشا الجابري وفؤاد بك بن زكي باشا المدرس وفؤاد بك بن أحمد بك العادلي.
وبعد أن وصلنا إلى دمشق الشام بقينا فيها ننتظر قدوم العلم الشريف أحد عشر يوما.
ثم في ضحوة اليوم الثاني عشر من قدومنا أرسلت إلينا القيادة العليا بأن نتوجه إلى جهة «محطة القدم» لأن العلم سيحضر في ذلك الوقت. فتوجهنا إلى المحطة المذكورة وقد أعدت هناك للوفود مضارب لأجل الانتظار، فجلسنا في الخيام ننتظر وصول القطار. وما كاد يستقر بنا المجلس حتى قدم علينا رسول من قبل جمال باشا القائد العام يطلب أحد رفقائنا مفتي حلب، فأسرع المفتي الإجابة، ولما قابله القائد قال له ما معناه: إن وفود البلاد كثيرة وإن إعطاء الرخصة بالخطبة لكل فرد أمر يطول شرحه ولا يسعه الوقت، ولذا تقرر ألّا يخطب أحد حين مجيء العلم، سوى ثلاثة فقط أحدهم خطيب الجامع الأموي والثاني(3/442)
واحد منكم والثالث الأستاذ الشيخ أسعد شقير، فانتخبوا واحدا من وفدكم الحلبي يخطب بالنيابة عنكم وعن بقية وفود البلاد.
ولما عاد المفتي إلى حلقة وفدنا الحلبي أخبرنا بما أوحى إليه القائد العام، فقال لي رفقائي بلسان واحد: قد اخترناك أن تكون أنت ذلك الخطيب. فشقّ علي هذا الأمر لأنني لم أمرن على الخطبة، سيما في مثل ذلك الجمع العظيم الذي يضم إليه المئين من علماء سوريا وأدبائها وشعرائها ومحرري صحفها. وبينما أنا أتنصل من القيام بهذه الوظيفة إذا بصفير القطار المعلن بوصوله إلى المحطة، فما كان إلا أن هرعت إلى جهته تلك الجموع التي لا تقل عن مئة ألف نسمة، وبدأت العسكرية بإطلاق المدافع لتحية العلم، وضج الناس بالتهليل والتكبير إعظاما واحتراما للعلم، فكنت لا تسمع سوى دويّ المدافع وصدى أصوات المهللين بكلمة «الله أكبر» كأنه الرعد القاصف. وكان قد تقدم القائد العام جمال باشا ووالي ولاية دمشق نحو حافلة القطار واعتنقا العلم الشريف وسارا به نحو الموقف الذي أعد لإلقاء الخطب فتبعتهم الجموع تموج موج البحر في يوم عاصف فاختلط الناس ببعضهم وأضعت رفقائي.
وبينما أنا أبحث عنهم إذ وقع نظر أحدهم عليّ فأقبل يعدو نحوي وقال: إن خطيب دمشق على وشك الانتهاء من خطبته وإن الناس يتشوقون إليك. ثم أخذني من يدي ومشى إلى الموقف فإذا هو عبارة عن مركبتين قد وقف في إحداهما مفتي السادة الشافعية في المدينة المنورة وهو يحمل العلم الشريف، والمركبة الثانية قد أعدت لوقوف الخطيب وقد تحلق الناس حولهما لسماع الخطب حلقا وهم يعدّون بعشرات الألوف. وما كدت أقف بضع دقائق حتى انتهى خطيب دمشق من خطبيه ونزل من المركبة، والتفتت العيون نحوي فصعدت إليها وفؤادي يخفق هيبة وجلالا، سيما وأنا ممن لم يعتد على الوقوف في هكذا موقف رهيب، ولست على أهبة فيما أقوله بهذا الموضوع؛ إذ لم يفسح لي من الزمن ما يسع تحبير ما أريد أن أقوله لأن تكليفي للخطبة كان قبل بضع دقائق. فصعدت المركبة ولما استوليت على ظهرها شعرت كأن هاتفا يهتف بي بما أحاول أن أقوله، فحييت العلم ببعض كلمات وذكرت ما كان من تأثير المجاهدين الذين ساروا تحت ظله، وما فتحوه من الأقطار والممالك ببركة روحانيته، وما عانوه من الأخطار والأهوال في سبيل حفظه(3/443)
وصيانته. ثم أشرت إلى العلم وأنا أنشد أبياتا من هائية الأزري «1» وهي:
علم تلحظ العوالم منه ... خير من حلّ أرضها وسماها
هو ظلّ الله الذي لو أوته ... أهل وادي جهنم لحماها
لو أعيرت من سلسبيل نداه ... كرّة النار لاستحالت مياها
ثم ختمت المقال بالثناء على حمية أهل دمشق وفرط غيرتهم الدينية وتعظيمهم الشعائر الإسلامية، وسخائهم في سبيل خدمة الدين وإعمار مسجد دمشق الذي أعيد إلى رونقه الأول بما بذلوه من الأموال الطائلة التي تعد بعشرات الألوف من الدنانير.
وهكذا انتهيت من الخطبة ونزلت من المركبة، وصعد على الفور إليها الأستاذ الشيخ أسعد شقير، ففاه بخطبة مسهبة كلها درر وغرر، أتى فيها بالعجب العجاب مما لا يباريه به مبار ولا يلحق له في حلبة البيان بغبار.
قتلى بالرصاص:
وفي صفر هذه السنة قتل رميا بالرصاص بضعة أشخاص من الجنود الفارّين من الجندية، قتلوا في البرية القريبة من الثكنة العسكرية المعروفة بالشيخ يبرق. هذه هي أول مرة جرى فيها القتل بالرصاص بعد عهد المرحوم إبراهيم باشا المصري الذي كان يعاقب الفارين من الجندية برميهم برصاص البنادق، وذلك حينما كان مستوليا على حلب وباقي البلاد من المملكة العثمانية في التاريخ الذي سبق بيانه في هذا الجزء.
خبر استيلاء الجيوش العثمانية على أردهان:
وفي صفر هذه السنة ورد الخبر بالبرق العثماني بأن الجنود العثمانية استولوا على مدينة «أردهان» وكان الزمان شتاء والثلوج في تلك الجهات كثيرة والبرد فارس، وأن الجنود العثمانية قطعوا بالوصول إلى هذه المدينة مسافة طويلة كلها جبال ومضايق؛ لأنهم تعسفوا- بالوصول إلى أردهان- الطريق المؤدية إليها توا فسلكوا من أجل ذلك المسالك(3/444)
الصعبة، وهلك منهم بالثلج والجوع زهاء ثلاثين ألفا- على رواية- وأربعين ألفا على رواية أخرى.
ولما وصل خبر هذا الظفر إلى حلب خرج المنادي من قبل الحكومة ينادي بلزوم عمل مظاهرة فرح ومسرة، فاحتشد في ثاني يوم تجاه باب القلعة ألوف من الناس ومعهم الطبول والزمور، وخرجت تلامذة المكاتب تنشد الأزجال الحماسية وتعزف بالموسيقى، ثم سارت تلك الجموع إلى دار الحكومة ووقفوا صفوفا في ظاهرها وباطنها وألقيت عليهم خطب البشارة بهذا الفتح العظيم والتنويه بعظمة الدولة وفوزها وفشل الروس وخذلانهم. ثم بعد أيام شاع أن الروس استردوا هذه البلدة وقتلوا من الجنود العثمانيين مقتلة عظيمة.
فروغ الفحم الحجري واستعمال الفحم النباتي وقطع أشجار من البساتين:
وفيها فرغت مدخرات الفحم الحجري الذي تتحرك بناره قطارات السكك الحديدية، فاضطرت الجهة العسكرية أن تستعيض عنه بالحطب، وفتح لها مورد جديد للنهب والسلب لأنها جعلت تستورد الحطب اللازم لها على طريقة التضمين المعروفة بالالتزام، على أن يقدم الملتزم الحطب من الغابات القريبة من حلب إلى أقرب محطة إلى الغابة، سعر كل طن كذا مبلغ، فكان يقع في هذا الالتزام، من السرقة والمحاباة في الوثائق، وبدل الالتزام ما يكل عنه الوصف وقد استغنى بسببه كثير من الناس وجمع منه الضباط وأتباعهم ما لا يحصى من المال. وفيها بدأت العسكرية تقطع من بساتين حلب الأشجار التي لا تثمر كشجر الدّلب والصفصاف وغيرهما لتجعل خشبه آلة لعربات النقل وتقدم ما لا يصلح منه للآلة إلى مطابخ الجنود.
متطوعة الدراويش المولوية:
وفيها أقبل علينا من جهة قونية رهط من دراويش الطريقة المولوية، وقد تألفت منهم كتيبة عسكرية للتطوع في جهاد أعداء الدولة.
وفود القدس:
وفيها أوفد من حلب وغيرها من البلاد العثمانية العربية وفود للقدس قصد الاستطلاع(3/445)
على قوة الجيوش العثمانية وحسن انتظامها.
فرع من سكة الحجاز إلى الترعة:
وفيها بوشر بمد فرع من خط سكة حديد الحجاز يمتد إلى جهة الترعة.
إنهاء جسر جرابلس:
وفيها تم إنشاء جسر جرابلس الذي طوله ثمانمائة واثنا عشر مترا، وعرضه خمسة أمتار ونصف، وقناطره عشرة مسافة كل قنطرة ثمانين «1» مترا وثقلها ثلاثمائة ألف كيلو. وقدرت نفقاته بثلاثمائة ألف ليرا. وهو حقيق أن يعد من المباني العجيبة.
وفيها ولي حلب بكر سامي بك وبعد أشهر انفصل عن ولايتها وعين بدله مصطفى عبد الخالق بك.
وصول الورق النقدي إلى حلب:
وفيها وصل إلى حلب الورق النقدي العثماني المعروف باسم بنكينوط استعملته هذه الدولة في هذه الحرب بدل النقود المعدنية أسوة ببقية الدول المتحاربة. وقد أقبل الناس على تداوله بأسعاره المرسومة فيه ورغبوا به أكثر من رغبتهم بالنقود الذهبية والفضية التي كانوا يستصعبون تداولها لنقصها وتشويه الصيارفة إياها بالثقب وسرقة شيء منها بواسطة الحك ووضعها بالكذاب»
. أما الورق النقدي فهو خال عن جميع هذه العيوب ولذا أقبل الناس على استعماله فنال رواجا عظيما.
إعانة الكسوة الشتوية:
وفي شتاء هذه السنة جمعت الحكومة من الرعية إعانة نقدية باسم الكسوة الشتوية للعساكر. واستمرت تجمع هذه الإعانة في شتاء كل سنة من سني الحرب.(3/446)
مهاجرو «1» مكة:
وفيها وصل إلى حلب جماعة من أهل مكة المكرمة مهاجرين منها فرارا من الجوع.
قانون تأجيل الديون:
وفيها نشرت الحكومة في الصحف الإخبارية قانونا سمّته قانون تأجيل الديون، يقضي بتأخير وفاء الدين إذا كان قبل الحرب، سواء كان الدين للمصارف والتجار أم كان لغيرهما.
تعرض إنكلترا للبصرة وتقسيم جيوش تركيا:
وفيها بدأت دولة إنكلترا بالتعرض إلى البصرة، فاضطرت الدولة العثمانية أن تجهز لجهة العراق جيشا علاوة على باقي جيوشها في غير هذه الجهة. والخلاصة أن تركيا اضطرت في هذه الحرب أن تقسم جيوشها إلى سبع جبهات: الأولى جبهة فلسطين. الثانية جبهة جناق قلعة الثالثة جبهة العراق. الرابعة جبهة العجم. الخامسة جبهة قفقاسيا. السادسة جبهة اليمن. السابعة جبهة الحجاز. هذا كله عدا القطعات العسكرية التي بعثتها إلى جهة النمسا والبلغار لمعاونتهما على أعدائهما.
إعلان الحكومة إلغاء الامتيازات الأجنبية:
وفي هذه السنة أيضا أعلنت الحكومة في جميع ولاياتها إلغاء الامتيازات الأجنبية المعروفة باسم (كابيتولاسيون) التي كان بعض الملوك العثمانيين خصها بالأجانب، وذلك كوجود ترجمان أو مراقب من الأجانب في محاكمة أجنبي مع عثماني في مسألة حقوقية أو جزائية، وكعدم جواز حبس أجنبي بمحبس عثماني إذا وجب عليه الحبس، بل يحبس في محبس قنصله، وكعدم إكراه الأجنبي على أخذ رخصة فيما يريد تعاطيه من المهن التي تحتاج إلى أخذ رخصة من الحكومة العثمانية بحسب قوانينها، كبيع المسكرات وفتح المعامل، وكعدم أخذ رسوم كمركية العثمانية بحسب قوانينها، كبيع المسكرات وفتح المعامل، وكعدم أخذ رسوم كمركية على ما يحضره القنصل لنفسه من البلاد العثمانية خاصة بنفسه، وكعدم منع الأجانب من إقامة بريد على حدته يحمل كتبهم وكتب من أحبّ من العثمانيين أن تحمل كتبه فيه. إلى غير ذلك من الامتيازات التي كانت كثيرا ما تقف حجرة عثرة(3/447)
في سبيل تنفيذ أحكام القوانين العثمانية وتجحف بحقوق تبعتها.
ومن أراد الاطلاع على صنوف هذه الامتيازات وأسبابها وتاريخ تخصيصها بالأجانب فليراجع ما كتبه فيها وطنيّنا الحلبي الكاتب البارع جميل بك النيال في كتاب ألفه باللغة التركية سماه «حقوق الدل» يستوعب ستمائة صحيفة فرغ من تأليفه سنة 1326.
وفود للقدس:
وفيها أوفد من حلب وغيرها وفود للقدس الشريف لحضور حفلة افتتاح الكلية التي نسبت إلى المرحوم السلطان صلاح الدين، وللاطلاع على قوات الدولة العثمانية هناك وانتظام أحوال جيوشها.
وصول جنود الألمان إلى حلب:
وفيها بدأت جنود الألمان تصل إلى حلب ومنها إلى دمشق، ومعهم من الأثقال والمهمات الحربية مالا يكاد يحصى، وكانوا ينزلون في حلب في بيوت وخانات استأجروها من ذويها وعاملوا الناس معاملة حسنة، وربح منهم التجار أرباحا طائلة وقد مدوا كثيرا من التيول «1» الناقلة للصدى المعروفة باسم التليفون، ونصبوا أداة التلغراف اللاسلكي في برية حارة الحميدية، وأكثروا من نقل مهماتهم ولوازمهم من الأسلحة الحربية والسيارات المعروفة باسم أوتوموبيل، التي كان البعض منها يحدث في سيره شبه زلزلة ترتجّ له الأرض وترتجف منه الجدران ويتكسر البلاط. وكان المتأمل في جدّهم وحركاتهم وعددهم وكثرة مهماتهم لا يشك ولا يرتاب بأنهم لم يحضروا إلى هذه البلاد إلا بقصد الاستيلاء والاستعمار لا بقصد المعاونة لحكامها الأتراك على أعدائهم.
إجلاء أمة الأرمن عن أوطانهم:
قال جمال باشا في مذكراته ما خلاصته: إنه يعتقد اعتقادا جازما أن الأرمن كانوا قد دبروا ثورة من شأنها تعريض مؤخرة الجيش التركي في القوقاز لأشد الأخطار لو وقعت،(3/448)
بل ربما أدت في ظروف خاصة إلى إبادته عن بكرة أبيه. ولذا اضطر الاتحاديون إلى نقل الشعب الأرمني بأسره إلى جهة أخرى بحيث يؤمن شره من أن يعرّضوا المملكة العثمانية للمحن والخطوب الفوادح ويجلبوا عليها الطامة الكبرى، فيكون احتلال روسية لآسيا الصغرى بأسرها أول رزاياها.
ثم قال: أما ما وقع من الحوادث في خلال نفيهم فينبغي أن يعزى إلى الأحقاد المتغلغلة في نفوس الأتراك والأكراد والأرمن في أثناء سبعين عاما. وتبعة ذلك إنما تقع على السياسة الروسية التي حولت الشعوب الثلاثة- التي عاشت القرون الطويلة معا في صفاء وهناء- إلى أعداء ألدّاء ولا ينكر أن الفظائع التي جرت على الأرمن أثناء نفيهم في سنة 1915 م/ 1334 هـ قد أثارت السخط الشديد، ولكن ما ارتكبه الأرمن في غضون ثورتهم على الأتراك والأكراد لا يقل عنها قسوة بل يفوقها فظاعة وغدرا. ثم قال: ولم يكن فرار الأتراك من ديار بكر، من طريق حلب وأطنة إلى قونية، ومن أرضروم وأزرنجان إلى سيواس من وجوه الروس، والفظائع التي ارتكبها الأرمن ضدهم، بأقل سوءا ووحشية منه.
ثم قال: فلنفرض جدلا أن الحكومة العثمانية نفت مليونا من الأرمن من ولايات الأناضول الشرقية وأن زهاء 600 ألف منهم ماتوا أو قتلوا في الطريق أو سقطوا ضحية الجوع والتعب، فقد قتل ما يربو على مليون ونصف من الأكراد والأتراك في ولايات طرابيزون وأرضروم ووان وبتليس، قتلوا على صورة تقشعرّ منها الأبدان بأيدي الأرمن عندما زحف الجيش الروسي على تلك الولايات.
ثم إن جمال باشا استشهد على صحة ما قاله بتقريرين مفصلين مسهبين مقدمين من ضابطين روسيين- ذكر اسمهما- وقد أوضحا في تقريرهما حوادث الاعتداء التي ارتكبها الأرمن ضد الأهلين الأتراك في ولاية أرضروم وما جاورها، من مبدأ نشوب الثورة إلى أن استردت الجنود التركية قلعة أرضروم في 27 فبراير سنة 1918 م/ 1337 هـ.
انتهى ما قصدنا إلى إيراده من مذكرات جمال باشا.
أقول: في هذه السنة (1333) بدأت تركيا بإجلاء الأرمن عن أوطانهم فكانت جالياتهم تصل إلى حلب زمرة تلو زمرة، كل زمرة منها تعدّ بعشرات الألوف. وقد أثرت(3/449)
عليهم مشقات الطريق ولا سيما على فقرائهم الذين قطعوا المسافات الطويلة مشيا على الأقدام مدة شهرين وهم حفاة عراة، الأرض وطاؤهم والسماء غطاؤهم، لم يفلت منهم من مخالب الجوع والبرد إلا من قويت بنيته وأبطأت منيّته. وقد وصلوا إلى حلب كأشباح بلا أرواح، وكان أغنياؤهم ينزلون في البيوت، وفقراؤهم في القياصر والأزقة والشوارع حتى ملؤوا حلب وازدحمت بهم الجوادّ «1» .
وكانت الحكومة تبقي منهم الجالية في حلب أياما قليلة وتفرق عليها أقراص الخبز ثم تزجيها إلى جهات حماة أو إلى نواحي الزور والجزيرة، فيموت الكثير منهم في أثناء الطريق جوعا وعطشا وحرا وبردا وغرقا. بلاء حلّ بهم جناه سفهاؤهم على ضعفائهم. وكان عرب البادية يأخذون منهم الأيامى «2» واليتيمات، ويتخذون الفتيات منهن زوجات لهم، والقاصرات خادمات وراعيات لمواشيهم، وكل واحدة منهن تدخل إلى مضاربهم يشمونها «3» بالزّرقة في وجهها ويديها تزيينا لها وتحسينا حسب أذواقهم. وكانت قافلة الجاليات منهم كلما خفّ منها القطين «4» في حلب يأتي بدلها قافلة أخرى حتى ملؤوا الديار وغلت بواسطتهم الأسعار.
الجرب وحمّى القملة:
وفشا في المدينة والقرى التي مروا منها في ولاية حلب داء الجرب، فأصيب به ألوف من الناس، ومرض آخر سماه الأطباء حمّى القملة أو حمى التجمع وربما سموه حمى التيفويد.
وكان المصاب بهذا المرض يعتريه في أوائله شبه صداع وزكام مدة ثلاثة أيام، ثم تشتد به أعراض الحمى يوما أو يومين فيسودّ لسانه وشفتاه ويلعثم في كلامه، ثم يسكت ليلة أو ليلتين ويموت. وكان جهة الصحية تشدد المراقبة على المصاب بهذه العلة الوبيلة، فكانت متى أحست بوجود مريض بهذا الداء تأخذه إلى مستشفاه الخاص به فيبقى فيه إلى أن يصحّ(3/450)
أو يموت. وقد هلك بهذه الحمى من الحلبيين عدد غير قليل. أما من مات بها من الأرمن فهم كثيرون جدا وقد بلغت الوفيات منهم في اليوم الواحد في أقصى اشتداد هذا المرض زهاء مائة وعشرين نفسا.
وما زال هذا المرض يفتك في الأرمن والحلبيين والعساكر العثمانيين وباقي الأغراب في حلب إلى السنة الرابعة من سني هذه الحرب، وحينئذ خفت وطأته فقلّ عدد المصابين به وقلّت وفياتهم، وكان أكثرهم يبرأ منه غير أن آثاره ما زالت باقية في حلب إلى ما بعد انتهاء الحرب. على أن الأرمن بعد أن قل عددهم في حلب مدة سنة- وهي السنة الثالثة من سني الحرب- أعادت الحكومة في السنة الرابعة إلى حلب من كان منهم في جهات حماة والزور، فازدحمت بهم حلب مرة ثانية وقدر عددهم- بعد دخول الدولة العربية إلى حلب- بنحو ستين ألف نسمة.
وفي أثناء وجود جالياتهم في حلب كان الحلبيون على اختلاف مللهم يعطفون عليهم ولا يقصّرون بالإحسان إليهم، وقد اتخذ من نسائهم بعض المسلمين زوجات شرعيات، ومنهم من اتخذ منهن خادمات لم يمسّوا شرفهن، بل بعض المسلمين استخدموا صغارهن وعنوا بتربيتهن كما يعتنون بتربية بناتهم.
غلاء البضائع الأجنبية:
وفي هذه السنة بدأت البضائع الأجنبية ترتفع أسعارها حتى ارتفع سعر البعض منها عشرة أضعاف عما كان عليه قبل هذه الحرب، وذلك كالسكّر والقهوة، وأنواع الحديد والقزدير، وجميع أنواع الأقمشة والغزل، والعقاقير الطبية والبترول والمسكرات. وكان سبب هذا الارتفاع انقطاع ورود هذه المواد من البلاد الأجنبية لوقوف الحركة التجارية في البحار. وقد تنبهت أفكار بعض التجار لهذا الأمر فاحتكروا من هذه البضائع شيئا كثيرا وباعوه أخيرا بثلاثين أو أربعين ضعفا من ثمنه الذي اشتروه به، فكان ذلك سبب اعتنائهم.
وكان حظ تجار حلب من هذه الأرباح أوفر جدا من حظوظ تجار باقي البلاد السورية وغيرها. وحكمة ذلك أن حلب كان يوجد فيها من هذه البضائع قبل هذه الحرب مالا يوجد في غيرها، كأنها كانت لهذه البضائع مستودعا تستمد منه سوريا والأناضول.(3/451)
تصاعد أسعار الحبوب:
وفي هذه السنة بدأت أسعار الحبوب تتصاعد في بعض الأقضية الغربية من ولاية حلب كأنطاكية وإسكندرونة وحارم؛ لأن المواسم في تلك الجهات كانت غير جيدة في هذه السنة، وبيع رطل الحنطة في أنطاكية باثني عشر قرشا بدل ثلاثة قروش.
حجز الغلّات:
وفيها وضعت الجهة العسكرية يدها على الغلّات في خانات حلب ومنعت أصحابها من بيعها، فانقطع وارد الحبوب من القرى وغلت أسعارها وبدأ الفقير يحس بعضّ أنياب الجوع.
الجراد النجدي:
وفيها وصل إلى حلب بغتة نوع من الجراد لم يكن قبل معروفا في هذه البلاد، وسماه الناس جرادا نجديا. وهو شيء كثير انتشرت جيوشه من أطراف الحجاز إلى أوائل بلاد الأناضول، فعم ضرره بلاد دمشق وفلسطين وحلب وأذنة. وقال بعضهم: إنه وصل إلى أزمير. أتى هذا الجراد على جميع ما في حلب ونواحيها ومفاوزها من الأعناب والتين والزيتون والفواكه والقطن والسمسم والذرة وأنواع اليقطين والبطيخ، وأضرّ الأشجار ضررا عظيما لأنه كان يأكل ورقها ثم يتبعه بأكل لحائها، فكانت الشجرة تسقط ثمرتها ثم تجفّ وتصير حطبا.
ومن عجيب أمر هذا الجراد أنه مخالف في نشوئه وغراسه جراد بلادنا. يغرس وينقف مرة في كل شهرين غير متأثر بالشتاء ولا بالصيف، وهو يغرس في الأرض الصلبة والمفلوحة بين الزروع، بخلاف جراد بلادنا فإنه لا يغرس إلا بالأرض الصلبة ولا ينقف في السنة إلا مرة واحدة، يغرس في تموز وينقف في نيسان، ولا يأكل النباتات المرة. والجراد النجدي هذا يأكل كل نبات يمرّ به. وقد عدّت بليته هذه أول ضربة سماوية إذ لا دخل في إيجادها للحرب العامة.(3/452)
هدم الحكومة المنازل في جادة السّويقة:
وفيها هدمت الحكومة الأماكن والمنازل التي على جانبي الجادة الآخذة من حمام الواساني في السويقة إلى منتهاها، تجاه الجادّة الآخذة إلى العقبة. وكان غرض الحكومة من ذلك توسيع هذه الجادة التي كانت ضيقة جدا مع أنها تعتبر من الجادات العمومية.
قدوم أنور باشا إلى حلب:
وفيها قدم إلى حلب أنور باشا، وجرى استقباله على صفة باهرة، وحضر لاستقباله من دمشق جمال باشا القائد العام، وأدبت لهما بلدية حلب مأدبة فاخرة أعدتها لهما في المكتب السلطاني «1» . وكان مع جمال باشا مفتي جيوشه وخطيبه المصقع الشيخ أسعد شقير، فتليت الخطب وأنشدت القصائد وقدمت البلدية إلى كل من أنور وجمال عباءة حريرة موشاة بالقصب الفضي، يستعمل نوع هذه العباءة نساء أكابر استانبول كالإزار ليلا. وكان تقديمهما عن يدي وقد سرّا منهما. وقدم أنور باشا للبلدية خمسين ذهبا عثمانيا وزعتها البلدية على فقراء حلب.
وفود من بلاد العرب إلى استانبول:
وفي ذي القعدة من هذه السنة، وهي سنة 1333 أوفدت الحكومة إلى استانبول- من حلب وباقي البلاد الشامية العربية- وفودا ليستطلعوا على حصانة مضايق الدردنيل المأخوذ تحت حصار أساطيل إنكلترا، وليتحققوا ما تجريه الدولة العثمانية في دفع هذا الحصار من الحزم والعزم، وما تعده من المهمات والقوات الحربية، وليظهر عظماء الدولة وكبار موظفيها إكرام أبناء العرب وحسن التفاتهم إليهم، نفيا لما كان شاع بواسطة سوء تدبير جمال باشا وغيره من جهلة الأتراك من أن الأتراك ينظرون إلى أبناء العرب بعين البغض والازدراء، الأمر الذي نفّر عن الدولة قلب كل عربي. وقد دعيت لأن أكون من جملة هذا الوفد فاستقلت خوفا من مشقة الطريق. وكانت النفقة على هذه الوفود من أموال الدولة، وكل واحد من هذه الوفود أعطي خمسين ذهبا عثمانيا.(3/453)
وكانت الوفود في استانبول محل حفاوة الوزراء وأعيان الدولة وأقيمت لهم المآدب الحافلة، ودعاهم السلطان محمد رشاد إلى مأدبته وأظهر لهم محبة العرب وحسن نيته بهم.
ولم يبق محل من الأماكن التي تصنع فيها أدوات الحرب أو تنسج فيها الأقمشة إلا وعرض على أنظار الوفود، وأشخصوا إلى جهة «جناق قلعة» ليطلعوا على حقيقة الحال ويتبينوا قوة الدولة وحصانة المواقع. وقد ألقوا هناك الخطب وشكروا القائد والجنود ووعظوهم وحثوهم على الثبات، ونال بعض أفراد الوفود وساما وساعة ذهبية ثم عادوا إلى أوطانهم وكلهم ألسن تتلو آيات الثناء على الدولة العثمانية وحسن حفاوتها بأبناء العرب وعظيم اهتمامها في مصانع الأسلحة وشدة حزمها في حرب أساطيل الإنكليز.
أخذ العسكرية أموال التجّار:
وفيها اشتدت حملة الجهة العسكرية على التجار في حلب لأخذ البضائع منهم كالمنسوجات وغيرها، تأخذها باسم التكاليف الحربية، البعض منها مصادرة بلا بدل ولا عوض، والبعض الآخر تأخذه بقيمة تعيّنها جمعية تسمى «لجنة المبايعة» وتعطي به وصلا.
هبوط أسعار الورق النقدي:
وفي آخر هذه السنة بدأت الأوراق النقدية تهبط عن قيمتها الموضوعة لها. وسبب ذلك أن إدارة الدخان المعروفة بإدارة الريجي أصبحت في يوم من الأيام معلنة باعة الدخان بأنها لا تقبل منهم ثمن الدخان إلا نقودا فضية أو ذهبية. فشاع هذا الخبر بين الناس وحصل منه الارتياب في عاقبة الورق النقدي فهبطت أسعاره عشرين في المائة. ثم لم يزل يهبط مرة ويصعد أخرى حتى هبط في آخر سني الحرب ثمانين في المائة.
تكليف موظفي الحكومة التجار تبديل الورق بالنقود:
ومما ساعد على هبوطه أيضا أن كثيرين من ولاة الأمور كانوا يكلفون التجار أن يبدلوا لهم الورق النقدي بالنقود الذهبية رأسا برأس، وهم يعتذرون عن عملهم هذا بقولهم نحن مضطرون لذلك لأن العربان الذين نشتري منهم المواشي لا يفقهون حساب الورق ولا يقبلون أثمان مواشيهم إلا نقودا ذهبية. وهو اعتذار غير مقبول؛ من وجهين:
الأول: إذا كان قولهم هذا صحيحا فعلى الحكومة أن تدفع للعربان أثمان مواشيهم نقودا(3/454)
ذهبية من مالها؛ لأنها يوجد عندها مبالغ طائلة من هذه النقود فهي غير مضطرة إلى أن تكلّف التجار تبديل أوراقها بنقودهم الذهبية فيكون تكليفها هذا سببا لخسارتهم وخسارة نفسها؛ لأن فعلها هذا هو الذي جعل سعر الورق في الحضيض الأسفل وخفضه إلى سدس قيمته.
الثاني: أن كثيرين من الضباط والمأمورين- الذين لم يوكل إليهم شراء شيء من المواشي المذكورة- هم الذين كانوا يكرهون التجار أيضا على تبديل الورق بالنقد، فهم لا شك لم يفعلوا ذلك إلا لحساب جيوبهم. على أن الإنصاف والعدل يوجبان على الحكومة إذا كانت مضطرة إلى النقود الذهبية أن تبدل الورق على سعره التجاري كما كان يفعل الألمان لا على سعره الأميري المحرر عليه.
إحسان الحكومة بالحبوب على خدمة العلم:
وفي هذه السنة كثر تشكي الناس- الذين من جملتهم خدمة العلوم الدينية- من غلاء أسعار الحبوب، فأصدر جمال باشا أمره بأن يوزع على خدمة العلوم حنطة كما وزع على أمثالهم في دمشق، فوزع على الفقير منهم ثلاثة شنابل مجانا، وعلى غيره مقدار مؤنته، قيمة كل شنبل ورقة ونصف. وكانت قيمة الشنبل في خانات حلب نحو مائتي قرش نقودا ذهبية، والورقة والنصف كانت قيمتها التجارية مائة وعشرين قرشا. فكان هذا الالتفات من جمال باشا معدودا من حسناته.
استيلاء جيوش بريطانيا على البصرة:
وفي هذه السنة تواردت الأخبار باستيلاء الجيوش البريطانية على مدينة البصرة، وأنهم تقدموا إلى جهة بغداد يطاردون الجيوش التركية بمعاونة عربان تلك البلاد.(3/455)
سنة 1334
تصاعد أسعار الحبوب:
في هذه السنة ازداد تصاعد أسعار الحبوب، وبيع رطل الخبز بثلاثة عشر قرشا معدنية.
عقد شركة إسهام لبيع الحبوب:
ولما كان السعر آخذا بالصعود يوما فيوما- حتى ربما بلغ حدا يتعذر معه تدارك القوت على الفقير بل على الجهة العسكرية نفسها- رأى القائد العام جمال باشا أن يعمل تدبيرا يأمن بواسطته غائلة فقد القوت بسبب مطامع الزراع والمحتكرين، فدعا إليه- وهو في دمشق- جماعة من الحلبيين تجارا ومزارعين وكلفهم أن يعقدوا فيما بينهم شركة إسهام تقوم بجمع الحبوب وحصرها عندهم وبيعها للأهلين والجيوش عن يدهم. تشتريها هذه الشركة من ذويها بأسعار محدودة من قبل جمال باشا وتدفع ثمنها لهم ورقا نقديا على سعره الأميري، ثم تبيعها بورق نقدي كذلك بربح لا يزيد عن عشرة في المائة، تأخذ الشركة هذا المقدار من الربح لقاء أتعابها ونفقاتها التي تصرفها في سبيل جمع الحبوب ونقلها وإحرازها وغير ذلك من النفقات.
فقبل المدعوون من جمال باشا هذا التكليف واشترطوا عليه عدة شروط: منها أن يرخّص لهم بمصادرة الحب الذي يمتنع صاحبه عن تسليمه بالسعر المحدود أو يخفيه عنهم أو يهربه منهم. ومنها أن يمدّهم بالقدر اللازم من العساكر لحفظ مستخدميهم وإرهاب من يمتنع عنهم في تسليم حبوبه. ومنها أن يعطيهم عددا كبيرا من الوثائق التي يستثنى حاملها من الجندية ليعطوا كل واحد من مستخدميهم في هذه القضية وثيقة يخلص بواسطتها من تعرض الموكول إليهم إلقاء القبض على العساكر الفراريين. ومنها أن يصدر أمره إلى جهة العسكرية بألا تتعرض إلى خانات الحبوب أو إلى أحد من المزارعين في القرى والمنازل، بأخذ ما يوجد عندهم من الحبوب، بل للعسكرية أن تطلب الحبوب التي تعوزها من هذه(3/456)
الشركة، وعلى الشركة أن تقدم لها كفايتها مهما أعوزها. ومنها أن يسلف جمال باشا هذه الشركة مقدارا كبيرا من الورق النقدي ليستعينوا به على مهمتهم ريثما ينتظم حال الشركة وتقرر قواعدها فيما بين أعضائها. ومنها أن يكون داخلا في منطقة نفوذ هذه الشركة أربعة أقضية، وهي قضاء جبل سمعان والباب ومنبج وإدلب. إلى غير ذلك من الشروط التي قبل جمال باشا جميعها وتعهد للمدعوّين بإنفاذها.
فعادوا المدعوون «1» من دمشق وهم فرحون؛ لأنهم رأوا بمقتضى حسبانهم أنهم يربحون من شركتهم هذه أرباحا طائلة تعد بمئات الألوف من الليرات. ولما وصلوا إلى حلب شرعوا بتعيين المستخدمين وأعدوا مكانا في حلب يجتمعون فيه للمذاكرة في شؤون مهمتهم. فأول خلاف نجم بينهم تنازعهم على الرئاسة، فإن كل واحد منهم يريد أن يكون هو رئيس هذه الشركة. والخلاف الثاني في تقسيم الأسهم: زيد يريد عشرة أسهم، وخالد يريد عشرين، وبكر يريد أربعين. وهكذا قام النزاع بينهم حتى أفضى بين اثنين منهم إلى المشاتمة والمخاصمة، ورفعت قضيتهما إلى المحاكم ثم تداخل بعض عقلاء الشركة فصالحوهما مع بعضهما. وبعد أن مارسوا العمل بهذه الشركة أياما قليلة ونقلوا إلى بعض الخانات مقدارا من الحبوب وتزاحم الناس على شرائها بدأ يظهر لجماعة الشركة من ماجريات الأحوال أنهم عاجزون عن إتمام القيام بتعهدهم، غير قادرين على جمع القدر اللازم من الحبوب: (1) لأن أصحابها في القرى والمزارع قد أخفوا الحبوب عن العيون بأماكن لا يمكن لمستخدمي الشركة أن يهتدوا إليها. (2) لعدم قيام جمال باشا بتعهده الذي هو إمداده إياهم بالعدد اللازم من العساكر لأجل حماية مستخدميهم وتهديد من امتنع عن تسليم حبوبه. (3) لقلة الجمّالين والمكارية وغلاء أجرة النقل. (4) لعدم مساعدة حكومات الأقضية المذكورة مستخدمي الشركة على استحصال الحبوب واستخراجها من عند ذويها.
بل بعض قائمي مقام هذه الأقضية كان يعاكس المستخدمين ويعارضهم بتشددهم على الزارعين. (5) لقيام جماعة من الزراع للتشكي على بعض مستخدمي الشركة وتذمرهم من ظلمهم وقلة إنصافهم ومعاملتهم الزراع بالضرب والشتم. (6) لأن الجهة العسكرية كانت تطالب الشركة بالقدر اللازم لها من الحبوب بكل شدة وصرامة، غير مصغية إلى شكواها من صعوبة جمع الحبوب ونقلها. (7) لإعطاء جماعة الشركة الوثائق التي تخلّص(3/457)
من العسكرية بعض أفراد من أقربائهم وأنسبائهم دون أن يباشروا عملا من أعمال الشركة بل لمجرد تملّصهم من العسكرية وقد باعوا منها عددا كبيرا لجماعة من التجار بقيمة وافرة ليتملص آخذها من العسكرية ليس إلّا.
والخلاصة أن هذه الشركة لم تلبث غير قليل حتى ظهر للعسكرية والحكومة عجزها عن القيام بما تعهدت به، فأهملتا جانبها وشرعت العسكرية تجمع اللازم لها من الحبوب تارة بواسطة الحكومة وأخرى تباشر جمعها بنفسها. وبسبب ذلك انقطع جلب الحبوب إلى الخانات وتصاعدت أسعارها، لأنه كان متى حضر إلى خان من الخانات حبّ وضعت العسكرية يدها عليه وصادرته أو دفعت قيمته ورقا بالسعر الذي تحدده هي، فلا يبلغ ربع قيمته الحقيقية. وبعد أن مضى على هذا العمل بضعة أشهر اضطر أصحاب خانات الحبوب إلى إغلاقها وقلّت الأقوات وصارت الحبوب تباع بين البيوت أو خارج البلدة سرا بأسعار باهظة يضطر صاحب العيال إلى أن يشتريها بتلك الأسعار إذ لا يوجد من يبيعه مؤنته بأقل منها.
فك الحصار عن الدردنيل:
وفي خامس يوم من ربيع الأول- من هذه السنة- الموافق عاشر شباط سنة 1915 م أقلعت أساطيل الإنكليز عن حصار الدردنيل، فقامت الأفراح والمسرات في البلاد العثمانية وعدّ الإقلاع عنها فوزا عظيما للعثمانيين.
قدوم أنور باشا إلى حلب وتعليق الستار على المرقد الشريف:
وفيها حضر إلى حلب أنور باشا من استانبول، وحضر جمال باشا من دمشق لاستقباله، ونزل أنور باشا إلى الجامع الكبير وعلّق بيده على حجرة الضريح ستارا مزركشا نفيسا.
توزيع البذر والنقود على الزراع:
وفيها وزعت الحكومة على المزارعين حبا للبذر لأن أكثر حبوبهم قد أخذته العسكرية باسم المبايعة، فأصبح الكثيرون منهم لا يوجد عنده شيء من الحب يقتات به فضلا عما(3/458)
يحتاج إليه حقله من البذر، ووزّعت على محاويج الزراع شيئا من النقود ليشتروا به دوابا «1» ، لأن العسكرية أخذت دوابهم باسم المبايعة أيضا، ولم تبق لهم منها غير الضعيف الذي لا يصلح للعمل، على أن ما وزعته «2» عليهم من الحبوب والنقود تستوفيه منهم في الموسم التالي.
مكتب المعلمات:
وفيها اشترت العسكرية دار البلدية الكائنة في الجميلية، التي كانت معدّة لسكنى الولاة، وجعلتها مكتبا للمعلمات سمته «مكتب سليمان الحلبي» تنويها بذكر هذا الرجل الذي كان خلاص مصر وعودها إلى الدولة العثمانية بواسطته على ما حكيناه في ترجمته.
وكان الساعي بإيجاد هذا المكتب جمال باشا، والمساعد له في الحصول عليه والي حلب مصطفى عبد الخالق بك. وقد قال لجمال باشا: إن هذه الدار عظيمة كثيرة الغرف والمقاصير التي تزيد على حاجة الولاة، فيبقي الزائد منها فارغا غير منتفع به، وإن كثيرا من الولاة القليلي الإنصاف يستأجرونها من البلدية بخمس أجرتها بحيث لا يفي ما يدفعونه منها بما تنفقه البلدية على فرشها ومرمتها. وكانت قيمة الدار التي دفعتها الجهة العسكرية للبلدية نحو سبعة آلاف ورقة نقدية عنها نحو 350 ألف قرش؛ القرش جزء من الذهب العثماني المقدر ب 127 جزءا. ولما كانت هذه القيمة دون قيمتها الحقيقية فقد تنازلت الجهة العسكرية للبلدية- علاوة على تلك القيمة- عن عرصة المقبرة الصغيرة الكائنة في جنوبي بستان إبراهيم آغا. وكان جمال باشا أمر بإبطالها ونسف ما فيها من القبور فعادت قاعا صفصفا.
تشدد العسكرية بالوثائق:
فيها تشددت الجهة العسكرية في قضية الوثائق التي تخلّص حاملها من التجند، فأمرت كل من كان معه وثيقة بأن يصور شخصه صورتين، تلصق إحداهما على الوثيقة التي يحملها وتلصق الأخرى تحت اسمه في سجل الوثائق. وسبب هذا التشدد اطّلاع الجهة العسكرية(3/459)
على عدة وثائق مزورة اخترعها بعض الناس وباعها من المكلفين للجندية للتخلص منها.
وقد ظفرت العسكرية ببعض مزوري تلك الوثائق فنكلت به وصادرت ما كان عنده من الأموال وزجته في أعماق السجن.
استيلاء الجيوش البريطانية على قود الإمارة:
وفيها استولت الجيوش البريطانية على قود الإمارة بين البصرة وبغداد واضطر قائد الجيوش التركية إلى الانتحار بعد أن أصيب بجراحات خطيرة. ثم أمدت الجيوش التركية واستردت البلدة المذكورة وأسرت قائدا كبيرا من قواد الإنكليز يقال له (طاوسند) .
ثم دارت الدائرة على الجيوش التركية فكسروا وعادت البلدة إلى استيلاء الجيش البريطاني.
إسعاف الفقراء بالحبوب والخبز:
وفيها كثرت شكوى الفقراء من قلة الخبز والحب وغلاء أسعارهما. فأصغى والي حلب مصطفى عبد الخالق بك إلى شكواهم واهتم بتخفيف ويلاتهم فاشترى من الجهة العسكرية مقدارا عظيما من الحب ودفع لها ثمنه من أموال صندوق البلدية وسلّم البلدية حوالات بتلك الحبوب على الجهة العسكرية، فاستلمت البلدية الحب شيئا فشيئا وأودعته في أهراء «1» خاصة. ثم أخذت من كل محلة من محلات حلب دفترا حرر فيه أسماء المعوزين منها، كل أسرة على حدتها، وأعطت رئيس الأسرة وثيقة بمقدار محدود من الحب وأخذت منه قيمته ورقا نقديا على معدل السعر المقطوع، وأحالته على أمين الأهراء التي أودع فيها الحب ليأخذ قسطه منه، واستثنت من أهل المحلات من كان عسكريا أو مستخدما فلم تعطهما وثيقة، لأنهما يأخذان ما يلزمهما من الحبوب وغيرها من جهة دائرته الرسمية.
وصارت البلدية تأخذ كل يوم مقدارا من هذا الحب وتطحنه وتفرقه على الأفران لتبيعه خبزا لفقراء المحلات الداخلة في منطقتها بالسعر المقطوع، وهو سبعة قروش ورقا نقديا عن كل رطل عنها 4 قروش معدنية تقريبا. استمر هذا العمل مدة خمسة أشهر، ثم نفد الحب الذي ادّخرته البلدية وامتنعت العسكرية عن بيعه لها، فانقطع بيع البلدية الحب والخبز وعاد الحال إلى شدته الأولى وصعد سعر شنبل الحب إلى ثلاثمائة قرش ذهبا.(3/460)
حوادث الأرمن:
حوادث الأرمن- في حلب وأورفة وعينتاب وكلّز وأنطاكية- بدأت في السنة السابقة وانتهت في هذه السنة (1334 هـ) . وهي محررة في كتاب مطبوع باللغة التركية عنوانه (فظائع الأرمن) قد فصلت فيه تلك الحوادث تفصيلا مسهبا، وصورت منها الوقائع المهمة الفظيعة بالفوطغراف. وهو كتاب كبير يستوعب ثلاثمائة صحيفة، نقلنا عنه جميع ما كتبناه في هذا الفصل سوى حوادث الأرمن في أنطاكية فقد أخذناها بالتلقي عن بعض ثقات من أهل تلك البلاد فنقول:
مشاغب الأرمن في أورفة:
في خلال السنة السابقة شاع في حلب أن جماعة من طائفة الأرمن في مدينة أورفة شقوا عصا الطاعة، وجاهروا بعصيانهم بينما كانت الحكومة آمنة من غائلتهم لما تشاهدهم فيه من الغبطة والرخاء والحرية الشاملة في معايشهم ومعتقداتهم ومكاتبهم ومعابدهم، حتى إنها لثقتها بهم وفرط اطمئنانها منهم قررت أن يكون لواء أورفة محل إقامة من تجليه عن بلاده من الأرمن الذين ارتابت بصداقتهم وخشيت غائلتهم على جيوشها المتصدية لمحاربة الروس.
يبلغ عدد طائفة الأرمن في أورفة نحو ثلاث عشرة «1» ألف نسمة. على أن هذه المنطقة الأرمنية لم تلبث بعد إعلان النفير العام سوى قليل من الأيام حتى تظاهرت بالانحراف عما كانت الحكومة تعهدها عليه من الوداعة والسكون، فأشهرت عداءها على الحكومة العثمانية أسوة ببقية إخوانها الأرمن القاطنين في جهات آسيا الصغرى وغيرها من البلاد العثمانية.
وسبب ذلك- حسبما ظهر من البحث والتدقيق- إغراء المبشرين الأميركان وغيرهم من مبشري الدول الأجنبية، فإنهم بواسطة مكاتبهم يستخدمون الأمة الأرمنية كآلة صمّاء لبلوغ مآربهم. أضف إلى هذا وسوسة مرخص الأرمن في أورفة، الذي كان منفيا إلى طرابلس الغرب بعد حادثة الزيتون التي سبق ذكرها في حوادث سنة 1313 فإنه بعد أن أطلق سراحه وعاد إلى أورفة عاد إلى ديدنه الأول، فأخذ يلهج بحط مقام الدولة العثمانية(3/461)
والانتقاد على أعمالها والتحرش بباقي رعاياها المخلصين.
وكان الأرمن في أورفة يتربصون بإعلان عصيانهم على الدولة قدوم جيوش الروس على جهاتهم، غير أن الحكومة العثمانية لما أمرت بتجنيد مواليد سنة 1310 اتخذ الأرمن هذه القضية ذريعة للتجاهر بالعصيان، فهبوا للتمرد وجمعوا عددا كبيرا من شبانهم في قرية كرموش التي تبعد عن أورفة مسافة ساعة ونصف وهناك أعلنوا العصيان.
هذه القرية عظيمة فيها كنيسة كبيرة ومعبد للبروتستان ومغائر متعددة. ولما اتصل خبر تمردهم بالحكومة أنفذت إليه ثلة من الدرك مؤلفة من ثلاثين شخصا، ففاجأها العصاة بإطلاق النار فقتل منها واحد وجرح آخر. ومع ذلك فإن هذه الثلة هجمت عليهم وغنمت مقدارا كبيرا من السلاح والذخائر وقبضت على بعض الفدائيين منهم. وبينما كانت الجنود العثمانية تبحث في نفق للتحري عن السلاح إذ وجدت فيه ثلاثة من غرباء الأرمن قد طالت شعورهم لطول مكثهم في هذا النفق. وفي الحال أطلقوا عياراتهم على الجنود فقتلوا منهم اثنين وجرحوا آخرين. ثم إن شرذمة من الأرمن تعرضت إلى كتيبة من الدرك على طريق «سيوه رك» فلم تفلح. ثم تعرضت إلى عملة يشتغلون في موضع يقال له «اق هيوك» (تل أبيض) فقتلت ضابطا وجرحت أربعة أفراد ومختار قرية.
وبعد هذه الواقعة اختفى الأرمن في منازلهم واجتمع منهم شرذمة في دار أولاد الأطراقجي، وأخذت تطلق عياراتها. ثم قام الأرمن كلهم يرمون الرصاص ويهجمون على محلات المسلمين واستولوا منها على بعض دور حصينة وقتلوا عشرة من نساء تلك الدور. وفي ذلك الوقت نقس «1» جرس الكنيسة الكبرى بأن هبوا جميعا لإشهار العصيان، وكان ذلك بتدبير رجل اسمه (صوغومو) قسيس بروتستاني يدير دفة سياستهم، فنفروا للحرب جميعا وقد خيّط على كمّ كل واحد منهم رقعة فيها عنوان وظيفته. فهاجوا وماجوا وقذفوا من أفواه بنادقهم نارا حامية، وكانت القوة العسكرية غير كافية لكبحهم فدام تمردهم كذلك حتى وصلت إلى أورفة قوة عسكرية يقودها وكيل قائد الجيش الرابع، فأرسل إليهم مع طائفة من نسائهم بيانا يقول لهم فيه: من كان منكم مطيعا للحكومة فليخرج من باب «صمصاد» . فلم يصغوا إلى بيانه وثابروا على الامتناع وحينئذ صوّب(3/462)
أفواه المدافع إلى جهة حصونهم فهدمها، واخترق الصف الأول من محلاتهم ثم دعاهم للانقياد والإذعان فلم يجيبوا واستمروا مجاهرين بالعصيان، فأعاد إطلاق المدافع عليهم، فما كان منهم إلا أن رفعوا خرقة بيضاء كتب عليها بقلم عريض كلمات بالتركية معناها:
«أوقفوا النار للمخابرة» . فأسكتت المدافع وبعد نصف ساعة سلموا نحو ستمائة من نسائهم وأطفالهم.
ثم في اليوم التالي عادوا إلى ما كانوا عليه من التمرد والفساد وهجموا على الجنود فقوبلوا بالمثل وانكسروا شرّ كسرة، واستولت الجنود على الكنيسة ودار الأيتام والأماكن التي اتخذوها حصونا لهم ونكلوا بالعصاة شر تنكيل. وهكذا انتهت هذه الحادثة، وكان عدد من قتل وجرح من مسلمي أورفة 42 شخصا، ومن الدرك ثمانية وجرح أربعة وعشرون، ومن العساكر مائتان، منهم ضابط واحد.
حادثة الأرمن في الزيتون:
لا ينكر ما لبعض رؤساء الأرمن وما لبعض الحكومات الأجنبية من الأيدي اللاعبة في عقول الأمة الأرمنية تهييجا لعصاباتهم على القيام في وجه تركيا أثناء اشتغالها في الحرب العامة، عرقلة لمساعيها ولاشغالها عن مكافحة الروس:
فأول ما ظهر من متمردي الأرمن في الزيتون- بعد إعلان الحرب- أنهم رفضوا أوامر الحكومة وامتنعوا عن التجنيد ودفع الضرائب، وقاموا يتعرضون للسابلة بالقتل والنهب، وتعلّق دعّارهم في الجبال وخرجوا على قافلة تسير على طريق «فرنس» فقتلوا أكثر أهلها ونهبوا أموالهم وقتلوا جماعة من الدرك في بعض القرى. وحينئذ اهتمت الحكومة بشأنهم فألقت القبض على 65 شخصا منهم. وبلغ الحكومة أن بانوس بن جافر- زعيم جمعية «خنجاق» في الزيتون- قد عزم على كبس دار الحكومة وقتل المأمورين وكبس مستودع السلاح ونهب ما فيه وقطع أسلاك البرق. فأخفق سعيه.
وكمنت عصابة من شطّار أرمن الزيتون في بعض الجبال المنيعة قصد التعرض إلى مهمات حربية قادمة على الزيتون، فلم تنل هذه العصابة أربها؛ إنما خرجت بغتة على جماعة من الدرك فقتلت منهم ستة وجرحت اثنين، وقطعت السلك البرقي بين الزيتون ومرعش،(3/463)
وتعرضت إلى عسس «1» مرعش، وقتلت شابا مسلما من قرية بشانلي.
وقامت عصابة أخرى تتعرض إلى دار حكومة الزيتون وثكنتها العسكرية فقتلت اثنين من حاميتها وهددت المأمورين. واعتصمت عصابة أخرى في دير التكية- وهو دير حصين- فقصدها سليمان أفندي البيكباشي قائد الدرك بمن معه من الجنود، فقتلته وقتلت معه خمسة وعشرين عسكريا وجرحت أربعة وثلاثين شخصا. وألقي القبض على قسم من هذه العصابة، وقسم منها أضرموا النار في الدير ليلا وهربوا وأخذوا يتعرضون للسابلة ويجرون معها من الفظائع ما تقشعرّ منه النفوس. وألقي القبض على واحد من دعّارهم اسمه «ملقون» فذكر في استنطاقه أن العصابة أعلمته بأن الجنود الإنكليزية قد استولوا على إسكندرونة، وأن الأرمن قد شغبوا هناك وأن الواجب على الأرمن أن يعرقلوا مساعي تركيا ويعضدوا الإنكليز. وقد انضم إلى عصابات أرمن الزيتون جماعة من أرمن جمعية خنجاق وجمعيات البلاد الأرمنية في لواء مرعش غير أن الجنود التركية ما زالت تجد في تتبعهم حتى ظفرت بهم واستولت على الكثير من أسلحتهم التي من جملتها قنابل الديناميت وغيرها.
حادثة الأرمن في السويدية:
بعد إعلان الحرب العامة بقليل من الأيام، بدأ الأرمن- سكان جبل موسى في جهة السويدية من أعمال أنطاكية- يظهرون العتوّ والتمرد على مأموري الحكومة الذين يحضرون إليهم لتقاضي المرتبات الأميرية منهم، خصوصا أهل قرية كابوسية وقرية خضر بك وقرية حاجي حببلو، وغيرها من القرى الجبلية المنيعة التي يصعب السلوك إليها. وقد شوهد بين أرمن هذه الجهات عدد عظيم من أرمن العصابات الأرمنية المعروفة في جهات مرعش والزيتون. ولما علمت الحكومة ذلك أرادت إجلاءهم تأمينا لغائلتهم في هذا الثغر البحري الذي كانت مدرعات الدول المحاربة لا تنقطع عن التردد إليه.
وقد شعر الأرمن بعزم الحكومة على إجلائهم عن ديارهم فقاموا كلهم قومة رجل واحد واعتصموا بشعف «2» تلك الجبال الشامخة التي كانوا ملؤوا مغائرها وكهوفها من(3/464)
الأقوات والمهمات، وصاروا يتعرضون- حينما تسنح لهم الفرص- إلى سكان قرية السويدية والزيتونية والحسنية بالنهب والسلب. وعندها اهتمت الحكومة بشأنهم وأنفذت العساكر لكبحهم فقصدت أماكن اعتصامهم، وبعد أن قاومهم الأرمن مقاومة عنيفة وجرح من الجنود كثيرون تحقق الأرمن أنهم مأخوذون لا محالة، فتركوا معاقلهم وأسرعوا بالهرب ليلا إلى جهة البحر وكأنهم كان لهم- مع المدرعة التي حملتهم- إشارات خصوصية مصطلح «1» عليها فيما بينهم، فلم تشعر العساكر التركية التي تتعقبهم إلا ومدرعة ضخمة قد حضرت إلى ثغر السويدية، وصارت تطلق قنابلها على الجنود الذين اضطروا حينئذ للتغيب والتواري بين غابات السويدية ووراء آكامها. وفي ذلك الأثناء تقدم العصاة إلى جهة البحر تحت حماية قنابل المدرعة، وقد أعدت لهم الزوارق والقوارب فركبوها زمرة بعد زمرة، وكانوا نحو خمسمائة شخص. ثم أقلعت بهم المدرّعة وغابت عن العيون غير أن الجنود التركية- رغما عن هذا كله- ظفروا بعدد عظيم من المتمردين وسلموهم إلى إدارة سوق المهاجرين فأجلتهم إلى الجهات المعينة لهم.
