تدبير الأمور والمملكة، فتظاهرا معا على إتلاف الأوقاف، فكان جمال الدين إذا أراد أخذ وقف من الأوقاف، أقام شاهدين يشهدان بأن هذا المكان يضرّ بالجار والمارّ، وأن الحظ فيه.
أن يستبدل به غيره، فيحكم له قاضي القضاة كمال الدين عمر بن العديم باستبدال ذلك، وشره جمال الدين في هذا الفعل كما شره في غيره، فحكم له المذكور باستبدال القصور العامرة، والدور الجليلة بهذه الطريقة، والناس على دين ملكهم، فصار كلّ من يريد بيع وقف أو شراء وقف سعى عند القاضي المذكور بجاه أو مال، فيحكم له بما يريد من ذلك، واستدرج غيره من القضاة إلى نوع آخر، وهو أن تقام شهود القيمة فيشهدون بأن هذا الوقف ضارّ بالجار والمار، وأن الحظ والمصلحة في بيعه أنقاضا، فيحكم قاض شافعيّ المذهب ببيع تلك الأنقاض. واستمرّ الأمر على هذا إلى وقتنا هذا الذي نحن فيه، ثم زاد بعض سفهاء قضاة زمننا في المعنى وحكم ببيع المساجد الجامعة إذا خرب ما حولها، وأخذ ذرية واقفها ثمن أنقاضها، وحكم آخر منهم ببيع الوقف ودفع الثمن لمستحقه من غير شراء بدل، فامتدّت الأيدي لبيع الأوقاف حتى تلف بذلك سائر ما كان في قرافتي مصر من الترب، وجميع ما كان من الدور الجليلة، والمساكن الأنيقة، بمصر الفسطاط ومنشأة المهرانيّ ومنشأة الكتاب وزريبة قوصون وحكر ابن الأثير وسويقة الموفق، وما كان في الحكورة من ذلك، وما كان بالجوّانية والعطوفية وغيرها من حارات القاهرة وغيرها، فكان ما ذكر أحد أسباب الخراب، كما هو مذكور في موضعه من هذا الكتاب.
الجهة الثالثة: الأوقاف الأهلية، وهي التي لها ناظر خاص، إمّا من أولاد الواقف أو من ولاة السلطان أو القاضي، وفي هذه الجهة الخوانك والمدارس والجوامع والترب، وكان متحصلها قد خرج عن الحدّ في الكثرة لما حدث في الدولة التركية من بناء المدارس والجوامع والترب وغيرهما، وصاروا يفردون أراضي من أعمال مصر والشامات، وفيها بلاد مقرّرة، ويقيمون صورة يتملكونها بها ويجعلونها وقفا على مصارف كما يريدون، فلما استبدّ الأمير برقوق بأمر بلاد مصر قبل أن يتلقب باسم السلطنة، همّ بارتجاع هذه البلاد وعقد مجلسا فيه شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن رسلان البلقينيّ، وقاضي القضاة بدر الدين محمد بن أبي البقاء، وغيره. فلم يتهيأ له ذلك، فلما جلس على تخت الملك صار أمراؤه يستأجرون هذه النواحي من جهات الأوقاف، ويؤجرونها للفلاحين بأزيد مما استأجروا، فلما مات الظاهر فحش الأمر في ذلك واستولى أهل الدولة على جميع الأراضي الموقوفة بمصر والشامات، وصار أجودهم من يدفع فيها لمن يستحق ريعها عشر ما يحصل له، وإلّا فكثير منهم لا يدفع شيئا البتة، لا سيما ما كان من ذلك في بلاد الشام، فإنه استهلك وأخذ، ولذلك كان أسوأ الناس حالا في هذه المحن التي حدثت منذ سنة ست وثمانمائة الفقهاء، لخراب الموقوف عليها وبيعه واستيلاء أهل الدولة على الأراضي.(4/89)
الجامع بجوار تربة الشافعيّ بالقرافة
هذا الجامع كان مسجدا صغيرا، فلما كثر الناس بالقرافة الصغرى عندما عمر السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب المدرسة بجوار قبر الإمام الشافعيّ رضي الله عنه، وجعل لها مدرّسا وطلبة، زاد الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب في المسجد المذكور، ونصب به منبرا وخطب فيه، وصليت الجمعة به في سنة سبع وستمائة.
جامع محمود بالقرافة
هذا المسجد قديم والخطبة فيه متجدّدة، وينسب لمحمود بن سالم بن مالك الطويل، من أجناد السريّ بن الحكم أمير مصر بعد سنة مائتين من الهجرة. قال القضاعيّ: المسجد المعروف بمحمود، يقال أن محمودا هذا كان رجلا جنديا من جند السريّ بن الحكم أمير مصر، وأنه هو الذي بنى هذا المسجد، وذلك أنّ السريّ بن الحكم ركب يوما فعارضه رجل في طريقه فكلمه ووعظه بما غاظه، فالتفت عن يمينه فرأى محمودا، فأمره بضرب عنق الرجل ففعل. فلما رجع محمود إلى منزله تفكر وندم وقال: رجل يتكلم بموعظة بحق فيقتل بيدي وأنا طائع غير مكره على ذلك، فهلا امتنعت، وكثر أسفه وبكاؤه وآلى على نفسه أن يخرج من الجندية ولا يعود فيها، ولم ينم ليلته من الغمّ والندم، فلما أصبح غدا إلى السريّ فقال له: إني لم أنم في هذه الليلة على قتل الرجل، وأنا أشهد الله عز وجلّ وأشهدك أني لا أعود في الجندية، فأسقط اسمي منهم، وإن أردت نعمتي فهي بين يديك، وخرج من بين يديه وحسنت توبته وأقبل على العبادة، واتخذ المسجد المعروف بمسجد محمود وأقام فيه.
وقال ابن المتوج: المسجد الجامع المشهور بسفح المقطم، هذا الجامع من مساجد الخطبة، وهو بسفح الجبل المقطم بالقرافة الصغرى، وأوّل من خطب فيه السيد الشريف شهاب الدين الحسين بن محمد قاضي العسكر، والمدرّس بالمدرسة الناصرية الصلاحية بجوار جامع عمرو، وبه عرفت بالشريفية وسفير الخلافة المعظمة، وتوفي في شوّال سنة خمس وخمسين وستمائة، وكان أيضا نقيب الأشراف.
جامع الروضة بقلعة جزيرة الفسطاط
قال ابن المتوج: هذا الجامع عمره السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب، وكان أمام بابه كنيسة تعرف بابن لقلق بترك اليعاقبة، وكان بها بئر مالحة، وذلك مما عدّ من عجائب مصر أن في وسط النيل جزيرة بوسطها بئر مالحة، وهذه البئر التي رأيتها كانت قبالة باب المسجد الجامع، وإنما ردمت بعد ذلك، وهذا الجامع لم يزل بيد بني الرّدّاد ولهم نوّاب عنهم فيه، ثم لما كانت أيام السلطان الملك المؤيد شيخ المحموديّ هدم هذا الجامع(4/90)
في شهر رجب سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة، ووسعه بدور كانت إلى جانبه، وشرع في عمارته فمات قبل الفراغ منه.
جامع غين بالروضة
قال ابن المتوّج: المسجد الجامع بروضة مصر يعرف بجامع غين، وهو القديم، ولم تزل الخطبة قائمة فيه إلى أن عمر جامع المقياس فبطلت الخطبة منه، ولم تزل الخطبة بطالة منه إلى الدولة الظاهرية، فكثرت عمائر الناس حوله في الروضة وقلّ الناس في القلعة، وصاروا يجدون مشقة في مشيهم من أوائل الروضة، وعمر الصاحب محيي الدين أحمد ولد الصاحب بهاء الدين عليّ بن حنا داره على خوخة الفقيه نصر قبالة هذا الجامع، فحسن له إقامة الجمعة في هذا الجامع لقربه منه ومن الناس، فتحدّث مع والده فشاور السلطان الملك الظاهر بيبرس، فوقع منه بموقع لكثرة ركوبه بحر النيل واعتنائه بعمارة الشواني ولعبها في البحر، ونظره إلى كثرة الخلائق بالروضة، ورسم بإقامة الخطبة فيه مع بقاء الخطبة بجامع القلعة لقوّة نيته في عمارتها على ما كانت عليه، فأقيمت الخطبة به في سنة ستين وستمائة، وولي خطابته أقضى القضاة جمال الدين بن الغفاريّ، وكان ينوب بالجيزة في الحكم، ثم ناب في الحكم بمصر عن قاضي القضاة وجيه الدين البهنسيّ، وكان إمامه في حال عطلته من الخطبة، فلما أقيمت فيه الخطبة أضيفت إليه الخطابة فيه مع الإمامة.
غين أحد خدّام الخليفة الحاكم بأمر الله، خلع عليه في تاسع ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعمائة، وقلده سيفا وأعطاه سجلا قرىء فإذا فيه أنه لقب بقائد القوّاد، وأمر أن يكتب بذلك ويكاتب به، وركب وبين يديه عشرة أفراس بسروجها ولجمها، وفي ذي القعدة من السنة المذكورة أنفذ إليه الحاكم خمسة آلف دينار، وخمسة وعشرين فرسا بسروجها ولجمها، وقلده الشرطتين والحسبة بالقاهرة ومصر والجيزة، والنظر في أمور الجميع وأموالهم وأحوالهم كلها، وكتب له سجلا بذلك قرىء بالجامع العتيق، فنزل إلى الجامع ومعه سائر العسكر والخلع عليه، وحمل على فرسين، وكان في سجله مراعاة أمر النبيذ وغيره من المسكرات، وتتبع ذلك والتشديد فيه، وفي المنع من عمل الفقاع وبيعه، ومن أكل الملوخيا والسمك الذي لا قشر له، والمنع من الملاهي كلها، والتقدّم بمنع النساء من حضور الجنائز، والمنع من بيع العسل، وأن لا يتجاوز في بيعه أكثر من ثلاثة أرطال لمن لا يسبق إليه ظنه أن يتخذ منه مسكرا، فاستمرّ ذلك إلى غرّة صفر سنة أربع وأربعمائة، فصرف عن الشرطتين والحسبة بمظفر الصقليّ. فلما كان يوم الاثنين ثامن عشر ربيع الآخر منها، أمر بقطع يدي كاتبه أبي القاسم عليّ بن أحمد الجرجانيّ فقطعتا جميعا، وذلك أنه كان يكتب عند السيدة الشريفة أخت الحاكم، فانتقل من خدمتها إلى خدمة غين خوفا على نفسه(4/91)
من خدمتها، فسخطت لذلك، فبعث إليها يستعطفها ويذكر في رقعته شيئا وقفت عليه، فارتابت منه فظنت أن ذلك حيلة عليها، وأنفذت الرقعة في طيّ رقعتها إلى الحاكم، فلما وقف عليها اشتدّ غضبه وأمر بقطع يديه جميعا فقطعتا، وقيل بل كان غين هو الذي يوصل رقاع عقيل صاحب الخبر إلى الحاكم في كلّ يوم، فيأخذها من عقيل وهي مختومة بخاتمه ويدفعها لكاتبه أبي القاسم الجرجانيّ، حتى يخلو له وجه الحاكم فيأخذها حينئذ من كاتبه ويوقفه عليها، وكان الجرجانيّ يفك الختم ويقرأ الرقاع، فلما كان في يوم من الأيام فك رقعة فوجد فيها طعنا على غين أستاذه، وقد ذكر فيها بسوء، فقطع ذلك الموضع وأصلحه وأعاد ختم الرقعة، فبلغ ذلك عقيلا صاحب الخبر فبعث إلى الحاكم يستأذنه في الاجتماع به خلوة في أمر مهم، فأذن له، وحدّثه بالخبر، فأمر حينئذ بقطع يدي الجرجانيّ فقطعتا، ثم بعد قطع يديه بخمسة عشر يوما في ثالث جمادى الأولى، قطعت يد غين الأخرى، وكان قد أمر بقطع يده قبل ذلك بثلاث سنين وشهر، فصار مقطوع اليدين معا، ولما قطعت يده حملت في طبق إلى الحاكم، فبعث إليه بالأطباء ووصله بألوف من الذهب وعدّة من أسفاط ثياب، وعاده جميع أهل الدولة، فلما كان ثالث عشره أمر بقطع لسانه فقطع وحمل إلى الحاكم، فسيّر إليه الأطباء ومات بعد ذلك.
جامع الأفرم
قال ابن المتوّج: هذا الجامع بسفح الرصد، عمره الأمير عز الدين أيبك بن عبد الله المعروف بالأفرم أمير جاندار الملكيّ الصالحيّ النجميّ، في شهور سنة ثلاث وستين وستمائة، لما عمر المنظرة هناك، وعمر بجوارها رباطا للفقراء، وقرّرهم عدّة تنعقد بهم الجمعة، وقرّر إقامتهم فيه ليلا ونهارا، وقرّر كفايتهم وإعانتهم على الإقامة، وعمر لهم هذا الجامع يستغنون به عن السعي إلى غيره، وذكر أن الأفرم أيضا عمر مسجدا بجسر الشعيبية في شعبان سنة ثلاث وتسعين وستمائة، جامعا هدم فيه عدّة مساجد.
الجامع بمنشأة المهرانيّ
قال ابن المتوّج: والسبب في عمارة هذا الجامع، أن القاضي الفاضل كان له بستان عظيم فيما بين ميدان اللوق وبستان الخشاب، الذي أكله البحر، وكان يمير مصر والقاهرة من ثماره وأعنابه، ولم تزل الباعة ينادون على العنب رحم الله الفاضل يا عنب إلى مدّة سنين عديدة بعد أن أكله البحر، وكان قد عمر إلى جانبه جامعا وبنى حوله، فسميت بمنشأة الفاضل، وكان خطيبه أخا الفقيه موفق الدين بن المهدويّ الديباجيّ العثمانيّ، وكان قد عمر بجواره دارا وبستانا وغرس فيه أشجارا حسنة، ودفع إليه ألف دينار مصرية في أوّل الدولة الظاهرية، وكان الصرف قد بلغ في ذلك الوقت كل دينار ثمانية وعشرين درهما(4/92)
ونصف درهم نقرة «1» ، فاستولى البحر على الجامع والدار والمنشأة، وقطع جميع ذلك حتى لم يبق له أثر، وكان خطيبه موفق الدين يسكن بجوار الصاحب بهاء الدين عليّ بن محمد بن حنا، ويتردّد إليه وإلى والده محيي الدين، فوقف وضرع إليهما وقال: أكون غلام هذا الباب ويخرب جامعي، فرحمه الصاحب وقال: السمع والطاعة يدبر الله، ثم فكر في هذه البقعة التي فيها هذا الجامع الآن، وكانت تعرف بالكوم الأحمر، مرصدة لعمل أقمنة الطوب الآجرية، سميت بالكوم الأحمر، وكان الصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين عليّ بن محمد بن حنا، قد عمر منظرة قبالة هذا الكوم، وهي التي صارت دار ابن صاحب الموصل، وكان فخر الدين كثير الإقامة فيها مدّة الأيام المعزية، فقلق من دخان الأقمنة التي على الكوم الأحمر، وشكا ذلك لوالده ولصهره الوزير شرف الدين هبة الله بن صاعد الفائزيّ، فأمرا بتقويمه، فقوّم ما بين بستان الحليّ وبحر النيل وابتاعه الصاحب بهاء الدين، فلما مات ولده فخر الدين وتحدّث مع الملك الظاهر بيبرس في عمارة جامع هناك، ملّكه هذه القطعة من الأرض، فعمر السلطان بها هذا الجامع ووقف عليه بقية هذه الأرض المذكورة، في شهر رمضان سنة إحدى وسبعين وستمائة، وجعل النظر فيه لأولاده وذريته، ثم من بعدهم لقاضي القضاة الحنفيّ، وأوّل من خطب فيه الفقيه موفق الدين محمد بن أبي بكر المهدويّ العثمانيّ الديباجيّ إلى أن توفي يوم الأربعاء، ثالث عشر شوّال سنة خمس وثمانين وستمائة، وقد تعطلت إقامة الجمعة من هذا الجامع لخراب ما حوله، وقلة الساكنين هناك، بعد أن كانت تلك الخطة في غاية العمارة، وكان صاحبنا شمس الدين محمد بن الصاحب قد عزم على نقل هذا الجامع من مكانه، فاخترمته المنية قبل ذلك.
جامع دير الطين
قال ابن المتوّج: هذا الجامع بدير الطين في الجانب الشرقيّ، عمره الصاحب تاج الدين بن الصاحب فخر الدين ولد الصاحب بهاء الدين، المشهور بابن حنا، في المحرّم سنة اثنتين وسبعين وستمائة، وذلك أنه لما عمر بستان المعشوق ومناظره وكثرت إقامته بها، وبعد عليه الجامع، وكان جامع دير الطين ضيقا لا يسع الناس، فعمر هذا الجامع وعمر فوقه طبقة يصلي فيها ويعتكف إذا شاء، ويخلو بنفسه فيها. وكان ماء النيل في زمنه يصل إلى جدار هذا الجامع، وولى خطابته للفقيه جمال الدين محمد ابن الماشطة، ومنعه من لبس السواد لأداء الخطبة، فاستمرّ إلى حين وفاته في عاشر رجب سنة تسع وسبعمائة، وأوّل خطبة أقيمت فيه يوم الجمعة سابع صفر سنة اثنتين وسبعين وستمائة، وقد ذكرت ترجمة الصاحب تاج الدين عند ذكر رباط الآثار من هذا الكتاب.(4/93)
محمد بن عليّ بن محمد بن سليم بن حنا: أبو عبد الله الوزير الصاحب فخر الدين بن الوزير الصاحب بهاء الدين، ولد في سنة اثنتين وعشرين وستمائة، وتزوّج بابنة الوزير الصاحب شرف الدين هبة الله بن صاعد الفائزيّ، وناب عن والده في الوزارة، وولي ديوان الأحباس ووزارة الصحبة في أيام الظاهر بيبرس، وسمع الحديث بالقاهرة ودمشق، وحدّث، وله شعر جيد، ودرس بمدرسة أبيه الصاحب بهاء الدين التي كانت في زقاق القناديل بمصر، وكان محبا لأهل الخير والصلاح مؤثرا لهم متفقدا لأحوالهم، وعمر رباطا حسنا بالقرافة الكبرى، رتب فيه جماعة من الفقراء، ومن غريب ما يتعظ به الأريب أن الوزير الصاحب زين الدين يعقوب بن عبد الرفيع بن الزبير، الذي كان بنو حنا يعادونه، وعنه أخذوا الوزارة، مات في ثالث عشر ربيع الآخر سنة ثمان وستين وستمائة بالسجن، فأخرج كما تخرج الأموات الطرحاء على الطرقات من الغرباء، ولم يشيع جنازته أحد من الناس مراعاة للصاحب بن حنا، وكان فخر الدين هذا يتنزه في أيام الربيع بمنية القائد، وقد نصبت له الخيام، وأقيمت المطابخ وبين يديه المطربون، فدخل عليه البشير بموت الوزير يعقوب بن الزبير، وأنه أخرج إلى المقابر من غير أن يشيع جنازته أحد من الناس، فسرّ بذلك ولم يتمالك نفسه وأمر المطربين فغنوه، ثم قام على رجليه ورقص هو وسائر من حضره، وأظهر من الفرح والخلاعة ما خرج به عن الحدّ، وخلع على البشير بموت المذكور خلعا سنية، فلم يمض على ذلك سوى أقلّ من أربعة أشهر ومات في حادي عشري شعبان من السنة المذكورة، ففجع به أبوه، وكانت له جنازة عظيمة، ولما دلّي في لحده قام شرف الدين محمد بن سعيد البوصيريّ، صاحب البردة، في ذلك الجمع الموفور بتربة ابن حنا من القرافة وأنشد:
نم هنيئا محمد بن عليّ ... بجميل قدّمت بين يديكا
لم تزل عوننا على الدهر حتّى ... غلبتنا يد المنون عليكا
أنت أحسنت في الحياة إلينا ... أحسن الله في الممات إليكا
فتباكى الناس، وكان لها محل كبير ممن حضر رحمة الله عليهم أجمعين. وفي هذا الجامع يقول السراج الورّاق:
بنيتم على تقوى من الله مسجدا ... وخير مباني العابدين المساجد
فقل في طراز معلم فوق بركة ... على حسنها الزاهي لها البحر حاسد
لها حلل حسنى ولكن طرازها ... من الجامع المعمور بالله واحد
هو الجامع الإحسان والحسن الذي ... أقرّ له زيد وعمرو وخالد
وقد صافحت شهب الدجى شرفاته ... فما هي بين الشهب إلّا فراقد
وقد أرشد الضلال عالي مناره ... فلا حائر عنه ولا عنه حائد(4/94)
ونالت نواقيس الديارات وجمة ... وخوف فلم يمدد إليهنّ ساعد
فتبكى عليهنّ البطاريق في الدجى ... وهنّ لديهم ملقيات كواسد
بذا قضت الأيام ما بين أهلها ... مصائب قوم عند قوم فوائد
جامع الظاهر
هذا الجامع خارج القاهرة، وكان موضعه ميدانا، فأنشأه الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ جامعا. قال جامع السيرة الظاهرية: وفي ربيع الآخر، يعني سنة خمس وستين وستمائة، اهتمّ السلطان بعمارة جامع بالحسينية، وسير الأتابك فارس الدين أقطاي المستعرب، والصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين عليّ بن حنا، وجماعة من المهندسين، لكشف مكان يليق أن يعمل جامعا، فتوجهوا لذلك واتفقوا على مناخ الجمال السلطانية. فقال السلطان لا والله لا جعلت الجامع مكان الجمال، وأولى ما جعلته ميداني الذي ألعب فيه بالكرة وهو نزهتي، فلما كان يوم الخميس ثامن شهر ربيع الآخر، ركب السلطان وصحبته خواصه والوزير الصاحب بهاء الدين عليّ بن حنا والقضاة ونزل إلى ميدان قراقوش، وتحدّث في أمره وقاسه ورتب أموره وأمور بنائه، ورسم بأن يكون بقية الميدان وقفا على الجامع يحكر، ورسم بين يديه هيئة الجامع، وأشار أن يكون بابه مثل باب المدرسة الظاهرية، وأن يكون على محرابه قبة على قد رقبة الشافعيّ رحمة الله عليه، وكتب في وقته الكتب إلى البلاد بإحضار عمد الرخام من سائر البلاد، وكتب بإحضار الجمال والجواميس والأبقار والدواب من سائر الولايات، وكتب بإحضار الآلات من الحديد والأخشاب النقية برسم الأبواب والسقوف وغيرها، ثم توجه لزيارة الشيخ الصالح خضر بالمكان الذي أنشأه له، وصلّى الظهر هناك، ثم توجه إلى المدرسة بالقاهرة فدخلها والفقهاء والقرّاء على حالهم، وجلس بينهم، ثم تحدّث وقال: هذا مكان قد جعلته لله عز وجلّ، وخرجت عنه وقفا لله، إذا مت لا تدفنوني هنا. ولا تغيروا معالم هذا المكان فقد خرجت عنه لله تعالى. ثم قام من إيوان الحنفية وجلس بالمحراب في إيوان الشافعية، وتحدّث وسمع القرآن والدعاء، ورأى جميع الأماكن، ودخل إلى قاعة ولده الملك السعيد المبنية قريبا منها، ثم ركب إلى قلعة الجبل وولى عدّة مشدّين على عمارة الجامع، وكان إلى جانب الميدان قاعة ومنظرة عظيمة بناها السلطان الملك الظاهر، فلما رسم ببناء الجامع طلبها الأمير سيف الدين قشتمر العجميّ من السلطان فقال: الأرض قد خرجت عنها لهذا الجامع، فاستأجرها من ديوانه، والبناء والأصناف وهبتك إياها، وشرع في العمارة في منتصف جمادى الآخرة منها.
وفي أوّل جمادى الآخرة سنة ست وستين وستمائة سار السلطان من ديار مصر يريد بلاد الشام، فنزل على مدينة يافا وتسلمها من الفرنج بأمان، في يوم الأربعاء العشرين من(4/95)
جمادى الآخرة المذكور، وسير أهلها فتفرّقوا في البلاد، وشرع في هدمها وقسم أبراجها على الأمراء، فابتدأ في ذلك من ثاني عشريه، وقاسوا شدّة في هدمها لحصانتها وقوّة بنائها، لا سيما القلعة، فإنها كانت حصينة عالية الارتفاع ولها أساسات إلى الأرض الحقيقة، وباشر السلطان الهدم بنفسه وبخواصه ومماليكه، حتى غلمان البيوتات التي له، وكان ابتداء هدم القلعة في سابع عشريه، ونقضت من أعلاها ونظفت زلاقتها، واستمرّ الأجناد في ذلك ليلا ونهارا، وأخذ من أخشابها جملة، ومن ألواح الرخام التي وجدت فيها، ووسق منها مركبا من المراكب التي وجدت في يافا وسيرها إلى القاهرة، ورسم بأن يعمل من ذلك الخشب مقصورة في الجامع الظاهريّ بالميدان من الحسينية، والرخام يعمل بالمحراب، فاستعمل كذلك.
ولما عاد السلطان إلى مصر في حادي عشري ذي الحجة منها وقد فتح في هذه السفرة يافا وطرابلس وأنطاكية وغيرها، أقام إلى أن أهلت سنة سبع وستين وستمائة، فلما كملت عمارة الجامع في شوّال منها ركب السلطان ونزل إلى الجامع وشاهده، فرآه في غاية ما يكون من الحسن وأعجبه نجازه في أقرب وقت ومدّة مع علوّ الهمة، فخلع على مباشريه، وكان الذي تولى بناءه الصاحب بهاء الدين بن حنا، والأمير علم الدين سنجر السروريّ متولى القاهرة، وزار الشيخ خضرا وعاد إلى قلعته، وفي شوّال منها تمت عمارة الجامع الظاهريّ ورتب به خطيبا حنفيّ المذهب، ووقف عليه حكر ما بقي من أرض الميدان، ونزل السلطان إليه ورتب أوقافه ونظر في أموره.
بيبرس: الملك الظاهر ركن الدين البندقداريّ، أحد المماليك البحرية الذين اختص بهم السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، وأسكنهم قلعة الروضة، كان أوّلا من مماليك الأمير علاء الدين أيدكين البندقداريّ، فلما سخط عليه الملك الصالح أخذ مماليكه ومنهم الأمير بيبرس هذا، وذلك في سنة أربع وأربعين وستمائة، وقدّمه على طائفة من الجمدارية، وما زال يترقى في الخدم إلى أن قتل المعز أيبك التركمانيّ الفارس أقطاي الجمدار في شعبان سنة اثنتين وخمسين وستمائة، وكانت البحرية قد انحازت إليه فركبوا في نحو السبعمائة، فلما ألقيت إليهم رأس أقطاي تفرّقوا واتفقوا على الخروج إلى الشام، وكانت أعيانهم يومئذ بيبرس البندقداريّ، وقلاون الألفيّ، وسنقر الأشقر، وبيسرى، وترامق، وتنكز، فساروا إلى الملك الناصر صاحب الشام. ولم يزل بيبرس ببلاد الشام إلى أن قتل المعز أيبك، وقام من بعده ابنه المنصور عليّ، وقبض عليه نائبه الأمير سيف الدين قطز وجلس على تخت المملكة، وتلقب بالملك المظفر، فقدم عليه بيبرس فأمّره المظفر قطز، ولما خرج قطز إلى ملاقاة التتار وكان من نصرته عليهم ما كان، رحل إلى دمشق فوشى إليه بأن الأمير بيبرس قد تنكر له وتغير عليه، وأنه عازم على القيام بالحرب، فأسرع قطز بالخروج من دمشق إلى جهة مصر وهو(4/96)
مضمر لبيبرس السوء، وعلم بذلك خواصه فبلغ ذلك بيبرس فاستوحش من قطز وأخذ كلّ منهما يحترس من الآخر على نفسه، وينتظر الفرصة، فبادر بيبرس وواعد الأمير سيف الدين بلبان الرشيديّ، والأمير سيف الدين بيدغان الركنيّ المعروف بسم الموت، والأمير سيف الدين بلبان الهارونيّ، والأمير بدر الدين آنص الأصبهانيّ، فلما قربوا في مسيرهم من القصر بين الصالحية والسعيدية عند القرين، انحرف قطز عن الدرب للصيد، فلما قضى منه وطره وعاد والأمير بيبرس يسايره هو وأصحابه، طلب بيبرس منه امرأة من سبي التتار فأنعم عليه بها، فتقدّم ليقبل يده وكانت إشارة بينه وبين أصحابه، فعند ما رأوا بيبرس قد قبض على يد السلطان المظفر قطز، بادر الأمير بكتوت الجوكندار وضربه بسيف على عاتقه أبانه واختطفه الأمير آنص وألقاه عن فرسه إلى الأرض، ورماه بهادر المغربيّ بسهم فقتله، وذلك يوم السبت خامس عشر ذي القعدة سنة ثمان وخمسين وستمائة، ومضوا إلى الدهليز للمشورة، فوقع الاتفاق على الأمير بيبرس، فتقدّم إليه أقطاء المستعرب الجمدار المعروف بالأتابك وبايعه وحلف له، ثم بقية الأمراء وتلقب بالملك الظاهر، وذلك بمنزلة القصير.
فلما تمت البيعة وحلف الأمراء كلهم قال له الأمير أقطاي المستعرب: ياخوند «1» ، لا يتم لك أمر إلّا بعد دخولك إلى القاهرة وطلوعك إلى القلعة، فركب من وقته ومعه الأمير قلاون والأمير بلبان الرشيديّ والأمير بيلبك الخارندار، وجماعة يريدون قلعة الجبل، فلقيهم في طريقهم الأمير عز الدين أيدمر الحلبيّ نائب الغيبة عن المظفر قطز، وقد خرج لتلقيه، فأخبروه بما جرى وحلفوه، فتقدّمهم إلى القلعة ووقف على بابها حتى وصلوا في الليل فدخلوا إليها، وكانت القاهرة قد زينت لقدوم السلطان الملك المظفر قطز، وفرح الناس بكسر التتار وعود السلطان، فما راعهم وقد طلع النهار إلّا والمشّا عليّ ينادي معاشر الناس ترحموا على الملك المظفر وادعوا لسلطانكم الملك الظاهر بيبرس، فدخل على الناس من ذلك غمّ شديد ووجل عظيم، خوفا من عود البحرية إلى ما كانوا عليه من الجور والفساد وظلم الناس. فأوّل ما بدأ به الظاهر أنه أبطل ما كان قطز أحدثه من المظالم عند سفره، وهو تصقيع الأملاك وتقويمها وأخذ زكاة ثمنها في كل سنة، وجباية دينار من كلّ إنسان، وأخذ ثلث الترك الأهلية، فبلغ ذلك في السنة ستمائة ألف دينار. وكتب بذلك مسموحا قريء على المنابر في صبيحة دخوله إلى القلعة، وهو يوم الأحد سادس عشر ذي القعدة المذكور، وجلس بالإيوان وحلّف العساكر، واستناب الأمير بدر الدين بيلبك الخازندار بالديار المصرية، واستقرّ الأمير فارس الدين أقطاي المستعرب أتابكا على عادته، والأمير جمال الدين أقوش التجيبيّ أستادارا، والأمير عز الدين أيبك الأفرم الصالحيّ أمير جاندار، والأمير لاجين الدرفيل وبلبان الروميّ دوادارية، والأمير بهاء الدين يعقوب الشهرزوريّ(4/97)
أميراخور على عادته، وبهاء الدين عليّ بن حنا وزيرا، والأمير ركن الدين التاجي الركنيّ والأمير سيف الدين بكجريّ حجابا، ورسم بإحضار البحرية الذين تفرّقوا في البلاد بطالين، وسير الكتب إلى الأقطار بما تجدّد له من النعم، ودعاهم إلى الطاعة، فأذعنوا له وانقادوا إليه.
وكان الأمير علم الدين سنجر الحلبيّ نائب دمشق لما قتل قطز جمع الناس وحلّفهم، وتلقب بالملك المجاهد، وثار علاء الدين الملقب بالملك السعيد بن صاحب الموصل في حلب وظلم أهلها، وأخذ منهم خمسين ألف دينار، فقام عليه جماعة ومقدّمهم الأمير حسام الدين لاجين العزيزيّ وقبضوا عليه، فسير الظاهر إلى لاجين بنيابة حلب.
فلما دخلت سنة تسع وخمسين قبض الظاهر على جماعة من الأمراء المعزية، منهم الأمير سنجر الغتميّ، والأمير بهادر المعزيّ، والشجاع بكتوت، ووصل إلى السلطان الإمام أبو العباس أحمد بن الخليفة الظاهر العباسيّ من بغداد، في تاسع رجب، فتلقاه السلطان في عساكره وبالغ في إكرامه وأنزله بالقلعة، وحضر سائر الأمراء والمقدّمين والقضاة وأهل العلم والمشايخ بقاعة الأعمدة من القلعة بين يدي أبي العباس، فتأدّب السلطان الظاهر ولم يجلس على مرتبة ولا فوق كرسيّ، وحضر العربان الذين قدموا من العراق، وخادم من طواشية بغداد، وشهدوا بأن العباس أحمد ولد الخليفة الظاهر بن الخليفة الناصر، وشهد معهم بالاستفاضة الأمير جمال الدين يحيى نائب الحكم بمصر، وعلم الدين بن رشيق، وصدر الدين موهوب الجزريّ، ونجيب الدين الحرّانيّ، وسديد الزمنتيّ نائب الحكم بالقاهرة عند قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز الشافعيّ، وأسجل على نفسه بثبوت نسب أبي العباس أحمد، وهو قائم على قدميه، ولقّب بالإمام المستنصر بالله، وبايعه الظاهر على كتاب الله وسنة نبيه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، وأخذ أموال الله بحقها وصرفهاف ي مستحقها، فلما تمت البيعة قلد المستنصر بالله السلطان الملك الظاهر أمر البلاد الإسلامية، وما سيفتحه الله على يديه من بلاد الكفار، وبايع الناس المستنصر على طبقاتهم، وكتب إلى الأطراف بأخذ البيعة له، وإقامة الخطبة باسمه على المنابر، ونقشت السكة في ديار مصر باسمه، واسم الملك الظاهر معا. فلما كان يوم الجمعة سابع عشر رجب، خطب الخليفة بالناس في جامع القلعة، وركب السلطان في يوم الاثنين رابع شعبان إلى خيمة ضربت له بالبستان الكبير ظاهر القاهرة، وأفيضت عليه الخلع الخليفة، وهي جبة سوداء وعمامة بنفسجية وطوق من ذهب، وقلد بسيف عربيّ، وجلس مجلسا عاما حضره الخليفة والوزير وسائر القضاة والأمراء والشهود، وصعد القاضي فخر الدين بن لقمان كاتب السرّ منبرا نصب له، وقرأ تقليد السلطان المملكة، وهو بخطه من إنشائه، ثم ركب السلطان بالخلعة والطوق ودخل من باب النصر، وشق القاهرة وقد زينت له، وحمل الصاحب بهاء الدين بن حنا التقليد على رأسه قدّام السلطان، والأمراء(4/98)
مشاة بين يديه، وكان يوما مشهودا.
وأخذ السلطان في تجهيز الخليفة ليسير إلى بغداد، فرتب له الطواشي بهاء الدين صندلا الصالحيّ شرابيا، والأمير سابق الدين بوزيا الصيرفيّ أتابكا، والأمير جعفرا أستادارا، والأمير فتح الدين بن الشهاب أحمد أمير جاندار، والأمير ناصر الدين بن صيرم خازندار، والأمير سيف الدين بلبان الشمسيّ وفارس الدين أحمد بن أزدمر اليغموريّ دوادارية، والقاضي كمال الدين محمد السنجاريّ وزيرا، وشرف الدين أبا حامد كاتبا، وعين له خزانة وسلاحخاناه ومماليك عدّتهم نحو الأربعين، منهم سلاحدارية وجمدارية وزردكاشية ورمحدارية، وجعل له طشطخاناه وفراشخاناه وشرابخاناه، وإماما ومؤذنا وسائر أرباب الوظائف، واستخدم له خمسمائة فارس، وكتب لمن قدم معه من العراق بإقطاعات، وأذن له في الركوب والحركة حيث اختار، وحضر الملك الصالح إسماعيل بن بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، وأخوه الملك المجاهد سيف الدين إسحاق صاحب الجزيرة، وأخوهما المظفر، فأكرمهم السلطان وأقرّهم على ما بأيديهم، وكتب لهم تقاليد وجهزهم في خدمة الخليفة، وسار الخليفة في سادس شوّال والسلطان في خدمته إلى دمشق، فنزل السلطان في القلعة، ونزل الخليفة في التربة الناصرية بجبل الصالحية، وبلغت نفقة السلطان على الخليفة ألف ألف وستين ألف دينار، وخرج من دمشق في ثالث عشر ذي القعدة ومعه الأمير بلبان الرشيديّ، والأمير سنقر الروميّ، وطائفة من العسكر، وأوصاهما السلطان أن يكونا في خدمة الخليفة حتى يصل إلى الفرات، فإذا عبر الفرات أقاما بمن معهما من العسكر بالبرّ الغربيّ من جهات حلب لانتظار ما يتجدّد من أمر الخليفة، بحيث إن احتاج إليهم ساروا إليه، فسار إلى الرحبة وتركه أولاد صاحب الموصل وانصرفوا إلى بلادهم، وسار إلى مشهد عليّ فوجد الإمام الحاكم بأمر الله قد جمع سبعمائة فارس من التركمان وهو على عانة، ففارقه التركمان وصار الحاكم إلى المستنصر طائعا له، فأكرمه وأنزله معه وسارا إلى عانة، ورحلا إلى الحديثة، وخرجا منها إلى هيت، وكانت له حروب مع التتار في ثالث محرّم سنة ستين وستمائة، قتل فيها أكثر أصحابه، وفرّ الحاكم وجماعة من الأجناد، وفقد المستنصر فلم يوقف له على خبر، فحضر الحاكم إلى قلعة الجبل وبايعه السلطان والناس، واستمرّ بديار مصر في مناظر الكبش، وهو جدّ الخلفاء الموجودين اليوم.
وفي سنة ست وستين قرّر الظاهر بديار مصر أربعة قضاة، وهم شافعيّ ومالكيّ وحنفيّ وحنبليّ، فاستمرّ الأمر على ذلك إلى اليوم، وحدث غلاء شديد بمصر، وعدمت الغلة، فجمع السلطان الفقراء وعدّهم وأخذ لنفسه خمسمائة فقير يمونهم، ولا بنه السعيد بركة خان خمسمائة فقير، وللنائب بيلبك الخازندار ثلاثمائة فقير، وفرّق الباقي على سائر الأمراء، ورسم لكلّ إنسان في اليوم برطلي خبز، فلم ير بعد ذلك في البلد أحد من الفقراء يسأل.(4/99)
وفي ثالث شوّال سنة اثنتين وستين، أركب السلطان ابنه السعيد بركة بشعار السلطنة، ومشى قدّامه وشق القاهرة والكل مشاة بين يديه من باب النصر إلى قلعة الجبل، وزينت البلد، وفيها رتب السلطان لعب القبق بميدان العيد خارج باب النصر، وختن الملك السعيد ومعه ألف وستمائة وخمسة وأربعون صبيا من أولاد الناس، سوى أولاد الأمراء والأجناد، وأمر لكلّ صغير منهم بكسوة على قدره، ومائة درهم، ورأس من الغنم، فكان مهما عظيما، وأبطل ضمان المزر، وجهاته، وأمر بحرق النصارى في سنة ثلاث وستين، فتشفع فيهم على أن يحملوا خمسين ألف دينار فتركوا. وفي سنة أربع وستين افتتح قلعة صفد، وجهز العساكر إلى سيس ومقدّمهم الأمير قلاون الألفيّ، فحصر مدينة ابناس وعدّه قلاع. وفي سنة خمس وستين أبطل ضمان الحشيش من ديار مصر، وفتح يافا والشقيف وأنطاكية. وفي سنة سبع وستين حج فسار على غزة إلى الكرك، ومنها إلى المدينة النبوية، وغسل الكعبة بماء الورد بيده، ورجع إلى دمشق فأراق جميع الخمور، وقدم إلى مصر في سنة ثمان وستين.
وفي سنة سبعين خرج إلى دمشق. وفي سنة إحدى وسبعين خرج من دمشق سائقا إلى مصر، ومعه بيسرى وأقوش الروميّ وجرسك الخازندار وسنقر الألفيّ، فوصل إلى قلعة الجبل، وعاد إلى دمشق فكانت مدّة غيبته أحد عشر يوما، ولم يعلم بغيبته من في دمشق حتى حضر، ثم خرج سائقا من دمشق يريد كبس التتار، فخاض الفرات وقدّامه قلاون وبيسرى، وأوقع بالتتار على حين غفلة، وقتل منهم شيئا كثيرا، وساق خلفهم بيسرى إلى سروج وتسلم السلطان البيرة. ووقع بمصر في سنة اثنتين وسبعين وباء هلك به خلق كثير.
وفي سنة ثلاث وسبعين غزا السلطان سيس وافتتح قلاعا عديدة. وفي سنة أربع وسبعين تزوّج السعيد بن السلطان بابنة الأمير قلاون وخرج العسكر إلى بلاد النوبة، فواقع ملكهم وقتل منهم كثيرا وفرّ باقيهم. وفي سنة خمس وسبعين سار السلطان لحرب التتار، فواقعهم على الأبلستين وقد انضم إليهم الروم، فانهزموا وقتل منهم كثير، وتسلم السلطان قيسارية ونزل فيها بدار السلطان، ثم خرج إلى دمشق فوعك بها من إسهال وحمى مات منها يوم الخميس تاسع عشري محرّم سنة ست وسبعين وستمائة، وعمره نحو من سبع وخمسين سنة، ومدّة ملكه سبع عشرة سنة وشهران.
وكان ملكا جليلا عسوفا عجولا كثير المصادرات لرعيته ودواوينه، سريع الحركة، فارسا مقداما، وترك من الذكور ثلاثة: السعيد محمد بركة خان، وملك بعده، وسلامش وملك أيضا، والمسعود خضر. ومن البنات سبع بنات، وكان طويلا مليح الشكل.
وفتح الله على يديه مما كان مع الفرنج قيسارية وأرسوف وصفد وطبرية ويافا والشقيف وأنطاكية وبقراص والقصير وحصن الأكراد والقرين وحصن عكا وصافيتا ومرقية وحلبا.
وناصف الفرنج على المرقب وبانياس وانطرسوس، وأخذ من صاحب سيس، دريساك(4/100)
ودركوس وتلميش وكفر دين ورعبان ومرزبان وكينوك وأدنة والمصيصة.
وصار إليه من البلاد التي كانت مع المسلمين، دمشق وبعلبك وعجلون وبصرى وصرخد والصلت وحمص وتدمر والرحبة وتل ناشر وصهيون وبلاطيس وقلعة الكهف والقدموس والعليقة والخوابى والرصافة ومصياف والقليعة والكرك والشوبك.
وفتح بلاد النوبة وبرقة وعمر الحرم النبويّ، وقبة الصخرة ببيت المقدس، وزاد في أوقاف الخليل عليه السّلام، وعمر قناطر شبرامنت بالجيزية، وسور الإسكندرية، ومنار رشيد، وردم فم بحر دمياط، ووعر طريقه، وعمر الشواني وعمر قلعة دمشق وقلعة الصبيبة، وقلعة بعلبك، وقلعة الصلت، وقلعة صرخد، وقلعة عجلون، وقلعة بصرى، وقلعة شيزر وقلعة حمص، وعمر المدرسة بين القصرين بالقاهرة، والجامع الكبير بالحسينية خارج القاهرة، وحفر خليج الإسكندرية القديم، وباشره بنفسه، وعمر هناك قرية سماها الظاهرية، وحفر بحر أشموم طناح على يد الأمير بلبان الرشيديّ، وجدّد الجامع الأزهر بالقاهرة، وأعاد إليه الخطبة، وعمر بلد السعيدية من الشرقية بديار مصر، وعمر القصر الأبلق بدمشق وغير ذلك.
ولما مات كتم موته الأمير بدر الدين بيلبك الخازندار عن العسكر، وجعله في تابوت وعلقه ببيت من قلعة دمشق، وأظهر أنه مريض، ورتب الأطباء يحضرون على العادة، وأخذ العساكر والخزائن ومعه محفة محمولة في الموكب محترمة، وأوهم الناس أن السلطان فيها وهو مريض، فلم يجسر أحد أن يتفوّه بموت السلطان، وسار إلى أن وصل إلى قلعة الجبل بمصر وأشيع موته رحمه الله تعالى.
جامع ابن اللبان
هذا الجامع بجسر الشعيبية المعروف بجسر الأفرم، عمره الأمير عز الدين أيبك الأفرم في سنة ثلاث وتسعين وستمائة. قال ابن المتوّج: وكان سبب عمارته أنه لما كثرت الخلائق في خطة هذا الجامع، قصد الأفرم أن يجعل خطبة في المسجد المعروف بمسجد الجلالة الذي ببركة الشقاف ظاهر سور الفسطاط المستجدّ، وأن يزيد فيه ويعمره كما يختار، فمنعه الفقيه مؤتمن الدين الحارث بن مسكين وردّه عن غرضه، فحسن له الصاحب تاج الدين محمد بن الصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين عليّ بن حنا عمارة هذا الجامع في هذه البقعة، لقربه منه فعمره في شعبان سنة ثلاث وتسعين وستمائة، لكنه هدم بسببه عدّة مساجد، وعرف هذا الجامع في زمننا هذا بالشيخ محمد بن اللبان الشافعيّ، لإقامته فيه، وأدركناه عامرا، وقد انقطعت منه في هذه المحن إقامة الجمعة والجماعة لخراب ما حوله وبعد البحر عنه.(4/101)
الجامع الطيبرسيّ
هذا الجامع عمره الأمير علاء الدين طيبرس الخازندار نقيب الجيوش، بشاطئ النيل في أرض بستان الخشاب، وعمر بجواره خانقاه في جمادى الأولى سنة سبع وسبعمائة، وكان من أحسن منتزهات مصر وأعمرها، وقد خرب ما حوله من الحوادث والمحن التي بعد سنة ست وثمانمائة، بعد ما كانت العمارة منه متصلة إلى الجامع الجديد بمصر، ومنه إلى الجامع الخطيريّ ببولاق، ويركب الناس المراكب للفرجة من هذا الجامع إلى الجامعين المذكورين، مصعدين ومنحدرين في النيل، ويجتمع بهذا الجامع الناس للنزهة، فتمرّ به أوقات ومسرّات لا يمكن وصفها، وقد خرب هذا الجامع وأقفر من المساكين، وصار مخوفا بعد ما كان ملهى وملعبا، سنة الله في الذين خلوا من قبل، ولطيبرس هذا المدرسة الطيبرسية بجوار الجامع الأزهر من القاهرة.
الجامع الجديد الناصريّ
هذا الجامع بشاطئ النيل من ساحل مصر الجديد، عمره القاضي فخر الدين محمد بن فضل الله ناظر الجيش باسم السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون، وكان الشروع فيه يوم التاسع من المحرّم سنة إحدى عشرة وسبعمائة، وانتهت عمارته في ثامن صفر سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، وأقيم في خطابته قاضي القضاة بدر الدين محمد بن إبراهيم بن جماعة الشافعيّ، ورتب في إمامته الفقيه تاج الدين بن مرهف، فأوّل ما صلّى فيه صلاة الظهر من يوم الخميس ثامن صفر المذكور، وأقيمت فيه الجمعة يوم الجمعة تاسع صفر، وخطب عن قاضي القضاة بدر الدين ابنه جمال الدين، ولهذا الجامع أربعة أبواب، وفيه مائة وسبعة وثلاثون عمودا، منها عشرة من صوّان في غاية السمك والطول، وجملة ذرعه أحد عشر ألف ذراع وخمسمائة ذراع بذراع العمل، من ذلك طوله من قبليه إلى بحريه مائة وعشرون ذراعا، وعرضه من شرقيه إلى غربيه مائة ذراع، وفيه ستة عشر شباكا من حديد، وهو يشرف من قبليه على بستان العالمة، وينظر من بحريه بحر النيل، وكان موضع هذا الجامع في القديم غامرا بماء النيل، ثم انحسر عنه النيل وصار رملة في زمن الملك الصالح نجم الدين أيوب، يمرّغ الناس فيها دوابهم أيام احتراق النيل، فلما عمر الملك الصالح قلعة الروضة وحفر البحر، طرح الرمل في هذا الموضع، فشرع الناس في العمارة على الساحل، وكان موضع هذا الجامع شونة، وقد ذكر خبر ذلك عند ذكر الساحل الجديد بمصر فانظره، وما برح هذا الجامع من أحسن منتزهات مصر إلى أن خرب ما حوله، وفيه إلى الآن بقية وهو عامر.
محمد بن قلاون: السلطان الملك الناصر أبو الفتح ناصر الدين بن الملك المنصور،(4/102)
كان يلقب بحرفوش، وأمّه أشلون ابنة شنكاي، ولد يوم السبت النصف من المحرّم سنة أربع وثمانين وستمائة بقلعة الجبل من ديار مصر، وولى الملك ثلاث مرّات، الأولى بعد مقتل أخيه الملك الأشرف خليل بن قلاون في رابع عشر المحرّم سنة ثلاث وتسعين وستمائة، وعمره تسع سنين، تنقص يوما واحدا، فأقام في الملك سنة إلّا ثلاثة أيام وخلع بمملوك أبيه كتبغا المنصوريّ، يوم الأربعاء حادي عشر المحرّم سنة أربع وتسعين وستمائة، وأعيد إلى المملكة ثانيا بعد قتل الملك المنصور لاجين يوم الاثنين سادس جمادى الأولى سنة ثمان وتسعين وستمائة، فأقام عشر سنين وخمسة أشهر وستة عشر يوما، وعزل نفسه وسار إلى الكرك، فولي الملك من بعده الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، وتلقب بالملك المظفر في يوم السبت ثالث عشري شوّال سنة ثمان وسبعمائة، ثم حضر من الكرك إلى الشام وجمع العساكر، فخامر على بيبرس معظم جيش مصر، وانحل أمره فترك الملك في يوم الثلاثاء سادس عشر شهر رمضان سنة تسع وسبعمائة، وطلع الملك الناصر إلى قلعة الجبل يوم عيد الفطر من السنة المذكورة، واستولى على ممالك مصر والشام والحجاز، فأقام في الملك من غير منازع له فيه إلى أن مات بقلعة الجبل في ليلة الخميس الحادي والعشرين من ذي الحجة، سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، وعمره سبع وخمسون سنة وأحد عشر شهرا وخمسة أيام، وله في ولايته الثالثة مدّة اثنتين وثلاثين سنة وشهرين وعشرين يوما، وجملة إقامته في الملك عن المدد الثلاث ثلاث وأربعون سنة وثمانية أشهر وتسعة أيام.
ولما مات ترك ليلته ومن الغد حتى تمّ الأمر لابنه أبي بكر المنصور في يوم الخميس المذكور، ثم أخذ في جهازه فوضع في محفة بعد العشاء الآخرة بساعة وحمل على بغلين وأنزل من القلعة إلى الإصطبل السلطانيّ، وسار به الأمير ركن الدين بيبرس الأحمديّ أمير جاندار، والأمير نجم الدين أيوب والي القاهرة، والأمير قطلوبغا الذهبيّ، وعلم دار خوطا جار الدوادار وعبروا به إلى القاهرة من باب النصر، وقد غلقت الحوانيت كلها ومنع الناس من الوقوف للنظر إليه، وقدّام المحفة شمعة واحدة في يد علمدار، فلما دخلوا به من باب النصر كان قدامه مسرجة في يد شاب وشمعة واحدة، وعبروا به المدرسة المنصورية بين القصرين ليدفن عند أبيه الملك المنصور قلاون، وكان الأمير علم الدين سنجر الجاوليّ ناظر المارستان قد جلس ومعه القضاة الأربعة وشيخ الشيوخ ركن الدين شيخ خانقاه سرياقوس، والشيخ ركن الدين عمر ابن الشيخ إبراهيم الجعبريّ، فحطت المحفة وأخرج منها فوضع بجانب الفسقية التي بالقبة، وأمر ابن أبي الظاهر مغسّل الأموات بتغسيله، فقال: هذا ملك ولا أنفرد بتغسيله إلّا أن يقوم أحد منكم ويجرّده على الدكه، فإني أخشى أن يقال كان معه فص أو خاتم أو في عنقه خرزة، فقام قطلوبغا الذهبيّ وعلمدار وجرّداه مع الغاسل من ثيابه، فكان على رأسه قبع أبيض من قطن ثيابه، وعلى بدنه بغلطاق صدر أبيض وسراويل، فنزعا وترك القميص عليه، وغسل به، ووجد في رجله الموجوعة بخشان(4/103)
مفتوحان، فغسل من فوق القميص وكفن في نصفية، وعملت له أخرى طرّاحة ومخدّة، ووضع في تابوت من خشب، وصلّى عليه قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن محمد بن جماعة الشافعيّ بمن حضر، وأنزل إلى قبر أبيه في سحلية من خشب قد ربطت بحبل، ونزل معه إلى القبر الغاسل والأمير سنجر الجاوليّ، ودفع إلى الغاسل ثلاثمائة درهم، فباع ما نابه من الثياب بثلاثة عشر درهما سوى القبع، فإنه فقد، وذكر الغاسل أنه كان محنكا بخرقة معقدة بثلاث عقد، فسبحان من لا يحول ولا يزول، هذا ملك أعظم المعمور من الأرض، مات غريبا وغسل طريحا ودفن وحيدا، إن في ذلك لعبرة لأولي الألباب.
وفي ليلة السبت: قرأ القرّاء عند القبر بالقبة القرآن، وحضر بعض الأمراء، وترك من الأولاد اثني عشر ولدا ذكرا، وهم: أحمد، وهو أسنهم وكان بالكرك، وأبو بكر وتسلطن من بعده، وشقيقه رمضان، ويوسف، وإسماعيل، وتسلطن أيضا، وشعبان وتسلطن، وحسين، وكجك وتسلطن، وأمير حاج، وحسن ويدعى قماري وتسلطن، وصالح وتسلطن، ومحمد. وترك من البنات ثمانيا متزوّجات سوى من خلف من الصغار، وخلف من الزوجات جاريته طغاي، وإمّة الأمير تنكز نائب الشام. ومات وليس له نائب بديار مصر ولا وزير ولا حاجب متصرّف، سوى أن برسبغا الحاجب تحكم في متعلقات أمور الإقطاعات، وليس معه عصا الحجوبية، وبدر الدين بكتاش نقيب الجيوش، وأقبغا عبد الواحد أستادار السلطان ومقدّم المماليك، وبيبرس الأحمديّ أمير جاندار، ونجم الدين أيوب والي القاهرة، وجمال الدين حمال الكفاه ناظر الجيوش، والموفق ناظر الدولة، وصارم الدين أزبك شادّ الدواوين، وعز الدين عبد العزيز بن جماعة قاضي القضاة بديار مصر، ونائب دمشق الأمير ألطنبغا، ونائب ... «1» الأمير طشتمر حمص أخضر، ونائب طرابلس الحاج أرقطاي، ونائب صفد الأمير أصلم، ونائب غزة الأميراق سنقر السلاريّ، وصاحب حماه الملك الأفضل ناصر الدين محمد بن المؤيد إسماعيل.
والأمراء مقدّموا الألوف بديار مصر يوم وفاته خمسة وعشرون أميرا. وهم: بدر الدين جنكلي بن البابا، والحاج آل ملك، وبيبرس الأحمديّ، وعلم الدين سنجر الجاوليّ، وسيف الدين كوكاي، ونجم الدين محمود وزير بغداد، هؤلاء برّانية كبار، والباقي مماليكه وخواصه وهم: ولده الأمير أبو بكر، والأمير قوصون، والأمير بشتاك، وطقزدمر، وأقبغا عبد الواحد الأستادار، وأيدغمش أميراخور، وقطلوبغا الفخريّ، ويلبغا اليحياويّ، وملكتمر الحجازيّ، وألطنبغا الماردانيّ، وبهادر الناصريّ، وآق سنقر الناصريّ، وقماري الكبير، وقماري أمير شكار، وطرغاي، وأرتبغا أمير جاندار، وبرسيغا الحاجب، وبلدغي ابن العجوز أمير سلاح، وبيغرا.(4/104)
وكان السلطان أبيض اللون قد وخطه الشيب، وفي عينيه حول، وبرجله اليمنى ريح شوكة تنغص عليه أحيانا وتؤلمه، وكان لا يكاد يمس بها الأرض ولا يمشي إلّا متكئا على أحدا ومتوكئا على شيء، ولا يصل إلى الأرض إلّا أطراف أصابعه، وكان شديد البأس جيد الرأي، يتولى الأمور بنفسه، ويجود لخواصه، وكان مهابا عند أهل مملكته، بحيث أنّ الأمراء إذا كانوا عنده بالخدمة لا يجسر أحد أن يكلم آخر كلمة واحدة، ولا يلتفت بعضهم إلى بعض خوفا منه، ولا يمكن واحدا منهم أن يذهب إلى بيت أحد البتة، لا في وليمة ولا غيرها، فإن فعل أحد منهم شيئا من ذلك قبض عليه وأخرجه من يومه منفيا، وكان مسدّدا عارفا بأمور رعيته وأحوال مملكته، وأبطل نيابة السلطنة من ديار مصر من سنة سبع وعشرين وسبعمائة، وأبطل الوزارة وصار يتحدّث بنفسه في الجليل من الأمور والحقير، ويستجلب خاطر كل أحد من صغير وكبير لا سيما حواشيه، فلذلك عظمت حاشية المملكة وأتباع السلطنة وتخوّلوا في النعم الجزيلة، حتى الخولة والكلابزية والأسرى من الأرمن والفرنج، وأعطى البازدارية الأخباز في الحلقة، فمنهم من كان إقطاعه الألف دينار في السنة، وزوّج عدّة منهم بجواريه، وأفنى خلقا كثيرا من الأمراء بلغ عددهم نحو المائتي أمير، وكان إذا كبر أحد من أمرائه قبض عليه وسلبه نعمته، وأقام بدله صغيرا من مماليكه إلى أن يكبر، فيمسكه ويقيم غيره، ليأمن بذلك شرّهم. وكان كثير التخيل حازما، حتى أنه إذا تخيل من ابنه قتله، وفي آخر أيامه شره في جمع المال، فصادر كثيرا من الدواوين والولاة وغيرهم، ورمى البضائع على التجار حتى خاف كل من له مال، وكان مخادعا كثير الحيل، لا يقف عند قول ولا يوف بعهد ولا يبرّ في يمين، وكان محبا للعمارة، وعمر عدّة أماكن منها: جامع قلعة الجبل، وهدمه مرّتين، وعمر القصر الأبلق بالقلعة ومعظم الأماكن التي بالقلعة، وعمر المجرى الذي ينقل الماء عليه من بحر النيل إلى القلعة على السور، وعمر الميدان تحت القلعة ومناظر الميدان على النيل، وعمر قناطر السباع على الخليج ومناظر سرياقوس والخانقاه بسرياقوس، وحفر الخليج الناصريّ بظاهر القاهرة، وعمر الجامع الجديد على شاطيء النيل بظاهر مصر، وجدّد جامع الفيلة الذي بالرصد، والمدرسة الناصرية بين القصرين من القاهرة، وغير ذلك مما يرد في موضعه من هذا الكتاب، وما زال يعمر منذ عاد إلى ولاية الملك في المرّة الثالثة إلى أن مات، وبلغ مصروف العمارة في كل يوم من أيامه سبعة آلاف درهم فضة، عنها ثلاثمائة وخمسون دينارا، سوى من يسخره من المقيدين وغيرهم في عمل ما يعمره، وحفر عدّة من الخلجانات والترع، وأقام الجسور بالبلاد حتى أنه كان ينصرف من الأخباز على ذلك ربع متحصل الإقطاعات، وحفر خليج الإسكندرية وبحر المحلة مرّتين، وبحر اللبينيّ بالجيزة، وعمل جسر شيبين، وعمل جسر أحباس بالشرقية والقليوبية مدّة ثلاث سنين متوالية، فلم ينجع، فأنشأه بنيانا، بالطوب والجير، وأنفق فيه أموالا عظيمة، وراك ديار مصر وبلاد الشام، وعرض الجيش بعد حضوره في سنة(4/105)
اثنتي عشرة وسبعمائة، وقطع ثمانمائة من الجند، ثم قطع في مرّة أخرى ثلاثة وأربعين جنديا في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، وقطع ثمانمائة من الجند، ثم قطع في مرّة أخرى ثلاثة وأربعين جنديا في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، ثم قطع خمسة وستين أيضا في رمضان سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، قبل وفاته بشهرين.
وفتح من البلاد جزيرة أرواد في سنة اثنتين وسبعمائة، وفتح ملطية في سنة خمس عشرة وسبعمائة، وفتح أناس في ربيع الأوّل سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة وخرّبها، ثم عمرها الأرمن فأرسل إليها جيشا فأخذها ومعها عدّة بلاد من بلاد الأرم في سنة سبع وثلاثين وسبعمائة، وأقام بها نائبا من أمراء حلب، وعمر قلعة جعبر بعد أن دثرت، وضربت السكة باسمه في شوّال سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، قبل موته تولى ذلك الشيخ حسن بن حسين بحضور الأمير شهاب الدين أحمد قريب السلطان، وقد توجه من مصر بهذا السبب، وخطب له أيضا في أرتنا ببلاد الروم، وضربت السكة باسمه، وكذلك بلاد ابن قرمان وجبال الأكراد وكثير من بلاد الشرق، وكان من الذكاء المفرط على جانب عظيم، يعرف مماليك أبيه ومماليك الأمراء بأسمائهم ووقائعهم، وله معرفة تامّة بالخيل وقيمها مع الحشمة والسيادة، لم يعرف عنه قط أنه شتم أحدا من خلق الله ولا سفه عليه ولا كلمه بكلمة سيئة، وكان يدعو الأمراء أرباب الأشغال بألقابهم، وكانت همته علية وسياسته جيدة وحرمته عظيمة إلى الغاية، ومعرفته بمهادنة الملوك لا مرمى وراءها، يبذل في ذلك من الأموال ما لا يوصف كثرة، فكان كتّابه ينفذ أمره في سائر أقطار الأرض كلها، وهو مع ما ذكرنا مؤيد في كلّ أموره مظفر في جميع أحواله مسعود في سائر حركاته، ما عانده أحد أو أضمر له سوأ إلّا وندم على ذلك أو هلك، واشتهر في حياته بديار مصر أنه إن وقعت قطرة من دمه على الأرض لا يطلع نيل مصر مدّة سبع سنين، فمتعه الله من الدنيا بالسعادة العظيمة في المدّة الطويلة مع كثرة الطمأنينة والأمن وسعة الأموال، واقتنى كلّ حسن ومستحسن من الخيل والغلمان والجواري، وساعده الوقت في كلّ ما يحب ويختار إلى أن أتاه الموت.
الجامع بالمشهد النفيسيّ
قال ابن المتوّج: هذا الجامع أمر بإنشائه الملك الناصر محمد بن قلاون، فعمر في شهور سنة أربع عشرة وسبعمائة، وولى خطابته علاء الدين محمد بن نصر الله بن الجوهريّ شاهد الخزانة السلطانية، وأوّل خطبته فيه يوم الجمعة ثامن صفر من السنة المذكورة، وحضر أمير المؤمنين المستكفي بالله أبو الربيع سليمان وولده وابن عمه والأمير كهرداش متولي شدّ العمائر السلطانية، وعمارة هذا الجامع ورواقاته والفسقية المستجدّة، وقيل أن جميع المصروف على هذا الجامع من حاصل المشهد النفيسيّ، وما يدخل إليه من النذور ومن الفتوح.(4/106)
جامع الأمير حسين
هذا الجامع كان موضعه بستانا بجوار غيظ العدّة، أنشأه الأمير حسين بن أبي بكر بن إسماعيل بن حيدر بك مشرف الروميّ، قدم مع أبيه من بلاد الروم إلى ديار مصر في سنة خمس وسبعين وستمائة، وتخصص بالأمير حسام الدين لاجين المنصوريّ، قبل سلطنته، فكانت له منه مكانة مكينة، وصار أمير شكار، وكان فيه برّ وله صدقة وعنده تفقد لأصحابه، وأنشأ أيضا القنطرة المعروفة بقنطرة الأمير حسين على خليج القاهرة، وفتح الخوخة في سور القاهرة بجوار الوزيرية، وجرى عليه من أجل فتحها ما قد ذكر عند ذكرها في الخوخ من هذا الكاتب، وتوفي في سابع المحرّم سنة تسع وعشرين وسبعمائة، ودفن بهذا الجامع.
جامع الماس
هذا الجامع بالشارع خارج باب زويلة، بناه الأمير سيف الدين الماس الحاجب، وكمل في سنة ثلاثين وسبعمائة، وكان الماس هذا أحد مماليك السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون، فرقاه إلى أن صار من أكبر الأمراء، ولما أخرج الأمير أرغون إلى نيابة حلب وبقي منصب النيابة شاغرا عظمت منزلة الماس، وصار في منزلة النيابة، إلّا أنه لم يسمّ بالنائب، ويركب الأمراء الأكابر والأصاغر في خدمته، ويجلس في باب القلة من قلعة الجبل في منزلة النائب، والحجاب وقوف بين يديه، وما برح على ذلك حتى توجه السلطان إلى الحجاز في سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة، فتركه في القلعة هو والأمير جمال الدين أقوش نائب الكرك، والأمير أقبغا عبد الواحد، والأمير طشتمر حمص أخضر، هؤلاء الأربعة لا غير، وبقية الأمراء إما معله في الحجاز، وإما في إقطاعاتهم، وأمرهم أن لا يدخلوا القاهرة حتى يحضر من الحجاز، فلما قدم من الحجاز نقم عليه وأمسكه في صفر سنة أربع وثلاثين وسبعمائة، وكان لغضب السلطان عليه أسباب منها، أنه لما أقام في غيبة السلطان بالقلعة كان يراسل الأمير جمال الدين أقوش نائب الكرك ويوادده، وبدت منه في مدّة الغيبة أمور فاحشة من معاشرة الشباب ومن كلام في حق السلطان، فوشى به أقبغا، وكان مع ذلك قد كثر ماله وزادت سعادته، فهوى شابا من أبناء الحسينية يعرف بعمير، وكان ينزل إليه ويجمع الاويراتية ويحضر الشباب ويشرب، فحرّك ذلك عليه ما كان ساكنا. ويقال أن السلطان لما مات الأمير بكتمر الساقي وجد في تركته جزدان فيه جواب الماس إلى بكتمر الساقي، انني حافظ القلعة إلى أن يرد عليّ منك ما أعتمده. فلما وقف السلطان على ذلك أمر النشو بن هلال الدولة وشاهد الخزانة بإيقاع الحوطة على موجوده، فوجدا له ستمائة ألف درهم فضة، ومائة ألف درهم فلوسا، وأربعة آلاف دينار ذهبا، وثلاثين حياصة ذهبا كاملة بكفتياتها وخلعها، وجواهر وتحفا، وأقام الماس عند أقبغا عبد الوحد ثلاثة أيام، وقتل خنقا(4/107)
بمحبسه في الثاني عشر من صفر سنة أربعة وثلاثين وسبعمائة، وحمل من القلعة إلى جامعه فدفن به، وأخذ جميع ما كان في داره من الرخام فقلع منها وكان رخاما فاخرا إلى الغاية، وكان أسمر طوالا غتميا لا يفهم شيئا بالعربيّ، ساذجا يجلس في بيته فوق لباد على ما اعتماده، وبهذا الجامع رخام كثير نقله من جزائر البحر وبلاد الشام والروم.
جامع قوصون
هذا الجامع بالشارع خارج باب زويلة، ابتدأ عمارته الأمير قوصون في سنة ثلاثين وسبعمائة، وكان موضعه دارا بجوار حارة المصامدة من جانبها الغربيّ، تعرف بدار أقوش نميله، ثم عرفت بدار الأمير جمال الدين قتال السبع الموصليّ، فأخذها من ولده وهدمها وتولى بناءه شادّ العمائر، واستعمل فيه الأسرى، كان قد حضر من بلاد توريز بناء فبنى مئذنتي هذا الجامع على مثالث المئذنة التي عملها خواجا علي شاه، وزير السلطان أبي سعيد في جامعه بمدينة توريز، وأوّل خطبة أقيمت فيه يوم الجمعة من شهر رمضان سنة ثلاثين وسبعمائة، وخطب يومئذ قاضي القضاة جلال الدين القزوينيّ بحضور السلطان، ولما انقضت صلاة الجمعة أركبه الملك الناصر بغلة بخلعة سنية، ثم منعه السلطان الملك الناصر أن يستقرّ في خطابته، فولى فخر الدين شكر.
قوصون: الأمير الكبير سيف الدين، حضر من بلاد بركة إلى مصر صحبة خوند ابنة أزبك امرأة الملك الناصر محمد بن قلاون في ثالث عشري ربيع الآخر سنة عشرين وسبعمائة، ومعه قليل عصيّ وطسما ونحو ذلك مما قيمته خمسمائة درهم ليتجر فيه، فطاف بذلك في أسواق القاهرة وتحت القلعة وفي داخل قلعة الجبل، فاتفق. في بعض الأيام أنه دخل إلى الإصطبل السلطانيّ ليبيع ما معه، فأحبه بعض الأوشاقية وكان صبيا جميلا طويلا له من العمر ما يقارب الثماني عشرة سنة، فصار يتردّد إلى الأوشاقيّ إلى أن رآه السلطان، فوقع منه بموقع، فسأل عنه فعرّف بأنه يحضر ليبيع ما معه، وأن بعض الأوشاقية تولع به، فأمر بإحضاره إليه وابتاع منه نفسه ليصير من جملة المماليك السلطانية، فنزله من جملة السقاة وشغف به وأحبه حبا كثيرا، فأسلمه للأمير بكتمر الساقي وجعله أمير عشرة، ثم أعطاه أمرة طبلخاناه، ثم جعله أمير مائة مقدّم ألف، ورقاه حتى بلغه أعلى المراتب، فأرسل إلى البلاد وأحضر إخوته، سوسون وغيره من أقاربه، وأمر الجميع واختص به السلطان، بحيث لم ينل أحد عنده ما ناله، وزوّجه بابنته، وتزوّج السلطان أخته، فلما احتضر السلطان جعله وصيا على أولاده، وعهد لابنه أبي بكر فأقيم في الملك من بعده، وأخذ قوصون في أسباب السلطنة، وخلع أبا بكر المنصور بعد شهرين وأخرج إلى مدينة قوص ببلاد الصعيد، ثم قتله، وأقام كجك ابن السلطان وله من العمر خمس سنين، ولقبه بالملك الأشرف، وتقلد نيابة السلطنة بديار مصر، فأمّر من حاشيته وأقاربه ستين أميرا، وأكثر من العطاء وبذل(4/108)
الأموال والأنعام، فصار أمر الدولة كله بيده، هذا وأحمد بن السلطان الملك الناصر مقيم بمدينة الكرك، فخافه قوصون وأخذ في التدبير عليه فلم يتم له ما أراد من ذلك، وحرّك على نفسه ما كان ساكنا، فطلب أحمد الملك لنفسه وكاتب الأمراء والنوّاب بالمملكة الشامية والمصرية فأذعنوا إليه، وكان بمصر من الأمراء الأمير أيدغمش والأمير آل ملك وقماري والماردانيّ وغيرهم، فتخيل قوصون منهم وأخذ في أسباب القبض عليهم، فعلموا بذلك وخافوا الفوت فركبوا لحربه وحصروه بقلعة الجبل حتى قبضوا عليه في ليلة الأربعاء آخر شهر رجب سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، ونهبت داره وسائر دور حواشيه وأسبابه، وحمل إلى الاسكندرية صحبة الأمير قبلاي فقتل بها، وكان كريما يفرّق في كل سنة للأضحية ألف رأس غنما، وثلاثمائة بقرة، ويفرّق ثلاثين حياصة ذهبا، ويفرّق كلّ سنة عدّة أملاك فيها ما يبلغ ثمنه ثلاثين ألف درهم، وله من الآثار بديار مصر سوى هذا الجامع الخانقاه بباب القرافة، والجامع تجاهها، وداره التي بالرميلة تحت القلعة تجاه باب السلسلة وحكر قوصون.
جامع الماردانيّ
هذا الجامع بجوار خط التبانة خارج باب زويلة، كان مكانه أوّلا مقابر أهل القاهرة، ثم عمر أماكن. فلما كان في سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة، أخذت الأماكن من أربابها وتولى شراءها النشو. فلم ينصف في أثمانها، وهدمت وبني مكانها هذا الجامع، فبلغ مصروفه زيادة على ثلاثمائة ألف درهم، عنها نحو خمسة عشر ألف دينار، سوى ما حمل إليه من الأخشاب والرخام وغيره من جهة السلطنة، وأخذ ما كان في جامع راشدة من العمد فعملت فيه، وجاء من أحسن الجوامع، وأوّل خطبة أقيمت فيه يوم الجمعة رابع عشري رمضان سنة أربعين وسبعمائة، وخطب فيه الشيخ ركن الدين عمر بن إبراهيم الجعبريّ، ولم يتناول معلوما.
ألطنبغا الماردانيّ الساقي: أمّره الملك الناصر محمد بن قلاون، وقدّمه وزوّجه ابنته، فلما مات السلطان وتلوى بعده ابنه الملك المنصور أبو بكر، ذكر أنه وشى بأمره إلى الأمير قوصون وقال: قد عزم على إمساكك. فتحيل قوصون وخلع أبا بكر وقتله بقوص، هذا مع أن الطنبغا كان قد عظم عند المنصور أكثر مما كان عند أبيه، فلما أقيم الأشرف كجك وماج الناس وحضر الأمير قطلوبغا من الشام وشغب الأمراء على قوصون، كان ألطبغا أصل ذلك كله، ثم نزل إلى الأمير أيدغمش أمير أخور واتفق معه على أن يقبض على قوصون، وطلع إلى قوصون وشاغله وخذله عن الحركة طول الليل والأمراء الكبار المشايخ عنده، وما زال يساهره حتى نام، وكان من قيالم الأمراء وركوبهم عليه ما كان، إلى أن أمسك وأخرج إلى الاسكندرية، ولما قدم ألطنبغا نائب الشام وأقام، تقدّم الماردانيّ وقبض على سيفه ولم(4/109)
يجسر غيره على ذلك، فقويت بهذه الحركان نفسه وصار يقف فوق التمرتاشيّ وهو اغاته فشق ذلك عليه وكتم في نفسه إلى أن ملك الصالح إسماعيل، فتمكن حينئذ التمرتاشيّ وصار الأمر له، وعمل على الماردانيّ فلم يشعر بنفسه إلا وقد أخرج على خمسة أرؤس من خيل البريد إلى نيابة حماه في شهر ربيع الأوّل سنة ثلاث وأربعين، فسار إليها وبقي فيها نحو شهرين إلى أن مات ايدغمش نائب الشام، ونقل طقزدمر من نيابة حلب إلى نيابة دمشق، فنقل الماردانيّ من نيابة حماه إلى نيابة حلب، وسار إليها في أوّل رجب من السنة المذكورة، وجاء الأمير يلبغا اليحياويّ إلى نيابة حماه، فأقام الماردانيّ يسيرا في حلب ومرض ومات مستهلّ صفر سنة أربع وأربعين وسبعمائة، وكان شابا طويلا رقيقا حول الصورة، لطيفا معشق الخطرة كريما صائب الحدس عاقلا.
جامع أصلم
هذا الجامع داخل الباب المحروق، أنشأه الأمير بهاء الدين أصلم السلاحدار في سنة ست وأربعين وسبعمائة.
أصلم: أحد مماليك الملك المنصور قلاون الألفيّ، فلما فرّقت المماليك السلطنية في نيابة كتبغا بعد قتل الملك الأشرف خليل بن قلاون، وسلطنة الناصر محمد بن قلاون، كان أصلم من نصيب الأمير سيف الدين أقوش المنصوريّ، ثم انتقل إلى الأمير سلار، فلما حضر الملك الناصر محمد من الكرك بعد سلطنة بيبرس الجاشنكير، خرج إليه أصلم بمنجا الملك وبشره بهروب بيبرس، فأنعم عليه بإمرة عشرة، ثم تنقل إلى أن صار أمير مائة مقدّم ألف، وخرج في التجريدة إلى اليمن، فلما عاد اعتقله السلطان خمس سنين لكلام نقل عنه، ثم أخرجه وأعاده إلى منزلته، ثم جهزه لنيابة صفد، ومات الناصر وأصلم بصفد، فخرج الأمير قوصون مع الطنبغا نائب الشام إلى حلب لإمساك طشتمر، فسار إلى قاري ثم رجع وانضمّ إلى الفخريّ وأقام عنده على خان لاجين، وتوجه معه صحبة عساكر الشام إلى مصر، فرسم له الملك الناصر أحمد بن محمد بن قلاون بامرة مائة في مصر على عادته، وكان أحد المشايخ، ويجلس رأس الحلقة، ويجيد رمي النشاب مع سلامة صدر وخير إلى أن مات في يوم السبت عاشر شعبان سنة سبع وأربعين وسبعمائة، ونشأ بجوار هذا الجامع دارا سنية، وحوض ماء للسبيل، وبهذا الجامع درس وله أوقاف، وهو من أحسن الجوامع.
جامع بشتاك
هذا الجامع خارج القاهرة بخط قبو الكرمانيّ على بركة الفيل، عمره الأمير بشتاك، فكمل في شعبان سنة ست وثلاثين وسبعمائة، وخطب فيه تاج الدين عبد الرحيم بن قاضي القضاة جلال الدين القزوينيّ، في يوم الجمعة سابع عشرة، وعمر تجاهه خانقاه على الخليج(4/110)
الكبير، ونصب بينهما ساباطا يتوصل به من أحدهما إلى الآخر، وكان هذا الخط يسكنه جماعة من الفرنج والأقباط، ويرتكبون من القبائح ما يليق بهم، فلما عمر هذا الجامع وأعلن فيه بالأذان وإقامة الصلوات، اشمأزت قلوبهم لذلك وتحوّلوا من هذا الخط، وهو من أبهج الجوامع وأحسنها رخاما، وأنزهها. وادركناه إذا قويت زيادة ماء النيل فاضت بركة الفيل وغرّقته فيصير لجة ماء، لكن منذ انحسر ماء النيل عن البلد إلى جهة الغرب بطل ذلك، وله من الآثار سوى ذلك، قصر بشتاك بين القصرين، وقد تقدّم ذكره.
جامع آق سنقر
هذا الجامع بسويقة السباعين على البركة الناصرية، عمره الأمير آق سنقر شادّ العمائر السلطانية، وإليه تنسب قنطرة آق سنقر التي على الخليج الكبير بخط قبو الكرمانيّ، قبالة الحبانية، وأنشأ أيضا دارا جليلة وحمامين بخط البركة الناصرية، وكان من جملة الأوشاقية في أوّل أيام الملك الناصر محمد بن قلاون، ثم عمله أمير أخور ونقله منها فجعله شادّ العمائر السلطانية، وأقام فيها مدّة فأثرى ثراء كبيرا، وعمر ما ذكر، وجعل على الجامع عدّة أوقاف، فعزل وصودر والخرج من مصر إلى حلب، ثم نقل منها إلى دمشق، فمات بها في سنة أربعين وسبعمائة.
جامع آق سنقر
هذا الجامع قريب من قلعة الجبل فيما بين باب الوزير والتبانة، كان موضعه في القديم مقابر أهل القاهرة، وأنشأه الأمير آق سنقر الناصريّ، وبناه بالحجر وجعل سقوفه عقودا من حجارة، ورخمه واهتمّ في ثنائه اهتماما زائدا حتى كان يقعد على عمارته بنفسه، ويشيل التراب مع الفعلة بيده، ويتأخر عن غدائه اشتغالا بذلك، وأنشأ بجانبه مكتبا لإقراء أيتام المسلمين القرآن، وحانوتا لسقي الناس الماء العذب، ووجد عند حفر أساس هذا الجامع كثيرا من الأموات، وجعل عليه ضيعة من قرى حلب، تغلّ في السنة مائة وخمسين ألف درهم فضة، عنها نحو سبعة آلاف دينار، وقرّر فيه درسا فيه عدّة من الفقهاء، وولى الشيخ شمس الدين محمد بن اللبان الشافعيّ خطابته، وأقام له سائر ما يحتاج إليه من أرباب الوظائف، وبنى بجواره مكانا ليدفن فيه، ونقل إليه ابنه فدفنه هناك، وهذا الجامع من أجلّ جوامع مصر، إلّا أنه لما حدثت الفتن ببلاد الشام وخرجت النوّاب عن طاعة سلطان مصر منذ مات الملك الظاهر برقوق، امتنع حضور مغلّ وقف هذا الجامع لكونه في بلاد حلب، فتعطل الجامع من أرباب وظائفه إلّا الاذان والصلاة. وإقامة الخطبة في الجمع والأعياد، ولما كانت سنة خمس عشرة وثمانمائة أنشأ في وسطه الأمير طوغان الدوادار بكرة ماء، وسقفها ونصب عليها عمدا من رخام لحمل السقف، أخذها من جامع الخندق، فهدم الجامع بالخندق من أجل ذلك، وصار الماء ينقل إلى هذه البركة من ساقية الجامع التي(4/111)
كانت للميضأة، فلما قبض الملك المؤيد شيخ الظاهريّ على طوغان في يوم الخميس تاسع عشر جمادى الأولى، سنة ست عشرة وثمانمائة، وأخرجه إلى الاسكندرية واعتقله بها، أخذ شخص الثور الذي كان يدير الساقية، فإن طوغان كان أخذه منه بغير ثمن كما هي عادة أمرائنا، فبطل الماء من البركة.
آق سنقر: السلاريّ، الأمير شمس الدين أحد مماليك السلطان الملك المنصور قلاون، ولما فرّقت المماليك، في نيابة كتبغا على الأمراء، صار الأمير آق سنقر إلى الأمير سلار، فقيل له السلاريّ لذلك، ولما عاد الملك الناصر محمد بن قلاون من الكرك اختص به ورقاه في الخدم حتى صار أحد الأمراء المقدّمين، وزوّجه بابنته وأخرجه لنيابة صفد، فباشرها بعفة إلى الغاية، ثم نقله من نيابة صفد إلى نيابة غزة، فلما مات الناصر وأقيم من بعده ابنه الملك المنصور أبو بكر، وخلع بالأشرف كجك وجاء الفخريّ لحصار الكرك، قام آق سنقر بنصرة أحمد ابن السلطان في الباطن، وتوجه الفخريّ إلى دمشق لما توجه الطنبغا إلى حلب ليطرد طشتمر نائب حلب، فاجتمع به وقوّي عزمه، وقال له توجه أنت إلى دمشق واملكها وأنا أحفظ لك غزة، وقام في هذه الواقعة قياما عظيما وأمسك الدروب، فلم يحضر أحد من الشام أو مصر من البريد وغيره إلّا وقبض عليه وحمل إلى الكرك، وحلف الناس للناصر أحمد، وقام بأمره ظاهرا وباطنا، ثم جاء إلى الفخريّ وهو على خان لاجين وقوّي عزمه وعضذه، وما زال عنده بدمشق إلى أن جاء الطنبغا من حلب والتقوا، وهرب الطنبغا فاتبعه اق سنقر إلى غزة وأقام بها، ووصلت العساكر الشامية إلى مصر، فلما أمسك الناصر أحمد طشتمر النائب وتوجه به إلى الكرك، أعطى نيابة ديار مصر لآق سنقر، فباشر النيابة وأحمد في الكرك إلى أن ملك الملك الصالح إسماعيل بن محمد، فأقرّه على النيابة وسار فيها سيرة مشكورة، فكان لا يمنع أحدا شيئا طلبه كائنا من كان، ولا يردّ سائلا يسأل ولو كان ذلك غير ممكن، فارتزق الناس في أيامه واتسعت أحوالهم، وتقدّم من كان متأخرا حتى كان الناس يطلبون ما لا حاجة لهم به، ثم إن الصالح أمسكه هو وبيغرا أمير جاندار، وأولاجا الحاجب، وقراجا الحاجب، من أجل أنهم نسبوا إلى الممالاة والمداجاة مع الناصر أحمد، وذلك يوم الخميس رابع المحرّم سنة أربع وأربعين وسبعمائة، وكان ذلك آخر العهد به، واستقرّ بعده في النيابة الحاج آل ملك، ثم أفرج عن بيغرا، وأولاجا، وقراجا في شهر رمضان سنة خمس وأربعين وسبعمائة.
جامع آل ملك
هذا الجامع في الحسينية خارج باب النصر، أنشأه الأمير سيف الدين الحاج آل ملك، وكمل وأقيمت فيه الخطبة يوم الجمعة تاسع جمادى الأول سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة، وهو من الجوامع المليحة، وكانت خطته عامرة بالمساكن وقد خربت.(4/112)
آل ملك: الأمير سيف الدين أصله مما أخذ في أيام الملك الظاهر من كسب الأبلستين لما دخل إلى بلاد الروم في سنة ست وسبعين وستمائة، وصار إلى الأمير سيف الدين قلاون وهو أمير قبل سلطنته، فأعطاه لابنه الأمير عليّ، وما زال يترقى في الخدم إلى أن صار من كبار الأمراء المشايخ رؤوس المشورة في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون، وكان لما خلع الناصر وتسلطن بيبرس يتردّد بينهما من مصر إلى الكرك، فأعجب الناصر عقله وتأنيه، وسير من الكرك يقول للمظفر لا يعود يجيء إليّ رسولا غير هذا فلما قدم الناصر إلى مصر عظمه ولم يزل كبيرا موقرا مبجلا، فلما ولى الناصر أحمد السلطنة أخرجه إلى نيابة خماه، فأقام بها إلى أن تولى الصالح اسماعيل، فأقدمه إلى مصر وأقام بها على حاله إلى أن أمسك الأمير آق سنقر السلاريّ نائب السلطنة بديار مصر، فولاه النيابة مكانه، فشدّد في الخمر إلى الغاية، وحدّ شاربها وهدم خزانة البنود وأراق خمورها، وبنى بها مسجدا وسكرها للناس، فسكنت إلى اليوم كما تقدّم ذكره، وأمسك الزمام زمانا، وكان يجلس للحكم في الشباك بدار النيابة من قلعة الجبل طول نهاره لا يملّ ذلك ولا يسأم، وتروح أرباب الوظائف ولا يبقى عنده إلا النقباء البطالة، وكان له في قلوب الناس مهابة وحرمة إلى أن تولى الكامل شعبان، فأخرجه أوّل سلطنته إلى دمشق نائبا بها عوضا عن الأمير طقزدمر، فلما كان في أوّل الطريق حضر إليه من أخذه وتوجه به إلى صفد نائبا بها، فدخلها آخر ربيع الآخر سنة سبع وأربعين وسبعمائة، ثم سأل الحضور إلى مصر فرسم له بذلك، فلما توجه ووصل إلى غزة أمسكه نائبها ووجهه إلى الاسكندرية في سنة سبع وأربعين، فخنق بها. وكان خيرا فيه دين وعبادة يميل إلى أهل الخير والصلاح، وتعتقد بركته، وخرّج له أحمد بن أيبك الدمياطيّ مشيخة، وحدّث بها وقرئت عليه مرّات وهو جالس في شباك النيابة بقلعة الجبل، وعمر هذا الجامع ودارا مليحة عند المشهد الحسينيّ من القاهرة، ومدرسة بالقرب منها، وكان بركة من أحسن ما يكون، وخيله مشهورة موصوفة، وكان يقول كل أمير لا يقوّم رمحه ويسكب الذهب إلى أن يساوي السنان ما هو أمير، رحمة الله عليه.
جامع الفخر
في ثلاثة مواضع، في بولاق خارج القاهرة، وفي الروضة تجاه مدينة مصر، وفي جزيرة الفيل على النيل ما بين بولاق ومنية السيرج. أمّا جامع الفخر بناحية بولاق فإنه موجود تقام فيه الجمعة إلى اليوم، وكان أوّلا عند ابتداء بنائه يعرف موضعه بخط خص الكيالة، وهو مكان كان يؤخذ فيه مكس الغلال المبتاعة، وقد ذكر ذلك عند ذكر أقسام مال مصر من هذا الكاتب. وجامع الروضة باق تقام فيه الجمعة. وأما الجامع بجزيرة الفيل فإنه كان باقيا إلى نحو سنة تسعين وسبعمائة، وصليت فيه الجمعة غير مرّة، ثم خرب وموضعه باق بجوار دار تشرف على النيل تعرف بدار الأمير شهاب الدين أحمد بن عمر بن قطينة،(4/113)
قريبا من الدار الحجازية.
والفخر: هذا هو محمد بن فضل الله القاضي فخر الدين ناظر الجيش، المعروف بالفخر، كان في نصرانيته متألها، ثم أكره على الإسلام فامتنع وهمّ بقتل نفسه، وتغيب أياما ثم أسلم وحسن إسلامه، وأبعد النصارى ولم يقرّب أحدا منهم، وحج غير مرّة، وتصدّق في آخر عمره مدّة في كل شهر بثلاثة آلاف درهم نقرة، وبنى عدّة مساجد بديار مصر، وأنشأ عدّة أحواض ماء للسبيل في الطرقات، وبنى مارستانا بمدينة الرملة، ومارستانا بمدينة بلبيس، وفعل أنواعا من الخير، وكان حنفيّ المذهب، وزار القدس عدّة مرار، وأحرم مرّة من القدس بالحج، وسار إلى مكة محرما، وكان إذا خدمه أحد مرّة واحدة صار صاحبه طول عمره، وكان كثير الإحسان، لا يزال في قضاء حوائج الناس مع عصبية شديدة لأصحابه، وانتفع به خلق كثير لوجاهته عند السلطان، وإقدامه عليه، بحيث لم يك لأحد من أمراء الدولة عند الملك الناصر محمد بن قلاون ماله من الإقدام، ولقد قال السلطان مرّة لجندي طلب منه إقطاعا: لا تطوّل، والله لو أنك ابن قلاون ما أعطاك القاضي فخر الدين حيزا يغلّ أكثر من ثلاثة آلاف درهم، وقال له السلطان في يوم من الأيام وهو بدار العدل: يا فخر الدين تلك القضية طلعت فاشوش. فقال له: ما قلت لك أنها عجوز نحس. يريد بذلك بنت كوكاي امرأة السلطان عند ما ادّعت أنها حبلى، وله من الأخبار كثير.
وكان أوّلا كاتب المماليك السلطانية، ثم صار من كتابة المماليك إلى وظيفة نظر الجيش، ونال من الوجاهة ما لم ينله غيره في زمانه، وكان الأمير أرغون نائب السلطنة بديار مصر يكرهه، وإذا جلس للحكم يعرض عنه ويدير كتفه إلى وجه الفخر، فعمل عليه الفخر حتى سار للحج، فقال للسلطان: يا خوند ما يقتل الملوك إلّا النوّاب، بيدرا قتل أخاك الملك الأشرف، ولاجين قتل بسبب نائبه منكوتمر، وخيل للسلطان إلى أن أمر بمسير الأمير أرغون من طريق الحجاز إلى نيابة حلب، وحسن للسلطان أن لا يستوزر أحدا بعد الأمير الجماليّ، فلم يول أحدا بعده الوزارة، وصارت المملكة كلها من أحوال الجيوش، وأمور الأموال وغيرها متعلقة بالفخر، إلى أن غضب عليه السلطان ونكبه وصادره على أربعمائة ألف درهم نقرة، وولى وظيفة نظر الشيخ قطب الدين موسى بن شيخ السلامية، ثم رضي عن الفخر وأمر بإعادة ما أخذ منه من المال إليه، وهو أربعمائة ألف درهم نقرة، فامتنع وقال: أنا خرجت عنها للسلطان فليبين بها جامعا، وبنى بها الجامع الناصريّ المعروف الآن بالجامع الجديد خارج مدينة مصر بموردة الحلفاء، وزار مرّة القدس وعبر كنيسة قمامة «1» فسمع وهو يقول عند ما رأى الضوء بها: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا. وباشر آخر عمره بغير معلوم، وكان لا يأخذ من ديوان السلطان معلوما سوى كماجة، ويقول أتبرّك بها،(4/114)
ولما مات في رابع عشر رجب سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة وله من العمر ما ينيف على سبعين سنة، وترك موجودا عظيما إلى الغاية. قال: السلطان، لعنه الله، خمس عشرة سنة ما يدعني أعمل ما أريد، وأوصي للسلطان بمبلغ أربعمائة ألف درهم نقرة، فأخذ من تركته أكثر من ألف ألف درهم نقرة، ومن حين مات الفخر كثر تسلط السلطان الملك الناصر، وأخذه أموال الناس، وإلى الفخر تنسب قنطرة الفخر التي على فم الخليج الناصريّ المجاور لميدان السلطان بموردة الجبس، وقنطرة الفخر التي على الخليج المجاور للخليج الناصريّ، وأدركت ولده فقيرا يتكفف الناس بعد مال لا يحدّ كثرة.
جامع نائب الكرك
هذا الجامع بظاهر الحسينية مما يلي الخليج، كان عامرا وعمر ما حوله عمارة كبيرة، ثم خرب بخراب ما حوله من عهد الحوادث في سنة ست وثمانمائة، عمره الأمير جمال الدين أقوش المعروف بنائب الكرك، وقد تقدّم ذكره عند ذكر الدور من هذا الكتاب.
جامع الخطيريّ ببولاق
هذا الجامع موضعه الآن بناحية بولاق خارج القاهرة، كان موضعه قديما مغمورا بماء النيل إلى نحو سنة سبعمائة، فلما انحسر ماء النيل عن ساحل المقس صار ما قدّام المقس رمالا لا يعلوها ماء النيل إلّا أيام الزيادة، ثم صارت بحيث لا يعلوها الماء البتة، فزرع موضع هذا الجامع بعد سنة سبعمائة، وصار منتزها يجتمع عنده الناس، ثم بنى هناك شرف الدين بن زنبور ساقية وعمر بجوارها رجل يعرف بالحاج محمد بن عز الفرّاش دارا تشرف على النيل، وتردّد إليها، فلما مات أخذها شخص يقال له تاج الدين بن الأزرق ناظر الجهات وسكنها، فعرفت بدار الفاسقين لكثرة ما يجري فيها من أنواع المحرّمات، فاتفق أن النشو ناظر الخاص قبض على ابن الأزرق وصادره، فباع هذه الدار في جملة ما باعه من موجوده، فاشتراها منه الأمير عز الدين أيدمر الخطيريّ وهدمها وبنى مكانها هذا الجامع وسماه جامع التوبة، وبالغ في عمارته وتأنق في رخامه، فجاء من أجلّ جوامع مصر وأحسنها، وعمل له منبرا من رخام في غاية الحسن، وركب فيه عدّة شبابيك من حديد تشرف على النيل الأعظم، وجعل فيه خزانة كتب جليلة نفيسة، ورتب فيه درسا للفقهاء الشافعية، ووقف عليه عدّة أوقاف منها: دار العظيمة التي هي في الدرب الأصفر تجاه خانقاه بيبرس، وكان جملة ما أنفق في هذا الجامع أربعمائة ألف درهم نقرة، وكملت عمارته في سنة سبع وثلاثين وسبعمائة، وأقيمت به الجمعة في يوم الجمعة عشري جمادى الآخر، فلما خلص ابن الأزرق من المصادرة، حضر إلى الأمير الخطيريّ وادّعى أنه باع داره وهو مكره، فدفع إليه ثمنها مرّة ثانية، ثم إن البحر قوي على هذا الجامع وهدمه، فأعاد بناءه بجملة كثيرة من المال، ورمى قدّام زريبته ألف مركب مملوءة بالحجارة، ثم انهدم بعد موته وأعيدت زريبته.(4/115)
ايدمر الخطيريّ: الأمير عز الدين، مملوك شرف الدين أوحد بن الخطيريّ، الأمير مسعود بن خطير، انتقل إلى الملك الناصر محمد بن قلاون فرقاه حتى صار أحد أمراء الألوف، بعد ما حبسه بعد مجيئه من الكرك إلى مصر مدّة، ثم أطلقه وعظم مقداره إلى أن بقي يجلس رأس الميسرة ومعه أمرة مائة وعشرين فارسا، وكان لا يمكنه السلطان من المبيت في داره بالقاهرة، فينزل إليها بكرة ويطلع إلى القلعة بعد العصر كذا أبدا، فكانوا يرون ذلك تعظيما له، وكان منوّر الشيبة كريما يحب التزوّج الكثير والفخر، بحيث أنه لما زوّج السلطان ابنته بالأمير قوصون ضرب دينارين وزنهما أربعمائة مثقال ذهبا، وعشرة آلاف درهم فضة برسم نقوط امرأته في العرس إذا طلعت إلى زفاف ابنة السلطان على قوصون، وقيل له مرّة هذا السّكّر الذي يعمل في الطعام ما يضرّ أن يعمل غير مكرّر، فقال لا يعمل إلّا مكرّرا، فإنه يبقى في نفسي أنه غير مكرّر، وكان لا يلبس قباء مطرّزا ولا مصقولا، ولا يدع أحدا عنده يلبس ذلك، وكان يخرج الزكاة، وانشأ بجانب هذا الجامع ربعا كبيرا تنافس الناس في سكناه، ولم يزل على حاله حتى مات يوم الثلاثاء مستهلّ شهر رجب سنة سبع وثلاثين وسبعمائة، ودفن بتربته خارج باب النصر، ولم يزل هذا الجامع مجمعا يقصده سائر الناس للتنزه فيه على النيل، ويرغب كل أحد في السكنى بجواره، وبلغت الأماكن التي بجواره من الأسواق والدور الغاية في العمارة، حتى صار ذلك الخط أعمر أخطاط مصر وأحسنها، فلما كانت سنة ست وثمانمائة انحسر ماء النيل عما تجاه جامع الخطيريّ، وصار رملة لا يعلوها الماء إلّا في أيام الزيادة، وتكاثر الرمل تحت شبابيك الجامع، وقربت من الأرض بعد ما كان الماء تحته لا يكاد يدرك قراره، وهو الآن عامر، إلّا أن الاجتماعات التي كانت فيه قبل انحسار النيل عما قبالته قلت، واتضع حال ما يجاوره من السوق والدور، ولله عاقبة الأمور.
جامع قيدان
هذا الجامع خارج القاهرة على جانب الخليج الشرقيّ ظاهر باب الفتوح مما يلي قناطر الإوز تجاه أرض البعل، كان مسجدا قديم البناء فجدّده الطواشي بهاء الدين قراقوش الأسدي في محرّم سنة سبع وتسعين وخمسمائة، وجدّد حوض السبيل الذي فيه، ثم إن الأمير مظفر الدين قيدان الروميّ عمل به منبرا لإقامة الخطبة يوم الجمعة، وكان عامرا بعمارة ما حوله، فلما حدث الغلاء في سنة ست وسبعين وسبعمائة، أيام الملك الأشرف شعبان بن حسين خرب كثير من تلك النواحي، وبيعت أنقاضها، وكانت الغرقة أيضا، فصار ما بين القنطرة الجديدة المجاورة لسوق جامع الظاهر، وبين قناطر الأوز المقابلة لأرض البعل يبابا لا عامر له ولا ساكن فيه، وخرب أيضا ما وراء ذلك من شرقيه إلى جامع نائب الكرك، وتعطل هذا الجامع ولم يبق منه غير جدر آئلة إلى العدم، ثم جدّده مقدّم بعض المماليك السلطانية في(4/116)
حدود الثلاثين والثمانمائة، ثم وسع فيه الشيخ أحمد بن محمد الأنصاريّ العقاد الشهير بالأزراريّ، ومات في ثاني عشر ربيع الأوّل سنة ثلاث وأربعين وثمانمائة.
جامع الست حدق
هذا الجامع بخط المريس في جانب الخليج الكبير مما يلي الغرب، بالقرب من قنطرة السدّ التي خارج مدينة مصر، أنشأته الست حدق دادة الملك الناصر محمد بن قلاون، وأقيمت فيه الخطبة يوم الجمعة لعشرين من جمادى الآخرة سنة سبع وثلاثين وسبعمائة، وإلى حدق هذه ينسب حكر الست حدق الذي ذكر عند ذكر الأحكار من هذا الكتاب.
جامع ابن غازي
هذا الجامع خارج باب البحر من القاهرة بطريق بولاق، أنشأه نجم الدين بن غازي دلال المماليك، وأقيمت فيه الخطبة في يوم الجمعة ثاني عشر جمادى الأولى، سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، وإلى اليوم تقام فيه الجمعة، وبقية الأيام لا يزال مغلق الأبواب لقلة السكان حوله.
جامع التركمانيّ
هذا الجامع في المقس، وهو من الجوامع المليحة البناء، أنشأه الأمير بدر الدين محمد التركمانيّ، وكان ما حوله عامرا عمارة زائدة، ثم تلاشى من الوقت الذي كان فيه الغلاء زمن الملك الأشرف شعبان بن حسين، وما برح حاله يختل إلى أن كانت الحوادث والمحن من سنة ست وثمانمائة، فخرب معظم ما هنالك، وفيه إلى اليوم بقايا عامر لا سيما بجوار هذا الجامع.
التركمانيّ محمد، وينعت بالأمير بدر الدين محمد بن الأمير فخر الدين عيسى التركمانيّ، كان أوّلا شادّا، ثم ترقى في الخدم حتى ولي الجيزة، وتقدّم في الدولة الناصرية، فولاه السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون شادّ الدواوين، والدولة حينئذ ليس فيها وزير، فاستقلّ بتدبير الدولة مدّة أعوام، وكان يلي نظر الدولة تلك الأيام كريم الدين الصغير، فغص به وما زال يدبر عليه حتى أخرجه السلطان من ديار مصر، وعمله شادّ الدواوين بطرابلس، فأقام هناك مدّة سنتين ثم عاد إلى القاهرة بشفاعة الأمير تنكز نائب الشام، وولي كشف الوجه البحريّ مدّة، ثم أعطي أمرة طبلخاناه، وأعطي أخوه عليّ أمرة عشرة، وولده إبراهيم أيضا أمرة عشرة، وكان مهابا صاحب حرمة باسطة وكلمة نافذة، ومات عن سعادة طائلة بالمقس في ربيع الأوّل سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة وهو أمير.(4/117)
جامع شيخو
هذا الجامع بسويقة منعم، فيما بين الصليبة والرميلة تحت قلعة الجبل، أنشأه الأمير الكبير سيف الدين شيخو الناصريّ، رأس نوبة الأمراء في سنة ست وخمسين وسبعمائة، ورفق بالناس في العمل فيه وأعطاهم أجورهم، وجعل فيه خطبة وعشرين صوفيا، وأقام الشيخ أكمل الدين محمد بن محمود الروميّ الحنفيّ شيخهم، ثم لما عمر الخانقاه تجاه الجامع نقل حضور الأكمل والصوفية إليها، وزاد عدّتهم، وهذا الجامع من أجلّ جوامع ديار مصر.
شيخو: الأمير الكبير سيف الدين، أحد مماليك الناصر محمد بن قلاون، حظي عند الملك المظفر حاجي بن محمد بن قلاون، وزادت وجاهته حتى شفع في الأمراء وأخرجهم من سجن الإسكندرية، ثم إنه استقرّ في أوّل دولة الملك الناصر حسن أحد أمراء المشورة، وفي آخر الأمر كانت القصص تقرأ عليه بحضرة السلطان في أيام الخدمة، وصار زمام الدولة بيده، فساسها أحسن سياسة بسكون وعدم شرّ، وكان يمنع كل حزب من الوثوب على الآخر، فعظم شأنه إلى أن رسم السلطان بإمساك الأمير يلبغاروس نائب السلطنة بديار مصر وهو مسافر بالحجاز، وكان شيخو قد خرج متصيدا إلى ناحية طنان بالغربية، فلما كان يوم السبت رابع عشري شوّال سنة إحدى وخمسين وسبعمائة، أمسك السلطان الأمير منجك الوزير، وحلّف الأمراء لنفسه، وكتب تقليد شيخو بنيابة طرابلس، وجهزه إليه مع الأمير سيف الدين طينال الجاشنكير، فسار إليه وسفره من برّا، فوصل إلى دمشق ليلة الثلاثاء رابع ذي القعدة، فظهر مرسوم السلطان بإقامة شيخو في دمشق على إقطاع الأمير بيلبك السالميّ، وبتجهيز بيلبك إلى القاهرة، فخرج بيلبك من دمشق وأقام شيخو على إقطاعه بها، فما وصل بيلبك إلى القاهرة إلّا وقد وصل إلى دمشق وأقام شيخو على إقطاعه بها، فما وصل وتقييد مماليكه واعتقالهم بقلعة دمشق، فأمسك وجهّز مقيدا، فلما وصل إلى قطيا توجهوا به إلى الإسكندرية، فلم يزل معتقلا بها إلى أن خلع السلطان الملك الناصر حسن، وتولى أخوه الملك الصالح صالح، فأفرج عن شيخو ومنجك الوزير وعدّة من الأمراء، فوصلوا إلى القاهرة في رابع شهر رجب سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة، وأنزل في الأشرفية بقلعة الجبل، واستمرّ على عادته، وخرج مع الملك الصالح إلى الشام في واقعة يلبغاروس، وتوجه إلى حلب هو والأمير طاز وأرغون الكامليّ خلف يبلغاروس، وعاد مع السلطان إلى القاهرة وصمم حتى أمسك يلبغاروس ومن معه من الأمراء بعد ما وصلوا إلى بلاد الروم، وحزت رؤسهم، وأمسك أيضا ابن دلغار وأحضر إلى القاهرة ووسّط وعلّق على باب زويلة، ثم خرج بنفسه في طلب الأحدب الذي خرج بالصعيد وتجاوز في سفره قوص، وأمسك عدّة كثيرة ووسّطهم حتى سكنت الفتن بأرض مصر، وذلك في آخر سنة أربع وخمسين وأوّل سنة خمس وخمسين.(4/118)
ثم خلع الملك الصالح وأقام بدله الملك الناصر حسنا في ثاني شوّال، وأخرج الأمير طاز من مصر إلى حلب نائبا بها ومعه إخوته، وصارت الأمور كلها راجعة إليه، وزادت عظمته وكثرت أمواله وأملاكه ومستأجراته حتى كاد يكاثر أمواج البحر بما ملك، وقيل له قارون عصره. وعزيز مصره، وأنشأ خلقا كثيرا، فقوى بذلك حزبه وجعل في كل مملكة من جهته عدّة أمراء، وصارت نوّابه بالشام وفي كل مدينة أمراء كبار، وخدموه حتى قيل كان يدخل كل يوم ديوانه من إقطاعه وأملاكه ومستأجراته بالشام وديار مصر مبلغ مائتي ألف درهم نقرة، وأكثر، وهذا شيء لم يسمع بمثله في الدولة التركية، وذلك سوى الإنعامات السلطانية والتقادم التي ترد إليه من الشام ومصر، وما كان يأخذ من البراطيل على ولاية الأعمال، وجامعه هذا وخانقاهه التي بخط الصليبة لم يعمر مثلهما قبلهما، ولا عمل في الدولة التركية مثل أوقافهما، وحسن ترتيب المعاليم بهما، ولم يزل على حاله إلى أن كان يوم الخميس ثامن شعبان سنة ثمان وخمسين وسبعمائة، فخرج عليه شخص من المماليك السلطانية المرتجعة عن الأمير منجك الوزير يقال له باي، فجاء وهو جالس بدار العدل وضربه بالسيف في وجهه وفي يده، فارتجت القلعة كلها وكثر هرج الناس حتى مات من الناس جماعة من الزحمة وركب من الأمراء الكبار عشرة وهم بالسلاح عليهم إلى قبة النصر خارج القاهرة، ثم أمسك باي فجاء وقرّر فلم يعترف بشيء على أحد وقال: أنا قدّمت إليه قصة لينقلني من الجامكية إلى الإقطاع فما قضى شغلي، فأخذت في نفسي من ذلك، فسجن مدّة ثم سمّر وطيف به الشوارع، وبقي شيخو عليلا من تلك الجراحة لم يركب إلى أن مات ليلة الجمعة سادس عشري ذي القعدة، سنة ثمان وخمسين وسبعمائة، ودفن بالخانقاه الشيخونية وقبره بها يقرأ عنده القرآن دائما.
جامع الجاكيّ
هذا الجامع كان بدرب الجاكي عند سويقة الريش من الحكر في برّ الخليج الغربيّ، أصله مسجد من مساجد الحكر، ثم زاد فيه الأمير بدر الدين محمد بن إبراهيم المهمندار، وجعله جامعا وأقام فيه منبرا في سنة ثلاث عشرة وسبعمائة، فصار أهل الحكر يصلون فيه الجمعة إلى أن حدثت المحن من سنة ست وثمانمائة، فخرب الحكر وبيعت أنقاض معظم الدور التي هناك، وتعطل هذا الجامع من ذكر الله وإقامة الصلاة لخراب ما حوله، فحكم بعض قضاة الحنفية ببيع هذا الجامع، فاشتراه شخص من الوعاظ يعرف بالشيخ أحمد الواعظ الزاهد صاحب جامع الزاهد بخط المقس، وهدمه وأخذ أنقاضه فعملها في جامعه الذي بالمقس في أوّل سنة سبع عشرة وثمانمائة.
جامع التوبة
هذا الجامع بجوار باب البرقية في خط بين السورين، كان موضعه مساكن أهل الفساد(4/119)
وأصحاب الرأي، فلما أنشأ الأمير الوزير علاء الدين مغلطاي الجماليّ خانقاهه المعروفة بالجمالية قريبا من خزانة البنود بالقاهرة، كره مجاورة هذه الأماكن لداره وخانقاهه، فأخذها وهدمها وبنى هذا الجامع في مكانها، وسماه جامع التوبة، فعرف بذلك إلى اليوم، وهو الآن تقام فيه الجمعة، غير أنه لا يزال طول الأيام مغلق الأبواب لخلوّه من ساكن، وقد خرب كثير مما يجاوره، وهناك بقايا من أماكن.
جامع صاروجا
هذا الجامع مطلّ على الخليج الناصريّ بالقرب من بركة الحاجب التي تعرف ببركة الرطلي، كان خطة تعرف بجامع العرب، فأنشأ بها هذا الجامع ناصر الدين محمد أخو الأمير صار وجانقيب الجيش، بعد سنة ثلاثين وسبعمائة، وكانت تلك الخطة قد عمرت عمارة زائدة، وأدركت منها بقية جيدة إلى أن دثرت، فصارت كيمانا، وتقام الجمعة إلى اليوم في هذا الجامع أيام النيل.
جامع الطباخ
هذا الجامع خارج القاهرة بخط باب اللوق، بجوار بركة الشقاف، كان موضعه وموضع بركة الشقاف من جملة الزهريّ، أنشأه الأمير جمال الدين أقوش، وجدّده الحاج علي، الطباخ في المطبخ السلطانيّ أيام الملك الناصر محمد بن قلاون، ولم يكن له وقف، فقام بمصالحه من ماله مدّة، ثم إنه صودر في سنة ست وأربعين وسبعمائة، فتعطل مدّة نزول الشدّة بالطباخ، ولم تقم فيه تلك المدّة الصلاة.
عليّ بن الطباخ: نشأ بمصر وخدم الملك الناصر محمد بن قلاون. وهو بمدينة الكرك، فلما قدم إلى مصر جعله خوان سلار، وسلمه المطبخ السلطانيّ، فكثر ماله لطول مدّته. وكثرة تمكنه، ولم يتفق لأحد من نظرائه ما اتفق له من السعادة الطائلة، وذلك أن الأفراح وما كان يصنع من المهمات والأعراس ونحوها مما كان يعمل في الدور السلطانية وعند الأمراء والمماليك والحواشي مع كثرة ذلك في طول تلك الأعوام، كانت كلها إنما يتولى أمرها هو بمفرده، فما اتفق له في عمل مهم ابن بكتمر الساقي على ابنة الأمير تنكز نائب الشام، أن السلطان الملك الناصر استدعاه آخر النهار الذي عمل فيه المهم المذكور وقال له: يا حاج عليّ، اعمل لي الساعة لونا من طعام الفلاحين، وهو خروج رميس يكون ملهوج، فولى ووجهه معبس، فصاح به السلطان ويلك مالك معبس الوجه؟ فقال: كيف ما أعبس وقد حرمتني الساعة عشرين ألف درهم نقرة؟ فقال: كيف حرمتك؟ قال: قد تجمع عندي رؤس غنم وبقر وأكارع وكروش وأعضاد وسقط دجاج وأوز وغير ذلك مما سرقته من المهمّ، وأريد أقعد وأبيعه، وقد قلت لي أطبخ وبينما أفرغ من الطبيخ تلف الجميع، فتبسم السلطان وقال له: رح أطبخ وضمان الذي ذكرت عليّ، وأمر بإحضار والي القاهرة ومصر،(4/120)
فلما حضرا ألزمهما بطلب أرباب الزفر إلى القلعة وتفرقة ما ناب الطباخ من المهمّ عليهم، واستخراج ثمنه، فللحال حضر المذكورون وبيع عليهم ذلك فبلغ ثمنه ثلاثة وعشرين ألف درهم نقرة، وهذا مهمّ واحد من ألوف مع الذي كان له من المعاليم والجرايات ومنافع المطبخ. ويقال أنه كان يتحصل له من المطبخ السلطاني في كل يوم على الدوام والاستمرار مبلغ خمسمائة درهم نقرة، ولولده أحمد مبلغ ثلاثمائة درهم نقرة، فلما تحدّث النشو في الدولة خرّج عليه تخاريج وأغرى به السلطان، فلم يسمع فيه كلاما، وما زال على حاله إلى أن مات الملك الناصر وقام من بعده أولاده الملك المنصور أبو بكر، والملك الأشرف كجك، والملك الناصر أحمد، والملك الصالح إسماعيل، والملك الكامل شعبان، فصادره في سنة ست وأربعين وسبعمائة، وأخذ منه مالا كثيرا، ومما وجد له خمس وعشرون دارا مشرفة على النيل وغيره، فتفرقت حواشي الملك الكامل أملامه، فأخذت أم السلطان ملكه الذي كان على البحر، وكانت دارا عظيمة جدّا، وأخذت أنقاض داره التي بالمحمودية من القاهرة وأقيم عوضه بالمطبخ السلطانيّ وضرب ابنه أحمد.
جامع الأسيوطيّ
هذا الجامع بطرف جزيرة الفيل مما يلي ناحية بولاق، كان موضعه في القديم غامرا بماء النيل، فلما انحسر عن جزيرة الفيل وعمرت ناحية بولاق، أنشأ هذا الجامع القاضي شمس الدين محمد بن إبراهيم بن عمر السيوطيّ ناظر بيت المال، ومات في سنة تسع وأربعين وسبعمائة، ثم جدّد عمارته بعد ما تهدّم وزاد فيه ناصر الدين محمد بن محمد بن عثمان بن محمد المعروف بابن البارزيّ الحمويّ كاتب السرّ، وأجرى فيه الماء وأقام فيه الخطبة يوم الجمعة سادس عشري جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة، فجاء في أحسن هندام وأبدع زيّ، وصلّى فيه السلطان الملك المؤيد شيخ الجمعة في أول جمادى الآخرة سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة.
جامع الملك الناصر حسن
هذا الجامع يعرف بمدرسة السلطان حسن، وهو تجاه قلعة الجبل فيما بين القلعة وبركة الفيل، وكان موضعه بيت الأمير يلبغا اليحياوي الذي تقدّم ذكره عند ذكر الدور، وابتدأ السلطان عمارته في سنة سبع وخمسين وسبعمائة، وأوسع دوره وعمله في أكبر قالب وأحسن هندام وأضخم شكل، فلا يعرف في بلاد الإسلام معبد من معابد المسلمين يحكي هذا الجامع، أقامت العمارة فيه مدّة ثلاث سنين لا تبطل يوما واحدا، وأرصد لمصروفها في كل يوم عشرون ألف درهم، عنها نحو ألف مثقال ذهبا. ولقد أخبرني الطواشي مقبل الشاميّ: أنه سمع السلطان حسنا يقول: انصرف على القالب الذي بني عليه عقد الإيوان الكبير مائة ألف درهم نقرة، وهذا القالب مما رمي على الكيمان بعد فراغ العقد المذكور.(4/121)
قال: وسمعت السلطان يقول لولا أن يقال ملك مصر عجز عن إتمام بناء بناه لتركت بناء هذا الجامع من كثرة ما صرف عليه، وفي هذا الجامع عجائب من البنيان منها: أن ذراع إيوانه الكبير خمسة وستون ذراعا في مثلها، ويقال أنه أكبر من إيوان كسرى الذي بالمدائن من العراق بخمسة أذرع، ومنه القبلة العظيمة التي لم يبن بديار مصر والشام والعراق والمغرب واليمن مثلها، ومنها المنبر الرخام الذي لا نظير له، ومنها البوّابة العظيمة، ومنها المدارس الأربع التي بدور قاعة الجامع إلى غير ذلك. وكان السلطان قد عزم على أن يبني أربع مناير يؤذن عليها، فتمت ثلاث مناير إلى أن كان يوم السبت سادس شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وستين وسبعمائة، فسقطت المنارة التي على الباب، فهلك تحتها نحو ثلاثمائة نفس من الأيتام الذين كانوا قد رتبوا بمكتب السبيل الذي هناك ومن غير الأيتام، وسلّم من الأيتام ستة أطفال، فأبطل السلطان بناء هذه المنارة وبناء نظيرتها، وتأخر هناك منارتان هما قائمتان إلى اليوم، ولما سقطت المنارة المذكورة لهجت عامّة مصر والقاهرة بأن ذلك منذر بزوال الدولة، فقال الشيخ بهاء الدين أبو حامد أحمد بن عليّ بن محمد السبكيّ في سقوطها:
أبشر فسعدك يا سلطان مصر أتى ... بشيره بمقال سار كالمثل
إنّ المنارة لم تسقط لمنقصة ... لكن لسرّ خفيّ قد تبيّن لي
من تحتها قرىء القرآن فاستمعت ... فالوجد في الحال أدّها إلى الميل
لو أنزل الله قرآنا على جبل ... تصدّعت رأسه من شدّة الوجل
تلك الحجارة لم تنقضّ بل هبطت ... من خشية الله لا للضعف والخلل
وغاب سلطانها فاستوحشت ورمت ... بنفسها لجوى في القلب مشتعل
فالحمد لله حظّ العين زال بما ... قد كان قدّره الرحمن في الأزل
لا يعتري البؤس بعد اليوم مدرسة ... شيدت بنيانها بالعلم والعمل
ودمت حتى ترى الدنيا بها امتلأت ... علما فليس بمصر غير مشتغل
فاتفق قتل السلطان بعد سقوط المنارة بثلاثة وثلاثين يوما، ومات السلطان قبل أن يتم رخام هذا الجامع، فأتمه من بعده الطواشي بشير الجمدار، وكان قد جعل السلطان على هذا الجامع أوقافا عظيمة جدّا، فلم يترك منها إلّا شيء يسير وأقطع أكثر البلاد التي وقفت عليه بديار مصر والشام لجماعة من الأمراء وغيرهم، وصار هذا الجامع ضدّا لقلعة الجبل، قلما تكون فتنة بين أهل الدولة إلّا ويصعد عدّة من الأمراء وغيرهم إلى أعلاه ويصير الرمي منه على القلعة، فلم يحتمل ذلك الملك الظاهر برقوق وأمر فهدمت الدرج التي كان يصعد منها إلى المنارتين والبيوت التي كان يسكنها الفقهاء، ويتوصل من هذه الدرج إلى السطح الذي كان يرمى منه على القلعة، وهدمت البسطة العظيمة والدرج التي كانت بجانبي هذه البسطة التي كانت قدّام باب الجامع، حتى لا يمكن الصعود إلى الجامع، وسدّ من وراء الباب النحاس الذي لم يعمل فيما عهد باب مثله، وفتح شباك من شبابيك أحد مدارس هذا الجامع(4/122)
ليتوصل منه إلى داخل الجامع عوضا عن الباب المسدود، فصار هذا الجامع تجاه باب القلعة المعروف بباب السلسلة، وامتنع صعود المؤذنين إلى المنارتين، وبقي الأذان على درج هذا الباب، وكان ابتداء هدم ما ذكر في يوم الأحد ثامن صفر سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة، ثم لما شرع السلطان الملك المؤيد شيخ في عمارة الجامع بجوار باب زويلة اشترى هذا الباب النحاس والتنور النحاس الذي كان معلقا هناك بخمسمائة دينار، ونقلا في يوم الخميس سابع عشري شوّال سنة تسع عشرة وثمانمائة، فركب الباب على البوّابة وعلق التنور تجاه المحراب، فلما كان في يوم الخميس تاسع شهر رمضان سنة خمس وعشرين وثمانمائة، أعيد الأذان في المئذنتين كما كان، وأعيد بناء الدرج والبسطة، وركب باب بدل الباب الذي أخذه المؤيد، واستمرّ الأمر على ذلك.
الملك الناصر أبو المعالي الحسن بن محمد بن قلاون: جلس على تخت الملك وعمره ثلاث عشرة سنة في يوم الثلاثاء رابع عشر شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وسبعمائة بعد أخيه الملك المظفر حاجي، وأركب من باب الستارة بقلعة الجبل وعليه شعار السلطنة وفي ركابه الأمراء إلى أن نزل بالإيوان السلطانيّ، ومدبر والدولة يومئذ الأمير يلبغاروس، والأمير ألجيبغا المظفريّ، والأمير شيخو، والأمير طاز، وأحمد شادّ الشرابخاناه، وأرغون الإسماعيليّ فخلع على يلبغاروس واستقرّ في نيابة السلطنة بديار مصر، عوضا عن الحاج أرقطاي، وقرّر أرقطاي في نيابة السلطنة بحلب، وخلع على الأمير سيف الدين منجك اليوسفيّ واستقرّ في الوزارة والاستادارية، وقرر الأمير أرغون شاه في نيابة السلطنة بدمشق.
فلما دخلت سنة تسع وأربعين، كثر انكشاف الأراضي من ماء النيل بالبرّ الشرقيّ فيما يلي بولاق إلى مصر، فاهتم الأمراء بسدّ البحر مما يلي الجيزة، وفوّض ذلك للأمير منجك، فجمع مالا كثيرا وأنفقه على ذلك، فلم يفد، فقبض على منجك في ربيع الأوّل، وحدث الوباء العظيم في هذه السنة، وأخرج أحمد شادّ الشرابخاناه لنيابة صفد، وألجيبغا لنيابة طرابلس، فاستمرّ أجليبغا بها إلى شهر ربيع الأوّل سنة خمسين، فركب إلى دمشق وقتل أرغون شاه بغير مرسوم، فأنكر عليه وأمسك وقتل بدمشق. وفي سنة إحدى وخمسين سار من دمشق عسكر عدّته أربعة آلاف فارس، ومن حلب ألفا فارس إلى مدينة سنجار، ومعهم عدّة كثيرة من التركمان، فحصروها مدّة حتى طلب أهلها الأمان، ثم عادوا. وترشد السلطان واستبدّ بأمره وقبض على منحك ويلبغاروس، وقبض بمكة على الملك المجاهد صاحب اليمن، وقيد وحمل إلى القاهرة، فأطلق ثم سجن بقلعة الكرك.
فلما كان يوم الأحد سابع عشر جمادى الآخرة ركب الأمراء على السلطان وهم: طاز وإخوته ويبلغا الشمسيّ، ويبغوا، ووقفوا تحت القلعة وصعد الأمير طاز وهو لابس إلى القلعة في عدّة وافرة، وقبض على السلطان وسجنه بالدور، فكانت مدّة ولايته ثلاث سنين وتسعة أشهر، وأقيم بدله أخوه الملك الصالح صالح فأقام السلطان حسن مجمعا على الاشتغال(4/123)
بالعلم، وكتب بخطه نسخة من كتاب دلائل النبوّة للبيهقيّ إلى يوم الاثنين ثاني شوّال سنة خمس وخمسين وسبعمائة، فأقامه الأمير شيخو العمريّ في السلطنة، وقبض على الصالح، وكانت مدّة سجنه ثلاث سنين وثلاثة أشهر وأربعة عشر يوما، فرسم بإمساك الأمير طاز وإخراجه لنيابة حلب. وفي ربيع الأول سنة سبع وخمين هبت ريح عاصفة من ناحية الغرب من أوّل النهار إلى آخر الليل، اصفرّ منها الجوّ، ثم احمرّ، ثم اسودّ فتلف منها شيء كثير.
وفي شعبان سنة تسع وخمسين ضرب الأمير شيخو بعض المماليك بسيف فلم يزل عليلا حتى مات. وفي سنة تسع وخمسين كان ضرب الفلوس الجدد، فعمل كلّ فلس زنة مثقال، وقبض على الأمير طاز نائب حلب وسجن بالإسكندرية، وقرّر مكانه في نيابة حلب الأمير منجك اليوسفيّ، وأمسك الأمير صرغتمش في شهر رمضان منها، وكانت حرب بين مماليكه ومماليك السلطان، انتصر فيها المماليك السلطانية، وقبض على عدّة أمراء، فأنعم السلطان على مملوكه يلبغا العمريّ الخاصكيّ بتقدمة ألف عوضا عن تنكر بغا الماردانيّ أمير مجلس بحكم وفاته. وفي سنة ستين فرّ منجك من حلب، فلم يوقف له على خبر، فأقرّ على نيابة حلب الأمير بيدمر الخوارزميّ، وسار لغزو سيس فأخذ أدنه بأمان وأخذ طرسوس والمصيصة وعدّة بلاد وأقام بها نوّابا وعاد، فلما كانت سنة اثنتين وستين عدّى السلطان إلى برّ الجيزة وأقام بناحية كوم برا مدّة طويلة لوباء كان بالقاهرة، فتنكر الحال بينه وبني الأمير يلبغا إلى ليلة الأربعاء تاسع جمادى الأولى، فركب السلطان في جماعة ليكبس على الأمير يلبغا، وكان قد أحسن بذلك وخرج عن الخيام وكمن بمكان وهو لابس في جماعته، فلم يظفر السلطان به، ورجع فثار به يلبغا فانكسر بمن معه وفرّ يريد قلعة الجبل، فتبعه يلبغا وقد انضم إليه جمع كثير، ودخل السلطان إلى القلعة فلم يثبت، وركب معه أيدمر الدوادار ليتوجه إلى بلاد الشام، ونزل إلى بيت الأمير شرف الدين موسى بن الأزكشيّ أمير حاجب، فبعث في الحال إلى الأمير يبلغا يعلمه بمجيء السلطان إليه، فبعث من قبضه هو والأمير أيدمر، ومن حينئذ لم يوقف له على خبر البتة مع كثرة فحص أتباعه وحواشيه عن قبره وما آل إليه أمره، فكانت مدّة ولايته هذه الثانية ست سنين وسبعة أشهر وأياما، وكان ملكا حازما مهابا شجاعا صاحب حرمة وافرة وكلمة نافذة ودين متين، حلف غير مرّة أنه ما لاط ولا شرب خمرا ولا زنى، إلّا أنه كان يبخل ويعجب بالنساء، ولا يكاد يصبر عنهنّ، ويبالغ في إعطائهنّ المال، وعادى في دولته أقباط مصر، وقصد اجتثات أصلهم، وكره المماليك، وشرع في إقامة أولاد الناس أمراء، وترك عشرة بنين وست بنات، وكان أشقر أنمش، وقتل وله من العمر بضع وعشرون سنة، ولم يكن قبله ولا بعده في الدولة التركية مثله.(4/124)
جامع القرافة
هذا الجامع يعرف الآن بجامع الأولياء، وهو القرافة الكبرى، وكان موضعه يعرف في القديم عند فتح مصر بخطة المغافر، وهو مسجد بني عبد الله بن مانع بن مورع يعرف بمسجد القبة. قال القضاعيّ: كان القرّاء يحضرون فيه، ثم بني عليه المسجد الجامع الجديد، بنته السيدة المعزية في سنة ست وستين وثلاثمائة وهي أمّ العزيز بالله نزار ولد المعز لدين الله، أمّ ولد من العرب يقال لها تغريد، وتدعى درزان، وبنته على يد الحسن بن عبد العزيز الفارسيّ المحتسب في شهر رمضان من السنة المذكورة، وهو على نحو بناء الجامع الأزهر بالقاهرة، وكان بهذا الجامع بستان لطيف في غربيه وصهريج، وبابه الذي يدخل منه ذو المصاطب الكبير الأوسط تحت المنار العالي الذي عليه مصفح بالحديد إلى حضرة المحراب، والمقصورة من عدّة أبواب، وعدّتها أربعة عشر بابا مربعة مطوّبة الأبواب، قدّام كلّ باب قنطرة قوس على عمودي رخام ثلاثة صفوف، وهو مكندج مزوّق باللازورد والزنجفر والزنجار وأنواع الأصباغ، وفيه مواضع مدهونة، والسقوف مزوّقة ملوّنة كلها، والحنايا والعقود التي على العمد مزوّقة بأنواع الأصباغ من صنعة البصريين وبني المعلم المزوّقين شيوخ الكتاميّ والنازوك، وكان قبالة الباب السابع من هذه الأبواب قنطرة قوس مزوّقة في منحنى حافتيها شاذوران مدرّج بدرج وآلات سود وبيض وحمر وخضر وزرق وصفر، إذا تطلع إليها من وقف في سهم قوسها شائلا رأسه إليها ظنّ أن المدرّج المزوّق كأنه خشب كالمقرنص، وإذا أتى إلى أحد قطري القوس نصف الدائرة ووقف عند أوّل القوس منها ورفع رأسه، رأى ذلك الذي توهمه مسطحا لا نتوء فيه، وهذه من أفخر الصنائع عند المزوّقين، وكانت هذه القنطرة من صنعة بني المعلم، وكان الصناع يأتون إليها ليعملوا مثلها، فما يقدرون، وقد جرى مثل ذلك للقصير وابن عزيز في أيام البازوريّ سيد الوزراء الحسن بن عليّ بن عبد الرحمن، وكان كثيرا ما يحرّض بينهما ويغري بعضهما على بعض لانه كان أحبّ ما إليه كتاب مصوّرا، أو النظر إلى صورة، أو تزويق.
ولما استدعي ابن عزيز من العراق فأفسده، وكان قد أتى به في محاربة القصير لأنّ القصير كان يشتط في أجرته ويلحق عجب فيه صنعته، وهو حقيق بذلك لأنه في عمل الصورة كابن مقلة في الخط، وابن عزيز كابن البوّاب، وقد أمعن شرح ذلك في الكتاب المؤلف فيه، وهو طبقات المصوّرين المنعوت، بضوء النبراس وأنس الجلاس في أخبار المزوّقين من الناس، وكان البازوريّ قد أحضر بمجلسه القصير وابن عزيز فقال ابن عزيز:
أنا أصوّر صورة إذا رآها الناظر ظنّ أنها خارجة من الحائط. فقال القصير: لكن أنا أصوّرها فإذا نظرها الناظر ظنّ أنها داخلة في الحائط، فقالوا هذا أعجب، فأمرهما أن يصنعا ما وعدا به، فصوّرا صورة راقصتين في صورة حنيتين مدهونتين متقابلتين، هذه ترى كأنها داخلة في الحائط، وتلك ترى كأنها خارجه من الحائط، فصوّر القصير راقصة بثياب بيض في صورة(4/125)
حنية دهنها أسود كأنها داخلة في صورة الحنية، وصوّر ابن عزيز راقصة بثياب حمر في صورة جنية صفراء كأنها بارزة من الحنية، فاستحسن البازوريّ ذلك وخلع عليهما ووهبهما كثيرا من الذهب.
وكان بدار النعمان بالقرافة من عمل الكتاميّ صورة يوسف عليه السّلام في الجب وهو عريان، والجب كله أسود، إذا نظره الإنسان ظنّ أن جسمه باب من دهن لون الجبّ، وكان هذا الجامع من محاسن البناء، وكان بنو الجوهريّ، يعظمون بهذا الجامع على كرسيّ في الثلاثة أشهر، فتمرّ لهم مجالس مبجلة تروق وتشوق، ويقوم خادمهم وزهر البان، وهو شيخ كبير ومعه زنجلة إذا توسط أحدهم في الوعظ ويقول:
وتصدّقي لا تأمني أن تسألي ... فإذا سالت عرفت ذلّ السائل
ويدور على الرجال والنساء فيلقى له في الزنجلة ما يسره الله تعالى، فإذا فرغ من التطواف وضع الزنجلة أمام الشيخ، فإذا فرغ من وعظه فرّق على الفقراء ما قسم لهم، وأخذ الشيخ ما قسم له، وهو الباقي، ونزل عن الكرسيّ. وكان جماعة من الرؤساء يلزمون النوم بهذا الجامع ويجلسون به في ليالي الصيف للحديث في القمر في صحنه، وفي الشتاء ينامون عند المنبر، وكان يحصل لقيمه القاضي أبي حفص الأشربة والحلوى وغير ذلك.
قال الشريف محمد بن أسعد الجوّانيّ النسابة: حدّثني الأمير أبو عليّ تاج الملك جوهر المعروف بالشمس الجيوشيّ قال: اجتمعنا ليلة جمعة جماعة من الأمراء، بنو معز الدولة، وصالح، وحاتم، وراجح، وأولادهم، وغلمانهم، وجماعة ممن يلوذ بنا، كابن الموفق والقاضي ابن داود، وأبي المجد بن الصيرفيّ، وأبي الفضل روزبة، وأبي الحسن الرضيع، فعملنا سماطا وجلسنا واستدعينا بمن في الجامع وأبي حفص، فأكلنا ورفعنا الباقي إلى بيت الشيخ أبي حفص قيم الجامع، ثم تحدّثنا ونمنا، وكانت ليلة باردة، فنمنا عند المنبر وإذا إنسان نصف الليل ممن نام في هذا الجامع من عابري السبيل قد قام قائما وهو يلطم على رأسه ويصيح وامالاه وا مالاه، فقلنا له: ويلك ما شأنك وما الذي دهاك ومن سرقك وما سرق لك؟ فقال: يا سيدي أنا رجل من أهل طرا يقال لي أبو كريت الحاوي، أمسى عليّ الليل ونمت عندكم وأكلت من خيركم، وسع الله عليكم، ولي جمعة أجمع في سلتي من نواحي طرا والحيّ الكبير والجبل، كل غريبة من الحيات والأفاعي ما لم يقدر عليه قط حاو غيري، وقد انفتحت الساعة السلة وخرجت الأفاعي وأنا نائم لم أشعر. فقلت له:
إيش تقول: فقال: أي والله يا للنجدات، فقلنا: يا عدوّ الله أهلكتنا ومعنا صبيان وأطفال؟ ثم إنّا نبهنا الناس وهربنا إلى المنبر وطلعنا وازدحمنا فيه، ومنا من طلع على قواعد العمد فتسلق وبقي واقفا، وأخذ ذلك الحاوي يحسس وفي يده كنف الحيات ويقول: قبضت الرقطاء، ثم يفتح السلة ويضع فيها، ثم يقول قبضت أم قرنين ويفتح ويضع فيها، ويقول قبضت الفلانيّ والفلانية من الثعابين والحيات وهي معه بأسماء، ويقول أبو تليس وأبو زعير(4/126)
ونحن ونقول ايه؟ إلى أن قال: بس انزلوا ما بقي عليّ همّ، ما بقي يهمكم كبير شيء، قلنا كيف؟ قال ما بقي إلّا البتراء ورأسين انزلوا، فما عليكم منهما. قلنا كذا عليك لعنة الله يا عدوّ الله لا نزلنا للصبح فالمغرور من تغرّه. وصحنا بالقاضي أبي حفص القيم فأوقد الشمعة ولبس صباغات الخطيب خوفا على رجليه، وجاء فنزلنا في الضوء وطلعنا المئذنة فنمنا إلى بكرة، وتفرّق شملنا بعد تلك الليلة، وجمع القاضي القيم عياله ثاني يوم وأدخلوا عصيا تحت المنبر وسعفا وشالوا الحصر فلم يظهر لهم شيء، وبلغ الحديث والي القرافة ابن شعلة الكتاميّ، فأخذ الحاوي فلم يزل به حتى جمع ما قدر عليه وقال: ما أخليه إلّا إلى السلطان، وكان الوزير إذ ذاك يانس الأرمنيّ.
وهذه القضية تشبه قضية جرت لجعفر بن الفضل بن الفرات وزير مصر المعروف بابن جرابة، وذلك أنه كان يهوى النظر إلى الحيات والأفاعي والعقارب وأم أربعة وأربعين وما يجري هذا المجرى من الحشرات، وكان في داره قاعة لطيفة مرخمة فيها سلل الحيات ولها قيم فرّاش حاو من الحواة، ومعه مستخدمون برسم الخدمة ونقل السلال وحطها، وكان كلّ حاو في مصر وأعمالها يصيد ما يقدر عليه من الحيات، ويتباهون في ذوات العجب من أجناسها، وفي الكبار وفي الغريبة المنظر، وكان الوزير يثبهم على ذلك أو في ثواب، ويبذل لهم الجمل حتى يجتهدوا في تحصيلها، وكان له وقت يجلس فيه على دكه مرتفعة ويدخل المستخدمون والحواة فيخرجون ما في السلل ويطرحونه على ذلك الرخام، ويحرّشون بين الهوام وهو يتعجب من ذلك ويستحسنه، فلما كان ذات يوم أنفذ رقعة إلى الشيخ الجليل ابن المدبر الكاتب وكان من أعيان كتاب أيامه وديوانه، وكان عزيزا عنده، وكان يسكن إلى جوار دار ابن الفرات يقول له فيها: نشعر الشيخ الجليل أدام الله سلامته، أنه لما كان البارحة عرض علينا الحواة الحشرات الجاري بها العادات، انساب إلى داره منها الحية البتراء، وذات القرنين، والعقربان الكبير، وأبو صوفة، وما حصلوا لنا إلّا بعد عناء ومشقة وبجملة بذلناها للحواة، ونحن نأمر الشيخ وفقه الله بالتقدّم إلى حاشيته وصبيته بصون ما وجد منها إلى أن تنفذ الحواة لأخذها وردّها إلى سللها، فلما وقف ابن المدبر على الرقعة قلبها وكتب في ذيلها، أتاني أمر سيدنا الوزير خلد الله نعمته وحرس مدّته بما أشار إليه في أمر الحشرات، والذي يعتمد عليه في ذلك أن الطلاق يلزمه ثلاثا إن بات هو وأحد من أهله في الدار والسلام.
وفي سنة ست عشرة وخمسائة أمر الوزير أبو عبد الله محمد بن فاتك المنعوت بالأجلّ المأمون البطائحيّ، وكيله أبا البركات محمد بن عثمان، برمّ شعث هذا الجامع وأن يعمر بجانبه طاحونا للسبيل، ويبتاع لها الدواب ويتخير من الصالحين الساكنين بالقرافة من يجعله أمينا عليها، ويطلق له ما يكفيه مع علف الدواب وجميع المؤن، ويشترط عليه أن يواسي بين الضعفاء ويحمل عنهم كلفة طحن أقواتهم، ويؤدّي الأمانة فيها، ولم يزل هذا(4/127)
الجامع على عمارته إلى أن احترق في السنة التي احترق فيها جامع عمرو بن العاص سنة أربع وستين وخمسمائة، عند نزول مرى ملك الفرنج على القاهرة وحصارها كما تقدّم ذكره عند ذكر خراب الفسطاط من هذا الكتاب، وكان الذي تولى إحراق هذا الجامع ابن سماقة بإشارة الأستاذ مؤتمن الخلافة جوهر، وهو الذي أمر المذكور بحريق جامع عمرو بمصر، وسئل عن ذلك فقال: لئلا يخطب فيه لبني العباس. ولم يبق من هذا الجامع بعد حريقه سوى المحراب الأخضر، وكان مؤذن هذا الجامع في أيام المستنصر ابن بقاء المحدّث ابن بنت عبد الغنيّ بن سعيد الحافظ، ثم جدّدت عمارة هذا الجامع في أيام المستنصر بعد حريقه، وأدركته لما كانت القرافة الكبرى عامرة بسكنى السودان التكاررة، وهو مقصود للبركة. فلما كانت الحوادث والمحن في سنة ست وثمانمائة، قلّ الساكن بالقرافة وصار هذا الجامع طول الأيام مغلوقا، وربما أقيمت فيه الجمعة.
جامع الجيزة
بناه محمد بن عبد الله الخازن في المحرّم سنة خمسين وثلاثمائة بأمر الأمير عليّ بن عبد الله بن الإخشيد، فتقدّم كافور إلى الخازن ببنائه، فإنه كان قد هدمه النيل وسقط في سنة أربعين وثلاثمائة، وعمل له مستغلا، وكان الناس قبل ذلك بالجيزة يصلون الجمعة في مسجد جامع همدان، وهو مسجد مزاحف بن عامر بن بكتل، وقيل أن عقبة بن عامر في إمرته على مصر أمرهم أن يجمعوا فيه. قال التميميّ: وشارف بناء جامع الجيزة مع أبي بكر الخازن أبو الحسن بن جعفر الطحاويّ، واحتاجوا إلى عمد للجامع، فمضى الخازن في الليل إلى كنيسة بأعمال الجيزة فقلع عمدها ونصب بدلها أركانا، وحمل العمد إلى الجامع، فترك أبو الحسن بن الطحاويّ الصلاة فيه مذ ذاك تورّعا. قال التميمي: وقد كان يعني ابن الطحاويّ يصلي في جامع الفسطاط القديم وبعض عمده أو أكثرها ورخامه من كنائس الإسكندرية وأرياف مصر، وبعضه بناء قرّة بن شريك عامل الوليد بن عبد الملك.
جامع منجك
هذا الجامع يعرف موضعه بالثغرة تحت قلعة الجبل خارج باب الوزير، أنشأه الأمير سيف الدين منجك اليوسفيّ في مدّة وزارته بديار مصر في سنة إحدى وخمسين وسبعمائة، وصنع فيه صهريجا، فصار يعرف إلى اليوم بصهريج منجك، ورتب فيه صوفية وقرّر لهم في كل يوم طعاما ولحما وخبزا، وفي كلّ شهر معلوما، وجعل فيه منبرا ورتب فيه خطيبا يصلي بالناس فيه صلاة الجمعة، وجعل على هذا الموضع عدّة أوقاف منها ناحية بلقينة بالغربية، وكانت مرصدة برسم الحاشية، فقوّمت بخمسة وعشرين ألف دينار فاشتراها من بيت المال وجعلها وقفا على هذا المكان.(4/128)
منجك: الأمير سيف الدين اليوسفيّ، لما امتنع أحمد بن الملك الناصر محمد بن قلاون بالكرك وقام في مملكة مصر بعده أخوه الملك الصالح عماد الدين إسماعيل، وكان من محاصرته بالكرك ما كان إلى أن أخذ، فتوجه إليه وقطع رأسه وأحضرها إلى مصر، وكان حينئذ أحد السلاحدارية، فأعطى إمرة بديار مصر وتنقل في الدول إلى أن كانت سلطنة الملك المظفر حاجي بن الملك الناصر محمد بن قلاون، فأخرجه من مصر إلى دمشق وجعله حاجبا بها موضع ابن طغريل، فلما قتل الملك المظفر وأقيم بعده أخوه الملك الناصر حسن أقيم الأمير سيف الدين يلبغاروس في نيابة السلطنة بديار مصر، وكان أخا منجك، فاستدعاه من دمشق وحضر إلى القاهرة في ثامن شوّال سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، فرسم له بإمرة تقدمة ألف، وخلع عليه خلع الوزارة فاستقرّ وزيرا وأستادارا، وخرج في دست الوزارة والأمراء في خدمته من القصر إلى قاعة الصاحب بالقلعة، فجلس بالشباك ونفذ أمور الدولة، ثم اجتمع الأمراء وقرأ عليهم أوراقا تتضمن ما على الدولة من المصروف، ووفر من جامكية المماليك مبلغ ستين ألف درهم في الشهر، وقطع كثيرا من جوامك الخدم والجواري والبيوتات السلطانية، ونقص رواتب الدور من زوجات السلطان وجواريه، وقطع رواتب الأغاني، وعرض الإسطبل السلطانيّ وقطع منه عدّة أميراخورية وسراخورية وسوّاس وغلمان، ووفر من راتب الشعير نحو الخمسين إردبا في كل يوم، وقطع جميع الكلابزية وكانوا خمسين جوقة، وأبقى منهم جوقتين، ووفر جماعة من الأسرى والعتالين والمستخدمين في العمائر، وأبطل العمارة من بيت السلطان، وكانت الحوائجخاناه تحتاج في كل يوم إلى أحد وعشرين ألف درهم نقرة، فاقتطع منها مبلغ ثلاثة آلاف درهم، وبقي مصروفها في اليوم ثمانية عشر ألف درهم نقرة، فاقتطع منها مبلغ ثلاثة آلاف درهم، وبقي القاضي موفق الدين ناظر الدولة وعلى القاضي علم الدين بن زنبور ناظر الخواص، ورسم أن لا يستقرّ في المعاملات سوى شاهد واحد وعامل وشاد بغير معلوم، وأغلظ على الكتاب والدواوين وهدّدهم وتوعدهم فخافوه، واجتمع بعضهم ببعض واشتوروا في أمرهم واتفقوا على مال يتوزعونه بينهم على قدر حال كل منهم وحملوه إلى منجك سرّا، فلم يمض من استقراره في الوزارة شهر حتى صار الكتاب وأرباب الدواوين أحباءه وأخلّاءه، وتمكنوا منه أعظم ما كانوا قبل وزارته، وحسنوا له أخذ الأموال، فطلب ولاة الأقاليم وقبض على أقبغا والي الغربية وألزمه بحمل خمسمائة ألف درهم نقرة، وولى عوضه الأمير استدمر القلنجيّ، ثم صرفه وولى بدله قطليجا مملوك بكتمر، واستقرّ باستدمر القلنجي في ولاية القاهرة، وأضاف له التحدّث في الجهات، وولى البحرية لرجل من جهته، وولى قوص لآخر وأوقع الحوطة على موجود إسماعيل الواقدي متولى قوص، وأخذ جميع خواصه، وولي طغاي كشف الوجه القبليّ عوضا عن علاء الدين عليّ بن الكورانيّ، وولى ابن المزوق قوص وأعمالها، وولى مجد الدين موسى الهدبانيّ الأشمونين عوضا عن ابن الأزكشيّ، وتسامعت(4/129)
الولاة وأرباب الأعمال بأن الوزير فتح باب الأخذ على الولايات، فهرع الناس إليه من جهات مصر والشام وحلب وقصدوا بابه، ورتب عنده جماعة برسم قضاء الأشغال، فأتاهم أصحاب الأشغال والحوائج، وكان السلطان صغيرا حظه من السلطنة أن يجلس بالإيوان يومين في الأسبوع ويجتمع أهل الحل والعقد مع سائر الأمراء فيه، فإذا انقضت خدمة الإيوان خرج الأمير منكليبغا الفخريّ، والأمير بيغرا، والأمير يبلغا تتر والمجديّ، وأرلان وغيرهم من الأمراء، ويدخل إلى القصر الأمير يلبغاروس نائب السلطنة، والأمير سيف الدين منجك الوزير، والأمير سيف الدين شيخو العمريّ، والأمير الجيبغا المظفريّ، والأمير طيبرق، ويتفق الحال بينهم على ما يرونه، هذا والوزير أخو النائب متمكن تمكنا زائدا، وقدم من دمشق جماعة للسعي عند الوزير في وظائف منهم ابن السلعوس وصلاح الدين بن المؤيد وابن الأجل وابن عبد الحق، وتحدّثوا مع ابن الأطروش محتسب القاهرة في أغراضهم، فسعى لهم حتى تقرّروا فيما عينوا.
ولما دخلت سنة تسع وأربعين عرف الوزير السلطان والأمراء أنه لما ولي الوزارة لم يجد في الإهراء ولا في بيت المال شيئا، وسأل أن يكون هذا بمحضر من الحكام، فرسم للقضاة بكشف ذلك فركبوا إلى الإهراء بمصر، وإلى بيت المال بقلعة الجبل، وقد حضر الدواوين وسائر المباشرين وأشهدوا عليهم أن الأمير منجك لما باشر الوزارة لم يكن بالإهراء ولا ببيت المال قدح غلة ولا دينار ولا درهم، وقرئت المحاضر على السلطان والأمراء، فلما كان بعد ذلك توقف أمر الدولة على الوزير فشكا إلى الأمراء من كثرة الرواتب، فاتفق الرأي على قطع نحو ستين سوّاقا، فقطعهم ووفر لحومهم وعليقهم وسائر ما باسمهم من الكساوي وغيرها، وقطع من العرب الركابة والنجابة، ومن أرباب الوظائف في بيت السلطان، ومن الكتاب والمباشرين ما جملته في اليوم أحد عشر ألف درهم وفتح باب المقايضات باقطاعات الأجناد، وباب النزول عن الإقطاعات بالمال، فحصل من ذلك مالا كثيرا، وحكم على أخيه نائب السلطنة بسبب ذلك، وصار الجنديّ يبيع إقطاعه لكل من أراد، سواء كان المنزول له جنيدا أو عامّيا، وبلغ ثمن الإقطاع من عشرين ألف درهم إلى ما دونها. وأخذ يسعى أن تضاف وظيفة نظر الخاص إلى الوزارة، وأكثر من الحط على ناظر الخاص، فاحترس ابن زنبور منه وشرع في إبعاده مرّة بعد مرّة مع الأمير شيخو، فمنع شيخو منجك من التحدّث في الخاص وخرج عليه فشق ذلك على منجك وافترقا عن غير رضى، فتغير يلبغاروس النائب على شيخو رعاية لأخيه. وسأل أن يعفى من النيابة، ويعفى منجك من الوزارة، واستقراره في الأستادارية والتحدّث في عمل حفر البحر، وأن يستقرّ أستدمر العمريّ المعروف برسلان بصل في الوزارة، فطلب وكان قد حضر من الكشف وألبس خلع الوزارة في يوم الاثنين الرابع والعشرين من شهر ربيع الأوّل، وكان منجك قد عزل من الوزارة في ثالث ربيع الأوّل المذكور، وتولى أمر شدّ البحر، فجبى من الأجناد من كل مائة(4/130)
دينار درهما، ومن التجار والمتعيشين في مصر والقاهرة من كل واحد عشرة دراهم إلى خمسة دراهم إلى درهم، ومن أصحاب الأملاك والدور في مصر والقاهرة على كل قاعة ثلاثة دراهم، وعلى كل طبقة درهمين، وعلى كل مخزن أو اصطبل درهما، وجعل المستخرج في خان مسرور بالقاهرة، والمشدّ على المستخرج الأمير بيلك، فجبى مال كبير، وأما استدمر فإن أحوال الدولة توقفت في أيامه، فسأل في الإعفاء فأعفي وأعيد منجك إلى الوزارة بعد أربعين يوما، وقد تمنع تمنعا كبيرا، ولما عاد إلى الوزارة فتح باب الولايات بالمال، فقصده الناس وسعوا عنده، فولى وعزل وأخذ في ذلك مالا كثيرا. فيقال أنه أخذ من الأمير مازان لما نقله من المنوفية إلى الغربية، ومن ابن الغسانيّ لما نقله من الأشمونين إلى البهنساوية، ومن ابن سلمان لما ولاه منوف ستة آلاف دينار، ووفر إقطاع شادّ الدواوين وجعله باسم المماليك السلطانية، ووفر جوامكهم ورواتبهم، وشرع أوباش الناس في السعي عنده في الوظائف والمباشرات بمال، وأتوه من البلاد فقضى أشغالهم ولم يردّ أحدا طلب شيئا، ووقع في أيامه الفناء العظيم، فانحلت إقطاعات كثيرة، فاقتضى رأي الوزير أن يوفر الجوامك والرواتب التي للحاشية، وكتب لسائر أرباب الوظائف وأصحاب الأشغال والمماليك السلطانية مثالات بقدر جوامك كل منهم، وكذلك لأرباب الصدقات، فأخذ جماعة من الأقباط ومن الكتاب ومن الموقعين إقطاعات في نظير جوامكهم، وتوفر في الدولة مال كبير عن الجوامك والرواتب.
ولما دخلت سنة خمسين رسم الأمير منجك الوزير لمتولي القاهرة بطلب أصحاب الأرباع، وكتابة جميع أملاك الحارات والأزقة، وسائر أخطاط مصر والقاهرة، ومعرفة أسماء سكانها، والفحص عن أربابها ليعرف من توفر عنه ملك بموته في الفناء، فطلبوا الجميع وأمعنوا في النظر، فكان يوجد في الحارة الواحدة والزقاق الواحد ما يزيد على عشرين دارا خالية لا يعرف أربابها، فختموا على ما وجدوه من ذلك ومن الفنادق والخانات والمخازن حتى يحضر أربابها. وفي شعبان عزل ولاة الأعمال وأحضرهم إلى القاهرة، وولى غيرهم وأضاف إلى كل وال كشف الجسور التي في عمله، وضمن الناس سائر جهات القاهرة ومصر، بحيث أنه لا يتحدّث أحد معه من المقدّمين والدواوين والشادّين، وزاد في المعاملات ثلاثمائة ألف درهم، وخلع عليه ونودي له بمصر والقاهرة، فاشتدّ ظلمه وعسفه وكثرت حوادثه. فلما كانت ليالي عيد الفطر، عرّف الوزير الأمراء أن سماط العيد ينصرف عليه جملة ولا ينتفع به أحد، فأبطله ولم يعمل تلك السنة. وفي ذي القعدة توقف حال الدولة ووقف مماليك السلطان وسائر المعاملين والحوائجكاشية، وانزعج السلطان والأمراء بسبب ذلك على الوزير، فاحتج بكثرة الكلف، وطلب الموفق ناظر الدولة فقال: إن الإنعامات قد كثرت والكلف تزايدت، وقد كانت الحوائجخاناه في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون في اليوم ينصرف فيها مبلغ ثلاثة عشر ألف درهم، واليوم ينصرف فيها اثنان(4/131)
وعشرون ألف درهم، فكتبت أوراق بمتحصل الدولة ومصروفها، وبمتحصل الخاص ومصروفه، فجاءت أوراق الدولة ومتحصلها عشرة آلاف ألف درهم، وكلفها أربعة عشر ألف ألف درهم وستمائة ألف درهم، ووجد الأنعام من الخاص والجيش بما خرج من البلاد زيادة على إقطاعات الأمراء، فكان زيادة على عشرين ألف دينار سوى جملة من الغلال، وأن الذي استجدّ على الدولة من حين وفاة الملك الناصر في ذي الحجة سنة إحدى وأربعين إلى مستهل المحرّم سنة خمسين وسبعمائة. وكانت جملة الإنعامات والإقطاعات بنواحي الصعيد والفيوم وبلاد الملك والوجه البحريّ وما أعطى من الرزق للخدّام والجواري سبعمائة ألف ألف وألف ألف وستمائة ألف، معينة بأسماء أربابها من أمير وخادم وجارية، وكانت النساء قد أسرفن في عمل القمصان والبغالطيق، حتى كان يفضل من القميص كثير على الأرض، وسعة الكم ثلاثة أذرع، ويسمينه البهطلة، وكان يغرم على القميص ألف درهم وأكثر، وبلغ إزار المرأة إلى ألف درهم، وبلغ الخف والسرموزة إلى خمسمائة درهم، وما دونها إلى مائة درهم. فأمر الوزير منجك بقطع أكمام النساء وأخرق بهنّ، وأمر الوالي بتتبع ذلك، ونودي بمنع النساء من عمل ذلك، وقبض على جماعة منهنّ، وركب على سور القاهرة صور نساء عليهنّ تلك القمصان بهيئة نساء قد قتلن عقوبة على ذلك، فانكففن عن لبسها، ومنع الأساكفة من عمل الأخفاف المثمنة، ونودي في القياسر من باع إزار حرير ماله للسلطان، فنودي على إزار ثمنه سبعمائة وعشرون درهما فبلغ ثمانين درهما ولم يجسر أحد أن يشتريه، وبالغ الوزير في الفحص عن ذلك حتى كشف دكاكين غسالي الثياب وقطع ما وجد من ذلك، فامتنع النساء من لبس ما أحدثنه من تلك المنكرات، ولما عظم ضرر الفار أيضا من كثرة شكاية الناس فيه، فلم يسمع فيه الوزير قولا، وقام في أمره الأمير مغلطاي أميراخور، فاستوحش منه الوزير، واتفق أنه كان قد حج محمد بن يوسف مقدّم الدولة في محمل كبير بلغ عليق جماله في اليوم مائتي عليقة، ولما قدم في المحرّم مع الحاج أهدى للنائب وللوزير وللأمير طاز وللأمير صرغتمش هدايا جليلة، ولم يهد للأمير شيخو، ولا للأمير مغلطاي شيئا، ثم لما عاب عليه الناس ذلك أهدى بعد عدّة أيام للأمير شيخو هديه فردّها عليه، ثم أنه أنكر على الوزير في مجلس السلطان ما يفعله ولاة البر وما عليه مقدّم الدولة من كثرة المال، وأغلظ في القول، فرسم بعزل الولاة والقبض على المقدّم محمد بن يوسف وابن عمه المقدّم أحمد بن زيد، فلم يسع الوزير غير السكوت.
فلما كان في رابع عشري شوّال سنة إحدى وخمسين، قبض على الوزير منجك وقيد ووقعت الحوطة على سائر حواصله، فوجدت له زردخاناه حمل خمسين جملا، ولم يظهر من النقد كثير مال، فأمر بعقوبته. فلما خوّف أقرّ بصندوق فيه جوهر وقال: سائر ما كان يتحصل لي من النقد كنت اشتري به أملاكا وضياعا وأصناف المتاجر، فأحيط بسائر أمواله وحمل إلى الإسكندرية مقيدا، واستقرّ الأمير بلبان السنانيّ نائب الكبيرة أستادارا عوض منجك(4/132)
بعد حضوره منها، وأضيفت الوزارة إلى القاضي علم الدين بن زنبور ناظر الخاص، فلم يزل منجك مسجونا بالإسكندرية إلى أن خلع الملك الناصر حسن وأقيم بدله في المملكة أخوه الملك الصالح صالح، فأمر بالإفراج عن الأمير شيخو والأمير منجك فحضرا إلى القاهرة في رجب سنة اثنتين وخمسين، ولما استقرّ الأمير منجك بالقاهرة بعث إليه الأمير شيخو خمس رؤوس خيل وألفي دينار، وبعث إليه جميع الأمراء بالتقادم، وأقام بطالا يجلس على حصير فوقه ثوب سرج عتيق، وكلما أتاه أحد من الأمراء يبكي ويتوجع ويقول أخذ جميع مالي حتى صرت على الحصير، ثم كتب فتوى تتضمن أن رجلا مسجونا في قيد هدّد بالقتل إن لم يبع أملاكه، وأنّه خشي على نفسه القتل، فوكل في بيعها. فكتب له الفقهاء لا يصح بيع المكره. ودار على الأمراء وما زال بهم حتى تحدّثوا له مع السلطان في ردّ أملاكه عليه، فعارضهم الأمير صرغتمش، ثم رضي أن يردّ عليه من أملاكه ما أنعم به السلطان على مماليكه، فاستردّ عدّة أملاك وأقام إلى أن قام يلبغاروس بحلب فاختفى منجك وطلب فلم يوجد، وأطلق النداء عليه بالقاهرة ومصر وهدّد من أخفاه، وألزم عربان العائد باقتفاء أثره فلم يوقف له على خبر، وكبس عليه عدّة أماكن بالقاهرة ومصر وفتش عليه حتى في داخل الصهريج الذي بجامعه فأعيى أمره، وأدرك السلطان السفر لحرب يلبغاروس فشرع في ذلك إلى يوم الخميس رابع شعبان، فخرج الأمير طاز بمن معه.
