الصلاحية سعيد السعدا، ثم سافر فمات بالموصل في رابع عشر جمادى الأولى سنة سبع عشرة وستمائة، واستبدّ الملك الكامل بمملكة مصر بعد أبيه، فرقّى أولاد صدر الدين شيخ الشيوخ محمد بن جويه الأربعة، وبعث عماد الدين عمر في الرسالة إلى الخليفة ببغداد، وجمع له بين رياسة العلم والقلم في سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، ولم يجتمع ذلك لأحد في زمانه، وما زال على ذلك إلى أن مات الملك الكامل، وقام من بعده في سلطنة مصر ابنه الملك العادل أبو بكر بن الكامل، فخرج إلى دمشق ليحضر إليه الجواد مظفر الدين يونس بن مردود بن العادل أبي بكر بن أيوب نائب السلطنة بدمشق، فدسّ عليه من قتله على باب الجامع في سادس عشري جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين وستمائة.
وأما فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ صدر الدين فإن الملك الكامل جعله أحد الأمراء، وألبسه الشربوش والقباء ونادمه وبعثه في الرسالة عنه إلى ملك الفرنج، ثم إلى أخيه المعظم بدمشق، ثم إلى الخليفة ببغداد، وأقامه يتحدّث بمصر في تدبير المملكة وتحصيل الأموال، ثم بعثه حتى تسلم حران والرها، وجهزه إلى مكة على عسكر فقاتل صاحبها الأمير راجح الدين بن قتادة، وأخذها بالسيف، وقتل عسكر اليمن، وما زال مكرّما محترما حتى مات الملك الكامل، فقبض عليه العادل ابن الكامل واعتقله، فلما خلع العادل بأخيه الملك الصالح نجم الدين أيوب أطلقه وأمّره وبالغ في الإحسان إليه، وبعثه على العساكر إلى الكرك، فأوقع بالخوارزمية وبدّد شملهم وكانوا قد قدموا من المشرق إلى غزة، وأقام الدعوة للصالح في بلاد الشام وعاد، ثم قدّمه على العساكر فأخذ طبرية من الفرنج وهدمها، وأخذ عسقلان من الفرنج وهدم حصونها، ونازل حمص حتى أشرف على أخذها، ثم تقدّم على العساكر بقتال الفرنج بدمياط، فمات السلطان عند المنصورة، وقام بتدبير الدولة بعده خمسة وسبعين يوما إلى أن استشهد في رابع ذي القعدة سنة سبع وأربعين وستمائة، فحمل من المنصورة إلى القرافة فدفن بها.
وأما كمال الدين أحمد، فإن الملك الكامل استنابه بحران والجزيرة، وولي تدريس المدرسة الناصرية بجوار الجامع العتيق بمصر، وتدريس الشافعيّ بالقرافة، ومشيخة الشيوخ بديار مصر، وقدّمه الملك الصالح نجم الدين أيوب على العساكر غير مرّة، ومات بغزة في صفر سنة تسع وثلاثين وستمائة.
وأما معين الدين حسن فإنه وليّ مشيخة الشيوخ بديار مصر، وبعثه الملك الكامل في الرسالة عنه إلى بغداد، ثم أقامه نائب الوزارة إلى أن مات، فاستوزره الملك الصالح نجم الدين أيوب في ذي القعدة، سنة سبع وثلاثين وستمائة، وجهّزه على العساكر في هيئة الملوك إلى دمشق، فقاتل الصالح إسماعيل ابن العادل حتى ملكها، ومات بها في ثاني عشري رمضان سنة ثلاث وأربعين وستمائة، وقد ذكرت أولاد شيخ الشيوخ في كتاب تاريخ(3/64)
مصر الكبير، واستقصيت فيه أخبارهم والله تعالى أعلم.
خط قصر بشتاك: هذا الخط من جملة القصر الكبير، ويتوصل إليه من تجاه المدرسة الكاملية حيث كان باب القصر المعروف بباب البحر، وهدمه الملك الظاهر بيبرس كما تقدّم في ذكر أبواب القصر، وصار اليوم في داخل هذا الباب حارة كبيرة فيها عدّة دور جليلة، منها قصر الأمير بشتاك، وبه عرف هذا الخط.
وبشتاك هذا: هو الأمير سيف الدين بشتاك الناصري، قرّبه الملك الناصر محمد بن قلاون، وأعلى محله، وكان يسميه بعد موت الأمير بكتمر الساقي بالأمير في غيبته، وكان زائد التيه لا يكلم استاداره وكاتبه الأبتر جان، ويعرف بالعربيّ ولا يتكلم به، وكان إقطاعه ست عشرة طبلخانة أكبر من إقطاع قوصون، ولما مات بكتمر الساقي ورثه في جميع أحواله واصطبله الذي على بركة الفيل، وفي امرأته أمّ أحمد، واشترى جاريته خوبي بستة آلاف دينار، ودخل معها ما قيمته عشرة آلاف دينار، وأخذ ابن بكتمر عنده وزاد أمره وعظم محله، فثقل على السلطان وأراد الفتك به، فما تمكن، وتوجه إلى الحجاز وأنفق في الأمراء وأهل الركب والفقراء والمجاورين بمكة والمدينة شيأ كثيرا إلى الغاية، وأعطى من الألف دينار إلى المائة دينار إلى الدينار، بحسب مراتب الناس وطبقاتهم، فلما عاد من الحجاز لم يشعر به السلطان إلّا وقد حضر في نفر قليل من مماليكه وقال: إن أردت إمساكي فها أنا قد جئت إليك برقبتي، فغالطه السلطان وطيب خاطره، وكان يرمى بأوابد ودواهي من أمر الزنا وجرّده السلطان لإمساك تنكر نائب الشام، فحضر إلى دمشق بعد إمساكه هو وعشرة من الأمراء، فنزلوا القصر الأبلق، وحلف الأمراء كلهم للسلطان ولذريته، واستخرج ودائع تنكر وعرض حواصله ومماليكه وجواريه وخيله وسائر ما يتعلق به، ووسط طغاي وحفاي مملوكي تنكر في سوق الخيل، ووسط دران أيضا بحضوره يوم الموكب، وأقام بدمشق خمسة عشر يوما وعاد إلى القلعة وبقي في نفسه من دمشق وما تجاسر يفاتح السلطان في ذلك، فلما مرض السلطان وأشرف على الموت، ألبس الأمير قوصون مماليكه، فدخل بشتاك، فعرف السلطان ذلك، فجمع بينهما وتصالحا قدّامه، ونص السلطان على أن الملك بعده لولده أبي بكر، فلم يوافق بشتاك وقال: لا أريد إلّا سيدي أحمد، فلما مات السلطان قام قوصون إلى الشباك وطلب بشتاك وقال له: يا أمير المؤمنين أناما يجيء مني سلطان، لأني كنت أبيع الطسما والبرغالي والكشاتوين، وأنت اشتريت مني، وأهل البلاد يعرفون ذلك، وأنت ما يجيء منك سلطان، لأنك كنت تبيع البوز وأنا اشتريت منك، وأهل البلاد يعرفون ذلك، وهذا أستاذنا هو الذي وصى لمن هو أخبر به من أولاده، وما يسعنا إلّا امتثال أمره حيا وميتا وأنا ما أخالفك إن أردت أحمد أو غيره، ولو أردت أن تعمل كل يوم سلطانا ما خالفتك. فقال بشتاك: هذا كله صحيح، والأمر أمرك، واحضر المصحف وحلفا عليه وتعانقا، ثم قاما إلى رجلي السلطان فقبلاهما، ووضعا أبا بكر ابن السلطان على الكرسيّ(3/65)
وقبّلا له الأرض وحلفا له، وتلقب بالملك المنصور، ثم إن بشتاكا طلب من السلطان الملك المنصور نيابة دمشق، فأمر له بذلك.
وكتب تقليده وبرز إلى ظاهر القاهرة وأقام يومين، ثم طلع في اليوم الثالث إلى السلطان ليودّعه، فوثب عليه الأمير قطلوبغا الفخريّ وأمسك سيفه وتكاثروا عليه فأمسكوه وجهزوه إلى الإسكندرية، فاعتقل بها، ثم قتل في الخامس من ربيع الأوّل سنة اثنين وأربعين وسبعمائة، لأوّل سلطنة الملك الأشرف كجك، وكان شابا أبيض اللون ظريفا مديد القامة نحيفا، خفيف اللحية كأنها عذار، على حركاته رشاقة حسن العمة يتعمم الناس على مثالها، وكان يشبّه بأبي سعيد ملك العراق إلّا أنه كان غير عفيف الفرج زائد الهرج والمرج لم يعف عن مليحة ولا قبيحة، ولم يدع أحدا يفوته، حتى يمسك نساء الفلاحين وزوجات الملاحين.
واشتهر بذلك ورمي فيه بأوابد، وكان زائد البذخ منهمكا على ما يقتضيه عنفوان الشبيبة، كثير الصلف والتيه، لا يظهر الرأفة ولا الرحمة في تأنيه، ولما توجه بأولاد السلطان ليفرّجهم في دمياط كان يذبح لسماطه في كل يوم خمسين رأسا من الغنم وفرسا لا بدّ منه، خارجا عن الأوز والدجاج، وكان راتبه دائما كل يوم من الفحم برسم المشوي مبلغ عشرين درهما، عنها مثقال ذهب، وذلك سوى الطوارىء، وأطلق له السلطان كل يوم بقجة قماش من اللفافة إلى الخف إلى القميص واللباس والملوطة والبغلطاق والقباء الفوقاني بوجه اسكندراني على سنجاب طريق مطرّز مزركش رقيق، وكلوته وشاش، ولم يزل يأخذ ذلك كل يوم إلى أن مات السلطان، وأطلق له في يوم واحد عن ثمن قرية تبنى بساحل الرملة مبلغ ألف درهم فضة، عنها يومئذ خمسون ألف مثقال من الذهب، وهو أوّل من أمسك بعد موت الملك الناصر. وقال الأديب المؤرخ صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي ومن كتابه نقلت ترجمة بشتاك:
قال الزمان وما سمعنا قوله ... والناس فيه رهائن الأشراك
من ينصر المنصور من كيدي وقد ... صاد الردى بشتاك لي بشراك
خط باب الزهومة: هذا الخط عرف بباب الزهومة، أحد أبواب القصر الكبير الشرقي الذي تقدّم ذكره، فإنه كان هناك، وقد صار الآن في هذا الخط سوق وفندق وعدّة آدر، يأتي ذكر ذلك كله في موضعه إن شاء الله تعالى.
خط الزراكشة العتيق: هذا الخط فيما بين خط باب الزهومة وخط السبع خوخ، وبعضه من دار العلم الجديدة، وبعضه من جملة القصر النافعي، وبعضه من تربة الزعفران، وفيه اليوم فندق المهمندار الذي يدق فيه الذهب، وخان الخليلي، وخان منجك، ودار خواجا، ودرب الحبش، وغير ذلك، كما ستقف عليه إن شاء الله.(3/66)
خط السبع خوخ العتيق «1» : هذا الخط فيما بين خط اصطبل الطارمة وخط الزراكشة العتيق، كان فيه قديما أيام الخلفاء الفاطميين سبع خوخ يتوصل منها إلى الجامع الأزهر، فلما انقضت أيامهم اختط مساكن وسوقا يباع فيه الإبر التي يخاط بها وغير ذلك، فعرف بالأبّارين.
خط اصطبل الطارمة «2» : هذا الخط كان اصطبلا لخاص الخليفة يشرف عليه قصر الشوك والقصر النافعي، وقد تقدّم الكلام عليه، وكانت فيه طارمة يجلس الخليفة تحتها، فعرف بذلك، ثم هو الآن حارة كبيرة فيها عدّة من المساكن وبه سوق وحمّام ومساجد، وهذا الخط فيما بين رحبة قصر الشوك ورحبة الجامع الأزهر، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى في ذكر الرحاب.
خط الأكفانيين: هذا الخط كان يعرف بخط الخرقيين جمع خرقة «3» .
خط المناخ: هذا الخط فيما بين البرقية والعطوفية، كان مواضع طواحين القصر وقد تقدّم ذكره، ثم اختط بعد ذلك وصار حارة كبيرة، وهو الآن متداع للخراب.
خط سويقة أمير الجيوش: كان حارة الفرحية، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في الأسواق، وهذا الخط فيما بين حارة برجوان وخط خان الوراقة.
خط دكة الحسبة: هذا الخط يعرف اليوم بمكسر الحطب، وفيه سوق الأبازرة وهو فيما بين البندقانيين والمحمودية، وفيه عدّة أسواق ودور.
خط الفهادين: هذا الخط فيما بين الجوانية والمناخ.
خط خزانة البنود: هذا الخط فيما بين رحبة باب العيد ورحبة المشهد الحسيني، وكان موضعه خزانة تعرف بخزانة البنود، وكان أوّلا يعمل فيها السلاح، ثم صارت سجنا لأمراء الدولة وأعيانها، ثم أسكن فيها الفرنج إلى أن هدمها الأمير الحاج آل ملك، وحكر مكانها فبنى فيه الطاحون والمساكن كما تقدّم.
خط السفينة: هذا الخط فيما بين درب السلاحي من رحبة باب العيد، وبين خزانة البنود، كان يقف فيه المتظلمون للخليفة كما تقدّم ذكره، ثم اختط فصار فيه مساكن وهو خط صغير.
خط خان السبيل: هذا الخط خارج باب الفتوح، وهو من جملة أخطاط الحسينية،(3/67)
قال ابن عبد الظاهر: خان السبيل بناه الأمير بهاء الدين قراقوش، وأرصده لابنا السبيل والمسافرين بغير أجرة، وبه بئر ساقية وحوض انتهى. وأدركنا هذا الخط في غاية العمارة، يعمل فيه عرصة تباع بها الغلال، وكان فيه سوق يباع فيه الخشب ويجتمع الناس هناك بكرة كل يوم جمعة، فيباع فيه من الأوز والدجاج ما لا يقدر قدره، وكانت فيه أيضا عدة مساكن ما بين دور وحوانيت وغيره، وقد اختل هذا الخط.
خط بستان ابن صيرم: هذا الخط أيضا خارج باب الفتوح مما يلي الخليج وزقاق الكحل، كان من جملة حارة البيازرة، فانشأه زمام القصر المختار الصقلبي بستانا، وبني فيه منظرة عظيمة، فلما زالت الدولة الفاطمية استولى عليه الأمير جمال الدين سويخ بن صيرم أحد أمراء الملك الكامل فعرف به، ثم اختط وصار من أجل الأخطاط عمارة تسكنه الأمراء والأعيان من الجند، ثم هو الآن آيل إلى الدثور.
خط قصر ابن عمار: هذا الخط من جملة حارة كتامة، وهو اليوم درب يعرف بالقماحين، وفيه حمام كرائي، ودار خوند شقرا، يسلك إليه من خط مدرسة الوزير كريم الدين بن غنام، ويسلك منه إلى درب المنصوري، وابن عمار هذا هو أبو محمد الحسن بن عمار بن عليّ بن أبي الحسن الكلبي من بني أبي الحسب، أحد أمراء صقلية، وأحد شيوخ كتامة، وصاه العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله لما احتضر هو والقاضي محمد بن النعمان على ولده أبي علي منصور، فلما مات العزيز بالله واستخلف من بعده ابنه الحاكم بأمر الله، اشترط الكتاميون وهم يومئذ أهل الدولة أن لا ينظر في أمورهم غير أبي محمد بن عمار بعدما تجمعوا، وخرج منهم طائفة نحو المصلى وسألوا صرف عيسى بن مشطورس، وأن تكون الوساطة لابن عمار، فندب لذلك وخلع عليه في ثالث شوّال سنة خمس وسبعين وثلاثمائة وقلد بسيف من سيوف العزيز بالله، وحمل على فرس بسرج ذهب، ولقّب بأمين الدولة، وهو أوّل من لقب في الدولة الفاطمية من رجال الدولة، وقيّد بين يديه بحدّة دواب، وحمل معه خمسون ثوبا من سائر البز الرفيع، وانصرف إلى داره في موكب عظيم، وقرىء سجله، فتولى قراءته القاضي محمد بن النعمان بجلوسه للوساطة وتلقيبه بأمين الدولة، والزم سائر الناس بالترجّل إليه، فترجّل الناس بأسرهم له من أهل الدولة، وصار يدخل القصر راكبا، ويشق الدواوين ويدخل من الباب الذي يجلس فيه خدم الخليفة الخاصة، ثم يعدل إلى باب الحجرة التي فيها أمير المؤمنين الحاكم فينزل على بابها ويركب من هناك، وكان الناس من الشيوخ والرؤساء على طبقاتهم يبكرون إلى داره فيجلسون في الدهاليز بغير ترتيب والباب مغلق، ثم يفتح فيدخل إليه جماعة من الوجوه ويجلسون في قاعة الدار على حصير وهو جالس في مجلسه، ولا يدخل له أحد ساعة، ثم يأذن لوجوه من حضر كالقاضي ووجوه شيوخ كتامة والقوّاد فتدخل أعيانهم، ثم يأذن لسائر الناس فيزدحمون عليه، بحيث لا يقدر أحد أن يصل إليه، فمنهم من يومي بتقبيل الأرض ولا يردّ السلام على(3/68)
أحد، ثم يخرج فلا يقدر أحد على تقبيل يده سوى أناس بأعيانهم إلا أنهم يومئون إلى تقبيل الأرض، وشرف أكابر الناس بتقبيل ركابه، وأجلّ الناس من يقبل ركبته، وقرّب كتامة وأنفق فيهم الأموال، وأعطاهم الخيول، وباع ما كان بالاصطبلات من الخيل والبغال والنجب وغيرها، وكانت شيأ كثيرا، وقطع أكثر الرسوم التي كانت تطلق لأولياء الدولة من الأتراك، وقطع أكثر ما كان في المطابخ، وقطع أرزاق جماعة، وفرّق كثيرا من جواري القصر، وكان به من الجواري والخدم عشرة آلاف جارية وخادم، فباع من اختار البيع، وأعتق من سأل العتق طلبا للتوفير، واصطنع أحداث المغاربة، فكثر عتيهم وامتدّت أيديهم إلى الحرام في الطرقات، وشلّحوا الناس ثيابهم، فضج الناس منهم واستغاثوا إليه بشكايتهم، فلم يبد منه كبير نكير فأفرط الأمر حتى تعرّض جماعة منهم للغلمان الأتراك وأرادوا أخذ ثيابهم، فثار بسبب ذلك شرّ قتل فيه غلام من الترك، وحدث من المغاربة، فتجمع شيوخ الفريقين واقتتلوا يومين آخرهما يوم الأربعاء تاسع شعبان سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، فلما كان يوم الخميس ركب ابن عمار لابسا آلة الحرب وحوله المغاربة، فاجتمع الأتراك واشتدّت الحرب وقتل جماعة وجرح كثير فعاد إلى داره، وقام برجوان بنصرة الأتراك، فامتدّت الأيدي إلى دار ابن عمار واصطبلاته ودار رشا غلامه، فنهبوا منها ما لا يحصى كثرة، فصار إلى داره بمصر في ليلة الجمعة، لثلاث بقين من شعبان واعتزل عن الأمر، فكانت مدّة نظره أحد عشر شهرا إلّا خمسة أيام، فأقام بداره في مصر سبعة وعشرين يوما، ثم خرج إليه الأمر بعوده إلى القاهرة فعاد إلى قصره هذا ليلة الجمعة، الخامس والعشرين من رمضان، فأقام به لا يركب ولا يدخل إليه أحد إلّا أتباعه وخدمه، وأطلقت له رسومه وجراياته التي كانت في أيام العزيز بالله، ومبلغها عن اللحم والتوابل والفواكه خمسمائة دينار في كل شهر، وفي اليوم سلة فاكهة بدينار، وعشرة أرطال شمع، ونصف حمل ثلج، فلم يزل بداره إلى يوم السبت الخامس من شوّال سنة تسعين وثلثمائة، فأذن له الحاكم في الركوب إلى القصر، وأن ينزل موضع نزول الناس، فواصل الركوب إلى يوم الاثنين رابع عشرة، فحضر عشية إلى القصر وجلس مع من حضر، فخرج إليه الأمر بالانصراف، فلما انصرف ابتدره جماعة من الأتراك وقفوا له فقتلوه واحتزوا رأسه ودفنوه مكانه، وحمل الرأس إلى الحاكم، ثم نقل إلى تربته بالقرافة فدفن فيها، وكانت مدّة حياته بعد عزله إلى أن قتل ثلاث سنين وشهرا واحدا وثمانية وعشرين يوما، وهو من جملة وزراء الدولة المصرية، وولى بعده برجوان، وقد مرّ ذكره.
ذكر الدروب والأزقة
قد اشتملت القاهرة وظواهرها من الدروب والأزقة على شيء كثير، والغرض ذكر ما يتيسر لي من ذلك:
درب الأتراك: هذا الدرب أصله من خط حارة الديلم، وهو من الدروب القديمة وقد(3/69)
تقدّم ذكره في الحارات، ويتوصل إليه من خطة الجامع الأزهر، وقد كان فيما أدركناه من أعمر الأماكن.
أخبرني خادمنا محمد بن السعودي قال: كنت أسكن في أعوام بضع وستين وسبعمائة بدرب الأتراك، وكنت أعاني صناعة الخياطة، فجاءني في موسم عيد الفطر من الجيران أطباق الكعك والخشكنانج على عادة أهل مصر في ذلك، فملأت زيرا كبيرا كان عندي مما جاءني من الخشكنانج خاصة، لكثرة ما جاءني من ذلك، إذ كان هذا الخط خاصا بكثرة الأكابر والأعيان، وقد خرب اليوم منه عدّة مواضع.
درب الأسواني: ينسب إلى القاضي أبي محمد الحسن بن هبة الله الأسواني، المعروف بابن عتاب.
درب شمس الدولة: هذا الدرب كان قديما يعرف بحارة الأمراء كما تقدّم، فلما كان مجىء الغز إلى مصر واستيلاء صلاح الدين يوسف على مملكة مصر، سكن في هذا المكان الملك المعظم شمس الدولة توران شاه ابن أيوب، فعرف به وسمي من حينئذ درب شمس الدولة، وبه يعرف إلى اليوم: توران شاه الملقب بالملك المعظم شمس الدولة بن نجم الدين أيوب بن شادي بن مروان، قدم إلى القاهرة مع أهله من بلاد الشام في سنة أربع وستين وخمسمائة، عندما تقلد صلاح الدين يوسف بن أيوب وزارة الخليفة العاضد لدين الله، بعد موت عمه أسد الدين شير كوه، وكانت له أعمال في واقعة السودان تولّاها بنفسه، واقتحم الهول، فكان أعظم الأسباب في نصرة أخيه صلاح الدين وهزيمة السودان، ثم خرج إليهم بعد انهزامهم إلى الجيزة، فأفناهم بالسيف حتى أبادهم، وأعطاه صلاح الدين قوص وأسوان وعيداب، وجعلها له أقطاعا، فكانت عبرتها في تلك السنة مائتي ألف وستة وستين ألف دينار، ثم خرج إلى غزو بلاد النوبة في سنة ثمان وستين، وفتح قلعة أبريم وسبى وغنم ثم عاد بعد ما أقطع أبريم بعض أصحابه، وخرج إلى بلاد اليمن في سنة تسع وستين وكان بها عبد النبيّ أبو الحسن عليّ ابن مهدي قد ملك زبيد وخطب لنفسه، وكان الفقيه عمارة قد انقطع إلى شمس الدولة، وصار يصف له بلاد اليمن ويرغّبه في كثرة أموالها ويغربه بأهلها، وقال فيه قصيدته المشهورة التي أولها:
العلم مذ كان محتاج إلى القلم ... وشفرة السيف تستغني عن القلم
فبعثه ذلك على المسير إلى بلاد اليمن فسار إليها في مستهل رجب، ودخل مكة معتمرا وسار منها فنزل على زبيد في سابع شوّال، وفي نهار الاثنين ثامن شوّال فتحها بالسيف وقبض على عليّ بن مهدي وأخوته وأقاربه، واستولى على ما كان في خزائنه من مال، وتسلّم الحصون التي كانت بيده، وفي مستهل ذي القعدة توجه قاصدا عدن، وبذل لياسر بن بلال في كل سنة ثلاثين ألف دينار وسلمها إليه، فما رغب في ذلك، وكان قصده(3/70)
أن يقيم بها نائبا عن المجلس الفخريّ، فلما أبى ذلك نزل عليها في يوم الجمعة تاسع عشري ذي القعدة وملكها في ساعة بالسيف، وقبض على ياسر وإخوته وولدي الداعي، فاحتوى على ما فيها وقبض على عبد النبيّ، واستولى أيضا على تعز وتفكر وصنعا وظفار وغيرها من مدن اليمن وحصونها، وتلقب بالملك المعظم، وخطب لنفسه بعد الخليفة العباسيّ، وما زال بها إلى سنة إحدى وسبعين فسار منها إلى لقاء أخيه صلاح الدين، ووصل إليه وملّكه دمشق في شهر ربيع الأوّل سنة اثنين وسبعين، فأقام بها إلى أن خرج السلطان صلاح الدين مرة من القاهرة إلى بلاد الشام فجهزه في ذي القعدة سنة أربع وسبعين إلى مصر، وكان قد عمله نائبا ببعلبك، فاستناب عنه فيها ودخل إلى القاهرة، وأنعم عليه صلاح الدين بالإسكندرية، فسار إليها وأقام بها إلى أن توفى في مستهل صفر سنة ست وسبعين وخمسمائة بالإسكندرية، فدفن بها، وكان كريما واسع العطاء، كثير الإنفاق، مات وعليه مائتا ألف دينار مصرية دينا، فقضاها عنه أخوه صلاح الدين، وكان سبب خروجه من اليمن أنه التاث بدنه بزبيد، فارتجل له سيف الدولة مبارك بن منقذ:
وإذا أراد الله سوءا بامرئ ... وأراد أن يحييه غير سعيد
أغراه بالترحال من مصر بلا ... سبب وأسكنه بصقع زبيد
فخرج من اليمن كما تقدّم.
وحكى الأديب الفاضل مهذب الدين أبو طالب محمد بن علي الحلي المعروف بابن الخيمي قال: رأيت في النوم المعظم شمس الدولة وقد مدحته وهو في القبر ميت، فلفّ كفنه ورماه إليّ وأنشدني:
لا تستقلنّ معروفا سمحت به ... ميتا وأمسيت عنه عاريا بدني
ولا تظننّ جودي شابه بخل ... من بعد بذلي بملك الشام واليمن
إني خرجت عن الدنيا وليس معي ... من كل ما ملكت كفي سوى كفني
وهذا الدرب من أعمر أخطاط القاهرة، به دار عباس الوزير وجماعة كما تراه إن شاء الله تعالى.
درب ملوخيا: هذا الدرب كان يعرف بحارة قائد القوّاد كما تقدم، وعرف الآن بدرب ملوخيا، وملوخيا كان صاحب ركاب الخليفة الحاكم بأمر الله، ويعرف بملوخيا الفرّاش، وقتله الحاكم وباشر قتله، وفي هذا الدرب مدرسة القاضي الفاضل، وقد اتصل به الآن الخراب.
درب السلسلة: هذا الدرب تجاه باب الزهومة، يعرف بالسلسلة التي كانت تمدّ كل ليلة بعد العشاء الآخرة كما تقدّم، وكان يعرف بدرب افتخار الدولة الأسعد، وعرف بسنان(3/71)
الدولة بن الكركنديّ وهو الآن درب عامر.
درب الشمسي: هذا الدرب بسوق المهامزيين تجاه قيسارية العصفر، عرف بالأمير علاء الدين كشنقدي الشمسيّ، أحد الأمراء في أيام الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ، وقتل على عكا في سنة تسعين وستمائة بيد الفرنج شهيدا، وكان هذا الدرب في القديم موضعه دار الضرب، ثم صار من حقوق درب ابن طلائع بسوق الفرّايين، وقد هدم بعض هذا الدرب الأمير جمال الدين يوسف الاستادار «1» ، لما اغتصب الحوانيت التي كانت على يمنة السالك من الخراطين إلى سوق الخيميين، وكانت في وقف المعظم تمرتاش الحافظي كما سيأتي ذكره، عند ذكر مدرسته إن شاء الله تعالى.
درب بن طلائع: هذا الدرب على يسرة من سلك من سوق الفرّايين الآن، الذي كان يعرف قديما بالخرقيين، طالبا إلى الجامع الأزهر، ويسلك في هذا الدرب إلى قيسارية السروج، وباب ممرّ حمّام الخرّاطين، ودار الأمير الدمر، وعرف هذا الدرب أوّلا بالأمير نور الدولة أبي الحسن عليّ بن نجا بن راجح بن طلائع، ثم عرف بدرب الجاولي الكبير، وهو الأمير عز الدين جاولي الأسدي، مملوك أسد الدين شير كوه بن شادي، ثم عرف بدرب العماد سنينات، ثم عرف بدرب الدمر، وبه يعرف إلى الآن.
(الدمر أمير جان دار «2» سيف الدين) أحد أمراء الملك الناصر محمد بن قلاون، خرج إلى الحج في سنة ثلاثين وسبعمائة، وكان أمير حاج الركب العراقي تلك السنة، يقال له محمد الحويج من أهل توريز، بعثه أبو سعيد ملك العراق إلى مصر، وخفّ على قلب الملك الناصر، ثم بلغه عنه ما يكرهه فأخرجه من مصر، ولما بلغه أنّ حويج في هذه السنة أمير الركب العراقيّ، كتب إلى الشريف عطيفة أمير مكة أن يعمل الحيلة في قتله بكل ما يمكن، فأطلع على ذلك ابنه مباركا وخواص قوّاده، فاستعدّوا لذلك، فلما وقف الناس بعرفة وعادوا يوم النحر إلى مكة، قصد العبيد إثارة فتنة وشرعوا في النهب لينالوا غرضهم من قتل أمير الركب العراقيّ، فوقع الصارخ وليس عند المصريين خبر مما كتبه السلطان، فنهض أمير الركب الأمير سيف الدين خاص ترك، والأمير أحمد قريب السلطان، والأمير الدمر أمير جان دار في مماليكهم، وأخذ الدمر يسب الشريف رميته، وأمسك بعض قوّاده وأحدق به، فقام إليه الشريف عطيفة ولا طفه فلم يرجع، وكان حديد النفس شجاعا فأقدم إليهم وقد اجتمع قوّاد مكة وأشرافها وهم ملبسون يريدون الركب العراقيّ، وضرب مبارك بن عطيفة بدبوس فأخطأه، وضربه مبارك بحربة نفذت من صدره، فسقط عن فرسه إلى(3/72)
الأرض، فأرتج الناس ووقع القتال، فخرج أمير الركب العراقيّ واحترس على نفسه فسلم، وسقط في يد أمير مكة إذ فات مقصوده، وحصل ما لم يكن بإرادته، ثم سكنت الفتنة ودفن الدمر، وكان قتله يوم الجمعة رابع عشر ذي الحجة، فكأنما نادى منادي في القاهرة والقلعة والناس في صلاة العيد بقتل الدمر ووقوع الفتنة بمكة، ولم يبق أحد حتى تحدّث بذلك، وبلغ السلطان فلم يكترث بالخبر.
وقال أين مكة من مصر، ومن أتى بهذا الخبر، واستفيض هذا الخبر بقتل الدمر حتى انتشر في إقليم مصر كله، فما هو إلّا أن حضر مبشر الحاج في يوم الثلاثاء ثاني المحرّم سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة فاخبروا بالخبر مثل ما أشيع، فكان هذا من أغرب ما سمع به، ولما بلغ السلطان خبر قتل الدمر غضب غضبا شديدا، وصار يقوم ويقعد، وأبطل السماط وأمر فجرد من العسكر ألفا فارس كل منهم بخودة وجوشن ومائة فردة نشاب وفأس برأسين أحدهما للقطع والآخر للهدم، ومع كل منهم جملان وفرسان وهجين، ورسم لأمير هذا العسكر أنه إذا وصل إلى ينبع وعدّاه، لا يرفع رأسه إلى السماء بل ينظر إلى الأرض ويقتل كل من يلقاه من العربان إلّا من علم أنّه أمير عرب، فإنه يقيده ويسجنه معه، وجرّد من دمشق ستمائة فارس على هذا الحكم، وطلب الأمير أيتمش أمير هذا الجيش ومن معه من الأمراء والمقدّمين وقال له: بدار العدل يوم الخدمة: وإذا وصلت إلى مكة لا تدع أحدا من الأشراف ولا من القوّاد ولا من عبيدهم يسكن مكة، وناد فيها من أقام بمكة حلّ دمه، ولا تدع شيئا من النخل حتى تحرقه جميعه، ولا تترك بالحجاز دمنة عامرة، وأخرب المساكن كلها، وأقم في مكة بمن معك حتى أبعث إليك بعسكر ثاني، وكان القضاة حاضرين.
فقال قاضي القضاة جلال الدين القزوينيّ: يا مولانا السلطان، هذا حرم قد أخبر الله عنه أنّ من دخله كان آمنا، وشرّفه. فردّ عليه جوابا في غضب. فقال الأمير أيتمش يا خوند، فإن حضر دمنة للطاعة وسأل الأمان؟ فقال أمّنه.
ثم لما سكن عنه الغضب كتب باستقرار أهل مكة وتأمينهم، وكتب أمانا نسخته: هذا أمان الله سبحانه وتعالى، وأمان رسوله صلى الله عليه وسلّم، وأماننا للمجلس العالي الأسدي دمنة بن الشريف نجم الدين محمد بن أبي نمر، بأن يحضر إلى خدمة الصنجق الشريف صحبة الجناب العالي السيفي أيتمش الناصري، آمنا على نفسه وأهله وماله وولده وما يتعلق به، لا يخشى حلول سطوة قاصمة، ولا يخاف مؤاخذة حاسمة، ولا يتوقع خديعة ولا مكرا، ولا يحذر سوأ ولا ضررا، ولا يستشعر مخافة ولا ضرارا، ولا يتوقع وجلا، ولا يرهب بأسا.
وكيف يرهب من أحسن عملا، بل يحضر إلى خدمة الصنجق آمنا على نفسه وماله وآله مطمئنا واثقا بالله ورسوله. وبهذا الأمان الشريف المؤكد الأسباب المبيض الوجه الكريم الأحساب، وكلما يخطر بباله أنا نؤاخذ به فهو مغفور، ولله عاقبة الأمور، وله منّا الإقبال(3/73)
والتقديم، وقد صفحنا الصفح الجميل، وأنّ ربك هو الخلّاق العليم، فليثق بهذا الأمان الشريف ولا يسيء به الظنون، ولا يصغي إلى قول الذين لا يعلمون، ولا يستشير في هذا الأمر إلّا نفسه، فيومه عندنا ناسخ لأمسه. وقد قال صلى الله عليه وسلّم: «يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي فليظنّ بي خيرا، فتمسك بعروة هذا الأمان فإنها وثقى، واعمل عمل من لا يضل ولا يشقى، ونحن قد أمّنّاك فلا تخف، ورعينا لك الطاعة والشرف، وعفا الله عما سلف، ومن أمّناه فقد فاز، فطب نفسا وقرّ عينا، فأنت أمير الحجاز والحمد لله وحده» .
وكان الدمر فيه شهامة وشجاعة وله سعادة طائلة ضخمة ومتاجر وزراعات اقتنى بها أموالا جزيلة، وزوّج ابنه بابنة قاضي القضاة جلال الدين القزويني.
درب قيطون: هذا الدرب بين قيسارية جهاركس وقيسارية أمير علي، وهو نافذ إلى خلف مستوقد حمّام القاضي، وكان من حقوق درب الأسواني.
درب السراج: هذا الدرب على يسرة من سلك من الجامع الأزهر طالبا درب الأسوانيّ، وخط الأكفانيين، وكان من جملة خط درب الأسواني ثم أفرد فصار من خط الجامع الأزهر، وكان يعرف أوّلا بدرب السراج، ثم عرف بدرب الشامي، وهو الآن يعرف بدرب ابن الصدر عمر.
درب القاضي: هذا الدرب يقابل مستوقد حمّام القاضي، على يمنة من سلك من درب الأسوانيّ إلى الجامع الأزهر، وهو من حقوق درب الأسواني، كان يعرف أوّلا بزقاق عزاز، غلام أمير الجيوش شاور السعدي وزير العاضد، ثم عرف بالقاضي السعيد أبي المعالي هبة الله بن فارس، ثم عرف بزقاق ابن الإمام، وعرف أخيرا بدرب ابن لؤلؤ، وهو شمس الدين محمد بن لؤلؤ التاجر، بقيسارية جهاركس.
درب البيضاء: هو من جملة خط الأكفانيين الآن، المسلوك إليه من الجامع الأزهر وسوق الفرّايين، عرف بذلك لأنه كان به دار تعرف بالدار البيضاء.
درب المنقدي: هذا الدرب بين سوق الخيميين وسوق الخرّاطين، على يمنة من سلك من الخرّاطين إلى الجامع الأزهر، كان يعرف قديما بزقاق غزال، وهو صنيعة الدولة أبو الظاهر إسماعيل بن مفضل بن غزال، ثم عرف بدرب المنقدي، وهو الآن يعرف بدرب الأمير بكتمر استادار العلاي.
درب خرابة صالح: هذا الدرب على يسرة من سلك من أوّل الخرّاطين إلى الجامع الأزهر، كان موضعه في القديم مارستانا، ثم صار مساكن، وعرف بخرابة صالح، وفيه الآن دار الأمير طينال التي صارت بيد ناصر الدين محمد البارزي كاتب السرّ، وفيه أيضا باب سوق الصنادقيين.(3/74)
درب الحسام: هذا الدرب على يمنة من سلك من آخر سويقة الباطلية إلى الجامع الأزهر، عرف بحسام الدين لاجين الصفدي استادار الأمير منجك.
درب المنصوري: هذا الدرب بأوّل الحارة الصالحية تجاه درب أمير حسين، عرف أوّلا بدرب الجوهري، وهو شهاب الدين أحمد بن منصور الجوهري، كان حيا في سنة ثمانين وستمائة، وعرف أخيرا بدرب المنصوري، وهو الأمير قطلو بغا المنصوري حاجب الحجّاب في أيام الملك الأشرف شعبان بن حسين.
درب أمير حسين: هذا الدرب في طريق من سلك من خط خان الدميري طالبا إلى حارة الصالحية وحارة البرقية، استجدّه الأمير حسين بن الملك الناصر محمد بن قلاون، ومات في ليلة السبت رابع شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين وسبعمائة، وكان آخر من بقي من أولاد الملك الناصر محمد بن قلاون، وهو والد الملك الأشرف شعبان بن حسين.
درب القماحين: هذا الدرب كان يعرف بخط قصر ابن عمار، من جملة حارة كتامة، قريبا من الحارة الصالحية، وفيه اليوم دار خوند شقرا وحمام كراي وراء مدرسة ابن الغنام.
درب العسل: هذا الدرب على يمنة من خرج من خط السبع خوخ يريد المشهد الحسيني، كان يعرف أوّلا بخوخة الأمير عقيل ابن الخليفة المعز لدين الله أبي تميم معدّ، أوّل خلفاء الفاطميين بالقاهرة، ومات في سنة أربع وسبعين وثلاثمائة، هو وأخوه الأمير تميم بن المعز بالقاهرة، ودفنا بتربة القصر.
درب الجباسة: هذا الدرب تجاه من يخرج من سوق الأبارين إلى المشهد الحسيني، وهو من جملة القصر الكبير، وبه دار خوخي التي تعرف اليوم بدار بهادر.
درب ابن عبد الظاهر: هذا الدرب بجوار فندق الذهب بخط الزراكشة العتيق، وفي صفه، وهو من حقوق دار العلم التي استجدّت في خلافة الآمر ووزارة المأمون الباطيجي، فلما زالت الدولة اختط مساكن وسكن هناك القاضي محي الدين ابن عبد الظاهر فعرف به.
درب الخازن: هذا الدرب ملاصق لسور المدرسة الصالحية التي للحنابلة، ومجاور لباب سرّ قاعة مدرسة الحنابلة، والسبيل الذي على باب فندق مسرور الصغير، استجدّه الأمير علم الدين سنجر الخازن الأشرفيّ والي القاهرة، المنسوب إليه حكر الخازن بخط الصليبة، وسنجر هذا كانت فيه حشمة وله ثروة زائدة، ويحب أهل العلم، تنقل في المباشرات إلى أن صار والي القاهرة، فاشتهر بدقة الفهم وصدق الحدس الذي لا يكاد يخطئ، مع عقل وسياسة وإحسان إلى الناس، وعزل بالأمير قديدار ومات عن تسعين سنة في ثامن جمادى الأولى سنة خمس وثلاثين وسبعمائة.(3/75)
درب الحبيشي: هذا الدرب على يمنة من سلك من خط الزراكشة العتيق طالبا سوق الأبّارين، وهو بجوار دار خواجا المجاورة لخان منجك، أصله من جملة القصر النافعي، وكان يعرف بخط القصر النافعي، ثم عرف بخط سوق الوراقين، وهو الآن يعرف بدرب الحبيشي، وهو الأمير سيف الدين بلبان الحبيشي أحد الأمراء الظاهرية بيبرس.
درب بقولا الصفار: بحارة الروم، كان يعرف بدرب الرومي الجزار.
درب دغمش: هذا الدرب ينفذ إلى الخوخة التي تخرج قبالة حمّام الفاضل المرسوم لدخول النساء، كان يعرف قديما بدرب دغمش، ويقال طغمش، ثم عرف بدرب كوز الزير، ويقال كوز الزيت، ويعرف بدرب القضاة بني غثم من حقوق حارة الروم.
درب أرقطاي: هذا الدرب بحارة الروم، كان يعرف بدرب الشماع، ثم عرف بدرب شمخ، وهو تاج العرب شمخ الحلبي، ثم عرف بدرب المعظم، وهو الأمير عز الملك المعظم ابن قوام الدولة جبر، بجيم وباء موحدة، ثم عرف بدرب أرسل، وهو الأمير عز الدين أرسل بن قرأ رسلان الكاملي والد الأمير جاولي المعظمي، المعروف بجاولي الصغير، ثم عرف بدرب الباسعردي، وهو الأمير علم الدين سنجر الباسعردي أحد أكابر المماليك البحرية الصالحية النجمية، وولي نيابة حلب، ثم عرف إلى الآن بدرب ابن أرقطاي، والعامّة تقول رقطاي بغير همز، وهو أرقطاي الأمير سيف الدين الحاج أرقطاي أحد مماليك الملك الأشرف خليل ابن قلاون، وصار إلى أخيه الملك الناصر محمد فجعله جمدارا «1» وكان هو والأمير أيتمش نائب الكرك بينهما أخوة، ولهما معرفة بلسان الترك القيجاقي، ويرجع إليهما في الياسة التي هي شريعة جنكزخان التي تقول العامّة وأهل الجهل في زماننا هذا حكم السياسة، يريدون حكم الياسة، ثم إن الملك الناصر أخرجه مع الأمير تنكر إلى دمشق، ثم استقرّ في نيابة حمص لسبع مضين من رجب سنة عشر وسبعمائة، فباشرها مدّة ثم نقله إلى نيابة صفد في سنة ثمان عشرة، فأقام بها وعمر فيها أملاكا وتربة، فلما كان في سنة ست وثلاثين طلب إلى مصر وجهز الأمير أيتمش أخوه مكانه وعمل أمير مائة بمصر، فلما توجه العسكر إلى اياس خرج معهم وعاد، فكان يعمل نيابة الغيبة إذا خرج السلطان للصيد، ثم أخرج إلى نيابة طرابلس عوضا عن طينال، فأقام بها إلى أن توجه الطنبغا إلى طشطمر نائب حلب، وكان معه بعسكر طرابلس، فلما جرى من هروب الطنبغا ما جرى، كان أرقطاي معه، فأمسك واعتقل بسكندرية، ثم أفرج عن أرقطاي في أوّل سلطنة الملك الصالح إسماعيل بوساطة الأمير ملكتمر الحجازي وجعل أميرا إلى أن مات الصالح.(3/76)
وقام من بعده الملك الكامل شعبان ورسم له بنيابة حلب عوضا عن الأمير يلبغا اليحياوي، فحضر إليها في جمادى الأولى سنة ست وأربعين، فأقام بها نحو خمسة أشهر، ثم طلب إلى مصر فحضر إليها فلم يكن غير قليل حتى خلع الكامل وتسلطن المظفر حاجي، وولاه نيابة السلطنة بمصر فباشرها إلى أن خلع المظفر وأقيم في السلطنة الملك الناصر، استعفى من النيابة وسأل نيابة حلب فأجيب وولي نيابة حلب وخرج إليها، وما زال فيها إلى أن نقل منها إلى نيابة دمشق، ففرح أهلها به وساروا إلى حلب، فرحل عنها فنزل به مرض، وسار وهو مريض فمات بعين مباركة ظاهر حلب يوم الأربعاء خامس جمادى الأولى سنة خمس وسبعمائة وقد أناف عن السبعين. فعاد أهل دمشق خائبين. وكان زكيا فطنا محجاجا لسنا مع عجمة في لسانه، وله تبنيت مطبوع وميل إلى الصور الجميلة ما يكاد يملك نفسه إذا شاهدها مع كرم في المأكول.
درب البنادين: بحارة الروم، يعرف بالبنادين من جملة طوائف العساكر في الدولة الفاطمية، ثم عرف بدرب أمير جاندار، وهو ينفذ إلى حمام الفاضل المرسوم بدخول الرجال، وأمير جاندار هذا هو الأمير علم الدين سنجر الصالحي المعروف بأمير جندار.
درب المكرّم: بحارة الروم يعرف بالقاضي المكرّم جلال الدين حسين بن ياقوت البزاز نسيب ابن سنا الملك.
درب الضيف: بحارة الديلم، عرف بالقاضي ثقة الملك أبي منصور نصر بن القاضي الموفق أمير الملك أبي الظاهر إسماعيل بن القاضي أمين الدولة أبي محمد الحسن بن علي بن نصر بن الضيف. كان موجودا في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، وبه أيضا رحبة تعرف برحبة الضيف منسوبة إليه.
درب الرصاصي: بحارة الديلم، هذا الدرب كان يعرف بحكر الأمير سيف الدين حسين بن أبي الهيجاء، صهر بني رزبك من وزراء الدولة الفاطمية، ثم عرف بحكر تاج الملك بدران بن الأمير سيف الدين المذكور، ثم عرف بالأمير عز الدين أيبك الرصاصي.
درب ابن المجاور: هذا الدرب على يسرة من دخل من أوّل حارة الديلم، كان فيه دار الوزير نجم الدين بن المجاور وزير الملك العزيز عثمان، عرف به وهو يوسف بن الحسين بن محمد بن الحسين أبو الفتح نجم الدين الفارسيّ الشيرازي، المعروف بابن المجاور، كان والده صوفيا من أهل فارس، ثم من شيراز، قدم دمشق وأقام في دويرة الصوفية بها. وكان من الزهد والدين بمكان، وأقام بمكة وبها مات في رجب سنة ست وثمانين وخمسمائة، وكان أخوه أبو عبد الله قد سمع الحديث وحدّث وقدم إلى القاهرة ومات بدمشق أوّل رمضان سنة خمس وعشرين وستمائة.(3/77)
درب الكهارية: هذا الدرب فيه المدرسة الكهارية بجوار حارة الجودرية المسلوك إليه من القماحين، ويتوصل منه إلى المدرسة الشريفية.
درب الصفيرة: بتشديد الفاء هذا الدرب بجوار باب زويلة، وهو من حقوق حارة المحمودية وكان نافذا إلى المحمودية، وهو الآن غير نافذ وأصله درب الصفيراء تصغير صفراء، هكذا يوجد في الكتب القديمة، وقد دخل بجميع ما كان فيه من الدور الجليلة بالجامع المؤيدي.
درب الأنجب: هذا الدرب تجاه بئر زويلة التي من فوق فوهتها اليوم ربع يونس من خط البندقانيين، يعرف بالقاضي الأنجب أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن نصر بن عليّ، أحد الشهود في أيام قاضي القضاة سنان الملك أبي عبد الله محمد بن هبة الله بن ميسر، وكان حيا في سنة بضع وعشرين وخمسمائة، وينسب إلى الحسين بن الأنجب المقدسيّ، أحد الشهود المعدّلين، وكان موجودا في سنة ستمائة، ثم عرف هذا الدرب بأولاد العميد الدمشقيّ، فإنه كان مسكنهم، ثم عرف بالبساطيّ، وهو قاضي القضاة جمال الدين يوسف.
درب كنيسة جدة: بضم الجيم، هذا الدرب بالبندقانيين كان يعرف بدرب بنت جدّة، ثم عرف بدرب الشيخ السديد الموفق.
درب ابن قطز: هذا الدرب بجوار مستوقد حمّاد الصاحب ورباط الصاحب من خط سويقة الصاحب، عرف بناصر الدين بن بلغاق بن الأمير سيف الدين قطز المنصوريّ، ومات بعد سنة ثمان وتسعين وستمائة.
درب الحريري: هذا الدرب من جملة دار الديباج هو ودرب ابن قطز المذكور قبله، ويتوصل إليه اليوم من أوّل سويقة الصاحب وفيه المدرسة القطبية، عرف بالقاضي نجم الدين محمد بن القاضي فتح الدين عمر المعروف بابن الحريريّ، فإنه كان ساكنا فيه.
درب ابن عرب: هذا الدرب بخط سويقة الصاحب كان يعرف بدرب بني أسامة الكتاب، أهل الإنشاء في الدولة الفاطمية، ثم عرف بدرب بني الزبير الأكابر الرؤساء في الدولة الفاطمية، ثم سكنه القاضي علاء الدين عليّ بن عرب محتسب القاهرة في أيام الأمير بليغاق وكيل بيت المال، فعرف به إلى اليوم، وابن عرب هذا هو علاء الدين أبو الحسن عليّ بن عبد الوهاب بن عثمان بن عليّ بن محمد عرف بابن عرب، ولي الحسبة بالقاهرة في آخر صفر سنة خمس وستين وسبعمائة، وولي وكالة بيت المال أيضا وتوفي.
درب ابن مغش: هذا الدرب تجاه المدرسة الصاحبية، عرف أخيرا بتاج الدين موسى كاتب السعديّ وناظر الخاص في الأيام الظاهرية برقوق، وله به دار مليحة، وكان ماجنا متهتكا يرمي بالسوء، وأما الديانة فإنه قبطيّ، وعنه أخذ سعد الدين إبراهيم بن غراب وظيفة(3/78)
ناظر الخاص، وعاقبه بين يديه، ثم صار يتردّد بعد ذلك إلى مجلسه، وهلك في واقعة تيمور لنك بدمشق في شعبان سنة ثلاث وثمانمائة بعد ما احترق بالنار لما احترقت دمشق وأكل الكلاب بعضه.
درب مشترك: هذا الدرب يقرب من درب العدّاس تجاه الخط الذي كان يعرف بالمساطح، وفيه الآن سوق الجواري، عرف أوّلا بدرب الأخناي قاضي القضاة برهان الدين المالكيّ، فإنه كان يسكن فيه، ثم هو الآن يقال له درب مشتكر وهذه كلمة تركية أصلها بلسانهم أج ترك بضم الهمزة وأشمامها، ثم جيم بين الجيم والشين ومعنى ذلك ثلاث وترك بتاء مثناة من فوق ثم راء مهملة وكاف. ومعناها النخل، ومعنى هذا الاسم ثلاث نخيل، وعرّبته العامّة فقالت مشترك وهو مشترك السلاح دار الظاهر برقوق، فإنه سكن بها ومات في سنة 801 «1» .
درب العداس: هذا الدرب فيما بين دار الديباج والوزيرية، عرف بعليّ بن عمر العدّاس صاحب سقيفة العدّاس.
درب كاتب سيدي: هذا الدرب من جملة خط الملحيين، كان يعرف بدرب تقيّ الدين الأطرباني أحد موقعي الحكم عند قاضي القضاة تقيّ الدين الأخناوي ثم عرف بالوزير لصاحب علم الدين عبد الوهاب القبطيّ الشهير بكاتب سيدي.
الوزير كاتب سيدي: تسمى لما أسلم بعبد الوهاب بن القسيس، وتلقّب علم الدين، وعرف بين الكتاب الأقباط بكاتب سيدي وترقى في الخدم الديوانية حتى ولي ديوان المرتجع، وتخصص بالوزير الصاحب شمس الدين إبراهيم كاتب أرلان، فلما أشرف من مرضه على الموت عين للوزارة من بعده علم الدين هذا فولاه الملك الظاهر وظيفة الوزارة بعد موت الوزير شمس الدين في سادس عشري شعبان سنة تسع وثمانين وسبعمائة. فباشر الوزارة إلى يوم السبت رابع عشري رمضان سنة تسعين وسبعمائة، ثم قبض عليه وأقيم في منصب الوزارة بدله الوزير الصاحب كريم الدين بن الغنام وسلمه إليه وكان قد أراد مصادرة كريم الدين فاتفق استقراره في الوزارة وتمكنه منه، فألزمه بحمل مال قرّره عليه. فيقال أنه حمل في هذا اليوم ثلثمائة ألف درهم عنها إذ ذاك نحو العشرة آلاف مثقال ذهبا، ومات بعد ذلك من هذه السنة. وكان كاتبا بليغا كتب بيده بضعا وأربعين رزمة من الورق، وكانت أيامه ساكنة والأحوال متمشية وفيه لين.
درب مخلص: هذا الدرب بحارة زويلة، عرف بمخلص الدولة أبي الحيا مطرف المستنصري، ثم عرف بدرب الرايض وهو الأمير طراز الدولة الرايض باصطبل الخلافة.(3/79)
درب كوكب: هذا الدرب هو الآن زقاق شارع يسلك فيه من حارة زويلة إلى درب الصقالبة، عرف أوّلا بالقائد الأعز مسعود المستنصر، ثم عرف بكوكب الدولة ابن الحناكي.
درب الوشاقي: بحارة زويلة، عرف بالأمير حسام الدين سنقر الوشاقي المعروف بالأعسر، السلاح دار أحد أمراء السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب.
درب الصقالبة: بحارة زويلة: عرف بطائفة الصقالبة أحد طوائف العساكر في أيام الخلفاء الفاطميين وهم جماعة.
درب الكنجي: بحارة زويلة، كان يعرف بدرب حليلة، ثم عرف بالأمير شمس الدين سنقر شاه الكنجي الحاجب الظاهريّ، قتله قلاون أوّل سلطنته.
درب رومية: هذا الدرب كان في القديم فيما بين زقاق القابلة ودرب الزراق، فزقاق القابلة فيه اليوم كنيسة اليهود بحارة زويلة، ويتوصل منه إلى السبع سقايات ودار بيبرس التي عرفت بدار كاتب السرّ ابن فضل الله تجاه حمام ابن عبود، ودرب الزراق هو اليوم من جملة خط سويقة الصاحب، وبينهما الآن دور لا يوصل إليه إلّا بعد قطع مسافة، ودرب رومية كان يعرف أوّلا بزقاق حسين بن إدريس العزيزي أحد اتباع الخليفة العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله، ثم عرف بدرب رومية، وهو بجوار زقاق القابلة الذي عرف بزقاق العسل، ثم عرف بزقاق المعصرة، وعرف اليوم بزقاق الكنيسة.
درب الخضيري: هذا الدرب يقابل باب الجامع الأقمر البحري وهو من جملة حقوق القصر الصغير الغربيّ، عرف بالأمير عز الدين ايدمر الخضيريّ أحد أمراء الملك المنصور قلاوون.
درب شعلة: هو الشارع المسلوك فيه من باب درب ملوخيا إلى خط الفهادين والعطوفية، وقد خرب.
درب نادر: هذا الدرب بجوار المدرسة الجمالية فيما بين درب راشد ودرب ملوخيا، عرف بسيف الدولة نادر الصقلبيّ، وتوفي لاثنتي عشرة خلت من صفر سنة اثنين وثمانين وثلثمائة، فبعث إليه الخليفة العزيز بالله لكفنه خمسين قطعة من ديباج مثقل، وخلّف ثلثمائة ألف دينار عينا وآنية من فضة وذهب وعبيدا وخيلا وغير ذلك مما بلغت قيمته نحو ثمانين ألف دينار، وكان أحد الخدام ذكره المسبحي في تاريخه، وقد ذكر ابن عبد الظاهر: أنّ بالسويقة التي دون باب القنطرة دربا يعرف بدرب نادر، فلعله نسب إليه درب كان هناك في القديم أيضا.
درب راشد: هذا الدرب تجاه خزانة البنود عرف بيمين الدولة راشد العزيزي.(3/80)
درب النميريّ: عرف بالأمير سيف المجاهدين محمد بن النميريّ أحد أمراء الخليفة الحافظ لدين الله، ووليّ عسقلان في سنة ست وثلاثين وخمسمائة، وكانت ولايتها أكبر من ولاية دمشق، وهذا الدرب كان ينفذ إلى درب راشد وهو الآن غير نافذ، وفي داخله درب يعرف بأولاد الداية طاهر وقاسم الأفضلين أحد أتباع الأفضل بن أمير الجيوش، وعرف الآن بدرب الطفل، وهو من جملة خطة قصر الشوك، فإنه قبالة باب قصر الشوك وبينهما سوقة رحبة الأيدمري.
درب قراصيا: هذا الدرب من جملة الدروب القديمة، وكان تجاه باب قصر الزمرّد الذي في مكانه اليوم المدرسة الحجازية، وهذا الدرب اليوم من جملة خطة رحبة باب العيد بجوار سجن الرحبة وقد هدمه الأمير جمال الدين يوسف الأستادار، وهدم كثيرا من دوره وعملها وكالة فمات ولم تكمل، وهي إلى الآن بغير تكملة، ثم كمله الملك المؤيد شيخ وجعله وقفا على جامعه وهو إلى الآن خان عامر.
درب السلامي: هذا الدرب من جملة خط رحبة باب العيد وفيه إلى اليوم أحد أبواب القصر المسمى بباب العيد، والعامّة تسميه القاهرة، وهذا الدرب يسلك منه إلى خط قصر الشوك وإلى المارستان العتيق الصلاحي وإلى دار الضرب وغير ذلك.
عرف بخواجا مجد الدين السلامي: إسماعيل بن محمد بن ياقوت الخواجا مجد الدين السلامي تاجر الخاص في أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون، وكان يدخل إلى بلاد الططر ويتجر ويعود بالرقيق وغيره، واجتهد مع جويان إلى أن اتفق الصلح بين الملك الناصر وبين القان أبي سعيد، فانتظم ذلك بسفارته وحسن سعيه فازدادت وجاهته عند الملكين، وكان الملك الناصر يسفره ويقرّر معه أمورا فيتوجه ويقضيها على وفق مراده بزيادات، فأحبه وقرّبه ورتب له الرواتب الوافرة، في كل يوم من الدراهم واللحم والعليق والسكر والحلواء والكماج والرقاق مما يبلغ في اليوم مائة وخمسين درهما، عنها يومئذ ثمانية مثاقيل من الذهب، وأعطاه قرية أراك ببعلبك، وأعطى مماليكه إقطاعات في الحلقة، وكان يتوجه إلى الأردن ويقيم فيه الثلاث سنين والأربع والبريد لا ينقطع عنه، وتجهّز إليه التحف والأقمشة ليفرّقها على من يراه من خواص أبي سعيد وأعيان الأردن، ثقة بمعرفته ودرايته، وكان النشو «1» ناظر الخاص لا يفارقه ولا يصبر عنه، ومن أملاكه ببلاد المشرق السلامية والمأخوذة والمراوزة والمناصف، ولما مات الملك الناصر قلاوون تغير عليه الأمير قوصون وأخذ منه مبلغا يسيرا، وكان ذا عقل وافر وفكر مصيب وخبرة بأخلاق الملوك وما يليق بخواطرها ودراسة بما يتحفها به من الرقيق والجواهر، ونطق سعيد وخلق رضيّ وشكالة(3/81)
حسنة وطلعة بهية، ومات في داره من درب السلاميّ هذا يوم الأربعاء سابع جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة، ودفن بتربته خارج باب النصر، ومولده في سنة إحدى وسبعين وستمائة بالسلّاميّة، بلدة من أعمال الموصل على يوم منها بالجانب الشرقيّ، وهي بفتح السين المهملة وتشديد اللام وبعد الميم ياء مثناة من تحت مشدّدة ثم تاء التأنيث.
درب خاص ترك: هذا الدرب برحبة باب العيد عرف بالأمير الكبير ركن الدين بيبرس المعروف بخاص الترك الكبير، أحد الأمراء الصالحية النجمية، أو بالأمير عز الدين أيبك، المعروف بخاص الترك الصغير، سلاح دار الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري.
درب شاطي: هذا الدرب يتوصل منه إلى قصر الشوك، عرف بالأمير شرف الدين شاطي، السلاح دار في أيام الملك المنصور قلاوون، وكان أميرا كبيرا مقدّما بالديار المصرية، وأخرجه الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى الشام فأقام بدمشق، وكانت له حرمة وافرة وديانة وفيه خير، ومات بها في الحادي والعشرين من شعبان سنة اثنين وثلاثين وسبعمائة.
درب الرشيدي: هذا الدرب مقابل باب الجوانية عرف بالأمير عز الدين أيدمر الرشيدي، مملوك الأمير بلبان الرشيدي، خوش داش «1» الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري وولي الأمير ايدمر هذا، استدارا لأستاذه بلبان، ثم ولي استدارا للأمير سلار، ومات في تاسع عشر شوّال سنة ثمان وسبعمائة، وكان سكنه في هذا الدرب وكان عاقلا ذا ثروة وجاه، وكان في القديم موضع هذا الدرب براحا قدّام الحجر.
درب الفريحية: هذا الدرب على يمنة من خرج من الجملون الصغير طالبا درب الرشيدي المذكور، وهو من الدروب التي كانت في أيام الخلفاء.
درب الأصفر: هذا الدرب تجاه خانقاه الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير، وموضع هذا الدرب هو المنحر الذي تقدّم ذكره.
درب الطاوس: هذا الدرب في الحدرة التي عند باب سرّ المارستان المنصوري على يمنة من ابتدا الخروج منه، وكان موضعه بجوار باب الساباط أحد أبواب القصر الصغير، وقد تقدّم ذكره، ودرب الطاوس أيضا بالقرب من درب العدّاس فيما بين باب الخوخة والوزيرية.
درب ماينجار: هذا الدرب بجوار جامع أمير حسين من حكر جوهر النوبي خارج القاهرة، عرف بالأمير ما ينجار الروميّ الواقديّ أيام الملك الظاهر بيبرس، وقد خربت تلك(3/82)
الديار في سلطنة الملك المؤيد شيخ.
درب كوسا: هو الآن يسلك فيه على شاطىء الخليج الكبير من قنطرة الأمير حسين إلى قنطرة الموسكي، عرف بحسام الدين كوسا أحد مقدّمي الخلفاء في أيام الملك المنصور قلاوون، مات بعد سنة ثلاث وثمانين وستمائة، وهذا الموضع تجاه دار الذهب التي تعرف اليوم بدار الأمير حسين الططريّ السلاح دار الناصريّ، وقد خربت أيضا.
درب الجاكي: هذا الدرب بالحكر عرف بالأمير شرف الدين إبراهيم بن عليّ بن الجنيد الجاكي المهمندار «1» المنصوري، وقد دثر في أيام المؤيد على يد الأمير فخر الدين عبد الغني بن أبي الفرج الاستادار، لما خرب ما هناك.
درب الحرامي: بالحكر، عرف بسعد الدين حسين بن عمر بن محمد الحرامي وابنه محيي الدين يوسف، وكانا من أجناد الحلقة.
درب الزراق: بالحكر، عرف بالأمير عز الدين أيدمر الزراق، أحد الأمراء، ولّاه الملك الصالح إسماعيل بن محمد بن قلاوون نيابة غزة في سنة خمس وأربعين وسبعمائة، فأقام بها مدّة ثم استعفى بعد موت الملك الصالح وعاد إلى القاهرة، ثم توجه إلى دمشق للحوطة على موجود الخاصكية يلبغا اليحياوي في الأيام المظفرية وعاد فلما ركب العسكر على المظفر لم يكن معه سوى الزراق واق سنقر وأيدمر الشمسي فنقم الخاصكية عليهم ذلك وأخرجوهم إلى الشام، فوصلوا إليها في أوّل شوّال سنة ثمان وأربعين، فأقام الزراق بدمشق، ثم ورد مرسوم السلطان حسن بتوجيههم إلى حلب فتوجه إليها على إقطاع وبها مات، وكان ديّنا ليّنا فيه خير، وكان هذا الدرب عامرا وفيه دار الزراق الدار العظيمة، وقد خرب هذا الدرب وما حوله منذ كانت الحوادث في سنة ست وثمانمائة ثم نقضت الدار في أيام المؤيد شيخ، على يد ابن أبي الفرج.
زقاق طريف: بالطاء المهملة، هذا الزقاق من أزقة البرقية، عرف بالأمير فخر الدين طريف بن بكتوت، وكان يعرف بزقاق منار بن ميمون بن منار، توفي في ذي الحجة سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة.
زقاق منعم: بحارة الديلم، كان يعرف بمساطب الديلم والأتراك، ثم عرف بالأمير منعم الدولة باتكين بالبوسحاقي، ثم عرف بزقاق جمال الدولة، ثم بزقاق الجلاطي، ثم بزقاق الصهرجتي، وهو القاضي المنتخب ثقة الدولة أبو الفضل محمد بن الحسين بن هبة الله بن وهيب الصهرجتي، وكان حيّا في سنة ستين وخمسمائة.(3/83)
زقاق الحمام: بحارة الديلم، عرف قديما بخوخة المنقدي، ثم عرف بخوخة سيف الدين حسين بن أبي الهيجاء، صهر بني رزبك، ثم عرف بزقاق حمام الرصاصي، ثم عرف بزقاق المزار.
زقاق الحرون: بحارة الديلم، عرف بالأمير الأوحد سلطان الجيوش زري الحرون، رفيق العادل بن السلاروز مصر في أيام الخليفة الظافر بأمر الله، ثم عرف بابن مسافر عين القضاة، ثم عرف بزقاق القبة.
زقاق الغراب: بالجودرية، كان يعرف بزقاق أبي العز، ثم عرف بزقاق ابن أبي الحسن العقيلي، ثم قيل له زقاق الغراب، نسبة إلى أبي عبد الله محمد بن رضوان الملقب بغراب.
زقاق عامر: بالوزيرية، عرف بعامر القماح في حارة الأقانصة.
زقاق فرج: بالجيم، من جملة أزقة درب ملوخيا، عرف بفرج مهتار الطشتخاناه «1» للملك المنصور قلاوون، كان حيّا في سنة ثلاث وثمانين وستمائة.
زقاق حدرة: الزاهدي بحارة برجوان، عرفت بالأمير ركن الدين بيبرس الزاهدي الرمّاح الأحدب، أحد الأمراء وممن له عدّة غزوات في الفرنج، ولما تمالأ الأمراء على الملك السعيد ابن الظاهر وسبقهم إلى القلعة كان قدّامه بيبرس الزاهدي هذا، فسقط عن فرسه وخرجت له حدبة في ظهره، ومات في سنة ثلاث وتسعين وستمائة وكان مكان هذه الحدرة إخصاصا، وهي الآن مساكن بينها زقاق يسلك فيه من رأس الحارة إلى رحبة الأفيال.
ذكر الخوخ «2»
والقصد إيراد ما هو مشهور من الخوخ، أو لذكره فائدة، وإلّا فالخوخ والدروب والأزقة كثيرة جدا.
الخوخ السبع: كانت سبع خوخ فيما يقال متصلة باصطبل الطارمة، يتوصل منها الخلفاء إذا أرادوا الجامع الأزهر، فيخرجون من باب الديلم الذي هو اليوم باب المشهد الحسينيّ إلى الخوخ، ويعبرون منها إلى الجامع الأزهر، فإنه كان حينئذ فيما بين الخوخ(3/84)
والجامع رحبة، كما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى، وكان هذا الخط يعرف أوّلا بخوخة الأمير عقيل، ولم يكن فيه مساكن، ثم عرف بعد انقضاء دولة الفاطميين بخط الخوخ السبع، وليس لهذه الخوخ اليوم أثر البتة، ويعرف اليوم بالأبارين.
باب الخوخة: هو أحد أبواب القاهرة مما يلي الخليج في حدّ القاهرة البحري، يسلك إليه من سويقة الصاحب ومن سويقة المسعوديّ، وكان هذا الباب يعرف أوّلا بخوخة ميمون دبه، ويخرج منه إلى الخليج الكبير. وميمون دبه يكنّى بأبي سعيد، أحد خدام العزيز بالله، كان خصيا.
خوخة ايدغمش: هذه الخوخة في حكم أبواب القاهرة، يخرج منها إلى ظاهر القاهرة عند غلق الأبواب في الليل وأوقات الفتن إذا غلقت الأبواب، فينتهي الخارج منها إلى الدرب الأحمر واليانسية، ويسلك من هناك إلى باب زويلة، ويصار إليها من داخل القاهرة إما من سوق الرقيق أو من حارة الروم من درب أرقطاي، وهذه الخوخة بجوار حمّام أيدغمش. وهو ايدغمش الناصري، الأمير علاء الدين، أصله من مماليك الأمير سيف الدولة بلبان الصالحيّ، ثم صار إلى الملك الناصر محمد بن قلاوون، فلما قدم من الكرك جعله أمير أخور «1» عوضا عن الأمير بيبرس الحاجب، ولم يزل حتى مات الملك الناصر فقام مع قوصون ووافقه على خلع الملك المنصور أبي بكر بن الملك الناصر، ثم لما هرب الطنبغا الفخري اتفق الأمراء مع أدغمش على الأمير قوصون فوافقهم على محاربته، وقبض على قوصون وجماعته وجهزهم إلى الاسكندرية، وجهز من أمسك الطنبغا ومن معه وأرسلهم أيضا إلى الإسكندرية، وصار ايدغمش في هذه النوبة هو المشار إليه في الحلّ والعقد، فأرسل ابنه في جماعة من الأمراء والمشايخ إلى الكرك بسبب إحضار أحمد بن الملك الناصر محمد، فلما حضر أحمد من الكرك وتلقب بالملك الناصر واستقرّ أمره بمصر أخرج إيدغمش نائبا بحلب، فسار إلى عين جالوت «2» ، وإذا بالفخري قد صار إليه مستجيرا به، فآمنه وأنزله في خيمة، فلما ألقى عنه سلاحه واطمأنّ قبض عليه وجهز إلى الملك الناصر أحمر، وتوجه إلى حلب فأقام بها إلى أن استقرّ الملك الصالح إسماعيل بن محمد في السلطنة، نقله عن نيابة حلب إلى نيابة دمشق، فدخلها في يوم العشرين من صفر سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة، وما زال بها إلى يوم الثلاثا ثالث جمادى الآخرة منها. فعاد من مطعم طيوره وجلس بدار السعادة حتى انقضت الخدمة، وأكل الطاري وتحدّث، ثم دخل إلى داره فإذا جواريه يختصمن، فضرب واحدة منهنّ ضربتين وشرع في الضربة الثالثة فسقط ميتا، ودفن من الغد في تربته خارج ميدان الحصى ظاهر دمشق، وكان جوادا كريما، وله مكانة عند الملك الناصر الكبير بحيث أنّه أمّر أولاده الثلاثة، وكان قد بعث الملك الصالح بالقبض(3/85)
عليه فبلغ القاصد موته في قطيا فعاد.
خوخة الأرقي: بحارة الباطلية، يخرج منها إلى سوق الغنم وغيره وهي بجوار داره.
خوخة عسيلة: هذه الخوخة من الخوخ القديمة الفاطمية، وهي بحارة الباطلية مما يلي حارة الديلم في ظهر الزقاق المعروف بخرابة العجيل بجوار دار الست حدق.
خوخة الصالحية: هذه الخوخة بجوار حبس الديلم، قريبة من دار الصالح طلائع بن رزبك التي هدمها ابن قايمار وعمرها، وكانت تعرف هذه الخوخة أوّلا بخوخة بحتكين، وهو الأمير جمال الدولة بحتكين الظاهريّ، ثم عرفت بخوخة الصالح طلائع بن رزبك، لأنّ داره كانت هناك وبها كان سكنه قبل أن يلي وزارة الظافر.
خوخة المطوع: هذه الخوخة بحارة كتامة في أوّلها مما يلي الجامع الأزهر، عند اصطبل الحسام الصفدي، عرفت بالمطوع الشيرازي.
خوخة حسين: هذه الخوخة في الزقاق الضيق المقابل لمن يخرج من درب الأسوانيّ ويسلك فيه إلى حكر الرصاصيّ، بحارة الديلم، ويعرف هذا الزقاق بزقاق المزار، وفيه قبر تزعم العامّة ومن لا علم عنده أنه قبر يحيى بن عقب، وأنه كان مؤدّبا للحسين بن عليّ بن أبي طالب، وهو كذب مختلق وأفك مفتري. كقولهم في القبر الذي بحارة برجوان أنه قبر جعفر الصادق، وفي القبر الآخر أنه قبر أبي تراب النخشبيّ، وفي القبر الذي على يسرة من خرج من باب الحديد ظاهر زويلة أنه قبر زارع النوي وأنه صحابيّ، وغير ذلك من أكاذيبهم التي اتخذها لهم شياطينهم أنصابا ليكونوا لهم عزّا، وسيأتي الكلام على هذه المزارات في مواضعها من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
وحسين هذا: هو الأمير سيف الدين حسين بن أبي الهيجاء، صهر بني رزبك، وكان كرديا قدّمه الصالح بن رزبك ابن الصالح لما وليّ الوزارة ونوه به، فلما مات وقام من بعده ابنه رزبك بن الصالح في الوزارة، كان حسين هذا هو مدبر أمره بوصية الصالح، واستشار حسينا في صرف شاور عن ولاية قوص، فأشار عليه بإبقائه، فأبى وولى الأمير أبي الرفعة مكانه، وبلغ ذلك شاور فخرج من قوص إلى طريق الواحات، فلما سمع رزبك بمسيره رأى في النوم مناما عجيبا، فأخبر حسينا بأنه رأى مناما، فقال: إن بمصر رجلا يقال له أبو الحسن عليّ بن نصر الأرتاجيّ، وهو حاذق في التعبير فأحضره. وقال: رأيت كأنّ القمر قد أحاط به حنش، وكأنني روّاس في حانوت. فغالطه الأرتاجي في تعبير الرؤيا وظهر ذلك لحسين، فأمسك حتى خرج. وقال له: ما أعجبني كلامك والله، لا بدّ أن تصدقني ولا بأس عليك. فقال: يا مولاي، القمر عندنا هو الوزير، كما أن الشمس الخليفة، والحنش المستدير عليه حبس مصحف، وكونه روّاس اقبلها تجدها شر مصحفا، وما وقع لي غير(3/86)
هذا. فقال حسين: اكتم هذا عن الناس. وأخذ حسين في الاهتمام بأمره، ووطأ أنه يريد التوجه إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان قد أحسن إلى أهلها وحمل إليها مالا وقماشا وأودعه عند من يثق به، هذا وأمر شاور يقوى ويتزايد ويصل الأرجاف به إلى أن قرب من القاهرة، فصاح الصائح في بني رزبك وكانوا أكثر من ثلاثة آلاف فارس، فأوّل من نجا بنفسه حسين، وسار فسأل عنه رزبك فقالوا: خرج. فانقطع قلبه لأن حسينا كان مذكورا بالشجاعة مشهورا بها، وله تقدّم في الدولة ومكانة وممارسة للحروب وخبرة بها، ولم يثبت بعد خروج حسين بل انهزم إلى ظاهر اطفيح فقبض عليه ابن النيض مقدّم العرب وأحضره إلى شاور فحبسه، وصدقت رؤياه ومات حسين في سنة «1»
خوخة الحلبي: هذه الخوخة في آخر اصطبل الطارمة بجوار حمّام الأمير علم الدين سنجر الحلبيّ وفي ظهر داره.
سنجر الحلبيّ: أحد المماليك الصالحية، ترقّى في الخدم إلى أن ولّاه الملك المظفر سيف الدين قطز نيابة دمشق، فلما قتل قطز على عين جالوت وقام من بعده في السلطنة بالديار المصرية الملك الظاهر بيبرس، ثار سنجر بدمشق في سنة ثمان وخمسين وستمائة ودعا إلى نفسه، وتلقب بالملك المجاهد، وبقي أشهرا والملك الظاهر يكاتب أمراء دمشق إلى أن خامروا على سنجر وحاصروه بقلعة دمشق أياما، فلما خشي أن يقبض عليه فرّ من القلعة إلى بعلبك، فجهز إليه الظاهر الأمير علاء الدين طيبرس الوزيري وما زال يحاصره حتى أخذه أسيرا، وبعث به إلى الديار المصرية، فاعتقله الظاهر وما زال في الاعتقال من سنة تسع وخمسين إلى سنة تسع وثمانين وسبعمائة، مدّة تنيف على ثلاثين سنة، مدّة أيام الملك الظاهر وولديه وأيام الملك المنصور قلاوون، فلما ولي الملك الأشرف خليل بن قلاوون أخرجه من السجن وخلع عليه وجعله أحد الأمراء الأكابر على عادته، فلم يزل أميرا بمصر إلى أن مات على فراشه في سنة اثنين وتسعين وسبعمائة، وقد جاوز تسعين سنة، وانحنى ظهره وتقوّس.
خوخة الجوهرة: هذه الخوخة بآخر حارة زويلة، عرفت اليوم بخوخة الوالي لقربها من دار الأمير علاء الدين الكورانيّ والي القاهرة، وكان من خير الولاة يحفظ كتاب الحاوي في الفقه على مذهب الإمام الشافعيّ رضي الله عنه، وأقام في ولاية القاهرة من محرّم سنة تسع وأربعين وسبعمائة بعد استدمر القلنجيّ وإلى القاهرة إلى «2»
خوخة مصطفى: هذه الخوخة بآخر زقاق الكنيسة من حارة زويلة، يخرج منها إلى القبو الذي عند حمّام طاب الزمان المسلوك منه إلى قبو منظرة اللؤلؤة على الخليج، عرفت(3/87)
بالأمير فارس المسكين مصطفى أحد أمراء بني أيوب الملوك، وهو أيضا صاحب هذا الحمّام.
خوخة ابن المأمون: هذه الخوخة في حارة زويلة بالدرب الذي بقرب حمام الكوبك، ويقال لهذه الخوخة اليوم باب حارة زويلة، وأصلها خوخة في درب ابن المأمون البطائحي.
خوخة كوتية أق سنقر: هذه الخوخة في الزقاق الذي يظهر المدرسة الفهرية بآخر سويقة الصاحب، كان يسلك منها إلى الخليج من جوار باب الذهب، وموضعها بحذاء بيت القاضي أمين الدين ناظر الدولة، ولم تزل إلى أن بنى المهتار عبد الرحمن البابا داره بجوارها في سني بضع وتسعين وسبعمائة، فسدّها، وعرفت هذه الخوخة أخيرا بخوخة المسيري، وهو قمر الدين بن السعيد المسيري.
خوخة أمير حسين: هذه الخوخة من جملة الوزيرية، يخرج منها إلى تجاه قنطرة أمير حسين، فتحها الأمير شرف الدين حسين بن أبي بكر بن إسماعيل بن حيدرة بيك الرومي حين بنى القنطرة على الخليج الكبير، وأنشأ الجامع بحكر جوهر التوبي. وجرى في فتح هذه الخوخة أمر لا بأس بإيراده: وهو أن الأمير حسين قصد أن يفتح في السور خوخة لتمرّ الناس من أهل القاهرة فيها إلى شارع بين السورين ليعمر جامعه، فمنعه الأمير علم الدين سنجر الخازن وإلي القاهرة من ذلك إلّا بمشاورة السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، وكان للأمير حسين إقدام على السلطان، وله به مؤانسة، فعرّفه أنه أنشأ جامعا، وسأله أن يفسح له في فتح مكان من السور ليصير طريقا نافذا يمرّ فيه الناس من القاهرة ويخرجون إليه، فأذن له في ذلك وسمح به، فنزل إلى السور وخرق منه قدر باب كبير ودهن عليه رنكه بعد ما ركب هناك بابا ومرّ الناس منه، واتفق أنه اجتمع بالخازن والي القاهرة وقال له على سبيل المداعبة: كم كنت تقول ما أخليك تفتح في السور بابا حتى تشاور السلطان، ها أنا قد شاورته وفتحت بابا على رغم أنفك، فحنق الخازن من هذا القول وصعد إلى القلعة ودخل على السلطان وقال: يا خوند أنت رسمت للأمير شرف الدين أن يفتح في السور بابا، وهو سور حصين على البلد. فقال السلطان: إنما شاورني أن يفتح خوخة لأجل حضور الناس للصلاة في جامعه. فقال الخازن: يا خوند ما فتح إلّا بابا يعادل باب زويلة، وعمل عليه رنكة، وقصد يعمل سلطانا على البارد، وما جرت عادة أحد بفتح سور البلد. فأثر هذا الكلام من الخازن في نفس السلطان أثرا قبيحا وغضب غضبا شديدا، وبعث إلى النائب وقد اشتدّ حنقه بأن يسفر حسين بن حيدر إلى دمشق، بحيث لا يبيت في المدينة، فخرج من يومه من البلد بسبب ما تقدّم ذكره.(3/88)
ذكر الرحاب
الرحبة بإسكان الحاء وفتحها: الموضع الواسع، وجمعها رحاب. اعلم أنّ الرحاب كثيرة لا تتغير إلّا بأن يبني فيها، فتذهب ويبقى اسمها، أو يبني فيها ويذهب اسمها ويجهل، وربما انهدم بنيان وصار موضعه رحبة أو دارا أو مسجدا، والغرض ذكر ما فيه فائدة.
رحبة باب العيد: هذه الرحبة كان أوّلها من باب الريح أحد أبواب القصر الذي أدركنا هدمه على يد الأمير جمال الدين الاستادار، في سنة إحدى عشرة وثمانمائة، وإلى خزانة البنود، وكانت رحبة عظيمة في الطول والعرض، غاية في الاتساع، يقف فيها العساكر فارسها وراجلها في أيام مواكب الأعياد ينتظرون ركوب الخليفة وخروجه من باب العيد، ويذهبون في خدمته لصلاة العيد بالمصلى خارج باب النصر، ثم يعودون إلى أن يدخل من الباب المذكور إلى القصر، وقد تقدّم ذكر ذلك، ولم تزل هذه الرحبة خالية من البناء إلى ما بعد الستمائة من الهجرة، فاختط فيها الناس وعمروا فيها الدور والمساجد وغيرها، فصارت خطة كبيرة من أجل أخطاط القاهرة، وبقى اسم رحبة باب العيد باقيا عليها لا تعرف إلّا به.
رحبة قصر الشوك: هذه الرحبة كانت قبليّ القصر الكبير الشرقيّ، في غاية الاتساع، كبيرة المقدار، وموضعها من حيث دار الأمير الحاج أل ملك بجوار المشهد الحسينيّ والمدرسة الملكية إلى باب قصر الشوك، عند خزانة البنود، وبينها وبين رحبة باب العيد خزانة البنود والسفينة، وكان السالك من باب الديلم الذي هو اليوم المشهد الحسينيّ إلى خزانة البنود يمرّ في هذه الرحبة، ويصير سور القصر على يساره، والمناخ ودار افتكين على يمينه، ولا يتصل بالقصر بنيان البتة، وما زالت هذه الرحبة باقية إلى أن خرب القصر بفناء أهله، فاختط الناس فيها شيئا بعد شيء حتى لم يبق منها سوى قطعة صغيرة تعرف برحبة الأيد مري.
رحبة الجامع الأزهر: هذه الرحبة كانت أمام الجامع الأزهر وكانت كبيرة جدّا، تبتدىء من خط اصطبل الطارمة إلى الموضع الذي فيه مقعد الأكفانيين اليوم، ومن باب الجامع البحريّ إلى حيث الخرّاطين. ليس بين هذه الرحبة ورحبة قصر الشوك سوى اصطبل الطارمة، فكان الخلفاء حين يصلّون بالناس بالجامع الأزهر تترجل العساكر كلها وتقف في هذه الرحبة حتى يدخل الخليفة إلى الجامع، وسيأتي ذكر ذلك إن شاء الله تعالى عند ذكر الجوامع. ولم تزل هذه الرحبة باقية إلى أثناء الدولة الأيوبية، فشرع الناس في العمارة بها إلى أن بقى منها قدّام باب الجامع البحري هذا القدر اليسير.
رحبة الحليّ: هذه الرحبة الآن من خط الجامع الأزهر ومن بقية رحبة الجامع التي تقدّم ذكرها، عرفت بالقاضي نجم الدين أبي العباس أحمد بن شمس الدين عليّ بن نصر الله بن مظفر الحليّ، التاجر العادل لأنها تجاه داره.(3/89)
رحبة البانياسي: هذه الرحبة بدرب الأتراك تجاه دار الأمير طيدمر الجمدار الناصري، وعرفت بالأمير نجم الدين محمود بن موسى البانياسيّ، لأنّ داره كانت فيها، ومسجده المعلق هناك، ومات بعد سنة خمسمائة.
رحبة الأيدمري: هذه الرحبة من جملة رحبة باب قصر الشوك، وعرفت بالأيدمري لأنّ داره هناك.
والأيدمريّ: هذا مملوك عز الدين أيدمر الحلي نائب السلطنة في أيام الملك الظاهر بيبرس، ترقى في الخدم حتى تأمّر في أيام الملك الظاهر بيبرس، وعلت منزلته في أيام الملك المنصور قلاوون، ومات سنة سبع وثمانين وستمائة، ودفن بتربته في القرافة بجوار الشافعي رضي الله عنه.
رحبة البدري: هذه الرحبة يدخل إليها من رحبة الأيدمري من باب قصر الشوك، ومن جهة المارستان العتيق، وهي من جملة القصر الكبير، عرفت بالأمير بيدمر البدري صاحب المدرسة البدرية، فإن داره هناك.
رحبة ضروط: هذه الرحبة بجوار دار أيّ ملك، وهي من جملة رحبة قصر الشوك، عرفت بالأمير ضروط الحاجب، فإنه كان يسكن هناك.
رحبة اقبغا: هذه الرحبة هي الآن سوق الخيميين، وهي من جملة رحبة الجامع الأزهر التي مرّ ذكرها، عرفت بالأمير اقبغا عبد الواحد أستادار الملك الناصر، وصاحب المدرسة الأقبغاوية.
رحبة مقبل: هذه الرحبة كانت تعرف بخط بين المسجدين، لأنّ هناك مسجدين أحدهما يقابل الآخر، ويسلك من هذه الرحبة إلى سويقة الباطلية، وإلى زقاق تريده، وعرفت أخيرا بالأمير زين الدين مقبل الرومي أمير جاندار الملك برقوق.
رحبة ألدمر: هذه الرحبة في الدرب أوّل سوق الفرّايين مما يلي الأكفانيين، عرفت بالأمير سيف الدين الدمر الناصريّ المقتول بمكة.
رحبة قردية: هذه الرحبة بخط الاكفانين، تجاه دار الأمير قردية الجمدار الناصريّ، وكانت هذه الدار تعرف قديما بالأمير سنجر الشكاري، وله أيضا مسجد معلق يدخل من تحته إلى الرحبة المذكورة، وهناك اليوم قاعة الذهب التي فيها الذهب الشريط لعمل المزركش.
رحبة المنصوريّ: قبالة دار المنصوريّ، عرفت بالأمير قطلوبغا المنصوري المقدّم ذكره.(3/90)
رحبة المشهد: هذه الرحبة تجاه المشهد الحسيني، كانت رحبة فيما بين باب الديلم أحد أبواب القصر الذي هو الآن المشهد الحسيني وبين اصطبل الطارمة.
رحبة أبي البقاء: هذه الرحبة من جملة رحبة باب العيد تجاه باب قاعة ابن كتيلة بخط السفينة، عرفت بقاضي القضاة بهاء الدين أبي البقاء محمد بن عبد البرّ بن يحيى بن عليّ بن تمام السبكيّ الشافعيّ، ومولده في سنة سبع وسبعمائة، أحد العلماء الأكابر، تقلد قضاء القضاة بديار مصر والشام ومات في ... «1» .
رحبة الحجازية: هذه الرحبة تجاه المدرسة الحجازية، وهي من جملة رحبة باب العيد، عرفت برحبة الحجازية.
رحبة قصر بشتاك: هذه الرحبة تجاه قصر بشتاك، وهي من جملة الفضاء الذي بين القصرين.
رحبة سلار: تجاه حمام البيسري ودار الأمير سلار نائب السلطنة، هي أيضا من جملة الفضاء الذي كان بين القصرين.
رحبة الفخري: هذه الرحبة بخط الكافوري تجاه دار الأمير سيف الدين قطلوبغا الطويل الفخري السلاح دار الأشرفيّ، أحد أمراء الملك الناصر محمد بن قلاوون.
رحبة الأكز: بخط الكافوري، هذه الرحبة تجاه دار الأمير سيف الدين الأكز الناصري الوزير، وتعرف أيضا برحبة الأبوبكري، لأنها تجاه دار الأمير سيف الدين الأبوبكري السلاح دار الناصريّ، وهي شارعة في الطريق يسلك إليها من دار الأمير تنكز ويتوصل منها إلى دار الأمير مسعود وبقية الكافوري.
رحبة جعفر: هذه الرحبة تجاه حارة برجوان، يشرف عليها شباك مسجد تزعم العوام أن فيه قبر جعفر الصادق. وهو كذب مختلق، وأفك مفتري، ما اختلف أخف من أهل العلم بالحديث والآثار والتاريخ والسير أنّ جعفر بن محمد الصادق عليه السلام مات قبل بناء القاهرة بدهر، وذلك أنه مات سنة ثمان وأربعين ومائة، والقاهرة بلا خلاف اختطت في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة بعد موت جعفر الصادق بنحو مائتي سنة وعشر سنين، والذي أظنه أن هذا موضع قبر جعفر بن أمير الجيوش بدر الجمالي المكنّى بأبي محمد، الملقب بالمظفر، ولما ولي أخوه الأفضل ابن أمير الجيوش الوزارة من بعد أبيه جعل أخاه المظفر جعفرا يلي العلامة عنه، ونعت بالأجل المظفر سيف الإمام جلال الإسلام شرف الأنام ناصر الدين خليل، أمير المؤمنين أبي محمد جعفر بن أمير الجيوش بدر الجمالي، وتوفي ليلة(3/91)
الخميس لسبع خلون من جمادى الأولى سنة أربع عشرة وخمسمائة، مقتولا، يقال قتله خادمه جوهر بمباطنة من القائد أبي عبد الله محمد بن فاتك البطائحي، ويقال بل كان يخرج في الليل يشرب، فجاء ليلة وهو سكران، فمازحه دراب حارة برجوان وتراميا بالحجارة، فوقعت ضربة في جنبه آلت به إلى الموت، والذي نقل أنّه دفن بتربة أبيه أمير الجيوش فإما أن يكون دفن هنا أوّلا، ثم نقل أو لم يدفن هنا، ولكنه من جملة ما ينسب إليه، فإنه بجوار دار المظفر التي من جملتها دار قاضي القضاة شمس الدين محمد الطرابلسي وما قاربها، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى عند ذكر دار المظفر.
رحبة الأفيال: هذه الرحبة من جملة حارة برجوان، يتوصل إليها من رأس الحارة، ويسلك في حدرة الزاهديّ إليها، وأدركتها ساحة كبيرة، والمشيخة تسميها رحبة الأفيال، وكذا يوجد في مكاتيب الدور القديمة، ويقال أنّ الفيلة في أيام الخلفاء كانت تربط بهذه الرحبة أمام دار الضيافة، ولم تزل خربة إلى ما بعد سنة سبعين وسبعمائة، فعمر بها دويرات ووجد فيها بئر متسعة ذات وجهين تشبه أن تكون البئر التي كانت سوّاس الفيلة يستقون منها، ثم طمت هذه البئر بالتراب.
رحبة مازن: هذه الرحبة بحارة برجوان تجاه باب دار مازن التي خربت، وفيها المسجد المعروف بمسجد بني الكوبك.
رحبة أقوش: هذه الرحبة بحارة برجوان تجاه قاعة الأمير جمال الدين أقوش الرومي السلاح دار الناصريّ، التي حل وقفها بهاء الدين محمد بن البرجي، ثم بيعت من بعده، ومات أقوش سنة خمس وسبعمائة.
رحبة برلغي: هذه الرحبة عند باب سرّ المدرسة القراسنقرية، تجاه دار الأمير سيف الدين برلغي الصغير، صهر الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير، وهذه الرحبة من جملة خط داء الوزارة.
رحبة لؤلؤ: هذه الرحبة بحارة الديلم في الدرب الذي بخط ابن الزلابي، وهي تجاه دار الأمير بدر الدين لؤلؤ الزردكاش الناصريّ، وهو من جملة من فرّ مع الأمير قراسنقر وأقوس الأفرم إلى ملك التتر بو سعيد.
رحبة كوكاي: هذه الرحبة بحارة زويلة، عرفت بالأمير سيف الدين كوكاي السلاح دار الناصريّ، وفيها المدرسة القطبية الجديدة.
رحبة ابن أبي ذكرى: هذه الرحبة بحارة زويلة، وهي التي فيها البئر السائلة بالقرب من المدرسة العاشورية، عرفت بالأمير ابن أبي ذكرى، وهي من الرحاب القديمة التي كانت أيام الخلفاء، وبها الآن سوق حارة اليهود القرّايين.(3/92)
رحبة بيبرس: هذه الرحبة يتوصل إليها من سويقة المسعوديّ، ومن حمام ابن عبود، عرفت بالملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير، فإنّ بصدرها داره التي كانت سكنه قبل أن يتقلد سلطنة ديار مصر، وقد حلّ وقفها وبيعت.
رحبة بيبرس الحاجب: هذه الرحبة بخط حارة العدوية عند باب سر الصاغة، عرفت بالأمير بيبرس الحاجب، لأنّ داره بها، وبيبرس هذا هو الذي ينسب إليه غيط الحاجب بجوار قنطرة الحاجب، وبهذه الرحبة الآن فندق الأمير الطواشي زمام الدور السلطانية زين الدين مقبل، وبه صار الآن هذا الخط يعرف بخط فندق الزمام، بعد ما كنا نعرفه يعرف بخط رحبة بيبرس الحاجب.
رحبة الموفق: تعرف هذه الرحبة بحارة زويلة تجاه دار الصاحب الوزير موفق الدين أبي البقاء هبة الله بن إبراهيم، المعروف بالموفق الكبير، وهي بالقرب من خوخة الموفق، المتوصل منها إلى الكافوري من حارة زويلة.
رحبة أبي تراب: هذه الرحبة فيما بين الخرشنف وحارة برجوان، تشبه أن تكون من جملة الميدان، ادركتها رحبة بها كيمان تراب، وسبب نسبتها إلى أبي تراب أن هناك مسجدا من مساجد الخلفاء الفاطميين، تزعم العامّة ومن لا خلاق له أن به قبر أبي تراب النخشبيّ، وهذا القول من أبطل الباطل، وأقبح شيء في الكذب، فإنّ أبا تراب النخشبي هو أبو تراب عسكر بن حصين النخشبي، صحب حاتما الأصم وغيره، وهو من مشايخ الرسالة، ومات بالبادية نهشته السباع سنة خمس وأربعين ومائتين، قبل بناء القاهرة بنحو مائة وثلاث سنين، وقد أخبرني القاضي الرئيس تاج الدين أبو الفداء إسماعيل بن أحمد بن عبد الوهاب بن الخطباء المخزومي، خال أبي رحمه الله، قبل أن يختلط قال: أخبرني مؤدّبي الذي قرأت عليه القرآن، أن هذا المكان كان كوما، وأن شخصا حفر فيه ليبني عليه دارا فظهرت له شرافات، فمازال يتبع الحفر حتى ظهر هذا المسجد، فقال الناس: هذا أبو تراب، من حينئذ، ويؤيد ما قال: أني أدركت هذا المسجد محفوفا بالكيمان من جهاته وهو نازل في الأرض، ينزل إليه بنحو عشر درج، وما برح كذلك إلى ما بعد سنة ثمانين وسبعمائة، فنقلت الكيمات التراب التي كانت هناك حوله، وعمر مكانها ما هنالك من دور، وعمل عليها درب من بعد سنة تسعين وسبعمائة، وزالت الرحبة والمسجد على حاله، وأنا قرأت على بابه في رخامة قد نقش عليها بالقلم الكوفيّ عدّة اسطر، تتضمن أنّ هذا قبر أبي تراب حيدرة ابن المستنصر بالله، أحد الخلفاء الفاطميين. وتاريخ ذلك فيما أظنّ بعد الأربعمائة، ثم لما كان في سنة ثلاث عشرة وثمانمائة سوّلت نفس بعض السفهاء من العامّة له أن يتقرّب بزعمه إلى الله تعالى بهدم هذا المسجد ويعيد بناءه، فجبى من الناس مالا شحذه منهم وهدم المسجد، وكان بناء حسنا، وردمه بالتراب نحو سبعة أذرع حتى ساوى(3/93)
الأرض التي تسلك المارّة منها، وبناه هذا البناء الموجود الآن، وبلغني أن الرخامة التي كانت على الباب نصبوها على شكل قبرأ حدثوه في هذا المسجد، وبالله ان الفتنة بهذا المكان الآخر من حارة برجوان الذي يعرف بجعفر الصادق لعظيمة، فإنهما صارا كالأنصاب التي كانت تتخذها مشركوا العرب، يلجأ إليهما سفهاء العامّة والنساء في أوقات الشدائد، وينزلون بهذين الموضعين كربهم وشدائدهم التي لا ينزلها العبد إلا بالله ربه، ويسألون في هذين الموضعين ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى وحده، من وفاء الدين من غير جهة معينة، وطلب الولد ونحو ذلك، ويحملون النذور من الزيت وغيره إليهما، ظنا أن ذلك ينجيهم من المكاره، ويجلب إليهم المنافع، ولعمري إن هي إلّا كرّة خاسرة، ولله الحمد على السلامة.
رحبة أرقطاى: هذه الرحبة بحارة الروم قدّام دار الأمير الحاج أرقطاي نائب السلطنة بالديار المصرية.
رحبة ابن الضيف: هذه الرحبة بحارة الديلم، وهي من الرحاب القديمة، عرفت بالقاضي أمين الملك إسماعيل بن أمين الدولة الحسن بن عليّ بن نصر بن الضيف، وفي هذه الرحبة الدار المعروفة بأولاد الأمير طنبغا الطويل، بجوار حكر الرصاصيّ، وتعرف هذه الرحبة أيضا بحمدان البزاز وبابن المخزومي.
رحبة وزير بغداد: هذه الرحبة بدرب ملوخيا، عرفت بالأمير الوزير نجم الدين محمود بن عليّ بن شردين، المعروف بوزير بغداد، قدم إلى مصر يوم الجمعة ثامن صفر سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة، وهو وحسام الدين حسن بن محمد بن محمد الغوريّ الحنفيّ، فارّين من العراق بعد قتل موسى ملك التتر، فأنعم عليه السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون باقطاع أمرة تقدمة ألف. مكان الأمير طازبغا، عند وفاته، في ليلة السبت ثامن عشرى جمادى الأولى من السنة المذكورة. فلما مات الملك الناصر محمد بن قلاون، وقام في الملك من بعده ابنه الملك المنصور أبو بكر بن محمد، قلد الوزارة بالديار المصرية للأمير نجم الدين محمود وزير بغداد في يوم الاثنين ثالث عشر المحرّم سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة. وبنى له دار الوزارة بقلعة الجبل، وأدركناها دار النيابة وعمل له فيها شباك يجلس فيه، وكان هذا قد أبطله الملك الناصر محمد، وخربت قاعة الصاحب، فلم يزل إلى أن صرف في أيام الملك الصالح إسماعيل بن محمد بن قلاون عن الوزارة، بالأمير ملكتمر السرجواني في مستهل رجب سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة، ثم أعيد في آخر ذي الحجة بعد تمنع منه، واشترط أن يكون جمال الكفاة ناظر الخاص معه صفة مشير، فأجيب إلى ذلك.
فلما قبض على جمال الكفاة، صرف وزير بغداد وولي بعده الوزارة الأمير سيف الدين ايتمش الناصريّ، في يوم الأربعاء ثاني عشرى ربيع الآخر سنة خمس وأربعين، بحكم استعفائه منها، فباشرها أيتمش قليلا وسأل أن يعفى من المباشرة فأعفي، وذلك لقلة(3/94)
المتحصل وكثرة المصروف في الأنعام على الجواري والخدّام وحواشيهم، وكانت الكلف في كل سنة ثلاثين ألف ألف دينار، والمتحصل خمسة عشر ألف ألف، نحو النصف، ومرتب السكّر في شهر رمضان كان ألف قنطار، فبلغ ثلاثة آلاف قناطر.
رحبة الجامع الحاكمي: هذه الرحبة من غير قاهرة المعز التي وضعها القائد جوهر، وكانت من جملة الفضاء الذي كان بين باب النصر والمصلى، فلما زاد أمير الجيوش بدر الجمالي في مقدار السور صارت من داخل باب النصر الآن، وكانت كبيرة فيما بين الحجر والجامع الحاكمي، وفيما بين باب النصر القديم وباب النصر الموجود الآن، ثم بني فيها المدرسة القاصدية التي هي تجاه الجامع. وما في صفها إلى حمّام الجاولي، وبنى فيها الشيخ قطب الدين الهرماس دارا ملاصقة لجدار الجامع، ثم هدمت كما سيأتي في خبرها إن شاء الله تعالى، عند ذكر الدور، وفي موضعها الآن الربع والحوانيت سفله، والقاعة الجاري ذلك في أملاك ابن الحاجب، وادركت إنشاءها فيما بعد سنة ثلاثين، وهذه الرحبة تؤخذ أجرتها لجهة وقف الجامع.
رحبة كتبغا: هذه الرحبة من جملة اصطبل الجميزة، وهي الآن من خط الصيارف يسلك إليها من الجملون الكبير بسوق الشرابشيين، ومن خط طواحين الملحيين وغيره، عرفت بالملك العادل زين الدين كتبغا، فإنها تجاه داره التي كان يسكنها، وهو أمير قبل أن يستقرّ في السلطنة، وسكنها بنوه من بعده، فعرفت به، ثم حل وقفها في زمننا وبيعت.
رحبة خوند: هذه الرحبة بآخر حارة زويلة، فيما بينها وبين سويقة المسعوديّ، يتوصل إليها من درب الصقالبة ومن سويقة المسعوديّ، وهي من الرحاب القديمة، كانت تعرف في أيام الخلفاء برحبة ياقوت، وهو الأمير ناصر الدولة ياقوت. والي قوص، أحد أجلّاء الأمراء، ولما قام طلائع ابن رزبك بالوزارة في سنة تسع وأربعين وخمسمائة، هم ناصر الدولة ياقوت بالقيام عليه، فبلغ طلائع الملقب بالصالح بن رزبك ذلك فقبض عليه وعلى أولاده واعتقلهم في يوم الثلاثاء تاسع عشرى ذي الحجة سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة، فلم يزل في الاعتقال إلى أن مات فيه يوم السبت سابع عشر رجب سنة ثلاث وخمسين، فأخرج الصالح أولاده من الاعتقال وأمّرهم وأحسن إليهم، ثم عرفت هذه الرحبة من بعده بولده الأمير ربيع الإسلام محمد بن ياقوت، ثم عرفت في الدولة الأيوبية برحبة ابن منقذ، وهو الأمير سيف الدولة مبارك بن كامل بن منقذ، ثم عرفت برحبة الفلك المسيريّ، وهو الوزير فلك الدين عبد الرحمن المسيري، وزير الملك العادل أبي بكر بن الملك العادل بن أيوب، ثم عرفت الآن برحبة خوند، وهي الست الجليلة أردوتكين ابنة نوغيه السلاح دار، زوج الملك الأشرف خليل بن قلاون، وامرأة أخيه من بعده الملك الناصر محمد، وهي صاحبة تربة الست خارج باب القرافة، وكانت خيّرة وماتت أيما في سنة أربع وعشرين وسبعمائة.(3/95)
رحبة قراسنقر: هذه الرحبة برأس حارة بهاء الدين، تجاه دار الأمير قراسنقر، وبها الآن حوض تشرب منه الدواب.
رحبة بيغرا: بدرب ملوخيا، عرفت بالأمير سيف الدين بيغرا، لأنها تجاه داره.
رحبة الفخري: بدرب ملوخيا، عرفت بالأمير منكلي بغا الفخريّ، صاحب التربة بظاهر باب النصر، لأنها تجاه داره.
رحبة سنجر: هذه الرحبة بحارة الصالحية في آخر درب المنصوريّ، عرفت بالأمير سنجر الجمقدار علم الدين الناصريّ، لأنها تجاه داره، ثم عرفت برحبة ابن طرغاي، وهو الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير سيف الدين طرغاي الجاشنكير نائب طرابلس.
رحبة ابن علكان: هذه الرحبة بالجودرية في الدرب المجاور للمدرسة الشريفية، عرفت بالأمير شجاع الدين عثمان بن علكان الكرديّ، زوج ابنة الأمير يازكوج الأسديّ، وبابنه منها، الأمير أبو عبد الله سيف الدين محمد بن عثمان، وكان خيرا، استشهد على غزة بيد الفرنج في غرّة شهر ربيع الأوّل، سنة سبع وثلاثين وستمائة، وكانت داره ودار أبيه بهذه الرحبة، ثم عرفت بعد ذلك برحبة الأمير علم الدين سنجر الصيرفيّ الصالحيّ.
رحبة ازدمر: بالجودرية، هذه الرحبة بالدرب المذكور أعلاه، عرفت بالأمير عز الدين ازدمى الأعمى الكاشف، لأنها كانت أمام داره.
رحبة الاخناي: هذه الرحبة فيما بين دار الديباج والوزيرية، بالقرب من خوخة أمير حسين، عرفت بقاضي القضاة برهان الدين إبراهيم بن قاضي القضاة علم الدين محمد بن أبي بكر بن عيسى بن بدران الأخناي المالكيّ، لأنها تجاه داره، وقد عمر عليها درب في أعوام بضع وتسعين وسبعمائة.
رحبة باب اللوق: رحاب باب اللوق خمس رحاب، ينطلق عليها كلها الآن رحبة باب اللوق، وبها تجتمع أصحاب الحلق وأرباب الملاعب والحرف، كالمشعبذين والمخايلين والحواة والمتأففين وغير ذلك، فيحشر هنالك من الخلائق للفرجة ولعمل الفساد ما لا ينحصر كثرة، وكان قبل ذلك في حدود ما قبل الثمانين وسبعمائة من سنيّ الهجرة، إنما تجتمع الناس لذلك في الطريق الشارع المسلوك من جامع الطباخ بالخط المذكور إلى قنطرة قدادار.
رحبة التبن: هذه الرحبة قريبة من رحبة باب اللوق في بحري منشأة الجوّانية، شارعة في الطريق العظمي المسلوك فيها من رحبة باب اللوق إلى قنطرة الدكة، ويتوصل إليها السالك من عدّة جهات، وكانت هذه الرحبة قديما تقف بها الجمال بأحمال التبن لتباع(3/96)
هناك، ثم اختطت وعمرت وصارت بها سويقة كبيرة عامرة بأصناف المأكولات، والخط إنما يعرف برحبة التبن، وقد خرب بعد سنة ست وثمانمائة.
رحبة الناصرية: هذه الرحبة كانت فيما بين الميدان السلطانيّ والبركة الناصرية أيام كانت تلك الخطة عامرة، وكان يتفق في ليالي أيام ركوب السلطان إلى الميدان في كل سنة من الاجتماع والإنس ما ستقف على بعض وصفه عند ذكر المنتزهات إن شاء الله تعالى. وقد خربت الأماكن التي كانت هناك، وجهلت هذه الرحبة إلّا عند القليل من الناس.
رحبة ارغون ازكه: والعامّة تقول رحبة أزكي بياء، وهي رحبة كبيرة بالقرب من البركة الناصرية، وهذه الرحبة وما حولها من جملة بستان الزهريّ الآتي ذكره إن شاء الله في الأحكار، وعرفت بالأمير ارغون أزكي.
ذكر الدور
قال ابن سيدة الدار: المحل يجمع البناء والعرصة التي هي من داريدور، لكثرة حركات الناس فيها، والجمع أدور، وأدؤر، وديار، وديارة، وديارات، وديران، ودور، ودورات، والدارة لغة في الدار، والدار البلد، والبيت من الشعر، ما زاد على طريقة واحدة. وهو مذكر يقع على الصغير والكبير. وقد يقال للمبنيّ والبيت، أخص من غير الأبنية التي هي الأخبية بيت، وجمع البيت أبيات وأبابيت، وبيوت وبيوتات، والبيت أخص من الدار، فكلّ دار بيت، ولا ينعكس. ولم تكن العرب تعرف البيت إلّا الخباء، ثم لما سكنوا القرى والأمصار وبنوا بالمدر واللبن سموا منازلهم التي سكنوها دورا وبيوتا، وكانت الفرس لا تبيح شريف البنيان، كما لا تبيح شريف الأسماء إلّا لأهل البيوتات، كصنيعهم في النواويس والحمامات والقباب الخضر والشرف على حيطان الدار وكالعقد على الدهليز.
دار الأحمدي: هذه الدار من جملة حارة بهاء الدين، وبها مشترف عال فوق بدنة من بدنات سور القاهرة، ينظر منه أرض الطبالة وخارج باب الفتوح، وهي إحدى الدور الشهيرة، عرفت بالأمير بيبرس الأحمدي.
بيبرس الأحمدي: ركن الدين أمير جاندار، تنقل في الخدم أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى أن صار أمير جاندار أحد المقدّمين، فلما مات الملك الناصر قوي عزم قوصون على إقامة الملك المنصور أبي بكر بعد أبيه، وخالف بشتاك، فلما نسب المنصور إلى اللعب حضر إلى باب القصر بقلعة الجبل وقال: أيّ شيء هذا اللعب، فلما ولي الناصر أحمد أخرجه لنيابة صفد فأقام بها مدة، ثم أحس من الناصر أحمد بسوء فخرج من صفد بعسكره إلى دمشق، وليس بها نائب، فهمّ الأمراء بإمساكه، ثم أخروا ذلك وأرسلوا إليه الإقامة، فقدم البريد من الغد بإمساكه، فكتب الأمراء من دمشق إلى السلطان(3/97)
يشفعون فيه، فعاد الجواب بأنه لا بدّ من القبض عليه ونهب ماله وقطع رأسه وإرساله، فأبوا من ذلك وخلعوا الطاعة وشقوا العصا جميعا، فلم يكن بأسرع من ورود الخبر من مصر بخلع الناصر أحمد وإقامة الصالح إسماعيل في الملك بدله، والأحمديّ مقيم بقصر تنكز من دمشق، فورد عليه مرسوم بنيابة طرابلس، فتوجه إليها وأقام بها نحو الشهرين، ثم طلب إلى مصر فسار إليها وأخرج لمحاصرة أحمد بالكرك، فحصره مدّة ولم ينل منه شيئا، ثم عاد إلى القاهرة فأقام بها حتى مات في يوم الثلاثاء ثالث عشر المحرّم سنة ست وأربعين وسبعمائة، وله من العمر نحو الثمانين سنة وكان أحد الأبطال الموصوفين بقوّة النفس وشدّة العزم ومحبة الفقراء وإيثار الصالحين، وله مماليك قد عرفوا بالشجاعة والنجدة، وكان ممن يقتدي برأيه وتتبع آثاره لمعرفته بالأيام والوقائع، وما برحت ذريته بهذه الدار إلى الآن، وأظنها موقوفة عليهم.
دار قراسنقر: هذه الدار برأس حارة بها الدين، أنشأها الأمير شمس الدين قراسنقر، وبها كان سكنه، وهي إحدى الدور الجليلة، ووجد بها في سنة اثنتي عشرة وسبعمائة لما أحيط بها، اثنان وثلاثون ألف ألف دينار، ومائة ألف وخمسون ألف درهم فضة، وسروج مذهبة وغير ذلك، فحمل الجميع إلى بيت المال، ولم تزل جارية في أوقاف المدرسة القراسنقرية إلى أن اغتصبها الأمير جمال الدين يوسف الاستادار، فيما اغتصب من الأوقاف، وجعلها وقفا على مدرسته التي أنشأها برحبة باب العيد، فلما قتله الملك الناصر فرج بن برقوق وارتجع جميع ما خلفه وصار في جملة الأموال السلطانية، ثم أفرد من الأوقاف التي جعلها جمال الدين على مدرسته شيئا، وجعل باقيها لأولاده، وعلى تربته التي أنشأها على قبر أبيه الملك الظاهر برقوق بالصحراء تحت الجبل، خارج باب النصر، فلما قتل الملك الناصر فرج، صارت هذه الدار بيد الأمير طوغان الدوادار، وكانوا كسارق من سارق، وما من قتيل يقتل إلّا وعلى ابن آدم الأوّل كفل منه، لأنه أوّل من سنّ القتل.
دار البلقيني: هذه الدار تجاه مدرسة شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني، من حارة بهاء الدين، أنشأها قاضي العساكر بدر الدين محمد بن شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن رسلان البلقينيّ الشافعيّ. ومات في يوم الخميس لست بقين من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، ولم تكمل، فاشتراها أخوه قاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن بن شيخ الإسلام وكمّلها، وبها الآن سكنه، وهي من أجلّ، دور القاهرة صورة ومعنا، وقد ذكرت الأخوين وأبيهما في كتابي المنعوت بدرر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة، فانظر هناك أخبارهم.
دار منكوتمر: هذه الدار بحارة بهاء الدين، بجوار المدرسة المنكوتمرية، أنشأها الأمير منكوتمر نائب السلطنة بجوار مدرسته الآتي ذكرها عند ذكر المدارس إن شاء الله(3/98)
تعالى، وهي من الدور الجليلة، وبها إلى اليوم بعض ذريته وهي وقف.
دار المظفر: هذه الدار كانت بحارة برجوان، أنشأها أمير الجيوش بدر الجمالي إلى أن مات، فلما ولي الوزارة من بعده ابنه الأفضل ابن أمير الجيوش، وسكن دار القباب التي عرفت بدار الوزارة، وقد تقدّم ذكرها، صار أخوه المظفر أبو محمد جعفر بن أمير الجيوش بهذه الدار، فعرفت به، وقيل لها دار المظفر، وصارت من بعده دار الضيافة، كما مرّ في هذا الكتاب. وآخر ما أعرفه أنها كانت ربعا وحمّاما وخرائب، فسقط الربع بعد سنة سبعين وسبعمائة، وكانت الحمام قد خربت قبل ذلك، فلم تزل خرابا إلى سنة ثمان وثمانين وسبعمائة، فشرع قاضي القضاة شمس الدين محمد بن أحمد بن أبي بكر الطرابلسيّ الحنفيّ في عمارتها، فلما حفر أساس جداره القبليّ ظهر تحت الردم عتبة عظيمة من حجر صوّان مانع، يشبه أن يكون عتبة دار المظفر، وكان الأمير جهاركس الخليليّ إذ ذاك يتولى عمارة المدرسة التي أنشأها الملك الظاهر برقوق بخط بين القصرين، فبعث بالرجال لهذه العتبة وتكاثروا على جرّها إلى العمارة، فجعلها في المزمّلة التي تشرب منها الناس الماء بدهليز المدرسة الظاهرية، وكمّل قاضي القضاة شمس الدين بناء داره، حيث كانت دار المظفر، فجاءت من أحسن دور القاهرة، وتحوّل إليها بأهله وما زال فيها حتى مات بها، وهو متقلد وظيفة قضاء القضاة الحنفية بالديار المصرية، في ليلة السبت الثامن عشر من ذي الحجة سنة تسع وتسعين وسبعمائة، وله من العمر سبعون سنة وأشهر، ومولده بطرابلس الشام، وأخذ الفقه على مذهب أبي حنفية رحمه الله، عن جماعة من أهل طرابلس.
ثم خرج منها إلى دمشق فقرأ على صدر الدين محمد بن منصور الحنفيّ، ووصل إلى القاهرة وقاضي الحنفية بها قاضي القضاة جمال الدين عبد الله التركمانيّ، فلازمه وولّاه العقود وأجلسه ببعض حوانيت الشهود، فتكسب ممن تحمل الشهادة مدّة. وقرأ على قاضي القضاة سراج الهدى، ولازمه فولّاه نيابة القضاء بالشارع، فباشرها مباشرة مشكورة، وأجازه العلامة شمس الدين محمد بن الصائغ الحنفيّ بالإفتاء والتدريس، فلما مات صدر الدين بن منصور قلده الملك الظاهر برقوق قضاء القضاة مكانه في يوم الاثنين ثاني عشرى شهر ربيع الآخر سنة ست وثمانين وسبعمائة، فباشر القضاء بعفة وصيانة وقوّة في الأحكام لها النهاية ومهابة وحرمة وصولة تذعن لها الخاصة والعامّة، إلى أن صرف في سابع عشر رمضان سنة إحدى وتسعين وسبعمائة بشيخنا قاضي القضاة مجد الدين إسماعيل بن إبراهيم التركمانيّ، فلم يزل إلى أن عزل مجد الدين وولي من بعده قاضي القضاة وناظر الجيوش جمال الدين محمود القيصريّ، وهو ملازم داره وما بيده من التدريس، وهو على حال حسنة وتجلد من الكافة، إلى أن استدعاه السلطان في يوم الثلاثاء تاسع شهر ربيع الأوّل سنة تسع وتسعين وسبعمائة، فقلّده وظيفة القضاء عوضا عن محمود القيصري، فلم يزل حتى مات من عامه رحمه الله تعالى، وهذه الدار على يسرة من سلك من باب حارة برجوان طالبا المسجد(3/99)
المسمى بجعفر، وأما الحمّام فإنها في مكانها اليوم ساحة بجوار دار قاضي القضاة شمس الدين، ومن جملة حقوق دار المظفر رحبة الأفيال، وحدرة الزاهدي إلى الدار المعروفة بسكنى قريبا من حمّام الرومي.
دار ابن عبد العزيز: هذه الدار بحارة برجوان، على يمنة من سلك من باب الحارة طالبا حمّام الرومي، أيضا من جملة دار المظفر، كانت طاحونا، ثم خربت، فابتدأ عمارتها فخر الدين أبو جعفر محمد بن عبد اللطيف بن الكويك ناظر الأحباس، ومات ولم تكمل، فصارت لامرأته وابنة عمه خديجة، فماتت في رجب سنة اثنتين وستين وسبعمائة، وقد تزوّجت من بعده بالقاضي الرئيس بدر الدين حسن بن عبد العزيز بن عبد الكريم ابن أبي طالب بن علي بن عبد الله بن سيدهم النجميّ السيرواني، فانتقلت إليه، ومات في سنة أربع وسبعين وسبعمائة، في العشرين من جمادى الأولى، وورثه من بعد موته كريم الدين ابن أخيه.
وهو عبد الكريم بن أحمد بن عبد العزيز بن عبد الكريم بن أبي طالب بن عليّ بن عبد الله بن سيدهم، ومات آخر ربيع الأوّل سنة سبع وثمانمائة عن سبعين سنة، وولي نظر الجيوش بديار مصر للظاهر برقوق، فباعها لقريبه شمس الدين محمد بن عبد الله بن عبد العزيز، وكملها وسكنها مدّة طويلة إلى أن باعها في سنة خمس وتسعين وسبعمائة بألفي دينار ذهبا، لخوند فاطمة ابنة الأمير منجك، فوقفتها على عتقائها، وهي إلى اليوم بيدهم، وتعرف ببيت ابن عبد العزيز المذكور، لطول سكنه بها، وكان خيّرا عارفا يلي كتابة ديوان الجيش، وعدّة مباشرات، ومات ليلة الثاني عشر من صفر سنة ثمان وتسعين وسبعمائة.
دار الجمقدار «1» : هذه الدار على يسرة من سلك من باب حارة برجوان تحت القبو طالبا حمام الرومي، عرفت بالأمير علم الدين سنجر الجمقدار، من الأمراء البرجية، وقدّمه الملك الناصر محمد تقدمة ألف بعد مجيئه من الكرك إلى مصر، ثم أخرجه إلى الشام فأقام بها إلى أن حضر قطلو بغا الفخريّ في نوبة أحمد بالكرك، فحضر معهم واستقرّ من الأمراء بالديار المصرية إلى أن مات يوم الجمعة تاسع رمضان سنة خمس وأربعين وسبعمائة، وقد كبر وارتعش وكان روميا ألثغ، صار لخالد بن الزراد المقدّم، فلما قبض عليه ومات في ثاني عشرى جمادى الآخرة سنة خمس وأربعين وسبعمائة تحت المقارع، ارتجعت عنه لديوان السلطان حسن فصارت في يد ورثته إلى أن باع بعض أولاده اسهما منها، فاشتراها الأمير سودون الشيخوني نائب السلطنة، ثم تنقلت وبعضها وقف بيد أولاد السلطان حسن بن(3/100)
محمد بن قلاوون إلى أن ملك ما تملك منها بالشراء قاضي القضاة عماد الدين أحمد بن عيسى الكركي وسكنها، إلى أن سافر، فصارت من بعده لورثته فباعوها للشيخ زين الدين أبي بكر القمنيّ، وهي بيده الآن.
دار أقوش: الرومي بحارة برجوان، هذه الدار من أجلّ دور القاهرة، وبابها من نحاس بديع الصنعة، يشبه باب المارستان المنصوري، وكان تجاهها اصطبل كبير يعلوه ربع فيه عدّة مساكن، عرفت بالأمير جمال الدين أقوش الرومي السلاح دار الناصري، وتوفي سنة سبع وسبعمائة، وهي مما وقفه على تربته بالقرافة، وقد خرب اصطبلها وعلوه وبيع نقض ذلك وتداعت الدار أيضا للسقوط، فبيعت انقاضا وصارت من جملة الأملاك.
دار بنت السعيدي: هذه الدار بحارة برجوان، عرفت بقاعة حنيفة بنت السعيدي إلى أن اشتراها شهاب الدين أحمد بن طوغان دوادار الأمير سودون الشيخوني نائب السلطان، في سنة تسع وتسعين وسبعمائة، فأخذ عدّة مساكن مما حولها، وهدمها وصيرها ساحة بها، فصارت من أعظم الدور اتساعا وزخرفة، وفيها آبار سبعة معينة، وفسقية ينقل إليها الماء بساقية على فوهة بئر، وما زال صاحبها شهاب الدين فيها إلى أن سافر إلى الاسكندرية في محرّم سنة ثمان وثمانمائة، فمات رحمه الله، وانتقلت من بعده لغير واحد بالبيع.
دار الحاجب: هذه الدار فيما بين الخرشتف «1» وحارة برجوان، كان مكانها من جملة الميدان، وكان يسلك من حارة برجوان في طريق شارعه إلى باب الكافوريّ، فلما عمر الأمير بكتمر هذه الدار جعل اصطبلها حيث كانت الطريق، وركّب بابا بخوجة مما يلي حارة برجوان، واشترط عليه الناس أن لا يمنع المارّة من سلوك هذا المكان، فوفى بما اشترط، وما برح الناس يمرّون من هذا الطريق في وسط الاصطبل على باب داره، سالكين من حارة برجوان إلى الكافوري والخرشتف، ومنها إلى حارة برجوان، وأنا سلكت من هذه الطريق غير مرّة، وكان يقال لها خوخة الحاجب، ثم لما طال الأمد وذهبت المشيخة نسيت هذه الطريق وقفل الباب، وانقطع سلوك الناس منه، وصارت تلك الطريق من جملة حقوق الدار، وما برحت هذه الدار ينصب على بابها الطوارق «2» دائما، كما كانت عادة دور الأمراء في الزمن القديم، فلما تغيرت الرسوم وبطل ذلك قلعت الطوارق من جانبي الباب. وأعلى اسكفته، وباب هذه الدار تجاه باب الكافوريّ، وعرفت بالأمير سيف الدين بكتمر الحاجب، صاحب الدار، خارج باب النصر والمدرسة بجواره، ثم حل وقفها سنة ثمان وعشرين وثمانمائة، وبيعت كما بيع غيرها من الأوقاف. وهناك ترى ترجمته.(3/101)
دار تنكز: هذه الدار بخط الكافوري، كانت للأمير ايبك البغدادي، وهي من أجلّ دور القاهرة وأعظمها، انشأها الأمير تنكز نائب الشام، وأظنه أوقفها في جملة ما أوقف، وكان بها ولده، وسكنها قاضي القضاة برهان الدين إبراهيم بن جماعة، فأنفق في زخرفها على ما أشيع سبعة عشر ألف درهم، عنها يومئذ ما ينيف عن سبعمائة دينار مصرية، ولم تزل هذه الدار وقفا إلى أن بيعت على أنها ملك في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة بدون ألف دينار، لزين الدين عبد الباسط بن خليل، فجدّد بناءها وبنى تجاهها جامعة.
تنكز الأشرفي: سيف الدين أبو سعيد خليل، جلبه إلى مصر وهو صغير الخواجا علاء الدين السوسيّ، فنشأ بها عند الملك الأشرف خليل بن قلاوون، فلما ملك السلطان الناصر محمد بن قلاوون أمّره أمرة عشرة، قبل توجهه إلى الكرك، وسافر معه إلى الكرك، وترسل عنه منها إلى الأفرم، فاتهمه أنّ معه كتبا إلى الأمراء بالشام، وعرض عليه العقوبة فارجف منه وعاد إلى الناصر. فقال له: إن عدت إلى الملك فانت نائب دمشق، فلما عاد إلى الملك جهزه إلى دمشق فوصلها في العشرين من ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، فباشر النيابة وتمكن فيها وسار بالعساكر إلى ملطية «1» وافتتحها في محرّم سنة خمس عشرة، وعظم شأنه وأمّن الرعايا حتى لم يكن أحد من الأمراء يظلم ذميّا، فضلا عن مسلم، خوفا من بطشه، وشدّة عقوبته، وكان السلطان لا يفعل شيئا بمصر إلّا ويشاوره فيه وهو بالشام، وقدم غير مرّة على السلطان فاكرمه وأجله بحيث أنه انعم عليه في قدومه إلى مصر سنة ثلاث وثلاثين بما مبلغه ألف ألف درهم وخمسون ألف درهم، عنها خمسون ألف دينار ونيف، سوى الخيل، وزادت أملاكه وسعادته وأنشأ جامعا بدمشق بديع الوصف بهج الزي، وعدّة مواضع، وكان الناس في أيامه قد أمنوا كل سوء، إلّا أنه كان يتخيل خيالا فيحتدّ خلقه ويشتدّ غضبه، فهلك بذلك كثير من الناس، ولا يقدر أحد أن يوضح له الصواب لشدّة هيبته، وكان إذا أغضب لا يرضى البتة بوجه، وإذا بطش كان بطشه الجبارين، ويكون الذنب صغيرا فلا يزال يكبره، حتى يخرج في عقوبة فاعله عن الحدّ، ولم يزل إلى أن أشيع بدمشق أنه يريد العبور إلى بلاد الططر، فبلغ ذلك السلطان فتنكر له وجهز إليه من قبض عليه في ثالث عشرى ذي الحجة سنة أربعين، وأحيط بماله وقدم الأمير بشتاك إلى دمشق لقبضه، وخرج إلى مصر ومعه من مال تنكز وهو من الذهب العين ثلاثمائة ألف وستة وثلاثون ألف دينار، ومن الدراهم الفضة ألف ألف وخمسمائة ألف درهم، ومن الجوهر واللؤلؤ والزركش والقماش ثمانمائة حمل، ثم استخرج بعد ذلك من بقايا أمواله أربعون ألف دينار وألف ألف ومائة ألف درهم، فلما وصل تنكز إلى قلعة الجبل جهز إلى الاسكندرية واعتقل فيها نحو الشهر، وقتل في محتبسه ودفن بها في يوم الثلاثاء حادي عشرى المحرّم، سنة إحدى(3/102)
وأربعين وسبعمائة، ومن الغريب أنه أمسك يوم الثلاثاء، ودخل مصر يوم الثلاثاء ودخل الاسكندرية يوم الثلاثاء وقتل يوم الثلاثاء، ثم نقل إلى دمشق فدفن بتربته جوار جامعه، ليلة الخامس من رجب سنة أربع وأربعين وسبعمائة، بعد ثلاث سنين ونصف بشفاعة ابنته.