أحزاب الأرمن في حلب:
قال في الكتاب المذكور: اجتمع في حلب عدد عظيم من جالية أرمن الأناضول وغيره، فرتبوا منهم عصابات وضعوا لها تعاليم، من أحكامها أن تتزيا العصابات بالزي العثماني وتسير إلى جهات موش وبتليس، وتنسف في طريقها أنفاق خط سكة الحديد وتتعرض للقوافل وتغتال بعض كبار الموظفين من ملكيين وعسكريين، وتقتل ما تصادفه في طريقها من العساكر الذين رخص لهم بالذهاب إلى بلادهم لتبديل الهواء، ثم تلتحق تلك العصابات بجيوش الروس، على ألّا تتظاهر بأعمالها إلا بعد خروجها عن حدود حلب؛ كيلا يتضرر الأرمن في حلب. وقد نمي خبر هذه العصابت إلى الحكومة قبل شروعها بأعمالها، فظفرت الحكومة بالجمعية التي ألّفت هذه الأحزاب وألقت القبض على سبعين شخصا كانوا يعاونون الجمعية ويمدّونها بأموالهم وآرائهم، وسلمت الجميع إلى الإدارة العرفية، فظهر من اعترافهم والأوراق التي وجدت عندهم ما كتبناه عنهم في هذا الفصل.(3/465)
أحوال الأرمن في عينتاب وكلّز:
قال في الكتاب المذكور: أحسّت الحكومة في عينتاب وكلّز أن الأرمن متهيئون لإظهار العصيان في أول فرصة تسنح لهم، وأنهم بدءوا يتأهبون لهذا القيام كما كان تأهب إخوانهم في حادثة أذنة قبلهم. وقد حضر إلى قريتي حبار وجنكن في قضاء كلّز نحو ثلاثين أرمنيا مسلحين من أهل الزيتون وجماعة من رؤساء عصابات كرون، ففتكت بهم الجنود التركية وفرّ البعض منهم، وألقت الحكومة القبض على «أغوب قازار» ابن راهب كلّز، وهو رئيس فرع جمعية خنجاق ومرتب حركات العصيان في كلّز، فسلّم إلى الديوان العرفي وتشتت شمل هذه العصابة.
الحملة على قناة السويس:
في هذه السنة (1334 هـ) ورد الخبر البرقي بأن جمال باشا أمر بتسيير حملة على مصر لتدخل إليها من جهة قناة السويس بعد أن تم مد فرع سكة حديدية من الخط الحجازي إلى بئر السبع.
ما هو الغرض المقصود من هذه الحملة؟
في الفصل الخامس من كتاب «مذكرات جمال باشا» كلام مسهب بالإفصاح عن شؤون هذه الحملة وما يتعلق بها من التأهب وإعداد الجنود والمهمات الحربية، وإصلاح طرق المواصلات والتزود من الأقوات والمياه، وكيف كان هجوم الحملة على القناة وأسباب فشلها، وعدد من استشهد منها، مع بيان قوات الإنكليز ومعداتهم، وغير ذلك من الأمور التي تفيد الراغب بالإطلاع على شؤون هذه الحملة فائدة تامة.
غير أن هذا الفصل- على ما فيه من الإسهاب والإطالة- لا يحقق أمنية الباحث فيه عن حقيقة الغاية التي ترمي إليها هذه الحملة، لأنه- بينما يفهم مما سطر فيه من عبارات جمال باشا أن الحملة ليست مقصودة لذاتها بل الغاية منها محض مظاهرة يقصد منها الاستطلاع على قوات العدو وإلفات نظر تركيا إلى ما يجب عليها تداركه وإعداده لحملة أخرى- إذ يمر بذلك الباحث من عبارات جمال باشا ما يفهم منه أن الحملة مقصودة لذاتها لأن الغاية منها الفتح والاستيلاء.(3/466)
فمن عبارات الشق الأول، قول جمال باشا بعد فشل الحملة: «فلو كتب لنا النجاح لهذا المشروع الذي هو محض مظاهرة مصحوبة بقوة عسكرية لاعتبرناه فألا حسنا لتحرير الإسلام وتخليص الإيمبراطورية العثمانية» ، وقوله: «إن المشروع إنما كان محض استطلاع هجومي على القناة لمعرفة الموادّ التي لدى العدو وما نحتاجه نحن أنفسنا من المواد لعبور القناة. وبما أننا أدركنا غايتنا تماما فالأصوب أن ننسحب إلخ» .
ومن عبارات الشق الثاني، قول جمال معربا عن هواجس نفسه إبان السّرى «1» في صحراء التيه: «ونحن نواصل السير بالليل على ضوء القمر؛ كان قلبي مفعما بالكآبة الممزوجة بالأمل الكبير في النجاح كلما رددت الموسيقى أنشودة الراية الحمراء تخفق فوق القاهرة، والتي على وقعها شقّت الصفوف الزاحفة طريقها في ذلك القفر الذي لا نهاية له» .
أقول: الذي يتبادر للذهن أن الغاية كانت من هذه الحملة هو الفتح والاستيلاء لا التمهيد لحملة أخرى، وذلك أن التأهب لها كان عظيما لا تحتاجه فيما لو كان الغرض منها محض استطلاع واستكشاف. غير أن هذا التأهب وإن كان عظيما فهو بلا ريب دون ما تحتاجه حملة يقصد منها الهجوم على قناة السويس لأجل الاستيلاء على مصر وسلبها من يد أعظم دولة في العالم، بل كان من أقلّ ما يلزم لهذه الحملة في اجتيازها إلى برّ مصر أن تردم الترعة ويدخل منها جيش لجب «2» إلى برّ مصر ويبقى نظيره في برية الشام لعرقلة سير المدرّعات الإنكليزية الضخمة، ورميها بقنابل المدافع التي هي من عيارات واسعة، كما أشار إليه نفس جمال باشا بعد فشل حملته ومحاولة القائد الألماني إعادة هجوم الحملة مرة ثانية.
ومما يدل على أن الحملة كان المقصود منها الفتح والاستيلاء: تيقن جمال بنجاحها وأنه لا بد وأن يدخل إلى مصر ظافرا منصورا، بدليل إعداده جماعة تناط بهم خدمة الدرك في مصر واستحضاره- وهو في حلب- ملابس لهم، الأمر الدالّ على أنه كان غير شاكّ ولا مرتاب مطلقا في فوز حملته وتكليل مساعيه بالفلاح والنجاح.(3/467)
أما عباراته التي مفهومها بأن الحملة كانت الغاية منها تمهيدا لحملة أخرى، فإنما فاه بها بعد فشلها تخلصا من رميه بسهام الملام على تقصيره في إعداد ما يلزم لهذه الحملة من الجيوش الضخمة والمهمات الوافرة والتدابير الصائبة التي بدونها لا تجوز المغامرة في تيار هذا الخطر العظيم.
ورود نبأ برقي بنجاح الحملة:
وفي هذه السنة (1334) ورد علينا من جهة بئر السبع نبأ برقي بأن هذه الحملة قد نجحت بهجومها على القناة ومشت إلى جهة مصر، فكان الناس لهذا الخبر بين مصدّق ومكذب، وهمّ حزب الاتحاد بترتيب مظاهرة فرح وسرور بهذا الظفر، وبينما هم يتذاكرون في شؤون هذه المظاهرة إذ ورد بالبرق تكذيب الخبر الأول.
أقول: إن جمال باشا أوضح في مذكراته سبب النبأ البرقي المعلن نجاح الحملة بما خلاصته أن مدير تلغرافات الجيش (الذي كان مشتغلا بمد الخطوط في الصحراء) أبلغه أحد المعتوهين كذبا نبأ سقوط الإسماعيلية، فعجل بإبراقه إلى الآستانة، فلما ظهرت الحقيقة انعكست الآية وكان لها أسوأ تأثير.
عدد الأيام التي أمضتها جيوش الحملة في قطع الصحراء بين بئر السبع والقناة:
قال جمال باشا في مذكراته ما خلاصته: إنه ما كاد يمر عشرون يوما على بدء الزحف من بئر السبع حتى وصل القسم الأول من الحملة بقوة كبيرة إلى نقطة تبعد نحو 11 كيلومترا من القناة. ووصل الجناح الأيمن الذي زحف من العريش في جهة «قاطية» تجاه القنطرة، بينما الجناح الأيسر الذي زحف من العقبة- عن طريق قلعة النخل- وقف في مقابلة السويس.
ما لاقاه الجيش من التعب والضنك:
قال جمال باشا في مذكراته: ويقصر اللسان عن أن يوفي القوات العثمانية- لا فرق بين ضباطها وجنودها- اللائي اشتركن في حملة القناة الأولى، حقّهن من الثناء، على ما بذلنه من الجهود وأظهرنه من ضروب الوطنية العالية. وأرى من واجبي تقديم إعجابي(3/468)
لأولئك الجنود البواسل الذين قاموا بذلك الزحف، غبر مبالين بما لاقوه من ضروب الضنك وتحملوه من المشاقّ في سحب المدافع، فضلا عن الجسور المتحركة (وهي ما كان لدينا من المعدّات لعبور القناة) وسط بحر من الرمال. هذا وقد ساد بين رجال الحملة- لا فرق بين الأتراك والعرب- شعور العطف الأخوي. ولم يكن بينهم من يضن بحياته دفاعا عن إخوانه. والواقع أن الحملة الأولى كانت برهانا ساطعا على أن غالبية العرب الساحقة انضموا إلى الخلافة بقلوبهم وجوارحهم.
عدد عساكر الحملة وعدد عساكر الإنكليز:
والمفهوم من مذكرات جمال باشا أن عدد جنود الحملة كان واحدا وعشرين ألفا، وأن جمال باشا قد علّق أكبر آماله وقتئذ على مساعدة الوطنيين المصريين الذين رجا أن يثوروا كلهم بعد أن يشجعهم سقوط الإسماعيلية في يد الجيش التركي. أما عدد جيوش العدو- حسب المعلومات التي وصلت إلى مركز قيادة الجيش التركي- فهي 35 ألفا على طول خط القناة، عدا مئة وخمسين ألفا- ويزيدون- موزعين في طول مصر وعرضها.
مساعدة ابن السعود وابن الرشيد وعدد الجمال التي كانت في جيش الحملة:
قال جمال باشا في مذكراته: ولم يكن في استطاعة الأمير ابن السعود أن يمد لنا يد المساعدة المباشرة لقربه من الإنكليز الذين كان في استطاعتهم إيصال الأذى إليه، إلا أنه كان شخصيا نافعا لنا جدا إذ أرسل الجمال للجيش وسمح بتصدير التجارة من بلاده إلى سورية. ولقد أقام الأمير ابن الرشيد البرهان الصادق على أنه مسلم صميم وشديد الإخلاص للخلافة. قال: وكان عدد الجمال التي سخرت لحمل أثقال الحملة وحمل الماء اثني عشر ألف جمل، بعضها من سورية والقسم الكبير منها من بلاد الأمير ابن السعود.
ثقة جمال باشا بإخلاص العرب:
قال جمال باشا ما خلاصته: وكانت كتائب الحملة مكونة من عرب الشام وفلسطين، ولم توجد مقاتلة أتراك سوى كتائب متطوعي الدراويش، وفصيلة مشاة من متطوعي «دوبريجه» التي أنشأها جمال باشا لخدمة القيادة. قال: أفلا يدل كل ذلك على ثقتي(3/469)
بالعرب واعتقادي أنهم لن يثوروا ضدنا أو يطعنونا من الخلف؟
هجوم الحملة على القناة وفشلها وعدد من قتل وأسر وجرح فيها:
المفهوم من كلام جمال باشا في مذكراته أن الوقت الذي كان معينا لعبور القناة هو الليل، غير أن الجيش المعدّ للعبور تأخر وصوله، وحينما بدأ بمد الجسور المتحركة وشرع بالعبور كانت الشمس في الأفق، فصارت أعمال الجيش ظاهرة للإنكليز فهبوا للدفاع عن نقطة العبور مباشرة بما كانت نتيجته تحطيم الجسور عدا ثلاثة منها. وكان قد تمكن من العبور 600 مجاهد فأسرهم الإنكليز. وهاك بيان خسائر هذه الحملة:
ضابط/ 14/15/-/ 15 جندي/ 178/366/600/712 ولكن الإنكليز قدروا خسائر الأتراك في هذه الحملة بألف قتيل وألفي جريح وستمائة وخمسين أسيرا.
مقتل زعماء الجمعية اللامركزية:
في رجب هذه السنة (1334) الموافق مايس سنة 1916 م ورد الخبر من دمشق وبيروت بتعليق واحد وعشرين شخصا من أفراد الجمعية التي كانت- قبل أربع سنوات- عقدت في مدينة باريس مؤتمرا عربيا للمفاوضة في طلب الحاكمية اللامركزية للبلاد السورية تحت سيادة الدولة العثمانية. وقد علّق منهم في بيروت أربعة عشر شخصا وفي دمشق سبعة أشخاص، علّقوا كلهم في ليلة واحدة، فارتاع الناس من هذا الخبر وداخلهم من القلق والوحشة ما لا مزيد عليه. وقد بسط جمال باشا في مذكراته الكلام على أعذاره في تعليقهم. وسنتكلم على ذلك في الآتي.
قيام حضرة الشريف حسين على تركيا:
في شعبان هذه السنة (1334) تواردت الأخبار بأن حضرة الشريف حسين بن الشريف علي- أمير مكة المكرمة- قد تظاهر بالعداء حيال الدولة العثمانية. ثم تواردت(3/470)
الأخبار في رمضان بأنه استولى على مكة المكرّمة وجدّة والطائف وينبع، وطرد العساكر التركية وأسر بعضها، وعقد مع دولتي إنكلترا وفرنسة معاهدة على أن يستولي على البلاد العربية العثمانية بمعاونتهما فيستقل فيها العنصر العربي ويكون هو الملك عليها إلخ.
حركة حضرة الشريف هذه قد أثبت فيها جمال باشا- في مذكراته- كلاما مسهبا ليس من غرضنا التعرض إلى تفنيده أو إلى تصويبه، بل نكل ذلك إلى من يرون أنفسهم مضطرة إلى كشف الحقيقة وتمحيضها في هذه المسألة الخطيرة.
على أنني لا أنكر أن هذا القيام لم يخل من فائدة لسوريا فإنه قد وقف تيار الفتك الذي كان يخوض في بحره جمال باشا دون رادع ولا مسيطر.
إجلاء أسر من دمشق وحلب:
فيها أجلى جمال باشا بعض أسر كريمة عن دمشق لقرابة بينهم وبين بعض المقتولين الذين تقدم ذكرهم، أجلاها إلى جهات الأناضول، وأجلى من حلب أسرة محترمة لأن جنديا من ذوي قرابتها التحق بجيوش حضرة الشريف، أجلاها إلى مدينة قرق كليسا في ولاية أدرنة.
إحداث جريدة في المدينة:
وفيها صارت الأخبار ترد من الحجاز تارة بانتصار الجيوش التركية على الجيوش العربية، وتارة بالعكس، وأن المدينة المنورة دخلت في حوزة العرب وأنهم نسفوا سكة الحديد في جهات الكرك ومعان وغيرهما. ولما كانت هذه الأخبار تضعف معنويات الجنود التركية وتزيد في قوة معنويات العرب، رأى جمال باشا أن يصدر في المدينة المنورة صحيفة إخبارية تحرر ما يجري في الحجاز بين الجنود التركية والعربية على الصفة التي تخدم إرادته وتروّج أفكاره، وأن تنشىء مقالات تبرهن على حسن سلوك جمال باشا وسوء سلوك حضرة الشريف في هذه المسألة. فجهز للمدينة المنورة مطبعة بأدواتها ولوازمها واختار محررا لها وطنينا البارع الأديب الشيخ بدر الدين النعساني، فسافر إلى المدينة المنورة وأصدر هناك صحيفة سماها «الحجاز» واستمرت تصدر مدة سنة أو أقل منها، ثم بطلت وعاد محررها إلى أوطانه.(3/471)
وفود إلى المدينة:
وفيها- في رمضانها- أوفد جمال باشا إلى المدينة المنورة وفودا من حلب ودمشق وغيرهما ليطلعوا على حقائق الأحوال ويعودوا إلى أوطانهم فيخبروا أهلها بأن المدينة المنورة لم تزل باقية في يد العثمانيين، وأن سكة الحديد بين دمشق والمدينة لا يوجد فيها شيء مختلّ.
وقد دعيت لأن أكون من وفد حلب فاستقلت خوفا من مشقة الطريق وشدة الحر. وكانت نفقة هذه الوفود من جهة العسكرية، وقد أعطي كل واحد منهم خمسين ليرا عثمانيا ورقا نقديا. ولما عادت هذه الوفود إلى أوطانهم أخبر كل واحد منهم أهل وطنه بأن المدينة المنورة لم تزل باقية بيد العثمانيين وأن لا سبيل إلى الاستيلاء عليها، وأن سكة حديد الحجاز سليمة لا خلل فيها.
فتوى في وجوب قتال من خرج على الخليفة:
وفيها ورد من دمشق الشام طائفة من علمائها، ومعهم صورة فتوى شرعية توجب قتال من خرج على الخليفة وشقّ عصا الطاعة وفرّق كلمة الجماعة. فدعا الوالي عبد الخالق بك نفرا من علماء حلب وكلفهم ختم هذه الفتوى أسوة بعلماء دمشق فختموها.
قدوم الشريف علي حيدر باشا على حلب:
وفيها قدم على حلب حضرة الشريف علي حيدر باشا، وقد تعين لإمارة مكة المكرمة بدل حضرة الشريف حسين، المتظاهر بعداء الدولة. فأقام حيدر باشا بحلب قليلا ثم سافر منها إلى دمشق فبقي بها مدة ثم سافر منها إلى جهة لبنان لينتظر نتيجة الحرب الحجازية، فلم تسنح له الفرصة بالتوجه إلى الحجاز وعاد إلى استانبول في أواخر سنة 1336.
جودة الموسم ورخص الأسعار:
وفيها كانت المواسم جيدة والرخاء شاملا. وشاع بين الناس أن جهة العسكرية عازمة على مصادرة السمن والحبوب والصوف وغيرها. فخاف المحتكرون ولم يجسر أحد منهم على احتكار شيء من هذه البضائع. فازداد رخص السمن وبيع رطله بخمسة وعشرين قرشا، وبيع كل مائة بيضة بسبعة قروش، مما لم يعهد له نظير منذ عشرين سنة، وبيع رطل اللحم الخالص بخمسة عشر قرشا ورطل الصوف بأحد عشر قرشا. وكانت جميع(3/472)
أسعار الأقوات الوطنية رخيصة سوى الحبوب وزيت الزيتون والزبيب والتين والجوز وباقي الفواكه التي أتى الجراد النجدي على شجرها، كما أسلفنا ذكره في السنة 1333.(3/473)
سنة 1335 هـ
ملكية حضرة الشريف حسين على البلاد العربية:
في اليوم السادس من محرّم هذه السنة نودي في البلاد الحجازية باسم حضرة الشريف حسين أمير مكة المكرمة ملكا على البلاد العربية العثمانية. وقد تقدم الكلام على مبدأ قيامه على تركيا واستيلائه على معظم الحجاز في أخبار السنة الماضية.
وفد من استانبول إلى البلاد الشامية:
فيها قدم من استانبول إلى حلب وفد مؤلف من رجال الدولة العثمانية وأعيانها لردّ زيارة الوفد العربي الذي كان في العام الماضي زار استانبول. وقد استقبل الوفد التركي حينما دخل إلى محطة بغداد استقبالا حافلا، وأدبت له البلدية في فندق البارون مأدبة فاخرة، وقدّمت لكل واحد منه عباءة حريرية جميلة من صنع حلب. ثم بعد ثلاثة أيام سافر الوفد إلى دمشق ومنها إلى بيروت، ولقي فيهما من الحفاوة والإكرام ما لقي في حلب وزيادة.
وكان الغرض الحقيقي من زيارته هذه البلاد تطييب قلوب أهلها العرب وإظهار محبة الأتراك إياهم، ونزع ما غرسه بعض الاتحاديين في قلوبهم من النفرة والبغضاء بسبب سوء تدبيرهم.
سباق الخيل:
وفيها جرى في أرض الحلبة من ظواهر حلب سباق خيل على أبهج طرز.
دار للمعلمين ودار للحكومة:
وفيها بوشر في أرض الميدان الأخضر الشهير في شمالي مدينة حلب [ببناء] «1» مكتب(3/474)
سمّي دار المعلمين، وبوشر أيضا بتأسيس دار للحكومة جديدة تجاه باب القلعة، باتصال المدرسة السلطانية من شرقيها. وقد وضع لها مهندس الولاية مصورا دخلت فيه «الغوثية» فهدمت عن آخرها ولم يبق لها أثر. ثم شقّت الأسس وبوشر ببنائها على صفة متقنة.
وقبل انتهاء بناء الأسس وقع الاستيلاء على حلب فبطل العمل بعد أن صرف عليه مبلغ طائل.
أخبار غزة:
فيها تواردت الأخبار بأن «غزّة هاشم» دخلها الجيش العربي الإنكليزي، وكانت الجنود التركية كامنة فيها فخرجوا من مكامنهم وهجموا على الجنود الإنكليزية فقتلوا منهم في البلدة عددا كبيرا وأخرجوا الباقين منهم قسرا، وأن البلدة قد خربت ولم يبق من أبنيتها سوى القليل. وقد نزح عنها أهلها وتشتتوا في البلاد، منهم من سار إلى عربان البادية وأقام عندهم، ومنهم من سار إلى جهات طبرية والخليل والقدس ودمشق وحمص وحماة وغيرها، وجرى عليهم من البلاء ما لم يجر على غيرهم. ثم في أواخر هذه السنة أعادت الجيوش الإنكليزية العربية الكرّة على غزة فاستولت عليها وعاد إليها من أهلها من كان مهاجره قريبا منها. ومن ذلك الوقت بدأ العمار يعود إليها شيئا فشيئا.
انفكاك مصطفى عبد الخالق عن ولاية حلب:
وفي هذه السنة انفك الوالي عبد الخالق بك عن ولاية حلب وعيّن مستشارا في نظارة الداخلية. وهو من أنزه ولاة تركيا وأحرصهم على رعاياها المخلصين وقد تعيّن بدله لولاية حلب توفيق بك.
نفي بعض المتلاعبين بالورق النقدي:
وفي هذه السنة شدد جمال باشا العقوبة على المتلاعبين بالورق النقدي، ونفى بعض التجار إلى جهة أذنة لتلاعبهم بهذا الورق فلم يحصل من نفيهم نتيجة واستمر سعر الورق على هبوطه.(3/475)
قلة الماء في حلب وجرّ ماء عين التل إليها:
وفي هذه السنة بدأت الآبار والينابيع تنضب مياهها وقل ماء قناة حلب ونهرها.
وكثرت شكوى الناس من هذه البلية التي لا دخل للحرب في وجودها بل هي بمحض إرادة ربانية قضت بأن لا يقع في موسم الشتاء ثلج على جبال عينتاب وغيرها من الجبال التي ينصب ماء عيونها إلى مجرى نهر حلب. وكان جمال باشا مطلعا من قبل على قلة ماء حلب، وقد أعلمه الأطباء بأن ماء القناة والنهر- مع قلته- يحمل أنواعا من جراثيم الأمراض القتالة التي يخشى على العساكر من فتكها. فاهتم جمال باشا بجر ماء عين التل إلى حلب وأحضر لذلك قساطل الحديد من جهة يافا وغيرها. وفي مدة وجيزة مدّها من العين إلى رأس محلة التلل، وهناك عمل لها خزان عظيم يصب فيه الماء ومنه يتوزع إلى جهة حلب.
وعمر في رحبة باب الفرج حوض جميل بديع الصنعة- لو تمّ عمله- يصب فيه الماء فينفر إلى العلاء قدر رمح، ثم يصب في حويض مستور، له مباذل «1» مغروسة بدائره.
وعمل لأخذ الماء عدة مراكز أقصاها عند خان الكمرك- في سوق السقطية- وفي متوسط خندق العطوي الآخذ إلى باب النصر. فلم يستفد من هذا الماء سوى المحلات القريبة من باب الفرج بسبب قلته وعدم ارتفاع خزّانه. وعلى كل حال فإن سكان هذه المحلات وما قاربها قد ارتاحوا قليلا من جهة ماء الشرب، وعدّ عمل جمال باشا هذا من أكبر الحسنات التي تكفّر بعض سيئاته وتخلد ذكره في التاريخ.
ولما انتهى هذا المشروع الحسن عمل له في شعبان هذه السنة- ومايس سنة 1333 رومية- حفلة افتتاح عند حوض باب الفرج المذكور، حضر فيها الجمّ الغفير من الأعيان والأمراء والأهلين، وأنشدته قصيدة من نظمي اقترحها عليّ والي حلب توفيق بك، وهي قصيدة طويلة منها قولي:
إن ماء أجراه عذبا فراتا ... فيه إرواء غلّة الورّاد(3/476)
قد سقانا الشراب منه طهورا ... فروى من نميره كلّ صاد «1»
وبه ساغت المشارب في الشّه ... با وكانت عسيرة الازدراد
وبه أثلج الصدور كما قد ... أضرم النار في قلوب الأعادي
جاريا في ربوعنا بابتذال ... كنجيع الأعداء في كلّ واد «2»
منّة طالما النفوس تمنّتها ... م إلى أن أتت بلا ميعاد
منّة أحيت النفوس وأحيت ... ذكره بالجميل حتى المعاد «3»
ذخرتها له الليالي «4» حتى ... يجتنى حمدها إلى الآباد
قرن الله سعده بنجاح ... وفلاح ورأيه بالسّداد
وأرّخها الأديب الفاضل الشاعر الشيخ إبراهيم أفندي الكيالي بقوله:
أحمد الفعل «5» جمال في الورى، ... ماء عين التلّ للشهبا جلب
إنّ هذا الخير، أرّخ: زانه ... حسن ذكر لجمال في حلب
1335 وبقوله:
أحمد الفعل جمال في الورى، ... أنعش الشهباء بالماء الزّلال
صاح، إن رام الورى تاريخه: ... ناد عين التلّ تجري بجمال «6»
1335
وبعد فراغي من إنشاد القصيدة افتتح جمال باشا بخطبة قال فيها: إن أحب شيء إليه هو إبقاء الآثار الخيرية التي تخلّد له الذكر الجميل، وإن جرّه ماء عين التل هو ثاني ماء جرّه من محل بعيد إلى بلدة، وذلك أنه كان جرّ ماء عين في جهات الروملّلي إلى مدينة «قرق كليسا» .(3/477)
أقول: والحق يقال إن جرّ عين ماء التل إلى حلب حقيق أن يعدّ لأحمد جمال باشا أثرا عظيما ويدا بيضاء ومنّة كبرى على سكان الشهباء، فقد حقق بها أمانيهم بهذا الماء الذي طالما تمنّوا إسالته إلى حلب فلم يتح لهم القدر ما تمنّوه.
الغلاء وضحايا الجوع:
في هذه السنة أخذت أسعار الحبوب تتصاعد بسبب رداءة الموسم وإقبال الألمان على الاحتكار. وقد شددت الحكومة- بأمر العسكرية- المراقبة على محتكري الحبوب من الأهلين وأعلنت أنها ستكبس البيوت والمستودعات، فمن وجدت عنده من الحبوب أزيد من مؤنة سنة فإنها تصادر الزائد وتحاكم صاحبه في الديوان العرفي وتعاقبه بما تقضي عليه أحكامه. وقد نتج من هذا الإعلان انقطاع ورود الحب من القرى، وارتفع سعر الشنبل من الحنطة إلى ألفي قرش، ومن الشعير إلى ألف وأربعمائة. واشتد الخطب على الفقراء في شتاء هذه السنة وهلك بالجوع كثيرون ولا راحم لهم ولا مغيث، وكل واحد من الناس يقول: نفسي نفسي؛ لأن الجميع كانوا يرون أن هذه الحرب سيطول أمدها وتكون سببا لإبادة العالم.
خسوف القمر:
وفي رمضان هذه السنة- في ليلة النصف منه- خسف القمر خسوفا تاما بحيث غاب جميعه ثم عاد للانجلاء كما كان. وفي أثناء خسوفه قامت ضجة عظيمة من أصوات العيارات النارية والضرب على النحاس والدق في الهاوانات «1» جريا على العادة القديمة.
مقتول بالتعليق:
وفي هذا الشهر علّق عند برج الساعة- في رحبة باب الفرج- شخص من العساكر الفرارية «2» .(3/478)
طوابع على الثقاب ودفاتر اللفائف:
وفيه أيضا ورد في صحف الآستانة قانون يقضي بلصق طوابع على علب الكبريت ودفاتر ورق سكاير التبغ، فهبطت أسعار هذين النوعين أولا ثم تصاعدت جدا.
تعليق شخصين:
وفي شوال هذه السنة علّق عند برج الساعة شخصان.
قدوم إبراهيم بك على حلب:
وفيها قدم على حلب إبراهيم بك أحد كبار موظفي نظارة الأوقاف في الآستانة- وهو ابن صاحب بك- متوجها إلى المدينة المنورة فنزل إلى الجامع الكبير الأموي في حلب وأمر برفع الطرابزون الذي يجعل قبلية الحنفية شطرين، ورفع الطرابزونين اللذين يفصلان قبلية الحنفية عن القبلية الشافعية، ويكون بينهما الدهليز الذي يستطرق منه إلى باب القوافين. فرفع الطرابزونان وصارت القبليتان واحدة، وصار الداخل من باب القوافين يدخل إلى القبليّة مباشرة دون دهليز. وأمر أيضا بنزع الرفرف المرفوع فوق باب الحجازية وقاية لنزول المطر- فوق المجتازين من باب الطيبة إلى الرّواق الموجه إلى القبلة- فنزع، وكان جدّد منذ قريب وصرف عليه مبلغ كبير وكان نزعه خطأ.
ثم إن إبراهيم بك سافر إلى دمشق الشام ومنها إلى المدينة المنورة وأمر هناك بتخريب بعض البيوت العامرة المتصلة بالحرم النبوي، وأخذ جميع ما في قبة الضريح النبوي من الذخائر النفيسة الفضية والذهبية والأحجار الكريمة، وما في كتبيّة «1» الحرم من المصاحف الشريفة والكتب النادرة، مما تقدّر قيمته بمئات ألوف من الليرات. وضع جميع هذه الأشياء في صناديق محكمة وعاد بها إلى استانبول.
عزل توفيق بك والي حلب، وتعيين بدري بك، وأكياس الرمل:
فيها عزل توفيق بك والي حلب وتعيّن بدله بدري بك. وفيها بدأت الجنود البريطانية(3/479)
بحصار قلاع القدس الشريف، وصدر أمر جمال باشا بأن يعمل أكياس من الخام لأجل إملائها رملا وجعلها متاريس في قلاع القدس لتردّ عنها كرات المدافع. ففرض على أهل حلب فقط ستون ألف كيس جمعت من التجار باسم الإعانة، وجمع أضعاف هذا المبلغ من بقية البلاد وملئت رملا وجعلت متاريس في القلاع المذكورة، فلم تغن شيئا.
قدوم أحد أفراد الأسرة العثمانية على حلب:
وفيها قدم على حلب البرنس عبد الحليم أفندي- أحد أفراد الأسرة السلطانية العثمانية- متوجها إلى جبهة الحرب في فلسطين لمشارفة الحرب، فاستقبل بكل تجلّة واحترام. ثم توجه إلى جهة مقصده.
توحيد أوائل الأشهر:
وفيها ورد في البرق العثماني أن مجلس النواب العثماني قرر توحيد أوائل الأشهر الشمسية الشرقية والغربية، فاعتبر رأس السنة الشمسية الشرقية أول شهر كانون الثاني- كما يعتبره الغربيون- إلا أن تاريخ السنة بقي شرقيا عثمانيا، كما سلف الكلام عليه في مقدمة هذا التاريخ، فأسقط من شهر كانون الأول ثلاثة عشر يوما التي هي الفرق بين الغربي والشرقي واعتبر أول سنة 1333 الشرقية ابتداء كانون الثاني. ثم بعد دخول الدولة العربية إلى هذه البلاد جرت حكوماتها في تاريخ السنة أيضا على التاريخ الغربي الميلادي، فاتحد التاريخان الشمسيان شهرا وسنة وصارا تاريخا واحدا.
الأوراق النقدية المعروفة باسم بنكينوط:
أسلفنا الكلام في حوادث سنة 1333 على حدوث الورق النقدي وتداوله وهبوط أسعاره. وهنا نقول: إن هذا الورق ما زالت أسعاره في حلب تهبط، إلى أن كانت هذه السنة فازداد فيه تلاعب التجار والصيارفة حتى هبطت أسعاره هبوطا زائدا، وكان يهبط ويصعد في اليوم الواحد عدة مرات دون سبب معقول، حتى إننا كنا نقول: إن لتبديل أسعار هذا الورق سرا طبيعيا لا يمكن للعقول إدراكه كبقية الأسرار الطبيعية، وكثيرا ما كان يهبط ويصعد تبعا لما هو عليه في استانبول أو دمشق أو بيروت أو غير هذه البلاد حسبما تفيده أخبار البرق والبريد، وقد يهبط ويصعد وليس هناك خبر برقي ولا بريدي يشعر بهبوطه(3/480)
أو صعوده. كما أنه كثيرا ما كان يهبط إذا توالت الأخبار بانكسار جيوش تركيا وقد تنعكس الحالة فيصعد مع توالي تلك الأخبار ولا يهبط.
وقد صار كصنف كبير من الأصناف التي يشتغل بها التجار، ولهذا كنت ترى جماهير الصيارفة والتجار واقفين في باب خان الكمرك يتعاطون بيع هذا الورق وشراءه من بعضهم، وكل اثنين أو ثلاثة منهم متكاتفون يتكلمون مع بعضهم همسا وفي أيديهم ألوف من هذا الورق يشتري زيد من عمرو ألف ورقة مائة قرش، سعر كل واحدة منها ثلاثون قرشا وربع القرش مثلا، ويدفع له الثمن نقدا في الحال نقودا ذهبيّة أو فضية، وبعد ساعة يصعد سعر الورقة إلى ثلاثين قرشا ونصف القرش فيبيع زيد ألف الورقة- التي اشتراها قبل ساعة- إلى خالد على السعر الأخير فيربح منها مائتين وخمسين قرشا. ثم لا تمضي ساعة حتى يهبط السعر أو يعلو فيبيع خالد ألف الورقة التي اشتراها قبل ساعة، فيربح أو يخسر على حسب السعر الموجود. فمن الناس من ربح من هذا الورق أرباحا طائلة ومنهم من خسر فيه جميع ثروته كأنه كان يلعب بالميسر.
من الأسباب الظاهرة التي حملت الناس على الخوف من عاقبة هذا الورق- فازداد سعره هبوطا حتى نزل إلى خمس قيمته المحررة فيه- خطبة ألقاها طلعت باشا ناظر مالية تركيا في مجلس النواب، تكلم فيها على حالة هذا الورق وتلاعب التجار في أسعاره وأورد من جملتها عبارات يفهم منها بأن هذا الورق لم يكن مكفولا من قبل ألمانيا ولا من غيرها- كما كان يعتقده الناس الذين لا ثقة لهم بمالية الدولة- وإنما كانوا مقبلين على تداوله اعتمادا على ثروة كافلته دولة ألمانيا، فلما سمعوا تلك العبارات من خطبة طلعت باشا أحجموا عن قبوله خوفا من سوء عاقبته، فهبط سعره إلى خمس قيمته كما قلنا. مع هذا كان كثير من الناس يعتقد أن هذا الورق مكفول من دولة ألمانيا رغما عما قاله طلعت في خطبته وأن ما قاله في هذه الخطبة لم يقصد منه إلا تنزيل أسعار هذا الورق إلى الدرجة الغائيّة لتشتريه الحكومة من الرعية بالثمن البخس بواسطة سماسرة خفيين وتعدمه، فتكون بعملها هذا قد وفت سلفا قسما كبيرا من الديون عن دولة تركيا من هذا الورق بقسم منه، والله أعلم بحقيقة الحال.
إن كثيرين من التجار كانوا يشترون الورق من البلاد التي يهبط فيها سعره ويصرفونه في البلاد التي يعلو فيها فيبدلونه بالذهب الذي يهرّبونه إلى بلادهم بإرشاء المراقبين في محطات(3/481)
سكك الحديد أو بغير طريقة. وربما اشتروا بالورق أموالا من استانبول أو مملكة النمسا أو بلغاريا وأحضروه إلى بلادهم كذلك. وقد يشترون بالورق من بلدة أجنبية أموالا تجارية لا يمكن إحضارها في إبان الحرب فيبقونها في تلك البلاد إلى أن تنتهي الحرب فيحضرونها.
وقد يشترون بالورق العثماني المذكور أوراقا مالية أجنبية ويبقونها في أيديهم إلى ما بعد الحرب فيربحون منها مبالغ طائلة. مثلا: يشترون بثلاثة «1» ورقات عثمانية من أوراق المائة قيمتها التجارية الحاضرة 75 قرشا ورقة إمريكانية قيمتها 100 قرش إلا أنها لا رواج لها الآن بين تجار البضائع في البلاد العثمانية فيبقونها محفوظة عندهم إلى انتهاء هذه الحرب، ثم يصرفونها في شراء بضائع من البلاد التي يروج فيها الورق الأميركاني فيربحون منها أرباحا عظيمة.
الورق النقدي وحالة مرتزقة الحكومة:
ارتفعت أسعار أكثر البضائع الوطنية في مدة طويلة من أيام هذه الحرب إلى عشرين ضعفا عما كانت عليه قبلها. كان رطل الدقيق الجيّد قبل الحرب يباع بثلاثة قروش، فصعد سعره في أثنائها إلى ستين قرشا ذهبية أو فضية. أما البضائع الغربية فمنها ما ارتفع سعره عشرين ضعفا، ومنها ما ارتفع أكثر من ذلك، كالسكر فإن سعره ارتفع قريبا من أربعين ضعفا، كان الرطل يباع منه قبل الحرب بسبعة قروش فبيع في أثنائها بنحو ثلاثمائة قرش.
وهكذا كان الحال في كثير من البضائع الغربية كالمنسوجات وأنواع الحرير والعقاقير والبترول وغيرها. وبسبب غلاء البضائع على هذه الصفة تضرر مرتزقو الحكومة من هبوط أسعار الورق أكثر مما تضرر به غيرهم. مثلا كان المأمور المستخدم الذي راتبه الشهري ستمائة قرش- أي راتبه كل يوم عشرون قرشا أميرية- وعياله سبعة أشخاص يعيش بهذا الراتب قبل هذه الحرب عيشة رضية؛ لأنه يكفيه في اليوم رطل من الدقيق قيمته ثلاثة قروش، والباقي من راتبه- وقدره سبعة عشر قرشا- يصرفها في باقي حاجاته من الأدم والكسوة والوقود والاستصباح والحمّام وأجرة المنزل، وغير ذلك من النفقات الضرورية.
وكانت الحكومة تدفع ليرة الذهب العثماني على سعرها الأميري وهو مائة قرش، وقيمتها الرائجة في التجارة مائة وسبعة وعشرون قرشا ونصف القرش. فكان معاشه الشهري- الذي هو ستمائة قرش- يبلغ سبعمائة وخمسة وستين قرشا رائجة. والمعاملة بين الأهليّين(3/482)
على السعر الرائج. فلما تنازل سعر الورق إلى مقدار خمس قيمته صار هذا المسكين يأخذ راتبه من الحكومة ست ورقات، سعر الورقة في التجارة عشرون قرشا، فكان معاشه عن الشهر كله يبلغ مائة وعشرين قرشا رائجة، وهي قيمة رطلين من الدقيق فقط لا يكفيه مع الاقتصاد أكثر من يومين، فيضطر- لإكمال باقي ضرورياته- إلى أن يبيع أثاث منزله ثم ثيابه وثياب عياله حتى يضطر للتسؤّل. وربما كان لخدمته تسلط على الناس فيضطره الحال- رغما عن عفافه- أن يمد يده إلى أخذ الرشوة وأكل المال الحرام، فيبطل الحق ويحق الباطل.
ولما بلغت الحالة بالمستخدمين هذه الغاية رأت الحكومة وجوب تلافي حالتهم بقدر ما يمكنها، صونا لشرفها، فشرعت تأخذ من الزارعين عشرا ثانيا- سمّته المبايعة- بقيمة تبلغ الربع والثلث من قيمته الحقيقية، وتدفع للزراع هذه القيمة ورقا على سعره الأميري. وأما باقي المأكولات والصابون ومادة الوقود فإن الحكومة جعلت تشتريها من ذويها بقيمة تضعها من عند نفسها، وتدفع لهم تلك القيمة ورقا على سعره الأميري أيضا.
ثم جمعت هذه الأموال في مكان ووظفت لتوزيعها على المأمورين موظفين وكتابا، يعطون المستخدمين من هذه الأموال مقدار ما يخفف ضررهم بقيمة تزيد على قيمتها التي اشترتها الحكومة بها شيئا قليلا، وتأخذ منهم القيمة ورقا- من رواتبهم- على سعره الأميري.
وسمّت هذا العمل (إدارة الإعاشة) .
وبهذه الواسطة خفّ ضرر المستخدمين وصار يمكنهم أن يحصلوا مع الاقتصاد على ضروريات حياتهم. فكان المأمور يأخذ من هذه الإدارة في رأس كل شهر قدرا معلوما من الحنطة والبرغل والعدس والحمّص والملح والسكر والقهوة والحطب والفحم والصابون والزيت والبترول، فيبيع من هذه الأشياء ما يمكنه الاستغناء عنه بقيمته الحقيقية، ويصرف القيمة في باقي حوائجه.
جالية أهل المدينة المنورة:
وفي هذه السنة وهي سنة 1335 قدمت علينا جالية أهل المدينة المنورة وهي في حالة يرثى لها، قد تركت أموالها وأمتعتها في المدينة المنورة. وجاءت هذه البلاد في وقت غلت فيها أسعار الأقوات وارتفعت أجور المنازل. وكان بين هذه الجالية أسر كريمة فيهم السادات(3/483)
والأعيان الذين كانت موائدهم في المدينة المنورة مبسوطة للصادي والغادي، فلما وصلوا حلب وليس معهم من المال سوى القليل اشتد عليهم الخطب والكرب رغما عما كان يبذله لهم بعض الحلبيين الكرام من القرى والمعونات، إلى أن خصصتهم محاسبة الأوقاف بمبلغ من أموالها المشروطة لفقراء الحرمين المحترمين، فخفّ عنهم بعض ما كانوا يجدونه من شظف المعيشة.
كان إجلاء أهل المدينة المنورة عنها من جملة الأمور التي نفّرت قلوب العرب عن الحكومة العثمانية، وكانت القلوب تزداد نفرة واشمئزازا حينما كنا نسمع من أولئك الجاليات أخبار مظالم القائد العسكري هناك وما فعله بالعوالي «1» وأهلها من الفظائع.
سقوط القدس في يد الإنكليز:
وفيها تواردت الأخبار بأن القدس الشريف وغيرها من بلاد فلسطين دخلت في حوزة الدولة البريطانية، وأن جيوشها تقدمت إلى جهة السّلط وغيرها من تلك الديار.
عزل جمال باشا وسفره:
وفيها وصل جمال باشا إلى حلب معزولا من القائدية العامة. وألقى في بعض الأندية خطابا أوهم به الناس أنه لم يعزل وإنما هو عازم على السفر إلى الآستانة لبعض شؤون مهمة، وأنه عما قريب يعود إلى وظيفته. وكأنه أراد بهذا الإيهام بقاء مهابته في النفوس كيلا يتجرّأ أحد على اغتياله. وكأن ولاة الأمور في الآستانة أدركوا في ذلك الوقت أغلاطه وخطاياه في هذه الوظيفة فعزلوه. ويا ليتهم كانوا يفهمون ذلك قبل أن يعضل الداء ويتعذر الشفاء.
تعيين نهاد باشا قائدا بدل جمال باشا:
وفيها قدم على حلب قائدا عاما- بدل جمال باشا- نهاد باشا. وهو شاب جميل الطلعة بشوش الوجه دمث الأخلاق، متباعد عن مواضع الريبة، ميّال للخير. تمنى الناس أن لو كان ندب لهذه الوظيفة في أول الحرب، أما الآن فماذا عساه يفعل وقد اتسع الخرق على الراقع ونفذت سهام القدر ولم يبق في القوس منتزع؟(3/484)
سقوط بغداد في يد الإنكليز واستيلاء روسيا على بلاد الأناضول:
وفيها تواردت الأخبار باستيلاء الجيوش البريطانية على بغداد وتقدمها إلى جهة الموصل، وبأن جيوش الروس استولت تباعا على طرابزون وأزروم ووان وبتليس، وتقدمت نحو الموش. وقلق أهل ديار بكر من قربها إليهم.
هبوط أسعار الحبوب وعودها للارتفاع:
وفيها- في أيام إدراك المحاصيل الزرعية وورود الغلات إلى حلب- هبطت أسعار الحبوب هبوطا بيّنا، فبيع الشنبل من الحنطة بستمائة قرش، ومن الشعير بأربعمائة. غير أن ذلك لم يدم سوى أيام قلائل حتى عاد السعر للارتفاع كما كان، وسبب ذلك إقبال الألمان على احتكار الحبوب وشراؤهم إياها بالثمن الذي يطلبه صاحبها منهم غير مبالين بغلائها، لا يهمهم شيء سوى الحصول عليها بأي ثمن كان.
ولما رأى الوالي «بدري بك» أن الحب قد ارتفعت أسعاره، حتى بيع شنبل الحنطة بألف ومائتي قرش، خشي إن تمادى هذا الأمر أن يعود سعر الشنبل إلى ألفي قرش.
فتخابر مع قواد الألمان وكلّفهم ألّا يباشروا بأنفسهم شراء الحبوب كيلا يطمع بهم أصحابها فيرفعوا سعرها، وأنه يلزم نفسه بأن يقدم لهم جميع ما يلزمهم منها على سعر 1200 قرش.
فأجابوه إلى ما طلب. وفي الحال عيّن من قبله رجال درك فرسانا، وأرسلهم إلى القرى- في قضاء الباب وقضاء جبل سمعان- وأمرهم أن يشتروا من المزارعين شنبل الحنطة بسبعمائة قرش معدنية، رضي صاحب الحب أم لم يرض. وسمّى هذا البيع والشراء (سربست مبايعه) أي بيع بالحرية. فكان رجال الدرك- الذي أرسلهم لهذه المهمة- متى ظفروا بحنطة يأخذوها من صاحبها على هذا السعر، رضي أم لم يرض، ثم يحملوا ما يشترونه ويرسلوه إلى المحل الذي عيّنه الوالي وهو يقدّمه إلى الألمان على سعر 1200 قرش حسبما تعهّد لهم. فحصل من هذا العمل فائدتان: فائدة خصوصية وهي ربح الوالي من كل شنبل خمسمائة قرش، وفائدة عمومية وهي وقوف سعر الحبّ عند هذا الحد، إذ لولا هذا العمل لكان سعر الحب يرتفع إلى ألفي قرش أو أكثر.
على أن الوالي «بدري بك» قد ربح من هذه المسألة أرباحا طائلة تعدّ بعشرات الألوف(3/485)
من الليرات. ولو أنه كان يسمح بمقدار من هذه الأرباح إلى الفقراء لكان يخفّف عنه ذلك لغط الناس، الذي كان أقلّه قولهم فيه: «هذا لم يجيء واليا وإنما جاء تاجرا» . وكان يزيد لغطهم به حينما يرونه وهو يربح هذه الأموال مارّا في الشوارع متكئا على أريكته في سيارته، والفقراء من جهتي الجادّة يضجون ويصيحون بكلمة «جوعان» . ومنهم من مات ومنهم من أسكته الجوع وظل يجود بنفسه، فيمر حضرته ويرى هذه المناظر المفزعة فلا يتحرك فيه دم الإنسانية بل تراه كأنه يتفرج على شيء تلذّ به النفس لغرابة منظره.
تشدد العسكرية في القبض على الناس:
وفي هذه السنة اشتدت العسكرية في إلقاء القبض على الناس الذين هم من مواليد سنة 1280 إلى سنة 1315 رومية، فكان رجال الدرك يمشون في الأزقة والشوارع ويقبضون على الرجال بلا تفريق بين الرفيع والوضيع. وكانوا متى رأوا شابا يستوقفوه ويطلبوا منه وثيقته فيبرزها لهم، فإن كان- بحسب تفرّسهم به- أهلا لأن يستخرجوا منه شيئا تعللوا عليه بقولهم: هذه الوثيقة قد مضى حكمها، أو هي مغلوطة أو تقليد، أو يقولوا له تذهب معنا حتى تقدمها إلى رئيس دائرة أخذ العسكر ليقيدها في سجله، أو يتعللوا عليه بغير ذلك من العلل الواهية، فلا يرى المسكين بدا من أن يدفع لهم مقدار ما استحضره وأعدّه لمثل هذه البلية من النقود ذهبا فصاعدا.
هذه حالة أهل الوثائق مع رجال الدرك وأما الذين ليس معهم وثيقة فأولئك ممن غضب الله عليهم فاستحقوا من رجال الدرك كل إهانة وتعذيب؛ لأنهم في الحال يوثقونهم في سلك الصفوف المسلسلة بالحبال ويسوقونهم أذلّاء صاغرين إلى محبس المركز، الذي هو مغارة أو مسجد قديم. غير أن هؤلاء المسلسلين- الذين ربما يبلغ عددهم نحو مائة شخص أو أكثر- لا يصل منهم إلى محبس المركز سوى بضعة أشخاص، وهم الذين لا يملك أحدهم خمسة قروش يرشي «1» بها زعيم رجال الدرك ليتخلص من قبضته، فتزجّ هؤلاء الأشخاص في محبس المركز وتترك أياما طويلة. وربما كان المحبوس غريبا وليس له من يسأل عنه من أهله فيقاسي أنواع الجوع والبلاء، لا تتركه العسكرية يخرج من محبسه، ولا تأخذه(3/486)
للثكنة وتعسكره وتسوقه إلى الجهة المعيّنة لمثله. وربما بقي على هذه الحالة مدة أربعين أو خمسين يوما فيشرف فيها على التلف.
وكان الناس يسمّون رجال الدرك الذين يقبضون على الناس «أهل الحبلة» فمتى أحس بهم واحد من رأس السوق مثلا يناد: الحبلة الحبلة. فيعدو للهرب من لم يكن معه وثيقة.
واشتهر من زعماء هؤلاء الرجال جماعة بالظلم والقسوة ونالوا ثروة طائلة من هذه المهنة.
وكان أحدهم قبل الحرب لا يملك شيئا وللناس فيهم زجلات مضحكة يتغنّون بها في خلواتهم، وكان هؤلاء الرجال يأخذون الرشوة من بعض الناس مشاهرة ويدعونهم في حوانيتهم. وكانوا لا يبالغون من التجاهر بأخذ الرشوة ولا يخافون من أن يطّلع عليهم رؤساؤهم. وبسبب ذلك كان الناس يعتقدون أن رؤساء هؤلاء الزعماء شركاء معهم.
وإن تشدد العسكرية في القبض على الناس قد أضرّ بهم ضررا عظيما لأن أكثر مواليد السنين المذكورة كانوا يضطرون للاختفاء، فيبقون من غير كدّ ولا كسب مع أنهم أصحاب عيال وأطفال فيبيعون ما عندهم من الأثاث والثياب ليصرفوا أثمانها في قوتهم الضروري ثم ينفذ «1» ما عندهم فتضطر عيالهم للتسؤّل وربما مات أحدهم جوعا. وكان عذرهم في الفرار من التجند ما يسمعونه ويشاهدونه من سوء حالة العساكر في مأكلهم وملبسهم وقسوة الضباط عليهم، فيرون الموت في أوطانهم أهون عليهم من الموت في جنديتهم.
تظاهر المستخدمين بالرشوة وسلب الأموال الأميرية:
وفي هذه السنة، بعد أن سافر جمال باشا من هذه البلاد وتحقق انفكاكه عنها الأشرار المستخدمون من الملكيين والعسكريين، ازداد تجاهرهم بالرشوة والتسلط على أموال الناس والدولة، فعمّ فسادهم وكثر فجورهم. وكان المستخدمون في محطات السكك الحديدية أعظم الجميع تكالبا وأشدهم شرها في سلب الأموال. كانوا لا يمكّنون تاجرا من شحن بضاعته إلى جهة ما إلا بعد أن يأخذوا منه رشوة، مبلغا يكفي شرههم، وإلا قالوا له:
الشحن ممنوع. وكان كثيرون من التجار تضطرهم الحال إلى أن يشركوا معهم في أرباحهم معتمد المحطة المعروف باسم (القوميسير) وإلا بقيت بضاعتهم مطروحة على الأرض.(3/487)
وكثيرا ما كان القوميسير نفسه يتجّر بالبضائع لحسابه فيشحن إلى بيروت أو دمشق أو استانبول بضاعة من البضائع التي تربح كثيرا لأن غيره لا يقدر على شحنها، فيربح من تلك البضاعة أرباحا طائلة يختص بها وحده. وربما كان يشرك معه في هذا الربح أحد كبار الموظفين إسكاتا له، ويتحدث الناس عن أحد القوميسيرية أنه جمع مئات ألوف من الليرات بواسطة هذه الوظيفة. أما أمراء العسكرية فجميعهم إلا قليلا منهم لم يألوا جهدا بسلب أموال الدولة والرعية؛ منهم من كان متسلطا على متعهدي الأرزاق العسكرية ومنهم من كان موكولا إليه شراء الدوابّ أو غيرها من لوازم الحرب، ومنهم من كان مأمورا بالديوان العرفي أو معيّنا كناظر على استلام الحبوب أو الدقيق أو الخبز أو الحطب أو غير ذلك من الخدم والوظائف التي لصاحبها سلطة ونفوذ في جماعة التجار أو الزراع أو الصناع فكان كل واحد من أولئك المأمورين لا يمضي وصلا ولا يصدق على عمل من هذه الأعمال إلا بعد أن يأخذ القدر الذي يرغبه ويرضيه.
وكان الموظفون على أهراء الحبوب العشرية لا يتسلمون الحب ممن يقدمه إليهم إلا مغربلا خالصا من كل غشّ، ويأخذون منه الثمانية، عشرة، ثم يخلطون الحب ترابا ومدرا عشرة أو عشرين في المائة، وحين تسليمه ينقصون وزنه عشرة أو عشرين في المائة. يفعلون هذا علنا دون مبالاة من أحد؛ لأن من يخافون سيطرته عليهم قد سدّوا فمه وأعموا عينه بمقدار ما يرضيه من المال مهما كان كثيرا؛ لأن الأهراء قد يزيد فيه «1» من الغلة نحو ألف شنبل أو أكثر. فإذا فرضنا أن حافظ الأهراء باع كل شنبل بخمسمائة قرش يحصل في يده من النقود ما مجموعه نصف مليون من القروش، وهو مبلغ كبير يشبعه هو وآمريه.
والخلاصة أن كل مستخدم في الملكية أو العسكرية من كبير وصغير- سوى قليل منهم- قد جمع في أيام هذه الحرب ثروة مدهشة طغى من أجلها وبغى وامتطى خيول السرف والترف ومشى في الأرض مرحا، وتمنى أن تمتدّ مدة هذه الحرب ما دام حيا.
وكنت إذا مررت على حوانيت صاغة الحلي تراها غاصة بنساء الضباط والأمراء والموظفين، فكان الصاغة يشتغلون في الليل والنهار ولا يتاح لهم أن يقدموا الحلي إلى طلابه في الوقت(3/488)
المطلوب. وكان كثير من الموظفين الموكلين على الأرزاق العسكرية يقصدهم التجار سرا ويشترون منهم أنواع البضائع بأبخس الأثمان.
قلنا: إن ازدياد التجاهر بالرشوة كان بعد انفكاك جمال باشا عن هذه البلاد، وأما قبل انفكاكه عنها فكانت الرشوة أقل من ذلك بكثير بالنسبة إلى ما وجدت عليه بعد رحيله، وهذا مما يجب أن يعدّ من جملة حسناته.(3/489)
سنة 1336 هـ
اشتداد الجوع وجمع إعانة للفقراء:
كانت الأمطار في شتاء السنة الماضية قليلة جدا بحيث يئس الناس من حياة الزروع، فارتفع سعر شنبل الحنطة في حلب إلى ألفي قرش، كما أشرنا إلى ذلك قريبا، واشتد الخطب على العجزة والضعفاء والفقراء وأصبح كثير من الناس يقتاتون بالحشيش يسلقونه ويأكلونه فترم «1» سوقهم ويموتون. ومنهم من يقتات بقشور البقول والفواكه وتفل النّشا- المعروف بالدوسة- والعظام. وبعض الجزارين يخلط لحوم الحمير بلحوم الغنم ويغش بها الناس.
وصار الجوع يفتك بالفقراء فتكا ذريعا وقد ملأ ضجيجهم الفضاء فكان الإنسان يتألم من صياحهم وتضورهم، خصوصا حينما كان يشاهد بعض موتاهم جثثا هامدة في الأزقة والشوارع رجالا ونساء وأطفالا، الأمر الذي أثار الحمية وأزكى نار المروءة في أفئدة جماعة من أهل النشاط والوجاهة، فسعوا بتأليف جمعية خيرية تهتم بجمع إعانة نقدية من أهل الخير تصرفها في قيمة خبز تفرقه على المعوزين المذكورين. فما مضى غير أيام قليلة حتى بلغ ما جمع من هذه الإعانة نحو خمسة وعشرين ألف ورقة مائة، وكان سعر الورقة في التجارة نحو ثلاثين قرشا. ثم إن هذه الجمعية أخذت المدرسة الشعبانية والقرناصية والإسماعيلية وغيرها من الأماكن، وحشدت فيها المعوزين من النساء والأطفال ليس إلّا، وجعلت الجمعية تفرق على كل واحد منهم رغيفين في اليوم. وقد بلغ مجموعهم نحو ألفي نسمة، وهذا العدد بالحقيقة يقدّر بثلث عشر فقراء مدينة حلب، فإن عددهم يقدر بتلك الأيام بستين ألف فقير من المسلمين فقط. أما فقراء الطوائف المسيحية والإسرائيلية فكان يقدر عددهم بنحو عشرة آلاف فقير.(3/490)
وكانت الجمعيات الخيرية من هاتين الطائفتين تقدم لهم أقواتهم الضرورية على حسب إمكانها، ولم يكن في وسع الجمعية الإسلامية المذكورة أن تقوم بكفاية جميع فقراء المسلمين. وقد استمر هؤلاء الفقراء من المسلمين يتناولون هذه الجراية إلى أن نفذت «1» نقود الإعانة، وكان الموسم قد اقترب وهبط سعر الشنبل من الحنطة إلى 1200 ومن الشعير إلى 600 قرش، وتبين أن المحل كان في الجهات القبلية فقط، وهي جهة العيس والأحصّ وقضاء المعرة، أما في الجهات الشرقية وهي قضاء الباب ومنبج فقد كان المحل فيها أقل فتكا؛ لأن الشنبل من البذر حصل مثله، وفي جهتي الشمال والغرب حصل الشنبل من البذر ضعفه أو ثلاثة أمثاله.