وفي يوم الاثنين سابعه، عرض الأمير شيخو والأمير صرغتمش أطلابهما، وقد وصل الأميرا طاز إلى بلبيس فحضر إليه من أخبره أنه رأى بعض أصحاب منجك، فسير إليه وأحضره وفتشه فوجد معه كتاب منجك إلى أخيه يلبغاروس، وفيه أنه مختف عند الحسام الصفديّ استاداره، فبعث الكتاب إلى الأمير شيخو فوافاه والأطلاب خارجة، فاستدعى بالحسام وسأله فأنكر فعاقبه الأمير صرغتمش فلم يعترف، فركب إلى بيت الحسام بجوار الجامع الأزهر وهجمه فإذا بمنجك ومعه مملوك، فكتفه وسار به مشهورا بين الناس وقد هرعوا من كلّ مكان إلى القلعة، فسجن بالإسكندرية إلى أن شفع فيه الأمير شيخو فأفرج عنه في ربيع الأوّل سنة خمس وخمسين، ورسم أن يتوجه إلى صفد بطالا، فسار إليها من غير أن يعبر إلى القاهرة، فلما خلع الملك الصالح صالح وأعيد السلطان حسن في شوّال منها، نقل منجك من صفد وأنعم عليه بنيابة طرابلس عوضا عن أيتمش الناصريّ، فسار إليها وأقام بها إلى أن قبض على الأمير طاز نائب حلب في سنة تسع وخمسين، فولي منجك عوضا عنه ولم يزل بحلب إلى أن فرّ منها في سنة ستين، فلم يعرف له خبر، وعوقب بسببه خلق كثير، ثم قبض عليه بدمشق في سنة إحدى وستين فحمل إلى مصر وعليه بشت صوف عسليّ، وعلى رأسه مئزر صوف، فلم يؤاخذه السلطان وأعطاه إمرة طبلخاناه ببلاد الشام، وجعله طرخاناه يقيم حيث شاء من البلاد الإسلامية، وكتب له بذلك. فلما قتل السلطان حسن وأقيم من بعده في المملكة الملك المنصور محمد بن المظفر حاجي في جمادى الأولى سنة(4/133)
اثنتين وستين، خامر الأمير بيدمر نائب الشام على الأمير يلبغا العمريّ القائم بتدبير دولة الملك المنصور، ووافقه جماعة من الأمراء منهم الأمير منجك، فخرج الأمير يلبغا بالمنصور والعساكر من قلعة الجبل إلى البلاد الشامية، فوافى دمشق ومشى الناس بينه وبين الأمير بيدمر حتى تمّ الصلح، وحلف الأمير يلبغا أنه لا يؤذي بيدمر ولا منجك، فنزلا من قلعة دمشق وقيدهما وبعث بهما إلى الإسكندرية فسجنا بها إلى أن خلع الأمير يلبغا المنصور وأقام بدله الملك الأشرف شعبان بن حسين وقتل الأمير يلبغا، فأفرج الملك الأشرف عن منجك وولاه نيابة السلطنة بدمشق عوضا عن الأمير عليّ الماردانيّ في جمادى الأولى سنة تسع وستين، فلم يزل في نيابة دمشق إلى أن حضر إلى السلطان زائرا في سنة سبعين بتقادم كثيرة جليلة، وعاد إلى دمشق وأقام بها إلى أن استدعاه السلطان في سنة خمس وسبعين إلى مصر وفوّض إليه نيابه السلطنة بديار مصر، وعمله أتابك العساكر وجعل تدبير المملكة إليه، وأن يخرج الأمّهات للبلاد الشامية، وأن يولي ولاة أقاليم مصر والكشاف ويخرج الإقطاعات بمصر من عبرة ستمائة دينار إلى ما دونها، وكانت عادة النوّاب قبله أن لا يخرج من الإقطاعات إلّا ما عبرته أربعمائة دينار فما دونها، فعمل النيابة على قالب جائر وحرمة وافرة إلى أن مات حتف أنفه في يوم الخميس التاسع والعشرين من ذي الحجة سنة ست وسبعين وسبعمائة، وله من العمر نيف وستون سنة، وشهد جنازته سائر الأعيان، ودفن بتربته المجاورة لجامعه هذا، وله سوى الجامع المذكور من الآثار بديار مصر خان منجك في القاهرة، ودار منجك برأس سويقة العزي بالقرب من مدرسة السلطان حسن، وله بالبلاد الشامية عدّة آثار من خانات وغيرها رحمه الله.
الجامع الأخضر
هذا الجامع خارج القاهرة بخط فم الخور، عرف بذلك لأنّ بابه وقبته فيهما نقوش وكتابات خضر، والذي أنشأه خازندار الأمير شيخو واسمه ... «1» .
جامع البكجريّ
هذا الجامع بحكر البكجريّ قريبا من الدكة، تعطلت الصلاة فيه منذ خربت تلك الجهات.
جامع السروجيّ
هذا الجامع بحكر ... «2» .(4/134)
جامع كرجي
هذا الجامع بحكر أقوش.
جامع الفاخريّ
هذا الجامع بسويقة الخادم الطواشي شهاب الدين فاخر المنصوريّ مقدّم المماليك السلطانية، ومات في سابع ذي الحجة سنة سبع وثمانمائة، وكان ذا مهابة وأخلاق حسنة مع سطوة شديدة، ولهم بلبان الفاخريّ الأمير سيف الدين نقيب الجيوش، مات في سنة سبع وتسعين وستمائة، وولي نقابة الجيش بعد طيبرس الوزيريّ، وكان جوادا عارفا بأمر الأجناد خيرا كثير الترف.
جامع ابن عبد الظاهر
هذا الجامع بالقرافة الصغرى قبليّ قبر الليث بن سعد، كان موضعه يعرف بالخندق، أنشأه القاضي فتح الدين محمد بن عبد الله بن عبد الظاهر بن نشوان بن عبد الظاهر الجذاميّ السعديّ الروحيّ من ولد روح بن زنباع الجذاميّ، بجوار قبر أبيه، وأوّل ما أقيمت به الخطبة في يوم الجمعة الرابع والعشرين من صفر سنة ثلاث وثمانين وستمائة، وكان يوما مشهودا لكثرة من حضر من الأعيان. ولد بالقاهرة في ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وسمع من ابن الجميزيّ وغيره، وحدّث وكتب في الإنشاء، وساد في دولة المنصور قلاون بعقله ورأيه وهمته، وتقدّم على والده القاضي محيي الدين وهو ماهر في الإنشاء والكتابة، بحيث كان من جملة من يصرّفهم بأمره ونهيه، وكان الملك المنصور يعتمد عليه ويثق به، ولما ولي القاضي فخر الدين بن لقمان الوزارة قال له الملك المنصور: من يلي عوضك كتابة السرّ؟ فقال القاضي: فتح الدين بن عبد الظاهر، فولّاه كتابة السرّ عوضا عن ابن لقمان، وتمكن من السلطان وحظي عنده، حتى أنّ الوزير فخر الدين بن لقمان ناول السلطان كتابا فأحضر ابن عبد الظاهر لقراءته على عادته، فلما أخذ الكتاب من السلطان أمر الوزير أن يتأخر حتى يقرأه فتأخر الوزير، ثم إن ابن لقمان صرف عن الوزارة وأعيد إلى ديوان الإنشاء فتأدّب معه، فلما ولي وزارة الملك الأشرف خليل بن قلاون شمس الدين بن السلعوس قال لفتح الدين: اعرض عليّ كل يوم ما تكتبه. فقال: لا سبيل لك إلى ذلك ولا يطلع على أسرار السلطان إلّا هو، فإن اخترتم وإلّا عينوا عوضي، فلما بلغ السلطان ذلك قال: صدق ولم يزل على حاله إلى أن مات، وأبوه حيّ بدمشق في النصف من شهر رمضان سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، فوجد في تركته قصيدة مرثية قد عملها في رفيقه تاج الدين أحمد بن سعيد بن محمّد بن الأثير لما مرض وطال مرضه، فاتفق أن عوفي ابن الأثير ولم يتأخر ابن عبد الظاهر بعد عافيته سوى ليال يسيرة ومرض ومات، فرثاه ابن الأثير بعد موته وولى(4/135)
وظيفة كتابة السرّ عوضا عنه، ولم يكن ابن عبد الظاهر مجيدا في صناعة الإنشاء إلّا أنه دبر الديوان وباشره أحسن مباشرة ومن شعره:
إن شئت تنظرني وتنظر حالتي ... فانظر إذا هبّ النسيم قبولا
فتراه مثلي رقة ولطافة ... ولأجل قلبك لا أقول عليلا
فهو الرسول إليك مني ليتني ... كنت اتخذت مع الرسول سبيلا
ولم يزل هذا الجامع عامرا إلى أن حدثت المحن في سنة ست وثمانمائة، واختلت القرافة لخراب ما حوله، وهو اليوم قائم على أصوله.
جامع بساتين الوزير التي على بركة الحبس «1» جامع الخندق
هذا الجامع بناحية الخندق خارج القاهرة، ولم يزل عامرا بعمارة الخندق، فلما خربت مساكن الخندق تلاشى أمره ونقلت منه الجمعة وبقي معطلا إلى شعبان سنة خمس عشرة وثمانمائة، فأخذ الأمير طوغان الحسنيّ الدوادار عمده الرخام وسقوفه وترك جدرانه ومنارته، وهي باقية وعما قليل تدثر كما دثر غيرها مما حولها.
جامع جزيرة الفيل «2» جامع الطواشي
هذا الجامع خارج القاهرة فيما بين باب الشعرية وباب البحر، أنشأه الطواشي جوهر السحرتيّ اللالا، وهو من خدّام الملك الناصر محمد بن قلاون، ثم إنه تأمّر في تاسع عشري شهر رجب سنة خمس وأربعين وسبعمائة.
جامع كراي
هذا الجامع بالريدانية خارج القاهرة، عمره الأمير سيف الدين كراي المنصوريّ في سنة إحدى وسبعمائة لكثرة ما كان هناك من السكان، فلما خربت تلك الأماكن تعطل هذا الجامع وهو الآن قائم وجميع ما حوله داثر، وعما قليل يدثر.
جامع القلعة
هذا الجامع بقلعة الجبل أنشأه الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة ثمان عشرة(4/136)
وسبعمائة، وكان أوّلا مكانه جامع قديم وبجواره المطبخ السلطانيّ والحوائجخاناه والفراشخاناه، فهدم الجميع وأدخلها في هذا الجامع، وعمره أحسن عمارة وعمل فيه من الرخام الفاخر الملوّن شيئا كثيرا، وعمر فيه قبة جليلة وجعل عليه مقصورة من حديد بديعة الصنعة، وفي صدر الجامع مقصورة من حديد أيضا برسم صلاة السلطان، فلما تمّ بناؤه جلس فيه السلطان بنفسه واستدعى جميع المؤذنين بالقاهرة ومصر وسائر الخطباء والقرّاء، وأمر الخطباء فخطب كلّ منهم بين يديه، وقام المؤذنون فأذنوا، وقرأ القرّاء، فاختار الخطيب جمال الدين محمد بن محمد بن الحسن القسطلانيّ خطيب جامع عمرو وجعله خطيبا بهذا الجامع، واختار عشرين مؤذنا رتبهم فيه، وجعل به قراء ودرسا وقاريء مصحف، وجعل له من الأوقاف ما يفضل عن مصارفه، فجاء من أجلّ جوامع مصر وأعظمها وبه إلى اليوم يصلي سلطان مصر صلاة الجمعة، والذي يخطب فيه ويصلي بالناس الجمعة قاضي القضاة الشافعيّ.
جامع قوصون
هذا الجامع داخل باب القرافة تجاه خانقاه قوصون، أنشأه الأمير سيف الدين قوصون، وعمر بجانبه حماما، فعمرت تلك الجهة من القرافة بجماعة الخانقاه والجامع، وهو باق إلى يومنا.
جامع كوم الريش
هذا الجامع عمارة دولات شاه.
جامع الجزيرة الوسطى
أنشأه الطواشي مثقال خادم تذكار ابنة الملك الظاهر بيبرس وهو عامر إلى يومنا هذا.
جامع ابن صارم
هذا الجامع بخط بولاق خارج القاهرة أنشأه محمد بن صارم شيخ بولاق فيما بين بولاق وباب البحر.
جامع الكيمختي
هذا الجامع يعرف اليوم بجامع الجنيّة، وهو بجانب موضع الكيمخت على شاطىء الخليج من جملة أرض الطبالة، كان موضعه دارا اشتراها معلم الكيمخت، وكان يعرف بالحمويّ، وعملها جامعا فضمن المعلم بعده رجل يعرف بالرومي فوقف عليه مواضع وجدّد له مئذنة في جمادى الأولى سنة اثنتين وثمانمائة، ووسع في الجامع قطعة كانت(4/137)
منشرا، وكان قبل ذلك قد جدّد عمارته شخص يعرف بالفقيه زين الدين ريحان بعد سنة تسعين وسبعمائة، وعمر بجانبه مساكن، وهو الآن عامر بعمارة ما حوله.
جامع الست مسكة
هذا الجامع بالقرب من قنطرة آق سنقر التي على الخليج الكبير خارج القاهرة، أنشأته الست مسكة جارية الملك الناصر محمد بن قلاون، وأقيمت فيه الجمعة عاشر جمادى الآخرة سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، وقد ذكرت مسكة هذه عند ذكر الأحكار.
جامع ابن الفلك
هذا الجامع بسويقة الجميزة من الحسينية خارج القاهرة، أنشأه مظفر الدين بن الفلك.
جامع التكروريّ
هذا الجامع في ناحية بولاق التكروريّ، وهذه الناحية من جملة قرى الجيزة، كانت تعرف بمنية بولاق، ثم عرف ببولاق التكروريّ، فإنه كان نزل بها الشيخ أبو محمد يوسف بن عبد الله التكروريّ، وكان يعتقد فيه الخير وجرّبت بركة دعائه وحكيت عنه كرامات كثيرة، منها أن امرأة خرجت من مدينة مصر تريد البحر، فأخذ السودان ابنها وساروا به في مركب وفتحوا القلع، فجرت السفينة وتعلقت المرأة بالشيخ تستغيث به، فخرج من مكانه حتى وقف على شاطيء النيل ودعا الله سبحانه وتعالى فسكن الريح ووقفت السفينة عن السير، فنادى من في المركب يطلب منهم الصبيّ فدفعوه إليه وناوله لأمّه، وكان بمصر رجل دباغ أتاه عفص فأخذه منه أصحاب السلطان، فأتى إلى الشيخ وشكا إليه ضرورته، فدعا ربه فردّ الله عليه عفصه بسؤال أصحاب السلطان له في ذلك، وكان يقال له لم لا تسكن المدينة فيقول: إني أشمّ رائحة كريهة إذا دخلتها. ويقال أنه كان في خلافة العزيز بن المعز، وأن الشريف محمد بن أسعد الجوانيّ جمع له جزأ في مناقبه، ولما مات بني عليه قبة وعمل بجانبه جامع جدّده ووسعه الأمير محسن الشهابيّ مقدّم المماليك، وولى تقدمة المماليك عوضا عن الطواشي عنبر السحرتيّ، أوّل صفر سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة ومات في ... «1» ثم أن النيل مال على ناحية بولاق هذه فيما بعد سنة تسعين وسبعمائة، وأخذ منها قطعة عظيمة كانت كلها مساكن، فخاف أهل البلدان أن يأخذ ضريح الشيخ والجامع لقربهما منه، فنقلوا الضريح والجامع إلى داخل البلد وهو باق إلى يومنا هذا.(4/138)
جامع البرقية
هذا الجامع بالقرب من باب البرقية بالقاهرة، عمره الأمير مغلطاي الفخريّ أخو الأمير الماس الحاجب، وكمل في المحرّم سنة ثلاثين وسبعمائة، وكان ظالما عسوفا متكبرا جبارا، قبض عليه مع أخيه الماس في سنة أربع وثلاثين وسبعمائة وقتل معه.
جامع الحرّانيّ
هذا الجامع بالقرافة الصغرى في بحري الشافعيّ، عمره ناصر الدين بن الحرّانيّ الشرابيشيّ في سنة تسع وعشرين وسبعمائة.
جامع بركة
هذا الجامع بالقرب من جامع ابن طولون، يعرف خطه بحدرة ابن قميحة، عمره شخص من الجند يعرف ببركة، كان يباشر أستادارية الأمراء ومات بعد سنة إحدى وثمانمائة.
جامع بركة الرطليّ
هذا الجامع كان يعرف موضعه ببركة الفول من جملة أرض الطبالة، فلما عمرت بركة الرطليّ كما تقدّم ذكره أنشئ هذا الجامع، وكان ضيقا قصير السقف، وفيه قبة تحتها قبر يزار، وهو قبر الشيخ خليل بن عبد ربه خادم الشيخ عبد العال، وتوفي في المحرّم سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، فلما سكن الوزير الصاحب سعد الدين إبراهيم بن بركة البشريّ بجوار هذا الجامع هدمه ووسع فيه وبناه هذا البناء في سنة أربع عشرة وثمانمائة. وولد البشريّ في سابع ذي القعدة سنة ست وستين وسبعمائة، وتنقل في الخدم الديوانية حتى ولي نظر الدولة إلى أن قتل الأمير جمادي الدين يوسف الأستادار، فاستقرّ بعده في الوزارة بسفارة فتح الدين فتح الله بن كاتب السرّ في يوم الثلاثاء رابع عشر جمادى الأولى سنة اثنتي عشرة وثمانمائة، فباشر الوزارة بضبط جيد لمعرفته الحساب والكتابة، إلّا أنها كانت أيام محن احتاج فيها إلى وضع يده وأخذ الأموال بأنواع الظلم، فلما قتل الملك الناصر فرج واستبدّ الملك المؤيد شيخ صرفه عن الوزارة في يوم الخميس خامس جمادى الأولى سنة ست عشرة وثمانمائة، ودفن بالقرافة، وهذا الجامع عامر بعمارة ما حوله.
جامع الضوة
هذا الجامع فيما بين الطبلخاناه السلطانية وباب القلعة المعروف بباب المدرّج على رأس الضوّة، أنشأه الأمير الكبير شيخ المحمودي لما قدم من دمشق بعد قتل الملك الناصر فرج، وإقامة الخليفة أمير المؤمنين المستعين بالله العباسيّ ابن محمد في سنة خمس عشرة(4/139)
وثمانمائة، وسكن بالإصطبل السلطانيّ فشرع في بناء دار يسكنها، فلما استبدّ بسلطنة مصر وتلقب بالملك المؤيد استغنى عن هذه الدار، وكانت لم تكمل، فعملها جامعا وخانقاه، وصارت الجمعة تقام به.
جامع الحوش
هذا الجامع في داخل قلعة الجبل بالحوش السلطانيّ، أنشأه السلطان الملك الناصر فرج بن برقوق في سنة اثنتي عشرة وثمانمائة، فصار يصلي فيه الخدّام وأولاد الملوك من أولاد الملك الناصر محمد بن قلاون إلى أن قتل الناصر فرج.
جامع الاصطبل
هذا الجامع في الإصطبل السلطانيّ من قلعة الجبل عمره ... «1» .
جامع ابن التركمانيّ»
هذا الجامع بالمقس خارج القاهرة.
جامع ... «3»
هذا الجامع بخط السبع سقايات فيما بين القاهرة ومصر يطلّ على بركة قارون أنشأه ... «4» .
جامع الباسطيّ
هذا الجامع في بولاق خارج القاهرة، أدركت موضعه وهو مطلّ على النيل طول السنة، أنشأه شخص من عرض الفقهاء يعرف ... «5» في سنة سبع عشرة وثمانمائة.
جامع الحنفيّ
هذا الجامع خارج القاهرة أنشأه الشيخ شمس الدين محمد بن حسن بن عليّ الحنفيّ، في سنة سبع عشرة وثمانمائة.
جامع ابن الرفعة
هذا الجامع خارج القاهرة بحكر الزهريّ، أنشأه الشيخ فخر الدين عبد المحسن بن الرفعة بن أبي المجد العدويّ.(4/140)
جامع الإسماعيليّ
أنشأه الأمير أرغون الإسماعيليّ على البركة الناصرية في شعبان سنة ثمان وأربعين وسبعمائة.
جامع الزاهد
هذا الجامع بخط المقس خارج القاهرة، كان موضعه كوم تراب فنقله الشيخ المعتقد أحمد بن ... «1» المعروف بالزاهد، وأنشأ موضعه هذا الجامع، فكمل في شهر رمضان سنة ثمان عشرة وثمانمائة، وهدم بسببه عدّة مساجد قد خرب ما حولها، وبني بأنقاضها هذا الجامع، وكان ساكنا مشهورا بالخير يعظ الناس بالجامع الأزهر وغيره، ولطائفة من الناس فيه عقيدة حسنة، ولم يسمع عنه إلّا خير، مات يوم الجمعة سابع عشر شهر ربيع الأوّل سنة تسع عشرة وثمانمائة، أيام الطاعون ودفن بجامعه.
جامع ابن المغربيّ
هذا الجامع بالقرب من بركة قرموط مطلّ على الخليج الناصريّ، أنشأه صلاح الدين يوسف بن المغربيّ رئيس الأطباء بديار مصر وبنى بجانبه قبة دفن فيها وعمل به درسا وقرّاء ومنبرا يخطب عليه في يوم الجمعة، وكان عامرا بعمارة ما حوله، فلما خرب خط بركة قرموط تعطل وهو آيل إلى أن ينقض ويباع كما بيعت أنقاض غيره.
جامع الفخريّ
هذا الجامع بجوار دار الذهب التي عرفت بدار بها در الأعسر المجاورة لقبو الذهب من خط بين السورين فيما بين الخوخة وباب سعادة، ويتوصل إليه أيضا من درب العدّاس المجاورة لحارة الوزيرية، أنشأه الأمير فخر الدين عبد الغنيّ بن الأمير تاج الدين عبد الرزاق بن أبي الفرج الأستادار في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة، وخطب فيه يوم الجمعة ثامن عشري شعبان من السنة المذكورة، وعمل فيه عدّة دروس، وأوّل من خطب فيه الشيخ ناصر الدين محمد بن عبد الوهاب بن محمد البارنباريّ الشافعيّ، ثم تركه تنزها عنه، وفي يوم الأحد ثامن شهر رمضان جلس فيه الشيخ شمس الدين محمد بن عبد الدائم البرماويّ الشافعيّ للتدريس، وأضيف إليه مشيخة التصوّف، وقرّر قاضي القضاة شمس الدين محمد الديريّ المقدسيّ الحنفيّ في تدريس الحنفية، وفي تدريس المالكية قاضي القضاة جمال الدين عبد الله بن مقداد المالكي، وحضر البرماويّ وظيفة التصوّف بعد عصر يومه، فمات الأمير فخر الدين في نصف شوّال منها ولم يكمل فدفن هناك.(4/141)
الجامع المؤيدي
هذا الجامع بجوار باب زويلة من داخله، كان موضعه خزانة شمائل حيث يسجن أرباب الجرائم، وقيسارية سنقر الأشقر، ودرب الصفيرة، وقيسارية بهاء الدين أرسلان.
أنشأه السلطان الملك المؤيد أبو النصر شيخ المحموديّ الظاهري، فهو الجامع لمحاسن البنيان، الشاهد بفخامة أركانه وضخامة بنيانه، أن منشئه سيد ملوك الزمان، يحتقر الناظر له عند مشاهدته عرش بلقيس وإيوان كسرى أنو شروان، ويستصغر من تأمل بديع أسطوانه الخورنق وقصر غمدان، ويعجب من عرف أوّليته من تبديل الأبدال، وتنقل الأمور من حال إلى حال بينا هو سجن تزهق فيه النفوس ويضام المجهود، إذ صار مدارس آيات وموضع عبادات ومحل سجود، فالله يعمره ببقاء منشئه ويعلي كلمة الأيمان بدوام ملك بانيه.
همم الملوك إذا أراد واذكرها ... من بعدهم فبألسن البنيان
أو ما ترى الهرمين قد بقيا وكم ... ملك محاه حوادث الأزمان
إنّ البناء إذا تعاظم قدره ... أضحى يدل على عظيم الشان
وأوّل ما ابتدئ به في أمر هذا الجامع، أن رسم في رابع شهر ربيع الأوّل سنة ثمان عشرة وثمانمائة، بانتقال سكان قيسارية سنقر الأشقر التي كانت تجاه قيسارية الفاضل، ثم نزل جماعة من أرباب الدولة في خامسه من قلعة الجبل، وابتدئ في الهدم في القيسارية المذكورة، وما يجاورها، فهدمت الدور التي كانت هناك في درب الصفيرة، وهدمت خزانة شمائل فوجد بها من رمم القتلى ورؤوسهم شيء كثير، وأفرد لنقل ما خرج من التراب عدّة من الجمال والحمير بلغت علائقهم في كل يوم خمسمائة عليقة. وكان السبب في اختيار هذا المكان دون غيره أن السلطان حبس في خزانة شمائل هذه أيام تغلّب الأمير منطاش وقبضه على المماليك الظاهرية، فقاسى في ليلة من البق والبراغيث شدائد، فنذر لله تعالى إن تيسر له ملك مصر أن يجعل هذه البقعة مسجدا لله عز وجلّ، ومدرسة لأهل العلم، فاختار لذلك هذه البقعة وفاء لنذره.
وفي رابع جمادى الآخرة كان ابتداء حفر الأساس، وفي خامس صفر سنة تسع عشرة وثمانمائة. وقع الشروع في البناء، واستقرّ فيه بضع وثلاثون بنّاء، ومائة فاعل، ووفيت لهم ولمباشريهم أجورهم من غير أن يكلف أحد في العمل فوق طاقته، ولا سخّر فيه أحد بالقهر، فاستمرّ العمل إلى يوم الخميس سابع عشر ربيع الأوّل، فأشهد عليه السلطان أنه وقف هذا مسجدا لله تعالى، ووقف عليه عدّة مواضع بديار مصر وبلاد الشام، وتردّد ركوب السلطان إلى هذه العمارة عدّة مرار. وفي شعبان طلبت عمد الرخام وألواح الرخام لهذا الجامع، فأخذت من الدور والمساجد وغيرها، وفي يوم الخميس سابع عشري شوّال نقل(4/142)
باب مدرسة السلطان حسن بن محمد بن قلاون والتنور النحاس المكفت إلى هذه العمارة، وقد اشتراهما السلطان بخمسمائة دينار، وهذا الباب هو الذي عمل لهذا الجامع، وهذا التنور هو التنور المعلق تجاه المحراب، وكان الملك الظاهر برقوق قد سدّ باب مدرسة السلطان حسن وقطع البسطة التي كانت قدّامه كما تقدّم، فبقي مصراعا الباب والسدّ من ورائهما حتى نقلا مع التنور الذي كان معلقا هناك. وفي ثامن عشرية دفنت ابنة صغيرة للسلطان في موضع القبة الغربية من هذا الجامع، وهي ثاني ميت دفن بها، وانعقدت جملة ما صرف في هذه العمارة إلى سلخ ذي الحجة سنة تسع عشرة على أربعين ألف دينار، ثم نزل السلطان في عشري المحرّم إلى هذه العمارة ودخل خزانة الكتب التي عملت هناك، قد حمل إليها كتبا كثيرة في أنواع العلوم، كانت بقلعة الجبل، وقدّم له ناصر الدين محمد البارزيّ كاتب السرّ خمسمائة مجلد، قيمتها ألف دينار، فأقرّ ذلك بالخزانة وأنعم على ابن البارزيّ بأن يكون خطيبا وخازن المكتب هو ومن بعده من ذرّيته.
وفي سابع عشر شهر ربيع الآخر منها سقط عشرة من الفعلة، مات منهم أربعة وحمل ستة بأسوإ حال. وفي يوم الجمعة ثاني جمادى الأولى أقيمت الجمعة به، ولم يكمل منه سوى الإيوان القبليّ، وخطب وصلّى بالناس عز الدين عبد السلام المقدسيّ أحد نوّاب القضاة الشافعية نيابة عن ابن البارزيّ كاتب السرّ. وفي يوم السبت خامس شهر رمضان منها ابتدئ بهدم ملك بجوار ربع الملك الظاهر بيبرس، مما اشتراه الأمير فخر الدين عبد الغنيّ بن أبي الفرج الاستادار ليعمل ميضأة، واستمرّ العمل هناك ولازم الأمير فخر الدين الإقامة بنفسه، واستعمل مماليكه والزامه فيه وجدّ في العمل كلّ يوم، فكملت في سلخه بعد خمسة وعشرين يوما، ووقع الشروع في بناء حوانيت على بابها من جهة تحت الربع، ويعلوها طباق، وبلغت النفقة على الجامع إلى أخريات شهر رمضان هذا، سوى عمارة الأمير فخر الدين المذكور، زيادة على سبعين ألف دينار، وتردّد السلطان إلى النظر في هذا الجامع غير مرّة. فلما كان في أثناء شهر ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين ظهر بالمئذنة التي أنشئت على بدنة باب زويلة التي تلي الجامع إعوجاج إلى جهة دار التفاح، فكتب محضر بجماعة المهندسين أنها مستحقة الهدم، وعرض على السلطان فرسم بهدمها، فوقع الشروع في الهدم يوم الثلاثاء رابع عشرية، واستمرّ في كل يوم، فسقط يوم الخميس سادس عشرية منها حجر هدم ملكا تجاه باب زويلة، هلك تحته رجل، فغلق باب زويلة خوفا على المارّة من يوم السبت إلى آخر يوم الجمعة سادس عشري جمادى الأولى، مدّة ثلاثين يوما، ولم يعهد وقوع مثل هذا قط منذ بنيت القاهرة. وقال أدباء العصر في سقوط المنارة المذكورة شعرا كثيرا، منه ما قاله حافظ الوقت شهاب الدين أحمد بن عليّ بن حجر الشافعيّ رحمه الله:
لجامع مولانا المؤيد رونق ... منارته تزهو من الحسن والزين(4/143)
تقول وقد مالت عليهم تمهّلوا ... فليس على جسمي أضرّ من العين
فتحدّث الناس أنه في قوله بالعين قصد التورية لتخدم في العين التي تصيب الأشياء فتتلفها، وفي الشيخ بدر الدين محمود العينتابيّ فإنه يقال له العينيّ أيضا.
فقال المذكور يعارضه:
منارة كعروس الحسن إذ جليت ... وهدمها بقضاء الله والقدر
قالوا أصيبت بعين قلت ذا غلط ... ما أوجب الهدم إلّا خشية الحجر
يعرّض بالشهاب ابن حجر وكل منهما لم يصب الغرض، فإن العينيّ بدر الدين محمودا ناظر الأحباس، والشيخ شهاب الدين أحمد بن حجر، كل منهما ليس له في المئذنة تعلق حتى تخدم التورية، وأقعد منهما بالتورية من قال:
على البرج من بابي زويلة أسّست ... منارة بيت الله والمعهد المنجي
فأخلى بها البرج اللعين أمالها ... ألا فاصرخوا يا قوم باللّعن للبرج
وذلك أن الذي ولى تدبير أمر الجامع المؤيديّ هذا، وولى نظر عمارته بهاء الدين محمد بن البرجيّ، فخدمت التورية في البرجي كما ترى، وتداول هذا الناس فقال آخر:
عتبنا على ميل المنار زويلة ... وقلنا تركت الناس بالميل في هرج
فقال قريني برج نحس أمالني ... فلا بارك الرحمن في ذلك البرج
وقال الأديب شمس الدين محمد بن أحمد بن كمال الجوجريّ أحد الشهود:
منارة لثواب الله قد بنيت ... فكيف هدّت فقالوا نوضح الخبرا
أصابت العين أحجارا بها انفلقت ... ونظرة العين قالوا تفلق الحجرا
وقال آخر:
منارة قد هدمت بالقضا ... والناس في هرج وفي رهج
أمالها البرج فمالت به ... فلعنة الله على البرج
وفي ثالث جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين استقرّ الشيخ شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن عليّ بن حجر في تدريس الشافعية، والشيخ يحيى بن محمد بن أحمد العجيسيّ البجائيّ المغربيّ في تدريس المالكية، وعز الدين عبد العزيز بن عليّ بن الفخر البغداديّ في تدريس الحنابلة، وخلع عليهم بحضرة السلطان، فدرس ابن حجر بالمحراب في يوم الخميس ثالث عشرة، ونزل السلطان وأقبل ليحضر عنده، وهو في إلقاء الدرس ومنعه من القيام له، فلم يقم واستمرّ فيما هو بصدده، وجلس السلطان عنده مليا، ثم درّس يحيى(4/144)
المغربيّ في يوم الخميس خامس عشرة، ودرّس فيه أيضا الفخر البغداديّ، وحضر معهما قضاة القضاة والمشايخ. وفي سابع عشرة استقرّ بدر الدين محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد العينتابيّ ناظر الأحباس في تدريس الحديث النبويّ، واستقرّ شمس الدين محمد بن يحيى في تدريس القراءات السبع. وفي يوم الجمعة حادي عشرة شوّال منها نزل السلطان إلى هذا الجامع وقد تقدّم إلى المباشرين من أمسه بتهيئة السماط العظيم للمدّة فيه، والسّكّر الكثير لتملأ البركة التي بالصحن من السّكّر المذاب والحلوى الكثيرة، فهيىء ذلك كله وجلس السلطان بكرة النهار بالقرب من البركة في الصحن على تخت، واستعرض الفقهاء فقرّر من وقع اختياره عليه في الدروس، ومدّ السماط العظيم بأنواع المطاعم، وملئت البركة بالسّكّر المذاب، فأكل الناس ونهبوا وارتووا من السّكّر المذاب وحملوا منه ومن الحلوى ما قدروا عليه. ثم طلب قاضي القضاة شمس الدين محمد بن سعد الديريّ الحنفيّ وخلع عليه كاملية صوف بفرو سمور، واستقرّ في مشيخة التصوّف وتدريس الحنفية، وجلس بالمحراب والسلطان عن يمينه ويليه ابنه المقام الصارميّ إبراهيم، وعن يساره قضاة القضاة ومشايخ العلم، وحضر أمراء الدولة ومباشروها، فألقى درسا مفيدا إلى أن قرب وقت الصلاة، فدعا بفض المجلس، ثم حضرت الصلاة فصعد ناصر الدين محمد بن البارزيّ كاتب السرّ المنبر فخطب وصلّى، ثم خلع عليه واستقرّ خطيبا وخازن الكتب، وخلع على شهاب الدين أحمد الأذرعيّ الإمام واستقرّ في إمامة الخمس وركب السلطان وكان يوما مشهودا. ولما مات المقام الصارميّ إبراهيم بن السلطان دفن بالقبة الشرقية ونزل السلطان حتى شهد دفنه في يوم الجمعة ثاني عشري جمادى الآخرة سنة ثلاث وعشرين، وأقام حتى صلّى به الخطيب محمد البارزيّ كاتب السرّ صلاة الجمعة بعد ما خطب خطبة بليغة، ثم عاد إلى القلعة وأقام القرّاء على قبره يقرءون القرآن أسبوعا والأمراء وسائر أهل الدولة يتردّدون إليه، وكانت ليالي مشهودة. وفي يوم السبت آخره استقرّ في نظر الجامع المذكور الأمير مقبل الدوادار وكاتب السرّ ابن البارزيّ، فنزلا إليه جميعا وتفقدا أحواله ونظرا في أموره، فلما مات ابن البارزي في ثامن شوّال منها انفرد الأمير مقبل بالتحدّث إلى أن مات السلطان في يوم الاثنين ثامن المحرّم سنة أربع وعشرين وثمانمائة، فدفن بالقبة الشرقية ولم تكن عمرت، فشرع في عمارتها حتى كملت في شهر ذي القعدة منها، وكذلك الدرج التي يصعد منها إلى باب هذا الجامع من داخل باب زويلة، لم تعمل إلّا في شهر رمضان منها، وبقيت بقايا كثيرة من حقوق هذا الجامع لم تعمل منها القبة التي تقابل القبة المدفون تحتها السلطان والبيوت المعدّة لسكن الصوفية وغير ذلك، فأفرد لعمارتها نحو من عشرين ألف دينار واستقرّ نظر هذا الجامع بعد موت السلطان بيد كاتب السرّ.
الجامع الأشرفيّ
هذا الجامع فيما بين المدرسة السيوفية وقيسارية العنبر، كان موضعه حوانيت تعلوها(4/145)
رباع ومن ورائها ساحات كانت قياسر بعضها وقف على المدرسة القطبية، فابتدأ الهدم فيها بعد ما استبدلت بغيرها أوّل شهر رجب سنة ست وعشرين وثمانمائة، وبنى مكانها، فلما عمر الإيوان القبليّ أقيمت به الجمعة في سابع جمادى الأولى سنة سبع وعشرين، وخطب به الحمويّ الواعظ وقد ولى الخطابة المذكورة.
الجامع الباسطيّ
هذا الجامع بخط الكافوريّ من القاهرة، كان موضعه من جملة أراضي البستان، ثم صار مما اختط كما تقدّم ذكره، فأنشأه القاضي زين الدين عبد الباسط بن خليل بن إبراهيم الدمشقيّ ناظر الجيوش في سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة، ولم يسخر أحدا في عمله بل وفيّ لهم أجورهم حتى كمل في أحسن هندام وأكيس قالب وأبدع زيّ ترتاح النفوس لرؤيته وتبتهج عند مشاهدته، فهو الجامع الزاهر والمعبد الباهي الباهر، ابتدئ فيه بإقامة الجمعة في يوم الجمعة الثاني من صفر سنة ثلاث وعشرين، ورتب في خطابته فتح الدين أحمد بن محمد بن النقاش أحد شهود الحوانيت وموقعي القضاة، ثم رتب به صوفية، وولى مشيخة التصوّف عز الدين عبد السلام بن داود بن عثمان المقدسيّ الشافعيّ، أحد نوّاب الحكم، فكان ابتداء حضورهم بعد عصر يوم السبت أوّل شهر رجب منها، وأجرى للفقراء الصوفية الخبز في كلّ يوم، والمعلوم في كلّ شهر، وبنى لهم مساكن وحفر صهريجا يملأ من ماء النيل ويسبل في كل يوم، فعمّ نفعه وكثر خيره. ثم تجدّد في بولاق جامع ابن الجابي وجامع ابن السنيتيّ، وتجدّد في مصر جامع الحسنات بخط دار النحاس، وفي حكر الصبان الجامع المعروف بالمستجد، وبجامع الفتح، وفي حارة الفقراء جامع عبد اللطيف الطواشيّ الساقي. وتجدّد في خارج القاهرة بسويقة صفية جامع ابن درهم ونصف، وفي خط معدّية فريج جماع كزل بغا، وفي رأس درب النيديّ جامع حارس الطير، وفي سويقة عصفور جامع القاضي أمين الدين بجانب زاوية الفقيه المعتقد أبي عبد الله محمد الفارقانيّ، بنى في سنة اثنتين وثلاثين وثمانمائة، وبخط البراذعيين ورأس حارة الحرمين جامع الحاج محمد المعروف بالمسكين مهتار ناظر الخاص. وتجدّد في المراغة جامع الشيخ أبي بكر المعرّف، بناه الحاج أحمد القماح، وأقيمت خطبة بخانكاه الأمير جاني بك الأشرفيّ خارج باب زويلة، وتوفي يوم الخميس سابع عشرى ربيع الأوّل سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة، وبخط باب اللوق جامع مقدّم السقائين قريبا من جامع الست نصرة، وبخط تحت الربع خارج باب زويلة جامع.
وتجدّد بالصحراء قريبا من تربة الظاهر برقوق خطبة في تربة السلطان الملك الأشرف برسباي الدقاقيّ. وتجدد في آخر سويقة أمير الجيوش بالقاهرة جامع أنشأه الفقير المعتقد محمد الغمريّ، وأقيمت به الجمعة في يوم الجمعة رابع ذي الحجة سنة ثلاث وأربعين(4/146)
وثمانمائة قبل أن يكمل. وتجدّد في زاوية الشيخ أبي العباس البصير التي عند قنطرة الخرق خطبة. وتجدّد في حدرة الكماجيين من أراضي اللوق خطبة بزاوية مطلة على غيط العدّة، وتجدّد بالصحراء خطبة في تربة الأمير مشير الدولة كافور الزمام، وتوفي في خامس عشر ربيع الآخر سنة ثلاثين وثمانمائة. وتجدّد بخط الكافوريّ خطبة أحدثها بنو وفاء في جامع لطيف جدّا. وتجدّد بمدرسة ابن البقريّ من القاهرة أيضا خطبة في أيام المؤيد شيخ. وتجدّد بحارة الديلم خطبة في مدرسة أنشأها الطواشي مشير الدولة المذكور. وتجدّد عند قنطرة قدادار خطبة أنشأها شاكر البناء، وخطبة بالقرب منها في جامع أنشأه الحاج إبراهيم البرددار الشهير بالحمصانيّ، أحد الفقراء الأحمدية السطوحية في حدود الثلاثين والثمانمائة.
ذكر مذاهب أهل مصر ونحلهم منذ افتتح عمرو بن العاص رضي الله عنه أرض مصر إلى أن صاروا إلى اعتقاد مذاهب الأئمة رحمهم الله تعالى، وما كان من الأحداث في ذلك
اعلم أن الله عز وجل لما بعث نبينا محمدا صلّى الله عليه وسلّم رسولا إلى كافة الناس جميعا عربهم وعجمهم، وهم كلهم أهل شرك وعبادة لغير الله تعالى إلا بقايا من أهل الكتاب، كان من أمره صلّى الله عليه وسلّم مع قريش ما كان حتى هاجر من مكة إلى المدينة، فكانت الصحابة رضوان الله عليهم حوله صلّى الله عليه وسلّم يجتمون إليه في كلّ وقت مع ما كانوا فيه من ضنك المعيشة وقلة القوت، فمنهم من كان يحترف في الأسواق، ومنهم من كان يقوم على نخله، ويحضر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في كل وقت، ومنهم طائفة عند ما تجد أدنى فراغ مما هم بسبيله من طلب القوت، فإذا سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن مسألة، أو حكم بحكم، أو أمر بشيء، أو فعل شيأ وعاه من حضر عنده من الصحابة، وفات من غاب عنه علم ذلك، ألا ترى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد خفي عليه ما علمه حمل بن مالك بن النابغة، من الأعراب من هذيل، في دية الجنين وخفي عليه. وكان يفتي في زمن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وأبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت وأبو الدرداء وأبو موسى الأشعريّ وسلمان الفارسيّ رضي الله عنهم.
فلما مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واستخلف أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه، تفرّقت الصحابة رضي الله عنهم، فمنهم من خرج لقتال مسيلمة وأهل الردّة، ومنهم من خرج لقتال أهل الشام، ومنهم من خرج لقتال أهل العراق، وبقي من الصحابة بالمدينة مع أبي بكر رضي الله عنه عدّة، فكانت القضية إذا نزلت بأبي بكر رضي الله عنه قضى فيها بما عنده من العلم بكتاب الله أو سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإن لم يكن عنده فيها علم من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، سأل من بحضرته من الصحابة رضي الله عنهم عن ذلك، فإن وجد عندهم(4/147)
علما من ذلك رجع إليه وإلّا اجتهد في الحكم.
ولما مات أبو بكر وولي أمر الأمّة من بعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فتحت الأمصار وزاد تفرّق الصحابة رضي الله عنهم فيما افتتحوه من الأقطار، فكانت الحكومة تنزل بالمدينة أو غيرها من البلاد، فإن كان عند الصحابة الحاضرين لها في ذلك أثر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حكم به، وإلّا اجتهد أمير تلك البلدة في ذلك، وقد يكون في تلك القضية حكم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم موجود عند صاحب آخر، وقد حضر المدنيّ ما لم يحضر المصريّ، وحضر المصريّ ما لم يحضر الشامي، وحضر الشاميّ ما لم يحضر البصريّ، وحضر البصريّ ما لم يحضر الكوفيّ، وحضر الكوفيّ ما لم يحضر المدنيّ. كلّ هذا موجود في الآثار، وفيما علم من مغيب بعض الصحابة عن مجلس النبي صلّى الله عليه وسلّم في بعض الأوقات، وحضور غيره. ثم مغيب الذي حضر أمس وحضور الذي غاب، فيدري كلّ واحد منهم ما حضر، ويفوته ما غاب عنه، فمضى الصحابة رضي الله عنهم على ما ذكرنا، ثم خلف بعدهم التابعون الآخرون عنهم وكل طبقة من التابعين في البلاد التي تقدّم ذكرها، فإنما تفقهوا مع من كان عندهم من الصحابة، فكانوا لا يتعدّون فتاويهم إلّا اليسير مما بلغهم عن غير من كان في بلادهم من الصحابة، رضي الله عنهم، كاتباع أهل المدينة في الأكثر فتاوي عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، واتباع أهل الكوفة في الأكثر فتاوي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، واتباع أهل مكة في الأكثر فتاوي عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، واتباع أهل مصر في الأكثر فتاوي عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، ثم أتى من بعد التابعين رضي الله عنهم فقهاء الأمصار، كأبي حنيفة وسفيان وابن أبي ليلى بالكوفة، وابن جريج بمكة، ومالك وابن الماجشون بالمدينة، وعثمان البتيّ وسوار بالبصرة، والأوزاعيّ بالشام، والليث بن سعد بمصر. فجروا على تلك الطريق من أخذ كل واحد منهم عن التابعين من أهل بلده، فيما كان عندهم واجتهادهم فيما لم يجدوا عندهم، وهو موجود عند غيرهم.
وأما مذاهب أهل مصر: فقال أبو سعيد بن يونس: إن عبيد بن مخمر المغافريّ يكنى أبا أمية، رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، شهد فتح مصر، روى عنه أبو قبيل. يقال أنه كان أوّل من أقرأ القرآن بمصر. وذكر أبو عمرو الكنديّ أن أبا ميسرة عبد الرحمن بن ميسرة مولى الملامس الحضرميّ كان فقيها عفيفا شريفا، ولد سنة عشر ومائة، وكان أوّل الناس إقراء بمصر بحرف نافع قبل الخمسين ومائة، وتوفي سنة ثمان وثمانين ومائة، وذكر عن أبي قبيل وغيره أن يزيد بن أبي حبيب أوّل من نشر العلم بمصر في الحلال والحرام، وفي رواية ابن يونس ومسائل الفقه، وكانوا قبل ذلك إنما يتحدّثون في الفتن والترغيب. وعن عون بن سليمان الحضرميّ قال: كان عمر بن عبد العزيز قد جعل الفتيا بمصر إلى ثلاثة رجال، رجلان من الموالي ورجل من العرب، فأما العربيّ فجعفر بن ربيعة، وأما الموليان فيزيد بن(4/148)
أبي حبيب، وعبد الله بن أبي جعفر. فكان العرب انكروا ذلك، فقال عمر بن عبد العزيز:
ما ذنبي إن كانت الموالي تسمو بأنفسها صعدا وأنتم لا تسمون. وعن ابن أبي قديد كانت البيعة إذا جاءت للخليفة أوّل من يبايع عبد الله بن أبي جعفر ويزيد بن أبي حبيب ثم الناس بعد. وقال أبو سعيد بن يونس في تاريخ مصر عن حيوة بن شريح قال: دخلت على حسين بن شفي بن مانع الأصبحيّ وهو يقول: فعل الله بفلان. فقلت: ما له؟ فقال: عمد إلى كتابين كان شفي سمعهما من عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أحدهما قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في كذا، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كذا، والآخر ما يكون من الأحداث إلى يوم القيامة، فأخذهما فرمى بهما بين الخولة والرباب. قال أبو سعيد بن يونس: يعني بقوله الخولة والرباب مركبين كبيرين من سفن الجسر كانا يكونان عند رأس الجسر مما يلي الفسطاط يجوز من تحتهما لكبرهما المراكب. وذكر أبو عمرو الكنديّ أن أبا سعيد عثمان بن عتيق مولى غافق، أوّل من رحل من أهل مصر إلى العراق في طلب الحديث، توفي سنة أربع وثمانين ومائة انتهى. وكان حال أهل الإسلام من أهل مصر وغيرها من الأمصار في أحكام الشريعة على ما تقدّم ذكره، ثم كثر الترحل إلى الآفاق وتداخل الناس والتقوا وانتدب أقوام لجمع الحديث النبويّ وتقييده، فكان أوّل من دوّن العلم محمد بن شهاب الزهريّ، وكان أوّل من صنف وبوّب سعيد بن عروبة والربيع بن صبيح بالبصرة، ومعمر بن راشد باليمن، وابن جريج بمكة، ثم سفيات الثوريّ بالكوفة، وحماد بن سلمة بالبصرة، والوليد بن مسلم بالشام، وجرير بن عبد الحميد بالريّ، وعبد الله بن المبارك بمرو وخراسان، وهشيم بن بشير بواسط، وتفرّد بالكوفة أبو بكر بن أبي شيبة بتكثير الأبواب وجودة التصنيف وحسن التأليف، فوصلت أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من البلاد البعيدة إلى من لم تكن عنده، وقامت الحجة على من بلغه شيء منها، وجمعت الأحاديث المبينة لصحة أحد التأويلات المتأوّلة من الأحاديث، وعرف الصحيح من السقيم، وزيف الاجتهاد المؤدّي إلى خلاف كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإلى ترك عمله، وسقط العذر عمن خالف ما بلغه من السنن ببلوغه إليه، وقيام الحجة عليه، وعلى هذا الطريق كان الصحابة رضي الله عنهم وكثير من التابعين يرحلون في طلب الحديث الواحدة الأيام الكثيرة، يعرف ذلك من نظر في كتب الحديث، وعرف سير الصحابة والتابعين. فلما قام هارون الرشيد في الخلافة، وولى القضاء أبا يوسف يعقوب بن إبراهيم أحد أصحاب أبي حنيفة رحمه الله تعالى بعد سنة سبعين ومائة، فلم يقلد ببلاد العراق وخراسان والشام ومصر إلّا من أشار به القاضي أبو يوسف رحمه الله، واعتنى به، وكذلك لما قام بالأندلس الحكم المرتضى بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بعد أبيه، وتلقب بالمنتصر في سنة ثمانين ومائة، اختص بيحيى بن يحيى بن كثير الأندلسيّ، وكان قد حج وسمع الموطأ من مالك إلّا أبوابا، وحمل عن ابن وهب وعن ابن القاسم وغيره علما كثيرا(4/149)
وعاد إلى الأندلس، فنال من الرياسة والحرمة ما لم ينله غيره، وعادت الفتيا إليه وانتهى السلطان والعامّة إلى بابه، فلم يقلد في سائر أعمال الأندلس قاض إلّا بإشارته واعتنائه، فصاروا على رأي مالك بعد ما كانوا على رأي الأوزاعيّ، وقد كان مذهب الإمام مالك أدخله إلى الأندلس زياد بن عبد الرحمن الذي يقال له بسطور، قبل يحيى بن يحيى، وهو أوّل من أدخل مذهب مالك الأندلس، وكانت إفريقية الغالب عليها السنن والآثار إلى أن قدم عبد الله بن فروج أبو محمد الفارسيّ بمذهب أبي حنيفة، ثم غلب أسد بن الفرات بن سنان قاضي افريقية بمذهب أبي حنيفة، ثم لما ولي سحنون بن سعيد التنوخيّ قضاء افريقية، بعد ذلك نشر فيهم مذهب مالك وصار القضاء في أصحاب سحنون دولا يتصاولون على الدنيا تصاول الفحول على الشول إلى أن تولى القضاء بها بنو هاشم، وكانوا مالكية، فتوارثوا القضاء كما تتوارث الضياع.
ثم إن المعز بن باديس حمل جميع أهل إفريقية على التمسك بمذهب مالك وترك ما عداه من المذاهب، فرجع أهل إفريقية وأهل الأندلس كلهم إلى مذهب مالك إلى اليوم، رغبة فيما عند السلطان، وحرصا على طلب الدنيا، إذ كان القضاء والافتاء جميع تلك المدن وسائر القرى لا يكون إلّا لمن تسمى بالفقه على مذهب مالك، فاضطرّت العامّة إلى أحكامهم وفتاواهم، ففشا هذا المذهب هناك فشوّا طبق تلك الأقطار، كما فشا مذهب أبي حنيفة ببلاد المشرق، حيث أن أبا حامد الاسفراينيّ لما تمكن من الدولة في أيام الخليفة القادر بالله أبي العباس أحمد، قرّر معه استخلاف أبي العباس أحمد بن محمد البارزيّ الشافعيّ عن أبي محمد بن الأكفانيّ الحنفيّ قاضي بغداد، فأجيب إليه بغير رضى الأكفانيّ وكتب أبو حامد إلى السلطان محمود بن سبكتكين وأهل خراسان أن الخليفة نقل القضاء عن الحنفية إلى الشافعية، فاشتهر ذلك بخراسان وصار أهل بغداد حزبين، وقدم بعد ذلك أبو العلاء صاعد بن محمد قاضي نيسابور ورئيس الحنفية بخراسان، فأتاه الحنفية فثارت بينهم وبين أصحاب أبي حامد فتنة ارتفع أمرها إلى السلطان، فجمع الخليفة القادر الأشراف والقضاة وأخرج إليهم رسالة تتضمن: أن الاسفراينيّ أدخل على أمير المؤمنين مداخل أوهمه فيها النصح والشفقة والأمانة، وكانت على أصول الدخل والخيانة، فلما تبين له أمره ووضح عنده خبث اعتقاده فيما سأل فيه من تقليد البارزيّ الحكم بالحضرة من الفساد والفتنة والعدول بأمير المؤمنين عما كان عليه أسلافه من إيثار الحنفية وتقليدهم واستعمالهم، صرف البارزيّ وأعاد الأمر إلى حقه وأجراه على قديم رسمه، وحمل الحنفيين على ما كانوا عليه من العناية والكرامة والحرمة والإعزاز، وتقدّم إليهم بأن لا يلقوا أبا حامد ولا يقضوا له حقا ولا يردّوا عليه سلاما، وحلع على أبي محمد الأكفانيّ، وانقطع أبو حامد عن دار الخلافة، وظهر التسخط عليه والانحراف عنه وذلك في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة واتصل ببلاد الشام ومصر.(4/150)
أوّل من قدم بعلم مالك: إلى مصر عبد الرحيم بن خالد بن يزيد بن يحيى مولى جمح، وكان فقيها روى عنه الليث وابن وهب ورشيد بن سعد، وتوفي بالإسكندرية سنة ثلاث وستين ومائة، ثم نشره بمصر عبد الرحمن بن القاسم، فاشتهر مذهب مالك بمصر أكثر من مذهب أبي حنيفة لتوفر اصحاب مالك بمصر، ولم يكن مذهب أبي حنيفة رحمه الله يعرف بمصر. قال ابن يونس: وقدم إسماعيل بن اليسع الكوفيّ قاضيا بعد ابن لهيعة، وكان من خير قضاتنا، غير أنه كان يذهب إلى قول أبي حنيفة، ولم يكن أهل مصر يعرفون مذهب أبي حنيفة، وكان مذهبه إبطال الأحباس، فثقل أمره على أهل مصر وسئموه، ولم يزل مذهب مالك مشتهرا بمصر حتى قدم الشافعيّ محمد بن ادريس إلى مصر مع عبد الله بن العباس بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن عباس في سنة ثمان وتسعين ومائة، فصحبه من أهل مصر جماعة من أعيانها كبني عبد الحكم والربيع بن سليمان وأبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني، وأبي يعقوب يوسف بن يحيى البويطيّ، وكتبوا عن الشافعيّ ما ألفه، وعملوا بما ذهب إليه، ولم يزل أمر مذهبه يقوى بمصر وذكره ينتشر.
قال أبو عمرو الكنديّ في كتاب أمراء مصر: ولم يزل أهل مصر على الجهر بالبسملة في الجامع العتيق إلى سنة ثلاث وخمسين ومائتين. قال: ومنع أرجون صاحب شرطة مزاحم بن خاقان أمير مصر من الجهر بالبسملة في الصلوات بالمسجد الجامع، وأمر الحسين بن الربيع إمام المسجد الجامع بتركها، وذلك في رجب سنة ثلاث وستين ومائتين، ولم يزل أهل مصر على الجهر بها في المسجد الجامع منذ الإسلام إلى أن منع منها أرجون.
قال: وأمر أن تصلّى التراويح في شهر رمضان خمس تراويح، ولم يزل أهل مصر يصلون ست تراويح حتى جعلها أرجون خمسا في شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين ومائتين، ومنع من التثويب، وأمر بالأذان يوم الجمعة في مؤخر المسجد، وأمر بالتغليس بصلاة الصبح، وذلك أنهم أسفروا بها، وما زال مذهب مالك ومذهب الشافعيّ رحمهما الله تعالى يعمل بهما أهل مصر، ويولى القضاء من كان يذهب إليهما أو إلى مذهب أبي حنيفة رحمه الله، إلى أن القائد جوهر من بلاد إفريقية في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة بجيوش مولاه المعز لدين الله أبي تميم معدّ وبنى مدينة القاهرة.
فمن حينئذ فشا بديار مصر مذهب الشيعة وعمل به في القضاء والفتيا وأنكر ما خالفه، ولم يبق مذهب سواه، وقد كان التشيع بأرض مصر معروفا قبل ذلك. قال أبو عمرو الكنديّ في كتاب الموالي عن عبد الله بن لهيعة أنه قال: قال يزيد بن أبي حبيب: نشأت بمصر وهي علوية، فقلبتها عثمانية. وكان ابتداء التشيع في الإسلام أن رجلا من اليهود في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أسلم، فقيل له عبد الله بن سبأ، وعرف بابن(4/151)
السوداء، وصار ينتقل من الحجاز إلى أمصار المسلمين يريد إضلالهم، فلم يطق ذلك فرجع إلى كيد الإسلام وأهله، ونزل البصرة في سنة ثلاث وثلاثين فجعل يطرح على أهلها مسائل ولا يصرّح، فأقبل عليه جماعة ومالوا إليه وأعجبوا بقوله، فبلغ ذلك عبد الله بن عامر وهو يومئذ على البصرة، فأرسل إليه فلما حضر عنده سأله ما أنت فقال رجل من أهل الكتاب رغبت في الإسلام وفي جوارك. فقال ما شيء بلغني عنك، أخرج عني. فخرج حتى نزل الكوفة، فأخرج منها فسار إلى مصر واستقرّ بها وقال في الناس العجب ممن يصدّق أن عيسى يرجع ويكذب أن محمدا يرجع، وتحدّث في الرجعة حتى قبلت منه، فقال بعد ذلك:
أنه كان لكل نبيّ وصيّ، وعليّ بن أبي طالب وصيّ محمد صلّى الله عليه وسلّم، فمن أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أن علي بن أبي طالب وصيه في الخلافة على أمّته، واعلموا أن عثمان أخذ الخلافة بغير حق، فانهضوا في هذا الأمر وابدؤوا بالطعن على أمرائكم، فأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا به الناس، وبث دعاته وكاتب من مال إليه من أهل الأمصار وكاتبوه ودعوا في السرّ إلى ما عليه رأيهم، وصاروا يكتبون إلى الأمصار كتبا يضعونها في عيب ولاتهم، فيكتب أهل كل مصر منهم إلى أهل المصر الآخر بما يضعون حتى ملوا بذلك الأرض إذاعة، وجاء إلى أهل المدينة من جميع الأمصار، فأتوا عثمان رضي الله عنه في سنة خمسة وثلاثين وأعلموه ما أرسل به أهل الأمصار من شكوى عمالهم، فبعث محمد بن مسلمة إلى الكوفة، وأسامة بن زيد إلى البصرة، وعمار بن ياسر إلى مصر، وعبد الله بن عمر إلى الشام، لكشف سير العمال. فرجعوا إلى عثمان إلّا عمارا وقالوا: ما أنكرنا شيئا. وتأخر عمار فورد الخبر إلى المدينة بأنه قد استماله عبد الله ابن السوداء في جماعة، فأمر عثمان عماله أن يوافوه بالموسم، فقدموا عليه واستشاروه، فكلّ أشار برأي، ثم قدم المدينة بعد الموسم فكان بينه وبين عليّ بن أبي طالب كلام فيه بعض الجفاء بسبب إعطائه أقاربه ورفعه لهم على من سواهم، وكان المنحرفون عن عثمان قد تواعدوا يوما يخرجون فيه بأمصارهم إذ سار عنها الأمراء، فلم يتهيأ لهم الوثوب، وعند ما رجع الأمراء من الموسم تكاتب المخالفون في القدوم إلى المدينة لينظروا فيما يريدون، وكان أمير مصر من قبل عثمان رضي الله عنه، عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامريّ، فلما خرج في شهر رجب من مصر في سنة خمس وثلاثين استخلف بعده عقبة بن عامر الجهنيّ في قول الليث بن سعد. وقال يزيد بن أبي حبيب: بل استخلف على مصر السائب بن هشام العامريّ وجعل على الخراج سليم بن عنز التجيبيّ، فانتزى محمد بن أبي حذيفة بن عتية بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف في شوّال من السنة المذكورة، وأخرج عقبة بن عامر من الفسطاط، ودعا إلى خلع عثمان رضي الله عنه، واسعر البلاد وحرّض على عثمان بكلّ شيء يقدر عليه، فكان يكتب الكتب على لسان أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويأخذ الرواحل فيضمرها ويجعل رجالا على ظهور البيوت ووجوههم إلى وجه الشمس لتلوح وجوههم(4/152)
تلويح المسافر، ثم يأمرهم أن يخرجوا إلى طريق المدينة بمصر، ثم يرسلون رسلا يخبرون بهم الناس ليلقوهم، وقد أمرهم إذا لقيهم الناس أن يقولوا ليس عندنا خبر الخبر في الكتب، فيجيء رسول أولئك الذين دس فيذكر مكانهم فيتلقاهم ابن أبي حذيفة والناس يقولون:
نتلقى رسل أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإذا لقوهم قالوا لهم ما الخبر؟ قالوا: لا خبر عندنا، عليكم بالمسجد ليقرأ عليكم كتاب أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، فيجتمع الناس في المسجد اجتماعا ليس فيه تقصير، ثم يقوم القارئ بالكتاب فيقول: إنا نشكو إلى الله وإليكم ما عمل في الإسلام وما صنع في الإسلام، فيقوم أولئك الشيوخ من نواحي المسجد بالبكاء فيبكون، ثم ينزل عن المنبر ويتفرّق الناس بما قريء عليهم.
فلما رأت ذلك شيعة عثمان رضي الله عنه اعتزلوا محمد بن أبي حذيقة ونابذوه، وهم معاوية بن خديج، وخارجة بن حذاقة، وبسر بن أرطاة، ومسلمة بن مخلد، وعمرو بن قحزم الخولانيّ، ومقسم بن بجرة، وحمزة بن سرح بن كلال، وأبو الكنود سعد بن مالك الأزديّ، وخالد بن ثابت الفهميّ، في جمع كثير وبعثوا سلمة بن مخزمة التجيبيّ إلى عثمان ليخبره بأمرهم وبصنيع ابن أبي حذيفة، فبعث عثمان رضي الله عنه سعد بن أبي وقاص ليصلح أمرهم، فبلغ ذلك ابن أبي حذيفة فخطب الناس وقال: ألا إن الكذا والكذا قد بعث إليكم سعد بن مالك ليقلّ جماعتكم ويشتت كلمتكم ويوقع التجادل بينكم، فانفروا إليه، فخرج منهم مائة أو نحوها، وقد ضرب فسطاطه وهو قائل:
فقلبوا عليه فسطاطه وشجوه وسبوه، فركب راحلته وعاد راجعا من حيث جاء. وقال:
ضربكم الله بالذلّ والفرقة، وشتت أمركم، وجعل بأسكم بينكم، ولا أرضاكم بأمير، ولا أرضاه عنكم. وأقبل عبد الله بن سعد حتى بلغ جسر القلزم، فإذا بخيل لابن أبي حذيفة، فمنعوه أن يدخل فقال: ويلكم دعوني أدخل على جندي فأعلمهم بما جئت به، فإني قد جئتهم بخير. فأبوا أن يدعوه فقال: والله لوددت أني دخلت عليهم وأعلمتهم بما جئت به ثم مت، فانصرف إلى عسقلان. وأجمع محمد بن أبي حذيفة على بعث جيش إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال: من يتشرّط في هذا البعث؟ فكثر عليه من يشترط. فقال: إنما يكفينا منكم ستمائة رجل، فشرّط من أهل مصر ستمائة رجل على كل مائة منهم رئيس وعلى جماعتهم عبد الرحمن بن عديس البلويّ، وهم كنانة بن بشر بن سليمان التجيبيّ، وعروة بن سليم الليثيّ، وأبو عمرو بن بديل بن ورقاء الخزاعيّ، وسودان بن ريان الأصبحيّ، وذرع بن يشكر النافعيّ، وسجن رجال من أهل مصر في دورهم منهم: فلما بلغ ذلك كنانة بن بشر وكان رأس الشيعة الأولى، دفع عن معاوية ما كره، ثم قتل عثمان رضي الله عنه في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، فدخل الركب إلى مصر وهم يرتجزون:(4/153)
خذها إليك وأحذرنّ أبا الحسن ... إنا نمرّ الحرب إمرار الوسن
بالسيف كي تخمد نيران الفتن
فلما دخلوا المسجد صاحوا إنا لسنا قتلة عثمان ولكن الله قتله. فلما رأى ذلك شيعة عثمان قاموا وعقدوا لمعاوية بن خديج عليهم وبايعوه على الطلب بدم عثمان، فسار بهم معاوية إلى الصعيد، فبعث إليهم ابن أبي حذيفة فالتقوا بدقناس من كورة البهنسا فهزم أصحاب ابن أبي حذيفة، ومضى معاوية حتى بلغ برقة، ثم رجع إلى الاسكندرية فبعث ابن أبي حذيفة بحيش آخر عليهم قيس بن حرمل فاقتتلوا بخربتا أوّل شهر رمضان سنة ست وثلاثين، فقتل قيس وسار معاوية بن أبي سفيان إلى مصر، فنزل سلمنت من كورة عين شمس في شوّال، فخرج إليه ابن أبي حذيفة في أهل مصر، فمنعوه أن يدخلها، فبعث إليه معاوية إنّا لا نريد قتال أحد إنما جئنا نسأل القود لعثمان، ادفعوا إلينا قاتليه عبد الرحمن بن عديس وكنانة بن بشر، وهما رأس القوم، فامتنع ابن أبي حذيفة وقال لو طلبت منا جديا أرطب السرة بعثمان ما دفعناه إليك. فقال معاوية بن أبي سفيان لابن أبي حذيفة: اجعل بيننا وبينكم رهنا، فلا يكون بيننا وبينكم حرب. فقال ابن أبي حذيفة: فإني أرضى بذلك، فاستخلف ابن أبي حذيفة على مصر الحكم بن الصلت بن مخرمة وخرج في الرهن، هو وابن عيسى. وكنانة بن بشر وأبو شمر بن أبرهة وغيرهم من قتلة عثمان، فلما بلغوا لدّ سجنهم بها معاوية وسار إلى دمشق، فهربوا من السجن، غير أبي شمر بن أبرهة فإنه قال:
لا أدخله أسيرا وأخرج منه آبقا، وتبعهم صاحب فلسطين فقتلهم، واتبع عبد الرحمن بن عديس رجل من الفرس فقال له عبد الرحمن بن عديس: اتق الله في دمي فإني بايعت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تحت الشجرة، فقال له: الشجر في الصحراء كثير فقتله.
وقال محمد بن أبي حذيفة في الليلة التي قتل في صباحها عثمان: فإن يكن القصاص لعثمان فسنقتل من الغد، فقتل من الغد، وكان قتل ابن أبي حذيفة وعبد الرحمن بن عديس وكنانة بن بشر ومن كان معهم من الرهن في ذي الحجة سنة ست وثلاثين. فلما بلغ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه مصاب بن أبي حذيفة، بعث قيس بن سعد بن عبادة الأنصاريّ على مصر وجمع له الخراج والصلاة، فدخلها مستهلّ شهر ربيع الأوّل سنة سبع وثلاثين، واستمال الخارجية بخربتا ودفع إليهم أعطياتهم، ووفد عليه وفدهم فأكرمهم وأحسن إليهم، ومصر يومئذ من جيش عليّ رضي الله عنه إلّا أهل خربتا الخارجين بها. فلما ولي علي رضي الله عنه قيس بن سعد، وكان من ذوي الرأي، جهد معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص على أن يخرجاه من مصر ليغلبا على أمرها، فامتنع عليهما بالدهاء والمكايدة، فلم يقدرا على أن يلجأ مصر حتى كان معاوية قيسا من قبل عليّ رضي الله عنه، فكان معاوية يحدّث رجالا من ذوي رأي قريش فيقول: ما ابتدعت من مكايدة قط أعجب إليّ من مكايدة كدت بها قيس بن سعد حين امتنع مني، قلت لأهل الشام لا تسبوا قيسا ولا(4/154)
تدعوا إلى غزوة، فإن قيسا لنا شيعة تأتينا كتبه ونصيحته سرّا، ألا ترون ماذا يفعل بإخوانكم النازلين عنده بخربتا يجري عليهم أعطياتهم وأرزاقهم ويؤمّن سربهم ويحسن إلى كل راكب يأتيه منهم. قال معاوية: وطفقت أكتب بذلك إلى شيعتي من أهل العراق، فسمع بذلك جواسيس عليّ بالعراق فأنهاه إليه محمد بن أبي بكر، وعبد الله بن جعفر، فاتّهم قيسا فكتب إليه يأمره بقتال أهل خربتا، وبخربتا يومئذ عشرة آلاف، فأبى قيس أن يقاتلهم وكتب إلى عليّ رضي الله عنه أنهم وجوه أهل مصر وأشرافهم، وأهل الحفاظ منهم، وقد رضوا مني بأن أو من سربهم واجري عليهم أعطياتهم وأرزاقهم، وقد علمت أن هواهم مع معاوية، فلست بكائدهم بأمر أهون عليّ وعليك من الذي أفعل بهم، وهم أسود العرب، منهم بسر بن أرطاة، وسلمة بن مخلد، ومعاوية بن خديج. فأبى عليه إلّا قتالهم، فأبى قيس أن يقاتلهم. وكتب إلى عليّ رضي الله عنه، إن كنت تهتمني فاعزلني وابعث غيري. وكتب معاوية رضي الله عنه إلى بعض بني أمية بالمدينة: أن جرى الله قيس بن سعد خيرا فإنه قد كف عن إخواننا من أهل مصر الذين قاتلوا في دم عثمان، واكتموا ذلك فإنني أخاف أن يعزله علي إن بلغه ما بينه وبين شيعتنا، حتى بلغ عليا رضي الله عنه ذلك فقال: من معه من رؤساء أهل العراق وأهل المدينة بدّل قيس وتحوّل. فقال عليّ ويحكم إنه لم يفعل فدعوني. قالوا:
لتعزلنه، فإنه قد بدّل. فلم يزالوا به حتى كتب إليه إني قد احتجت إلى قربك، فاستخلف على عملك واقدم. فلما قرأ الكتاب قال: هذا من مكر معاوية، ولولا الكذب لمكرت به مكرا يدخل عليه بيته، فوليها قيس بن سعد إلى أن عزل عنها أربعة أشهر وخمسة أيام، وصرف لخمس خلون من رجب سنة سبع وثلاثين، ثم وليها الاشتر مالك بن الحارث بن عبد يغوث النخعيّ من قبل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وذلك أن عبد الله بن جعفر كان إذا أراد أن لا يمنعه عليّ شيئا قال له بحق جعفر. فقال له أسألك بحق جعفر الا بعثت الاشتر إلى مصر، فإن ظهرت فهو الذي تحب وإلّا استرحت منه. ويقال:
كان الأشتر قد ثقل على عليّ رضي الله عنه وأبغضه وقلاه فولاه وبعثه، فلما قدم مصر لقي بما يلقي العمال به هناك، فشرب شربة عسل فمات. فلما أخبر عليّ بذلك قال لليدين وللفم، وسمع عمرو بن العاص بموت الأشتر فقال: إن لله جنودا من عسل. أو قال إنّ لله جنودا من العسل.
ثم وليها محمد بن أبي بكر الصدّيق من قبل عليّ رضي الله عنهم، وجمع له صلاتها وخراجها، فدخلها للنصف من شهر رمضان سنة سبع وثلاثين، فلقيه قيس بن سعد فقال له:
إنه لا يمنعني نصحي لك عزله إيايّ، ولقد عزلني عن غير وهن ولا عجز، فاحفظ ما أوصيك به. يدم صلاح حالك: دع معاوية بن خديج ومسلمة بن مخلد وبسر بن أرطاة ومن ضوى إليهم على ما هم عليه، لا تكفهم عن رأيهم، فإن أتوك ولم يفعلوا فاقبلهم، وإن تخلفوا عنك فلا تطلبهم، وانظر هذا الحيّ من مضر، فأنت أولى بهم مني، فألن لهم(4/155)
جناحك وقرّب عليهم مكانك وارفع عنهم حجابك، وانظر هذا الحيّ من مدلج، فدعهم وما غلبوا عليه يكفوا عنك شأنهم، وأنزل الناس من بعد على قدر منازلهم، فإن استطعت أن تعود المرضى وتشهد الجنائز فافعل، فإنّ هذا لا ينقصك ولن تفعل، إنك والله ما علمت لتظهر الخيلاء وتحب الرياسة وتسارع إلى ما هو ساقط عنك، والله موفقك. فعمل محمد بخلاف ما أوصاه به قيس، فبعث إلى ابن خديج والخارجة معه يدعوهم إلى بيعته، فلم يجيبوه. فبعث إلى دور الخارجة فهدمها ونهب أموالهم وسجن ذراريهم فنصبوا له الحرب وهموا بالنهوض إليه. فلما علم أنه لا قوّة له بهم أمسك عنهم ثم صالحهم على أن يسيرهم إلى معاوية، وأن ينصب لهم جسر انتقيوس يجوزون عليه ولا يدخلون الفسطاط، ففعلوا ولحقوا بمعاوية.
فلما أجمع عليّ رضي الله عنه ومعاوية على الحكمين أغفل عليّ أن يشترط على معاوية أن لا يقاتل أهل مصر. فلما انصرف عليّ إلى العراق بعث معاوية رضي الله عنه عمرو بن العاص رضي الله عنه في جيوش أهل الشام إلى مصر، فاقتتلوا قتالا شديدا انهزم فيه أهل مصر، ودخل عمرو بأهل الشام الفسطاط، وتغيب محمد بن أبي بكر، فأقبل معاوية بن خديج في رهط ممن يعينه على من كان يمشي في قتل عثمان، وطلب ابن أبي بكر فدلتهم عليه امرأة. فقال: احفظوني في أبي بكر، فقال معاوية بن خديج: قتلت ثمانين رجلا من قومي في عثمان، وأتركك وأنت صاحبه؟ فقتله ثم جعله في جيفة حمار ميت، فأحرقه بالنار، فكانت ولاية محمد بن أبي بكر خمسة أشهر، ومقتله لأربع عشرة خلت من صفر سنة ثمان وثلاثين. ثم ولي عمرو بن العاص مصر من بعده، فاستقبل بولايته هذه الثانية شهر ربيع الأوّل، وجعل إليه الصلاة والخراج، وكانت مصر قد جعلها معاوية له طعمة بعد عطاء جندها والنفقة على مصلحتها، ثم خرج إلى الحكومة واستخلف على مصر ابنه عبد الله بن عمرو، وقتل خارجة بن حذافة ورجع عمرو إلى مصر فأقام بها، وتعاقد بنو ملجم عبد الرحمن وقيس ويزيد على قتل عليّ رضي الله عنه وعمرو ومعاوية رضي الله عنهما، وتواعدوا على ليلة من رمضان سنة أربعين، فمضى كل منهم إلى صاحبه، فلما قتل عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه واستقرّ الأمر لمعاوية كانت مصر جندها وأهل شوكتها عثمانية، وكثير من أهلها علوية. فلما مات معاوية ومات ابنه يزيد بن معاوية كان على مصر سعيد بن يزيد الأزديّ على صلاتها، فلم يزل أهل مصر على الشنان له، والإعراض عنه، والتكبر عليه، منذ ولاه يزيد بن معاوية حتى مات يزيد في سنة أربع وستين. ودعا عبد الله بن الزبير إلى نفسه، فقامت الخوارج بمصر في أمره، وأظهروا دعوته كانوا يحسبونه على مذهبهم، وأوفدوا منهم وفدا إليه، فسار منهم نحو الألفين من مصر وسألوه أن يبعث إليهم بأمير يقومون معه ويوازرونه، وكان كريب بن أبرهة الصباح وغيره من أشراف مصر يقولون: ماذا نرى من العجب أن هذه الطائفة المكتتمة تأمر فينا وتنهي ونحن لا نستطيع أن(4/156)
نردّ أمرهم، ولحق بابن الزبير ناس كثير من أهل مصر، وكان أوّل من قدم مصر برأي الخوارج حجر بن الحارث بن قيس المذحجيّ، وقيل حجر بن عمرو، ويكنى بأبي الورد، وشهد مع عليّ صفين، ثم صار من الخوارج وحضر مع الحرورية النهروان، فخرج وصار إلى مصر برأي الخوارج وأقام بها حتى خرج منها إلى ابن الزبير في إمارة مسلمة بن مخلد الأنصاريّ على مصر. فلما مات يزيد بن معاوية وبويع ابن الزبير بعده بالخلافة، بعث إلى مصر بعبد الرحمن بن جحدم الفهريّ، فقدمها في طائفة من الخوارج فوثبوا على سعيد بن يزيد فاعتزلهم، واستمرّ ابن جحدم، وكثرت الخوارج بمصر منها وممن قدم من مكة، فأظهروا في مصر التحكيم ودعوا إليه، فاستعظم الجند ذلك وبايعه الناس على غلّ في قلوب ناس من شيعة بني أمية، منهم كريب بن أبرهة، ومقسم بن بجرة، وزياد بن حناطة التجيبيّ، وعابس بن سعيد وغيرهم، فصار أهل مصر حينئذ ثلاث طوائف، علوية وعثمانية وخوارج. فلما بويع مروان بن الحكم بالشام في ذي القعدة سنة أربع وستين كانت شيعته من أهل مصر مع ابن جحدم، فكاتبوه سرّا حتى أتى مصر في أشراف كثيرة، وبعث ابنه عبد العزيز بن مروان في جيش إلى إيلة ليدخل من هناك مصر، وأجمع ابن جحدم على حربه ومنعه، فحفر الخندق في شهر، وهو الخندق الذي بالقرافة، وبعث بمراكب في البحر ليخالف إلى عيالات أهل الشام، وقطع بعثا في البرّ وجهز جيشا آخر إلى إيلة لمنع عبد العزيز من المسير منها، فغرقت المراكب ونجا بعضها وانهزمت الجيوش ونزل مروان عين شمس، فخرج إليه ابن جحدم في أهل مصر، فتحاربوا واستجرّ القتل فقتل من الفريقين خلق كثير، ثم إن كريب بن أبرهة وعابس بن سعيد وزياد بن حناطة وعبد الرحمن بن موهب المغافريّ دخلوا في الصلح بين أهل مصر وبين مروان، فتم ودخل مروان إلى الفسطاط لغرّة جمادى الأولى سنة خمس وستين، فكانت ولاية ابن جحدم تسعة أشهر، ووضع العطاء فبايعه الناس إلّا نفرا من المغافر قالوا لا نخلع بيعة ابن الزبير، فقتل منهم ثمانين رجلا، قدّمهم رجلا رجلا فضرب أعناقهم وهم يقولون إنا قد بايعنا ابن الزبير طائعين، فلم نكن لننكث بيعته، وضرب عنق الأكدر بن حمام بن عامر سيد لخم وشيخها، وحضر هو وأبوه فتح مصر، وكانا ممن ثار إلى عثمان رضي الله عنه، فتنادى الجند قتل الأكدر، فلم يبق أحد حتى لبس سلاحه، فحضر باب مروان منهم زيادة على ثلاثين ألفا، وخشي مروان وأغلق بابه حتى أتاه كريب بن أبرهة وألقى عليه رداءه وقال للجند: انصرفوا أنا له جار، فما عطف أحد منهم وانصرفوا إلى منازلهم، وكان للنصف من جمادى الآخرة، ويومئذ مات عبد الله بن عمرو بن العاص، فلم يستطع أحد أن يخرج بجنازته إلى المقبرة لشغب الجند على مروان، ومن حينئذ غلبت العثمانية على مصر فتظاهروا فيها بسب عليّ رضي الله عنه، وانكفت السنة العلوية والخوارج.
فلما كانت ولاية قرّة بن شريك العبسيّ على مصر من قبل الوليد بن عبد الملك في(4/157)
سنة تسعين، خرج إلى الإسكندرية في سنة إحدى وتسعين، فتعاقدت السراة من الخوارج بالإسكندرية على الفتك به، وكانت عدّتهم نحوا من مائة، فعقدوا لرئيسهم المهاجر بن أبي المثنى التجيبيّ، أحد بني «1» فهم عليهم عند منارة الإسكندرية وبالقرب منهم رجل يكنى أبا سليمان، فبلغ قرّة ما عزموا عليه، فأتى لهم قبل أن يتفرّقوا فأمر بحبسهم في أصل منارة الإسكندرية، وأحضر قرّة وجوه الجند فسألهم فأقرّوا فقتلهم، ومضى رجل ممن كان يرى رأيهم إلى أبي سليمان فقتله، فكان يزيد بن أبي حبيب إذا أراد أن يتكلم بشيء فيه تقية من السلطان تلفت وقال: احذروا أبا سليمان، ثم قال الناس كلهم من ذلك اليوم أبو سليمان. فلما قام عبد الله بن يحيى الملقب بطالب الحق في الحجاز على مروان بن محمد الجعديّ، قدم إلى مصر داعيته ودعا الناس فبايع له ناس من تجيب وغيرهم، فبلغ ذلك حسان بن عتاهية صاحب الشرطة فاستخرجهم، فقتلهم حوثرة بن سهيل الباهليّ أمير مصر من قبل مروان بن محمد، فلما قتل مروان وانقضت أيام بني أمية ببني العباس في سنة ثلاث وثلاثين ومائة، خمدت جمرة أصحاب المذهب المروانيّ وهم الذين كانوا يسبون عليّ بن أبي طالب ويتبرّؤون منه، وصاروا منذ ظهر بنو العباس يخافون القتل ويخشون أن يطلع عليهم أحد إلّا طائفة كانت بناحية الواحات وغيرها، فإنهم أقاموا على مذهب المروانية دهرا حتى فنوا، ولم يبق لهم الآن بديار مصر وجود البتة.
فلما كان في إمارة حميد بن قحطبة على مصر من قبل أبي جعفر المنصور، قدم إلى مصر عليّ بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب داعية لأبيه وعمه، فذكر ذلك لحميد فقال: هذا كذب، ودسّ إليه أن تغيّب، ثم بعث إليه من الغد فلم يجده، فكتب بذلك إلى أبي جعفر المنصور فعزل حميدا وسخط عليه في ذي القعدة سنة أربع وأربعين ومائة، وولى يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة، فظهرت دعوة بني حسن بن عليّ بمصر، وتكلم الناس بها وبايع كثير منهم لعليّ بن محمد بن عبد الله، وهو أوّل علويّ قدم مصر، وقام بأمر دعوته خالد بن سعيد بن ربيعة بن حبيش الصدفيّ، وكان جدّه ربيعة بن حبيش من خاصة عليّ بن أبي طالب وشيعته، وحضر الدار في قتل عثمان رضي الله عنه، فاستشار خالد أصحابه الذين بايعوا له، فأشار عليهم بعضهم أن يبيت يزيد بن حاتم في العسكر، وكان الأمراء قد صاروا منذ قدمت عساكر بني العباس ينزلون في العسكر الذي بني خارج الفسطاط من شماليه، كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب، وأشار عليه آخرون أن لا يحوز بيت المال، وأن يكون خروجهم في الجامع، فكره خالد أن يبيت يزيد بن حاتم، وخشي على اليمانية، وخرج منهم رجل قد شهد أمرهم حتى أتى إلى عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية بن خديج وهو يومئذ على الفسطاط، فخبّره أنهم(4/158)
الليلة يخرجون، فمضى عبد الله إلى يزيد بن حاتم وهو بالعسكر، فكان من أمرهم ما كان لعشر من شوّال سنة خمس وأربعين ومائة، فانهزموا. ثم قدمت الخطباء برأس إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسين في ذي الحجة من السنة المذكورة إلى مصر ونصبوه في المسجد الجامع، وقامت الخطباء فذكروا أمره، وحمل عليّ بن محمد إلى أبي جعفر المنصور وقيل إنه اختفى عند عسامة بن عمرو بقرية طره، فمرض بها ومات فقبر هناك، وحمل عسامة إلى العراق فحبس إلى أن ردّه المهديّ محمد بن أبي جعفر إلى مصر، وما زالت شيعة عليّ بمصر إلى أن ورد كتاب المتوكل على الله إلى مصر يأمر فيه بإخراج آل أبي طالب من مصر إلى العراق، فأخرجهم إسحاق بن يحيى الختليّ أمير مصر وفرّق فيهم الأموال ليتجملوا بها، وأعطى كل رجل ثلاثين دينارا، والمرأة خمسة عشر دينارا، فخرجوا لعشر خلون من رجب سنة ست وثلاثين ومائتين، وقدموا العراق فأخرجوا إلى المدينة في شوّال منها، واستتر من كان بمصر على رأي العلوية، حتى أن يزيد بن عبد الله أمير مصر ضرب رجلا من الجند في شيء وجب عليه فأقسم عليه بحق الحسن والحسين إلا عفا عنه، فزاده ثلاثين درة، ورفع ذلك صاحب البريد إلى المتوكل، فورد الكتاب على يزيد بضرب ذلك الجنديّ مائة سوط، فضربها وحمل بعد ذلك إلى العراق في شوّال سنة ثلاث وأربعين ومائتين، وتتبع يزيد الروافض فحملهم إلى العراق، ودل في شعبان على رجل يقال له محمد بن عليّ بن الحسن بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، أنه بويع له، فأحرق الموضع الذي كان به وأخذه فأقرّ على جمع من الناس بايعوه، فضرب بعضهم بالسياط، وأخرج العلوي هو وجمع من آل أبي طالب إلى العراق في شهر رمضان.
ومات المتوكل في شوّال، فقام من بعده ابنه محمد المستنصر، فورد كتابه إلى مصر بأن لا يقبل علويّ ضيعة، ولا يركب فرسا، ولا يسافر من الفسطاط إلى طرف من أطرافها، وأن يمنعوا من اتخاذ العبيد إلّا العبد الواحد، ومن كان بينه وبين أحد من الطالبيين خصومة من سائر الناس قبل قول خصمه فيه ولم يطالب ببينة، وكتب إلى العمال بذلك، ومات المستنصر في ربيع الآخر، وقام المستعين، فأخرج يزيد ستة رجال من الطالبيين إلى العراق في رمضان سنة خمسين ومائتين، ثم أخرج ثمانية منهم في رجب سنة إحدى وخمسين، وخرج جابر بن الوليد المدلجيّ بأرض الإسكندرية في ربيع الآخر سنة اثنتين وخمسين، واجتمع إليه كثير من بني مدلج فبعث إليه محمد بن عبيد الله بن يزيد بجيش من الإسكندرية فهزمهم وظفر بما معهم، وقوي أمره وأتاه الناس من كلّ ناحية، وضوى إليه كل من يومي إليه بشدّة ونجدة، فكان ممن أتاه عبد الله المريسيّ وكان لصا خبيثا، ولحق به جريج النصرانيّ وكان من شرار النصارى. وأولي بأسهم، ولحق به أبو حرملة فرج النوبيّ وكان فاتكا فعقد له جابر على سنهور وسخا وشرقيون وبنا، فمضى أبو حرملة في جيش عظيم، فأخرج العمال وجبى الخراج ولحق به عبد الله بن أحمد بن محمد بن إسماعيل بن(4/159)
محمد بن عبد الله بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب الذي يقال له ابن الأرقط، فقوّده أبو حرملة وضم إليه الأعراب وولاه بنا وبوصير وسمنود، فبعث يزيد أمير مصر بجمع من الأتراك في جمادى الآخرة فقاتلهم ابن الأرقط وقتل منهم، ثم ثبتوا له فانهزم وقتل من أصحابه كثير وأسر منهم كثير، ولحق ابن الأرقط بأبي حرملة في شرقيون فصار إلى عسكر يزيد فانهزم أبو حرملة. وقدم مزاحم بن خاقان من العراق في جيش، فحارب أبا حرملة حتى أسر في رمضان، واستأمن ابن الأرقط، فأخذ وأخرج إلى العراق في ربيع الأوّل سنة ثلاث وخمسين ومائتين ففرّ منهم، ثم ظفر به وحبس، ثم حمل إلى العراق في صفر سنة خمس وخمسين ومائتين بكتاب ورد على أحمد بن طولون، ومات أبو حرملة في السجن لأربع بقين من ربيع الآخر سنة ثلاث وخمسين، وأخذ جابر بعد حروب وحمل إلى العراق في رجب سنة أربع وخمسين، وخرج في إمرة أرجون التركيّ رجل من العلويين يقال له بغا الأكبر، وهو أحمد بن إبراهيم بن عبد الله بن طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن حسن بن حسين بن عليّ بالصعيد، فحاربه أصحاب أرجون وفرّ منهم فمات، ثم خرج بغا الأصغر وهو أحمد بن محمد بن عبد الله بن طباطبا فيما بين الإسكندرية وبرقة في جمادى الأولى سنة خمس وخمسين ومائتين، والأمير يومئذ أحمد بن طولون، وسار في جمع إلى الصعيد فقتل في الحرب وأتي برأسه إلى الفسطاط في شعبان وخرج ابن الصوفيّ العلويّ بالصعيد وهو إبراهيم بن محمد بن يحيى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن عليّ بن أبي طالب، ودخل اسنا في ذي القعدة سنة خمس وخمسين، ونهبها وقتل أهلها، فبعث إليه ابن طولون بجيش فحاربوه فهزمهم في ربيع الأوّل سنة ست وخمسين بهو، فبعث ابن طولون إليه بجيش آخر فالتقيا بأخميم في ربيع الآخر فانهزم ابن الصوفيّ وترك جميع ما معه وقتلت رجالته، فأقام ابن الصوفيّ بالواح سنتين ثم خرج إلى الأشمونين في المحرّم سنة تسع وخمسين وسار إلى أسوان لمحاربة أبي عبد الرحمن العمريّ، فظفر به العمريّ وبجميع جيشه وقتل منهم مقتلة عظيمة، ولحق ابن الصوفيّ بأسوان فقطع لأهلها ثلاثمائة ألف نخلة، فبعث إليه ابن طولون بعثا فاضطرب أمره مع أصحابه فتركهم ومضى إلى عيذاب، فركب البحر إلى مكة فقبض عليه بها وحمل إلى ابن طولون فسجنه ثم أطلقه فصار إلى المدينة ومات بها.
وفي إمارة هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون أنكر رجل من أهل مصر أن يكون أحد خيّرا من أهل البيت، فوثبت إليه العامّة فضرب بالسياط يوم الجمعة في جمادى الأولى سنة خمس وثمانين ومائتين. وفي إمارة ذكا الأعور على مصر كتب على أبواب الجامع العتيق ذكر الصحابة والقرآن فرضيه جمع من الناس وكرهه آخرون، فاجتمع الناس في رمضان سنة خمس وثلاثمائة إلى دار ذكا يتشكرونه على ما أذن لهم فيه، فوثب الجند بالناس فنهب قوم وجرح آخرون ومحي ما كتب على أبواب الجامع، ونهب الناس في المسجد والأسواق، وأفطر الجند يومئذ وما زال أمر الشيعة يقوى بمصر إلى أن دخلت سنة خمسين(4/160)
وثلاثمائة، ففي يوم عاشوراء كانت منازعة بين الجند وبين جماعة من الرعية عند قبر كلثوم العلوية بسبب ذكر السلف والنوح، قتل فيها جماعة من الفريقين، وتعصب السودان على الرعية، فكانوا إذا لقوا أحدا قالوا له: من خالك؟ فإن لم يقل معاوية وإلّا بطشوا به وشلحوه، ثم كثر القول معاوية خال عليّ، وكان على باب الجامع العتيق شيخان من العامّة يناديان في كل يوم جمعة في وجوه الناس من الخاص والعام، معاوية خالي وخال المؤمنين، وكاتب الوحي، ورديف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان هذا أحسن ما يقولونه، وإلّا فقد كانوا يقولون معاوية خال عليّ من هاهنا، ويشيرون إلى أن أصل الإذن، ويلقون أبا جعفر مسلما الحسينيّ فيقولون له ذلك في وجهه، وكان بمصر أسود يصيح دائما معاوية خال عليّ، فقتل بتنيس أيام القائد جوهر.
ولما ورد الخبر بقيام بني حسن بمكة ومحاربتهم الحاج ونهبهم، خرج خلق من المصريين في شوّال فلقوا كافور الإخشيديّ بالميدان ظاهر مدينة مصر وضجوا وصاحوا معاوية خال عليّ، وسألوه أن يبعث لنصرة الحاج على الطالبيين. وفي شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة أخذ رجل يعرف بابن أبي الليث الملطيّ ينسب إلى التشيع فضرب مائتي سوط ودرة، ثم ضرب في شوّال خمسمائة سوط ودرة، وجعل في عنقه غل وحبس وكان يتفقد في كلّ يوم لئلا يخفف عنه ويبصق في وجهه، فمات في محبسه فحمل ليلا ودفن، فمضت جماعة إلى قبره لينبشوه وبلغوا إلى القبر فمنعهم جماعة من الإخشيدية والكافورية، فأبوا وقالوا هذا قبر رافضيّ، فثارت فتنة وضرب جماعة ونهبوا كثيرا حتى تفرّق الناس.
وفي سنة ست وخمسين كتب في صفر على المساجد ذكر الصحابة والتفضيل، فأمر الأستاذ كافور الإخشيديّ بإزالته، فحدّثه جماعة في إعادة ذكر الصحابة على المساجد فقال:
ما أحدث في أيامي ما لم يكن وما كان في أيام غيري فلا أزيله، وما كتب في أيامي أزيله، ثم أمر من طاف وأزاله من المساجد كلها. ولما دخل جوهر القائد بعساكر المعز لدين الله إلى مصر وبنى القاهرة أظهر مذهب الشيعة وأذن في جميع المساجد الجامعة وغيرها حيّ على خير العمل، وأعلن بتفضيل عليّ بن أبي طالب على غيره، وجهر بالصلاة عليه وعلى الحسن والحسين وفاطمة الزهراء رضوان الله عليهم، فشكا إليه جماعة من أهل المسجد الجامع أمر عجوز عمياء تنشد في الطريق، فأمر بها فحبست فسرّ الرعية بذلك ونادوا بذكر الصحابة ونادوا معاوية خال عليّ وخال المؤمنين، فأرسل جوهر حين بلغه ذلك رجلا إلى الجامع فنادى: أيها الناس أقلوا القول ودعوا الفضول، فإنما حبسنا العجوز صيانة لها، فلا ينطقن أحد إلّا حلّت به العقوبة الموجعة، ثم أطلق العجوز.
وفي ربيع الأوّل سنة اثنتين وستين عزر سليمان بن عروة المحتسب جماعة من(4/161)
الصيارفة فشغبوا وصاحوا معاوية خال عليّ بن أبي طالب، فهمّ جوهر أن يحرق رحبة الصيارفة، لكن خشي على الجامع، وأمر الإمام بجامع مصر أن يجهر بالبسملة في الصلاة وكانوا لا يفعلون ذلك، وزيد في صلاة الجمعة القنوت في الركعة الثانية، وأمر في المواريث بالردّ على ذوي الأرحام، وأن لا يرث مع البنت أخ ولا أخت ولا عم ولا جدّ ولا ابن أخ ولا ابن عم، ولا يرث مع الولد الذكر أو الأنثى إلّا الزوج أو الزوجة والأبوان والجدّة، ولا يرث مع الأمّ إلّا من يرث مع الولد، وخاطب أبو الطاهر محمد بن أحمد قاضي مصر القائد جوهرا في بنت وأخ، وأنه كان حكم قديما للبنت بالنصف وللأخ بالباقي، فقال لا أفعل فلما ألح عليه قال: يا قاضي هذا عداوة لفاطمة عليها السلام، فأمسك أبو الطاهر ولم يراجعه بعد في ذلك، وصار صوم شهر رمضان والفطر على حساب لهم، فأشار الشهود على القاضي أبي الطاهر أن لا يطلب الهلال، لأنّ الصوم والفطر على الرؤية قد زال، فانقطع طلب الهلال من مصر وصام القاضي وغيره مع القائد جوهر كما يصوم، وأفطروا كما يفطر. ولما دخل المعز لدين الله إلى مصر ونزل بقصره من القاهرة المعزية، أمر في رمضان سنة اثنتين وستين وثلاثمائة فكتب على سائر الأماكن بمدينة مصر خير الناس بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام. وفي صفر سنة خمس وستين وثلاثمائة جلس عليّ بن النعمان القاضي بجامع القاهرة المعروف بالجامع الأزهر وأملى مختصر أبيه في الفقه عن أهل البيت، ويعرف هذا المختصر بالاقتصار، وكان جمعا عظيما وأثبت أسماء الحاضرين.
ولما تولى يعقوب بن كلس الوزارة للعزيز بالله نزار بن المعز رتب في داره العلماء من الأدباء والشعراء والفقهاء والمتكلمين، وأجرى لجميعهم الأرزاق، وألف كتابا في الفقه ونصب له مجلسا وهو يوم الثلاثاء يجتمع فيه الفقهاء وجماعة من المتكلمين وأهل الجدل، وتجري بينهم المناظرات، وكان يجلس أيضا في يوم الجمعة فيقرأ مصنفاته على الناس بنفسه، ويحضر عنده القضاة والفقهاء والقرّاء والنحاة وأصحاب الحديث ووجوه أهل العلم والشهود، فإذا انقضى المجلس من القراءة قام الشعراء لإنشاد مدائحهم فيه، وجعل للفقهاء في شهر رمضان الأطعمة، وألف كتابا في الفقه يتضمن ما سمعه من المعز لدين الله ومن ابنه العزيز بالله، وهو مبوّب على أبواب الفقه يكون قدره مثل نصف صحيح البخاريّ، ملكته ووقفت عليه، وهو يشتمل على فقه الطائفة الإسماعيلية، وكان يجلس لقراءة هذا الكتاب على الناس بنفسه وبين يديه خواص الناس وعوامّهم وسائر الفقهاء والقضاة والأدباء، وأفتى الناس به ودرّسوا فيه بالجامع العتيق، وأجرى العزيز بالله لجماعة من الفقهاء يحضرون مجلس الوزير ويلازمونه أرزاقا تكفيهم في كلّ شهر، وأمر لهم ببناء دار إلى جانب الجامع الأزهر، فإذا كان يوم الجمعة تحلقوا فيه بعد الصلاة إلى أن تصلّى صلاة العصر، وكان لهم من مال الوزير أيضا صلة في كلّ سنة، وعدّتهم خمسة وثلاثون رجلا، وخلع عليهم العزيز(4/162)
بالله في يوم عيد الفطر وحملهم على بغال.
وفي سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة أمر العزيز بن المعز بقطع صلاة التروايح من جميع البلاد المصرية. وفي سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة ضرب رجل بمصر وطيف به المدينة من أجل أنه وجد عنده كتاب الموطأ لمالك بن أنس رحمه الله. وفي شهر ربيع الأوّل سنة خمس وثمانين وثلاثمائة جلس القاضي محمد بن النعمان على كرسيّ بالقصر في القاهرة لقراءة علوم أهل البيت على الرسم المتقدّم له ولأخيه بمصر، ولأبيه بالمغرب، فمات في الزحمة أحد عشر رجلا. وفي جمادى الأولى سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة قبض على رجل من أهل الشام سئل عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال لا أعرفه، فاعتقله قاضي القضاة الحسن بن النعمان قاضي أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله على القاهرة المعزية ومصر والشامات والحرمين والمغرب، وبعث إليه وهو في السجن أربعة من الشهود وسألوه، فأقرّ بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأنه نبيّ مرسل، وسئل عن عليّ بن أبي طالب فقال لا أعرفه، فأمر قائد القوّاد الحسين بن جوهر بإحضاره، فخلا به ورفق في القول له فلم يرجع عن إنكاره معرفة عليّ بن أبي طالب، فطولع الحاكم بأمره فأمر بضرب عنقه فضرب عنقه وصلب. وفي سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة قبض على ثلاثة عشر رجلا وضربوا وشهروا على الجمال وحبسوا ثلاثة أيام من أجل أنهم صلوا صلاة الضحى.
وفي سنة خمس وتسعين وثلاثمائة قريء سجل في الجوامع بمصر والقاهرة والجزيرة بأن تلبس النصارى واليهود الغيار والزنار، وغيارهم السواد غيار العاصين العباسيين، وأن يشدّوا الزنار وفيه وقوع وفحش في حق أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وقرىء سجل آخر فيه منع الناس من أكل الملوخيا المحببة كانت لمعاوية بن أبي سفيان، ومنعهم من أكل البقلة المسماة بالجرجير المنسوبة لعائشة رضي الله عنها، ومن المتوكلية المنسوبة إلى المتوكل، والمنع من عجين الخبز بالرجل، والمنع من أكل الدلينس ومن ذبح البقر إلّا ذا عاهة ما، عدا أيام النحر، فإنه يذبح فيها البقر فقط، والوعيد للنخاسين متى باعوا عبدا أو أمة لذميّ، وقريء سجل آخر بأن يؤذن لصلاة الظهر في أوّل الساعة السابعة، ويؤذن لصلاة العصر في أوّل الساعة التاسعة، وقريء أيضا سجل بالمنع من عمل الفقاع وبيعه في الأسواق لما يؤثر عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه من كراهية شرب الفقاع، وضرب في الطرقات والأسواق بالحرس، ونودي أن لا يدخل أحد الحمام إلّا بمئزر، ولا تكشف امرأة وجهها في طريق، ولا خلف جنازة، ولا تتبرّج، ولا يباع شيء من السمك بغير قشر، ولا يصطاده أحد من الصيادين، وقبض على جماعة وجدوا في الحمام بغير مئزر فضربوا وشهروا. وكتب في صفر من هذه السنة على سائر المساجد وعلى الجامع العتيق بمصر من ظاهره وباطنه من جميع جوانبه، وعلى أبواب الحوانيت والحجر وعلى المقابر والصحراء سبّ السلف ولعنهم، ونقش ذلك ولوّن بالأصباغ والذهب، وعمل ذلك على أبواب الدور(4/163)
والقياسر، وأكره الناس على ذلك، وتسارع الناس إلى الدخول في الدعوة، فجلس لهم قاضي القضاة عبد العزيز بن محمد بن النعمان، فقدموا من سائر النواحي والضياع، فكان للرجال يوم الأحد، وللنساء يوم الأربعاء، وللأشراف وذوي الأقدار يوم الثلاثاء، وازدحم الناس على الدخول في الدعوة، فمات عدّة من الرجال والنساء. ولما وصلت قافلة الحاج مرّ بهم من سبّ العامّة وبطشهم ما لا يوصف، فإنهم أرادوا حمل الحاج على سبّ السلف فأبوا، فحلّ بهم مكروه شديد. وفي جمادى الآخرة من هذه السنة فتحت دار الحكمة بالقاهرة وجلس فيها القرّاء، وحملت الكتب إليها من خزائن القصور، ودخل الناس إليها وجلس فيها القرّاء والفقهاء والمنجمون والنحاة وأصحاب اللغة والأطباء، وحصل فيها من الكتب في سائر العلوم ما لم ير مثله مجتمعا، وأجرى على من فيها من الخدّام والفقهاء الأرزاق السنية، وجعل فيها ما يحتاج إليه من الحبر والأقلام والمحابر والورق. وفي يوم عاشوراء من سنة ست وتسعين وثلاثمائة كان من اجتماع الناس ما جرت به العادة، وأعلن بسبّ السلف فيه، فقبض على رجل نودي عليه هذا جزاء من سبّ عائشة وزوجها صلّى الله عليه وسلّم، ومعه من الرعاع ما لا يقع عليه حصروهم يسبون السلف، فلما تمّ النداء عليه ضرب عنقه، واستهل شهر رجب من هذه السنة بيوم الأربعاء، فخرج أمر الحاكم بأمر الله أن يؤرّخ بيوم الثلاثاء، وفي سنة سبع وتسعين وثلاثمائة قبض على جماعة ممن يعمل الفقاع ومن السماكين ومن الطباخين وكبست الحمامات فأخذ عدّة ممن وجد بغير مئزر، فضرب الجميع لمخالفتهم الأمر وشهروا. وفي تاسع ربيع الآخر أمر الحاكم بأمر الله بمحو ما كتب على المساجد وغيرها من سبّ السلف، وطاف متولي الشرطة وألزم كل أحد بمحو ما كتب على المساجد من ذلك، ثم قريء سجل في ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وثلاثمائة بأن لا يحمل شيء من النبيذ والمزر، ولا يتظاهر به ولا بشيء من الفقاع والدلينس والسمك الذي لا قشر له والترمس العفن، وقريء سجل في رمضان على سائر المنابر بأنه يصوم الصائمون على حسابهم ويفطرون، ولا يعارض أهل الرؤية فيما هم عليه صائمون ومفطرون، صلاة الخمس الدين، فبما جاءهم فيها يصلون، وصلاة الضحى وصلاة التراويح لا مانع لهم منها.
ولا هم عنها يدفعون، يخمّس في التكبير على الجنائز المخمسون، ولا يمنع من التربيع عليها المربّعون، يؤذن بحيّ على خير العمل المؤذنون، ولا يؤذى من بها لا يؤذنون، ولا يسب أحد من السلف، ولا يحتسب على الواصف فيهم بما وصف، والحالف منهم بما حلف، لكلّ مسلم مجتهد في دينه اجتهاده، وإلى الله ربه معاده عنده كتابه وعليه حسابه.
وفي صفر سنة أربعمائة شهر جماعة بعد ما ضربوا بسبب بيع الفقاع والملوخيا والدلينس والترمس.
وفي تاسع عشر شهر شوّال أمر الحاكم بأمر الله برفع ما كان يؤخذ من الخمس والزكاة والفطرة والنجوى، وأبطل قراءة مجالس الحكمة في القصر، وأمر بردّ التثويب في الأذان،(4/164)
وأذّن للناس في صلاة الضحى وصلاة التراويح، وأمر المؤذنين بأسرهم في الأذان بأن لا يقولوا حيّ على خير العمل، وأن يقولوا في الأذان للفجر الصلاة خير من النوم، ثم أمر في ثاني عشري ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعمائة بإعادة قول حيّ على خير العمل في الأذان، وقطع التثويب وترك قولهم الصلاة خير من النوم، ثم أمر في ثاني عشري ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعمائة بإعادة قول حيّ على خير العمل في الأذان، وقطع التثويب وترك قولهم الصلاة خير من النوم، ومنع من صلاة الضحى، وصلاة التراويح، وفتح باب الدعوة، وأعيدت قراءة المجالس بالقصر على ما كانت، وكان بين المنع من ذلك والأذن فيه خمسة أشهر، وضرب في جمادى من هذه السنة جماعة وشهروا بسبب بيع الملوخيا والسمك الذي لا قشر له وشرب المسكرات، وتتبع السكارى فضيق عليهم.
وفي يوم الثلاثاء سابع عشري شعبان سنة إحدى وأربعمائة وقع قاضي القضاة مالك بن سعيد الفارقيّ إلى سائر الشهود والأمناء بخروج الأمر المعظم، بأن يكون الصوم يوم الجمعة والعيد يوم الأحد. وفي شعبان سنة اثنتين وأربعمائة قريء سجل يشدّد فيه النكير على بيع الملوخيا والفقاع والسمك الذي لا قشر له، ومنع النساء من الاجتماع في المآتم ومن اتباع الجنائز، وأحرق الحاكم بأمر الله في هذا الشهر الزبيب الذي وجد في مخازن التجار، وأحرق ما وجد من الشطرنج، وجمع صيادي السمك وحلّفهم بالأيمان المؤكدة أن لا يصطادوا سمكا بغير قشر، ومن فعل ذلك ضربت عنقه، وأحرق في خمسة عشر يوما ألفين وثمانمائة وأربعين قطعة زبيب بلغ ثمن النفقة عليها خمسمائة دينار، ومنع من بيع العنب إلّا أربعة أرطال فما دونها، ومنع من اعتصاره، وطرح عنبا كثيرا في الطرقات وأمر بدوسه، فامتنع الناس من التظاهر بشيء من العنب في الأسواق، واشتدّ الأمر فيه، وغرق منه ما حمل في النيل، وأحصي ما بالجيزة من الكروم، فقطف ما عليها من العنب وطرح ما جمعه من ذلك تحت أرجل البقر لتدوسه، وفعل مثل ذلك في جهات كثيرة، وختم على مخازن العسل، وغرّق منه في أربعة أيام خمسة آلاف جرّة وإحدى وخمسين جرّة فيها العسل، وغرق من عسل النحل قدر إحدى وخمسين زيرا. وفي جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعمائة، اشتدّ الإنكار على الناس بسبب بيع الفقاع والزبيب والسمك الذي لا قشر له، وقبض على جماعة وجد عندهم زبيب فضربت أعناقهم وسجنت عدّة منهم وأطلقوا. وفي شوّال اعتقل رجل ثم شهر ونودي عليه هذا جزاء من سبّ أبا بكر وعمر ويثير الفتن، فاجتمع خلق كثير بباب القصر فاستغاثوا، لا طاقة لنا بمخالفة المصريين ولا بمخالفة الحشوية من العوام، ولا صبر لنا على ما جرى، وكتبوا قصصا فصرفوا ووعدوا بالمجيء في غد، فبات كثير منهم بباب القصر، واجتمعوا من الغد فصاحوا وضجوا فخرج إليهم قائد القوّاد غين، فنهاهم وأمرهم عن أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله أن يمضوا إلى معايشهم، فانصرفوا إلى قاضي القضاة مالك بن سعيد الفارقيّ وشكوا إليه، فتبرّم من ذلك فمضوا وفيهم من يسب(4/165)
السلف ويعرّض بالناس، فقريء سجل في القصر بالترحم على السلف من الصحابة، والنهي عن الخوض في ذلك، وركب مرّة فرأى لوحا على قيسارية فيه سب السلف فأنكره، وما زال واقفا حتى قلع وضرب بالحرس في سائر طرقات مصر والقاهرة، وقريء سجل بتتبع الألواح المنصوبة على سائر أبواب القياسر والحوانيت والدور والخانات والأرباع المشتملة على ذكر الصحابة والسلف الصالح، رحمهم الله، بالسب واللعن، وقلع ذلك وكسره وتعفية أثره، ومحو ما على الحيطان من هذه الكتابة، وإزالة جميعها من سائر الجهات حتى لا يرى لها أثر في جدار ولا نقش في لوح، وحذّر فيه من المخالفة، وهدّد بالعقوبة، ثم انتقض ذلك كله وعاد الأمر إلى ما كان عليه إلى أن قتل الخليفة الآمر بأحكام الله أبو عليّ منصور بن المستعلي بالله أبي القاسم أحمد بن المستنصر بالله أبي تميم معدّ.
وثار أبو عليّ أحمد الملقب كتيفات ابن الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش، واستولى على الوزارة في شنة أربع وعشرين وخمسمائة، وسجن الحافظ لدين الله أبا الميمون عبد المجيد بن الأمير أبي القاسم محمد بن الخليفة المستنصر بالله، وأعلن بمذهب الإمامية والدعوة للإمام المنتظر، وضرب دراهم نقشها: الله الصمد الإمام محمد. ورتب في سنة خمس وعشرين أربعة قضاة، اثنان أحدهما إماميّ والآخر إسماعيليّ، واثنان أحدهما مالكيّ والآخر شافعيّ، فحكم كل منهما بمذهبه وورّث على مقتضاه، وأسقط ذكر إسماعيل بن جعفر الصادق وأبطل من الأذان حيّ على خير العمل، وقولهم محمد وعليّ خير البشر، فلما قتل في المحرّم سنة ست وعشرين عاد الأمر إلى ما كان عليه من مذهب الإسماعيلية.
وما برح حتى قدمت عساكر الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي من دمشق، عليها أسد الدين شيركوه، وولى وزارة مصر للخليفة العاضد لدين الله أبي محمد عبد الله بن الأمير يوسف بن الحافظ لدين الله، ومات، فقام في الوزارة بعده ابن أخيه السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب في جمادى الآخرة سنة أربع وستين وخمسمائة، وشرع في تغيير الدولة وإزالتها، وحجر على العاضد وأوقع بأمراء الدولة وعساكرها، وأنشأ بمدينة مصر مدرسة للفقهاء الشافعية، ومدرسة للفقهاء المالكية، وصرف قضاة مصر الشيعة كلهم، وفوّض القضاء لصدر الدين عبد الملك بن درباس المارانيّ الشافعيّ، فلم يستنب عنه في إقليم مصر إلّا من كان شافعيّ المذهب، فتظاهر الناس من حينئذ بمذهب مالك والشافعيّ، واختفى مذهب الشيعة والإسماعيلية والإمامية حتى فقد من أرض مصر كلها، وكذلك كان السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي بن آق سنقر حنيفا فيه تعصب، فنشر مذهب أبي حنيفة رحمه الله ببلاد الشام، ومنه كثرت الحنفية بمصر، وقدم إليها أيضا عدّة من بلاد الشرق، وبنى لهم السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب المدرسة السيوفية بالقاهرة، وما زال مذهبهم ينتشر ويقوى وفقهاؤهم تكثر بمصر والشام من حينئذ.
وأما العقائد فإن السلطان صلاح الدين حمل الكافة على عقيدة الشيخ أبي الحسن عليّ بن(4/166)
إسماعيل الأشعريّ، تلميذ أبي علي الجبائيّ، وشرط ذلك في أوقافه التي بديار مصر، كالمدرسة الناصرية بجوار قبر الإمام الشافعيّ من القرافة، والمدرسة الناصرية التي عرفت بالشريفية بجوار جامع عمرو بن العاص بمصر، والمدرسة المعروفة بالقمحية بمصر، وخانكاه سعيد السعداء بالقاهرة. فاستمرّ الحال على عقيدة الأشعريّ بديار مصر وبلاد الشام وأرض الحجاز واليمن وبلاد المغرب أيضا، لإدخال محمد بن تومرت رأي الأشعريّ إليها، حتى أنه صار هذا الاعتقاد بسائر هذه البلاد، بحيث أن من خالفه ضرب عنقه، والأمر على ذلك إلى اليوم، ولم يكن في الدولة الأيوبية بمصر كثير ذكر لمذهب أبي حنيفة وأحمد بن حنبل، ثم اشتهر مذهب أبي حنيفة وأحمد بن حنبل في آخرها.
فلما كانت سلطنة الملك الظاهر بيبرس البندقداريّ، ولي بمصر والقاهرة أربعة قضاة، وهم شافعيّ ومالكيّ وحنفيّ وحنبليّ. فاستمرّ ذلك من سنة خمس وستين وستمائة، حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب أهل الإسلام سوى هذه المذاهب الأربعة، وعقيدة الأشعريّ، وعملت لأهلها المدارس والخوانك والزوايا والربط في سائر ممالك الإسلام، وعودي من تمذهب بغيرها، وأنكر عليه، ولم يولّ قاض ولا قبلت شهادة أحد ولا قدّم للخطابة والإمامة والتدريس أحد ما لم يكن مقلدا لأحد هذه المذاهب، وأفتى فقهاء هذه الأمصار في طول هذه المدّة بوجوب اتباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها، والعمل على هذا إلى اليوم، وإذ قد بينا الحال في سبب اختلاف الأمّة منذ توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أن استقرّ العمل على مذهب مالك والشافعيّ وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل، رحمة الله عليهم، فلنذكر اختلاف عقائد أهل الإسلام منذ كان إلى أن التزم الناس عقيدة الشيخ أبي الحسن الأشعريّ رحمه الله ورضي عنه.
ذكر فرق الخليقة واختلاف عقائدها وتباينها
اعلم أن الذين تكلموا في أصول الديانات قسمان، هما من خالف ملة الإسلام، ومن أقرّ بها. فأما المخالفون لملة الإسلام فهم عشر طوائف: الأولى الدهرية، والثانية أصحاب العناصر. والثالثة الثنوية: وهم المجوس، ويقولون بأصلين هما النور والظلمة، ويزعمون أن النور هو يزدان، والظلمة هو أهرمن، ويقرّون بنبوّة إبراهيم عليه السّلام، وهم ثمان فرق: الكيومرتية أصحاب كيومرت الذي يقال أنه آدم. والزروانية أصحاب زروان الكبير، والزرادشتية أصحاب زراداشت بن بيورشت الحكيم، والثنوية أصحاب الاثنين الأزليين.
والمانوية أصحاب ماني الحكيم. والمزركية أصحاب مزرك الخارجي. والبيصانية أصحاب بيصان القائل بالأصلين القديمين. والفرقونية القائلون بالأصلين. وأنّ الشرّ خرج على أبيه وأنه تولد من فكرة فكرها في نفسه، فلما خرج على أبيه الذي هو الإله بزعمهم عجز عنه،(4/167)
ثم وقع الصلح بينهما على يد الندمات وهم الملائكة، ومنهم من يقول بالتناسخ، ومنهم من ينكر الشرائع والأنباء، ويحكمون العقول، ويزعمون أن النفوس العلوية تفيض عليهم الفضائل.
والطائفة الرابعة الطبائعيون.
والطائفة الخامسة الصابئة القائلون بالهياكل والأرباب السماوية والأصنام الأرضية، وإنكار النبوّات، وهم أصناف وبينهم وبين الحنفاء مناظرات وحروب مهلكة، وتولدت من مذاهبهم الحكمة الملطية، ومنهم أصحاب الروحانيات، وهم عباد الكواكب وأصنامها التي عملت على تمثالها، والحنفاء هم القائلون بأن الروحانيات منها ما وجودها بالقوّة، ومنها ما وجودها بالفعل، فما هو بالقوّة يحتاج إلى من يوجده بالفعل. ويقرّون بنبوّة إبراهيم، وأنه منهم. وهم طوائف: الكاظمة أصحاب كاظم بن تارح، ومن قوله أنّ الحق في الجمع بين شريعة إدريس وشريعة نوح وشريعة إبراهيم عليهم السّلام، ومنهم البيدانية: أصحاب بيدان الأصغر، ومن قوله اعتقاد نبوّة من يفهم عالم الروح، وأن النبوّة من أسرار الإلهية. ومنهم القنطارية: أصحاب قنطار بن أرفخشد، ويقرّ بنبوّة نوح. ومن فرق الصابئة أصحاب الهياكل: ويرون أن الشمس إله كلّ إله. والحرّانية: ومن قولهم المعبود واحد بالذات وكثير بالأشخاص في رأي العين، وهي المدبرات السبع من الكواكب والأرضية الجزئية والعالمة الفاضلة.
والطائفة السادسة اليهود. والسابعة النصارى.
والثامنة أهل الهند القائلون بعبادة الأصنام، ويزعمون أنها موضوعة قبل آدم، ولهم حكم عقلية وأحكام وضعها الشلم، أعظم حكامهم، والمهندم قبله، والبراهمة قبل ذلك.
فالبراهمة أصحاب برهام أوّل من أنكر نبوّة البشر، ومنهم البردة زهاد عباد رجال الرماد الذي يهجرون اللذات الطبيعية، وأصحاب الرياضة التامّة، وأصحاب التناسخ، وهم أقسام أصحاب الروحانية والبهادرية والناسوتية والباهرية والكابلية، أهل الجبل. ومنهم الطبسيون أصحاب الرياضة الفاعلة، حتّى أن منهم من يجاهد نفسه حتى يسلطها على جسده، فيصعد في الهواء على قدر قوّته، وفي اليهود عباد النار وعباد الشمس والقمر والنجوم وعباد الأوثان.
والطائفة التاسعة الزنادقة وهم طوائف منهم القرامطة.
والعاشرة الفلاسفة أصحاب الفلسفة، وكلمة فيلسوف معناها محب الحكمة، فإن فيلو محب، وسوفا حكمة، والحكمة قولية وفعلية، وعلم الحكماء انحصر في أربعة أنواع:
الطبيعيّ والمدنيّ والرياضيّ والإلهيّ. والمجموع ينصرف إلى علم ما، وعلم كيف، وعلم(4/168)
كم، فالعلم الذي يطلب فيه ماهيات الأشياء هو الإلهيّ، والذي يطلب فيه كيفيات الأشياء هو الطبيعيّ، والذي يطلب فيه كميات الأشياء هو الرياضيّ. ووضع بعد ذلك أرسطو صنعة المنطق، وكانت بالقوّة في كلام القدماء، فأظهرها ورتبها. واسم الفلاسفة يطلق على جماعة من الهند، وهم الطبسيون والبراهمة، ولهم رياضة شديدة، وينكرون النبوّة أصلا، ويطلق أيضا على العرب بوجه أنقص، وحكمتهم ترجع إلى أفكارهم وإلى ملاحظة طبيعية، ويقرّون بالنبوّات، وهم أضعف الناس في العلوم، ومن الفلاسفة حكماء الروم، وهم طبقات، فمنهم أساطين الحكمة، وهم أقدمهم، ومنهم المشاؤون وأصحاب الرواق، وأصحاب أرسطو، وفلاسفة الإسلام. فمن فلاسفة الروم الحكماء السبعة، أساطين الحكمة، أهل ملطية وقونية وهم: تاليس الملطيّ، وانكساغورس، وانكسمالس، وابنادفيس، وفيثاغورس، وسقراط، وأفلاطون. ودون هؤلاء فلوطس، وبقراط، وديمقراطيس، وأسعر والنساس.
ومنهم حكماء الأصول من القدماء، ولهم القول بالسيمياء، ولهم أسرار الخواص والحيل والكيمياء والأسماء الفعالة والحروف، ولهم علوم توافق علوم الهند، وعلوم اليونانيين، وليس من موضوع كتابنا هذا ذكر تراجمهم، فلذلك تركناها.
القسم الثاني فرق أهل الإسلام. الذي عناهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «ستفترق أمّتي ثلاثا وسبعين فرقة، اثنتان وسبعون هالكة، وواحدة ناجية» وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذيّ وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفرّقت النصارى على إحدى وسبعين أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة» قال البيهقيّ حسن صحيح، وأخرجه الحاكم وابن حبان في صحيحه بنحوه، فأخرجه في المستدرك من طريق الفضل بن موسى، عن محمد بن عمر، عن أبي سلمة عن أبي هريرة به، وقال هذا حديث كثير في الأصول، وقد روي عن سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وعوف بن مالك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمثله، وقد احتج مسلم بمحمد بن عمر، وعن أبي سلمة عن أبي هريرة، واتفقا جميعا على الاحتجاج بالفضل بن موسى وهو ثقة.
واعلم أن فرق المسلمين خمسة: أهل السنة، والمرجئة، والمعتزلة، والشيعة، والخوارج. وقد افترقت كلّ فرقة منها على فرق، فأكثر افتراق أهل السنة في الفتيا ونبذ يسير من الاعتقادات، وبقية الفرق الأربع منها من يخالف أهل السنة الخلاف البعيد، ومنهم من يخالفهم الخلاف القريب، فأقرب فرق المرجئة من قال: الإيمان إنما هو التصديق بالقلب واللسان معا فقط، وأن الأعمال إنما هي فرائض الإيمان وشرائعه فقط، وأبعدهم أصحاب جهم بن صفوان ومحمد بن كرام. وأقرب فرق المعتزلة أصحاب الحسين النجار وبشر بن غياث المريسيّ، وأبعدهم أصحاب أبي الهذيل العلاف. وأقرب مذاهب الشيعة أصحاب الحسن بن صالح بن حيّ، وأبعدهم الإمامية. وأما الغالية فليسوا بمسلمين ولكنهم أهل ردّة(4/169)
وشرك. وأقرب فرق الخوارج أصحاب عبد الله بن يزيد الإباضيّ، وأبعدهم الأزارقة. وأما البطيخية ومن جحد شيئا من القرآن أو فارق الإجماع من العجاردة وغيرهم فكفار بإجماع الأمّة، وقد انحصرت الفرق الهالكة في عشر طوائف:
الفرقة الأولى المعتزلة: الغلاة في نفي الصفات الإلهية، القائلون بالعدل والتوحيد، وأن المعارف كلها عقلية، حصولا ووجوبا، قبل الشرع وبعده، وأكثرهم على أن الإمامة بالاختيار، وهم عشرون فرقة: إحداها الواصلية: أصحاب واصل بن عطاء أبي حذيفة الغزال، مولى بني ضبة، وقيل مولى بني مخزوم. ولد بالمدينة سنة ثمانين، ونشأ بالبصرة، ولقي أبا هاشم عبد الله بن محمد ابن الحنفية، ولازم مجلس الحسن بن الحسين البصريّ، وأكثر من الجلوس بسوق الغزل ليعرف النساء المتعففات فيصرف إليهنّ صدقته، فقيل له الغزال من أجل ذلك، وكان طويل العنق جدّا، حتى عابه عمرو بن عبيد بذلك فقال: من هذه عنقه لا خير عنده. فلما برع واصل، قال عمر: وربما أخطأت الفراسة. وكان يلثغ بالراء، ومع ذلك كان فصيحا لسنا مقتدرا على الكلام، قد أخذ بجوامعه، فلذلك أمكنه أن أسقط حرف الراء من كلامه، واجتناب الحروف صعب جدّا، لا سيما مثل الراء لكثرة استعمالها، وله رسالة طويلة لم يذكر فيها حرف الراء، أحد بدائع الكلام، وكان لكثرة صمته يظنّ به الخرس، توفي سنة إحدى وثلاثين ومائة، وله كتاب المنزلة بين المنزلتين، وكتاب الفتيا، وكتاب التوحيد. وعنه أخذ جماعة، وأخباره كثيرة، ويقال لهم أيضا الحسنية، نسبة إلى الحسن البصريّ. وأخذ واصل العلم عن أبي هاشم عبد الله بن محمد ابن الحنفية، وخالفه في الإمامة، واعتزاله يدور على أربع قواعد هي: نفي الصفات، والقول بالقدر، والقول بمنزلة بين المنزلتين، وأوجب الخلود في النار على من ارتكب كبيرة. فلما بلغ الحسن البصريّ عنه هذا قال: هؤلاء اعتزلوا، فسموا من حينئذ المعتزلة. وقيل أن تسميتهم بذلك حدثت بعد الحسن، وذلك أن عمرو بن عبيد لما مات الحسن وجلس قتادة مجلسه اعتزله في نفر معه، فسماهم قتادة المعتزلة. القاعدة الرابعة القول بأن إحدى الطائفتين من أصحاب الجمل وصفين مخطئة لا بعينها، وكان في خلافة هشام بن عبد الملك.
والثانية العمروية: أصحاب عمرو، ومن قوله ترك قول عليّ بن أبي طالب وطلحة والزبير رضي الله عنهم. وقال ابن منبه: اعتزل عمرو بن عبيد وأصحاب له الحسن، فسموا المعتزلة.
والثالثة الهذلية: اتباع أبي الهذيل محمد بن الهذيل العلاف شيخ المعتزلة، أخذ عن عثمان بن خالد الطويل، عن واصل بن عطاء، ونظر في الفلسفة ووافقهم في كثير وقال:
جميع الطاعات من الفرائض والنوافل إيمان، وانفرد بعشر مسائل وهي: أن علم الله وقدرته وحياته هي ذاته، وأثبت إرادات لا محل لها يكون الباري مريدا لها. وقال: بعض كلام الله(4/170)
لا في محل، وهو قوله كن. وبعضه في محل، كالأمر والنهي. وقال في أمور الآخرة.
كمذهب الجبرية. وقال تنتهي مقدورات الله حتى لا يقدر على إحداث شيء ولا على إفناء شيء ولا إحياء شيء ولا إماتة شيء، وتنقطع حركات أهل الجنة والنار ويصيرون إلى سكون دائم. وقال: الاستطاعة عرض من الأعراض نحو السلامة، والصحة. وفرّق بين أعمال القلوب وأعمال الجوارح وقال: تجب معرفة الله قبل ورود السمع. وأن المرء المقتول إن لم يقتل مات في ذلك الوقت، ولا يزاد العلم ولا ينقص بخلاف الرزق. وقال: إرادة الله عين المراد، والحجة لا تقوم فيما غاب إلّا بخبر عشرين.
والرابعة النظامية: اتباع إبراهيم بن سيار النظّام، بتشديد الظاء المعجمة، زعيم المعتزلة وأحد السفهاء، انفرد بعدّة مسائل وهي: قوله أنّ الله تعالى لا يوصف بالقدرة على الشرور والمعاصي، وأنها غير مقدورة لله. وقال: ليس لله إرادة، وأفعال العباد كلها حركات، والنفس والروح هو الإنسان، والبدن إنما هو آلة فقط، وأن كل ما جاوز القدرة من الفعل فهو من الله، وهو فعله، وأنكر الجوهر الفرد، وأحدث القول بالطفرة، وقال: الجوهر مؤلف من أعراض اجتمعت، وزعم أنّ الله خلق الموجودات دفعة على ما هي عليه، وأن الإعجاز في القرآن من حيث الإخبار عن الغيب فقط، وأنكر أن يكون الإجماع حجة، وطعن في الصحابة رضي الله تعالى عنهم. وقال قبحه الله: أبو هريرة أكذب الناس، وزعم أنه ضرب فاطمة ابنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومنع ميراث العترة، وأوجب معرفة الله بالفكر قبل ورود الشرع، وحرّم نكاح الموالي العربيات. وقال: لا تجوز صلاة التراويح، ونهى عن ميقات الحج، وكذب بانشقاق القمر، وأحال رؤية الجنّ، وزعم أن من سرق مائتي دينار فما دونها لم يفسق، وأن الطلاق بالكتابة لا يقع وإن كان بنيّة، وأنّ من نام مضطجعا لا ينتقض وضوءه ما لم يخرج منه الحدث. وقال: لا يلزم قضاء الصلوات إذا فاتت.
والخامسة الإسوارية: اتباع أبي عليّ عمرو بن قائد الإسواريّ، القائل أن الله تعالى لا يقدر أن يفعل ما علم أنه لا يفعله. والسادسة الإسكافية: اتباع أبي جعفر محمد بن عبد الله الإسكافيّ، ومن قوله أنّ الله تعالى لا يقدر على ظلم العقلاء، ويقدر على ظلم الأطفال والمجانبين، وأنه لا يقال أنّ الله خالق المعازف والطنابير وإن كان هو الذي خلق أجسامها.
والسابعة الجعفرية: اتباع جعفر بن حرب بن ميسرة، ومن قوله أنّ في فسّاق هذه الأمّة من هو شرّ من اليهود والنصارى والمجوس، وأسقط الحدّ عن شارب الخمر، وزعم أن الصغائر من الذنوب توجب تخليد فاعلها في النار، وأنّ رجلا لو بعث رسولا إلى امرأة ليخطبها فجاءته فوطئها من غير عقد لم يكن عليه حدّ، ويكون وطؤه إياها طلاقا لها.
والثامنة البشرية: اتباع بشر بن المعتمر، ومن قوله الطعم واللون والرائحة والإدراكات كلها من السمع، يجوز أن تحصل متولدة، وصرف الاستطاعة إلى سلامة البنية والجوارح.(4/171)
وقال: لو عذب الله الطفل الصغير لكان ظالما، وهو يقدر على ذلك. وقال: إرادة الله من جملة أفعال، ثم هي تنقسم إلى صفة فعل وصفة ذات. وقال: باللطف المخزون، وأن الله لم يخلقه لأنّ ذلك يوجب عليه الثواب، وأن التوبة الأولى متوقفة على الثانية، وأنها لا تنفع إلّا بعدم الوقوع في الذي وقع فيه، فإن وقع لم تنفعه التوبة الأولى.
والتاسعة المزدارية: أتباع أبي موسى عيسى بن صبيح المعروف بالمزدار، تلميذ بشر بن المعتمر، وكان زاهدا، وقيل له راهب المعتزلة، وانفرد بمسائل منها. قوله أنّ الله قادر على أن يظلم ويكذب، ولا يطعن ذلك في الربوبية، وجوّز وقوع الفعل الواحد من فاعلين على سبيل التولد، وزعم أن القرآن مما يقدر عليه، وأن بلاغته وفصاحته لا تعجز الناس بل يقدرون على الإتيان بمثلها وأحسن منها، وهو أصل المعتزلة في القول بخلق القرآن. وقال: من أجاز رؤية الله بالإبصار بلا كيف فهو كافر، والشاكّ في كفره كافر أيضا.
والعاشرة الهشامية: أتباع هشام بن عمرو الفوطيّ، الذي يبالغ في القدر ولا ينسب إلى الله فعلا من الأفعال، حتى أنه أنكر أن يكون الله هو الذي ألف بين قلوب المؤمنين، وأنه يحب الإيمان للمؤمنين، وأنه أضل الكافرين. وعاند ما في القرآن من ذلك وقال: لا تنعقد الإمامية في زمن الفتنة واختلاف الناس، وأن الجنة والنار غير مخلوقتين. ومنع أن يقال حسبنا الله ونعم الوكيل، وقال لأن الوكيل دون الموكل، وقال: لو أسبغ أحد الوضوء، ودخل فيه الصلاة بنيّة القربة لله تعالى، والعزم على إتمامها، وركع وسجد مخلصا في ذلك كله، إلّا أنّ الله علم أنه يقطعها في آخرها، فإن أوّل صلاته معصية. ومنع أن يكون البحر انفلق لموسى، وأن عصاه انقلبت حية، وأن عيسى أحيى الموتى، بإذن الله، وأن القمر انشق للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأنكر كثيرا من الأمور التي تواترت، كحصر عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقتله بالغلبة. وقال: إنما جاءته شرذمة قليلة تشكو عمّاله ودخلوا عليه وقتلوه، فلا يدري قاتله. وقال: إنّ طلحة والزبير وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم، ما جاؤوا للقتال في حرب الجمل، وإنما برزوا للمشاورة، وتقاتل أتباع الفريقين في ناحية أخرى، وأن الأمّة إذا اجتمعت كلها وتركت الظلم والفساد احتاجت إلى إمام يسوسها، فأما إذا عصت وفجرت وقتلت واليها فلا تنعقد الإمامة لأحد، وبنى على ذلك أنّ إمامة عليّ رضي الله عنه لم تنعقد، لأنها كانت في حال الفتنة بعد قتل عثمان، وهو أيضا مذهب الأصم وواصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، وأنكر افتضاض الأبكار في الجنة، وأنكر أن الشيطان يدخل في الإنسان وإنما يوسوس له من خارج، والله يوصل وسوسته إلى قلب ابن آدم. وقال: لا يقال خلق الله الكافر، لأنه اسم العبد والكفر جميعا، وأنكر أن يكون في أسماء الله الضارّ النافع.
والحادية عشر الحائطية: اتباع أحمد بن حائط أحد أصحاب إبراهيم بن سيار النظّام وله بدع شنيعة منها: أنّ للخلق إلهين، أحدهما خالق وهو الإله القديم، والآخر مخلوق(4/172)
وهو عيسى ابن مريم، وزعم أن المسيح ابن الله، وأنه هو الذي يحاسب الخلق في الآخرة، وأنه هو المعنيّ بقول الله تعالى في القرآن: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ
[البقرة/ 210] وزعم في قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله خلق آدم على صورته» أن معناه خلقه إياه على صورة نفسه. وأن معنى قوله عليه السلام: «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر» إنما أراد به عيسى، وزعم أن في الدواب والطيور والحشرات حتى البق والبعوض والذباب أنبياء لقول الله سبحانه: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ
[فاطر/ 24] وقوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ
[الانعام/ 38] ولقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لولا أن الكلاب أمّة من الأمم لأمرت بقتلها» وذهب مع ذلك إلى القول بالتناسخ، وزعم أن الله ابتدأ الخلق في الجنة، وإنما خرج من خرج منها بالمعصية، وطعن في النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من أجل تعدّد نكاحه وقال: إنّ أبا ذر الغفاريّ أنسك وأزهد منه قبحه الله، وزعم أنّ كل من نال خيرا في الدنيا إنما هو بعمل كان منه، ومن ناله مرض أو آفة فبذنب كان منه، وزعم أن روح الله تناسخت في الأئمة.
والثانية عشر الحمارية: أتباع قوم من معتزلة عسكر مكرم، ومن مذهبهم أن الممسوخ إنسان كافر معتقد الكفر، وأن النظر أوجب المعرفة، وهو لا فاعل له، وكذلك الجماع أوجب الولد، فشكّ في خالق الولد، وأنّ الإنسان يخلق أنواعا من الحيوانات بطريق التعفين، وزعموا أنه يجوز أن يقدر الله العبد على خلق الحياة والقدرة.
والثالثة عشر المعمرية: أتباع معمر بن عباد السلميّ، وهو أعظم القدرية غلوّا، وبالغ في رفع الصفات والقدرة بالجملة، وانفرد بمسائل منها: أنّ الإنسان يدبر الجسد وليس بحال فيه، والإنسان عنده ليس بطويل ولا عريض، ولا ذي لون وتأليف وحركة، ولا حال ولا متمكن، وأنّ الإنسان شيء غير هذا الجسد، وهو حيّ عالم قادر مختار، وليس هو بمتحرّك ولا ساكن. ولا متلوّن ولا يرى ولا يلمس ولا يحلّ موضعا ولا يحويه مكان، فوصف الإنسان بوصف الإلهية عنده، فإن مدبر العالم موصوف عنده كذلك، وزعم أن الإنسان منعم في الحياة وموزر في النار، وليس هو في الجنة ولا في النار حالا ولا متمكنا. وقال: أنّ الله لم يخلق غير الأجسام، والأعراض تابعة لها متولدة منها، وأنّ الأعراض لا تتناهى في كل نوع، وأنّ الإرادة من الله للشيء غير الله وغير خلقه، وأنّ الله ليس بقديم، لأنّ ذلك أخذ من قدم يقدم فهو قديم.
والرابعة عشر الثمانية: أتباع ثمامة بن أشرس النميريّ، وجمع بين النقائض وقال:(4/173)
العلوم كلها ضرورية، فكلّ من لم يضطرّ إلى معرفة الله فليس بمأمور بها، وهو كالبهائم ونحوها، وزعم أن اليهود والنصارى والزنادقة يصيرون يوم القيامة ترابا كالبهائم لا نواب لهم ولا عقاب عليهم البتة، لأنهم غير مأمورين، إذ هم غير مضطرّين إلى معرفة الله تعالى، وزعم أنّ الأفعال كلها متولدة لا فاعل لها، وأنّ الاستطاعة هي السلامة وصحة الجوارح، وأن العقل هو الذي يحسن ويقبح، تجب معرفة الله قبل ورود الشرع وأن لا فعل للإنسان إلّا الإرادة، وما عداها فهو حدث.
والخامسة عشر الجاحظية: أتباع أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، وله مسائل تميز بها عن أصحابه منها: أن المعارف كلها ضرورية، وليس شيء من ذلك من أفعال العباد، وإنما هي طبيعية، وليس للعباد كسب سوى الإرادة، وأنّ العباد لا يخلدون في النار بل يصيرون من طبيعتها، وأنّ الله لا يدخل أحدا النار، وإنما النار تجذب أهلها بنفسها وطبيعتها، وأن القرآن المنزل من قبيل الأجساد، ويمكن أن يصير مرّة رجلا ومرّة حيوانا، وأن الله لا يريد المعاصي، وأنه لا يرى، وأن الله يريد بمعنى أنه لا يغلط، ولا يصح في حقه السهو فقط، وأنه يستحيل العدم على الجواهر من الأجسام.
والسادسة عشر الخياطية: أصحاب أبي الحسين بن أبي عمرو الخياط شيخ أبي القاسم الكعبيّ من معتزلة بغداد، زعم أن المعدوم شيء، وأنه في العدم جسم إن كان في حدوثه جسما، وعرض إن كان في حدوثه عرضا.
والسابعة عشر الكعبية: أتباع أبي القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود البلخيّ المعروف بالكعبيّ من معتزلة بغداد، انفرد بأشياء منها: أن إرادة الله ليست صفة قائمة بذاته، ولا هو مدبر لذاته، ولا إرادته حادثة في محل، وإنما يرجع ذلك إلى العلم فقط، والسمع والبصر يرجع إلى ذلك أيضا، وأنكر الرؤية وقال: إذا قلنا أنه يرى المرئيات فإنما ذلك يرجع إلى علمه بها وتمييزها قبل أن يوجد.
والثامنة عشر الجبائية: أتباع أبي عليّ محمد بن عبد الوهاب الجبائيّ، من معتزلة البصرة، تفرّد بمقالات منها. أنّ الله تعالى يسمى مطيعا للعبد إذا فعل ما أراد العبد منه، وأن الله محبل للنساء بخلق الولد فيهنّ، وأن كلام الله عرض يوجد في أمكنة كثيرة، وفي مكان بعد مكان من غير أن يعدم من مكانه الأوّل، ثم يحدث في الثاني وكان يقف في فضل عليّ على أبي بكر، وفضل أبي بكر على عليّ، ومع ذلك يقول إنّ أبا بكر خير من عمر وعثمان، ولا يقول أن عليا خير من عمر وعثمان.
والتاسعة عشرة البهشمية: أتباع أبي هاشم عبد السلام بن أبي عليّ الجبائي، انفرد ببدع في مقالاته، منها القول باستحقاق الذم من غير ذنب، وزعم أن القادر منا يجوز أن يخلو عن الفعل والترك، وأن القادر المأمور المنهيّ إذا لم يفعل فعلا ولا ترك يكون عاصيا(4/174)
مستحق العقاب والذم، لا على الفعل لأنه لم يفعل ما أمر به، وأن الله يعذب الكافرين والعصاة لا على فعل مكتسب، ولا على محدث منه. وقال: التوبة لا تصح من قبيح مع الإصرار على قبيح آخر يعلمه أو يعتقده قبيحا، وإن كان حسنا، وأنّ التوبة لا تصح مع الإصرار على منع حسنة واجبة عليه، وأن توبة الزاني بعد ضعفه عن الجماع لا تصح، وزعم أن الطهارة غير واجبة، وإنما أمر العبد بالصلاة في حال كونه متطهرا وأن الطهارة تجزيء بالماء المغصوب، ولا تجزيء الصلاة في الأرض المغصوبة، وزعم أن الزنج والترك والهنود قادرون على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وقال أبو عليّ وابنه أبو هاشم: الإيمان هو الطاعات المفروضة.
والفرقة العشرون من المعتزلة الشيطانية: أتباع محمد بن نعمان المعروف بشيطان الطاق، وهو من الروافض، شارك كلّا من المعتزلة والروافض في بدعهم، وقلما يوجد معتزليّ إلّا وهو رافضيّ، إلّا قليلا منهم، انفرد بطامّة، وهي أنّ الله لا يعلم الشيء إلّا قدّره وأراده، وأما قبل تقديره فيستحيل أن يعلّمه، ولو كان عالما بأفعال عباده لاستحال أن يمتحنهم ويختبرهم، وللمعتزلة إسام منها الثنوية، سموا بذلك لقولهم الخير من الله والشرّ من العبد، ومنهم الكيسانية، والناكتية، والأحمدية، والوهمية، والبترية والواسطية، والواردية. سموا بذلك لقولهم لا يدخل المؤمنون النار، وإنما يردون عليها. ومن أدخل النار لا يخرج منها قط، ومنهم الحرقية. لقولهم الكفار لا تحرق إلّا مرّة، والمفنية القائلون بفناء الجنة والنار. والواقفية القائلون بالوقف في خلق القرآن. ومنهم اللفظية القائلون ألفاظ القرآن غير مخلوقة. والملتزقة القائلون الله بكل مكان. والقبرية القائلون بإنكار عذاب القبر.
الفرقة الثانية المشبهة: وهم يغلون في إثبات صفات الله تعالى ضدّ المعتزلة، وهم سبع فرق: الهاشمية: أتباع هشام بن الحكم، ويقال لهم أيضا الحكمية، ومن قولهم الإله تعالى كنور السبكية الصافية يتلألأ من جوانبه، ويرمون مقاتل بن سليمان بأنه قال: هو لحم ودم على صورة الإنسان، وهو طويل عريض عميق، وأن طوله مثل عرضه وعرضه مثل عمقه، وهو ذو لون وطعم ورائحة، وهو سبعة أشبار يشبر نفسه، ولم يصح هذا القول عن مقاتل.
والجولقية: أتباع هشام بن سالم الجوالقيّ، وهو من الرافضة أيضا، ومن شنيع قوله أن الله تعالى على صورة الإنسان، نصفه الأعلى موف ونصفه الأسفل مصمت، وله شعر أسود، وليس بلحم ودم، بل هو نور ساطع، وله خمس حواس كحواس الإنسان، ويد ورجل وفم وعيون وأذن وشعر أسود لا الفرج واللحية.
والبيانية: أتباع بيان بن سمعان القائل هو على صورة الإنسان، ويهلك كله إلّا وجهه، لظاهر الآية كلّ شيء هالك إلّا وجهه.(4/175)
والمغيرية أتباع مغيرة بن سعيد العجليّ، وهو أيضا من الروافض، ومن شنائعه قوله أن أعضاء معبودهم على صورة حروف الهجاء، فالألف على صورة قدميه، وزعم أنه رجل من نور على رأسه تاج من نور، وزعم أن الله كتب بإصبعه أعمال العباد من طاعة ومعصية، ونظر فيهما وغضب من معاصيهم فعرق، فاجتمع من عرقه بحران عذب ومالح، وزعم أنه بكلّ مكان، لا يخلو عنه مكان. والمنهالية أصحاب منهال بن ميمون. والزرارية أتباع زرارة بن أعين.
واليونسية أتباع يونس بن عبد الرحمن القميّ، وكلهم من الروافض، وسيأتي ذكرهم إن شاء الله تعالى، ومنهم أيضا السابية والشاكية والعملية والمستثنية والبدعية والعشرية والأتربة، ومنهم الكرّامية أتباع محمد بن كرّام السجستانيّ وهم طوائف الهيضمية والإسحاقية والجندية وغير ذلك، إلا أنهم يعدّون فرقة واحدة، لأنّ بعضهم لا يكفر بعضا وكلهم مجسمة، إلّا أن فيهم من قال: هو قائم بنفسه، ومنهم من قال هو أجزاء مؤتلفة، وله جهات ونهايات، ومن قول الكرّامية أن الإيمان هو قول مفرد، وهو قول لا إله إلّا الله، وسواء اعتقد أو لا، وزعموا أن الله جسم وله حدّ ونهاية من جهة السفل، وتجوز عليه ملاقاة الأجسام التي تحته، وإنه على العرش والعرش مماس له، وأنه محل الحوادث من القول والإرادة والإدراكات والمرئيات والمسموعات، وأن الله لو علم أحدا من عباده لا يؤمن به، لكان خلقه إياهم عبثا، وأنه يجوز أن يعزل نبيا من الأنبياء والرسل، ويجوز عندهم على الأنبياء كل ذنب لا يوجب حدّا ولا يسقط عدالة، وأنه يجب على الله تعالى تواتر الرسل، وأنه يجوز أن يكون إمامان في وقت واحد، وأن عليا ومعاوية كانا إمامين في وقت واحد، إلّا أن عليا كان على السنة ومعاوية على خلافها، وانفرد ابن كرّام في الفقه بأشياء منها أنّ المسافر يكفيه من صلاة الخوف تكبيرتان، وأجاز الصلاة في ثوب مستغرق في النجاسة، وزعم أن الصلاة والصوم والزكاة والحج وسائر العبادات تصح بغير نية، وتكفي نية الإسلام، وأن النية تجب في النوافل، وأنه يجوز الخروج من الصلاة بالأكل والشرب والجماع عمدا، ثم البناء عليها، وزعم بعض الكرّامية أن لله علمين أحدهما يعلم به جميع المعلومات والآخر يعلم به العلم الأوّل.
الفرقة الثالثة القدرية: الغلاة في إثبات القدرة للعبد في إثبات الخلق والإيجاد، وأنه لا يحتاج في ذلك إلى معاونة من جهة الله تعالى.
الفرقة الرابعة المجبرة: الغلاة في نفي استطاعة العبد قبل الفعل وبعده ومعه، ونفي الاختيار له، ونفي الكسب، وهاتان الفرقتان متضادّتان، ثم افترقت المجبرة على ثلاث فرق.
الجهمية أتباع جهم بن صفوان الترمذيّ مولى راسب، وقتل في آخر دولة بني أميّة،(4/176)
وهو ينفي الصفات الإلهية كلها ويقول لا يجوز أن يوصف الباري تعالى بصفة يوصف بها خلقه، وأن الإنسان لا يقدر على شيء، ولا يوصف بالقدرة ولا الاستطاعة، وأن الجنة والنار يفنيان وتنقطع حركات أهلهما، وأن من عرف الله ولم ينطق بالإيمان لم يكفر، لأن العلم لا يزول بالصمت، وهو مؤمن مع ذلك. وقد كفّره المعتزلة في نفي الاستطاعة، وكفّره أهل السنة بنفي الصفات وخلق القرآن، ونفي الرؤية، وانفرد بجواز الخروج على السلطان الجائر، وزعم أن علم الله حادث لا بصفة يوصف بها غيره. والبكرية: أتباع بكر ابن أخت عبد الواحد، وهو يوافق النظّام في أن الإنسان هو الروح، ويزعم أن الباري تعالى يرى في القيامة في صورة يخلقها ويكلم الناس منها، وأن صاحب الكبيرة منافق في الدرك الأسفل من النار، وحاله أسوأ من حال الكافر، وحرّم أكل الثوم والبصل، وأوجب الوضوء من قرقرة البطن.
والضرارية: أتباع ضرار بن عمر، وانفرد بأشياء منها أن الله تعالى يرى في القيامة بحاسة زائدة سادسة، وأنكر قراءة ابن مسعود، وشك في دين عامّة المسلمين، وقال لعلهم كفار، وزعم أن الجسم أعراض مجتمعة، كما قالت النجارية، ومن جملة المجبرة.
البطيخية: أتباع إسماعيل البطيخيّ. والصباحية: أتباع أبي صباح بن معمر. والفكرية، والخوفية.
الفرقة الخامسة المرجئة: الإرجاء، إمّا مشتق من الرجاء لأنّ المرجئة يرجون لأصحاب المعاصي الثواب من الله تعالى، فيقولون لا يضرّ مع الإيمان معصية، كما أنه لا ينفع مع الكفر طاعة، أو يكون مشتقا من الإرجاء وهو التأخير، لأنهم أخروا حكم أصحاب الكبائر إلى الآخرة، وحقيقة المرجئة أنهم الغلاة في إثبات الوعد والرجاء، ونفي الوعيد والخوف عن المؤمنين، وهم ثلاثة أصناف: صنف جمعوا بين الرجاء والقدر، وهم غيلان وأبو شمر من بني حنيفة. وصنف جمعوا بين الإرجاء والجبر، مثل جهم بن صفوان.
وصنف قال بالأرجاء المحض، وهم أربع فرق.
اليونسية أتباع يونس بن عمرو، وهو غير يونس بن عبد الرحمن القميّ الرافضيّ، زعم أن الإيمان معرفة الله والخضوع له والمحبة والإقرار بأنه واحد ليس كمثله شيء.
والغسانية: أتباع غسان بن أبان الكوفيّ المنكر نبوّة عيسى عليه السّلام، وتلمذ لمحمد بن الحسن الشيبانيّ، ومذهبه في الإيمان كمذهب يونس إلّا أنه يقول كل خصلة من خصال الإيمان تسمى بعض الإيمان، ويونس يقول كل خصلة ليست بإيمان ولا بعض إيمان، وزعم غسان أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وعند أبي حنيفة رحمه الله الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان، فلا يزيد ولا ينقص كقرص الشمس.
والثوبانية أتباع ثوبان المرجي. ثم الخارجيّ المعتزليّ، وكان يقال له جامع النقائص،(4/177)
هاجر الخصائص، ومن قوله الإيمان هو المعرفة والإقرار، والإيمان فعل ما يجب في العقل فعله، فأوجب الإيمان بالعقل قبل ورود الشرع، وفارق الغسانية واليونسية في ذلك.
والتؤمنية: أتباع أبي معاذ التؤمنيّ الفيلسوف، زعم أن من ترك فريضة لا يقال له فاسق على الإطلاق، ولكن ترك الفريضة فسق، وزعم أن هذه الخصال التي تكون جملتها إيمانا، فواحدة ليست بإيمان، ولا بعض إيمان، وأن من قتل نبيا كفر لا لأجل القتل بل لاستخفافه به وبغضه له.
ومن فرق المرجئة، المريسية: أتباع بشر بن غياث المريسيّ، كان عراقيّ المذهب في الفقه، تلميذ للقاضي أبي يوسف يعقوب الحضرميّ، وقال بنفي الصفات وخلق القرآن، فأكفرته الصفاتية بذلك، وزعم أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، ولا استطاعة مع الفعل، فأكفرته المعتزلة بذلك. وزعم أن الإيمان هو التصديق بالقلب، وهو مذهب ابن الربوبدي، ولما ناظره الشافعيّ في مسألة خلق القرآن ونفي الصفات قال له: نصفك كافر لقولك بخلق القرآن. ونفي الصفات، ونصفك مؤمن لقولك بالقضاء والقدر وخلق اكتساب العباد. وبشر معدود من المعتزلة لنفيه الصفات وقوله بخلق القرآن.
ومن فرق المرجئة الصالحية، أتباع صالح بن عمرو بن صالح والجحدرية أتباع جحدر بن محمد التميميّ والزيادية أتباع محمد بن زياد الكوفيّ والشبيبية أتباع محمد بن شبيب والنقاضية والبهشمية. ومن المرجئة جماعة من الأئمة، كسعيد بن جبير، وطلق بن حبيب، وعمرو بن مرّة، ومحارب بن دثار، وعمرو بن ذر، وحماد بن سليمان، وأبي مقاتل. وخالفوا القدرية والخوارج والمرجئة في أنهم لم يكفروا بالكبائر، ولا حكموا بتخليد مرتكبها في النار، ولا سبوا أحدا من الصحابة، ولا وقعوا فيهم.
وأوّل من وضع الإرجاء أبو محمد الحسن بن محمد المعروف بابن الحنفية بن عليّ بن أبي طالب، وتكلم فيه وصارت المرجئة بعده أربعة أنواع: الأوّل مرجئة الخوارج، الثاني مرجئة القدرية، الثالث مرجئة الجبرية، الرابع مرجئة الصالحية. وكان الحسن بن محمد ابن الحنفية يكتب كتبه إلى الأمصار يدعو إلى الإرجاء، إلّا أنه لم يؤخر العمل عن الإيمان كما قال بعضهم، بل قال أداء الطاعات وترك المعاصي ليس من الإيمان، لا يزول بزوالها. وقال ابن قتيبة أوّل من وضع الإرجاء بالبصرة حسان بن بلال بن الحارث المزنيّ، وذكر بعضهم أن أوّل من وضع الإرجاء أبا سلت السمان، ومات سنة اثنتين وخمسين ومائة.
الفرقة السادسة الحرورية: الغلاة في إثبات الوعيد والخوف على المؤمنين، والتخليد في النار مع وجود الإيمان، وهم قوم من النواصب الخوارج، وهم مضادّون المرجئة في النفي والإثبات والوعد والوعيد، ومن مفرداتهم أن من ارتكب كبيرة فهو مشرك، ومذهب عامّة الخوارج أنه كافر وليس بمشرك. وقال بعضهم هو منافق في الدرك الأسفل من النار،(4/178)
فعند الحرورية أن الاسم يتغير بارتكاب الكبيرة الواحدة فلا يسمى مؤمنا بل كافرا مشركا، والحكم فيه أنه يخلد في النار، واتفقوا على أن الإيمان هو اجتناب كل معصية، وقيل لهم الحرورية لأنهم خرجوا إلى حروراء لقتال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وعدّتهم اثنا عشر ألفا، ثم سار عليّ رضي الله عنه إليهم وناظرهم، ثم قاتلهم وهم أربعة آلاف، فانضم إليهم جماعة حتى بلغوا اثني عشر ألفا.
الفرقة السابعة النجارية: أتباع الحسن بن محمد بن عبد الله النجار أبي عبد الله، كان حائكا، وقيل أنه كان يعمل الموازين، وأنه كان من أهل قمّ، كان من جملة المجبرة ومتكلميهم، وله مع النظّام عدّة مناظرات منها أنه ناظرة مرّة فلما لم يلحن بحجته رفسه النظّام وقال له: قم أخزي الله من ينسبك إلى شيء من العلم والفهم، فانصرف محموما واعتلّ حتى مات، وهم أكثر معتزلة الريّ وجهاتها، وهم يوافقون أهل السنة في مسألة القضاء والقدر، واكتساب العباد، وفي الوعد والوعيد، وإمامة أبي بكر رضي الله عنه، ويوافقون المعتزلة في نفي الصفات وخلق القرآن، وفي الرؤية، وهم ثلاث فرق البرغوثية والزعفرانية والمستدركة.
الفرقة الثامنة الجهمية: أتباع جهم بن صفوان، وهم يوافقون أهل السنة في مسألة القضاء والقدر مع ميل إلى الجبر، وينفون الصفات والرؤية، ويقولون بخلق القرآن، وهم فرقة عظيمة وعدادهم في المعطلة المجبرة.
الفرقة التاسعة الروافض: الغلاة في حب عليّ بن أبي طالب، وبغض أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة ومعاوية في آخرين من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وسموا رافضة لأنّ زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم، امتنع من لعن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وقال: هما وزيرا جدّي محمد صلّى الله عليه وسلّم. فرفضوا رأيه، ومنهم من قال لأنهم رفضوا رأي الصحابة رضي الله عنهم، حيث بايعوا أبا بكر وعمر رضي الله عنهما. وقد اختلف الناس في الإمام بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذهب الجمهور إلى أنه أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه، وقال العباسية والربوبدية أتباع أبي هريرة الربوبديّ، وقيل أتباع أبي العباس الربوبديّ، هو العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، لأنه العمّ والوارث، فهو أحق من ابن العمّ. وقال العثمانية وبنو أمية هو عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، وذهب آخرون إلى غير ذلك. وقال الرافضة هو عليّ بن أبي طالب، ثم اختلفوا في الإمامة اختلافا كثيرا، حتى بلغت فرقهم ثلاثمائة فرقة، والمشهور منها عشرون فرقة.