دار أمير مسعود: هذه الدار بآخر خط الكافوريّ، عرفت بالأمير بدر الدين مسعود بن خطير الرومي، أحد الأمراء بمصر، أخرجه الملك الناصر محمد بن قلاوون في ذي الحجة سنة أربعين وسبعمائة إلى نيابة غزة، ثم نقل منها إلى إمرة دمشق وولي نيابة طرابلس، ثم أعيد إلى دمشق وأصله من أتباع الأمير تنكز، فشكره عند الملك الناصر وقدّمه حتى صار أميرا حاجبا فلما قتل تنكز أخرجه لنيابة غزة، وتنقل في نيابة طرابلس ثلاث مرات إلى أن استعفى من النيابة، فأنعم عليه بإمرة في دمشق، وعلى ولديه بامرة طبلخاناه «1» ، وما زال مقيما بها حتى مات في سابع شوال سنة أربع وخمسين وسبعمائة بدمشق، ومولده بها ليلة السبت سابع جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين وستمائة.
دار نائب الكرك: هذه الدار فيما بين خط الخرشتف وخط باب سر المارستان المنصوري، وهي من جملة أرض الميدان، عرفت بالأمير أقوش الأشرفيّ المعروف بنائب الكرك صاحب الجامع.
أقوش الأشرفي: جمال الدين، ولّاه الملك الناصر محمد بن قلاون نيابة دمشق بعد مجيئه من الكرك، وعزله تنكز بعد قليل، واعتقله إلى شهر رجب سنة خمس عشرة وسبعمائة، ثم أفرج عنه وجعله رأس الميمنة، وصار يقوم له إذا قدم مميزا له عن غيره من الأمراء، وكان لا يلبس مصقولا، ويمشي من داره هذه إلى الحمّام وهو حامل المئزر والطاسة وحده، فيدخل الحمام ويخرج عريانا، فاتفق مرة أنّ رجلا رآه فعرفه، وأخذ الحجر وحك رجله وغسله وهو لا يكلمه كلمة واحدة، فلما خرج وصار إلى داره، طلب الرجل وضربه وقال له: أنا مالي مملوك، ما عندي غلام، مالي طاسة حتى تتجرأ عليّ أنت، وكان يتوجه إلى معبد له في الجبل الأحمر وينفرد فيه وحده اليومين والثلاثة، ويدخل منه إلى القاهرة وهو ماش وذيله على كتفه حتى يصل إلى داره، وباشر نظر المارستان المنصوري مباشرة جيدة، ثم أخرجه السلطان إلى نيابة طرابلس في أوّل سنة أربع وثلاثين وسبعمائة فأقام بها، ثم طلب الإقالة فأعفى وقبض عليه واعتقل بقلعة دمشق، ثم نقل منها إلى صفد فحبس بها في برج، ثم أخرج منها إلى الإسكندرية فمات بها معتقلا في سنة ست وثلاثين وسبعمائة.
وكان عسوفا جبارا في بطشه، مات عدّة من الناس تحت الضرب قدّامه، وكان كريما(3/103)
سمحا إلى الغاية، وعرف بنائب الكرك لأنه أقام في نيابتها من سنة تسعين وستمائة إلى سنة تسع وسبعمائة.
دار ابن صغير: هذه الدار من جملة الميدان، وهي اليوم من خط باب سرّ المارستان المنصوري، أنشأها علاء الدين علي بن نجم الدين عبد الواحد بن شرف الدين محمد بن صغير، رئيس الأطباء، ومات بحلب عند ما توجه إليها في خدمة الملك الظاهر برقوق في يوم الجمعة تاسع عشر ذي الحجة سنة ست وتسعين وسبعمائة. ودفن بها، ثم نقلته ابنته إلى القاهرة ودفنته بظاهرها.
دار بيبرس الحاجب: هذه الدار بخط حارة العدوية، وهي الآن من خط باب سر المارستان، عرفت بالأمير بيبرس الحاجب صاحب غيط الحاجب، فيما بين جسر بركة الرطلي والجرف.
بيبرس الحاجب: الأمير ركن الدين، ترقى في الخدم إلى أن صار أميراخور، فلما حضر الملك الناصر من الكرك عزله بالأمير ايدغمش، وعمله حاجبا، وناب في الغيبة عن الأمير تنكز بدمشق لما حج، ثم تجرّد إلى اليمن وعاد، فتنكر عليه السلطان وحبسه في ذي القعدة سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وأفرج عنه في رجب سنة خمس وثلاثين، وجهزه من الإسكندرية إلى حلب فصار بها أميرا من أمرائها، ثم تنقل منها إلى أمرة بدمشق بعد عزل تنكز، فلم يزل بها إلى أن توجه الفخريّ وطشتمر إلى مصر، فأقرّه على نيابة الغيبة بدمشق، وكان قد أسنّ ومات في شهر رجب سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة، وأدركنا له حفيدا يعرف بعلاء الدين أمير عليّ بن شهاب الدين أحمد بن بيبرس الحاجب، قرأ القراءات السبع على والده، وكان حسن الأداء للقراءة، مشهورا بالعلاج، يعالج بمائة وعشرة أرطال، مات وهو ساح في سابع ربيع الآخر سنة إحدى وثمانمائة.
دار عباس: هذه الدار كانت في درب شمس الدولة، عرفت بالوزير عباس بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس، أصله من المغرب وترقى في الخدم حتى ولي الغربية، ولقب بالأمير ركن الإسلام، وكانت أمّه تحت الأمير المظفر عليّ بن السلار والي البحيراء والإسكندرية، فلما رحل عليّ بن السلار إلى القاهرة وأزال الوزير نجم الدين سليمان بن مصال من الوزارة واستقرّ مكانه في وزارة الخليفة الظافر بأمر الله، وتلقب بالعادل، قدّمه لمحاربة ابن مصال فلم ينل غرضا، فخرج إليه عباس حتى ظفر به، وولى ناصر الدين نصير بن عباس ولاية مصر بشفاعة جدّته أمّ عباس، فاختص به الخليفة الظافر واشتغل به عمن سواه، وكان جريا مقداما، فخرج إليه أبو عباس بالعسكر لحفظ عسقلان من الفرنج ومعه من الأمراء ملهم والضرغام وأسامة بن منقذ، وكان أسامة خصيصا بعباس، فلما نزلوا(3/104)
بلبيس «1» تذاكر عباس وأسامة مصر وطيبها وما هم خارجون إليه من مقاساة السفر ولقاء العدوّ، فتأوّه عباس أسفا على مفارقة لذّاته بمصر، وأخذ يثرب على العادل بن السلار، فقال له أسامة: لو أردت كنت أنت سلطان مصر. فقال: كيف لي بذلك؟ قال: هذا ولدك ناصر الدين بينه وبين الخليفة مودّة عظيمة، فخاطبه على لسانه أن تكون سلطان مصر موضع زوج أمّك، فإنه يحبك ويكرهه، فإذا أجابك فاقتله وصر في منزلته، فأعجب عباس ذلك وجهز ابنه لتقرير ما أشار به أسامة، فسار إلى القاهرة ودخلها على حين غفلة من العادل، واجتمع بالخليفة وفاوضه فيما تقرّر، فأجابه إليه ونزل إلى دار جدّته، وكان من قتله للعادل عليّ بن سلار ما كان، فماج الناس وسرح الطائر من القصر إلى عباس وهو على بلبيس في الانتظار، فقام من فوره ودخل القاهرة سحر يوم الأحد ثاني عشر المحرّم سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، فوجد عدّة من الأتراك قد نفروا وخرجوا يدا واحدة إلى الشام، فصار إلى القصر وخلع عليه خلع الوزارة، فباشر الأمور وضبط الأحوال وأكرم الأمراء وأحسن إلى الأجناد، وازدادت مخالطة ولده للخليفة فخاف أن يقتله كما قتل ابن السلار، فما زال به حتى قتل الخليفة الظافر، كما تقدّم ذكره، وصار إلى القصر على العادة، فلما جلس في مقطع الوزارة سأل الاجتماع على الخليفة، فدخل الزمام إلى دور الحرم فلم يجد الخليفة، فلما عاد إليه أحضر أخوي الظافر واتهمهما بقتله وقتلهما قدّامه، واستدعى بولد الظافر عيسى ولقبه بالفائز بنصر الله، وكثرت النياحة على الظافر، وبحث أهل القصر على كيفية قتله، فكتبوا إلى طلائع بن رزبك وهو والي الأشمونين يستدعونه، فحشد وسار، فاضطرب عباس وكثرت مناكدة أهل القاهرة له، حتى أنّه مرّ يوما فرمي من طاقة تشرف على شارع بقدر مملوء طعاما حارّا، فعوّل على الفرار وخرج ومعه ابنه وأسامة بن منقذ وجميع ما لهم من أتباع ومال وسلاح، ودخل طلائع إلى القاهرة واستقرّ في وزارة الخليفة الفائز، فسير أهل القصر إلى الفرنج البريد بطلب عباس، فخرجوا إليه وكانت بينهم وبينه وقعة فرّ فيها أسامة في جماعة إلى الشام، فظفر به الفرنج وقتلوه وأخذوا ابنه في قفص من حديد، وجهزوه إلى القاهرة، وذلك في شهر ربيع الأوّل سنة تسع وأربعين وخمسمائة، فلما وصل ابنه إلى القصر قتل وصلب على باب زويلة، وأحرق بعد ذلك، ثم عرفت هذه الدار بعد ذلك بدار تقيّ الدين صاحب حماه، ثم خربت وحكر مكانها، فصار يعرف بحكر صاحب حماه، وبني فيه عدّة دور وموضعها الآن بداخل درب شمس الدولة بالقرب من حمّام عباس التي تعرف اليوم بحمام الكويك.
دار ابن فضل الله: هذه الدار فيما بين حارة زويلة والبندقانيين، كان موضعها من جملة اصطبل الجميزة، عرفت بابن فضل الله: وبنو فضل الله جماعة أوّلهم بمصر:(3/105)
شرف الدين: عبد الوهاب بن الصاحب جمال الدين أبي المآثر فضل الله ابن الأمير عز الدين الحلي بن دعجان العمريّ، ولي كتابة السرّ للملك الناصر محمد بن قلاون، ثم صرفه عنها وولاه كتابة السرّ بدمشق، فلم يزل بها حتى مات في ثالث شهر رمضان سنة سبع عشرة وسبعمائة، وقد عمر وبلغ أربعا وتسعين سنة، وخلّف أموالا جمة، ورثاه الشهاب محمود، وقد ولي بعده وأرثاه علاء الدين عليّ بن غانم، والجمال ابن نباتة، وكان فاضلا بارعا أديبا عاقلا وقورا ناهضا ثقة أمينا مشكورا، مليح الخط جيد الإنشاء، حدّث عن الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام وغيره.
ومنهم محيي الدين: يحيى بن الصاحب جمال الدين أبي المآثر فضل الله بن مجلي بن دعجان بن خلف بن نصر بن منصور بن عبد الله بن عليّ بن محمد بن أبي بكر عبد الله بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب القرشيّ العدويّ المريّ، ولي كتابة السرّ بالديار المصرية عن الملك الناصر، نقل إليها من كتابة سرّ دمشق لما مرض علاء الدين باستدعائه إلى مصر، وأقيم بدله في كتابة سرّ دمشق شرف الدين أبو بكر بن الشهاب محمود، وكان استقراره في محرّم سنة ثلاثين وسبعمائة، فباشرها إلى ثاني عشر شعبان سنة اثنتين وثلاثين، ونقل منها إلى كتابة السرّ بدمشق، وطلب شرف الدين بن الشهاب محمود فاستقرّ في كتابة السرّ بمصر إلى شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وثلاثين، وطلب محيي الدين من دمشق هو وابنه شهاب الدين أحمد، فوصلا إلى القاهرة غرّة جمادى الأولى، وخلع عليهما ورسم لهما بكتابة السرّ، ونقل ابن الشهاب محمود إلى كتابة السرّ بدمشق، فلم يزل محيي الدين يباشر كتابة السرّ هو وابنه إلى أن كان من تنكز السلطان لولده شهاب الدين ما كان، وذلك أنه كان استعفى من الوظيفة لثقل سمعه وكبر سنه، فأذن له أن يقيم ابنه القاضي شهاب الدين يباشر عنه، فصار الاسم لمحيي الدين والمباشر ابنه شهاب الدين إلى أن حضر الأمير تنكز نائب الشام إلى القلعة وسأل السلطان في علم الدين محمد بن قطب الدين أحمد بن مفضل المعروف بابن القطب أن يوليه كتابة السرّ بدمشق، وكان السلطان لا يمنع تنكز شيئا يسأله، فخلع عليه وأقرّه في ذلك عوضا عن جمال الدين عبد الله بن الأثير، فأخذ شهاب الدين ينقصه عند السلطان بأنه نصرانيّ الأصل، وليس من أهل صناعة الإنشاء، ونحو ذلك، والسلطان مغض عنه غير ملتفت إلى ما يرمى به رعاية لتنكز، فلما كتب توقيع ابن القطب أراد تكثير الألقاب والزيادة له في المعلوم، فامتنع شهاب الدين من كتابة ذلك، وكان حادّ المزاج قويّ النفس شرس الأخلاق، ففاجأ السلطان بغلظة ومخاشنة في القول، وكان من كلامه كيف تعمل قبطيا أسلميا كاتب السرّ وتزيد في معلومه، وبالغ في الجراءة حتى قال ما يفلح من يخدمك، وخدمتك عليّ حرام، ونهض قائما لشدّة حنقه، وكان هذا منه بحضرة الأمراء فغضبوا لذلك وهموا بضرب عنقه، فأغضى السلطان عنه وبلغ محيي الدين ما كان من ابنه فبادر إلى السلطان وقبل الأرض واعترف بخطإ ابنه واعتذر عن تأخره بثقل سمعه،(3/106)
فرسم له أن يكون ابنه علاء الدين عليّ يدخل ويقرأ البريد، فاعتذر بأنه صغير لا يقوم بالوظيفة. فقال السلطان أنا أربيه مثل ما أعرف، فصار يخلف أباه كما كان شهاب الدين، وانقطع شهاب الدين في منزله مدّة سنين إلى أن مات أبوه محيي الدين في يوم الأربعاء تاسع شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة بالقاهرة، عن ثلاث وتسعين سنة، وهو متمتع بحواسه، فدفن ظاهر القاهرة ثم نقل إلى تربتهم من سفح قاسيون بدمشق، وكان صدرا معظما رزينا كامل السؤدد حركا كاتبا بارعا دبر الأقاليم بكفايته وحسن سياسته، ووفور عقله وأمانته وشدّة تحرّزه، وله النظم والنثر البديع الرايق فمن شعره:
تضاحكني ليلى فأحسب ثغرها ... سنا البرق لكن أين منه سنا البرق
وأخفت نجوم الصبح حين تبسمت ... فقمت بفرعيها أشدّ على الشرق
وقلت سواء جنح ليل وشعرها ... ولم أدر أنّ الصبح من جهة الفرق
علاء الدين: علي بن يحيى بن فضل الله العمريّ، استقل بوظيفة كتابة السرّ قبل موت أبيه محيي الدين، وخلع عليه يوم الاثنين رابع شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة، وله من العمر أربع وعشرون سنة، فخرج وفي خدمته الحاجب والدوادار، وتقدّم أمر السلطان للموقعين بامتثال ما يأمرهم به عن السلطان، فشق ذلك على أخيه شهاب الدين وحسده، وربما قيل أنه سمّه، فكان يعتريه دم منه إلى أن مات، ثم إنه كتب قصة يسأل فيها السفر إلى الشام، وشكا كثرة الكلفة، وكان قبل ذلك جرى ذكره في مجلس السلطان فذمّه وتهدّده، فعند ما قرئت عليه قصته تحرّك ما كان ساكنا من غضبه، ورسم بإيقاع الحوطة عليه، فحمل من داره إلى قاعة الصاحب من قلعة الجبل في رابع عشري شعبان سنة تسع وثلاثين، وخرج إليه الأمير طاجار الدوادار، وأمر به فعرّي من ثيابه ليضرب بالمقارع، فرفق به ولم يضر به واستكتبه خطه بحمل عشرة آلاف، فأحيط بداره وأخرج سائر ما وجد له وبيع عليه، وأرسل مملوكه إلى بلاد الشام فباع كل ما له فيها، واقترض خمسين ألف درهم حتى حمل من ذلك كله مائة وأربعين ألف درهم، عنها سبعة آلاف دينار، فسكن أمره وخف الطلب عنه وأقام إلى ثالث عشر ربيع الآخر سنة أربعين مدّة سبعة أشهر وثمانية عشر يوما، ففرج الله عنه بأمر عجيب، وهو أنّه لما كان يباشر عن أبيه وقع شخص من الكتاب بشيء زور، فرسم السلطان بقطع يده، فلم يزل شهاب الدين يتلطف في أمره حتى عفا السلطان عنه من قطع يده، وأمر به فسجن طول هذه السنين إلى أن قدّر الله سبحانه أنه رفع قصة يسأل فيها العفو عنه، فلما قرئت على السلطان لم يعرفه، فسأل عن خبره وشأنه، فقيل له لا يعرف خبر هذا إلا شهاب الدين بن فضل الله، فبعث إليه بقاعة الصاحب يستخبره عنه، فطالعه بقصته، وما كان منه، فألان الله له قلب السلطان ورسم بالإفراج عن الرجل وعن شهاب الدين وعن مملوكه، ففرّج الله عن الثلاثة، ونزل شهاب الدين إلى داره وأقام إلى أن قبض السلطان على الأمير تنكز نائب الشام، فاستدعى شهاب الدين إلى حضرته وحلفه وولاه كتابة(3/107)
السرّ بدمشق عوضا عن شرف الدين خالد بن عماد الدين إسماعيل بن محمد بن عبد الله بن محمد بن خالد بن نصر المخزوميّ، المعروف بابن القيسرانيّ، فباشرها حتى مات بدمشق، وانفرد أخوه علاء الدين بكتابة السرّ إلى أن مات ليلة الجمعة التاسع والعشرين من شهر رمضان سنة تسع وستين وسبعمائة بمنزله من القاهرة، عن سبع وخمسين سنة، وترك ستة بنين وأربع بنات.
بدر الدين: محمد بن علي بن يحيى بن فضل الله، ولّاه الملك الأشرف شعبان بن حسين كتابة السرّ، وأبوه في مرض موته، يوم الخميس ثامن عشري شهر رمضان، سنة تسع وستين وسبعمائة، وله من العمر تسع عشرة سنة، وجعل أخاه عز الدين حمزة نائبا عنه، فباشر إلى شوّال سنة أربع وثمانين وسبعمائة، فصرف بأوحد الدين عبد الواحد بن إسماعيل بن يس، ولزم داره فلم يره أحد البتة إلى أن مات أوحد الدين، فنزل إليه الأمير يونس الدوادار واستدعاه، فركب بثياب جلوسه من غير خف ولا فرجية ولا شاش وصعد إلى القلعة، فخلع عليه في اليوم الرابع من ذي الحجة سنة ست وثمانين، فلما ثار الأمير يلبغا الناصري على الملك الظاهر وخلعه من الملك وأقام الملك الصالح حاجي بن الأشرف شعبان بن حسين ولقبه بالملك المنصور، ثم خرج الملك الظاهر برقوق من محبسه بالكرك وسار إلى محاربة الأمير تمربغا منطاش ومعه المنصور حاجي، فخرج ابن فضل الله، فلما انهزم منطاش على شعجب واستولى برقوق على المنصور والخليفة والقضاة والخزائن، وكان ابن فضل الله وأخوه عز الدين في من فرّ مع منطاش إلى دمشق، فأقام بها واستولى برقوق على تخت الملك بقلعة الجبل، فولى علاء الدين عليّ بن عيسى الكركي كتابة السرّ، وأخذ ابن فضل الله يتحيل في الخروج من دمشق وسيّر إلى السلطان مطالعة فيها من شعره:
يقبل الأرض عبد بعد خدمتكم ... قد مسّه ضرر مثله ضرر
حصر وحبس وترسيم أقام به ... وفرقة الأهل والأولاد والفكر
لكنه والورى مستبشرون بكم ... يرجو بكم فرجا يأتي وينتظر
والشغل يقضي لأن الناس قد ندموا ... إذ عاينوا الجور من منطاش ينتشر
جورا كما فرّطوا في حقكم ورأوا ... ظلما عظيما به الأكباد تنفطر
والله إن جاءهم من بابكم أحد ... قاموا لكم معه بالروح وانتصروا
الله ينصركم طول المدا أبدا ... يا من زمانهم من دهرنا غرر
قدم إلى القاهرة ومعه أخوه عز الدين حمزة، وجمال الدين محمود القيصري ناظر الجيش، وتاج الدين عبد الرحيم بن أبي شاكر، وشمس الدين محمد بن الصاحب، فما زال في داره إلى أن سافر الملك الظاهر إلى بلاد الشام في سنة ثلاث وتسعين، فتقدّم أمره إليه بالمسير مع العسكر، فسار بطالا، وقدّر الله تعالى ضعف علاء الدين الكركي، فولاه كتابة(3/108)
السرّ وصرف الكركي في شوّال، وكانت هذه ولاية ثالثة، فباشر وتمكن هذه المرّة من سلطان تمكنا زائدا إلى أن سافر السلطان إلى البلاد الشامية في سنة ست وتسعين، فمات بدمشق يوم الثلاثاء لعشرين من شوّال سنة ست وتسعين وسبعمائة، ودفن بترتبهم بسفح قاسيون، ومات أخوه حمزة بدمشق أيضا في أوائل المحرم سنة سبع وتسعين وسبعمائة ودفن بها، وانقطع بموتهما هذا البيت فلم يبق من بعدهما إلّا كما قال الله سبحانه، فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا
. ومن شعر البدر محمد بن فضل الله ما كتبه عنوانا لكتاب الملك الظاهر برقوق جوابا عن كتاب تمرلنك الوارد إلى مصر في سنة ست وتسعين وسبعمائة وعنوانه:
سلام وإهداء السلام من البعد ... دليل على حفظ المودّة والعهد
فافتتح البدر العنوان بقوله:
طويل حياة المرء كاليوم في العدّ ... فخبرته أن لا يزيد على العدّ
فلا بدّ من نقص لكل زيادة ... لأنّ شديد البطش يقتص للعبد
وكتب فيه من شعره أيضا جوابا عن كثرة تهديد تمرلنك وافتخاره:
السيف والرمح والنشاب قد علمت منا الحروب فسل منها تلبيكا
إذ التقينا تجد هذا مشاهدة ... في الحرب فأثبت فأمر الله آتيكا
بخدمة الحرمين الله شرّفنا ... فضلا وملّكنا الأمصار تمليكا
وبالجميل وحلو النصر عوّدنا ... خذ التواريخ واقرأها فتنبيكا
والأنبياء لنا الركن الشديد وكم ... بجاههم من عدوّ راح مفكوكا
ومن يكن ربه الفتاح ناصره ... ممن يخاف وهذا القول يكفيكا
وقال:
إذا المرء لم يعرف قبيح خطيئة ... ولا الذنب منه مع عظيم بليته
فذلك عين الجهل منه مع الخطا ... وسوف يرى عقباه عند منيته
وليس يجازي المرء إلا بفعله ... وما يرجع الصياد إلا بنيته
وهذه الدار كانت موجودة قبل بني فضل الله، وتعرف بدار بيبرس، فعمر فيها محيي الدين وابنه علاء الدين، وكانت من أبهج دور القاهرة وأعظمها، وما زالت بيد أولاد بدر الدين وأخيه عز الدين حمزة إلى أن تغلب الأمير جمال الدين على أموال الخلق، فأخذ ابن أخيه الأمير شهاب الدين أحمد الحاجب المعروف بسيدي أحمد بن أخت جمال الدين دار بني فضل الله منهم، كما أخذ خاله دور الناس وأوقافهم وعوض أولاد ابن فضل الله عنها، وغيّر كثيرا من معالمها، وشرع في الازدياد من العمارة اقتداء بخاله، فأخذ دورا كانت بجوار(3/109)
مستوقد حمام ابن عبود المقابلة لدار ابن فضل الله، واغتصب لها الرخام والأحجار والأخشاب، وهدم عدّة دور وكثيرا من الترب بالقرافة، منها تربة الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وكانت عجيبة البناء، وأدخل ذلك في عمارته المذكورة، ووسع فيها من جهة البندقانيين ما كان خرابا منذ الحريق الذي تقدّم ذكره، وأنشأ من هناك حوض ماء يشرب منه الدواب، فلما قارب إكمالها قبض الملك الناصر فرج على خاله جمال الدين يوسف استادار وقتله، وكان أحمد هذا ممن قبض عليه معه، فوضع الأمير تغري بردي، وهو يومئذ أجلّ أمراء الناصر، يده على هذه الدار، وما رضي بأخذها حتى طلب كتابها فإذا به قد تضمن أنّ أحمد قد وقف هذه الدار، فلم يزل بقضاة العصر حتى حكموا له بهذه الدار وجعلوها له بطريق من طرقهم، فأقام فيها حتى أخرجه الناصر لنيابة دمشق في سنة ثلاث عشرة وسبعمائة، فنزل بها الأمير دمرداش بإرث ابنة جمال الدين، وهي امرأة أحمد المذكور ولها منه أولاد، وأرادت استرجاع الدار كما فعلت في مدرسة أبيها، وكان لها ولورثة تغري بردي مخاصمات، واستقرّت لبني تغري بردي.
دار بيبرس: هذه الدار فيما بين دار ابن فضل الله والسبع قاعات في ظهر حارة زويلة، وقريبة من سويقة المسعودي، تشبه أن تكون من جملة اصطبل الجميزة، كانت دار الشريف بن تغلب صاحب المدرسة الشريفية برأس حارة الجودرية، ثم عرفت بالأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، فإنه كان يسكنها وهو أمير قبل أن يلي السلطنة، وجدّد رخامها من الرخام الذي دل عليه الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح، بالقصر الذي عرف بقصر أمير سلاح، من جملة قصر الخلفاء، كما سيأتي خبر ذلك عند ذكر الخانقاة الركنية بيبرس، فإن بيبرس هذا هو الذي أنشأها ولم تزل إلى أن هدمها ناصر الدين محمد بن البارزي الحمويّ كاتب السرّ بعد ما اشتراها نقضا، كما اشترى غيرها من الأوقاف، وذلك في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة.
السبع قاعات: هذه الدار عرفت بالسبع قاعات، وهي يتوصل إليها من جوار دار بيبرس المذكورة ومن سويقة الصاحب، وقد صارت عدّة مساكن جليلة، ومكانها من جملة اصطبل الجميزة، أنشأها الوزير الصاحب علم الدين بن زنبور، ووقفها من جملة ما وقف، فلما قبض عليه الأمير صرغتمش في حل أوقافه ووعد بالسبع قاعات خوند قطلوبنك ابنة الأمير تنكز الحساميّ نائب الشام أمّ السلطان الملك الصالح صالح بن الناصر محمد بن قلاوون، ولقّنه الشريفان، شرف الدين عليّ بن حسين بن محمد نقيب الأشراف، وأبو العباس الصفراويّ، أنّ الناصر لما قبض على كريم الدين الكبير، بعث إلى كريم الدين من شهد عليه أنّ جميع ما صار بيده من الأملاك وقفها وطلقها إنما هو من مال السلطان دون ماله، وشهد بذلك عند قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة، فأثبت بهذه الشهادة أن أملاك كريم الدين جارية في الأملاك السلطان، فأقرّ السلطان ما وقفه كريم الدين منها على(3/110)
حاله وسماه الوقف الناصري، فلما جلس السلطان الملك الصالح بدار العدل، وحضر قاضي القضاة والأمراء وغيرهم من أهل الدولة على العادة، تكلم الأمير صرغتمش مع قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن بدر الدين محمد بن جماعة في حل أوقاف ابن زنبور، فإنها ملك السلطان ومن ماله اشتراها، وذكر قضية كريم الدين، فأجابه بأنّ تلك القضية كانت صحتها مشهورة، وذلك أنّ خزائن السلطان وحواصله وأمواله كلها كانت بيد كريم الدين وفي داره، يتصرف فيها على ما يختاره، جعل له السلطان بتوكيله والإذن له في التصرّف، بخلاف ابن زنبور، فإنه كان يتصرّف في ماله الذي اكتسبه من المتجر وغيره، فما وقفه وثبت وقفه وحكم قضاة الإسلام بصحته لا سبيل إلى حله، وساعده في ذلك القاضي موفق الدين عبد الله الحنبليّ، وتردّد الكلام بينهما في ذلك، فاحتج عليهما الأمير صرغتمش بما لقناه الشريفان من مشاطرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، عماله وأخذه من كل عامل نصف ماله، وأن مال الوزير جميعه من مال السلطان، فقال له ابن جماعة: يا أمير، إن كنت تبحث معنا في هذه المسألة بحثنا معك، وإن كان أحد قد ذكرها لك فليحضر حتى نبحث معه فيها، فإنّ الذي ذكر لك هذه المسألة إنما قصد أن تصادر الناس وتأخذ أموالهم، فوافقه رفقته الثلاثة قضاة على قوله، وأراد ابن جماعة بقوله هذا التعريض بالشريفين وكان اختصاصهما بالأمير صرغتمش، وقيامهما على ابن زنبور مشهورا، فشق هذا على الأمير صرغتمش وانفض المجلس وقد اشتدّ حنقه لما ردّ عليه من كلامه وعورض فيه من مراده، فبعثت خوند أم السلطان إلى ابن جماعة تعرّفه ما وعدت به من مصير السبع قاعات إليها، وأكدت عليه في أن لا يعارضها في حلّ أوقاف ابن زنبور، فأجابها بتقبيح هذا، وخوّفها سوء عاقبته، فكفت عنه، ولقوّة غيظ الأمير صرغتمش مرض مرضا شديدا من انفتاح صدره ونفثه الدم، حتى خيف عليه الموت، ثم عوفي بعد ذلك بأيام، وذلك كله في سنة أربع وخمسين وسبعمائة، واستمرّت السبع قاعات وقفا بيد ذرية ابن زنبور إلى يومنا هذا، إلّا أنّ الأمير صرغتمش المذكور أخذ رخامها ووجد فيها شيئا كثيرا من صينيّ ونحاس وقماش وغير ذلك قد أخفي في زواياها.
علم الدين: عبد الله بن تاج الدين أحمد بن إبراهيم، المعروف بابن زنبور، أوّل ما باشر به استيفاء الوجه القبلي شريكا لوهب بن سنجر، وطلع صحبته الأمير علم الدين عبد الرزاق كاشف الوجه القبليّ، ونهض فيه، فلما كانت مصادرة ابن الجيعان كاتب الإصطبل، طلب السلطان سائر الكتاب، وكان منهم ابن زنبور، فعرضهم ليختار منهم فشكر الفخر ناظر الجيش منه وقال: هو ولد تاج الدين رفيقه وشكره الأكوز، فلما انفض المجلس طلبه وخلع عليه، فباشر نظر الإصطبل في سنة سبع وثلاثين وسبعمائة، ونال فيه سعادة طائلة، واستمرّ إلى أن مات السلطان الملك الناصر محمد، وحكم الأمير ايدغمش، فباشر استيفاء الصحبة، فلما قبض على حمال الكفاة ناظر الخاص وناظر الجيش وعلى الموفق(3/111)
ناظر الدولة وعلى الصفيّ ناظر البيوت، المعروف بكاتب قوصون، في سنة خمس وأربعين وسبعمائة، ومات حمال الكفاة في العقوبة يوم الأحد سادس شهر ربيع الأوّل، عيّن ابن زنبور لوظيفة نظر الخاص، ثم قرّر فيها القاضي موفق الدين هبة الله بن إبراهيم ناظر الدولة، وكان ابن زنبور وهو مستوفي الصحبة، قد سيّره حمّال الكفاة قبل القبض عليه، لكشف القلاع الشامية، ومعه جارا كتمر الحاجب إبعادا له، وكان الأمير أرغون العلائي يعني به، فلما قبض على حمّال الكفاة، تحدّث له العلائي مع السلطان الملك الصالح إسماعيل بن محمد بن قلاوون في نظر الخاص، فبعث في طلبه، ثم لم يحضر إلّا بعد شهر، فتحدّث الوزير نجم الدين محمود بن عليّ المعروف بوزير بغداد مع السلطان في ولاية الموفق نظر الخاص، فخلع عليه، وحضر ابن زنبور من الشام فباشر نظر الدولة علم الدين بن سهلوك وابن زنبور على ما هي عادته في استيفاء الصحبة، ونهض في المباشرة وحصّل الأموال ودخل هو والوزير نجم الدين وشكيا، توقف الدولة من كثرة الإنعامات والإطلاقات للخدم والجواري، ومن يلوذ بهم، فتقرّر الحال مع الأمراء على كتابة أوراق بكلفة الدولة، فلما قرئت بمحضر من الأمراء بلغت الكلف ثلاثين ألف ألف درهم، والمتحصل خمسة عشر ألف درهم، فأبطل ما استجدّ بعد موت الملك الناصر بأسره، فلم يستمرّ غير شهر واحد حتى عاد الأمر على ما كان عليه، بحيث بلغ مصروف الحوائج خاناه في كل يوم اثنين وعشرين ألف درهم، بعد ما كانت في أيام الناصر محمد ثلاثة عشر ألف درهم، فلما مات الملك الصالح إسماعيل وأقيم في الملك من بعده أخوه الملك الكامل سيف الدين شعبان بن محمد، صرف الموفق عن نظر الخاص ونقل ابن زنبور من استيفاء الصحبة إليها، واستقرّ فخر الدين السعيد في استيفاء الصحبة، وذلك في ربيع الآخر سنة ست وأربعين وسبعمائة، فباشر ذلك إلى أخريات رجب نيفا وثمانين يوما، فولى الملك الكامل نظر الخاص لفخر الدين ابن السعيد مستوفي الدولة، وأعاد ابن زنبور من نظر الخاص إلى استيفاء الدولة، فلما كان في المحرّم سنة سبع وأربعين، أعيد نجم الدين وزير بغداد إلى الوزارة، وقرّر ابن زنبور في نظر الدولة، فاستمرّ إلى أن قتل الكامل شعبان، وأقيم في الملك من بعده أخوه الملك المظفر حاجي في مستهل جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين، فطلب ابن زنبور وأعيد إلى نظر الخاص، وقبض على فخر الدين بن السعيد، وطولب بالحمل، وأضيف إليه نظر الجيش، فباشر ذلك إلى سنة إحدى وخمسين، فأضيف إليه الوزارة في يوم الخميس سابع عشري ذي القعدة، وخلع عليه، وكان له يوم عظيم جدّا، فلما كان يوم السبت جلس بشباك قاعة الصاحب من القلعة في دست الوزارة، واستدعى جميع المباشرين وطلب المقدّم ابن يوسف وشدّ وسطه على ما كان عليه، وطلب المعاملين وسلفهم على اللحم وغيره، واستكتب المباشرين أنه لم يكن في بيت المال ولا الاهرا من الدراهم والغلال شيء البتة، ودخل بها وقرأها على السلطان والأمراء، وشرع في عرض(3/112)
أرباب الوظائف كلهم، وطلب حساب الأقاليم بأسرها، وولى صهره فخر الدين ماجد فرويتة نظر البيوت، وأنفق جامكية شهر وحمل الرواتب إلى الدور السلطانية. والأسمطة من السكر والزيت والقلوبات وغير ذلك، وأقام بكتمر المومني في وظيفة شدّ الدواوين، وألزم نفسه في المجلس السلطاني بحضرة الأمراء، أنه يباشر الوزارة بغير معلوم، وقرّر ابنه في ديوانه المماليك، والتزم أنّه لا يتناول معلوما بل يوفر المعلومين للسلطان، وأبطل رمي الشعير والبرسيم من بلاد مصر، وكان يحصل برميها ضرر كبير، فإن ذلك كان يحصل من سائر البلاد فيغرم على كل أردب أكثر من ثمنه، والتزم بتكفية بيت المال من الشعير والبرسيم بغير ذلك، فبطل على يديه، وكتب به مرسوم وكتب نقشا على حجر في جانب باب القلعة من قلعة الجبل، وأمر بقياس أراضي الجيزة فجاء زيادتها عن الارتفاع الذي مضى ثلثمائة ألف درهم، وعنها خمسة عشر ألف دينار، فلم يزل إلى سابع عشري شوّال سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة، فأحيط به وقبض عليه حسدا له على ما صار إليه، ولم يجتمع لغيره في الدولة التركية، وتولى القيام عليه الأمير صرغتمش لأنه علم أنه من جهة الأمير شيخو ويقوم له بجميع ما يختاره، وأعانه عليه الأمير طاز، وما زال يدأب في ذلك إلى أن عاد السلطان الملك الصالح من دمشق في يوم الاثنين خامس عشري شوّال سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة إلى قلعة الجبل، وعمل يوم الخميس سماطا مهما في القلعة، ولما انفض السماط خلع على سائر أرباب الوظائف من الأمراء، وعلى الوزير وسائر المباشرين، فاتفق لما قدّره الله تعالى أنه حضر إلى الأمير صرغتمش وهو يومئذ رأس نوبة عشر تشريف، غيّر تشريفه ودون رتبته، فأخذه ودخل إلى الأمير شيخو وألقى البلقجة قدّامه وقال: أنظر فعل الوزير معي وكشف الخلعة، فقال شيخو هذا غلط، فقام وقد أخذه من الغضب شبه الجنون وقال: هذا شغل الوزير وأنا ما اصبر على أن أهان لهذا الحدّ، ولا بدّ لي من القبض عليه ومهما شئت أنت افعل بي وخرج فإذا الوزير داخل لشيخو وعليه خلعة فصاح في مماليكه، خذوه فكشفوا الخلعة عنه وسحبوه إلى بيت صرغتمش وسرّح مماليكه في القبض على جميع حاشية الوزير، فقبض على سائر من يلوذ به لأنهم كانوا قد اجتمعوا بالقلعة، وخالطت العامّة المماليك في القبض على الكتاب وأخذوا منهم في ذلك اليوم شيئا كثيرا، حتى أن بعض الغلمان صار إليه في ذلك اليوم ستة عشر دواة من دوي الكتاب، فلم يمكن منها أربابها إلّا بمال يأخذه على كل دواة، ما بين عشرين إلى خمسين درهما، وأمّا ما سلبوه من العمائم والثياب والمهاميز الفضة فشيء كثير، وخرج الأمير قشتمر الحاجب وغيره في جماعة إلى دوره التي بالصوصة من مصر، فأوقعوا الحوطة على حريمه وأولاده وختموا سائر بيوته وبيوت حواشيه، وكانوا قد اجتمعوا وتزينوا لقدوم رجالهم من السفر، وأنزل الوزير في مكان مظلم من بيت صرغتمش، فلما أصبح طلب ولد الوزير وصار به صرغتمش إلى بيت أبيه وأحضر أمّه ليعاقبه وهي تنظره حتى يدلوه على المال، ففتحوا له خزانة وجد فيها خمسة(3/113)
عشر ألف دينار وخمسين ألف درهم فضة، وأخرج من بئر صندوق فيه ستة آلاف دينار وشيء من المصالح، وحضرت أحماله من السفر فوجد فيها ستة آلاف دينار ومائة وخمسون ألف درهم فضة، وغير ذلك من تحف وثياب وأصناف، وألزم والي مصر بإحضار بناته، فنودي عليهنّ في مصر والقاهرة، وهجمت عدّة دور بسببهنّ ونال الناس من نكاية أعدائهم في هذه الكائنة كل غرض، فإنه كان الرجل يتوجه إلى أحد من جهة صرغتمش ويرمي عدوّه بأنّ عنده بعض حواشي ابن زنبور، فيؤخذ بمجرّد التهمة، ولقي الناس من ذلك بلاء عظيما.
ثم حمل إلى داره وعرّي ليضرب، فدل على مكان استخرج منه نحو من خمسة وستين ألف دينار، فضرب بعد ذلك، وعرّيت زوجته وضرب ولده فوجد له شيء كثير إلى الغاية.
قال الصفديّ خليل بن أيبك الملقب صلاح الدين في كتاب أعيان العصر: وأمّا ما أخذ منه في المصادرة في حال حياته فنقلت من خط الشيخ بدر الدين الحمصيّ في ورقة بخطه على ما أملاه القاضي شمس الدين محمد البهنسيّ، أواني ذهب وفضة ستون قنطارا، جوهر ستون رطلا، لؤلؤ أردبان، ذهب مصكوك مائتا ألف وأربعة آلاف دينار، ضمن صندوق ستة آلاف حياصة، ضمن صناديق زركش ستة آلاف كلوته ذخائر، عدّة قماش بدنه، ألفان وستمائة فرجية بسط، «1» آلاف صنجة دراهم خمسون ألف درهم، شاشات ثلثمائة شاش، دواب عاملة سبعة آلاف حلابة، ستة آلاف خيل وبغال ألف، دراهم ثلاثة أرداب، معاصر سكر خمسة وعشرون معصرة، إقطاعات سبعمائة، كل إقطاع خمسة وعشرون ألف درهم، عبيد مائة، خدّام ستون، جواري سبعمائة، أملاك القيمة عنها ثلاثمائة ألف دينار، مراكب سبعمائة، رخام القيمة عنه مائتا ألف درهم، نحاس قيمته أربعة آلاف دينار، سروج وبدلات خمسمائة، مخازن ومتاجر أربعمائة ألف دينار، نطوع سبعة آلاف، دواب خمسمائة، بساتين مائتان، سواقي ألف وأربعمائة. وكان في وقت القبض عليه أشدّ الناس قياما في إفساد صورته الشريف شرف الدين عليّ بن الحسين نقيب الأشراف، والشريف أبو العباس الصفراوي، وبدر الدين ناظر الخاص، وأمير المؤمنين، والصوّاف، واستادار الأمير صرغتمش، فأوّل ما فتحوه من أبواب المكايد أن حسنوا الصرغتمش أن يأمر بالإشهاد عليه.
أن جميع ماله من الأملاك والبساتين والأراضي والوقف والطلق جميعها من مال السلطان دون ماله، فصير إليه ابن الصدر عمر وشهود الخزانة، فاشهد عليه بذلك، ثم كتبوا فتي في رجل يدعي الإسلام ويوجد في بيته كنيسة وصلبان وشخوص من تصاوير النصارى، ولحم الخنزير، وزوجته نصرانية، وقد رضي لها بالكفر، وكذلك بناته وجواريه، وأنه لا يصلي ولا يصوم ونحو ذلك، وبالغوا في تحسين قتله حتى قالوا لصرغتمش: والله لو فتحت جزيرة قبرص ما كتب لك أجر من الله بقدر ما يؤجرك الله على ما فعلته مع هذا، فأخرج في باشا(3/114)
وزنجير وضرب في رحبة قاعة الصاحب من القلعة بالمقارع، وتوالت عقوبته، وأسلم لشادّ الدواوين ليعاقبه حتى يموت، فقام الأمير شيخو في أمره، فردّه صرغتمش إلى داره وأكرمه وأقام عنده إلى سابع عشري المحرّم سنة أربع وخمسين، فأخرجه من داره وتسلمه شادّ الدواوين وعاقبه عقوبة الموت في قاعة الصاحب، فاتفق ركوب الأمير شيخو من داره إلى القلعة وابن زنبور يعاقب، فغضب من ذلك ووقف ومنع من ضربه، وبلغ الخبر صرغتمش فصعد إلى القلعة وجرى له مع شيخو عدّة مفاوضات كادت تفضي إلى فتنة، وآل الأمر فيها إلى تسفير ابن زنبور إلى قوص، فأخرج من ليلته، وكانت مدّة شدّته ثلاثة أشهر، وأقام بمدينة قوص إلى أن عرض له مرض أقام به أحد عشر يوما ومات يوم الأحد سابع عشر ذي القعدة سنة أربع وخمسين وسبعمائة، وله بالقاهرة السبيل الذي على يسرة من دخل من باب زويلة بجوار خزانة شمائل، وقد دخل في الجامع المؤيدي.
دار الدوادار: هذه الدار فيما بين حارة زويلة واصطبل الجميزة، وهي اليوم من جملة خط السبع قاعات عرفت ... «1» .
دار فتح الله: هذه الدار اليوم بخط سويقة المسعوديّ، كان موضعها زقاقا يعرف بزقاق البناده، وفيه باب قاعة أنشأها سعد الدين إبراهيم بن عبد الوهاب بن النجيب أبي الفضائل الميمونيّ أحد مباشري ديوان الجيش، وهي قاعة في غاية الملاحة من جودة رخام وكثرة دهان وحسن ترتيب، ومات الميمونيّ في ثاني ذي الحجة سنة خمس وتسعين وسبعمائة، فسكنها فتح الله بن معتصم وهو يومئذ رئيس الأطباء، فلما ولي كتابة السر شره إلى العمارة، فأخذ ما في الزقاق المذكور من الدور شيئا بعد شيء، وأخرج منها سكانها وهدمها وابتنى قاعة تجاه قاعة الميمونيّ، وجعل فيها بئرا وفسقية ماء، وبنى بها حمّاما، ثم أنشأ اصطبلا كبيرا لخيوله، ولم يقنع بذلك حتى حمل القضاة على الحكم له باستبدال دار الميمونيّ، وكانت وقفا على أولاد الميمونيّ ومن بعدهم على الحرمين، فعمل له طرف في جواز الاستبدال بها على ما صار القضاة يعتمدونه منذ كانت الحوادث بعد سنة ست وثمانمائة، فلما تم حكم القضاة له بتملكها غير بابها وزاد في سعتها. وأضاف إليها عدّة مواضع مما بجوارها، وغرس في جانبها عدّة أشجار وزرع كثيرا من الأزهار التي حملت إليه من بلاد الشام، وبالغ في تحسين رخام هذه الدار، وأنشأ دهيشة كيسة إلى الغاية بوسطها فسقية ماء ينخرط إليها الماء من شاذروان عجيب الصنعة بهج الزيّ، وتشرف هذه الدهيشة على هذه الجنينة التي أبدع فيها كل الأبداع، وركب علو هذه القاعة الأروقة العظيمة، وبنى بجوارها عدّة مساكن لمماليكه، ومسجدا معلقا كان يصلي فيه وراء إمام راتب قرّره له بمعلوم جار، فجاءت هذه الدار من أجلّ دور القاهرة وأبهجها، ووقف ذلك كله مع أشياء غيرها على تربته(3/115)
التي أنشأها خارج باب البرقية، وعلى عدّة جهات من البر فلما نكب أكره حتى رجع عن وقف هذه الدار على ما عينه في كتاب وقفه، وجعلها وقفا على أولاد السلطان الملك المؤيد شيخ، فلما مات المؤيد عاد ذلك إلى وقف فتح الله.
فتح الله بن معتصم بن نفيس الإسرايلي الداوديّ العنانيّ التبريزيّ، رئيس الأطباء، وكاتب السرّ، ولد بتبريز في سنة تسع وخمسين وسبعمائة، وكان قد قدم جدّه نفيس إلى القاهرة في سنة أربع وخمسين، فأسلم وعظم بين الناس، ثم قدم فتح الله مع أبيه فنشأ بالقاهرة في كفالة عمه، ونظر في الطب وعاشر الفقهاء واتصل بصحبة بعض الأمراء، فعرف منه أحد مماليكه، وكان يسمى بشيخ، فلما تأمّر شيخ فرّبه وأنكحه وفوّض إمر ديوانه، ثم مات عمه بديع ابن نفيس، فأقرّه الملك الظاهر برقوق مكانه في رياسة الأطباء فباشرها مباشرة مشكورة، واختص بالملك الظاهر برقوق اختصاصا كبيرا، فلما مات بدر الدين محمود الكلسانيّ قلده وظيفة كتابة السرّ، وخلع عليه في يوم الاثنين حادي عشر جمادى الأولى سنة إحدى وثمانمائة، ومات الظاهر وقد جعله أحد أوصيائه، فما زال إلى أوائل ربيع الأوّل سنة ثمان وثمانمائة فقبض عليه واستقرّ بدله في كتابة السر سعد الدين إبراهيم بن غراب، وضرب حتى حمل مالا ثم أفرج عنه فلزم داره إلى شهر رمضان، فحمل إلى دار الوزير فخر الدين ماجد بن غراب وألزم بمال آخر، فحمله وأطلق، فقام الأمير جمال الدين يوسف الأستادار في أمره، وما زال بالملك الناصر فرج إلى أن أعاده إلى كتابة السرّ في أوائل ذي الحجة فاستقرّ فيها، وتمكن من أعدائه وأراه الله مصارعهم، واتسعت أحواله وانفرد بسلطانه وأنيط به جلّ الأمور، فأصبح عظيم المصر نافذ الأمر قائما بتدبير الدولة، لا يجد أحد من عظماء الدولة بدا من حسن سفارته، وأبدا للناس دينا وخيرا وتواضعا، وحسن وساطة بين الناس وبين السلطان، فلما كان من أمر الناصر وهزيمته على اللجون ما كان، وقع فتح الله مع الخليفة المستعين بالله العباسي ابن محمد المتوكل على الله وعدّة من كتاب الدولة في قبضة الأميرين شيخ ونوروز، وما زال عند هما حتى قتل الناصر وأقيم من بعده أمير المؤمنين المستعين بالله، وهو على حاله من نفوذ الكلمة وتدبير الأمور، فلما استبدّ الأمير شيخ بمملكة الديار المصرية واعتقل الخليفة وتلقب بالملك المؤيد شيخ في شعبان سنة خمس عشرة وثمانمائة، أقرّ فتح الله على رتبته، ثم قبض عليه يوم الخميس تاسع شوال، وعوقب غير مرّة، وأحيط بجميع أمواله وأسبابه وحواشيه، وبيع عليه بعض ما وجد له، وحمل ما تحصل منه فبلغ ما ينيف عن أربعين ألف دينار، سوى ما أخذ مما لم يبع، وهو ما يتجاوز ذلك، وما زال في العقوبة إلى أن خنق في ليلة الأحد خامس عشر شهر ربيع سنة ست عشرة وثمانمائة، وحمل من الغد إلى تربته فدفن بها، وكان رحمه الله من خير أهل زمانه رياضة وديانة وطيب مقال، وتأله وتنسك ومحبة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحسن قيام مع السلطان في أمر الناس، وبه كفى الله عن الناس من شرّ الناصر فرج شيئا كثيرا، وقد ذكرته(3/116)
بأبسط من هذا في كتابي «درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة» ، وفي كتابي «خلاصة التبر في أخبار كتاب السرّ» .
دار ابن قرقه: هذه الدار من الدور القديمة، وهي بخط سويقة المسعوديّ إلى خط بين السورين، وقد تغيرت معالمها. قال ابن عبد الظاهر: دار ابن قرقة هي الآن سكن الأمير صارم الدين المسعوديّ والي القاهرة، بأوّل حارة زويلة من جهة باب الخوخة على يسرة السالك إلى داخل الحارة، وهي معروفة اليوم وإلى جانبها الحمام المعروفة بابن قرقة أيضا، وهذه الدار والحمام أنشأهما أبو سعيد بن قرقة الحكيم، وباعهما في حال مصادرته مما خرج عليه، فابتاعهما منه علم السعداء، ثم سكنها الكامل بن شاور، وهما من جهة الخليج. انتهى.
وهذه الدار والحمام قد قدمتا وصار موضع الدار الجامع المعروف بجامع ابن المغربيّ برأس سويقة الصاحب وما يجاوره من دور ابن أبي شاكر، وآخر ما بقي منها شيء، هدمه الوزير الصاحب تاج الدين عبد الرحيم بن الوزير الصاحب فخر الدين عبد الله بن تاج الدين موسى بن أبي شاكر، في رمضان سنة أربع وتسعين وسبعمائة.
وابن قرقة: هذا كان يتولى الاستعمالات بدار الديباج وخزائن السلاح، وكان ماهرا في علم الطب والهندسة ونحو ذلك من علوم الأوائل، وقتله الخليفة الحافظ لدين الله من أجل أنه دبر السم لابنه حسن بن الحافظ، عندما تشاور والجند وطلبوا من الخليفة قتل ابنه حسن كما تقدّم ذكره، فلما سكنت الدهماء قبض عليه الخليفة واعتقله بخزانة البنود وقتله، في سنة تسع وعشرين وخمسمائة.
دار خوند: هذه الدار من حقوق حارة زويلة، عرفت بالست الجليلة خوندار دوتكين ابنة نوغية السلاح دار الططريّ، تزوّج بها الملك الأشرف خليل بن قلاون، ومات عنها فتزوّجها من بعده أخوه الملك الناصر محمد بن قلاون، وولدت منه ولدين وماتا، ثم طلقها ونزلت من القلعة فسكنت هذه الدار، وأنشأت لها تربة بالقرافة تعرف الآن بتربة الست، وجعلت لها عدّة أوقاف، وكانت من الخير على جانب عظيم، لها معروف وصدقات وإحسان عميم، وماتت ولها ما ينيف على الألف، ما بين جارية وخادم أعتقتهم كلهم، وخلّفت أموالا تخرج عن الحدّ في الكثرة، وكانت وفاتها في ليلة السبت ثالث عشري المحرم سنة أربع وعشرين وسبعمائة، ودفنت بتربتها، فتقدّم أمر السلطان للأمراء والقضاة لشهود جنازتها وحمل ما تركته من الأموال والجواهر، وطلب أخوها جمال الدين خضر بن نوغية وصولح على إرثه منها بمائة وعشرين ألف درهم، عنها يومئذ سبعة آلاف دينار، ولم تزل هذه الدار إلى أن هدمت، فأخذها الأمير صلاح الدين محمد استادار السلطان ابن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله في شهر رجب سنة أربع وعشرين وثمانمائة، وأدخلها(3/117)
في داره التي أنشأها فجاءت من أجلّ دور القاهرة.
دار الذهب: هذه الدار خارج القاهرة، فيما بين باب الخوخة وباب سعادة، بناها الأفضل أبو القاسم شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجمالي، وكان فيما بين باب القنطرة وباب الخوخة منظرة اللؤلؤة التي تقدّم ذكرها، عند ذكر مناظر الخلفاء، ويجاورها من حيزباب الخوخة دار الفلك، وبناها فلك الملك أحد الأستاذين الحاكمية، ويلاصقها دار الذهب هذه، ويجاور دار الذهب دار الشابورة، ودار الذهب عرفت أخيرا بدار الأمير بها در الأعسر شادّ الدواوين، ثم الآن عرفت بدار الأمير الوزير المشير الأستادار فخر الدين عبد الغني ابن الأمير الوزير استادار تاج الدين عبد الرزاق بن أبي الفرج الأرمنيّ الأصل، وعني بها وهدم كثيرا من الدور التي كانت تجاهها على برّ الخليج الشرقيّ، وأنشأ هناك دارا يتطرّق إليها من هذه الدار بساباط، وأنشأ بجوارها جامعه الآتي ذكره وحمامه، ثم هدم كثيرا من الدور التي كانت على الخليج وما وراءها بتلك الأحكار التي في الجانب الغربيّ من الخليج، وغرس في أراضي تلك الدور الأشجار وجعلها بستانا تجاه داره، فمات قبل أن تكمل، وصار أكثر مواضع الدور التي خربها هناك كيمانا.
دار الحاجب: خارج باب النصر تجاه مصلى الأموات، هذه الدار أنشأها الأمير سيف الدين كهرداش المنصوريّ، أحد المماليك الزراقين، وهو الذي فتح جزيرة أرواد في المراكب المتوجهة إلى بلاد الفرنج، وتولى عمارة مأذنة المدرسة المنصورية لما تهدّمت في الزلزلة، وتقدم وكثرت أمواله ومات بدمشق في سنة أربع عشرة وسبعمائة، فاشترى هذه الدار الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب، ولم تزل بها ذريته من بعد الأمير جمال الدين عبد الله بن بكتمر، والأمير ناصر الدين محمد بن عبد الله، وبها الآن ولدا الأمير ناصر الدين، وهما الأمير عليّ وعبد الرحمن، وما برح هذا البيت فيه الأمرة والسعادة.
بكتمر الحاجب: الأمير سيف الدين، كان أميرا خور، ثم وليّ شدّ الدواوين بدمشق في نيابة الأفرم، ولم يكن لأحد معه كلام في عزل ولا ولاية، ثم ولي الحجوبية، وتوجه إلى صفد كاشفا على الأمير ناهض الدين عمر بن أبي الخير والي الولاة وشادّ الدواوين بها، ومعه معين الدين بن حشيش، فحرّر الكشف ورفعه، حتى قال فيه زين الدين عمر بن حلاوات موقع صفد:
يا قاصدا صفدا فعد عن بلدة ... من جور بكتمر الأمير خراب
لا شافع تغني شفاعته ولا ... جار له مما جناه جناب
حشر وميزان ونشر صحائف ... وجرائد معروضة وحساب
وبها زبانية تحثّ على الورى ... وسلاسل ومقامع وعقاب
ما فاتهم من كلّ ما وعدوا به ... في الحر إلّا راحم وهاب(3/118)
ولما قدم الملك الناصر محمد بن قلاون من الكرك إلى دمشق، ولّاه الحجوبية، ودخل في خدمته إلى مصر وهو حاجب، ثم أخرجه ثانيا نائبا إلى غزة في سنة عشر وسبعمائة، فأقام بها قليلا وطلبه وولّاه الوزارة بالديار المصرية عوضا عن الصاحب فخر الدين ابن الخليليّ، في رمضان سنة عشر، فباشر الوزارة إلى أن قبض عليه مستهل ربيع الأوّل سنة خمس عشرة، واعتقل مدّة سنة ونصف وأخذ كير من ماله، ثم أفرج عنه وأخرج إلى صفد نائبا في سنة ست عشرة، وأنعم عليه بمائة ألف درهم، عنها يومئذ خمسة آلاف دينار، فأقام بها عشرة أشهر وطلب إلى مصر فصار من الأمراء المشهورة، فإذا تكلم السلطان في المشورة لا يردّ عليه غيره، لما عنده من المعرفة والخبرة، وتزوّج بابنة الأمير جمال الدين أقوش المعروف بنائب الكرك، وأولاده الذين ذكرنا منها، وسرق له مال كثير من خزانته بهذه الدار، ادّعى أنه مبلغ مائتي ألف درهم، وكان في الباطن على ما قيل سبعمائة ألف درهم، فما جسر يتفوّه خوفا من السلطان، وكان إذ ذاك والي القاهرة الأمير سيف الدين قدادار، المنسوب إليه القنطرة على الخليج، فتقدّم أمر السلطان إليه بتتبع من سرق المال، فدسّ إليه الأمير بكتمر الساقي، والوزير مغلطاي الجمالي، والقاضي فخر الدين ناظر الجيش في السرّ، أن يتهاون في أمر السرقة نكاية لبكتمر، وأخذوا يحتجون لكل من اتهم ويقولون للسلطان لعن الله ساعة هذه العملة، كل يوم يموت من الناس تحت المقارع عدّة، وإلى متى يقتل المتهم الذي لا ذنب له، فلما طار الأمر شكا بكتمر إلى السلطان في دار العدل، فأحضر الوالي وسبّه السلطان، فقال يا خوند: اللصوص الذين أمسكتهم وعاقبتهم أقرّوا أن سيف الدين بخشي خزنداره، اتفق معهم على أخذ المال وجماعة من إلزامه الذين في بابه. فقال السلطان للجمالي الوزير: احضر هؤلاء المذكورين وعاقبهم، فأخذ بخشي وعصره وكان عزيزا عند بكتمر، قد زوجه بابنته، وهو يثق بعقله ودينه وأمانته، فشق ذلك عليه واغتم غما شديدا مات منه، فجاءة فيما بين الظهر إلى العصر من يومه سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، وكان خبيرا بالأمور بصيرا بالحوادث طويل الروح في الكلام لا يمل من تطويله، ولو قعد في الحكم الواحد بين الأمير واليهودي ثلاثة أيام، ولا يلحقه من ذلك سآمة البتة، مع معرفة تامّة وخبرة بالسياسة لم ير مثله في حق أصحابه، لكثرة تذكرهم في غيبتهم، والفكر في مصالحهم وتفقد أحوالهم، ومن جفاه منهم عتب عليه، وكان سمحا بجاهه بخيلا بماله إلى الغاية، ساقط الهمة في ذلك، وله متاجر وأملاك وسعادة لا تكاد تنحصر، ومع ذلك فله قدور يكريها لصلاقي الفول والحمص وغير ذلك من العدد والآلات، ويماحك على أجرها مماحكة يستحى من ذكرها، وأنشأ عدّة دور واقتنى كثيرا من البساتين، وولي من بعده ابنه الأمير جمال الدين عبد الله الإمرة، وكان حاجبا، ولأبيه في سيرة البخل والحرص الشديد تابعا ومقلدا، وتولى أمره الحاج غير مرّة، وخرج في سنة ست وثمانين وسبعمائة من القاهرة لولاية كشف الجسور بالغربية، فورد عليه كتاب(3/119)
السلطان الملك الظاهر برقوق بالإنكار، وفيه تهديد مهول فداخله الخوف ومرض، فحمل في محفة إلى القاهرة فدخلها يوم الأربعاء النصف من جمادى الأولى من تلك السنة، فمات من يومه وأخذ أقطاعه الأمير يودي، وصار ابنه ناصر الدين أحد الأمراء العشراوات، سالكا طريق أبيه وجدّه في الإمساك إلى أن مات خامس عشري شهر ربيع الآخر سنة اثنين وثمانمائة، ودفن بتربتهم خارج باب النصر.
دار الجاولي: هذه الدار من جملة الحجر التي تقدّم ذكرها، وهي تجاه الخان المجاور لوكالة قوصون، أنشأها الأمير علم الدين سنجر الجاولي وجعلها وقفا على المدرسة المعروفة بالجاولية بخط الكبش جوار الجامع الطولوني، وعرفت في زماننا بقاعة البغادّة، لسكنى عبد الصمد الجوهريّ البغداديّ بها هو وأولاده في سنة سبع وأربعين وسبعمائة إلى بعد سنة ست عشرة وثمانمائة، وهي من الدور الجليلة، إلّا أنها قد تشعثت لطول الزمن.
دار أمير أحمد: هذه الدار بجوار دار الجاوليّ من غربيها، عرفت بأمير أحمد قريب الملك الناصر محمد بن قلاون، وعرفت في زماننا بسكن أبو ذقن ناظر المواريث، وهي من جملة ما اغتصبه جمال الدين يوسف الأستادار من الدور الوقف، وجعلها لأخيه شمس الدين محمد البيري قاضي حلب، وشيخ الخانقاه البيبرسية، فغير بابها وشرع في عمارتها، فقبض عليه عند القبض على أخيه وهو بها.
دار اليوسفي: هذه الدار بجوار باب الجوّانية فيما بينها وبين الحوض المعدّ لشرب الدواب، أنشأها هي والحوض الأمير سيف الدين بهادر اليوسفيّ السلاح دار الناصريّ.
دار ابن البقري: هذه الدار أنشأها الوزير الصاحب سعد الدين سعد الله بن البقريّ بن أخت القاضي شمس الدين شاكر بن غزيل البقريّ، صاحب المدرسة البقرية اظهر الإسلام وباشر في الخدمة الديوانية إلى أن ولاه الملك الظاهر برقوق وظيفة نظر الديوان المفرد ونظر الخاص، عوضا عن الصاحب كريم الدين عبد الكريم بن مكانس، في ثالث شهر رمضان سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة، فباشر ذلك إلى تاسع شهر رمضان سنة خمس وثمانين، فقبض عليه ونزل الأمير يونس الدوادار والأمير قرقماش الخازندار إلى داره هذه وأحاط بها، وأخذ جميع ما فيها من المال والثياب والأواني والحلي والجواري وغير ذلك، وحمل إلى القلعة، فبلغ قيمة ما وجد بداره في هذه النوبة مائتي ألف دينار، وسلم ابن البقريّ لشادّ الدواوين بقاعة الصاحب من القلعة، فضرب بالمقارع نيفا وثلاثين شيبا، وولي موفق الدين أبو الفرج نظر الخاص، ثم أن الملك الظاهر لما عاد إلى المملكة، بعد ثورة الأمير بلبغا الناصريّ والأمير تمربغا منطاش عليه، وخلعه من الملك وسجنه بالكرك، ثم قيامه بأهل الكرك ودخوله إلى القاهرة وعوده إلى المملكة، ولي ابن البقريّ الوزارة في يوم الاثنين سابع عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنين وتسعين وسبعمائة عوضا عن موفق الدين أبي الفرج، ثم(3/120)
صرف في يوم الخميس لعشرين من شهر رمضان، وأعيد الوزير أبو الفرج وأحيط بدور ابن البقريّ وأسلم هو وابنه تاج الدين عبد الله إلى الأمير ناصر الدين محمد بن اقبغا آض، فلما استقرّ الأمير ناصر الدين محمد بن الحسام الصفديّ في الوزارة يوم الثلاثاء سابع عشري ذي الحجة منها، عوضا عن الوزير أبي الفرج، اشترط على السلطان أمورا منها استخدام الوزراء المعزولين، فجلس بشباك قاعة الصاحب من القلعة وبعث إلى من بالقاهرة من الوزراء المعزولين، وهم شمس الدين عبد الله المقسي، وعلم الدين عبد الوهاب بن الطنساويّ، المعروف بسنّ إبرة، وسعد الدين سعد الله بن البقريّ، وموفق الدين أبو الفرج، وفخر الدين عبد الرحمن بن عبد الرزاق بن ابراهيم بن مكانس، فأقرّ المقسيّ وسنّ إبرة معا في نظر الدولة وأقرّ ابن البقريّ ناظر البيوت ومستوفي الدولة، وقرّر أبا الفرج في استيفاء الصحبة، وابن مكانس في استيفاء الدولة شريكا لابن البقريّ، فكانوا يركبون في خدمته دائما ويجلسون بين يديه، وربما وقف ابن البقريّ على قدميه بحضرته بعد أن كان ابن الحسام دواداره، ولا يزال قائما بين يديه، فعدّ الناس هذا من أعظم المحن التي لم يشاهد في الدولة التركية مثلها، وهو أن يصير الرجل خادما لمن كان في خدمته، فنعوذ بالله من المحن، ثم إن الوزير ابن الحسام قبض على ابن البقريّ وألزمه بحمل سبعين ألف درهم، ثم أعيد إلى الوزارة بعد القبض على الصاحب تاج الدين عبد الرحيم بن عبد الله بن موسى بن أبي بكر ابن أبي شاكر في ذي القعدة سنة خمس وتسعين، وقبض عليه وعلى ولده في حادي عشري شهر ربيع الأوّل سنة ست وتسعين، وسلما مع عدّة من الكتاب لشادّ الدواوين، ثم أفرج عنهما على حمل مال، فلما ولي الأمير ناصر الدين محمد بن رجب بن كلفت الوزارة، بعد الوزير أبي الفرج، قرّر ابن البقريّ في نظر الدولة عوضا عن بدر الدين الأقفهسيّ، واستخدم بقية الوزراء كما فعل الوزير ابن الحسام، فلما خلع السلطان على الأمير ناصر الدين محمد بن تنكر وجعله استادار الأملاك في رجب سنة سبع وتسعين، قرّر ابن البقريّ ناظر الأملاك، وخلع عليه، فصار يتحدّث في نظر الدولة ونظر الأملاك، فلما كان يوم الخميس رابع رجب سنة ثمان وتسعين أعيد إلى الوزارة وصرف عنها الأمير مبارك شاه ناظر الظاهريّ، واستقرّ بدر الدين محمد بن محمد الطوخي في نظر الدولة، ثم قبض عليه في يوم الخميس رابع ربيع الأوّل سنة تسع وتسعين، وأحيط بسائر ما قدر عليه من موجوده، وولي الوزارة بعده ابن الطوخيّ، وعوقب عقابا شديدا في دار الأمير علاء الدين عليّ بن الطبلاويّ، ثم أخرج نهارا وهو عار مكشوف الرأس وبيده حبل يجرّبه وثيابه مضمومة بيده الأخرى والناس تراه من درب قراصيا برحبة باب العيد في السوق إلى دار ابن الطبلاويّ، وقد انتهك بدنه من شدّة الضرب، فسجن بدار هناك. ثم خنق في ليلة الاثنين رابع جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وسبعمائة، وكان أحد كتاب الدنيا الذين انتهت إليهم السيادة في كتابة الرسوم الديوانية، مع عفة الفرج وجودة الرأي وحسن التدبير، إلّا أنه لم يؤت سعدا في(3/121)
وزارته، وما برح ينكب كل قليل، وكان يظهر الإسلام ويكتب بخطه كتب الحديث وغيرها، ويتهم في باطن الأمر بالتشدّد في النصرانية، وولي ابنه تاج الدين عبد الله الوزارة ونظر الخاص، ومات قتيلا تحت العقوبة عند الأمير جمال الدين يوسف الأستادار في سنة ثمان وثمانمائة، ودار ابن البقريّ هذه من أعظم دور القاهرة، وهي من جملة خط حارة الجوّانية في أوّلها.
دار طولباي: هذه الدار بجوار حمّام الأعسر برأس حارة الجوّانية، تجاه درب الرشيديّ، أنشأها الأمير شمس الدين سنقر الأعسر الوزير، ثم عرفت بخوند طولباي الناصرية جهة الملك الناصر.
طلنباي: ويقال دلبية، ويقال طلوبية ابنة طفاجي ابن هندر بن بكر بن دوشي خان ابن جنكزخان، ذات الستر الرفيع الخاتوني، كان السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون قد جهز الأمير إيدغدي الخوارزميّ في سنة ست عشرة وسبعمائة يخطب إلى أزبك ملك التتار بنتا من الذرية الجنكزية، فجمع أزبك أمراء التومانات وهم سبعون أميرا وكلمهم الرسول في ذلك، فنفروا منه ثم اجتمعوا ثانيا بعدما وصلت إليهم هداياهم وأجابوا، ثم قالوا إلّا أن هذا لا يكون إلا بعد أربع سنين، سنة سلام، وسنة خطبة، وسنة مهاداة، وسنة زواج، واشتطوا في طلب المهر، فرجع السلطان عن الخطبة، ثم توجه سيف الدين طوخي بهدية وخلعة لأزبك، فلبسها وقال لطوخي: قد جهزت لأخي الملك الناصر ما كان طلب وعينت له بنتا من بيت جنكزخان من نسل الملك ياطرخان. فقال طوخي: لم يرسلني السلطان في هذا.
فقال أزبك: أنا أرسلها إليه من جهتي، وأمر طوخي بحمل مهرها فاعتذر بعدم المال.
فقال: نحن نقترض من التجار، فاقترض عشرين ألف دينار وحملها، ثم قال لا بدّ من عمل فرح تجتمع فيه الخواتين، فاقترض مالا آخر نحو سبعة آلاف دينار، وعمل الفرح. وجهزت الخاتون طلنباي ومعها جماعة من الرسل، وهم بانبجار من كبار المغل، وطقبغا ومنعوش وطرحي وعثمان وبكتمر وقرطبا والشيخ برهان الدين أمام الملك أزبك وقاضي حراي، فساروا في زمن الخريف وأقلعوا فلم يجدوا ريحا تسير بهم، فأقاموا في برّ الروم على مينا ابن مشتا خمسة أشهر، وقام بخدمتهم هو والأشكريّ ملك قسطنطينية، وأنفق عليهم الأشكريّ ستين ألف دينار، فوصلوا إلى الإسكندرية في شهر ربيع الأوّل سنة عشرين وسبعمائة، فلما طلعت الخاتون من المراكب حملت في خركاة من الذهب على العجل، وجرّها المماليك إلى دار السلطنة بالإسكندرية، وبعث السلطان إلى خدمتها عدّة من الحجاب، وثماني عشرة من الحرم، ونزلت في الحراقة، فوصلت إلى القلعة يوم الاثنين خامس عشري ربيع الأوّل المذكور، وفرش لها بالمناظر في الميدان دهليز أطلس معدني، ومدّ لهم سماط، وفي يوم الخميس ثاني عشرية أحضر السلطان رسل أزبك، ووصل رسل ملك الكرج، ورسل الأشكريّ بتقادمهم، ثم بعث إلى الميدان الأمير سيف الدين أرغون(3/122)
النائب، والأمير بكتمر الساقي، والقاضي كريم الدين ناظر الخاص، فمشوا في خدمة الخاتون إلى القلعة وهي في عز، ثم عقد عليها يوم الاثنين سادس ربيع الآخر على ثلاثين ألف دينار، حالة المعجل منها عشرون ألفا، وعقد العقد قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة، وقبل عن السلطان النائب أرغون، وبنى عليها، وأعاد الرسل بعد أن شملهم من الأنعام ما أربى على أملهم، ومعهم هدية جليلة، فساروا في شعبان، وتأخر قاضي حراي حتى حج وعاد في سنة إحدى وعشرين، وماتت في رابع عشري ربيع الآخر سنة خمس وستين وسبعمائة، ودفنت بتربتها خارج باب البرقية بجوار تربة خوند طغاي أم أنوك.
دار حارس الطير: هذه الدار بداخل درب قراصيا بخط رحبة باب العيد، عرفت بالأمير سيف الدين سنبغا حارس الطير، ترقى في الخدم إلى أن صار نائب السلطنة بديار مصر في أيام السلطان حسن بن محمد بن قلاون بعد يلبغا روس، ثم عزل بالأمير قبلاي وجهز إلى نيابة غزة، فأقام بها شهرا وقبض عليه وحضر مقيدا إلى الإسكندرية في شعبان سنة اثنين وخمسين وسبعمائة، فسجن بها مدّة ثم أخرج إلى القدس، فأقام بطالا مدّة، ثم نقل إلى نيابة غزة في شعبان سنة ست وخمسين وسبعمائة.
الدار القردمية: هذه الدار خارج باب زويلة بخط الموّازيين من الشارع المسلوك فيه إلى رأس المنجبية، بناها الأمير الجاي الناصريّ، مملوك السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، وكان من أمره أنه ترقي في الخدم السلطانية حتى صار دوادار السلطان بغير أمرة، رفيقا للأمير بهاء الدين أرسلان الدوادار، فلما مات بهاء الدين استقرّ مكانه بإمرة عشرة مدّة ثلاث سنين، ثم أعطى أمرة طبلخاناه، وكان فقيها حنفيا يكتب الخط المليح، ونسخ بخطه القرآن الكريم في ربعة، وكان عفيفا عن الفواحش، حليما لا يكاد يغضب، مكبا على الاشتغال بالعلم، محبا لاقتناء الكتب، مواظبا على مجالسة أهل العلم، وبالغ في إتقان عمارة هذه الدار بحيث أنه أنفق على بوّابتها خاصة مائة ألف درهم فضة، عنها يومئذ نحو الخمسة آلاف مثقال من الذهب، فلما تمّ بناؤها لم يمتع بها غير قليل، ومرض فمات في أوائل شهر رجب، وقيل في رمضان سنة اثنين وثلاثين وسبعمائة، وهو كهل، فدفن بقرافة مصر.
فسكنها من بعده خوند عائشة خاتون المعروفة بالقردمية، ابنة الملك الناصر محمد بن قلاوون زمانا، فعرفت بها، وكانت هذه المرأة ممن يضرب بغناها وسعادتها المثل، إلّا أنها عمرت طويلا وتصرّفت في مالها تصرّفا غير مرضيّ، فتلف في اللهو حتى صارت تعدّ من جملة المساكين، وماتت في الخامس من جمادى الأولى سنة ثمان وسبعين وسبعمائة، ومخدّتها من ليف.
ثم سكن هذه الدار الأمير جمال الدين محمود بن عليّ الاستادار مدّة، وأنشأ تجاهها مدرسة.(3/123)
دار الصالح: هذه الدار بحارة الديلم قريبا من السجن، وكانت دار الصالح طلائع بن رزبك يسكنها وهو أمير قبل أن يلي الوزارة، بناها في سنة سبع وأربعين وخمسمائة، وبناها على ما هي عليه الآن.
دار بهادر: هذه الدار بالقاهرة جوار المشهد الحسيني، في درب جرجي المقابل للابارين، المسلوك منه إلى دار الضرب وغيره، أنشأها الأمير بهادر رأس نوبة أحد مماليك الملك المنصور قلاوون، واتفق أنه كان ممن مالأ الأمير بدر الدين بيدرا على قتل الملك الأشرف خليل بن قلاوون، فلما قدّر الله بانتقاض أمر بيدر أو قتله، وإقامة الملك الناصر محمد بن قلاوون بعد أخيه الأشرف خليل، قبض على جماعة ممن وافق على قتل الملك الأشرف خليل، وقد تجمعت المماليك الأشرفية مع الأمير علم الدين سنجر الشجاعي، وهو يومئذ وزير الديار المصرية في دار النيابة من قلعة الجبل عند الأمير زين الدين كتبغا نائب السلطنة، وإذا بالأمير بهادر المذكور قد حضر هو والأمير جمال الدين أقوش الموصلي الحاجب المعروف بنميلة، وكانا قد اختفيا فرقا من سطوة الأشرفية حتى دبر أمرهما النائب، وأذن لهما في طلوع القلعة، فما هو إلّا أن أبصرهما الأشرفية سلوا سيوفهم وضربوا رقبتيهما في أسرع وقت، فدهش الحاضرون وما استطاعوا أن يتكلموا خوفا من الأشرفية، واتفق في بناء هذه الدار ما فيه عبرة لمن اعتبر، وذلك أن بهادر هذا لما حفر أساسها وجد هناك قبورا كثيرة، فأخرج تلك العظام ورماها، فبلغ ذلك قاضي القضاة تقيّ الدين ابن دقيق العيد، فبعث إليه ينهاه عن نبش القبور ورمي العظام ويخوّفه عاقبة ذلك، فقال: إذا مت يجرّوا رجلي ويرموني، فقال القاضي: لما أعيد عليه هذا الجواب: وقد يكون ذلك.
فقدّر الله أنه لما ضربت رقبته ورقبة أقوش ربط في رجليهما حبل وجرّا من دار النيابة بالقلعة إلى المجاير بالكيمان، نعوذ بالله من سوء عاقبة القضاء، ثم عرفت هذه الدار ببيت الأمير جركتمر بن بهادر المذكور، وكان خصيصا بالأمير قوصون، فبعثه لقتل السلطان الملك المنصور أبي بكر بن الملك الناصر محمد بن قلاوون، لمّا نفاه إلى مدينة قوص بعد خلعه، فتولى قتله، فلما قبض على قوصون قبض على جركتمر في ثاني شعبان سنة اثنين وأربعين وسبعمائة، وقتل بالإسكندرية هو وقوصون في ليلة الثلاثاء ثامن عشر شوال، تولى قتلهما الأمير ابن طشتمر طلبة، وأحمد بن صبيح، وكان جركتمر هذا فيه أدب وحشمة، وأوّل أمره كان من أصحاب الأمير بيبرس الجاشنكيري، فقدّمه وأعطاه أمرة عشرة، ثم اتصل بالأمير أرغون النائب، فأعطاه أمرة طبلخاناه، وكان يلعب بالأكرة ويجيد في لعبها إلى الغاية.
ثم عرفت هذه الدار بالأمير سيف الدين بهادر المنجكي أستادار الملك الظاهر برقوق لسكنه بها، وتجديد عمارتها، وأنشأ بجوارها حماما وكانت وفاته يوم الاثنين الثاني من(3/124)
جمادى الآخرة سنة تسعين وسبعمائة، وهذه الدار باقية إلى اليوم تسكنها الأمراء.
دار البقر: هذه الدار خارج القاهرة فيما بين قلعة الجبل وبركة الفيل، بالخط الذي يقال له اليوم حدرة البقر، كانت دارا للأبقار التي برسم السواقي السلطانية، ومنشرا للزبل، وفيه ساقية، ثم إن الملك الناصر محمد بن قلاون أنشأها دارا واصطبلا وغرس بها عدّة أشجار، وتولى عمارتها القاضي كريم الدين عبد الكريم الكبير، فبلغ المصروف على عمارتها ألف ألف درهم، وعرفت بالأمير طقتمر الدمشقيّ، ثم عرفت بدار الأمير طاش تمر حمص أخضر، وهذه الدار باقية إلى وقتنا هذا ينزلها أمراء الدولة.
قصر بكتمر الساقي: هذا القصر من أعظم مساكن مصر وأجلّها قدرا، وأحسنها بنيانا، وموضعه تجاه الكبش على بركة الفيل، أنشأها الملك الناصر محمد بن قلاون لسكن أجلّ أمراء دولته، الأمير بكتمر الساقي، وأدخل فيه أرض الميدان التي أنشأها الملك العادل كتبغا، وقصد أن يأخذ قطعة من بركة الفيل ليتسع بها الإصطبل الذي للأمير بكتمر بجوار هذا القصر، فبعث إلى قاضي القضاة شمس الدين الحريريّ الحنفيّ ليحكم باستبدالها على قاعدة مذهبه، فامتنع من ذلك تنزها وتورّعا، واجتمع بالسلطان وحدّثه في ذلك، فلما رأى كثرة ميل السلطان إلى أخذ الأرض نهض من المجلس مغضبا وصار إلى منزله، فأرسل القاضي كريم الدين الكبير ناظر الخواص إلى سراج الدين الحنفيّ عن أمر السلطان وقلده قضاء مصر منفردا عن القاهرة، فحكم باستبدال الأرض في غرة رجب سنة سبع عشرة وسبعمائة، فلم يلبث سوى مدّة شهرين ومات في أوّل شهر رمضان، فاستدعى السلطان قاضي القضاة شمس الدين الحريريّ وأعاده إلى ولايته، وكمّل القصر والإصطبل على هيئة قلّ ما رأت الأعين مثلها، بلغت النفقة على العمارة في كل يوم مبلغ ألف وخمسمائة درهم فضة مع جاه العمل، لأنّ العجل التي تحمل الحجارة من عند السلطان، والحجارة أيضا من عند السلطان، والفعلة في العمارة أهل السجون المقيدون من المحابيس، وقدّر لو لم يكن في هذه العمارة جاه ولا سخرة لكان مصروفها في كل يوم مبلغ ثلاثة آلاف درهم فضة، وأقاموا في عمارته مدّة عشرة أشهر، فتجاوزت النفقة على عمارته مبلغ ألف ألف درهم فضة، عنها زيادة على خمسين ألف دينار، سوى ما حمل وسوى من سخر في العمل، وهو بنحو ذلك.
فلما تمت عمارته سكنه الأمير بكتمر الساقي، وكان له في إصطبله هذا مائة سطل نحاس لمائة سائس، كل سائس على ستة أرؤس خيل، سوى ما كان له في الحشارات والنواحي من الخيل، وكان من المغرب يغلق باب إصطبله فلا يصير لأحد به حس، ولمّا تزوّج أنوك بن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون بابنة الأمير بكتمر الساقي، في سنة اثنين وثلاثين وسبعمائة، خرج شوارها من هذا القصر، وكان عدّة الحمالين ثمانمائة حمّال.(3/125)
المساند الزركش على أربعين حمّالا، عدّتها عشرة مساند، والمدوّرات ستة عشر حمالا، والكراسي اثنا عشر حمّالا، وكراسي لطاف أربعة حمالين، وفضيات تسعة وعشرون حمّالا، وسلم الدكك أربعة حمالين، والدكك والتخوت الأبنوس المفضضة والموشقة مائة واثنين وستين حمالا، والنحاس الشامي اثنين وعشرين حمّالا، والبعلبكي المدهون اثني عشر حمّالا، والخونجات والمحافي والزبادي والنحاس تسعة وعشرين حمّالا، وصناديق الحوائج خاناه ستة حمالين، وغير ذلك تتمة العدّة، والبغال المحملة الفرش واللحف والبسط، والصناديق التي فيها المصاغ تسعة وتسعين بغلا.
قال العلامة صلاح الدين خليل بن أيبك الصفديّ: قال لي المهذب الكاتب: الزركش والمصاغ ثمانون قنطارا بالمصري ذهب، ولمّا مات بكتمر هذا، صار هذا الوقف من بعده من جملة أوقافه، فتولى أمره وأمر سائر أوقافه أولاده، حتى انقرض أولاده وأولاد أولاده، فصار أمر الأوقاف إلى ابن ابنته، وهو أحمد بن محمد بن قرطاي، المعروف بأحمد بن بنت بكتمر، وهذا القصر في غاية من الحسن، ولا ينزله إلّا أعيان الأمراء إلى أن كانت سنة سبع عشرة وثمانمائة، وكان العسكر غائبا عن مصر مع الملك المؤيد شيخ في محاربة الأمير نوروز الحافظي بدمشق، عمد هذا المذكور إلى القصر فأخذ رخامه وشبابيكه وكثيرا من سقوفه وأبوابه وغير ذلك، وباع الجميع، وعمل بدل ذلك الرخام البلاط، وبدّل الشبابيك الحديد بالخشب، وفطن به أعيان الناس فقصدوه وأخذوا منه أصنافا عظيمة بثمن وبغير ثمن، وهو الآن قائم البناء يسكنه الأمراء.
الدار البيسرية: هذه الدار بخط بين القصرين من القاهرة، كانت في آخر الدولة الفاطمية، لما قويت شوكة الفرنج قد أعدّت لمن يجلس فيها من قصاد الفرنج، عندما؟؟؟ تقرّر الأمر معهم على أن يكون نصف ما يحصل من مال البلد للفرنج، فصار يجلس في هذه الدار قاصد معتبر عند الفرنج يقبض المال، فلما زالت الدولة بالغز، ثم زالت دولة بني أيوب، وولي سلطنة مصر الملوك من الترك، إلى أن كانت أيام الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ، شرع الأمير ركن الدين بيبرس الشمسيّ الصالحيّ البخميّ في عمارتها، في سنة تسع وخمسين وستمائة، وتأنّق في عمارتها وبالغ في كثرة المصروف عليها، فأنكر الملك الظاهر ذلك من فعله وقال له: يا أمير بدر الدين، أيّ شيء خليت للغزاة والترك؟ فقال:
صدقات السلطان، والله يا خوند ما بنيت هذه الدار إلّا حتى يصل خبرها إلى بلاد العدوّ، ويقال بعض مماليك السلطان عمّر دارا غرم عليها مالا عظيما، فأعجب من قوله ذلك السلطان وأنعم عليه بألف دينار عينا، وعدّ هذا من أعظم أنعام السلطان، فجاء سعة هذه الدار باصطبلها وبستانها والحمّام بجانبها نحو فدّانين، ورخامها من أبهج رخام عمل في القاهرة، وأحسنه صنعة، فكثر تعجب الناس إذ ذاك من عظمها لما كان فيه أمراء الدولة ورجالها حينئذ من الاقتصاد، حتى أن الواحد منهم إذا صار أميرا لا يتغير عن داره التي كان(3/126)
يسكنها وهو من الأجناد، وعند ما كملت عمارة هذه الدار وقفها وأشهد عليه بوقفها اثنين وتسعين عدلا، من جملتهم قاضي القضاة تقيّ الدين ابن دقيق العيد، وقاضي القضاة تقيّ الدين بن بنت الأعز، وقاضي القضاة تقيّ الدين بن رزين، قبل ولايتهم القضاء في حال تحملهم الشهادة، وما زالت بيد ورثة بيسرى إلى سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة.
فشرهت نفس الأمير قوصون إلى أخذها، وسأل السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون في ذلك فأذن له في التحدّث مع ورثة بيسرى، فأرسل إليهم ووعدهم ومنّاهم وأرضاهم حتى أذعنوا له، فبعث السلطان إلى قاضي القضاة شرف الدين الحرّانيّ الحنبليّ يلتمس منه الحكم باستبدالها، كما حكم باستبدال بيت قتال السبع وحمامّه الذي أنشأ جامعه بخط خارج الباب الجديد من الشارع، فأجاب إلى ذلك، ونزل إليها علاء الدين بن هلال الدولة شادّ الدواوين، ومعه شهود لقيمة، فقوّمت بمائة ألف درهم وتسعين ألف درهم نقرة، وتكون الغبطة للأيتام عشرة آلاف درهم نقرة لتتم الجملة مائتي ألف درهم نقرة، وحكم قاضي القضاة شرف الدين الحرّانيّ ببيعها وكان هذا الحكم مما شنع عليه فيه.
ثم اختلفت الأيدي في الاستيلاء على هذه الدار، واقتدى القضاة بعضهم ببعض في الحكم باستبدالها، وآخر ما حكم به من استبدالها في أعوام بضع وثمانين وسبعمائة، فصارت من جملة الأوقاف الظاهرية برقوق، وهي الآن بيد ابنة بيرم، وكان لها باب بوّابته من أعظم ما عمل من البوابات بالقاهرة، ويتوصل إلى هذه الدار من هذا الباب، وهو بجوار حمام بيسرى من شارع بين القصرين، وقد بنى تجاه هذا الباب حوانيت حتى خفي وصار يدخل إلى هذه الدار من باب آخر بخط الخرشتف.
بيسرى: الأمير شمس الدين الشمسي الصالحي البخمي، أحد مماليك الملك الصالح نجم الدين أيوب البحرية، تنقل في الخدم حتى صار من أجلّ الأمراء في أيام الملك الظاهر بيبرس البندقداريّ، واشتهر بالشجاعة والكرم وعلو الهمة، وكانت له عدّة مماليك راتب كل واحد منهم مائة رطل لحم، وفيهم من له عليه في اليوم ستين عليقة لخيله، وبلغ عليق خيله وخيل مماليكه في كل يوم ثلاثة آلاف عليقة سوى علف الجمال، وكان ينعم بالألف دينار وبالخمسمائة غير مرّة، ولما فرّق الملك العادل كتبغا المماليك على الأمراء بعث إليه بستين مملوكا، فأخرج إليهم في يومهم لكل واحد فرسين وبغلا وشكا إليه استادار مكثرة خرجه وحسن له الاقتصاد في النفقة، فحنق عليه وعزله وأقام غيره، وقال لا يرني وجهه أبدا، ولم يعرف عنه أنه شرب الماء في كوز واحد مرّتين، وإنما يشرب كل مرّة في كوز جديد، ثم لا يعاود الشرب منه، وتنكر عليه الملك المنصور قلاوون فسجنه في سنة ثمانين وستمائة، وما زال في سجنه إلى أن مات الملك المنصور وقام من بعده ابنه الملك الأشرف خليل، فأفرج عنه في سنة اثنين وتسعين وستمائة بعد عوده من دمشق بشفاعة الأمير بيدرا والأمير سنجر(3/127)
الشجاعيّ، وأمر أن يحمل إليه تشريف كامل ويكتب له منشور بإمرة مائة فارس، وأنه يلبس التشريف من السجن، فجهز التشريف وحمل إليه المنشور في كيس حرير أطلس، وعظم فيه تعظيما زائدا وأثنى عليه ثناء جما، وسار إليه بيدر والشجاعيّ والدوادار والأفرم إلى السجن ليمشوا في خدمته إلى أن يقف بين يدي السلطان، فامتنع من لبس التشريف والتزم بأيمان مغلظة أنه لا يدخل على السلطان إلا بقيده ولباسه الذي كان عليه في السجن، وتسامعت الأمراء وأهل القلعة بخروجه فهرعوا إليه، وكان لخروجه نهار عظيم، ودخل على السلطان بقيده فأمر به ففك بين يديه وأفيض عليه التشريف، فقبّل الأرض، وأكرمه السلطان وأمره فنزل إلى داره، وخرج الناس إلى رؤيته وسرّوا بخلاصه، فبعث إليه السلطان عشرين فرسا وعشرين اكديشا وعشرين بغلا، وأمر جميع الأمراء أن يبعثوا إليه، فلم يبق أحد حتى سير إليه ما يقدر عليه من التحف والسلاح، وبعث إليه أمير سلاح ألفي دينار عينا. وكانت مدّة سجنه إحدى عشرة سنة وأشهرا.
فصار يكتب بعد خروجه من السجن بيسرى الأشرفي بعد ما كان يكتب بيسري الشمسيّ، وما زال إلى أن تسلطن الملك المنصور لاجين، فأخذ الأمير منكرتمر يغريه بالأمير بيسرى ويخوّفه منه وأنه قد تعين للسلطنة، فعمله كاشف الجيزة وأمره أن يحضر الخدمة يومي الاثنين والخميس بالقلعة، ويجلس رأس الميمنة تحت الطواشي حسام الدين بلال المغيثي لأجل كبره وتقدّمه، ثم زاد منكرتمر في الإغراء به والسلطنة تستمهله إلى أن قبض عليه وسجنه في سنة سبع وتسعين وستمائة، وأحاط بسائر موجوده وحبس عدّة من مماليكه، فسر منكرتمر بمسكه سرورا عظيما، واستمرّ في السجن إلى أن مات في تاسع عشر شوّال سنة ثمان وتسعين وستمائة وعليه ديون كثيرة، ودفن بتربته خارج باب النصر رحمه الله تعالى.
قصر بشتاك: هذا القصر هو الآن تجاه الدار البيسرية، وهو من جملة القصر الكبير الشرقيّ الذي كان مسكنا للخفاء الفاطميين، ويسلك إليه من الباب الذي كان يعرف في أيام عمارة القصر الكبير في زمن الخلفاء بباب البحر، وهو يعرف اليوم بباب قصر بشتاك، تجاه المدرسة الكاملية، وما زال إلى أن اشتراه الأمير بدر الدين بكتاش الفخريّ المعروف بأمير سلاح، وأنشأ دورا واصطبلات ومساكن له ولحواشيه، وصار ينزل إليه هو والأمير بدر الدين بيسرى عند انصرافهما من الخدمة السلطانية بقلعة الجبل في موكب عظيم زائد الحشمة، ويدخل كل منهما إلى داره، وكان موضع هذا القصر عدّة مساجد فلم يتعرّض لهدمها وأبقاها على ما هي عليه، فلما مات أمير سلاح وأخذ الأمير قوصون الدار البيسرية كما تقدّم ذكره، أحب الأمير بشتاك أن يكون له أيضا دار بالقاهرة، وذلك أن قوصون وبشتاك كانا يتناظران في الأمور ويتضادّان في سائر الأحوال، ويقصد كل منهما أن يسامي الآخر ويزيد عليه في التجمل، فأخذ بشتاك يعمل في الاستيلاء على قصر أمير سلاح حتى اشتراه من ورثته، فأخذ(3/128)
من السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون قطعة أرض كانت داخل هذا القصر من حقوق بيت المال، وهدم دارا كانت قد أنشئت هناك. عرفت بدار قطوان الساقي، وهدم أحد عشر مسجدا وأربعة معابد كانت من آثار الخلفاء يسكنها جماعة الفقراء، وأدخل ذلك في البناء إلّا مسجدا منها فإنه عمر، ويعرف اليوم بمسجد النجل، فجاء هذا القصر من أعظم مباني القاهرة، فإن ارتفاعه في الهواء أربعون ذراعا، ونزول أساسه في الأرض مثل ذلك، والماء يجري بأعلاه، وله شبابيك من حديد تشرف على شارع القاهرة وينظر من أعلاه عامّة القاهرة والقلعة والنيل والبساتين، وهو مشرق جليل مع حسن بنائه وتأنق زخرفته والمبالغة في تزويقه وترخيمه، وأنشأ أيضا في أسفله حوانيت كان يباع فيها الحلوى وغيرها، فصار الأمر أخيرا كما كان أوّلا بتسمية الشارع بين القصرين، فإنه كان أوّلا كما تقدّم بالقاهرة القصر الكبير الشرقي الذي قصر بشتاك من جملته، وتجاهه القصر الغربيّ الذي الخرشتف من جملته، فصار قصر بشتاك وقصر بيسرى وما بينهما من الشارع يقال له بين القصرين، ومن لا علم له يظنّ إنما قيل لهذا الشارع بين القصرين لأجل قصر بيسرى وقصر بشتاك وليس هذا بصحيح، وإنما قيل له بين القصرين قبل ذلك من حين بنيت القاهرة، فإنه كان بين القصرين القصر الكبير الشرقيّ والقصر الصغير الغربيّ، وقد تقدّم ذلك مشروحا مبينا.
ولما أكمل بشتاك بناء هذا القصر والحوانيت التي في أسفله والخان المجاور له في سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة لم يبارك له فيه ولا تمتع به، وكان إذا نزل إليه ينقبض صدره ولا تنبسط نفسه ما دام فيه حتى يخرج منه، فترك المجىء إليه فصار يتعاهده أحيانا فيعتريه ما تقدّم ذكره، فكرهه وباعه لزوجة بكتمر الساقي وتداوله ورثتها إلى أن أخذه السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون، فاستقرّ بيد أولاده إلى أن تحكم الأمير الوزير المشير جمال الدين الأستادار في مصر. أقام من شهد عند قاضي القضاة كمال الدين عمر بن العديم الحنفي بأن هذا القصر يضرّ بالجار والمار، وأنه مستحق للإزالة والهدم كما عمل ذلك في غير موضع بالقاهرة، فحكم له باستبداله وصار من جملة أملاكه، فلما قتله الملك الناصر فرج بن برقوق استولى على سائر ما تركه وجعل هذا القصر فيما عينه للتربة التي أنشأها على قبر أبيه الملك الظاهر برقوق خارج باب النصر، فاستمرّ في جملة أوقاف التربة المذكورة إلى أن قتل الملك الناصر بدمشق في حرب الأمير شيخ والأمير نوروز، وقدم الأمير شيخ إلى مصر هو والخليفة المستعين بالله العباسي ابن محمد، وقف له من بقي من أولاد جمال الدين وأقاربه، وكان لأهل الدولة يومئذ بهم عناية قاضي القضاة صدر الدين عليّ بن الأدميّ الحنفيّ بارتجاع أملاك جمال الدين التي وقفها على ما كانت عليه، فتسلمها أخوه وصار هذا القصر إليهم وهو الآن بيدهم.
قصر الحجازية: هذا القصر بخط رحبة باب العيد بجوار المدرسة الحجازية، كان يعرف أوّلا بقصر الزمرد في أيام الخلفاء الفاطميين، من أجل أنّ باب القصر الذي كان يعرف(3/129)
بباب الزمرد كان هناك، كما تقدّم ذكره في هذا الكتاب عند ذكر القصور، فلما زالت الدولة الفاطمية صار من جملة ما صار بيد ملوك بني أيوب، واختلفت عليه الأيدي إلى أن اشتراه الأمير بدر الدين أمير مسعود بن خطير الحاجب من أولاد الملوك بني أيوب، واستمرّ بيده إلى أن رسم بتسفيره من مصر إلى مدينة غزة، واستقرّ نائب السلطنة بها في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة وكاتب الأمير سيف الدين قوصون عليه وملّكه إيّاه، فشرع في عمارة سبع قاعات لكل قاعة اصطبل ومنافع ومرافق، وكانت مساحة ذلك عشرة أفدنة، فمات قوصون قبل أن يتم بناء ما أراد من ذلك، فصار يعرف بقصر قوصون إلى أن اشترته خوند تتر الحجازية ابنة الملك الناصر محمد بن قلاوون وزوج الأمير ملكتمر الحجازيّ، فعمرته عمارة ملوكية وتأنقت فيه تأنقا زائدا، وأجرت الماء إلى أعلاه، وعملت تحت القصر إصطبلا كبيرا لخيول خدّامها، وساحة كبيرة يشرف عليها من شبابيك حديد، فجاء شيئا عجيبا حسنه، وأنشأت بجواره مدرستها التي تعرف إلى اليوم بالمدرسة الحجازية، وجعلت هذا القصر من جملة ما هو موقوف عليها، فلما ماتت سكنه الأمراء بالأجرة إلى أن عمر الأمير جمال الدين يوسف الأستادار داره المجاورة للمدرسة السابقية، وتولى استادارية الملك الناصر فرج، صار يجلس برحبة هذا القصر والمقعد الذي كان بها، وعمل القصر سجنا يحبس فيه من يعاقبه من الوزراء والأعيان، فصار موحشا يروع النفوس ذكره لما قتل فيه من الناس خنقا وتحت العقوبة، من بعد ما أقام دهرا وهو مغنى صبابات وملعب أتراب وموطن أفراح ودار عز ومنزل لهو ومحل أماني النفوس ولذاتها، ثم لما فحش كلب جمال الدين وشنع شرهه في اغتصاب الأوقاف أخذ هذا القصر يتشعث شيء من زخارفه، وحكم له قاضي القضاة كمال الدين عمر بن العديم الحنفي باستبداله، كما تقدّم الحكم في نظائره، فقلع رخامه، فلما قتل صار معطلا مدّة، وهمّ الملك الناصر فرج ببنائه رباطا، ثم انثنى عزمه عن ذلك، فلما عزم على المسير إلى محاربة الأمير شيخ والأمير نوروز في سنة أربع عشرة وثمانمائة، نزل إليه الوزير الصاحب سعد الدين إبراهيم بن البشيري وقلع شبابيكه الحديد لتعمل آلات حرب، وهو الآن بغير رخام ولا شبابيك، قائم على أصوله لا يكاد ينتفع به، إلا أن الأمير المشير بدر الدين حسن بن محمد الأستادار لما سكن في بيت الأمير جمال الدين جعل ساحة هذا القصر اصطبلا لخيوله، وصار يحبس في هذا القصر من يصادره أحيانا.
وفي رمضان سنة عشرين وثمانمائة ذكر الأمير فخر الدين عبد الغنيّ بن أبي الفرج الأستادار، ما يجده المسجونون في السجن المستجدّ، عند باب الفتوح، بعد هدم خزانة شمائل من شدّة الضيق وكثرة الغم، فعبّن هذا القصر ليكون سجنا لأرباب الجرائم، وأنعم على جهة وقف جمال الدين بعشرة آلاف درهم فلوسا عن أجرة سنتين، فشرعوا في عمل سجن وأزالوا كثيرا من معالمه، ثم ترك على ما بقي فيه ولم يتخذ سجنا.
قصر يلبغا اليحياوي: هذا القصر موضعه الآن مدرسة السلطان حسن المطلة على(3/130)
الرميلة، تحت قلعة الجبل، وكان قصرا عظيما، أمر السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون في سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة ببنائه لسكن الأمير يلبغا اليحياوي، وأن يبنى أيضا قصر يقابله برسم سكنى الأمير الطنبغا الماردينيّ، لتزايد رغبته فيهما وعظيم محبته لهما، حتى يكونا تجاهه وينظر إليهما من قلعة الجبل، فركب بنفسه إلى حيث سوق الخيل من الرميلة تحت القلعة، وسار إلى حمام الملك السعيد، وعيّن اصطبل الأمير أيدغمش أميراخور، وكان تجاهها ليعمره هو وما يقابله قصرين متقابلين ويضاف إليه إصطبل الأمير طاشتمر الساقي، واصطبل الجوق وأمر الأمير قوصون أن يشتري ما يجاور إصطبله من الأملاك ويوسع في إصطبله، وجعل أمر هذه العمارة إلى الأمير اقبغا عبد الواحد، فوقع الهدم فيما كان بجوار بيت الأمير قوصون، وزيد في الإصطبل وجعل باب هذا الإصطبل من تجاه باب القلعة المعروف بباب السلسلة «1» ، وأمر السلطان بالنفقة على العمارة من مال السلطان على يد النشو، وكان للملك الناصر رغبة كبيرة في العمارة بحيث أنه أفرد لها ديوانا، وبلغ مصروفها في كل يوم اثني عشر ألف درهم نقرة، وأقل ما كان يصرف من ديوان العمارة في اليوم برسم العمارة مبلغ ثمانية آلاف درهم نقرة، فلما كثر الاهتمام في بناء القصرين المذكورين وعظم الاجتهاد في عمارتهما وصار السلطان ينزل من القلعة لكشف العمل ويستحث على فراغهما، وأوّل ما بدىء به قصر يلبغا اليحياوي، فعمل أساسه حضيرة واحدة انصرف عليها وحدها مبلغ أربعمائة ألف درهم نقرة، ولم يبق في القاهرة ومصر صانع له تعلق في العمارة إلّا وعمل فيها حتى كمل القصر، فجاء في غاية الحسن، وبلغت النفقة عليه مبلغ أربعمائة ألف ألف وستين ألف درهم نقرة، منها ثمن لازورد خاصة مائة ألف درهم.
فلما كملت العمارة نزل السلطان لرؤيتها، وحضر يومئذ من عند الأمير سيف الدين طرغاي نائب حلب تقدمة، من جملتها عشرة أزواج بسط أحدها حرير، وعدّة أواني من بلور ونحوه، وخيل وبخاتي، فأنعم بالجميع على الأمير يلبغا اليحياويّ، وأمر الأمير أقبغا عبد الواحد أن ينزل إلى هذا القصر ومعه أخوان سلار برفقته، وسار أرباب الوظائف لعمل مهم، فبات النشو ناظر الخاص هناك لتعبية ما يحتاج إليه من اللحوم والتوابل ونحوها، فلما تهيأ ذلك حضر سائر أمراء الدولة من أوّل النهار وأقاموا بقصر يلبغا اليحياوي في أكل وشرب ولهو، وفي آخر النهار حضرت إليهم التشاريف السلطانية، وعدّتها أحد عشر تشريفا برسم أرباب الوظائف، وهم: الأمير أقبغا عبد الواحد، والأستادار، والأمير قوصون الساقي،(3/131)
والأمير بشتاك، والأمير طقوزدمر أمير مجلس في آخرين، وحضر لبقية الأمراء خلع وأقبية على قدر مراتبهم، فلبس الجميع التشاريف والخلع والأقبية واركبوا الخيول المحضرة إليهم من الإصطبل السلطانيّ بسروج وكنابيش ما بين ذهب وفضة بحسب مراتبهم، وساروا إلى منازلهم، وذبح في هذا المهمّ ستمائة رأس غنم وأربعون بقرة وعشرون فرسا، وعمل فيه ثلثمائة قنطار سكر برسم المشروب، فإن القوم يومئذ لم يكونوا يتظاهرون بشرب الخمر ولا شيء من المسكرات البتة، ولا يجسر أحد على عمله في مهمّ البتة، وما زالت هذه الدار باقية إلى أن هدمها السلطان الملك الناصر حسن، وأنشأ موضعها مدرسته الموجودة الآن.
إصطبل قوصون: هذا الإصطبل بجوار مدرسة السلطان حسن وله بابان، باب من الشارع بجوار حدرة البقر، وبابه الآخر تجاه باب السلسلة الذي يتوصل منه إلى الإصطبل السلطانيّ وقلعة الجبل، أنشأه الأمير علم الدين سنجر الجمقدار، فأخذه منه الأمير سيف الدين قوصون وصرف له ثمنه من بيت المال، فزاد فيه قوصون إصطبل الأمير سنقر الطويل، وأمره الملك الناصر محمد بن قلاوون بعمارة هذا الإصطبل، فبنى فيه كثيرا وأدخل فيه عدّة عمائر، ما بين دور وإصطبلات، فجاء قصرا عظيما إلى الغاية، وسكنه الأمير قوصون مدّة حياة الملك الناصر.
فلما مات السلطان وقام من بعده ابنه الملك المنصور أبو بكر، عمل عليه قوصون وخلعه وأقام بعده بدله الملك الأشرف كجك بن الملك الناصر محمد، فلما كان في سنة اثنين وأربعين وسبعمائة حدث في شهر رجب منها فتنة بين الأمير قوصون وبين الأمراء، وكبيرهم أيدغمش أميراخور، فنادى أيدغمش في العامة يا كسابه عليكم بإصطبل قوصون، إنهبوه، هذا وقوصون محصور بقلعة الجبل، فأقبلت العامّة من السؤال والغلمان والجند إلى إصطبل قوصون، فمنعهم المماليك الذين كانوا فيه ورموهم بالنشاب وأتلفوا منهم عدّة، فثارت مماليك الأمير يلبغا اليحياوي من أعلى قصر يلبغا، وكان بجوار قصر قوصون حيث مدرسة السلطان حسن، ورموا مماليك قوصون بالنشاب حتى انكفوا عن رمي النّهابة، فاقتحم غوغاء الناس إصطبل وقوصون وانتهبوا ما كان بركاب خاناته وحواصله، وكسروا باب القصر بالفؤس، وصعدوا إليه بعد ما تسلقوا إلى القصر من خارجه، فخرجت مماليك قوصون من الإصطبل يدا واحدة بالسلاح وشقوا القاهرة وخرجوا إلى ظاهر باب النصر «1» يريدون الأمراء الواصلين من الشام، فأتت النهابة على جميع ما في إصطبل قوصون من الخيل والسروج وحواصل المال التي كانت بالقصر، وكانت تشتمل من أنواع المال والقماش(3/132)
والأواني الذهب والفضة على ما لا يحدّ ولا يعدّ كثرة.
وعندما خرجت العامّة بما نهبته، وجدت مماليك الأمراء والأجناد قد وقفوا على باب الإصطبل في الرميلة لانتظار من يخرج، وكان إذا خرج أحد بشيء من النهب أخذه منه أقوى منه، فإن امتنع من إعطائه قتل، واحتمل النهابة أكياس الذهب ونثروها في الدهاليز والطرق، وظفروا بجواهر نفيسة وذخائر ملوكية وأمتعة جليلة القدر وأسلحة عظيمة وأقمشة مثمنة، وجرّوا البسط الرومية والأمدية وما هو من عمل الشريف وتقاتلوا عليها وقطعوها قطعا بالسكاكين وتقاسموها، وكسّروا أواني البلور والصيني، وقطعوا سلاسل الخيل الفضة، والسروج الذهب والفضة، وفكوا اللجم وقطعوا الخيم وكسروا الخركاوات وأتلفوا سترها وأغشيتها الأطلس والزركفت.
وذكر عن كاتب قوصون أنه قال: أما الذهب المكيّس والفضة كان ينيف على أربعمائة ألف دينار، وأما الزركش والحوايص والمعصبات ما بين خوانجات وأطباق فضة وذهب، فإنه فوق المائة ألف دينار، والبلور والمصاغ المعمول برسم النساء فإنه لا يحصر، وكان هناك ثلاثة أكياس أطلس فيها جوهر قد جمعه في طول أيامه، لكثرة شغفه بالجوهر، لم يجمع مثله ملك، كان ثمنه نحو المائة ألف دينار، وكان في حاصله عدّة مائة وثمانين زوج بسط، منها ما طوله من أربعين ذراعا إلى ثلاثين ذراعا عمل البلاد، وستة عشر زوج من عمل الشريف بمصر، ثمن كل زوج اثنا عشر ألف درهم نقرة، منها أربعة أزواج بسط من حرير، وكان من جملة الخام نوبة خام جميعها أطلس معدنيّ قصب، جميع ذلك نهب وكسر وقطع وانحطّ سعر الذهب بديار مصر عقيب هذه النهبة من دار قوصون، حتى بيع المثقال بأحد عشر درهما لكثرته في أيدي الناس، بعد ما كان سعر المثقال عشرين درهما ومن حينئذ تلاشى أمر هذا القصر لزوال رخامه في النهب، وما برح مسكنا لأكابر الأمراء، وقد اشتهر أنه من الدور المشئومة، وقد أدركت في عمري غير واحد من الأمراء سكنه وآل أمره إلى ما لا خير فيه، وممن سكنه: الأمير بركة الزينبيّ، ونهب نهبة فاحشة، وأقام أعوام خرابا لا يسكنه أحد، ثم أصلح وهو الآن من أجلّ دور القاهرة.
دار أرغون الكاملي: هذه الدار بالجسر الأعظم على بركة الفيل، أنشأها الأمير أرغون الكامليّ في سنة سبع وأربعين وسبعمائة، وأدخل فيها من أرض بركة الفيل عشرين ذراعا.
أرغون الكاملي: الأمير سيف الدين نائب حلب ودمشق، تبناه الملك الصالح إسماعيل بن محمد بن قلاوون وزوّجه أخته من أمّه، بنت الأمير أرغون العلائي، في سنة خمس وأربعين وسبعمائة. وكان يعرف أوّلا بأرغون الصغير، فلما مات الملك الصالح وقام من بعده في مملكة مصر أخوه الملك الكامل شعبان بن محمد بن قلاوون، أعطاه أمرة مائة وتقدمة ألف، ونهي أن يدعى أرغون الصغير، وتسمّى أرغون الكاملي. فلمّا مات الأمير(3/133)
قطليجا الحمويّ في نيابة حلب، رسم له الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون بنيابة حلب، فوصل إليها يوم الثلاثاء حادي عشر شهر رجب سنة خمسين وسبعمائة، وعمل النيابة بها على أحسن ما يكون من الحرمة والمهابة، وهابه التركمان والعرب، ومشت الأحوال به.
ثم جرت له فتنة مع أمراء حلب، فخرج في نفر يسير إلى دمشق، فوصلها لثلاث بقين من ذي الحجة سنة إحدى وخمسين، فأكرمه الأمير ايتمش الناصريّ نائب دمشق وجهّزه إلى مصر، فأنعم عليه السلطان وأعاده إلى نيابة حلب فأقام بها إلى أن عزل ايتمش من نيابة دمشق، في أوّل سلطنة الملك الصالح صالح بن قلاون، فنقل من نيابة حلب إلى نيابة دمشق، فدخلها في حادي عشري شعبان سنة اثنتين وخمسين، وأقام بها فلم يصف له بها عيش فاستعفى، فلم يجبّ وما زال بها إلى أن خرج يلبغاروس وحضر إلى دمشق، فخرج إلى اللّد، واستولى يلبغاروس على دمشق.
فلما خرج الملك الصالح من مصر وسار إلى بلاد الشام بسبب حركة يلبغاروس، تلقّاه أرغون وسار بالعساكر إلى دمشق، ودخل السلطان بعده وقد فرّ يلبغاروس، فقلّده نيابة حلب في خامس عشري شهر رمضان. وعاد السلطان إلى مصر، فلم يزل الأمير أرغون بحلب وخرج منها إلى الأبلستين «1» في طلب ابن دلغادر، وحرقها وحرق قراها ودخل إلى قيصرية وعاد إلى حلب في رجب سنة أربع وخمسين.
فلما خلع الملك الصالح بأخيه الملك الناصر حسن في شوال سنة خمس وخمسين طلب الأمير أرغون من حلب في آخر شوّال، فحضر إلى مصر وعمل أمير مائة مقدّم ألف إلى تاسع صفر سنة ست وخمسين، فأمسك وحمل إلى الإسكندرية اعتقل فيها وعنده زوجته. ثم نقل من الإسكندرية إلى القدس فأقام بها بطالا، وبنى هناك تربة ومات بها يوم الخميس لخمس بقين من شوّال سنة ثمان وخمسين وسبعمائة.
دار طاز: هذه الدار بجوار المدرسة البندقدارية تجاه حمام الفارقاني، على يمنة من سلك من الصليبة يريد حدرة البقر وباب زويلة، أنشأها الأمير سيف الدين طاز في سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة، وكان موضعها عدّة مساكن، هدمها برضى أربابها وبغير رضاهم، وتولى الأمير منجك عمارتها وصار يقف عليها بنفسه حتى كملت، فجاءت قصرا مشيدا واصطبلا كبيرا، وهي باقية إلى يومنا هذا يسكنها الأمراء. وفي يوم السبت سابع عشري جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين، عمل الأمير طاز في هذه الدار وليمة عظيمة حضرها السلطان الملك الصالح صالح وجميع الأمراء، فلما كان وقت انصرافهم قدّم الأمير طاز للسلطان أربعة أفراس بسروج ذهب وكنابيش ذهب، وقدّم للأمير سنجر فرسين كذلك،(3/134)
وللأمير صرغتمش فرسين، ولكل واحد من أمراء الألوف فرسا كذلك، ولم يعهد قبل هذا أن أحدا من ملوك الأتراك نزل إلى بيت أمير قبل الصالح هذا، وكان يوما مذكورا.
طاز: الأمير سيف الدين، أمير مجلس، اشتهر ذكره في أيام الملك الصالح إسماعيل، ولم يزل أميرا إلى أن خلع الملك الكامل شعبان وأقيم المظفر حاجي، وهو أحد الأمراء الستة أرباب الحل والعقد، فلما خلع الملك المظفر وأقيم الملك الناصر حسن، زادت وجاهته وحرمته، وهو الذي أمسك الأمير يلبغاروس في طريق الحجاز، وأمسك أيضا الملك المجاهد سيف الإسلام عليّ ابن المؤيد صاحب بلاد اليمن بمكة، وأحضره إلى مصر، وهو الذي قام في نوبة السلطان حسن لما خلع وأجلس الملك الصالح صالح على كرسيّ الملك، وكان يلبس في درب الحجاز عباءة وسرقولا ويخفي نفسه ليتجسس على أخبار يلبغاروس، ولم يزل على حاله إلى ثاني شوّال سنة خمس وخمسين وسبعمائة، فخلع الصالح وأعيد الناصر حسن، فأخرج طاز إلى نيابة حلب وأقام بها.
دار صرغتمش: هذه الدار بخط بئر الوطاويط بالقرب من المدرسة الصرغتمشية المجاورة لجامع أحمد بن طولون من شارع الصليبية، كان موضعها مساكن فاشتراها الأمير صرغتمش وبناها قصرا واصطبلا، في سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة، وحمل إليه الوزراء والكتاب والأعيان من الرخام وغيره شيئا كثيرا، وقد ذكر التعريف به عند ذكر المدرسة الصرغتمشية من هذا الكتاب في ذكر المدارس، وهذه الدار عامرة إلى يومنا هذا يسكنها الأمراء، ووقع الهدم في القصر خاصة في شهر ربيع الآخر سنة سبع وعشرين وثمانمائة.
دار الماس: هذه الدار بخط حوض ابن هنس فيما بينه وبين حدرة البقر بجوار جامع الماس، أنشأها الأمير الماس الحاجب، واعتنى برخامها عناية كبيرة، واستدعى به من البلاد، فلما قتل في صفر سنة أربع وثلاثين وسبعمائة، أمر السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون بقلع ما في هذه الدار من الرخام، فقلع جميعه ونقل إلى القلعة، وهذه الدار باقية إلى يومنا هذا ينزلها الأمراء.
دار بهادر المقدم: هذه الدار بخط الباطلية من القاهرة، أنشأها الأمير الطواشي سيف الدين بهادر مقدّم المماليك السلطانية، في أيام الملك الظاهر برقوق.
وبهادر هذا من مماليك الأمير يلبغا، وأقام في تقدمة المماليك جميع الأيام الظاهرية، وكثر ماله وطال عمره حتى هرم، ومات في أيام الملك الناصر فرج، وهو على أمرته وفي وظيفته تقدمة المماليك السلطانية، يوم الأحد سابع عشر رجب سنة اثنتين وثمانمائة.
وموضع هذه الدار من جملة ما كان احترق من الباطلية في أيام الملك الظاهر بيبرس كما تقدّم في ذكر حارة الباطلية عند ذكر الحارات من هذا الكتاب، ولما مات المقدّم بهادر(3/135)
استقرّت من بعده منزلا لأمراء الدولة، وهي باقية على ذلك إلى يومنا هذا.
دار الست شقراء: هذه الدار من جملة حارة كتامة، وهي اليوم بالقرب من مدرسة الوزير الصاحب كريم الدين ابن غنام، بجوار حمام كراي، وهي من الدور الجليلة، عرفت بخوند الست شقراء ابنة السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون، وتزوّجها الأمير روس، ثم انحط قدرها واتضعت في نفسها إلى أن ماتت في يوم الثلاثاء ثامن عشري جمادى الأولى، سنة إحدى وتسعين وسبعمائة.
دار ابن عنان: هذه الدار بخط الجامع الأزهر، أنشأها نور الدين عليّ بن عنان التاجر، بقيسارية جهاركس من القاهرة، وتاجر الخاص الشريف السلطانيّ في أيام الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون، كان ذا ثروة ونعمة كبيرة ومال متسع، فلما زالت دولة الأشرف أجمع، وداخله وهم، أظهر فاقة، وتذكّر أنه دفن مبلغا كبيرا من الألف مثقال ذهب في هذه الدار، ولم يعلم به أحد سوى زوجته أمّ أولاده، فاتفق أنه مرض وخرس، ومرضت زوجته أيضا، فمات يوم الجمعة ثامن عشر شوّال سنة تسع وثمانين وسبعمائة، وماتت زوجته أيضا، فأسف أولاده على فقد ماله، وحفروا مواضع من هذه الدار فلم يظفروا بشيء البتة، وأقامت مدّة بأيديهم وهي من وقف أبيهم، ومات ولده شمس الدين محمد بن علي بن عنان يوم السبت تاسع صفر سنة ثلاث وثمانمائة، ثم باعوها سنة سبع عشرة وثمانمائة، كما بيع غيرها من الأوقاف.
دار بهادر الأعسر: هذه الدار بخط بين السورين، فيما بين سويقة المسعودي من القاهرة وبين الخليج الكبير الذي يعرف اليوم بخليج اللؤلؤة، كان مكانها من جملة دار الذهب التي تقدّم ذكرها في ذكر مناظر الخلفاء من هذا الكتاب، وإلى يومنا هذا بجوار هذه الدار قبو، فيما بينها وبين الخليج، يعرف بقبو الذهب، من جملة أقباء دار الذهب، ويمرّ الناس من تحت هذا القبو.
بهادر هذا: هو الأمير سيف الدين بهادر الأعسر اليحياوي، كان مشرفا بمطبخ الأمير سيف الدين فجا الأمير شكار «1» ، ثم صار زردكاش الأمير الكبير يلبغا الخاصكي، وولي بعد ذلك مهمندار «2» السلطان بدار الضيافة، وولي وظيفة شدّ الدواوين «3» إلى أن قدم الأمير يلبغا(3/136)
الناصري نائب حلب بعساكر الشام إلى مصر وأزال دولة الملك الظاهر برقوق، في جمادى سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، قبض عليه ونفاه من القاهرة إلى غزة، ثم عاد بعد ذلك إلى القاهرة وأقام بها إلى أن مات بهذه الدار في يوم عيد الفطر سنة ثمان وتسعين وسبعمائة، وحصرت تركته وكان فيها عدّة كتب في أنواع من العلوم، وهذه الدار باقية إلى يومنا هذا وعلى بابها بئر بجانبها حوض يملأ لشرب الدواب منه.
دار ابن رجب: هذه الدار من جملة أراضي البستان الذي يقال له اليوم الكافوري، كان إصطبلا للأمير علاء الدين عليّ بن كلفت التركمانيّ شادّ الدواوين، فيما بين داره ودار الأمير تنكز نائب الشام. فلما استقر ناصر الدين محمد بن رجب في الوزارة، أنشأ هذا الإصطبل مقعدا صار يجلس فيه، وقصرا كبيرا، واستولى من بعده على ذلك كله أولاده، فلما عمر الأمير جمال الدين يوسف الأستادار مدرسته بخط رحبة باب العيد، أخذ هذا القصر والإصطبل في جملة ما أخذ من أملاك الناس وأوقافهم. فلما قتله الملك الناصر فرج، واستولى على جميع ما خلفه أفرد هذا القصر والإصطبل فيما أفرده للمدرسة المذكورة، فلم يزل من جملة أوقافها إلى أن قتل الملك الناصر فرج، وقدم الأمير شيخ نائب الشام إلى مصر، فلما جلس على تخت الملك وتلقب بالملك المؤيد في غرّة شعبان سنة خمس عشرة وثمانمائة، وقف إليه من بقي من أولاد علاء الدين عليّ بن كلفت، وهما امرأتان، كانت إحداهما تحت الملك المؤيد قبل أن يلي نيابة طرابلس، وهو من جملة أمراء مصر في أيام الملك الظاهر برقوق، وذكرتا أن الأمير جمال الدين الاستادار أخذ وقف أبيهما بغير حق، وأخرجتا كتاب وقف أبيهما، ففوّض أمر ذلك لقاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن بن شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن رسلان بن نصير البلقينيّ الشافعيّ، فلم يجد بيد أولاد جمال الدين مستندا، فقضى بهذا المكان لورثة ابن كلفت وبقائه على ما وقفه حسبما تضمنه كتاب وقفه، فتسلم مستحقوا وقف بن كلفت القصر والاصطبل، وهو الآن بأيديهم، وبينهم وبين أولاد ابن رجب نزاع في القصر فقط.
محمد بن رجب: ابن محمد بن كلفت الأمير الوزير ناصر الدين، نشأ بالقاهرة على طريقة مشكورة، فلما استقرّ ناصر الدين محمد بن الحسام الصفدي شادّ الدواوين بعد انتقال الأمير جمال الدين محمود بن عليّ من شدّ الدواوين إلى استادارية السلطان في يوم الثلاثاء ثالث جمادى الآخرة سنة تسعين وسبعمائة، أقام ابن رجب هذا استادارا عند الأمير سودون باق، وكانت أوّل مباشراته، ثم ولي شدّ الدواوين بعد الأمير ناصر الدين محمد بن اقبغا آص، في سابع عشرى ذي الحجة، وعوّض في شدّ الدواوين بشد دواليب الخاص، عوضا عن خاله الأمير ناصر الدين محمد بن الحسام، عند انتقاله إلى الوزارة، فلم يزل إلى أن توجّه الملك الظاهر برقوق إلى الشام، وأقام الأمير محمود الاستادار، فقدم عليه ابن رجب بكتاب السلطان وهو مختوم، فإذا فيه أن يقبض على ابن رجب ويلزمه بحمل مبلغ مائة(3/137)
وستين ألف درهم نقرة، فقبض عليه في رابع شهر رمضان سنة ثلاث وتسعين، وأخذ منه مبلغ سبعين ألف درهم نقرة.
فلما كان في يوم الاثنين رابع عشر ربيع الآخر سنة ست وتسعين، صرف السلطان عن الوزارة الصاحب موفق الدين أبا الفرج، واستقرّ بابن رجب في منصب الوزارة، وخلع عليه، فلم يغير زيّ الأمراء، وباشر الوزارة على قالب ضخم وناموس مهاب، وصار أميرا وزيرا مدبرا لممالك، وسلك سيرة خاله الوزير ناصر الدين محمد بن الحسام في استخدام كل من باشر الوزارة، فأقام الصاحب سعد الدين بن نصر الله ابن البقريّ ناظر الدولة، والصاحب كريم الدين عبد الكريم بن الغنام ناظر البيوت، والصاحب علم الدين عبد الوهاب سن إبرة مستوفي الدولة، والصاحب تاج الدين عبد الرحيم بن أبي شاكر رفيقا له في استيفاء الدولة، وأنعم عليه بإمرة عشرين فارسا في سادس شهر ربيع الآخر سنة سبع وتسعين، فلم يزل على ذلك إلى أن مات من مرض طويل في يوم الجمعة لأربع بقين من صفر، سنة ثمان وتسعين وسبعمائة، وهو وزير من غير نكبة، فكانت جنازته من الجنائز المذكورة، وقد ذكرته في كتاب در العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة.
دار القليجي: هذه الدار من جملة خط قصر بشتاك، كانت أوّلا من بعض دور القصر الكبير الشرقيّ الذي تقدم ذكره عند ذكر قصور الخلفاء، ثم عرفت بدار حمال الكفاة، وهو القاضي جمال الدين إبراهيم المعروف بحمال الكفاة، ابن خالة النشو ناظر الخاص، كان أوّلا من جملة الكتاب النصارى، فأسلم وخدم في بستان الملك الناصر محمد بن قلاوون الذي كان ميدانا للملك الظاهر بيبرس بأرض اللوق، ثم خدم في ديوان الأمير بيدمر البدريّ، فلما عرض السلطان دواوين الأمراء واختار منهم جماعة، كان من جملة من اختاره السلطان حمال الكفاة هذا، فجعله مستوفيا إلى أن كات المهذب كاتب الأمير بكتمر الساقي، فولاه السلطان مكانه في ديوان الأمير بكتمر، فخدمه إلى أن مات، فخدم بديوان الأمير بشتاك إلى أن قبض الملك الناصر على النشو ناظر الخاص «1» ، ولّاه وظيفة نظر الخاص بعد النشو، ثم أضاف إليه وظيفة نظر الجيش بعد المكين بن قزوينة عند غضبه عليه ومصادرته، فباشر الوظيفتين إلى أن مات الملك الناصر، فاستمرّ في أيام الملك المنصور أبي بكر، والملك الأشرف كجك، والملك الناصر أحمد، فلما ولي الملك الصالح إسماعيل جعله مشير الدولة مع ما بيده من نظر الخاص والجيش، وكان الوزير إذ ذاك الأمير نجم الدين محمود وزير بغداد، وكتب له توقيع باستقراره في وظيفة الإشارة، فعظم أمره وكثر حساده إلى أن(3/138)
قبض عليه وضرب بالمقارع، وخنق ليلة الأحد سادس شهر ربيع الأوّل سنة خمس وأربعين وسبعمائة، ودفن بجوار زاوية ابن عبود من القرافة، وكانت مدّة نظره في الخاص خمس سنين وشهرين تنقص أياما، وكان مليح الوجه حسن العبارة كثير التصرّف ذكيا، يعرف باللسان التركيّ ويتكلم به، ويعرف باللسان النوبيّ والتكروري.