والخلاصة أن المدة المجموعة من أواخر سنة 1335 وأوائل هذه السنة وهي 1336 لم يمرّ في أيام هذه الحرب أصعب ولا أكثر ميتا بالجوع منها.
سقوط السّلط ويافا وغيرها:
وفيها تواردت الأخبار البرقية باستيلاء الجيوش الإنكليزية العربية على السلط ويافا وغيرها من تلك الجهات وتقدموا إلى جهة درعا.
عود البرنس عبد الحليم إلى استانبول:
وفيها عاد البرنس عبد الحليم أفندي أحد أفراد الأسرة العثمانية من جهة فلسطين متوجها إلى استانبول.
استقراض داخلي:
وفيها فتحت الحكومة اكتتاب استقراض داخلي قدره ثلاثون مليونا من الليرات، الورق النقدي، بفائض خمسة في المائة في السنة، على أنها تقبل الورق العثماني على سعره الأميري وتدفع عن كل مائة ورقة خمس ليرات ذهب فائضا على قسطين، الأول بعد ستة أشهر من تاريخ أخذ القرض، والثاني بعد ستة أشهر أخرى. فلم يقبل الناس على هذا القرض إقبالا يستحق الذكر لعدم ثقتهم بالحكومة. وفي شتاء هذه السنة كانت الأمطار كثيرة وكان(3/491)
الخصب عظيما إلا أن الغلات كانت قليلة بسبب قلة البذر.
انكسار روسية:
وفيها تواردت الأخبار البرقية بأن جيوش الألمان قد كسرت جيوش الرّوس شرّ كسرة «1» ومزقتها كل ممزق، واحتلت قسما كبيرا من بلاد الروس، وأن ألمانيا قد أكرهت روسيا على أن تخضع لها وتعقد معها صلحا يخدم مصلحة الألمان، وقد قسّمت مملكة الروس بين العناصر القاطنة فيها وجعلت كل عنصر منها حكومة مستقلة تحكم مقدّراتها. وعدّ هذا الظفر لألمانيا برهانا قاطعا على أنها ستخرج من هذه الحرب ظافرة لأن قواتها حينما كانت متبعثرة في جبهة روسيا كانت هي الغالبة في الجبهة الغربية، فما ظنك بها الآن وقد توفرت لديها تلك القوات المهولة وصار في إمكانها أن تحشدها كلها في الجبهة الغربية؟
ترخيص الحكومة بنقل الذهب:
وفيها- في شعبان- رخصت الحكومة بنقل النقود الذهبية من بلدة إلى أخرى داخل المملكة العثمانية.
وفاة السلطان رشاد:
وفيها، في يوم الأربعاء رابع وعشرين رمضان، أطلقت المدافع من القلعة والقشلاق العسكري إعلاما بوفاة المرحوم السلطان محمد رشاد الخامس وجلوس السلطان محمد وحيد الدين على عرش السّلطنة العثمانية.
عزل بدري بك والي حلب وتولي عاطف بك:
وفيها- في شوال- عزل بدري بك عن ولاية حلب وخلفه عاطف بك.
انكسار بلغاريا:
وفيها وردت الأخبار بالبرق العثماني أن حكومة بلغاريا قد انكسرت شر كسرة،(3/492)
واضطرت أن تسلّم لعدوّتها دولة اليونان، وأن الطريق الذي يصل برلين بالآستانة قد سده البلغار فتعذّر وصول الامداد بالسلاح والذخائر الحربية التي كانت تأتي إلى الآستانة من برلين والنمسا. وكانت هذه البلية من أعظم أسباب انكسار الجيوش الألمانية في البلاد الشامية وإخلاد تركيا إلى إلقاء سلاحها أمام الدولة البريطانية.
فحص فضلة المسافر:
وفي شعبان هذه السنة أعلنت الصحية في حلب بأن كل من يريد السفر على قطار الشام وبغداد إلى جهات دمشق وبيروت والآستانة، وغيرها من البلاد والنواحي التي على هذه الخطين، عليه أن يأخذ من دائرة الصحية وثيقة (بورتور) أي براءة تشعر بسلامته من الأمراض الوبائية. وإذا لم تكن معه هذه الوثيقة يمنع من السفر إلى تلك الجهات.
فكان كل من أراد السفر على قطار سكة الحديد- ذكرا كان أم أنثى- يحضر إلى مكان الصحية فيدخله خدمها إلى الخلاء ويدفع له قارورة صغيرة لها سداد ومعها ملوق صغير، يكلفه بأن يأخذ شيئا من فضلته «1» ويضعه في القارورة، فيفعل ويعيد القارورة إلى الخادم فيكتب اسمه عليها ويأخذها إلى محل التحليل، وبعد يوم أو يومين يعود هذا الإنسان إلى مكان الصحية فيأخذ الوثيقة المذكورة إن كان تبيّن أن فضلته نقيّة من مكروب مرض وبائي، وإلا منع من السفر وأخذ إلى المستشفى. وكان كثير من الناس يستهجنون هذا العمل ولا تطاوعهم نفوسهم على إجرائه، فكانوا يأخذون الوثيقة شراء بريالين أو أكثر، على حسب تحملهم، وبذلك فتح للصحية باب جديد من الرزق ونصب شرك آخر لعرقلة مساعي من أراد السفر؛ لأنه كان يناله تعب زائد في الحصول على تلك الوثيقة علاوة على ما كان يناله من التعب في الحصول على إجازة السفر التي يجب عليه أيضا أن يأخذها من جهة شرطة مخفر محلّته.
انسحاب الروس من بلاد الأناضول:
وفيها ورد الخبر بالبرق العثماني أن عساكر الروس قد انسحبوا من بلاد الأناضول التي كانوا استولوا عليها في أواسط هذه الحرب، وهي أزروم ووان وبتليس، وانسحبوا أيضا(3/493)
عن طرابزون وأخلوا الباطوم وغيرهما من البلاد العثمانية التي كانوا احتلوها في جهات قفقاسيا في الحروب الأخيرة الغابرة مع تركيا.
عود الشريف حيدر باشا إلى الآستانة:
وفيها قدم من جهة دمشق إلى حلب حضرة الشريف علي حيدر باشا عائدا إلى الآستانة.
تقدم جيوش الإنكليز والعرب في جهات درعا وانهزام المستخدمين:
في شهر ذي القعدة من هذه السنة تواترت الأخبار بتقدم جيوش الإنكليز والعرب في جهات درعا، وأن القوة المعنوية في الجيوش التركية الألمانية قد انكسرت واستولى عليها اليأس، ففارق ليمان باشا الألماني مكانه وتوجه إلى جهة استانبول، وكان معاونا في القيادة الحربية جمال باشا الصغير الذي هو قائد الجيش المحارب، وهو غير جمال باشا القائد العام.
ثم فارق جمال باشا الصغير الجيش المحارب، وهو غير جمال باشا القائد العام.
ثم فارق جمال باشا الصغير الجيش أيضا ولحق بليمان باشا، وبعده طفق المستخدمون والموظفون من ملكيين وعسكريين في البلاد الساحلية ودمشق وغيرها يتركون وظائفهم ويرحلون أفواجا إلى استانبول وغيرها من البلاد التركية خوفا من استيلاء جيوش الإنكليز والعرب عليها ووقوعهم أسرى في أيدي المحتلين أو قيام الأهليّين عليهم انتقاما من إساءتهم إليهم.
استبدال والي حلب عاطف بك بمصطفى عبد الخالق بك:
وفي ذي الحجة من هذه السنة عزل والي حلب عاطف بك وخلفه مصطفى عبد الخالق بك- وهذه ولايته الثانية- فوصل إلى حلب في اليوم الخامس والعشرين من هذا الشهر مجردا عن عياله ونزل في فندق البارون.(3/494)
سنة 1337 هـ
جلاء الموظفين من أماكنهم:
في أوائل محرّم هذه السنة وصل إلى حلب جمهور من الموظفين والمستخدمين فرارا من وقوعهم أسرى في قبضة المستولين، قادمين من دمشق وبيروت وغيرهما من البلاد السورية والساحلية التي قرب استيلاء الجيوش الإنكليزية العربية عليها، متوجهين إلى استانبول والأناضول. وكان مع هؤلاء الموظفين أهلهم من النساء والأطفال، فازدحموا في سكة حديد بغداد وظل الكثيرون منهم عدة أيام تحت السماء بلا غطاء ولا وطاء، فنالهم من المشقة ما لا مزيد عليه.
خبر سقوط دمشق وتشتت شمل الجيوش العثمانية:
يوم الثلاثاء- ثالث يوم من محرّم هذه السنة- وصل الخبر إلى حلب بأنه في ظهيرة يوم الاثنين، ثاني يوم من الشهر الحالي، استولى على دمشق الشام عرب الشريف، الذين هم في مقدمة جيوش الدولة البريطانية، وكان السواد الأعظم من موظفي تركيا فيها قد خرجوا منها قبلا كما ذكرناه آنفا، وحين دخول العرب إليها أقيم أحد كبراء أولاد المرحوم الأمير عبد القادر الجزائري مقام الوالي ليقوم بإدارة توطيد الأمن والسلام في المدينة ريثما يحضر إليها- من قبل الشريف حسين ملك العرب- من يتسلم زمام إدارة أمورها.
وقد ارتاع الناس في حلب من هذا الخبر وعجبوا من سرعة سقوط هذه المدينة العظيمة في أقرب وقت وكانوا يقولون: إنها لا يمكن سقوطها بأقل من سنة. وقد تشتت شمل الجيوش العثمانية الألمانية في جهات درعا ومزقوا كل ممزق ما بين أسير وقتيل في الحرب وضائع ومتردّ ومقتول من قبل عرب البوادي وسكان القرى المتوسطة بين دمشق ولبنان وبعلبك. وكانت جبهة الحرب في جهات درعا، وهناك كانت هزيمة جيوش الأتراك ومن معهم من الألمان. وكان سبب انكسارهم الفجائي- الذي لم يكن في الحسبان-(3/495)
التفاف العرب عليهم من ورائهم بقطع مسافة من الصحراء في مدة لا يمكن للجيوش الإنكليزية أن تقطعها فيها، لكثرة أثقالها التي لا تتحملها تلك الرمال في هاتيك المفاوز.
وبسبب هذا الالتفاف أصبح الجيش التركي بين نارين نار الإنكليز ونار العرب، فانقطع عليه خط الرجعة وعوّل على الهزيمة. وقد غنمت جيوش إنكلترة من الأقوات والمهمات الحربية وغيرها ما يعجز عنه قلم الإحصاء.
سقوط رياق:
هذا ولم يمض غير أيام قلائل على سقوط دمشق حتى شاع في حلب أن الألمان قد يئسوا من الظفر بعدوهم فأحرقوا محطة رياق بما فيها من الذخائر والمهمات- وكانت شيئا كثيرا- ونسفوا شبكتها الحديدية وتقدموا إلى جهة بعلبكّ وجاء العرب على أثرهم واستولوا على رياق.
انتهاء صحيفة الفرات:
وفي اليوم الخامس من محرّم هذه السنة كان ختام حياة صحيفة الفرات وآخر نسخة صدرت منها في هذا اليوم كان عددها (20420) .
إبطال القبض على العساكر:
وفي هذا اليوم صدر أمر القائد العسكري العثماني بحلب بإبطال إلقاء القبض على العساكر الفارّين. فسرّ الناس من ذلك سرورا زائدا لتخلصهم من هذا البلاء الذي كان خارجا عن طاقتهم.
حدوث فزع في حلب:
وفي يوم الجمعة سادس محرم وقع الذعر في سوق مدينة حلب، فأغلقت الدكاكين والخانات وهجم الناس متزاحمين يعدون كالسيل الجارف. وكان سبب هذا الذعر طلقة من غدّارة «1» خرجت على غير قصد في يد واحد من سوق البزّ- المعروف بسوق(3/496)
البالستان- فأصابت شابا من بيت ونّس فقتلته في الحال، فظن الناس أن هذه الطلقة من جهة الجنود التركية أو الألمانية الذين وصلوا إلى حلب؛ مع أن الجنود المذكورين لم يصلوا إلى حلب إلا بعد ستة عشر يوما كما يأتي بيانه.
وفي يوم السبت والأحد وقع نظير ذلك الذعر في السوق المذكور، وكان سببه قيام جماعة من السّفلة والغوغاء للنهب والسلب، وهم من العساكر الفارّين الذين خرجوا من مخابئهم آمنين غائلة القبض عليهم، وحينئذ أدرك الأهلون والحكومة أن إبطال قضية القبض على العساكر الفارّين مضرة بالمصلحة العامة فأعيد القبض وبطل الخوف من السّفلة والمتشردين.
نسف محطات وسقوط حمص وحماة وغيرهما:
وفي هذه الأيام وردت الأخبار من جهات حمص وحماة بأن الجنود التركية والألمانية حملهم اليأس من مقاومة جنود العرب والإنكليز على أن يحرقوا جميع المحطات بين رياق وحلب وينسفوا شبكاتها الحديدية، ويهدموا سائر ما في هذا الطريق من الجسور وينسحبوا إلى جهة حلب، وأن العرب أتوا على أثر انسحابهم واستولوا على حمص وبعلبك وحماة.
خوف الجنود التركية وموظفي حكومتها وارتحالهم من حلب:
وفي هذه الأيام وقع الخوف في حلب وشاع أن العرب يصلون إليها يوم الجمعة عشرين محرم. فأخذت الجنود التركية الألمانية والجم الغفير من موظفي الحكومة العثمانية يسرعون الرحيل من حلب إلى جهات استانبول والأناطول؛ خوفا من وقوعهم أسرى في قبضة الإنكليز، أو من تسلّط أهل البلد عليهم انتقاما منهم على ما كانوا يفعلونه معهم في أثناء هذه الحرب من المظالم وأنواع التعدي. فازدحم في محطة بغداد موظفو حلب مع موظفي دمشق وبيروت وحمص وحماة وغيرها من البلاد الشامية والساحلية ومعهم نساؤهم وأطفالهم وقاسوا في برهة ليلتين مرّت عليهم هناك- وهم تحت السماء- من الجهد والبلاء ما لا يعلمه إلا الله تعالى. وكان الرجل العظيم من هؤلاء الموظفين يرضى أن يتيسر لركوبه ولو حافلة دوابّ، حتى إن قاضي حلب سليمان سرّي أفندي ركب في حافلة دواب وعدّ ذلك نعمة عظمى.(3/497)
تحليق طيارات الإنكليز في سماء حلب:
بعد سقوط دمشق بأيام قلائل بدأت طيارات الإنكليز لأول مرة تحلّق في سماء حلب لاكتشاف مواقع الجنود العثمانية في ضواحي حلب، والألمانية في جهات قرية «المسلميّة» فكان هؤلاء الجنود كلما علتهم طيارة يطلقون عليها كرات مدافعهم فلا تعمل فيها شيئا.
وفي يوم من الأيام حلّق في سماء حلب خمس طيارات في آن واحد، فكثر إطلاق المدافع عليها، وألقت طيارة منها قنبلة وقعت على مقربة من محطة بغداد وانفجرت فقتلت ستة عشر إنسانا وجرحت أربعين وقتلت عدة دوابّ.
مقدمات سقوط حلب:
يوم الأربعاء ثامن عشر محرم حضر والي حلب العثماني مصطفى عبد الخالق بك إلى دار الحكومة، ودعا إليه جماعة من وجهاء حلب وعلمائها وأخبرهم بأن حلب تسقط عما قريب وأنه عازم على البقاء في حلب إلى ما قبل سقوطها بثلاث ساعات، وأنه يصرف منتهى جهده على حفظ الأمن والسلام مهما كلفه ذلك من الخطر على نفسه، غير أنه يطلب من الوجهاء وأهل البلدة أن يساعدوه على تنفيذ هذا الغرض وأن يختاروا منهم رئيسا عليهم وواليا وقتيا إلى مجيء عساكر الشريف إليهم. فانتخبوا منهم سبعة أشخاص انتخبوا واحدا منهم رئيسا عليهم كوكيل وال وقتي.
الهدنة بين إنكلترا وتركيا:
وفي هذا اليوم وردت الأخبار البرقية تفيد أنه حصل بين دولة إنكلترة ودولة تركيا هدنة إلى مدة ستة وثلاثين يوما. فسرّ الناس من ذلك الخبر سرورا عظيما.
إطلاق المحابيس:
وفي ليلة الخميس تاسع عشر محرم حضر قائد الدرك المسمى عند الدولة العثمانية (قومندان الجندرمة) إلى محل المحابيس وأمر أفراد الدرك الموكلين بحفظ المحابيس بأن يتركوا خدمتهم ويتوجهوا إلى حيث شاؤوا. ففعلوا ما أمرهم به وتركوا السجون خالية من الحرس وكان فيها ما يربو على ألف وخمسمائة مسجون. وسمع ذلك رجال الدرك والحرس والشرطة(3/498)
الموظفون في المخافر لحفظ الأمن فتركوا مخافرهم وتوجهوا إلى منازلهم. ولما سمع هذا الخبر المجلس الذي أمر بانعقاده الوالي العثماني ظن أن الوالي هو الذي أمر قائد الدرك بذلك، وأن الحكومة العثمانية قد انسحبت وتخلت عن حفظ البلدة، فاهتم المجلس بتأليف قوة من أهل البلدة لتقوم بحفظها ريثما تدخل الحكومة الجديدة.
صدور أمر الوالي بحل المجلس الذي أمر به:
وفي صباح يوم الخميس تاسع عشر محرّم الجاري دعا الوالي العثماني عبد الخالق بك رجال المجلس الذي أمر بانعقاده، وأنكر عليه سعيه بتأليف القوة المحافظة وأخبره بأن الحكومة لم تنسحب بعد من حلب، وأنه إنما أمر بهذا المجلس ليتذاكر معه في بعض الشؤون التي بواسطتها يتم استتباب الأمن والراحة حتى تدخل الحكومة الجديدة، وأن القائد العثماني يقول إن حفظ البلدة من خصائصه وإنه لا يرضى بتأليف قوة من أهل البلد لأجل حفظها إلا إذا جعلت هذه القوة تحت أمره ونهيه. وبالحقيقة أن الوالي والقائد أساءا الظنّ بهذا المجلس وتوهما أن القوة التي يؤلفها ربما أوقعت بهما وببقايا الأتراك من المأمورين والعساكر الذين لم يتمكنوا من الجلاء مع أن ذلك لم يخطر على بال أحد من أهل حلب الذين ما برحوا إلى ذلك الوقت يهابون الأتراك ويحترمونهم.
اشتداد الخوف وقيام الأسافل للنهب:
انسحب المجلس الوقتي لما سمعه من الوالي، وضرب الصفح عن جمع القوة المحافظة التي لا ترضى أن تكون تحت أمر القائد ونهيه، وانسحبت الحكومة العثمانية لأن جميع رجال دركها وشرطتها استولى عليهم الخوف فتركوا وظائفهم، والجنود النظامية لا يوجد منهم في المدينة سوى خمسين أو ستين جنديا لا يمكنهم التجوال في البلدة لحفظ الأمن فيها لأنهم واقفون بالمرصاد للدفاع عن الوالي والقائد إذا تعرض إليهما أحد من الأرمن وأهل البلدة أو غيرهما. وباقي الجنود النظامية قد توجهوا إلى جبهة الحرب المصطفّة تجاه جنود العرب والإنكليز في نواحي الراموسة وقرية خان طومان والشيخ سعيد، فلم يبق في البلدة قوة تحفظ الأمن والسكينة.
وأصبح الناس في هذا اليوم وهو يوم الخميس فوضى لا حاكم ولا رادع لهم. فقام(3/499)
الأسافل من كل ملّة وانضم إليهم زعانف الأعراب المجاورين لحلب وهجموا كالسيل الجارف على مستودعات الجنود التركية والألمانية والثكنة العسكرية القديمة المعروفة بالشيخ يبرق، والحديثة الكائنة على جبل البختي، وعلى مكاتب الحكومة ومستشفيات الجنود، ونهبوا جميع ما وجدوه في هذه الأماكن من السلاح والقذائف والأقمشة والحبوب والمنسوجات والصوف والقطن وأنواع الحديد والأخشاب والصابون والرز والسمن والزيت، وكان شيئا كثيرا. واقتلعوا أغلاق هذه الأماكن ورفوفها ونهبوا صناديقها وكتبيّاتها وما في ذلك من السجلات والدفاتر التي لا فائدة لهم منها سوى جلودها، فأما ما فيها من الأوراق فكانوا ينثرونها ويطرحونها تحت أقدامهم. وكان بعض هؤلاء الأوباش يدخلون المستشفى وينهبون جميع ما فيه، ثم يطرحون المرضى عن أسرتهم ويأخذون مفارشهم، وربما جردوا المريض من ثيابه وتركوه مطروحا على الأرض. وقد بيعت غدّارة المرتين «1» بخمسة قروش، وصندوق القذائف المعروفة بالخرطوش بقرشين.
فاستولى الخوف على القلوب وأسرع التجار إلى إغلاق حوانيتهم خوفا من هجوم الأشقياء عليهم. وأمسى الناس في أمر مريج «2» لا يأمن الإنسان على نفسه وماله من التفاف هؤلاء الأسافل إلى منزله ونهب ما فيه والتعرض إلى حرمه.
انفجار لغم:
وبينما كان الناس على هذه الحالة المكربة إذ سمع وقت الغروب هزيم «3» انفجار صمّت له الآذان كأنه صوت مائة صاعقة انقضّت في آن واحد، فانخلعت القلوب هلعا وارتعدت الفرائص، واهتزت أرجاء البلدة وجدرانها وتحطم كثير من زجاج النوافذ. وظن الناس لأول وهلة أن القائد العسكري بدأ بإطلاق كرات المدافع على البلدة ليخربها، فأيقنوا بالهلاك. ثم ظهر أن هذا الهزيم هو صوت انفجار مستودع بارود قديم في الثكنة العسكرية؛ كانت العساكر التركية وضعت فيه لغما انفجر بيد أحد الناهبين. وحينئذ اطمأن الناس(3/500)
من جهة خراب البلدة ولكنهم ما زالوا خائفين من بعضهم، وكان أراذل الناس وغوغاؤهم الذين نهبوا السلاح من المستودعات يطلقون هذه الليلة في منازلهم عياراتهم النارية على صفة لا تنقطع، فكنت تسمع في الدقيقة الواحدة صدى ألوف من الطلقات.
سقوط حلب:
يوم الجمعة عشرين محرّم (1337) الموافق 12 تشرين الأول سنة 1918 م، و 29 أيلول سنة 1334 شرقية، أصبح الناس وعيونهم لم تذق الغمض وهم خائفون وجلون، والأوباش عادوا إلى ديدنهم الأول من النهب والسلب، وبعد أن نهبوا المكتب الرشدي العسكري الكائن في شمال مستشفى الغرباء تحت القلعة، ألقوا في قسمه الشمالي النار فاحترق ولم يبق في البلدة حاكم ولا رادع. وكنا نسمع في كل برهة من الزمن فرقعة ألوف من البنادق فكنا نظن أنها فرقعة بنادق المتحاربين من الجنود التركية والإنكليزية عند قرية الراموسة. ثم تبين أن هذه الفرقعة هي صدى المواد النارية التي تحرقها الجنود التركية والألمانية في المحطات ومستودعات الأعتاد الحربية. وكان بعض الناس يسمع دوي المدافع التي يطلقها جنود الأتراك والإنكليز على بعضهم قرب خانطومان.
قدوم عرب العنزة إلى حلب:
وفي عصر هذا اليوم أقبل على حلب من جهة باب النيرب طائفة من عرب العنزة- الذين يرأسهم الشيخ مجحم المهيدي- وكان مواليا للحكومة العثمانية، وفي الأيام الأخيرة أعطته مبلغا وافرا من النقود والسلاح وكلفته القيام بحراسة أطراف البلدة وبعض القرى المجاورة لها وحفظ بعض مدخرات الحبوب الكائنة في القرى كقرية الجبّول وقرية دير حافر وغيرهما. ثم في هذه الأثناء قبضت الحكومة على بعض أشخاص من عشيرة الشيخ مجحم فاغتاظ من هذا العمل إلا أنه كظم غيظه. فلما كان عصر هذا اليوم علم أن عرب الشريف قد اقتربوا من حلب وأن العساكر التركية قد انسحبوا منها إلا قليلا منهم؛ أمر عشيرته- وكانوا زهاء ثلاثين فارسا- أن يهجموا على سجون حلب ويفتحوا أبوابها ويطلقوا منها سراح جميع السجناء. ففعلوا ذلك، وكان بين الجماعة المهاجمين غلام من أنسباء الشيخ مجحم أصابته رصاصة من حارس السجن فوقع قتيلا، فهجم العربان على(3/501)
الحارس فهرب منهم إلى سطح دار الحكومة فتبعوه وقبضوا عليه وقطعوه إربا «1» ، ثم ساروا إلى جهة باب الفرج حيث منزل العساكر التركية، كأنهم أرادوا نهب المنزل واستئصال من فيه من العساكر، فلم يشعر العرب إلا وقد تجرد إليهم عدد وافر من الجنود التركية ورموهم بالرصاص فقابلهم العربان بالمثل، وقتل من الطرفين بضعة أشخاص، ثم تغلب الأتراك على العرب بواسطة ما لديهم من المدافع الرشاشة فولى العرب منهزمين. وقد استوحشت الجنود التركية وظنت أن أهل البلدة يريدون الهجوم عليهم فوقف منهم بضعة أجناد في جهات باب الفرج وصاروا يرشقون برصاصهم كل من رأوه مارا من تلك الجهة فقتلوا بعض المارّة، وكانت الشمس قد مالت إلى الغروب.
جلاء الوالي والقائد والجنود التركية عن حلب ودخول عساكر الشريف حسين إليها:
وفي ذلك الوقت سار الوالي مصطفى عبد الخالق بك والقائد العسكري مصطفى كمال باشا إلى جهة محطة بغداد واختبأ في بعض جهاتها. وعلى أثر مسيرهما إلى المحطة، وقت الغروب، أقبل على حلب من جهة قارلق عرب الشريف حسين ملك العرب وهم دون مائة عربي ما بين فارس وهجّان، يرأسهم الشريف مطر نائب الشريف ناصر، وكيل حضرة الأمير الملكي الشريف فيصل نجل الشريف حسين. وفي ذلك الوقت تحقق الناس أن الشريف قد استولى على حلب وخرجت من يد بني عثمان بعد أن بقيت تحت استيلائهم مدة أربعمائة وخمس عشرة سنة. فسبحان مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء.
ومن الصدف الغريبة أن استيلاء الدولة العثمانية على حلب شبيه باستيلاء الدولة العربية عليها من جهة أن كلتا الدولتين أخذتها صفوا عفوا دون حرب ولا ضرب، كما أن الناس في جميع هذه البلاد اغتبطوا بهذه الدولة وفرحوا بتخلصهم من بغي قادة الجنود العثمانية وظلمهم، كذلك كانوا اغتبطوا بقدوم المرحوم السلطان سليم خان عليهم لتخلصهم من ظلم قادة جنود الغوري سلطان الدولة الجركسية.(3/502)
عزم المأمورين الراحلين على استصحاب السجلات:
لما عزم الموظفون الأتراك على الرحيل من حلب أراد كل موظف منهم أن يأخذ معه الأوراق والسجلات التي كانت في محل إدارته، فأوعبها في الجوالق «1» وطلب من يحملها إلى محطة بغداد، فلم يتيسر له أحد وكان الخوف قد سطا عليه فتركها ومضى إلى حال سبيله. ولو أخذت هذه السجلات لتضرر كثير من أصحاب المصالح خصوصا سجلات الدفتر الخاقاني. على أن كثيرا من سجلات غير هذه الدائرة فقدت بسبب دخول الأوباش إلى دار الحكومة في يوم الجمعة قبل دخول الشريف مطر إليها بقليل من الزمن، فظفروا بدفاتر جباة الأموال وأتلفوها عن آخرها. وكانوا يأخذون جلودها ويطرحون ما فيها من الورق في الأرض ويبعثرونه بأرجلهم.
هذا ولما وصل الشريف مطر وعربه إلى حلب ليلة السبت الحادية والعشرين من محرّم الجاري نزل في دار الحكومة، فجلس على بساط فتح له على أرض البهو الذي يؤدي إليه الدرج الكبير ونزل عربه في صحن دار الحكومة، وحفروا في الأرض نقرا أشعلوا فيها النار لطبخ قهوة البن يسقون منها الواردين على الشريف للسلام وعرض الاحترام. وقد تحقق الناس استيلاء الحكومة الجديدة على حلب إلا أن الخوف مع ذلك استولى على الناس من فتك الأسافل وبقايا الجنود التركية، وخلت الأزقة من المارّة وبات الناس في قلق وخوف لا مزيد عليه، نظير ما باتوا عليه في الليلة البارحة أو أشدّ، وكان ألوف من الأوباش يطلقون عياراتهم النارية من منازلهم تخويفا لمن يتوهمون أنه يهجم عليهم مع أن الخوف في تلك الليلة قد شمل الجميع.
ولما علمت بقايا الجنود التركية أن عرب الشريف قد دخلوا حلب ونزلوا في دار الحكومة مشى منهم نحو خمسين جنديا على دار الحكومة للإيقاع بالعرب ولما وصلوا إلى دار الحكومة هجم عليهم العرب فولوا منهزمين، ولو ثبتوا قليلا لأفنوا العرب عن آخرهم إلا أنهم خافوا أن يأتيهم من ورائهم كمين من أهل البلد فيقعوا بين نارين فعادوا من حيث أتوا.(3/503)
سفر الوالي والقائد التركيين:
وفي الساعة الثانية من هذه الليلة ركب القطار القائد العسكري العثماني، ومصطفى عبد الخالق بك الوالي العثماني الأرنوطي الأصل، وهو شاب صبيح الوجه في سن الخامسة والثلاثين، ذكيّ حسن التفرس متديّن أمين ذو شفقة ومرحمة، بذل ما في وسعه من الجد والجهد في ولايته الأولى أيام هذه الحرب في ملاطفة الفقراء وتوفر الأقوات، فخفّف عنهم آلام الجوع ولم يمت أحد في أيام ولايته جوعا.
ولما ولي حلب في هذه المرة حضر إليها مجردا من عياله ولم يأل جهدا في تلطيف ما نزل بحلب من الشدائد التي من جملتها ظلم الجندية واستبدادهم، موقنا أن الحلبيين لا غائلة تخشى منهم على الأتراك فآلى على نفسه أن يبقى في حلب إلى آخر ساعة من أيام الحكومة العثمانية، غير مبال بما عساه أن يناله من الخطر الذي لا يوجد من يدفعه عنه من رجال الدرك والشرطة لتركهم وظائفهم واستيلاء الخوف عليهم.
وقد قصد من بقائه في حلب إلى المدة الأخيرة ردع الأوباش والأسافل عن قيامهم على بقايا المأمورين والأتراك وعلى ضعفاء الأهلين ليسلبوا أموالهم ويعيثوا في أعراضهم. على أنه وإن كان لا يوجد معه من يحامي عنه من رجال الدرك والشرطة إلا أن مجرد علم الأسافل بوجوده يردعهم عن تنفيذ نواياهم الخبيثة، ولعلمهم أيضا بأن بقايا العساكر العثمانيين لا تتخلى عن تنفيذ أوامره عند اقتضاء الحال.
محاماة الوالي عن حلب تجاه القائد:
وله غرض آخر من بقائه في حلب إلى آخر وقت وهو مراقبة حركات القائد العسكري الذي كان يعتقد أن أهل حلب من أعداء الدولة التركية، وقد شاع أنه مصمم على ألّا يخرج من حلب حتى يخربها عن آخرها بالألغام وكرات المدافع، وأن الوالي عبد الخالق ينهاه عن فعله ويؤكد له أن أهل حلب لا يستحقون منه هذا العمل، فكان القائد لا يقنع بكلامه. وقد قيل إن عبد الخالق بك لما تحقق أن القائد مصمم على تخريب البلدة- حين ما «1»(3/504)
بدأ به من وضع المدافع في أعالي البلدة وصدور أمره للموكّلين بها بأن ينتظروا إشارته بإطلاقها- حضر الوالي وقال له: اقتلني قبل أن تنفّذ هذا العزم، لأن قتلي أهون علّي من أن أرى حلب خرابا.
هكذا شاع عند أهل حلب. والحق يقال: إن تخريب هكذا بلدة يعد من أكبر الفظائع التي تبقى نقطة سوداء في تاريخ العثمانيين إلى الأبد. على أنه غير مستبعد عن أهل البلدة- متى بدأ عمل التخريب ببلدتهم وبلغوا حد اليأس من سلامتهم- أن يقوموا قيام المستميت ويهجموا، وهم يعدّون بمئات الألوف، على كل تركي في حلب جنديا كان أم غير جندي فيبيدوهم عن آخرهم.
سمع حضرة القائد نصيحة الوالي ورقّ لشكواه ورجع عن عزمه، غير أنه قال له إنه متى علم أن أهل البلدة تداخلوا مع العساكر العربية الإنكليزية وانضموا إليهم فهو يخرب البلدة على رؤوس أهلها في ساعة واحدة. وعليه فإن الوالي قبل سفره بيوم حضر إلى دار الحكومة ودعا إليه جماعة من الأعيان وبلّغهم ما قاله القائد فأجابوه بأن القيام مع العساكر العربية الإنكليزية مما لم يتصوره أحد من أهل حلب.
وقد استفاض بين الناس ما يبديه الوالي في حق أهل حلب من العطف والمحاماة وحسن الإدارة حتى اتصل خبر ذلك بالقائد الإنكليزي وهو في جبهة الحرب أمام الجنود العثمانية قرب قرية الراموسة، فكتب إلى الوالي- حسبما شاع- يشكره على ما يبديه من اللطف والإنسانية مع أهل حلب، ويرجو منه أن يبقى مثابرا على حفظ البلدة إلى آخر ساعة وأن لا يخشى تعرض أحد إليه من الدولة الجديدة بالأسر أو سوء المعاملة.
قلت: إن اشتهار هذا عن الوالي وشيوعه إلى هذه الدرجة يدفع ما قيل عنه إنه لم يقصد من بقائه في حلب إلى آخر وقت من أيام الحكومة العثمانية إلا ليكون جاسوسا بين أهل البلدة وبين القائد العسكري، وواسطة تهديد وتخويف بين الطرفين لسوء ظنه بأهل حلب وخوفه هو والقائد من قيامهم على من فيها من الأتراك عامة، فيبيدونهم عن آخرهم انتقاما منهم على ما كان يفعله معهم أشرار الموظفين من الظلم والتعدي، على حد قول الشاعر:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدّق ما يعتاده من توهّم «1»(3/505)
حتى قيل: إن القائد نفسه لم يقصد من إذاعة عزمه على تخريب البلدة إلا التخويف والتهديد فقط، وإنه لا يفعل ذلك ولا يقدر على فعله أبدا لحدوث الهدنة في هذه الأيام وصدور الأمر إليه بأن يترك حلب وينسحب عنها بلا ضرر ولا إضرار. والله أعلم بحقيقة الحال.
ما كان في حلب بعد وصول الشريف مطر إليها:
صباح يوم السبت 21 محرّم استفاض بين الناس أن الوالي والقائد العسكري التركيين سافرا ليلا، وأن عامة الألمان من الجنود وغيرهم لم يبق منهم في حلب أحد سوى المرضى والمستخدمين في تمريضهم في المستشفيات الألمانية، وأن الألمان كان في عزمهم أن ينسفوا بألغامهم كل بناء يخصهم في المحطة وغيرها، وأن القائد العسكري العثماني هو الذي عارضهم بذلك. وقد نسفوا بعض الجسور على نهر قويق.
هذا، وإن الناس في صباح اليوم المذكور هرعوا للسلام على الشريف مطر، وكان الروع ذهب من القلوب وظهرت المارّة في الشوارع وتلاحقت عساكر الشريف ببعضها، وانضم إليهم العدد الكبير من عشائر البادية المخيمة في صحارى ولاية حلب، وكانوا يدخلون إليها زمرة بعد زمرة ولا يرون فيها أدنى مقاومة، ولا حدث بدخولهم أقّل خوف، وكان النهب من الدعّار قد وقف، وسكنت الأمور وانتشر لواء الأمان ورفعت الرايات والأعلام العربية على أبواب الأماكن الأميرية، ولم يقتل من بقايا الجنود التركية وغيرهم سوى بضعة أشخاص اشتبه الأعراب بهم فقتلوهم.
انفجار ألغام:
وفي ظهيرة يوم الأحد 23 محرم سمع بغتة هزيم انفجار مفزع ثلاث مرات متوالية، اهتزت له المباني وارتعدت الفرائص، وتحطم كثير من زجاج النوافذ القريبة من تكية الشيخ أبي بكر الوفائي. وبعد برهة تبين أن هذا الانفجار صادر من ألغام كانت مدفونة في مستودع الأعتاد النارية الكائن في شرقي جنوب التكية المذكورة، وهو مستودع المواد النارية للألمان قرب مستودع الأتراك.(3/506)
وصول عساكر الإنكليز إلى حلب:
في عصر هذا اليوم وصلت إلى حلب عساكر الجنود الإنكليزية فرسانا ومشاة وهجّانة، ومعهم السيارات والعجلات المشحونة بالمهمات الحربية، وهم إنكليزيون ومصريون وهنود. والمصريون مسلمون، والهنود مسلمون وبراهمة وصك، وكان عددهم جميعا لا يزيد على ألف جندي. ويقال إن عددا عظيما من الجنود الإنكليزية لم يدخلوا حلب وإنما توجهوا إلى جهة راجو ونواحي كلّز وعينتاب وغيرهما ليتعقبوا العساكر التركية التي أمّت تلك الجهات.
واقعة قرب قرية بلّليرمون:
وكانت الجنود التركية- الذين انسحبوا من جهات الراموسة وقرية الشيخ سعيد- قد توجهوا إلى جهة قرية بلّليرمون القريبة إلى حلب، في شماليها الغربي، وكمنوا في موضع من تلك الناحية. فلما وصلت إليها الجنود الإنكليزية خرجوا من مكامنهم وأطلقوا عليهم نيرانهم فقتلوا منهم- على رواية- نحو ثمانمائة جندي، بينهم ضابط إنكليزي كبير أقيم له هناك نصب تذكاري.
فرقعة ألغام وقذائف:
وفي يوم الاثنين والثلاثاء 23 و 24 محرّم الجاري كنا نسمع من حين إلى آخر دوي انفجارات مزعجة تنفجر في جهة محطتي سكة حديد بغداد والشام في ظاهر حلب، وهي ألغام دفنها الألمان تحت جسور المحطّتين ولم يتمكنوا من إشعالها، فكان الإنكليز يظهرونها بواسطة كلاب معهم فيخرجون منها ما يمكنهم إخراجه ويشعلون ما يعجزون عن إخراجه.
وشاع بين الناس أن الألمان دفنوا في قلعة حلب عدة ألغام وأنها عما قريب تنفجر، فارتاع الناس من ذلك ونزح كثير من سكان المحلات المجاورة للقلعة إلى غيرها اتقاء خطر هذه الألغام. ثم تبين أن هذه الإشاعة إرجاف لا أصل له.
وصول الشريف ناصر إلى حلب وانعقاد مجلس شورى:
الأمير ناصر من الأشراف الحسينية القاطنين في «العوالي» المجاورة للمدينة المنورة.(3/507)
وحين قيام حضرة الشريف حسين على الأتراك كان الشريف ناصر وأسرته في جانب الشريف حسين، فوكله حضرة الأمير الشريف فيصل في التأمّر مكانه على حلب. فوصل إليها يوم الأحد ثاني وعشرين محرّم الجاري، ونزل ضيفا كريما في منزل أحد وجهاء حلب في محلة الجميلية. وبعد أيام انتقل إلى دار خصوصية هيئت له في محلة العزيزية. وقبل وصوله إلى حلب كان القائم بحراستها وحفظ الأمن فيها جماعة الشريف مطر، وكانت دار الحكومة والثكنة العسكرية وجميع الأماكن الأميرية خالية من الموظفين.
وبعد وصول الأمير ناصر بيومين أصدر أمره قبل كل شيء بأن يؤلف مجلس شورى ينتخب الدرك والشرطة أولا، ثم ينتخب موظفين لدوائر الحكومة. فتألف هذا المجلس من اثني عشر عضوا من وجهاء حلب في أيام الدولة التركية، وقد انتخبوا واحدا منهم رئيسا عليهم- وهو حضرة كامل باشا القدسي- ثم شرعوا بانتخاب الموظفين فأحسنوا بتعيين بعضهم وأساؤوا في آخرين شبّوا ونشؤوا على ظلم الناس وهضم حقوقهم، وعدم المبالاة من تضييع منافع الدولة لمنفعتهم والتكاسل عن واجبات وظائفهم واحتقار الناس والتهاون بأقدارهم. ولهذا لم يمض على تعيينهم غير أيام قلائل حتى بدأ الناس يتذمرون منهم ويتشكون من تباطئهم، ووعودهم لصاحب المصلحة في قضاء مصلحته والكتابة على قصته «1» بقولهم: رح، وتعال، وغدا، نظير ما كانوا يفعلون مع أصحاب الأشغال في أيام الدولة الزائلة إذ كانوا يقولون لهم بدل هذه الكلمات (كت، كل، يارن، أوبركون) «2» . حتى اشتهر في هذه الأيام عن واحد من ذوي الأشغال أنه اشتكى إلى الوالي على بعض المأمورين الجديدين الذين هم من هذا القبيل، وقال للوالي: (بدّلنا العجميات بالعكال، وكيت وكال: بروح وتعال) يريد بالعجميات: كسوة الرأس عند الأتراك، وهي الطرابيش والقلانس المعمولة من فرو الغنم.
يوم الجمعة 27 محرم الجاري حضر الأمير ناصر إلى الجامع الكبير بموكب حافل وصلى فيه صلاة الجمعة، ودعا الخطيب لملك العرب الشريف حسين بالنصر والظفر. وبعد الفراغ من الصلاة أمر حضرة الشريف ناصر لخدمة الجامع بأربعين ذهبا إنكليزيا.(3/508)
نادي العرب وجريدة العرب:
وفي هذا اليوم تحزب حزب من الشبيبة العربية وأتوا مكان نادي جمعية الاتحاد والترقّي المعروف باسم (قلوب) ووضعوا أيديهم عليه وعلى ما فيه من الكتب والأثاث وسمّوه نادي العرب، وأصدروا صحيفة يومية سموها (العرب) .
قدوم شكري باشا الأيوبي إلى حلب في هذه الأيام:
وافى حلب حضرة شكري باشا الأيوبي حاكما عسكريا عليها من قبل الحكومة الجديدة. فصلى الجمعة في الجامع الكبير وخلع على الخطيب عباءة حريرية جميلة وتعيّن سلفه كامل باشا القدسي الحلبي قائدا عاما وحاجبا فخريا لحضرة ملك العرب.
وصول سمو الأمير الكبير الشريف فيصل إلى حلب:
ظهيرة يوم الأحد سادس صفر من هذه السنة وصل سمو الأمير الكبير الشريف فيصل إلى حلب، وأقبل معه الوفد الذي ذهب قبل أيام لاستقباله إلى حماة. وقد أعدّ لاستقباله على مقربة من حلب موكب حافل، فنزل سموّه في دار هيئت له من محلة العزيزية وأقبل الناس عليه للسلام، فكانت أخلاقه المرضيّة والتفاته العالي محلّ إعجاب الجميع. وأول شيء فعله إصدار أمره بحلّ مجلس الشورى لما بلغه عنه من عدم استقامة مسلكه، وأن يقوم مقامه لجنة تؤلف من وجهاء المستخدمين الملكيين والعدليين.
أخذ الأمير فيصل بيعة الحلبيين لأبيه الشريف حسين بن علي ملك العرب:
بعد ظهر يوم الثلاثاء من صفر الخير حضر إلى نادي العرب بالموكب الحافل سمو الأمير فيصل، وكان النادي غاصا بالمدعوين الذي يعدّون بالمئات، فجلس سمو الأمير على كرسيّ معدّله في غرفة خصوصية من النادي، وصار يتقدم نحوه المدعوون زمرة بعد زمرة ويبايعونه بالتملك على العرب بالنيابة عن جلالة والده ملك العرب ثم يعودون إلى مقاعدهم. وبعد أن انتهت المبايعة قام سموه من الغرفة التي بايع فيها وأقبل إلى محله المعدّ له من صدر ردهة النادي، وقام الشعراء والخطباء ينشدون قصائدهم ويتلون خطبهم- على النسق(3/509)
والترتيب- إلى أن انتهوا منها، فبدأ وهو قاعد يتكلم بما انطوت عليه صحيفة أفكاره من المواضيع العديدة التي يصعب على أعظم رجال الخطابة استيعابها وإيرادها في مثل هذا المحفل العظيم. ولما بدأ بالكلام قام الحاضرون وقوفا- إعظاما وإجلالا له- فأشار إليهم أن اجلسوا لأن كلامي يستغرق وقتا طويلا لا أريد أن تتكبدوا فيه مشقة الوقوف. فجلسوا وأنصتوا ووقف بعض الكتاب والأدباء وبأيديهم القراطيس والأقلام يكتبون ما يفوه به بالحرف الواحد فقال:
خطبة الأمير فيصل:
«لا شك أنكم أيها السادة ترون منا أعمالا مهمة. إن حلب هي من أقاصي بلاد العرب، لم يتصل بأهلها ما وقع بيننا وبين الأتراك وما هو سبب قيامنا ضدهم.
إن الأتراك كانوا يشيعون أن الأشراف اتفقوا مع الدول الغربية على بيع البلاد لقاء دريهمات أخذوها منهم، وأخرجوا ضدنا فتاوى ربما اغترّ بها بعض البسطاء وصدّقها. فنقول في ردّ وبطلان ما زعمه الأتراك فيما شيعوه:
إن الدين الإسلامي نشأ بقدرة الله تعالى وانتشر بواسطة محمد النبي العظيم الذي تنسب إليه أسرتنا، فهل يتصور أحد أن أناسا يرضون بهدم ما بناه لهم جدّهم من المجد والشرف.
نحن لم نقم إلا لنصرة الحق وإغاثة المظلوم. ساد الأتراك 600 سنة هدموا بخلالها صرح المجد الذي أقامه أجدادنا وأطفؤوا نار العرب، ولكنها لم تطفأ لأن العرب عاشت قرونا وأجيالا لم يتسنّ لغيرها من الأمم أن تعيش مثلها، وكانت العرب تنتظر الفرص لتنتهزها حين سنوحها. نحن العرب نمنا 600 سنة ولكننا لم نمت. لما أعلن الأتراك النفير العام أتوا بأعمال تتبرأ منها الإنسانية ولا لزوم لعدّها. كانت العرب تطالب الأتراك بحقوقها فاغتنموا الفرصة التي مكنتهم من الانتقام من العرب.
رأى والدي أن دولة الترك ليست تعمل لأجل دين أو عمل عام ينفع البلاد، ولكنها أعلنت جهادها مع ألمانيا لمجرد الانتقام من العناصر الخاضعة لها مثل العرب. وتبيّن له أن مبادئ الحكومات الغربية المدنية هي مبادئ إنسانية، مبادئ خير، مبادئ نصرة الحق.
واتفق معهم- بعد الاتكال على قوة الله تعالى- لعلمه أنهم ينصرون الضعيف(3/510)
ويساعدون على إعادة حقوق الأمم المحكومة، وتعاهد معهم على إزاحة حكومة الأتراك واستخلاص ما اغتصبوه منا نحن العرب. باسم العرب حالف والدي الحكومات الغربية وقام معهم ضد تركيا وألمانيا كتفا إلى كنف، لا كما زعم الأتراك من أن قيامنا كان نتيجة مطامع شخصية.
فأنا باسم كافة العرب أخبر إخواني أهل الشهباء أن للحكومات الغربية- خصوصا إنكلترا وفرنسا- اليد البيضاء في مساعدتنا وشدّ أزرنا، ولا تنسى العرب، ما دامت موجودة على وجه البسيطة، فضل معاونتهم. نحن اليوم ندعي التحرر والاستقلال؛ فهذه أقوال، إذا لم نعمل شيئا لحدّ الآن سوى طرد الأتراك من بلادنا وهذا محتم عليهم لأن القدرة الإلهية تأبى تركهم بدون مجازاة لما أتوه من الفظائع.
بقي علينا وظائف مهمة جدا وهي تأسيس ملك وحكومة نفتخر بهما أمام العالم أجمع.
إن الأمم الغربية قد ساعدتنا مادة وستساعدنا معنى، وإني لأملو «1» عليكم برقية وردت لي منذ ثلاثة أيام تبين لكم إحساسات الدول الغربية نحونا ليفهم جميع أهل الوطن أننا لم نبع البلاد ولن نبيعها أبدا» .
وهنا أشار إلى كاتبه بتلاوة البرقية فتلاها، وهذا نصها:
حمص: سمو سيدي الأمير فيصل. نقدّم لسموكم صورة البلاغ العام الذي تلقيته من المستر (سته رلنغ) الحاوي على تعهدات الحلفاء وخطّتهم في بلادنا. والله يؤيدكم.
8 تشرين الأول سنة 1334 الحاكم العام لسوريا. الركابي.
الصورة: «إن النّوط الذي ترمي إليه فرنسا وبريطانيا العظمى- بمواصلتهما في الشرق تلك الحرب التي أثارها الطمع الألماني- هو تحرير الشعوب التي طالما ظلمها الترك تحريرا نهائيا، وتأسيس حكومات ومصالح أهلية تبنى سلطتها على اختيار الأهالي الوطنيين لها اختيارا لا جبرا، وقيامهم بذلك من تلقاء أنفسهم. وتنفيذا لهذه النيات قد وقع الاتفاق على تشجيع العمل لتأسيس حكومات ومصالح أهلية في سوريا والعراق اللتين(3/511)
أتم الحلفاء تحريرهما، وفي البلاد التي يواصلون العمل بتحريرها، وعلى مساعدة هذه الهيئات والاعتراف بها عند تأسيسها فعلا.
والحلفاء بعيدون عن أن يرغموا سكان هذه الجهات على قبول نظام معين من النظامات وإنما همتهم أن يحققوا معاونتهم ومساعدتهم النافعة حركة الحكومات والمصالح التي ينشئها الأهالي لأنفسهم مختارين حركة منتظمة؛ وأن يقيموا لهم قضاء عادلا واحدا للجميع، وأن يسهلوا انتشار العلم في البلاد وتقدمها اقتصاديا، وذلك بتحريك همم الأهالي وتشجيعها، وأن يزيلوا الخلاف والتفرق الذي طالما استخدمته السياسة التركية.
ذلك ما أخذت الحكومتان الحليفتان على نفسيهما مسئولية القيام به في البلاد المحررة» .
ثم أردف الأمير فيصل هذا بقوله: «لا شك أن هذه البرقية من النّبذ التاريخية العظيمة.
وإنها تنم عن شواعر عالية وحسيات إنسانية لا يقوم العرب بأداء واجب الشكر عليها إلا بتحقيق أماني هذه الدول، وهي تشكيل وتنظيم حكومة عادلة قوية تحفظ حقوق جميع أهل البلاد.
إننا اليوم في موقف حرج. الأمم المتمدنة وحلفاؤنا ينظرون إلينا بنظر الإعجاب والتقدير، وأعداؤنا يرمقوننا بعين الانتقاد. خرج الأتراك من بلادنا ونحن الآن كالطفل الصغير لا حكومة ولا جند ولا معارف، والسواد الأعظم من الشعب لا يفقهون من الوطنية والحرية ولا ما هو الاستقلال، حتى ولا ذرّة من كل هذه الأمور. ذلك نتيجة ضغط الأتراك على عقول وأفكار الأمة. فلذا يجب أن نفهم هؤلاء الناس قدر نعمة الاستقلال، ونسعى- إن كنّا أبناء أجدادنا- لنشر لواء العلم؛ لأن الأمم لا تعيش إلا بالعلم والنظام والمساواة وبذلك نحقق آمال حلفائنا.
أنا عربي وليس لي فضل على عربي ولو بمثقال ذرة. إنني أوفيت وجائبي الحربية كما أوفى والدي وجائبه السياسية، فإنه تحالف وتعاهد مع أمم متمدنة أوفت بعهودها ولا تزال تساعدنا على تشكيل حكومة منتظمة. فعلينا إبراز هذه الأمنية إلى حيّز الوجود بكمال الحزم والعزم لأن البلاد لا يمكنها أن تعيش بحالة فوضى، أي بلا حكومة. وهذا واجب ذمة الأمة وأهل البلاد ونبرأ إلى الله مما يحصل لهذه البلاد بعد اليوم. أنا ومن معي سيف مسلول بيد العرب يضربون به من يريدون. أحضّ إخواني العرب- على اختلاف(3/512)
مذاهبهم- بالتمسك بأهداب الوحدة والاتفاق ونشر العلوم وتشكيل حكومة نبيّض بها وجوهنا لأننا إذا فعلنا كما فعل الأتراك نخرج من البلاد كما خرجوا، لا سمح الله، وإن فعلنا ما يقضي به الواجب يسجل التاريخ أعمالنا بمداد الفخر. إنني أقلّ الناس قدرا وأدناهم علما، لا مزية لي إلا الإخلاص.
إنني أكرر ما قلته في جميع مواقفي بأن العرب هم عرب قبل موسى وعيسى ومحمد.
وإن الديانات تأمر من في الأرض باتّباع الحق والأخوّة. وعليه فمن يسعى لإيقاع شقاق بين المسلم والمسيحي والموسوي فما هو بعربي. إننا عرب قبل كل شيء، وأنا أقسم لكم بشرفي وشرف عائلتي، وبكل مقدس ومحترم عندي، بأنه لا تأخذني في الحق لومة لائم، ولا أحجم عن مجازاة من يتجرأ على ذلك، فلا أعتبر الرجل رجلا إلا إذا كان خادما لهذه التربة.
عندنا والحمد لله رجال أكفاء كثيرون ولكنهم مقيمون خارج الديار وفي بلاد الأتراك وسيأتون قريبا إن شاء الله فيصلحون الخلل الموجود هنا، ولا يجدر أن نتقاعس عن العمل ريثما يأتون فما لم يدرك كله لا يترك جلّه. ويلزم علينا أن نبتدئ بدون أن ننظر للمرء من حيث شرف عائلته وخصوصيته؛ بل ننظر إلى الرجل الكفؤ، شريفا كان أو وضيعا، إذ لا شرف إلا بالعلم. الإنسان يخطئ فإذا أخطأت سامحوني وبيّنوا لي مواطن خطئي.
بما أن أغلب الأفراد يجهلون قدر نعمة الاستقلال- كما بينت لكم- فلا يبعد أن يحصل في بعض المحلات ما يخلّ بالأمن، فالحكومة مجبورة على تطبيق معاملاتها على القانون العسكري العرفي مدة الحرب بينما يتم تشكيل حكومة منتظمة. أرجو إخواني أهل البلاد أن ينظروا إلى الحكومة نظر الولد البارّ للوالد الشفوق ويساعدوها جهد طاقتهم، ويعلموا أن الحكومة مشارفة على أعمال الأفراد والموظفين. إن الحكومة في طورها الجديد بحاجة لإيجاد قوة تحفظ كيانها فكل من يعيث بأوامرها ويخل بمقرراتها يستهدف ليدها القوية.
ولأجل حفظ الاستقلال ليس إلا أن أدعو أهل البلاد للاهتمام الزائد لتكوين حكومة ثابتة الأركان منيعة الجانب.
الدرك والشرطة هما قوام البلاد وبدونهما لا تنتظم أحوال الحكومات، لذلك أطلب من الجميع وخصوصا الشبان أن ينتظموا بهما وأن لا يتأخر أحدهم عن خدمة وطنه وبلاده،(3/513)
بدون النظر لموقعه العائلي. فإن الشرطة وظيفة شريفة عالية وإن الإنسان يتولى كل عمل في داخليته وبيته، حتى تجد ربّ البيت يكنس داره بيده ولا يرى بها استخفافا. وستكون القوانين السابقة مرعية الإجراء إلى أن يتم سن القوانين من قبل المجلس الأعلى أي مجلس الأمة. الحكومة الحاضرة تحفظ الأمن والانتظام ريثما تتعين هيئات الحكومة الجديدة. العرب أمم وشعوب مختلفة باختلاف الأقاليم، فالحلبي ليس كالحجازي، والشامي ليس كاليماني.
ولذا قد قرر والدي أن يجعل البلاد مناطق يطبق عليها قوانين خاصة بنسبة أطوار وأحوال أهلها: فالبلاد الداخلية يكون لها قوانين ملائمة لموقعها، والبلاد الساحلية أيضا يكون لها قوانين طبق رغائب أهلها.