الزيدية والصباحية أقرّوا إمامة أبي بكر رضي الله عنه، ورأوا أنه لا نص في إمامة عليّ رضي الله عنه، واختلفوا في إمامة عثمان رضي الله عنه، فأنكرها بعضهم وأقرّ بعضهم أنه الإمام بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لكن قالوا عليّ أفضل من أبي بكر، وإمامة(4/179)
المفضول جائزة، وقال الغلاة هو عليّ بالنص، ثم الحسن وبعده الحسين، وصار بعد الحسين الأمر شورى. وقال بعضهم لم يرد النص إلّا بإمامة عليّ فقط، وقال آخرون نص على عليّ بالوصف لا بالعين والاسم. وقال بعضهم قد جاء النص على إمامة اثني عشر آخرهم المهديّ المنتظر.
وفرقهم العشرون هي: الإمامية: وهم مختلفون في الإمامة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فزعم أكثرهم أن الإمامة في عليّ بن أبي طالب وأولاده بنص النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأن الصحابة كلهم قد ارتدّوا إلّا عليا وابنيه الحسن والحسين وأبا ذر الغفاريّ وسلمان الفارسيّ وطائفة يسيرة.
وأوّل من تكلم في مذهب الإمامية عليّ بن إسماعيل بن هيثم التمار، وكان من أصحاب عليّ بن أبي طالب، وذهبت القطعية منهم إلى أن الإمامة في عليّ، ثم في الحسن، ثم في الحسين، ثم في عليّ بن الحسين، ثم في محمد بن عليّ، ثم في جعفر بن محمد، ثم في موسى بن جعفر، ثم في عليّ بن موسى. وقطعوا الإمامة عليه فسموا القطعية لذلك، ولم يكتبوا إمامة محمد بن موسى، ولا إمامة الحسن بن محمد بن عليّ بن موسى، وقالت الناووسية جعفر بن محمد لم يمت وهو حيّ ينتظر، وقالت المباركية أتباع مبارك الإمام بعد جعفر بن محمد ابنه إسماعيل بن جعفر، ثم محمد بن إسماعيل. وقالت الشميطية أتباع يحيى بن شميط الأحمسيّ، كان مع المختار قائدا من قوّاده، فأنفذه أميرا على جيش البصرة يقاتل مصعب بن الزبير، فقتل بالمدار: الإمامة بعد جعفر في ابنه محمد وأولاده، وقالت المعمرية أتباع معمر: الإمامة بعد جعفر في ابنه عبد الله بن جعفر وأولاده. ويقال لهم الفطحية، لأنّ عبد الله بن جعفر كان أفطح الرجلين. وقالت الواقفية: الإمام بعد جعفر ابنه موسى بن جعفر وهو حيّ لم يمت، وهو الإمام المنتظر، وسموا الواقفية لوقوفهم على إمامة موسى. وقالت الزرارية أتباع زرارة بن أعين الإمام: بعد جعفر ابنه عبد الله، إلّا أنّه سأله عن مسائل فلم يمكنه الجواب عنها فادّعى إمامة موسى بن جعفر من بعد أبيه. وقالت المفضلية أتباع المفضل بن عمرو: الإمام بعد جعفر ابنه موسى، وأنه مات فانتقلت الإمامة إلى ابنه محمد بن موسى. وقالت المفوّضة من الإمامية: إن الله تعالى خلق محمدا صلّى الله عليه وسلّم وفوّض إليه خلق العالم وتدبيره. وقال بعضهم بل فوّض ذلك إلى عليّ بن أبي طالب.
والفرقة الثانية من فرق الروافض: الكيسانية، أتباع كيسان مولى عليّ بن أبي طالب، وأخذ عن محمد ابن الحنفية، وقيل بل كيسان اسم المختار بن عبيد الثقفيّ الذي قام لأخذ ثأر الحسين رضي الله عنه. زعموا أن الإمام بعد عليّ ابنه محمد ابن الحنفية، لأنه أعطاه الراية يوم الجمل، ولأنّ الحسين أوصى إليه عند خروجه إلى الكوفة، ثم اختلفوا في الإمام بعد ابن الحنفية، فقال بعضهم رجع الأمر بعده إلى أولاد الحسن والحسين، وقيل بل انتقل إلى أبي هاشم عبد الله بن محمد ابن الحنفية، وقالت الكربية أتباع أبي كرب بأن ابن الحنفية حيّ لم يمت، وهو الإمام المنتظر. ومن قول الكيسانية أن البدا جائز على الله، وهو كفر صريح.(4/180)
والفرقة الثالثة الخطابية: أتباع أبي الخطاب محمد بن أبي ثور، وقيل محمد بن أبي يزيد الأجدع، ومذهبه الغلوّ في جعفر بن محمد الصادق، وهو أيضا من المشبهة، وأتباعه خمسون فرقة، وكلهم متفقون على أن الأئمة مثل عليّ وأولاده كلهم أنبياء، وأنه لا بدّ من رسولين لكلّ أمّة، أحدهما ناطق والآخر صامت، فكان محمد ناطقا وعليّ صامتا، وأن جعفر بن محمد الصادق كان نبيا، ثم انتقلت النبوّة إلى أبي الخطاب الأجدع، وجوّزوا كلهم شهادة الزور لموافقيهم، وزعموا أنهم عالمون بما هو كائن إلى يوم القيامة، وقالت المعمرية: منهم الإمام بعد أبي الخطاب رجل اسمه معمر، وزعموا أن الدنيا لا تفنى، وأن الجنة هي ما يصيبه الإنسان من الخير في الدنيا، والنار ضدّ ذلك، وأباحوا شرب الخمر والزنى وسائر المحرّمات، ودانوا بترك الصلاة، وقالوا بالتناسخ، وأن الناس لا يموتون وإنما ترفع أرواحهم إلى غيرهم. وقالت البزيغية منهم: أن جعفر بن محمد إله وليس هو الذي يراه الناس وإنما تشبه على الناس، وزعموا أن كلّ مؤمن يوحى إليه، وأنّ منهم من هو خير من جبريل وميكائيل ومحمد صلّى الله عليه وسلّم، وزعموا أنهم يرون أمواتهم بكرة وعشيا. وقالت العميرية منهم أتباع عمير بن بيان العجليّ مثل ذلك كله، وخالفوهم في أن الناس لا يموتون، وافترقت الخطابية بعد قتل أبي الخطاب فرقا، منها فرقة زعمت أن الإمام بعد أبي الخطاب، عمير بن بيان العجليّ، ومقالتهم كمقالة البزيغية، إلّا أن هؤلاء اعترفوا بموتهم ونصبوا خيمة على كناسة الكوفة يجتمعون فيها على عبادة جعفر الصادق، فبلغ ذلك يزيد بن عمير، فصلب عمير بن بيان في كناسة الكوفة، ومن فرقهم المفضلية، أتباع مفضل الصيرفيّ، زعم أن جعفر بن محمد إله، فطرده ولعنه، وزعمت الخطابية بأجمعها أن جعفر بن محمد الصادق أودعهم جلدا يقال له جفر، فيه كلّ ما يحتاجون إليه من علم الغيب وتفسير القرآن، وزعموا لعنهم الله، أن قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً
معناه عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها، القائلون بإمامته وإمامة من اجتمع فيه ست خصال، العلم والزهد والشجاعة، وأن يكون من أولاد فاطمة الزهراء رضي الله عنها حسنيا أو حسينيا، ومنهم من زاد صباحة الوجه، وأن لا يكون فيه آفة، وهم يوافقون المعتزلة في أصولهم كلها إلّا في مسألة الإمامة، وأخذ مذهب زيد بن عليّ عن واصل بن عطاء، وكان يفضل عليا على أبي بكر وعمر مع القول بإمامتهما، وهم أربع فرق: الجارودية، أتباع أبي الجارود، ويكنّى أبا النجم زياد بن المنذر العبديّ، زعم أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نص على إمامة عليّ بالوصف لا بالتسمية، وأن الناس كفروا بتركهم مبايعة عليّ رضي الله عنه، والحسن والحسين وأولادهما. والجريرية أتباع سليم بن جرير، ومن قوله لم يكفر الناس بتركهم مبايعة عليّ، بل أخطأوا بترك الأفضل وهو عليّ، وكفّروا الجارودية بتكفيرهم الصحابة، إلا أنهم كفّروا عثمان بن عفان بالأحداث التي أحدثها وقالوا: لم ينص عليّ على إمامة أحد، وصار الأمر من بعده شورى، ومنهم البترية أتباع الحسن بن صالح بن كثير الأبتر، وقولهم أنّ عليا أفضل(4/181)
وأولى بالإمامة، غير أن أبا بكر كان إماما، ولم تكن إمامته خطأ ولا كفرا، بل ترك عليّ الإمامة له، وأما عثمان فيتوقف فيه. ومنهم اليعقوبية أتباع يعقوب، وهم يقولون بإمامة أبي بكر وعمر، ويتبرّؤون ممن تبرّأ منهما، وينكرون رجعة الأموات إلى الدنيا قبل يوم القيامة، ويتبرّؤون ممن دان بها، إلّا أنهم متفقون على تفضيل عليّ على أبي بكر وعمر من غير تفسيقهما ولا تكفيرهما ولا لعنهما ولا الطعن على أحد من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
والفرقة الخامسة السبائية: أتباع عبد الله بن سبأ الذي قال شفاها لعليّ بن أبي طالب:
أنت الإله، وكان من اليهود. ويقول في يوشع بن نون مثل قوله ذلك في عليّ، وزعم أن عليا لم يقتل وأنه حيّ لم يمت، وأنه في السحاب، وأن الرعد صوته والبرق سوطه، وأنه ينزل إلى الأرض بعد حين. قبحه الله.
والفرقة السادسة: الكاملية أتباع أبي كامل، اكفر جميع الصحابة بتركهم بيعة عليّ، وكفر عليا بتركه قتالهم، وقال بتناسخ الأنوار الإلهية في الأئمة.
والفرقة السابعة: البيانية، أتباع بيان بن سمعان، زعم أن روح الإله حل في الأنبياء، ثم في عليّ، وبعده في محمد ابن الحنفية، في ابنه أبي هاشم عبد الله بن محمد، ثم حل بعد أبي هاشم في بيان بن سمعان، يعني نفسه، لعنه الله.
والفرقة الثامنة: المغيرية، أتباع مغيرة بن سعيد العجليّ، مولى خالد بن عبد الله، طلب الإمامة لنفسه بعد محمد بن عبد الله بن الحسن، فخرج على خالد بن عبد الله القسريّ بالكوفة في عشرين رجلا فعطعطوا به، فقال خالد أطعموني ماء وهو على المنبر، فعير بذلك. والمغيرة هذا قال بالتشبيه الفاحش، وادّعى النبوّة، وزعم أن معجزته علمه بالاسم الأعظم، وأنه يحيي الموتى، وزعم أن الله لما أراد أن يخلق العالم كتب بإصبعه أعمال عباده، فغضب من معاصيهم، فعرق فاجتمع من عرقه بحران أحدهما مالح والآخر عذب، فخلق من البحر العذب الشيعة، وخلق الكفرة من البحر الملح، وزعم أن المهديّ يخرج وهو محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب.
والفرقة التاسعة: الهشامية، وهم صنفان: أحدهما أتباع هشام بن الحكم، والثاني أتباع هشام الجولقيّ، وهما يقولان لا تجوز المعصية على الإمام، وتجوز على الأنبياء، وأن محمدا عصى ربه في أخذ الفداء من أسرى بدر كذبا، لعنهما الله، وهما أيضا مع ذلك من المشبهة.
والفرقة العاشرة: الزرارية، أتباع زرارة بن أعين، أحد الغلاة في الرفض، ويزعم مع ذلك أن الله تعالى لم يكن في الأزل عالما ولا قادرا حتى اكتسب لنفسه جميع ذلك.
قبحه الله.(4/182)
والفرقة الحادية عشر: الجناحية، أتباع عبد الله بن معاوية ذي الجناحين بن أبي طالب، وزعم أنه إله، وأن العلم ينبت في قلبه كما تنبت الكمأة، وأن روح الإله دارت في الأنبياء كما كانت في عليّ وأولاده، ثم صارت فيه، ومذهبهم استحلال الخمر والميتة ونكاح المحارم، وأنكروا القيامة، وتأوّلوا قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
[المائدة/ 93] وزعموا أن كل ما في القرآن من تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير كناية عن قوم يلزم بغضهم، مثل أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية، وكل ما في القرآن من الفرائض التي أمر الله بها، كناية عمن يلزم موالاتهم، مثل عليّ والحسن والحسين وأولادهم.
والثانية عشر: المنصورية، أتباع أبي منصور العجليّ، أحد الغلاة المشبهة، زعم أن الإمامة انتقلت إليه بعد محمد الباقر بن عليّ زين العابدين بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، وأنه عرج به إلى السماء بعد انتقال الإمامة إليه، وأن معبوده مسح بيده على رأسه وقال له: يا بنيّ بلغ عني آية الكسف الساقط من السماء في قوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ
الآية [الطور/ 44] وزعم أن أهل الجنة قوم تجب موالاتهم مثل عليّ بن أبي طالب وأولاده، وأن أهل النار قوم تجب معاداتهم مثل أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية رضي الله عنهم.
والثالثة عشر: الغرابية، زعموا، لعنهم الله، أن جبريل أخطأ، فإنه أرسل إلى عليّ بن أبي طالب، فجاء إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم، وجعلوا شعارهم إذا اجتمعوا أن يقولوا: العنوا صاحب الريش، يعنون جبريل عليه السّلام وعليهم اللعنة.
والرابعة عشر: الذمّية، بفتح الذال المعجمة، زعموا، أخزاهم الله، أن عليّ بن أبي طالب بعثه الله نبيا، وأنه بعث محمدا صلّى الله عليه وسلّم ليظهر أمره، فادّعى النبوّة لنفسه، وأرضى عليا بأن زوّجه ابنته وموّله، ومنهم العليانية: أتباع عليان بن ذراع السدوسيّ، وقيل الأسديّ، كان يفضل عليا على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ويزعم أن عليا بعث محمدا، وكان، لعنه الله، يذم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، لزعمه أن محمدا بعث ليدعو إلى عليّ، فدعا إلى نفسه، ومن العليانية من يقول بإلهية محمد وعليّ جميعا، ويقدّمون محمدا في الإلهية، ويقال لهم الميمية، ومنهم من قال بإلهية خمسة وهم أصحاب الكساء، محمد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين، وقالوا خمستهم شيء واحد، والروح حالة فيهم بالسوية، لا فضل لواحد منهم على الآخر، وكرهوا أن يقولوا فاطمة بالهاء، فقالوا فاطم، قال بعضهم:(4/183)
توليت بعد الله في الدين خمسة ... نبيا وسبطيه وشيخا وفاطما
والخامسة عشر: اليونسية، أتباع يونس بن عبد الله القميّ، أحد الغلاة المشبهة.
والسادسة عشر: الرزامية، أتباع رزام بن سابق، زعم أن الإمامة انتقلت بعد عليّ بن أبي طالب إلى ابنه محمد ابن الحنفية، ثم إلى ابنه أبي هاشم، ثم إلى عليّ بن عبد الله بن عباس بالوصية، ثم إلى ابنه محمد بن عليّ، فأوصى بها محمد إلى أبي العباس عبد الله بن محمد السفاح الظالم، المتردّد في المذاهب، الجاهل بحقوق أهل البيت.
والسابعة عشر: الشيطانية، أتباع محمد بن النعمان شيطان الطاق، وقد شارك المعتزلة والرافضة في جميع مذهبهم، وانفرد بأعظم الكفر قاتله الله، وهو أنه زعم أن الله لا يعلم الشيء حتى يقدّره، وقبل ذلك يستحيل علمه.
والثامنة عشر: البسلمية، وهم من الراوندية، زعموا أن الإمامة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صارت في عليّ وأولاده الحسن والحسين ومحمد ابن الحنفية، ثم في أبي هاشم عبد الله بن محمد ابن الحنفية، وانتقلت منه إلى عليّ بن عبد الله بن عباس بوصيته إليه، ثم إلى أبي العباس السفاح، ثم إلى أبي سلمة صاحب دولة بني العباس، وقام بناحية كش فيما وراء النهر رجل من أهل مرو أعور يقال له هاشم، ادّعى أن أبا سلمة كان إلها انتقل إليه روح الله، ثم انتقل إليه بعده، فانتشرت دعوته هناك، واحتجب عن أصحابه واتخذ له وجها من ذهب، فعرف بالمصيغ، ثم إن أصحابه طلبوا رؤيته فوعدهم أن يريهم نفسه إن لم يحترقوا، وعمل تجاه مرآه مرآة محرقة تعكس شعاع الشمس، فلما دخلوا عليه احترق بعضهم ورجع الباقون، وقد فتنوا واعتقدوا أنه إله لا تدركه الأبصار، ونادوا في حروبهم بإلهيته.
والتاسعة عشر: الجعفرية.
والعشرون: الصباحية، وهم والزيدية أمثل الشيعة، فإنهم يقولون بإمامة أبي بكر، وأنه لا نص في إمامة عليّ، مع أنه عندهم أفضل، وأبو بكر مفضول.
ومن فرق الروافض، الخلوية والشاعية والشريكية، يزعمون أن عليا شريك محمد صلّى الله عليه وسلّم. والتناسخية القائلون أن الأرواح تتناسخ، واللاعنة والمخطئة الذين يزعمون أن جبريل أخطأ، والإسحاقية والخلفية الذين يقولون لا تجوز الصلاة خلف غير الإمام.
والرجعية القائلون سيرجع عليّ بن أبي طالب وينتقم من أعدائه. والمتربصية الذين يتربصون خروج المهديّ. والأمرية والجبية والجلالية والكريبية، أتباع أبي كريب الضرير.
والحزنية أتباع عبد الله بن عمرو الحزنيّ.(4/184)
الفرقة العاشرة الخوارج: ويقال لهم النواصب، والحرورية نسبة إلى حروراء، موضع خرج فيه أوّلهم على عليّ رضي الله عنه، وهم الغلاة في حب أبي بكر وعمر وبغض عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليهم أجمعين، ولا أجهل منهم، فإنهم القاسطون المارقون، خرجوا على عليّ رضي الله عنه وانفصلوا عنه بالجملة وتبرّءوا منه، ومنهم من صحبه ومنهم من كان في زمنه، وهم جماعة قد دوّن الناس أخبارهم وهم عشرون فرقة:
الأولى يقال لهم الحكمية، لأنهم خرجوا على عليّ رضي الله عنه في صفين، وقالوا لا حكم إلا لله ولا حكم للرجال، وانحازوا عنه إلى حروراء، ثم إلى النهروان، وسبب ذلك أنهم حملوه على التحاكم إلى من حكم بكتاب الله، فلما رضي بذلك وكانت قضية الحكمين أبي موسى الأشعريّ، وهو عبد الله بن قيس، وعمرو بن العاص، غضبوا من ذلك ونابذوا عليا وقالوا في شعارهم، لا حكم إلّا لله ولرسوله، وكان إمامهم في التحكيم عبد الله بن الكوّاء.
والثانية الأزارقة أتباع أبي راشد نافع بن الأزرق بن قيس بن نهار بن إنسان بن أسد بن صبرة بن ذهل بن الدول بن حنيفة، الخارج بالبصرة في أيام عبد الله بن الزبير، وهم على التبرّي من عثمان وعليّ والطعن عليهما، وأن دار مخالفيهم دار كفر، وأن من أقام بدار الكفر فهو كافر، وأن أطفال مخالفيهم في النار، ويحل قتلهم، وأنكروا رجم الزاني وقالوا:
من قذف محصنة حدّ، ومن قذف محصنا لا يحدّ، ويقطع السارق في القليل والكثير.
والثالثة النجدات، ولم يقل فيهم النجدية، ليفرّق بينهم وبين من انتسب إلى بلاد نجد، فإنهم أتباع نجد بن عويمر، وهو عامر الحنفيّ الخارج باليمامة، وكان رأسا ذا مقالة مفردة، وتسمّى بأمير المؤمنين، وبعث عطية بن الأسود إلى سجستان فأظهر مذهبه بمرو، فعرفت أتباعه بالعطوية، ومذهبهم أن الدين أمران، أحدهما معرفة الله تعالى ومعرفة رسوله وتحريم دماء المسلمين وأموالهم. والثاني الإقرار بما جاء من عند الله تعالى جملة، وما سوى ذلك من التحريم والتحليل وسائر الشرائع، فإن الناس يعذرون بجهلها، وأنه لا يأثم المجتهد إذا أخطأ وأن من خالف أن يعذب المجتهد، فقد كفر واستحلوا دماء أهل الذمّة في دار التقية، وقالوا من نظر نظرة محرّمة أو كذب كذبة أو أصرّ على صغيرة ولم يتب منها فهو كافر، ومن زنى أو سرق أو شرب خمرا من غير أن يصرّ على ذلك فهو مؤمن غير كافر.
والرابعة الصفرية أتباع زياد بن الأصفر، ويقال أتباع النعمان بن صفر، وقيل بل نسبوا إلى عبد الله بن صفار، وهو أحد بني مقاعس، وهو الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم بن أدّ بن طابخة بن الياس بن مضر بن نزار، وقيل عبد الله بن الصفار من بني صويمر بن مقاعس، وقيل سموا بذلك لصفرة علتهم، وزعم بعضهم أن الصفرية بكسر الصاد، وقد وافق الصفرية الأزارقة في جميع بدعهم إلّا في قتل الأطفال، ويقال للصفرية(4/185)
أيضا الزيادية، ويقال لهم أيضا النكار من أجل أنهم ينقصون نصف عليّ وثلث عثمان، وسدس عائشة رضي الله عنهم.
والخامسة العجاردة أتباع عبد الكريم بن عجرد.
والسادسة الميمونية أتباع ميمون بن عمران، وهم طائفة من العجاردة، وافقوا الأزارقة إلّا في شيئين، أحدهما قولهم تجب البراءة من الأطفال حتى يبلغوا ويصفوا الإسلام، والثاني استحلال أموال المخالفين لهم، فلم تستحل الميمونية مال أحد خالفهم ما لم يقتل المالك، فإذا قتل صار ماله فيئا، إلّا أنهم ازدادوا كفرا على كفرهم، وأجازوا نكاح بنات البنات وبنات البنين وبنات أولاد الإخوة وبنات أولاد الأخوات فقط.
والسابعة الشعيبية، وهم طائفة من العجاردة وافقوا الميمونية في جميع بدعهم إلّا في الاستطاعة والمشيئة، فإن الميمونية مالت إلى القدرية.
والثامنة الحمزية، أتباع حمزة بن أدرك الشاميّ الخارج بخراسان في خلافة هارون بن محمد الرشيد، وكثر عيثه وفساده، ثم فض جموع عيسى بن عليّ عامل خراسان وقتل منهم خلقا كثيرا، فانهزم منه عيسى إلى كابل، وآل أمر حمزة إلى أن غرق في كرمان بواد هناك، فعرفت أصحابه بالحمزية، وكان يقول بالقدر فكفرته الأزارقة بذلك، وقال أطفال المشركين في النار، فكفّرته القدرية بذلك، وكان لا يستحل غنائم أعدائه بل يأمر بإحراق جميع ما يغنمه منهم.
والتاسعة الحازمية، وهم فرقة من العجاردة، قالوا في القدر والمشيئة كقول أهل السنة، وخالفوا الخوارج في الولاية والعداوة، فقالوا لم يزل الله تعالى محبا لأوليائه ومبغضا لأعدائه.
والعاشرة المعلومية مع المجهولية، تباينا في مسألتين إحداهما قالت المعلومية: من لم يعرف الله تعالى بجميع أسمائه فهو كافر، وقالت المجهولية: لا يكون كافرا. والثانية وافقت المعلومية أهل السنة في مسألة القدر والمشيئة، والمجهولية وافقت القدرية في ذلك.
والحادية عشر الصلتية، أتباع عثمان بن أبي الصلت، وهم طائفة من العجاردة انفردوا بقولهم: من أسلم توليناه لكن نتبرّأ من أطفاله، لأنه ليس للأطفال إسلام حتى يبلغوا.
والثانية عشر والثالثة عشر الأحسنية والمعبدية، وهما فرقتان من الثعالبة أتباع ثعلبة بن عامر، وكان ثعلبة هذا مع عبد الكريم بن عجرد ثم اختلفا في الأطفال. فقال عبد الكريم:
نتبرّأ منهم قبل البلوغ، وقال ثعلبة لا نتبرّأ منهم بل نقول نتولى الصغار. فلم تزل الثعالبة على هذا إلى أن خرج رجل عرف بالأخنس فقال: نتوقف عن جميع من في دار التقية إلّا من عرفنا منه إيمانا فإنا نتولاه، ومن عرفنا منه كفرا تبرّأ منه، ولا يجوز أن نبدأ حدا بقتال،(4/186)
فتبرّأت منه الثعالبة وسموه بالأخنس لأنه خنس منهم، أي رجع عنهم، ثم خرجت فرقة من الثعالبة قيل لها المعبدية أتباع معبد، فخالفت الثعالبة في أخذ الزكاة من العبيد والبهائم وكفّرت كلّ فرقة منهما الأخرى.
والرابعة عشر الشيبانية، أتباع شيبان بن سلمة الخارج في أيام أبي مسلم الخراسانيّ القائم بدعوة الخلفاء العباسيين، وكان معه. فتبرّأت منه الثعالبة لمعاونته لأبي مسلم، وهو أوّل من أظهر القول بالتشبيه تعالى الله عن ذلك.
والخامسة عشر الشبيبية، أتباع شبيب بن يزيد بن أبي نعيم الخارج في خلافة عبد الملك بن مروان، وصاحب الحروب العظيمة مع الحجاج بن يوسف الثقفيّ، وهم على ما كانت عليه الحكمية الأولى، إلّا أنهم انفردوا عن الخوارج بجواز إمامة المرأة وخلافتها، واستخلف شبيب هذا أمّه غزالة فدخلت الكوفة وقامت خطيبة وصلت الصبح بالمسجد الجامع، فقرأت في الركعة الأولى بالبقرة، وفي الثانية بآل عمران، وأخبار شبيب طويلة.
والسادسة عشر الرشيدية: أتباع رشيد، يقال لهم أيضا العشرية من أجل أنهم كانوا يأخذون نصف العشر مما سقت الأنهار، فقال لهم زياد بن عبد الرحمن يجب فيه العشر، فتبرّأت كل فرقة من الأخرى وكفّرتها بذلك.
والسابعة عشر المكرمية: أتباع أبي المكرم، ومن قوله تارك الصلاة كافر، وليس كفره لترك الصلاة، لكن لجهله بالله، وكذا قوله في سائر الكبائر.
والثامنة عشر الحفصية: أتباع حفص بن المقدام أحد أصحاب عبد الله بن أباض، تفرّد بقوله من عرف الله تعالى وكفر بما سواه من رسول وغيره فهو كافر وليس بمشرك، فأنكر ذلك الإباضية وقالوا بل هو مشرك.
والتاسعة عشر الإباضية، أتباع عبد الله بن أباض من بني مقاعس، واسمه الحرث بن عمرو، ويقال بل ينسبون إلى أباض بضم الهمزة، وهي قرية بالعرض من اليمامة نزل بها نجد بن عامر، وخرج عبد الله بن أباض في أيام مروان، وكان من غلاة الحكمة.
والفرقة العشرون اليزيدية، أتباع يزيد بن أبي أنيسة، وكان أباضيا، فانفرد ببدعة قبيحة، وهي أن الله تعالى سيبعث رسولا من العجم وينزل عليه كتابا جملة واحدة ينسخ به شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم.
ومن فرق الخوارج أيضا الحارثية، والأصومية، أتباع يحيى بن أصوم، والبيهسية أتباع أبي البيهس الهيصم بن خالد من بني سعيد بن ضبعة، كان في زمن الحجاج، وقتل بالمدينة وصلب، واليعقوبية أتباع يعقوب بن عليّ الكوفيّ، ومن فرقهم الفضلية، أتباع فضل بن عبد الله، والشمراخية أتباع عبد الله بن شمراخ، والضحاكية أتباع الضحاك،(4/187)
والخوارج يقال لهم الشراة، وأحدهم شاري، مشتق من شرى الرجل إذا ألح، أو معناه يستشري بالشرّ، أو من قول الخوارج شرينا أنفسنا لدين الله فنحن لذلك شراة، وقيل أنه من قولهم شاريته أي لاححته وماريته، وقيل شرى الرجل غضبا إذا استطار غضبا، وقيل لهم هذا لشدّة غضبهم على المسلمين.
ذكر الحال في عقائد أهل الإسلام، منذ ابتداء الملة الإسلامية إلى أن انتشر مذهب الأشعرية
اعلم أن الله تعالى لما بعث من العرب نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم رسولا إلى الناس جميعا، وصف لهم ربهم سبحانه وتعالى، بما وصف به نفسه الكريمة في كتابه العزيز الذي نزل به على قلبه صلّى الله عليه وسلّم الروح الأمين وبما أوحى إليه ربه تعالى، فلم يسأله صلّى الله عليه وسلّم أحد من العرب بأسرهم، قرويهم وبدويهم عن معنى شيء من ذلك، كما كانوا يسألونه صلّى الله عليه وسلّم عن أمر الصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك مما لله فيه سبحانه أمر ونهي، وكما سألوه صلّى الله عليه وسلّم عن أحوال القيامة والجنة والنار، إذ لو سأله إنسان منهم عن شيء من الصفات الإلهية لنقل كما نقلت الأحاديث الواردة عنه صلّى الله عليه وسلّم في أحكام الحلال والحرام، وفي الترغيب والترهيب، وأحوال القيامة والملاحم والفتن، ونحو ذلك مما تضمنته كتب الحديث، معاجمها ومسانيدها وجوامعها، ومن أمعن النظر في دواوين الحديث النبويّ، ووقف على الآثار السلفية، علم أنه لم يرد قط من طريق صحيح ولا سقيم عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، وعلى اختلاف طبقاتهم وكثرة عددهم، أنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن معنى شيء مما وصف الربّ، سبحانه به نفسه الكريمة في القرآن الكريم، وعلى لسان نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم، بل كلهم فهموا معنى ذلك وسكتوا عن الكلام في الصفات، نعم ولا فرّق أحد منهم بين كونها صفة ذات أو صفة فعل، وإنما أثبتوا له تعالى صفات أزلية من العلم والقدرة والحياة والإرادة والسمع والبصر والكلام والجلال والإكرام والجود والإنعام والعز والعظمة، وساقوا الكلام سوقا واحدا. وهكذا أثبتوا رضي الله عنهم ما أطلقه الله سبحانه على نفسه الكريمة من الوجه واليد ونحو ذلك، مع نفي مماثلة المخلوقين، فأثبتوا رضي الله عنهم بلا تشبيه، ونزهوا من غير تعطيل، ولم يتعرّض مع ذلك أحد منهم إلى تأويل شيء من هذا، ورأوا بأجمعهم إجراء الصفات كما وردت، ولم يكن عند أحد منهم ما يستدل به على وحدانية الله تعالى، وعلى إثبات نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، سوى كتاب الله، ولا عرف أحد منهم شيئا من الطرق الكلامية ولا مسائل الفلسفة، فمضى عصر الصحابة رضي الله عنهم على هذا إلى أن حدث في زمنهم القول بالقدر، وأنّ الأمر أنفة، أي أنّ الله تعالى لم يقدّر على خلقه شيئا مما هم عليه.
وكان أوّل من قال بالقدر في الإسلام، معبد بن خالد الجهنيّ، وكان يجالس الحسن بن الحسين البصريّ، فتكلم في القدر بالبصرة، وهلك أهل البصرة مسلكه لما رأوا(4/188)
عمرو بن عبيد ينتحله، وأخذ معبد هذا الرأي عن رجل من الأساورة يقال له أبو يونس سنسويه، ويعرف بالإسواريّ، فلما عظمت الفتنة به عذبه الحجاج وصلبه بأمر عبد الملك بن مروان سنة ثمانين، ولما بلغ عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما مقالة معبد في القدر تبرّأ من القدرية، واقتدى بمعبد في بدعته هذه جماعة، وأخذ السلف رحمهم الله في ذمّ القدرية، وحذروا منهم كما هو معروف في كتب الحديث، وكان عطاء بن يسار قاضيا يرى القدر، وكان يأتي هو ومعبد الجهنيّ إلى الحسن البصريّ فيقولان له: إنّ هؤلاء يسفكون الدماء ويقولون: إنما تجري أعمالنا على قدر الله، فقال: كذب أعداء الله، فطعن عليه بهذا، ومثله. وحدث أيضا في زمن الصحابة رضي الله عنهم مذهب الخوارج، وصرّحوا بالتكفير بالذنب والخروج على الإمام وقتاله، فناظرهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فلم يرجعوا إلى الحق، وقاتلهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وقتل منهم جماعة كما هو معروف في كتب الأخبار، ودخل في دعوة الخوارج خلق كثير، ورمى جماعة من أئمة الإسلام بأنهم يذهبون إلى مذهبهم، وعدّ منهم غير واحد من رواة الحديث كما هو معروف عند أهله، وحدث أيضا في زمن الصحابة رضي الله عنهم مذهب التشيع لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، والغلوّ فيه، فلما بلغه ذلك أنكره وحرّق بالنار جماعة ممن غلا فيه وأنشد:
لمّا رأيت الأمر أمرا منكرا ... اجّجت ناري ودعوت قنبرا
وقام في زمنه رضي الله عنه عبد الله بن وهب بن سبأ، المعروف بابن السوداء السبأي، وأحدث القول بوصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعليّ بالإمامة من بعده، فهو وصيّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخليفته على أمّته من بعده بالنص، وأحدث القول برجعة عليّ بعد موته إلى الدنيا، وبرجعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيضا، وزعم أنّ عليا لم يقتل، وأنه حيّ وأن فيه الجزء الإلهيّ، وأنه هو الذي يجيء في السحاب، وأن الرعد صوته والبرق سوطه، وأنه لا بدّ أن ينزل إلى الأرض فيملأها عدلا كما ملئت جورا. ومن ابن سبأ هذا تشعبت أصناف الغلاة من الرافضة، وصاروا يقولون بالوقف، يعنون أن الإمامة موقوفة على أناس معينين، كقول الإمامية بأنها في الأئمة الاثني عشر، وقول الإسماعيلية بأنها في ولد إسماعيل بن جعفر الصادق، وعنه أيضا أخذوا القول بفيئة الإمام، والقول برجعته بعد الموت إلى الدنيا، كما تعتقده الإمامية إلى اليوم في صاحب السرداب، وهو القول بتناسخ الأرواح، وعنه أخذوا أيضا القول بأن الجزء الإلهيّ يحلّ في الأئمة بعد عليّ بن أبي طالب، وأنهم بذلك استحقوا الإمامة بطريق الوجوب، كما استحق آدم عليه السّلام سجود الملائكة، وعلى هذا الرأي كان اعتقاد دعاة الخلفاء الفاطميين ببلاد مصر، وابن سبأ هذا هو الذي أثار فتنة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه حتى قتل: كما ذكر في ترجمة ابن سبأ من كتاب التاريخ الكبير المقفى؛ وكان له عدّة أتباع في عامّة الأمصار، وأصحاب كثيرون في معظم الأقطار، فكثرت لذلك الشيعة(4/189)
وصاروا ضدّا للخوارج، وما زال أمرهم يقوى وعددهم يكثر.
ثم حدث بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم، مذهب جهم بن صفوان ببلاد المشرق، فعظمت الفتنة به. فإنه نفى أن يكون لله تعالى صفة، وأورد على أهل الإسلام شكوكا أثر في الملة الإسلامية آثارا قبيحة، تولد عنها بلاء كبير. وكان قبيل المائة من سني الهجرة، فكثر أتباعه على أقواله التي تؤول إلى التعطيل، فأكبر أهل الإسلام بدعته وتمالؤا على إنكارها وتضليل أهلها. وحذروا من الجهمية وعادوهم في الله وذمّوا من جلس إليهم، وكتبوا في الردّ عليهم ما هو معروف عند أهله، وفي أثناء ذلك حدث مذهب الاعتزال، منذ زمن الحسن بن الحسين البصريّ رحمه الله، بعد المائتين من سني الهجرة، وصنفوا فيه مسائل في العدل والتوحيد وإثبات أفعال العباد، وأن الله تعالى لا يخلق الشرّ وجهلوا بأن الله لا يرى في الآخرة، وأنكروا عذاب القبر على البدن، وأعلنوا بأن القرآن مخلوق محدث، إلى غير ذلك من مسائلهم، فتبعهم خلائق في بدعهم، وأكثروا من التصنيف في نصرة مذهبهم بالطرق الجدلية، فنهى أئمة الإسلام عن مذهبهم، وذمّوا علم الكلام، وهجروا من ينتحله، ولم يزل أمر المعتزلة يقوى وأتباعهم تكثر ومذهبهم ينتشر في الأرض.
ثم حدث مذهب التجسيم المضادّ لمذهب الاعتزال، فظهر محمد بن كرّام بن عراق بن حزابة، أبو عبد الله السجستانيّ، زعيم الطائفة الكرّامية بعد المائتين من سني الهجرة، وأثبت الصفات حتى انتهى فيها إلى التجسيم والتشبيه، وحج وقدم الشام ومات بزغرة، في صفر سنة ست وخمسين ومائتين، فدفن بالمقدس، وكان هناك من أصحابه زيادة على عشرين ألفا على التعبد والتقشف، سوى من كان منهم ببلاد المشرق، وهم لا يحصون لكثرتهم، وكان إماما لطائفتي الشافعية والحنفية، وكانت بين الكرّامية بالمشرق وبين المعتزلة مناظرات ومناكرات وفتن كثيرة متعدّدة أزماتها. هذا وأمر الشيعة يفشو في الناس حتى حدث مذهب القرامطة، المنسوبين إلى حمدان الأشعث المعروف بقرمط، من أجل قصر قامته وقصر رجليه وتقارب خطوه، وكان ابتداء أمر قرمط هذا في سنة أربع وستين ومائتين، وكان ظهوره بسواد الكوفة فاشتهر مذهبه بالعراق، وقام من القرامطة ببلاد الشام صاحب الحال والمدّثر والمطوّق، وقام بالبحرين منهم أبو سعيد الجنابيّ من أهل جنابة، وعظمت دولته ودولة بنيه من بعده، حتى أوقعوا بعساكر بغداد وأخافوا خلفاء بني العباس، وفرضوا الأموال التي تحمل إليهم في كل سنة على أهل بغداد وخراسان والشام ومصر واليمن، وغزوا بغداد والشام ومصر والحجاز، وانتشرت دعاتهم بأقطار الأرض، فدخل جماعات من الناس في دعوتهم ومالوا إلى قولهم الذي سموه علم الباطن، وهو تأويل شرائع الإسلام وصرفها عن ظواهرها إلى أمور زعموها من عند أنفسهم، وتأويل آيات القرآن ودعوا هم فيها تأويلا بعيدا انتحلوا القول به بدعا ابتدعوها بأهوائهم، فضلوا وأضلوا عالما كثيرا.(4/190)
هذا وقد كان المأمون عبد الله بن هارون الرشيد سابع خلفاء بني العباس ببغداد، لما شغف بالعلوم القديمة. بعث إلى بلاد الروم من عرّب له كتب الفلاسفة وأتاه بها في أعوام بضع عشرة سنة ومائتين من سني الهجرة، فانتشرت مذاهب الفلاسفة في الناس، واشتهرت كتبهم بعامّة الأمصار، وأقبلت المعتزلة والقرامطة والجهمية وغيرهم عليها، وأكثروا من النظر فيها والتصفح لها، فانجرّ على الإسلام وأهله من علوم الفلاسفة ما لا يوصف من البلاء والمحنة في الدين، وعظم بالفلسفة ضلال أهل البدع وزادتهم كفرا إلى كفرهم. فلما قامت دولة بني بويه ببغداد في سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة واستمرّوا إلى سنة سبع وثلاثين وأربعمائة، وأظهروا مذهب التشيع، قويت بهم الشيعة وكتبوا على أبواب المساجد في سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة لعن الله معاوية بن أبي سفيان، ولعن من أغضب فاطمة، ومن منع الحسن أن يدفن عند جدّه، ومن نفى أبا ذر الغفاريّ، ومن أخرج العباس من الشورى.
فلما كان الليل حكه بعض الناس، فأشار الوزير المهلبيّ أن يكتب بإذن معز الدولة، لعن الله الظالمين لأهل البيت، ولا يذكر أحد في اللعن غير معاوية. ففعل ذلك وكثرت ببغداد الفتن بين الشيعة والسنية، وجهر الشيعة في الأذان بحيّ على خير العمل في الكرخ، وفشا مذهب الاعتزال بالعراق وخراسان وما وراء النهر، وذهب إليه جماعة من مشاهير الفقهاء، وقوى مع ذلك أمر الخلفاء الفاطميين بأفريقية وبلاد المغرب، وجهروا بمذهب الإسماعيلية وبثوا دعاتهم بأرض مصر، فاستجاب لهم خلق كثير من أهلها، ثم ملكوها سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وبعثوا بعساكرهم إلى الشام فانتشرت مذاهب الرافضة في عامّة بلاد المغرب ومصر والشام وديار بكر والكوفة والبصرة وبغداد، وجميع العراق، وبلاد خراسان، وما وراء النهر مع بلاد الحجاز واليمن والبحرين، وكانت بينهم وبين أهل السنة من الفتن والحروب والمقاتل ما لا يمكن حصره لكثرته، واشتهرت مذاهب الفرق من القدرية والجهمية والمعتزلة والكرّامية والخوارج والروافض والقرامطة والباطنية، حتى ملأت الأرض، وما منهم إلّا من نظر في الفلسفة وسلك من طرقها ما وقع عليه اختياره، فلم تبق مصر من الأمصار ولا قطر من الأقطار، إلا وفيه طوائف كثيرة ممن ذكرنا.
وكان أبو الحسن عليّ بن إسماعيل الأشعريّ قد أخذ عن أبي عليّ محمد بن عبد الوهاب الجبائيّ، ولازمه عدّة أعوام، ثم بدا له فترك مذهب الاعتزال وسلك طريق أبي محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن كلاب، ونسج على قوانينه في الصفات والقدر، وقال بالفاعل المختار، وترك القول بالتحسين والتقبيح العقليين، وما قيل في مسائل الصلاح والأصلح، وأثبت أن العقل لا يوجب المعارف قبل الشرع، وأن العلوم وإن حصلت بالعقل فلا تجب به، ولا يجب البحث عنها إلّا بالسمع، وأن الله تعالى لا يجب عليه شيء، وأن النبوّات من الجائزات العقلية والواجبات السمعية إلى غير ذلك من مسائله التي هي موضوع أصول الدين.(4/191)
وحقيقة مذهب الأشعريّ: رحمه الله، أنه سلك طريقا بين النفي الذي هو مذهب الاعتزال، وبين الإثبات الذي هو مذهب أهل التجسيم، وناظر على قوله هذا واحتج لمذهبه، فمال إليه جماعة وعوّلوا على رأيه، منهم القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلانيّ المالكيّ، وأبو بكر محمد بن الحسن بن فورك، والشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن مهران الأسفراينيّ، والشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن عليّ بن يوسف الشيرازيّ، والشيخ أبو حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزاليّ، وأبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستانيّ، والإمام فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازيّ، وغيرهم ممن يطول ذكره، ونصروا مذهبه وناظروا عليه وجادلوا فيه واستدلوا له في مصنفات لا تكاد تحصر، فانتشر مذهب أبي الحسن الأشعريّ في العراق من نحو سنة ثمانين وثلاثمائة وانتقل منه إلى الشام، فلما ملك السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ديار مصر، كان هو وقاضيه صدر الدين عبد الملك بن عيسى بن درباس المارانيّ على هذا المذهب، قد نشآ عليه منذ كانا في خدمة السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بدمشق، وحفظ صلاح الدين في صباه عقيدة ألفها له قطب الدين أبو المعالي مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوريّ، وصار يحفظها صغار أولاده، فلذلك عقدوا الخناصر وشدّوا البنان على مذهب الأشعريّ، وحملوا في أيام دولتهم كافة الناس على التزامه، فتمادى الحال على ذلك جميع أيام الملوك من بني أيوب، ثم في أيام مواليهم الملوك من الأتراك، واتفق مع ذلك توجه أبي عبد الله محمد بن تومرت أحد رجالات المغرب إلى العراق، وأخذ عن أبي حامد الغزاليّ مذهب الأشعريّ، فلما عاد إلى بلاد المغرب وقام في المصامدة يفقههم ويعلمهم، وضع لهم عقيدة لقفها عنه عامّتهم، ثم مات فخلفه بعد موته عبد المؤمن بن عليّ القيسيّ، وتلقب بأمير المؤمنين، وغلب على ممالك المغرب هو وأولاده من بعد مدّة سنين، وتسموا بالموحدين، فلذلك صارت دولة الموحدين ببلاد المغرب تستبيح دماء من خالف عقيدة ابن تومرت، إذ هو عندهم الإمام المعلوم، المهديّ المعصوم، فكم أراقوا بسبب ذلك من دماء خلائق لا يحصيها إلّا الله خالقها سبحانه وتعالى، كما هو معروف في كتب التاريخ، فكان هذا هو السبب في اشتهار مذهب الأشعريّ وانتشاره في أمصار الإسلام، بحيث نسي غيره من المذاهب، وجهل حتى لم يبق اليوم مذهب يخالفه، إلّا أن يكون مذهب الحنابلة أتباع الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه، فإنهم كانوا على ما كان عليه السلف، لا يرون تأويل ما ورد من الصفات، إلى أن كان بعد السبعمائة من سني الهجرة، اشتهر بدمشق وأعمالها تقيّ الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحكم بن عبد السلام بن تيمية الحرّانيّ، فتصدّى للانتصار لمذهب السلف وبالغ في الردّ على مذهب الأشاعرة، وصدع بالنكير عليهم وعلى الرافضة، وعلى الصوفية، فافترق الناس فيه فريقان، فريق يقتدي به ويعوّل على أقواله ويعمل برأيه، ويرى أنه شيخ(4/192)
الإسلام وأجلّ حفاظ أهل الملّة الإسلامية. وفريق يبدّعه ويضلله ويزري عليه بإثباته الصفات، وينتقد عليه مسائل منها ما له فيه سلف، ومنها ما زعموا أنه خرق فيه الإجماع، ولم يكن له فيه سلف، وكانت له ولهم خطوب كثيرة، وحسابه وحسابهم على الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وله إلى وقتنا هذا عدّة أتباع بالشام وقليل بمصر.
هذا وبين الأشاعرة والماتريدية أتباع أبي منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريديّ، وهم طائفة الفقهاء الحنفية مقلد والإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت، وصاحبيه أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الحضرميّ، ومحمد بن الحسن الشيبانيّ رضي الله عنهم، من الخلاف في العقائد ما هو مشهور في موضعه، وهو إذ تتبع يبلغ بضع عشرة مسألة، كان بسببها في أوّل الأمر تباين وتنافر، وقدح كل منهم في عقيدة الآخر، إلّا أن الأمر آل آخرا إلى الإغضاء، ولله الحمد.
فهذا أعز الله بيان ما كانت عليه عقائد الأمّة من ابتداء الأمر إلى وقتنا هذا، قد فصّلت فيه ما أجمله أهل الأخبار، وأجملت ما فصلوا، فدونك طالب العلم تناول ما قد بذلت فيه جهدي وأطلت بسببه سهري وكدّي في تصفح دواوين الإسلام وكتب الأخبار، فقد وصل إليك صفوا ونلته عفوا بلا تكلف مشقة ولا بذل مجهول، ولكن الله يمنّ على من يشاء من عباده.
أبو الحسن عليّ بن إسماعيل بن أبي بشر إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة عامر بن أبي موسى، واسمه عبد الله بن قيس «الأشعريّ» البصريّ، ولد سنة ست وستين ومائتين، وقيل سنة سبعين، وتوفي ببغداد سنة بضع وثلاثين وثلاثمائة وقيل سنة أربع وعشرين وثلاثمائة، سمع زكريا الساجي، وأبا خليفة الجمحيّ، وسهل بن نوح، ومحمد بن يعقوب القمريّ، وعبد الرحمن بن خلف الضبيّ المصريّ، وروى عنهم في تفسيره كثيرا، وتلمذ لزوج أمّه أبي عليّ محمد بن عبد الوهاب الجبائيّ، واقتدى برأيه في الاعتزال عدّة سنين حتى صار من أئمة المعتزلة، ثم رجع عن القول بخلق القرآن وغيره من آراء المعتزلة، وصعد يوم الجمعة بجامع البصرة كرسيا ونادى بأعلى صوته، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرّفه بنفسي، أنا فلان بن فلان، كنت أقول بخلق القرآن وأن الله لا يرى بالإبصار، وأن أفعال الشرّ أنا أفعلها، وأنا تائب مقلع معتقد الردّ على المعتزلة، مبين لفضائحهم ومعايبهم، وأخذ من حينئذ في الردّ عليهم، وسلك بعض طريق أبي محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن كلاب القاطن، وبنى على قواعده. وصنف خمسة وخمسين تصنيفا منها. كتاب اللمع، وكتاب الموجز، وكتاب إيضاح البرهان، وكتاب التبيين على أصول الدين، وكتاب الشرح والتفصيل في الردّ على(4/193)
أهل الإفك والتضليل، وكتاب الإبانة، وكتاب تفسير القرآن، يقال أنه في سبعين مجلدا.
وكانت غلته من ضيعة وقفها بلال بن أبي بردة على عقبه، وكانت نفقته في السنة سبعة عشر درهما، وكانت فيه دعابة ومزح كثير. وقال مسعود بن شيبة في كتاب التعليم: كان حنفيّ المذهب، معتزليّ الكلام، لأنه كان ربيب أبي عليّ الجبائيّ، وهو الذي رباه وعلمه الكلام، وذكر الخطيب أنه كان يجلس أيام الجمعات في حلقة أبي إسحاق المروزيّ الفقيه في جامع المنصور. وعن أبي بكر بن الصيرفيّ: كان المعتزلة قد رفعوا رؤوسهم حتى أظهر الله تعالى الأشعريّ فحجزهم في أقماع السماسم.
وجملة عقيدته أنّ الله تعالى عالم بعلم، قادر بقدرة، حيّ بحياة، مريد بإرادة، متكلم بكلام، سميع يسمع، بصير يبصر، وأن صفاته أزلية قائمة بذاته تعالى، لا يقال هي هو، ولا هي غيره، ولا هي هو، ولا غيره. وعلمه واحد يتعلق بجميع المعلومات، وقدرته واحدة تتعلق بجميع ما يصح وجوده، وإرادته واحدة تتعلق بجميع ما يقبل الاختصاص، وكلامه واحد هو أمر ونهي وخبر واستخبار ووعد ووعيد، وهذه الوجوه راجعة إلى اعتبارات في كلامه، لا إلى نفس الكلام والألفاظ المنزلة على لسان الملائكة إلى الأنبياء، دلالات على الكلام الأزليّ، فالمدلول وهو القرآن المقروء، قديم أزليّ، والدلالة وهي العبارات، وهي القراءة، مخلوقة محدثة. قال: وفرق بين القراء والمقروء، والتلاوة والمتلوّ، كما فرق بين الذكر والمذكور. قال: والكلام معنى قائم بالنفس، والعبارة دالة على ما في النفس، وإنما تسمى العبارة كلاما مجازا. قال وأراد الله تعالى جميع الكائنات خيرها وشرّها، ونفعها وضرّها، ومال في كلامه إلى جواز تكليف ما لا يطاق، لقوله أنّ الاستطاعة مع الفعل، وهو مكلف بالفعل قبله، وهو غير مستطيع قبله على مذهبه. قال وجميع أفعال العباد مخلوقة مبدعة من الله تعالى، مكتسبة للعبد، والكسب عبارة عن الفعل القائم بمحل قدرة العبد. قال: والخالق هو الله تعالى، حقيقة لا يشاركه في الخلق غيره، فأخص وصفه هو القدرة والاختراع، وهذا تفسير اسمه البارئ.
قال وكلّ موجود يصح أن يرى، والله تعالى موجود، فيصح أن يرى، وقد صح السمع بأن المؤمنين يرونه في الدار الأخرى في الكتاب والسنة، ولا يجوز أن يرى في مكان، ولا صورة مقابلة، واتصال شعاع، فإن ذلك كله محال، وماهية الرؤية له فيها رأيان، أحدهما: أنه علم مخصوص يتعلق بالوجود دون العدم، والثاني أنه إدراك وراء العلم، وأثبت السمع والبصر صفتين أزليتين هما إدراكان وراء العلم، وأثبت اليدين والوجه صفات خبرية، ورد السمع بها، فيجب الاعتراف به، وخالف المعتزلة في الوعد والوعيد والسمع والعقل من كل وجه. وقال: الإيمان هو التصديق بالقلب والقول باللسان والعمل بالأركان فروع الإيمان، فمن صدّق بالقلب أي أقرّ بوحدانية الله تعالى واعترف بالرسل تصديقا لهم فيما جاؤا به فهو مؤمن، وصاحب الكبيرة إذا خرج من الدنيا من غير توبة(4/194)
حكمه إلى الله، أما أن يغفر له برحمته أو يشفع له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإمّا أن يعذبه بعدله ثم يدخله الجنة برحمته ولا يخلد في النار مؤمن. قال ولا أقول أنه يجب على الله سبحانه قبول توبته بحكم العقل، لأنه هو الموجب، لا يجب عليه شيء أصلا، بل قد ورد السمع بقبول توبة التائبين، وإجابة دعوة المضطرّين، وهو المالك لخلقه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فلو أدخل الخلائق بأجمعهم النار لم يكن جورا، ولو أدخلهم الجنة لم يكن حيفا، ولا يتصوّر منه ظلم، ولا ينسب إليه جور، لأنه المالك المطلق، والواجبات كلها سمعية فلا يوجب العقل شيئا البتة، ولا يقتضي تحسينا ولا تقبيحا، فمعرفة الله تعالى وشكر المنعم، وإثابة الطائع، وعقاب العاصي، كلّ ذلك بحسب السمع دون العقل، ولا يجب على الله شيء لا صلاح ولا أصلح ولا لطف بل الثواب والصلاح واللطف والنعم كلها تفضل من الله تعالى، ولا يرجع إليه تعالى نفع ولا ضرّ، فلا ينتفع بشكر شاكر، ولا يتضرّر بكفر كافر، بل يتعالى ويتقدّس عن ذلك، وبعث الرسل جائز لا واجب ولا مستحيل، فإذا بعث الله تعالى الرسول وأيده بالمعجزة الخارقة للعادة وتحدّى ودعا الناس، وجب الإصغاء إليه والاستماع منه والامتثال لأوامره والانتهاء عن نواهيه، وكرامات الأولياء حق، والإيمان بما جاء في القرآن والسنة من الأخبار عن الأمور الغائبة عنا مثل اللوح والقلم والعرش والكرسيّ والجنة والنار حق وصدق، وكذلك الأخبار عن الأمور التي ستقع في الآخرة، مثل سؤال القبر والثواب والعقاب فيه والحشر والمعاد والميزان والصراط وانقسام فريق في الجنة وفريق في السعير، كلّ ذلك حق وصدق يجب الإيمان والاعتراف به. والإمامة تثبت بالاتفاق والاختيار دون النص والتعيين على واحد معين، والأئمة مترتبون في الفضل ترتبهم في الإمامة. قال ولا أقول في عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم إلّا أنّهم رجعوا عن الخطأ، وأقول أن طلحة والزبير من العشرة المبشرين بالجنة، وأقول في معاوية وعمرو بن العاص أنهما بغيا على الإمام الحق عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم، فقاتلهم مقاتلة أهل البغي، وأقول أن أهل النهروان الشراة هم المارقون عن الدين، وأن عليا رضي الله عنه كان على الحق في جميع أحواله، والحق معه حيث دار.
فهذه جملة من أصول عقيدته التي عليها الآن جماهير أهل الأمصار الإسلامية، والتي من جهر بخلافها أريق دمه، والأشاعرة يسمون الصفاتية لإثباتهم صفات الله تعالى القديمة، ثم افترقوا في الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة، كالاستواء والنزول والإصبع واليد والقدم والصورة والجنب، والمجيء على فرقتين، فرقة تؤول جميع ذلك على وجوه محتملة اللفظ، وفرقة لم يتعرّضوا للتأويل ولا صاروا إلى التشبيه، ويقال لهؤلاء الأشعرية الأسرية، فصار للمسلمين في ذلك خمسة أقوال: أحدها اعتقاد ما يفهم مثله من اللغة، وثانيها السكوت عنها مطلقا، وثالثها السكوت عنها بعد نفي إرادة الظاهر، ورابعها حملها على المجاز، وخامسها حملها على الاشتراك، ولكلّ فريق أدلة وحجاج تضمنتهما كتب أصول(4/195)
الدين، ولا يزالون مختلفين إلّا من رحم ربك، ولذلك خلقهم والله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون.
فصل: اعلم أن الله سبحانه طلب من الخلق معرفته بقوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ
[الذاريات/ 56] قال ابن عباس وغيره يعرفون، فخلق تعالى الخلق وتعرّف إليهم بألسنة الشرائع المنزلة، فعرفه من عرفه، سبحانه، منهم على ما عرّفهم فيما تعرّف به إليهم، وقد كان الناس قبل إنزال الشرائع الرسل عليهم السلام، علمهم بالله تعالى إنما هو بطريق التنزيه له عن سمات الحدوث، وعن التركيب، وعن الافتقار. ويصفونه سبحانه بالاقتدار المطلق، وهذا التنزيه هو المشهور عقلا، ولا يتعدّاه عقل أصلا، فلما أنزل الله شريعته على رسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأكمل دينه، كان سبيل العارف بالله أن يجمع في معرفته بالله بين معرفتين، إحداهما المعرفة التي تقتضيها الأدلة العقلية، والأخرى المعرفة التي جاءت بها الاخبارات الإلهية، وأن يردّ علم ذلك إلى الله تعالى، ويؤمن به وبكل ما جاءت به الشريعة على الوجه الذي أراده الله تعالى، من غير تأويل بفكره ولا تحكم فيه برأيه، وذلك أن الشرائع إنما أنزلها الله تعالى لعدم استقلال العقول البشرية بإدراك حقائق الأشياء على ما هي عليه في علم الله، وأنّي لها ذلك وقد تقيدت بما عندها من إطلاق ما هنالك، فإن وهبها علما بمراده من الأوضاع الشرعية، ومنحها الاطلاع على حكمه في ذلك، كان من فضله تعالى، فلا يضيف العارف هذه المنة إلى فكره، فإن تنزيهه لربه تعالى بفكره ويجب أن يكون مطابقا لما أنزله سبحانه على لسان رسوله صلّى الله عليه وسلّم من الكتاب والسنة، وإلّا فهو تعالى منزه عن تنزيه عقول البشر بأفكارها، فإنها مقيدة بأوطارها، فتنزيهها كذلك مقيد بحسبها وبموجب أحكامها وآثارها، إلّا إذا خلت عن الهوى فإنها حينئذ يكشف الله لها الغطاء عن بصائرها، ويهديها إلى الحق، فتنزه الله تعالى عن التنزيهات العرفية بالأفكار العادية، وقد أجمع المسلمون قاطبة على جواز رواية الأحاديث الواردة في الصفات ونقلها وتبليغها من غير خلاف بينهم في ذلك، ثم أجمع أهل الحق منهم على أن هذه الأحاديث مصروفة عن احتمال مشابهة الخلق، لقول الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ
[الشورى/ 11] ولقول الله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ
[الاخلاص/ 2] وهذه السورة يقال لها سورة الاخلاص، وقد عظم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شأنها، ورغّب أمته في تلاوتها، حتى جعلها تعدل ثلث القرآن من أجل أنها شاهدة بتنزيه الله تعالى، وعدم الشبه والمثل له سبحانه، وسميت سورة الإخلاص لاشتمالها على إخلاص التوحيد لله عن أن يشوبه ميل إلى تشبيهه بالخلق، وأمّا الكاف التي في قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
[الشورى/ 11] فإنها زائدة، وقد تقرّر أن الكاف والمثل في كلام العرب اتيا للتشبيه، فجمعهما الله تعالى ثم نفى بهما عنه ذلك، فإذا ثبت إجماع المسلمين على جواز رواية هذه الأحاديث ونقلها، مع إجماعهم على أنها مصروفة عن(4/196)
التشبيه، لم يبق في تعظيم الله تعالى بذكرها إلّا نفي التعطيل، لكون أعداء المرسلين سموا ربهم سبحانه أسماء نفوا فيها صفاته العلا، فقال قوم من الكفار هو طبيعة، وقال آخرون منهم هو علة، إلى غير ذلك من إلحادهم في أسمائه سبحانه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الأحاديث المشتملة على ذكر صفات الله العلا، ونقلها عنه أصحابه البررة، ثم نقلها عنهم أئمة المسلمين حتى انتهت إلينا، وكلّ منهم يرويها بصفتها من غير تأويل لشيء منها، مع علمنا أنهم كانوا يعتقدون أن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، ففهمنا من ذلك أن الله تعالى أراد بما نطق به رسوله صلّى الله عليه وسلّم من هذه الأحاديث، وتناولها عنه الصحابة رضي الله عنهم وبلغوها لأمّته، أن يغص بها في حلوق الكافرين، وأن يكون ذكرها نكتا في قلب كلّ ضال معطل مبتدع يقفو أثر المبتدعة من أهل الطبائع وعباد العلل، فلذلك وصف الله تعالى نفسه الكريمة بها في كتابه، ووصفه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيضا بما صح عنه وثبت، فدل على أن المؤمن إذا اعتقد أن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأنه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، كان ذكره لهذه الأحاديث تمكين الإثبات، وشجا في حلوق المعطلة، وقد قال الشافعيّ: رحمه الله «الإثبات أمكن» نقله الخطابيّ ولم يبلغنا عن أحد من الصحابة والتابعين وتابعيهم أنهم أوّلوا هذه الأحاديث، والذي يمنع من تأويلها إجلال الله تعالى عن أن تضرب له الأمثال، وأنه إذا نزل القرآن بصفة من صفات الله تعالى، كقوله سبحانه: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ
[الفتح/ 10] فإن نفس تلاوة هذا يفهم منها السامع المعنى المراد به، وكذا قوله تعالى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ
[المائدة/ 64] عند حكايته تعالى عن اليهود نسبتهم إياه إلى البخل فقال تعالى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ
[المائدة/ 64] فإن نفس تلاوة هذا مبينة للمعنى المقصود، وأيضا فإن تأويل هذه الأحاديث يحتاج أن يضرب لله تعالى فيها المثل نحو قولهم في قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى
[طه/ 5] الاستواء الاستيلاء، كقولك استوى الأمير على البلد، وأنشدوا:
قد استوى بشر على العراق
فلزمهم تشبيه الباري تعالى ببشر، وأهل الإثبات نزهو إجلال الله عن أن يشبهوه بالأجسام حقيقة ولا مجازا، وعلموا مع ذلك أن هذا النطق يشتمل على كلمات متداولة بين الخالق وخلقه، وتحرّجوا أن يقولوا مشتركة، لأن الله تعالى لا شريك له، ولذلك: لم يتأول السلف شيئا من أحاديث الصفات، مع علمنا قطعا أنها عندهم مصروفة عما يسبق إليه ظنون الجهال من مشابهتها الصفات المخلوقين، وتأمّل تجد الله تعالى لمّا ذكر المخلوقات المتولدة من الذكر والأنثى في قوله سبحانه: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً
[الشورى/ 11] يذرؤكم فيه علم سبحانه ما يخطر بقلوب الخلق، فقال عز من قائل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ
[الشورى: 11] .(4/197)
واعلم أن السبب في خروج أكثر الطوائف عن ديانة الإسلام، أن الفرس كانت من سعة الملك وعلوّ اليد على جميع الأمم، وجلالة الخطر في أنفسها، بحيث أنهم كانوا يسمون أنفسهم الأحرار والأسياد، وكانوا يعدّون سائر الناس عبيدا لهم، فلما امتحنوا بزوال الدولة عنهم على أيدي العرب، وكانت العرب عند الفرس أقل الأمم خطرا، تعاظمهم الأمر وتضاعفت لديهم المصيبة، وراموا كيد الإسلام بالمحاربة في أوقات شتى، وفي كل ذلك يظهر الله تعالى الحق، وكان من قائميهم سنفاد واشنيس والمقفع وبابك وغيرهم، وقبل هؤلاء رام ذلك عمار الملقب خداشا، وأبو مسلم السروح، فرأوا أن كيده على الحيلة أنجع، فأظهر قوم منهم الإسلام واستمالوا أهل التشيع بإظهار محبة أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واستبشاع ظلم عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم سلكوا بهم مسالك شتى حتى أخرجوهم عن طريق الهدى، فقوم أدخلوهم إلى القول بأن رجلا ينتظر يدعى المهديّ، عنده حقيقة الدين إذ لا يجوز أن يؤخذ الدين عن كفار، إذ نسبوا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الكفر، وقوم خرجوا إلى القول بادعاء النبوّة لقوم سموهم به، وقوم سلكوا بهم إلى القول بالحلول وسقوط الشرائع، وآخرون تلاعبوا بهم فأوجبوا عليهم خمسين صلاة في كل يوم وليلة، وآخرون قالوا بل هي سبع عشرة صلاة في كل صلاة خمس عشرة ركعة، وهو قول عبد الله بن عمرو بن الحارث الكنديّ، قبل أن يصير خارجيا صفريا، وقد أظهر عبد الله بن سبأ الحميريّ اليهوديّ الإسلام ليكيد أهله، فكان هو أصل إثارة الناس على عثمان بن عفان رضي الله عنه، واحرق عليّ رضي الله عنه منهم طوائف أعلنوا بإلهيته، ومن هذه الأصول حدثت الإسماعيلية والقرامطة.
والحق الذي لا ريب فيه أن دين الله تعالى ظاهر لا باطن فيه، وجوهر لا سرّ تحته، وهو كله لازم كل أحد لا مسامحة فيه، ولم يكتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الشريعة ولا كلمة، ولا أطلع أخص الناس به من زوجة أو ولد عمّ على شيء من الشريعة، كتمه عن الأحمر والأسود ورعاة الغنم، ولا كان عنده صلّى الله عليه وسلّم سرّ ولا رمز ولا باطن غير ما دعا الناس كلها إليه، ولو كتم شيئا لما بلغ كما أمر، ومن قال هذا فهو كافر بإجماع الأمّة، وأصل كلّ بدعة في الدين البعد عن كلام السلف والانحراف عن اعتقاد الصدر الأوّل، حتى بالغ القدريّ في القدر فجعل العبد خالقا لأفعاله، وبالغ الجبريّ في مقابلته فسلب عنه الفعل والاختيار، وبالغ المعطل في التنزيه فسلب عن الله تعالى صفات الجلال ونعوت الكمال، وبالغ المشبه في مقابلته فجعله كواحد من البشر، وبالغ المرجئ في سلب العقاب، وبالغ المعتزليّ في التخليد في العذاب، وبالغ الناصبيّ في دفع عليّ رضي الله عنه عن الإمامة، وبالغت الغلاة حتى جعلوه إلها، وبالغ السنيّ في تقديم أبي بكر رضي الله عنه، وبالغ الرافضيّ في تأخيره حتى كفره، وميدان الظنّ واسع وحكم الوهم غالب، فتعارضت الظنون وكثرت الأوهام وبلغ كل فريق في الشرّ والعناد والبغي والفساد إلى أقصى غاية، وأبعد نهاية، وتباغضوا وتلاعنوا(4/198)
واستحلوا الأموال واستباحوا الدماء، وانتصروا بالدول واستعانوا بالملوك، فلو كان أحدهم إذا بالغ في أمر نازع الآخر في القرب منه، فإن الظنّ لا يبعد عن الظنّ كثيرا ولا ينتهى في المنازعة إلى الطرف الآخر من طرفي التقابل، لكنهم أبو إلّا ما قدّمناه ذكره من التدابر والتقاطع، ولا يزالون مختلفين إلّا من رحم ربك.
ذكر المدارس
قال ابن سيده: درس الكتاب يدرسه درسا ودراسة، ودارسه من ذلك كأنه عاوده، حتى انقاد لحفظه. وقرىء بهما وليقولوا درست ودارست ذاكرتهم، وحكى درست أي قرئت وقرىء درست أي هذه أخبار قد عفت وانمحت، ودرّست أشدّ مبالغة، والدراس المدارسة، وقال ابن جني: ودرسته إياه وأدرسته، ومن الشاذ قراءة ابن حيوة، وبما كنتم تدرسون، والمدارس الموضع الذي يدرس فيه، وقد ذكر الواقديّ أن عبد الله ابن أمّ مكتوم قدم مهاجرا إلى المدينة مع مصعب بن عمير رضي الله عنهما، وقيل قدم بعد بدر بيسير، فنزل دار القرّاء، ولما أراد الخليفة المعتضد بالله أبو العباس أحمد بن الموفق بالله أبي أحمد طلحة بن المتوكل على الله جعفر بناء قصره في الشماسية ببغداد، استزاد في الذرع بعد أن فرغ من تقدير ما أراد، فسئل عن ذلك فذكر أنه يريده ليبني فيه دورا ومساكن ومقاصير، يرتب في كل موضع رؤساء كلّ صناعة ومذهب من مذاهب العلوم النظرية والعملية، ويجري عليهم الأرزاق السنية، ليقصد كل من اختار علما أو صناعة رئيس ما يختاره فيأخذ عنه.
والمدارس مما حدث في الإسلام، ولم تكن تعرف في زمن الصحابة ولا التابعين، وإنما حدث عملها بعد الأربعمائة من سني الهجرة، وأوّل من حفظ عنه أنه بنى مدرسة في الإسلام أهل نيسابور، فبنيت بها بالمدرسة البيهقية، وبنى بها أيضا الأمير نصر بن سبكتكين مدرسة، وبنى بها أخو السلطان محمود بن سبكتكين مدرسة، وبنى بها أيضا المدرسة السعيدية، وبنى بها أيضا مدرسة رابعة، وأشهر ما بني في القديم المدرسة النظامية ببغداد، لأنّها أوّل مدرسة قرّر بها للفقهاء معاليم، وهي منسوبة إلى الوزير نظام الملك أبي عليّ الحسن بن عليّ بن إسحاق بن العباس الطوسيّ، وزير ملك شاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكال بن سلجوق في مدينة بغداد، وشرع في بنائها في سنة سبع وخمسين وأربعمائة، وفرغت في ذي القعدة سنة تسع وخمسين وأربعمائة، ودرس فيها الشيخ أبو إسحاق الشيرازيّ الفيروزآبادي، صاحب كتاب التنبيه في الفقه على مذهب الإمام الشافعيّ رضي الله عنه ورحمه، فاقتدى الناس به من حينئذ في بلاد العراق وخراسان وما وراء النهر وفي بلاد الجزيرة وديار بكر. وأمّا مصر فإنها كانت حينئذ بيد الخلفاء الفاطميين، ومذهبهم مخالف لهذه الطريقة، وإنما هم شيعة إسماعيلية كما تقدّم، وأوّل ما عرف إقامة درس من قبل السلطان بمعلوم جار لطائفة من الناس بديار مصر، في خلافة العزيز بالله نزار بن المعز،(4/199)
ووزارة يعقوب بن كلس، فعمل ذلك بالجامع الأزهر كما تقدّم ذكره، ثم عمل في دار الوزير يعقوب بن كاس مجلس يحضره الفقهاء، فكان يقرأ فيه كتاب فقه على مذهبهم، وعمل أيضا مجلس بجامع عمرو بن العاص من مدينة فسطاط مصر لقراءة كتاب الوزير، ثم بنى الحاكم بأمر الله أبو عليّ منصور بن العزيز دار العلم بالقاهرة كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب، فلما انقرضت الدولة الفاطمية على يد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب أبطل مذاهب الشيعة من ديار مصر، وأقام بها مذهب الإمام الشافعيّ، ومذهب الإمام مالك، واقتدى بالملك العادل نور الدين محمود بن زنكي، فإنه بنى بدمشق وحلب وأعمالهما عدّة مدارس للشافعية والحنفية، وبنى لكل من الطائفتين مدرسة بمدينة مصر. وأوّل مدرسة أحدثت بديار مصر المدرسة الناصرية بجوار الجامع العتيق بمصر، ثم المدرسة القمحية المجاورة للجامع أيضا، ثم المدرسة السيوفية التي بالقاهرة، ثم اقتدى بالسلطان صلاح الدين في بناء المدارس بالقاهرة ومصر وغيرهما من أعمال مصر وبالبلاد الشامية والجزيرة أولاده، وأمراؤه، ثم حذا حذوهم من ملك مصر بعدهم من ملوك الترك وأمرائهم وأتباعهم إلى يومنا هذا، وسأذكر ما بديار مصر من المدارس، وأعرّف بحال من بناها على ما اعتدته في هذا الكتاب من التوسط دون الإسهاب، وبالله استعين.
المدرسة الناصرية
بجوار الجامع العتيق من مدينة مصر من قبليه، هذه المدرسة عرفت أوّلا بالمدرسة الناصرية، ثم عرفت بابن زين التجار، وهو أبو العباس أحمد بن المظفر بن الحسين الدمشقيّ، المعروف بابن زين التجار، أحد أعيان الشافعية. درّس بهذه المدرسة مدّة طويلة، ومات في ذي القعدة سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، ثم عرفت بالمدرسة الشريفة، وهي إلى الآن تعرف بذلك، وكان موضعها يقال له الشرطة، وذكر الكنديّ أنها خطة قيس بن سعد بن عبادة الأنصاريّ، وعرفت بدار الفلفل. وقال ابن عبد الحكم كانت فضاء قبل ذلك، وقيل كانت هي والدار التي إلى جانبها لنافع بن عبد الله بن قيس الفهريّ، فأخذها منه قيس بن سعد، وسمّيت دار الفلفل لأن أسامة بن زيد التنوخيّ صاحب الخراج بمصر، ابتاع من موسى بن وردان فلفلا بعشرين ألف دينار ليهديه إلى صاحب الروم، فخزّنه فيها، ولما فرغ عيسى بن يزيد الجلوديّ من بناء زيادة الجامع، بنى هذه الدار شرطة في سنة ثلاث عشرة ومائتين، ثم صارت سجنا تعرف بالمعونة، فهدمها السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب في أوّل المحرّم سنة ست وستين وخمسمائة، وأنشأها مدرسة برسم الفقهاء الشافعية، وكان حينئذ يتولى وزارة مصر للخليفة العاضد، وكان هذا من أعظم ما نزل بالدولة، وهي أوّل مدرسة عملت بديار مصر، ولما كملت وقف عليها الصاغة، وكانت بجوارها، وقد خربت وبقي منها شيء يسير قرأت عليها اسم الخليفة العزيز بالله، ووقف عليها أيضا قرية(4/200)
تعرف ... «1» وأول من ولي التدريس بها ابن زين التجار، فعرفت به، ثم درس بها بعدد ابن قطيطة بن الوزان، ثم من بعده كمال الدين أحمد بن شيخ الشيوخ، وبعده الشريف القاضي شمس الدين أبو عبد الله محمد بن الحسين بن محمد الحنفيّ قاضي العسكر الأرموي، فعرفت به. وقيل لها المدرسة الشريفة من عهده إلى اليوم، ولولا ما يتناوله الفقهاء من المعلوم بها لخربت، فإن الكيمان ملاصقة لها بعد ما كان حولها أعمر موضع في الدنيا، وقد ذكر حبس المعونة عند ذكر السجون من هذا الكتاب.
المدرسة القمحية
هذه المدرسة بجوار الجامع العتيق بمصر، كان موضعها يعرف بدار الغزل، وهو قيسارية يباع فيها الغزل، فعدمها السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وأنشأ موضعها مدرسة للفقهاء المالكية، وكان الشروع فيها للنصف من المحرّم سنة ست وستين وخمسمائة، ووقف عليها قيسارية الورّاقين، وعلوها بمصر، وضيعة بالفيوم تعرف بالحنبوشية، ورتب فيها أربعة من المدرّسين عند كل مدرّس عدّة من الطلبة، وهذه المدرسة أجل مدرسة للفقهاء المالكية، ويتحصل لهم من ضيعتهم التي بالفيوم قمح يفرّق فيهم، فلذلك صارت لا تعرف إلّا بالمدرسة القمحية إلى اليوم، وقد أحاط بها الخراب، ولولا ما يتحصل منها للفقهاء لدثرت. وفي شعبان سنة خمس وعشرين وثمانمائة أخرج السلطان الملك الأشرف برسباي الدقماقيّ ناحيتي الاعلام والحنبوشية، وكانتا من وقف السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب على هذه المدرسة، وأنعم بهما على مملوكين من مماليكه ليكونا إقطاعا لهما.
مدرسة يازكوج
هذه المدرسة بسوق الغزل في مدينة مصر، وهي مدرسة معلقة بناها ... «2» .
مدرسة ابن الأرسوفيّ
هذه المدرسة كانت بالبزازين التي تجاور خط النخالين بمصر، عرفت بابن الأرسوفيّ التاجر العسقلانيّ، وكان بناؤها في سنة سبعين وخمسمائة، وهو عفيف الدين عبد الله بن محمد الأرسوفيّ، مات بمصر في يوم الاثنين حادي عشري ربيع الأوّل سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة.(4/201)
مدرسة منازل العز
هذه المدرسة كانت من دور الخلفاء الفاطميين، بنتها أمّ الخليفة العزيز بالله بن المعز، وعرفت بمنازل العز، وكانت تشرف على النيل، وصارت معدّة لنزهة الخلفاء، وممن سكنها ناصر الدولة حسين بن حمدان إلى أن قتل، وكان بجانبها حمّام يعرف بحمّام الذهب من جملة حقوقها، وهي باقية. فلما زالت الدولة الفاطمية على يد السلطان صلاح الدين يوسف، أنزل في منازل العز الملك المظفر تقيّ الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب فسكنها مدّة، ثم إنه اشتراها والحمّام والإصطبل المجاور لها من بيت المال في شهر شعبان سنة ست وستين وخمسمائة، وأنشأ فندقين بمصر بخط الملاحين، وأنشأ ربعا بجوار أحد الفندقين، واشترى جزيرة مصر التي تعرف اليوم بالروضة، فلما أراد أن يخرج من مصر إلى الشام وقف منازل العز على فقهاء الشافعية، ووقف عليها الحمّام وما حولها، وعمر الاصطبل فندقا عرف بفندق النخلة ووقفه عليها، ووقف عليها الروضة، ودرّس بها شهاب الدين الطوسيّ وقاضي القضاة عماد الدين أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد العليّ السكريّ، وعدّة من الأعيان. وهي الآن عامرة بعمارة ما حولها.
الملك المظفر تقيّ الدين أبو سعيد عمر بن نور الدولة شاهنشاه بن نجم الدين أيوب بن شادي بن مروان، وهو ابن أخي السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، قدم إلى القاهرة في ... «1» واستنابه السلطان على دمشق في المحرّم سنة إحدى وسبعين، ثم نقله إلى نيابة حماه، وسلّم إليه سنجار لما أخذها في ثاني رمضان سنة ثمان وسبعين، فأقام بها ولحق السلطان على حلب فقدم عليه في سابع صفر سنة تسع وسبعين، فأقام إلى أن بعثه إلى القاهرة نائبا عنه بديار مصر عوضا عن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، فقدمها في شهر رمضان سنة تسع وسبعين، وأنعم عليه بالفيوم وأعمالها مع القايات وبوش، وأبقى عليه مدينة حماه. ثم خرج بعساكر مصر إلى السلطان وهو بدمشق في سنة ثمانين لاجل أخذ الكرك من الفرنج، فسار إليها وحصرها مدّة ثم رجع مع السلطان إلى دمشق، وعاد إلى القاهرة في شعبان وقد أقام السلطان على مملكة مصر ابنه الملك العزيز عثمان، وجعل الملك المظفر كافلا له وقائما بتدبير دولته، فلم يزل على ذلك إلى جمادى الأولى سنة اثنتين وثمانين، فصرف السلطان أخاه الملك العادل عن حلب وأعطاه نيابة مصر، فغضب الملك المظفر وعبر بأصحابه إلى الجيزة يريد المسير إلى بلاد المغرب واللحاق بغلامه بهاء الدين قراقوش التقويّ، فبلغ السلطان ذلك فكتب إليه ولم يزل به حتى زال ما به، وسار إلى السلطان فقدم عليه دمشق في ثالث عشري شعبان، فأقرّه على حماه والمعرّة ومنبج، وأضاف إليه ميافارقين، فلحق به أصحابه ما خلا مملوكه زين الدين بوزيا، فإنه سار إلى(4/202)
بلاد المغرب، وكانت له في أرض مصر وبلاد الشام أخبار وقصص، وعرفت له مواقف عديدة في الحرب مع الفرنج، وآثار في المصافات، وله في أبواب البرّ أفعال حسنة، وله بمدينة الفيوم مدرستان إحداهما للشافعية والأخرى للمالكية، وبنى مدرسة بمدينة الرها، وسمع الحديث من السلفيّ وابن عوف، وكان عنده فضل وأدب، وله شعر حسن، وكان جوادا شجاعا مقداما شديد البأس عظيم الهمة كثير الإحسان، ومات في نواحي خلاط ليلة الجمعة تاسع شهر رمضان سنة سبع وثمانين وخمسمائة، ونقل إلى حماه فدفن بها في تربة بناها على قبره ابنه الملك المنصور محمد.
مدرسة العادل
هذه المدرسة بخط الساحل بجوار الربع العادليّ من مدينة مصر الذي وقف على الشافعيّ، عمرها الملك العادل أبو بكر بن أيوب أخو السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، درس بها قاضي القضاة تقيّ الدين أبو عليّ الحسين بن شرف الدين أبي الفضل عبد الرحيم بن الفقيه جلال الدين أبي محمد عبد الله بن نجم بن شاس بن نزار بن عشائر بن عبد الله بن محمد بن شاس. فعرفت به، وقيل لها مدرسة ابن شاس إلى اليوم، وهي عامرة، وعرف خطها بالقشاشين وهي للمالكية.
مدرسة ابن رشيق
هذه المدرسة للمالكية، وهي بخط حمّام الريش من مدينة مصر، كان الكاتم من طوائف التكرور لما وصلوا إلى مصر في سنة بضع وأربعين وستمائة، قاصدين الحج، دفعوا للقاضي علم الدين بن رشيق مالا بناها به، ودرّس بها فعرفت به، وصار لها في بلاد التكرور سمعة عظيمة، وكانوا يبعثون إليها في غالب السنين المال.
المدرسة الفائزية
هذه المدرسة في مصر بخط ... «1» أنشأها الصاحب شرف الدين هبة الله بن صاعد بن وهيب الفائزيّ قبل وزارته، في سنة ست وثلاثين وستمائة، ودرّس بها القاضي محيي الدين عبد الله بن قاضي القضاة شرف الدين محمد بن عين الدولة، ثم قاضي القضاة صدر الدين موهوب الجزريّ، وهي للشافعية.
المدرسة القطبية
هذه المدرسة بالقاهرة في خط سويقة الصاحب بداخل درب الحريريّ، كانت هي(4/203)
والمدرسة السيفية من حقوق دار الديباج التي تقدّم ذكرها، وأنشأ هذه المدرسة الأمير قطب الدين خسرو بن بلبل بن شجاع الهدبانيّ، في سنة سبعين وخمسمائة، وجعلها وقفا على الفقهاء الشافعية، وهو أحد أمراء السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب.
المدرسة السيوفية
هذه المدرسة بالقاهرة، وهي من جملة دار الوزير المأمون البطائجيّ، وقفها السلطان السيد الأجل الملك الناصر صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن أيوب على الحنفية، وقرّر في تدريسها الشيخ مجد الدين محمد بن محمد الجبتي، ورتب له في كل شهر أحد عشر دينارا، وباقي ريع الوقف يصرفه على ما يراه للطلبة الحنفية المقرّرين عنده على قدر طبقاتهم، وجعل النظر للجبتي، ومن بعده إلى من له النظر في أمور المسلمين، وعرفت بالمدرسة السيوفية، من أجل أن سوق السيوفيين كان حينئذ على بابها، وهي الآن تجاه سوق الصنادقيين، وقدوهم القاضي محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر فإنه قال في كتاب الروضة الزاهرة في خطط المعزية القاهرة: مدرسة السيوفية وهي للحنفية، وقفها عز الدين فرحشاه قريب صلاح الدين وما أدري كيف وقع له هذا الوهم، فإن كتاب وقفها موجود، قد وقفت عليه ولخصت منه ما ذكرته، وفيه أن واقفها السلطان صلاح الدين وخطه على كتاب الوقف ونصه: الحمد لله وبه توفيقي، وتاريخ هذا الكتاب تاسع عشرى شعبان سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، ووقف على مستحقيها اثنين وثلاثين حانوتا بخط سويقة أمير الجيوش وباب الفتوح وحارة برجوان، وذكر في آخر كتاب وقفها أن الواقف أذن لمن حضر مجلسه من العدول في الشهادة والقضاء على لفظه بما تضمنه المسطور، فشهدوا بذلك وأثبتوا شهادتهم آخره، وحكم حاكم المسلمين على صحة هذا الوقف بعد ما خاصم رجل من أهل هذا الوقف في ذلك، وأمضاه. لكنه لم يذكر في الكاتب اسجال القاضي بثبوته بل ذكر رسم شهادة الشهود على الواقف، وهم عليّ بن إبراهيم بن نجا بن غنائم الأنصاريّ الدمشقيّ، والقاسم بن يحيى بن عبد الله بن قاسم الشهرزوريّ، وعبد الله بن عمر بن عبد الله الشافعيّ، وعبد الرحمن بن عليّ بن عبد العزيز بن قريش المخزوميّ، وموسى بن حكر بن موسك الهدبانيّ في آخرين. وهذه المدرسة هي أوّل مدرسة وقفت على الحنفية بديار مصر، وهي باقية بأيديهم.
المدرسة الفاضلية
هذه المدرسة بدرب ملوخيا من القاهرة، بناها القاضي الفاضل عبد الرحيم بن عليّ البيسانيّ، بجوار داره، في سنة ثمانين وخمسمائة، ووقفها على طائفتي الفقهاء الشافعية والمالكية، وجعل فيها قاعة للإقراء، أقرأ فيها الإمام أبو محمد الشاطبيّ ناظم الشاطبية، ثم تلميذه أبو عبد الله محمد بن عمر القرطبيّ، ثم الشيخ عليّ بن موسى الدهان وغيرهم، ورتب لتدريس فقه المذهبين الفقيه أبا القاسم عبد الرحمن بن سلامة الاسكندرانيّ، ووقف(4/204)
بهذه المدرسة جملة عظيمة من الكتب في سائر العلوم، يقال أنها كانت مائة ألف مجلد، وذهبت كلها. وكان أصل ذهابها أن الطلبة التي كانت بها، لما وقع الغلاء بمصر في سنة أربع وتسعين وستمائة، والسلطان يومئذ الملك العادل كتبغا المنصوريّ، مسهم الضرّ، فصاروا يبيعون كلّ مجلد برغيف خبز حتى ذهب معظم ما كان فيها من الكتب، ثم تداولت أيدي الفقهاء عليها بالعارية، فتفرّقت، وبها إلى الآن مصحف قرآن كبير القدر جدّا، مكتوب بالخط الأوّل الذي يعرف بالكوفيّ، تسميه الناس مصحف عثمان بن عفان، ويقال أن القاضي الفاضل اشتراه بنيف وثلاثين ألف دينار، على أنه مصحف أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهو في خزانة مفردة له بجانب المحراب من غريبه، وعليه مهابة وجلالة، وإلى جانب المدرسة كتّاب برسم الأيتام، وكانت هذه المدرسة من أعظم مدارس القاهرة وأجلها، وقد تلاشت لخراب ما حولها.
عبد الرحيم: بن عليّ بن الحسن بن أحمد بن الفرج بن أحمد القاضي الفاضل محيي الدين أبو عليّ ابن القاضي الأشرف اللخميّ العسقلانيّ البيسانيّ المصريّ الشافعيّ، كان أبوه يتقلد قضاء مدينة بيسان، فلهذا نسبوا إليها، وكانت ولادته بمدينة عسقلان في خامس عشر جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين وخمسمائة، ثم قدم القاهرة وخدم الموفق يوسف بن محمد بن الجلال، صاحب ديوان الإنشاء في أيام الحافظ لدين الله، وعنه أخذ صناعة الإنشاء، ثم خدم بالإسكندرية مدّة، فلما قام بوزارة مصر العادل رزيك بن الصالح طلائع بن رزيك، خرج أمره إلى والي الإسكندرية بتسييره إلى الباب، فلما حضر استخدمه بحضرته وبين يديه في ديوان الجيش، فلما مات الموفق بن الجلال في سنة ست وستين وخمسمائة، وكان القاضي الفاضل ينوب عنه في ديوان الإنشاء، عينه الكامل بن شاور وسعى له عند أبيه الوزير شاور بن مجير، فأقرّه عوضا عن ابن الجلال في ديوان الإنشاء، فلما ملك أسد الدين شيركوه احتاج إلى كاتب فأحضره، وأعجبه اتقائه وسمته ونصحه، فاستكتبه إلى أن ملك صلاح الدين يوسف بن أيوب، فاستخلصه وحسن اعتقاده فيه، فاستعان به على ما أراد من إزالة الدولة الفاطمية حتى تم مراده، فجعله وزيره ومشيره، بحيث كان لا يصدر أمرا إلا عن مشورته، ولا ينفذ شيئا إلا عن رأيه، ولا يحكم في قضية إلا بتدبيره، فلما مات صلاح الدين استمرّ على ما كان عليه عند ولده الملك العزيز عثمان في المكانة والرفعة، وتقلد الأمر، فلما مات العزيز وقام من بعده ابنه الملك المنصور بالملك ودبر أمره عمه الأفضل، كان معهما على حاله إلى أن وصل الملك العادل أبو بكر بن أيوب من الشام لأخذ ديار مصر، وخرج الأفضل لقتاله، فمات منكوبا أحوج ما كان إلى الموت عند تولى الإقبال وإقبال الإدبار في سحر يوم الأربعاء سابع عشر ربيع الآخر سنة ست وتسعين وخمسمائة، ودفن بتربته من القرافة الصغرى.
قال ابن خلكان وزر للسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وتمكن منه غاية(4/205)
التمكن، وبرز في صناعة الإنشاء وفاق المتقدّمين، وله فيه الغرائب مع الإكثار. أخبرني أحد الفضلاء الثقات المطلعين على حقيقة أمره، أنّ مسودّات رسائله في المجلدات والتعليقات في الأوراق، إذا جمعت ما تقصر عن مائة، وهو مجيد في أكثرها. وقال عبد اللطيف البغداديّ: دخلنا عليه فرأيت شيخا ضئيلا كله رأس وقلب، وهو يكتب ويملى على اثنين، ووجهه وشفتاه تلعب ألوان الحركات لقوّة حرصه في إخراج الكلام، وكأنه يكتب بجملة أعضائه، وكان لغرام في الكتابة وتحصيل الكتب، وكان له الدين والعفاف والتقى والمواظبة على أوراد الليل، والصيام وقراءة القرآن، وكان قليل اللذات كثير الحسنات دائم التهجد، ويشتغل بعلوم الأدب وتفسير القرآن، غير أنه كان خفيف البضاعة من النحو، ولكن قوّة الدراية توجب له قلة اللحن، وكان لا يكاد يضيع من زمانه شيئا إلّا في طاعة، وكتب في الإنشاء ما لم يكتبه غيره.
وحكى لي ابن القطان أحد كتابه قال: لما خطب صلاح الدين بمصر للإمام المستضيء بأمر الله، تقدّم إلى القاضي الفاضل بأن يكاتب الديوان العزيز وملوك الشرق، ولم يكن يعرف خطابهم واصطلاحهم، فأوغر إلى العماد الكاتب أن يكتب، فكتب واحتفل وجاء بها مفضوضة ليقرأها الفاضل متبجحا بها فقال: لا أحتاج أن أقف عليها، وأمر بختمها وتسليمها إلى النجاب والعماد يبصر. قال: ثم أمرني أن ألحق النجاب ببلبيس وأن أفض الكتب وأكتب صدورها ونهايتها، ففعلت ورجعت بها إليه، فكتب على حذوها وعرضها على السلطان فارتضاها وأمر بإرسالها إلى أربابها مع النجاب، وكان متقللا في مطعمه ومنكحه وملبسه، ولباسه البياض لا يبلغ جميع ما عليه دينارين، ويركب معه غلام وركابيّ، ولا يمكن أحدا أن يصحبه، ويكثر زيارة القبور وتشييع الجنائز وعيادة المرضى، وله معروف في السرّ والعلانية، وأكثر أوقاته يفطر بعد ما يتهوّر الليل، وكان ضعيف البنية رقيق الصورة له حدبة يغطيها الطيلسان، وكان فيه سوء خلق يكمد به في نفسه ولا يضرّ أحدا به، ولأصحاب الأدب عنده نفاق يحسن إليهم ولا يمنّ عليهم، ويؤثر أرباب البيوت والغرباء، ولم يكن له انتقام من أعدائه إلا بالإحسان إليهم أو بالإعراض عنهم، وكان دخله في كلّ سنة من إقطاع ورباع وضياع خمسين ألف دينار سوى متاجره للهند والمغرب وغيرهما، وكان يقتني الكتب من كل فنّ ويجتلبها من كل جهة، وله نسّاخ لا يفترون، ومجلدون لا يبطلون. قال لي بعض من يخدمه في الكتب: أنّ عددها قد بلغ مائة ألف وأربعة وعشرين ألفا، وهذا قبل موته بعشرين سنة. وحكى لي ابن صورة الكتبيّ: أن ابنه القاضي الأشرف التمس مني أن أطلب له نسخة الحماسة ليقرأها، فأعلمت القاضي الفاضل، فاستحضر من الخادم الحماسات، فأحضر له خمسا وثلاثين نسخة، وصار ينفض نسخة نسخة ويقول: هذه بخط فلان، وهذه عليها خط فلان، حتى أتى على الجميع وقال: ليس فيها ما يصلح للصبيان، وأمرني أن أشتري له نسخة بدينار.(4/206)
المدرسة الأزكشية
هذه المدرسة بالقاهرة على رأس السوق الذي كان يعرف بالخروقيين، ويعرف اليوم بسويقة أمير الجيوش، بناها الأمير سيف الدين أيازكوج الأسديّ، مملوك أسد الدين شيركوه، وأحد أمراء السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وجعلها وقفا على الفقهاء من الحنفية فقط، في سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، وكان أيازكوج رأس الأمراء الأسدية بديار مصر في أيام السلطان صلاح الدين، وأيام ابنه الملك العزيز عثمان، وكان الأمير فخر الدين جهاركس رأس الصلاحية، ولم يزل على ذلك إلى أن مات في يوم الجمعة ثامن عشر ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وخمسمائة، ودفن بسفح المقطم بالقرب من رباط الأمير فخر الدين بن قزل.
المدرسة الفخرية
هذه المدرسة بالقاهرة فيما بين سويقة الصاحب ودرب العدّاس، عمرها الأمير الكبير فخر الدين أبو الفتح عثمان بن قزل الباروميّ، أستادار الملك الكامل محمد بن العادل، وكان الفراغ منها في سنة اثنتين وعشرين وستمائة، وكان موضعها أخيرا يعرف بدار الأمير حسام الدين ساروح بن أرتق شادّ الدواوين، ومولد الأمير فخر الدين في سنة إحدى وخمسين وخمسمائة بحلب، وتنقل في الخدم حتى صار أحد الأمراء بديار مصر، وتقدّم في أيام الملك الكامل، وصار أستاداره وإليه أمر المملكة وتدبيرها إلى أن سافر السلطان من القاهرة يريد بلاد المشرق، فمات بحرّان بعد مرض طويل في ثامن عشر ذي الحجة سنة تسع وعشرين وستمائة، وكان خيّرا كثير الصدقة يتفقد أرباب البيوت، وله من الآثار سوى هذه المدرسة المسجد الذي تجاهها، وله أيضا رباط بالقرافة وإلى جانبه كتاب سبيل، وبنى بمكة رباطا.
المدرسة السيفية
هذه المدرسة بالقاهرة فيما بين خط البندقانيين وخط الملحيين، وموضعها من جملة دار الديباج، قال ابن عبد الظاهر كانت دارا وهي من المدرسة القطبية، فسكنها شيخ الشيوخ، يعني صدر الدين محمد بن حموية، وبنيت في وزارة صفيّ الدين عبد الله بن عليّ بن شكران سيف الإسلام، ووقفها وولى فيها عماد الدين ولد القاضي صدر الدين، يعني ابن درباس، وسيف الإسلام هذا اسمه طفتكين بن أيوب.
طفتكين: ظهير الدين سيف الإسلام الملك المعز بن نجم الدين أيوب بن شادي بن مروان الأيوبيّ، سيّره أخوه صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى بلاد اليمن في سنة سبع وسبعين وخمسمائة، فملكها واستولى على كثير من بلادها، وكان شجاعا كريما مشكور السيرة حسن السياسة، قصده الناس من البلاد الشاسعة يستمطرون إحسانه وبرّه، وسار إليه(4/207)
شرف الدين بن عنين ومدحه بعدّة قصائد بديعة، فأجزل صلاته وأكثر من الإحسان إليه، واكتسب من جهته مالا وافرا، وخرج من اليمن، فلما قدم إلى مصر والسلطان إذ ذاك الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين، ألزمه أرباب ديوان الزكاة بدفع زكاة ما معه من المتجر فعمل:
ما كلّ من يتسمى بالعزيز لها ... أهل ولا كلّ برق سحبه غدقه
بين العزيزين فرق في فعالهما ... هذّاك يعطي وهذا يأخذ الصدقه
وتوفي سيف الإسلام في شوّال سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة بالمنصورة، وهي مدينة باليمن اختطها رحمه الله تعالى.
المدرسة العاشورية
هذه المدرسة بحارة زويلة من القاهرة، بالقرب من المدرسة القطبية الجديدة ورحبة كوكاي. قال ابن عبد الظاهر: كانت دار اليهوديّ ابن جميع الطبيب، وكان يكتب لقراقوش، فاشترتها منه الست عاشوراء بنت ساروج الأسديّ، زوجة الأمير أيازكوج الأسديّ، ووقفتها على الحنفية، وكانت من الدور الحسنة، وقد تلاشت هذه المدرسة وصارت طول الأيام مغلوقة لا تفتح إلّا قليلا، فإنها في زقاق لا يسكنه إلّا اليهود ومن يقرب منهم في النسب.
المدرسة القطبية
هذه المدرسة في أوّل حارة زويلة برحبة كوكاي، عرفت بالست الجليلة الكبرى عصمة الدين مؤنسة خاتون، المعروفة بدار إقبال العلائي، ابنة الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وشقيقة الملك الأفضل قطب الدين أحمد، وإليه نسبت، وكانت ولادتها في سنة ثلاث وستمائة، ووفاتها ليلة الرابع والعشرين من ربيع الآخر سنة ثلاث وتسعين وستمائة، وكانت قد سمعت الحديث وخرّج لها الحافظ أبو العباس أحمد بن محمد الظاهريّ أحاديث ثمانيات حدّثت بها، وكانت عاقلة دينة فصيحة، لها أدب وصدقات كثيرة، وتركت مالا جزيلا، وأوصت ببناء مدرسة يجعل فيها فقهاء وقرّاء، ويشترى لها وقف يغلّ، فبنيت هذه المدرسة، وجعل فيها درس للشافعية ودرس للحنفية. وقرّاء، وهي إلى اليوم عامرة.
المدرسة الخرّوبية
هذه المدرسة على شاطيء النيل من مدينة مصر، أنشأها تاج الدين محمد بن صلاح الدين أحمد بن محمد بن علي الخروبيّ، لما أنشأ بيتا كبيرا مقابل بيت أخيه عز الدين قبليه على شاطىء النيل، وجعل فيه هذه المدرسة، وهي ألطف من مدرسة أخيه، وبجنبها مكتب سبيل، ووقف عليها أوقافا، وجعل بها مدرّس حديث فقط، مات بمكة في آخر المحرّم سنة خمس وثمانين وسبعمائة.(4/208)
مدرسة المحليّ
هذه المدرسة على شاطىء النيل داخل صناعة التمر ظاهر مدينة مصر، أنشأها رئيس التجار برهان الدين إبراهيم بن عمر بن عليّ المحليّ ابن بنت العلامة شمس الدين محمد بن اللبان، وينتمي في نسبه إلى طلحة بن عبيد الله، أحد العشرة رضي الله عنهم، وجعل هذه المدرسة بجوار داره التي عمرها في مدّة سبع سنين، وأنفق في بنائها زيادة على خمسين ألف دينار، وجعل بجوارها مكتب سبيل، لكن لم يجعل بها مدرّسا ولا طلبة، وتوفي ثاني عشري ربيع الأوّل سنة ست وثمانمائة عن مال عظيم، أخذ منه السلطان الملك الناصر فرج بن برقوق مائة ألف دينار، وكان مولده سنة خمس وأربعين وسبعمائة، ولم يكن مشكور السيرة في الديانة، وله من المآثر تجديد جامع عمرو بن العاص، فإنه كان قد تداعى إلى السقوط، فقام بعمارته حتى عاد قريبا مما كان عليه، شكر الله له ذلك.
المدرسة الفارقانية
هذه المدرسة بابها شارع في سويقة حارة الوزيرية من القاهرة، فتحت في يوم الاثنين رابع جمادى الأولى سنة ست وسبعين وستمائة، وبها درس للطائفة الشافعية، ودرس للطائفة الحنفية، أنشأها الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقانيّ السلاحدار، كان مملوكا للأمير نجم الدين أمير حاجب، ثم انتقل إلى الملك الظاهر بيبرس، فترقّى عنده في الخدم حتى صار أحد الأمراء الأكابر، وولاه الأستادارية، وناب عنه بديار مصر مدّة غيبته، وقدّمه على العساكر غير مرّة، وفتح له بلاد النوبة، وكان وسيما جسيما شجاعا مقداما حازما، صاحب دراية بالأمور وخبرة بالأحوال والتصرّفات، مدبرا للدول، كثير البرّ والصدقة، ولما مات الملك الظاهر وقام من بعده في ملك مصر ابنه الملك السعيد بركة قان، ولّاه نيابة السلطنة بديار مصر بعد موت الأمير بدر الدين بيلبك الخازندار، فأظهر الحزم وضم إليه طائفة منهم شمس الدين أقوش، وقطليجا الروميّ، وسيف الدين قليج البغداديّ، وسيف الدين بيجو البغداديّ، وسيف الدين شعبان أمير شكار، وبكتمر السلاحدار، وكانت الخاصكية تكرهه فاتفقوا مع مماليك بيلبك الخازندار على القبض عليه، وتحدّثوا مع الملك السعيد في ذلك، وما زالوا به حتى قبضوا عليه بمساعدة الأمير سيف الدين كوندك الساقي لهم، وكان قد ربي مع السعيد في المكتب، فلم يشعر وهو قاعد بباب القلة من القلعة إلّا وقد سحب وضرب ونتفت لحيته وجرّ، وقد ارتكب في إهانته أمر شنيع، إلى البرج فسجن به ليالي قليلة، أخرج منه ميتا في أثناء سنة ست وسبعين وستمائة، وجهل قبره.
المدرسة المهذبية
هذه المدرسة خارج باب زويلة من خط حارة حلب بجوار حمّام قماري، بناها(4/209)
الحكيم مهذب الدين أبو سعيد محمد بن علم الدين بن أبي الوحش بن أبي الخير بن أبي سليمان بن أبي حليقة، رئيس الأطباء، كان جدّه الرشيد أبو الوحش نصرانيا متقدّما في صناعة الطب، فأسلم ابنه علم الدين في حياته، وكان لا يولد له ولد فيعيش، فرأت أمّه وهي حامل به قائلا يقول: هيئوا له حلقة فضة قد تصدّق بوزنها، وساعة يوضع من بطن أمّه تثقب أذنه وتوضع فيها الحلقة. ففعلت ذلك فعاش، فعاهدت أمّه أباه أن لا يقلعها من أذنه، فكبر وجاءته أولاد وكلهم يموت، فولد له ابنه مهذب الدين أبو سعيد، فعمل له حلقة فعاش، وكان سبب اشتهاره بأبي حليقة أن الملك الكامل محمد بن العادل أمر بعض خدّامه أن يستدعي بالرشيد الطبيب من الباب، وكان جماعة من الأطباء بالباب، فقال الخادم من هو منهم؟ فقال السلطان أبو حليقة، فخرج فاستدعاه بذلك، فاشتهر بهذا الاسم، ومات الرشيد في سنة ست وسبعين وستمائة.
المدرسة الخرّوبية
هذه المدرسة بظاهر مدينة مصر تجاه المقياس بخط كرسيّ الجسر، أنشأها كبير الخرابية بدر الدين محمد بن محمد بن عليّ الخروبيّ، بفتح الخاء المعجمة وتشديد الراء المهملة وضمها ثم واو ساكنة بعدها باء موحدة ثم ياء آخر الحروف، التاجر في مطابخ السكّر، وفي غيرها بعد سنة خمسين وسبعمائة، وجعل مدرّس الفقه بها الشيخ بهاء الدين عبد الله بن عبد الرحمن بن عقيل، والمعيد الشيخ سراج الدين عمر البلقيني، ومات سنة اثنتين وستين وسبعمائة، وأنشأ أيضا ربعين بخط دار النحاس من مصر البلقيني، ومات سنة وربعين مقابل المقياس بالقرب من مدرسته، ولبدر الدين هذا أخ من أبيه أسنّ منه يقال له صلاح الدين أحمد بن محمد بن عليّ الخرّوبيّ، عاش بعد أخيه وأنجب في أولاده، وأدركت لهم أولادا نجباء، وكان أوّلا قليل المال، ثم تموّل وأنشأ تربة كبيرة بالقرافة، فيما بين تربة الإمام الشافعيّ وتربة الليث بن سعد، مقابل السروتين، وجدّدها حفيده نور الدين عليّ بن عز الدين محمد بن صلاح الدين، وأضاف إليها مطهرة حسنة، ومات سنة تسع وستين وسبعمائة، وشرط بدر الدين في مدرسته أن لا يلي بها أحد من العجم. وظيفة من الوظائف. فقال في كل وظيفة منها، ويكون من العرب دون العجم، وكانت له مكارم، جهز مرّة ابن عقيل إلى الحج بنحو خمسمائة دينار.
المدرسة الخروبية
هذه المدرسة بخط الشون قبليّ دار النحاس من ظاهر مدينة مصر، أنشأها عز الدين محمد بن صلاح الدين أحمد بن محمد بن عليّ الخرّوبيّ، وهي أكبر من مدرسة عمه بدر الدين، إلّا أنه مات سنة ست وسبعين وسبعمائة قبل استيفاء ما أراد أن يجعل فيها، فليس لها مدرّس ولا طلبة، ومولده سنة ست عشرة وسبعمائة، ونشأ في دنيا عريضة رحمه الله تعالى.(4/210)
المدرسة الصاحبية البهائية
هذه المدرسة كانت بزقاق القناديل من مدينة مصر، قرب الجامع العتيق، أنشأها الوزير الصاحب بهاء الدين عليّ بن محمد بن سليم بن حنا في سنة أربع وخمسين وستمائة، وكان إذ ذاك زقاق القناديل أعمر أخطاط مصر، وإنما قيل له زقاق القناديل من أجل أنه كان سكن الأشراف، وكانت أبواب الدور يعلق على كلّ باب منها قنديل. قال القضاعيّ: ويقال أنه كان به مائة قنديل توقد كلّ ليلة على أبواب الأكابر.
وابن حنا هذا هو عليّ بن محمد بن سليم- بفتح السين المهملة وكسر اللام ثم ياء آخر الحروف بعدها ميم- ابن حنا- بحاء مهملة مكسورة ثم نون مشدّدة مفتوحة بعدها ألف- الوزير الصاحب بهاء الدين، ولد بمصر في سنة ثلاث وستمائة، وتنقلت به الأحوال في كتابة الدواوين إلى أن ولي المناصب الجليلة، واشتهرت كفايته وعرفت في الدولة نهضته ودرايته، فاستوزره السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ في ثامن شهر ربيع الأوّل سنة تسع وخمسين وستمائة، بعد القبض على الصاحب زين الدين يعقوب بن الزبير، وفوّض إليه تدبير المملكة وأمور الدولة كلها، فنزل من قلعة الجبل بخلع الوزارة ومعه الأمير سيف الدين بلبان الروميّ الدوادار، وجميع الأعيان والأكابر، إلى داره، واستبدّ بجميع التصرّفات، وأظهر عن حزم وعزم وجودة رأي، وقام بأعباء الدولة من ولايات العمال وعزلهم من غير مشاورة السلطان ولا اعتراض أحد عليه، فصار مرجع جميع الأمور إليه ومصدرها عنه، ومنشأ ولايات الخطط والأعمال من قلمه، وزوالها عن أربابها لا يصدر إلا من قبله، وما زال على ذلك طول الأيام الظاهرية، فلما قام الملك السعيد بركة قان بأمر المملكة بعد موت أبيه الملك الظاهر، أقرّه على ما كان عليه في حياة والده، فدبر الأمور وساس الأحوال، وما تعرّض له أحد بعداوة ولا سوء، مع كثرة من كان يناويه من الأمراء وغيرهم إلّا وصدّه الله عنه، ولم يجد ما يتعلق به عليه، ولا ما يبلغ به مقصوده منه، وكان عطاؤه واسعا وصلاته وكلفه للأمراء والأعيان ومن يلوذ به، ويتعلق بخدمته تخرج عن الحدّ في الكثرة، وتتجاوز القدر في السعة مع حسن ظنّ بالفقراء وصدق العقيدة في أهل الخير والصلاح، والقيام بمعونتهم وتفقد أحوالهم وقضاء أشغالهم، والمبادرة إلى امتثال أوامرهم، والعفة عن الأموال، حتى أنه لم يقبل من أحد في وزارته هدية إلّا أن تكون هدية فقير أو شيخ معتقد يتبرّك بما يصل من أثره، وكثرة الصدقات في السرّ والعلانية، وكان يستعين على ما التزمه من المبرّات ولزمه من الكلف بالمتاجر، وقد مدحه عدّة من الناس فقبل مديحهم وأجزل جوائزهم، وما أحسن قول الرشيد الفارقيّ فيه:
وقائل قال لي نبه لنا عمرا ... فقلت إنّ عليا قد تنبه لي
مالي إذا كنت محتاجا إلى عمر ... من حاجة فلينم حسبي انتباه علي(4/211)
وقول سعد الدين بن مروان الفارقيّ في كتاب الدرج المختص به أيضا:
يمم عليا فهو بحر الندى ... وناده في المضلع المعضل
فرفده بحر على مجدب ... ووفده مفض إلى مفصل
يسرع إن سيل نداه وهل ... أسرع من سيل أتى من علي
إلّا أنه أحدث في وزارته حوادث عظيمة، وقاس أراضي الأملاك بمصر والقاهرة وأخذ عليها مالا، وصادر أرباب الأموال وعاقبهم حتى مات كثير منهم تحت العقوبة، واستخرج حوالي الذمّة مضاعفة، ورزىء بفقد ولديه الصاحب فخر الدين محمد، والصاحب زين الدين، فعوّضه الله عنهما بأولادهما، فما منهم إلا نجيب صدر رئيس فاضل مذكور، وما مات حتى صار جدّ جدّ، وهو على المكانة وافر الحرمة، في ليلة الجمعة مستهلّ ذي الحجة سنة سبع وسبعين وستمائة، ودفن بتربته من قرافة مصر، ووزر من بعده الصاحب برهان الدين الخضر بن حسن بن عليّ السنجاريّ، وكان بينه وبين ابن حنا عداوة ظاهرة وباطنة، وحقود بارزة وكامنة، فأوقع الحوطة على الصاحب تاج الدين محمد بن حنا بدمشق، وكان مع الملك السعيد بها، وأخذ خطه بمائة ألف دينار، وجهزه على البريد إلى مصر، ليستخرج منه ومن أخيه زين الدين أحمد، وابن عمه عز الدين تكملة ثلثمائة ألف دينار، وأحيط بأسبابه ومن يلوذ به من أصحابه ومعارفه وغلمانه، وطولبوا بالمال.
وأوّل من درّس بهذه المدرسة الصاحب فخر الدين محمد، ابن بانيها الوزير الصاحب بهاء الدين إلى أن مات يوم الاثنين حادي عشري شعبان سنة ثمان وستين وستمائة، فوليها من بعده ابنه محيي الدين أحمد بن محمد إلى أن توفي يوم الأحد ثامن شعبان سنة اثنتين وسبعين وستمائة، فدرّس فيها بعده الصاحب زين الدين أحمد بن الصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين إلى أن مات في يوم الأربعاء سابع صفر سنة أربع وسبعمائة، فدرّس بها ولده الصاحب شرف الدين وتوارثها أبناء الصاحب يلون نظرها وتدريسها إلى أن كان آخرهم صاحبنا الرئيس شمس الدين محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن الصاحب بهاء الدين، وليها بعد أبيه عز الدين، ووليها عز الدين بعد بدر الدين أحمد بن محمد بن محمد بن الصاحب بهاء الدين، فلما مات صاحبنا شمس الدين محمد بن الصاحب لليلة بقيت من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة وثمانمائة، وضع بعض نوّاب القضاة يده على ما بقي لها من وقف، وأقامت هذه المدرسة مدّة أعوام معطلة من ذكر الله وإقام الصلاة، لا يأويها أحد لخراب ما حولها، وبها شخص يبيت بها كي لا يسرق ما بها من أبواب ورخام، وكان لها خزانة كتب جليلة فنقلها شمس الدين محمد بن الصاحب وصارت تحت يده إلى أن مات، فتفرّقت في أيدي الناس، وكان قد عزم على نقلها إلى شاطيء النيل بمصر، فمات قبل ذلك.(4/212)
ولما كان في سنة اثنتي عشرة وثمانمائة، أخذ الملك الناصر فرج بن برقوق عمد الرخام التي كانت بهذه المدرسة، وكانت كثيرة العدد جليلة القدر، وعمل بدلها دعائم تحمل السقوف إلى أن كانت أيام الملك المؤيد الشيخ، وولي الأمير تاج الدين الشوبكيّ الدمشقي ولاية القاهرة ومصر وحسبة البلدين وشدّ العمائر السلطانية، فهدم هذه المدرسة في أخريات سنة سبع عشرة وأوائل سنة ثماني عشرة وثمانمائة، وكانت من أجلّ مدارس الدنيا وأعظم مدرسة بمصر، يتنافس الناس من طلبة العلم في النزول بها ويتشاحنون في سكنى بيوتها، حتى يصير البيت الواحد من بيوتها يسكن فيه الاثنان من طلبة العلم والثلاثة، ثم تلاشى أمرها حتى هدمت وسيجهل عن قريب موضعها، ولله عاقبة الأمور.
المدرسة الصاحبية
هذه المدرسة بالقاهرة في سويقة الصاحب، كان موضعها من جملة دار الوزير يعقوب بن كلس، ومن جملة دار الديباج، أنشأها الصاحب صفيّ الدين عبد الله بن عليّ بن شكر، وجعلها وقفا على المالكية، وبها درس نحو وخزانة كتب، وما زالت بيد أولاده.
فلما كان في شعبان سنة ثمان وخمسين وسبعمائة، جدّد عمارتها القاضي علم الدين إبراهيم بن عبد اللطيف بن إبراهيم المعروف بابن الزبير، ناظر الدولة في أيام الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون، واستجدّ فيها منبرا فصار يصلّى بها الجمعة إلى يومنا هذا، ولم يكن قبل ذلك بها منبر ولا تصلّى فيها الجمعة.
عبد الله بن عليّ بن الحسين بن عبد الخالق بن الحسين بن الحسن بن منصور بن إبراهيم بن عمار بن منصور بن عليّ صفيّ الدين أبو محمد الشنيبيّ الدميريّ المالكيّ، المعروف بابن شكر، ولد بناحية دميرة إحدى قرى مصر البحرية في تاسع صفر سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، ومات أبوه فتزوّجت أمّه بالقاضي الوزير الأعز فخر الدين مقدام ابن القاضي الأجل أبي العباس أحمد بن شكر المالكيّ، فرباه ونوّه باسمه لأنه كان ابن عمه، فعرف به وقيل له ابن شكر، وسمع صفيّ الدين من الفقيه أبي الظاهر إسماعيل بن مكيّ بن عوف، وأبي الطيب عبد المنعم بن يحيى وغيره، وحدّث بالقاهرة ودمشق، وتفقه على مذهب مالك، وبرع فيه، وصنف كتابا في الفقه كان كلّ من حفظه نال منه خطأ وافرا، وقصد بذلك أن يتشبه بالوزير عون الدين بن هبيرة، كانت بداية أمره أنه لما سلّم السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب أمر الأسطول لأخيه الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وأفرد له من الأبواب الديوانية الزكاة بمصر والجبس الجيوشي بالبرّين والنطرون والخراج وما معه من ثمن القرظ وساحل السنط والمراكب الديوانية واسنا وطنبدى، استخدم العادل في مباشرة ديوان هذه المعاملة الصفيّ بن شكر هذا، وكان ذلك في سنة سبع وثمانين وخمسمائة، ومن حينئذ اشتهر ذكره وتخصص بالملك العادل، فلما استقل بمملكة مصر في(4/213)
سنة ست وتسعين وخمسمائة عظم قدره، ثم استوزره بعد الصنيعة بن النجار، فحل عنده محل الوزراء الكبار والعلماء المشاورين، وباشر الوزارة بسطوة وجبروت وتعاظم، وصادر كتاب الدولة واستصفى أموالهم، ففرّ منه القاضي الأشرف ابن القاضي الفاضل إلى بغداد، واستشفع بالخليفة الناصر، وأحضر كتابه إلى الملك العادل يشفع فيه، وهرب منه القاضي علم الدين إسماعيل بن أبي الحجاج صاحب ديوان الجيش، والقاضي الأسعد أسعد بن مماتي صاحب ديوان المال، والتجآ إلى الملك الظاهر بحلب، فأقاما عنده حتى ماتا، وصادر بني حمدان وبني الحباب وبني الجليس، وأكابر الكتاب، والسلطان لا يعارضه في شيء، ومع ذلك فكان يكثر التغضب على السلطان ويتجنى عليه وهو يحتمله إلى أن غضب في سنة سبع وستمائة، وحلف أنه ما بقي يخدم، فلم يحتمله، وولى الوزارة عوضا عنه القاضي الأعز فخر الدين مقدام بن شكر، وأخرجه من مصر بجميع أمواله وحرمه وغلمانه، وكان نقله على ثلاثين جملا، وأخذ أعداؤه في إغراء السلطان به وحسنوا له أن يأخذ ماله، فأبى عليهم ولم يأخذ منه شيئا، وسار إلى آمد فأقام بها عند ابن أرتق إلى أن مات الملك العادل في سنة خمسين وستمائة، فطلبه الملك الكامل محمد بن الملك العادل لما استبدّ بسلطنة ديار مصر بعد أبيه، وهو في نوبة قتال الفرنج على دمياط حين رأى أن الضرورة داعية لحضوره بعد ما كان يعاديه، فقدم عليه في ذي القعدة منها وهو بالمنزلة العادلية قريبا من دمياط، فتلقاه وأكرمه وحادثه فيما نزل به من موت أبيه ومحاربة الفرنج ومخالفة الأمير عماد الدين أحمد بن المشطوب، واضطراب أرض مصر بثورة العربان، وكثرة خلافهم، فشجعه وتكفل له بتحصيل المال وتدبير الأمور، وسار إلى القاهرة فوضع يده في مصادرات أرباب الأموال بمصر والقاهرة من الكتاب والتجار، وقرّر على الأملاك مالا، وأحدث حوادث كثيرة، وجمع مالا عظيما أمدّ به السلطان، فكثر تمكنه منه وقويت يده وتوفرت مهابته، بحيث أنه لما انقضت نوبة دمياط وعاد الملك الكامل إلى قلعة الجبل كان ينزل إليه ويجلس عنده بمنظرته التي كانت على الخليج، ويتحدّث معه في مهمات الدولة، ولم يزل على ذلك إلى أن مات بالقاهرة وهو وزير في يوم الجمعة ثامن شعبان سنة اثنتين وعشرين وستمائة، وكان بعيد الغور جماعا للمال ضابطا له من الإنفاق في غير واجب، قد ملأت هيبته الصدور، وانقاد له على الرغم والرضي الجمهور، وأخمد جمرات الرجال، وأضرم رمادا لم يخطر إيقاده على بال، وبلغ عند الملك الكامل بحيث أنه بعث إليه بابنيه الملك الصالح نجم الدين أيوب، والملك العادل أبي بكر ليزوراه في يوم عيد فقاما على رأسه قياما، وأنشد زكيّ الدين أبو القاسم عبد الرحمن بن وهيب القوصيّ قصيدة زاد فيها حين رأى الملكين قياما على رأسه:
لو لم تقم لله حقّ قيامه ... ما كنت تقعد والملوك قيام
وقطع في وزارته الأرزاق، وكانت جملتها أربعمائة ألف دينار في السنة، وتسارع(4/214)
أرباب الحوائج والأطماع ومن كان يخافه إلى بابه، وملؤا طرقاته وهو يهينهم، ولا يحفل بشيخ منهم وهو عالم، وأوقع بالرؤساء وأرباب البيوت حتى استأصل شأفتهم عن آخرهم، وقدّم الأراذل في مناصبهم، وكان جلدا قويا حل به مرّة دوسطاريا قوية وأزمنت فيئس منه الأطباء، وعند ما اشتدّ به الوجع وأشرف على الهلاك، استدعى بعشرة من وجوه الكتاب كانوا في حبسه وقال: أنتم في راحة وأنا في الألم، كلّا والله، واستحضر المعاصير وآلات العذاب وعذبهم فصاروا يصرخون من العذاب وهو يصرخ من الألم طول الليل إلى الصبح، وبعد ثلاثة أيام ركب وكان يقول كثيرا: لم يبق في قلبي حسرة إلّا كون البيسانيّ لم تتمرّغ شيبته على عتباتي، يعني القاضي الفاضل عبد الرحيم البيسانيّ، فإنه مات قبل وزارته، وكان دريّ اللون تعلوه حمرة، ومع ذلك فكان طلق المحيا حلو اللسان حسن الهيئة، صاحب دهاء مع هوج، وخبث في طيش، ورعونة مفرطة، وحقد لا تخبو ناره، ينتقم ويظنّ أنه لم ينتقم، فيعود، وكان لا ينام عن عدوّه ولا يقبل معذرة أحد، ويتخذ الرؤساء كلهم أعداءه ولا يرضى لعدوّه بدون الهلاك والاستئصال، ولا يرحم أحدا إذا انتقم منه، ولا يبالي بعاقبة، وكان له ولأهله كلمة يرونها ويعملون بها. كما يعمل بالأقوال الإلهية، وهي إذا كنت دقماقا فلا تكن وتدا، وكان الواحد منهم يعيدها في اليوم مرّات ويجعلها حجة عند انتقامه، وكان قد استولى على الملك العادل ظاهرا وباطنا، ولا يمكن أحدا من الوصول إليه، حتّى الطبيب والحاجب والفرّاش عليهم عيون له لا يتكلم أحد منهم فضل كلمة خوفا منه، وكان أكبر أغراضه إبادة أرباب البيوت ومحو آثارهم وهدم ديارهم وتقريب الأسقاط وشرار الفقهاء، وكان لا يأخذ من مال السلطان فلسا ولا ألف دينار، ويظهر أمانة مفرطة، فإذا لاح له مال عظيم احتجنه، وبلغ إقطاعه في السنة مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار، وكان قد عمي فأخذ يظهر جلدا عظيما وعدم استكانة، وإذا حضر إليه الأمراء والأكابر وجلسوا على خوانه يقول: قدّموا اللون الفلانيّ للأمير فلان والصدر فلان، والقاضي فلان، وهو يبني أموره في معرفة مكان المشار إليه برموز ومقدّمات، يكابر فيها دوائر الزمان، وكان يتشبه في ترسله بالقاضي الفاضل، وفي محاضراته بالوزير عون الدين بن هبيرة، حتى اشتهر عنه ذلك، ولم يكن فيه أهلية هذا لكنه كان من دهاة الرجال، وكان إذا لحظ شخصا لا يقنع له إلا بكثرة الغنى ونهاية الرفعة، وإذا غضب على أحد لا يقنع في شأنه إلا بمحو أثره من الوجود، وكان كثيرا ما ينشد:
إذا حقّرت امرأ فاحذر عداوته ... من يزرع الشوك لم يحصد به عنبا
وينشد كثيرا:
تودّ عدوّي ثمّ تزعم أنني ... صديقك إنّ الرأي عنك لعازب
وأخذه مرّة مرض من حمى قوية، وحدث به النافض، وهو في مجلس السلطان ينفذ الأشغال، فما تأثر ولا ألقى جنبه إلى الأرض حتى ذهبت وهو كذلك، وكان يتعزز على(4/215)
الملوك الجبابرة، وتقف الرؤساء على بابه من نصف الليل ومعهم المشاعل والشمع، وعند الصباح يركب فلا يراهم ولا يرونه، لأنه إمّا أن يرفع رأسه إلى السماء تيها، وإمّا أن يعرّج إلى طريق غير التي هم بها، وإمّا أن يأمر الجنادرة التي في ركابه بضرب الناس وطردهم من طريقه. ويكون الرجل قد وقف على بابه طول الليل، إمّا من أوّله أو من نصفه بغلمانه ودوابه، فيطرد عنه ولا يراه، وكان له بوّاب يأخذ من الناس مالا كثيرا ومع ذلك يهينهم إهانة مفرطة، وعليه للصاحب في كل يوم خمسة دنانير، منها ديناران برسم الفقاع، وثلاثة دنانير برسم الحلوى، وكسوة غلمانه ونفقاته عليه أيضا، ومع ذلك اقتنى عقارا وقرى، ولما كان بعد موت الصاحب قدم من بغداد رسول الخليفة الظاهر، وهو محيي الدين أبو المظفر بن الجوزيّ، ومعه خلعة الخليفة للملك الكامل، وخلع لأولاده، وخلعة للصاحب صفيّ الدين، فلبسها فخر الدين سليمان كاتب الإنشاء، وقبض الملك الكامل على أولاده تاج الدين يوسف، وعز الدين محمد وحبسهما، وأوقع الحوطة على سائر موجوده رحمه الله وعفا عنه.
المدرسة الشريفية
هذه المدرسة بدرب كركامة على رأس حارة الجودرية من القاهرة، وقفها الأمير الكبير الشريف فخر الدين أبو نصر إسماعيل بن حصن الدولة فخر العرب ثعلب بن يعقوب بن مسلم بن أبي جميل دحية بن جعفر بن موسى بن إبراهيم بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، الجعفريّ الزينبيّ، أمير الحاج والزائرين، وأحد أمراء مصر في الدولة الأيوبية، وتمت في سنة اثنتي عشرة وستمائة، وهي من مدارس الفقهاء الشافعية.
قال ابن عبد الظاهر: وجرى له في وقفها حكاية مع الفقيه ضياء الدين بن الورّاق، وذلك أن الملك العادل سيف الدين أبا بكر، يعني ابن أيوب، لما ملك مصر وكان قد دخلها على أنه نائب للملك المنصور محمد بن العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف، فقوى عليه وقصد الاستبداد بالملك، فأحضر الناس للحلف، وكان من جملتهم الفقيه ضياء الدين بن الورّاق، فقوى عليه وقصد الاستبداد بالملك، فأحضر الناس للحلف، وكان من جملتهم الفقيه ضياء الدين بن الورّاق، فلما شرع الناس في الحلف قال الفقيه ضياء الدين: ما هذا الحلف، بالأمس حلفتم للمنصور، فإن كانت تلك الأيمان باطلة، فهذه باطلة، وإن كانت تلك صحيحة فهذه باطلة.
فقال الصاحب صفيّ الدين بن شكر للعادل: أفسد عليك الأمور هذا الفقيه. وكان الفقيه لم يحضر إلى ابن شكر ولا سلّم عليه، فأمر العادل بالحوطة على جميع موجود الفقيه وماله وأملاكه، واعتقاله بالرصد مرسما عليه فيه، لأنه كان مسجده، فأقام مدّة سنين على هذه الصورة، فلما كان في بعض الأيام وجد غرّة من المترسمين فحضر إلى دار الوزارة(4/216)
بالقاهرة، فبلغ العادل حضوره، فخرج إليه. فقال له الفقيه: اعلم والله أني لا حاللتك ولا أبرأتك، أنت تتقدّمني إلى الله في هذه المدّة، وأنا بعدك أطالبك بين يدي الله تعالى. وتركه وعاد إلى مكانه، فحضر الشريف فخر الدين بن ثعلب إلى الملك العادل فوجده متألما حزينا، فسأله، فعرّفه. فقال: يا مولانا ولم تجرّد السم في نفسك؟ فقال: خذ كل ما وقعت الحوطة عليه وكلّ ما استخرج من أجرة أملاكه وطيب خاطره، وأما الفقيه ضياء الدين فإنه أصبح وحضرت إليه جماعة من الطلبة للقراءة عليه. فقال لهم: رأيت البارحة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو يقول: يكون فرجك على يد رجل من أهل بيتي صحيح النسب، فبينما هم في الحديث وإذا بغبرة ثارت من جهة القرافة، فانكشفت عن الشريف ابن ثعلب ومعه الموجود كله، فلما حضر عرّفه الجماعة المنام، فقال: يا سيدي اشهد على أن جميع ما أملكه وقف وصدقة، شكرا لهذه الرؤيا. وخرج عن كل ما يملكه، وكان من جملة ذلك المدرسة الشريفية لأنها كانت مسكنه ووقف عليها أملاكه، وكذلك فعل في غيرها، ولم يحالل الفقيه الملك العادل، ومات الملك العادل بعد ذلك، ومات الفقيه بعده بمدّة، ومات الشريف إسماعيل بن ثعلب بالقاهرة في سابع عشر رجب سنة ثلاث عشرة وستمائة.
المدرسة الصالحية
هذه المدرسة بخط بين القصرين من القاهرة، كان موضعها من جملة القصر الكبير الشرقيّ، فبنى فيه الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب هاتين المدرستين، فابتدأ بهدم موضع هذه المدارس في قطعة من القصر في ثالث عشر ذي الحجة سنة تسع وثلاثين وستمائة، ودك أساس المدارس في رابع عشر ربيع الآخر سنة أربعين، ورتب فيها دروسا أربعة للفقهاء المنتمين إلى المذاهب الأربعة في سنة إحدى وأربعين وستمائة، وهو أوّل من عمل بديار مصر دروسا أربعة في مكان، ودخل في هذه المدارس باب القصر المعروف بباب الزهومة، وموضعه قاعة شيخ الحنابلة الآن، ثم اختط ما وارء هذه المدارس في سنة بضع وخمسين وستمائة، وجعل حكر ذلك للمدرسة الصالحية، وأوّل من درّس بها من الحنابلة قاضي القضاة شمس الدين أبو بكر محمد بن العماد إبراهيم بن عبد الواحد بن عليّ بن سرور المقدسيّ الحنبليّ الصالحيّ، وفي يوم السبت ثالث عشري شوّال سنة ثمان وأربعين وستمائة، أقام الملك المعز عز الدين أيبك التركمانيّ الأمير علاء الدين أيدكين البندقداريّ الصالحيّ في نيابة السلطنة بديار مصر، فواظب الجلوس بالمدارس الصالحية هذه مع نوّاب دار العدل، وانتصب لكشف المظالم، واستمرّ جلوسه بها مدّة. ثم إن الملك السعيد ناصر الدين محمد بركة خان ابن الملك الظاهر بيبرس، وقف الصاغة التي تجاهها، وأماكن بالقاهرة وبمدينة المحلة الغربية، وقطع أراضي جزائر بالأعمال الجيزية والأطفيحية على مدرسين أربعة، عند كل مدرّس معيدان وعدّة طلبة. وما يحتاج إليه من أئمة ومؤذنين وقومة وغير ذلك، وثبت وقف ذلك على يد(4/217)
قاضي القضاة تقيّ الدين محمد بن الحسين بن رزين الشافعيّ، ونفذه قاضي القضاة شمس الدين أبو البركات محمد بن هبة الله بن شكر المالكيّ، وذلك في سنة سبع وسبعين وستمائة، وهي جارية في وقفها إلى اليوم. فلما كان في يوم الجمعة حادي عشري ربيع الأوّل سنة ثلاثين وسبعمائة، رتب الأمير جمال الدين أقوش المعروف بنائب الكرك جمال الدين الغزاويّ خطيبا بإيوان الشافعية من هذه المدرسة، وجعل له في كل شهر خمسين درهما، ووقف عليه وعلى مؤذنين وقفا جاريا، فاستمرّت الخطبة هناك إلى يومنا هذا.
قبة الصالح: هذه القبة بجوار المدرسة الصالحية، كان موضعها قاعة شيخ المالكية، بنتها عصمة الدين والدة خليل شجرة الدر، لأجل مولاها الملك الصالح نجم الدين أيوب عندما مات، وهو على مقاتلة الفرنج بناحية المنصورة، في ليلة النصف من شعبان سنة سبع وأربعين وستمائة، فكتمت زوجته شجرة الدر موته خوفا من الفرنج ولم تعلم بذلك أحدا سوى الأمير فخر الدين بن يوسف بن شيخ الشيوخ، والطواشي جمال الدين محسن فقط، فكتما موته عن كلّ أحد، وبقيت أمور الدولة على حالها، وشجرة الدرّ تخرج المناشير والتواقيع والكتب وعليها علامة بخط خادم يقال له سهيل، فلا يشك أحد في أنه خط السلطان، وأشاعت أن السلطان مستمرّ المرض ولا يمكن الوصول إليه، فلم يجسر أحد أن يتفوّه بموت السلطان إلى أن أنفذت إلى حصن كيفا وأحضرت الملك المعظم توران شاه بن الصالح، وأما الملك الصالح فإن شجرة الدرّ أحضرته في حراقة من المنصورة إلى قلعة الروضة تجاه مدينة مصر من غير أن يشعر به أحد إلّا من أيتمنته على ذلك، فوضع في قاعة من قاعات قلعة الروضة إلى يوم الجمعة السابع والعشرين من شهر رجب سنة ثمان وأربعين وستمائة، فنقل إلى هذه القبة بعد ما كانت شجرة الدرّ قد عمرتها على ما هي عليه، وخلعت نفسها من سلطنة مصر ونزلت عنها لزوجها عز الدين أيبك قبل نقله، فنقله الملك المعز أيبك ونزل ومعه الملك الأشرف موسى ابن الملك المسعود وسائر المماليك البحرية والجمدارية والأمراء من قلعة الجبل إلى قلعة الروضة، وأخرج الملك الصالح في تابوت وصلّى عليه بعد صلاة الجمعة، وسائر الأمراء وأهل الدولة قد لبسوا البياض حزنا عليه، وقطع المماليك شعور رؤوسهم وساروا به إلى هذه الدولة قد لبسوا البياض حزنا عليه، السلطانان ونزلا إلى القبة، وحضر القضاة وسائر المماليك وأهل الدولة وكافة الناس وغلقت الأسواق بالقاهرة ومصر، وعمل عزاء للملك الصالح بين القصرين بالدفوف مدّة ثلاثة أيام، آخرها يوم الاثنين. ووضع عند القبر سناجق السلطان وبقجته وتركاشه وقوسه، ورتب عنده القرّاء على ما شرطت شجرة الدرّ في كتاب وقفها، وجعلت النظر فيها للصاحب بهاء الدين عليّ بن حنا وذريته، وهي بيدهم إلى اليوم، وما أحسن قول الأديب جمال الدين أبي المظفر عبد الرحمن بن أبي سعيد محمد بن محمد بن عمر بن أبي القاسم بن تخمش الواسطيّ، المعروف بابن السنيرة الشاعر، لما مرّ هو والأمير نور الدين تكريت بالقاهرة بين(4/218)
القصرين ونظر إلى تربة الملك الصالح هذه، وقد دفن بقاعة شيخ المالكية فأنشد:
بنيت لأرباب العلوم مدارسا ... لتنجو بها من هول يوم المهالك
وضاقت عليك الأرض لم تلق منزلا ... تحلّ به إلّا إلى جنب مالك
وذلك أن هذه القبة التي فيها قبر الملك الصالح، مجاورة لإيوان الفقهاء المالكية المنتمين إلى الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه، فقصد التورية بمالك الإمام المشهور، ومالك خازن النار، أعاذنا الله منها.
المدرسة الكاملية
هذه المدرسة بخط بين القصرين من القاهرة، وتعرف بدار الحديث الكاملية، أنشأها السلطان الملك الكامل ناصر الدين محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب بن شادي بن مروان في سنة اثنتين وعشرين وستمائة، وهي ثاني دار عملت للحديث. فإن أوّل من بنى دارا على وجه الأرض، الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بدمشق، ثم بنى الكامل هذه الدار ووقفها على المشتغلين بالحديث النبويّ، ثم من بعدهم على الفقهاء الشافعية، ووقف عليها الربع الذي بجوارها على باب الخرنشف، ويمتدّ إلى الدرب المقابل للجامع الأقمر، وهذا الربع من إنشاء الملك الكامل، وكان موضع من جملة القصر الغربيّ، ثم صار موضعا يسكنه القماحون. وكان موضع المدرسة سوقا للرقيق ودارا تعرف بابن كستول.
وأوّل من ولي تدريس الكاملية الحافظ أبو الخطاب عمر بن الحسن بن عليّ بن دحية، ثم أخوه أبو عمرو عثمان بن الحسن بن عليّ بن دحية، ثم الحافظ عبد العظيم المندريّ، ثم الرشيد العطار. وما برحت بيد أعيان الفقهاء إلى أن كانت الحوادث والمحن منذ سنة ست وثمانمائة، فتلاشت كما تلاشى غيرها، وولى تدريسها صبيّ لا يشارك الأناسيّ إلّا بالصورة، ولا يمتاز عن البهيمة إلّا بالنطق، واستمرّ فيها دهرا لا يدرّس بها حتى نسيت أو كادت تنسى دروسها، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله.
الملك الكامل: ناصر الدين أبو المعالي محمد بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر محمد بن نجم الدين أيوب بن شادي بن مروان الكرديّ الأيوبيّ، خامس ملوك بني أيوب الأكراد بديار مصر، ولد في خامس عشري ربيع الأوّل سنة ست وسبعين وخمسمائة، وخلف أباه الملك العادل على بلاد الشرق، فلما استولى على مملكة مصر، قدم الملك الكامل إلى القاهرة في سنة ست وتسعين وخمسمائة، ونصبه أبوه نائبا عنه بديار مصر، وأقطعه الشرقية وجعله وليّ عهده، وحلف له الأمراء، وأسكنه قلعة الجبل، وسكن العادل في دار الوزارة بالقاهرة وصار يحكم بديار مصر مدّة غيبة الملك العادل ببلاد الشام وغيرها بمفرده. فلما مات الملك العادل ببلاد الشام، استقل الملك الكامل بمملكة مصر في جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وستمائة وهو على محاربة الفرنج بالمنزلة العادلية قريبا من دمياط،(4/219)
وقد ملكوا البرّ الغربيّ. فثبت لقتالهم مع ما حدث من الوهن بموت السلطان، وثارت العربان بنواحي أرض مصر وكثر خلافهم واشتدّ ضررهم، وقام الأمير عماد الدين أحمد ابن الأمير سيف الدين أبي الحسين عليّ بن أحمد الهكاريّ، المعروف بابن المشطوب، وكان أجلّ الأمراء الأكابر، وله لفيف من الأكراد الهكارية، يريد خلع الملك الكامل وتمليك أخيه الملك الفائز إبراهيم بن العادل، ووافقه على ذلك كثير من الأمراء، فلم يجد الكامل بدّا من الرحيل في الليل جريدة، وسار من العادلية إلى أشموم طناح ونزل بها وأصبح العسكر بغير سلطان، فركب كل واحد هواه ولم يعرّج واحد منهم على آخر، وتركوا أثقالهم وسائر ما معهم، فاغتنم الفرنج الفرصة وعبروا إلى برّ دمياط واستولوا على جميع ما تركه المسلمون، وكان شيئا عظيما، وهمّ الملك الكامل بمفارقة أرض مصر، ثم إن الله تعالى ثبته وتلاحقت العساكر، وبعد يومين قدم عليه أخوه الملك المعظم عيسى صاحب دمشق باشموم، فاشتدّ عضده بأخيه، وأخرج ابن المشطوب من العسكر إلى الشام، ثم أخرج الفائز إبراهيم إلى الملوك الأيوبية بالشام والشرق يستنفرهم لجهاد الفرنج، وكتب الملك الكامل إلى أخيه الملك الأشرف موسى شاه يستحثه على الحضور، وصدّر المكاتبة بهذه الأبيات:
يا مسعدي إن كنت حقا مسعفي ... فانهض بغير تلبث وتوقف
واحثت قلوصك مرقلا «1» أو موجفا «2» ... بتجشم «3» في سيرها وتعسف «4»
واطو المنازل ما استطعت ولا تنخ ... إلّا على باب المليك الأشرف
واقر السلام عليه من عبد له ... متوقع لقدومه متشوّف
وإذا وصلت إلى حماه فقل له ... عني بحسن توصل وتلطف
إن تأت عبدك عن قليل تلقه ... ما بين كلّ مهند ومثقف
أو تبط عن إنجاده فلقاؤه ... بك في القيامة في عراص «5» الموقف
وجدّ الكامل في قتال الفرنج وأمر بالنفير في ديار مصر، وأتته الملوك من الأطراف، فقدّر الله أخذ الفرنج لدمياط بعد ما حاصروها ستة عشر شهرا واثنين وعشرين يوما، ووضعوا السيف في أهلها، فرحل الكامل من أشموم ونزل بالمنصورة وبعث يستنفر الناس، وقوي الفرنج حتى بلغت عدّتهم نحو المائتي ألف راجل، وعشرة آلاف فارس، وقدم عامّة أهل أرض مصر، وأتت النجدات من البلاد الشامية وغيرها، فصار المسلمون في جمع عظيم إلى الغاية بلغت عدّة فرسانهم خاصة نحو الأربعين ألفا، وكانت بين الفريقين خطوب آلت إلى(4/220)
وقوع الصلح، وتسلم المسلمون مدينة دمياط في تاسع عشري رجب سنة ثمان عشرة وستمائة، بعد ما أقامت بيد الفرنج سنة وأحد عشر شهرا تنقص ستة أيام، وسار الفرنج إلى بلادهم، وعاد السلطان إلى قلعة الجبل. وأخرج كثيرا من الأمراء الذين وافقوا ابن المشطوب من القاهرة إلى الشام، وفرّق أخبازهم على مماليكه، ثم تخوّف من أمرائه في سنة إحدى وعشرين بميلهم إلى أخيه الملك المعظم، فقبض على جماعة منهم وكاتب أخاه الملك الأشرف في موافقته على المعظم، فقويت الوحشة بين الكامل والمعظم، واشتدّ خوف الكامل من عسكره وهمّ أن يخرج من القاهرة لقتال المعظم فلم يجسر على ذلك، وقدم الأشرف إلى القاهرة فسرّ بذلك سرورا كثيرا وتحالفا على المعاضدة، وسافر من القاهرة فمال مع المعظم، فتحير الكامل في أمره وبعث إلى ملك الفرنج يستدعيه إلى عكا، ووعده بأن يمكنه من بلاد الساحل، وقصد بذلك أن يشغل سرّ أخيه المعظم.
فلما بلغ ذلك المعظم خطب للسلطان جلال الدين الخوارزميّ وبعث يستنجد به على الكامل، وأبطل الخطبة للكامل، فخرج الكامل من القاهرة يريد محاربته في رمضان سنة أربع وعشرين، وسار إلى العباسة، ثم عاد إلى قلعة الجبل وقبض على عدّة من الأمراء ومماليك أبيه لمكاتبتهم المعظم، وأنفق في العسكر، فاتفق موت الملك المعظم في سلخ ذي القعدة، وقيام ابنه الملك الناصر داود بسلطنة دمشق، وطلبه من الكامل الموادعة، فبعث إليه خلعة سنية وسنجقا سلطانيا وطلب منه أن ينزل له عن قلعة الشوبك، فامتنع الناصر من ذلك، فوقعت المنافرة بينهما وعهد الملك الكامل إلى ابنه الملك الصالح نجم الدين أيوب وأركبه بشعار السلطنة وأنزله بدار الوزارة، وخرج من القاهرة في العساكر يريد دمشق، فأخذنا بلس والقدس، فخرج الناصر داود من دمشق ومعه عمه الأشرف، وسارا إلى الكامل يطلبان منه الصلح، فلما بلغ ذلك الكامل رحل من نابلس يريد القاهرة، فقدمها الناصر والأشرف، وأقام بها الناصر وسار الأشرف والمجاهد إلى الكامل فأدركاه بتل العجوز، فأكرمهما وقرّر مع الأشرف انتزاع دمشق من الناصر وإعطاءها للأشرف، على أن يكون للكامل ما بين عقبة أفيق إلى القاهرة، وللأشرف من دمشق إلى عقبة أفيق، وأن يعين بجماعة من ملوك بني أيوب، فاتفق قدوم الملك الأنبرطور إلى عكا باستدعاء الملك الكامل له، فتحير الكامل في أمره لعجزه عن محاربته وأخذ يلاطفه، وشرع الفرنج في عمارة صيدا وكانت مناصفة بين المسلمين والفرنج وسورها خراب، فلما بلغ الناصر موافقة الأشرف للكامل عاد من نابلس إلى دمشق واستعدّ للحرب، فسار إليه الأشرف من تل العجوز وحاصره بدمشق، وأقام الكامل بتل العجوز وقد تورط مع الفرنج فلم يجد بدّا من إعطائهم القدس على أن لا يجدّد سوره وأن تبقى الصخرة والأقصى مع المسلمين، ويكون حكم قرى القدس إلى المسلمين، وأن القرى التي فيما بين عكا ويافا وبين لد والقدس للفرنج، وانعقدت الهدنة على ذلك لمدّة عشر سنين وخمسة أشهر وأربعين يوما، أولها ثامن ربيع(4/221)
الأوّل سنة ست وعشرين، ونودي في القدس بخروج المسلمين منه وتسليمه إلى الفرنج، فكان أمرا مهولا من شدّة البكاء والصراخ، وخرجوا بأجمعهم فصاروا إلى مخيم الكامل وأذنوا على بابه في غير وقت الأذان، فشق عليه ذلك وأخذ منهم الستور وقناديل الفضة والآلات وزجرهم، وقيل لهم امضوا حيث شئتم، فعظم على المسلمين هذا وكثر الإنكار على الملك الكامل وشنعت المقالة فيه، وعاد الأنبرطور إلى بلاده بعد ما دخل القدس، وكان مسيره في آخر جمادى الآخرة سنة ست وعشرين. وسيّر الكامل إلى الآفاق بتسكين قلوب المسلمين وانزعاجهم لأخذ الفرنج القدس، ورحل من تل العجوز يريد دمشق والأشرف على محاصرتها، فجدّ في القتال واشتدّ الأمر على الناصر إلى أن ترامى في الليل على الملك الكامل، فأكرمه وأعاده إلى قلعة دمشق، وبعث من تسلمها منه وعوّضه عن دمشق الكرك والشوبك والصلت والبلقاء والأغوار ونابلس وأعمال القدس، ثم ترك الشوبك للكامل مع عدّة مما ذكر، وتسلم الكامل دمشق في أوّل شعبان وأعطاها للأشرف، وأخذ منه ما معه من بلاد الشرق، وهي حران «1» والرّها «2» وسروج وغير ذلك، ثم سار الكامل فأخذ حماه وتوجه منها فقطع الفرات، ثم سار إلى جعبر والرقة ودخل حران والرّها ورتب أمورها، وأتته الرسل من ماردين وآمد والموصل وأربل وغير ذلك، وأقيمت له الخطبة بماردين، وبعث يستدعي عساكر الشام لقتال الخوارزميّ وهو بخلاط، ثم رحل الكامل من حرّان لأمور حدثت وسار إلى مصر فدخلها في شهر رجب سنة سبع وعشرين، وقد تغير على ولده الملك الصالح نجم الدين أيوب وخلعه من ولاية العهد، وعهد إلى ابنه الملك العادل أبي بكر، ثم سار إلى الإسكندرية في سنة ثمان وعشرين، ثم عاد إلى مصر وحفر بحر النيل فيما بين المقياس وبرّ مصر، وعمل فيه بنفسه واستعمل فيه الملوك من أهله والأمراء والجند، فصار الماء دائما فيما بين مصر والمقياس، وانكشف البرّ فيما بين المقياس والجيزة في أيام احتراق النيل، وخرج من القاهرة إلى بلاد الشام في آخر جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين، واستخلف على ديار مصر ابنه العادل وأسكنه قلعة الجبل، وأخذ الصالح معه فدخل دمشق من طريق الكرك، وخرج منها لقتال التتر، وجعل ابنه الصالح على مقدّمته، فسار إلى حران فرحل التتر عن خلاط، ثم رحل إلى الرها وسار إلى آمد ونازلها حتى أخذها، وأنعم على ابنه الصالح بحصن كيفا، وبعثه إليه وعاد إلى مصر في سنة ثلاثين، فقبض على عدّة من الأمراء.
ثم خرج في سنة إحدى وثلاثين إلى دمشق وسار منها ودخل الدربند، وقد أعجبته كثرة عساكره، فإنه اجتمع معه ثمانية عشر طلبا لثمانية عشر ملكا. وقال هذه العساكر لم تجتمع لأحد من ملوك الإسلام، ونزل على النهر الأزرق بأوّل بلد الروم، وقد نزلت عساكر الروم وأخذت عليه رأس الدربند ومنعوه فتحير لقلة الأقوات عنده ولاختلاف ملوك بني(4/222)
أيوب عليه، ورحل إلى مصر وقد فسد ما بينه وبين الأشرف وغيره، وأخذ ملك الروم الرها وحران بالسيف، فتجهز الكامل وخرج بعساكره من القاهرة في سنة ثلاث وثلاثين وسار إلى الرها ونازلها حتى أخذها وهدم قلعتها، وأخذ حران بعد قتال شديد، وبعث بمن كان فيها من الروم إلى القاهرة في القيود وكانوا زيادة على ثلاثة آلاف نفس، ثم خرج إلى دنيسر وعاد إلى دمشق وسار منها إلى القاهرة فدخلها في سنة أربع وثلاثين، ثم خرج في سنة خمس وثلاثين ونزل على دمشق وقد امتنعت عليه، فضايقها حتى أخذها من أخيه الملك الصالح إسماعيل، وعوّضه عنها بعلبك وبصرى وغيرهما في تاسع عشر جمادى الأولى، ونزل بالقلعة وأخذ يتجهز لأخذ حلب، وقد نزل به زكام فدخل في ابتدائه الحمّام فاندفعت الموادّ إلى معدته فتورم وثارت فيه حمّى، فنهاه الأطباء عن القيء وحذروه منه فلم يصبر وتقيأ فمات لوقته في آخر نهار الأربعاء حادي عشري رجب سنة خمس وثلاثين وستمائة، عن ستين سنة منها ملكه أرض مصر نحو أربعين سنة، استبدّ فيها بعد موت أبيه مدّة عشرين سنة وخمسة وأربعين يوما.
وكان يحب العلم وأهله ويؤثر مجالستهم، وشغف بسماع الحديث النبويّ، وحدّث وبنى دار الحديث الكاملية بالقاهرة، وكان يناظر العلماء ويمتحنهم بمسائل غريبة من فقه ونحو، فمن أجاب عنها حظي عنده، وكان يبيت عنده بقلعة الجبل عدّة من أهل العلم على أسرّة بجانب سريره ليسامروه، وكان للعلم والأدب عنده نفاق، فقصده الناس لذلك، وصار يطلق الأرزاق الدارة لمن يقصده لهذا، وكان مهابا حازما سديد الرأي حسن التدبير عفيفا عن الدماء، وكان يباشر أمور مملكته بنفسه من غير اعتماد على وزير ولا غيره، ولم يستوزر بعد الصاحب صفيّ الدين عبد الله بن عليّ بن شكر أحدا، وإنما كان ينتدب من يختاره لتدبير الأشغال ويحضر عنده الدواوين ويحاسبهم بنفسه، وإذا ابتدأت زيادة النيل خرج وكشف الجسور ورتب الأمراء لعملها، فإذا انتهى عمل الجسور خرج ثانيا وتفقدها بنفسه، فإن وقف فيها على خلل عاقب متوليها أشدّ العقوبة، فعمرت أرض مصر في أيامه عمارة جيدة، وكان يخرج من زكوات الأموال التي تجبى من الناس سهمي الفقراء والمساكين، ويعين مصرف ذلك لمستحقيه شرعا، ويفرز منه معاليم الفقهاء والصلحاء، وكان يجلس كلّ ليلة جمعة مجلسا لأهل العلم فيجتمعون عنده للمناظرة، وكان كثير السياسة حسن المداراة، وأقام على كل طريق خفراء لحفظ المسافرين، إلّا أنه كان مغرما بجمع المال مجتهدا في تحصيله، وأحدث في البلاد حوادث سماها الحقوق لم تعرف قبله، ومن شعره قوله رحمه الله تعالى:
إذا تحققتم ما عند صاحبكم ... من الغرام فداك القدر يكفيه
أنتم سكنتم فؤادي وهو منزلكم ... وصاحب البيت أدرى بالذي فيه
وقال له الطبيب علم الدين أبو النصر جرجس بن أبي حليقة في اليوم الذي مات فيه،(4/223)
كيف نوم السلطان في ليلته فأنشد:
يا خليليّ خبراني بصدق ... كيف طعم الكرى فإني نسيت
ودفن أوّلا بقلعة دمشق، ثم نقل إلى جوار جامع بني أمية وقبره هناك رحمه الله تعالى.
المدرسة الصيرمية
هذه المدرسة من داخل باب الجملون الصغير بالقرب من رأس سويقة أمير الجيوش، فيما بينها وبين الجامع الحاكميّ، بجوار الزيادة، بناها الأمير جمال الدين شويخ بن صيرم، أحد أمراء الملك الكامل محمد بن أبي بكر بن أيوب، وتوفي في تاسع عشر صفر سنة ست وثلاثين وستمائة.
المدرسة المسرورية
هذه المدرسة بالقاهرة داخل درب شمس الدولة، كانت دار شمس الخواص مسرور، أحد خدّام القصر، فجعلت مدرسة بعد وفاته بوصيته، وأن يوقف الفندق الصغير عليها، وكان بناؤها من ثمن ضيعة بالشام كانت بيده بيعت بعد موته، وتولى ذلك القاضي كمال الدين خضر، ودرّس فيها، وكان مسرور ممن اختص بالسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، فقدّمه على حلقته ولم يزل مقدّما إلى الأيام الكاملية، فانقطع إلى الله تعالى ولزم داره إلى أن مات، ودفن بالقرافة إلى جانب مسجده، وكان له برّ وإحسان ومعروف، ومن آثاره بالقاهرة فندق يعرف اليوم بخان مسرور الصفديّ وله ربع بالشارع.
المدرسة القوصية
هذه المدرسة بالقاهرة في درب سيف الدولة بالقرب من درب ملوخيا، أنشأها الأمير الكرديّ والي قوص.
مدرسة بحارة الديلم «1» المدرسة الظاهرية
هذه المدرسة بالقاهرة من جملة خط بين القصرين، كان موضعها من القصر الكبير يعرف بقاعة الخيم، وقد تقدّم ذكرها في أخبار القصر. ومما دخل في هذه المدرسة باب الذهب المذكور في أبواب القصر، فلما أوقع الملك الظاهر بيبرس البندقداريّ الحوطة على(4/224)
القصور والمناظر، كما تقدّم ذكره، نزل القاضي كمال الدين ظاهر ابن الفقيه نصر وكيل بيت المال، وقوّم قاعة الخيم هذه، وابتاعها الشيخ شمس الدين محمد بن العماد إبراهيم المقدسيّ شيخ الحنابلة ومدرّس المدرسة الصالحية النجمية، ثم باعها المذكور للسلطان، فأمر بهدمها وبناء موضعها مدرسة، فابتديء بعمارتها في ثاني ربيع الآخر سنة ستين وستمائة، وفرغ منها في سنة اثنتين وستين وستمائة، ولم يقع الشروع في بنائها حتى رتب السلطان وقفها، وكان بالشام، فكتب بما رتبه إلى الأمير جمال الدين بن يغمور، وأن لا يستعمل فيها أحدا بغير أجرة، ولا ينقص من أجرته شيئا، فلما كان يوم الأحد خامس صفر سنة اثنتين وستين وستمائة، اجتمع أهل العلم بها وقد فرغ منها وحضر القرّاء وجلس أهل الدروس كلّ طائفة في إيوان، منها الشافعية بالإيوان القبليّ ومدرّسهم الشيخ تقيّ الدين محمد بن الحسن بن رزين الحمويّ، والحنفية بالإيوان البحريّ ومدرّسهم الصدر مجد الدين عبد الرحمن بن الصاحب كمال الدين عمر بن العديم الحلبيّ، وأهل الحديث بالإيوان الشرقيّ ومدرّسهم الشيخ شرف الدين عبد المؤمن بن خلف الدمياطيّ، والقرّاء بالقراءات السبع بالإيوان الغربيّ وشيخهم الفقيه كمال الدين المحليّ، وقرّروا كلهم الدروس وتناظروا في علومهم، ثم مدّت الأسمطة لهم فأكلوا، وقام الأديب أبو الحسين الجزار فأنشد:
ألا هكذا يبني المدارس من بنى ... ومن يتغالى في الثواب وفي الثنا
لقد ظهرت للظاهر الملك همة ... بها اليوم في الدارين قد بلغ المنا
تجمّع فيها كلّ حسن مفرّق ... فراقت قلوبا للأنام وأعينا
ومذ جاورت قبر الشهيد فنفسه الن ... فيسة منها في سرور وفي هنا
وما هي إلّا جنة الخلد أزلفت ... له في غد فاختار تعجيلها هنا
وقال السراج الورّاق أيضا قصيدة منها:
مليك له في العلم حبّ وأهله ... فلله حبّ ليس فيه ملام
فشيّدها للعلم مدرسة غدا ... عراق إليها شيّق وشآم
ولا تذكرن يوما نظّاميّة لها ... فليس يضاهي ذا النظّام نظّام
ولا تذكرن ملكا فبيبرس مالك ... وكلّ مليك في يديه غلام
ولما بناها زعزعت كلّ بيعة ... متى لاح صبح فاستقرّ ظلام
وقد برزت كالروض في الحسن انبأت ... بأنّ يديه في النوال غمام
الم تر محرابا كأنّ أزاهرا ... تفتّح عنهنّ الغداة كمام
وقال الشيخ جمال الدين يوسف بن الخشاب:
قصد الملوك حماك والخلفاء ... فافخر فإن محلك الجوزاء(4/225)
أنت الذي أمراؤه بين الورى ... مثل الملوك وجنده أمراء
ملك تزينت الممالك باسمه ... وتجمّلت بمديحه الفصحاء
وترفّعت لعلاه خير مدارس ... حلّت بها العلماء والفضلاء
يبقى كما يبقى الزمان وملكه ... باق له ولحاسديه فناء
كم للفرنج وللتتار ببابه ... رسل مناها العفو والإعفاء
وطريقه لبلادهم موطوءة ... وطريقهم لبلاده عذراء
دامت له الدنيا ودام خلدا ... ما أقبل الإصباح والإمساء
فلما فرغ هؤلاء الثلاثة من إنشادهم أفيضت عليهم الخلع، وكان يوما مشهودا، وجعل بها خزانة كتب تشتمل على أمهات الكتب في سائر العلوم، وبني بجانبها مكتبا لتعليم أيتام المسلمين كتاب الله تعالى، وأجرى لهم الجرايات والكسوة، وأوقف عليها ربع السلطان خارج باب زويلة فيما بين باب زويلة وباب الفرج، ويعرف ذلك الخط اليوم به فيقال خط تحت الربع، وكان ربعا كبيرا لكنه خرب منه عدّة دور فلم تعمر، وتحت هذا الربع عدّة حوانيت هي الآن من أجلّ الأسواق، وللناس في سكناها رغبة عظيمة ويتنافسون فيها تنافسا يرتفعون فيه إلى الحاكم، وهذه المدرسة من أجلّ مدارس القاهرة، إلّا أنها قد تقادم عهدها فرثت وبها إلى الآن بقية صالحة، ونظرها تارة يكون بيد الحنفية وأحيانا بيد الشافعية، وينازع في نظرها أولاد الظاهر فيدفعون عنه، ولله عاقبة الأمور.