ولم تزل هذه الدار بغير تكملة إلى أن ترأس القاضي شمس الدين محمد بن أحمد القليجيّ الحنفي، كان أولا يكتب على مبيضة الغزل، وهي يومئذ مضمنة لديوان السلطان، ثم اتصل بقاضي القضاة سراج الدين عمر بن إسحاق الهندي وخدمه فرفع من شأنه واستنابه في الحكم، فعيب ذلك على الهندي، وقال فيه شمس الدين محمد بن محمد الصائغ الحنفي:
ولمّا رأينا كاتب المكس قاضيا ... علمنا بأنّ الدهر عاد إلى ورا
فقلت لصحبي ليس هذا تعجبا ... وهل يجلب الهنديّ شيئا سوى الخرا
وولي افتاء دار العلم، وناب عن القضاة في الحكم بعد مباشرة توقيع الحكم عدّة سنين، فعظم ذكره، وبعد صيته، وصار يتوسط بين القضاة والأمراء في حوائجهم، ويخدم أهل الدولة فيما يعنّ لهم من الأمور الشرعية، فصار كثير من أمور القضاة لا يقوم به غيره، حتى لقد كان شيخنا الأستاذ قاضي القضاة ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون يسميه دريد بن الصمة، يعني أنه صاحب رأي القضاة، كما أن دريد ابن الصمة كان صاحب رأي هوازن يوم حنين سرّه بذلك، فلما فخم أمره أخذ هذه الدار، وقد تم بناء جدرانها، فرخّمها وبيضها، فجاءت في أعظم قالب وأحسن هندام وأبهج زيّ، وسكنها إلى أن مات يوم الثلاثاء لعشرين من شهر رجب سنة سبع وتسعين وسبعمائة، بعدما وقفها، فاستمرّت في يد أولاده مدّة إلى أن أخذها الأمير جمال الدين يوسف الأستادار، كما أخذ غيرها من الدور.
دار بهادر المعزي: هذه الدار بدرب راشد المجاور لخزانة البنود من القاهرة، عمرها الأمير سيف الدين بهادر المعزي، كان أصله من أولاد مدينة حلب، من أبناء التركمان، واشتراه الملك المنصور لاجين قبل أن يلي سلطنة مصر، وهو في نيابة السلطنة بدمشق، فترقى حتى صار أحد أمراء الألوف إلى أن مات في يوم الجمعة تاسع شعبان سنة تسع وثلاثين وسبعمائة، عن ابنتين إحداهما تحت الأمير أسدمر المعزي، والأخرى تحت مملوكه اقتمر، وترك مالا كثيرا منه، ثلاث عشر ألف دينار، وستمائة ألف درهم نقرة، وأربعمائة فرس، وثلثمائة جمل، ومبلغ خمسين ألف اردب غلة، وثمان حوايص ذهب، وثلاث كلوتات زركش، واثني عشر طراز زركش، وعقارا كثيرا، فأخذ السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون جميع ما خلفه، وكان جميل الصورة، معروفا بالفروسية، ورمى في القبق النشاب بيمينه ويساره، ولعب الرمح لعبا جيدا، وكان لين الجانب حلو الكلام جميل(3/139)
العشرة، إلّا أنه كان مقتّرا على نفسه في مأكله وسائر أحواله لكثرة شحه، بحيث أنه اعتقل مرّة فجمع من راتبه الذي كان يجرى عليه وهو في السجن مبلغ اثني عشر ألف درهم نقرة، أخرجها معه من الاعتقال.
دار طينال: هذه الدار بخط الخرّاطين في داخل الدرب الذي كان يعرف بخربة صالح، كان موضعها وما حولها في الدولة الفاطمية مارستانا، وأنشأ هذه الدار الأمير طينال، أحد مماليك الناصر محمد بن قلاوون، أقامه ساقيا، ثم عمله حاجبا صغيرا، ثم أعطاه أمرة دكتمر، وجعله أمير مائة مقدّم ألف، فباشر ذلك مدّة ثم أخرجه لنيابة طرابلس. فأقام بها زمانا، ثم نقله إلى نيابة صفد فمات بها في ثالث شهر ربيع سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة، وكان تتريّ الجنس قصيرا إلى الغاية، مليح الوجه، مشكورا في أحكامه، محبا لجمع المال، شحيحا، وهذه الدار تشتمل على قائمتين متجاورتين، وهي من الدور الجليلة، ولطينال أيضا قيسارية بسويقة أمير الجيوش.
دار الهرماس: هذه الدار كانت بجوار الجامع الحاكمي من قبلية شارعة في رحبة الجامع، على يسرة من يمرّ إلى باب النصر، عمرها الشيخ قطب الدين محمد بن المقدسي المعروف بالهرماس، وسكنها مدّة، وكان أثيرا عند السلطان الملك الناصر الحسن بن محمد بن قلاوون، له فيه اعتقاد كبير، فعظم عند الناس قدره، واشتهر فيما بينهم ذكره إلى أن دبت بينه وبين الشيخ شمس الدين محمد بن النقاش عقارب الحسد، فسعى به عند السلطان إلى أن تغير عليه وأبعده، ثم ركب في يوم سنة إحدى وستين وسبعمائة من قلعة الجبل بعساكره إلى باب زويلة، فعند ما وصل إليه ترجل الأمراء كلهم عن خيولهم ودخلوا مشاة من باب زويلة كما هي العادة، وصار السلطان راكبا بمفرده، وابن النقاش أيضا راكب بجانبه، وسائر الأمراء والمماليك مشاة في ركابه على ترتيبهم إلى أن وصل السلطان إلى المارستان المنصوري بين القصرين، فنزل إليه ودخل القبة وزار قبر أبيه وجدّه وإخوته، وجلس، وقد حضر هناك مشايخ العلم والقضاة، فتذاكروا بين يديه مسائل علمية، ثم قام إلى النظر في أمور المرضى بالمارستان، فدار عليهم حتى انتهى غرضه من ذلك، وخرج فركب وسار نحو باب النصر والناس مشاة في ركابه إلّا ابن النقاش فإنه راكب بجانبه إلى أن وصل إلى رحبة الجامع الحاكمي، فوقف تجاه دار الهرماس وأمر بهدمها، فهدمت وهو واقف، وقبض على الهرماس وابنه وضرب بالمقارع عدّة شيوب، ونفي من القاهرة إلى مصياف «1» . فقال الإمام العلامة شمس الدين محمد بن عبد الرحمن بن الصائغ الحنفي في ذلك:
قد ذاق هرماس الخسارة ... من بعد عز وجساره(3/140)
حسب البهتان يبقى ... أخرب الله دياره
فلما قتل السلطان في سنة اثنين وستين، عاد الهرماس إلى القاهرة وأعاد بعض داره، فلما كانت سنة ثمانين وسبعمائة صارت هذه الدار إلى الأمير جمال الدين عبد الله بن بكتمر الحاجب، فأنشأها قاعة وعدّة حوانيت وربعا علوّ ذلك، وانتقل من بعده إلى أولاده، وهو بأيديهم إلى اليوم.
دار أوحد الدين: هذه الدار بداخل درب السلامي في رحبة باب العيد، مقابل قصر الشوك وإلى جانب المارستان العتيق الصلاحيّ، كان موضعها من حقوق القصر الكبير، وصار أخيرا طاحونا، فهدمها القاضي أوحد الدين عبد الواحد أيام كان يباشر توقيع الأمير الكبير برقوق، بعد سنة ثمانين وسبعمائة، فلما حفر أساس هذه الدار ووجد فيه هيئة قبة معقودة من لبن، وفي داخلها إنسان ميت قد بليت أكفانه وصار عظما نخرا، وهو في غاية طول القامة، يكون قدر خمسة أذرع، وعظام ساقيه خلاف ما عهد من الكبر، ودماغه عظيم جدا، فلما كملت هذه الدار سكنها أيام مباشرته وظيفة كتابة السر إلى أن مات بها، وقد حبسها على أولاده، فاستمرت بأيديهم إلى أن أخذها منهم الأمير جمال الدين يوسف الاستادار، كما أخذ غيرها من الأوقاف، فاستمرّت في جملة ما بيده إلى أن قتله الملك الناصر فرج، فقبضها فيما قبض مما خلف جمال الدين، فلما قتل الملك الناصر فرج واستقل الملك المؤيد شيخ بمملكة مصر استرجع أولاد جمال الدين ما كان أخذه الناصر من أملاك جمال الدين، وصارت بأيديهم إلى أن وقف له أولاد أوحد الدين في طلب دار أبيهم، فعقد لذلك مجلس اجتمع فيه القضاة، فتبين أن الحق بيد أولاد أوحد الدين، فقضي بإعادة الدار إلى ما وقفها عليه أوحد الدين، فتسلمها أولاد أوحد الدين من ورثة جمال الدين، وهي الآن بأيديهم.
عبد الواحد بن إسماعيل بن ياسين الحنفيّ: أوحد الدين كاتب السر، ولد بالقاهرة ونشأ بها في كنف قاضي القضاة جمال الدين عبد الله بن عليّ التركمانيّ الحنفيّ لصهارة كانت بين أبيه وبين التركمانية، وباشر توقيع الحكم مدة، واتفق أن أميرا من أمراء الملك الأشرف شعبان بن حسين يعرف بيونس الرماح مات، فادّعى برقوق العثمانيّ أحد الممالك اليلبغاوية أنه ابن عم يونس هذا، وأنه يستحق إرثه لموته عن غير ولد، حضر إلى المدرسة الصالحية بين القصرين حيث يجلس القضاة للحكم بين الناس حتى يثبت ما ادّعاه، فلما أراد الله من اسعاد جدّ أوحد الدين لم يقف برقوق على أحد من موقعي الحكم إلا عليه، وأخبره بما يريد، فبادر إلى توريق سؤال باسم برقوق، وانهائه أنه ابن عمّ يونس الرماح، وأن عنده بينة تشهد بذلك، ودخل بهذا السؤال إلى قاضي القضاة، وأنهى العمل حتى ثبت أن برقوق ابن عم يونس يستحق ارثه، فلما فرغ من ذلك دفع برقوق إلى أوحد الدين مبلغ دراهم اجرة(3/141)
توريقه كما هي عادة أهل مصر في هذا، فامتنع من أخذها، وألحف برقوق في سؤاله، وهو يمتنع، فتقلد له برقوق المنة بذلك واعتقد أمانته وخيره، وصار لكثرة ركونه إليه إذا قدم فلاحوا إقطاعه يبعثهم إليه حتى يحاسبهم عما حملوه من الخراج، فلما قتل الملك الأشرف وثارت المماليك، وكان من أمرهم ما كان إلى أن تغلّب برقوق وصار من جملة الأمراء واستولى على الاصطبل السلطانيّ في شهر ربيع الآخر سنة تسع وسبعين وسبعمائة، وصار أميرا خور، أقام أوحد الدين موقعا عنده، وما زال أمر برقوق يزداد قوّة حتى انيطت به أمور المملكة كلها، فصار أوحد الدين صاحب الحل والعقد، وكاتب السرّ بدر الدين محمد بن عليّ بن فضل الله اسما لا معنى له، إلى أن جلس الأمير برقوق على تخت المملكة في شهر رمضان سنة أربع وثمانين وسبعمائة، فقرّر القاضي أوحد الدين في وظيفة كتابة السرّ عوضا عن ابن فضل الله، وخلع عليه في يوم السبت ثاني عشر شوال من السنة المذكورة، فباشر كتابة السرّ على القالب الجائز، وضبط الأمور أحسن ضبط، وعكف سائر الناس على بابه لتمكنه من سلطانه، وكان الأمير يونس الدوادار يرى أنه أكثر الناس من الأمراء تمكينا من السلطان، وجرت العادة بانتماء كاتب السرّ إلى الدوادار، فأحب أوحد الدين الاستبداد على الأمير يونس الدوادار، فقال السلطان سرّا في غيبة يونس: أن السلطان يرسم بكتابة مهمات الدولة وأسرار المملكة إلى البلاد الشامية وغيرها، والأمير الدوادار يريد من المملوك أن يطلع على ذلك، فلم يقدر المملوك على مخالفته، ولا أمكنه إعلامه إلّا بإذن، فأنفق السلطان من ذلك وقال: الحذر أن يطلع على شيء من مهمات السلطان أو أسراره. فقال:
أخاف منه إن سأل ولم أعلمه. فقال السلطان: ما عليك منه.
فرأى أنه قد تمكن حينئذ، فأمسك أياما. ثم أراد الازدياد من الاستبداد فقال للسلطان سرّا: قد رسم السلطان أن لا يطّلع أحد على سرّ السلطان، ولا يعرف بما يكتب من المهمات، وطائفة البريدية كلهم يمشون في خدمة الدوادار، فإذا اقتضت آراء السلطان تسفير أحد منهم في مهم يحتاج المملوك إلى استدعائه من خدمة الأمير الدوادار، فإذا التمس مني أني أخبره بالمعنى الذي توجه فيه البريدي لا أقدر على إعلامه بذلك، ولا آمن إن كتمته، وانصرف. فلما كان من الغد وطلع الأمراء إلى الخدمة على العادة، قال السلطان للأمير يونس الدوادار: أرسل البريدية كلهم إلى كاتب السرّ ليمشوا ويركبوا معه، فلم يجد بدّا من إرسالهم، وحصل عنده من إرسالهم المقيم المقعد، فصار البريدية يركبون نوبا في خدمة أوحد الدين، ويتصرف في أمور الدولة وحده مع سلطانه، فانفرد بالكلمة، وخضع له الخاص والعام إلّا أنه نغّص عليه في نفسه ومرض مرضا طويلا سقطت معه شهوة الطعام، بحيث أنه لم يكن يشتهي شيئا من الغداء، وتنوّع له المأكل من بين يديه لكي تميل نفسه إلى شيء منها، ومتى تناول غذاء تقيأه في الحال، وما زال على ذلك إلى أن مات عن سبع وثلاثين سنة، في يوم السبت ثاني ذي الحجة سنة ست وثمانين وسبعمائة، ودفن خارج باب(3/142)
النصر، فلم يتأخر أحد من الأمراء والأعيان عن جنازته، وكان حسن السياسة، رضيّ الخلق، عاقلا، كثير السكون، جيد السيرة، جميل الصورة، حسن الهيئة، عارفا بأمر دنياه، محبا للمداراة، صاحب باطن، قليل العلم رحمه الله.
ربع الزيتي: هذا الربع كان بجوار قنطرة الحاجب التي على الخليج الناصري، وكان يشتمل على عدّة مساكن ينزلها أهل الخلاعة للقصف، فإنه كان يشرف من جهاته الأربع على رياض وبساتين ففي شرقية غيط الزيتي، وقد خرب، وموضعه اليوم بركة ماء، وفي غريبه غيط الحاجب بيبرس، وأدركته عامرا وهو اليوم مزارع بعد ما كان له باب كبير بجانبه حوض ماء للسبيل، وعليه سياج من طين دائر به، ومن قبلي، هذا الربع الخليج وقنطرة الحاجب والجنينة التي بأرض الطبالة، ومن بحر به بساتين تتصل بالبعل وكوم الريش، وما زال هذا الربع معمورا باللذات آهلا بكثرة المسرّات إلى أن كانت سنة الغرقة، وهي سنة خمس وخمسين وسبعمائة، فخربت دور كوم الريش وغيرها، ووصل ماء النيل إلى قنطرة الحاجب، فخرب ربع الزيتي وأهمل أمره حتى صار كوما عظيما تجاه قنطرة الحاجب، وغيط الحاجب، وسمعت من أدركته يخبر عن هذا الربع بعجائب من الملاذ التي كانت فيه، وكانت العامة تقول في هزلها: ستي أين كنتي وأين رحتي وأين جيتي قالت مع ربع الزيتي:
ثمّ انقضت تلك السنون وأهلها ... فكأنها وكأنّهم أحلام
الدار التي في أوّل البرقية من القاهرة التي حيطانها حجارة بيض منحوتة: هذه الدار بقي منها جدار على يمين من سلك من المشهد الحسينيّ يريد باب البرقية، وبقي منها أيضا جدار على يمين من سلك من رحبة الأيدي مريّ إلى باب البرقية، وهي دار الأمير صبيح بن شاهنشاه أحد أمراء الدولة الفاطمية في أيام الصالح طلائع بن رزيك، وكانت في غاية الكبر والتحسين. قال بعض أصحاب الصالح: يا مولانا أبقاك الله حتى تتم دار ابن شاهنشاه، وكان الضرغام قبل أن يلي وزارة مصر قد فرّس العادل أبا شجاع رزيك بن الصالح طلائع بن رزيك، فظهر منه فارسا في غاية الفروسية، بحيث أنه قد حضر في يوم عيد الحلقة وأخذ رمحا وحربة وقوسا وسهما، فأخذ الحلقة بالرمح، ورمى بالسهم فأصاب الغرض، وحذف بالحربة فأثبتها في المرمى، ولعب بالرمح في غاية الحسن.
ثم دخل صبيح ابن شاهنشاه فعمل مثل ذلك، فتحرّك الضرغام وكان يلبس عمامة بعذبة وإكمال واسعة على زيّ المصرييين يومئذ، فتلثم بعذبته ولف أكمامه وأخذ رمحه ولعب به في غاية الحسن، وطرد كذلك ودخل في الحلقة وأخذها، فعجب منه كل من في العسكر، فأخذ عند ذلك الأمير صبيح ابن شاهنشاه المبخرة وأتى إليه وقال: يا مولاي كفاك الله أمر العين، فإن هذا شيء ما يقدر عليه أحد، وجعل يدور حول فرسه ويبخره والضرغام(3/143)
يتبسم ويعجبه ذلك، وبعد هذا كان قتل ابن شاهنشاه على يده في سنة ثمان وخمسين وخمسمائة ولم تكمل هذه الدار.
دار التمر: هذه الدار بمدينة مصر من خارجها، فيما انحسر عنه ماء النيل بعد الخمسمائة من سني الهجرة، وتعرف اليوم بصناعة التمر، تجاه الصاغة بخط سوق المعاريج، ومن جملتها بيت برهان الدين إبراهيم الحليّ ومدرسته، وهذه الدار وقفها القاضي عبد الرحيم بن عليّ البيسانيّ على فكاك الأسرى من المسلمين ببلاد الفرنج.
قال القاضي محي الدين عبد الله بن عبد الظاهر في كتاب الدر النظيم في أوصاف القاضي الفاضل عبد الرحيم: ومن جملة بنائه دار التمر بمصر المحروسة، ولها دخل عظيم، يجمع ويشترى به الأسرى من بلاد الفرنج، وذلك مستمرّ إلى هذا الوقت، وفي كل وقت يحضر بالأسارى فيلبسون ويطوفون ويدعون له، وسمعتهم مرارا يقولون: يا الله يا رحمن يا رحيم ارحم القاضي الفاضل عبد الرحيم.
وقال القاضي جمال الدين بن شيث: كان للقاضي الفاضل ربع عظيم يؤجره بمبلغ كبير، فلما عزم على الحج ركب ومرّ به ووقف عليه وقال: اللهم إنك تعلم أن هذا الخان ليس شيء أحب إليّ منه، أو قال أعز عليّ منه، اللهم فاشهد أني وقفته على فكاك الأسرى من بلاد الفرنج.
وقال ابن المتوّج: ومن جملة الأوقاف الوقف الفاضلي، وهو الدار المشهورة بصناعة التمر الوقف على فكاك الأسرى من يد العدوّ، المشتملة على مخازن وأخصاص وشون ومنازل علوية وحوانيت بمجازها وظاهرها، وهي اثنا عشر حانوتا، وخمسة مقاعد، وثمانية وخمسون مخزنا، وخمسة عشر خصا، وست قاعات وساحة، وست شون، وخمسة وسبعون منزلا، وخمسة مقاعد علوية، الأجرة عن ذلك جميعه إلى آخر شعبان سنة تسع وثمانين وستمائة في كل شهر ألف ومائة وست وثلاثون درهما نقرة، واستجدّ بها القاضي جمال الدين الوجيزي خليفة الحكم بمصر حين كان ينظر في الأوقاف دارا من ريع الوقف، فأكلها البحر، فأمر ببناء زربية أمامها من مال الوقف.
عمارة أمّ السلطان: هذه العمارة من جملة المنحر كانت دارا تعرف بالأمير جمال الدين ايدغدي العزيزيّ ولها باب من الدرب الأصفر الذي هو الآن تجاه خانقاه «1» بيبرس، وباب من المحايريين تجاه الجامع الأقمر. عرفت هذه الدار بالأمير مظفر الدين موسى(3/144)
الصالح علي ابن الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفي، ثم خربت فأنسأتها خوند أم الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن فلاوون، وجعلت منها قيسارية «1» بخط الركن المخلق يباع بها الجلود ويعلوها ربع جليل لسكن العامّة يشتمل على عدّة طباق، ووقفت ذلك على مدرستها بخط التبانة خارج باب زويلة، فلم تزل جارية في وقفها إلى أن اغتصبها الوزير الأمير جمال الدين يوسف الأستادار فيما أخذ من الأوقاف، وجعلها وقفا على مدرسته بخط رحبة باب العيد من القاهرة، وجعلت خوند بركة من جملة هذه الدار قاعة لم يعمر فيها سوى بوابتها لا غير، وهي أهلّ بوّابات الدور، وقد دخلت أيضا فيما أخذه جمال الدين وصارت بيد مباشري مدرسته إلى أن أخذها السلطان الملك الأشرف أبو العزيز برسباي الدقماقي الظاهريّ، وابتدأ بعملها وكالة في شوّال سنة خمس وعشرين وثمانمائة، فكملت في رجب سنة ست وعشرين، وغيّر من الطراز المنقوش في الحجارة بجانبي باب الدخول، اسم شعبان بن حسين، وكتب برسباي، فجاءت من أحسن المباني ويعلوها طباق للسكنى، ولم يسخر في عمارتها أحد من الناس كما أحدثه ولاة السوء في عمائرهم، بل كان العمال من البنايين والفعلة ونحوهم يوفون أجورهم من غير عنف ولا عسف، فإنه كان القائم على عمارتها القاضي زين الدين عبد الباسط بن خليل ناظر الجيش، وهذه عادته في أعماله أن لا يكلف فيها العمال غير طاقتهم، ويدفع إليهم أجورهم والله أعلم.
ذكر الحمامات
قال ابن سيده: الحمّام والحميم والحميمة جميعا الماء الحار، والحميمة أيضا المخض إذا سخن، وقد أحمّه وحمّه، وكلّما سخن فقد حمّ. قال ابن الأعرابي: والحمائم جمع الحميم الذي هو الماء الجار، وهذا خطأ، لأن فعيلا لا يجمع على فعائل، وإنما هو جمع الحميمة الذي هو الماء الحار لغة في الحميم مذكر، وهو أحد ما جاء من الأسماء على فعال، نحو القذاف والجبان والجمع حمّامات.
قال سيبويه: جمعوه بالألف والتاء وإن كان مذكرا، حيث لم يكسر جعلوا ذلك عوضا من التكسير. والاستحمام الاغتسال بالماء الحار، وقيل هو الاغتسال بأيّ ماء كان، والحميم العرق، واستحمّ الرجل عرق. وأمّا قولهم لداخل الحمام إذا خرج طاب حميمك، فقد يعني به العرق، أي طاب عرقك، وإذا دعي له بطبيب العرق، فقد دعي له بالصحة، لأنّ الصحيح يطيب عرقه.
وروي عن سفيان الثوري أنه قال: ما درهم ينفقه المؤمن هو فيه أعظم أجرا من درهم صاحب حمّام ليخليه له، وقال محمد بن إسحاق في كتاب المبتدىء: إنّ أوّل من اتخذ(3/145)
الحمامات والطلاء بالنورة سليمان بن داود عليهما السلام، وأنه لما دخل ووجد حميمة قال: اوّاه من عذاب الله أوّاه.
وذكر المسبحيّ في تاريخه: أنّ العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله، أوّل من بنى الحمامات بالقاهرة، وذكر الشريف أسعد الجوّاني عن القاضي القضاعي أنه كان في مصر الفسطاط ألف ومائة وسبعون حماما. وقال ابن المتوّج أن عدّة حمامات مصر في زمنه بضع وسبعون حماما. وذكر ابن عبد الظاهر أن عدّة حمامات القاهرة إلى آخر سنة خمس وثمانين وستمائة، تقرّب من ثمانين حماما، وأقل ما كانت الحمامات ببغداد في أيام الخليفة الناصر أحمد بن المستنصر نحو الألف حمام.
حمّامي السيدة العمة: قال ابن عبد الظاهر: حمّامي الكافي يعرفان بحمامي السيدة العمة، وانتقلتا إلى الكامل بن شاور، ثم إلى ورثة الشريف ابن ثعلب، وهما الآن بأيديهم، ولا تدور إلّا الواحدة، وهاتان الحمامان كانتا على يمنة من يدخل من أول حارة الروم تجاه ربع الحاجب لؤلؤ، المعروف الآن بربع الزياتين، علو الفندق الذي بابه بسوق الشوّايين، وكانت إحداهما برسم الرجال والأخرى برسم النساء، وقد خربتا ولم يبق لهما أثر البتة.
حمام الساباط: قال ابن عبد الظاهر: كان في القصر الصغير باب يعرف بباب الساباط، كان الخليفة في العيد يخرج منه إلى الميدان، وهو الخرشتف الآن، إلى المنحر لينحر فيه الضحايا. قلت حمام الساباط هذا يعرّف في زمننا بحمّام المارستان المنصوري وهو برسم دخول النساء عند باب سرّ المارستان المنصوري، وهذا الحمّام هو حمّام القصر الصغير الغربي، ويعرف أيضا بحمّام الصنيمة، فلما زالت دولة الخلفاء الفاطميين من القاهرة، باعها القاضي مؤيد الدين أبو المنصور محمد بن المنذر بن محمد العدل الأنصاريّ الشافعيّ، وكيل بيت المال في أيام الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف بن أيوب، للأمير عز الدين أيبك العزيزيّ هي وساحات تحاذيها بألف ومائتي دينار، في ذي الحجة سنة تسعين وخمسمائة، ثم باعها الأمير عز الدين أيبك للشيخ أمين الدين قيمار بن عبد الله الحمويّ التاجر، بألف وستمائة دينار، فورثها من بعده من استحق إرثه، ثم اشترى من الورثة نصفها الأمير الفارس صارم الدين خطلبا الكاملي العادلي، في سنة سبع وثلاثين وستمائة، وانتقلت أيضا منها حصة إلى ملك الأمير علاء الدين ايدكين البندقداري الصالحي النجمي استادار الملك الظاهر بيبرس، في سنة ثمان وسبعين وستمائة، فلما تملك الملك المنصور قلاوون الألفي وانشأ المارستان الكبير المنصوري، صارت فيما هو موقوف عليه، وهي الآن في أوقافه ولها شهرة في حمامات القاهرة.
حمام لؤلؤ: هذه الحمام برأس رحبة الأيد مرى ملاصقة لدار السناني، أنشأها الأمير(3/146)
حسام الدين لؤلؤ الحاجب في أيام ... «1» .
حمام الصنيمة: هذه الحمّام كانت بالقرب من خزانة البنود، على يسرة من سلك في رحبة باب العيد إلى قصر الشوك، وقد خربت، وعمل في موضعها مبيضة للغزل، بالقرب من الجمالية.
حمام تتر: هذه الحمام كانت بخط دار الوزارة الكبرى، وقد خربت وصار مكانها دارا عرفت بالأمير الشيخ علي، وهي الدار المجاورة للمدرسة النابلسية في الزّقاق المقابل للخانقاه الصلاحية سعيد السعداء.
وتتر هذا: بتاءين مفتوحتين كل منهما منقوط بنقطتين من فوق، أحد مماليك أسد الدين شير كوه، عمّ السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، استولى على هذه الحمّام وكانت معدّة لدار الوزارة في مدّة الدولة الفاطمية، فعرفت به وما حولها، وإلى الآن يعرف ذلك الخط بخط خرائب تتر، والعامّة تقول خرائب التتر بالتعريف، وهو خطأ.
حمام كرجي: هذه الحمّام كانت بخط خرائب تتر أيضا في جوار المدرسة النابلسية، تجاه باب الخانقاه الصلاحية، عرفت بالأمير علم الدين كرجي الأسديّ، أحد الأمراء الأسدية في أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وقد خربت هذه الحمّام وبني في مكانها هذا البناء الذي تجاه باب الخانقاه بأوّل الزّقاق.
حمام كتيلة: هذه الحمّام كانت داخل باب الخوخة برأس سويقة الصاحب، عرفت أخيرا بالأمير صارم الدين ساروج شادّ الدواوين، ثم خربت في أيام ... «2» ومكانها الآن مسمط يذبح فيه الغنم وتسمط.
حمّام ابن أبي الدم: هذه الحمام كانت فيما بين سويقة المسعودي وباب الخوجة، أنشأها ابن أبي الدم اليهودي، أحد كتاب الإنشاء في أيام الخليفة الحاكم، وتولى ابن خيران الديوان ونقل عنه أنه وسع بين السطور في كتاب كتبه إلى الخليفة «3» وهذه مكاتبة الأعلى إلى الأدنى، فلما حضر وأنكر عليه، ألحق بين السطر والسطر سطرا مناسبا للفظ والمعنى، من غير أن يظهر ذلك، فعفا عنه. وقد خربت وصار مكانها دربا فيه دور يعرف بسكن القاضي بدر الدين حسن البردينيّ، أحد خلفاء الحاكم العزيزي الشافعيّ، وأدركت بعض آثار هذه الحمام.
حمام الحصينية: هذه الحمام كانت في سويقة الصاحب من داخل درب الحصينية(3/147)
الذي يعرف اليوم بدرب ابن عرب وقد خربت.
حمام الذهب: هذه الحمّام كانت بدار الذهب، أحد مناظر الخلفاء الفاطميين التي ذكرت في المناظر من هذا الكتاب، وقد خربت هذه الحمّام ولم يبق لها أثر.
حمام ابن قرقة: هذه الحمّام كانت بخط سويقة المسعودي من حارة زويلة، أنشأها أبو سعيد بن قرقة الحكيم، متولي الاستعمالات بدار الديباج وخزائن السلاح في الدولة الفاطمية، بجوار داره التي تقدّمت في الدور من هذا الكتاب، ثم عرفت هذه الحمّام في الدولة الأيوبية بالأمير صارم الدين المسعودي وإلى القاهرة، المنسوب إليه سويقة المسعودي المذكورة في الأسواق من هذا الكتاب، ثم خربت هذه الحمّام وعمل في موضعها فندق عرف أخيرا بفندق عمار الحمّامي، بجوار جامع ابن المغربي من جانبه الغربيّ، وأخذت بئر هذه الحمّام، فعملت للحمام التي تعرف اليوم بحمّام السلطان.
حمّام السلطان: هذه الحمّام يتوصل إليها الآن من سويقة المسعودي، ومن قنطرة الموسكي، وهي من الحمّامات القديمة عرفت في الدولة الفاطمية بحمّام الأوحد، ثم عرفت في الدولة الأيوبية بحمّام ابن يحيى، وهو القاضي المفضل هبة الله بن يحيى العدل، ثم عرفت بحمّام الطيبرسي، ثم هي الآن تعرف بحمّام السلطان.
حمّام خوند: هذه الحمّام بجوار رحبة خوند، المذكورة في الرحاب من هذا الكتاب، وكانت برسم الدار التي تعرف الآن بدار خوندارد تكين، ثم أفردت وصارت إلى الآن حمّاما يدخله عامة الرجال في أوائل النهاء، ثم تعقبهم النساء من بعد، إلى أن هدمها الأمير صلاح الدين محمد استادار السلطان ابن الأمير الوزير الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله في شهر رجب سنة أربع وعشرين وثمانمائة، وعمل موضعها من جملة داره التي هناك.
حمّام ابن عبود: هذه الحمّام موضعها فيما بين اصطبل الجميزة المذكورة في اصطبلات الخلفاء من هذا الكتاب، وبين رأس حارة زويلة، وهي من الحمامات القديمة، عرفت بحمّام الفلك، وهو القاضي فلك الملك العادل، ثم عرفت بالأمير عليّ بن أبي الفوارس، ثم عرفت بابن عبود، وهو الشيخ نجم الدين أبو عليّ الحسين بن محمد بن إسماعيل بن عبود القرشيّ الصوفيّ، مات في يوم الجمعة ثالث عشرى شوال سنة اثنين وعشرين وسبعمائة بعد ما عظم قدره ونفذ في أرباب الدولة نهيه وأمره، وهو صاحب الزاوية المعروفة بزاوية ابن عبود بلحف الحبل، قريبا من الدينوريّ من القرافة، فانظرها في الزوايا من هذا الكتاب، ولم تزل هذه الحمام جارية في أوقاف التربة المذكورة إلى أن تسلّط الأمير جمال الدين على أموال أهل مصر، فاغتصب ابن أخته الأمير شهاب الدين أحمد المعروف بسيدي أحمد ابن أخت جمال الدين هذه الحمام، واغتصب دار ابن فضل الله التي تجاه هذه الحمام، واغتصب آدرا أخر بجوارها، وعمر هناك دارا عظيمة كما قد ذكر في الدور من هذا الكتاب.(3/148)
حمّام الصاحب: هذه الحمام بسويقة الصاحب، عرفت بالصاحب الوزير صفيّ الدين عبد الله بن شكر الدمري صاحب المدرسة الصاحبية التي بسويقة الصاحب، ثم تعطلت مدّة سنين، فلما ولي الأمير تاج الدين الشوبكي ولاية القاهرة في أيام الملك المؤيد شيخ، جدّدها وأدار بها الماء في سنة سبع عشرة وثمانمائة.
حمّام السلطان: هذه الحمّام كان موضعها قديما من جملة دار الديباج، وهي الآن بخط بين العواميد من البندقانيين بجوار خوخة سوق الجوار، ومدرسة سيف الإسلام، أنشأها الأمير فخر الدين عثمان ابن قزل استادار السلطان الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، وتنقلت إلى أن صارت في أوقاف الملك الناصر محمد بن قلاوون.
حمّاما طغريك: هاتان الحمامان بجوار فندق فخر الدين بالقرب من سويقة حارة الوزيرية، أنشأهما الأمير حسام الدين طغريك المهرانيّ، أحد الأمراء الأيوبية.
حمام السوباشي: هذه الحمّام كانت بدرب طلائع بخط الخروقيين الذي يعرف اليوم بسوق الفرّايين، عرفت بالأمير الفارس همام الدين أبو سعيد برغش السوباشي، واسمه عمرو بن كحت بن شيرك العزيزي والي القاهرة.
حمام عجينة: هذه الحمام كانت بخط الأكفانيين، انشأها الأمير فخر الدين أخو الأمير عز الدين موسك في الدولة الأيوبية، وتنقلت حتى صارت بيد أولاد الملك الظاهر بيبرس البندقداريّ، مما أوقف عليهم، وعرفت أخيرا بحمام عجينة، ثم خربت بعد سنة أربعين وسبعمائة، وموضعها الآن خربة بجوار الفندق الكبير المعدّ لديوان المواريث.
حمّام دري: هذه الحمّام كانت بخط الأكفانيين الآن، عرفت بشهاب الدولة دري الصغير غلام المظفر ابن أمير الجيوش. قال الشريف محمد بن أسعد الجواني في كتاب النقط لمعجم ما أشكل من الخطط. شهاب الدولة دري المعروف بالصغير المظفري غلام المظفر أمير الجيوش، كان أرمنيا وأسلم، وكان من المشددين في مذهب الإمامية، وقرأ الجمل في النحو للزجاجيّ، وكتاب اللمع لابن جني، وكانت له خرائط من القطن الأبيض في يديه ورجليه، وكان يتولى خزائن الكسوة، ولا يدخل على بسط السلطان ولا بسط الخليفة الحافظ لدين الله، ولا يدخل مجلسه إلا بتلك الخرائط في رجليه، ولا يأخذ من أحد شيئا إلّا وفي يديه خريطة، يظنّ أنّ كل من لمسه نجّسه، وسوسة منه، فإذا اتفق أنه صافح أحد المومس رقعة بيده من غير خريطة، لا يمس ثوبه بها أبدا حتى يغسلها، فإن لمس ثوبه بها غسل الثوب، وكان الاستاذون المحنكون يرمون له في بساط الخليفة الحافظ العنب، فإذا مشى عليه وانفجر ووصل ماؤه إلى رجليه سبهم وحرد، فيعجب الخليفة من ذلك ويضحك ولا يؤاخذه بما صدر منه، ومات بعد سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، وقد خربت(3/149)
هذه الحمام ولم يبق لها أثر يعرف.
حمّام الرصاصي: هذه الحمّام كانت بحارة الديلم، أنشأها الأمير سيف الدين حسن بن أبي الهيجاء المروانيّ، حامل السيف المنصور، وأوقفها هي وجميع الآدر المجاورة لها على أولاده وذريته، فلما زالت الدولة الفاطمية عرفت بالأمير عز الدين أيبك الرصاصي، ولم تزل باقية إلى بعد سنة أربعين وسبعمائة، ثم خربت.
حمام الجيوشي: هذه الحمام كانت بحارة برجوان، على يمنة من دخل من رأي الحارة، وكانت من حقوق دار المظفر المظفر ابن أمير الجيوش، ثم صارت بعد زوال الدولة الفاطمية من جملة ما أوقفه الملك العادل أبو بكر ابن أيوب على رباطه الذي كان بخط النخالين من فسطاط مصر، ثم وضع بنو الكويك أصهار قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة أيديهم عليها في جملة ما وضعوا أيديهم عليه من الأوقاف بحارة ابن جماعة، وانتفعوا بريعها مدّة سنين، ثم خربوها بعد سنة أربعين وسبعمائة، وموضعها الآن بجوار دار قاضي القضاة شمس الدين محمد الطرابلسي، وبعضها داخل في الدار المذكورة، وبئرها بجوار القبو الذي يسلك من تحته إلى حمّام الرومي داخل حارة برجوان، ويعلو هذا العقد حاصل الماء الذي للحمام، ويمرّ على مجراه من حجرة مركّبة على جدار بجوار القبر إلى الحمام المذكورة، وآثار هذا الجدار باقية إلى اليوم، وكان قد استأجر هذه البئر والقبور بعد تعطل الحمّام القاضي أبو الفداء تاج الدين إسماعيل بن أحمد بن الخطباء المخزوميّ، من مباشري أوقاف رباط العادل، وبني على البئر وبجوارها دارا سكنها مدّة أعوام، وأنشأ بابا على حاصل الماء المركب على القبور مشرفا عاليا، تأنّق في ترخيمه ودهانه وكتب بدائره:
مشترف كم شبهوه الأدبا ... لحسنه إذ جاء شيئا عجبا
فقال قوم قلعة مبنية ... وآخرون شبهوه مرقبا
وشاعر أعجبه ترخيمه ... فقال تلك روضة فوق الربا
وقائل ماذا ترى تشبيهه ... فقلت هذا منبر ابن الخطبا
ثم خربت هذه الدار بعد موت ابن الخطباء واحترقت في سنة تسع وثمانمائة، وآثارها باقية وما زال ابن الخطباء يدفع حكر هذه البئر وهذا القبو لجهة الرباط العادلي حتى خرب، وعفى أثره وجهل مكانه، وقد رأيته في سنة أربع وتسعين وسبعمائة عامرا.
حمّام الرومي: هذه الحمّام بجوار حارة برجوان، عرفت بالأمير سنقر الرومي الصالحيّ أحد الأمراء في أيام الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ، أنشأها بجوار اسطبله الذي يعرف اليوم باسطبل ابن الكويك، وذلك تجاه رحبة داره التي عرفت بدار مازان، ووقف هذه الدار والإسطبل والحمّام المذكورة في سنة اثنين وستين وستمائة، فأما الدار فإنها صارت أخيرا بيد رجل من عامة الناس يعرف بعيسى البناء، فباعها انقاضا بعد ما(3/150)
خرّبها في سنة سبع وثمانمائة لرجل من المباشرين، فهدمها ليعمرها عمارة جليلة، فلم يمهل وعاجله القضاء فمات، وصارت خربة فابتاعها بعض الناس من ورثة المذكور وشرع في عمارة شيء منها، وأما الإصطبل والحمّام فوضع بنو الكويك أيديهم عليهما مدّة أعوام، حتى صارا ملكا لهم يورثان، وهما الآن بيد شرف الدين محمد بن محمد بن الكويك، وقد جعل ما يخصه من الحمّام وقفا على نفسه، ثم على اناس من بعده، وفي هذه الحمام حصة أيضا وقفها شيخنا برهان الدين إبراهيم الشامي الضرير على أمته وهي بيدها.
سنقر الرومي: الصالحيّ النجميّ، أحد مماليك الملك الصالح نجم الدين أيوب البحرية، ترقى عنده في الخدم حتى صار جامدار، وكان من خوشداشية بيبرس البندقداريّ وأصدقائه، فلما قتل الفارس أقطاي في أيام الملك المعز أيبك التركماني، وخرج البحرية من القاهرة إلى بلاد الشام، كان سنقر ممن خرج ورافق بيبرس وارتفق بصحبته، ونال منه مالا وثيابا وغير ذلك، وتنقل معهم في الكرك إلى أن كان من أمره في الصيد مع صاحب الكرك، فطلب سنقر من بيبرس شيئا فلم يجبه وامتنع من إعطائه، فحنق وفارقه إلى مصر فأقام بها، ثم أن بيبرس قدم إلى مصر بعد ذلك وقد صار أميرا فلم يعبأ سنقر به ولا قدّم إليه شيئا كعادة الخواشداشية، فلما صار الأمر إلى بيبرس، وملك بعد قطز، قدّم سنقر وأعطاه الإقطاعات الجليلة، ونوّه بقدره، فلم يرض، فصار إذا ورد عليه الإنعام السلطانيّ لا يأخذه بقبول، ويخلو كل وقت بجماعة بعد جماعة ويفرّق فيهم المال، فيبلغ ذلك السلطان ويغضي عنه، وربما بعث إليه وحذره مع الأمير قلاوون وغيره فلم ينته، ثم أنه قتل مملوكين من مماليكه بغير ذنب، فعزّ قتلهما على السلطان فطلبه في رابع عشرى ذي الحجة سنة ثلاث وستين وستمائة واعتقله، فقال أريد أعرف ذنبي، فبعث إليه السلطان يعدّ ذنوبه. فتحسر وقال: أوّاه لو كنت حاضرا قتل الملك المظفر قطز، حتى أعاند في الذي جرى، وكان كثيرا ما يقول ذلك، وبلغ هذا القول هذه السلطان في حال أمرته فقال: أنت أخي، وتتحسر كونك ما قدرت أن تعين عليّ.
حمّاما سويد: هاتان الحمامان بآخر سويقة أمير الجيوس، عرفتا بالأمير عز الدين معالي بن سويد، وقد خربت إحداهما، ويقال أنها غارت في الأرض وهلك فيها جماعة، وبقيت الأخرى وهي الآن بيد الخليفة أبي الفضل العباسيّ بن محمد المتوكل.
حمام طغلق: هذه الحمام بجوار درب المنصوري من خط حارة الصالحية، صارت أخيرا بيد ورثة الأمير قطلوبغا المنصوريّ حاجب الحجاب في أيام الملك الأشرف شعبان بن حسين، وكانت معدّة لدخول الرجال، ثم تعطلت بعد سنة تسعين وسبعمائة، وأخذ حاصلها، وعهدي بها بعد سنة ثمانمائة أطلالا واهية.
حمّام ابن علكان: هذه الحمّام كانت بحارة الجودرية، أنشأها الأمير شجاع الدين(3/151)
عثمان بن علكان، صهر الأمير الكبير فخر الدين عثمان بن قزل، ثم انتقلت إلى الأمير علم الدين سنجر الصيرفيّ الصالحيّ النجميّ، وما زالت إلى أن خربت بعد سنة أربعين وسبعمائة، فعمر مكانها الأمير ازدمر الكاشف إسطبلا بعد سنة خمسين وسبعمائة.
حمّام الصاحب: هذه الحمام بخط طواحين الملحيين.
حمّام كتبغا الأسدي: هذه الحمام موضعها الآن المدرسة الناصرية بخط بين القصرين.
حمّام ألتطمش خان: هذه الحمّام كانت بجوار ميضاة الملك ركن الدين الظاهر بيبرس، المجاورة للمدرسة الظاهرية بخط بين القصرين، أنشأتها الخاتون التطمش خان زوجة الملك الظاهر ركن الدين بيبرس، ثم خربت وصار موضعها زقاقا، فلما ولي كمال الدين عمر بن العديم قضاء القضاة الحنفية بالديار المصرية، في سلطنة الملك الناصر فرج، شرع في عمارة هذا الزقاق، فمات ولم يكمله، فوضع الأمير جمال الدين يده في العمارة وأنشأها فندقا جعله وقفا فيما وقف على مدرسته التي أنشأها برحبة باب العيد، فلما قتله الملك الناصر فرج واستولى على جميع ما تركه، جعل هذا الفندق من جملة ما أرصده للتربة التي أنشأها على قبر أبيه الملك الظاهر برقوق خارج باب النصر.
حمّام القاضي: هذه الحمام من جملة خط درب الأسواني، وهي من الحمامات القديمة، كانت تعرف بإنشاء شهاب الدولة بدر الخاص، أحد رجال الدولة الفاطمية، ثم انتقلت إلى ملك القاضي السعيد أبي المعالي هبة الله بن فارس، وصارت بعده إلى ملك القاضي كمال الدين أبي حامد محمد ابن قاضي القضاة صدر الدين عبد الملك بن درباس الماراني، فعرفت بحمّام القاضي إلى اليوم، ثم باع ورثة أبي حامد منها حصة للأمير عز الدين أيدمر الحليّ نائب السلطنة في أيام الملك الظاهر ركن الدين بيبرس، وصارت منها حصة إلى الأمير علاء الدين طيبرس الخازنداري، فجعلها وقفا على مدرسته المجاورة للجامع الأزهر.
حمّام الخرّاطين: هذه الحمّام أنشأها الأمير نور الدين أبو الحسن عليّ بن نجا بن راجح بن طلائع، فعرفت بحمام ابن طلائع وكان بجوارها، ثم حمّام أخرى تعرف بحمّام السوباشي فخربت، ومستوقد حمام ابن طلائع هذه إلى الآن من درب ابن طلائع، الشارع بسوق الفرّايين الآن، ولها منه أيضا باب، وصارت أخيرا في وقف الأمير علم الدين سنجر السروري المعروف بالخياط والي القاهرة، وتوفي في سنة ثمان وتسعين وستمائة، فاغتصبها الأمير جمال الدين يوسف الأستادار في جملة ما اغتصب من الأوقاف والأملاك وغيرها، وجعلها وقفا على مدرسته برحبة باب العيد وهي الآن موقوفة عليها.(3/152)
حمّام الخشيبة: هذه الحمام بجوار درب السلسلة، كانت تعرف بحمام قوّام الدولة خير، ثم صارت حماما لدار الوزير المأمون ابن البطائحي، فلما قتل الخليفة الآمر بأحكام الله وعملت خشيبة تمنع الراكب أن يمرّ من تجاه المشهد الذي بني هناك، عرفت هذه الحمّام بخشيبة، تصغير خشبة، وقد تقدّم ذلك مسبوطا عند ذكر الأخطاط من هذه الكتاب.
قال ابن عبد الظاهر: مدرسة السيوفيين وقفها الأمير عز الدين فرج شاه على الحنفية، وكانت هذه الدار قديما تعرف بدار المأمون بن البطائحي، وحمام الخشيبة كانت لها، فبيعت، وهذه الحمّام هي الآن في أوقاف خوند طغاي أم أنوك ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون على تربتها التي في الصحراء خارج باب البرقية.
حمام الكويك: هذه الحمّام فيما بين حارة زويلة ودرس شمس الدولة، أنشأها الوزير عباس أحد وزراء الدولة الفاطمية، لداره التي موضعها الآن درب شمس الدولة، ثم جدّدها شخص من التجار يعرف بنور الدين عليّ بن محمد بن أحمد بن محمود بن الكويك الربعي التكريتي، في سنة تسع وأربعين وسبعمائة، فعرفت به إلى اليوم.
حمّام الجويني: هذه الحمّام بجوار حمام ابن الكويك، فيما بينها وبين البندقانيين، عرفت بالأمير عز الدين إبراهيم بن محمد بن الجويني والي القاهرة في أيام الملك العادل أبي بكر بن أيوب، توفي سلخ جمادى الأولى سنة إحدى وستمائة، فإنه أنشأها بجوار داره، والعامّة تقول حمام الجهينيّ بهاء، وهو خطأ، وتنقلت إلى أن اشتراها القاضي أوحد الدين عبد الواحد بن ياسين كاتب السرّ الشريف في أيام الملك الظاهر برقوق بطريق الوكالة عن الملك الظاهر، وجعلها وقفا على مدرسته العظمى بخط بين القصرين، وهي الآن في جملة الموقوف عليها.
حمام القفاصين: هذه الحمام بالقرب من رأس حارة الديلم، أنشأها نجم الدين يوسف ابن المجاور وزير الملك العزيز عثمان بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب.
حمّام الصغيرة: هذه الحمّام علي يمنة من سلك من رأس حارة بهاء الدين، وهي تجاه دار قراسنقر، أنشأها الأمير فخر الدين بن رسول التركمانيّ. ورسول هذا جدّ ملوك اليمن الآن، وقد تعطلت هذه الحمام منذ كانت الحوادث بعد سنة ست وثمانمائة.
حمّام الأعسر: هذه الحمّام موضعها من جملة دار الوزارة، وهي الآن بجوار باب الجوانية، أنشأها الأمير شمس الدين سنقر المعزي الظاهري المنصوري.
سنقر الأعسر: كان أحد مماليك الأمير عز الدين أيدمر الظاهري نائب الشام، وجعله دواداره، فباشر الدوادارية لأستاذه بدمشق ونفسه تكبر عنها، فلما عزل أيدمر من نيابة الشام في أيام الملك المنصور قلاوون وحضر إلى قلعة الجبل، اختار السلطان عدّة من مماليكه(3/153)
منهم سنقر الأعسر هذا، فاشتراه وولّاه نيابة الاستادارية، ثم سيره في سنة ثلاث وثمانين وستمائة إلى دمشق، وأعطاه أمرة وولاه شدّ الدواوين بها، واستادارا، فصارت له بالشام سمعة زائدة إلى أن مات قلاوون، وقام من بعده الأشرف خليل، واستوزر الوزير شمس الدين السلعوس، طلب سنقر إلى القاهرة وعاقبه وصادره، فتوصل حتى تزوّج بابنة الوزير على صداق مبلغه ألف وخمسمائة دينار، فأعاده إلى حالته ولم يزل إلى أن تسلطن الملك العادل كتبغا واستوزر الصاحب فخر الدين بن خليل، وقبض على سنقر وعلى سيف الدين استدمر وصادرهما، وأخذ من سنقر خمسمائة ألف درهم، وعزله عن شدّ الدواوين، وأحضره إلى القاهرة. فلما وثب الأمير حسام الدين لاجين على كتبغا وتسلطن، ولي سنقر الوزارة عوضا عن ابن خليل في جمادى الأولى سنة ست وتسعين وسبعمائة، ثم قبض عليه في ذي الحجة منها، وذلك أنه تعاظم في وزارته وقام بحق المنصب، يريد أن يتشبه بالشجاعى، وصار لا يقبل شفاعة أحد من الأمراء، ويخرق بنوابهم، وكان في نفسه متعاظما وعنده شمم إلى الغاية مع سكون في كلامه، بحيث أنه إذا فاوض السلطان في مهمات الدولة كما هي عادة الوزراء لا يجيب السلطان بجواب شاف، وصار يتبين منه للسلطان قلة الاكتراث به، فأخذ في ذمه وعيبه بما عنده من الكبر، وصادفه الغرض من الأمراء وشرعوا في الحط عليه حتى صرف وقيد، فأرسل يسأل السلطان عن الذنب الذي أوجب هذه العقوبة، فقال: ماله عندي ذنب غير كبره، فإني كنت إذا دخل إليّ أحسب أنه هو السلطان وأنا الأعسر، فصدره منقام وحديثي معه كأني أحدّث أستاذي، وقرّر من بعده في الوزارة ابن الخليلي، فلما قتل لاجين وأعيد الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى الملك ثانيا أفرج عن سنقر الأعسر وعن جماعة من الأمراء، وأعاد الأعسر إلى الوزارة في جمادى الأولى سنة ثمان وتسعين وسبعمائة، وفي وزارته هذه كانت هزيمة الملك الناصر بعساكره من غازان، فتولى ناصر الدين الشيخي والي القاهرة جباية الأموال من التجار وأرباب الأموال، لأجل النفقة على العساكر، وقرّر في وزارته على كل أردب غلة خروبة إذا طلع إلى الطحان، وقرّر أيضا نصف الشمسرة، ومعناها أنه كان للمنادي على الثياب أجرة دلالته على كل ما مبلغه مائة درهم، درهمين، فيؤخذ منه درهم منهما ويفضل له درهم، واستخدم على هاتين الجهتين نحو مائتين من الأجناد البطالين، وتحصل في بيت المال من أموال المصادرات مبلغ عظيم، ثم خرج الوزير بمائة من مماليك السلطان وتوجه إلى بلاد الصعيد وقد وقعت له في النفوس مهابة عظيمة، فكبس البلاد وأتلف كثيرا من المفسدين من أجل أنه لما حصلت وقعة غازان كثر طمع العربان في المغل، ومنعوا كثيرا من الخراج، وعصوا الولاة وقطعوا الطريق، وما زال يسير إلى الأعمال القوصية، فلم يدع فرسا لفلاح، ولا قاض، ولا متعمم، حتى أخذه، وتتبع السلاح، ثم حضر بألف وستين فرسا، وثمانمائة وسبعين جملا، وألف وستمائة رمح، وألف ومائتي سيف، وتسعمائة درقة، وستة آلاف رأس غنم، وقتل عدّة من(3/154)
الناس، فتمهدت البلاد وقبض الناس مغلهم بتمامه، واتفقت واقعة النصارى التي ذكرت عند ذكر كنائس النصارى من هذا الكتاب في أيامه، فأمر بالتاج ابن سعيد الدولة أحد مستوفي الدولة، وكان فيه زهو وحمق عظيم، وله اختصاص بالأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكيري، فعرّي وضرب بالمقارع ضربا مبرحا، فأظهر الإسلام وهو في العقوبة، فأمسك عنه. وألزمه بحمل مال، فالتجأ إلى زاوية الشيخ نصر المنيحي وترامى على الشيخ فقام في أمره حتى عفي عنه، فكره الأمراء الأعسر لكثرة شممه وتعاظمه، فكلّموا الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكيري، وإليه أمر الدولة في ولاية الأمير عز الدين أيبك البغداديّ الوزارة، وساعدهم على ذلك الأمير سلار، فولي الأعسر كشف القلاع الشامية، وإصلاح أمورها، وترتيب رجالها، وسائر ما يحتاج إليه. وخلع على الأمير أيبك خلع الوزارة في آخر سنة سبعمائة، فلما عاد استقرّ أحد أمراء الألوف، وحج في صحبة الأمير سلار ومات بالقاهرة بعد أمراض، في سنة تسع وسبعمائة، وكان عارفا خيّرا مهابا، له سعادات طائلة، ومكارم مشهورة، ولحاشيته ثروة متسعة، وغالب مماليكه تأمرّوا بعده، وممن مدحه الوداعيّ وابن الوكيل.
حمّام الحسام: هذه الحمّام بداخل باب الجوانية.
حمّام الصوفية: هذه الحمّام بجوار الخانقاه الصلاحية سعيد السعداء، أنشأها السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب لصوفية الخانقاه، وهي إلى الآن جارية في أوقافهم ولا يدخلها يهوديّ ولا نصراني.
حمّام بهادر: هذه الحمّام موضعها من حملة القصر، وهي بجوار دار جرجي، أنشأها الأمير بهادر استادار الملك الظاهر برقوق، وقد تعطلت.
حماد الدود: هذه الحمّام خارج باب زويلة في الشارع تجاه زقاق خان حلب، بجوار حوض سعد الدين مسعود بن هنس، عرفت بالأمير سيف الدين الدود الجاشنكيريّ، أحد أمراء الملك المعز أيبك التركمانيّ، وخال ولده الملك المنصور نور الدين عليّ بن الملك المعز أيبك، فلما وثب الأمير سيف الدين قطز نائب السلطنة بديار مصر على الملك المنصور عليّ بن الملك المعز أيبك واعتقله وجلس على سرير المملكة قبض على الأمير الدود في ذي الحجة سنة سبع وخمسين وستمائة واعتقله، وهذه الحمّام إلى اليوم بيد ذرية الدود من قبل بناته موقوفة عليهم.
حمام ابن أبي الحوافر: هذه الحمّام خارج مدينة مصر بجوار الجامع الجديد الناصريّ، كان موضعها وما حولها عامرا بماء النيل، ثم انحصر عنه الماء وصار جزيرة، فبنى الناس عليها بعد الخمسمائة من سني الهجرة، كما ذكر عند ذكر ساحل مصر من هذا الكتاب، وعرفت هذه الحمّام بالقاضي فتح الدين أبي العباس أحمد بن الشيخ جمال الدين(3/155)
أبي عمرو وعثمان بن هبة الله بن أحمد بن عقيل بن محمد بن أبي الحوافر رئيس الأطباء بديار مصر، ومات ليلة الخميس الرابع عشر من شهر رمضان سنة سبع وخمسين وستمائة ودفن بالقرافة.
حمّام قتّال السبع: هذه الحمّام خارج باب القوس من ظاهر القاهرة في الشارع المسلوك فيه من باب زويلة إلى صليبة جامع ابن طولون، وموضعها اليوم بجوار جامع قوصون، عمّرها الأمير جمال الدين أقوش المنصوريّ، المعروف بقتّال السبع الموصلي، بجانب داره التي هي اليوم جامع قوصون، فلما أخذ قوصون الدار المذكورة وهدمها وعمر مكانها هذا الجامع، أراد أخذ الحمّام، وكانت وقفا، فبعث إلى قاضي القضاة شرف الدين الحنبليّ الحرّانيّ يلتمس منه حل وقفها، فأخرب منها جانبا وأحضر شهود القيمة فكتبوا محضرا يتضمن أنّ الحمام المذكورة خراب، وكان فيهم شاهد امتنع من الكتابة في المحضر وقال: ما يسعني من الله أن أدخل بكرة النهار في هذا الحمام وأطهّر فيها، ثم أخرج منها وهي عامرة وأشهد بعد ضحوة نهار من ذلك اليوم أنها خراب، فشهد غيره، وأثبت قاضي القضاة الحنبليّ المحضر المذكور وحكم ببيعها، فاشتراها الأمير قوصون من ورثة قتال السبع، وهي اليوم عامرة بعمارة ما حولها.
حمّام لؤلؤ: هذه الحمام برأس رحبة الأيدمريّ، ملاصقة لدار السنانيّ من القاهرة، أنشأها الأمير حسام الدين لؤلؤ الحاجب.
لؤلؤ الحاجب: كان أرمنيّ الأصل، ومن جملة أجناد مصر في أيام الخلفاء الفاطميين، فلما استولى صلاح الدين يوسف بن أيوب على مملكة مصر، خدم تقدمة الأسطول، وكان حيثما توجه فتح وانتصر وغنم، ثم ترك الجندية وزوّج بناته وكنّ أربعا بجهاز كاف، وأعطى ابنيه ما يكفيهما، ثم شرع يتصدّق بما بقي معه على الفقراء بترتيب لا خلل فيه، ودواما لا سآمة معه، وكان يفرّق في كل يوم اثني عشر ألف رغيف مع قدور الطعام، وإذا دخل شهر رمضان أضعف ذلك، وتبتل للتفرقة من الظهر في كل يوم إلى نحو صلاة العشاء الآخرة، ويضع ثلاثة مراكب طول كل مركب أحد وعشرون ذراعا مملوءة طعاما، ويدخل الفقراء أفواجا وهو قائم مشدود الوسط كأنه راعي غنم، وفي يده مغرفة وفي الأخرى جرّة سمن، وهو يصلح صفوف الفقراء ويقرّب إليهم الطعام والودك، ويبدأ بالرجال ثم النساء ثم الصبيان، وكان الفقراء مع كثرتهم لا يزدحمون، لعلمهم أنّ المعروف يعمهم، فإذا انتهت حاجة الفقراء بسط سماطا للأغنياء تعجز الملوك عن مثله، وكان له مع ذلك على الإسلام منة توجب أن يترحم عليه المسلمون كلهم، وهي أنّ فرنج الشوبك والكرك توجهوا نحو مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم لينبشوا قبره صلى الله عليه وسلم، وينقلوه جسده الشريف المقدّس إلى بلادهم ويدفنوه عندهم، ولا يمكنوا المسلمين من زيارته إلّا بجعل، فأنشأ البرنس أرباط صاحب الكرك سفنا(3/156)
حملها على البرّ إلى بحر القلزم، وأركب فيها الرجال، وأوقف مركبين على جزيرة قلعة القلزم تمنع أهلها من استقاء الماء، فاسرت الفرنج نحو عيذاب «1» فقتلوا وأسروا ومضوا يريدون المدينة النبوية، على ساكنها أفضل الصلاة والتسليم، وذلك في سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، وكان السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب على حران، فلما بلغه ذلك بعث إلى سيف الدولة ابن منقذ نائبه على مصر يأمره بتجهيز الحاجب لؤلؤ خلف العدوّ، فاستعدّ لذلك وأخذ معه قيودا وسار في طلبهم إلى القلزم، وعمّر هناك مراكب وسار إلى أيلة، فوجد مراكب للفرنج فحرقها وأسر من فيها، وسار إلى عيذاب وتبع الفرنج حتى أدركهم، ولم يبق بينهم وبين المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والتسليم إلا مسافة يوم، وكانوا ثلاثمائة ونيفا، وقد انضم إليهم عدّة من العربان المرتدّة، فعندما لحقهم لؤلؤ فرّت العربان فرقا من سطوته ورغبة في عطيته، فإنه كان قد بذل الأموال حتى أنه علّق أكياس الفضة على رؤس الرماح، فلما فرّت العربان التجأ الفرنج إلى رأس جبل صعب المرتقى، فصعد إليهم في عشرة أنفس وضايقهم فيه، فخارت قواهم بعد ما كانوا معدودين من الشجعان واستسلموا، فقبض عليهم وقيّدهم وحملهم إلى القاهرة، فكان لدخولهم يوم مشهود، وتولى قتلهم الصوفية والفقهاء وأرباب الديانة بعد ما ساق رجلين من أعيان الفرنج إلى منى ونحرهما هناك كما تنحر البدن التي تساق هديا إلى الكعبة، ولم يزل على فعل المعروف إلى أن مات رحمه الله في صميم الفلا، وقد قرب منتهاه في اليوم التاسع من جمادى الآخرة سنة ست وتسعين وخمسمائة، ودفن بتربته من القرافة، وهي التي حفر فيها البئر ووجد في قعرها عند الماء اسطام مركب، وهذه الحمّام تفتح تارة وتغلق كثيرا، وهي باقية إلى يومنا هذا من جملة أوقاف الملك، والله تعالى أعلم بالصواب.
ذكر القياسر
ذكر ابن المتوّج قياسر مصر وهي: قيسارية المحلى، وقيسارية الضيافة، وقف المارستان المنصوري، وقيسارية شبل الدولة، وقيسارية ابن الأرسوفي، وقيسارية ورثة الملك الظاهر بيبرس، وقيساريتا ابن ميسر، وقد خربت كلها.
قيسارية ابن قريش: هذه القيسارية في صدر سوق الجملون الكبير بجوار باب سوق الورّاقين، ويسلك إليها من الجملون ومن سوق الأخفافيين، المسلوك إليه من البندقانيين، وبعضها الآن سكن الأرمنيين وبعضها سكن البزازين.
قال ابن عبد الظاهر: استجدّها القاضي المرتضى ابن قريش في الأيام الناصرية الصلاحية، وكان مكانها اسطبلا انتهى.(3/157)
وهو القاضي المرتضى صفيّ الدين أبو المجد عبد الرحمن بن عليّ بن عبد العزيز بن علي بن قريش المخزومي، أحد كتاب الإنشاء في أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، قتل شهيدا على عكا في يوم الجمعة عاشر جمادى الأولى سنة ست وثمانين وخمسمائة، ودفن بالقدس، ومولده في سنة أربع وعشرين وخمسمائة، وسمع السلفيّ وغيره.
قيسارية الشرب: هذه القيسارية بشارع القاهرة تجاه قيسارية جهاركس. قال ابن عبد الظاهر: وقفها السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب على الجماعة الصوفية، يعني بخانقاه سعيد السعداء، وكانت إسطبلا. انتهى. وما برحت هذه القيسارية مرعية الجانب إكراما للصوفية إلى أن كانت أيام الملك الناصر فرج، وحدثت الفتن وكثرت مصادرات التجار، انخرق ذاك السياج وعومل سكانها بأنواع من العسف، وهي اليوم من أعمر أسواق القاهرة.
قيسارية ابن أبي أسامة: هذه القيسارية بجوار الجملون الكبير على يسرة من سلك إلى بين القصرين، يسكنها الآن الخرد فوشية، وقفها الشيخ الأجل أبو الحسن عليّ بن أحمد بن الحسن بن أبي أسامة، لصاحب ديوان الإنشاء في أيام الخليفة الآمر بأحكام الله، وكانت له رتبة خطيرة ومنزلة رفيعة، وينعت بالشيخ الأجل كاتب الدست الشريف، ولم يكن أحد شاركه في هذا النعت بديار مصر في زمانه، وكان وقف هذه القيسارية في سنة ثمان عشرة وخمسمائة، وتوفي في شوال سنة اثنين وعشرين وخمسمائة.
قيسارية سنقر الأشقر: هذه القيسارية على يسرة من يدخل من باب زويلة، فيما بين خزانة شمائل ودرب الصغيرة، تجاه قيسارية الفاضل. أنشأها الأمير شمس الدين سنقر الأشقر الصالحيّ النحميّ، أحد المماليك البحرية، ولم تزل إلى أن هدمت وأدخلت في الجامع المؤيدي، لأيام من جمادى الأولى سنة ثمان عشرة وثمانمائة.
قيسارية أمير علي: هذه القيسارية بشارع القاهرة تجاه الجملون الكبير، بجوار قيسارية جهاركس، يفصل بينهما درب قيطون، عرفت بالأمير عليّ بن الملك المنصور قلاون الذي عهد له بالملك، ولقبه بالملك الصالح، ومات في حياة أبيه، كما قد ذكر في فندق الملك الصالح.
قيسارية رسلان: هذه القيسارية فيما بين درب الصغيرة والحجارين، أنشأها الأمير بهاء الدين رسلان الدوادار، وجعلها وقفا على خانقاه له بمنشأة المهرّانيّ، وكانت من أحسن القياسر، فلما عزم الملك المؤيد شيخ على بناء مدرسته هدمها في جمادى الأولى سنة ثمان عشرة وثمانمائة، وعوّض أهل الخانقاه عنها خمسمائة دينار.(3/158)
قيسارية جهاركس: قال ابن عبد الظاهر: بناها الأمير فخر الدين جهاركس في سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، وكانت قبل ذلك يعرف مكانها بفندق الفراخ، ولم تزل في يد ورثته، وانتقل إلى الأمير علم الدين أيتمش منها جزء بالميراث عن زوجته، وإلى بنت شومان من أهل دمشق، ثم اشتريت لوالدة خليل المسماة بشجر الدرّ الصالحية، في سنة خمس وخمسين وستمائة، وهي مع حسنها واتقان بنائها كلها، تجرّد من الغضب جميع ما فيها، وذكر بعض المؤرخين أن صاحبها جهاركس نادى عليها حين فرغت، فبلغت خمسة وتسعين ألف دينار على الشريف فخر الدين إسماعيل بن ثعلب، وقال لصاحبها: أنا انقدك ثمنها، أي نقد شئت، إن شئت ذهبا وإن شئت فضة، وإن شئت عروض تجارة، وقيسارية جهاركس تجرى الآن في وقف الأمير بكتمر الجوكندار نائب السلطنة بعد سلار على ورثته.
وقال القاضي شمس الدين أحمد بن محمد بن خلكان:
جهاركس: بن عبد الله فخر الدين أبو المنصور الناصريّ الصلاحيّ، كان من أكبر أمراء الدولة الصلاحية، وكان كريما نبيل القدر عليّ الهمة، بنى بالقاهرة القيسارية الكبرى المنسوبة إليه، رأيت جماعة من التجار الذين طافوا البلاد يقولون: لم نر في شيء من البلاد مثلها في حسنها وعظمها وأحكام بنائها، وبنى بأعلاها مسجدا كبيرا وربعا معلقا، وتوفي في بعض شهور سنة ثمان وستمائة بدمشق، ودفن في جبل الصالحية وتربته مشهورة هناك، رحمه الله، وجهاركس بفتح الجيم والهاء وبعد الألف راء ثم كاف مفتوحة ثم سين مهملة.
ومعناه بالعربيّ أربعة أنفس، وهو لفظ عجميّ.
وقال الحافظ جمال الدين يوسف بن أحمد بن محمود اليغوريّ: سمعت الأمير الكبير الفاضل شرف الدين أبا الفتح عيسى بن الأمير بدر الدين محمد بن أبي القاسم بن محمد بن أحمد الهكاريّ البحتريّ الطائيّ المقدسيّ بالقاهرة، ومولده سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة بالبيت المقدّس شرّفه الله تعالى، وتوفي بدمشق في ليلة الأحد تاسع عشري ربيع الآخر سنة تسع وستمائة، ودفن بسفح جبل قاسيون، رحمه الله. قال: حدّثني الأمير صارم الدين خطلبا التبنينيّ صاحب الأمير فخر الدين أبي المنصور جهاركس بن عبد الله الناصريّ الصلاحيّ رحمه الله. قال: بلغ الأمير فخر الدين، أن بعض الأجناد عنده فرس قد دفع له فيه ألف دينار ولم يسمح ببيعه، وهو في غاية الحسن، فقال لي الأمير باخطلبا: إذا ركبنا ورأيت في الموكب هذا الفرس نبهني عليه حتى أبصره. فقلت: السمع والطاعة.
فلما ركبنا في الموكب مع الملك العزيز عثمان بن الملك الناصر رحمه الله، رأيت الجنديّ على فرسه، فتقدّمت إلى الأمير فخر الدين وقلت له: هذا الجنديّ، وهذا الفرس راكبه، فنظر إليه وقال: إذا خرجنا من سماط السلطان فانظر أين الفرس وعرّفني به. فلما دخلنا إلى سماط الملك العزيز، عجّل الأمير فخر الدين وخرج قبل الناس، فلما بلغ إلى(3/159)
الباب قال لي أين الفرس؟ قلت: ها هو مع الركاب. دار فقال لي: أدعه. فدعوته إليه، فلما وقف بين يديه والفرس معه، أمره الأمير بأخذ الغاشية، ووضع الأمير رجله في ركابه وركبه ومضى به إلى داره وأخذ الفرس، فلما خرج صاحبه عرفه الركاب دار بما فعله الأمير فخر الدين، فسكت ومضى إلى بيته وبقي أياما ولم يطلب الفرس. فقال لي الأمير فخر الدين: يا خطلبا ما جاء صاحب الفرس ولا طلبه، اطلب لي صاحبه. قال: فاجتمعت به وأخبرته بأنّ الأمير يطلب الاجتماع به، فسارع إلى الحضور. فلما دخل عليه أكرمه الأمير ورفع مكانه وحدّثه وآنسه وبسطه وحضر سماطه فقرّبه وخصصه من طعامه، فلما فرغ من الأكل قال له الأمير: يا فلان، ما بالك ما طلبت فرسك وله عندنا مدّة؟ فقال: يا خوند، وما عسى أن يكون من هذا الفرس وما ركبه الأمير إلّا وهو قد صلح له، وكلما صلح للمولى فهو على العبد حرام، ولقد شرّفني مولانا بأن جعلني أهلا أن يتصرّف في عبده، والمملوك يحسب أن هذا الفرس قد أصابه مرض فمات، وأما الآن فقد وقع في محله، وعند أهله، ومولانا أحق به، وما أسعد المملوك إذا صلح لمولانا عنده شيء. فقال له الأمير: بلغني أنك أعطيت فيه ألف دينار. قال كذلك كان، قال: فلم لم تبعه؟ فقال: يا مولانا هذا الفرس جعلته للجهاد، وأحسن ما جاهد الإنسان على فرس يعرفه ويثق به، وما مقدار هذا الفرس له أسوة.
فاستحسن الأمير همته وشكره، ثم أشار إليّ فتقدّمت إليه فقال لي في أذني: إذا خرج هذا الرجل فاخلع عليه الخلعة الفلانية من أفخر ملبوس الأمير، وأعطه ألف دينار وفرسه، فلما نهض الرجل أخذته إلى الفرش خاناه وخلعت عليه الخلعة ودفعت إليه الكيس وفيه ألف دينار، فخدم وشكر وخرج، فقدّم إليه فرسه وعليه سرج خاص من سروج الأمير، وعدّة في غاية الجودة. فقيل: اركب فرسك. فقال: كيف أركبه وقد أخذت ثمنه، وهذه الخلعة زيادة على ثمنه. ثم رجع إلى الأمير فقبّل الأرض وقال: يا خوند، تشريف مولانا لا يردّ، وهذا ثمن الفرس قد أحضره المملوك. فقال له الأمير فخر الدين: يا هذا نحن جرّبناك فوجدناك رجلا جيدا ولك همة، وأنت أحق بفرسك، خذ هذا ثمنه ولا تبعه لأحد، فخدمه وشكره ودعا له وأخذ الفرس والخلعة والألف دينار وانصرف.
وأخبرني أيضا الأمير شرف الدين ابن أبي القاسم قال: أخبرني صارم الدين التبنيني أيضا: أنّ الأمير فخر الدين خدم عنده بعض الأجناد، فعرض عليه فأعجبه شكله، وقال لديوانه: استخدموا هذا الرجل. فتكلموا معه وقدّروا له في السنة اثني عشر ألف درهم، فرضي الرجل وانتقل إلى حلقة الأمير قوصون وضرب خيمته وأحضر بركه، فلما كان بعض الأيام رجع الأمير من الخدمة فعبر في جنب خيمة هذا الرجل، فرأى خيمة حسنة وخيلا جيادا وجمالا وبغالا وبركا في غاية الجودة. فقال: هذا البرك لمن؟ فقيل هذا برك فلان الذي خدم عند الأمير في هذه الأيام. فقال: قولوا له ما لك عندنا شغل، تمضي في حال سبيلك، فلما قيل للرجل ذلك أمر بأن تحط خيمته وأتى إليّ وقال: يا مولانا، أنا رائح، وها(3/160)
أنا قد حملت بركي، ولكن أشتهي منك أن تسأل الأمير ما ذنبي.
قال: فدخلت إلى الأمير وأخبرته بما قال الرجل. فقال: والله ما له عندي ذنب إلا أنّ هذا البرك وهذه الهمة يستحق بها أضعاف ما أعطي، فأنكرت عليه كيف رضي بهذا القدر اليسير وهو يستحق أن تكون أربعين ألف درهم، وتكون قليلة في حقه، فإذا خدم بثلاثين ألف درهم يكون قد ترك لنا عشرة آلاف درهم، فهذا ذنبه عندي.
فرجعت إلى الرجل فأعلمته بما قال الأمير فقال: إنما خدمت عند الأمير ورضيت بهذا القدر لعلمي أن الأمير إذا عرف حالي فيما بعد لا يقنع لي بهذا الجاري، فكنت على ثقة من إحسان الأمير أبقاه الله، وأما الآن فلا أرضى أن أخدم إلا بثلاثين ألف درهم كما قال الأمير.
فرجعت إلى الأمير وأخبرته بما قال الرجل فقال: يجري له ما طلب، وخلع عليه وأحسن إليه.
وكان الأمير فخر الدين جهاركس مقدّم الناصرية والحاكم بديار مصر في أيام الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى أن مات العزيز، فمال الأمير فخر الدين جهاركس إلى ولاية ابن الملك العزيز، وفاوض في ذلك الأمير سيف الدين يازكوج الأسديّ، وهو يومئذ مقدّم الطائفة الأسدية، وكان الملك العزيز قد أوصى بالملك لولده محمد، وأن يكون الأمير الطواشي بهاء الدين قراقوش الأسديّ مدبر أمره، فأشار يازكوج بإقامة الملك الأفضل عليّ بن صلاح الدين في تدبير أمير ابن العزيز، فكره جهاركس ذلك، ثم أنهم أقاموا ابن العزيز ولقبوه بالملك المنصور وعمره نحو تسع سنين، ونصبوا قراقوش اتابكا، وهم في الباطن يختلفون عليه، وما زالوا يسعون عليه في إبطال أمر قراقوش حتى اتفقوا على مكاتبة الأفضل المتقدّم ذكره، وحضوره إلى مصر ويعمل اتابكية المنصور مدّة سبع سنين حتى يتأهل بالاستبداد بالملك، بشرط أن لا يرفع فوق رأسه سنجق الملك، ولا يذكر اسمه في خطبة، ولا سكة، فلما سار القاصد إلى الأفضل بكتب الأمراء، بعث جهاركس في الباطن قصدا على لسانه ولسان الطائفة الصلاحية بكتبهم إلى الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وكتب إلى الأمير ميمون القصريّ صاحب نابلس يأمره بأن لا يطيع الملك الأفضل، ولا يحلف له، فاتفق خروج الملك الأفضل من صرخد «1» ، ولقاه قاصد فخر الدين جهاركس فأخذ منه الكتب وقال: له ارجع فقد قضيت الحاجة، وسار إلى القاهرة ومعه القاصد، فلما خرج الأمراء من القاهرة إلى لقائه ببلبيس، فعمل له فخر الدين سماطا احتفل فيه احتفالا زائدا لينزل عنده، فنزل عند أخيه الملك المؤيد نجم الدين مسعود، فشق ذلك على جهاركس، وجاء إلى خدمته، فلما فرغ من طعام أخيه صار إلى خيمة جهاركس(3/161)
وقعد ليأكل، فرأى جهاركس قاصده الذي سيره في خدمة الأفضل، فدهش وأيقن بالشر، فللحال استأذن الأفضل أن يتوجه إلى العرب المختلفين بأرض مصر ليصلح بينهم، فأذن له وقام من فوره واجتمع بالأمير زين الدين قراجا، والأمير أسد الدين قراسنقر، وحسّن لهما مفارقة الأفضل، فسارا معه إلى القدس وغلبوا عليه، ووافقهم الأمير عز الدين أسامة، والأمير ميمون القصري، فقدم عليهم في سبعمائة فارس، ولما صاروا كلمة واحدة كتبوا إلى الملك العادل يستدعونه للقيام باتابكية الملك المنصور محمد بن العزيز بمصر.
وأما الأفضل فإنه لما دخل من بلبيس إلى القهرة، قام بتدبير الدولة، وأمر الملك بحيث لم يبق للمنصور معه سوى مجرّد الاسم فقط، وشرع في القبض على الطائفة الصلاحية أصحاب جهاركس، ففرّوا منه إلى جهاركس بالقدس، فقبض على من قدر عليه منهم ونهب أموالهم، فلما زالت دولة الأفضل من مصر بقدوم الملك العادل أبي بكر بن أيوب، استولى فخر الدين جهاركس على بانياس «1» بأمر العادل، ثم انحرف عنه وكانت له أنباء إلى أن مات، فانقضى أمر الطائفة الصلاحية بموته وموت الأمير قارجا وموت الأمير أسامة، كما انقضى أمر غيرهم.
قيسارية الفاضل: هذه القيسارية على يمنة من يدخل من باب زويلة، عرفت بالقاضي الفاضل عبد الرحيم بن عليّ البيسانيّ، وهي الآن في أوقاف المارستان المنصوريّ، أخبرني شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد العزيز العذريّ البشبيشيّ رحمه الله قال: أخبرني القاضي بدر الدين أبو إسحاق إبراهيم بن القاضي صدر الدين أبي البركات أحمد بن فخر الدين أبي الروح عيسى بن عمر بن خالد بن عبد المحسن المعروف بابن الخشاب: أن قيسارية الفاضل وقفت بضع عشرة مرّة، منها مرّتين أو أكثر زف كتاب وقفها بالأغاني في شارع القاهرة، وهي الآن تشتمل على قيسارية ذات بحرة ماء للوضوء بوسطها، وأخرى بجانبها، يباع فيها جهاز النساء وشوارهنّ، ويعلوها ربع فيه عّدة مساكن.
قيسارية بيبرس: هذه القيسارية على رأس باب الجودرية من القاهرة، كان موضعها دارا تعرف بدار الأنماط، اشتراها وما حولها الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكيريّ قبل ولايته السلطنة، وهدمها وعمر موضعها هذه القيسارية والربع فوقها، وتولى عمارة ذلك مجد الدين بن سالم الموقع، فلما كملت طلب سائر تجارة قيسارية جهاركس، وقيسارية الفاضل، وألزمهم بإخلاء حوانيتهم من القيساريتين، وسكناهم بهذه القيسارية، وأكرههم على ذلك وجعل أجرة كل حانوت منها مائة وعشرين درهما نقرة، فلم يسع التجار إلا استئجار حوانيتها، وصار كثير منهم يقوم بأجرة الحانوت الذي ألزم به في هذه القيسارية من غير أن يترك حانوته الذي هو معه بإحدى القيساريتين المذكورتين، ونقل أيضا صناع(3/162)
الأخفاف وأسكنهم في الحوانيت التي خارجها، فعمرت من داخلها وخارجها بالناس في يومين، وجاء إلى مخدومه الأمير بيبرس وكان قد ولي السلطنة وتقلب بالملك المظفر وقال: بسعادة السلطان أسكنت القيسارية في يوم واحد، فنظر إليه طويلا وقال: يا قاضي إن كنت أسكنتها في يوم واحد فهي تخلو في ساعة واحدة. فجاء الأمر كما قال، وذلك أنه لما فرّ بيبرس من قلعة الجبل لم يبت في هذه القيسارية لأحد من سكانها قطعة قماش، بل نقلوا كل ما كان لهم فيها وخلت حوانيتها مدّة طويلة، ثم سكنها صنّاع الأخفاف، كل حانوت بعشرة دراهم، وفي حوانيتها ما أجرته ثمانية دراهم، وهي الآن جارية في أوقاف الخانقاه الركنية بيبرس، ويسكنها صناع الأخفاف، وأكثر حوانيتها غير مسكون لخرابها ولقلة الاخفافيين، ويعرف الخط الذي هي فيه اليوم بالأخفافيين رأس الجودرية.
القيسارية الطويلة: هذه القيسارية في شارع القاهرة بسوق الخردفوشيين، فيما بين سوق المهامزيين وسوق الجوخيين، ولها باب آخر عند باب سر حمّام الخرّاطين، كانت تعرف قديما بقيسارية السروج بناها ... «1» .
قيسارية ... «2» : هذه القيسارية تجاه قيسارية السروج المعروفة الآن بالقيسارية الطويلة، بعضها وقفه القاضي الأشرف بن القاضي الفاضل عبد الرحيم بن عليّ البيسانيّ، على ملء الصهريج بدرب ملوخيا، وبعضها وقف الصالح طلائع بن رزيك الوزير، وقد هدمت هذه القيسارية وبناها الأمير جاني بك دوادار السلطان الملك الأشرف برسباي الدقاقيّ الظاهريّ، في سنة ثمان وعشرين وثمانمائة، تربيعة تتصل بالوراقين، ولها باب من الشارع، وجعل علوها طباقا، وعلى بابها حوانيت، فجاءت من أحسن المباني.
قيسارية العصفر: هذه القيسارية بشارع القاهرة، لها باب من سوق المهامزيين، وباب من سوق الورّاقين، عرفت بذلك من أجل أن العصفر كان يدق بها. أنشأها الأمير علم الدين سنجر المسروريّ المعروف بالخياط والي القاهرة، ووقفها في سنة اثنتين وتسعين وستمائة، ولم تزل باقية بيد ورثته إلى أن ولي القاضي ناصر الدين محمد بن البارزيّ الحمويّ كتابة السرّ في أيام المؤيد شيخ، فاستأجرها مدّة أعوام من مستحقيها، ونقل إليها العنبريين، فصارت قيسارية عنبر، وذلك في سنة ست عشرة وثمانمائة، ثم انتقل منها أهل العنبر إلى سوقهم في سنة ثماني عشرة وثمانمائة.
قيسارية العنبر: قد تقدّم في ذكر الأسواق أنها كانت سجنا، وأن الملك المنصور قلاون عمّرها في سنة ثمانين وستمائة، وجعلها سوق عنبر.(3/163)
قيسارية الفائزي: هذه القيسارية كانت بأوّل الخرّاطين مما يلي المهامزيين، لها باب من المهامزيين، وباب من الخرّاطين. أنشأها الوزير الأسعد شرف الدين أبو القاسم هبة الله بن صاعد بن وهيب الفارسيّ، كان من جملة نصارى صعيد مصر، وكتب على مبايض ناحية سيوط بدرهم وثلث في كل يوم، ثم قدم إلى القاهرة وأسلم في أيام الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، وخدم عند الملك الفائز إبراهيم بن الملك العادل، فنسب إليه وتولى نظر الديوان في أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب مدّة يسيرة، ثم ولى بعض أعمال ديار مصر، فنقل عنه ما أوجب الكشف عليه، فندب موفق الدين الأمديّ لذلك، فاستقرّ عوضه وسجنه مدّة، ثم أفرج عنه وسافر إلى دمشق وخدم بها الأمير جمال الدين يغمور نائب السلطنة بدمشق، فلما قدم الملك المعظم توران شاه بن الصالح نجم الدين أيوب من حصن كتبغا إلى دمشق بعد موت أبيه ليأخذ مملكة مصر، سار معه إلى مصر في شوال سنة سبع وأربعين وستمائة، فلما قامت شجرة بتدبير المملكة بعد قتل المعظم، تعلق بخدمة الأمير عز الدين آيبك التركمانيّ مقدّم العساكر إلى أن تسلطن، وتلقب بالملك المعز، فولاه الوزارة في سنة ثمان وأربعين وستمائة، فأحدث مظالم كثيرة وقرّر على التجار وذوي اليسار أموالا تجبى منهم، وأحدث التقويم والتصقيع على سائر الأملاك، وجبى منها مالا جزيلا، ورتّب مكوسا على الدواب من الخيل والجمال والحمير وغيرها، وعلى الرقيق من العبيد والجواري، وعلى سائر المبيعات، وضمن المنكرات من الخمر والمزر والحشيش وبيوت الزواني بأموال، وسمى هذه الجهات بالحقوق السلطانية والمعاملات الديوانية، وتمكن من الدولة تمكنا زائدا إلى الغاية، بحيث أنه سار إلى بلاد الصعيد بعساكر لمحاربة بعض الأمراء، وكان الملك المعز أيبك يكاتبه بالمملوك، وكثر ماله وعقاره حتى أنه لم يبلغ صاحب قلم في هذه الدول ما بلغه من ذلك، واقتنى عدّة مماليك، منهم من بلغ ثمنه ألف دينار مصرية، وكان يركب في سبعين مملوكا من مماليكه، سوى أرباب الأقلام والأتباع، وخرج بنفسه إلى أعمال مصر واستخرج أموالها، وكان ينوب عنه في الوزارة زين الدين يعقوب بن الزبير، وكان فاضلا يعرف اللسان التركيّ، فصار يضبط له مجالس الأمراء ويعرّفه ما يدور بينهم من الكلام، فلم يزل على تمكنه وبسط يده وعظم شأنه إلى أن قتل الملك المعز وقام من بعده ابنه الملك المنصور نور الدين عليّ، وهو صغير، فاستقرّ على عادته حتى شهد عليه الأمير سابق الدين بوزبا الصيرفيّ، والأمير ناصر الدين محمد بن الأطروش الكرديّ أمير جاندار، أنه قال المملكة لا تقوم بالصبيان الصغار، والرأي أن يكون الملك الناصر صاحب الشام ملك مصر، وأنه قد عزم على أن يسير إليه يستدعيه إلى مصر ويساعده على أخذ المملكة، فخافت أمّ السلطان منه وقبضت عليه وحبسته عندها بقلعة الجبل، ووكلت بعذابه الصارم أحمر عينه العماديّ الصالحي، فعاقبه عقوبة عظيمة، ووقعت الحوطة على سائر أمواله وأسبابه وحواشيه، وأخذ خطه بمائة ألف دينار، ثم خنق لليال مضت من(3/164)
جمادى الأولى سنة خمس وخمسين وستمائة، ولفّ في نخ ودفن بالقرافة.
واستقرّ من بعده في الوزارة قاضي القضاة بدر الدين السنجاريّ مع ما بيده من قضاء القضاة، ولم تزل هذه القيسارية باقية، وكانت تعرف بقيسارية النشاب إلى أن أخذها الأمير جمال الدين يوسف الاستادار، هي والحوانيت على يمنة من سلك من الخرّاطين يريد الجامع الأزهر، وفيما بينهما كان باب هذه القيسارية، وكانت هذه الحوانيت تعرف بوقف تمرتاش، وهدم الجميع وشرع في بنائه، فقتل قبل أن يكمل، وأخذه الملك الناصر فرح، فبنيت الحوانيت التي هي على الشارع بسوق المهامزيين، وصار ما بقي ساحة عمرها القاضي زين الدين عبد الباسط بن خليل الدمشقي ناظر الجيش قيسارية يعلوها ربع، وبنى أيضا على حوانيت جمال الدين ربعا، وذلك في سنة خمس وعشرين وثمانمائة. وقال الإمام عفيف الدين أبو الحسن عليّ بن عدلان يمدح الأسعد الفائزيّ رحمه الله ابن صاعد، وابنه المرتضى:
مذ تولى أمورنا ... لم أزل منه ذاهبه
وهو إن دام أمره ... شدّة العيش ذاهبه
قيسارية بكتمر: هذه القيسارية بسوق الحريريين بالقرب من سوق الوراقين، كانت تعرف قديما بالصاغة، ثم صارت فندقا يقال له فندق حكم، وأصلها من جملة الدار العظمى التي تعرف بدار المأمون بن البطائحي، وبعضها المدرسة السيوفية. أنشأ هذه القيسارية الأمير بكتمر الساقي في أيام الناصر محمد بن قلاوون.
قيسارية ابن يحيى: هذه القيسارية كانت تجاه باب قيسارية جهاركس، حيث سوق الطيور، وقاعات الحلوى، أنشأها القاضي المفضل هبة الله بن يحيى التميميّ المعدّل، كان موثقا كاتبا في الشروط الحكمية في حدود سنة أربعين وخمسمائة في الدولة الفاطمية، ثم صار من جملة العدول، وبقي إلى سنة ثمانين، وله ابن يقال له كمال الدين عبد المجيد القاضي المفضل، ولكمال الدين ابن يقال له جلال الدين محمد بن كمال الدين عبد المجيد بن القاضي المفضل هبة الله بن يحيى، مات في آخر سنة ستين وسبعمائة، وقد خربت هذه القيسارية ولم يبق لها أثر.
قيسارية طاشتمر: هذه القيسارية بجوار الوراقين، لها باب كبير من سوق الحريريين، على يسرة من سلك إلى الزجاجين وباب من الوراقين. أنشأها الأمير طاشتمر في أعوام بضع وثلاثين وسبعمائة، وسكنها عقادوا الأزرار حتى غصت بهم مع كبرها وكثرة حوانيتها، وكان لهم منظر بهيج، فإنّ أكثرهم من بياض الناس، وتحت يد كل معلم منهم عدّة صبيان من أولاد الأتراك وغيرهم فطالما مررت منها إلى سوق الوراقين، وداخلني حياء من كثرة من أمرّ به هناك، ثم لما حدثت المحن في سنة ست وثمانمائة تلاشى أمرها وخرب الربع الذي كان(3/165)
علوها، وبيعت أنقاضه، وبقيت فيها اليوم بقية يسيرة.
قيسارية الفقراء: هذه القيسارية خارج باب زويلة بخط تحت الربع أنشأها «1» .
قيسارية بشتاك: خارج باب زويلة بخط تحت الربع، أنشأها الأمير بشتاك الناصريّ وهي الآن «2» .
قيسارية المحسني: خارج باب زويلة تحت الربع، أنشأها الأمير بدر الدين بيلبك المحسني، والي الإسكندرية، ثم والي القاهرة، كان شجاعا مقداما، فأخرجه الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى الشام وبها مات في سنة سبع وثلاثين وسبعمائة، فأخذ ابنه الأمير ناصر الدين محمد بن بيلبك المحسني إمرته، فلما مات الملك الناصر قدم إلى القاهرة وولاه الأمير قوصون ولاية القاهرة في سابع عشر صفر سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، فلما قبض على قوصون في يوم الثلاثاء آخر شهر رجب منها، أمسك ابن المحسني وأعيد نجم الدين إلى ولاية القاهرة، ثم عزل من يومه وولي الأمير جمال الدين يوسف والي الجيزة، فأقام أربعة أيام وعزل بطلب العامّة عزله ورجمه، فأعيد نجم الدين.
قيسارية الجامع الطولوني: هذه القيسارية كان موضعها في القديم من جملة قصر الإمارة الذي بناه الأمير أبو العباس أحمد بن طولون، وكان يخرج منه إلى الجامع من باب في جداره القبليّ، فلما خرب صار ساحة أرض، فعمر فيها القاضي تاج الدين المناوي خليفة الحكم عن قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة قيسارية في سنة خمسين وسبعمائة من فائض مال الجامع الطولوني، فكمل فيها ثلاثون حانوتا، فلما كانت ليلة النصف من شهر رمضان من هذه السنة، رأى شخص من أهل الخير رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه وقد وقف على باب هذه القيسارية وهو يقول: بارك الله لمن يسكن هذه القيسارية، وكرّر هذا القول ثلاث مرّات. فلما قص هذه الرؤيا رغب الناس في سكناها، وصارت إلى اليوم هي وجميع ذلك السوق في غاية العمارة، وفي سنة ثماني عشرة وثمانمائة أنشأها قاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن بن شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن نصير بن رسلان البلقينيّ من مال الجامع المذكور قيسارية أخرى، فرغب الناس في سكناها لوفور العمارة بذلك الخط.
قيسارية ابن ميسر الكبرى: هذه القيسارية أدركتها بمدينة مصر في خط سويقة وردان، وهي عامرة يباع بها القماش الجديد من الكتان الأبيض والأزرق والطرح، وتمضي تجار القاهرة إليها في يومي الأحد والأربعاء لشراء الأصناف المذكورة، وذكر ابن المتوّج أن لها(3/166)
خمسة أبواب، وأنها وقف، ثم وقعت الحوطة عليها فجرت في الديوان السلطانيّ، وقصدوا بيعها مرارا فلم يقدر أحد على شرائها، وكان بها عمد رخام، فأخذها الديوان وعوّضت بعمد كدان، وأنه شاهدها مسكونة جميعها، عامرة. انتهى. وقد خرب ما حولها بعد سنة ستين وسبعمائة، وتزايد الخراب حتى لم يبق حولها سوى كيمان، فعمل لها باب واحد، وتردّد الناس إليها في اليومين المذكورين لا غير، فلما كانت الحوادث منذ سنة ست وثمانمائة واستولى الخراب على أقليم مصر تعطلت هذه القيسارية ثم هدمت في سنة ست عشرة وثمانمائة.
قيسارية عبد الباسط: هذه القيسارية برأس الخرّاطين من القاهرة، كان موضعها يعرف قديما بعقبة الصباغين، ثم عرف بالقشاشين، ثم عرف بالخرّاطين، وكان هناك مارستان ووكالة في الدولة الفاطمية، وأدركنا بها حوانيت تعرف بوقف تمرتاش المعظميّ، فأخذها الأمير جمال الدين الأستادار فيما أخذ من الأوقاف، فلما قتل أخذ الناصر فرج جانبا منها وجدّد عمارتها ووقفها على تربة أبيه الظاهر برقوق، ثم أخذها زين الدين عبد الباسط بن خليل في أيام المؤيد شيخ، وعمل في بعضها هذه القيسارية وعلوها، ووقفها على مدرسته وجامعه، ثم أخذ السلطان الملك الأشرف برسباي بقية الحوانيت من وقف جمال الدين وجدّد عمارتها في سنة سبع وعشرين وثمانمائة.
ذكر الخانات والفنادق
خان مسرور: خان مسرور مكانان، أحدهما كبير والآخر صغير، فالكبير على يسرة من سلك من سوق باب الزهومة إلى الحريريين، كان موضعه خزانة الدرق التي تقدّم ذكرها في خزائن القصر، والصغير على يمنة من سلك من سوق باب الزهومة إلى الجامع الأزهر، كان ساحة يباع فيها الرقيق، بعد ما كان موضع المدرسة الكاملية هو سوق الرقيق.
قال ابن الطوير: خزانة الدرق كانت في المكان الذي هو خان مسرور، وهي برسم استعمالات الأساطيل من الكبورة الخرجية والخود الجلودية وغير ذلك.
وقال ابن عبد الظاهر فندق مسرور؛ مسرور هذا من خدّام القصر، خدم الدولة المصرية واختص بالسلطان صلاح الدين رحمه الله، وقدّمه على حلقته، ولم يزل مقدّما في كل وقت، وله برّ وإحسان ومعروف، ويقصد في كل حسنة وأجر وبرّ، وبطل الخدمة في الأيام الكاملية، وانقطع إلى الله تعالى ولزم داره، ثم بنى الفندق الصغير إلى جانبه، وكان قبل بنائه ساحة يباع فيها الرقيق، اشترى ثلثها من والدي رحمه الله، والثلثين من ورثة ابن عنتر، وكان قد ملك الفندق الكبير لغلامه ريحان وحبسه عليه، ثم من بعده على الأسرى والفقراء بالحرمين، وهو مائة بيت إلّا بيتا، وبه مسجد تقام فيه الجماعة والجمع، ولمسرور(3/167)
المذكور برّ كثير بالشام وبمصر، وكان قد وصى أن تعمل داره وهي بخط حارة الأمراء مدرسة، ويوقف الفندق الصغير عليها، وكانت له ضعية بالشام بيعت للأمير سيف الدين أبي الحسن القيمريّ بجملة كبيرة، وعمرت المدرسة المذكورة بعد وفاته. انتهى.
وقد أدركت فندق مسرور الكبير في غاية العمارة، تنزله أعيان التجار الشاميين بتجاراتهم، وكان فيه أيضا مودع الحكم الذي فيه أموال اليتامى والغياب، وكان من أجلّ الخانات وأعظمها، فلما كثرت المحن بخراب بلاد الشام منذ سنة تيمورلنك، وتلاشت أحوال إقليم مصر، قلّ التجار وبطل مودع الحكم، فقلّت مهابة هذا الخان وزالت حرمته وتهدّمت عدّة أماكن منه، وهو الآن بيد القضاة.
فندق بلال المغيثي: هذا الفندق فيما بين خط حمّام خشيبة وحارة العدوية، أنشأه الأمير الطواشي أبو المناقب حسام الدين بلال المغيثي، أحد خدّام الملك المغيث صاحب الكرك، كان حبشيّ الجنس، حالك السواد، خدم عدّة من الملوك، واستقرّ لالا الملك الصالح عليّ بن الملك المنصور قلاوون، وكان معظما إلى الغاية، يجلس فوق جميع أمراء الدولة، وكان الملك المنصور قلاوون إذا رآه يقول: رحم الله أستاذنا الملك الصالح نجم الدين أيوب، أنا كنت أحمل شارموزة هذا الطواشي حسام الدين كلما دخل إلى السلطان الملك الصالح حتى يخرج من عنده، فأقدّمها له، وكان كثير البرّ والصدقات وله أموال جزيلة، ومدحه عدّة من الشعراء، وأجاز على المديح، وتجاوز عمره ثمانين سنة، فلما خرج الملك الناصر محمد بن قلاون لقتال التتر في سنة تسع وتسعين وستمائة سافر معه، فمات بالسوادة ودفن بها، ثم نقل منها بعد وقعة شقحب إلى تربته بالقرافة فدفن هناك، وما برح هذا الفندق يودع فيه التجار وأرباب الأموال صناديق المال، ولقد كنت أدخل فيه فإذا بدائرة صناديق مصطفة ما بين صغير وكبير، لا يفضل عنها من الفندق غير ساحة صغيرة بوسطه، وتشتمل هذه الصناديق من الذهب والفضة على ما يجلّ وصفه، فلما أنشأ الأمير الطواشي زين الدين مقبل الزمام الفندق بالقرب منه، وأنشأ الأمير قلمطاي الفندق بالزجاجين، وأخذ الأمير يلبغا السالميّ أموال الناس في واقعة تيمورلنك في سنة ثلاث وثمانمائة، تلاشى أمر هذا الفندق وفيه إلى الآن بقية.
فندق الصالح: هذا الفندق بجوار باب القوس الذي كان أحد بابي زويلة، فمن سلك اليوم من المسجد المعروف بسام بن نوح يريد باب زويلة، صار هذا الفندق على يساره، وأنشأه هو وما يعلوه من الربع، الملك الصالح علاء الدين عليّ بن السلطان الملك المنصور قلاون، وكان أبوه لما عزم على المسير إلى محاربة التتر ببلاد الشام، سلطنه وأركبه بشعار السلطنة من قلعة الجبل في شهر رجب سنة تسع وسبعين وستمائة، وشق به شارع القاهرة من باب النصر إلى أن عاد إلى قلعة الجبل، وأجلسه على مرتبته، وجلس إلى جانبه،(3/168)
فمرض عقيب ذلك ومات ليلة الجمعة الرابع من شعبان، فأظهر السلطان لموته جزعا مفرطا وحزنا زائدا، وصرخ بأعلى صوته واولداه، ورمى كلوتته عن رأسه إلى الأرض وبقي مكشوف الرأس إلى أن دخل الأمراء إليه وهو مكشوف الرأس يصرخ واولداه، فعندما عاينوه كذلك ألقوا كلوتاتهم عن رؤوسهم وبكوا ساعة، ثم أخذ الأمير طرنطاي النائب شاش السلطان من الأرض وناوله للأمير سنقر الأشقر، فأخذه ومشى وهو مكشوف الرأس، وباس الأرض وناول الشاش للسلطان، فدفعه وقال: ايش أعمل بالملك بعد ولدي، وامتنع من لبسه، فقبّل الأمراء الأرض يسألون السلطان في لبس شاشه، ويخضعون له في السؤال ساعة حتى أجابهم وغطى رأسه، فلما أصبح خرجت جنازته من القلعة ومعها الأمراء من غير حضور السلطان، وصاروا بها إلى تربة أمه المعروفة «1» خاتون، قريبا من المشهد النفيسيّ، فواروه وانصرفوا، فلما كان يوم السبت ثانية، نزل السلطان من القلعة وعليه البياض تحزنا على ولده، وسار ومعه الأمراء بثياب الحزن إلى قبر ابنه وأقيم العزاء لموته عدّة أيام.
خان السبيل: هذا الخان خارج باب الفتوح، قال ابن عبد الظاهر: خان السبيل بناه الأمير بهاء الدين أبو سعيد قراقوش بن عبد الله الأسديّ خادم أسد الدين شيركوه، وعتيقه لأبناء السبيل والمسافرين بغير أجرة، وبه بئر ساقية وحوض.
وقراقوش هذا: هو الذي بنى السور المحيط بالقاهرة ومصر وما بينهما، وبنى قلعة الجبل، وبنى القناطر التي بالجيزة على طريق الأهرام، وعمر بالمقس رباطا، وأسره الفرنج في عكا وهو واليها، فافتكه السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بعشرة آلاف دينار، وتوفي مستهل رجب سنة سبع وسبعين وخمسمائة، ودفن بسفح الجبل المقطم من القرافة.
خان منكورش: هذا الخان بخط سوق الخيميين بالقرب من الجامع الأزهر. قال ابن عبد الظاهر: خان منكورش بناه الأمير ركن الدين منكورش زوج أمّ الأوحد بن العادل، ثم انتقل إلى ورثته، ثم انتقل إلى الأمير صلاح الدين أحمد بن شعبان الأبلي. فوقفه، ثم تحيل ولده في إبطال وقفه، فاشتراه منه الملك الصالح بعشرة آلاف دينار مصرية، وجعله مرصدا لوالدة خليل، ثم انتقل عنها. انتهى.
قال مؤلفه: ومنكورش هذا كان أحد مماليك السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وتقدّم حتى صار أحد الأمراء الصالحية، وعرف بالشجاعة والنجدة، وإصابة الرأي وجودة الرمي وثبات الجأش، فلما مات في شوّال سنة سبع وسبعين وخمسمائة، أخذ إقطاعه الأمير ياركوج الأسديّ، وهذا الخان الآن يعرف بخان النشارين، على يسرة من سلك من الخراطين إلى الخيميين، وهو وقف على جهات برّ.(3/169)
فندق ابن قريش: هذا الفندق، قال ابن عبد الظاهر: فندق ابن قريش استجدّه القاضي شرف الدين إبراهيم بن قريش، كاتب الإنشاء، وانتقل إلى ورثته. انتهى.
إبراهيم بن عبد الرحمن بن عليّ بن عبد العزيز بن عليّ بن قريش: أبو إسحاق القرشيّ المخزوميّ المصريّ الكاتب شرف الدين، أحد الكتاب المجيدين خطا وإنشاء، خدم في دولة الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وفي دولة ابنه الملك الكامل محمد بديوان الإنشاء، وسمع الحديث بمكة ومصر، وحدّث، وكانت ولادته بالقاهرة في أوّل يوم من ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، وقرأ القرآن وحفظ كثيرا من كتاب المهذب في الفقه على مذهب الإمام الشافعيّ، وبرع في الأدب، وكتب بخطه ما يزيد على أربعمائة مجلد، ومات في الخامس والعشرين من جمادى الأولى سنة ثلاث وأربعين وستمائة.
وكالة قوصون: هذه الوكالة في معنى الفنادق والخانات، ينزلها التجار ببضائع بلاد الشام من الزيت والشيرج والصابون والدبس والفستق والجوز واللوز والخرنوب والرب ونحو ذلك، وموضعها فيما بين الجامع الحاكميّ ودار سعيد السعداء، كانت أخيرا دارا تعرف بدار تعويل البوعاني، فأخربها وما جاورها الأمير قوصون، وجعلها فندقا كبيرا إلى الغاية، وبدائره عدة مخازن، وشرط أن لا يؤجر كل مخزن إلا بخمسة دراهم من غير زيادة على ذلك، ولا يخرج أحد من مخزنه، فصارت هذه المخازن تتوارث لقلة أجرتها وكثرة فوائدها، وقد أدركنا هذه الوكالة، وأن رؤيتها من داخلها وخارجها لتدهش لكثرة ما هنالك من أصناف البضائع وازدحام الناس وشدّة أصوات العتالين عند حمل البضائع ونقلها لمن يبتاعها، ثم تلاشى أمرها منذ خربت الشام في سنة ثلاث وثمانمائة على يد تيمورلنك، وفيها إلى الآن بقية، ويعلو هذه الوكالة رباع تشتمل على ثلثمائة وستين بيتا، أدركناها عامرة كلها، ويحزر أنها تحوي نحو أربعة آلاف نفس ما بين رجل وامرأة وصغير وكبير، فلما كانت هذه المحن في سنة ست وثمانمائة، خرب كثير من هذه البيوت وكثير منها عامر آهل.
فندق دار التفاح: هذه الدار هي فندق تجاه باب زويلة، يرد إليه الفواكه على اختلاف أصنافها مما ينبت في بساتين ضواحي القاهرة، ومن التفاح والكمثرى والسفرجل الواصل من البلاد الشامية، إنما يباع في وكالة قوصون إذا قدم، ومنها ينقل إلى سائر أسواق القاهرة ومصر ونواحيهما، وكان موضع دار التفاح هذه في القديم من جملة حارة السودان التي عملت بستانا في أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب. وأنشأ هذه الدار الأمير طقوزدمر بعد سنة أربعين وسبعمائة، ووقفها على خانقاه بالقرافة، وبظاهر هذه الدار عدّة حوانيت تباع فيها الفاكهة تذكر رؤيتها وشمّ عرفها الجنة لطيبها وحسن منظرها، وتأنق الباعة في تنضيدها، واحتفافها بالرياحين والأزهار، وما بين الحوانيت مسقوف حتى لا يصل إلى الفواكه حرّ الشمس، ولا يزال ذلك الموضع غضا طريا إلّا أنه قد اختل منذ سنة ست(3/170)
وثمانمائة، وفيه بقية ليست بذاك، ولم تزل إلى أن هدم علو الفندق وما بظاهره من الحوانيت في يوم السبت سادس عشر شعبان، سنة إحدى وعشرين وثمانمائة، وذلك أن الجامع المؤيديّ جاءت شبابيكه الغربية من جهة دار التفاح، فعمل فيها كما صار يعمل في الأوقاف، وحكم باستبدالها ودفع في ثمن نقضها ألف دينار إفريقية، عنها مبلغ ثلاثين ألف مؤيديّ فضة، ويتحصل من أجرتها إلى أن ابتدئ بهدمها في كل شهر سبعة آلاف درهم فلوسا، عنها ألف مؤيدي، فاستشنع هذا الفعل ومات الملك المؤيد ولم تكمل عمارة الفندق.
وكالة باب الجوّانية: هذه الوكالة تجاه باب الجوّانية من القاهرة، فيما بين درب الرشيدي ووكالة قوصون، كان موضعها عدّة مساكن، فابتدأ الأمير جمال الدين محمود بن عليّ الأستادار بهدمها في يوم الأربعاء ثالث عشر جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة، وبناها فندقا وربعا بأعلاه، فلما كملت رسم الملك الظاهر برقوق أن تكون دار وكالة يرد إليها ما يصل إلى القاهرة وما يرد من صنف متجر الشام في البحر، كالزيت والرب والدبس، ويصير ما يرد في البرّ يدخل به على عادته إلى وكالة قوصون، وجعلها وقفا على المدرسة الخانقاه التي أنشأها بخط بين القصرين، فاستمرّ الأمر على ذلك إلى اليوم.
خان الخليلي: هذا الخان بخط الزراكشة العتيق، كان موضعه تربة القصر التي فيها قبور الخلفاء الفاطميين المعروفة بتربة الزعفران، وقد تقدّم ذكرها عند ذكر القصر من هذا الكتاب. أنشأه الأمير جهاركس الخليليّ أميراخور الملك الظاهر برقوق، وأخرج منها عظام الأموات في المزابل على الحمير وألقاها بكيمان البرقية، هوانا بها، فإنه كان يلوذ به شمس الدين محمد بن أحمد القليجي الذي تقدّم ذكره في ذكر الدور من هذا الكتاب وقال له: إن هذه عظام الفاطميين، وكانوا كفارا رفضة، فاتفق للخليليّ في موته أمر فيه عبرة لأولي الألباب، وهو أنه لما ورد الخبر بخروج الأمير بلبغا الناصريّ نائب حلب، ومجيء الأمير منطاش نائب ملطية إليه، ومسيرهما بالعساكر إلى دمشق، أخرج الملك الظاهر برقوق خمسمائة من المماليك، وتقدّم لعدّة من الأمراء بالمسير بهم، فخرج الأمير الكبير ايتمش الناصريّ والأمير جهاركس الخليل هذا، والأمير يونس الدوادار، والأمير أحمد بن بلبغا الخاصكيّ، والأمير ندكار الحاجب، وساروا إلى دمشق، فلقيهم الناصري ظاهر دمشق، فانكسر عسكر السلطان لمخامرة ابن بلبغا وندكار، وفرّ أيتمش إلى قلعة دمشق، وقتل الخليليّ في يوم الاثنين حادي عشر شهر ربيع الآخر سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، وترك على الأرض عاريا وسوءته مكشوفة، وقد انتفخ وكان طويلا عريضا إلى أن تمزق وبلي عقوبة من الله تعالى بما هتك من رمم الأئمة وأبنائهم، ولقد كان عفا الله عنه عارفا خبيرا بأمر دنياه، كثير الصدقة، ووقف هذا الخان وغيره على عمل خبز يفرّق بمكة على كل فقير، منه في اليوم رغيفان، فعمل ذلك مدّة سنين، ثم لما عظمت الأسعار بمصر وتغيرت نقودها، من سنة ست وثمانمائة، صار يحمل إلى مكة مال ويفرّق بها على الفقراء.(3/171)
فندق طرنطاي: هذا الفندق كان بخارج باب البحر ظاهر المقس، وكان ينزل فيه تجار الزيت الواردون من الشام، وكان فيه ستة عشر عمودا من رخام طول، كل عمود ستة أذرع بذراع العمل، في دور ذراعين، ويعلوه ربع كبير، فلما كان في واقعة هدم الكنائس وحريق القاهرة ومصر في سنة إحدى وعشرين وسبعمائة، قدم تاجر بعد العصر بزيت، وزن في مكسه عشرين ألف درهم نقرة، سوى أصناف أخر قيمتها مبلغ تسعين ألف درهم نقرة، فلم يتهيأ له الفراغ من نقل الزيت إلى داخل هذا الفندق إلّا بعد العشاء الآخرة، فلما كان نصف الليل، وقع الحريق بهذا الفندق في ليلة من شهر ربيع الآخر منها، كما كان يقع في غير موضع من فعل النصارى، فأصبح وقد احترق جميعه حتى الحجارة التي كان مبنيا بها، وحتى الأعمدة المذكورة، وصارت كلها جيرا واحترق علوه، وأصبح التاجر يستعطي الناس وموضع هذا الفندق.
ذكر الأسواق
قال ابن سيدة: والسوق التي يتعامل فيها تذكر وتؤنث، والجمع أسواق، وفي التنزيل:
إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ
والسوقة لغة فيها، والسوقة من الناس من لم يكن ذا سلطان، الذكر والأنثى في ذلك سواء.
وقد كان بمدينة مصر والقاهرة وظواهرها من الأسواق شيء كثير جدّا، قد باد أكثرها، وكفاك دليلا على كثرة عددها أن الذي خرب من الأسواق فيما بين أراضي اللوق إلى باب البحر بالمقص، اثنان وخمسون سوقا، أدركناها عامرة، فيها ما يبلغ حوانيته نحو الستين حانوتا، وهذه الخطة من جملة ظاهر القاهرة الغربيّ، فكيف ببقية الجهات الثلاث مع القاهرة ومصر، وسأذكر من أخبار الأسواق ما أجد سبيلا إلى ذكره إن شاء الله تعالى.
القصبة: قال ابن سيدة: قصبة البلد، مدينته، وقيل معظمه. والقصبة هي أعظم أسواق مصر، وسمعت غير واحد ممن أدركته من المعمرين يقول: أنّ القصبة تحتوي على اثني عشر ألف حانوت، كأنهم يعنون ما بين أوّل الحسينية مما يلي الرمل إلى المشهد النفيسيّ، ومن اعتبر هذه المسافة اعتبارا جيدا لا يكاد أن ينكر هذا الخبر. وقد أدركت هذه المسافة بأسرها عامرة الحوانيت غاصة بأنواع المآكل والمشارب والأمتعة، تبهج رؤيتها ويعجب الناظر هيئتها، ويعجز العادّ عن إحصاء ما فيها من الأنواع، فضلا عن إحصاء ما فيها من الأشخاص، وسمعت الكافة ممن أدركت يفاخرون بمصر سائر البلاد ويقولون: يرمى بمصر في كل يوم ألف دينار ذهبا على الكيمان والمزابل، يعنون بذلك ما يستعمله اللبانون والجبانون والطباخون من الشقاف الحمر التي يوضع فيها اللبن، والتي يوضع فيها الجبن، والتي تأكل فيها الفقراء الطغام بحوانيت الطباخين، وما يستعمله بياعوا الجبن من الخيط والحصر التي تعمل تحت الجبن في الشقاف، وما يستعمله العطارون من القراطيس والورق(3/172)
الفويّ، والخيوط التي تشدّ بها القراطيس الموضوع فيها حوائج الطعام من الحبوب والأفاوية وغيرها، فإن هذه الأصناف المذكورة إذا حملت من الأسواق وأخذ ما فيها ألقيت إلى المزابل، ومن أدرك الناس قبل هذه المحن وأمعن النظر فيما كانوا عليه من أنواع الحضارة والترف لم يستكثر ما ذكرناه.
وقد اختلّ حال القصبة وخرب وتعطل أكثر ما تشتمل عليه من الحوانيت بعد ما كانت مع سعتها تضيق بالباعة، فيجلسون على الأرض في طول القصبة بأطباق الخبز وأصناف المعايش. ويقال لهم أصحاب المقاعد، وكل قليل يتعرّض الحكام لمنعهم وإقامتهم من الأسواق لما يحصل بهم من تضييق الشوارع وقلة بيع أرباب الحوانيت، وقد ذهب والله ما هناك ولم يبق إلا القليل، وفي القصبة عدّة أسواق، منها ما خرب، ومنها ما هو باق، وسأذكر منها ما يتيسر إن شاء الله تعالى.
سوق باب الفتوح: هذا السوق في داخل باب الفتوح، من حدّ باب الفتوح الآن إلى رأس حارة بهاء الدين. معمور الجانبين بحوانيت اللحامين والخضريين والفاميين والشرايحية وغيرهم، وهو من أجلّ أسواق القاهرة وأعمرها، يقصده الناس من أقطار البلاد لشراء أنواع اللحمان الضأن والبقر والمعز، ولشراء أصناف الخضراوات، وليس هو من الأسواق القديمة، وإنما حدث بعد زوال الدولة الفاطمية عند ما سكن قراقوش في موضعه المعروف بحارة بهاء الدين، وقد تناقص عما كان فيه منذ عهد الحوادث، وفيه إلى الآن بقية صالحة.
سوق المرحلين: هذا السوق أدركته من رأس حارة بهاء الدين إلى بحري المدرسة الصيرمية معمور الجانبين بالحوانيت المملوءة بر حالات الجمال وأقتابها، وسائر ما تحتاج إليه، يقصد من سائر إقليم مصر، خصوصا في مواسم الحج. فلو أراد الإنسان تجهيز مائة جمل وأكثر في يوم لما شق عليه وجود ما يطلبه من ذلك لكثرة ذلك عند التجار في الحوانيت بهذا السوق وفي المخازن.
فلما كانت الحوادث بعد سنة ست وثمانمائة وكثر سفر الملك الناصر فرج بن برقوق إلى محاربة الأمير شيخ والأمير نوروز بالبلاد الشامية، صار الوزراء يستدعون ما يحتاج إليه الجمال من الرحال والأقتاب وغيرها، فإما لا يدفع ثمنها أو يدفع فيها الشيء اليسير من الثمن، فاختلّ من ذلك حال المرحلين وقلت أموالهم بعد ما كانوا مشتهرين بالغناء الوافر والسعادة الطائلة، وخرب معظم حوانيت هذا السوق، وتعطل أكثر ما بقي منها، ولم يتأخر فيه سوى القليل.
سوق خان الروّاسين: هذا السوق على رأس سويقة أمير الجيوش، قيل له ذلك من أجل أن هناك خانا تعمل فيه الرءوس المغمومة، وكان من أحسن أسواق القاهرة فيه عدّة من البياعين، ويشتمل على نحو العشرين حانوتا مملوءة بأصناف المآكل، وقد اختلّ وتلاشى أمره.(3/173)
سوق حارة برجوان: هذا السوق من الأسواق القديمة، وكان يعرف في القديم أيام الخلفاء الفاطميين بسوق أمير الجيوش، وذلك أنّ أمير الجيوش بدر الجمالي لما قدم إلى مصر في زمن الخليفة المستنصر، وقد كانت الشدّة العظمى، بنى بحارة برجوان الدار التي عرفت بدار المظفر، وأقام هذا السوق برأس حارة برجوان. قال ابن عبد الظاهر: والسويقة المعروفة بأمير الجيوش معروفة بأمير الجيوش بدر الجمالي وزير الخليفة المستنصر، وهي من باب حارة برجوان إلى قريب الجامع الحاكمي، وهكذا تشهد مكاتيب دور حارة برجوان القديمة، فإنّ فيها والحدّ القبليّ ينتهي إلى سويقة أمير الجيوش، وسوق حارة برجوان هو في الحدّ القبليّ من حارة برجوان، وأدركت سوق حارة برجوان أعظم أسواق القاهرة، ما برحنا ونحن شباب نفاخر بحارة برجوان سكان جميع حارات القاهرة فنقول: بحارة برجوان حمّامات، يعني حمامي الرومي وحمام سويد فإنه كان يدخل إليها من داخل الحارة، وبها فرنان، ولها السوق الذي لا يحتاج ساكنها إلى غيره، وكان هذا السوق من سوق خان الروّاسين إلى سوق الشماعين، معمور الجانبين بالعدّة الوافرة من بياعي لحم الضأن السليخ، وبياعي اللحم السميط، وبياعي اللحم البقري، وبه عدّة كثيرة من الزياتين، وكثير من الجبانين والخبازين واللبانين والطباخين والشوّايين والبواردية والعطارين والخضريين، وكثير من بياعي الأمتعة، حتى أنه كان به حانوت لا يباع فيه إلّا حوائج المائدة وهي: البقل والكرّاث والشمار والنعناع، وحانوت لا يباع فيه إلا الشيرج والقطن فقط برسم تعمير القناديل التي تسرج في الليل. وسمعت من أدركت أنه كان يشتري من هذا الحانوت في كل ليلة شيرج مما يوضع في القناديل بثلاثين درهما فضة، عنها يومئذ دينار ونصف.
وكان يوجد بهذا السوق لحم الضأن النيء والمطبوخ إلى ثلث الليل الأوّل، ومن قبل طلوع الفجر بساعة، وقد خرب أكثر حوانيت هذا السوق، ولم يبق لها أثر، وتعطل بأسره بعد سنة ست وثمانمائة، وصار أوحش من وتد في قاع بعد أن كان الإنسان لا يستطيع أن يمرّ فيه من ازدحام الناس ليلا ونهارا إلّا بمشقة، وكان فيه قبانيّ برسم وزن الأمتعة والمال والبضائع، لا يتفرّغ من الوزن ولا يزال مشغولا به، ومعه من يستحثه ليزن له. فلما كان بعد سنة عشر وثمانمائة أنشأ الأمير طوغان الدوادار بهذا السوق مدرسة وعمّر ربعا وحوانيت، فتحابي بعض الشيء وقبض على طوغان في سنة ست عشرة وثمانمائة، ولم تكمل عمارة السوق وفيه الآن بقية يسيرة.
سوق الشماعين: هذا السوق من الجامع الأقمر إلى سوق الدجاجين، كان يعرف في الدولة الفاطمية بسوق القماحين، وعنده بنى المأمون بن البطائحي الجامع الأقمر باسم الخليفة الآمر بأحكام الله، وبنى تحت الجامع دكاكين ومخازن من جهة باب الفتوح،(3/174)
وأدركت سوق الشماعين من الجانبين معمور الحوانيت بالشموع الموكبية والفانوسية والطوافات، لا تزال حوانيته مفتحة إلى نصف الليل، وكان يجلس به في الليل بغايا يقال لهنّ زعيرات الشماعين، لهنّ سيما يعرفن بها، وزيّ يتميزن به، وهو لبس الملاءات الطرح وفي أرجلهنّ سراويل من أديم أحمر، وكنّ يعانين الزعارة ويقفن مع الرجال المشالقين في وقت لعبهم، وفيهنّ من تحمل الحديد معها.
وكان يباع في هذا السوق في كل ليلة من الشمع بمال جزيل، وقد خرب ولم يبق به إلّا نحو الخمس حوانيت بعد ما أدركتها تزيد على عشرين حانوتا، وذلك لقلة ترف الناس وتركهم استعمال الشمع، وكان يعلق بهذا السوق الفوانيس في موسم الغطاس، فتصير رؤيته في الليل من أنزه الأشياء، وكان به في شهر رمضان موسم عظيم لكثرة ما يشترى ويكتى من الشموع الموكبية التي تزن الواحدة منهنّ عشرة أرطال فما دونها، ومن المزهرات العجيبة الزيّ المليحة الصنعة، ومن الشمع الذي يحمل على العجل ويبلغ وزن الواحدة منها القنطار وما فوقه، كل ذلك برسم ركوب الصبيان لصلاة التراويح، فيمرّ في ليالي شهر رمضان من ذلك ما يعجز البليغ عن حكاية وصفه، وقد تلاشى الحال في جميع ما قلنا لفقر الناس وعجزهم.
سوق الدجاجين: هذا السوق كان مما يلي سوق الشماعين إلى سوق قبو الخرشتف، كان يباع فيه من الدجاج والأوز شيء كثير جليل إلى الغاية، وفيه حانوت فيه العصافير التي يبتاعها ولدان الناس ليعتقوها، فيباع منها في كل يوم عدد كثير جدّا، ويباع العصفور منها بفلس، ويخدع الصبيّ بأنه يسبح، فمن أعتقه دخل الجنة، ولكل واحد حينئذ رغبة في فعل الخير، وكان يوجد في كل وقت بهذه الحوانيت من الأقفاص التي بها هذه العصافير آلاف، ويباع بهذا السوق عدّة أنواع من الطير، وفي كل يوم جمعة يباع فيه بكرة أصناف القماري والهزارات والشحارير واللبغاء والسّمّان، وكنا نسمع أن من السّمّان ما يبلغ ثمنه المئات من الدراهم، وكذلك بقية طيور المسموع يبلغ الواحد منها نحو الألف، لتنافس الناس فيها وتوفر عدد المعتنين بها، وكان يقال لهم غواة طيور المسموع سيما الطواشية، فإنه كان يبلغ بهم الترف أن يقتنوا السّمّان ويتأنقوا في أقفاصه ويتغالوا في أثمانه حتى بلغنا أنه بيع طائر من السمان بألف درهم فضة، عنها يومئذ نحو الخمسين دينارا من الذهب، كل ذلك لإعجابهم بصوته، وكان صوته على وزن قول القائل: «طقطلق وعوع» وكلما كثر صياحه كانت المغالاة في ثمنه، فاعتبر بما قصصته عليك حال الترف الذي كان فيه أهل مصر، ولا تتخذ حكاية ذلك هزؤا تسخر به، فتكون ممن لا تنفعه المواعظ بل يمرّ بالآيات معرضا غافلا فتحرم الخير.
وكان بهذا السوق قيسارية عملت مرّة سوقا للكتبيين، ولها باب من وسط سوق(3/175)
الدجاجين، وباب من الشارع الذي يسلك فيه من بين القصرين إلى الركن المخلق، فاتفق أن ولي نيابة النظر في المارستان المنصوري عن الأمير الكبير ايتمش النحاسي الظاهريّ أمير يعرف بالأمير خضر ابن التنكزية، فهدم هذا السوق والقيسارية وما يعلوها، وأنشأ هذه الحوانيت والرباع التي فوقها تجاه ربع الكامل الذي يعلو ما بين درب الخضيري وقبو الخرشتف، فلما كمل أسكن في الحوانيت عدّة من الزياتين وغيرهم، وبقي من الدجاجين بهذا السوق بقية قليلة.
سوق بين القصرين: هذا السوق أعظم أسواق الدنيا فيما بلغنا، وكان في الدولة الفاطمية براحا واسعا يقف فيه عشرة آلاف ما بين فارس وراجل، ثم لما زالت الدولة ابتذل وصار سوقا يعجز الواصف عن حكاية ما كان فيه، وقد تقدّم ذكره في الخطط من هذا الكتاب، وفيه إلى الآن بقية تحزنني رؤيتها إذ صارت إلى هذه القلة.
سوق السلاح: هذا السوق فيما بين المدرسة الظاهرية بيبرس وبين باب قصر بشتاك، استجدّ فيما بعد الدولة الفاطمية في خط بين القصرين. وجعل لبيع القسيّ والنشاب والزرديات وغير ذلك من آلات السلاح، وكان تجاهه خان يقابل الخان الذي هو الآن بوسط سوق السلاح، وعلى بابه من الجانبين حوانيت تجلس فيها الصيارف طول النهار، فإذا كان عصريات كل يوم جلس أرباب المقاعد تجاه حوانيت الصيارف لبيع أنواع من المآكل، ويقابلهم تجاه حوانيت سوق السلاح أرباب المقاعد أيضا، فإذا أقبل الليل أشعلت السرج من الجانبين وأخذ الناس في التمشي بينهما على سبيل الاسترواح والتنزه، فيمرّ هنالك من الخلاعات والمجون ما لا يعبر عنه بوصف، فلما أنشأ الملك الظاهر برقوق المدرسة الظاهرية المستجدّة صارت في موضع الخان وحوانيت الصرف تجاه سوق السلاح، وقلّ ما كان هناك من المقاعد وبقي منها شيء يسير.
سوق القفيصات: بصيغة الجمع، والتصغير هكذا يعرف كأنه جمع قفيص، فإنه كله معدّ لجلوس أناس على تخوت تجاه شبابيك القبة المنصورية، وفوق تلك التخوت أقفاص صغار من حديد مشبك فيها الطرائف من الخواتيم والفصوص وأساور النسوان وخلاخيلهنّ وغير ذلك، وهذه الأقفاص يأخذ أجرة الأرض التي هي عليها مباشر المارستان المنصوري، وأصل هذه الأرض كانت من حقوق أرض موقوفة على جامع المقس، فدخل بعضها في القبة المنصورية، وصار بعضها كما ذكرنا وإلى اليوم يدفع من وقف المارستان حكر هذه الأرض لجامع المقس، ولما ولي نظر المارستان الأمير جمال الدين أقوش المعروف بنائب الكرك في سنة ست وعشرين وسبعمائة، عمل فيه أشياء من ماله، منها خيمة ذرعها مائة ذراع، نشرها من أوّل جدار القبة المنصورية بحذاء المدرسة الناصرية إلى آخر حدّ المدرسة المنصورية بجوار الصاغة، فصارت فوق مقاعد الأقفاص تظلهم من حرّ الشمس، وعمل لها(3/176)
حبالا تمدّ بها عند الحرّ وتجمع بها إذا امتدّ الظل، وجعلها مرتفعة في الجوّ حتى ينحرف الهواء، ثم لما كان شهر جمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة نقلت الأقفاص منه إلى القيسارية التي استجدّت تجاه الصاغة.