كان من الواجب علينا أن نبدأ أولا بجمع الهيئة التي تسن هذه القوانين، ولكن العرب الذين هم في البلاد الخارجية هم أعلم منا بالقوانين الأكثر ملاءمة للبلاد، ولذلك نرجئ هذا الأمر إلى وقت اجتماع هؤلاء. وفي أقرب وقت يصلون إن شاء لله. بيد أنني استدعيت من الخارج رجالا قديرين على وضع قوانين صالحة ملائمة لروح البلاد وطبائع أهلها، وسيكون اجتماعهم في دمشق أو في غيرها من البلاد العربية لعقد مؤتمرهم، وسأنظر بأعجل وقت بشؤون الأوقاف والكنائس وردّ حقوقها المغصوبة من قبل الأتراك ونعطي كلّ ذي حقّ حقّه. وأطلب من أخواني أن يعتبروني كخادم للبلاد. إنكم أعطيتموني البيعة بمنتهى الإخلاص والرضاء فأقابلها بالقسم العظيم أني «1» لا أفتأ عن نصرة الحق وردّ الظلم وكل ما يرفع شأن البلاد.
أرغب إلى الأهالي أن يؤازروني بالعمل في خدمة الجامعة إلى أن يلتئم مجلس الأمة، فأقول حينئذ هذه بضاعتكم ردّت إليكم. إن حلب خالية من المدارس فأتمنى لها مستقبلا علميا باهرا كما كانت عليه بالتاريخ. وأرجو أخيرا صرف الهمة والفعالية لأمرين مهمّين:
(1) حفظ الأمن العام. (2) ترقية المعارف. فو الله لا يمتاز أحد عندي إلّا بفضله وعرفانه.
عند مروري من حماة أثرت همة الأهالي بكلمات وجيزة للعناية بالعلم وافتتاح المدارس، وبجلسة واحدة تبرع بضعة أشخاص بأربعة آلاف جنيه وأوعد الآخرون بإبلاغهم 12 ألف جنيه. وسأستدعي حضرات الأهالي بحفلات خاصة للعناية بهذا المشروع الهام مشروع(3/514)
العلم، روح البلاد ونفع العباد، ويمتع الأمة بالحياة الرغيدة. والسلام» . اه.
أقول: إن هذا الخطاب قد جمع فأوعى، وحقيق لمن يورده ارتجالا وبديهة أن يكون في عداد الطراز الأول من الذين أوتوا أكبر نصيب من علو المدارك وصفاء القرائح. على أن العبرة للمعاني لا للألفاظ؛ إذ هي بمنزلة الروح، والألفاظ كالأجسام والجسم بروحه لا بشكله، وإلا استوى الحيوان والجماد.
سفر الأمير فيصل:
ليلة الخميس عاشر صفر سنة 1337 ورد على حضرة الشريف الأمير فيصل برقية فحواها أن يشخص على الفور والعجلة إلى مكة المكرمة لمقابلة حضرة الملك والده العالي، ثم يسافر من مكة إلى باريس ليمثّل والده في مذكرات الصلح العام الذي ينعقد هناك قبل انقضاء مدة الهدنة. وفي صباح يوم الخميس هرع لوداعه العلماء والرؤساء الروحيون والوجهاء والأعيان من كل ملة، وبارح حلب قاصدا جهة الحجاز المباركة.
وفي هذا اليوم وصل إلى حلب وفود من علية أهل الشام وحمص وحماة لزيارة حضرة الأمير الشريف فيصل وعرض إخلاصهم عليه وتأكيد روابط المحبة والإخاء بين أهل بلادهم وأهل مدينة حلب. وبعد قدوم هذه الوفود بأيام قليلة أدبت لهم بلدية حلب في فندق البارون مأدبة حضرها الجمّ الغفير من الوجهاء والأعيان والشعراء والخطباء فتليت الخطب وأنشدت الأشعار وكانت مأدبة حافلة.(3/515)
كلمة في بني عثمان
نأتي هنا بنبذة نبين فيها بعض ما كان لسلاطين آل عثمان على العالم الإسلامي من الأيادي البيض التي توجب على كل منصف أن ينظر إليهم بعين التجلّة والاحترام، ويغضّ الطرف عن بعض هنات كانت تصدر عن بعضهم بمقتضى المحيط الذي وجدوا فيه، أو بحكم التقاليد والتطور الزمني، لا بمقتضى عواطفهم التي فطرت على محبة العدل والتمسك بأهداب الشرع والحرص على اتباع أحكامه، كما يظهر ذلك من تراجم أحوال السلف الصالح منهم.
إن الدولة العثمانية هي الدولة الوحيدة التي بواسطتها لمّ الله شعث العالم الإسلامي، واستأنف مجده وأعاد عزّه وأطلع في سماء الشرف شمسه بعد أن تشتت شمله وذلّ أهله وكادت تطفأ أنواره وتخسف أقماره. فإن كل من تصفح وجوه التاريخ الإسلامي وأحاط علما بما سطّره من الحوادث والكوائن- منذ القرن الخامس إلى أوائل القرن العاشر- يتضح له جليا أن العالم الإسلامي قد وصل في آخر هذا الدور إلى الغاية القصوى من التقهقر والانحطاط، لما توالى عليه في هاتيك الأعصار من النكب والمصائب التي انتابته في الحروب الصليبية، وغارات المغول والتاتار وغيرهم من الأمم التي كانت تتظاهر بمناوأة الإسلام، ولما كانت عليه في تلك الأيام حكام المسلمين وملوكهم من الجهل والطيش والتباغض والتنافس مع بعضهم، وافتراق الكلمة والانهماك بالملذات، والمسلمون في الشرق والغرب تتخطفهم ذئاب أعدائهم كأنهم غنم، تخلّى عنها رعاتها في ليلة مطيرة، إلى أن سطع نجم الدولة العثمانية وعلا صرح مجدها وأرهبت عالم الربع المسكون سطوتها، فانتعشت روح الإسلام وعاد إلى أحسن ما كان عليه في عهد العباسيين، وخفقت راية الهلال على أصقاع عظيمة من القارات الثلاث، ورتع تحت ظل هذه الدولة- في بحبوحة الأمان والاطمئنان- مائة وعشرون مليونا من النفوس المختلفة العناصر المتعددة الأجناس، المتعاندة في الديانات والعادات، شعوب وأمم وأقوام مدنية وبدوية منبثة في تلك الممالك(3/516)
الصعبة المسالك، البعيدة الأكناف، المترامية الأطراف، التي يستحيل فيها على أعظم حكومة سائسة في تلك الأعصار- التي فقدت فيها وسائط النقل وسهولة السفر وآلات الاستخبار- أن تبث بين من في هذه المملكة من الشعوب العظيمة روح الوفاق والوئام، وتجمع بين رضاهم من بعضهم ورضاهم من حكومتهم وانقيادهم إليها طائعين مختارين شاكرين منها حامدين غير ناقمين عليها عملا، ولا منتقدين لها سياسة، مجمعين على حسن سلوكها، متفقين على حبها وولائها.
كان العدد الكبير من الملوك العثمانيين لا يقلّون بمنزلتهم- فيما شادوه في العالم الإسلامي من المآثر والمفاخر- عن السلطانين المعظّمين المعدودين من أعاظم ملوك الإسلام، وهما نور الدين محمود بن زنكي، وأتابكه المرحوم السلطان صلاح الدين يوسف ابن أيوب. بل لو تصفحت وجوه التاريخ واستقصيت أخبار هذين السلطانين العظيمين وأخبار عظماء ملوك بني عثمان؛ لظهر لك جليا أن هؤلاء الملوك أربوا- بفضائلهم وبما فتحوه من الممالك- على السلطانين المشار إليهما، ذلك أن هذين السلطانين كانا واقفين في جهادهما موقف الدفاع والمحاماة عن بيضة الإسلام في القطعة الشامية وبعض جهات إفريقية والجزيرة. أما عظماء سلاطين بني عثمان فإنهم لم يقنعوا من عدوّهم بأن يقفوا له في موقف يدافعونه به عن بلادهم فحسب، بل دفعتهم هممهم العلية وغيرتهم الدينية إلى أن يطردوه من ديارهم ثم يغزوه في عقر داره ويستولوا على أصل وطنه وقراره، ويطؤوا بحوافر خيولهم أرضا وديارا لم يطأها أحد قبلهم من خلفاء المسلمين وعظماء سلاطينهم الفاتحين.
قال الأستاذ جرجي زيدان في كتاب «التمدن الإسلامي» منوها بعظمة سلاطين بني عثمان: إنهم فتحوا القسطنطينية التي يئس ملوك المسلمين من فتحها، وحاربوا أعظم ملوك أوربا وطاردوهم إلى بلاد المجر، وحاصروا «فينّا» وأخذوا الجزية من ملوك النمسا، واكتسحوا البحر الأبيض إلى شواطىء إسبانيا، فارتعدت أوربا خوفا منهم وفتحوا الشرق إلى العراق، ثم ساروا جنوبا غربيا حتى فتحوا الشام ومصر، وامتدت ممالكهم في عهد السلطان سليمان من بودابست- على ضفاف الطونة- إلى أصوان على ضفاف النيل،(3/517)
ومن الفرات بالعراق إلى بوغاز جبل طارق، فاجتمع العالم الإسلامي تحت جناحهم واغتبط بسلطانهم «1» . اه.
خفقت رايات أولئك الملوك على معظم سواحل البحر الأبيض وسواحل البحرين الأحمر والأسود، واستحقوا أن يشاد بذكرهم على سائر منابر الأقطار الإسلامية ويلقّبوا بسلاطين البرّين وخواقين «2» البحرين، بل حق لهم أن يلقبوا بسلاطين الأقطار وخواقين البحار، ذلك اللقب التشريفي الذي لم يستحقه غيرهم من ملوك المسلمين.
تناهي السلاطين العثمانيين بالأبهة والعظمة:
ومما يدل على تناهي الصدر الأول من الملوك العثمانيين في الأبهة والعظمة ما حكاه الأستاذ الفاضل السيد محمد جميل بك بيهم في كتابه «فلسفة التاريخ العثماني» حيث قال ما خلاصته «3» :
(إن نجاح تركيا الحربي والسياسي رفعها إلى رتبة سامية شخصت إليها الأمم بأعين الهيبة والوقار، وجعلتها تلقي من عل على سائر الدولة نظرات الاستكبار «4» ، فقد أجمعت أوربا على تلقيب إمبراطورة «5» آل عثمان في مراسلاتهم بالسيد الأعظم. على حين أن السلاطين كانوا يكتبون إلى ملك فرنسة: «إليك فرنسوا» . ونقل جودت باشا أن السلطان سليمان كان يكتب إلى ملك فرنسة: «إلى فرنسيس ملك ولاية فرنسا» مما يدل على أن السلاطين العثمانيين كانوا يعتبرون الدول المعاصرة من قبيل الإمارات والإقطاعات. على أن تلقيب السلطان سليمان فيما بعد «فرنسوا» المشار إليه بلقب «باديشاه» لم يكن إلا بداعي الصداقة؛ فإن هذا اللقب لم يمنحه السلاطين [فيما] بعد لعاهل مسيحيّ إلا لقيصر روسيا سنة 1774 م/ 1188 هـ، وكانوا يضنّون بهذا اللقب على إمبراطورة «6» ألمانيا، ولا(3/518)
يعتبرون هؤلاء إلا بمثابة ملوك المجر التابعين للباب العالي، الذين يؤدون الجزية عن يد وهم صاغرون.
وكانوا يتعالون عن التقييد بالمعاهدات مع العواهل، ويأنفون- إذا وعدوا أحدا منهم بالمساعدة- عن أن يدونوا وعدهم، مكتفين معه بمجرد كلام. وكذلك كانوا يأنفون من نصب سفراء لهم في عواصم الدول الأجنبية؛ لاعتقادهم أنهم في غنى عن سائر العالم، وأنه على رجال الممالك الأجنبية المحتاجة إليهم أن يحجّوا إلى القسطنطينية عاصمة الكون.
وكان على سفراء الدول عند الملوك العثمانيين أن يقدموا للسلطان وكبراء حكومته هدايا ثمينة على سبيل الجزية. وكان السفير حين يقابل السلطان يمسكه اثنان من الحرس السلطاني من ذراعيه المكتفين ويتقدمان «1» به حتى إذا دنا من العرش خرّ مقبلا موطئ «2» قدم السلطان. تلك بعض الأمثلة من أدلة العظمة التي كان عليها العثمانيون في عصرهم الذهبي وتلك الأيام المتداولة بين الناس) .
أسباب انقراض الدولة العثمانية:
ذكر العلامة المؤرخ السيد محمد كرد علي- في كتابه خطط الشام- أسباب انقراض هذه الدولة نقلا عن مؤرخ تركي، فقال ما خلاصته:
إن لأسباب انقراض هذه الدولة عوامل كثيرة أهمها:
(1) انقطاع البطولة من المسلمين وقيام الأتراك سدا أمام النصرانية، وبذلك جلبوا عليهم خصومة أوربا المسيحية جمعاء، فكانت مطارق المسيحيين تتساقط على رؤوس الأتراك مدة قرون.
(2) إقرار تركيا العناصر المختلفة- المنضوية تحت رايتها- على ألسنتهم ودياناتهم، ففتحوا للأجانب سبيل التدخل في شؤون الدولة الداخلية فكانوا سببا لانقراضها.
(3) تدخل الدين في مصالح الحكومة وعدم قيام بناء الدولة على ما يجب.(3/519)
(4) جهل الملوك واستبدادهم وسفاهتهم.
(5) تربيتهم رجالا من العناصر المختلفة كالعرب والأرمن وتسليمهم أمور الدولة.
(6) هوس روسيا بالانتقام لمملكة بيزنطية، واستمرارها على محاربة تركيا لتحقيق هذا الغرض.
ثم قال المؤرخ التركي ما معناه: إن الحكومة العثمانية تذرعت بالمعنويات دون الماديات، وإنها بدلا من تجمع العنصر التركي تحت علم واحد صرفت جهودها إلى أواسط إفريقية وإلى أوربا، وأهملت العالم التركي الذي كان يجعلها في حرز منيع من غارات أوربا ويكفيها شرّ عداوتها، وإنها جعلت للغة العربية والفارسية سبيلا للعبث باللغة التركية فعاث بأهلها الفقر والجهل.
قال الأستاذ السيد محمد كرد علي، بعد أن أتى على ذكر هذه الأسباب مفصلا: ونحن نقول إن السبب الأعظم لانقراض الدولة العثمانية تغافلها عن تقليد الغرب في الماديات والمعنويات، فظهر على توالي القرون الفرق بين الخامل والعامل. وإن تركيب الدولة من عناصر مختلفة- معظمها غير مسلمين- كان من جملة الدواعي في عدم تركيبها تركيبا مزجيا، خصوصا ومعظم تلك العناصر أرقى من الترك الأصليين عنصرا أو أكثر ذكاء وأعظم تاريخا، ولا عيش للمتوسط مع الذكي، وإذا أخضعه لسلطانه بالقوة فإلى حين.
أقول: ليس جميع ما ذكر المؤرخ التركي- من أسباب انقراض الدولة العثمانية- مما يسلّم به جدلا. ولولا خوف الإطالة لفندنا معظمه. على أن هناك سببين قويين لانقراض الدولة العثمانية أشار المؤرخ المذكور إلى أحدهما، ولم يوفّه حقه من التفصيل والبيان وأهمل ذكر الآخر بتاتا:
أما السبب الأول الذي أشار إليه: فهو عداء روسيا وإرهاقها تركيا بالحروب مدة قرون طويلة، بحيث كانت لا تدع لها مجالا لتنظيم صفوفها وإعداد قواتها البحرية والبرية للحرب التالية إلا وتباغتها بالحرب مباشرة أو بالواسطة.
فروسيا هي التي كانت تعوق تركيا عن مماشاة أوربا في مهماتها الحربية وأعمالها الاقتصادية؛ لأنها كانت متى أحست بنسمة انتعاش تهب عليها تعاجلها بالحرب مباشرة(3/520)
أو تسعى بعرقلة مساعيها بواسطة إثارة القيام عليها من قبل إحدى الأمم التي تمت إليها بأواصر العنصرية أو وحدة المذهب.
سبب هذا التسلط:
وكان سبب هذا التسلط غلطة من الملوك العثمانيين أوقعهم فيها اغترارهم بقوتهم واستخفافهم بقوة روسيا، وإهمالهم ردعها حينما كانوا قادرين عليه، ومغادرتهم إياها متسلطة على ممالك خانات «1» القريم.
وبيان ذلك أن خانات القريم والدشت كانوا هم المسيطرين على الروس مدة مئة وخمسين سنة، بحيث كان كناز الروس كالعامل لهم على مملكته، كما أشرنا إلى ذلك في الفصل الذي سبق بيانه من هذا الجزء تحت عنوان (إجمال في الأتراك) . ثم لما وقع الخلف بين خانات القريم والدشت، ودخل تيمورلنك بلادهم وخربها واستولى على قسم عظيم منها- واشتغل الخانات بقتال بعضهم- اغتنم الروس هذه الفرصة وقاموا نحو بلاد الدشت، فطمت بحار غلبتهم عليها وكادوا يعمّونها بالاستيلاء، وكان الملوك العثمانيون- في ذلك العهد- في عصرهم الذهبي، بحيث كان يمكنهم أن ينضموا إلى خانات القريم ويصدوا تغلب الروس عليهم، غير أنهم تركوا الخانات وشأنهم مع الروس، قصد أن توهنهم الروس وتضعف سطوتهم، وحينئذ يجهز العثمانيون على ما تبقيه الروس من بلادهم فيستولون عليها بأدنى عناء.
ووجه الغلط في هذه المسألة هو أن العثمانيين- اغترارا بقوتهم- لم يفكروا بأن ممالك الخانات كانت سدا منيعا بينهم وبين الروس، كما أنهم- استخفافا بالروس- لم يخطر لهم على بال بأن روسيا ستبلغ باستيلائها على ممالك الدشت والقريم غاية القوة والعظمة، وأنها متى استولت على ذلك السدّ تجرّها عظمتها إلى الطمع بالمملكة العثمانية والاستيلاء على القسطنطينية مملكة البيزنطيين.
السبب الثاني لانقراض الدولة العثمانية:
السبب الثاني لانقراض هذه الدولة هو جنودها المؤلفة من الانكشارية، فإنهم بعد أن افتتحت الدولة بسيوفهم ذلك الملك العظيم داخلهم الغرور واستولى عليهم الكسل والشّره(3/521)
بالمال، وأصبحوا مدة قرنين عونا على الملوك العثمانيين بعد أن كانوا عونا لهم، فكان قيامهم على أولياء أمورهم في مدد متواصل وإثارتهم الفتن والقلاقل في البلاد، وتسلطهم على الرعايا، في استمرار غير منقطع. وفي كثير من الأوقات بينما كانت الدولة في ارتباك وشغل شاغل من أمر أولاء الجنود؛ كانت روسيا ترهقها بالحرب اغتناما لفرصة اشتغالها بتسوية أمور داخليتها.
وكان سبب بلوغ الانكشارية تلك الدرجة من العتوّ والتمرد غلطة الصدر الأول من الملوك العثمانيين، وهي أنهم كانوا يبالغون بالإحسان إلى الانكشارية ويعاملونهم معاملة الوالد الشفوق على ولده الوحيد حتى نبهتهم تلك المعاملة إلى عظم شأنهم وعرفتهم أنهم هم روح المملكة وأولياء نعمة ملوكها وشعوبها، فهاموا بهذه الخيالات وطغوا وبغوا، وأصبحت المملكة العثمانية في أيديهم كسفينة تتقاذفها عواصف شرورهم، فلم يستطع السلاطين ردعهم ووقف تيار غلبتهم إلا بعد مشقات عظيمة أشرنا إلى بعضها في الإجمال الذي ذكرناه في هذا الجزء تحت عنوان «نبذة في الكلام على هذه الطائفة» فراجعه.
أسباب سرعة سقوط العراق والشام:
لا ريب في أن سرعة سقوط العراق والشام في يد إنكلترة وخروجهما من يد العثمانيين لم يكن إلا بسبب تقاعد أهل هذه البلاد عن مظاهرة جيوشهم وشدّ أزرهم، خصوصا أهل العراق وأهل سوريا الجنوبية من حضر وبدو فإنهم لم يقنعوا بالتقاعد عن نصرة تركيا فحسب، بل ظاهروا جيوش الدولة البريطانية وأعانوهم على الجيوش العثمانية بكل ما استطاعوا، فاستولت جيوش إنكلترة على هذه البلاد بأقرب وقت، ولولا ذلك لما تمكنت هذه الجنود من الاستيلاء عليها في أقل من بضع سنوات إن لم يحدث في الكون ما يعوق استيلاءهم عليها ويبقيها في يد العثمانيين.
على أن لمظاهرة أهل تلك البلاد الجيوش البريطانية أسبابا عديدة أخص منها بالذكر هنا نفرة قلوب أهلها من تركيا بسبب أغلاط ارتكبها الاتحاديون اغترارا بأنفسهم.
وكان بعض المحامين عنهم يعتذر لهم بقوله: إن جميع ما أتوا به من الأسباب التي نفّرت قلوب الرعية لم يقصدوا بها سوى المصلحة العامة دون المصلحة الخاصة، وإنهم لم يفعلوه إلا بنيّة خالصة وغرض عام، غير أن الأقدار لم تساعدهم فما كان غلطهم إلا من قبيل(3/522)
الخطأ بالاجتهاد لا يسألون عنه أمام الله وأمام الناس ما دامت نياتهم بإتيانه حسنة.
نقول: إن الخطأ بالاجتهاد المعفوّ عنه إنما هو خطأ الأئمة المجتهدين في مفهوم المتشابه من القرآن والحديث، فإن المجتهد منهم في ذلك إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر.
أما المجتهد المخطئ من غيرهم فإنه مؤاخذ على خطائه بل تكون عقوبته على قدر المضرّة التي تنشأ عن خطائه ردعا له عن التهور فيما لا يدري عاقبته. فالاتحاديون الذين أخطئوا باجتهادهم في مسائل هذه الحرب لا يسامحون بخطائهم؛ لأن الضرر الذي نشأ عن خطائهم كان عظيما.
على أن النتائج السيئة التي نتجت عن اجتهادهم بديهية لا تحتاج إلى إمعان فكرة وإجهاد قريحة، فما هو إلا من قبيل التهور والهجوم على خطر محسوس. وحسبهم موجبا للمؤاخذة استبدادهم في أعمالهم وتركهم الشورى المطلوبة شرعا وعقلا. هذا إذا قلنا إن جميع ما أتوا به من الأغلاط المنفّرة مما يحتمل الاجتهاد. والحال أن كثيرا من المنفّرات التي أتى بها بعض زعانفهم لم يحملهم عليها سوى الطمع والشره في أموال الدولة والرعية، كما أن كثيرا مما أتى به بعض المنتسبين إليهم من المنفّرات لم يبعثهم على إتيانه باعث سوى الميل إلى الهوى ومطاوعة النفس البهيمية، ومنها ما دعاهم إلى إتيانه مجرد الاستخفاف بالدين واعتقادهم المغلوط بأن الدين مناف للمدنية.
ومن غرائب تهور سفهاء الاتحاديين وقلة تبصرهم أنهم اختاروا في جميع أعمالهم المتعلقة بهذه الحرب طريقة الإفراط المحض، فطرحوا المعاملة بالرفق والمواساة، واستعملوا في كل حركة من حركاتهم الشدة والعنف. وكانوا إذا نهاهم عن ذلك ناه وأرشدهم إلى استعمال الرفق في موضعه والعنف في محله قالوا له: إن هذه الحرب هي حرب حياة أو ممات لا واسطة بينهما. وقد غاب عنهم أن ولاة الأمور في الدولة الضعيفة هم بمنزلة الطبيب للمريض، أيسوغ للطبيب الأمين الحاذق أن يضجر من مريضه ويجازف في حياته ويصف له دواء شديد التأثير يكون فيه للمريض حدّ الفصلين إما أن يميته وإما أن يحييه؟ كلّا، ثم كلّا. بل الحكمة البالغة ومواجب الصنعة يقضيان على ذلك الطبيب أن يستكين إلى الأناة والتؤدة في تطبيب مريضه، وألا يحمله الضجر على اليأس من شفائه ما دامت فيه نسمة حياة، وأن يلطف له الدواء مهما أمكن ويستسلم في تأثير دوائه إلى عوامل القدرة(3/523)
ولا يخرج في تطبيبه إلى حد الخطر على حياته، فإن أبلّ من مرضه فذاك هو المطلوب، وإلا فلا ملام عليه.
ذكر طائفة من الأمور المنفّرة التي كانت أثناء الحرب، وهي تهور جمال باشا وقلة تبصره:
من تهوّر جمال باشا- وهو أول شيء دل على طيشه- أنه لما قدم إلى حلب لأول مرة أصدر أمره إلى الوالي جلال بك بأن يحمل الناس على الصعب والذّلول، ويسوقهم فورا إلى جهة «راجو» ليعملوا في تسوية طريق سكة حديد بغداد. وكان صدور أمره هذا ليلا فلم يسع الوالي مخالفته «1» . وفي الحال أمر رئيس الشرطة أن يسوق الناس إلى تلك الجهة بأسرع ما يمكن، فأوعز رئيس الشرطة إلى رجاله أن يطرقوا الأبواب على الناس ويوقظوهم من مضاجعهم، ويقبضوا على من يرونه في طريقهم من الرجال ويسوقوا الجميع إلى تلك الجهة بلا تفريق بين رفيع ووضيع. ففعلوا ما أمروا به وساقوا الناس بثياب نومهم، ومنهم من نجا من شر هذه البلية بنقود دفعها للشرطة.. ولما وصلت هذه الجموع إلى جهة «راجو» قابلهم ضباط عسكريون وقالوا لهم: لأي شيء حضرتم إلى هنا؟ قالوا: لأجل العمل بالطريق. فقالوا لهم: أبأيديكم تحفرون التراب وتقلعون الحجارة؟ وبأي مكان تنامون؟ وأيّ طعام تأكلون؟ ارجعوا إلى حيث جئتم، لا عمل لكم عندنا، ولا مأوى ولا قوت. فرجعوا على أسوأ حالة وقد عرى أكثرهم الذّرب من برد الخريف وقلّة الزاد.
نحن لا نعدّ هذا العمل مظلمة من جمال باشا؛ لأن عمل هذا الطريق أمر واجب في أيام هذه الحرب، وإنما نعد التسرع في سوق هؤلاء على هذه الصفة خرقا «2» وقلّة اكتراث بعباد الله. أما كان الواجب عليه قبل سوقهم أن يعدّ لهم ما يأكلون ويهيئ لهم خياما يأوون إليها وأدوات يشتغلون بها ولو كان ذلك كلّه من أموالهم؟ وإنما أرهقهم بالسفر ولم يترك لواحد منهم مجالا لأن يلبس ثوب يقظته، مع أنه يعلم أن الموضع الذي يساقون إليه خلو من كل ما يحتاجون إليه في أنفسهم وعملهم.(3/524)
ركوب جمال باشا بالعظمة والأبهة:
ومن خشونة أخلاق جمال باشا- التي زادته في القلوب نفرة- أنه كان يركب في البلد لبعض شؤونه فيحف به عدد وافر من الفرسان المسلحين يسيرون على صورة رهيبة كأنهم في بلد عصى أهلها على الدولة أو خرجوا عن طاعتها، فكان الناس يقولون نحن لا نحتاج إلى إرهاب لأننا مطيعون للدولة مخلصون بمحبتها، والأولى بجمال باشا أن يسير بهذه المواكب تجاه أعداء الدولة إرهابا لهم لأنهم أولى منا بالإرهاب.
انهماكه في المعاصي:
ومما نفّر عنه القلوب انهماكه في الملذات وإرصاده لنفسه- في كل بلدة ينزلها من بلاد سوريا وفلسطين- عاهرة يواصلها ويصرف عليها النقود الكثيرة. وربما استقضته مصالح هامة تجني من ورائها المبالغ الطائلة. ولا يخفى على المتبصر ما يجرّ هذا الانهماك من فساد أخلاق الضباط والجنود الذين هم تحت إمرته على حد قول الشاعر:
إذا كان ربّ البيت للطبل ضاربا ... فلا تلم الصبيان يوما على الرقص
تسلط المأمورين على التجار وأخذ الذهب منهم بالورق:
ومن التعديات الفظيعة تسلّط المأمورين العديمي الإنصاف من كل صنف- خصوصا الشرطة ورجال الدرك- على التجار وفقراء الباعة، بتكليفهم إياهم أن يبيعوا منهم بضائعهم بعملة من الورق النقدي على أسعار النقود المعدنية الذهبية والفضية، وأن يسددوا ما يزيد لهم من قيمة الورقة بنقود معدنية على السعر المعتبر عند الحكومة. مثلا يشتري شرطي رطل خبز من امرأة فقيرة بثلاثين قرشا- حسب تنبيه الحكومة- فيدفع لها ورقة نقدية سعرها عند الحكومة مائة قرش، وسعرها في التجارة ثلاثون قرشا، فيكلفها أن تقطع عليه ثلاثين قرشا- وهي قيمة الخبز- وتدفع له الباقي وهو سبعون قرشا نقودا معدنية، فتخسر سبعين قرشا وهو مبلغ يستغرق جميع رأسمالها. وكان الكثير من الضباط والمأمورين العثمانيين يكلفون التجار بأن يصرفوا لهم الورق النقدي بالنقود الذهبية رأسا برأس، فإذا امتنع التاجر عن إجابة طلبهم أهانوه وهددوه. وكان الناس يخافون من الضباط خوفا شديدا لأن كل واحد منهم مستبد بعمله مع الرعية يمكنه أن يتصرف بهم كيفما شاء.(3/525)
وعليه فإن التاجر معذور على إجابة طلب الضباط، فيصرف لهم الورقة النقدية التي سعرها في التجارة ثلاثون قرشا مثلا بليرة من الذهب قيمتها في التجارة مائة وسبعة وعشرون قرشا، فيلحقه بسبب هذه الصّرافة خساة عظيمة. وكثيرا ما كان الوالي والقائد العسكري يعرضان على جماعة من التجار أن يصرفوا لهما خمسة آلاف ورقة نقدية مثلا بخمسة آلاف ليرا ذهبا، بحجة أنهما يريدان شراء مواش من العربان الذين لا يقبلون قيمة مواشيهم إلا نقودا ذهبية.
وقد سبق لنا بيان فساد هذا العذر في الكلام على حوادث سنة 1333.
إخراج الناس من بيوتهم قهرا:
ومن الأحوال التي نفرت القلوب إخراج أسر كثيرة من أماكنهم جبرا قسرا وجعلها مسكنا لضابط أو مستشفى، أو محلا لإقامة العساكر أو مستودعا للذخائر والمهمات.
وكانت جهة العسكرية لا تهمل سكان هذه المحلات غير مدة قليلة بحيث لا يمكنهم أن يتمكنوا في خلالها من أن يظفروا بمكان يأوون إليه، فمتى انقضت مدة المهلة تهجم الجنود على المحل ويخرجوا منه أهله ويأخذوه مجانا بلا أجرة، وربما دفعوا لصاحبه بعد عناء طويل أجرة ورقا نقديا لا تبلغ خمس أجرته الحقيقية بل هي لا تفي بما هو محتّم على المحل من الضرائب الأميرية التي لا بد من دفعها، سواء انتفع به صاحبه أم لم ينتفع.
ثم لا تسل عما يجري على المحل الذي يحتله العسكريون من تحطيم البلاط وتكسير الملاط «1» ، وتشويهه بالدخان وحرق أغلاقه وتحطيم زجاجه. هذا ما كانت تفعله في المحلات المذكورة عساكر الأتراك، أما عساكر الألمان فإنهم كانوا يأخذون المحلات اللازمة لهم من أهلها برضاهم وحسن اختيارهم ويدفعون لهم أجرة مثلها وزيادة، وهم مع ذلك محافظون على عمرانها بل ربما صرفوا على تحسينها شيئا من أموالهم، فلذا كان الناس يرغبون معاملتهم ولا يمتنعون عن إجابة طلباتهم.
تظاهر جهلة الأتراك ببغض العرب:
ومن الأمور التي كانت تنفّر قلوب أهل البلاد العربية وتسيء ظنونهم بنوايا الدولة العثمانية: ما كانوا يسمعونه من وقت إلى آخر من الألفاظ القبيحة التي يفوه بها سفهاء(3/526)
الأتراك من مذمة أبناء العرب وشتمهم وسبهم بكل صراحة، وقذفهم العرب بالغدر والخيانة وتهديدهم بالمهلكات في مستقبل أيامهم. وكنا نسمع هذا الكلام وأشباهه من الأتراك المعدودين من عقلائهم فضلا عما كنا نسمعه من غوغائهم وجهالهم حتى من بعض النساء والصبيان. وهذا كله عدا ما كنا نراه صريحا واضحا في الصحف التركية من العبارات الدالة على استخفاف الأتراك بالعرب وقلة اكتراثهم بصداقتهم.
وذلك أن طائفة من الاتحاديين الطائشين كانوا ينادون بالصحف الإخبارية التركية أن الواجب على كتبة الأتراك وأدبائهم أن يطرحوا من كتاباتهم الكلمات العربية ويهجروها من كلامهم بتاتا، ويقتصروا في عباراتهم على اللغة التركية المحضة التي هي لغة «جفطاي» أحد أجدادهم، وأن طائفة من الأتراك كانوا يقولون بلزوم ترك تلقيب السلطان بالخليفة، وأن يكون عنوان السلطان (ايمبراطور) ، وأن تضرب الحكومة التركية الصفح عن بلاد العرب التي لا خير فيها، وتقتصر على البلاد التي يسكنها العنصر التركي فقط، وأن تصرف فكرتها إلى افتتاح تركستان وتجمع تحت رايتها العنصر التركي (وهي فكرة مضى أوانها) وأن لا تحفل بالعرب ولا ببلادهم.
وشاع بين الناس أن كبار زعماء الاتحاديين قرروا بأن يتركوا العرب القاطنين في البلاد العثمانية- أي يضطروهم إلى أن ينسوا لغتهم ويصيروا أتراكا- وذلك بأن ينقلوا من البلاد العربية أسرا كبيرة إلى البلاد التركية ويزاحموا البلاد العربية بنقل أسر كبيرة تركية إليها، فيتغلبوا على بقايا أهلها وتنقلب لغتهم إلى التركية. وقد باشروا تنفيذ هذا القرار بالفعل وشرعوا بإجلاء بعض أسر كبيرة من دمشق إلى البلاد التركية بغير سبب معقول.
فيا عجبا ممن كان يوسوس بهذه المخازي التي كانت السبب الأعظم في افتراق كلمة الترك عن العرب بعد اتحادها مئات من السنين، وضياع هذه البلاد العظيمة من يد الدولة العثمانية التي كان يخلص في محبتها كل ذي حميّة من العرب.
تعليم البنات فن الرقص والتمثيل:
وكانت قلوب المسلمين عموما والأمة العربية خصوصا- لما امتازت به عن سواها من قوة الإحساس والشعور- تزداد نفورا واشمئزازا كلما ترى صحف الأستانة تكتب المقالات الضافية في أثناء الحث على تعليم البنات وتهذيبهن، مشيرة إلى لزوم افتتاح أماكن(3/527)
يتعلمن فيها أصول الرقص وأعمال التمثيل المعروفة بالتياترو، وأن يستخدمن في الحكومة كالرجال.
إن عقلاء الأمة العربية لا ينكرون وجوب تعليم البنات وتهذيبهن إلى حدّ لا يتعدى ما يلزمهن في تحسين الأحوال المنزلية والتربية العائلية؛ وإنما ينكرون لزوم تعليمهن أصول الرقص وأعمال التمثيل والاستخدام في دوائر الحكومة، ويقولون حينما يقرءون تلك المقالات: إذا كان غرض الحكومة من إيصال البنات إلى هذا الحد هو الاقتداء بأوربا لتترقى بلاد هذه الحكومة كترقي أوربا فإن أوربا لم تجعل إيصال البنات إلى هذا الحدّ أول خطوة من خطواتها في سبيل التقدم والرقي؛ وإنما كانت الخطوات الأولى منها في ترقّيها وتقدمها هو»
ممارسة العلوم النافعة العمرانية التي لا يتم للأمم أمر العمران إلا بإحرازها منها النصيب الأوفر، لا من علوم الرقص والقصف ودواعي الفجور والشرور.
على أن فن الرقص والتمثيل العلمي لا بدّ وأن يتقدمه علم الأخلاق وتهذيب النفس؛ وإلا كان مدعاة لفساد أخلاق الفتاة وتلويث شرفها. ثم لنفرض أن تعليم البنات الرقص وفنون التمثيل أمر مستحسن؛ إنما كان التجاهر به في هذا الوقت غير مستحسن لأنه مخالف لتقاليد هذه البلاد التي يرى أهلها المسلمون أن التمسك بالشرع من أعظم أسباب الانتصار في هذا الوقت الحرج.
إفساح الحكومة مجال البغاء:
ومن المنفّرات العظيمة أيضا إفساح الحكومة مجال البغاء، وتكثير فتح أبواب العهر وشدة العناية بتيسير وسائط الوصول إليه في أكثر البلاد العثمانية، حتى كان لحلب من هذه الوسائط النصيب الأوفر، فقد فتح فيها على صفة رسمية ما ينوف على مائتي بيت يجمعها اسم «المنزول» أي الماخور. هذا عدا مئات من بيوت العهر غير الرسمية التي كانت متفرقة في المحلات بين البيوت والمنازل التي يسكنها أهل العرض والناموس، فكان الإنسان إذا رفع خبر بيت من هذه البيوت المدنسة إلى الحاكم لينقل أهله إلى «المنزول» بحسب أحكام القانون يكن «2» جواب الحاكم قوله له: (ليس لنا أن نخرج صاحبة هذا البيت من بيتها(3/528)
إذا لم يظهر منها لجيرانها «زررتي» - يعني بهذه الكلمة فتنة أو استعمال سلاح أو تلويث باب دار جار- أما ما دامت تجري شؤونها، ولا يظهر بسببها للجيران شيء من الإضرار المذكورة فليس لنا عليها من سبيل) .
على أن الذي كان يدافع عن أمثال هذه البيوت ويقف في وجه المشتكين منها هم رجال الشرطة أو الضباط العسكريون؛ لأنهم هم الذين كانوا يترددون عليها للعهر، أو كانوا يأخذون من كل بيت منها راتبا أسبوعيا ليدافعوا عنها تجاه أهل المحلة ويحموها ممن يسيء معاملتها من الزبائن. فكان أهل العرض والشرف المجاورون هذه البيوت المدنسة يتكبدون كل ضرر من جوارهم، ويسلبون الراحة والقرار في الحرص على حريمهم وبناتهم كيلا يلحقهن شيء من فساد الأخلاق بسبب الجوار، الأمر الذي أصيب به كثير من الناس وأصبحوا منكسي الرأس.
وبينما كان الناس يتضجرون من كثرة المومسات ووفور بيوت الريبة؛ إذ أصبحوا- وهم في أواخر أيام هذه الحرب- فرأوا في محلة «بحسيتا» بيوتا علّق على أبوابها ألواح كتب فيها (ملاقاتخانه) نومرو (كذا) ، أي محلّ لقاء. فسألنا عن المراد من هذه البيوت، فقيل لنا: المراد منها تسهيل الوصول إلى المحبوب لذوي الهيئات الذين يتحاشون الدخول إلى «المنزول» . فعجبنا من اعتناء الحكومة بهذه الأمور الرذيلة، في الوقت الذي تقضي فيه عليها السياسة- فضلا عن الدين- أن يكون تباعدها عنها فوق كل تباعد رعاية لعواطف الرعايا المسلمين. والغريب أن المراجع التي كان يلجأ إليها المشتكي من هذه الأحوال السيئة أصبحت مراكز للمومسات ومصائد لاقتناص الحرائر وإيقاعهن في شبكات الفجور. فقلما كان الإنسان إذا راجع المخفر للتشكي من هذه الأحوال أن لا يرى فيه عاهرة أعدّت لرئيس المخفر أو لأحد مقرّبيه، أو يرى فيه حرّة لها حاجة عند هذا الرئيس قد أمسكها وماطلها لينال منها أربه أجرة له على قضاء حاجتها، فإما أن تضحي شرفها وإما أن تخسر حاجتها.
وكانت نساء العساكر اللواتي يأخذن الرواتب الشهرية من الحكومة- في أثناء غياب أوليائهن- عرضة لبذل شرفهن إلى الشرطة المنوط بهم التصديق على حاجتهن للمعاش، وإلى جباة الأموال المعروفين بالتّحصلداريّة وجماعة كتاب الديوان. فكم من محصنة من هؤلاء النسوة اضطرت أن تبذل صيانها لأمثال هؤلاء لتأخذ مرتّبها الشهري(3/529)
الحقير الذي لا يفي باقتياتها سوى يومين من الشهر. وكم جرّت الحاجة أمثال هؤلاء النسوة إلى منتهى درجات التبذل، حتى صرن يجلسن في الشوارع والطرقات عرضة لخطّاب العهر ينلن منهم دريهمات يصرفنها على القوت الذي يحفظ عليهن رمقهن. ومن هؤلاء النسوة من يعز عليهن شرفهن فلم يرضين أن يحفظن رمقهن ببذل شرفهن، فاخترن ما هو أخفّ وطأة من هذا، وصرن يتعاطين السرقة بأنواع الحيل والدسائس فينالهن بسبب هذه المهنة من المكروه والإهانة ما لا يعلمه إلا الله تعالى. ومنهن من لم ترض بهذا ولا بهذا؛ بل حملها شرف نفسها على أن تحفظ رمقها بالتسؤّل والجلوس في الشوارع، ومدّ يدها إلى استعطاف المارّين والعابرين، فكانت تقضي سائر نهارها ولا تجمع قيمة خمسين درهما من الخبز لأن قيمة مائة درهم منه بلغت ستة قروش.
كان الإنسان السخيّ يتصدق قبل هذه الحرب على واحدة من أمثال هؤلاء الفقيرات بربع القرش، فتعدّ صدقته كثيرة لأن أكثر الناس يتصدق أحدهم على أمثالها بثمن القرش أو بنصف ثمن القرش، وكانت الفقيرة تعيش من هذه الصدقة الطفيفة عيشة كافلة حياتها واقية نفسها من كوارث السغب وكواسر العطب. أما بعد حدوث هذه الحرب وارتقاء أسعار الأقوات في أثنائها إلى عشرين ضعفا عما كانت عليه قبلها؛ صار ذلك الإنسان يتصدق على أمثال تلك الفقيرات بربع القرش، فترى الفقيرة صدقته جزئية لأنها مهما أعانها الحظ لا يمكنها أن تجمع في يومها ثلاثين ربعا جمعها سبعة قروش ونصف، وهي قيمة مائة وعشرين درهما من الخبز، وهو مقدار لا يكفيها وحدها فضلا عن ولدها أو أولادها المتعددين، فكانت هذه المسكينة تعجّ وتضجّ طول نهارها بل إلى وقت العتمة، وهي تستجير وتستغيث وتنادي بأعلى صوتها: (جوعانه جوعانه يا أهل الخير) فلا تجد لها راحما ولا مغيثا، حتى كأن الشفقة قد نزعت من القلوب ثم لا تلبث هذه المنكودة الحظّ حتى يدبّ الضعف في جسمها وأجسام أولادها، ويستولي عليهم المرض ويكونوا في النهاية فريسة الجوع.
كل هذا؛ وأكثر كبار المأمورين من ملكيين وعسكريين يجمعون ألوف الليرات بالتسلط على أرزاق العساكر وأموال الدولة والرعية بأنواع أساليب السلب والنهب ويصرفون ما عزّ وهان من ذهبهم الرنان على شراء الحليّ والحلل لنسائهم، والتغالي فيما يقدمونه لبطونهم وفروجهم، ولا تأخذهم رحمة ولا تهزهم شكوى في تعاسة هؤلاء الفقراء الذين(3/530)
تصدع أصواتهم شمّ الجبال، وتمطر على أولي العواطف الشريفة وابل الوبال والنكال.
كتاب «قوم جديد» :
ومن منفّرات قلوب المتعصبين للدين- من الرعايا المسلمين العثمانيين- كتاب ألفه رجل يقال له الشيخ عبيد الله باللغة التركية سماه «قوم جديد» أتى فيه بأمور لا يرضاها الحريصون على معتقداتهم الدينية. وكان نشر هذا الكتاب قبل الحرب بمدة قليلة، أي كان نشره في الوقت الذي يجب فيه نشر كتاب ديني ترضاه الخاصة وتقبل عليه العامة، ويصحح اعتقادهم بصلاح دولتهم وصدق إسلاميتها وتعصبها للدين وأهله. ويقال إن هذا الكتاب كان من أكبر العوامل التي زعزعت اعتقاد مسلمي الهند في الدولة العثمانية وجعلتهم يشكّون في صدق إسلاميتها قائلين: لولا تشوه إسلاميتها لما كانت ترضى بطبع هذا الكتاب وتسعى بنشره.
كتاب سيرة النبي:
ومن الكتب التي هي من هذا القبيل كتاب تكلم فيه صاحبه عن السيرة النبوية، ترجمه من اللغة الفرنسية «1» إلى اللغة التركية، أثبت في مقدمته شمائل وحالات للنبي عليه السلام ينكرها التاريخ ويكفّر الدين من يعتقد صحتها. ثم تكلم على شيء من سيرته عليه السلام فطوى منها كل ما يدل على روحانيته وكونه موحى إليه.
هذا التركي الذي ترجم هذا الكتاب- ونقله عن مؤلف أجنبي عن الدين- إما أن يكون اطلع على شيء من كتب السيرة النبوية التي تعد بالمئات؛ وهي من تأليف علماء المسلمين المجمع على صدقهم وسعة اطلاعهم وعلوّ مداركهم، وإما أن يكون غير مطلع على شيء من تلك الكتب. فإن كان مطلعا فكيف يسوغ له عقلا- فضلا عن الدين- أن يعدل عما قالته وسطرته علماء الدين الصادقين المدقّقين «2» إلى كتاب ألفه رجل أجنبي عن الدين، لم يستند في كتابه إلى نقل ولا رواه عن ثقة. وإن كان غير مطلع على شيء من تلك الكتب، أي كتب السيرة النبوية، ولا يعلم أنه يوجد منها غير الكتاب(3/531)
الذي ترجمه؛ كان عليه ألّا يتسرع بترجمته قبل أن يطلع عليه بعض علماء المسلمين ويستشيره بترجمته، فإن رضي أن يترجمه فليفعل وإلّا لا.
على كل حال ينبغي أن يكون مترجم هذا الكتاب شابا طائشا مغفلا، أو رجلا سيىء الاعتقاد. وعلى كل فإن الذنب كل الذنب على الحكومة التي رخصت له بطبع هذا الكتاب ونشره غافلة عما يجنيه من نفرة قلوب المسلمين وانحرافهم عن الدولة العثمانية.
التسرع بإراقة الدماء:
ومن المنفّرات الفاضحة- التي كانت من أعظم مدمرات معاهد الصدق والولاء التي شادتها الدولة العثمانية مدة أربعة قرون في قلوب الأمة العربية- تسرّع جمال باشا ورفقاه من زعماء الاتحاديين في إراقة الدماء، واستخفافهم بأرواح عدد عظيم من الأبرياء الذين هم من زهرة شبان سوريا وبيروت وحلب.
إن أهل هذه البلاد قد نسوا مناظر المقتولين والمصلوبين؛ لأنهم مضى عليهم زهاء ستين سنة ولم يروا إنسانا معلّقا على جذع، فما راعهم في هذه الأيام إلا مناظر المعلّقين كل يوم على جذع لأقلّ سبب. فاشتد عليهم هذا الحال ونفرت قلوبهم من هذه الدولة نفرة لا رجوع بعدها. كان لا يمضي علينا أيام قلائل إلا ونسمع فرقعة البنادق التي كانت ترشق رصاصها على الفارّين من العساكر فنأسف عليهم؛ غير أننا لا نلبث أن يزول أسفنا ونرى أنهم عوقبوا بما يستحقونه ثم وردت علينا صحف بيروت تخبر بتعليق جماعة من الشبيبة العربية فيها، اتّهموا بالمروق على الدولة والسعي بأن يستظلوا براية غيرها. فاستعظمنا هذا الخبر أولا ثم قلنا: لعل الذي اتّهموا به أمر واقع.
ثم لم يمض سوى قليل من الأيام حتى سمعنا بإلقاء القبض على جماعة كانوا نسبوا إلى جمعية عربية عقدت في مدينة باريس- بعد حرب طرابلس الغرب- تضم إليها زهرة من أبناء العرب مسلمين ومسيحيين، أكثرهم من جالية البلاد العثمانية اللاجئين إلى مصر وباريس، ولو ندره وأميركا. وكان الرئيس على هذه الجمعية عبد الحميد الزهراوي. وقد طبعت كتابا أثبتت فيه نبأ كل ما أجرته، ونسخة كل ما قالته في جلساتها، مع بيان أسماء من حضر إليها أو كاتبها على بعد، ممن رغب الانضمام إليها. وسطرت غير ذلك من الفصول(3/532)
والمقالات الصريحة المشعرة بالغرض من انعقاد هذه الجمعية وأحوالها وماجرياتها. وهو كتاب كبير يستغرق زهاء مائتي صحيفة، تدل مقاصده ظاهرا على أن هذه الجمعية لا تطلب من الدولة العثمانية سوى منح البلاد العربية اللامركزية على شرط بقائها تحت العلم العثماني، حتى إن واحدا من المتطرفين من رجال هذه الجمعية أشار في كلامه إلى لزوم انفكاك هذه البلاد عن العثمانية بتاتا والانضواء تحت راية دولة أخرى، فرد عليه الجميع كلامه وقالوا: لا نرضى أن يظلنا غير راية الهلال.
هذا ما يدل عليه ظاهر مقاصد هذه الجمعية. والمفهوم من مقدمة هذا الكتاب- وعبارات الخطب التي اشتمل عليها- أن الذي حمل هذه الجمعية على طلب اللامركزية أمور كثيرة يطول شرحها، وخلاصتها: استئثار دولة تركيا بدخل البلاد دون أن تترك لها منها ما يقوم بتعميرها وجعلها في عداد بلاد الأمم الراقية بمعاهدها العلمية ومعارفها العمرانية التي تثمر أطاييب الحياة لمن جناها من الأمم، وأن تركيا بسبب سوء إدارتها تركت هذه البلاد- التي هي مصدر الترقي ومهد التمدن- مهملة معطلة، أرضها موات وأهلها في عداد الأموات، وقد أهملت المعدات البرية والبحرية الحربية حتى أصبحت تعجز عن أقل عادية تطرأ على بلادها، فصارت مسرحا لمطامع الدول المستعمرة. ومن جهة أخرى خصت أبناء جنسها الأتراك بالخدم العالية، وصرفتها عمن هو أجدر بها منهم من أبناء العرب الذين يتألف منهم ثلثا أهل هذه المملكة. وزد على ذلك ما هو مشاهد من مأموريها وحكّامها من الظلم والجهل وسوء الإدارة والتجاهر بالرشوة والانهماك بالرذائل، إلى غير ذلك من الأمور التي تكون عقباها بلا ريب انسلاخ هذه البلاد من يد العثمانيين إلى يد دولة أخرى لا يبقى معها خيار للناس في كيفية حكمها عليهم.
هذه خلاصة بواعث الجمعية على طلب اللامركزية. على أننا لا ننكر وجود نافخ ينفخ في نار حميّة رجال هذه الجمعية لغرض يقصده، وهم يعلمون ذلك ولا يجهلونه وإنما اضطرهم إلى الاستكانة إليه قلّة الظهير والنصير لهم، عملا بقول الشاعر:
إذا لم يكن غير الأسنة مركبا ... فما حيلة المضطرّ إلا ركوبها «1»
إن رجال هذه الجمعية لم يكونوا هم أول من أدرك سوء مصير حالة الدولة العثمانية،(3/533)
وأحسّ بانحطاطها إلى الدرجة الأخيرة فقنطوا من صلاحها وأيقنوا بضياع بلادها فقاموا يتحدثون في طلب اللامركزية إبقاء لكيانها؛ بل البادئ بإدراك ذلك قبلهم والمتحدث به كثيرون من متبصري رجال الدولة الأتراك وعقلائهم، حتى إنهم كانوا يعلنون مداركهم هذه في صحف الآستانة ويتظاهرون باستحسان منح اللامركزية الأمة العربية وأنه أبقى على البلاد وأرفق بحالة العباد.
إن اليأس من صلاح هذه الدولة في تلك الأيام قد بلغ غايته، وإن ضعفها المتناهي الذي أهاب به انكسارها في طرابلس الغرب والبلقان قد أزال ما كان لها من الهيبة والرهبة في قلوب شعبها، فأمنوا بطشها وصار الكثير منهم ينادي علنا بلزوم اختيار دولة غربية تتولى هذه البلاد ليأمن أهلها الغوائل تحت رايتها، فكان أكثرهم يختار دولة إنكلترا، وأقلّهم يختار غيرها، وصدى ضوضائهم في اختلافهم على ذلك يدوّي في أصمخة «1» ولاة الحكومة التركية فيتصامّون عنه ولا يقدرون على ردّه.
فهل- والحالة هذه- يعدّ رجال تلك الجمعية متهوّرين؟ وهل يلامون على قيامهم لطلب اللامركزية التي هي أخفّ الضررين؟
وهب أن اللامركزيين المذكورين كانوا غير محقّين في قيامهم هذا، أفيمكن للاتحاديين أن يتبرّؤوا من وصمة الغدر بهم؟ بعد أن حلوا عقدة مؤتمرهم طوعا حينما ألانت لهم الحكومة القوله، ونادتهم بالرجوع إلى أحضانها ووعدتهم بإجابة طلبهم وأمّنتهم على أرواحهم، وأعطتهم على ذلك العهود والمواثيق، وأسندت إلى كل واحد منهم وظيفة باشرها بكل صدق وأمانة، ومضى عليه زمن طويل ولم يظهر منه أقلّ شيء يدل على سوء نيّته. وبينما كان كل واحد منهم قائما بخدمته مثابرا على عمله في إبان الحرب العامة إذ دعي إلى الديوان العرفي المفتتح في «عاليه» فاستوقف فيه موقف خصم الدولة وعدوّها، وبعد أن ذاق في سجنه أنواع العذاب وتجرّع من كأس الذل والتضييق أمرّ من الصاب «2» ، واستغرق في المحاكمة أمدا طويلا إرغاما له وتنكيلا؛ حكم عليه بقصاص القتل تعليقا «3» . ثم في(3/534)
ليلة واحدة نفذ هذا الحكم على واحد وعشرين شخصا من رجال هذه الجمعية، علّق بعضهم في بيروت وبعضهم في دمشق، كما أشرنا إلى ذلك في حوادث سنة 1334.
كان الأشخاص المقتولون من مشاهير رجال سوريا وذوي العقول المنوّرة منهم، ولهم شيعة كبيرة تسير على سننهم وتقتفى آثارهم في أعمالهم وتعتقد بهم كل فضيلة وكمال.
ولذا نقول: إن الاتحاديين أخطئوا في هذه الحادثة من عدة وجوه:
الأول: قتل الرجال المذكورين؛ لأنه كان من أكبر الدواعي لتنفير قلوب شيعتهم الكبيرة العربية من الحكومة العثمانية، في الوقت الذي كان اللازم فيه على الاتحاديين أن يجتهدوا بعمل ينشأ عنه عكس ذلك، أي بعمل ينشأ عنه تحبيب القلوب بالحكومة العثمانية واستمالتها إليهم بمقتضى موقفها الحرج الذي هو في حاجة شديدة إلى تكثير عدد الصديق وتقليل عدد العدوّ. حتى لو فرضنا أن الرجال المذكورين كانوا يستحقون القتل حقيقة؛ كان الواجب السياسي يقضي على الحكومة في هذا الوقت الحرج ألّا تقتلهم؛ بل بعد أن تحكم عليهم بقصاص القتل وتوهمهم بأن لا مناص لهم من هذا القصاص- إظهارا لقدرتها وتنويها بسطوتها- تفاجئهم بصدور العفو حلما منها وحنانا عليهم، ثم يستتابوا وتتلى عليهم النصائح والمواعظ ويقال لهم: عفا الله عما مضى ويستمالوا بالمعروف وتملك قلوبهم بالإحسان، فيندمون على ما فرط منهم ويعترفون بفضل دولتهم وفرط رأفتها وحلمها عليهم، وتتبدل عداوتهم لها بالصداقة ويخدمونها بكل أمانة وإخلاص. حكي عن إسكندر المكدوني أنه قيل له: بم نلت هذه المملكة العظيمة على حداثة السن؟ فقال: باستمالة الأعداء وتصييرهم بالبر والإحسان أصدقاء وتعاهد الأصدقاء بأعظم الإحسان وأبلغ الإكرام.