المدرسة المنصورية
هذه المدرسة من داخل باب المارستان الكبير المنصوريّ بخط بين القصرين بالقاهرة، أنشأها هي والقبة التي تجاهها والمارستان، الملك المنصور قلاون الألفيّ الصالحيّ، على يد الأمير علم الدين سنجر الشجاعيّ، ورتب بها دروسا أربعة لطوائف الفقهاء الأربعة، ودرسا للطب، ورتب بالقبة درسا للحديث النبويّ، ودرسا لتفسير القرآن الكريم، وميعادا، وكانت هذه التداريس لا يليها إلّا أجل الفقهاء المعتبرين، ثم هي اليوم كما قيل:
تصدّر للتدريس كلّ مهوّس ... بليسد يسمى بالفقيه المدرّس
فحقّ لأهل العلم أن يتمثلوا ... ببيت قديم شاع في كلّ مجلس
لقد هزلت حتى بدا من هزالها ... كلاها وحتّى سامها كلّ مفلس
القبة المنصورية: هذه القبة تجاه المدرسة المنصورية، وهما جميعا من داخل باب المارستان المنصوريّ، وهي من أعظم المباني الملوكية وأجلّها قدرا، وبها قبر تضمن الملك المنصور سيف الدين قلاون، وابنه الملك الناصر محمد بن قلاون، والملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن محمد بن قلاون. وبها قاعة جليلة في وسطها فسقية يصل إليها الماء من قوّارة بديعة الزي، وسائر هذه القاعة مفروش بالرخام الملوّن، وهذه القاعة معدّة لإقامة(4/226)
الخدّام الملوكية الذين يعرفون اليوم في الدولة التركية بالطواشية، وأحدهم طواشي، وهذه لفظة تركية، أصلها بلغتهم طابوشي، فتلاعبت بها العامة وقالت طواشي، وهو الخصيّ، ولهؤلاء الخدّام في كلّ يوم ما يكفيهم من الخبز النقيّ واللحم المطبوخ، وفي كلّ شهر من المعاليم الوافرة ما فيه غنية لهم، وأدركتهم ولهم حرمة وافرة وكلمة نافذة وجانب مرعيّ، ويعدّ شيخهم من أعيان الناس، يجلس على مرتبة، وبقية الخدّام في مجالسهم لا يبرحون في عبادة، وكان يستقرّ في وظائف هذه الخدمة أكابر خدّام السلطان، ويقيمون عنهم نوّابا يواظبون الإقامة بالقبة، ويرون مع سعة أحوالهم وكثرة أموالهم من تمام فخرهم وكمال سيادتهم، انتماءهم إلى خدمة القبة المنصورية، ثم تلاشى الحال بالنسبة إلى ما كان، والخدّام بهذه القاعة إلى اليوم، وقصد الملوك بإقامة الخدّام في هذه القاعة التي يتوصل إلى القبة منها، إقامة ناموس الملك بعد الموت كما كان في مدّة الحياة، وهم إلى اليوم لا يمكنون أحدا من الدخول إلى القبة، إلّا من كان من أهلها، ولله دريحي بن حكم البكريّ الجيانيّ المغربيّ الملقب بالغزال لجماله حيث يقول:
أرى أهل الثراء إذا توفوا ... بنوا تلك المقابر بالصخور
أبو إلّا مباهاة وتيها ... على الفقراء حتى في القبور
وفي هذه القبة دروس للفقهاء على المذاهب الأربعة، وتعرف بدروس وقف الصالح، وذلك أنّ الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن محمد بن قلاون، قصد عمارة مدرسة فاخترمته المنية دون بلوغ غرضه، فقام الأمير ارغون العلائيّ زوج أمه في وقف قرية تعرف بدهمشا الحمام من الأعمال الشرقية عن أمّ الملك الصالح، فاثبته بطريق الوكالة عنها، ورتب ما كان الملك الصالح إسماعيل قرّره في حياته لو أنشأ مدرسة، وجعل ذلك الأمير أرغون مرتبا لمن يقوم به في القبة المنصورية، وهو وقف جليل يتحصل منه في كل سنة نحو الأربعة آلاف دينار ذهبا. ثم لما كانت الحوادث وخربت الناحية المذكورة، تلاشى أمر وقف الصالح وفيه إلى اليوم بقية، وكان لا يلي تدريس دروسه إلا قضاة القضاة، فوليه الآن الصبيان ومن لا يؤهل لو كان الإنصاف له. وفي هذه القبة أيضا قرّاء يتناوبون القراءة بالشبابيك المطلة على الشارع طول الليل والنهار، وهم من جهة ثلاثة أوقاف، فطائفة من جهة وقف الملك الصالح إسماعيل، وطائفة من جهة الوقف السيفيّ، وهو منسوب إلى الملك المنصور سيف الدين أبي بكر ابن الملك الناصر محمد بن قلاون. وبهذه القبة إمام راتب يصلّى بالخدّام والقرّاء وغيرهم الصلوات الخمس، ويفتح له باب فيما بين القبة والمحراب يدخل منه من يصلّي من الناس، ثم يغلق بعد انقضاء الصلاة. وبهذه القبة خزانة جليلة كان فيها عدّة أحمال من الكتب في أنواع العلوم، مما وقفه الملك المنصور وغيره، وقد ذهب معظم هذه الكتب وتفرّق في أيدي الناس. وفي هذه القبة خزانة بها ثياب المقبورين بها، ولهم فرّاش معلوم بمعلوم لتعهدهم، ويوضع ما يتحصل من مال أوقاف(4/227)
المارستان بهذه القبة تحت أيدي الخدّام، وكانت العادة أنه إذا أمّر السلطان أحدا من أمراء مصر والشام فإنه ينزل من قلعة الجبل وعليه التشريف والشر بوش وتوقد له القاهرة، فيمرّ إلى المدرسة الصالحية بين القصرين، وعمل ذلك من عهد سلطنة المعز أيبك ومن بعده، فنقل ذلك إلى القبة المنصورية وصار الأمير يحلف عند القبر المذكور، ويحضر تحليفه صاحب الحجاب، وتمدّ أسمطة جليلة بهذه القبة، ثم ينصرف الأمير ويجلس له في طول شارع القاهرة إلى القلعة أهل الأغاني لتزفه في نزوله وصعوده، وكان هذا من جملة منتزهات القاهرة، وقد بطل ذلك منذ انقرضت دولة بني قلاون. ومن جملة أخبار هذه القبة: أنه لما كان في يوم الخميس مستهل المحرّم سنة تسعين وستمائة، بعث الملك الأشرف صلاح الدين خليل بن قلاون بجملة مال تصدّق به في هذه القبة، ثم أمر بنقل أبيه من القلعة، فخرج سائر الأمراء ونائب السلطنة الأمير بيدرا بدر الدين، والوزير الصاحب شمس الدين محمد بن السلعوس التنوخيّ، وحضروا بعد صلاة العشاء الآخرة ومشوا بأجمعهم قدّام تابوت الملك المنصور إلى الجامع الأزهر، وحضر فيه القضاة ومشايخ الصوفية، فتقدّم قاضي القضاة تقيّ الدين بن دقيق العيد وصلّى على الجنازة، وخرج الجميع أمامها إلى القبة المنصورية حتى دفن فيها، وذلك في ليلة الجمعة ثاني المحرّم، وقيل عاشره، ثم عاد الوزير والنائب من الدهليز خارج القاهرة إلى القبة المنصورية لعمل مجتمع بسبب قراءة ختمة كريمة في ليلة الجمعة ثامن عشري صفر منها، وحضر المشايخ والقرّاء والقضاة في جمع موفور، وفرّق في الفقراء صدقات جزيلة، ومدّت أسمطة كثيرة، وتفرّقت الناس أطعمتها حتى امتلأت الأيدي بها، وكانت إحدى الليالي الغرّ، كثر الدعاء فيها للسلطان وعساكر الإسلام بالنصر على أعداء الملة، وحضر الملك الأشرف بكرة يوم الجمعة إلى القبة المنصورية وفرّق مالا كثيرا، وكان الملك الأشرف قد برز يريد المسير لجهاد الفرنج وأخذ مدينة عكا، فسار لذلك وعاد في العشرين من شعبان وقد فتح الله له مدينة عكا عنوة بالسيف وخرّب أسوارها، وكان عبوره إلى القاهرة من باب النصر وقد زينت القاهرة زينة عظيمة، فعند ما حاذى باب المارستان نزل إلى القبة المنصورية وقد غصت بالقضاة والأعيان والقرّاء والمشايخ والفقهاء، فتلقوة كلهم بالدعاء حتى جلس فأخذ القرّاء في القراءة، وقام نجم الدين محمد بن فتح الدين محمد بن عبد الله بن مهلهل بن غياث بن نصر المعروف بابن العنبريّ الواعظ، وصعد منبرا نصب له فجلس عليه وافتتح ينشد قصيدة تشتمل على ذكر الجهاد وما فيه من الأجر، فلم يسعد فيها بحظ، وذلك أنه افتتحها بقوله:
زرو الديك وقف على قبريهما ... فكأنني بك قد نقلت إليهما
فعند ما سمع الأشرف هذا البيت تطير منه ونهض قائما وهو يسب الأمير بيدرا نائب السلطنة لشدّة حنقه وقال: ما وجد هذا شيئا يقوله سوى هذا البيت فاخذ بيدرا في تسكين حنقه والاعتذار له عن ابن العنبريّ، بأنه قد انفرد في هذا الوقت بحسن الوعظ ولا نظير له(4/228)
فيه، إلّا أنه لم يرزق سعادة في هذا الوقت، فلم يصغ السلطان إلى قوله وسار فانفض المجلس على غير شيء، وصعد السلطان إلى قلعة الجبل، ثم بعد أيام سأل السلطان عن وقف المارستان وأحب أن يجدّد له وقفا من بلاد عكا التي افتتحها بسيفه، فاستدعى القضاة وشاورهم فيما همّ به من ذلك، فرغّبوه فيه وحثوه على المبادرة إليه، فعين أربع ضياع من ضياع عكار وصور ليقفها على مصالح المدرسة والقبة المنصورية ما تحتاج إليه من ثمن زيت وشمع ومصابيح وبسط وكلفة الساقية، وعلى خمسين مقرئا يرتبون لقراءة القرآن الكريم بالقبة، وإمام راتب يصلّى بالناس الصلوات الخمس في محراب القبة، وستة خدّام يقيمون بالقبة، وهي الكابرة وتل الشيوخ وكردانة وضواحيها من عكا ومن ساحل صور معركة وصدفين، وكتب بذلك كتاب وقف وجعل النظر في ذلك لوزيره الصاحب شمس الدين محمد بن السلعوس.
فلما تمّ ذلك تقدّم بعمل مجتمع بالقبة لقراءة ختمة كريمة. وذلك ليلة الاثنين رابع ذي القعدة سنة تسعين وستمائة، فاجتمع القرّاء والوعاظ والمشايخ والفقراء والقضاة لذلك، وخلع على عامة أرباب الوظائف والوعاظ، وفرّقت في الناس صدقات جمة وعمل مهم عظيم احتفل فيه الوزير احتفالا زائدا، وبات الأمير بدر الدين بيدرا نائب السلطنة والأمير الوزير شمس الدين محمد بن السلعوس بالقبة، وحضر السلطان ومعه الخليفة الحاكم بأمر الله أحمد وعليه سواده، فخطب الخليفة خطبة بليغة حرّض فيها على أخذ العراق من التتار، فلما فرغ من المهمّ أفاض السلطان على الوزير تشريفا سنيا، وفي يوم الخميس حادي عشر ربيع الأوّل سنة إحدى وتسعين وستمائة، اجتمع القرّاء والوعاظ والفقهاء والأعيان بالقبة المنصورية لقراءة ختمة شريفة، ونزل السلطان الملك الأشرف وتصدّق بمال كثير، وآخر من نزل إلى القبة المنصورية من ملوك بني قلاون السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون في سنة إحدى وستين وسبعمائة، وحضر عنده بالقبة مشايخ العلم وبحثوا في العلم، وزار قبر أبيه وجدّه، ثم خرج فنظر في أمر المرضى بالمارستان وتوجه إلى قلعة الجبل.
هذه المدرسة بجوار القبة المنصورية من شرقيها، كان موضعها حمّاما، فأمر السلطان الملك العادل زين الدين كتبغا المنصوريّ بإنشاء مدرسة موضعها، فابتدىء في عملها ووضع أساسها وارتفع بناؤها عن الأرض إلى نحو الطراز المذهب الذي بظاهرها، فكان من خلعه ما كان، فلما عاد السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون إلى مملكة مصر، في سنة ثمان وتسعين وستمائة، أمر بإتمامها، فكملت في سنة ثلاث وسبعمائة، وهي من أجلّ مباني القاهرة، وبابها من أعجب ما عملته أيدي بني آدم، فإنه من الرخام الأبيض البديع الزيّ.
الفائق الصناعة، ونقل إلى القاهرة من مدينة عكا، وذلك أن الملك الأشرف خليل بن قلاون لما فتح عكا عنوة في سابع عشر جمادى الأولى، سنة تسعين وستمائة، أقام الأمير علم(4/229)
الدين سنجر الشجاعيّ لهدم أسوارها وتخريب كنائسها، فوجد هذه البوّابة على باب كنيسة من كنائس عكا، وهي من رخام، قواعدها وأعضادها وعمدها، كل ذلك متصل بعضه ببعض، فحمل الجميع إلى القاهرة وأقام عنده إلى أن قتل الملك الأشرف، وتمادى الحال على هذا أيام سلطنة الملك الناصر محمد الأولى، فلما خلع وتملك كتبغا، أخذ دار الأمير سيف الدين بلبان الرشيديّ ليعملها مدرسة، فدل على هذه البوّابة فأخذها من ورثة الأمير بيدرا، فإنها كانت قد انتقلت إليه، وعملها كتبغا على باب هذه المدرسة. فلما خلع من الملك وأقيم الناصر محمد، اشترى هذه المدرسة قبل إتمامها والإشهاد بوقفها، وولى شراءها وصيه قاضي القضاة زين الدين عليّ بن مخلوف المالكيّ، وأنشأ بجوار هذه المدرسة من داخل بابها قبة جليلة، لكنها دون قبة أبيه، ولما كملت نقل إليها أمّه بنت سكباي بن قراجين، ووقف على هذه المدرسة قيسارية أمير على بخط الشرابشيين من القاهرة، والربع الذي يعلوها، وكان يعرف بالدهيشة، ووقف عليها أيضا حوانيت بخط باب الزهومة من القاهرة، ودار الطعم خارج مدينة دمشق، فلما مات ابنه انوك من الخاتون طغاي في يوم الجمعة سابع عشر ربيع الأوّل سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، وعمره ثماني عشرة سنة، دفنه بهذه القبة وعمل عليها وقفا يختص بها، وهو باق إلى اليوم يصرف لقرّاء وغير ذلك.
وأوّل من رتّب في تدريس المدرسة الناصرية من المدرّسين، قاضي القضاة زين الدين عليّ بن مخلوف المالكيّ، ليدرّس فقه المالكية بالإيوان الكبير القبلي، وقاضي القضاة شرف الدين عبد الغنيّ الحرّانيّ، ليدرّس فقه الحنابلة بالإيوان الغربيّ، وقاضي القضاة أحمد بن السروجيّ الحنفيّ، ليدرّس فقه الحنفية بالإيوان الشرقيّ، والشيخ صدر الدين محمد بن المرحل المعروف بابن الوكيل الشافعيّ، ليدرّس فقه الشافعية بالإيوان البحريّ. وقرّر عند كلّ مدرّس منهم عدّة من الطلبة، وأجرى عليهم المعاليم، ورتب بها إماما يؤمّ بالناس في الصلوات الخمس، وجعل بها خزانة كتب جليلة، وأدركت هذه المدرسة وهي محترمة إلى الغاية، يجلس بدهليزها عدّة من الطواشية، ولا يمكن غريب أن يصعد إليها، وكان يفرّق بها على الطلبة والقرّاء وسائر أرباب الوظائف بها السكّر في كلّ شهر، لكل أحد منهم نصيب، ويفرّق عليهم لحوم الأضاحي في كلّ سنة، وقد بطل ذلك وذهب ما كان لها من الناموس، وهي اليوم عامرة من أجلّ المدارس.
المدرسة الحجازية
هذه المدرسة برحبة باب العيد من القاهرة، بجوار قصر الحجازية، كان موضعها بابا من أبواب القصر يعرف بباب الزمرّذ، أنشأتها الست الجليلة الكبرى خوند تتر الحجازية، ابنة السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون، زوجة الأمير بكتمر الحجازيّ، وبه عرفت.
وجعلت بهذه المدرسة درسا للفقهاء الشافعية، قرّرت فيه شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين(4/230)
عمر بن رسلان البلقينيّ، ودرسا للفقهار المالكية، وجعلت بها منبرا يخطب عليه يوم الجمعة، ورتبت لها إماما راتبا يقيم بالناس الصلوات الخمس، وجعلت بها خزانة كتب، وأنشأت بجوارها قبة من داخلها لتدفن تحتها، ورتبت بشباك هذه القبة عدّة قرّاء يتناوبون قراءة القرآن الكريم ليلا ونهارا، وأنشأت بها منارا عاليا من حجارة ليؤذن عليه، وجعلت بجوار المدرسة مكتبا للسبيل فيه عدّة من أيتام المسلمين، ولهم مؤدّب يعملهم القرآن الكريم، ويجري عليهم في كلّ يوم لكل منهم من الخبز النقيّ خمسة أرغفة، ومبلغ من الفلوس، ويقام لكل منهم بكسوتي الشتاء والصيف، وجعلت على هذه الجهات عدّة أوقاف جليلة يصرف منها لأرباب الوظائف المعاليم السنية، وكان يفرّق فيهم كل سنة أيام عيد الفطر الكعك والخشكنانك، وفي عيد الأضحى اللحم، وفي شهر رمضان يطبخ لهم الطعام، وقد بطل ذلك ولم يبق غير المعلوم في كل شهر، وهي من المدارس الكبسة، وعهدي بها محترمة إلى الغاية يجلس عدّة من الطواشية، ولا يمكنون أحدا من عبور القبة التي فيها قبر خوند الحجازية إلّا القرّاء فقط وقت قراءتهم خاصة. واتفق مرّة أن شخصا من القرّاء كان في نفسه شيء من أحد رفقائه، فأتى إلى كبير الطواشية بهذه القبة وقال له: أن فلانا دخل اليوم إلى القبة وهو بغير سراويل، فغضب الطواشي من هذا القول وعدّ ذلك ذنبا عظيما وفعلا محذورا، وطلب ذلك المقرئ وأمر به فضرب بين يديه وصار يقول له: تدخل على خوند بغير سراويل، وهمّ بإخراجه من وظيفة القراءة لولا ما حصل من شفاعة الناس فيه، وكان لا يلي نظر هذه المدرسة إلّا الأمراء الأكابر، ثم صار يليها الخدّام وغيرهم، وكان إنشاؤها في سنة احدى وستين وسبعمائة، ولما ولي الأمير جمال الدين يوسف البحاسيّ وظيفة أستادارية السلطان الملك الناصر فرج بن برقوق، وعمر بجانب هذه المدرسة البحاسيّ وظيفة أستادارية السلطان الملك الناصر فرج بن برقوقو، وعمر بجانب هذه المدرسة داره، ثم مدرسته، صار يحبس في المدرسة الحجازية من يصادره أو يعاقبه حتى امتلأت بالمسجونين والأعوان المرسمين عليهم، فزالت تلك الأبهة وذهب ذلك الناموس، واقتدى بجمال الدين من سكن بعده من الأستادارية في داره، وجعلوا هذه المرسة سجنا، ومع ذلك فهي من أبهج مدارس القاهرة إلى الآن.
المدرسة الطيبرسية
هذه المدرسة بجوار الجامع الأزهر من القاهرة، وهي غريبة مما يلي الجهة البحرية، أنشأها الأمير علاء الدين طيبرس الخازنداريّ نقيب الجيوش، وجعلها مسجدا لله تعالى زيادة في الجامع الأزهر، وقرّر بها درسا للفقهاء الشافعية، وأنشأ بجوارها ميضأة وحوض ماء سبيل ترده الدواب، وتأنق في رخامها وتذهيب سقوفها حتى جاءت في أبدع زي وأحسن قالب وأبهج ترتيب، لما فيها من إتقان العمل وجودة الصناعة بحيث أنه لم يقدر أحد على محاكاة ما فيها من صناعة الرخام، فان جميعه أشكال المحاريب، وبلغت النفقة عليها جملة كثيرة، وانتهت عمارتها في سنة تسع وسبعمائة، ولها بسط تفرش في يوم الجمعة كلها(4/231)
منقوشة بأشكال المحاريب أيضا، وفيها خزانة كتب ولها إمام راتب.
طيبرس: بن عبد الله الوزيريّ، كان في ملك الأمير بدر الدين بيلبك مملوك الخارندار الظاهريّ نائب السلطنة، ثم انتقل إلى الأمير بدر الدين بيدرا، وتنقل في خدمته حتى صار نائب الصبيبة، ورأى مناما للمنصور لاجين يدل على أنه يصير سلطان مصر، وذلك قبل أن يتقلد السلطنة وهو نائب الشام، فوعده إن صارت إليه السلطنة أن يقدّمه وينوّه به، فلما تملك لاجين استدعاه وولاه نقابة الجيش بديار مصر عوضا عن بلبان الفاخريّ، في سنة سبع وتسعين وستمائة، فباشر النقابة مباشرة مشكورة إلى الغاية، من إقامة الحرمة وأداء الأمانة والعفة المفرطة، بحيث أنه ما عرف عنه أنه قبل من أحد هدية البتة مع التزام الديانة والمواظبة على فعل الخير والغنى الواسع، وله من الآثار الجميلة الجامع والخانقاه بأراضي بستان الخشاب المطلة على النيل خارج القاهرة، فيما بينها وبين مصر بجوار المنشأة، وهو أوّل من عمر في أراضي بستان الخشاب، وقد تقدّم ذكر ذلك، ومن آثاره أيضا هذه المدرسة البديعة الزي، وله على كل من هذه الأماكن أوقاف جليلة، ولم يزل في نقابة الجيش إلى أن مات في العشرين من شهر ربيع الآخر سنة تسع عشرة وسبعمائة، ودفن في مكان بمدرسته هذه، وقبره بها إلى وقتنا هذا، ووجد له من بعده مال كثير جدّا، وأوصى إلى الأمير علاء الدين عليّ الكوارنيّ، وجعل الناظر على وصيته الأمير أرغون نائب السلطنة، واتفق انه لما فرغ من بناء هذه المدرسة أحضر إليه مباشروه حساب مصروفها، فلما قدّم إليه استدعى بطشت فيه ماء وغسل أوراق الحساب بأسرها من غير أن يقف على شيء منها وقال: شيء خرجنا عنه لله تعالى لا نحاسب عليه، ولهذه المدرسة شبابيك في جدار الجامع تشرف عليه، ويتوصل من بعضها إليه، وما عمل ذلك حتى استفتى الفقهاء فيه فأفتوه بجواز فعله، وقد تداولت أيدي نظار السوء على أوقاف طيبرس هذا فخرب أكثرها وخرب الجامع والخانقاه، وبقيت هذه المدرسة عمرها الله بذكره.
المدرسة الأقبغاوية
هذه المدرسة بجوار الجامع الأزهر على يسرة من يدخل إليه من بابه الكبير البحريّ، وهي تشرف بشبابيك على الجامع مركبة في جداره، فصارت تجاة المدرسة الطيبرسية. كان موضعها دار الأمير الكبير عز الدين أيدمر الحليّ نائب السلطنة في أيام الملك الظاهر بيبرس، وميضأة للجامع، فأنشأها الأمير علاء الدين أقبغا عبد الواحد أستادار الملك الناصر محمد بن قلاون، وجعل بجوارها قبة ومنارة من حجارة منحوتة، وهي أوّل مئذنة عملت بديار مصر من الحجر بعد المنصورية، وإنما كانت قبل ذلك تبنى بالآجر، بناها هي والمدرسة المعلم ابن السيوفيّ رئيس المهندسين في الأيام الناصرية، وهو الذي تولى بناء جامع الماردينيّ خارج باب زويلة، وبنى مئذنته أيضا. وهي مدرسة مظلمة ليس عليها من(4/232)
بهجة المساجد ولا أنس بيوت العبادات شيء البتة، وذلك أن أقبغا عبد الواحد اغتصب أرض هذه المدرسة بأن أقرض ورثة أيدمر الحليّ مالا، وأمهل حتى تصرّفوا فيه ثم أعسفهم في الطلب وألجأهم إلى أن أعطوه دارهم، فهدمها وبنى موضعها هذه المدرسة، وأضاف إلى اغتصاب البقعة أمثال ذلك من الظلم، فبناها بأنواع من الغصب والعسف، وأخذ قطعة من سور الجامع حتى ساوى بها المدرسة الطيبرسية، وحشر لعملها الصناع من البنائين والنجارين والحجارين والمرخمين والفعلة، وقرّر مع الجميع أن يعمل كل منهم فيها يوما في كلّ أسبوع بغير أجرة، فكان يجتمع فيها في كل أسبوع سائر الصناع الموجودين بالقاهرة ومصر، فيجدّون في العمل نهارهم كله بغير أجرة، وعليهم مملوك من مماليكه ولّاه شدّ العمارة، لم ير الناس أظلم منه ولا أعتى ولا أشدّ بأسا ولا أقسى قلبا ولا أكثر عنتا، فلقي العمال منه مشقات لا توصف، وجاء مناسبا مولاه. وحمل مع هذا إلى هذه العمارة سائر ما يحتاج إليه من الأمتعة وأصناف الآلات وأنواع الاحتياجات من الحجر والخشب والرخام والدهان وغيره من غير أن يدفع في شيء منه ثمنا البتة، وإنما كان يأخذ ذلك إما بطريق الغصب من الناس، أو على سبيل الخيانة من عمائر السلطان. فإنه كان من جملة ما بيده شدّ العمائر السلطانية، وناسب هذه الأفعال أنه ما عرف عنه قط أنه نزل إلى هذه العمارة إلّا وضرب فيها من الصناع عدّة ضربا مؤلما، فيصير ذلك الضرب زيادة على عمله بغير أجرة، فيقال فيه: كملت خصالك هذه بعماري.
فلما فرغ من بنائها جمع فيها سائر الفقهاء وجميع القضاة، وكان الشريف شرف الدين عليّ بن شهاب الدين الحسين بن محمد بن الحسين نقيب الأشراف ومحتسب القاهرة حينئذ، يؤمّل أن يكون مدرّسها، وسعى عنده في ذلك فعمل بسطا على قياسها بلغ ثمنها ستة آلاف درهم فضة، ورشاه بها ففرشت هناك، ولما تكامل حضور الناس بالمدرسة وفي الذهن أنّ الشريف يلي التدريس، وعرف أنه هو الذي أحضر البسط التي قد فرشت، قال الأمير أقبغا لمن حضر: لا أولي في هذه الأيام أحدا، وقام فتفرّق الناس، وقرّر فيها درسا للشافعية ولي تدريسه ... «1» ودرسا للحنفية ولي تدريسه ... «2» وجعل فيها عدّة من الصوفية ولهم شيخ، وقرّر بها طائفة من القرّاء يقرءون القرآن بشباكها، وجعل فيها عدّة من الصوفية ولهم وفرّاشين وقومة ومباشرين، وجعل النظر للقاضي الشافعيّ بديار مصر، وشرط في كتاب وقفه أن لا يلي النظر أحد من ذريته، ووقف على هذه الجهات حوانيت خارج باب زويلة بخط تحت الربع، وقرية بالوجه القبلي. وهذه المدرسة عامرة إلى يومنا هذا، إلّا أنه تعطل منها الميضأة وأضيفت إلى ميضأة الجامع لتغلّب بعض الأمراء بمواطأة بعض النظار على بئر الساقية التي كانت برسمها.(4/233)
اقبغا عبد الواحد: الأمير علاء الدين، أحضره إلى القاهرة التاجر عبد الواحد بن بدال، فاشتراه منه الملك الناصر محمد بن قلاون ولقبه باسم تاجره الذي أحضره، فحظي عنده وعمله شادّ العمائر، فنهض فيها نهضة أعجب منه السلطان وعظمه حتى عمله أستادار السلطان بعد الأمير مغلطاي الجماليّ، في المحرّم سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة، وولاه مقدّم المماليك، فقويت حرمته وعظمت مهابته حتى صار سائر من في بيت السلطان يخافه ويخشاه، وما برح على ذلك إلى أن مات الملك الناصر وقام من بعده ابنه الملك المنصور أبو بكر، فقبض عليه في يوم الاثنين سلخ المحرّم سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، وأمسك أيضا ولديه وأحيط بماله وسائر أملاكه، ورسم عليه الأمير طيبغا المجديّ وبيع موجوده من الخيل والجمال والجواري والقماش والأسلحة والأواني، فظهر له شيء عظيم إلى الغاية، من ذلك أنه بيع بقلعة الجبل، وبها كانت تعمل حلقات مبيعة سراويل امرأته بمبلغ مائتي ألف درهم فضة، عنها نحو عشرة آلاف دينار ذهب، وبيع له أيضا قبقاب وشرموزة وخف نسائيّ بمبلغ خمسة وسبعين ألف درهم فضة، عنها زيادة على ثلاثة آلاف دينار، وبيعت بدلة مقانع بمائة ألف درهم، وكثرت المرافعات عليه من التجار وغيرهم، فبعث السلطان إليه شادّ الدواوين يعرّفه أنه أقسم بتربة الشهيد، يعني أباه، أنه متى لم يعط هؤلاء حقهم وإلّا سمّرتك على جمل وطفت بك المدينة، فشرع أقبغا في استرضائهم وأعطاهم نحو المائتي ألف درهم فضة، ثم نزل إليه الوزير نجم الدين محمود بن سرور المعروف بوزير بغداد ومعه الحاج إبراهيم بن صابر مقدّم الدولة، لمطالبته بالمال، فأخذا منه لؤلؤا وجواهر نفيسة وصعدا بها إلى السلطان، وكان سبب هذه النكبة أنه كان قد تحكم في أمور الدولة السلطانية وأرباب الأشغال أعلاهم وأدناهم بما اجتمع له من الوظائف، وكان عنده فرّاش غضب عليه وأوجعه ضربا، فانصرف من عنده وخدم في دار الأمير أبي بكر ولد السلطان، فبعث أقبغا يستدعي بالفرّاش إليه، فمنعه منه أبو بكر وأرسل إليه مع أحد مماليكه يقول له:
إني أريد أن تهبني هذا الغلام ولا تشوّش عليه، فلما بلّغه المملوك الرسالة اشتدّ حنقه وسبه سبا فاحشا وقال له: قل لأستاذك يسيّر الفرّاش وهو جيد له. وكان قبل ذلك اتفق أن الأمير أبا بكر خرج من خدمة السلطان إلى بيته، فإذا الأمير أقبغا قد بطح مملوكا وضربه، فوقف أبو بكر بنفسه وسأل أقبغا في العفو عن المملوك وشفع فيه، فلم يلتفت أقبغا إليه ولا نظر إلى وجهه، فخجل أبو بكر من الناس لكونه وقف قائما بين يدي أقبغا وشفع عنده فلم يقم من مجلسه لوقوفه، بل استمرّ قاعدا وأبو بكر واقف على رجليه، ولا قبل مع ذلك شفاعته، ومضى وفي نفسه منه حنق كبير. فلما عاد إليه مملوكه وبلّغه كلام أقبغا بسبب هذا الفرّاش، أكد ذلك عنده ما كان من الأحنة، وأخذ في نفسه إلى أن مات أبوه الملك الناصر وعهد إليه من بعده، وكان قد التزم أنه إن ملّكه الله، ليصادرنّ أقبغا وليضربنّه بالمقارع.
وقال للفراش: اقعد في بيتي، وإذا حضر أحد لأخذك عرفت ما أعمل معه. وأخذ أقبغا(4/234)
يترقب الفرّاش، وأقام أناسا للقبض عليه فلم يتهيأ له مسكه.
فلما أفضى الأمر إلى أبي بكر، استدعى الأمير قوصون وكان هو القائم حينئذ بتدبير أمور الدولة، وعرّفه ما التزمه من القبض على أقبغا وأخذ ماله وضربه بالمقارع، وذكر له ولعدّة من الأمراء ما جرى له منه، وكان لقوصون بأقبغا عناية، فقال للسلطان: السمع والطاعة، يرسم السلطان بالقبض عليه ومطالبته بالمال، فإذا فرغ ماله يفعل السلطان ما يختاره. وأراد بذلك تطاول المدّة في أمر أقبغا، فقبض عليه ووكل به رسل ابن صابر، حتى أنه بات ليلة قبض عليه من غير أن يأكل شيئا، وفي صبيحة تلك الليلة تحدّث الأمراء مع السلطان في نزوله إلى داره محتفظا به حتى يتصرّف في ماله ويحمله شيئا بعد شيء، فنزل مع المجدي وباع ما يملكه وأورد المال. فلما قبض على الحاج إبراهيم بن صار وأقيم ابن شمس موضعه، أرسله السلطان إلى بيت أقبغا ليعصره ويضربه بالمقارع ويعذبه، فبلغ ذلك الأمير قوصون، فمنع منه وشنّع على السلطان كونه أمر بضربه بالمقارع، وأمر بمراجعته، فحنق من ذلك وأطلق لسانه على الأمير قوصون، فلم يزل به من حضره من الأمراء حتى سكت على مضض.
وكان قوصون يدبر في انتقاض دولة أبي بكر إلى أن خلعه وأقام بعده أخاه الملك الأشرف كجك بن محمد بن قلاون، وعمره نحو السبع سنين، وتحكم في الدولة. فأخرج أقبغا هو وولده من القاهرة وجعله من جملة أمراء الدولة بالشام، فسار من القاهرة في تاسع ربيع الأوّل سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة على حيز الأمير مسعود بن خطير بدمشق ومعه عياله، فأقام بها إلى أن كانت فتنة الملك الناصر أحمد بن محمد بن قلاون وعصيانه بالكرك على أخيه الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن محمد بن قلاون، فاتهم أقبغا بأنه بعث مملوكا من مماليكه إلى الكرك، وأن الناصر أحمد خلع عليه، وضربت البشائر بقلعة الكرك وأشاع أن أمراء الشام قد دخلوا في طاعته وحلفوا له، وأن أقبغا قد بعث إليه مع مملوكه يبشره بذلك، فلما وصل إلى الملك الصالح كتاب عساف أخى شطي بذلك، وصل في وقت وروده كتاب نائب الشام الأمير طقزدمر يخبر فيه بأن جماعة من أمراء الشام قد كاتبوا أحمد بالكرك وكاتبهم، وقد قبض عليهم ومن جملتهم أقبغا عبد الواحد، فرسم بحمله مقيدا، فحمل من دمشق إلى الإسكندرية وقتل بها في آخر سنة أربع وأربعين وسبعمائة.
وكان من الظلم والطمع والتعاظم على جانب كبير، وجمع من الأموال شيئا كثيرا، وأقام جماعة من أهل الشرّ لتتبع أولاد الأمراء وتعرّف أحوال من افتقر منهم أو احتاج إلى شيء، فلا يزالون به حتى يعطوه مالا على سبيل القرض بفائدة جزيلة إلى أجل، فإذا استحق المال أعسفه في الطلب وألجأه إلى بيع ماله من الأملاك، وحلها إن كانت وقفا بعنايته به، وعين لعمل هذه الحيل شخصا يعرف بابن القاهريّ، وكان إذا دخل لأحد من القضاة في(4/235)
شراء ملك أو حل وقف لا يقدر على مخالفته ولا يجد بدّا من موافقته. ومن غريب ما يحكى عن طمع أقبغا، أن مشدّ الحاشية دخل عليه وفي إصبعه خاتم بفص أحمر من زجاج له بريق، فقال له أقبغا: إيش هو هذا الخاتم، فأخذ يعظمه وذكر أنه من تركة أبيه. فقال:
بكم حسبوه عليك؟ فقال: بأربعمائة درهم. فقال: أرنيه. فناوله إياه فأخذه وتشاغل عنه ساعة ثم قال له: والله فضيحة أن نأخذ خاتمك، ولكن خذه أنت وهات ثمنه، ودفعه إليه وألزمه بإحضار الأربعمائة درهم، فما وسعه إلّا أن أحضرها إليه، فعاقبه الله بذهاب ماله وغيره، وموته غريبا.
المدرسة الحسامية
هذه المدرسة بخط المسطاح من القاهرة قريبا من حارة الوزيرية، بناها الأمير حسام الدين طرنطاي المنصوريّ نائب السلطنة بديار مصر، إلى جانب داره، وجعلها برسم الفقهاء الشافعية، وهي في وقتنا هذا تجاه سوق الرقيق، ويسلك منها إلى درب العدّاس وإلى حارة الوزيرية وإلى سويقة الصاحب وباب الخوخة وغير ذلك، وكان بجانبها طبقة لخياط فطلبت منه بثلاثة أمثال ثمنها فلم يبعها، وقيل لطرنطاي لو طلبته لاستحيى منك، فلم يطلبه وتركه وطبقته وقال: لا أشوّش عليه.
طرنطاي: بن عبد الله الأمير حسام الدين المنصوريّ، رباه الملك المنصور قلاون صغيرا ورقاه في خدمه إلى أن تقلد سلطنة مصر، فجعله نائب السلطنة بديار مصر عوضا عن الأمير عز الدين أيبك الأفرم الصالحيّ، وخلع عليه في يوم الخميس رابع عشر رمضان سنة ثمان وسبعين وستمائة، فباشر ذلك مباشرة حسنة إلى أن كانت سنة خمس وثمانين، فخرج من القاهرة بالعساكر إلى الكرك وفيها الملك المسعود نجم الدين خضر وأخوه بدر الدين سلامش، ابنا الملك الظاهر بيبرس، في رابع المحرّم، وسار إليها فوافاه الأمير بدر الدين الصوّانيّ بعساكر دمشق في ألفي فارس، ونازلا الكرك وقطعا الميرة عنها واستفسدا رجال الكرك حتى أخذا خضرا وسلامش بالأمان في خامس صفر، وتسلم الأمير عز الدين طرنطاي الموصليّ نائب الشوبك مدينة الكرك واستقرّ في نيابة السلطنة بها، وبعث الأمير طرنطاي بالبشارة إلى قلعة الجبل، فوصل البريد بذلك في ثامن صفر، ثم قدم بابني الظاهر، فخرج السلطان إلى لقائه في ثاني عشر ربيع الأوّل وأكرم الأمير طرنطاي ورفع قدره ثم بعثه إلى أخذ صهيون وبها سنقر الأشقر، فسار بالعساكر من القاهرة في سنة ست وثمانين، ونازلها وحصرها حتى نزل إليه سنقر بالأمان وسلّم إليه قلعة صهيون، وسار به إلى القاهرة، فخرج السلطان إلى لقائه وأكرمه.
ولم يزل على مكانته إلى أن مات الملك المنصور وقام في السلطنة بعده ابنه الأشرف صلاح الدين خليل بن قلاون، فقبض عليه في يوم السبت ثالث عشر ذي القعدة سنة تسع(4/236)
وثمانين، وعوقب حتى مات يوم الاثنين خامس عشرة بقلعة الجبل، وبقي ثمانية أيام بعد قتله مطروحا بحبس القلعة، ثم أخرج في ليلة الجمعة سادس عشري ذي القعدة وقد لف في حصير وحمل على جنوية إلى زاوية الشيخ أبي السعود بالقرافة، فغسله الشيخ عمر السعوديّ شيخ الزواية وكفنه من ماله ودفنه خارج الزاوية ليلا، وبقي هناك إلى سلطنة العادل كتبغا، فأمر بنقل جثته إلى تربته التي أنشأها بمدرسته هذه.
وكان سبب القبض عليه وقتله، أن الملك الأشرف كان يكرهه كراهة شديدة، فإنه كان يطرح جانبه في أيام أبيه، ويغض منه ويهين نوّابه ويؤذي من يخدمه، لأنه كان يميل إلى أخيه الملك الصالح علاء الدين عليّ بن قلاون، فلما مات الصالح عليّ وانتقلت ولاية العهد إلى الأشرف خليل بن قلاون، مال إليه من كان ينحرف عنه في حياة أخيه إلّا طرنطاي، فإنه ازداد تماديا في الإعراض عنه وجرى على عادته في أذى من ينسب إليه، وأغرى الملك المنصور بشمس الدين محمد بن السلعوس ناظر ديوان الأشرف حتى ضربه وصرفه عن مباشرة ديوانه، والأشرف مع ذلك يتأكد حنقه عليه ولا يجد بدّا من الصبر إلى أن صار له الأمر بعد أبيه، ووقف الأمير طرنطاي بين يديه في نيابة السلطنة على عادته وهو منحرف عنه لما أسلفه من الإساءة عليه، وأخذ الأشرف في التدبير عليه إلى أن نقل له عنه أنه يتحدّث سرّا في إفساد نظام المملكة وإخراج الملك عنه، وأنه قصد أن يقتل السلطان وهو راكب في الميدان الأسود الذي تحت قلعة الجبل عند ما يقرب من باب الإصطبل، فلم يحتمل ذلك.
وعندها سير أربعة ميادين والأمير طرنطاي ومن وافقه عند باب سارية حتى انتهى إلى رأس الميدان وقرب من باب الإصطبل، وفي الظنّ أنه يعطف إلى باب سارية ليكمل التسيير على العادة، فعطف إلى جهة القلعة وأسرع ودخل من باب الإصطبل، فبادر الأمير طرنطاي عندما عطف السلطان وساق فيمن معه ليدركوه، ففاتهم وصار بالإصطبل فيمن خف معه من خواصه، وما هو إلّا أن نزل الأشرف من الركوب فاستدعى بالأمير طرنطاي، فمنعه الأمير زين الدين كتبغا المنصوريّ عن الدخول إليه وحذره منه وقال له: والله إني أخاف عليك منه فلا تدخل عليه إلا في عصبة تعلم أنهم يمنعونك منه إن وقع أمر تكرهه، فلم يرجع إليه وغرّه أن أحدا لا يجسر عليه لمهابته في القلوب ومكانته من الدولة، وأن الأشرف لا يبادره بالقبض عليه وقال لكتبغا: والله لو كنت نائما ما جسر خليل ينبهني. وقام ومشى إلى السلطان ودخل ومعه كتبغا، فلما وقف على عادته بادر إليه جماعة قد أعدّهم السلطان وقبضوا عليه، فأخذه اللكم من كلّ جانب والسلطان يعدّد ذنوبه ويذكر له إساءته ويسبه.
فقال له يا خوند: هذا جميعه قد عملته معك، وقدّمت الموت بين يديّ، ولكن والله لتندمنّ من بعدي. هذا والأيدي تتناوب عليه حتى أنّ بعض الخاصكية قلع عينه وسحب إلى السجن، فخرج كتبغا وهو يقول: إيش أعمل ويكرّرها، فأدركه الطلب وقبض عليه أيضا، ثم آل آمر كتبغا بعد ذلك إلى أن ولي سلطنة مصر، وأوقع الأشرف الحوطة على أموال طرنطاي(4/237)
وبعث إلى داره الأمير علم الدين سنجر الشجاعيّ، فوجد له من العين ستمائة ألف دينار، ومن الفضة سبعة عشر ألف رطل ومائة رطل مصري، عنها زيادة على مائة وسبعين قنطارا فضة سوى الأواني، ومن العدد والأسلحة والأقمشة والآلات والخيول والمماليك ما يتعذر إحصاء قيمته، ومن الغلات والأملاك شيء كثير جدّا، ووجد له من البضائع والأموال المسفرة على اسمه والودائع والمقارضات والقنود والأعسال والأبقار والأغنام والرقيق وغير ذلك شيء يجل وصفه، هذا سوى ما أخفاه مباشروه بمصر والشام، فلما حملت أمواله إلى الأشرف جعل يقلبها ويقول:
من عاش بعد عدوّه ... يوما فقد بلغ المنى
واتفق بعد موت طرنطاي أن ابنه سأل الدخول على السلطان الأشرف فأذن له، فلما وقف بين يديه جعل المنديل على وجهه وكان أعمى، ثم مدّ يده وبكى وقال: شيء لله، وذكر أنّ لأهله أياما ما عندهم ما يأكلونه، فرق له وأفرج عن أملاك طرنطاي وقال: تبلغوا بريعها، فسبحان من بيده القبض والبسط.
المدرسة المنكوتمرية
هذه المدرسة بحارة بهاء الدين من القاهرة، بناها بجوار داره الأمير سيف الدين منكوتمر الحساميّ نائب السلطنة بديار مصر، فكملت في صفر سنة ثمان وتسعين وستمائة، وعمل بها درسا للمالكية قرّر فيه الشيخ شمس الدين محمد بن أبي القاسم بن عبد السلام بن جميل التونسيّ المالكيّ، ودرسا للحنفية درّس فيه ... «1» وجعل فيها خزانة كتب وجعل عليها وقفا ببلاد الشام، وهي اليوم بيد قضاة الحنفية يتولون نظرها، وأمرها متلاش وهي من المدارس الحسنة.
منكوتمر: هو أحد مماليك الملك المنصور حسام الدين لاجين المنصوريّ، ترقى في خدمته واختص به اختصاصا زائدا إلى أن ولي مملكة مصر بعد كتبغا، في سنة ست وتسعين وستمائة، فجعله أحد الأمراء بديار مصر، ثم خلع عليه خلع نيابة السلطنة عوضا عن الأمير شمس الدين قراسنقر المنصوريّ، يوم الأربعاء النصف من ذي القعدة، فخرج سائر الأمراء في خدمته إلى دار النيابة وباشر النيابة بتعاظم كثير، وأعطى المنصب حقه من الحرمة الوافرة والمهابة التي تخرج عن الحدّ، وتصرّف في سائر أمور الدولة من غير أن يعارضه السلطان في شيء البتة، وبلغت عبرة إقطاعه في السنة زيادة على مائة ألف دينار.
ولما عمل الملك المنصور الروك المعروف بالروك الحساميّ، فوّض تفرقة منالات(4/238)
إقطاعات الأجناد له، فجلس في شباك دار النيابة بقلعة الجبل، ووقف الحجاب بين يديه، وأعطى لكل تقدمة منالات، فلم يجسر أحد أن يتحدّث في زيادة ولا نقصان خوفا من سوء خلقه وشدّة حمقه، وبقي أياما في تفرقة المنالات والناس على خوف شديد. فإنّ أقلّ الإقطاعات كان في أيام الملك المنصور قلاون عشرة آلاف درهم في السنة، وأكثره ثلاثين ألف درهم. فرجع في الروك الحساميّ أكثر إقطاعات الحلقة إلى مبلغ عشرين ألف درهم وما دونها، فشق ذلك على الأجناد، وتقدّم طائفة منهم ورموا منالاتهم التي فرّقت عليهم، لأن الواحد منهم وجد مناله بحق النصف مما كان له قبل الروك، وقالوا لمنكوتمر: إما أن تعطونا ما يقوم بكلفنا وإلّا فخذوا أخبازكم ونحن نخدم الأمراء أو نصير بطالين. فغضب منكوتمر وأخرق بهم وتقدّم إلى الحجاب فضربوهم، وأخذوا سيوفهم وأودعوهم السجون، وأخذ يخاطب الأمراء بفحش ويقول: أيما قوّاد شكا من خبزه؟ ويقول نقول للسلطان فعلت به، وفعلت إيش يقول للسلطان، إن رضي يخدم وإلّا إلى لعنة الله، فشق ذلك على الأمراء وأسرّوا له الشرّ، ثم إنه لم يزل بالسلطان حتى قبض على الأمير بدر الدين بيسرى، وحسن له إخراج أكابر الأمراء من مصر، فجرّدهم إلى سيس، وأصبح وقد خلا له الجوّ، فلم يرض بذلك حتى تحدّث مع خوشداشيته بأنه لا بدّ أن ينشئ له دولة جديدة ويخرج طفجي وكرجي من مصر، ثم إنه جهز حمدان بن صلغاي إلى حلب في صورة أنه يستعجل العساكر من سيس، وقرّر معه القبض على عدّة من الأمراء، وأمّر عدّة أمراء جعلهم له عدّة وذخرا، وتقدّم إلى الصاحب فخر الدين الخليليّ بأن يعمل أوراقا تتضمن أسماء أرباب الرواتب ليقطع أكثرها، فلم تدخل سنة ثمان وتسعين حتى استوحشت خواطر الناس بمصر والشام من منكوتمر، وزاد حتى أراد السلطان أن يبعث بالأمير طغا إلى نيابة طرابلس، فتنصل طغا من ذلك، فلم يعفه السلطان منه، وألح منكوتمر في إخراجه وأغلظ للأمير كرجي في القول، وحط على سلار وبيبرس الجاشنكير وأنظارهم، وغض منهم، وكان كرجي شرس الأخلاق ضيق العطن سريع الغضب، فهمّ غير مرّة بالفتك بمنكوتمر، وطفجي يسكن غضبه، فبلغ السلطان فساد قلوب الأمراء والعسكر، فبعث قاضي القضاة حسام الدين الحسن بن أحمد بن الحسن الروميّ الحنفيّ إلى منكوتمر يحدّثه في ذلك ويرجعه عما هو فيه، فلم يلتفت إلى قوله وقال: أنا مالي حاجة بالنيابة، أريد أخرج مع الفقراء فلما بلغ السلطان عنه ذلك استدعاه وطيب خاطره ووعده بسفر طفجي بعد أيام، ثم القبض على كرجي بعده، فنقل هذا للأمراء، فتحالفوا وقتلوا السلطان كما قد ذكر في خبره، وأوّل من بلغه خبر مقتل السلطان الأمير منكوتمر، فقام إلى شباك النيابة بالقلعة فرأى باب القلة وقد انفتح وخرج الأمراء والشموع تقد والضجة قد ارتفعت فقال: والله قد فعلوها، وأمر فغلقت أبواب دار النيابة، وألبس مماليكه آلة الحرب، فبعث الأمراء إليه بالأمير الحسام أستادار، فعرّفه بمقتل السلطان وتلطف به حتى نزل وهو مشدود الوسط بمنديل، وسار به إلى باب القلة والأمير طفجي قد(4/239)
جلس في مرتبة النيابة، فتقدّم إلى طفجي وقبل يده، فقام إليه وأجلسه بجانبه، وقام الأمراء في أمر منكوتمر يشفعون فيه، فأمر به إلى الجب وأنزلوه فيه، وعندما استقرّ به أدليت له القفة التي نزل فيها، وتصايحوا عليه بالصعود فطلع عليهم، وإذا كرجي قد وقف على رأس الجبّ في عدّة من المماليك السلطانية، فأخذ يسب منكوتمر ويهينه وضربه بلت ألقاه، وذبحه بيده على الجبّ وتركه وانصرف، فكان بين قتل أستاذه وقتله ساعة من الليل، وذلك في ليلة الجمعة عاشر ربيع الأوّل سنة ثمان وتسعين.
المدرسة القراسنقرية
هذه المدرسة تجاه خانقاه الصلاح سعيد السعداء، فيما بين رحبة باب العيد وباب النصر، كان موضعها وموضع الربع الذي بجانبها الغربيّ مع خانقاه بيبرس، وما في صفها إلى حمام الأعسر وباب الجوّانية، كلّ ذلك من دار الوزارة الكبرى التي تقدّم ذكرها، أنشأها الأمير شمس الدين قراسنقر المنصوريّ نائب السلطنة، سنة سبعمائة. وبنى بجوار بابها مسجدا معلقا ومكتبا لإقراء أيتام المسلمين كتاب الله العزيز، وجعل بهذه المدرسة درسا للفقهاء، ووقف على ذلك داره التي بحارة بهاء الدين وغيرها، ولم يزل نظر هذه المدرسة بيد ذرّية الواقف إلى سنة خمس عشرة وثمانمائة، ثم انقرضوا. وهي من المدارس المليحة، وكنا نعهد البريدية إذا قدموا من الشام وغيرها لا ينزلون إلّا في هذه المدرسة حتى يتهيأ سفرهم، وقد بطل ذلك من سنة تسعين وسبعمائة.
قراسنقر بن عبد الله: الأمير شمس الدين الجوكندار المنصوريّ، صار إلى الملك المنصور قلاون وترقى في خدمته إلى أن ولاه نيابة السلطنة بحلب في شعبان سنة اثنتين وثمانين وستمائة، عوضا عن الأمير علم الدين سنجر الباشقرديّ، فلم يزل فيها إلى أن مات الملك المنصور وقام من بعده ابنه الملك الأشرف خليل بن قلاون، فلما توجه الأشرف إلى فتح قلعة الروم عاد بعد فتحها إلى حلب وعزل قراسنقر عن نيابتها، وولى عوضه الأمير سيف الدين بلبان الطناحيّ، وذلك في أوائل شعبان سنة إحدى وتسعين، وكانت ولايته على حلب تسع سنين. فلما خرج السلطان من مدينة حلب خرج في خدمته وتوجه مع الأمير بدر الدين بيدرا نائب السلطنة بديار مصر في عدّة من الأمراء لقتال أهل جبال كسروان، فلما عاد سار مع السلطان من دمشق إلى القاهرة ولم يزل بها إلى أن ثار الأمير بيدرا على الأشرف، فتوجه معه وأعان على قتله، فلما قتل بيدرا فرّ قراسنقر ولاجين في نصف المحرّم سنة ثلاث وتسعين وستمائة. واختفيا بالقاهرة إلى أن استقرّ الأمر للملك الناصر محمد بن قلاون، وقام في نيابة السلطنة وتدبير الدولة الأمير زين الدين كتبغا، فظهرا في يوم عيد الفطر وكانا عند فرارهما يوم قتل بيدرا أطلعا الأمير بيحاص الزينيّ مملوك الأمير كتبغا نائب السلطنة على حالهما، فأعلم استاذه بأمرهما وتلطف به حتى تحدّث في شأنهما مع السلطان، فعفا عنهما،(4/240)
ثم تحدّث مع الأمير بكتاش الفخريّ إلى أن ضمن له التحدّث مع الأمراء، وسعى في الصلح بينهما وبين الأمراء والمماليك حتى زالت الوحشة، وظهرا من بيت الأمير كتبغا، فأحضرهما بين يدي السلطان وقبلا الأرض وأفيضت عليهما التشاريف وجعلهما أمراء على عادتهما، ونزلا إلى دورهما فحمل إليهما الأمراء ما جرت العادة به من التقادم، فلم يزل قراسنقر على إمرته إلى أن خلع الملك الناصر محمد بن قلاون من السلطنة وقام من بعده الملك العادل زين الدين كتبغا، فاستمرّ على حاله إلى أن ثار الأمير حسام الدين لاجين نائب السلطنة بديار مصر على الملك العادل كتبغا بمنزلة العوجاء من طريق دمشق، فركب معه قراسنقر وغيره من الأمراء إلى أن فرّ كتبغا، واستمرّ الأمر لحسام الدين لاجين وتلقب بالملك المنصور، فلما استقرّ بقلعة الجبل خلع على الأمير قراسنقر وجعله نائب السلطنة بديار مصر في صفر سنة ست وتسعين وستمائة، فباشر النيابة إلى يوم الثلاثاء للنصف من ذي القعدة، فقبض عليه وأحيط بموجوده وحواصله ونوّابه ودواوينه بديار مصر والشام، وضيق عليه واستقرّ في نيابة السلطنة بعده الأمير منكوتمر، وعدّ السلطان من أسباب القبض عليه إسرافه في الطمع وكثرة الحمايات وتحصيل الأموال على سائر الوجوه، مع كثرة ما وقع من شكاية الناس من مماليكه ومن كاتبه شرف الدين يعقوب، فإنه كان قد تحكم في بيته تحكما زائدا، وعظمت نعمته وكثرت سعادته، وأسرف في اتخاذ المماليك والخدم، وانهمك في اللعب الكثير، وتعدّى طوره وقراسنقر لا يسمع فيه كلاما، وحدّثه السلطان بسببه وأغلظ في القول وألزمه بضربه وتأديبه أو إخراجه من عنده، فلم يعبأ بذلك. وما زال قراسنقر في الاعتقال إلى أن قتل الملك المنصور لاجين وأعيد الملك الناصر محمد بن قلاون إلى السلطنة فأفرج عنه وعن غيره من الأمراء ورسم له بنيابة الصبيبة فخرج إليها ثم نقل منها إلى نيابة حماه بعد موت صاحبها الملك المظفر تقيّ الدين محمود بسفارة الأمير بيبرس الجاشنكير، والأمير سلار، ثم نقل من نيابة حماه بعد ملاقاة التتر إلى نيابة حلب، واستقرّ عوضه في نيابة حماه الأمير زين الدين كتبغا الذي تولى سلطنة مصر والشام، وذلك في سنة تسع وتسعين وستمائة، وشهد وقعة شقحب مع الملك الناصر محمد بن قلاون، ولم يزل على نيابة حلب إلى أن خلع الملك الناصر وتسلطن الملك المظفر بيبرس الجاشنكير وصاحب الناصر في الكرك، فلما تحرّك لطلب الملك واستدعى نوّاب الممالك، أجابه قراسنقر وأعانه برأيه وتدبيره، ثم حضر إليه وهو بدمشق وقدّم له شيئا كثيرا وسار معه إلى مصر حتى جلس على تخت ملكه بقلعة الجبل، فولاه نيابة دمشق عوضا عن الأمير عز الدين الأفرم في شوّال سنة تسع وسبعمائة، وخرج إليها فسار إلى غزة في عدّة من النوّاب وقبضوا على المظفر بيبرس الجاشنكير وسار به هو والأمير سيف الدين الحاج بهادر إلى الخطارة، فتلقاهم الأمير استدمر كرجي، فتسلم منهم بيبرس وقيده وأركبه بغلا وأمر قراسنقر والحاج بهادر بالسير إلى مصر، فشق على قراسنقر تقييد بيبرس، وتوهم الشرّ من الناصر، وانزعج لذلك انزعاجا(4/241)
كثيرا وألقى كلوتته عن رأسه إلى الأرض وقال لفرّاشه: الدنيا فانية، يا ليتنا متنا ولا رأينا هذا اليوم، فترجل من حضر من الأمراء ورفعوا كلوتته ووضعوها على رأسه، ورجع من فوره ومعه الحاج بهادر إلى ناحية الشام وقد ندم على تشييع المظفر بيبرس، فجدّ في سيره إلى أن عبر دمشق، وفي نفس السلطان منه كونه لم يحضر مع بيبرس، وكان قد أراد القبض عليه، فبعث الأمير نوغاي القبجاقيّ أميرا بالشام ليكون له عينا على الأمير قراسنقر، ففطن قراسنقر لذلك وشرع نوغاي يتحدّث في حق قراسنقر بما لا يليق حتى ثقل عليه مقامه، فقبض عليه بأمر السلطنة وسجن بقلعة دمشق، ثم إن السلطان صرفه عن نيابة دمشق وولاه نيابة حلب بسؤاله، وذلك في المحرّم سنة إحدى عشرة وسبعمائة، وكتب السلطان إلى عدّة من الأمراء بالقبض عليه مع الأمير أرغون الدوادار، فلم يتمكن من التحدّث في ذلك لكثرة ما ضبط قراسنقر أموره ولازمه عند قدومه عليه بتقليد نيابة حلب، بحيث لم يتمكن أرغون من الحركة إلى مكان إلّا وقراسنقر معه، فكثر الحديث بدمشق أن أرغون إنما حضر لمسك قراسنقر، حتى بلغ ذلك الأمراء، وسمعه قراسنقر، فاستدعى بالأمراء وحضر الأمير أرغون فقال قراسنقر: بلغني كذا وها أنا أقول إن كان حضر معك مرسوم بالقبض عليّ فلا حاجة إلى فتنة، أنا طائع السلطان، وهذا سيفي خذه، ومدّ يده وحل سيفه من وسطه. فقال أرغون وقد علم أن هذا الكلام مكيدة وأن قراسنقر لا يمكن من نفسه: إني لم أحضر إلا بتقليد الأمير نيابة حلب بمرسوم السلطان، وسؤال الأمير، وحاشا لله أن السلطان يذكر في حق الأمير شيئا من هذا. فقال قراسنقر: غدا نركب ونسافر. وانفض المجلس فبعث إلى الأمراء أن لا يركب أحد منهم لوداعه، ولا يخرج من بيته، وفرّق ما عنده من الحوائص ومن الدراهم على مماليكه ليتحملوا به على أوساطهم، وأمرهم بالاحتراس، وقدّم غلمانه وحواشيه في الليل وركب وقت الصباح في طلب عظيم، وكانت عدّة مماليكه ستمائة مملوك قد جعلهم حوله ثلاث حلقات، وأركب أرغون إلى جانبه وسار على غير الجادّة حتى قارب حلب، ثم عبرها في العشرين من المحرّم وأعاد أرغون بعد ما أنعم عليه بألف دينار وخلعة وخيل وتحف، وأقام بمدينة حلب خائفا يترقب، وشرع يعمل الحيلة في الخلاص، وصادق العربان، واختص بالأمير حسام الدين مهنا أمير العرب وبابنه موسى، وأقدمه إلى حلب وأوقفه على كتب السلطان إليه بالقبض عليه، وأنه لم يفعل ذلك ولم يزل به حتى أفسد ما بينه وبين السلطان، ثم أنه بعث يستأذن السلطان في الحج، فأعجب السلطان ذلك وظنّ أنه بسفره يتم له التدبير عليه لما كان فيه من الاحتراز الكبير، وأذن له في السفر وبعث إليه بألفي دينار مصرية، فخرج من حلب ومعه أربعمائة مملوك معدّة بالفرس والجنيب والهجن، وسار حتى قارب الكرك، فبلغه أن السلطان كتب إلى النوّاب وأخرج عسكرا من مصر إليه، فرجع من طريق السماوة إلى حلب وبها الأمير سيف الدين قرطاي نائب الغيبة، فمنعه من العبور إلى المدينة ولم يمكن أحدا من مماليك قراسنقر أن يخرج إليه، وكانت مكاتبة السلطان قد(4/242)
قدمت عليه بذلك، فرحل حينئذ إلى مهنا أمير العرب واستجار به، فأكرمه وبعث إلى السلطان يشفع فيه، فلم يجد السلطان بدّا من قبول شفاعة مهنا، وخيّر قراسنقر فيما يريد، ثم أخرج عسكرا من مصر والشام لقتال مهنا، وأخذ قراسنقر فبلغه ذلك فاحترس على نفسه وكتب إلى السلطان يسأله في صرخد، وقصد بذلك المطاولة، فأجابه إلى ذلك ومكنه من أخذ حواصله التي بحلب، وأعطى مملوكه ألف دينار، فلما قدم عليه لم يطمئن وعبر إلى بلاد الشرق في سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، في عدّة من الأمراء يريد خربندا، فلما وصل إلى الرحبة بعث بابنه فرج ومعه شيء من أثقاله وخيوله وأمواله إلى السلطان بمصر، ليعتذر من قصده خربندا، ورحل بمن معه إلى ماردين فتلقاه المغل، وقام له نوّاب خربندا بالإقامات إلى أن قرب الأردوا، فركب خربندا إليه وتلقاه وأكرمه ومن معه وأنزلهم منزلا يليق بهم، وأعطى قراسنقر المراغة من عمل أذربيجان، وأعطى الأمير جمال الدين أقوش الأفرم همدان، وذلك في أوائل سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، فلم يزل هناك إلى أن مات خربندا وقام من بعده أبو سعيد بركة بن خربندا، فشق ذلك على السلطان وأعمل الحيلة في قتل قراسنقر والأفرم وسير إليهما الفداوية، فجرت بينهم خطوب كثيرة، ومات قراسنقر بالإسهال ببلد المراغة في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، يوم السبت سابع عشري شوّال، قبل موت السلطان بيسير، فلما بلغ السلطان موته في حادي عشر ذي القعدة عند ورود الخبر إليه قال:
ما كنت أشتهي يموت إلّا من تحت سيفي، وأكون قد قدرت عليه وبلغت مقصودي منه، وذلك أنه كان قد جهز إليه عددا كثيرا من الفداوية، قتل منهم بسببه مائة وعشرون فداويا بالسيف، سوى من فقد ولم يوقف له على خير، وكان قراسنقر جسيما جليلا صاحب رأي وتدبير ومعرفة، وبشاشة وجه، وسماحة نفس، وكرم زائد، بحيث لا يستكثر على أحد شيئا مع حسن الشاكلة وعظم المهابة والسعادة الطائلة، وبلغت عدّة مماليكه ستمائة مملوك، ما منهم إلا من له نعمة ظاهرة وسعادة وافرة، وله من الآثار بالقاهرة هذه المدرسة ودار جليلة بحارة بهاء الدين فيها كان سكنه.
المدرسة الغزنوية
هذه المدرسة برأس الموضع المعروف بسويقة أمير الجيوش تجاه المدرسة اليازكوجية، بناها الأمير حسام الدين قايماز النجميّ، مملوك نجم الدين أيوب، والد الملوك، وأقام بها الشيخ شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن يوسف بن عليّ بن محمد الغزنويّ البغداديّ المقرئ الفقيه الحنفيّ، ودرس بها فعرفت به، وكان إماما في الفقه وسمع على الحافظ السلفيّ وغيره، وقرأ بنفسه وسكن مصر آخر عمره، وكان فاضلا حسن الطريقة متدينا، وحدّث بالقاهرة بكتاب الجامع لعبد الرزاق بن همام، فرواه عنه جماعة، وجمع كتابا في الشيب والعمر، وقرأ عليه أبو الحسن السخاويّ، وأبو عمرو بن الحاجب، ومولده ببغداد في ربيع الأوّل سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة، وتوفي بالقاهرة يوم الاثنين(4/243)
النصف من ربيع الأوّل سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وهي من مدارس الحنفية.
المدرسة البوبكرية
هذه المدرسة بجوار درب العباسي قريبا من حارة الوزيرية بالقاهرة، بناها الأمير سيف الدين اسنبغا بن الأمير سيف الدين بكتمر البوبكري الناصريّ، ووقفها على الفقهاء الحنفية، وبنى بجانبها حوض ماء للسبيل وسقاية ومكتبا للأيتام، وذلك في سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة، وبنى قبالتها جامعا، فمات قبل إتمامه وكان يسكن دار بدر الدين الأمير طرنطاي المجاورة للمدرسة الحسامية، تجاه سوق الجواري، فلذلك أنشأ هذه المدرسة بهذا المكان لقربه منه، ثم لما كانت سنة خمس عشرة وثمانمائة، جدّد بهذه المدرسة منبرا وصار يقام بها الجمعة. اسنبغا بن بكتمر الأمير ... «1» .
المدرسة البقرية
هذه المدرسة في الزقاق الذي تجاه باب الجامع الحاكميّ المجاور للمنبر، ويتوصل من هذا الزقاق إلى ناحية العطوف، بناها الرئيس شمس الدين شاكر بن غزيل، تصغير غزال، المعروف بابن البقريّ، أحد مسالمة القبط وناظر الذخيرة في أيام الملك الناصر الحسن بن محمد بن قلاون، وهو خال الوزير الصاحب سعد الدين نصر الله بن البقريّ، وأصله من قرية تعرف بدار البقر، إحدى قرى الغربية، نشأ على دين النصارى، وعرف الحساب وباشر الخراج إلى أن أقدمه الأمير شرف الدين بن الأزكشيّ استادار السلطان ومشير الدولة في أيام الناصر حسن، فاسلم على يديه، وخاطبه بالقاضي شمس الدين، وخلع عليه واستقرّ به في نظر الذخيرة السلطانية، وكان نظرها حينئذ من الرتب الجليلة، وأضاف إليه نظر الأوقاف والأملاك السلطانية، ورتبه مستوفيا بمدرسة الناصر حسن، فشكرت طريقته وحمدت سيرته وأظهر سيادة وحشمة، وقرّب أهل العلم من الفقهاء، وتفضل بأنواع من البرّ، وأنشأ هذه المدرسة في أبدع قالب وأبهج ترتيب، وجعل بها درسا للفقهاء الشافعية، وقرّر في تدريسها شيخنا سراج الدين عمر بن عليّ الأنصاريّ، المعروف بابن الملقن الشافعيّ، ورتب فيها ميعادا وجعل شيخه صاحبنا الشيخ كمال الدين بن موسى الدميريّ الشافعيّ، وجعل إمام الصلوات بها المقرئ الفاضل زين الدين أبا بكر بن الشهاب أحمد النحويّ، وكان الناس يرحلون إليه في شهر رمضان لسماع قراءته في صلاة التراويح لشجا صوته، وطيب نغمته، وحسن أدائه، ومعرفته بالقراءات السبع والعشر والشواذ، ولم يزل ابن البقريّ على حال السيادة والكرامة إلى أن مرض مرض موته، فأبعد عنه من يلوذ به من النصارى، وأحضر الكمال الدميريّ وغيره من أهل الخير، فما زالوا عنده حتى مات وهو يشهد شهادة الإسلام(4/244)
في سنة ست وسبعين وسبعمائة، ودفن بمدرسته هذه وقبره بها تحت قبة في غاية الحسن، وولي نظر الذخيرة بعده أبو غالب، ثم استجدّ في هذه المدرسة منبر وأقيمت بها الجمعة في تاسع جمادى الأولى سنة أربع وعشرين وثمانمائة بإشارة علم الدين داود الكوبر كاتب السرّ.
المدرسة القطبية
هذه المدرسة بأوّل حارة زويلة مما يلي الخرنشف في رحبة كوكاي، عرفت بالست الجليلة عصمة الدين خاتون مؤنسة القطبية، المعروفة بدار إقبال العلائي، ابنة السلطان الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب بن شادي، وكان وقفها في سنة خمس وستمائة، وبها درس للفقهاء الشافعية، وتصدير قراءات وفقهاء يقرءون.
مدرسة ابن المغربيّ
هذه المدرسة آخر درب الصقالبة فيما بين سويقة المسعوديّ وحارة زويلة، بناها صلاح الدين يوسف بن ... «1» ابن المغربي رئيس الأطباء، تجاه داره، ومات قبل إكمالها فدفن بعد موته في قبة تجاه جامعه المطلّ على الخليج الناصريّ بقرب بركة قرموط، وصارت هذه المدرسة قائمة بغير إكمال إلى أن هدمها بعض ذريته في سنة أربع عشرة وثمانمائة، وباع أنقاضها فصار موضعها طاحونة.
المدرسة البيدرية
هذه المدرسة برحبة الأيدمريّ بالقرب من باب قصر الشوك، فيما بينه وبين المشهد الحسينيّ، بناها الأمير بيدر الأيدمريّ.
المدرسة البديرية
هذه المدرسة بجوار باب سرّ المدرسة الصالحية النجمية، كان موضعها من جملة تربة القصر التي تقدّم ذكرها، فنبش شخص من الناس يعرف بناصر الدين محمد بن محمد بن بدير العباسيّ ما هنالك من قبور الخلفاء، وأنشأ هذه المدرسة في سنة ثمان وخمسين وسبعمائة، وعمل فيها درس فقه للفقهاء الشافعية، درس فيه شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن نصير بن رسلان البلقينيّ، وهي مدرسة صغيرة لا يكاد يصعد إليها أحد، والعباسيّ هذا من قرية بطرف الرمل يقال لها العباسية، وله في مدينة بلبيس مدرسة وقد تلاشت بعد ما كانت عامرة مليحة.(4/245)
المدرسة الملكية
هذه المدرسة بخط المشهد الحسينيّ من القاهرة، بناها الأمير الحاج سيف الدين آل ملك الجوكندار تجاه داره، وعمل فيها درسا للفقهاء الشافعية، وخزانة كتب معتبرة، وجعل لها عدّة أوقاف، وهي إلى الآن من المدارس المشهورة، وموضعها من جملة رحبة قصر الشوك، وقد تقدّم ذكرها عند ذكر الرحاب من هذا الكتاب، ثم صار موضع هذه المدرسة دارا تعرف بدار ابن كرمون صهر الملك الصالح.
المدرسة الجمالية
هذه المدرسة بجوار درب راشد من القاهرة على باب الزقاق المعروف قديما بدرب سيف الدولة نادر، بناها الأمير الوزير علاء الدين مغلطاي الجماليّ، وجعلها مدرسة للحنفية، وخانقاه للصوفية، وولى تدريسها ومشيخة التصوّف بها الشيخ علاء الدين عليّ بن عثمان التركمانيّ الحنفيّ، وتداولها ابنه قاضي القضاة جمال الدين عبد الله التركمانيّ الحنفيّ، وابنه قاضي القضاة صدر الدين محمد بن عبد الله بن عليّ التركمانيّ الحنفيّ، ثم قريبهم حميد الدين حماد، وهي الآن بيد ابن حميد الدين المذكور، وكان شأن هذه المدرسة كبيرا يسكنها أكابر فقهاء الحنفية، وتعدّ من أجلّ مدارس القاهرة، ولها عدّة أوقاف بالقاهرة وظواهرها وفي البلاد الشامية، وقد تلاشى أمر هذه المدرسة لسوء ولاة أمرها، وتخريبهم أوقافها، وتعطل منها حضور الدرس والتصوّف، وصارت منزلا يسكنه أخلاط ممن ينسب إلى اسم الفقه، وقرب الخراب منها، وكان بناؤها في سنة ثلاثين وسبعمائة.
مغلطاي: ابن عبد الله الجماليّ، الأمير علاء الدين، عرف بخرز، وهي بالتركية عبارة عن الديك بالعربية، اشتراه الملك الناصر محمد بن قلاون ونقله وهو شاب من الجامكية إلى الأمرة على إقطاع الأمير صارم الدين إبراهيم الإبراهيميّ نقيب المماليك السلطانية، المعروف بزير الأمرة، في صفر سنة ثمان عشرة وسبعمائة، وصار السلطان ينتدبه في التوجه إلى المهمات الخاصة به، ويطلعه على سرّه، ثم بعثه أمير الركب إلى الحجاز في هذه السنة، فقبض على الشريف أسد الدين رميتة بن أبي نميّ صاحب مكة، وأحضره إلى قلعة الجبل في ثامن عشر المحرّم سنة تسع عشرة وسبعمائة مع الركب، فأنكر عليه السلطان سرعة دخوله لما أصاب الحاج من المشقة في الإسراع بهم، ثم إنه جعل إستادار السلطان لما قبض على القاضي كريم الدين عبد الكريم بن المعلم هبة الله ناظر الخواص، عند وصوله من دمشق بعد سفره إليها لإحضار شمس الدين غبريال، فيوم حضر خلع عليه وجعل استادارا عوضا عن الأمير سيف الدين بكتمر العلائيّ، وذلك في جمادى الأولى سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة، ثم أضاف إليه الوزارة وخلع عليه في يوم الخميس ثامن رمضان سنة(4/246)
أربع وعشرين عوضا عن الصاحب أمين الملك عبد الله بن الغنام بعد ما استعفى من الوزارة، اعتذر بأنه رجل غتميّ، فلم يعفه السلطان وقال: أنا أخلي من يباشر معك ويعرّفك ما تعمل، وطلب شمس الدين غبريال ناظر دمشق منها وجعله ناظر الدولة، رفيقا للوزير الجماليّ، فرفعت قصة إلى السلطان وهو في القصر من القلعة، فيها الحط على السلطان بسبب تولية الجماليّ الوزارة والماس حاجبا، وأنه بسبب ذلك أضاع أوضاع المملكة وأهانها وفرّط في أموال المسلمين والجيش، وأن هذا لم يفعله أحد من الملوك، فقد وليت الحجابة لمن لا يعرف يحكم ولا يتكلم بالعربيّ ولا يعرف الإحكام الشرعية، ووليت الوزارة والاستادارية لشاب لا يعرف يكتب اسمه، ولا يعرف ما يقال له، ولا يتصرّف في أمور المملكة ولا في الأموال الديوانية إلا أرباب الأقلام، فإنهم يأكلون المال ويحيلون على الوزير. فلما وقف السلطان عليها، أوقف عليها القاضي فخر الدين محمد بن فضل الله، المعروف بالفخر ناظر الجيش. فقال: هذه ورقة الكتّاب البطالين، ممن انقطع رزقه وكثر حسده، وقرّر مع السلطان أن يلزم الوزير ناظر الدولة وناظر الخواص بإحضار أوراق في كل يوم تشتمل على أصل الحاصل، وما حمل في ذلك اليوم من البلاد والجهات، وما صرف.
وأنه لا يصرف لأحد شيء البتة إلّا بأمر السلطان وعلمه.
فلما حضر الوزير الجماليّ أنكر عليه السلطان وقال له: إن الدواوين تلعب بك، وأمر فأحضر التاج إسحاق، وغبريال، ومجد الدين بن لعيبة، وقرّر معهم أن يحضروا آخر كلّ يوم أوراقا بالحاصل والمصروف، وقد فصلت بأسماء ما يحتاج إلى صرفه وإلى شرائه وبيعه، فصاروا يحضرون كلّ يوم الأوراق إلى السلطان وتقرأ عليه، فيصرف ما يختار ويوقف ما يريد، ورسم أيضا أن مال الجيزة كله يحمل إلى السلطان ولا يصرف منه شيء.
ثم لما كانت الفتنة بثغر الإسكندرية بين أهلها وبين الفرنج، وغضب السلطان على أهل الإسكندرية، بعث بالجماليّ إليها، فسار من القاهرة في أثناء رجب سنة سبع وعشرين وسبعمائة، ودخل إليها فجلس بالخمس واستدعى بوجوه أهل البلد، وقبض على كثير من العامّة، ووسط بعضهم وقطع أيدي جماعة وأرجلهم، وصادر أرباب الأموال حتى لم يدع أحدا له ثروة، حتى ألزمه بمال كثير، فباع الناس حتى ثياب نسائهم في هذه المصادرة، وأخذ من التجار شيئا كثيرا مع ترفقه بالناس فيما يرد عليه من الكتب بسفك الدماء، وأخذ الأموال، ثم أحضر العدد التي كانت بالثغر مرصدة برسم الجهاد، فبلغت ستة آلاف عدّة، ووضعها في حاصل وختم عليه وخرج من الإسكندرية بعد عشرين يوما وقد سفك دماء كثيرة، وأخذ منها مائتي ألف دينار للسلطان وعاد إلى القاهرة، فلم يزل على حاله إلى أن صرف عن الوزارة في يوم الأحد ثاني شوّال سنة ثمان وعشرين، ورسم أن توفر وظيفة الوزارة من ولاية وزير، فلم يستقرّ أحد في الوزارة وبقي الجماليّ على وظيفة الأستادارية، وكان سبب عزله عن الوزارة توقف حال الدولة وقلة الواصل إليها، فعمل عليه الفخر ناظر(4/247)
الجيش والتاج إسحاق بسبب تقديمه لمحمد بن لعيبة، فإنه كان قد استقرّ في نظر الدولة والصحبة والبيوت وتحكم في الوزير وتسلم قياده، فكتبت مرافعات في الوزير وأنه أخذ مالا كثيرا من مال الجيزة، فخرج الأمير أيتمش المجديّ بالكشف عليه، وهمّ السلطان بإيقاع الحوطة به، فقام في حقه الأمير بكتمر الساقي حتى عفي عنه وقبض على كثير من الدواوين.
ثم إنه سافر إلى الحجاز، فلما عاد توفي بسطح عقبة إيلة في يوم الأحد سابع عشر المحرّم سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة. فصبّر وحمل إلى القاهرة ودفن بهذه الخانقاه في يوم الخميس حادي عشري المحرّم المذكور بعد ما صلّى عليه بالجامع الحاكميّ، وولى السلطان بعده الأستادارية الأمير أقبغا عبد الواحد، وكان ينوب عن الجماليّ في الأستادارية الطنقش مملوك الأفرم، نقله إليها من ولاية الشرقية، وكان الجماليّ حسن الطباع يميل إلى الخير مع كثرة الحشمة، ومما شكر عليه في وزارته أنه لم يبخل على أحد بولاية مباشرة، وأنشأ ناسا كثيرا، وقصد من سائر الأعمال، وكان يقبل الهدايا ويحب التقادم، فحلت له الدنيا وجمع منها شيئا كثيرا، وكان إذا أخذ من أحد شيئا على ولاية لا يعزله حتى يعرف أنه قد اكتسب قدر ما وزنه له، ولو أكثر عليه في السعي، فإذا عرف أنه أخذ ما غرمه عزله وولى غيره، ولم يعرف عنه أنه صادر أحدا ولا اختلس مالا، وكانت أيامه قليلة الشرّ، إلّا أنه كان يعزل ويولي بالمال، فتزايد الناس في المناصب، وكان له عقب بالقاهرة غير صالحين ولا مصلحين.
المدرسة الفارسية
هذه المدرسة بخط الفهادين من أوّل العطوفية بالقاهرة، كان موضعها كنيسة تعرف بكنيسة الفهادين، فلما كانت واقعة النصارى في سنة ست وخمسين وسبعمائة، هدمها الأمير فارس الدين البكيّ، قريب الأمير سيف الدين آل ملك الجو كندار، وبنى هذه المدرسة ووقف عليها وقفا يقوم بما تحتاج إليه.
المدرسة السابقية
هذه المدرسة داخل قصر الخلفاء الفاطميين من جملة القصر الكبير الشرقيّ الذي كان داخل دار الخلافة، ويتوصل إلى هذه المدرسة الآن من تجاه حمّام البيسريّ بخط بين القصرين، وكان يتوصل إليها أيضا من باب القصر المعروف بباب الريح من خط الركن المخلق، وموضعه الآن قيسارية الأمير جمال الدين يوسف الأستادار. بنى هذه المدرسة الطواشي الأمير سابق الدين مثقال الأنوكيّ مقدّم المماليك السلطانية الأشرفية، وجعل بها درسا للفقهاء الشافعية، قرّر في تدريسه شيخنا شيخ الشيوخ سراج الدين عمر بن عليّ الأنصاريّ، المعروف بابن الملقن الشافعيّ، وجعل فيها تصدير قراءات وخزانة كتب، وكتابا يقرأ فيه أيتام المسلمين، وبنى بينها وبين داره التي تعرف بقصر سابق الدين حوض ماء للسبيل، هدمه الأمير جمال الدين يوسف الأستادار لما بنى داره المجاورة لهذه المدرسة،(4/248)
ولى سابق الدين تقدمة المماليك بعد الطواشي شرف الدين مختصر الطغتمريّ، في صفر سنة ثلاث وستين وسبعمائة، ثم تنكر عليه الأمير يلبغا الخاصكيّ القائم بدولة الملك الأشرف شعبان بن حسين وضربه ستمائة عصا وسجنه ونفاه إلى أسوان، في آخر شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وستين، فلم يكن غير قليل حتى قتل الأمير يلبغا، فاستدعي الأشرف سابق الدين من قوص، وصرف ظهير الدين مختارا المعروف بشاذروان عن التقدمة، وأعاده إليها، فاستمرّ إلى أن مات سنة ست وسبعين وسبعمائة.
المدرسة القيسرانية
هذه المدرسة بجوار المدرسة الصاحبية بسويقة الصاحب، فيما بينها وبين باب الخوخة، كانت دارا يسكنها القاضي الرئيس شمس الدين محمد بن إبراهيم القيسرانيّ أحد موقعي الدست بالقاهرة، فوقفها قبل موته مدرسة، وذلك في ربيع الأوّل سنة إحدى وخمسين وسبعمائة، وتوفي سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة، وكان حشما كبير الهمة، سعى بالأمير سيف الدين بهادر الدمرداشيّ في كتابة السرّ بالقاهرة، مكان علاء الدين عليّ بن فضل الله العمريّ، فلم يتم ذلك، ومات الأمير بهادر فانحط جانبه، وكانت دنياه واسعة جدّا، وله عدّة مماليك يتوصل بهم إلى السعي في أغراضه عند أمراء الدولة، وكان ينسب إلى شح كبير.
المدرسة الزمامية
هذه المدرسة بخط رأس البندقانيين من القاهرة، فيما بين البندقانيين وسويقة الصاحب، بناها الأمير الطواشي زين الدين مقبل الروميّ، زمام الآدر الشريفة للسلطان الظاهر برقوق في سنة سبع وتسعين وسبعمائة، وجعل بها درسا وصوفية ومنبرا يخطب عليه في كل جمعة، وبينها وبين المدرسة الصاحبية دون مدى الصوت، فيسمع كلّ من صلّى بالموضعين تكبير الآخر، وهذا وأنظاره بالقاهرة من شنيع ما حدث في غير موضع، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم على إزالة هذه المبتدعات.
المدرسة الصغيرة
هذه المدرسة فيما بين البندقانيين وطواحين الملحيين، ويعرف خطها ببيت محب الدين ناظر الجيوش، ويعرف أيضا بخط بين العواميد، بنتها الست أيديكن زوجة الأمير سيف الدين بكجا الناصريّ، في سنة إحدى وخمسين وسبعمائة.
مدرسة تربة أمّ الصالح
هذه المدرسة بجوار المدرسة الأشرفية بالقرب من المشهد النفيسيّ، فيما بين القاهرة(4/249)
ومصر، موضعها من جملة ما كان بستانا، أنشأها الملك المنصور قلاون، على يد الأمير علم الدين سنجر الشجاعيّ في سنة اثنتين وثمانين وستمائة، برسم أمّ الملك الصالح علاء الدين عليّ بن الملك المنصور قلاون، فلما كمل بناؤها نزل إليها الملك المنصور ومعه ابنه الصالح عليّ، وتصدّق عند قبرها بمال جزيل، ورتب لها وقفا حسنا على قرّاء وفقهاء. وغير ذلك. وكانت وفاتها في سادس عشر شوّال سنة ثلاث وثمانين وستمائة.
مدرسة ابن عرّام
هذه المدرسة بجوار جامع الأمير حسين بحكر جوهر النوبيّ من برّ الخليج الغربيّ خارج القاهرة، أنشأها الأمير صلاح الدين خليل بن عرّام، وكان من فضلاء الناس، تولى نيابة الإسكندرية وكتب تاريخا وشارك في علوم، فلما قتل الأمير بركة بسجن الإسكندرية ثارت مماليكه على الأمير الكبير برقوق حنقا لقتله، فأنكر الأمير برقوق قتله وبعث الأمير يونس النوروزيّ دواداره لكشف ذلك، فنبش عنه قبره فإذا فيه ضربات عدّة إحداهنّ في رأسه، فاتهم ابن عرّام بقتله من غير إذن له في ذلك، فأخرج بركة من قبره وكان بثيابه من غير غسل ولا كفن، وغسله وكفنه، وأحضر ابن عرّام معه فسجن بخزانة شمائل داخل باب زويلة من القاهرة، ثم عصر وأخرج يوم الخميس خامس عشر رجب سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة، من خزانة شمائل، وأمر به فسمّر عريان بعد ما ضرب عند باب القلة بالمقارع ستة وثمانين بحضرة الأمير قطلودمر الخازندار، والأمير مامور حاجب الحجاب، فلما أنزل من القلعة وهو مسمر على الجمل أنشد:
لك قلبي بحلّه فدمي لم تحلّه ... لك من قلبي المكان فلم لا تحلّه
قال إن كنت مالكا فلي الأمر كلّه
وما هو إلّا أن وقف بسوق الخيل تحت القلعة وإذا بمماليك بركة قد أكبت عليه تضربه بسيوفها حتى تقطع قطعا وحز رأسه، وعلّق على باب زويلة وتلاعبت أيديهم، فأخذوا حد أذنه، وأخذوا حد رجله، واشترى آخر قطعة من لحمه ولاكها، ثم جمع ما وجد منه ودفن بمدرسته هذه. فقال في ذلك صاحبنا الأديب شهاب الدين أحمد بن العطار:
بدت أجزاء عرّام خليل ... مقطعة من الضرب الثقيل
وأبدت أبحر الشعر المراثي ... محرّرة بتقطيع الخليل
المدرسة المحمودية
هذه المدرسة بخط الموازنيين خارج باب زويلة تجاه دار القردمية، يشبه أن موضعها كان في القديم من جملة الحارة التي كانت تعرف بالمنصورية، أنشأها الأمير جمال الدين(4/250)
محمود بن عليّ الأستادار في سنة سبع وتسعين وسبعمائة، ورتب بها درسا، وعمل فيها خزانة كتب لا يعرف اليوم بديار مصر ولا الشام مثلها، وهي باقية إلى اليوم لا يخرج لأحد منها كتاب إلّا أن يكون في المدرسة، وبهذه الخزانة كتب الإسلام من كلّ فنّ، وهذه المدرسة من أحسن مدارس مصر.
محمود بن عليّ بن أصفر، عينه الأمير جمال الدين الأستادار ولي شدّ باب رشيد بالإسكندرية مدّة، وكانت واقعة الفرنج بها في سنة سبع وستين وسبعمائة، وهو مشدّ، فيقال إنّ ماله الذي وجد له حصله يومئذ، ثم إنه سار إلى القاهرة فلما كانت أيام الظاهر برقوق خدم أستادارا عند الأمير سودون باق، ثم استقرّ شادّ الدواوين إلى أن مات الأمير بهادر المنجكيّ أستادار السلطان، فاستقرّ عوضا عنه في وظيفة الأستادارية يوم الثلاثاء ثالث جمادى الآخرة سنة تسعين وسبعمائة، ثم خلع عليه في يوم الخميس خامسة، واستقرّ مشير الدولة، فصار يتحدّث في دواوين السلطنة الثلاثة، وهي الديوان المفرد الذي يتحدّث فيه الأستادار، وديوان الوزارة ويعرف بالدولة، وديوان الخاص المتعلق بنظر الخواص، وعظم أمره ونفذت كلمته لتصرّفه في سائر أمور المملكة. فلما زالت دولة الملك الظاهر برقوق بحضور الأمير يلبغا الناصريّ نائب حلب، في يوم الاثنين خامس جمادى الآخرة سنة إحدى وتسعين وسبعمائة بعساكر الشام إلى القاهرة، واختفى الظاهر ثم أمسكه، هرب هو وولده، فنهبت دوره، ثم إنه ظهر من الاستتار في يوم الخميس ثامن جمادى الآخرة، وقدّم للأمير يلبغا الناصريّ مالا كثيرا فقبض عليه وقيده وسجنه بقلعة الجبل وأقيم بدله في الأستادارية الأمير علاء الدين أقبغا الجوهريّ. فلما زالت دولة يلبغا الناصريّ بقيام الأمير منطاش عليه، قبض على أقبغا الجوهريّ فيمن قبض عليه من الأمراء، وأفرج عن الأمير محمود في يوم الاثنين ثامن شهر رمضان، وألبسه قباء مطرّزا بذهب وأنزله إلى داره، ثم قبض عليه وسجن بخزانة الخاص في يوم الأحد سادس عشر ذي الحجة في عدّة من الأمراء والمماليك، عند عزم منطاش على السفر لحرب برقوق عند خروجه من الكرك ومسيره إلى دمشق، فكانت جملة ما حمله الأمير محمود من الذهب العين للأمير يلبغا الناصريّ وللأمير منطاش ثمانية وخمسين قنطارا من الذهب المصريّ، منها ثمانية عشر قطنارا في ليلة واحدة، فلم يزل في الاعتقال إلى أن خرج المماليك مع الأمير بوطا في ليلة الخميس ثاني صفر سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة، فخرج معهم وأقام بمنزله إلى أن عاد الملك الظاهر برقوق إلى المملكة في رابع عشر صفر، فخلع عليه واستقرّ أستادار السلطان على عادته في يوم الاثنين تاسع عشري جمادى الأولى من السنة المذكورة، عوضا عن الأمير قرقماس الطشتمريّ بعد وفاته، ثم خلع على ولده الأمير ناصر الدين محمد بن محمود في يوم الخميس ثاني عشري صفر سنة أربع وتسعين وسبعمائة، واستقرّ نائب السلطنة بثغر الإسكندرية عوضا عن الأمير ألطنبغا المعلم، فقويت حرمة الأمير محمود ونفذت كلمته إلى يوم الاثنين حادي عشر رجب من(4/251)
السنة المذكورة، فثار عليه المماليك السلطانية بسبب تأخر كسوتهم، ورموه من أعلى القلعة بالحجارة وأحاطوا به وضربوه يريدون قتله، لولا أن شاء الله أغاثه بوصول الخبر إلى الأمير الكبير ايتمش، وكان يسكن قريبا من القلعة، فركب بنفسه وساق حتى أدركه وفرّق عنه المماليك، وسار به إلى منزله حتى سكنت الفتنة، ثم شيعه إلى داره. فكانت هذه الواقعة مبدأ انحلال أمره، فإن السلطان صرفه عن الأستادارية وولى الأمير الوزير ركن الدين عمر بن قايماز في يوم الخميس رابع عشرة، وخلع على الأمير محمود قباء بطرز ذهب، واستقرّ على أمرته، ثم صرف ابن قايماز عن الأستادارية وأعيد محمود في يوم الاثنين خامس عشر رمضان، وأنعم على ابن قايماز بإمرة طلبخاناه، فجدّد بثغر الإسكندرية دار ضرب عمل فيها فلوس ناقصة الوزن، ومن حينئذ اختل حال الفلوس بديار مصر. ثم لما خرج الملك الظاهر إلى البلاد الشامية في سنة ست وتسعين، سار في ركابه، ثم حضر إلى القاهرة في يوم الأربعاء سابع صفر سنة سبع وتسعين وسبعمائة قبل حضور السلطان، وكان دخوله يوما مشهودا، فلما عاد السلطان إلى قلعة الجبل حدث منه تغير على الأمير محمود في يوم السبت ثالث عشري ربيع الأوّل، وهمّ بالإيقاع به، فلما صار إلى داره بعث إليه الأمير علاء الدين عليّ بن الطبلاويّ يطلب منه خمسمائة ألف دينار، وإن توقف يحيط به ويضربه بالمقارع، فنزل إليه وقرّر الحال على مائة وخمسين ألف دينار، فطلع على العادة إلى القلعة في يوم الاثنين خامس عشريه، فسبه المماليك السلطانية ورجموه، ثم إن السلطان غضب عليه وضربه في يوم الاثنين ثالث ربيع الآخر بسبب تأخر النفقة، وأخذ أمره ينحل، فولى السلطان الأمير صلاح الدين محمد ابن الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير تنكز أستادارية الأملاك السلطانية، في يوم الاثنين خامس رجب، وولى علاء الدين عليّ بن الطبلاويّ في رمضان التحدّث في دار الضرب بالقاهرة والإسكندرية، والتحدّث في المتجر السلطانيّ، فوقع بينه وبين الأمير محمود كلام كثير ورافعه ابن الطبلاويّ بحضرة السلطان، وخرّج عليه من دار الضرب ستة آلاف درهم فضة، فألزم السلطان محمودا بحمل مائة وخمسين ألف دينار، فحملها وخلع عليه عند تكميله حملها في يوم الأحد تاسع عشري رمضان، وخلع أيضا على ولده الأمير ناصر الدين، وعلى كاتبه سعد الدين إبراهيم بن غراب الإسكندرانيّ، وعلى الأمير علاء الدين عليّ بن الطبلاويّ، ثم إن محمود أوعك بدنه فنزل إليه السلطان في يوم الاثنين ثالث عشر ذي القعدة يعوده، فقدّم له عدّة تقادم قبل بعضها وردّ بعضها، وتحدّث الناس أنه استقلها. فلما كان يوم السبت سادس صفر سنة ثمان وتسعين بعث السلطان إلى الأمير محمود الطواشي شاهين الحسني فأخذ زوجتيه وكاتبه سعد الدين إبراهيم بن غراب، وأخذ مالا وقماشا على حمالين وصار بهما إلى القلعة، هذا ومحمود مريض لازم الفراش، ثم عاد من يومه وأخذ الأمير ناصر الدين محمد بن محمود وحمله إلى القلعة، ثم نزل ابن غراب ومعه الأمير الي باي الخازندار في يوم الأحد سابعه، وأخذا من ذخيرة بدار محمود خمسين ألف دينار، وفي يوم الخميس حادي عشرة صرف محمود عن الأستادارية واستقرّ عوضه(4/252)
الأمير سيف الدين قطلوبك العلائيّ أستادار الأمير الكبير ايتمش، وقرّر سعد الدين بن غراب ناظر الديوان المفرد، فاجتمع مع ابن الطبلاويّ على عداوة محمود والسعي في إهلاكه، وسلّم ابن محمود إلى ابن الطبلاويّ في تاسع عشر ربيع الأوّل ليستخلص منه مائة ألف دينار، ونزل الطواشي صندل المنجكيّ، والطواشي شاهين الحسنيّ في ثالث عشرية، ومعهما ابن الطبلاويّ، فأخذا من خربة خلف مدرسة محمود زيرين كبيرين وخمسة أزيار صغارا وجد فيها ألف ألف درهم فضة، فحملت إلى القلعة، ووجد أيضا بهذه الخربة جرّتان في إحداهما ستة آلاف دينار وفي الأخرى أربعة آلاف درهم فضة وخمسمائة درهم، وقبض على مباشري محمود ومباشري ولده، وعوقب محمود، ثم أوقعت الحوطة على موجود محمود في يوم الخميس سابع جمادى الأولى، ورسم عليه ابن الطبلاويّ في داره، وأخذ مماليكه وأتباعه، ولم يدع عنده غير ثلاث مماليك صغار، وظهرت أموال محمود شيئا بعد شيء، ثم سلّم إلى الأمير فرج شادّ الدواوين في خامس جمادى الآخرة فنقله إلى داره وعاقبه وعصره في ليلته، ثم نقل في شعبان إلى دار ابن الطبلاويّ فضربه وسعطه وعصره، فلم يعترف بشيء، وحكى عنه أنه قال لو عرفت أني أعاقب ما اعترفت بشيء من المال، وظهر منه في هذه المحنة ثبات وجلد وصبر مع قوّة نفس وعدم خضوع، حتى أنه كان يسب ابن الطبلاويّ إذا دخل إليه ولا يرفع له قدرا، ثم إن السلطان استدعاه إلى ما بين يديه يوم السبت أوّل صفر سنة تسع وتسعين، وحضر سعد الدين بن غراب فشافهه بكل سوء ورافعه في وجهه حتى استغضب السلطان على محمود، وأمر بمعاقبته حتى يموت، فأنزل إلى بيت الأمير حسام الدين حسين ابن أخت الفرس شادّ الدواوين، وكان أستادار محمود، فلم يزل عنده في العقوبة إلى أن نقل من داره إلى خزانة شمائل في ليلة الجمعة ثالث جمادى الأولى وهو مريض، فمات بها في ليلة الأحد تاسع رجب سنة تسع وتسعين وسبعمائة، ودفن من الغد بمدرسته وقد أناف على الستين سنة، وكان كثير الصلاة والعبادة مواظبا على قيام الليل، إلّا أنه كان شحيحا مسيكا شرها في الأموال، رمى الناس منه في رماية البضائع بداوه إذا نسبت إلى ما حدث من بعده، كانت عافية ونعمة، وأكثر من ضرب الفلوس بديار مصر حتى فسد بكثرتها حال إقليم مصر، وكان جملة ما حمل من ماله بعد نكبته هذه مائة قنطار ذهبا وأربعين قنطارا، عنها ألف ألف دينار وأربعمائة ألف دينار عينا، وألف ألف درهم فضة، وأخذ له من البضائع والغلال والقنود والأعسال ما قيمته ألف ألف درهم وأكثر.
المدرسة المهذبية
هذه المدرسة بحارة حلب خارج القاهرة عند حمام قماريّ، بناها الحكيم مهذب الدين محمد بن أبي الوحش المعروف بابن أبي حليقة، تصغير حلقة، رئيس الأطباء بديار مصر، ولي رياسة الأطباء في حادي عشر رمضان سنة أربع وثمانين وستمائة، واستقرّ مدرّس الطب بالمارستان المنصوريّ.(4/253)
المدرسة السعدية
هذه المدرسة خارج القاهرة بقرب حدرة البقر على الشارع المسلوك فيه من حوض ابن هنس إلى الصليبة، وهي فيما بين قلعة الجبل وبركة الفيل، كان موضعها يعرف بخط بستان سيف الإسلام، وهي الآن في ظهر بيت قوصون المقابل لباب السلسلة من قلعة الجبل، بناها الأمير شمس الدين سنقر السعديّ نقيب المماليك السلطانية، في سنة خمس عشرة وسبعمائة، وبنى بها أيضا رباطا للنساء، وكان شديد الرغبة في العمائر محبا للزراعة، كثير المال ظاهر الغنى، وهو الذي عمر القرية التي تعرف اليوم بالنحريرية من أعمال الغربية، وكان إقطاعه، ثم إنه أخرج من مصر بسبب نزاع وقع بينه وبين الأمير قوصون في أرض أخذها منه، فسار إلى طرابلس وبها مات في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة.
المدرسة الطفجية
هذه المدرسة بخط حدرة البقر أيضا، أنشأها الأمير سيف الدين طفجي الأشرفيّ، ولها وقف جيد.
طفجي: الأمير سيف الدين، كان من جملة مماليك الملك الأشرف خليل بن قلاون، ترقّى في خدمته حتى صار من جملة أمراء ديار مصر، فلما قتل الملك الأشرف قام طفجي في المماليك الأشرفية وحارب الأمير بيدرا المتولي لقتل الأشرف حتى أخذه وقتله، فلما أقيم الملك الناصر محمد بن قلاون في المملكة بعد قتل بيدرا، صار طفجي من أكابر الأمراء، واستمرّ على ذلك بعد خلع الملك الناصر بكتبغا مدّة أيامه إلى أن خلع الملك العادل كتبغا وقام في سلطنة مصر الملك المنصور لاجين، وولى مملوكه الأمير سيف الدين منكوتمر نيابة السلطنة بديار مصر، فأخذ يواحش أمراء الدولة بسوء تصرّفه، واتفق أن طفجي حج في سنة سبع وتسعين وستمائة، فقرّر منكوتمر مع المنصور أنه إذا قدم من الحج يخرجه إلى طرابلس ويقبض على أخيه الأمير سيف الدين كرجي، فعندما قدم طفجي من الحجاز في صفر سنة ثمان وتسعين وستمائة، رسم له بنيابة طرابلس، فثقل عليه ذلك وسعى بإخوته الأشرفية حتى أعفاه السلطان من السفر، فسخط منكوتمر وأبى الإسفر طفجي وبعث إليه يلزمه بالسفر، وكان لاجين منقادا لمنكوتمر لا يخالفه في شيء، فتواعد طفجي وكرجي مع جماعة من المماليك وقتلوا لاجين، وتولى قتله كرجي، وخرج فإذا طفجي في انتظاره على باب القلة من قلعة الجبل، فسرّ بذلك وأمر بإحضار من بالقلعة من الأمراء، وكانوا حينئذ يبيتون بالقلعة دائما، وقتل منكوتمر في تلك الليلة وعزم على أنه يتسلطن ويقيم كرجي في نيابة السلطنة، فخذله الأمراء. وكان الأمير بدر الدين بكتاش الفخريّ أمير سلاح قد خرج في غزاة وقرب حضوره، فاستمهلوه بما يريد إلى أن يحضر، فأخر سلطنته وبقي(4/254)
الأمراء في كل يوم يحضرون معه في باب القلة، ويجلس في مجلس النيابة والأمراء عن يمينه وشماله، ويمدّ سماط السلطان بين يديه، فلما حضر أمير سلاح بمن معه من الأمراء، نزل طفجي والأمراء إلى لقائهم بعد ما امتنع امتناعا كثيرا، وترك كرجي يحفظ القلعة بمن معه من المماليك الأشرفية، وقد نوى طفجي الشرّ للأمراء الذين قد خرج إلى لقائهم، وعرف ذلك الأمراء المقيمون عنده في القلعة، فاستعدّوا له. وسار هو والأمراء إلى أن لقوا الأمير بكتاش ومعه من الأشرفية أربعمائة فارس تحفظه حتى يعود من اللقاء إلى القلعة، فعندما وافاه بقبة النصر وتعانقا أعلمه بقتل السلطان، فشقّ عليه، وللوقت جرّد الأمراء سيوفهم وارتفعت الضجة، فساق طفجي من الحلقة والأمراء وراءه إلى أن أدركه قراقوش الظاهريّ وضربه بسيف ألقاه عن فرسه إلى الأرض ميتا، ففرّ كرجي، ثم أخذ وقتل وحمل طفجي في مزبلة من مزابل الحمّامات على حمار إلى مدرسته هذه فدفن بها، وقبره هناك إلى اليوم.
وكان قتله في يوم الخميس سادس عشر ربيع الأوّل سنة ثمان وتسعين وستمائة، بعد خمسة أيام من قتل لاجين ومنكوتمر.
المدرسة الجاولية
هذه المدرسة بجوار الكبش، فيما بين القاهرة ومصر، أنشأها الأمير علم الدين سنجر الجاوليّ في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة، وعمل بها درسا وصوفية، ولها إلى هذه الأيام عدّة أوقاف.
سنجر بن عبد الله الأمير علم الدين الجاوليّ، كان مملوك جاولي أحد أمراء الملك الظاهر بيبرس، وانتقل بعد موت الأمير جاولي إلى بيت قلاون، وخرج في أيام الأشرف خليل بن قلاون إلى الكرك، واستقرّ في جملة البحرية بها إلى أيام العادل كتبغا، فحضر من عند نائب الكرك ومعه حوائجخاناه، فرفعه كتبغا وأقامه على الخوشخاناه السلطانية، وصحب الأمير سلار وواخاه فتقدّم في الخدمة، وبقي أستادارا صغيرا في أيام بيبرس وسلار، فصار يدخل على السلطان الملك الناصر ويخرج ويراعي مصالحه في أمر الطعام ويتقرّب إليه، فلما حضر من الكرك جهزه إلى غزة نائبا في جمادى الأولى سنة إحدى عشرة وسبعمائة، عوضا عن الأمير سيف الدين قطلوا أقتمر عبد الخالق بعد إمساكه، وأضاف إليه مع غزة الساحل والقدس وبلد الخليل وجبل نابلس، وأعطاه إقطاعا كبيرا بحيث كان للواحد من مماليكه إقطاع يعمل عشرين ألفا وخمسة وعشرين ألفا، وعمل نيابة غزة على القالب الجائر إلى أن وقعت بينه وبين الأمير تنكز نائب الشام بسبب دار كانت له تجاه جامع تنكز خارج دمشق من شمالها، أراد تنكز أن يبتاعها منه فأبى عليه، فكتب فيه إلى الملك الناصر محمد بن قلاون فأمسكه في ثامن عشري شعبان سنة عشرين وسبعمائة، واعتقله نحوا من ثمان سنين، ثم أفرج عنه في سنة تسع وعشرين، وأعطاه أمرة أربعين، ثم بعد مدّة أعطاه(4/255)
أمرة مائة وقدّمه على ألف وجعله من أمراء المشورة، فلم يزل على هذا إلى أن مات الملك الناصر، فتولى غسله ودفنه. فلما ولي الملك الصالح إسماعيل بن محمد بن قلاون سلطنة مصر أخرجه إلى نيابة حماه، فأقام بها مدّة ثلاثة أشهر ثم نقله إلى نيابة غزة، فحضر إليها وأقام بها نحو ثلاثة أشهر أيضا، ثم أحضره إلى القاهرة وقرّره على ما كان عليه، وولى نظر المارستان بعد نائب الكرك عند ما أخرج إلى نيابة طرابلس، ثم توجه لحصار الناصر أحمد بن محمد بن قلاون وهو ممتنع في الكرك، فأشرف عليه في بعض الأيام الناصر أحمد من قلعة الكرك وسبه وشيخه، فقال له الجاوليّ: نعم أنا شيخ نحس، ولكن الساعة ترى حالك مع الشيخ النحس، ونقل المنجنيق إلى مكان يعرفه ورمى به فلم يخطئ القلعة وهدم منها جانبا، وطلع بالعسكر وأمسك أحمد وذبحه صبرا. وبعث برأسه إلى الصالح إسماعيل، وعاد إلى مصر فلم يزل على حاله إلى أن مات في منزله بالكبش يوم الخميس تاسع رمضان سنة خمس وأربعين وسبعمائة، ودفن بمدرسته، وكانت جنازته حافلة إلى الغاية.
قد سمع الحديث وروى وصنف شرحا كبيرا على مسند الشافعيّ رحمه الله، وأفتى في آخر عمره على مذهب الشافعيّ، وكتب خطه على فتاوى عديدة، وكان خبيرا بالأمور، عارفا بسياسة الملك، كفوا لما وليه من النيابات وغيرها، لا يزال يذكر أصحابه في غيبتهم عنه ويكرمهم إذا حضروا عنده، وانتفع به جماعة من الكتاب والعلماء والأكابر، وله من الآثار الجميلة الفاضلة جامع بمدينة غزة في غاية الحسن، وله بها أيضا حمّام مليح، ومدرسة للفقهاء الشافعية، وخان للسبيل، وهو الذي مدّن غزة وبنى بها أيضا مارستانا، ووقف عليه عن الملك الناصر أوقافا جليلة، وجعل نظره لنواب غزة وعمر بها أيضا الميدان والقصر، وبنى ببلد الخليل عليه السّلام جامعا سقفه منه حجر نقر، وعمل الخان العظيم بقاقون، والخان بقرية الكثيب، والقناطر بغابة أرسوف، وخان رسلان في حمراء بيسان، ودارا بالقرب من باب النصر داخل القاهرة، ودارا بجوار مدرسته على الكبش، وسائر عمائره ظريفة أنيقة محكمة متقنة مليحة، وكان ينتمي إلى الأمير سلار ويجل ذكره.
المدرسة الفارقانية
هذه المدرسة خارج باب زويلة من القاهرة، فيما بين حدرة البقر وصليبة جامع ابن طولون، وهي الآن بجوار حمّام الفارقانيّ تجاه البندقدارية، بناها والحمام المجاور لها الأمير ركن الدين بيبرس الفارقانيّ، وهو غير الفارقانيّ المنسوب إليه المدرسة الفارقانية بحارة الوزيرية من القاهرة.
المدرسة البشيرية
هذه المدرسة خارج القاهرة بحكر الخازن المطل على بركة الفيل، كان موضعها(4/256)
مسجدا يعرف بمسجد سنقر السعديّ الذي بنى المدرسة السعدية، فهدمه الأمير الطواشي سعد الدين بشير الجمدار الناصريّ، وبنى موضعه هذه المدرسة في سنة إحدى وستين وسبعمائة، وجعل بها خزانة كتب، وهي من المدارس اللطيفة.
المدرسة المهمندارية
هذه المدرسة خارج باب زويلة فيما بين جامع الصالح وقلعة الجبل، يعرف خطها اليوم بخط جامع الماردانيّ خارج الدرب الأحمر، وهي تجاه مصلّى الأموات على يمنة من سلك من الدرب الأحمر طالبا جامع الماردانيّ، ولها باب آخر في حارة اليانسية بناها الأمير شهاب الدين أحمد بن أقوش العزيزيّ المهمندار، ونقيب الجيوش في سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وجعلها مدرسة وخانقاه، وجعل طلبة درسها من الفقهاء الحنفية، وبنى إلى جانبها القيسارية والربع الموجودين الآن.
مدرسة ألجاي
هذه المدرسة خارج باب زويلة بالقرب من قلعة الجبل، كان موضعها وما حولها مقبرة، ويعرف الآن خطها بخط سويقة العزي، أنشأها الأمير الكبير سيف الدين الجاي في سنة ثمان وستين وسبعمائة، وجعل بها درسا للفقهاء الشافعية، ودرسا للفقهاء الحنفية، وخزانة كتب، وأقام بها منبرا يخطب عليه يوم الجمعة، وهي من المدارس المعتبرة الجليلة، ودرّس بها شيخنا جلال الدين البنانيّ الحنفيّ، وكانت سكنه.
ألجاي بن عبد الله اليوسفيّ الأمير سيف الدين، تنقل في الخدم حتى صار من جملة الأمراء بديار مصر، فلما أقام الأمير الأستدمر الناصريّ بأمر الدولة بعد قتل الأمير يلبغا الخاصكي العمريّ، في شوّال سنة ثمان وستين وسبعمائة، قبض على الجاي في عدّة من الأمراء وقيدهم وبعث بهم إلى الإسكندرية، فسجنوا إلى عاشر صفر سنة تسع وستين، فأفرج الملك الأشرف شعبان بن حسين عنه وأعطاه أمرة مائة، وتقدمة ألف، وجعله أمير سلاح برّاني، ثم جعله أمير سلاح أتابك العساكر، وناظر المارستان المنصوريّ عوضا عن الأمير منكلي بغا الشمسيّ، في سنة أربع وسبعين وسبعمائة، وتزوّج بخوند بركة أم السلطان الملك الأشرف، فعظم قدره واشتهر ذكره، وتحكم في الدولة تحكما زائدا إلى يوم الثلاثاء سادس المحرّم سنة خمس وسبعين وسبعمائة، فركب يريد محاربة السلطان بسبب طلبه ميراث أمّ السلطان بعد موتها، فركب السلطان وأمراؤه وبات الفريقان ليلة الأربعاء على الاستعداد للقتال إلى بكرة نهار الأربعاء تواقع الجاي مع أمراء السلطان إحدى عشرة وقعة انكسر في آخرها الجاي وفرّ إلى جهة بركة الحبش، وصعد من الجبل من عند الجبل الأحمر إلى قبة النصر ووقف هناك، فاشتدّ على السلطان فبعث إليه خلعة بنيابة حماه، فقال لا أتوجه إلّا(4/257)
ومعي مماليكي كلهم وجميع أموالي، فلم يوافقه السلطان على ذلك، وبات الفريقان على الحرب، فانسلّ أكثر مماليك الجاي في الليل إلى السلطان، وعند ما طلع النهار يوم الخميس بعث السلطان عساكره لمحاربة الجاي بقبة النصر، فلم يقاتلهم وولى منهزما والطلب وراءه إلى ناحية الخرقانية بشاطئ النيل، قريبا من قليوب، فتحير وقد أدركه العسكر، فألقى نفسه بفرسه في البحر يريد النجاة إلى البرّ الغربيّ فغرق بفرسه. ثم خلص الفرس وهلك الجاي، فوقع النداء بالقاهرة وظواهرها على إحضار مماليكه، فأمسك منهم جماعة وبعث السلطان الغطاسين إلى البحر تتطلبه فتبعوه حتى أخرجوه إلى البرّ في يوم الجمعة تاسع المحرّم سنة خمس وسبعين وسبعمائة، فحمل في تابوت على لباد أحمر إلى مدرسته هذه وغسل وكفن ودفن بها، وكان مهابا جبارا عسوفا عتيا، تحدّث في الأوقاف فشدّد على الفقهاء وأهان جماعة منهم، وكان معروفا بالإقدام والشجاعة.
مدرسة أمّ السلطان
هذه المدرسة خارج باب زويلة بالقرب من قلعة الجبل، يعرف خطها الآن بالتبانة، وموضعها كان قديما مقبرة لأهل القاهرة، أنشأتها الست الجليلة الكبرى بركة أمّ السلطان الملك الأشرف شعبان بن حسين في سنة إحدى وسبعين وسبعمائة، وعملت بها درسا للشافعية، ودرسا للحنفية، وعلى بابها حوض ماء للسبيل. وهي من المدارس الجليلة، وفيها دفن ابنها الملك الأشرف بعد قتله.
بركة: الست الجليلة خوند أمّ الملك الأشرف شعبان بن حسين، كانت أمة مولدة، فلما أقيم ابنها في مملكة مصر عظم شأنها وحجت في سنة سبعين وسبعمائة بتجمل كثير وبرج زائد، وعلى محفتها العصائب السلطانية والكؤسات تدق معها، وسار في خدمتها من الأمراء المقدّمين: بشتاك العمريّ رأس نوبة، وبهادر الجماليّ، ومائة مملوك من المماليك السلطانية أرباب الوظائف، ومن جملة ما كان معها قطار جمال محملة محائر قد زرع فيها البقل والخضراوات إلى غير ذلك مما يجل وصفه، فلما عادت في سنة إحدى وسبعين وسبعمائة خرج السلطان بعساكره إلى لقائها، وسار إلى البويب في سادس عشر المحرّم، وتزوّجت بالأمير الكبير الجاي اليوسفيّ، وبها طال واستطال، ماتت في ثامن عشر ذي القعدة سنة أربع وسبعين وسبعمائة، وكانت خيرة عفيفة لها برّ كثير ومعروف معروف، تحدّث الناس بحجتها عدّة سنين لما كان لها من الأفعال الجميلة في تلك المشاهد الكريمة، وكان لها اعتقاد في أهل الخير ومحبة في الصالحين، وقبرها موجود بقبة هذه المدرسة، وأسف السلطان على فقدها، ووجد وجدا كبيرا لكثرة حبه لها، واتفق أنها لما ماتت أنشد الأديب شهاب الدين أحمد بن يحيى الأعرج السعدي:
في ثامن العشرين من ذي قعدة ... كانت صبيحة موت أمّ الأشرف(4/258)
فالله يرحمها ويعظم أجره ... ويكون في عاشور موت اليوسفيّ
فكان كما قال؛ وغرق الجاي اليوسفيّ كما تقدّم ذكره في يوم عاشوراء.
المدرسة الأيتمشية
هذه المدرسة خارج القاهرة داخل باب الوزير تحت قلعة الجبل برأس التبانة، أنشأها الأمير الكبير سيف الدين ايتمش البجاسيّ، ثم الظاهريّ في سنة خمس وثمانين وسبعمائة، وجعل بها درس فقه للحنفية، وبنى بجانبها فندقا كبيرا يعلوه ربع، ومن ورائها خارج باب الوزير حوض ماء للسبيل وربعا، وهي مدرسة ظريفة.
ايتمش بن عبد الله الأمير الكبير سيف الدين البجاسيّ ثم الظاهريّ، كان أحد المماليك اليلبغاوية.
المدرسة المجدية الخليلية
هذه المدرسة بمصر، يعرف موضعها بدرب البلاد، عمرها الشيخ الإمام مجد الدين أبو محمد عبد العزيز بن الشيخ الإمام أمين الدين أبي عليّ الحسين بن الحسن بن إبراهيم الخليليّ الداريّ، فتمت في شهر ذي الحجة سنة ثلاث وستين وستمائة، وقرّر فيها مدرّسا شافعيا ومعيدين وعشرين نفرا طلبة، وإماما راتبا، ومؤذنا، وقيما لكنسها وفرشها ووقود مصابيحها. وإدارة ساقيتها، وأجرى الماء إلى فسقيتها، ووقف عليها غيطا بناحية بارنبار من أعمال المزاحميتين، وبستانا بمحلة الأمير من المزاحميتين بالغربية، وغيطا بناحية نطوبس، وربع غيط بظاهر ثغر رشيد، وبستانا ونصف بستان بناحية بلقس، ورباعا بمدينة مصر.
ومجد الدين هذا هو والد الصاحب الوزير فخر الدين عمر بن الخليليّ، ودرّس بهذه المدرسة الصاحب فخر الدين إلى حين وفاته، وتوفي مجد الدين بدمشق في ثالث عشر ربيع الآخر سنة ثمانين وستمائة، وكان مشهورا بالصلاح.
المدرسة الناصرية بالقرافة
هذه المدرسة بجوار قبة الإمام محمد بن إدريس الشافعيّ رضي الله عنه من قرافة مصر، أنشأها السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، ورتب بها مدرّسا يدرّس الفقه على مذهب الشافعيّ، وجعل له في كل شهر من المعلوم عن التدريس أربعين دينارا، معاملة صرف كل دينار ثلاثة عشر درهما وثلث درهم، وعن معلوم النظر في أوقاف المدرسة عشرة دنانير، ورتب له من الخبز في كل يوم ستين رطلا بالمصريّ، وراويتين من ماء النيل، وجعل فيها معيدين وعدّة من الطلبة، ووقف عليها حمّاما بجوارها، وفرنا تجاهها، وحوانيت بظاهرها، والجزيرة التي يقال لها جزيرة الفيل ببحر النيل خارج القاهرة،(4/259)
وولى تدريسها جماعة من الأكابر الأعيان، ثم خلت من مدرّس ثلاثين سنة، واكتفى فيها بالمعيدين وهم عشرة أنفس، فلما كانت سنة ثمان وسبعين وستمائة ولى تدريسها قاضي القضاة تقيّ الدين محمد بن رزين الحمويّ بعد عزله من وظيفة القضاء، وقرّر له نصف المعلوم. فلما مات وليها الشيخ تقيّ الدين بن دقيق العيد بربع المعلوم، فلما ولي الصاحب برهان الدين الخضر السنجاريّ التدريس قرّر له المعلوم الشاهد به كتاب الوقف.
المدرسة المسلمية
هذه المدرسة بمدينة مصر في خط السيوريين، أنشأها كبير التجار ناصر الدين محمد بن مسلّم- بضم الميم وفتح السين المهملة وتشديد اللام- البالسيّ الأصل ابن بنت كبير التجار شمس الدين محمد بن بسير- بفتح الباء أوّل الحروف وكسر السين المهملة ثم ياء آخر الحروف بعدها راء- ومات في سنة ست وسبعين وسبعمائة، قبل أن تتمّ. فوصى بتكملتها وأفرد لها مالا ووقف عليها دورا وأرضا بناحية قليوب، وشرط أن يكون فيها مدرس مالكيّ ومدرّس شافعيّ ومؤدّب أطفال وغير ذلك، فكملها مولاه ووصيه الكبير كافور الخصيّ الروميّ بعد وفاة استاذه، وهي الآن عامرة، وبلغ ابن مسلَّم هذا من وفور المال وعظم السعادة ما لم يبلغه أحد ممن أدركناه، بحيث أنه جاء نصيب أحد أولاده نحو مائتي ألف دينار مصرية، وكان كثير الصدقات على الفقراء، مقترا على نفسه إلى الغاية، وله أيضا مطهرة عظيمة بالقرب من جامع عمرو بن العاص، ونفعها كبير، وله أيضا دار جليلة على ساحل النيل بمصر، وكان أبوه تاجرا سفارا بعد ما كان حمالا، فصاهر ابن بسير ورزق محمدا هذا من ابنته، فنشأ على صيانة ورزق الحظ الوافر في التجارة وفي العبيد، فكان يبعث أحدهم بمال عظيم إلى الهند، ويبعث آخر بمثل ذلك إلى بلاد التكرور «1» ، ويبعث آخر إلى بلاد الحبشة، ويبعث عدّة آخرين إلى عدّة جهات من الأرض، فما منهم من يعود إلّا وقد تضاعفت فوائد ماله أضعافا مضاعفة.
مدرسة اينال
هذه المدرسة خارج باب زويلة بالقرب من باب حارة الهلالية بخط القماحين، كان موضعها في القديم من حقوق حارة المنصورة، أوصى بعمارتها الأمير الكبير سيف الدين اينال اليوسفيّ، أحد المماليك اليلبغاوية. فابتدأ بعملها في سنة أربع وتسعين، وفرغت في سنة خمس وتسعين وسبعمائة، ولم يعمل فيها سوى قرّاء يتناوبون قراءة القرآن على قبره، فإنه لما مات في يوم الأربعاء رابع عشر جمادى الآخرة سنة أربع وتسعين وسبعمائة دفن(4/260)
خارج باب النصر حتى انتهت عمارة هذه المدرسة، فنقل إليها ودفن فيها.
وإينال هذا ولي نيابة حلب وصار في آخر عمره أتابك العساكر بديار مصر حتى مات، وكانت جنازته كثيرة الجمع مشى فيها السلطان الملك الظاهر برقوق والعساكر.
مدرسة الأمير جمال الدين الأستادار
هذه المدرسة برحبة باب العيد من القاهرة، كان موضعها قيسارية يعلوها طباق كلها وقف، فأخذها وهدمها وابتدأ بشق الأساس في يوم السبت خامس جمادى الأولى سنة عشر وثمانمائة، وجمع لها الآلات من الأحجار والأخشاب والرخام وغير ذلك، وكان بمدرسة الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاون التي كانت بالصوة تجاه الطبلخاناه من قلعة الجبل، بقية من داخلها، فيها شبابيك من نحاس مكفت بالذهب والفضة وأبواب مصفحة بالنحاس البديع الصنعة المكفت، ومن المصاحف والكتب في الحديث والفقه وغيره من أنواع العلوم جملة، فاشترى ذلك من الملك الصالح المنصور حاجي بن الأشرف بمبلغ ستمائة دينار، وكانت قيمتها عشرات أمثال ذلك، ونقلها إلى داره. وكان مما فيها عشرة مصاحف طول كل مصحف منها أربعة أشبار إلى خمسة في عرض يقرب من ذلك، أحدها بخط ياقوت، وآخر بخط ابن البوّاب، وباقيها بخطوط منسوبة، ولها جلود في غاية الحسن معمولة في أكياس الحرير الأطلس، ومن الكتب النفيسة عشرة أحمال جميعها مكتوب في أوّله الإشهاد على الملك الأشرف بوقف ذلك، ومقرّه في مدرسته.
فلما كان يوم الخميس ثالث شهر رجب سنة إحدى عشرة وثمانمائة وقد انتهت عمارتها، جمع بها الأمير جمال الدين القضاة والأعيان، وأجلس الشيخ همام الدين محمد بن أحمد الخوارزميّ الشافعيّ على سجادة المشيخة وعمله شيخ التصوّف، ومدرّس الشافعية، ومدّ سماطا جليلا أكل عليه كلّ من حضر، وملأ البركة التي توسط المدرسة ماء قد أذيب فيه سكر مزج بماء الليمون، وكان يوما مشهودا، وقرّ في تدريس الحنفية بدر الدين محمود بن محمد المعروف بالشيخ زاده الخرزيانيّ، وفي تدريس المالكية شمس الدين محمد بن البساطيّ، وفي تدريس الحنابلة فتح الدين أبا الفتح محمد بن نجم الدين محمد بن الباهليّ، وفي تدريس الحديث النبويّ شهاب الدين أحمد بن عليّ بن حجر، وفي تدريس التفسير شيخ الإسلام قاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن بن البلقينيّ. فكان يجلس من ذكرنا واحدا بعد واحد في كل يوم إلى أن كان آخرهم شيخ التفسير، وكان مسك الختام، وما منهم إلّا من يحضر معه ويلبسه ما يليق به من الملابس الفاخرة، وقرّر عند كلّ من المدرّسين الستة طائفة من الطلبة، وأجرى لكل واحد ثلاثة أرطال من الخبز في كل يوم، وثلاثين درهما فلوسا في كل شهر، وجعل لكل مدرّس ثلاثمائة درهم في كل شهر، ورتب بها إماما وقومة ومؤذنين وفرّاشين ومباشرين، وأكثر من وقف الدور عليها، وجعل فائض(4/261)
وقفها مصروفا لذريته، فجاءت في أحسن هندام وأتم قالب وأفخر زيّ وأبدع نظام، إلّا أنها وما فيها من الآلات وما وقف عليها أخذ من الناس غصبا، وعمل فيها الصناع بأبخس أجرة مع العسف الشديد.
فلما قبض عليه السلطان وقتله في جمادى الأولى سنة اثنتي عشرة وثمانمائة، واستولى على أمواله، حسّن جماعة للسلطان أن يهدم هذه المدرسة ورغبوه في رخامها، فإنه غاية في الحسن، وأن يسترجع أوقافها، فإن متحصلها كثير. فمال إلى ذلك وعزم عليه. فكرّه ذلك للسلطان الرئيس فتح الدين فتح الله كاتب السرّ، واستشنع أن يهدم بيت بني على اسم الله يعلن فيه بالأذان خمس مرّات في اليوم والليلة، وتقام به الصلوات الخمس في جماعة عديدة، ويحضره في عصر كل يوم مائة وبضعة عشر رجلا يقرءون القرآن في وقت التصوّف، ويذكرون الله ويدعونه، وتتحلق به الفقهاء لدرس تفسير القرآن الكريم وتفسير حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفقه الأئمة الأربعة، ويعلّم فيه أيتام المسلمين كتاب الله عز وجلّ، ويجري على هؤلاء المذكورين الأرزاق في كل يوم، ومن المال في كل شهر، ورأى أن إزالة مثل هذا وصمة في الدين، فتجرّد له وما زال بالسلطان يرغّبه في إبقائها على أن يزال منها اسم جمال الدين وتنسب إليه، فإنه من الفتن هدم مثلها. ونحو ذلك، حتّى رجع إلى قوله وفوّض أمرها إليه، فدبر ذلك أحسن تدبير.
وهو أنّ موضع هذه المدرسة كان وقفا على بعض الترب، فاستبدل به جمال الدين أرضا من جملة أراضي الخراج بالجيزة، وحكم له قاضي القضاة كمال الدين عمر بن العديم بصحة الاستبدال، وهدم البناء وبنى موضعه هذه المدرسة، وتسلّم متولي موضعها الأرض المستبدل بها، إلى أن قتل جمال الدين وأحيط بأمواله، فدخل فيما أحيط به هذه الأرض المستبدل بها، وادّعى السلطان أن جمال الدين افتأت عليه في أخذ هذه الأرض، وأنه لم يأذن في بيعها من بيت المال، فأفتى حينئذ محمد شمس الدين المدنيّ المالكيّ بأن بناء هذه المدرسة الذي وقفه جمال الدين على الأرض التي لم يملكها بوجه صحيح لا يصح، وأنه باق على ملكه إلى حين موته، فندب عند ذلك شهود القيمة إلى تقويم بناء المدرسة، فقوّموها باثني عشر ألف دينار ذهبا، وأثبتوا محضر القيمة على بعض القضاة، فحمل المبلغ إلى أولاد جمال الدين حتى تسلموه وباعوا بناء المدرسة للسلطان، ثم استردّ السلطان منهم المبلغ المذكور وأشهد عليه أنه وقف أرض هذه المدرسة بعد ما استبدل بها، وحكم حاكم حنفيّ بصحة الاستبدال، ثم وقف البناء الذي اشتراه وحكم بصحته أيضا، ثم استدعى بكتاب وقف جمال الدين ولخصه، ثم مزقه وجدّد كتاب وقف يتضمن جميع ما قرّره جمال الدين في كتاب وقفه من أرباب الوظائف ومالهم من الخبز في كل يوم ومن المعلوم في كل شهر، وأبطل ما كان لأولاد جمال الدين من فائض الوقف، وأفرد لهذه المدرسة مما كان جمال الدين جعله وقفا عليها عدّة مواضع تقوم بكفاية مصروفها، وزاد في أوقافها أرضا بالجيزة،(4/262)
وجعل ما بقي من أوقاف جمال الدين على هذه المدرسة، بعضه وقفا على أولاده، وبعضه وقفا على التربة التي أنشأها في قبة أبيه الملك الظاهر برقوق خارج باب النصر، وحكم القضاة الأربعة بصحة هذا الكتاب بعد ما حكموا بصحة كتاب وقف جمال الدين، ثم حكموا ببطلانه، ثم لما تمّ ذلك محى من هذه المدرسة اسم جمال الدين ورنكه، وكتب اسم السلطان الملك الناصر فرج بدائر صحنها من أعلاه، وعلى قناديلها وبسطها وسقوفها، ثم نظر السلطان في كتبها العلمية الموقوفة بها فأقرّ منها جملة كتب بظاهر كل سفر منها فصل يتضمن وقف السلطان له، وحمل كثير من كتبها إلى قلعة الجبل، وصارت هذه المدرسة تعرف بالناصرية بعد ما كان يقال لها الجمالية.
ولم تزل على ذلك حتى قتل الناصر وقدم الأمير شيخ إلى القاهرة واستولى على أمور الدولة، فتوصل شمس الدين محمد أخو جمال الدين وزوّج ابنته لشرف الدين أبي بكر بن العجميّ موقع الأستادار الأمير شيخ، حتى أحضر قضاة القضاة وحكم الصدر عليّ بن الأدميّ قاضي القضاة الحنفيّ بردّ أوقاف جمال الدين إلى ورثته من غير استيفاء الشروط في الحكم بل تهوّر فيه وجازف. ولذلك أسباب منها: عناية الأمير شيخ بجمال الدين الأستادار، فإنه لما انتقل إليه إقطاع الأمير بحاس بعد موت الملك الظاهر برقوق، استقرّ جمال الدين استاداره كما كان أستادار بحاس، فخدمه خدمة بالغة، وخرج الأمير شيخ إلى بلاد الشام واستقرّ في نيابة طرابلس، ثم في نيابة الشام، وخدمة جمال الدين له ولحاشيته ومن يلوذ به مستمرّة، وأرسل مرّة الأمير شيخ من دمشق بصدر الدين بن الأدميّ المذكور في الرسالة إلى الملك الناصر وجمال الدين حينئذ عزيز مصر، فأنزله وأكرمه وأنعم عليه وولاه قضاء الحنفية وكتابة السرّ بدمشق، وأعاده إليه وما زال معتنيا بأمور الأمير شيخ، حتى أنه اتهم بأنه قد مالأه على السلطان، فقبض عليه السلطان الملك الناصر بسبب ذلك ونكبه، فلما قتل الناصر واستولى الأمير شيخ على الأمور بديار مصر، ولى قضاء الحنفية بديار مصر لصدر الدين عليّ بن الأدميّ المذكور، وولى أستاداره بدر الدين حسن بن محب الدين الطرابلسيّ أستادار السلطان، فخدم شرف الدين أبو بكر بن العجميّ زوج ابنة أخي جمال الدين عنده موقعا، وتمكن منه فأغراه بفتح الدين فتح الله كاتب السرّ حتى أثخن جراحه عند الملك المؤيد شيخ، ونكبه بعد ما تسلطن، واستعان أيضا بقاضي القضاة صدر الدين بن الأدميّ، فإنه كان عشيره وصديقه من أيام جمال الدين، ثم استمال ناصر الدين محمد بن البارزيّ موقع الأمير الكبير شيخ، فقام الثلاثة مع شمس الدين أخي جمال الدين حتى أعيد إلى مشيخة خانكاه بيبرس وغيرها من الوظائف التي أخذت منه، عند ما قبض عليه الملك الناصر وعاقبه، وتحدّثوا مع الأمير الكبير في ردّ أوقاف جمال الدين إلى أخيه وأولاده، فإن الناصر غصبها منهم وأخذ أموالهم وديارهم بظلمه إلى أن فقدوا القوت، ونحو هذا من القول حتى حرّكوا منه حقدا كامنا على الناصر، وعلموا منه عصبته لجمال الدين هذا، وغرض القوم في الباطن(4/263)
تأخير فتح الدين والإيقاع به، فإنه ثقل عليهم وجوده معهم، فأمر عند ذلك الأمير الكبير بعقد مجلس حضره قضاة القضاة والأمراء وأهل الدولة عنده بالحراقة من باب السلسلة، في يوم السبت تاسع عشري شهر رجب سنة خمس عشرة، وتقدّم أخو جمال الدين ليدّعي على فتح الدين فتح الله كاتب السرّ، وكان قد علم بذلك ووكل بدر الدين حسنا البردينيّ أحد نوّاب الشافعية في سماع الدعوى وردّ الأجوبة، فعند ما جلس البردينيّ للمحاكمة مع أخي جمال الدين، نهره الأمير الكبير وأقامه وأمر بأن يكون فتح الله هو الذي يدّعى عليه، فلم يجد بدّا من جلوسه، فما هو إلّا أن ادّعى عليه أخو جمال الدين بأنه وضع يده على مدرسة أخيه جمال الدين وأوقافه بغير طريق، فبادر قاضي القضاة صدر الدين عليّ بن الأدميّ الحنفيّ وحكم برفع يده وعود أوقاف جمال الدين ومدرسته إلى ما نص عليه جمال الدين، ونفذ بقية القضاة حكمه وانفضوا على ذلك، فاستولى أخو جمال الدين وصهره شرف الدين على حاصل كبير كان قد اجتمع بالمدرسة من فاضل ربعها ومن مال بعثه الملك الناصر إليها، وفرّقوه حتى كتبوا كتابا اخترعوه من عند أنفسهم جعلوه كتاب وقف المدرسة، زادوا فيه أن جمال الدين اشترط النظر على المدرسة لأخيه شمس الدين المذكور وذريته، إلى غير ذلك مما لفقوه بشهادة قوم استمالوهم فمالوا، ثم أثبتوا هذا الكتاب على قاضي القضاة صدر الدين بن الأدميّ، ونفذه بقية القضاة، فاستمرّ الأمر على هذا البهتان المختلق والإفك المفترى مدّة، ثم ثار بعض صوفية هذه المدرسة وأثبت محضرا بأن النظر لكاتب السرّ، فلما ثبت ذلك نزعت يد أخي جمال الدين عن التصرّف في المدرسة، وتولى نظرها ناصر الدين محمد بن البارزي كاتب السرّ، واستمر الأمر على هذا، فكانت قصة هذه المدرسة من أعجب ما سمه به في تناقض القضاة وحكمهم بإبطال ما صححوه، ثم حكمهم بتصحيح ما أبطلوه، كل ذلك ميلا مع الجاه وحرصا على بقاء رياستهم، ستكتب شهادتهم ويسألون.
المدرسة الصرغتمشية
هذه المدرسة خارج القاهرة بجوار جامع الأمير أبي العباس أحمد بن طولون، فيما بينه وبين قلعة الجبل، كان موضعها قديما من جملة قطائع ابن طولون، ثم صار عدّة مساكن، فأخذها الأمير سيف الدين صرغتمش الناصريّ رأس نوبة النوب وهدمها وابتدأ في بناء المدرسة يوم الخميس من شهر رمضان سنة ست وخمسين وسبعمائة، وانتهت في جمادى الأولى سنة سبع وخمسين، وقد جاءت من أبدع المباني وأجلها وأحسنها قالبا وأبهجها منظرا، فركب الأمير صرغتمش في يوم الثلاثاء تاسعه وحضر إليه الأمير سيف الدين شيخو العمريّ مدبر الدولة، والأمير طاشتمر القاسميّ حاجب الحجاب، والأمير توقتاي الدوادار، وعامّة أمراء الدولة، وقضاة القضاة الأربعة، ومشايخ العلم، ورتب مدرّس الفقه بها قوام الدين أمير كاتب بن أمير عمر العميد بن العميد أمير غازي الاتقانيّ، فألقى القوام الدرس، ثم مدّ سماط جليل بالهمة الملوكية، وملئت البركة التي بها سكّرا قد أذيب بالماء،(4/264)
فأكل الناس وشربوا وأبيح ما بقي من ذلك للعامّة فانتهبوه، وجعل الأمير صرغتمش هذه المدرسة وقفا على الفقهاء الحنفية الآفاقية، ورتب بها درسا للحديث النبويّ، وأجرى لهم جميعا المعاليم من وقف رتّبه لهم، وقال أدباء العصر فيها شعرا كثيرا. فقال العلامة شمس الدين محمد بن عبد الرحمن بن الصائغ الحنفيّ:
ليهنك يا صرغتمش ما بنيته ... لآخراك في دنياك من حسن بنيان
به يزدهي الترخيم كالزهر بهجة ... فلله من زهر ولله من باني
وخلع في هذا اليوم على القوام خلعة سنية وأركبه بغلة رائعة، وأجازه بعشرة آلاف درهم على أبيات مدحه بها في غاية السماجة وهي:
أرأيتم من حاز الرتبا ... وأتى قربا ونفى ريبا
فبدا علما وسما كرما ... وما قدما ولقد غلبا
بتقى وهدى وندا وجدا ... فعدا وسدى وجبى وحبا
بدى سننا أحيى سننا ... حلّى زمنا عند الأدبا
هذا صرغتمش قد سكبت ... أيام إمارته السحبا
وأزال الجدب إلى خصب ... والضنك إلى رغد قلبا
بإعانة جبّار ربي ... ذي العرش وقد بذل النشبا
ملك فطن ركن لسن ... حسن بسن ربى الأدبا
لك الكبرا ملك الأمرا ... ملك العلما ملك الأدبا
بحر طام غيث هام ... قد رسام حامى الغربا
ببشاشته وسماحته ... وحماسته جلّى الكربا
وديانته وصيانته ... وأمانته حاز الرتبا
أبهى أصلا أسنى نسلا ... أعطى فضلا مأوى الغربا
نعم المأوى مصر لمّا ... شملت قوما نبلا نجبا
فنمت نورا وسمت نورا ... وعلت دورا وأرت طربا
نسقت دررا وسقت دررا ... ودعت غررا وحوت أدبا
وخطابته افتخرت وعلت ... وسمت وزرت وحوت أدبا
جدّد درسا ثم اجن جنّى ... منها ومنى فمعى طلبا
من نازعني نسبي علنا ... فاراب لنا نعمت نسبا
كنون أبا لحنفية ث ... مّ قوام الدين بدا لقبا
عش في رحب لترى عجبا ... من منتجب عجب عجبا
صرغتمش: الناصريّ الأمير سيف الدين رأس نوبة، جلبه الخواجا الصوّاف في سنة(4/265)
سبع وثلاثين وسبعمائة، فاشتراه السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون بمائتي ألف درهم فضة، ثمنها يومئذ نحو أربعة آلاف مثقال ذهبا، وخلع على الخواجا تشريفا كاملا بحياصة ذهب، وكتب له توقيعا بمسامحة مائة ألف درهم من متجره، فلم يعبأ به السلطان، وصار في أيامه من جملة الجمدارية، وحكي عن القاضي شرف الدين عبد الوهاب ناظر الخاص أنّ السلطان أنعم على صرغتمس هذا بعشر طاقات أديم طائفيّ، فلما جاء إلى النشو تردّد إليه مرارا حتى دفعها إليه، ولم يزل خامل الذكر إلى أن كانت أيام المظفر حاجي بن محمد بن قلاون، فبعثه مسفرا مع الأمير فخر الدين إياز السلاح دار لما استقرّ في نيابة حلب، فلما عاد من حلب ترقى في الخدمة وتمكن عند المظفر وتوجه في خدمة الصالح بن محمد بن قلاون إلى دمشق في نوبة يلبغاروس، وصار السلطان يرجع إلى رأيه، فلما عاد من دمشق أمسك الوزير علم الدين عبد الله بن زنبور بغير أمر السلطان وأخذ أمواله، وعارض في أمره الأمير شيخو والأمير طاز، ومن حينئذ عظم ولم يزل حتى خلع السلطان الملك الصالح وأعيد الناصر حسن بن محمد بن قلاون، فلما أخرج الأمير شيخو انفرد صرغتمش بتدبير أمور المملكة وفخم قدره ونفذت كلمته، فعزل قضاة مصر والشام وغيّر النوّاب بالمماليك، والسلطان يحقد عليه إلى أن أمسكه في العشرين من شهر رمضان سنة تسع وخمسين، وقبض معه على الأمير طشتمر القاسميّ حاجب الحجاب، والأمير ملكتمر المحمديّ وجماعة وحملهم إلى الإسكندرية فسجنوا بها، وبها مات صرغتمش بعد شهرين واثني عشر يوما من سجنه في ذي الحجة سنة تسع وخمسين وسبعمائة. وكان مليح الصورة جميل الهيئة، يقرأ القرآن الكريم ويشارك في الفقه على مذهب الحنفية، ويبالغ في التعصب لمذهبه، ويقرّب العجم ويكرمهم ويجلهم إجلالا زائدا، ويشدو طرفا من النحو، وكانت أخلاقه شرسة ونفسه قوية، فإذا بحث في الفقه أو اللغة اشتط، ولما تحدّث في الأوقاف وفي البريد خاف الناس منه، فلم يكن أحد يركب خيل البريد إلّا بمرسومه، ومنع كل من يركب البريد أن يحمل معه قماشا ودراهم على خيل البريد، واشتدّ في أمر الأوقاف فعمرت في مباشرته، ولما قبض عليه أخذ السلطان أمواله وكانت شيئا كثيرا يكلّ عنه الوصف.
ذكر المارستانات
قال الجوهريّ في الصحاح: والمارستان بيت المرضى، معرّب عن ابن السكيت، وذكر الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه في كتاب أخبار مصر: أن الملك مناقيوش بن أشمون أحد ملوك القبط الأول بأرض مصر، أوّل من عمل البيمارستانات لعلاج المرضى، وأودعها العقاقير ورتب فيها الأطباء وأجرى عليهم ما يسعهم، ومناقيوش هذا هو الذي بنى مدينة أخميم، وبنى مدينة سنتريه. وقال زاهد العلماء أبو سعيد منصور بن عيسى: أوّل من اخترع المارستان وأوجده بقراط بن أبو قليدس، وذلك أنه عمل بالقرب من داره في موضع من بستان كان له، موضعا مفردا للمرضى، وجعل فيه خدما يقومون بمداواتهم وسماه(4/266)
اصدولين، أي مجمع المرضى، وأوّل من بنى المارستان في الإسلام ودار المرضى الوليد بن عبد الملك، وهو أيضا أوّل من عمل دار الضيافة، وذلك في سنة ثمان وثمانين، وجعل في المارستان الأطباء وأجرى لهم الأرزاق، وأمر بحبس المجذمين لئلا يخرجوا، وأجرى عليهم، وعلى العميان الأرزاق. وقال جامع السيرة الطولونية: وقد ذكر بناء جامع ابن طولون وعمل في مؤخره ميضأة وخزانة شراب، فيها جميع الشرابات والأدوية، وعليها خدم، وفيها طبيب جالس يوم الجمعة لحادث يحدث للحاضرين للصلاة.
مارستان ابن طولون
هذا المارستان موضعه الآن في أرض العسكر، وهي الكيمان والصحراء التي فيما بين جامع ابن طولون وكوم الجارح، وفيما بين قنطرة السدّ التي على الخليج ظاهر مدينة مصر، وبين السور الذي يفصل بين القرافة وبين مصر. وقد دثر هذا المارستان في جملة ما دثر ولم يبق له أثر. وقال أبو عمر الكنديّ في كتاب الأمراء: وأمر أحمد بن طولون أيضا ببناء المارستان للمرضى، فبني لهم في سنة تسع وخمسين ومائتين. وقال جامع السيرة الطولونية: وفي سنة إحدى وستين ومائتين بنى أحمد بن طولون المارستان، ولم يكن قبل ذلك بمصر مارستان، ولما فرغ منه حبس عليه دار الديوان ودوره في الأساكفة والقيسارية وسوق الرقيق، وشرط في المارستان أن لا يعالج فيه جنديّ ولا مملوك، وعمل حمّامين للمارستان، إحداهما للرجال والأخرى للنساء، حبسهما على المارستان وغيره، وشرط أنه إذا جيء بالعليل تنزع ثيابه ونفقته وتحفظ عند أمين المارستان، ثم يلبس ثيابا ويفرش له ويغدى عليه ويراح بالأدوية والأغذية والأطباء حتى يبرأ، فإذا أكل فرّوجا ورغيفا أمر بالانصراف وأعطي ماله وثيابه، وفي سنة اثنتين وستين ومائتين كان ما حبسه على المارستان والعين والمسجد في الجبل الذي يسمى بتنور فرعون، وكان الذي أنفق على المارستان ومستغله ستين ألف دينار، وكان يركب بنفسه في كل يوم جمعة ويتفقد خزائن المارستان وما فيها والأطباء، وينظر إلى المرضى وسائر الأعلّاء والمحبوسين من المجانين، فدخل مرّة حتى وقف بالمجانين، فناداه واحد منهم مغلول: أيّها الأمير اسمع كلامي، ما أنا بمجنون، وإنما عملت عليّ حيلة، وفي نفسي شهوة رمانة عريشية أكبر ما يكون، فأمر له بها من ساعته، ففرح بها وهزها في يده ورازها ثم غافل أحمد بن طولون ورمى بها في صدره، فنضحت على ثيابه، ولو تمكنت منه لأتت على صدره، فأمرهم أن يحتفظوا به، ثم لم يعاود بعد ذلك النظر في المارستان.
مارستان كافور
هذا المارستان بناه كافور الإخشيديّ، وهو قائم بتدبير دولة الأمير أبي القاسم أنوجور بن محمد الإخشيد بمدينة مصر في سنة ست وأربعين وثلاثمائة.(4/267)
مارستان المغافر
هذا المارستان كان في خطة المغافر التي موضعها ما بين العامر من مدينة مصر وبين مصلّى خولان التي بالقرافة، بناه الفتح بن خاقان في أيام أمير المؤمنين المتوكل على الله، وقد باد أثره.
المارستان الكبير المنصوريّ
هذا المارستان بخط بين القصرين من القاهرة، كان قاعة ست الملك ابنة العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله أبي تميم معدّ، ثم عرف بدار الأمير فخر الدين جهاركس بعد زوال الدولة الفاطمية، وبدار موسك، ثم عرف بالملك المفضل قطب الدين أحمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وصار يقال لها لدار القطبية، ولم تزل بيد ذريته إلى أن أخذها الملك المنصور قلاون الألفيّ الصالحيّ من مؤنسة خاتون ابنة الملك العادل المعروفة بالقطبية، وعوّضت عن ذلك قصر الزمرّد برحبة باب العيد في ثامن عشري ربيع الأوّل سنة اثنتين وثمانين وستمائة، بسفارة الأمير علم الدين سنجر الشجاعيّ مدبر الممالك، ورسم بعمارتها مارستانا وقبة ومدرسة، فتولى الشجاعيّ أمر العمارة، وأظهر من الاهتمام والاحتفال ما لم يسمع بمثله حتى تم الغرض في أسرع مدّة، وهي أحد عشر شهرا وأيام، وكان ذرع هذه الدار عشرة آلاف وستمائة ذراع وخلفت ست الملك بها ثمانية آلاف جارية وذخائر جليلة، منها قطعة ياقوت أحمر زنتها عشرة مثاقيل، وكان الشروع في بنائها مارستانا أوّل ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين وستمائة.
وكان سبب بنائه أنّ الملك المنصور لما توجه وهو أمير إلى غزاة الروم في أيام الظاهر بيبرس سنة خمس وسبعين وستمائة، أصابه بدمشق قولنج عظيم، فعالجه الأطباء بأدوية أخذت له من مارستان نور الدين الشهيد فبرأ، وركب حتى شاهد المارستان فأعجب به، ونذران آتاه الله الملك أن يبني مارستانا، فلما تسلطن أخذ في عمل ذلك فوقع الاختيار على الدار القطبية، وعوّض أهلها عنها قصر الزمرّذ، وولى الأمير علم الدين سنجر الشجاعيّ أمر عمارته، فأبقى القاعة على حالها وعملها مارستانا، وهي ذات إيوانات أربعة، بكلّ إيوان شاذروان، وبدور قاعتها فقية يصير إليها من الشاذروانات الماء، واتفق أن بعض الفعلة كان يحفر في أساس المدرسة المنصورية فوجد حق اشنان من نحاس، ووجد رفيقه قمقما نحاسا مختوما برصاص، فأحضرا ذلك إلى الشجاعيّ، فإذا في الحق فصوص ماس وياقوت وبلخش ولؤلؤ ناصع يدهش الأبصار، ووجد في القمقم ذهبا، كان جملة ذلك نظير ما غرم على العمارة، فحمله إلى أسعد الدين كوهيا الناصريّ العدل، فرفعه إلى السلطان. ولما نجزت العمارة وقف عليها الملك المنصور من الأسلاك بديار مصر وغيرها ما يقارب ألف(4/268)
ألف درهم في كلّ سنة، ورتب مصارف المارستان والقبة والمدرسة ومكتب الأيتام، ثم استدعى قدحا من شراب المارستان وشربه وقال: قد وقفت هذا على مثلي فمن دوني، وجعلته وقفا على الملك والمملوك والجنديّ والأمير والكبير والصغير والحرّ والعبد الذكور والإناث، ورتب فيه العقاقير والأطباء وسائر ما يحتاج إليه من به مرض من الأمراض، وجعل السلطان فيه فرّاشين من الرجال والنساء لخدمة المرضى، وقرّر لهم المعاليم، ونصب الأسرّة للمرضى وفرشها بجميع الفرش المحتاج إليها في المرض، وأفرد لكل طائفة من المرضى موضعا، فجعل أواوين المارستان الأربعة للمرضى بالحميات ونحوها، وأفرد قاعة للرمدى، وقاعة للجرحى، وقاعة لمن به إسهال، وقاعة للنساء، ومكانا للمبرودين ينقسم بقسمين قسم للرجال وقسم للنساء، وجعل الماء يجري في جميع هذه الأماكن، وأفرد مكانا لطبخ الطغام والأدوية والأشربة، ومكانا لتركيب المعاجين والأكحال والشيافات ونحوها، ومواضع يخزن فيها الحواصل، وجعل مكانا يفرق فيه الأشربة والأدوية، ومكانا يجلس فيه رئيس اطباء لإلقاء درس طب، ولم يحص عدّة المرضى بل جعله سبيلا لكل من يرد عليه من غنيّ وفقير، ولا حدّد مدّة لإقامة المريض به، بل يرتب منه لمن هو مريض بداره سائر ما يحتاج إليه، ووكل الأمير عز الدين أيبك الأفرم الصالحيّ أمير جندار في وقف ما عينه من المواضع، وترتيب أرباب الوظائف وغيرهم، وجعل النظر لنفسه أيام حياته، ثم من بعده لأولاده، ثم من بعدهم لحاكم المسلمين الشافعيّ، فضمن وقفه كتابا تاريخه يوم الثلاثاء ثالث عشري صفر سنة ثمانين وستمائة، ولما قرىء عليه كتاب الوقف قال للشجاعيّ: ما رأيت خط الأسعد كاتبي مع خطوط القضاة، أبصر إيش فيه زغل حتى ما كتب عليه، فما زال يقرّب لذهنه أن هذا مما لا يكتب عليه إلّا قضاة الإسلام حتى فهم ذلك، فبلغ مصروف الشراب منه في كل يوم خمسمائة رطل سوى السكّر، ورتب فيه عدّة ما بين أمين ومباشر، وجعل مباشرين للإدارة، وهم الذين يضبطون ما يشترى من أوصناف، وما يحضر منها إلى المارستان، ومباشرين لاستخراج مال الوقف، ومباشرين في المطبخ، ومباشرين في عمارة الأوقاف التي تتعلق به، وقرّر في القبة خمسين مقرئا يتناوبون قراءة القرآن ليلا ونهارا، ورتب بها إماما راتبا، وجعل بها رئيسا للمؤذنين عند ما يؤذنون فوق منارة ليس في إقليم مصر أجلّ منها، ورتب بهذه القبة درسا لتفسير القرآن فيه مدرّس ومعيدان وثلاثون طالبا، ودرس حديث نبويّ، وجعل بها خزانة كتب وستة خدّام طواشية لا يزالون بها، ورتب بالمدرسة إماما راتبا ومتصدّرا لإقراء القرآن، ودروسا أربعة للفقه على المذاهب الأربعة، ورتب بمكتب السبيل معلمين يقرءان الأيتام، ورتب للأيتام رطلين من الخبز في كلّ يوم لكلّ يتيم، مع كسوة الشتاء والصيف.