سوق باب الزهومة: هذا السوق عرف بذلك من أجل أنه كان هناك في الأيام الفاطمية باب من أبواب القصر يقال له باب الزهومة، تقدّم ذكره في ذكر أبواب القصر من هذا الكتاب. وكان موضع هذا السوق في الدولة الفاطمية سوق الصيارف، ويقابله سوق السيوفيين، من حيث الخشيبة إلى نحو رأس سوق الحريريين اليوم، وسوق العنبر الذي كان إذ ذاك سجنا يعرف بالمعونة، ويقابل السيوفيين إذ ذاك سوق الزجاجين، وينتهي إلى سوق القشاشين الذي يعرف اليوم بالخرّاطين، فلما زالت الدولة الفاطمية تغير ذلك كله، فصار سوق السيوفيين من جوار الصاغة إلى درب السلسلة، وبني فيما بين المدرسة الصالحية وبين الصاغة سوق فيه حوانيت مما يلي المدرسة الصالحية، يباع فيها الأمشاط بسوق الأمشاطيين، وفيه حوانيت فيما بين الحوانيت التي يباع فيها الأمشاط وبين الصاغة، بعضها سكن الصيارف، وبعضها سكن النقليين، وهم الذين يبيعون الفستق واللوز والزبيب ونحوه، وفي وسط هذا البناء سوق الكتبيين، يحيط به سوق الأمشاطيين وسوق النقليين، وجميع ذلك جار في أوقاف المارستان المنصوري.
وكان سوق باب الزهومة من أجلّ أسواق القاهرة أفخرها، موصوفا بحسن المآكل وطيبها، واتفق في هذا السوق أمر يستحسن ذكره لغرابته في زمننا، وهو أنه عبر متولي الحسبة بالقاهرة في يوم السبت سادس عشر شهر رمضان سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة على رجل بوارديّ بهذا السوق، يقال له محمد بن خلف، عنده مخزن فيه حمام وزرازير متغيرة الرائحة، لها نحو خمسين يوما، فكشف عنها فبلغت عدّتها أربعة وثلاثين ألفا ومائة وستة وتسعين طائرا، من ذلك حمام ألف ومائة وستة وتسعون، وزرازير ثلاثة وثلاثون ألفا كلها متغيرة اللون والريح، فأدبه وشهره وفيه إلى الآن بقايا.
سوق المهامزيين: هذا السوق مما استجدّ بعد زوال الدولة الفاطمية، وكان بأوّله حبس المعونة، الذي عمله الملك المنصور قلاوون سوق العنبر، ويقابله المارستان والوكالة ودار الضرب، في الموضع الذي يعرف اليوم بدرب الشمسيّ، وما بحذائه من الحوانيت إلى حمّام الخرّاطين، وما تجاه ذلك. وهذا السوق معدّ لبيع المهاميز، وأدركت الناس وهم يتخذون المهماز كله قالبه وسقطه من الذهب الخالص، ومن الفضة الخالصة، ولا يترك ذلك إلا من يتورع ويتدين فيتخذ القالب من الحديد ويطليه بالذهب أو الفضة، ويتخذ السقط من الفضة، وقد اضطرّ الناس إلى ترك هذا، فقلّ من بقي سقط مهمازه فضة، ولا يكاد يوجد اليوم مهماز من ذهب، وكان يباع بهذا السوق البدلات الفضة التي كانت برسم(3/177)
لجم الخيل، وتعمل تارة من الفضة المجراة بالمينا، وتارة بالفضة المطلية بالذهب، فيبلغ زنة ما في البدلة من خمسمائة درهم فضة إلى ما دونها، وقد بطل ذلك. وكان يباع به أيضا سلاسل الفضة ومخاطم الفضة المطلية، تجعل تحت لجم الحجور من الخيل خاصة، فيركب بها أعيان الموقعين وأكابر الكتاب من القبط ورؤساء التجار، وقد بطل ذلك أيضا.
ويباع فيه أيضا الدوي والطرف التي فيها الفضة والذهب كسكاكين الأقلام ونحوها، وكانت تجار هذا السوق تعدّ من بياض العامّة، ويتصل بسوق المهامزيين هذا.
سوق اللجميين: ويباع فيه آلات اللجم ونحوها مما يتخذ من الجلد، وفي هذا السوق أيضا عدّة وافرة من الطلائين وصناع الكفت برسم اللجم والركب والمهاميز ونحو ذلك.
وعدّة من صناع مياتر السروج وقرابسها، وأدركت السروج تعمل ملوّنة ما بين أصفر وأزرق، ومنها ما يعمل من الدبل، ومنها ما يعمل سيورا من الجلد البلغاري الأسود، ويركب بهذه السروج السود القضاة ومشايخ العلم اقتداء بعادة بني العباس في استعمال السواد، على ما جدّده بديار مصر السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بعد زوال الدولة الفاطمية.
وأدركت السروج التي تركب بها الأجناد والكتاب، يعمل للسرج في قربوسه ستة أطواق من فضة مقبلة مطلية بالذهب، ومعقربات من فضة، ولا يكاد أحد يركب فرسا بسرج سادج إلا أن يكون من القضاة ومشايخ العلم وأهل الورع، فلما تسلطن الملك الظاهر برقوق اتخذ سائر الأجناد السروج المغرقة، وهي التي جميع قرابسها من ذهب أو فضة، إما مطلية أو سادجة، وكثر عمل ذلك حتى لم يبق من العسكر فارس إلا وسرجه كما ذكرنا. وبطل السرج المسقط، فلما كانت الحوادث بعد سنة ست وثمانمائة غلب على الناس الفقر، وكثرت الفتن، فقلّت سروج الذهب والفضة، وبقي منها إلى اليوم بقايا يركب بها أعيان الأمراء وأماثل المماليك.
سوق الجوخيين: هذا السوق يلي سوق اللجميين، وهو معدّ لبيع الجوخ المجلوب من بلاد الفرنج لعمل المقاعد والستائر وثياب السروج وغواشيها، وأدركت الناس وقلما تجد فيهم من يلبس الجوخ، وإنما يكون من جملة ثياب الأكابر، جوخ لا يلبس إلا في يوم المطر، وإنما يلبس الجوخ من يرد من بلاد المغرب والفرنج وأهل الإسكندرية وبعض عوام مصر، فأما الرؤساء والأكابر والأعيان فلا يكاد يوجد فيهم من يلبسه إلّا في وقت المطر، فإذا ارتفع المطر نزع الجوخ.
وأخبرني القاضي الرئيس تاج الدين أبو الفداء إسماعيل بن أحمد بن عبد الوهاب بن الخطبا المخزومي، خال أبي رحمه الله، قال: كنت أنوب في حسبة القاهرة عن القاضي ضياء الدين المحتسب، فدخلت عليه يوما وأنا لابس جوخة لها وجه صوف مربع فقال لي:
وكيف ترضى أن تلبس الجوخ، وهل الجوخ إلّا لأجل البغلة؟! ثم أقسم عليّ أن أخلعها،(3/178)
وما زال بي حتى عرّفته أني اشتريتها من بعض تجار قيسارية الفاضل، فاستدعاه في الحال ودفعها إليه وأمره بإحضار ثمنها. ثم قال لي: لا تعد إلى لبس الجوخ، استهجانا له. فلما كانت هذه الحوادث وغلت الملابس دعت الضرورة أهل مصر إلى ترك أشياء مما كانوا فيه من الترفه، وصار معظم الناس يلبسون الجوخ، فتجد الأمير والوزير والقاضي ومن دونهم ممن ذكرنا لباسهم الجوخ، ولقد كان الملك الناصر فرج ينزل أحيانا إلى الإصطبل وعليه قجون من جوخ، وهو ثوب قصير الكمين والبدن، يخاط من الجوخ بغير بطانة من تحته ولا غشاء من فوقه، فتداول الناس لبسه، واجتلب الفرنج منه شيئا كثيرا لا توصف كثرته ومحل بيعه بهذا السوق، ويلي سوق الجوخيين هذا:
سوق الشرابشيين: وهذا السوق مما أحدث بعد الدولة الفاطمية، ويباع فيها الخلع التي يلبسها السلطان للأمراء والوزراء والقضاة وغيرهم، وإنما قيل له سوق الشرابشيين لأنه كان من الرسم في الدولة التركية أنّ السلطان والأمراء وسائر العساكر إنما يلبسون على رؤوسهم كلوتة صفراء مضرّبة تضريبا عريضا، ولها كلاليب بغير عمامة فوقها، وتكون شعورهم مضفورة مدلاة بدبوقة، وهي في كيس حرير إمّا أحمر أو أصفر، وأوساطهم مشدودة ببنود من قطن بعلبكيّ مصبوغ، عوضا عن الحوائص، وعليهم أقبية إمّا بيض أو مشجرة أحمر وأزرق، وهي ضيقة الأكمام على هيئة ملابس الفرنج اليوم، وإخفافهم من جلد بلغاريّ أسود، وفي أرجلهم من فوق الخف سقمان، وهو خف ثان، ومن فوق القبا كمران بحلق وأبزيم وصوالق بلغاري كبار يسع الواحد منها أكثر من نصف ويبة غلة، مغروز فيه منديل طوله ثلاثة أذرع، فلم يزل هذا زيهم منذ استولوا بديار مصر على الملك، من سنة ثمان وأربعين وستمائة، إلى أن قام في المملكة الملك المنصور قلاوون، فغيّر هذا الزيّ بأحسن منه، ولبسوا الشاشات، وأبطلوا لبس الكم الضيق، واقترح كل أحد من المنصورية ملابس حسنة، فلما ملك ابنه الأشرف خليل، جمع خاصكيته ومماليكه وتخير لهم الملابس الحسنة، وبدّل الكلوتات الجوخ والصفر، ورسم لجميع الأمراء أن يركبوا بين مماليكهم بالكلوتات الزركش والطرازات الزركش والكنابيش الزركش والأقبية الأطلس المعدني، حتى يميز الأمير بلبسه عن غيره، وكذلك في الملبوس الأبيض أن يكون رفيعا، واتخذ السروج المرصعة والأكوار المرصعة، فعرفت بالأشرفية، وكانت قبل ذلك سروجهم بقرابيس كبار شنعة، وركب كبار بشعة، فلما ملك ديار مصر السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، استجدّ العمائم الناصرية، وهي صغار.
فلما قام الأمير يلبغا العمريّ الخاصكيّ عمل الكلوتات اليلبغاوية، وكانت كبارا، واستجدّ الأمير سلار في أيام الملك الناصر محمد القباء الذي يعرف بالسلاري، وكان قبل ذلك يعرف ببغلو طاق، فلما تملك الملك الظاهر برقوق عمل هذه الكلوتات الجركسية، وهي أكبر من اليلبغاوية، وفيها عوج. وأما الخلع، فإن السلطان كان إذا أمّر أحدا من(3/179)
الأتراك ألبسه الشربوش، وهو شيء يشبه التاج، كأنه شكل مثلث يجعل على الرأس بغير عمامة، ويلبس معه على قدر رتبته، إمّا ثوب بخ، أو طرد وحش، أو غيره، فعرف هذا السوق بالشرابشيين نسبة إلى الشرابيش المذكورة، وقد بطل الشربوش في الدولة الجركسية.
وكان بهذا السوق عدّة تجار لشراء التشاريف والخلع وبيعها على السلطان في ديوان الخاص وعلى الأمراء، وينال الناس من ذلك فوائد جليلة، ويقتنون بالمتجر في هذا الصنف سعادات طائلة، فلما كانت هذه الحوادث منع الناس من بيع هذا الصنف إلّا للسلطان، وصار يجلس به قوم من عمال ناظر الخاص لشراء سائر ما يحتاج إليه، ومن اشترى من ذلك شيئا سوى عمال السلطان فله من العقاب ما قدّر عليه، والأمر على هذا إلى يومنا الذي نحن فيه.
وأوّل من عملته خلع عليه من أهل الدول جعفر بن يحيى البرمكيّ، وذلك أنّ أمير المؤمنين هارون الرشيد قال في اليوم الذي انعقد له فيه الملك: يا أخي يا جعفر، قد أمرت لك بمقصورة في داري، وما يصلح لها من الفراش، وعشر جوارتكن فيها ليلة مبيتك عندنا.
فقال: يا أمير المؤمنين ما من نعمة متواترة، ولا فضل متظاهر إلّا ورأي أمير المؤمنين أجمل وأتم، ثم انصرف وقد خلع عليه الرشيد، وحمل بين يديه مائة بدرة دراهم ودنانير، وأمر الناس فركبوا إليه حتى سلموا عليه، وأعطاه خاتم الملك ليختم به على ما يريد، فبلغ بذلك صيته أقطار الأرض، ووصل إلى ما لم يصل إليه كاتب بعده، فاقتدي بالرشيد من بعده، وخلعوا على أولياء دولتهم وولاة أعمالهم، واستمرّ ذلك إلى اليوم.
وأوّل ما عرف شدّ السيوف في أوساط الجند: أنّ سيف الدين غازي بن عماد الدين أتابك زنكي بن أق سنقر صاحب الموصل، أمر الأجناد أن لا يركبوا إلا بالسيوف في أوساطهم، والدبابيس تحت ركبهم، فلما فعل ذلك اقتدى به أصحاب الأطراف، وهو أيضا أوّل من حمل على رأسه الصنجق في ركوبه، وغازي هذا هو أخو الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي، ومات في آخر جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وخمسمائة، وولي الموصل بعده أخوه قطب الدين مودود.
سوق الحوائصيين: هذا السوق يتصل بوسق الشرابشيين، وتباع فيه الحوائص، وهي التي كانت تعرف بالمنطقة في القديم، فكانت حوائص الأجناد أوّلا أربعمائة درهم فضة ونحوها، ثم عمل المنصور قلاوون حوائص الأمراء الكبار ثلثمائة دينار، وأمراء الطبلخانات مائتي دينار، ومقدّمي الحلقة من مائة وسبعين إلى مائة وخمسين دينارا، ثم صار الأمراء والخاصكية في الأيام الناصرية وما بعدها يتخذون الحياصة من الذهب، ومنها ما هو مرصع بالجوهر، ويفرّق السلطان في كل سنة على المماليك من حوائص الذهب والفضة شيئا كثيرا، وما زال الأمر على ذلك إلى أن ولي الناصر فرج، فلما كان في أيام الملك المؤيد(3/180)
شيخ، قلّ ذلك، ووجد في تركة الوزير الصاحب علم الدين عبد الله بن زنبور لما قبض عليه ستة آلاف حياصة، وستة آلاف كلوتة جهاركس، وما برح تجار هذا السوق من بياض العامة، وقد قلّ تجار هذا السوق في زمننا وصار أكثر حوانيته يباع فيها الطواقي التي يلبسها الصبيان، وصارت الآن من ملابس الأجناد.
سوق الحلاويين: هذا السوق معدّ لبيع ما يتخذ من السكر حلوى، وإنما يعرف اليوم بحلاوة منوّعة، وكان من أبهج الأسواق لما يشاهد في الحوانيت التي بها من الأواني وآلات النحاس الثقيلة الوزن البديعة الصنعة ذات القيم الكبيرة، ومن الحلاوات المصنعة عدّة ألوان، وتسمى المجمعة، وشاهدت بهذا السوق السكّر ينادي عليه كل قنطار بمائة وسبعين درهما، فلما حدثت المحن وغلا السكر لخراب الدواليب التي كانت بالوجه القبليّ، وخراب مطابخ السكر التي كانت بمدينة مصر، قلّ عمل الحلوى، ومات أكثر صناعها، ولقد رأيت مرّة طبقا فيه نقل وعدّة شقاف من خزف أحمر في بعضها لبن وفي بعضها أنواع الأجبان، وفيما بين الشقاف الخيار والموز وكل ذلك من السكر المعمول بالصناعة، وكانت أيضا لهم عدّة أعمال من هذا النوع يحير الناظر حسنها، وكان هذا السوق في موسم شهر رجب من أحسن الأشياء منظرا، فإنه كان يصنع فيه من السكر أمثال خيول وسباع وقطاط وغيرها، تسمى العلاليق، واحدها علاقة ترفع بخيوط على الحوانيت، فمنها ما يزن عشرة أرطال إلى ربع رطل، تشترى للأطفال، فلا يبقى جليل ولا حقير حتى يبتاع منها لأهله وأولاده، وتمتلىء أسواق البلدين مصر والقاهرة وأريافهما من هذا الصنف، وكذلك يعمل في موسم نصف شعبان، وقد بقي من ذلك إلى اليوم بقية غير طائلة، وكذلك كانت تروق رؤية هذا السوق في موسم عيد الفطر لكثرة ما يوضع فيه من حب الخشكنانج. وقطع البسندود والمشاش، ويشرع في عمل ذلك من نصف شهر رمضان فتملأ منه أسواق القاهرة ومصر والأرياف، ولم ير في موسم سنة سبع عشرة وثمانمائة من ذلك شيء بالأسواق البتة، فسبحان محيل الأحوال لا إله إلا هو.
سوق الشوّايين: هذا السوق أوّل سوق وضع بالقاهرة، وكان يعرف بسوق الشرايحيين، وهو من باب حارة الروم إلى سوق الحلاويين، وما زال يعرف بسوق الشرايحيين إلى أن سكن فيه عدّة من بياعي الشواء، في حدود السبعمائة من سني الهجرة، فزالت عنه النسبة إلى الشرايحيين وعرف بالشوّايين، وهو الآن سكن المتعيشين، وانتقل سوق الشرايحيين في زماننا إلى خارج باب زويلة وعرف بالبسطيين، كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى. قال ابن زولاق في كتاب سيرة المعز، وفي شهر صفر من سنة خمس وستين وثلاثمائة أنشئ سوق الشرايحيين بالقاهرة، وذكر ذلك ابن عبد الظاهر في كتاب خطط القاهرة. وكان في القديم باب زويلة الذي وضعه القائد جوهر عند رأس حارة الروم، حيث العقد المجاور الآن للمسجد الذي عرف اليوم بسام بن نوح، وكان بجواره باب آخر موضعه(3/181)
الآن سوق الماطيين، فلما نقل أمير الجيوش باب زويلة إلى حيث هو الآن، اتسع ما بين سوق الشرايحيين المذكور وبين باب زويلة الكبير، وصار الآن فيه سوق الغرابليين، وفيه عدّة حوانيت تعمل مناخل الدقيق والغرابيل، ويقابلهم عدّة حوانيت يصنع فيها الأغلاق المعروفة بالضبب، وما بعد ذلك إلى باب زويلة، فيه كثير من الحوانيت يجلس ببعضها عدّة من الجبانين لبيع أنواع الجبن المجلوب من البلاد الشامية، وأدركنا هناك إلى أن حدثت المحن من ذلك شيئا كثيرا يتجاوز الحد في الكثرة، وفي بعض تلك الحوانيت قوم يجلسون لعلاج من عساه ينصدع له عظم أو ينكسر أو يصيبه جرح يعرفون بالمجبرين، وهناك منهم بقية إلى يومنا هذا، وبقية الحوانيت ما بين صيارفة وبياعي طرف ومتعيشين في المآكل وغيرها.
فهذه قصبة القاهرة، وما في ظاهر باب زويلة فإنه خارج القاهرة والله تعالى أعلم.
الشارع خارج باب زويلة
هذا الشارع هو تجاه من خرج من باب زويلة، ويمتدّ فيما بين الطريق السالك ذات اليمين إلى الخليج «1» ، وبين الطريق المسلوك فيه ذات اليسار إلى قلعة الجبل. ولم يكن هذا الشارع موجودا على ما هو عليه الآن عند وضع القاهرة، وإنما حدث بعد وضعها بعدّة أعوم على غير هذه الهيئة، فلما كثرت العمائر خارج باب زويلة بعد سنة سبعمائة من سني الهجرة صار على ما هو عليه الآن، فأما أوّل أمره: فإن الخليفة الحاكم بأمر الله أنشأ الباب الجديد على يسرة الخارج من باب زويلة، على شاطىء بركة الفيل، وهذا الباب أدركت عقده عند رأس المنجبية بجوار سوق الطيور، ثم لما اختطت حارة اليانسية وحارة الهلالية صار ساحل بركة الفيل قبالتها، واتصلت العمائر من الباب الجديد إلى الفضاء الذي هو الآن خارج المشهد النفيسيّ، فلما كانت الشدّة العظمى في خلافة المستنصر وخربت القطائع والعسكر، صارت مواضعها خرابا إلى خلافة الآمر بأحكام الله، فعمر الناس حتى صارت مصر والقاهرة لا يتخللهما خراب، وبنى الناس في الشارع من الباب الجديد إلى الجبل عرضا حيث قلعة الجبل الآن، وبنى حائط يستر خراب القطائع والعسكر، فعمر من الباب الجديد طولا إلى باب الصفا بمدينة مصر، حتى صار المتعيشون بالقاهرة والمستخدمون يصلون العشاء الآخرة بالقاهرة ويتوجهون إلى سكنهم في مصر ولا يزالون في ضوء وسرج وسوق موقود من الباب الجديد خارج باب زويلة إلى باب الصفا، حيث الآن كوم الجارح، والمعاش مستمرّ في الليل والنهار.(3/182)
ووقف القاضي الرئيس المختار العدل زكيّ الدين أبو العباس أحمد بن مرتضى بن سيد الأهل بن يوسف، حصة من البستان الكبير المعروف يومئذ بالمخاريق الكبرى، الكائن فيما بين القاهرة ومصر بعدوة الخليج على الفربات، وشرط أنّ الناظر يشتري في كل فصل من فصول الشتاء من قماش الكتان الخام أو القطن ما يراه، ويعمل ذلك جبابا وبغالطيقا محشوّة قطنا، وتفرّق على الأيتام الذكور والإناث الفقراء غير البالغين بالشارع الأعظم، خارج باب زويلة، فيدفع لكل واحد جبة واحدة أو بغلطاقا، فإن تعذر ذلك كان على الأيتام المتصفين بالصفات المذكورة بالقاهرة ومصر وقرافتيهما، وكان هذا الوقف في سنة ستين وستمائة.
فلما كثرت العمائر خارج باب زويلة في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون بعد سنة سبعمائة، صار هذا الشارع أوّله تجاه باب زويلة وآخره في الطول الصليبة التي تنتهي إلى جامع ابن طولون وغيره، لكنهم لا يريدون بالشارع سوى إلى باب القوس الذي بسوق الطيوريين، وهو الباب الجديد، وبعد باب القوس سوق الطيوريين، ثم سوق جامع قوصون وسوق حوض ابن هنس وسوق ربع طفجي، وهذه أسواق بها عدّة حوانيت، لكنها لا تنتهي إلى عظم أسواق القاهرة، بل تكون أبدا دونها بكثير، فهذا حال القصبة والشارع خارج باب زويلة، وقد بقيت عدّة أسواق في جانبي القصبة، ولها أبواب شارعة وفيها أسواق أخر في نواحي القاهرة، ومسالكها سيأتي ذكرها بحسب القدرة إن شاء الله تعالى.
سويقة أمير الجيوش: هذه السويقة الآن فيما بين حارة برجوان وحارة بهاء الدين، كانت تعرف بسوق الخروقيين فيما بعد زوال الدولة الفاطمية، وفي هذا السوق عمر الأمير مازكوج الأسدي مدرسته المعروفة الآن بالأكجية، وأدركت الناس إلى هذا الزمن الذي نحن فيه لا يعرفون هذا السوق إلّا بسوق أمير الجيوش، ويعبّرون عنه بصيغة التصغير، ولا أعرف لهم مستندا في ذلك، والذي تشهد به الأخبار أن سوق أمير الجيوش هو السوق الذي برأس حارة برجوان، ويمتدّ إلى رأس سويقة أمير الجيوش الآن، وهذه السويقة من أكبر أسواق القاهرة، بها عدّة حوانيت، فيها الرفاءون والحباكون، وعدّة حوانيت للرسامين، وعدّة حوانيت للفرّايين، وعدّة حوانيت للخياطين، ومعظمها لسكن البزازين والخلعيين، وفيها عدّة من بياعي الأقباع، ويباع في هذا السوق سائر الثياب المخيطة والأمتعة من الفرش ونحوها. وهو شارع من شوارع القاهرة، يسلك فيه من باب الفتوح وبين القصرين وباب النصر إلى باب القنطرة وشاطيء النيل وغيره، وكان ما بعد هذا السوق إلى باب القنطرة معمور الجانبين بالحوانيت المعدّة لبيع الظرائف والمغازل والكتان والأنواع من المأكل والعطر وغيره، وقد خرب أكثر هذه الحوانيت في سني المحنة وما بعدها، ولسويقة أمير الجيوش عدّة قياسر وفنادق والله أعلم.
سوق الجملون الصغير: هذا السوق يسلك فيه من رأس سويقة أمير الجيوش إلى باب(3/183)
الجوانية وباب النصر ورحبة باب العيد، وهو مجاور لدرب الفرحية، وفيه المدرسة الصيرمية، وباب زيادة الجامع الحاكمي، وكان أوّلا يعرف بالأمراء القرشيين بني النوري، ثم عرف بالجملون الصغير، وبجملون ابن صيرم، وهو الأمير جمال الدين شويخ بن صيرم، أحد الأمراء في أيام الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، وإليه تنسب المدرسة الصيرمية، والخط المعروف خارج باب الفتوح ببستان ابن صيرم، وأدركت هذا الجملون معمور الجانبين من أوّله إلى آخره بالحوانيت، ففي أوّله كثير من البزازين الذين يبيعون ثياب الكتان من الخام والأزرق وأنواع الطرح وأصناف ثياب القطن، وينادي فيه على الثياب بحراج حراج، وفيه عدّة من الخياطين، وعدّة من البابية المعدّين لغسل الثياب وصقالها، وبآخره كثير من الضبيين بحيث لو أراد أحد أن يشتري منه ألف ضبة في يوم لما عسر عليه ذلك، فلما حدثت المحن خرب هذا السوق بخلوّ حوانيته، وصار مقفرا من ساكنيه، ثم إنه عمر بعد سنة عشر وثمانمائة، وفيه الآن نفر من البزازين وقليل ممن سواهم.
سوق المحايريين: هذا السوق فيما بين الجامع الأقمر وبين جملون ابن صيرم، يسلك فيه من سوق حارة برجوان ومن سوق الشماعين إلى الركن المخلق ورحبة باب العيد، وهو من شوارع القاهرة المسلوكة، وفيه عدّة حوانيت لعمل المحاير التي يسافر فيها إلى الحجاز وغيره، وكان فيه تاجران قد تراضيا على ما يشتريانه من المحاير المعرّضة للبيع، ولهذا السوق موسم عظيم عند سفر الحاج وعند سفر الناس إلى القدس.
وبلغني عن شيخ كان بهذا السوق أنه أوصى بعض صبيانه فقال له: يا بنيّ لا تراع أحدا في بيع، فإنه لا يحتاج إليك إلّا مرّة في عمره، فخذ عدلك في ثمن المحارة، فإنك لا تخشى من عوده مرّة أخرى إليك، وسوف إذا عاد من سفره إما إلى الحجاز أو القدس فإنه يحتاج إلى بيعها، فتراقد عليه في ثمنها واشترها بالرخيص.
وكذلك يفعل أهل هذا السوق إلى اليوم، فإنهم لا يراعون بائعا ولا مشتريا، إلا أن سوقهم لم يبق كما أدركناه، فإنه حدث سوق آخر يباع فيه المحاير بسوق الجامع الطولوني، وصار بسوق الخيميين أيضا صناع للمحاير، وبلغني أنّ بالمحايريين هذا أوقف أهل مصر امرأة من جريد مؤتزرة، بيدها ورقة فيها سب الخليفة الحاكم بأمر الله ولعنه، عندما منع النساء من الخروج في الطرقات، فعندما مرّ من هناك حسبها امرأة تسأله حاجة. فأمر بأخذ الورقة منها، فإذا فيها من السب ما أغضبه، فأمر بها أن تؤخذ، فإذا هي من جريد قد ألبس ثيابا وعمل كهيئة امرأة، فاشتدّ عند ذلك غضبه وأمر العبيد بإحراق مدينة مصر فأضرموا فيها النار. ولم أقف على هذا الخبر مسطورا، وقد ذكر المسبحيّ حريق الحاكم بأمر الله لمصر ولم يذكر قصة المرأة.
الصاغة: هذا المكان تجاه المدارس الصالحية بخط بين القصرين. قال ابن عبد(3/184)
الظاهر: الصاغة بالقاهرة كانت مطبخا للقصر، يخرج إليه من باب الزهومة، وهو الباب الذي هدم وبني مكانه قاعة شيخ الحنابلة من المدارس الصالحية، وكان يخرج من المطبخ المذكور مدّة شهر رمضان ألف ومائتا قدر من جميع الألوان في كل يوم، تفرّق على أرباب الرسوم والضعفاء، وسمّي باب الزهومة، أي باب الزفر، لأنه لا يدخل باللحم وغيره إلا منه، فاختص بذلك. انتهى.
والصاغة الآن وقف على المدارس الصالحية، وقفها الملك السعيد بركة خان المسمى بناصر الدين محمد ولد الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري على الفقهاء المقرّرين بالمدارس الصالحية.
سوق الكتبيين: هذا السوق فيما بين الصاغة والمدرسة الصالحية، أحدث فيما أظن بعد سنة سبعمائة، وهو جار في أوقاف المارستان المنصوري، وكان سوق الكتب قبل ذلك بمدينة مصر تجاه الجانب الشرقي من جامع عمرو بن العاص في أوّل زقاق القناديل، بجوار دار عمرو، وأدركته وفيه بقية بعد سنة ثمانين وسبعمائة، وقد دثر الآن فلا يعرف موضعه، وكان قد نقل سوق الكتبيين من موضعه الآن بالقاهرة إلى قيسارية كانت فيما بين سوق الدجاجين المجاور للجامع الأقمر، وبين سوق الحصريين المجاور للركن المخلق، وكان يعلو هذه القيسارية ربع فيه عدّة مساكن، فتضرّرت الكتب من نداوة أقبية البيوت وفسد بعضها، فعادوا إلى سوق الكتب الأوّل حيث هو الآن، وما برح هذا السوق مجمعا لأهل العلم يتردّدون إليه. وقد أنشدت قديما لبعضهم:
مجالسة السوق مذمومة ... ومنها مجالس قد تحتسب
فلا تقربنّ غير سوق الجياد ... وسوق السلاح وسوق الكتب
فهاتيك آلة أهل الوغى ... وهاتيك آلة أهل الأدب
سوق الصنادقيين: هذا السوق تجاه المدرسة السيوفية، كان موضعه في القديم من جملة المارستان، ثم عرف بفندق الدبابليين، وقيل له الآن سوق الصنادقيين، وفيه تباع الصناديق والخزائن والأسرّة مما يعمل من الخشب، وكان ما بظاهرها قديما يعرف بسكن الدجاجين، وأدركناه يعرف بسوق السيوفيين، وكان فيه عدّة طباخين لا يزال دخان كوانينهم منعقدا لكثرته. حتى قال لي شيخنا قاضي القضاة مجد الدين إسماعيل بن إبراهيم الحنفي:
أن قاضي القضاة جلال الدين جاد الله قال له: هذا السوق قطب دائرة الدخان، وفي سوق الصنادقيين إلى الآن بقية.
سوق الحريريين: هذا السوق من باب قيسارية العنبر إلى خط البندقانيين، كان يعرف قديما بسقيفة العداس، ثم عمل صاغة القاهرة، ثم سكن هناك الأساكفة.(3/185)
قال ابن عبد الظاهر: وكانت الصاغة قديما فيما تقدّم مكان الأساكفة الآن، وهو إلى الآن معروف بالصاغة القديمة، وكان يعرف بسقيفة العداس، كذا رأيت في كتب الأملاك، وعرف هذا السوق في زماننا بالحريريين الشراربيين، وعرف بعضه بسوق الزجاجين، وكان يسكن فيه أيضا الأساكفة، فلما أنشأ الأمير يونس الدوادار القيسارية على بئر زويلة بخط البندقانيين في أعوام بضع وثمانين وسبعمائة، نقل الأساكفة من هذا الخط، ونقل منه أيضا بياعي أخفاف النساء إلى قيساريته وحوانيته المذكورة.
سوق العنبريين: هذا السوق فيما بين سوق الحريريين الشراربيين وبين قيسارية العصفر، وهو تجاه الخرّاطين، كان في الدولة الفاطمية مكانه سجنا لأرباب الجرائم يعرف بحبس المعونة، وكان شنيع المنظر ضيقا لا يزال من يجتاز عليه يجد منه رائحة منكرة، فلما كان في الدولة التركية وصار قلاوون من جملة الأمراء الظاهرية بيبرس، صار يمرّ من داره إلى قلعة الجبل على حبس المعونة هذا فيشمّ منه رائحة رديئة ويسمع منه صراخ المسجونين وشكواهم الجوع والعري والقمل، فجعل على نفسه أنّ الله تعالى جعل له من الأمر شيئا أن يبني هذا الحبس مكانا حسنا، فلما صار إليه ملك ديار مصر والشام هدم حبس المعونة وبناه سوقا ليسكنه بياعي العنبر، وكان للعنبر إذ ذاك بديار مصر نفاق، وللناس فيه رغبة زائدة، لا يكاد يوجد بأرض مصر امرأة وإن سفلت إلّا ولها قلادة من عنبر، وكان يتّخذ منه المخادّ والكلل والستور وغيرها، وتجار العنبر يعدّون من بياض الناس، ولهم أموال جزيلة، وفيه رؤساء وأجلّاء، فلما صار الملك إلى الملك الناصر محمد بن قلاون جعل هذا السوق وما فوقه من المساكن وقفا على الجامع الذي أنشأه بظاهر مصر جوار موردة الخلفاء المعروف بالجامع الجديد الناصري، وهو جار في أوقافه إلى يومنا هذا، إلّا أن العنبر من بعد سنة سبعين وسبعمائة كثر فيه الغش حتى صار اسما لا معنى له، وقلّت رغبة الناس في استعماله، فتلاشى أمر هذا السوق بالسنة لما كان، ثم لما حدثت المحن بعد سنة ست وثمانمائة قلّ ترفّه أهل مصر عن استعمال الكثير من العنبر، فطرق هذا السوق ما طرق غيره من أسواق البلد، وبقيت فيه بقية يسيرة إلى أن خلع الخليفة المستعين بالله العباسي بن محمد في سنة خمس عشرة وثمانمائة، وكان نظر الجامع الجديد بيده وبيد أبيه الخليفة المتوكل على الله محمد، فقصد بعض سفهاء العامّة يكاتبه بتعطيل هذا السوق، فاستأجر قيسارية العصفر ونقل سوق العنبر إليها، وصار معطلا نحو سنتين، ثم عاد أهل العنبر إلى هذا السوق على عادتهم في سنة ثمان عشرة وثمانمائة.
سوق الخرّاطين: هذا السوق يسلك فيه من سوق المهامزيين إلى الجامع الأزهر وغيره، وكان قديما يعرف بعقبة الصباغين، ثم عرف بسوق القشاشين، وكان فيما بين دار الضرب والوكالة الآمرية وبين المارستان، ثم عرف الآن بسوق الخرّاطين، وكان سوقا كبيرا(3/186)
معمورا لجانبين بالحوانيت المعدّة لبيع المهد الذي يربى فيه الأطفال، وحوانيت الخرّاطين، وحوانيت صناع السكاكين، وصناع الدوى، يشتمل على نحو الخمسين حانوتا، فلما حدثت المحن تلاشى هذا السوق، واغتصب الأمير جمال الدين يوسف الاستادار منه عدّة حوانيت، من أوّله إلى الحمام التي تعرف بحمام الخرّاطين، وشرع في عمارتها، فعوجل بالقتل قبل إتمامها، وقبض عليها الملك الناصر فرج فيما أحاط به من أمواله وأدخلها في الديوان.
فقام بعمارة الحوانيت التي تجاه قيسارية العصفر من درب الشمسي إلى أوّل الخرّاطين القاضي الرئيس تقيّ الدين عبد الوهاب بن أبي شاكر، فلما كملت جعلها الملك الناصر فيما هو موقوف على ترتبته التي أنشأها على قبر أبيه الملك الظاهر برقوق خارج باب النصر، وأفرد الحمّام وبعض الحوانيت القديمة للمدرسة التي أنشأها الأمير جمال الدين يوسف الأستادار برحبة باب العيد، وما يقابل هذه الحوانيت هو وما فوقه وقف على المدرسة القراسنقرية وغيرها، وهو متخرّب متهدّم.
سوق الجملون الكبير: هذا السوق بوسط سوق الشرابشيين، يتوصل منه إلى البندقانيين وإلى حارة الجودرية وغيرها، أنشئ فيه حوانيت سكنها البزازون، وقفه السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون على تربة مملوكه بلبغا التركمانيّ عند ما مات في سنة سبع وسبعمائة، ثم عمل عليه بابان بطرفيه بعد سنة تسعين وسبعمائة، فصارت تغلق في الليل، وكان فيما أدركناه شارعا مسلوكا طول الليل، يجلس تجاه صاحب العسس، الذي عرفته العامة في زماننا بوالي الطوف، من بعد صلاة العشاء في كل ليلة، وينصب قدّامه مشعل يشعل بالنار طول الليل، وحوله عدّة من الأعوان وكثير من السقائين والنجارين والقصارين والهدّادين بنوب مقرّرة لهم، خوفا من أن يحدث بالقاهرة في الليل حريق فيتداركون إطفاءه، ومن حدث منه في الليل خصومة، أو وجد سكران، أو قبض عليه من السرّاق، تولى أمره والي الطوف وحكم فيه بما يقتضيه الحال. فلما كانت الحوادث بطل هذا الرسم في جملة ما بطل، وهذا السوق الآن جار في وقف ... «1» .
سوق الفرّايين: هذا السوق يسلك فيه من سوق الشرابشيين إلى الأكفانيين والجامع الأزهر وغير ذلك. كان قديما يعرف بسوق الخروقيين، ثم سكن فيه صناع الفراء وتجّاره، فعرف بهم، وصار بهذا السوق في أيام الملك الظاهر برقوق من أنواع الفراء ما يجلّ أثمانها وتتضاعف قيمها، لكثرة استعمال رجال الدولة من الأمراء والمماليك لبس السمور والوشق والقماقم والسنجاب، بعد ما كان ذلك في الدولة التركية من أعز الأشياء التي لا يستطيع أحد أن يلبسها، ولقد أخبرني الطواشي الفقيه الكاتب الحاسب الصوفيّ زين الدين مقبل الروميّ الجنس المعروف بالشامي، عتيق السلطان الملك الناصر الحسين بن محمد بن قلاون: أنه(3/187)
وجب في تركة بعض أمراء السلطان حسن قباء بفرو قاقم، فاستكثر ذلك عليه وتعجب منه، وصار يحكى ذلك مدّة لعزّة هذا الصنف واحترامه، لكونه من ملابس السلطان وملابس نسائه، ثم تبذلت الأصناف المذكورة حتى صار يلبس السمور آحاد الأجناد وآحاد الكتاب، وكثير من العوام، ولا تكاد امرأة من نساء بياض الناس تخلو من لبس السمور ونحوه، وإلى الآن عند الناس من هذا الصنف وغيره من الفرو شيء كثير.
سوق البخانقيين: هذا السوق فيما بين سوق الجملون الكبير وبين قيسارية الشرب الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى عند ذكر القياسر. وباب هذا السوق شارع من القصبة، ويعرف بسوق الخشيبة تصغير خشبة، فإنه عمل على بابه المذكور خشبة تمنع الراكب من التوصل إليه، ويسلك من هذا السوك إلى قيسارية الشرب وغيرها. وهو معمور الجانبين بالحوانيت المعدّة لبيع الكوافي والطواقي التي تلبسها الصبيان والبنات، وبظاهر هذا السوق أيضا في القصة عدّة حوانيت لبيع الطواقي وعملها، وقد كثر لبس رجال الدولة من الأمراء والمماليك والأجناد ومن يتشبه بهم للطواقي في الدولة الجركسية، وصاروا يلبسون الطاقية على رؤوسهم بغير عمامة، ويمرّون كذلك في الشوارع والأسواق والجوامع والمواكب لا يرون بذلك بأسا بعد ما كان نزع العمامة عن الرأس عارا وفضيحة، ونوّعوا هذه الطواقي ما بين أخضر وأحمر وأزرق وغيره من الألفوان، وكانت أوّلا ترتفع نحو سدس ذراع، ويعمل أعلاها مدوّرا مسطحا، فحدث في أيام الملك الناصر فرج منها شيء عرف بالطواقي الجركسية، يكون ارتفاع عصابة الطاقية منها نحو ثلثي ذراع، وأعلاها مدوّر مقبب، وبالغوا في تبطين الطاقية بالورق والكتيرة، فيما بين البطانة المباشرة للرأس والوجه الظاهر للناس، وجعلوا من أسفل العصابة المذكورة زيقا من فرو القرض الأسود يقال له القندس، في عرض نحو ثمن ذراع، يصير دائرا بجبهة الرجل وأعلى عنقه، وهم على استعمال هذا الزيّ إلى اليوم، وهو من أسمج ما عانوه، ويشبه الرجال في لبس ذلك بالنساب لمعنيين، أحدهما أنه فشا في أهل الدولة محبة الذكران، ليستملن قلوب رجالهنّ، فاقتدى بفعلهنّ في ذلك عامة نساء البلد. وثانيهما ما حدث بالناس من الفقر ونزل بهم من الفاقة، فاضطرّ حال نساء أهل مصر إلى ترك ما أدركنا فيه النساء من لبس الذهب والفضة والجواهر ولبس الحرير، حتى لبسن هذه الطواقي وبالغن في عملها من الذهب والحرير وغيره، وتواصين على لبسها، ومن تأمل أحوال الوجود عرف كيف تنشأ أمور الناس في عاداتهم وأخلاقهم ومذاهبهم.
سوق الخلعيين: هذا السوق فيما بين قيسارية الفاضل الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى، وبين باب زويلة الكبير، وكان يعرف قديما بالخشابين، وعرف اليوم بالزقيق تصغير زقاق، وعرف أيضا بسوق الخلعيين، كأنه جمع خلعيّ، والخلعيّ في زماننا هو الذي يتعاطى بيع الثياب الخليع، وهي التي قد لبست، وهذا السوق اليوم من أعمر أسواق القاهرة لكثرة ما يباع فيه من ملابس أهل الدولة وغيرهم، وأكثر ما يباع فيه الثياب المخيطة، وهو معمور(3/188)
الجوانب بالحوانيت، ويسلك فيه من القصبة ليلا ونهارا إلى حارة الباطلية. وخوخة أيدغمش وغير ذلك، وفي داخل القاهرة أيضا عدّة أسواق وقد خرب الآن أكثرها.
سويقة الصاحب: هذه السويقة يسلك إليها من خط البندقانيين ومن باب الخوخة وغير ذلك، وهي من الأسواق القديمة كانت في الدولة الفاطمية تعرف بسويقة الوزير، يعني أبا الفرج يعقوب بن كلس وزير الخليفة العزيز بالله نزار بن المعز الذي تنسب إليه حارة الوزيرية، فإنها كانت على باب داره التي عرفت بعده في الدولة الفاطمية بدار الديباج، وصار موضعها الآن المدرسة الصاحبية، ثم صارت تعرف بسويقة دار الديباج يعني دار الطراز، ينسج فيها الديباج الذي هو الحرير، وقيل لذلك الموضع كله خط دار الديباج، ثم عرف هذا السوق بالسوق الكبير في أخريات الدولة الفاطمية، فلما ولي صفيّ الدين عبد الله بن شكر الدميري وزارة الملك العادل أبي بكر بن أيوب سكن في هذا الخط، وأنشأ به مدرسته التي تعرف إلى اليوم بالمدرسة الصاحبية، وأنشأ به أيضا رباطه وحمامه المجاورين للمدرسة المذكورة، عرفت من حينئذ هذه السويقة بسويقة الصاحب المذكور، واستمرّت تعرف بذلك إلى يومنا هذا، ولم تزل من الأسواق المعتبرة، يوجد فيها أكثر ما يحتاج إليه من المآكل، لوفور نعم من يسكن هنالك من الوزراء وأعيان الكتاب، فلما حدثت المحن طرقها ما طرق غيرها من أسواق القاهرة فاختلت عما كانت وفيها بقية.
سوق البندقانيين: هذا السوق يسلك إليه من سوق الزجاجين ومن سويقة الصاحب ومن سوق الأبزاريين وغيره، وكان يعرف قديما بسوق بئر زويلة، وكان هناك بئر قديمة تعرف ببئر زويلة برسم اصطبل الجميزة الذي كان فيه خيول الخلفاء الفاطميين، وصار موضعه خط البندقانيين بعد ذلك كما ذكر عند اصطبلات الخلفاء الفاطميين من هذا الكتاب، وموضع هذه البئر اليوم قيسارية يونس والربع الذي يعلوها، وبقي منها موضع ركب عليه حجر وأعدّت لملء السقائين منها، فلما زالت الدولة واختط موضع اصطبل الجميزة الدور وغيرها، وعرف موضع الاصطبل بالبندقانيين، قيل لهذا السوق سوق البندقانيين، وأدركته سوقا كبيرا معمور الجانبين بالحوانيت التي قد تهدّم أعلاها منذ كان الحريق بالبندقانيين في سنة إحدى وخمسين وسبعمائة، كما ذكر في خط البندقانيين عند ذكر الأخطاط من هذا الكتاب، وفي هذا السوق كثير من أرباب المعاش المعدّين لبيع المأكولات من الشواء والطعام المطبوخ وأنواع الأجبان والألبان والبوارد والخبز والفواكه، وعدّة كثيرة من صناع قسيّ البندق، وكثير من الرسامين، وكثير من بياعي الفقاع. فلما حدثت المحن بعد سنة ست وثمانمائة اختلّ هذا السوق خللا كبيرا وتلاشى أمره.
سوق الأخفافيين: هذا السوق بجوار سوق البندقانيين، يباع فيه الآن خفاف النسوان ونعالهنّ، وهو سوق مستجدّ أنشأه الأمير يونس النوروزيّ دوادار الملك الظاهر برقوق في(3/189)
سنة بضع وثمانين وسبعمائة، ونقل إليه الأخفافيين بياعي أخفاف النساء من خط الحريريين والزجاجين، وكان مكانه مما خرب في حريق البندقانيين، فركب بعض القيسارية على بئر زويلة وجعل بابها تجاه درب الأنجب، وبنى بأعلاها ربعا كبيرا فيه عدّة مساكن، وجعل الحوانيت بظاهرها وبظاهر درب الأنجب، وبنى فوقها أيضا عدّة مساكن، فعمر ذلك الخط بعمارة هذه الأماكن، وبه إلى الآن سكن بياعي أخفاف النساء ونعالهنّ، التي يقال للنعل منها سر موزه، وهو لفظ فارسيّ معناه رأس الخف، فإن سر رأس وموزه خف.
سوق الكفتيين: هذا السوق يسلك إليه من البندقانيين ومن حارة الجودرية ومن الجملون الكبير وغيره، ويشتمل على عدّة حوانيت لعمل الكفت، وهو ما تطعّم به أواني النحاس من الذهب والفضة، وكان لهذا الصنف من الأعمال بديار مصر رواج عظيم، وللناس في النحاس المكفت رغبة عظيمة، أدركنا من ذلك شيئا لا يبلغ وصفه واصف لكثرته، فلا تكاد دار تخلو بالقاهرة ومصر من عدّة قطع نحاس مكفت، ولا بدّ أن يكون في شورة العروس دكة نحاس مكفت.
والدكة: عبارة عن شيء شبه السرير يعمل من خشب مطعم بالعاج والأبنوس، أو من خشب مدهون، وفوق الدكة دست طاسات من نحاس أصفر مكفت بالفضة، وعدّة الدست سبع قطع بعضها أصغر من بعض، تبلغ كبراها ما يسع نحو الأردب من القمح، وطول الأكفات التي نقشت بظاهرها من الفضة نحو الثلث ذراع في عرض إصبعين، ومثل ذلك دست أطباق عدّتها سبعة بعضها في جوف بعض، ويفتح أكبرها نحو الذراعين وأكثر، وغير ذلك من المناير والسرج وأحقاق الأشنان والطشت والإبريق والمبخرة، فتبلغ قيمة الدكة من النحاس المكفت زيادة على مائتي دينار ذهبا، وكانت العروس من بنات الأمراء أو الوزراء أو أعيان الكتاب أو أماثل التجار تجهز في شورتها عند بناء الزوج عليها سبع دكك، دكة من فضة، ودكة من كفت، ودكة من نحاس أبيض، ودكة من خشب مدهون، ودكة من صيني، ودكة من بلور، ودكة كداهي: وهي آلات من ورق مدهون تحمل من الصين، أدركنا منها في الدور شيئا كثيرا، وقد عدم هذا الصنف من مصر إلّا شيئا يسيرا. حدثني القاضي الفاضل الرئيس تاج الدين أبو الفداء إسماعيل أحمد بن عبد الوهاب ابن الخطباء المخزوميّ رحمه الله قال: تزوّج القاضي علاء الدين بن عرب محتسب القاهرة بامرأة من بنات التجار، تعرف بست العمائم، فلما قارب البناء عليها والدخول بها، حضر إليه في يوم وكيلها وأنا عنده، فبلّغه سلامها عليه وأخبره أنها بعثت إليه بمائة ألف درهم فضة خالصة ليصلح بها لها ما عساه اختلّ من الدكة الفضة، فأجابه إلى ما سأل وأمره باحضار الفضة، فاستدعى الخدم من الباب فدخلوا بالفضة في الحال، وبالوقت أمر المحتسب بصناع الفضة وطلائها، فاحضروا وشرعوا في إصلاح ما أرسلته ست العمائم من أواني الفضة وإعادة طلائها بالذهب، فشاهدنا من ذلك منظرا بديعا.(3/190)
وأخبرني من شاهد جهاز بعض بنات السلطان حسن بن محمد بن قلاوون وقد حمل في القاهرة عند ما زفت على بعض الأمراء في دولة الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون، فكان شيئا عظيما، من جملته دكة من بلور تشتمل على عجائب، منها زير من بلور قد نقش بظاهره صور ثابتة على شبه الوحوش والطيور، وقدر هذا الزير ما يسع قربة ماء، وقد قلّ استعمال الناس في زمننا هذا للنحاس المكفت، وعزّ وجوده، فإن قوما لهم عدّة سنين قد تصدّوا لشراء ما يباع منه وتنحية الكفت عنه طلبا للفائدة، وبقي بهذا السوق إلى يومنا هذا بقية من صناع الكفت قليلة.
سوق الأقباعيين: بخط تحت الربع خارج باب زويلة، مما يلي الشارع المسلوك فيه إلى قنطرة الخرق، ما كان منه على يمنة السالك إلى قنطرة الخرق، فإنه جار في وقف الملك الظاهر بيبرس، هو وما فوقه على المدرسة الظاهرية بخط بين القصرين، وعلى أولاده. ولم يزل إلى يوم السبت خامس شهر رمضان سنة عشرين وثمانمائة، فوقع الهدم فيه ليضاف إلى عمارة الملك المؤيد شيخ المجاورة لباب زويلة، وما كان من هذا السوق على يسرة من سلك إلى القنطرة، فإنه جار في وقف اقبغا عبد الواحد على مدرسته المجاورة للجامع الأزهر، وبعضه وقف امرأة تعرف بدنيا.
سويقة السقطيين: هذا السوق خارج باب زويلة بجوار دار التفاح، أنشأه الأمير اقبغا عبد الواحد وهو جار في وقفه.
سويق خزانة البنود: هذه السويقة على باب درب راشد، وتمتدّ إلى خزانة البنود، وكانت تعرف أوّلا بسويقة ريدان الصقلبي المنسوب إليه الريدانية خارج باب النصر.
سويقة المسعودي: هذه السويقة من حقوق حارة زويلة بالقاهرة، تنسب إلى الأمير صارم الدين قايماز المسعوديّ، مملوك الملك المسعود أقسيس بن الملك الكامل. وولي المسعودي هذا ولاية القاهرة، وكان ظالما غاشما جبارا، من أجل أنه كان في دار ابن فرقة التي من جملتها جامع ابن المغربي، وبيت الوزير ابن أبي شاكر، ثم إن فتح الدين بن معتصم الداودي التبريزي كاتب السر جدّدها في سنة ثلاث عشرة وثمانمائة، لأنه كان يسكن هناك.
ومات المسعوديّ في يوم الاثنين النصف من ذي الحجة سنة أربع وستين وستمائة، ضربه شخص في دار العدل بسكين، كان يريد أن يقتل بها الأمير عز الدين الحلي نائب السلطنة، فوقعت في فؤاد المسعوديّ فمات لوقته.
سويقة طغلق: هذه السويقة على رأس الحارة الصالحية مما يلي الجامع الأزهر، عرفت بالأمير سيف الدين طغلق السلاح دار، صاحب حمام طغلق التي بالقرب من الجامع(3/191)
الأزهر على باب درب المنصوري، وصاحب دار طغلق التي عرفت اليوم بدار المنصوري في الدرب المذكور، وأوّل ما عمرت هذه السويقة لم يكن فيها غير أربع حوانيت، ثم عمرت عمارة كبيرة لمّا خربت سويقة الصالحية التي كانت مما يلي باب البرقية في حدود سنة ثمانين وسبعمائة، ثم تلاشت من سنة ست وثمانمائة كما تلاشى غيرها من الأسواق، وبقي فيها يسير جدّا.
سويقة الصوّاني: هذه السويقة خارج باب النصر وباب الفتوح، بخط بستان ابن صيرم، عرفت بالأمير علاء الدين أبي الحسن عليّ بن مسعود الصوّانيّ، مشدّ الدواوين في أيام الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري، وقيل بل قراجا الصوّاني، أحد مقدّمي الحلقة في أيام الملك المنصور قلاوون، وكان في حدود سنة إحدى وثمانين وستمائة موجودا، وكانت داره هناك، وكان أيضا في أيام الملك المنصور قلاون، الأمير زين الدين أبو المعالي أحمد بن شرف الدين أبي المفاخر محمد الصوّاني شادّ الدواوين، وكان يسكن بمدينة مصر، والأمير علم الدين سنجر الصوّاني أحد الأمراء المقدّمين الألوف في أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون، والملك المظفر بيبرس، وهو صاحب البئر التي بالباطلية المعروفة ببئر الدرابزين، وعز الدين أيبك الصوّاني.
سويقة البلشون: هذه السويقة خارج باب الفتوح، عرفت بسابق الدين سنقر البلشون، أحد مماليك السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب وسلاح درايته، وكان له أيضا بستان بالمقس خارج القاهرة من جوار الدكة يعرف ببستان البلشون.
سويقة اللفت: هذه السويقة كانت خارج باب النصر من ظاهر القاهرة، حيث البئر التي في شمال مصلى الأموات، المعروف ببئر اللفت. تجاه دار ابن الحاجب، كانت تشتمل على عدّة حوانيت يباع فيها اللفت والكرنب، ويحمل منها إلى سائر أسواق القاهرة، ويباع اليوم في بعض هذه الحوانيت الدريس لعلف الدواب.
سويقة زاوية الخدّام: هذه السويقة خارج باب النصر بحريّ سويقة اللفت، كان فيها عدّة حوانيت يباع فيها أنواع المآكل، فلما كانت سن ست وثمانمائة خربت، ولم يبق فيها سوى حوانيت لا طائل بها.
سويقة الرملة: هذه السويقة كانت فيما بين سويقة زاوية الخدّام وجامع آل ملك حيث مصلى الأموات، التي هناك كان فيها عدّة حوانيت مملوءة بأصناف المآكل، قد خرب سائرها ولم يبق لها أثر البتة.
سويقة جامع آل ملك: أدركتها إلى سنة ست وثمانمائة، وهي من الأسواق الكبار، فيها غالب ما يحتاج إليه من الإدام، وقد خربت لخراب ما يجاورها.(3/192)
سويقة أبي ظهير: كانت تلي سويقة جامع آل ملك أدركتها عامرة.
سويقة السنابطة: كانت هناك، عرفت بقوم من أهل سنباط سكنوا بها، أدركتها أيضا عامرة.
سويقة العرب: هذه السويقة كانت تتصل بالريدانية، خربت في الغلاء الكائن في سنة ست وسبعين وسبعمائة، وأدركت حوانيت هذه السويقة، وهي خالية من السكان إلّا يسيرا، وعقودها من اللبن، ويقال له وما وراءه خراب الحسينية، وكانت في غاية العمارة، وكان بأوّلها مما يلي الحسينية فرن، أدركته عامر إلى ما بعد سنة تسعين وسبعمائة، بلغني أنه كان قبل ذلك في أعوام ستين وسبعمائة يخبز فيه كل يوم نحو سبعة آلاف رغيف، لكثرة من حوله من السكان، وتلك الأماكن اليوم لا ساكن فيها إلّا اليوم، ولا يسمع بها إلّا الصدى.
سويقة العزي: هذه السويقة خارج باب زويلة قريبا من قلعة الجبل، كانت من جملة المقابر التي خارج القاهرة، فيما بين الباب الحديد والحارات وبركة الفيل، وبين الجبل الذي عليه الآن قلعة الجبل، فلما اختطت هذه الجهة كما تقدّم ذكره عند ذكر ظواهر القاهرة، عرفت هذه السويقة بالأمير عز الدين أيبك العزي نقيب الجيوش، واستشهد على عكا عند ما فتحها الأشرف خليل بن قلاوون في يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة سنة تسعين وستمائة، وهذه السويقة عامرة بعمارة ما حولها.
سويقة العياطين: هذه السويقة بخط المقس بالقرب من باب البحر، عرفت بالفقير المعتقد مسعود بن محمد بن سالم العياط لسكنه بالقرب منها، وله هناك مسجد بناه في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، وأخبرني الشيخ المعمر حسام الدين حسن بن عمر الشهرزوريّ وكيل أبي رحمه الله: أن النشو ناظر الخاص في أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون، طرح على أهل هذه السويقة عدّة أمطار عسل قصب، وألزمهم في ثمن كل قنطار بعشرين درهما، فوقفوا إلى السلطان وعيطوا حتى أعفاهم من ذلك، فقيل لها من حينئذ سويقة العياطين، ولفظة عياط عند أهل مصر بمعنى صيّاح، والعياط الصيّاح، وأصل ذلك في اللغة أن العطعطة تتابع الأصوات واختلافها في الحرب، وهي أيضا حكاية أصوات المجان إذا قالوا عيط محيط، وذلك إذا غلبوا قوما، وقد عطعطوا أو عطعط بالذئب إذا قال له عاط عاط، فحرّف عامّة مصر ذلك وجعلوا العياط الصيّاح، واشتقوا منه الفعل فأعرف ذلك.
سويقة العراقيين: هذه السويقة بمدينة مصر الفسطاط، وإنما عرفت بذلك لأن قريبا الأزديّ وزحافا الطائيّ، وكانا من الخوارج، خرجا على زياد ابن أمية بالبصرة، فاتهم زياد بهما جماعة من الأزد، وكتب إلى معاوية بن أبي سفيان يستأذنه في قتلهم، فأمر بتغربهم عن أوطانهم، فسيّرهم إلى مصر وأميرها مسلمة بن مخلد، وذلك في سنة ثلاث وخمسين،(3/193)
وكان عددهم نحوا من مائتين وثلاثين، فأنزلوا بالظاهر أحد خطط مصر، وكان إذ ذاك طرقا، أراد أن يسدّ بهم ذلك الموضع، فنزلوا في الموضع المعروف بكوم سراج، وكان فضاء، فبنوا لهم مسجدا واتخذوا سوقا لأنفسهم، فسمى سويقة العراقيين.
ذكر العوائد التي كانت بقصبة القاهرة
إعلم أن قصبة القاهرة ما برحت محترمة، بحيث أنه كان في الدولة الفاطمية إذا قدم رسول متملّك الروم، ينزل من باب الفتوح ويقبل الأرض وهو ماش إلى أن يصل إلى القصر، وكذلك كان يفعل كل من غضب عليه الخليفة، فإنه يخرج إلى باب الفتوح ويكشف رأسه ويستغيث بعفو أمير المؤمنين حتى يؤذن له بالمصير إلى القصر، وكان لها عوايد منها:
أن السلطان من ملوك بني أيوب ومن قام بعدهم من ملوك الترك، لا بدّ إذا استقرّ في سلطنة ديار مصر أن يلبس خلعة السلطان بظاهر القاهرة، ويدخل إليها راكبا والوزير بين يديه على فرس، وهو حامل عهد السلطان الذي كتبه له الخليفة بسلطنة مصر على رأسهم، وقد أمسكه بيديه، وجميع الأمراء ورجال العساكر مشاة بين يديه منذ يدخل إلى القاهرة من باب الفتوح، أو من باب النصر، إلى أن يخرج من باب زويلة. فإذا خرج السلطان من باب زويلة ركب حينئذ الأمراء وبقية العسكر.
ومنها أنه لا يمرّ بقصبة القاهرة حمل تبن، ولا حمل حطب، ولا يسوق أحد فرسا بها، ولا يمرّ بها سقّاء إلّا وراويته «1» مغطاة.
ومن رسم أرباب الحوانيت أن يعدّوا عند كل حانوت زيرا مملوءا بالماء مخافة أن يحدث الحريق في مكان فيطفأ بسرعة، ويلزم صاحب كل حانوت أن يعلق على حانوته قنديلا طول الليل يسرج إلى الصباح، ويقام في القصبة قوم يكنسون الأزبال والأتربة ونحوها، ويرشون كل يوم، ويجعل في القصبة طول الليل عدّة من الخفراء يطوفون بها لحراسة الحوانيت وغيرها، ويتعاهد كل قليل بقطع ما عساه تربى من الأوساخ في الطرقات حتى لا تعلو الشوارع.
وأوّل من ركب بخلع الخليفة في القاهرة السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب. قال القاضي الفاضل في متجدّدات سنة سبع وستين وخمسمائة، تاسع شهر رجب وصلت الخلع التي كانت نفذت إلى السلطان الملك العادل نور الدين محمد بن زنكي من الخليفة ببغداد، وهي جبة سوداء وطوق ذهب، فلبسها نور الدين بدمشق إظهارا لشعارها، وسيّرها إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ليلبسها، وكانت أنفذت(3/194)
له خلعة ذكر أنه استقصرها واستزراها واستصغرها دون قدره، واستقرّ السلطان صلاح الدين بداره، وباتت الخلع مع الواصل بها شاه ملك برأس الطابية، فلما كان العاشر منه خرج قاضي القضاة والشهود والمقرئون والخطباء إلى خيمته، واستقرّ المسير بالخلعة، وهو من الأصحاب النجمية، وزينت البلد ابتهاجا بها، وفيه ضربت النوب الثلاث بالباب الناصري على الرسم النوري في كل يوم، فأما دمشق فالنوب المضروبة بها خمس على رسم قديم، لأن الأتابكية لها قواعد ورسوم مستقرّة بينهم في بلادهم. وفي حادي عشرة ركب السلطان بالخلع وشق بين القصرين والقاهرة، ولما بلغ باب زويلة نزع الخلع وأعادها إلى داره، ثم شمّر للعب الأكرة، ولم يزل الرسم كذلك في ملوك بني أيوب حتى انقضت أيامهم وقام من بعدهم مماليكهم الأتراك، فجروا في ذلك على عادة ملوك بني أيوب إلى أن قام في مملكة مصر السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ وقتل هولاكو الخليفة المستعصم بالله، وهو آخر خلفاء بني العباس ببغداد، وقدم على الملك الظاهر أبو العباس، أحمد بن الخليفة الظاهر بالله بن الخليفة الناصر، في شهر رجب سنة تسع وخمسين وستمائة، فتلقاه وأكرمه وبايعه ولقبه بالخليفة المستنصر بالله، وخطب باسمه على المنابر، ونقش السكة باسمه، فلما كان في يوم الاثنين الرابع من شعبان، ركب السلطان إلى خيمة ضربت له بالبستان الكبير من ظاهر القاهرة، ولبس خلعة الخليفة، وهي جبة سوداء وعمامة بنفسجية وطوق من ذهب وسيف بدّاويّ، وجلس مجلسا عاما حضر فيه الخليفة والوزير القضاة والأمراء والشهود، وصعد القاضي فخر الدين إبراهيم بن لقمان كاتب السرّ منبرا نصب له وقرأ تقليد السلطان الذي عهد به إليه الخليفة، وكان بخط ابن لقمان ومن إنشائه، ثم ركب السلطان بالخلعة والطوق ودخل من باب النصر وشق القاهرة، وقد زينت له، وحمل الوزير الصاحب بهاء الدين محمد بن عليّ بن حنا التقليد على رأسه قدّام السلطان، والأمراء ومن دونهم مشاة بين يديه حتى خرج من باب زويلة إلى قلعة الجبل، فكان يوما مشهودا.
وفي ثالث شوّال سنة اثنتين وستين وستمائة، سلطن الملك الظاهر بيبرس ابنه الملك السعيد ناصر الدين محمد بركة خان، وأركبه بشعار السلطنة ومشى قدّامه وشق القاهرة كما تقدّم وسائر الأمراء مشاة من باب النصر إلى قلعة الجبل، وقد زينت القاهرة، وآخر من ركب بشعار السلطنة وخلعة الخلافة والتقليد، السلطان الناصر محمد بن قلاوون، عند دخوله إلى القاهرة من البلاد الشامية بعد قتل السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين، واستيلائه على المملكة، في ثامن جمادى الأولى سنة ثمان وتسعين وستمائة.
وقال المسبّحي في حوادث سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة نودي في السقائين أن يغطوا روايا الجمال والبغال لئلا تصيب ثياب الناس. وقال: في سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة أمر العزيز بالله أمير المؤمنين بنصب أزيار الماء مملوءة ماء على الحوانيت، ووقود المصابيح على الدور وفي الأسواق. وفي ثالث ذي الحجة سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة أمر أمير(3/195)
المؤمنين الحاكم بأمر الله الناس بأن يقدوا القناديل في سائر البلد على جميع الحوانيت، وأبواب الدور، والمحال والسكك الشارعة. وغير الشارعة، ففعل ذلك، ولازم الحاكم بأمر الله الركوب في الليل، وكان ينزل كل ليلة إلى موضع موضع، وإلى شارع شارع، وإلى زقاق زقاق، وكان قد ألزم الناس بالوقيد، فتناظر وافية واستكثروا منه في الشوارع والأزقة وزينت القياسر والأسواق بأنواع الزينة، وصار الناس في القاهرة ومصر طول الليل في بيع وشراء، وأكثروا أيضا من وقود الشموع العظيمة، وأنفقوا في ذلك أموالا عظيمة جللة لأجل التلاهي، وتبسطوا في المآكل والمشارب وسماع الأغاني، ومنع الحاكم الرجال المشاة بين يديه من المشي بقربة، وزجرهم وانتهرهم وقال: لا تمنعوا أحدا مني، فأحدق الناس به وأكثروا من الدعاء له، وزينت الصاغة وخرج سائر الناس بالليل للتفرّج، وغلب النساء الرجال على الخروج بالليل، وعظم الازدحام في الشوارع والطرقات، وأظهر الناس اللهو والغناء وشرب المسكرات في الحوانيت وبالشوارع من أوّل المحرّم سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة، وكان معظم ذلك من ليلة الأربعاء تاسع عشرة إلى ليلة الاثنين رابع عشرية، فلما تزايد الأمر وشنع أمر الحاكم بأمر الله أن لا تخرج امرأة من العشاء، ومتى ظهرت امرأة بعد العشاء نكّل بها، ثم منع الناس من الجلوس في الحوانيت فامتنعوا، ولم يزل الحاكم على الركوب في الليل إلى آخر شهر رجب، ثم نودي في شهر رجب سنة خمس وتسعين وثلاثمائة أن لا يخرج أحد بعد عشاء الآخرة، ولا يظهر لبيع ولا شراء، فامتنع الناس.
وفي سنة خمس وأربعمائة تزايد في المحرّم منها وقوع النار في البلد وكثر الحريق في عدّة أماكن، فأمر الحاكم بأمر الله الناس باتخاذ القناديل على الحوانيت وأزيار الماء مملوءة ماء، وبطرح السقائف التي على أبواب الحوانيت، والرواشن التي تظلّ الباعة، فأزيل جميع ذلك من مصر والقاهرة.
ذكر ظواهر القاهرة المعزية
اعلم أن القاهرة المعزية يحصرها أربع جهات وهي: الجهة الشرقية، والجهة الغربية، والجهة الشمالية التي تسميها أهل مصر البحرية، والجهة الجنوبية التي تعرف في أرض مصر بالقبلية.
فأما الجهة الشرقية فإنها من سور القاهرة الذي فيه الآن باب البرقية والباب الجديد والباب المحروق، وتنتهي هذه الجهة إلى الجبل المقطم. وأما الجهة الغربية فإنها من سور القاهرة الذي فيه باب القنطرة وباب الخوخة وباب سعادة، وتنتهي هذه الجهة إلى شاطيء النيل. وأما الجهة القبلية فإنها من سور القاهرة الذي فيه باب زويلة، وتنتهي هذه الجهة إلى حدّ مدينة مصر. وأما الجهة البحرية فإنها من سور القاهرة الذي فيه باب النصر وباب الفتوح، وتنتهي هذه الجهة إلى بركة الجب التي تعرف اليوم ببركة الحاج، وقد كانت هذه(3/196)
الجهة الشرقية عند ما وضعت القاهرة فضاء فيما بين السوروبين الجبل لا بنيان فيه البتة، وما زال على هذا إلى أن كانت الدولة التركية، فقيل لهذا الفضاء الميدان الأسود، وميدان القبق، وسيرد ذكر هذا الميدان إن شاء الله تعالى.
فلما كانت سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون، عمل هذا الميدان مقبرة لأموات المسلمين، وبنيت فيه الترب الموجودة الآن كما ذكر عند ذكر المقابر من هذا الكتاب، وكانت الجهة الغربية تنقسم قسمين، أحدهما برّ الخليج الشرقيّ، والآخر برّ الخليج الغربيّ، فأما برّ الخليج الشرقي، فكان عليه بستان الأمير أبي بكر محمد بن طفج الإخشيد وميدانه، وعرف هذا البستان بالكافوري، فلما اختط القائد جوهر القاهرة أدخل هذا البستان في سور القاهرة، وجعل بجانبه الميدان الذي يعرف اليوم بالخرشتف، فصارت القاهرة تشرف من غربيها على الخليج، وبنيت على هذا الخليج مناظر وهي: منظرة اللؤلؤة، ومنظرة دار الذهب، ومنظرة غزالة، كما ذكر عند ذكر المناظر من هذا الكتاب. وكان فيما بين البستان الكافوري والمناظر المذكورة وبين الخليج، شارع تجلس فيه عامة الناس للتفرّج على الخليج وما وراءه من البساتين والبرك، ويقال لهذا الشارع اليوم بين السورين، ويتصل بالبستان الكافوري وميدان الإخشيد بركة الفيل، وبركة قارون، ويشرف على بركة قارون الدور التي كانت متصلة بالعسكر ظاهر مدينة فسطاط مصر، كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب، عند ذكر البرك وعند ذكر العسكر. وأما برّ الخليج الغربيّ، فإن أوّله الآن من موردة الخلفاء فيما بين خط الجامع الجديد خارج مصر وبين منشأة المهرانيّ، وآخره أرض التاج والخمس وجوه وما بعدها من بحريّ القاهرة، وكان أوّل هذا الخليج عند وضع القاهرة بجانب خط السبع سقايات، وكان ما بين خط السبع سقايات وبين المعاريج بمدينة مصر غامرا بماء النيل، كما ذكر في ساحل مصر من هذا الكتاب، وكانت القنطرة التي يفتح سدّها عند وفاء النيل ست عشرة ذراعا خلف السبع سقايات، كما ذكر عند ذكر القناطر من هذا الكتاب، وكان هناك منظرة السكرة التي يجلس فيها الخليفة يوم فتح الخليج، ولها بستان عظيم، ويعرف موضعه اليوم بالمريس، ويتصل ببستان منظرة السكرة جنان الزهري، وهي من خط قناطر السباع الموجودة الآن بحذاء خط السبع سقايات إلى أراضي اللوق، ويتصل بالزهري عدّة بساتين إلى المقس، وقد صار موضع الزهري وما كان بجواره على برّ الخليج من البساتين يعرف بالحكورة، من أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى وقتنا هذا، كما ذكر عند ذكر الأحكار من هذا الكتاب.
وكان الزهريّ وما بجواره من البساتين التي على برّ الخليج الغربي والمقس، كل ذلك مطلّ على النيل، وليس لبرّ الخليج الغربيّ كبير عرض، وإنما يمرّ النيل في غربيّ البساتين على الموضع الذي يعرف اليوم باللوق إلى المقس، فيصير المقس هو ساحل القاهرة، وتنتهي المراكب إلى موضع جامع المقس الذي يعرف اليوم بجامع المقسي، فكان ما بين(3/197)
الجامع المذكور ومنية عقبة التي ببرّ الجيزة بحر النيل، ولم يزل الأمر على ذلك إلى ما بعد سنة سبعمائة. إلّا أنه كان قد انحسر ماء النيل بعد الخمسمائة من سني الهجرة عن أرض بالقرب من الزهريّ، وانحسر أيضا عن أرض تجاه البعل الذي في بحري القاهرة، عرفت هذه الأرض بجزيرة الفيل، وما برح ماء النيل ينحسر عن شيء بعد شيء إلى ما بعد سنة سبعمائة، فبقيت عدّة رمال فيما بين منشأة المهرانيّ وبين جزيرة الفيل، وفيما بين المقس وساحل النيل، عمر الناس فيها الأملاك والمناظر والبساتين من بعد سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، وحفر الملك الناصر محمد بن قلاوون فيها الخليج المعروف اليوم بالخليج الناصريّ، فصار برّ الخليج الغربيّ بعد ذلك أضعاف ما كان أوّلا من أجل انطراد ماء النيل عن برّ مصر الشرقيّ، وعرف هذا البرّ اليوم بعدّة مواضع، وهي في الجملة خط منشأة المهرانيّ، وخط المريس، وخط منشأة الكتبة، وخط قناطر السباع، وخط ميدان السلطان، وخط البركة الناصرية، وخط الحكورة، وخط الجامع الطبرسي، وربع بكتمر، وزريبة السلطان، وخط باب اللوق، وقنطرة الخرق، وخط بستان العدّة، وخط زريبة قوصون، وخط حكر ابن الأثير، وفم الخور، وخط الخليج الناصري، وخط بولاق، وخط جزيرة الفيل، وخط الدكة، وخط المقس، وخط بركة قرموط، وخط أرض الطبالة، وخط الجرف، وأرض البعل، وكوم الريش، وميدان القمح، وخط باب القنطرة، وخط باب الشعرية، وخط باب البحر، وغير ذلك. وسيأتي من ذكر هذه المواضع ما يكفي ويشفي إن شاء الله تعالى.
وكانت جهة القاهرة القبلية من ظاهرها ليس فيها سوى بركة الفيل وبركة قارون، وهي فضاء يرى من خرج من باب زويلة عن يمينه الخليج وموردة السقائين، وكانت تجاه باب الفتوح، ويرى عن يساره الجبل، ويرى تجاهه قطائع ابن طولون التي تتصل بالعسكر، ويرى جامع ابن طولون وساحل الحمراء الذي يشرف عليه جنان الزهريّ، ويرى بركة الفيل التي كان يشرف عليها الشرف الذي فوقه قبة الهواء، ويعرف اليوم هذا الشرف بقلعة الجبل، وكان من خرج من مصلى العيد بظاهر مصر يرى بركتي الفيل وقارون والنيل.
فلما كانت أيام الخليفة الحاكم بأمر الله أبي علي منصور بن العزيز بالله أبي منصور نزار بن الإمام المعز لدين الله أبي تميم معدّ، عمل خارج باب زويلة بابا عرف بالباب الجديد، واختط خارج باب زويلة عدّة من أصحاب السلطان، فاختطت المصامدة حارة المصامدة، واختطت اليانسية والمنجبية وغيرهما كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب، فلما كانت الشدّة العظمى في خلافة المستنصر بالله، اختلت أحوال مصر وخربت خرابا شنيعا، ثم عمر خارج باب زويلة في أيام الخليفة الآمر بأحكام الله، ووزارة المأمون محمد بن فاتك بن البطائحيّ بعد سنة خمسمائة، فلما زالت الدولة الفاطمية، هدم السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب حارة المنصورة التي كانت سكن العبيد خارج باب زويلة، وعملها بستانا،(3/198)
فصار ما خرج عن باب زويلة بساتين إلى المشهد النفيسيّ، وبجانب البساتين طريق يسلك منها إلى قلعة الجبل التي أنشأها السلطان صلاح الدين المذكور على يد الأمير بهاء الدين قراقوش الأسديّ، وصار من يقف على باب جامع ابن طولون يرى باب زويلة، ثم حدثت العمائر التي هي الآن خارج باب زويلة بعد سنة سبعمائة، وصار خارج باب زويلة الآن ثلاثة شوارع، أحدها ذات اليمين، والآخر ذات الشمال، والشارع الثالث تجاه من خرج من باب زويلة، وهذه الشوارع الثلاثة تشتمل على عدّة أخطاط.
فأما ذات اليمين فإن من خرج من باب زويلة الآن يجد عن يمينه شارعا سالكا ينتهي به في العرض إلى الخليج، حيث القنطرة التي تعرف بقنطرة الخرق، وينتهي به في الطول من باب زويلة إلى خط الجامع الطولوني، وجميع ما في هذا الطول والعرض من الأماكن كان بساتين إلى ما بعد السبعمائة. وفي هذه الجهة اليمنى، خط دار التفاح، وسوق السقطيين، وخط تحت الربع، وخط القشاشين، وخط قنطرة الخرق، وخط شق الثعبان، وخط قنطرة آقسنقر، وخط الحبانية، وبركة الفيل، وخط قبو الكرمانيّ، وخط قنطرة طقزدمر، والمسجد المعلق، وخط قنطرة عمر شاه، وخط قناطر السباع، وخط الجسر الأعظم، وخط الكبش، والجامع الطولوني، وخط الصليبة، وخط الشارع، وما هناك من الحارات التي ذكرت عند ذكر الحارات من هذا الكتاب.
وأما ذات اليسار، فإن من خرج من باب زويلة الآن يجد عن يساره شارعا ينتهي به في العرض إلى الجبل، وينتهي به في الطول إلى القرافة، وجميع ما في هذه الجهة اليسرى كان فضاء لا عمارة فيه البتة، إلى ما بعد سنة خمسمائة من الهجرة، فلما عمر الوزير الصالح طلائع بن رزيك جامع الصالح الموجود الآن خارج باب زويلة، صار ما وراءه إلى نحو قطائع ابن طولون مقبرة لأهل القاهرة، إلى أن زالت دولة الخلفاء الفاطميين، وأنشأ السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب قلعة الجبل على رأس الشرف المطلّ على القطائع، وصار يسلك إلى القلعة من هذه الجهة اليسرى فيما بين المقابر والجبل، ثم حدثت بعد المحن هذه العمائر الموجودة هناك شيئا بعد شيء، من سنة سبعمائة، وصار في هذه الشقة خط سوق البسطيين، وخط الدرب الأحمر، وخط جامع المارديني، وخط سوق الغنم، وخط التبانة، وخط باب الوزير، وقلعة الجبل، والرميلة، وخط القبيبات، وخط باب القرافة.
وأما ما هو تجاه من خرج من باب زويلة فيعرف بالشارع، وقد تقدّم ذكره عند ذكر الأسواق من هذا الكتاب، وهو ينتهي بالسالك إلى خط الصليبة المذكورة آنفا، وإلى خط الجامع الطولونيّ، وخط المشهد النفيسي، وإلى العسكر، وكوم الجارح، وغير ذلك من بقية خطط ظواهر القاهرة ومصر، وكانت جهة القاهرة البحرية من ظاهرها فضاء ينتهي إلى بركة الجب، وإلى منية الاصبغ التي عرفت بالخندق، وإلى منية مطر التي تعرف بالمطرية،(3/199)
وإلى عين شمس، وما وراء ذلك، إلّا أنه كان تجاه القاهرة بستان ريدان، ويعرف اليوم بالريدانية، وعند مصلّى العيد خارج باب النصر حيث يصلي الآن على الأموات، كان ينزل هناك من يسافر إلى الشام.
فلما كان قبل سنة خمسمائة، ومات أمير الجيوش بدر الجمالي في سنة سبع وثمانين وأربعمائة، بني خارج باب النصر له تربة دفن فيها وبني أيضا خارج باب الفتوح منظرة قد ذكر خبرها عند ذكر المناظر من هذا الكتاب، وصار أيضا فيما بين باب الفتوح والمطرية بساتين قد تقدّم خبرها، ثم عمرت الطائفة الحسينية بعد سنة خمسمائة خارج باب الفتوح عدّة منازل، اتصلت بالخندق، وصار خارج باب النصر مقبرة إلى ما بعد سنة سبعمائة، فعمر الناس به حتى اتصلت العمائر من باب النصر إلى الريدانية، وبلغت الغاية من العمارة، ثم تناقصت من بعد سنة تسع وأربعين وسبعمائة إلى أن فحش خرابها من حين حدثت المحن في سنة ست وثمانمائة، فهذا حال ظواهر القاهرة منذ اختطت وإلى يومنا هذا، ويحتاج ما ذكر هنا إلى مزيد بيان والله أعلم.
ذكر ميدان القبق
هذا الموضع خارج القاهرة من شرقيها، فيما بين النقرة التي ينزل من قلعة الجبل إليها، وبين قبة النصر التي تحت الجبل الأحمر، ويقال له أيضا الميدان الأسود، وميدان العيد، والميدان الأخضر، وميدان السباق، وهو ميدان السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ الصالحيّ النجميّ، بنى به مصطبة في المحرّم من سنة ست وستين وستمائة، عند ما احتفل برمي النشاب وأمور الحرب، وحثّ الناس على لعب الرمح ورمي النشاب ونحو ذلك، وصار ينزل كل يوم إلى هذه المصطبة من الظهر، فلا يركب منها إلى العشاء الآخرة، وهو يرمي ويحرّض الناس على الرمي والنضال والرهان، فما بقي أمير ولا مملوك إلّا وهذا شغله، وتوفر الناس على لعب الرمح ورمي النشاب، وما برح من بعده من أولاده والملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفيّ الصالحيّ النجميّ، والملك الأشرف خليل بن قلاوون يركبون في الموكب لهذا الميدان، وتقف الأمراء والمماليك السلطانية تسابق بالخيل فيه قدّامهم، وتنزل العساكر فيه لرمي القبق.
والقبق عبارة عن خشبة عالية جدّا، تنصب في براح من الأرض، ويعمل بأعلاها دائرة من خشب، وتقف الرماة بقسيّها وترمي بالسهام جوف الدائرة لكي تمرّ من داخلها إلى غرض هناك، تمرينا لهم على إحكام الرمي. ويعبّر عن هذا بالقبق، في لغة الترك.
قال جامع السيرة الظاهرية: وفي سابع عشر المحرّم من سنة سبع وستين وستمائة، حثّ السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ جميع الناس على رمي النشاب ولعب الرمح، خصوصا خواصه ومماليكه، ونزل إلى الفضاء بباب النصر ظاهر القاهرة،(3/200)
ويعرف بميدان العيد، وبنى مصطبة هناك، وأقام ينزل في كل يوم من الظهر، ويركب منها عشاء الآخرة، وهو واقف في الشمس يرمي ويحرّض الناس على الرمي والرهان، فما بقي أمير ولا مملوك إلا وهذا شغله، واستمرّ الحال في كل يوم على ذلك حتى صارت تلك الأمكنة لا تسع الناس، وما بقي لأحد شغل إلّا لعب الرمح ورمي النشاب. وفي شهر رمضان سنة اثنتين وسبعين وستمائة، تقدّم السلطان الملك الظاهر إلى عساكره بالتأهب للركوب واللعب بالقبق ورمي النشاب، واتفقت نادرة غريبة، وهو أنه أمر برش الميدان الأسود تحت القلعة لأجل الملعب، فشرع الناس في ذلك، وكان يوما شديد الحرّ، فأمر السلطان بتبطيل الرش رحمة للناس، وقال: الناس صيام وهذا يوم شديد الحرّ، فبطل الرش، وأرسل الله تعالى مطرا جودا استمرّ ليلتين ويوما حتى كثر الوحل وتلبدت الأرض وسكن العجاج وبرد الجوّ ولطف الهواء، فوكل السلطان من يحفظه من السوق فيه يوم اللعب، وهو يوم الخميس السادس والعشرون من شهر رمضان، وأمر بركوب جماعة لطيفة من كل عشرة اثنان، وكذلك من كل أمير، ومن كل مقدّم لئلا تضيق الدنيا بهم. فركبوا في أحسن زيّ، وأجمل لباس، وأكمل شكل، وأبهى منظر، وركب السلطان ومعه من خواصه ومماليكه ألوف، ودخلوا في الطعان بالرماح، فكل من أصاب خلع عليه السلطان، ثم ساق في مماليكه الخواص خاصة، ورتبهم أجمل ترتيب، واندفق بهم اندفاق البحر، فشاهد الناس أبهة عظيمة، ثم أقيم القبق ودخل الناس لرمي النشاب، وجعل لمن أصاب من المفاردة رجال الحلقة والبحرية الصالحية وغيرهم بغلطاقا بسنجاب، وللأمراء فرسا من خيله الخاص بتشاهيره ومراواته الفضية والذهبية ومزاخمه، وما زال في هذه الأيام على هذه الصورة يتنوّع في دخوله وخروجه، تارة بالرماح، وتارة بالنشاب، وتارة بالدبابيس، وتارة بالسيوف مسلولة، وذلك أنه ساق على عادته في اللعب وسلّ سيفه، وسلّ مماليكه سيوفهم، وحمل هو ومماليكه حملة رجل واحد، فرأى الناس منظرا عجيبا، وأقام على ذلك كل يوم من بكرة النهار إلى قريب المغرب، وقد ضربت الخيام للنزول للوضوء والصلاة، وتنوّع الناس في تبديل العدد والآلات، وتفاخروا وتكاثروا، فكانت هذه الأيام من الأيام المشهودة، ولم يبق أحد من أبناء الملوك، ولا وزير، ولا أمير كبير ولا صغير، ولا مفردي، ولا مقدّم من مقدّمي الحلقة، ومقدّمي البحرية الصالحية، ومقدّمي المماليك الظاهرية البحرية، ولا صاحب شغل، ولا حامل عصا في خدمة السلطان على بابه، ولا حامل طير في ركاب السلطان، ولا أحد من خواص كتاب السلطان، إلّا وشرّف بما يليق به على قدر منصبه، ثم تعدّى إحسان السلطان لقضاة الإسلام والأئمة وشهود خزانة السلطان، فشرّفهم جميعهم، ثم الولاة كلهم، وأصبحوا بكرة يوم الأحد ثامن عشري شهر رمضان لابسين الخلع جميعهم في أحسن صورة وأبهج زي وأبهى شكل وأجمل زينة، بالكلوتات الزركش بالذهب، والملابس التي ما سمع بأن أحدا جاد بمثلها، وهي ألوف، وخدم الناس جميعهم(3/201)
وقبلوا الأرض وعليهم الخلع، وركبوا ولعبوا نهارهم على العادة، والأموال تفرّق والأسمطة تصف، والصدقات تنفق، والرقاب تعتق. وما زال إلى أن أهلّ هلال شوّال، فقام الناس وطلعوا للهناء، فجلس لهم، وعليهم خلعه، ثم ركب يوم العيد إلى مصلاه في خيمة بشعار السلطنة وأبّهة الملك، فصلى ثم طلع قلعة الجبل وجلس على الأسمطة، وكان الاحتفال بها كبيرا، وأكل الناس، ثم انتهبه الفقراء، وقام إلى مقرّ سلطانه بالقبة السعيدة، وقد غلقت وفرشت بأنواع الستور والكلل والفرش، وكان قد تقدّم إلى الأمراء بإحضار أولادهم، فأحضروا، وخلع عليهم الخلع المفصلة على قدرهم، فلما كان هذا اليوم أحضروا وختنوا بأجمعهم بين يدي السلطان، وأخرجوا فحملوا في المحفات إلى بيوتهم، وعمّ الهناء كل دار، ثم أحضر الأمير نجم الدين خضر ولد السلطان، فختن ورمى للناس جملة من الأموال اجتمع منها خزانة ملك كبير، فرّقت على من باشر الختان من الحكماء والمزينين وغيرهم.
وانقضت هذه الأيام، وجرى السلطان فيها على عادته كما كان، من كونه لم يكلّف أحدا من خلق الله تعالى بهدية يهديها، ولا تحفة يتحفه بها في مثل هذه المسرّة، كما جرت عادة من تقدّمه من الملوك، ولم يبق من لا شمله إحسانه غير أرباب الملاهي والأغاني، فإنه كان في أيامه لم ينفق لهم مبلغ البتة.
وممن لعب بهذا الميدان القبق، السلطان الملك الأشرف خليل بن قلاوون، وعمل فيه المهمّ الذي لم يعمل في دولة ملوك الترك بمصر مثله، وذلك أن خوندار دوتكين ابنة نوكيه، ويقال نوغية السلحدارية، اشتملت من السلطان الملك الأشرف على حمل، فظنّ أنها تلد ابنا ذكرا يرث الملك من بعده، فأخذ عند ما قاربت الوضع في الاحتفال، ورسم لوزيره الصاحب شمس الدين محمد بن السلعوس أن يكتب إلى دمشق بعمل مائة شمعدان نحاس مكفت بألقاب السلطان، ومائة شمعدان أخر، منها خمسون من ذهب، وخمسون من فضة، وخمسين سرجا من سروج الزركش، ومائة وخمسين سرجا من المخيش، وألف شمعة وأشياء كثيرة غير ذلك، فقدّر الله تعالى أنها ولدت بنتا، فانقبض لذلك وكره إبطال ما قد اشتهر عنه عمله، فأظهر أنه يريد ختان أخيه محمد، وابن أخيه مظفر الدين موسى بن الملك الصالح عليّ بن قلاوون، فرسم لنقيب الجيش والحجاب بإعلام الأمراء والعسكر أن يلبسوا كلهم آلة الحرب من السلاح الكامل، هم وخيولهم، ويصيروا بأجمعهم كذلك في الميدان الأسود خارج باب النصر، فاهتم الأمراء والعسكر اهتماما كبيرا لذلك، وأخذوا في تحسين العدد وبالغوا في التأنق، وتنافسوا في إظهار التجمل الزائد، وخرج في اليوم الرابع من إعلام الأمراء السوقة، ونصبوا عدّة صواوين فيها سائر البقول والمآكل، فصار بالميدان سوق عظيم، ونزل السلطان من قلعة الجبل بعساكره وعليهم لامة الحرب، وقد خرج سائر من في القاهرة ومصر من الرجال والنساء إلّا من خلفه العذر لرؤية السلطان، فأقام السلطان يومه، وحصل في ذلك اليوم للناس بهذا الاجتماع من السرور ما يعزّ وجود مثله، وأصبح السلطان(3/202)
وقد استعدّ العسكر بأجمعه لرمي القبق، ورسم للحجاب بأن لا يمنعوا أحدا من الجند، ولا من المماليك، ولا من غيرهم من الرمي، ورسم للأمير بيسري والأمير بدر الدين بكتاش الفخريّ أمير سلاح، أن يتقدّما الناس في الرمي، فاستقبل الأمير بيسري القبق وتحته سرج قد صنع قربوسه الذي من خلفه وطيئا، فصار مستلقيا على قفاه، وهو يرمي ويصيب يمنة ويسرة، والناس بأسرهم قد اجتمعوا للنظر حتى ضاق بهم الفضاء، فلما فرغ دخل أمير سلاح من بعده، وتلاه الأمراء على قدر منازلهم واحدا واحدا، فرموا. ثم دخل بعد الأمراء مقدّموا الحلقة، ثم الأجناد والسلطان يعجب برميهم، وتزايد سروره حتى فرغ الرمي، فعاد إلى مخيّمه ودار السقاة على الأمراء بأواني الذهب والفضة والبلور يسقون السكّر المذاب، وشرب الأجناد من أحواض قد ملئت من ذلك، وكانت عدّتها مائة حوض، فشربوا ولهوا واستمرّوا على ذلك يومين، وفي اليوم الثالث ركب السلطان واستدعى الأمير بيسري وأمره بالرمي، فسأل السلطان أن يعفيه من الرمي، ويمنّ عليه بالتفرّج في رمي النشاب من الأمراء وغيرهم، فأعفاه ووقف مع السلطان في منزلته، وتقدّم طفج، وعين الغزال، وأمير عمر، وكيلكدي، وقشتمر العجمي، وبرلغي، وأعناق الحسامي، وبكتوت، ونحو الخمسين من أمراء السلطان الشبان الذين أنشأهم من خاصكيته، وعليهم تتريات حرير أطلس بطرازات زركش وكلوتات زركش وحوائص ذهب، وكانوا من الجمال البارع بحيث يذهب حسنهم الناظر، ويدهش جمالهم الخاطر، فتعاظمت مسرّة السلطان برؤيتهم، وكثر إعجابه، وداخله العجب واستخفه الطرب، وارتجب الدنيا بكثرة من حضر هناك من أرباب الملاهي والأغاني وأصحاب الملعوب.
فلما انقضى اللعب، عاد السلطان إلى دهليزه في زينته، ومرح في مشيته تيها وصلفا، فما هو إلّا أنّ عبر الدهليز والناس من الطرب والسرور في أحسن شيء يقع في العالم، وإذا بالجوّ قد أظلم، وثار ريح عاصف أسود إلى أن طبق الأرض والسماء، وقلع سائر تلك الخيم، وألقى الدهليز السلطانيّ، وتزايد حتى أن الرجل لا يرى من بجانبه، فاختلط الناس وماجوا ولم يعرف الأمير من الحقير، وأقبلت السوقة والعامّة تنهب، وركب السلطان يريد النجاة بنفسه إلى القلعة، وتلاحق العسكر به واختلفوا في الطرق لشدّة الهول، فلم يعبر إلى القلعة حتى أشرف على التلف، وحصل في هذا اليوم من نهب الأموال وانتهاك الحرم والنساء ما لا يمكن وصفه، وما ظنّ كل أحد إلّا أنّ الساعة قد قامت، فتنغص سرور الناس وذهب ما كان هناك، وما استقرّ السلطان بالقلعة حتى سكن الريح وظهرت الشمس وكأن ما كان لم يكن، فأصبح السلطان وطلب أرباب الملاهي بأجمعهم، وحضر الأمراء الختان أخيه وابن أخيه، وعمل مهمّ عظيم في القاعة التي أنشأها بالقلعة، وعرفت بالأشرفية، وقد ذكر خبر هذا المهمّ عند ذكر القلعة من هذا الكتاب.
وما برح هذا الميدان فضاء من قلعة الجبل إلى قبة النصر ليس فيه بنيان، وللملوك فيه(3/203)
من الأعمال ما تقدّم ذكره إلى أن كانت سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون، فترك النزول إليه وبنى مسطبة برسم طعم طيور الصيد بالقرب من بركة الحبش، وصار ينزل هنالك، ثم ترك تلك المسطبة في سنة عشرين وسبعمائة، وعاد إلى ميدان القبق هذا وركب إليه على عادة من تقدّمه من الملوك، إلى أن بنيت فيه الترب شيئا بعد شيء حتى انسدّت طريقه، واتصلت المباني من ميدان القبق إلى تربة الروضة خارج باب البرقية، وبطل السباق منه، ورمي القبق فيه، من آخر أيام الملك الناصر محمد بن قلاون، كما ذكر عند ذكر المقابر من هذا الكتاب، وأنا أدركت عواميد من رخام قائمة بهذا الفضاء تعرف بين الناس بعواميد السباق، بين كل عمودين مسافة بعيدة، وما برحت قائمة هنالك إلى ما بعد سنة ثمانين وسبعمائة، فهدمت عند ما عمّر الأمير يونس الدوادار الظاهريّ تربته تجاه قبة النصر، ثم عمّر أيضا الأمير قجماس ابن عمّ الملك الظاهر برقوق تربة هنالك، وتتابع الناس في البنيان إلى أن صار كما هو الآن والله أعلم.
ذكر برّ الخليج الغربي
قد تقدّم أنّ هذا الخليج حفر قبل الإسلام بدهر، وأن عمرو بن العاص رضي الله عنه جدّد حفره في عام الرمادة، بإشارة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حتى صبّ ماء النيل في بحر القلزم «1» ، وجرت فيه السفن بالغلال وغيرها حتى عبرت منه إلى البحر الملح، وأنه ما برح على ذلك إلى سنة خمسين ومائة، فطمّ ولم يبق منه إلا ما هو موجود الآن، إلّا أنّ فم هذا الخليج الذي يصبّ فيه الماء من بحر النيل، لم يكن عند حفره هذا الفم الموجود الآن، ولست أدري أين كان فمه عند ابتداء حفره في الجاهلية، فإن مصر فتحت وماء النيل عند الموضع الذي فيه الآن جامع عمرو بن العاص بمصر، وجميع ما بين الجامع وساحل النيل الآن انحسر عنه الماء بعد الفتح، وآخر ما كان ساحل مصر من عند سوق المعاريج الذي هو الآن بمصر إلى تجاه الكبش من غربيه، وجميع ما هو الآن موجود من الأرض التي فيما بين خط السبع سقايات إلى سوق المعاريج انحسر عنه الماء شيئا بعد شيء، وغرس بساتين، فعمل عبد العزيز بن مروان أمير مصر قنطرة على فم هذا الخليج في سنة تسع وستين من الهجرة بأوّله، عند ساحل الحمراء، ليتوصل من فوق هذه القنطرة إلى جنان الزهريّ الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى. وموضع هذه القنطرة بداخل حكر أقبغا المجاور لخط السبع سقايات، وما برحت هذه القنطرة عندها السدّ الذي يفتح عند الوفاء إلى ما بعد الخمسمائة من الهجرة، فانحسر ماء النيل عن الأرض، وغرست بساتين، فعمل الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب بن شادي هذه القنطرة التي تعرف اليوم بقنطرة السدّ، خارج مصر، ليتوصل من فوقها إلى بستان(3/204)
الخشاب، وزيد في طول الخليج ما بين قنطرة السباع الآن وبين قنطرة السدّ المذكورة، وصار ما في شرقيه مما انحصر عنه الماء بستانا عرف ببستان الحارة، وما في غربيه يعرف ببستان المحليّ، وكان بطرف خط السبع سقايات كنيسة الحمراء، وعدّة كنائس أخر، بعضها الآن بحكر أقبغا، تعرف بزاوية الشيخ يوسف العجميّ، لسكناه بها عند ما هدمت بعد سنة عشرين وسبعمائة، وما برحت هذه البساتين موجودة إلى أن استولى عليها الأمير أقبغا عبد الواحد استدار الملك الناصر محمد بن قلاون، وقلع أخشابها وأذن للناس في عمارتها، فحكرها الناس وبنوا فيها الآدر وغيرها، فعرفت بحكر أقبغا.
وبأوّل هذا الخليج الآن من غربيه منشأة المهرانيّ، وقد تقدّم خبرها في هذا الكتاب عند ذكر مدينة مصر، ويجاور منشأة المهرانيّ بستان الخشاب، وبعضه الآن يعرف بالمريس، وبعضه عمله الملك الناصر محمد بن قلاون ميدانا يشرف على النيل من غربيه، ويعرف ساحل النيل هناك بموردة الجبس، كما ذكر عند ذكر الميادين من هذا الكتاب، ويجاور بستان الخشاب جنان الزهريّ، وهذه المواضع التي ذكرت كلها مما انحسر عنه النيل، ما خلا جنان الزهريّ، فإنها من قبل ذلك، وستقف على خبرها وخبر ما يجاورها من الأحكار إن شاء الله تعالى.
ذكر الأحكار التي في غربيّ الخليج
قال ابن سيده: الاحتكار، جمع الطعام ونحوه مما يؤكل واحتباسه انتظار وقت الغلاء به. والحكرة والحكر جميعا: ما احتكر وحكره يحكره حكرا ظلمه وتنقضه وأساء معاشرته.
انتهى.
فالتحكير على هذا: المنع. فقول أهل مصر: حكر فلان أرض فلان، يعنون منع غيره من البناء عليها.
حكر الزهريّ: هذا الحكر يدخل فيه جميع برّ ابن التبان الآتي ذكره إن شاء الله تعالى، وشق الثعبان، وبطن البقرة، وسويقة القيمريّ، وسويقة صفية، وبركة الشقاف، وبركة السباعين، وقنطرة الخرق، وحدرة المرادنيين، وحكر الحلبيّ، وحكر البواشقيّ، وحكر كرجي وما بجانبه إلى قناطر السباع، وميدان المهاري إلى الميدان الكبير السلطانيّ بموردة الجبس. وكان هذا قديما يعرف بجنان الزهريّ، ثم عرف ببستان الزهري.
قال أبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس في تاريخ الغرباء: عبد الوهاب بن موسى بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، يكنى أبا العباس، وأمّه أم عثمان بنت عثمان بن العباس بن الوليد بن عبد الملك بن مروان، مدنيّ قدم مصر، وولي الشرط بفسطاط مصر، وحدّث يروي عن مالك بن أنس وسفيان بن عيينة، روى عنه من أهل(3/205)
مصر أصبغ بن الفرج، وسعيد بن أبي مريم، وعثمان بن صالح، وسعيد بن عفير، وغيرهم. وهو صاحب الجنان التي بالقنطرة، قنطرة عبد العزيز بن مروان، تعرف بجنان الزهريّ، وهو حبس على ولده إلى اليوم. وكان كتاب حبس الجنان عند جدّي يونس بن عبد الأعلى وديعة عليه، مكتوب وديعة لولد ابن العباس الزهريّ لا يدفع لأحد إلّا أن يغري به سلطان، والكتاب عندي إلى الآن. توفي عبد الوهاب بن موسى بمصر في رمضان سنة عشرة ومائتين.
وقال القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر القضاعيّ في كتاب معرفة الخطط والآثار: حبس الزهريّ هو الجنان التي عند القنطرة بالحمراء، وهو عبد الوهاب بن موسى بن عبد العزيز الزهريّ، قدم مصر وولي الشرط بها، والجنان حبس على ولده.
وقال القاضي تاج الدين محمد بن عبد الوهاب بن المتوّج في كتاب إيقاظ المتغفل واتعاظ المتأمّل: حبس الزهريّ فذكره ثم قال: وهذا الحبس أكثر الآن أحكار، ما بين بركة الشقاف وخليج شق الثعبان وقد استولى وكيل بيت المال على بعضه، وباع من أرضه وآجرّ منها، واجتمع هو ومحبسه بين يدي الله عز وجلّ. انتهى.
ولما طال الأمد صار للزهريّ عدّة بساتين، منها بستان أبي اليمان، وبستان السراج، وبستان الحبانية، وبستان عزاز، وبستان تاج الدولة قيماز، وبستان الفرغانيّ، وبستان أرض الطيلسان، وبستان البطرك، وغيط الكرديّ، وغيط الصفار، ثم عرف ببرّ ابن التبان بعد ذلك.
قال القاضي محيي الدين عبد الله بن عبد الظاهر في كتاب الروضة البهية الزاهرة في خطط المعزية القاهرة: شاطىء الخليج المعروف ببرّ التبان.
ابن التبان المذكور: هو رئيس المراكب في الدولة المصرية، وكان له قدر وأبهة في الأيام الآمرية وغيرها، ولما كان في الأيام الآمرية، تقدّم إلى الناس بالعمارة قبالة الخرق غربيّ الخليج، فأوّل من ابتدأ وعمر الرئيس ابن التبان، فإنه أنشأ مسجدا وبستانا ودارا، فعرفت تلك الخطة به إلى الآن، ثم بنى سعد الدولة والي القاهرة، وناهض الدولة عليّ، وعديّ الدولة أبو البركات محمد بن عثمان، وجماعة من فراشي الخاص. واتصلت العمارة بالآجرّ والسقوف النقية والأبواب المنظومة من باب البستان، المعروف بالعدّة على شاطىء الخليج الغربيّ، إلى البستان المعروف بأبي اليمن. ثم ابتنى جماعة غيرهم ممن يرغب في الأجرة والفرجة على التراع التي تتصرّف من الخليج إلى الزهريّ والبساتين من المنازل والدكاكين شيئا كثيرا، وهي الناحية المعروفة الآن بشق الثعبان وسويقة القيمريّ، إلى أن وصل البناء إلى قبالة البستان المعروف بنور الدولة الربعيّ، وهذا البستان معروف في هذا الوقت بالخطة المذكورة، وهو متلاشي الحال بسبب ملوحة بئره، وبستان نور الدولة هو(3/206)
الآن الميدان الظاهريّ والمناظر به، وتفرّقت الشوارع والطرق، وسكنت الدكاكين والدور، وكثر المترّددون إليه والمعاش فيه، إلى أن استناب والي القاهرة بها نائبا عنه، ثم تلاشت تلك الأحوال وتغيرت إلى أن صارت أطلالا، وعفت تلك الآثار. ثم بعد ذلك حكر آدر أو بساتين، وبني على غير تلك الصفة المقدّم ذكرها، وبني على ما هو عليه، ثم حكر بستان الزهريّ آدرا، ولم يبق منه إلّا قطعة كبيرة بستانا، وهو الآن أحكار تعرف بالزهريّ، ويعرف البرّ جميعه ببرّ ابن التبان إلى هذا الوقت، وولايته تعرف بولاية الحكمر، وبني به حمام الشيخ نجم الدين بن الرفعة، وحمام تعرف بالقيمري، وحمام تعرف بحمّام الداية انتهى.
وبستان أبي اليمان يعرف اليوم مكانه بحكر أقبغا، وفيه جامع الست مسكة، وسويقة السباعين. وبستان السراج في أرض باب اللوق، يعرف موضعه الآن بحكر الخليليّ، ويأتي ذكرهما إن شاء الله تعالى. وقيماز هو تاج الدولة، صهر الأمير بهرام الأرمنيّ، وزير الخليفة الحافظ لدين الله، وقتل عند دخول الصالح طلائع بن رزيك إلى القاهرة في سنة تسع وأربعين وخمسمائة، وعزاز هو غلام الوزير شاور بن مجير السعديّ، وزير الخليفة العاضد لدين الله.
حكر الخليلي: هذا الحكر هو الخط الذي بقرب سويقة السباعين وجامع الست مسكة، وهو بجوار حكر الزهريّ، وكان بستانا يعرف ببستان أبي اليمان، ومنهم من يكتب بستان أبي اليمن بغير ألف بعد الميم، ثم عرف ببستان ابن جن حلوان، وهو الجمال محمد بن الزكي يحيى بن عبد المنعم بن منصور التاجر. في ثمرة البساتين عرف بابن جن حلوان، في سنة إحدى وتسعين وستمائة، وحدّ هذا البستان القبليّ إلى الخليج، وكان فيه بابه والهماليا والحدّ البحريّ ينتهي إلى غيظ قيماز، والشرقيّ إلى الآدر المحتكرة، والغربيّ ينتهي إلى قطعة تعرف قديما بابن أبي التاج. ثم عرف ببستان ابن السراج، واستأجره ابن جن حلوان من الشيخ نجم الدين بن الرفعة الفقيه المشهور في سنة ثمان وثمانين وستمائة، فعرف به. ثم إن هذا البستان حكر بعد ذلك فعرف بحكر الخليليّ وهو ... «1» .
حكر قوصون: هذا الحكر مجاور لقناطر السباع، كان بساتين، أحدهما يعرف بالمخاريق الكبرى، والآخر يعرف بالمخاريق الصغرى، فأمّا المخاريق الكبرى: فإن القاضي الرئيس الأجل المختار العدل الأمين زكيّ الدين أبا العباس أحمد بن مرتضى بن سيد الأهل بن يوسف، وقف حصة من جميع البستان المذكور الكبير، المعروف بالمخاريق الكبرى، الذي بين القاهرة ومصر بعدوة الخليج، فيما بين البستانين المعروف أحدهما بالمخاريق الصغرى، ويعرف قديما بالشيخ الأجل ابن أبي أسامة، ثم عرف بغيره، والبستان الذي يعرف بدويرة دينار، يفصل بينهما الطريق بخط بستان الزهريّ، وبستان أبي اليمن،(3/207)
وكنائس النصارى قبالة جماميز السعدية والسبع سقايات، ولهذا البستان حدود أربعة: القبليّ ينتهي إلى الخليج الفاصل بينه وبين المواضع المعروفة بجماميز السعدية والسبع سقايات، والحدّ الشرقيّ ينتهي إلى البستان المعروف بالمخاريق الصغرى المقابل للمجنونة، والبحريّ ينتهي إلى البستان المعروف قديما بابن أبي أسامة، الفاصل بينه وبين بستان أبي اليمن المجاور للزهريّ، والحدّ الغربيّ ينتهي إلى الطريق.
وجعل هذا البستان على القربات بعد عمارته، وشرط أن الناظر يشتري في كل فصل من فصول الشتاء ما يراه من قماش الكتان الخام أو القطن، ويصنع ذلك جبابا وبغالطيق محشوّة قطنا، ويفرّقها على الأيتام الذكور والإناث الفقراء غير البالغين بالشارع الأعظم، خارج باب زويلة، لكل واحد جبة أو بغلطاق، فإن تعذر ذلك كان على الأيتام المتصفين بالصفة المذكورة بالقاهرة ومصر وقرافتيهما، فإن تعذر ذلك كان للفقراء والمساكين أينما وجدوا. وتاريخ كتاب هذا الوقف في ذي الحجة سنة ستين وستمائة، وأما المخاريق الصغرى فإنه بعدوة الخليج قبالة المجنونة بالقرب من بستان أبي اليمن، ثم عرف أخيرا ببستان بهادر رأس نوبة، ومساحته خمسة عشر فدّانا، فاشتراه الأمير قوصون وقلع غروسه، وأذن للناس في البناء عليه، فحكروه وبنوا فيه الآدر وغيرها، وعرف بحكر قوصون.
حكر الحلبيّ: هذا الحكر الآن يعرف بحكر بيبرس الحاجب، وهو مجاور للزهري، ولبركة الشقاف من غربيها، وأصله من جملة أراضي الزهري، اقتطع منه وباعه القاضي مجد الدين ابن الخشاب وكيل بيت المال لابنتي السلطان الملك الأشرف خليل بن قلاون، في سنة أربع وتسعين وستمائة، وكان يعرف حين هذا البيع ببستان الجمال بن جن حلوان، وبغيط الكرديّ، وببستان الطيلسان، وببستان الفرغانيّ، وحدّ هذه القطعة القبليّ إلى بركة الطوّابين، وإلى الهدير الصغير. والحدّ البحريّ ينتهي إلى بستان الفرغانيّ وإلى بستان البواشقيّ. والحدّ الشرقيّ إلى بركة الشقاف وإلى الطريق الموصلة إلى الهدير الصغير.
والحدّ الغربيّ إلى بستان الفرغانيّ. ثم انتقل هذا البستان إلى الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون وحكره فعرف به.
حكر البواشقيّ: عرف بالأمير أزدمر البواشقيّ مملوك الرشيديّ الكبير، أحد المماليك البحرية الصالحية، وممن قام على الملك المعز أيبك عند ما قتل الأمير فارس الدين أقطاي في ذي القعدة سنة إحدى وخمسين وستمائة، وخرج إلى بلاد الروم، ثم عرف الآن بحكر كرجي، وهو بجوار حكر الحلبيّ المعروف بحكر بيبرس.
حكر أقبغا: هذا الحكر بجوار السبع سقايات، بعضه بجانب الخليج الغربيّ، وبعضه بجانب الخليج الشرقيّ، كان بستانا يعرف قديما بجنان الحارة، ويسلك إليه من خط قناطر السباع على يمنة السالك طالبا السبع سقايات، بالقرب من كنيسة الحمراء، وكان بعضه(3/208)
بستانا يعرف ببستان المحلي، وهو الذي في غربيّ الخليج، وكان بستان جنان الحارة بجوار بركة قارون، وينتهي إلى حوض الدمياطيّ الموجود الآن على يمنة من سلك من خط السبع سقايات إلى قنطرة السدّ، فاستولى عليه الأمير أقبغا عبد الواحد استادار الملك الناصر محمد بن قلاوون، وأذن للناس في تحكيره، فحكر وبني فيه عدّة مساكن. وإلى يومنا هذا يجبى حكره ويصرف في مصارف المدرسة الأقبغاوية المجاورة للجامع الأزهر بالقاهرة، وأوّل من عمر في حكر أقبغا هذا أستادار الأمير جنكل بن البابا، فتبعه الناس. وفي موضع هذا الحكر كانت كنيسة الحمراء التي هدمها العامّة في أيام الملك الناصر، محمد بن قلاون كما ذكر عند ذكر الكنائس من هذا الكتاب.
وهي اليوم زاوية تعرف بزاوية الشيخ يوسف العجمي، وقد ذكرت في الزوايا أيضا، وهذا الحكر لما بنى الناس فيه عرف بالآدر لكثرة من سكن فيه من التتر والوافدية من أصحاب الأمير جنكل بن البابا، وعمر تجاه هذا الحكر الأمير جنكل حمامين هما هنالك إلى اليوم، وانتشأ بعمارة هذا الحكر بظاهره سوق وجامع، وعمر ما على البركة أيضا، واتصلت العمارة منه في الجانبين إلى مدينة مصر، واتصلت به عمائر أيضا ظاهر القاهرة بعد ما كان موضع هذا الحكر مخوفا، يقطع فيه الزعار الطريق على المارّة من القاهرة إلى مصر، وكان والي مصر يحتاج إلى أن يركز جماعة من أعوانه بهذا المكان لحفظ من يمرّ من المفسدين، فصار لما حكر كأنه مدينة كبيرة، وهو إلى الآن عامر وأكثر من يسكنه الأمراء والأجناد، وهذا الحكر كان يعرف قديما بالحمراء الدنيا، وقد ذكر خبر الحمراوات الثلاث عند ذكر خطط مدينة فسطاط مصر من هذا الكتاب، وفي هذا الحكر أيضا كانت قنطرة عبد العزيز بن مروان التي بناها على الخليج ليتوصل منها إلى جنان الزهريّ، وبعض هذا الحكر مما انحسر عنه النيل، وهي القطعة التي تلي قنطرة السدّ.
حكر الست حدق: هذا الحكر يعرف اليوم بالمريس، وكان بساتين، من بعضها بستان الخشاب، فعرف بالست حدق من أجل أنها أنشأت هناك جامعا كان موضعه منظرة السكرة، فبنى الناس حوله، وأكثر من كان يسكن هناك السودان، وبه يتخذ المزور مأوى أهل الفواحش والقاذورات، وصار به عدّة مساكن وسوق كبير، يحتاج محتسب القاهرة أن يقيم به نائبا عنه للكشف عما يباع فيه من المعايش، وقد أدركنا المريس على غاية من العمارة، إلّا أنه قد اختلّ منذ حدثت الحوادث من سنة ست وثمانمائة، وبه إلى الآن بقية من فساد كبير.
حكر الست مسكة: هذا الحكر بسويقة السباعين بقرب جوار حكر الست، حدق، عرف بالست مسكة لأنها أنشأت به جامعا، وهذا الحكر كان من جملة الزهريّ، ثم أفرد وصار بستانا تنقل إلى جماعة كثيرية، فلما عمرت الست مسكة في هذا الحكر الجامع بنى(3/209)
الناس حوله حتى صار متصلا بالعمارة من سائر جهاته، وسكنه الأمراء والأعيان وأنشأوا به الحمّامات والأسواق وغير ذلك.
وكانت حدق ومسكة من جواري السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون، نشأتا في داره وصارتا قهرمانتين لبيت السلطان يقتدى برأيهما في عمل الأعراس السلطانية والمهمات الجليلة التي تعمل في الأعياد والمواسم، وترتيب شؤون الحريم السلطانيّ، وتربية أولاد السلطان، وطال عمرهما وصار لهما من الأموال الكثيرة، والسعادات العظيمة ما يجلّ وصفه، وصنعا برّا ومعروفا كبيرا، واشتهرتا وبعد صيتهما وانتشر ذكر هما.
حكر طقزدمر: هذا الحكر كان بستانا مساحته نحو الثلاثين فدّانا، فاشتراه الأمير طقزدمر الحمويّ نائب السلطنة بديار مصر ودمشق، وقلع أخشابه وأذن للناس في البناء عليه، فحركوه وأنشأوا به الدور الجليلة، واتصلت عمارة الناس فيه بسائر العمائر من جهاته، وأنشأ الأمير طقزدمر فيه أيضا على الخليج قنطرة ليمرّ عليها من خط المسجد المعلق إلى هذا الحكر، وصار هذا الحكر مسكن الأمراء والأجناد، وبه السوق والحمّامات والمساجد وغيرها، وهو مما عمر في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون، ومات طقز دمر في ليلة الخميس مستهلّ جمادى الآخرة سنة ست وأربعين وسبعمائة.
اللوق: يقال لاق الشيء يلوقه لوقا ولوّقه، ليّنه. وفي الحديث الشريف لا آكل إلّا ما لوّق لي، ولواق أرض معروفة. قاله ابن سيده: فكأن هذه الأرض لما انحسر عنها ماء النيل كانت أرضا لينة، وإلى الآن في أراضي مصر ما إذا نزل عنها ماء النيل لا تحتاج إلى الحرث للينها، بل تلاق لوقا، فصواب هذا المكان أن يقال فيه أراضي اللوق بفتح اللام، إلّا أن الناس إنما عهدناهم يقولون قديما باب اللوق وأراضي باب اللوق بضم اللام، ويجوز أن يكون من اللق بضم اللام وتشديد القاف. قال ابن سيده: واللق كل أرض ضيقة مستطيلة، واللق الأرض المرتفعة، ومنه كتاب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج لا تدع خقا ولا لقا إلا زرعته، حكاه الهوريّ، في الغريبين. انتهى. والخقّ بضم الخاء المعجمة وتشديد القاف، الغدير إذا جفّ. وقيل الخق ما اطمأنّ من الأرض، واللق ما ارتفع منها، وأراضي اللوق هذه كانت بساتين ومزروعات، ولم يكن بها في القديم بناء البتة، ثم لما انحسر الماء عن منشأة الفاضل عمر فيها كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب، ويطلق اللوق في زمننا على المكان الذي يعرف اليوم بباب اللوق، المجاور لجامع الطباخ المطلّ على بركة الشقاف، وما يسامته إلى الخليج الذي يعرف اليوم بخليج فم الخور، وينتهي اللوق من الجانب الغربيّ إلى منشأة المهرانيّ، ومن الجانب الشرقيّ إلى الدكة بجوار المقس، وكان القاضي الفاضل قد اشترى قطعة كبيرة من أراضي اللوق هذه من بيت المال وغيره بجمل كبيرة من المال، ووقفها على العين الزرقاء بالمدينة النبوية، على ساكنها أفضل الصلاة(3/210)
والتسليم، وعرفت هذه الأرض ببستان ابن قريش، وبعضها دخل في الميدان الظاهريّ، وعوّض عنها أراض بأكثر من قيمتها، وكان متحصل هذا الوقف يحمل في كل سنة إلى المدينة لتنظيف العين وتنظيف مجاريها، وأما الجانب الغربيّ من خليج فم الخور المعروف اليوم بحكر ابن الأثير، وبسويقة الموفق، وموردة الملح، وساحل بولاق، كله فإنه محدث، عمّر بعد سنة سبعمائة كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى قريبا.
فإنّ النيل كان يمرّ من ساحر الحمراء بغربيّ الزهري على الأراضي التي لما انحسر عنها عرفت بأراضي اللوق، إلى أن ينتهي إلى ساحل المقس، وكانت طاقات المناظر التي بالدكة تشرف على النيل الأعظم، ولا يحول بنيها وبين رؤية برّ الجيزة شيء، ويمرّ النيل من الكدة إلى المقس، ويمتدّ إلى زريبة جامع المقس الذي هو الآن على الخليج الناصريّ. فلما انحسر ماء النيل عن أراضي اللوق، اتصلت بالمقس وصارت عدّة أماكن تعرف بظاهر اللوق، وهي بستان ابن ثعلب، ومنشأة ابن ثعلب، وباب اللوق، وحكر قردمية، وحكر كريم الدين، ورحبة التبن، وبستان السعيديّ، وبركة قرموط، وخور الصعبيّ، وصار بين اللوق وبين منشأة المهرانيّ التي هي بأوّل برّ الخليج الغربيّ منشأة الفاضل، والمنشأة المستجدّة، وحكر الخليليّ، وحكر الساباط، ويعرف بحكر بستان القاصد، وحكر كريم الدين الصغير، وحكر المطوع، وحكر العين الزرقاء. وفي غربيّ هذه المواضع على شاطىء النيل زريبة قوصون، وموردة البلاط، وموردة الجبس، وخط الجامع الطيبرسيّ، وزريبة السلطان، وربع بكتمر.
وأوّل ما بنيت الدور للسكن في اللوق أيام الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ، وذلك أنه جهز كشافه من خواصه مع الأمير جمال الدين الرومي السلاح دار، والأمير علاء الدين أق سنقر الناصريّ، ليعرف أخبار هولاكو، ومعهم عدّة من العربان، فوجدوا طائفة من التتر مستأمنين وقد عزموا على قصد السلطان بمصر، وذلك أن الملك بركة خان ملك التتر كان قد بعثهم نجدة لهولاكو، فلما وقع بينهما، كتب إليهم بركة يأمرهم بمفارقة هولاكو والمصير إليه، فإن تعذر عليهم ذلك صاروا إلى عسكر مصر، فإنه كان قد ركن إلى الملك الظاهر، وتردّدت القصّاد بينهم بعد واقعة بغداد ورحيل هولاكو عن حلب، فاختلف هولاكو مع ابن عمه بركة خان وتواقعا، فقتل ولد هولاكو في المصاف، وانهزم عسكره وفرّ إلى قلعة في بحيرة أذربيجان، فلما وردت الأخبار بذلك إلى مصر، كتب السلطان إلى نوّاب الشام بإكرامهم وتجهيز الإقامات لهم، وبعث إليهم بالخلع والإنعامات، فوصلوا إلى ظاهر القاهرة وهم نيف على مائتي فارس بنسائهم وأولادهم في يوم الخميس رابع عشرى ذي الحجة سنة ستين وستمائة، فخرج السلطان يوم السبت سادس عشرية إلى لقائهم بنفسه ومعه العساكر، فلم يبق أحد حتى خرج لمشاهدتهم، فاجتمع عالم عظيم تبهر رؤيتهم العقول، وكان يوما مشهودا. فأنزلهم السلطان في دور كان قد أمر بعمارتها من(3/211)
أجلهم في أراضي اللوق، وعمل لهم دعوة عظيمة هناك، وحمل إليهم الخلع والخيول والأموال، وركب السلطان إلى الميدان وأركبهم معه للعب الأكرة، وأعطى كبراءهم أمريات، فمنهم من عمله أمير مائة، ومنهم دون ذلك، ونزل بقيتهم من جملة البحرية، وصار كل منهم من سعة الحال كالأمير، في خدمته الأجناد والغلمان، وأفرد لهم عدّة جهات برسم مرتبهم، وكثرت نعمهم، وتظاهروا بدين الإسلام، فلما بلغ التتار ما فعله السلطان مع هؤلاء، وفد عليه منهم جماعة بعد جماعة، وهو يقابلهم بمزيد الأحسان، فتكاثروا بديار مصر، وتزايدت العمائر في اللوق وما حوله، وصار هناك عدّة أحكار عامرة آهلة إلى أن خربت شيئا بعد شيء، وصارت كيمانا، وفيها ما هو عامر إلى يومنا هذا، ولما قدمت رسل القان بركة في سنة إحدى وستين وسبعمائة، أنزلهم السلطان الملك الظاهر باللوق، وعمل لهم فيه مهما، وصار يركب في كل سبت وثلاثاء للعب الأكرة باللوق في الميدان. وفي سادس ذي الحجة من سنة إحدى وستين قدم من المغل والبهادرية زيادة على ألف وثلثمائة فارس، فأنزلوا في مساكن عمرت لهم باللوق بأهاليهم وأولادهم، وفي شهر رجب سنة إحدى وستين وسبعمائة قدمت رسل الملك بركة، ورسل الأشكري، فعملت لهم دعوة عظيمة باللوق.
فأما
بستان ابن ثعلب فإنه كان بستانا عظيم القدر، مساحته خمسة وسبعون فدانا، فيه سائر الفواكه بأسرها، وجميع ما يزدرع من الأشجار والنخل والكروم، والنرجس والهليون والورد، والنسرين والياسمين والخوخ، والكمثرى والنارنج والليمون التفاحيّ، والليمون الراكب، والمختن والجميز والقراصيا، والرمان والزيتون والتوت الشاميّ والمصريّ، والمرسين والتامر حنا وألبان تعرف اليوم ببركة قرموط، والأرض التي تعرف اليوم بالخور، قبالة الأرض المعروفة بالبيضاء بجوار بستان السراج، وبستان الزهريّ، وبستان البورجي، فيما بين هذه البساتين وبين خليج الدكة والمقس، وكان على بستان ابن ثعلب سور مبنيّ، وله باب جليل. وحدّه القبليّ إلى منشأة ابن ثعلب، وحدّه البحريّ إلى الأرض المجاورة للميدان السلطانيّ الصالحيّ، وإلى أرض الجزائر، وفي هذا الحدّ أرض الخور، وهي من حقوقه. وحدّه الشرقيّ إلى بستان الدكة، وبستان الأمير قراقوش، وحدّه الغربيّ إلى الطريق المسلوك فيها إلى موردة السقائين قبالة بستان السراج، وموردة السقائين هذه موضع قنطرة الخرق الآن.
وابن ثعلب هذا هو الشريف الأمير الكبير فخر الدين إسماعيل بن ثعلب الجعفريّ الزينبيّ، أحد أمراء مصر في أيام الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب وغيره، وصاحب المدرسة الشريفية بجوار درب كركامة، على رأس حارة الجودرية من القاهرة، وانتقل من بعده إلى ابنه الأمير حصن الدين ثعلب، فاشتراه منه الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب بن شادي بثلاثة آلاف دينار(3/212)
مصرية، في شهر رجب سنة ثلاث وأربعين وستمائة، وكان باب هذا البستان في الموضع الذي يقال له اليوم باب اللوق، وكان هذا البستان ينتهي إلى خليج الخور، وآخره من المشرق ينتهي إلى الدكة بجوار المقس، ثم انقسم بعد ذلك قطعا وحكرت أكثر أرضه، وبنى الناس عليها الدور وغيرها، وبقيت منه إلى الآن قطعة عرفت ببستان الأمير أرغون، النائب بديار مصر أيام الملك الناصر، ثم عرف بعد ذلك ببستان ابن غراب، وهو الآن على شاطيء الخليج الناصريّ، على يمنة من سلك من قنطرة قدادار بشاطئ الخليج من جانبه الشرقي، إلى بركة قرموط، وبقيت من بستان ابن ثعلب قطعة تعرف ببستان بنت الأمير بيبرس إلى الآن، وهو وقف، ومن جملة بستان ابن ثعلب أيضا الموضع الذي يعرف ببركة قرموط، والموضع المعروف بفم الخور.
وأما
منشأة ابن ثعلب: فإنها بالقرب من باب اللوق، وحكرت في أيام الشريف فخر الدين بن ثعلب المذكور، فعرفت به، وهي تعرف اليوم بمنشأة الجوّانية، لأنّ جوّانية الفم.
كانوا يسكنون فيها، فعرفت بهم، وأدركتها في غاية العمارة بالناس والمساكن والحوانيت وغيرها، وقد اختلت بعد سنة ست وثمانمائة، وأكثرها الآن زرائب للبقر.
وأما باب اللوق: فإنه كان هناك إلى ما بعد سنة أربعين وسبعمائة بمدّة، باب كبير عليه طوارق حربية مدهونة، على ما كانت العادة في أبواب القاهرة وأبواب القلعة وأبواب بيوت الأمراء، وكان يقال له باب اللوق، فلما أنشأ القاضي صلاح الدين بن المغربيّ قيساريته التي بباب اللوق، وجعلها البيع غزل الكتان، هدم هذا الباب وجعله في الركن من جدار القيسارية القبليّ، مما يلي الغربيّ، وهذا هو باب الميدان الذي أنشأه الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل لما اشترى بستان ابن ثعلب، وقد ذكر خبر هذا الميدان عند ذكر الميادين من هذا الكتاب.