الثاني: غدر الاتحاديين بهم وعدم احترامهم وعود حكومتهم. ومعلوم أن وفاء العهد إذا كان من حيث هو واجبا فهو على الحكومة أشد وجوبا؛ لأن الحكومة قد يكفيها وفاء العهد والوعد مؤنة حرب عظيمة إذا عرفت باحترام العهود، فأما إذا كانت معروفة بإخلاف الوعد ونكث العهد فإنها تفقد الثقة من القلوب وتصبح مضطرة إلى استعمال القوة والعنف في كل غاية تطلبها. الأمر الذي يجعل الحكومة طول حياتها في تعب ونصب، ولهذا قيل فيما ينسب إلى الفرس: فساد المملكة واستجراء الرعية وخراب البلاد بإبطال(3/535)
الوعد والوعيد. ومن هذا القبيل ما أورده ابن خلدون في الفصل 19 من الفصل الثاني من مقدمته فراجعه. وقد ظهرت آثار صدق هذا الكلام فيما نتج من غدر الاتحاديين بهؤلاء الجماعة وما جنوه في عملهم هذا على دولتهم من المتاعب والمعاطب وتعجيل ضياع بلادها وتنفير قلوب شعوبها.
وقد زعم جمال باشا في مذكراته أن قتل هؤلاء النفر لم يكن مبنيا على ما صدر منهم في مؤتمرهم الذي عقدوه في باريس؛ بل كان قتلهم مبنيا على أمور صدرت منهم بعد العفو عنهم حالة قيامهم في وظائفهم. على أن جمال باشا ذكر هذا ولم يذكر شيئا مما زعم صدوره منهم بعد العفو المذكور. والحق يقال: إن إراقته دماء هؤلاء الجماعة لم يكن إلا تشفيا لغيظه من العرب، عادّا عمله هذا فوزا عظيما وانتصارا مبينا، به سماه مدّاحوه والمتقربون إليه فاتح سوريا وبطل تركيا. ولو أمنوا بطشه لسمّوه بسبب هذه الجريمة مضيّع سوريا وناكب تركيا.
والأمر الغريب أن جمال باشا بعد أن غدر بهؤلاء الرجال أحس بأن العرب قد نقمت عليه عمله وعدّته ظلما وتشفيا، فأراد أن يعتذر للعرب بقتلهم ويوهمهم بأنه لم يقتلهم إلا لأنهم يستحقون القتل لجرائم صدرت منهم، فأمر أن يلفّق له كتاب تذكر فيه جرائمهم وذنوبهم التي استحقوا من أجلها القصاص، مع بيان الأعذار الشرعية والقانونية التي دعت الحكومة إلى قتلهم. فلفق له هكذا كتاب وطبع ونشر، فكان المتبصرون من قرائه يرون أن أكثر الأعذار المستند إليها في قتلهم حجّة على جمال لا حجة له، وأن باقي الأعذار المسرودة في هذا الكتاب مما لا يوجب عليهم شيئا من العقوبة أكثر من التوبيخ أو الحبس مدة يسيرة ليس إلا. ولذا قيل إن هذا الكتاب لما اتصل خبره بالقائد العسكري الألماني معاون جمال واطلع على ما فيه بواسطة مترجمين رأى أنه مما يؤكد غدر جمال باشا وظلمه، عكس المراد منه، وأنه مما يزيد نفور الرعية من تركيا ويضاعف حقدهم عليها. فأمر بجمع ذلك الكتاب وإحراقه، فجمع منه القدر الكثير وقلّت بين أيدي الناس نسخه:
إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأوّل ما يجني عليه اجتهاده
ومن منفرات قلوب الرعية- خصوصا منهم الحلبيين- قتل أفراد منهم لأغراض دنيئة قامت في مخيلة جمال باشا زعما منه بأن قتلهم من الأمور التي تقتضيها السياسة،(3/536)
وذلك أنه قتل شابا بستانيا لوجود صندوق مدفون في بستانه فيه بعض أثواب بالية ادّعى بعض الفقراء الأرمن أن هذا الصندوق سرق من بيته. وكان هذا الشاب ممن عرف بين سائر أقرانه وأهل حرفته بالتقوى وحسن السيرة، وهو لا يعرف هذا الصندوق ولا يدري من دفنه في بستانه؟ وقد حلف على ذلك أيمانا مغلّظة وشهد بصلاحه وورعه كثير من الناس، فلم يصغ جمال لذلك ولم يمهله غير يوم واحد حتى أصبح ذلك المسكين معلّقا، فبكى عليه كل من يعرفه ودعا على جمال بالهلاك وسوء العاقبة. والمفهوم من بعض حاشية جمال أنه لم يقتل هذا الشاب لسوء ظنه به في مسألة الصندوق؛ بل هو معتقد أن الرجل عفيف بعيد عن السرقة وإنما قتله لغرض سياسي وهو جعل قتله- حين مناقشته الحساب عما أجراه من الفظائع مع الأرمن- برهانا على فرط عناية تركيا بحقوق الأرمن وشدة حرصها في حمايتهم وصونهم من التعدي، حتى إنها قتلت رجلا مسلما لمجرد قيام شبهة عليه في سرقة هكذا صندوق.
ومن الدم الذي أراقه جمال باشا لغرض سياسي يزعمه، دم شابين من أهل حلب:
أحدهما في سن الثانية والعشرين، والآخر في سن الثامنة والعشرين وهما غضّا الشبيبة منوّرا العقل، زعم جمال باشا أنهما نددا بظلم الحكومة العثمانية وألبّا عليها جموع العرب ومدحا حكومة العرب الشريفية وندبا الناس إليها. وحقيقة الحال أن الصغير منهما كثرت عليه الديون وضايقه غرماؤه فهرب من وجههم إلى جهة الباب، واجتمع في إحدى جهاتها على طريق الصدفة بواحد أو اثنين من عرب البادية وذكر لهما في أثناء حديثه معهما شيئا مما يقاسيه أهل حلب من المتاعب والمساغب وتسلّط العسكرية عليهم في هذه الأيام التي هي أيام الحرب العامة، وحكى لهما أن حضرة الشريف قام الآن على الاتحاديين لينقذ الناس من ظلمهم ليس إلا.
هذا كل ما نسب إلى هذا الشاب وجعل سببا لقتله. وأما الشاب الآخر فإنه لم يخرج من حلب ولا اجتمع بترك ولا عرب، وليس له ذنب غير كونه صديقا للأول، ولم تقم عليه شبهة توجب إراقة دمه سوى أن الشرطة لما هجموا على بيته- ليفتشوا على أوراق يستخرجون منها شبهة تثبت اشتراكه مع الأول- وجدوه يطبخ قهوة البن على أوراق يحرقها، فقالوا: لو لم يكن في هذه الأوراق ما يدعو إلى الشبهة لما أحرقها. والحال أن هذا الرجل معروف لدى جميع أصحابه أنه معتاد من القدم على أن يطبخ القهوة على نار(3/537)
الأوراق التي هي الجرائد القديمة ومسودات الدعاوي التي يوكل بها لأنه كان محاميا.
علّق جمال باشا هذين الشابين لمجرد الأسباب التي ذكرناها. على أن الديوان العرفي برّأهما ولم يعدّ هذه الأسباب موجبة لقتلهما. فأصرّ عليه جمال بأن يحرر مضبطة بوجوب قتلهما وقال للديوان: يكفي موجبا لقتلهما فرارهما من العسكرية، مع أن الأول منهما كان عسكريا بالفعل وسافر إلى الباب بالإذن، والثاني كان خطيبا مستثنى من الخدمة العسكرية بحكم القانون.
أما الغرض السياسي الذي يقصده جمال باشا من قتل هذين الشابين- اللذين أدمى قتلهما القلوب- فهو تأييد زعمه بأن عامة البلاد العربية السورية كان أهلها أعداء الدولة العثمانية، وأن أهل مدينة حلب من جملتهم. وكان ولاة حلب ينكرون على جمال هذا الزعم ويقولون له: الحلبيون لا يوجد بينهم أعداء لحكومة الأتراك، وإنهم لم يظهر منهم قطّ شبهة تدل على ذلك. فاجتهد جمال باشا بأن يظفر من الحلبيين بشيء سياسي يؤيد دعواه ويكذّب ما كان يقوله الولاة فلم يتيسر له ما أراد، وبقي سرّه منغّصا لأن عدم ظفره بهكذا شيء يجعله كاذبا في دعواه بأنه فاتح سوريا؛ تلك الدعوى المفتراة التي آيدها في بيروت ودمشق وغيرهما من البلاد السورية الجنوبية بما أراقه فيها من دماء أهلها العاصين على الحكومة على زعمه، وبقيت دعواه في مروق أهل سوريا الشمالية غير مؤيّدة. ولما حدثت قضية هذين الشابين في حلب عدّ قتلهما فرصة لتأييد زعمه وتأكيد دعواه في الحلبيين أيضا وأنه ألمعيّ لا تخيب فراسته ولا تخطىء سهام ظنونه المرمى، وأن ولاة حلب- الذين كانوا يبرّئون أهلها من شائبة المروق على الدولة- لا تحقيق عندهم ولا تدقيق.
تسلط جباة الأموال ورجال الدرك على أهل القرى:
ومن المنفّرات العظيمة التي كان يتسبب بها أراذل جباة الأموال ورجال الدرك المعرفون بالجندرمة: سوء معاملة هؤلاء لأهل القرى وتسلطهم عليهم بالسب والضرب؛ بحجة أنهم يتقاضون منهم المتأخر في ذممهم من مرتّبات الدولة عليهم كالأعشار، ورسوم الأملاك المعروفة بالوركو، والإعانات التي تجبى من الناس بأسماء مختلفة كقولهم: إعانة الكساوي الشتوية للعساكر الشاهانية، وإعانة الأسطول، والإعانة الملّيّة وإعانة المهاجرين، وغير ذلك من الإعانات المختلفة الأسماء المتحدة المعنى؛ لأن جميعها كانت ترمي إلى غرض واحد(3/538)
وهو امتصاص دم الأهلين واستنزاف أموالهم، وقلما يمضي شهر واحد إلا ويظهر فيه شيء من هذه الإعانات، فكان جباة الأموال ورجال الدرك المتقدم ذكرهم يتوجهون إلى القرى بحجة تقاضي هذه الأموال من أهلها، فيقبلون على القرية وقد قبضوا على السياط بأيديهم، فيستقبلهم أهل القرية لينزلوهم عن دوابّهم ويأخذوهم إلى دار ضيافتهم، فلا يكون سلام أولئك الظلمة عليهم سوى إعمال السياط في أجسامهم وسبّهم ومخاطبتهم بأقبح لسان.
وأول شيء يطلبونه من القروي أن يقدّم العلف لدوابّهم، فإذا لم يكن عنده شعير كلفوه أن يقدم لها علفا من مؤنته التي تتوقف عليها حياته، ثم يكلفونه أن يقدم إليهم طعامهم من اللحوم والدجاج والبيض وغيرهما من الأطعمة التي يندر وجودها عنده في أيام هذه الحرب. فإذا لم يقدر أهل القرية أن يتداركوا لهم هذه المآكل وقدّموا لهم من طعامهم المعتاد قام أولئك الظلمة عليهم وأوسعوهم ضربا وشتما، ثم هجموا على ما يرونه في القرية سارحا من الدجاج والربائط «1» التي يستخرج منها أهلها أدمهم الضروري، فيذبحونها ويأمرونهم بطبخها وتقديمها إليهم.
وإذا بصر هؤلاء اللصوص في بيت من بيوت القرية بما يعجبهم من البسط واللّبابيد أخذوه كأنه غنيمة من مال حربي، ثم يطلبون المتأخر على القرية من الأموال التي تقدم ذكرها، فيجمع لهم المختار من أهل القرية ما يقدر على جمعه من النقود ويدفعها لهم رشوة على سكوتهم عن طلب المتأخر عندهم من الأموال التي يعجزون عن وفائها لفقرهم بسبب تسلط الحكومة عليهم. وإذا كان أهل القرية لا يجدون ما يرشون به هؤلاء اللصوص فلا تسل حينئذ عما يفعلونه بهم من المظالم والفظائع، فربما كانوا يأتون بالرجل ويشدّونه بالحبال ويدهنون وجهه دبسا ويقفونه في ضحّ الشمس «2» . وربما ضربوه ضربا مبرّحا ونتفوا لحيته ولطخوها بالقذر. وقد يهرب رجال القرية من وجوههم فلا يبقى فيها سوى النساء والأطفال، وحينئذ يأتون بالمرأة المصونة ويطرحونها على الأرض ويرفعون رجليها للضرب فتبدو سوءتها لتقرّ لهم عن مكان رجل بيتها، وربما مسّ بعضهم شرفها، ثم يهجمون على(3/539)
البيوت ويستخرجون ما يجدونه فيها من المؤنة فيأكلون منه قدر شبعهم ويضعون الباقي في حقائبهم.
ولهذه الأعمال الفظيعة خرب الكثير من القرى في الجهات الشرقية والجنوبية وغيرهما من ولاية حلب وجلا أهلها عنها، وأصبحت خرابا يبابا لا أنيس فيها ولا جليس.
حبس الأقوات عن المدينة المنورة وجهات بيروت:
ومن المنفرات العظيمة: حبس جمال باشا الأقوات عن المدينة المنورة وجبل لبنان، كيلا يبقى لأهلهما همّ غير خلاص أنفسهم من غائلة الجوع، فيكون في ذلك شغلهم الشاغل عما كان يتوهمه فيهم من العصيان والتمرد على الحكومة العثمانية والانحياز إلى أعدائها.
وقد جلا أهل المدينة عنها ونالهم من المشقة والزحمة ما يعجز القلم عن بيانه، وجلا البعض من أهل لبنان عنه وهلك بالجوع- ممن بقي فيه- عشرات الألوف. وكان جمال باشا يودّ أن يقدر على تنفيذ هذا المقصد في دمشق وحلب غير أنه لم يوفق إليه بسبب كون هذين البلدين من البلاد الزراعية التي يتعذر خلوّها من الأقوات. على أنه مع هذا أمكنه أن يرمي شيئا من سهام هذا البلاء أهل حلب حينما قلّت فيها الأقوات وغلت أسعارها ومات الكثير من فقراء أهلها بالجوع، والأقوات كثيرة متوفرة في المستودعات العسكرية وجهات ماردين وغيرها، مع عدم ترخيصه بإعطاء شيء من المستودعات أو إحضار مقدار من الجهات المذكورة تخفيفا لويلات أولئك الفقراء.
منع إخراج البضائع من مواضعها:
ومن المنفّرات أيضا ما جرت عليه الجهة العسكرية في إبان هذه الحرب من العادات المضرة بصالح الأهليّين، التي من جملتها أن المواد الغذائية وجميع البضائع التي تصرف في حاجيات الحرب والعساكر لا يجوز إخراجها من بلدة إلى أخرى إلا إذا كان الذي يريد إخراجها ضامنا، أي ملتزما لها على شرط تسليمها إلى الجهة العسكرية أو إدارة الإعاشة في غير بلدة فإنه يرخص له بإخراجها، وإدارة السكة الحديدية توافق على شحنها له إلى الجهة التي يريد أن ينقلها إليها.
هذه القاعدة أوقعت بالأهلين أضرارا عظيمة وأفقدت المساواة بينهم في المعيشة، وفيما(3/540)
يحتاجون إليه من البضائع، إذ كثيرا ما كان يوجد في حلب مثلا بضاعة تزيد عن حاجة أهلها فيسرفون في إتلافها لأنها تباع عندهم بأبخس ثمن، وتكون في عينتاب مفقودة أو قليلة جدا والحاجة إليها شديدة ولا يمكن للفقير هناك أن ينالها لأنها تباع بأغلى الأثمان.
ومن جهة أخرى كانت هذه القاعدة مدعاة لخيانة كثيرين من وجهاء المستخدمين من ملكيين وعسكريين، ومعينة لهم على الاستئثار بأرباح البضائع الوطنية الممنوع شحنها وحرمان التجار الأهليين منها، وذلك بأن يتفق سرا ضابط مع ملتزم سمن مثلا، يقدّمه من حلب إلى استانبول على شرط أن يساعده الضابط بالشحن ويشاطره بالربح، فيرسل الملتزم أضعاف ما هو مفروض عليه إرساله من السمن، ويكون له في استانبول وكيل يتسلم السمن من إدارة السكة ويقدّم منه القدر المفروض إلى الجهة العسكرية أو إدارة الإعاشة، ويبيع الباقي منه إلى التجار بأسعار باهظة فيربح منه أرباحا طائلة يقتسمها مع الضابط الذي اتفق معه سرا.
هذه المسألة من جملة المسائل التي أغاظت أهل هذه البلاد ونفرت قلوبهم من الحكومة؛ لأن غيرهم كان يستأثر بأرباح بضائع بلادهم وهم محرومون منها.
ومن هذا القبيل ما كان يجريه زعماء الاتحاديين في البضائع التي يحضرونها من أوربا أو المملكة العثمانية باسم إدارة الإعاشة، أو باسم فقراء الأهالي ليبيعوها لهم برأس مالها تخفيفا لآلامهم، فكانوا بعد أن تصل إليهم يضعون أيديهم عليها ويبيعونها إلى التجّار بأغلى الأثمان.
خلاصة في بيان ماجريات الحرب العالمية:
ذكرنا في هذا الجزء تحت عنوان «أول تحرش بألمانيا» أن ألمانيا أمرت أسطولها الطيار بأن يجتاز حدود بلجيكا إلى الأراضي الفرنسية بمقابلة اجتياز طيارات فرنسة منها إلى حدود الألمان. ونقول هنا: إن جيوش الألمان زحفت بعد ذلك على حدود روسية واستولت منها على بولونيا وأسرت من جيوشها مئات الألوف، وذلك كله في مدة لا تزيد على ثمانية أشهر.(3/541)
مهاجمة الألمان بلجيكا وفرنسة:
وفي ذلك الأثناء أيضا هاجمت الجيوش الألمانية بلاد البلجيك واستولت على قسم كبير منها، ووقفت إزاء جيوش فرنسة وإنكلترة وبلجيكا واستولت على قسم عظيم من بلاد فرنسة، حتى كادت تقترب من باريس.
طرد الروس عن غاليسا والاستيلاء على وارسوا:
وساقت ألمانيا أيضا جيشا عظيما تحت قيادة ما كينزن القائد الشهير إلى بلاد النمسا لمعاونة جيوشها- في جهة غاليسا الغربية والشرقية من المملكة النمسوية- على طرد جيوش الروس عنها؛ لأنهم كانوا استولوا عليها وعلى قسم كبير من جبال الكاربات في أثناء اشتغال جيوش ألمانيا بطردهم عن بلادها. فما مضى سوى ثلاثة أشهر إلا وطردوا الروس عن جبال الكاربات وعن غاليسا من جهتيها واحتلوا مدينة (وارسوا) قاعدة بولونيا واستولوا على غيرها من البلاد الروسية التي يقدر عدد أهلها بثمانية ملايين.
هجوم النمسا وحلفائها على صربيا والجبل الأسود:
ولما أمنت ألمانيا غائلة الروس على حدودها وحدود حليفتها النمسا أمدّت هي وتركيا والنمسا جيوش البلغار وهجموا بفيالقهم الجرّارة على جيوش حكومتي صربيا والجبل الأسود، فاكتسحوا هاتين المملكتين عن آخرهما بمدة لا تزيد على شهرين. ثم إن هاتين الحكومتين جمعتا شمل جيوشهما وأمدتهما فرنسة وإنكلترة بجنودهما التي كانت انصرفت عن حصار «جناق قلعة» وكانت حكومة اليونان قد استمالتها دول الاتفاق فتركت حيادها وأعلنت الحرب على ألمانيا وحلفائها، فأمدت أيضا جيوش حكومتي الصرب والجبل الأسود ووقفت تلك الجيوش في حدود بلاد اليونان مما يلي مدينة «مناستر» لدفاع جيوش دول الاتفاق عن اليونان واسترجاع بلاد صربيا والجبل الأسود.
إعلان إيطاليا الحرب على النمسا:
بعد مرور سنة تقريبا من حدوث الحرب العامة أعلنت دولة إيطاليا الحرب على النمسا وهجمت جنودها على البلاد النمسوية من حدود التيرول بغية الوصول إلى مدينة تريستة،(3/542)
فلم تفلح إيطاليا بهذا الهجوم بل فقدت جانبا عظيما من عساكرها ومهماتها الحربية، وخسرت قسما كبيرا من مقاطعة البندقية لوقوعها تحت استيلاء النمسا والألمان.
إعلان رومانيا الحرب على ألمانيا وحلفائها:
بعد سنتين تقريبا من نشوب الحرب العامة تمكنت دول الاتفاق من جذب دولة رومانيا إلى جانبهم، فأعلنت الحرب على ألمانيا وحلفائها. وفي برهة ثلاثة أشهر اكتسحت جيوش ألمانيا والنمسا وتركيا وبلغاريا ثلثي مملكتها، واستولوا على عاصمتها بكرش ثم على مدينة إبرائيل رغما عن مساعدة روسيا لها، وأصبحت حكومة رومانيا بعد هذا الفشل المدهش محصورة هي وجيوشها في جانب من مقاطعة إبرائيل.
إعلان إمريكا الحرب على ألمانيا:
كان موقف دول الاتفاق يزداد حراجة يوما فيوما. وكما كان النصر حليف الألمان في سائر جبهات الحرب البرية؛ كذلك كان حليفهم ورفيقهم في البحر أيضا، لأن سفن دول الاتفاق كانت عرضة لفتك غوّاصات الألمان حتى إنه قدر في آخر أيام الحرب محمول ما غرق منها بواسطة هذه الغواصات بتسعة ملايين طن. وفي أثناء هذه الحرب تصادف في «طوتركان» قسم من أسطول ألمانيا مع قسم من أسطول إنكلترة، واشتعلت بين الأسطولين نار الحرب فغرق من سفن إنكلترة ما يبلغ محموله مائتين وخمسين ألف طن، ومن سفن ألمانيا ما يبلغ محموله مائة وعشرين ألف طن، فكان الفوز في هذه الواقعة البحرية في جانب الألمان أيضا.
ولما وصلت ألمانيا إلى هذا الحد من الغلبة على أخصامها ولم تزعزع قواتها جميع هذه الأمم التي تألبت عليها وتضافرت على قهرها، خاف سطوتها وشدة بأسها عامة الدول، وأصبحت كل دولة منهن توجس الخيفة على نفسها من غائلة هذه الدولة. وإذ ذاك هتف هاتف الإنسانية في روع جماهير إمريكا بأن تعير التفاتها إلى وقف تيار هذه الحرب الطاحنة وإطفاء نيرانها المتأججة، وتخليص عالم البشرية من شرّها وشؤمها وإعادة السلم والسلام إلى ربوعهما. فاقترح رئيس جمهورية إمريكا الموسيو ويلسن على الدولة المتحاربة وقف حركة رحى الحرب الدائرة بينهم، والركون إلى الهدنة مدة معلومة، تحت شروط أعلنها(3/543)
وصرح بها للفريقين المتحاربين. فرفضت دولة ألمانيا قبول هذا الاقتراح لأن كثيرا من الشروط المقررة فيه مما يجحف بحقوقها ويوجب تمزيق جامعتها. وكان الرئيس ويلسون مستاء من ألمانيا لما بلغه عنها أنها تنزع إلى حرب إمريكا كما أسلفنا بيانه في الفصل الذي عقدناه تحت عنوان «سبب دخول دولة إمريكا إلى هذه الحرب» من هذا الجزء.
وحينئذ أعلن الرئيس ويلسون الحرب على ألمانيا فجند مئات الألوف من الجنود الأميركية، وساقهم إلى الجبهة الغربية في البلاد الفرنسية فانضموا إلى جيوش دول الاتفاق الواقفين في صفوف الحرب تجاه صفوف الألمان، وكانت الحرب بين الفريقين مدة شهرين سجالا، وكانت جيوش ألمانيا من جهة ثانية تحارب أعداءها الآخرين الروس المعدودة جيوشها بالملايين المنبثّين في الجهة الشرقية كالجراد المنتشر كثرة وتهافتا على الموت. والقائد الألماني هندنبورغ داهية الحرب ينفث في تلك الجيوش كل يوم من سموم خدعه الحربية ما يهلك منهم مئات الألوف قتلا وأسرا وإحراقا وغرقا حتى كاد الفناء يعمّهم.
الهرج والمرج في روسيا:
ولما وصلت الحالة في روسيا إلى هذا الحد قامت أحزاب الاشتراكيين الروسيين على ملكهم الإمبراطور نيقولا فقبضوا عليه وأزالوه عن عرشه، وقتلوه مع أسرته رميا بالرصاص كما يرمي القانص فريسته، ثم أحرقوهم وذرّوا رمادهم في الهواء زاعمين أنه هو الذي جرّ على روسيا هذه الحرب الطاحنة فأباد خضراءها وأضاع شرفها وحطّها من حالق مجدها، وأنزلها من شامخ عزّها، وجعلها عرضة للفاتحين بعد أن كان يقال في حقها: ما أفلح فاتح في روسيا قط. وإن روسيا هي إحدى الدولتين التي ستملك الأرض بأسرها. ولما قامت الأحزاب المذكورة على الوجه الذي بينّاه وقع الهرج والمرج في الممالك الروسية وتضعضعت جيوشها، واختلفت كلمة شعوبها المركّبة من عناصر مختلفة وأمم في طباعها متنافرة غير مؤتلفة، فانقسموا على بعضهم وافترقوا إلى خمس عشرة حكومة، كل منها ينادي بانفصاله عن روسيا واستقلاله بنفسه، وضربوا الصفح عن محاربة الألمان لأنهم لم يبق لهم على حربهم حول ولا قوة، وتصامّوا عن تحريض دول الاتفاق إياهم على الثبات أمام عدوهم والدفاع عن بلادهم.
ثم تمكنت فرقة منهم من العود إلى كفاح الألمان ومناضلتهم غير أن هذه الفرقة لم تلبث(3/544)
غير قليل حتى نالها من الوهن والانكسار ما ألزمها الرجوع القهقرى والانسحاب إلى الوراء تاركة من أسراها في أيدي الألمان مئات الألوف، ومن قتلاها بسيوف سطوتهم عشرات الصفوف، ومن الأسلحة والمهمات والذخائر ما يتجاوز عدّه الحدّ الموصوف. واستولى الألمان في هذه الواقعة على بلدان كثيرة من المملكة الروسية التي من جملتها مدينة «ريفا» وإذ ذاك طلبت روسيا من ألمانيا المتاركة والشروع في مذاكرات الصلح، فأجابتها ألمانيا إلى ما طلبت وشرعت الحكومتان تتذاكران بالصلح، وكانت قطعة «أوكرانيا» قد تصالحت مع الألمان بعد أن انفصلت عن روسيا واستقلت بنفسها، وعدد سكانها نحو من أربعين مليونا، فلم ترض حكومة روسيا المركزية بهذا الصلح واستأنفت الحرب مع الألمان مدة عشرين يوما استولت في خلالها الجيوش الألمانية على كثير من بلاد الروس حتى كادت عاصمتهم «بطرس برج» تقع في قبضة استيلائهم، وقد تمزقت جيوش روسيا شذر مذر، وانبثّت جنود الألمان في أنحاء مملكتها وأرجائها وجميع بلدانها الكائنة على ضفاف البحر الأسود، وأخذت ألمانيا مقاطعة أو كرانيا المستقلة تحت حمايتها.
وحينئذ أقرّت روسيا بعجزها عن مقاومة الألمانيين واضطرت أن تعقد معهم صلحا غير شريف بحقها، لأنها رضيت بأن تترك لألمانيا والنمسا مقاطعة بولونيا التي عدد سكانها 18 مليونا، ومدينة ريفا وما جاورها من البلدان التي تضم إليها ثمانية ملايين، ومقاطعة بسارابيا والقريم، البالغ مجموع سكانهما سبعة ملايين، وأن ينسحب الروس عن أراضي تركيا التي احتلوها في هذه الحرب ويتنازلوا لها عن الباطوم والقرص وأردهان، وتستقل إيالة أذربايجان في القفقاس البالغ عدد سكانها نحوا من أربعة ملايين، وتستقل أيضا قفقاسيا الشمالية البالغ عدد نفوسها سبعة ملايين، وتستقل أمّة الكرج على ضفاف البحر الأسود ويبلغ عددهم أربعة ملايين، وأمة الأرمن في «أريوان» «1» وهم مليون، وأن تترك روسيا أسطولها في البحر الأسود تحت سيطرة الألمان إلى نتيجة الحرب.
تفاقم الحرب في الجبهة الغربية:
ثم إن الحرب بين ألمانيا وأخصامها في الجبهة الغربية الفرنسية قد تفاقم أمرها واشتد خطبها؛ لأن ألمانيا قد أضافت إلى صفوفها الواقعة تجاه أخصامها في الجبهة الغربية قوة جديدة(3/545)
سحبتها من صفوفها التي كانت واقفة أمام الروس في الجبهة الشرقية. كما أن أخصامها- كل من إنكلترة وفرانسة وإمريكا والبلجيك والبرتكيز وغيرهم من الدول- قد أجمعوا أمرهم ونظموا شؤونهم وصمموا على أن يجعلوا هذا الهجوم هو آخر مسرح من مسارح هذه الحرب التي هي حرب حياة أو ممات. فاشتد الخطب على الفريقين وكانت جيوش ألمانيا تدافع مرة وتهاجم أخرى، وكان تقدمهم في أول الأمر أكثر من تأخرهم ثم في أخريات الحرب انعكس معهم الحال وصار تأخرهم أكثر من تقدمهم.
وبينما هم على هذه الحالة إذ فاجأتهم الأخبار بانكسار بلغاريا أمام الجيوش التي أشرنا إليها قريبا في فصل هجوم النمسا وحلفائها على صربيا والجبل الأسود، وأن بلغاريا قد انسحبت عن جميع أراضي صربيا والجبل الأسود واستولى أعداؤها على كثير من بلادها، وأنها قد استسلمت إليهم وأذعنت لجميع مطاليبهم، وأنهم قد اشترطوا عليها أن تكون جيوشها تحت إمرتهم، وأن حكومة النمسا قامت عليها شعوبها ينادون بالصلح ووقف الحرب لأن الجوع كاد يهلكهم، وأن الطريق بين استانبول وبرلين قد انقطعت ولم يبق في الإمكان وصول مدد إلى تركيا من حليفتيها ألمانيا والنمسا، وأن أمنهما من البلغار انقلب إلى الخوف، لأن دول الاتفاق يجعلون بلغاريا على قصد استانبول من جهة الروملّلي، وأن تركيا قد يئست من النجاح في جهة الحجاز وفلسطين والشام والعراق، لضياع هذه البلاد من يدها وتوالي الانكسار على جنودها، وتعويلهم على الانهزام أو الالتجاء إلى الجيوش الإنكليزية العربية. وكان سلطان الجوع قد استولى على شعوب ألمانيا فأباد من أطفالهم وفقرائهم الملايين واضطرهم إلى القيام على ملكهم ومناداتهم بإبطال الحرب وإعادة السلم.
توالت على ألمانيا هذه النوائب من جهة وتألب عليها أعداؤها من جهة أخرى فلم يبق لها سوى الإذعان والرضاء بما اقترحه ويلسن رئيس جمهورية إمريكا على المتحاربين وهو تقرير الهدنة بينهم على شرط انسحاب جيوش ألمانيا عما احتلته من أراضي فرانسة وبلجيكا، وتسليمها قسما كبيرا من أسطولها البحري والهوائي إلى أعدائها، وغير ذلك من الشروط التي لم يقصد منها سوى توطيد الأمن من غائلة الألمان وقوة بطشهم، على أن يكون تقرير الصلح فيما بين المتحاربين- بعد انقضاء مدة الهدنة- مبنيا على عدة شروط: منها حرية البحار، وحرية جميع ما فيها من المضايق التي منها مضايق جناق قلعة، وأن تكون(3/546)
الأمم الضعيفة في مستعمرات الدول هي الحاكمة على مقدراتها. إلى غير ذلك من الشروط.
فرضيت ألمانيا بهذه الشروط وأخلت قسما كبيرا من أراضي أعدائها فرانسة وبلجيكا، ووقفت الحرب وبوشر بمذاكرات الصلح وجميع العالم ينظر إلى ما تأتي به الأيام والليالي.(3/547)
رجعا إلى تتمة حوادث سنة 1337 في حلب
تجديد جسر الحاج:
وفي يوم السبت 19 صفر من هذه السنة باشرت الحكومة الجديدة تجديد جسر الحاج في ظاهر حارة الكلاسة بحلب. وهو أول بناء شرعت به الحكومة الجديدة وكانت عساكر الألمان خربته حين انسحابها من حلب.
تمثيل رواية باللغة الأرمنية:
وفي الليلة الثامنة والعشرين من هذا الشهر مثل على أحد المسارح رواية مبتكرة باللغة الأرمنية، موضوعها تمثيل ما قاسته الأمة الأرمنية والأمة العربية من زعماء الاتحاديين الأتراك من الظلم والتعدي، وأن هاتين الأمتين مشتركتان في مصابهما وتوجعهما على بعضهما، وأن كل أمة منهما كانت تعطف على من كان يوجد في بلادها من الأمة الأخرى من المبعدين والمنفيين، وأن كلا منهما قد اغتبط بدولة العرب ونال بواسطتها الفرج بعد الشدة.
احتلال أنطاكية:
وفي هذا اليوم- أو الذي قبله- احتل الجيش العربي مدينة أنطاكية واستتب فيها الأمن وساد السكون. وكان أهلها قبل ذلك في قلق واضطراب لا مزيد عليهما.
صدور جريدة «حلب» :
وفي شهر ربيع الأول من هذه السنة أمر شكري باشا الأيوبي- الحاكم العسكري بولاية حلب- بإصدار جريدة رسمية في حلب عنوانها «حلب» فصدر أول عدد منها يوم الاثنين 6 ربيع الأول، وهي عربية العبارة ذات صحيفتين، ولم تزل تصدر حتى الآن.(3/548)
قدوم الشريف ناصر إلى حلب:
وفي هذا الشهر قدم إلى حلب الشريف ناصر القائد العام للجيوش الشمالية وبعد يوم من قدومه سافر ومعه الشريف مطر إلى الباب لتهدئة الأمور وإزاحة القلق والاضطراب اللذين حدثا هناك إثر انحلال حكومة الأتراك. فأتم مهمته وعاد ثاني يوم إلى حلب.
الأتراك المرخص لهم بالبقاء في حلب:
وفيه رخص الحاكم العسكري بحلب بقاء الأتراك المولودين في حلب والمتزوجين بنساء عربيات ومن كان تاجرا أو صاحب ملك في حلب، وأن من لا علاقة له في حلب يجب عليه أن يسافر منها والحكومة تساعده على سفره.
قدوم الجنرال اللنبي إلى حلب:
غروب يوم الثلاثاء 7 ربيع الأول من هذه السنة (1337) وصل إلى حلب الجنرال إدمون اللنبي، القائد العام للجيوش الإنكليزية العربية الفرنسية في فلسطين وسوريا، فاستقبله في محطة الشام الشريف ناصر وكيل القائد العام للجيوش الشمالية، وشكري باشا الأيوبي الحاكم العسكري وغيرهما من أمراء العسكرية. وفي ضحوة يوم الأربعاء أقبل الجنرال اللنبي إلى دار الحكومة سائرا بين صفوف العساكر الإنكليزية- الهنود وغيرهم- المصطفة على جانبي الطريق الممنوع سلوكه عن الناس، المفروش بالرمل من أوله إلى آخره، أي من منزل الجنرال في محلة العزيزية إلى دار الحكومة. وقد نصب له في محلة العزيزية (قوس النصر) ، فلما وصل إليه وقف تحته وتقدم نحوه رئيس بلدية حلب وقدم له مفاتيح مدينة حلب وقرصا من الخبز ومقدارا من الملح. فتناول من القرص لقمة وذاق الملح ثم لمس المفاتيح ورفع يده بالسلام.
وسار نحو دار الحكومة وقد وقف له بساحتها الجنود العربية وضباطها وتلامذة المكاتب والمدارس ورجال الشرطة والدرك وجوق الموسيقى العربية. ولما وصل إلى دار الحكومة، واستقر في مجلسه المعدّ له، أقبل عليه علماء البلدة والرؤساء الروحيون والأعيان والوجهاء والموظفون، فأدّوه حق السلام وهو يشكرهم ويظهر الاغتباط بمعرفته إياهم، ويتمنى لهم الرفاهية والسعادة ثم نهض من مجلسه ووقف على رأس درج السراي وفاه بخطاب باللغة(3/549)
الإنكليزية، يتلوه عبارات متقطعة، ويسكت تلو كل عبارة برهة يتلو معناها باللغة العربية ترجمانه الخاص الأستاذ أمين بك غريب. وإليك مؤدى خطبته: «يا رجال حلب! إني أزور مدينتكم القديمة التاريخية بصفتي قائدا عاما للجيوش المتحالفة التي تؤلف الحملة المصرية، وصاحب السلطة الإدارية المطلقة على الأراضي التي هي تحت إمرتي.
وإنني بسرور عظيم أقبل أدلة الترحاب الرمزية المقدمة لي من رئيس البلدية، كما أن تأثيري «1» كان عميقا من الحماسة والإخلاص اللذين استقبلني بهما رؤساؤكم الأفاضل الوطنيون، من دينيين وأهليين وإداريين.
ولا يقل ذلك عن إعجابي بالغيرة وإخلاص النية اللّتين يظهرهما رؤساء الإدارة والبلدية في محاولتهم حل المسائل المعقدة والعسيرة التي واجهتهم.
وإنني أنتدب كل فرد منكم- وجميعكم على السواء- لبذل كل ما فيكم من نشاط وقوة حتى تشيدوا من جديد ذلك العمران والتمدن الذي ساد على هذه النواحي في زمان أجدادكم واضمحل بأيدي المستبدين الغرباء عنكم.
وأنا ما دمت مسئولا عن الإدارة، أتوقع منكم تنفيذ الأوامر التي تقضي عليّ الظروف بإصدارها بنفس الرضى والانقياد الذي أظهرتموه في السابق، حتى إذا قررت الدولة- التي أنا باسمها أحكم- تشكّل بناء العالم الجديد الذي سيعيش البشر فيه، ليكون كل وطني حلبي متهيئا لتمثيل دوره في عمل الإعمار العظيم القائم أمامكم.
يا رجال حلب! أتمنى لكم عموما النجاح والسعادة» . اه.
ثم نزل الجنرال من الدرج، يشيّعه الشريف الناصر وشكري باشا. وبعد أن طاف على الجنود العربية ركب سيارته. ودعيت لمرافقته وقدمت لي سيارة ركبتها مع حضرة المستشرق البريطاني الكولونل السير مارك سايكس، وحضرة الأديب أمين بك غريب الترجمان العربي الخاص بالجنرال اللنبي. وقال لي أمين بك إن حضرة الجنرال يريد زيارة ما في حلب من الأماكن القديمة التاريخية، فسر بنا إليها حسبما تريد.(3/550)
فأخذته إلى قلعة حلب ثم إلى الجامع الكبير. ولما أراد الدخول إلى قبليّة الجامع أبى أن يدخل إليها بجرموقه «1» مع أنه نظيف ممسوح، فقدّم له حذاء كبير ضم فيه قدميه ودخل القبليّة. ولما رأى المقام الشريف سألني بواسطة الترجمان بقوله: مقام من هذا؟
فقلت له: هذا مقام يحيى بن زكريا. فقال: من هو يحيى؟ فقلت له: هو يوحنا المعمدان ابن خالة السيد المسيح. فطأطأ رأسه وأبدى ابتسامة استحسان. ثم أخذته إلى المدرسة الحلوية، فدخل القبليّة وسألني عن تاريخ بنائها وعن بانيها، فأجبته عن ذلك. ثم أريته المحراب الخشبي الذي في إيوانها فأعجبه حسنه جدا، إلا أنه اعترض على متولّي المدرسة لأنه لمعه بدهان السّندروس «2» ، وأمره بأن يمسح الدهان عنه ويبقيه على حالته القديمة الأثرية.
ثم أخذته إلى دار الجانبلاط، فسرّ بمشاهدة إيوانها سرورا زائدا، وأريته قطعة حجر من سلسبيل، مدفون بعضها في الأرض، فيها من بدائع الصنعة ما يشهد للماضين بإتقان النقوش ومهارة الهندسة المعمارية، فانحنى لاستخراج تلك الحجرة من الأرض فساعده بعض الحاضرين فاستخرجت وأخبرته أن بعض الأثريين الغربيين طلب شراء هذه الحجرة من أهل الدار ودفع لهم ثمنها مئة ذهب عثماني فلم يبيعوها. فقال الجنرال اللنبي لمن كان حاضرا من أهل الدار: إياكم وأن تبيعوها لأحد، وإذا بلغني أنكم بعتموها لأحد فإني أغرمكم مبلغا كبيرا.
ثم خرجنا من الدار وركبنا سيارتنا، فقال الترجمان: يقول حضرة الجنرال: يريد أن تسير بنا من طريق السوق لأنه يحب أن يرى أسواق الشرق المسقوفة. فسرت بهم من السّويقة وسوق الصابون وسوق الفرّايين «3» إلى أن خرجنا إلى فضاء تحت القلعة، وهناك أردت النزول من السيارة والتوجه إلى منزلي لأن مهمتي قد انتهت، فقال لي أمين بك:
لا يجوز لك مفارقته إلا بعد الوصول معه إلى منزله. فبقيت سائرا معه حتى وصلنا إلى(3/551)
منزله في محلة العزيزية، وحينئذ نزلت من السيارة وودعته وأمر سائق السيارة أن يوصلني إلى منزلي، وأظهر لي سروره وشكرني على الاعتناء بشأنه.
ثم في مساء ذلك اليوم تناول طعام العشاء في دار الإمارة، وفي أثناء الطعام تبودلت الخطب الودية. وما زال في دار الإمارة إلى أن أزف وقت الرحيل فسار مع الحضور إلى محطة بغداد حيث شيع- كما استقبل- بالتكريم والاحترام.
قدوم حاكم سوريا العسكري إلى حلب:
مساء يوم الخميس 15 ربيع الأول من هذه السنة (1337) قدم إلى حلب رضا باشا الركابي، الحاكم العام في سوريا، وذلك للإشراف على سير الأعمال وإتمام تأسيس إدارتي المالية والقضائية وإصلاح ما يلزم إصلاحه من الشؤون.
قدوم رضا باشا الصلح:
يوم الأحد 18 منه قدم إلى حلب رضا باشا الصلح واليا على حلب، وقد بقي شكري باشا الأيوبي حاكما عسكريا. وفي يوم الاثنين 20 منه أقام نادي العرب ضيافة (جاي) لرضا باشا والي حلب، حضرها أمراء العسكرية وموظفو الحكومة ووجهاء البلدة. وقد ألقيت فيها الخطب الحماسية وأنشدت القصائد الوطنية، وكانت حفلة باهرة.
مأدبة:
وفي 27 منه أدب رضا باشا الركابي في نزل البارون مأدبة حافلة، حضرها قادة الحلفاء وكبار رجالهم، والجنرال الإنكليزي مارك أندرو، والمستشرق البريطاني السير مارك سايكس، والمستشار الفرنسي الموسيو جورج بيلو، وغيرهم من كبار موظفي الإنكليز والعرب. وفي أثناء الكلام تبودلت الخطب باللغتين العربية والإنكليزية، وأثنى الجنرال مارك أندرو على شهامة العرب وقال: إنهم هم الذين فتحوا حلب لأنهم دخلوا إليها قبلهم بيوم.
رجوع الجنرال اللنبي إلى حلب:
يوم الأحد 3 ربيع الثاني عاد إلى حلب الجنرال اللنبي، ثم شخص إلى آذنة وعاد إلى حلب.(3/552)
سفر رضا باشا الركابي:
وفي يوم الثلاثاء 5 منه سافر رضا باشا الركابي إلى دمشق، فودّع بكمال الاحترام.
استيلاء العرب على المدينة المنورة:
في يوم الخميس 14 ربيع الثاني تواردت الأخبار من المدينة المنورة بأن عرب ملك الحجاز استولوا عليها من الأتراك يوم الأربعاء 13 منه.
حادثة الأرمن المعروفة باسم (فتنة 28 شباط سنة 1919)
أسباب هذه الحادثة:
لا ننكر أن في أمة الأرمن رجالا ونساء متحلّين بحلية العقل، والنظر البعيد إلى العواقب، وحسن المعاملة والأمانة والاستقامة والاعتراف بالجميل والمكافأة عليه، غير أننا مع هذا لا نحجم عن القول بأنه يوجد في دهماء هذه الأمة زمرة طائشة قد خيم الجهل على عقولهم، فانحرفوا عن الجادة المثلى ولم ينظروا إلى ما يعقب انحرافهم من الضرر وسوء المغبة بأمتهم التي فيها من الرجال من يستحق كل مدح وثناء.
وصفوة القول أن الأمة الأرمنية قد غلب خيارها على أمرهم فجرّ جهّالها عليهم البلاء دون أن يستحقوه. ومن هذا القبيل ما جنوه عليهم من البلاء في هذه الحادثة التي لم يكن لها من سبب سوى أمور نقمها الحلبيون على الأرمن، صدرت من تلك الطائفة الطائشة فأثارت في الحلبيين موجدتهم عليهم، وعكست فيهم اعتقادهم وملأت صدورهم غيظا منهم، وأغلت في أفئدتهم مراجل الحقد والضغينة عليهم، وكان من أمرهم في ذلك اليوم ما كان.
وإليك نبذة في ذكر بعض ما فعلته هذه الفئة الطائشة من الأمور التي أساءت بالأرمن اعتقاد الحلبيين واضطرتهم إلى الجرأة عليهم. وبيان ذلك أن الأمة العربية عامة- والحلبيين خاصة- كانوا ينظرون إلى أمة الأرمن بعين الشفقة والحنوّ، وينكرون على زعماء الأكراد ما كانوا يعاملون به الأرمن من التعدي؛ بل كانوا ينكرون على السلطان عبد الحميد ما نكب به الأرمن من المذابح ولا يرون له مبررا في الضغط عليهم. ولهذا(3/553)
لم ينقل عن أحد من الأمة العربية أنه غمس يده في دم أرمني في تلك المذابح الفظيعة، وقوفا عند حدود الشريعة المحمدية التي تتكفل للذميّ بصون ماله وعرضه ودمه. ولعل الأمة العربية لو كانت مشتركة مع الشعب التركي في تلك المذابح لما عدمت من السلطان عبد الحميد حسن المكافأة.
ثم في سنة 1333 كان جلاء الأرمن عن أوطانهم، كما أشرنا إلى ذلك في حوادث السنة المذكورة من هذا الجزء. وبعد أن وصلت تلك الجاليات إلى حلب على آخر رمق من حياتها؛ كان العرب عامة- والحلبيون خاصة- يعطفون على ضعفائهم ويمدّون إليهم يد الإحسان والمواساة، عكس ما كان يضمره لهم جمال باشا من الأذى والويلات، ورغما عما كان يقاسيه الحلبيون في تلك الأيام العصيبة من جهد البلاء والضغط العسكري.
وكان عقلاء الأرمن وأدباؤهم يعترفون للعرب بتلك الأيادي ويشكرونهم عليها، حتى إن شبيبة الأرمن مثّلت الرواية التي سبق ذكرها في حوادث هذه السنة.
وبينما كانت الأمة العربية تؤمل من الأمة الأرمنية حسن المكافأة على ما أسدتها «1» إليها من البر والإحسان؛ إذ انعكست الآية بعد وقوع الهدنة وصارت الأخبار المكدّرة تطرق كل يوم مسامع الحلبيين عما يجريه جهال الأرمن مع أبناء العرب من الأمور التي تبعث على إيجاد الضغينة وإسعار نار الحقد في صدورهم على أمة الأرمن. وإليك بيان بعض تلك الأمور وهي: (1) تعرّض زمرة من الأرمن- المستخدمين في محطة أذنة من قبل الفرنسيين- إلى التجار العرب المسافرين على القطار إلى استانبول والقافلين منها إلى أوطانهم، فكانت تلك الزمرة تعامل التاجر العربي بكل غلظة وخشونة، وربما أزعجته بالسبّ والضرب، وإذا كان قدوم القطار في الليل فربما كانت تفتش ثيابه وتسلب نقوده.
أما الجنود العربية التي كانت تمرّ من أذنة قافلة إلى أوطانها فقد كانوا يقاسون من هؤلاء المستخدمين كل إهانة ويرون منهم كل قساوة، يعاملونهم بالشتم والضرب، وكثير منهم من كان يناله من أيديهم جراحة في وجهه وتهشم في أعضائه. فيأتون إلى حلب على أسوأ حالة.(3/554)
(2) كان الحلبيون يسمعون بما كان يجريه متطوعة الأرمن في الجيش الفرنسي في بيروت من الخيلاء والعجرفة، وأنهم أطلقوا بنادقهم على بعض الوطنيين فقتلوهم، وأنهم تمردوا على الجيش الفرنسي في إسكندرونة حتى اضطرت القيادة إلى أن تنقلهم إلى أذنة.
(3) تظاهر غوغاء الأرمن في حلب بمظاهر العظمة والكبرياء ومقابلتهم الحلبيين بغير الوجه الذي كانوا يقابلونهم به في الأمس، يقابلونهم بوجه عليه سيماء التّيه والسخط، ويخاطبونهم بألفاظ خشنة لم يألفوا سماعها منهم قبل ذلك.
لم كان هذا الانقلاب من هذه الزمرة مع الحلبيين؟ وما هو الحامل لها عليه؟
كان سببه بصيص ضوء أبصرته من لفتة شملتهم من عناية الإنكليز بشأنهم، فعظمت نفوس الطائشين منهم وطفقوا يسيئون التصرف مع الحلبيين، ويقلبون لهم ظهر المجن في معاملاتهم. ولم يقفوا عند هذا الحدّ بل صار الكثير منهم جواسيس للإنكليز ينقلون إليهم عن الحلبيين أخبارا ملفقة لا ظل لها في الحقيقة.
(4) تعدّي جماعة من تلك الزمرة على الباعة؛ بتكليفهم صرف الورقة المصرية بالنقود المعدنية على معدّل قيمتها المحررة بها، مع أن قيمتها التجارية دون ذلك بكثير. فكان الباعة يخسرون أموالهم ولا يقدرون على الامتناع عن صرف الورقة على هذا المعدل خشية من عقوبة القانون.
(5) كان فريق من تلك الزمرة يختلقون كل يوم الحيل والخدع في اختلاس أموال التجار الحلبيين، حتى شاع عنهم هذا الأمر وصار الحلبيون يتحدثون به في مجتمعاتهم ومجالسهم:
من ذلك أن أرمنيا عرض على تاجر حلبي نموذجا من دبس الطماطم، وأخبره أنه يوجد عنده منه سبع صفحات «1» . فرغب الحلبي بشرائها وطلب من الأرمني إحضارها فأحضرها إليه وقد فتح في كل صفيحة دائرة في زاويتها ليطلع المشتري على ما في ضمنها من الدبس. ولما غمس التاجر إصبعه بالدبس من هذه الفتحة وذاقه تبين له أنه دبس جيد.
فاشترى الصفحات كلها بثمن مثلها، ودفع قيمتها إلى الأرمني، فأخذ القيمة وانصرف.(3/555)
ولما فتح التاجر إحدى الصفحات وجدها ممتلئة بمطبوخ القرع الشتوي الملون بالمغرة «1» ، ورأى في الفتحة التي ذاق منها الدبس ماسورة من الصفيح ممتلئة من الدبس الجيد قد سدّ أسفلها الذي يلى أسفل التنكة وفتح أعلاها الذي ذاق منه الدبس، ثم فتح بقية الصفحات فرآها كلها مثل الصفيحة الأولى، فساءه ما رأى وعلى الفور أخذ بالبحث على الأرمني واستقصاء أثره فلم يظفر به. وأخيرا علم أنه سافر من حلب على أثر تدبيره هذه الحيلة.
ومن ذلك أيضا أن أرمنيا اشترى من تاجر حلبي صفيحة سمن، وطلب من التاجر أن يحمّلها إلى خادمه ويتبعه بها إلى بيته ليدفع له ثمنها. فحملها الخادم ولما وصل إلى بيت الأرمني تناول الصفيحة من الخادم ودخل داره ليأتي بثمن السمنة، فوقف الخادم ينتظره فلم يخرج إليه. ولما طال عليه أمد الانتظار طرق باب الدار وسأل عن الأرمني فقيل له:
إن لهذه الدار بابين، وهي ليست بدار بل هي مكان يأوي إليه فقراء الأرمن وحجّاجهم، وإن الأرمني الذي أخذ السمن دخل من أحد البابين وخرج من الباب الآخر، وإنه لم يكن من سكنة ذلك المكان، ولا هو معروف عند أهله.
تكررت هذه الحيل من أفراد هذه الزمرة مع التجار الحلبيين على أنحاء شتى وضروب مختلفة، وشاعت أخبارها بين الحلبيين فحقدوا على الأرمن وحلّ في قلوبهم الضغينة عليهم، بدل ما كانت تجنّه من الرأفة فيهم.
(6) كان عند الحلبيين عدد كبير من بنات الأرمن وأطفالهم، آووهم في أوائل قدوم جالياتهم إلى حلب، وقد التقطوهم من الأزقة والأماكن المهجورة وأزالوا الشقاء عنهم واعتنوا بتربيتهم عنايتهم بأولادهم. والبعض منهم اتخذوا من فتياتهم البالغات زوجات شرعيات واستولدوهنّ عدة أولاد. ولما دخل الإنكليز إلى حلب اهتمت جمعية الصليب الأحمر بجمع أطفال الأرمن وبناتهم من بيوت الحلبيين. ونحن لا نلوم الطائفة الأرمنية على استرداد أولادهم وأطفالهم إلى أحضانهم، لأن هذا مما توجيه القومية عليهم، إنما نلومهم على استعمال العنف وترك الرفق في سبيل البلوغ إلى هذا الغرض، فقد كان أقارب الأطفال والبنات يقصدون بيت الحلبي للتفتيش على أولادهم، ويدخلون عليه دخول مهاجم على ذي جريمة، ويأخذون الولد أو البنت قسرا ويعاملون مربّيها أو زوجها بكل عنف وقساوة(3/556)
هم في غناء عنهما. وربما كانوا يسوقونه إلى السجن بمساعدة الشرطة الموكول إليهم التفتيش على أولاد الأرمن من قبل جمعية الصليب الأحمر، وكانوا لا يصغون إلى الممتنعة عن متابعتهم من النساء المتزوجات، بل ربما قابلوها على امتناعها بالسب والضرب وأخذوها إلى منتدياتهم وأكرهوها على مفارقة زوجها وأولادها منه.
ومن غريب ما وقع في هذا الباب قضية امرأة أرمنية متزوجة بشاب مسلم، حضر إليها أخوها وزوجها الأرمنيان وأرادا أخذها إليهما، فلم يمتنع زوجها المسلم عن تسليمها إليهما وجعل الخيار لها في ذلك. أما هي فقد امتنعت عن تسليم نفسها أشد امتناع، فأخذاها بالقوة والعنف وسعيا بزجّ زوجها في السجن، وأخذا المرأة إلى قلّاية «1» الكنيسة، ووضعاها في غرفة عالية لها نافذة على الطريق، وقد وضعا معها لحراستها راهبتين أرمنيتين كلّفتاها العود إلى زوجها الأرمني ومنّيتاها بكل مرغوب، وذكرتا لها كل ما يوجب نفرتها من زوجها المسلم. فلم تلتفت إلى كلامهما. وقدّمتا لها طعاما فلم تذقه، وكان معها طفلة صغيرة ولدتها من زوجها المسلم قبل بضعة أيام ولما جنّ عليها الليل ورأت الراهبتين الموكلتين بحراستها قد غفتا عمدت إلى الطفلة وشدّتها على صدرها بنطاقها وعضّت على ياقتها بأسنانها، وجاءت إلى النافذة وألقت نفسها منها إلى الأرض، فوقعت عليها سالمة لم يلحقها ضرر في جسمها سوى ورم ظهر في ساقيها بعد بضعة أيام.
وكان زوجها المسلم قد أطلق من السجن وعاد إلى بيته. وبينما كان راقدا على فراشه نحو منتصف الليل إذ بالباب يطرق فأسرع لفتحه ورأى زوجته قد عادت إلى بيته. وفي الغد جاءت الشرطة إليه وأودعته السجن وأخذت زوجته إلى المخفر الذي حضر إليه ضباط الإنكليز وبعض كهنة الأرمن وسألوا المرأة عن كيفية هربها وقالوا لها: أما كان هربك بواسطة زوجك المسلم، حيث أحضر لك سلّما نزلت عليه إلى الأرض؟ فأخبرتهم بكيفية هربها على ما هي عليه، وقالت لهم: كيف يمكن لزوجي أن يحضر سلّما لي؟ والقلاية في حارة المسيحيين لا يمكن أن يطرقها في الليل أحد من المسلمين، وكيف يترك الحراس رجلا يحمل سلّما في الليل ولا يشتبهون به ولا يقبضون عليه؟ خصوصا وزوجي ساكن في محلة بعيدة لا يصل إلى محلة القلاية إلا بعد أن يمر على عدة محلات في كل منها حارس.(3/557)
ثم إن الشرطة حاولت إعادة المرأة إلى القلاية فامتنعت وقالت لهم: إذا أكرهتموني على الرجوع إليها فإني أنتحر نفسي «1» . ولما رأوا إصرارها على الامتناع من متابعة زوجها الأرمني أحضروا زوجها المسلم من الحبس وسلموه إياها وأخذوا منه كفيلا على أن يسلمها إليهم متى أرادوا أخذها منه. فعادت هي وزوجها المسلم إلى بيتهما، وهي لم تزل عنده حتى الآن في غبطة من العيش، قد ولدت له عدة أولاد، والنساء يثنين على أخلاقها الثناء العاطر.