فلما ولي الأمير جمال الدين أقوش نائب الكرك نظر المارستان، أنشأ به قاعة للمرضى، ونحت الحجارة المبنيّ بها الجدر كلها حتى صارت كأنها جديدة، وجدّد تذهيب(4/269)
الطراز بظاهر المدرسة والقبة، وعمل خمية تظل الأقفاص طولها مائة ذراع، قام بذلك من ماله دون مال الوقف، ونقل أيضا حوض ماء كان برسم شرب البهائم من جانب باب المارستان وأبطله لتاذي الناس بنتن رائحة ما يجتمع قدّامه من الأوساخ، وأنشأ سبيل ماء يشرب منه الناس عوض الحوض المذكور، وقد تورّع طائفة من أهل الديانة عن الصلاة في المدرسة المنصورية والقبة، وعابوا المارستان لكثرة عسف الناس في عمله، وذلك أنه لما وقع اختيار السلطان على عمل الدار القطبية مارستانا ندب الطواشي حسام الدين بلالا المغيثيّ للكلام في شرائها، فساس الأمر في ذلك حتى أنعمت مؤنسة خاتون ببيعها على أن تعوّض عنها بدار تلمها وعيالها، فعوّضت قصر الزمرّذ برحبة باب العيد مع مبلغ مال حمل إليها، ووقع البيع على هذا، فندب السلطان الأمير سنجر الشجاعيّ للعمارة، فأخرج النساء من القطبية من غير مهلة، وأخذ ثلاثمائة أسير وجمع صناع القاهرة ومصر وتقدّم إليهم بأن يعملوا بأجمعهم في الدار القطبية، ومنعهم أن يعملوا لأحد في المدينتين شغلا، وشدّد عليهم في ذلك، وكان مهابا، فلازموا العمل عنده، ونقل من قلعة الروضة ما احتاج إليه من العمد الصوّان والعمد الرخام والقواعد والأعتاب والرخام البديع وغير ذلك، وصار يركب إليها كلّ يوم وينقل الأنقاض المذكورة على العجل إلى المارستان، ويعود إلى المارستان فيقف مع الصناع على الأساقيل حتى لا يتوانوا في عملهم، وأوقف مماليكه بين القصرين، فكان إذا مرّ أحد ولو جلّ ألزموه أن يرفع حجرا ويلقيه في موضع العمارة، فينزل الجنديّ والرئيس عن فرسه حتى يفعل ذلك، فترك أكثر الناس المرور من هناك، ورتبوا بعد الفراغ من العمارة، وترتيب الوقف فتيا صورتها ما يقول أئمة الدين في موضع أخرج أهله منه كرها، وعمر بمستحثين يعسفون الصناع، وأخرب ما عمره الغير ونقل إليه ما كان فيه فعمر به، هل تجوز الصلاة فيه أم لا، فكتب جماعة من الفقهاء لا تجوز فيه الصلاة، فما زال المجد عيسى بن الخشاب حتى أوقف الشجاعيّ على ذلك، فشق عليه، وجمع القضاة ومشايخ العلم بالمدرسة المنصورية وأعلمهم بالفتيا فلم يجبه أحد منهم بشيء سوى الشيخ محمد المرجانيّ فإنه قال: أنا أفتيت بمنع الصلاة فيها، وأقول الآن أنه يكره الدخول من بابها، ونهض قائما فانفض الناس. واتفق أيضا أن الشجاعيّ ما زال بالشيخ محمد المرجانيّ، يلح في سؤاله أن يعمل ميعاد وعظ بالمدرسة المنصورية حتى أجاب بعد تمنع شديد، فحضر الشجاعيّ والقضاة، وأخذ المرجانيّ في ذكر ولاة الأمور من الملوك والأمراء والقضاة، وذمّ من يأخذ الأراضي غصبا، ويستحث العمال في عمائره وينقص من أجورهم وختم بقوله تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا
[الفرقان/ 27] وقام، فسأله الشجاعيّ الدعاء له فقال: يا علم الدين قد دعا لك ودعا عليك من هو خير مني، وذكر قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «اللهمّ من ولى من أمر أمّتي(4/270)
شيئا فرفق بهم فارفق به ومن شق عليهم فاشقق عليه» وانصرف. فصار الشجاعيّ: من ذلك في قلق، وطلب الشيخ تقيّ الدين محمد بن دقيق العيد وكان له فيه اعتقاد حسن وفاوضه في حديث الناس في منع الصلاة في المدرسة، وذكر له أن السلطان إنما أراد محاكاة نور الدين الشهيد والاقتداء به لرغبته في عمل الخير، فوقع الناس في القدح فيه، ولم يقدحوا في نور الدين. فقال له: إن نور الدين أسر بعض ملوك الفرنج وقصد قتله، ففدى نفسه بتسليم خمسة قلاع وخمسمائة ألف دينار حتى أطلقه، فمات في طريقه قبل وصوله مملكته، وعمر نور الدين بذلك المال مارستانه بدمشق من غير مستحث، فمن أين يا علم الدين تجد مالا مثل هذا المال وسلطانا مثل نور الدين، غير أن السلطان له نيته، وأرجو له الخير بعمارة هذا الموضع، وأنت إن كان وقوفك في عمله بنية نفع الناس فلك الأجر، وإن كان لأجل أن يعلم أستاذك علوّ همتك فما حصلت على شيء. فقال الشجاعيّ: الله المطلع على النيات، وقرّر ابن دقيق العيد في تدريس القبة.
قال مؤلفه: إن كان التحرّج من الصلاة لأجل أخذ الدار القطبية من أهلها بغير رضاهم وإخراجهم منها بعسف واستعمال أنقاض القلعة بالروضة، فلعمري ما تملك بني أيوب الدار القطبية وبناؤهم قلعة الروضة وإخراجهم أهل القصور من قصورهم التي كانت بالقاهرة وإخراج سكان الروضة من مساكنهم، إلّا كأخذ قلاون الدار المذكورة وبنائها بما هدمه من القلعة المذكورة وإخراج مؤنسة وعيالها من الدار القطبية، وأنت إن أمعنت النظر وعرفت ما جرى تبين لك أن ما القوم إلّا سارق من سارق، وغاصب من غاصب، وإن كان التحرّج من الصلاة لأجل عسف العمال وتسخير الرجال، فشيء آخر بالله عرّفني، فإني غير عارف من منهم لم يسلك في أعماله هذا السبيل، غير أن بعضهم أظلم من بعض، وقد مدح غير واحد من الشعراء هذه العمارة، منهم شرف الدين البوصيريّ فقال:
ومدرسة ود الخورنق أنّه ... لديها خطير والسدير غدير
مدينة علم والمدارس حولها ... قرى أو نجوم بدر هنّ منير
تبدّت فأخفى الظاهرية نورها ... وليس يظهر للنجوم ظهور
بناء كأنّ النحل هندس شكله ... ولانت له كالشمع فيه صخور
بناها سعيد في بقاع سعيدة ... بها سعدت قبل المدارس نور
ومن حيثما وجّهت وجهك نحوها ... تلقّتك منها نضرة وسرور
إذا قام يدعو الله فيها مؤذن ... فما هو إلّا للنجوم سمير
المارستان المؤيدي
هذا المارستان فوق الصوّة تجاه طبلخاناه قلعة الجبل، حيث كانت مدرسة الأشرف(4/271)
شعبان بن حسين التي هدمها الناصر فرج بن برقوق، وبابه هو حيث كان باب المدرسة، إلّا أنه ضيق عما كان، أنشأه المؤيد شيخ في مدّة أوّلها جمادى الآخرة سنة إحدى وعشرين وثمانمائة، وآخرها رجب سنة ثلاث وعشرين، ونزل فيه المرضى في نصف شعبان، وعملت مصارفه من جملة أوقاف الجامع المؤيديّ المجاور لباب زويلة، فلما مات الملك المؤيد في ثامن المحرّم سنة أربع وعشرين تعطل قليلا، ثم سكنه طائفة من العجم المستجدّين في ربيع الأوّل منها، وصار منزلا للرسل الواردين من البلاد إلى السلطان، ثم عمل فيه منبر ورتب له خطيب وإمام ومؤذنون وبوّاب وقومة، وأقيمت به الجمعة في شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين وثمانمائة، فاستمرّ جامعا تصرف معاليم أرباب وظائفه المذكورين من وقف الجامع المؤيدي.
ذكر المساجد
قال ابن سيده: المسجد الموضع الذي يسجد فيه. وقال الزجاج: كلّ موضع يتعبد فيه فهو مسجد، ألا ترى أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» وقوله عز وجلّ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ
[البقرة/ 114] المعنى على هذا المذهب أنه من أظلم ممن خالف قبلة الإسلام، وقد كان حكمه أن لا يجيء على مفعل، لأن حق اسم المكان والمصدر من فعل يفعل أن يجيء على مفعل، ولكنه أحد الحروف التي شذت فجاءت على مفعل. قال سيبويه: وأما المسجد فإنهم جعلوه اسما للبيت، ولم يأت على فعل يفعل، كما قال في المدق: أنه اسم للجود، يعني أنه ليس على الفعل، ولو كان على الفعل لقيل مدق لأنه آلة والآلات تجىء على مفعل كمخزن ومكنس ومكسح، والمسجدة الجمرة المسجود عليها، وقوله تعالى وإن المساجد لله، قيل هي مواضع السجود من الإنسان، الجبهة واليدان والركبتان والرجلان. وقال الشريف محمد بن أسعد الجوّانيّ في كتاب النقط على الخطط عن القاضي أبي عبد الله القضاعيّ: أنه كان في مصر الفسطاط من المساجد ستة وثلاثون ألف مسجد. وقال المسبحيّ في حوادث سنة ثلاث وأربعمائة: وأحصى أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله المساجد التي لا غلة لها فكانت ثمانمائة مسجد، فأطلق لها في كلّ شهر من بيت المال تسعة آلاف ومائتين وعشرين درهما، وفي سنة خمس وأربعمائة حبس الحاكم بأمر الله سبع ضياع منها، اطفيح وطوخ على القرّاء.
والمؤذنين بالجوامع، وعلى ملء المصانع والمارستان، وفي ثمن الأكفان. وذكر ابن المتوّج أن عدّة المساجد بمصر في زمنه أربعمائة وثمانون مسجدا ذكرها.(4/272)
المسجد بجوار دير البعل
قد تقدّم «1» في أخبار الكنائس والديارات من هذا الكتاب خبر دير البعل، وأنه يعرف بدير الفطير، ولما كان في سنة خمس وسبعين وستمائة خرج جماعة من المسلمين إلى دير البعل فرأوا آثار محاريب بجوار الدير فعرّفوا الصاحب بهاء الدين بن حنا ذلك، فسير المهندسين لكشف ما ذكر، فعادوا إليه وأخبروه أنه آثار مسجد، فشاور الملك الظاهر بيبرس وعمره مسجدا بجانب الدير، وهو عامر إلى الآن، وبتّ به وهو من أحسن مشترقات مصر، وله وقف جيد ومرتب يقوم به نصارى الدير.
مسجد ابن الجباس
هذا المسجد خارج باب زويلة بالقرب من مصلّى الأموات دون باب اليانسية، عرف بالشيخ أبي عبد الله محمد بن عليّ بن أحمد بن محمد بن جوشن المعروف بابن الجباس بجيم وباء موحدة بعدها ألف وسين مهملة- القرشيّ العقيليّ الفقيه الشافعيّ المقرئ، كان فاضلا صالحا زاهدا عابدا مقرئا، كتب بخطه كثيرا وسمع الحديث النبويّ، ومولده يوم السبت سابع عشر ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين وستمائة بالقاهرة، ووفاته ... «2»
مسجد ابن البناء
هذا المسجد داخل باب زويلة، وتسميه العوامّ سام بن نوح النبيّ عليه السّلام، وهو من مختلفاتهم التي لا أصل لها، وإنما يعرف بمسجد ابن البناء، وسام بن نوح لعله لم يدخل أرض مصر البتة، فإن الله سبحانه وتعالى لما نجّى نبيه نوحا من الطوفان خرج معه من السفينة أولاده الثلاثة، وهم سام وحام ويافث، ومن هذه الثلاثة ذرأ الله سائر بني آدم كما قال تعالى: وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ
[الصافات/ 77] فقسم نوح الأرض بين أولاده الثلاثة، فصار لسام بن نوح العراق وفارس إلى الهند ثم إلى حضر موت وعمان والبحرين وعالج ويبرين والدوووبار والدهناء وسائر أرض اليمن والحجاز، ومن نسله الفرس والسريانيون والعبرانيون والعرب والنبط والعماليق. وصار لحام بن نوح الجنوب مما يلي أرض مصر مغرّبا إلى المغرب الأقصى، ومن نسله الحبشة والزنج والقبط سكان مصر وأهل النوبة والأفارقة أهل إفريقية وأجناس البربر، وصار ليافث بن نوح بحر الخرز مشرّقا إلى الصين، ومن نسله الصقالبة والفرنج والروم والغوط وأهل الصين واليونانيون والترك.(4/273)
وقد بلغني أن هذا المسجد كان كنيسة لليهود القرّايين تعرف بسام بن نوح، وأن الحاكم بأمر الله أخذ هذه الكنيسة لما هدم الكنائس وجعلها مسجدا، وتزعم اليهود القرّايون الآن بمصر أن سام بن نوح مدفون هنا، وهم إلى الآن يحلفون من أسلم منهم بهذا المسجد.
أخبرني به قاضي اليهود إبراهيم بن فرج الله بن عبد الكافي الداوديّ العانانيّ، وليس هذا بأوّل شيء اختلقته العامّة.
وابن البناء: هذا هو محمد بن عمر بن أحمد بن جامع بن البناء أبو عبد الله الشافعيّ المقرئ، سمع من القاضي مجلي، وأبي عبد الله الكيزانيّ وغيره، وحدّث وأقرأ القرآن، وانتفع به جماعة. وهو منقطع بهذا المسجد، وكان يعرف خطه بخط بين البابين، ثم عرف بخط الأقفاليين، ثم هو الآن يعرف بخط الضبيين وباب القوس. ومات ابن البناء هذا في العشر الأوسط من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، واتفق لي عند هذا المسجد أمر عجيب، وهو أني مررت من هناك يوما أعوام بضع وثمانين وسبعمائة، والقاهرة يومئذ لا يمرّ الإنسان بشارعها حتى يلقى عناء من شدّة ازدحام الناس لكثرة مرورهم ركبانا ومشاة، فعند ما حاذيت أوّل هذا المسجد إذا برجل يمشي أمامي وهو يقول لرفيقه: والله يا أخي ما مررت بهذا المكان قط إلّا وانقطع نعلي، فو الله ما فرغ من كلامه حتى وطئ شخص من كثرة الزحام على مؤخر نعله وقد مدّ رجله ليخطو فانقطع تجاه باب المسجد، فكان هذا من عجائب الأمور وغرائب الاتفاق.
مسجد الحلبيين
هذا المسجد فيما بين باب الزهومة ودرب شمس الدولة، على يسرة من سلك من حمّام خشيبة طالبا البندقانيين. بني على المكان الذي قتل فيه الخليفة الظاهر نصر بن عباس الوزير ودفنه تحت الأرض، فلما قدم طلائع بن رزيك من الأشمونين إلى القاهرة باستدعاء أهل القصر له ليأخذ بثار الخليفة، وغلب على الوزارة، استخرج الظافر من هذا الموضع ونقله إلى تربة الصر وبنى موضعه هذا المسجد وسماه المشهد، وعمل له بابين أحدهما هذا الباب الموجود، والباب الثاني كان يتوصل منه إلى دار المأمون البطائحيّ التي هي اليوم مدرسة تعرف بالسيوفية. وقد سدّ هذا الباب، وما برح هذا المسجد يعرف بالمشهد إلى أن انقطع فيه محمد بن أبي الفضل بن سلطان بن عمار بن تمام أبو عبد الله الحلبيّ الجعبريّ المعروف بالخطيب، وكان صالحا كثير العبادة زاهدا منقطعا عن الناس، ورعا وسمع الحديث وحدّث، وكان مولده في شهر رجب سنة أربع وعشرين وستمائة بقلعة جعبر، ووفاته بهذا المسجد، وقد طالت إقامته فيه يوم الاثنين سادس عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة وسبعمائة، ودفن بمقابر باب النصر رحمه الله، وهذا المسجد من أحسن مساجد القاهرة وأبهجها.(4/274)
مسجد الكافوريّ
هذا المسجد كان في البستان الكافوريّ من القاهرة بناه الوزير المأمون أبو عبد الله محمد بن فاتك البطائحيّ، في سنة ست عشرة وخمسمائة، وتولى عمارته وكيله أبو البركات محمد بن عثمان، وكتب اسمه عليه، وهو باق إلى اليوم بخط الكافوريّ، ويعرف هناك بمسجد الخلفاء، وفيه نخل وشجر وهو مرخم برخام حسن.
مسجد رشيد
هذا المسجد خارج باب زويلة بخط تحت الربع على يسرة من سلك من دار التفاح يريد قنطرة الخرق، بناه رشيد الدين البهائيّ.
المسجد المعروف بزرع النوى
هذا المسجد خارج باب زويلة بخط سوق الطيور، على يسرة من سلك من رأس المنجبية طالبا جامع قوصون والصليبة، وتزعم العامّة أنه بني على قبر رجل يعرف بزرع النوى، وهو من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وهذا أيضا من افتراء العامّة الكذب، فإن الذين أفردوا أسماء الصحابة رضي الله عنهم كالإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاريّ في تاريخه الكبير، وابن أبي خيثمة، والحافظ أبي عبد الله بن منذر، والحافظ أبي نعيم الأصفهانيّ، والحافظ أبي عمر بن عبد البرّ، والفقيه الحافظ أبي محمد عليّ بن أحمد بن سعيد بن حزم، لم يذكر أحد منهم صحابيا يعرف بزرع النوى. وقد ذكر في أخبار القرافة من هذا الكتاب من قبر بمصر من الصحابة، وذكر في أخبار مدينة فسطاط مصر أيضا من دخل مصر من الصحابة، وليس هذا منهم، وهذا إن كان هناك قبر فهو لأمين الأمناء أبي عبد الله الحسين بن طاهر الوزان، وكان من أمره أن الخليفة الحاكم بأمر الله أبا عليّ منصور بن العزيز بالله خلع عليه للوساطة بينه وبين الناس، والتوقيع عن الحضرة في شهر ربيع الأوّل سنة ثلاث وأربعمائة، وكان قبل ذلك يتولى بيت المال فاستخدم فيه أخاه أبا الفتح مسعودا، وكان قد ظفر بمال يكون عشرات وصياغات وأمتعة وطرائف وفرش وغير ذلك في عدّة آدر بمصر، وجميعه مما خلفه قائد القوّاد الحسين بن جوهر القائد، فباع المتاع وأضاف ثمنه إلى العين، فحصل منه مال كثير، وطالع الحاكم بأمر الله به أجمع لورثة قائد القوّاد، ولم يتعرّض منه لشيء، وكثرت صلات الحاكم وعطاؤه وتوقيعاته، فانطلق في ذلك فاتصل به عن أمين الأمناء بعض التوقف، فخرجت إليه رقعة بخطه في الثامن والعشرين من شهر رجب سنة ثلاث وأربعمائة نسختها، بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله كما هو أهله:
أصبحت لا أرجو ولا أتقي ... إلّا إلهي وله الفضل(4/275)
جدّي نبيّ وإمامي أبي ... وديني الإخلاص والعدل
ما عندكم ينفد وما عند الله باق، المال مال الله عز وجلّ، والخلق عيال الله، ونحن أمناؤه في الأرض، أطلق أزراق الناس ولا تقطعها والسلام. ولم يزل على ذلك إلى أن بطل أمره في جمادى الآخرة من سنة خمس وأربعمائة، وذلك أنه ركب مع الحاكم على عادته، فلما حصل بحارة كتامة خارج القاهرة ضرب رقبته هناك ودفن في هذا الموضع تخمينا، واستحضر الحاكم جماعة الكتّاب بعد قتله وسأل رؤساء الدواوين عما يتولاه كل واحد منهم، وأمرهم بلزوم دواوينهم وتوفرهم على الخدمة، وكانت مدّة نظر ابن الوزان في الوساطة والتوقيع عن الحضرة، وهي رتبة الوزارة، سنتين وشهرين وعشرين يوما، وكان توقيعه عن الحضرة الإمامية الحمد لله وعليه توكلي.
مسجد الذخيرة
هذا المسجد تحت قلعة الجبل بأوّل الرميلة تجاه شبابيك مدرسة السلطان حسن بن محمد بن قلاون التي تلي بابها الكبير الذي سدّه الملك الظاهر برقوق، أنشأه ذخيرة الملك جعفر متولي الشرطة. قال ابن المأمون في تاريخه: في هذه السنة، يعني سنة ست عشرة وخمسمائة، استخدم ذخيرة الملك جعفر في ولاية القاهرة والحسبة بسجل أنشأه ابن الصيرفيّ، وجرى من عسفه وظلمه ما هو مشهور، وبنى المسجد الذي ما بين الباب الجديد إلى الجبل الذي هو به معروف، وسمّي مسجد لا بالله، بحكم أنه كان يقبض الناس من الطريق ويعسفهم، فيحلفونه ويقولون له لا بالله، فيقيدهم ويستعملهم فيه بغير أجرة، ولم يعمل فيه منذ أنشأه إلّا صانع مكره، أو فاعل مقيد، وكتبت عليه هذه الأبيات المشهورة:
بنى مسجدا لله من غير حله ... وكانّ بحمد الله غير موفق
كمطعمة الأيتام من كدّ فرجها ... لك الويل لا تزني ولا تتصدّقي
وكان قد أبدع في عذاب الجناة وأهل الفساد، وخرج عن حكم الكتّاب فابتلى بالأمراض الخارجة عن المعتاد، ومات بعد ما عجل الله له ما قدّمه، وتجنب الناس تشييعه والصلاة عليه، وذكر عنه في حالتي غسله وحلوله بقبره ما يعيذ الله كلّ مسلم من مثله. وقال ابن عبد الظاهر: مسجد الذخيرة تحت قلعة الجبل، وذكر ما تقدّم عن ابن المأمون.
مسجد رسلان
هذا المسجد بحارة اليانسية، عرف بالشيخ الصالح رسلان لإقامته به، وقد حكيت عنه كرامات، ومات به في سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، وكان يتقوّت من أجرة خياطته للثياب، وابنه عبد الرحمن بن محمد بن رسلان أبو القاسم كان فقيها محدّثا مقرئا، مات في سنة سبع وعشرين وستمائة.(4/276)
مسجد ابن الشيخيّ
هذا المسجد بخط الكافوريّ مما يلي باب القنطرة وجهة الخليج مجاور لدار ابن الشيخي، أنشأه المهتار ناصر الدين محمد بن علاء الدين عليّ الشيخيّ مهتار السلطان بالإصطبلات السلطانية، وقرّر فيه شيخنا تقيّ الدين محمد بن حاتم، فكان يعمل فيه ميعادا يجتمع الناس فيه لسماع وعظه، وكان ابن الشيخي هذا حشما فخورا خيّرا يحب أهل العلم والصلاح، ويكرمهم. ولم نر بعده في رتبته مثله، ومات ليلة الثلاثاء أوّل يوم من شهر ربيع الأوّل سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة.
مسجد يانس
هذا المسجد كان تجاه باب سعادة خارج القاهرة. قال ابن المأمون في تاريخه: وكان الأجلّ المأمون يعني الوزير محمد بن فاتك البطائحيّ، قد ضم إليه عدّة من مماليك الأفضل بن أمير الجيوش، من جملتهم يانس، وجعله مقدّما على صبيان جلسه، وسلّم إليه بيت ماله، وميزه في رسومه. فلما رأى المذكور في ليلة النصف من شهر رجب، يعني سنة ست عشرة وخمسمائة، ما عمل في المسجد المستجدّ قبالة باب الخوخة من الهمة ووفور الصدقات وملازمة الصلوات، وما حصل فيه من المثوبات، كتب رقعة يسأل فيها أن يفسح له في بناء مسجد بظاهر باب سعادة، فلم يجبه المأمون إلى ذلك وقال له: ما ثم مانع من عمارة المساجد، وأرض الله واسعة، وإنما هذا الساحل فيه معونة للمسلمين وموردة للسقائين، وهو مرسى مراكب الغلة، والمضرّة في مضايقة المسلمين فيه منه، ولو لم يكن المسجد المستجدّ قبالة باب الخوخة محرسا لما استجدّ، حتى إنّا لم نخرج بساحته الأولى، فإن أردت أن تبني قبليّ مسجد الريفي أو على شاطيء الخليج فالطريق ثم سهلة. فقبّل الأرض وامتثل الأمر، فلما قبض على المأمون وأمّرّ الخليفة يانس المذكور ولم يزل ينقله إلى أن استخدمه في حجبة بابه، سأله في مثل ذلك فلم يجبه، إلى أن أخذ الوزارة فبناه في المكان المذكور. وكانت مدّته يسيرة، فتوفي قبل إتمامه وإكماله، فكمله أولاده بعد وفاته.
انتهى. وقد تقدّم خبر وزارة أبي الفتح ناظر الجيوش يانس الأرمنيّ هذا عند ذكر الحارة اليانسية من هذا الكتاب.
مسجد باب الخوخة
هذا المسجد تجاه باب الخوخة بجوار مدرسة أبي غالب. قال ابن المأمون في تاريخه من حوادث سنة ست عشرة وخمسمائة: ولما سكن المأمون الأجلّ دار الذهب وما معها، يعني في أيام النيل للنزهة عند سكن الخليفة الآمر بأحكام الله بقصر اللؤلؤة المطل على الخليج، رأى قبالة باب الخوخة محرسا، فاستدعى وكيله وأمره بأن يزيل المحرس المذكور(4/277)
ويبني موضعه مسجدا، وكان الصناع يعملون فيه ليلا ونهارا، حتى أنه تفطر بعد ذلك واحتيج إلى تجديده.
المسجد المعروف بمعبد موسى
هذا المسجد بخط الركن المخلق من القاهرة تجاه باب الجامع الأقمر المجاور لحوض السبيل، وعلى يمنة من سلك من بين القصرين طالبا حبة باب العيد. أوّل من اختطه القائد جوهر عندما وضع القاهرة. قال ابن عبد الظاهر: ولما بنى القائد جوهر القصر دخل فيه دير العظام، وهو المكان المعروف الآن بالركن المخلق، قبالة حوض الجامع الأقمر، وقريب دير العظام، والمصريون يقولون بئر العظمة، فكره أن يكون في القصر دير فنقل العظام التي كانت به والرّمم إلى دير بناه في الخندق، لأنه كان يقال إنها كانت عظام جماعة من الحواريين، وبنى مكانها مسجدا من داخل السور، يعني سور القصر. وقال جامع سيرة الظاهر بيبرس: وفي ذي الحجة سنة ستين وستمائة ظهر بالمسجد الذي بالركن المخلق من القاهرة حجر مكتوب عليه. هذا معبد موسى بن عمران عليه السلام، فجدّدت عمارته وصار يعرف بمعبد موسى من حينئذ، ووقف عليه ربع بجانبه، وهو باق إلى وقتنا هذا.
مسجد نجم الدين
هذا المسجد ظاهر باب النصر، أنشأه الملك الأفضل نجم الدين أبو سعيد أيوب بن شادي يعقوب بن مروان الكرديّ، والد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وجعل إلى جانبه حوض ماء للسبيل ترده الدواب في سنة ست وستين وخمسمائة، ونجم الدين هذا قدم هو وأخوه أسد الدين شيركوه من بلاد الأكراد إلى بغداد، وخدم بها وترقى في الخدم حتى صار دزدارا بقلعة تكريت ومعه أخوه، ثم إنه انتقل عنها إلى خدمة الملك المنصور عماد الدين أتابك زنكي بالموصل، فخدمه حتى مات، فتعلق بخدمة ابنه الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي فرقّاه وأعطاه بعلبك، وحج من دمشق سنة خمس وخمسمائة، فلما قدم ابنه صلاح الدين يوسف بن أيوب معه عمه أسد الدين شيركوه من عند نور الدين محمود إلى القاهرة، وصار إلى وزارة العاضد بعد موت شيركوه، قدم عليه أبوه نجم الدين في جمادى الآخرة سنة خمس وستين وخمسمائة، وخرج العاضد إلى لقائه وأنزله بمناظر اللؤلؤة، فلما استبدّ صلاح الدين بسلطنة مصر بعد موت الخليفة العاضد أقطع أباه نجم الدين الإسكندرية البحيرة إلى أن مات بالقاهرة، في يوم الثلاثاء لثلاث بقين من ذي الحجة، سنة ثمان وستين وخمسمائة، وقيل في ثامن عشرة من سقطة عن ظهر فرسه خارج باب النصر، فحمل إلى داره فمات بعد أيام، وكان خيّرا جوادا متدينا محبا لأهل العلم والخير، وما مات حتى رأى(4/278)
من أولاده عدّة ملوك، وصار يقال له أبو الملوك، ومدحه العماد الأصبهانيّ بعدّة قصائد، ورثاه الفقيه عمارة بقصيدته التي أوّلها:
هي الصدمة الأولى فمن بان صبره ... على هول ملقاه تعاظم أمره
مسجد صواب
هذا المسجد خارج القاهرة بخط الصليبة، عرف بالطواشي شمس الدين صواب مقدّم المماليك السلطانية، ومات في ثامن رجب سنة اثنتين وأربعين وستمائة، ودفن به وكان خيرا دينا فيه صلاح.
المسجد بجوار المشهد الحسينيّ
هذا المسجد أنهيّ في مستهل شهر رجب سنة اثنتين وستين وستمائة، للملك الظاهر ركن الدين بيبرس، وهو بدار العدل، أن مسجدا على باب مشهد السيد الحسين عليه السلام، وإلى جانبه مكان من حقوق القصر بيع وحمل ثمنه للديوان، وهو ستة آلاف درهم، فسأل السلطان عن صورة المسجد وهذا الموضع، وهل كل منهما بمفرده أو عليهما حائط دائر، فقيل له إن بينهما زرب قصب، فأمر بردّ المبلغ وأبقى الجميع مسجدا، وأمر بعمارة ذلك مسجدا لله تعالى.
مسجد الفجل
هذا المسجد بخط بين القصرين تجاه بيت البيسريّ، أصله من مساجد الخلفاء الفاطميين، أنشأه على ما هو عليه الآن الأمير بشتاك أخذ قصر أمير سلاح، ودار أقطوان الساقي، وأحد عشر مسجدا، وأربعة معابد كانت من عمارة الخلفاء وأدخلها في عمارته التي تعرف اليوم بقصر بشتاك، ولم يترك من المساجد والمعابد سوى هذا المسجد فقط، ويجلس فيه بعض نوّاب القضاة المالكية للحكم بين الناس، وتسميه العامّة مسجد الفجل، وتزعم أن النيل الأعظم كان يمرّ بهذا المكان، وأن الفجل كان يغسل موضع هذا المسجد فعرف بذلك، وهذا القول كذب لا أصل له، وقد تقدّم في هذا الكتاب ما كان عليه موضع القاهرة قبل بنائها، وما علمت أن النيل كان يمرّ هناك أبدا، وبلغني أنه عرف بمسجد الفجل من أجل أن الذي كان يقوم به كان يعرف بالفجل، والله أعلم.
مسجد تبر
هذا المسجد خارج القاهرة مما يلي الخندق، عرف قديما بالبئر، والجميزة، وعرف بمسجد تبر، وتسميه العامّة مسجد التبن وهو خطأ، وموضعه خارج القاهرة قريبا من(4/279)
المطرية. قال القضاعيّ: مسجد تبر بني على رأس إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، أنفذه المنصور فسرقه أهل مصر ودفنوه هناك، وذلك في سنة خمس وأربعين ومائة، ويعرف بمسجد البئر والجميزة. وقال الكنديّ في كتاب الأمراء: ثم قدمت الخطباء إلى مصر برأس إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب في ذي الحجة سنة خمس وأربعين ومائة، لينصبوه في المسجد الجامع، وقامت الخطباء فذكروا أمره.
وتبر هذا أحد الأمراء الأكابر في أيام الأستاذ كافور الإخشيديّ، فلما قدم جوهر القائد من المغرب بالعساكر ثار تبر الإخشيديّ هذا في جماعة من الكافورية والإخشيدية وحاربه، فانهزم بمن معه إلى أسفل الأرض، فبعث جوهر يستعطفه فلم يجب وأقام على الخلاف، فسير إليه عسكرا حاربه بناحية صهرجت فانكسر وصار إلى مدينة صور التي كانت على الساحل في البحر، فقبض عليه بها وأدخل إلى القاهرة على فيل، فسجن إلى صفر سنة ستين وثلاثمائة، فاشتدّت المطالبة عليه، وضرب بالسياط وقبضت أمواله، وحبس عدّة من أصحابه بالمطبق في القيود إلى ربيع الآخر منها، فجرح نفسه وأقام أياما مريضا ومات، فسلخ بعد موته وصلب عند كرسي الجبل. وقال ابن عبد الظاهر أنه حشي جلدة تبنا وصلب، فربما سمت العامّة مسجده بذلك لما ذكرناه، وقيل أن تبرا هذا خادم الدولة المصرية، وقبره بالمسجد المذكور. قال مؤلفه: هذا وهم وإنما هو تبر الإخشيديّ.
مسجد القطبية
هذا المسجد كان حيث المدرسة المنصورية بين القصرين والله أعلم.
ذكر الخوانك
الخوانك جمع خانكاه، وهي كلمة فارسية معناها بيت، وقيل أصلها خونقاه، أي الموضع الذي يأكل فيه الملك. والخوانك حدثت في الإسلام في حدود الأربعمائة من سني الهجرة، وجعلت لتخلي الصوفية فيها لعبادة الله تعالى. قال الأستاذ أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيريّ رحمه الله: اعلموا أن المسلمين بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يتسمّ أفاضلهم في عصرهم بتسمية علم سوى صحبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إذ لا فضيلة فوقها، فقيل لهم الصحابة، ولما أدرك أهل العصر الثاني، سميّ من صحب الصحابة التابعين، ورأوا ذلك أشرف سمة. ثم قيل لمن بعدهم أتباع التابعين، ثم اختلف الناس وتباينت المراتب، فقيل لخواص خواص الناس ممن لهم شدّة عناية بأمر الدين الزهّاد والعبّاد، ثم ظهرت البدع وحصل التداعي بين الفرق، فكلّ فريق ادّعوا أنّ فيهم زهادا، فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم التصوّف، واشتهر هذا الاسم لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة.(4/280)
قال: وهذه التسمية غلبت على هذه الطائفة، فيقال رجل صوفيّ، وللجماعة الصوفية، ومن يتوصل إلى ذلك يقال له متصوّف، وللجماعة المتصوّفة، وليس يشهد لهذا الاسم من حيث العربية قياس ولا اشتقاق، واو ظهر فيه أنه كاللّقب، فأمّا قول من قال أنه من الصوف، وتصوف إذا لبس الصوف كما يقال تقمص إذا لبس القميص، فذلك وجه، ولكن القوم لم يختصوا بلبس الصوف. ومن قال: إنهم ينسبون إلى صفة مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فالنسبة إلى الصفة لا تجيء على نحو الصوفيّ. ومن قال إنه من الصفاء، فاشتقاق الصوفيّ من الصفاء بعيد في مقتضى اللغة، وقول من قال أنه مشتق من الصف، فكأنهم في الصف الأوّل بقلوبهم من حيث المحاضرة مع الله تعالى، فالمعنى صحيح، لكنّ اللغة لا تقتضي هذه النسبة من الصف، ثم إن هذه الطائفة أشهر من أن يحتاج في تعيينهم إلى قياس لفظ واستحقاق اشتقاق، والله أعلم. وقال الشيخ شهاب الدين أبو حفص عمر بن محمد السهرورديّ رحمه الله: والصوفيّ يضع الأشياء في مواضعها، ويدبر الأوقات والأحوال كلها بالعلم، يقيم الخلق مقامهم، ويقيم أمر الحق مقامه، ويستر ما ينبغي أن يستر، ويظهر ما ينبغي أن يظهر، ويأتي بالأمور من مواضعها بحضور عقل وصحة توحيد وكمال معرفة ورعاية صدق وإخلاص، فقوم من المفتونين لبسوا ألبسة الصوفية لينسبوا إليهم وما هم منهم بشيء، بل هم في غرور وغلط، يتسترون بلبسة الصوفية توقيا تارة ودعوة أخرى، وينتهجون مناهج أهل الإباحة ويزعمون أن ضمائرهم خلصت إلى الله تعالى، وأن هذا هو الظفر بالمراد والارتسام بمراسم الشريعة، رتبة العوام والقاصرين الإفهام، وهذا هو عين الإلحاد والزندقة والإبعاد، ولله در القائل:
تنازع الناس في الصوفيّ واختلفوا ... فيه وظنوه مشتقا من الصوف
ولست انحل هذا الاسم غير فتى ... صافي وصوفي حتى سميّ الصوفي
قال مؤلفه: ذهب والله ما هنالك وصارت الصوفية. كما قال الشيخ فتح الدين محمد بن محمد بن سيد الناس اليعمري:
ما شروط الصوفي في عصرنا اليو ... م سوى ستة بغير زياده
وهي نيك العلوق «1» والسكر والسط ... لة والرقص والغنا والقياده
وإذا ما هذى وأبدى اتحادا ... وحلولا من جهله أو إعاده
وأتى المنكرات عقلا وشرعا ... فهو شيخ الشيوخ ذو السجّاده
ثم تلاشى الآن حال الصوفية ومشايخها حتى صاروا من سقط المتاع، لا ينسبون إلى علم ولا ديانة، وإلى الله المشتكى. وأوّل من اتخذ بيتا للعبادة زيد بن صوحان بن صبرة،(4/281)
وذلك أنه عمد إلى رجال من أهل البصرة قد تفرّغوا للعبادة وليس لهم تجارات ولا غلات، فبنى لهم دورا وأسكنهم فيها وجعل لهم ما يقوم بمصالحهم من مطعم ومشرب وملبس وغيره، فجاء يوما ليزورهم فسأل عنهم فإذا عبد الله بن عامر عامل البصرة لأمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه قد دعاهم. فأتاه فقال له: يا ابن عامر ما تريد من هؤلاء القوم؟ قال: أريد أن أقرّبهم فيشفعوا فأشفعهم، ويسألوا فأعطيهم، ويشيروا عليّ فأقبل منهم. فقال: لا ولا كرامة، فتأتي إلى قوم قد انقطعوا إلى الله تعالى فتدنسهم بدنياك وتشركهم في أمرك، حتى إذا ذهبت أديانهم أعرضت عنهم فطاحوا لا إلى الدنيا ولا إلى الآخرة، قوموا فارجعوا إلى مواضعكم. فقاموا، فأمسك ابن عامر فما نطق بلفظة. ذكره أبو نعيم.
الخانكاه الصلاحية، دار سعيد السعداء، دويرة الصوفية
هذه الخانكاه بخط رحبة باب العيد من القاهرة، كانت أوّلا دارا تعرف في الدولة الفاطمية بدار سعيد السعداء، وهو الأستاذ قنبر، ويقال عنبر. وذكر ابن ميسر أن اسمه بيان، ولقبه سعيد السعداء، أحد الأستاذين المحنكين خدّام القصر، عتيق الخليفة المستنصر، قتل في سابع شعبان سنة أربع وأربعين وخمسمائة، ورمي برأسه من القصر، ثم صلبت جثته بباب زويلة من ناحية الخرق، وكانت هذه الدار مقابل دار الوزارة. فلما كانت وزارة العادل رزيك بن الصالح طلائع بن رزيك سكنها وفتح من دار الوزارة إليها سردابا تحت الأرض ليمرّ فيه، ثم سكنها الوزير شاور بن مجير في أيام وزارته، ثم ابنه الكامل. فلما استبدّ الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي بملك مصر بعد موت الخليفة العاضد، وغير رسوم الدولة الفاطمية، ووضع من قصر الخلافة، وأسكن فيه أمراء دولته الأكراد، عمل هذه الدار برسم الفقراء الصوفية الواردين من البلاد الشاسعة، ووقفها عليهم في سنة تسع وستين وخمسمائة، وولى عليهم شيخا، ووقف عليهم بستان الحبانية بجوار بركة الفيل خارج القاهرة، وقيسارية الشراب بالقاهرة، وناحية دهمر، ومن البهنساوية، وشرط أنّ من مات من الصوفية وترك عشرين دينارا فما دونها كانت للفقراء، ولا يتعرّض لها الديوان السلطانيّ، ومن أراد منهم السفر يعطى تسفيره، ورتّب للصوفية في كلّ يوم طعاما ولحما وخبزا، وبنى لهم حمّاما بجوارهم، فكانت أوّل خانكاه عملت بديار مصر. وعرفت بدويرة الصوفية، ونعت شيخها بشيخ الشيوخ، واستمرّ ذلك بعده إلى أن كانت الحوادث والمحن منذ سنة ست وثمانمائة، واتضعت الأحوال وتلاشت الرتب، فلقب كل شيخ خانكاه بشيخ الشيوخ، وكان سكانها من الصوفية يعرفون بالعلم والصلاح وترجى بركتهم، وولي مشيختها الأكابر والأعيان كأولاد شيخ الشيوخ بن حمويه، مع ما كان لهم من الوزارة والإمارة وتدبير الدولة وقيادة الجيوش وتقدمة العساكر. ووليها ذو الرياستين الوزير الصاحب قاضي القضاة تقيّ الدين عبد الرحمن بن ذي الرياستين الوزير الصاحب قاضي القضاة تاج الدين ابن بنت(4/282)
الأعز، وجماعة من الأعيان، ونزل بها الأكابر من الصوفية.
وأخبرني الشيخ أحمد بن عليّ القصار رحمه الله: أنه أدرك الناس في يوم الجمعة يأتون من مصر إلى القاهرة ليشاهدوا صوفية خانقاه سعيد السعداء عند ما يتوجهون منها إلى صلاة الجمعة بالجامع الحاكميّ، كي تحصل لهم البركة والخير بمشاهدتهم، وكان لهم في يوم الجمعة هيئة فاضلة، وذلك أنه يخرج شيخ الخانقاه منها وبين يديه خدّام الربعة الشريفة قد حملت على رأس أكبرهم، والصوفية مشاة بسكون وخفر إلى باب الجامع الحاكميّ الذي يلي المنبر، فيدخلون إلى مقصورة كانت هناك على يسرة الداخل من الباب المذكور تعرف بمقصورة البسملة، فإنه بها إلى اليوم بسملة قد كتبت بحروف كبار، فيصلي الشيخ تحية المسجد تحت سحابة منصوبة له دائما، وتصلي الجماعة، ثم يجلسون وتفرّق عليهم أجزاء الربعة فيقرؤون القرآن حتى يؤذن المؤذنون، فتؤخذ الأجزاء منهم ويشتغلون بالتركع واستماع الخطبة، وهم منصتون خاشعون، فإذا قضيت الصلاة والدعاء بعدها قام قاريء من قرّأ الخانقاه ورفع صوته بقراءة ما تيسر من القرآن، ودعا للسلطان صلاح الدين، ولواقف الجامع ولسائر المسلمين، فإذا فرغ قام الشيخ من مصلاه وسار من الجامع إلى الخانقاه والصوفية معه كما كان توجههم إلى الجامع، فيكون هذا من أجمل عوايد القاهرة، وما برح الأمر على ذلك إلى أن ولي الأمير يلبغا السالميّ نظر الخانقاه المذكورة في يوم الجمعة ثامن عشر جمادى الآخرة سنة سبع وتسعين وسبعمائة، فنزل إليها وأخرج كتاب الوقف، وأراد العمل بما فيه من شرط الواقف، فقطع من الصوفية المنزلين بها عشرات ممن له منصب ومن هو مشهور بالمال، وزاد الفقراء المجرّدين وهم المقيمون بها في كلّ يوم رغيفا من الخبز، فصار لكلّ مجرّد أربعة أرغفة بعد ما كانت ثلاثة، ورتب بالخانقاه وظيفتي ذكر بعد صلاة العشاء الآخرة وبعد صلاة الصبح، فكثر النكير على السالميّ ممن أخرجهم، وزاد الإشلاء.
فقال بعض أدباء العصر في ذلك:
يا أهل خانقة الصلاح أراكم ... ما بين شاك للزمان وشاتم
يكفيكم ما قد أكلتم باطلا ... من وقفها وخرجتم بالسّالم
وكان سبب ولاية السالميّ نظر الخانقاه المذكورة، أن العادة كانت قديما أنّ الشيخ هو الذي يتحدّث في نظرها، فلما كانت أيام الظاهر برقوق ولي مشيختها شخص يعرف بالشيخ محمد البلاليّ قدم من البلاد الشامية، وصار للأمير سودون الشيخونيّ نائب السلطنة بديار مصر فيه اعتقاد، فلما سعى له في المشيخة واستقرّ فيها بتعيينه، سأله أن يتحدّث في النظر إعانة له، فتحدّث، وكانت عدّة الصوفية بها نحو الثلاثمائة رجل، لكلّ منهم في اليوم ثلاثة أرغفة زنتها ثلاثة أرطال خبز، وقطعة لحم زنتها ثلث رطل في مرق، ويعمل لهم الحلوى في كلّ شهر، ويفرّق فيهم الصابون، ويعطي كلّ منهم في السنة عن ثمن كسوة قدر أربعين(4/283)
درهما، فنزّل الأمير سودون عندهم جماعة كثيرة عجز ريع الوقف عن القيام لهم بجميع ما ذكر، فقطعت الحلوى والصابون والكسوة، ثم إن ناحية دهمر وشرقّت في سنة تسع وتسعين لقصور ماء النيل، فوقع العزم على غلق مطبخ الخانقاه وإبطال الطعام، فلم تحتمل الصوفية ذلك وتكرّرت شكواهم للملك الظاهر برقوق، فولّى الأمير يلبغا السالميّ النظر، وأمره أن يعمل بشرط الواقف.
فلما نزل إلى الخانقاه وتحدّث فيها، اجتمع بشيخ الإسلام سراج الدين عمر بن رسلان البلقينيّ وأوقفه على كتاب الوقف، فأفتاه بالعمل بشرط الواقف، وهو أن الخانقاه تكون وقفا على الطائفة الصوفية الواردين من البلاد الشاسعة والقاطنين بالقاهرة ومصر، فإن لم يوجدوا كانت على الفقراء من الفقهاء الشافعية والمالكية الأشعرية الاعتقاد، ثم إنه جمع القضاة وشيخ الإسلام وسائر صوفية الخانقاه بها وقرأ عليهم كتاب الوقف، وسأل القضاة عن حكم الله فيه، فانتدب للكلام رجلان من الصوفية، هما زين الدين أبو بكر القمنيّ، وشهاب الدين أحمد العباديّ الحنفيّ، وارتفعت الأصوات وكثر اللغط، فأشار القضاة على السالميّ أن يعمل بشرط الواقف وانصرفوا، فقطع منهم نحو الستين رجلا، منهم المذكوران، فامتعض العباديّ وغضب من ذلك وشنّع بأنّ السالميّ قد كفر، وبسط لسانه بالقول فيه، وبدت منه سماجات فقبض عليه السالميّ وهو ماش بالقاهرة، فاجتمع عدّة من الأعيان وفرّقوا بينهما، فبلغ ذلك السلطان فأحضر القضاة والفقهاء وطلب العباديّ في يوم الخميس ثامن شهر رجب وادّعى عليه السالميّ، فاقتضى الحال تعزيره، فعزر وكشف رأسه وأخرج من القلعة ماشيا بين يدي القضاة ووالي القاهرة إلى باب زويلة، فسجن بحبس الديلم، ثم نقل منه إلى حبس الرحبة، فلما كان يوم السبت حادي عشرة، استدعي إلى دار قاضي القضاة جمال الدين محمود القيصريّ الحنفيّ، وضرب بحضرة الأمير علاء الدين عليّ بن الطبلاويّ والي القاهرة نحو الأربعين ضربة بالعصا تحت رجليه، ثم أعيد إلى الحبس، وأفرج عنه في ثامن عشرة بشفاعة شيخ الإسلام فيه، ولما جدّد الأمير يلبغا السالميّ الجامع الأقمر، وعمل له منبرا وأقيمت به الجمعة في شهر ربيع الأوّل سنة إحدى وثمانمائة، الزم الشيخ بالخانقاه والصوفية أن يصلوا الجمعة به، فصاروا يصلّون الجمعة فيه إلى أن زالت أيام السالميّ، فتركوا الاجتماع بالجامع الأقمر، ولم يعودوا إلى ما كانوا عليه من الاجتماع بالجامع الحاكميّ، ونسي ذلك. ولم يكن بهذه الخانقاه مئذنة، والذي بنى هذه المئذنة شيخ ولي مشيختها في سنة بضع وثمانين وسبعمائة، يعرف بشهاب الدين أحمد الأنصاريّ، وكان الناس يمرّون في صحن الخانقاه بنعالهم، فجدّد شخص من الصوفية بها يعرف بشهاب الدين أحمد العثمانيّ هذا الدرابزين وغرس فيه هذه الأشجار، وجعل عليها وقفا لمن يتعاهدها بالخدمة.(4/284)
خانقاه ركن الدين بيبرس
هذه الخانقاه من جملة دار الوزارة الكبرى التي تقدّم ذكرها عند ذكر القصر من هذا الكتاب، وهي أجلّ خانقاه بالقاهرة بنيانا، وأوسعها مقدارا وأتقنها صنعة، بناها الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير المنصوريّ قبل أن يلي السلطنة، وهو أمير. فبدأ في بنائها في سنة ست وسبعمائة، وبنى بجانبها رباطا كبيرا يتوصل إليه من داخلها، وجعل بجانب الخانقاه قبة بها قبره، ولهذه القبة شبابيك تشرف على الشارع المسلوك فيه من رحبة باب العيد إلى باب النصر، من جملتها الشباك الكبير الذي حمله الأمير أبو الحارث البساسيريّ من بغداد، لما غلب الخليفة القائم العباسيّ وأرسل بعمامته وشباكه الذي كان بدار الخلافة في بغداد، وتجلس الخلفاء فيه، وهو هذا الشباك كما ذكر في أخبار دار الوزارة من هذا الكتاب. فلما ورد هذا الشباك من بغداد عمل بدار الوزارة واستمر فيها إلى أن عمر الأمير بيبرس الخانقاه المذكورة فجعل هذا الشباك بقبة الخانقاه، وهو بها إلى يومنا هذا، وإنه لشباك جليل القدر. حشم يكاد يتبين عليه أبهة الخلافة. ولما شرع في بنائها رفق بالناس ولا طفهم ولم يعسف فيها أحدا في بنائها ولا أكره صانعا ولا غصب من آلاتها شيئا، وإنما اشترى دار الأمير عز الدين الأفرم التي كانت بمدينة مصر، واشترى دار الوزير هبة الله بن صاعد الفائزيّ، وأخذ ما كان فيهما من الأنقاض، واشترى أيضا دار الأنماط التي كانت برأس حارة الجودرية من القاهرة ونقضها وما حولها، واشترى أملاكا كانت قد بنيت في أرض دار الوزارة من ملاكها بغير إكراه وهدمها، فكان قياس أرض الخانقاه والرباط والقبة نحو فدّان وثلث.
وعندما شرع في بنائها حضر إليه الأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير بكتاش الفخريّ أمير سلاح، وأراد التقرّب لخاطره، وعرّفه أن بالقصر الذي فيه سكن أبيه مغارة تحت الأرض كبيرة يذكر أنّ فيها ذخيرة من ذخائر الخلفاء الفاطميين، وأنهم لما فتحوها لم يجدوا بها سوى رخام كثير فسدّوها ولم يتعرّضوا لشيء مما فيها، فسرّ بذلك وبعث عدّة من الأمراء فتحوا المكان فإذا فيه رخام جليل القدر عظيم الهيئة، فيه ما لا يوجد مثله لعظمه، فنقله من المغارة ورخم منه الخانقاه والقبة وداره التي بالقرب من البندقانيين وحارة زويلة، وفضل منه شيء كثير عهدي أنه مختزن بالخانقاه، وأظنه أنه باق هناك. ولما كملت في سنة تسع وسبعمائة، قرّر بالخانقاه أربعمائة صوفيّ، وبالرباط مائة من الجند وأبناء الناس الذين قعد بهم الوقت، وجعل بها مطبخا يفرّق على كلّ منهم في كلّ يوم اللحم والطعام وثلاثة أرغفة من خبز البرّ، وجعل لهم الحلوى، ورتب بالقبة درسا للحديث النبويّ له مدرّس، وعنده عدّة من المحدّثين، ورتب القرّاء بالشباك الكبير يتناوبون القراءة فيه ليلا ونهارا، ووقف عليها عدّة ضياع بدمشق وحماه ومنية المخلص(4/285)
بالجيزة من أرض مصر وبالصعيد والوجه البحريّ والربع والقيسارية بالقاهرة.
فلما خلع من السلطنة وقبض عليه الملك الناصر محمد بن قلاون وقتله، أمر بغلقها فغلقت، وأخذ سائر ما كان موقوفا عليها ومحا اسمه من الطراز الذي بظاهرها فوق الشبابيك، وأقامت نحو عشرين سنة معطلة، ثم إنه أمر بفتحها في أوّل سنة ست وعشرين وسبعمائة، ففتحت، وأعاد إليها ما كان موقوفا عليها، واستمرّت إلى أن شرقت أراضي مصر لقصور مدّ النيل أيام الملك الأشرف شعبان بن حسين في سنة ست وسبعين وسبعمائة، فبطل طعامها وتعطل مطبخها، واستمرّ الخبز ومبلغ سبعة دراهم لكلّ واحد في الشهر بدل الطعام، ثم صار لكلّ واحد منهم في الشهر عشرة دراهم، فلما قصر مدّ النيل في سنة ست وتسعين وسبعمائة، بطل الخبز أيضا وغلق المخبز من الخانقاه، وصار الصوفية يأخذون في كلّ شهر مبلغا من الفلوس معاملة القاهرة، وهم على ذلك إلى اليوم. وقد أدركتها ولا يمكّن بوّابها غير أهلها من العبور إليها والصلاة فيها لما لها في النفوس من المهابة، ويمنع الناس من دخولها حتى الفقهاء والأجناد، وكان لا ينزل بها أمرد، وفيها جماعة من أهل العلم والخير، وقد ذهب ما هنالك فنزل بها اليوم عدّة من الصغار ومن الأساكفة وغيرهم من العامّة، إلّا أن أوقافها عامرة وأرزاقها دارّة بحسب نقود مصر، ومن حسن بناء هذه الخانقاه أنه لم يحتج فيها إلى مرمّة منذ بنيت إلى وقتنا هذا، وهي مبنية بالحجر وكلها عقود محكمة بدل السقوف الخشب، وقد سمعت غير واحد يقول إنه لم تبن خانقاه أحسن من بنائها.
الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير المنصوريّ: اشتراه الملك المنصور قلاون صغيرا ورقاه في الخدم السلطانية إلى أن جعله أحد الأمراء، وأقامه جاشنكير وعرف بالشجاعة. فلما مات الملك المنصور خدم ابنه الملك الأشرف خليلا إلى أن قتله الأمير بيدرا بناحية تروجة، فكان أوّل من ركب على بيدرا في طلب ثار الملك الأشرف، وكان مهابا بين خشداشيته فركبوا معه، وكان من نصرتهم على بيدرا وقتله ما قد ذكر في موضعه، فاشتهر ذكره وصار أستادار السلطان في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون في سلطنته الثانية، رفيقا للأمير سلار نائب السلطنة، وبه قويت الطائفة البرجية من المماليك واشتدّ بأسهم، وصار الملك الناصر تحت حجر بيبرس وسلار إلى أن أنف من ذلك وسار إلى الكرك، فأقيم بيبرس في السلطنة يوم السبت ثالث عشري شوّال سنة ثمان وسبعمائة، فاستضعف جانبه وانحط قدره ونقصت مهابته، وتغلب عليه الأمراء والمماليك، واضطربت أمور المملكة لمكان الأمير سلار وكثرة حاشيته وميل القلوب إلى الملك الناصر، وفي أيامه عمل الجسر من قليوب إلى مدينة دمياط وهو مسيرة يومين طولا في عرض أربع قصبات من أعلاه، وست قصبات من أسفله، حتى أنه كان يسير عليه ستة من الفرسان معا بحذاء بعضهم، وأبطل سائر الخمارات من السواحل وغيرها من بلاد الشام، وسامح بما كان من المقرّر عليها للسلطان، وعوّض الأجناد بدله، وكبست أماكن الريب والفواحش بالقاهرة(4/286)
ومصر، وأريقت الخمور وضرب أناس كثير في ذلك بالمقارع، وتتبع أماكن الفساد وبالغ في إزالته، ولم يراع في ذلك أحدا من الكتاب ولا من الأمراء، فخف المنكر وخفي الفساد، إلا أن الله أراد زوال دولته، فسوّلت له نفسه أن بعث إلى الملك الناصر بالكرك يطلب منه ما خرج به معه من الخيل والمماليك، وحمل الرسول إليه بذلك مشافهة أغلظ عليه فيها، فحنق من ذلك وكاتب نوّاب الشام وأمراء مصر في السرّ يشكو ما حلّ به، وترفق بهم وتلطف بهم فرقوا له وامتعضوا لما به، ونزل الناصر من الكرك وبرز عنها، فاضطرب الأمر بمصر واختلّ الحال من بيبرس وأخذ العسكر يسير من مصر إلى الناصر شيئا بعد شيء، وسار الناصر من ظاهر الكرك يريد دمشق في غرّة شعبان سنة تسع وسبعمائة، فعندما نزل الكسوة «1» خرج الأمراء وعامّة أهل دمشق إلى لقائه، ومعهم شعار السلطنة، ودخلوا به إلى المدينة وقد فرحوا به فرحا كثيرا، في ثاني عشر شعبان، ونزل بالقلعة وكاتب النوّاب فقدموا عليه وصارت ممالك الشام كلها تحت طاعته يخطب له بها ويجبى إليه مالها، ثم خرج من دمشق بالعساكر يريد مصر، وأمر بيبرس كلّ يوم في نقص إلى أن كان يوم الثلاثاء سادس عشر رمضان، فترك بيبرس المملكة ونزل من قلعة الجبل ومعه خواصه إلى جهة باب الفراقة، والعامّة تصيح عليه وتسبه وترجمه بالحجارة، عصبية للملك الناصر وحبا له، حتّى سار عن القرافة، ودعا الحرس بالقلعة في يوم الأربعاء للملك الناصر، فكانت مدّة سلطنة بيبرس عشرة أشهر وأربعة وعشرين يوما، وقدم الملك الناصر إلى قلعة الجبل أوّل يوم من شوّال، وجلس على تخت المملكة واستولى على السلطنة مرّة ثالثة، ونزل بيبرس بأطفيح ثم سار منها إلى أخميم، فلما صار بها تفرّق عنه من كان معه من الأمراء والمماليك فصاروا إلى الملك الناصر، فتوجه في نفر يسير على طريق السويس يريد بلاد الشام فقبض عليه شرقيّ غزة وحمل مقيدا إلى الملك الناصر، فوصل قلعة الجبل يوم الأربعاء ثالث عشر ذي القعدة، وأوقف بين يدي السلطان وقبّل الأرض، فعنفه وعدّد عليه ذنوبا ووبخه، ثم أمر به فسجن في موضع إلى ليلة الجمعة خامس عشرة، وفيها لحق بربه تعالى، فحمل إلى القرافة ودفن في تربة الفارس أقطاي، ثم نقل منها بعد مدّة إلى تربته بسفح المقطم فقبر بها زمانا طويلا، ثم نقل منها ثالث مرّة إلى خانقاهه ودفن بقبتها، وقبره هناك إلى يومنا هذا.، وأدركت بالخانقاه المذكورة شيخا من صوفيتها أخبرني أنه حضر نقله من ترتبه بالقرافة إلى قبة الخانقاه، وأنه تولى وضعه في مدفنه بنفسه، وكان رحمه الله خيّرا عفيفا كثير الحياء وافر الحرمة جليل القدر عظيما في النفوس مهاب السطوة في أيام أمرته، فلما تلقب بالسلطنة ووسم باسم الملك، اتضع قدره واستضعف جانبه، وطمع فيه، وتغلب عليه الأمراء والمماليك، ولم تنجح مقاصده ولا سعد في شيء من تدبيره إلى أن انقضت أيامه وأناخ به حمامه. رحمه الله.(4/287)
الخانقاه الجمالية
هذه الخانقاه بالقرب من درب راشد، يسلك إليها من رحبة باب العيد، بناها الأمير الوزير مغلطاي الجماليّ في سنة ثمانين وسبعمائة، وقد تقدّم ذكرها عند ذكر المدارس من هذا الكتاب.
الخانقاه الظاهرية
هذه الخانقاه بخط بين القصرين فيما بين المدرسة الناصرية ودار الحديث الكاملية، أنشأها الملك الظاهر برقوق في سنة ست وثمانين وسبعمائة، وقد ذكرت عند ذكر الجوامع من هذا الكتاب.
الخانقاه الشرابيشية
هذه الخانقاه فيما بين الجامع الأقمر وحارة برجوان في آخر المنحر الذي كان للخلفاء، وهو يعرف اليوم بالدرب الأصفر، ويتوصل منها إلى الدرب الأصفر تجاه خانقاه بيبرس، وبابها الأصليّ من زقاق ضيق بوسط سوق حارة برجوان، أنشأها الصدر الأجل نور الدين عليّ بن محمد بن محاسن الشرابيشيّ، وكان من ذوي الغنى واليسار، صاحب ثراء متسع، وله عدّة أوقاف على جهات البرّ والقربات ومات في ... «1» .
الخانقاه المهمندارية
هذه الخانقاه خارج باب زويلة فيما بين رأس حارة اليانسية وجامع الماردينيّ، بناها الأمير شهاب الدين أحمد بن أقوش العزيزيّ المهمندار، ونقيب الجيوش، في سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وقد ذكرت في المدارس من هذا الكتاب.
خانقاه بشتاك
هذه الخانقاه خارج القاهرة على جانب الخليج من البرّ الشرقيّ تجاه جامع بشتاك، أنشأها الأمير سيف الدين بشتاك الناصريّ، وكان فتحها أوّل يوم من ذي الحجة سنة ست وثلاثين وسبعمائة، واستقرّ في مشيختها شهاب الدين القدسيّ، وتقرّر عنده عدّة من الصوفية وأجرى لهم الخبز والطعام في كلّ يوم، فاستمرّ ذلك مدّة ثم بطل، وصار يصرف لأربابها عوضا عن ذلك في كلّ شهر مبلغ، وهي عامرة إلى وقتنا هذا، وقد نسب إليها جماعة منهم الشيخ الأديب البارع بدر الدين محمد بن إبراهيم المعروف بالبدر البشتكي.(4/288)
خانقاه ابن غراب
هذه الخانقاه خارج القاهرة على الخليج الكبير من برّه الشرقيّ بجوار جامع بشتاك من غريبه، أنشأها القاضي الأمير سعد الدين إبراهيم بن عبد الرزاق بن غراب الإسكندرانيّ، ناظر الخاص وناظر الجيوش وأستادار السلطان، وكاتب السرّ، وأحد أمراء الألوف الأكابر، أسلم جد غراب وباشر بالإسكندرية حتى ولي نظر الثغر، ونشأ ابنه عبد الرزاق هناك، فولي أيضا نظر الإسكندرية، وولد له ماجد وإبراهيم. فلما تحكم الأمير جمال الدين محمود بن عليّ في الأموال أيام الملك الظاهر برقوق، اختص بإبراهيم وحمله إلى القاهرة وهو صبيّ واعتنى به واستكتبه في خاص أمواله حتى عرفها، فتنكر محمود عليه لأمر بدا منه في ماله، وهمّ به فبادر إلى الأمير علاء الدين عليّ بن الطبلاويّ وترامى عليه، وهو يومئذ قد نافس محمودا فأوصله بالسلطان وأمكنه من سماع كلامه، فملأ أذنه بذكر أموال محمود ووغر صدره عليه حتى نكبه واستصفى أمواله، كما ذكر في خبره عند ذكر مدرسة محمود من هذا الكتاب، وولي ابن غراب نظر الديوان المفرد في حادي عشر صفر سنة ثمان وتسعين وسبعمائة، وعمره عشرون سنة أو نحوها، وهي أوّل وظيفة وليها، فاختص بابن الطبلاويّ ولازمه وملأ عينه بكثرة المال، فتحدّث له في وظيفة نظر الخاص عوضا عن سعد الدين أبي الفرج بن تاج الدين موسى، فوليها في تاسع عشر ذي القعدة، وغص بمكان ابن الطبلاويّ فعمل عليه عند السلطان حتى غيره عليه وولاه أمره، فقبض عليه في داره وعلى سائر أسبابه في شعبان في سنة ثمانمائة، ثم أضيف إليه نظر الجيوش عوضا عن شرف الدين محمد الدمامينيّ في تاسع ذي القعدة سنة ثمانمائة، فعفّ عن تناول الرسوم وأظهر من الفخر والحشمة والمكارم أمرا كبيرا، وقدّر الله موت السلطان في شوّال سنة إحدى وثمانمائة بعد ما جعله من جملة أوصيائه، فباطن الأمير يشبك الخازندار على إزالة الأمير الكبير أيتمش القائم بدولة الناصر فرج بن برقوق، وعمل لذلك أعمالا حتى كانت الحرب بعد موت السلطان الملك الظاهر بين الأمير أيتمش وبين الأمير يشبك، في ربيع الأوّل سنة اثنتين وثمانمائة، التي انهزم فيها أيتمش وعدّة من الأمراء إلى الشام، وتحكم الأمير يشبك فاستدعى عند ذلك ابن غراب أخاه فخر الدين ماجدا من الإسكندرية، وهو يلي نظرها إلى قلعة الجبل، وفوّضت إليه وزارة الملك الناصر فرج بن برقوق، فقاما بسائر أمور الدولة إلى أن ولي الأمير يلبغا السالميّ الأستادارية، فسلك معه عادته من المنافسة، وسعى به عند الأمير يشبك حتى قبض عليه، وتقلد وظيفة الأستادارية عوضا عن السالميّ في رابع عشر رجب سنة ثلاث وثمانمائة، مضافا إلى نظر الخاص ونظر الجيوش، فلم يغير زيّ الكتاب، وصار له ديوان كدواوين الأمراء، ودقت الطبول على بابه، وخاطبه الناس وكاتبوه بالأمير، وسار في ذلك سيرة ملوكية من كثرة العطاء وزيادة الأسمطة والاتساع في الأمور، والازدياد من المماليك(4/289)
والخيول، والاستكثار من الخول والحواشي، حتى لم يكن أحد يضاهيه في شيء من أحواله، إلى أن تنازع الأميران حكم وسودون طاز مع الأمير يشبك، فكان هو المتولي كبر تلك الحروب، ثم إنه خرج من القاهرة مغاضبا لأمراء الدولة، وصار إلى ناحية تروجة يريد جمع العربان ومحاربة الدولة، فلم يتم له ذلك. وعاد فدخل القاهرة على حين غفلة، فنزل عند جمال الدين يوسف الأستادار، فقام بإصلاح أمره مع الأمراء حتى حصل له الغرض، فظهر واستولى على ما كان عليه إلى أن تنكرت رجال الدولة على الملك الناصر فرج، فقام مع الأمير يشبك بحرب السلطان إلى أن انهزم الأمير يشبك بأصحابه إلى الشام، فخرج معه في سنة تسع وثمانمائة، وأمدّه ومن معه بالأموال العظيمة حتى صاروا عند الأمير شيخ نائب الشام، واستفز العساكر لقتال الملك الناصر وحرّضهم على المسير إلى حربه، وخرج من دمشق مع العساكر يريد القاهرة، وكان من وقعة السعيدية ما كان على ما هو مذكور في خبر الملك الناصر عند ذكر الخانقاه الناصرية من هذا الكتاب، فاختفى الأمير يشبك وطائفة من الأمراء بالقاهرة، ولحق ابن غراب بالأمير اينال پاي بن قجماس، وهو يومئذ أكبر الأمراء الناصرية، وملأ عينه بالمال، فتوسط له مع الملك الناصر حتى أمنه وأصبح في داره وجميع الناس على بابه، ثم تقلد وظيفة نظر الجيوش واختص بالسلطان، وما زال به حتى استرضاه على الأمير يشبك ومن معه من الأمراء، وظهروا من الاستتار وصاروا بقلعة الجبل، فخلع عليهم السلطان وأمّرهم وصاروا إلى دورهم، فثقل على ابن غراب مكان فتح الدين فتح الله كاتب السرّ، فسعى به حتى قبض عليه وولي مكانه كتابة السرّ ليتمكن من أغراضه. فلما استقرّ في كتابة السرّ أخذ في نقض دولة الناصر إلى أن تم له مراده، وصارت الدولة كلها على الناصر، فخلا به وخيل له وحسّن له الفرار، فانقاد له وترامى عليه، فأعدّ له رجلين أحدهما من مماليكه ومعهما فرسان، ووقفا بهما وراء القلعة، وخرج الناصر وقت القائلة ومعه مملوك من مماليكه يقال له بيغوت، وركبا الفرسين وسارا إلى ناحية طرا، ثم عادا مع قاصدي ابن غراب في مركب من المراكب النيلية ليلا إلى دار ابن غراب ونزلا عنده، وقد خفي ذلك على جميع أهل الدولة، وقام ابن غراب بتولية عبد العزيز بن برقوق وأجلسه على تخت الملك عشاء، ولقبه بالملك المنصور، ودبر الدولة كما أحب مدّة سبعين يوما إلى أن أحس من الأمراء بتغير، فأخرج الناصر ليلا وجمع عليه عدّة من الأمراء والمماليك وركب معه بلامة الحرب إلى القلعة، فلم يلبث أصحاب المنصور وانهزموا ودخل الناصر إلى القلعة واستولى على المملكة ثانيا، فألقى مقاليد الدولة إلى ابن غراب وفوّض إليه ما وراء سريره ونظمه في خاصته، وجعله من أكابر الأمراء وناط به جميع الأمور، فأصبح مولى نعمة كلّ من السلطان والأمراء، يمنّ عليهم بأنه أبقى لهم مهجهم، وأعاد إليهم سائر ما كانوا قد سلبوه من ملكهم، وأمدّهم بما له وقت حاجتهم وفاقتهم إليه، ويفخر ويتكثر بأنه أقام دولة وأزال دولة، ثم أزال ما أقام وأقام ما أزال من غير حاجة ولا ضرورة ألجأته إلى شيء من(4/290)
ذلك، وأنه لو شاء أخذ الملك لنفسه، وترك كتابة السرّ لغلامه وأحد كتابه فخر الدين بن المزوق ترفعا عنها واحتقارا بها، ولبس هيئة الأمراء، وهي الكلوتة والقباء وشدّ السيف في وسطه، وتحوّل من داره التي على بركة الفيل إلى دار بعض الأمراء بحدرة البقر، فغاضبه القضاة، وكان عند الانتهاء الانحطاط، ونزل به مرض الموت فنال في مرضه من السعادة ما لم يسمع بمثله لأحد من أبناء جنسه، وصار الأمير يشبك ومن دونه من الأمراء يتردّدون إليه، وأكثرهم إذا دخل عليه وقف قائما على قدميه حتى ينصرف إلى أن مات يوم الخميس تاسع عشر شهر رمضان سنة ثمان وثمانمائة، ولم يبلغ ثلاثين سنة.
وكانت جنازته أحد الأمور العجيبة بمصر لكثرة من شهدها من الأمراء والأعيان وسائر أرباب الوظائف، بحيث استأجر الناس السقائف والحوانيت لمشاهدتها، ونزل السلطان للصلاة عليه، وصعد إلى القلعة، فدفن خارج باب المحروق، وكان من أحسن الناس شكلا وأحلاهم منظرا وأكرمهم يدا مع تدين وتعفف عن القاذورات، وبسط يد بالصدقات، إلّا أنه كان غدّارا لا يتوانى عن طلب عدوّه، ولا يرضى من نكبته بدون إتلاف النفس، فكم ناطح كبشا وتل عرشا وعالج جبالا شامخة واقتلع دولا من أصولها الراسخة، وهو أحد من قام بتخريب إقليم مصر، فإنه ما زال يرفع سعر الذهب حتى بلغ كلّ دينار إلى مائتي درهم وخمسين درهما من الفلوس، بعد ما كان بنحو خمسة وعشرين درهما، ففسدت بذلك معاملة الإقليم وقلت أمواله وغلت أسعار المبيعات، وساءت أحوال الناس، إلى أن زالت البهجة وانطوى بساط الرقة، وكاد الإقليم يدمر كما ذكر ذلك عند ذكر الأسباب التي نشأ عنها خراب مصر من هذا الكتاب، عفا الله عنه وسامحه، فلقد قام بمواراة آلاف من الناس الذين هلكوا في زمان المحنة، سنة ست وسنة سبع وثمانمائة، وتكفينهم، فلم ينس الله له ذلك وستره كما ستر المسلمين، وما كان ربك نسيا.
الخانقاه البندقدارية
هذه الخانقاه بالقرب من الصليبة، كان موضعها يعرف قديما بدويرة مسعود، وهي الآن تجاه المدرسة الفارقانية وحمّام الفارقاني. أنشأها الأمير علاء الدين أيدكين البندقداريّ الصالحيّ النجميّ، وجعلها مسجدا لله تعالى، وخانقاه، ورتب فيها صوفية وقرّاء في سنة ثلاث وثمانين وستمائة، وفي سنة ثمان وأربعين وستمائة استنابه الملك المعز أيبك، فواظب الجلوس بالمدارس الصالحية مع نوّاب دار العدل، وإلى أيدكين هذا ينسب الملك الظاهر بيبرس البندقداريّ، لأنه كان أوّلا مملوكه، ثم انتقل منه إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب، فعرف بين المماليك البحرية ببيبرس البندقداريّ، وعاش أيدكين إلى أن صار بيبرس سلطان مصر وولاه نيابة السلطنة بحلب، في سنة تسع وخمسين وستمائة، وكان الغلاء بها شديدا، فلم تطل أيامه وفارقها بدمشق بعد محاربة سنقر الأشقر والقبض عليه، في حادي(4/291)
عشر صفر سنة تسع وخمسين وستمائة، فأقام في النيابة نحو شهر، وصرفه الأمير علاء الدين طيبرس الوزيريّ. فلما خرج السلطان إلى الشام في سنة إحدى وستين وستمائة، وأقام بالطور، أعطاه أمرة بمصر وطبلخاناه في ربيع الآخر منها، ومات في ربيع الآخر سنة أربع وثمانين وستمائة، ودفن بقبة هذه الخانقاه.
خانقاه شيخو
هذه الخانقاه في خط الصليبة خارج القاهرة تجاه جامع شيخو، أنشأها الأمير الكبير سيف الدين شيخو العمريّ في سنة ست وخمسين وسبعمائة، كان موضعها من جملة قطائع أحمد بن طولون، وآخر ما عرف من خبره أنه كان مساكن للناس، فاشتراها الأمير شيخو من أربابها وهدمها في المحرّم من هذه السنة، فكانت مساحة أرضها زيادة على فدّان، فاختط فيها الخانقاه وحمّامين وعدّة حوانيت يعلوها بيوت لسكنى العامّة، ورتب بها دروسا عدّة، منها أربعة دروس لطوائف الفقهاء الأربعة، وهم الشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة، ودرسا للحديث النبويّ، ودرسا لإقراء القرآن بالروايات السبع، وجعل لكلّ درس مدرّسا وعنده جماعة من الطلبة، وشرط عليهم حضور الدرس وحضور وظيفة التصوّف، وأقام شيخنا أكمل الدين محمد بن محمود في مشيخة الخانقاه، ومدرّس الحنفية، وجعل إليه النظر في أوقاف الخانقاه، وقرّر في تدريس الشافعية الشيخ بهاء الدين أحمد بن عليّ السبكيّ، وفي تدريس المالكية الشيخ خليلا، وهو متجند الشكل وله إقطاع في الحلقة. وفي تدريس الحنابلة قاضي القضاة موفق الدين الحنبليّ، ورتب لكل من الطلبة في اليوم الطعام واللحم والخبز، وفي الشهر الحلوى والزيت والصابون، ووقف عليها الأوقاف الجليلة، فعظم قدرها واشتهر في الأقطار ذكرها، وتخرّج بها كثير من أهل العلم، وأربت في العمارة على كل وقف بديار مصر إلى أن مات الشيخ أكمل الدين في شهر رمضان سنة ست وثمانين وسبعمائة، فوليها من بعده جماعة، ولما حدثت المحن كان بها مبلغ كبير من المال الذي فاض عن مصروفها، فأخذه الملك الناصر فرج، وأخذت أحوالها تتناقص حتى صار المعلوم يتأخر صرفه لأرباب الوظائف بها عدّة أشهر، وهي إلى اليوم على ذلك.
الخانقاه الجاولية
هذه الخانقاه على جبل يشكر بجوار مناظر الكبش، فيما بين القاهرة ومصر، أنشأها الأمير علم الدين سنجر الجاوليّ في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة، وقد تقدّم ذكرها في المدارس.
خانقاه الجيبغا المظفري
هذه الخانقاه خارج باب النصر فيما بين قبة النصر وتربة عثمان بن جوشن السعوديّ، أنشأها الأمير سيف الدين الجيبغا المظفريّ، وكان بها عدّة من الفقراء يقيمون بها ولهم فيها(4/292)
شيخ، ويحضرون في كل يوم وظيفة التصوّف، ولهم الطعام والخبز، وكان بجانبها حوض ماء لشرب الدواب، وسقّاية بها الماء العذب لشرب الناس، وكتّاب يقرأ فيه أطفال المسلمين الأيتام كتاب الله تعالى، ويتعلمون الخط، ولهم في كلّ يوم الخبز وغيره، وما برحت على ذلك إلى أن أخرج الأمير برقوق أوقافها، فتعطلت وأقام بها جماعة من الناس مدّة ثم تلاشى أمرها، وهي الآن باقية من غير أن يكون فيها سكان، وقد تعطل حوضها وبطل مكتب السبيل.
الجيبغا المظفريّ: الخاصكي، تقدّم في أيام الملك المظفر حاجي بن الملك الناصر محمد بن قلاون، تقدّما كثيرا، بحيث لم يشاركه أحد في رتبته. فلما قام الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون في السلطنة أقرّه على رتبته، وصار أحد أمراء المشورة الذين يصدر عنهم الأمر والنهي، فلما اختلف أمراء الدولة أخرج إلى دمشق في ربيع الأوّل سنة تسع وأربعين وسبعمائة، وأقام بدمشق إلى شعبان، وسار إلى نيابة طرابلس عوضا عن الأمير بدر الدين مسعود بن الخطيريّ، فلم يزل على نيابتها إلى شهر ربيع الأوّل سنة خمسين وسبعمائة، فكتب إلى الأمير أرغون شاه نائب دمشق يستأذنه في التصيد إلى الناعم «1» ، فأذن له وسار من طرابلس وأقام على بحيرة حمص أياما يتصيد، ثم ركب ليلا بمن معه وساق إلى خان لاجين ظاهر دمشق، فوصله أوّل النهار وأقام به يومه، ثم ركب منه بمن معه ليلا وطرق أرغون شاه وهو بالقصر الأبلق، وقبض عليه وقيده في ليلة الخميس ثالث عشري شهر ربيع الأوّل، وأصبح وهو بسوق الخيل، فاستدعى الأمراء وأخرج لهم كتاب السلطان بإمساك أرغون شاه، فأذعنوا له واستولى على أموال أرغون شاه. فلما كان يوم الجمعة رابع عشريه، أصبح أرغون شاه مذبوحا، فأشاع الجيبغا أن أرغون شاه ذبح نفسه، وفي يوم الثلاثاء أنكر الأمراء أمره وثاروا لحربه، فركب وقاتلهم وانتصر عليهم وقتل جماعة منهم وأخذ الأموال وخرج من دمشق وسار إلى طرابلس، فأقام بها، وورد الخبر من مصر إلى دمشق بإنكار كل ما وقع والاجتهاد في مسك الجيبغا، فخرجت عساكر الشام إليه ففرّ من طرابلس، فأدركه عسكر طرابلس عند بيروت وحاربوه حتى قبضوا عليه، وحمل إلى عسكر دمشق فقيد وسجن بقلعة دمشق في ليلة السبت سادس عشر ربيع الآخر، هو وفخر الدين إياس، ثم وسط بمرسوم السلطان تحت قلعة دمشق بحضور عساكر دمشق، ووسط معه الأمير فخر الدين إياس وعلقا على الخشب، في ثامن عشر ربيع الآخر سنة خمسين وسبعمائة، وعمره دون العشرين سنة، فما طرّ «2» شاربه وكأنه البدر حسنا والغصن اعتدالا.
خانقاه سرياقوس
هذه الخانقاه خارج القاهرة من شماليها على نحو بريد منها، بأوّل تيه بني إسرائيل(4/293)
بسماسم سرياقوس، أنشأها السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون، وذلك أنه لما بنى الميدان والأحواش في بركة الجبّ، كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب عند ذكر بركة الجب، اتفق أنه ركب على عادته للصيد هناك، فأخذه ألم عظيم في جوفه كاد يأتي عليه وهو يتجلد ويكتم ما به حتى عجز، فنزل عن الفرس والألم يتزايد به، فنذر لله إن عافاه الله ليبنين في هذا الموضع موضعا يعبد الله تعالى فيه، فخف عنه ما يجده، وركب فقضى نهمته من الصيد وعاد إلى قلعة الجبل، فلزم الفراش مدّة أيام ثم عوفي، فركب بنفسه ومعه عدّة من المهندسين، واختط على قدر ميل من ناحية سرياقوس هذه الخانقاه، وجعل فيها مائة خلوة لمائة صوفيّ، وبنى بجانبها مسجدا تقام به الجمعة، وبنى بها حمّاما ومطبخا، وكان ذلك في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة. فلما كانت سنة خمس وعشرين وسبعمائة، كمل ما أراد من بنائها، وخرج إليها بنفسه ومعه الأمراء والقضاة ومشايخ الخوانك، ومدّت هناك أسمطة عظيمة بداخل الخانقاه في يوم الجمعة سابع جمادى الآخرة، وتصدّر قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعيّ لإسماع الحديث النبويّ، وقرأ عليه ابنه عز الدين عبد العزيز عشرين حديثا تساعيا، وسمع السلطان ذلك، وكان جمعا موفورا، وأجاز قاضي القضاة الملك الناصر ومن حضر برواية ذلك. وجميع ما يجوز له روايته، وعند ما انقضى مجلس السماع قرّر السلطان في مشيخة هذه الخانكاه الشيخ مجد الدين موسى بن أحمد بن محمود الأقصرائي، ولقّبه بشيخ الشيوخ، فصار يقال له ذلك ولكلّ من ولي بعده، وكان قبل ذلك لا يلقب بشيخ الشيوخ إلّا شيخ خانقاه سعيد السعداء، وأحضرت التشاريف السلطانية فخلع على قاضي القضاة بدر الدين، وعلى ولده عز الدين، وعلى قاضي القضاة المالكية، وعلى الشيخ مجد الدين أبي حامد موسى بن أحمد بن محمود الأقصرائي شيخ الشيوخ، وعلى الشيخ علاء الدين القونويّ شيخ خاقناه سعيد السعداء، وعلى الشيخ قوام الدين أبي محمد عبد المجيد بن أسعد بن محمد الشيرازيّ، شيخ الصوفية بالجامع الجديد الناصريّ، خارج مدينة مصر، وعلى جماعة كثيرة. وخلع على سائر الأمراء وأرباب الوظائف، وفرّق بها ستين ألف درهم فضة وعاد إلى قلعة الجبل، فرغب الناس في السكنى حول هذه الخانقاه وبنو الدور والحوانيت والخانات، حتى صارت بلدة كبيرة تعرف بخانقاه سرياقوس، وتزايد الناس بها حتى أنشئ فيها سوى حمّام الخانقاه عدّة حمّامات، وهي إلى اليوم بلدة عامرة، ولا يؤخذ بها مكس البتة مما يباع من سائر الأصناف احتراما لمكان الخانقاه، ويعمل هناك في يوم الجمعة سوق عظيم ترد الناس إليه من الأماكن البعيدة، يباع فيه الخيل والجمال والحمير والبقر والغنم والدجاج والأوز وأصناف الغلات وأنواع الثياب وغير ذلك، وكانت معاليم هذه الخانكاه من أسنى معلوم بديار مصر، يصرف لكل صوفيّ في اليوم من لحم الضأن السليج رطل قد طبخ في طعم شهيّ، ومن الخبز النقيّ أربعة أرطال ويصرف له في كل شهر مبلغ أربعين درهما فضة عنها(4/294)
ديناران ورطل حلوى ورطلان زيتا من زيت الزيتون، ومثل ذلك من الصابون، ويصرف له ثمن كسوة في كلّ سنة، وتوسعة في كل شهر رمضان، وفي العيدين، وفي مواسم رجب وشعبان وعاشوراء، وكلما قدمت فاكهة يصرف له مبلغ لشرائها، وبالخانقاه خزانة بها السكّر والأشربة والأدوية، وبها الطبائعيّ والجرائحيّ والكحال ومصلح الشعر، وفي كلّ رمضان يفرّق على الصوفية كيزان لشرب الماء، وتبيّض لهم قدورهم النحاس، ويعطون حتى الأسنان «1» لغسل الأيدي من وضر اللحم، يصرف ذلك من الوقف لكل منهم، وبالحمّام الحلاق لتدليك أبدانهم وحلق رؤوسهم، فكان المنقطع بها لا يحتاج إلى شيء غيرها ويتفرّغ للعبادة، ثم استجدّ بعد سنة تسعين وسبعمائة بها حمّام أخرى برسم النساء، وما برحت على ما ذكرنا إلى أن كانت المحن من سنة ست وثمانمائة، فبطل الطعام وصار يصرف لهم في ثمنه مبلغ من نقد مصر، وهي الآن على ذلك، وأدركت من صوفيتها شخصا شيخا يعرف بأبي طاهر، ينام أربعين يوما بلياليها لا يستيقظ فيها البتة، ثم يستيقظ أربعين يوما لا ينام في ليلها ولا نهارها، أقام على ذلك عدّة أعوام، وخبره مشهور عند أهل الخانقاه، وأخبرني أنه لم يكن في النوم إلّا كغيره من الناس، ثم كثر نومه حتى بلغ ما تقدّم ذكره، ومات بهذه الخانقاه في نحو سنة ثمانمائة، ومما قيل في الخانقاه وما أنشأه السلطان بها:
سر نحو سرياقوس وانزل بفنا ... أرجاءها يا ذا النّهي والرشد
تلق محلا للسرور والهنا ... فيه مقام للتقي والزهد
نسيمه يقول في مسيره ... تنبهي يا عذبات الرند»
وروضه الريان من خليجه ... يقول دع ذكر أراضي نجد
خانقاه أرسلان
هذه الخانقاه فيما بين القاهرة ومصر من جملة أراضي منشأة المهرانيّ، أنشأها الأمير بهاء الدين أرسلان الدوادار.
أرسلان: الأمير بهاء الدين الدوادار الناصريّ، كان أوّلا عند الأمير سلار أيام نيابته مصر، خصيصا به حظيا عنده. فلما قدم الملك الناصر محمد بن قلاون من الكرك بعساكر الشام، ونزل بالريدانية ظاهر القاهرة في شهر رمضان سنة تسع وسبعمائة، أطلع أرسلان على أن جماعة قد اتفقوا على أن يهجموا على السلطان ويفتكوا به يوم العيد، أوّل شوّال، فجاء إليه وعرّفه الحال وقال له: اخرج الساعة واطلع القلعة واملكها. فقام السلطان وفتح باب سر الدهليز وخرج من غير الباب، وصعد قلعة الجبل وجلس على سرير الملك، فرعى(4/295)
السلطان له هذه المناصحة، ولما أخرج الأمير عز الدين أيدمر الدوادار من وظيفته، رتّب أرسلان في الدوادارية، وكان يكتب خطا مليحا، ودرّبه القاضي علاء الدين بن عبد الظاهر وخرّجه، وهذبه، فصار يكتب بخطه إلى كتاب السرّ عن السلطان في المهمات بعبارة مسدّدة وافية بالمقصود، واستولى على السلطان بحيث لم يكن لغيره في أيامه ذكر، ولم يشتهر فخر الدين وكريم الدين بعظمة إلّا بعده، واجتهدا في إبعاده فما قدرا على ذلك، وفي أيام توليته الدوادارية السلطانية أنشأ هذه الخانكاه على شاطيء النيل، وكان ينزل في كل ليلة ثلاثاء إليها من القلعة ويبيت بها، ويحتفل الناس للحضور إليها، ويرسل عن السلطان إلى مهنا أمير العرب، ونفع الناس نفعا كبيرا وقلدهم مننا جسيمة، ومات في ثالث عشري شهر رمضان سنة سبع عشرة وسبعمائة، فوجد في تركته ألف ثوب أطلس، ونفائس كثيرة، وعدّة تواقيع ومناشير معلمة، فأنكر السلطان معرفتها ونسب إليها اختلاسها، وأوّل من ولي مشيختها تقيّ الدين أبو البقاء محمد بن جعفر بن محمد بن عبد الرحيم الشريف الحسينيّ القنائي الشافعيّ، جدّ الشيخ عبد الرحيم القنائيّ الصالح المشهور، وأبوه ضياء الدين جعفر، كان فقيها شافعيا، وكان أبو البقاء هذا عالما عارفا زاهدا قليل التكلف متقللا من الدنيا، سمع الحديث وأسمعه، وولد في سنة خمس وأربعين وستمائة، ومات ليلة الاثنين رابع عشر جمادى الأولى، سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، ودفن بالقرافة، فتداول مشيختها القضاة الأخنائية إلى أن كانت آخرا بيد شيخنا قاضي القضاة صدر الدين عبد الوهاب بن أحمد الأخنائيّ. فلما مات في سنة تسع وثمانين وسبعمائة، تلقاها عنه عز الدين بن الصاحب، ثم وليها من بعده ابنه شمس الدين محمد بن الصاحب، رحمه الله.
خانقاه بكتمر
هذه الخانقاه بطرف القرافة في سفح الجبل مما يلي بركة الحبش، أنشأها الأمير بكتمر الساقي، وابتدأ الحضور بها في يوم الثلاثاء ثامن شهر رجب سنة ست وعشرين وسبعمائة، وأوّل من استقرّ في مشيختها الشمسيّ شمس الدين الروميّ، ورتب له عن معلوم المشيخة في كل شهر مائة درهم، وعن معلوم الإمامة مبلغ خمسين درهما، ورتب معه عشرين صوفيا لكل منهم في الشهر مبلغ ثلاثين درهما، فجاءت من أجلّ ما بني بمصر، ورتب بها صوفية وقرّاء، وقرّر لهم الطعام والخبز في كل يوم، والدراهم والحلوى والزيت والصابون في كل شهر، وبنى بجانبها حمّاما، وأنشأ هناك بستانا، فعمرت تلك الخطة وصار بها سوق كبير وعدّة سكان، وتنافس الناس في مشيختها إلى أن كانت المحن من سنة ست وثمانمائة، فبطل الطعام والخبز منها وانتقل السكان منها إلى القاهرة وغيرها، وخربت الحمام والبستان وصار يصرف لأرباب وظائفها مبلغ من نقد مصر، وأقام فيها رجل يحرسها، وتمزق ما كان فيها من الفرش والآلات النحاس والكتب والربعات والقناديل النحاس المكفت والقناديل الزجاج المذهب، وغير ذلك من الأمتعة والنفائس الملوكية، وخرب ما حولها لخلوّه من السكان.(4/296)
بكتمر الساقي: الأمير سيف الدين، كان أحد مماليك الملك المظفر بيبرس الجاشنكير، فلما استقرّ الملك الناصر محمد بن قلاون في المملكة بعد بيبرس، أخذه في جملة من أخذ من مماليك بيبرس ورقاه حتى صار أحد الأمراء الأكابر، وكتب إلى الأمير تنكز نائب السلطنة بدمشق بعد أن قبض على الأمير سيف الدين طغاي الكبير يقول له: هذا بكتمر الساقي يكون لك بدلا من طغاي، اكتب إليه بما تريد من حوائجك، فعظم بكتمر وعلا محله وطار ذكره، وكان السلطان لا يفارقه ليلا ولا نهارا إلّا إذا كان في الدور السلطانية، ثم زوّجه بجاريته وحظيته، فولدت لبكتمر ابنه أحمد، وصار السلطان لا يأكل إلّا في بيت بكتمر مما تطبخه له أمّ أحمد في قدر من فضة، وينام عندهم ويقوم، واعتقد الناس أن أحمد ولد السلطان لكثرة ما يطيل حمله وتقبيله، ولما شاع ذكر بكتمر وتسامع الناس به قدّموا إليه غرائب كلّ شيء، وأهدوا إليه كل نفيس، وكان السلطان إذا حمل إليه أحد من النوّاب تقدمة لا بدّ أن يقدّم لبكتمر مثلها أو قريبا منها، والذي يصل إلى السلطان يهب له غالبه، فكثرت أمواله وصارت إشارته لا تردّ، وهو عبارة عن الدولة، وإذا ركب كان بين يديه مائتا عصا نقيب، وعمر له السلطان القصر على بركة الفيل.
ولما مات بطريق الحجاز في سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة، خلف من الأموال والقماش والأمتعة والأصناف والزردخاناه ما يزيد على العادة والحدّ، ويستحي العاقل من ذكره، فأخذ السلطان من خيله أربعين فرسا وقال: هذه لي ما وهبته إياها، وبيع الباقي من الخيل على ما أخذه الخاصكية بثمن بخس بمبلغ ألف ألف درهم فضة، ومائتي ألف درهم وثمانين ألف درهم فضة، خارجا عما في الجشارات، وأنعم السلطان بالزردخاناه والسلاحخاناه التي له على الأمير قوصون بعد ما أخذ منها سرجا واحدا وسيفا، القيمة عن ذلك ستمائة ألف دينار، وأخذ له السلطان ثلاثة صناديق جوهرا مثمنا لا تعلم قيمة ذلك، وبيع له من الصيني والكتب والختم والربعات، ونسخ البخاريّ والدوايات الفولاذ والمطعمة والبصم بسقط الذهب وغير ذلك، ومن الوبر والأطلس وأنواع القماش السكندريّ والبغداديّ وغير ذلك شيء كثير إلى الغاية المفرطة، ودام البيع لذلك مدّة شهور.
وامتنع القاضي شرف الدين النشو ناظر الخاص من حضور البيع واستعفى من ذلك، فقيل له لأيّ شيء فعلت ذلك؟ قال: ما أقدر أصبر على غبن ذلك، لأن المائة درهم تباع بدرهم. ولما خرج مع السلطان إلى الحجاز خرج بتجمل زائد وحشمة عظيمة وهو ساقة الناس كلهم، وكان ثقله وجماله نظير ما للسلطان، ولكن يزيد عليه بالزركش وآلات الذهب، ووجد في خزانته بطريق الحجاز بعد موته خمسمائة تشريف، منها ما هو أطلس بطرز زركش وما دون ذلك من خلع أرباب السيوف وأرباب الأقلام، ووجد معه قيود وجنازير، وتنكر السلطان له في طريق الحجاز واستوحش كلّ منهما من صاحبه، فاتفق أنهم(4/297)
في العود مرض ولده أحمد ومرض من بعده، فمات ابنه قبله بثلاثة أيام، فحمل في تابوت مغشي بجلد جمل، ولما مات بكتمر دفن مع ولده بنخل، وحث السلطان في المسير وكان لا ينام في تلك السفرة إلّا في برج خشب، وبكتمر عنده، وقوصون على الباب والأمراء المشايخ كلهم حول البرج بسيوفهم، فلما مات بكتمر ترك السلطان ذلك، فعلم الناس أن احترازه كان خوفا من بكتمر. ويقال أن السلطان دخل عليه وهو مريض في درب الحجاز فقال له: بيني وبينك الله. فقال له: كل من فعل شيئا يلتقيه. ولما مات صرخت زوجته أمّ ابنه أحمد وبكت وأعولت إلى أن سمعها الناس تتكلم بالقبيح في حق السلطان، من جملته: أنت تقتل مملوكك، أنا ابني ايش كان؟ فقال لها: بس، تفشرين، هاتي مفاتيح صناديقه، فأنا أعرف كل شيء أعطيته من الجواهر. فرمت بالمفاتيح إليه فأخذها، ولما وصل السلطان إلى قلعة الجبل أظهر الحزن والندامة عليه، وأعطى أخاه قماري أمرة مائة وتقدمة ألف، وكان يقول ما بقي يجيئنا مثل بكتمر، وأمر فحملت جثته وجثة ابنه إلى خانقاهه هذه ودفنتا بقبتها، وبدت من السلطان أمور منكرة بعد موت بكتمر، فإنه كان يحجر على السلطان ويمنعه من مظالم كثيرة، وكان يتلطف بالناس ويقضي حوائجهم ويسوسهم أحسن سياسة، ولا يخالفه السلطان في شيء، ومع ذلك فلم يكن له حماية ولا رعاية ولا لغلمانه ذكر، ومن المغرب يغلق باب إصطبله، وكان ممّا له على السلطان من المرتب في كل يوم مخفيتان، يأخذ عنهما من بيت المال كل يوم سبعمائة درهم، عن كل مخفية ثلاثمائة وخمسين درهما، وكان السلطان إذا أنعم على أحد بشيء أو ولّاه وظيفة قال له: روح إلى الأمير بكتمر وبوس يده، وكان جيد الطباع حسن الأخلاق لين الجانب سهل الانقياد رحمه الله.
خانقاه قوصون
هذه الخانقاه في شماليّ القرافة مما يلي قلعة الجبل تجاه جامع قوصون، أنشأها الأمير سيف الدين قوصون، وكملت عمارتها في سنة ست وثلاثين وسبعمائة، وقرّر في مشيختها الشيخ شمس الدين أبا الثناء محمود بن أبي القاسم أحمد الأصفهانيّ، ورتب له معلوما سنيا من الدراهم والخبز واللحم والصابون والزيت وسائر ما يحتاج إليه، حتى جامكية غلام بغلته، واستقرّ ذلك في الوقف من بعده لكل من ولي المشيخة بها، وقرّر بها جماعة كثيرة من الصوفية، ورتب لهم الطعام واللحم والخبز في كل يوم، وفي الشهر المعلوم من الدراهم ومن الحلوى والزيت والصابون، وما زالت على ذلك إلى أن كانت المحن من سنة ست وثمانمائة، فبطل الطعام والخبز منها وصار يصرف لمستحقيها مال من نقد مصر، وتلاشى أمرها من بعد ما كانت من أعظم جهات البرّ، وأكثرها نفعا وخيرا، وقد تقدّم ذكر قوصون عند ذكر جامعه من هذا الكتاب.(4/298)
خانقاه طغاي النجميّ
هذه الخانقاه بالصحراء خارج باب البرقية فيما بين قلعة الجبل وقبة النصر، أنشأها الأمير طغاي تمر النجميّ، فجاءت من المباني الجليلة، ورتب بها عدّة من الصوفية وجعل شيخهم الشيخ برهان الدين الرشيدي، وبنى بجانبها حمّاما وغرس في قبليها بستانا، وعمل بجانب الحمّام حوض ماء للسبيل ترده الدواب، ووقف على ذلك عدّة أوقاف، ثم إن الحمّام والحوض تعطلا مدّة. فلما ماتت أرزباي زوجة القاضي فتح الدين فتح الله كاتب السرّ في سنة ثمان وثمانمائة، دفنها خارج باب النصر وأحبّ أن يبنى على قبرها ويوقف عليها أوقافا، ثم بدا له فنقلها إلى هذه الخانقاه ودفنها بالقبة التي فيها، وأدار الساقية وملأ الحوض ورتب لقرّاء هذه الخانقاه معلوما، وعزم على تجديد ما تشعث من بنائها وإدارة حمامها، ثم بدا له فأنشأ بجانب هذه الخانقاه تربة ونقل زوجته مرّة ثالثة إليها، وجعل أملاكه وقفا على تربته.
طغاي تمر النجميّ: كان دوادار الملك الصالح إسماعيل بن محمد بن قلاون، فلما مات الصالح استقرّ على حاله في أيام أخويه الملك الكامل شعبان، والملك المظفر حاجي، وكان من أحسن الأشكال وأبدع الوجوه، تقدّم في الدول وصارت له وجاهة عظيمة، وخدمه الناس ولم يزل على حاله إلى أن لعب به أغرلوا فيمن لعب وأخرجه إلى الشام وألحقه بمن أخذه من غزة، وذلك في أوائل جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، وطغاي هذا أوّل دوادار أخذ أمرة مائة وتقدمة ألف، وذلك في أوّل دولة المظفر حاجي، ولما كانت واقعة الأمير ملكتمر الحجازيّ والأمير آق سنقر وعدّة من الأمراء في تاسع عشر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، رمى طغاي تمر سيفه وبقي بغير سيف بعض يوم، ثم إن المظفر أعطاه سيفه واستمرّ في الدوادارية نحو شهر، وأخرج هو والأمير نجم الدين محمود الوزير، والأمير سيف الدين بيدمر البدريّ على الهجن إلى الشام، فأدركهم الأمير سيف الدين منجك وقتلهم في الطريق.
خانقاه أمّ أنوك
هذه الخانقاه خارج باب البرقية بالصحراء، التي أنشأتها الخاتون طغاي تجاه تربة الأمير طاشتمر الساقي، فجاءت من أجلّ المباني، وجعلت بها صوفية وقرّاء، ووقفت عليها الأوقاف الكثيرة، وقرّرت لكل جارية من جواريها مرتبا يقوم بها.
طغاي الخوندة الكبرى: زوجة السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون، وأمّ ابنه الأمير أنوك، كانت من جملة إمائه، فأعتقها وتزوّجها، ويقال أنها أخت الأمير أقبغا عبد الواحد، وكانت بديعة الحسن باهرة الجمال، رأت من السعادة ما لم يره غيرها من نساء(4/299)
الملوك الترك بمصر، وتنعمت في ملاذّ ما وصل سواها لمثلها، ولم يدم السلطان على محبة امرأة سواها، وصارت خونده بعد ابنه توكاي وأكبر نسائه، حتى من ابنة الأمير تنكز. وحج بها القاضي كريم الدين واحتفل بأمرها وحمل لها البقول في محاير طين على ظهور الجمال، وأخذ لها الأبقار الحلابة، فسارت معها طول الطريق لأجل اللبن الطريّ، وعمل الجبن، وكان يقلي لها الجبن في الغداء والعشاء، وناهيك بمن وصل إلى مداومة البقل والجبن في كل يوم، وهما أخس ما يؤكل، فما عساه يكون بعد ذلك. وكان القاضي كريم الدين، والأمير مجلس، وعدّة من الأمراء يترجلون عند النزول ويمشون بين يدي محفتها ويقبلون الأرض لها كما يفعلون بالسلطان، ثم حج بها الأمير بشتاك في سنة تسع وثلاثين وسبعمائة، وكان الأمير تنكز إذا جهز من دمشق تقدمة إلى السلطان لا بدّ أن يكون لخوند طغاي منها جزء وافر، فلما مات السلطان الملك النصار استمرّت عظمتها من بعده إلى أن ماتت في شهر شوّال سنة تسع وأربعين وسبعمائة، أيام الوباء، عن ألف جارية، وثمانين خادما خصيا، وأموال كثيرة جدّا، وكانت عفيفة طاهرة كثيرة الخير والصدقات والمعروف، جهزت سائر جواريها وجعلت على قبر ابنها بقبة المدرسة الناصرية بين القصرين قرّاء، ووقفت على ذلك وقفا، وجعلت من جملته خبزا يفرّق على الفقراء، ودفنت بهذه الخانقاه، وهي من أعمر الأماكن إلى يومنا هذا.
خانقاه يونس
هذه الخانقاه من جملة ميدان القبق بالقرب من قبة النصر خارج باب النصر، أدركت موضعها وبه عواميد تعرف بعواميد السباق، وهي أوّل مكان بني هناك، أنشأها الأمير يونس النوروزيّ الدوادار كان من مماليك الأمير سيف الدين جرجي الإدريسيّ، أحد الأمراء الناصرية، وأحد عتقائه، فترقى في الخدم من آخر أيام الملك الناصر محمد بن قلاون إلى أن صار من جملة الطائفة اليلبغاوية، فلما قتل الأمير يلبغا الخاصكيّ خدم بعده الأمير استدمر الناصريّ الأتابك، وصار من جملة دواداريته، وما زال يتنقل في الخدم إلى أن قام الأمير برقوق بعد قتل الملك الأشرف شعبان، فكان ممن أعانه وقاتل معه، فرعى له ذلك ورقّاه إلى أن جعله أمير مائة مقدّم ألف، وجعله دواداره لما تسلطن، فسلك في رياسته طريقة جليلة، ولزم حالة جميلة من كثر الصيام والصلاة، وإقامة الناموس الملوكيّ، وشدّة المهابة، والإعراض عن اللعب، ومداومة العبوس، وطول الجلوس، وقوّة البطش لسرعة غضبه، ومحبة الفقراء، وحضور السماع والشغف به، وإكرام الفقهاء وأهل العلم.
وأنشأ بالقاهرة ربعا وقيسارية بخط البندقانيين، وتربة خارج باب الوزير تحت القلعة، وأنشأ بظاهر دمشق مدرسة بالشرف الأعلى، وأنشأ خانا عظيما خارج مدينة غزة، وجعل بجانب هذه الخانقاه مكتبا يقرأ فيه أيتام المسلمين كتاب الله تعالى، وبنى بها صهريجا ينقل(4/300)
إليه ماء النيل، وما زال على وفور حرمته ونفوذ كلمته إلى أن خرج الأمير يلبغا الناصريّ نائب حلب على الملك الظاهر برقوق، في سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، وجهز السلطان الأمير أيتمش، والأمير يونس هذا، والأمير جهاركس الخليليّ، وعدّة من الأمراء والمماليك لقتاله، فلقوه بدمشق وقاتلوه فهزمهم، وقتل الخليليّ وفرّ أيتمش إلى دمشق، ونجا يونس بنفسه يريد مصر، فأخذه الأمير عيفا بن شطي أمير الأمراء وقتله يوم الثلاثاء ثاني عشري شهر ربيع الآخر، سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، ولم يعرف له قبر بعد ما أعدّ لنفسه عدّة مدافن في غير ما مدينة من مصر والشام.
خانقاه طيبرس
هذه الخانقاه من جملة أراضي بستان الخشاب، فيما بين القاهرة ومصر على شاطىء النيل، أنشأها الأمير علاء الدين طيبرس الخازندار نقيب الجيوش في سنة سبع وسبعمائة، بجوار جامعه المقدّم ذكره عند ذكر الجوامع من هذا الكتاب. وقرّر بها عدّة من الصوفية، وجعل لهم شيخا وأجرى لهم المعاليم، ولم تزل عامرة إلى أن حدثت المحن من سنة ست وثمانمائة، فابتاع شخص الوكالة والربعين المعروفين بربع بكتمر والحمامين، ونقض ذلك فخرب الخط وصار مخوفا. فلما كان في سنة أربع عشرة وثمانمائة، نقل الحضور من هذه الخانقاه إلى المدرسة الطيبرسية بجوار الجامع الأزهر، وهي الآن بصدد أن تدثر وتمحى آثارها.
خانقاه أقبغا
هذه الخانقاه هي موضع من المدرسة الأقبغاوية بجوار الجامع الأزهر، أفرده الأمير أقبغا عبد الواحد وجعل فيه طائفة يحضرون وظيفة التصوّف، وأقام لهم شيخا وأفرد لهم وقفا يختص بهم، وهي باقية إلى يومنا هذا، وله أيضا خانقاه بالقرافة.
الخانقاه الخروبية
هذه الخانقاه بساحل الجيزة تجاه المقياس، كانت منظرة من أعظم الدور وأحسنها، أنشأها زكيّ الدين أبو بكر بن عليّ الخرّوبيّ كبير التجار، ثم توارثها من بعده أولاد الخرّوبيّ التجار بمصر، فلم تزل بأيديهم، إلى أن نزلها السلطان المؤيد شيخ في يوم الاثنين ثاني عشر شهر رجب الفرد، سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة، وأقام بها فاقتضى رأيه أن يجعلها خانقاه، فاستدعى بابن الخرّوبيّ ليشتريها منه، فتبرّع بما يخصه منها، وصار إليه باقيها، فتقدّم إلى الأمير سيف الدين أبي بكر بن المسروق الاستادار بعملها خانقاه، وسار منها في يوم الأربعاء سادس عشرة، فأخذ الأمير أبو بكر في عملها حتى كملت في آخر السنة، واستقرّ في مشيختها شمس الدين محمد بن الحمتي الدمشقيّ الحنبليّ، وخلع عليه يوم السبت سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة، ورتب له في كل يوم عشرة مؤيدية، عنها مبلغ(4/301)
سبعين درهما فلوسا، سوى الخبز والسكن، وقرّر عنده عشرة من الفقراء لكل منهم مع الخبز مؤيديّ في كل يوم، فجاءت من أحسن شيء.
ذكر الربط
الربط جمع رباط، وهو دار يسكنها أهل طريق الله. قال ابن سيده: الرباط من الخيل، الخمس فما فوقها. والرباط والمرابطة ملازمة ثغر العدوّ، وأصله أن يربط كل واحد من الفريقين خيله، ثم صار لزوم الثغر رباطا. وربما سميت الخيل نفسها رباطا، والرباط والرباط المواظبة على الأمر. قال الفارسيّ هو ثان من لزوم الثغر، ولزوم الثغر ثان من رباط الخيل وقوله تعالى: وَصابِرُوا وَرابِطُوا
قيل معناه جاهدوا، وقيل واظبوا على مواقيت الصلاة. وقال أبو حفص السهرورديّ في كتاب عوارف المعارف: وأصل الرباط ما تربط فيه الخيول، ثم قيل لكل ثغر يدفع أهله عمن وراءهم رباط، فالمجاهد المرابط يدفع عمن وراءه، والمقيم في الرباط على طاعة الله يدفع بدعائه البلاء عن العباد، والبلاد. وروى داود بن صالح قال: قال لي أبو سلمة بن عبد الرحمن: يا ابن أخي، هل تدري في أيّ شيء نزلت هذه الآية: اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا
قلت: لا. قال: يا ابن أخي لم يكن في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غزو تربط فيه الخيل، ولكنه انتظار الصلاة بعد الصلاة، فالرباط جهاد النفس، والمقيم في الرباط مرابط مجاهد نفسه، واجتماع أهل الربط إذ صح على الوجه الموضوع له الربط، وتحقق أهل الربط بحسن المعاملة ورعاية الأوقات، وتوقي ما يفسد الأعمال، ويصحح الأحوال، عادت البركة على البلاد والعباد، وشرائط سكان الرباط قطع المعاملة مع الخلق، وفتح المعاملة مع الحق، وترك الاكتساب اكتفاء بكفالة مسبب الأسباب، وحبس النفس عن المخالطات، واجتناب التبغات، ومواصلة الليل والنهار بالعبادة متعوّضا بها عن كل عادة، والاشتغال بحفظ الأوقات وملازمة الأوراد وانتظار الصلوات، واجتناب الغفلات، ليكون بذلك مرابطا مجاهدا. والرباط هو بيت الصوفية ومنزلهم، ولكل قوم دار، والرباط دارهم، وقد شابهوا أهل الصفة في ذلك، فالقوم في الرباط مرابطون متفقون على قصد واحد وعزم واحد وأحوال متناسبة، ووضع الرباط لهذا المعنى. قال مؤلفه رحمه الله:
ولاتخاذ الربط والزوايا أصل من السنة، وهو أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، اتخذ لفقراء الصحابة الذين لا يأوون إلى أهل ولا مال مكانا من مسجده، كانوا يقيمون به عرفوا بأهل الصفة.
رباط الصاحب
هذا الرباط مطل على بركة الحبش، أنشأه الصاحب فخر الدين أبو عبد الله محمد بن الوزير الصاحب بهاء الدين أبي الحسن عليّ بن محمد بن سليم بن حنا، ووقف عليه أبوه الصاحب بهاء الدين بعد موته عقارا بمدينة مصر، وشرط أن يسكنه عشرة من الفقراء المجرّدين غير المتأهلين، وذلك في ذي الحجة سنة ثمان وستين وستمائة، وهو باق إلى(4/302)
يومنا هذا، وليس فيه أحد، ويستأدي ريع وقفه من لا يقوم بمصالحه.
رباط الفخري
هذا الرباط خارج باب الفتوح فيما بينه وبين النصر، بناه الأمير عز الدين أيبك الفخريّ، أحد أمراء الملك الظاهر بيبرس.
رباط البغدادية
هذا الرباط بداخل الدرب الأصفر تجاه خانقاه بيبرس، حيث كان المتجر الذي ذكر عند ذكر القصر من هذا الكتاب، ومن الناس من يقول رواق البغدادية، وهذا الرباط بنته الست الجليلة تذكارياي خاتون ابنة الملك الظاهر بيبرس في سنة أربع وثمانين وستمائة، للشيخة الصالحة زينت ابنة أبي البركات، المعروفة ببنت البغدادية، فأنزلتها به ومعها النساء الخيرات، وما برح إلى وقتنا هذا يعرف سكانه من النساء بالخير، وله دائما شيخه تعظ النساء وتذكرهنّ وتفقههنّ، وآخر من أدركنا فيه الشيخة الصالحة سيدة نساء زمانها أمّ زينب فاطمة بنت عباس البغدادية، توفيت في ذي الحجة سنة أربع عشرة وسبعمائة، وقد أنافت على الثمانين، وكانت فقيهة وافرة العلم، زاهدة قانعة باليسير، عابدة واعظة حريصة على النفع والتذكير، ذات إخلاص وخشية، وأمر بالمعروف، انتفع بها كثير من نساء دمشق ومصر، وكان لها قبول زائد ووقع في النفوس، وصار بعدها كلّ من قام بمشيخة هذا الرباط من النساء يقال لها البغدادية، وأدركنا الشيخة الصالحة البغدادية أقامت به عدّة سنين على أحسن طريقة إلى أن ماتت يوم السبت لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ست وتسعين وسبعمائة، وأدركنا هذا الرباط وتودع فيه النساء اللاتي طلّقن أو هجرن حتى يتزوّجن أو يرجعن إلى أزواجهنّ صيانة لهنّ، لما كان فيه من شدّة الضبط وغاية الاحتراز والمواظبة على وظائف العبادات، حتى أن خادمة الفقيرات به كانت لا تمكن أحدا من استعمال إبريق ببزبوز، وتؤدّب من خرج عن الطريق بما تراه، ثم لما فسدت الأحوال من عهد حدوث المحن بعد سنة ست وثمانمائة، تلاشت أمور هذا الرباط ومنع مجاوروه من سجن النساء المعتدّات به، وفيه إلى الآن بقايا من خير، ويلي النظر عليه قاضي القضاة الحنفيّ.
رباط الست كليلة
هذا الرباط خارج درب بطوط من جملة حكر سنجر اليمنيّ، ملاصقة للسور الحجر بخط سوق الغنم وجامع أصلم، وقفه الأمير علاء الدين البراباه على الست كليلة، المدعوّة دولاي، ابنة عبد الله التتارية، زوج الأمير سيف الدين البرليّ السلاحدار الظاهريّ، وجعله مسجدا ورباطا، ورتب فيه إماما ومؤذنا، وذلك في ثالث عشرى شوّال سنة أربع وتسعين وستمائة.(4/303)
رباط الخازن
هذا الرباط بقرب قبة الإمام الشافعيّ رحمة الله عليه. من قرافة مصر، بناه الأمير علم الدين سنجر بن عبد الله الخازن. والي القاهرة، وفيه دفن، وهذا الخازن هو الذي ينسب إليه حكر الخازن خارج القاهرة.
الرباط المعروف برواق ابن سليمان
هذا الرواق بحارة الهلالية خارج باب زويلة، عرف بأحمد بن سليمان بن أحمد بن سليمان بن إبراهيم بن أبي المعالي بن العباس الرحبي البطائحيّ الرفاعيّ، شيخ الفقراء الأحمدية الرفاعية بديار مصر، كان عبدا صالحا له قبول عظيم من أمراء الدولة وغيرهم، وينتمي إليه كثير من الفقراء الأحمدية، وروي الحديث عن سبط السلفيّ وحدّث، وكانت وفاته ليلة الاثنين سادس ذي الحجة سنة إحدى وتسعين وستمائة بهذا الرواق.
رباط داود بن إبراهيم
هذا الرباط بخط بركة الفيل بني في سنة ثلاث وستين وستمائة.
رباط ابن أبي المنصور
هذا الرباط بقرافة مصر عرف، بالشيخ صفيّ الدين الحسين بن عليّ بن أبي المنصور الصوفيّ المالكيّ، كان من بيت وزارة، فتجرّد وسلك طريق أهل الله على يد الشيخ أبي العباس أحمد بن أبي بكر الجزار التحبيبيّ المغربيّ، وتزوّجابنته وعرف بالبركة، وحكيت عنه كرامات، وصنف كتاب الرسالة ذكر فيها عدّة من المشايخ، وروى الحديث وحدّث وشارك في الفقه وغيره، وكانت ولادته في ذي القعدة سنة خمس وتسعين وخمسمائة، ووفاته برباطه هذا يوم الجمعة ثاني عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثمانين وستمائة.
رباط المشتهى
هذا الرباط بروضة مصر يطل على النيل وكان به الشيخ المسلك ... «1» ولله درّ شيخنا العارف الأديب شهاب الدين أحمد بن أبي العباس الشاطر الدمنهوريّ حيث يقول:
بروضة المقياس صوفيّة ... هم منية الخاطر والمشتهى
لهم على البحر أياد علت ... وشيخهم ذاك له المنتهي(4/304)
وقال الإمام العلامة شمس الدين محمد بن عبد الرحمن بن الصائغ الحنفيّ:
يا ليلة مرّت بنا حلوة ... إن رمت تشبيها لها عبتها
لا يبلغ الواصف في وصفها ... حدّا ولا يلقي له منتهى
بت مع المعشوق في روضة ... ونلت من خرطومه المشتهى
رباط الآثار
هذا الرباط خارج مصر بالقرب من بركة الحبش مطلّ على النيل ومجاور للبستان المعروف بالمعشوق. قال ابن المتوّج: هذا الرباط عمره الصاحب تاج الدين محمد بن الصاحب فخر الدين محمد ولد الصاحب بهاء الدين عليّ بن حنا بجوار بستان المعشوق، ومات رحمه الله قبل تكملته، ووصّى أن يكمل من ريع بستان المعشوق، فإذا كملت عمارته يوقف عليه ووصّى الفقيه عز الدين بن مسكين فعمر فيه شيئا يسيرا وأدركه الموت إلى رحمة الله تعالى، وشرع الصاحب ناصر الدين محمد ولد الصاحب تاج الدين في تكملته، فعمر فيه شيئا جيدا انتهى.
وإنما قيل له رباط الآثار لأنّ فيه قطعة خشب وحديد يقال أن ذلك من أثار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، اشتراها الصاحب تاج الدين المذكور بمبلغ ستين ألف درهم فضة من بني إبراهيم أهل ينبع، وذكروا أنها لم تزل عندهم موروثة من واحد إلى آخر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحملها إلى هذا الرباط وهي به إلى اليوم يتبرّك الناس بها ويعتقدون النفع بها، وأدركنا لهذا الرباط بهجة، وللناس فيه اجتماعات، ولساكنه عدّة منافع ممن يتردّد إليه أيام كان ماء النيل تحته دائما. فلما انحسر الماء من تجاهه وحدثت المحن من سنة ست وثمانمائة قلّ تردّد الناس إليه، وفيه إلى اليوم بقية، ولما كانت أيام الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاون قرّر فيه درسا للفقهاء الشافعية، وجعل له مدرّسا، وعنده عدّة من الطلبة، ولهم جار في كل شهر من وقف وقفه عليهم وهو باق أيضا، وفي أيام الملك الظاهر برقوق وقف قطعة أرض لعمل الجسر المتصل بالرباط، ولهذا الرباط حزانة كتب وهو عامر بأهله.
الوزير الصاحب: تاج الدين محمد بن الصاحب فخر الدين محمد بن الوزير الصاحب بهاء الدين عليّ بن سليم بن حنا، ولد في سابع شعبان سنة أربعين وستمائة، وسمع من سبط السلفيّ وحدّث وانتهت إليه رياسة عصره، وكان صاحب صيانة وسؤدد ومكارم، وشاكلة حسنة وبزة فاخرة إلى الغاية، وكان يتناهى في المطاعم والملابس والمناكح والمساكن، ويجود بالصدقات الكثيرة مع التواضع ومحبة الفقراء وأهل المصلاح والمبالغة في اعتقادهم، ونال في الدنيا من العز والجاه ما لم يره جدّه الصاحب الكبير بهاء الدين، بحيث أنّه لما تقلد الوزير الصاحب فخر الدين بن الخليليّ الوزارة، وسار من قلعة الجبل وعليه(4/305)
تشريف الوزارة إلى بيت الصاحب تاج الدين وقبل يده وجلس بين يديه، ثم انصرف إلى داره، وما زال على هذا القدر من وفور العز إلى أن تقلد الوزارة في يوم الخميس رابع عشري صفر سنة ثلاث وتسعين وستمائة، بعد قتل الوزير الأمير سنجر الشجاعيّ، فلم ينجب، وتوقفت الأحوال في أيامه حتى احتاج إلى إحضار تقاوي النواحي المرصدة بها للتخضير واستهلكها، ثم صرف في يوم الثلاثاء خامس عشري جمادى الأولى سنة أربع وتسعين وستمائة بفخر الدين عثمان بن الخليليّ، وأعيد الوزارة مرّة ثانية، فلم ينجح، وعزل وسلّم مرّة للشجاعيّ فجرّده من ثيابه وضربه شيبا واحدا بالمقارع فوق قميصه، ثم أفرج عنه على مال، ومات في رابع جمادى الآخرة سنة سبع وسبعمائة، ودفن في تربتهم بالقرافة، وكان له شعر جيد، ولله درّ شيخنا الأديب جلال الدين محمد بن خطيب داريا الدمشقيّ البيسانيّ حيث يقول في الآثار:
يا عين إن بعد الحبيب وداره ... ونأت مرابعه وشطّ مزاره
فلقد ظفرت من الزمان بطائل ... إن لم تريه فهذه آثاره
وقد سبقه لذلك الصلاح خليل بن أيبك الصفديّ فقال:
أكرم بآثار النبيّ محمد ... من زاره استوفى السرور مزاره
يا عين دونك فانظري وتمتعي ... إن لم تريه فهذه آثاره
واقتدى بهما في ذلك أبو الحزم المدنيّ فقال:
يا عين كم ذا تسفحين مدامعا ... شوقا لقرب المصطفى ودياره
إن كان صرف الدهر عاقك عنهما ... فتمتعي يا عين في آثاره
رباط الأفرم
هذا الرباط بسفح الجرف الذي عليه الرصد، وهو يشرف على بركة الحبش، وكان من أحسن منتزهات أهل مصر. أنشأه الأمير عز الدين أيبك الأفرم أمير خازندار الصالحيّ النجميّ، ورتب فيه صوفية وشيخا وإماما، وجعل فيه منبرا يخطب عليه للجمعة. والعيدين، وقرّر لهم معاليم من أوقاف أرصدها لهم، وذلك في سنة ثلاث وستين وستمائة، وهو باق إلّا أنّه لم يبق به ساكن لخراب ما حوله، وله إلى اليوم متحصل من وقفه، والأفرم هذا هو الذي ينسب إليه جسر الأفرم خارج مصر، وقد ذكر عند ذكر الجسور من هذا الكتاب.
الرباط العلائي
هذا الرباط خارج مصر بخط بين الزقاقين شرقيّ الخليج الكبير، يعرف اليوم بخانقاه المواصلة، وهو آيل إلى الدثور لخراب ما حوله، أنشأه الملك علاء الدين أبو الحسن عليّ(4/306)
ابن الملك المجاهد سيف الدين إسحاق صاحب الجزيرة، بن الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، بجوار داره وحمّامه وطاحونه، وجعل له فيه مدفنا ووقف عليه بستان الجرف وبستانا بناحية شبرا، وعدّة حصص من قرى فلسطين والساحل، وأحكارا ودورا بجانب الرباط. ومات يوم الجمعة ثامن ربيع الآخر سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة، ومولده يوم الجمعة ثامن عشري المحرّم سنة سبع وخمسين وستمائة، بجزيرة ابن عمرو، وكان من الحلقة وسمع الحديث من النجيب الحرّانيّ، وابن عرنين، وابن علاف. ودفن فيه وبه إلى الآن بقية، ويحضره الفقهاء يوما في الأسبوع وهم عشرة شيخهم منهم ومنهم قارىء ميعاد وقرّاء، وكان أوّلا معمورا بسكنى أهله دائما فيه، وفي هذا الوقت لا يمكن سكناه لكثرة الخوف من السرّاق.
ذكر الزوايا
زاوية الدمياطيّ
هذه الزاوية فيما بين خط السبع سقايات وقطنرة السدّ خارج مصر إلى جانب حوض السبيل المعدّ لشرب الدواب، أنشأها الأمير عز الدين أيبك الدمياطيّ الصالحيّ النجميّ، أحد الأمراء المقدّمين الأكابر في أيام الملك الظاهر بيبرس، وبها دفن لمّا مات بالقاهرة ليلة الأربعاء تاسع شعبان سنة ست وتسعين وستمائة، وإلى الآن يعرف الحوض المجاور لها بحوض الدمياطي.
زاوية الشيخ خضر
هذه الزاوية خارج باب الفتوح من القاهرة بخط زقاق الكحل. تشرف على الخليج الكبير، عرفت بالشيخ خضر بن أبي بكر بن موسى المهرانيّ العدويّ، شيخ السلطان الملك الظاهر بيبرس، كان أوّلا قد انقطع بجبل المزة خارج دمشق، فعرفه الأمير سيف الدين قشتمر العجميّ وتردّد إليه فقال له: لا بدّ أن يتسلطن الأمير بيبرس البندقاريّ، فأخبر بيبرس بذلك، فلما صارت المملكة إليه بعد قتل الملك المظفر قطز، اشتمل على اعتقاده وقرّبه، وبني له زاوية بجبل المزة، وزاوية بظاهر بعلبك، وزاوية بحماه، وزاوية بحمص، وهذه الزاوية خارج القاهرة. ووقف عليها أحكارا تغل في السنة نحو الثلاثين ألف درهم، وأنزله بها وصار ينزل إليه في الأسبوع مرّة أو مرّتين ويطلعه على غوامض أسراره ويستشيره في أموره، ولا يخرج عما يشير به، ويأخذه معه في أسفاره، وأطلق يده وصرّفه في مملكته، فهدم كنيسة اليهود بدمشق، وهدم كنيسة للنصارى بالقدس، كانت تعرف بالمصلبة، وعملها زاوية، وقتل قسيسها بيده، وهدم كنيسة للروم بالإسكندرية كانت من كراسي النصارى، ويزعمون أن بها رأس يحيى بن زكريا، وعملها مسجدا سماه الخضر، فاتقي جانبه الخاص(4/307)
والعام حتى الأمير بدر الدين بيلبك الخازندار نائب السلطنة، والصاحب بهاء الدين عليّ بن حنا، وملوك الأطراف، وكان يكتب إلى صاحب حماه وجميع الأمراء إذا طلب حاجة ما مثاله: الشيخ خضر نياك الحمارة، وكان ربع القامة كث اللحية يتعمم، عسراويّ وفي لسانه عجمة، مع سعة صدر وكرم شمائل وكثرة عطاء من تفرقة الذهب والفضة، وعمل الأسمطة الفاخرة، وكانت أحواله عجيبة لا تتكيف، وأقوال الناس فيه مختلفة، منهم من يثبت صلاحه ويعتقده، ومنهم من يرميه بالعظائم. وكان يخبر السلطان بأمور تقع، منها أنه لما حاصر أرسوف وهي أوّل فتوحاته، قال له: متى نأخذ هذه المدينة؟ فعين له يوما يأخذها فيه، فأخذها في ذلك اليوم بعينه، واتفق له مثل ذلك في فتح قيسارية، فلذلك كثر اعتقاده فيه، وما أحسن قول الشريف محمد بن رضوان الناسخ في ملازمة السلطان له أسفاره:
ما الظاهر السلطان إلّا مالك ال ... دنيا بذاك لنا الملاحم تخبر
ولنا دليل واضح كالشّمس في ... وسط السماء لكلّ عين تنظر
لما رأينا الخضر يقدم جيشه ... أبدا علمنا أنّه الإسكندر
وما برح على رتبته إلى ثامن عشر شوّال سنة إحدى وسبعين ستمائة، فقبض عليه واعتقل بقلعة الجبل ومنح الناس من الاجتماع به. ويقال أن ذلك بسبب أنّ السلطان كان أعطاه تحفا قدمت من اليمن، منها كرّ يمنيّ مليح إلى الغاية، فأعطاه خضر لبعض المردان، فبلغ ذلك الأمير بدر الدين الخازندار النائب، وكان قد ثقل عليه بكثرة تسلطه، حتى لقد قال له مرّة بحضرة السلطان: كأنك تشفق على السلطان وعلى أولاده مثل ما فعل قطز بأولاد المعز، فأسرّها في نفسه، وبلغ خبر الكرّ اليمنيّ إلى السلطان، فاستدعاه وحضر جماعة حاققوه على أمور كثيرة منكرة، كاللواط والزنا ونحوه، فاعتقله ورتب له ما يكفيه من مأكول وفاكهة وحلوى، ولما سافر السلطان إلى بلاد الروم قال خضر لبعض أصحابه إنّ السلطان يظهر على الروم ويرجع إلى دمشق فيموت بها بعد أن أموت أنا بعشرين يوما. فكان كذلك، ومات خضر في محبسه بقلعة الجبل في سادس المحرّم أو سابعه من سنة ست وسبعين وستمائة، وقد أناف على الخمسين، فسلّم إلى أهله وحملوه إلى زاويته هذه ودفنوه فيها، وكان السلطان قد كتب بالانفراج عنه، فقدم البريد بعد موته، ومات السلطان بدمشق في سابع عشري المحرّم المذكور بعد خضر بعشرين يوما، وهذه الزاوية باقية إلى اليوم.
زاوية ابن منظور
هذه الزاوية خارج القاهرة بخط الدكة بجوار المقس، عرفت بالشيخ جمال الدين محمد بن أحمد بن منظور بن يس بن خليفة بن عبد الرحمن أبو عبد الله الكتانيّ العسقلانيّ الشافعيّ الصوفيّ، الإمام الزاهد، كانت له معارف واتباع ومريدون ومعرفة بالحديث، حدّث عن أبي الفتوح الجلاليّ وروي عنه الدمياطيّ والدواداريّ وعدّة من الناس، ونظر في الفقه(4/308)
واشتهر بالفضيلة، وكانت له ثروة وصدقات. ومولده في ذي القعدة سنة سبع وتسعين وخمسمائة، ووفاته بزاويته في ليلة الثاني والعشرين من شهر رجب الفرد، سنة ست وتسعين وستمائة، وكانت هذه الزاوية أوّلا تعرف بزاوية شمس الدين بن كرا البغداديّ.
زاوية الظاهري
هذه الزاوية خارج باب البحر ظاهر القاهرة عند جمّام طرغاي على الخليج الناصريّ، كانت أوّلا تشرف طاقاتها على بحر النيل الأعظم، فلما انحسر الماء عن ساحل المقس، وحفر الملك الناصر محمد بن قلاون الخليج الناصريّ صارت تشرف على الخليج المذكور من برّه الشرقيّ، واتصلت المناظر هناك إلى أن كانت الحوادث من سنة ست وثمانمائة، فخربت حمّام طرغاي وبيعت أنقاضها وأنقاض كثير مما كان هناك من المناظر، وأنشئ هناك بستان عرف أوّلا بعبد الرحمن صيرفيّ الأمير جمال الدين الأستادار، لأنه أوّلا أنشأه ثم انتقل عنه.
والظاهريّ هذا هو أحمد بن محمد عبد الله أبو العباس جمال الدين الظاهريّ، كان أبوه محمد بن عبد الله عتيق الملك الظاهر شهاب الدين غازي، وبرع حتى صار إماما حافظا وتوفي ليلة الثلاثاء لاربع بقين من ربيع الأوّل سنة ست وتسعين وستمائة بالقاهرة، ودفن بتربته خارج باب النصر. وابنه عثمان بن أحمد بن محمد بن عبد الله فخر الدين بن جمال الدين الظاهريّ الحلبيّ، الإمام العلامة المحدّث الصالح، ولد في سنة سبعين وستمائة، وأسمعه أبو بديار مصر والشام، وكان مكثرا ومات بزاويته هذه في سنة ثلاثين وسبعمائة.
زاوية الجميزة
هذه الزاوية موضعها من جملة أراضي الزهريّ، وهي الآن خارج باب زويلة بالقرب من معدّية فريج، أنشأها الأمير سيف الدين جيرك السلاحدار المنصوريّ أحد أمراء الملك المنصور قلاون، في سنة اثنتين وثمانين وستمائة، وجعل فيها عدّة من الفقراء الصوفية.
زاوية الحلاوي
هذه الزاوية بخط الأبارين من القاهرة بالقرب من الجامع الأزهر، أنشأها الشيخ مبارك الهنديّ السعوديّ الحلاويّ، أحد الفقراء من أصحاب الشيخ أبي السعود بن أبي العشائر البارينيّ الواسطيّ، في سنة ثمان وثمانين وستمائة، وأقام بها إلى أن مات ودفن فيها، فقام من بعده ابنه الشيخ عمر بن عليّ بن مبارك، وكانت له سماعات ومرويات، ثم قام من بعده ابنه شيخنا جمال الدين عبد الله بن الشيخ عمر بن عليّ بن الشيخ مبارك الهنديّ، وحدّث فسمعنا عليه بها إلى أن مات في صفر سنة ثمان وثمانمائة، وبها الآن ولده، وهي من الزوايا المشهورة بالقاهرة.(4/309)
زاوية نصر
هذه الزاوية خارج باب النصر من القاهرة، أنشأها الشيخ نصر بن سليمان أبو الفتح المنبجيّ الناسك القدوة، وحدّث بها عن إبراهيم بن خليل وغيره، وكان فقيها معتزلا عن الناس متخليا للعبادة، يتردّد إليه أكابر الناس وأعيان الدولة، وكان للأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير فيه اعتقاد كبير، فلما ولي سلطنة مصر أجلّ قدره وأكرم محله، فهرع الناس إليه وتوسلوا به في حوائجهم، وكان يتغالى في محبة العارف محيى الدين محمد بن عربي الصوفيّ، ولذلك كانت بينه وبين شيخ الإسلام أحمد بن تيمية مناكرة كبيرة، ومات رحمه الله عن بضع وثمانين سنة، في ليلة السابع والعشرين من جمادى الآخرة، سنة تسع عشرة وسبعمائة ودفن بها.
زاوية الخدّام
هذه الزاوية خارج باب النصر، فيما بين شقة باب الفتوح من الحسينية وبين شقة الحسينية خارج باب النصر، أنشأها الطواشي بلال الفرّاجيّ وجعلها وقفا على الخدّام الحبش الأجناد، في سنة سبع وأربعين وستمائة.
زاوية تقي الدين
هذه الزاوية تحت قلعة الجبل، أنشأها الملك الناصر محمد بن قلاون بعد سنة عشرين وسبعمائة، لسكنى الشيخ تقيّ الدين رجب بن أشيرك العجميّ، وكان وجيها محترما عند أمراء الدولة، ولم يزل بها إلى أن مات يوم السبت ثامن شهر رجب سنة أربع عشرة وسبعمائة، وما زالت منزلا لفقراء العجم إلى وقتنا هذا.
زاوية الشريف مهدي
هذه الزاوية بجوار زاوية الشيخ تقيّ الدين المذكور، بناها الأمير صرغتمش في سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة.
زاوية الطراطرية
هذه الزاوية بالقرب من موردة البلاط، بناها الملك الناصر محمد بن قلاون بوساطة القاضي شرف الدين النشو ناظر الخاص برسم الشيخين الأخوين محمد وأحمد المعروفين بالطراطرية، في سنة أربعين وسبعمائة، وكانا من أهل الخير والصلاح، ونزلا أوّلا في مقصورة بالجامع الأزهر، فعرفت بهما، ثم عرفت بعدهما بمقصورة الحسام الصفديّ والد(4/310)
الأمير الوزير ناصر الدين محمد بن الحسام، وهذه المقصورة بآخر الرواق الأوّل مما يلى الركن الغربيّ، ولم تزل هذه الزاوية عامرة إلى أن كانت المحن من سنة ست وثمانمائة، وخرب خط زريبة قوصون وما في قبليه إلى منشأة المهرانيّ، وما في بحريه إلى قرب بولاق.
زاوية القلندرية
القلندرية طائفة تنتمي إلى الصوفية، وتارة تسمي أنفسها ملامتية، وحقيقة القلندرية أنهم قوم طرحوا التقيد بآداب المجالسات والمخاطبات، وقلت أعمالهم من الصوم والصلاة إلّا الفرائض، ولم يبالوا بتناول شيء من اللذات المباحة، واقتصروا على رعاية الرخصة، ولم يطلبوا حقائق العزيمة، والتزموا أن لا يدّخروا شيئا، وتركوا الجمع والاستكثار من الدنيا ولم يتقشفوا ولا زهدوا ولا تعبدوا، وزعموا أنهم قد قنعوا بطيب قلوبهم مع الله تعالى، واقتصروا على ذلك وليس عندهم تطلع إلى طلب مزيد سوى ما هم عليه من طيب القلوب.
والفرق بين الملامتيّ والقلندريّ، أن الملامتيّ يعمل في كتم العبادات، والقلندريّ يعمل في تخريب العادات، والملامتيّ يتمسك بكل أبواب البرّ والخير ويرى الفضل فيه، إلّا أنه يخفي أحواله وأعماله، ويوقف نفسه موقف العوام في هيئته، وملبوسه تسترا للحال، حتى لا يفطن له، وهو مع ذلك متطلع إلى المزيد من العبادات. والقلندريّ لا يتقيد بهيئة ولا يبالي بما يعرف من حاله وما لا يعرف، ولا ينعطف إلّا على طيب القلوب، وهو رأس مال.
هذه الزاوية خارج باب النصر من القاهرة من الجهة التي فيها الترب والمقابر التي تلي المساكن، أنشأها الشيخ حسن الجوالقيّ القلندريّ، أحد فقراء العجم القلندرية على رأي الجوالقة، ولما قدم إلى ديار مصر تقدّم عند أمراء الدولة التركية، وأقبلوا عليه واعتقدوه فأثرى ثراء زائدا في سلطنة الملك العادل كتبغا، وسافر معه من مصر إلى الشام، فاتفق أن السلطان اصطاد غزالا ودفعه إليه ليحمله إلى صاحب حماه، فلما أحضره إليه ألبسه تشريفا من حرير طرز وخش وكلوتة زركش، فقدم بذلك على السلطان، فأخذ الأمراء في مداعبته وقالوا له على سبيل الإنكار: كيف تلبس الحرير والذهب وهما حرام على الرجال؟ فأين التزهد وسلوك طريق الفقراء ونحو ذلك؟ فعندما حضر صاحب حماه إلى مجلس السلطان على العادة قال له: يا خوند أيش عملت معي، الأمراء أنكروا عليّ، والفقراء تطالبني. فأنعم عليه بألف دينار، فجمع الفقراء والناس وعمل وقتا عظيما بزاوية الشيخ عليّ الحريريّ خارج دمشق، وكان سمح النفس جميل العشرة لطيف الروح، يحلق لحيته ولا يعتم، ثم إنه ترك الحلق وصارت له لحية وتعمم عمامة صوفية، وكانت له عصبة، وفيه مروءة وعصبية، ومات بدمشق في سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة.
وما زالت هذه الزاوية منزلا لطائفة القلندرية، ولهم بها شيخ، وفيها منهم عدد(4/311)
موفور، وفي شهر ذي القعدة سنة إحدى وستين وسبعمائة، حضر السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون بخانقاه أبيه الملك الناصر في ناحية سرياقوس خارج القاهرة، ومدّ له شيخ الشيوخ سماطا كان من جملة من وقف عليه بين يدي السلطان الشريف عليّ شيخ زاوية القلندرية هذه، فاستدعاه السلطان وأنكر عليه حلق لحيته، واستتابه وكتب له توقيعا سلطانيا منع فيه هذه الطائفة من تحليق لحاهم، وأنّ من تظاهر بهذه البدعة قوبل على فعله المحرّم، وأن يكون شيخا على طائفته كما كان ما دام وداموا متمسكين بالسنة النبوية، وهذه البدعة لها منذ ظهرت ما يزيد على أربعمائة سنة، وأوّل ما ظهرت بدمشق في سنة بضع عشرة وستمائة، وكتب إلى بلاد الشام بإلزام القلندرية بترك زيّ الأعاجم والمجوس، ولا يمكن أحد من الدخول إلى بلاد الشام حتى يترك هذا الزيّ المبتدع واللباس المستبشع، ومن لا يلتزم بذلك يعزر شرعا ويقلع من قراره قلعا فنودي بذلك في دمشق وأرجائها يوم الأربعاء سادس عشر ذي الحجة.
قبة النصر
هذه القبة زاوية يسكنها فقراء العجم، وهي خارج القاهرة بالصحراء تحت الجبل الأحمر بآخر ميدان القبق من بحريه، جدّدها الملك الناصر محمد بن قلاون على يد الأمير جمال الدين أقوش نائب الكرك.
زاوية الركراكي
هذه الزاوية خارج القاهرة في أرض المقس، عرفت بالشيخ المعتقد أبي عبد الله محمد الركراكيّ المغربيّ المالكيّ، لإقامته بها، وكان فقيها مالكيا متصدّيا لأشغال المغاربة، يتبرّك الناس به إلى أن مات بها يوم الجمعة ثاني عشر جمادى الأولى سنة أربع وتسعين وسبعمائة، ودفن بها. والركراكيّ نسبة إلى ركراكة، بلدة بالمغرب هي أحد مراسي سواحل المغرب بقرب البحر المحيط، تنزل فيه السفن فلا تخرج إلّا بالرياح العاصفة في زمن الشتاء عند تكدّر الهواء.
زاوية إبراهيم الصائغ
هذه الزاوية بوسط الجسر الأعظم تطلّ على بركة الفيل، عمرها الأمير سيف الدين طغاي بعد سنة عشرين وسبعمائة، وأنزل فيها فقيرا عجميا من فقراء الشيخ تقيّ الدين رجب يعرف بالشيخ عز الدين العجميّ، وكان يعرف صناعة الموسيقى وله نغمة لذيذة وصوت مطرب وغناء جيد، فأقام بها إلى أن مات في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة، فغلب عليها الشيخ إبراهيم الصائغ إلى أن مات، يوم الاثنين رابع عشر شهر رجب سنة أربع وخمسين وسبعمائة، فعرفت به.(4/312)
زاوية الجعبري
هذه الزاوية خارج باب النصر من القاهرة، تنسب إلى الشيخ برهان الدين بن معضاد بن شدّاد بن ماجد الجعبريّ، المعتقد الواعظ، كان يجلس للوعظ فتجتمع إليه الناس ويذكرهم ويروي الحديث، ويشارك في علم الطب وغيره من العلوم، وله شعر حسن، وروى عن السخاويّ، وحدّث عن البزاركيّ، وكان له أصحاب يبالغون في اعتقاده ويغلون في أمره، وكان لا يراه أحد إلّا أعظم قدره وأجله وأثنى عليه، وحفظت عنه كلمات طعن عليه بسببها، وعمر حتى جاوز الثمانين سنة، فلما مرض أمر أن يخرج به إلى مكان قبره، فلما وقف عليه قال: قبير وحال دبير. ومات بعد ذلك بيوم، في يوم السبت رابع عشري المحرّم سنة سبع وثمانين وستمائة، والجعابرة عدّة منهم.
زاوية أبي السعود
هذه الزاوية خارج باب القنطرة من القاهرة على حافة الخليج، عرفت بالشيخ المبارك أيوب السعوديّ، كان يذكر أنه رأى الشيخ أبا السعود بن أبي العشائر وسلك على يديه، وانقطع بهذه الزاوية وتبرّك الناس به واعتقدوا إجابة دعائه، وعمّر وصار يحمل لعجزه عن الحركة حتى مات عن مائة سنة، أوّل صفر سنة أربع وعشرين وسبعمائة.
زاوية الحمصي
هذه الزاوية خارج القاهرة بخط حكر خزائن السلاح والأوسية على شاطىء خليج الذكر من أرض المقس بجوار الدكة، أنشأها الأمير ناصر الدين محمد، ويدعى طيقوش ابن الأمير فخر الدين الطنبغا الحمصي، أحد الأمراء في الأيام الناصرية، كان أبوه من أمراء الظاهر بيبرس، ورتب بهذه الزاوية عشرة من الفقراء شيخهم منهم، ووقف عليها عدّة أماكن في جوارها، وحصة من قرية بورين من قرى ساحل الشام. وغير ذلك، في سنة تسع وسبعمائة، فلما خرب ما حولها وارتدم خليج الذكر تعطلت، وهي الآن قد عزم مستحقو ريعها على هدمها لكثرة ما أحاط بها من الخراب من سائر جهاتها، وصار السلوك إليها مخوفا بعد ما كانت تلك الخطة في غاية العمارة، وفي جمادى سنة عشرين وسبعمائة هدمت.
زاوية المغربل
هذه الزاوية خارج القاهرة بدرب الزراق من الحكر، عرفت بالشيخ المعتقد عليّ المغربل، ومات في يوم الجمعة خامس جمادى الأولى سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة، ولما كانت الحوادث من سنة ست وثمانمائة خربت الحكورة وهدم درب الزراق وغيره.(4/313)
زاوية القصري
هذه الزاوية بخط المقس خارج القاهرة، عرفت بالشيخ أبي عبد الله محمد بن موسى عبد الله بن حسن القصري الرجل الصالح الفقيه المالكيّ المغربيّ، قدم من قصر كتامة بالمغرب إلى القاهرة وانقطع بهذه الزاوية على طريقة جميلة من العبادة، وطلب العلم إلى أن مات بها في التاسع من شهر رجب سنة ثلاث وثلاثين وستمائة.
زاوية الجاكي
هذه الزاوية في سويقة الريش من الحكورة خارج القاهرة بجانب الخليج الغربيّ، عرفت بالشيخ المعتقد حسين بن إبراهيم بن عليّ الجاكي، ومات بها في يوم الخميس العشرين من شوّال سنة سبع وثلاثين وسبعمائة، ودفن خارج باب النصر، وكانت جنازته عظيمة جدّا، وأقام الناس يتبرّكون بزيارة قبره إلى أن كانت سنة سبع عشرة وثمانمائة، فأقبل الناس إلى زيارة قبره وكان لهم هناك مجتمع عظيم في كلّ يوم، ويحملون النذور إلى قبره، ويزعمون أن الدعاء عنده لا يردّ فتنة أضلّ الشيطان بها كثيرا من الناس، وهم على ذلك إلى يومنا هذا.
زاوية الأبناسيّ
هذه الزاوية بخط المقس، عرفت بالشيخ الفقيه برهان الدين إبراهيم بن حسين بن موسى بن أيوب الأبناسيّ الشافعيّ، قدم من الريف وبرع في الفقه، واشتهر بسلامة الباطن، وعرف بالخير والصلاح، وكتب على الفتوى، ودرس بالجامع الأزهر وغيره، وتصدّى لأشغال الطلبة عدّة سنين، وولي مشيخة الخانقاه الصلاحية سعيد السعداء، وطلبه الأمير سيف الدين برقوق وهو يومئذ أتابك العساكر حتى يقلده قضاء القضاة بديار مصر، فغيب فرارا من ذلك وتنزها عنه، إلى أن ولي غيره، وكانت ولادته قبيل سنة خمس وعشرين وسبعمائة، ووفاته بمنزلة المويلح من طريق الحجاز بعد عوده من الحج، في ثامن المحرّم سنة اثنتين وثمانمائة، ودفن بعيون القصب.
زاوية اليونسية
هذه الزاوية خارج القاهرة بالقرب من باب اللوث تنزلها الطائفة اليونسية، وأحدهم يونسيّ- بضم الياء المعجمة باثنتين من تحتها وبعد الياء واو ثم نون بعدها سين مهملة في آخرها ياء آخر الحروف- نسبة إلى يونس، ويونس المنسوب إليه الطائفة اليونسية غير واحد، فمنهم يونس بن عبد الرحمن القميّ مولى آل يقطين، وهو الذي يزعم أن معبوده على عرشه تحمله ملائكته، وإن كان هو أقوى منها، كالكركيّ تحمله رجلاه وهو أقوى منهما، وقد كفر(4/314)
من زعم ذلك، فإن الله تعالى هو الذي يحمل العرش وحملته، وهذه الطائفة اليونسية من غلاة الشيعة واليونسية أيضا فرقة من المرجئة ينتمون إلى يونس السمويّ، وكان يزعم أن الإيمان هو المعرفة بالله والخضوع له، وهو ترك الاستكبار عليه والمحبة له، فمن اجتمعت فيه هذه الخلال فهو مؤمن، وزعم أن إبليس كان عارفا بالله غير أنه كفر باستكباره عليه، ولهم يونس بن يونس بن مساعد الشيبانيّ، ثم المخارقيّ شيخ الفقراء اليونسية، شيخ صالح له كرامات مشهورة، ولم يكن له شيخ بل كان مجذوبا جذب إلى طريق الخير توفي بأعمال دارا في سنة تسع عشرة وسبعمائة، وقد ناهز تسعين سنة، وقبره مشهور يزار ويتبرّك به، وإليه تنسب هذه الطائفة اليونسية.
زاوية الخلاطي
هذه الزاوية خارج باب النصر من القاهرة بالقرب من زاوية الشيخ نصر المنجيّ، عرفت ... «1» وكانت لهم وجاهة، منهم ناصر الدين محمد بن علاء الدين عليّ بن محمد بن حسين الخلاطيّ، مات في نصف جمادى الأولى سنة سبع وثلاثين وسبعمائة ودفن بها.
الزاوية العدوية
هذه الزاوية بالقرافة، تنسب إلى الشيخ عديّ بن مسافر بن إسماعيل بن موسى بن مروان بن الحسن بن مروان الهكاريّ القرشيّ الأمويّ. وكان قد صحب عدّة من المشايخ، كعقيل المنبجيّ، وحماد الدباس، وعبد القادر السهرورديّ، وعبد القادر الجيليّ. ثم انقطع في جبل الهكارية من أعمال الموصل، وبنى له زاوية، فمال إليه أهل تلك النواحي كلها ميلا لم يسمع لأرباب الزوايا مثله، حتى مات سنة سبع وقيل سنة خمس وخمسين وخمسمائة، ودفن في زاويته، وقدم ابن أخيه إلى هذه البلاد، وهو زين الدين، فأكرم وأنعم عليه بإمرة، ثم تركها وانقطع في قرية بالشام تعرف ببيت فار، على هيئة الملوك من اقتناء الخيول المسوّمة والمماليك والجواري والملابس، وعمل الأسمطة الملوكية، فافتتنت به بعض نساء الطائفة القيمرية. وبالغت في تعظيمه، وبذلت له أموالا عظيمة، وحاشيتها تلومها فيه، فلا تصغي إلى قولهم، فاحتالوا حتى أوقفوها عليه وهو عاكف على المنكرات، فما زادها ذلك إلّا ضلالا وقالت: أنتم تنكرون هذا عليه. إنما الشيخ يتدلل على ربه، وأتاه الأمير الكبير علم الدين سنجر الدوادار ومعه الشهاب محمود لتحليفه في أوّل دولة الأشرف خليل بن قلاون إلى قريته، فإذا هو كالملك في قلعته، للتجمل الظاهر والحشمة الزائدة، والفرش الأطلس، وآنية الذهب والفضة والنضار الصينيّ، وأشياء تفوت العدّ، إلى غير ذلك من(4/315)
الأشربة المختلفة الألوان، والأطعمة المنوّعة. فلما دخلا عليه لم يحتفل بهما، وقبّل الأمير سنجريده وهو جالس لم يقم، وبقي قائما قدامه يحدثه، وزين الدين يسأله ساعة، ثم أمره أن يجلس فجلس على ركبتيه متأدّيا بين يديه، فلما حلفاه أنعم عليهما بما يقارب خمسة عشر ألف درهم، وتخلف من طائفته الشيخ عز الدين أميران، وأنعم عليه بإمرة دمشق، ثم نقل إلى إمرة بصفد، ثم أعيد إلى دمشق وترك الإمرة وانقطع بالمرّة، وتردّد إليه الأكراد من كل قطر وحملوا إليه الأموال، ثم أنه أراد أن يخرج على السلطان بمن معه من الأكراد في كلّ بلد، فباعوا أموالهم واشتروا الخيل والملاح، ووعد رجاله بنيابات البلاد، ونزل بأرض اللجون. فبلغ ذلك السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون، فكتب إلى الأمير تنكز نائب الشام بكشف أخبارهم، وأمسك السلطان من كان بهذه الزاوية العدوية، ودرك على أمير طبر، واختلفت الأخبار فقيل أنهم يريدون سلطنة مصر، وقيل يريدون ملك اليمن، فقلق السلطان لأمرهم وأهمه إلى أن أمسك الأمير تنكز عز الدين المذكور وسجنه في سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة حتى مات، وفرّق الأكراد، ولو لم يتدارك لأوشك أن يكون لهم نوبة.
زاوية السدّار
هذه الزاوية برأس حارة الديلم، بناها الفقير المعتقد عليّ بن السدّار في سنة سبعين وسبعمائة، وتوفي سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة.
ذكر المشاهد التي يتبرّك الناس بزيارتها مشهد زين العابدين
هذا المشهد فيما بين الجامع الطولونيّ ومدينة مصر، تسميه العامّة مشهد زين العابدين، وهو خطأ، وإنما هو مشهد رأس زيد بن عليّ المعروف بزين العابدين بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام، ويعرف في القديم بمسجد محرس الخصيّ.
قال القضاعيّ: مسجد محرس الخصيّ بني على رأس زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب حين أنفذه هشام بن عبد الملك إلى مصر، ونصب على المنبر بالجامع، فسرقه أهل مصر ودفنوه في هذا الموضع.
وقال الكنديّ في كتاب الأمراء: وقدم إلى مصر في سنة اثنتين وعشرين ومائة أبو الحكم بن أبي الأبيض القيسيّ خطيبا برأس زيد بن عليّ رضوان الله عليه، يوم الأحد لعشر خلون من جمادى الآخرة، واجتمع الناس إليه في المسجد.
وقال الشريف محمد بن أسعد الجوّانيّ في كتاب الجوهر المكنون في ذكر القبائل والبطون: وبنو زيد بن عليّ زين العابدين بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام(4/316)
الشهيد بالكوفة، ولم يبق له عليه السلام غير رأسه التي بالمشهد الذي بين الكومين بمصر بطريق جامع ابن طولون وبركة الفيل، وهو من الخطط، يعرف بمسجد محرس الخصيّ، ولما صلب كشفوا عورته فنسج العنكبوت فسترها. ثم إنه بعد ذلك أحرق وذرى في الريح ولم يبق منه إلّا رأسه التي بمصر، وهو مشهد صحيح لأنه طيف بها بمصر، ثم نصبت على المنبر بالجامع بمصر في سنة اثنتين وعشرين ومائة، فسرقت ودفنت في هذا الموضع إلى أن ظهرت، وبنى عليها مشهد.
وذكر ابن عبد الظاهر أن الأفضل بن أمير الجيوش لما بلغته حكاية رأس زيد أمر بكشف المسجد، وكان وسط الأكوام، ولم يبق من معالمه إلّا محراب، فوجد هذا العضو الشريف. قال محمد بن منجب بن الصيرفيّ: حدّثني الشريف فخر الدين أبو الفتوح ناصر الزيديّ خطيب مصر، وكان من جملة حضر الكشف قال: لما خرج هذا العضو رأيته، وهو هامة وافرة، وفي الجبهة أثر في سعة الدرهم، فضمّخ وعطّر وحمل إلى دار حتى عمر هذا المشهد، وكان وجد أنه يوم الأحد تاسع عشري ربيع الأوّل سنة خمس وعشرين وخمسمائة، وكان الوصول به في يوم الأحد، ووجدانه في يوم الأحد.
زيد بن علي: بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، وكنيته أبو الحسن الإمام، الذي تنسب إليه الزيدية إحدى طوائف الشيعة، سكن المدينة وروى عن أبيه عليّ بن الحسين الملقب زين العابدين، وعن أبان بن عثمان، وعبيد الله بن أبي رافع، وعروة بن الزبير وروى عنه محمد بن شهاب الزهريّ، وزكريا بن أبي زائدة، وخلق ذكره ابن حبان في الثقات. وقال: رأى جماعة من الصحابة، وقيل لجعفر بن محمد الصادق عن الرافضة أنهم يتبرّؤن من عمك زيد. فقال: برىء الله ممن تبرّأ من عمي، كان والله أقرأنا لكتاب الله، وأفقهنا في دين الله، وأوصلنا للرحم، والله ما ترك فينا لدينا ولا لآخرة مثله.
وقال أبو إسحاق السبيعيّ: رأيت زيد بن عليّ فلم أر في أهله مثله، ولا أعلم منه، ولا أفضل، وكان أفصحهم لسانا، وأكثرهم زهدا وبيانا.
وقال الشعبيّ: والله ما ولد النساء أفضل من زيد بن عليّ، ولا أفقه ولا أشجع ولا أزهد. وقال أبو حنيفة: شاهدت زيد بن عليّ كما شاهدت أهله، فما رأيت في زمانه أفقه منه، ولا أعلم، ولا أسرع جوابا، ولا أبين قولا لقد كان منقطع القرين. وقال الأعمش: ما كان في أهل زيد بن عليّ مثل زيد، ولا رأيت فيهم أفضل منه، ولا أفصح ولا أعلم ولا أشجع، ولقد وفي له من تابعه لإقامتهم على المنهج الواضح. وسئل جعفر بن محمد الصادق عن خروجه فقال: خرج على ما خرج عليه آباؤه وكان يقال لزيد حليف القرآن، وقال خلوت بالقرآن ثلاث عشرة سنة أقرأه وأتدبره، فما وجدت في طلب الرزق رخصة، وما وجدت، ابتغوا من فضل الله إلّا العبادة والفقه.(4/317)
وقال عاصم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب: لقد أصيب عندكم رجل ما كان في زمانكم مثله، ولا أراه يكون بعده مثله، زيد بن عليّ، لقد رأيته وهو غلام حدث، وإنه ليسمع الشيء من ذكر الله فيغشى عليه حتى يقول القائل ما هو بعائد إلى الدنيا. وكان نقش خاتم زيد، اصبر تؤجر اصدق تنج، وقرأ مرّة قوله تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ
[محمد/ 38] فقال: إنّ هذا لوعيد وتهديد من الله. ثم قال: اللهمّ لا تجعلنا ممن تولى عنك فاستبدلت به بدلا. وكان إذا كلمه إنسان وخاف أن يهجم على أمر يخاف منه مأثما، قال له: يا عبد الله أمسك أمسك، كف كف، إليك إليك، عليك بالنظر لنفسك. ثم يكف عنه ولا يكلمه.
وقد اختلف في سبب قيام زيد وطلبه الأمر لنفسه، فقيل أن زيد بن عليّ، وداود بن عليّ بن عبد الله بن عباس، ومحمد بن عمر بن عليّ بن أبي طالب، قدموا على خالد بن عبد الله القسريّ بالعراق فأجازهم ورجعوا إلى المدينة، فلما ولي يوسف بن عمر العراق بعد عزل خالد، كتب إلى هشام بن عبد الملك وذكر له أن خالد ابتاع أرضا بالمدينة من زيد بعشرة آلاف دينار، ثم ردّ الأرض عليه. فكتب هشام إلى عامل المدينة أن يسيرهم إليه، ففعل. فسألهم هشام عن ذلك، فأقرّوا بالجائزة وأنكروا ما سوى ذلك، وحلفوا فصدّقهم، وأمرهم بالمسير إلى العراق ليقابلوا خالدا، فساروا على كره وقابلوا خالدا فصدّقهم وعادوا نحو المدينة. فلما نزلوا القادسية راسل أهل الكوفة زيدا فعاد إليهم، وقيل بل ادّعى خالد القسريّ أنه أودع زيدا وداود بن عليّ ونفرا من قريش مالا. فكتب يوسف بن عمر بذلك إلى الخليفة هشام بن عبد الملك، فأحضرهم هشام من المدينة وسيرهم إلى يوسف ليجمعهم وخالدا، فقدموا عليه، فقال يوسف لزيد: إن خالدا زعم أنه أودع عندك مالا. فقال زيد:
كيف يودعني وهو يشتم آبائي على منبره؟ فأرسل إلى خالد فأحضره في عباءة وقال له: هذا زيد قد أنكر أنّك أودعته شيئا. فنظر خالد إليه وإلى داود وقال ليوسف: أتريد أن تجمع إثمك مع إثمنا في هذا؟ كيف أودعه وأنا أشتم آباءه وأشتمه على المنبر؟ فقال زيد لخالد: ما دعاك إلى ما صنعت؟ فقال: شدّد عليّ العذاب فادّعيت ذلك، وأملت أن يأتي الله بفرج قبل قدومك.