وأما
حكر قردمية: فإنه على يمنة من سلك من باب اللوق المذكور إلى قنطرة قدادار، وكان من جملة بستان ابن ثعلبة، فحكر وصار أخيرا بيد ورثة الأمير قوصون، وكان حكرا عامرا إلى ما بعد سنة تسع وأربعين وسبعمائة، فخرب عند وقوع الوباء الكبير بمصر، وحفرت أراضيه وأخذ طينها، فصارت بركة ماء عليها كيمان، خلف الدور التي على الشارع المسلوك فيه إلى قنطرة قدادار.
وأما
حكر كريم الدين: فإنه على يسرة من سلك من باب اللوق إلى رحبة التبن، وإلى الدكة، وكان يعرف قبل كريم الدين بحكر الصهيونيّ، وهذا الحكر الآن آيل إلى الدثور.
وأما
رحبة التبن: فإنها في بحري منشأة الجوانية، شارعة في الطريق العظمى التي يسلك فيها إلى قنطرة الدكة من رحبة باب اللوق، عرفت بذلك لأنه كانت أحمال التبن تقف بها لتباع هناك، فإن القاهرة كانت توقر من مرور أحمال التبن والحطب ونحو هما بها، ثم(3/213)
اختطت من جملة ما اختط في غربيّ الخليج، وصار بها عدّة مساكن وسوق كبير، وقد أدركته غاصا بالعمارة، وإنما اختلّ هذا الخط من سنة ست وثمانمائة.
وأما
بستان السعيديّ: فإنه يشرف على الخليج الناصريّ في هذا الوقت، وأدركنا ما حوله عامرا، وقد خربت الدور التي كانت هناك من جهة الطريق الشارع من باب اللوق إلى الدكة، وبها بقية آئلة إلى الدثور.
وأما
بركة قرموط: فإنها من حقوق بستان ابن ثعلب، ولما حفر الملك الناصر محمد بن قلاون الخليج الناصريّ، رمى فيها ما خرج عند حفره من الطين، وأدركناها من أعمر بقعة في أرض مصر، وهي الآن خراب، كما ذكر عند ذكر البرك من هذا الكتاب.
وأما
الخور: فإن الخور في اللغة مصبّ الماء، وهو هنا اسم للأرض التي ما بين الخليج الناصريّ والخليج الذي يعرف بفم الخور، وجميع هذه الأرض من جملة بستان ابن ثعلبة، وكان يعرف بالخور الصعبيّ، لأنه كانت به مناظر تعرف بمناظر الصعبيّ، تشرف على النيل، وكان على شاطىء الخليج الكبير في هذا الجانب الغربيّ الذي نحن في ذكره، بجوار بستان الخشاب الذي كان يتوصل إليه من قنطرة السدّ، وبعضه الآن الميدان السلطانيّ، بستان يعرف بالجزيرة، يعني بستان الجزيرة المعروف بالصعبيّ، وكان من البساتين الجليلة.
وهذا الصعبيّ: هو الشيخ كريم الدولة، عبد الواحد بن محمد بن عليّ الصعبيّ، مات في شهر رمضان سنة ثلاث وستمائة بمصر، وكان له أخ يعرف بعبد العظيم بن محمد الصعبيّ.
ولما انحسر ماء النيل عن الرملة التي قيل لها منية بولاق، تجاه المقس، وعمرت هناك الدور، اتصلت من قبليها بالخور، وأنشئ بشاطئ النيل الذي بالخور دور تجلّ عن الوصف، وانتظمت صفا واحدا من بولاق إلى منشأة المهرانيّ وموردة الحلفاء، ومن موردة الحلفاء على ساحل مصر الجديد إلى دير الطين غربيّ بركة الحبش، لو أحصي ما أنفق على بناء هذه الدور لقام بخراج مصر أيام كانت عامرة، وقد خرب معظمها من سنة ست وثمانمائة، وقد تقدّم ذكر منشأة الفاضل.
وأما
حكر الساباط، وحكر كريم الدين الصغير، وحكر المطوع، وحكر المطوع، وحكر العين الزرقاء، فإنها بالقرب من الميدان الكبير السلطانيّ، وقد خربت بعد ما كانت عامرة بالدور والمنتزهات.
بستان العدّة: هذا المكان من جملة الأحكار التي في غربيّ الخليج، وهو بجوار قنطرة الخرق، وبجوار حكر النوبيّ، قريب من باب اللوق تجاه الدور المطلة على الخليج(3/214)
من شرقيه، المقابلة، لباب سعادة وحارة الوزيرية. كان بستانا جليلا، وقفه الأمير فارس المسلمين بدر بن رزيك، أخو الصالح طلائع بن رزيك، صاحب جامع الصالح، خارج باب زويلة، ثم أنه خرب فحكر وبني عليه عدّة مساكن، وحكره يتعاطاه ورثة فارس المسلمين.
حكر جوهر النوبي: هذا الحكر تجاه الحارة الوزيرية من برّ الخليج الغربيّ، في شرقيّ بستان العدّة، ويسلك منه إلى قنطرة أمير حسين من طريق تجاه باب جامع أمير حسين، الذي تعلوه المئذنة، وما زال بستانا إلى نحو سنة ستين وستمائة، فحكر وبني فيه الدور في أيام الظاهر بيبرس، وعرف بجوهر النوبيّ أحد الأمراء في الأيام الكاملية، وقد تقدّم بديار مصر تقدّما زائدا. وكان خصيا، وهو ممن ثار على الملك العادل أبي بكر بن الكامل وخلعه، فلما كان ملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل بعد أخيه العادل، قبض على جوهر في سنة ثمان وثلاثين وستمائة.
حكر خزائن السلاح: هذا الحكر كان يعرف قديما بحكر الأوسية، وهو فيما بين الدكة وقنطرة الموسكي، وقفه السلطان الملك العادل أبو بكر بن أيوب على مصالح خزائن السلاح، وهو وعدّة أماكن بمدينة مصر مع مدينة قليوب وأراضيها، في جمادى الآخرة سنة أربع عشرة وستمائة، وظهر كتاب الوقف المذكور من الخزائن السلطانية في جمادى الأولى سنة خمس عشرة وسبعمائة، في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون، وقد خرب أكثر هذا الحكر وصار كيمانا.
حكر تكان: هذا الحكر بجوار سويقة العجميّ الفاصلة بينه وبين حكر خزائن السلاح، وكان يعرف قديما بحكر كوبيج. وحدّه القبليّ ينتهي إلى حكر ابن الأسد جفريل، والحدّ البحري ينتهي إلى حكر العلائيّ، والحدّ الشرقيّ ينتهي إلى حكر البغدادية، والحدّ الغربيّ ينتهي إلى حكر خزائن السلاح وسويقة العجميّ.
وتكان هو الأمير سيف الدين تكان، ويقال تكام بالميم عوضا عن النون، وهذا الحكر استقرّ أخيرا في أوقاف خوندارد وتكين ابنه نوكيه السلاح دار، زوجة الملك الأشرف خليل بن قلاون، على تربتها التي أنشأتها خارج باب القرافة، التي تعرف اليوم بتربة الست، وقد خرب هذا الحكر وبيعت أنقاضه في أعوام بضع وتسعين وسبعمائة، وجعل بعضه بستانا في سنة ست وتسعين وسبعمائة.
حكر ابن الأسد جفريل: هذا الحكر في قبليّ حكر تكان، كان بستانا فحكر وعرف بالأمير شمس الدين موسى بن الأمير أسد الدين جفريل، أحد أمراء الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب بمصر.
حكر البغدادية: هذا الحكر بجوار خليج الذكر، كان من أعظم البساتين في الدولة(3/215)
الفاطمية، فأزال الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف بن أيوب أشجاره ونخله، وجعله ميدانا. ثم حكر وصارت فيه عدّة مساكن، وهو الآن خراب يباب، لا يأويه إلّا البوم والرخم.
حكر خطلبا: هذا الحكر حدّه القبليّ إلى الخليج، وحدّه البحريّ إلى الكوم الفاصل بينه وبين حكر الأوسية، المعروف بالجاوليّ، وحدّه الشرقيّ إلى بستان الجليس الذي عرف بابن منقذ، والحدّ الغربيّ إلى زقاق هناك. وكان هذا الحكر بستانا اشتراه جمال الدين الطواشيّ «1» ، من جمال الدين عمر بن ناصح الدين داود بن إسماعيل الملكيّ الكامليّ، في سنة ست عشرة وستمائة. ثم ابتاعه منه الطواشيّ محي الدين صندل الكامليّ في سنة عشرين وستمائة، وباعه الأمير الفارس صارم الدين خطلبا الكامليّ في سنة إحدى وعشرين وستمائة فعرف به.
وهو خطلبا بن موسى الأمير صارم الدين الفارسيّ التبتي الموصليّ الكامليّ، استقرّ في ولاية القاهرة سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة في أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، ثم أضيفت له ولاية الفيوم في سنة سبع وسبعين وخمسمائة، ثم صرف عنها وسار متسلمة إلى اليمن ليتسلمها، فتسلمها في جمادى الأولى، وسار هو في سادس شوال منها واليا على مدينة زبيد باليمن، ومعه خمسمائة رجل، ورفيقه الأمير باخل، فبلغت النفقة عليه عشرين ألف دينار، وكتب للطواشية بنفقة عشرة دنانير لكل منهم على اليمن، فأقام باليمن مدّة، ثم قدم إلى القاهرة وصار من أصحاب الأمير فخر الدين جهاركس، وتأخر إلى أيام الملك الكامل، وصار من أمرائه بالقاهرة إلى أن مات في ثالث شعبان سنة خمس وثلاثين وستمائة.
حكر ابن منقذ: هذا الحكر خارج باب القنطرة بعدوة خليج الذكر، وكان بستانا يعرف ببستان الشريف الجليس، ويعرف أيضا بالبطائحيّ، ثم عرف بالأمير سيف الدولة مبارك بن كامل بن منقذ، نائب الملك المعز سيف الإسلام ظهير الدين طفتكين بن نجم الدين أيوب بن شادي على مملكة اليمن، وانتقل بعد ابن منقذ إلى الشيخ عبد المحسن بن عبد العزيز بن عليّ المخزوميّ، المعروف بابن الصيرفيّ، فوقفه على جهات تؤول أخيرا إلى الفقراء والمساكين المقيمين بمشهد السيدة نفيسة، والفقراء والمساكين المعتقلين في حبوس القاهرة، في سنة ثلاث وأربعين وستمائة، ثم أزيلت أنشاب هذا البستان وحكرت أرضه وبنيت الدور والمساكن عليها، وهو الآن خراب.
حكر فارس المسلمين بدر بن رزيك: هذا الحكر تجاه منظرة اللؤلؤة، كان من جملة(3/216)
البركة المعروفة ببطن البقرة، ثم حكر وبني فيه وأكثره الآن خراب.
حكر شمس الخواص مسرور: هذا الحكر فيما بين خليج الذكر وحكر ابن منقذ، كان بستانا لشمس الخواص مسرور الطواشي، أحد الخدّام الصالحية، مات في نصف شوال سنة سبع وأربعين وستمائة بالقاهرة، ثم حكر وبني فيه الدور، وموضعه الآن كيمان.
حكر العلائي: هذا الحكر يجاور حكر تكان من بحريه، وكان بستانا جليل القدر، ثم حكر وصار بعضه وقف تذكاريي خاتون ابنة الملك الظاهر بيبرس، وقفته في سنة أربع وثلاثين وسبعمائة على نفسها، ثم من بعدها على الرباط الذي أنشأته داخل الدرب الأصفر تجاه خانقاه بيبرس، وهو الرباط المعروف برواق البغدادية، وعلى المسجد الذي بحكر سيف الإسلام خارج باب زويلة، وعلى تربتها التي بجوار جامع ابن عبد الظاهر بالقرافة، وصار بعض هذا الحكر في وقف الأمير سيف الدين بهادر العلائيّ متولى البهنساء، وكان وقفه في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، فعرف بالحكر العلائي المذكور، وأدركت هذا الحكر وهو من أعمر الأحكار، وفيه درب الأمير عز الدين أيدمر الزرّاق، أمير جاندار ووالي القاهرة، وداره العظيمة ومساكنه الكثيرة، فلما حدثت المحن منذ سنة ست وثمانمائة خرب هذا الحكر وأخذت أنقاضه، وبقيت دار الزرّاق إلى سنة سبع عشرة وثمانمائة، فشرع في الهدم فيها لأجل أنقاضها الجليلة.
حكر الحريري: هذا الحكر بجوار حكر العلائيّ المذكور من حدّه البحريّ، وهو من جملة الأرض المعروفة بالأرض البيضاء، وكان بستانا، ثم حكر وصار في وقف خزائن السلاح، وأدركناه عامرا وفيه سوق يعرف بالسويقة البيضاء، كانت بها عدّة حوانيت، وقد خرب هذا الحكر، وهذا الحريريّ هو الصاحب محيي الدين.
حكر المساح: عرف بالأمير شمس الدين سنقر المساح، أحد أمراء الظاهر بيبرس، قبض عليه في عدّة من الأمراء في ذي الحجة سنة تسع وستين وستمائة.
الدكة: هذا المكان كان بستانا من أعظم بساتين القاهرة، فيما بين أراضي اللوق والمقس، وبه منظرة للخلفاء الفاطميين تشرف طاقاتها على بحر النيل العظيم، ولا يحول بينها وبني برّ الجيزة شيء، فلما زالت الدولة الفاطمية تلاشى أمر هذا البستان وخرب، فحكر موضعه وبنى الناس فيه، فصار خطة كبيرة كأنه بلد جليل، وصار به سوق عظيم، وسكنه الكتاب وغيرهم من الناس، وأدركته عامرا، ثم إنه خرب منذ سنة ست وثمانمائة، وبه الآن بقية عما قليل تدثر كما دثر ما هنالك وصار كيمانا.(3/217)
ذكر المقس وفيه الكلام على المكس وكيف كان أصله في أوّل الإسلام
اعلم أن المقس قديم، وكان في الجاهلية قرية تعرف بأمّ دنين، وهي الآن محلة بظاهر القاهرة في برّ الخليج الغربيّ، وكان عند وضع القاهرة هو ساحل النيل، وبه أنشأ الإمام المعز لدين الله أبو معدّ الصناعة التي ذكرت عند ذكر الصناعات من هذا الكتاب، وبه أيضا أنشأ الإمام الحاكم بأمر الله أبو عليّ منصور جامع المقس الذي تسميه عامّة أهل مصر في زمننا بجامع المقسيّ، وهو الآن يطلّ على الخليج الناصريّ. قال أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم في كتاب فتوح مصر، وقد ذكر مسير عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى فتح مصر: فتقدّم عمرو بن العاص رضي الله عنه لا يدافع إلّا بالأمر الخفيف، حتى أتى بلبيس، فقاتلوه بها نحوا من شهر، حتى فتح الله سبحانه وتعالى عليه، ثم مضى لا يدافع إلا بالأمر الخفيف حتى أتى أمّ دنين، فقاتلوه بها قتالا شديدا، وأبطأ عليه الفتح، فكتب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يستمدّه، فأمدّه بأربعة آلاف، تمام ثمانية آلاف، فقاتلهم، وذكر تمام الخبر. وقال القاضي أبو عبد الله القضاعيّ: المقس كانت ضيعة تعرف بأمّ دنين، وإنما سمّيت المقس لأنّ العاشر كان يقعد بها، وصاحب المكس، فقيل المكس، فقلب فقيل المقس. قال المؤلف رحمه الله: الماكس هو العشار، وأصل المكس في اللغة الجباية. قال ابن سيدة في كتاب المحكم: المكس الجباية، مكسه يمكسه مكسا، والمكس دراهم كانت تؤخذ من بائع السلع في الأسواق في الجاهلية، ويقال للعشار صاحب مكس، والمكس انتقاص الثمن في البياعة. قال الشاعر:
أفي كلّ أسواق العراق أتاوة ... وفي كلّ ما باع امرؤ مكس درهم
ألا ينتهي عنا رجال وتتّقى ... محارمنا لا يدرأ الدّم بالدّمّ
الأتاوة الخراج ومكس درهم أي نقص درهم في بيع ونحوه. قال: وعشر القوم يعشرهم عشرا وعشورا، وعشرهم أخذ عشر أموالهم، وعشر المال نفسه، وعشره كذلك، والعشّار قابض العشر. ومنه قول عيسى بن عمرو لابن هبيرة وهو يضرب بين يديه بالسياط:
تالله إن كانت إلّا ثيابا في أسفاط قبضها عشّاروك. وقال الجاحظ: ترك الناس مما كان مستعملا في الجاهلية أمورا كثيرة، فمن ذلك تسميتهم للأتاوة بالخراج، وتسميتهم لما يأخذه السلطان من الحلوان والمكس بالرشوة، وقال الخارجيّ: أفي كلّ أسواق العراق أتاوة.
البيت وكما قال العبديّ في الجارود:
اكابن المعلي خلتنا أما حسبتنا ... صواريّ نعطي الماكسين مكوسا
الصواريّ: الملاحون، والمكس: ما يأخذ العشار انتهى.
ويقال أن قوم شعيب عليه السلام، كانوا مكاسين، لا يدعون شيئا إلا مكّسوه. ومنه(3/218)
قيل للمكس النجس، لقوله تعالى: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ
وذكر أحمد بن يحيى البلاذريّ، عن سفيان الثوريّ، عن إبراهيم بن مهاجر، قال: سمعت زياد بن جرير يقول: أنا أوّل من عشّر في الإسلام. وعن سفيان عن عبد الله بن خالد عن عبد الرحمن بن معقل قال:
سألت زياد بن جرير من كنتم تعشرون؟ فقال: ما كنا نعشر مسلما ولا معاهدا، بل كنا نعشر تجار أهل الحرب كما كانوا يعشرونا إذا أتيناهم. وقال عبد الملك بن حبيب السلميّ في كتاب سيرة الإمام العدل. في مال الله، عن السائب بن يزيد أنه قال: كنت على سوق المدينة في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكنا نأخذ من القبط العشر. وقال ابن شهاب: كان ذلك يؤخذ منهم في الجاهلية، فألزمهم ذلك عمر بن الخطاب، وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يأخذ بالمدينة من القبط من الحنطة والزبيب نصف العشر، يريد بذلك أن يكثر الحمل إلى المدينة من الحنطة والزبيب، وكان يأخذ من القطنية العشر. وقال مالك رحمه الله: والسّنّة أنّ ما أقام الذمّة في بلادهم التي صالحوا عليها فليس عليهم فيها إلّا الجزية، إلّا أن يتجروا في بلاد المسلمين ويختلفوا فيها، فيؤخذ منهم العشر فيما يديرون من التجارة، وإن اختلفوا في العام الواحد مرارا إلى بلاد المسلمين، فعليهم كلما اختلفوا العشر، وإذا اتجر الذميّ في بلاده من أعلاها إلى أسفلها ولم يخرج منها إلى غيرها فليس عليه شيء، مثل أن يتجر الذميّ الشامي في جميع الشام أو الذميّ المصريّ في جميع مصر، أو الذميّ العراقيّ في جميع العراق، وليس العمل عندنا على قول عمر بن عبد العزيز لزريق بن حيان: واكتب لهم بما يؤخذ منهم كتابا إلى مثله من الحول، ومن مرّ بك من أهل الذمّة فخذ مما يديرون من التجارات من كل عشرين دينارا دينارا، فما نقص فبحساب ذلك حتى تبلغ عشرة دنانير، فإن نقص منها ثلث دينار، فدعها ولا تأخذ منها شيئا، والعمل على أن يأخذ منهم العشر وإن خرجوا في السنة مرارا من كلّ ما أتجروا به قل أو كثر، وهذا قول ربيعة وابن هرمز.
وقال القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الحضرميّ أحد أصحاب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه في كتاب الرسالة إلى أمير المؤمنين هارون الرشيد، وهو كتاب جليل القدر، حدّثنا إسماعيل بن إبراهيم بن المهاجر قال: سمعت أبي يذكر قال: سمعت زياد بن جرير قال: أوّل من بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه منا على العشور أنا، فأمرني أن لا أفتش أحدا، وما مرّ عليّ من شيء أخذت من حساب أربعين درهما درهما من المسلمين، وأخذت من أهل الذمّة من عشرين واحدا، وممن لا ذمّة له العشر، وأمرني أن أغلّظ على نصارى بني تغلب قال: إنهم قوم من العرب وليسوا من أهل الكتاب، فلعلهم يسلمون.
قال: وكان عمر رضي الله عنه قد اشترط على نصارى بني تغلب أن لا ينصّروا أولادهم.
وحدّثنا أبو حنيفة عن الهيثم عن أنس بن سيرين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
بعثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه على العشور، وكتب لي عهدا أن آخذ من المسلمين(3/219)
مما اختلفوا به لتجاراتهم ربع العشر، ومن أهل الذمّة نصف العشر، ومن أهل الحرب العشر.
وحدّثنا عاصم بن سليمان الأحول عن الحسن قال: كتب أبو موسى الأشعريّ إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، أنّ تجارا من قبلنا من المسلمين يأتون أهل الحرب فيأخذون منهم العشر، فكتب إليه عمر رضي الله عنه فخذ أنت منهم كما يأخذون من تجار المسلمين، وخذ من أهل الذمّة نصف العشر، ومن المسلمين من كلّ أربعين درهما درهما، وليس فيما دون المائتين شيء، فإذا كانت مائتين ففيها خمسة دراهم، فما زاد فبحسابه.
وحدّثنا عبد الملك بن جريج عن عمرو بن شعيب قال: إنّ أهل منبج قوما من أهل الشرك وراء البحر، كتبوا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، دعنا ندخل أرضك تجارا وتعشرنا، قال فشاور عمر رضي الله عنه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأشاروا عليه به، فكانوا أول من عشره من أهل الحرب.
وحدّثنا السدّيّ بن إسماعيل عن عامر الشعبيّ عن زياد بن جرير الأسديّ قال: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعثه على عشور العراق والشام، وأمره أن يأخذ من المسلمين ربع العشر، ومن أهل الذمّة نصف العشر، ومن أهل الحرب العشر، فمرّ عليه رجل من بني تغلب من نصارى العرب ومعه فرس فقوّمها بعشرين ألفا، فقال أمسك الفرس وأعطني ألفا، أو خذ مني تسعة عشر ألفا وأعطني الفرس. قال: فأعطاه ألفا وأمسك الفرس. قال: ثم مرّ عليه راجعا في سنته فقال: أعطني ألفا أخرى فقال له التغلبيّ: كلّما مررت بك تأخذ مني ألفا؟ قال نعم، فرجع التغلبيّ إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فوافاه بمكة وهو في بيت له، فاستأذن عليه، فقال: من أنت فقال: أنا رجل من نصارى العرب، وقصّ عليه قصته.
فقال له عمر رضي الله عنه كفيت ولم يزده على ذلك. قال: فرجع الرجل إلى زياد بن جرير وقد وطن نفسه على أن يعطيه ألفا، فوجد كتاب عمر رضي الله عنه قد سبق إليه: من مرّ عليك فأخذت منه صدقة فلا تأخذ منه شيئا إلى مثل ذلك اليوم من قابل إلّا أن تجد فضلا.
قال: فقال الرجل قد والله كانت نفسي طيبة أن أعطيك ألفا، وأني أشهد الله تعالى أني بريء من النصرانية، وأني على دين الرجل الذي كتب إليك هذا الكتاب.
وحدّثني يحيى بن سعيد عن زريق بن حيان، وكان على مكس مصر، فذكر أن عمر بن عبد العزيز كتب إليه أن أنظر من مرّ عليك من المسلمين فخذ مما ظهر من أموالهم، وما ظهر لك من التجارات من كلّ أربعين دينارا دينارا، فما نقص فبحسابه حتى تبلغ عشرين دينارا، فإن نقصت فدعها ولا تأخذ منها، وإذا مرّ عليك أهل الذمة فخذ مما يديرون من تجاراتهم من كل عشرين دينارا دينارا، فما نقص فبحساب ذلك حتى تبلغ عشرة دنانير ثم دعها لا تأخذ منها شيئا، واكتب لهم كتابا بما تأخذ منهم إلى مثلها من الحول.
وحدّثني أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم أنه قال: إذا مرّ أهل الذمّة بالخمر للتجارة(3/220)
أخذ من قيمتها نصف العشر ولا يقبل قول الذميّ في قيمتها حتى يؤتى برجلين من أهل الذمّة يقوّمانها عليه، فيؤخذ نصف العشر من الذميّ.
وحدّثنا قيس بن الربيع عن أبي فزارة عن يزيد بن الأصم عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه قال: إن هذه المعاصر والقناطر سحت «1» لا يحلّ أخذها. فبعث عمّالا إلى اليمن ونهاهم أن يأخذوا من عاصر أو قنطرة أو طريق شيئا. فقدموا فاستقلّ المال فقالوا: نهيتنا. فقال: خذوا كما كنتم تأخذون.
وحدّثنا محمد بن عبيد الله عن أنس بن سيرين قال: أرادوا أن يستعملوني على عشور الأبلة فأبيت، فلقيني أنس بن مالك رضي الله عنه فقال: ما يمنعك قلت العشور أخبث ما عمل عليه الناس. قال: فقال لي لم لا تفعل؟ عمر بن الخطاب رضي الله عنه صنعه، فجعل على أهل الإسلام ربع العشر، وعلى أهل الذمّة نصف العشر، وعلى أهل المنزل ممن ليس له ذمة العشر.
وقال أبو الحسن المسعوديّ أنّ كيقباذ أحد ملوك الفرس أوّل من أخذ العشر من الأرض وعمر بلاد بابل ومملكة الفرس، ورأيت في التوراة التي في يد اليهود أنّ أوّل من أخرج العشر من مواشيه وزروعه وجميع ما له خليل الله إبراهيم عليه السلام، وكان يدفع ذلك إلى ملك أورشليم التي هي أرض القدس، واسمه ملكي صادق، فلما مات الخليل إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه، اقتدى به بنوه في ذلك من بعده، وصاروا يدفعون العشر من أموالهم إلى أن بعث الله تعالى موسى عليه السلام، فأوجب على بني إسرائيل إخراج العشر في كل ما ملكت أيمانهم من جميع أموالهم بأنواعها، وجعل ذلك حقا لسبط لاوي الذين هم قرابة موسى عليه السلام.
وقال ابن يونس في تاريخ مصر: كان ربيعة بن شرحبيل بن حسنة رضي الله عنه أحد من شهد فتح مصر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واليا لعمرو بن العاص رضي الله عنه على المكس، وكان زريق بن حيان على مكس إبلة في خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.
قال مؤلفه رحمه الله: ومع ذلك فقد كان أهل الورع من السلف يكرهون هذا العمل.
روى ابن قتيبة في كتاب الغريب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله سهيلا، كان عشارا باليمن فمسخه الله شهابا» .
وروى ابن لهيعة عن عبد الرحمن بن ميمون عن أبي إبراهيم المعافريّ عن خالد بن ثابت: أنّ كعبا أوصاه وتقدّم إليه حين مخرجه مع عمرو بن العاص أن لا يقرب المكس.(3/221)
فهذا أعزّك الله معنى المكس عند أهل الإسلام، لا ما أحدثه الظالم هبة الله بن صاعد الفائزيّ، وزير الملك المعز ايبك التركمانيّ، أوّل من أقام من ملوك الترك بقلعة الجبل من المظالم التي سمّاها الحقوق السلطانية والمعاملات الديوانية، وتعرف اليوم بالمكوس، فذلك الرجس النجس الذي هو أقبح المعاصي والذنوب الموبقات، لكثرة مطالبات الناس له وظلاماتهم عنده، وتكرّر ذلك منه وانتهاكه للناس وأخذ أموالهم بغير حقها، وصرفها في غير وجهها، وذلك الذي لا يقرّ به متق. وعلى آخذه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
ولنرجع إلى الكلام في المقس فنقول: من الناس من يسميه المقسم بالميم بعد السين.
قال ابن عبد الظاهر في كتاب خطط القاهرة: وسمعت من يقول أنه المقسم، قيل لأن قسمة الغنائم عند الفتوح كانت به، ولم أره مسطورا. وقال العماد محمد بن أبي الفرج محمد بن حامد الكاتب الأصفهانيّ في كتاب سنا البرق الشاميّ: وجلس الملك الكامل محمد بن السلطان الملك العادل أبي بكر بن أيوب في البرج الذي بجوار جامع المقس في السابع والعشرين من شوال سنة ست وتسعين وخمسمائة، وهذا المقسم على شاطىء النيل يزار، وهناك مسجد يتبرّك به الأبرار، وهو المكان الذي قسمت فيه الغنائم عند استيلاء الصحابة رضي الله عنهم على مصر، فلما أمر السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بإدارة السور على مصر والقاهرة، تولى ذلك الأمير بهاء الدين قراقوش، وجعل نهايته التي تلي القاهرة عند المقسم، وبنى فيه برجا مشرفا على النيل، وبنى مسجدا جامعا، واتصلت العمارة منه إلى البلد، وجامعه تقام فيه الجمعة والجماعات، وهذا البرج عرف بقلعة قراقوش، وما برح هنالك إلى أن هدمه الصاحب الوزير شمس الدين عبد الله المقسيّ وزير الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاون، في سنة بضع وسبعين وسبعمائة، عندما جدّد جامع المقس الذي أنشأه الخليفة الحاكم بأمر الله، فصار يعرف بجامع المقسيّ، هذا إلى اليوم، وما برح جامع المقس هذا يشرف على النيل الأعظم إلى ما بعد سنة سبعمائة بعدّة أعوام.
قال جامع السيرة الطولونية: وركب أحمد بن طولون في غداة باردة إلى المقس، فأصاب بشاطئ النيل صيادا عليه خلق لا يواريه منه شيء، ومعه صبيّ له في مثل حاله وقد ألقى شبكته في البحر، فلما رآه رقّ لحاله وقال: يا نسيم ادفع إلى هذا عشرين دينارا، فدفعها إليه ولحق ابن طولون، فسار أحمد بن طولون ولم يبعد ورجع فوجد الصياد ميتا والصبيّ يبكي ويصيح، فظن ابن طولون أن بعض سودانه قتله وأخذ الدنانير منه، فوقف بنفسه عليه وسأل الصبيّ عن أبيه فقال له: هذا الغلام، وأشار إلى نسيم الخادم، دفع إلى أبي شيئا فلم يزل يقلّبه حتى وقع ميتا. فقال: فتشه يا نسيم، فنزل وفتشه فوجد الدنانير معه بحالها، فحرّض الصبيّ أن يأخذها فأبى وقال: هذه قتلت أبي، وإن أخذتها قتلتني، فأحضر ابن طولون قاضي المقس وشيوخه وأمرهم أن يشتروا للصبيّ دارا بخمسمائة دينار(3/222)
تكون لها غلة، وأن تحبس عليه، وكتب اسمه في أصحاب الجرايات وقال: أنا قتلت أباه لأنّ الغني يحتاج إلى تدريج وإلّا قتل صاحبه، هذا كان يجب أن يدفع إليه دينارا بعد دينار حتى تأتيه هذه الحملة على تفرقة فلا تكثر في عينه.
وقال القاضي الفاضل عبد الرحيم البيسانيّ رحمه الله في تعلق المتجدّدات لسنة سبع وسبعين وخمسمائة، وفيه يعني يوم الثلاثاء لست بقين من المحرّم، ركب السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب أعز الله نصره لمشاهدة ساحل النيل، وكان قد انحسر وتشمر عن المقس وما يليه، وبعد عن السور والقلعة المستجدّين بالمقس، وأحضر أرباب الخبرة واستشارهم، فأشير عليه بإقامة الجراريف لرفع الرمال التي قد عارضت جزائرها طريق الماء وسدّته ووقفت فيه، وكان الأفضل بن أمير الجيوش لما تربى قدّام دار الملك جزيرة رمل كما هي اليوم، أراد أن يقرب البحر وينقل الجزيرة، فأشير عليه بأن يبني مما يلي الجزيرة أنفا خارجا في البحر ليلقى التيار وينقل الرمل، فعسر هذا وعظمت غرامته، فأشار عليه ابن سيد بأن يأخذ قصاري فخار تثقب ويعمل تحتها رؤوس برابخ وتلطخ بالزفت وتكبّ القصاري عليها وتدفن في الرمل، فإذا أراد النيل وركبها، نزل من خروق القصاري إلى الرءوس، فأدارها الماء ومنعتها القصاري أن تنحدر، ودامت حركة الرمل بتحريك الماء للرؤوس، فانتقل الرمل، وذكر أنّ للزفت خاصية في تحويل الرمل قال: وفي هذا الوقت احترق النيل وصار البحر مخايض يقطعها الراجل، وتوحل فيه المراكب، وتشمر الماء عن ساحل المقس ومصر، وربّى جزائر رملية أشفق منها على المقياس لئلا يتقلص النيل عنه، ويحتاج إلى عمل غيره، وخشي منها أيضا على ساحل المقس لكون بنيان السور كان اتصل بالماء، وقد تباعد الآن عن السور، وصار المدّقوّته من برّ الغرب، ووقع النظر في إقامة جراريف لقطع الجزائر التي رباها البحر، وعمر أنوف خارجة في بر الجيزة ليميل بها الماء إلى هذا الجانب، ولم يتم شيء من ذلك.
وقال ابن المتوّج في سنة خمسين وستمائة: انتهى النيل في احتراقه إلى أربعة أذرع وسبعة عشر أصبعا، وانتهى في زيادته إلى ثمانية عشر ذراعا، وكان مثل ذلك في دولة الملك الأشرف خليل بن قلاون، وكان نيلا عظيما سدّ فيه باب المقس، يعني الباب الذي يعرف اليوم بباب البحر عند المقس، وفي سنة اثنتين وستين وستمائة أحضر إلى الملك الظاهر بيبرس طفل وجد ميتا بساحل المقس، له رأسان وأربعة أعين وأربعة أرجل وأربعة أيد، وأخبرني وكيل أبي الشيخ المعمر حسام الدين حسن بن عمر السهرورديّ رحمه الله، ومولده سنة اثنتين وسبعمائة بالمقس، أنه يعرف باب البحر هذا، إذا خرج منه الإنسان فإنه يرى برّ الجيزة، لا يحول بينه وبينها حائل، فإذا زاد ماء النيل صار الماء عند الوكالة التي هي الآن خارج باب البحر المعروفة بوكالة الجبن، وإذا كان أيام احتراق النيل بقيت الرمال تجاه باب البحر، وذلك قبل أن يحفر الملك الناصر محمد بن قلاون الخليج الناصريّ، فلما حفر(3/223)
الخليج المذكور، أنشأ الناس البساتين والدور كما يجيء إن شاء الله تعالى ذكره، وأدركنا المقس خطة في غاية العمارة بها عدّة أسواق، ويسكنها أمم من الأكراد والأجناد والكتاب وغيرهم، وقد تلاشت من بعد سنة سبع وسبعين وسبعمائة، عند حدوث الغلاء بمصر في أيام الملك الأشرف شعبان بن حسين، فلما كانت المحن منذ سنة ست وثمانمائة خربت الأحكار والمقس وغيره، وفيه إلى الآن بقية صالحة، وبه خمسة جوامع تقام بها الجمعة، وعدّة أسواق، ومعظمه خراب.
ذكر ميدان القمح
هذا المكان خارج باب القنطرة، يتصل من شرقية بعدوة الخليج، ومن غريبه بالمقس، وبعضهم يسميه ميدان الغلة، وكان موضعا للغلال أيام كان المقس ساحل القاهرة، وكانت صبر القمح وغيره من الغلال توضع من جانب المقس إلى باب القنطرة عرضا، وتقف المراكب من جامع المقس إلى منية الشيرج طولا، ويصير عند باب القنطرة في أيام النيل من مراكب الغلة وغيرها ما يستر الساحل كله.
قال ابن عبد الظاهر: المكان المعروف بميدان الغلة وما جاوره إلى ما وراء الخليج، لما ضعف أمر الخلافة وهجرت الرسوم القديمة من التفرّج في اللؤلؤة وغيرها، بنت الطائفة الفرحية الساكنون بالمقس، لأنهم ضاق بهم المقس، قبالة اللؤلؤة حارة سميت بحارة اللصوص، بسبب تعدّيهم فيها مع غيرهم إلى أن غيروا تلك المعالم، وقد كان ذلك قديما بستانا سلطانيا يسمّى بالمقسي، أمر الظاهر بن الحاكم بنقل أنشابه وحفره وجعله بركة قدّام اللؤلؤة مختلطة بالخليج، وكان للبستان المقدّم ذكره ترعة من البحر يدخل منها الماء إليه، وهو خليج الذكر الآن، فأمر بإبقائها على حالها مسلطة على البركة والخليج يستنقع الماء فيها، فلما نسي ذلك على ما ذكرناه، عمد المذكورون وغيرهم إلى اقتطاع البركة من الخليج وجعلوا بينها وبين الخليج جسرا، وصار الماء يصل إليها من الترعة دون الخليج، وصارت منتزها للسودان المذكورين في أيام النيل والربيع، ولما كانت الأيام الآمرية أحبّ إعادة النزهة، فتقدّم وزيره المأمون بن البطائحيّ بإحضار عرفاء السودان المذكورين وأنكر عليهم، ذلك، فاعتذروا بكثرة الرمال، فأمر بنقل ذلك وأعطاهم أنعاما، فبنوا حارة بالقرب من دار كافور التي أسكنت بها الطائفة المأمونية قبالة بستان الوزير، ومن المساجد الثلاثة المعلقة في شرقيها، ثم أحضر الأبقار من البساتين والعدد والآلات ونقض الجسر الذي بين البركة والخليج، وعمّق البركة إلى أن صار الخليج مسلطا عليها. قال مؤلفه رحمه الله تعالى، هذه البركة عرفت ببطن البقرة، وقد ذكر خبرها عند ذكر البرك من هذا الكتاب، وقد صار هذا الميدان اليوم سوقا تباع فيه القشة من النحاس العتيق والحصر وغير ذلك، وفي بعضه سوق الغزل وبه جامع يشرف على الخليج، وسكن هناك طائفة من(3/224)
المشارقة الحياك، وفيه سوق عامر بالمعايش.
ذكر أرض الطبالة
هذه الأرض على جانب الخليج الغربيّ بجوار المقس، كانت من أحسن منتزهات القاهرة، يمرّ النيل الأعظم من غربيها عندما يندفع من ساحل المقس، حيث جامع المقس الآن، إلى أن ينتهي إلى الموضع الذي يعرف بالجرف على جانب الخليج الناصريّ، بالقرب من بركة الرطليّ، ويمرّ من الجرف إلى غربيّ البعل، فتصير أرض الطبالة نقطة وسط، من غربيها النيل الأعظم، ومن شرقيها الخليج، ومن قبليها البركة المعروفة ببطن البقرة، والبساتين التي آخرها حيث الآن باب مصر بجوار الكبارة، وحيث المشهد النفيسيّ، ومن بحريها أرض البعل ومنظرة البعل ومنظرة التاج والخمس وجوه وقبة الهواء، فكانت رؤية هذه الأرض شيئا عجيبا في أيام الربيع، وفيها يقول سيف الدين علي بن قزل المشدّ:
إلى طبالة يعزون أرضا ... لها من سندس الريحان بسط
وقد كتب الشقيق بها سطورا ... وأحسن شكلها للطل نقط
رياض كالعرائس حين تجلى ... يزين وجهها تاج وقرط
وإنما قيل لها أرض الطبالة: لأنّ الأمير أبا الحارث أرسلان البساسيري، لما غاضب الخليفة القائم بأمر الله العباسيّ وخرج من بغداد يريد، الانتماء إلى الدولة الفاطمية بالقاهرة، أمدّه الخليفة المستنصر بالله ووزيره الناصر لدين الله عبد الرحمن البازوريّ حتى استولى على بغداد، وأخذ قصر الخلافة، وأزال دولة بني العباس منها، وأقام الدولة الفاطمية هناك، وسيّر عمامة القائم وثيابه وشباكه الذي كان إذا جلس يستند إليه، وغير ذلك من الأموال والتحف إلى القاهرة في سنة خمسين وأربعمائة، فلما وصل ذلك إلى القاهرة سرّ الخليفة المستنصر سرورا عظيما، وزينت القاهرة والقصور ومدينة مصر والجزيرة، فوقفت نسب طبالة المستنصر، وكانت امرأة مرجلة تقف تحت القصر في المواسم والأعياد وتسير أيام الموكب وحولها طائفتها وهي تضرب بالطبل، وتنشد، فأنشدت وهي واقفة تحت القصر:
يا بني العباس ردّوا ... ملك الأمر معدّ
ملّككم ملك معار ... والعوارى تستردّ
فأعجب المستنصر ذلك منها وقال لها تمني، فسألت أن تقطع الأرض المجاورة للمقس، فأقطعها هذه الأرض. وقيل لها من حينئذ أرض الطبالة، وأنشأت هذه الطبالة تربة بالقرافة الكبرى تعرف بتربة نسب. قال ابن عبد الظاهر: أرض الطبالة منسوبة إلى امرأة مغنية تعرف بنسب، وقيل بطرب، مغنية المستنصر. قال: فوهبها هذه الأرض المعروفة بأرض الطبالة، وحكرت وبنيت آدرا وبيوتا، وكانت من ملح القاهرة وبهجتها، انتهى. ثم أن أرض(3/225)
الطبالة خربت في سنة ست وتسعين وستمائة عند حدوث الغلاء والوباء في سلطنة الملك العادل كتبغا، حتى لم يبق فيها إنسان يلوح، وبقيت خرابا إلى ما بعد سنة إحدى عشرة وسبعمائة، فشرع الناس في سكناها قليلا قليلا، فلما حفر الملك الناصر محمد بن قلاون الخليج الناصريّ في سنة خمس وعشرين وسبعمائة، كانت هذه الأرض بيد الأمير بكتمر الحاجب، فما زال بالمهندسين حتى مرّوا بالخليج من عند الجرف على بركة الطوّابين التي تعرف اليوم ببركة الحاجب، وببركة الرطليّ، فمرّوا به من هناك حتى صبّ في الخليج الكبير من آخر أرض الطبالة، فعمر الأمير بكتمر المذكور هناك القنطرة التي تعرف بقنطرة الحاجب على الخليج الناصريّ، وأقام جسرا من القنطرة المذكورة إلى قريب من الجرف، فصار هذا الجسر فاصلا بين بركة الحاجب والخليج الناصريّ، وأذن للناس في تحكيره فبنوا عليه وعلى البركة الدور، وعمرت بسبب ذلك أرض الطبالة، وصار بها عدّة حارات منها: حارة العرب، وحارة الأكراد، وحارة البزازرة، وحارة العياطين، وغير ذلك. وبقي فيها عدّة أسواق وحمّام وجوامع تقام بها الجمعة، وأقبل الناس على التنزه بها أيام النيل والربيع، وكثرت الرغبات فيها لقربها من القاهرة، وما برحت على غاية من العمارة إلى أن حدث الغلاء في سنة سبع وسبعين وسبعمائة أيام الأشرف شعبان بن حسين، فخرب كثير من حارات أرض الطبالة، وبقيت منها بقية إلى أن دثرت منذ سنة ست وثمانمائة، وصارت كيمانا، وبقي فيها من العامر الآن الاملاك المطلة على البركة التي ذكرت عند ذكر البرك من هذا الكاتب، وفيها بقعة تعرف بالجنينة تصغير جنة من أخبث بقاع الأرض، يعمل فيها بمعاصي الله عز وجلّ، وتعرف ببيع الحشيشة التي يبتلعها اراذل الناس، وقد فشت هذه الشجرة الخبيثة في وقتنا هذا فشوّا زائدا، وولع بها أهل الخلاعة والسخف ولوعا كثيرا، وتظاهروا بها من غير احتشام بعدما أدركناها تعدّ من أرذل الخبائث وأقبح القاذورات، وما شيء في الحقيقة أفسد لطباع البشر منها، ولاشتهارها في وقتنا هذا، عند الخاص والعام بمصر والشام والعراق والروم، تعين ذكرها، والله تعالى أعلم.
ذكر حشيشة الفقراء
قال الحسن بن محمد في كتاب السوانح الأدبية في مدائح القنبية: سألت الشيخ جعفر بن محمد الشيرازيّ الحيدريّ ببلدة تستر في سنة ثمان وخمسين وستمائة، عن السبب في الوقوف على هذا العقار ووصوله إلى الفقراء خاصة، وتعدّيه إلى العوام عامّة، فذكر لي أن شيخه شيخ الشيوخ حيدرا رحمه الله، كان كثير الرياضة والمجاهدة، قليل الاستعمال للغذاء، قد فاق في الزهادة وبرز في العبادة، وكان مولده بنشاور من بلاد خراسان، ومقامه بجبل بين نشاور ومارماه وكان قد اتخذ بهذا الجبل زاوية وفي صحبته جماعة من الفقراء، وانقطع في موضع منها ومكث بها أكثر من عشر سنين لا يخرج منها، ولا يدخل عليه أحد غيري للقيام بخدمته. قال: ثم أن الشيخ طلع ذات يوم وقد اشتدّ الحرّ وقت القائلة منفردا(3/226)
بنفسه إلى الصحراء، ثم عاد وقد علا وجهه نشاط وسرور، بخلاف ما كنا نعهده من حاله قبل، وأذن لأصحابه في الدخول عليه، وأخذ يحادثهم، فلما رأينا الشيخ على هذه الحالة من المؤانسة بعد إقامته تلك المدّة الطويلة في الخلوة والعزلة، سألناه عن ذلك فقال: بينما أنا في خلوتي إذ خطر ببالي الخروج إلى الصحراء منفردا، فخرجت فوجدت كل شيء من النبات ساكنا لا يتحرّك لعدم الريح وشدّة القيظ، ومررت بنبات له ورق، فرأيته في تلك الحال يميس بلطف ويتحرّك من غير عنف، كالثمل النشوان، فجعلت أقطف منه أوراقا وآكلها، فحدث عندي من الارتياح ما شاهدتموه، وقوموا بنا حتى أوقفكم عليه لتعرفوا شكله.
قال: فخرجنا إلى الصحراء، فأوقفنا على النبات، فلما رأيناه قلنا هذا نبات يعرف بالقنب، فأمرنا أن نأخذ من ورقه ونأكله، ففعلنا، ثم عدنا إلى الزاوية فوجدنا في قلوبنا من السرور والفرح ما عجزنا عن كتمانه، فلما رآنا الشيخ على الحالة التي وصفنا، أمرنا بصيانة هذا العقار، وأخذ علينا الأيمان أن لا نعلم به أحدا من عوامّ الناس، وأوصانا أن لا نخفيه عن الفقراء، وقال إن الله تعالى قد خصكم بسرّ هذا الورق ليذهب بأكله همومكم الكثيفة، ويجلو بفعله أفكاركم الشريفة، فراقبوه فيما أودعكم، وراعوه فيما استرعاكم. قال الشيخ جعفر: فزرعتها بزاوية الشيخ حيدر بعد أن وقفنا على هذا السرّ في حياته، وأمرنا بزرعها حول ضريحه بعد وفاته، وعاش الشيخ حيدر بعد ذلك عشر سنين وأنا في خدمته لم أره يقطع أكلها في كل يوم، وكان يأمرنا بتقليل الغذاء وأكل هذه الحشيشة، وتوفي الشيخ حيدر سنة ثمان عشرة بزاويته في الجبل، وعمل على ضريحه قبة عظيمة، وأتته النذور الوافرة من أهل خراسان وعظموا قدره وزاروا قبره، واحترموا أصحابه، وكان قد أوصى أصحابه عند وفاته أن يوقفوا ظرفاء أهل خراسان وكبراءهم على هذا العقار وسرّه، فاستعملوه.
قال: ولم تزل الحشيشة شائعة ذائعة في بلاد خراسان ومعاملات فارس، ولم يكن يعرف أكلها أهل العراق حتى ورد إليها صاحب هرمز، ومحمد بن محمد صاحب البحرين، وهما من ملوك سيف البحر المجاور لبلاد فارس في أيام الملك الإمام المستنصر بالله، وذلك في سنة ثمان وعشرين وستمائة، فحملها أصحابهما معهم وأظهروا للناس أكلها، فاشتهرت بالعراق ووصل خبرها إلى أهل الشام ومصر والروم فاستعملوها. قال: وفي هذه السنة ظهرت الدراهم ببغداد، وكان الناس ينفقون القراضة، وقد نسب إظهار الحشيشة إلى الشيخ حيدر الأديب محمد بن عليّ بن الأعمى الدمشقيّ في أبيات وهي:
دع الخمر واشرب من مدامة حيدر ... معنبرة خضراء مثل الزبرجد
يعاطيكها ظبي من الترك أغيد ... يميس على غصن من البان أملد
فنحسبها في كفه إذ يديرها ... كرقم عذار فوق خدّ مورّد(3/227)
يرنحها أدنى نسيم تنسّمت ... فتهفو إلى برد النسيم المردّد
وتشدو على أغصانها الورق «1» في الضحى ... فيطربها سجع الحمام المغرّد
وفيها معان ليس في الخمر مثلها ... فلا تستمع فيها مقالا مفند
هي البكر لم تنكح بماء سحابة ... ولا عصرت يوما برجل ولا يد
ولا عبث القسيس يوما بكأسها ... ولا قرّبوا من دنها كل مقعد
ولا نصّ في تحريمها عند مالك ... ولا حدّ عند الشافعيّ وأحمد
ولا أثبت النعمان تنجيس عينها ... فخذها بحدّ المشرفيّ المهند
وكف أكفّ الهمّ بالكف واسترح ... ولا تطرح يوم السرور إلى غد
وكذلك نسب إظهارها إلى الشيخ حيدر الأديب أحمد بن محمد بن الرسّام الحلبيّ فقال:
ومهفهف بادي النفار عهدته ... لا ألتقيه قط غير معبس
فرأيته بعض الليالي ضاحكا ... سهل العريكة ريضا في المجلس
فقضيت منه مآربي وشكرته ... إذ صار من بعد التنافر مؤنسي
فأجابني لا تشكرنّ خلائقي ... واشكر شفيعك فهو خمر المفلس
فحشيشة الأفراح تشفع عندنا ... للعاشقين ببسطها للأنفس
وإذا هممت بصيد ظبي نافر ... فاجهد بأن يرعى حشيش القنبس
واشكر عصابة حيدر إذ أظهروا ... لذوي الخلاعة مذهب المتخمّس
ودع المعطّل للسرور وخلني ... من حسن ظنّ الناس بالمتنمّس
وقد حدّثني الشيخ محمد الشيرازيّ القلندري أنّ الشيخ حيدرا لم يأكل الحشيشة في عمره البتة، وإنما عامّة أهل خراسان نسبوها إليه لاشتهار أصحابه بها، وأن إظهارها كان قبل وجوده بزمان طويل، وذلك أنه كان بالهند شيخ يسمى بيررطن، هو أوّل من أظهر لأهل الهند أكلها، ولم يكونوا يعرفونها قبل ذلك، ثم شاع أمرها في بلاد الهند حتى ذاع خبرها ببلاد اليمن، ثم فشا إلى أهل فارس، ثم ورد خبرها إلى أهل العراق والروم والشام ومصر، في السنة التي قدّمت ذكرها. قال: وكان بيررطن في زمن الأكاسرة، وأدرك الإسلام وأسلم، وأنّ الناس من ذلك الوقت يستعملونها، وقد نسب إظهارها إلى أهل الهند عليّ بن مكيّ في أبيات أنشدنيها من لفظه وهي:
ألا فاكفف الأحزان عني مع الضرّ ... بعذراء زفّت في ملاحفها الخضر
تجلت لنا لما تحلتّ بسندس ... فجلّت عن التشبيه في النظم والنثر(3/228)
بدت تملأ الأبصار نورا بحسنها ... فأخجل نور الروض والزهر بالزهر
عروس يسرّ النفس مكنون سرّها ... وتصبح في كل الحواس إذا تسري
فللذوق منها مطعم الشهد رائقا ... وللشم منها فائق المسك بالنشر
وفي لونها للطرف أحسن نزهة ... يميل إلى رؤياه من سائر الزهر
تركّب من قان وأبيض فانثنت ... تتيه على الأزهار عالية القدر
فيكسف نور الشمس حمرة لونها ... وتخجل من مبيضّه طلعة البدر
علت رتبة في حسنها وكأنها ... زبرجد روض جاده وابل القطر
تبدّت فأبدت ما أجنّ من الهوى ... وجاءت فولت جند همي والفكر
جميلة أوصاف جليلة رتبة ... تغالت فغالى في مدائحها شعري
فقم فانف جيش الهمّ واكفف يد العنا ... بهندية أمضى من البيض والسمر
بهندية في أصل إظهار أكلها ... إلى الناس لا هندية اللون كالسّمر
تزيل لهيب الهمّ عنّا بأكلها ... وتهدي لنا الأفراح في السرّ والجهر
قال: وأنا أقول إنه قديم معروف منذ أوجد الله تعالى الدنيا، وقد كان على عهد اليونانيين، والدليل على ذلك ما نقله الأطباء في كتبهم عن بقراط وجالينوس من مزاج هذا العقار وخواصه، ومنافعه ومضارّه، قال ابن جزلة في كتاب منهاج البيان: القنب الذي هو ورق الشهدانج، منه بستانيّ ومنه برّيّ، والبستانيّ أجوده، وهو حار يابس في الدرجة الثالثة، وقيل حرارته في الدرجة الأولى، ويقال أنه بارد يابس في الدرجة الأولى، والبريّ منه حار يابس في الدرجة الرابعة. قال: ويسمى بالكفّ. أنشدني تقيّ الدين الموصلي:
كف كفّ الهموم بالكفّ فالك ... فّ شفاء للعاشق المهموم
بابنة القنّب الكريمة لا بابن ... ة كرم بعد البنت الكروم
قال: والفقراء إنما يقصدون استعماله مع ما يجدون من اللذة تجفيفا للمنيّ، وفي إبطاله قطع لشهوة الجماع كي لا تميل نفوسهم إلى ما يوقع في الزنا. وقال بعض الأطباء:
ينبغي لمن يأكل الشهدانج أو ورقه، أن يأكله مع اللوز أو الفستق أو السكر أو العسل أو الخشخاش، ويشرب بعده السكنجبين ليدفع ضرره، وإذا قلي كان أقلّ لضرره، ولذلك جرت العادة قبل أكله أن يقلى، وإذا أكل غير مقليّ كان كثير الضرر، وأمزجة الناس تختلف في أكله، فمنهم من لا يقدر أن يأكله مضافا إلى غيره، ومنهم من يضيف إليه السكر أو العسل أو غيره من الحلاوات. وقرأت في بعض الكتب أن جالينوس قال إنها تبرىء من التخمة، وهي جيدة للهضم، وذكر ابن جزلة في كتاب المنهاج أن بزر شجر القنب البستانيّ هو الشهدانج، وثمره يشبه حب السمنة، وهو حب يعصر منه الدهن. وحكي عن حنين بن إسحاق أنّ شجرة البري تخرج في القفار المنقطعة على قدر ذراع، وورقه يغلب عليه(3/229)
البياض. وقال يحيى بن ماسويه في كتاب تدبير أبدان الأصحاء: أنّ من غلب على بدنه البلغم ينبغي أن تكون أغذيته مسخنة مجففة، كالزبيب والشهدانج.
وقال صاحب كتاب إصلاح الأدوية: أنّ الشهدانج يدرّ البول، وهو عسر الانهضام، رديء الخلط للمعدة. قال: ولم أجد لإزالة الزفر من اليد أبلغ من غسلها بالحشيشة، ورأيت من خواصها أن كثيرا من ذوات السموم كالحية ونحوها إذا شمت ريحها هربت، ورأيت أن الإنسان إذا أكلها ووجد فعلها في نفسه، وأحبّ أن يفارقه فعلها قطر في منخريه شيئا من الزيت، وأكل من اللبن الحامض. ومما يكسر قوّة فعلها ويضعفه السباحة في الماء الجاري، والنوم يبطله.
قال مؤلفه رحمه الله تعالى: دع نزاهة القوم، فما بلي الناس بأفسد من هذه الشجرة لأخلاقهم، ولقد حدّثني القاضي الرئيس تاج الدين إسماعيل بن عبد الوهاب بن الخطباء المخزوميّ، قبل اختلاطه، عن الرئيس علاء الدين بن نفيس: أنه سئل عن هذه الحشيشة فقال: اعتبرتها فوجدتها تورث السفالة والرذالة، وكذلك جرّبنا في طول عمرنا من عاناها فإنه ينحط في سائر أخلاقه إلى ما لا يكاد أن يبقى له من الإنسانية شيء البتة.
وقد قال ابن البيطار في كتاب المفردات: ومن القنب نوع ثالث يقال له القنب الهنديّ، ولم أره بغير مصر، ويزرع في البساتين ويقال له الحشيشة عندهم أيضا، وهو يسكر جدّا إذا تناول منه الإنسان قدر درهم أو درهمين، حتى أنّ من أكثر منه يخرجه إلى حدّ الرعونة، وقد استعمله قوم فاختلت عقولهم، وأدّى بهم الحال إلى الجنون، وربما قتلت.
ورأيت الفقراء يستعملونها على أنحاء شتى، فمنهم من يطبخ الورق طبخا بليغا ويدعكه باليد دعكا جيدا، حتى يتعجن، ويعمل منه أقراصا، ومنهم من يجففه قليلا ثم يحمصه ويفركه باليد، ويخلط به قليل سمسم مقشور وسكّر ويستفه ويطيل مضغه، فإنهم يطربون عليه ويفرحون كثيرا، وربما أسكرهم فيخرجون به إلى الجنون أو قريب منه، وهذا ما شاهدته من فعلها، وإذا خيف من الإكثار منه فليبادر إلى القيء بسمن وماء سخن، حتى تنقى منه المعدة، وشراب الحماض لهم في غاية النفع، فانظر كلام العارف فيها واحذر من إفساد بشريّتك وتلاف أخلاقك باستعمالها، ولقد عهدناها وما يرمى بتعاطيها إلّا أراذل الناس، ومع ذلك فيأنفون من انتسابهم لها لما فيها من الشنعة، وكان قد تتبع الأمير سودون الشيخونيّ رحمه الله الموضع الذي يعرف بالجنينة من أرض الطبالة وباب اللوق وحكر واصل ببولاق، وأتلف ما هنالك من هذه الشجرة الملعونة، وقبض على من كان يبتلعها من أطراف الناس ورذلائهم وعاقب على فعلها بقلع الأضراس، فقلع أضراس كثير من العامّة في نحو سنة ثمانين وسبعمائة، وما برحت هذه الخبيثة تعدّ من القاذورات حتى قدم سلطان بغداد أحمد بن أويس فارا من تيمورلنك إلى القاهرة في سنة خمس وتسعين وسبعمائة، فتظاهر أصحابه بأكلها، وشنع الناس عليهم واستقبحوا ذلك من فعلهم وعابوه عليهم، فلما سافر من(3/230)
القاهرة إلى بغداد وخرج منها ثانيا وأقام بدمشق مدّة، تعلم أهل دمشق من أصحابه التظاهر بها. وقدم إلى القاهرة شخص من ملاحدة العجم صنع الحشيشة بعسل، خلط فيها عدّة أجزاء مجففة، كعرف اللفاح ونحوه، وسمّاها العقدة وباعها بخفية، فشاع أكلها وفشا في كثير من الناس مدّة أعوام، فلما كان في سنة خمس عشرة وثمانمائة شنع التجاهر بالشجرة الملعونة، فظهر أمرها واشتهر أكلها وارتفع الاحتشام من الكلام بها، حتى لقد كادت أن تكون من تحف المترفين، وبهذا السبب غلبت السفالة على الأخلاق، وارتفع ستر الحياء والحشمة من بين الناس، وجهروا بالسوء من القول، وتفاخروا بالمعايب، وانحطوا عن كل شرف وفضيلة، وتحلوا بكل ذميمة من الأخلاق ورذيلة، فلولا الشكل لم تقض لهم بالإنسانية، ولولا الحس لما حكمت عليهم بالحيوانية، وقد بدأ المسخ في الشمائل والأخلاق المنذر بظهوره على الصور والذوات، عافانا الله تبارك وتعالى من بلائه، وأرض الطبالة الآن بيد ورثة الحاجب.
ذكر أرض البعل والتاج
قال ابن سيده: البعل، الأرض المرتفعة التي لا يصيبها المطر إلّا مرّة واحدة في السنة.
وقيل: البعل، كلّ شجر أو زرع لا يسقى. وقيل: البعل: ما سقته السماء، وقد استبعل الموضع.
والبعل: من النخل ما شرب بعروقه من غير سقي ولا ماء سماء. وقيل هو ما اكتفى بماء السماء، والبعل ما أعطي من الأتاوة على سقي النخل، واستبعل الموضع والنخل صار بعلا. وأرض البعل هذه بجانب الخليج، تتصل بأرض الطبالة، كانت بستانا يعرف بالبعل، وفيه منظرة أنشأه الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجماليّ، وجعل على هذا البستان سورا، وإلى جانب بستان البعل هذا بستان التاج، وبستان الخمس وجوه، وقد ذكرت مناظر هذه البساتين وما كان فيها للخلفاء الفاطميين من الرسوم عند ذكر المناظر من هذا الكتاب.
وأرض البعل في هذا الوقت مزرعة تجاه قنطرة الأوز التي على الخليج. يخرج الناس للتنزه هناك أيام النيل وأيام الربيع، وكذلك أرض التاج فإنها اليوم قد زالت منها الأشجار واستقرّت من أراضي المنية الخراجية، وفي أيام النيل ينبت فيها نبات يعرف بالبشنين، له ساق طويل وزهره شبه اللينوفر، وإذا أشرقت الشمس انفتح فصار منظرا أنيقا، وإذا غربت الشمس انضم. ويذكر أنّ من العصافير نوعا صغيرا يجلس العصفور منه في دار البشنينة، فإذا أقبل الليل انضمت عليه وغطست في الماء فبات في جوفها آمنا إلى أن تشرق الشمس، فتصعد البشنينة وتنفتح فيطير العصفور، وهو شيء ما برحنا نسمعه. وهذا البشنين يصنع من زهره دهن يعالج به في البرسام وترطيب الدماغ فينجع، وأصله يعرف بالبيارون، يجمعه الأعراب ويأكلونه نيئا ومطبوخا، وهو يميل إلى الحرارة يسيرا، ويزيد في الباه، ويسخّن المعدة ويقوّيها، ويقطع الزحير، ذكر ذلك ابن البيطار في كتاب المفردات، وفي أيام الربيع(3/231)
تزرع هذه الأراضي فتذكّر بحسنها ونضارتها جنة الخلد التي وعد المتقون. وأدركت بهذه الأرض بقايا نخل وأشجار وقد تلفت.
ذكر ضواحي القاهرة
قال ابن سيده: ضواحي كل شيء نواحيه البارزة للشمس، والضواحي من النخيل ما كان خارج السور على صفة عالية لأنها تضحى للشمس. وفي كتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم لأهل بدر:
«لكم الصامتة من النخل ولنا الضاحية من البعل» يعني بالصامتة: ما أطاف به سور المدينة، وضواحي الروم ما ظهر من بلادهم وبرز. ويقال في زماننا لما خرج عن القاهرة مما هو في جنبتي الخليج من القرى ضواحي القاهرة، وقد عرفت أصل ذلك من اللغة، وتعرف البلاد التي من الضواحي في غربيّ الخليج من القرى ضواحي القاهرة، وقد عرفت أصل ذلك من اللغة، وتعرف البلاد التي من الضواحي في غربيّ الخليج بالحبس الجيوشيّ، وهي: بهتين، والأميرية، والمنية. وكان أيضا بناحية الجيزة من جملة الحبس الجيوشيّ ناحية سفط ونهيا ووسيم، حبس هذه البلاد أمير الجيوش بدر الجماليّ على عقبه. فلما زالت الدولة الفاطمية جعل السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب أمر الأسطول لأخيه الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وسلّمه له في سنة سبع وثمانين وخمسمائة، وأفرد لديوان الأسطول من الأبواب الديوانية الزكاة التي كانت تجبى من الناس بمصر، والحبس الجيوشي بالبرّين والنطرون والخراج، وما معه من ثمن القرظ، وساحل السنط، والمراكب الديوانية، وأشنأ وطنتدي وأحيل ورثة أمير الجيوش على غير الحبس الذي لهم، ثم أفتى الفقهاء ببطلان الحبس، وقبضت النواحي وصارت من جملة أموال الخراج، فعرفت ببلاد الملك، وهذه الضواحي الآن منها ما هو وقف ومنها ما هو في الديوان السلطانيّ، وخراجها يتميز على غيرها من النواحي، ويزرع أكثرها من الكتان والمقاثي وغيرها.
ذكر منية الأمراء
قال ياقوت في كتاب المشترك: المنية ثلاثة وأربعون موضعا، وجميعها بمصر غير واحدة، وبمصر من القرى المسماة بهذا الاسم ما يقارب المائتين. قال: ومنية الشيرج، ويقال لها منية الأمير ومنية الأمراء، بليدة فيها أسواق على فرسخ من القاهرة في طريق الإسكندرية. وذكر الشريف محمد بن أسعد الجوانيّ النسابة: أن قتلى أهل الشام الذين قتلوا في وقعة الخندق، بين مروان بن الحكم وعبد الرحمن بن جحدم أمير مصر، في سنة خمس وستين من الهجرة، دفنوا حيث موضع منية الشيرج هذه، وكانوا نحوا من الثمانمائة.
وقال ابن عبد الظاهر: منية الأمراء من الحبس الجيوشيّ الشرقيّ الذي كان حبسه أمير الجيوش، ثم ارتجع. وفي كل سنة يأكل البحر منها جانبا، ويجدّد جامعها ودورها حتى(3/232)
صار جامعها القديم ودورها في برّ الجيزة، وغلب البحر عليها، وهذه المنية من محاسن منتزهات القاهرة، وكانت قد كثرت العمائر بها واتخذها الناس منزل قصف ودار لعب ولهو ومغنى صبابات، وبها كان يعمل عيد الشهيد الذي تقدّم ذكره عند ذكر النيل من هذا الكتاب، لقربها من ناحية شبرا، وبها سوق في كل يوم أحد يباع فيه البقر والغنم والغلال، وهو من أسواق مصر المشهورة، وأكثر من كان يسكن بها النصارى، وكانت تعرف بعصر الخمر وبيعه، حتى أنه لما عظمت زيادة ماء النيل في سنة ثمان عشرة وسبعمائة، وكانت الغرقة المشهورة وغرقت شبرا والمنية، تلف فيها من جرار الخمر ما ينيف على ثمانين ألف جرّة مملوءة بالخمر، وباع نصرانيّ واحد مرّة في يوم عيد الشهيد بها خمرا باثني عشر ألف درهم فضة، عنها يومئذ نحو الستمائة دينار، وكسر منها الأمير بلبغا السالميّ في صفر سنة ثلاث وثمانمائة ما ينيف على أربعين ألف جرّة مملوءة بالخمر.
وما برحت تغرق في الأنيال العالية إلى أن عمل الملك الناصر محمد بن قلاوون في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة الجسر من بولاق إلى المنية، كما ذكر عند ذكر الجسور من هذا الكتاب. فأمن أهلها من الغرق، وأدركناها عامرة بكثرة المساكن والناس والأسواق والمناظر، وتقصد للنزهة بها أيام النيل والربيع، لا سيما في يومي الجمعة والأحد، فإنه كان للناس بها في هذين اليومين مجتمع ينفق فيه مال كثير، ثم لما حدثت المحن من سنة ست وثمانمائة، الحّ المناسر بالهجوم عليها في الليل وقتلوا من أهلها عدّة، فارتحل الناس منها وخلت أكثر دورها، وتعطلت حتى لم يبق بها سوى طاحون واحدة لطحن القمح، بعد ما كان بها ما ينيف على ثمانين طاحونة، وبها الآن بقية وهي جارية في الديوان السلطاني المعروف بالمفرد.
ذكر كوم الريش
هذا اسم لبلد فيما بين أرض البعل ومنية الشيرج. كان النيل يمرّ بغربيها بعد مروره بغربيّ أرض البعل، وأدركت آثار الجروف باقية من غربيّ البعل، وغربيّ كوم الريش إلى أطراف المنية، حتى تغيرت الأحوال من بعد سنة ست وثمانمائة، ففاض ماء النيل في أيام الزيادة ونزل في الدرب الذي كان يسلك فيه من أرض الطبالة إلى المنية، فانقطع هذا الدرب وترك الناس سلوكه، وكان كوم الريش من أجلّ منتزهات القاهرة، ورغب أعيان الناس في سكناها للتنزه بها.
وأخبرني شيخنا قاضي القضاة مجد الدين إسماعيل بن إبراهيم الحنفي، وخال أبي تاج الدين إسماعيل بن أحمد بن الخطباء، أنهما أدركا بكوم الريش عدّة أمراء يسكنون فيها دائما، وأنه كان من جملة من يسكن فيها دائما نحو الثمانمائة من الجند السلطاني، وأنا أدركت بها سوقا عامرا بالمعايش بأنواعها من المآكل، لا أعرف اليوم بالقاهرة مثله في كثرة(3/233)
المآكل، وأدركت بها حمّاما وجامعين تقام بهما الجمعة، وموقف مكارية، ومنارة لا يقدر الواصف أن يعبر عن حسنها لما اشتملت عليه من كل معنى رائق بهج، وما برحت على ذلك إلى أن حدثت المحن من سنة ست وثمانمائة، فطرقها أنواع الرزايا حتى صارت بلاقع «1» ، وجهلت طرقها وتغيرت معاهدها ونزل بها من الوحشة ما أبكاني، وأنشدت في رؤيتها عندما شاهدتها خرابا:
قفرا كأنك لم تكن تلهو بها ... في نعمة وأوانس أتراب
وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة، إنّ أخذه أليم شديد.
ذكر بولاق
قد تقدّم في غير موضع من هذا الكتاب أن ساحل النيل كان بالمقس، وأن الماء انحسر بعد سنة سبعين وخمسمائة عن جزيرة عرفت بجزيرة الفيل، وتقلص ماء النيل عن سور القاهرة الذي ينتهي إلى المقس، وصارت هناك رمال وجزائر، ما من سنة إلّا وهي تكثر، حتى بقي ماء النيل لا يمرّ بها إلا أيام الزيادة فقط. وفي طول السنة ينبت هناك البوص والحلفاء، وتنزل المماليك السلطانية لرمي النشاب في تلك التلال الرمل. فلما كان سنة ثلاث عشرة وسبعمائة رغب الناس في العمارة بديار مصر، لشغف السلطان الملك الناصر بها ومواظبته عليها، فكأنما نودي في القاهرة ومصر أن لا يتأخر أحد من الناس عن إنشاء عمارة، وجدّ الأمراء والجند والكتّاب والتجّار والعامّة في البناء، وصارت بولاق حينئذ تجاه بولاق التكرور، يزرع فيها القصب والقلقاس على ساقية تنقل الماء من النيل، حيث جامع الخطيري الآن، فعمّر هناك رجل من التجار منظرة، وأحاط جدارا على قطعة أرض غرس فيها عدّة أشجار وتردّد إليها للنزهة.
فلما مات انتقلت إلى ناصر الدين محمد بن الجوكندار، فعمر الناس بجانبها دورا على النيل وسكنوا ورغبوا في السكنى هناك، فامتدّت المناظر على النيل من الدار المذكورة إلى جزيرة الفيل، وتفاخروا في إنشاء القصور العظيمة هناك، وغرسوا من ورائها البساتين العظيمة، وأنشأ القاضي ابن المغربيّ رئيس الأطباء بستانا، اشتراه منه القاضي كريم الدين ناظر الخاص للأمير سيف الدين طشتمر الساقي، بنحو مائة ألف درهم فضة. وكثر التنافس بين الناس في هذه الناحية، وعمروها حتى انتظمت العمارة في الطول على حافة النيل، من منية الشيرج إلى موردة الحلفاء، بجوار الجامع الجديد خارج مصر، وعمر في العرض على حافة النيل الغربية، من تجاه الخندق بحريّ القاهرة، إلى منشأة المهرانيّ. وبقيت هذه المسافة العظيمة كلها بساتين وأحكارا عامرة بالدور والأسواق والحمّامات والمساجد(3/234)
والجوامع وغيرها، وبلغت بساتين جزيرة الفيل خاصة ما ينيف على مائة وخمسين بستانا، بعد ما كانت في سنة إحدى عشرة وسبعمائة نحو العشرين بستانا.
وأنشأ القاضي الفاضل جلال الدين القزوينيّ، وولده عبد الله، دارا عظيمة على شاطيء النيل بجزيرة الفيل، عند بستان الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب. وأنشأ الأمير عز الدين الخطيريّ جامعة ببولاق على النيل، وأنشأ بجواره ربعين. وأنشأ القاضي شرف الدين بن زنبور بستانا، وأنشأ القاضي فخر الدين المعروف بالفخر ناظر الجيش بستانا، وحكر الناس حول هذه البساتين وسكنوا هناك، ثم حفر الملك الناصر محمد بن قلاوون الخليج الناصريّ سنة خمس وعشرين وسبعمائة، فعمر الناس على جانبي هذا الخليج، وكان أوّل من عمر بعد حفر الخليج الناصريّ المهاميزي، أنشأ بستانا ومسجدا هما موجودان إلى اليوم، وتبعه الناس في العمارة حتى لم يبق في جميع هذه المواضع مكان بغير عمارة، وبقي من يمرّ بها يتعجب، إذ ما بالعهد من قدم، بينما هي تلال رمل وحلافي، إذ صارت بساتين ومناظر وقصورا ومساجد وأسواقا وحمامات وأزقة وشوارع، وفي ناحية بولاق هذه كان خص الكيالة الذي يؤخذ فيه مكس الغلة إلى أن أبطله الملك الناصر محمد بن قلاوون، كما ذكر في الروك الناصريّ من هذا الكتاب. ولما كانت سنة ست وثمانمائة انحسر ماء النيل عن ساحل بولاق، ولم يزل يبعد حتى صار على ما هو عليه الآن، وناحية بولاق الآن عامرة، وتزايدت العمائر بها، وتجدّد فيها عدّة جوامع وحمّامات ورباع وغيرها.
ذكر ما بين بولاق ومنشأة المهراني
وكان فيما بين بولاق ومنشأة المهراني خط فم الخور، وخط حكر ابن الأثير، وخط زريبة قوصون، وخط الميدان السلطانيّ بموردة الملح، وخط منشأة الكتبة.
فأمّا
فم الخور، فكان فيه من المناظر الجليلة الوصف عدّة تشرف على النيل، ومن ورائها البساتين، ويفصل بين البساتين والدور المطلة على النيل شارع مسلوك، وأنشئ هناك حمّام وجامع وسوق، وقد تقدّم ذكر الخور، وأنشأ هناك القاضي علاء الدين بن الأثير دارا على النيل، وكان إذ ذاك كاتب السرّ، وبنى الناس بجواره، فعرف ذلك الخط بحكر ابن الأثير، واتصلت العمارة من بولاق إلى فم الخور، ومن فم الخور إلى حكر ابن الأثير، وما برح فيه من مساكن الأكابر من الوزراء والأعيان، ومن الدور العظيمة ما يتجاوز الوصف.
وأما
الزريبة فإن الملك الناصر محمد بن قلاوون، لما وهب البستان الذي كان بالميدان الظاهريّ للأمير قوصون أنشأ قدّامه على النيل زريبة، ووقفها، فعمر الناس هناك حتى انتظمت العمارة من حكر ابن الأثير إلى الزريبة، وعمر هناك حمّام وسوق كبير، وطواحين وعدّة مساكن اتصلت باللوق.
وأما
زريبة السلطان، فإن الملك الناصر محمد بن قلاوون لما عمر ميدان المهاري(3/235)
المجاور لقناطر السباع الآن، أنشأ زريبة في قبليّ الجامع الطيبرسيّ، وحفر لأجل بناء هذه الزريبة البركة المعروفة الآن بالبركة الناصرية، حتى استعمل طينها في البناء، وأنشأ فوق هذه الزريبة دار وكالة وربعين عظيمين، جعل أحدهما وقفا على الخانقاه التي أنشأها بناحية سرياقوس، وأنعم بالآخر على الأمير بكتمر الساقي، فأنشأ الأمير بكتمر بجواره حمّامين، إحداهما برسم الرجال والأخرى برسم النساء، فكثر بناء الناس فيما هنالك حتى اتصلت العمارة من بحريّ الجامع الطيبرسيّ بزريبة قوصون، وصار هناك أزقة وشوارع ودروب ومساكن، من وراء المناظر المطلة على النيل، تتصل بالخليج. وأكثر الناس من البناء في طريق الميدان السلطانيّ، فصارت العمائر منتظمة من قناطر السباع إلى الميدان، من جهاته كلها، وتنافس الناس في تلك الأماكن وتغالوا في أجرها.
وعمر المكين إبراهيم بن قزوينة ناظر الجيش في قبليّ زريبة السلطان، حيث كان بستان الخشاب، دارا جليلة. وعمر أيضا صلاح الدين الكحال، والصاحب أمين الدين عبد الله بن الغنام، وعدّة من الكتاب، فقيل لهذه الخطة منشأة الكتاب، وأنشأ فيها الصاحب أمين الدين خانقاه بجوار داره، وعمر أيضا كريم الدين الصغير، حتى اتصلت العمارة بمنشأة المهراني، فصار ساحل النيل من خط دير الطين قبليّ مدينة مصر إلى منية الشيرج بحريّ القاهرة، مسافة لا تقصر عن أزيد من نصف بريد بكثير، كلها منتظمة بالمناظر العظيمة، والمساكن الجليلة، والجوامع، والمساجد، والخوانك، والحمامات، وغيرها من البساتين، لا تجد فيما بين ذلك خرابا البتة، وانتظمت العمارة من وراء الدور المطلة على النيل حتى أشرفت على الخليج.
فبلغ هذا البرّ الغربيّ من وفور العمارة وكثرة الناس وتنافسهم في الإقبال على اللذات وتأنقهم في الانهماك في المسرّات ما لا يمكن وصفه، ولا يتأتى شرحه، حتى إذا بلغ الكتاب أجله وحدثت المحن من سنة ست وثمانمائة، وتقلص ماء النيل عن البرّ الشرقيّ، وكثرت حاجات الناس وضروراتهم، وتساهل قضاة المسلمين في الاستبدال في الأوقاف وبيع نقضها، اشترى شخص الربعين والحمامين ودار الوكالة التي ذكرت على زريبة السلطان بجوار الجامع الطيبرسيّ، في سنة سبع وثمانمائة، وهدم ذلك كله وباع أنقاضه، وحفر الأساسات واستخرج ما فيها من الحجر وعمله جيرا، فنال من ذلك ربحا كثيرا، وتتابع الهدم في شاطىء النيل وباع الناس أنقاض الدور، فرغب في شرائها الأمراء والأعيان وطلاب الفوائد من العامة، حتى زال جميع ما هنالك من الدور العظيمة والمناظر الجليلة، وصار الساحل من منشأة المهرانيّ إلى قريب من بولاق كيمانا موحشة، وخرائب مقفرة، كأن لم تكن مغنى صبابات، وموطن أفراح، وملعب أتراب، ومرتع غزلان تفتن النساك هناك، وتعيد الحليم سفيها سنة الله في الذين خلوا من قبل، وإني إذا تذكرت ما صارت إليه أنشد قول عبد الله بن المعتز:(3/236)
سلام على تلك المعاهد والربا ... سلام وداع لا سلام قدوم
وصار بهذا العهد ما بين أوّل بولاق من قبليه، إلى أطراف جزيرة الفيل عامرا، من غربيه المفضي إلى النيل، ومن شرقيه الذي ينتهي إلى الخليج، إلّا أنّ النيل قد نشأت فيه جزائر ورمال بعد بها الماء عن البرّ الشرقيّ، وكثر العناء لبعده، وفي كل عام تكثر الرمال ويبعد الماء عن البرّ، ولله عاقبة الأمور. فهذا حال الجهة الغربية من ظواهر القاهرة في ابتداء وضعها، وإلى وقتنا هذا، وبقي من ظواهر القاهرة الجهة القبلية والجهة البحرية، وفيهما أيضا عدّة أخطاط تحتاج إلى شرح وتبيان، والله تعالى أعلم بالصواب.
ذكر خارج باب زويلة
اعلم أنّ خارج باب زويلة جهتان، جهة تلي الخليج، وجهة تلي الجبل. فأما الجهة التي تلي الخليج، فقد كانت عند وضع القاهرة بساتين كلها، فيما بين القاهرة إلى مصر.
وعندي فيما ظهر لي، أنّ هذه الجهة كانت في القديم غامرة بماء النيل، وذلك أنه لا خلاف بين أهل مصر قاطبة أنّ الأراضي التي هي من طين أبليز لا تكون إلّا من أرض ماء النيل، فإنّ أرض مصر تربة رملة سبخة، وما فيها من الطين طرح بعلوها عند زيادة ماء النيل، مما يحمله من البلاد الجنوبية من مسيل الأودية، فلذلك يكون لون الماء عند الزيادة متغيرا، فإذا مكث على الأرض قعد ما كان في الماء من الطين على الأرض، فسماه أهل مصر إبليز، وعليه تزرع الغلال وغيرها، وما لا يشمله ماء النيل من الأرض لا يوجد فيه هذا الطين البتة، وأنت إن عرفت أخبار مصر بتأمّلك ما تضمنه هذا الكتاب، ظهر لك أن موضع جامع عمرو بن العاص رضي الله عنه كان كروما مشرفة على النيل، وأن النيل انحسر بعد الفتح عما كان تجاه الحصن الذي يقال له قصر الشمع، وعما هو الآن تجاه الجامع، وما زال ينحسر شيئا بعد شيء حتى صار الساحل بمصر من عند سوق المعاريج الآن إلى قريب من السبع سقايات، وجميع الأراضي التي فيها الآن المراغة خارج مصر إلى نحو السبع سقايات، وما يقابل ذلك من برّ الخليج الغربيّ كان غامرا بالماء كما تقدّم، وكان في الموضع الذي تجاه المشهد المعروف بزيد، وتسميه العامة الآن مشهد زين العابدين، بساتين، شرقيها عند المشهد النفيسيّ، وغربيها عند السبع سقايات، منها بساتين عرفت بجنان بني مسكين، وعندها بني كافور الإخشيدي داره على البركة التي تجاه الكبش، وتعرف اليوم ببركة قارون، ومنها بستان يعرف ببستان ابن كيسان، ثم صار صاغة، وهو الآن يعرف ببستان الطواشي، ومنها بستان عرف آخرا بجنان الحارة، وهو من حوض الدمياطي الذي بقرب قنطرة السدّ الآن إلى السبع سقايات، وبقرب السبع سقايات بركة الفيل، ويشرف على بركة الفيل بساتين من دائرها، وإلى وقتنا هذا عليها بستان يعرف بالحبانية، وهم بطن من درما بن عمرو بن عوف بن ثعلبة بن سلامان بن بعل بن عمرو بن الغوث بن طي، فدرما فخذ من طيّ،(3/237)
والحبانيون بطن من درما، وبستان الحبانية فصل الناس بينه وبين البركة بطريق تسلك فيها المارة، وكان من شرقيّ بركة الفيل أيضا بساتين، منها بستان سيف الإسلام، فيما بين البركة والجبل الذي عليه الآن قلعة الجبل، وموضعه الآن المساكن التي من جملتها درب ابن البابا إلى زقاق حلب، وحوض ابن هنس، وعدّة بساتين أخر إلى باب زويلة.
وكذلك شقة القاهرة الغربية كانت أيضا بساتين، فوضع حارة الوزيرية إلى الكافوريّ كان ميدان الإخشيد، وبجانب الميدان بستانه الذي يقال له اليوم الكافوري، وما خرج عن باب الفتوح إلى منية الأصبغ الذي يعرف اليوم بالخندق، كان ذلك كله بساتين على حافة الخليج الشرقية، وقد ذكرت هذه المواضع في هذا الكتاب مبينة، وعند التأمل يظهر أن الخليج الكبير عند ابتداء حفره كان أوّله إمّا عند مدينة عين شمس، أو من بحريها، لأجل أن القطعة التي بجانب هذا الخليج من غربيه، والقطعة التي هي بشرقيه، فيما بين عين شمس وموردة الحلفاء خارج مدينة فسطاط مصر، جميعهما طين إبليز، والطين المذكور لا يكون إلا من حيث يمرّ ماء النيل، فتعين أنّ ماء النيل كان في القديم على هذه الأرض التي بجانبي الخليج، فينتج أن أوّل الخليج كان عند آخر النيل من من الجهة البحرية، وينتهي الطين إلى نحو مدينة عين شمس من الجانب الشرقيّ، ويصير ما بعد الخندق في الجهة البحرية رملا لا طين فيه، وهذا بين لمن تأمله وتدبره، وفي هذه الجهة التي تلي الخليج خارج باب زويلة حارات قد ذكرت عند ذكر الحارات من هذا الكتاب، وبقيت هناك أشياء نحتاج أن نعرّف بها وهي:
حوض ابن هنس: وهو حوض ترده الدواب، وينقل إليه الماء من بئر، وبه صارت تلك الخطة تعرف، وهي تلي حارة حلب، ويسلك إليها من جانبه، وهو وقف الأمير سعد الدين مسعود بن الأمير بدر الدين هنس بن عبد الله، أحد الحجاب الخاص في أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب في سلخ شعبان سنة سبع وأربعين وستمائة، وعمل بأعلاه مسجدا مرتفعا وساقية ماء على بئر معين، ومات يوم السبت عاشر شوّال سنة سبع وأربعين وستمائة، ودفن بجوار الحوض، وكان هذا الحوض قد تعطل في عصرنا، فجدّده الأمير تتر أحد الأمراء الكبار في الدولة المؤيدية، في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة، ومات هنس أمير جندار السلطان الملك العزيز عثمان في سنة إحدى وتسعين وخمسمائة.
مناظر الكبش: هذه المناظر آثارها الآن على جبل يشكر بجوار الجامع الطولونيّ، مشرفة على البركة التي تعرف اليوم ببركة قارون عند الجسر الأعظم، الفاصل بين بركة الفيل وبركة قارون، أنشأها الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب في أعوام بضع وأربعين وستمائة. وكان حينئذ ليس على بركة الفيل بناء، ولا في المواضع التي في برّ الخليج الغربيّ من قنطرة السباع إلى المقس سوى(3/238)
البساتين، وكانت الأرض التي من صليبة جامع ابن طولون إلى باب زويلة بساتين، وكذلك الأرض التي من قناطر السباع إلى باب مصر بجوار الكبارة ليس فيها إلّا البساتين، وهذه المناظر تشرف على ذلك كله من أعلى جبل يشكر، وترى باب زويلة والقاهرة، وترى باب مصر ومدينة مصر، وترى قلعة الروضة وجزيرة الروضة، وترى بحر النيل العظيم وبرّ الجيزة. فكانت من أجلّ منتزهات مصر، وتأنق في بنائها أو سماها الكبش، فعرفت بذلك إلى اليوم. وما زالت بعد الملك الصالح من المنازل الملوكية، وبها أنزل الخليفة الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد العباسيّ، لما وصل من بغداد إلى قلعة الجبل وبايعه الملك الظاهر ركن الدين بيبرس بالخلافة، فأقام بها مدّة ثم تحوّل منها إلى قلعة الجبل، وسكن بمناظر الكبش أيضا الخليفة المستكفي بالله أبو الربيع سليمان في أوّل خلافته، وفيها أيضا كانت ملوك حماه من بني أيوب تنزل عند قدومهم إلى الديار المصرية، وأوّل من نزل منهم فيها الملك المنصور لما قدم على الملك الظاهر بيبرس في المحرّم سنة ثلاث وسبعين وستمائة، ومعه ابنه الملك الأفضل نور الدين عليّ، وابنه الملك المظفر تقيّ الدين محمود، فعندما حلّ بالكبش أتاه الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقاني بالسماط فمدّه بين يديه، ووقف كما يفعل بين يدي الملك الظاهر، فامتنع الملك المنصور من الرضى بقيامه على السماط، وما زال به حتى جلس. ثم وصلت الخلع والمواهب إليه وإلى ولده وخواصه.
وفي سنة ثلاث وتسعين وستمائة أنزل بهذه المناظر نحو ثلاثمائة من مماليك الأشرف خليل بن قلاوون، عندما قبض عليهم بعد قتل الأشرف المذكور، ثم إن الملك الناصر محمد بن قلاوون هدم هذه المناظر المذكورة، في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة، وبناها بناء آخر، وأجرى الماء إليها وجدّد بها عدّة مواضع، وزاد في سعتها، وأنشأ بها اصطبلا تربط فيه الخيول، وعمل زفاف ابنته على ولد الأمير أرغون نائب السلطنة بديار مصر، بعدما جهزها جهازا عظيما منه: بشخاناه، وداير بيت، وستارات طرّز ذلك بثمانين ألف مثقال ذهب مصريّ، سوى ما فيه من الحرير وأجرة الصناع، وعمل سائر الأواني من ذهب وفضة، فبلغت زنة الأواني المذكورة ما ينيف على عشرة آلاف مثقال من الذهب، وتناهى في هذا الجهاز وبالغ في الإنفاق عليه حتى خرج عن الحدّ في الكثرة، فإنها كانت أوّل بناته، ولما نصب جهازها بالكبش نزل من قلعة الجبل وصعد إلى الكبش، وعاينه ورتبه بنفسه، واهتم في عمل العرس اهتماما ملوكيا، وألزم الأمراء بحضوره فلم يتأخر أحد منهم عن الحضور، ونقط الأمراء الأغاني على مراتبهم، من أربعمائة دينار كل أمير إلى مائتي دينار، سوى الشقق الحرير، واستمرّ الفرح ثلاثة أيام بلياليها، فذكر الناس حينئذ أنه لم يعمل فيما سلف عرس أعظم منه، حتى حصل لكل جوقة من جوق الأغاني اللاتي كنّ فيه خمسمائة دينار مصرية، ومائة وخمسون شقة حرير، وكان عدّة جوق الأغاني التي قسم عليهنّ ثمان جوق من أغاني القاهرة، سوى جوق الأغاني السلطانية وأغاني الأمراء، وعدّتهن عشرون جوقة،(3/239)
لم يعرف ما حصل لهذه العشرين جوقة من كثرة ما حصل ولما انقضت أيام العرس أنعم السلطان لكل امرأة من نساء الأمراء بتعبية قماش على مقدارها، وخلع على سائر أرباب الوظائف من الأمراء والكتاب وغيرهم، فكان مهما عظيما تجاوز المصروف فيه حدّ الكثرة.
وسكن هذه المناظر أيضا الأمير صرغتمش في أيام السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون، وعمر الباب الذي هو موجود الآن وبدنتي الحجر اللتين بجانبي باب الكبش بالحدرة، ثم أن الأمير بلبغا العمري المعروف بالخاصكيّ سكنه إلى أن قتل في سنة ثمان وستين وسبعمائة، فسكنه من بعده الأمير استدمر إلى أن قبض عليه الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون وأمر بهدم الكبش فهدم، وأقام خرابا لا ساكن فيه إلى سنة خمس وسبعين وسبعمائة، فحكره الناس وبنوا فيه مساكن وهو على ذلك إلى اليوم.
خط درب ابن البابا: هذا الخط يتوصل إليه من تجاه المدرسة البندقدارية بجوار حمام الفارقاني، ويسلك فيه إلى خط واسع يشتمل على عدّة مساكن جليلة، ويتوصل منه إلى الجامع الطولونيّ وقناطر السباع وغير ذلك، وكان هذا الخط بستانا يعرف ببستان أبي الحسين بن مرشد الطائيّ، ثم عرف ببستان تامش، ثم عرف أخيرا ببستان سيف الإسلام طفتكين بن أيوب، وكان يشرف على بركة الفيل، وله دهاليز واسعة عليها جواسق تنظر إلى الجهات الأربع، ويقابله حيث الدرب الآن المدرسة البندقدارية وما في صفها إلى الصليبة بستان، يعرف ببستان الوزير ابن المغربيّ، وفيه حمّام مليحة، ويتصل ببستان ابن المغربيّ بستان عرف أخيرا ببستان شجر الدر، وهو حيث الآن سكن الخلفاء بالقرب من المشهد النفيسيّ، ويتصل ببستان شجر الدر بساتين إلى حيث الموضع المعروف اليوم بالبكارة من مصر، ثم أن بستان سيف الإسلام حكره أمير يعرف بعلم الدين الغتمي، فبنى الناس فيه الدور في الدولة التركية، وصار يعرف الغتمي، وهو الآن يعرف بدرب ابن البابا، وهو الأمير الجليل الكبير جنكلي بن محمد بن البابا بن جنكلي بن خليل بن عبد الله بدر الدين العجليّ، رأس الميمنة وكبير الأمراء الناصرية محمد بن قلاون بعد الأمير جمال الدين نائب الكرك، قدم إلى مصر في أوائل سنة أربع وسبعمائة بعد ما طلبه الملك الأشرف خليل بن قلاوون، ورغبه في الحضور إلى الديار المصرية، وكتب له منشورا باقطاع جيد، وجهزه إليه فلم يتفق حضوره إلا في أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون، وكان مقامه بالقرب من آمد، فاكرمه وعظمه وأعطاه أمرة، ولم يزل مكرّما معظما، وفي آخر وقته بعد خروج الأمير أرغون النائب من مصر كان السلطان يبعث إليه الذهب مع الأمير بكتمر الساقي وغيره، ويقول له لا تبس الأرض على هذا، ولا تنزله في ديوانك، وكان أوّلا يجلس رأس الميمنة ثاني نائب الكرك، فلما سار نائب الكرك لنيابة طرابلس جلس الأمير جنكلي رأس الميمنة، وزوّج السلطان ابنه إبراهيم بن محمد بن قلاوون بابنة الأمير بدر الدين، وما زال معظما في كل دولة، بحيث أن الملك الصالح إسماعيل بن محمد بن قلاوون كتب له عنه الأتابكي الوالدي(3/240)
البدري، وزادت وجاعته في أيامه إلى أن مات، يوم الاثنين سابع عشر ذي الحجة، سنة ست وأربعين وسبعمائة. وكان شكلا مليحا حليما، كثير المعروف والجود، عفيفا لا يستخدم مملوكا أمرد البتة، واقتصر من النساء على امرأته التي قدمت معه إلى مصر، ومنها أولاده، وكان يحب العلم وأهله ويطارح بمسائل علمية، ويعرف ربع العبادات، ويجيده ويتكلم على الخلاف فيه، ويميل إلى الشيخ تقيّ الدين أحمد بن تيمية، ويعادي من يعاديه، ويكرم أصحابه ويكتب كلامه، مع كثرة الإحسان إلى الناس بماله وجاهه، وكان ينتسب إلى إبراهيم بن أدهم، وهو من محاسن الدولة التركية رحمه الله.
حكر الخازن: هذا المكان فيما بين بركة الفيل وخط الجامع الطولوني، كان من جملة البساتين ثم صار إصطبلا للجوق الذي فيه خيول المماليك السلطانية، فلما تسلطن الملك العادل كتبغا اخرج منه الخيول وعمله ميدانا يشرف على بركة الفيل، في سنة خمس وتسعين وستمائة، ونزل إليه ولعب فيه بالاكرة أيام سلطنته كلها إلى أن خلعه الملك المنصور لاجين، وقام في الملك من بعده، فأهمل أمره وعمر فيه الأمير علم الدين سنجر الخازن وإلى القاهرة بيتا، فعرف من حينئذ بحكر الخازن، وتبعه الناس في البناء هناك، وأنشأوا فيه الدور الجليلة، فصار من أجلّ الأخطاط وأعمرها، وأكثر من يسكن به الأمراء والمماليك.
سنجر الخازن: الأمير علم الدين الأشرفيّ، أحد مماليك الملك المنصور قلاوون، وتنقل في أيام ابنه الملك الأشرف خليل، وصار أحد الخزان، فعرف بالخازن. ثم ولي شدّ الدواوين مع الصاحب أمين الدين، وانتقل منها إلى ولاية البهنسا، ثم إلى ولاية القاهرة، وشدّ الجهات. فباشر ذلك بعقل وسياسة وحسن خلق وقلة ظلم ومحبة للستر، وتغافل عن مساويء الناس، وإقالة عثرات ذوي الهيآت مع العصبية والمعرفة وكثرة المال وسعة الحال واقتناء الأملاك الكثيرة، ثم أنه صرف عن ولاية القاهرة بالأمير قدادار في شهر رمضان سنة أربع وعشرين وسبعمائة، فوجد الناس من عزله بقدادار شدّة، وما زال بالقاهرة إلى أن مات ليلة السبت ثامن جمادى الأولى سنة خمس وثلاثين وسبعمائة، فوجد له أربعة عشر ألف أردب غلة عتيقة وأموال كثيرة، وله من الآثار مسجد بناه فوق درب استجدّه بحكر الخازن، وخانقاه بالقرافة، دفن فيها عفا الله عنه.
ربع البزادرة: هذا الربع تحت قلعة الجبل بسوق الخيل، عمر بعد سنة ثلاث عشرة وسبعمائة، وكان مكانه لا عمارة فيه، فبنى الأجناد بجواره عدّة مساكن واستجدّوا حكرين من جواره، فامتدّت العمائر إلى تربة شجر الدر حيث كان البستان المعروف بشجر الدر، وهناك الآن سكن الخلفاء، وامتدّت العمائر من تربة شجر الدر إلى المشهد النفيسيّ، ومرّوا من تجاه المشهد بالعمائر إلى أن اتصلت بعمائر مصر وباب القرافة.
خط قناطر السباع: كان هذا الخط في أوّل الإسلام يعرف بالحمراء، نزل فيه طائفة(3/241)
تعرف ببني الأزرق وبني روبيل، ثم دئرت هذه الخطة وبقيت صحراء فيها ديارات وكنائس للنصارى تعرف بكنائس الحمراء، فلما زالت دولة بني أمية ودخل أصحاب بني العباس إلى مصر في سنة اثنتين وثلاثين ومائة، نزلوا في هذه الخطة وعمروا بها فصارت تتصل بالعسكر، وقد تقدّم خبر العسكر في هذا الكتاب، فلما خرب العسكر وصار هذا المكان بساتين وغيرها إلى أن حفر الملك الناصر محمد بن قلاوون البركة الناصرية، وانشأ ميدان المهاري والزريبة والربعين بجوار الجامع الطيبرسيّ على شاطىء النيل؛ بنى الناس في حكر أقبغا واتصلت العمائر من خط السبع سقايات وخط قناطر السباع حتى اتصلت بالقاهرة ومصر والقرافة، وذلك كله من بعد سنة عشرين وسبعمائة.
بئر الوطاويط: هذه البئر أنشأها الوزير أبو الفضل جعفر بن الفضل بن جعفر بن الفرات، المعروف بابن خترابه، لينقل منها الماء إلى السبع سقايات التي أنشأها وحبسها لجميع المسلمين، التي كانت بخط الحمراء، وكتب عليها بسم الله الرحم الرحيم، لله الأمر من قبل ومن بعد، وله الشكر وله الحمد، ومنه المن على عبده جعفر بن الفضل بن جعفر بن الفرات، وما وفقه له من البناء لهذه البئر وجريانها إلى السبع سقايات، التي أنشأها وحبسها لجميع المسلمين، وحبسه وسبله وقفا مؤبدا لا يحل تغييره ولا العدول بشيء من مائه، ولا ينقل ولا يبطل ولا يساق إلّا إلى حيث مجراه، إلى السقايات المسبلة، فمن بدّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدّلونه، إن الله سميع عليم. وذلك في سنة خمس وخمسين وثلاثمائة، وصلى الله على نبيه محمد وآله وسلم، فلما طال الأمر خربت السقايات، وإلى اليوم، يعرف موضعها بخط السبع سقايات، وبنى فوق البئر المذكورة وتولد فيها كثرة من الوطاويط، فعرفت ببئر الوطاويط، ولما أكثر الناس من بناء الأماكن في أيام الناصر محمد بن قلاوون، عمر هذا المكان وعرف إلى اليوم بخط بئر الوطاويط، وهو خط عامر، فهذا ما في جهة الخليج مما خرج عن باب زويلة.
وأما جهة الجبل فإنها كانت عند وضع القاهرة صحراء، وأوّل من أعلم أنه عمر خارج باب زويلة من هذه الجهة الصالح طلائع بن رزيك، فإنه أنشأ الجامع الذي يقال له جامع الصالح، ولم يكن بين هذا الجامع وبين هذا الشرف الذي عليه الآن قلعة الجبل بناء البتة، إلّا أن هذا الموضع الآن عمل الناس فيه مقبرة، فيما بين جامع الصالح وبين هذا الشرف من حين بنيت الحارات خارج باب زويلة، فلما عمرت قلعة الجبل عمر الناس بهذه شيئا بعد شيء، وما برح من بنى هناك يجد عند الحفر رمم الأموات، وقد صارت هذه الجهة في الدولة التركية لا سيما بعد سنة ثلاث عشرة وسبعمائة من أعمر الأخطاط، وأنشأ فيها الأمراء الجوامع والدور الملوكية، وتحدّدت هناك عدّة أسواق، وصار الشارع خارج باب زويلة يفصل بين هذه الجهة وبين الجهة التي من حدّ الخليج، وكلتا هاتين الجهتين الآن عامرة، وفي جهة الجبل خط البسطيين، وخط الدرب الأحمر، وخط سوق الغنم، وخط جامع(3/242)
المارديني، وخط التبانة، وخط باب الوزير، وخط المصنع، وخط سويقة العزي، وخط مدرسة الجابي، وخط الرميلة، وخط القبيبات، وخط باب القرافة.
ذكر خارج باب الفتوح
اعلم أن خارج باب الفتوح إلى الخندق كان كله بساتين، وتمتدّ البساتين من الخندق بحافتي الخليج إلى عين شمس، فيقابل باب الفتوح من خارجه المنظرة المقدّم ذكرها عند ذكر المناظر التي كانت للخلفاء من هذا الكتاب، ويلي هذه المنظرة بستان كبير عرف بالبستان الجيوشيّ، أوّله من عند زقاق الكحل إلى المطرية، ويقابله في برّ الخليج الغربيّ بستان آخر يتوصل إليه من باب القنطرة، وينتهي إلى الخندق، وقد ذكر خبر هذين البستانين عند ذكر مناظر الخلفاء، وكان بين هذين البستانين بستان الخندق، وكان على حافة الخليج من شرقيه فيما بين زقاق الكحل وباب القنطرة، حيث المواضع التي تعرف اليوم ببركة جناق وبالكداسين إلى قريب من حارة بهاء الدين، حارة تعرف بحارة البيازرة، اختطت في نحو من سنة عشرين وخمسمائة، وكانت مناظرها تشرف على الخليج، وبجوارها بستان مختار الصقلبيّ، وعرف بعد ذلك ببستان ابن صيرم الذي حكر وبنيت فيه المساكن الكثيرة بعد ذلك، وكان أيضا خارج باب الفتوح حارة الحسينية، وهم الريحانية إحدى طوائف عسكر الخلفاء الفاطميين، وهذه الحارة اختطت بعد الشدّة العظمى التي كانت بمصر في خلافة المستنصر، فصارت على يمين من خرج من باب الفتوح إلى صحراء الهليلج، ويقابلها حارة أخرى تنتهي إلى بركة الأرمن التي عند الخندق، وتعرف اليوم ببركة قراجا، وقد ذكرت هذه الحارات عند ذكر حارات القاهرة وظواهرها من هذا الكتاب.
ذكر الخندق
هذا الموضع قرية خارج باب الفتوح كانت تعرف أوّلا بمنية الأصبغ، ثم لما اختط القائد جوهر القاهرة أمر المغاربة أن يحفروا خندقا من جهة الشام، من الجبل إلى الإبليز، عرضه عشرة أذرع في عمق مثلها، فبديء به يوم السبت حادي عشري شعبان سنة ستين وثلاثمائة، وفرغ في أيام يسيرة، وحفر خندقا آخر قدّامه وعمقه، ونصب عليه باب يدخل منه، وهو الباب الذي كان على ميدان البستان الذي للأخشيد، وقصد أن يقاتل القرامطة من وراء هذا الخندق، فقيل له من حينئذ الخندق، وخندق العبيد، والحفرة، ثم صار بستانا جليلا من جملة البساتين السلطانية في أيام الخلفاء الفاطميين، وأدركناها من منتزهات القاهرة البهجة إلى أن خربت.
قال ابن عبد الحكم: وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أقطع ابن سندر منية الأصبغ، فحاز لنفسه منها ألف فدّان، كما حدّثنا يحيى بن خالد عن الليث بن سعد(3/243)
رضي الله عنه، ولم يبلغنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أقطع أحدا من الناس شيئا من أرض مصر، إلّا ابن سندر، فإنه أقطعه منية الأصبغ، فلم تزل له حتى مات، فاشتراها الأصبغ بن عبد العزيز من ورثته، فليس بمصر قطيعة أقدم منها ولا أفضل، وكان سبب إقطاع عمر رضي الله عنه ما أقطعه من ذلك كما حدّثنا عبد الملك بن مسلمة عن ابن لهيعة عن عمرو بن شعيبة عن أبيه عن جدّه، أنه كان لزنباع بن روح الجذاميّ غلام يقال له سندر، فوجده يقبل جارية له، فجبه وجدع أنفه وأذنه، فأتى سندر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلى زنباع فقال: «لا تحملوهم من العمل ما لا يطيقون، وأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، فإن رضيتم فامسكوا، وإن كرهتم فبيعوا ولا تعذبوا خلق الله، ومن مثّل به أو أحرق بالنار فهو حرّ، وهو مولى الله ورسوله، فأعتق سندر فقال: أوص بي يا رسول الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوصي بك كل مسلم» فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سندر أبا بكر رضي الله عنه فقال: احفظ فيّ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعاله أبو بكر رضي الله عنه حتى توفي. ثم أتى عمر رضي الله عنه فقال: احفظ في وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر رضي الله عنه: نعم إن رضيت أن تقيم عندي أجريت عليك ما كان يجرى عليك أبو بكر رضي الله عنه، وإلا فانظر أيّ موضع أكتب لك. فقال سندر: مصر، لأنها أرض ريف، فكتب له إلى عمرو بن العاص: احفظ فيه وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما قدم إلى عمرو رضي الله عنه، أقطع له أرضا واسعة ودارا، فجعل سندر يعيش فيها، فلما مات قبضت في مال الله تعالى.
قال عمرو بن شعيب: ثم اقطعها عبد العزيز بن مروان الأصبغ بعد، فهي من خير أموالهم. قال: ويقال سندر وابن سندر، وقال ابن يونس مسروح بن سندر الخصيّ مولى زنباع بن روح بن سلامة الجذاميّ، يكنّى أبا الأسود، له صحبة قدم مصر بعد الفتح بكتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالوصاة، فأقطع منية الأصبغ بن عبد العزيز. روى عنه أهل مصر حديثين، روى عنه مزيد بن عبد الله البرنيّ، وربيعة بن لقيط التجيبيّ، ويقال سندر الخصيّ، وابن سندر أثبت، توفي بمصر في أيام عبد العزيز بن مروان.
ويقال كان مولاه وجده يقبّل جارية له فجبه وجدع أنفه وأذنيه، فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكا ذلك إليه، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زنباع فقال: لا تحملوهم يعني العبيد، ما لا يطيقون، وأطعموهم مما تأكلون. فذكر الحديث بطوله، وذكر عن عثمان بن سويد بن سندر، أنه أدرك مسروح بن سندر الذي جدعه زنباع بن روح، وكان جدّه لأمه، فقال: كان ربما تغدّى معي بموضع من قرية عثمان واسمها سمسم، وكان لابن سندر إلى جانبها قرية يقال لها قلون، قطيعة، وكان له مال كثير من رقيق وغير ذلك، وكان ذا دهاء منكرا جسيما، وعمر حتى أدرك زمان عبد الملك بن مروان، وكان لروح بن سلامة أبي زنباع، فورثه أهل التعدد بروح يوم مات، وقال القضاعيّ: مسروح بن سندر الخصيّ، ويكنى أبا الأسود، له صحبة، ويقال له سندر، ودخل مصر بعد الفتح سنة اثنتين وعشرين.(3/244)
وقال الكنديّ في كتاب الموالي، قال: أقبل عمرو بن العاص رضي الله عنه يوما يسير وابن سندر معه، فكان ابن سندر ونفر معه يسيرون بين يدي عمرو بن العاص رضي الله عنه، وأثاروا الغبار، فجعل عمرو عمامته على طرف أنفه ثم قال: اتقوا الغبار فإنه أوشك شيء دخولا وأبعده خروجا، وإذا وقع على الرثة صار نسمة. فقال بعضهم لأولئك النفر تنحوا، ففعلوا إلّا ابن سندر، فقيل له ألا تتنحى يا ابن سندر؟ فقال عمرو: دعوه فإن غبار الخصي لا يضرّ، فسمعها ابن سندر فغضب وقال: أما والله لو كنت من المؤمنين ما آذيتني. فقال عمرو: يغفر الله لك، أنا بحمد الله من المؤمنين. فقال ابن سندر: لقد علمت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوصي بي فقال: أوصي بك كل مؤمن.
وقال ابن يونس: اصبغ بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم يكنى أبا ريان، حكى عنه أبو حبرة عبد الله بن عباد المغافريّ، وعون بن عبد الله وغيره، توفي ليلة الجمعة لأربع بقين من شهر ربيع الآخر سنة ست وثمانين، قبل أبيه. وقال أبو الفجر عليّ بن الحسين الأصبهانيّ في كتاب الأغاني الكبير عن الرياشيّ أنه قال عن سكينة بنت الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام، أن أبا عذرتها عبد الله بن الحسين بن عليّ، ثم خلفه عليها العثماني، ثم مصعب بن الزبير، ثم الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان. قال: وكان يتولى مصر، فكتبت إليه سكينة أنّ مصر أرض وخمة، فبنى لها مدينة تسمى بمدينة الأصبغ، وبلغ عبد الملك تزوّجه أباها، فنفس بها عليه وكتب إليه: اختصر مصرا وسكينة، فبعث إليه بطلاقها ولم يدخل بها، ومتعها بعشرين ألف دينار. قلت في هذا الخبر أوهام، منها أن الأصبغ لم يل مصر، وإنما كان مع أبيه عبد العزيز بن مروان، ومنها أنّ الذي بناه الأصبغ لسكينة، منية الأصبغ هذه وليست مدينة، ومنها أن الأصبغ لم يطلّق سكينة، وإنما مات عنها قبل أن يدخل عليها. وقال ابن زولاق في كتاب إتمام كتاب الكنديّ في أخبار أمراء مصر:
وفي شوّال، يعني من سنة ستين وثلاثمائة كثر الأرجاف بوصول القرامطة إلى الشام، ورئيسهم الحسن بن محمد الأعسم، وفي هذا الوقت ورد الخبر بقتل جعفر بن فلاح، قتله القرامطة بدمشق، ولما قتل ملكت القرامطة دمشق وصاروا إلى الرملة، فانحاز معاذ بن حيان إلى يافا متحصنا بها، وفي هذا الوقت تأهب جوهر القائد لقتال القرامطة، وحفر خندقا وعمل عليه بابا، ونصب عليه بابي الحديد اللذين كانا على ميدان الإخشيد، وبنى القنطرة على الخليج، وحفر خندق السري بن الحكم وفرّق السلاح على رجال المغاربة والمصريين، ووكل بأبي الفضل جعفر بن الفضل بن الفرات خادما يبيت معه في داره ويركب معه حيث كان، وأنفذ إلى ناحية الحجاز فتعرّف خبر القرامطة، وفي ذي الحجة كبس القرامط القلزم وأخذوا واليها، ثم دخلت سنة إحدى وستين وثلاثمائة، وفي المحرّم بلغت القرامطة عين شمس، فاستعدّ جوهر للقتال لشعر بقين من صفر، وغلق أبواب الطابية وضبط الداخل والخارج، وأمر الناس بالخروج إليه وأن يخرج الأشراف كلهم، فخرج إليه أبو جعفر مسلم(3/245)
وغيره بالمضارب، وفي مستهلّ ربيع الأول التحم القتال مع القرامطة على باب القاهرة، وكان يوم جمعة، فقتل من الفريقين جماعة وأسر جماعة وأصبحوا يوم السبت متكافئين، ثم غدوا يوم الأحد للقتال وسار الحسن الأعسم بجميع عساكره ومشى للقتال على الخندق والباب مغلق، فلما زالت الشمس فتح جوهر الباب واقتتلوا قتالا شديدا، وقتل خلق كثير، ثم ولى الأعسم منهزما ولم يتبعه القائد جوهر ونهب سواد الأعسم بالجب، ووجدت صناديقه وكتبه، وانصرف في الليل على طريق القلزم، ونهب بنو عقيل وبنو طيّ كثيرا من سواده. وهو مشغول بالقتال، وكان جميع ما جرى على القرمطي بتدبير جوهر وجوائز انفذها، ولو أراد أخذ الأعسم في انهزامه لأخذه، ولكن الليل حجز فكره جوهر اتباعه خوفا من الحيلة والمكيدة، وحضر القتال خلق من رعية مصر وأمر جوهر بالنداء في المدينة، من جاء بالقرمطيّ أو برأسه فله ثلاثمائة ألف درهم، وخمسون خلعة، وخمسون سرجا محلى على دوابها، وثلاث جوائز، ومدح بعضهم القائد جوهرا بأبيات منها:
كأنّ طراز النصر فوق جبينه ... يلوح وأرواح الورى بيمينه
ولم يتفق على القرامطة منذ ابتداء أمرهم كسرة أقبح من هذه الكسرة، ومنها فارقهم من كان قد اجتمع إليهم من الكافورية والإخشيدية، فقبض جوهر على نحو الألف منهم وسجنهم مقيدين.
وقال ابن زولاق في كتاب سيرة الإمام المعز لدين الله، ومن خطّه نقلت، وفي هذا الشهر يعني المحرّم، سنة ثلاث وستين وثلاثمائة، تبسطت المغاربة في نواحي القرافة والمغاير وما قابرها، فنزلوا في الدور وأخرجوا الناس من دورهم، ونقلوا السكان وشرعوا في السكنى في المدينة، وكان المعز قد أمرهم أن يسكنوا أطراف المدينة، فخرج الناس واستغاثوا بالمعز، فأمرهم أن يسكنوا نواحي عين شمس، وركب المعز بنفسه حتى شاهد المواضع التي ينزلون فيها، وأمر لهم بمال يبنون به، وهو الموضع الذي يعرف اليوم بالخندق والحفرة وخندق العبيد، وجعل لهم واليا وقاضيا، ثم سكن أكثرهم بالمدينة مخالطين لأهل مصر، ولم يكن القائد جوهر يبيحهم سكنى المدينة ولا المبيت بها، وحظر ذلك عليهم، وكان مناديه ينادي كل عشية لا يبيتن أحد في المدينة من المغاربة.
وقال ياقوت: منية الأصبغ تنسب إلى الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان، ولا يعرف اليوم بمصر موضع يعرف بهذا الاسم، وزعموا أنها القرية المعروفة بالخندق قريبا من شرقيّ القاهرة. وقال ابن عبد الظاهر: الخندق هو منية الأصبغ، وهو الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان. قال مؤلفه رحمه الله: وقد وهم ابن عبد الظاهر فجعل أن الخندق احتفره العزيز بالله، وإنما احتفره جوهر كما تقدّم، وأدركت الخندق قرية لطيفة يبرز الناس من القاهرة إليها ليتنزهوا بها في أيام النيل والربيع، ويسكنها طائفة كبيرة، وفيها بساتين عامرة بالنخيل(3/246)
الفخر والثمار، وبها سوق وجامع تقام به الجمعة، وعليه قطعة أرض من أرض الخندق يتولاها خطيبة، فلما كانت الحوادث والمحن من سنة ست وثنمانمائة، خربت قرية الخندق ورحل أهلها منها ونقلت الخطبة من جامعة إلى جامع بالحسينية، وبقى معطلا من ذكر الله تعالى وإقامة الصلاة مدّة، ثم في شعبان سنة خمس عشرة وثمانمائة، هدمه الأمير طوغان الدوادار وأخذ عمده وخشبه، فلم يبق إلا بقية أطلاله، وكانت قرية الخندق كأنها م حسنها ضرّة لكوم الريش، وكانت تجاهها من شرقيها فخربتا جميعا.
صحراء الإهليلج: هذه البقعة شرقيّ الخندق في الرمل، وإليها كانت تنتهي عمارة الحسينية من جهة باب الفتوح، وكان بها شجر الإهليلج الهنديّ، فعرفت بذلك، وأظن أن هذا الإهليلج كان من جملة بستان ريدان الذي يعرف اليوم موضعه بالريدانية.
ذكر خارج باب النصر
أما خارج القاهرة من جهة باب النصر، فإنه عند ما وضع القائد جوهر القاهرة، كان فضاء ليس فيه سوى مصلّى العيد الذي بناه جوهر، وهذا المصلّى اليوم يصلّى على من مات فيه، وما برح ما بين هذا المصلى وبستان ريدان الذي يعرف اليوم بالريدانية لا عمارة فيه، إلى أن مات أمير الجيوش بدر الجماليّ في سنة سبع وثمانين وأربعمائة، فدفن خارج باب النصر بحريّ المصلى، وبني على قبره تربة جليلة، وهي باقية إلى اليوم هناك، فتتابع بناء الترب من حينئذ خارج باب النصر، فيما بين التربة الجيوشية والريدانية، وقبر الناس موتاهم هناك لا سيما أهل الحارات التي عرفت خارج باب الفتوح بالحسينية، وهي الريدانية، وحارة البزادرة وغيرها، ولم تزل هذه الجهة مقبرة إلى ما بعد السبعمائة بمدّة، فرغب الأمير سيف الدين الحاج آل ملك في البناء هناك، وأنشأ الجامع المعروف به في سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة، وعمر دارا وحمّاما، فاقتدى الناس به وعمروا هناك، وكان قد بنى تجاه المصلى قبل ذلك الأمير سيف الدين كهرداس المنصوري دارا تعرف اليوم بدار الحاجب، فسكن في هذه الجهة أمراء الدولة وعملوا فيما بين الريدانية والخندق مناخات الجمال، وهي باقية هناك، فصارت هذه الجهة في غاية العمارة، وفيها من باب النصر إلى الريدانية سبعة أسواق جليلة، يشتمل كل سوق منها على عدّة حوانيت كثيرة، فمنها: سوق اللفت، وهو تجاه باب بيت الحاجب الآن، عند البئر، كان فيه من جانبيه حوانيت يباع فيها اللفت، ومن هذا السوق يشتري أهل القاهرة هذا الصنف والكرنب، وتعرف هذه البئر إلى اليوم ببئر اللفت، ويليها سويقة زاوية الخدّام، وأدركت بهذه السويقة بقية صالحة، ويلي ذلك سوق جامع آل ملك، وكان سوقا عامرا فيه غالب ما يحتاج إليه من المآكل والأدوية والفواكه والخضر وغيرها، وأدركته عامرا. ويليه سويقة السنابطة، عرفت بقوم من أهل ناحية سنباط سكنوا بها، وكانت سوقا كبيرا، وأدركته عامرا. ويليها سويقة أبي ظهير، وأدركتها عامرة، ويليها سويقة(3/247)
العرب، وكانت تتصل بالريدانية، وتشتمل على حوانيت كثيرة جدّا أدركتها عامرة، وليس فيها سكان، وكانت كلها من لبن معقود عقودا، وكان بأوّل سويقة العرب هذه فرن أدركته عامرا آهلا، بلغني أنه كان يخبز فيه أيام عمارة هذا السوق وما حوله كل يوم نحو السبعة آلاف رغيف، وكان من وراء هذا السوق أحواش فيها قباب معقودة من لبن، أدركتها قائمة وليس فيها سكان، وكان من جملة هذه الأحواش حوش فيه أربعمائة قبة يسكن فيها البزادرة والمكارية، أجرة كل قبة در همان في كل شهر، فيتحصل من هذا الحوش في كل شهر مبلغ ثمانمائة درهم فضة، وكان يعرف بحوش الأحمديّ. فلما كان الغلاء في زمن الملك الأشرف شعبان بن حسين سنة سبع وسبعين وسبعمائة، خرب كثير مما كان بالقرب من الريدانية، واختلّت أحوال هذه الجهة إلى أن كانت المحن من سنة ست وثمانمائة، فتلاشت وهدمت دورها وبيعت أنقاضها، وفيها بقية آئلة إلى الدثور.
الريدانية
كانت بستانا لريدان الصقلبيّ، أحد خدّام العزيز بالله نزار بن المعز، كان يحمل المظلة على رأس الخليفة، واختص بالحاكم، ثم قتله في يوم الثلاثاء لعشر بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وريدان إن كان اسما عربيا، فإنه من قولهم ريح ريدة، ورادة، وريدانة، أي لينة الهبوب، وقيل ريح ريدة كثيرة الهبوب.
ذكر الخلجان التي بظاهر القاهرة
اعلم أن الخليج جمعه خلجان، وهو نهر صغير يختلج من نهر كبير أو من بحر، وأصل الخلج الانتزاع. خلجت الشيء من الشيء إذا انتزعته، وبأرض مصر عدّة خلجان، منها بظاهر القاهرة خليج مصر، وخليج فم الخور، وخليج الذكر، والخليج الناصريّ، وخليج قنطرة الفخر، وسترى من أخبارها ما فيه كفاية إن شاء الله تعالى.
ذكر خليج مصر
هذا الخليج بظاهر مدينة فسطاط مصر، ويمرّ من غربيّ القاهرة، وهو خليج قديم احتفره بعض قدماء ملوك مصر، بسبب هاجر أم إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله وسلامه عليهما، حين أسكنها وابنها إسماعيل خليل الله إبراهيم عليهما الصلاة والسلام بمكة، ثم تمادت الدهور والأعوام فجدّد حفره ثانيا بعض من ملك مصر من ملوك الروم بعد الإسكندر، فلما جاء الله سبحانه بالإسلام، وله الحمد والمنة، وفتحت أرض مصر على يد عمرو بن العاص، جدّد حفره بإشارة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في عام الرمادة، وكان يصب في بحر القلزم فتسير فيه السفن إلى البحر الملح، وتمرّ في البحر إلى الحجاز واليمن والهند، ولم يزل على ذلك إلى أن قام محمد بن عبد الله بن(3/248)
حسن بن حسن بن عليّ بن أبي طالب بالمدينة النبوية، والخليفة حينئذ بالعراق أبو جعفر عبد الله بن محمد المنصور، فكتب إلى عامله على مصر يأمره بطمّ خليج القلزم حتى لا تحمل الميرة من مصر إلى المدينة، فطمّه وانقطع من حينئذ اتصاله ببحر القلزم وصار على ما هو عليه الآن، وكان هذا الخليج أوّلا يعرف بخليج مصر، فلما أنشأ جوهر القائد القاهرة بجانب هذا الخليج من شرقيه، صار يعرف بخليج القاهرة، وكان يقال له أيضا خليج أمير المؤمنين، يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لأنه الذي أشار بتجديد حفره، والآن تسميه العامة بالخليج الحاكميّ، وتزعم أن الحاكم بأمر الله أبا عليّ منصورا احتفره، وليس هذا بصحيح. فقد كان هذا الخليج قبل الحاكم بمدد متطاولة، ومن العامة من يسميه خليج اللؤلؤة أيضا.
وسأقص عليك من أخبار هذا الخليج ما وقفت عليه من الأنباء.
قال الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه في أخبار طيطوس بن ماليا بن كلكن بن خربتا بن ماليق بن تدراس بن صابن مرقونس بن صابن قبطيم بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح، وجلس على سرير الملك بعد أبيه ماليا، وكان جبارا جريئا شديد البأس مهابا، فدخل عليه الأشراف وهنوه ودعوا له، فأمرهم بالإقبال على مصالحهم وما يعنيهم، ووعدهم بالإحسان، والقبط تزعم أنه أوّل الفراعنة بمصر، وهو فرعون إبراهيم عليه السلام، وأن الفراعنة سبعة هو أوّلهم، وأنه استخف بأمر الهياكل والكهنة، وكان من خبر إبراهيم عليه السلام معه، أن إبراهيم لما فارق قومه أشفق من المقام بالشام، لئلا يتبعه قومه ويردّوه إلى النمرود، لأنه كان من أهل كونا من سواد العراق، فخرج إلى مصر ومعه سارّة امرأته وترك لوطا بالشام.
وسار إلى مصر، وكانت سارّة أحسن نساء وقتها، ويقال أنّ يوسف عليه السلام ورث جزأ من جمالها، فلما سار إلى مصر، رأى الحرس المقيمون على أبواب المدينة سارة، فعجبوا من حسنها، ورفعوا خبرها إلى طيطوس الملك وقالوا: دخل إلى البلد رجل من أهل الشرق معه امرأة لم ير أحسن منها ولا أجمل.
فوجّه الملك إلى وزيره فأحضر إبراهيم صلوات الله عليه وسأله عن بلده، فأخبره.
وقال: ما هذه المرأة منك؟ فقال أختي. فعرّف الملك بذلك فقال: مره أن يجئني بالمرأة حتى أراها. فعرّفه ذلك، فامتغص منه ولم تمكنه مخالفته، وعلم أن الله تعالى لا يسوؤه في أهله، فقال لسارة: قومي إلى الملك، فإنه قد طلبك مني. قالت: وما يصنع بي الملك وما رآني قبل قال: أرجو أن يكون لخير. فقامت معه حتى أتوا قصر الملك، فأدخلت عليه، فنظر منها منظرا راعه وفتنته، فأمر بإخراج إبراهيم عليه السلام فأخرج، وندم على قوله إنها أخته، وإنما أراد أنها أخته في الدين، ووقع في قلب إبراهيم عليه السلام ما يقع في قلب الرجل على أهله، وتمنى أنه لم يدخل مصر فقال: اللهم لا تفضح نبيك في أهله. فراودها(3/249)
الملك عن نفسها فامتنعت عليه، فذهب ليمدّ يده إليها فقالت: إنك إن وضعت يدك عليّ أهلكت نفسك، لأنّ لي ربا يمنعني منك. فلم يلتفت إلى قولها ومدّ يده إليها، فجفت يده وبقي حائرا. فقال لها: أزيلي عني ما قد أصابني. فقالت: على أن لا تعاود مثل ما أتيت.
قال: نعم. فدعت الله سبحانه وتعالى فزال عنه ورجعت يده إلى حالها. فلما وثق بالصحة راودها ومناها ووعدها بالإحسان، فامتنعت وقالت: قد عرفت ما جرى. ثم مدّ يده إليها فجفت وضربت عليه أعضاؤه وعصبه، فاستغاث بها وأقسم بالآلهة أنها إن أزالت عنه ذلك فإنه لا يعاودها. فسألت الله تعالى، فزال عنه ذلك ورجع إلى حاله فقال: إنّ لك لربا عظيما لا يضيعك، فأعظم قدرها وسألها عن إبراهيم فقالت: هو قريبي وزوجي. قال: فإنه قد ذكر أنك أخته. قالت: صدق، أنا أخته في الدين، وكل من كان على ديننا فهو أخ لنا. قال: نعم الدين دينكم.
ووجه إلى ابنته جوريا، وكانت من الكمال والعقل بمكان كبير، فألقى الله تعالى محبة سارة في قلبها، فكانت تعظمها وأضافتها أحسن ضيافة، ووهبت لها جوهرا ومالا. فأتت به إبراهيم عليه السلام فقال لها: ردّيه فلا حاجة لنا به. فردّته، وذكرت ذلك جوريا لأبيها.
فعجب منهما وقال: هذا كريم من أهل بيت الطهارة، فتحيلي في برّها بكل حيلة، فوهبت لها جارية قبطية من أحسن الجواري يقال لها آجر، وهي هاجر أم إسماعيل عليه السلام، وجعلت لها سلالا من الجلود، وجعلت فيها زاد وحلوى وقالت: يكون هذا الزاد معك، وجعلت تحت الحلوى جوهرا نفيسا وحليا مكللا. فقالت سارة: أشاور صاحبي. فأتت إبراهيم عليه السلام واستأذنته فقال: إذا كان مأكولا فخذيه. فقبلته منها.
وخرج إبراهيم، فلما مضى وأمعنوا في السير، أخرجت سارة بعض تلك السلال فأصابت الجوهر والحلي، فعرّفت إبراهيم عليه السلام ذلك، فباع بعضه وحفر من ثمنه البئر التي جعلها للسبيل، وفرّق بعضه في وجوه البرّ، وكان يضيف كل من مرّ به، وعاش طيطوس إلى أو وجهت هاجر من مكة تعرّفه أنها بمكان جدب وتستغيثه، فأمر بحفر نهر في شرقيّ مصر بسفح الجبل حتى ينتهي إلى مرقى السفن في البحر الملح، فكان يحمل إليها الحنطة وأصناف الغلات، فتصل إلى جدّة وتحمل من هناك على المطايا، فأحيا بلد الحجاز مدّة، ويقال إنما حلّيت الكعبة في ذلك العصر مما أهداه ملك مصر، وقيل أنه لكثرة ما كان يحمله طوطيس إلى الحجاز سمته العرب وجرهم الصادوق، ويقال أنه سأل إبراهيم عليه السلام أن يبارك له في بلده فدعا بالبركة لمصر، وعرّفه أن ولده سيملكها ويصير أمرها إليهم قرنا بعد قرن.