ومن هذا القبيل أيضا قضية غلام في السادسة من عمره مولود من أبوين مسلمين حلبيين، ادّعاه رجل أرمني أنه ولده فأخذته جمعية الصليب من يد أبيه المسلم قسرا وسلّمته إلى الرجل الأرمني الذي ادّعاه. فشقّ هذا الأمر على أبوي الغلام وأسرته. ورغما عن شهادة القابلة التي ولّدته وعن الجمّ الغفير من جيران أهل الغلام المسلمين والمسيحيين بأن هذا الغلام هو ابن الرجل المسلم الحلبي؛ لم ترجعه الجمعية إليه. وحينئذ تقدم إلى الوالي جماعة من جيران والد الغلام وأخبروه بأنه مولود من أبوين مسلمين حلبيين، وأنهم يطلبون من الوالي التبصر بهذه القضية. فجمع الوالي في بهو منزله رجالا من الأرمن والحلبيين المسلمين متشابهين بالملامح والهيئات، بينهم أبو الولد الحقيقي والأرمني الذي ادّعاه، وأدخل الولد إلى البهو بغتة فما كان منه إلا أن عدا نحو والده الحقيقي والتفّ به وعانقه، وطفقت دموع والده تنحدر على خديه، وبكى بعض الحاضرين متأثرا من هذا المنظر الغريب.
وإذ ذاك قنع ضباط الإنكليز الحاضرون أن الولد هو ولد الحلبي، خصوصا حينما رأوا في ملامحه شبها قويا بملامح أبيه، فأذنوا له بأخذه فأخذه وانصرف.
كيف كانت هذه الفتنة؟
قبل حدوث الفتنة بأيام اشترى أحد الحلبيين المسلمين من أرمني بقرة؛ ظهر لها بعد شرائها صاحب ادّعى أنها بقرته وقد سرقت من إصطبله. وبعد أن برهن دعواه بما لا يحتمل الإنكار لم يسع مشتري البقرة غير الإذعان لدعوى صاحبها فسلّمه البقرة. ثم أخذ يبحث عن الأرمني الذي اشتراها منه ليرجع عليه بثمنها فلم يظفر به.(3/558)
ولما كانت ضحوة يوم الجمعة 28 جمادى الأولى سنة 1337 و 28 شباط سنة 1919 م كان الحلبي يتجول في سوق الجمعة- وهو سوق عام ينعقد في كل يوم جمعة، في فضاء واسع يعرف بفضاء تحت القلعة، يباع فيه من جميع السلع والبضائع، ويحضره ألوف من الناس، ومن جملة فروعه فسحة واسعة تباع فيها الخيل والبغال والحمير والبقر- وبينما كان مشتري البقرة يتصفح وجوه الناس للبحث عن غريمه الأرمني، إذ وقع نظره عليه فأسرع نحوه وطلب منه ثمن البقرة. وكان الواجب على الأرمني أن يتلطف بذلك الرجل ويستمهله وفاء ثمن البقرة ويدفع الشرّ بالتي هي أحسن؛ غير أن نفسه لم تطاوعه على التساهل مع صاحب الحق، بل طفق يعربد وينكر القضية بتمامها ويفوه بكلام يشقّ على العامة سماعه.
فاشتد النزاع بين الرجلين وعلت أصواتهما في ذلك الجمع العظيم الذي لا يقلّ عن عشرة آلاف إنسان، ما بين مسلم ومسيحي ويهودي، وقد هرعت العامة إلى محل المشاجرة ووقفوا ينظرون إلى ما يؤول إليه أمرها. ثم انتقل الحال بين الرجلين من الكلام إلى الملاكمة واللّطام، وقد أخذا بتلابيب بعضهما، وانبرى لكل واحد منهما نصراء من قومه يدافعون عنه ويعينونه على خصمه- وقد علمت مما تقدم كيف كان توغر صدور الحلبيين وحنقهم على الأمة الأرمنية للقضايا التي أسلفنا بيانها- فلما شاهد هذا الجمع النزاع القائم بين هذين الرجلين وعلموا أن المعتدي منهما هو الأرمني، وأن الأرمن قد التفوا حوله ينصرونه على خصمه، هاجت الأحقاد في صدورهم وتقدموا يدفعون الأرمني عن الحلبي.
فاشتدت الضوضاء وعلا الصراخ وهاج هذا الجمع العظيم وماج، وانقضّت العامة على الأرمن يضربونهم بالعصي والسكاكين ووزنات الحديد «1» وأعمدة الخشب. فما مضى غير دقائق إلا وجثث بضع «2» وثلاثين أرمنيا مطروحة على الأرض، وقد اتصل الصوت ببعض الجهات القريبة من محلات الأرمن فقام بعض الدعّار يهجمون على بيوتهم ويسلبون ما فيها من الأثاث ويقتلون من يعارضهم من أهلها. وكان مجموع ما قتل في هذه الفتنة العمياء مسلم واحد- كان مارا في الطريق فرماه أرمني من داخل داره برصاصة فقتله-(3/559)
واثنان وخمسون «1» أرمنيا بينهم امرأة واحدة.
ثم إن الشرطة تفرقت في أنحاء البلدة وأطفأت نار هذه الفتنة، وألقت القبض على بعض الثائرين. فسكنت الأمور وعادت مياه السلام إلى مجاريها. وفي أثناء قيام الفتنة فتح كثير من المسلمين أبواب منازلهم لجيرانهم الأرمن يحمونهم من الثوار ويدفعون عنهم الهلاك والبوار.
ذيول هذه الحادثة الكارثة:
وفي مساء هذا اليوم- أي ليلة السبت 29 جمادى الأولى- اعتقلت السلطة الإنكليزية بضعة عشر رجلا من وجهاء حلب وأعيانها وذوي الشخصيات البارزة منهم، وجمعتهم في دار واحدة غرفها ذات أثاث ورياش، مرخّصة لهم أن يجلسوا مع بعضهم ويستحضروا من منازلهم ما يشتهونه من الأطعمة وغيرها. غير أنها أقامت على أبواب الغرفة حجّابا من الهنود لا يتركون أحدا منهم خارجها، وكان غرض السلطة من اعتقال هؤلاء الجماعة أن تحقق- في أثناء اعتقالهم- أسباب هذه الحادثة لتعلم هل لأحد من وجهاء البلدة دخل في إيجاد هذه الفتنة؟ وبعد أن أبقتهم معتقلين نحو شهر تبين لها أن ليس لأحد منهم يد في إيجادها؛ وإنما كان سببها أمرا فجائيا لم يكن مدبّرا من قبل، فأطلق سراحهم.
اجتماع مهمّ يتعلق بهذه الحادثة:
وفي نهار السبت 29 جمادى الأولى- أي ثاني يوم من وقوع الحادثة- جمع في قاعة الولاية عدد كبير من أعيان البلدة ووجهائها غير المعتقلين، أمر بجمعهم الحاكم العسكري العام وحضر القائد الإنكليزي الكبير «هودسون» ومعه عدد من الضباط الإنكليز والأركان الحربية، والمستر «براين» ضابط الارتباط الإنكليزي، وجودت بك حاكم القضاء العسكري. فقام القائد «هودسون» وألقى على الحاضرين خطابا وصّاهم فيه بأن يفهموا سائر طبقات الشعب وجوب ترك المظاهرات، وإطاعة القانون. وقال: إن الأمير فيصل يجتهد في مؤتمر الصلح بالحصول على استقلال الأمة العربية، وإن الاعتداء على الأرمن وإقامة(3/560)
المظاهرات تعرقل مساعيه، وإن الدول المحالفة ترغب بمعاونة العرب وتحب أن يكونوا لهن أصدقاء.
تزلّف عظماء المسلمين والنصارى واليهود إلى بعضهم:
بعد الإفراج عن معتقلي حادثة 28 شباط خطر لبعض عظماء الملل الثلاث أن يسعى بتأكيد ما بين هؤلاء الملل من المحبة والولاء القديمين؛ تفاديا من أن تكون تلك الحادثة قد شوهت محاسنهما أو أبقت لها أثر حقد أو ضغينة في القلوب. فأخذ عظماء الملل من السادة العلماء والكهنة يجتمعون عند أحدهم مرة في الأسبوع، يتبادلون في أثناء اجتماعهم عبارات التوادد والتحابب. وفي ختام الاجتماع يأدب «1» صاحب المنزل مأدبة حافلة تشتمل على الشاي وأنواع الحلوى وأطاييب الفواكه وقد حصل هذا الاجتماع في منزل كل من السادة: قاضي حلب، ومطارنة الطوائف المسيحية، والحاخام باشي، وبعض الوجهاء من الملل الثلاث.
عقوبة المعتدين على الأرمن:
ثم إن السلطة العسكرية الإنكليزية ألقت القبض على المتهمين بالجناية على الأرمن في الحادثة السالفة الذكر، وألّفت محكمة عسكرية حاكمتهم فيها، وقد جمعتهم في خان الشّربجي بحلب «2» ، فكانت المحكمة متى أصدرت حكمها على واحد منهم بالقتل قصاصا قتلته في هذا الخان تعليقا. فقتلت نحو خمسة وثلاثين شخصا، ونفت آخرين إلى جهات في مصر مددا مختلفة، فمنهم من مات في منفاه ومنهم من رجع إلى حلب بعد انتهاء مدته.
تسليم السلاح:
وفي ثامن جمادى الثانية أعلن الحاكم العسكري العدلي بأن كل من كان عنده سلاح يجب عليه أن يسلمه إلى مخفر محلّته ويأخذ به وصلا.(3/561)
منع إخراج الذهب:
وفي 15 منه أعلن القائد العام على جيوش الحملة المصرية، المارشال إدمون هنري اللنبي، منع إخراج الذهب من ولايات تركيا المحتلة، وأن من خالف هذا المنع يصادر ذهبه ويجري عليه حكم القانون.
قدوم الحاكم العسكري على حلب:
يوم الأربعاء 17 منه قدم على حلب جعفر باشا حاكما عسكريا على ولاية حلب، فاستقبل على المحطة بحفاوة واحترام، وتعيّن سلفه شكري باشا حاكما عسكريا لمنطقة المدينة المنورة.
وصول الأمير فيصل إلى بيروت:
يوم الأربعاء 29 رجب سنة (1337) ، وفي 19 نيسان سنة (1919) م؛ وصل سمو الأمير الكبير فيصل إلى بيروت عائدا من أوربا، فاستقبله في بيروت وفود البلاد السورية استقبالا حافلا.
قدوم سمو الأمير فيصل إلى حلب:
وفي يوم الأربعاء 12 رمضان منها وصل الأمير فيصل إلى حلب قادما عليها من دمشق بعد عوده من أوربا، وكان خفّ لاستقباله عظماء الحلبيين والموظفين إلى أماكن بعيدة، وزينت له جادات حلب وشوارعها ونصبت له أقواس الظفر، ومشى في موكب استقباله من محطة الشام ألوف من الناس قد انقسموا إلى زمر متعددة، يسير أمام كل زمرة راية نقابة، وتعلو أصوات الجميع لسموّه بهتاف الفرح والمسرة والدعاء له بالفوز والظفر، حتى وصل إلى دار الإمارة المعدّة لنزوله في محلة العزيزية. وفي ثاني يوم من قدومه أقام لسموّه نادي العرب حفلة باهرة حضرها الجمّ الغفير من أهل حلب، وألقى خطابا مسهبا قال فيه ما صورته بالحرف الواحد:
«أيها السادة:
لقد كلّفني عند وصولي أمس بعض الأخوان أن أتكلم كلمتين تتعلق «1» بمصير(3/562)
الشعب ومستقبله الذي ينبغي معرفته، ولكن ضيق الزمان والمكان أمس حال دون الكلام فأرجأته إلى هذا اليوم. وكنا نود أن يكون الكلام في غير هذا النادي الذي لم يعد إلا للعلم والأدب والخطابة الاجتماعية. إلا أنني اضطررت إلى الكلام فيه إذ لم يتيسر أوسع منه. وإنني أتشرف بالمثول بين يدي قواد الجيش البريطاني، وأمام كافة مندوبي الحلفاء ووجهاء هذه البلدة التي تمثل قسما كبيرا من القطر السوري.
إخواني! لا شك أن كلماتي هذه قد سمع مرارا من فهمي أمثالها. وتكثير الكلام وترديد القول قد أزعجاني فأستميحكم العفو عن كل ما يصدر عني من الخطأ في القول أو اجتناب التصريح بكل ما في ضميري.
أول ما أخاطبكم به- أيها السادة- أني أعلمكم بأنكم اليوم في موقف ربما يعود لكم بالخير وربما يعود عليكم بغيره لا سمح الله. وهذا الأمر هو الذي حدا بي إلى الوقوف في هذا المقام.
ولا بد أنكم سمعتم خطابي في دمشق، ذلك الخطاب الذي أفصحت فيه عن كل ما يختلج بنفسي وعن جميع ما قمنا به من الأعمال إلى ذلك التاريخ. وطلبت الاعتماد من الحضور كافة. فقبلوا جميع ما كلفتهم إياه ومنحوني الاعتماد التام لأتولّى سياسة أمورهم الداخلية والخارجية. وعلى ذلك الاعتماد أنا مثابر في أعمالي.
ولقد كانت أعمالنا إلى هذا التاريخ مقرونة بكل نجاح. وهذا نتيجة آداب الأمة وحسن سلوكها. وإني لأرجو أن تثابر على هذا السير الذي يسمو بها إلى المنزلة الرفيعة.
إن الأمم- وأخصّ منها التي حاربت لنصرة الحرية والمبادىء السامية- هي التي منحتكم حق الحكم والاستقلال منحا باتا لا مشاحة فيه. وقد وصلت اليوم إلى بيروت اللجنة المرسلة من قبل الأمم التي حاربت وإياكم. أتت هذه اللجنة لتبحث عن رغائبكم ومطالبكم وستكون شاهدا فإما لكم وإما عليكم. وإذا لم تحكم بما نبتغيه فالأمة هي الجانية. إن الأمم المتمدنة تريد أن ترى الأمة العربية عامة- والسورية خاصة- في مستوى الأمم الراقية. وقد خوّلتكم هذا الحق على شرط أن تكونوا حائزين الصفات اللازمة. وليس على هذه الأمة أدنى إكراه على قبول أي أمر كان. وقد صرّحت بذلك(3/563)
الدولة العظمى التي انتهت إليها مقاليد العالم. فيجب علينا أن نعلم أنه لا نجاح لنا إلا إذا تمسكنا بأهداب الإخاء والإخلاص، والتؤدة والسكون واتحاد الكلمة، وغير ذلك مما يثبت للعالم أننا أمة يجدر بها أن تدخل المجتمع البشري بيضاء الوجه. ويجب على كل فرد منا أن يتكلم أمام هذه اللجنة بملء الحرية من غير أن يؤثر فيه مؤثر، ويعرب عما في قلبه ويبين كل ما في فؤاده، راميا إلى درك مصالح أمته بدون خوف ولا حذر. (هتاف- تصفيق) .
لا تحسبوا أن أحدا يريدكم على قبول ما لا تريدون. فإن مستقبلكم بين أيديكم على أن تبرزوا لهذه اللجنة القادمة كل تصرف مجيد. نعم، إنه يوجد من يقول إننا نحن العرب أو السوريين لا نتمكن من إدارة شؤوننا بأنفسنا. ربما يكون هذا حقا وربما يكون باطلا، فيلزم أن نفهم من يقدم علينا أننا إذا تركنا وشأننا نتولى أمورنا بأنفسنا سنتمكن من إثبات كفاءتنا وجدارتنا. فإذا أثبتنا ذلك فدعونا نسير في سبيل الأمم المتمدنة.
وبما أن الحالة الحاضرة هي ميزان المستقبل، وبما أن الأمة محتاجة إلى توحيد الكلمة، فوحدوا كلمتكم وأجمعوا على طلب الغاية التي تريدونها لأنفسكم وبلادكم. ولو كنت في غير مقامي هذا لجئت بتصريح أفصح وأوضح. ولست بمكلّفكم تكليفا ما، وليس لأحد كذلك، فأنتم المختارون. هذه أقوالي وسنبدي للعالم ما نحن محتاجون إليه (أصوات:
فلنعتمد الأمير، هتاف عال) .
أنتم أحرار في بلادكم، وستقولون ما تريدون ويعمل بما تريدون. وهذه هي النتيجة المختصرة المفيدة أخبركم بها، وإني سأقوم بواجبي فيما ينفع الأمة وفيما يوطد دعائم استقلالها في الحاضر وفي المستقبل اعتمادا على ما خولتني إياه من الثقة.
نعلم أن فينا من هو في الأقلية ومن هو في الأكثرية بالنظر إلى المذاهب؛ وهو الأمر الذي ربما يقال أو يتصور أنه موضع اختلاف، وقد يمكن أن يجعل ذلك بعض من يجهل حالة العرب اليوم سببا للقول في أمر العرب ومستقبلهم. أما أنا فأقول: لا أكثرية ولا أقلية لدينا، ولا شيء يفرق بيننا. إنما نحن جسم واحد. (تصفيق وهتاف) . ولا شك أن أعمال الحكومة الموقتة تدل على أن لا أديان ولا مذاهب، فنحن عرب قبل موسى ومحمد وعيسى وإبراهيم. نحن عرب تجمعنا الحياة ويفرقنا الموت. لا تفريق بيننا إلا إذا قبرنا.(3/564)
(هتاف) . ولا بد أن الحكومة- التي ستؤسّس بمساعدة من أخذ بناصرنا من الأمم المتمدنة العظيمة- ستعمل بجميع ما هو واجب لتأييد حقوق الأقلية. وسنقطع على ذلك العهود المكتوبة بالصحائف، وأنا واثق أن هذه الصحائف التي تكتب لحفظ حقوق الأقلية ستأتي الأقلية فتمزقها بيدها؛ لأنها سترى أن الأكثرية عاملة بما سطرته وفوق ما سطرته.
وأؤمل أن كل سوري يكون عربيا قبل كل شيء. وأؤمل أن كل من يتكلم بالعربية يشعر بمثل هذه العواطف التي أشعر بها. (تصفيق) . لا يحترمنا العالم المتمدن إلا إذا احترمنا أنفسنا واحترم بعضنا بعضا. وإذا انقسمنا إلى أحزاب وشيع فإنه يستخفّ بنا. وهو ينظر إلى الأديان كافة نظرا واحدا ولا يميز بين أمة وأمة، وأريد أن ينظر المجتمع العربي بعضه إلى بعض بهذا النظر.
يجب عليّ أيضا أن أكرر القول: إن أول عمل ينبغي علينا القيام به بعد ذهاب اللجنة- وما هو بعيد الأمد- أن تكون مجتمعاتنا علمية وأدبية لا سياسية. وإني أنشّط جميع مواطني الذين يسعون في إنشاء جمعيات علمية، وأكون سعيدا إذا رأيت اسمي مقيدا بين أسمائهم.
تريدون أن أتكلم عن السياسة أكثر من ذلك فحسبي ما جئت به، ولكني أتكلم الآن عن العلم، وإني أتمنى أن يكون هذا النادي الذي أتشرف اليوم بالوقوف فيه خادما للعلم ومصدرا للآداب كافة. وأطلب من الأمة أن تنظر إلى مستقبلها بعين الارتياح.
ينبغي أن نكون إخوانا ولا نتفرق ولا يكون بيننا أحزاب، حتى لا يؤثر شيء في مصيرنا. ومن أصابه أدنى ظلم من أي شخص كان فليصبر على ما يصيبه وليأت إلى المرجع المسؤول فيخبره بما أصابه. وربما يوجد مضلّون يحبون أن تتنازعوا- كما وقع قبل مدة- حتى يقولوا: إننا لسنا بمستحقين للحكم الذاتي، وتسوء سمعتنا أمام العالم بمثل ذلك.
فإني أحذركم عواقب هذه الأمور التي لن تسمع ولن ترى إن شاء الله. وإني لأتوقع أن أسمع وأرى كل ما يسرني من الهدوء، وجمع الكلمة على طلب ما هو بغية كل عربي من الاستقلال الذي ستنالونه. اربطوا الجأش واعتصموا بحبل واحد.
من البديهي أن الأمن من ضروريات البلاد. والأمن لا يقوم إلا بالرجال وهم الدرك(3/565)
والجند. نعم، إن الأمة قد خرجت من الحرب ناصبة «1» من الجندية؛ ولكن الوطن يحتاج إلى من يصون الأمن فيه، فأتمنى كثيرا أن تهرع الأمة إلى الانتظام في هذا السلك.
أريد أن أرى الشهباء عند عودتي في المرة الثانية قد أكملت أهبتها. إن إخوانكم الدمشقيين قاموا بواجباتهم في هذا السبيل أحسن قيام، وأؤمل أن أراكم غير متأخرين عن إخوانكم أولئك. بل الذي أؤمله أن تسبقوهم.
وإني أختتم الآن الكلام فأقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته» .
زيارة سموه المستشفى الوطني ومكتب الصنائع:
ثم إن سمو الأمير فيصل زار في هذا اليوم المستشفى الوطني ومكتب الصنائع، وسرّ بما شاهده فيهما من آثار الرقي والتقدم. وفي ثاني يوم طاف في أسواق حلب ماشيا ليس معه سوى جندي واحد يتفقد شؤون الناس ويطلع على أحوالهم.
مأدبة البلدية لسمو الأمير:
وقد أدبت لسموّه البلدية مأدبة حافلة، جلس على مائدتها نحو من مئة وخمسين ذاتا من وجهاء حلب وعلمائها ورؤسائها الروحيين. وفي انتهاء الحفلة شكر الأستاذ الدكتور السيد عبد الرحمن الكيالي- على لسان البلدية- سموّ الأمير على تنازله بإجابة دعوى «2» البلدية إلى هذه المأدبة، والتمس منه غض الطرف عما يراه من التقصير فيما يجب لسموه.
حفلة الجمعية العلمية لسمو الأمير:
وفي نحو الساعة الثالثة بعد ظهر يوم الجمعة 14 رمضان دعت جمعية النهضة العلمية سموّ الأمير إلى حفلة أقامتها له في نادي العرب، حضرها وجهاء البلدة وأعيانها، وتبرع الأمير بألف جنيه مصرية للجمعية وبراتب شهري عشر ليرات. وتبرع مولود باشا بخمسين جنيها وبراتب شهري خمس ليرات. وتبرع زكي بك الخرسا بمائتي جنيه وبنفقة عشرة(3/566)
تلامذة من أبناء العرب يرسلون إلى مكاتب أوربا. وتبرع السيد عبد الرحمن محّوك بثلاثمائة جنيه وبراتب شهري عشرين جنيها.
وصول برقية من المارشال اللّنبي عن اللجنة الدولية:
في هذه الأيام وصل من المارشال اللّنبي برقية تتعلق باللجنة الدولية، صورتها بعد التعريب:
«تصل إلى الشرق عما قريب اللجنة التي تبحث في الأمور المتعلقة بمستقبل سوريا وفلسطين والعراق السياسي، وذلك بعد أن يكون المندوبون الأمير كيون قد تحقق سفرهم إلى هذه الأقطار. وعندما تنتهي هذه اللجنة من فحص الحقائق المتعلقة بهذا الشأن يقدم أعضاؤها رأيهم إلى مجلس الدول المحالفة العظمى، فيقرر المجلس الأمر تقريرا نهائيا» .
عود سمو الأمير فيصل إلى دمشق:
وفي هذا الشهر عاد سمو الأمير فيصل إلى دمشق فشيّع باحتفال فائق.
الوفد الدولي واجتماع رجال حلب للمذاكرة بما يجيبونه به:
تقرر في المراجع الكبرى الأوربية إيفاد وفد أميركي إلى فلسطين وسورية لاستفتاء أهل البلاد. ولما أنبأ البرق بهذا الخبر عقد علماء حلب ووجهاؤها من جميع الملل جمعية كبرى في قاعة الأستاذ الدكتور السيد عبد الرحمن الكيالي وتذاكروا فيما بينهم بالجواب الذي يجيبون به الوفد الأميركي عن أسئلته. وبعد الأخذ والرد كانت الأكثرية في أن يكون الجواب هكذا:
«نطلب أن تكون سوريا مستقلة بحدودها الطبيعية استقلالا تاما وإذا لم يكن بدّ من إشراف دولة كبرى عليها فلتكن جمهورية أميركا، وإذا رفضت أميركا أن تكون مشرفة عليها فلتكن دولة إنكلترا؛ لا نرضى بإحداهما بديلا» .
ثم أبرقت الجمعية بذلك إلى عصبة الأمم في أوربا.(3/567)
أعضاء المجلس العمومي:
في اليوم ال 16 من رمضان اجتمع في دار الحكومة المنتخبون الثانويون وانتخبوا سرا أعضاء ليمثلوا الشهباء في المجلس العمومي والمؤتمر السوري الذي سيعقد في دمشق عاصمة سورية.
افتتاح المؤتمر السوري:
وفي يوم الاثنين 9 شوال دعا سمو الأمير فيصل أعضاء المؤتمر السوري إلى النادي العربي في دمشق. ولما تكامل الجمع فاه بخطاب أبان فيه أن الغرض من هذا الاجتماع تمثيل الأمة السورية أمام اللجنة الأميركية وعرض أمانيها ومطالبها لتقدّمها اللجنة إلى مؤتمر السلام، وسنّ قانون أساسي يكون دستورا لأعمال الأمة في المستقبل ويحفظ حقوق الأقليات.
وبعد هنيهة من الزمن اجتمع أعضاء المؤتمر وقرروا أجوبتهم إلى اللجنة الأميركية، وهي: طلب الاستقلال التام ورفض كل حماية ووصاية على سورية بحدودها الطبيعية المعروفة، ومنع المهاجرة الصهيونية، وعدم تجزئة سورية، وتأليف حكومة دستورية ديموقراطية برآسة الأمير فيصل، وتنظيم قانون أساسي تراعى فيه حقوق الأقليات، والاجتماع على المادة ال 22 من قانون عصبة الأمم، وأنه إذا كان لا بد من إصرار مؤتمر الصلح على انتداب دولة على سوريا لأسرار خفية لا يدرك كنهها، وبناء على تصريحات الرئيس ويلسون- القائلة بأن الدولة المنتدبة تكون لنفع الشعب المندوبة عليه لا لنفعها- فلذلك نطلب هذه المساعدة من دولة أميركا البعيدة عن المطامع الاستعمارية في بلادنا بشروط معينة على ألّا تمسّ هذه المساعدة استقلالنا السياسي، وتكون عبارة عن مساعدة فنية علمية لمدة عشرين سنة فقط. وإذا رفضت أميركا فلتكن هذه المساعدة من دولة إنكلترا بنفس الشروط، وإننا نرفض كل حقّ تدعيه (الدولة الأخرى) مع رفض كل مساعدة تقدمها لسوريا.
وقد استغرقت هذه المناقشة نحو أربع ساعات، ثم قبلت بعد تحوير طفيف بأكثرية 46 صوتا يخالفها 11 صوتا و 16 صوتا عدّ أصحابها مستنكفين.(3/568)
وصول اللجنة الأميركية إلى حلب واستفتاؤها الشعب الحلبي:
في منتصف ليلة الخميس 16 شوال سنة (1337) وصل أعضاء اللجنة الأميركية إلى حلب قادمة عليها من حماة بالقطار الحديدي. وفي الغد أخذت وفود الأقضية ومشايخ العشائر ترد على حلب لمقابلة اللجنة ومكاشفتها عن أميالهم. وفي ثاني يوم تصدت اللجنة لقبول أهل ولاية حلب واستفتائهم عن مصير بلادهم، فكان وجهاء كل محلة من أهل حلب يدخلون على الانفراد غرفة اللجنة ويبدون لها مطالبهم. كما أن كل ذي شخصية بارزة من أهل أقضية الولاية يدخلون فرادى على الغرفة ويصارحونها بمطالبهم. وكان مآل ما طلبه جميع الأهلين «1» مطابقا لما قرر المؤتمر السوري الذي أسلفنا ذكره.
قدوم الشريف ناصر إلى حلب وعوده إلى دمشق:
في يوم الأربعاء 25 شوال سنة (1337) وصل الشريف ناصر إلى حلب قادما عليها من دمشق، فاستقبل بحفاوة ونزل في دار الإمارة. وبعد أيام عاد إلى دمشق.
عود ناجي بك السويدي:
في شهر ذي القعدة عاد إلى الشهباء المعاون الملكي ناجي بك السويدي؛ بعد تغيبه ثلاثة أشهر مأذونا لزيارة الأهل والأصدقاء، فاستقبل استقبالا حافلا.
سفر سمو الأمير فيصل إلى أوروبا:
في شهر ذي الحجة سافر سمو الأمير فيصل إلى أوروبا ليكون في اليوم 16 من أيلول سنة 1919 م حاضرا في باريس، وهو اليوم الذي تطرح فيه المسائل السورية على بساط البحث، وقبل سفره أوصى الأهلين بالتؤدة والسكون وانتظار النتيجة وألّا يغرهم ما يشيعه بعض أرباب الأغراض، وأن يكونوا يدا واحدة ولا يدعوا للشر واليأس مجالا.(3/569)
قدوم الأمير زيد إلى حلب:
وفي هذا الشهر قدم الأمير زيد إلى حلب، فاحتفل باستقباله. وبعد أن أقام في حلب أياما قلائل- حثّ في خلالها على التطوع العسكري وعلّق الأوسمة على صدر بعض الموظفين الكبار، أوّلهم جعفر باشا- عاد إلى دمشق.(3/570)
سنة 1338 هـ
انسحاب الجيش الإنكليزي من دمشق وحلب:
في شهر ربيع الأول منها انسحب الجيش الإنكليزي من دمشق وحلب، وأصبح أمر الأمن منوطا بالحامية الوطنية المتطوعة؛ إلى أن يتقرر مصير البلاد في مؤتمر الصلح.
كان الأمن مدة احتلال الجيش البريطاني مادّا رواقه في حلب وسائر ملحقاتها، وكانت حركة الاقتصاد في نجاح عظيم لم يسبق له نظير.
مظاهرة:
يوم الخميس 4 ربيع الأول منها قام طلاب المدارس في حلب على اختلاف طبقاتهم- ومعهم جمهور من الناس- بمظاهرة وطنية احتجاجا على الاتفاق الأخير الذي يرمي إلى تجزئة البلاد، فطافوا في الشوارع ورفعوا الأعلام العربية وقصدوا دار الحكومة، فاستقبلهم الحاكم العسكري وشكر عواطفهم الوطنية، وخطب أحدهم فقال: إننا جميعا متطوعون نضحي أموالنا وأرواحنا في سبيل حريتنا واستقلالنا، وليحي الأمير فيصل.
ثم في يوم السبت 6 منه قاموا بمظاهرة أخرى نظير المظاهرة الأولى.
بلاغ مندوب حكومتي إنكلترا وفرنسا:
وفي هذا الشهر ورد من الحاكم العسكري في دمشق إلى الحاكم العسكري بحلب كتاب خلاصته: إننا تبلغنا رسميا من المندوبين المومأ إليهما أن الجنود الفرنسية ستحلّ محل الجنود البريطانية في شتورة ورياق وبعلبكّ، حسب القرار العسكري الأخير، احتلالا عسكريا على أن تبقى هذه المناطق مرتبطة من الوجهة الإدارية بالحكومة العربية.
وعلى أثر هذا الخبر انتدب اللواء نوري باشا السعيد إلى مقابلة القائد الفرنسي العام(3/571)
في بيروت ليفهمه الأخطار التي تنجم عن هذا الإشغال الذي لا ينطبق على أفكار الشعب.
وبعد بضعة أيام ورد من دمشق على قيادة الفرقة الثالثة بحلب برقية مآلها أن الفرنسيين عدلوا أول أمس عن إشغال بعلبك ورياق وشتورة وحاصبيّا وراشيّا، واكتفوا بإقامة ضابط ارتباط في بعلبك فقط فاستبشر الناس بهذا الخبر.
روابط المحبة بين العرب والأرمن في حلب:
في هذا الشهر أقامت طائفة الأرمن بحلب حفلة شاي في ميتم الأرمن الكائن في خان الصابون برآسة جعفر باشا، حضرها 52 شخصا من وجهاء العرب و 44 من وجهاء الأرمن تبودلت فيها الخطب الودية بين الطرفين، وخطب ناجي بك السويدي فبحث عن وجوب الاتحاد والتضامن بين الأمتين ومدح ثبات الأمة الأرمنية واستعدادها.
عود الأمير فيصل من أوربا:
يوم الأربعاء 23 ربيع الثاني سنة (1338) وصل سمو الأمير فيصل إلى بيروت عائدا من باريس، فاستقبلته وفود البلاد السورية استقبالا باهرا. وكان من جملة المستقبلين وفد حلب. وقد أطلقت المدافع تحية لمقامه الملوكي ورفعت له الأعلام العربية على أقواس الظفر المنصوبة بالشوارع.
خطاب الأمير في دمشق:
وبعد أن وصل الأمير إلى دمشق بيوم ألقى خطابا بحضور الجم الغفير، قال فيه ما خلاصته: إنه حتى الآن لم يعقد بينه وبين أيّ كان من الدول الأوربية اتفاق، وإنه لم يتحول عن عزمه الذي ذهب من أجله- وهو طلب الاستقلال- ليس لسورية فقط بل لجميع البلاد العربية، وإنه لا يتزعزع عن هذا العزم إلى آخر لحظة من حياته.
قدوم سمو الأمير فيصل على حلب:
في نحو الساعة التاسعة زوالية صباح يوم الخميس 9 جمادى الأولى سنة (1338) وصل إلى حلب القطار الخاص الذي يقلّ سمو الأمير فيصل فاستقبل أجلّ استقبال كان رسم برنامجه على صفة منظمة.(3/572)
سمو الأمير في نادي العرب:
يوم الجمعة 10 منه حضر سمو الأمير إلى حفلة أقيمت له في نادي العرب، وألقى خطابا حثّ فيه على الاهتمام بالتجنيد. ومن جملة ما قال فيه:
«إن البلاد لا تتخلص إلا بقدرة الباري وقوة التجنيد، وإن الجنود حرس الاستقلال» .
سفر الأمير:
وفي يوم السبت 11 منه برح الأمير حلب عائدا إلى دمشق.
تعيين حاكم عسكري على حلب:
وفي جمادى الأولى منها تعيّن عبد الحميد باشا القلطقجي حاكما عسكريا على حلب، وتشكلت فيها متصرفية مستقلة. وبعد أيام قلائل ورد الأمر بإبقاء حلب ولاية كما كانت سابقا.
استقلال سوريا وتتويج سمو الأمير فيصل ملكا عليها:
يوم الاثنين 18 جمادى الثانية سنة (1338) هـ و 8 آذار سنة (1920) م أعلن استقلال سوريا، وتوج سمو الأمير فيصل في دمشق ملكا على سوريا، فأطلقت مدافع البشرى من قلعة حلب وأقبل وفود المهنئين على الحاكم العسكري ومعاونه. ثم تلا ناجي بك السويدي المعاون صورة البرقية المعلنة بذلك فقابلها الجمهور بالاستحسان، وانبرى الخطباء يعددون فضائل الاستقلال وفوائده. وفي المساء زينت البلدة وقامت الأفراح وعزفت آلات الطرب.
مبايعة رؤساء الطوائف المسيحية في دمشق لجلالة الملك فيصل الأول:
صورة المبايعة بالحرف الواحد
«باسم الله» إننا، نحن الواضعين إمضاواتنا وأختامنا بذيله، الرؤساء الروحانيين للملل التابعة لنا، نقرر ما يأتي:(3/573)
لما كان قد وقع اختيار الأمة السورية على تمليك سمو الأمير فيصل ابن جلالة الملك حسين الأول على سوريا بحدودها الطبيعية؛ حضرنا اليوم في دائرة بلدية دمشق العاصمة لتأدية فرض المبايعة. فأصالة ونيابة نقرّ بأنه- مع مراعاة الشرائط السبعة التي ارتبطنا بها مع سموه في أول مقابلة بيننا يوم الاثنين في سادس شهر تشرين الأول سنة 1918 وهي:
طاعة الله، احترام الأديان، الحكم شورى على مقتضى القوانين والنظامات التي تسنّ لذلك، المساواة في الحقوق، توطيد الأمن، تعميم المعارف، إسناد المناصب والوظائف إلى أكفائها، وقبول سموه بها واحدة فواحدة- نبايعه ملكا على هذه البلاد متعهدين بالطاعة والإخلاص لجلالته والمعاونة لحكومته بكل ما تصل إليه القدرة. وعليه أعطينا هذا الصك تحت إمضاواتنا وأختامنا، مسترحمين صدور إرادة جلالته بنشره في الجريدة الرسمية تصديقا منه وقبولا بمضمونه، داعين لجلالته بطول العمر واستمرار التوفيق لما فيه خير البلاد وترقي أهلها» .
الإمضاوات: بطريرك الروم الأرثوذكس. بطريرك الكاثوليك. مطران السريان الكاثوليك، والقديم. خوري الموارنة. مطران الأرمن قديم وكاثوليك. رئيس البروتستان. حاخام اليهود.
وفد التهاني لجلالة الملك فيصل:
في شهر جمادى الآخرة منها سافر إلى دمشق- لعرض التهاني على جلالة الملك فيصل- وفد مؤلف من قاضي حلب ورؤساء الطوائف والوجوه، مسلمين وغيرهم.
والي الولاية:
ولي حلب رشيد بك طليع. وفي يوم الخميس 20 رجب قدم على حلب فاستقبل باحتفال كبير وأطلقت له المدافع من القلعة تحية وإجلالا.
الاحتفال بالعلم العربي:
في شهر شعبان سنة (1338) احتفل بتسليم العلم العربي في جهة المزّة. وقد خرج(3/574)
إليها الجيش العربي مشاة وفرسانا، وبعد قيامه بمناورة عظيمة وقف جلالة الملك فيصل والعلم بيده وقال يخاطب القائد:
«إن هذا العلم الذي في يدي لا يزال نقيا طاهرا لم يدخل المعارك ولم يلوّث بالدم، وإن غاية ما أتمناه أن يظل كذلك؛ إلا إذا أهين شرف الأمة وأراد أحد أن ينال من حرمتها، فعند ذلك أريد أن يبرهن هذا اللواء الذي أهدي إليه هذا العلم اليوم على أنه أهل لهذه الهدية، وأنه كيف «1» يفتدي العلم بدمه وكيف يدافع عن الوطن» .
ثم سلّم العلم إلى قائد الجيش. أما المكتوب على العلم فهو هذا، على أحد جانبيه:
«البسملة- وجاهدوا في سبيل الله- إن الله معنا- إنا فتحنا لك فتحا مبينا» . وعلى الجانب الآخر: «لا إله إلا الله محمد رسول الله- اللواء الأول سنة 1338- المشاة» .
زيادة الضرائب والدعوة إلى التجند وقيام الفتن في سورية الساحلية:
بعد تتويج الأمير فيصل ملكا على سوريا واستقراره على عرش الملك، بدأت حكومته تزيد في الضرائب وتدعو إلى التجنّد. وكانت العصابات في المنطقة الشرقية السورية- التي تخفق عليها الراية الفرنسية- قد استفحل أمرها. وكانت الدولة المنتدبة المحتلة في سواحل سوريا قد أهمها أمر تلك العصابات وجهزت لقهرها جيشا جرارا، فلم يتسنّ لها قمعها إلا بعد جهود عظيمة وخسائر جمّة. وكثرت الفتن والوقائع في جهات بشارة وأنطاكية وتل كلخ وغيرها من الجهات السورية.
توتر العلائق بين جلالة الملك فيصل وبين الحكومة الفرنسية المنتدبة:
ولما حدثت هذه الأمور أخذ الارتياب من سمو الأمير فيصل يأخذ محلّه من نفوس الحكومة الفرنسية المنتدبة، وكان قد تسرب إليها الشك في إخلاصه لها من خطبة ألقاها في دمشق لمحّ فيها إلى وجوب رفض الانتداب الفرنسي والإصرار على الاستقلال التام، وذلك بعد أن كان ألقى في بيروت خطبة صرح فيها بما يوافق فرانسة ويرمي إلى غرض الرضا بانتدابها.(3/575)
أول ما ظهر من نتائج توتر العلائق:
قال الأستاذ الفاضل محمد كردعلي في كتابه خطط الشام ما خلاصته: كان الجنرال غورو المفوض السامي للجمهورية الفرنسية ولبنان يعزز جيشه في الساحل. ثم في 11 تموز سنة (1920) أرسل إلى الملك فيصل كتابا قال فيه: «بينما كانت السكينة سائدة في سوريا أثناء الاحتلال الإنكليزي ابتدأ الفساد يوم حلت جيوشنا محل الجيوش البريطانية، ولا يزال آخذا بازدياد منذ ذلك الوقت» . وأرسل إليه أيضا يوم 14 تموز بلاغا يكلفه فيه أن يعطى فرنسا الخط الحديدي من رياق إلى حلب، وأن تلغي حكومة فيصل القرعة العسكرية، وأن يقبل الانتداب الفرنسي والنقود السورية، ويضرب على أيدي الأشقياء.
فطلب الملك مهلة أربع وعشرين ساعة. فانتهت ثم مددت أربعا وعشرين ساعة أخرى، ثم مددت ثانية ولم يجب لانقطاع الأسلاك البرقية. وحينئذ سار الجنرال غورو بجيوشه إلى جهة دمشق واشتعلت نار الحرب في جبال ميسلون بين جيوشه وبين الجيش العربي، يعضده بعض عامة دمشق وبضع مئات من البدو، فكانت الغلبة للجيوش الفرنسية. ثم أعلم الجنرال غورو الملك فيصلا أنه مستعد أن يتوقف عن الزحف إذا قبل بموادّ الإنذار السابق وبشروط بيّنها له- مذكورة في خطط الشام- فتأخر جواب الملك فيصل عن هذا الإنذار، فاستمرت الجيوش الفرنسية على الزحف إلى أن دخلت دمشق في اليوم ال 25 تموز سنة (1920) بعد أن قتل من الجيش العربي مقتلة عظيمة. وأسر منه العدد الكبير على الوجه الذي حكاه الأستاذ محمد كردعلي في خططه مفصلا.
ذكر ما حدث في حلب أثناء هذه الحرب:
وفي أثناء هذه الحرب ورد الأمر من قيادة دمشق إلى القيادة العسكرية العربية بالاستعداد إلى مقاومة الجيوش الفرنسية. فاستعدت القيادة للمقاومة على زعمها بإعداد جيش من الجند الوطني لا يزيد عدده على بضع مئات، ونشرت الدعوة للمقاومة بين العامة واستدعت بعض قبائل الأعراب من ضواحي حلب، وخرجت العامة إلى الثكنة العسكرية وطلبوا من القيادة السلاح فلم تعطهم. وطلب الجند منها عددا من المدافع فأجابتهم بأن ما هو موجود منها في الثكنة مختلّ لا يصلح للاستعمال.(3/576)
ثم ورد الأمر من القيادة في دمشق بالتسليم وعدم المقاومة، ثم ورد بالمقاومة. غير أن الحكومة الحلبية حينما رأت هذا التذبذب في الأمر وضعف الأمة عن المقاومة، عقدت مجلسا من أعيان حلب ووجهائها للاستشارة في هذه المسألة فاختلفت الكلمة في ذلك.
وأخيرا رأى حضرة كامل باشا القدسي أن المقاومة تضر بالبلدة فضلا عن كونها لا تؤدي إلى الغرض المطلوب، وقد أقام على ذلك ما لا يمكن دحضه من الأدلة والبراهين. وقوله في ذلك حق لامراء فيه ولا سيما وهو رجل عسكري محنك. وعليه فقد أذعن الحاضرون إلى رأيه وقرروا التسليم بالطّوع والرضا.
منشور ألقته الطيارة على حلب:
وقبل قدوم الجيش الفرنسي إلى حلب ألقت طيارة مئات من نسخة منشور باللغة العربية خلاصته: أن فرنسا لا تتعرض إلى استقلالكم ولا تدعو إلى التجنيد، وهي تخفف عنكم الضرائب ولا تعمل بسلطتها ضدكم، ولا تتعرض إلى الموظفين الوطنيين؛ بل تبقي كل واحد منهم في وظيفته، وإن مقاومة جيشها يضرّ بالبلد وأهلها ويضطر فرنسا إلى عمل لا تحمد عقباه. وهو منشور طويل هذا فحواه.
والي حلب:
في شهر ذي القعدة سنة (1338) ولي حلب حضرة ناجي بك السويدي.
دخول الجيش الفرنسي إلى حلب:
صباح يوم الجمعة 8 ذي القعدة سنة (1338) وفي 23 تموز سنة 1920 م احتلت الجيوش الفرنسية مدينة حلب، وأشغلت بعض النقاط في أطراف البلدة ولم يحدث أقل حادث.
وفي صباح يوم الجمعة المذكور جرى الاحتفال بقدوم الجنرال «ده لا موط» قائد الجيوش الفرنسية في المنطقة الشمالية السورية، فزار مقام الولاية وألقى خطابا قوبل بالاستحسان. وإليك ترجمته:
«أيها السادة: إن فرنسا وجنودها لم تدخل هذه البلاد بصورة عدائية، ولا مقصدها(3/577)
الاستيلاء على البلاد ولا استعمارها؛ بل إن الواجب الوطني هو الذي ألقي على عاتقها لرقي البلاد وإسعادها وإيصالها إلى أقصى درجات الرقي والعمران. ولذلك فإن الحكومة باقية على ما هي عليه، محافظة على شكلها وموظفيها وقوانينها وأحكامها.
لذا، فإني أطلب من جميع رؤساء الدين والأشراف والأعيان والأهالي دوام الألفة وازدياد المحبة بين جميع طبقات الأمة وإطاعة أوامر الحكومة، وبذلك يكونون سعداء، وعلى الأخص فيما إذا تحققت أمانيهم برؤيتهم هذه البلاد سعيدة حرة مستقلة. اه» .
رفع استقالة:
رفع حضرة ناجي بك السويدي والي الولاية استقالته إلى وزارة الداخلية فقبلت.
والي الولاية الجديد:
يوم الثلاثاء 19 ذي القعدة سنة (1338) 3 آب سنة (1920) م عيّن سعادة كامل باشا القدسي من كبار أعيان حلب واليا للولاية.(3/578)
إجمال في الكلام على الأمة الفرنسية المحترمة «1»
مملكة فرنسا، ومن أين أتى إليها هذا الاسم؟
ذكروا أن هذه المملكة قديمة العهد واسعة الحد، وأنها كانت تضم إليها جميع مملكة البلجيك وسويسرا وضفاف نهر الرين وبلاد فرانسا الحالية، وأنه كان يسكنها قديما أقوام يقال لهم إيبير وبسك وسكسكون. ثم قبل المسيح بنحو ألفي سنة زحف عليها أقوام يقال لهم الغال وسلتيك، وغيرهم من أمم البربر. وفي سنة 58 ق. م زحف عليها القائد الروماني يوليوس قيصر واستخلصها من يد أهلها. وسماها الرومانيون غاليه، واليونانيون سلتيك.
وبعد أن اضمحلت الدولة الرومانية زحف على هذه المملكة أمم من البربر يقال لهم ويزيكوت- توطنوا الجهة الغربية- وبرغوند: توطنوا منها الجهة الشرقية، وفرانك:
توطنوا منها الجهة الشمالية. ثم زحف عليها أتيلا ملك الهون فتألبت عليه هذه الطوائف وطردته عنها. وكانت طائفة فرنك أعظم الطائفتين بلاء في طرده، فترأست عليها وسميت تلك البلاد باسمها وصارت تدعى فرنسا، التي أصلها فرنك، والعرب يسمونها فرنجة.
ومن ذلك الوقت دخلت تحت تملك الملوك الفرنسيين.
وقد قسم المؤرخون ملوك فرنسا إلى ثلاث سلاسل، فحذونا نحن حذوهم. وسنتكلم في الآتي من هذا الإجمال على كل سلسلة منهم وعلى ما كان من الحوادث العظيمة في أيامهم.
ديانة سكان تلك البلاد:
كان الغاليّون يعبدون إلها اسمه «توتاتيس» وغيره من الأوثان، وكانوا يقدمون له الضحايا من نبات الحقول ولا سيما ورق البلوط المسمى (دكى) ، وهم يسمون كهنتهم(3/579)
(درويد) . وقد جعلوهم عليهم حكاما وعلماء وكهنة، وكانوا يتّشحون بثياب طوال سود ويعقدون على رؤوسهم أكاليل من ورق البلوط. وكان الفرنك يدينون بالوثنية ويعبدون إلها اسمه أودين أي إله الحرب.
متى دخلت النصرانية تلك البلاد؟
يذكر أن أول من دعا للنصرانية في هذه البلاد هو العازار الذي أحياه المسيح.
أول من تنصر من ملوك فرنسا:
وأن أول ملك من ملوك فرانسة اعتنق الديانة المسيحية هو الملك كلوفيس حفيد مى روى، أول ملك من ملوك السلسلة الأولى الفرانسيين، وذلك سنة 496 م. وكانت زوجته كلوتيد مسيحية، وقد عمد في عيد ميلاد هذه السنة في كنيسة رانس في حضور جم غفير.
السلسلة الأولى من ملوك فرانسة:
هذه السلسلة تدعى الميرونجيين. وأول من ملك منها على فرانسا هو الملك مى روى تسلم زمام الدولة الفرنسية حينما صارت تعرف بهذا الاسم. وبعد وفاته خلفه أولاده ثم حفدته وكان أعظم ملوك هذه السلسلة الملك كلوفيس- أحد حفدة الملك مى روى- وأما الباقون من ملوكها، الذين هم أولاد كلوفيس وحفدته، فلم يرافقهم النجاح في أعمالهم لاستيلاء التواني عليهم حتى عرفوا باسم الملوك المتوانين، ولهذا تغلب عليهم أحد وزرائهم المسمى شارل مرتيل وصار ملكا على فرانسا، وهو الذي حارب العرب في جبهات بواتيه وانتصر عليهم.
السلسلة الثانية:
ثم إن بيبان (القيصر) اتحد سنة 752 م/ 135 هـ مع البابا ضد اللومبرديين فتوّجه ملكا. وبذلك انتهت سلسلة الملوك الميرونجيين- التي هي السلسلة الأولى من ملوك فرانسا- وابتدأت سلسلة ملوك فرانسا الثانية التي أول ملك منها بيبان المذكور. ولما آل ملك فرانسا إلى شرلمان- الذي هو أعظم ملوك هذه السلسلة- اهتم بإعلاء شأن بلاده(3/580)
فوسّع نطاقها حتى وصلت حدودها إلى نهر الألب من جهة ألمانيا، وإلى مدينة رومية من جهة إيطاليا، وإلى الأبير من جهة إسبانيا، وإلى نهر الدانوب من جهة النمسا. وقد توّجه البابا لاون الثالث إمبراطورا في مدينة رومية سنة 800 م/ 184 هـ، وكان النصر حليفه في أكثر حروبه. ونهضت مملكته في أيامه نهضة عظيمة فكثرت الإصلاحات الإدارية والمشاريع العلمية والأدبية. وكان صديق الخليفة هارون الرشيد العباسي.
وقد تلقى الامبراطور شرلمان من علماء العرب علوما جليلة. ثم مات سنة 814 م/ 199 هـ وخلّف ثلاثة أولاد، فانقسموا على بعضهم وحدث بينهم عدة معارك، ثم اصطلحوا وقطعوا بواسطة الأساقفة عهودا بينهم في مدينة فردون سنة 816 م/ 201 هـ على أن تكون البلاد- التي على الضفة الشرقية من الرين- إلى لويس، وقد سميت بلاد جرمانيا. والبلاد الغربية بين البحر ومجرى نهر الرون ونهر السون والموز إلى أخيه كارلس الأصلع، وسميت بلاد فرانسا. وبلاد إيطالية والرون والسون- وما هو كائن من البلاد بين الموز والرين- إلى أخيهما لوتير. وسميت بلاد اللوتير نجي ومنها اللورين.
ثم إن بلاد فرنسا التي يملكها كارلس الأصلع استولى عليها الضعف بعد هذا التقسم، وطمع فيها النور منديون «1» وهم أسلاف سكان نرويج ودنمارك، فهجموا عليها عدة مرات فلم يفلحوا. ثم مات كارلس الأصلع وولده لويس الالثغ، وعادت مملكة شارلمان العظيمة إلى ما كانت عليه من القوة والمنعة وصارت كلها تحت راية واحدة يقبض عليها ملك واحد اسمه كرلس السمين. وفي ذلك الوقت عاد النورمنديون وزحفوا على هذه المملكة، فعجز الشرلمانيون عن مقاومتهم، واستمر النورمنديون على زحفهم حتى صاروا على أبواب العاصمة باريس وشددوا عليها الحصار. وحينئذ تجرد إليهم الكونت أود فدحرهم وولوا منهزمين.
وبعد أن توفي لويس الخامس ابن لوتير وحفيد لويس الرابع وكرلس البسيط رأى الأساقفة ووجوه أهل المملكة أن الشرلمانيين لم يقلعوا عن توانيهم، فقرروا أن ينزعوا الملك منهم ويسلّموا صولجانه إلى حفيد الكونت أود- واسمه هوك كابه- وذلك سنة(3/581)
987 م/ 377 هـ وبذلك انتهت سلسلة الشرلمانيين الثانية من سلسلة ملوك فرانسة وابتدأت السلسلة الثالثة منهم.
السلسلة الثالثة:
هذه السلسلة تسمّى ملوكها بالملوك الكابيسيين الذين دام تملكهم على المملكة الفرنسية من سنة 987 م/ 377 هـ إلى سنة 1848 م/ 465 هـ. وقد علمت أن أول ملك من ملوك هذه السلسلة هو الملك هوك كابه وإليه تنتسب هذه السلسلة.
على أن ملوك هذه السلسلة قد قصروا اهتمامهم في بدء أمرهم على مقاطعتهم الخصوصية، وهي مقاطعة إيلدو فرانس، ولم يتلفتوا إلى باقي المملكة الفرنسية، فاستبد بها حكامها واستقلوا بأحكامها وصاروا مثل ملوك الطوائف (feodalite) في أيام ضعف الخلفاء العباسيين، ولم يبق للملوك الكابيسيين سوى سلطة اسمية وأمور شرفية وبعض امتيازات لا فائدة في ذكرها.
وقد تعاقب ملوك هذه السلسلة على عرش فرانسا الخيالي، وكانوا على التمادي يزدادون ضعفا ووهنا ومنهم الملك روتير التقي، الذي كان ملكا من سنة 996 م/ 386 هـ والملك هنريكيس الأول الذي كان ملكا من سنة 1031 م/ 423 هـ إلى سنة 1060 م/ 452 هـ، وفيلبوس الأول الذي ملك من سنة 1060 م/ 452 هـ إلى سنة 1108 م/ 502 هـ وكرلس البسيط الذي أعطى النورمنديين مقاطعة فوستريا مع مدينتي (روان وكان) ، فسميت هذه المقاطعة باسمهم. وقد استفحل أمرهم حتى استولوا على بلاد إنكلترا وتتوج قائدهم الدوك (غليوم) الغازي ملكا في لوندرة فأصبح أعظم قدرة وصولة من ملك فرنسا، مع أنه تحت حكم ملك فرانسا. ثم لما ملك لويس السادس- المسمى لويس الضخم أو لويس النبيه- بعد فيلپوس الأول باشر الحرب ضد ملوك الطوائف. وقد امتد ملكه من سنة 1108 م/ 502 هـ إلى سنة 1137 م/ 532 هـ.
وكانت حروب الصليبيين قد بدأت منذ سنة 1096 م/ 490 هـ وامتدت حتى سنة 1270 م/ 669 هـ وعدد حملاتها ثمانية. وقد استولى الصليبيون في هذه المدة على القدس ونواحيها. ثم عادت إلى حكم المسلمين بسبب ضعف الصليبيين وانقسامهم على بعضهم.
وقد نهض الصليبيون في تلك الأيام نهضة عظيمة في العلوم والفنون ولا سيما في فن الهندسة.(3/582)
وسبب ذلك أن الاعتقاد كان سائدا بين الأمم الغربية بأن العالم سينتهي في حدود سنة 1000 م/ 391 هـ فلما انقضت هذه السنة ولم يحدث شيء من ذلك ساء اعتقادهم في التكهّنات والتفتوا إلى الاهتمام بالعلوم والهندسة الكنائسية. وتولى الملك لويس السادس سنة 1137 م/ 532 هـ وخلفه ابنه البكر لويس السابع. وبقي في الملك إلى سنة 1180 م/ 576 هـ. وكان في أثناء تملكه مجدا في الحروب الصليبية بدلا عن أن يستخلص بلاده من ملوك الطوائف.
ثم خلفه الملك (فيلبوس أغستوس) واستمر ملكه إلى سنة 1223 م/ 620 هـ فاشترك مع إمبراطور ألمانيا (فريدريك باربروس) وملك الإنكليز (ريشار قلب الأسد) في الحرب الصليبية في الحملة الثالثة وتحاربوا مع صلاح الدين الأيوبي. ثم رجع الملك فيلبوس إلى فرنسا قبل ملك الإنكليز. وأخذ مقاطعتي (البواتو) والنورمنديين الذين كان الإنكليز قد طردهم من بلادهم واستولوا على أصل مقاطعتهم وكسر فيلبوس الإنكليز المتحالفين مع ألمانيا وذلك سنة 1214 م/ 625 هـ. وهذه المعركة تعرف بمعركة (بووين) . ومن آثار الملك فيلبوس أغستوس قصر اللوفر الشهير في باريس فهو الذي بناه وأسس فيها الكلية الشهيرة أو مجتمع المعلمين والطلبة.
ثم مات الملك فيلبوس سنة 1223 م/ 625 هـ وخلفه الملك لويس الثامن فبقي ملكا من هذه السنة إلى سنة 1226 م/ 623 و 624 هـ فلم يمكّنه قصر مدته إلا من محاربة هرطقة الألبيجينيين الناكرين أهم العقائد المسيحية.