فرجعوا وأقام زيد وداود بالكوفة، وقيل أن يزيد بن خالد القسريّ هو الذي ادّعى أن المال وديعة عند زيد، فلما أمرهم هشام بالمسير إلى العراق إلى يوسف استقالوه خوفا من شرّ يوسف وظلمه. فقال: أنا أكتب إليه بالكف عنكم وألزمهم بذلك. فساروا على كره، فجمع يوسف بينهم وبين يزيد فقال يزيد: ليس لي عندهم قليل ولا كثير. فقال له يوسف:
أتهزأ بأمير المؤمنين؟ فعذبه يومئذ عذابا كاد يهلكه، ثم أمر بالقرشيين فضربوا، وترك زيدا.
ثم اتسحلفهم وأطلقهم فلحقوا بالمدينة، وأقام زيد بالكوفة، وكان زيد قال لهشام لما أمره(4/318)
بالمسير إلى يوسف: والله ما آمن من إن بعثتني إليه أن لا نجتمع أنا وأنت حبيبين أبدا. قال:
لا بدّ من المسير إليه. فسار إليه.
وقيل كان السبب في ذلك أن زيدا كان يخاصم ابن عمه جعفر بن الحسن بن الحسين بن عليّ في وقوف عليّ رضي الله عنه، فزيد يخاصم عن بني حسين، وجعفر يخاصم عن بني حسن، فكانا يبلغان كل غاية، ويقومان فلا يعيدان مما كان بينهما، حرفا، فلما مات جعفر نازعه عبد الله بن الحسن بن الحسن، فتنازعا يوما بين يدي خالد بن عبد الملك بن الحارث بالمدينة، فأغلظ عبد الله لزيد وقال: يا ابن السندية. فضحك زيد وقال:
قد كان إسماعيل عليه السلام ابن أمة، ومع ذلك فقد صبرت أمي بعد وفاة سيدها. ولم يصبر غيرها، يعني فاطمة بنت الحسين أمّ عبد الله، فإنها تزوّجت بعد أبيه الحسن بن الحسن. ثم إنّ زيدا ندم واستحيى من فاطمة، فإنها عمته، ولم يدخل إليها زمانا. فأرسلت إليه: يا ابن أخي إني لأعلم أن أمّك عندك كأمّ عبد الله عنده، وقالت لعبد الله: بئسما قلت لأمّ زيد، أما والله لنعم دخيلة القوم كانت، وذكر أن خالدا قال لهما: اغدوا علينا غدا فلست ابن عبد الملك إن لم أفصل بينكما، فباتت المدينة تغلي كالمرجل. يقول قائل: قال زيد كذا، ويقول قائل: قال عبد الله كذا، فلما كان من الغد جلس خالد في المسجد واجتمع الناس، فمن بين شامت ومهموم، فدعا بهما خالد وهو يحبّ أن يتشاتما، فذهب عبد الله يتكلم، فقال زيد: لا تعجّل يا أبا محمد، أعتق زيد كلّ ما يملك إن خاصمك إلى خالد أبدا. ثم أقبل إلى خالد فقال له: لقد جمعت ذرية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأمر ما كان يجمعهم عليه أبو بكر ولا عمر. فقال خالد: أما لهذا السفيه أحد؟ فتكلم رجل من الأنصار من آل عمرو بن حزم فقال: يا ابن أبي تراب وابن حسين السفيه، أما ترى، لوال عليك حقا ولا طاعة؟ فقال زيد: اسكت أيها القحطانيّ، فإنّا لا نجيب مثلك. قال: ولم ترغب عني؟ فو الله إني لخير منك وخير من أبيك، وأمي خير من أمّك، فتضاحك زيد وقال: يا معشر قريش، هذا الدين قد ذهب أفتذهب الأحساب؟ فوا الله ليذهب دين القوم وما تذهب أحسابهم. فقام عبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب فقال: كذبت والله أيها القحطانيّ، فو الله لهو خير منك نفسا وأبا وأمّا ومحتدا، وتناوله بكلام كثير وأخذ كفا من حصباء وضرب بها الأرض وقال: والله إنه ما لنا على هذا من صبر وقام.
ثم شخص زيد إلى هشام بن عبد الملك، فجعل هشام لا يأذن له، وهو يرفع إليه القصص، فكلما رفع قصة يكتب هشام في أسفلها ارجع إلى منزلك. فيقول زيد: والله لا أرجع إلى خالد أبدا، ثم إنه أذن له يوما بعد طول حبس، فصعد زيد وكان بائنا فوقف في بعض الدرج وهو يقول: والله لا يحب الدنيا أحد إلّا ذلّ، ثم صعد وقد جمع له هشام أهل الشام، فسلّم ثم جلس، فرمى عليه هشام طويلة، فحلف لهشام على شيء. فقال هشام: لا أصدّقك. فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ الله لم يرفع أحدا عن أن يرضى بالله، ولم يضع أحدا(4/319)
عن أن لا يرضى بذلك منه. فقال هشام: أنت زيد المؤمّل للخلافة، وما أنت والخلافة، لا أمّ لك وأنت ابن أمة. فقال زيد: لا أعلم أحدا عند الله أفضل من نبيّ بعثه، ولقد بعث الله نبيا وهو ابن أمة، ولو كان به تقصير عن منتهى غاية لم يبعث، وهو إسماعيل بن إبراهيم، والنبوّة أعظم منزلة من الخلافة عند الله، ثم لم يمنعه الله من أن جعله أبا للعرب، وأبا لخير البشر، محمد صلّى الله عليه وسلّم، وما يقصّر برجل أبوه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبعد أمي فاطمة لا أفخر بأم.
فوثب هشام من مجلسه وتفرّق الشاميون عنه، وقال لحاجبه: لا يبيت هذا في عسكري أبدا.
فخرج زيد وهو يقول: ما كره قوم قط جرّ السيوف إلّا ذلوا، وسار إلى الكوفة. فقال:
له محمد بن عمر بن عليّ بن أبي طالب: أذكرك الله يا زيد لما لحقت بأهلك ولا تأت أهل الكوفة، فإنهم لا يفون لك، فلم يقبل وقال: خرج بنا هشام أسراء على غير ذنب من الحجاز إلى الشام، ثم إلى الجزيرة، ثم إلى العراق، ثم إلى تيس ثقيف، يلعب بنا. وأنشد:
بكرت تخوّفني الحتوف كأنني ... أصبحت عن عرض الحياة بمعزل
فأجبتها إنّ المنية منزل ... لا بدّ أن أسقى بكاس المنهل
إنّ المنية لو تمثل مثّلت ... مثلي إذا نزلوا بصيق المنزل
فاثني حبالك لا أبا لك واعلمي ... أني امرؤ سأموت إن لم أقتل
أستودعك الله، وإني أعطي الله عهدا، إن دخلت يدي في طاعة هؤلاء ما عشت.
وفارقه وأقبل إلى الكوفة فأقام بها مستخفيا يتنقل في المنازل، فأقبلت الشيعة تختلف إليه تبايعه، فبايعه جماعة من وجوه أهل الكوفة، وكانت بيعته: إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه، وجهاد الظالمين، والدفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، وقسم هذا الفيء بين أهله بالسواء، وردّ المظالم، وأفعال الخير، ونصرة أهل البيت، أتبايعون على ذلك؟ فإذا قالوا نعم وضع يده على أيديهم، ويقول: عليك عهد الله وميثاقه وذمّته وذمّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لتؤمنن ببيعتي، ولتقاتلنّ عدوّي، ولتنصحنّ لي في السرّ والعلانية، فإذا قال نعم مسح يده على يده ثم قال: اللهمّ فاشهد. فبايعه خمسة عشر ألفا، وقيل أربعون ألفا، وأمر أصحابه بالاستعداد، فأقبل من يريد أن يفي ويخرج معه يستعدّ ويتهيأ، فشاع أمره في الناس، هذا على قول من زعم أنه أتى الكوفة من الشام واختفى بها يبايع الناس.
وأما على قول من زعم أنه أتى إلى يوسف بن عمر لمرافعة خالد بن عبد الله القسريّ أو ابنه يزيد بن خالد، فإنه قال: أقام زيد بالكوفة ظاهرا ومعه داود بن عليّ بن عبد الله بن عباس، وأقبلت الشيعة تختلف إليه وتأمره بالخروج ويقولون: إنا لنرجو أن تكون أنت المنصور، وأنّ هذا الزمان الذي يهلك فيه بنو أمية، فأقام بالكوفة ويوسف بن عمر يسأل عنه فيقال هو هاهنا، ويبعث إليه ليسير فيقول نعم ويعتلّ بالوجع، فمكث ما شاء الله، ثم أرسل إليه يوسف بالمسير عن الكوفة، فاحتج بأنه يحاكم آل طلحة بن عبيد الله بملك بينهما(4/320)
بالمدينة، فأرسل إليه ليوكل وكيلا ويرحل عنها، فلما رأى الجدّ من يوسف في أمره سار حتى أتى القادسية، وقيل الثعلبية، فتبعه أهل الكوفة وقالوا له: نحن أربعون ألفا لم يتخلف عنك أحد، نضرب عنك بأسيافنا، وليس هاهنا من أهل الشام إلّا عدّة يسيرة وبعض قبائلنا يكفيهم بإذن الله، وحلفوا له بالأيمان المغلظة، فجعل يقول: إني أخاف أن تخذلوني وتسلموني كفعلكم بأبي وجدّي، فيحلفون له، فقال له داود بن عليّ: لا يغرّك يا ابن عمي هؤلاء، أليس قد خذلوا من كان أعز عليهم منك، جدّ عليّ بن أبي طالب حتى قتل، والحسن من بعده بايعوه ثم وثبوا عليه وانتزعوا رداءه وجرحوه، أو ليس قد أخرجوا جدّك الحسين وحلفوا له ثم خذلوه وأسلموه ولم يرضوا بذلك حتى قتلوه، فلا ترجع معهم.
فقالوا: يا زيد إنّ هذا لا يريد أن تظهر أنت، ويزعم أنه وأهل بيته أولى بهذا الأمر منكم.
فقال زيد لداود: إن عليا كان يقاتله معاوية بذهبه، وإنّ الحسين قاتله يزيد، والأمر مقبل عليهم. فقال له داود: إني أخاف إن رجعت معهم أن لا يكون أحد أشدّ عليك منهم، وأنت أعلم، ومضى داود إلى المدينة ورجع زيد إلى الكوفة.
فأتاه سلمة بن كهيل فذكر له قرابته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحقه فأحسن ثم قال له:
نشدتك الله كم بايعك؟ قال: أربعون ألفا. قال: فكم بايع جدّك؟ قال: ثمانون ألفا. قال:
فكم حصل معه؟ قال: ثلثمائة. قال: نشدتك الله أنت خير أم جدّك؟ قال: جدّي. قال:
فهذا القرن خير أم ذلك القرن؟ قال: ذلك القرن. قال: أفتطمع أن يفي لك هؤلاء وقد غدر أولئك بجدّك؟ قال: قد بايعوني ووجبت البيعة في عنقي وعنقهم. قال: أفتأذن لي أن أخرج من هذا البلد، فلا آمن أن يحدث حدث فأهلك نفسي. فأذن له فخرج إلى اليمامة.
وكتب عبد الله بن الحسن بن الحسن إلى زيد: أما بعد، فإن أهل الكوفة نفج «1» العلانية حور السريرة «2» هوج في الرد، أجزع في اللقاء، تقدمهم ألسنتهم ولا تتابعهم قلوبهم، ولقد تواترت كتبهم إليّ بدعوتهم فصممت عن ندائهم، وألبست قلبي غشاء عن ذكرهم يأسا منهم وإطراحا لهم، وما لهم مثل إلّا ما قال عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه: إن أهملتم خضتم، وإن خوّرتم خرتم، وإن اجتمع الناس ويتجهز للخروج، وتزوّج بالكوفة امرأتين، وكان ينتقل تارة عند هذه في بني سلمة قومها، وتارة عند هذه في الأزد قومها، وتارة في بني عبس، وتارة في بني تغلب، وغيرهم إلى أن ظهر في سنة اثنتين وعشرين ومائة، فأمر أصحابه بالاستعداد، وأخذ من كان يريد الوفاء بالبيعة يتجهز، فبلغ ذلك يوسف بن عمر، فبعث في طلب زيد فلم يوجد، وخاف زيد أن يؤخذ، فتعجل قبل الأجل الذي جعله بينه وبين أهل الكوفة، وعلى الكوفة يومئذ الحكم بن(4/321)
الصلت في ناس من أهل الشام، ويوسف بن عمر بالحيرة.
فلما علم أصحاب زيد أن يوسف بن عمر قد بلغه الخبر وأنه يبحث عن زيد، اجتمع إلى زيد جماعة من رؤوسهم فقالوا: رحمك الله ما قولك في أبي بكر وعمر، فقال زيد رحمهما الله وغفر لهما، ما سمعت أحدا من أهل بيتي يقول فيهما إلّا خيرا، وإنّ أشدّ ما أقول فيما ذكرتم إنا كنا أحق بسلطان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الناس أجمعين، فدفعونا عنه، ولم يبلغ ذلك عندنا بهم كفرا، وقد ولّوا فعدلوا في الناس وعملوا بالكتاب والسنة. قالوا فلم يظلمك هؤلاء إذا، كان أولئك لم يظلموا، وإذا كان هؤلاء لم يظلموا، فلم تدعو إلى قتالهم؟ فقال: إنّ هؤلاء ليسوا كأولئك، هؤلاء ظالمون لي ولأنفسهم ولكم، وإنما ندعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم، والى السنن أن تحيي، وإلى البدع أن تطفأ، فإن أجبتمونا سعدتم، وإن أبيتم فلست عليكم بوكيل. ففارقوه ونكثوا بيعته وقالوا: قد سبق الإمام، يعنون محمدا الباقر، وكان قد مات. وقالوا جعفر ابنه إمامنا اليوم بعد أبيه، فسماهم زيد الرافضة، وهم يزعمون أن المغيرة سماهم الرافضة حين فارقوه، وكانت طائفة قد أتت جعفر بن محمد الصادق قبل قيام زيد وأخبروه ببيعته فقال: بايعوه، لهو والله أفضلنا وسيدنا. فعادوا وكتموا ذلك، وكان زيد قد واعد أصحابه أوّل ليلة من صفر، فبلغ ذلك يوسف بن عمر، فبعث إلى الحكم عامله على الكوفة يأمره بأن يجمع الناس بالمسجد الأعظم يحصرهم فيه، فجمعهم، وطلبوا زيدا فخرج ليلا من دار معاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاريّ، وكان بها، ورفعوا النيران ونادوا يا منصور حتى طلع الفجر، فلما أصبحوا نادى أصحاب زيد بشعارهم وثاروا، فأغلق الحكم دروب السوق وأبواب المسجد على الناس، وبعث إلى يوسف بن عمر وهو بالحيرة فأخبره الخبر، فأرسل إليه خمسين فارسا ليعرفوا الخبر، فساروا حتى عرفوا الخبر وعادوا إليه، فسارت الحيرة بأشراف الناس، وبعث ألفين من الفرسان وثلاثمائة رجالة معهم النشاب، وأصبح زيد فكان جميع من وافاه تلك الليلة مائتي رجل وثمانية عشر رجلا، فقال: سبحان الله أين الناس؟ فقيل إنهم في المسجد الأعظم محصورون. فقال: والله ما هذا بعذر لمن بايعنا. وأقبل فلقيه على جبانة الصايديين خمسمائة من أهل الشام فحمل عليهم فيمن معه حتى هزمهم، وانتهى إلى دار أنس بن عمر الأزديّ، وكان فيمن بايعه وهو في الدار، فنودي فلم يجب، فناداه زيد فلم يخرج إليه. فقال زيد: ما أخلفكم قد فعلتموها، الله حسيبكم. ثم سار ويوسف بن عمر ينظر إليه وهو في مائتي رجل، فلو قصده زيد لقتله، والريان يتبع آثار زيد بالكوفة في أهل الشام، فأخذ زيد في المسير حتى دخل الكوفة، فسار بعض أصحابه إلى الجبانة وواقعوا أهل الشام، فأسر أهل الشام منهم رجلا ومضوا به إلى يوسف بن عمر فقتله، فلما رأى زيد خذلان الناس إياه قال: قد فعلوها، حسبي الله، وسار وهو يهزم من لقيه حتى انتهى إلى باب المسجد، فجعل أصحابه يدخلون راياتهم من فوق الباب ويقولون: يا أهل المسجد(4/322)
اخرجوا من الذل إلى العز، اخرجوا إلى الدين والدنيا، فإنكم لستم في دين ولا دنيا. وزيد يقول: والله ما خرجت ولا قمت مقامي هذا حتى قرأت القرآن، وأتقنت الفرائض، وأحكمت السنن والآداب، وعرفت التأويل كما عرفت التنزيل، وفهمت الناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، والخاص والعام، وما تحتاج إليه الأمّة في دينها مما لا بدّ لها منه ولا غنى لها عنه، وإني لعلى بينة من ربي، فرماهم أهل المسجد بالحجارة من فوق المسجد، فانصرف زيد فيمن معه، وخرج إليه ناس من أهل الكوفة، فنزل دار الرزق فأتاه الريان وقاتله، وخرج أهل الشام مساء يوم الأربعاء أسوأ شيء ظنا، فلما كان من الغد أرسل يوسف بن عمر عدّة عليهم العباس بن سعد المزنيّ، فلقيهم زيد فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم أصحاب العباس وقتل منهم نحو من سبعين، فلما كان العشيّ عبّى يوسف بن عمر الجيوش وسرّحهم، فالتقاهم زيد بمن معه وحمل عليهم حتى هزمهم وهو يتبعهم، فبعث يوسف طائفة من الماشية فرموا أصحاب زيد وهو يقاتل حتى دخل الليل، فرمي بسهم في جبهته اليسرى ثبت في دماغه، فرجع أصحابه، ولا يظنّ أهل الشام أنهم رجعوا للمساء والليل، فأنزلوا زيدا في دار وأتوه بطبيب فانتزع النصل فضج زيد ومات، رحمه الله، لليلتين خلتا من صفر سنة اثنتين وعشرين ومائة، وعمره اثنتان وأربعون سنة.
ولما مات اختلف أصحابه في أمره، فقال بعضهم نطرحه في الماء. وقال بعضهم بل نحز رأسه ونلقيه في القتلى. فقال ابنه يحيى بن زيد: والله لا يأكل لحم أبي الكلاب.
وقال بعضهم ندفنه في الحفرة التي يؤخذ منها الطين ونجعل عليه الماء، ففعلوا ذلك وأجروا عليه الماء، وكان معه مولى سنديّ فدلّ عليه، وقيل رآهم قصّار فدل عليه، وتفرّق الناس من أصحاب زيد، وسار ابنه يحيى نحو كربلاء، وتتبع يوسف بن عمر الجرحي في الدور حتى دلّ على زيد في يوم جمعة، فأخرجه وقطع رأسه وبعث به إلى هشام بن عبد الملك، فدفع لمن وصل به عشرة آلاف درهم، ونصبه على باب دمشق، ثم أرسله إلى المدينة وسار منها إلى مصر، وأما جسده فإن يوسف بن عمر صلبه بالكناسة ومعه ثلاثة ممن كانوا معه، وأقام الحرس عليه، فمكث زيد مصلوبا أكثر من سنتين حتى مات هشام وولي الوليد من بعده، وبعث إلى يوسف بن عمر أن أنزل زيدا وأحرقه بالنار، فأنزله وأحرقه وذرّى رماده في الريح، وكان زيد لما صلب وهو عريان استرخى بطنه على عورته حتى ما يرى من سوءته شيء، ومرّ زيد مرّة بمحمد ابن الحنفية فنظر إليه وقال: أعيذك بالله أن تكون زيد بن عليّ المصلوب بالعراق، وقال عبد الله بن حسين بن عليج بن الحسين بن عليّ: سمعت أبي يقول: اللهمّ إنّ هشاما رضي بصلب زيد فاسلبه ملكه، وإن يوسف بن عمر أحرق زيدا اللهمّ فسلط عليه من لا يرحمه، اللهمّ وأحرق هشاما في حياته إن شئت، وإلّا فأحرقه بعد موته.
قال فرأيت والله هشاما محرقا لما أخذ بنو العباس دمشق، ورأيت يوسف بن عمر بدمشق مقطعا، على كلّ باب من أبواب دمشق منه عضو. فقلت يا أبتاه وافقت دعوتك ليلة القدر،(4/323)
فقال لا يا بنيّ، بل صمت ثلاثة أيام من شهر رجب، وثلاثة أيام من شعبان، وثلاثة أيام من شهر رمضان، كنت أصوم الأربعاء والخميس والجمعة، ثم أدعو الله عليهما من صلاة العصر يوم الجمعة حتى أصلي المغرب، وبعد قتل زيد انتقض ملك بني أمية وتلاشى إلى أن أزالهم الله تعالى ببني العباس.
وهذا المشهد باق بين كيمان مدينة مصر يتبرّك الناس بزيارته ويقصدونه لا سيما في يوم عاشوراء، والعامّة تسميه زين العابدين، وهو وهم، وإنما زين العابدين أبوه، وليس قبره بمصر، بل قبره بالبقيع، ولما قتل الإمام زيد سوّدت الشيعة، أي لبست السواد، وكان أوّل من سوّد على زيد شيخ بني هاشم في وقته الفضل بن عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، ورثاه بقصيدة طويلة، وشعره حجة احتج به سيبويه، توفي سنة تسع وعشرين ومائة.
مشهد السيدة نفيسة
قال الشريف النقيب النسابة شرف الدين أبو عليّ محمد بن أسعد بن عليّ بن معمر بن عمر الحسينيّ الجوانيّ المالكيّ في كتاب الروضة الأنيسة بفضل مشهد السيدة نفيسة رضي الله عنها: نفيسة ابنة الحسن بن زيد بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام، أمّها أمّ ولد، وأخوتها القاسم ومحمد وعليّ وإبراهيم وزيد وعبيد الله ويحيى وإسماعيل وإسحاق وأمّ كلثوم، أولاد الحسن بن زيد بن الحسن بن عليّ، فأمّهم أمّ سلمة، واسمها زينب ابنة الحسن بن الحسن بن عليّ، وأمّها أمّ ولد تزوّج أمّ كلثوم أخت نفيسة، عبد الله بن عليّ بن عبد الله بن عباس رضي الله عنهم، ثم خلف عليها الحسن بن زيد بن عليّ بن الحسن بن عليّ. وأما عليّ وإبراهيم وزيد أخوة نفيسة من أبيها، فأمّهم أمّ ولد تدعى أمّ عبد الحميد، وأما عبيد الله بن الحسن بن زيد فأمّه الزائدة بنت بسطام بن عمير بن قيس الشيبانيّ، وأما إسماعيل وإسحاق فهما لأمي ولد، وكان إسماعيل من أهل الفضل والخير، صاحب صوم ونسك، وكان يصوم يوما ويفطر يوما. وأما يحيى بن زيد فله مشهد معروف بالمشاهد، يأتي ذكره إن شاء الله تعالى، وتزوّج بنفيسة رضي الله عنها إسحاق بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن عليّ زين العابدين بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام، وكان يقال له إسحاق المؤتمن، وكان من أهل الصلاح والخير والفضل والدين، روي عنه الحديث، وكان ابن كاسب إذا حدّث عنه يقول: حدّثني الثقة الرضي إسحاق بن جعفر، وكان له عقب بمصر منهم بنو الرقي، وبحلب بنو زهرة. وولدت نفيسة من إسحاق ولدين هما القاسم وأمّ كلثوم لم يعقبا.
وأما جدّ نفيسة وهو زيد بن الحسن بن عليّ، فروي عن أبيه وعن جابر وابن عباس، وروى عنه ابنه، وكانت بينه وبين عبد الله بن محمد ابن الحنفية خصومة وفدا لأجلها على(4/324)
الوليد بن عبد الملك، وكان يأتي الجمعة من ثمانية أميال، وكان إذا ركب نظر الناس إليه وعجبوا من عظم خلقه وقالوا: جدّه رسول الله. وكتب إليه الوليد بن عبد الملك يسأله أن يبايع لابنه عبد العزيز ويخلع سليمان بن عبد الملك، ففرق «1» منه وأجابه، فلما استخلف سليمان وجد كتاب زيد بذلك إلى الوليد، فكتب إلى أبي بكر بن حزم أمير المدينة: ادع زيد بن الحسن فأقره الكتاب، فإن عرفه فاكتب إليّ، وإن هو نكل فقدّمه فأصب يمينه عند منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنه ما كتبه ولا أمر به، فخاف زيدا لله واعترف. فكتب بذلك أبو بكر، فكتب سليمان أن يضربه مائة سوط وأن يدرعه عباءة ويمشيه حافيا، فحبس عمر بن عبد العزيز الرسول وقال: حتى أكلم أمير المؤمنين فيما كتب به في حق زيد. فقال للرسول: لا تخرج فإن أمير المؤمنين مريض. فمات سليمان وأحرق عمر الكتاب.
وأما والد نفيسة وهو الحسن بن زيد، فهو الذي كان والي المدينة النبوية من قبل أبي جعفر عبد الله بن محمد المنصور، وكان فاضلا أديبا عالما، وأمّه أمّ ولد. توفي أبوه وهو غلام، وترك عليه دينا أربعة آلاف دينار، فحلّف الحسن ولده أن لا يظل رأسه سقف إلّا سقف مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو بيت رجل يكلمه في حاجة حتى يقضي دين أبيه، فوفاه وقضاه بعد ذلك. ومن كرمه أنه أتى بشاب شارب متأدّب، وهو عامل على المدينة فقال: يا ابن رسول الله لا أعود وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أقيلوا ذوي الهيآت عثراتهم» وأنا ابن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، وقد كان أبي مع أبيك، كما قد علمت. قال: صدقت، فهل أنت عائد؟ قال: لا والله. فأقاله وأمر له بخمسين دينارا وقال له: تزوّج بها وعد إليّ. فتاب الشاب وكان الحسن بن زيد يجري عليه النفقة.
وكانت نفيسة من الصلاح والزهد على الحدّ الذي لا مزيد عليه، فيقال أنها حجت ثلاثين حجة، وكانت كثيرة البكاء، تديم قيام الليل وصيام النهار، فقيل لها: ألا ترفقين بنفسك؟ فقالت: كيف أرفق بنفسي وأمامي عقبة لا يقطعها إلّا الفائزون. وكانت تحفظ القرآن وتفسيره، وكانت لا تأكل إلا في كلّ ثلاث ليال أكلة واحدة، ولا تأكل من غير زوجها شيئا، وقد ذكر أنّ الإمام الشافعيّ محمد بن إدريس كان زارها وهي من وراء الحجاب وقال لها: ادعي لي، وكان صحبته عبد الله بن عبد الحكم. وماتت رضي الله عنها بعد موت الإمام الشافعيّ رحمة الله عليه بأربع سنين، لأنّ الشافعيّ توفي سلخ شهر رجب سنة أربع ومائتين.
وقيل أنها كانت فيمن صلّى على الإمام الشافعيّ. وتوفيت السيدة نفيسة في شهر رمضان سنة ثمان ومائتين، ودفنت في منزلها، وهو الموضع الذي به قبرها الآن، ويعرف بخط درب السباع، ودرب بزرب. وأراد إسحاق بن الصادق وهو زوجها أن يحملها ليدفنها بالمدينة، فسأله أهل مصر أن يتركها ويدفنها عندهم لأجل البركة، وقبر السيدة نفيسة أحد المواضع(4/325)
المعروفة بإجابة الدعاء بمصر، وهي أربعة مواضع: سجن نبيّ الله يوسف الصدّيق عليه السلام، ومسجد موسى صلوات الله عليه، وهو الذي بطرا، ومشهد السيدة نفيسة رضي الله عنها، والمخدع الذي على يسار المصلّى في قبلة مسجد الإقدام بالقرافة. فهذه المواضع لم يزل المصريون ممن أصابته مصيبة أو لحقته فاقة أو جائحة يمضون إلى أحدها، فيدعون الله تعالى فيستجيب لهم، مجرّب ذلك. انتهى.
ويقال أنها حفرت قبرها هذا وقرأت فيه تسعين ومائة ختمة، وأنها لما احتضرت خرجت من الدنيا وقد انتهت في حزبها إلى قوله تعالى: قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
[الأنعام/ 12] ففاضت نفسها رحمها الله تعالى مع قوله الرحمة، ويقال أن الحسن بن زيد والد السيدة نفيسة كان مجاب الدعوة ممدوحا، وأن شخصا وشى به إلى أبي جعفر المنصور أنه يريد الخلافة لنفسه، فإنه كان قد انتهت إليه رياسة بني حسن، فأحضره من المدينة وسلبه ماله، ثم إنه ظهر له كذب الناقل عنه، فمنّ عليه وردّه إلى المدينة مكرّما، فلما قدمها بعث إلى الذي وشى به بهدية ولم يعتبه على ما كان منه. ويقال أنه كان مجاب الدعوة، فمرّت به امرأة وهو في الأبطح، ومعها ابن لها على يدها فاختطفه عقاب، فسألت الحسن بن زيد أن يدعو الله لها بردّه، فرفع يديه إلى السماء ودعا ربه، فإذا بالعقاب قد ألقى الصغير من غير أن يضرّه بشيء، فأخذته أمّه. وكان يعدّ بألف من الكرام.
ولما قدمت السيدة نفيسة إلى مصر مع زوجها إسحاق بن جعفر نزلت بالمنصوصة، وكان بجوارها دار فيها قوم من أهل الذمّة، ولهم ابنة مقعدة لم تمش قط، فلما كان في يوم من الأيام ذهب أهلها في حاجة من حوائجهم وتركوا المقعدة عند السيدة نفيسة، فتوضأت وصبت من فضل وضوئها على الصبية المقعدة وسمت الله تعالى، فقامت تسعى على قدميها ليس بها بأس البتة، فلما قدم أهلها وعاينوها تمشى أتوا إلى السيدة نفيسة وقد تيقنوا أنّ مشي ابنتهم كان ببركة دعائها، وأسلموا بأجمعهم على يديها، فاشتهر ذلك بمصر وعرف أنه من بركاتها. وتوقف النيل عن الزيادة في زمنها فحضر الناس إليها وشكوا إليها ما حصل من توقف النيل، فدفعت قناعها إليهم وقالت لهم: ألقوه في النيل، فألقوه فيه، فزاد حتى بلغ الله به المنافع. وأسر ابن لامرأة ذمّية في بلاد الروم، فأتت إلى السيدة نفيسة وسألتها الدعاء أن يردّ الله ابنها عليها، فلما كان الليل لم تشعر الذمّية إلّا بابنها وقد هجم عليها دارها، فسألته عن خبره فقال: يا أمّاه لم أشعر إلّا ويد قد وقعت على القيد الذي كان في رجليّ وقائل يقول: أطلقوه قد شفعت فيه نفيسة بنت الحسن. فو الذي يحلف به يا أمّاه لقد كسر قيدي وما شعرت بنفسي إلّا وأنا واقف بباب هذه الدار. فلما أصبحت الذمّية أتت إلى السيدة(4/326)
نفيسة وقصت عليها الخبر وأسلمت هي وابنها وحسن إسلامهما.
وذكر غير واحد من علماء الأخبار بمصر أن هذا قبر السيدة نفيسة بلا خلاف، وقد زار قبرها من العلماء والصالحين خلق لا يحصى عددهم. ويقال أن أوّل من بنى على قبر السيدة نفيسة عبيد الله بن السري بن الحكم أمير مصر، ومكتوب في اللوح الرخام الذي على باب ضريحها، وهو الذي كان مصفحا بالحديد بعد البسملة ما نصه، نصر من الله وفتح قريب، لعبد الله ووليه معدّ أبي تميم الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين، صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه المكرّمين، أمر بعمارة هذا الباب السيد الأجل أمير الجيوش سيف الإسلام ناصر الأنام كافل قضاة المسلمين وهادي دعاة المؤمنين عضّد الله به الدين وأمتع بطول بقائه المؤمنين وأدام قدرته وأعلى كلمته، وشدّ عضده بولده الأجل الأفضل سيف الإمام جلال الإسلام شرف الأنام ناصر الدين خليل أمير المؤمنين، زاد الله في علائه وأمتع المؤمنين بطول بقائه في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة، والقبة التي على الضريح جدّدها الخليفة الحافظ لدين الله في سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة، وأمر بعمل الرخام الذي بالمحراب.
مشهد السيدة كلثوم
هي كلثوم بنت القاسم بن محمد بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن عليّ زين العابدين بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، موضعه بمقابر قريش بمصر بجوار الخندق، وهي أمّ جعفر بن موسى بن إسماعيل بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق، كانت من الزاهدات العابدات.
سنا وثنا
يقال أنهما من أولاد جعفر بن محمد الصادق، كانتا تتلوان القرآن الكريم في كلّ ليلة، فماتت إحداهما، فصارت الأخرى تتلو وتهدي ثواب قراءتها لأختها حتى ماتت.
ذكر مقابر مصر والقاهرة المشهورة
القبر مدفن الإنسان، وجمعه قبور، والمقبرة موضع القبر. قال سيبويه: المقبرة ليس على الفعل، ولكنه اسم، وقبره يقبره: دفنه. وأقبره جعل له قبرا. واعلم أنّ لأهل مدينة مصر ولأهل القاهرة عدّة مقابر وهي: القرافة، فما كان منها في سفح الجبل يقال له القرافة الصغرى، وما كان منها في شرقيّ مصر بجوار المساكن يقال له القرافة الكبرى، وفي القرافة الكبرى كانت مدافن أموات المسلمين منذ افتتحت أرض مصر واختط العرب مدينة الفسطاط، ولم يكن لهم مقبرة سواها، فلما قدم القائد جوهر من قبل المعز لدين الله وبنى(4/327)
القاهرة وسكنها الخلفاء، اتخذوا بها تربة عرفت بتربة الزعفران، قبروا فيها أمواتهم، ودفن رعيتهم من مات منهم في القرافة إلى أن اختطت الحارات خارج باب زويلة، فقبر سكانها موتاهم خارج باب زويلة مما يلي الجامع، فيما بين جامع الصالح وقلعة الجبل، وكثرت المقابر بها عند حدوث الشدّة العظمى أيام الخليفة المستنصر، ثم لما مات أمير الجيوش بدر الجماليّ دفن خارج باب النصر، فاتخذ الناس هنالك مقابر موتاهم، وكثرت مقابر أهل الحسينية في هذه الجهة، ثم دفن الناس الأموات خارج القاهرة في الموضع الذي عرف بميدان القبق، فيما بين قلعة الجبل وقبة النصر، وبنوا هناك الترب الجليلة، ودفن الناس أيضا خارج القاهرة فيما بين باب الفتوح والخندق، ولكل مقبرة من هذه المقابر أخبار سوف أقص عليك من أنبائها ما انتهت إلى معرفته قدرتي إن شاء الله تعالى. ويذكر أهل العناية بالأمور المتقادمة أن الناس في الدهر الأوّل لم يكونوا يدفنون موتاهم إلى أن كان زمن دوناي الذي يدعى سيد البشر لكثرة ما علّم الناس من المنافع، فشكا إليه أهل زمانه ما يأتذون به من خبث موتاهم، فأمرهم أن يدفنوهم في خوابي ويسدّوا رؤسها، ففعلوا ذلك، فكان دوناي أوّل من دفن الموتى، وذكر أن دوناي هذا كان قبل آدم بدهر طويل مبلغه عشرون ألف سنة، وهي دعوى لا تصح، وفي القرآن الكريم ما يقتضي أن قابيل ابن آدم أوّل من دفن الموتى، والله أصدق القائلين. وقد قال الشافعيّ رحمه الله: وأكره أن يعظّم مخلوق حتى يجعل قبره مسجدا مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده.
ذكر القرافة
روى الترمذيّ من حديث أبي طيبة عبد الله بن مسلم، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه رفعه: من مات من أصحابي بأرض بعث قائدا ونورا لهم يوم القيامة. قال: وهذا حديث غريب. وقد روي عن أبي طيبة، عن ابن بريدة مرسلا، وهذا أصح، قال أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم في كتاب فتوح مصر: حدّثنا عبد الله بن صالح، حدّثنا الليث ابن سعد قال: سأل المقوقس عمرو بن العاص أن يبيعه سفح المقطم بسبعين ألف دينار، فعجب عمرو من ذلك وقال: أكتب في ذلك إلى أمير المؤمنين، فكتب بذلك إلى عمر رضي الله عنه، فكتب إليه عمر سله لم أعطاك به ما أعطاك وهي لا تزدرع ولا يستنبط بها ماء. ولا ينتفع بها. فسأله فقال: إنا لنجد صفتها في الكتب أنّ فيها غراس الجنة، فكتب بذلك إلى عمر رضي الله عنه، فكتب إليه عمر إنّا لا نعلم غراس الجنة إلّا المؤمنين، فأقبر فيها من مات قبلك من المسلمين ولا تبعه بشيء. فكان أوّل من دفن فيها رجل من المغافر يقال له عامر، فقيل عمرت. فقال المقوقس لعمرو: وما ذلك، ولا على هذا عاهدتنا، فقطع لهم الحدّ الذي بين المقبرة وبينهم.
وعن ابن لهيعة أن المقوقس قال لعمرو: إنا لنجد في كتابنا أن ما بين هذا الجبل(4/328)
وحيث نزلتم ينبت فيه شجر الجنة. فكتب بقوله إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال:
صدق، فاجعلها مقبرة للمسلمين، فقبر فيها ممن عرف من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خمسة نفر، عمرو بن العاص السهميّ، وعبد الله بن حذافة السهميّ، وعبد الله بن جزء الزبيديّ، وأبو بصيرة الغفاريّ، وعقبة بن عامر الجهنيّ. ويقال ومسلمة بن مخلد الأنصاريّ انتهى.
ويقال أن عامرا هو الذي كان أوّل من دفن بالقرافة، قبره الآن تحت حائط مسجد الفتح الشرقيّ. وقالت فيه امرأة من العرب:
قامت بواكيه على قبره ... من لي من بعدك يا عامر
تركتني في الدار ذا غربة ... قد ذلّ من ليس له ناصر
وروى أبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس في تاريخ مصر من حديث حرملة بن عمران قال: حدّثني عمير بن أبي مدرك الخولانيّ عن سفيان بن وهب الخولانيّ قال: بينما نحن نسير مع عمرو بن العاص في سفح هذا الجبل ومعنا المقوقس، فقال له عمرو: يا مقوقس ما بال جبلكم هذا أقرع ليس عليه نبات ولا شجر على نحو بلاد الشام؟ فقال: لا أدري، ولكنّ الله أغنى أهله بهذا النيل عن ذلك، ولكنه نجد تحته ما هو خير من ذلك.
قال: وما هو؟ قال ليدفنن تحته أو ليقبرنّ تحته قوم يبعثهم الله يوم القيامة لا حساب عليهم، قال عمرو: اللهمّ اجعلني منهم. قال حرملة بن عمران: فرأيت قبر عمرو بن العاص، وقبر أبي بصيرة، وقبر عقبة بن عامر فيه. وخرّج أبو عيسى الترمذيّ من حديث أبي طيبة عبد الله بن مسلم، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه رفعه: «من مات من أصحابي بأرض بعث قائدا لهم ونورا يوم القيامة» ، وقال القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعيّ: القرافة هم بنو غض بن سيف بن وائل بن المغافر، وفي نسخة بنو غصن. وقال أبو عمرو الكنديّ:
بنو جحض بن سيف بن وائل بن الجيزيّ بن شراحيل بن المغافر بن يغفر. وقيل أن قرافة اسم أمّ عزافر، وجحض ابني سيف بن وائل بن الجيزيّ. قد صحف القضاعيّ في قوله غصن بالغين المعجمة، والأقرب ما قاله الكنديّ، لأنه أقعد بذلك. وقال ياقوت والقرافة- بفتح القاف وراء مخففة وألف خفيفة وفاء- الأوّل مقبرة بمصر مشهورة مسماة بقبيلة من المغافر يقال لهم بنو قرافة، الثاني القرافة محلة بالإسكندرية منسوبة إلى القبيلة أيضا. وقال الشريف محمد بن أسعد الجوانيّ في كتاب النقط: وقد ذكر جامع القرافة الذي يقال له اليوم جامع الأولياء، وكان جماعة من الرؤساء يلزمون النوم بهذا الجامع ويجلسون في ليالي الصيف يتحدّثون في القمر، في صحنه، وفي الشتاء ينامون عند المنبر، وكان يحصل لقيمه الأشربة والحلوى والجرايات، وكان الناس يحبون هذا الموضع ويلزمونه لأجل من يحضر من الرؤساء، وكانت الطفيلية يلزمون المبيت فيه ليالي الجمع، وكذلك أكثر المساجد التي بالقرافة والجبل والمشاهد لأجل ما يحمل إليها ويعمل فيها من الحلاوات واللحومات والأطعمة، وقال موسى بن محمد بن سعيد في كتاب المعرب عن أخبار المغرب: وبت(4/329)
ليالي كثيرة بقرافة الفسطاط، وهي في شرقيها بها منازل الأعيان بالفسطاط والقاهرة، وقبور عليها مبان معتنى بها، وفيها القبة العالية العظيمة المزخرفة التي فيها قبر الإمام الشافعيّ رضي الله عنه، وبها مسجد جامع وترب كثيرة عليها أوقاف للقرّاء، ومدرسة كبيرة للشافعية، ولا تكاد تخلو من طرب، ولا سيما في الليالي المقمرة، وهي معظم مجتمعات أهل مصر، وأشهر منتزهاتهم وفيها أقول:
إنّ القرافة قد حوت ضدّين من ... دنيا وأخرى فهي نعم المنزل
يغشى الخليع بها السماع مواصلا ... ويطوف حول قبورها المتبتل
كم ليلة بتنا بها ونديمنا ... لحن يكاد يذوب منه الجندل
والبدر قد ملأ البسيطة نوره ... فكأنما قد فاض منه جدول
وبدا يضاحك أوجها حاكينه ... لما تكامل وجهه المتهلل
وفوق القرافة من شرقيها جبل المقطم، وليس له علوّ ولا عليه اخضرار، وإنما يقصد للبركة، وهو نبيه الذكر في الكتب، وفي سفحه مقابر أهل الفسطاط والقاهرة، والإجماع على أنه ليس في الدنيا مقبرة أعجب منها ولا أبهى ولا أعظم ولا أنظف من أبنيتها وقبابها وحجرها، ولا أعجب تربة منها، كأنها الكافور والزعفران مقدّسة في جميع الكتب، وحين تشرف عليها تراها كأنها مدينة بيضاء، والمقطم عال عليها كأنه حائط من ورائها، وقال شافع بن عليّ:
تعجبت من أمر القرافة إذ غدت ... على وحشة الموتى لها قلبنا يصبو
فألفيتها مأوى الأحبة كلهم ... ومستوطن الأحباب يصبو له القلب
وقال الأديب أبو سعيد محمد بن أحمد العميديّ:
إذا ما ضاق صدري لم أجد لي ... مقرّ عبادة إلّا القرافه
لئن لم يرحم المولى اجتهادي ... وقلة ناصري لم ألف رأفه
واعلم أن الناس في القديم إنما كانوا يقبرون موتاهم فيما بين مسجد الفتح وسفح المقطم، واتخذوا الترب الجليلة أيضا فيما بين مصلّى خولان وخط المغافر التي موضعها الآن كيمان تراب، وتعرف الآن بالقرافة الكبرى. فلما دفن الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب ابنه في سنة ثمان وستمائة بجوار قبر الإمام محمد بن إدريس الشافعيّ، وبنى القبة العظيمة على قبر الشافعيّ، وأجرى لها الماء من بركة الحبش بقناطر متصلة منها، نقل الناس الأبنية من القرافة الكبرى إلى ما حول الشافعيّ، وأنشأوا هناك الترب، فعرفت بالقرافة الصغرى، وأخذت عمائرها في الزيادة وتلاشى أمر تلك، وأما القطعة التي تلي قلعة الجبل فتجدّدت بعد السبعمائة من سني الهجرة، وكان ما بين قبة الإمام الشافعيّ، رحمة الله(4/330)
عليه، وباب القرافة ميدانا واحدا تتسابق فيه الأمراء والأجناد، ويجتمع الناس هنالك للتفرّج على السباق، فتصير الأمراء تسابق على حدة، والأجناد تسابق في جهة وهم منفردون عن الأمراء، والشرط في السباق من تربة الأمير بيدرا إلى باب القرافة، ثم استجدّ أمراء دولة الناصر محمد بن قلاون في هذه الجهة الترب، فبنى الأمير يلبغا التركمانيّ، والأمير طقتمر الدمشقيّ، والأمير قوصون وغيرهم من الأمراء، وتبعهم الجند وسائر الناس، فبنوا الترب والخوانك والأسواق والطواحين والحمامات، حتى صارت العمارة من بركة الحبش إلى باب القرافة، ومن حدّ مساكن مصر إلى الجبل، وانقسمت الطرق في القرافة وتعدّدت بها الشوارع، ورغب كثير من الناس في سكناها العظم القصور التي أنشأت بها، وسميت بالترب، ولكثرة تعاهد أصحاب الترب لها وتواتر صدقاتهم ومبرّاتهم لأهل القرافة، وقد صنف الناس فيمن قبر بالقرافة، وأكثروا من التأليف في ذلك، ولست بصدد شيء مما صنفوا في ذلك، وإنما غرضي أن أذكر ما تشتمل عليه القرافة. وفي سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة ظهر بالقرافة شيء يقال له القطربة، تنزل من جبل المقطم، فاختطفت جماعة من أولاد سكانها حتى رحل أكثرهم خوفا منها، وكان شخص من أهل كبارة مصر يعرف بحميد الفوّال خرج من أطفيح على حماره، فلما وصل إلى حلوان عشاء رأى امرأة جالسة على الطريق فشكت إليه ضعفا وعجزا، فحملها خلفه فلم يشعر بالحمار إلّا وقد سقط، فنظر إلى المرأة فإذا بها قد أخرجت جوف الحمار بمخاليبها، ففرّ وهو يعدو إلى والي مصر وذكر له الخبر، فخرج بجماعته إلى الموضع فوجد الدابة قد أكل جوفها، ثم صارت بعد ذلك تتبع الموتى بالقرافة وتنبش قبورهم وتأكل أجوافهم وتتركهم مطروحين، فامتنع الناس من الدفن في القرافة زمنا حتى انقطعت تلك الصورة.
ذكر المساجد الشهيرة بالقرافة الكبيرة
اعلم أن القرافة بمصر اسم لموضعين، القرافة الكبيرة حيث الجامع الذي يقال له جامع الأولياء، والقرافة الصغيرة وبها قبر الإمام الشافعيّ، وكانتا في أوّل الأمر خطتين لقبيلة من اليمن هم من المغافر بن يغفر، يقال لهم بنو قرافة. ثم صارت القرافة الكبيرة جبانة، وهي حيث مصلّى خولان والبقعة وما هو حول جامع الأولياء، فإنه كان يشتمل على مساجد وربط وسوق وعدّة مساكن، منها ما خرب ومنها ما هو باق، وسترى من ذلك ما يتيسر ذكره.
مسجد الأقدام
هذا المسجد بالقرافة بخط المغافر. قال القضاعيّ: ذكر الكنديّ أن الجند بنوع وليس من الخطط، وسمي بالأقدام لأنّ مروان بن الحكم لما دخل مصر وصالح أهلها وبايعوه، امتنع من بيعته ثمانون رجلا من المغافر سوى غيرهم، وقالوا لا ننكث بيعة ابن الزبير، فأمر(4/331)
مروان بقطع أيديهم وأرجلهم وقتلهم على بئر المغافر في هذا الموضع، فسمي المسجد بهم لأنه بنى على آثارهم. والآثار الأقدام، يقال جئت على قدم فلان أي على أثره، وقيل بل أمرهم بالبراءة من عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فلم يتبرّؤوا منه فقتلهم هناك. وقيل إنما سمي مسجد الأقدام لأنّ قبيلتين اختلفتا فيه، كلّ تدّعي أنه من خطتها، فقيس ما بينه وبين كلّ قبيلة بالأقدام وجعل لأقربهما منه. والقديم من هذا المسجد هو محرابه والأروقة المحيطة به، وأما خارجه فزيادة الإخشيد، والزيادة الجديدة التي في بحريه لسمعون الملقب بسهم الدولة متولى الستارة، وكان من أهل السنة والخير. ويقال إنما سمي مسجد الأقدام لأنه كان يتداوله العباد، وكانت حجارته كذانا «1» ، فأثر فيها موضع أقدامهم، فسمي لذلك مسجد الأقدام.
مسجد الرصد
هذا المسجد بناه الأفضل أبو القاسم شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجماليّ بعد بنائه للجامع المعروف بجامع الفيلة، لأجل رصد الكواكب بالآلة التي يقال لها ذات الحلق، كما ذكر فيما تقدّم.
مسجد شقيق الملك
هذا المسجد بجوار مسجد الرصد، بناه شقيق الملك خسروان صاحب بيت المال، أحد خدّام القصر في أيام الخليفة الحافظ لدين الله في سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وعمل فيه للحافظ ضيافة عظيمة حضر فيها بنفسه، ومعه الأمراء والأستاذون وكافة الرؤساء، وكان فيه كرم وسموّ همة، وكان لمساجد القرافة والجبل عنده روزنامج بأسماء أربابها، فينفد إليهم في أيام العنب والتين لكلّ مسجد قفص رطب، ويرسل في كلّ ليلة من ليالي الوقود لكلّ مسجد خروف شواء وسطل جوذآب وجام حلوى، ولا سيما إذا كان بائتا في هذا المسجد، فإنه لا يأكل حتى يسير ذلك لمن اسمه عنده، وكان يعمل جفان القطائف المحشوّة باللوز والسكر والكافور والمسك، وفيها ما فيه بدل اللوز الفستق، ويستدعى من لا يقدر على ذلك من أهل الجبل والقرافة وذوي البيوت المنقطعين ويأمر إذا حضروا بسكب الحلو والشيرج عليه بالجرار، ويأمرهم بالأكل منه، والحمل معهم، وكان أحبهم إليه من يأكل طعامه ويستدعي برّه وأنعامه رحمه الله.
مسجد الانطاكيّ
هذا المسجد كان أيضا بالرصد، وما برحت هذه المساجد الثلاثة بالرصد يسكنها(4/332)
الناس إلى ما بعد سنة ثمانين وسبعمائة، ثم خربت وصار الرصد من الأماكن المخوفة بعد ما أدركته منتزها للعامّة.
مسجد النارنج
هذا المسجد عامر إلى يومنا هذا فيما بين الرصد والقرافة الكبرى، بجانب سقاية ابن طولون المعروفة بعفصة الكبرى، غربيها إلى البحريّ قليلا، وهو المطلّ على بركة الحبش شرقيّ الكتفي وقبليّ القرافة. بنته الجهة الآمرية المعروفة بجبهة الدار الجديدة في سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة، أخرجت له اثني عشر ألف دينار على يد الأستاذين افتخار الدولة يمن، ومعز الدولة الطويل، المعروف بالوحش. وتولى العمارة والإنفاق عليه الشريف أبو طالب موسى بن عبد الله بن هاشم بن مشرف بن جعفر بن المسلم بن عبيد الله بن جعفر بن محمد بن إبراهيم بن محمد اليمانيّ بن عبيد الله بن موسى الكاظم الحسينيّ الموسويّ، المعروف بابن أخي الطيب بن أبي طالب الورّاق، وسمي مسجد النارنج لأنّ نارنجه لا ينقطع أبدا.
مسجد الأندلس
هذا المسجد في شرقيّ القرافة الصغرى بجانب مسجد الفتح، في الموضع الذي يعرف عند الزوّار بالبقعة، وهو مصلّى المغافر على الجنائز. ويقال أنه بني عند فتح مصر، وقيل بني في خلافة معاوية بن أبي سفيان، ثم بنته جهة مكنون، واسمها علم الآمرية أمّ ابنة الآمر التي يقال لها ست القصور، في سنة ست وعشرين وخمسمائة، على يد المعروف بالشيخ أبي تراب.
وجهة مكنون هذه: كان الخليفة الآمر بأحكام الله كتب صداقها وجعل المقدّم منه أربعة عشر ألف دينار، وكان لها صدقات وبرّ وخير وفضل، وعندها خوف من الله، وكانت تبعث إلى الأشراف بصلات جزيلة، وترسل إلى أرباب البيوت والمستورين أموالا كثيرة، ولما وهب الآمر لهزار الملوك ولبرغش في كلّ يوم مائتي ألف دينار عينا، لكل منهما مائة ألف دينار، حضر، إليها عشاء على عادته، فأغلقت باب مقصورتها قبل دخوله وقالت له:
والله ما تدخل إليّ أو تهب لي مثل ما وهبت لواحد من غلاميك. فقال: الساعة: ثم استدعى بالفرّاشين فحضروا فقال: هاتوا مائة ألف دينار الساعة، ولم يزل واقفا إلى أن حضرت عشرة كيسة في كل كيس عشرة آلاف دينار، ويحمل عشرة من الفرّاشين. ففتحت له الباب ودخل إليها. ومكنون هذا هو الأستاذ الذي كان برسم خدمتها، ويقال له مكنون القاضي لسكونه وهدئه، وكان فيه خبر وبرّ كبير، وبجانب مسجد الأندلس هذا رباط من غريبه بنته جهة مكنون هذه في سنة ست وعشرين وخمسمائة، برسم العجائز الأرامل. فلما كان في(4/333)
سنة أربع وسبعين وخمسمائة، بنى الحاجب لؤلؤ العادليّ برحبة الأندلس والرباط بستانا وأحواضا ومقعدا، وجمع بين مصلّى الأندلس وبين الرباط بحائط بينهما، وعمل ذلك لحلول العفيف حاتم بن مسلم المقدسيّ الشافعيّ به، ولما مات السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ بدمشق في المحرّم سنة ست وسبعين وستمائة، وقام من بعده في السلطنة ابنه الملك السعيد محمد بركة خان، عمل لأبيه عزاء بالأندلس هذا، فاجتمع هناك القرّاء والفقهاء وأقيمت المطابح وهيئت المطاعم الكثيرة وفرّقت على الزوايا ومدّت أسمطة عظيمة بالخيام التي ضربت حول الأندلس، فأكل الناس على اختلاف طبقاتهم، وقرأ القرّاء ختمة شريفة، وعدّ هذا الوقت من المهمات العظيمة المشهورة بديار مصر، وكان ذلك في المحرّم سنة سبع وسبعين وستمائة، على رأس سنة من موت الملك الظاهر، فقال في ذلك القاضي محيي الدين عبد الله بن عبد الظاهر.
يا أيها الناس اسمعوا ... قولا بصدق قد كسي
إنّ عزا السلطان في ... غرب وشرق ما نسي
أليس ذا مأتمه ... يعمل في الأندلس
ثم عمل بعد ذلك مجتمع في المدرسة الناصرية بجوار قبة الشافعيّ من القرافة، ومجتمع بجامع ابن طولون، ومجتمع بجامع الظاهر من الحسينية خارج القاهرة، ومجتمع بالمدرسة الظاهرية بين القصرين، ومجتمع بالمدرسة الصالحية، ومجتمع بدار الحديث الكاملية، ومجتمع بالخانقاه الصلاحية لسعيد السعداء، ومجتمع بالجامع الحاكميّ، وأقيم في كلّ واحد من هذه المجتمعات الأطعمة الكثيرة، وعمل للتكاررة خوان، وللفقراء خوان، حضره كثير من أهل الخيل والصلاح فقيل في ذلك:
فشكرا لها أوقات برّ نقبلت ... لقد كان فيها الخير والبرّ أجمعا
لقد عمّت النعمى بها كلّ موطن ... سقتها الغوادي مربعا ثم مربعا
ولما مضى السلطان لما يمض جوده ... وخلّف فينا برّه متنوّعا
فتى عيش في معروفه بعد موته ... كما كان بعد السيل مجراه مرتعا
فدام له منّا الدعاء مكرّرا ... مدى دهرنا والله يسمع من دعا
مسجد البقعة
هذا المسجد مجاور لمسجد الفتح من غربيه، بناه الأمير أبو منصور صافي الأفضلي.
مسجد الفتح
هذا المسجد المشهور بجوار قبر الناطق، بناه شرف الإسلام سيف الإمام يانس الروميّ وزير مصر، وسمي بالفتح لأن منه كان انهزام الروم إلى قصر الشمع حين قدم الزبير بن(4/334)
العوّام، والمقداد بن الأسود فيمن سواهما مددا لعمرو بن العاص، وكان الفتح، ويقال أنّ محرابه اللطيف الذي بجانبه الشرقيّ قديم، وأنّ تحت حائطه الشرقيّ قبر عامر الذي كان أوّل من دفن بالقرافة، ومحراب مسجد الفتح منحرف عن خط سمت القبلة إلى جهة الجنوب انحرافا كثيرا، كما ذكر عند ذكر محاريب مصر من هذا الكتاب، واستشهد يومئذ جماعة دفنوا في مجرى الحصا، فكان يرى على قبورهم في الليل نور.
مسجد أمّ عباس جهة العادل بن السلار
هذا المسجد كان بجوار مصلّى خولان بالمغافر غربيّ المقابر، بنته بلاوة زوج العادل بن السلار سلطان مصر، في خلافة الظافر سنة سبع وأربعين وخمسمائة، على يد المعروف بالشريف عز الدولة الرضويّ بن القفاص، وكانت بلاوة مغربية، وهي أمّ الوزير عباس الصنهاجيّ الباديسيّ وقد دثر هذا المسجد.
مسجد الصالح
هذا المسجد كان بخط جامع القرافة المعروف بجامع الأولياء، عرف بمسجد بني عبيد الله، وبمسجد القبة، وبمسجد العزاء، والذي بناه الصالح طلائع بن رزيك وزير مصر، وكان في أعلاه مناظر وعمارته متقنة الزيّ، وأدركته عامرا إلى ما بعد سنة ثمانمائة.
مسجد وليّ عهد أمير المؤمنين
هو الأمير أبو هاشم العباس بن شعيب بن داود المهديّ، أحد الأقارب في الأيام الحاكمية، كان إلى جانب مسجد الصالح، وبجانبه تربته، وكان المسجد من حجر وبابه محمول على أربع حنايا، وتحت الحنايا باب المسجد، وفي شرقيه أيضا أربع حنايا، وكانت دار أبي هاشم هذا بمصر دار الأفراح، ومن ولده الشريف الأمير الكبير أبو الحسن عليّ ابن الأمير عباس بن شعيب بن أبي هاشم المذكور، ويعرف بالشريف الطويل وبالنباش.
مسجد الرحمة
هذا المسجد كان في صدر القرافة الكبرى بالقرب من تربة ركن الإسلام محمود ابن أخت الملك الصالح طلائع بن رزيك. قال الكنديّ: ومنها مسجد القرافة، وهو بنو محصن بن سيف بن وائل بن الجيزيّ، قبليّ القرافة على يمينك إذا أممت مسجد الأقدام، مقابله فسقية صغيرة، وله منارة، يعرف بمسجد الرحمة، وعرف هذا المسجد بأبي تراب الصوّاف وكيل الجهة التي بنت مسجد الأندلس ورباطه، ومسجد رقية. وأبو تراب هذا تولى بناءه، وكان يقوم بخدمته الشيخ نسيم، وأبو تراب هو الذي أخرج إليه ولد الآمر في قفة من خوص، فيها حوائج طبيخ من كرّاث وبصل وجزر وهو طفل في القماط في أسفل(4/335)
القفة، والحوائج فوقه، ووصل به إلى القرافة وأرضعته المرضعة بهذا المسجد وخفي أمره عن الحافظ حتى كبر، وصار يسمى قفيفة. فلما حان نفعه نمّ عليه أبو عبد الله الحسين بن أبي الفضل عبد الله بن الحسين الجوهريّ الواعظ، بعد ما مات الشيخ أبو تراب، عند الحافظ. فأخذ الصبيّ وقصده فمات. وخلع على ابن الجوهريّ، ثم نفي إلى دمياط فمات بها في جمادى سنة ثمان وعشرين وخمسمائة.
مسجد مكنون
هو بجانب مسجد الرحمة، بناه الأستاد مكنون القاضي الذي تقدّم ذكره في مسجد الأندلس.
مسجد جهة ريحان
هذا المسجد كان في وجه مسجد أبي تراب قبالة دار البقر من القرافة الكبرى، وجدّده أستاذ الجهة الحافظية، واسمه ريحان، في سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة.
مسجد جهة بيان
هذا المسجد كان في بطحاء مسجد الأقدام بجوار ترب المادرانيين، بنته الجهة الحافظية المعروفة بجهة بيان الحساميّ، على يد أبي الفضل الصعيديّ المعروف بابن الموفق، وحكى الخليفة عن هذه الجهة خبرا عجيبا. قال القاضي المكين أبو الطاهر إسماعيل بن سلامة: قال لي أمير المؤمنين الحافظ يوما: يا قاضي أبا الطاهر. قلت لبيك يا أمير المؤمنين. قال: أحدّثك بحديث عجيب قلت نعم. قال لما جرى من أبي عليّ بن الأفضل ما جرى بينما أنا في الموضع الذي كنت معتقلا فيه، رأيت كأني قد جلست في مجلس من مجالس القصر أعرفه، وكان الخلافة قد أعيدت إليّ، وكأنّ المغنيات قد دخلن يهنينني ويغنين بين يدي، وفي جملتهنّ جارية معها عود، يعني هذه الجارية المذكورة، فأنشأت تغني قول أبي العتاهية:
أتته الخلافة منقادة ... إليه تجرّر أذيالها
فلم تك تصلح إلّا له ... ولم يك يصلح إلّا لها
ولو نالها أحد غيره ... لزلزلت الأرض زلزالها
وكأني قمت إلى خزانة بالمجلس أخذت منها حقة فيها جوهر. فملأت فمها منه، ثم استيقظت. فو الله يا قاضي ما كان إلّا يومان حتى كسر عليّ الحبس لما قتل أبو عليّ بن الأفضل وقيل لي السلام على أمير المؤمنين، فلما خرجت وأقمت أياما جلست في ذلك المجلس الذي رأيته في النوم، ودخل الجواري يهنينني، فغنت إحداهنّ وهي ذات عود ذلك(4/336)
الصوت بعينه، فقلت لها: على رسلك حتى نقضي نحن أيضا من حقك ما يجب علينا، وقمت إلى الخزانة وأخذت الحق الذي فيه الجوهر، ثم جئت إليها وقلت لها افتحي فاك، ففتحته، وحشوته جوهرا وقلت لها إنّ لك علينا في كلّ سنة في مثل هذا اليوم مثل ذلك.
مسجد توبة
هو ابن ميسرة الكتاميّ، مغني المستنصر، كان في شرقيّ الأقهوب، وقبالته تربة تنسب إلى الطبالة صاحبة أرض الطبالة، وكلاهما في القرافة الكبرى.
مسجد دري
هذا المسجد كان في القرافة الكبرى في رحبة الأقهوب، بناه شهاب الدولة دري، غلام المظفر أخي الأفضل ابن أمير الجيوش، في سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، وكان أرمنيا فأسلم وصار من المتشدّدين في مذهب الإمامية، وقرأ الجمل للزجاجيّ في النحو، واللمع لابن جني، وكانت له خرائط من القطن الأبيض يلبسها في يديه ورجليه، وكان يتولى خزائن الكسوات، ولا يدخل على بسط السلاطين ولا على بسط الخليفة الحافظ لدين الله، ولا يدخل مجلسه إلّا بالخرائط في رجليه، ولا يأخذ من أحد رقعة إلّا وفي يده خريطة، يظنّ أنّ من لمسه نجسه، وسوسة منه. فإن اتفق أنه صافح أحدا، أو أمسك رقعة بيده من غير خريطة، لا يمس ثوبه ولا بدنه حتى يغسلها، فإن مس ثوبه غسل الثوب. وكان الأستاذون يعبثون به ويرمون في بساط الخليفة الحافظ العنب، فإذا مشى عليه وانفجر ووصل ماؤه إلى رجليه سبهم وحرد، فيضحك الخليفة ولا يؤاخذه، وعمل مرّة الوزير رضوان بن ولخشيّ دواة حليتها ألف دينار مرصعة، فدخل عليه شهاب الدولة دري الصغير هذا، وقد أحضرت الدواة المذكورة، فقال له: يا مولانا أحسن من مداد هذه الدواة ووقع على هذه، فيكون ذلك زكاتها إذ لله فيه رضى ولنبيه، وناوله رقعة الشريف القاضي سنا الملك أسعد الجوّانيّ النحويّ، يطلب فيها راتبا لابنه الشريف أبي عبد الله محمد في الشهر ثلاثة دنانير، فوقع عليها. فلما كان في الليل رأى في نومه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يقول: جزاك الله خيرا على فعلك اليوم.
مسجد ست غزال
هذا المسجد كان في القرافة الكبرى بجوار تربة النعمان، بنته ست غزال في سنة ست وثلاثين وخمسمائة، وكانت غزال هذه صاحبة دواة الخليفة، لا تعرف شيئا إلّا أحكام الدوى والليق «1» ومسح الأقلام والدواة، وكان برسم خدمتها الأستاذ مأمون الدولة الطويل.(4/337)
مسجد رياض
هو لوقافة الحافظ لدين الله، كانت تقف بين يديه بالقصر، وكان بجوار المصنعة الصغرى الطولونية التي يجيء الماء إليها من عفصة الكبرى، وكان فيه حوش به عدّة بيوت للنساء المنقطعات.
مسجد عظيم الدولة
هذا المسجد كان معلقا بخط سوق القرافة الكبرى، واكن عظيم الدولة هذا صقلبيا صاحب الستر وحامل المظلة، وكان بجوار هذا المسجد مسجد التمساح، ومسجد السدرة، ومسجد جهة مراد، وكان القاضي أبو عبد الله محمد بن أبي الفرج هبة الله بن الميسر، لما عمل قدّامة منارة النحاس الرومية ذات السواعد، واجتاز بها من تحت سدرة المسجد في ليلة الوقود، نصف شهر رجب سنة ثلاثين وخمسمائة، عاقتها السدرة فأمر بقطع بعضها، فقيل له: لا تفعل، فإنّ قطع السدر محذور. وقد روى أبو داود في كتاب السنن له، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قطع سدرة صوّب الله رأسه في النار» فقطعها على ركوب نصف شعبان، فما أسنى وصرف فيّ المحرّم وفني إلى تنيس وقتل.
مسجد أبي صادق
هذا المسجد كان غربيّ مسجد الأقدام، بناه ابن سعدون أبو الحسن عليّ بن محمد البغداديّ، بعد سنة عشرين وأربعمائة، وجدّده أخوه أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسن بن سعدون البغداديّ سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة، وهو مسجد أبي صادق مرشد المدينيّ المالكيّ المحدّث، وكان قاريء المصحف بالجامع، ومصليا به، ومصدّرا فيه لإقراء السبع، وكان فيه حنة على الحيوانات لا سيما على القطط والكلاب، وكان مشارف الجامع وجعل عليه جاريا من الغدد كلّ يوم لأجل القطط، وكان عند داره بزقاق الأقفال من مصر كلاب يطعمها ويسقيها، وربما تبع دابته منها شيء يمشي معه في الأسواق، قال الشريف محمد بن أسعد الجوّانيّ النسابة في كتاب النقط على الخطط: حدّثني الشيخ منجب غلام أبي صادق قال: كان لمولاي الشيخ أبي صادق كلب لا يفارقه أبدا، إذا كان راكبا يمشي خلفه، فإذا وقفت بغلته قام تحت يديها، فإذا رآه الناس قالوا هذا أبو صادق وكلبه.
وحدّثني قال: ولدت كلبة في مستوقد حمّام، وكان المؤذن يأتي خلف مولاي سحرا كل يوم لقراءة المصحف، وكان مولاي يأخذ في كمه كلّ يوم رغيفا، فإذا حاذى موضع الكلبة قلع طيلسانه وقطع الخبز للكلبة ويرمي لها بنفسه إلى أن تأكل، ثم يستدعي الوقاد ويعطيه قيراطا ويقول له: اغسل قدحها واملأه ماء حلوا، ويستحلفه على ذلك. فلما كبر أولادها صار يأخذ بعد رغيفين إلى أن كبروا وتفرّقوا. وحدّثني قال: كان قد جعل كراء حانوت برسم(4/338)
القطاط بالجامع العتيق من الأحباس، وكان يؤتي بالغدد مقطعة، فيجلس ويقسم عليها، وإن قطة كانت تحمل شيئا من ذلك وتمضي به، وفعلت ذلك مرارا، فقال مولاي للشيخ أبي الحسن بن فرج امض خلف هذه القطة وانظر إلى أين تؤدّي ذلك، فمضى ابن فرج فإذا بها تؤدّيه إلى أولادها، فعاد إليه وأخبره، فكان بعد ذلك يقطع غددا صغارا على قدر مساغ القطط الصغار، وغددا كبار للكبار، ويرسل بجزء الصغار إليهم إلى أن كبروا،
مسجد الفرّاش
هذا المسجد كان بالقرافة الكبرى، بناه أحمد فرّاش الأفضل بن أمير الجيوش، وبجواره مسجد بناء زيد بن حسام، ومسجد الإجابة القديم، وتربة العطار، ودار البقر، وقناطر الأطفيحيّ، كلّ ذلك بالقرب من جامع القرافة.
مسجد تاج الملوك
هذا المسجد قدّام دار النعمان وتربته من القرافة الكبرى، بناه تاج الملوك بدران بن أبي الهيجاء الكرديّ الماردانيّ، وهو أخو سيف الدين حسين بن أبي الهيجاء، صهر بني رزيك، وكان مجتمع أهل مصر عنده في الأعياد والمواسم وليالي الوقود.
مسجد الثمار
هذا المسجد كان ملاصقا للزيادة التي في بحريّ مسجد الأقدام، وفيه قبور بني الثمار.
مسجد الحجر
هذا المسجد كان بحريّ مسجد عمار بن يونس مولى المغافر، وشرقيّ قصر الزجاج من القرافة الكبرى، بنته مولاة عليّ بن يحيى بن طاهر المعروف بابن أبي الخارجيّ الموصليّ، في ربيع الأوّل سنة ثلاثين وأربعمائة.
مسجد القاضي يونس
هذا المسجد كان غربيّ مسجد الحجر المذكور، بناه الشيخ عدي الملك بن عثمان صاحب دار الضيافة، ثم صار بيد قاضي القضاة بمصر، الموفق كمال الدين أبي الفضائل يونس بن محمد بن الحسن المعروف بجوامرد، خطيب القدس القرشيّ، وكان من الأعيان، ولم يشرب قط من ماء النيل بل من ماء الآبار، ولم يأكل قط للسلطان خبزا، وكان يروى الحديث عن جده.(4/339)
مسجد الوزيرية
هذا المسجد كان بالقرافة الكبرى، وله منارة بجوار باب رباط الحجازية، وكانت الحجازية واعظة زمانها، وكانت من الخيّرات، لها القبول التام، وتدعى أمّ الخير، وكان لها من الصيت كما كان لابن الجوهريّ، وكانت على غاية من الكرم وحسن الأخلاق والشيم، ومن مكارم أخلاقها وحسن طباعها وكياسة انطباعها ما حكاه الجوّانيّ النسابة في كتاب النقط على الخطط قال: حدّثني الشيخ أبو الحسن بن السراج المؤذن بالجامع بمصر قال: كان قدّام الباب الأوّل من أبواب جامع مصر يباع رطب يقعد على الأرض وبين يديه اقفاص رطب من أحسن الأرطاب، فبينما الحجازية الواعظة هذه ذات يوم قد قاربت الخروج من باب الجامع، وهي في حفدتها وجواريها، وإذا ذلك الرطاب ينادي على قفص رطب قدّامه، معاشر الناس اشتروا الطيبة الحجازية على أربعة، على أربعة. يريد على أربعة أرطال رطب بدرهم. فلما سمعته الحجازية وقفت قبل أن تخرج من باب الجامع وأنفذت إليه بعض الجواري فصاحت به، فلما أتاها قالت له: يا أخي قولك الحجازية على أربعة مشكل، لا ترجع تنادي كذا، وهذا رباعي هدية مني لك ربح هذا القفص، ولا تناد كذا، فأخذه وقبل يدهل وقال السمع والطاعة.
مسجد ابن العكر
هذا المسجد غربيّ مسجد أبي صادق، بحضرة مسجد الأقدام، قبالة قصر الكتفي وبحذاء مسجد النارنج. بناه القاضي العادل بن العكر.
مسجد ابن كباس
هذا المسجد كان مجاور للقناطر الأطفيحية على يسار من أمّ طريق الجامع، بناه القاضي ابن كباس.
مسجد الشهمية
هذا المسجد كان شرقيّ مسجد الأقدام، وغربيّ قناطر ابن طولون، مجاورا لتربة القاضي ابن قابوس، كان يعرف بمسجد الفقاعة من الكلاع، ويعرف أيضا بمسجد شادن الفضليّ، غلام الوزير جعفر بن الفضل بن الفرات.
مسجد زنكادة
هذا المسجد كان غربيّ مسجد عمار بن يونس، بناه زنكادة المخنث بعد ما تاب في سنة خمس وثلاثين وخمسمائة.(4/340)
جامع القرافة
هذا الجامع يعرف اليوم بجامع الأولياء، وهو مسجد بني عبد الله بن مانع بن مزروع، ويعرف بمسجد القبة، وقد ذكر عند ذكر الجوامع من هذا الكتاب.
مسجد الأطفيحيّ
هذا المسجد كان في البطحاء، بحريّ مجرى جامع الفيلة إلى الشرق، مخالطا لخطط الكلاع ورعين والأكنوع والأكحول. ويقال له مسجد وحاطة بن سعد الأطفيحيّ، من أهل أطفيح، شيخ له سمت، وكتب الحديث في سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، وما قبلها، وسمع من الحباك وهو في طبقته، وهو رفيق الفرّاء وابن مشرف وابن الحظية وأبي صادق، وسلك طريق أهل القناعة والزهد والعزلة كأبي العباس ابن الحظية وكان الأفضل الكبير شاهنشاه صاحب مصر قد لزمه، واتخذ السعي إليه مفرتضا، والحديث معه شهوة. وغرضا لا ينقطع عنه. وكان فكه الحديث، قد وقف من أخبار الناس والدول على القديم والحديث، وقصده الناس لأجل حلول السلطان عنده لقضاء حوائجهم فقضاها، وصار مسجده موئلا للحاضر والبادي. وصدى لإجابة صوت النادي، وشكا الشيخ إلى الأفضل تعذر الماء ووصوله إليه، فأمر ببناء القناطر التي كانت في عرض القرافة من المجرى الكبيرة الطولونية، فبنيت إلى المسجد الذي به الأطفيحيّ، ومضى عليها من النفقة خمسة آلاف دينار، وعمل الأطفيحيّ صهريج ماء شرقيّ المسجد، عظيما محكم الصنعة، وحمّاما وبستانا كان به نخلة سقطت بعد سنة خمسين وخمسمائة. وعمل الأفضل له مقعدا بحذاء المسجد إلى الشرق، علو زيادة في المسجد شرقيه، وقاعة صغيرة مرخمة إذا جاء عنده جلس فيها وخلا بنفسه واجتمع معه وحادثه، وكان هذا المقعد على هيئة المنظرة بغير ستائر، كلّ من قصد الأطفيحيّ من الكتفي يراه، وكان الأفضل لا يأخذه عنه القرار، يخرج في أكثر الأوقات من دار الملك باكرا أو ظهرا أو عصرا بغتة، فيترجل ويدق الباب وقارا للشيخ، كما كان الصحابة رضي الله عنهم يقرعون أبواب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بظفر الإبهام والمسبحة، كما يحصب بهما الحاصب، فإن كان الشيخ يصلي لا يزال واقفا حتى يخرج من الصلاة ويقول من فيقول ولدك شاهنشاه. فيقول نعم. ثم يفتح فيصافحه الأفضل ويمرّ بيده التي لمس بها يد الشيخ على وجهه، ويدخل فيقول الشيخ: نصرك الله، أيدك الله، سدّدك الله، هذه الدعوات الثلاثة لا غير أبدا. فيقول الأفضل آمين، وبنى له الأفضل المصلّى ذات المحاريب الثلاثة شرقيّ المسجد إلى القبليّ قليلا، ويعرف بمصلّى الأطفيحيّ، كان يصلّي فيه على جنائز موتى القرافة، وكان سبب اختصاص الأفضل بهذا الشيخ، أنه لما كان محاصرا نزار بن المستنصر بالإسكندرية، وناصر الدولة أفتكين الأرمنيّ، أحد مماليك أمير الجيوش بدر، وكانت أمّ(4/341)
الأفضل إذ ذاك وهي عجوز لها سمت ووقار، تطوف كلّ يوم وفي الجمعة الجوامع والمساجد والرباطات والأسواق، وتستقص الأخبار، وتعلم محب ولدها الأفضل من مبغضه، وكان الأطفيحيّ قد سمع بخبرها، فجاءت يوم جمعة إلى مسجده وقالت له: يا سيدي ولدي في العسكر مع الأفضل، الله يأخذ لي الحق منه، فإني خائفة على ولدي، فادع الله لي أن يسلمه. فقال لها الشيخ: يا أمة الله أما تستحيين تدعين على سلطان الله في أرضه، المجاهد عن دينه، الله تعالى ينصره ويظفره ويسلّمه، ويسلم ولدك، ما هو إن شاء الله إلّا منصور مؤيد مظفر، كأنك به وقد فتح الإسكندرية وأسر أعداءه وأتى على أحسن قضية وأجمل طوية، فلا تشغلي لك سرّا، فما يكون إلّا خيرا إن شاء الله تعالى، ثم إنها اجتازت بعد ذلك بالفار الصيرفيّ بالقاهرة بالسرّاجين، وهو والد الأمير عبد الكريم الآمريّ صاحب السيف، وكان عبد الكريم قد ولي مصر بعد ذلك في الأيام الحافظية، وكان عبد الكريم هذا له في أيام الآمر وجاهة عظيمة وصولة، ثم افتقر.
فوقفت أمّ الأفضل على الصيرفيّ تصرف دينارا وتسمع ما يقول، لأنه كان إسماعيليا متغاليا، فقالت له: ولدي مع الأفضل؛ وما أدرى ما خبره. فقال لها الفار المذكور، لعن الله المذكور الأرمنيّ الكلب العبد السوء ابن العبد السوء، مضى يقاتل مولاه ومولى الخلق، كأنك والله يا عجوز برأسه جائزا من هاهنا على رمح قدّام مولاه نزار ومولاي ناصر الدولة إن شاء الله تعالى، والله يلطف بولدك، من قال لك تخليه يمضي مع هذا الكلب المنافق، وهو لا يعرف من هي.
ثم وقفت على ابن بابان الحلبيّ وكان بزازا بسوق القاهرة فقالت له مثل ما قالت للفار الصيرفيّ ... وقال لها مثل ما قال لها. فلما أخذ الأفضل نزارا وناصر الدولة وفتح الإسكندرية، حدّثته والدته الحديث وقالت: إن كان لك أب بعد أمير الجيوش فهذا الشيخ الأطفيحيّ. فلما خلع عليه المستعلي بالقصر وعاد إلى دار الملك بمصر، اجتاز بالبزازين يوما، فلما نظر إلى ابن بابان الحلبيّ قال: انزلوا بهذا فنزلوا به، فقال: رأسه. فضربت عنقه تحت دكانه. ثم قال لعبد على أحد مقدّمي ركابه: قف هاهنا لا يضيع له شيء إلى أن يأتي أهله فيتسلموا قماشه، ثم وصل إلى دكان الفار الصيرفيّ فقال: انزلوا بهذا، فنزلوا به، فقال: رأسه. فضربت عنقه تحت دكانه. وقال ليوسف الأصغر أحد مقدّمي الركاب اجلس على حانوته إلى أن يأتي أهله ويتسلموا موجوده، وإياك وماله وصندوقه، وإن ضاع منه درهم ضربت عنقك مكانه، كان لنا خصم أخذناه وقد فعلنا به ما يردع غيره عن فعله، وما لنا ماله، ولا فقر أهله، ثم أتى الأفضل إلى الشيخ أبي طاهر الأطفيحيّ وقرّبه وخصصه إلى أن كان من أمره مما شرحناه.(4/342)
مسجد الزيات
هذا المسجد مجاور بيت الخوّاص غربيه. ومسجد ابن أبي الردّاد، يعرف بمسجد الأنطاكيّ، ومسجد الفاخوريّ. يعرف بمسجد البطحاء، ومسجد ابن أبي الصغير، قبليّ مسجد بني مانع، وهو جامع القرافة، ومسجد الشريفة بني في سنة إحدى وخمسمائة، ومسجد ابن أبي كامل الطرابلسيّ، كان بحارة الفرن بناه الأعز بن أبي كامل، والمعبد الذي كان على رأس العقبة التي يتوصل منها إلى الرصد، بناه أبو محمد عبد الله الطباخ، ويقال أنه كان بالقرافة اثنا عشر ألف مسجد.
القصر المعروف بباب ليون بالشرف: هذا القصر كان على طرف الجبل بالشرف الذي يعرف اليوم ... «1» . وجاء الفتح وهو مبنيّ بالحجارة، ثم صار في موضعه مسجد عرف بمسجد المقس، والمقس ضيعة كانت تعرف بأمّ دنين، سميت المقس لأنّ العاشر كان يقعد بها، وصاحب المكس، فقلب فقيل المقس، وليون اسم بلد بمصر بلغة السودان والروم، وقد ذكر المقس عند ذكر ظواهر القاهرة من هذا الكتاب، والله تعالى أعلم.
ذكر الجواسيق التي بالقرافة
قال ابن سيده: الجوسق، الحصن. وقيل هو شبيه بالحصن معرّب، وقال الشريف محمد بن أسعد الجوّانيّ النسابة في كتاب النقط على الخطط: الجواسق بالقرافة والجبانة كانت تسمى القصور، وكان بالقرافة قصر الكتفيّ، وقصر بني كعب، وقصر بني عقبة، وقصر أبي قبيل، وقصر العزيز، وقصر البغداديّ، وقصر يشب، وقصر ابن كرامة.
جوسق بني عبد الحكم: كان جوسقا كبيرا له حوش، وكان في وسط القرافة بحضرة مسجد بني سريع الذي يقال له الجامع العتيق، وهو أحد الجواسق الثلاثة، وهو جوسق عبد الله بن عبد الحكم الفقيه الإمام، وجدّد هذا الجوسق ابن اللهيب المغربي.
جوسق بني غالب، ويعرف ببني بابشاد: كان بالمغافر، بني في سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة، وإلى جانبه قبر الشيخ أبي الحسن طاهر بن بابشاد.
جوسق ابن ميسر: كان بجوار جوسق بني غالب، بناه أبو عبد الله محمد ابن القاضي أبي الفرج هبة الله، وكان أبو الفرج هو الخطيب بجامع مصر، ويوم الغدير، وهو شافعيّ المذهب، وهو هبة الله بن الميسر. وذلك في جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وخمسمائة، وأبو عبد الله هذا هو الذي كان بعد ذلك قاضي القضاة بمصر، وهو الذي حبس القياسر التي كانت في القشاشين بمصر، وكان يحمل قدّامه المنارة الرومية النحاس ذات السواعد التي(4/343)
عليها الشمع ليالي الوقودات، وكان فيه كرم، سمع بأن المادرانيّ عمل في أيامه الكعك الصغير المحشوّ بالسكر المسمى أفطن له، فأمر هو بعمل لب الفستق الملبس بالسكر الأبيض الفانيذ المطيب بالمسك، وعمل منه في أوّل الحال شيئا عوّض لبه لب ذهب في صحن واحد، فمضى فيه جملة، وخطف قدّامه، تخاطفه الحاضرون. ولم يعد لعمله بل الفستق الملبس. وهو أوّل من أخرجه بمصر، وكان قد سمع في سيرة أبي بكر المادرانيّ أنه عمل هذا الأفطن له، وجعل في كلّ واحد خمسة دنانير، ووقف أستاذ على السماط فقال لأحد الجلساء: افطن له. وكان على السماط عدّة صحون من ذلك الجنس، لكن ما فيها ما فيه دنانير إلّا صحن واحد، فلما رمز الأستاذ لأحد الجلساء على سماط المادرانيّ بقوله افطن له، وأشار إلى الصحن، تناول الرجل منه فأصاب لك، فاعتمد له جملة، ورآه الناس وهو إذا أكل يخرج شيئا من فمه ويجمع بيده ويحط في حجره، فتنبهوا وتزاحموا عليه. فقيل لذلك المعمول من ذلك الوقت أفطن له، وقتل هذا القاضي في تنيس في أيام بهرام الوزير النصرانيّ الأرمني، سنة ست وعشرين وخمسمائة.
جوسق ابن مقشر: كان جوسقا طويلا ذا تربة إلى جانبه.
جوسق الشيخ أبي محمد: عامل ديوان الأشراف الطالبيين، وجوسق ابن عبد المحسن بخط الأكحول، وجوسق البغداديّ الجرجراي، كان قبره إلى جانبه، خرب في سنة عشرين وخمسمائة، وجوسق الشريف أبي إسماعيل إبراهيم بن نسيب الدولة الكلتميّ الموسوي نقيب مصر.
جوسق المادرانيّ: هذا الجوسق لم يبق من جواسق القرافة غيره، وهو جوسق كبير جدّا على هيئة الكعبة بالقرب من مصلى خولان في بحريه، على جانبه الممرّ من مقطع الحجارة، بناه أبو بكر محمد بن عليّ المادرانيّ في وسط قبورهم من الجبانة، وكان الناس يجتمعون عند هذا الجوسق في الأعياد، ويوقد جميعه في ليلة النصف من شعبان كل سنة وقودا عظيما، ويتحلق القرّاء حوله لقراءة القرآن، فيمرّ للناس هنالك أوقات في تلك الليلة وفي الأعياد بديعة حسنة.
جوسق حب الورقة: كان هذا الجوسق بحضرة تربة ابن طباطبا، أدركته عامرا، وقد خرب فيما خرّبه السفهاء من ترب القرافة وجواسقها، زعما منهم أن فيها خبايا، وكان أكابر أمراء المغافر ومن بعدهم ومن يجري مجراهم، لكلّ منهم جوسق بالقرافة يتنزه فيه ويعبد الله تعالى هناك، وكان من هذه الجواسق ما تحته حوض ماء لشرب الدواب وفسقية وبستان، وكان بالقرافة عدّة قصور، وهي التي تسمى بالجواسق، لها مناظر وبساتين، إلّا أن الجواسق أكثرها بغير بساتين ولا بئر، بل مناظر مرتفعة، ويقال لها كلها قصور.
قصر القرافة: بنته السيدة تغريد أمّ العزيز بالله في سنة ست وستين وثلاثمائة، على يد(4/344)
الحسن بن عبد العزيز الفارسيّ المحتسب، هو والحمّام الذي كان في غربيه، وبنت البئر والبستان المعروف بالتاج، المعروف بحصن أبي المعلوم، وبنت جامع القرافة، ثم جدّده الآمر بأحكام الله وبيضه في سنة عشرين وخمسمائة، وعمل شرقيّ بابه مصطبة للصوفية، وكان مقدّمهم الشيخ أبو إسحاق إبراهيم المعروف بالمادح، وكان الآمر يجلس في الطاق بالمنظر الذي بناه بأعلى القصر، ويرقص أهل الطريقة قدّامه، وقد ذكر هذا القصر عند ذكر مناظر الخلفاء من هذا الكتاب، ولم يزل هذا القصر إلى ربيع الآخر سنة سبع وستين وخمسمائة.
ذكر الرباطات التي كانت بالقرافة
كان بالقرافة الكبيرة عدّة دور يقال للدار منها رباط، على هيئة ما كانت عليه بيوت أزواج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، يكون فيها العجائز والأرامل العابدات، وكانت لها الجرايات والفتوحات، وكان لها المقامات المشهورة من مجالس الوعظ.
رباط بنت الخوّاص: كان تجاه مسجد بيد الفقيه مجلي بن جميع بن نجا الشافعيّ، مؤلف كتاب الذخائر، وقاضي القضاة بمصر.
رباط الأشراف: كان برحبة جامع القرافة، يعرف بالقرّاء، وببني عبد الله، وبمسجد القبة، وهو شرقيّ بستان ابن نصر، بناه أبو بكر محمد بن عليّ المادرانيّ ووقفه على نساء الأشراف.
رباط الأندلس: بنته الجهة المعروفة بجهة مكنون الآمرية كما تقدّم.
رباط ابن العكاريّ: كان بحضرة مسجد بني سريع المعروف بالجامع العتيق.
رباط الحجازية: بنته وحبسته على الحجازية، فوز جارية عليّ بن أحمد الجرجراي الوزير، هو والمسجد الذي تقدّم ذكره.
رباط رياض: كان بجوار مسجد الحاجة رياض.
ذكر المصلّيات والمحاريب التي بالقرافة
وكان في القرافة عدّة مصلّيات وعدّة محاريب.
منها:
مصلّى الشريفة: كان بدرب القرافة بحدرة الجباسين وخطة الصدف، بناه أبو محمد عبد الله بن الأرسوفيّ الشاميّ التاجر، سنة سبع وسبعين وخمسمائة.
مصلّى المغافر: وهو الأندلس، جدّده ابن برك الإخشيديّ، ثم بنته جهة مكنون الآمرية في سنة ست وعشرين وخمسمائة.(4/345)
مصلّى عقبة القرافة، يعرف بمصلّى الأندلسيّ: كان ذا مصطبة مربعة على يسرة الطالع إلى القرافة، بناه يوسف بن أحمد الأندلسيّ الأنصاريّ، في شهر رمضان سنة خمس عشرة وخمسمائة.
مصلّى القرافة: جدّده الفقيه ابن الصباغ المالكيّ، في سنة عشرين وخمسمائة، وكان بحضرة مسجد أبي تراب تجاه دار التبر.
مصلّى الفتح: كان ملاصقا لمسجد الفتح، بناه أبو محمد القلعيّ المغربيّ المنجم الحافظيّ.
مصلّى جهة العادل: أبي الحسن بن السلار وزير مصر.
مصلّى الأطفيحيّ: بجوار مسجد الأطفيحيّ الذي تقدّم ذكره.
مصلّى الجرجانيّ: بناه الوزير عليّ بن أحمد الجرجانيّ، وكانت بالقرافة الكبرى والجبانة عدّة محاريب خربت كلها.
مصلّى خولان: هذه المصلّى عرفت بطائفة من العرب الذين شهدوا فتح مصر يقال لهم خولان، وهم من قبائل اليمن، واسمه نكل بن عمرو بن مالك بن زيد بن عريب، وفي هذه المصلّى مشهد الأعياد، ويؤمّ الناس ويخطب لهم بها في يوم العيد خطيب جامع عمرو بن العاص، وليست هذه المصلّى هي التي أنشأها المسلمون عند فتح أرض مصر، وإنما كانت مصلّى العيد في أوّل الإسلام غير هذه. قال القضاعي: مصلّى العيد كان مصلى عمرو بن العاص مقابل اليحموم، وهو الجبل المطلّ على القاهرة. فلما ولي عبد الله بن سعد بن أبي سرح مصر، أمر بتحويله. فحوّل إلى موضعه المعروف اليوم بالمصلّى القديم عند درب السباع، ثم زاد فيه عبد الله بن طاهر سنة عشر ومائتين، ثم بناه أحمد بن طولون في سنة ست وخمسين ومائتين، واسمه باق عليه إلى اليوم.
قال الكنديّ: ولما قدم شفي الأصبحيّ إلى مصر، وأهل مصر قد اتخذوا مصلّى بحذاء ساقية أبي عون عند العسكر قال: ما لهم وضعوا مصلّاهم في الجبل الملعون وتركوا الجبل المقدّس، يعني المقطم. قال: فقدّموا مصلّاهم إلى موضعه الذي هو به اليوم، يعني المصلّى القديم المذكور. وقال الكنديّ: ثم ضاق المصلّى بالناس في إمارة عنبسة بن إسحاق الضبيّ على مصر، في أيام المتوكل على الله، فأمر عنبسة بابتناء المصلّى الجديد، فابتديء ببنائه في العشر الأخير من شهر رمضان سنة أربعين ومائتين، وصلّى فيه يوم النحر من هذه السنة.
وعنبسة هو آخر عربيّ ولي مصر، وآخر أمير صلّى بالناس في المسجد، وهو المصلّى(4/346)
الذي بالصحراء عند الجاروديّ، ثم جدّده الحاكم وزاد فيه وجعل له قبة، وذلك في سنة ثلاث وأربعمائة، وكان أمراء مصر إذا خرجوا إلى صلاة العيد بالمصلّى أوقفوا جيشا في سفح الجبل مما يلي بركة الحبش، ليراعي الناس حتى ينصرفوا من الصلاة، خوفا من البجة. فإنهم قدموا غير مرّة ركبانا على النجب حتى كبسوا الناس في مصلاهم وقتلوا ونهبوا ثم رجعوا من حيث أتوا، فخرج عبد الحميد بن عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب غضبا لله وللمسلمين مما أصابهم من البجة، فكمن لهم بالصعيد في طريقهم حتى أقبلوا كعادتهم في أخذ الناس في مصلّى العيد، فكبسهم وقتل الأعور رئيسهم بعد ما أقبلوا إلى المصلّى في العيد، في سنة ست وخمسين ومائتين، وأميره مصر أحمد بن طولون على النجب، وكبسوا الناس في مصلّاهم وقتلوا ونهبوا منهم وعادوا سالمين، ثم دخل العمريّ إلى بلاد البجة غازيا، فقتل منهم مقتلة عظيمة وضايقهم في بلادهم إلى أن أعطوه الجزية، ولم يكونوا أعطوا أحدا قبله الجزية، وسار في المسلمين وأهل الذمّة سيرة حسنة، وسالم النوبة إلى أن بدأ النوبة بالغدر في الموضع المعروف بالمريس، فمال عليهم وحاربهم وخرّب ديارهم وسبى منهم عالما كثيرا، حتى كان الرجل من أصحابه يبتاع الحاجة من الزيات والبقال بنوبيّ أو نوبية لكثرتهم معهم، فجاؤا إلى أحمد بن طولون وشكوا له من العمريّ، فبعث إليه جيشا ليحاربه، فأوقع بالجيش وهزمهم، وكانت لهم أنباء وقصص إلى أن قتله غلامان من أصحابه وأحضرا رأسه إلى أحمد بن طولون، فأنكر فعلهما وضرب أعناقهما وغسل الرأس ودفنه.
ذكر المساجد والمعابد التي بالجبل والصحراء
وكان بجبل المقطم وبالصحراء التي تعرف اليوم بالقرافة الصغرى عدّة مساجد وعدّة مغاير، ينقطع العباد بها، ومنها ما قد دثر ومنه شيء قد بقي أثره.
مسجد التنور: هذا المسجد في أعلى جبل المقطم من وراء قلعة الجبل في شرقيها، أدركته عامرا وفيه من يقيم به. قال القضاعيّ: المسجد المعروف بالتنور بالجبل، هو موضع تنور فرعون، كان يوقد له عليه، فإذا رأوا النار عملوا بركوبه فاتخذوا له ما يريد، وكذلك إذا ركب منصرفا من عين شمس. ثم بناه أحمد بن طولون مسجدا في صفر سنة تسع وخمسين ومائتين، ووجدت في كتاب قديم أنّ يهودا بن يعقوب أخا يوسف عليه السلام، لما دخل مع إخوته على يوسف وجرى من أمر الصواع ما جرى، تأخر عن إخوته وأقام في ذروة الجبل المقطم في هذا المكان، وكان مقابلا لتنور فرعون الذي كان يوقد له فيه النار. ثم خلا ذلك الموضع إلى زمن أحمد بن طولون، فأخبر بفضل الموضع وبمقام يهودا فيه، فابتنى فيه هذا المسجد والمنارة التي فيه، وجعل فيه صهريجا فيه الماء، وجعل الإنفاق عليه مما وقفه على البيمارستان بمصر والعين التي بالمغافر وغير ذلك. ويقال أنّ تنور فرعون لم يزل في هذا(4/347)
الموضع بحاله إلى أن خرج إليه قائد من قوّاد أحمد بن طولون يقال له وصيف قاطرميز، فهدمه وحفر تحته، وقدّر أن تحته مالا فلم يجد فيه شيئا، وزال رسم التنور وذهب، وأنشد أبو عمرو الكنديّ في كتاب أمراء مصر من أبيات لسعيد القاضي:
وتنور فرعون الذي فوق قلة ... على جبل عال على شاهق وعر
بنى مسجدا فيه يروق بناءه ... ويهدى به في الليل إن ضلّ من يسري
تخال سنا قنديله وضياءه ... سهيلا إذا ما لاح في الليل للسفر
القرقوبيّ: قال القضاعيّ المسجد المعروف بالقرقوبيّ، هو على قرنة الجبل المطل على كهف السودان، بناه أبو الحسن القرقوبيّ الشاهد، وكيل التجار بمصر، في سنة خمس عشرة وأربعمائة، وكان في موضعه محراب حجارة يعرف بمحراب ابن الفقاعيّ الرجل الصالح، وهو على يسار المحراب.
مسجد أمير الأمراء: رفق المستنصريّ على قرنة الجبل البحرية المطلة على وادي مسجد موسى عليه السلام.
كهف السودان: مغار في الجبل لا يعلم من أحدثه، ويقال أن قوما من السودان نقروه فنسب إليهم، وكان صغيرا مظلما، فبناه الأحدب الأندلسيّ القزاز، وزاد في سفله مواضع نقرها، وبنى علوه. ويقال أنه أنفق فيه أكثر من ألف دينار، ووسع المجاز الذي يسلك منه إليه، وعمل الدرج النقر التي يصعد عليها إليه، وبدأ في بنيانه مستهل سنة إحدى وعشرين وأربعمائة، وفرغ منه في شعبان من هذه السنة.
العارض: هذا المكان مغارة في الجبل، عرفت بأبي بكر محمد جدّ مسلم القاري، لأنه نقرها، ثم عمرت بأمر الحاكم بأمر الله، وأنشئت فيها منارة هي باقية إلى اليوم، وتحت العارض قبر الشيخ العارف عمر بن الفارض رحمه الله، ولله در القائل:
جزبا لقرافة تحت ذيل العارض ... وقل السلام عليك يا ابن الفارض
وقد ذكر القضاعيّ أربع عشرة مغارة في الجبل، منها. ما هو باق، وليس في ذكرها فائدة.
اللؤلؤة: هذا المكان مسجد في سفح الجبل منها. باق إلى يومنا هذا، كان مسجدا خرابا، فبناه الحاكم بأمر الله وسماه اللؤلؤة، قيل كان بناؤه في سنة ست وأربعمائة، وهو بناء حسن.
مسجد الهرعاء: فيما بين اللؤلؤة ومسجد محمود، وهو مسجد قديم يتبرّك بالصلاة فيه، وقد ذكر مسجد محمود عند ذكر الجوامع من هذا الكتاب، لأنه تقام فيه الجمعة.
دكة القضاة: قال القضاعيّ: هي دكة مرتفعة عن المساجد في الجبل، كان القضاة بمصر يخرجون إليها لنظر الأهلّة كل سنة، ثم بني عليها مسجد.(4/348)
مسجد فائق: مولى خمارويه بن أحمد بن طولون، كان في سفح الجبل مما يلي طريق مسجد موسى عليه السلام.
مسجد موسى: بناه الوزير أبو الفضل جعفر بن الفضل بن الفرات.
مسجد زهرون بالصحراء: هو مسجد أبي محمد الحسن بن عمر الخولانيّ، ثم عرف بابن المبيض، وكان زهرون قيمه فنسب إليه.
مسجد الفقاعيّ: هو أبو الحسن عليّ بن الحسن بن عبد الله، كان أبوه فقاعيا «1» بمصر، وهو مسجد كبير بناه كافور الإخشيديّ، ثم جدّده وزاد فيه مسعود بن محمد صاحب الوزير أبي القاسم عليّ بن أحمد الجرجرايّ، وكان في وسط هذا المسجد محراب مبنيّ بطوب يقال أنه من بناء حاطب بن أبي بلتعة رسول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المقوقس، ويقال أنه أوّل محراب اختط في مصر، وكان أبو الحسن التميميّ قد زاد فيه ببناء قبل ذلك.
مسجد الكنز: هذا المسجد كان شرقيّ الخندق وبحريّ قبر ذي النون المصريّ، وكان مسجدا صغيرا يعرف بالزمام، ومات قبل تمامه، فهدمه أبو طاهر محمد بن عليّ القرشيّ القرقوبيّ ووسعه وبناه، وحكي أنه لما هدمه رأى قائلا يقول في المنام: على أذرع من هذا المسجد كنز، فاستيقظ وقال: هذا من الشيطان، فرأى هذا القائل ثلاث مرّات، فلما أصبح أمر بحفر الموضع فإذا فيه قبر، وظهر له لوح كبير تحته ميت في لحد كأعظم ما يكون من الناس جثة ورأسا، وأكفانه طرية لم يبل منها إلا ما يلي جمجمة الرأس، فإنه رأى شعر رأسه قد خرج من الكفن، وإذا له جمة، فراعه ما رأى وقال: هذا هو الكنز بلا شك، وأمر بإعادة اللوح والتراب كما كان، وأخرج القبر عن سائر الحيطان، وأبرزه للناس فصار يزار ويتبرّك به.
مسجد في غربيّ الخندق: أنشأه أبو الحسن بن النجار الزيات في سنة إحدى وأربعين وأربعمائة.
مسجد لؤلؤ الحاجب: بالقرافة الصغرى، بنى بجانبه مقبرة، وحفر عندها بئرا حتى انتهى الحفار إلى قرب الماء، فقال الحفار: إني أجد في البئر شيئا كأنه حجر. فقال له لؤلؤ تسبب في قلعه، فلما قلعه فار الماء وأخرجه، وإذا هو اسطام مركب، وهو الخشبة التي تبنى عليها السفينة، وهذا يصدّق ما قاله أرسطاطاليس في كتاب الآثار العلوية، قال: إن أهل مصر يسكنون فيما انحسر عنه البحر الأحمر، يعني بحر الشام، وقد ذكر خبر لؤلؤ هذا عند ذكر حمام لؤلؤ.(4/349)
مقام المؤمن: قيل أنه مؤمن آل فرعون، لأنه أقام فيه، وهذا بعيد من الصحة.
قناطر ابن طولون وبئره: هذه القناطر قائمة إلى اليوم من بئر أحمد بن طولون التي عند بركة الحبش، وتعرف هذه البئر عندنا ببئر عفصة، ولا تزال هذه القناطر إلى أثناء القرافة الكبرى، ومن هناك خفيت لتهدّمها، وهي من أعظم المباني.
قال القضاعيّ: قناطر أحمد بن طولون وبئره بظاهر المغافر، كان السبب في بنائها هذه القناطر أن أحمد بن طولون ركب فمرّ بمسجد الأقدام وحده، وتقدّم عسكره وقد كدّه العطش، وكان في المسجد خياط فقال: يا خياط أعندك ماء؟ فقال: نعم. فأخرج له كوزا فيه ماء وقال: اشرب ولا تمدّ، يعني لا تشرب كثيرا، فتبسم أحمد بن طولون وشرب فمدّ فيه حتى شرب أكثره، ثم ناوله إياه وقال: يا فتى سقيتنا وقلت لا تمدّ. فقال: نعم، أعزك الله، موضعنا ههنا منقطع، وإنما أخيط جمعتي حتى أجمع ثمن راوية. فقال هل:
والماء عندكم ههنا معوز؟ فقال: نعم. فمضى أحمد بن طولون، فلما حصل في داره قال:
جيؤني بخياط في مسجد الأقدام. فما كان بأسرع من أن جاؤوا به، فلما رأه قال: سر مع المهندسين حتى يخطّوا عندك موضع سقاية ويجروا الماء، وهذه ألف دينار خذها، وابتدأ في الأنفاق وأجرى على الخياط في كلّ شهر عشرة دنانير وقال له: بشرني ساعة يجري الماء فيها، فجدّوا في العمل، فلمّا جرى الماء أتاه مبشرا، فخلع عليه وحمله واشترى له دارا يسكنها، وأجرى عليه الرزق السنيّ الدارّ، وكان قد أشير عليه بأن يجري الماء من عين أبي خليد المعروفة بالنعش. فقال: هذه العين لا تعرف أبدا إلّا بأبي خليد، وإني أريد أن أستنبط بئرا، فعدل عن العين إلى الشرق فاستنبط بئره هذه وبنى عليها القناطر، وأجرى الماء إلى الفسقية التي بقرب درب سالم.
وقال جامع السيرة الطولونية: وأما رغبته في أبواب الخير فكانت ظاهرة بينة واضحة، فمن ذلك بناء الجامع والبيمارستان، ثم العين التي بناها بالمغافر، وبناها بنية صحيحة ورغبة قوية حتى أنها ليس لها نظير، ولهذا اجتهد المادرانيون وأنفقوا الأموال الخطيرة ليحكوها، فأعجزهم ذلك لأنها وقعت في موضع جيرانه كلهم محتاجون إليها، وهي مفتوحة طول النهار لمن كشف وجهه للأخذ منها، ولمن كان له غلام أو جارية، والليل للفقراء والمساكين، فهي حياة ومعونة. واتخذ لها مستغلا فيه فضل وكفاية لمصالحها، والذي تولى لأحمد بن طولون بناء هذه العين رجل نصرانيّ حسن الهندسة حاذق بها، وإنه دخل إلى أحمد بن طولون في عشية من العشايا فقال له: إذا فرغت مما تحتاج إليه فأعلمني لنركب إليها فنراها، فقال: يركب الأمير إليها في غد، فقد فرغت، وتقدّم النصرانيّ فرأى موضعا بها يحتاج إلى قصرية جير وأربع طوبات، فبادر إلى عمل ذلك، وأقبل أحمد بن طولون يتأمّل العين فاستحسن جميع ما شاهده فيها، ثم أقبل إلى الموضع الذي فيه قصرية الجير(4/350)
فوقف بالاتفاق عليها، فلرطوبة الجير غاصت يد الفرس فيه فكبا بأحمد، ولسوء ظنه قدّر أنّ ذلك لمكروه أراده به النصرانيّ، فأمر به فشق عنه ما عليه من الثياب وضربه خمسمائة سوط، وأمر به إلى المطبق، وكان المسكين يتوقع من الجائزة مثل ذلك دنانير، فاتفق له اتفاق سوء. وانصرف أحمد بن طولون وأقام النصرانيّ إلى أن أراد أحمد بن طولون بناء الجامع، فقدّر له ثلاثمائة عمود فقيل له ما تجدها، أو تنفذ إلى الكنائس في الأرياف والضياع الخراب، فتحمل ذلك. فأنكره ولم يختره، وتعذب قلبه بالفكر في أمره، وبلغ النصرانيّ وهو في المطبق الخبر، فكتب إليه: أنا أبنيه لك كما تحب وتختار بلا عمد إلّا عمودي القبلة، فأحضره وقد طال شعره حتى تدلى على وجهه، فبناه.
قال: ولما بنى أحمد بن طولون هذه السقاية بلغه أن قوما لا يستحلون شرب مائها، قال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم الفقيه: كنت ليلة في داري إذ طرقت بخادم من خدّام أحمد بن طولون فقال لي: الأمير يدعوك، فركبت مذعورا مرعوبا، فعدل بي عن الطريق فقلت: أين تذهب بي، فقال: إلى الصحراء والأمير فيها. فأيقنت بالهلاك وقلت للخادم:
الله الله فيّ، فإني شيخ كبير ضعيف مسنّ، فتدري ما يراد مني فارحمني. فقال لي: احذر أن يكون لك في السقاية قول. وسرت معه وإذا بالمشاعل في الصحراء وأحمد بن طولون راكب على باب السقاية وبين يديه الشمع، فنزلت وسلمت عليه فلم يردّ عليّ، فقلت: أيّها الأمير إنّ الرسول أعنتني وكدّني وقد عطشت فيأذن لي الأمير في الشرب، فأراد الغلمان أن يسقوني فقلت: أنا آخذ لنفسي، فاستقيت وهو يراني، وشربت وازددت في الشرب حتى كدت أنشق ثم قلت: أيها الأمير سقاك الله من أنهار الجنة، فلقد أرويت وأغنيت، ولا أدري ما أصف أطيب الماء، في حلاوته وبرده أم صفاءه أم طيب ريح السقاية، قال: فنظر إليّ وقال:
أريدك لأمر وليس هذا وقته، فاصرفوه. فصرفت. فقال لي الخادم: أصبت. فقلت:
أحسن الله جزاءك، فلو لاك لهلكت. وكان مبلغ النفقة على هذه العين في بنائها ومستغلها أربعين ألف دينار، وأنشد أبو عمرو الكنديّ في كتاب الأمراء لسعيد القاص أبياتا في رثاء دولة بني طولون، منها في العين والسقاية:
وعين معين الشرب عين زكية ... وعين أجاج للرّواة وللطهر
كأنّ وفود النيل في جنباتها ... تروح وتغدو بين مدّ إلى جزر
فأرك بها مستنبطا لمعينها ... من الأرض من بطن عميق إلى ظهر
بناء لو أنّ الجنّ جاءت بمثله ... لقيل لقد جاءت بمستفظع نكر
يمرّ على أرض المغافر كلها ... وشعبان والأحمور والحيّ من بشر
قبائل لا نوء السحاب يمدّها ... ولا النيل يرويها ولا جدول يجري
وقال الشريف محمد بن أسعد الجوّانيّ النسابة في كتاب الجوهر المكنون في ذكر(4/351)
القبائل والبطون: سريع فخذ من الأشعريين، هم ولد سريع بن ماتع من بني الأشعر بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وهم رهط أبي قبيل التابعيّ، الذي خطته اليوم الكوم، شرقيّ قناطر سقاية أحمد بن طولون، المعروفة بعفصة الكبيرة بالقرافة.
الخندق: هذا الخندق كان بقرافة مصر، قد دثر، وعلى شفيره الغربيّ قبر الإمام الشافعيّ رضي الله عنه، وكان من النيل إلى الجبل، حفر مرّتين، مرّة في زمن مروان بن الحكم، ومرّة في خلافة الأمين محمد بن هارون الرشيد. ثم حفره أيضا القائد جوهر. قال القضاعيّ: الخندق هو الخندق الذي في شرقيّ الفسطاط في المقابر، كان الذي أثار حفره مسير مروان بن الحكم إلى مصر، وذلك في سنة خمس وستين، وعلى مصر يومئذ عبد الرحمن بن عقبة بن جحدم الفهريّ، من قبل عبد الله بن الزبير رضي الله عنه. فلما بلغه مسير مروان إلى مصر أعدّ واستعدّ وشاور الجند في أمره، فأشاروا عليه بحفر الخندق، والذي أشار به عليه ربيعة بن حبيش الصدفيّ، فأمر ابن جحدم بإحضار المحاريث من الكور لحفر الخندق على الفسطاط، فلم تبق قرية من قرى مصر إلا حضر من أهلها النفر، وكان ابتداء حفره غرّة المحرّم سنة خمس وستين، فما كان شيء أسرع من فراغهم منه، حفروه في شهر واحد. وكانت الحرب من ورائه يغدون إليها ويروحون، فسميت تلك الأيام أيام الخندق والتراويح، لرواحهم إلى القتال، وكانت المغافر أكثر قبائل أهل مصر عددا، كانوا عشرين ألفا، ونزل مروان عين شمس لعشر خلون من شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين، في اثني عشر ألفا، وقيل في عشرين ألفا، فخرج أهل مصر إلى مروان فحاربوه يوما واحدا بعين شمس، ثم تحاجزوا ورجع أهل مصر إلى خندقهم فتحصنوا به، وصحبتهم جيوش مروان على باب الخندق، فاصطف أهل مصر على الخندق، فكانوا يخرجون إلى أصحاب مروان فيقاتلونهم نوبا نوبا، وأقاموا على ذلك عشرة أيام ومروان مقيم بعين شمس، وكتب مروان إلى شيعته من أهل مصر، كريب بن أبرهة بن الصباح الحميريّ، وزياد بن حناطة التجيبيّ، وعابس بن سعيد المراديّ يقول: إنكم ضمنتم لي ضمانا لم تقوموا به، وقد طالت الأيام والممانعة، فقام كريب وزياد وعابس إلى ابن جحدم فقالوا له: أيّها الأمير إنه لا قوام لنا بما ترى، وقد رأينا أن نسعى في الصلح بينك وبين مروان وقد مل الناس الحرب وكرهوها، وقد خفنا أن يسلمك الناس إلى مروان فيكون محكما فيك، فقال: ومن لي بذلك؟ فقال كريب:
أنا لك به، فسعى كريب وصاحبناه في الصلح على أمان كتبه مروان لأهل مصر وغيرهم ممن شرب ماء النيل، وعلى أن يسلم لابن جحدم من بيت المال عشرة آلاف دينار، وثلاثمائة ثوب بقطرية، ومائة ريطة، وعشرة أفراس، وعشرين بغلا، وخمسين بعيرا. فتم الصلح على ذلك، ودخل مروان الفسطاط مستهل جمادى الأولى سنة خمس وستين، فنزل دار الفلفل ودفع إلى ابن جحدم جميع ما صالحه عليه، وسار ابن جحدم إلى الحجاز ولم يلق كلّ واحد(4/352)
منهما الآخر، وتفرّق المصريون وأخذوا في دفن قتلاهم والبكاء عليهم، فسمع مروان البكاء فقال: ما هذه النوادب؟ فقيل: على القتلى. قال: لا أسمع نائحة تنوح إلّا أحللت بمن هي في داره العقوبة. فسكتن عند ذلك ودفن أهل مصر قتلاهم فيما بين الخندق والمقطم، وهي المقابر التي يسميها المصريون مقابر الشهداء، ودفن أهل الشام قتلاهم فيما بين الخندق ومنية الأصبغ، وكان قتلى أهل مصر ما بين الستمائة إلى السبعمائة، وقتلى أهل الشام نحو الثلاثمائة، ولما برز مروان من الفسطاط سائرا إلى الشام، سمع وجبة النساء يندبن قتلاهنّ، قال: ويحهن ما هذا؟ قالوا: النساء على مقابرهنّ يندبن قتلاهنّ، فعرّج عليهنّ، فأمر بالانصراف. قالوا: كذا هنّ كلّ يوم. قال: فامنعوهنّ إلّا من سبب، وخرج مروان من مصر إلى الشام لهلال رجب سنة خمس وستين، وكان مقامه بالفسطاط شهرين، واستخلف ابنه عبد العزيز على مصر، وضم إليه بشر بن مروان، وكان حدثا، ثم ولي عبد الملك بشرا بعد ذلك البصرة، قال: ثم دثر هذا الخندق إلى أيام خلع الأمين بمصر وبيعة المأمون، وولى البلد عباد بن محمد بن حبان مولى كندة من قبل المأمون، فكتب الأمين بمصر إلى أهل الحوفين في القيام ببيعته وقتال: عباد وأهل مصر. فتجمع أهل الحوف لذلك واستعدّوا، وبلغ أهل مصر فأشاروا على عباد بحفر الخندق، فحفروا خندقا من النيل إلى الجبل واحتفروا هذا الخندق العتيق، فكان القتال عليه أياما متفرّقة إلى أن قتل الأمين وتمت بيعة المأمون، ثم لم يحفر بعد ذلك إلى يومنا هذا.
وذكر ابن زولاق أن القائد جوهرا لما اختط القاهرة وكثر الإرجاف بمسير القرامطة إلى مصر، حفر خندق السريّ بن الحكم بباب مدينة مصر، وعمل عليه بابا في ذي القعدة سنة ستين وثلاثمائة، وحفر خندقا في وسط مقبرة مصر، وهو الخندق الذي حفره ابن جحدم، ابتدأ حفره من بركة الحبش حتى وصله بخندق عبد الرحمن بن جحدم، حتى بلغ به قبر محمد بن إدريس الشافعيّ، ثم حفر من الجبل إلى أن وصل الخندق ابن جحدم وسط المقابر، وبدأ به يوم السبت التاسع من شوّال سنة إحدى وستين وثلاثمائة، وفرغ منه في مدّة يسيرة.
القباب السبع: هذه القباب بآخر القرافة الكبرى مما يلي مدينة مصر. قال ابن سعيد في كتاب المغرب: والقباب السبع المشهورة بظاهر الفسطاط، هي مشاهد على سبعة من بني المغربيّ قتلهم الخليفة الحاكم بعد فرار الوزير أبي القاسم الحسين بن عليّ بن المغربيّ إلى أبي الفتوح حسن بن جعفر بمكة، وفي ذلك يقول أبو القاسم بن المغربيّ:
إذا شئت أن ترنو إلى الطّف باكيا ... فدونك فانظر، نحو أرض المقطّم
تجد من رجال المغربيّ عصابة ... مضمّخة الأجسام من حلل الدّم
فكم تركوا محراب آي معطّل ... وكم تركوا من سورة لم تختم(4/353)
وقد ذكرت أخبار بني المغربيّ عند ذكر بساتين الوزير من بركة الحبش، ويتعلق بهذا الموضع من خبرهم أن أبا الحسن عليّ بن الحسين بن عليّ بن محمد بن المغربيّ، لما خرج من بغداد وصار إلى مصر في أيام العزيز بالله بن المعز لدين الله في سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة رتب له في كلّ سنة ستة آلاف دينار، وصار من شيوخ الدولة. فقال يوما لمؤدّب ولده أبي القاسم حسين، وهو عليّ بن منصور بن طالب، المعروف بأبي الحسن دوخلة بن القادح سرّا: أنا أخاف همة ابني أبي القاسم أن تنزو به إلى أن يوردنا مورد الأصدر عنه، فإن كانت الأنفاس مما تحفظ وتكتب فاكتبها واحفظها وطالعني بها. فقال أبو القاسم في بعض الأيام لمؤدّبه هذا: إلى متى نرضى بالخمول الذي نحن فيه؟ فقال له: وأيّ خمول هذا، تأخذون من مولانا في كل سنة ستة آلاف دينار، وأبوكم من شيوخ الدولة؟ فقال: أريد أن تصار إلى أبوابنا الكتائب والمواكب والمقانب، ولا أرضى بأن يجرى علينا كالولدان والنسوان، فأعاد ذلك على أبيه فقال: ما أخوفني أن يخضب أن أبو القاسم هذه من هذه، وقبض على لحيته وهامته، وعلم ذلك أبو القاسم فصارت بينه وبين مؤدّبه وحشة، وكان ذلك في خلافة الحاكم بأمر الله منصور بن العزيز، وتحدّث القائد أبي عبد الله الحسين بن جوهر، وكان الحاكم قد أكثر من قتل رؤساء دولته، وصار يبعث إلى القائد كلما قتل رئيسا برأسه ويقول: هذا عدوّي وعدوّك، فقبض على أبي الحسن عليّ بن الحسين المغربيّ والد الوزير أبي القاسم الحسين، وعلى أخيه أبي عبد الله محمد بن الحسين، وعلى محسن ومحمد أخوي الوزير المذكور، لثلاث خلون من ذي القعدة سنة أربعمائة، وفرّ الوزير أبو القاسم الحسين بن المغربيّ من مصر في زيّ حمّال، لليال من ذي القعدة، ولحق بحسان بن الجرّاح، وكان من أمره ما كان.
ذكر الأحواض والآبار التي بالقرافة
حوض القرافة: أمر ببنائه السيدة ست الملك، عمّة الحاكم بأمر الله، ابنة المعز لدين الله، في شعبان سنة ست وستين وثلاثمائة واختلّ في أيام العادل أبي الحسن بن السلار وزير مصر في سنة ست وأربعين وخمسمائة، فأمر بعمارته، ثم انشق في سنة ثمانين وخمسمائة، فجدّده القاضي السعيد ثقة الثقات ذو الرّياستين، أبو الحسن عليّ بن عثمان بن يوسف بن إبراهيم بن يوسف بن أحمد بن يعقوب بن مسلم بن منبه، أحد بني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزوميّ، صاحب النظر في ديوان مصر، ومصنف كتاب المنهاج في أحكام الخراج. وهو كتاب جليل الفائدة، ولم تزل آثار هذا القاضي حميدة ومقاصده سديدة، وعنده نخوة قرشية، ومروءة وعصبية، وهو وإن طاب أصولا، فقد زكا فروعا، وإن تفرّقت في سواه فضائل فقد جمعها الله فيه جميعا، ولم يزل مذ كان يسعى في الأمانة على صراط مستقيم، آخذا بقوله تعالى أخبارا عن(4/354)
الكريم ابن الكريم اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم.
الحوض بجوار قصر القرافة: في ظهر الحمّام العزيزي بحضرة فرن القرافة، أمرت ببنائه أمّ الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله، واسمها السيدة رصد، على يد وكيلها الشريف المحدّث أبي إبراهيم أحمد بن القاسم بن الميمون بن حمزة الحسينيّ العبدليّ شيخ الفرّاء، وابن الخطاب والفلكيّ.
حوض بحضرة الأشعوب: وهو قصر بني عقيب.
حوض في داخل قصر أبي المعلوم: مجاور للبئر الكبيرة ذات الدواليب، بناه المحتسب الفارسيّ مع عمارة البئر والميضأة في أيام السيدة أمّ العزيز، ويقال أن الحوض والبئر من بناء المادرانيّ، وإنما جدّدته عمة الحاكم.
حوض: بقصر بني كعب وبجانبه بئر، أنشأه الحاجب لؤلؤ، وهو من حقوق قصر بني كعب، وقد خربت هذه الأحواض ودثرت.
ذكر الآبار التي ببركة الحبش والقرافة
بئر أبي سلامة: وتعرف ببئر الغنم، وهي قبليّ النوبية، وموضعها أحسن موضع في البركة، وهي التي عنى أبو الصلت أمية بن عبد العزيز بقوله:
لله يومي ببركة الحبش ... والأفق بين الضياء والغبش
والنيل تحت الرياح مضطرب ... كصارم في يمين مرتعش
ونحن في روضة مفوّفة «1» ... دبج بالنور عطفها ووشي
قد نسجتها يد الغمام لنا ... فنحن من نسجها على فرش
وأثقل الناس كلهم رجل ... دعاه داعي الهوى فلم يطش
فعاطني الراح إنّ تاركها ... من سورة الهمّ غير منتعش
واسقني بالكبار مترعة ... فهنّ أشفى لشدّة العطش
بئر غربيّ دير مرحنا وبستان العبيديّ: ودير مرحنا يعرف اليوم في زماننا بدير الطين، وهو عامر بالنصارى.
بئر الدرج: شرقيّ بساتين الوزير، لها درج ينزل به إليها، عملها الحاكم بأمر الله، وشرقيها قبور النصارى، وبعدهم إلى جهة الجبل قبور اليهود، والبستان المجاور لعفصة الصغرى أوّل بركة الحبش على لسان الجبل الخارج إلى البركة، مجاورة لبئر النعش وبئر السقايين، وهي المعروفة ببئر أبي موسى خليد، وقد صار هذا البستان إلى المهذب بن الوزير.(4/355)
بئر الزقاق: شرقيّ بئر عفصة الصغرى، والزقاق معروف إذ ذاك في الجبل، وفي أوّله بئر مربعة كان يسقى منها البقر والغنم.
ذكر السبعة التي تزار بالقرافة
اعلم أن زيارة القرافة كانت أوّلا يوم الأربعاء، ثم صارت ليلة الجمعة، وأمّا زيارة يوم السبت فقيل إنها قديمة، وقيل متأخرة، وأوّل من زار يوم الأربعاء وابتدأ بالزيارة من مشهد السيدة نفيسة، الشيخ الصالح أبو محمد عبد الله بن رافع بن يزحم بن رافع السارعيّ الشافعيّ المغافريّ الزوّار، المعروف بعابد، ومولده سنة إحدى وستين وخمسمائة، ووفاته بالهلالية خارج باب زويلة، في ليلة الثاني والعشرين من شعبان سنة ثمان وثلاثين وستمائة. ودفن بسفح المقطم على تربة بني نهار، بحريّ تربة الردينيّ. وأوّل من زار ليلة الجمعة، الشيخ الصالح المقري أبو الحسن عليّ بن أحمد بن جوشن المعروف بابن الجباس، والد شرف الدين محمد بن عليّ بن أحمد بن الجباس، فجمع الناس وزار بهم في ليلة الجمعة في كلّ أسبوع، وزار معه في بعض الليالي السلطان الملك الكامل ناصر الدين أبو المعالي محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، ومشى معه أكابر العلماء. وكان سبب تجرّد أبي الحسن بن الجباس وانقطاعه إلى الله تعالى، أنه دولب مطبخ سكّر شركة رجل، فوقف عليهما مال للديوان، فسجنا بالقصر، فقرأ ابن الجباس في بعض الليالي سورة الرعد، فسمعه السلطان الملك العادل أبو بكر بن أيوب، فقام حتى وقف عليه وسأله عن خبره، فأعلمه بأنه سجن على مبلغ كذا، فأمر بالإفراج عنه، فأبى إلّا أن يفرج عن رفيقه أيضا، فأفرج عنهما جميعا.
واتفق أنه مرّ في بعض ليالي الزيارة بزاوية الفخر الفارسيّ، فخرج وقال له: ما هذه البدعة؟
في غد أبطلها. ثم دخل الزاوية وخرج بعد ساعة وأمر بردّ ابن الجباس، فلما جاءه قال: دم على ما أنت عليه، فإني رأيت الساعة قوما فقالوا: هل تعطينا ما يعطينا ابن الجباس في ليالي الجمع؟ فعلمت أن ذلك هو الدعاء والقراءة. وأمّا زيارة يوم السبت، فقد تقدّم أنه اختلف فيها، وحكى الموفق بن عثمان عن القضاعيّ أنه كان يحث على زيارة سبعة قبور، وأن رجلا شكا إليه ضيق حاله. والدين. فقال له: عليك بزيارة سبعة قبور. أوّلهم: الشيخ أبو الحسن عليّ بن محمد بن سهل بن الصائغ الدينوريّ، وتوفي ليلة الثلاثاء، لثلاث عشرة بقيت من شهر رجب سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة. والثاني: عبد الصمد بن محمد بن أحمد بن إسحاق بن إبراهيم البغداديّ، صاحب الخلفاء، وتوفي سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة.
والثالث: أبو إبراهيم إسماعيل بن ... «1» المزنيّ، وتوفي سنة أربع وستين ومائتين.
والرابع: القاضي بكار بن قتيبة، وتوفي سنة سبعين ومائتين. والخامس: القاضي(4/356)
المفضل بن فضالة، وتوفي سنة اثنتين وخمسين ومائتين. والسادس: القاضي أبو بكر عبد الملك بن الحسن القمنيّ، وتوفي في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة. والسابع:
أبو الفيض ذو النون ثوبان بن إبراهيم المصريّ، وتوفي سنة خمس وأربعين ومائتين.
وكانوا أوّلا يزورون بعد صلاة الصبح وهم مشاة على أقدامهم إلى أن كانت أيام شيخ الزوّار محمد العجميّ السعوديّ، فزار راكبا في يوم السبت بعد طلوع الشمس، لأنّ رجليه كانتا معوجتين لا يستطيع المشي عليهما، وذلك في أواخر سنة ثمانمائة، وتوفي في عاشر شهر رمضان سنة تسع وثمانمائة. فجاء بعده الزائر شمس الدين محمد بن عيسى المرجوشيّ السعوديّ، ومحيي الدين عبد القادر بن علاء الدين محمد بن علم الدين بن عبد الرحمن الشهير بابن عثمان، ففعلا ذلك، ومات ابن عثمان في سابع شهر ربيع الآخر سنة خمس عشرة وثمانمائة، فاستمرّت الزيارة على ذلك.
وقد حكى صاحب كتاب محاسن الأبرار ومجالس الأخيار سبعة غير من ذكرنا وسماهم المحققين وهم: صلة بن مؤمّل، وأبو محمد عبد العزيز بن أحمد بن عليّ بن جعفر الخوارزميّ، وسالم العفيف، وأبو الفضل بن الجوهريّ، وأبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الحسين، عرف بالبزار، وأبو الحسن عليّ، عرف بطير الوحش، وأبو الحسن عليّ بن صالح الأندلسيّ الكحال، وذكر أيضا سبعة أخر وهم: عقبة بن عامر الجهنيّ، والإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعيّ، وأبو بكر الدقاق، وأبو إبراهيم إسماعيل المزنيّ، وأبو العباس أحمد الجزار، والفقيه ابن دحية، والفقيه ابن فارس اللخميّ، وزيارتهم يوم الجمعة بعد صلاة الصبح، والعمل عليها في الزيارة الآن، إلّا أنهم يجتمعون طوائف، لكلّ طائفة شيخ، ويقيمون مناور كبارا وصغارا ويخرجون في ليالي الجمع وفي كلّ سبت بكرة النهار، وفي كلّ يوم أربعاء بعد الظهر، وهم يذكرون الله، فيزورون. ويجتمع معهم من الرجال والنساء خلائق لا تحصى، ومنهم من يعمل ميعاد وعظ، ويقال لشيخ كل طائفة الشيخ الزائر، فتمرّ لهم في الزيارة أمور منها ما يستحسن ومنها ما ينكر، ولكلّ عبد ما نوى.
فمن أشهر مزارات القرافة:
قبر الإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعيّ.
رحمة الله ورضوانه عليه، وتوفي يوم الجمعة آخر يوم من شهر رجب، سنة أربع ومائتين بفسطاط مصر، وحمل على الأعناق حتى دفن في مقبرة بني زهرة، أولاد عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ رضي الله عنه، وعرفت أيضا بتربة أولاد ابن عبد الحكم. قال القضاعيّ: وقد جرّب الناس خير هذه التربة المباركة والقبر المبارك، وينقل عن المزنيّ أنه قال فيه:
سقى الله هذا القبر من وبل مزنه ... من العفو ما يغنيه عن طلل المزن(4/357)
لقد كان كفؤا للعداة ومعقلا ... وركنا لهذا الدين بل أيّما ركن
هكذا وقفت عليه، ثم رأيت بعد ذلك أن المزنيّ، رحمه الله، لما دفن مرّ رجل على قبره وإذا بهاتف يقول: فذكر البيتين. وقال آخر:
لله درّ الثرى كم ضمّ من كرم ... بالشافعيّ حليف العلم والأثر
يا جوهر الجوهر المكنون من مضر ... ومن قريش ومن ساداتها الأخر
لما توليت ولّى العلم مكتئبا ... وضرّ موتك أهل البدو والحضر
ولآخر:
أكرم به رجلا ما مثله رجل ... مشارك لرسول الله في نسبه
أضحى بمصر دفينا في مقطمها ... نعم المقطّم والمدفون في تربة
ومناقب الشافعيّ رحمه الله كثيرة، قد صنف الأئمة فيها عدّة مصنفات، وله في تاريخي الكبير المقفى ترجمة كبيرة، ومن أبدع ما حكي من مناقبه: أنّ الوزير نظام الملك أبا عليّ الحسن بن عليّ بن إسحاق، لما بنى المدرسة النظامية ببغداد في سنة أربع وسبعين وأربعمائة، أحب أن ينقل الإمام الشافعيّ من مقبرته بمصر إلى مدرسته، وكتب إلى أمير الجيوش بدر الجماليّ وزير الإمام المستنصر بالله معدّ يسأله في ذلك، وجهز له هدية جليلة، فركب أمير الجيوش في موكبه ومعه أعيان الدولة ووجوه المصريين من العلماء وغيرهم، وقد اجتمع الناس لرؤيته، فلما نبش القبر شق ذلك على الناس، وماجوا وكثر اللغط وارتفعت الأصوات وهموا برجم أمير الجيوش والثورة به، فسكّتهم وبعث يعلم الخليفة أمير المؤمنين المستنصر بصورة الحال، فأعاد جوابه بإمضاء ما أراد نظام الملك، فقريء كتابه بذلك على الناس عند القبر وطردت العامّة والغوغاء من حوله، ووقع الحفر حتى انتهوا إلى اللحد، فعندما أرادوا قلع ما عليه من اللبن خرج من اللحد رائحة عطرة أسكرت من حضر فوق القبر حتى وقعوا صرعى، فما أفاقوا إلّا بعد ساعة، فاستغفروا مما كان منهم وأعادوا ردم القبر كما كان وانصرفوا، وكان يوما من الأيام المذكورة، وتزاحم الناس على قبر الشافعيّ يزورونه مدّة أربعين يوما بلياليها، حتى كان من شدّة الازدحام لا يتوصل إليه إلّا بعناء ومشقة زائدة، وكتب أمير الجيوش محضرا بما وقع وبعث به وبهدية عظيمة مع كتابه إلى نظام الملك، فقرىء هذا المحضر والكتاب بالنظامية ببغداد، وقد اجتمع العالم على اختلاف طبقاتهم لسماع ذلك، فكان يوما مشهودا ببغداد، وكتب نظام الملك إلى عامّة بلدان المشرق من حدود الفرات إلى ما وراء النهر بذلك، وبعث مع كتبه بالمحضر وكتاب أمير الجيوش، فقرئت في تلك الممالك بأسرها، فزاد قدر الإمام الشافعيّ عند كافة أهل الأقطار، وعامّة جميع أهل الأمصار بذلك.(4/358)
وقد أوردت في كتاب إمتاع الأسماع بما للرسول من الأنباء والأحوال والحفدة والمتاع صلّى الله عليه وسلّم، نظير هذه الواقعة، وقع لضريح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم يزل قبر الشافعيّ يزار ويتبرّك به إلى أن كان يوم الأحد لسبع خلت من جمادى الأولى سنة ثمان وستمائة، فانتهى بناء هذه القبة التي على ضريحه، وقد أنشأها الملك الكامل المظفر المنصور أبو المعالي ناصر الدين محمد ظهير أمير المؤمنين ابن السلطان الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب، وبلغت النفقة عليها خمسين ألف دينار مصرية، وأخرج في وقت بنائها بعظام كثيرة من مقابر كانت هناك، ودفنت في موضع من القرافة، وبهذه القبة أيضا قبر السلطان الملك العزيز عثمان بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وقبر أمّه شمسة، وقيل فيها عدّة أشعار، منها قول الأديب الكاتب ضياء الدين أبي الفتح موسى بن ملهم:
مررت على قبّة الشافعيّ ... فعاين طرفي عليها العشاري
فقلت لصحبي لا تعجبوا ... فإنّ المراكب فوق البحار
وقال علاء الدين أبو عليّ عثمان بن إبراهيم النابلسي:
لقد أصبح الشافعيّ الإما ... م فينا له مذهب مذهب
ولو لم يكن بحر علم لما ... غدا وعلى قبره مركب
وقال آخر:
أتيت لقبر الشافعيّ أزوره ... تعرّضنا فلك وما عنده بحر
فقلت تعالى الله تلك إشارة ... تشير بأنّ البحر قد ضمّه القبر
وقال شرف الدين أبو عبد الله محمد بن سعيد بن حماد البوصيريّ صاحب البردة:
بقبة قبر الشافعيّ سفينة ... رست في بناء محكم فوق جلمود
ومذ غاض طوفان العلوم بقبره استوى الفلك من ذاك الضريح على الجودي ومنها
قبر الإمام الليث بن سعد: رحمه الله، قد اشتهر قبره عند المتأخرين، وأوّل ما عرفته من خبر هذا القبر أنه وجدت مصطبة في آخر قباب الصدف، وكانت قباب الصدف أربعمائة قبة فيما يقال، عليها مكتوب الإمام الفقيه الزاهد العالم الليث بن سعد بن عبد الرحمن أبو الحارث المصريّ مفتى أهل مصر، كما ذكر في كتاب هادي الراغبين في زيارة قبور الصالحين، لأبي محمد عبد الكريم بن عبد الله بن عبد الكريم بن عليّ بن محمد بن عليّ بن طلحة، وفي كتاب مرشد الزوّار للموفق ابن عثمان. وذكر الشيخ محمد الأزهريّ في كتابه في الزيارة: أن أوّل من بنى عليه وحيز كبير التجار أبو زيد المصريّ، بعد(4/359)
سنة أربعين وستمائة، ولم يزل البناء يتزايد إلى أن جدّد الحاج سيف الدين المقدّم عليه قبته في أيام الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاون، قبيل سنة ثمانين وسبعمائة، ثم جدّدت في أيام الناصر فرج بن الظاهر برقوق، على يد الشيخ أبي الخير محمد ابن الشيخ سليمان المادح، في محرّم سنة إحدى عشرة وثمانمائة. ثم جدّدت في سنة اثنتين وثلاثين وثمانمائة على يد امرأة قدمت من دمشق في أيام المؤيد شيخ، عرفت بمرحبا بنت إبراهيم بن عبد الرحمن، أخت عبد الباسط. وكان لها معروف وبرّ، توفيت في تاسع عشري ذي القعدة سنة أربعين وثمانمائة، ويجتمع بهذ القبة في لية كلّ سبت جماعة من القرّاء، فيتلون القرآن الكريم تلاوة حسنة حتى يختسموا ختمة كاملة عند السحر، ويقصد المبيت عندهم للتبرّك بقراءة القرآن عدّة من الناس، ثم تفاحش الجمع، وأقبل النساء والأحداث والغوغاء، فصار أمرا منكرا، لا ينصتون لقراءة ولا يتعظون بمواعظ، بل يحدث منهم على القبور ما لا يجوز. ثم زادوا في التعدّي حتى حفروا ما هنالك خارج القبة من القبور، وبنوا مباني اتخذوها مراحيض وسقايات ماء، ويزعم من لا علم عنده أن هذه القراءة في كل ليلة سبت عند قبر الليث بزعمهم قديمة من عهد الإمام الشافعيّ، وليس ذلك بصحيح، وإنما حدثت بعد السبعمائة من سني الهجرة، بمنام ذكر بعضهم أنه رآه، وكانوا إذ ذاك يجتمعون للقراءة عند قبر أبي بكر الأدفويّ.
ذكر المقابر خارج باب النصر
اعلم أن المقابر التي هي الآن خارج باب النصر، إنما حدثت بعد سنة ثمانين وأربعمائة، وأوّل تربة بنيت هناك تربة أمير الجيوش بدر الجماليّ لما مات ودفن فيها، وكان خطها يعرف برأس الطابية، قال الشريف أمين الدولة أبو جعفر محمد بن هبة الله العلويّ الأفطسيّ، وقد مرّ بتربة الأفضل:
أجرى دما أجفانيه ... جدث برأس الطابيه
صدع الزمان صفاتيه ... ............ «1»
بال وما بليت أيا ... ديه عليّ الباقيه
ويخارج باب النصر في أوائل المقابر قبر زينب بنت أحمد بن محمد بن عبد الله بن جعفر ابن الحنفية، يزار وتسميه العامّة مشهد الست زينب، ثم تتابع دفن الناس موتاهم في الجهة التي هي اليوم من بحري مصلّى الأموات إلى نحو الريدانية، وكان ما في شرقيّ هذه المقبرة إلى الجبل براحا واسعا يعرف بميدان القبق، وميدان العيد، والميدان الأسود، وهو ما بين قلعة الجبل إلى قبة النصر تحت الجبل الأحمر. فلما كان بعد سنة عشرين وسبعمائة،(4/360)
ترك الملك الناصر محمد بن قلاون النزول إلى هذا الميدان وهجره، فأوّل من ابتدأ فيه بالعمارة الأمير شمس الدين قراسنقر، فاختط تربته التي تجاور اليوم تربة الصوفية، وبنى حوض ماء للسبيل، وجعل فوقه مسجدا، وهذا الحوض بجوار باب تربة الصوفية، أدركته عامرا هو وما فوقه، وقد تهدّم وبقيت منه بقية. ثم عمر بعده نظام الدين آدم أخو الأمير سيف الدين سلار، تجاه تربة قراسنقر مدفنا وحوض ماء للسبيل ومسجدا معلقا، وتتابع الأمراء والأجناد وسكان الحسينية في عمارة الترب هناك، حتى انسدّت طريق الميدان، وعمروا الجوّانية أيضا، وأخذ صوفية الخانقاه الصلاحية لسعيد السعداء قطعة قدر فدّانين، وأداروا عليها سورا من حجر، وجعلوها مقبرة لمن يموت منهم، وهي باقية إلى يومنا هذا، وقد وسعوا فيها بعد سنة تسعين وسبعمائة بقطعة من تربة قراسنقر، وما برح الناس يقصدون تربة الصوفية هذه لزيارة من فيها من الأموات، ويرغبون في الدفن بها، إلى أن تولى مشيخة الخانقاه الشيخ شمس الدين محمد البلاليّ، فسمح لكلّ أحد أن يقبر ميته بها على مال يأخذه منه، فقبر بها كثير من أعوان الظلمة، ومن لم يشكر طريقته، فصارت مجمع نسوان، ومجلس لعب.
وعمر أيضا بجوار تربة الصوفية الأمير مسعود بن خطير تربة، وعمل لها منارة من حجارة لا نظير لها في هيئتها، وهي باقية. وعمر أيضا مجد الدين السلاميّ تربة، وعمر الأمير سيف الدين كوكاي تربة، وعمر الأمير طاجاي الدوادار على رأس القبق مقابل قبة النصر تربة، وعمر الأمير سيف الدين طشتمر الساقي على الطريق تربة، وبنى الأمراء إلى جانبه عدّة ترب، وبنى الطواشي محسن البهاء تربة عظيمة، وبنت خوند طغاي تربة تجاه تربة طشتمر الساقي، وجعلت لها وقفا. وبنى الأمير طغاي تمر النجميّ الدوادار تربة، وجعلها خانقاه، وأنشأ بجوارها حمّاما وحوانيت، وأسكنها للصوفية والقرّاء، وبنى الأمير منكلي بغا الفخريّ تربة، والأمير طشتمر طلليه تربة، والأمير أرنان تربة، وبنى كثير من الأمراء وغيرهم الترب، حتى اتصلت العمارة من ميدان القبق إلى تربة الروضة خارج باب البرقية. وما مات الملك الناصر حتى بطل من الميدان السباق بالخيل، ومنعت طريقه من كثرة العمائر، وأدركت بعد سنة ثمانين وسبعمائة عدّة عواميد من رخام منصوبة يقال لها عواميد السباق، فيما بين قبة النصر وقريب من القلعة.
وأوّل من عمر في البراح الذي كان فيه عواميد السباق، الأمير يونس الدوادار، في أيام الملك الظاهر، تربته الموجودة هناك. ثم عمر الأمير فجماس ابن عمّ الملك الظاهر برقوق تربة بجانب تربة يونس، وأحيط على قطعة كبيرة حائط، وقبر فيها من مات من مماليك السلطان، وقبر فيها الشيخ علاء الدين السيراميّ شيخ الخانقاه. الظاهرية، والشيخ المعتقد طلحة، والشيخ المعتقد أبو بكر البجائي. فلما مرض الملك الظاهر برقوف أوصى أن يدفن تحت أرجل هؤلاء الفقراء. وأن يبنى على قبره تربة، فدفن حيث أوصى، وأخذت قطعة(4/361)
مساحتها عشرة آلاف ذراع وجعلت خانقاه، وجعل فيها قبة على قبر السلطان وقبور الفقراء المذكورين، وتجدّد من حينئذ هناك عدّة ترب جليلة، حتى صار الميدان شوارع وأزقة، ونقل الملك الناصر فرج بن برقوق سوق الجمال وسوق الحمير من تحت القلعة إلى تجاه التربة التي عمرها على قبر أبيه، فاستمرّ ذلك أياما في سنة أربع عشرة وثمانمائة، ثم أعيدت الأسواق إلى مكانها، وكان قصده أن يبني هناك خانا كبيرا ينزل فيه المسافرون، ويجعل بجانبه سوقا، وبنى طاحونا وحمّاما وفرنا لتعمر تلك الجهة بالناس، فمات قبل بناء الخان، وخلت الحمّام والطاحون والفرن بعد قتله.
ذكر كنائس اليهود
قال الله عز وجل: لَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً
[الحج/ 40] قال المفسرون: الصوامع للصابئين، والبيع للنصارى، والصلوات كنائس اليهود، والمساجد للمسلمين. قاله ابن قتيبة: والكنيس كلمة عبرانية معناها بالعربية الموضع الذي يجتمع فيه للصلاة، ولهم بديار مصر عدة كنائس، منها كنيسة دموة بالجيزة، وكنيسة جوجر من القرى الغربية، وبمصر الفسطاط كنيسة بخط المصاصة في درب الكرمة، وكنيستان بخط قصر الشمع، وبالقاهرة كنيسة بالجودرية، وفي حارة زويلة خمس كنائس.
كنيسة دموه: هذه الكنيسة أعظم مبعد لليهود بأرض مصر، فإنهم لا يختلفون في أنها الموضع الذي كان يأوى إليه موسى بن عمران صلوات الله عليه، حين كان يبلغ رسالات الله عز وجلّ إلى فرعون مدّة مقامة بمصر، منذ قدم من مدين إلى أن خرج ببني إسرائيل من مصر. ويزعم يهود أنها بنيت هذا البناء الموجود بعد خراب بيت المقدس الخراب الثاني على يد طيطش ببعض وأربعين سنة، وذلك قبل ظهور الملة الإسلامية بما ينيف على خمسمائة سنة، وبهذه الكنيسة شجرة زيزلخت في غاية الكبر لا يشكون في أنها من زمن موسى عليه السلام، ويقولون أنّ موسى عليه السلام غرس عصاه في موضعها فأنبت الله هناك هذه الشجرة، وأنها لم تزل ذات أغصان نضرة، وساق صاعد في السماء، مع حسن استواء، وثخن في استقامة، إلى أن أنشأ الملك الأشرف شعبان بن حسين مدرسته تحت القلعة، فذكر له حسن هذه الشجرة، فتقدّم بقطعها لينتفع بها في العمارة، فمضوا إلى ما أمروا به من ذلك، فأصبحت وقد تكوّرت وتعقفت وصارت شنيعة المنظر فتركوها، واستمرّت كذلك مدّة، فاتفق أن زني يهودي بيهودية تحتها، فتهدّلت أغصانها وتحاتّ ورقها وجفت حتى لم يبق بها ورقة خضراء، وهي باقية كذلك إلى يومنا هذا ولهذه الكنيسة عيد يرحل اليهود(4/362)
بأهاليهم إليها في عيد الخطاب، وهو في شهر سيوان، ويجعلون ذلك بدل حجهم إلى القدس، وقد كان لموسى عليه السلام أنباء قد قصها الله تعالى في القرآن الكريم وفي التوراة، وروى أهل الكتاب وعلماء الأخبار من المسلمين كثيرا منها، وسأقص عليك في هذا الموضع منها ما فيه كفاية، إذ كان ذلك من شرط هذا الكتاب.
موسى بن عمران: وفي التوراة عمرام بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله وسلامه عليهم، أمّه يوحانذ بنت لاوي، فهي عمة عمران والد موسى، ولد بمصر في اليوم السابع من شهر آذار سنة ثلاثين ومائة لدخول يعقوب على يوسف عليهما السلام بمصر، وكان بنو إسرائيل منذ مات لاوي بن يعقوب في سنة أربع وتسعين لدخول يعقوب مصر في البلاء مع القبط، وذلك أن يوسف عليه السلام لما مات في سنة ثمانين من قدوم يعقوب مصر، كان الملك إذ ذاك بمصر دارم بن الريان، وهو الفرعون الرابع عندهم، وتسميه القبط دريموس، فاستوزر بعده رجلا من الكهنة يقال له بلاطس، فحمله على أذى الناس وخالف ما كان عليه يوسف، وساءت سيرة الملك حتى اغتصب كلّ امرأة جميلة بمدينة منف وغيرها من النواحي، فشق ذلك من فعله على الناس وهمّوا بخلعه من الملك، فقام الوزير بلاطس في الوساطة بينه وبين الناس وأسقط عنهم الخراج لثلاث سنين، وفرّق فيهم مالا حتى سكنوا، واتفق أن رجلا من الإسرائيليين ضرب بعض سدنة الهياكل فأدماه، وعاب دين الكهنة، فغضب القبط وسألوا الوزير أن يخرج بني إسرائيل من مصر، فأبى. وكان دارم الملك قد خرج إلى الصعيد، فبعث إليه يخبره بأمر الإسرائيليّ وما كان من القبط في طلبهم إخراج بني إسرائيل من مصر، فأرسل إليه أن لا يحدث في القوم حدثا دون موافاته، فشغب القبط وأجمعوا على خلع الملك وإقامة غيره، فسار إليهم الملك وكانت بينه وبينهم حروب قتل فيها خلق كثير، ظفر فيها الملك وصلب ممن خالفه بحافتي النيل طوائف لا تحصى، وعاد إلى أكثر مما كان عليه من ابتزاز النساء وأخذ الأموال واستخدام الأشراف الوجوه من القبط ومن بني إسرائيل، فأجمع الكلّ على ذمّه.
واتفق أنه ركب في النيل فهاجت به الريح وأغرقه الله ومن معه، ولم توجد جثته إلّا عند شطنوف.
فأقام الوزير من بعده في الملك ابنه معاديوش، وكان صبيا، ويسميه بعضهم معدان، فاستقام الأمر له وردّ النساء اللاتي اغتصبهنّ أبوه، وهو خامس الفراعنة، فكثر بنو إسرائيل في زمنه ولهجوا بثلب الأصنام وذمّها، وهلك بلاطس الوزير وقام من بعده في الوزارة كاهن يقال له أملاده، فأمر بإفراد بني إسرائيل ناحية في البلد، بحيث لا يختلط بهم غيرهم، فأقطعوا موضعا في قلبيّ مدينة منف، صاروا إليه وبنوا فيه معبدا كانوا يتلون به صحف إبراهيم عليه السلام، فخطب رجل من القبط بعض نسائهم فأبوا أن ينكحوه، وقد كان هويها. فأكبر القبط فعلهم وصاروا إلى الوزير وشكوا من بني إسرائيل وقالوا: هؤلاء قوم(4/363)
يعيبوننا ويرغبون عن مناكحتنا، ولا نحب أن يجاورونا ما لم يدينوا بديننا. فقال لهم الوزير: قد علمتم إكرام طوطيس الملك لجدّهم ونهر اوش من بعده، وقد علمتم بركة يوسف حتى جعلتم قبره وسط النيل فأخصب جانبا مصر بمكانه، وأمرهم بالكف عن بني إسرائيل، فأمسكوا إلى أن احتجب معدان وقام من بعده في الملك ابنه اكسامس الذي يسميه بعضهم كاسم ابن معدان بن الريان بن الوليد بن دومع العمليقيّ، وهو السادس من فراعنة مصر، وكان أوّلهم يقال له فرعان، فصار اسما لكلّ من تجبر وعلا أمره، وطالت أيام كاسم ومات وزير أبيه، فأقام من بعده رجلا من بيت المملكة يقال له ظلما بن قومس، وكان شجاعا ساحرا كاهنا كاتبا حكيما دهيا متصرّفا في كل فنّ، وكانت نفسه تنازعه الملك، ويقال أنه من ولد أشمون الملك، وقيل من ولد صا. فأحبه الناس، وعمر الخراب وبني مدنا من الجانبين، ورأى في نجومه أنّه سيكون حدث وشدّة، وسكا القبط إليه من الإسرائيليين فقال: هم عبيدكم. فكان القبطيّ إذا أراد حاجة سخّر الإسرائيليّ وضربه فلا يغير عليه أحد ولا ينكر عليه ذلك. فإن ضرب الإسرائيليّ أحدا من القبط قتل البتة، وكذلك كانت تفعل نساء القبط بالنساء الإسرائيليات، فكانت أوّل شدّة وذلّ أصاب بني إسرائيل وكثر ظلمهم وأذاهم من القبط، واستبدّ الوزير ظلما بأمر البلد كما كان العزيز مع نهراوش.
وتوفي اكسامس الملك، فأنّهم ظلمان بأنه سمّه، تركب في سلاحه وأقام لاطس الملك مكان أبيه، وكان ابنه جريئا معجبا، فصرف ظلما بن قومس عما كان عليه من خلافته، واستخلف رجلا يقال له لاهوق من ولد صا، وأنفذ ظلما عاملا على الصعيد وسير معه جماعة من الإسرائيليين، وزاد تجبره وعتوّه، وأمر الناس جميعا أن يقوموا على أرجلهم في مجلسه، ومدّ يده إلى الأموال ومنع الناس من فضول ما بأيديهم، وقصرهم على القوت، وابتز كثيرا من النساء وفعل أكثر مما فعله ملك تقدّمه، واستعبد بني إسرائيل فأبغضه الخاص والعام، وكان ظلما لما صرف عن الوزارة وخرج إلى الصعيد، أراد إزالة الملك والخروج عن طاعته، فجبى المال وامتنع من حمله، وأخذ المعادن لنفسه وهمّ أن يقيم ملكا من ولد قبطرين ويدعو الناس إلى طاعته، ثم انصرف عن ذلك ودعا لنفسه، وكاتب الوجوه والأعيان، فافترق الناس وتطاول كل واحد من أبناء الملوك إلى الملك وطمع فيه، ويقال أنّ روحانيا ظهر لظلما وقال له: إن أطعتني قلدتك مصر زمانا طويلا، فأجابه وقرّب إليه أشياء منها غلام من بني إسرائيل، فصار عونا له، وبلغ الملك خبر خروج ظلما عن طاعته، فوجّه إليه قائدا قلده مكانه وأمره أن يقبض على ظلما. ويبعث به إليه موثقا، فسار إليه وخرج ظلما للقائه وحاربه فظفر به واستولى على ما معه، فجهز إليه الملك قائدا آخر فهزمه وسار في إثره وقد كثف جمعه، فبرز إليه الملك واحتربا، فكانت لظلما على الملك، فقتله واستولى على مدينة منف ونزل قصر المملكة.(4/364)
وهذا هو فرعون موسى عليه السلام، وبعضهم يسميه الوليد بن مصعب، وقيل هو من العمالقة وهو سابع الفراعنة. ويقال أنه كان قصيرا طويل اللحية أشهل العينين صغير العين اليسرى، في جبينه شامة، وكان أعرج، وقيل أنه كان يكنّى بأبي مرّة، وأن اسمه الوليد بن مصعب، وأنه أوّل من خضب بالسواد لما شاب، دله عليه إبليس. وقيل أنه كان من القبط، وقيل أنه دخل منف على أتان يحمل النطرون ليبيعه، وكان الناس قد اضطربوا في تولية الملك، فحكّموه ورضوا بتولية من يوليه عليهم، وذلك أنهم خرجوا إلى ظاهر مدينة منف ينتظرون أوّل من يظهر عليهم ليحكّموه، فكان هو أوّل من أقبل بحماره، فلما حكّموه ورضوا بحكمه أقام نفسه ملكا عليهم، وانكر قوم هذا وقالوا: كان القوم أدهى من أن يقلدوا ملكهم من هذه سبيله فلمّا جلس في الملك اختلف الناس عليه فبذل لهم الأموال، وقتل من خالفه بمن أطاعه حتى اعتدل أمره، ورتب المراتب وشيد الأعمال وبنى المدن وخندق الخنادق وبنى بناحية العريش حصنا، وكذلك على جميع حدود مصر، واستخلف هامان، وكان يقرب منه في نسبه، وأثار الكنوز وصرفها في بناء المدائن والعمارات، وحفر خليج سردوس وغيره، وبلغ الخراج بمصر في زمنه سبعة وتسعين ألف ألف دينار بالدينار الفرعونيّ، وهو ثلاثة مثاقيل.
وفرعون هو أوّل من عرّف العرفاء على الناس، وكان ممن صحبه من بني إسرائيل رجل يقال له أمري، وهو الذي يقال له بالعبرانية عمرام، وبالعربية عمران بن قاهث بن لاوي، وكان قدم مصر مع يعقوب عليه السلام فجعله حرسا لقصره يتولى حفظه، وعنده مفاتيحه وأغلاقه بالليل، وكان فرعون قد رأى في كهانته ونجومه أنه يجري هلاكه على يد مولود من الإسرائيليين، فمنعهم من المناكحة ثلاث سنين التي رأى أن ذلك المولود يولد فيها، فأتت امرأة أمري إليه في بعض الليالي بشيء قد أصلحته له فواقعها، فاشتملت منه على هارون، وولدته لثلاث وسبعين من عمره، في سنة سبع وعشرين ومائة لقدوم يعقوب إلى مصر، ثم أتته مرّة أخرى فحملت بموسى لثمانين سنة من عمره، ورأى فرعون في نجومه أنه قد حمل بذلك المولود، فأمر بذبح الذكران من بني إسرائيل، وتقدّم إلى القوابل بذلك، فولد موسى عليه السلام في سنة ثلاثين ومائة لقدوم يعقوب إلى مصر، وفي سنة أربع وعشرين وأربعمائة لولادة إبراهيم الخليل عليه السلام، ولمضيّ ألف وخمسمائة وست سنين من الطوفان، وكان من أمره ما قصه الله سبحانه من قذف أمّه له في التابوت، فألقاه النيل إلى تحت قصر الملك، وقد أرصدت أمّه أخته على بعد لتنظر من يلتقطه، فجاءت ابنة فرعون إلى البحر مع جواريها فرأته واستخرجته من التابوت فرحمته وقالت: هذا من العبرانيين من لنا بظئر ترضعه؟ فقالت لها أخته أنا آتيك بها، وجاءت بأمّه فاسترضعتها له ابنة فرعون إلى أن فصل، فأتت به إلى ابنة فرعون وسمته موسى وتبنته، ونشأ عندها، وقيل بل أخذته امرأة فرعون واسترضعت أمّه ومنعت فرعون من قتله إلى أن كبر وعظم شأنه فردّ إليه(4/365)
فرعون كثيرا من أمره وجعله من قوّاده، وكانت له سطوة، ثم وجهه لغزو اليونانيين وقد عاثوا في أطراف مصر، فخرج في جيش كثيف وأوقع بهم فأظفره الله وقتل منهم كثيرا وأسر كثيرا وعاد غانما، فسرّ ذلك فرعون وأعجب به هو وامرأته، واستولى موسى وهو غلام على كثير من أمر فرعون، فأراد فرعون أن يستخلفه، حتى قتل رجلا من أشراف القبط له قرابة من فرعون فطلبه، وذلك أنه خرج يوما يمشي في الناس وله صولة بما كان له في بيت فرعون من المربى والرضاع، فرأى عبرانيا يضرب، فقتل المصريّ الذي ضربه ودفنه، وخرج يوما آخر فإذا برجلين من بني إسرائيل وقد سطا أحدهما على الآخر، فزجره. فقال له: ومن جعل لك هذا، أتريد أن تقتلني كما قتلت المصريّ بالأمس، ونما الخبر إلى فرعون فطلبه، وألقى الله في نفسه الخوف لما يريد من كرامته، فخرج من منف ولحق بمدين عند عقبة أيلة، وبنو مدين أمّة عظيمة من بني إبراهيم عليه السلام، كانوا ساكنين هناك، وكان فراره وله من العمر أربعون سنة، فنزل عند بيرون، وهو شعيب عليه السلام من ولد مدين بن إبراهيم، وكان من تزويجه ابنته ورعايته غنمه ما كان، فأقام هنالك تسعا وثلاثين سنة نكح فيها صفوراء ابنة شعيب، وبنوا إسرائيل مع فرعون وأهل مصر كما قال تعالى: «يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ
ويستعبدونهم» «1» .