وطوطيس أوّل فرعون كان بمصر، وذلك أنه أكثر من القتل حتى قتل قراباته وأهل بيته وبني عمه وخدمه ونساءه، وكثيرا من الكهنة والحكماء، وكان حريصا على الولد فلم يرزق(3/250)
ولدا غير ابنته جوريا، أو جورياق، وكانت حكيمة عاقلة تأخذ على يده كثيرا وتمنعه من سفك الدماء، فأبغضته ابنته وأبغضه جميع الخاصة والعامة، فلما رأت أمره يزيد خافت على ذهاب ملكهم فسمته وهلك، وكان ملكه سبعين سنة، واختلفوا فيمن يملك بعده، وأرادوا أن يقيموا واحدا من ولد اتريب، فقال بعض الوزراء ودعا لجورياق، فتمّ لها الأمر وملكت.
فهذا كان أوّل أمر هذا الخليج.
ثم حفره مرّة ثانية أدريان قيصر، أحد ملوك الروم، ومن الناس من يسميه أندرويانوس، ومنهم من يقول هوريانوس، قال في تاريخ مدينة رومة، وولي الملك أدريان قيصر أحد ملوك الروم، وكانت ولايته إحدى وعشرين سنة، وهو الذي درس اليهود مرّة ثانية إذ كانوا راموا النفاق عليه، وهو الذي جدّد مدينة يروشالم، يعني مدينة القدس، وأمر بتبديل اسمها وأن تسمى إيليا. وقال علماء أهل الكتاب عن أدريان هذا: وغزا القدس وأخربه في الثانية من ملكه، وكان ملكه في سنة تسع وثلاثين وأربعمائة من سني الإسكندر، وقتل عامة أهل القدس، وبنى على باب مدينة القدس منارا وكتب عليه: هذه مدينة إيليا، ويسمى موضع هذا العمود الآن محراب داود. ثم سار من القدس إلى باب فحارب ملكها وهزمه وعاد إلى مصر، فحفر خليجا من النيل إلى بحر القلزم، وسارت فيه السفن وبقي رسمه عند الفتح الإسلاميّ، فحفره عمرو بن العاص، وأصاب أهل مصر منه شدائد وألزمهم بعبادة الأصنام، ثم عاد إلى بلاده بممالك الروم فابتلى بمرض أعيى الأطباء، فخرج يسير في البلاد يبتغي من يداويه، فمرّ على بيت المقدس وكان خرابا ليس فيه غير كنيسة للنصارى، فأمر ببناء المدينة وحصنها وأعاد إليها اليهود، فأقاموا بها وملّكوا عليهم رجلا منهم.
فبلغ ذلك أدريان قيصر فبعث إليهم جيشا لم يزل يحاصرهم حتى مات اكثرهم جوعا وعطشا وأخذها عنوة، فقتل من اليهود ما لا يحصى كثرة، وأخرب المدينة حتى صارت تلالا عامرة فيها البتة، وتتبع اليهود يريد أن لا يدع منهم على وجه الأرض أحدا، ثم أمر طائفة من اليونانيين فتحوّلوا إلى مدينة القدس وسكنوا فيها، فكان بين خراب القدس الخراب الثاني على يد طيطوس وبين هذا الخراب ثلاث وخمسون سنة، فعمرت القدس باليونان، ولم يزل قيصر هذا ملكا حتى مات، فهذا خبر حفر هذا الخليج في المرّة الثانية، فلما جاء الإسلام جدّد عمرو بن العاص حفره.
قال ابن عبد الحكم ذكر حفر خليج أمير المؤمنين رضي الله عنه: حدّثنا عبد الله بن صالح عن الليث بن سعد قال: إنّ الناس بالمدينة أصابهم جهد شديد في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سنة الرمادة، فكتب رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص وهو بمصر، من عبد الله عمر أمير المؤمنين، إلى العاصي ابن العاصي سلام. أما بعد: فلعمري يا عمرو ما تبالي إذا شبعت أنت ومن معك، أن أهلك أنا ومن معي، فيا غوثاه(3/251)
ثم يا غوثاه يردّد ذلك. فكتب إليه عمرو: من عبد الله عمرو بن العاص إلى أمير المؤمنين، أما بعد: فيا لبيك ثم يا لبيك، قد بعثت إليك بعير أوّلها عندك وآخرها عندي، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
فبعث إليه بعير عظيمة، فكان أوّلها بالمدينة وآخرها بمصر يتبع بعضها بعضا. فلما قدمت على عمر رضي الله عنه، وسّع بها على الناس، ودفع إلى أهل كل بيت بالمدينة وما حولها بعيرا بما عليه من الطعام، وبعث عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوّام وسعد بن أبي وقاص يقسّمونها على الناس، فدفعوا إلى أهل كل بيت بعيرا بما عليه من الطعام، ليأكلوا الطعام، ويأتدموا بلحمه، ويحتذوا بجلده، وينتفعوا بالوعاء الذي كان فيه الطعام فيما أرادوا من لحاف أو غيره. فوسّع الله بذلك على الناس، فلما رأى ذلك عمر رضي الله عنه، حمد الله وكتب إلى عمرو بن العاص أن يقدم عليه هو وجماعة من أهل مصر معه، فقدموا عليه. فقال عمر: يا عمرو، إنّ الله قد فتح على المسلمين مصر، وهي كثيرة الخير والطعام، وقد ألقى في روعي لما أحببت من الرفق بأهل الحرمين والتوسعة عليهم حين فتح الله عليهم مصر، وجعلها قوّة لهم ولجميع المسلمين، أن أحفر خليجا من نيلها حتى يسيل في البحر، فهو أسهل لما نريد من حمل الطعام إلى المدينة ومكة، فإن حمله الطهر يبعد، ولا نبلغ به ما نريد، فانطلق أنت وأصحابك فتشاوروا في ذلك حتى يعتدل فيه رأيكم، فانطلق عمرو فأخبر من كان معه من أهل مصر، فثقل ذلك عليهم وقالوا: نتخوف أن يدخل من هذا ضرر على مصر، فنرى أن تعظّم ذلك على أمير المؤمنين وتقول له: إنّ هذا أمر لا يعتدل ولا يكون ولا نجد إليه سبيلا. فرجع عمرو بذلك إلى عمر فضحك عمر رضي الله عنه حين رآه وقال:
والذي نفسي بيده لكأني أنظر إليك يا عمرو وإلى أصحابك حين أخبرتهم بما أمرنا به من حفر الخليج، فثقل ذلك عليهم وقالوا يدخل من هذا ضرر على أهل مصر، فنرى أن تعظّم ذلك على أمير المؤمنين وتقول له، إنّ هذا أمر لا يعتدل ولا يكون، ولا نجد إليه سبيلا.
فعجب عمرو من قول عمرو قال: صدقت والله يا أمير المؤمنين، لقد كان الأمر على ما ذكرت. فقال له عمر رضي الله عنه: انطلق بعزيمة مني حتى تجدّ في ذلك، ولا يأتي عليك الحول حتى تفرغ منه إن شاء الله تعالى.
فانصرف عمرو وجمع لذلك من الفعلة ما بلغ منه ما أراد، ثم احتفر الخليج في حاشية الفسطاط الذي يقال له خليج أمير المؤمنين، فساقه من النيل إلى القلزم، فلم يأت الحول حتى جرت فيه السفن، فحمل فيه ما أراد من الطعام إلى المدينة ومكة، فنفع الله بذلك أهل الحرمين، وسمي خليج أمير المؤمنين، ثم لم يزل يحمل فيه الطعام حتى حمل فيه بعد عمر بن عبد العزيز، ثم ضيعه الولاة بعد ذلك فترك وغلب عليه الرمل فانقطع، فصار منتهاه إلى ذنب التمساح من ناحية بطحاء القلزم.(3/252)
قال: ويقال إنّ عمر رضي الله عنه قال لعمرو حين قدم عليه: يا عمرو إنّ العرب قد تشاءمت بي وكادت أن تغلب علي رحلي، وقد عرفت الذي أصابها، وليس جند من الأجناد أرجى عندي أن يغيث الله بهم أهل الحجاز من جندك، فإن استطعت أن تحتال لهم حيلة حتى يغيثهم الله تعالى. فقال عمرو: ما شئت يا أمير المؤمنين، قد عرفت أنه كانت تأتينا سفن فيها تجار من أهل مصر قبل الإسلام، فلما فتحنا مصر انقطع ذلك الخليج واستدّ وتركه التجار، فإن شئت أن نحفره فننشيء فيه سفنا يحمل فيها الطعام إلى الحجاز فعلته. فقال عمر رضي الله عنه: نعم فافعل.
فلما خرج عمرو من عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ذكر ذلك لرؤساء أهل أرضه من قبط مصر فقالوا له: ماذا جئت به، أصلح الله الأمير، تريد أن تخرج طعام أرضك وخصبها إلى الحجاز وتخرب هذه، فإن استطعت فاستقل من ذلك. فلما ودّع عمر رضي الله عنه قال له: يا عمرو انظر إلى ذلك الخليج ولا تنسين حفره. فقال له: يا أمير المؤمنين إنه قد انسدّ، وتدخل فيه نفقات عظيمة. فقال له: أمّا والذي نفسي بيده إني لأظنك حين خرجت من عندي حدّثت بذلك أهل أرضك فعظموه عليك وكرهوا ذلك، أعزم عليك إلّا ما حفرته وجعلت فيه سفنا. فقال عمرو: يا أمير المؤمنين إنه متى ما يجد أهل الحجاز طعام مصر وخصبها مع صحة الحجاز لا يخفوا إلى الجهاد. قال: فإني سأجعل من ذلك أمرا، لا يحمل في هذا البحر إلّا رزق أهل المدينة وأهل مكة. فحفره عمرو وعالجه وجعل فيه السفن. قال: ويقال أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى عمرو بن العاص: إلى العاصي ابن العاصي، فإنك لعمري لا تبالي إذا سمنت أنت ومن معك أن أعجف أنا ومن معي، فيا غوثاه ويا غوثاه. فكتب إليه عمرو: أما بعد فيا لبيك ثم يا لبيك، أتتك عير أوّلها عندك وآخرها عندي، مع أني أرجو أن أجد السبيل إلى أن أحمل إليك في البحر، ثم إن عمرا ندم على كتابه في الحمل إلى المدينة في البحر. وقال: إن أمكنت عمر من هذا خرّب مصر ونقلها إلى المدينة. فكتب إليه: إني نظرت في أمر البحر فإذا هو عسر ولا يلتأم ولا يستطاع. فكتب إليه عمر رضي الله عنه: إلى العاصي ابن العاصي، قد بلغني كتابك، تعتلّ في الذي كنت كتبت إليّ به من أمر البحر، وأيم الله لتفعلنّ أو لأقلعن بأذنك ولأبعثن من يفعل ذلك. فعرف عمرو أنه الجدّ من عمر رضي الله عنه، ففعل. فبعث إليه عمر رضي الله عنه أن لا ندع بمصر شيئا من طعامها وكسوتها وبصلها وعدسها وخلها إلّا بعثت إلينا منه.
قال: ويقال إن الذي دل عمرو بن العاص على الخليج رجل من القبط، فقال لعمرو:
أرأيت إن دللتك على مكان تجري فيه السفن حتى تنتهي إلى مكة والمدينة، أتضع عني الجزية وعن أهل بيتي؟ فقال: نعم. فكتب بذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فكتب إليه أن أفعل، فلما قدمت السفن خرج عمر رضي الله عنه حاجا أو معتمرا فقال للناس:(3/253)
سيروا بنا ننظر إلى السفن التي سيرها الله تعالى إلينا من أرض فرعون حتى أتتنا. فأتى الجار وقال: اغتسلوا من ماء البحر فإنه مبارك، فلما قدمت السفن الجار وفيها الطعام، صك عمر رضي الله عنه للناس بذلك الطعام صكوكا، فتبايع التجار الصكوك بينهم قبل أن يقبضوها، فلقي عمر بن الخطاب رضي الله عنه العلاء بن الأسود رضي الله عنه فقال: كم ربح حكيم بن حزام؟ فقال: ابتاع من صكوك الجار بمائة ألف درهم وربح عليها مائة ألف، فلقيه عمر رضي الله عنه فقال له: يا حكيم كم ربحت؟ فأخبره بمثل خبر العلاء. قال عمر رضي الله عنه: فبعته قبل أن تقبضه؟ قال نعم. قال عمر رضي الله عنه: فإنّ هذا بيع لا يصح فاردده.
فقال حكيم: ما علمت أن هذا بيع لا يصح، وما أقدر على ردّه. فقال عمر رضي الله عنه: لا بدّ. فقال حكيم: والله ما أقدر على ذلك، وقد تفرّق وذهب، ولكن رأس مالي وربحي صدقة.
وقال القضاعيّ في ذكر الخليج: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمرو بن العاص عام الرمادة بحفر الخليج الذي بحاشية الفسطاط الذي يقال له خليج أمير المؤمنين، فساقه من النيل إلى القلزم، فلم يأت عليه الحول حتى جرت فيه السفن، وحمل فيه ما أراد من الطعام إلى المدينة ومكة، فنفع الله تعالى بذلك أهل الحرمين، فسمي خليج أمير المؤمنين.
وذكر الكنديّ في كتاب الجند العربيّ أن عمرا حفره في سنة ثلاث وعشرين، وفرغ منه في ستة أشهر، وجرت فيه السفن ووصلت إلى الحجاز في الشهر السابع، ثم بنى عليه عبد العزيز بن مروان قنطرة في ولايته على مصر. قال: ولم يزل يحمل فيه الطعام حتى حمل فيه عمر بن عبد العزيز، ثم أضاعته الولاة بعد ذلك فترك وغلب عليه الرمل، فانقطع وصار منتهاه إلى ذنب التمساح من ناحية بطحاء القلزم.
وقال ابن قديد: أمر أبو جعفر المنصور بسدّ الخليج حين خرج عليه محمد بن عبد الله بن حسن بالمدينة ليقطع عنه الطعام، فسدّ إلى الآن.
وذكر البلاذري أن أبا جعفر المنصور لما ورد عليه قيام محمد بن عبد الله قال: يكتب الساعة إلى مصر أن تقطع الميرة عن أهل الحرمين، فإنهم في مثل الحرجة إذا لم تأتهم الميرة من مصر.
وقال ابن الطوير وقد ذكر ركوب الخليفة لفتح الخليج، وهذا الخليج هو الذي حفره عمرو بن العاص لما ولي على مصر في أيام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من بحر فسطاط مصر الحلو، وألحقه بالقلزم بشاطئ البحر الملح، فكانت مسافته خمسة أيام، لتقرب معونة الحجاز من ديار مصر في أيام النيل، فالمراكب النيلية تفرّغ ما تحمله من ديار مصر بالقلزم، فإذا فرغت حملت ما في القلزم مما وصل من الحجاز وغيره إلى مصر، وكان مسلكا للتجار وغيرهم في وقته المعلوم، وكان أوّل هذا الخليج من مصر يشق الطريق(3/254)
الشارع المسلوك منه اليوم إلى القاهرة، حافا بالقريوص الذي عليه البستان المعروف بابن كيسان مادا، وآثاره اليوم مادة باقية إلى الحوض المعروف بسيف الدين حسين صار ابن رزيك، والبستان المعروف بالمشتهى، وفيه آثار المنظرة التي كانت معدّة لجلوس الخليفة لفتح الخليج من هذا الطريق، ولم تكن الآدر المبنية على الخليج، ولا شيء منها هناك، وما برح هذا الخليج منتزها لأهل القاهرة يعبرون فيه بالمراكب للنزهة، إلى أن حفر الملك الناصر محمد بن قلاوون الخليج المعروف الآن بالخليج الناصريّ.
قال المسبحيّ: وفي هذا الشهر، يعني المحرّم، سنة إحدى وأربعمائة، منع الحاكم بأمر الله من الركوب في القوارب إلى القاهرة في الخليج، وشدّد في المنع، وسدّت أبواب القاهرة التي يتطرّق منها إلى الخليج، وأبواب الطاقات من الدور التي تشرف على الخليج، وكذلك أبواب الدور والخوخ التي على الخليج.
قال القاضي الفاضل في متجدّدات حوادث سنة أربع وتسعين وخمسمائة: ونهى عن ركوب المتفرّجين في المراكب في الخليج، وعن إظهار المنكر، وعن ركوب النساء مع الرجال، وعلّق جماعة من رؤساء المراكب بأيديهم. قال: وفي يوم الأربعاء تاسع عشر رمضان، ظهر في هذه المدّة من المنكرات ما لم يعهد في مصر في وقت من الأوقات، ومن الفواحش ما خرج من الدور إلى الطرقات، وجرى الماء في الخليج بنعمة الله تعالى بعد القنوط، ووقوف الزيادة في الذراع السادس عشر، فركب أهل الخلاعة وذوو البطالة في مراكب في نهار شهر رمضان ومعهم النساء الفواجر، وبأيديهنّ المزاهر يضربن بها، وتسمع أصواتهنّ ووجوههنّ مكشوفة، وحرفاؤهنّ من الرجال معهنّ في المراكب لا يمنعون عنهنّ الأيدي ولا الأبصار، ولا يخافون من أمير ولا مأمور شيئا من أسباب الإنكار، وتوقع أهل المراقبة، ما يتلو هذا الخطب من المعاقبة.
وقال جامع سيرة الناصر محمد بن قلاوون: وفي سنة ست وسبعمائة، رسم الأميران بيبرس وسلار بمنع الشخاتير والمراكب من دخول الخليج الحاكميّ والتفرّج فيه، بسبب ما يحصل من الفساد والتظاهر بالمنكرات اللاتي تجمع الخمر آلات الملاهي، والنساء المكشوفات الوجوه المتزينات بأفخر زينة، من كوافي الزركش والقنابيز والحلي العظيم، ويصرف على ذلك الأموال الكثيرة، ويقتل فيه جماعة عديدة، ورسم الأميران المذكوران لمتولي الصناعة بمصر، أن يمنع المراكب من دخول الخليج المذكور إلّا ما كان فيه غلة أو متجرا وما ناسب ذلك، فكان هذا معدودا من حسناتهما، ومسطورا في صحائفهما.
قال مؤلفه رحمه الله تعالى: أخبرني شيخ معمر ولد بعد سنة سبعمائة يعرف بمحمد المسعودي، أنه أدرك هذا الخليج والمراكب تمرّ فيه بالناس للنزهة، وأنها كانت تعبر من تحت باب القنطرة غادية ورائحة، والآن لا يمرّ بهذا الخليج من المراكب إلّا ما يحمل متاعا(3/255)
من متجر أو نحوه، وصارت مراكب النزهة والتفرج إنما تمرّ في الخليج الناصريّ فقط، وعلى هذا الخليج الكبير في زماننا هذا أربع عشرة قنطرة، يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى في القناطر، وحافتا هذا الخليج الآن معمورتان بالدور، وسيأتي إن شاء الله ذكر ذلك في مواضعه من هذا الكتاب.
وقال ابن سعد: وفيها خليج لا يزال يضعف بين خضرتها حتى يصير كما قال الرصافي:
ما زالت الأنحاء تأخذه ... حتى غدا كذؤابة النجم
وقلت في نور الكتان الذي على جانبي هذا الخليج:
انظر إلى النهر والكتان يرمقه ... من جانبيه بأجفان لها حدق
قد سلّ سيفا عليه للصبا شطب ... فقابلته بأحداق بها أرق
وأصبحت في يد الأرواح تنسجها ... حتى غدت حلقا من فوقها حلق
فقم نزرها ووجه الأرض متضح ... أو عند صفرته إن كنت تغتبق
قال وقد ذكر مصر ولا ينكر فيها إظهار أواني الخمر ولا آلات الطرب ذوات الأوتار، ولا تبرّج النساء العواهر، ولا غير ذلك مما ينكر في غيرها، وقد دخلت في الخليج الذي بين القاهرة ومصر، ومعظم عمارته فيما يلي القاهرة، فرأيت فيه من ذلك العجائب، وربما وقع فيه قتل بسبب السكر، فيمنع فيه الشرب، وذلك في بعض الأحيان، وهو ضيق وعليه من الجهتين مناظر كثيرة العمارة بعالم الطرب والتحكم والمجانة، حتى أن المحتشمين والرؤساء لا يجيزون العبور به في مركب، وللسرج في جانبيه بالليل منظر فتّان وكثيرا ما يتفرّج فيه أهل الستر، وفي ذلك أقول:
لا تركبنّ في خليج مصر ... إلّا إذا يسدل الظلام
فقد علمت الذي عليه ... من عالم كلهم طغام
صفان للحرب قد أظلّا ... سلاح ما بينهم كلام
يا سيدي لا تسر إليه ... إلّا إذا هوّم النيام
والليل ستر على التصابي ... عليه من فضله لثام
والسرج قد بدّدت عليه ... منها دنانير لا ترام
وهو قد امتدّ والمباني ... عليه في خدمة قيام
لله كم دوحة جنينا ... هناك أثمارها الآثام
وقال ابن عبد الظاهر عن مختصر تاريخ ابن المأمون، أنّ أوّل من رتب حفر خليج القاهرة على الناس المأمون بن البطائحيّ، وكذلك على أصحاب البساتين في دولة الأفضل،(3/256)
وجعل عليه واليا بمفرده، ولله در الأسعد بن خطير المماتي حيث يقول:
خليج كالحسام له صقال ... ولكن فيه للرائي مسرّه
رأيت به الملاح تجيد عوما ... كأنهم نجوم في مجرّه
وقال بهاء الدين أبو الحسن عليّ بن الساعاتي في يوم كسر الخليج:
إنّ يوم الخليج يوم من الحس ... ن بديع المرئيّ والمسموع
كم لديه من ليث غاب صؤول ... ومهاة مثل الغزال المروع
وعلى السدّ عزة قبل أن تم ... لكه ذلة المحب الخضوع
كسروا جسره هناك فحاكى ... كسر قلب يتلوه فيض دموع
ذكر خليج فم الخور وخليج الذكر
قال ابن سيده في كتاب المحكم. في اللغة الخور مصب الماء في البحر، وقيل هو خليج من البحر، والخور المطمئن من الأرض، وخليج فم الخور يخرج الآن من بحر النيل ويصب في الخليج الناصريّ ليقوّي جري الماء فيه ويغزره، وكان قبل أن يحفر الخليج الناصريّ يمدّ خليج الذكر، وكان أصله ترعة يدخل منها ماء النيل للبستان الذي عرف بالمقسي ثم وسّع.
قال ابن عبد الظاهر: وكان يخرج من البحر للمقسيّ الماء في البرابخ، فوسّعه الملك الكامل، وهو خليج الذكر. ويقال أنّ خليج الذكر حفره كافور الإخشيدي، فلما زال البستان المقسيّ في أيام الخليفة الظاهر بن الحاكم وجعله بركة قدّام المنظرة المعروفة باللؤلؤة، صار يدخل الماء إليها من هذا الخليج، وكان يفتح هذا الخليج قبل الخليج الكبير، ولم يزل حتى أمر الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة أربع وعشرين وسبعمائة بحفره فحفر وأوصل بالخليج الكبير، وشرع الأمراء والجند في حفره من أخريات جمادى الآخرة، فلما فتح كادت القاهرة أن تغرق، فسدّت القنطرة التي عليه فهدمها الماء، ومن حينئذ عزم السلطان على حفر الخليج الناصري، وأنا أدركت آثاره، وفيه ينبت القصب المسمى بالفارسيّ.
وأخبرني الشيخ المعمر حسام الدين حسين بن عمر الشهرزوريّ أنه يعرف خليج الذكر هذا وفيه الماء، وسبح فيه غير مرّة، وأراني آثاره، وكان الماء يدخل إليه من تحت قنطرة الدكة الآتي ذكرها في القناطر إن شاء الله تعالى، وعلى خليج فم الخور الآن قطنرة، وعلى خليج الذكر قنطرة يأتي ذكرهما إن شاء الله تعالى عند ذكر القناطر، وإنما قيل له خليج الذكر لأن بعض أمراء الملك الظاهر ركن الدين بيبرس كان يعرف بشمس الدين الذكر الكركيّ، كان له فيه أثر من حفره، فعرف به، وكان للناس عند هذا الخليج مجتمع يكثر فيه لهوهم ولعبهم.
قال المسبحيّ وفي يوم الثلاثاء لخمس بقين منه، يعني المحرّم، سنة خمس عشرة(3/257)
وأربعمائة، كان ثالث الفتح، فاجتمع بقنطرة المقس عند كنيسة المقس من النصارى والمسلمين في الخيام المنصوبة وغيرها خلق كثير للأكل والشرب واللهو، ولم يزالوا هناك إلى أن انقضى ذلك اليوم، وركب أمير المؤمنين، يعني الظاهر لاعزاز دين الله أبا الحسن عليّ بن الحاكم بأمر الله، في مركبه إلى المقس، وعليه عمامة شرب مفوّطة بسواد، وثوب ديبقي من شكل العمامة، ودار هناك طويلا وعاد إلى قصره سالما، وشوهد من سكر النساء وتهتكهن وحملهن في قفاف الحمالين سكارى، واجتماعهن مع الرجال أمر يقبح ذكره.
ذكر الخليج الناصريّ
هذا الخليج يخرج من بحر النيل ويصب في الخليج الكبير، وكان سبب حفره أنّ الملك الناصر محمد بن قولان، لما أنشأ القصور والخانقاه بناحية سرياقوس، وجعل هناك ميدانا يسرح إليه، وأبطل ميدان القبق المعروف بالميدان الأسود ظاهر باب النصر من القاهر، وترك المسطبة التي بناها بالقرب من بركة الحبش لمطعم الطيور والجوارح، اختار أن يحفر خليجا من بحر النيل لتمرّ فيه المراكب إلى ناحية سر ياقوس، لحمل ما يحتاج إليه من الغلال وغيرها، فتقدّم إلى الأمير سيف الدين أرغون نائب السلطنة بديار مصر بالكشف عن عمل ذلك، فنزل من قلعة الجبل بالمهندسين وأرباب الخبرة إلى شاطىء النيل، وركب النيل، فلم يزل القوم في فحص وتفتيش إلى أن وصلوا بالمراكب إلى موردة البلاط من أراضي بستان الخشاب، فوجدوا ذلك الموضع أوطأ مكان يمكن أن يحفر، إلّا أن فيه عدّة دور، فاعتبروا فم الخليج من موردة البلاط، وقدّروا أنه إذا حفر مرّ الماء فيه من موردة البلاط إلى الميدان الظاهريّ الذي أنشأه الملك الناصر بستانا، ويمرّ من البستان إلى بركة قرموط حتى ينتهي إلى ظاهر باب البحر، ويمرّ من هناك على أرض الطبالة فيصب في الخليج الكبير، فلما تعين لهم ذلك، عاد النائب إلى القلعة وطالعه بما تقرّر، فبرز أمره لسائر أمراء الدولة بإحضاء الفلاحين من البلاد الجارية في إقطاعاتهم، وكتب إلى ولاة الأعمال بجمع الرجال لحفر الخليج، فلم يمض سوى أيام قلائل حتى حضر الرجال من الأعمال، وتقدّم إلى النائب بالنزول للحفر ومعه الحجاب، فنزل لعمل ذلك، وقاس المهندسون طول الحفر من موردة البلاط حيث تعين فم الخليج إلى أن يصب في الخليج الكبير، وألزم كل أمير من الأمراء بعمل أقصاب فرضت له، فلما أهلّ شهر جمادى الأولى سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وقع الشروع في العمل، فبدأوا بهدم ما كان هناك من الأملاك التي من جهة باب اللوق إلى بركة قرموط، وحصل الحفر في البستان الذي كان للنائب، فأخذوا منه قطعة، ورسم أن يعطى أرباب الأملاك أثمانها، فمنهم من باع ملكه وأخذ ثمنه من مال السلطان، ومنهم من هدم داره ونقل أنقاضها، فهدمت عدّة دور ومساكن جليلة، وحفر في عدّة بساتين، فانتهى العمل في سلخ جمادى الآخرة على رأس شهرين، وجرى الماء فيه عند زيادة النيل، فأنشأ الناس عدّة سواق وجرت فيه السفن بالغلال وغيرها،(3/258)
فسّر السلطان بذلك، وحصل للناس رفق، وقويت رغبتهم فيه، فاشتروا عدّة أراض من بيت المال غرست فيها الأشجار وصارت بساتين جليلة، وأخذ الناس في العمارة على حافتي الخليج، فعمر ما بين المقس وساحل النيل ببولاق، وكثرت العمائر على الخليج حتى اتصلت من أوّله بموردة البلاط إلى حيث يصب في الخليج الكبير بأرض الطبالة، وصارت البساتين من وراء الأملاك المطلة على الخليج، وتنافس الناس في السكنى هناك، وأنشأوا الحمّامات والمساجد والأسواق، وصار هذا الخليج مواطن أفراح ومنازل لهو ومغنى صبابات وملعب أتراب ومحل تيه وقصف، فيما يمرّ فيه من المراكب وفيما عليه من الدور، وما برحت مراكب النزهة تمرّ فيه بأنواع الناس على سبيل اللهو إلى أن منعت المراكب منه بعد قتل الأشرف، كما يرد عند ذكر القناطر إن شاء الله تعالى.
ذكر خليج قنطرة الفخر
هذا الخليج يبتدئ من الموضع الذي كان ساحل النيل ببولاق، وينتهي إلى حيث يصب في الخليج الناصريّ، ويصب أيضا في خليج لطيف تسقى منه عدّة بساتين، وكل من هذين الخليجين معمور الجانبين بالأملاك المطلق عليه، والبساتين وجميع المواضع التي يمرّ فيها الخليج الناصريّ، وأرض هذين الخليجين كانت غامرة بالماء، ثم انحسر عنها الماء شيئا بعد شيء، كما ذكر في ظواهر القاهرة، وهذا الخليج حفر بعد الخليج الناصريّ.
ذكر القناطر
اعلم أن قناطر الخليج الكبير عدّتها الآن أربع عشرة قنطرة، وعلى خليج فم الخور قنطرة واحدة، وعلى خليج الذكر قنطرة واحدة، وعلى الخليج الناصريّ خمس قناطر، وعلى بحر أبي المنجا قنطرة عظيمة، وبالجيزة عدّة قناطر.
ذكر قناطر الخليج الكبير
قال القضاعي: القنطرتان اللتان على هذا الخليج، يعني خليج مصر الكبير، أما التي في طرف الفسطاط بالحمراء القصوى، فإن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بناها في سنة تسع وستين، وكتب عليها اسمه، وابتنى قناطر غيرها، وكتب على هذه القنطرة المذكورة، هذه القنطرة أمر بها عبد العزيز بن مروان الأمير، اللهمّ بارك له في أمره كله، وثبت سلطانه على ما ترضى، وأقرّ عينه في نفسه وحشمه أمين. وقام ببنائها سعد أبو عثمان، وكتب عبد الرحمن في صفر سنة تسع وستين، ثم زاد فيها تكين أمير مصر في سنة عثمان عشرة وثلثمائة، ورفع سمكها، ثم زاد عليها الإخشيد في سنة إحدى وثلاثين وثلثمائة، ثم عمرت في أيام العزيز بالله.(3/259)
وقال ابن عبد الظاهر: وهذه القنطرة ليس لها أثر في هذا الزمان، قلت موضعها الآن خلف خط السبع سقايات، وهذه القنطرة هي التي كانت تفتح عند وفاء النيل في زمن الخلفاء، فلما انحسر النيل عن ساحل مصر اليوم، أهملت هذه القنطرة، وعملت قنطرة السدّ عند فم بحر النيل، فإن النيل كان قد ربى الجرف، حيث غيط الجرف الذي على يمنة من سلك من المراغة إلى باب مصر بجوار الكبارة.
قنطرة السد: هذه القنطرة موضعها مما كان غامرا بماء النيل قديما، وهي الآن يتوصل من فوقها إلى منشأة المهرانيّ وغيرها من برّ الخليج الغربيّ، وكان النيل عند إنشائها يصل إلى الكوم الأحمر الذي هو جانب الخليج الغربيّ الآن، تجاه خط بين الزقاقين، فإن النيل كان قد ربى جرفا قدّام الساحل القديم، كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب، فأهملت القنطرة الأولى لبعد النيل، وقدّمت هذه القنطرة إلى حيث كان النيل ينتهي، وصار يتوصل منها إلى بستان الخشاب الذي موضعه اليوم يعرف بالمريس وما حوله، وكان الذي أنشأها الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، في أعوام بضع وأربعين وستمائة، ولها قوسان، وعرفت الآن بقنطرة السدّ، من أجل أن النيل لما انحسر عن الجانب الشرقيّ وانكشفت الأراضي التي عليها الآن، خط بين الزقاقين إلى موردة الحلفاء، وموضع الجامع الجديد إلى دار النحاس، وما وراء هذه الأماكن إلى المراغة وباب مصر بجوار الكبارة، وانكشف من أراضي النيل أيضا الموضع الذي يعرف اليوم بمنشأة المهرانيّ، وصار ماء النيل إذا بدت زيادته يجعل عند هذه القنطرة سدّ من التراب حتى يسند الماء إليه إلى أن تنتهي الزيادة إلى ست عشرة ذراعا، فيفتح السدّ حينئذ ويمرّ الماء في الخليج الكبير كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب، والأمر على هذا إلى اليوم.
قناطر السباع: هذه القناطر جانبها الذي يلي خط السبع سقايات من جهة الحمراء القصوى، وجانبها الآخر من جهة جنان الزهريّ، وأوّل من أنشأها الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ، ونصب عليها سباعا من الحجارة، فإن رنكه كان على شكل سبع، فقيل لها قناطر السباع من أجل ذلك، وكانت عالية مرتفعة، فلما أنشأ الملك الناصر محمد بن قلاون الميدان السلطانيّ في موضع بستان الخشاب، حيث موردة البلاط، وتردّد إليه كثيرا، وصار لا يمرّ إليه من قلعة الجبل حتى يركب قناطر السباع، فتضرّر من علوّها وقال لومراء أنّ هذه القنطرة حين أركب إلى الميدان وأركب عليها يتألم ظهري من علوّها، ويقال أنه أشاع هذا، والقصد إنما هو كراهته لنظر أثر أحد من الملوك قبله، وبغضه أن يذكر لأحد غيره شيء يعرف به، وهو كلما يمرّ بها يرى السباع التي هي رنك الملك الظاهر، فأحب أن يزيلها لتبقى القنطرة منسوبة إليه ومعروفة به، كما كان يفعل دائما في محو آثار من تقدّمه وتخليد ذكره، ومعرفة الآثار به ونسبتها له، فاستدعى الأمير علاء الدين عليّ بن حسن(3/260)
المروانيّ والي القاهرة وشادّ الجهات، وأمره بهدم قناطر السباع، وعمارتها أوسع مما كانت بعشرة أذرع، وأقصر من ارتفاعها الأوّل، فنزل ابن المروانيّ وأحضر الصناع ووقف بنفسه حتى انتهى في جمادى الأولى سنة خمس وثلاثين وسبعمائة في أحسن قالب على ما هي عليه الآن، ولم يضع سباع الحجر عليها، وكان الأمير الطنبغا الماردينيّ قد مرض ونزل إلى الميدان السلطانيّ، فأقام به ونزل إليه السلطان مرارا، فبلغ الماردينيّ ما يتحدّث به العامّة من أن السلطان لم يخرّب قناطر السباع إلا حتى تبقى باسمه، وأنه رسم لابن المروانيّ أن يكسر سباع الحجر ويرميها في البحر، واتفق أنه عوفي عقيب الفراغ من بناء القنطرة، وركب إلى القلعة، فسرّبه السلطان، وكان قد شغفه حبا، فسأله عن حاله وحادثه إلى أن جرى ذكر القنطرة، فقال له السلطان: أعجبتك عمارتها، فقال والله يا خوند: لم يعمل مثلها، ولكن ما كملت. فقال كيف، قال السباع التي كانت عليها لم توضع مكانها، والناس يتحدّثون أن السلطان له عرض في إزالتها لكونها رنك سلطان غيره، فامتغص لذلك وأمر في الحال بإحضار ابن المروانيّ وألزمه بإعادة السباع على ما كانت عليه، فبادر إلى تركيبها في أماكنها، وهي باقية هناك إلى يومنا هذا إلّا أنّ الشيخ محمدا المعروف بصائم الدهر شوّه صورها كما فعل بوجه أبي الهول، ظنا منه أن هذا الفعل من جملة القربات ولله در القائل:
وإنما غاية كلّ من وصل ... صيدا بنى الدنيا بأنواع الحيل
قنطرة عمر شاه: هذه القنطرة على الخليج الكبير، يتوصل منها إلى برّ الخليج الغربيّ.
قنطرة طقزدمر: هذه القنطرة على الخليج الكبير بخط المسجد المعلق، يتوصل منها إلى برّ الخليج الغربيّ، وحكر قوصون وغيره.
قنطرة اق سنقر: هذه القنطرة على الخليج الكبير، يتوصل إليها من خط قبو الكرمانيّ، ومن حارة البديعيين التي تعرف اليوم بالحبانية، ويمرّ من فوقها إلى برّ الخليج الغربيّ، وعرفت بالأميراق سنقرشادّ العمائر السلطانية في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون، عمرها لما أنشأ الجامع بالبركة الناصرية، ومات بدمشق سنة أربعين وسبعمائة.
قنطرة باب الخرق: يقال للأرض البعيدة التي تخرقها الريح لاستوائها، الخرق. وهذه القنطرة على الخليج الكبير، كان موضعها ساحلا وموردة للسقائين في أيام الخلفاء الفاطميين، فلما أنشأ الملك الصالح نجم الدين أيوب الميدان السلطانيّ بأرض اللوق، وعمريه المناظر في سنة تسع وثلاثين وستمائة، أنشأ هذه القنطرة ليمرّ عليها إلى الميدان المذكور، وقيل قنطرة باب الخرق.
قنطرة الموسكي: هذه القنطرة على الخليج الكبير، يتوصل إليها من باب الخوخة(3/261)
وباب القنطرة، ويمرّ فوقها إلى برّ الخليج الغربيّ، أنشأها الأمير عز الدين موسك، قريب السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وكان خيّرا يحفظ القرآن الكريم ويواظب على تلاوته، ويحب أهل العلم والصلاح، ويؤثرهم، ومات بدمشق يوم الأربعاء ثامن عشرى شعبان سنة أربع وثمانين وخمسمائة.
قنطرة الأمير حسين: هذه القنطرة على الخليج الكبير، ويتوصل منها إلى برّ الخليج الغربيّ، فلما أنشأ الأمير سيف الدين حسين بن أبي بكر بن إسماعيل بن حيدر بك الروميّ الجامع المعروف بجامع الأمير حسين في حكر جوهر النوبيّ، أنشأ هذه القنطرة ليصل من فوقها إلى الجامع المذكور، وكن يتوصل إليها من باب القنطرة، فثقل عليه ذلك واحتاج إلى أن فتح في السور الخوخة المعروفة بخوخة الأمير حسين من الوزيرية، فصارت تجاه هذه القنطرة، وقد ذكر خبرها عند ذكر الخوخ من هذا الكتاب، والله تعالى أعلم.
قنطرة باب القنطرة: هذه القنطرة على الخليج الكبير، يتوصل إليها من القاهرة، ويمرّ فوقها إلى المقس وأرض الطبالة، وأوّل من بناها القائد جوهر لما نزل بمناخه وأدار السور عليه وبنى القاهرة، ثم قدم عليه القرطميّ، فاحتاج إلى الاستعداد لمحاربته، فحفر الخندق وبنى هذه القنطرة على الخليج عند باب جنان أبي المسك كافور الإخشيديّ، الملاصق للميدان والبستان الذي للأمير أبي بكر محمد الإخشيد، ليتوصل من القاهرة إلى المقس، وذلك في سنة ثنتين وستين وثلثمائة، وبها تسمى باب القنطرة، وكانت مرتفعة بحيث تمرّ المراكب من تحتها وقد صارت في هذا الوقت قريبة من أرض الخليج لا يمكن المراكب العبور من تحتها، وتسدّ بأبواب خوفا من دخول الزعار إلى القاهرة.
قنطرة باب الشعرية: هذه القنطرة على الخليج الكبير، يسلك إليها من باب الفتوح، ويمشي من فوقها إلى أرض الطبالة، وتعرف اليوم بقنطرة الخرّوبيّ.
القنطرة الجديدة: هذه القنطرة على الخليج الكبير، يتوصل إليها من زقاق الكحل وخط جامع الظاهر، ويتوصل منها إلى أرض الطبالة وإلى منية الشيرج وغير ذلك، أنشأها الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة خمس وعشرين وسبعمائة عند ما انتهى حفر الخليج الناصريّ، وكان ما على جانبي الخليج من القنطرة الجديدة هذه إلى قناطر الإوز عامرا بالأملاك، ثم خربت شيئا بعد شيء من حين حدث فصل الباردة بعد سنة ستين وسبعمائة، وفحش الخراب، هناك منذ كانت سنة الشراقي في زمن الملك الأشرف شعبان بن حسين في سنة سبع وسبعين وسبعمائة، فلما غرقت الحسينية بعد سنة الشراقي خربت المساكن التي كانت في شرقيّ الخليج، ما بين القنطرة الجديدة وقناطر الإوز، وأخذت أنقاضها وصارت هذه البرك الموجودة الآن.
قناطر الإوز: هذه القناطر على الخليج الكبير، يتوصل إليها من الحسينية، ويسلك من(3/262)
فوقها إلى أراضي البعل وغيرها، وهي أيضا مما أنشأه الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وأدركت هناك أملاكا مطلّة على الخليج بعد سنة ثمانين وسبعمائة، وهذه القناطر من أحسن منتزهات أهل القاهرة أيام الخليج، لما يصير فيه من الماء، ولما على حافته الشرقية من البساتين الأنيقة، إلّا أنها الآن قد خربت. وتجاه هذه القنطرة منظرة البعل التي تقدّم ذكرها عند ذكر مناظر الخلفاء، وبقيت آثارها إلى الآن، أدركناها يعطن فيها الكتان، وبها عرفت الأرض التي هناك، فسميت إلى الآن بأرض البعل، وكان هناك صف من شجر السنط قد امتدّ من تجاه قناطر الإوز إلى منظرة البعل، وصار فاصلا بين مزرعتين يجلس الناس تحته في يومي الأحد والجمعة للنزهة، فيكون هناك من أصناف الناس رجالهم ونسائهم ما لا يقع عليه بصر، ويباع هناك مآكل كثيرة، وكان هناك حانوت من طين تجاه القنطرة يباع فيها السمك، أدركتها وقد استؤجرت بخمس آلاف درهم في السنة، عنها يومئذ نحو مائتين وخمسين مثقالا من الذهب، على أنه لا يباع فيما السمك إلّا نحو ثلاثة أشهر أو دون ذلك، ولم يزل هذا السنط إلى نحو سنة تسعين وسبعمائة، فقطع. وإلى اليوم تجتمع الناس هناك، ولكن شتان بين ما أدركنا وبين ما هو الآن، وقيل لها قناطر الإوز.
قناطر بني وائل: هذه القناطر على الخليج الكبير تجاه التاج، أنشأها الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وعرفت بقناطر بني وائل من أجل أنه كان بجانبها عدّة منازل يسكنها عرب ضعاف بالجانب الشرقيّ، يقال لهم بنو وائل، ولم يزالوا هناك إلى نحو سنة تسعين وسبعمائة، وكان بجانب هذه القناطر من الجانب الغربيّ مقعد أحدثه الوزير الصاحب سعد الدين نصر الله بن البقريّ لأخذ المكوس، واستمرّ مدّة ثم خرب، ولم ير أحسن منظرا من هذه القنطرة في أيام النيل وزمن الربيع.
قنطرة الأميرية: هذه القنطرة هي آخر ما على الخليج الكبير من القناطر بضواحي القاهرة، وهي تجاه الناحية المعروفة بالأميرية، فيما بينها وبين المطرية، أنشأها الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وعند هذه القنطرة ينسدّ ماء النيل إذا فتح الخليج عند وفاء زيادة النيل ست عشرة ذراعا، فلا يزال الماء عند سدّ الأميرية هذا إلى يوم النوروز، فيخرج والي القاهرة، إليه ويشهد على مشايخ أهل الضواحي بتغليق أراضي نواحيهم بالريّ، ثم يفتح هذا السدّ فيمرّ الماء إلى جسر شيبين القصر، ويسدّ عليه حتى يروى ما على جانبي الخليج من البلاد، فلا يزال الماء واقفا عند سدّ شيبين إلى يوم عيد الصليب، وهو اليوم السابع عشر من النوروز، فيفتح حينئذ بعد شمول الريّ جميع تلك الأراضي، وليس بعد قنطرة الأميرية هذه قنطرة سوى قنطرة ناحية سرياقوس، وهي أيضا إنشاء الملك الناصر محمد بن قلاون، وبعد قنطرة سرياقوس جسر شيبين القصر، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى عند ذكر الجسور من هذا الكتاب.(3/263)
قنطرة الفخر: هذه القنطرة بجوار موردة البلاط من أراضي بستان الخشاب برأس الميدان، وهي أوّل قنطرة عمرت على الخليج الناصريّ على فمه، أنشأها القاضي فخر الدين محمد بن فضل الله بن خروف القبطيّ، المعروف بالفخر ناظر الجيش في سنة خمس وعشرين وسبعمائة، عند انتهاء حفر الخليج الناصريّ، ومات في رجب سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة، وقد أناف على السبعين سنة، وتمكن في الرياسة تمكنا كبيرا.
قنطرة قدادار: هذه القنطرة على الخليج الناصريّ، يتوصل إليها من اللوق، ويمشي فوقها إلى برّ الخليج الناصريّ مما يلي الفيل، وأوّل ما وضعت كانت تجاه البستان الذي كان ميدانا في زمن الملك الظاهر ركن الدين بيبرس، إلى أن أنشأ الملك الناصر محمد بن قلاون الميدان الموجود الآن بموردة البلاط من جملة أراضي بستان الخشاب، فغرس في الميدان الظاهريّ الأشجار وصار بستانا عظيما، كما ذكر ذلك في موضعه من هذا الكتاب، وعرفت هذه القنطرة بالأمير سيف الدين قدادار مملوك الأمير برلغي، وكان من خبره أنه تنقل في الخدم حتى وليّ الغربية من أراضي مصر في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة، فلقي أهل البلاد منه شرّا كثيرا، ثم انتقل إلى ولاية البحيرة، فلما كان في سنة أربع وعشرين كثرت الشناعة في القاهرة بسبب الفلوس، وتعنت الناس فيها، وامتنعوا من أخذها حتى وقف الحال وتحسن السعر، وكان حينئذ يتقلد الوزارة الأمير علاء الدين مغلطاي الجماليّ، ويتقلد ولاية القاهرة الأمير علم الدين سنجر الخازن، فلما توجه السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون من قلعة الجبل إلى السرحة بناحية سرياقوس، بلغه توقف الحال وطمع السوقة في الناس، وأن متولي القاهرة فيه لين وانه قليل الحرمة على السوقة، وكان السلطان كثير النفور من العامّة، شديد البغض لهم، ويريد كل وقت من الخازن أن يبطش بالحرافيش ويؤثر فيهم آثارا قبيحة، ويشهر منهم جماعة، فلم يبلغ من ذلك غرضه، فكرهه واستدعى الأمير أرغون نائب السلطنة وتقدّم إليه بالأغلاظ في القول على الخازن بسبب فساد حال الناس، وهمّ ببروز أمره بالقبض عليه وأخذ ماله، فما زال به النائب حتى عفا عنه. وقال السلطان يعزله ويولي من ينفع في مثل هذا الأمر، فاختار ولاية قدادار عوضه، لما يعرف من يقظته وشهامته وجراءته على سفك الدماء، فاستدعاه من البحيرة وولاه ولاية القاهرة في أوّل شهر رمضان من السنة المذكورة.
فأوّل ما بدأ به أن أحضر الخبازين والباعة وضرب كثيرا منهم بالمقارع ضربا مبرّحا، وسمر عدّة منهم في دراريب حوانيتهم، ونادى في البلد من ردّ فلسا سمّر، ثم عرض أهل السجن ووسط جماعة من المفسدين عند باب زويلة، فهابته العامّة وذعروا منه، وأخذ يتتبع من عصر خمرا، وأحضر عريف الحمالين وألزمه بإحضار من كان يحمل العنب، فلما حضروا عنده استملاهم أسماء من يشتري العنب ومواضع مساكنهم، ثم أحضر خفراء(3/264)
الحارات والأخطاط، ولم يزل بهم حتى دلوه على سائر من عصر الخمر، فاشتهر ذلك بين الناس وخافوه، فحوّل أهل حارة زويلة وأهل حارتي الروم والديلم وغير ذلك من الأماكن ما عندهم من الخمر وصبوها في البلاليع والأقنية، وألقوها في الأزقة، وبذلوا المال لمن يأخذها منهم، فحصل لكثير من العامّة والأطراف منها شيء كثير، حتى صارت تباع كل جرّة خمر بدرهم، ويمرّ الناس بأبواب الدور والأزقة فترى من جرار الخمر شيئا كثيرا، ولا يقدر أحد أن يتعرّض لشيء منها، ثم ركب وكبس خط باب اللوق وأخذ منه شيئا كثيرا من الحشيش، وأحرقه عند باب زويلة، واستمرّ الحال مدّة شهر، ما من يوم إلّا ويهرق فيه خمر عند باب زويلة، ويحرق حشيش، فطهر الله به البلد من ذلك جميعه، وتتبع الزعّار وأهل الفساد فخافوه وفرّوا من البلد، فصار السلطان يشكره ويثني عليه لما يبلغه من ذلك، وأما العامّة فإنه ثقل عليها وكرهته، حتى أنه لما تأمّر ابن الأمير بكتمر الساقي وركب إلى القبة المنصورية على العادة، ومعه أبوه النائب وسائر الأمراء، صاحت العامّة للأمير بكتمر الساقي يا أمير بكتمر بحياة ولدك أعزل هذا الظالم، ورد علينا وإلينا، يعنون الخازن، فلما عرّف بكتمر السلطان ذلك أعجبه وقال: يا أمير ما تخشى العامّة والسوقة، إلّا ظالما مثل هذا، ما يخاف الله تعالى، وزاد إعجاب السلطان به حتى قال له: لا تشاور في أمر المفسدين، فلم يغترّ بذلك، ورفع إليه جميع ما يتفق له وشاوره في كل جليل وحقير، وقال له إن جماعة من الكتاب والتجار قد عصر والخمر، واستأذنه في طلبهم ومصادرتهم، فتقدّم له بمشاورة النائب في ذلك وإعلامه أن السلطان قد رسم بالكشف عمن عصر من الكتاب والتجار الخمر، فلما صار إلى النائب وعرّفه الخبر، أهانه وقال: إن السلطان لا يرضى بكبس بيوت الناس وهتك حرمهم وسترهم وإقامة الشناعات، وقام من فوره إلى السلطان وعرّفه ما يكون في فعل ذلك من الفساد الكبير، وما زال به حتى صرف رأيه عما أشار به قدادار من كبس الدور، وأخذ الناس في مماقتته والإخراق به في كل وقت، فإنه كان يعني بالخازن ولم يعجبه عزله عن الولاية، فكثر جورقدادار وزاد تتبعه للناس، ونادى أن لا يعمل أحد حلقة فيما بين القصرين ولا يسمر هناك، وأمر أن لا يخرج أحد من بيته بعد عشاء الآخرة، وأقام عنه نائبا من بطالي الحسينية ضمن المسطبة، منه في كل يوم بثلاثمائة درهم، وانحصر الناس منه وضاقوا به ذرعا لكثرة ما هتك أستارهم، وخرق بكثير من المستورين، وتسلطت المستصنعة وأرباب المظالم على الناس، وكانوا إذا رأوا سكران أوشموا منه رائحة خمر أحضروه» إليه، فتوقى الناس شرّه وشكاه الأمراء غير مرّة إلى السلطان، فلم يلتفت لما يقال فيه، والنائب مستمرّ على الإخراق به إلى أن قبض عليه السلطان، فخلا الجوّ لقدادار، وأكثر من سفك الدماء وإتلاف النفوس والتسلط على العامّة لبغضهم إياه، والسلطان يعجبه منه ذلك بحيث أنه أبرز مرسوما لسائر عماله وولاته إن أحدا منهم لا يقتص ممن وجب عليه القصاص في النفس أو القطع إلا أن يشاور فيه ويطالع بأمره، ما خلا قدادار مستولي القاهرة(3/265)
فإنه لا يشاور على مفسد ولا غيره ويده مطلقة في سائر الناس، فدهى الناس منه بعظائم، وشرع في كبس بيوت السعداء، ومشت جماعة من المستصنعين في البلد وكتبوا الأوراق ورموها في بيوت الناس بالتهديد، فكثرت أسباب الضرر وكثر بلاء الناس به، وتعنت على الباعة، ونادى أن لا يفتح أحد حانوته بعد عشاء الآخرة، فامتنع الناس من الخروج بالليل حتى كانت المدينة في الليل موحشة، واستجدّ على كل حارة دربا، وألزم الناس بعمل ذلك، فجبيت بهذا السبب دراهم كثيرة، وصار الخفراء في الليل يدورون معهم الطبول في كل خط، فظفر بإنسان قد سرق شيئا من بيت في الليل وتزيا بزي النساء، فسمّره على باب زويلة، وما زال على ذلك حتى كثرت الشناعة، فعزله السلطان في سنة تسع وعشرين بناصر الدين بن الحسنيّ، فأقام إلى أيام الحج وسافر إلى الحجاز ورجع وهو ضعيف، فمات في سادس عشر صفر سنة ثلاثين وسبعمائة.
قنطرة الكتبة: هذه القنطرة على الخليج الناصريّ بخط بركة قرموط، عرفت بذلك لكثرة من كان يسكن هناك من الكتاب، أنشأها القاضي شمس الدين عبد الله بن أبي سعيد بن أبي السرور الشهير بغبريال بن سعيد ناظر الدولة، وولي تظر الدواوين بدمشق في سنة ثلاث عشرة وسبعمائة، إليها من نظر البيوت بديار مصر، ثم استدعي من دمشق وقرر في وظيفة ناظر النظار شريكا للقاضي شهاب الدين الأفقهسيّ، واستقرّ كريم الدين الصغير مكانه ناظرا بدمشق، وذلك في شهر رمضان سنة أربع وعشرين وسبعمائة، ثم صرف غبريال من النظر بديار مصر وسفر إلى دمشق في ثامن عشر صفر سنة ست وعشرين، وطلب كريم الدين الصغير من دمشق، ثم قرّر في مكان غبريال في وظيفة النظر بديار مصر الخطير، كاتب أرغون أخو الموفق وأعيد غبريال إلى نظر دمشق ومات بدمشق بعد ما صودر وأخذ منه نحو ألفي درهم، في سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة، وادركنا الأملاك منتظمة بجانبي هذا الخليج من أوّله بموردة البلاط إلى هذه القنطرة، ومن هذه القنطرة إلى حيث يصب في الخليج الكبير، فلما كانت الحوادث بعد سنة ست وثمانمائة، شرع الناس في هدم ما على هذا الخليج من المناظر البهجة والمساكن الجليلة، وبيع أنقاضها، حتى ذهب ما كان على هذا الخليج من المنازل ما بين قنطرة الفخر التي تقدّم ذكرها، وآخر خط بركة قرموط، وأصبحت موحشة قفراء، بعد ما كانت مواطن أفراح ومغنى صبابات، لا يأويها إلّا الغربان والبوم، سنة الله في الذين خلوا من قبل.
قنطرة المقسيّ: هذه القنطرة على خليج فم الخور، وهو الذي يخرج من بحر النيل ويلتقي مع الخليج الناصريّ عند الدكة، فيصيران خليجا واحدا يصب في الخليج الكبير، كان موضعها جسرا يستند عليه الماء إذا بدت الزيادة إلى أن تكمل أربعة عشر ذراعا، فيفتح ويمرّ الماء فيه إلى الخليج الناصريّ وبركة الرطليّ، ويتأخر فتح الخليج الكبير حتى يرقي الماء ستة عشر ذراعا، فلما انطرد ماء النيل عن البرّ الشرقيّ، بقي تاجه هذا الخليج في أيام(3/266)
احتراق النيل رملة لا يصل إليها الماء إلّا عند الزيادة، وصار يتأخر دخول الماء في الخليج مدّة، وإذا كسر سدّ الخليج الكبير عند الوفاء، مرّ الماء هذا الخليج مرورا قليلا، وما زال موضع هذه القنطرة سدّا إلى أن كانت وزارة الصاحب شمس الدين أبي الفرج عبد الله المقسيّ، في أيام السلطان الملك الأشرف شعبان بن حسين، فأنشأ بهذا المكان القنطرة فعرفت به، واتصلت العمائر أيضا بجانبي هذا الخليج من حيث يبتدئ إلى أن يلتقي مع الخليج الناصريّ، ثم خرب أكثر ما عليه من العمائر والمساكن بعد سنة ست وثمانمائة، وكان للناس بهذا الخليج مع الخليج الناصريّ في أيام النيل مرور في المراكب للنزهة، يخرجون فيه عن الجدّ بكثرة التهتك والتمتع بكل ما يلهي، إلى أن ولي أمر الدولة بعد قتل الملك الأشرف شعبان بن حسين، الأميران برقوق وبركة، فقام الشيخ محمد المعروف بصائم الدهر في منع المراكب من المرور بالمتفرّجين في الخليج، واستفتى شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن رسلان البلقينيّ، فكتب له بوجوب منعهم لكثرة ما ينتهك في المراكب من الحرمات ويتجاهر به من الفواحش والمنكرات، فبرز مرسوم الأميرين المذكورين بمنع المراكب من الدخول إلى الخليج، وركّبت سلسلة على قنطرة المقسيّ هذه في شهر ربيع الأول سنة إحدى وثمانين وسبعمائة، فامتنعت المراكب بأسرها من عبور هذا الخليج إلّا أن يكون فيها غلة أو متاع، فقلق الناس لذلك وشق عليهم وقال الشهاب أحمد بن العطار الدنيسريّ في ذلك:
حديث فم الخور المسلسل ماؤه ... بقنطرة المقسيّ قد سار في الخلق
ألا فاعجبوا من مطلق ومسلسل ... يقول لقد أوقفتم الماء في حلقي
وقال:
تسلسلت قنطرة المقسيّ مم ... اقد جرى والمنع أضحى شاملا
وقال أهل طبنة في مجنهم ... قوموا بنا نقطع السلاسلا
ولم تزل مراكب الفرجة ممتنعة من عبور الخليج إلى أن زالت دولة الظاهر برقوق، في سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، فأذن في دخولها وهي مستمرّة إلى وقتنا هذا.
قنطرة باب البحر: هذه القنطرة على الخليج الناصري، يتوصل إليها من باب البحر ويمرّ الناس من فوقها إلى بولاق وغيره، وهي مما أنشأه الملك الناصر محمد بن قلاوون عند انتهاء حفر الخليج الناصريّ، في سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وقد كان موضعها في القديم غامرا بالماء عند ما كان جامع المقس مطلا على النيل، فلما انحسر الماء عن برّ القاهرة صار ما قدّام باب البحر رملة، فإذا وقف الإنسان عند باب البحر رأى البرّ الغربيّ، لا يحول بينه وبين رؤيته بنيان ولا غيره، فإذا كان أوان زيادة ماء النيل صار الماء إلى باب(3/267)
البحر، وربما جلفط في بعض السنين خوفا من غرق المقس، ثم لما طال المدى غرق خارج باب البحر بأرض باطن اللوق، وغرس فيه الأشجار فصار بساتين ومزارع، وبقي موضع هذه القنطرة جرفا، ورمى الناس عليه التراب فصار كوما يشنق عليه أرباب الجرائم، ثم نقل ما هنالك من التراب وأنشئت هذه القنطرة ونودي في الناس بالعمارة، فأوّل ما بني في غربيّ هذه القنطرة مسجد المهاميزيّ وبستانه، ثم تتابع الناس في العمارة حتى انتظم ما بين شاطيء النيل ببولاق وباب البحر عرضا، وما بين منشأة المهراني ومنية الشيرج طولا، وصار ما بجانبي الخليج معمورا بالدور ومن ورائها البساتين والأسواق والحمّامات والمساجد، وتقسمت الطرق وتعدّدت الشوارع وصار خارج القاهرة من الجهة الغربية عدّة مدائن.
قنطرة الحاجب: هذه القنطرة على الخليج الناصري، يتوصل إليها من أرض الطبالة، ويسير الناس عليها إلى منية الشيرج وغيرها، أنشأها الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب في سنة ست وعشرين وسبعمائة، وذلك أنه كانت أرض الطبالة بيده، فلما شرع السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون في حفر الخليج الناصريّ، التمس بكتمر من المهندسين إذا وصلوا بالحفر إلى حيث الجرف أن يمرّوا به على بركة الطوّابين التي تعرف اليوم ببركة الرطليّ، وينتهوا من هناك إلى الخليج الكبير، ففعلوا ذلك وكان قصدهم أولا أنه إذا انتهى الحفر إلى الجرف مرّوا فيه إلى الخليج الكبير من طرف البعل، فلما تهيأ لبكتمر ذلك عمرت له أراضي الطبالة كما يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى عند ذكر البرك، فعمرت هذه القنطرة في سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وأسند إليها جسرا عمله حاجزا بين بركة الحاجب المعروفة ببركة الرطليّ وبين الخليج الناصريّ، وسيرد ذكره إن شاء الله تعالى عند ذكر الجسور، ولما عمرت هذه القنطرة اتصلت العمائر فيما بينها وبين كوم الريش، وعمر قبالتها ربع عرف بربع الزيتيّ، وكان على ظهر القنطرة صفان من حوانيت، وعليها سقيفة تقي حرّ الشمس وغيره، فلما غرق كوم الريش في سنة بضع وستين وسبعمائة صار هذا الكوم الذي خارج القنطرة، ومن تحت هذه القنطرة يصب الخليج الناصريّ في الخليج الكبير، ويمرّ إلى حيث القنطرة الجديدة وقناطر الأوز وغيرها، كما تقدّم ذكره.
قنطرة الدكة: هذه القنطرة كانت تعرف بقنطرة الدكة، ثم عرفت بقنطرة التركمانيّ من أجل أن الأمير بدر الدين التركمانيّ عمرها، وهذه القنطرة كانت على خليج الذكر، وقد انطم ما تحتها وصارت معقودة على التراب لتلاف خليج الذكر، ولله در ابراهيم المعمار حيث يقول:
يا طالب الدّكّة نلت المنى ... وفزت منها ببلوغ الوطر
قنطرة من فوقها دكّة ... من تحتها تلقى خليج الذكر
قناطر بحر أبي المنجا: هذه القناطر من أعظم قناطر مصر وأكبرها، أنشأها السلطان(3/268)
الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري في سنة خمس وستين وستمائة، وتولى عمارتها الأمير عز الدين أيبك الأقرم.
قناطر الجيزة: قال في كتاب عجائب البنيان: أن القناطر الموجودة اليوم في الجيزة من الأبنية العجيبة. ومن أعمال الجبارين، وهي نيف وأربعون قنطرة، عمرها الأمير قراقوش الأسديّ، وكان على العمائر في أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، بما هدمه من الأهرام التي كانت بالجيزة، وأخذ حجرها فبنى منه هذه القناطر وبنى سور القاهرة ومصر وما بينهما، وبنى قلعة الجبل، وكان خصيا روميا سامي الهمة، وهو صاحب الأحكام المشهورة والحكايات المذكورة، وفيه صنف الكتاب المشهور المسمى بالفاشوش في أحكام قراقوش، وفي سنة تسع وتسعين وخمسمائة تولى أمر هذه القناطر من لا بصيرة عنده، فسدّها رجاء أن يحبس الماء، فقويت عليها جرية الماء، فقويت عليها جرية الماء فزلزلت منها ثلاث قناطر وانشقت، ومع ذلك فما روى ما رجا أن يروي، وفي سنة ثمان وسبعمائة رسم الملك المظفر بيبرس الجاشنكير برمّها، فعمر ما خرب منها وأصلح ما فسد فيها، فحصل النفع بها. وكان قراقوش لما أراد بناء هذه القناطر بنى رصيفا من حجارة، ابتدأ به من حيز النيل بإزاء مدينة مصر، كأنه جبل ممتدّ على الأرض مسيرة ستة أميال، حتى يتصل بالقناطر.
ذكر البرك
قال ابن سيده: البركة مستنقع الماء، والبركة شبه حوض يحفر في الأرض. انتهى.
وقد رأيت بخط معتبر ما مثاله: وملؤا البركة ماء، فنصب الماء وكسر الراء وفتح الكاف والتاء.
بركة الحبش: هذه البركة كانت تعرف ببركة المغافر، وتعرف ببركة حمير، وتعرف أيضا باصطبل قرّة، وعرفت أيضا باصطبل قامش، وهي من أشهر برك مصر، وهي في ظاهر مدينة الفسطاط من قبليها، فيما بين الجبل والنيل، وكانت من الموات، فاستنبطها قرّة بن شريك العنبسيّ أمير مصر وأحياها وغرسها قصبا، فعرفت باصطبل قرّة، وعرفت أيضا باصطبل قامش، وتنقلت حتى صارت تعرف ببركة الحبش. ودخلت في ملك أبي بكر الماردانيّ فجعلها وقفا، ثم أرصدت لبني حسن وبني حسين ابني عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم، فلم تزل جارية في الأوقاف عليهم إلى وقتنا هذا.
قال أبو بكر الكنديّ في كتاب الأمراء: وقدم قرّة بن شريك من وفادته في سنة ثلاث وتسعين فاستنبط الإصطبل لنفسه من الموات وأحياه وغرسه قصبا، فكان يسمى اصطبل قرّة، ويسمى أيضا اصطبل القامش، يعنون القصب، كما يقولون قامش مروان.(3/269)
وقال أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم في كتاب فتوح مصر. وكان الإصطبل للأزد فاشتراه منهم الحكم بن أبي بكر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم، فبناه وكان يجرى على الذي يقرأ في المصحف الذي وضعوه في المسجد الذي يقال له مصحف أسماء، من كراه في كل شهر ثلاثة دنانير، فلما حيزت أموالهم، يعني أموال بني أمية، وضمت إلى مال الله، حيز الإصطبل فيما حيز وكتب بأمر المصحف إلى أمير المؤمنين أبي العباس السفاح، فكتب أن أقرّوا مصحفهم في مسجدهم على حاله، وأجروا على الذي يقرأ فيه ثلاثة دنانير في كل شهر من مال الله تعالى.
وقال القضاعيّ: بركة الحبش كانت تعرف ببركة المغافر وحمير، وتعرف باصطبل قامش، وكانت في ملك أبي بكر محمد بن عليّ الماردانيّ، بجميع ما تشتمل عليه من المزارع والجنان خلا الجنان التي في شرقيها، وأظنها الجنان المنسوبة إلى وهب بن صدقة، وتعرف بالحبش، فإني رأيت في شرط هذه البركة أن الحدّ الشرقيّ ينتهي إلى الفضاء الفاصل بينها وبين الجنان المعروفة بالحبش، فدلّ على أن الجنان خارجة عنها.
وذكر ابن يونس في تاريخه: أن في قبليّ بركة الحبش جنانا تعرف بقتادة بن قيس بن حبشيّ الصدفيّ شهد فتح مصر، والجنان تعرف بالحبش، وبه تعرف بركة الحبش، وذكر بعض هذا الشرط أنّ الحدّ البحري ينتهي إلى البئر الطولونية وإلى البئر المعروفة بموسى بن أبي خليد، وهذه البئر هي البير المعروفة بالنعش. ورأيت في كتاب شرط هذه البركة أنها محبسة على البئرين اللتين استنبطهما أبو بكر الماردانيّ في بني وائل بحضرة الخليج والقنطرة المعروفة، أحدهما بالفندق والأخرى بالعتيق، وعلى السرب الذي يدخل منه الماء إلى البئر الحجارة المعروفة بالروا، التي في بني وائل، ذات القناطر التي يجرى فيها الماء إلى المصنعة التي بحضرة العقبة التي يصار منها إلى يحصب، وهي المصنعة المعروفة بدليله، وعلى القنوات المتصلة بها التي تصب إلى المصنعة ذات العمد الرخام القائمة فيها، المعروفة بسمينة، وهي التي في وسط يحصب. ويقال أن هناك كانت سوق ليحصب، وذكر في هذا الشرط دارا له في موضع السقاية المعروفة بسقاية زوف، وشرط أن تنشأ هذه الدار مصنعة على مثل هذه المصنعة المقدّم ذكرها، المعروفة بسمينة، وهي سقاية زوف اليوم، وعلى القناة التي يجري فيها الماء إلى مصنعة ذكر أنّه كان أنشأها عند البئر المعروفة اليوم ببئر القبة، والحوض الذي هناك بحضرة المسجد المعروف بمسجد القبة، وكانت هذه المصنعة تسمى ريا، وجعل هذا الحبس أيضا على البئر التي له بالحبانية بحضرة الخندق، وذكر أنها تعرف بالقبانية، وأن ماءها يجري إلى المصنعة المقابلة للميدان من دار الإمارة في طريق المصلى القديم، ثم إلى المصنعة التي تحت مسجده المقابل لدار عبد العزيز، ثم إلى المصنعة المقابلة لمسجد التربة المجاورة لمسجد الأخضر، وتاريخ هذا الشرط شهر رمضان(3/270)
سنة سبع وثلاثمائة، وجعل ما يفضل عن جميع ذلك مصروفا في ابتياع بقر وكباش تذبح ويطبخ لحمها، ويبتاع أيضا معها خبز برّ ودراهم وأكسية وأعبية ويتصدّق بذلك على الفقراء والمساكين بالمغافر وغيرها من القبائل بمصر، وكان بناؤه السقايتين اللتين بالموقف والسقايات التي بالمغافر وبزوف وبيحصب وبني وائل، وعمل المجاري في سنة أربع، وقيل في سنة ثلاثمائة وقد حبس أبو بكر على الحرمين ضياعا كان ارتفاعها نحو مائة وألف دينار، ومنها سيوط وأعمالها وغيرها. انتهى.
وفي تواريخ النصارى: أن الأمير أحمد بن طولون صادر البطريق ميخائيل بطرك اليعاقبة على عشرين ألف دينار، فباع النصارى رباع الكنائس بالاسكندرية وأرض الحبش بظاهر مصر والكنيسة المجاورة للمعلقة بقصر الشمع بمصر لليهود. قلت هكذا في تواريخهم، ولا أعلم كيف ملكوا أرض الحبش، فلعلّ الماردانيّ هو الذي اشتراها، ثم وقفها.
وقال ابن المتوج: بركة الحبش هذه البركة مشهورة في مكانها، وقد اتصل ثبوت وقفها عند قاضي القضاة بدر الدين أبي عبد الله محمد بن سعد الله بن جماعة رحمة الله عليه، على أنها وقف على الأشراف الأقارب والطالبيين نصيف، بينهما بالسوية، النصف الأوّل على الأقارب والنصف الآخر على الطالبيين، وثبت قبله عند قاضي القضاة بدر الدين أبي المحاسن يوسف بن الحسن السنجاريّ أن النصف منها وقف على الأشراف الأقارب بالاستفاضة، بتاريخ ثالث عشر ربيع الأوّل سنة أربعين وستمائة، وهم الأقارب الحسينيون، وهو إذ ذاك قاضي القضاة بالقاهرة والوجه البحريّ، وما مع ذلك من البلاد الشامية المضافة إلى ملك الملك الصالح نجم الدين أيوب، وثبت عند قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله تعالى، وكان قاضي القضاة بمصر والوجه القبليّ، وخطيب مصر بالاستفاضة أيضا، أن البركة المذكورة وقف على الأشراف الطالبيين بتاريخ التاسع والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة أربعين وستمائة، وبعدهما قاضي القضاة وجيه الدين البهنسيّ في ولايته، ثم نفذهما بعد تنفيذ وجيه الدين المذكور في شعبان سنة ثلاث عشرة وسبعمائة قاضي القضاة بدر الدين أبو عبد الله محمد بن جماعة، وهو حاكم الديار المصرية، خلا ثغر الإسكندرية، ويأتي أصل خبر هذه البركة مبينا مشروحا من أصلها في مكانه إن شاء الله تعالى.
قال: فمن جملة الأوقاف بركة الأشراف المشهورة ببركة الحبش، وهذه البركة حدودها أربعة، الحدّ القبليّ ينتهي بعضه إلى أرض العدوية، يفصل بينهما جسر هناك وباقية إلى غيطان بساتين الوزير، والحدّ البحريّ ينتهي بضعه إلى أبنية الآدر التي هناك المطلة عليها، وإلى الطريق، وإلى الجسر الفاصل بينها، وبين بركة الشعيبية. والحدّ الشرقيّ إلى(3/271)
حدّ بساتين الوزير المذكورة، والحدّ الغربيّ ينتهي إلى بعضه إلى بحر النيل وإلى أراضي دير الدين وإلى بعض حقوق جزيرة ابن الصابونيّ وجسر بستان المعشوق الذي هو من حقوق الجزيرة المذكورة، وهذه البركة وقف الأشراف الأقارب والطالبيين نصفين بينهما بالسوية، والذي شاهدته من أمرها أني وقفت على أسجال قاضي القضاة بدر الدين أبي المحاسن يوسف السنجاريّ رحمة الله تعالى تعالى عليه تاريخه ثاني عشر ربيع الآخر سنة أربعين وستماة، وهو حين ذاك حاكم القاهرة والوجه البحريّ على محضر شهد فيه بالاستفاضة، أن نصف هذه البركة وقف على الأشراف الأقارب الحسينيين، وثبت ذلك عنده، ورأيت أسجال الشيخ قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله على محضر شهد فيه بالاستفاضة، وهو حين ذلك قاضي مصر والوجه القبليّ، وأشهد عليه أن ثبت عنده أن البركة المذكورة جميعها وقف على الأشراف الطالبيين، وتاريخ اسجالة التاسع والعشرون من شهر ربيع الآخر سنة أربعين وستمائة، ثم نفذهما جميعا في تاريخ واحد قاضي القضاة وجيه الدين البهنسيّ، وهو قاضي القضاة حين ذاك، ثم نفذهما قاضي القضاة بدر الدين أبو عبد الله محمد بن جماعة، وهو قاضي القضاة بالديار المصرية، واستقرّ النصف من ربع هذه البركة على الأشراف الأقارب مع قلتهم، والنصف على الأشراف الطالبيين مع كثرتهم، وتنازعوا غير مرّة على أن تكون بينهم الجميع بالسوية، فلم يقدروا على ذلك، وعقد لهم مجل غير مرّة فلم يقدروا على تغييره، وأحسن ما وصفت به بركة الحبش قول عيسى بن موسى الهاشميّ أمير مصر وقد خرج إلى الميدان الذي بطرف المقابر فقال لمن معه: أتتأملون الذي أرى، قالوا وما الذي يرى الأمير؟ قال: أرى ميدان رهان وجنان نخل وبستان شجر ومنازل سكنى وذروة جبل وجبانة أموات ونهر أعجاجا وأرض زرع ومراعي ماشية ومرتع خيل وساحل بحر وصائد نهر وقانص وحش وملاح سفينة وحادي إبل ومفازة رمل وسهلا وجبلا، فهذه ثمانية عشر منتزها في أقلّ من ميل في ميل، وأين هذه الأوقاف من وصف بعضهم قصر أنس بالبصرة في قوله:
زر وادي القصر نعم القصر والوادي ... لا بدّ من زورة من غير ميعاد
زره فليس له شيء يشاكله ... من منزل حاضر إن شئت أوبادي
تلقى به السفن والأعياس حاضرة ... والضب والنون والملاح والحادي
وقال:
زر وادي القصر نعم القصر والوادي ... وحبذا أهله من حاضر بادي
تلقى قراقرة والعيس واقفة ... والضب والنون والملاح والحادي
هكذا أنشدهما أبو الفرج الأصبهانيّ رحمه الله تعالى في كتاب الأغاني، ونسبهما لابن عيينة بن المنهال بن محمد بن أبي عيينة بن المهلب بن أبي صفرة، شاعر من ساكني(3/272)
البصرة، وقيل أن اسمه عذرة، وقيل اسمه أبو عيينة، وكنيته أبو المنهال، وكان بعد المائتين، وأنشد أبو العلاء المعرّي في رسالة الصاهل والساحج:
يا صاح ألمم بأهل القصر والوادي ... وحبذا أهله من حاضر بادي
ترى قراقرة والعيس واقفة ... والضب والنون والملاح والحادي
وقال أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسيّ. وفي هذا الوقت من السنة يعني أيام النيل، تكون أرض مصر أحسن شيء منظرا، ولا سيما منتزهاتها المشهورة ودياراتها المطروقة، كالجزيرة والجيزة وبركة الحبش وما جرى مجراها من المواضع التي يطرقها أهل الخلاعة والقصف، ويتناوبها ذوو الآداب والظرف، واتفق أن خرجنا في مثل هذا الزمان إلى بركة الحبش وافترشنا من زهرها أحسن بساط، واستظللنا من دوحها بأوفي رواق، فظللنا نتعاطى من زجاجات الأقدام شموسا في خلع بدور، وجسوم نار في غلائل نور إلى أن جرى ذهب الأصيل على لجين الماء. ونشبت نار الشفق بفحمة الظلماء، فقال بعضهم: وهو أمية المذكور من قوله المشهور:
لله يومي ببركة الحبش ... واوفق بين الضياء والغبش
والنيل تحت الرياح مضطرب ... كصارم في يمين مرتعش
ونحن في روضة مفوّفة ... دبّج بالنّور عطفها ووشي
قد نسجتها يد الغمام لنا ... فنحن من نسجها على فرش
فعاطني الراح إنّ تاركها ... من سورة الهمّ غير منتعش
وأثقل الناس كلهم رجل ... دعاه داعي الهوى فلم يطش
فأسقني بالكبار مترعة ... فهنّ أشفى لشدّة العطش
وقال أيضا:
علل فؤادك باللذات والطرب ... وباكر الرّاح بالبانات والنخب
أما ترى البركة الغناء لابسة ... وشيا من النور حاكته يد السحب
وأصبحت من جديد الروض في ح ... لل قد أبرز القطر منها كل محتجب
من سوسن شرق بالطلّ محجره ... وأقحوان شهيّ الظلم والشنب
فانظر إلى الورد يحكي خدّ محتشم ... ونرجس ظلّ يبدي لحظ مرتقب
والنيل من ذهب يطفو على ورق ... والرامح من ورق يطفو على ذهب
وربّ يوم نقعنا فيه غلتنا ... بحاجم من فم الإبريق ملتهب
شمس من الرّاح حيانا بها قمر ... موف على غصن يهتز في كثب
أرخى ذؤابه وانهزّ منعطفا ... كصعدة الرمح في مسودة العذب
فاطرب ودونكها فاشرب فقد بعثت ... على التصابي دواعي اللهو والطرب(3/273)
وقال:
يا نزهة الرصد المصري قد جمعت ... من كلّ شيء حلا في جانب الوادي
فذا غدير وذا روض وذا جبل ... والضب والنون والملاح والحادي
وقال ابراهيم بن الرفيق في تاريخه: حدّثني محمد الكهينيّ، وكان أديبا فاضلا، قد سافر ورأى بلدان المشرق قال: ما رأيت قطّ أجمل من أيام النوروز، والغيطاس، والميلاد، والمهرجان، وعيد الشعانين، وغير ذلك من أيام اللهو التي كانوا يسخون فيها بأموالهم، رغبة في القصف والعزف، وذلك أنه لا يبقى صغير ولا كبير إلّا خرج إلى بركة الحبش متنزها، فيضربون عليها المضارب الجليلة، والسرادقات والقباب، والشراعات، ويخرجون بالأهل والولد، ومنهم من يخرج بالقينات المسمعات المماليك والمحرّرات، فيأكلون ويشربون ويسمعون ويتفكهون وينعمون، فإذا جاء الليل أمر الأمير تميم بن المعز مائتي فارس من عبيده بالعسس عليهم في كل ليلة، إلى أن يقضوا من اللهو والنزهة إربهم وينصرفوا فيسكرون وينامون كما ينام الإنسان في بيته، ولا يضيع لأحد منهم ما قيمته حبة واحدة، ويركب الأمير تميم في عشاري ويتبعه أربعة زواريق مملوءة فاكهة وطعاما ومشروبا، فإن كانت الليالي مقمرة، وإلّا كان معه من الشموع ما يعيد الليل نهارا، فإذا مرج على طائفة واستحسن من غنائهم صوتا، أمرهم بإعادته وسألهم عما عز عليهم، فيأمر لهم به، ويأمر لمن يغني لهم. وينتقل منهم إلى غيرهم بمثل هذا الفعل عامّة ليله، ثم ينصرف إلى قصوره وبساتينه التي على هذه البركة، فلا يزال على هذه الحال حتى تنقضي هذه الأيام، ويتفرّق الناس.
وقال محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي الحنفيّ، وتوفي بدمشق سنة إحدى وخمسين وستمائة، يصف بركة الحبش في أيام الربيع:
إذا زيّن الحسناء قرط فهذه ... يزينها من كلّ ناحية قرط
ترقرق فيها أدمع الطلّ غدوة ... فقلت لآل قد تضمنها قرط
وقال ابن سعيد في كتاب المغرب: وخرجت مرّة حيث بركة الحبش التي يقول فيها أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسيّ عفا الله عنه:
لله يومي ببركة الحبش ... والأفق بين الضياء والغبش
والنيل تحت الرياح مضطرب ... كصارم في يمين مرتعش
وعاينت من هذه البركة أيام فيض النيل عليها أبهج منظر، ثم زرتها أيام غاص الماء، وبقيت فيها مقطعات بين خضر من القرط والكتان تفتن الناظر، وفيها أقول:(3/274)
يا بركة الحبش التي يومي بها ... طول الزمان مبارك وسعيد
حتى كأنك في البسيطة جنة ... وكأن دهري كله بك عيد
يا حسن ما يبدو بك الكتان في ... نواره أوزرّه معقود
والماء منك سيوفه مسلولة ... والقرط فيك رواقه ممدود
وكأنّ أبراجا عليك عرائس ... جليت وطيرك حولها غرّيد
يا ليت شعري هل زمانك عائد ... فالشوق فيه مبدئ ومعيد
وكان ماء النيل يدخل إلى بركة الحبش من خليج بني وائل، وكان خليج بني وائل مما يلي باب مصر من الجهة القبلية، الذي يعرف إلى يومنا هذا بباب القنطرة، من أجل أن هذه القنطرة كانت هناك. قال ابن المتوج: ورأيت ماء النيل في زمن النيل يدخل من تحته إلى خليج بني وائل. قلت وفي أيام الناصر محمد بن قلاون استولى النشو ناظر الخاص على بركة الحبش، وصار يدفع إلى الأشراف من بيت المال مالا في كل سنة، فلما مات الناصر وقام من بعده ابنه المنصور أبو بكر أعيدت لهم.
ذكر الماردانيّ
هو أبو بكر محمد بن عليّ بن محمد بن رستم بن أحمد. وقيل محمد بن عليّ بن أحمد بن عيسى بن رستم. وقيل محمد بن عليّ بن أحمد بن إبراهيم بن الحسين بن عيسى بن رستم الماردانيّ، أحد عظماء الدنيا. ولد بنصيبين «1» لثلاث عشرة خلت من شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وخمسين ومائتين، وقدم إلى مصر في سنة اثنتين وسبعين ومائتين، وخلف أباه عليّ بن أحمد الماردانيّ أيام نظره في أمور أبي الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون، وسنّه يومئذ خمس عشرة سنة، وكان معتدل الكتابة ضعيف الحظ من النحو واللغة، ومع ذلك فكان يكتب الكتب إلى الخليفة، فمن دونه على البديهة من غير نسخة، فيخرج الكتاب سليما من الخلل. ولما قتل أبوه في سنة ثمانين ومائتين، استوزره هارون بن خماريه، فدبّر أمر مصر إلى أن قدم محمد بن سليمان الكاتب من بغداد إلى مصر، وأزال دولة بني طولون، وحمل رجالهم إلى العراق، فكان أبو بكر ممن حمله، فأقام ببغداد إلى أن قدم صحبة العساكر لقتال خباسة، فدبر أمر البلد وأمر ونهى، وحدّث بمصر عن أحمد بن عبد الجبار العطارديّ وغيره، بسماعه منهم في بغداد، وكان قليل الطلب للعلم، تغلب عليه محبة الملك وطلب السيادة، ومع ذلك كان يلازم تلاوة القرآن الكريم ويكثر من الصلاة ويواظب على الحج، وملك بمصر من الضياع الكبار ما لم يملكه أحد قبله، وبلغ ارتفاعه في كل سنة أربعمائة ألف دينار سوى الخراج، ووهب وأعطى وولى وصرف وأفضل ومنع(3/275)
ورفع ووضع، وحج سبعا وعشرين حجة، أنفق في كل حجة منها مائة وخمسين ألف دينار، وكان تكين أمير مصر يشيعه إذا خرج للحج ويتلقاه إذا قدم، وكان يحمل إلى الحجاز جميع ما يحتاج إليه، ويفرّق بالحرمين الذهب والفضة والثياب والحلوى والطيب والحبوب، ولا يفارق أهل الحجاز إلّا وقد أغناهم. وقيل مرّة وهو بالمدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، ما بات في هذه الليلة أحد بمكة والمدينة وأعمالهما إلّا وهو شبعان من طعام أبي بكر الماردانيّ.
ولما قدم الأمير محمد بن طفج الإخشيد إلى مصر استتر منه، فإنه كان منعه من دخول مصر، وجمع العساكر لقتاله، فاجتمع له زيادة على ثلاثين ألف مقاتل، وحارب بهم بعد موت تكين أمير مصر، ومرّت به خطوب لكثرة فتن مصر إذ ذاك، وأحرقت دوره ودور أهله ومجاوريه، وأخذت أمواله واستتر فقبض على خليفته وعماله، فكتب إلى بغداد يسأل إمارة مصر، وكتب محمد بن تكين بالقدس يسأل ذلك، فعاد الجواب بإمارة ابن تكين، وأن يكون الماردانيّ يدبر أمر مصر ويولي من شاء، فظهر عند ذلك من الاستتار وأمر ونهى ودبر أمر البلد، وصار الجيش بأسره يغدو إلى بابه، فأنفق في جماعة، واصطنع قوما، وقتل عدّة من أصحاب ابن تكين، وكان محمد بن تكين بالقدس، وأمر مصر كله للماردانيّ بمفرده ومعه أحمد بن كيغلغ، وقد قدم من بغداد بولاية ابن تكين على مصر، وولاية أبي بكر الماردانيّ تدبير الأمور، فاستمال أبو بكر أحمد بن كيغلغ حتى صار معه على ابن تكين وحاربه، وكان من أمره ما كان إلى أن قدمت عساكر الإخشيد، فقام أبو بكر لمحاربتهم، ومنع الإخشيد من مصر، فكان الإخشيد غالبا له ودخل البلد فاستتر منه أبو بكر إلى أن دلّ عليه فأخذ وسلمه إلى الفضل بن جعفر بن الفرات، فلما صار إلى ابن الفرات قال له: إيش هذا الاستيحاش والتستر، وأنت تعلم أن الحج قد أظلّ ويحتاج لإقامة الحج، فقال به أبو بكر: إن كان إليّ فخمسة عشر ألف دينار، فقال ابن الفرات: أيش، خمسة عشر ألف دينار؟ قال ما عندي غير هذا، فقال ابن الفرات: بهذا ضربت وجه السلطان بالسيف، ومنعت أمير البلد من الدخول.
ثم صاح يا شاذن خذه إليك فأقيم وأدخل إلى بيت، وكان يومئذ صائما، فامتنع من تناول الطعام والشراب ولزم تلاوة القرآن والصلاة طول يومه وليلته، وأصبح فامتنع ابن الفرات من الأكل إجلالا له، فلما كان وقت الفطر من الليلة الثانية، امتنع أبو بكر من الفطر كما امتنع في الليلة الأولى، فامتنع ابن الفرات أيضا من الأكل وقال: لا آكل أبدا أو يأكل أبو بكر، فلما بلغ ذلك أبا بكر أكل، فأخذ ابن الفرات في مصادرته وقبض على ضياعه التي بالشام ومصر، وتتبع أسبابه. ثم خرج به معه إلى الشام وعاد به إلى مصر، ثم خرج به ثانيا إلى الشام، فمات الفضل بن الفرات بالرملة، ورجع أبو بكر إلى مصر فردّ إليه الإخشيد أمور مصر كلها، وخلع على ابنه، وتقلد السيف، ولبس المنطقة، ولبس أبو بكر الدراعة تنزها، ثم تنكر عليه الإخشيد وقبضه في سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة، وجعله في دار وأعدّ له فيها(3/276)
من الفرض والآلات والأواني والملبوس والطيب والطرائف وأنواع المآكل والمشارب ما بلغ فيه الغاية، وتفقدها بنفسه وطافها كلها، فقيل له عملت هذا كله لمحمد بن عليّ الماردانيّ؟
فقال: نعم، هذا ملك وأردت أن لا يحتقر بشيء لنا، ولا يحتاج أن يطلب حاجة إلّا وجدها، فإنه إن فقد عندنا شيئا مما يريده استدعى به من داره، فنسقط نحن من عينيه عند ذلك، فلم يزل معتقلا حتى خرج الإخشيد إلى لقاء أمير المؤمنين المتقي لله، فحمله معه، ولما مات الإخشيد بدمشق كان أبو بكر بمصر، فقام بأمر أونوجور بن الإخشيد وقبض على محمد بن مقاتل وزير الإخشيد، وأمر ونهى وصرّف الأور إلى أن كانت واقعة غلبون واتصال أبي بكر به، فلما عادت الإخشيدية قبض على أبي بكر ونهبت دوره وأحرق بعضها وأخذ ابنه، وقام أبو الفضل جعفر بن الفضل بن الفرات بأمر الوزارة، فعند ما قدم كافور الإخشيدي من الشام بالعساكر التي كانت مع الإخشيد أطلق أبا بكر وأكرمه وردّ ضياعه وضياع ابنه، فلما ماتت أمّ ولده لحقه كافور ومعه الأمير أونوجور عند المقابر وترجلا له وعزياه، ثم ركبا معه حتى صليا عليها، فلما مرض مرض موته، عاده كافور مرارا إلى أن مات في شهر شوال سنة خمس وأربعين وثلاثمائة، فدفن بداره. ثم نقل إلى المقابر، وكانت فضائله جمة منها:
أنه أقام أربعين سنة يصوم الدهر كله، ويركب كل يوم إلى المقابر بكرة وعشية، فيقف له الموكب حتى يمضي إلى تربة أولاده وأهله فيقرأ عندهم ويدعو لهم، وينصرف إلى المساجد في الصحراء فيصلى بها والناس وقوف له، إلّا أنه كان في غاية العجلة لا يراجع فيما يريده ولو كان ما كان، ولما أراد المقتدر أن يقيم وزيرا كتبت رقعة فيها أسماء جماعة، وأنفذت إلى عليّ بن عيسى ليشير بواحد منهم، وكان أبو بكر ممن كتب معهم اسمه، فكتب تحت كل اسم واحد منهم ما يستحقه من الوصف، وكتب تحت اسم أبي بكر محمد بن عليّ الماردانيّ: مترف عجول، وبنى أبو بكر السقايات والمساجد في المغافر وفي يحصب وبني وائل، وليس لشيء منها اليوم أثر يعرف، ومرّت به في هذا الكتاب أخبار، وقد أفرد له ابن زولاق سيرة كبيرة، وهذا منها والله أعلم.
ذكر بساتين الوزير
هذه البساتين في الجهة القبلية من بركة الحبش، وهي قرية فيها عدّة مساكن وبساتين كثيرة، وبها جامع تقام فيه الجمعة، وعرفت بالوزير أبي الفرج محمد بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن محمد المغربيّ، وبنو المغربيّ أصلهم من البصرة، وصاروا إلى بغداد، وكان أبو الحسن عليّ بن محمد تخلف على ديوان المغرب ببغداد، فنسب به إلى المغرب، وولد ابنه الحسين بن عليّ ببغداد فتقلد أعمالا كثيرة منها: تدبير محمد بن ياقوت عند استيلائه على أمر الدولة ببغداد، وكان خال ولده عليّ، وهو أبو عليّ هارون بن عبد العزيز الأوراجيّ، الذي مدحه أبو الطيب المتنبي من أصحاب أبي بكر محمد بن رائق، فلما لحق ابن رائق ما لحقه بالموصل، صار الحسين بن عليّ بن المغربي(3/277)
إلى الشام، ولقي الإخشيد وأقام عنده وصار ابنه أبو الحسن عليّ بن الحسين ببغداد، فأنفذ الإخشيد غلامه فاتك المجنون فحمله ومن يليه إلى مصر، ثم خرج ابن المغربيّ من مصر إلى حلب ولحق به سائر أهله ونزلوا عند سيف الدولة أبي الحسن عليّ بن عبد الله بن حمدان مدّة حياته، وتخصص به الحسين بن عليّ بن محمد المغربيّ، ومدحه أبو نصر بن نباتة، وتخصص أيضا عليّ بن الحسين بسعد الدولة بن حمدان، ومدحه أبو العباس النامي، ثم شجر بينه وبين ابن حمدان ففارقه وصار إلى بكجور بالرقة، فحسن له مكاتبة العزيز بالله نزار والتحيز إليه، فلما وردت على العزيز مكاتبة بكجور قبله واستدعاه، وخرج من الرقة يريد دمشق، فوافاه عبد العزيز بولاية دمشق وخلفه فتسلمها وخرج لمحاربة ابن حمدان بحلب بمشورة عليّ بن المغربيّ، فلم يتم له أمر وتأخر عنه من كاتبه فقال لابن المغربيّ:
غررتني فيما أشرت به عليّ. وتنكر له ففرّ منه إلى الرقة، وكانت بين بكجور وبين ابن حمدان خطوب آلت إلى قتل ابن بكجور، ومسير ابن حمدان إلى الرقة، ففرّ ابن المغربيّ منها إلى الكوفة وكاتب العزيز بالله يستأذنه في القدوم، فأذن له، وقدم إلى مصر في جمادى الأولى سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، وخدم بها وتقدّم في الخدم، فحرّض العزيز على أخذ حلب، فقلد ينجوتكين بلاد الشام وضم إليه أبا الحسن بن المغربيّ ليقوم بكتابته ونظر الشام وتدبير الرجال والأموال، فسار إلى دمشق في سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة، وخرج إلى حلب وحارب أبا الفضائل بن حمدان وغلامه لؤلؤ، فكاتب لؤلؤ أبا الحسن بن المغربيّ واستماله حتى صرف ينجوتكين عن محاربة حلب وعاد إلى دمشق، وبلغ ذلك العزيز بالله فاشتدّ حنقه على ابن المغربيّ وصرفه بصالح بن عليّ الروذباديّ، واستقدم ابن المغربيّ إلى مصر، ولم يزل بها حتى مات العزيز بالله وقام من بعده ابنه الحاكم بأمر الله أبو عليّ منصور، فكان هو وولده أبو القاسم حسين من جلسائه، فلما شرع الحاكم بأمر الله في قتل رجال الدولة من القوّاد والكتاب والقضاة، قبض على عليّ ومحمد ابني المغربيّ وقتلهما، ففرّ منه أبو القاسم حسين بن عليّ بن المغربيّ إلى حسان بن مفرّج بن الجرّاح، فأجاره وقلد الحاكم يارجتكين الشام، فخافه ابن جرّاح لكثرة عساكره، فحسن له ابن المغربيّ مهاجمته، فطرق يارجتكين في مسيره على غفلة وأسره وعاد إلى الرملة، فشن الغارات على رساتيقها، وخرج العسكر الذي بالرملة فقاتل العرب قتالا شديدا كادت العرب أن تنهزم لولا ثبّتها ابن المغربيّ، وأشار عليهم بإشهار النداء بإباحة النهب والغنيمة، فثبتوا ونادوا في الناس فاجتمع لهم خلق كثير، وزحفوا إلى الرملة فملكوها وبالغوا في النهب والهتك والقتل، فانزعج الحاكم لذلك انزعاجا عظيما، وكتب إلى مفرّج بن جرّاح يحذره سوء العاقبة ويلزمه بإطلاق يارجتكين من يد حسان ابنه. وإرساله إلى القاهرة، ووعده على ذلك بخمسين ألف دينار، فبادر ابن المغربيّ لما بلغه ذلك إلى حسان وما زال يغريه بقتل يارجتكين حتى أحضره وضرب عنقه، فشق ذلك على مفرّج، وعلم أنه(3/278)
فسد ما بينهم وبين الحاكم، فأخذ ابن المغربيّ يحسن لمفرّج خلع طاعة الحاكم والدعاء لغيره إلى أن استجاب له، فراسل أبا الفتوح الحسن بن جعفر العلويّ أمير مكة يدعوه إلى الخلافة، وسهل له الأمر وسير إليه بابن المغربيّ يحثه على المسير، وجرّأه على أخذ مال تركه بعض المياسير، ونزع المحاريب الذهب والفضة المنصوبة على الكعبة وضربها دنانير ودراهم وسماها الكعبية، وخرج ابن المغربيّ من مكة فدعا العرب من سليم وهلال وعوف بن عامر، ثم سار به وبمن اجتمع عليه من العرب حتى نزل الرملة، فتلقاه بنو الجرّاح وقبلوا له الأرض وسلموا عليه بإمرة المؤمنين، ونادى في الناس بالأمان، وصلّى بالناس الجمعة فامتغص الحاكم لذلك وأخذ في استمالة حسان ومفرّج وغير هما، وبذل لهم الأموال، فتنكروا على أبي الفتوح، وقلد أيضا مكة بعض بني عمّ أبي الفتوح فضعف أمره وأحسن من حسان بالغدر، فرجع إلى مكة وكاتب الحاكم واعتذر إليه فقبل عذره وأما ابن المغربيّ فإنه لما انحلّ أمر أبي الفتوح ورأى ميل بني الجرّاح إلى الحاكم كتب إليه:
وأنت وحسبي أنت تعلم أنّ لي ... لسانا أمام المجد يبني ويهدم
وليس حليما من تباس يمينه ... فيرضى ولكن من تعض فيحلم
فسير إليه أمانا بخطه، وتوجه ابن المغربيّ قبل وصول أمان الحاكم إليه إلى بغداد، وبلغ القادر بالله خبره فاتهمه بأنه قدم في فساد الدولة العباسية، فخرج إلى واسط واستعطف القادر فعطف عليه، وعاد إلى بغداد ثم مضى إلى قرواش بن المقلد أمير العرب وسار معه إلى الموصل، فأقام بها مدّة، وخافه وزير قرواش فأخرجه إلى ديار بكر فأقام عند أميرها نصير الدولة أبي نصر أحمد بن مروان الكرديّ، وتصرّف له وكان يلبس في هذه المدّة المرقعة والصوف، فلما تصرّف غير لباسه وانكشف حاله فصار كمن قيل فيه وقد ابتاع غلاما تركيا كان يهواه قبل أن يبتاعه:
تبدّل من مرقعة ونسك ... بأنواع الممسّك والشفوف
وعنّ له غزال ليس يحوي ... هواه ولا رضاه بلبس صوف
فعاد أشدّ ما كان انتهاكا ... كذاك الدهر مختلف الصروف
وأقام هناك مدّة طويلة في أعلى حال وأجل رتبة وأعظم منزلة، ثم كوتب بالمسير إلى الموصل ليستوزره صاحبها، فسار عن ميافارقين وديار بكر إلى الموصل، فتقلد وزارتها وتردّد إلى بغداد في الوساطة بين صاحب الموصل وبين السلطان أبي عليّ بن سلطان الدولة أبي شجاع بن بهاء الدولة أبي نصر بن عضد الدولة أبي شجاع بن ركن الدولة أبي عليّ بن بويه، واجتمع برؤساء الديلم والأتراك، وتحدّث في وزارة الحضرة حتى تقلدها بغير خلع ولا لقب ولا مفارقة الدراعة، في شهر رمضان سنة خمس عشرة وأربعمائة، فأقام شهورا وأغرى رجال الدولة بعضهم ببعض، وكانت أمور طويلة آلت إلى خروجه من الحضرة(3/279)
إلى قرواش، فتجدّد للقادر بالله فيه سوء ظنّ بسبب ما أثاره من الفتنة العظيمة بالكوفة، حتى ذهبت فيها عدّة نفوس وأموال، ففرّ إلى أبي نصر بن مروان فأكره وأقطعه ضياعا وأقام عنده، فكوتب من بغداد بالعود إليها، فبرز عن ميافارقين يريد المسير إلى بغداد، فسمّ هناك وعاد إلى المدينة فمات بها، لأيام خلت من شهر رمضان سنة ثمان عشرة وأربعمائة، ومولده بمصر ليلة الثالث عشر من ذي الحجة سنة سبعين وثلاثمائة.
وكان أسمر شديد السمرة، بساطا عالما بليغا مترسلا متفننا في كثير من العلوم الدينية والأدبية والنحوية، مشارا إليه في قوّة الذكاء والفطنة وسرعة الخاطر والبديهة، عظيم القدر صاحب سياسة وتدبير وحيل كثيرة وأمور عظام، دوّخ الممالك وقلّب الدول، وسمع الحديث وروى وصنف عدّة تصانيف، وكان ملولا حقودا لا تلين كبده ولا تنحلّ عقده. ولا يحني عوده ولا ترجى وعوده، وله رأي يزين له العقوق ويبغض إليه رعاية الحقوق، كأنه من كبره قد ركب الفلك واستولى على ذات الحبك، وكان بمصر من بني المغربيّ أبو الفرج محمد بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين المغربيّ، قد قتل الحاكم جدّه محمدا مع أبيه عليّ بن الحسين كما تقدّم، فلما نشأ أبو جعفر سار إلى العراق وخدم هناك وتنقلت به الأحوال، ثم عاد إلى مصر واصطنعه الوزير البارزيّ وولاه ديوان الجيش، وكانت السيدة أم المستنصر بالله تعني به، فلما مات الوزير البارزيّ وولي بعده الوزير أبو الفرج عبد الله بن محمد البابليّ، قبض عليه في جملة أصحاب البارزيّ واعتقله، فتقرّرت له الوزارة وهو في الاعتقال، وخلع عليه في الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة خمسين وأربعمائة، ولقب بالوزير الأجل الكامل الأوحد، صفيّ أمير المؤمنين وخالصته، فما تعرّض لأحد ولا فعل في البابليّ ما فعله البابليّ فيه وفي أصحاب البارزيّ، فأقام سنتين وشهورا وصرف في تاسع شهر رمضان سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة، وكان الوزراء إذا صرفوا لم يتصرّفوا، فاقترح أبو الفرج بن المغربيّ لما صرف أن يتولى بعض الدواوين، فولي ديوان الإنشاء الذي يعرف اليوم بوظيفة كتابة السرّ، وهو الذي استنبط هذه الوظيفة بديار مصر واستحدث استخدام الوزراء بعد صرفهم عن الوزارة، ولم يزل نابه القدر إلى أن توفي سنة ثمان وسبعين وأربعمائة.
بركة الشعيبية: هذه البركة موضعها خلف جسر الأفرم، فيما بينه وبين الجرف الذي يعرف اليوم بالرصد، وكانت تجاور بركة الحبش من بحريها، وقد انقطع عنها الماء وصارت بساتين ومزارع وغير ذلك. قال ابن المتوّج: بركة الشعيبية بظاهر مصر، كان يدخل إليها ماء النيل، وكان لها خليجان أحدهما من قبليها وهو الآن بجوار منظرة الصاحب تاج الدين بن حنا، المعروفة بمنظرة المعشوق، والثاني من بحريها، ويقال له خليج بني وائل، عليه قنطرة بها عرف باب القنطرة بمصر، وكان يجري فيهما الماء من النيل إليها، فكان الماء يدخل إليها في كل سنة ويعمها ويدخل إليها الشخاتير، وكان بدائرها من جانبها الشرقيّ أدر كثيرة،(3/280)
وكانت نزهة المصريين، فلما استأجرها الأمير عز الدين أيبك الأفرم من الناظر عليها من جهة الحكم العزيزي، حازها بالجسور عن الماء وغرس فيها الأشجار والكروم وحفر الآبار، وهذه البركة مساحتها أربعة وخمسون فدّانا، ولها حدود أربعة، الحدّ القبليّ، ينتهي بعضه إلى بعض أرض المعشوق الجاري في وقف ابن الصابوني، وإلى الجسر الفاصل بينها وبين بركة الحبش، وفي هذا الجسر الآن قنطرة يدخل إليها الماء من خليج بركة الأشراف، والحدّ البحريّ: كان ينتهي بعضه إلى منظرة قاضي القضاة بدر الدين السنجاريّ، وإلى جسره.
والحدّ الشرقيّ: ينتهي إلى الآدر التي كانت مطلة عليها، وقد خرب أكثرها، وكانت مسكن أعيان المصريين من القضاة والكتاب. والحدّ الغربيّ: ينتهي إلى جرف النيل، ولما استأجرها الأفرم شرط له خمسة أفدنة يعمر عليها ويؤجرها لمن يعمر عليها، منها فدّان واحد من بحريها، وفدّانان من غربيها ملاصقان لجدار البساتين، وفدّانان بالجرف الذي من حقوقها.
فلما مات الأفرم طمع الأمير علم الدين الشجاعي في ورثته وفي الوقف وأربابه، فغضب أرض الجرف وجملتها فدّانان، ثم تركها، فلما كان في أثناء دولة الناصر محمد بن قلاون ووزارة الأعسر بيعت أرضها لأرباب الأبنية التي عليها، وهذه البركة وقفها الخطير بن مماتي، ودخل معهم بنو الشعيبية لاختلاط أنسابهم بالتناسل. وقال في موضع آخر: ومن جملة الأوقاف بركة الخطير بن مماتي المشهورة ببركة الشعيبية، ومساحة أرضها أربعون وخمسون فدّانا وربع، ولها حدود أربعة، القبليّ: من البركة الصغرى منها إلى الجسر الفاصل بينها وبين بركة الحبش، وفيه قنطرة يمرّ منها الماء إلى هذه البركة، وباقي هذا الحدّ إلى بعض أبنية مناظر المعشوق، ومن جملة حقوق هذا الوقف المجاز المستطيل المسلوك فيه إلى المنظرة المذكورة، ومنه دهليزها الإيوان البحري، وهذا جميعه رأيته ترعة من تراع هذه البركة المذكورة، يمرّ الماء فيها في زمن النيل إليها، وكان باقي هذه المنظرة دارا مطلة على بحر النيل من شرقيها، وعلى هذه الترعة من بحريها، ثم ملكها الصاحب تاج الدين بن حنا وهدمها وردم الخليج وعمر المنظرة والحمام والبيوت الموجودة الآن، وباقي ذلك كله في أرض ابن الصابونيّ. وحدّ هذه البركة من الجهة البحرية: إلى الطريق الآن، وكان فيه جسر يعرف بجسر الحيات، كان يفصل بين هذه البركة وبين بركة شطا، وكان فيه قنطرة يجري الماء فيها من هذه البركة إلى بركة شطا، وكان في هذا الحدّ ترعة أخرى يجري الماء فيها في زمن النيل من البحر إلى هذه البركة، ورأيته يجري فيها، ورأيت الشخاتير تدخل فيها إلى هذه البركة، وأما حدّها الشرقيّ: فإنه كان إلى أبنية الآدر المطلة على هذه البركة، وأمّا حدّها الغربي فإنه كان إلى بحر النيل، ولم تزل كذلك إلى أن استأجرها الأمير عز الدين أيبك الأفرم، فردم هذه الترعة وبنى حيطان هذا البستان وجسر عليه وزرع فيه الشتول والخضراوات، وأقام على ذلك عدّة سنين، ثم استأجره إجارة ثانية، واشترط البناء على(3/281)
ثلاثة أفدنة في جانبه الغربيّ، وفدّان في جانبه البحريّ، فعمر الناس واستغنى عن الجسور ورخص على الناس حتى رغبوا في العمارة، وآجر كل مائة ذراع من ذلك بعشرة دراهم نقرة، وعمر البئر المشهورة ببئر السواقي، فعمرت أحسن عمارة، فلما توفي توفي الأفرم طمع الشجاعيّ في أرباب الوقف وفي ورثته، ونزع منهم الفدادين المطلة على بحر النيل، وابتاع ذلك من وكيل بيت المال، وأعانه عليه قوم آخرون يجتمعون عند الله تعالى.
ذكر المعشوق
اعلم أنّ المعشوق اسم لمكان فيه أشجار بظاهر مصر، من جملة خطة راشدة، عرف أوّلا بجنان كهمس بن معمر، ثم عرف بجنان المارداني، ثم عرف بجنان الأمير تميم بن المعز لدين الله، ثم جدّده الأفضل بن أمير الجيوش فعرف به، وأجرا صار من وقف ابن الصابونيّ، فأخذه الصاحب تاج الدين محمد بن حنا، وعمر به مناظر وأوصى بعمارة رباط للآثار النبوية، وأن توقف عليه. فلما أنشئ الرباط المذكور أرصد لمصالحه. وهو الآن وقف عليه، وأرض هذا البستان مما وقفه ابن الصابونيّ على بنيه وعلى رباطه المجاور، لقيه الإمام الشافعيّ رضي الله تعالى عنه بالقرافة، وبنو الصابونيّ يستأدون من المتحدّث على رباط الآثار شيئا في كل سنة عن حكر أرض بستان المعشوق. قال القضاعيّ في ذكر خطة راشدة: ومنها المقبرة المعروفة بمقبرة راشدة، والجنان المعروفة كانت تعرف بكهمس بن معمر، ثم عرفت بالماردانيّ، وهو المعروف الآن بالأمير تميم بن المعز.
هذا وقد بنى المعتمد على الله أحمد بن المتوكل في الجانب الشرقيّ من سرّ من رأى قصر أسماه المعشوق، وأقام به، وبين بغداد وتكريت منزلة فيها آثار بناء وقصور تسمى العاشق والمعشوق، وفيه أنشد الشريف زهرة بن عليّ بن زهرة بن الحسن الحسينيّ، وقد اجتاز به يريد الحج:
قد رأيت المعشوق وهو من الهج ... ر بحال تنبو النواظر عنه
أثّر الدهر فيه آثار سوء ... قد أدالت يد الحوادث منه
وقال ابن يونس: كهمس بن معمر بن محمد بن معمر بن حبيب، يكنّى أبا القاسم، كان أبوه بصريا، وولد هو بمصر، وكان عاقلا، وكانت القضاة تقبله، حدّث عن محمد بن رمح، وعيسى بن حماد زغبة، وسلمة بن شبيب ونحوهم، توفي في يوم الاثنين لأربع خلون من شهر ربيع الأوّل سنة إحدى عشرة وثلاثمائة.
وقال ابن خلكان: تميم بن المعز بن المنصور بن القائم بن المهديّ، كان أبوه صاحب الديار المصرية والمغرب، وهو الذي بنى القاهرة المعزية، وكان تميم فاضلا شاعرا ماهرا لطيفا ظريفا، ولم يل المملكة، لأنّ ولاية العهد كانت لأخيه العزيز، فوليها بعد أبيه،(3/282)
وأشعاره كلها حسنة، وكانت وفاته في ذي القعدة سنة أربع وسبعين وثلاثمائة، وقد ذكر كلا من الماردانيّ وابن حنا والأفضل. وأما ابن مماتي فإنه أسعد بن مهذب بن زكريا بن قدامة بن نينا شرف الدين مماتي أبي المكارم بن سعيد بن أبي المليح الكاتب المصري، فأصله من نصارى أسيوط من صعيد مصر، واتصل جدّه أبو المليح بأمير الجيوش بدر الجماليّ وزير مصر في أيام الخليفة المستنصر بالله، وكتب في ديوان مصر، وولي استيفاء الديوان، وكان جوادا ممدوحا انقطع إليه أبو الطاهر إسماعيل بن محمد المعروف بابن مكيسة الشاعر، فمن قوله فيه لما مات:
طويت سماء المكرما ... ت وكوّرت شمس المديح
وتناثرت شهب العلا ... من بعد موت أبي المليح
ما كان بالنكس الدن ... يء من الرجال ولا الشحيح
كفر النصارى بعد ما ... عذروا به دون المسيح
ورثاه جماعة من الشعراء، ولما مات ولي ابنه المهذب بن أبي المليح زكريا ديوان الجيش بمصر في آخر الدولة الفاطمية، فلما قدم الأمير أسد الدين شيركوه وتقلد وزارة الخليفة العاضد شدّد على النصارى وأمرهم بشدّ الزنانير على أوساطهم، ومنعهم من إرخاء الذؤابة التي تسمى اليوم بالعذبة، فكتب لأسد الدين:
يا أسد الدين ومن عدله ... يحفظ فينا سنّة المصطفى
كفى غيارا شدّ أوساطنا ... فما الذي أوجب كشف القفا
فلم يسعفه بطلبته، ولا مكنه من إرخاء الذؤابة، وعند ما آيس من ذلك أسلم، فقدّم على الدواوين حتى مات، فخلفه ابنه أبو المكارم أسعد بن مهذب الملقب بالخطير على ديوان الجيش، واستمرّ في ذلك مدّة أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وأيام ابنه الملك العزيز عثمان، وولي نظر الدواوين أيضا، واختص بالقاضي الفاضل، وحظي عنده، وكان يسميه بلبل المجلس لما يرى من حسن خطابه، وصنف عدّة مصنفات منها: تلقين اليقين فيه الكلام على حديث بني الإسلام على خمس. وكتاب حجة الحق على الخلق في التحذير من سوء عاقبة الظلم. وهو كبير، وكان السلطان صلاح الدين يكثر النظر فيه، وقال فيه القاضي الفاضل: وقفت من الكتب على ما لا تحصى عدّته، فما رأيت والله كتابا يكون قبالة باب منه، وإنه والله من أهمّ ما طالعه الملوك وكتاب قوانين الدواوين، صنفه للملك العزيز فيما يتعلق بدواوين مصر ورسومها وأصولها وأحوالها وما يجري فيها، وهو أربعة أجزاء ضخمة، والذي يقع في أيدي الناس جزء واحد اختصره منه غير المصنف، فإنّ ابن مماتي ذكر فيه أربعة آلاف ضيعة من أعمال مصر، ومساحة كل ضيعة، وقانون ريها ومتحصلها من عين وغلة، ونظّم سيرة السلطان صلاح الدين يوسف، ونظم كليلة ودمنة،(3/283)
وله ديوان شعر، ولم يزل بمصر حتى ملك السلطان الملك العادل أبو بكر بن أيوب، ووزر له صفيّ الدين عليّ بن عبد الله بن شكر، فخافه الأسعد لما كان يصدر منه في حقه من الإهانة، وشرع الوزير ابن شكر في العمل عليه، ورتب له مؤامرات ونكبه وأحال عليه الأجناد، ففرّ من القاهرة وسقط في حلب، فخدم بها حتى مات في يوم الأحد سلخ جمادى الأولى سنة ست وستمائة، عن اثنتين وستين سنة.
وكان سبب تلقيب أبي مليح بمماتي، أنه كان عنده في غلاء مصر في أيام المستنصر قمح كثير، وكان يتصدّق على صغار المسلمين وهو إذ ذاك نصرانيّ، وكان الصغار إذا رأوه قالوا مماتي فلقب بها ومن شعره:
تعاتبني وتنهي عن أمور ... سبيل الناس أن ينهوك عنها
أتقدر أن تكون كمثل عيني ... وحقك ما عليّ أضرّ منها
وقال في اترجة كانت بين يدي القاضي الفاضل وهو معنى بديع:
لله بل للحسن أترجة «1» ... تذكر الناس بأمر النعيم
كأنها قد جمعت نفسها ... من هيبة الفاضل عبد الرحيم
بركة شطا: هذه البركة موضعها الآن كيمان، على يسرة من يخرج من باب القنطرة بمدينة مصر طالبا جسر الأفرم ورباط الآثار، كان الماء يعبر إليها من خليج بني وائل، وموضعه على يمنة من يخرج من باب القنطرة المذكورة، وكان عليه قنطرة بناها العزيز بالله بن المعز، وبها سمي باب القنطرة هذا.
قال ابن المتوج: بركة شطا بظاهر مصر على يسرة من مرّ من باب القنطرة، وكان الماء يدخل إليها من خليج بني وائل من برابخ بالسور المستجدّ، ومن بركة الشعيبية من قنطرة في وسط الجسر المعروف بجسر الحيات، الذي كان يفصل بين البركتين المذكورتين، وكان بوسطها مسجد يعرف بمسجد الجلالة، بقناطر بوسطها، كان يسلك عليها إليه، وكان يطلّ على بركة شطا آدر خربت بانقطاع الماء عنها، وكان إلى جانبها بستان فيه منظرة ودرابة وطاحون وحمّام، وبظاهر بابه حوض سبيل، وقف ذلك المخلص الموقع وقد خرب.
بركة قارون: هذه البركة موضعها الآن فيما بين حدرة ابن قميحة خلف جامع ابن طولون، وبين الجسر الأعظم الفاصل بين هذه البركة وبركة الفيل، وعليها الآن عدّة آدر، وتعرف ببركة قراجا، وكان عليها عدّة عمائر جليلة في قديم الزمان عند ما عمّر العسكر والقطائع، فلما خرب العسكر والقطائع كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب، خرب ما كان(3/284)
من الدور على هذه البركة أيضا، حتى أنه كان من خرج من مصلى مصر القديم، وموضعه الآن الكوم الذي يطلّ على قبر القاضي بكار بالقرافة الكبرى، يرى بركة الفيل وقارون والنيل، ولم يزل ما حول هذه البركة خرابا إلى أن حفر الملك الناصر محمد بن قلاون البركة الناصرية في أراضي الزهري، وكانت واقعة الكنائس في سنة إحدى وعشرين وسبعمائة، فصار جانب هذه البركة الذي يلي خط السبع سقايات مقطع طريق، فيه مركز يقيم فيه من جهة متولى مصر من يحرس المارة من القاهرة إلى مصر، ولم يكن هناك شيء من الدور، وإنما كان هناك بستان بجوار حوض الدمياطيّ الموجود الآن تجاه كوم الأساري على يمنة من خرج وسلك من السبع سقايات إلى قنطرة السدّ، ويشرف هذا البستان على هذه البركة، فحكر أقبغا عبد الواحد مكانه، وصارت فيه الدور الموجودة الآن كما ذكر عند حكر أقبغا في ذكر الأحكار.
قال القضاعيّ: دار الفيل هي الدار التي على بركة قارون، ذكر بنو مسكين أنها من حبس جدّهم، وكان كافور أمير مصر اشتراها وبنى فيها دارا ذكر أنه أنفق عليها مائة ألف دينار، ثم سكنها في رجب سنة ست وأربعين وثلاثمائة، وذكر اليمنيّ أنه انتقل إليها في جمادى الآخرة من السنة المذكورة، وأنه كان أدخل فيها عدّة مساجد ومواضع اغتصبها من أربابها، ولم يقم فيها غير أيام قلائل، ثم أرسل إلى أبي جعفر مسلم الحسينيّ ليلا فقال له:
امض بي إلى دارك، فمضى به، فمرّ على دار فقال: لمن هذه؟ فقال: لغلامك نحرير التربية، فدخلها وأقام فيها شهورا إلى أن عمروا له دار خمارويه المعروفة بدار الحرم، وسكنها، وقيل أن سبب انتقاله من جنان بني مسكين بخار البركة. وقيل وباء وقع في غلمانه، وقيل ظهر له بهاجان. وكانت دار الفيل هذه ينظر منها جزيرة مصر التي تعرف اليوم بالروضة.
قال أبو عمر الكنديّ في كتاب الموالي: ومنهم أبو غنيم مولى مسلمة بن مخلد الأنصاريّ، كان شريفا في الموالي، وولاه عبد العزيز بن مروان الجزيرة، ثم عزله عنها، وكان يجلس في داره التي يقال لها دار الفيل فينظر إلى الجزيرة فيقول لإخوانه: أخبروني بأعجب شيء في الدنيا. قالوا: منارة الإسكندرية. قال: ما أصبتم شيئا. قال: فيقولون له فقناة قرطاجنة. فيقول: ما صنعتم شيئا. قالوا: فما تقول أنت؟ قال: العجب أني أنظر إلى الجزيرة ولا أقدر أدخلها، وعلى هذه البركة الآن عدّة آدر جليلة وجامع وحمام وغير ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب.
بركة الفيل: هذه البركة فيما بين مصر والقاهرة، وهي كبيرة جدّا، ولم يكن في القديم عليها بنيان، ولما وضع جوهر القائد مدينة القاهرة كانت تجاه القاهرة، ثم حدثت حارة السودان وغيرها خارج باب زويلة، وكان ما بين حارة السودان وحارة اليانسية وبين بركة(3/285)
الفيل فضاء، ثم عمر الناس حول بركة الفيل بعد الستمائة حتى صارت مساكنها أجلّ مساكن مصر كلها.
قال ابن سعيد وقد ذكر القاهرة: وأعجبني في ظاهرها بركة الفيل لأنها دائرة كالبدر، والمناظر فوقها كالنجوم، وعادة السلطان أن يركب فيها بالليل، وتسرج أصحاب المناظر على قدر هممهم وقدرتهم، فيكون بذلك لها منظر عجيب. وفيها أقول:
انظر إلى بركة الفيل التي اكتنفت ... بها المناظر كالأهداب للبصر
كأنما هي والأبصار ترمقها ... كواكب قد أداروها على القمر
ونظرت إليها وقد قابلتها الشمس بالغدوّ فقلت:
انظر إلى بركة الفيل التي نحرت ... لها الغزالة نحرا من مطالعها
وخلّ طرفك محفوفا ببهجتها ... تهيم وجدا وحبا في بدائعها
وماء النيل يدخل إلى بركة الفيل من الموضع الذي يعرف اليوم بالجسر الأعظم تجاه الكبش، وبلغني أنه كان هناك قنطرة كبيرة فهدمت وعمل مكانها هذه المجاديل الحجر التي يمرّ عليها الناس، ويعبر ماء النيل إلى هذه البركة أيضا من الخليج الكبير من تحت قنطرة تعرف قديما وحديثا بالمجنونة، وهي الآن لا تشبه القناطر، وكأنها سرب يعبر منه الماء، وفوقه بقية عقد من ناحية الخليج، كان قد عقده الأمير الطيبرس وبنى فوقها منتزها، فقال فيه علم الدين بن الصاحب:
ولقد عجبت من الطبرس وصحبه ... وعقولهم بعقوده مفتونه
عقدوا عقودا لا تصحّ لأنهم ... عقدوا لمجنون على مجنونه
وكان الطيبرس هذا يعتريه الجنون، واتفق أنّ هذا العقد لم يصح وهدم، وآثاره باقية إلى اليوم.
بركة الشقاف: هذه البركة في برّ الخليج الغربيّ بجوار اللوق، وعليها الجامع المعروف بجامع الطباخ، في خط باب اللوق، وكانت هذه البركة من جملة أراضي الزهريّ، كما ذكر في حكر الزهريّ عند ذكر الأحكار، وكان عليها في القديم عدّة مناظر منها: منظرة الأمير جمال الدين موسى بن يغمور، وذلك أيام كانت أراضي اللوق مواضع نزهة قبل أن تحتكر وتبنى دورا، وذلك بعد سنة ستمائة. والله تعالى أعلم.
بركة السباعين: عرفت بذلك لأنه اتخذ عليها دار للسباع، وهي موجودة هناك إلى يومنا هذا، وهي من جملة حكر الزهريّ، وعليها الآن دور. ولم تحدث بها العمارة إلا بعد سنة سبعمائة، وإنما كان جميع ذلك الخط وما حوله من منشأة(3/286)
المهرانيّ إلى المقس بساتين ثم حكرت.
بركة الرطلي: هذه البركة من جملة أرض الطبالة، عرفت ببركة الطوّابين، من أجل أنه كان يعمل فيها الطوب، فلما حفر الملك الناصر محمد بن قلاون الخليج الناصريّ، التمس الأمير بكتمر الحاجب من المهندسين أن يجعلوا حفر الخليج على الجرف إلى أن يمرّ بجانب بركة الطوّابين هذه، ويصب من بحريّ أرض الطبالة في الخليج الكبير، فوافقوه على ذلك، ومرّ الخليج من ظاهر هذه البركة كما هو اليوم، فلما جرى ماء النيل فيه روى أرض البركة، فعرفت ببركة الحاجب.
فإنها كانت بيد الأمير بكتمر الحاجب المذكور، وكان في شرقيّ هذه البركة زاوية بها نخل كثير وفيها شخص يصنع الأرطال الحديد التي تزن بها الباعة، فسماها الناس بركة الرطليّ نسبة لصانع الأرطال، وبقيت نخيل الزاوية قائمة بالبركة إلى ما بعد سنة تسعين وسبعمائة، فلما جرى الماء في الخليج الناصريّ ودخل منه إلى هذه البركة، عمل الجسر بين البركة والخليج، فحكره الناس وبنوا فوقه الدور، ثم تتابعوا في البناء حول البركة حتى لم يبق بدائرها خلو، وصارت المراكب تعبر إليها من الخليج الناصريّ فتدورها تحت البيوت وهي مشحونة بالناس، فتمرّ هنالك للناس أحوال من اللهو يقصر عنها الوصف، وتظاهر الناس في المراكب بأنواع المنكرات من شرب المسكرات وتبرّج النساء الفاجرات واختلاطهنّ بالرجال من غير إنكار، فإذا نضب ماء النيل زرعت هذه البركة بالقرط وغيره، فيجتمع فيها من الناس في يومي الأحد والجمعة عالم لا يحصى لهم عدد، وأدركت بهذه البركة من بعد سنة سبعين وسبعمائة إلى سنة ثمانمائة أوقاتا انكفت فيها عمن كان بها أيدي الغير، ورقدت عن أهاليها أعين الحوادث، وساعدهم الوقت إذ الناس ناس والزمان زمان، ثم لما تكدّر جوّ المسرّات وتقلص ظل الرفاهة، وانهلت سحائب المحن من سنة ست وثمانمائة، تلاشى أمرها، وفيها إلى الآن بقية صبابة ومعالم أنس وآثار تنبىء عن حسن عهد، ولله در القائل:
في أرض طبالتنا بركة ... مدهشة للعين والعقل
ترجح في ميزان عقلي على ... كلّ بحار الأرض بالرطل
البركة المعروفة
ببطن البقرة: هذه البركة كانت فيما بين أرض الطبالة وأراضي اللوق، يصل إليها ماء النيل من الخور فيعبر في خليج الذكر إليها، وكانت تجاه قصر اللؤلؤة ودار الذهب في برّ الخليج الغربيّ، وأوّل ما عرفت من خبر هذه البركة أنها كانت بستانا كبيرا فيما بين المقس وجنان الزهريّ، عرف بالبستان المقسيّ نسبة إلى المقس، ويشرف على بحر النيل من غربيه، وعلى الخليج الكبير من شرقيه، فلما كان في أيام الخليفة الظاهر لاعزاز دين الله أبي هاشم عليّ بن الحاكم بأمر الله، أمر بعد سنة عشر وأربعمائة بإزالة إنشاب هذا(3/287)
البستان، وأن يعمل بركة قدّام المنظرة التي تعرف باللؤلؤة، فلما كانت الشدّة العظمى في زمن الخليفة المستنصر بالله، هجرت البركة وبني في موضعها عدّة أماكن عرفت بحارة اللصوص إذ ذاك، فلما كان في أيام الخليفة الآمر بأحكام الله ووزارة الأجل المأمون محمد بن فاتك البطائحيّ، د أزيلت الأبنية وعمق حفر الأرض وسلط عليها ماء النيل من خليج الذكر، فصارت بركة عرفت ببطن البقرة، وما برحت إلى ما بعد سنة سبعمائة، وكان قد تلاشى أمرها منذ كانت الغلوة في زمن الملك العادل كتبغا، سنة سبع وتسعين وستمائة، فكان من خرج من باب القنطرة يجد عن يمينه أرض الطبالة من جانب الخليج الغربيّ إلى حدّ المقس، ويجد بطن البقرة عن يساره من جانب الخليج الغربيّ إلى حدّ المقس، وبحر النيل الأعظم يجري في غربيّ بطن البقرة على حافة المقس إلى غربيّ أرض الطبالة، ويمرّ من حيث الموضع المعروف اليوم بالجرف إلى غربيّ البعل، ويجري إلى منية الشيرج، فكان خارج القاهرة أحسن منتزه في مصر من الأمصار، وموضع بطن البقرة يعرف اليوم بكوم الجاكي، المجاور لميدان القمح، وما جاور تلك الكيمان والخراب إلى نحو باب اللوق، وحدّثني غير واحد ممن لقيت من شيوخ المقس عن مشاهدة آثار هذه البركة، وأخبرني عمن شاهد فيها الماء، وإلى زمننا هذا موضع من غربيّ الخليج فيما يلي ميدان القمح يعرف ببطن البقرة، بقية من تلك البركة يجتمع فيه الناس للنزهة.