ثم مات وخلفه الملك لويس التاسع الذي يسمونه القديس لويس. ولما كان صغيرا تملكت عوضه أمه الشهيرة باسم (بلانشة دي كستيل) فربته أحسن تربية. ولما بلغ رشده تسلم زمام الملك وأقدم على الحملتين الأخيرتين من حملات الصليبيين فوصل إلى مصر، واستولى على دمياط وعجّب الأتراك بشجاعته. ثم رجع إلى بلاده وحارب الإنكليز وانتصر عليهم في مدينتي (تيبرغ) و (سانت) . ثم أرجع لهم مقاطعة (البواتو) على شرط ألّا يعودوا يتعدّون على مقاطعة (نورمنديا) وامتاز الملك لويس بعدله وانعطافه على الشعب.
ثم باشر سنة 1270 م/ 669 هـ الحملة الثامنة الأخيرة من حملات الصليبيين فدخل جهات تونس وقد تفشى الطاعون في عسكره. ثم أصيب به ومات في هذه السنة.(3/583)
وخلفه ولده فيلبوس الثالث المسمى بالجسور وملك حتى سنة 1275 م/ 684 هـ فترك الحملة الصليبية وحمل جثة أبيه إلى فرنسا ولم يمتز عن غيره بشيء من الأعمال. أما خلفه، وهو ولده حفيد فيلبوس، الجميل الذي ملك من سنة 1285 إلى سنة 1314 م/ 744 هـ فإنه أظهر اقتدارا عظيما في توطيد سطوة الملك وتوسيع نطاق المملكة، وقاوم البابا (بونيفاس) الثامن فحرمه البابا، فازداد مقاومة. ثم مات فخلفه ابنه لويس العاشر. ومات بعد سنتين ولم يخلف سوى بنت واحدة. ولما كان القانون الفرنسي المسمى (الساليك) يمنع تملّك النساء خلفه أخوه فيلبوس الخامس. وبعد ست سنوات مات عن غير ولد ذكر، فخلفه أخوه كرلس الرابع الجميل بحكم القانون المذكور، فمات بعد ست سنوات أيضا وذلك في سنة 1328 م/ 729 هـ ولم يخلف ذكرا فخلفه ابن عمه فيلبوس السادس دي فالوا.
حرب فرنسا وإنكلترا مائة سنة وسنة:
ولما كان صولجان الملك قد خرج من يد الأسرة الملوكية ترشح للملك ملك إنكلترة (إدوار) الثالث، الذي كان متوليا على أراضي واسعة في بلاد فرانسا وبثّ الدسائس وثارت الأحزاب، فأعلن نفسه ملكا على فرنسا وإنكلترا، وذلك في سنة 1336 م/ 737 هـ فنشأ عن هذا العمل تلك الحرب الشهيرة التي دامت مدتها أكثر من مائة سنة بين الإنكليز والفرنسيس، وهي تقسم إلى أربعة أقسام: (1) وهو على عهد الملك فيلبوس السادس والملك يوحنا الصالح، فكان في مدة هذين الملكين الانتصار للإنكليز.
(2) وهو على عهد الملك كرلس الحكيم، وكان فيه الانتصار للفرنسيين بواسطة القائد الشهير (دو كيكلان) .
(3) كان بعد جنون الملك كرلس السادس، وانحاز فيه النصر إلى جانب الإنكليز.
(4) على عهد الملك كرلس السابع، وتحتم فيه النصر للفرنسيين بواسطة الشجاعة الشهيرة (جاندارك) القروية الراعية.(3/584)
وأشهر ما جرى في تلك الحرب الطويلة هو:
(1) معركة كربسى. وفيها استعملت المدافع أول مرة في العالم، استعملها الإنكليز، وكانت قنابلها من الحجارة ولها دوي وحفيف دون أن يحصل منها تأثير يذكر. وذلك سنة 1328 م/ 729 هـ تقريبا.
(2) انتصارات دو كيكلان، فإنه لم يترك للإنكليز سوى بعض المواني، أي مدينة (كاله) و (ستراسبورغ) و (بوردو) و (بايون) .
(3) انتصار جاندارك: انتصارات القروية الراعية الطائرة السمعة (جاندارك) فقد حداها سائق إلهي إلى أن تقصد الملك الإفرنسي كرلس السابع وأن تخرج الإنكليز، ففعلت ذلك وطردت الأعداء عن آخرهم من مدينة أورليان في 8 أيار سنة 1429 م/ 823 هـ.
وقد أصبح هذا التاريخ عيدا رسميا للحكومة الفرنسوية علاوة على عيد 14 تموز الآتي ذكره.
وبعد هذه الانتصارات الباهرة حضر الملك كرلس إلى مدينة (رانس) حيث مسح رسميا ملكا على فرنسا في 17 تموز سنة 1429 م/ 833 هـ.
ولما قصدت أن ترجع إلى قريتها وقطيع ماشيتها سمعت أن مدينة (كومبيانيا) في خطر عظيم فأسرعت إلى إنقاذها وتقدمت لقتال العدو، فوقعت أسيرة بين يدي المحاصرين فباعوها إلى الإنكليز. وبعد محاكمتها حكم عليها بأن تحرق حية، زاعمين أنها مهرطقة ساحرة.
فنفذ الحكم عليها في مدينة (روان) في 30 أيار سنة 1431 م/ 835 هـ. وبعد وفاتها فسخ البابا ذلك الحكم وأعلن براءتها رسميا. وجميع المسيحيين الكاثوليك- حتى إنكلترة منهم- يحترمونها كقدّيسة، ويقيمون لها احتفالا تكريميا في اليوم الثامن من أيار كل سنة.
أسماء التواريخ العالمية عند الأوروبيين:
انتهت تلك الحرب الطويلة سنة 1453 م/ 857 هـ، وهي السنة التي استولى فيها السلطان محمد الفاتح على مدينة قسطنطينية. فجعل المؤرخون الأوروبيون هذه السنة نهاية تاريخ القسم الثاني من تاريخ العالم العام، وهو القسم المعروف عندهم بتاريخ الأجيال المتوسطة. وبعد هذه السنة يفتتحون القسم الثالث من تاريخ العالم العام وهو المسمى تاريخ(3/585)
الأزمنة الحالية، وهو ينتهي سنة 1789 م/ 1204 هـ أي في ابتداء الثورة الفرنسية العظيمة الآتية الذكر. وكان الفرنسيون قد تمكنوا بعد الحرب المذكورة من طرد الإنكليز من فرنسا كلها بحيث لم يبق لهم فيها سوى مدينة كالة التي استمرت تحت سيطرتهم مدة مائة سنة بعد ذلك. ومات الملك كرلس السابع بعد أن جهز أول مرة في فرنسا جيشا منظما مرابطا ووضع أول ضريبة ثابتة. وكانت وفاته سنة 1461 م/ 866 هـ.
فملك بعده الملك لويس الحادي عشر، وكانت عناية هذا الملك واهتمامه منصرفين إلى توحيد دولة فرنسا وتثبيت سلطة الملك وانتصاره على ملوك الطوائف. فتحالفت الطوائف عليه تحت رياسة كرلس الجسور، فانتصر عليهم وانضمت مقاطعات (بوركونيو) و (آنجو) و (بروفانس) و (روسيون) إلى مقاطعات الملك، ونشط فن الطباعة في فرنسا وكان قد تم اختراعه عن يد (غوتنبرغ) الألزاسي في مدينة (ستراسبورغ) سنة 1450 م/ 854 هـ. ومات الملك لويس الحادي عشر سنة 1483 م/ 888 هـ وساست المملكة بعد موته ابنته حنّة دي بوجو، لأن ابنه كرلس الثامن كان قاصرا. ثم لما كبر واستلم زمام الملك أضاع وقته وأفقد فرنسا مواردها في حروبه التي أقامها في بلاد إيطاليا، فقد غزا مملكة (نابلي) ثم خسرها. ومات في سنة 1498 م/ 904 هـ.
وخلفه ابن عمه لويس الثاني عشر، وكانوا يسمونه أبا الشعب أو الملك لويس اللطيف لفرط حلمه وعطفه على الجميع. وحارب في إيطاليا كسابقه فلم يفلح. ومات سنة 1513 م/ 919 هـ. وخلفه ابن عمه فرنسيس الأول فحارب أيضا في إيطاليا وانتصر في (مارينيان) واستولى على (ميلانو) وتعاهد مع البابا (لاوون) العاشر، فسمح له الباب أن يعين أساقفة فرنسا. وفي أيامه اشتهر القائد العظيم (بايار) . وحارب الملك فرنسيس الأول أيضا الإمبراطور كرلس الخامس، الذي كان مستوليا على بلاد إسبانيا وبلجيكا وألمانيا والنمسا وعلى قسم عظيم من أراضي أميركا التي كان قد اكتشفها (خرستوف كولومبس) سنة 1492 م/ 898 هـ. وقد اتسع ملك الملك كرلس الخامس إلى درجة يمكنه أن يقول مفتخرا: إن الشمس لا تغرب عن ممالكي.
فقام الملك فرنسيس الأول يحارب ذلك الملك العظيم ودامت الحرب بينهما وبين(3/586)
حلفائهما ثلاثين سنة، وانتهت في معاهدة (كاتو كامبريزبس) سنة 1559 م/ 967 هـ وقد استولت فرنسا على مدينة (متس) و (تول) و (فردون) وأخذت مدينة كالة من الإنكليز، وكانوا تحالفوا مع فيلبوس الثاني خلف كرلس الخامس. ومات الملك فرنسيس الأول سنة 1547 م/ 954 هـ.
وخلفه الملك هنريكوس الثاني. ومات سنة 1559 م/ 967 هـ أي في سنة المعاهدة المذكورة. وفي هذا التاريخ نهضت فرنسا نهضتها العلمية الأدبية العظيمة التي كان أسسها الملك فرنسيس الأول حتى استحق أن يلقب بأبي الأدب. فكثر المؤلفون الفرنسيون والمتفننون والمهندسون في كل نوع من أنواع العلوم والفنون، ومنهم (مارو) الشهير و (رونسار) و (ربله) و (مونتانيو) والأسقف (أميو) وغيرهم. وكان فرنسيس الأول على أحسن العلاقات مع السلطان سليمان القانوني، وقد منحه عدة امتيازات في بلاد الشرق ولا سيما في سوريا ولبنان. وهنالك معاهدة طويلة ذات شأن بين الملكين في شأن مسيحيي هذه البلاد.
ظهور المذهب البروتستاني:
وظهرت في تلك الأيام أيضا الهرطقة العظيمة المسماة بالهرطقة البروتستانية التي ابتدعها الراهب (مرتان لوتير) الألماني وأعوانه: يوحنا كلويس الفرنسي وزونيكل السويسري، و (هنريكوس) الثامن ملك إنكلترا. فخرج عن طاعة البابا أمم عظيمة. ولم يزل هذا المذهب منتشرا حتى اليوم في بلاد ألمانيا وإنكلترا وبعض الأقطار الأميريكية.
وقد استبدت ملوك فرنسا في ذلك التاريخ وثقلت وطأتهم على الشعب حتى سمي ذلك الدور دور السلطان المطلق. وملك بعد هنريكوس الثاني سنة 1559 م/ 967 هـ فرنسيس الثاني. وفي سنة 1560 م/ 968 هـ توفي وخلفه كرلس التاسع، واستمر في الملك إلى سنة 1574 م/ 982 هـ. ثم مات وخلفه هنريكوس الثالث واستمر في الملك إلى سنة 1589 م/ 498 هـ ومات، فانطفأت بعده أسرة (فالوا) المالكة لأنهم لم يكن لهم خلف ذكر، فقامت بدلا منها أسرة (البوربون) المتسلسلة عن الولد الأصغر للملك لويس التاسع القديس والمالكة إلى سنة 1848 م/ 1265 هـ. أما ملك فرنسا هنريكوس الثالث الذي اقترن بملكة (اسكتلانده) الكاثوليكية الشهيرة (بماري ستوار) فإنه لم يذكر له التاريخ(3/587)
أثرا سوى تجسم الأحزاب في فرنسا بين البروتستانت والكاثوليك. وكانت الملكة ستوار تشايع الكاثوليك وتقاوم البروتستان حتى إنها أحرقت أخيرا شهيدة الكثلكة.
وقد طالت الحرب بين أهل المذهبين وأريقت الدماء وقتل عدد من الوزراء ووجوه القوم من كلا الفريقين، حتى تملك أخيرا على فرنسا هنريكوس الرابع سنة 1589 م/ 998 هـ وكان بروتستانيا إلا أنه سنة 1593 م/ 1002 هـ ترك مذهبه وصار كاثوليكيا ليرتضيه الفرنسيون ملكا عليهم. وفي ذلك التاريخ دخل باريس وقد تمهدت العقبات أمامه فحسم النزاع بين الكاثوليك والبروتستان وأصدر أمرا يعرف بمنشور (تنط) منح فيه حرية الدين للبروتستان، وأنهى الحرب مع إسبانيا بمعاهدة (ويروين) وأجرى بواسطة وزيره (سولى) عدة إصلاحات تتعلق بالزراع والطبعة السفلى من الشعب. وفي أيامه بنيت في إمريكا المدينة الإفرنسية الأولى المعروفة باسم (كيبك) . ثم قتل الملك أحد المتحزبين المتطرفين، واسم القاتل فرنسيس رارايك في 14 أيار سنة 1610 م/ 1019 هـ.
وكانت حدود فرنسة في تلك السنة على هذه الصفة، وهي: أن هذه المملكة كانت تمتد من الجهة الشمالية إلى نهر السوم عدا شاطىء البحر حيث كانت تصل إلى مدينة كاله.
أما المقاطعتان الحاليتان (فلاندره) و (أرتوا) فإنهما كانتا ملحقتين بإسبانيا. وكانت فرنسة تملك من الجهة الشمالية الشرقية مدينة (متس) و (تول) . وأما بلاد الألزاس واللورين و (الفوج) فكانت تخص مملكة ألمانيا وفي الشرق كان نهر السون يحد فرنسة ومقاطعة (البرسمونيو) على يمينه ملحقة بفرنسه وعلى يساره مقاطعة (الفرانش كونتى) ملحقة بإسبانيا. وكانت مقاطعة (الساوا) و (كونتيته نيسى) في الجنوب الشرقي خاصة (دوك سارا) . وكانت مملكة فرانسة في جهة الجنوب منفصلة عن جبال البيريين بمقاطعة (الروسيون) التي كانت بعد إسبانيولية. وكانت مقاطعتا (البيارن) و (النافار) مستقلتين. وكانت المستعمرات الفرنسية محصورة في بلاد الكندة من إمريكا لا غير.
ولما قتل الملك هنريكوس الرابع كان ابنه لويس الثالث عشر لا يتجاوز التاسعة من عمره فنابت عنه أمه (ماري دي ميدى) من أسرة إيطالية معروفة، فالتفّ حولها حاشية إيطاليانية أضرت بمصالح فرنسة كثيرا، وهذه الحاشية تعرف بأسرة كونسينى، فاضطربت(3/588)
المملكة واجتمع المجلس العمومي المؤلف من ممثلي (الإكليروس) والطبقة الثالثة من طبقات الشعب فلم يحصل من اجتماعه فائدة. ولما بلغ لويس الثالث عشر رشده وتولى الأحكام بنفسه؛ جعل وزيره الأول أسقفا حازما صاحب عزيمة يسمى (الكردينال دي ريشليو) .
أما كونسينى أبو الأسرة التي كانت ملتفة حول أم الملك فإنه اعتقل ثم قتل شر قتلة.
وكان أول عمل عمله (ريشليو) أنه أكره البروتستان على الخضوع إلى الملك وأخذ منهم مدينة (لاروشل) المحصنة وأرغم الأمراء ووجوه الأمة على الخضوع إلى القانون العام، وقتل المتمردين والمخالفين أحكام الأوامر التي أصدرها الملك في شأن المبارزة مثل الكونت (مونمورانس بوتويل) . وبعد أن جعل السلام سائدا في فرنسة هجم على الإسبانيوليين وعلى حلفائهم وأخذ منهم ثلاث ممالك عظيمة، أي (الألزاس) و (الروسيون) و (الأرتوا) ، وأجرى إصلاحات عظيمة في داخلية البلاد ولا سيما في دائرة الشرطة ودائرة الضرائب، وأنهض بحرية فرنسة وبنى الموانىء والمراكب والسفن الحربية، واشترى عدة جزائر في الأنتيل الأميركية، وتوصل إلى (مدغسكار) الإفريقية فبنى فيها مراكز مهمة، ونشّط العلوم والآداب فأسس (الأكاديمية) القانونية. ومات سنة 1642 م/ 1052 هـ.
ومات بعده الملك سنة 1643 م/ 1053 هـ فنابت عن الملك لويس الرابع عشر أمه (حنة) النمساوية الإسبانيولية الأصل، لأن الملك الصغير لم يكن قد تجاوز الخامسة من عمره، فاختارت لنفسها وزيرا الكردينال (مازارين) صديق ريشليو وتلميذه. ومازارين هذا من مدينة رومية وكان لا يحسن التكلم بالفرنسية. وفي مدة نيابة حنّة عن ابنها انتصر الفرنسيون على الإسبان وغيرهم لحسن تدبير القائدين الشهيرين كونده وطورين. وفي سنة 1648 تعاهد ملك إسبانيا مع فرنسة وتنازل لها عن بلاد الألزاس. وهذه المعاهدة تعرف بمعاهدة نسيتغالي. ثم في سنة 1659 عقدت معاهدة أخرى تعرف بمعاهدة بيرين ربحت بها فرنسا مقاطعتي الأرتوا والروسيون. ومع هذا كله فإن مازارين كان منفورا من الشعب لطمعه ولأنه أثقل كاهله بالضرائب. ولذا قامت الثورة في المملكة، المعروفة بثورة الضرائب، وتفاقم الشر بين الملك ووزيره وبين وجوه أهل المملكة ومجلس البرلمان الذي تحزب إلى القائد. ثم اختلف الثوار مع بعضهم واغتنم مازارين فرصة اختلافهم ورجع إلى باريس بعد أن اعتزل الأعمال مدة سنتين، وكان عوده إلى باريس سنة 1653 فازدادت(3/589)
هيبته وعظمت صولته، وانحطت المملكة انحطاطا زائدا، إلى أن أنهضها من عثرتها القديس منصور دي بول المعروف بمحبة الفقراء.
وفي سنة 1661 مات مازارين، وكانت فرنسا حينئذ أعظم دولة في أوربا، وقام الملك لويس الرابع عشر بتدبير الملك بنفسه ولم يعيّن وزيرا. وكان جبارا عنيدا حريصا على كرسي الملك، فكثر العصاة والمتمردون وقد عجز عن إخضاعهم، واضطر إلى أن يعين يوحنا كولبير وزيرا للبحرية والمالية فأحسن القيام بهما، واعتنى بشأن الزراع وأمد التجار وخفض الضرائب، وأسس المعامل وقوى البحرية التجارية، واجتهد بتحصين البحرية الملوكية، وعين الملك أيضا (لوغوا) وزيرا للجهادية فنظم الجندية. ثم إن الملك بعد موت وزيره كولبير اضطهد البروتستان وسلبهم الحرية الدينية التي كانوا منحوها من قبل هنريكوس الرابع وريشليو، ونادى الملك أيضا بإلغاء منشور «تنط» الشهير. وكان ذا عظمة في قصره قد حف به طائفة من الأدباء والخطباء والفلاسفة والقواد والوزراء، حتى إنه كان يسمى الملك العظيم أو الملك الشمس، وسميت أيامه أيام لويس الرابع عشر.
وفي سنة 1711 مات ابنه ولي العهد، ثم ماتت حفدته ولم يبق له وارث سوى ابن حفيده الدوك نورمنديا، وقد استغرق في محاربة دول أوربا مدة ثلاث وثلاثين سنة وحاز انتصارات باهرة أفزعت أوربا، وقامت فرنسا في وجهها كلها حتى سنة 1668 إلا أن فرنسا بعد ذلك أنهكتها الحروب وأخذت ترجع إلى الوراء لا سيما لما تملك على إنكلترة غليوم دورانج عدوّ فرنسا العظيم، فإن فرنسا قد تمكن منها الضعف وخسرت كثيرا من بلادها.
وفي سنة 1715 م/ 1127 هـ و 1128 هـ توفي الملك لويس الرابع عشر وخلفه لويس الخامس عشر، وهو ابن حفيده. وكان لويس الخامس عشر صغيرا فقام بإدارة الملك بالنيابة عنه جماعة من عظماء المملكة خدموا منافعهم الذاتية فعزلوا سنة 1726 م/ 1139 هـ وتعين بدلهم الكردينال فلوري، فتوصل بدهائه إلى أن جعل فرنسا تربح مقاطعة اللورين. ثم مات الكردينال فلوري واستقل لويس الخامس عشر بإدارة الملك وكان منهمكا بالملذات غير ملتفت إلى الملك، فانحطّت المملكة في زمانه، ونشبت الحرب بين فرنسا وبروسيا مدة سبع سنوات، أي من سنة 1756 م/ 1170 هـ إلى سنة 1763 وكانت النتيجة انكسار فرنسا برا من قبل بروسيا، وبحرا من قبل إنكلترا. وخسرت فرنسا(3/590)
أيضا بلادها في الهند التي كان استولى عليها دوبلكس، وبلادها في كناده ولم يبق لها في الهند سوى خمسة بلدان. وانتهت هذه الحرب في معاهدة باريس سنة 1763 م/ 1177 هـ. وفي سنة 1768 اشترت فرنسا جزيرة كورس من جمهورية (جينوا) التي ولد فيها نابليون بانابرت سنة 1769 م/ 1183 هـ.
وفي أيام هذا الملك قام البرلمان الفرنسي يعارض بابا رومية والرهبانية، ويحمل عليها حملة شعواء حتى إنه حصل على أمر بإلغائها، فأغلقت مدارسها. وكان ولتير وروسو وغيرهما من الفلاسفة يعضدون البرلمان بخطبهم ومؤلفاتهم. ومات الملك لويس الخامس عشر وخلفه حفيده لويس السادس عشر وكان محبا للخير لكنه كان ضعيفا.
وفي سنة 1781 م/ 1196 هـ اتحدت فرنسا مع أميركا بغضا في إنكلترا التي تمردت عليها مستعمراتها في أميركا، فانتصرت المستعمرات على إنكلترا واستقلّت وأعادت إنكلترة إلى فرنسا عدة مستعمرات كانت سلبتها منها سنة 1763 م/ 1177 هـ. وختمت هذه الحرب بمعاهدة فرسايل سنة 1783 م/ 1198 هـ. وقد كلفت هذه الحرب فرنسا نفقات عظيمة بحيث كان عجز موازنتها كل سنة ستة وخمسين مليونا، وتعذر على الدولة جباية الضرائب. وفي سنة 1789 م/ 1204 هـ اجتمع المجلس العمومي الذي لم يجتمع منذ سنة 1614 م/ 1013 هـ فلم يحصل من اجتماعه فائدة.
وفي خامس أيار من هذه السنة ابتدأت الثورة الفرنسية. وفي هذه السنة ينتهي تاريخ الأزمنة الحالية ويبتدئ الجزء الرابع من التاريخ العالمي العام.
الثورة الفرنسية الشهيرة:
أسباب هذه الثورة سوء إدارة الملك وقلة اكتراثه بالرأي العام وعدم المساواة بين طبقات الشعب، فإن جميع الامتيازات كانت محصورة بطبقة الأشراف والإكليروس والطبقة الثالثة من الشعب، وكل الأثقال كانت مطروحة على عاتق الفلاحين.
مبدأ الثورة وتاريخها:
اجتمع في فرسايل مندوبو الفرق المتنوعة من أهل البلاد وقرروا أن يؤلفوا مجلسا مليا تسير فرنسا على ما يراه. وقد تحالفوا على أنهم لا ينفكون عن بعضهم إلا بعد تنفيذ ما(3/591)
عولوا عليه وسمي هذا الحلف حلف ملعب البوم فلم يرض الشعب بذلك. وفي 14 تموز سنة 1789 م/ 1204 هـ أعلن الشعب تمرده على الحكومة وهجم على سجن الباستيل وأطلق السجناء وعيّن عريفا لنفسه وأقام حرسا وطنيا، وأرغم الحكومة على الاعتراف بأوامره وبقي هذا التاريخ يتخذ عيدا للجمهورية إلى اليوم. ثم حدث شقاق ديني اضطرب له الملك والمجلس الملّي وأصبح الملك لويس السادس عشر في خطر. غير أن المجلس تعهد بحمايته على شرط أن يكون حكمه بعد الآن مبنيا على ما يراه المجلس التشريعي.
وفي تلك الأيام اشتهر الخطيب (ميرابو) . وظهر العلم الفرنسي الذي أضيف إليه اللون الأبيض رمزا لوقوع التراضي بين الملك والأمة، واللون الأزرق شعار الملك، والأحمر شعار باريس. وقد قسمت فرنسا في تلك الأيام إلى 83 مقاطعة وبقيت هذه القسمة إلى اليوم. وفيها قرر المجلس التشريعي ضبط أوقاف الكنائس وأموالها على أن تقوم الدولة باحتياج الكهنة، وأن تعم المساواة بين سائر الطبقات وتلغى الامتيازات القديمة. وذلك كله في سنة 1791 م/ 1206 هـ فشقت قضية ضبط الأوقاف على البابا وعارض بها، فقام الاضطهاد على قدم ضد الكهنة، فهاجر بعضهم وتبعهم عدد كبير من الأشراف وكثر الهرج والمرج، وكانت النمسا تساعد المهاجرين فأعلنت فرنسا عليها الحرب وقد تطوع فيها مائة ألف فلم يظفروا من النمسا بطائل وأصبح الوطن في خطر.
وفي أواخر تموز سنة 1791 دخل البروسيون فرنسا وقامت الحرب بين حرس الملك السويسريين وبين الثوار، وانجلت عن قتل الكثيرين من السويسريين وسجن منهم عدد عظيم، وحكم المجلس التشريعي على الملك بالحبس، وقرر أن يعقد اجتماع لتأليف حكومة فرنسية جديدة وأن يفرج عن الملك، فرفض الثوار هذه المقررات وزجّوا العائلة الملوكية في سجن الهيكل. وكان البروسيون في ذلك الأثناء يتقدمون في فرنسا، فما كان من الثوار سوى أن هجموا على الكهنة والحرس الملوكي وأحزاب الملك وأعملوا فيهم السيف مدة ثلاثة أيام وكان ذلك في أيلول 1792.
وفي 20 من هذا الشهر انتصر القائد الفرنسي (دوموريز) على البروسيين في فلمى، فهدأت الأفكار قليلا وانعقد مجلس جديد سمي مجلس الاتفاق، فقرر إلغاء الحكم الملكي في فرنسا وبدأ حكم الجمهورية في 22 أيلول المذكور، وهي الجمهورية الأولى. وقام(3/592)
الجميع على الملك لويس السادس عشر، اتهموه بالمواطأة مع المهاجرين والنمسويين وأنه هو الذي كان سببا في إراقة الدماء وحكموا عليه بالقتل. وكان ذلك في 21 كانون الثاني سنة 1793.
ثم اشتد الخلاف بين الجيروندنيين والجبليين، وقتل عدد كبير من الجيروندنيين واضطربت العاصمة وقامت المدن على بعضها، وسلمت مدينة طولون إلى الإنكليز، وزحفت جيوش النمسا على الحدود، وأريق في المملكة الفرنسية دماء غزيرة. وفي تلك الأثناء قام أحد الأحزاب وأجرى في كنيسة السيدة في باريس احتفالا سماه عيد العقل البشري، وذلك بغضا بالديانة المسيحية، وقد جعل تمثال العقل امرأة راقصة. وجرى غير ذلك من الشؤون التي يطول الكلام عليها.
ثم إن المجلس الاتفاقي عقد مع بروسيا وإسبانيا صلحا شريفا في مدينة (بال) وفتحت الكنائس وأعلنت حرية الأديان، وبدأت النهضة العلمية. وحررت الأوزان والمقاييس والنقود على نسق جديد، وأعلن القانون الجمهوري، ثم انحلّ المجلس في 26 تشرين الثاني سنة 1795 وقد جعلوا مبدأ تاريخهم حادثة الثورة الكبرى التي كانت سنة 1793 وذلك إلغاء لذكر المسيح، حتى إنهم غيروا أسماء الأشهر. وفي سنة 1795 المتقدم ذكرها كان الجيش الفرنسي يحارب جيوش النمسا فحطمها ذلك البطل الشهير نابليون بنابرت وشتت شملها ودوخ بلادها، حتى بقي بينه وبين عاصمتها مسير ثلاثة أيام، وذلك في سنة 1796.
أخبار نابليون بنابرت:
ولد نابليون في مدينة برينا من جزيرة كورس سنة 1769 وكان ضعيف البنية خفيف العارضين تلقى دروسه في مدينة برينا. ولما كسر النمسا تلك الكسرة العظيمة طلب ملك النمسا الصلح واعترف بأن الضفة الشمالية من نهر الرين حق فرنسا. ثم إن نابليون طلب أن يؤذن له بالسير إلى مصر للاستيلاء عليها والسير بعدها إلى الهند ليقاتل إنكلترا في مستعمراتها. فأذن له بذلك وسار إلى مصر واستولى في طريقه على جزيرة مالطة، ثم استردها منه الإنكليز بعد سنة، ونزلت عساكر نابليون في ميناء أبي قير وانتصر على فرسان المماليك الأتراك في سهل الأهرام، ودخل القاهرة وكان الأسطول الفرنسي مرابطا في ميناء أبي قير فقصده الأسطول الإنكليزي وكسره كسرة شنيعة. وحاصرت جيوش نابليون(3/593)
عكا ففشلت، وعاد نابليون إلى فرنسا خفية وأبقى القائد كليبر يدافع عن مصر. فاغتيل في سنة 1800 م/ 1215 هـ، وعادت مصر إلى تركيا بعد أن حاربت جيوشها الفرنسيين بمساعدة الإنكليز. وقد استفاد العالم الإفرنسي شامبوليون من دخوله إلى مصر اكتشاف الخط الهيركليفي.
هذا، وإن المجلس الإداري في فرنسا كان في تلك الأثناء يسيء الإدارة. فلما رجع نابليون انحاز إليه مجلس الخمسمائة بمساعدة أخيه لوسيان رئيس هذا المجلس، فألغى المجلس الإداري والقانون الذي كان يتبعه وذلك في سنة 1799 م/ 1214 هـ، وحصر إدارة الأحكام في ثلاثة قناصل، هو أولهم. فكانت الإدارة جمهورية اسما، بونابرتية عسكرية فعلا. وفي سنة 1801 م/ 1216 هـ انتصرت جيوش فرنسا في (هوهن لن دن) واسترجعت فرنسا من إنكلترا جميع مستعمراتها.
وأمضى نابليون مع البابا بيوس السابع الاتفاق المعروف بالكونكرودا، واهتم بتحسين أحوال الحكومة، فأحبه الشعب. وفي سنة 1804 م/ 1219 هـ سمّوه إمبراطور فرنسا ومسحه البابا، ولكنه هو الذي وضع التاج على رأسه بيده. وفي سنة 1805 م/ 1220 هـ حارب النمسا وروسيا فكسرهما. وفي سنة 1806 م/ 1221 هـ حارب بروسيا واحتل جيشه مدينة برلين. ثم في سنة 1807 م/ 1221 هـ أعاد الكرّة على روسيا فكسرها ثم تصالح معها. واعتدى نابليون على البابا وأخذ منه رومية واعتقله في سابونه ثم في بلاط فوتنبلو، فانحرفت عنه طوائف الكاثوليك، وطرد ملك البرتقال من ليشبونه وضبط أملاكه، وأكره ملك إسبانيا على الاستقالة وملّك بدله أخاه يوسف بنابرت ملك نابولي، فقام عليه الإسبان فحاربهم وقهرهم. ثم أسرع إلى نهر الدانوب وحارب النمسا وقهرها. وفي سنة 1181 م/ 1226 هـ بلغ سلطانه الغاية القصوى وأصبحت فرنسا تعدّ 133 مقاطعة بدل 84.
وفي سنة 1812 م/ 1227 هـ مشى على روسيا بجيش لا يقل عن أربعمائة ألف مقاتل، فانسحب الروس من أمامه وجرّوه إلى مدينة (موسكو) وكانوا أحرقوا جميع البلاد التي تركوها وراءهم. ومع هذا فقد كسرهم كسرة شنيعة. غير أن البرد والجوع لم يبقيا من جيشه سوى 150 ألفا. فرجع إلى بلاده وفي أثناء رجوعه عارضته معركة(3/594)
أمام نهر البيريزنا، فهلك جيشه ولم يبق منه سوى ألف وخمسمائة جندي. فلما سمعت أوربا بانكساره تألبت ملوكها عليه وحاربوه في (ليبزيك) فكسروه واحتلوا باريس.
فهرب إلى فوتنبلو وتمكن حزب الملكية من إجلاس لويس الثامن عشر على كرسي الملك، وذلك في سنة 1714 م/ 1230 هـ وفي 20 آذار هذه السنة رجع نابليون إلى باريس فانسحب لويس الثامن إلى (كان) . وبعد مائة يوم من رجوعه مشت عليه جيوش إنكلترة وروسيا، فكسروا جيوشه وعاد إلى باريس وقدّم استقالته فرجع الملك لويس إلى عرشه.
وأما نابليون الأول فإنه سلم نفسه إلى إنكلترا تخوفا من الشعب، فنفته إنكلترا إلى جزيرة القديسة هيلانة، فبقي فيها نحو خمس سنوات في ضنك شديد. وفي 5 أيار سنة 1821 م/ 1237 هـ قضى نحبه وأوصى أن يكون قبره على ضفة السين. وهو معدود بين أشهر مشاهير أبطال المسكونة، وكان عدوا للحرية مضطهدا للدين، ضرّ فرنسا أكثر مما نفعها.
ثم إن وزراء الملك لويس الثامن عشر عملوا على الانتقام من أحزاب الجمهورية وأحزاب نابليون بنابرت وفتكوا بهم، وقتلوا في مرسيليا عددا كبيرا من المماليك الذين كان نابليون أحضرهم معه من مصر، وسمي عمل أولئك الوزراء طور الهول الأبيض.
في سنة 1824 م/ 1240 هـ مات الملك لويس الثامن عشر وخلفه أخوه كرلس العاشر. وفي أيامه في سنة 1827 م/ 1243 هـ انتصر اليونانيون على العثمانيين بمساعدة فرنسا فنالوا استقلالهم. وفي سنة 1830 م/ 1246 هـ ثار حزب الجمهورية فاستقال الملك وخلفه لويس فيلبوس الأول. وفي أيامه استولت فرنسا على بلاد الجزائر بعد حرب طويلة انتهت بخضوع الأمير عبد القادر. وكان هذا الملك محبا للعدل والعلم. وفي سنة 1848 م/ 1265 هـ ثار حزب الجمهورية وخلع الملك وأعلنت الجمهورية التي تدعى الجمهورية الثانية، وانتخب الأمير لويس نابليون- ابن أخي الإمبراطور- رئيسا للجمهورية بتصويت خمسة ملايين و 400 ألف ضد مليون و 400 ألف.
وفي سنة 1852 م/ 1269 هـ أعلن الرئيس إمبراطوريته على فرنسا وملك 18 سنة، وكان عالي الهمة واستفادت فرنسا من وجوده. وفي أيامه اتحدت فرنسا وإنكلترا وساعدتا تركيا في إخراج روسيا من مدينة سباستبول وذلك في 8 أيلول سنة 1856 م/ 1273 هـ.(3/595)
وفيها تقررت حماية مسيحيّي تركيا على فرنسة، ومنعت روسيا من أن يكون لها أسطول في البحر الأسود. وفي سنة 1859 م/ 1276 هـ استولت فرنسة على مدينة (نيس) ومقاطعة (البابوا) من النمسا بعد حرب طاحنة. وربحت أيضا من إمبراطورية أنان في الصين مقاطعة كوشاشين الست التي صارت بعد مستعمرة لها، وبسطت حمايتها على بلاد كامبورج في جهات الصين.
وفي سنة 1860 م/ 1277 هـ استعمرت فرانسة كاليدونيا الجديدة في بلاد أوقيانيا.
وفيها وصلت جيوشها إلى سوريا على أثر اضطرابات حدثت فيها، فوسّعت نفوذها الإفرنسي. وفيها أقامت فرنسة الحرب في بلاد المكسيك من إمريكا متفقة مع إسبانيا وإنكلترة، فلم تجدهم هذه الحرب نفعا. وفيها قاومت فرنسة روسيا التي أرادت أن تملّك ابن عم ملكها على بلاد إسبانيا. وفيها كان الوزير الألماني بسمارك يرمي إلى توحيد الممالك الألمانية تحت سيطرة بروسيا، وإلى نزع بلاد الألزاس واللورين من يد فرنسا. وحينئذ اشتد النزاع بين الدولتين وكانت النتيجة إعلان الحرب المعروفة بحرب السبعين.
أسباب هذه الحرب:
أعظم أسباب هذه الحرب اتساع مملكة بروسيا وعزمها على أخذ بلاد الألزاس واللورين، وقوة نفوذها في أوروبا، وإصرار الإمبراطور غليوم الأول على ترشيح ابن عمه الأمير (ليوبلدي هوهنزلرن) إلى عرش إسبانيا، وإصرار وزير ألمانيا الأمير بسمارك على محاربة فرنسا. ولما بدأت المفاوضة بين فرنسا وألمانيا- بقضية ترشيح الأمير المذكور إلى عرش إسبانيا- منع بسمارك سفير فرنسا عن مواجهة الإمبراطور غليوم. فعظم هذا الأمر على الفرنسيين وقاموا وقعدوا من أجله، ثم أعلنوا الحرب على ألمانيا فكان الفشل حليف الجيوش الفرنسية في بلاد الألزاس واللورين. وزحف الألمان على مدينة سوسدان وحصروها وكان الإمبراطور نابليون فيها فوقع هو وجيشه أسراء في قبضة الألمان، وقامت الثورة في باريس.
وفي 4 أيلول سنة 1870 م/ 1287 هـ خلع الإمبراطور وأعلنت هيئة حكومة وقتية سميت حكومة الدفاع الوطني، فجهزت الجيوش إلى جميع الجهات فكسرتها الجيوش البروسية لأنها كان أحسن انتظاما. ثم اتحد البروسيون مع باقي البلاد الألمانية وزحفت(3/596)
جيوشهم على باريس ودخلوا إليها بعد حصار أربعة أشهر ونصف. وفي باريس أعلن غليوم الأول نفسه إمبراطورا على سائر البلاد الألمانية المتحدة. وكان ذلك في 28 كانون الثاني سنة 1871 م/ 1288 هـ، وأبرمت معاهدة الصلح في مدينة فرانكفور في شهر أيار من هذه السنة وغرمت فرنسة خمسة مليارات على أن تسلّم مقاطعة الألزاس، سوى مدينة بلفور وما جاورها، وسوى ثلث مقاطعة اللورين التي تضم من السكان مليونا ونصفا.
وفي سنة 1875 م/ 1292 هـ اجتمع المجلس الفرنسي الدولي في مدينة بوردو ثم في فرسايل، وسن قانون الجمهورية الحالي، فثار الحزب الاشتراكي في باريس فنكلت به الحكومة.
أسماء رؤساء الجمهورية مرتبة على السنين
السنة 1871/المسيو تيرس 1873/المارشال ماكماهون 1879/الموسيو جول كيريني 1887/الموسيو سادي كرنو 1894/كازيمير بيري 1895/فيلكس فور 1899/إميل لوبه 1906/أرمان فالير 1913/ريمون بونكاري 1920/بول دي شانيل 1920/الكساندر ميلران
أهم ما كان من الشؤون في مدة هؤلاء الرؤساء:
أهم الشؤون التي كانت في مدة هؤلاء الرؤساء هي: الاتحاد الفرنسي الروسي، وسن قانون التعليم الابتدائي المجاني الإجباري، ونقض معاهدة الكونكرده التي كان عقدها نابليون(3/597)
الأول بين فرنسا والبابا، واستيلاء فرنسا على مستعمرات في أفريقيا وآسيا، فاستولت على تونس سنة 1880 م/ 1298 هـ وعلى مراكش سنة 1907 م/ 1315 هـ وعلى بلاد سنيكاك والكونغو ومدغسكر في أفريقيا والهندوشين الفرنسية وطوكين وأنام في آسيا سنة 1910 م/ 1328 هـ. وتحسنت العلاقات بين فرنسا وإنكلترة سنة 1898 وفي سنة 1904 م/ 1322 هـ قصدت التقوّي على ألمانيا المنتصرة في حرب السبعين.
نوابغ الرجال في مدة هؤلاء الرؤساء:
نوابغ الفرنسيين الذين اشتهروا في مدة هؤلاء الرؤساء من الشعراء: ويكتور هوغو.
ومن المؤلفين والممثلين: ألكسندر دوماس، وإميل أوجيه. ومن الروائيين: كوستاف فلوبر، وألفونس دودي. ومن المصورين: كوربه، وكوره، وهيبرو، وميه، وشافان.
ومن النقاشين: كربو، وفلكير. ومن المهندسين: كارنيه. ومن الموسيقيين: كونو.
والكيماويين والأطباء: كلود برنار، ودي شوفرل، وبستور، وبرتلو.
حالة فرنسا قبل الحرب العالمية:
كانت فرنسا قبل هذه الحرب أغنى جميع الدول؛ بما كان عندها من الذهب. وكانت على غاية النجاح في صناعتها وتجارتها الخارجية بحيث زادت مداخيلها على عشرة مليارات.
إلا أنها مع ذلك كله كانت قليلة المواليد، إذ لم تزد مواليدها منذ سنة 1871 م/ 1288 هـ حتى أول الحرب على ثلاثة ملايين، بينما زادت مواليد ألمانيا في هذه المدة على خمسة وعشرين مليونا.
الحرب العالمية العامة وأسبابها:
لهذه الحرب أسباب أهمها تضخم مملكة ألمانيا وطمعها بالاستيلاء على العالم ووعدها في سنة 1905 م/ 1323 هـ حكومة مراكش بالمساعدة على فرنسا، وطلبها سنة 1906 من فرنسا أن تتخلى عن حقوقها في تلك البلاد، ومحاولتها في مؤتمر الجزيرة المنعقد سنة 1907 بأن تخرج فرنسا من مراكش، ومساعدتها سنة 1908 النمسا على اغتصاب البوسنة وهرسك، ونقضها معاهدة برلين وتحرشها سنة 1910 م/ 1328 هـ بالفرقة التونسية وتعديها عليها، وإرسالها سنة 1911 إلى فرنسا إنذارا ثانيا، وأسطولا إلى أغادير محتجة(3/598)
عليها بهجوم جيشها على مدينة فاس.
ومن تلك الأسباب أيضا أن ألمانيا اتفقت سنة 1912 م/ 1331 هـ مع بعض الوزراء الخونة في فرنسا على أن تأخذ ألمانيا مائتي ألف كيلومتر من الأراضي الفرنسية في الكونغو.
ثم في سنة 1913 قصدت ألمانيا تقسيم المستعمرات البريطانية وزادت عدد عساكرها إلى 900 ألف في وقت السلم، وحينئذ اضطر باقي الدول إلى أن يكونوا على أهبة الاستعداد وأن تحذو حذوها.
وكانت دولة النمسا في سنة 1908 قد طمعت بأن تستولي على ممالك البلقان واغتصاب بلاد بوسنه وهرسك. وفي سنة 1912 احتجت النمسا على زحف جيوش سربيا المتحدة مع اليونان والبلغار على بلاد تركيا. وفي سنة 1913 م/ 1332 هـ بينما كان ولي العهد الأرشيدوق فرنسيس فردينان يزور ممالك السلاف- التي كان اغتصبها وألحقها بدولته- إذ فاجأه الاغتيال فقتل. وكانت هذه الحادثة سببا ظاهريا للحرب العالمية الساحقة.
رجال العلم في فرنسا:
من رجال القرن السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر: كرتيزيوس وولتير الشهير في الفلسفة العصرية، ولا بروويير المعروف بالفلسفة الأدبية. ودي مولان، ودي لابيتال في علم الحقوق. ومابيون الراهب البندكتيان، وأفلوري وبرجيه وكينه وغيرهم في التاريخ.
وبسويت المنفرد في الخطابة، وماليرب، وكونيل، وراسين في الشعر. ولا بواري الكيماوي الشهير، وبوفون في علم النبات والحيوان. ومن رجال القرن التاسع عشر:
توبريان في التاريخ، ودي ميستر في الفلسفة، وكوفيه بفن الجيولوجيا (فن طبقات الأرض) وأمبير في العلوم الرياضية، وكوشي في الهندسة، ودوما وباستور الشهير مكتشف الميكروب وداء الجرب، وترديلون المتشرع. وغيرهم من الخطباء والشعراء والفلاسفة والصحافيين الذين يضيق المقام بعدهم.
انتهى الكلام على التاريخ الفرنسي.(3/599)
[جدول في بيان الأعمال العمرانية التي تجدّدت في حلب وأعمالها] «1»
وهذا جدول في بيان الأعمال العمرانية التي تجددت في حلب وأعمالها، بعد أن دخلت إليها الحكومة الفرنسية المنتدبة على سوريا. أخذنا هذا الجدول من دائرة مصلحة النافعة «2» بواسطة وجيه بك الجابري رئيس مهندسي النافعة:
(1) طريق معبدة مفروشة بالرّضاض «3» ، مدحرجة بالدّحروجة، أولها من محلة السليمانية بحلب وآخرها مقبرة المسيحيين والفرنسيين الحديثة، طولها نحو 1500 متر وعرضها عشرون مترا.
(2) جسر على هذا الطريق مرفوع على نهر قويق، عرضه عشرة أمتار، قواعده بناء بالحجارة وظهره من الحديد والخشب.
(3) طريق محطة قرية المسلمية، طوله خمسة آلاف متر، أوله في شمالي قرية حيلان من طريق البيرة (بيره جك) الأصلي، ثم يأخذ غربا إلى المحطة المذكورة.
(4) طريق معبدة، أولها قرب نهر الفيض في محلة الجميلية بحلب، آخذا إلى حارم وأنطاكية، مارا على قرية منيان وخان العسل وأورم الكبرى وأورم الصغرى والأثارب وعين دلفي والبركة ودير الرهبان. وهناك يخرج منه فرع يمتد إلى مدينة حارم، ثم يأخذ الطريق الأصلي إلى جسر الحديد ثم إلى أنطاكية. وقد تم انتظام هذا الطريق إلى حارم. والهمة مبذولة بإتمامه إلى أنطاكية.(3/600)
(5) طريق معبدة من محلة الجميلية بحلب إلى قرية الأنصاري، طولها ثلاثة آلاف متر وعرضها ثمانية أمتار.
(6) فرع يخرج من الطريق عدد (4) من قرية أورم الصغرى، فيمر على كفر حلب والمعارة وتفتناز، وبنّش وإدلب وريحا، والروج وفريكه وجسر الشغر، متجها منها على الاستقامة إلى اللاذقية. وقد تم تعبيد هذا الفرع إلى قرب إدلب. والهمة مبذوله بإتمامه إلى جسر الشغر. طوله مئة وعشرة كيلومتر.
(7) العناية مصروفة الآن إلى إخراج فرع صغير من قرية تفتناز إلى سراقب وخان السبل ومعرة النعمان وخان شيخون وحماة.
(8) جسر على نهر قويق في كل من قرية: فافين، وحاسين، ودابق، ويحورته. مع ترميم جسر السموقة وتجديد جسر دويبق.
(9) جسر الناعورة في حلب، ظاهر باب الفرج، عرضه ثمانية عشر مترا. بنى بالجمنتو المسلح، وهو بدل الجسر القديم الذي كان لضيقه يطغى نهر قريق في بعض السنين فيغرق ما جاوره من البساتين والمنازل.
(10) العناية مصروفة الآن إلى إكمال جسر على نهر الساجور ذي ثلاث قناطر، سعة كل قنطرة عشرة أمتار، يبنى بالبرتون المسلح.
(11) العناية مصروفة الآن إلى إكمال جسر على النهر الأبيض شمالي مدينة جسر الشغر، على بعد خمسة أميال منها. وهو يشتمل على 12 قنطرة ويبنى بالبرتون المسلح.
(12) حديقة عمومية تبلغ مساحتها نحوا من خمسة عشر ألف ذراع في ساحة برية المسلخ في حلب، وهي فسيحة محاطة بدربزون من الحديد، أنشئ في غربيها مستوصف حافل مشتمل على تسع غرف، ومدرسة جميلة تشتمل على أربع عشرة غرفة، ولها فناء واسع معدّ للألعاب التريضية.
(13) بناية في فسحة الناعورة «1» ، خارج باب الفرج، فخمة ضخمة معدّة لاجتماع المجلس النيابي، تشتمل على اثنتي عشرة غرفة عليا وسفلى، وعلى بهو طوله عشرون مترا وعرضه اثنا عشر مترا، مفروشة أرضه بالرخام الإيطالي، قد رفع تجاه هذه البناية(3/601)
من غربيها نصب تذكاري على نسق المسلّات الحجرية ذكرى للجنرال بيوت.
(14) بناية للدرك والشرطة تجاه مخفر الكتاب، تشتمل على اثنين «1» وعشرين غرفة وبهو عظيم، وذلك في أرض مقبرة كان جمال باشا درس ما فيها من القبور وجعلها قاعا صفصفا، وسمح بها للبلدية تعويضا لها عما ينقصها من قيمة الدار التي ابتاعها منها وسماها سليمان الحلبي وجعلها دارا للمعلمات.
(15) حديقة بديعة واسعة تربو مساحتها على عشرة آلاف ذراع، أنشئت في أرض مقبرة العبّارة الصغيرة «2» ، بعد أن جردت من القبور وجعلت قاعا صفصفا. وقد ابتاعتها البلدية من دائرة الأوقاف، كل ذراع مربع منها بذهب عثماني. على أن هذه الحديقة- وإن تكن مساحتها دون مساحة حديقة برية المسلخ- إلا أن البلدية اعتنت بشأنها أكثر مما اعتنت بشأن حديقة برية المسلخ، حتى صارت تعد من أعظم حدائق سورية بحسن مناظرها وبدائع تقاسيمها الهندسية وأنواع زهورها وأشجارها.
(16) دار حكومة تشتمل على بهو و 24 غرفة عليا وسفلى، في كل من مدينة: عزاز، وجرابلس، وقرية الزيادية قرب نهر عفرين، ومعرة النعمان، وجسر الشغر، وحارم.
(17) مدرستان، إحداهما في مدينة إدلب والأخرى في مدينة حارم.
(18) طريق بين قاطمه وبين ميدانكي، طوله 12 كيلومتر.
(19) جسر جديد على نهر عفرين، في الطريق الممتد بين حلب واسكندرونة.
(20) طريق بين حارم وسلقين طوله 13 كيلومتر.
(21) جرّ ماء عين في قرية مرتين إلى مدينة إدلب بواسطة مضخة ومواسير حديدية.
(22) العناية مصروفة الآن إلى إكمال إنشاء مدارس في كل من مركز قضاء: منبج، وجرابلس، وعزاز، وقضاء عفرين.
(23) فروع عديدة تتفرع من طريق عربات اسكندرونة إلى قرى على جانبي هذا الطريق.(3/602)
خاتمة هذا الجزء
نذكر في خاتمة هذا الجزء ما فاتنا ذكره من الأماكن القديمة التي يقصدها السيّاح في مدينة حلب، وبعض جهات ولايتها.
الأماكن المقصودة في حلب وضواحيها:
في مدينة حلب أماكن قديمة يقصدها السيّاح للاطلاع على ما هي عليه من عظمة البناء والآثار المعمارية وبداعة الطرز، وهي: الجامع الأموي الكبير، المدرسة الحلوية، المدرسة الرضائية المعروفة بالعثمانية، المدرسة السلطانية تجاه باب قلعة حلب، العمارة الخسروية، جامع العدلية، جامع الأطروش، جامع ألطونبغا، جامع قراسنقر في محلة المقامات- وفيها عدة آثار قديمة- عمارة ضيفة خاتون وهي المعروفة باسم الفردوس، عمارة الهروي، الدرويشية في تلك الجهة، مقبرة الخليل المعروفة بمقبرة الصالحين، كنيسة اليهود المعروفة بالكنيسة الصفراء، قلعة حلب الشهيرة المعدودة من عجائب الدنيا، أبواب الخانات الثلاثة وهي: خان الوزير، وخان الكمرك، وخان العلبية.
دار الجانبلاط في البندرة، دور آل قطاراغاسي في الفرافرة، مدرسة أبي الرجاء في محلة الكلاسة، المشهد، الشيخ محسّن، الشيخ سعيد، مشهد الأنصاري، مشهد الشيخ فارس، مشهد الشيخ مقصود، تكية الشيخ أبي بكر الوفائي، الثكنة العسكرية، المسجد الذي في داخلها، مستشفى الرمضانية، المكتب السلطاني في محلة الجميلية، مقام مقرّ الأنبياء المعروف باسم قرنبا، بعض أبواب مدينة حلب، جامع القيقان في العقبة، والحجر الأسود الذي في ظاهر جواره الجنوبي المحرر بقلم الهيروكليف، دور بني غزالة وبني صادر في الجديدة، مغاير الحوّار في محلة المقامات وضاحية الكلاسة.
الأماكن القديمة المقصودة للسيّاح في بعض الجهات التابعة لحلب:
هي: قصر البنات في الطريق المتوسطة بين حلب وأنطاكية، سور أنطاكية المعدود(3/603)
من عجائب الدنيا، دفنة المعروفة باسم طواحين بيت المال في ضاحية أنطاكية، السويدية المعروفة قديما باسم سلوقية، جبل موسى المشتمل على قرية كابوسية وحاج حببلو وخضر بك وغيرها، عين موسى حيث التقى مع الخضر في هذا الجبل على طريق قرية كابوسية.
كل هذه القرى من أعمال أنطاكية مما يلي السويدية.
جبل الزاوية، قرية كفر لاثا، خربة البارة في قضاء إدلب، قرية كفر نابو، قلعة سمعان العمودي في جبل ليلون المعروف أيضا بجبل سمعان، أورم الكبرى في هذا القضاء، قرية الشيخ خروز في قضاء كلز، خرابة أفامية وقلعة المضيق من أعمال قضاء جسر الشغر، مقام أهل الكهف في جبل بناخيلوس قرب مدينة باربوز المعروفة قديما باسم أفسوس من قضاء البستان في لواء مرعش، مغائر الصابئية في حرّان ومدينة الرها (أورفة) ، يرابوليس المعروفة باسم جرابلس وهي قاركمش، بتيه، قلب لوزة، قلعة حارم.
الأماكن التي هي مظنّة لوجود العاديات والذخائر النفيسة:
مما يوجد من هذه الأماكن مواقع متعددة في ضاحية حارة الكلاسة، التي هي من القسم المعمور من الحاضر السليماني، حيث وجد عاديات زجاجية وأخرى خزفية، مغائر الحوّار التي تلي هذه المحلة، خان في تصرف ورثة المرحوم أسعد باشا الجابري في جهة باب النيرب، فقد ظهر في بعض أسسه مغار وجد فيه ظروف زجاجية قديمة، قرية النيرب ظهر فيها بعض نواويس تشتمل على قطع ذهبية وفضية، قرية مسطومة بين إدلب وريحا ظهر فيها بعض ظروف فضية، خرابة الرقة من الجزيرة، التي لم يزل يظهر فيها عاديات قديمة عربية وغيرها، رصافة هشام التي لم يزل يظهر فيها آثار فضية وزجاجية، خرائب جرابلس التي نقل منها ومن أطرافها ما يعسر عدّه من العاديات.
جميع هذه الآثار أشرنا إليها في محالها من الجزء الثاني من كتابنا هذا، فلتراجع.(3/604)
انتهى الجزء الثالث من كتاب نهر الذهب في تاريخ حلب ويليه الجزء الرابع المشتمل على الباب الثالث المفتتح بقولي:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده «1»(3/605)
فهرست الجزء الثالث من كتاب نهر الذهب في تاريخ حلب
الموضوع الصفحة كلمة لا بدّ منها 5
مقدمة المؤلف 7
إجمال في ذكر الأمم التي أوطنت حلب وأصقاعها، والدول التي تولتها قبل الفتح الإسلامي 9
إجمال في ذكر الدول والرجال الذين تولوا حلب بعد أن فتحها المسلمون 13
خبر فتح حلب عن يد المسلمين 14
حوادث حلب أيام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. فيه نقض أهل قنسرين وفتحها عن يد السمط الكندي، وغير ذلك 18
حاضر حلب 18
أول مدربة في الإسلام 19
تأمير خالد 19
عزل خالد بن الوليد عن قنّسرين 19
خبر من جلدوا في الخمر 20
طاعون عمواس 20
خبر عام الرمادة 20
بقية الحوادث في أيام سيدنا عمر. فيه ذكر وفاة عياض واستخلاف سعيد بن عامر بعده إلخ 20
أيام عثمان. فيه غزو معاوية الروم، وغزو يزيد بن الحرّ الصائفة، وغزو معاوية قنّسرين، وضم حمص وقنسرين إليه 21(3/607)
أيام علي بن أبي طالب، فيه ذكر تفريق عليّ العمال على الأمصار 21
حوادث أيام بني أمية 22
أيام معاوية. فيه خبر وفاة حبيب بن مسلمة الفهري، والكلام على ضم قنّسرين إلى حمص، وترتيب خراج قنسرين 22
تجنيد قنسرين وتسمية حلب بالعاصمة 22
عمّال قنّسرين وحمص من سنة 45 إلى 59 هـ 23
أيام يزيد بن معاوية 24
وصول رأس الحسين إلى حلب 24
أيام معاوية بن يزيد ومروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان 25
غزوات بني أمية الروم، وغير ذلك 25
أيام الوليد بن عبد الملك. وفيه خبر غزو ملمة الروم، وغزو العباس الصائفة، وعزل محمد بن مروان بمسلمة، والكلام على الناعورة، وزلزال بالشام، وانتقاض قنسرين وفتحها 25
أيام سليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز 26
أيام يزيد بن عبد الملك وهشام أخيه. فيه خبر عزل الوليد بن هشام المعيطي عن الأحصّ وتولي الوليد بن القعقاع قنّسرين أو عبد الملك بن قعقاع الذي ينسب إلى أسرته حيار بني عبس، وطاعون بالشام، وغزو معاوية أرض الروم، وغير ذلك 26
أيام الوليد بن يزيد بن عبد الملك. فيه خبر تولية يزيد بن عمر، وتذيب سلفه حتى مات 26
أيام يزيد الناقص بن عبد الملك وإبراهيم المخلوع. فيه خبر خروج يزيد الناقص على أخيه، وقتل والي قنسرين بحلب، وتولية عبد الملك الغنوي عليها، وقتل الحكم.