فلما مضى من سنة الثمانين لموسى شهر وأسبوع، كلمه الله جلّ اسمه، وكان ذلك في اليوم الخامس عشر من شهر نيسان، وأمره أن يذهب إلى فرعون، وشدّ عضده بأخيه هارون وأيده بآيات منها قلب العصا حية وبياض يده من غير سوء وغير ذلك من الآيات العشر التي أحلها الله بفرعون وقومه، وكان مجيء الوحي من الله تعالى إليه وهو ابن ثمانين سنة، ثم قدم مصر في شهر أيار ولقي أخاه هارون، فسرّ به وأطعمه جلبانا فيه ثريد، وتنبأ هارون وهو ابن ثلاث وثمانين سنة، وغدا به إلى فرعون وقد أوحي إليهما أن يأتيا إلى فرعون ليبعث معهما بني إسرائيل فيستنقذ أنهم من هلكة القبط وجور الفراعنة، ويخرجون إلى الأرض المقدّسة التي وعدهم الله بملكها على لسان إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فأبلغا ذلك بني إسرائيل عن الله، فأمنوا بموسى واتبعوه، ثح حضرا إلى فرعون فأقاما ببابه أياما وعلى كل منهما جبة صوف، ومع موسى عصاه، وهما لا يصلان إلى فرعون لشدّة حجابه، حتى دخل عليه مضحك كان يلهو به فعرّفه أن بالباب رجلين يطلبان الاذن عليك، بزعمان أن إلههما قد أرسلهما إليك، فأمر بإدخالهما. فلما دخلا عليه خاطبه موسى بما قصه الله في كتابه، وأراه آية العصا وآيته في بياض اليد، فغاظ فرعون ما قاله موسى وهمّ بقتله، فمنعه الله سبحانه بأن رأى صورة قد أقبلت ومسحت على أعينهم فعموا، ثم أنه لما فتح عن عينيه أمر قوما آخرين بقتل موسى فأتتهم نار أحرقتهم، فازداد غيظه وقال لموسى: من أين ذلك هذه النواميس(4/366)
العظام؟ اسحرة بلدي علموك هذا أم تعلمته بعد خروجك من عندنا؟ فقال: هذا ناموس السماء وليس من نواميس الأرض. قال فرعون: ومن صاحبه؟ قال: صاحب البنية العليا.
قال: بل تعلمتها من بلدي، وأمر بجمع السحرة والكهنة وأصحاب النواميس وقال:
اعرضوا عليّ أرفع أعمالكم فإني أرى نواميس هذا الساحر رفيعة جدّا. فعرضوا عليه أعمالهم فسرّه ذلك، وأحضر موسى وقال له: لقد وقفت على سحرك وعندي من يفوق عليك.
فواعدهم يوم الزينة، وكان جماعة من البلد قد اتبعوا موسى فقتلهم فرعون، ثم إنه جمع بين موسى وبين سحرته، وكانوا مائتي ألف وأربعين ألفا يعملون من الأعمال ما يحير العقول ويأخذ القلوب، من دخن ملوّنات ترى الوجوه مقلوبة مشوّهة، منها الطويل والعريض والمقلوب جبهته إلى أسفل. ولحيته إلى فوق، ومنها ما له قرون ومنها ما له خرطوم وأنياب ظاهرة كأنياب الفيلة، ومنها ما هو عظيم في قدر الترس الكبير، ومنها ما له آذان عظام وشبه وجوه القرود بأجساد عظيمة تبلغ السحاب وأجنحة مركبة على حيات عظيمة تطير في الهواء، ويرجع بعضها على بعض فيبتلعه، وحيات يخرج من أفواهها نار تنتشر في الناس، وحيات تطير وترجع في الهواء وتنحدر على كلّ من حضر لتبتلعه. فيتهارب الناس منها، وعصى تحلق في الهواء فتصير حيات برؤس وشعور وأذناب تهمّ بالناس أن تنهشهم، ومنها ما له قوائم، ومنها تماثيل مهولة، وعملوا له دخنا تغشي أبصار الناس عن النظر فلا يرى بعضهم بعضا، ودخنا تطهر صورا كهيئة النيران في الجوّ على دواب يصدم بعضها بعضا ويسمع لها ضجيج، وصورا خضرا على دواب خضر، وصورا سودا على دواب سود هائلة.
فلما رأى فرعون ذلك سرّه ما رأى هو ومن حضره واغتم موسى ومن آمن به، حتى أوحى الله إليه لا تخف إنك أنت الأعلى، وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا. وكان للحسرة ثلاثة رؤساء، ويقال بل كانوا سبعين رئيسا، فأسرّ إليهم موسى: قد رأيت ما صنعتم، فإن قهرتكم أتؤمنون بالله؟ فقالوا نفعل. فغاظ فرعون مسارّة موسى لرؤساء السحرة، هذا والناس يسخرون من موسى وأخيه ويهزؤون بهما، وعليهما دراعتان من صوف وقد احتز ما بليف، فلوّح موسى بعصاه حتى غابت عن الأعين وأقبلت في هيئة تنين عظيم له عينان يتوقدان، والنار تخرج من فيه ومنخريه، فلا يقع على أحد إلّا برص، ووقع من ذلك على ابنة فرعون فبرصت، وصار التنين فاغرا فاه فالتقط جميع ما عملته السحرة، ومائتي مركب كانت مملوءة حبالا وعصيا وسائر من فيها من الملاحين، وكانت في النهر الذي يتصل بدار فرعون، وابتلع عمدا كثيرة وحجارة قد كانت حملت إلى هناك ليبنى بها، ومرّ التنين إلى قصر فرعون ليبتلعه، وكان فرعون جالسا في قبة على جانب القصر ليشرف على عمل السحرة، فوضع نابه تحت القصر ورفع نابه الآخر إلى أعلاه، ولهب النار يخرج من فيه حتى أحرق مواضع(4/367)
من القصر، فصاح فرعون مستغيثا بموسى عليه السلام، فزجر موسى التنين فانعطف ليبتلع الناس، ففرّوا كلهم من بين يديه، وانساب يريدهم. فأمسكه موسى وعاد في يده عصا كما كان، ولم ير الناس من تلك المراكب وما كان فيها من الحبال والعصيّ والناس، ولا من العمد والحجارة وما شربه من ماء النهر حتى بانت أضه أثرا.
فعند ذلك قالت السحرة: ما هذه من عمل الآدميين، وإنّما هو من فعل جبار قدير على الأشياء. فقال لهم موسى: أوفوا بعهدكم وإلّا سلطته عليكم يبتلعكم كما ابتلع غيركم، فآمنوا بموسى وجاهروا فرعون وقالوا: هذا من فعل إله السماء وليس هذا من فعل أهل الأرض. فقال: قد عرفت أنكم قد واطأتموه عليّ وعلى ملكي حسدا منكم لي، وأمر فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وصلبوا، وجاهرته امرأته والمؤمن الذي كان يكتم إيمانه، وانصرف موسى فأقام بمصر يدعو فرعون أحد عشر شهرا، من شهر أيار إلى شهر نيسان المستقبل وفرعون لا يجيبه، بل اشتدّ جوره على بني إسرائيل واستعبادهم واتخاذهم سخريا في مهنة الأعمال، فأصابت فرعون وقومه الجوائح العشر، واحدة بعد أخرى، وهو يثبت لهم عند وقوعها ويفزع إلى موسى في الدعاء بانجلائها، ثم يلح عند انكشافها، فإنها كانت عذابا من الله عز وجلّ، عذّب الله بها فرعون وقومه.
فمنها أنّ ماء مصر صار دما حتى هلك أكثر أهل مصر عطشا، وكثرت عليهم الضفادع حتى وسخت جميع مواضعهم وقذرت عليهم عيشهم وجميع مآكلهم، وكثر البعوض حتى حبس الهواء ومنع النسيم، وكثر عليهم ذباب الكلاب حتى جرّح أبدانهم ونغص عليهم حياتهم، وماتت دوابهم وأغنامهم فجأة، وعمّ الناس الجرب والجدريّ حتى زاد منظرهم قبحا على مناظر الجذميّ، ونزل من السماء برد مخلوط بصواعق أهلك كل ما أدركه من الناس والحيوانات. وذهب بجميع الثمار، وكثر الجراد والجنادب التي أكلت الأشجار واستقصت أصول النبات، وأظلمت الدنيا ظلمة سوداء غليظة حتى كانت من غلظها تحسّ بالأجسام، وبعد ذلك كله نزل الموت فجأة على بكور أولادهم بحيث لم يبق لأحد منهم ولد بكر إلّا فجع به في تلك الليلة، ليكون لهم في ذلك شغل عن بني إسرائيل، وكانت الليلة الخامسة عشر من شهر نيسان سنة إحدى وثمانين لموسى، فعند ذلك سارع فرعون إلى ترك بني إسرائيل، فخرج موسى عليه السلام من ليلته هذه ومعه بنو إسرائيل من عين شمس، وفي التوراة أنهم أمروا عند خروجهم أن يذبح أهل كل بيت حملا من الغنم إن كان كفايتهم، أو يشتركون مع جيرانهم إن كان أكثر، وأن ينضحوا من دمه على أبوابهم ليكون علامة، وأن يأكلوا شواه رأسه وأطرافه ومعاه ولا يكسروا منه عظما، ولا يدعوا منه شيئا خارج البيوت، وليكن خبزهم فطيرا. وذلك في اليوم الرابع عشر من فصل الربيع، وليأكلوا بسرعة وأوساطهم مشدودة وخفافهم في أرجلهم وعصيهم في أيديهم، ويخرجوا ليلا. وما فضل من عشائهم ذلك أحرقوه بالنار، وشرّع هذا عيدا لهم ولأعقابهم، ويسمى هذا عيد الفصح،(4/368)
وفيها أنهم أمروا أن يستعيروا منهم حليا كثيرا يخرجون به، فاستعاروه وخرجوا في تلك الليلة بما معهم من الدواب والأنعام، وأخرجوا معهم تابوت يوسف عليه السلام، استخرجه موسى من المدفن الذي كان فيه بإلهام من الله تعالى، وكانت عدّتهم ستمائة ألف رجل محارب سوى النساء والصبيان والغرباء، وشغل القبط عنهم بالمآتم التي كانوا فيها على موتاهم، فساروا ثلاث مراحل ليلا ونهارا حتى وافوا إلى فوهة الجبروت، وتسمى نار موسى، وهو ساحل البحر بجانب الطور، فانتهى خبرهم إلى فرعون في يومين وليلة، فندم بعد خروجهم وجمع قومه وخرج في كثرة كفاك عن مقدارها قول الله عز وجل أخبارا عن فرعون أنه قال عن بني إسرائيل وعدّتهم ما قد ذكر على ما جاء في التوراة، أن هؤلاء لشرذمة قليلون، وأنهم لنا لغائطون، ولحق بهم في اليوم الحادي والعشرين من نيسان، فأقام العسكران ليلة الواحد والعشرين على شاطىء البحر، وفي صبيحة ذلك اليوم أمر موسى أن يضرب البحر بعصاه ويقتحمه، ففلق الله لبني إسرائيل البحر اثني عشر طريقا، عبر كلّ سبط من طريق، وصارت المياه قائمة عن جانبهم كأمثال الجبال، وصيرقاع البحر طريقا مسلوكا لموسى ومن معه، وتبعهم فرعون وجنوده، فلما خاض بنو إسرائيل إلى عدوة الطور انطبق البحر على فرعون وقومه، فأغرقهم الله جميعا ونجا موسى وقومه، ونزل بنو إسرائيل جميعا في الطور وسجوا مع موسى بتسبيح طويل قد ذكر في التوراة، وكانت مريم أخت موسى وهارون تأخذ الدف بيديها، ونساء بني إسرائيل في أثرها بالدفوف والطبول، وهي ترتل التسبيح لهنّ.
ثم ساروا في البرّ ثلاثة أيام، وأقفرت مصر من أهلها، ومرّ موسى بقومه ففني زادهم في اليوم الخامس من أيار فضجوا إلى موسى، فدعا ربه فنزل لهم المنّ من السماء، فلما كان اليوم الثالث والعشرون من أيار عطشوا وضجوا إلى موسى، فدعا ربه ففجر له عينا من الصخرة، ولم يزل يسير بهم حتى وافوا طور سينين غرّة الشهر الثالث لخروجهم من مصر، فأمر الله موسى بتطهير قومه واستعدادهم لسماع كلام الله سبحانه، فطهرهم ثلاثة أيام، فلما كان في اليوم الثالث وهو السادس من الشهر، رفع الله الطور وأسكنه نوره وظلل حواليه بالغمام وأظهر في الآفاق الرعود والبروق والصواعق، وأسمع القوم من كلامه عشر كلمات وهي: أنا الله ربكم واحد لا يكم لكم معبود من دوني، لا تحلف باسم ربك كاذبا، اذكر يوم السبت واحفظه، برّ والديك وأكرمهما، لا تقتل النفس، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد بشهادة زور، لا تحسد أخاك فيما رزقه. فصاح القوم وارتعدوا وقالوا لموسى: لا طاقة لنا باستماع هذا الصوت العظيم، كن السفير بيننا وبين ربنا، وجميع ما يأمرنا به سمعنا وأطعنا، فأمرهم بالإنصراف وصعد موسى إلى الجبل في اليوم الثاني عشر، فأقام فيه أربعين يوما، ودفع الله إليه اللوحين الجوهر المكتوب عليهما العشر كلمات ونزل في اليوم الثاني والعشرين من شهر تموز، فرأى العجل، فارتفع الكتاب وثقلا على يديه فألقاهما وكسرهما، ثم برد العجل(4/369)
وذرّاه على الماء وقتل من القوم من استحق القتل، وصعد إلى الجبل في اليوم الثالث والعشرين من تموز ليشفع في الباقين من القوم، ونزل في اليوم الثاني من أيلول بعد الوعد من الله له بتعويضه لوحين آخرين مكتوبا عليهما ما كان في اللوحين الأوّلين، فصعد إلى الجبل وأقام أربعين ليلة أخرى، وذلك من ثالث أيلول إلى اليوم الثاني عشر من تشرين، ثم أمره الله بإطلاح القبة وكان طولها ثلاثين ذراعا في عرض عشرة أذرع وارتفاع عشرة أذرع، ولها سرادق مضروب حواليها مائة ذراع في خمسين ذراعا وارتفاع خمسة أذرع. فأخذ القوم في إصلاحها وما تزين به من الستور من الذهب والفضة والجواهر ستة أشهر الشتاء كله، ولما فرغ منها نصبت في اليوم الأوّل من نيسان في أوّل السنة الثانية، ويقال أنّ موسى عليه السلام حارب هنالك العرب، مثل طسم وجديس والعماليق وجرهم وأهل مدين حتى أفناهم جميعا، وأنه وصل إلى جبل فاران، وهو مكة، فلم ينج منهم إلّا من اعتصم بملك اليمن أو انتمى إلى بنى إسماعيل عليه السلام، وفي ثلثي الشهر الباقي من هذه السنة ظعن القوم في برّية الطور بعد أن نزلت عليهم التوراة، وجملة شرائعها ستمائة وثلاث عشرة شريعة، وفي آخر الشهر الثالث حرّمت عليهم أرض الشام أن يدخلوها، وحكم الله تعالى عليهم أن يتيهوا في البرّية أربعين سنة، لقولهم نخاف أهلها لأنهم جبارون، فأقاموا تسع عشرة سنة في رقيم، وتسع عشرة سنة في أحد، وأربعين موضعا مشروحة في التوراة، وفي اليوم السابع من شهر أيلول من السنة الثانية خسف الله بقارون وبأوليائه بدعاء موسى عليه السلام عليهم لما كذبوا، وفي شهر نيسان من السنة الأربعين توفيت مريم ابنة عمران أخت موسى عليه السلام، ولها مائة وست وعشرون سنة.
وفي شهر آب منها مات هارون عليه السلام وله مائة وثلاث وعشرون سنة، ثم كان حرب الكنعانيين وسيحون والعوج صاحب البثنية من أرض حوران. في الشهور التي بعد ذلك إلى شهر شباط، فلما أهلّ شباط أخذ موسى في إعادة التوراة على القوم، وأمرهم بكتب نسختها وقراءتها وحفظ ما شاهدوه من آثاره وما أخذوه عنه من الفقه، وكان نهاية ذلك في اليوم السادس من آذار، وقال لهم في اليوم السابع منه: إني في يومي هذا استوفيت عشرين ومائة سنة، وإنّ الله قد عرّفني أنه يقبضني فيه، وقد أمرني أن أستخلف عليكم يوشع بن نون ومعه السبعون رجلا الذين اخترتهم قبل هذا الوقت، ومعهم العازر بن هارون أخي فاسمعوا له وأطيعوا، وأنا أشهد عليكم الله الذي لا إله إلّا هو، والأرض والسماوات، أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ولا تبدّلوا شرائع التوراة بغيرها، ثم فارقهم وصعد الجبل فقبضه الله تعالى هناك وأخفاه، ولم يعلم أحد منهم قبره ولا شاهده، وكان بين وفاة موسى وبين الطوفان ألف وستمائة وست وعشرون سنة، وذلك في أيام منوجهر ملك الفرس، وزعم قوم أن موسى كان ألثغ، فمنهم من جعل ذلك خلقة، ومنهم من زعم(4/370)
أنه إنما اعتراه حين قالت امرأة فرعون لفرعون لا تقتل طفلا لا يعرف الجمر من التمر.
فلما دعا له فرعون بهما جميعا تناول جمرة فأهوى بها إلى فيه، فاعتراه من ذلك ما اعتراه، وذكر محمد بن عمر الواقديّ: أن لسان موسى كانت عليه شامة فيها شعرات، ولا يدل القرآن على شيء من ذلك، فليس في قوله تعالى: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي
[طه/ 27] دليل على شيء من ذلك دون شيء، فأقاموا بعده ثلاثين يوما يبكون عليه إلى أن أوحى الله تعالى إلى يوشع بن نون بترحيلهم، فقادهم وعبر بهم الأردن في اليوم العاشر من نيسان، فوافوا أريحا، فكان منهم ما هو مذكور في مواضعه، فهذه جملة خبر موسى عليه السلام.
كنيسة جوجر: هذه الكنيسة من أجلّ كنائس اليهود، ويزعمون أنها تنسب لنبيّ الله إلياس عليه السلام، وأنه ولد بها وكان يتعاهدها في طول إقامته بالأرض إلى أن رفعه الله إليه الياس: هو فينحاس بن العازر بن هارون عليه السلام، ويقال الياسين بن ياسين عيزار بن هارون، ويقال هو إلياهو، وهي عبرانية معناها قادر أزليّ، وعرّب فقيل إلياس، ويذكر أهل العلم من بني إسرائيل أنه ولد بمصر، وخرج به أبوه العازر من مصر مع موسى عليه السلام وعمره نحو الثلاث سنين، وأنه هو الخضر الذي وعده الله بالحياة، وأنه لما خرج بلعام بن باعورا ليدعو على موسى، صرف الله لسانه حتى يدعو على نفسه وقومه، وكان من زنا بني إسرائيل بنساء الأمورانيين وأهل مواب ما كان، فغضب الله تعالى عليهم وأوقع فيهم الوباء، فمات منهم أربعة وعشرون ألفا إلى أن هجم فينحاس هذا على خباء فيه رجل على امرأة يزني بها، فنظمهما جميعا برمحه وخرج وهو رافعهما وشهرهما غضبا لله، فرحمهم الله سبحانه ورفع عنهم الوباء، وكانت له أيضا آثار مع نبي الله يوشع بن نون، ولما مات يوشع قام من بعده فينحاس هذا هو وكالأب بن يوفنا، فصار فينحاس إماما وكالأب يحكم بينهم، وكانت الأحداث في بني إسرائيل، فساح إلياس ولبس المسوح ولزم القفار، وقد وعده الله عز وجل في التوراة بدوام السلامة، فأوّل ذلك بعضهم بأنه لا يموت، فامتدّ عمره إلى أن ملك يهوشا فاط بن أسا بن افيا بن رحبم بن سليمان بن داود عليهما السلام على سبط يهودا في بيت المقدس، وملك أحؤب بن عمري على الأسباط من بني إسرائيل بمدينة شمرون، المعروفة اليوم بنابلس، وساءت سيرة أحؤب حتى زادت في القبح على جميع من مضى قبله من ملوك بني إسرائيل، وكان أشدّهم كفرا وأكثرهم ركونا للمنكر، بحيث أربى في الشرّ على أبيه وعلى سائر من تقدّمه، وكانت له امرأة يقال لها سيصيال ابنة أشاعل ملك صيدا، أكفر منه بالله، وأشدّ عتوّا واستكبارا، فعبدا وثن بعل الذي قال الله فيه(4/371)
جلّ ذكره أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين الله ربكم وربّ آبائكم الأوّلين، وأقاما له مذبحا بمدينة شمرون، فأرسل الله عز وجل إلى أحؤب عبده إلياس رسولا لينهاه عن عبادة وثن بعل، ويأمره بعبادة الله تعالى وحده، وذلك قول الله عز وجل من قائل: وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ فَكَذَّبُوهُ
[الصافات/ 123- 126] ولما أيس من أيمانهم بالله وتركهم عبادة الوثن، أقسم في مخاطبته أحؤب أن لا يكون مطر ولا ندا، ثم تركه. فأمره الله سبحانه أن يذهب ناحية الأردن، فمكث هناك مختفيا، وقد منع الله قطر السماء حتى هلكت البهائم وغيرها، فلم يزل إلياس مقيما في استتاره إلى أن جف ما كان عنده من الماء، وفي طول إقامته كان الله جلّ جلاله يبعث إليه بغربان تحمل له الخبز واللحم.
فلما جف ماؤه الذي كان يشرب منه لامتناع المطر أمره الله أن يسير إلى بعض مدائن صيدا، فخرج حتى وافي باب المدينة، فإذا امرأة تحتطب، فسألها ماء يشربه وخبزا يأكله، فأقسمت له أن ما عندها إلّا مثل غرفة دقيق في إناء، وشيء من زيت في جرّة، وأنها تجمع الحطب لتقتات منه هي وابنها، فبشرها إلياس عليه السلام وقال لها لا تجزعي وافعلي ما قلت لك، واعملي لي خبزا قليلا قبل أن تعملي لنفسك ولولدك، فإن الدقيق لا يعجز من الإناء، ولا الزيت من الجرّة حتى ينزل المطر، ففعلت ما أمرها به وأقام عندها، فلم ينقص الدقيق ولا الزيت بعد ذلك إلى أن مات ولدها وجزعت عليه، فسأل إلياس ربه تعالى فأحيي الولد، وأمره الله أن يسير إلى أحؤب ملك بني إسرائيل لينزل المطر عند إخباره له بذلك، فسار إليه وقال له: أجمع بني إسرائيل وأبناء بعال. فلما اجتمعوا قال لهم إلياس: إلى متى هذا الضلال، إن كان الرب الله فاعبدوه، وإن كان بعال هو الله فارجعوا بنا إليه، وقال:
ليقرّب كلّ منا قربانا، فأقرّب أنا لله، وقرّبوا أنتم لبعال، فمن تقبل منه قربانه ونزلت نار من السماء فأكلته فإلهه الذي يعبد فلما رضوا بذلك أحضروا ثورين واختاروا أحدهما وذبحوه، وصاروا ينادون عليه يال بعال يال بعال، وإلياس يسخر بهم ويقول: لو رفعتم أصواتكم قليلا فلعلّ إلهكم نائم أو مشغول، وهم يصرخون ويجرحون أيديهم بالسكاكين، ودماءهم تسيل.
فلما أيسوا من أن تنزل النار وتأكل قربانهم، دعا إلياس القوم إلى نفسه، وأقام مذبحا وذبح ثوره وجعله على المذبح وصبّ الماء فوقه ثلاث مرّات، وجعل حول المذبح خندقا محفورا، فلم يزل يصب الماء فوق اللحم حتى امتلأ الخندق من الماء، وقام يدعو الله عزّ اسمه وقال في دعائه: اللهمّ أظهر لهذه الجماعة أنك الربّ، وأني عبدك عامل بأمرك. فأنزل الله سبحانه نارا من السماء أكلت القربان وحجارة المذبح التي كان فوقها اللحم وجميع الماء الذي صبّ حوله. فسجد القوم أجمعون وقالوا نشهد أن الربّ الله. فقال إلياس: خذوا أبناء(4/372)
بعال، فأخذوا وجيء بهم فذبحهم كلهم ذبحا، وقال لأحؤب انزل وكل واشرب، فإن المطر نازل، فنزل المطر على ما قال، وكان الجهد قد اشتدّ لانقطاع المطر مدّة ثلاث سنين وأشهر، وغزر المطر حتى لم يستطع أحؤب أن ينصرف لكثرته.
فغضبت سيصيال امرأة احؤب لقتل أبناء بعال وحلفت بآلهتها لتجعلنّ روح إلياس عوضهم، ففزع إلياس وخرج إلى المفاوز وقد اغتم غما شديدا، فأرسل الله إليه ملكا معه خبز ولحم وماء، فأكل وشرب وقوّاه الله حتى مكث بعد هذه الأكلة أربعين يوما لا يأكل ولا يشرب، ثم جاءه الوحي بأن يمضي إلى دمشق، فسار إليها وصحب اليسع بن شابات، ويقال ابن حظور، فصار تلميذ، فخرج من أريحا ومعه اليسع حتى وقف على الأردن، فنزع رداءه ولفه وضرب به ماء الأردن فافترق الماء عن جانبيه، وصار طريقا. فقال إلياس حينئذ لليسع اسأل ما شئت قبل أن يحال بيني وبينك. فقال اليسع: أسأل أن يكون روحك فيّ مضاعفا.
فقال: لقد سألت جسيما، ولكن إن أبصرتني إذا رفعت عنك يكون ما سألت، وإن لم تبصرني لم يكن. وبينما هما يتحدّثان إذ ظهر لهما كالنار، فرّق بينهما ورفع إلياس إلى السماء، واليسع ينظره. فانصرف وقام في النبوّة مقام إلياس، وكان رفع إلياس في زمن يهورام بن يهوشافاط، وبين وفاة موسى عليه السلام وبين آخر أيام يهورام خمسمائة وسبعون سنة، ومدّة نبوّة موسى عليه السلام أربعون سنة، فعلى هذا يكون مدّة عمر إلياس من حين ولد بمصر إلى أن رفع بالأردن إلى السماء ستمائة سنة. وبضع سنين، والذي عليه علماء أهل الكتاب وجماعة من علماء المسلمين، أنّ إلياس حيّ لم يمت، إلّا أنهم اختلفوا فيه، فقال بعضهم أنه هو فينحاس كما تقدّم ذكره، ومنع هذا جماعة وقالوا هما اثنان، والله أعلم.
كنيسة المصاصة: هذه الكنيسة يجلّها اليهود، وهي بخط المصاصة من مدينة مصر، ويزعمون أنها رممت في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وموضعها يعرف بدرب الكرمة، وبنيت في سنة خمس عشرة وثلثمائة للإسكندر، وذلك قبل الملة الإسلامية بنحو ستمائة وإحدى وعشرين سنة، ويزعم اليهود أن هذه الكنيسة كانت مجلسا لنبيّ الله إلياس.
كنيسة الشاميين: هذه الكنيسة بخط قصر الشمع من مدينة مصر، وهي قديمة مكتوب على بابها بالخط العبرانيّ حفرا في الخشب، أنها بنيت في سنة ست وثلاثين وثلاثمائة للإسكندر، وذلك قبل خراب بيت المقدس الخراب الثاني الذي خرّبه طيطش بنحو خمس وأربعين سنة، وقبل الهجرة بنحو ستمائة سنة، وبهذه الكنيسة نسخة من التوراة لا يختلفون في أنها كلها بخط عزرا النبيّ الذي يقال له بالعربية العزيز.
كنيسة العراقيين: هذه الكنيسة أيضا بخط قصر الشمع.(4/373)
كنيسة بالجودرية: هذه الكنيسة بحارة الجودرية من القاهرة، وهي خراب منذ أحرق الخليفة الحاكم بأمر الله حارة الجودرية على اليهود، كما تقدّم ذكر ذلك في الحارات فانظره.
كنيسة القرّائين: هذه الكنيسة كان يسلك إليها من تجاه باب سرّ المارستان المنصوريّ في حدرة ينتهي إليها بحارة زويلة، وقد سدّت الخوخة التي كانت هناك، فصار لا يتوصل إليها إلّا من حارة زويلة، وهي كنيسة تختص بطائفة اليهود القرّائين.
كنيسة دار الحدرة: هذه الكنيسة بحارة زويلة في درب يعرف الآن بدرب الرايض، وهي من كنائس ... «1» .
كنيسة الربانيين: هذه الكنيسة بحارة زويلة بدرب يعرف الآن بدرب البنادين، يسلك منه إلى تجاه السبع قاعات، وإلى سويقة المسعوديّ وغيرها، وهي كنيسة تختص بالربانيين من اليهود.
كنيسة ابن شميخ: هذه الكنيسة بجوار المدرسة العاشورية من حارة زويلة، وهي مما يختص به طائفة القرّائين.
كنيسة السمرة: هذه الكنيسة بحارة زويلة في خط درب ابن الكورانيّ، تختص بالسمرة، وجميع كنائس القاهرة المذكورة محدثة في الإسلام بلا خلاف.
ذكر تاريخ اليهود وأعيادهم
قد كانت اليهود أوّلا تؤرخ بوفاة موسى عليه السلام، ثم صارت تؤرخ بتاريخ الإسكندر بن فيلبش، وشهور سنتهم اثنا عشر شهرا، وأيام السنة ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما. فأما الشهور فإنها تشري، مر حشوان، كسليو، طبيث، شفط، آذر، نيس، أيار، سيوان، تموز، آب، أيلول. وأيام سنتهم أيام سنة القمر، ولو كانوا يستعملونها على حالها لكانت أيام سنتهم وعدد شهورهم شيئا واحدا، ولكنه لما خرج بنو إسرائيل من مصر مع موسى عليه السلام إلى التيه، وتخلصوا من عذاب فرعون، وما كانوا فيه من العبودية، وائتمروا بما أمروا به كما وصف في السّفر الثاني من التوراة، اتفق ذلك ليلة اليوم الخامس عشر من نيس، والقمر تام الضوء، والزمان ربيع. فأمروا بحفظ هذا اليوم كما قال في السفر الثاني من التوراة، احفظوا هذا اليوم سنة لخلوفكم إلى الدهر في أربعة عشر من الشهر الأوّل، وليس معنى الشهر الأوّل هذا شهر تشري، ولكنه عني به شهر نيس، من أجل أنهم(4/374)
أمروا أن يكون شهر الناسخ رأس شهورهم ويكون أوّل السنة، فقال موسى عليه السلام للشعب: اذكروا اليوم الذي خرجتم فيه من التعبد، فلا تأكلوا خميرا في هذا اليوم في الشهر الذي ينضر فيه الشجر. فلذلك اضطرّوا إلى استعمال سنة الشمس ليقع اليوم الرابع عشر من شهر نيس في أوان الربيع حين تورق الأشجار وتزهو الثمار، وإلى استعمال سنة القمر ليكون جرمه فيه بدرا تام الضوء في برج الميزان، وأحوجهم ذلك إلى إلحاق الأيام التي يتقدّم بها عن الوقت المطلوب بالشهور إذا استوفيت أيام شهر واحد، فألحقوها بها شهرا تاما سمّوه آذار الأوّل، وسموا آذار الأصل آذار الثاني، لأنه ردف سميا له وتلاه، وسموا السنة الكبسة عبورا، اشتقاقا من معبار، وهي المرأة الحبلى بالعبرانية، لأنهم شبهوا دخول الشهر الزائد في السنة بحمل المرأة ما ليس من جملتها، ولهم في استخراج ذلك حسابات كثيرة مذكورة في الأزباج.
وهم في عمل الأشهر مفترقون فرقتين، إحداهما الربانية: واستعمالهم إيّاها على وجه الحساب بمسير الشمس والقمر الوسط، سواء رؤي الهلال أو لم ير، فان الشهر عندهم هو مدّة مفروضة تمضي من لدن الاجتماع الكائن بين الشمس والقمر في كل شهر، وذلك أنهم كانوا وقت عودهم من الجالية ببابل إلى بيت المقدس ينصبون على رؤس الجبال دبادب، ويقيمون رقباء للفحص عن الهلال، وألزموهم بإيقاد النار وتدخين دخان يكون علامة لحصول الرؤية، وكانت بينهم وبين السامرة العداوة المعروفة، فذهبت السامرة ورفعوا الدخان فوق الجبل قبل الرؤية بيوم، ووالوا بين ذلك شهورا، اتفق في أوائلها أن السماء كانت متغيمة، حتى فطن لذلك من في بيت المقدس، ورأوا الهلال غداة اليوم الرابع أو الثالث من الشهر مرتفعا عن الأفق من جهة المشرق، فعرفوا أن السامرة فتنتهم، فالتجأوا إلى أصحاب التعاليم في ذلك الزمان ليأمنوا بما يتلقونه من حسابهم مكايد الأعداء، واعتلوا لجواز العمل بالحساب ونيابته عن العمل بالرؤية بعلل ذكروها، فعمل أصحاب الحساب لهم الأدوار، وعلّموهم استخراج الاجتماعات ورؤية الهلال، وأنكر بعض الربانية حديث القرباء ورفعهم الدخان، وزعموا أن سبب استخراج هذا الحساب هو أن علماءهم علموا أن آخر أمرهم إلى الشتات، فخافوا إذا تفرّقوا في الأقطار وعوّلوا على الرؤية أن تختلف عليهم في البلدان المختلفة فيتشاجروا، فلذلك استخرجوا هذه الحسبانات واعتنى بها اليعازر بن فروح، وأمروهم بالتزامها والرجوع إليها حيث كانوا.
والفرقة الثانية هم الميلادية الذين يعملون مبادي الشهور من الاجتماع، ويسمّون القرّاء والأسمعية، لأنهم يراعون العمل بالنصوص دون الالتفات إلى النظر والقياس، ولم يزالوا على ذلك إلى أن قدم عاتان رأس الجالوت من بلاد المشرق في نحو الأربعين ومائة من الهجرة إلى دار السلام بالعراق، فاستعمل الشهور برؤية الأهلة على مثل ما شرع في الإسلام، ولم يبال أي أيّ يوم وقع من الأسبوع، وترك حساب الربانيين، وكبس الشهور بأن(4/375)
نظر كل سنة إلى زرع الشعير بنواحي العراق والشام فيما بين أوّل شهر نيسن إلى أن يمضي منه أربعة عشر يوما، فإن وجد باكورة تصلح للفريك والحصاد ترك السنة بسيطة، وإن وجدها لم تصلح لذلك كبسها حينئذ، وتقدّمت المعرفة بهذه الحالة، وإنّ من أخذ برأيه يخرج لسبعة تبقى من شفط، فينظر بالشام والبقاع المشابهة له في المزاج إلى زرع الشعير، فإن وجد السفا وهو شوك السنبل قد طلع، عدّ منه إلى الفاسح خمسين يوما، وإن لم يره طالعا كبسها بشهر، فبعضهم يردف الكبس بشفط، فيكون في السنة شفط وشفط مرّتين، وبعضهم يردفه بآذر فيكون آذر وآذر في السنة مرّتين، وأكثر استعمال العانانية لشفط دون آذر، كما أن الربانية تستعمل آذر دون غيره.
فمن يعتمد من الربانية عمل الشهور بالحساب يقول: إن شهر تشري لا يكون أوّله يوم الأحد والأربعاء، وعدّته عندهم ثلاثون يوما أبدا، وفيه عيد رأس السنة، وهو عيد البشارة بعتق الأرقاء، وهذه العيد في أوّل يوم منه، ولهم أيضا في اليوم العاشر منه صوم الكبور، ومعناه الاستغفار، وعند الربانيين أن هذا الصوم لا يكون أبدا يوم الأحد ولا الثلاثاء ولا الجمعة، وعند من يعتمد في الشهور الرؤية أن ابتداء هذا الصوم من غروب الشمس في ليلة العاشر إلى غروبها من ليلة الحادي عشر، وذلك أربع وعشرون ساعة. والربانيون يجعلون مدّة الصوم خمسا وعشرين ساعة، إلى أن تشتبك النجوم، ومن لم يصم منهم هذا الصوم قتل شرعا، وهم يعتقدون أن الله يغفر لهم فيه جميع الذنوب ما خلا الزنا بالمحصنات، وظلم الرجل أخاه، وجحد الربوبية، وفيه أيضا عيد المظلة، وهو سبعة أيام يعيدون في أولها ولا يخرجون من بيوتهم كما هو العمل يوم السبت وعدّة أيام المظلة إلى آخر اليوم الثاني والعشرين، تمام سبعة أيام، واليوم الثامن يقال له عيد الاعتكاف، وهم يجلسون في هذه الأيام السبعة التي أوّلها خامس عشر تشري تحت ظلال سعف النخل الأخضر وأغصان الزيتون ونحوها من الأشجار التي لا يتناثر ورقها على الأرض، ويرون أن ذلك تذكار منهم لإظلال الله آباءهم في التيه بالغمام، وفيه أيضا عيد القرّائين خاصة صوم في اليوم الرابع والعشرين منه، يعرف بصوم كدليا، وعند الربانيين يكون هذا الصوم في ثالثه.
وشهر مر حشوان ربما كان ثلاثين يوما، وربما كان تسعة وعشرين يوما، وليس فيه عيد.
وكسليو ربما كان ثلاثين يوما، وربما كان تسعة وعشرين يوما وليس فيه عيد، إلّا أن الربانيين يسرجون على أبوابهم ليلة الخامس والعشرين منه، وهو مدّة أيام يسمونها الحنكة، وهو أمر محدث عندهم، وذلك أن بعض الجبابرة تغلب على بيت المقدس، وقتل من كان فيه من بني إسرائيل، وافتض أبكارهم، فوثب عليه أولاد كاهنهم وكانوا ثمانية فقتله(4/376)
أصغرهم، وطلب اليهود زيتا لوقود الهيكل فلم يجدوا إلّا يسيرا، وزعوه على عدد ما يوقدونه من السرج في كل ليلة إلى ثمان ليال، فاتخذوا هذه الأيام عيدا وسموها أيام الحنكة، وهي كلمة مأخوذة من التنظيف، لأنهم نظفوا فيها الهيكل من أقذار أشياع ذلك الجبار، والقرّاء لا يعملون ذلك لأنهم لا يعوّلون على شيء من أمر البيت الثاني.
وشهر طبيث عدد أيامه تسعة وعشرون يوما، وفي عاشره صوم سببه أنه في ذلك اليوم كان ابتداء محاصرة بخت نصر لمدينة بيت المقدس، ومحاصرة طيطش لها أيضا في الخراب الثاني.
وشفط أيامه أبدا ثلاثون يوما وليس فيه عيد. وشهر آذر عند الربانيين كما تقدّم يكون مرّتين في كلّ سنة فآذر الأوّل عدد أيامه ثلاثون يوما إن كانت السنة كبيسة، وإن كانت بسيطة فأيامه تسعة وعشرون يوما، وليس فيه عيد عندهم. وآذر الثاني أيامه تسعة وعشرون يوما أبدا وفيه عند الربانيين صوم الفوز في اليوم الثالث عشر منه، والفوز في اليوم الرابع عشر واليوم الخامس عشر، وأما القرّاؤون فليس عندهم في السنة شهر آذر سوى مرّة واحدة، ويجعلون صوم الفور في ثالث عشرة وبعده إلى الخامس عشر، وهذا أيضا محدث، وذلك أن بخت نصر لما أجلى بني إسرائيل من بيت المقدس وخرّبه ساقهم جلاية إلى بلاد العراق، وأسكنهم في مدينة خي التي يقال لها أصبهان، فلما ملك أزد شير بن بابك ملك الفرس، وتسمية اليهود أحشوارش، كان له وزير يسمى هيمون، وكان لليهود حينئذ حبر يقال له مردوخاي، فبلغ أزدشير أن له ابنة عمّ جميلة الصورة، فتزوّجها وحظيت عنده، واستدنى مردوخاي ابن عمها وقرّبه، فحسده الوزير هيمون وعمل على هلاكه وهلاك اليهود الذين في مملكة أزدشير، ورتب مع نوّاب أزدشير في سائر أعماله أن يقتلوا كلّ يهوديّ عندهم في يوم عينه لهم، وهو الثالث عشر من آذر، فبلغ ذلك مردوخاي فأعلم ابنة عمه بما دبره الوزير وحثها على إعمال الحيلة في تخليص قومها من الهلكة، فأعلمت أزدشير بحسد الوزير لمردوخاي على قربه من الملك وإكرامه، وما كتب به إلى العمال من قتل اليهود، وما زالت به تغريه على الوزير إلى أن أمر بقتله، وقتل أهله، وكتب لليهود أمانا، فاتخذ اليهود هذا اليوم من كلّ سنة عيدا وصاموه شكرا لله تعالى، وجعلوا من بعده يومين اتخذوهما أيام فرح وسرور ولهو ومهاداة من بعضهم لبعض، وهم على ذلك إلى اليوم، وربما صوّر بعضهم في هذا اليوم صورة هيمون الوزير، وهم يسمونه هامان، فإذا صوّروه ألقوه بعد العبث به في النار حتى يحترق.
وشهر نيسن عدد أيامه ثلاثون يوما أبدا، وفيه عيد الفاسح الذي يعرف اليوم عند النصارى بالفسح، ويكون في الخامس عشر منه، وهو سبعة أيام يأكلون فيها الفطير وينظفون بيوتهم من أجل أن الله سبحانه خلص بني إسرائيل من أسر فرعون في هذه الأيام حتى(4/377)
خرجوا من مصر مع نبي الله موسى بن عمران عليه السلام، وتبعهم فرعون فأغرقه الله ومن معه، وسار موسى ببني إسرائيل إلى التيه، ولما خرجوا من مصر مع موسى كانوا يأكلون اللحم والخبز والفطير وهم فرحون بخلاصهم من يد فرعون، فأمروا باتخاذ الفطير وأكله في هذه الأيام ليذكروا أنه ما منّ الله عليهم به من انقاذهم من العبودية، وفي آخر هذه الأيام السبعة كان غرق فرعون، وهو عندهم يوم كبير، ولا يكون أوّل هذا الشهر عند الربانيين أبدا يوم الاثنين ولا يوم الأربعاء ولا يوم الجمعة، ويكون أوّل الخمسينيات من نصفه.
وشهر أيار عدد أيامه تسعة وعشرون يوما، وفيه عيد الموقف، وهو حج الأسابيع، وهي الأسابيع التي فرضت على بني إسرائيل فيها الفرائض، ويقال لهذا العيد في زمننا عيد العنصرة، وعيد الخطاب، ويكون بعد عيد الفطر وفيه خوطب بنو إسرائيل في طور سيناء، ويكون هذا العيد في السادس منه، وفيه أيضا يوم الخميس وهو آخر الخمسينيات، ولا يكون عيد العنصرة عند الربانيين أبدا يوم الثلاثاء ولا يوم الخميس ولا يوم السبت. وشهر تموز أيامه تسعة وعشرون يوما، وليس فيه عيد، لكنهم يصومون في تاسعه لأنّ فيه هدم سور بيت المقدس عند محاصرة بخت نصر له، والربانيون خاصة يصومون يوم السابع عشر منه، لأنّ فيه هدم طيطش سور بيت المقدس وخرّب البيت البيت الخراب الثاني.
وشهر آب ثلاثون يوما، وفيه عيد القرّائين، صوم في اليوم السابع واليوم العاشر، لأنّ بيت المقدس خرب فيهما على يد بخت نصر، وفيه أيضا كان إطلاق بخت نصر النار في مدينة القدس وفي الهيكل، ويصوم الربانيون اليوم التاسع منه، لأنّ فيه خرب البيت على يد طنطش الخراب الثاني.
وشهر أيلول تسعة وعشرون يوما أبدا، وليس فيه عيد والله تعالى أعلم.
ذكر معنى قولهم يهودي
اعلم أن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم صلوات الله عليهم أجمعين، سماه الله إسرائيل، ومعنى ذلك الذي رأسه القادر، وكان له من الولد اثنا عشر ذكرا يقال لكلّ واحد منهم سبط، ويقال لمجموعهم الأسباط، وهذه أسماؤهم روبيل، وشمعون، ولاوي، ويهوذا، ويساخر، وزبولون. والستة أشقاء، أمّهم ليا بنت لابان بن بتويل بن ناحور أخي إبراهيم الخليل. وكان واشار، ودان، ونفتالي، ويوسف، وبنيامين. فلما كبر هؤلاء الأسباط الاثنا عشر قدّم عليهم أبوهم يعقوب وهو إسرائيل، ابنه يهوذا، وجعله حاكما على إخوته الأحد عشر سبطا، فاستمرّ رئيسا وحاكما على إخوته إلى أن مات، فورثت أولاد يهوذا رياسة الأسباط من بعده، إلى أن أرسل الله تعالى موسى ابن عمران بن قاهاث بن لاوي بن يعقوب إلى فرعون، بعد وفاة يوسف بن يعقوب عليهما السلام، بمائة وأربع وأربعين سنة، وهم رؤساء الأسباط. فلما نجى الله موسى وقومه بعد غرق فرعون ومن معه،(4/378)
رتّب عليه السلام بني إسرائيل الاثني عشر سبطا أربع فرق، وقدّم على جميعهم سبط يهوذا، فلم يزل سبط يهوذا مقدّما على سائر الأسباط أيام حياة موسى عليه السلام، وأيام حياة يوشع بن نون. فلما مات يوشع، سأل بنو إسرائيل الله تعالى وابتهلوا إليه في قبة الشمشار أن يقدّم عليهم واحدا منهم، فجاء الوحي من الله بتقديم عثنيئال بن قناز من سبط يهوذا، فتقدّم على سائر الأسباط، وصار بنو يهوذا مقدّمين على سائر الأسباط من حينئذ إلى أن ملّك الله على بني إسرائيل نبيه داود، وهو من سبط يهوذا، فورث ملك بني إسرائيل من بعده ابنه سلمان بن داود عليهما السلام. فلما مات سليمان افترق ملك بني إسرائيل من بعده، وصار لمدينة شمرون التي يقال لها اليوم نابلس عشرة أسباط، وبقي بمدينة القدس سبطان. هما سبط يهوذا وسبط بنيامين، وكان يقال لسكان شمرون بنو إسرائيل ويقال لسكان القدس بنو يهوذا، إلى أن انقرضت دولة بني إسرائيل من مدينة شمرون بعد مائتين وإحدى وخمسين سنة، فصاروا كلهم بالقدس تحت طاعة الملوك من بني يهودا، إلى أن قدم بخت نصر وخرّب القدس وجلا جميع بني إسرائيل إلى بابل، فعرفوا هناك بين الأمم ببني يهوذا، واستمرّ هذا سمة لهم بين الأمم بعد ذلك إلى أن جاء الله بالإسلام، فكان يقال للواحد منهم يهوذي بذال معجمة نسبة إلى سبط يهوذا، وتلاعب العرب بذلك على عادتهم في التلاعب بالأسماء المعجمة، وقالوها بدال مهملة، وسموا طائفة بني إسرائيل اليهود، وبهذه اللغة نزل القرآن، ويقال أنّ أوّل من سمّى بني إسرائيل اليهود بخت نصر، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
ذكر معتقد اليهود وكيف وقع عندهم التبديل
اعلم أن الله سبحانه لما أنزل التوراة على نبيه موسى عليه السلام، ضمنها شرائع الملة الموسوية، وأمر فيها أن يكتب لكلّ من يلي أمر بني إسرائيل كتاب يتضمن أحكام الشريعة لينظر فيه. ويعمل به، وسمي هذا الكتاب بالعبرانية مشنا، ومعناه استخراج الأحكام من النص الإلهيّ، وكتب موسى عليه السلام، بخط يده مشنا كأنه تفسير لما في التوراة من الكلام الإلهيّ، فلما مات موسى عليه السلام، وقام من بعده بأمر بني إسرائيل يوشع بن نون، ومن بعده إلى أن كانت أيام يهوياقيم ملك القدس، غزاهم بخت نصر الغزوة الأولى، وهم يكتبون لكل من ملكهم مشنا، ينقلونها من المشنا التي بخط موسى ويجعلونها باسمه، فلما جلا بخت نصر يهوياقيم الملك ومعه أعيان بني إسرائيل وكبراء بيت المقدس، وهم في زيادة على عشرة آلاف نفس، ساروا ومعهم نسخ المشنا التي كتبت لسائر ملوك بني إسرائيل بأجمعها إلى بلاد المشرق، فلما سار بخت نصر من باب الكرّة الثانية لغزو القدس، وخرّبه، وجلا جميع من فيه وفي بلاد بني إسرائيل من الأسباط الاثني عشر إلى باب أقاموا بها، وبقي القدس خرابا لا ساكن فيه مدّة سبعين سنة، ثم عادوا من بابل بعد سبعين سنة وعمروا القدس، وجدّدوا بناء البيت ثانيا ومعهم جميع نسخ المشنا التي خرجوا بها أوّلا.(4/379)
فلما مضت من عمارة البيت الثاني بعد الجلاية ثلاثمائة ونيف من السنين، اختلف بنو إسرائيل في دينهم اختلافا كثيرا، فخرج طائفة من آل داود عليه السلام من بيت المقدس وساروا إلى الشرق، كما فعل آباؤهم أوّلا، وأخذوا معهم نسخا من المشنا التي كتبت للملوك من مشنا موسى التي بخطه، وعملوا بما فيها ببلاد الشرق، من حين خرجوا من القدس إلى أن جاء الله بدين الإسلام، وقدم عانان رأس الجالوت من المشرق إلى العراق في خلافة أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور، سنة ست وثلاثين ومائة من سني الهجرة المحمدية.
وأما الذين أقاموا بالقدس من بني إسرائيل بعد خروج من ذكرنا إلى الشرق من آل داود، فإنهم لم يزالوا في افتراق واختلاف في دينهم إلى أن غزاهم طيطش، وخرّب القدس الخراب الثاني بعد قتل يحيى بن زكريا ورفع المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام، وسبى جميع من فيه وفي بلاد بني إسرائيل بأسرهم، وغيب نسخ المشنا التي كانت عندهم، بحيث لم يبق معهم من كتب الشريعة سوى التوراة، وكتب الأنبياء، وتفرّق بنو إسرائيل من وقت تخريب طيطش بيت المقدس في أقطار الأرض، وصاروا ذمّة إلى يومنا هذا، ثم إن رجلين ممن تأخروا إلى قبيل تخريب القدس يقال لهما شماي وهلال، نزلا مدينة طبرية وكتبا كتابا سمياه مشنا، باسم مشنا موسى عليه السلام، وضمنا هذا المشنا الذي وضعاه أحكام الشريعة، ووافقهما على وضع ذلك عدّة من اليهود، وكان شماي وهلال في زمن واحد، وكانا في أواخر مدّة تخريب البيت الثاني، وكان لهلال ثمانون تلميذا، أصغرهم يوحانان بن زكاي، وأدرك يوحانان بن زكاي خراب البيت الثاني على يد طيطش، وهلال وشماي أقوالهما مذكورة في المشنا، وهي في ستة أسفار تشتمل على فقه التوراة، وإنما رتبها النوسيّ من ولد داود النبيّ بعد تخريب طيطش للقدس بمائة وخمسين سنة، ومات شماي وهلال ولم يكملا المشنا فأكمله رجل منهم يعرف بيهودا من ذرية هلال وحمل اليهود على العمل بما في هذا المشنا، وحقيقته أنه يتضمن كثيرا مما كان في مشنا النبيّ موسى عليه السلام، وكثيرا من آراء أكابرهم. فلما كان بعد وضع هذا المشنا بنحو خمسين سنة، قام طائفة من اليهود يقال لهم السنهدوين، ومعنى ذلك الأكابر، وتصرّفوا في تفسير هذا المشنا برأيهم، وعملوا عليه كتابا اسمه التلمود، أخفوا فيه كثيرا مما كان في ذلك المشنا، وزادوا فيه أحكاما من رأيهم، وصاروا منذ وضع هذا التلمود الذي كتبوه بأيديهم وضمنوه ما هو من رأيهم ينسبون ما فيه إلى الله تعالى، ولذلك ذمّهم الله في القرآن الكريم بقوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ
[البقرة/ 79] وهذا التلمود نسختان مختلفتان في الأحكام، والعمل إلى اليوم على هذا التلمود عند فرقة الربانيين بخلاف القرّائين، فإنهم لا(4/380)
يعتقدون العمل بما في هذا التلمود. فلما قدم عانان رأس الجالوت إلى العراق، أنكر على اليهود عملهم بهذا التلمود، وزعم أن الذي بيده هو الحق، لأنه كتب من النسخ التي كتبت من مشنا موسى عليه السلام الذي بخطه، والطائفة الربانيون، ومن وافقهم لا يعوّلون من التوراة التي بأيديهم إلّا على ما في هذا التلمود، وما خلف ما في التلمود لا يعبأون به، ولا يعوّلون عليه، كما أخبر تعالى إذ يقول حكاية عنهم: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ
[الزخرف/ 22] ومن اطلع على ما بأيديهم وما عندهم من التوراة تبين له أنهم ليسوا على شيء، وأنهم إن يتبعون إلّا الظنّ وما تهوى الأنفس، ولذلك لما نبغ فيهم موسى بن ميمون القرطبيّ، عوّلوا على رأيه، وعملوا بما في كتاب الدلالة وغيره من كتبه، وهم على رأيه إلى زمننا.
ذكر فرق اليهود الآن
اعلم أن اليهود الذين قطعهم الله في الأرض أمما أربع فرق، كلّ فرقة تخطّيء الطوائف الأخر، وهي طائفة الربانيين، وطائفة القرّائين، وطائفة العانانية، وطائفة السمرة. وهذا الاختلاف حدث لهم بعد تخريب بخت نصر بيت المقدس وعودهم من أرض بابل بعد الجلاية إلى القدس، وعمارة البيت ثانيا. وذلك أنهم في إقامتهم بالقدس أيام العمارة الثانية افترقوا في دينهم، وصاروا شيعا. فلما ملكهم اليونان بعد الإسكندر بن فيلبش، وقام بأمرهم في القدس هور قانوس بن شمعون بن مشيثا، واستقام أمره فسمي ملكا، وكان قبل ذلك هو وجميع من تقدّمه ممن ولي أمر اليهود في القدس بعد عودهم من الجلاية إنما يقال له الكوهن الأكبر، فاجتمع لهور قانوس منزلة الملك ومنزلة الكهونية، واطمأنّ اليهود في أيامه وأمنوا سائر أعدائهم من الأمم، فبطروا معيشتهم واختلفوا في دينهم وتعادوا بسبب الاختلاف، وكان من جملة فرقهم إذ ذاك طائفة يقال لهم الفروشيم، ومعناه المعتزلة، ومن مذهبهم القول بما في التوراة على معنى ما فسره الحكماء من أسلافهم. وطائفة يقال لهم الصدوفية بفاء، نسبوا إلى كبير لهم يقال له صدوف، ومذهبهم القول بنص التوراة وما دلّ عليه القول الإلهيّ فيها دون ما عداه من الأقوال، وطائفة يقال لهم الجسديم، ومعناه الصلحاء، ومذهبهم الاشتغال بالنسك وعبادة الله سبحانه والأخذ بالأفضل والأسلم في الدين، وكانت الصدوفية تعادي المعتزلة عداوة شديدة، وكان الملك هور قانوس أوّلا على رأي المعتزلة، وهو مذهب آبائه، ثم إنه رجع إلى مذهب الصدوفية وباين المعتزلة وعاداهم، ونادى في سائر مملكته بمنع الناس جملة من تعلم رأي المعتزلة، والأخذ عن أحد منهم، وتتبعهم وقتل منهم كثيرا. وكانت العامّة بأسرها مع المعتزلة، فثارت الشرور بين اليهود واتصلت الحروب بينهم، وقتل بعضهم بعضا إلى أن خرب البيت على يد طيطش الخراب(4/381)
الثاني بعد رفع عيسى صلوات الله عليه، وتفرّق اليهود من حينئذ في أقطار الدنيا وصاروا ذمّة، والنصارى تقتلهم حيثما ظفرت بهم إلى أن جاء الله بالملة الإسلامية، وهم في تفرّقهم ثلاث فرق، الربانيون والقرّاء والسمرة.
فأما الربانية: فيقالهم بنو مشنو، ومعنى مشنو الثاني، وقيل لهم ذلك لأنهم يعتبرون أمر البيت الذي بني ثانيا بعد عودهم من الجلاية وخرّبه طيطش وينزلونه في الاحترام والإكرام والتعظيم منزلة البيت الأوّل الذي ابتدأ عمارته داود وأتمه ابنه سليمان عليهما السلام، وخرّبه بخت نصر. فصار كأنه يقال لهم أصحاب الدعوة الثانية، وهذه الفرقة هي التي كانت تعمل بما في المشنا الذي كتب بطبرية بعد تخريب طيطش القدس، وتعوّل في أحكام الشريعة على ما في التلمود إلى هذا الوقت الذي نحن فيه، وهي بعيدة عن العمل بالنصوص الإلهية متبعة لآراء من تقدّمها من الأحبار، ومن اطلع على حقيقة دينها، تبين له أن الذي ذمّهم الله به في القرآن الكريم حق لا مرية فيه، وأنه لا يصح لهم من اسم اليهودية إلّا مجرّد الانتماء فقط، لا إنهم في الإتباع على الملة الموسوية، لا سيما منذ ظهر فيهم موسى بن ميمون القرطبيّ بعد الخمسمائة من سني الهجرة المحمدية، فإنه ردّهم مع ذلك معطلة، فصاروا في أصول دينهم وفروعه أبعد الناس عما جاء به أنبياء الله تعالى من الشرائع الإلهية.
وأما القرّاء: فإنهم بنو مقرا، ومعنى مقرا الدعوة، وهم لا يعوّلون على البيت الثاني جملة، ودعوتهم إنما هي لما كان عليه العمل مدّة البيت الأوّل، وكان يقال لهم أصحاب الدعوة الأولى، وهم يحكمون نصوص التوراة ولا يلتفتون إلى قول من خالفها، ويقفون مع النص دون تقليد من سلف، وهم مع الربانيين من العداوة بحيث لا يتناكحون ولا يتجاورون ولا يدخل بعضهم كنيسة بعض، ويقال للقرّائين أيضا المبادية، لأنهم كانوا يعملون مبادي الشهور من الاجتماع الكائن بين الشمس والقمر، ويقال لهم أيضا الأسمعية، لأنهم يراعون العمل بنصوص التوراة دون العمل بالقياس والتقليد.
وأما العانانية: فإنهم ينسبون إلى عانان رأس الجالوت الذي قدم من المشرق في أيام الخليفة أبي جعفر المنصور، ومعه نسخ المشنا الذي كتب من الخط الذي كتب من خط النبيّ موسى، وأنه رأى ما عليه اليهود من الربانيين والقرّائين يخالف ما معه، فتجرّد لخلافهم وطعن عليهم في دينهم، وازدرى بهم، وكان عظيما عندهم يرون أنه من ولد داود عليه السلام، وعلى طريق فاضلة من النسك على مقتضى ملتهم، بحيث يرون أنه لو ظهر في أيام عمارة البيت لكان نبيا، فلم يقدروا على مناظرته، لما أوتي مع ما ذكرنا من تقريب الخليفة له وإكرامه، وكان مما خالف فيه اليهود استعمال الشهور برؤية الأهلة على مثل ما شرع في الملة الإسلامية، ولم يبال في أيّ يوم وقع من الأسبوع، وترك حساب الربانيين(4/382)
وكبس الشهور وخطأهم في العمل بذلك، واعتمد على كشف زرع الشعير، وأجمل القول في المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، وأثبت نبوّة نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقال: هو نبيّ أرسل إلى العرب، إلّا أن التوراة لم تنسخ، والحق أنه أرسل إلى الناس كافة صلّى الله عليه وسلّم.
ذكر السمرة: اعلم أن طائفة السمرة ليسوا من بني إسرائيل البتة، وإنما هم قوم قدموا من بلاد المشرق وسكنوا بلاد الشام وتهوّدوا، ويقال أنهم من بني سامرك بن كفركا بن رمي، وهو شعب من شعوب الفرس، خرجوا إلى الشام ومعهم الخيل والغنم والإبل والقسيّ والنشاب والسيوف والمواشي، ومنهم السمرة الذين تفرّقوا في البلاد. ويقال أن سليمان بن داود لما مات افترق ملك بني إسرائيل من بعده، فصار رحبعم بن سليمان على سبط يهودا بالقدس، وملك يربعم بن نياط على عشرة أسباط من بني إسرائيل، وسكن خارجا عن القدس، واتخذ عجلين دعا الأسباط العشرة إلى عبادتهما من دون الله إلى أن مات، فوليّ ملك بني إسرائيل من بعده عدّة ملوك على مثل طريقته في الكفر بالله وعبادة الأوثان، إلى أن ملكهم عمري بن نوذب من سبط منشا بن يوسف، فاشترى مكانا من رجل اسمه شامر بقنطار فضة، وبنى فيه قصرا وسماه باسم اشتقه من اسم شامر الذي اشترى منه المكان، وصير حول هذا القصر مدينة وسماها مدينة شمرون، وجعلها كرسيّ ملكه إلى أن مات، فاتخذها ملوك بني إسرائيل من بعده مدينة للملك، وما زالوا فيها إلى أن ولي هو شاع بن إيلا، وهم على الكفر بالله، وعبادة وثن بعل وغيره من الأوثان، مع قتل الأنبياء، إلى أن سلط الله عليهم سنجاريب ملك الموصل، فحاصرهم بمدينة شمرون ثلاث سنين، وأخذ هو شاع أسيرا وجلاه ومعه جميع من في شمرون من بني إسرائيل، وأنزلهم بهراه وبلخ ونهاوند وحلوان، فانقطع من حينئذ ملك بني إسرائيل من مدينة شمرون بعد ما ملكوا من بعد سليمان عليه السلام مدّة مائتي سنة وإحدى وخمسين سنة، ثم إن سنجاريب ملك الموصل نقل إلى شمرون كثيرا من أهل كوشا وبابل وحماه، وأنزلهم فيها ليعمروها، فبعثوا إليه يشكون من كثرة هجوم الوحش عليهم يشمرون، فسير إليهم من علمهم التوراة، فتعلموها على غير ما يجب، وصاروا يقرءونها ناقصة أربعة أحرف، الألف والهاء والخاء والعين، فلا ينطقون بشيء من هذه الأحرف في قراءتهم التوراة، وعرفوا بين الأمم بالسامرة لسكناهم بمدينة شمرون.
وشمرون هذه هي مدينة نابلس، وقيل لها سمرون بسين مهملة، ولسكانها سامرة، ويقال معنى السمرة حفظة ونواطير، فلم تزل السمرة بنابلس إلى أن غزا بخت نصر القدس وأجلى اليهود منه إلى بابل، ثم عادوا بعد سبعين سنة وعمروا البيت ثانيا إلى أن قام الإسكندر من بلاد اليونان، وخرج يريد غزو الفرس، فمرّ على القدس وخرج منه يريد عمان، فاجتاز على نابلس وخرج إليه كبير السمرة بها، وهو سنبلاط السامريّ، فأنزله وصنع له ولقوّاده وعظماء أصحابه صنيعا عظيما، وحمل إليه أموالا جمة وهدايا جليلة، واستأذنه(4/383)
في بناء هيكل لله على الجبل الذي يسمى عندهم طوربريك، فأذن له وسار عنه إلى محاربة دارا ملك الفرس، فبنى سنبلاط هيكلا شبيها بهيكل القدس، ليستميل به اليهود، وموّه عليهم بأن طوربريك هو الموضع الذي اختاره الله تعالى وذكره في التوراة بقوله فيها: اجعل البركة على طوربريك، وكان سنبلاط قد زوّج ابنته بكاهن من كهان بيت المقدس يقال له منشا، فمقت اليهود منشا على ذلك، وأبعدوه وحطوه عن مرتبته عقوبة له على مصاهرة سنبلاط، فأقام سنبلاط منشا زوج ابنته كاهنا في هيكل طوربريك، وآتته طوائف من اليهود وضلوا به، وصاروا يحجون إلى هيكله في الأعياد، ويقرّبون قرا بينهم إليه، ويحملون إليه نذورهم وأعشارهم، وتركوا قدس الله وعدلوا عنه فكثرت الأموال في هذا الهيكل، وصار ضدّ البيت المقدس، واستغنى كهنته وخدّامه وعظم أمر منشا وكبرت حالته. فلم تزل هذه الطائفة تحج إلى طور بريك حتى كان زمن هور قانوس بن شمعون الكوهن، من بني حثمتاي في بيت المقدس، فسار إلى بلاد السمرة ونزل على مدينة نابلس وحصرها مدّة وأخذها عنوة، وخرّب هيكل طور بريك إلى أساسه، وكانت مدّة عمارته مائتي سنة، وقتل من كان هناك من الكهنة، فلم تزل السمرة بعد ذلك إلى يومنا هذا تستقبل في صلاتها حيثما كانت من الأرض طور بريك بجبل نابلس، ولهم عبادات تخالف ما عليه اليهود، ولهم كنائس في كل بلد تخصهم، والسمرة ينكرون نبوّة داود ومن تلاه من الأنبياء، وأبوا أن يكون بعد موسى عليه السلام نبيّ وجعلوا رؤساءهم من ولد هارون عليه السلام، وأكثرهم يسكن في مدنية نابلس، وهم كثير في مدائن الشام، ويذكر أنهم الذين يقولون لا مساس، ويزعمون أن نابلس هي بيت المقدس، وهي مدينة يعقوب عليه السلام، وهناك مراعيه.
وذكر المسعوديّ أن السمرة صنفان متباينان، أحدهما يقال له الكوشان، والآخر الروشان، أحد الصنفين يقول بقدم العالم. والسامرة تزعم أن التوراة التي في أيدي اليهود ليست التوراة التي أوردها موسى عليه السلام ويقولون توراة موسى حرّفت وغيّرت وبدّلت، وأن التوراة هي ما بأيديهم دون غيرهم. وذكر أبو الريحان محمد بن أحمد البيروتيّ أنّ السامرة تعرف بالأمساسية. قال: وهم الأبدال الذين بدّلهم بخت نصر بالشام حين أسر اليهود وأجلاها، وكانت السامرة أعانوه ودلوه على عورات بني إسرائيل، فلم يحربهم ولم يقتلهم ولم يسبهم وأنزلهم فلسطين من تحت يده، ومذاهبهم ممتزجة من اليهودية والمجوسية، وعامّتهم يكونون بموضع من فلسطين يسمى نابلس، وبها كنائسهم، ولا يدخلون حدّ بيت المقدس منذ أيام داود النبي عليه السلام، لأنهم يدّعون إنه ظلم واعتدى وحوّل الهيكل المقدّس من نابلس إلى إيليا، وهو بيت المقدس، ولا يمسون الناس، وإذا مسوهم اغتسلوا، ولا يقرّون بنبوّة من كان بعد موسى عليه السلام من أنبياء بني إسرائيل.
وفي شرح الإنجيل: إنّ اليهود انقسمت بعد أيام داود إلى سبع فرق.(4/384)
الكتاب: وكانوا يحافظون على العادات التي أجمع عليها المشايخ مما ليس في التوراة.
والمعتزلة: وهم الفريسيون، وكانوا يظهرون الزهد ويصومون يومين في الأسبوع، ويخرجون العشر من أموالهم، ويجعلون خيوط القرمز في رؤس ثيابهم، ويغسلون جميع أوانيهم، ويبالغون في إظهار النظافة.
والزنادقة: وهم من جنس السامرة، وهم من الصدوفية، فيكفرون بالملائكة والبعث بعد الموت وبجميع الأنبياء ما خلا موسى فقط، فإنهم يقرّون بنبوّته.
والمتظهرون: وكانوا يغتسلون كلّ يوم ويقولون لا يستحق حياة الأبد إلّا من يتطهر كلّ يوم.
والإسابيون: ومعناه الغلاظ الطباع، وكانوا يوجبون جميع الأوامر الإلهية، وينكرون جميع الأنبياء سوى موسى عليه السلام، ويتعبدون بكتب غير الأنبياء.
والمتقشفون: وكانوا يمنعون أكثر المآكل وخاصة اللحم، ويمنعون من التزوّج بحسب الطاقة، ويقولون بأن التوراة ليست كلها لموسى، ويتمسكون بصحف منسوبة إلى أخنوخ وإبراهيم عليه السلام، وينظرون في علم النجوم ويعملون بها.
والهيرذوسيون: سموا أنفسهم بذلك لموالاتهم هيرذوس ملكهم، وكانوا يتبعون التوراة ويعملون بما فيها انتهى.
وذكر يوسف بن كريون في تاريخه أن اليهود كانوا في زمن ملكهم هور قانوس، يعني في زمن بناء البيت بعد عودهم من الجلاية ثلاث فرق: الفروشيم: ومعناه المعتزلة، ومذهبهم القول بما في التوراة وما فسره الحكماء من سلفهم. والصدوفية: أصحاب رجل من العلماء يقال له صدوف، ومذهبهم القول بنص التوراة وما دلت عليه دون غيره.
والجسديم ومعناه الصلحاء، وهم المشتغلون بالعبادة والنسك، الآخذون في كل أمر بالأفضل والأسلم في الدين انتهى. وهذه الفرقة هي أصل فرقتي الربانيين والقرّاء.
فصل: زعم بعضهم أن اليهود عانانية وشمعونية، نسبة إلى شمعون الصدّيق، ولي القدس عند قدوم أبي الإسكندر، وجالوتية وفيومية وسامرية وعكبرية وأصبهانية وعراقية ومغاربة وشرشتانية وفلسطينية ومالكية وربانية. فالعانانية تقول بالتوحيد والعدل ونفي التشبيه، والشمعونية تشبه، وتبالغ الجالوتية في التشبيه، وأما الفيومية فإنها تنسب إلى أبي سعيد الفيوميّ، وهم يفسرون التوراة على الحروف المقطعة. والسامرية ينكرون كثيرا من شرائعهم ولا يقرّون بنبوّة من جاء بعد يوشع، والعكبرية أصحاب أبي موسى البغداديّ(4/385)
العبكريّ، وإسماعيل العكبريّ، يخالفون أشياء من السبت وتفسير التوراة، والأصبهانية أصحاب أبي عيسى الأصبهاني، وادّعى النبوّة وأنه عرج به إلى السماء فمسح الرب على رأسه، وإنه رأى محمدا صلّى الله عليه وسلّم فآمن به، ويزعم يهود أصبهان أنه الدجال، وأنه يخرج من ناحيتهم، والعراقية تخالف الخراسانية في أوقات أعيادهم ومدد أيامهم، والشرشتانية أصحاب شرشتان، زعم أنه ذهب من التوراة ثمانون سوقة، أي آية، وادّعى أن للتوراة تأويلا باطنا مخالفا للظاهر، وأما يهود فلسطين فزعموا أن العزير ابن الله تعالى، وأنكر أكثر اليهود هذا القول، والمالكية تزعم أن الله تعالى لا يحيى يوم القيامة من الموتى إلّا من احتج عليه بالرسل والكتب، ومالك هذا هو تلميذ عانان. والربانية تزعم أن الحائض إذا مست ثوبا بين ثياب وجب غسل جميعها، والعراقية تعمل رؤس الشهور بالأهلة، وآخرون بالحساب يعملون والله أعلم.
فصل: وهم يوجبون الإيمان بالله وحده وبموسى عليه السلام وبالتوراة، ولا بدّ لهم من درسها وتعلمها، ويغتسلون ويتوضؤون ولا يمسحون رؤوسهم في وضوئهم، ويبدؤون بالرجل اليسرى، وفي شيء منه خلاف بينهم، وعانان يرى أن الاستنجاء قبل الوضوء، ويرى أشمعث أن الاستنجاء بعد الوضوء، ولا يتوضؤون بما تغير لونه أو طعمه أو ريحه، ولا يجيزون الطهارة من غدير ما لم يكن عشرة أذرع في مثلها، والنوم قاعدا لا ينقض الوضوء عندهم ما لم يضع جنبه الأرض، إلّا العانانية فإن مطلق النوم عندهم ينقض، ومن أحدث في صلاته من قيء أو رعاف أو ريح انصرف وتوضأ وبنى على صلاته، ولا تجوز صلاة الرجل في أقلّ من ثلاثة أثواب، قميص وسراويل وملاءة يتردّى بها، فإن لم يجد الملاءة صلّى جالسا، فإن لم يجد القميص والسراويل صلّى بقلبه، ولا تجوز صلاة المرأة في أقل من أربعة أثواب، وعليهم فريضة ثلاث صلوات في اليوم والليلة، عند الصبح وبعد الزوال إلى غروب الشمس ووقت العتمة إلى ثلث الليل، ويسجدون في دبر كل صلاة سجدة طويلة، وفي يوم السبت وأيام الأعياد يزيدون خمس صلوات على تلك الثلاث. ولهم خمسة أعياد:
عيد الفطر: وهو الخامس عشر من نيسن، يقيمون سبعة أيام لا يأكلون سوى الفطير، وهي الأيام التي تخلصوا فيها من فرعون وأغرقه الله.
وعيد الأسابيع: بعد الفطير بسبعة أسابيع، وهو اليوم الذي كلم الله تعالى فيه بني إسرائيل من طور سيناء.
وعيد رأس الشهر: وهو أوّل تشري، وهو الذي فدى فيه إسحاق عليه السلام من الذبح، ويسمونه عيد رأس هشايا، أي رأس الشهر. وعيد صوماريا: يعني الصوم العظيم.
وعيد المظلة: يستظلون سبعة أيام بقضبان الآس والخلاف. ويجب عليهم الحج في كل سنة ثلاث مرّات لما كان الهيكل عامرا، ويوجبون صوم أربعة أيام. أوّلها: سابع عشر(4/386)
تموز من الغروب إلى الغروب، وعند العانانية هو اليوم الذي أخذ فيه بخت نصر البيت.
والثاني: عشر آب. والثالث: عاشر كانون الأول. والرابع: ثالث عشر آذار. ويتشدّدون في أمر الحائض بحيث يعتزلونها وثيابها وأوانيها وما مسته من شيء فإنه ينجّس ويجب غسله، فإن مست لحم القربان أحرق بالنار، ومن مسها أو شيئا من ثيابها وجب عليه الغسل، وما عجنته أو خبزته أو طبخته أو غسلته فكله نجس حرام على الطاهرين حلّ للحيض، ومن غسل ميتا نجس سبعة أيام لا يصلي فيها، وهم يغسلون موتاهم ولا يصلون عليهم، ويوجبون إخراج العشر من جميع ما يملك، ولا يجب حتى يبلغ وزنه أو عدده مائة، ولا يخرج العشر إلّا مرّة واحدة، ثم لا يعاد إخراجه، ولا يصح النكاح عندهم إلّا بوليّ وخطبة وثلاثة شهود ومهر مائتي درهم للبكر، ومائة للثيب لا أقل من ذلك، ويحضر عند عقد النكاح كأس خمر وباقة مرسين، فيأخذ الإمام الكأس ويبارك عليه ويخطب خطبة النكاح ثم يدفعه إلى الختن ويقول: قد تزوّجت فلانة بهذه الفضة أو بهذا الذهب وهو خاتم في يده، وبهذا الكأس من الخمر، وبمهر كذا، ويشرب جرعة من الخمر، ثم ينهضون إلى المرأة ويأمرونها أن تأخذ الخاتم والمرسلين والكأس من يد الختن، فإذا أخذت وشربت جرعة وجب عقد النكاح، ويضمن أولياء المرأة البكارة، فإذا زفت إليه وكّل الوليّ من يقف بباب الخلوة وقد فرشت ثياب بيض حتى يشاهد الوكيل الدم، فإن لم توجد بكرا رجمت، ولا يجوز عندهم نكاح الإماء حتى يعتقن، ثم ينكحن، والعبد يعتق بعد خدمته لسنين معلومة، وهي ست سنين، ومنهم من يجوّز بيع صغار أولاده إذا احتاج، ولا يجوّزون الطلاق إلا بفاحشة أو سحر أو رجوع عن الدين، وعلى من طلق خمسة وعشرون درهما للبكر، ونصف ذلك للثيب، وينزل في كتابها طلاقها بعد أن يقول الزوج أنت طالق مني مائة مرّة، ومختلعة مني، وفي سعة أن تتزوّجي من شئت، ولا يقع طلاق الحامل أبدا، نعم، إلّا أن يجوّزوه ويراجع الرجل امرأته ما لم تتزوج، فإن تزوّجت حرّمت عليه إلى الأبد. والخيار بين المتبايعين ما لم ينقل المبيع إلى البائع. والحدود عندهم على خمسة أوجه، حرق ورجم وقتل وتعزير وتغريم، فالحرق على من زنى بأمّ امرأته أو ربيبته أو بامرأة أبيه أو امرأة ابنه، والقتل على من قتل. والرجم على المحصن إذا زنى أو لاط، وعلى المرأة إذا مكنت من نفسها بهيمة. والتعزير «1» على من قذف، والتغريم على من سرق، ويرون أن البينة على المدّعي، واليمين على من أنكر.
وعندهم أنّ من أتى بشيء من سبعة وثلاثين عملا في يوم السبت أو ليلته استحق القتل وهي: كرب الأرض، وزرعها، وحصاد الزرع، وسياقة الماء إلى الزرع، وحلب اللبن، وكسر الحطب، وإشعال النار، وعجن العجين، وخبزه، وخياطة الثوب، وغسله، ونسج(4/387)
سلكين، وكتابة حرفين أو نحوهما، وأخذ الصيد، وذبح الحيوان، والخروج من القرية، والانتقال من بيت إلى آخر، والبيع، والشراء، والدق، والطحن، والاحتطاب، وقطع الخبز، ودق اللحم، وإصلاح النعل إذا انقطعت، وخلط علف الدابة، ولا يجوز للكاتب أن يخرج يوم السبت من منزله ومعه قلمه، ولا الخياط ومعه إبرته، وكل من عمل شيئا استحق به القتل فلم يسلم نفسه فهو ملعون «1» .
ذكر قبط مصر ودياناتهم القديمة، وكيف تنصروا ثم صاروا ذمّة للمسلمين، وما كان لهم في ذلك من القصص والأنباء، وذكر الخبر عن كنائسهم ودياراتهم، وكيف كان ابتداؤها ومصير أمرها
اعلم أن جميع أهل الشرائع اتباع الأنبياء عليهم السلام من المسلمين واليهود والنصارى قد أجمعوا على أن نوحا عليه السلام هو الأب الثاني للبشر، وأن العقب من آدم عليه السلام انحصر فيه، ومنه ذرأ الله تعالى جميع أولاد آدم، فليس أحد من بني آدم إلّا وهو من أولاد نوح، وخالفت القبط والمجوس وأهل الهند والصين ذلك، فأنكروا الطوفان وزعم بعضهم أن الطوفان إنما حدث في إقليم بابل وما وراءه من البلاد الغربية فقط، وأن أولاد كيومرت الذي هو عندهم الإنسان الأوّل كانوا بالبلاد الشرقية من بابل، فلم يصل الطوفان إليهم ولا إلى الهند والصين. والحق ما عليه أهل الشرائع، وأن نوحا عليه السلام لما أنجاه الله ومن معه بالسفينة نزل بهم وهم ثمانون رجلا سوى أولاده، فماتوا بعد ذلك ولم يعقبوا، وصار العقب من نوح في أولاده الثلاثة، ويؤيد هذا قول الله تعالى عن نوح:
وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ
[الصافات/ 77] وكان من خبر ذلك أن أولاد نوح الثلاثة، وهم سام وحام ويافث اقتسموا الأرض. فصار لبني سام بن نوح أرض العراق وفارس إلى الهند، ثم إلى حضرموت وعمان والبحرين. وعالج ويبرين ووبار والدو والد هنا وجميع أرض اليمن وأرض الحجاز.
وصار لبني حام بن نوح جنوب الأرض مما يلي أرض مصر مغربا إلى بلاد المغرب الأقصى.
وصار لبني يافث بن نوح بحر الخزر مشرقا إلى الصين.
فكان من ذرية سام بن نوح القضاعيون والفرس والسريانيون والعبرانيون والعرب المستعربة والنبط وعاد وثمود والأمورانيون والعماليق وأمم الهند وأهل السند وعدّة أمم قد بادت.(4/388)
وكانت ذرية حام بن نوح من أربعة أولاده الذين هم: كوش ومصرايم وقفط وكنعان، فمن كوش الحبشة والزنج، ومن مصرايم قبط مصر والنوبة، ومن قفط الأفارقة أهل إفريقية ومن جاورهم إلى المغرب الأقصى، ومن كنعان أمم كانت بالشام حاربهم موسى بن عمران عليه السلام وقومه من بني إسرائيل، ومنهم أجناس عديدة من البربر درجوا. وكانت مساكن بني حام من صيدا إلى أرض مصر، ثم إلى آخر إفريقية نحو البحر المحيط، وانتشروا فيما بين ذلك إلى الجنوب وهم ثلاثون جنسا.
وكان من ذرية يافث بن نوح: الصقلب والفرنجة والغالليون من قبائل الروم والغوط وأهل الصين وقوم عرفوا بالمادنيين واليونانيون والروم الفريقيون وقبائل الأتراك ويأجوج ومأجوج وأهل قبرس وردوس، وعدّة بني يافث خمسة عشر جنسا، سكنوا القطر الشماليّ إلى البحر المحيط، فضاقت بهم بلادهم ولم تسعهم لكثرتهم، فخرجوا منها وتغلبوا على كثير من بلاد بني سام بن نوح.
وذكر الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه الكاتب، أنّ القبط تنسب إلى قبطيم بن مصرايم بن مصر بن حام بن نوح، وأن قبطيم أوّل من عمل العجائب بمصر وأثار بها المعادن وشق الأنهار لما ولي أرض مصر بعد أبيه مصرايم، وأنه لحق بلبلة الألسن، وخرج منها وهو يعرف اللغة القبطية، وأنه ملك مدّة ثمانين سنة ومات، فاغتمّ لموته بنوه وأهله ودفنوه في الجانب الشرقيّ من النيل بسرب تحت الجبل الكبير، فقام من بعده في ملك مصر ابنه قفطيم بن قبطيم، وزعم بعض النسابة أن مصر بن حام بن نوح، ويقال له مصرايم، ويقال بل مصريم بن هرمس بن هردوس جدّ الإسكندر، وقيل بل قفط بن حام بن نوح نكح بخت بنت يتاويل بن ترسل بن يافث بن نوح، فولدت له بوقير، وقبط أبا قبط مصر. قال ابن إسحاق: ومن هاهنا قالوا إن مصر بن حام بن نوح، وإنما هو مصر بن هرمس بن هردوس بن ميطون بن رومي بن ليطي بن يونان، وبه سميت مصر، فهي مقدونية، وقيل القبط من ولد قبط بن مصر بن قفط بن حام بن نوح، وبمصر هذا سميت مصر.
ذكر ديانة القبط قبل تنصرهم
اعلم أن قبط مصر كانوا في غابر الدهر أهل شرك بالله، يعبدون الكواكب ويقرّبون قرابينهم ويقيمون على أسمائها التماثيل، كما هي أفعال الصابئة. وذكر ابن وصيف شاه: أن عبادة الأصنام أوّل ما عرفت بمصر أيام قفطريم بن قبطيم بن مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح، وذلك أن إبليس أثار الأصنام التي غرّقها الطوفان وزين للقبط عبادتها، وأن البودشير بن قبطيم أوّل من تكهن وعمل بالسحر، وأن مناوش بن منقاوش أوّل من عبد البقر من أهل مصر. وذكر الموفق أحمد بن أبي القاسم بن خليفة المعروف بابن أبي أصيبعة أنه كان للقبط مذهب مشهور من مذاهب الصابئة، ولهم هياكل على أسماء الكواكب يحج إليها(4/389)
الناس من أقطار الأرض، وكانت الحكماء والفلاسفة ممن سواهم تتهافت عليهم وتريد التقرّب إليهم، لما كان عندهم من علوم السحر والطلسمات والهندسة والنجوم والطب والحساب والكيمياء، ولهم في ذلك أخبار كثيرة، وكانت لهم لغة يختصون بها، وكانت خطوطهم ثلاثة أصناف: خط العامّة، وخط الخاصة، وهو خط الكهنة المختصر، وخط الملوك. وقال ابن وصيف شاه: كانت كهنة مصر أعظم الكهان قدرا وأجلها علما بالكهانة، وكانت حكماء اليونانيين تصفهم بذلك وتشهد لهم به، فيقولون اختبرنا حكماء مصر بكذا وكذا، وكانوا ينحون بكهانتهم نحو الكواكب ويزعمون أنها هي التي تفيض عليهم العلوم وتخبرهم بالغيوب، وهي التي تعلمهم أسرار الطوالع وصفة الطلاسم، وتدلهم على العلوم المكتومة والأسماء الجليلة المخزونة، فعملوا الطلسمات المشهورة والنواميس الجليلة، وولدوا الأشكال الناطقة وصوّروا الصور المتحرّكة، وبنوا العالي من البنيان، وزبروا علومهم في الحجارة، وعملوا من الطلسمات ما دفعوا به الأعداء عن بلادهم، فحكمهم باهرة، وعجائبهم ظاهرة، وكانت أرض مصر خمسا وثمانين كورة منها: أسفل الأرض خمس وأربعون كورة، ومنها بالصعيد أربعون كورة، وكان في كل كورة رئيس من الكهنة وهم السحرة، وكان الذي يتعبد منهم للكواكب السبعة السيارة سبع سنين يسمونه باهر، والذي يتعبد منهم لها تسعا وأربعين سنة لكلّ كوكب سبع سنين يسمونه قاطر، وهذا يقوم له الملك إجلالا ويجلسه معه إلى جانبه، ولا يتصرّف إلّا برأيه، وتدخل الكهنة ومعهم أصحاب الصنائع فيقفون حذاء القاطر، وكان كلّ كاهن منهم ينفرد بخدمة كوكب من الكواكب السبعة السيارة لا يتعدّاه إلى سواه، ويدعي بعبد ذلك الكوكب فيقال: عبد القمر، عبد عطارد، عبد الزهرة، عبد الشمس، عبد المريخ، عبد المشتري، عبد زحل. فإذا وقفوا جميعا قال القاطر لأحدهم: أين صاحبك اليوم؟ فيقول في برج كذا ودرجة كذا ودقيقة كذا. ثم يقول للآخر كذلك، فيجيبه حتى يأتي على جميعهم، ويعرف أماكن الكواكب من فلك البروج ثم يقول للملك ينبغي أن تعمل اليوم كذا، أو تأكل كذا، أو تجامع في وقت كذا، أو تركب وقت كذا، إلى آخر ما يحتاج إليه، والكاتب قائم بين يديه يكتب ما يقول، ثم يلتفت القاطر إلى أهل الصناعات ويخرجهم إلى دار الحكمة فيضعون أيديهم في الأعمال التي يصلح عملها في ذلك اليوم، ثم يؤرخ ما جرى في ذلك اليوم في صحيفة وتخزن في خزائن الملك، وكان الملك إذا همه أمر جمع الكهان خارج مدينة منف، وقد اصطف الناس لهم بشارع المدينة، ثم يدخل الكهان ركبانا على قدر مراتبهم والطبل بين أيديهم، وما منهم إلّا من أظهر أعجوبة قد عملها، فمنهم من يعلو وجهه نور كهيئة نور الشمس لا يقدر أحد على النظر إليه، ومنهم من على بدنه جواهر مختلفة الألوان قد نسجت على ثوب، ومنهم من يتوشح بحيات عظيمة، ومنهم من يعقد فوقه قبة من نور، إلى غير ذلك من بديع أعمالهم، ويصيرون كذلك إلى حضرة الملك فيخبرهم بما نزل به، فيجيلون رأيهم فيه حتى يتفقوا على ما يصرفونه به،(4/390)
وهذا أعزك الله من خبرهم لما كان الملك فيهم، فلما استولت العماليق على ملك مصر وملكتها الفراعنة، ثم تداولتها من بعدهم أجناس أخر، تناقصت علوم القبط شيئا بعد شيء إلى أن تنصروا، فغادروا عوائد أهل الشرك، واتبعوا ما أمروا به من دين النصرانية، كما ستقف عليه تلو هذا إن شاء الله تعالى.
ذكر دخول قبط مصر في دين النصرانية
اعلم أن النصارى اتباع عيسى نبيّ الله ابن مريم عليه السلام، سموا نصارى، لأنهم ينتسبون إلى قرية الناصرة من جبل الجليل، بالجيم، ويعرف هذا الجبل بجبل كنعان، وهو الآن في زمننا من جملة معاملة صفد، والأصل في تسميتهم نصارى: أنّ عيسى ابن مريم عليه السلام لما ولدته أمّه مريم ابنة عمران ببيت لحم خارج مدينة بيت المقدس، ثم سارت به إلى أرض مصر وسكنتها زمانا، ثم عادت به إلى أرض بني إسرائيل قومها، نزلت قرية الناصرة، فنشأ عيسى بها وقيل له يسوع الناصريّ، فلما بعثه الله تعالى رسولا إلى بني إسرائيل، وكان من شأنه ما ستراه، إلى أن رفعه الله إليه، تفرّق الحواريون، وهم الذين آمنوا به، في أقطار الأرض يدعون الناس إلى دينه، فنسبوا إلى ما نسب إليه نبيهم عيسى ابن مريم، وقيل لهم الناصرية، ثم تلاعب العرب بهذه الكلمة وقالوا نصارى.
قال ابن سيده: ونصرى وناصرة ونصورية: قرية بالشام، والنصارى منسوبون إليها، هذا قول أهل اللغة، وهو ضعيف. إلّا أن نادر النسب يسيغه، وأما سيبويه فقال: أما النصارى فذهب الخليل إلى أنه جمع نصري ونصران، كما قالوا ندمان وندامى ولكنهم حذفوا إحدى اليائين كما حذفوا من أثقية وأبدلوا مكانها ألفا. قال: وأما الذي نوجهه نحن عليه فإنه جاء على نصران، لأنه قد تكلم به، فكأنك جمعت وقلت نصارى كما قلت ندامى، فهذا أقيس، والأوّل مذهب، وإنما كان أقيس لأنا لم نسمعهم قالوا نصرى، والتنصر الدخول في دين النصرانية، ونصره جعله كذلك، والأنصر الأقلف، وهو من ذلك، لأنّ النصارى قلف، وفي شرح الإنجيل أن معنى قرية ناصرة الجديدة، والنصرانية التجدّد، والنصرانيّ المجدّد، وقيل نسبوا إلى نصران، وهو من أبنية المبالغة، ومعناه أن هذا الدين في غير عصابة صاحبه، فهو دين من ينصره من أتباعه. وإذا تقرّر هذا فاعلم «أنّ المسيح روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم» «1» (عيسى) وأصل اسمه بالعبرانية التي هي لغة أمّه وآبائها إنما هو ياشوع، وسمته النصارى يسوع، وسماه الله تعالى وهو أصدق القائلين عيسى، ومعنى يسوع في اللغة السريانية المخلّص، قاله في شرح الإنجيل، ونعته بالمسيح، وهو الصدّيق، وقيل لأنه كان لا يمسح بيده صاحب عاهة إلّا برأ، وقيل لأنه كان يمسح رؤوس اليتامى، وقيل(4/391)
لأنه خرج من بطن أمّه ممسوحا بالدهن، وقيل لأن جبريل عليه السلام مسحه بجناحه عند ولادته صونا له من مس الشيطان، وقيل المسيح اسم مشتق من المسح، أي الدهن، لأنّ روح القدس قام بجسد عيسى مقام الدهن الذي كان عند بني إسرائيل يمسح به الملك، ويمسح به الكهنوت، وقيل لأنه مسح بالبركة، وقيل لأنه أمسح الرجلين، ليس لرجليه أخمص، وقيل لأنه يمسح الأرض بسياحته، لا يستوطن مكانا، وقيل هي كلمة عبرانية أصلها ماسيح، فتلاعبت بها العرب وقالت مسيح.
وكان من خبره عليه السلام أن مريم ابنة عمران بينما هي في محرابها إذ بشرها الله تعالى بعيسى، فخرجت من بيت المقدس وقد اغتسلت من المحيض فتمثل لها الملك بشرا في صورة يوسف بن يعقوب النجار أحد خدّام القدس، فنفخ في جيبها فسرت النفخة إلى جوفها فحملت بعيسى كما تحمل النساء، بغير ذكر، بل حلت نفخة الملك منها محل اللقاح، ثم وضعت بعد تسعة أشهر وقيل بل وضعت في يوم حملها بقرية بيت لحم من عمل مدينة القدس في يوم الأربعاء خامس عشري كانون الأوّل، وتاسع عشري كيهك سنة تسع عشرة وثلاثمائة للإسكندر، فقدمت رسل ملك فارس في طلبه ومعهم هدية لها فيها ذهب ومرّ ولبان، فطلبه هيرودس ملك اليهود بالقدس ليقتله، وقد أنذر به، فسارت أمه مريم به وعمره سنتان على حمار ومعها يوسف النجار حتى قدموا إلى أرض مصر فسكنوها مدّة أربع سنين، ثم عادوا، وعمر عيسى ست سنين، فنزلت به مريم قرية الناصرة من جبل الجليل فاستوطنتها فنشأ بها عيسى حتى بلغ ثلاثين سنة، فسار هو وابن خالته يحيى بن زكريا عليهما السلام إلى نهر الأردن، فاغتسل عيسى فيه فحلت عليه النبوّة، فمضى إلى البرّية وأقام بها أربعين يوما لا يتناول طعاما ولا شرابا فأوحى الله إليه بأن يدعو بني إسرائيل إلى عبادة الله تعالى، فطاف القرى ودعا الناس إلى الله تعالى، وأبرأ الأكمه والأبرص وأحيى الموتى بإذن الله، وبكّت «1» اليهود وأمرهم بالزهد في الدنيا والتوبة من المعاصي، فآمن به الحواريون وكانوا قوما صيادين وقيل قصارين وقيل ملاحين وعددهم اثنا عشر رجلا وصدقوا بالإنجيل الذي أنزله الله تعالى عليه، وكذّبه عامّة اليهود وضللوه واتهموه بما هو بريء منه، فكانت له ولهم عدّة مناظرات آلت بهم إلى أن اتفق أحبارهم على قتله، وطرقوه ليلة الجمعة، فقيل أنه رفع عند ذلك، وقيل بل أخذوه وأتوا به إلى بلاطس النبطيّ «2» شحنة القدس من قبل الملك طيباريوس قيصر، وراودوه على قتله وهو يدفعهم عنه حتى غلبوه على رأيه، بأن دينهم اقتضى قتله، فأمكنهم منه، وعندما أدنوه من الخشبة ليصلبوه رفعه الله إليه، وذلك في الساعة السادسة من يوم الجمعة خامس عشر شهر نيسن، وتاسع عشري شهر برمهات، وخامس عشر شهر آذار، وسابع عشر شهر ذي القعدة، وله من العمر ثلاث(4/392)
وثلاثون سنة وثلاثة أشهر، فصلبوا الذي شبه لهم، وصلبوا معه لصين وسمروهم بمسامير الحديد، واقتسم الجند ثياب المصلوب، فغشيت الأرض ظلمة دامت ثلاث ساعات «1» حتى صار النهار شبه الليل ورؤيت النجوم، وكان مع ذلك هزة وزلزلة، ثم أنزل المصلوب عن الخشبة بكرة يوم السبت ودفن تحت صخرة في قبر جديد، ووكل بالقبر من يحرسه لئلا يأخذ المقبور أصحابه، فزعم النصارى أن المقبور قام من قبره ليلة الأحد سحرا، ودخل عشية ذلك اليوم على الحواريين وحادثهم ووصاهم، ثم بعد الأربعين يوما من قيامه صعد إلى السماء والحواريون يشاهدونه، فاجتمعوا بعد رفعه بعشرة أيام في علية صيون التي يقال لها اليوم صهيون خارج القدس، وظهرت لهم خوارق، فتكلموا بجميع الألسن فآمن بهم فيما يذكر زيادة على ثلاثة آلاف إنسان «2» . فأخذهم اليهود وحبسوهم، فظهرت كرامتهم وفتح الله لهم باب السجن ليلا «3» ، فخرجوا إلى الهيكل وطفقوا يدعون الناس، فهمّ اليهود بقتلهم، وقد آمن بهم نحو الخمسة آلاف إنسان، فلم يتمكنوا من قتلهم، فتفرّق الحواريون في أقطار الأرض يدعون إلى دين المسيح «4» ، فسار بطرس رأس الحواريين ومعه شمعون الصفا إلى أنطاكية ورومية، فاستجاب لهم بشر كثير، وقتل في خامس أبيب، وهو عيد القصرية. وسار أندراوس أخوه إلى نيقية وما حولها، فآمن به كثير، ومات في بزنطية في رابع كيهك، وسار يعقوب بن زبدي أخو يوحنا الإنجيليّ إلى بلد ابدينية، فتبعه جماعة وقتل في سابع عشر برمودة، وسار يوحنا الإنجيليّ إلى آسيا وأفسيس وكتب انجيله باليونانيّ بعد ما كتب متى ومرقص ولوقا أناجيلهم، فوجدهم قد قصروا في أمور فتكلم عليها، وكان ذلك بعد رفع المسيح بثلاثين سنة، وكتب ثلاث رسائل ومات، وقد أناف على مائة سنة، وسار فيلبس إلى قيسارية وما حولها وقتل بها في ثامن هاتور، وقد اتبعه جماعات من الناس.
وسار برتولوماوس إلى أرمينية وبلاد البربر وواحات مصر، فآمن به كثير، وقتل وسار توما إلى الهند فقتل هناك. وسار متى العشار إلى فلسطين وصور وصيدا ومدينة بصرى وكتب إنجيله بالعبرانيّ بعد رفع المسيح بتسع سنين، ونقله يوحنا إلى اللغة الرومية، وقتل متى بقرطاجنة في ثامن عشر بابه بعد ما استجاب له بشر كثير. وسار يعقوب بن حلفا إلى بلاد الهند ورجع إلى القدس وقتل في عاشر امشير. وسار يهوذا بن يعقوب من أنطاكية إلى الجزيرة فآمن به كثير من الناس ومات في ثاني أبيب. وسار شمعون إلى سميساط وحلب ومنبج وبزنطية وقتل في سابع أبيب. وسارميتاس إلى بلاد الشرق وقتل في ثامن عشر(4/393)
برمهات. وسار بولص الطرسوسيّ إلى دمشق وبلاد الروم ورومية فقتل في خامس أبيب.
وتفرّق أيضا سبعون رسولا أخر في البلاد، فآمن بهم الخلائق، ومن هؤلاء السبعين:
مرقص الإنجيليّ، وكان اسمه أوّلا يوحنا، فعرف ثلاثة ألسن، الفرنجيّ والعبرانيّ واليونانيّ، ومضى إلى بطرس برومية وصحبه وكتب الإنجيل عنده بالفرنجية بعد رفع المسيح باثنتي عشرة سنة، ودعا الناس برومية ومصر والحبشة والنوبة، وأقام حنانيا أسقفا على الإسكندرية، وخرج إلى برقة فكثرت النصارى في أيامه، وقتل في ثاني عيد الفسح بالإسكندرية. ومن السبعين أيضا لوقا الإنجيليّ الطبيب، تلميذ بولص، كتب الإنجيل باليونانية عن بولص بالإسكندرية بعد رفع المسيح بعشرين سنة، وقيل باثنتين وعشرين سنة، ولما فرّ بطرس رأس الحواريين من حبس رومية ونزل بأنطاكية أقام بها داريوس بطركا، وأنطاكية أحد الكراسي الأربعة التي للنصارى وهي: رومية والإسكندرية والقدس وأنطاكية، فأقام داريوس بطرك أنطاكية سبعا وعشرين سنة وهو أوّل بطاركتها، وتوارث من بعده البطاركة بها البطركية واحدا بعد واحد. ودعا شمعون الصفا برومية خمسا وعشرين سنة، فآمنت به بطركية «1» وسارت إلى القدس، وكشفت عن خشبات الصليب وسلمتها إلى يعقوب بن يوسف الأسقف وبنت هناك كنيسة وعادت إلى رومية، وقد اشتدّت على دين النصرانية، فآمن معها عدّة من أهلها. واجتمع الرسل بمدينة رومية ووضعوا القوانين وأرسلوها على يد قليموس تلميذ بطرس، فكتبوا فيها عدد الكتب التي يجب قبولها من العتيقة والجديدة، فأمّا العتيقة فالتوراة، وكتاب يوشع بن نون، وكتاب القضاة، وكتاب راغون، وكتاب يهوديت، وسير الملوك، وسفر بنيامين، وكتب المقانين، وكتاب عزرة، وكتاب أستير، وقصة هامان، وكتاب أيوب، وكتاب مزامير داود، وكتب سليمان بن داود، وكتب الأنبياء وهي ستة عشر كتابا، وكتاب يوشع بن شيراخ، وأما الكتب الحديثة:
فالأناجيل الأربعة، وكتاب القليتليقون، وكتاب بولص، وكتاب الأبركسيس، وهو قصص الحواريين، وكتاب قليموس، وفيه ما أمر به الحواريون وما نهوا عنه.
ولما قتل الملك نيرون قيصر بطرس رأس الحواريين برومية، أقيم من بعده أريوس بطرك رومية، وهو أوّل بطرك صار على رومية، فأقام في البطركية اثنتي عشرة سنة، وقام من بعده البطاركة بها واحدا بعد واحد إلى يومنا هذا الذي نحن فيه.
ولما قتل يعقوب اسقف القدس على يد اليهود، هدموا بعده البيعة وأخذوا خشبة الصليب والخشبتين معها ودفنوها وألقوا على موضعها ترابا كثيرا، فصار كوما عظيما حتى أخرجتها هيلانة أم قسطنطين كما ستراه قريبا إن شاء الله تعالى. وأقيم بعد قتل يعقوب(4/394)
سمعان ابن عمه أسقف القدس، فمكث اثنتين وأربعين سنة أسقفا. ومات، فتداول الأساقفة بعده الأسقفية بالقدس واحدا بعد آخر.
ولما أقام مرقص حناينا ويقال أناينو بطرك الإسكندرية، جعل معه اثني عشر قسا وأمرهم إذا مات البطرك أن يجعلوا عوضه واحدا منهم، ويقيموا بدل ذلك القس واحدا من النصارى حتى لا يزالوا أبدا اثني عشر قسا، فلم تزل البطاركة تعمل من القسوس إلى أن اجتمع ثلاثمائة وثمانية عشر كما ستراه إن شاء الله تعالى، وكان بطرك الإسكندرية يقال له البابا من عهد حنانيا هذا أوّل بطاركة الإسكندرية إلى أن أقيم ديمتريوس، وهو الحادي عشر من بطاركة الإسكندرية، ولم يكن بأرض مصر أساقفة، فنصب الأساقفة بها وكثروا، فغزاها في بطركيته هرقل، وصار الأساقفة يسمون البطرك الأب، والقسوس وسائر النصارى يسمون الأسقف الأب، ويجعلون لفظة البابا تختص ببطرك الإسكندرية، ومعناها أبو الآباء، ثم انتقل هذا الاسم عن كرسي الإسكندرية إلى كرسي رومية، من أجل أنه كرسي بطرس رأس الحواريين، فصار بطرك رومية يقال له البابا، واستمرّ على ذلك إلى زمننا الذي نحن فيه، وأقام أناينو وهو حناينا في بطركية الإسكندرية اثنتين وعشرين سنة ومات في عشري هاتور، سنة سبع وثمانين لظهور المسيح، فأقيم بعده مينيو، فأقام اثنتي عشرة سنة وتسعة أشهر ومات، وفي أثناء ذلك ثار اليهود على النصارى وأخرجوهم من القدس، فعبروا الأردن وسكنوا تلك الأماكن، فكان بعد هذا بقليل خراب القدس وجلاية اليهود وقتلهم على يد طيطش. ويقال طيطوس، بعد رفع المسيح بنحو أربع وأربعين سنة، فكثرت النصارى في أيام بطركية مينيو وعاد كثير منهم إلى مدينة القدس بعد تخريب طيطش لها وبنوا بها كنيسة وأقاموا عليها سمعان أسقفا، ثم أقيم بعد مينيو في الإسكندرية في البطركية كرتيانو، وفي أيام الملك انديانوس قيصر أصاب النصارى منه بلاء كثير، وقتل منهم جماعة كثيرة، واستعبد باقيهم، فنزل بهم بلاء لا يوصف في العبودية حتى رحمهم الوزراء وأكابر الروم وشفعوا فيهم، فمنّ عليهم قيصر وأعتقهم، ومات كرتيانو بطرك الإسكندرية في حادي عشر برمودة بعد ما دبر الكرسيّ إحدى عشرة سنة، وكان حميد السيرة، فقدم بعده ايريمو، فأقام اثنتي عشرة سنة، ومات في ثالث مسرى، واشتدّ الأمر على النصارى في أيام الملك أريدويانوس وقتل منهم خلائق لا يحصى عددهم، وقدم مصر فأفنى من بها من النصارى، وخرّب ما بني في مدينة القدس من كنيسة النصارى ومنعهم من التردّد إليها، وأنزل عوضهم بالقدس اليونانيين، وسمى القدس إيليا، فلم يتجاسر نصراني أن يدنو من القدس، وأقيم بعد موت إيريمو بطرك الإسكندرية بسطس، فأقام إحدى عشرة سنة، ومات في ثاني عشر بؤنة، فخلف بعده أرمانيون فأقام عشر سنين وأربعة أشهر ومات في عاشر بابة، فأقيم بعده موقيانو بطرك الإسكندرية تسع سنين وستة أشهر ومات في سادس طوبه، فقدم بعده على الإسكندرية كلوتيانو فأقام أربع عشرة سنة ومات في تاسع أبيب، وفي أيامه اشتدّ الملك أوليانوس قيصر(4/395)
على النصارى وقتل منهم خلقا كثيرا، وقدّم على كرسيّ الإسكندرية بعد كلوتيانو غرنبو بطركا، فأقام اثنتي عشرة سنة ومات في خامس أمشير، وفي أيام بطركيته اتفق رأي البطاركة بجميع الأمصار على حساب فصح النصارى وصومهم، ورتبوا كيف يستخرج، ووضعوا حساب الأبقطي، وبه يستخرجون معرفة وقت صومهم وفصحهم، واستمرّ الأمر على ما رتبوه فيما بعد، وكانوا قبل ذلك يصومون بعد الغطاس أربعين يوما كما صام المسيح عليه السلام، ويفطرون. وفي عيد الفسح يعملون الفسح مع اليهود فنقل هؤلاء البطاركة الصوم وأوصلوه بعيد الفسح، لأنّ عيد الفسح كانت فيه قيامة المسيح من الأموات بزعمهم، وكان الحواريون قد أمروا أن لا يغير عن وقته وأن يعملوه كلّ سنة في ذلك الوقت، ثم أقيم بكرسي الإسكندرية بعد غرنبو في البطركية بوليانوس، فأقام عشر سنين ومات في ثامن برمهات، فاستخلف بعده ديمتريوس، فأقام بعده في البطركية ثلاثا وثلاثين سنة ومات، وكان فلاحا أميّا وله زوجة ذكر عنه أنه لم يجامعها قط، وفي أيامه أثار الملك سوريانوس قيصر على النصارى بلاء كبيرا في جميع مملكته، وقتل منهم خلقا كثيرا، وقدم مصر وقتل جميع من فيها من النصارى وهدم كنائسهم، وبني بالإسكندرية هكيلا لأصنامه، ثم أقيم بعده في بطركية الإسكندرية باركلا، فأقام ست عشرة سنة ومات في ثامن كيهك، فلقي النصارى من الملك مكسيموس قيصر شدّة عظيمة، وقتل منهم خلقا كثيرا، فلما ملك فيلبش قيصر، أكرم النصارى وقدّم على بطركية الإسكندرية ديوسيوس، فأقام تسع عشرة سنة ومات في ثالث توت، وفي أيامه كان الراهب انطونيوس المصريّ، وهو أوّل من ابتدأ بلبس الصوف، وابتدأ بعمارة الديارات في البراري، وأنزل بها الرهبان، ولقي النصارى من الملك داقيوس قيصر شدّة، فإنه أمرهم أن يسجدوا لأصنامه، فأبوا من السجود لها فقتلهم أبرح قتلة، وفرّ منه الفتية أصحاب الكهف من مدينة أفسس واختفوا في مغارة في جبل شرقيّ المدينة، وناموا فضرب الله على آذانهم فلم يزالوا نائمين ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا، فقام من بعده بالإسكندرية مكسيموس وأقام بطركا اثنتي عشرة سنة ومات في رابع عشر برمودة، فأقيم بعده تؤوبا بطركا مدّة سبع سنين وتسعة أشهر ومات، وكانت النصارى قبله تصلّي بالإسكندرية خفية من الروم خوفا من القتل، فلاطف تؤوبا الروم وأهدى إليهم تحفا جليلة حتى بنى كنيسة مريم بالإسكندرية، فصلى بها النصارى جهرا، واشتدّ الأمر على النصارى في أيام الملك طيباريوس قيصر، وقتل منهم خلقا كثيرا، فلما كانت أيام دقلطيانوس قيصر خالف عليه أهل مصر والإسكندرية، فقتل منهم خلقا كثيرا، وكتب بغلق كنائس النصارى، وأمر بعبادة الأصنام، وقتل من امتنع منها، فارتدّ خلائق كثيرة جدّا، وأقام في البطركية بعد تؤوبا بطرس، فأقام إحدى عشرة سنة وقتل في الإسكندرية بالسيف، وقتل معه امرأته وابنتاه لامتناعهم من السجود للأصنام، فقام بعده تلميذه ارشلاوش، فأقام ستة أشهر ومات، وبدقلطيانوس هذا وقتله لنصارى مصر يؤرخ قبط مصر إلى يومنا هذا، كما قد ذكرناه في(4/396)
تاريخ القبط عند ذكر التواريخ من هذا الكتاب، فراجعه. ثم قام من بعده مكسيمانوس قيصر، فاشتدّ على النصارى وقتل منهم خلقا كثيرا، حتى كانت القتلى منهم تحمل على العجل وترمى في البحر، ثم قام بعد أرشلاوش في بطركية الإسكندرية اسكندروس تلميذ بطرس الشهيد، فأقام ثلاثا وعشرين سنة ومات في ثاني عشري برمودة، وفي بطركيته كان مجمع النصارى بمدينة نيقية، وفي أيامه كتب النصارى وغيرهم من أهل رومية إلى قسطنطين، وكان على مدينة بزنطية يحثونه على أن ينقذهم من جور مكسيمانوس، وشكوا إليه عتوّه، فأجمع على المسير لذلك، وكانت أمّه هيلاني من أهل قرى مدينة الرها «1» قد تنصرت على يد أسقف الرها، وتعلمت الكتب، فلما مرّ بقريتها قسطس صاحب شرطة دقلطيانوس رآها فأعجبته فتزوّجها وحملها إلى بزنطية، مدينته، فولدت له قسطنطين، وكان جميلا، فأنذر دقلطيانوس منجموه بأن هذا الغلام قسطنطين سيملك الروم ويبدّل دينهم، فأراد قتله، ففرّ منه إلى الرها وتعلم بها الحكمة اليونانية حتى مات دقلطيانوس، فعاد إلى بزنطية فسلمها له أبوه قسطس ومات، فقام بأمرها بعد أبيه إلى أن استدعاه أهل رومية، فأخذ يدبر في مسيره، فرأى في منامه كواكب في السماء على هيئة الصليب، وصوت من السماء يقول له احمل هذه العلامة تنتصر على عدوّك، فقص رؤياه على أعوانه وعمل شكل الصليب على أعلامه وبنوده وسار لحرب مكسيمانوس برومية، فبرز إليه وحاربه فانتصر قسطنطين عليه وملك رومية وتحوّل منها فجعل دار ملكه قسطنطينية، فكان هذا ابتداء رفع الصليب وظهوره في الناس، فاتخذه النصارى من حينئذ وعظموه حتى عبدوه، وأكرم قسطنطين النصارى ودخل في دينهم بمدينة نيقومديا في السنة الثانية عشرة من ملكه على الروم، وأمر ببناء الكنائس في جميع ممالكه وكسر الأصنام، وهدم بيوتها، وعمل المجمع بمدينة نيقية، وسببه أن الإسكندروس بطرك الإسكندرية منع آريوس من دخول الكنيسة وحرمه لمقاتلته، ونقل عن بطرس الشهيد بطرك إسكندرية أنه قال عن آريوس أنّ إيمانه فاسد، وكتب بذلك إلى جميع البطاركة، فمضى آريوس إلى الملك قسطنطين ومعه أسقفان، فاستغاثوا به وشكوا الإسكندروس فأمر بإحضاره من الإسكندرية، فحضر هو وآريوس وجمع له الأعيان من النصارى ليناظروه، فقال آريوس كان الأب إذ لم يكن الابن، ثم أحدث الابن فصار كلمة له، فهو محدث مخلوق فوّض إليه الأب كلّ شيء، فخلق الابن المسمى بالكلمة كلّ شيء من السماوات والأرض وما فيهما، فكان هو الخالق بما أعطاه الأب، ثم إن تلك الكلمة تجسدت من مريم وروح القدس فصار ذلك مسيحا، فإذا المسيح معنيان كلمة وجسد، وهما جميعا مخلوقان. فقال الإسكندروس أيما أوجب، عبادة من خلقنا أو عبادة من لم يخلقنا؟
فقال آريوس بل عبادة من خلقنا أوجب. فقال الإسكندروس: فإن كان الابن خلقنا كما وصفت وهو مخلوق فعبادته أوجب من عبادة الأب الذي ليس بمخلوق، بل تكون عبادة(4/397)
الخالق كفرا وعبادة المخلوق إيمانا، وهذا أقبح القبيح، فاستحسن الملك قسطنطين كلام اسكندروس وأمره أن يحرم آريوس فحرمه. وسأل اسكندروس الملك أن يحضر الأساقفة، فأمر بهم فأتوه من جميع ممالكه، واجتمعوا بعد ستة أشهر بمدينة نيقية وعدّتهم ألفان وثلاثمائة وأربعون أسقفا مختلفون في المسيح، فمنهم من يقول الابن من الأب بمنزلة شعلة نار تعلقت من شعلة أخرى فلم تنقص الأولى بانفصال الثانية عنها، وهذه مقالة سيليوس الصعيديّ ومن تبعه، ومنهم من قال إن مريم لم تحمل بالمسيح تسعة أشهر بل مرّ بأحشائها كمرور الماء بالميزاب، وهذا قول إليان ومن تبعه، ومنهم من قال المسيح بشر مخلوق وأن ابتداء الابن من مريم، ثم إنه اصطفى فصحبته النعمة الإلهية بالمحبة والمشيئة، ولذلك سمي ابن الله تعالى عن ذلك، ومع ذلك فالله واحد قيوم وأنكر هؤلاء الكلمة والروح فلم يؤمنوا بهما، وهذا قول بولص السميساطيّ بطرك أنطاكية وأصحابه، ومنهم من قال الآلهة ثلاثة صالح وطالح وعدل بينهما، وهذا قول مرقيون وأتباعه، ومنهم من قال المسيح وأمه إلهان من دون الله، وهذا قول المرائمة من فرق النصارى، ومنهم من قال بل الله خلق الابن وهو الكلمة في الأزل كما خلق الملائكة روحا طاهرة مقدّسة بسيطة مجرّدة عن المادّة، ثم خلق المسيح في آخر الزمان من أحشاء مريم البتول الطاهرة، فاتحد الابن المخلوق في الأزل بإنسان المسيح فصارا واحدا، ومنهم من قال الابن مولود من الأب قبل كل الدهور، غير مخلوق، وهو جوهر من جوهره، ونور من نوره، وأن الابن اتحد بالإنسان المأخوذ من مريم فصارا واحدا وهو المسيح، وهذا قول الثلاثمائة وثمانية عشر، فتحير قسطنطين في اختلافهم وكثر تعجبه من ذلك وأمر بهم فأنزلوا في أماكن وأجرى لهم الأرزاق وأمرهم أن يتناظروا حتى يتبين له صوابهم من خطأهم، فثبت الثلاثمائة وثمانية عشر على قولهم المذكور واختلف باقيهم فمال قسطنطين إلى قول الأكثر وأعرض عما سواه وأقبل على الثلاثمائة وأمر لهم بكراسي وأجلسهم عليها، ودفع إليهم سيفه وخاتمه، وبسط أيديهم في جميع مملكته، فباركوا عليه ووضعوا له كتاب قوانين الملوك وقوانين الكنيسة، وفيه ما يتعلق بالمحاكمات والمعاملات والمناكحات، وكتبوا بذلك إلى سائر المماليك، وكان رئيس هذا المجمع الإسكندروس بطرك الإسكندرية، واسطارس بطرك أنطاكية، ومقاريوس أسقف القدس، ووجه سلطوس بطرك رومية بقسيسين اتفقا معهم على حرمان آريوس فحرموه ونفوه، ووضع الثلاثمائة وثمانية عشر الأمانة المشهورة عندهم، وأوجبوا أن يكون الصوم متصلا بعيد الفسح على ما رتبه البطاركة في أيام الملك أوراليانوس قيصر كما تقدّم، ومنعوا أن يكون للأسقف زوجة، وكان الأساقفة قبل ذلك إذا كان مع أحدهم زوجة لا يمنع منها إذا عمل أسقفا بخلاف البطرك، فإنه لا يكون له امرأة البتة، وانصرفوا من مجلس قسطنطين بكرامة جليلة، والإسكندروس هذا هو الذي كسر الصنم النحاس الذي كان في هيكل زحل بالإسكندرية، وكانوا يعبدونه ويجعلون له عيدا في ثاني عشر هتور، ويذبحون له الذبائح(4/398)
الكثيرة، فأراد الإسكندروس كسر هذا الصنم فمنعه أهل الإسكندرية، فاحتال عليهم وتلطف في حيلته إلى أن قرب العيد، فجمع الناس ووعظهم وقبح عندهم عبادة الصنم وحثهم على تركه، وأن يعمل هذا العيد لميكائيل رئيس الملائكة الذي يشفع فيهم عند الإله، فإن ذلك خير من عمل العيد للصنم، فلا يتغير عمل العيد الذي جرت عادة أهل البلد بعمله، ولا تبطل ذبائحهم فيه، فرضي الناس بهذا ووافقوه على كسر الصنم، فكسره وأحرقه وعمل بيته كنيسة على اسم ميكائيل، فلم تزل هذه الكنيسة بالإسكندرية إلى أن حرّقها جيوش الإمام المعز لدين الله أبي تميم معدّ، لما قدموا في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة واستمرّ عيد ميكائيل عند النصارى بديار مصر باقيا يعمل في كلّ سنة.
وفي السنة الثانية والعشرين من ملك قسطنطين سارت أمّه هيلاني إلى القدس وبنت به كنائس للنصارى، فدلها مقاريوس الأسقف على الصليب وعرّفها ما عملته اليهود، فعاقبت كهنة اليهود حتى دلوها على الموضع، فحفرته فإذا قبر وثلاث خشبات، زعموا أنهم لم يعرفوا الصليب المطلوب من الثلاث خشبات إلّا بأن وضعت كل واحدة منها على ميت قد بلي، فقام حيا عندما وضعت عليه خشبة منها، فعملوا لذلك عيدا مدّة ثلاثة أيام عرف عندهم بعيد الصليب، ومن حينئذ عبد النصارى الصليب، وعملت له هيلاني غلافا من ذهب وبنت كنيسة القيامة التي تعرف اليوم بكنيسة قمامة، وأقامت مقاريوس الأسقف على بناء بقية الكنائس، وعادت إلى بلادها، فكانت مدّة ما بين ولادة المسيح وظهور الصليب ثلاثمائة وثمان وعشرين سنة، ثم قام في بطركية الإسكندرية بعد اسكندروس تلميذه ايناسيوس الرسوليّ، فأقام ستا وأربعين سنة ومات بعد ما ابتلى بشدائد، وغاب عن كرسيه ثلاث مرّات، وفي أيامه جرت مناظرات طويلة مع أوسانيوس للأسقف آلت إلى ضربه وفراره، فإنه تعصب لآريوس وقال: إنه لم يقل إن المسيح خلق الأشياء، وإنما قال به خلق كل شيء لأنه كلمة الله التي بها خلق السماوات والأراض، وإنما خلق الله تعالى جميع الأشياء بكلمته، فالأشياء به كوّنت لا أنه كوّنها، وإنما الثلاثمائة وثمانية عشر تعدّوا عليه، وفي أيامه تنصر جماعة من اليهود وطعن بعضهم في التوراة التي بأيدي اليهود، وأنهم نقصوا منها، وأن الصحيحة هي التي فسرها السبعون، فأمر قسطنطين اليهود بإحضارها، وعاقبهم على ذلك حتى دلوه على موضعها بمصر، فكتب بإحضارها فحملت إليه، فإذا بينها وبين توراة اليهود نقص ألف وثلاثمائة وتسع وستين سنة، زعموا أنهم نقصوها من مواليد من ذكر فيها لأجل المسيح، وفي أيامه بعثت هيلاني بمال عظيم إلى مدينة الرها فبني به كنائسها العظيمة، وأمر قسطنطين بإخراج اليهود من القدس وألزمهم بالدخول في دين النصرانية، ومن امتنع منهم قتل، فتنصر كثير منهم وامتنع أكثرهم فقتلوا، ثم امتحن من تنصر منهم بأن جمعهم يوم الفسح في الكنيسة وأمرهم بأكل لحم الخنزير، فأبى أكثرهم أن يأكل منه، فقتل منهم في ذلك اليوم خلائق كثيرة جدّا.(4/399)
ولما قام قسطنطين بن قسطنطين في الملك بعد أبيه، غلبت مقالة آريوس على القسطنطينية وأنطاكية والإسكندرية، وصار أكثر أهل الإسكندرية وأرض مصر آريوسيين ومنانيين، واستولوا على ما بها من الكنائس، ومال الملك إلى رأيهم، وحمل الناس عليه، ثم رجع عنه وزعم ابريس أسقف القدس أنه ظهر من السماء على القبر الذي بكنيسة القيامة شبه صليب من نور في يوم عيد العنصرة، لعشرة أيام من شهر أيار في الساعة الثالثة من النهار، حتى غلب نوره على نور الشمس، ورآه جميع أهل القدس عيانا، فأقام فوق القبر عدّة ساعات والناس تشاهده، فآمن يومئذ من اليهود وغيرهم عدّة آلاف كثيرة. ثم لما ملك موليهانوس ابن عم قسطنطين اشتدّت نكايته للنصارى وقتل منهم خلقا كثيرا، ومنعهم من النظر في شيء من الكتب، وأخذ أواني الكنائس والديارات، ونصب مائدة كبيرة عليها أطعمة مما ذبحه لأصنامه، ونادى من أراد المال فليضع البخور على النار، وليأكل من ذبائح الحنفاء، ويأخذ ما يريد من المال، فامتنع كثير من الروم وقالوا نحن نصارى، فقتل منهم خلائق ومحا الصليب من أعلامه وبنوده، وفي أيامه سكن القدّيس أريانوس برّية الأردن وبني بها الديارات، وهو أوّل من سكن برّية الأردن من النصارى. فلما ملك يوسيانوس على الروم وكان متنصرا، عاد كل من كان فرّ من الأساقفة إلى كرسيه، وكتب إلى أبناسيوس بطرك الإسكندرية أن يشرح له الأمانة المستقيمة، فجمع الأساقفة وكتبوا له أن يلزم أمانة الثلاثمائة وثمانية عشر. فثار أهل الإسكندرية على إيناسيوس ليقتلوه، ففرّ. وأقاموا بدله لوقيوس، وكان آريوسيا، فاجتمع مع الأساقفة بعد خمسة أشهر وحرموه ونفوه، وأعادوا ايناسيوس إلى كرسيه، فأقام بطركا إلى أن مات، فخلفه بطرس ثم وثب الآريسيون عليه بعد سنتين ففرّ منهم وأعادوا لوقيوس، فأقام بطركا ثلاث سنين، ووثب عليه أعداؤه ففرّ منهم، فردّوا بطرس في العشرين من أمشير، فأقام سنة. وقدم في أيام واليس ملك الروم آريوس أسقف أنطاكية إلى الإسكندرية بإذن الملك، وأخرج منها جماعة من الروم، وحبس بطرس بطركها ونصب بدله آريوس السميساطيّ، ففرّ بطرس من الحبس إلى رومية واستجار ببطركها، وكان واليس آريوسيا، فسار إلى زيارة كنيسة مارتوما بمدينة الرها ونفى أسقفها وجماعة معه إلى جزيرة رودس، ونفى سائر الأساقفة لمخالفتهم لرأيه ما عدا اثنين، وأقام في بطركية الإسكندرية طيماتاوس، فأقام سبع سنين ومات. وفي أيامه كان المجمع الثاني من مجامع النصارى بقسطنطينية في سنة اثنتي عشرة ومائة لدقلطيانوس، فاجتمع مائة وخمسون أسقفا وحرموا مقدينون عدوّ روح القدس، وكلّ من قال بقوله. وسبب ذلك أنه قال أنّ روح القدس مخلوق، وحرموا معه غير واحد لعقائد شنيعة تظاهروا بها في المسيح، وزاد الأساقفة في الأمانة التي رتبها الثلاثمائة وثمانية عشر: ونؤمن بالروح القدس الرب المحيي المنبثق من الأب، قلت تعالى الله عما يقولون علوّا كبيرا، وحرّموا أن يزاد فيها بعد ذلك شيء أو ينقص منها شيء، وكان هذا المجمع بعد مجمع نيقية بثمان وخمسين سنة، وفي(4/400)
أيامه بنيت عدّة كنائس بالإسكندرية، واستتيب جماعة كثيرة من مقالة آريوس، وفي أيامه أطلق للأساقفة والرهبان أكل اللحم يوم الفسح ليخالفوا الطائفة المنانية، فإنهم كانوا يحرّمون أكل اللحم مطلقا، وردّ الملك أغراديانوس كلّ من نفاه واليس من الأساقفة، وأمر أن يلزم كلّ واحد دينه ما خلا المنانية، ثم أقيم بكرسي الإسكندرية تاوفيلا، فأقام سبعا وعشرين سنة ومات في ثامن عشر بابه، وفي أيامه ظهر الفتية أهل الكهف، وكان تاوداسيوس إذ ذاك ملكا على الروم، فبنى عليهم كنيسة وجعل لهم عيدا في كل سنة، واشتدّ الملك تاوداسيوس على الأريسيين وضيّق عليهم، وأمر فأخذت منهم كنائس النصارى بعد ما حكموها نحو أربعين سنة، وأسقط من جيشه من كان آريوسيا، وطرد من كان في ديوانه وخدمه منهم، وقتل من الحنفاء كثيرا، وهدم بيوت الأصنام بكلّ موضع، وفي أيامه بنيت كنيسة مريم بالقدس، وفي أيام الملك ارغاديوس بنى دير القصر المعروف الآن بدير البغل في جبل المقطم شرقيّ طرا خارج مدينة فسطاط مصر. ثم أقيم في بطركية الإسكندرية كرلص، فأقام اثنتين وثلاثين سنة ومات في ثالث أبيب، وهو أوّل من أقام القومة في كنائس الإسكندرية وأرض مصر. وفي أيامه كان المجمع الثالث من مجامع النصارى بسبب نسطورس بطرك قسطنطين، فإنه منع أن تكون مريم أمّ عيسى وقال: إنما ولدت مريم إنسانا اتحد بمشيئة الإله، يعني عيسى، فصار الاتحاد بالمشيئة خاصة لا بالذات، وأن إطلاق الإله على عيسى ليس هو بالحقيقة بل بالموهبة والكرامة، وقال: إن المسيح حلّ فيه الابن الأزليّ وإني أعبده لأنّ الإله حلّ فيه، وإنه جوهران وأقنومان ومشيئة واحدة، وقال في خطبته يوم الميلاد: أن مريم ولدت إنسانا، وأنا لا أعتقد في ابن شهرين وثلاثة الإلهية، ولا أسجد له سجودي للإله، وكان هذا هو اعتقاد تادروس وديوادارس الأسقفين، وكان من قولهما أن المولود من مريم هو المسيح، والمولود من الأب هو الابن الأزليّ، وأنه حلّ في المسيح فسمي ابن الله بالموهبة والكرامة، وأن الاتحاد بالمشيئة والإرادة، وأثبتوا لله تعالى عن قولهم ولدين، أحدهما بالجوهر والآخر بالنعمة، فلما بلغ كرلص بطرك الإسكندرية مقالة نسطورس كتب إليه يرجعه عنها فلم يرجع، فكتب إلى أكليمس بطرك رومية، وإلى يوحنا بطرك أنطاكية، وإلى يوناليوس أسقف القدس يعرّفهم بذلك، فكتبوا بأجمعهم إلى نسطورس ليرجع عن مقالته فلم يرجع، فتواعد البطاركة على الاجتماع بمدينة أفسس، فاجتمع بها مائتا أسقف، ولم يحضر يوحنا بطرك أنطاكية، وامتنع نسطورس من المجيء إليهم بعد ما كرّروا الإرسال في طلبه غير مرّة، فنظروا في مقالته وحرموه ونفوه، فحضر بعد ذلك يوحنا فعز عليه فصل الأمر قبل قدومه وانتصر لنسطورس وقال قد حرموه بغير حق، وتفرّقوا من أفسس على شرّ، ثم اصطلحوا وكتب المشرقيون صحيفة بأمانتهم وبحرمان نسطورس، وبعثوا بها إلى كرلص فقبلها وكتب إليهم بأن أمانته على ما كتبوا، فكان بين المجمع الثاني وبين هذا المجمع خمسون، وقيل خمس وخمسون سنة، وأما نسطورس فإنه نفي إلى صعيد مصر،(4/401)
فنزل مدينة اخميم وأقام بها سبع سنين ومات، فدفن بها، وظهرت مقالته فقبلها برصوما أسقف نصيبين، ودان بها نصارى أرض فارس والعراق والموصل والجزيرة إلى الفرات، وعرفوا إلى اليوم بالنسطورية.
ثم قدّم تاوداسيوس ملك الروم في الثانية من ملكه ديسقورس بطركا بالإسكندرية، فظهر في أيامه مذهب أوطاخي، أحد القنوميين بالقسطنطينية، وزعم أن جسد المسيح لطيف غير مساو لأجسادنا، وأن الابن لم يأخذ من مريم شيئا، فاجتمع عليه مائة وثلاثون أسقفا وحرموه، واجتمع بالإسكندرية كثير من اليهود في يوم الفسح وصلبوا صنما على مثال المسيح وعبثوا به، فثار بينهم وبين النصارى شرّ قتل فيه بين الفريقين خلق كثير، فبعث إليهم ملك الروم جيشا قتل أكثر يهود الإسكندرية، وكان المجمع الرابع من مجامع النصارى بمدينة خلقدونية، وسببه أن ديسقورس بطرك الإسكندرية قال أن المسيح جوهر من جوهرين، وقنوم من قنومين، وطبيعة من طبيعتين، ومشيئة من مشيئتين، وكان رأي مرقيانوس ملك الروم أنه جسد، وأهل مملكته أنه جوهران وطبيعتان ومشيئتان وقنوم واحد، فلما رأى الأساقفة أن هذا رأي الملك خافوه فوافقوه على رأيه ما خلا ديسقورس وستة أساقفة، فإنهم لم يوافقوا الملك، وكتب من عداهم من الأساقفة خطوطهم بما اتفقوا عليه، فبعث ديسقورس يطلب منهم الكتاب ليكتب فيه، فلما وصل إليه كتابهم كتب فيه أمانته هو، وحرمهم وكل من يخرج عنها، فغضب الملك مرقيانوس وهمّ بقتله، فأشير عليه بإحضاره ومناظرته، فأمر به فحضر وحضر ستمائة وأربعة وثلاثون أسقفا، فأشار الأساقفة والبطاركة على ديسقورس بموافقة رأي الملك، واستمراره على رياسته، فدعا للملك، وقال لهم:
الملك لا يلزمه البحث في هذه الأمور الدقيقة، بل ينبغي له أن يشتغل بأمور مملكته وتدبيرها، ويدع الكهنة يبحثون عن الأمانة المستقيمة، فإنهم يعرفون الكتب، ولا يكون له هوى مع أحد، ويتبع الحق، فقالت بلخارية زوجة الملك مرقيانوس وكانت جالسة بإزائه، ياديسقورس قد كان في زمان أمي إنسان قويّ الرأس مثلك، وحرموه ونفوه عن كرسيه، تعني يوحنا فم الذهب بطرك قسطنطينية، فقال لها قد عملت ما جرى لأمّك وكيف ابتليت بالمرض الذي تعرفينه إلى أن مضت إلى جسد يوحنا فم الذهب واستغفرت فعوفيت، فحنقت من قوله ولكمته فانقلع له ضرسان، وتناولته أيدي الرجال فنتفوا أكثر لحيته، وأمر الملك بحرمانه ونفيه عن كرسيه، فاجتمعوا عليه وحرموه ونفوه، وأقيم عوضه برطاوس، ومن هذا المجمع افترق النصارى وصاروا ملكية على مذهب مرقيانوس الملك، ويعقوبية على رأي ديسقورس، وذلك في سنة ثلاث وتسعين ومائة لدقلطيانوس، وكتب مرقيانوس إلى جميع مملكته أن كل من لا يقول بقوله يقتل، فكان بين المجمع الثالث وبين هذا المجمع إحدى وعشرون سنة، وأما ديسقورس فإنه أخذ ضرسيه وشعر لحيته وأرسلها إلى الإسكندرية وقال: هذه ثمرة تعبي على الأمانة، فتبعه أهل إسكندرية ومصر، وتوجه في(4/402)
نفيه فعبر على القدس وفلسطين وعرّفهم مقالته فتبعوه، وقالوا بقوله، وقدّم عدّة أساقفة يعقوبية، ومات وهو منفيّ في رابع توت، فكانت مدّة بطركيته أربع عشرة سنة، وبقي كرسيّ المملكة بغير بطرك مدّة مملكة مرقيانوس، وقيل بل قدّم برطاوس، وقد اختلف في تسمية اليعقوبية بهذا، فقيل إن ديسقورس كان يسمي قبل بطركية يعقوب، وأنه كان يكتب وهو منفيّ إلى أصحابه بأن يثبتوا على أمانة المسكين المنفيّ يعقوب، وقيل بل كان له تلميذ اسمه يعقوب، وكان يرسله وهو منفيّ إلى أصحابه فنسبوا إليه، وقيل بل كان يعقوب تلميذ ساويرس بطرك أنطاكية، وكان على رأي ديسقورس، فكان ساويرس يبعث يعقوب إلى النصارى ويثبتهم على أمانة ديسقورس فنسبوا إليه، وقيل بل كان يعقوب كثير العبادة والزهد يلبس خرق البراذع، فسمي يعقوب البراذعيّ من أجل ذلك، وأنه كان يطوف البلاد ويردّ الناس إلى مقالة ديسقورس، فنسب من اتبع رأيه إليه وسموا يعقوبية. ويقال ليعقوب أيضا يعقوب السروجيّ.
وفي أيام مرقيانوس كان سمعان الحبيس صاحب العمود، وهو أوّل راهب سكن صومعة، وكان مقامه بمغارة في جبل أنطاكية، ولما مات مرقيانوس وثب أهل الإسكندرية على برطاوس البطرك وقتلوه في الكنيسة وحملوا جسده إلى الملعب الذي بناه بطليموس وأحرقوه بالنار من أجل أنه ملكيّ الاعتقاد فكانت مدّة بطركيته ست سنين، وأقاموا عوضه طيماتاوس، وكان يعقوبيا، فأقام ثلاث سنين، وقدم قائد من قسطنطينية فنفاه، وأقام عوضه ساويرس، وكان ملكيا، فأقام اثنتين وعشرين سنة ومات في سابع مسري. فلما ملك زنبون بن لاون الروم، أكرم اليعقوبية وأعزهم لأنه كان يعقوبيا، وكان يحمل إلى دير يوقنا كلّ سنة ما يحتاج إليه من القمح والزيت، وهرب ساويرس من كرسيّ الإسكندرية إلى وادي هيب، ورجع طيماتاوس من نفيه، فأقام بطركا سنتين ومات. فأقيم بعده بطرس فأقام ثماني سنين وسبعة أشهر وستة أيام ومات في رابع هتور، فأقيم بعده اثناسيوس، فأقام سبع سنين ومات في العشرين من توت، وفي أيامه احترق الملعب الذي بناه بطلميوس. وأقيم يوحنا في بطركية الإسكندرية، وكان يعقوبيا، فأقام تسع سنين ومات في رابع بشنس، فخلا الكرسيّ بعده سنة، ثم أقيم يوحنا الحبيس، فأقام إحدى وعشرين سنة ومات في سابع عشري بشنس. فأقيم بعده ديسقورس الجديد، فأقام سنتين وخمسة أشهر ومات في سابع عشر بابه، وكتب إيليا بطرك القدس إلى نسطاس ملك الروم بأن يرجع عن مقالة اليعقوبية إلى مقالة الملكية، وبعث إليه جماعة من الرهبان بهدية سنية، فقبل هديته وأجاز الرهبان بجوائز جليلة وجهز له مالا جزيلا لعمارة الكنائس والديارات والصدقات، فتوجه ساويرس إلى نسطاس وعرّفه أن الحق هو اعتقاد اليعقوبية، فأمر أن يكتب إلى جميع مملكته بقبول قول ديسقورس وترك المجمع الخلقدونيّ، فبعث إليه بطرك أنطاكية بأن هذا الذي فعلته غير واجب، وأن المجمع الخلقدونيّ هو الحق، فغضب الملك ونفاه وأقام بدله، فأمر إيليا(4/403)
بطرك القدس بجمع الرهبان ورؤساء الديارات، فاجتمع له منهم عشرة آلاف نفس وحرموا نسطاس الملك، ومن يقول بقوله، فأمر نسطاس بنفي إيليا إلى مدينة إيلة، فاجتمع بطاركة الملكية وأساقفتهم وحرموا الملك نسطاس ومن يقول بقوله، وفي أيام نسطايوس الملك ألزم الحنفاء أهل حرّان وهم الصابئة بالتنصر، فتنصر كثير منهم، وقتل أكثرهم على امتناعهم من دين النصرانية، وردّ جميع من نفاه نسطاس من الملكية، فإنه كان ملكيا، وأقيم طيماتاوس في بطركية الإسكندرية، وكان يعقوبيا، فأقام ثلاث سنين ونفي، وأقيم بدله أبو ليناريوس وكان ملكيا، فجدّ في رجوع النصارى بأجمعهم إلى رأي الملكية، وبذل جهده في ذلك وألزم نصارى مصر بقبول الأمانة المحدثة. فوافقوه ووافقه رهبان ديارات بومقار بوادي هبيب، هذا ويعقوب البراذعيّ يدور في كلّ موضع ويثبت أصحابه على الأمانة التي زعم أنها مستقيمة، وأمر الملك جميع الأساقفة بعمل الميلاد في خامس عشري كانون الأوّل، وبعمل الغطاس لست تخلو من كانون الثاني، وكان كثير منهم يعمل الميلاد والغطاس في يوم واحد، وهو سادس كانون الثاني، وعلى هذا الرأي الأرمن إلى يومنا هذا، وفي هذه الأيام ظهر يوحنا النحويّ بالإسكندرية وزعم أن الأب والابن وروح القدس ثلاثة آلهة وثلاث طبائع وجوهر واحد، وظهر يوليان وزعم أن جسد المسيح نزل من السماء وأنه لطيف روحانيّ لا يقبل الآلام إلّا عند مقارفة الخطيئة، والمسيح لم يقارف خطيئته، فلذلك لم يصلب حقيقة ولم يتألم ولم يمت، وإنما ذلك كله خيال، فأمر الملك البطرك طيماتاوس أن يرجع إلى مذهب الملكية فلم يفعل، فأمر بقتله. ثم شفع فيه ونفي وأقيم بدله بولص، وكان ملكيا، فأقام سنتين فلم يرضه اليعاقبة، وقيل أنهم قتلوه وصيروا عوضه بطركا ديلوس، وكان ملكيا فأقام خمس سنين في شدّة من التعب وأرادوا قتله فهرب، وأقام في هربه خمس سنين ومات، فبلغ ملك الروم يوسطيانوس أن اليعقوبية قد غلبوا على الإسكندرية ومصر، وأنهم لا يقبلون بطاركته، فبعث أثوليناريوس أحد قوّاده وضم إليه عسكرا كبيرا إلى الإسكندرية، فلما قدمها ودخل الكنيسة نزع عنه ثياب الجند ولبس ثياب البطاركة وقدّس، فهمّ ذلك الجمع برجمه فانصرف. وجمع عسكره وأظهر أنه قد أتاه كتاب الملك ليقرأه على الناس، وضرب الجرس في الإسكندرية يوم الأحد، فاجتمع الناس إلى الكنيسة حتى لم يبق أحد، فطلع المنبر وقال: يا أهل الإسكندرية، إن تركتم مقالة اليعقوبية وإلّا أخاف أن يرسل الملك فيقتلكم ويستبيح أموالكم وحريمكم، فهموا برجمه، فأشار إلى الجند فوضعوا السيف فيهم، فقتل من الناس ما لا يحصى عدده، حتى خاض الجند في الدماء، وقيل إنّ الذي قتل يومئذ مائتا ألف إنسان، وفرّ منهم خلق إلى الديارات بوادي هبيب، وأخذ الملكية كنائس اليعاقبة، ومن يومئذ صار كرسيّ اليعقوبية في دير بومقار بوادي هبيب.
وفي أيامه ثارت السامرة على أرض فلسطين وهدموا كنائس النصارى، وأحرقوا ما فيها، وقتلوا جماعة من النصارى، فبعث الملك جيشا قتلوا من السامرة خلقا كثيرا، ووضع(4/404)
من خراج فلسطين جملة، وجدّد بناء الكنائس وأنشأ مارستانا ببيت المقدس للمرضى، ووسع في بناء كنيسة بيت لحم، وبنى ديرا بطور سيناء، وعمل عليه حصنا حوله عدّة قلالي «1» ورتب فيها حرسا لحفظ الرهبان. وفي أيامه كان المجمع الخامس من مجامع النصارى، وسببه أن أريحانس أسقف مدينة منبج «2» قال بتناسخ الأرواح، وقال كلّ من أسقف أنقرة وأسقف المصيصة وأسقف الرها أن جسد المسيح خيال لا حقيقيّ، فحملوا إلى القسطنطينية وجمع بينهم وبين بطركها أوطس وناظرهم وأوقع عليهم الحرمان، فأمر الملك أن يجمع لهم مجمع، وأمر بإحضار البطاركة والأساقفة، فاجتمع مائة وأربعون أسقفا وحرموا هؤلاء الأساقفة ومن يقول بقولهم، فكان بين المجمع الرابع الخلقدونيّ وبين هذا المجمع مائة وثلاث وستون سنة. ولما مات القائد الذي عمل بطرك الإسكندرية بعد سبع عشرة سنة، أقيم بعده يوحنا، وكان منانيا، فأقام ثلاث سنين ومات، وقدّم اليعاقبة بطركا اسمه تاوداسيوس، أقام مدّة اثنتين وثلاثين سنة، وقدّم الملكية بطركا اسمه داقيوس، فكتب الملك إلى متولي الإسكندرية أن يعرض على بطرك اليعاقبة أمانة المجمع الخلقدونيّ، فإن لم يقبلها أخرجه، فعرض عليه ذلك فلم يقبله، فأخرجه وأقام بعده بولص التنيسيّ فلم يقبله أهل الإسكندرية، ومات فغلقت كنائس القبط اليعاقبة، وأصابهم من الملكية شدائد كثيرة، واستجدّ اليعاقبة بالإسكندرية كنيستين في سنة ثمان وأربعين ومائتين لدقلطيانوس، ومات تاوداسيوس ثامن عشري بؤنة بعد اثنتين وثلاثين سنة من بطركيته، منها مدة أربع سنين مدة نفيه في صعيد مصر وأقيم بعده بطرس وكان يعقوبيا في خفية بدير الزجاج بالإسكندرية قدّمه ثلاثة أساقفة، فأقام سنتين ومات في خامس عشري بؤنة ... «3» من اليعاقبة سنة واحدة.
وفي سنة إحدى وثمانين وثمانمائة، أقيم داميانو بطركا بالإسكندرية، وكان يعقوبيا، فأقام ستا وثلاثين سنة ومات، في ثامن عشري بؤنة، وفي أيامه خربت الديارات، وأقام الملكية لهم بالإسكندرية بطركا منانيا اسمه أتناس، فأقام خمس سنين ومات، فأقيم بعده يوحنا وكان منانيا، ولقب القائم بالحق، فأقام خمسة أشهر ومات، فأقيم بعده يوحنا القائم بالأمر، وكان ملكيا فأقام إحدى عشرة سنة ومات، وفي أيام الملك طيباريوس ملك الروم بنى النصارى بالمدائن، مدائن كسرى، هيكلا، وبنوا أيضا بمدينة واسط هيكلا آخر. وفي أيام الملك موريق قيصر، زعم راهب اسمه مارون، أن المسيح عليه السلام طبيعتان ومشيئة واحدة واقنوم واحد، فتبعه على رأيه أهل حماه وقنسرين والعواصم وجماعة من الروم ودانوا بقوله، فعرفوا بين النصارى بالمارونية، فلما مات مارون بنوا على اسمه دير مارون بحماه.
وفي أيام فوقا ملك الروم بعث كسرى ملك فارس جيوشه إلى بلاد الشام ومصر، فخرّبوا(4/405)
كنائس القدس وفلسطين وعامّة بلاد الشام، وقتلوا النصارى بأجمعهم، وأتوا إلى مصر في طلبهم، فقتلوا منهم أمّة كبيرة وسبوا منهم سبيا لا يدخل تحت حصر، وساعدهم اليهود في محاربة النصارى وتخريب كنائسهم، وأقبلوا نحو الفرس من طبرية وجبل الجليل وقرية الناصرة ومدينة صور وبلاد القدس، فنالوا من النصارى كلّ منال، وأعظموا النكاية فيهم، وخرّبوا لهم كنيستين بالقدس، وحرّقوا أماكنهم، وأخذوا قطعة من عود الصليب، وأسروا بطرك القدس وكثيرا من أصحابه، ثم مضى كسرى بنفسه من العراق لغزو قسطنطينية تخت ملك الروم، فحاصرها أربع عشرة سنة، وفي أيام فوقا أقيم يوحنا الرحوم بطرك الإسكندرية على الملكية، فدبر أرض مصر كلها عشر سنين ومات بقبرص، وهو فارّ من الفرس، فخلا كرسيّ اسكندرية من البطركية سبع سنين لخلوّ أرض مصر والشام من الروم، واختفى من بقي بها من النصارى خوفا من الفرس، وقدّم اليعاقبة نسطاسيوس بطركا، فأقام اثنتي عشرة سنة ومات في ثاني عشري كيهك، سنة ثلاثين وثلاثمائة لدقلطيانوس، فاستردّ ما كانت الملكية قد استولت عليه من كنائس اليعاقبة، ورمّ ما شعثه الفرس منها، وكانت إقامته بمدينة الإسكندرية، فأرسل إليه انباسيوس بطرك أنطاكية هدية صحبة عدّة كثيرة من الأساقفة، ثم قدم عليه زائرا فتلقاه وسرّ بقدومه، وصارت أرض مصر في أيامه جميعها يعاقبة لخلوّها من الروم، فثارت اليهود في أثناء ذلك بمدينة صور وراسلوا بقيتهم في بلادهم، وتواعدوا على الإيقاع بالنصارى وقتلهم، فكانت بينهم حرب اجتمع فيها من اليهود نحو عشرين ألفا، وهدموا كنائس النصارى خارج صور، فقوي النصارى عليهم وكاثروهم، فانهزم اليهود هزيمة قبيحة وقتل منهم خلق كثير، وكانه هرقل قد ملك الروم بقسطنطينية وغلب الفرس بحيلة دبرها على كسرى حتى رحل عنهم، ثم سار من قسطنطينية ليمهد ممالك الشام ومصر ويجدّد ما خرّبه الفرس منها، فخرج إليه اليهود من طبرية وغيرها وقدّموا له الهدايا الجليلة وطلبوا منه أن يؤمّنهم ويحلف لهم على ذلك، فأمّنهم وحلف لهم، ثم دخل القدس وقد تلقاه النصارى بالأناجيل والصلبان والبخور والشموع المشعلة، فوجد المدينة وكنائسها وقمامتها خرابا، فساءه ذلك وتوجع له، وأعلمه النصارى بما كان من ثورة اليهود مع الفرس وإيقاعهم بالنصارى وتخريبهم الكنائس، وأنهم كانوا أشدّ نكاية لهم من الفرس، وقاموا قياما كبيرا في قتلهم عن آخرهم، وحثوا هرقل على الوقيعة بهم، وحسنوا له ذلك، فاحتج عليهم بما كان من تأمينه لهم وحلفه، فأفتاه رهبانهم وبطاركتهم وقسيسوهم بأنه لا حرج عليه في قتلهم، فإنهم عملوا عليه حيلة حتى أمّنهم من غير أن يعلم بما كان منهم، وأنهم يقومون عنه بكفارة يمينه بأن يلتزموا ويلزموا النصارى بصوم جمعة في كلّ سنة عنه على ممرّ الزمان والدهور، فمال إلى قولهم وأوقع باليهود وقيعة شنعاء أبادهم جميعهم فيها، حتى لم يبق في ممالك الروم بمصر والشام منهم إلّا من فرّ واختفى، فكتب البطارقة والأساقفة إلى جميع البلاد بإلزام النصارى بصوم أسبوع في السنة، فالتزموا صومه إلى اليوم، وعرفت عندهم(4/406)
بجمعة هرقل، وتقدّم هرقل بعمارة الكنائس والديارات وأنفق فيها مالا كبيرا. وفي أيامه أقيم ادراسلون بطرك اليعاقبة بالإسكندرية، فأقام ست سنين ومات في ثامن طوبه، فخربت الديارات في مدّة بطركيته، وأقيم بعده على اليعاقبة بنيامين، فعمر الدير الذي يقال له دير أبو بشاي، ودير سيدة أبو بشاي، وهما في وادي هبيب، فأقام تسعا وثلاثين سنة، ملك الفرس منها مصر عشر سنين، ثم قدم هرقل فقتل الفرس بمصر وأقام فيرش بطرك الإسكندرية، وكان منانيا، وطلب بنيامين ليقتله فلم يقدر عليه لفراره منه، وكان هرقل مارونيا فظفر بمينا أخي بنيامين فأحرقه بالنار عداوة لليعاقبة، وعاد إلى القسطنطينية فأظهر الله دين الإسلام في أيامه، وخرج ملك مصر والشام من يد النصارى، وصار النصارى ذمّة للمسلمين، فكانت مدّة النصارى منذ رفع المسيح إلى أن فتحت مصر وصار النصارى من القبط ذمّة للمسلمين ... «1» منها مدّة كونهم تحت أيدي الروم يقتلونهم أبرح قتل بالصلب والتحريق بالنار والرجم بالحجارة وتقطيع الأعضاء ... «2» ومنها مدّة استيلائهم بتنصر الملوك.
ذكر دخول النصارى من قبط مصر في طاعة المسلمين وأدائهم الجزية، واتخاذهم ذمّة لهم، وما كان في ذلك من الحوادث والأنباء
اعلم أن أرض مصر لما دخلها المسلمون كانت بأجمعها مشحونة بالنصارى، وهم على قسمين متباينين في أجناسهم وعقائدهم، أحدهما أهل الدولة وكلهم روم من جند صاحب القسطنطينية ملك الروم، ورأيهم وديانتهم بأجمعهم ديانة الملكية، وكانت عدّتهم تزيد على ثلاثمائة ألف روميّ. والقسم الآخر عامّة أهل مصر، ويقال لهم القبط، وأنسابهم مختلطة لا يكاد يتميز منهم القبطيّ من الحبشيّ من النوبيّ من الإسرائيليّ الأصل من غيره، وكلهم يعاقبة، فمنهم كتاب المملكة ومنهم التجار والباعة، ومنهم الأساقفة والقسوس ونحوهم، ومنهم أهل الفلاحة والزرع، ومنهم أهل الخدمة والمهنة، وبينهم وبين الملكية أهل الدولة من العداوة ما يمنع مناكحتهم، ويوجب قتل بعضهم بعضا، ويبلغ عددهم عشرات آلاف كثيرة جدّا، فإنهم في الحقيقة أهل أرض مصر أعلاها وأسفلها، فلما قدم عمرو بن العاص بجيوش المسلمين معه إلى مصر، قاتلهم الروم حماية لملكهم ودفعا لهم عن بلادهم، فقاتلهم المسلمون وغلبوهم على الحصن كما تقدّم ذكره، فطلب القبط من عمرو المصالحة على الجزية فصالحهم عليها وأقرّهم على ما بأيديهم من الأراضي وغيرها، وصاروا معه عونا للمسلمين على الروم، حتى هزمهم الله تعالى وأخرجهم من أرض مصر، وكتب عمرو لبنيامين بطرك اليعاقبة أمانا في سنة عشرين من الهجرة، فسرّه ذلك وقدم على(4/407)
عمرو وجلس على كرسيّ بطركيته بعد ما غاب عنه ثلاث عشرة سنة، منها في ملك فارس لمصر عشر سنين، وباقيها بعد قدوم هرقل إلى مصر، فغلبت اليعاقبة على كنائس مصر ودياراتها كلها، وانفردوا بها دون الملكية، ويذكر علماء الأخبار من النصارى أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لما فتح مدينة القدس كتب للنصارى أمانا على أنفسهم وأولادهم ونسائهم وأموالهم وجميع كنائسهم لا تهدم ولا تسكن، وأنه جلس في وسط صحن كنيسة القمامة، فلما حان وقت الصلاة خرج وصلّى خارج الكنيسة على الدرجة التي على بابها بمفرده، ثم جلس وقال للبطرك: لو صليت داخل الكنيسة لأخذها المسلمون من بعدي، وقالوا ههنا صلّى عمر، وكتب كتابا يتضمن أنه لا يصلي أحد من المسلمين على الدرجة إلّا واحد واحد، ولا يجتمع المسلمون بها للصلاة فيها، ولا يؤذنون عليها، وأنه أشار عليه البطرك باتخاذ موضع الصخرة مسجدا، وكان فوقها تراب كثير، فتناول عمر رضي الله عنه من التراب في ثوبه، فبادر المسلمون لرفعه حتى لم يبق منه شيء، وعمر المسجد الأقصى أمام الصخرة، فلما كانت أيام عبد الملك بن مروان أدخل الصخرة في حرم الأقصى، وذلك سنة خمس وستين من الهجرة، ثم إن عمر رضي الله عنه أتى بيت لحم وصلّى في كنيسته عند الخشبة التي ولد فيها المسيح، وكتب سجلا بأيدي النصارى أن لا يصلي في هذا الموضع أحد من المسلمين إلّا رجل بعد رجل، ولا يجتمعوا فيه للصلاة، ولا يؤذنوا عليه، ولما مات البطرك بنيامين في سنة تسع وثلاثين من الهجرة بالإسكندرية في إمارة عمرو الثانية، قدّم اليعاقبة بعده أغانو فأقام سبع عشرة سنة ومات سنة ست وخمسين، وهو الذي بنى كنيسة مرقص بالإسكندرية، فلم تزل إلى أن هدمت في سلطنة الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وكان في أيامه الغلاء مدّة ثلاث سنين، وكان يهتم بالضعفاء، فأقيم بعده إيساك وكان يعقوبيا، فأقام سنتين وأحد عشر شهرا ومات، فقدّم اليعاقبة بعده سيمون السريانيّ، فأقام سبع سنين ونصفا ومات، وفي أيامه قدم رسول أهل الهند في طلب أسقف يقيمه لهم، فامتنع من ذلك حتى يأذن له السلطان، وأقام غيره وخلا بعد موته كرسي الإسكندرية ثلاث سنين بغير بطرك، ثم قدّم اليعاقبة في سنة إحدى وثمانين الإسكندروس، فقام أربعا وعشرين سنة ونصفا، وقيل خمسا وعشرين سنة ومات سنة ست ومائة، ومرّت به شدائد صودر فيها مرّتين، أخذ منه فيهما ستة آلاف دينار، وفي أيامه أمّر عبد العزيز بن مروان، فأمر بإحصاء الرهبان فأحصوا وأخذت منهم الجزية عن كلّ راهب دينار، وهي أوّل جزية أخذت من الرهبان.
ولما ولي مصر عبد الله بن عبد الملك بن مروان اشتدّ على النصارى، واقتدى به قرّة بن شريك أيضا في ولايته على مصر، وأنزل بالنصارى شدائد لم يبتلوا قبلها بمثلها، وكان عبد الله بن الحبحاب متولي الخراج قد زاد على القبط قيراطا في كلّ دينار، فانتقض عليه عامّة الحوف الشرقيّ من القبط، فحاربهم المسلمون وقتلوا منهم عدّة وافرة في سنة(4/408)
سبع ومائة، واشتدّ أيضا أسامة بن زيد التنوخيّ متولي الخراج على النصارى، وأوقع بهم وأخذ أموالهم، ووسم أيدي الرهبان بحلقة حديد فيها اسم الراهب واسم ديره وتاريخه، فكل من وجده بغير وسم قطع يده، وكتب إلى الأعمال بأن من وجد من النصارى وليس معه منشور أن يؤخذ منه عشرة دنانير، ثم كبس الديارات وقبض على عدّة من الرهبان بغير وسم، فضرب أعناق بعضهم وضرب باقيهم حتى ماتوا تحت الضرب، ثم هدمت الكنائس وكسرت الصلبان ومحيت التماثيل وكسرت الأصنام بأجمعها، وكانت كثيرة في سنة أربع ومائة، والخليفة يومئذ يزيد بن عبد الملك، فلما قام هشام بن عبد الملك في الخلافة، كتب إلى مصر بأن يجري النصارى على عوايدهم وما بأيديهم من العهد، فقدم حنظلة بن صفوان أميرا على مصر في ولايته الثانية، فتشدّد على النصارى وزاد في الخراج، وأحصى الناس والبهائم، وجعل على كلّ نصرانيّ وسما صورة أسد، وتتبعهم، فمن وجده بغير وسم قطع يده، ثم أقام اليعاقبة بعد موت الإسكندروس بطركا اسمه قسيما، فأقام خمسة عشر شهرا ومات، فقدّموا بعده تادرس في سنة تسع ومائة بعد إحدى عشرة سنة. وفي أيامه أحدثت كنيسة يوقنا بخط الحمراء ظاهر مدينة مصر، في سنة سبع عشرة ومائة، فقام جماعة من المسلمين على الوليد بن رفاعة أمير مصر بسببها.