بركة جناق: هذه البركة خارج باب الفتوح، كانت بالقرب من منظرة باب الفتوح التي تقدّم ذكرها في المناظر، وكان ما حولها بساتين، ولم يكن خارج باب الفتوح شيء من هذه الأبنية، وإنما كان هناك بساتين، فكانت هذه البركة فيما بين الخليج الكبير وبستان ابن صيرم، فلما حكر بستان ابن صيرم وعمر في مكانه الآدر وغيرها، وعمر الناس خارج ابن الفتوح، عمر ما حول هذه البركة بالدور، وسكنها الناس وهي إلى الآن عامرة، وتعرف ببركة جناق.
بركة الحجاج: هذه البركة في الجهة البحرية من القاهرة، على نحو بريد منها، عرفت أوّلا بجب عميرة، ثم قيل لها أرض الجب، وعرفت إلى اليوم ببركة الحجاج من أجل نزول حجاج البرّ بها عند مسيرهم من القاهرة، وعند عودهم، وبعض من لا معرفة له بأحوال أرض مصر يقول: جب يوسف عليه السلام، وهو خطأ لا أصل له، وما برحت هذه البركة منتزها لملوك القاهرة.
قال ابن يونس عميرة ابن تميم بن جزيء التجيبيّ: من بنى القرناء صاحب الجب المعروف بجب عميرة في الموضع الذي يبرز إليه الحاج من مصر لخروجهم إلى مكة، وقال أبو عمر الكنديّ في كتاب الخندق: أن فرسان الخندق من جب عميرة بن تميم بن جزء، وصاحب جب عميرة من بني القرناء طعن في تلك الأيام فارتث فمات بعد ذلك.(3/288)
وقال في كتاب الأمراء: ثم أن أهل الحوف خرجوا على ليث بن الفضل أمير مصر، وكان السبب في ذلك أن ليثا بعث بمساح يمسحون عليهم أراضي زرعهم، فانتقصوا من القصب أصابع، فتظلم الناس إلى ليث فلم يسمع منهم، فعسكروا وساروا إلى الفسطاط، فخرج إليهم ليث في أربعة آلاف من جند مصر، ليومين بقيا من شعبان، سنة ست وثمانين ومائة، فالتقى مع أهل الحوف لاثنتي عشرة خلت من شهر رمضان، فانهزم الجيش عن ليث وبقي في مائتين أو نحوها، فحمل عليهم بمن معه فهزمهم حتى بلغ بهم غيفة، وكان التقاؤهم في أرض جب عميرة، وبعث ليث إلى الفسطاط بثمانين رأسا، ورجع إلى الفسطاط. وقال: المسبحيّ ولاثنتي عشرة خلت من ذي القعدة سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، عرض أمير المؤمنين العزيز بالله عساكره بظاهر القاهرة عند سطح الجب، فنصب له مضرب ديباج روميّ فيه ألف ثوب مفوّفة فضة، ونصبت له فازة مستقلة وقبة مثقلة بالجوهر، وضرب لابنه المنصور مضرب آخر، وعرضت العساكر فكانت عدّتها مائة عسكر، وأقبلت أسارى الروم وعدّتها مائتان وخمسون، فطيف بهم، وكان يوما عظيما حسنا لم تزل العساكر تسير بين يديه من ضحوة النهار إلى صلاة المغرب.
وقال ابن ميسر: كان من عادة أمير المؤمنين المستنصر بالله أن يركب في كل سنة على النجب مع النساء والحشم إلى جب عميرة، وهو موضع نزهة بهيئة، أنه خارج للحج على سبيل الهزء والمجانة ومعه الخمر في الروايا عوضا عن الماء، ويسقيه الناس. وقال أبو الخطاب بن دحية، وخطب لبني عبيد ببغداد أربعين جمعة، وذلك للمستنصر، بل للبطال المستهتر، أنشده العقيليّ صبيحة يوم عرفة:
قم فانحر الراح يوم النحر بالماء ... ولا تضحّي ضحى إلّا بصهباء
وأدرك حجيج الندامى قبل نفرهم ... إلى منى قصفهم مع كلّ هيفاء
ووصل ألف القطع للضرورة، وهو جائز، فخرج في ساعته بروايا الخمر تزجى بنغمات حداة الملاهي وتساق، حتى أناخ بعين شمس في كبكبة من الفساق، فأقام بها سوق الفسوق على ساق، وفي ذلك العام أخذ الله وأخذ أهل مصر بالسنين، حتى بيع القرص في أيا من بالثمن الثمين.
وقال القاضي الفاضل في حوادث المحرّم سنة سبع وسبعين وخمسمائة، وفيه خرج السلطان يعني صلاح الدين يوسف بن أيوب، إلى بركة لجب للصيد ولعب الأكرة، وعاد إلى القاهرة في سادس يوم من خروجه، وذكر من ذلك كثيرا عن السلطان صلاح الدين وابنه الملك العزيز عثمان.
وقال جامع سيرة الناصر محمد بن قلاون: وفي حوادث صفر سنة اثنتين وعشرين(3/289)
وسبعمائة، وفهي ركب السلطان إلى بركة الحجاج للرمي على الكراكي، وطلب كريم الدين ناظر الخاص، ورسم أن يعمل فيها أحواشا للخيل والجمال، وميدانا، وللأمير بكتمر الساقي مثله، فأقام كريم الدين بنفسه في هذا العمل، ولم يدع أحدا من جميع الصناع المحتاج إليهم يعمل في القاهرة عملا، فكان فيها نحو الألفي رجل، ومائة زوج بقر، حتى تمت المواضع في مدّة قريبة، وركب السلطان إليها وأمر بعمل ميدان لنتاج الخيل، فعمل، وما برح الملوك يركبون إلى هذه البركة لرمي الكراكي، وهم على ذلك إلى هذا الوقت، وقد خربت المباني التي أنشأها الملك الناصر وأدركنا بهذه البركة مراحا عظيما للأغنام التي يعلفها التركمانيّ حب القطن وغيره من العلف، فتبلغ الغاية في السمن، حتى أنه يدخل بها إلى القاهرة محمولة على العجل لعظم جنتها وثقلها وعجزها عن المشي، وكان يقال كبش بركاويّ نسبة إلى هذه البركة، وشاهدت مرّة كبشا من كباش هذه البركة، وزنت شقته اليمنى فبلغت زنتها خمسة وسبعين رطلا سوى الألية، وبلغني عن كبش أنه وزن ما في بطنه من الشحم خاصة، فبلغ أربعين رطلا، وكانت ألايا تلك الكباش تبلغ الغاية في الكبر، وقد بطل هذا من القاهرة منذ كانت الحوادث بعد سنة ست وثمانمائة، حتى لا يكاد يعرفه اليوم إلا أفراد من الناس.
وبركة الحجاج اليوم أرباب دركها قوم من العرب يعرفون ببني صبرة، وقال الشريف محمد بن أسعد الجوانيّ في كتاب الجوهر المكنون في معرفة القبائل والبطون: بنو بطيخ بطن من لخم، وهم ولد بطيخ بن مغالة بن دعجمان بن عميث بن كليب بن أبي الحارث بن عمرو بن رميمة بن جدس بن أريش بن أراش بن جديلة بن لخم، وفخذها بنو صبرة بن بطيخ، ولهم حارة مجاورة للخطمة المعروفة اليوم بكوم دينار السايس، وصبرة في خندف وفي قيس ونزار ويمن، فالتي في خندف في بني جعفر الطيار، بنو صبرة بن جعفر بن داود بن محمد بن جعفر بن إبراهيم بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فخذ، والتي في قيس، بنو صبرة بن بكر بن أشجع بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان فخذ، وأما التي في نزار ففي شيبان، بنو صبرة بن عوف بن محكم بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار فخذ، وما التي في يمن ففي لخم وجذام، فأما التي في لخم: فبنو صبرة بن بطيخ بن مغالة بن دعجان بن عميث بن كليب بن أبي الحارث بن عمرو بن رميمة بن جدس بن أريش بن أراش بن جديلة بن لخم، وأما التي في جذام فبنو صبرة بن نصيرة بن عطفان بن سعد بن إياس بن حرام بن جذام، وإليه يرجع الصبريون، وهم بالشام والله تعالى أعلم.
بركة قرموط: هذه البركة فيما بين اللوق والمقس، كانت من جملة بستان ابن ثعلب، فلما حفر الملك الناصر محمد بن قلاون الخليج الناصري من موردة البلاط، رمى ما خرج من الطين في هذه البركة، وبنى الناس الدور على الخليج، فصارت البركة من ورائها،(3/290)
وعرفت تلك الخطة كلها ببركة قرموط، وأدركنا بها ديارا جليلة تناهى أربابها في أحكام بنائها وتحسين سقوفها، وبالغوا في زخرفتها بالرخام والدهان، وغرسوا بها الأشجار وأجروا إليها المياه من الآبار، فكانت تعدّ من المساكن البديعة النزهة، وأكثر من كان يسكنها الكتاب مسلموهم ونصاراهم، وهم في الحقيقة المترفون أولو النعمة، فكم حوت تلك الديار من حسن ومستحسن، وأني لأذكرها وما مررت بها قد إلّا وتبين لي من كل دار هناك آثار النعم، أما روائح تقالي المطابخ أو عبير بخور العود والندّ، أو نفحات الخمر، أو صوت غناء، أو دقّ هاون ونحو ذلك مما يبين عن ترف سكان تلك الديار ورفاهة عيشهم وغضارة نعمهم، ثم هي الآن موحشة خراب، قد هدمت تلك المنازل وبيعت أنقاضها منذ كانت الحوادث بعد سنة ست وثمانمائة، فزالت الطرق وجهلت الأزقة وانكشفت البركة، وبقي حولها بساتين خراب، وبلغني أن المراكب كانت تعبر إلى هذه البركة للتنزه، وما أحسب ذلك كان، فإنها كانت من جملة البستان، ولم ينقل إنه كان يقربها خليج سوى الخور، ويبعد أن يصل إليها، والله أعلم.
وقرموط هذا هو أمين الدين قرموط مستوفي الخزانة السلطانية.
بركة قراجا: هذه البركة خارج الحسينية، قريبا من الخندق، عرفت بالأمير زين الدين قراجا التركماني، أحد أمراء مصر، أنعم عليه السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون بالإمرة في سنة سبع عشرة وسبعمائة.
البركة الناصرية: هذه البركة من جملة جنان الزهريّ، فلما خربت جنان الزهريّ صار موضعها كوم تراب إلى أن أنشأ السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون ميدان المهاري، في سنة عشرين وسبعمائة، وأراد بناء الزريبة بجانب الجامع الطبرسيّ، احتاج في بنائها إلى طين، فركب وعين مكان هذه البركة، وأمر الفخر ناظر الجيش فكتب أوراقا بأسماء الأمراء، وانتدب الأمير بيبرس الحاجب فنزل بالمهندسين فقاسوا دور البركة ووزع على الأمراء بالأقصاب، فنزل كل أمير وضرب خيمة لعمل ما يخصه، فابتدؤا العمل في يوم الثلاثاء تاسع عشر شهر ربيع الأول سنة إحدى وعشرين وسبعمائة، فتمادى الحفر إلى جانب كنيسة الزهريّ، وكان إذ ذاك في تلك الأرض عدّة كنائس، ولم يكن هناك شيء من العمائر التي هي اليوم حول البركة الناصرية، ولا من العمائر التي في خط قناطر السباع ولا في خط السبع سقايات إلى قنطرة السدّ، وإنما كانت بساتين وكنائس وديورة للنصارى، فاستولى الحفر على ما حول كنيسة الزهريّ وصارت في وسط الحفر، حتى تعلقت، وكان القصد أن تسقط من غير تعمد هدمها، فأراد الله تعالى هدمها على يد العامّة كما ذكر في خبرها عند ذكر كنائس النصارى من هذا الكتاب، فلما تمّ حفر البركة نقل ما خرج منها من الطين إلى الزريبة، وأجرى إليها الماء من جوار الميدان السلطانيّ الكائن بأراضي بستان الخشاب عند(3/291)
موردة البلاط، فلما امتلأتا بالماء صارت مساحتها سبعة أفدنة، فحكر الناس ما حولها وبنوا عليها الدور العظيمة، وما برح خط البركة الناصرية عامرا إلى أن كانت الحوادث من سنة ست وثمانمائة، فشرع الناس في هدم ما عليها من الدور، فهدم كثيرا مما كان هناك، والهدم مستمرّ إلى يومنا هذا.
ذكر الجسور
الجسر بفتح الجيم، الذي تسميه العامّة جسرا، عن ابن دريد، وقال الخليل: الجسر والجسر لغتان، وهو القنطرة ونحوها مما يعبر عليه. وقال ابن سيده: والجسر الذي يعبر عليه، والجمع القليل أجسر. قال:
إنّ فراخا كفراخ الأوكر ... بأرض بغداد وراء الأجسر
والكثير جسور.
جسر الأفرم: هذا الجسر بظاهر مدينة مصر، فيما بين المدرسة المعزية برحبة الحناء قبليّ مصر، وبين رباط الآثار النبوية، كان موضعه في أوّل الإسلام غامرا بماء النيل، ثم انحسر عنه الماء فصار فضاء إلى بحريّ خليج بني وائل، ثم ابتنى الناس فيه مواضع، وكان هناك الهري قريبا من الخليج، ثم صار موضع جسر الأفرم هذا ترعة يدخل منها ماء النيل إلى البركة الشعيبية، فلما استأجر الأمير عز الدين أيبك الأفرم بركة الشعيبية وجعلها بستانا، كما تقدّم ذكره في البرك، ردم هذه الترعة وبنى حيطان البستان وجسر عليه، فأقام على ذلك سنين، ثم لما استأجر أرض البركة بعد ما غرسها بالأشجار إجارة ثانية، اشترط البناء على ثلاثة أفدنة في جانب البستان الغربيّ، وفدّان في جانبه البحريّ، ونادى في الناس بتحكيره، وأرخص سعر الحكر، وجعل حكر كلّ مائة ذراع عشرة دراهم، فهرع الناس إليه واحتكروا منه المواضع، وبنوا فيها الدور المطلة على النيل، فاستغنى بالعمائر عن عمر الجسر في كلّ سنة بين البحر والبستان الذي أنشأه، وبقى اسم الجسر عليه إلى يومنا هذا، إلا أن الآدر التي كانت هناك خربت منذ انطرد النيل عن البرّ الغربيّ، بعد ما بلغ ذلك الخط الغاية في العمارة، وكان سكن الوزراء والأعيان من الكتاب وغيرهم.
الجسر الأعظم: هذا الجسر في زماننا هذا قد صار شارعا مسلوكا يمشى فيه من الكبش إلى قناطر السباع، وأصله جسر يفصل بين بركة قارون وبركة الفيل، وبينهما سرب يدخل منه الماء، وعليه أحجار يراها من يمرّ هناك، وبلغني أنه كان من قنطرة مرتفعة، فلما أنشأ الملك الناصر محمد بن قلاون الميدان السلطانيّ عند موردة البلاط، أمر بهدم القنطرة فهدمت، ولم يكن إذ ذاك على بركة الفيل من جهة الجسر الأعظم مبان، وإنما كانت ظاهرة يراها المارّ، ثم أمر السلطان بعمل حائط قصير بطولها، فأقيم الحائط وصفر بالطين الأصفر،(3/292)
ثم حدثت الدور هناك.
الجسر بأرض الطبالة: هذا الجسر يفصل بين بركة الرطليّ وبين الخليج الناصريّ، أقامه الأمير الوزير سيف الدين بكتمر الحاجب في سنة خمس وعشرين وسبعمائة، لما انتهى حفر الخليج الناصريّ، وأذن للناس في البناء عليه، فحكر وبنيت فوقه الدور، فصارت تشرف على بركة الرطليّ وعلى الخليج، وتجتمع العامّة تحت مناظر الجسر وتمرّ بحافة الخليج للنزهة، فكثر اغتياظ غوغاء الناس وفساقهم بهذا الجسر إلى اليوم، وهو من أنزه فرج القاهرة لولا ما عرف به من القاذورات الفاحشة.
الجسر من بولاق إلى منية الشيرج: كان السبب في عمل هذا الجسر أن ماء النيل قويت زيادته في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة، حتى أخرق من ناحية بستان الخشاب، ودخل الماء إلى جهة بولاق، وفاض إلى باب اللوق حتى اتصل بباب البحر وبساتين الخور، فهدمت عدّة دور كانت مطلة على البحر، وكثير من بيوت الحكورة، وامتدّ الماء إلى ناحية منية الشيرج، فقام الفخر ناظر الجيش بهذا الأمر، وعرّف السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون أن متى غفل دخل الماء إلى القاهرة وغرق أهلها ومساكنها، فركب السلطان إلى البحر ومعه الأمراء، فرأى ما هاله، وفكر فيما يدفع ضرر النيل عن القاهرة، فاقتضى رأيه عمل جسر عند نزول الماء، وانصرف، فقويت الزيادة وفاض الماء على منشأة المهرانيّ ومنشأة الكتبة، وغرّق بساتين بولاق والجزيرة حتى صار ما بين ذلك ملقة واحدة، وركب الناس المراكب للفرجة، ومرّوا بها تحت الأشجار وصاروا يتناولون الثمار بأيديهم وهم في المراكب، فتقدّم السلطان المتولى القاهرة ومتولى مصر يبث الأعوان في القاهرة ومصر لردّ الحمير والجمال التي تنقل التراب إلى الكيمان، وألزمهم بإلقاء التراب بناحية بولاق، ونودي في القاهرة ومصر، من كان عنده تراب فليرمه بناحية بولاق وفي الأماكن التي قد علا عليها الماء، فاهتمّ الناس من جهة زيادة الماء اهتماما كبيرا خوفا أن يخرق الماء ويدخل إلى القاهرة، وألزم أرباب الأملاك التي ببولاق والخور والمناشئ أن يقف كلّ واحد على إصلاح مكانه، ويحترس من عبور الماء على غفلة، فتطلب كلّ أحد من الناس الفعلة من غوغاء الناس لنقل التراب، حتى عدمت الحرافيش، ولم تكن توجد لكثرة ما أخذهم الناس لنقل التراب ورميه، وتضرّرت الآدر القريبة من البحر بنززها، وغرقت الأقصاب والقلقاس والنيلة وسائر الدواليب التي بأعمال مصر، فلما انقضت أيام الزيادة ثبت الماء ولم ينزل في أيام نزوله، ففسدت مطامير الغلات ومخازنها وشونها، وتحسن سعر السكّر والعسل، وتأخر الزرع عن أوانه لكثرة ما مكث الماء، فكتب لولاة الأعمال بكسر الترع والجسور كي ينصرف الماء عن أراضي الزرع إلى البحر الملح، واحتاج الناس إلى وضع الخراج عن بساتين بولاق والجزيرة، ومسامحتهم بنظير ما فسد من الغرق، وفسدت عدّة بساتين إلى أن أذن الله تعالى بنزول الماء، فسقط كثير من الدور، وأخذ السلطان في عمل الجسور، واستدعى المهندسين(3/293)
وأمرهم بإقامة جسر يصدج الماء عن القاهرة خشية أن يكون نيل مثل هذا، وكتب بإحضار خولة البلاد، فلما تكاملوا أمرهم فساروا إلى النيل وكشفوا الساحل كله، فوجدوا ناحية الجزيرة مما يلي المنية قد صارت أرضها وطيئة، ومن هناك يخاف على البلد من الماء، فلما عرّفوا السلطان بذلك أمر بإلزام من له دار على النيل بمصر أو منشأة المهرانيّ أو منشأة الكتاب أو بولاق أن يعمر قدّامها على البحر زريبة، وأنه لا يطلب منهم عليها حكر، ونودي بذلك، وكتب مرسوم بمسامحتهم من الحكر عن ذلك، فشرع الناس في عمل الزرابي، وتقدّم إلى الأمراء بطلب فلاحي بلادهم وإحضارهم بالبقر والجراريف لعمل الجسر من بولاق إلى منية الشيرج، ونزل المهندسون فقاسوا الأرض وفرضوا لكل أمير أقصابا معينة، وضرب كلّ أمير خيمته وخرج لمباشرة ما عليه من العمل، فأقاموا في عمله عشرين يوما حتى فرغ، ونصبت عندهم الأسواق، فجاء ارتفاعه من الأرض أربع قصبات في عرض ثماني قصبات، فانتفع الناس به انتفاعا كبيرا، وقدّر الله سبحانه وتعالى أن الزرع في تلك السنة حسن إلى الغاية، وأفلح فلاحا عجيبا، وانحط السعر لكثرة ما زرع من الأراضي، وخصب السنة، وكان قد اتفق في سنة سبع عشرة وسبعمائة غرق ظاهر القاهرة أيضا، وذلك أن النيل وفي ستة عشر ذراعا في ثالث عشر جمادى الأولى وهو التاسع والعشرون من شهر أبيب أحد شهور القبط، ولم يعهد مثل ذلك، فإن الأنيال البدرية يكون وفاؤها في العشر الأول من مسرى، فلما كسر سدّ الخليج توقفت الزيادة مدّة أيام، ثم زاد وتوقف إلى أن دخل تاسع توت، والماء على سبعة عشر ذراعا وستة أصابع، ثم زاد في يوم تسعة أصابع، واستمرّت الزيادة حتى صار على ثانية عشر ذراعا وستة أصابع، ففاض الماء وانقطع طريق الناس فيما بين القاهرة ومصر، وفيما بين كوم الريش والمنية، وخرج من جانب المنية وغرّقها، فكتب بفتح جميع الترع والجسور بسائر الوجه القبليّ والبحريّ، وكسر بحر أبي المنجا وفتح سدّ بلبيس وغيره قبل عيد الصليب، وغرقت الأقصاب والزراعات الصيفية، وعمّ الماء ناحية منية الشيرج، وناحية شبر، فخربت الدور التي هناك، وتلف للناس مال كثير، من جملته زيادة على ثمانين ألف جرّة خمر فارغة تكسرت في نايحة المنية وشبرا عند هجوم الماء، وتلفت مطامير الغلة من الماء، حتى بيع قدح القمح بفلس، والفلس يومئذ جزء من ثمانية وأربعين جزأ من درهم، وصار من بولاق إلى شبرا بحرا واحدا تمرّ فيه المراكب للنزهة في بساتين الجزيرة إلى شبرا، وتلفت الفواكه والمشمومات، وقلت الخضر التي يحتاج إليها في الطعام، وغرقت منشأة المهرانيّ، وفاض الماء من عند خانقاه رسلان، وأفسد بستان الخشاب واتصل الماء بالجزيرة التي تعرف بجزيرة الفيل إلى شبرا، وغرقت الأقصاب التي في الصعيد، فإن الماء أقام عليها ستة وخمسين يوما، فعصرت كلها عسلا فقط، وخربت سائر الجسور وعلاها الماء، وتأخر هبوطه عن الوقت المعتاد، فسقطت عدّة دور بالقاهرة ومصر، وفسدت منشأة الكتاب المجاورة لمنشأة المهرانيّ، فلذلك عمل السلطان الجسر(3/294)
المذكور خوفا على القاهرة من الغرق.
الجسر بوسط النيل: وكان سبب عمل هذا الجسر، أن ماء النيل قوي رميه على ناحية بولاق، وهدم جامع الخطيري، ثم جدّد وقوّيت عمارته وتيار البحر لا يزداد من ناحية البرّ الشرقيّ إلّا قوة، فأهمّ الملك الناصر أمره وكتب في سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة بطلب المهندسين من دمشق وحلب والبلاد الفراتية، وجمع المهندسين من أعمال مصر كلها قبليها وبحريها، فلما تكاملوا عنده ركب بعساكره من قلعة الجبل إلى شاطيء النيل، ونزل في الحراقة وبين يديه الأمراء وسائر أرباب الخبرة من المهندسين، وجولة الجسور، وكشف أمر شطوط النيل، فاقتضى الحال أن يعمل جسرا فيما بين بولاق وناحية أنبوبه من البرّ الغربي، ليردّ قوّة التيار عن البرّ الشرقيّ إلى البرّ الغربيّ، وعاد إلى القلعة فكتبت مراسيم إلى ولاة الأعمال بإحضار الرجال صحبة المشدّين، واستدعى شادّ العمائر السلطانية وأمره بطلب الحجارين، وقطع الحجر من الجبل، وطلب رئيس البحر وشادّ الصناعة لإحضار المراكب، فلم يمض سوى عشرة أيام حتى تكامل حضور الرجال مع الشادّين من الأقاليم، وندب السلطان لهذا العمل الأمير أقبغا عبد الواحد، والأمير برصبغا الحاجب، فبرز لذلك وأحضر والي القاهرة ووالي مصر، وأمرا بجمع الناس وتسخير كل أحد للعمل، فركبا وأخذا الحرافيش من الأماكن المعروفة بهم، وقبضا على من وجد في الطرقات وفي المساجد والجوامع، وتتبّعاهم في الأسحار، ووقع الاهتمام الكبير في العمل من يوم الأحد عاشر ذي القعدة، وكانت أيام القيظ، فهلك فيه عدّة من الناس، والأمير أقبغا في الحراقة يستحث الناس على إنجاز العمل، والمراكب تحمل الحجر من الفص الكبير إلى موضع الجسر، وفي كل قليل يركب السلطان من القلعة ويقف على العمل، ويهين أقبغا ويسبه ويستحثه حتى تمّ العمل للنصف من ذي الحجة، وكانت عدّة المراكب التي غرقت فيه وهي مشحونة بالحجارة اثني عشر مركبا، كل مركب منها تحمل ألف أردب غلة، وعدّة المراكب التي ملئت بالحجر حتى ردم وصار جسرا، ثلاثة وعشرون ألف مركب، سوى ما عمل فيه من آلات الخشب والسرياقات، وحفر في الجزيرة خليج وطئ، فلما جرى النيل في أيام الزيادة مرّ في ذلك الخليج ولم يتأثر الجسر من قوّة التيار، وصارت قوّة جري النيل من ناحية أنبوبة بالبرّ الغربيّ ومن ناحية التكروريّ أيضا، فسرّ السلطان بذلك وأعجبه إعجابا كثيرا، وكان هذا الجسر سبب انطراد الماء عن برج القاهرة حتى صار إلى ما صار إليه الآن.
الجسر فيما بين الجيزة والروضة: كان السبب المقتضى لعمل هذا الجسر، أن الملك الناصر لما عمل الجسر فيما بين بولاق وناحية أنبوبة وناحية التكروريّ، انطرد ماء النيل عن برّ القاهرة، وانكشفت أراض كثيرة، وصار الماء يحاض من برّ مصر إلى المقياس، وانكشف من قبالة منشأة المهرانيّ إلى جزيرة الفيل وإلى منية الشيرج، وصار الناس يجدون مشقّة لبعد الماء عن القاهرة، وغلت روايا الماء حتى بيعت كلّ راوية بدر همين بعد ما كانت بنصف وربع(3/295)
درهم، فشكا الناس ذلك إلى الأمير أرغون العلائيّ والي السلطان الملك الكامل شعبان بن الملك الناصر محمد بن قلاون، فطلب المهندسين ورئيس البحر، وركب السلطان بأمرائه من القلعة إلى شاطيء النيل، فلم يتهيأ عمل لما كان من ابتداء زيادة النيل، إلّا أنّ الرأي اقتضى نقل التراب والشقاف من مطابخ السكّر التي كانت بمصر وإلقاء ذلك بالروضة. لعمل الجسر، فنقل شيء عظيم من التراب في المراكب إلى الروضة، وعمل جسر من الجزيرة إلى نحو المقياس، في طول نحو ثلثي ما بينهما من المسافة، فعاد الماء إلى جهة مصر عودا يسيرا وعجزوا عن إيصال الجسر إلى المقياس لقلة التراب، وقويت الزيادة حتى علا الماء الجسر بأسره، واتفق قتل الملك الكامل بعد ذلك، وسلطنة أخيه الملك المظفر حاجي بن محمد بن قلاون أول جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين وسبعمائة.
فلما دخلت سنة ثمان وأربعين، وقف جماعة من الناس للسلطان في أمر البحر واستغاثوا من بعد الماء وانكشاف الأراضي من تحت البيوت، وغلاء الماء في المدينة، فأمر بالكشف عن ذلك، فنزل المهندسون واتفقوا على إقامة جسر ليرجع الماء عن برّ الجيزة إلى برّ مصر والقاهرة، وكتبوا تقدير ما يصرف فيه مائة وعشرين ألف درهم فضة، فأمر بجبايتها من أرباب الأملاك التي على شط النيل، وأن يتولى القاضي ضياء الدين يوسف بن أبي بكر المحتسب جبايتها واستخراجها، فقيست الدور وأخذ عن كل ذراع من أراضيها خمسة عشر درهما، وتولى قياسها أيضا المحتسب ووالي الصناعة، فبلغ قياسها سبعة آلاف وستمائة ذراع، وجبي نحو السبعين ألف درهم، فاتفق عزل الضيّاء عن الحسبة، ونظر المارستان المنصوريّ، ونظر الجوالي، وولاية ابن الأطروش مكانه، ثم قتل الملك المظفر وولاية أخيه الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون سلطنة مصر بعده، في شهر رمضان منها، فلما كانت في سنة تسع وأربعين وسبعمائة وقع الاهتمام بعمل الجسر، فنزل الأمير بلبغا أروس نائب السلطنة، والأمير منجك الاستادار، وكان قد عزل من الوزارة، والأمير قيلاي الحاجب، وجماعة من الأمراء ومعهم عدّة من المهندسين إلى البحر في الحراريق، والمراكب إلى برّ الجيزة، وقاسوا ما بين برّ الجيزة والمقياس، وكتب تقدير المصروف نحو المائة والخمسين ألف درهم، وألف خشبة من الخشب، وخمسمائة صار، وألف حجر في طول ذراعين وعرض ذراعين، وخمسة آلاف شنفة، وغير ذلك من أشياء كثيرة.
فركب النائب والوزير والأمير شيخو والأمراء إلى الجيزة، وأعادوا النظر في أمر الجسر ومعهم أرباب الخبرة، فالتزم الأمير منجك بعمل الجسر، وأن يتولى جباية المصروف عليه من سائر الأمراء والأجناد والكتاب وأرباب الأملاك، بحيث أنه لا يبقى أحد حتى يؤخذ منه، فرسم لكتاب الجيش بكتابة أسماء الجند، وقرّر على كلّ مائة دينار من الإقطاعات درهم واحد، وعلى كلّ أمير من خمسة آلاف درهم إلى أربعة آلاف درهم، وعلى كلّ كاتب أمير ألف، مائتا درهم، وكاتب أمير الطبلخانات مائة درهم، وعلى كلّ حانوت من حوانيت(3/296)
التجار درهم، وعلى كلّ دار در همان، وعلى كلّ بستان الفدّان من عشرين درهما إلى عشرة دراهم، وعلى كلّ طاحون خمسة دراهم. عن الحجر، وعلى كلّ صهريج في تربة بالقرافة أو في ظاهر القاهرة أو في مدرسة من عشرة دراهم إلى خمسة دراهم، وعلى كل تربة من ثلاثة دراهم إلى در همين، وعلى أصحاب المقاعد والمتعيشين في الطرقات شيء، وكشفت البساتين والدور التي استجدّت من بولاق إلى منية الشيرج، والتي استجدّت في الحكورة، والتي استجدّت على الخليج الناصريّ، وعلى بركة الحاجب، وفي حكر أخي صاروجا، وقيست أراضيها كلها، وأخذ عن كلّ ذراع منها خمسة عشر درهما، وأخذ عن كلّ قمين من أقمنة الطوب شيء، وعن كلّ فاخورة من الفواخير شيء، وفرض على كلّ وقف بالقاهرة ومصر والقرافتين من الجوامع والمساجد والخوانك والزوايا والربط شيء، وكتب إلى ولاة الأعمال بالجباية من ديورة النصارى وكنائسهم من مائتي درهم إلى مائة درهم، وقرّر على الفنادق والخانات التي بالقاهرة ومصر شيء، وقرّر على ضامنة الأغاني مبلغ خمسين ألف درهم، وأقيم لكل جهة شادّ وصيرفي وكتّاب وغير ذلك من المستحثين من الأعوان، فنزل من ذلك بالناس بلاء كبير وشدّة عظيمة، فإنه أخذ حتى من الشيخ والعجوز والأرملة، وجبى المال منهم بالعسف، وأبطل كثير منهم سببه لسعيه في الغرامة ودهي الناس مع الغرامة، يتسلط الظلمة من العرفاء والضمان والرسل، فكان يغرم كلّ أحد للقابض والشادّ والصيرفيّ والشهود سوى ما قرّر عليه جملة دراهم، فكثر كلام الناس في الوزير حتى صاروا يلهجون بقولهم هذه سخطة مرصص نزلت من السماء على أهل مصر، وقاسوا شدّة أخرى في تحصيل الأصناف التي يحتاج إليها، ونزل الوزير منجك وضرب له خيمة على جانب الروضة، ونادى في الحرافيش والفعلة، من أراد العمل يحضر ويأخذ أجرته درهما ونصفا وثلاثة أرغفة، فاجتمع إليه عالم كثير، وجعل لهم شيئا يستظلون به من حرّ الشمس، وأحسن إليهم، ورتب عدّة مراكب لنقل الحجر، وأقام عدة من الحجارين في لجبل لقطع الحجر، وجمالا وحميرا تنقلها من الجبل إلى البحر، ثم تحمل من البرّ في المراكب إلى برّ الجيزة، وابتدأ بعمل الجسر من الروضة إلى ساقية علم الدين بن زنبور، وعارضه بجسر آخر من بستان التاج إسحاق إلى ساقية ابن زنبور، وأقام أخشابا من الجهتين، وردم بينهما بالتراب والحجر والحلفاء، ورتب الجمال السلطانية لقطع الطين من برّ الروضة وحمله إلى وسط الجسر، وأمر أن لا يبقى بالقاهرة ومصر صانع إلا حضر العمل، وألزم من كان بالقرب من داره كوم تراب أن ينقله إلى الجسر، فغرم كل واحد من الناس في نقل التراب من ألف درهم درهم إلى خمسمائة درهم، وكان كلّ ما ينقل في المراكب من الحجر وغيره يرمى في وسط جسر المقياس، وتحمله الجمال إلى الجسر، ثم اقتضى الرأي حفر خليج يجري الماء فيه عند زيادة النيل لتضعف قوّة التيار عن الجسر، فأحضرت الأبقار والجراريف والرجال لأجل ذلك، وابتدؤوا حفره من رأس موردة الحلفاء تحت الدور إلى بولاق، وكانت الزيادة(3/297)
قد قرب أوانها فما انتهى الحفر حتى زاد ماء النيل وجرى فيه، فسرّ الناس به سرورا كبيرا، وانتهى عمل الجسر في أربعة أشهر.
إلا أنّ الشناعة قويت على الوزير، وبلّغ الأمراء النائب ما يقال عن منجك من كثرة جباية الأموال، فحدّثه في ذلك ومنعه، فاعتذر بأنه لم يسخر أحدا ولا استعمل الناس إلّا بالأجرة، وأن في هذا العمل للناس عدّة منافع، وما عليّ من قول أصحاب الأغراض الفاسدة، ونحو ذلك، وتمادى على ما هو عليه، فلما جرى الماء في الخليج الذي حفر تحت البيوت من موردة الحلفاء إلى بولاق، مرّت فيه المراكب بالناس للفرجة، واحتاج منجك إلى نقل خيمته من برّ الروضة إلى برّ الجيزة، وأحضر المراكب الكبار وملأها بالحجارة، وغرّق منها عشرة مراكب في البحر، وردم التراب عليها إلى أن كمل نحو ثلثي العمل، فقويت زيادة الماء وبطل العمل.
فلما كثرت الزيادة جمع منجك الحرافيش والأسرى، وردم على الجسر التراب وقوّاه، فتحامل الماء عن البرّ الغربيّ إلى البرّ الشرقيّ ومرّ من تحت الميدان السلطانيّ وزريبة قوصون إلى بولاق، فصار معظمه من هذه المواضع، وحصل الغرض بكون الماء بالقرب من القاهرة، وانتهى طول جسر منجك إلى مائتين وتسعين قصبة في عرض ثمان قصبات، وارتفاع أربع قصبات، والجسر الذي من الروضة إلى المقياس طوله مائتان وثلاثون قصبة، وعدّة ما رمي في هذا العمل من المراكب المشحونة بالحجر اثنا عشر ألف مركب سوى التراب. وغير ذلك، وكان ابتداء العمل في مستهل المحرّم وانتهاؤه في سلخ ربيع الآخر، ولم تنحصر الأموال التي جبيت بسببه، فإنه لم يبق بالقاهرة ومصر دار ولا فندق ولا حمّام ولا طاحون ولا وقف جامع أو مدرسة أو مسجد أو زاوية ولا رزقة ولا كنيسة إلّا وجبي منه، فكان الرجل الواحد يغرم العشرة دراهم، ومن خصه درهمان يحتاج إلى غرامة أمثالهما وأضعافهما، وناهيك بمال يجبى من الديار المصرية على هذا الحكم كثرة، وقد بقيت من جسر منجك هذا بقية هي معروفة اليوم في طرف الجزيرة الوسطى.
جسر الخليلي: هذا الجسر فيما بين الروضة من طرفها البحريّ وبين جزيرة أروى المعروفة بالجزيرة الوسطى، تجاه الخور، وكان سبب عمله أن النيل لما قوي رمى تياره على برّ القاهرة في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون، وقام في عمل الجسر ليصير رمي التيار من جهة البرّ الغربيّ كما تقدّم ذكره، انطرد الماء عن برّ القاهرة وانكشف ما تحت الدور من منشأة المهرانيّ إلى منية الشيرج، وعمل منجك الجسر الذي مرّ ذكره ليعود الماء في طول السنة إلى برّ القاهرة، فلم يتهيأ كما كان أوّلا، وجرى في الخليج الذي احتفره تحت الدور من موردة الحلفاء بمصر إلى بولاق، وصار تجاه هذا الخليج جزيرة، والماء لا يزال ينطرد في كلّ سنة عن برّ القاهرة إلى أن استبدّ بتدبير مصر الأمير الكبير برقوق.(3/298)
فلما دخلت سنة أربع وثمانين وسبعمائة، قصد الأمير جهاركس الخليليّ عمل جسر ليعود الماء إلى برّ القاهرة ويصير في طول السنة هناك، ويكثر النفع به فيرخص الماء المحمول في الروايا ويقرب مرسى المراكب من البلد وغير ذلك من وجوه النفع، فشرع في العمل أوّل شهر ربيع الأوّل، وأقام الخوازيق من خشب السنط، طول كلّ خازوق منها ثمانية أذرع، وجعلها صفين في طول ثلاثمائة قصبة وعرض عشر قصبات، وسمر فيها أفلاق النخل الممتدّة، وألقى بين الخوازيق ترابا كثيرا، وانتصب هناك بنفسه ومماليكه، ولم يجب من أحد مالا البتة، فانتهى عمله في أخريات شهر ربيع الآخر، وحفر في وسط البحر خليجا من الجسر إلى زريبة قوصون، وقال شعراء العصر في ذلك شعرا كثيرا، منهم عيسى بن حجاج:
جسر الخليليّ المقرّ لقد رسا ... كالطود وسط النيل كيف يريد
فإذا سألتم عنهما قلنا لكم ... ذا ثابت دهرا وذاك يزيد
وقال الأديب شهاب الدين أحمد بن العطار:
شكت النيل أرضه ... للخليلي فأحصره
ورأى الماء خائفا ... أن يطاها فجسره
وقال:
رأى الخليليّ قلب الماء حين طغى ... بنى على قلبه جسرا وحيّره
رأى ترمّل أرضيه ووحدتها ... والنيل قد خاف يغشاها فجسّره
ومع ذلك ما ازداد الماء إلّا انطرادا عن برّ القاهرة ومصر، حتى لقد انكشف بعد عمل هذا الجسر شيء كثير من الأراضي التي كانت عامرة بماء النيل، وبعد النيل عن القاهرة بعدا لم يعهد في الإسلام مثله قط.
جسر شيبين: أنشأه الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة سبع وثلاثين وسبعمائة، بسبب أنّ أقليم الشرقية كانت له سدود كلها موقوفة على فتح بحر أبي المنجا، وفي بعض السنين تشرّق ناحية شيبين وناحية مرصفا وغير ذلك من النواحي التي أراضيها عالية، فشكا الأمير بشتاك من تشريق بعض بلاده التي في تلك النواحي، فركب السلطان من قلعة الجبل ومعه المهندسون وخولة البلاد، وكانت له معرفة بأمور العمائر، وحدس جيد، ونظر سعيد ورأي مصيب، فسار لكشف تلك النواحي حتى اتفق الرأي على عمل الجسر من عند شيبين القصر إلى بنها العسل، فوقع الشروع في عمله وجمع له من رجال البلاد اثني عشر ألف رجل، ومائتي قطعة جرّافة، وأقام فيه القناطر فصار محبسا لتلك البلاد، وإذا فتح بحر أبي المنجا امتلأت الاملاق بالماء، وأسند على هذا الجسر، وفي أوّل سنة عمل هذا الجسر أبطل فتح بحر أبي المنجا تلك السنة، فتح من جسر شيبين هذا، وحصل هذا الجسر نفع كبير(3/299)
لبلاد العلو، واستبحر منه عدّة بلاد وطيئة، والعمل على هذا الجسر إلى يومنا هذا. والله أعلم.
جسرا مصر والجيزة: اعلم أن الماء في القديم كان محيطا بجزيرة مصر التي تعرف اليوم بالروضة طول السنة، وكان فيما بين ساحل مصر وبين الروضة جسر من خشب، وكذلك فيما بين الروضة وبرّ الجيزة جسر من خشب يمرّ عليهما الناس والدواب، من مصر إلى الروضة، ومن الروضة إلى الجيزة، وكان هذان الجسران من مراكب مصطفة بعضها بحذاء بعض وهي موثقة، ومن فوق المراكب أخشاب ممتدّة فوقها تراب، وكان عرض الجسر ثلاث قصبات.
قال القضاعيّ: وأما الجسر فقال بعضهم رأيت في كتاب، ذكر أنه خط أبي عبد الله بن فضالة، صفة الجسر وتعطيلة وإزالته، وأنه لم يزل قائما إلى أن قدم المأمون مصر، وكان غريبا، ثم أحدث المأمون هذا الجسر الموجود اليوم الذي تمرّ عليه المارّة وترجع من الجسر القديم، فبعد أن خرج المأمون عن البلد أتت ريح عاصفة فقطعت الجسر الغربيّ، فصدمت سفنه الجسر المحدث، فذهبا جميعا، فبطل الجسر القديم وأثبت الجديد، ومعالم الجسر القديم معروفة إلى هذه الغاية.
وقال ابن زولاق في كتاب إتمام أمراء مصر: ولعشر خلون من شعبان سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة سارت العساكر لقتال القائد جوهر، ونزلوا الجزيرة بالرجال والسلاح والعدّة، وضبطوا الجسرين، وذكر ما كان منهم إلى أن قال في عبور جوهر: أقبلت العساكر فعبرت الجسر أفواجا أفواجا، وأقبل جوهر في فرسانه إلى المناخ موضع القاهرة. وقال في كتاب سيرة المعز لدين الله: وفي مستهلّ رجب سنة أربع وستين وثلاثمائة صلح جسر الفسطاط، ومنع الناس من ركوبه، وكان قد أقام سنين معطلا. وقال ابن سعيد في كتاب المغرب: وذكر ابن حوقل الجسر الذي يكون ممتدّا من الفسطاط إلى الجزيرة، وهو غير طويل، ومن الجانب الآخر إلى البرّ الغربيّ، المعروف ببرّ الجيزة، جسر آخر من الجزيرة إليه، وأكثر جواز الناس بأنفسهم ودوابهم في المراكب، لأنّ هذين الجسرين قد احترما بحصولهما في حيز قلعة السلطان، ولا يجوز أحد على الجسر الذي بين الفسطاط والجزيرة راكبا احتراما لموضع السلطان، يعني الملك الصالح نجم الدين أيوب، وكان رأس هذا الجسر الذي ذكره ابن سعيد حيث المدرسة الخرّوبية، من إنشاء البدر أحمد بن محمد الخرّوبيّ التاجر، على ساحل مصر قبليّ خط دار النحاس، وما برح هذا الجسر إلى أن خرّب الملك المعز ايبك التركمانيّ قلعة الروضة، بعد سنة ثمان وأربعين وستمائة، فأهمل.
ثم عمره الملك الظاهر ركن الدين بيبرس على المراكب، وعمله من ساحل مصر إلى الروضة، ومن الروضة إلى الجيزة، لأجل عبور العسكر عليه لما بلغه حركة الفرنج، فعمل ذلك.(3/300)
الجسر من قليوب إلى دمياط: هذا الجسر أنشأه السلطان الملك المظفر ركن الدين بيبرس المنصوريّ، المعروف بالجاشنكير، في أخريات سنة ثمان وسبعمائة، وكان من خبره: أنه ورد القصاد بموافقة صاحب قبرس عدّة من ملوك الفرنج على غزو دمياط، وأنهم أخذوا ستين قطعة، فاجتمع الأمراء واتفقوا على إنشاء جسر من القاهرة إلى دمياط خوفا من حركة الفرنج في أيام النيل، فيتعذر الوصول إلى دمياط، وعين لعمل ذلك الأمير أقوش الورميّ الحساميّ، وكتب الأمراء إلى بلادهم بخروج الرجال والأبقار، ورسم للولاة بمساعدة أقوش، وأن يخرج كلّ وال إلى العمل برجال عمله وأبقارهم، فما وصل أقوش إلى ناحية فارسكور حتى وجد ولاة الأعمال قد حضروا بالرجال والأبقار، فرتب الأمور. فعمل فيه ثلاثمائة جرّافة بستمائة رأس بقر، وثلاثين ألف رجل، وأقام أقوش الحرمة، وكان عبوسا قليل الكلام مهابا إلى الغاية، فجدّ الناس في العمل لكثرة من ضربه بالمقارع، أو خزم أنفه، أو قطع أذنه، أو أخرق به، إلى أن فرغ في نحو شهر واحد، فجاء من قليوب إلى دمياط مسافة يومين في عرض أربع قصبات من أعلاه، وست قصبات من أسفله، ومشى عليه ستة رؤوس من الخيل صفا واحدا، فعمّ النفع به وسلك عليه المسافرون بعد ما كان يتعذر السلوك أيام النيل، لعموم الماء الأراضي. والله تعالى أعلم.
وقد وجد بخط المصنف رحمه الله في أصله هنا ما صورته
أمراء الغرب ببيروت بيت حشمة ومكارم، ومقامهم بجبال الغرب من بلاد بيروت، ولهم خدم على الناس وتفضيل، وهم ينسبون إلى الحسين بن إسحاق بن محمد التنوخيّ الذي مدحه أبو الطيب المتنبي بقوله:
سدوا بابن إسحاق الحسين فصافحت ... وقاربها كيزانها «1» والنّمارق»
ثم كان كرامة بن بجير بن عليّ بن إبراهيم بن الحسين بن إسحاق بن محمد التنوخيّ، فهاجر إلى الملك العادل نور الدين الشهيد محمود بن زنكي، فأقطعه الغرب وما معه بإمرته، فسمّي أمير الغرب، وكان منشوره بخط العماد الأصفهانيّ الكاتب، فتحضر الأمير كرامة بعد البداوة، وسكن حصن بلجمور من نواحي إقطاعه، ويعلو على تل أعمال بغير بناء، ثم أنشأ أولاده هناك حصنا وما زالوا به، وكان كرامة ثقيلا على صاحب بيروت، وذلك أيام الفرنج، فأراد أخذه مرارا فلم يجد إليه سبيلا، فأخذ في الحيلة عليه، وهادن أولاده وسألهم حتى نزلوا إلى الساحل وألفوا الصيد بالطير وغيره، فراسلهم حتى صار يصطاد معهم وأكرمهم وحباهم وكساهم، وما زال يستدرجهم مرّة بعد، مرّة، ثم أخرج ابنه معه وهو شاب وقال:(3/301)
قد عزمت على زواجه، ثم دعا ملوك الساحل وأولاد كرامة الثلاثة، فأتوه وتأخر أصغر أولاد كرامة مع أمّه بالحصن في عدّة قليلة، فامتلأ الساحل بالشواني والمدينة بالفرنج، وتلقوهم بالشمع والأغاني، فلما صاروا في القلعة وجلسوا مع الملوك غدر بهم وأمسكهم وأمسك غلمانهم وغرّقهم، وركب بجموعه ليلا إلى الحصن، فأجفل الفلاحون والحريم والصبيان إلى الجبال والشعر والكوف، وبلغ من بالحصن أن أولاد كرامة الثلاثة قد غرقوا، ففتحوه وخرجت أمّهم ومعها ابنها حجي بن كرامة وعمره سبع سنين، ولم يبق من بينهم سواه، فأدرك السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب وتوجه إليه، لما فتح صيدا وبيروت، وباس رجله في ركابه، فلمس بيده رأسه وقال له: أخذنا نارك، طيّب قلبك، انت مكان أبيك.
وأمر له بكتابة أملاك أبيه بستين فارسا.
فلما كانت أيام المنصور قلاون، ذكر أولاد تغلب بن مسعر الشجاعيّ أن بيد الخليقة أملا كاعظيمة بغير استحقاق، ومن جملتهم أمراء الغرب، فحملوا إلى مصر، ورسم السلطان باقطاع أملاك الجبلية مع بلاد طرابلس لأمرائها وجندها، فأقطعت لعشرين فارسا من طرابلس، فلما كانت أيام الأشرف خليل بن قلاون، قدموا مصر وسألوا أن يخدموا على أملاكهم بالعدّة، فرسم لهم وأن يزيدوها عشرة أرماح، فلما كان الروك الناصريّ ونيابة الأمير تنكر بالشام، وولاية علاء الدين بن سعيد، كشف تلك الجهات، رسم السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون أن يستمرّ عليها بستين فارسا، فاستمرّت على ذلك. ثم كان منهم الأمير ناصر الدين الحسين بن خضر بن محمد بن حجي بن كرامة بن بجير بن عليّ، المعروف بابن أمير الغرب، فكثرت مكارمه وإحسانه وخدمته كلّ من يتوجه إلى تلك الناحية، وكانت إقامته بقرية أعبية بالجبل، وله دار حسنة في بيروت، واتصلت خدمته إلى كل غادورائح، وباد الأكابر والأعيان مع رياسة كبيرة ومعرفة عدّة صنائع يتقنها، وكتابة جيدة، وترسل عدّة قصائد، ومولده في محرّم سنة ثمان وستين وستمائة، وتوفي للنصف من شوال سنة إحدى وخمسين وسبعمائة. انتهى.
ووجد بخطه أيضا من أخبار اليمن ما مثاله: كان ابتداء دولة بني زياد، أن محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن زياد سلمه المأمون مع عدّة من بني أمية إلى الفضل بن سهل بن ذي الرياستين، فورد على المأمون اختلال اليمن، فثنى الفضل على محمد هذا، فبعثه المأمون أميرا على اليمن، فحج ومضى إلى اليمن، ونتج بها من بعد محاربته العرب، وملك اليمن وبنى مدينة زبيد في سنة ثلاث ومائتين، وبعث مولاه جعفرا بهدية جليلة إلى المأمون في سنة خمس، وعاد إليه في سنة ست ومعه من جهة المأمون ألفا فارس، فقوي ابن زياد وملك جميع اليمن، وقلد جعفر الجبال، وبنى بها مدينة الدمجرة، فظهرت كفاءة جعفر لكثرة دهائه، فقتله ابن زياد، ثم مات محمد بن زياد، فملك بعده ابنه إبراهيم، ثم ملك بعده ابنه أبو الجيش إسحاق بن إبراهيم، وطالت مدّته ومات سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة وترك طفلا(3/302)
اسمه زياد، فأقيم بعده وكفلته أخته هند ابنة إسحاق، وتولى معها رشد عبد أبي الجيش حتى مات، فولى بعد رشد عبده حسين بن سلامة، وكان عفيفا، فوزر لهند ولأخيها حتى ماتا، ثم انتقل الملك إلى طفل من آل زياد، وقام بأمره عمته وعبد الحسين بن سلامة اسمه مرجان، وكان لمرجان عبدان قد تغلبا على أمره يقال لأحدهما قيس وللآخر نجاح، فتنافسا على الوزارة، وكان قيس عسوفا، ونجاح رقيقا، وكان مرجان سيدهما يميل إلى قيس، وعمة الطفل تميل إلى نجاح، فشكا قيس ذلك إلى مرجان، فقبض على الملك الطفل إبراهيم وعلى عمته تملك، فبنى قيس عليهما جدارا، فكان إبراهيم آخر ملوك اليمن من آل زياد، وكان القبض عليه وعلى عمته سنة سبع وأربعمائة، فكانت مدّة بني زياد مائتي سنة وأربعا وستين سنة، فعظم قتل إبراهيم وعمته تملك على نجاح وجمع الناس، وحارب قيسا بزبيد حتى قتل قيس، وملك نجاح المدينة في ذي القعدة سنة اثنتي عشرة، وقال لسيده مرجان: ما فعلت بمواليك وموالينا؟ فقال: هم في ذلك الجدار، فأخرجهما وصلى عليهما ودفنهما وبنى عليهما مسجدا، وجعل سيده مرجان موضعهما في الجدار، ووضع معه جثة قيس وبنى عليهما الجدار، واستبدّ نجاح بمملكة اليمن، وركب بالمظلة وضربت السكة باسمه، ونجاح مولى مرجان، ومرجان مولى حسين بن سلامة، وحسين مولى رشد، ورشد مولى بني زياد، ولم يزل نجاح ملكا حتى مات سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة، سمته جارية أهداها إليه الصليحيّ وترك من الأولاد عدّة.
فملك منهم سعيد الأحوال وإخوته عدّة سنين حتى استولى عليهم الصليحيّ فهربوا إلى دهلك، ثم قدم منهم جياش بن نجاح إلى زبيد متنكرا، وأخذ منها وديعة وعاد إلى دهلك، فقدمها أخوه سعيد الأحوق بعد ذلك واختفى بها، واستدعى أخاه جياشا وسارا في سبعين رجلا يوم التاسع من ذي القعدة سنة ثلاث وسبعين، وقصدوا الصليحيّ وقد سار إلى الحج، فوافوه عند بئر أمّ معبد وقتلوه في ثاني عشرى ذي القعدة المذكور، وقتل معه ابنه عبد الله، واحتز سعيد رأسيهما، واحتاط على امرأته أسماء بنت شهاب، وعاد إلى زبيد ومعه أخوه جياش والرأسان بين أيديهما على هودج أسماء، وملك اليمن، فجمع المكرم ابن أسماء في سنة خمس وسبعين وسار من الجبال إلى زبيد وقاتل سعيدا، ففرّ سعيد، وملك المكرم واسمه أحمد، وأنزل رأس الصليحيّ وأخيه ودفنهما، وولي زبيد خاله أسعد بن شهاب، وماتت أسماء أمّه بعد ذلك في صنعاء سنة سبع وسبعين.
ثم عاد ابنا نجاح إلى زبيد وملكاها في سنة تسع وسبعين، ففرّ أسعد بن سهاب، ثم غلبهما أحمد المكرم بن عليّ الصليحيّ، وقتل سعيد بن نجاح في سنة إحدى وثمانين، وفرّ أخوه جياش إلى الهند، ثم عاد وملك زبيد في سنة إحدى وثمانين المذكورة، فولدت له جاريته الهندية ابنه الفاتك بن جياش، وبقي المكرم في الجبال يغير على بلاد جياش، وجياش يملك تهامة حتى مات آخر سنة ثمان وتسعين، فملك بعده ابنه فاتك، وخالف عليه(3/303)
أخوه إبراهيم، ومات فاتك سنة ثلاث وخمسمائة، فملك بعده ابنه منصور بن فاتك، وهو صغير فثار عليه عمه إبراهيم فلم يظفر، وثار بزبيد عبد الواحد بن جياش وملكها، فسار إليه عبد فاتك واستعادها، ثم مات منصور وملك بعده ابنه فاتك بن منصور، ثم ملك بعده ابن عمه فاتك بن محمد بن فاتك بن جياش في سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، حتى قتل سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، وهو آخر ملوك بني نجاح، فتغلب على اليمن عليّ بن مهديّ في سنة أربع وخمسين.
وأما الصليحيّ: فإنه عليّ بن القاضي محمد بن علي، كان أبوه في طاعته أربعون ألفا فأخذ ابنه التشيع عن عامر بن عبد الله الرواحيّ، أحد دعاة المستضيء، وصحبه حتى مات، وقد أسند إليه أمر الدعوة، فقام بها وصار دليلا لحاج اليمن عدّة سنين، ثم ترك الدلالة في سنة تسع وعشرين وأربعمائة، وصعد رأس جبل مسار في ستين رجلا، وجمع حتى ملك اليمن في سنة خمس وخمسين، وأقام على زبيد أسعد بن شهاب بن عليّ الصليحيّ، وهو أخو زوجته وابن عمه، ثم انه حج فقتله بنو نجاح في ذي القعدة سنة ثلاث وسبعين، واستقرّت التهائم لبني نجاح، واستقرّت صنعاء لأحمد بن عليّ الصليحيّ المقتول، وتلقب بالملك المكرم. ثم جمع وقصد سعيد بن نجاح بزبيد وقاتله وهزمه إلى دهلك، وملك زبيد في سنة خمس وسبعين، فعاد سعيد وملك زبيد في سنة تسع وسبعين، فأتاه المكرم فقتله في سنة إحدى وثمانين، فملك جياش أخو سعيد ومات المكرم بصنعاء سنة أربعة وثمانين، فملك بعده أبو حمير سبأ بن أحمد المظفر بن عليّ الصليحيّ في سنة أربع وثمانين حتى مات سنة خمس وتسعين، وهو آخر الصليحيين، فملك بعده عليّ بن إبراهيم بن نجيب الدولة، فقدم من مصر إلى جبال اليمن في سنة ثلاث عشرة وخمسمائة، وقام بأمر الدعوة والمملكة التي كانت بيد سبأ، ثم قبض عليه بأمر الخليفة الآمر بأحكام الله الفاطميّ بعد سنة عشرين وخمسمائة، وانتقل الملك والدعوة إلى الزريع بن عباس بن المكرم، وآل الزريع من إل عدن، وهم من حمدان، ثم من جشم، وبنوا المكرم يعرفون بآل الذنب. وكانت عدن للزريع بن عباس وأحمد بن مسعود بن المكرم، فقتلا على زبيد، وولي بعدهما ولداهما أبو السعود بن زريع وأبو الغارات بن مسعود، ثم استولى على الملك والدعوة سبأ بن أبي السعود بن زريع حتى مات سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، فولي بعده ولده الأعز عليّ بن سبأ، وكان مقامه بالرمادة، فمات بالسل، وملك أخوه المعظم محمد في سنة ثمان وثلاثين.
وولي من الصليحيين أيضا المملكة السيدة سنة بنت أحمد بن جعفر بن موسى الصليحيّ، زوجة أحمد المكرم، ولقبت بالحرّز، ومولدها سنة أربعين وأربعمائة، وربتها أسماء بنت شهاب، وتزوّجها الملك المكرم أحمد بن أسماء، وهو ابن علي الصليحيّ، سنة إحدى وستين، وولاها الأمر في حياته، فقامت بتدبير المملكة والحروب، وأقبل زوجها على لذاته حتى مات، وتولى ابن عمه سبأ، فاستمرّت في الملك حتى مات سبأ، وتولى ابن(3/304)
نجيب الدولة حتى ماتت سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة، وشاركه في الملك المفضل أبو البركات بن الوليد الحميريّ، وكان يحكم بين يدي الملكة الحرّة، وهي من وراء الحجاب، ومات المفضل في رمضان سنة أربع وثلاثين وخمسمائة، وملك بلاده ابنه الملك المنصور، ومنصور بن المفضل، حتى ابتاع منه محمد بن سبأ بن أبي السعود معاقل الصليحيين، وعدّتها ثمانية وعشرون حصنا بمائة ألف دينار، في سنة سبع وأربعين وخمسمائة، وبقي المنصور بعد حتى مات بعد ما ملك نحو ثمانين سنة.
وأما عليّ بن مهديّ: فإنه حميريّ من سواحل زبيد، كان أبوه مهديّ رجلا صالحا، ونشأ ابنه على طريقة حسنة، وحج ووعظ، وكان فصيحا حسن الصوت عالما بالتفسير وغيره، يتحدّث بالمغيبات فتكون كما يقول، وله عدّة أتباع كثيرة وجموع عديدة، ثم قصد الجبال وأقام بها إلى سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، ثم عاد إلى أملاكه ووعظ، ثم عاد إلى الجبال ودعا إلى نفسه فأجابه بطن من خولان فسماهم الأنصاري، وسمّي من صعد معه من تهامة المهاجرين، وولّى على خولان سبأ، وعلى المهاجرين رجلا آخر، وسمّي كلا منهما شيخ الإسلام، وجعلهما نقيبين على طائفتيهما فلا يخاطبه أحد غيرهما وهما يوصلان كلامه إلى من تحت أيديهما، وأخذ يغادي الغارات ويراوحها على التهائم حتى أجلى البوادي، ثم حاصر زبيد حتى قتل فاتك بن محمد آخر ملوك بني نجاح، فحارب ابن مهديّ عبد فاتك حتى غلبهم وملك زبيد يوم الجمعة رابع عشر رجب سنة أربع وخمسين وخمسمائة، فبقي على الملك شهرين وأحدا وعشرين يوما ومات.
فملك بعده ابنه مهديّ ثم عبد الغنيّ بن مهديّ، وخرجت المملكة عن عبد الغنيّ إلى أخيه عبد الله، ثم عادت إلى عبد الغنيّ، واستقرّ حتى سار إليه توران شاه بن أيوب من مصر في سنة تسع وستين وخمسمائة وفتح اليمن وأسر عبد الغنيّ، وهو آخر ملوك بني مهديّ، يكفر بالمعاصي ويقتل من يخالف اعتقاده ويستبيح وطء نسائهم واسترقاق أولادهم، وكان حنفي الفروع، ولأصحابه فيه غلوّ زائد، ومن مذهبه قتل من شرب الخمر ومن سمع الغناء.
ثم ملك توران شاه بن أيوب عدن من ياسر، وملك بلاد اليمن كلها واستقرّت في ملك السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وعاد شمس الدولة توازن شاه بن أيوب إلى مصر في شعبان سنة ست وسبعين، واستخلف على عدم عز الدين عثمان بن الزنجيلي، وعلى زبيد حطان بن كليل بن منقد الكافي، فمات شمس الدولة بالإسكندرية، فاختلف نوّابه، فبعث السلطان صلاح الدين يوسف جيشا فاستولى على اليمن، ثم بعث في سنة ثمان وسبعين أخاه سيف الإسلام ظهير الدين طفتكين بن أيوب، فقدم إليها وقبض على حطان بن كليل بن منقد وأخذ أمواله وفيها سبعون غلاف زردية مملوءة ذهبا عينا، وسجنه فكان آخر العهد به، ونجا عثمان بن الزنجيليّ بأمواله إلى الشام فظفر بها سيف الإسلام، وصفت له(3/305)
مملكة اليمن حتى مات بها في شوال سنة ثلاث وتسعين. فأقيم بعده ابنه الملك المعز اسماعيل بن طفتكين بن أيوب، فجعظ وادّعى أنه أمويّ، وخطب لنفسه بالخلافة وعمل طول كمه عشرين ذراعا، فثار عليه مماليكه وقتلوه في سنة تسع وتسعين، وأقاموا بعده أخاه الناصر، ومات بعد أربع سنين فقام من بعده زوج أمّه غازي بن حزيل أحد الأمراء، فقتله جماعة من العرب، وبقي اليمن بغير سلطان، فتغلبت أمّ الناصر على زبيد، فقدم سليمان بن سعد الدين شاهنشاه بن أيوب إلى اليمن، فعبر يحمل ركوته على كتفه فملكته أم الناصر البلاد وتزوّجت به، فاشتدّ ظلمه وعتوّه إلى أن قدم الملك المسعود أقسيس بن الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب من مصر في سنة اثنتي عشرة وستمائة، فقبض عليه وحمله إلى مصر فأجرى له الكامل ما يقوم به إلى أن استشهد على المنصورة سنة سبع وأربعين وستمائة، وأقام المسعود باليمن وحج ملك مكة أيضا في شهر ربيع الأوّل سنة عشرين وستمائة، وعاد إلى اليمن ثم خرج عنها واستخلف عليها استاداره عليّ بن رسول، فمات بمكة سنة ست وعشرين، فقام عليّ بن رسول على ملك اليمن حتى مات في سنة تسع وعشرين، واستقرّ عوضه ابنه عمر بن عليّ بن رسول وتلقب بالمنصور حتى قتل سنة ثمان وأربعين، واستقرّ بعده ابنه المظفر يوسف بن عمر بن عليّ بن رسول وصفا له اليمن وطالت أيامه انتهى ما ذكره المصنف بخطه في تاريخه، عفا الله عنه وأرضاه وجعل الجنة مقرّه ومثواه.
ووجد بخطه أيضا ما مثاله: السلطان محمد بن طغلق شاه، وطغلق يلقب غياث الدين، وهو مملوك السلطان علاء الدين محمود بن شهاب الدين مسعود ملك الهند، مقرّ ملكه مدينة دهلي وجميع البلاد برّا وبحرا بيده، إلّا الجزائر المغلغلة في البحر، وأما الساحل فلم يبق منه قيد شبر إلا وهو بيده، وأوّل ما فتح مملكة تكنك، عدّة قراها مائة ألف قرية وتسعمائة قرية، فتح بلاد حاجنكيز، وبها سبعون مدينة جليلة كلها بنادر على البحر، فتح بلاد لنكوتي وهي كرسيّ تسعة ملوك، ثم فتح بلاد دواكير وبها أربع وثمانون قلعة كلها جليلات المقدار، وبها ألف ألف قرية ومائتا ألف قرية، ثم فتح بلاد ورسمند وكان بها ستة ملوك، ثم فتح بلاد المعبر وهم أقليم جليل له سبعون مدينة بنادر على البحر، وجملة ما بيده ثلاثة وعشرون إقليما، وهي: أقليم دهلي، وأقليم الدواكير، وإقليم الملثان، وإقليم كهران، وإقليم سامان، وإقليم سوستان، وإقليم وجا، وإقليم هاسي، وإقليم سرسيني، وإقليم المعبر، وإقليم تكنك كحرات، وإقليم بداون، وإقليبم عوض، وإقليم التيوج، وإقليم لنكوتي، وإقليم بهار، وإقليك كره، وإقليم ملاوه، وإقليم بهادر، وإقليم كلافور، وإقليم حاجنكيز، وإقليم بليخ، وإقليم ورسمند. وهذه الأقاليم تشتمل على ألف مدينة، ومائتي مدينة دهلي دور عمرانها أربعون ميلا، وجملة ما يطلق عليه اسم دهلي إحدى وعشرون مدينة، وفي دهلي ألف مدرسة كلها للحنفية إلّا واحدة فإنها للشافعية، ونحو سبعين(3/306)
مارستان، وفي بلادها من الخوانك والربط نحو ألفين، وبها جامع ارتفاع مئذنته ستمائة ذراع في الهواء، وللسلطان خدمة مرّتين في كلّ يوم بكرة وبعد العصر، ورتب الأمراء على هذه الأنواع، أعلاهم قدرا الخانات ثم الملوك ثم الأمراء ثم الأسفهسلارية ثم اجلند، وفي خدمته ثمانون خانا، وعسكره تسعمائة ألف فارس، وله ثلاثة آلاف فيل تلبس في الحروب البرك اصطونات الحديد المذهب، وتلبس في أيام السلم جلال الديباج وأنواع الحرير وتزين بالقصور والأسرّة المصفحة ويشدّ عليها بروج الخشب يركب فيها الرجال للحرب، فيكون على الفيل من عشرة رجال إلى ستة، وله عشرون ألف مملوك أتراك، وعشرة آلاف خادم خصيّ، وألف خازندار، وألف مشبقدار، ومائتا ألف عبد ركابية تلبس السلاح وتمشي بركابه وتقاتل رجالة بين يديه، والاسفهسلارية لا يؤهل منهم أحد لقرب السلطان، وإنما يكون منهم نوع الولاة، والخان يكون له عشرة آلاف فارس، وللملك ألف، وللأمير مائة فارس، وللاسفسلار دون ذلك، ولكلّ خان عبرة لكّين كلّ لك مائة ألف تنكة، كلّ تنكة ثمانية دراهم، ولكلّ ملك من ستين ألف تنكة إلى خمسين ألف تنكة، ولكل أمير من أربعين ألف تنكة إلى ثلاثين ألف تنكة، ولكلّ اسفهسلار من عشرين ألف تنكة إلى ما حولها، ولكلّ جنديّ من عشرة آلاف تنكة إلى ألف تنكة، ولكلّ مملوك من خمسة آلاف تنكة إلى ألف تنكة، سوى طعامهم وكساويهم وعليقهم، ولكلّ عبد في الشهر منان من الحنطة والأرز، في كلّ يوم ثلاثة أستار لحم وما يحتاج إليه، وفي كلّ شهر عشر تنكات بيضاء، وفي كلّ سنة أربع كساو. وللسلطان دار طراز فيها أربعة آلاف قزّاز لعمل أنواع القماش، سوى ما يحمل له من الصين والعراق والإسكندرية، ويفرّق كلّ سنة مائتي ألف كسوة كاملة، في فصل الربيع مائة ألف، وفي فصل الخريف مائة ألف، ففي الربيع غالب الكسوة من عمل الإسكندرية، وفي الخريف كلها حرير من عمل دار الطراز بدهلي وقماش الصين والعراق، ويفرّق على الخوانك والربط الكساوي، وله أربعة آلاف زركشيّ تعمل الزركش، ويفرّق كلّ سنة عشرة آلاف فرس مسرجة وغير مسرجة سوى ما يعطي الأجناد من البراذين، فإنه بلا حساب يعطي جشارات، ومع هذا فالخيل عنده غالية مطلوبة، وللسلطان نائب من الخانات يسمى ابريت، اقطاعه قدر إقليم بحر العراق، ووزير إقطاعه كذلك، وله أربعة نوّاب مسمى كلّ واحد منهم من أربعين ألف تنكة إلى عشرين ألف تنكة، وله أربعة ربيسان أي كتاب سرّ، لكلّ واحد منهم ثلاثمائة كاتب، ولكل كاتب إقليم عشرة آلاف تنكة، ولصدر جهان وهو قاضي القضاة قرى يتحصل منها نحو ستين ألف تنكة، ولصدر الإسلام وهو أكبر نوّاب القاضي، ولشيخ الإسلام وهو شيخ الشيوخ مثل ذلك، وللمحتسب ثمانية آلاف تنكة، وله ألف طبيب ومائتا طبيب، وعشرة آلاف بزدار تركب الخيل وتحمل طيور الصيد، وله ثلاثة آلاف سوّاق لتحصيل الصيد، وخمسمائة نديم، وألفان ومائتان للملاهي سوى مماليكه، وهم ألف مملوك، وألف شاعر باللغات العربية والفارسية والهندية، يجري عليهم ديوانه،(3/307)
ومتى غنى أحد منهم لغيره قتله، ولكلّ نديم قريتان أو قرية، ومن أربعين ألف تنكة إلى ثلاثين ألف تنكة إلى عشرين ألف تنكة، سوى الخلع والكساوي والافتقادات، ويمدّ في وقت كلّ خدمة في المرتين من كلّ يوم سماط يأكل منه عشرون ألفا مثل الخانات والملوك والأمراء والاسفهسلارية وأعيان الأجناد، وله طعام خاص، يأكل معه الفقهاء وعدّتهم مائتا فقيه في الغداء والعشاء، فيأكلون ويتباحثون بين يديه، ويذبح في مطابخه كلّ يوم ألفان وخمسمائة رأس من البقر، وألفا رأس من الغنم، سوى الخيل وأنواع الطير، ولا يحضر مجلسه من الجند إلّا الأعيان، ومن دعته ضرورة إلى الحضور، والندماء وأرباب الأغاني يحضرون بالنوبة، وكذلك الربيسان والأطباء ونحوهم لكلّ طائفة نوبة تحضر فيها للخدمة، والشعراء تحضر في العيدين والمواسم وأوّل شهر رمضان، وإذا تجدّد نصر على عدوّ أو فتوح ونحو ذلك مما يهنّى به السلطان.
وأمور الجند والعامّة مرجعها إلى ابريت، وأمر القضاة كلهم مرجعه إلى صدر جهان، وأمر الفقهاء إلى شيخ الإسلام، وأمر الواردين والوافدين والأدباء والشعراء إلى الربيسان، وهم كتاب السرّ. وجهز هذا السلطان مرّة أحد كتاب سرّه إلى السلطان أبي سعيد رسولا، وبعث معه ألف ألف تنكة ليتصدّق بها في مشاهد العراق، وخمسمائة فرس، فقدم بغداد وقد مات أبو سعيد، وكان هذا السلطان ترعد الفرائض لمهابته وتزلزل الأرض لموكبه، يجلس بنفسه لإنصاف رعيته ولقراءة القصص عليه جلوسا عامّا، ولا يدخل أحد عليه ومعه سلاح ولو السكين ويجلس، وعنده سلاح كامل لا يفارقه أبدا، وإذا ركب في الحرب فلا يمكن وصف هيبته، وله أعلام سود في أوساطها تبابين من ذهب تسير عن يمينه، وأعلام حمر فيها تبابين من ذهب تسير عن يساره، ومعه مائتا جمل نقارات، وأربعون جملا كوسات كبارا، وعشرون بوقا، وعشرة صنوج، ويدق له خمس نوب كلّ يوم، وإذا خرج إلى الصيد كان في جف وعدّة من معه زيادة على مائة ألف فارس ومائتي فيل وأربعة قصور خشب على ثمانمائة جمل، كلّ قصر منها على مائتي جمل كلها ملبسة حريرا مذهبا، كلّ قصر طبقتان، سوى الخيم والجركاوات، وإذا انتقل من مكان إلى مكان للنزهة يكون معه نحو ثلاثين ألف فارس وألف جنيب مسرجة ملجمة بالذهب المرصع بالجوهر والياقوت، وإذا خرج في قصره من موضع إلى آخر يمرّ راكبا وعلى رأسه الحبر، والسلاح دارية وراءه بأيديهم السلاح، وحوله نحو اثنا عشر ألف مملوك مشاة، لا يركب منهم إلّا حامل الحبر والسلاح دارية والجمدارية حملة القماش، وإذا خرج للحرب أو سفر طويل حمل على رأسه سبع حبورة، منها اثنان مرصعان ليس لهما قيمة، وله فخامة عظيمة وقوانين وأوضاع جليلة، والخانات والملوك والأمراء لا يركب أحد منهم في السفر والحضر إلّا بالأعلام، وأكثر ما يحمل الخان سبعة أعلام، وأكثر ما يحمل الأمير ثلاثة، وأكثر ما يجرّه الخان في الحضر عشرة جنائب، وأكثر ما يجرّ الأمير في الحضر جنيبان، وأما في السفر فحسبما يختار.(3/308)
وكان للسلطان برّ وإحسان، وفيه تواضع، ولقد مات عنده رجل فقير فشهد جنازته وحمل نعشه على عنقه، وكان يحفظ القرآن العزيز العظيم والهداية في فقه الحنفية، ويجيد علم المعقول، ويكتب خطا حسنا، ولذته في الرياضة وتأديب النفس، ويقول الشعر ويباحث العلماء ويؤاخذ الشعراء ويأخذ بأطراف الكلام على كلّ من حضر على كثرة العلماء عنده، والعلماء تحضر عنده وتفطر في رمضان معه بتعيين صدر جهان لهم في كلّ ليلة، وكان لا يترخص في محذور ولا يقرّ على منكر ولا يتجاسر أحد في بلاده أن يتظاهر بمحرّم، وكان يشدّد في الخمر ويبالغ في العقوبة على من يتعاطاه من المقرّبين منه، وعاقب بعض أكابر الخانات على شرب الخمر وقبض عليه وأخذ أمواله وجملتها أربعمائة ألف ألف مثقال وسبعة وثلاثون ألف ألف مثقال ذهبا أحمر، زنتها ألف وسبعمائة قنطار بالمصريّ، وله وجوه برّ كثيرة منها: أنه يتصدّق في كلّ يوم بلكّين، عنهما من نقد مصر ألف وستمائة ألف درهم، وربما بلغت صدقته في يوم واحد خمسين لكّا، ويتصدّق عند كلّ رؤية هلال شهر بلكين دائما، وعليه راتب لأربعين ألف فقير، كلّ واحد منهم درهم في كلّ يوم، وخمسة أرطال برّ وأرز، وقرّر ألف فقيه في مكاتب لتعليم الأطفال القرآن، وأجرى عليهم الأرزاق، وكان لا يدعي بدهلي سائلا بل يجري على الجميع الأرزاق، ويبالغ في الإحسان إلى الغرباء، وقدم عليه رسول من أبي سعيد مرّة بالسلام والتودّد، فخلع عليه وأعطاه حملا من المال، فلما أراد الانصراف أمره أن يدخل الخزانة ويأخذ ما يختار، فلم يأخذ غير مصحف، فسأله عن ذلك فقال: قد أغناني السلطان بفضله، ولم أجد أشرف من كتاب الله، فزاد إعجابه به وأعطاه مالا جملته ثمانمائة تومان، والتومان عشرة آلاف دينار، وكلّ دينار ستة دراهم، تكون جملة ذلك ثمانية آلاف ألف دينار، عنها ثمانية وأربعون ألف ألف درهم.
وقصده شخص من بلاد فارس وقدّم له كتبا في الحكمة منها كتاب الشفاء لابن سينا، فأعطاه جوهرا بعشرين ألف مثقال من الذهب، وقصده آخر من بخارى بحملي بطيخ أصفر فتلف غالبه حتى لم يبق منه إلا اثنتان وعشرون بطيخة، فأعطاه ثلاثة آلاف مثقال ذهبا، وكان قد التزم أن لا ينطق في إطلاقاته بأقل من ثلاثة آلاف مثقال ذهبا، وبعث ثلاث لكوك ذهبا إلى بلاد ما وراء النهر ليفرّق على العلماء لكّ، وعلى الفقراء لكّ، ويبتاع له حوائج بلك، وبعث للبرهان الضياء عزه جي شيخ سمرقند بأربعين ألف تنكة، وكان لا يفارق العلماء سفرا وحضرا، ومنار الشرع في أيامه قائم، والجهاد مستمرّ، فبلغ مبلغا عظيما في إعلاء كلمة الإيمان، فنشر الإسلام في تلك الأقطار وهدم بيوت النيران وكسر الندود والأصنام واتصل به الإسلام إلى أقصى الشرق، وعمر الجوامع والمساجد، وأبطل التثويب في الآذان ولم يخل له يوم من الأيام من بيع آلاف من الرقيق لكثرة السبي، حتى أن الجارية لا يتعدّى ثمنها بمدينة دهلي ثمان تنكات، والسرّية خمس عشرة تنكة، والعبد المراهق أربعة دراهم، ومع رخص قيمة الرقيق فإنه تبلغ قيمة الجارية الهندية عشرين ألف تنكة، لحسنها ولطف خلقها،(3/309)
وحفظها القرآن وكتابتها الخط، وروايتها الأشعار والأخبار، وجودة غنائها وضربها بالعود ولعبها بالشطرنج، وهن يتفاخرن فتقول الواحدة آخذ قلب سيدي في ثلاثة أيام، فتقول الأخرى أنا آخذ قلبه في يوم، فتقول الأخرى أنا أخذ قلبه في ساعة، فتقول الأخرى أنا آخذ قلبه في طرفة عين، وكان ينعم على جميع من في خدمته من أرباب السيوف والأقلام بكلّ جليل من البلاد والأموال والجواهر والخيول المجللة بالذهب وغير ذلك، إلّا الفيلة فإنه لا يشاركه فيها أحد، وللثلاثة آلاف فيل راتب عظيم، فأكثرها مؤنة له في كلّ يوم أربعون رطلا من أرز، وستون رطلا من شعير، وعشرون رطلا من سمن، ونصف حمل من حشيش، وقيّمها جليل القدر، إقطاعه مثل إقليم العراق، وإذا وقف السلطان للحرب كان أهل العلم حوله والرماة قدّامه وخلفه، وأمامه الفيلة كما تقدّم عليها الفيالة، وقدّامها العبيد المشاة، والخيل في الميمنة والميسرة، فتهيأ له من النصر ما لا تهيأ لأحد ممن تقدّمه، ففتح الممالك وهدم قواعد الكفار ومحا صور معابدهم، وأبطل فخرهم، وكان يجلس كلّ يوم ثلاثاء جلوسا عامّا على تخت مصفح بالذهب، وعلى رأسه حبر في موكب عظيم، وينادي مناديه من له شكوى في شخص، فينظر في ظلامات الناس، وكان لا يوجد بدهلي في أيامه خمر البتة.
وأوّل من ملك مدينة دهلي قطب الدين أيبك، وذلك أن شهاب الدين محمد بن سالم بن الحسين، أحد الملوك الغورية، فتح الهند بعد عدّة حروب، وأقطع مملوكه أيبك هذا مدينة دهلي، فبعث أيبك عسكرا عليه محمد بن بختيار، فأخذ إلى تخوم الصين، وذلك كله في سنة سبع وأربعين وخمسمائة، ثم ولي بعده ايتمش بن أيبك أربعين سنة، فقام بعده ابنه علاء الدين عليّ بن ايتمش بن أيبك، ثم أخوه معز الدين بن أيتمش، ثم أخته رضية خاتون فأقامت ثلاث سنين، ثم أخوها ناصر الدين بن ايتمش فأقام أربعا وعشرين سنة، ثم قام بعده مملوكه غياث الدين بليان سبعا وعشرين سنة، ثم بعده معز الدين نيابا خمس سنين، ثم ابنه شمس الدين كيمورس سبعة أشهر، ثم خرج الملك عن بيت السلطان شمس الدين ايتمش، وقويت التركمان العلجية وكانوا أمراء يقال للواحد منهم خان، واستبدّ كبيرهم جلال الدين فيروز سبع سنين، ثم ابن أخيه علاء الدين محمود بن شهاب مسعود اثنتين وعشرين سنة، ومات سنة خمس عشرة وسبعمائة، ثم ابنه شهاب الدين عمر بن محمود بن مسعود سنة واحدة، ولقب غياث الدين، ثم أخوه قطب الدين مبارك بن محمود أربع سنين وقتل سنة عشرين وسبعمائة، ثم علاء الدين خسر ومملوك علاء الدين محمود سبعة أشهر، وملك غياث الدين طغلق شاه مملوك السلطان علاء الدين محمود بن مسعود في أوّل شعبان سنة عشرين وسبعمائة، ثم ملك بعده ابنه محمد بن طغلق شاه صاحب الترجمة. هذا آخر ما وجد بخطه رحمه الله تعالى.
ووجد بخطه أيضا رحمه الله تعالى: ما أحسن قول الأديب محمد بن حسن بن شاور النقيب:(3/310)
مشت أيامكم لا بل نراها ... جرت جريا على غير اعتياد
وما عقدت نواصيها بخير ... ولا كانت تعدّ من الجياد
بخشان: مدينة فيما وراء النهر بها معدن اللعل البدخشانيّ، وهو المسمى بالبلخش، وبها معدن اللازورد الفائق، وهما في جبل بها يحفر عليهما في معادنهما، فيوجد اللازورد بسهولة، ولا يوجد اللعل إلا بتعب كبير وإنفاق زائد، وقد لا يوجد بعد التعب الشديد والنفقة الكثيرة، ولهذا عز وجوده وغلت قيمته.
وأقصر ليل بلغار بالبحرين أربع ساعات ونصف، وأقصر ليل أفتكون ثلاث ساعات ونصف، فهو أقصر من ليل بلغار بساعة واحدة، وبين بلغار وأفتكون مسافة عشرين يوما بالسير المعتاد. انتهى.
السلطانية من عراق العجم، بناها السلطان محمد خدابنده أوكانيق بن أرغون بن ابغا بن هولاكو، وخدابنده ملك بعد أخيه محمود غازان، وملك بعد خدابنده ابنه السلطان أبو سعيد بهادر خان، وكان الشيخ حسن بن حسين بن أقبغا مع قائد السلطان محمد بن طشتمر بن استيمر بن عترجي، ومذ مات أبو سعيد لم يجمع بعده على طاعة ملك، بل تفرّقوا وقام في كلّ ناحية قائم. انتهى.
ووجد بخطه أيضا ما نصه: ولله در أبي إسحاق الأديب حيث قال:
إذا كنت قد أيقنت أنك هالك ... فمالك مما دون ذلك تشفق
ومما يشين المرء ذا الحلم أنّه ... يرى الأمر حتما واقعا ثم يقلق
وحيث يقول:
ومن طوى الخمسين من عمره ... لاقى أمورا فيه مستنكرة
وإن تخطاها رأى بعدها ... من حادثات الدهر ما لم يره
انتهى ما وجد بخطه في أصله.
ذكر الجزائر
اعلم أن الجزائر التي هي الآن في بحر النيل كلها حادثة في الملة الإسلامية، ما عدا الجزيرة التي تعرف اليوم بالروضة تجاه مدينة مصر، فإن العرب لما دخلوا مع عمرو بن العاص إلى مصر، وحاصروا الحصن الذي يعرف اليوم بقصر الشمع في مصر، حتى فتحه الله تعالى عنوة على المسلمين، كانت هذه الجزيرة حينئذ تجاه القصر، ولم يبلغني إلى الآن متى حدثت، وأما غيرها من الجزائر فكلها قد تجدّدت بعد فتح مصر.(3/311)
ويقال والله أعلم، أنّ بلهيت الذي يعرف اليوم بأبي الهول، طلسم وضعه القدماء لقلب الرمل عن برّ مصر الغربيّ الذي يعرف اليوم ببرّ الجيزة، وأنه كان في البرّ الشرقيّ بجوار قصر الشمع صنم من حجارة على مسامتة أبي الهول، بحيث لو امتدّ خيط من رأس أبي الهول وخرج على استواء، لسقط على رأس هذا الصنم، وكان مستقبل المشرق، وأنه وضع أيضا لقلب الرمل عن البرّ الشرقيّ، فقدّر الله سبحانه وتعالى أن كسر هذا الصنم على يد بعض أمراء الملك الناصر محمد بن قلاون، في سنة إحدى عشرة وسبعمائة، وحفر تحته حتى بلغ الحفر إلى الماء، ظنا أنه يكون هناك كنز، فلم يوجد شيء، وكان هذا الصنم يعرف عند أهل مصر بسريّة أبي الهول، فكان عقيب ذلك غلبة النيل على البرّ الشرقيّ، وصارت هذه الجزائر الموجودة اليوم، وكذلك قام شخص من صوفية الخانقاه الصلاحية سعيد السعداء، يعرف بالشيخ محمد صائم الدهر في تغيير المنكر أعوام بضع وثمانين وسبعمائة، فشوّه وجوه سباع الحجر التي على قناطر السباع خارج القاهرة، وشوّه وجه أبي الهول، فغلب الرمل على أراضي الجيزة، ولا ينكر ذلك، فلله في خليقته أسرار يطلع عليها من يشاء من عباده، والكلّ بخلقه وتقديره.
وقد ذكر الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه في كتاب أخبار مصر، في خبر الواحات الداخلة، أن في تلك الصحارى كانت أكثر مدن ملوك مصر العجيبة وكنوزهم، إلا أن الرمال غلبت عليها. قال: ولم يبق بمصر ملك إلّا وقد عمل للرمال طلسما لدفعها، ففسدت طلسماتها لقدم الزمان.
وذكر ابن يونس عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: إني لأعلم السنة التي تخرجون فيها من مصر، قال ابن سالم: فقلت له ما يخرجنا منها يا أبا محمد أعدوّ؟ قال:
لا ولكنكم يخرجكم منها نيلكم، هذا يغور فلا تبقى منه قطرة، حتى تكون فيه الكثبان من الرمل، وتأكل سباع الأرض حيتانه.
وقال الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير قال: إنّ الصحابيّ حدّثه أنه سمع كعبا يقول: ستعرك العراق عرك الأديم، وتفت مصر فت البعرة. قال الليث: وحدّثني رجل عن وهب المعافريّ أنه قال: وتشق الشام شق الشعرة، وسأذكر من خبر هذه الجزائر المشهورة ما وصلت إلى معرفته إن شاء الله تعالى.
ذكر الروضة
اعلم أنّ الروضة تطلق في زماننا هذا على الجزيرة التي بين مدينة مصر ومدينة الجيزة، وعرفت في أوّل الإسلام بالجزيرة، وبجزيرة مصر، ثم قيل لها جزيرة الحصن، وعرفت إلى اليوم بالروضة، وإلى هذه الجزيرة انتقل المقوقس لما فتح الله تعالى على المسلمين القصر(3/312)
وصار بها هو ومن معه من جموع الروم والقبط، وبها أيضا بنى أحمد بن طولون الحصن، وبها كانت الصناعة، يعني صناعة السفن الحربية، أي كانت بها دار الصناعة، وبها كان الجنان والمختار، وبها كان الهودج الذي بناه الخليفة الآمر بأحكام الله لمحبوبته البدوية، وبها بنى الملك الصالح نجم الدين أيوب القلعة الصالحية، وبها إلى اليوم مقياس النيل، وسأورد من أخبار الروضة هنا ما لا تجده مجتمعا في غير هذا الكتاب.
قال ابن عبد الحكم وقد ذكر محاصرة المسلمين للحصن: فلما رأى القوم الجدّ من المسلمين على فتح الحصن والحرص، ورأوا صبرهم على القتال ورغبتهم فيه، خافوا أن يظهروا عليهم، فتنحى المقوقس وجماعة من أكابر القبط وخرجوا من باب الحصن القبليّ، ودونهم جماعة يقاتلون العرب، فلحقوا بالجزيرة موضع الصناعة اليوم وأمروا بقطع الجسر، وذلك في جري النيل، وتخلف في الحصن بعد المقوقس الأعرج، فلما خاف فتح باب الحصن خرج هو وأهل القوّة والشرف وكانت سفنهم ملصقة بالحصن، ثم لحقوا بالمقوقس بالجزيرة.
قال: وكان بالجزيرة يعني بعد فتح مصر في أيام عبد العزيز بن مروان أمير مصر، خمسمائة فاعل معدّة لحريق يكون في البلد أو هدم.
وقال القضاعيّ جزيرة فسطاط مصر. قال الكنديّ: بنيت بالجزيرة الصناعة في سنة أربع وخمسين، وحصن الجزيرة بناه أحمد بن طولون في سنة ثلاث وستين ومائتين ليحرز فيه حرمه وماله، وكان سبب ذلك مسير موسى بن بغا العراقيّ من العراق واليا على مصر، وجميع أعمال ابن طولون، وذلك في خلافة المعتمد على الله. فلما بلغ أحمد بن طولون مسيرة، استعدّ لحربه ومنعه من دخول أعماله، فلما بلغ موسى بن بغا إلى الرقة تثاقل عن المسير لعظم شأن ابن طولون وقوّته، ثم عرضت لموسى علة طالت به وكان بها موته، وثاوره الغلمان وطلبوا منه الأرزاق، وكان ذلك سبب تركه المسير، فلم يلبث موسى بن بغا أن مات وكفى ابن طولون أمره، ولم يزل هذا الحصن على الجزيرة حتى أخذه النيل شيئا بعد شيء، وقد بقيت منه بقايا متقطعة إلى الآن، وقد اختصر القاضي القضاعيّ رحمه الله في ذكر سبب بناء ابن طولون حصن الجزيرة.
وقد ذكر جامع سيرة ابن طولون أن صاحب الزنج لما قدم البصرة في سنة أربع وخمسين ومائتين، واستعجل أمره، أنفذ إليه أمير المؤمنين المعتمد على الله تعالى، أبو العباس أحمد ابن أمير المؤمنين، المتوكل على الله جعفر بن المعتصم بن الرشيد رسولا، في حمل أخيه الموفق بالله أبي أحمد طلحة من مكة إليه، وكان الخليفة المهتدي بالله محمد بن الواثق بن المعتصم نفاه إليها، فلما وصل إليه جعل العهد بالخلافة من بعده لابنه المفوّض، وبعد المفوّض تكون الخلافة للموفق طلحة، وجعل غرب الممالك الإسلامية للمفوّض،(3/313)
وشرقها للموفق، وكتب بينهما بذلك كتابا ارتهن فيه أيمانهما بالوفاء بما قد وقعت عليه الشروط، وكان الموفق يحسد أخاه المعتمد على الخلافة ولا يراه أهلا لها، فلما جعل المعتمد الخلافة من بعده لابنه ثم للموفق بعده، شق ذلك عليه وزاد في حقده، وكان المعتمد متشاغلا بملاذّ نفسه من الصيد واللعب والتفرّد بجواريه، فضاعت الأمور وفسد تدبير الأحوال وفاز كلّ من كان متقلدا عملا بما تقلده، وكان في الشروط التي كتبها المعتمد بين المفوّض والموفق، أنه ما حدث في عمل كلّ واحد منهما من حدث كانت النفقة عليه من مال خراج قسمه، واستخلف على قسم ابنه المفوّض موسى بن بغا، فاستكتب موسى بن بغا عبيد الله بن سليمان بن وهب، وانفرد الموفق بقسمه من ممالك الشرق، وتقدّم إلى كلّ منهما أن لا ينظر في عمل الآخر، وخلد كتاب الشروط بالكعبة، وأفرد الموفق لمحاربة صاحب الزنج وأخرجه إليه وضم معه الجيوش، فلما كبر أمره وطالت محاربته أياه، وانقطعت موادّ خراج المشرق عن الموفق، وتقاعد الناس عن حمل المال الذي كان يحمل في كلّ عام، واحتجوا بأشياء، دعت الضرورة الموفق إلى أن كتب إلى أحمد بن طولون، وهو يومئذ أمير مصر، في حمل ما يستعين به في حروب صاحب الزنج، وكانت مصر في قسم المفوّض، لأنها من الممالك الغربية، إلّا أن الموفق شكا في كتابه إلى ابن طولون شدّة حاجته إلى المال بسبب ما هو بسبيله، وأنفذ مع الكتاب تحريرا خادم المتوكل ليقبض منه المال، فما هو إلّا أن ورد تحرير على ابن طولون بمصر، وإذا بكتاب المعتمد قد ورد عليه، يأمره فيه بحمل المال إليه على رسمه مع ما جرى الرسم بحمله مع المال في كلّ سنة، من الطراز والرقيق والخيل والشمع وغير ذلك، وكتب أيضا إلى أحمد بن طولون كتابا في السرّ، أنّ الموفق إنما أنفذ تحريرا إليك عينا ومستقصيا على أخبارك، وأنه قد كاتب بعض أصحابك فاحترس منه واحمل المال إلينا وعجل إنفاذه، وكان تحرير لما قدم إلى مصر أنزله أحمد بن طولون معه في داره بالميدان، ومنعه من الركوب ولم يمكنه من الخروج من الدار التي أنزله بها حتى سار من مصر، وتلطف في الكتب التي أجاب بها الموفق، ولم يزل بتحرير حتى أخذ جميع ما كان معه من الكتب التي وردت من العراق إلى مصر، وبعث معه إلى الموفق ألف ألف دينار ومائتي ألف دينار، وما جرى الرسم بحمله من مصر، وأخرج معه العدول وسار بنفسه صحبته حتى بلغ به العريش، وأرسل إلى ماخور متولي الشام، فقدم عليه بالعريش، وسلّمه إليه هو والمال وأشهد عليه بتسليم ذلك ورجع إلى مصر، ونظر في الكتب التي أخذها من تحرير، فإذا هي إلى جماعة من قوّاده باستمالتهم إلى الموفق، فقبض على أربابها وعاقبهم حتى هلكوا في عقوبته، فلما وصل جواب ابن طولون إلى الموفق ومعه المال، كتب إليه كتابا ثانيا يستقل فيه المال ويقول: إن الحساب يوجب أضعاف ما حملت، وبسط لسانه بالقول، والتمس فيمن معه من يخرج إلى مصر ويتقلدها عوضا عن ابن طولون فلم يجد أحدا عوضه، لما كان من كيس أحمد بن طولون وملاطفته وجوه الدولة.(3/314)
فلما ورد كتاب الموفق على ابن طولون قال: وأيّ حساب بيني وبينه، أو حال توجب مكاتبتي بهذا أو غيره، وكتب إليه بعد البسملة: وصل كتاب الأمير أيده الله تعالى وفهمته، وكان، أسعده الله، حقيقا بحسن التخير لمثلي وتصييره إياي عمدته التي يعتمد عليها، وسيفه الذي يصول به، وسنانه الذي يتقي الأعداء بحدّه، لأني دائب في ذلك وجعلته وكدي، واحتملت الكلف العظام والمؤن الثقال باستجذاب كل موصوف بشجاعة، واستدعاء كلّ منعوت بغنى وكفاية، بالتوسعة عليهم وتواصل الصلات، والمعاون لهم، صيانة لهذه الدولة وذبا عنها، وحسما لأطماع المتشوّفين لها والمنحرفين عنها، ومن كانت هذه سبيله في الموالاة، ومنهجه في المناصحة، فهو حريّ أن يعرف له حقه ويوفر من الإعظام قدره، ومن كلّ حال جليلة حظه ومنزلته، فعو ملت بضدّ ذلك من المطالبة بحمل ما أمر به والجفاء في المخاطبة بغير حال توجب ذلك، ثم أكلف على الطاعة جعلا، وألزم في المناصحة ثمنا، وعهدي بمن أستدعي ما استدعاه الأمير من طاعته، أن يستدعيه بالبذل والإعطاء والإرغاب والإرضاء والإكرام، لا أن يكلّف ويحمل من الطاعة مؤنة وثقلا، وإني لا أعرف السبب الذي يوجب الوحشة ويوقعها بيني وبين الأمير أيده الله تعالى، ولا ثم معاملة تقتضي معاملة أو تحدث منافرة، لأن العمل الذي أنا بسبيله لغيره، والمكاتبة في أموره إلى من سواه، ولا أنا من قبله، فإنه والأمير جعفر المفوّض أيده الله تعالى، قد اقتسما الأعمال وصار لكلّ واحد منهما قسم قد انفرد به دون صاحبه، وأخذت عليه البيعة فيه أنه من نقض عهده أو أخفر ذمّته ولم يف لصاحبه بما أكد على نفسه، فالأمّة بريئة منه ومن بيعته، وفي حلّ وسعة من خلفه، والذي عاملني به الأمير من محاولة صرفي مرّة وإسقاط رسمي أخرى، وما يأتيه ويسومنيه ناقض لشرطه مفسد لعهده، وقد التمس أوليائي وأكثروا الطلب في إسقاط اسمه وإزالة رسمه، فآثرت الإبقاء وإن لم يؤثره، واستعملت الأناة إذ لم تستعمل معي، ورأيت الاحتمال والكظم أشبه بذوي المعرفة والفهم، فصبرت نفسي على أحرّ من الجمر، وأمرّ من الصبر، وعلى ما لا يتسع به الصدر. والأمير أيده الله تعالى أولى من أعانني على ما أوثره من لزوم عهده، وأتوخاه من تأكيد عقده بحسن العشرة والإنصاف وكف الأذى والمضرّة، وأن لا يضطرّني إلى ما يعلم الله عزّ وجلّ كرهي له، أن أجعل ما قد أعددته لحياطة الدولة من الجيوش المتكاثفة والعساكر المتضاعفة التي قد ضرّست رجالها من الحروب وجرت عليهم محن الخطوب مصر وفا إلى نقضها، فعندنا وفي حيزنا من يرى أنه أحق بهذا الأمر وأولى من الأمير، ولو أمنوني على أنفسهم، فضلا عن أن يعثروا مني على ميل، أو قيام بنصرتهم، لاشتدّت شوكتهم ولصعب على السلطان معاركتهم، والأمير يعلم أن بإزائه منهم واحدا قد كبر عليه وفض كلّ جيش أنهضه إليه، على أنه لا ناصر له إلّا لفيف البصرة وأوباش عامّتها، فكيف من يجدر كنا منيعا وناصرا مطيعا، وما مثل الأمير في أصالة رأيه يصرف مائة ألف عنان عدّة له، فيجعلها عليه بغير ما سبب يوجب ذلك، فإن يكن من الأمير أعتاب أو رجوع(3/315)
إلى ما هو أشبه به وأولى، وإلّا رجوت من الله عز وجلّ كفاية أمره وحسم مادّة شرّه، وأجراءنا في الحياطة على أجمل عادته عندنا والسلام.
فلما وصل الكتاب إلى الموفق أقلقه وبلغ منه مبلغا عظيما، وأغاظه غيظا شديدا، وأحضر موسى بن بغا وكان عون الدولة وأشدّ أهلها بأسا وإقداما، فتقدّم إليه في صرف أحمد بن طولون عن مصر وتقليدها ماخور، فامتثل ذلك وكتب إلى ماخور كتاب التقليد وأنفذه إليه، فلما وصل إليه الكتاب توقف عن إرساله إلى أحمد بن طولون لعجزه عن مناهضته، وخرج موسى بن بغا عن الحضرة مقدّرا أنه يدور عمل المفوّض ليحمل الأموال منه، وكتب إلى ماخور أمير الشام، وإلى أحمد بن طولون أمير مصر، لما بلغه من توقف ما خور عن مناهضته يأمرهما بحمل الأموال، وعزم على قصد مصر والإيقاع بابن طولون واستخلاف ماخور عليها، فسار إلى الرقة وبلغ ذلك ابن طولون فأقلقه وغمه، لا لأنه يقصر عن موسى بن بغا، لكن لتحمله هتك الدولة، وأن يأتي سبيل من قاوم السلطان وحاربه وكسر جيوشه، إلّا أنه لم يجد بدّا من المحاربة ليدفع عن نفسه، وتأمّل مدينة فسطاط مصر فوجدها لا تؤخذ إلّا من جهة النيل، فأراد لكبر همته وكثرة فكره في عواقب الأمور، أن يبني حصنا على الجزيرة التي بين الفسطاط والجيزة ليكون معقلا لحرمه وذخائره. ثم يشتغل بعد ذلك بحرب من يأتي من البر، وقد زاد فذكره فيمن يقدم من النيل، فأمر ببناء الحصن على الجزيرة، واتخذ مائة مركب حربية سوى ما ينضاف إليها من العلابيات والحمائم والعشاريات والسنابيك وقوارب الخدمة، وعمد إلى سدّ وجه البحر الكبير، وأن يمنع ما يجيء إليه من مراكب طرسوس وغيرها من البحر الملح إلى النيل، بأن توقف هذه المراكب الحربية في وجه البحر الكبير، خوفا مما سيجيء من مراكب طرسوس، كما فعل محمد بن سليمان من بعده بأولاده، كأنه ينظر إلى الغيب من ستر رقيق، وجعل فيها من يذب عن هذه الجزيرة، وأنفذ إلى الصعيد وإلى أسفل الأرض بمنع من يحمل الغلال إلى البلاد، ليمنع من يأتي من البرّ الميرة، وأقام موسى بن بغا بالرقة عشرة أشهر، وقد اضطربت عليه الأتراك وطالبوه بأرزاقهم مطالبة شديدة، بحيث استتر منهم كاتبه عبيد الله بن سليمان لتعذر المال عليه، وخوفه على نفسه منهم، فخاف موسى بن بغا عند ذلك ودعته ضرورة الحال إلى الرجوع، فعاد إلى الحضرة ولم يقم بها سوى شهرين ومات من علة، في صفر سنة أربع وستين ومائتين، هذا وأحمد بن طولون يجدّ في بناء الحصن على الجزيرة، وقد ألزم قوّاده وثقاته أمر الحصن، وفرّقه عليهم قطعا، قام كلّ واحد بما لزمه من ذلك، وكدّ نفسه فيه، وكان يتعاهدهم بنفسه في كلّ يوم، وهو في غفلة عما صنعه الله تعالى له من الكفاية والغنى عما يعانيه، ومن كثرة ما بذل في هذا العمل، قدّر أنّ كلّ طوبة منه وقفت عليه بدرهم صحيح، ولما تواترت الأخبار بموت موسى بن بغا كف عن العمل، وتصدّق بمال كثير شكرا لله تعالى على ما منّ به عليه من صيانته عما يقبح فيه عنه إلّا حدوثة، وما رأى الناس(3/316)
شيئا كان أعظم من عظيم الجدّ في بناء هذا الحصن، ومباكرة الصناع له في الأسحار حتى فرغوا منه، فإنهم كان يخرجون إليه من منازلهم في كلّ بكرة من تلقاء أنفسهم من غير استحثاث، لكثرة ما سخا به من بذل المال، فلما انقطع البناء لم ير أحد من الصناع التي كانت فيه مع كثرتها، كأنما هي نار صبّ عليها ماء فطفئت لوقتها، ووهب للصناع مالا جزيلا وترك لهم جميع ما كان سلفا معهم، وبلغ مصروف هذا الحصن ثمانين ألف دينار ذهبا.
وكان مما حمل أحمد بن طولون على بناء الحصن، أن الموفق أراد أن يشغل قلبه، فسرقت نعله من بيت حظية لا يدخله إلّا ثقاته، وبعث الموفق إليه. فقال له الرسول: من قدر على أخذ هذه النعل من الموضع الذي تعرفه، أليس هو بقادر على أخذ روحك، فو الله أيها الأمير لقد قام عليه أخذ هذه النعل بخمسين ألف دينار، فعند ذلك أمر ببناء الحصن.
وقال أبو عمر الكنديّ في كتاب أمراء مصر: وتقدّم أبو أحمد الموفق إلى موسى بن بغا في صرف أحمد بن طولون عن مصر وتقليدها ماخور التركيّ، فكتب موسى بن بغا بذلك إلى ماخور وهو والي دمشق يومئذ، فتوقف لعجزه عن مقاومة أحمد بن طولون، فخرج موسى بن بغا فنزل الرقة، وبلغ ابن طولون أنه سائر إليه، ولم يجد بدّا من محاربته، فأخذ أحمد بن طولون في الحذر منه وابتدأ في ابتناء الحصن الذي بالجزيرة التي بين الجسرين، ورأى أن يجعله معقلا لماله وحرمه، وذلك في سنة ثلاث وستين ومائتين، واجتهد أحمد بن طولون في بناء المراكب الحربية، وأطافها بالجزيرة، وأظهر الامتناع من موسى بن بغا بكل ما قدر عليه، وأقام موسى بن بغا بالرقة عشرة أشهر، وأحمد بن طولون في إحكام أموره، واضطربت أصحاب موسى بن بغا عليه وضاق بهم منزلهم، وطالبوا موسى بالمسير أو الرجوع إلى العراق، فبينا هو كذلك توفي موسى بن بغا في سنة أربع وستين ومائتين. وقال محمد بن داود لأحمد بن طولون وفين تحامل:
لما ثوى ابن بغا بالرقتين ملا ... ساقيه زرقا إلى الكعبين والعقب
بنى الجزيرة حصنا يستجن به ... بالعسف والضرب والصناع في تعب
وراقب الجيزة القصوى فخندقها ... وكاد يصعق من خوف ومن رعب
له مراكب فوق النيل راكدة ... فما سوى القار للنظار والخشب
ترى عليها لباس الذل مذ بنيت ... بالشطّ ممنوعة من عزّة الطلب
فما بناها لغزو الروم محتسبا ... لكن بناها غداة الروع والعطب
وقال سعيد بن القاضي من أبيات:(3/317)
وإن جئت رأس الجسر فانظر تأمّلا ... إلى الحصن أو فاعبر إليه على الجسر
ترى أثرا لم يبق من يستطيعه ... من الناس في بدو البلاد ولا حضر
مآثر لا تبلى وإن باد أهلها ... ومجد يؤدّي وارثيه إلى الفخر
وما زال حصن الجزيرة هذا عامرا أيام بني طولون، وعملت فيه صناعة مصر التي تنشأ فيها المراكب الحربية، فاستمرّ صناعة إلى أن تقلد الأمير محمد بن طفج الإخشيد إمارة مصر من قبل أمير المؤمنين الراضي بالله، وسير مراكب من الشأم، عليها صاعد بن الكلكم، فدخل تنيس وسارت مقدّمته في البر، ودخل صاعد دمياط وسار فهزم جيش مصر الذي جهزه أحمد بن كيغلغ إليه، بتدبير محمد بن عليّ الماردانيّ على بحيرة نوسا، وأقبل في مراكبه إلى الفسطاط، فكان بالجزيرة، وقدم محمد بن طفج وتسلم البلد لست بقين من رمضان سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة وفرّ منه جماعة إلى الفيوم، فخرج إليهم صاعد بن الكلكم في مراكبه وواقعهم بالفيوم، فقتل في عدّة من أصحابه، وقدمت الجماعة في مراكب ابن كلكم فأرسوا بجزيرة الصناعة وحرّقوها، ثم مضوا إلى الإسكندرية وساروا إلى برقة فقال محمد بن طفج الصناعة هنا خطأ وأمر بعمل صناعة في برّ مصر.
وحكى ابن زولاق في سيرة محمد بن طفج أنه قال: اذكر أني كنت آكل مع أبي منصور تكين أمير مصر، وجرى ذكر الصناعة فقال تكين: صناعة يكون بيننا وبينها بحر خطأ، فأشارت الجماعة بنقلها فقال: إلى أيّ موضع؟ فأردت أن أشير عليه بدار خديجة بنت الفتح بن خاقان، ثم سكت وقلت أدع هذا الرأي لنفي إذا ملكت مصر، فبلغت ذلك والحمد لله وحده. ولما أخذ محمد بن طفج دار خديجة كان يتردّد إليها حتى عملت، فلما ابتدءوا بإنشاء المراكب فيها صاحت به امرأة فقال: خذوها، فساروا بها إلى داره، فأحضرها مسار واستخبرها عن أمرها فقالت: ابعث معي من يحمل المال، فأرسل معها جماعة إلى دار خديجة هذه، فدلتهم على مكان استخرجوا منه عينا وورقا وحليا وثيابا وعدّة ذخائر لم ير مثلها، وصاروا بها إلى محمد بن طفج، فطلب المرأة ليكافئها على ما كان منها فلم توجد، فكان هذا أوّل مال وصل إلى محمد بن طفج بمصر. قال: واستدعى محمد بن طفج الإخشيد صالح بن نافع وقال له: كان في نفسي إذا ملكت مصر أن أجعل صناعة العمارة في دار ابنة الفتح، وأجعل موضع الصناعة من الجزيرة بستانا أسميه المختار، فاركب وخط لي بستانا ودارا، وقدّر لي النفقة عليهما، فركب صالح بجماعة وخطوا بستانا فيه دار للغلمان ودار للنوبة وخزائن للكسوة وخزائن للطعام، وصوّروه وأتوا به فاستحسنه وقال: كم قدّرتم النفقة؟ قالوا ثلاثين ألف دينار. فاستكثرها، فلم يزالوا يضعون من التقدير حتى صار خمسة آلاف دينار، فأذن في عمله.(3/318)
ولما شرعوا فيه ألزمهم المال من عندهم، فقسّط على جماعة، وفرغ من بنائه، فاتخذه الإخشيد منتزها له وصار يفاخر به أهل العراق، وكان نقل الصناعة من الجزيرة إلى ساحل النيل بمصر في شعبان خمس وعشرين وثلاثمائة، فلم يزل البستان المختار منتزها إلى أن زالت الدولة الإخشيدية والكافورية، وقدمت الدولة الفاطمية من بلاد المغرب إلى مصر، فكان يتنزه فيه المعز لدين الله معدّ، وابنه العزيز بالله نزار، وصارت الجزيرة مدينة عامرة بالناس، لها وال وقاض، وكان يقال القاهرة ومصر والجزيرة، فلما كانت أيام استيلاء الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدرا الجمالي، وحجره على الخلفاء، أنشأ في بحريّ الجزيرة مكانا نزها سماه الروضة، وتردّد إليها تردّدا كثيرا، فكان يسير في العشاريات الموكبيات من دار الملك التي كانت سكنه بمصر، إلى الروضة. ومن حينئذ صارت الجزيرة كلها تعرف بالروضة، فلما قتل الأفضل بن أمير الجيوش، واستبدّ الخليفة الآمر بأحكام الله أبو عليّ منصور بن المستعلي بالله، أنشأ بجوار البستان المختار من جزيرة الروضة مكانا لمحبوبته العالية البدوية، سماه الهودج.
الهودج: قال ابن سعيد في كتاب المحلّى بالأشعار عن تاريخ القرطبيّ: قد أكثر الناس في حديث البدوية وابن مياح من بني عمها وما يتعلق بذلك من ذكر الخليفة الآمر بأحكام الله، حتى صارت رواياتهم في هذا الشأن كأحاديث البطال وألف ليلة وليلة وما أشبه ذلك، والاختصار منه أن يقال أنّ الخليفة الآمر كان قد ابتلى بعشق الجواري العربيات، وصارت له عيون في البوادي، فبلغه أن بالصعيد جارية من أكمل العرب وأظرف نسائهم، شاعرة جميلة، فيقال أنه تزيا بزيّ بداة الأعراب وصار يجول في الأحياء إلى أن انتهى إلى حيها، وبات هناك في ضائفة، وتحيل حتى عاينها، فما ملك صبره، ورجع إلى مقرّ ملكه وسرير خلافته، فأرسل إلى أهلها يخطبها فأجابوه إلى ذلك وزوّجوها منه، فلما صارت إلى القصور صعب عليها مفارقة ما اعتادت، وأحبت أن تسرّج طرفها في الفضاء ولا تقبض نفسها تحت حيطان المدينة، فبنى لها البناء المشهور في جزيرة الفسطاط المعروف بالهودج، وكان على شاطيء النيل في شكل غريب، وكان بالإسكندرية القاضي مكين الدولة أبو طالب أحمد بن عبد المجيد بن أحمد بن الحسن بن حديد، قد استولى على أمورها وصار قاضيها وناظرها، ولم يبق لأحد معه فيها كلام، وضمن أموالها بحملة يحملها، وكان ذا مروءة عظيمة يحتذي أفعال البرامكة، وللشعراء فيه مدائح كثيرة، وممن مدحه ظافر الحدّاد، وأمية بن أبي الصلت، وجماعة، وكان الأفضل بن أمير الجيوش إذا أراد الاعتناء بأحد كتب معه كتابا إلى ابن حديد هذا، فيغنيه بكثرة عطائه، وكان له بستان يتفرّج فيه، به جرن كبير من رخام قطعة واحدة، ينحدر فيه الماء فيبقى كالبركة من سعته، وكان يجد في نفسه برؤية هذا الجرن زيادة على أهل النعم، ويباهي به أهل عصره، فوشي به للبدوية محبوبة الخليفة، فطلبته من الخليفة، فأنفذ في الحال بإحضاره، فلم يسع ابن حديد إلّا أن قلعه من مكانه(3/319)
وبعث به وفي نفسه حزازة من أخذه منه، وخدم البدوية وخدم جميع من يلوذ بها، حتى قالت: هذا الرجل أخجلنا بكثرة هداياه وتحفه، ولم يكلفنا قط أمرا نقدر عليه عند الخليفة مولانا، فلما بلغه ذلك عنها قال: ما لي حاجة بعد الدعاء لله تعالى بحفظ مكانها وطول حياتها، غير ردّ الجرن الذي أخذ من داري التي بنيتها في أيامهم من نعمهم إلى مكانه، فلما سمعت هذا عنه تعجبت منه وأمرت بردّ الجرن إليه، فقيل له قد وصلت إلى حدّ أن خيرتك البدوية في جميع المطالب، فنزلت همتك إلى قطعة حجر. فقال: أنا أعرف بنفسي، ما كان لها أمل سوى أن لا تغلب في أخذ ذلك الجرن من مكانه، وقد بلغها الله أملها، وبقيت البدوية متعلقة الخاطر بابن عمّ لها ربيت معه يعرف بابن ميّاح، فكتبت إليه وهي بقصر الخليفة الآمر:
يا ابن ميّاح إليك المشتكى ... مالك من بعدكم قد ملك
كنت في حيى مرأ مطلقا ... نائلا ما شئت منكم مدركا
فأنا الآن بقصر مؤصد ... لا أرى إلّا حبيسا ممسكا
كم تثنينا بأغصان اللوا ... حيث لا نخشى علينا دركا
وتلاعبنا بر ملات الحمى ... حيثما شاء طليق سلكا
فأجابها:
بنت عمي والتي غذيتها ... بالهوى حتّى علا واحتنكا
بحت بالشكوى وعندي ضعفها ... لو غدا ينفع منها المشتكى
ما لك الأمر إليه يشتكى ... هالك وهو الذي قد هلكا
شأن داود غدا في عصرنا ... مبديا بالتيه ما قد ملكا
فبلغت الآمر فقال: لولا أنه أساء الأدب في البيت الرابع لرددتها إلى حيه وزوّجتها به.
قال القرطبيّ وللناس في طلب ابن ميّاح واختفائه أخبار تطور، وكان من عرب طيء في عصر الخليفة الآمر طراد بن مهلهل، فلما بلغه قضية الآمر مع العالية البدوية قال:
ألا أبلغوا الآمر المصطفى ... مقال طراد ونعم المقال
قطعت الأليفين عن إلفة ... بها سمر الحيّ بين الرجال
كذا كان آباؤك الأقدمون ... سألت فقل لي جواب السؤال
فلما بلغ الآمر شعره قال: جواب السؤال قطع لسانه على فضوله، وأمر بطلبه في أحياء العرب ففرّ ولم يقدر علي، فقالت العرب: ما أخسر صفقة طراد، باع أبيات الحيّ بثلاثة أبيات، ولم يزل الآمر يتردّد إلى الهودج بالروضة للنزهة فيه، إلى أن ركب من القصر بالقاهرة يريد الهودج في يوم الثلاثاء رابع ذي القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة، فلما(3/320)
كان برأس الجسر وثب عليه قوم من النزارية قد كمنوا له في فرن تجاه رأس الجسر بالروضة، وضربوه بالسكاكين حتى أثخنوه وجرحوا جماعة من خدّامه، فحمل إلى منظرة اللؤلؤة بشاطئ الخليج وقد مات.
ذكر قلعة الروضة
اعلم أنه ما برحت جزيرة الروضة منتزها ملوكيا ومسكنا للناس كما تقدّم ذكره، إلى أن ولي الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب سلطنة مصر، فأنشأ القلعة بالروضة، فعرفت بقلعة المقياس، وبقلعة الروضة، وبقلعة الجزيرة، وبالقلعة الصالحية، وشرع في حفر أساسها يوم الأربعاء خامس شعبان، وابتدأ بنيانها في آخر الساعة الثالثة من يوم الجمعة سادس عشرة، وفي عاشر ذي القعدة وقع الهدم في الدور والقصور والمساجد التي كانت بجزيرة الروضة، وتحوّل الناس من مساكنهم التي كانوا بها، وهدم كنيسة كانت لليعاقبة بجانب المقياس وأدخلها في القلعة، وأنفق في عمارتها أموالا جمة، وبنى فيها الدور والقصور، وعمل لها ستين برجا، وبنى بها جامعا، وغرس بها جميع الأشجار، ونقل إليها عمد الصوّان من البرابي وعمد الرخام، وشحنها بالأسلحة وآلات الحرب، وما يحتاج إليه من الغلال والأزواد والأقوات، خشية من محاصرة الفرنج، فإنهم كانوا حينئذ على عزم قصد بلاد مصر، وبالغ في إتقانها مبالغة عظيمة، حتى قيل أنه استقام كل حجر فيها بدينار، وكل طوبة بدرهم، وكان الملك الصالح يقف بنفسه ويرتب ما يعمل، فصارت تدهش من كثرة زخرفتها، وتحير الناظر إليها من حسن سقوفها المزينة، وبديع رخامها.
ويقال أنه قطع من الموضع الذي أنشأ فيه هذه القلعة ألف نخلة مثمرة، كان رطبها يهدي إلى ملوك مصر لحسن منظره وطيب طعمه، وخرّب الهودج والبستان المختار وهدّم ثلاثة وثلاثين مسجدا عمرها خلفاء مصر وسراة المصريين لذكر الله تعالى وإقامة الصلوات، واتفق له في عدم بعض هذه المسجد خبر غريب، قال الحافظ جمال الدين يوسف بن أحمد بن محمود بن أحمد الأسدي، الشهير باليغموري: سمعت الأمير الكبير الجواد جمال الدين أبا الفتح موسى بن الأمير شرف الدين يغمور بن جلدك بن عبد الله قال: ومن عجيب ما شاهدته من الملك الصالح أبي الفتوح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل رحمه الله تعالى أنه أمرني أن أهدم مسجدا كان في جوار داره بجزيرة مصر، فأخرت ذلك وكرهت أن يكون هدمه على يديّ، فأعاد الأمر وأنا أكاسر عنه، وكأنه فهم مني ذلك، فاستدعى بعض خدمه من نوّابي وأنا غائب وأمره أن يهدم ذلك المسجد، وأنيبني في مكانه قاعة، وقدّر له صفتها، فهدم ذلك المسجد وعمر تلك القاعة مكانه، وكملت، وقدمت الفرنج إلى الديار المصرية، وخرج الملك الصالح مع عساكره إليهم، ولم يدخل تلك القاعة التي بنيت في(3/321)
المكان الذي كان مسجدا، فتوفي السلطان في المنصورة، وجعل في مركب وأتى به إلى الجزيرة، فجعل في تلك القاعة التي بنيت مكان المسجد مدّة إلى أن بنيت له التربة التي في جنب مدارسه بالقاهرة في جانب القصر، عفا الله عنه، وكان النيل عند ما عزم الملك الصالح على عمارة قلعة الروضة من الجانب الغربيّ، فيما بين الروضة وبرّ الجيزة، وقد انطرد عن برّ مصر ولا يحيط بالروضة إلا في أيام الزيادة، فلم يزل يغرّق السفن في البرّ الغربيّ، ويحفر فيما بين الروضة ومصر ما كان هناك من الرمال، حتى عاد ماء النيل إلى برّ مصر، واستمرّ هناك فأنشأ جسرا عظيما ممتدّا من برّ مصر إلى الروضة، وجعل عرضه ثلاث قصبات، وكان الأمراء إذا ركبوا من منازلهم يريدون الخدمة السلطانية بقلعة الروضة، وجعل عرضه ثلاث قصبات، وكان الأمراء إذا ركبوا من منازلهم يريدون الخدمة السلطانية بقلعة الروضة يترجلون عن خيولهم عند البرّ، ويمشون في طول هذا الجسر إلى القلعة، ولا يمكن أحد من العبور عليه راكبا سوى السلطان فقط، ولما كملت تحوّل إليها بأهله وحرمه، واتخذها دار ملك، وأسكن فيها معه مماليكه البحرية، وكانت عدّتهم نحو الألف مملوك.
قال العلامة عليّ بن سعيد في كتاب المغرب: وقد ذكر الروضة، هي أمام الفسطاط، فيما بينها وبين مناظر الجيزة، وبها مقياس النيل، وكانت منتزها لأهل مصر، فاختارها الصالح بن الكامل سرير السلطنة وبنى بها قلعة مسوّرة بسور ساطع اللون محكم البناء عالي السمك، لم ترعيني أحسن منه، وفي هذه الجزيرة كان الهودج الذي بناه الآمر خليفة مصر لزوجته البدوية التي هام في حبها، والمختار بستان الإخشيد. وقصره، وله ذكر في شعر تميم بن المعز وغيره، ولشعراء مصر في هذه الجزيرة أشعار منها قول أبي الفتح بن قادوس الدمياطيّ:
أرى سرح الجزيرة من بعيد ... كأحداق تغازل في المغازل
كانّ مجرّة الجوز أحاطت ... وأثبتت المنازل في المنازل
وكنت أشق في بعض الليالي بالفسطاط على ساحلها فيزدهيني ضحك البدر في وجه النيل أمام سور هذه الجزيرة الدريّ اللون، ولم انفصل عن مصر حتى كمل سور هذه القلعة، وفي داخله من الدور السلطانية ما ارتفعت إليه همة بانيها، وهو من أعظم السلاطين همة في البناء، وأبصرت في هذه الجزيرة إيوانا لجلوسه لم ترعيني مثاله، ولا أقدّر ما أنفق عليه، وفيه من صفائح الذهب والرخام الأبنوسيّ والكافوريّ والمجزع ما يذهل الأفكار ويستوقف الأبصار ويفضل عما أحاط به السور، أرض طويلة، وفي بعضها حاظر حظر به على أصناف الوحوش التي يتفرّج عليها السلطان، وبعدها مروج ينقطع فيها مياه النيل فينظر بها أحسن منظر، وقد تفرّجت كثيرا في طرف هذه الجزيرة مما يلي برّ القاهرة، فقطعت فيه عشيات مذهبات لم تزل لأحزان الغربة مذهبات، وإذا زاد النيل فصل ما بينها وبين الفسطاط(3/322)
بالكلية، وفي أيام احتراق النيل يتصل برّها ببرّ الفسطاط من جهة خليج القاهرة، ويبقى موضع الجسر فيه مراكب، وركبت مرّة هذا النيل أيام الزيادة مع الصاحب المحسن محيي الدين بن ندا وزير الجزيرة، وصعدنا إلى جهة الصعيد، ثم انحدرنا واستقبلنا هذه الجزيرة، وأبراجها تتلالأ والنيل قد انقسم عنها فقلت:
تأمّل لحسن الصالحية إذ بدت ... وأبراجها مثل النجوم تلالا
وللقلعة الغرّاء كالبدر طالعا ... تفرّج صدر الماء عنه هلالا
ووافى إليها النيل من بعد غاية ... كما زار مشغوف يروم وصالا
وعانقها من فرط شوق لحسنها ... فمدّ يمينا نحوها وشمالا
جرى قادما بالسعد فاختط حولها ... من السعد أعلاما فزاد دلالا
ولم تزل هذه القلعة عامرة حتى زالت دولة بني أيوب، فلما ملك السلطان الملك المعز عز الدين أيبك التركماني أوّل ملوك الترك بمصر أمر بهدمها، وعمر منها مدرسته المعروفة بالمعزية في رحبة الحناء بمدينة مصر، وطمع في القلعة من له جاه، فأخذ جماعة منها عدّة سقوف وشبابيك كثيرة وغير ذلك، وبيع من أخشابها ورخامها أشياء جليلة، فلما صارت مملكة مصر إلى السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري، اهتم بعمارة قلعة الروضة، ورسم للأمير جمال الدين موسى بن يغمور أن يتولى إعادتها كما كانت، فأصلح بعض ما تهدّم فيها، ورتب فيها الجاندارية، وأعادها إلى ما كانت عليه من الحرمة، وأمر بأبراجها ففرّقت على الأمراء، وأعطى برج الزاوية للأمير سيف الدين قلاون الألفيّ، والبرج يليه للأمير عز الدين الحليّ، والبرج الثالث من بروج الزاوية للأمير عز الدين أرغان، وأعطى برج الزاوية الغربيّ للأمير بدر الدين الشمسي، وفرّقت بقية الأبراج على سائر الأمراء، ورسم أن تكن بيتوتات جميع الأمراء واصطبلاتهم فيها، وسلم المفاتيح لهم.
فلما تسلطن الملك المنصور قلاون الألفيّ وشرع في بناء المارستان والقبلة والمدرسة المنصورية، نقل من قلعة الروضة هذه ما يحتاج إليه من عمد الصوّان وعمد الرخام التي كانت قبل عمارة القلعة في البرابي، وأخذ منها رخاما كثيرا وأعتابا جليلة مما كان في البرابي وغير ذلك، ثم أخذ منها السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون ما احتاج إليه من عمد الصوّان في بناء الإيوان المعروف بدار العدل من قلعة الجبل، والجامع الجديد الناصري ظاهر مدينة مصر، وأخذ غير ذلك حتى ذهبت كأن لم تكن، وتأخر منها عقد جليل تسميه العامّة القوس، كان مما يلي جانبها الغربيّ، أدركناه باقيا إلى نحو سنة عشرين وثنمانمائة، وبقي من أبراجها عدّة قد انقلب أكثرها، وبنى الناس فوقها دورهم المطلة على النيل.