وعثمان، ويوسف بن عمر الثقفي، وغزو الوليد الصائفة، وبناء حصن مرعش 27
حوادث أيام الخلفاء العباسيين 28
أيام عبد الله السفاح. فيه ذكر مبايعة السفاح، وقتال عبد الله بن عليّ مروان،(3/608)
وتقليد أخيه حلب وقنسرين، وخروج أبي الورد الكلابي على العباسيين وقتله، واستيلاء «السفياني» على حلب ثم أخذها منه، وغير ذلك 28
أيام أبي جعفر المنصور. وفيه خبر تولية زفر بن عاصم على حلب، وقتال أبي مسلم لعبد الله، وتولية أبي مسلم الشام جميعه، ثم عزله وتولية صالح بن علي حلب وقنسرين، وبناء قصر بقرية بطياس، وغزو صالح الصائفة ومعه أختاه، وخروج الراوندية بحلب وحرّان، وحجّ صالح بالناس 29
ضرب النقود في حلب. فيه خبر وفاة صالح وتولية ابنه الفضل حلب وقنسرين، ثم تولية موسى الخراساني. ضرب السكة بقنّسرين، وخروج هاشم الخارجي على المهدي وقتله بقنسرين 29
قدوم المهدي الخليفة إلى حلب. فيه خبر تولية علي بن سليمان على حروب حلب وقنسرين والجزيرة، وتولية حلب والشام هارون بن المهدي وغزوه الروم 30
قتل الزنادقة في حلب ووصول رأس المقنع إليها 30
أيام الهادي والرشيد. وفيه خبر تولية عبد الملك بن صالح حلب وقنسرين، وبنائه قصرا في منبج 30
أيام الهادي والرشيد 30
عمال حلب من سنة 175 إلى سنة 193. فيه خبر خروج الروم إلى عين زربة، تولية خزيمة بن خازم حلب وقنسرين 31
حوادث أيام الأمين في حلب وفيه خبر تولية عبد الملك بن صالح قنّسرين والعواصم، ووفاته بالرقة 31
حوادث أيام المأمون في حلب. وفيه خبر تولية خزيمة حلب وقنّسرين، ثم تولية طاهر بن الحسين، ثم تولية ابنه عبد الله مصر والشام، ثم تولية العباس بن المأمون حلب وقنسرين والعواصم 31
قدوم المأمون إلى حلب، وفيه خبر تولية عيسى بن علي حلب، وتولية عبيد بن جنّاد القضاء، وغير ذلك 32
حوادث أيام المعتصم بحلب. وفيه خبر وفاة العباس بن عبيد الله في منبج، وتولية(3/609)
عبيد الله بن عبد العزيز حلب وقنسرين. وفيه ذكر أول من أظهر البرطيل بالشام 32
حوادث حلب أيام الواثق. فيه خبر تولية أحمد بن سعد الثغور والعواصم، وخبر الفداء مع خاقان وميخائيل، وغزو أحمد بن سعد شاتيا 32
حوادث حلب أيام المتوكل. فيه خبر تولية «الشّارباميان» حلب وقنسرين والعواصم، ثم عيسى بن عبيد الله، ثم طاهر بن محمد ثم ابن المتوكل، وخبر صدور الأمر لأهل الذمة بالغيار 33
حادث غريب. فيه خبر زلزال نيسابور وغيرها 33
ولاة حلب أيام المنتصر والمستعين والمعتزّ 34
أول العمال الأتراك في الشام 34
عمال حلب أيام المعتمد. وفيه خبر بناء «سيما الطويل» دارا بباب أنطاكية، وغير ذلك 34
حوادث أيام بني طولون. فيه خبر عصيان أحمد بن طولون واستيلائه على أنطاكية وحلب والشام 35
سنة 267 هـ خبر الزلزلة. وفيه خبر خروج بكّار الصالحي ودعائه لأبي أحمد الموفق 35
عصيان لؤلؤ على مولاه 35
قصد ابن طولون الثغور وموته. وفيه خبر تولية ابن دوغباش حلب وتواقعه مع إسحاق بن كنداج 36
سنة 271 هـ اتفاق إسحاق مع الأفشين. وفيه خبر قدوم أحمد بن الموفق إلى حلب واستيلائه عليها وعلى قنسرين وشيزر، وغير ذلك 36
عود حلب إلى العباسين وحوادثهم فيها أيام المعتضد. وفيه خبر تقليد المعتضد ابنه أبا محمد حلب وقنسرين، وتقليد هذا ولده الحسن المعروف بكورة الخراساني حلب، الذي تنسب إليه دار كورة وغيرها، وكان كاتب أبي محمد يومئذ الحسين ابن عمرو النصراني، وغير ذلك 37
حوادث أيام المكتفي. فيه خبر صرف الحسن بن كورة عن ولاية حلب، واستبداله(3/610)
بأحمد النوتجاني، ثم صرف هذا عنها بأبي الأغرّ السلمي ومحاربته القرمطي، وغير ذلك 37
حوادث أيام المقتدر. وفيه خبر عيث بني تميم في بلد حلب، وإيقاع الحسين بن حمدان بهم، وتولية مؤنس الخادم الشام ومصر، وغير ذلك 38
حوادث أيام القاهر. فيه خبر قبض الخليفة القاهر مولاه مؤنسا واستبداله ببشرى الخادم، وأسر بشرى وخنقه، وغير ذلك 39
حوادث أيام الراضي. فيه خبر استيلاء بدر الخرشني على حلب، ثم تقليد الراضي أبا بكر الإخشيد مصر وأعمالها، وخبر ورود بني كلاب من نجد وإغارتهم على المعرة، ودخول ابن رائق حلب واستنابته محمدا بن يزداد وسيره لقتال الإخشيد، إلى آخره 39
حوادث أيام المتّقي 40
استيلاء الدولة الإخشيدية على حلب وحوادثهم فيها 40
حوادث أيام المتّقي، وابتداء أمر بني حمدان في حلب 41
سنة 332 هـ وابتداء أمر بني حمدان في حلب وأعمالها 41
حوادث أيام المتّقي بالله والمستكفي بالله سنة 333 هـ 42
استيلاء سيف الدولة على حلب 42
غزو سيف الدولة أرض الروم 42
قصد جيوش الإخشيد حلب، واستيلاؤه عليها 42
سنة 334 هـ عود سيف الدولة إلى حلب وهو الاستيلاء الثاني 43
استيلاء سيف الدولة على دمشق 43
سنة 335 هـ حرب سيف الدولة مع كافور 43
الفداء بالثغور بين المسلمين والروم 43
سنة 336 هـ، فيه خبر استيلاء سيف الدولة على حلب وهو الاستيلاء الثالث، وخبر غلاء كان بالشام 44
سنة 337 هـ غزو سيف الدولة الروم وانكساره، وغير ذلك 44(3/611)
سنة 939 هـ غزو سيف الدولة الروم 44
سنة 340 هـ موت يماك التركي 44
سنة 341 هـ قصد الروم مدينة سروج 45
مد نهر قويق 45
سنة 342 هـ خروج سيف الدولة إلى ديار مضر وإيقاعه بالدمستق وأسره ابنه 45
سنة 343 هـ سير سيف الدول إلى الحدث وإيقاعه بجيوش الدمستق 46
إيقاع سيف الدولة ببني كلاب 47
سنة 344 هـ ورود رسول ملك الروم 47
خروج سيف الدولة إلى الأعراب وإيقاعه بهم 47
مسير سيف الدولة إلى الدمستق في حصن الحدث 49
سنة 345 هـ غزو سيف الدولة الروم 49
سنة 347 هـ الزيادة في الأذان 51
سنة 348 هـ غزو الروم طرسوس والرّها 52
سنة 349 هـ غزو سيف الدولة الروم 52
الجليد والبرد، وخروج كمين من الروم على ثغر بين أنطاكية وطرسوس سنة 350 هـ 52
سنة 351 هـ استيلاء الروم على عين زربة 53
استيلاء الدمستق على حلب 53
امتناع أهل حرّان على عاملها 54
الإيغال في بلاد الروم 55
سنة 353 هـ عصيان «نجا» على سيف الدولة 55
استيلاء نقفور على المصيصة 55
مخالفة أهل أنطاكية سيف الدولة. وفيه خبر خروج القرمطي على سيف الدولة 56
سنة 355 هـ الفداء بين سيف الدولة وبين الروم 56
سنة 356 هـ وفاة سيف الدولة، وبقية حوادث دولته في حلب 57(3/612)
سنة 378 هـ عصيان بكجور وقتله، ووفاة أبي المعالي. وفيه ذكر استعانة أبي الفضائل بملك الروم على جيش الخليفة الفاطمي، وسير ملك الروم إلى الشام يهدم ويخرب 58
سنة 399 هـ وفاة لؤلؤ، وخلفه ابنه 58
سنة 402 هـ انقراض دولة بني حمدان من حلب. وفيه خبر إغارة صالح بن مرداس على حلب وأسره ثم هربه 59
سنة 406 هـ عصيان فتح على مولاه مرتضي الدولة 59
سنة 414 هـ استيلاء المرداسيّين على حلب 60
حوادث الدولة المرداسية في حلب. سنة 415 هـ: دفن قاضي حلب حيا 60
سنة 416 هـ إسناد صالح الوزارة إلى تاذرس النصراني 60
سنة 418 هـ خروج صالح إلى المعرة واجتماعه بأبي العلاء 60
سنة 420 هـ قتل صالح وولده الأصغر، وولاية ابنه نصر. وفيه ذكر زحف الروم على حلب 61
سنة 421 هـ خروج ملك الروم من القسطنطينية إلى حلب 61
سنة 429 هـ قتل شبل الدولة 62
سنة 433 هـ موت الدزبري واستيلاء أبي علوان على حلب 62
سنة 440 هـ وصول عساكر مصر إلى حلب 62
سنة 441 هـ زحف المصريين على حلب 62
سنة 449 هـ تنازل «ثمال» عن حلب إلى المصريين 62
سنة 452 و 453 و 454 هـ. فيه خبر استيلاء بني مرداس على حلب، واستيلاء هارون التركي على المعرة، وغلاء، وموت، وفتح صحن أرتاح من الفرنج، واستيلاء ملك الروم على حصن منبج، واستيلاء البخت على حصن «أسقوبا» واسترداده منه ثم هدمه، واستيلاء الروم على منبج، وقيام الشيعة، ووفاة محمود وتملك ابنه بعده إلخ 62
سنة 468 هـ ملك نصر منبج وقتله في حلب 64(3/613)
انقراض دولة بني مرداس، ودخول حلب تحت سلطة شرف الدولة، ثم حكم الشريف بها، ثم دخولها تحت سلطة الدولة السلجوقية، وغير ذلك من الحوادث إلى سنة 491 هـ 66
وصول الفرنج الصليبين إلى أنطاكية وغيرها من بلاد حلب 70
وفد من حلب إلى بغداد للاستغاثة بالخليفة وطلب النجدة منه على الصليبين إلخ 71
سنة 507 هـ وفاة رضوان وما جرى بعده 72
انتهاء الدولة السلجوقية بحلب، ودخولها تحت سلطة بني أرتق، وحوادثهم فيها، وهم من فروع الدولة السلجوقية 74
انتهاء دولة بني أرتق بحلب، ودخولها في حوزة أقسنقر البرسقي صاحب الموصل، وحوادث أيامه فيها، وهو من رجال الدولة السلجوقية 76
دخول حلب في حوزة الدولة الأتابكية وحوادثها فيها، وهي من فروع الدولة السلجوقية، من سنة 522 إلى سنة 543 هـ 78
سنة 544 هـ حصر نور الدين قلعة حارم، وغير ذلك 81
سنة 545 هـ استيلاء نور الدين على أفامية 81
سنة 546 هـ انهزام نور الدين وأسر حامل سلاحه، ثم أسر «جوسلين» وغير ذلك 81
سنة 547 هـ انكسار الفرنج عند دلوك 82
سنة 549 هـ ملك نور الدين دمشق وغيرها 82
سنة 551 هـ حصار نور الدين حارم ومصالحته الفرنج على نصف أعمالها 82
خبر الزلزال وغيره 83
سنة 554 هـ مرض نور الدين، وغير ذلك من الحوادث 83
أخبار الحوادث من سنة 555 هـ إلى نهاية سنة 558 هـ. فيه خبر قصد ملك إيطاليا البلاد وأخذه أسيرا، وكبس الفرنج نور الدين في خيمته ونجاته 83
سنة 559 هـ أخذ نور الدين قلعة حارم وبانياس ومنبج، ولعبه بضرب الكرة في ميدان حلب، وخبر زلزال في بلاد الشام 84(3/614)
اتخاذ حمام الزاجل 85
ملك صلاح الدين يوسف بن أيوب دمشق وغيرها. فيه خبر قصده حلب، انتصار الملك الصالح بأهل حلب والشيعة، وثوب الباطنية على صلاح الدين، وإغارة «القمص» على حمص 87
ملك صلاح الدين بزاعة وعزاز، ووثوب الإسماعيلي عليه ومنازلته حلب ورحيله عنها. محاصرة الفرنج حارم. وفاة الملك الصالح. ملك عز الدين زنكي حلب واستبدالها بسنجار 89
استيلاء السلطان صلاح الدين على حلب، وتقدمة صلاح الدين لعماد الدين، وخلعه على الناس 90
فتح صلاح الدين حارم. وفيه خبر جعل صلاح الدين ولده الملك الظاهر في حلب، ثم الملك العادل، ثم إعادتها لولده 91
استيلاء صلاح الدين على بيت المقدس، وأخذه من حلب منبرا للمسجد الأقصى 92
استيلاء الملك الظاهر على سرمينية من الفرنج، واستيلاء أبيه على دربساك، وغير ذلك 92
وفاة صلاح الدين، وولايات البلاد بعده. وفيه خبر محاصرة الملك الأفضل والملك الظاهر دمشق ثم انصرافهما عنها وغير ذلك إلى سنة 600 هـ 94
قصد ابن لاوون الأرمني أنطاكية وغير ذلك 96
مجيء الملك الأشرف إلى حلب. وفيه خبر تقدمة الملك الظاهر له. تصليح قناة حلب.
تزوج الملك الظاهر ضيفة خاتون. وفاة الملك الظاهر وقيام طغريل الطواشي أتابكا على ولده الصغير. قصد كيكاوس ولاية حلب وانهزام عساكره. تفويض الشغر وبكاس إلى ابن الملك الظاهر. خبر التنين في جهات كلّز. خلعة الملك الأشرف على الملك العزيز ابن أخيه، ظفر التركمان بفارس مشهور من الفرنج وقتله. وفيه غير ذلك من الحوادث والشؤون إلى سنة 638 هـ 96
إجمال في الأتراك 101(3/615)
أجناس الترك ومساكنهم 101
تركستان وتاتارستان 102
كلمة تورك 103
لغة الأتراك 103
توران أو طوران 103
أصل الأتراك ودياناتهم 104
متى بدأ الدين الإسلامي ينتشر في الأتراك 104
السلاجقة والعثمانيون من أصل واحد 109
السلاجقة 110
جنكز خان 110
أسباب خروجه إلى الممالك الإسلامية 112
إسلام أولاد جنكز خان 115
شجاعة الأتراك 118
معارف الأتراك 122
علماء الإسلام الذين هم من عرق تركي 123
سنة 637 هـ وفاة شيركوه 127
سنة 638 هـ: وصول الخوارزمية إلى حلب، وما جرى من الحوادث إلى سنة 641 هـ 127
سرد الحوادث من سنة 641 هـ إلى آخر سنة 656 هـ 129
وصول التتر إلى حلب وما جرى عليها منهم 131
دخول حلب في حوزة دولة الأتراك المماليك، وحوادثهم فيها 135
مبايعة الخليفة في حلب 138
استيلاء الملك الظاهر على يافا وأنطاكية وغيرها من البلاد الشامية 138
عود التتر إلى حلب 139
انقراض دولة الصليبين من سوريا وفلسطين 140(3/616)
وصول الملك الأشرف إلى حلب وفتحه قلعة الروم 140
افتتاح بلاد سيس 141
عود التتر إلى حلب، وما حدث فيها من سنة 697 إلى 713 هـ 141
غزو بلاد سيس. وفيه خبر إبطال المكوس. تحريم الاجتماع بمشهد «روحين» وغيره.
نزع كنيسة اليهود من أيديهم. وصول نهر الساجور إلى حلب. وفاة أرغون.
مصادرة لؤلؤ للناس. عود الغزاة من سيس. تعمير قلعة جعبر. محاصرة ميناء إياس.
ظهور جمجمة زكريا عليه السلام، إنذار العلماء والفقهاء. وصول فيل وزرافة إلى حلب. وصول قاض للشافعية 144
تمزيق كتاب فصوص الحكم. حصار يلبغا لابن دلغار. زلزال عظيم. نقل يلبغا إلى دمشق. مسامحة الجند بعلوفة أحد عشر شهرا. تشهير فتاة وقطع أذنيها وشق أنفها.
ظهور جراد. قيام الأرمن للثورة، قاض للحنابلة وصيرورة القضاة أربعة.
وغير ذلك إلى سنة 749 هـ 149
طاعون كبير. وفيه خبر طغيان العرب والتركمان في بلد سنجار، حصار دمشق، زحف نواب صفد وحماة وطرابلس على حلب، ظهور مدّعي النبوة، توجه نائب حلب للقبض على ابن دلغار. غزو أولاد مهنّا التركمان في «العمق» إلى سنة 760 هـ 152
غزو بلاد سيس 154
إبطال وكلاء الدعاوي. وفيه خبر منازلة والي حلب جزيرة من ديار بكر. (حاشية في الكلام على دولة ذوي القدر) . هجوم الفرنج على إياس وفشلهم، بناء جامع منكلي بغا. قتل نائب حلب في وقعة مع الأعراب. امتياز الأشراف بعمامة خضراء، وغير ذلك، إلى سنة 775 هـ 155
غزو بلاد سيس،. وفيه خبر ظهور غلاء في حلب 157
قصد تمرباي «سيس» لردع التركمان 158
ردع خليل بن دلغار 159
عزل القضاة الأربعة 159(3/617)
الموضوع الصفحة الحرب مع ابن رمضان، (وفيه حاشية في الكلام على الدولة الرمضانية) 159
عصيان الناصري على السلطان 161
قتال بين أهل بانقوسا وكمشبغا 161
القبض على منطاش وقتله 162
وباء عظيم 162
قدوم السلطان إلى حلب لحرب تيمورلنك 162
أول تحرش العثمانيين بالمملكة المصرية 163
اقتراب شرور تيمورلنك من حلب 163
إجمال في تيمورلنك 163
مجيء تيمورلنك إلى حلب، وما أحله فيها من الويل والصخب 166
نزول أمير العرب إلى حلب 173
قتال فارس بن صاحب الباز 174
قصد دمشو خجا بلد حلب 175
زلزال عظيم. وفيه خبر الملك جكم. تواتر الزلازل 175
أصل قبيلة آل المهنا، وفيه خبر وصول السلطان إلى حلب 176
قصد ابن دلغار حلب 176
قتال أمير التركمان 177
إبطال مكس البيض. وغير ذلك 177
قصد «قرا يوسف» حلب 179
مجيء الأمراء إلى حلب وقتل يشبك اليوسفي. وفيه خبر وباء عظيم، وغير ذلك 179
إبطال مكس الكتّان وتكسير الخوابي 181
إبطال ما كان يؤخذ من الدلالين 181
طاعون 181
إبطال مكس الزيتون من قرى عزاز 182
احتفال الناس بماء السمرمر 182(3/618)
الموضوع الصفحة طاعون جارف 182
إبطال خانيّة قلعة القصير 182
إبطال مكس الزيت من قرى عزاز 183
قتال أمراء ذي القدرية مع بعضهم 183
محاربة شاه سوار 183
إبطال مكس السلاح وغيره 184
البطش بالحوارنة 185
محاربة علي دولات 185
استرضاء السلطان المصري السلطان العثماني 186
الحرب بن العسكرين: العثماني والمصري 186
إبطال إقامة المكّاسين 186
إبطال رسم الحنّة 187
الصلح بين السلطانين 187
منع السقي من ماء الساجور 187
إبطال مكس القطن وغيره من المكوس. وفيه ذكر حصار «آق بردي» دمشق 187
حصار «آق بردي» حلب. وفيه ذكر حصار سيباي القلعة 188
هجوم الشيعي على منلا عرب 188
نبذة من الكلام على دولة الأتراك، المعروفة أيضا بدولة الأملاك، وعلى دولة الجراكسة في مصر والشام 190
دولة الأتراك 190
دولة الجراكسة 191
مقتل السلطان قانصوه الغوري واستيلاء السلطان سليم العثماني على مصر والشام 192
حوادث الدولة العثمانية في حلب 198
صلب حبيب بن عربو 199
قتل طومان جماعة السلطان سليم 199(3/619)
الموضوع الصفحة نفي جماعة من الحلبيين إلى طربزون 199
الاستئذان عن عقود الأنكحة 199
هبوب عاصفة شديدة 199
إشهار «جان بردي» العصيان وقتله 200
عزل «قراجا باشا» عن حلب، وبيان أغلاط في سالنامة سنة 1303 200
صلب نائب حلب، أي قاضيها 201
مقتل «قرا قاضي» 201
عيسى باشا وحالته 203
مجيء السلطان سليمان إلى حلب. وفيه خبر طاعون، وتولية مصطفى باشا حلب، وتتبعه قطاع الطريق 203
حريق 204
طاعون وغلاء وغيرهما. وفيه خبر قطعة من قدح النبي صلّى الله عليه وسلّم 204
توريث ذوي الأرحام من الشافعية. وفيه ذكر عود السلطان سليمان إلى حلب وأمره بعمارة القسطل المنسوب إليه، ووفاة ولده 205
قدوم كوهر ملكشاه إلى حلب 205
طاعون 206
إحضار ماء السمرمر إلى حلب 206
غدر والي حلب بالحلبيين 207
خروج الجراد 208
الشركة الشرقية في حلب 209
حريق في حلب، وفساد من العرب 209
فتك إبراهيم باشا بالإنكشارية، وذكر شيء من فظائعهم 210
تبييض القلعة 213
قيام نصوح باشا على حسين باشا الجانبولاط، وما جرى بينهما 213
قتل حسين باشا 215(3/620)
عصيان علي باشا على الدولة وما آل إليه أمره 215
قتل ملحد 218
شغب الإنكشارية 219
إبطال التدخين بالتبغ 220
استطراد في الكلام على هذه الحشيشة. وفيها خبر قدوم السلطان مراد إلى حلب وقتل 20 شخصا لشربهم الدخان، وغير ذلك 220
فساد العرب والإيقاع بهم. وفيه خبر تبدل ولاة حلب، وشيء من سيرة أبشير باشا 221
حصار السيد أحمد باشا حلب. وفيه خبر تبدل عدة ولاة، وقتل عدد منهم، وغش السكة وغلاء، وطاعون شديد، وغير ذلك 223
فساد العربان والتنكيل بهم. وفيه خبر إكمال عمارة خان الوزير 226
غلاء وقتل ابن حجازي. فيه خبر حريق بانقوسا، وروشن القلعة، وطاعون جارف 227
وضع حد لقرى المقاطعات 228
غلاء عظيم؛ يعرف بغلاء الطاقة. وفيه خبر تبدل عدة ولاة، وطاعون جارف، وطغيان عربان، وزلزال شديد، وجراد عظيم، واحتفال بافتتاح المدرسة العثمانية 229
غلاء شديد وقتل شيخ المداراتية 232
وصول سفير العجم إلى حلب 232
النزالة الإنكليزية في حلب. وفيه خبر مقتلة من الإنكشارية، وكسوف الشمس، وغلاء شديد 233
برد وغلاء وكساد 234
غلاء عظيم 235
زلزال مهول. وفيه خبر طاعون 235
ولاية محمد باشا العظم وإبطاله بدعة الدومان وغيرها 236(3/621)
الموضوع الصفحة نفي نقيب الأشراف محمد أفندي طه زاده. وفيه ذكر فتنة بين الإنكشارية والدالاتية 237
فتنة بين الأشراف والإنكشارية 238
فتنة بين الأشراف والدالاتية 239
غلاء عظيم 240
فتن في عينتاب وكلّز 240
صلح اليكجرية مع أهل حلب 241
تخفيض عدد تراجمة قناص الدول الأجنبية 242
واقعة جامع الأطروش 243
سفر المتطوعة من حلب إلى مصر لإخراج الفرنسيين منها. وفيه ذكر زلزلة 245
إصلاح ذات البين بين اليكجرية والسادات. وفيه ذكر ولاية إبراهيم باشا قطاراغاسي إمارة الحج، وتولّي ابنه حلب، وقيام الحلبيين عليه، وغير ذلك 246
ولاية محمد جلال الدين باشا بن جوبان حلب، وما كان في أيام ولايته من الحوادث 247
عزل قاضي حلب 248
طاعون جارف 249
خروج مناذ من قبل الحكومة 249
ورود أمر سلطاني بقتل جماعة من اليكجرية 249
أمر النصارى بالغيار 249
تأديب حيدر آغا مرسل، وغيره من الخوارج 250
ولاية خورشيد على حلب. وفيه خبر مقتلة 17 شخصا من الروم الكاثوليك 251
حصار حلب المعروف بحصار خورشيد 251
غريبة 254
الزلزلة الكبرى في حلب وأعمالها 255
مقتل نعمان أفندي ابن عبد الرحمن أفندي شريف 258(3/622)
لقاح الجدري البقري. وفيه خبر إلغاء حزب اليكجرية 259
نبذة في الكلام على هذه الطائفة. وفيه خبر طاعون بحلب، والتنبيه بحلب، والتنبيه عليهم بأن لا يوجد عندهم أحد من اليكجرية 259
مقتل أحمد بك قطاراغاسي 271
سفر علي رضا باشا إلى بغداد 273
إجمال بهذه الأسرة (أي الأسرة الخديوية) 273
حوادث حلب أيام إبراهيم باشا المصري 277
مجيء عسكر الأرناوود إلى حلب 280
غلاء شديد. وفيه خبر وباء عظيم، وجفاف قويق، وعين التل، والعين البيضاء 280
الفتنة المعروفة بقومة حلب 281
أسباب هذه الفتنة 281
السبب الحقيقي لهذه الكارثة 284
كيف كانت الثورة 285
استطراد في الكلام على احترام رابطة اللسان ورابطة الجوار عند أمة العرب في جاهليتها وإسلاميتها 292
الرابطة اللسانية 292
رابطة الجوار 295
النفير العام 296
وصول السكاير إلى حلب 296
ظهور بقلة الطماطم في حلب. وفيه شكوى الناس من والي حلب 297
قطع الماء عن قسطل الرمضانية 298
تمديد السلك التلغرافي 298
بناء دور في جبل الغزالات 298
وصول استعمال زيت البترول إلى حلب. وفيه خبر سقوط برد كبير 298(3/623)
الموضوع الصفحة تشكيل لواء الزور. وفيه عزل القاضي أبي دية، ووباء في الحجاز ثم في حلب، وإحصاء نفوسها 299
صدور جريدة الفرات 300
سالنامة الولاية 301
غرائب الخلق. وفيه خبر اهتمام الحكومة بجمع بزر الجراد 302
الشروع بفتح طريق إسكندرونه. وفيه خبر اختناق تسعة أشخاص في مغارة البختي، وبرد الهواء بغتة في ريحا، ومنع زرع التبغ، وإخضاع الأعراب، وعود السلطان عبد العزيز من أوربا 302
حريق أسواق حلب 303
ميت عاش. وفيه خبر شدة الشتاء، وترميم قناة حلب، والترخيص بزرع التبغ، وتبديل سقوف الأسواق، وتعديل الأوزان، وافتتاح دار الإصلاح 304
سفر الوالي إلى طريق إسكندرونة، وما أجراه من الإصلاح 305
تولي الحكومة بريد إسكندرونة 306
ابتداء العمل في محلة العزيزية 306
زلزلة أنطاكية 307
انقضاض صاعقة. وفيه خبر خلق السلطان عبد العزيز 307
صدور جريدة في حلب 308
النفير العام 308
شتاء شديد 309
تشكيل عدلية حلب 309
غلاء شديد 309
صدور جريدة في حلب 310
حريق في مرعش 310
سقوط نيزك من الجو 310
فتح الجادة العظيمة. وفيه خبر طغيان نهر عفرين وهدم قنطرتين من جسره 311(3/624)
إنشاء جامع منبج. وفيه خبر انتشار جراد، وسطوع كوكب في السماء، وتهطال مطر، وتسفير عساكر الرديف إلى جهة الرومللي 311
تقديم كتاب «المجلة» إلى القاضي حسين توفيق. وفيه عمل حفلة لافتتاح طريق إسكندرونة، وغير ذلك 312
عزل جميل باشا من حلب، وما يتعلق به 312
قصد زيرون اغتيال الوالي 313
تأسيس مجلة «الجميلية» . وفيه جرّ ماء رأس العين إلى مدينة إسكندرونة 315
التباس بين مولودين. وفيه خبر زلزال في بعض بلدان الولاية 316
حريق في مرعش وبيادر حلب 316
تفشي حمى التيفوس في محابيس حلب، وفيه خبر حريق في مرعش، ووقوع مطر غزير وظهور مرض الهيضة في جهات الموصل، وظهور مرض أبي الركب في حلب، وغير ذلك 316
سنة 1308 هـ: فيه خبر ظهور الهيضة في مسكنة وانتقالها إلى غيرها، واعتناء مصلحة الصحة بنظافة حلب وتطهير هوائها، وغلاء العقاقير الطبية، وسقوط برد في البيرة وغيرها، وكثرة الجراد في ولاية حلب، وظهور عاديات في جهات أنطاكية 319
سنة 1309 هـ: فيه خبر تفشي الهيضة في عينتاب وكلز، وتطبيق قناة حلب، وإحصاء رسوم عد الأغنام، وتنظيم جادة، وفتح مستشفى الغرباء، وغير ذلك 321
سنة 1310 هـ: فيه ذكر وفاة ولدين لأكلهما لبّ عجو المشمش، وتعمير المدرسة الحلوية، وحريق في أنطاكية، وتعمير مستودع الكاز في إسكندرونة، ومصادرة الحكومة ملح البارود، وهزات أرضية وغلاء التنباك واستعاضته بعرق السوس، وغرق في العمق وغيره، وظهور حوت عظيم في بحر السويدية، وغير ذلك 322
سنة 1311 هـ: فيه خبر افتتاح جادة الخندق، ووفاة عدة أشخاص لأكلهم لحما مسموما، ومدّ السلك البرقيّ إلى الرقة، وغير ذلك 324
سنة 1312 هـ: فيه خبر وفاة الأستاذ الشيخ حسن وادي، واحتراق سوق بيلان، وتأليف كتائب الحميدية، ونقل مركز قضاء حارم إلى قرية كفر تخاريم 325
عصابات الأرمن 325
سنة 1313 هـ: فيه خبر تفشّي مرض في غنم قضاء جسر الشّغر، وولادة بقرة(3/625)
برأسين، ووفود جمع عظيم من الأرمن على السويدية 327
تمرد الأرمن في الزيتون 327
استطراد في الكلام على الأرمن ومدينة الزيتون 328
ما تؤاخذ به أمة الأرمن 330
سنة 1314 هـ: فيه خبر تعمير سبيل الدراويش، وثوراث الأرمن، وانقضاض صاعقة في السويدية، وسلخ عدة قرى من قضاءي أنطاكية وحارم وإلحاقها في قضاء «بيلان» 335
حدوث حرب اليونان. فيه ذكر فرض إعانة على البلاد العثمانية، وتعيين شاكر باشا للتجوال في البلاد العثمانية، وقدومه على حلب، وتقديم أهل حلب إليه اللوائح في طلب إصلاح حلب وولاياتها وجمع إعانة لمهاجري «كريد» 336
سنة 1315 هـ: فيه ذكر الصلح مع اليونان 339
قصيدة لعبد الفتاح الطرابيشي تتضمن ذكر ما جرى في حرب اليونان 339
فيه ذكر انتهاء عمارة مستشفى الغرباء. بناء جامع ومكتب في مدينة الرّها. احتفال بمنتزه السبيل. إحياء ليلة في المكتب الإعدادي باسم جرحى حرب اليونان وأيتام شهدائه. سقوط برد في السويدية. ضريبة على الغنم باسم مهاجري «كريد» .
بناء مخفر منتزه السبيل. عواصف ثلجية في جهات مرعش وإدلب وغيرها، وغير ذلك 342
سنة 1316 هـ: فيه ذكر نقل مركز قضاء حارم إلى كفر تخاريم، خسوف القمر.
تسميم امرأة زوجها وبعض أولادها في أنطاكية. وضع أساس منارة الساعة في باحة باب الفرج، تعمير مستودع للرديف في كفر تخاريم وغير ذلك 344
سنة 1317 هـ: فيه ذكر تجفيف مستنقع إسكندرونة. بناء مسجد عند باب حديد نانقوسا. بناء عمارة على عين الموقف في إسكندرونة، عمل خريطة لمدينة حلب، وغير ذلك 347
سنة 1318 هـ: عزل رائف باشا عن ولاية حلب 349
ولاية أنيس باشا على حلب. وفيه ذكر بناء مستودع للمواد النارية. خبر شدة الشتاء. حديقة العزيزية. تأسيس ثكنة عسكرية في إسكندرونة، وغير ذلك 350
سنة 1319 هـ: فيه ذكر مكتب الصنائع في حلب. وصول آلة لحفر آبار شبه(3/626)
أرتوازية، وسقوط برد في جهات مرعش، وموت سبعة أشخاص أكلوا نوعا من الفطر، وسقوط صاعقة في إسكندرونة، وحدوث حريق كبير في عينتاب، وسقوط صاعقة على دار لبني صولا في حلب، وغير ذلك 352
سنة 1320 هـ: فيه ذكر افتتاح مربى الخيل، ونصب طاحون يدور بالهواء، وحدوث سيل جارف، وحدوث هيضة في دمشق، وانتهاء مخفر السويدية، وإحصاء مواليد ووفيات في بعض جهات الولاية 354
سنة 1321 هـ: فيه ذكر مدّ السلك التلغرافي إلى الباب، ومعرض في المكتب الإعدادي، وظهور وباء في جهات عديدة من حلب، وسيول في جهات عينتاب 356
وفاة علي محسن باشا. وفيه افتتاح معمل لنسج السجّاد 357
سنة 1322 هـ: فيه خبر انتهاء تعمير مستشفى في إسكندرونة، وإحصاء نفوس ولاية حلب، وشدة الشتاء 359
سنة 1323 هـ: الشروع بأعمال سكة حديد حلب- حماة. وفيه ذكر انتهاء إحصاء النفوس، وغير ذلك 360
ضريبة جديدة. وفيه ذكر زحف الجراد على ملحقات حلب، وشدة البرد في الشتاء، وقدوم عدد كبير من المهاجرين إلى حلب 361
سنة 1324 هـ: فيه ذكر شدة القرّ، وقدوم مهاجري قفقاس 363 وصول قطار سكة الحديد إلى حلب. وفيه ذكر إلحاق عدة قرى بقضاء أنطاكية كانت من أعمال جسر الشّغر وبالعكس، وغير ذلك 363
سنة 1325 هـ: مصابيح لوكس. وفيه ذكر تخصيص مكان لتربية دودة القز، وإجراء سباق الخيل، وأول مطحنة نارية كبيرة في حلب 365
سنة 1326 هـ: ذكر زحف جراد على حلب. قدوم والدة شاه العجم وأخيه على حلب 366
النداء بالدستور وقلب الحكومة العثمانية من الحالة المطلقة الاستبدادية إلى حالة المشروطية المقيدة 366
العفو عن المنفيين 366
صدور الأمر بإطلاق السجناء 367
إبطال التجسس 367
صدور الترخيص بالسفر. وفيه ذكر الاحتفال بزينة، وما جرى فيها، وما كان(3/627)
بعدها من فظائع أرادل الاتحاديين. زحف الجراد على حلب وحدوث غلاء وقيام غوغاء للنهب 367
خطبة عامة في الجامع الكبير 371
افتتاح نادي جمعية الاتحاد 372
انتهاء مرمّات الجامع الكبير. وفيه القيام باحتفال لوفد من جمعية الاتحاد 372
إبراهيم باشا ابن معمو التمّو 373
الشروع بانتخاب النواب المعروفين بالمبعوثان 376
تنازل السلطان عن أملاكه ومزارعه 376
ما هي الأملاك السنية والجفاتلك الهمايونية؟ 377
سنة 1327 هـ: فيه ذكر تأسيس جمعية الإخاء العربي، ووصول السيارة المعروفة باسم أوتوموبيل إلى حلب 380
خلع السلطان عبد الحميد 380
ذكر شيء من سيرة هذا السلطان 381
كم سنة بقي سلطانا؟ 381
كيف كانت سيرته في رعيته؟ 382
عدم سماحه عمن يمس شخصه وسلطانه إلخ 382
استخدامه الرجال في مآربه 384
استخدامه صحف الأخبار الأجنبية في مآربه 385
رغبته بالمستخدم المبتلى بهوس 386
حكاية عن مستخدم من هذا القبيل 386
استكثاره من الجواسيس 388
كراهيته الجمعيات ومنعه استعمال بعض الألفاظ، وتضييقه على المؤلفات وصحف الأخبار 388
تحرزه المفرط في أكله وشربه ومحلّ نومه 319
غناه وحشده الأموال 391
التغالي بألقابه ومدائحه 392
الاحتفال بزينة عيدي ميلاده وجلوسه 392(3/628)
الموضوع الصفحة مواكب السلطان في صلاة الجمعة والعيدين 393
احتفال السلطان بالأضاحي في عيد الأضحى 393
وصف قاعة العرش 395
وصف المعايدة 396
خبر زلزال حدث في ذلك الوقت، وثبات جأس السلطان 397
سلام الخلافة 398
نبذة في الكلام على الزلزلة 398
أسباب الزلازل 399
بقية حوادث سنة 1327 هـ: فيه خبر مشاغب أرمنية في مرعش وأنطاكية 400
مظاهرة في حلب ومقاطعة اليونان. وفيه ذكر تشديد فخري باشا العقوبة على المتجاهرين بالسّكر 400
سنة 1328 هـ: تجنيد المسيحيين والإسرائليين 402
كلمة في الجزية والبدل العسكري 402
مقدار الجزية 403
تتمة حوادث سنة 1328 هـ: وفيه خبر إلغاء تذاكر المرور، ووصول شعرة من الحلية الشريفة مع السيد بهاء الدين بك الأميري، وقيام طائفة الدروز في جبل الدروز، وورود أمر بإبطال التغالي بزينة الميلاد والجلوس، وغير ذلك 405
سنة 1329 هـ 407
شدة الشتاء وكثرة القرّ والثلج 407
تأثير الثلج والقرّ 408
تتمة حوادث هذه السنة: فيه ذكر كثرة الكمأة، والشروع بمحطة سكة حديد بغداد، وقيام الأرناؤد في جهات مكدونيا، وعزل الوالي، وابتداء حرب طرابلس الغرب 413
سنة 1330 هـ: سير قطار بغداد. ذكر انتهاء حرب طرابلس، وقيام مظاهرة في حلب، وصدور الأمر بإجلاء التليان عن حلب 414
انتهاء حرب طرابلس وابتداء حرب البلقان 414
سنة 1331 هـ: فيه ذكر جودة المواسم، وجمع الإعانة الملّية، وصدور الأمر بقبول(3/629)
عرض الحال باللغة العربية، والشروع بانتخاب المجلس العمومي واغتيال نيازي بك، وإعطاء امتياز بتجفيف بحيرة أنطاكية واسترداد أدرنة وقرق كليسا، وتجاهر سكان بيروت ودمشق بطلب الإصلاح، وعقد الصلح بين تركيا وبلغاريا، والشروع بفرع إسكندرونة من خط سكة حديد بغداد، وصدور الأمر بتوحيد الساعات، والترخيص بأن يكون التدريس بالعربي، وغير ذلك 416
سنة 1332 هـ: فيه خبر تعليق شاب، وجمع إعانة الأسطول، وغير ذلك 417
أول طيارة في جو حلب 417
الحرب العامة 418
الدول المتحاربة مع بعضها 419
أسباب هذه الحرب: لها سببهان 420
السبب الأوّليّ 420
أغراض دولة بريطانيا من هذه الحرب 421
أغراض دولة فرانسة من هذه الحرب 421
أغراض الدولة الروسيّة من هذه الحرب 422
سبب دخول دولة أميركا إلى هذه الحرب 422
السبب الثانوي لهذه الحرب 423
بيان أن هذه الحرب كانت مقررة قبل هذه الحادثة 424
نبذة من الكلام على تضخم إمبراطورية ألمانيا 425
لم لم تتفق تركيا مع دول الاتفاق؟ ولم لم تبق على الحياد؟ 426
تحالف تركيا مع ألمانيا 427
تصريح بالفوائد التي تقصدها ألمانيا من محالفتها مع تركيا 429
المقصد الأول 429
المقصد الثاني 429
تصريح في البواعث التي حملت تركيا على الاتفاق مع دولة ألمانيا 432
دولة إيطاليا حيال الدول المتحاربة 434
منذرات هذه الحرب في حلب قبل ظهورها 434
تتمة حوادث سنة 1332 هـ 435(3/630)
سباق الخيل 435
دعوة العرفاء إلى الثكنة العسكرية 435
إعلان تركيا النفير العام في ممالكها 436
الإدارة العرفية 436
التكاليف الحربية وحجز أموال التجّار 437
تطواف الضباط العسكريين في الخانات 437
كيف بدأت هذه الحرب 437
أول تحرش بألمانيا 437
إعلان روسية وإنكلترة واليابان الحرب على ألمانيا 438
إعلان إنكلترا وفرنسة وروسية الحرب على تركيا وإعلان تركيا اتفاقها مع ألمانيا والنمسا وبلغاريا إلخ 438
إعلان تركيا الحرب على الدول الثلاث 439
إعلان إنكلترة استقلالها بمصر 440
منع الحكومة إخراج الذهب 440
سنة 1333 هـ: فتوى شيخ الإسلام في النفير العام 440
قدوم جمال باشا إلى حلب 440
أمر جمال باشا جلال بك والي حلب بحمل الناس على العمل في طريق المركبات 441
وفود استقبال العلم النبوي الشريف 442
قتلى بالرصاص 444
خبر استيلاء الجيوش العثمانية على «أردهان» 444
فروغ الفحم الحجري واستعمال الفحم النباتي. وقطع أشجار من البساتين 445
متطوعة الدراويش المولوية 445
وفود القدس 445
فرع من سكة حديد الحجاز إلى الترعة 446
إنهاء جسر جرابلس 446
وصول الورق النقدي إلى حلب 446
إعانة الكسوة الشتوية 446
مهاجرو مكة 447(3/631)
قانون تأجيل الديون 447
تعرض إنكلترا للبصرة وتقسيم جيوش تركية 447
إعلان الحكومة إلغاء الامتيازات الأجنبية 447
وفود للقدس 448
وصول جنود الألمان إلى حلب 448
إجلاء أمة الأرمن عن أوطانهم 448
الجرب وحمّى القملة 450
غلاء البضائع الأجنبية 451
تصاعد أسعار الحبوب 452
حجز الغلّات 452
الجراد النجدي 452
هدم الحكومة المنازل في جادّة السّويقة 453
قدوم أنور باشا إلى حلب 453
وفود من بلاد العرب إلى استانبول 453
أخذ العسكرية أموال التجار 454
هبوط أسعار الورق النقدي 454
تكليف موظفي الحكومة التجار تبديل الورق بالنقود 454
إحسان الحكومة بالحبوب على خدمة العلم 455
استيلاء جيوش بريطانيا على البصرة 455
سنة 1334 هـ: تصاعد أسعار الحبوب 456
عقد شركة إسهام لبيع الحبوب 456
فك الحصار عن الدردنيل 458
قدوم أنور باشا إلى حلب، وتعليق الستار على المرقد الشريف 458
توزيع البذور والنقود على الزراع 458
مكتب المعلمات 459
تشدد العسكرية بالوثائق 459
استيلاء الجيوش البريطانية على «قود الإمارة» 460(3/632)
إسعاف الفقراء بالحبوب والخبز 460
حوادث الأرمن 461
مشاغب الأرمن في أورفة 461
حادثة الأرمن في الزيتون 463
حادثة الأرمن في السويدية 463
أحزاب الأرمن في حلب 465
أحوال الأرمن في عينتاب وكلّز 466
الحملة على قناة السويس 466
ما هو الغرض المقصود من هذه الحملة؟ 466
ورود نبأ برقيّ بنجاح الحملة 468
عدد الأيام التي أمضتها جيوش الحملة في قطع الصحراء بين بئر السبع والقناة 468
ما لاقاه الجيش من التعب والضنك 468
عدد عساكر الحملة وعدد عساكر الإنكليز 469
مساعدة ابن السعود وابن الرشيد، وعدد الجمال التي كانت في جيش الحملة 469
ثقة جمال باشا بإخلاص العرب 469
هجوم الحملة على القناة وفشلها، وعدد من قتل وأسر وجرح فيها 470
مقتل زعماء الجمعية اللامركزية 470
قيام حضرة الشريف حسين على تركيا 470
إجلاء أسر من دمشق وحلب 471
إحداث جريدة في المدينة 471
وفود إلى المدينة 472
فتوى في وجوب قتال من خرج على الخليفة 472
قدوم الشريف علي حيدر باشا على حلب 472
جودة الموسم ورخص الأسعار 472
سنة 1335 هـ: ملكية حضرة الشريف حسين على البلاد العربية 474
وفد من إستانبول إلى البلاد الشامية 474
سباق الخيل 474
دار للمعلمين ودار للحكومة 474(3/633)
أخبار غزة 475
انفكاك مصطفى عبد الخالق عن ولاية حلب 475
نفى بعض المتلاعبين بالورق النقدي 475
قلة الماء في حلب وجرّ ماء عين التلّ إليها 476
الغلاء وضحايا الجوع 478
خسوف القمر 478
مقتول بالتعليق 478
طوابع على الثقاب ودفاتر اللفائف 479
تعليق شخصين 479
قدوم إبراهيم بك على حلب. وفيه عزل توفيق بك وتعيين بدري بك، وأكياس الرمل 479
قدوم أحد أفراد الأسرة العثمانية على حلب 480
توحيد أوائل الأشهر 480
الأوراق النقدية المعروفة باسم بنكينوط 480
الورق النقدي، وحالة مرتزقة الحكومة 482
جالية أهل المدينة المنورة 483
سقوط القدس في يد الإنكليز 484
عزل جمال باشا وسفره 484
تعيين نهاد باشا قائدا بدل جمال باشا 484
سقوط بغداد في يد الإنكليز، واستيلاء روسيا على بلاد الأناضول 485
هبوط أسعار الحبوب وعودها للارتفاع 485
تشدد العسكرية في القبض على الناس 486
تظاهر المستخدمين بالرشوة وسلب الأموال الأميرية 487
سنة 1336 هـ: اشتداد الجوع وجمع إعانة للفقراء 490
سقوط السّلط ويافا وغيرهما 491
عود البرنس عبد الحليم إلى إستانبول 491
استقراض داخلي 491
انكسار روسية 492(3/634)
ترخيص الحكومة بنقل الذهب 492
وفاة السلطان رشاد 492
عزل بدري بك والي حلب، وتولّي عاطف بك 492
انكسار بلغاريا 492
فحص فضلة المسافر 493
انسحاب الروس من بلاد الأناضول 493
عود الشريف حيدر باشا إلى الإستانة 494
تقدم جيوش الإنكليز والعرب في جهات درعا وإنهزام المستخدمين 494
استبدال والي حلب عاطف بك بمصطفى عبد الخالق بك 494
سنة 1337 هـ: جلاء الموظفين من أماكنهم 495
خبر سقوط دمشق وتشتت شمل الجيوش العثمانية 495
سقوط رياق 496
انتهاء صحيفة الفرات 496
إبطال القبض على العساكر 496
حدوث فزع في حلب 496
نسف محطات وسقوط حمص وحماة وغيرهما 497
خوف الجنود التركية وموظفي حكومتها وارتحالهم من حلب 497
تحليق طيارات الإنكليز في سماء حلب 498
مقدمات سقوط حلب 498
الهدنة بين إنكلترا وتركيا 498
إطلاق المحابيس 498
صدور أمر الوالي بحل المجلس الذي أمر بعقده 499
اشتداد الخوف وقيام الأسافل للنهب 499
انفجار لغم 500
سقوط حلب 501
قدوم عرب العنزة إلى حلب 501
جلاء الوالي والقائد والجنود التركية عن حلب، ودخول عساكر الشريف حسين إليها 502(3/635)
عزم المأمورين الراحلين على استصحاب السجلات 503
سفر الوالي والقائد التركيين 504
محاماة الوالي عن حلب تجاه القائد 504
ما كان في حلب بعد وصول الشريف «مطر» إليها 506
انفجار ألغام 506
وصول عساكر الإنكليز إلى حلب 507
واقعة قرب قرية بلّليرمون 507
فرقعة ألغام وقذائف 507
وصول الشريف ناصر إلى حلب وانعقاد مجلس شورى 507
نادي العرب وجريدة العرب 509
وصول سمو الأمير الكبير الشريف فيصل إلى حلب 509
أخذ الأمير فيصل بيعة الحلبيين لأبيه الشريف حسين بن علي ملك العرب 509
خطبة الأمير فيصل 510
سفر الأمير فيصل 515
كلمة في بني عثمان 516
تناهي السلاطين العثمانيين بالأبهة والعظمة 518
أسباب انقراض الدولة العثمانية 519
أسباب سرعة سقوط العراق والشام 522
ذكر طائفة من الأمور المنفرة التي كانت أثناء الحرب وهي:
تهور جمال باشا وقلة تبصره 524
ركوب جمال باشا بالعظمة والأبهة 525
انهماكه في المعاصي 525
تسلط المأمورين على التجار، وأخذ الذهب منهم بالورق 525
إخراج الناس من بيوتهم قهرا 526
تظاهر جهلة الأتراك ببغض العرب 526
تعليم البنات فن الرقص والتمثيل 527
إفساح الحكومة مجال البغاء 528
كتاب «قوم جديد» 531(3/636)
كتاب سيرة النبي 531
التسرع بإراقة الدماء 532
تسلط جباة الأموال ورجال الدرك على أهل القرى 538
حبس الأقوات عن المدينة المنورة وجهات بيروت 540
منع إخراج البضائع من مواضعها 540
خلاصة في بيان ماجريات الحرب العالمية 541
مهاجمة الألمان بلجيكة وفرنسة 542
طرد الروس غن غاليسا والاستيلاء على وارسوا 542
هجوم النمسا وحلفائها على صربيا والجبل الأسود 542
إعلان إيطاليا الحرب على النمسا 542
إعلان رومانيا الحرب على ألمانيا وحلفائها 543
إعلان أميركا الحرب على ألمانيا 543
الهرج والمرج في روسيا 544
تفاقم الحرب في الجبهة الغربية 545
رجعا إلى تتمة حوادث سنة 1337 هـ في حلب 548
تجديد جسر الحاج 548
تمثيل رواية باللغة الأرمنية 548
احتلال أنطاكية 548
صدور جريدة «حلب» 548
قدوم الشريف ناصر إلى حلب 549
الأتراك المرخص لهم بالبقاء في حلب 549
قدوم الجنرال اللّنبي إلى حلب. وفيه ترجمة خطبته وذكر تجواله في الأماكن الأثرية في حلب إلخ 549
قدوم حاكم سوريا العسكري إلى حلب 552
قدوم رضا باشا الصلح 552
مأدبة 552
رجوع الجنرال اللنبي إلى حلب 552
سفر رضا باشا الركابي 553(3/637)
استيلاء العرب على المدينة المنورة 553
حادثة الأرمن المعروفة باسم فتنة 28 شباط سنة 1919 م 553
أسباب هذه الحادثة 553
كيف كانت هذه الفتنة؟ 558
ذيول هذه الحادثة الكارثة 560
اجتماع مهم يتعلق بهذه الحادثة 560
تزلف عظماء المسلمين والنصارى واليهود إلى بعضهم 561
عقوبة المعتدين على الأرمن 561
تسليم السلاح 561
منع إخراج الذهب 562
قدوم الحاكم العسكري على حلب 562
وصول الأمير فيصل إلى بيروت 562
قدوم سموّ الأمير فيصل إلى حلب، وخطبته 562
زيارة سموه المستشفى الوطني ومكتب الصنائع 566
مأدبة البلدية لسمو الأمير 566
حفلة الجمعية العلمية لسمو الأمير 566
وصول برقية من المارشال اللنبي عن اللجنة الدوليّة 567
عود سمو الأمير فيصل إلى دمشق 567
الوفد الدولي واجتماع رجال حلب للمذاكرة بما يجيبونه به 567
أعضاء المجلس العمومي 568
افتتاح المؤتمر السوري 568
وصول اللجنة الأميركية إلى حلب واستفتاؤها الشعب الحلبي 569
قدوم الشريف ناصر إلى حلب وعوده إلى دمشق 569
عود ناجي بك السويدي 569
سفر سموّ الأمير فيصل إلى أوروبا 569
قدوم الأمير زيد إلى حلب 570
سنة 1338 هـ: انسحاب الجيش الإنكليزي من دمشق وحلب 571
مظاهرة 571(3/638)
بلاغ مندوب حكومتي إنكلترا وفرنسا 571
روابط المحبة بين العرب والأرمن في حلب 572
عود الأمير فيصل من أوربا 572
خطاب الأمير في دمشق 572
قدوم سمو الأمير فيصل على حلب 572
سمو الأمير في نادي العرب 573
سفر الأمير 573
تعيين حاكم عسكري على حلب 573
استقلال سوريا وتتويج سموّ الأمير فيصل ملكا عليها 573
مبايعة رؤساء الطوائف المسيحية في دمشق لجلالة الملك فيصل الأول 573
صورة المبايعة 573
وفد التهاني لجلالة الملك فيصل 574
والي الولاية 574
الاحتفال بالعلم العربي 574
زيادة الضرائب والدعوة إلى التجنّد وقيام الفتن في سورية الساحلية 575
توتر العلائق بين جلالة الملك فيصل وبين الحكومة الفرنسية المنتدبة 575
أول ما ظهر من نتائج توتر العلائق 576
ذكر ما حدث في حلب أثناء هذه الحرب 576
منشور ألقته الطيارة على حلب 577
والي حلب 577
دخول الجيش الفرنسي إلى حلب، وفيه ترجمة خطبة الجنرال «ده لاموط» 577
رفع استقالة 578
والي الولاية الجديد 578
إجمال في الكلام على الأمة الفرنسية المحترمة 579
مملكة فرنسا ومن أين أتى إليها هذا الاسم؟ 579
ديانة سكان تلك البلاد 579
متى دخلت النصرانية تلك البلاد 580
أول من تنصر من ملوك فرنسا 580(3/639)
السلسلة الأولى من ملوك فرنسا 580
السلسلة الثانية 580
السلسلة الثالثة 582
حرب فرنسا وإنكلترا مائة سنة وسنة 584
انتصار جاندارك 585
أسماء التواريخ العالمية العامة عند الأوربيين 585
ظهور المذهب البروتستاني 587
الثورة الفرنسية الشهيرة 591
مبدأ الثورة وتاريخها 591
أخبار نابليون بنابرت 593
أسباب هذه الحرب (حرب السبعين) 596
أسماء رؤساء الجمهورية مرتبة على السنين 597
أهم ما كان من الشؤون في مدة هؤلاء الرؤساء 597
نوابغ الرجال في مدة هؤلاء الرؤساء 598
حالة فرنسا قبل الحرب العالمية 598
الحرب العالمية العامة وأسبابها 598
رجال العلم في فرنسا 599
جدول في بيان الأعمال العمرانية التي تجددت في حلب وأعمالها، بعد أن دخلت إليها الحكومة الفرنسية المنتدبة على سورية 600
خاتمة هذه الجزء: فيها ذكر الأماكن القديمة التي يقصدها السياح في مدينة حلب وبعض جهات ولايتها 603
الأماكن المقصودة في حلب وضواحيها 603
الأماكن القديمة المقصودة للسياح في بعض الجهات التابعة لحلب 603
الأماكن التي هي مظنّة لوجود العاديات والذخائر النفيسة 604
الفهرس 606(3/640)