وفي سنة عشرين ومائة قدّم اليعاقبة ميخائيل بطركا، فأقام ثلاثا وعشرين سنة ومات.
وفي أيامه انتقض القبط بالصعيد وحاربوا العمال في سنة إحدى وعشرين، فحوربوا وقتل كثير منهم، ثم خرج بجنس بسمنود وحارب وقتل في الحرب، وقتل معه قبط كثير في سنة اثنتين وثلاثين ومات، ثم خالفت القبط برشيد، فبعث إليهم مروان بن محمد لما قدم مصر وهزمهم وقبض عبد الملك بن موسى بن نصير أمير مصر على البطرك ميخائيل، فاعتقله وألزمه بمال، فسار بأساقفته في أعمال مصر يسأل أهلها، فوجدهم في شدائد، فعاد إلى الفسطاط ودفع إلى عبد الملك ما حصل له، فأفرج عنه، فنزل به بلاء كبير من مروان، وبطش به وبالنصارى، وأحرق مصر وغلاتها وأسر عدّة من النساء المترهبات ببعض الديارات، وراود واحدة منهنّ عن نفسها، فاحتالت عليه ودفعته عنها بأن رغبته في دهن معها إذا ادّهن به الإنسان لا يعمل فيه السلاح، وأوثقته بأن مكنته من التجربة في نفسها، فتمت حيلتها عليه، وأخرجت زيتا ادّهنت به، ثم مدّت عنقها فضربها بسيفه أطار رأسها، فعلم أنها اختارت الموت على الزنا، وما زال البطرك والنصارى في الحديد مع مروان إلى أن قتل ببوصير، فأفرج عنهم. وأما الملكية فإن ملك الروم لاون أقام قسيما بطرك الملكية بالإسكندرية في سنة سبع ومائة، فمضى ومعه هدية إلى هشام بن عبد الملك، فكتب له بردّ كنائس الملكية إليهم، فأخذ من اليعاقبة كنيسة البشارة، وكان الملكية أقاموا سبعا وسبعين سنة بغير بطرك في مصر، من عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى خلافة هشام بن عبد الملك، فغلب اليعاقبة في هذه المدّة على جميع كنائس مصر وأقاموا بها منهم أساقفة،(4/409)
وبعث إليهم أهل بلاد النوبة في طلب أساقفة، فبعثوا إليهم من أساقفة اليعاقبة، فصارت النوبة من ذلك العهد يعاقبة.
ثم لما مات ميخائيل قدّم اليعاقبة في سنة ست وأربعين ومائة انبامسنا، فأقام سبع سنين ومات. وفي أيامه خرج القبط بناحية سخا وأخرجوا العمال في سنة خمسين ومائة وصاروا في جمع، فبعث إليهم يزيد بن حاتم بن قبيصة أمير مصر عسكرا، فأتاهم القبط ليلا وقتلوا عدّة من المسلمين وهزموا باقيهم، فاشتدّ البلاء على النصارى واحتاجوا إلى أكل الجيف، وهدمت الكنائس المحدثة بمصر، فهدمت كنيسة مريم المجاورة لأبي شنودة بمصر، وهدمت كنائس محارس قسطنطين، فبذل النصارى لسليمان بن عليّ أمير مصر في تركها خمسين ألف دينار، فأبى، فلما ولي بعده موسى بن عيسى أذن لهم في بنائها فبنيت كلها بمشورة الليث بن سعد، وعبد الله بن لهيعة قاضي مصر، واحتجا بأنّ بناءها من عمارة البلاد، وبأن الكنائس التي بمصر لم تبن إلّا في الإسلام في زمن الصحابة والتابعين، فلما مات انبامسنا قدّم اليعاقبة بعده يوحنا، فأقام ثلاثا وعشرين سنة ومات. وفي أيامه خرج القبط ببلهيت سنة ست وخمسين فبعث إليهم موسى بن عليّ أمير مصر وهزمهم، وقدّم بعده اليعاقبة مرقص الجديد، فأقام عشرين سنة وسبعين يوما ومات. وفي أيامه كانت الفتنة بين الأمين والمأمون، فانتهبت النصارى بالإسكندرية وأحرقت لهم مواضع عديدة، وأحرقت ديارات وادي هبيب ونهبت، فلم يبق بها من رهبانها إلّا نفر قليل. وفي أيامه مضى بطرك الملكية إلى بغداد وعالج بعض خطايا أهل الخليفة، فإنه كان حاذقا بالطب، فلما عوفيت كتب له بردّ كنائس الملكية التي تغلب عليها اليعاقبة بمصر، فاستردّها منهم، وأقام في بطركية الملكية أربعين سنة ومات، ثم قدّم اليعاقبة بعد مرقص يعقوب في سنة إحدى عشرة ومائتين، فأقام عشر سنين وثمانية أشهر ومات. وفي أيامه عمرت الديارات وعاد الرهبان إليها، وعمرت كنيسة بالقدس لمن يرد من نصارى مصر، وقدم عليه ديونوسيس بطرك أنطاكية، فأكرمه حتى عاد إلى كرسيه، وفي أيامه انتقض القبط في سنة ست عشرة ومائتين، فأوقع بهم الأفشين حتى نزلوا على حكم أمير المؤمنين عبد الله المأمون، فحكم فيهم بقتل الرجال وبيع النساء والذرية فبيعوا، وسبى أكثرهم، ومن حينئذ ذلت القبط في جميع أرض مصر، ولم يقدر أحد منهم بعد ذلك على الخروج على السلطان، وغلبهم المسلمون على عامّة القرى، فرجعوا من المحاربة إلى المكايدة واستعمال المكر والحيلة ومكايدة المسلمين، وعملوا كتاب الخراج، فكانت لهم وللمسلمين أخبار كثيرة يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى.
ثم قدّم اليعاقبة سيماون بطركا في سنة اثنتين وعشرين ومائتين، فأقام سنة ومات، وقيل بل أقام سبعة أشهر وستة عشر يوما، فخلا كرسيّ البطاركة بعده سنة وسبعة وعشرين يوما، وقدّم اليعاقبة يوساب في دير بومقار بوادي هبيب في سنة سبع وعشرين ومائتين،(4/410)
فأقام ثماني عشرة سنة ومات. وفي أيامه قدم مصر يعقوب مطران الحبشة وقد نفته زوجة ملكهم. وأقامت عوضه أسقفا، فبعث ملك الحبشة يطلب إعادته من البطرك، فبعث به إليه وبعث أيضا عدّة أساقفة إلى إفريقية. وفي أيامه مات بطرك أنطاكية الوارد إلى مصر في السنة الخامسة عشرة من بطركيته. وفي أيامه أمر المتوكل على الله في سنة خمس وثلاثين ومائتين أهل الذمّة بلبس الطيالسة العسلية وشدّ الزنانير وركوب السروج بالركب الخشب، وعمل كرتين في مؤخر السرج، وعمل رقعتين على لباس رجالهم تخالفان لون الثوب، قدر كلّ واحدة منهما أربع أصابع، ولون كلّ واحدة منهما غير لون الأخرى، ومن خرج من نسائهم تلبس إزارا عسليا، ومنعهم من لباس المناطق، وأمر بهدم بيعهم المحدثة، وبأخذ العشر من منازلهم، وأن يجعل على أبواب دورهم صور شياطين من خشب، ونهى أن يستعان بهم في أعمال السلطان، ولا يعلمهم مسلم، ونهى أن يظهروا في شعانينهم صليبا، وأن لا يشعلوا في الطريق نارا، وأمر بتسوية قبورهم مع الأرض، وكتب بذلك إلى الآفاق، ثم أمر في سنة تسع وثلاثين أهل الذمّة بلبس دراعتين عسليتين على الذراريع والأقبية، وبالاقتصار في مراكبهم على ركوب البغال والحمير دون الخيل والبراذين. فلما مات يوساب في سنة اثنتين وأربعين ومائتين خلا الكرسيّ بعده ثلاثين يوما، وقدّم اليعاقبة قسيسا بدير بحنس يدعى بميكائيل في البطركية، فأقام سنة وخمسة أشهر ومات، فدفن بدير بومقار، وهو أوّل بطرك دفن فيه، فخلا الكرسيّ بعده أحدا وثمانين يوما، ثم قدّم اليعاقبة في سنة أربع وأربعين ومائتين شماسا بدير بومقار اسمه قسيما، فأقام في البطركية سبع سنين وخمسة أشهر ومات، فخلا الكرسيّ بعده أحدا وخمسين يوما. وفي أيامه أمر نوفيل بن ميخائيل ملك الروم بمحو الصور من الكنائس، وأن لا تبقى صورة في كنيسة، وكان سبب ذلك أنه بلغه عن قيم كنيسة أنه عمل في صورة مريم عليها السلام شبه ثدي يخرج منه لبن ينقط في يوم عيدها، فكشف عن ذلك فإذا هو مصنوع ليأخذ به القيم المال، فضرب عنقه وأبطل الصور من الكنائس، فبعث إليه قسيما بطرك اليعاقبة وناظره حتى سمح بإعادة الصور على ما كانت عليه، ثم قدّم اليعاقبة ساتير بطركا، فأقام تسع عشرة سنة ومات، فأقيم يوسانيوس في أوّل خلافة المعتز، فأقام إحدى عشرة سنة ومات، وعمل في بطركيته مجاري تحت الأرض بالإسكندرية يجري بها الماء من الخليج إلى البيوت.
وفي أيامه قدم أحمد بن طولون مصر أميرا عليها، ثم قدّم اليعاقبة ميخائيل فأقام خمسا وعشرين سنة ومات بعد ما ألزمه أحمد بن طولون بحمل عشرين ألف دينار، باع فيها رباع الكنائس الموقوفة عليها، وأرض الحبش ظاهر فسطاط مصر، وباع الكنيسة بجوار المعلقة من قصر الشمع لليهود، وقرّر الديارية على كلّ نصرانيّ قيراطا في السنة، فقام بنصف المقرّر عليه. وفي أيامه قتل الأمير أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون، فلما مات شغر كرسيّ الإسكندرية بعده من البطاركة أربع عشرة سنة، وفي يوم الاثنين ثالث شوّال سنة ثلاثمائة(4/411)
أحرقت الكنيسة الكبرى المعروفة بالقيامة في الإسكندرية، وهي التي كانت هيكل زحل، وكانت من بناء كلابطرة. وفي سنة إحدى وثلاثمائة قدّم اليعاقبة غبريال بطركا، فأقام إحدى عشرة سنة ومات، وأخذت في أيامه الديارية على الرجال والنساء، وقدّم بعده اليعاقبة في سنة إحدى عشرة وثلاثمائة قسيما فأقام اثنتي عشرة سنة ومات. وفي يوم السبت النصف من شهر رجب سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة أحرق المسلمون كنيسة مريم بدمشق، ونهبوا ما فيها من الآلات والأواني وقيمتها كثيرة جدّا، ونهبوا ديرا للنساء بجوارها، وشعثوا كنائس النسطورية واليعقوبية. وفي سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة قدم الوزير عليّ بن عيسى بن الجرّاح إلى مصر، فكشف البلد وألزم الأساقفة والرهبان وضعفاء النصارى بأداء الجزية، فأدّوها، ومضى طائفة منهم إلى بغداد واستغاثوا بالمقتدر بالله، فكتب إلى مصر بأن لا يؤخذ من الأساقفة والرهبان والضعفاء جزية، وأن يجروا على العهد الذي بأيديهم. وفي سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة قدّم اليعاقبة بطركا اسمه ... «1» فأقام عشرين سنة ومات، وفي أيامه ثار المسلمون بالقدس سنة خمس وعشرين وثلاثمائة وحرّقوا كنيسة القيامة ونهبوها وخرّبوا منها ما قدروا عليه. وفي يوم الاثنين آخر شهر رجب سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة مات سعيد بن بطريق بطرك الإسكندرية على الملكية بعد ما أقام في البطركية سبع سنين ونصفا في شرور متصلة مع طائفته، فبعث الأمير أبو بكر محمد بن طفج الإخشيد أبا الحسين من قوّاده في طائفة من الجند إلى مدينة تنيس، حتى ختم على كنائس الملكية وأحضر آلاتها إلى الفسطاط، وكانت كثيرة جدّا فافتكها الأسقف بخمسة آلاف دينار باعوا فيها من وقف الكنائس، ثم صالح طائفته وكان فاضلا وله تاريخ مفيد، وثار المسلمون أيضا بمدينة عسقلان وهدموا كنيسة مريم الخضراء، ونهبوا ما فيها، وأعانهم اليهود حتى أحرقوها، ففرّ أسقف عسقلان إلى الرملة وأقام بها حتى مات، وقدّم اليعاقبة في سنة خمس وأربعين وثلاثمائة تاوفانيوس بطركا، فأقام أربع سنين وستة أشهر ومات، فأقيم بعده مينا، فأقام إحدى عشرة سنة ومات، فخلا الكرسيّ بعده سنة، ثم قدّم اليعاقبة افراهام بعده مينا، فأقام ست وستين وثلاثمائة فأقام ثلاث سنين وستة أشهر ومات مسموما من بعض كتاب النصارى، وسببه أنه منعه من التسرّي، فخلا الكرسي بعده ستة أشهر، وأقيم فيلاياوس في سنة تسع وستين، فأقام أربعا وعشرين سنة ومات، وكان مترفا. وفي أيامه أخذت الملكية كنيسة السيدة المعروفة بكنيسة البطرك، تسلمها منهم بطرك الملكية أرسانيوس في أيام العزيز بالله نزار بن المعز، وفي سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة قدّم اليعاقبة زخريس بطركا، فأقام ثماني وعشرين سنة، منها في البلايا مع الحاكم بأمر الله أبي عليّ منصور بن العزيز بالله تسع سنين، اعتقله فيها ثلاثة أشهر، وأمر به فألقي للسباع هو وسوسنة النوبيّ، فلم تضرّه، فيما زعم النصارى. ولما مات خلا الكرسيّ بعده أربعة وسبعين يوما، وفي بطركيته نزل(4/412)
بالنصارى شدائد لم يعهدوا مثلها، وذلك أن كثيرا منهم كان قد تمكن في أعمال الدولة حتى صاروا كالوزراء وتعاظموا لاتساع أحوالهم وكثرة أموالهم، فاشتدّ بأسهم وتزايد ضررهم ومكايدتهم للمسلمين، فأغضب الحاكم بأمر الله ذلك، وكان لا يملك نفسه إذا غضب، فقبض على عيسى بن نسطورس النصرانيّ، وهو إذ ذاك في رتبة تضاهي رتب الوزراء وضرب عنقه، ثم قبض على فهد بن إبراهيم النصرانيّ كاتب الأستاذ برجوان وضرب عنقه، وتشدّد على النصارى وألزمهم بلبس ثياب الغيار، وشدّ الزنار في أوساطهم ومنعهم من عمل الشعانين وعيد الصليب والتظاهر بما كانت عادتهم فعله في أعيادهم من الاجتماع واللهو، وقبض على جميع ما هو محبس على الكنائس والديارات وأدخله في الديوان، وكتب إلى أعماله كلها بذلك، وأحرق عدّة صلبان كثيرة، ومنع النصارى من شراء العبيد والإماء، وهدم الكنائس التي بخط راشدة ظاهر مدينة مصر، وأخرب كنائس المقس خارج القاهرة، وأباح ما فيها للناس، فانتهبوا منها ما يجل وصفه، وهدم دير القصير وانهب العامة ما فيه، ومنع النصارى من عمل الغطاس على شاطىء النيل بمصر، وأبطل ما كان يعمل فيه من الاجتماع للهو، وألزم رجال النصارى بتعليق الصلبان الخشب التي زنة كل صليب منها خمسة أرطال في أعناقهم، ومنعهم من ركوب الخيل، وجعل لهم أن يركبوا البغال والحمير بسروج ولجم غير محلاة بالذهب والفضة، بل تكون من جلود سود، وضرب بالحرس في القاهرة ومصر أن لا يركب أحد من المكارية ذمّيا، ولا يحمل نوتيّ مسلم أحدا من أهل الذمة، وأن تكون ثياب النصارى وعمائهم شديدة السواد، وركب سروجهم من خشب الجميز، وأن يعلق اليهود في أعناقهم خشبا مدوّرا زنة الخشبة منها خمسة أرطال، وهي ظاهرة فوق ثيابهم، وأخذ في هدم الكنائس كلها وأباح ما فيها، وما هو محبس عليها للناس نهبا وإقطاعا، فهدمت بأسرها ونهب جميع أمتعتها وأقطع أحباسها، وبني في مواضعها المساجد، وأذن بالصلاة في كنيسة شنودة بمصر، وأحيط بكنيسة المعلقة في قصر الشمع، وأكثر الناس من رفع القصص بطلب كنائس أعمال مصر ودياراتها، فلم يردّ قصة منها إلّا وقد وقع عليها بإجابة رافعها لما سأل، فأخذوا أمتعة الكنائس والديارات وباعوا بأسواق مصر ما وجدوا من أواني الذهب والفضة وغير ذلك، وتصرّفوا في أحباسها، ووجد بكنيسة شنودة مال جليل، ووجد في المعلقة من المصاغ وثياب الديباج أمر كثير جدّا إلى الغاية، وكتب إلى ولاة الأعمال بتمكين المسلمين من هدم الكنائس والديارات فعمّ الهدم فيها من سنة ثلاث وأربعمائة حتى ذكر من يوثق به في ذلك أن الذي هدم إلى آخر سنة خمس وأربعمائة بمصر والشام وأعمالهما من الهياكل التي بناها الروم نيث وثلاثون ألف بيعة، ونهب ما فيها من آلات الذهب والفضة، وقبض على أوقافها، وكانت أوقافا جليلة على مبان عجيبة، وألزم النصارى أن تكون الصلبان في أعناقهم إذا دخلوا الحمام، وألزم اليهود أن يكون في أعناقهم الأجراس إذا دخلوا الحمام، ثم ألزم اليهود والنصارى بخروجهم كلهم من(4/413)
أرض مصر إلى بلاد الروم، فاجتمعوا بأسرهم تحت القصر من القاهرة واستغاثوا ولاذوا بعفو أمير المؤمنين حتى أعفوا من النفي، وفي هذه الحوادث أسلم كثير من النصارى.
وفي سنة سبع وأربعمائة وثب بعض أكابر البلغر على ملكهم قمطورس فقتله وملك عوضه، وكتب إلى باسيل ملك قسطنطينية بطاعته فأقرّه، ثم قتل بعد سنة فسار الملك باسيل إليهم في شوّال سنة ثمان وأربعمائة واستولى على مملكة البلغر وأقام في قلاعها عدّة من الروم، وعاد إلى قسطنطينية فاختلط الروم بالبغر ونكحوا منهم وصاروا يدا واحدة بعد شدّة العداوة، وقدّم اليعاقبة عليهم سابونين بطركا بالإسكندرية في سنة إحدى وعشرين وأربعمائة، في يوم الأحد ثالث عشري برمهات، فأقام خمس عشرة سنة ونصفا ومات في طوبه، وكان محبا للمال، وأخذ الشرطونية فخلا الكرسيّ بعده سنة وخمسة أشهر، ثم قدّم اليعاقبة أخر سطوديس بطركا في سنة تسع وثلاثين وأربعمائة، فأقام ثلاثين سنة ومات بالمعلقة من مصر، وهو الذي جعل كنيسة بومرقوره بمصر، وكنيسة السيدة بحارة الروم من القاهرة في أيام بطركيته، فلم يقم بعده بطرك اثنين وسبعين يوما، ثم أقام اليعاقبة كيرلص، فأقام أربع عشرة سنة وثلاثة أشهر ونصفا ومات بكنيسة المختار من جزية مصر المعروفة بالروضة، في سلخ ربيع الآخر سنة خمس وثمانين وأربعمائة، وعمل بدلة للبطاركة من ديباج أزرق وبلارية ديباج أحمر بتصاوير ذهب، وقطع الشرطونية فلم يول بعده بطرك مدّة مائة وأربعة وعشرين يوما، ثم أقيم ميخائيل الحبيس بسنجار في سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة، فأقام تسع وسنين وثمانية أشهر ومات في المعلقة بمصر، وكان المستنصر بالله لما نقص نيل مصر بعثه إلى بلاد الحبشة بهدية سنية، فتلقاه ملكها وسأله عن سبب قدومه، فعرّفه نقص النيل وضرر أهل مصر بسبب ذلك، فأمر بفتح سدّ يجري منه الماء إلى أرض مصر، ففتح وزاد النيل في ليلة واحدة ثلاثة أذرع، واستمرّت الزيادة حتى رويت البلاد وزرعت، ثم عاد البطرك فخلع عليه المستنصر وأحسن إليه.
وفي سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة قدّم اليعاقبة مقاري بطركا بدير بومقار، وكمل بالإسكندرية وعاد إلى مصر، ثم مضى إلى دير بومقار فقدّس به ثم جاء إلى مصر فقدّس بالمعلقة، فأقام ستا وعشرين سنة وأحدا وأربعين يوما ومات. فخلت مصر من بطرك اليعاقبة سنتين وشهرين، وفي أيامه حدثت زلزلة عظيمة بمصر هدم فيها كنيسة المختار بالروضة، واتهم الأفضل بن أمير الجيوش بهدمها، فإنها كانت في بستانه. وفي أيامه أبطل عوايد كثيرة للنصارى، فبطلت بعده. ثم قدّم اليعاقبة غيريال المكنى بأبي العلا صاعد بن تربك الشماس بكنيسة مرقوريوس في سنة خمس وعشرين وخمسمائة بالمعلقة، وكمل بالإسكندرية وقدّس بالأديرة بوادي هبيب، وأقام أربع عشرة سنة ومات، فخلا بعده كرسيّ اليعاقبة ثلاثة أشهر.
ثم قدّم اليعاقبة ميخائيل بن التقدوسيّ الراهب بقلاية دمشري بطركا، فأقام مدّة سنة وسبعين يوما، ثم أقيم يونس أبو الفتح بطركا بالمعلقة، وكمل بالإسكندرية، فأقام تسع عشرة سنة(4/414)
ومات، في سابع عشري جمادى الآخرة، سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، فخلا الكرسيّ بعده ثلاثة وأربعين يوما، وقدم مرقص بن زرعة المكني بأبي الفرج بطرك اليعاقبة بمصر، وكمل بالإسكندرية، فأقام اثنتين وعشرين سنة وستة أشهر وخمسة وعشرين يوما ومات، وفي أيامه انتقل مرقص بن قنبر وجماعة من القنابرة إلى رأي الملكية، ثم عاد إلى اليعقوبية، فقبل. ثم عاد إلى الملكية ورجع فلم يقبل، وكان هذا البطرك له همة ومروءة. وفي أيامه كان حريق شاور الوزير لمصر، في ثامن عشر هتور، فاحترقت كنيسة بومرقورة، وخلا بعده كرسيّ البطاركة سبعة وعشرين يوما، ثم قدّم اليعاقبة يونس بن أبي غالب بطركا في يوم الأحد عاشر ذي الحجة سنة أربع وثمانين وخمسمائة، وكمل بالإسكندرية، فأقام ستا وعشرين سنة وأحد عشر شهرا وثلاثة عشر يوما، ومات يوم الخميس رابع عشر شهر رمضان سنة اثنتي عشرة وستمائة بالمعلقة بمصر، ودفن بالحبش، وكان في ابتداء أمره تاجرا يتردّد إلى اليمن في البحر حتى كثر ماله، وكان معه مال لأولاد الخباب فاتفق أنه غرق في بحر الملح، وذهب ماله ونجا بنفسه إلى القاهرة، وقد آيس أولاد الخباب من مالهم، فلما لقيهم أعلمهم أن مالهم قد سلّم، فإنه كان قد عمله في نقائر خشب مسمرة في المركب، فصار لهم به عناية، فلما مات مرقص بن زرعة سعى يونس هذا للقس أبي ياسر فقال له أولاد الخباب: خذ أنت البطركية ونحن نزكيك، فوافقهم وأقيم بطركا، فشق ذلك على أبي ياسر وهجره بعد صحبة طويلة، وكان معه لما استقرّ في البطركية سبعة عشر ألف دينار مصرية، أنفقها على الفقراء، وأبطل الديارية ومنع الشرطونية، ولم يأكل لأحد من النصارى خبزا ولا قبل من أحد هدية.
فلما مات قام أبو الفتوح نشو الخليفة بن الميقاط كاتب الجيش مع السلطان الملك العادل أبي بكر بن أيوب في ولاية القس داود بن يوحنا بن لقلق الفيوميّ، فإنه كان خصيصا به، فأجابه وكتب توقيعه من غير أن يعلم الملك الكامل محمد ابن السلطان، فشق ذلك على النصارى، وقام منهم الأسعد بن صدقة كاتب دار التفاح بمصر ومعه جماعة، وتوجهوا سحرا ومعهم الشموع إلى تحت قلعة الجبل حيث كان سكن الملك الكامل واستغاثوا به، ووقعوا في القس وقالوا لا يصلح، وفي شريعتنا أنه لا يقدّم البطرك إلا باتفاق الجمهور عليه، فبعث الملك الكامل يطيب خواطرهم، وكان القس قد ركب بكرة ومعه الأساقفة وعالم كثير من النصارى ليقدّموه بالمعلقة بمصر، وذلك يوم الأحد، فركب الملك الكامل بشجو كبير من القلعة إلى أبيه بدار الوزارة من القاهرة حيث سكنه، وأوقف ولاية القس، فبعث السلطان في طلب الأساقفة ليتحقق الأمر منهم، فوافقهم الرسل مع القس في الطريق فأخذوهم، ودخل القس إلى كنيسة بوجرج التي بالحمراء وبطلت بطركيته، وأقامت مصر بغير بطرك تسع عشرة سنة ومائة وستين يوما. ثم قدّم هذا القس بطركا في يوم الأحد تاسع عشري شهر رمضان سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، فأقام سبع سنين وتسعة أشهر وعشرة أيام ومات يوم الثلاثاء(4/415)
سابع عشر شهر رمضان سنة أربعين وستمائة، ودفن بدير الشمع بالجيزة، وكان عالما بدينه محبا للرياسة، وأخذ الشرطونية في بطركيته، وكانت الديارات بأرض مصر قد خلت من الأساقفة، فقدم جماعة أساقفة كثيرة بمال كثير أخذه منهم وقاسى شدائد، ورافعه الراهب عماد المرشال ووكل عليه وعلى أقاربه وألزامه، وساعده الراهب السني بن الثعبان، وأشاع مثالبه وقال لا يصح له كونية لأنه يقدّم بالرشوة، وأخذ الشرطونية وجمع عليه طائفة كثيرة، وعقد مجلسا عند الصاحب معين الدين حسن بن شيخ الشيوخ في أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب، وأثبت على البطرك قوادح، فقام الكتاب النصارى في أمره مع الصاحب بمال يحمله إلى السلطان حتى استمر على بطركيته، وخلا كرسيّ البطاركة بعده سبع سنين وستة أشهر وستة وعشرين يوما.
ثم قدّم اليعاقبة ابناسيوس ابن القس أبي المكارم بن كليل بالمعلقة في يوم الأحد رابع شهر رجب سنة ثمان وأربعين وستمائة، وكمل بالإسكندرية، فأقام إحدى عشرة سنة وخمسة وخمسين يوما، ومات يوم الأحد ثالث المحرّم سنة ستين وستمائة، فخلت مصر من البطركية خمسة وثمانين يوما. وفي أيامه أخذ الوزير الأسعد شرف الدين هبة الله بن صاعد الفائزي الجوالي من النصارى مضاعفة، وفي أيامه ثارت عوامّ دمشق وخربت كنيسة مريم بدمشق بعد إحراقها ونهب ما فيها، وقتل جماعة من النصارى بدمشق، ونهب دورهم، وخرابها في سنة ثمان وخمسين وستمائة بعد وقعة عين جالوت وهزيمة المغل. فلما دخل السلطان الملك المظفر قطز إلى دمشق قرّر على النصارى بها مائة ألف وخمسين ألف درهم، جمعوها من بينهم وحملوها إليه بسفارة الأمير فارس الدين أقطاي المستعرب، أتابك العسكر.
وفي سنة اثنتين وثمانين وستمائة كانت واقعة النصارى، ومن خبرها أن الأمير سنجر الشجاعيّ كانت حرمته وافرة في أيام الملك المنصور قلاون، فكان النصارى يركبون الحمير بزنانير في أوساطهم، ولا يجسر نصرانيّ يحدّث مسلما وهو راكب، وإذا مشى فبذلة، ولا يقدر أحد منهم يلبس ثوبا مصقولا، فلما مات الملك المنصور وتسلطن من بعده ابنه الملك الأشرف خليل، خدم الكتاب النصارى عند الأمراء الخاصكية وقوّوا نفوسهم على المسلمين، وترفعوا في ملابسهم وهيآتهم، وكان منهم كاتب عند خاصكيّ يعرف بعين الغزال، فصدف يوما في طريق مصر سمسار شونة مخدومه، فنزل السمسار عن دابته وقبّل رجل الكاتب، فأخذ يسبه ويهدّده على مال قد تأخر عليه من ثمن غلة الأمير، وهو يترفق له ويعتذر، فلا يزيده ذلك عليه إلّا غلظة، وأمر غلامه فنزل وكتف السمسار ومضى به والناس تجتمع عليه حتى صار إلى صليبة جامع أحمد بن طولون، ومعه عالم كبير، وما منهم إلّا من يسأله أن يخلي عن السمسار وهو يمتنع عليهم، فتكاثروا عليه وألقوه عن حماره وأطلقوا السمسار، وكان قد قرب من بيت أستاذه، فبعث غلامه لينجده بمن فيه، فأتاه بطائفة من(4/416)
غلمان الأمير وأوجاقيته فخلصوه من الناس وشرعوا في القبض عليهم ليفتكوا بهم، فصاحوا عليهم ما يحل ومرّوا مسرعين إلى أن وقفوا تحت القلعة، واستغاثوا نصر الله السلطان، فأرسل يكشف الخبر فعرّفوه ما كان من استطالة الكاتب النصرانيّ على السمسار، وما جرى لهم، فطلب عين الغزال ورسم للعامّة بإحضار النصارى إليه، وطلب الأمير بدر الدين بيدرا النائب، والأمير سنجر الشجاعيّ، وتقدّم إليهما بإحضار جميع النصارى بين يديه ليقتلهم، فما زالا به حتى استقرّ الحال على أن ينادي في القاهرة ومصر، أن لا يخدم أحد من النصارى واليهود عند الأمير، وأمر الأمراء بأجمعهم أن يعرضوا على من عندهم من الكتاب النصارى الإسلام، فمن امتنع من الإسلام ضربت عنقه، ومن أسلم استخدموه عندهم، ورسم للنائب بعرض جميع مباشري ديوان السلطان ويفعل فيهم ذلك، فنزل الطلب لهم وقد اختفوا، فصارت العامّة تسبق إلى بيوتهم وتنهبها، حتى عمّ النهب بيوت النصارى واليهود بأجمعهم، وأخرجوا نساءهم مسبيات، وقتلوا جماعة بأيديهم، فقام الأمير بيدرا النائب مع السلطان في أمر العامّة، وتلطف به حتى ركب وإلى القاهرة ونادى من نهب بيت نصرانيّ شنق، وقبض على طائفة من العامّة وشهرهم بعد ما ضربهم، فانكفوا عن النهب بعد ما نبهوا كنيسة المعلقة بمصر وقتلوا منها جماعة، ثم جمع النائب كثيرا من النصارى كتاب السلطان والأمراء وأوقفهم بين يدي السلطان عن بعد منه، فرسم للشجاعيّ وأمير جاندار أن يأخذا عدّة معهما وينزلوا إلى سوق الخيل تحت القلعة، ويحفروا حفيرة كبيرة ويلقوا فيها الكتاب الحاضرين، ويضرموا عليهم الحطب نارا، فتقدّم الأمير بيدرا وشفع فيهم فأبى أن يقبل شفاعته وقال: ما أريد في دولتي ديوانا نصرانيا، فلم يزل به حتى سمح بأن من أسلم منهم يستقرّ في خدمته، ومن امتنع ضربت عنقه، فأخرجهم إلى دار النيابة وقال لهم: يا جماعة ما وصلت قدرتي مع السلطان في أمركم إلّا على شرط، وهو أن من اختار دينه قتل، ومن اختار الإسلام خلع عليه وباشر، فابتدره المكين بن السقاعيّ أحد المستوفين وقال: يا خوند وأينا قوّاد يختار القتل على هذا الدين الخراء، والله دين نقتل ونموت عليه يروح، لا كتب الله عليه سلامة، قولوا لنا الذي تختاروه حتى نروح إليه، فغلب بيدرا الضحك وقال له: ويلك، أنحن نختار غير دين الإسلام؟ فقال يا خوند: ما نعرف، قولوا ونحن نتبعكم، فأحضر العدول واستسلمهم، وكتب بذلك شهادات عليهم، ودخل بها على السلطان فألبسهم تشاريف وخرجوا إلى مجلس الوزير الصاحب شمس الدين محمد بن السلعوس، فبدأ بعض الحاضرين بالمكين بن السقاعيّ وناوله ورقة ليكتب عليها وقال: يا مولانا القاضي اكتب على هذه الورقة. فقال: يا بنيّ ما كان لنا هذا القضاء في خلد، فلم يزالوا في مجلس الوزير إلى العصر، فجاءهم الحاجب وأخذهم إلى مجلس النائب وقد جمع به القضاة فجدّدوا إسلامهم بحضرتهم، فصار الذليل منهم بإظهار الإسلام عزيزا، يبدي من إذلال المسلمين والتسلط عليهم بالظلم ما كان يمنعه نصرانيته من إظهاره، وما هو إلا كما(4/417)
كتب به بعضهم إلى الأمير بيدرا النائب:
أسلم الكافرون بالسيف قهرا ... وإذا ما خلوا فهم مجرمونا
سلموا من رواح مال وروح ... فهم سالمون لا مسلمونا
وفي أخريات شهر رجب سنة سبعماءة قدم وزير متملك المغرب إلى القاهرة حاجا، وصار يركب إلى الموكب السلطانيّ وبيوت الأمراء، فبينما هو ذات يوم بسوق الخيل تحت القلعة، إذا هو برجل راكب على فرس وعليه عمامة بيضاء وفرجية مصقولة، وجماعة يمشون في ركابه وهم يسألونه ويتضرّعون إليه ويقبلون رجليه، وهو معرض عنهم وينهرهم ويصيح بغلمانه أن يطردوهم عنه. فقال له بعضهم يا مولاي الشيخ بحياة ولدك النشو تنظر في حالنا، فلم يزده ذلك إلّا عتوّا وتحامقا، فرقّ المغربيّ لهم وهمّ بمخاطبته في أمرهم، فقيل له وأنه مع ذلك نصرانيّ، فغضب لذلك وكاد أن يبطش به، ثم كف عنه وطلع إلى القلعة وجلس مع الأمير سلار نائب السلطان، والأمير بيبرس الجاشنكير، وأخذ يحادثهم بما رآه وهو يبكي رحمة للمسلمين بما نالهم من قسوة النصارى، ثم وعظ الأمراء وحذرهم نقمة الله، وتسليط عدوّهم عليهم من تمكين النصارى من ركوب الخيل، وتسلطهم على المسلمين وإذلالهم إياهم، وأن الواجب إلزامهم الصغار، وحملهم على العهد الذي كتبه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فمالوا إلى قوله وطلبوا بطرك النصارى وكبراءهم وديان اليهود، فجمعت نصارى كنيسة المعلقة ونصارى دير البغل ونحوهم، وحضر كبراء اليهود والنصارى، وقد حضر القضاة الأربعة وناظروا النصارى واليهود، فأذعنوا إلى التزام العهد العمريّ، وألزم بطرك النصارى طائفته النصارى بلبس العمائم الزرق وشدّ الزنار في أوساطهم، ومنعهم من ركوب الخيل والبغال، والتزام الصغار، وحرّم عليهم مخالفة ذلك أو شيء منه، وأنه بريء من النصرانية إن خالف. ثم اتبعه ديان اليهود بأن أوقع الكلمة على من خالف من اليهود ما شرط عليه، من لبس العمائم الصفر والتزام العهد العمريّ، وكتب بذلك عدّة نسخ سيرت إلى الأعمال، فقام المغربيّ في هدم الكنائس، فلم يمكنه قاضي القضاة تقي الدين محمد بن دقيق العيد من ذلك، وكتب خطه بأنه لا يجوز أن يهدم من الكنائس إلّا ما استجدّ بناؤه، فغلقت عدّة كنائس بالقاهرة ومصر مدّة أيام، فسعى بعض أعيان النصارى في فتح كنيسة حتى فتحها، فثارت العامة ووقفوا للنائب والأمراء واستغاثوا بأن النصارى قد فتحوا الكنائس بغير إذن، وفيهم جماعة تكبروا عن لبس العمائم الزرق، واحتمى كثير منهم بالأمراء، فنودي في القاهرة ومصر أن يلبس النصارى بأجمعهم العمائم الزرق، ويلبس اليهود بأسرهم العمائم الصفر، ومن لم يفعل ذلك نهب ماله وحلّ دمه، ومنعوا جميعا من الخدمة في ديوان السلطان ودواوين الأمراء حتى يسلموا، فتسلطت الغوغاء عليهم وتتبعوهم، فمن رأوه بغير الزيّ الذي رسم به ضربوه بالنعال وصفعوا عنقه حتى يكاد يهلك، ومن مرّ بهم وقد ركب ولا يثني رجله ألقوه عن دابته وأوجعوه ضربا،(4/418)
فاختفى كثير منهم، وألجأت الضرورة عدّة من أعيانهم إلى إظهار الإسلام أنفة من لبس الأزرق وركوب الحمير، وقد أكثر شعراء العصر في ذكر تغيير زيّ أهل الذمّة، فقال علاء الدين عليّ بن مظفر الوداعيّ:
لقد ألزم الكفار شاشات ذلة ... تزيدهم من لعنة الله تشويشا
فقلت لهم ما ألبسوكم عمائما ... ولكنهم قد ألزموكم براطيشا
وقال شمس الدين الطيبي:
تعجبوا للنصارى واليهود معا ... والسامريين لما عمموا الخرقا
كأنما بات بالأصباغ منسهلا ... نسر السماء فأضحى فوقهم زرقا
فبعث ملك برشلونة في سنة ثلاث وسبعمائة هدية جليلة زائدة عن عادته، عمّ بها جميع أرباب الوظائف من الأمراء مع ما خص به السلطان، وكتب يسأل في فتح الكنائس، فاتفق الرأي على فتح كنيسة حارة زويلة لليعاقبة، وفتح كنيسة البندقانيين من القاهرة، ثم لما كان يوم الجمعة تاسع شهر ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين وسبعمائة، هدمت كنائس أرض مصر في ساعة واحدة، كما ذكر في أخبار كنيسة الزهريّ، وفي سنة خمس وخمسين وسبعمائة، رسم بتحرير ما هو موقوف على الكنائس من أراضي مصر، فأناف على خمسة وعشرين ألف فدان، وسبب الفحص عن ذلك، كثرة تعاظم النصارى وتعدّيهم في الشرّ والإضرار بالمسلمين، لتمكنهم من أمراء الدولة وتفاخرهم بالملابس الجليلة، والمغالاة في أثمانها، والتبسط في المآكل والمشارب، وخروجهم عن الحدّ في الجراءة والسلاطة، إلى أن اتفق مرور بعض كتاب النصارى على الجامع الأزهر من القاهرة، وهو راكب بخف ومهماز وبقباء إسكندريّ طرح على رأسه، وقدّامه طرّادون يمنعون الناس من مزاحمته، وخلفه عدّة عبيد بثياب سرية على أكاديش فارهة، فشق ذلك على جماعة من المسلمين، وثاروا به وأنزلوه عن فرسه وقصدوا قتله، وقد اجتمع عالم كبير، ثم خلوا عنه، وتحدّد جماعة مع الأمير طاز في أمر النصارى وما هم عليه، فوعدهم بالإنصاف منهم، فرفعوا قصة على لسان المسلمين قرئت على السلطان الملك الصالح صالح بحضرة الأمراء والقضاة وسائر أهل الدولة، تتضمن الشكوى من النصارى، وأن يعقد لهم مجلس ليلتزموا بما عليهم من الشروط، فرسم بطلب بطرك النصارى وأعيان أهل ملتهم، وبطلب رئيس اليهود وأعيانهم، وحضر القضاة والأمراء بين يدي السلطان، وقرأ القاضي علاء الدين عليّ بن فضل الله كاتب السرّ العهد الذي كتب بين المسلمين وبين أهل الذمّة، وقد أحضروه معهم، حتى فرغ منه، فالتزم من حضر منهم بما فيه وأقرّوا به، فعدّدت لهم أفعالهم التي جاهروا بها وهم عليها، وأنهم لا يرجعون عنها غير قليل، ثم يعودن إليها كما فعلوه غير مرّة فيما سلف، فاستقرّ الحال على أن يمنعوا من المباشرة بشيء من ديوان السلطان ودواوين الأمراء(4/419)
ولو أظهروا الإسلام، وأن لا يكره أحد منهم على إظهار الإسلام، ويكتب بذلك إلى الأعمال. فتسلطت العامّة عليهم وتتبعوا آثارهم وأخذوهم في الطرقات، وقطعوا ما عليهم من الثياب، وأوجعوهم ضربا، ولم يتركوهم حتى يسلموا، وصاروا يضرمون لهم النار ليلقوهم فيها، فاختفوا في بيوتهم ولم يتجاسروا على المشي بين الناس، فنودي بالمنع من التعرّض لأذاهم، فأخذت العامّة في تتبع عوراتهم وما علوه من دورهم على بناء المسلمين فهدموه، واشتدّ الأمر على النصارى باختفائهم، حتى أنهم فقدوا من الطرقات مدّة، فلم ير منهم ولا من اليهود أحد، فرفع المسلمون قصة قرئت في دار العدل في يوم الاثنين رابع عشر شهر رجب، تتضمن أن النصارى قد استجدّوا عمارات في كنائسهم ووسعوها، هذا وقد اجتمع بالقلعة عالم عظيم واستغاثوا بالسلطان من النصارى، فرسم بركوب والي القاهرة وكشفه على ذلك، فلم تتمهل العامّة ومرّت بسرعة فخرّبت كنيسة بجوار قناطر السباع، وكنيسة بطريق مصر للأسرى، وكنيسة الفهادين بالجوّانية من القاهرة، ودير نهيا من الجيزة، وكنيسة بناحية بولاق التكروريّ، ونهبوا حواصل ما خرّبوه من ذلك، وكانت كثيرة، وأخذوا أخشابها ورخامها وهجموا كنائس مصر والقاهرة، ولم يبق إلّا أن يخرّبوا كنيسة البندقانيين بالقاهرة، فركب الوالي ومنعهم منها، واشتدّت العامة وعجز الحكام عن كفهم، وكان قد كتب إلى جميع أعمال مصر وبلاد الشام أن لا يستخدم يهوديّ ولا نصرانيّ ولو أسلم، وأنه من أسلم منهم لا يمكن من العبور إلى بيته ولا من معاشرة أهله إلّا أن يسلموا وأن يلزم من أسلم منهم بملازمة المساجد والجوامع لشهود الصلوات الخمس والجمع، وأنّ من مات من أهل الذمة يتولى المسلمون قسمة تركته على ورثته إن كان له وارث، وإلّا فهي لبيت المال، وكان يلي ذلك البطرك، وكتب بذلك مرسوم قريء على الأمراء، ثم نزل به الحاجب فقرأه في يوم الجمعة سادس عشري جمادى الآخرة بجوامع القاهرة ومصر، فكان يوما مشهودا.
ثم أحضر في أخريات شهر رجب من كنيسة شبرا بعدما هدمت، إصبع الشهيد الذي كان يلقى في النيل حتى يزيد، بزعمهم، وهو في صندوق، فأحرق بين يدي السلطان بالميدان من قلعة الجبل وذرى رماده في البحر خشية من أخذ النصارى له، فقدمت الأخبار بكثرة دخول النصارى من أهل الصعيد والوجه البحريّ في الإسلام. وتعلمهم القرآن، وإن أكثر كنائس الصعيد هدمت وبنيت مساجد، وأنه أسلم بمدينة قليوب في يوم واحد أربعمائة وخمسون نصرانيا، وكذلك بعامة الأرياف، مكرا منهم وخديعة حتى يستخدموا في المباشرات، وينكحوا المسلمات، فتم لهم مرادهم واختلطت بذلك الأنساب حتى صار أكثر الناس من أولادهم، ولا يخفى أمرهم على من نوّر الله قلبه، فإنه يظهر من آثارهم القبيحة إذا تمكنوا من الإسلام وأهل ما يعرف به الفطن سوء أصلهم، وقديم معاداة أسلافهم للدين وحملته.
النصارى فرق كثيرة، الملكانية، والنسطورية، واليعقوبية، والبرذعانية، والمرقولية،(4/420)
وهم الرهاويون الذين كانوا بنواحي حرّان وغير هؤلاء. فمنهم من مذهبه مذهب الحرّانية، ومنهم من يقول بالنور والظلمة، والثنوية كلهم يقرّون بنبوّة المسيح عليه السلام ومنهم من يعتقد مذهب أرسطاطاليس. والملكانية واليعقوبية والنسطورية متفقون على أن معبودهم ثلاثة أقانيم»
، وهذه الأقانيم الثلاثة شيء واحد، وهو جوهر قديم، ومعناه أب وابن وروح القدس إله واحد، وأن الابن نزل من السماء فتدرّع جسدا من مريم، وظهر للناس يحيي ويبروئ وينبي، ثم قتّل وصلب وخرج من القبر لثلاث، فظهر لقوم من أصحابه فعرفوه حق معرفته، ثم صعد إلى السماء فجلس عن يمين أبيه هذا الذي يجمعهم اعتقاده، ثم إنهم يختلفون في العبارة عنه.
فمنهم من يزعم أنّ القديم جوهر واحد يجمعه ثلاثة أقانيم، كل أقنوم منها جوهر خاص، فأحد هذه الأقانيم أب واحد غير مولود، والثالث روح فائضة منبثقة بين الأب والابن، وأن الابن لم يزل مولودا من الأب، وأن الأب لم يزل والدا للابن، لا على جهة النكاح والتناسل، لكن على جهة تولد ضياء الشمس من ذات الشمس، وتولد حرّ النار من ذات النار.
ومنهم من يزعم أن معنى قولهم إن الإله ثلاثة أقانيم، أنها ذات لها حياة ونطق، فالحياة هي روح القدس، والنطق هو العلم والحكمة، ... «2» والنطق والعلم والحكمة والكلمة عبارة عن الابن، كما يقال الشمس وضياؤها، والنار وحرّها، فهو عبارة عن ثلاثة أشياء ترجع إلى أصل واحد.
ومنهم من يزعم أنه لا يصحّ له أن يثبت الإله فاعلا حكيما، إلّا أنه يثبته حيا ناطقا، ومعنى الناطق عندهم العالم المميز، لا الذي يخرج الصوت بالحروف المركبة، ومعنى الحيّ عندهم من له حياة بها يكون حيا، ومعنى العالم من له علم به يكون عالما. قالوا فذاته وعلمه وحياته ثلاثة أشياء والأصل واحد، فالذات هي العلة للاثنين اللذين هما العلم والحياة، والاثنان هما المعلولان للعلة، ومنهم من يتنزه عن لفظ العلة والمعلول في صفة القديم، ويقول أب وابن ووالدة وروح وحياة وعلم وحكمة ونطق. قالوا والابن اتحد بإنسان مخلوق، فصار هو وما اتحد به مسيحا واحدا، وأن المسيح هو إله العباد وربهم، ثم اختلفوا في صفة الاتحاد، فزعم بعضهم أنه وقع بين جوهر لاهوتيّ وجوهر ناسوتيّ اتحاد، فصارا مسيحا واحدا، ولم يخرج الاتحاد كلّ واحد منهما عن جوهريته وعنصره، وأن المسيح إله معبود، وأنه ابن مريم الذي حملته وولدته، وأنه قتل وصلب، وزعم قوم أن المسيح بعد الاتحاد جوهران، أحدهما لاهوتيّ والآخر ناسوتيّ، وأن القتل والصلب وقعا به من جهة(4/421)
ناسوته لا من جهة لاهوته، وأن مريم حملت بالمسيح وولدته من جهة ناسوته، وهذا قول النسطورية، ثم يقولون أن المسيح بكماله إله معبود، وأنه ابن الله، تعالى الله عن قولهم، وزعم قوم أنّ الاتحاد وقع بين جوهرين لاهوتيّ وناسوتيّ، فالجوهر اللاهوتيّ بسيط غير منقسم ولا متجزئ، وزعم قوم أن الاتحاد على جهة حلول الابن في الجسد ومخالطته إياه، ومنهم من زعم أن الاتحاد على جهة الظهور، كظهور كتابة الخاتم والنقش إذا وقع على طين أو شمع، وكظهور صورة الإنسان في المرآة، إلى غير ذلك من الاختلاف الذي لا يوجد مثله في غيرهم، حتى لا تكاد تجد اثنين منهم على قول واحد.
والملكانية تنسب إلى ملك الروم، وهم يقولون أنّ الله اسم لثلاثة معان، فهو واحد ثلاثة وثلاثة واحد. واليعقوبية تقول أنه واحد قديم، وأنه كان لا جسم ولا إنسان، ثم تجسم وتأنس. والمرقولية قالوا الله واحد وعلمه غيره قديم معه، والمسيح ابنه على جهة الرحمة، كما يقال إبراهيم خليل الله، والمرقولية تزعم أن المسيح يطوف عليهم كل يوم وليلة، والبوزغانية تزعم أن المسيح هو الذي يحشر الموتى من قبورهم ويحاسبهم.
وعندهم لا بدّ من تنصير أولادهم، وذلك أنهم يغمسون المولود في ماء قد أغلي بالرياحين وألوان الطيب في إجانة جديدة، ويقرءون عليه من كتابهم، فيزعمون أنه حينئذ ينزل عليه روح القدس، ويسمون هذا الفعل المعمودية، وطهارتهم إنما هي غسل الوجه واليدين فقط، ولا يختتن منهم إلّا اليعقوبية، ولهم سبع صلوات يستقبلون فيها المشرق، ويحجون إلى بيت المقدس، وزكاتهم العشر من أموالهم، وصيامهم خمسون يوما، فالثاني والأربعون منه عيد الشعانين، وهو اليوم الذي نزل فيه المسيح من الجبل ودخل بيت المقدس، وبعده بأربعة أيام عيد الفصح، وهو اليوم الذي خرج فيه موسى وقومه من مصر، وبعده بثلاثة أيام عيد القيامة، وهو اليوم الذي خرج فيه المسيح من القبر بزعمهم، وبعده بثمانية أيام عيد الجديد، وهو اليوم الذي ظهر فيه المسيح لتلامذته بعد خروجه من القبر، وبعده بثمانية وثلاثين يوما عيد السلاق، وهو اليوم الذي صعد فيه المسيح إلى السماء. ولهم عيد الصليب، وهو اليوم الذي وجدوا فيه خشية الصليب، وزعموا أنها وضعت على ميت فعاش، ولهم أيضا عيد الميلاد وعيد الذبح، ولهم قرابين وكهنة، فالشماس فوقه القس، وفوق القس الأسقف، وفوق الأسقف المطران، وفوق المطران البطريق، والسكر عندهم حرام، ولا يحلّ لهم أكل اللحم ولا الجماع في الصوم، وكل ما يباع في السوق ولم تعفه أنفسهم يباح أكله، ولا يصحّ النكاح إلّا بحضور شماس وقس وعدول ومهر، ويحرّمون من النساء ما يحرّمه المسلمون، ولا يحلّ الجمع بين امرأتين، ولا التسرّي بالإماء إلّا أن يعتقن ويتزوّج بهنّ، وإذا خدم العبد سبع سنين عتق، ولا يحل طلاق المرأة إلّا أن تأتي بفاحشة مبينة فتطلق، ولا تحل للزوج أبدا، وحدّ المحصن إذا زنى الرجم، فإن زنى غير محصن وحملت منه المرأة تزوّج بها، ومن قتل عمدا قتل، ومن قتل خطأ يهرّب ولا يحل طلبه،(4/422)
وأكثر أحكامهم من التوراة، وقد لعن منهم من لاط أو شهد بالزور أو قامر أو زنى أو سكر.
ذكر ديارات النصارى
قال ابن سيده: الدير خان النصارى، والجمع أديار، وصاحبه ديار وديرانيّ. قلت الدير عند النصارى يختص بالنساك المقيمين به، والكنيسة مجتمع عامتهم للصلاة.
القلاية بمصر: هذه القلاية بجانب المعلقة التي تعرف بقصر الشمع في مدينة مصر، وهي مجمع أكابر الرهبان وعلماء النصارى، وحكمها عندهم حكم الأديرة.
دير طرا: ويعرف بدير أبي جرج، وهو على شاطيء النيل. وأبو جرج هذا هو جرجس، وكان ممن عذبه الملك دقلطيانوس ليرجع عن دين النصرانية، ونوّع له العقوبات من الضرب والتحريق بالنار، فلم يرجع، فضرب عنقه بالسيف في ثالث تشرين وسابع بابه.
دير شعران: هذا الدير في حدود ناحية طرا، وهو مبنيّ بالحجر واللبن، وبه نخل وبه عدّة رهبان، ويقال إنما هو دير شهران بالهاء، وأنّ شهران كان من حكماء النصارى، وقيل بل كان ملكا، وكان هذا الدير يعرف قديما بمرقوريوس الذي يقال له مرقورة، وأبو مرقورة، ثم لما سكنه برصوما بن التبان عرف بدير برصوما، وله عيد يعمل في الجمعة الخامسة من الصوم الكبير، فيحضره البطرك وأكابر النصارى، وينفقون فيه مالا كبيرا. ومرقوريوس هذا كان ممن قتله دقلطيانوس في تاسع عشر تموز، وخامس عشري أبيب، وكان جنديا.
دير الرسل: هذا الدير خارج ناحية الصف والودي، وهو دير قديم لطيف.
دير بطرس وبولص: هذا الدير خارج اطفيح من قبليها، وهو دير لطيف وله عيد في خامس أبيب يعرف بعيد القصرية. وبطرس هذا هو أكبر الرسل الحواريين، وكان دباغا، وقيل صيادا، قتله الملك نبرون في تاسع عشري حزيران، وخامس أبيب. وبولص هذا كان يهوديا فتنصر بعد رفع المسيح عليه السلام، ودعا إلى دينه، فقتله الملك نيرون بعد قتله بطرس بسنة.
دير الجميزة: ويعرف بدير الجود، ويسمي موضعه البحارة جزائر الدير، وهو قبالة الميمون، وهو عزبة لدير العزبة، بني على اسم انطونيوس، ويقال انطونة، وكان من أهل قمن، فلما انقضت أيام الملك دقلطيانوس وفاتته الشهادة أحب أن يتعوّض عنها بعبادة توصل ثوابها أو قريبا من ذلك، فترهب، وكان أوّل من أحدث الرهبانية للنصارى عوضا عن الشهادة، وواصل أربعين يوما ليلا ونهارا طاويا لا يتناول طعاما ولا شرابا مع قيام الليل، وكان هكذا يفعل في الصيام الكبير كل سنة.
دير العزبة: هذا الدير يسار إليه في الجبل الشرقيّ ثلاثة أيام بسير الإبل، وبينه وبين(4/423)
بحر القلزم مسافة يوم كامل، وفيه غالب الفواكه مزدرعة، وبه ثلاثة أعين تجري، وبناه أنطونيوس المقدّم ذكره، ورهبان هذا الدير لا يزالون دهرهم صائمين، لكن صومهم إلى العصر فقط ثم يفطرون، ما خلا الصوم الكبير والبرمولات، فإن صومهم في ذلك إلى طلوع النجم، والبرمولات هي الصوم كذلك بلغتهم.
دير أنبابولا: وكان يقال له أوّلا دير بولص، ثم قيل له دير بولا، ويعرف بدير النمورة أيضا، وهذا الدير في البرّ الغربيّ من الطور على عين ماء يردها المسافرون، وعندهم أن هذه العين تطهرت منها مريم أخت موسى عليهما السلام عند نزول موسى ببني إسرائيل في برّية القلزم. وانبابولا هذا كان من أهل الإسكندرية، فلما مات أبوه ترك له ولأخيه مالا جما، فخاصمه أخوه في ذلك وخرج مغاضبا له، فرأى ميتا يقبر، فاعتبر به ومرّ على وجهه سائحا حتى نزل على هذه العين، فأقام هناك والله تعالى يرزقه، فمرّ به انطونيوس وصحبه حتى مات، فبني هذا الدير على قبره، وبين هذا الدير والبحر ثلاث ساعات، وفيه بستان فيه نخل وعنب وبه عين ماء تجري أيضا.
دير القصير: قال أبو الحسن عليّ بن محمد الشابشتي في كتاب الديارات: وهذا الدير في أعلى الجبل على سطح في قلته، وهو دير حسن البناء محكم الصنعة نزه البقعة، وفيه رهبان مقيمون به، وله بئر منقورة في الحجر يستقى له منها الماء، وفي هيكله صورة مريم عليها السلام في لوح، والناس يقصدون الموضع للنظر إلى هذه الصورة، وفي أعلاه غرفة بناها أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون، لها أربع طاقات إلى أربع جهات، وكان كثير الغشيان لهذا الدير معجبا بالصورة التي فيه، يستحسنها ويشرب على النظر إليها، وفي الطريق إلى هذا الدير من جهة مصر صعوبة، وأما من قبليه فسهل الصعود والنزول، وإلى جانبه صومعة لا تخلو من حبيس يكون فيها، وهو مطلّ على القرية المعروفة بشهران، وعلى الصحراء والبحر، وهي قرية كبيرة عامرة على شاطىء البحر، ويذكرون أن موسى صلوات الله عليه ولد فيها، ومنها ألقته أمّه إلى البحر في التابوت، وبه أيضا دير يعرف بدير شهران، ودير القصير هذا أحد الديارات المقصودة، والمنتزهات المطروقة لحسن موضعه وإشرافه على مصر وأعمالها، وقد قال فيه شعراء مصر ووصفوه فذكروا طيبه ونزهته، ولأبي هريرة بن أبي عاصم فيه من المنسرح:
كم لي بدير القصير من قصف ... مع كل ذي صبوة وذي ظرف
لهوت فيه بشادن غنج ... تقصر عنه بدائع الوصف
وقال ابن عبد الحكم في كتاب فتوح مصر: وقد اختلف في القصير فعن ابن لهيعة قال: ليس بقصير موسى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ولكنه موسى الساحر، وعن المفضل بن فضالة عن أبيه قال: دخلنا على كعب الأحبار فقال لنا: ممن أنتم؟ قلنا فتيان من أهل مصر. فقال: ما(4/424)
تقولون في القصير؟ قلنا قصير موسى. فقال: ليس بقصير موسى، ولكنه قصير عزيز مصر، كان إذا جرى النيل يترفع فيه. وعلى ذلك إنه لمقدّس من الجبل إلى البحر. قال: ويقال بل كان موقدا يوقد فيه لفرعون إذا هو ركب من منف إلى عين شمس، وكان على المقطم موقد آخر، فإذا رأوا النار علموا بركوبه فأعدّوا له ما يريد، وكذلك إذا ركب منصرفا من عين شمس، والله أعلم، وما أحسن قول كشاجم:
سلام على دير القصير وسفحه ... بجنات حلوان إلى النخلات
منازل كانت لي بهنّ مآرب ... وكنّ مواخيري ومنتزهاتي
إذا جئتها كان الجياد مراكبي ... ومنصرفي في السفن منحدرات
فأقبض بالأسحار وحشيّ عينها ... وأقتنص الأنسيّ في الظلمات
معي كلّ بسام أغرّ مهذب ... على كل ما يهوى النديم مواتي
ولحمان مما أمسكته كلابنا ... علينا ومما صيد في الشبكات
وكأس وابريق وناي ومزهر ... وساق غرير فاتر اللحظات
كأنّ قضيب البان عند اهتزازه ... تعلم من أعطافه الحركات
هنالك تصفو لي مشارب لذتي ... وتصحب أيام السرور حياتي
وقال علماء الأخبار من النصارى: إن أرقاديوس ملك الروم طلب أرسانيوس ليعلّم ولده، فظنّ أنه يقتله، ففرّ إلى مصر وترهب، فبعث إليه أمانا وأعلمه أن الطلب من أجل تعليم ولده، فاستعفى وتحوّل إلى الجبل المقطم شرقيّ طرا، وأقام في مغارة ثلاث سنين ومات، فبعث إليه أرقاديوس فإذا هو قد مات، فأمر أن يبنى على قبره كنيسة، وهو المكان المعروف بدير القصير، ويعرف الآن بدير البغل، من أجل أنه كان به بغل يستقي عليه الماء، فإذا خرج من الدير أتى الموردة، وهناك من يملأ عليه، فإذا فرغ من الماء تركه فعاد إلى الدير. وفي رمضان سنة أربعمائة أمر الحاكم بأمر الله بهدم دير القصير، فأقام الهدم والنهب فيه مدّة أيام.
دير مرحنا: قال الشابشتي: دير مرحنا على شاطىء بركة الحبش، وهو قريب من النيل، وإلى جانبه بساتين أنشأ بعضها الأمير تميم بن المعز، ومجلس على عمد، حسن البناء مليح الصنعة مسوّر، أنشأه الأمير تميم أيضا، وبقرب الدير بئر تعرف ببئر مماتي، عليها جميزة كبيرة يجتمع الناس إليها ويشربون تحتها، وهذا الموضع من مغاني اللعب ومواطن القصف والطرب، وهو نزه في أيام النيل وزيادة البحر وامتلاء البركة، حسن المنظر في أيام الزرع والنواوير، لا يكاد حينئذ يخلو من المتنزهين والمتطربين، وقد ذكرت الشعراء حسنه وطيبه، وهذا الدير يعرف اليوم بدير الطين بالنون.
دير أبي النعناع: هذا الدير خارج انصنا، وهو من جملة عماراتها القديمة، وكنيسته(4/425)
في قصره لا في أرضه، وهو على اسم أبي بخنس القصير، وعيده في العشرين من بابه، وسيأتي ذكر أبي بخنس هذا.
دير مغارة شقلقيل: هو دير لطيف معلق في الجبل، وهو نقر في الحجر على صخرة تحتها عقبة لا يتوصل إليه من أعلاه ولا من أسفله ولا سلّم له، وإنما جعلت له نقور في الجبل، فإذا أراد أحد أن يصعد إليه أرخيت له سلبة فأمسكها بيده وجعل رجليه في تلك النقور وصعد، وبه طاحونة يديرها حمار واحد، ويطلّ هذا الدير على النيل تجاه منفلوط وتجاه أمّ القصور، وتجاهه جزيرة يحيط بها الماء، وهي التي يقال لها شقلقيل، وبها قريتان إحداهما شقلقيل والأخرى بني شقير، ولهذا الدير عيد يجتمع فيه النصارى، وهو على اسم يومينا، وهو من الأجناد الذين عاقبهم ديقلطيانوس ليرجع عن النصرانية ويسجد للأصنام، فثبت على دينه، فقتله في عاشر حزيران وسادس عشر بابه.
دير بقطر: بحاجر أبنوب من شرقيّ بني مرّ تحت الجبل، على مائتي قصبة منه، وهو دير كبير جدّا، وله عيد يجتمع فيه نصارى البلاد شرقا وغربا، ويحضره الأسقف. وبقطر هذا هو ابن رومانوس، كان أبوه من وزراء ديقلطيانوس، وكان هو جميلا شجاعا له منزلة من الملك، فلما تنصر وعده الملك ومناه ليرجع إلى عبادة الأصنام فلم يفعل، فقتله في ثاني عشري نيسان، وسابع عشري برمودة.
دير بقطرشق: في بحريّ أبنوب، وهو دير لطيف خال، وإنما تأتيه النصارى مرّة في كل سنة. وبقطرشق ممن عذبه ديقلطيانوس ليرجع عن النصرانية فلم يرجع، فقتله في العشرين من هتور، وكان جنديا.
دير بوجرج: بني على اسم بوجرج، وهو خارج المعيصرة بناحية شرق بني مرّو، تارة يخلو من الرهبان وتارة يعمر بهم، وله وقت يعمل العيد فيه.
دير حماس: وحماس اسم بلد هو بحربها، وله عيدان في كل سنة وجموعات متعدّدة.
دير الطير: هذا الدير قديم، وهو مطلّ على النيل، وله سلالم منحوتة في الجبل، وهو قبالة سملوط. وقال الشابشتي وبنواحي أخميم دير كبير عامر يقصد من كل موضع، وهو بقرب الجبل المعروف بجبل الكهف، وفي موضع من الجبل شق فإذا كان يوم عيد هذا الدير لم يبق في البلد بوقير حتى يجيء إلى هذا الموضع، فيكون أمرا عظيما بكثرتها واجتماعها وصياحها عند الشق، ولا يزال الواحد بعد الواحد يدخل رأسه في ذلك الشق ويصيح ويخرج، ويجيء غيره إلى أن يعلق رأس أحدها وينشب في الموضع، فيضطرب حتى يموت، وتتفرّق حينئذ الباقية فلا يبقى منها طائر. وقال القاضي: أبو جعفر القضاعيّ: ومن عجائبها يعني مصر، شعب البوقيرات بناحية أشموم من أرض الصعيد، وهو شعب في جبل(4/426)
فيه صدع تأتيه البوقيرات في يوم من السنة كان معروفا، فتعرض أنفسها على الصدع، فكلما أدخل بوقير منها منقاره في الصدع مضى لطيته، فلا تزال تفعل ذلك حتى يلقتي الصدع على بوقير منها فيحبسه، وتمضي كلها ولا يزال ذلك الذي تحبسه معلقا حتى يتساقط. قال مؤلفه رحمه الله تعالى: وقد بطل هذا. في جملة ما بطل.
دير أبي هرمينة: بحريّ فاو الخراب، وبحريه بربافاو، وهي مملوءة كتبا وحكما، وبين دير الطين وهذا الدير نحو يومين ونصف، وأبو هرمينة هذا من قدماء الرهبان المشهورين عند النصارى.
دير السبعة جبال باخميم: هذا الدير داخل سبعة أودية، وهو دير عال بين جبال شامخة، ولا تشرق عليه الشمس إلّا بعد ساعتين من الشروق لعلوّ الجبل الذي هو في لحفه، وإذا بقي للغروب نحو ساعتين خيل لمن فيه أن الشمس قد غابت وأقبل الليل، فيشعلون حينئذ الضوء فيه، وعلى هذا الدير من خارجه عين ماء تظلها صفصافة، ويعرف هذا الموضع الذي فيه دير الصفصافة بوادي الملوك، لأن فيه نباتا يقال له الملوكة، وهو شبه الفجل، وماؤه أحمر قان يدخل في صناعة علم أهل الكيمياء، ومن داخل هذا الدير دير القرقس:
وهو في أعلى جبل، قد نقر فيه، ولا يعلم له طريق، بل يصعد إليه في نقور في الجبل، ولا يتوصل إليه إلّا كذلك، وبين دير الصفصافة ودير القرقس ثلاث ساعات، وتحت دير القرقس عين ماء عذب وأشجار بان.
دير صبرة: في شرقيّ اخميم، عرف بعرب يقال لهم بني صبرة، وهو على اسم ميخائيل الملك، وليس به غير راهب واحد.
دير أبي بشادة الأسقف: قريب من ناحية انقه، وهو بالحاجر، وتجاهه في الغرب منشأة اخميم، وكان أبو بشادة هذا من علماء النصارى.
دير بوهر الراهب: ويعرف بدير سوادة، وسوادة عرب تنزل هناك، وهو قبالة منية بني خصيب، خرّبته العرب، وهذه الأديرة كلها في الشرق من النيل، وجميعها لليعاقبة، وليس في الجانب الشرقيّ الآن سواها، وأما الجانب الغربيّ من النيل فإنه كثير الديارات لكثرة عمارته.
دير دموة بالجيزة: وتعرف بدموة السباع، وهو على اسم قزمان ودميان، وهو دير لطيف، وتزعم النصارى أن بعض الحكماء كان يقال له سبع أقام بدموة، وأن كنيسة دموة التي بأيدي اليهود الآن كانت ديرا من ديارات النصارى، فابتاعته منهم اليهود في ضائقة نزلت بهم، وقد تقدّم ذكر كنيسة دموة وقزمان ودميان من حكماء النصارى ورهبانهم العباد، ولهما أخبار عندهم.(4/427)
دير نهيا: قال الشابشتي: ونهيا بالجيزة، وديرها هذا من أحسن ديارات مصر، وأنزهها وأطيبها موضعا، وأجلها موقعا، عامر برهبانه وسكانه، وله في أيام النيل منظر عجيب، لأن الماء يحيط به من جميع جهاته، فإذا انصرف الماء وزرعت الأرض أظهرت أراضيه غرائب النواوير وأصناف الزهر، وهو من المنتزهات الموصوفة والبقاع المستحسنة، وله خليج يجتمع فيه سائر الطير، فهو أيضا متصيد ممنع، وقد وصفته الشعراء وذكرت حسنه وطيبه، قلت وقد خرب هذا الدير.
دير طمويه: قال ياقوت: طمويه- بفتح الطاء وسكون الميم وفتح الواو ساكنة- قريتان بمصر، إحداهما في كورة المرتاحية، والأخرى بالجيزة، قال الشابشتي: وطمويه في الغرب بإزاء حلوان، والدير راكب البحر، حوله الكروم والبساتين والنخل والشجر، وهو نزه عامر آهل، وله في النيل منظر حسن، وحين تخضرّ الأرض يكون في بساطين من البحر والزرع، وهو أحد منتزهات أهل مصر المذكورة، ومواضع لهوها المشهورة. ولابن أبي عاصم المصريّ فيه من البسيط:
واشرب بطمويه من صهباء صافية ... تزرى بخمر قرى هيت وعانات
على رياض من النوّار زاهرة ... تجري الجداول فيها بين جنات
كأن نبت الشقيق العصفريّ بها ... كاسات خمر بدت في إثر كاسات
كأنّ نرجسها من حسنه حدق ... في خفية يتناجى بالإشارات
كأنما النيل في مرّ النسيم به ... مستلئم في دروع سابريات
منازل كنت مفتونا بها شغفا ... وكنّ قدما مواخيري وحاناتي
إذ لا أزال ملما بالصبوح على ... ضرب النواقيس صبّا بالديارات
قلت هذا الدير عند النصارى على اسم بوجرج ويجتمع فيه النصارى من النواحي:
دير أقفاص: وصوابها أقفهس وقد خرب.
دير خارج ناحية منهري: خامل الذكر لأنهم لا يطعمون فيه أحدا.
دير الخادم: على جانب المنهي بأعمال البهنسا، على اسم غبريال الملك، به بستان فيه نخل وزيتون.
دير أشنين: عرف بناحية أشنين، فإنه في بحريها، وهو لطيف على اسم السيدة مريم، وليس به سوى راهب واحد.
دير ايسوس: ومعنى ايسوس يسوع، ويقال له دير أرجنوس، وله عيد في خامس عشري بشنس، فإذا كان ليلة هذا اليوم سدّت بئر فيه تعرف ببئر ايسوس، وقد اجتمع الناس(4/428)
إلى الساعة السادسة من النهار، ثم كشفوا الطابق عن البئر فإذا بها قد فاض ماؤها ثم ينزل، فحيث وصل الماء قاسوا منه إلى موضع استقرّ فيه الماء، فما بلغ كانت زيادة النيل في تلك السنة من الأذرع.
دير سدمنت: على جانب المنهي بالحاجر بين الفيوم والريف على اسم بوجرج، وقد ضعفت أحواله عما كان عليه وقل ساكنه.
دير النقلون: ويقال له دير الخشبة، ودير غبريال الملك، وهو تحت مغارة في الجبل الذي يقال له طارف الفيوم، وهذه المغارة تعرف عندهم بمظلة يعقوب، يزعمون أن يعقوب عليه السلام لما قدم مصر كان يستظل بها، وهذا الجبل مطلّ على بلدين يقال لهما اطفيح شيلا، وشلا. ويملأ الماء لهذا الدير من بحر المنهي ومن تحت دير سدمنت، ولهذا الدير عيد يجتمع فيه نصارى الفيوم وغيرهم، وهو على السكة التي تنزل إلى الفيوم ولا يسكلها إلّا القليل من المسافرين.
دير القلمون: هذا الدير في برّية تحت عقبة القلمون، يتوصل المسافر منها إلى الفيوم، يقال لها عقبة الغريق، وبني هذا الدير على اسم صمويل الراهب، وكان في زمن الفترة ما بين عيسى ومحمد صلّى الله عليه وسلّم، ومات في ثامن كيهك، وفي هذا الدير نخل كثير يعمل من تمره العجوة، وفيه أيضا شجر البلخ، ولا يوجد إلّا فيه، وثمره بقدر الليمون، طعمه حلو في مثل طعم الرامخ، ولنواه عدّة منافع، وقال أبو حنيفة في كتاب النبات: ولا ينبت اللبخ إلّا بأنصنا، وهو عود تنشر منه ألواح السفن، وربما أرعف ناشرها، ويباع اللوح منها بخمسين دينارا ونحوها، وإذا شدّ لوح منها بلوح وطرحا في الماء سنة التأما وصارا لوحا واحدا، وفي هذا الدير قصران مبنيان بالحجارة، وهما عاليان كبيران لبياضهما إشراق، وفيه أيضا عين ماء تجري، وفي خارجه عين أخرى، وبهذا الوادي عدّة معابد قديمة، وثمّ واد يقال له الأميلح فيه عين ماء تجري ونخيل مثمرة تأخذ العرب ثمرها، وخارج هذا الدير ملّاحة يبيع رهبان الدير ملحها فيعم تلك الجهات.
دير السيدة مريم: خارج طنبدى، ليس فيه سوى راهب واحد وهو على غير الطريق المسلوك، وكان بأعمال البهنسا عدّة ديارات خربت.
دير برقانا: بحريّ بني خالد، وهو مبنيّ بالحجر وعمارته حسنة، وهو من أعمال المنية، وكان به في القديم ألف راهب، وليس به الآن سوى راهبين، وهو في الحاجر تحت الجبل.
دير بالوجه: على جنب المنهي، وهو لأهل دلجة، وهو من الأديرة الكبار، وقد خرب حتى لم يبق به سوى راهب أو راهبين، وهو بإزاء دلجة بينه وبينها نحو ساعتين.(4/429)
دير مرقورة: ويقال أبو مرقورة، هذا الدير تحت دلجة بخارجها من شرقيها وليس به أحد.
دير صنبو: في خارجها من بحريها على اسم السيدة مريم وليس به أحد.
دير تادرس: قبليّ صنبو وقد تلاشى أمره لاتضاع حال النصارى.
دير الريرمون: في شرقيّ ناحية الريرمون، وهو شرقيّ ملوى وغربيّ أنصنا، وهو على اسم الملك غبريال.
دير المحرق: تزعم النصارى أن المسيح عليه السلام أقام في موضعه ستة أشهر وأياما، وله عيد عظيم يعرف بعيد الزيتونة وعيد العنصرة يجتمع فيه عالم كثير.
دير بني كلب: عرف بذلك لنزول بني كلب حوله، وهو على اسم غبريال، وليس فيه أحد من الرهبان وإنما هو كنيسة لنصارى منفلوط وهو غربيها.
دير الجاولية: هذا الدير ناحية الجاولية من قبليها، وهو على اسم الشهيد مرقورس الذي يقال له مرقورة، وعليه رزق محبسة، وتأتيه النذورات والعوائد وله عيدان في كل سنة.
دير السبعة جبال: هذا الدير على رأس الجبل الذي غربيّ سيوط، على شاطيء النيل، ويعرف بدير بخنس القصير، وله عدّة أعياد، وخرب في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة من منسر طرقه ليلا. بخنس: ويقال أبو بخنس القصير، كان راهبا قمصا، له أخبار كثيرة منها: أنه غرس خشبة يابسة في الأرض بأمر شيخه له، وسقاها الماء مدّة فصارت شجرة مثمرة تأكل منها الرهبان، وسميت شجرة الطاعة ودفن في ديره.
دير المطل: هذا الدير على اسم السيدة مريم، وهو على طرف الجبل تحت دير السبعة جبال قبالة سيوط، وله عيد يحضره أهل النواحي وليس به أحد من الرهبان.
أديرة أدرنكة
اعلم أن ناحية أدرنكة هي من قرى النصارى الصعايدة، ونصاراها أهل علم في دينهم، وتفاسيرهم في اللسان القبطيّ، ولهم أديرة كثيرة في خارج البلد من قبليها مع الجبل، وقد خرب أكثرها وبقي منها:
دير بوجرج: وهو عامر البناء وليس به أحد من الرهبان ويعمل فيه عيد في أوانه.
دير أرض الحاجر ودير ميكائيل ودير كرفونه: على اسم السيدة مريم، وكان يقال له ارافونه واغرافونا ومعناه النساخ، فإن نساخ علوم النصارى كانت في القديم تقيم به وهو على(4/430)
طرف الجبل، وفيه مغاير كثيرة منها ما يسير الماشي بجنبه نحو يومين.
دير أبي بغام: تحت دير كرفونة بالحاجر، وقد كان أبو بغام جنديا في أيام ديقلطيانوس فتنصر وعذب ليرجع عن دينه، ثم قتل في ثامن عشري كانون الأوّل، وثاني كيهك.
ديربوساويرس: بحاجر أدرنكة، كان على اسم السيدة مريم، وكان ساويرس من عظماء الرهبان فعمل بطركا، وظهرت آية عند موته، وذلك أنه أنذرهم لما سار إلى الصعيد بأنه إذا مات ينشق الجبل وتقع منه قطعة عظيمة على الكنيسة فلا تضرّها، فلما كان في بعض الأيام سقطت قطعة عظيمة من الجبل كما قال، فعلم رهبان هذا الدير بأن ساويرس قد مات، فأرخوا ذلك فوجدوه وقت موته فسموا الدير حينئذ باسمه.
دير تادرس: تحت دير بوساويرس، وتادرس اثنان كانا من أجناد ديقلطيانوس، أحدهما يقال له قاتل التنين والآخر الاسفهسلار، وقتلا كما قتل غيرهما.
دير منسى آك: ويقال منساك، وبني ساك وايساآك، ومعنى ذلك إسحاق، وكان على اسم السيدة ماريهام يعني مار مريم، ثم عرف بمنساك، وكان راهبا قديما له عندهم شهرة، وبهذا الدير بئر تحته في الحاجر منها شرب الرهبان فإذا زاد النيل شربوا من مائه.
دير الرسل: تحت دير منساك، ويعرف بدير الأثل، وهو لأعمال بوتيج، ودير منساك لأهل ربقة هو ودير ساويرس، ودير كرفونة لأهل سيوط، ودير بوجرج لأهل أدرنكة، ودير الأئل كان في خراب فعمر بجانبه كفر لطيف عرف بمنشأة الشيخ، لأن الشيخ أبا بكر الشاذليّ أنشأه وأنشأ بستانا كبيرا، وقد وجد موضعه بئرا كبيرة وجد بها كنزا، أخبرني من شاهد من ذهبه دنانير مربعة بأحد وجهيها صليب وزنة الدينار مثقال ونصف. وأديرة أدرنكة المذكورة قريب بعضها من بعض، وبينها مغاير عديدة منقوش على ألواح فيها نقوشات من كتابة القدماء كما على البرابي، وهي مزخرفة بعدّة أصباغ، ملوّنة تشتمل على علوم شتى، ودير السبعة جبال ودير المطل ودير النساخ خارج سيوط في المقابر، ويقال أنه كان في الحاجرين ثلاثمائة وستون ديرا، وأن المسافر كان لا يزال من البدرشين إلى أصفون في ظل البساتين، وقد خرب ذلك وباد أهله.
دير موشه: وموشه خارج سيوط من قبليها بني على اسم توما الرسول الهندي، وهو بين الغيطان قريب من ربقة، وفي أيام النيل لا يوصل إليه إلّا في مركب، وله أعياد والأغلب على نصارى هذه الأديرة معرفة القبطيّ الصعيديّ، وهو أصل اللغة القبطية، وبعدها اللغة القبطية البحرية، ونساء نصارى الصعيد وأولادهم لا يكادون يتكلمون إلّا بالقبطية الصعيدية، ولهم أيضا معرفة تامّة باللغة الرومية.
دير أبى مقروفة: وأبو مقروفة اسم للبلدة التي بها هذا الدير، وهو منقور في لحف(4/431)
الجبل وفيه عدّه مغاير وهو على اسم السيدة مريم، وبمقروفة نصارى كثيرة غنامة ورعاة أكثرهم همج، وفيهم قليل من يقرأ ويكتب، وهو دير معطش.
دير بومغام: خارج طما وأهلها نصارى وكانوا قديما أهل علم.
دير بوشنوده: ويعرف بالدير الأبيض، وهو غربيّ ناحية سوهاي وبناؤه بالحجر وقد خرب ولم يبق منه إلا كنيسته، ويقال إن مساحته أربعة فدادين ونصف وربع، والباقي منه نحو فدّان وهو دير قديم.
الدير الأحمر: ويعرف بدير أبي بشاي، وهو بحريّ الدير الأبيض بينهما نحو ثلاث ساعات، وهو دير لطيف مبنيّ بالطوب الأحمر، وأبو بشاي هذا من الرهبان المعاصرين لشنوده، وهو تلميذه، وصار من تحت يده ثلاث آلاف راهب، وله دير آخر في برّية شبهات.
دير أبي ميساس: ويقال أبو ميسيس، واسمه موسى، وهذا الدير تحت البلينا وهو دير كبير. وأبو ميسيس هذا كان راهبا من أهل البلينا وله عندهم شهرة، وهم ينذرونه ويزعمون فيه مزاعم، ولم يبق بعد هذا الدير إلا أديرة بحاجر اسنا ونقادة قليلة العمارة، وكان بأصفون دير كبير وكانت أصفون من أحسن بلاد مصر وأكثر نواحي الصعيد فواكه، وكان رهبان ديرها معروفين بالعلم والمهارة، فخربت أصفون وخرب ديرها. وهذا آخر أديرة الصعيد وهي كلها يحمل متلاشية آئلة إلى الدثور بعد كثرة عمارتها ووفور أعداد رهبانها وسعة أرزاقهم، وكثرة ما كان يحمل إليهم.
وأما
الوجه البحري: فكان فيه أديرة كثيرة خربت وبقي منها بقية، فكان بالمقس خارج القاهرة من بحريها عدّة كنائس هدمها الحاكم بأمر الله أبو عليّ منصور في تاسع عشر ذي الحجة سنة تسع وتسعين وثلاثمائة وأباح ما كان فيها، فنهب منها شيء كثير جدّا بعد ما أمر في شهر ربيع الأوّل منها بهدم كنائس راشدة خارج مدينة مصر من شرقيها، وجعل موضعها الجامع المعروف براشدة، وهدم أيضا في سنة أربع وتسعين كنيستين هناك، وألزم النصارى بلبس السواد وشدّ الزنار، وقبض على الأملاك التي كانت محبسة على الكنائس والأديرة وجعلها في ديوان السلطان، وأحرق عدّة كثيرة من الصلبان، ومنع النصارى من إظهار زينة الكنائس في عيد الشعانين، وتشدّد عليهم وضرب جماعة منهم، وكانت بالروضة كنيسة بجوار المقياس فهدمها السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب في سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وكان في ناحية أبي النمرس من الجيزة كنيسة قام في هدمها رجل من الزيالعة، لأنه سمع أصوات النواقيس يجهر بها في ليلة الجمعة بهذه الكنيسة، فلم يتمكن من ذلك في أيام الأشرف شعبان بن حسين لتمكن الأقباط في الدولة، فقام في ذلك مع الأمير الكبير برقوق، وهو يومئذ القائم بتدبير الدولة، حتى هدمها على يد القاضي جمال الدين محمود(4/432)
العجميّ محتسب القاهرة في ثامن عشر رمضان سنة ثمانين وسبعمائة، وعملت مسجدا.
دير الخندق: ظاهر القاهرة من بحريها، عمره القائد جوهر عوضا عن دير هدمه في القاهرة، كان بالقرب من الجامع الأقمر حيث البئر التي تعرف الآن ببئر العظمة، وكانت إذ ذاك تعرف ببئر العظام من أجل أنه نقل عظاما كانت بالدير وجعلها بدير الخندق، ثم هدم دير الخندق في رابع عشري شوّال سنة ثمان وسبعين وستمائة، في أيام المنصور قلاون، ثم جدّد هذا الدير الذي هناك بعد ذلك، وعمل كنيستين يأتي ذكرهما في الكنائس.
دير سرياقوس: كان يعرف بأبي هور، وله عيد يجتمع فيه الناس، وكان فيه أعجوبة ذكرها الشابشتي، وهو أن من كان به خنازير أخذه رئيس هذا الدير وأضجعه وجاءه بخنزير فلحس موضع الوجع، ثم أكل الخنازير التي فيه فلا يتعدّى ذلك إلى الموضع الصحيح، فإذا نظف الموضع ذرّ عليه رئيس الدير من رماد خنزير فعل مثل هذا الفعل من قبل ودهنه بزيت قنديل البيعة، فإنه يبرأ ثم يؤخذ ذلك الخنزير الذي أكل خنازير العليل فيذبح ويحرق، ويعدّ رماده لمثل هذه الحالة، فكان لهذا الدير دخل عظيم ممن يبرأ من هذه العلة، وفيه خلق من النصارى.
دير اتريب: ويعرف بماري مريم، وعيده في حادي عشري بؤنه، وذكر الشابشتي أن حمامة بيضاء تأتي في ذلك العيد فتدخل المذبح، لا يدرون من أين جاءت ولا يرونها إلى يوم مثله. وقد تلاشى أمر هذا الدير حتى لم يبق به إلّا ثلاثة من الرهبان، لكنهم يجتمعون في عيده، وهو على شاطيء النيل قريب من بنها العسل.
دير المغطس: عند الملاحات قريب من بحيرة البراس، وتحج إليه النصارى من قبليّ أرض مصر، ومن بحريها، مثل حجهم إلى كنيسة القيامة، وذلك يوم عيده، وهو في بشنس ويسمونه عيد الظهور من أجل أنهم يزعمون أن السيدة مريم تظهر لهم فيه مزاعم كلها من أكاذيبهم المختلفة، وليس بحذاء هذا الدير عمارة سوى منشأة صغيرة في قبليه بشرق، وبقربه الملاحة التي يؤخذ منها الملح الرشيديّ، وقد هدم هذا الدير في شهر رمضان سنة إحدى وأربعين وثمانمائة بقيام بعض الفقراء المعتقدين.
دير العسكر: في أرض السباخ على يوم من دير المغطس، على اسم الرسل، وبقربه ملاحة الملح الرشيديّ ولم يبق به سوى راهب واحد.
دير جميانة: على اسم بوجرج قريب من دير العسكر على ثلاث ساعات منه، وعيده عقب عيد دير المغطس وليس به الآن أحد.
دير الميمنة: بالقرب من دير العسكر، كانت له حالات جليلة، ولم يكن في القديم دير بالوجه البحريّ أكثر رهبانا منه، إلّا أنه تلاشى أمره وخرب، فنزله الحبش وعمروه،(4/433)
وليس في السباخ سوى هذه الأربعة الأديرة. وأما وادي هبيب وهو وادي النطرون، ويعرف ببرّية شيهات وببرّية الأسقط وبميزان القلوب، فإنه كان بها في القديم مائة دير، ثم صارت سبعة ممتدّة غربا على جانب البرّية القاطعة بين بلاد البحيرة والفيوم، وهي في رمال منقطعة وسباخ مالحة وبرار منقطعة معطشة وقفار مهلكة، وشارب أهلها من حفائر، وتحمل النصارى إليهم النذور والقرابين، وقد تلاشت في هذا الوقت بعدما ذكر مؤرخو النصارى أنه خرج إلى عمرو بن العاص من هذه الأديرة سبعون ألف راهب بيد كل واحد عكاز، فسلموا عليه وأنه كتب لهم كتابا هو عندهم.
فمنها
دير أبي مقار الكبير: وهو دير جليل عندهم، وبخارجه أديرة كثيرة خربت، وكان دير النساك في القديم، ولا يصح عندهم بطركية البطرك حتى يجلسوه في هذا الدير بعد جلوسه بكرسيّ اسكندرية، ويذكر أنه كان فيه من الرهبان ألف وخمسمائة لا تزال مقيمة به، وليس به الآن إلّا قليل منهم، والمقارات ثلاثة: أكبرهم صاحب هذا الدير، ثم أبو مقار الإسكندرانيّ، ثم أبو مقار الأسقف. وهؤلاء الثلاثة قد وضعت رممهم في ثلاث أنابيب من خشب، وتزورها النصارى بهذا الدير، وبه أيضا الكتاب الذي كتبه عمرو بن العاص لرهبان وادي هبيب بجرانة نواحي الوجه البحري على ما أخبرني من أخبر برؤيته فيه.
أبو مقار الأكبر: هو مقاريوس، أخذ الرهبانية عن أنطونيوس، وهو أوّل من لبس عندهم القلنسوة والاشكيم، وهو سير من جلد فيه صليب يتوشح به الرهبان فقط، ولقي انطونيوس بالجبل الشرقيّ من حيث دير العزبة، وأقام عنده مدّة، ثم ألبسه لباس الرهبانية وأمره بالمسير إلى وادي النطرون ليقيم هناك، ففعل ذلك واجتمع عنده الرهبان الكثيرة العدد، وله عندهم فضائل عديدة منها: أنه كان لا يصوم الأربعين إلّا طاويا في جميعها لا يتناول غذاء ولا شرابا البتة، مع قيام ليلها. وكان لا يعمل الخوص ويتقوّت منه، وما أكل خبزا طريا قط، بل يأخذ القراقيش فيبلها في نقاعة الخوص ويتناول منها هو ورهبان الدير ما يمسك الرمق من غير زيادة، هذا قوتهم مدّة حياتهم حتى مضوا لسبيلهم، وأما أبو مقار الإسكندرانيّ فإنه ساح من الإسكندرية إلى مقاريوس المذكور وترهب على يديه، ثم كان أبو مقار الثالث وصار أسقفا.
دير أبي بخنس القصير: يقال أنه عمر في أيام قسطنطين بن هيلانة، ولأبي بخنس هذا فضائل مذكورة، وهو من أجل الرهبان، وكان لهذا الدير حالات شهيرة وبه طوائف من الرهبان، ولم يبق به الآن إلّا ثلاثة رهبان.
دير الياس: عليه السلام، وهو دير للحبشة، وقد خرب دير بخنس كما خرب دير الياس، أكلت الأرضة أخشابهما فسقطا، وصار الحبشة إلى دير سيدة بوبخنس القصير، وهو دير لطيف بجوار دير بوبخنس القصير. وبالقرب من هذه الأديرة.(4/434)
دير انبانوب: وقد خرب هذا الدير أيضا انبانوب هذا من أهل سمنود قتل في الإسلام ووضع جسده في بيت بسمنود.
دير الأرمن: قريب من هذه الأديرة وقد خرب. وبجوارها أيضا:
دير بوبشاي: وهو دير عظيم عندهم، من أجل أن بوبشاي هذا كان من الرهبان الذين في طبقة مقاريوس وبخنس القصير، وهو دير كبير جدّا.
دير بإزاء دير بوبشاي: كان بيد اليعاقبة، ثم ملكته رهبان السريان من نحو ثلاثمائة سنة، وهو بيدهم الآن، ومواضع هذه الأديرة يقال لها بركة الأديرة.
دير سيدة برموس: على اسم السيدة مريم فيه بعض رهبان. وبإزائه:
دير موسى: ويقال أبو موسى الأسود، ويقال برمؤس، وهذا الدير لسيدة برمؤس، فبرموس اسم الدير وله قصة حاصلها أن مكسيموس ودوماديوس كانا ولدي ملك الروم، وكان لهما معلم يقال له ارسانيوس، فسار المعلم من بلاد الروم إلى أرض مصر، وعبر برّية شيهات هذه، وترهب وأقام بها حتى مات، وكان فاضلا. وأتاه في حياته ابنا الملك المذكوران وترهبا على يديه، فلما ماتا بعث أبوهما فبنى على اسمهما كنيسة برموس. وأبو موسى الأسود كان لصا فاتكا قتل مائة نفس، ثم إنه تنصر وترهب وصنف عدّة كتب، وكان ممن يطوي الأربعين في صومه وهو بربريّ.
دير الزجاج: هذا الدير خارج مدينة الإسكندرية، ويقال له الهايطون، وهو على اسم بوجرج الكبير، ومن شرط البطرك أنه لا بدّ أن يتوجه من المعلقة بمصر إلى دير الزجاج هذا، ثم إنهم في هذا الزمان تركوا ذلك، فهذه أديرة اليعاقبة.
وللنساء ديارات تختص بهنّ: فمنها دير الراهبات بحارة زويلة من القاهرة، وهو دير عامر بالإبكار المترهبات وغيرهنّ من نساء النصارى.
دير البنات: بحارة الروم بالقاهرة عامر بالنساء المترهبات.
دير المعلقة: بمدينة مصر، وهو أشهر ديارات النساء عامر بهنّ.
دير بربارة: بمصر بجوار كنيسة بربارة عامر بالبنات المترهبات بربارة: كانت قدّيسة في زمان دقلطيانوس، فعذبها لترجع عن ديانتها وتسجد للأصنام، فثبتت على دينها وصبرت على عذاب شديد وهي بكر لم يمسها رجل، فلما يئس منها ضرب عنقها وعنق عدّة من النساء معها وللنصارى الملكية قلاية بطركهم بجوار كنيسة ميكائيل بالقرب من جسر الأفرم خارج مصر، وهي مجمع الرهبان الواردين من بلاد الروم.(4/435)
دير بخنس القصير: المعروف بالقصيّر، وصوابه عندهم دير القصير على وزن شهيد، وحرّف فقيل دير القصيّر، بضم القاف وفتح الصاد وتشديد الياء، فسماه المسلمون دير القصير بضم القاف وفتح الصاد وإسكان الياء آخر الحروف، كأنه تصغير قصير، وأصله كما عرّفتك دير القصير الذي هو ضدّ الطويل، وسمي أيضا دير هر قل، ودير البغل، وقد تقدّم ذكره. وكان من أعظم ديارات النصارى وليس به الآن سوى واحد يحرسه، وهو بيد الملكية.
دير الطور: قال ابن سيده: الطور الجبل، وقد غلب على طور سيناء جبل بالشام، وهو بالسريانية طوري والنسب إليه طوريّ وطواري. وقال ياقوت: طور سبعة مواضع:
الأوّل طور زيتا بلفظ الزيت من الأدهان مقصور علم لجبل بقرب رأس عين. الثاني طور زيت أيضا جبل بالبيت المقدّس، وهو شرقيّ سلوان. الثالث الطور علم لجبل بعينه مطلّ على مدينة طبرية بالأردن. الرابع الطور علم لجبل كورة تشتمل على عدّة قرى بأرض مصر من الجهة القبلية بين مصر وجبل فاران. الخامس طور سيناء اختلفوا فيه فقيل هو جبل بقرب إيلة، وقيل جبل بالشام، وقيل سيناء حجازية، وقيل سحرتية. السادس طور عبدين بفتح العين وسكون الباء الموحدة وكسر الدال المهملة وياء آخر الحروف ونون، اسم لبلدة من نواحي نصيبين في بطن الجبل المشرف عليها المتصل بجبل جوديّ. السابع طور هارون أخي موسى عليهما السلام. وقال الواحديّ: في تفسيره، وقال الكلبيّ وغيره: والجبل في قوله تعالى، ولكن انظر إلى الجبل أعظم جبل بمدين يقال له زبير، وذكر الكلبيّ أن الطور سمي بيطور بن إسماعيل. قال السهيليّ: فلعله محذوف الياء إن كان صح ما قاله.
وقال عمر بن شيبة: أخبرني عبد العزيز عن أبي معشر عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أربعة أنهار في الجنة وأربعة أجبل وأربع ملاحم في الجنة، فأما الأنهار فسيحان وجيحان والنيل والفرات، وأما الأجبل فالطور ولبنان وأحد وورقان، وسكت عن الملاحم» . وعن كعب الأحبار معاقل المسلمين ثلاثة: فمعقلهم من الروم دمشق، ومعقلهم من الدجال الأردن، ومعقلهم من يأجوج ومأجوج الطور. وقال شعبة عن أرطاة بن المنذر: إذا خرج يأجوج ومأجوج أوحى الله تعالى إلى عيسى بن مريم عليه السلام أني قد أخرجت خلقا من خلقي لا يطيقهم أحد غيري. فمرّ بمن معك إلى جبل الطور، فيمرّ ومعه من الذراري اثنا عشر ألفا. وقال طلق بن حبيب عن زرعة: أردت الخروج إلى الطور فأتيت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقلت له: فقال إنما تشدّ الرحال إلى ثلاثة مساجد: إلى مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى. فدع عنك الطور فلا تأته. وقال القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعيّ، وقد ذكر كور أرض مصر: ومن كور القبلة قرى الحجاز وهي: كورة الطور وفاران، وكورة(4/436)
راية والقلزم، وكورة إيلة وحيزها، ومدين وحيزها، والعويبد والحوراء وحيزهما، ثم كورة بدا وشعيب. قلت لا خلاف بين علماء الأخبار من أهل الكتاب أن جبل الطور هذا هو الذي كلم الله تعالى نبيه موسى عليه السلام عليه، أو عنده، وبه إلى الآن دير بيد الملكية وهو عامر وفيه بستان كبير به نخل وعنب وغير ذلك من الفواكه. وقال الشابشتيّ: وطور سينا هو الجبل الذي تجلّى فيه النور لموسى بن عمران عليه السلام، وفيه صعق، والدير في أعلى الجبل مبنيّ بحجر أسود، عرض حصنه سبع أذرع، وله ثلاثة أبواب حديد، وفي غربيه باب لطيف، وقدّامه حجر أقيم إذا أرادوا رفعه رفعوه، وإذا قصدهم أحد أرسلوه فانطبق على الموضع فلم يعرف مكان الباب، وداخل الدير عين ماء، وخارجه عين أخرى، وزعم النصارى أن به نارا من أنواع النار التي كانت ببيت المقدس، يقدمون منها في كلّ عشية، وهي بيضاء لطيفة ضعيفة الحرّ لا تحرق، ثم تقوى إذا أوقد منها السراج، وهو عامر بالرهبان، والناس يقصدونه، وهو من الديارات الموصوفة. قال ابن عامر فيه:
يا راهب الدير ماذا الضوء والنور ... فقد أضاء بما في ديرك الطور
هل حلّت الشمس فيه دون أبرجها ... أو غيّب البدر فيه وهو مستور
فقال ما حلّه شمس ولا قمر ... لكن تقرّب فيه اليوم قورير
قلت ذكر مؤرخو النصارى أنّ هذا الدير أمر بعمارته يوسطيانوس ملك الروم بقسطنطينية، فعمل عليه حصن فوقه عدّة قلالي، وأقيم فيه الحرس لحفظ رهبانه من قوم يقال لهم بنو صالح من العرب، وفي أيام هذا الملك كان المجمع الخامس من مجامع النصارى، وبينه وبين القلزم، وكانت مدينة، طريقان إحداهما في البرّ والأخرى في البحر، وهما جميعا يؤدّيان إلى مدينة فاران، وهي من مدائن العمالقة، ثم منها إلى الطور مسيرة يومين، ومن مدينة مصر إلى القلزم ثلاثة أيام، ويصعد إلى جبل الطور بستة آلاف وستمائة وست وستين مرقاة، وفي نصف الجبل كنيسة لإيلياء النبيّ، وفي قلته كنيسة على اسم موسى عليه السلام بأساطين من رخام، وأبواب من صفر، وهو الموضع الذي كلم الله تعالى فيه موسى، وقطع منه الألواح ولا يكون فيها إلّا راهب واحد للخدمة، ويزعمون أنه لا يقدر أحد أن يبيت فيها، بل يهيأ له موضع من خارج يبيت فيه، ولم يبق لهاتين الكنيستين وجود.
دير البنات بقصر الشمع بمصر: وهو على اسم بوجرج، وكان مقياس النيل قبل الإسلام، وبه آثار ذلك إلى اليوم، فهذا ما للنصارى اليعاقبة، والملكية رجالهم ونسائهم من الديارات بأرض مصر قبليها وبحريها، وعدّتها ستة وثمانون ديرا منها لليعاقبة ... «1» ديرا وللملكية ... «2» .(4/437)
ذكر كنائس النصارى
قال الأزهريّ: كنيسة اليهود جمعها كنائس، وهي معرّبة أصلها كنشت. انتهى. وقد نطقت العرب بذكر الكنيسة. قال العباس بن مرداس السلميّ:
بدورون بي في ظل كلّ كنيسة ... وما كان قومي يبنون الكنائسا
وقال ابن قيس الرقيات: كأنها دمية مصوّرة في بيعة من كنائس الروم.
كنيستا الخندق: ظاهر القاهرة، إحداهما على اسم غبريال الملاك، والأخرى على اسم مرقوريوس، وعرفت برويس، وكان راهبا مشهورا بعد سنة ثمانمائة، وعند هاتين الكنيستين يقبر النصارى موتاهم، وتعرف بمقبرة الخندق، وعمرت هاتان الكنيستان عوضا عن كنائس المقس في الأيام الإسلامية.
كنيسة حارة زويلة بالقاهرة: كنيسة عظيمة عند النصارى اليعاقبة، وهي على اسم السيدة، وزعموا أنها قديمة تعرف بالحكيم زايلون، وكان قبل الملة الإسلامية بنحو مائتين وسبعين سنة، وأنه صاحب علوم شتى، وأن له كنزا عظيما يتوصل إليه من بئر هناك.
كنيسة تعرف بالمغيئة: بحارة الروم من القاهرة على اسم السيدة مريم، وليس لليعاقبة بالقاهرة سوى هاتين الكنيستين، وكان بحارة الروم أيضا كنيسة أخرى يقال لها كنيسة بربارة هدمت في سنة ثمان عشرة وسبعمائة، وسبب ذلك أن النصارى رفعوا قصة للسلطان الملك الناصر محمد بن قلاون يسألون الإذن في إعادة ما تهدّم منها، فأذن لهم في ذلك فعمروها أحسن ما كانت، فغضبت طائفة من المسلمين ورفعوا قصة للسلطان بأن النصارى أحدثوا بجانب هذه الكنيسة بناء لم يكن فيها، فرسم للأمير علم الدين سنجر الخازن، والي القاهرة بهدم ما جدّدوه، فركب وقد اجتمع الخلائق، فبادروا وهدموا الكنيسة كلها في أسرع وقت، وأقاموا في موضعها محرابا وأذنوا وصلوا وقرؤا القرآن، كل ذلك بأيديهم، فلم تمكن معارضتهم خشية الفتنة، فاشتدّ الأمر على النصارى وشكوا أمرهم للقاضي كريم الدين ناظر الخاص، فقام وقعد غضبا لدين أسلافه، وما زال بالسلطان حتى رسم بهدم المحراب فهدم، وصار موضعه كوم تراب ومضى الحال على ذلك.
كنيسة بومنا: هذه الكنيسة قريبة من السدّ فيما بين الكيمان بطريق مصر، وهي ثلاث كنائس متجاورة، إحداها لليعاقبة، والأخرى للسريان، وأخرى للأرمن، ولها عيد في كل سنة تجتمع إليه النصارى.
كنيسة المعلقة: بمدينة مصر في خط قصر الشمع، على اسم السيدة، وهي جليلة القدر عندهم، وهي غير القلاية التي تقدّم ذكرها.(4/438)
كنيسة شنوده: بمصر، نسبت لأبي شنودة الراهب القديم، وله أخبار منها: أنه كان ممن يطوى في الأربعين إذا صام، وكان تحت يده ستة آلاف راهب يتقوّت هو وإياهم من عمل الخوص، وله عدّة مصنفات.
كنيسة مريم: بجوار كنيسة شنودة، هدمها عليّ بن سليمان بن عليّ بن عبد الله بن عباس أمير مصر لما ولي من قبل أمير المؤمنين الهادي موسى، في سنة تسع وستين ومائة، وهدم كنائس محرس قسطنطين، وبذل له النصارى في تركها خمسين ألف دينار فامتنع، فلما عزل بموسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس في خلافة هارون الرشيد، أذن موسى بن عيسى للنصارى في بنيان الكنائس التي هدمها عليّ بن سليمان، فبنيت كلها بمشورة الليث بن سعد، وعبد الله بن لهيعة. وقالا هو من عمارة البلاد، واحتجا بأن الكنائس التي بمصر لم تبن إلّا في الإسلام في زمن الصحابة والتابعين.
كنيسة بوجرج الثقة: هذه الكنيسة في درب بخط قصر الشمع بمصر يقال له درب الثقة، ويجاورها كنيسة سيدة بوجرج.
الثقة، ويجاورها كنيسة سيدة بوجرج.
كنيسة بربارة: بمصر، كبيرة جليلة عندهم، وهي تنسب إلى القديسة بربارة الراهبة، وكان في زمانها راهبتان بكران، وهما ايسي وتكلة، ويعمل لهنّ عيد عظيم بهذه الكنيسة يحضره البطريق.
كنيسة بوسرحه: بالقرب من بربارة بجوار زاوية ابن النعمان، فيها مغارة يقال أن المسيح وأمّه مريم عليها السلام جلسا بها.
كنيسة بابليون: في قبليّ قصر الشمع بطريق جسر الأفرم، وهذه الكنيسة قديمة جدّا، وهي لطيفة، ويذكر أن تحتها كنز بابليون وقد خرب ما حولها.
كنيسة تاودورس الشهيد: بجوار بابليون، نسبت للشهيد تاودورس الإسفهسلار.
كنيسة بومنا بجوار بابليون أيضا: وهاتان الكنيستان مغلوقتان لخراب ما حولهما.
كنيسة بومنا: بالحمراء، وتعرف الحمراء اليوم بخط قناطر السباع، فيما بين القاهرة ومصر، وأحدثت هذه الكنيسة في سنة سبع عشرة ومائة من سني الهجرة بإذن الوليد بن رفاعة أمير مصر، فغضب وهيب اليحصبيّ وخرج على السلطان وجاء إلى ابن رفاعة ليفتك به، فأخذ وقتل، وكان وهيب مدريا من اليمن، قدم إلى مصر فخرج القرّاء على الوليد بن رفاعة غضبا لوهيب وقاتلوه، وصارت معونة امرأة وهيب تطوف ليلا على منازل القرّاء تحرّضهم على الطلب بدمه، وقد حلقت رأسها، وكانت امرأة جزلة، فأخذ ابن رفاعة أبا عيسى مروان بن عبد الرحمن اليحصبيّ بالقرّاء، فاعتذر وخلى ابن رفاعة عنهم، فسكنت(4/439)
الفتنة بعد ما قتل جماعة، ولم تزل هذه الكنيسة بالحمراء إلى أن كانت واقعة هدم الكنائس في أيام الناصر محمد بن قلاون على ما يأتي ذكر ذلك، والخبر عن هدم جميع كنائس أرض مصر وديارات النصارى في وقت واحد.
كنيسة الزهري: كانت في الموضع الذي فيه اليوم البركة الناصرية بالقرب من قناطر السباع في برّ الخليج الغربيّ، غربيّ اللوق، واتفق في أمرها عدّة حوادث، وذلك أن الملك الناصر محمد بن قلاون لما أنشأ ميدان المهاري المجاور لقناطر السباع، في سنة عشرين وسبعمائة، قصد بناء زريبة على النيل الأعظم بجوار الجامع الطيبرسيّ، فأمر بنقل كوم تراب كان هناك، وحفر ما تحته من الطين لأجل بناء الزريبة، وأجرى الماء إلى مكان الحفر، فصار يعرف إلى اليوم بالبركة الناصرية، وكان الشروع في حفر هذه البركة من آخر شهر ربيع الأوّل سنة إحدى وعشرين وسبعمائة، فلما انتهى الحفر إلى جانب كنيسة الزهريّ، وكان بها كثير من النصارى لا يزالون فيها، وبجانبها أيضا عدّة كنائس في الموضع الذي يعرف اليوم بحكر أقبغا، ما بين السبع سقايات وبين قنطرة السدّ خارج مدينة مصر، أخذ الفعلة في الحفر حول كنيسة الزهريّ حتى بقيت قائمة في وسط الموضع الذي عينه السلطان ليحفر، وهو اليوم بركة الناصرية، وزاد الحفر حتى تعلقت الكنيسة، وكان القصد من ذلك أن تسقط من غير قصد لخرابها، وصارت العامّة من غلمان الأمراء العمالين في الحفر وغيرهم في كل وقت يصرخون على الأمراء في طلب هدمها وهم يتغافلون عنهم إلى أن كان يوم الجمعة التاسع من شهر ربيع الآخر من هذه السنة، وقت اشتغال الناس بصلاة الجمعة، والعمل من الحفر بطال، فتجمع عدّة من غوغاء العامّة بغير مرسوم السلطان وقالوا بصوت عال مرتفع الله أكبر، ووضعوا أيديهم بالمساحي ونحوها في كنيسة الزهري وهدموها حتى بقيت كوما، وقتلوا من كان فيها من النصارى، وأخذوا جميع ما كان فيها، وهدموا كنيسة بومنا التي كانت بالحمراء، وكانت معظمة عند النصارى من قديم الزمان، وبها عدّة من النصارى قد انقطعوا فيها، ويحمل إليهم نصارى مصر سائر ما يحتاج إليه، ويبعث إليها بالنذور الجليلة والصدقات الكثيرة، فوجد فيها مال كثير ما بين نقد ومصاغ وغيره، وتسلق العامّة إلى أعلاها وفتحوا أبوابها وأخذوا منها مالا وقماشا وجرار خمر، فكان أمرا مهولا.
ثم مضوا من كنيسة الحمراء بعد ما هدموها إلى كنيستين بجوار السبع سقايات تعرف إحداهما بكنيسة البنات، كان يسكنها بنات النصارى وعدّة من الرهبان، فكسروا أبواب الكنيستين وسبوا البنات وكنّ زيادة على ستين بنتا، وأخذوا ما عليهنّ من الثياب ونهبوا سائر ما ظفروا به، وحرّقوا وهدموا تلك الكنائس كلها، هذا والناس في صلاة الجمعة، فعندما خرج الناس من الجوامع شاهدوا هولا كبيرا من كثرة الغبار ودخان الحريق ومرج الناس وشدّة حركاتهم، ومعهم ما نهبوه، فما شبه الناس الحال لهوله إلّا بيوم القيامة، وانتشر الخبر وطار إلى الرميلة تحت قلعة الجبل، فسمع السلطان ضجة عظيمة ورجة منكرة أفزعته،(4/440)
فبعث لكشف الخبر، فلما بلغه ما وقع انزعج انزعاجا عظيما وغضب من تجري العامّة وإقدامهم على ذلك بغير أمره، وأمر الأمير أيدغمش أميراخور أن يركب بجماعة الأوشاقية ويتدارك هذا الخلل، ويقبض على من فعله، فأخذ أيدغمش يتهيأ للركوب وإذا بخبر قد ورد من القاهرة أن العامّة ثارت في القاهرة وخرّبت كنيسة بحارة الروم، وكنيسة بحارة زويلة، وجاء الخبر من مدينة مصر أيضا بأن العامّة قامت بمصر في جمع كثير جدّا وزحفت إلى كنيسة المعلقة بقصر الشمع فأغلقها النصارى وهم محصورون بها وهي على أن توخذ، فتزايد غضب السلطان وهمّ أن يركب بنفسه ويبطش بالعامّة، ثم تأخر لمّا راجعه الأمير أيدغمش ونزل من القلعة في أربعة من الأمراء إلى مصر، وركب الأمير بيبرس الحاجب، والأمير الماس الحاجب إلى موضع الحفر، وركب الأمير طينال إلى القاهرة، وكل منهم في عدّة وافرة، وقد أمر السلطان بقتل من قدروا عليه من العامّة، بحيث لا يعفو عن أحد، فقامت القاهرة ومصر على ساق، وفرّت النهابة، فلم يظفر الأمراء منهم إلّا بمن عجز عن الحركة بما غلبه من السكر بالخمر الذي نهبه من الكنائس، ولحق الأمير أيدغمش بمصر وقد ركب الوالي إلى المعلقة قبل وصوله ليخرج من زقاق المعلقة من حضر للنهب، فأخذه الرجم حتى فرّ منهم، ولم يبق إلّا أن يحرق باب الكنيسة، فجرّد أيدغمش ومن معه السيوف يريدون الفتك بالعامّة، فوجدوا عالما لا يقع عليه حصر، وخاف سوء العاقبة، فأمسك عن القتل وأمر أصحابه بإرجاف العامّة من غير إهراق دم، ونادى منادية: من وقف حلّ دمه.
ففرّ سائر من اجتمع من العامّة وتفرّقوا، وصار أيدغمش واقفا إلى أن أذّن العصر خوفا من عود العامّة، ثم مضى وألزم والي مصر أن يبيت بأعوانه هناك، وترك معه خمسين من الأوشاقية.
وأما الأمير الماس فإنه وصل إلى كنائس الحمراء وكنائس الزهريّ ليتداركها، فإذا بها قد بقيت كيمانا ليس بها جدار قائم، فعاد وعاد الأمراء، فردّوا الخبر على السلطان وهو لا يزداد إلّا حنقا، فما زالوا به حتى سكن غضبه، وكان الأمر في هدم هذه الكنائس عجبا من العجب، وهو أن الناس لما كانوا في صلاة الجمعة من هذا اليوم بجامع قلعة الجبل، فعندما فرغوا من الصلاة قام رجل موله وهو يصيح من وسط الجامع: اهدموا الكنيسة التي في القلعة، اهدموها. وأكثر من الصياح المزعج حتى خرج عن الحدّ، ثم اضطرب. فتعجب السلطان والأمراء من قوله، ورسم لنقيب الجيوش والحاجب بالفحص عن ذلك، فمضيا من الجامع إلى خرائب التتر من القلعة، فإذا فيها كنيسة قد بنيت فهدموها، ولم يفرغوا من هدمها حتى وصل الخبر بواقعة كنائس الحمراء والقاهرة، فكثر تعجب السلطان من شأن ذلك الفقير، وطلب فلم يوقف له على خبر، واتفق أيضا بالجامع الأزهر أن الناس لما اجتمعوا في هذا اليوم لصلاة الجمعة، أخذ شخصا من الفقراء مثل الرعدة، ثم قام بعد ما أذن قبل أن يخرج الخطيب وقال: اهدموا كنائس الطغيان والكفرة، نعم الله أكبر، فتح الله ونصر.(4/441)
وصار يزعج نفسه ويصرخ من الأساس إلى الأساس، فحدّق الناس بالنظر إليه ولم يدروا ما خبره، وافترقوا في أمره. فقائل هذا مجنون، وقائل هذه إشارة لشيء. فلما خرج الخطيب أمسك عن الصياح، وطلب بعد انقضاء الصلاة فلم يوجد. وخرج الناس إلى باب الجامع فرأوا النهابة ومعهم أخشاب الكنائس وثياب النصارى وغير ذلك من النهوب، فسألوا عن الخبر فقيل: قد نادى السلطان بخراب الكنائس، فظنّ الناس الأمر كما قيل، حتى تبين بعد قليل أن هذا الأمر إنما كان من غير أمر السلطان، وكان الذي هدم في هذا اليوم من الكنائس بالقاهرة، كنيسة بحارة الروم، وكنيسة بالبندقانيين، وكنيستين بحارة زويلة. وفي يوم الأحد الثالث من يوم الجمعة الكائن فيه هدم كنائس القاهرة ومصر، ورد الخبر من الأمير بدر الدين بيلبك المحسنيّ والي الإسكندرية، بأنه لما كان يوم الجمعة تاسع ربيع الآخر بعد صلاة الجمعة، وقع في الناس هرج، وخرجوا من الجامع وقد وقع الصياح: هدمت الكنائس- فركب المملوك من فوره فوجد الكنائس قد صارت كوما، وعدّتها أربع كنائس، وأن بطاقة وقعت من والي البحيرة بأن كنيستين في مدينة دمنهور هدمتا والناس في صلاة الجمعة من هذا اليوم، فكثر التعجب من ذلك، إلى أن ورد في يوم الجمعة سادس عشرة الخبر من مدينة قوص بأن الناس عند ما فرغوا من صلاة الجمعة في اليوم التاسع من شهر ربيع الآخر، قام رجل من الفقراء وقال يا فقراء اخرجوا إلى هدم الكنائس، وخرج في جمع من الناس فوجدوا الهدم قد وقع في الكنائس، فهدمت ست كنائس كانت بقوص وما حولها في ساعة واحدة، وتواتر الخبر من الوجه القبليّ والوجه البحريّ بكثرة ما هدم في هذا اليوم وقت صلاة الجمعة وما بعدها من الكنائس والأديرة، في جميع إقليم مصر كله، ما بين قوص والإسكندرية ودمياط، فاشتدّ حنق السلطان على العامّة خوفا من فساد الحال، وأخذ الأمراء في تسكين غضبه وقالوا: هذا الأمر ليس من قدرة البشر فعله، ولو أراد السلطان وقوع ذلك على هذه الصورة لما قدر عليه، وما هذا إلّا بأمر الله سبحانه، وبقدره لما علم من كثرة فساد النصارى وزيادة طغيانهم، ليكون ما وقع نقمة وعذابا لهم، هذا والعامّة بالقاهرة ومصر قد اشتدّ خوفهم من السلطان لما كان يبلغهم عنه من التهديد لهم بالقتل، ففرّ عدّة من الأوباش والغوغاء، وأخذ القاضي فخر الدين ناظر الجيش في ترجيع السلطان عن الفتك بالعامّة وسياسة الحال معه، وأخذ كريم الدين الكبير ناظر الخاص يغريه بهم إلى أن أخرجه السلطان إلى الإسكندرية بسبب تحصيل المال، وكشف الكنائس التي خربت بها.
فلم يمض سوى شهر من يوم هدم الكنائس حتى وقع الحريق بالقاهرة ومصر في عدّة مواضع، وحصل فيه من الشناعة أضعاف ما كان من هدم الكنائس، فوقع الحريق في ربع بخط الشوّايين من القاهرة، في يوم السبت عاشر جمادى الأولى، وسرت النار إلى ما حوله واستمرّت إلى آخر يوم الأحد، فتلف في هذا الحريق شيء كثير، وعند ما أطفيء وقع الحريق بحارة الديلم في زقاق العريسة بالقرب من دور كريم الدين ناظر الخاص، في خامس عشري(4/442)
جمادى الأولى، وكانت ليلة شديدة الريح، فسرت النار من كلّ ناحية حتى وصلت إلى بيت كريم الدين، وبلغ ذلك السلطان فانزعج انزعاجا عظيما لما كان هناك من الحواصل السلطانية، وسيّر طائفة من الأمراء لإطفائه، فجمعوا الناس لإطفائه وتكاثروا عليه وقد عظم الخطب من ليلة الاثنين إلى ليلة الثلاثاء، فتزايد الحال في اشتعال النار وعجز الأمراء والناس عن إطفائها لكثرة انتشارها في الأماكن وقوّة الريح التي ألقت باسقات النخل، وغرّقت المراكب، فلم يشكّ الناس في حريق القاهرة كلّها، وصعدوا المآذن، وبرز الفقراء وأهل الخير والصلاح وضجوا بالتكبير والدعاء، وجأروا وكثر صراخ الناس وبكاؤهم، وصعد السلطان إلى أعلى القصر فلم يتمالك الوقوف من شدّة الريح، واستمرّ الحريق والاستحثاث يرد على الأمراء من السلطان في إطفائه إلى يوم الثلاثاء، فنزل نائب السلطان ومعه جميع الأمراء وسائر السقائين، ونزل الأمير بكتمر الساقي، فكان يوما عظيما لم ير الناس أعظم منه ولا أشدّ هولا، ووكل بأبواب القاهرة من يردّ السقائين إذا خرجوا من القاهرة لأجل إطفاء النار، فلم يبق أحد من سقائي الأمراء وسقائي البلد إلّا وعمل، وصاروا ينقلون الماء من المدارس والحمامات، وأخذ جميع النجارين وسائر البنائين لهدم الدور، فهدم في هذه النوبة ما شاء الله من الدور العظيمة والرباع الكبيرة، وعمل في هذا الحريق أربعة وعشرون أميرا من الأمراء المقدّمين، سوى من عداهم من أمراء الطبلخانات والعشراوات والمماليك، وعمل الأمراء بأنفسهم فيه، وصار الماء من باب زويلة إلى حارة الديلم في الشارع بحرا من كثرة الرجال والجمال التي تحمل الماء، ووقف الأمير بكتمر الساقي والأمير أرغون النائب على نقل الحواصل السلطانية من بيت كريم الدين إلى بيت ولده بدرب الرصاصيّ، وخرّبوا ستة عشر دارا من جوار الدار وقبالتها، حتى تمكنوا من نقل الحواصل، فما هو إلا أن كمل إطفاء الحريق ونقل الحواصل، وإذا بالحريق قد وقع في ربع الظاهر خارج باب زويلة، وكان يشتمل على مائة وعشرين بيتا، وتحته قيسارية تعرف بقيسارية الفقراء، وهب مع الحريق ريح قوية، فركب الحاجب والوالي لإطفائه وهدموا عدّة دور من حوله حتى انطفأ، فوقع في ثاني يوم حريق بدار الأمير سلار في خط بين القصرين، ابتدأ من الباذهنج، وكان ارتفاعه عن الأرض مائة ذراع بالعمل، فوقع الاجتهاد فيه حتى أطفيء، فأمر السلطان الأمير علم الدين سنجر الخازن والي القاهرة، والأمير ركن الدين بيبرس الحاجب، بالاحتراز واليقظة، ونودي بأن يعمل عند كلّ حانوت دنّ فيه ماء، أو زير مملوء بالماء، وأن يقام مثل ذلك في جميع الحارات والأزقة والدروب، فبلغ ثمن كل دنّ خمس دراهم بعد درهم، وثمن الزير ثمانية دراهم، ووقع حريق بحارة الروم وعدّة مواضع، حتى أنه لم يخل يوم من وقوع الحريق في موضع، فتنبه الناس لما نزل بهم، وظنوا أنه من أفعال النصارى، وذلك أن النار كانت ترى في منابر الجوامع وحيطان المساجد والمدارس، فاستعدّوا للحريق وتتبعوا الأحوال حتى وجدوا هذا الحريق من نفط قد لف عليه خرق مبلولة بزيت وقطران. فلما كان(4/443)
ليلة الجمعة النصف من جمادى، قبض على راهبين عند ما خرجا من المدرسة الكهارية بعد العشاء الآخرة، وقد اشتعلت النار في المدرسة، ورائحة الكبريت في أيديهما، فحملا إلى الأمير علم الدين الخازن والي القاهرة، فأعلم السلطان بذلك فأمر بعقوبتهما، فما هو إلّا أن نزل من القلعة وإذا بالعامّة قد أمسكوا نصرانيا وجد في جامع الظاهر ومعه خرق على هيئة الكعكة، في داخلها قطران ونفط، وقد ألقى منها واحدة بجانب المنبر، وما زال واقفا إلى أن خرج الدخان فمشى يريد الخروج من الجامع، وكان قد فطن به شخص وتأمّله من حيث لم يشعر به النصرانيّ، فقبض عليه وتكاثر الناس فجرّوه إلى بيت الوالي وهو بهيئة المسلمين، فعوقب عند الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب، فاعترف بأن جماعة من النصارى قد اجتمعوا على عمل نفط وتفريقه مع جماعة من أتباعهم، وأنه ممن أعطي ذلك وأمر بوضعه عند منبر جامع الظاهر، ثم أمر بالراهبين فعوقبا فاعترفا أنهما من سكان دير البغل، وأنهما هما اللذان أحرقا المواضع التي تقدّم ذكرها بالقاهرة، غيرة وحنقا من المسلمين لما كان من هدمهم للكنائس، وأن طائفة النصارى تجمعوا وأخرجوا من بينهم مالا جزيلا لعمل هذا النفط. واتفق وصول كريم الدين ناظر الخاص من الإسكندرية، فعرّفه السلطان ما وقع من القبض على النصارى، فقال: النصارى لهم بطرك يرجعون إليه ويعرف أحوالهم، فرسم السلطان بطلب البطرك عند كريم الدين ليتحدّث معه في أمر الحريق وما ذكره النصارى من قيامهم في ذلك، فجاء في حماية والي القاهرة في الليل خوفا من العامّة، فلما أن دخل بيت كريم الدين بحارة الديلم وأحضر إليه الثلاثة النصارى من عند الوالي، قالوا لكريم الدين بحضرة البطرك والوالي جميع ما اعترفوا به قبل ذلك، فبكى البطرك عند ما سمع كلامهم وقال: هؤلاء سفهاء النصارى، قصدوا مقابلة سفهاء المسلمين على تخريبهم الكنائس، وانصرف من عند كريم الدين مبجلا مكرّما، فوجد كريم الدين قد أقام له بغلة على بابه ليركبها، فركبها وسار، فعظم ذلك على الناس وقاموا عليه يدا واحدة، فلولا أن الوالي كان يسايره وإلّا هلك، وأصبح كريم الدين يريد الركوب إلى القلعة على العادة، فلما خرج إلى الشارع صاحت به العامّة ما يحلّ لك يا قاضي تحامي للنصارى وقد أحرقوا بيوت المسلمين وتركبهم بعد هذا البغال، فشق عليه ما سمع وعظمت نكايته، واجتمع بالسلطان، فأخذ يهوّن أمر النصارى الممسوكين ويذكر أنهم سفهاء وجهال، فرسم السلطان للوالي بتشديد عقوبتهم، فنزل وعاقبهم عقوبة مؤلمة، فاعترفوا بأن أربعة عشر راهبا بدير البغل قد تحالفوا على إحراق ديار المسلمين كلها، وفيهم راهب يصنع النفط، وأنهم اقتسموا القاهرة ومصر، فجعل للقاهرة ثمانية، ولمصر ستة، فكبس دير البغل وقبض على من فيه وأحرق من جماعته أربعة بشارع صليبة جامع ابن طولون في يوم الجمعة، وقد اجتمع لمشاهدتهم عالم عظيم، فضرى من حينئذ جمهور الناس على النصارى وفتكوا بهم، وصاروا يسلبون ما عليهم من الثياب حتى فحش الأمر وتجاوزوا فيهم المقدار، فغضب السلطان من ذلك وهمّ أن يوقع(4/444)
بالعامّة، واتفق أنه ركب من القلعة يريد الميدان الكبير في يوم السبت، فرأى من الناس أمما عظيمة قد ملأت الطرقات وهم يصيحون نصر الله الإسلام، أنصر دين محمد بن عبد الله.
فخرج من ذلك، وعندما نزل الميدان أحضر إليه الخازن نصرانيين قد قبض عليهما وهما يحرقان الدور، فأمر بتحريقهما، فأخرجا وعمل لهما حفرة وأحرقا بمرأى من الناس، وبينا هم في إحراق النصرانيين إذا بديوان الأمير بكتمر الساقي قد مرّ يريد بيت الأمير بكتمر، وكان نصرانيا، فعندما عاينه العامّة ألقوه عن دابته إلى الأرض وجرّدوه من جميع ما عليه من الثياب وحملوه ليلقوه في النار، فصاح بالشهادتين وأظهر الإسلام، فأطلق.
واتفق مع هذا مرور كريم الدين، وقد لبس التشريف، من الميدان، فرجمه من هنالك رجما متتابعا وصاحوا به: كم تحامي للنصارى وتشدّ معهم، ولعنوه وسبّوه، فلم يجد بدّا من العود إلى السلطان وهو بالميدان، وقد اشتدّ ضجيج العامّة وصياحهم حتى سمعهم السلطان، فلما دخل عليه وأعلمه الخبر امتلأ غضبا واستشار الأمراء، وكان بحضرته منهم الأمير جمال الدين نائب الكرك، والأمير سيف الدين البوبكريّ، والخطيريّ، وبكتمر الحاجب في عدّة أخرى، فقال الأبوبكريّ: العامة عمي والمصلحة أن يخرج إليهم الحاجب ويسألهم عن اختيارهم حتى يعلم. فكره هذا من قوله السلطان، وأعرض عنه. فقال نائب الكرك: كل هذا من أجل الكتاب النصارى، فإن الناس أبغضوهم، والرأي أن السلطان لا يعمل في العامة شيئا، وإنما يعزل النصارى من الديوان. فلم يعجبه هذا الرأي أيضا، وقال للأمير الماس الحاجب: امض ومعك أربعة من الأمراء وضع السيف في العامّة من حين تخرج من باب الميدان إلى أن تصل إلى باب زويلة، واضرب فيهم بالسيف من باب زويلة إلى باب النصر، بحيث لا ترفع السيف عن أحد البتة. وقال لوالي القاهرة: اركب إلى باب اللوق وإلى باب البحر، ولا تدع أحدا حتى تقبض عليه وتطلع به إلى القلعة، ومتى لم تحضر الذين رجموا وكيلي، يعني كريم الدين، وإلّا وحياة رأسي شنقتك عوضا عنهم، وعين معه عدّة من المماليك السلطانية، فخرج الأمراء بعد ما تلكئوا في المسير حتى اشتهر الخبر، فلم يجدوا أحدا من الناس حتى ولا غلمان الأمراء وحواشيهم، ووقع القول بذلك في القاهرة، فغلقت الأسواق جميعها، وحل بالناس أمر لم يسمع بأشدّ منه، وسار الأمراء فلم يجدوا في طول طريقهم أحدا إلى أن بلغوا باب النصر، وقبض الوالي من باب اللوق وناحية بولاق وباب البحر كثيرا من الكلابزية والنواتية وأسقاط الناس، فاشتدّ الخوف وعدّى كثير من الناس إلى البرّ الغربيّ بالجيزة، وخرج السلطان من الميدان فلم يجد في طريقه إلى أن صعد قلعة الجبل أحدا من العامّة، وعند ما استقرّ بالقلعة سيّر إلى الوالي يستعجل حضوره، فما غربت الشمس حتى أحضر ممن أمسك من العامّة نحو مائتي رجل، فعزل منهم طائفة أمر بشنقهم، وجماعة رسم بتوسيطهم، وجماعة رسم بقطع أيديهم، فصاحوا بأجمعهم: يا خوند ما يحلّ لك، ما نحن الذين رجمنا، فبكى الأمير بكتمر الساقي ومن(4/445)
حضر من الأمراء رحمة لهم، وما زالوا بالسلطان إلى أن قال للوالي: اعزل منهم جماعة، وانصب الخشب من باب زويلة إلى تحت القلعة بسوق الخيل، وعلّق هؤلاء بأيديهم. فلما أصبح يوم الأحد علق الجميع من باب زويلة إلى سوق الخيل، وكان فيهم من له بزة وهيئة، ومرّ الأمراء بهم فتوجعوا لهم وبكوا عليهم، ولم يفتح أحد من أرباب الحوانيت بالقاهرة ومصر في هذا اليوم حانوتا، وخرج كريم الدين من داره يريد القلعة على العادة فلم يستطع المرور على المصولبين، وعدل عن طريق باب زويلة، وجلس السلطان في الشباك وقد أحضر بين يديه جماعة ممن قبض عليهم الوالي فقطع أيدي وأرجل ثلاثة منهم والأمراء لا يقدرون على الكلام معه في أمرهم لشدّة حنقه، فتقدّم كريم الدين وكشف رأسه وقبّل الأرض وهو يسأل العفو، فقبل سؤاله وأمر بهم أن يعملوا في حفير الجيزة، فأخرجوا وقد مات ممن قطع أيديهم اثنان، وأنزل المعلقون من على الخشب.
وعند ما قام السلطان من الشباك وقع الصوت بالحريق في جهة جامع ابن طولون، وفي قلعة الجبل، وفي بيت الأمير ركن الدين الأحمديّ بحارة بهاء الدين، وبالفندق خارج باب البحر من المقس وما فوقه من الربع، وفي صبيحة يوم هذا الحريق قبض على ثلاثة من النصارى وجد معهم فتائل النفط، فأحضروا إلى السلطان واعترفوا بأن الحريق كان منهم، واستمرّ الحريق في الأماكن إلى يوم السبت، فلما ركب السلطان إلى الميدان على عادته، وجد نحو عشرين ألف نفس من العامّة قد صبغوا خرقا بلون أزرق وعلموا فيها صلبانا بيضا، وعند ما رأوا السلطان صاحوا بصوت عال واحد لا دين إلّا دين الإسلام، نصر الله دين محمد بن عبد الله، يا ملك الناصر، يا سلطان الإسلام انصرنا على أهل الكفر، ولا تنصر النصارى. فارتجت الدنيا من هول أصواتهم، وأوقع الله الرعب في قلب السلطان وقلوب الأمراء، وسار وهو في فكر زائد حتى نزل بالميدان وصراخ العامة لا يبطل، فرأى أن الرأي في استعمال المداراة، وأمر الحاجب أن يخرج وينادي بين يديه: من وجد نصرانيا فله ماله ودمه. فخرج ونادى بذلك، فصاحت العامّة وصرخت: نصرك الله. وضجوا بالدعاء، وكان النصارى يلبسون العمائم البيض، فنودي في القاهرة ومصر من وجد نصرانيا بعمامة بيضاء حلّ له دمه وماله، ومن وجد نصرانيا راكبا حلّ له دمه وماله، وخرج مرسوم بلبس النصارى العمامة الزرقاء، وأن لا يركب أحد منهم فرسا ولا بغلا، ومن ركب حمارا فليركبه مقلوبا، ولا يدخل نصرانيّ الحمام إلّا وفي عنقه جرس، ولا يتزيا أحد منهم بزيّ المسلمين، ومنع الأمراء من استخدام النصارى، وأخرجوا من ديوان السلطان. وكتب لسائر الأعمال بصرف جميع المباشرين من النصارى، وكثر إيقاع المسلمين بالنصارى حتى تركوا السعي في الطرقات، وأسلم منهم جماعة كثيرة، وكان اليهود قد سكت عنهم في هذه المدّة، فكان النصرانيّ إذا أراد أن يخرج من منزله يستعير عمامة صفراء من أحد من اليهود ويلبسها، حتى يسلم من العامّة، واتفق أن بعض دواوين النصارى كان له عند يهوديّ مبلغ أربعة آلاف درهم(4/446)
نقرة، فصار إلى بيت اليهوديّ وهو متنكر في الليل ليطالبه، فأمسكه اليهودي وقال: أنا بالله وبالمسلمين، وصاح. فاجتمع الناس لأخذ النصرانيّ، ففرّ إلى داخل بيت اليهوديّ واستجار بامرأته، وأشهد عليه بإبراء اليهوديّ حتى خلص منه، وعثر على طائفة من النصارى بدير الخندق يعملون النفط لإحراق الأماكن، فقبض عليهم وسمروا ونودي في الناس بالأمان، وأنهم يتفرّجون على عادتهم عند ركوب السلطان إلى الميدان، وذلك أنهم كانوا قد تخوّفوا على أنفسهم لكثرة ما أوقعوا بالنصارى، وزادوا في الخروج عن الحدّ، فاطمأنوا وخرجوا على العادة إلى جهة الميدان، ودعوا للسلطان، وصاروا يقولون نصرك الله يا سلطان الأرض، اصطلحنا اصطلحنا، وأعجب السلطان ذلك وتبسم من قولهم، وفي تلك الليلة وقع حريق في بيت الأمير الماس الحاجب من القلعة، وكان الريح شديدا، فقويت النار وسرت إلى بيت الأمير ايتمش، فانزعج أهل القلعة وأهل القاهرة وحسبوا أن القلعة جميعها احترقت، ولم يسمع بأشنع من هذه الكائنة، فإنه احترق على يد النصارى بالقاهرة ربع في سوق الشوّايين، وزقاق العريسة بحارة الديلم، وستة عشر بيتا بجوار بيت كريم الدين، وعدّة أماكن بحارة الروم، ودار بهادر بجوار المشهد الحسينيّ، وأماكن باصطبل الطارمة وبدرب العسل، وقصر أمير سلاح، وقصر سلار بخط بين القصرين، وقصر بيسرى، وخان الحجر، والجملون، وقيسارية الادم، ودار بيبرس بحارة الصالحية، ودار ابن المغربيّ بحارة زويلة، وعدّة أماكن بخط بئر الوطاويط وبيشكر وفي قلعة الجبل وفي كثير من الجوامع والمساجد إلى غير ذلك من الأماكن بمصر والقاهرة يطول عددها.
وخرب من الكنائس كنيسة بخرائب التتر من قلعة الجبل، وكنيسة الزهري في الموضع الذي فيه الآن البركة الناصرية، وكنيسة الحمراء، وكنيسة بجوار السبع سقايات تعرف بكنيسة البنات، وكنيسة أبي المنيا، وكنيسة الفهادين بالقاهرة، وكنيسة بحارة الروم، وكنيسة بالبندقانيين، وكنيستان بحارة زويلة، وكنيسة بخزانة البنود، وكنيسة بالخندق، وأربع كنائس بثغر الإسكندرية، وكنيستان بمدينة دمنهور الوحش، وأربع كنائس بالغربية، وثلاث كنائس بالشرقية، وست كنائس بالبهنساوية، وبسيوط ومنفلوط ومنية الخصيب ثمان كنائس، وبقوص وأسوان إحدى عشرة كنيسة، وبالأطفيحية كنيسة، وبسوق وردان من مدينة مصر، وبالمصاصة وقصر الشمع من مصر ثمان كنائس، وخرب من الديارات شيء كثير، وأقام دير البغل ودير شهران مدّة ليس فيهما أحد، وكانت هذه الخطوب الجليلة في مدّة يسيرة. قلما يقع مثلها في الأزمان المتطاولة، هلك فيها من الأنفس وتلف فيها من الأموال وخرب من الأماكن ما لا يمكن وصفه لكثرته، ولله عاقبة الأمور.
كنيسة ميكائيل: هذه الكنيسة كانت عند خليج بني وائل خارج مدينة مصر قبليّ عقبة يحصب، وهي الآن قريبة من جسر الأفرم، أحدثت في الإسلام وهي مليحة البناء.(4/447)
كنيسة مريم: في بساتين الوزير قبليّ بركة الحبش خالية ليس بها أحد.
كنيسة مريم: بناحية العدوية من قبليها قديمة وقد تلاشت.
كنيسة أنطونيوس: بناحية بياض قبليّ اطفيح، وهي محدثة. وكان بناحية شرنوب عدّة كنائس خربت، وبقي بناحية أهريت الجبل قبليّ بياض بيومين. كنيسة السيدة: بناحية أشكر وعلى بابها برج مبنيّ بلبن كبار يذكر أنه موضع ولد موسى بن عمران عليه السلام.
كنيسة مريم: بناحية الخصوص وهي بيت فعملوه كنيسة لا يعبأ بها.
كنيسة مريم
وكنيسة بخنس القصير
وكنيسة غبريال: هذه الكنائس الثلاث بناحية أبنوب.
كنيسة أسبوطير ومعناه المخلص: هذه الكنيسة بمدينة اخميم، وهي كنيسة معظمة عندهم، وهي على اسم الشهداء، وفيها بئر إذا جعل ماؤها في القنديل صار أحمر قانيا كأنه الدم.
كنيسة ميكائيل: بمدينة أخميم أيضا، ومن عادة النصارى بهاتين الكنيستين إذا عملوا عيد الزيتونة المعروف بعيد الشعانين أن يخرج القسوس والشمامسة بالمجامر والبخور والصلبان والأناجيل والشموع المشتعلة ويقفوا على باب القاضي، ثم أبواب الأعيان من المسلمين، فيبخروا ويقرءوا فصلا من الإنجيل، ويطرحوا له طرحا، يعني يمدحونه.
كنيسة بوبخوم: بناحية اتفه، وهي آخر كنائس الجانب الشرقيّ، وبخوم ويقال بخوميوس، كان راهبا في زمن بوشنودة، ويقال له أبو الشركة من أجل أنه كان يربي الرهبان، فيجعل لكل راهبين معلما، وكان لا يمكن من دخول الخمر ولا اللحم إلى ديره، ويأمر بالصوم إلى آخر التاسعة من النهار، ويطعم رهبانه الحمص المصلوق، ويقال له عندهم حمص القلة، وقد خرب ديره وبقيت كنيسته هذه باتفه قبليّ اخميم.
كنيسة مرقص الإنجيليّ: بالجيزة، خربت بعد سنة ثمانمائة ثم عمرت. ومرقص هذا أحد الحواريين، وهو صاحب كرسيّ مصر والحبشة.
كنيسة بوجرج: بناحية أبي النمرس من الجيزة، هدمت في سنة ثمانين وسبعمائة، كما تقدّم ذكره ثم أعيدت بعد ذلك.
كنيسة بوفار: آخر أعمال الجيزة.
كنيسة شنودة: بناحية هربشت.
كنيسة بوجرج: بناحية ببا، وهي جليلة عندهم يأتونها بالنذور ويحلفون بها، ويحكون لها فضائل متعدّدة.(4/448)
كنيسة ماروطا القدّيس: بناحية شمسطا، وهم يبالغون في ماروطا هذا، وكان من عظماء رهبانهم، وجسده في انبوبة بدير بوبشاء من برّية شيهات، يزورونه إلى اليوم.
كنيسة مريم بالبهناس: ويقال أنه كان بالبهنسا ثلاثمائة وستون كنيسة خربت كلها، ولم يبق بها إلّا هذه الكنيسة لا غير.
كنيسة صمويل: الراهب بناحية شبري.
كنيسة مريم: بناحية طنبدي وهي قديمة.
كنيسة ميخائيل: بناحية طنبدي وهي كبيرة قديمة، وكان هناك كنائس كثيرة خربت، وأكثر أهل طنبدي نصارى أصحاب صنائع.
كنيسة الأيصطولي: أعني الرسل، بناحية أشنين، وهي كبيرة جدّا.
كنيسة مريم: بناحية اشنين أيضا وهي قديمة.
كنيسة ميخائيل
وكنيسة غبريال: بناحية اشنين أيضا، وكان بهذه الناحية مائة وستون كنيسة خربت كلها إلّا هذه الكنائس الأربع، وأكثر أهل اشنين نصارى، وعليهم الدرك في الخفارة، وبظاهرها آثار كنائس يعملون فيها أعيادهم، منها كنيسة بوجرج، وكنيسة مريم، وكنيسة ماروطا، وكنيسة بربارة، وكنيسة كفريل، وهو جبريل عليه السلام.
وفي منية ابن خصيب ست كنائس: كنيسة المعلقة وهي كنيسة السيدة، وكنيسة بطرس وبولص، وكنيسة ميكائيل، وكنيسة بوجرج، وكنيسة انيابولا الطمويهيّ، وكنيسة الثلاث فتية، وهم حنانيا وعزاريا وميصائيل، وكانوا أجنادا في أيام بخت نصر فعبدوا الله تعالى خفية، فلما عثروا عليهم راودهم بخت نصر أن يرجعوا إلى عبادة الأصنام فامتنعوا من ذلك، فسجنهم مدّة ليرجعوا فلم يرجعوا، فأخرجهم وألقاهم في النار فلم تحرقهم، والنصارى تعظمهم، وإن كانوا قبل المسيح بدهر.
كنيسة بناحية طحا: على اسم الحواريين الذين يقال لهم عندهم الرسل.
كنيسة مريم: بناحية طحا أيضا.
كنيسة الحكيمين: بناحية منهري، لها عيد عظيم في بشنس يحضره الأسقف، ويقام هناك سوق كبير في العيد، وهذان الحيكمان هما قزمان ودميان الراهبان.
كنيسة السيدة: بناحية بقرقاس قديمة كبيرة.
وبناحية ملوى كنيسة كنيسة الرسل، وكنيستان خراب، إحداهما على اسم بوجرج، والأخرى على اسم الملك ميخائيل. وبناحية دلجة كنائس كثيرة لم يبق منها إلّا ثلاث(4/449)
كنائس: كنيسة السيدة، وهي كبيرة. وكنيسة شنودة، وكنيسة مرقورة، وقد تلاشت كلها.
وبناحية صنبو كنيسة انبابولا، وكنيسة بوجرج، وصنبو كثيرة النصارى. وبناحية ببلاو وهي بحريّ صنبو كنيسة قديمة بجانبها الغربيّ على اسم جرجس، وبها نصارى كثيرون فلاحون.
وبناحيا دروط كنيسة وفي خارجها شبه الدير على اسم الراهب ساراماتون، وكان في زمان شنودة، وعمل أسقفا، وله أخبار كثيرة. وبناحية بوق بنى زيد كنيسة كبيرة على اسم الرسل، ولها عيد. وبالقوصية كنيسة مريم، وكنيسة غبريال، وبناحية دمشير كنيسة الشهيد مرقوريوس، وهي قديمة وبها عدّة نصارى. وبناحية أمّ القصور كنيسة بوبخنس القصير وهي قديمة. وبناحية بلوط من ضواحي منفلوط كنيسة ميخائيل وهي صغيرة. وبناحية البلاعزة من ضواحي منفلوط كنيسة صغيرة يقيم بها القسيس بأولاده. وبناحية شقلقيل ثلاث كنائس كبار قديمة إحداها على اسم الرسل، وأخرى باسم ميخائيل، وأخرى باسم بومنا. وبناحية منشأة النصارى كنيسة ميخائيل. وبمدينة سيوط كنيسة بوسدرة وكنيسة الرسل، وبخارجها كنيسة بومينا. وبناحية درنكة كنيسة قديمة جدّا على اسم الثلاثة فتية حنانيا وعزاريا وميصائيل، وهي مورد لفقراء النصارى، ودرنكة أهلها من النصارى يعرفون اللغة القبطية، فيتحدّث صغيرهم وكبيرهم بها، ويفسرونها بالعربية. وبناحية ريفة كنيسة بوقلتة الطبيب الراهب صاحب الأحوال العجيبة في مداواة الرمدى من الناس، وله عيد يعمل بهذه الكنيسة. وبها كنيسة ميخائيل أيضا، وقد أكلت الأرضة جانب ريفة الغربيّ. وبناحية موشة كنيسة مركبة على حمام على اسم الشهيد بقطر، وبنيت في أيام قسطنطين ابن هيلانة، ولها رصيف عرضه عشرة أذرع، ولها ثلاث قباب ارتفاع كل منها نحو الثمانين ذراعا، مبنية بالحجر الأبيض كلها، وقد سقط نصفها الغربيّ، ويقال أنّ هذه الكنيسة على كنز تحتها، ويذكر أنه كان من سيوط إلى موشة هذه ممشاة تحت الأرض.
وبناحية بقور من ضواحي بوتيج كنيسة قديمة للشهيد اكلوديس، وهو يعدل عندهم مرقوريوس، وجاأرجيوس، وهو أبو جرج والإسفهسلارتا أدروس وميتاوس، وكان أكلوديوس أبوه من قوّاد ديقلطيانوس، وعرف هو بالشجاعة فتنصر، فأخذه الملك وعذبه ليرجع إلى عبادة الأصنام، فثبت حتى قتل وله أخبار كثيرة.
وبناحية القطيعة كنيسة على اسم السيدة، وكان بها أسقف يقال له الدوين، بينه وبينهم منافرة فدفنوه حيا، وهم من شرار النصارى معروفون بالشرّ، وكان منهم نصرانيّ يقال له جرجس ابن الراهبة، تعدّى طوره فضرب رقبته الأمير جمال الدين يوسف الأستادار بالقاهرة في أيام الناصر فرج بن برقوق.
وبناحية بوتيج كنائس كثيرة قد خربت، وصار النصارى يصلون في بيت لهم سرّا، فإذا طلع النهار خرجوا إلى آثار كنيسة وعملوا لها سياجا من جريد شبه القفص وأقاموا هناك عباداتهم.(4/450)
وبناحية مقروفه كنيسة قديمة لميخائيل، ولها عيد في كل سنة، وأهل هذه الناحية نصارى، أكثرهم رعاة غنم وهم همج رعاع.
وبناحية دوينة كنيسة على اسم بوبخنس القصير، وهي قبة عظيمة وكان بها رجل يقال له يونس، عمل أسقفا واشتهر بمعرفة علوم عديدة فتعصبوا عليه حسدا منهم له على علمه ودفنوه حيا، وقد توعك جسمه.
وبالمراغة التي بين طهطا وطما كنيسة.
وبناحية قلفا كنيسة كبيرة، وتعرف نصارى هذه البلدة بمعرفة السحر ونحوه، وكان بها في أيام الظاهر برقوق شماس يقال له أبصاطيس له في ذلك يد طولى، ويحكى عنه ما لا أحب حكايته لغرابته، وبناحية فرشوط كنيسة ميخائيل، وكنيسة السيدة مارت مريم، وبمدينة هوّ كنيسة السيدة وكنيسة بومنا. وبناحية بهجورة كنيسة الرسل. وباسنا كنيسة مريم وكنيسة ميخائيل وكنيسة يوحنا المعمدانيّ، وهو يحيى بن زكريا عليهما السلام. وبنقادة كنيسة السيدة، وكنيسة يوحنا المعمدانيّ، وكنيسة غبريال، وكنيسة يوحنا الرحوم، وهو من أهل أنطاكية ذوي الأموال، فزهد وفرّق ماله كله في الفقراء وساح وهو على دين النصرانية في البلاد، فعمل أبواه عزاءه وظنوا أنه قد مات، ثم قدم أنطاكية في حالة لا يعرف فيها، وأقام في كوخ على مزبلة، وأقام رمقه بما يلقى على تلك المزبلة حتى مات، فلما عملت جنازته كان ممن حضرها أبوه، فعرف غلاف إنجيله، ففحص عنه حتى عرف أنه ابنه، فدفنه وبنى عليه كنيسة أنطاكية. وبمدينة قفط كنيسة السيدة، وكان بأصفون عدّة كنائس خربت بخرابها، وبمدينة قوص عدّة أديرة وعدّة كنائس خربت بخرابها، وبقي بها كنيسة السيدة ولم يبق بالوجه القبليّ من الكنائس سوى ما تقدّم ذكرنا له.
وأما الوجه البحريّ:
ففي منية صرد من ضواحي القاهرة كنيسة السيدة مريم، وهي جليلة عندهم. وبناحية سندوة كنيسة محدثة على اسم بوجرج، وبمر صفا كنيسة مستجدّة على اسم بوجرج أيضا، وبسمنود كنيسة على اسم الرسل عملت في بيت، وبسنباط كنيسة جليلة عندهم على اسم الرسل، وبصندفة كنيسة معتبرة عندهم على اسم بوجرج، وبالريدانية كنيسة السيدة ولها قدر جليل عندهم، وفي دمياط أربع كنائس للسيدة ولميخائيل وليوحنا المعمدانيّ ولماري جرجس، ولها مجد عندهم. وبناحية سبك العبيد كنيسة محدثة في بيت مخفيّ على اسم السيدة، وبالنحراوية كنيسة محدثة في بيت مخفي، وفي لقانة كنيسة بوبخنس القصير، وبدمنهور كنيسة محدثة في بيت مخفي على اسم ميخائيل، وبالإسكندرية المعلقة على اسم السيدة وكنيسة بوجرج وكنيسة يوحنا المعمداني وكنيسة الرسل، فهذه كنائس اليعاقبة بأرض مصر، ولهم بغزة كنيسة مريم، ولهم بالقدس القمامة وكنيسة صهيون.(4/451)
وأما الملكية فلهم بالقاهرة كنيسة ماري نقولا بالبندقانيين، وبمصر كنيسة غبريال الملاك بخط قصر الشمع، وبها قلاية لبطركهم، وكنيسة السيدة بقصر الشمع أيضا، وكنيسة الملاك ميخائيل بجوار بربارة بمصر، وكنيسة مار يوحنا بخط دير الطين، والله أعلم.
وهذا أخر الجزء الثاني وبتمامه تم الكتاب والحمد لله وحده وصلّى الله على من لا نبيّ بعده وسلّم ورضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا عدوان إلّا على الظالمين.
قول المستعين بربه القويّ، محمد ابن المرحوم الشيخ عبد الرحمن قطة العدوي، مصحح دار الطباعة المصرية، بلغه الله من الخير كلّ أمنية: إن من جملة المحاسن الممدوحة بكلّ لسان، وأحاسن الآثار الغنيّ فضلها عن البيان، التي ظهرت في أيام صاحب العز والإقبال، من طبع على المرحمة والعدالة في الأقوال والأفعال، واختص بحسن التبصر وسداد النظر، ورعاية المصالح العامّة لأهل البدو والحضر، ووهب من صفات الكمال وكمال الصفات، ما تقصر دون تعداده العبارات والإشارات، من هو الفرقد الثاني، في أفق الصدارة العثمانيّ، عزيز الديار المصرية، ذي المناقب الفاخرة السنية، حضرة أفندينا الحاج عباس باشا، لا زال بصولة عدله جيش المظالم يتلاشى، ولا برح قرير العين بأنجاله، محفوظ الجناب نافذ القول في حاله واستقباله، ولا فتيء لواء عزه منشورا، ولا انفك سعيه مشكورا، طبع كتاب الخطط للعلامة المقريزيّ الشهير، المجمع على فضله وعموم نفعه بلا نكير، كيف لا وقد جمع من تخطيط الحكومة المصرية، وما يتعلق بها من الموادّ الجغرافية والتاريخية، وذكر أصناف أهلها وولاتها، وما عرض لها من تقلبات الأزمان وتغيراتها، وما تضمنته من الأخلاق والعوائد، الصحيح منها والفاسد، وما توارد عليها من الدول والحكومات، واختلاف الملل والديانات، وغير ذلك من الفوائد، وصحيح الأدلة والشواهد، وعجائب الأخبار، وغرائب الآثار، ما يغني الحاذق اللبيب، ويكفي الماهر الأريب، ويعتبر به المعتبرون، ويتفكه به المتآمرون، بل هو النديم الذي لا يمل، والأنيس الذي في استصحابه تهون الكرائم وتبذل، بيد أنه يتحفك من تاريخ مصر بأظرف تحفه، ويمنحك من طريف جغرافيتها وتليدها ألطف طرقه، ويسكنك من قصور أنبائها على غرفه، وينشقك من زهر روض أخبارها شميمه وعرفه، غير أنه لما كان فنّ التاريخ مع جليل نفعه، وجزيل فائدته عند أرباب المعارف وعظيم وقعه، قد رميت سوقه في هذه الأزمان بالكساد، وتقاصرت عنه الهمم من كل حاضر وباد، كان هذا الكتاب مما خيمت عليه عناكب النسيان، وعزت نسخه في ديارنا حتى كاد لا يعثر بها إنسان، فإنها فيها قليلة محصورة، متروكة الاستعمال مهجورة، فكانت مع قلتها عارية عن صحتها، فكم فيها من تحريف فاحش وسقط متفاحش، وغلط مخل، وخطا مضجر وممل، ويفضي بالقاري إلى الملل، ويعوّضه(4/452)
عن النشاط الكسل، لكن بحمد الله وعونه، وعظيم فضله ومنه، وبذل المجهود في التصحيح، واستفراغ الوسع في التحرير والتنقيح، جاءت النسخة المطبوعة صحيحة حسب الإمكان، جديرة بأن تحل محل القبول والاستحسان، فإنّ ما كان من عباراته بالتحريف سقيما، ولم يفهم معنى مستقيما، أجلت فيه ذهني مع قصوره، وكلفته التسلق على قصوره، فإن فتح له باب الرشاد، وألهم المعنى المراد، حمدت ربي، حيث نلت أربي، وإن كانت الأخرى، وكبا زند الفهم وما أورى، نبهت على وجه التوقف في الحاشية بالعبارة، أو رقمت فيها رقما هنديا ليكون إلى التوقف إشارة، وربما أشرت إلى الصواب، لكن على سبيل الرجاء في الاستصواب، وربما مرّ بك تعداد بعض أشياء يشم منها مخالفة العربية، وتفصيل أمور تأباه بحسب الظاهر القواعد النحوية، وعذرنا في ذلك، أن المؤلف تقلها كذلك، عمن نقلها عن جريدة حساب، وأثبتها على ما هي عليه في تقييدات الكتاب، فأبقيناها على حالها، ولم ننسجها على غير منوالها، حرصا على عدم التغيير في عبارات المؤلفين، حسبما نص عليه أئمة الدين، لا سيما والمعنى معه ظاهر، لا يخفى على السامع والناظر، ثم إنه لبعض الأسباب، فاتني تصحيح نحو اثنتين وعشرين ملزمة من أوّل الجزء الأوّل، ومثلها من أوّل الثاني من هذا الكتاب، لكن إن شاء الله تعالى يحصل الاطلاع عليها، والنظر بعين التأمل إليها، فإن عثر فيها على ما يلزم التنبيه عليه، والإشارة إليه، نبهت عليه وأثبت ما يخص كلّ جزء بلصقه، ليكون كلّ منهما مستوفيا لحقه، هذا وكأني بمتشقشق متشدّق، يعجل ببذاءة اللسان ولا يحقق، قد استولى عليه الحسد فأعمى بصيرته، ورفع بالذمّ والتشنيع عقيرته، قائلا ما لا يليق إلا به، مذيعا ما هو أولى به، وما درى الجهول أن فنّ التصحيح خطر دقيق، وصاحبه بضدّ ما تبجح به جدير حقيق، ولو ذاق لعرف، وبالعجز أقرّ واعترف، وبالجملة فذمّه يشهد لي بالكمال، أخذا بقول من قول:
وإذا أتتك مذمّتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل
على أني والله معترف بقلة البضاعة، وعدم الأهلية لهذه الصناعة، ولكنما هي إقامات، وإنما الأعمال بالنيات.
وأفوّض أمري إلى اللطيف الخبير، فإنه نعم المولى ونعم النصير، وكان طبع هذا الكتاب بدار الطباعة المصرية، المنشأة ببولاق القاهرة المعزية، لا زالت بأنفاس الحضرة الآصفية، منبعا لنشر الكتب النافعة العلمية، تحت ملاحظة صاحب نظارتها، القائم بتدبيرها وإدارتها، رب القلم الذي لا يبارى، والإنشاء الذي لا يجارى، من أحرز قصب السبق في ميدان البراعة، وانقاد له كلّ معنى أبيّ وأطاعه، حضرة عليّ أفندي جودة، بلغه الله في الدارين مأموله وقصده، وكان طبعه على ذمة ملتزمة، المتسبب بعد الطيّ في نشر علمه، واشتهاره في الأقطار، واستعماله عند أهل القرى والأمصار، الباذل في ذلك نفائس الكرائم،(4/453)
المستصغر في استحصاله الصعائب والعظائم، المستنصر بمولاه في حالتي الضعف والأيد الخواجة رفائيل عبيد، وقد وافق تاريخ تمامه، وانتهاء الطبع إلى حدّ ختامه، يوم الاثنين التاسع عشر، من شهر اليمن والخير صفر، الذي هو من شهور سنة ألف ومائتين وسبعين، من هجرة سيد النبيين والمرسلين صلّى الله وسلّم عليه وعليهم أجمعين، وعلى كلّ الصحابة والتابعين، ورزقنا بجاههم الاعتصام بحبله على الدوام، ومنحنا التوفيق لما يرضيه، والفوز بحسن الختام. آمين.(4/454)