قال ابن المتوّج: ثم اشترى الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب جزيرة مصر المعروفة اليوم بالروضة في شعبان سنة ست وستين وخمسمائة، وإنما سميت بالروضة(3/323)
لأنه لم يكن بالديار المصرية مثلها، وبحر النيل حائز لها ودائر عليها، وكانت حصينة، وفيها من البساتير والعمائر والثمار ما لم يكن في غيرها، ولما فتح عمرو بن العاص مصر تحصن الروم بها مدّة، فلما طال حصارها وهرب الروم منها خرّب عمرو بن العاص بعض أبراجها وأسوارها، وكانت مستديرة عليها، واستمرّت إلى أن عمر حصنها أحمد بن طولون في سنة ثلاث وستين ومائتين، ولم يزل هذا الحصن حتى خرّبه النيل، ثم اشتراها الملك المظفر تقيّ الدين عمر المذكور وبقيت على ملكه إلى أن سيّر السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ولده الملك العزيز عثمان إلى مصر ومعه عمه الملك العادل، وكتب إلى الملك المظفر بأن يسلم لهما البلاد ويقدم عليه إلى الشأم، فلما ورد عليه الكتاب ووصل ابن عمه الملك العزيز وعمه الملك العادل شق عليه خروجه من الديار المصرية، وتحقق أنه لا عود له إليها أبدا، فوقف هذه المدرسة التي تعرف اليوم في مصر بالمدرسة التقوية، التي كانت تعرف بمنازل العزو، وقف عليها الجزيرة بكمالها، وسافر إلى عمه فملكه حماه، ولم يزل الحال كذلك إلى أن ولى الملك الصالح نجم الدين أيوب، فاستأجر الجزيرة من القاضي فخر الدين أبي محمد، عبد العزيز بن قاضي القضاة عماد الدين أبي القاسم عبد الرحمن بن محمد بن عبد العليّ بن عبد القادر السكريّ مدرّس المدرسة المذكورة لمدّة ستين سنة في دفعتين، كل دفعة قطعة، فالقطعة الأولى من جامع غين إلى المناظر طولا وعرضا، من البحر إلى البحر واستأجر القطعة الثانية وهي باقي أرض الجزيرة بما فيها من النخل والجميز والغروس، فإنه لما عمر الملك الصالح مناظر قلعة الجزيرة قطعت النخيل ودخلت في العمائر، وأمّا الجميز، فإنه كان بشاطئ بحر النيل صف جميز يزيد على أربعين شجرة، وكان أهل مصر فرجهم تحتها في زمن النيل والربيع، قطعت جميعها في الدولة الظاهرية، وعمر بها شواني عوض الشواني التي كان قد سيرها إلى جزيرة قبرس، ثم سلم المدرّس التقوية القطعة المستأجرة من الجزيرة أوّلا في سنة ثمان وتسعين وستمائة، وبقي بيد السلطان القطعة الثانية، وقد خربت قلعة الروضة ولم يبق منها سوى أبراج قد بنى الناس عليها، وبقي أيضا عقد باب من جهة الغرب يقال له باب الإصطبل، وعادت الروضة بعد هدم القلعة منها منتزها يشتمل على دور كثيرة وبساتين عدّة وجوامع تقام بها الجماعات والأعياد ومساجد، وقد خرب أكثر مساكن الروضة، وبقي فيها إلى اليوم بقايا. وبطرف الروضة المقياس الذي يقاس فيه ماء النيل اليوم، ويقال له المقياس الهاشميّ، وهو آخر مقياس بني بديار مصر.
قال أبو عمر الكنديّ: وورد كتاب المتوكل على الله بابتناء المقياس الهاشميّ للنيل، وبعزل النصارى عن قياسه، فجعل يزيد بن عبد الله بن دينار أمير مصر، أبا الردّاد المعلم، وأجرى عليه سليمان بن وهب صاحب الخراج في كل شهر سبعة دنانير، وذلك في سنة سبع وأربعين ومائتين، وعلامة وفاء النيل ستة عشر ذراعا، أن يسبل أبو الردّاد قاضي البحر الستر الأسود الخليفيّ على شباك المقياس، فإذا شاهد الناس هذا الستر قد أسبل تباشروا بالوفاء(3/324)
واجتمعوا على العادة للفرجة من كل صوب، وما أحسن قول شهاب الدين بن العطار في تهتك الناس يوم تخليق المقياس:
تهتك الخلق بالتخليق قلت لهم ... ما أحسن الستر قالوا العفو مأمول
ستر الإله علينا لا يزال فما ... أحلى تهتكنا والستر مسبول
جزيرة الصابوني: هذه الجزيرة تجاه رباط الآثار، والرباط من جملتها، وقفها أبو الملوك نجم الدين أيوب بن شادي وقطعة من بركة الحبش، فجعل نصف ذلك على الشيخ الصابوني وأولاده، والنصف الآخر على صوفية بمكان بجوار قبة الإمام الشافعيّ رضي الله تعالى عنه، يعرف اليوم بالصابوني.
جزيرة الفيل: هذه الجزيرة هي الآن بلد كبير خارج باب البحر من القاهرة، وتتصل بمنية الشيرج من بحريها، ويمرّ النيل من غربيها، وبها جامع تقام به الجمعة، وسوق كبير وعدّة بساتين جليلة، وموضعها كله مما كان غامرا بالماء في الدولة الفاطمية. فلما كان بعد ذلك انكسر مركب كبير كان يعرف بالفيل، وترك في مكانه فربا عليه الرمل، وانطرد عنه الماء، فصارت جزيرة فيما بين المنية وأرض الطبالة سماها الناس جزيرة الفيل، وصار الماء يمرّ من جوانبها، فغربيها تجاه برّ مصر الغربيّ، وشرقيها تجاه البعل، والماء في بينها وبين البعل الذي هو الآن قبالة قناطر الأوز، فإنّ الماء كان يمرّ بالمقس من تحت زريبة جامع المقس الموجود الآن على الخليج الناصريّ، ومن جامع المقس على أرض الطبالة إلى غربيّ المصلى، حتى ينتهي من تجاه التاج إلى المنية، وصارت هذه الجزيرة في وسط النيل، وما برحت تتسع إلى أن زرعت في أيام الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، فوقفها على المدرسة التي أنشأها بالقرافة بجوار قبر الشافعيّ رضي الله عنه، وكثرت أطيانها بانحسار النيل عنها في كل سنة.
فلما كان في أيام الملك المنصور قلاون الألفي تقرّب مجد الدين أبو الروح عيسى بن عمر بن خالد بن عبد المحسن بن الخشاب المتحدّث في الأحباس، إلى الأمير علم الدين سنجر الشجاعيّ، بأنّ في أطياب هذه الجزيرة زيادة على ما وقفه السلطان صلاح الدين، فأمر بقياس ما تجدّد بها من الرمال وجعلها لجهة الوقف الصلاحيّ، وأقطع الأطياب القديمة التي كانت في الوقف وجعلها هي التي زادت، فلما أمر الملك المنصور قلاون بعمل المارستان المنصوري وقف بقية الجزيرة عليه، فغرس الناس بها الغروس وصارت بساتين وسكن الناس من المزارعين هناك، فلما كانت أيام الملك الناصر محمد بن قلاون بعد عوده إلى قلعة الجبل من الكركل، وانحسر النيل عن جانب المقس الغربيّ وصار ما هنالك رمالا متصلة من بحريها بجزيرة الفيل المذكورة، ومن قبليها بأراضي اللوق، افتتح الناس باب العمارة بالقاهرة ومصر فعمروا في تلك الرمال المواضع التي تعرف اليوم ببولاق خارج(3/325)
المقس، وأنشأوا بجزيرة الفيل البساتين والقصور، واستجدّا ابن المغربيّ الطبيب بستانا اشتراه منه القاضي كريم الدين ناظر الخاص للأمير سيف الدين طشتمر الساقي، بنحو المائة ألف درهم فضة، عنها زهاء خمسة آلاف مثقال ذهبا، وتتابع الناس في إنشاء البساتين حتى لم يبق بها مكان بغير عمارة وحكر، ما كان منها وقفا على المدرسة المجاورة للشافعيّ رضي الله عنه، وما كان فيها من وقف المارستان، وغرس ذلك كله بساتين، فصارت تنيف على مائة وخمسين بستانا إلى سنة وفاة الملك الناصر محمد بن قلاون، ونصب فيها سوق كبير يباع فيه أكثر ما يطلب من المآكل، وابتنى الناس بها عدّة دور وجامعا فبقيت قرية كبيرة وما زالت في زيادة ونموّ، فأنشأ قاضي القضاة جلال الدين القزويني رحمه الله الدار المجاورة لبستان الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب على النيل، فجاءت في غاية من الحسن، فلما عزل عن قضاء القضاة وسار إلى دمشق اشتراها الأمير بشتاك بثلاثين ألف درهم، وخربها وأخذ منها رخاما وشبابيك وأبوابا، ثم باع باقي نقضها بمائة ألف درهم، فربح الباعة في ذلك شيئا كثيرا، ونودي على زر بيتها فحكرت وعمر عليها الناس عدّة أملاك، واتصلت العمارة بالأملاك من هذه الزريبة إلى منية الشيرج، ثم خربت شيئا بعد شيء، وبقي ما على هذه الزريبة من الأملاك، وهي تعرف اليوم بدار الطنبديّ التاجر. وأما بساتين الجزيرة فلم تزل عجبا من عجائب الدنيا من حسن المنظر وكثرة المتحصل، إلى أن حدثت المحن من سنة ست وثمانمائة، فتلاشت وخرب كثير منها لغلوّ العلوفات من الفول والتبن وشدّة ظلم الدولة وتعطل معظم سوقها، وفيها إلى الآن بقية صالحة.
جزيرة أروى: هذه الجزيرة تعرف بالجزيرة الوسطى، لأنها فيما بين الروضة وبولاق، وفيما بين برّ القاهرة وبرّ الجيزة، لم ينحسر عنها الماء إلا بعد سنة سبعمائة، وأخبرني القاضي الرئيس تاج الدين أبو الفداء إسماعيل بن أحمد بن عبد الوهاب بن الخطباء المخزوميّ، عن الطبيب الفاضل شمس الدين محمد بن الأكفاني، أنه كان يمرّ بهذه الجزيرة أوّل ما انكشفت، ويقول هذه الجزيرة تصير مدينة، أو قال تصير بلدة، على الشك مني، فاتفق ذلك وبنى الناس فيها الدور الجليلة، والأسواق والجامع والطاحون والفرن، وغرسوا فيها البساتين وحفروا الآبار، وصارت من أحسن منتزهات مصر، يحف بها الماء، ثم صار ينكشف ما بينها وبين برّ القاهرة، فإذا كانت أيام زيادة ماء النيل أحاط الماء بها، وفي بعض السنين يركبها الماء فتمرّ المراكب بين دورها وفي أزقتها. ثم لما كثر الرمل فيما بينها وبين البرّ الشرقيّ، حيث كان خط الزريبة. وفم الخور، قلّ الماء هناك وتلاشت مساكن هذه الجزيرة، منذ كانت الحوادث في سنة ست وثمانمائة، وفيها إلى اليوم بقايا حسنة.
الجزيرة التي عرفت بحليمة: هذه الجزيرة خرجت في ستة سبع وأربعين وسبعمائة، ما بين بولاق والجزيرة الوسطى، سمتها العامّة بحليمة، ونصبوا فيها عدّة أخصاص، بلغ مصروف الخص الواحد منها ثلاثة آلاف درهم نقرة، في ثمن رخام ودهان، فكان فيها من(3/326)
هذه الأخصاص عدّة وافرة، وزرع حول كل خص من المقائي وغيرها ما يستحسن، وأقام أهل الخلاعة والمجون هناك، وتهتكوا بأنواع المحرّمات، وتردّد إلى هذه الجزيرة أكثر الناس حتى كادت القاهرة أن لا يثبت بها أحد، وبلغ أجرة كل قصبة بالقياس في هذه الجزيرة، وفي الجزيرة التي عرفت بالطمية فيما بين مصر والجيزة، مبلغ عشرين درهما نقرة، فوقف الفدّان هناك بمبلغ ثمانية آلاف درهم نقرة، ونصبت في هذه الأفدنة الأخصاص المذكورة، وكان الانتفاع بها فيما ذكر نحو ستة أشهر من السنة، فعلى ذلك يكون الفدّان فيها بمبلغ ستة عشر ألف درهم نقرة، وأتلف الناس هناك من الأموال ما يجل وصفه، فلما كثر تجاهرهم بالقبيح، قام الأمير أرغون العلائيّ مع الملك الكامل شعبان بن محمد بن قلاون في هدم هذه الأخصاص التي بهذه الجزيرة قياما زائدا، حتى أذن له في ذلك، فأمر والي مصر والقاهرة فنزلا على حين غفلة، وكبسا الناس وأراقا الخمور وحرّقا الأخصاص، فتلف للناس في النهب والحريق، وغير ذلك شيء كثير إلى الغاية والنهاية. وفي هذه الجزيرة يقول الأديب إبراهيم المعمار:
جزيرة البحر جنّت ... بها عقول سليمة
لما حوت حسن مغنى ... ببسطة مستقيمة
وكم يخوضون فيها ... وكم مشوا بنميمة
ولم تزل ذا احتمال ... ما تلك إلّا حليمة
ذكر السجون
قال ابن سيده: السجن، الحبس، والسجان صاحب السجن، ورجل سجين مسجون.
قال: وحبسه يحبسه حبسا فهو محبوس وحبيس، واحتبسه وحبسه أمسكه عن وجهه. وقال سيبويه: حبسه، ضبطه، واحتبسه، اتخذه حبسا، والمحبس والمحبسة والمحتبس، اسم الموضع. وقال بعضهم: المحبس يكون مصدرا كالحبس، ونظيره إلى الله مرجعكم، أي رجوعكم. ويسألونك عن المحيض أي الحيض. وروى الإمام أحمد وأبو داود من حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جدّه رضي الله عنهم قال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة يوما وليلة» فالحبس الشرعيّ ليس هو السجن في مكان ضيق، وإنما هو تعويض الشخص ومنعه من التصرّف بنفسه، سواء كان في بيت أو مسجد، أو كان يتولى نفس الخصم أو وكيله عليه، وملازمته له، ولهذا سماه النبيّ صلى الله عليه وسلم أسيرا، كما روى أبو داود وابن ماجه عن الهرماس بن حبيب عن أبيه رضي الله عنهما. قال: «أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم بغريم لي فقال لي:
الزمه، ثم قال لي يا أخا بني تميم ما تريد أن تفعل بأسيرك» وفي رواية ابن ماجه ثمّ مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بي آخر النهار فقال: «ما فعل أسيرك يا أخا بني تميم» وهذا كان هو الحبس على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، ولم يكن له محبس معدّ لحبس(3/327)
الخصوم، ولكن لما انتشرت الرعية في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ابتاع من صفوان بن أمية رضي الله عنه دارا بمكة بأربعة آلاف درهم، وجعلها سجنا يحبس فيها.
ولهذا تنازع العلماء، هل يتخذ الإمام حبسا على قولين؟ فمن قال لا يتخذ حبسا، احتج بأنه لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لخليفته من بعده حبس، ولكن يعوقه بمكان من الأمكنة، أو يقيم عليه حافظا، وهو الذي يسمى الترسيم، أو يأمر غريمه بملازمته. ومن قال له أن يتخذ حبسا، احتج بفعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومضت السنة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، رضي الله عنهم، أنه لا يحبس على الديون، ولكن يتلازم الخصمان.
وأوّل من حبس على الدين، شريح القاضي، وأمّا الحبس الذي هو الآن، فإنه لا يجوز عند أحد من المسلمين، وذلك أنه يجمع الجمع الكثير في موضع يضيق عنهم، غير متمكنين من الوضوء والصلاة، وقد يرى بعضهم عورة بعض، ويؤذيهم الحرّ في الصيف، والبرد في الشتاء، وربما يحبس أحدهم السنة وأكثر ولا جدة له، وأنّ أصل حبسه على ضمان، وأمّا سجون الولاة فلا يوصف ما يحلّ بأهلها من البلاء، واشتهر أمرهم أنهم يخرجون مع الأعوان في الحديد حتى يشحذوا وهم يصرخون في الطرقات الجوع، فما تصدّق به عليهم لا ينالهم منه إلّا ما يدخل بطونهم، وجميع ما يجتمع لهم من صدقات الناس يأخذه السجان وأعوان الوالي، ومن لم يرضهم بالغوا في عقوبته، وهم مع ذلك يستعملون في الحفر وفي العمائر ونحو ذلك من الأعمال الشاقة، والأعوان تستحثهم، فإذا انقضى عملهم ردّوا إلى السجن في حديدهم من غير أن يطعموا شيئا. إلى غير ذلك مما لا يسع حكايته هنا. وقد قيل أن أوّل من وضع السجن والحرس معاوية. وقد كان في مدينة مصر وفي القاهرة عدّة سجون، وهي حبس المعونة بمصر، وحبس الصيار بمصر، وخزانة البنود بالقاهرة، وحبس المعونة بالقاهرة، وخزانة شمائل، وحبس الديلم، وحبس الرحبة، والجب بقلعة الجبل.
حبس المعونة بمصر: ويقال أيضا: دار المعونة، كانت أوّلا تعرف بالشرطة، وكانت قبليّ جامع عمرو بن العاص، وأصله خطّه قيس بن سعد بن عبادة الأنصاريّ رضي الله عنهم، اختطها في أول الإسلام، وقد كان موضعها فضاء. وأوصى فقال: إن كنت بنيت بمصر دارا واستعنت فيها بمعونة المسلمين فهي للمسلمين، ينزلها ولاتهم. وقيل بل كانت هي ودار إلى جانبها لنافع بن عبد قيس الفهريّ، وأخذها منه قيس بن سعد وعوّضه دارا بزقاق القناديل. ثم عرفت بدار الفلفل لأنّ أسامة بن زيد التنوخيّ صاحب خراج مصر، ابتاع من موسى بن وردان فلفلا بعشرين ألف دينار، كان كتب فيه الوليد بن عبد الملك ليهديه إلى صاحب الروم، فخزّنه فيها، فشكا ذلك إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه حين تولى الخلافة، فكتب أن تدفع إليه. ثم صارت شرطة ودار الصرف، فلما فرغ عيسى بن يزيد الجلوديّ من زيادة عبد الله بن طاهر في الجامع بنى شرطة في سنة ثلاث عشرة ومائتين، في(3/328)
خلافة المأمون، ونقش في لوح كبير نصبه على باب الجامع الذي يدخل منه إلى الشرطة ما نصه: بركة من الله لعبده عبد الله الإمام المأمون أمير المؤمنين، أمر بإقامة هذه الدار الهاشمية المباركة على يد عيسى بن يزيد الجلوديّ، مولى أمير المؤمنين، سنة ثلاث عشرة ومائتين، ولم يزل هذا اللوح على باب الشرطة إلى صفر سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، فقلعه يانس العزيزي وصارت حبسا يعرف بالمعونة، إلى أن ملك السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب فجعله مدرسة، وهي التي تعرف اليوم بالشريفية.
حبس الصيّار: هذا الحبس كان بمصر يحبس فيه الولاة بعد ما عمل حبس المعونة مدرسة، وكان بأوّل الزقاق الذي فيه هذا الحبس حانوت يسكنه شخص يقال له منصور الطويل، ويبيع فيه أصناف السوقة، ويعرف هذا الرجل بالصيار من أجل أنه كانت له في هذا الزقاق قاعة يخزن فيها أنواع الصير المعروف بالملوحة، فقيل لهذا الحبس حبس الصيار، ونشأ لمنصور الصيار هذا ولد عرف بين الشهود بمصر بشرف الدين بن منصور الطويل، فلما أحدث الوزير شرف الدين هبة الله بن صاعد الفائزيّ المظالم في سلطنة الملك المعز أيبك التركمانيّ، خدم شرف الدين هذا على المظالم في جباية التسقيع والتقويم، ثم خدم بعد إبطال ذلك في مكس القصب والرمّان، فلما تولى قضاء القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز، تأذى عنده بما باشره من هذه المظالم، وما زال هذا الحبس موجودا إلى أن خربت مصر في الزمان الذي ذكرناه، فخرب وبقي موضعه وما حوله كيمانا.
خزانة البنود: هذه الخزانة بالقاهرة هي الآن زقاق يعرف بخط خزانة البنود، على يمنة من سلك من رحبة باب العيد يريد درب ملوخيا وغيره، وكانت أوّلا في الدولة الفاطمية خزانة من جملة خزائن القصر يعمل فيها السلاح، يقال أن الخليفة الظاهر بن الحاكم أمر بها، ثم أنها احترقت في سنة إحدى وستين وأربعمائة، فعملت بعد حريقها سجنا يسجن فيه الأمراء والأعيان، إلى أن انقرضت الدولة فأقرّها ملوك بني أيوب سجنا، ثم عملت منزلا للأمراء من الفرنج يسكنون فيها بأهاليهم وأولادهم في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون بعد حضوره من الكرك، فلم يزالوا بها إلى أن هدمها الأمير الحاج آل ملك الجوكندار نائب السلطنة بديار مصر، في سنة أربع وأربعين وسبعمائة، فاختط الناس موضعها دورا، وقد ذكرت في هذا الكتاب عند ذكر خزائن القصر.
حبس المعونة من القاهرة: هذا المكان بالقاهرة، موضعه الآن قيسارية العنبر برأس الحريريين، كان يسجن فيه أرباب الجرائم من السرّاق وقطاع الطريق ونحوهم في الدولة الفاطمية، وكان حبسا حرجا ضيقا شنيعا يشم من قربه رائحة كريهة، فلما ولي الملك الناصر محمد بن قلاون مملكة مصر هدمه وبناه قيسارية للعنبر، وقد ذكر عند ذكر الأسواق من هذا الكتاب.(3/329)
خزانة شمائل: هذه الخزانة كانت بجوار باب زويلة، على يسرة من دخل منه بجوار السور، عرفت بالأمير علم الدين شمائل والي القاهرة في أيام الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، وكانت من أشنع السجون وأقبحها منظرا، يحبس فيها من وجب عليه القتل أو القطع من السرّاق وقطاع الطريق، ومن يريد السلطان إهلاكه من المماليك وأصحاب الجرائم العظيمة، وكان السجان بها يوظف عليه والي القاهرة شيئا يحمله من المال له في كل يوم، وبلغ ذلك في أيام الناصر فرج مبلغا كبيرا، وما زالت هذه الخزانة على ذلك إلى أن هدمها الملك المؤيد شيخ المحموديّ في يوم الأحد العاشر من شهر ربيع الأول، سنة ثمان عشرة وثمانمائة، وأدخلها في جملة ما هدمه من الدور التي عزم على عمارة أماكنها مدرسة.
وشمائل هذا: هو الأمير علم الدين، قدم إلى القاهرة وهو من فلاحي بعض قرى مدينة حماه في أيام الملك الكامل محمد بن العادل، فخدم جاندار في الركاب السلطاني إلى أن نزل الفرنج على مدينة دمياط في سنة خمس عشرة وستمائة، وملكوا البرّ وحصروا أهلها وحالوا بينهم وبين من يصل إليهم، فكان شمائل هذا يخاطر بنفسه ويسبح في الماء بين المراكب ويردّ على السلطان الخبر، فتقدّم عند السلطان وحظي لديه حتى أقامه أمير جاندار، وجعله من أكبر أمرائه، ونصه سيف نقمته، وولاه ولاية القاهرة، فباشر ذلك إلى أن مات السلطان وقام من بعده ابنه الملك العادل أبو بكر، فلما خلع بأخيه الملك الصالح نجم الدين أيوب نقم على شمائل.
المقشرة: هذا السجن بجوار باب الفتوح، فيما بينه وبين الجامع الحاكمي، كان يقشر فيه القمح، ومن جملته برج من أبراج السور على يمنة الخارج من باب الفتوح، استجدّ بأعلاه دور لم تزل إلى أن هدمت خزانة شمائل، فعين هذا البرج والمقشرة لسجن أرباب الجرائم، وهدمت الدور التي كانت هناك في شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وعشرين وثمانمائة، وعمل البرج والمقشرة سجنا ونقل إليه أرباب الجرائم، وهو من أشنع السجون وأضيقها، يقاسي فيه المسجونون من الغمّ والكرب ما لا يوصف، عافانا الله من جميع بلائه.
الجب بقلعة الجبل: هذا الجب كان بقلعة الجبل يسجن فيه الأمراء، وابتدئ عمله في سنة إحدى وثمانين وستمائة، والسلطان حينئذ الملك المنصور قلاون، ولم يزل إلى أن هدمه الملك الناصر محمد بن قلاون في يوم الاثنين سابع عشر جمادى الأولى، سنة تسع وعشرين وسبعمائة، وذلك أنّ شادّ العمائر نزل إليه ليصلح عمارته فشاهد أمرا مهولا من الظلام وكثرة الوطاويط والروائح الكريهة، واتفق مع ذلك أن الأمير بكتمر الساقي كان عنده شخص يسخر به ويمازحه، فبعث به إلى الجب ودلي فيه، ثم أطلعه من بعد ما بات به ليلة، فلما حضر إلى بكتمر أخبره بما عاينه من شناعة الجب، وذكر ما فيه من القبائح المهولة،(3/330)
وكان شادّ العمائر في المجلس فوصف ما فيه الأمراء الذين بالجب من الشدائد، فتحدّث بكتمر مع السلطان في ذلك فأمر بإخراج الأمراء منه، وردم وعمّر فوقه أطباق المماليك، وكان الذي ردم به هذا الجب، النقض الذي هدم من الإيوان الكبير المجاور للخزانة الكبرى، والله أعلم بالصواب.
ذكر المواضع المعروفة بالصناعة
لفظ الصناعة بكسر الصاد مأخوذ من قولك صنعه يصنعه صنعا، فهو مصنوع، وصنيع عمله واصطنعه اتخذه. والصناعة ما يستصنع من أمر، هذا أصل الكلمة من حيث اللغة، وأمّا في العرف فالصناعة اسم لمكان قد أعدّ لإنشاء المراكب البحرية التي يقال لها السفن، واحدتها سفينة، وهي بمصر على قسمين: نيلية وحربية.
فالحربية هي التي تنشأ لغزو العدوّ وتشحن بالسلاح وآلات الحرب والمقاتلة، فتمرّ من ثغر الإسكندرية وثغر دمياط وتنيس والفرما إلى جهاد أعداء الله من الروم والفرنج، وكانت هذه المراكب الحربية يقال لها الأسطول، ولا أحسب هذا اللفظ عربيا.
وأمّا المراكب النيلية فإنها تنشأ لتمرّ في النيل، صاعدة إلى أعلى الصعيد ومنحدرة إلى أسفل الأرض، لحمل الغلال وغيرها، ولما جاء الله تعالى بالإسلام لم يكن البحر يركب للغزو في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وأوّل من ركب البحر في الإسلام للغزو، العلاء بن الحضرميّ رضي الله عنه، وكان على البحرين من قبل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فأحب أن يؤثر في الأعاجم أثرا يعز الله به الإسلام على يديه، فندب أهل البحرين إلى فارس فبادروا إلى ذلك، وفرّقهم أجنادا، على أحدها الجارود بن المعلي رضي الله عنه، وعلى الثاني سوار بن همام رضي الله عنه، وعلى الثالث خليد بن المنذر بن ساوي رضي الله عنه، وجعل خليدا على عامة الناس، فحملهم في البحر إلى فارس بغير إذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان عمر رضي الله عنه لا يأذن لأحد في ركوب البحر غازيا، كراهة للتغرير بجنده، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفته أبي بكر رضي الله عنه، فعبرت تلك الجنود من البحرين إلى فارس، فخرجوا في اصطخر وبإزائهم أهل فارس عليهم الهربذ، فحالوا بين المسلمين وبين سفنهم، فقام خليد في الناس فقال: أما بعد، فإنّ الله تعالى إذا قضى أمرا جرت المقادير على مطيته، وأنّ هؤلاء القوم لم يزيدوا بما صنعوا على أن دعوكم إلى حربهم، وإنما جئتم لمحاربتهم، والسفن والأرض بعد الآن لمن غلب، فاستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلّا على الخاشعين. فأجابوه إلى القتال وصلوا الظهر، ثم ناهزوهم فاقتتلوا قتالا شديدا في موضع يدعى طاوس، فقتل من أهل فارس مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها قبلها، وخرج المسلمون يريدون البصرة إذ غرقت سفنهم ولم يجدوا في الرجوع إلى البحر سبيلا، فإذا بهم وقد أخذت عليهم الطرق، فعسكروا وامتنعوا، وبلغ ذلك(3/331)
عمر بن الخطاب رضي الله عنه فاشتدّ غضبه على العلاء رضي الله عنه، وكتب إليه بعزله وتوعده وأمره بأثقل الأشياء عليه وأبغض الوجوه إليه، بتأمير سعد بن أبي وقاص عليه وقال: الحق بسعد بن أبي وقاص بمن معك، فخرج رضي الله عنه من البحرين بمن معه نحو سعد رضي الله عنه، وهو يومئذ على الكوفة، وكان بينهما تباين وتباعد، وكتب عمر رضي الله عنه إلى عتبة بن غزوان بأنّ العلاء بن الحضرميّ حمل جندا من المسلمين في البحر فأقطعهم إلى فارس وعصاني، وأظنه لم يرد الله عز وجلّ بذلك، فخشيت عليهم أن لا ينصروا وأن يغلبوا، فاندب لهم الناس وضمهم إليك من قبل أن يجتاحوا، فندب عتبة رضي الله عنه الناس وأخبرهم بكتاب عمر رضي الله عنه، فانتدب عاصم بن عمرو، وعرفجة بن هرثمة، وحذيفة بن محصن، ومجراة بن ثور، ونهار بن الحارث، والترجمان بن فلان، والحصين بن أبي الحرّ، والأحنف بن قيس، وسعد بن أبي العرجاء، وعبد الرحمن بن سهل، وصعصعة بن معاوية رضي الله تعالى عنهم. فساروا من البصرة في اثني عشر ألفا على البغال يجنبون الخيل، وعليهم أبو سبرة بن أبي رهم رضي الله عنهم، فساحل بهم حتى التقى أبو سبرة وخليد حيث أخذت عليهم الطرق، وقد استصرخ أهل اصطخر أهل فارس كلهم فأتوهم من كل وجه وكورة، فالتقوا هم وأبو سبرة فاقتتلوا، ففتح الله على المسلمين وقتل المشركون، وعاد المسلمون بالغنائم إلى البصرة، ورجع أهل البحرين إلى منازلهم.
فلما فتح الله تعالى الشأم ألح معاوية بن أبي سفيان وهو يومئذ على جند دمشق والأردن، على عمر رضي الله عنه في غزو البحر وقرب الروم من حمص. وقال: إنّ قرية من قرى حمص ليسمع أهلها نباح كلابهم وصياح دجاجهم، حتى إذا كاد ذلك يأخذ بقلب عمر رضي الله عنه اتهم معاوية لأنه المشير، وأحب عمر رضي الله عنه أن يردعه فكتب إلى عمرو بن العاص وهو على مصر، أن صف لي البحر وراكبه، فإنّ نفسي تنازعني إليه وأنا أشتهي خلافها. فكتب إليه: يا أمير المؤمنين، إني رأيت البحر خلقا كبيرا يركبه خلق صغير، ليس إلّا السماء والماء، إن ركد حزّن القلوب، وإن زلّ أزاغ العقول، يزداد فيه اليقين قلة، والشك كثرة، هم فيه كدود على عود، إن مال غرق وإن نجا برق.
فلما جاءه كتاب عمرو، كتب رضي الله عنه إلى معاوية: لا والذي بعث محمدا بالحق لا أحمل فيه مسلما أبدا، إنّا قد سمعنا أنّ بحر الشأم يشرف على أطول شيء في الأرض، يستأذن الله تعالى في كل يوم وليلة أن يفيض على الأرض فيغرقها، فكيف أحمل الجنود في هذا البحر الكافر المستصعب، وتالله لمسلم واحد أحب إليّ مما حوته الروم، فإياك أن تعرض لي وقد تقدّمت إليك، وقد علمت ما لقي العلاء مني ولم أتقدّم إليه في مثل ذلك.
وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا يسألني الله عز وجلّ عن ركوب المسلمين البحر أبدا.
وروي عنه ابنه عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: لولا آية في كتاب الله تعالى لعلوت راكب البحر بالدرة.(3/332)
ثم لما كانت خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، غزا المسلمون في البحر، وكان أوّل من غزا فيه معاوية بن أبي سفيان، وذلك أنه لم يزل بعثمان رضي الله عنه حتى عزم على ذلك، فأخره وقال: تنتخب الناس ولا تقرع بينهم، خيّرهم، فمن اختار الغزو طائعا فاحمله وأعنه. ففعل واستعمل على البحر عبد الله بن قيس الحاسي خليفة بني فزارة، فغزا خمسين غزوة من بين شاتية وصائفة في البرّ والبحر، ولم يغرق فيه أحد ولم ينكب، وكان يدعو الله تعالى أن يرزقه العافية في جنده ولا يبتليه بمصاب أحد منهم، حتى إذا أراد الله عز وجلّ أن يصيبه في جنده خرج في قارب طليعته فانتهى إلى المرفأ من أرض الروم، فثار به الروم وهجموا عليه فقاتلهم فأصيب وحده، ثم قاتل الروم أصحابه فأصيبوا.
وغزا عبد الله بن سعد بن أبي سرح في البحر لما أتاه قسطنطين بن هرقل سنة أربع وثلاثين في ألف مركب يريد الإسكندرية، فسار عبد الله في مائتي مركب أو تزيد شيئا وحاربه، فكانت وقعة ذات الصواري التي نصر الله تعالى فيها جنده وهزم قسطنطين وقتل جنده، وأغزى معاوية أيضا عقبة بن عامر الجهنيّ رضي الله عنه في البحر، وأمره أن يتوجه إلى رودس، فسار إليها.
ونزل الروم على البرلس في سنة ثلاث وخمسين في إمارة مسلمة بن مخلد الأنصاريّ رضي الله عنه على مصر، فخرج إليهم المسلمون في البرّ والبحر، فاستشهد وردان مولى عمرو بن العاص في جمع كثير من المسلمين، وبعث عبد الملك بن مروان لما ولي الخلافة إلى عامله على إفريقية حسان بن النعمان يأمره باتخاذ صناعة بتونس لإنشاء الآلات البحرية.
ومنها كانت غزوة صقلية في أيام زيادة الله الأوّل بن إبراهيم بن الأغلب على شيخ الفتيا أسد بن الفرات، ونزل الروم تنيس في سنة إحدى ومائة في إمارة بشر بن صفوان الكلبيّ على مصر من قبل يزيد بن عبد الملك، فاستشهد جماعة من المسلمين، وقد ذكر في أخبار الإسكندرية ودمياط وتنيس والفرما من هذا الكتاب جملة من نزلات الروم والفرنج عليها، وما كان في زمن الإنشاء، فانظره تجده إن شاء الله تعالى. وقد ذكر شيخنا العالم العلامة الأستاذ قاضي القضاة وليّ الدين أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرميّ الإشبيلي، تعليل امتناع المسلمين من ركوب البحر للغزو في أوّل الأمر فقال:
والسبب في ذلك أن العرب لبداوتهم لم يكونوا أوّل الأمر مهرة في ثقافته وركوبه، والروم والفرنجة لممارستهم أحواله ومرباهم في التقلب على أعواده مرنوا عليه، وأحكموا الدربة بثقافته، فلما استقرّ الملك للعرب وشمخ سلطانهم، وصارت أمم العجم خولا لهم وتحت أيديهم، وتقرّب كل ذي صنعة إليهم بمبلغ صناعته، واستخدموا من النواتية في حاجاتهم البحرية أمما، وتكرّرت ممارستهم البحر وثقافته، استحدثوا بصرا بها، فتاقت أنفسهم إلى(3/333)
الجهاد فيه، وأنشأوا السفن والشواني وشحنوا الأساطيل بالرجال والسلاح، وأمطوها العساكر والمقاتلة لمن وراء البحر من أمم الكفر، واختصوا بذلك من ممالكهم وثغورهم ما كان أقرب إلى هذا البحر وعلى ضفته، مثل الشام وإفريقية والمغرب والأندلس.
وأوّل ما أنشئ الأسطول بمصر في خلافة أمير المؤمنين المتوكل على الله أبي الفضل جعفر بن المعتصم، عند ما نزل الروم دمياط في يوم عرفة سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وأمير مصر يومئذ عنبسة بن إسحاق، فملكوها وقتلوا بها جمعا كثيرا من المسلمين، وسبوا النساء والأطفال، ومضوا إلى تنيس فأقاموا باشتومها. فوقع الاهتمام من ذلك الوقت بأمر الأسطول وصار من أهمّ ما يعمل بمصر، وأنشئت الشواني برسم الأسطول، وجعلت الأرزاق لغزاة البحر كما هي لغزاة البرّ، وانتدب الأمراء له الرماة، فاجتهد الناس بمصر في تعليم أولادهم الرماية وجميع أنواع المحاربة، وانتخب له القوّاد العارفون بمحاربة العدوّ، وكان لا ينزل في رجال الأسطول غشيم ولا جاهل بأمور الحرب، هذا وللناس إذ ذاك رغبة في جهاد أعداء الله وإقامة دينه، لا جرم أنه كان لخدّام الأسطول حرمة ومكانة، ولكل أحد من الناس رغبة في أنه يعدّ من جملتهم فيسعى بالوسائل حتى يستقرّ فيه، وكان من غزو الأسطول بلاد العدوّ ما قد شحنت به كتب التواريخ.
فكانت الحرب بين المسلمين والروم سجالا، ينال المسلمون من العدوّ وينال العدوّ منهم، ويأسر بعضهم بعضا لكثرة هجوم أساطيل الإسلام بلاد العدوّ، فإنها كانت تسير من مصر ومن الشام ومن أفريقية، فلذلك احتاج خلفاء الإسلام إلى الفداء، وكان أوّل فداء وقع بمال في الإسلام أيام بني العباس، ولم يقع في أيام بني أمية فداء مشهور، وإنما كان يفادي بالنفر بعد النفر في سواحل الشأم ومصر والإسكندرية وبلاد ملطية وبقية الثغور الخزرية، إلى أن كانت خلافة أمير المؤمنين هارون الرشيد.
الفداء الأوّل: باللامش من سواحل البحر الروميّ قريبا من طرسوس في سنة تسع وثمانين ومائة، وملك الروم يومئذ تقفور بن اشبراق، وكان ذلك على يد القاسم بن الرشيد وهو معسكر بمرج دابق من بلاد قنسرين في أعمال حلب، ففودي بكل أسير كان ببلاد الروم من ذكر أو أنثى، وحضر هذا الفداء من أهل الثغور وغيرهم من أهل الأمصار نحو من خمسمائة ألف إنسان، بأحسن ما يكون من العدد والخيل والسلاح والقوّة، قد أخذوا السهل والجبل وضاق بهم الفضاء، وحضرت مراكب الروم الحربية بأحسن ما يكون من الزيّ، معهم أسارى المسلمين، فكان عدّة من فودي به من المسلمين في اثني عشر يوما ثلاثة آلاف وسبعمائة أسير، وأقام ابن الرشيد باللامش أربعين يوما قبل الأيام التي وقع فيها الفداء وبعدها، وقال مروان بن أبي حفصة في هذا الفداء يخاطب الرشيد من أبيات:
وفكّت بك الأسرى التي شيدت بها ... محابس ما فيها حميم يزورها(3/334)
على حين أعيى المسلمين فكاكها ... وقالوا سجون المشركين قبورها
الفداء الثاني: كان في خلافة الرشيد أيضا باللامش في سنة اثنتين وتسعين ومائة، وملك الروم تقفور، وكان القائم به ثابت بن نصر بن مالك الخزاعيّ أمير الثغور الشامية، حضره ألوف من الناس، وكانت عدّة من فودي به من المسلمين في سبعة أيام ألفين وخمسمائة من ذكر وأنثى.
الفداء الثالث: وقع في خلافة الواثق باللامش، في المحرّم سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وملك الروم ميخائيل بن نوفيل، وكان القائم به خاقان التركي، وعدّة من فودي به من المسلمين في عشرة أيام أربعة آلاف وثلاثمائة واثنان وستون من ذكر وأنثى، وحضر مع خاقان أبو رملة، من قبل قاضي القضاة أحمد بن أبي داود يمتحن الأسرى وقت المفاداة، فمن قال منهم بخلق القرآن فودي به وأحسن إليه، ومن أبى ترك بأرض الروم، فاختار جماعة من الأسرى الرجوع إلى أرض النصرانية على القول بذلك، وخرج من الأسرى مسلم بن أبي مسلم الحرمي، وكان له محل في الثغور، وكتب مصنفه في أخبار الروم وملوكهم وبلادهم، فنالته محن على القول بخلق القرآن ثم تخلص.
الفداء الرابع: في خلافة المتوكل على الله باللامش أيضا، في شوّال سنة إحدى وأربعين ومائتين، والملك ميخائيل، وكان القائم به سيف خادم المتوكل، وحضر معه جعفر بن عبد الواحد الهاشميّ القاضي، وعليّ بن يحيى الأرمنيّ أمير الثغور الشامية، وكانت عدّة من فودي به من المسلمين في سبعة أيام ألفي رجل ومائة امرأة، وكان مع الروم من النصارى المأسورين من أرض الإسلام مائة رجل ونيف، فعوّضوا مكانهم عدّة أعلاج، إذ كان الفداء لا يقع على نصرانيّ ولا ينعقد.
الفداء الخامس: في خلافة المتوكل، وملك الروم ميخائيل أيضا باللامش، مستهل صفر سنة ست وأربعين ومائتين، وكان القائم به عليّ بن يحيى الأرمنيّ أمير الثغور، ومعه نصر بن الأزهر الشيعيّ من شيعة بني العباس، المرسل إلى الملك في أمر الفداء من قبل المتوكل، وكانت عدّة من فودي به من المسلمين في سبعة أيام ألفين وثلاثمائة وسبعة وستين من ذكر وأنثى.
الفداء السادس: كان في أيام المعتز، والملك على الروم بسيل، على يد شفيع الخادم في سنة ثلاث وخمسين ومائتين.
الفداء السابع: في خلافة المعتضد باللامش، في شوّال سنة ثلاث وثمانين ومائتين، وملك الروم اليون بن بسيل، وكان القائم به أحمد بن طغان أمير الثغور الشامية وانطاكية، من قبل الأمير أبي الجيش خماوريه بن أحمد بن طولون، وكانت الهدنة لهذا الفداء وقعت(3/335)
في سنة اثنتين وثمانين ومائتين، فقتل أبو الجيش بدمشق في ذي القعدة من هذه السنة، وتم الفداء في إمارة ولده جيش بن خمارويه، وكانت عدّة من فودي به من المسلمين في عشرة أيام ألفين وأربعمائة وخمسة وتسعين من ذكر وأنثى، وقيل ثلاثة آلاف.
الفداء الثامن: في خلافة المكتفي باللامش، في ذي القعدة سنة اثنتين وتسعين ومائتين، وملك الروم اليون أيضا، وكان القائم به رستم بن نزدوي أمير الثغور الشامية، وكانت عدة من فودي به من المسلمين في أربعة أيام ألفا ومائة وخمسة وخمسين من ذكر وأنثى، وعرف بفداء الغدر، وذلك أن الروم غدروا وانصرفوا ببقية الأساري.
الفداء التاسع: في خلافة المكتفي، وملك الروم أليون باللامش أيضا، في شوّال سنة خمس وتسعين ومائتين، والقائم به رستم، وكانت عدّة من فودي به من المسلمين ألفين وثمانمائة واثنين وأربعين من ذكر وأنثى.
الفداء العاشر: في خلافة المقتدر باللامش، في شهر ربيع الآخر سنة خمس وثلاثمائة، وملك الروم قسطنطين بن اليون بن بسيل، وهو صغير في حجر أرمانوس، وكان القائم بهذا الفداء مونس الخادم، وبشير الخادم الأفشيني أمير الثغور الشامية وانطاكية والمتوسط له، والمعاون عليه أبو عمير عديّ بن أحمد بن عبد الباقي التميميّ الأدنيّ من أهل أدنة، وعدّة من فودي به من المسلمين في ثمانية أيام ثلاثة آلاف وثلاثمائة وستة وثلاثون من ذكر وأنثى.
الفداء الحادي عشر: في خلافة المقتدر، وملك أرمانوس وقسنطيطين على الروم، وكان باللامش في شهر رجب سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة، والقائم به مفلح الخادم الأسود المقتدري، وبشير خليفة شمل الخادم على الثغور الشامية، وعدّة من فودي به من المسلمين في تسعة عشر يوما، ثلاثة آلاف وتسعمائة وثلاثة وثلاثون من ذكر وأنثى.
الفداء الثاني عشر: في خلافة الراضي باللامش، في سلخ ذي القعدة، وأيام من ذي الحجة، سنة ست وعشرين وثلاثمائة والملكان على الروم قسطنطين وأرمانوس، والقائم به ابن ورقاء الشيبانيّ، من قبل الوزير أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات، وبشير الشمليّ أمير الثغور الشامية، وعدّة من فودي به من المسلمين في ستة عشر يوما، ستة آلاف وثلاثمائة ونيف من ذكر وأنثى، وبقي في أيدي الروم من المسلمين الأسرى ثمانمائة رجل ردّوا، ففودي بهم في عدّة مرار، وزيدوا في الهدنة بعد انقضاء الفداء مدّة ستة أشهر لأجل من تخلف في أيدي الروم من المسلمين، حتى جمع الأسارى منهم.
الفداء الثالث عشر: في خلافة المطيع باللامش، في شهر ربيع الأوّل سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة والملك على الروم قسطنطين، والقائم به نصر الشملي من قبل سيف(3/336)
الدولة أبي الحسن عليّ بن حمدان، صاحب جند حمس وجند قنسرين وديار بكر وديار مصر والثغور الشامية والخزرية، وكانت عدّة من فودي به من المسلمين ألفين وأربعمائة واثنين وثمانين من ذكر وأنثى، وفضل للروم على المسلمين قرضا مائتان وثلاثون لكثرة من كان في أيديهم، فوفاهم سيف الدولة ذلك وحمله إليهم، وكان الذي شرع في هذا الفداء الأمير أبو بكر محمد بن طفج الإخشيد أمير مصر والشام والثغور الشامية، وكان أبو عمير عديّ بن أحمد بن عبد الباقي الأدنيّ شيخ الثغور، قدم إليه وهو بدمشق في ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، ومعه رسول ملك الروم في إتمام هذا الفداء، والإخشيد شديد العلة، فتوفي يوم الجمعة لثمان خلون من ذي الحجة منها، وسار أبو المسك كافور الإخشيديّ بالجيش راجعا إلى مصر، وحمل معه أبا عمير ورسول ملك الروم إلى فلسطين، فدفع إليهما ثلاثين ألف دينار من مال الفداء، فسارا إلى مدينة صور وركبا البحر إلى طرسوس، فلما وصلا كاتب نصر الشملي أمير الثغور سيف الدولة بن حمدان، ودعا له على منابر الثغور، فجدّ في إتمام هذا الفداء، فنسب إليه. ووقعت أفدية أخرى ليس لها شهرة.
فمنها: فداء في خلافة المهدي محمد، على يد النقاش الأنطاكي، وفداء في أيام الرشيد في شوّال سنة إحدى وثمانين ومائة، على يد عياض بن سنان أمير الثغور الشامية، وفداء في أيام الأمين، على يد ثابت بن نصر، في ذي القعدة سنة أربع وتسعين ومائة، وفداء في أيام الأمين، على يد ثابت بن نصر أيضا، في ذي القعدة سنة إحدى ومائتين، وفداء في أيام المتوكل سنة سبع وأربعين ومائتين، على يد محمد بن علي، وفداء في أيام المعتمد، على يد شفيع، في شهر رمضان سنة ثمان وخمسين ومائتين، وفداء كان في الإسكندرية في شهر ربيع الأوّل سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة، خرج فيه أبو بكر محمد بن عليّ الماردانيّ من مصر، ومعه الشريف أبو القاسم الرئيس، والقاضي أبو حفص عمر بن الحسين العباسي، وحمزة بن محمد الكتاني في جمع كبير، وكانت عدّة من فودي به من المسلمين ستين نفسا بين ذكر وأنثى.
فلما سار الروم إلى البلاد الشامية بعد سنة خمسين وثلاثمائة، اشتدّ أمرهم بأخذهم البلاد، وقويت العناية بالأسطول في مصر منذ قدم المعزل لدين الله، وأنشأ المراكب الحربية، واقتدى به بنوه وكان لهم اهتمام بأمور الجهاد واعتناء بالأسطول، وواصلوا إنشاء المراكب بمدينة مصر واسكندرية ودمياط من الشواني الحربية والشلنديات والمسطحات، وتسييرها إلى بلاد الساحل مثل صور وعكا وعسقلان، وكانت جريدة قوّاد الأسطول في آخر أمرهم تزيد على خمسة آلاف مدوّنة، منهم عشرة أعيان يقال لهم القوّاد، واحدهم قائد، وتصل جامكية كلّ واحد منهم إلى عشرين دينارا، ثم إلى خمسة عشر دينارا، ثم إلى عشرة دنانير، ثم إلى ثمانية، ثم إلى دنارين، وهي أقلها. ولهم إقطاعات تعرف بأبواب الغزاة بما فيها من النطرون، فيصل دينارهم بالمناسبة إلى نصف دينار، وكان يعين من القوّاد العشرة(3/337)
واحد فيصير رئيس الأسطول، ويكون معه المقدم والقاوش، فإذا ساروا إلى الغزو كان هو الذي يقلع بهم، وبه يقتضي الجميع، فيرسون بإرسائه ويقلعون بإقلاعه، ولا بدّ أن يقدم على الأسطول أمير كبير من أعيان أمراء الدولة وأقواهم نفسا، ويتولى النفقة في غزاة الأسطول الخليفة بنفسه بحضور الوزير، فإذا أراد أراد النفقة فيما تعين من عدّة المراكب السائرة، وكانت في أيام المعز لدين الله تزيد على ستمائة قطعة، وآخر ما صارت إليه في آخر الدولة نحو الثمانين شونة، وعشر مسطحات، وعشر حمالة، فما تقصر عن مائة قطعة، فيتقدّم إلى النقباء بإحضار الرجال، وفيهم من كان يتمعش بمصر والقاهرة، وفيهم من هو خارج عنهما، فيجتمعون. وكانت لهم المشاهرة والجرايات في مدّة أيام سفرهم، وهم معروفون عند عشرين عريفا يقال لهم النقباء، واحدهم نقيب، ولا يكره أحد على السفر، فإذا اجتمعوا أعلم النقباء المقدّم، فأعلم بذلك الوزير، فطالع الوزير الخليفة بالحال، فقرّر يوما للنفقة، فحضر الوزير بالاستدعاء من ديوان الإنشاء على العادة، فيجلس الخليفة على هيئته في مجلسه، ويجلس الوزير في مكانه، ويحضر صاحبا ديوان الجيش، وهما المستوفي والكاتب، والمستوفي هو أمير هما، فيجلس من داخل عتبة المجلس، وهذه رتبة له يتميز بها، ويجلس بجانبه من وراء العتبة كاتب الجيش في قاعة الدار على حصر مفروشة، وشرط هذا المستوفي أن يكون عدلا ومن أعيان الكتّاب، ويسمى اليوم في زمننا ناظر الجيش، وأما كاتب الجيش فإنه كان في غالب الأمر يهوديا، وللمجلس الذي فيه الخليفة والوزير انطاع «1» تصب عليها الدراهم، ويحضر الوزانون ببيت المال لذلك، فإذا تهيأ الإنفاق أدخل الغزاة مائة مائة، فيقفون في أخريات من هو واقف في الخدمة من جانب واحد، نقابة نقابة، وتكون أسماؤهم قد رتبت في أوراق لاستدعائهم بين يدي الخليفة، فيستدعي مستوفي الجيش من تلك الأوراق المنفق عليهم واحدا واحدا، فإذا خرج اسمه عبر من الجانب الذي هو فيه إلى الجانب الآخر، فإذا تكملت عشرة، وزن الوزانون لهم النفقة، وكانت مقرّرة لكلّ واحد خمسة دنانير صرف ستة وثلاثين درهما بدينار، فيسلمها لهم النقيب وتكتب باسمه وبيده، وتمضي النفقة هكذا إلى آخرها.
فإذا تم ذلك ركب الوزير من بين يدي الخليفة وانفضّ ذلك الجمع، فيحمل إلى الوزير من القصر مائدة يقال لها غداء الوزير، وهي سبع مجنقات أوساط، إحداها بلحم الدجاج وفستق، معمولة بصناعة محكمة، والبقية شواء، وهي مكمورة بالأزهار. فتكون النفقة على ذلك مدّة أيام متوالية مرّة ومتفرّقة مرّة، فإذا تكاملت النفقة وتجهزت المراكب وتهيأت للسفر، ركب الخليفة والوزير إلى ساحل النيل بالمقس خارج القاهرة، وكان هناك على شاطيء النيل بالجامع منظرة يجلس فيها الخليفة برسم وداع الأسطول ولقائه إذا عاد، فإذا(3/338)
جلس للوداع جاءت القوّاد بالمراكب من مصر إلى هناك للحركات في البحر بين يديه، وهي مزينة بأسلحتها ولبودها وما فيها من المنجنيقات، فيرمى بها وتنحدر المراكب وتقلع، وتفعل سائر ما تفعله عند لقاء العدوّ، ثم يحضر المقدّم والرئيس إلى بين يدي الخليفة فيودّعهما ويدعو للجماعة بالنصرة والسلامة، ويعطى للمقدم مائة دينار، وللرئيس عشرين دينارا، وينحدر الأسطول إلى دمياط ومن هناك يخرج إلى بحر الملح، فيكون له ببلاد العدوّ صيت عظيم ومهابة قوية، والعادة أنه إذا غنم الأسطول ما عسى أن يغنم، لا يتعرّض السلطان منه إلى شيء البتة إلّا ما كان من الأسرى والسلاح، فإنه للسلطان، وما عداهما من المال والثياب ونحو هما فإنه لغزاة الأسطول، لا يشاركهم فيه أحد، فإذا قدم الأسطول خرج الخليفة أيضا إلى منظرة المقس وجلس فيها للقائه، وقدم الأسطول مرّة بألف وخمسمائة أسير، وكانت العادة أن الأسرى ينزل بهم في المناخ، وتضاف الرجال إلى من فيه من الأسرى، ويمضى بالنساء والأطفال إلى القصر بعد ما يعطى منهم الوزير طائفة، ويفرّق ما بقي من النساء على الجهات والأقارب، فيستخدمونهنّ ويربونهنّ حتى يتقنّ الصنائع، ويدفع الصغار من الأسرى إلى الاستادين فيربونهم ويتعلمون الكتابة والرماية، ويقال لهم الترابي، وفيهم من صار أميرا من صبيان خاص الخليفة، من الأسرى من كان يستراب به فيقتل، ومن كان منهم شيخا لا ينتفع به ضربت عنقه وألقي في بئر كانت في خرائب مصر، تعرف ببئر المنامة، ولم يعرف قط عن الدولة الفاطمية أنها فادت أسيرا من الفرنج بمال ولا بأسير مثله، وكان المنفق في الأسطول كلّ سنة خارجا عن العدد والآلات.
ولم يزل الأسطول على ذلك إلى أن كانت وزارة شاور، ونزل مري ملك الفرنج على بركة الحبش، فأمر شاور بتحريق مصر وتحريق مراكب الأسطول، فحرّقت ونهبها العبيد فيما نهبوا، فلما كان زوال الدولة الفاطمية على يد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، اعتنى أيضا بأمر الأسطول وأفرد له ديوانا عرف بديوان الأسطول، وعين لهذا الديوان الفيوم بأعمالها، والحبس الجيوشي في البرّين الشرقيّ والغربيّ، وهو من البرّ الشرقيّ بهتين والأميريّة والمنية، ومن البرّ الغربيّ ناحية سفط ونهيا ووسيم والبساتين خارج القاهرة، وعين له أيضا الخراج، وهو أشجار من سنط لا تحصى كثرة، في البهنساوية وسفط ريشين والأشمونين والأسيوطية والأخميمية والقوصية، لم تزل بهذه النواحي لا يقطع منها إلا ما تدعو الحاجة إليه، وكان فيها ما تبلغ قيمة العود الواحد منه مائة دينار، وقد ذكر خبر هذا الخراج في ذكر أقسام مال مصر من هذا الكتاب، وعين له أيضا النطرون، وكان قد بلغ ضمانه ثمانية آلاف دينار، ثم أفرد لديوان الأسطول مع ما ذكر الزكاة التي كانت تجبى بمصر، وبلغت في سنة زيادة على خمسين ألف دينار، وأفرد له المراكب الديوانية وناحية أشناي وطنبدي، وسلّم هذا الديوان لأخيه الملك العادل أبي بكر بن أيوب، فأقام في مباشرته وعمالته صفيّ الدين عبد الله بن عليّ بن شكر، وتقرّر ديوان الأسطول الذي ينفق في(3/339)
رجاله نصف وربع دينار، بعد ما كان نصف وثمن دينار.
فلما مات السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، استمرّ الحال في الأسطول قليلا ثم قلّ الاهتمام به، وصار لا يفكر في أمره إلا عند الحاجة إليه، فإذا دعت الضرورة إلى تجهيزه طلب له الرجا لو قبض عليهم من الطرقات وقيدوا في السلاسل نهارا وسجنوا في الليل حتى لا يهربوا، ولا يصرف لهم إلّا شيء قليل من الخبز ونحوه، وربما أقاموا الأيام بغير شيء كما يفعل بالأسرى من العدوّ فصارت خدمة الأسطول عارا يسبّ به الرجال، وإذا قيل لرجل في مصر يا أسطوليّ، غضب غضبا شديدا، بعد ما كان خدّام الأسطول يقال لهم المجاهدون في سبيل الله، والغزاة في أعداء الله، ويتبرّك بدعائهم الناس.
ثم لما انقرضت دولة بني أيوب وتملك الأتراك المماليك مصر، أهملوا أمر الأسطول إلى أن كانت أيام السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ، فنظر في أمر الشواني الحربية، واستدعى برجال الأسطول، وكان الأمراء قد استعملوهم في الحراريق وغيرها، وندبهم للسفر وأمر بمدّ الشواني وقطع الأخشاب لعمارتها وإقامتها على ما كانت عليه في أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب، واحترز على الخراج ومنع الناس من التصرّف في أعواد العمل، وتقدّم بعمارة الشواني في ثغري الإسكندرية ودمياط، وصار ينزل بنفسه إلى الصناعة بمصر ويرتب ما يجب ترتيبه من عمل الشواني ومصالحها، واستدعى بشواني الثغور إلى مصر فبلغت زيادة على أربعين قطعة سوى الحراريق والطرائد، فإنها كانت عدّة كثيرة، وذلك في شوال سنة تسع وستين وستمائة، ثم سارت تريد قبرس، وقد عمل ابن حسون رئيس الشواني في أعلامها الصلبان، يريد بذلك أنها تفى إذا عبرت البحر على الفرنج حتى تطرقهم على غفلة، فكره الناس منه ذلك، فلما قاربت قبرس تقدّم ابن حسون في الليل ليهجهم المينا فصدم الشونة المقدّمة شعبا فانكسرت، وتبعتها بقية الشواني فتكسرت الشواني كلها، وعلم بذلك متملك قبرس فأسر كلّ من فيها، وأحاط بما معهم وكتب إلى السلطان يقرّعه ويوبخه، وأن شوانيه قد تكسرت، وأخذ ما فيها وعدّتها إحدى عشرة شونة، وأسر رجالها.
فحمد السلطان الله تعالى وقال: الحمد لله، منذ ملكني الله تعالى ما خذل لي عكسر، ولا ذلّت لي راية، وما زلت أخشى العين، فالحمد لله تعالى، بهذا ولا بغيره، وأمر بإنشاء عشرين شونة، وأحضر خمس شواني كانت على مدينة قوص من صعيد مصر، ولازم الركوب إلى صناعة العمارة بمصر كلّ يوم في مدّة شهر المحرّم سنة سبعين وستمائة إلى أن تنجزت، فلما كان في نصف المحرّم سنة إحدى وسبعين وستمائة، زاد النيل حتى لعبت الشواني بين يديه، فكان يوما مشهودا، في سنة اثنتين وتسعين وستمائة تقدّم السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل بن قلاون إلى الوزير الصاحب شمس الدين محمد بن السلعوس(3/340)
بتجهيز أمير الشواني، فنزل إلى الصناعة واستدعى الرئيس وهيأ جميع ما تحتاج إليه الشواني حتى كملت عدّتها، نحو ستين شونة، وشحنها بالعدد وآلات الحرب، ورتب بها عدّة من المماليك السلطانية، وألبسهم السلاح، فأقبل الناس لمشاهدتهم من كلّ أوب قبل ركوب السلطان بثلاثة أيام، وصنعوا لهم قصورا من خشب وأخصاص القش على شاطىء النيل خارج مدينة مصر وبالروضة، واكتروا الساحات التي قدّام الدور والزرابي بالمائتي درهم، كلّ زريبة ما دونها، بحيث لم يبق بيت بالقاهرة ومصر إلا وخرج أهله أو بعضهم لرؤية ذلك، فصار جمعا عظيما، وركب السلطان من قلعة الجبل بكرة، والناس قد ملأ وأما بين المقياس إلى بستان الخشاب إلى بلاق، وونف السلطان ونائبه الأمير بيدر وبقية الأمراء قدّام دار النحاس، ومنع الحجاب من التعرّض لطرد العامّة، فبرزت الشواني واحدة بعد واحدة، وقد عمل في كل شونة برج وقلعة تحاصر، والقتال عليها ملح، والنفط يرمى عليها، وعدّة من النقابين في أعمال الحيلة، في النقب، وما منهم إلّا من أظهر في شونته عملا معجبا وصناعة غريبة يفوق بها على صاحبه، وتقدّم ابن موسى الراعي وهو في مركب نيلية فقرأ قوله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ
[هود/ 41] ثم تلاها بقراءة قوله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ
[آل عمران/ 26] إلى آخر الآية، هذا والشواني تتواصل بمحاربة بعضها بعضا إلى أن أذن لصلاة الظهر، فمضى السلطان بعسكره عائد إلى القلعة، فأقام الناس بقية يومهم وتلك الليلة على ما هم عليه من اللهو في اجتماعهم، وكان شيئا يجلّ وصفه، وأنفق فيه مال لا يعدّ، بحيث بلغت أجرة المركب في هذا اليوم ستمائة درهم فما دونها، وكان الرجل الواحد يؤخذ منه أجرة ركوبه في المركب خمسة دراهم، وحصل لعدّة من النواتية أجرة مراكبهم عن سنة في هذا اليوم، وكان الخبز يباع اثنا عشر رطلا بدرهم، فلكثرة اجتماع الناس بمصر بيع سبعة أرطال بدرهم، فبلغ خبر الشواني إلى بلاد الفرنج فبعثوا رسلهم بالهدايا يطلبون الصلح.
فلما كان المحرّم سنة اثنتين وسبعمائة في سلطنة الناصر محمد بن قلاون، جهزت الشواني بالعدد والسلاح والنفطية والأزودة، وعين لها جماعة من أجناد الحلقة، وألزم كلّ أمير بإرسال رجلين من عدّته، وألزم أمراء الطبلخاناه والعشروات بإخراج كلّ أمير من عدّته رجلا، وندب الأمير سيف الدين كهرداش المنصوريّ الزراق إلى السفر بهم ومعه جماعة من مماليك السلطان الزراقين، وزينت الشواني أحسن زينة، فخرج معظم الناس لرؤيتها وأقاموا يومين بلياليهما على الساحل بالبرّين، وكان جمعا عظيما إلى الغاية، وبلغت أجرة المركب الصغير مائة درهم لأجل الفرجة، ثم ركب السلطان بكرة يوم السبت ثاني عشر المحرّم ومعه الأمير سلار النائب، والأمير بيبرس الجاشنكير، وسائر الأمراء، والعسكر، فوقفت المماليك(3/341)
على البرّ نحو بستان الخشاب، وعدّى الأمراء في الحراريق إلى الروضة، وخرجت الشواني واحدة بعد واحدة، فلعبت منها ثلاثة وخرجت الرابعة وفيها الأمير أقوش القاري من مينا الصناعة حتى توسط البحر، فلعب بها الريح إلى أن مالت وانقلبت، فصار أعلاها أسفلها فتداركها الناس ورفعوا ما قدروا عليه من العدد والسلاح، وسلمت الرجال فلم يعدم منهم سوى أقوش وحده، فتنكد الناس وعاد الأمراء إلى القلعة بالسلطان، وجهز شونة عوضا عن التي غرقت وساروا إلى مينا طرابلس، ثم ساروا ومعهم عدّة من طرابلس فأشرقوا من الغد على جزيرة أرواد من أعمال قبرس، وقاتلوا أهلها وقتلوا أكثرهم وملكوها في يوم الجمعة ثامن عشري صفر، واستولوا على ما فيها وهدموا أسوارها وعادوا إلى طرابلس، وأخرجوا من الغنائم الخمس للسلطان، واقتسموا ما بقي منها، وكان معهم مائتان وثمانون أسيرا، فسرّ السلطان بذلك سرورا كثيرا.
صناعة المقس: قال ابن أبي طيّ في تاريخه عند ذكر وفاة المعز لدين الله، أنه أنشأ دار الصناعة التي بالمقس، وأنشأ بها ستمائة مركب لم ير مثلها في البحر على ميناء. وقال المسبحي: أن العزيز بالله بن المعز هو الذي بنى دار الصناعة التي بالمقس، وعمل المراكب التي لم ير مثلها فيما تقدم كبرا ووثاقة وحسنا. وقال في حوادث سنة ست وثمانين وثلاثمائة: ووقعت نار في الأسطول وقت صلاة الجمعة، لست بقين من شهر ربيع الآخر، فأحرقت خمس عشاريات وأتت على جميع ما في الأسطول من العدّة والسلاح واتهموا الروم النصارى، وكانوا مقيمين بدار ماتك بجوار الصناعة التي بالمقس، وحملوا على الروم هم وجموع من العامّة معهم، فنهبوا أمتعة الروم وقتلوا منهم مائة رجل وسبعة رجال، وطرحوا جثثهم في الطرقات، وأخذ من بقي فحبس بصناعة المقس، ثم حضر عيسى بن نسطورس خليفة أمير المؤمنين العزيز بالله في الأموال ووجوهها بديار مصر والشام والحجاز، ومعه يانس الصقلبيّ، وهو يومئذ خليفة العزيز بالله على القاهرة عند مسيره إلى الشام، ومعهما مسعود الصقلبيّ متولي الشرطة، وأحضروا الروم من الصناعة فاعترفوا بأنهم الذين أحرقوا الأسطول، فكتب بذلك إلى العزيز بالله وهو مبرّز يريد السفر إلى الشام، وذكر له في الكتاب خبر من قتل من الروم وما نهب، وأنه ذهب في النهب ما يبلغ تسعين ألف دينار، فطاف أصحاب الشرط في الأسواق بسجل فيه الأمر برد ما نهب من دار ماتك وغيرها، والتوعد لمن ظهر عنده منه شيء، وحفظ أبو الحسن يانس البلد وضبط الناس، وأمر عيسى بن نسطورس أن يمدّ للوقت عشرون مركبا، وطرح الخشب وطلب الصناع وبات في الصناعة، وجدّ الصناع في العمل، وأغلب أحداث الناس وعامّتهم يلعبون برءوس القتلى ويجرّون بأرجلهم في الأسواق والشوارع، ثم قرنوا بعضهم إلى بعض على ساحل النيل بالمقس وأحرقوا يوم السبت، وضرب بالحرس على البلد، أن لا يتخلف أحد ممن نهب شيئا حتى يحضر ما نهبه ويردّه، ومن علم عليه بشيء أو كتم شيئا أو جحده أو أخره، حلت به العقوبة(3/342)
الشديدة، وتتبع من نهب فقبض على عدّة قتل منهم عشرون رجلا ضربت أعناقهم، وضرب ثلاثة وعشرون رجلا بالسياط، وطيف بهم وفي عنق كلّ واحد رأس رجل ممن قتل من الروم، وحبس عدّة أناس، وأمر بمن ضربت أعناقهم فصلبوا عند كوم دينار، وردّ المصريون إلى المطبق، وكان ضرب من ضرب من النهابة وقتل من قتل منهم برقاع كتبت لهم، تناول كلّ واحد منهم رقعة فيها مكتوب إما بقتل أو ضرب، فأمضى فيهم بحسب ما كان في رقاعهم من قتل أو ضرب، واشتدّ الطلب على النهاية فكان الناس يدل بعضهم على بعض، فإذا أخذ أحد ممن اتهم بالنهب حلف بالأيمان المغلظة أنه ما بقى عنده شيء.
وجدّ عيسى بن نسطورس في عمل الأسطول وطلب الخشب، فلم يدع عند أحد خشبا علم به إلّا أخذه منه، وتزايد إخراج النهابة لما نهبوه، فكانوا يطرحونه في الأزقة والشوارع خوفا من أن يعرفوا به، وحبس كثير ممن أحضر شيئا أو عرف عليه من النهب، فلما كان يوم الخميس ثامن جمادى الأولى ضربت أعناقهم كلهم على يد أبي أحمد جعفر صاحب يانس، فإنه قدم في عسكر كثير من اليانسية حتى ضربت أعناق الجماعة، وأغلقت الأسواق يومئذ وطاف متولى الشرطة وبين يديه أرباب النفط بعددهم والنار مشتعلة، واليانسية ركاب بالسلاح، وقد ضرب جماعة وشهرهم بين يديه وهم ينادي عليهم هذا جزاء من أثار الفتن ونهب حريم أمير المؤمنين، فمن نظر فليعتبر فما تقال لهم عثرة ولا ترحم لهم عبرة في كلام كثير من هذا الجنس، فاشتدّ خوف الناس وعظم فزعهم، فلما كان من الغد نودي: معاشر الناس قد آمن الله من أخذ شيئا أو نهب شيئا على نفسه وما له، فليردّ من بقي عنده شيء من النهب، وقد أجلناكم من اليوم إلى مثله، وفي سابع جمادى الآخرة نزل ابن نسطورس إلى الصناعة وطرح مركبين في غاية الكبر من التي استعملها بعد حريق الأسطول، وفي غرّة شعبان نزل أيضا وطرح بين يديه أربعة مراكب كبارا من المنشأة بعد الحريق، واتفق موت العزيز بالله وهو سائر إلى الشام في مدينة بلبيس.
فلما قام من بعده ابنه الحاكم بأمر الله في الخلافة أمر في خامس شوال بحط الذين صلبهم ابن نسطورس، فتسلمهم أهلهم وأعطى لأهل كلّ مصلوب عشرة دنانير برسم كفنه ودفنه، وخلع على عيسى بن نسطورس وأقرّه في ديوان الخاص، ثم قبض عليه في ليلة الأربعاء سابع المحرّم سنة سبع وثمانين وثلاثمائة واعتقله إلى ليلة الاثنين سابع عشريه، فأخرجه الأستاذ برجوان وهو يومئذ يتولى تدبير الدولة إلى المقس، وضرب عنقه، فقال وهو ماض إلى المقس: كلّ شيء قد كنت أحسبه إلّا موت العزيز بالله، ولكن الله لا يظلم أحدا، والله إني لأذكر وقد ألقيت السهام للقوم المأخوذين في نهب دار ماتك، وفي بعضها مكتوب يقتل وفي أخرى يضرب، فأخذ شاب ممن قبض عليه رقعة منها منها فجاء فيها يقتل، فأمرت به إلى القتل، فصاحت أمّه ولطمت وجهها وحلفت أنها وهو ما كانا ليلة النهب في شيء من أعمال مصر، وإنما ورد أمصر بعد النهب بثلاثة أيام، وناشدتني الله تعالى(3/343)
أن أجعله من جملة من يضرب بالسوط، وأن يعفى من القتل، فلم ألتفت إليها وأمرت بضرب عنقه، فقالت أمّه: إن كنت لا بدّ قاتله فاجعله آخر من يقتل لأتمتع به ساعة، فأمرت به فجعل أوّل من ضرب عنقه، فلطخت بدمه وجمهها وسبقتني وهي منبوشة الشعر ذاهلة العقل إلى القصر، فلما وافيت قالت لي أقتلته؟ كذلك. يقتلك الله، فأمرت بها فضربت حتى سقطت إلى الأرض، ثم كان من الأمر ما ترون مما أنا صائر إليه، وكان خبره عبرة لمن اعتبر، وفي نصف شعبان سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة ركب الحاكم بأمر الله إلى صناعة المقس لتطرح المراكب بين يديه.
صناعة الجزيرة: هذه الصناعة كانت بجزيرة مصر التي تعرف اليوم بالروضة، وهي أوّل صناعة عملت بفسطاط مصر، بنيت في سنة أربع وخمسين من الهجرة، وكان قبل بنائها هناك خمسمائة فاعل تكون مقيمة أبدا معدّة لحريق يكون في البلاد أو هدم، ثم اعتنى الأمير أبو العباس أحمد بن طولون بإنشاء المراكب الحربية في هذه الصناعة وأطافها بالجزيرة، ولم تزل هذه الصناعة إلى أيام الملك الأمير أبي بكر محمد بن طفج الإخشيد، فأنشأ صناعة بساحل فسطاط مصر، وجعل موضع هذه الصناعة البستان المختار كما قد ذكر في موضعه من هذا الكتاب،
صناعة مصر: هذه الصناعة كانت بساحل مصر القديم، يعرف موضعها بدار خديجة بنت الفتح بن خاقان، امرأة الأمير أحمد بن طولون، إلى أن قدم الأمير أبو بكر محمد بن طفج الإخشيد أميرا على مصر من قبل الخليفة الراضي، عوضا عن أحمد بن كيغلغ في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، وقد كثرت الفتن، فلم يدخل عيسى بن أحمد السلميّ أبو مالك كبير المغاربة في طاعته، ومضى ومعه بحكم وعليّ بن بدر ونظيف النوشريّ وعليّ المغربيّ إلى الفيوم، فبعث إليهم الإخشيد صاعدين الكلكم بمراكبه، فقاتلوه وقتلوه وأخذوا مراكبه، وركب فيها عليّ بن بدر وبحكم وقدموا مدينة مصر أوّل يوم من ذي القعدة، فأرسوا بجزيرة الصناعة، وركب الإخشيد في جيشه ووقف حيالهم، والنيل بينهم وبينه، فكره ذلك وقال:
صناعة يحول بينها وبين صاحبها الماء ليست بشيء، فأقام بحكم وعليّ بن بدر إلى آخر النهار ومضوا إلى جهة الإسكندرية وعاد الإخشيد إلى داره فأخذ في تحويل الصناعة من موضعها بالجزيرة إلى دار خديجة بنت الفتح، في شعبان سة خمس وعشرين وثلاثمائة وكان إذ ذاك عندها سلّم ينزل منه إلى الماء، وعند ما ابتدأ في إنشاء المراكب بها صاحت به امرأة فأمر بأخذها إليه، فسألته أن يبعث معها من يحمل المال، فسيّر معها طائفة، فأتت بهم إلى دار خديجة هذه ودلتهم على موضع منها فأخرجوا منه عينا وورقا وحليا وغيره، وطلبت المرأة فلم توجد ولا عرف لها خبر، وكانت مراكب الأسطول مع ذلك تنشأ في الجزيرة وفي صناعتها إلى أيام الخليفة الآمر بأحكام الله تعالى، فلما ولي المأمون بن البطائحيّ أنكر ذلك وأمر أن يكون إنشاء الشواني والمراكب النيلية الديوانية بصناعة مصر هذه، وأضاف إليها دار(3/344)
الزبيب، وأنشأ بها منظرة لجلوس الخليفة يوم تقدمة الأسطول ورميه، فأقرّ إنشاء الحربيات والشلنديات بصناعة الجزيرة، وكان لهذه الصناعة دهليز ماد بمساطب مفروشة بالحصر العبدانية بسطا وتازيرا، وفيها محل ديوان الجهاد، وكان يعرف في الدولة الفاطمية أن لا يدخل من باب هذه الصناعة أحد راكبا إلّا الخليفة والوزير إذا ركبا في يوم فتح الخليج عند وفاء النيل، فإن الخليفة كان يدخل من بابها ويشقّها راكبا والوزير معه حتى يركب النيل إلى المقياس، كما قد ذكر في موضعه من ذا الكتاب، ولم تزل هذه الصناعة عامرة إلى ما قبل سنة سبعمائة، ثم صارت بستانا عرف ببستان ابن كيسان، ثم عرف في زمننا ببستان الطواشيّ، وكان فيما بين هذه الصناعة والروضة بحر، ثم تربى جرف عرف موضعه بالجرف، وأنشئ هناك بستان عرف ببستان الجرف، وصار في جملة أوقاف خانقاه المواصلة، وقيل لهذا الجرف بين الزقاقين، وكان فيه عدّة دور وحمّام وطواحين وغير ذلك، ثم خرّب من بعد سنة ست وثمانمائة، وخرب بستان الجرف أيضا، وإلى اليوم بستان الطواشي فيه بقية، وهو على يسرة من يريد مصر من طريق المراغة، وبظاهره حوض ماء ترده الدواب، ومن وراء البستان كيمان فيها كنيسة للنصارى. قال ابن المتوّج: وكان مكان بستان ابن كيسان صناعة العمارة، وأدركت فيه بابها، وبستان الجرف المقابل لبستان ابن كيسان كان مكانه بحر النيل، وإن الجرف تربى به.
ذكر الميادين
ميدان ابن طولون: كان قد بناه وتأنق فيه تأنقا زائدا، وعمل فيه المناخ وبركة الزئبق والقبة الذهبية، وقد ذكر خبر هذا الميدان عند ذكر القطائع من هذا الكتاب.
ميدان الإخشيد: هذا الميدان أنشأه الأمير أبو بكر محمد بن طفج الإخشيد أمير مصر، بجوار بستانه الذي يعرف اليوم في القاهرة بالكافوريّ، ويشبه أن يكون موضع هذا الميدان اليوم حيث المكان المعروف بالبندقانيين وحامة الوزيرية، وما جاور ذلك. وكان لهذا البستان بابان من حديد قلعهما القائد جوهر عند ما قدم القرمطيّ إلى مصر يريد أخذها، وجعلهما على باب الخندق الذي حفره بظاهر القاهرة قريبا من مدينة عين شمس، وذلك في سنة ستين وثلاثمائة وكان هذا الميدان من أعظم أماكن مصر، وكانت فيه الخيول السلطانية في الدولة الإخشيدية.
ميدان القصر: هذا الميدان موضعه الآن في القاهرة، يعرف بالخرنشف، عمل عند بناء القاهرة بجوار البستان الكافوريّ، ولم يزل ميدانا للخلفاء الفاطميين، يدخل إليه من باب التبانين الذي موضعه الآن يعرف بقبو الخرنشف، فلما زالت الدولة الفاطمية تعطل وبقي إلى أن بنى به الغز اصطبلات بالخرنشف، ثم حكر وبني فيه، فصار من أخطاط القاهرة.
ميدان قراقوش: هذا الميدان خارج باب الفتوح.(3/345)
ميدان الملك العزيز: هذا الميدان كان بجوار خليج الدكر، وكان موضعه بستانا. قال القاضي الفاضل في متجددات ثالث عشري شهر رمضان، سنة أربع وتسعين وخمسمائة:
خرج أمر الملك العزيز عثمان بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، بقطع النخل المثمر المستغل تحت اللؤلؤة بالبستان المعروف بالبغدادية، وهذا البستان كان من بساتين القاهرة الموصوفة، وكان منظره من المناظر المستحسنة، وكان له مستغل، وكان قد عنى الأوّلون به لمجاورته اللؤلؤة، وأطلال جميع مناظرها عليه، وجعل هذا البستان ميدانا وحرث أرضه وقطع ما فيه من الأصول. انتهى.
ثم حكر الناس أرض هذا البستان وبنوا عليها، وهو الآن داثر فيه كيمان وأتربة انتهى.
الميدان الصالحيّ: هذا الميدان كان بأراضي اللوق من برّ الخليج الغربيّ، وموضعه الآن من جامع المطباخ بباب اللوق إلى قنطرة قدادار التي على الخليج الناصريّ، ومن جملته الطريق المملوكة الآن من باب اللوق إلى القنطرة المذكورة، وكان أوّلا بستانا يعرف ببستان الشريف ابن ثعلب، فاشتراه السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، بثلاثة آلاف دينار مصرية، من الأمير حصن الدين ثعلب بن الأمير فخر الدين إسماعيل بن ثعلب الجعفريّ، في شهر رجب سنة ثلاث وأربعين وستمائة، وجعله ميدانا وأنشأ فيه مناظر جليلة تشرف على النيل الأعظم، وصار يركب إليه ويلعب فيه بالكرة، وكان عمل هذا الميدان سببا لبناء القنطرة التي يقال لها اليوم قنطرة الخرق على الخليج الكبير لجوازه عليها، وكان قبل بنائها موضعها موردة سقائي القاهرة، وما برح هذا الميدان تلعب فيه الملوك بالكرة من بعد الملك الصالح إلى أن انحسر ماء النيل من تجاهه، وبعد عنه، فأنشأ الملك الظاهر ميدانا على النيل.
وفي سلطنة الملك المعز عز الدين أيبك التركمانيّ الصالحيّ النجميّ، قال له منجمه أنّ امرأة تكون سببا في قتله، فأمر أن تخرب الدور والحوانيت التي من قلعة الجبل بالتبانة إلى باب زويلة، وإلى باب الخرق وإلى باب اللوق إلى الميدان الصالحيّ، وأمر أن لا يترك باب مفتوح بالأماكن التي يمرّ عليها يوم ركوبه إلى الميدان، ولا تفتح أيضا طاقة، وما زال باب هذا الميدان باقيا وعليه طوارق مدهونة إلى ما بعد سنة أربعين وسبعمائة، فأدخله صلاح الدين بن المغربيّ في قيسارية الغزل التي أنشأ هناك، ولأجل هذا الباب قيل لذلك الخط باب اللوق، ولما خرب هذا الميدان حكر وبني موضعه ما هنالك من المساكن، ومن جملته حكر مرادي، وهو على يمنة من سلك من جامع الطباخ إلى قنطرة قدادار، وهو في أوقاف خانقاه قوصون وجامع قوصون بالقرافة، وهذا الحكر اليوم قد صار كيمانا بعد كثرة العمارة به.(3/346)
الميدان الظاهريّ: هذا الميدان كان بطرف أراضي اللوق يشرف على النيل الأعظم، وموضعه الآن تجاه قنطرة قدادار من جهة باب اللوق، أنشأه الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ الصالحيّ، لما انحسر ماء النيل وبعد عن ميدان أستاذه الملك الصالح نجم الدين أيوب، وما زال يلعب فيه بالكرة هو ومن بعده من ملوك مصر، إلى أن كانت سنة أربع عشرة وسبعمائة، فنزل السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون إليه وخرّب مناظره وعمله بستانا من أجل بعد البحر عنه، وأرسل إلى دمشق فحمل إليه منها سائر أصناف الشجر، وأحضر معها خولة الشام والمطعمين، فغرسوها فيه وطعموها، وما زال بستانا عظيما، ومنه تعلم الناس بمصر تطعيم الأشجار في بساتين جزيرة الفيل، وجعل السلطان فواكه هذا البستان مع فواكه البستان الذي أنشأه بسرياقوس تحمل بأسرها إلى الشراب خاناه السلطانية بقلعة الجبل، ولا يباع منا شيء البتة، وتصرف كلفهما من الأموال الديوانية، فجادت فواكه هذين البستانين وكثرت حتى حاكت بحسنها فواكه الشام لشدجة العناية والخدمة بهما، ثم إنّ السلطان لما اختص بالأمير قوصون أنعم بهذا البستان عليه، فعمر تجاهه الزريبة التي عرفت بزريبة قوصون على النيل، وبنى الناس الدور الكثيرة هناك سميا لما حفر الخليج الناصري، فإن العمارة عظمت فيما بين هذا البستان والبحر وفيما بينه وبين القاهرة ومصر، ثم إنّ هذا البستان خرب لتلاشي أحواله بعد قوصون، وحكرت أرضه وبنى الناس فوقها الدور التي على يسرة من صعد القنطرة من جهة باب اللوق يريد الزريبة، ثم لما خرب خط الزريبة خرب ما عمر بأرض هذا البستان من الدور، منذ سنة ست وثمانمائة والله تعالى أعلم.
ميدان بركة الفيل: هذا الميدان كان مشرفا على بركة الفيل قبالة الكبش، وكان أوّلا اصطبل الجوق برسم خيول المماليك السلطانية، إلى أن جلس الأمير زين الدين كتبغا على تخت الملك وتلقب بالملك العادل، بعد خلعه الملك الناصر محمد بن قلاون في المحرّم سنة أربع وتسعين وستمائة، فلما دخلت سنة خمس وتسعين كان الناس في أشدّ ما يكون من غلاء الأسعار وكثرة الموتان، والسلطان خائف على نفسه ومتحرّز من وقوع فتنة، وهو مع ذلك ينزل من قلعة الجبل إلى الميدان الظاهريّ بطرف اللوق، فحسن بخاطره أن يعمل إصطبل الجوق المذكور ميدانا عوضا عن ميدان اللوق، وذكر ذلك للأمراء فأعجبهم ذلك، فأمر بإخراج الخيل منه وشرعه في عمله ميدانا، وبادر الناس من حينئذ إلى بناء الدور بجانبه، وكان أوّل من أنشأ هناك الأمير علم الدين سنجر الخازن في الموضع الذي عرف اليوم بحكر الخازن، وتلاه الناس في العمارة والأمراء، وصار السلطان ينزل إلى هذا الميدان من القلعة فلا يجد في طريقه أحدا من الناس سوى أصحاب الدكاكين من الباعة لقلة الناس وشغلهم بما هم فيه من الغلاء والوباء، ولقد رآه شخص من الناس وقد نزل إلى الميدان والطرقات خالية فأنشد ما قيل في الطبيب ابن زهر:(3/347)
قل للغلا أنت وابن زهر ... بلغتما الحدّ والنهايه
ترفقا بالورى قليلا ... في واحد منكما كفايه
وما برح هذا الميدان باقيا إلى أن عمّر السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون قصر الأمير بكتمر الساقي على بركة الفيل، فأدخل فيه جميع أرض هذا الميدان، وجعله إصطبل الأمير بكتمر الساقي، في سنة سبع عشرة وسبعمائة، وهو باق إلى وقتنا هذا.
ميدان المهاري: هذا الميدان بالقرب من قناطر السباع في برّ الخليج الغربيّ، كان من جملة جنان الزهريّ، أنشأه الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة عشرين وسبعمائة، ومن وراء هذا الميدان بركة ماء كان موضعها كرم القاضي الفاضل رحمة الله عليه.
قال جامع السيرة الناصرية: وكان الملك الناصر محمد بن قلاون له شغف عظيم بالخيل، فعمل ديوانا ينزل فيه كلّ فرس بشأنه واسم صاحبه وتاريخ الوقت الذي حضر فيه، فإذا حملت فرس من خيول السلطان أعلم به وترقب الوقت الذي تلد فيه، واستكثر من الخيل حتى احتاج إلى مكان برسم نتاجها، فركب من قلعة الجبل في سنة عشرين وسبعمائة، وعين موضعا يعمله ميدانا برسم المهاري، فوقع اختياره على أرض بالقرب من قناطر السباع، وما زال واقفا بفرسه حتى حدّد الموضع وشرع في نقل الطين البليز إليه، وزرعه من النخل وغيره، وركب على الآبار التي فيه السواقي، فلم يمض سوى أيام حتى ركب إليه ولعب فيه بالكرة مع الخاصكية، ورتب فيه عدّة حجور للنتاج وأعدّلها سوّاسا وأميرا خورية وسائر ما يحتاج إليه، وبني فيه أماكن ولازم الدخول إليه في ممرّه إلى الميدان الذي أنشأه على النيل بموردة الملح.
فلما كان بعد أيام وأشهر حسن في نفسه أن يبني تجاه هذا الميدان على النيل الأعظم بجوار جامع الطيبرسي زريبة، ويبرز بالمناظر التي ينشئها في الميدان إلى قرب البحر، فنزل بنفسه وتحدّث في ذلك، فكثّر المهندسون المصروف في عينه وصعّبوا الأمر من جهة قلة الطين هناك، وكان قد أدركه السفر للصعيد، فترك ذلك وما برحت الخيول في هذا الميدان إلى أن مات الملك الظاهر برقوق في سنة إحدى وثمانمائة، واستمرّ بعده في أيام ابنه الملك الناصر فرج، إلّا أنه تلاشى أمره عما كان قبل ذلك، ثم انقطعت منه الخيول وصار براحا خاليا.
ميدان سرياقوس: كان هذا الميدان شرقيّ ناحية سرياقوس بالقرب من الخانقاه، أنشأه الملك الناصر محمد بن قلاون في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة، وبنى فيه قصورا جليلة وعدّة منازل للأمراء، وغرس فيه بستانا كبيرا نقل إليه من دمشق سائر الأشجار التي تحمل الفواكه، وأحضر معها خولة بلاد الشام حتى غرسوها وطعموا الأشجار، فأفلح(3/348)
فيه الكرم والسفرجل وسائر الفواكه، فلما كمل في سنة خمس وعشرين خرج ومعه الأمراء والأعيان ونزل القصور التي هناك، ونزل الأمراء والأعيان على منازلهم في الأماكن التي بنيت لهم، واستمرّ يتوجه إليه في كلّ سنة ويقيم به الأيام ويلعب فيه بالكرة إلى أن مات، فعملل ذلك أولاده الذين ملكوا من بعده.
فكان السلطان يخرج في كل سنة من قلعة الجبل بعد ما تنقضي أيام الركوب إلى الميدان الكبير الناصريّ وعلى النيل، ومعه جميع أهل الدولة من الأمراء والكتاب وقاضي العسكر وسائر أرباب الرتب، ويسير إلى السرحة بناحية سرياقوس وينزل بالقصور ويركب إلى الميدان هناك للعب الكرة، ويخلع الأمراء وسائر أهل الدولة، ويقيم في هذه السرحة أياما، فيمرّ للناس في إقامتهم بهذه السرحة أوقات لا يمكن وصف ما فيها من المسرّات، ولا حصر ما ينفق فيها من المآكل والهبات من الأموال، ولم يزل هذا الرسم مستمرّ إلى سنة تسع وتسعين وسبعمائة، وهي آخر سرحة سار إليها السلطان بسرياقوس، ومن هذه السنة انقطع السلطان الملك الظاهر برقوق عن الحركة لسرياقوس، فإنه اشتغل في سنة ثمانمائة بتحرّك المماليك عليه من وقت قيام الأمير علي باي إلى أن مات.
وقام من بعده ابنه الملك الناصر فرج، فما صفا الوقت في أيامه من كثرة الفتن وتواتر الغلوات والمحن، إلى أن نسي ذلك وأهمل أمر الميدان والقصور وخرب، وفيه إلى اليوم بقية قائمة. ثم بيعت هذه القصور في صفر سنة خمس وعشرين وثمانمائة بمائة دينار، لينقض خشبها وشبابيكها وغيرها، فنقضت كلها، وكان من عادة السلطان إذا خرج إلى الصيد لسرياقوس أو شبرا أو البحيرة أنه ينعم على أكابر أمراء الدولة قدرا وسنّا، كلّ واحد بألف مثقال ذهيبا، وبرذون خاص مسرج ولمجم، وكنبوش مذهب، وكان من عادته إذا مرّ في متصيدانه بإقطاع أمير كبير قدّم له من الغنم والإوز والدجاج وقصب السكر والشعير ما تسمو همة مثله إليه، فيقبله السلطان منه وينعم بخلعة كاملة، وربما أمر لبعضهم بمبلغ مال.
وكانت عادة الأمراء أن يركب الأمير منهم حيث يركب في المدينة وخلفه جنيب، وأما أكابرهم فيركب بجنيبين، هذا في المدينة والحاضرة، وهكذا يكون إذا خرج إلى سرياقوس وغيرها من نواحي الصعيد، ويكون في الخروج إلى سرياقوس وغيرها من الأسفار لكلّ أمير طلب يشتمل على أكثر مماليكه، وقدّامهم خزانة محمولة على جمل واحد يجرّه راكب آخر على جمل، والمال على جملين، وربما زاد بعضهم على ذلك. وأمام الخزانة عدّة جنائب تجرّ على أيدي مماليك ركّاب خيل وهجن، وركّاب من العرب على هجن، وأمامها الهجن بأكوارها مجنوبة، وللطبلخانات قطار واحد، وهو أربعة، ومركوب الهجان والمال قطاران، وربما زاد بعضهم، وعدد الجنائب في كثرتها وقلتها إلى رأي الأمير وسعة نفسه، والجنائب منها ما هو مسرح ملجم، ومنها ما هو بعباءة لا غير، وكان يضاهي بعضهم بعضا في(3/349)
الملابس الفاخرة والسروح المحلاة والعدد الملحية.
وكان من رسوم السلطان في خروجه إلى سرياقوس وغيرها من الأسفار أن لا يتكلف إظهار كلّ شعار السلطنة، بل يكون الشعار في موكبه السائر فيه جمهور مماليكه مع المقدّم عليهم واستاداره، وأمامهم الخزائن والجنائب والهجن، وأما هو نفسه فإنه يركب ومعه عدّة كبيرة من الأمراء الكبار والصغار من الغرباء والخواص، وجملة من خواص مماليكه، ولا يركب في السير برقبة ولا بعصائب، بل يتبعه جنائب خلفه، ويقصد في الغالب تأخير النزول إلى الليل، فإذا جاء الليل حملت قدّامة فوانيس كثيرة ومشاعل، فإذا قارب مخيمه تلقى بشموع موكبية في سمعدانات كفت، وصاحت الجاويشية بين يديه، ونزل الناس كافة إلّا حملة السلاح، فإنهم وراءه، والوشاقية أيضا وراءه، وتمشي الطبر دارية حوله حتى إذا وصل القصور بسرياقوس أو الدهليز من المخيم نزل عن فرسه ودخل إلى الشقة، وهي خيمة مستديرة متسعة، ثم منها إلى شقة مختصرة، ثم منها إلى اللاجوق، وبدائر كلّ خيمة من جميع جوانبها من داخل سور خركاه، وفي صدر اللاجوق قصر صغير من خشب برسم المبيت فيه، وينصب بإزاء الشقة الحمّام بقدور الرصاص، والحوض على هيئة الحمام المبنيّ في المدن، إلّا أنه مختصر. فإذا نام السلطان طافت به المماليك دائرة بعد دائرة، وطاف بالجميع الحرس، وتدور الزفة حول الدخليز في كلّ ليلة، وتدور بسرياقوس حول القصر في كلّ ليلة مرّتين، الأولى منذ يأوي إلى النوم، والثانية عند قعوده من النوم، وكلّ زفة يدور بها أمير جاندار، وهو من أكابر الأمراء، وحوله الفوانيس والمشاعل والطبول والبياتة، وينام على باب الدهليز النقباء وأرباب النوب من الخدم، ويصحب السلطان في السفر غالب ما تدعو الحاجة إليه حتى يكاد يكون معهم مارستان لكثرة من معه من الأطباء وأرباب الكحل والجراح والأشربة والعقاقير، وما يجري مجرى ذلك، وكل من عاده طبيب ووصف له ما يناسبه، يصرف له من الشراب خاناه أو الدواء خاناه المحمولين في الصحبة.
والله أعلم.
الميدان الناصريّ: هذا الميدان من جملة أراضي بستان الخشاب، فيما بين مدينة مصر والقاهرة، وكان موضعه قديما غامرا بماء النيل، ثم عرف ببستان الخشاب، فلما كانت سنة أربع عشرة وسبعمائة هدم السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون الميدان الظاهريّ، وغرس فيه أشجارا كما تقدّم، وأنشأ هذا الميدان من أراضي بستان الخشاب، فإنه كان حينئذ مطلا على النيل، وتجهز في سنة ثمان عشرة وسبعمائة للركوب إليه، وفرّق الخيول على جميع الأمراء واستجدّ ركوب الأوجاقية بكوا في الزركس على صفة الطاسات فوق رؤوسهم، وسمّاهم الجفتاوات، فيركب منهم اثنان بثوبي حرير أطلس أصفر، وعلى رأس كلّ منهما كوفية الذهب، وتحت كل واحد فرس أبيض بحلية ذهب، ويسيران معا بين يدي السلطان في ركوبه من قلعة الجبل، إلى الميدان، وفي عودته منه إلى القلعة، وكان السلطان إذا ركب(3/350)
إلى هذا الميدان للعب الأكرة يفرّق حوائص ذهب على الأمراء المقدّمين، وركوبه إلى هذا الميدان دائما يوم السبت في قوّة الحرّ بعد وفاء النيل مدّة شهرين من السنة، فيفرّق في كلّ ميدان على اثنين بالنوبة، فمنهم من تجيء نوبته بعد ثلاث سنين أو أربع سنين، وكان من مصطلح الملوك أن تكون تفرقة السلطان الخيول على الأمراء في وقتين، أحدهما عند ما يخرج إلى مرابط خيله في الربيع عند اكتمال تربيعها، وفي هذا الوقت يعطي أمراء المئين الخيول مسرجة ملجمة بكنابيش مذهبة، ويعطي أمراء الطبلخانات خيلا عريا. والوقت الثاني يعطي الجميع خيولا مسرجة ملجمة بلا كنابيش، بفضة خفيفة، وليس لأمراء العشروات خظ في ذلك إلّا ما يتفقدهم به على سبيل الأنعام، ولخاصكية السلطان المقرّبين من أمراء المئين وأمراء الطبلخانات زيادة كثيرة من ذلك، بحيث يصل إلى بعضهم المائة فرس في السنة.
وكان من شعار السلطان أن يركب إلى اليميدان وفي عنق الفرس رقبة حرير أطلس أصفر بزرگش ذهب، فتستر من تحت أذني الفرس إلى حيث السرج، ويكون قدّامه اثنان من الأوشاقية راكبين على حصانين اشهبين برقبتين نظير ما هو راكب به، كأنهما معدّان لأن يركبهما، وعلى الأوشاقيين المذكورين قبا آن اصفران من حرير بطراز مزركش بالذهب، وعلى رأسهما قبعان مزركشان، وغاشية السرج محمولة أمام السلطان، وهي أديم مزركش مذهب يحملها بعض الركابدارية قدّامة وهو ماش في وسط الموكب، ويكون قدّامة فارس يشبب بشبابة لا يقصد بنغمها إلا طراب، بل ما يقرع بالمهابة سامعة، ومن خلف السلطان الجنائب، وعلى رأسه العصائب السلطانية، وهي صفر مطرزة بذهب بألقابه واسمه، وهذا لا يختص بالركوب إلى الميدان، بل يعمل هذا الشعار أيضا إذا ركب يوم العيد أو دخل إلى القاهرة أو إلى مدينة من مدن الشام، ويزداد هذا الشعار في يوم العيدين ودخول المدينة برفع المظلة على رأسه، ويقال لها الحبر، وهو أطلس أصفر مزركش من أعلاه قبة وطائر من فضة مذهبة، يحملها يومئذ بعض أمراء المئين الأكابر، وهو راكب فرسه إلى جانب السلطان، ويكون أرباب الوظائف والسلاحدارية كلهم خلف السلطان، ويكون حوله وأمامه الطبردارية، وهم طائفة من الاكراد ذوي الإقطاعات والأمرة، ويكونون مشاة وبأيديهم الأطباء المشهورة.
ذكر قلعة الجبل
قال ابن سيده في كتاب المحكم: القلعة بتحريك القاف واللام والعين وفتحها، الحصن الممتنع في جبل، وجمعها قلاع وقلع، وأقلعوا بهذه البلاد بنوها فجعلوها كالقلعة.
وقيل: القلعة بسكون اللام، حصن مشرف، وجمعه قلوع، وهذه القلعة على قطعة من الجبل وهي تتصل بجبل المقطم، وتشرف على القاهرة ومصر والنيل والقرافة، فتصير(3/351)
القاهرة في الجهة البحرية منها، ومدينة مصر والقرافة الكبرى وبركة الحبش في الجهة القبلية الغربية، والنيل الأعظم في غربيها، وجبل المقطم من ورائها في الجهة الشرقية. وكان موضعها أوّلا يعرف بقبة الهواء، ثم صار من تحته ميدان أحمد بن طولون، ثم صار موضعها مقبرة فيها عدّة مساجد، إلى أن أنشأها السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، أوّل الملوك بديار مصر، على يدّ الطواشي بهاء الدين قراقوش الأسديّ في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، وصارت من بعده دار الملك بديار مصر إلى يومنا هذا، وهي ثامن موضع صار دار المملكة بديار مصر. وذلك أن دار الملك كانت أوّلا قبل الطوفان مدينة أمسوس، ثم صار تخت الملك بعبد الطوفان بمدينة منف إلى أن خرّبها بخت نصر، ثم لما ملك الإسكندر بن فيليبس سار إلى مصر وجدّد بناء الإسكندرية فصارت دار المملكة من حينئذ بعد مدينة منف الإسكندرية، إلى أن جاء الله تعالى بالإسلام، وقدم عمرو بن العاص رضي الله عنه بجيوش المسلمين إلى مصر وفتح الحصن واختط مدينة فسطاط مصر، فصارت دار الإمارة من حينئذ بالفسطاط إلى أن زالت دولة بني أمية، وقدمت عساكر بني العباس إلى مصر وبنوا في ظاهر الفسطاط العسكر، فصار الأمراء من حينئذ تارة ينزلون في العسكر وتارة في الفسطاط، إلى أن بنى أحمد بن طولون القصر والميدان، وأنشأ القطائع بجانب العسكر، فصارت القطائع منازل الطولونية إلى أن زالت دولتهم، فسكن الأمراء بعد زوال دولة بني طولون بالعسكر إلى أن قدم جوهر القائد من بلاذ المغرب بعساكر المعز لدين الله وبنى القاهرة المعزية، فصارت القاهرة من حينئذ دار الخلافة ومقرّ الإمامة ومنزل الملك، إلى أن انقضت الدولة الفاطمية على يد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، فلما استبدّ بعدهم بأمر سلطنة مصر بنى قلعة الجبل هذه ومات، فسكنها من بعده الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، واقتدى به من ملك مصر من بعده من أولاده إلى أن انقرضوا على يد مماليكهم البحرية وملكوا مصر من بعدهم، فاستقرّوا بقلعة الجبل إلى يومنا هذا، وسأجمع إن شاء الله تعالى من أخبار قلعة الجبل هذه وذكر من ملكها ما فيه كفاية. والله أعلم.
اعلم أن أوّل ما عرف من خبر موضع قلعة الجبل، أنه كان فيه قبة تعرف بقبة الهواء، قال أبو عمرو الكنديّ في كتاب أمراء مصر: وابتنى حاتم بن هرثمة القبة التي تعرف بقبة الهواء، وهو أوّل من ابتناها، وولي مصر إلى أن صرف عنها في جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين ومائة. قال: ثم مات عيسى بن منصور أمير مصر في قبة الهواء بعد عزله، لاحدى عشرة خلت من شهر ربيع الآخر، سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، ولما قدم أمير المؤمنين المأمون إلى مصر في سنة سبع عشرة ومائتين، جلس بقبة الهواء هذه، وكان بحضرته سعيد بن عفير، فقال المأمون: لعن الله فرعون حيث يقول: أليس لي ملك مصر، فلو رأى العراق وخصبها. فقال سعيد بن عفير: يا أمير المؤمنين لا تقل هذا، فإن الله عز وجل قال:(3/352)
وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ
[الأعراف/ 137] فما ظنك يا أمير المؤمنين بشيء دمّره الله هذا بقيته ثم قال سعيد: لقد بلغنا أن أرضا لم تكن أعظم من مصر، وجميع أهل الأرض يحتاجون إليها، وكانت الأنهار بقناطر وجسور بتقدير، حتى أنّ الماء يجري تحت منازلهم وأفنيتهم، يرسلونه متى شاؤوا ويحبسونه متى شاؤوا، وكانت البساتين متصلة لا تنقطع، ولقد كانت الأمة تضع المكتل على رأسها فيمتلىء مما يسقط من الشجر، وكانت المرأة تخرج حاسرة لا تحتاج إلى خمار لكثرة الشجر، وفي قبة الهواء حبس المأمون الحارث بن مسكين. قال الكنديّ في كتاب الموالي: قدم المأمون مصر وكان بها رجل يقال له الحضرميّ، يتظلم من ابن أسباط وابن تميم، فجلس الفضل بن مروان في المسجد الجامع، وحضر مجلسه يحيى بن أكثم وابن أبي داود، وحضر إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد، وكان على مظالم مصر، وحضر جماعة من فقهاء مصر وأصحاب الحديث، وأحضر الحارث بن مسكين ليولي قضاء مصر، فدعاه الفضل بن مروان، فبينما هو يكلمه إذ قال الحضرميّ للفضل: سل أصلحك الله الحارث عن ابن أسباط وابن تميم. قال: ليس لهذا أحضرناه. قال: أصلحك الله سله، فقال الفضل للحارث: ما تقول في هذين الرجلين فقال: ظالمين غاشمين. قال: ليس لهذا أحضرناك، فاضطرب المسجد وكان الناس متوافرين، فقام الفضل وصار إلى المأمون بالخبر وقال:
خفت على نفسي من ثوران الناس مع الحارث، فأرسل المأمون إلى الحارث فدعاه، فابتدأه بالمسألة فقال: ما تقول في هذين الرجلين؟ فقال: ظالمين غاشمين. قال: هل ظلماك بشيء؟ قال: لا. قال: فعاملتهما؟ قال: لا. قال: فكيف شهدت عليهما؟ قال: كما شهدت أنك أمير المؤمنين ولم أرك قط إلّا الساعة، وكما شهدت أنك غزوت ولم أحضر غزوك. قال: اخرج من هذه البلاد فليست لك ببلاد، وبع قليلك وكثيرك، فإنك لا تعاينها أبدا.
وحبسه في رأس الجبل في قبة ابن هرثمة، ثم انحدر المأمون إلى البشرود وأحضره معه، فلما فتح البشرود أحضر الحارث، فلما دخل عليه سأله عن المسألة التي سأله عنها بمصر، فردّ عليه الجواب بعينه، فقال: فأيّ شيء تقول في خروجنا هذا؟ قال: أخبرني عبد الرحمن بن القاسم عن مالك، أنّ الرشيد كتب إليه في أهل دهلك يسأله عن قتالهم فقال: إن كانوا خرجوا عن ظلم من السلطان فلا يحلّ قتالهم، وإن كانوا إنما شقوا العصا فقتالهم حلال. فقال المأمون: أنت تيس ومالك أتيس منك، ارجل عن مصر. قال: يا أمير المؤمنين إلى الثغور؟ قال الحق بمدينة السلام. فقال له أبو صالح الحرّانيّ: يا أمير المؤمنين تغفر زلته؟ قال: يا شيخ تشفعت فارتفع.
ولما بنى أحمد بن طولون القصر والميدان تحت قبة الهواء هذه، كان كثيرا ما يقيم(3/353)
فيها، فإنها كانت تشرف على قصره، واعتنى بها الأمير أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون، وجعل لها الستور الجليلة والفرش العظيمة، في كلّ فصل ما يناسبه. فلما زالت دولة بني طولون وخرب القصر والميدان، كانت قبة الهواء مما خرب، كما تقدّم ذكره عند ذكر القطائع من هذا الكتاب، ثم عمل موضع قبة الهواء مقبرة وبني فيها عدّة مساجد.
قال الشريف محمد بن أسعد الجوانيّ النسابة في كتاب النقطة في الخطط: والمساجد المبنية على الجبل، المتصلة باليحاميم المطلة على القاهرة المعزية التي فيها المسجد المعروف بسعد الدولة، والترب التي هناك، تحتوي القلعة التي بناها السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب علي الجميع، وهي التي نعتها بالقاهرة، وبنيت هذه القلعة في مدّة يسيرة، وهذه المساجد هي مسجد سعد الدولة، ومسجد معز الدولة. والي مصر، ومسجد مقدّم بن عليان من بني بويه الديلميّ، ومسجد العدّة بناه أحد الأستاذين الكبار المستنصرية، وهو عدّة الدولة، وكان بعد مسجد معز الدولة، ومسجد عبد الجبار بن عبد الرحمن بن شبل بن عليّ رئيس الرؤساء. وكافي الكفاة أبي يعقوب بن يوسف، الوزير بهمدان، ابن عليّ. بناه وانتقل بالإرث إلى ابن عمه القاضي الفقيه أبي الحجاج يوسف بن عبد الجبار بن شبل، وكان من أعيان السادة، ومسجد قسطة، وكان غلاما أرمنيا من غلمان المظفر بن أمير الجيوش، مات مسموما من أكلة هريسة.
وقال الحافظ أبو الطاهر السلفيّ: سمعت أبا منصور قسطة الأرمنيّ والي الاسكندرية يقول: كان عبد الرحمن خطيب ثغر عسقلان يخطب بظاهر البلد في عيد من الأعياد، فقيل له: قد قرب منا العدو. فنزل عن المنبر وقطع الخطبة، فبلغه أن قوما من العسكرية عابوا عليه فعله، فخطب في الجمعة الأخرى داخل البلد في الجامع خطبة بليغة قال فيها: قد زعم قوم أن الخطيب فزع، وعن المنبر نزع، وليس ذلك عارا على الخطيب، فإنما ترسه الطيلسان وحسامه اللسان، وفرسه خشب لا تجري من الفرسان، وإنما العار على من تقلد الحسام وسنّ السنان، وركب الجياد الحسان، وعند اللقاء يصيح إلى عسقلان.
وكان قسطة هذا من عقلاء الأمراء المائلين إلى العدل، المثابرين على مطالعة الكتب، وأكثر ميله إلى التواريخ وسير المتقدّمين، وكان مسجده بعد مسجد شقيق الملك، ومسجد الديلميّ، وكان على قرنة الجبل المقابل للقلعة من شرقيها إلى البحريّ، وقبره قدّام الباب.
وتربة ولخشى الأمير والد السلطان رضوان بن ولخشى، المنعوت بالأفضل، كان من الأعيان الفضاء الأدباء، ضرب على طريقة ابن البوّاب، وأبي عليّ بن مقلة، وكتب عدّة ختمات، وكان كريما شجاعا يلقّب فحل الأمراء، وكانت هذه التربة آخر الصف، ومسجد شقيق الملك الأستاذ خسروان صاحب بيت المال أضيف إلى سور القلعة البحري إلى المغرب قليلا، ومسجد أمين الملك صارم الدولة مفلح صاحب الملجس الحافظيّ كان بعد مسجد(3/354)
القاضي أبي الحجاج، المعروف بمسجد عبد الجبار، وهو في وسط القلعة، بعده تربة لاون أخي يانس، ومسجد القاضي النبيه، كان لمام الدولة غنّام، ومات رسولا ببلاد الشام، وشراه منه وأنشأه القاضي النبيه، وقبره به، وكان القاضي من الأعيان.
وقال ابن عبد الظاهر: أخبرني والدي قال: كنا نطلع إليها، يعني إلى المساجد التي كانت موضع قلعة الجبل، قبل أن تسكن في ليالي الجمع، نبيت متفرّجين كما نبيت في جواسق الجبل والقرافة.
قال مؤلفه رحمه الله: وبالقلعة الآن مسجد الردينيّ، وهو أبو الحسن علي بن مرزوق بن عبد الله الردينيّ الفقيه المحدّث المفسر، كان معاصرا لأبي عمر وعثمان بن مرزوق الحوفيّ، وكان ينكر على أصحابه، وكانت كلمته مقبولة عند الملوك، وكان يأوي بمسجد سعد الدولة، ثم تحوّل منه إلى مسجد عرف بالردينيّ، وهو الموجود الآن بداخل قلعة الجبل، وعليه وقف بالإسكندرية، وفي هذا المسجد قبر يزعمون أنه قبره، وفي كتب المزارات بالقرافة، أنّه توفي ودفن بها في سنة أربعين وخمسمائة، بخط سارية شرقيّ تربة الكيروانيّ، واشتهر قبره بإجابة الدعاء عنده.
ذكر بناء قلعة الجبل
وكان سبب بنائها أن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، لما أزال الدولة الفاطمية من مصر واستبدّ بالأمر، لم يتحوّل من دار الوزارة بالقاهرة، ولم يزل يخاف على نفسه من شيعة الخلفاء الفاطميين بمصر، ومن الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي سلطان الشام، رحمة الله عليه، فامتنع أوّلا من نور الدين بأن سير أخاه الملك المعظم شمس الدولة توران شاه بن أيوب في سنة تسع وستين وخمسمائة، إلى بلاد اليمن لتصير له مملكة تعصمه من نور الدين، فاستولى شمس الدولة على ممالك اليمن، وكفى الله تعالى صلاح الدين أمر نور الدين ومات في تلك السنة، فحلاله الجوّ وأمن جانبه، وأحبّ أن يجعل لنفسه معقلا بمصر، فإنه كان قد قسم القصرين بين أمرائه وأنزلهم فيهما، فيقال أنّ السبب الذي دعاه إلى اختيار مكان قلعة الجبل، أنه علق اللحم بالقاهرة فتغير بعد يوم وليلة، فعلق لحم حيوان آخر في موضع القلعة فلم يتغير إلا بعد يومين وليلتين، فأمر حينئذ بإنشاء قلعة هناك، وأقام على عمارتها الأمير بهاء الدين قراقوش الأسديّ، فشرع في بنائها وبنى سور القاهرة الذي زاده في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، وهدم ما هنالك من المساجد وأزال القبور وهدم الأهرام الصغار التي كانت بالجيزة تجاه مصر، وكانت كثيرة العدد، ونقل ما وجد بها من الحجارة وبنى به السور والقلعة وقناطر الجيزة، وقصد أن يجعل السور يحيط بالقاهرة والقلعة ومصر، فمات السلطان قبل أن يتم الغرض من السور والقلعة، فأهمل العمل إلى أن كانت سلطنة الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب في قلعة الجبل(3/355)
واستنابته في مملكة مصر وجعله وليّ عهد، فأتم بناء القلعة وأنشأ بها الآدر السلطانية، وذلك في سنة أربع وستمائة، وما برح يسكنها حتي مات، فاستمرّت من بعده دار مملكة مصر إلى يومنا هذا، وقد كان السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب يقيم بها أياما، وسكنها الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين في أيام أبيه مدّة، ثم انتقل منها إلى دار الوزارة.
قال ابن عبد الظاهر: وسمعت حكاية تحكى عن صلاح الدين أنه طلعها ومعه أخوه الملك العادل، فلما رآها التفت إلى أخيه وقال: يا سيف الدين، قد بنيت هذه القلعة لأولادك. فقال: يا خوند منّ الله عليك أنت وأولادك وأولاد أولادك بالدنيا. فقال: ما فهمت ما قلت لك، أنا نجيب ما يأتي لي أولاد نجباء، وأنت غير نجيب فأولادك يكونون نجباء، فسكت.
قال مؤلفه رحمه الله: وهذا الذي ذكره صلاح الدين يوسف من انتقال الملك عنه إلى أخيه وأولاد أخيه ليس هو خاصا بدولته، بل اعتبر ذلك في الدول تجد الأمر ينتقل عن أولاد القائم بالدولة إلى بعض أقاربه، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القائم بالملة الإسلامية، ولما توفي صلى الله عليه وسلم انتقل أمر القيام بالملة الإسلامية بعده إلى أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، واسمه عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرّة بن كعب بن لؤيّ، فهو رضي الله عنه يجتمع من النبي صلى الله عليه وسلم، في مرّة بن كعب، ثم انتقل الأمر بعد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم إلى بني أمية كان القائم بالدولة الأموية معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية، فلم تفلح أولاده وصارت الخلافة إلى مروان بن الحكم بن العاص بن أمية، فتوارثها بنو مروان حتى انقضت دولتهم بقيام بني العباس رضي الله عنه، فكان أول من قام من بني العباس عبد الله بن محمد السفاح، ولما مات انتقلت الخلافة من بعده إلى أخيه أبي جعفر عبد الله بن محمد المنصور، واستقرّت في بنيه إلى أن انقرضت الدولة العباسية من بغداد.
وكذا وقع في دول العجم أيضا، فأول ملوك بني بوبه، عماد الدين أبو عليّ الحسن بن بويه، والقائم من بعده في السلطنة أخوه حسن بن بويه، وأوّل ملوك بني سلجوق، طغريل، والقائم من بعده في السلطنة ابن أخيه ألب أرسلان بن داود بن ميكال بن سلجوق، وأوّل قائم بدولة بني أيوب، السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، ولما مات اختلف أولاده فانتقل ملك مصر والشام وديار بكر والحجاز واليمن إلى أخيه الملك العادل أبي بكر بن أيوب، واستمرّ فيهم إلى أن انقرضت الدولة الأيوبية، فقام بمملكة مصر المماليك الأتراك، وأوّل من قام منهم بمصر الملك المعز أيبك، فلما مات لم يفلح ابنه عليّ فصارت المملكة إلى قطز، وأوّل من قام بالدولة الجركسية الملك الظاهر برقوق، وانتقلت المملكة من بعد ابنه الملك الناصر فرج إلى الملك المؤيد شيخ المحموديّ الظاهريّ، وقد جمعت في هذا(3/356)
فصلا كبيرا، وقلما تجد الأمر بخلاف ما قلته لك ولله عاقبة الأمور.
قال ابن عبد الظاهر: والملك الكامل هو الذي اهتم بعمارتها وعمارة أبراجها، البرج الأحمر وغيره، فكملت في سنة أربع وستمائة، وتحوّل إليها من دار الوزارة ونقل إليها أولاد العاضد وأقاربه وسجنهم في بيت فيها، فلم يزالوا فيه إلى أن حوّلوا منه في سنة إحدى وسبعين وستمائة. قال: وفي آخر سنة اثنتين وثمانين وسنمائة شرع السلطان الملك المنصور قلاون في عمارة برج عظيم على جانب باب السرّ الكبير، وبنى علوه مشترفات وقاعات مرخمة لم ير مثلها، وسكنها في صفر سنة ثلاث وثمانين وستمائة، ويقال أن قراقوش كان يستعمل في بناء القلعة والسور خمسين ألف أسير.
البئر التي بالقلعة: هذه البئر من العجائب، استنبطها قراقوش. قال ابن عبد الظاهر:
وهذه البئر من عجائب الأبنية، تدور البقر من أعلاها فتنقل الماء من نقالة في وسطها، وتدور أبقار في وسطها تنقل الماء من أسفلها، ولها طريق إلى الماء ينزل البقر إلى معينها في مجاز، وجميع ذلك حجر منحوت ليس فيه بناء، وقيل أن أرضها مسامّة أرض بركة الفيل وماؤها عذب. سمعت من يحكي من المشايخ أنها لما نقرت جاء ماؤها حلوا، فأراد قراقوش أو نوّا به الزيادة في مائها، فوسع نقر الجبل فخرجت منه عين مالحة غيرت حلاوتها. وذكر القاضي ناصر الدين شافع بن عليّ في كتاب عجائب البنيان، أنه ينزل إلى هذه البئر بدرج نحو ثلاثمائة درجة.
ذكر صفة القلعة
وصفة قلعة الجبل أنها بناء على نشزعال، يدور بها سور من حجر بأبراج وبدنات حتى تنتهي إلى القصر الأبلق، ثم من هناك تتصل بالدور السلطانية على غير أوضاع أبراج الغلال، ويدخل إلى القلعة من بابين، أحدهما بابها الأعظم المواجه للقاهرة، ويقال له الباب المدرّج، وبداخله يجلس والي القلعة، ومن خارجه تدق الخليلية قبل المغرب. والباب الثاني باب القرافة، وبين البابين ساحة فسيحة في جانبها بيوت، وبجانبها القبليّ سوق للمآكل، ويتوصل من هذه الساحة إلى دركاه جليلة كان يجلس بها الأمراء حتى يؤذن لهم بالدخول، وفي وسط الدركاه باب القلعة، ويدخل منه في دهليز فسيح إلى ديار وبيوت وإلى الجامع الذي تقام به الجمعة، ويمشي من دهليز باب القلعة في مداخل أبواب إلى رحبة فسيحة في صدرها الإيوان الكبير المعدّ لجلوس السلطان في يوم المواكب، وإقامة دار العدل. وبجانب هذه الرحبة ديار جليلة، ويمرّ منها إلى باب القصر الأبلق، وبين يدي باب القصر رحبة دون الأولى يجلس بها خواص الأمراء قبل دخولهم إلى الخدمة الدائمة بالقصر، وكان بجانب هذه الرحبة محاذيا لباب القصر خزانة القصر، ويدخل من باب القصر في دهاليز خمسة إلى قصر عظيم، ويتوصل منه إلى الإيوان الكبير بباب خاص، ويدخل منه(3/357)
أيضا إلى قصور ثلاثة، ثم إلى دور الحرم السلطانية، وإلى البستان والحمّام والحوش، وباقي القلعة فيه دور ومساكن للماليك السلطانية وخواص الأمراء بنسائهم وأولادهم ومماليكهم ودواوينهم وطشتخاناتهم «1» وفرشخاناتهم «2» وشربخاناتهم «3» ومطابخهم وسائر وظائفهم، وكانت أكابر أمراء الألوف وأعيان أمراء الطبلخاناه والعشراوات تسكن بالقلعة إلى آخر أيام الناصر محمد بن قلاون، وكان بها أيضا طباق المماليك السلطانية ودار الوزارة، وتعرف بقاعة الصاحب، وبها قاعة الإنشاء وديوان الجيش وبيت المال وخزانة الخاص، وبها الدور السلطانية من الطشتخاناه والركابخاناه والحوائجخاناه والزردخاناه، وكان بها الجب الشنيع لسجن الأمراء، وبها دار النيابة، وبها عدّة أبراج يحبس بها الأمراء والمماليك، وبها المساجد والحوانيت والأسواق، وبها مساكن تعرف بخرائب التتر، كانت قدر حارة خرّبها الملك الأشرف برسباي في ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وثمانمائة، ومن حقوق القلعة الإصطبل السلطانيّ، وكان ينزل إليه السلطان من جانب إيوان القصر، ومن حقوقها أيضا الميدان، وهو فاصل بين الإصطبلات وسوق الخيل من غربيه، وهو فسيح المدى وفيه يصلي السلطان صلاة العيدين، وفيه يلعب بالأكرة مع خواصه، وفيه تعمل المدّات أوقات المهمات أحيانا، ومن رأى القصور والإيوان الكبير والميدان الأخضر والجامع يقرّ لملوك مصر بعلوّ الهمم وسعة الإنفاق والكرم.
باب الدرفيل: هذا الباب بجانب خندق القلعة، ويعرف أيضا بباب المدرج، وكان يعرف قديما بباب سارية، ويتوصل إليه من تحت دار الضيافة وينتهي منه إلى القرافة، وهو فيما بين سور القلعة والجبل.
والدرفيل هو الأمير حسام الدين لاجين الأيدمريّ، المعروف بالدرفيل، دوادار الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ، مات في سنة اثنتين وسبعين وستمائة.
دار العدل القديمة: هذه الدار موضعها الآن تحت القلعة، يعرف بالطبلخاناه، والذي بنى دار العدل الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ، في سنة إحدى وستين وستمائة، وصار يجلس بها لعرض العساكر في كلّ اثنين وخميس، وابتدأ بالحضور في أوّل سنة اثنتين وستين وستمائة، وصار يجلس بها لعرض العساكر في كلّ اثنين وخميس، وابتدأ بالحضور في أوّل سنة اثنتين وستين وستمائة، فوقف إليه ناصر الدين محمد بن أبي نصر وشكا أنه أخذ له بستان في أيام المعز أيبك، وهو بأيدي المقطعين، وأخرج كتابا مثبتا وأخرج من(3/358)
ديوان الجيش ما يشهد بأن البستان ليس من حقوق الديوان، فأمر بردّه عليه فتسلمه.
وأحضرت مرافعة في ورقة مختومة رفعها خادم أسود في مولاه القاضي شمس الدين شيخ الحنابلة، تضمنت أنه يبغض السلطان ويتمنى زوال دولته، فإنه لم يجعل للحنابلة مدرّسا في المدرسة التي أنشأها بخط بين القصرين، ولم يولّ قاضيا حنبليا، وذكر عنه أمورا قادحة، فبعث السلطان الورقة إلى الشيخ، فحضر إليه وحلف أنه ما جرى منه شيء، وأن هذا الخادم طردته فاختلق عليّ ما قال. فقبل السلطان عذره وقال: ولو شتمتني أنت في حلّ، وأمر بضرب الخادم مائة عصا. وغلت الأسعار بمصر حتى بلغ أردب القمح نحو مائة درهم، وعدم الخبز، فنادى السلطان في الفقراء أن يجتمعوا تحت القلعة، ونزل في يوم الخميس سابع ربيع الآخر منها وجلس بدار العدل هذه ونظر في أمر السعر وأبطل التسعير، وكتب مرسوما إلى الأمراء ببيع خمسمائة أردب، في كلّ يوم ما بين مائتين إلى ما دونهما، حتى لا يشتري الخزان شيئا، وأن يكون البيع للضعفاء والأرامل فقط دون من عداهم، وأمر الحجاب فنزلوا تحت القلعة وكتبوا أسماء الفقراء الذين تجمعوا بالرميلة، وبعث إلى كلّ جهة من جهات القاهرة ومصر وضواحيهما حاجبا لكتابة أسماء الفقراء، وقال: والله لو كان عندي غلة تكفي هؤلاء لفرّقتها، ولما انتهى إحضار الفقراء أخذ منهم لنفسه ألوفا، وجعل باسم ابنه الملك السعيد ألوفا، وأمر ديوان الجيش فوزع باقيهم، على كلّ أمير من الفقراء بعدّة رجاله، ثم فرّق ما بقي على الأجناد، ومفاردة الحلقة، والمقدّمين، والبحرية، وجعل طائفة التركمان ناحية وطائفة الأكراد ناحية، وقرّر لكلّ واحد من الفقراء كفايته لمدّة ثلاثة أشهر، فلما تسلم الأمراء والأجناد ما خصهم من الفقراء فرّق من بقي منهم على الأكابر والتجار والشهود، وعين لأرباب الزوايا مائة أردب قمح في كلّ يوم، تخرج من الشون السلطانية إلى جامع أحمد بن طولون وتفرّق على من هناك، ثم قال: هؤلاء المساكين الذين جمعناهم اليوم ومضى النهار لا بدّ لهم من شيء، وأمر ففرّق في كلّ منهم نصف درهم ليتقوّت به في يومه، ويستمرّ له من الغد ما تقرّر، فأنفق فيهم جملة مال، وأعطى للصاحب بهاء الدين عليّ بن محمد بن حنا طائفة كبيرة من العميان، وأخذ الأتابك سيف الدين أقطاي طائفة التركمان، ولم يبق أحد من الخواص والأمراء الحواشي ولا من الحجاب والولاة وأرباب المناصب وذوي المراتب وأصحاب الأموال حتى أخذ جماعة من الفقراء على قدر حاله.
وقال السلطان للأمير صارم الدين المسعوديّ والي القاهرة: خذ مائة فقير وأطعمهم لله تعالى. فقال: نعم قد أخذتهم دائما. فقال له السلطان هذا شيء فعلته ابتداء من نفسك، وهذه المائة خذها لأجلي. فقال للسلطان: السمع والطاعة، وأخذ مائة فقير زيادة على المائة التي عينت له، وانقضى النهار في هذا العمل وشرع الناس في فتح الشون والمخازن وتفرقة الصدقات على الفقراء، فنزل سعر القمح ونقص الأردب عشرين درهما، وقلّ وجود(3/359)
الفقراء إلى أن جاء شهر رمضان، وجاء المغلّ الجديد، فأوّل يوم من بيع الجديد نقص سعر أردب القمح أربعين درهما ورقا، وفي اليوم الذي جلس فيه السلطان بدار العدل للنظر في أمور الأسعار قرئت عليه قصة ضمان دار الضرب، وفيها أنه قد توقفت الدراهم وسألوا إبطال الناصرية، فإن ضمانهم بمبلغ مائتي ألف وخمسين ألف درهم، فوقع عليها يحط عنهم منها مبلغ خمسين ألف درهم وقال: نحط هذا ولا نؤذي الناس في أموالهم.
وفي مستهل شهر رجب منها جلس أيضا بدار العدل، فوقف له بعض الأجناد بصغير يتيم ذكر أنه وصيه، وشكا من قضيته. فقال السلطان لقاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز، أنّ الأجناد إذا مات أحد منهم استولى خجداشه على موجوده، فيموت الوصيّ، ويكبر اليتيم فلا يجد له مالا، وتقدّم إليه أن لا يمكّن وصيا من الانفراد بتركة ميت، ولكن يكون نظر القاضي شاملا له، وتصير أموال الأيتام مضبوطة بأمناء الحكم. ثم أنه استدعى نقباء العساكر وأمرهم بذلك، فاستمرّ الحال فيه على ما ذكر.
وفي خامس عشري شعبان سنة ثلاث وستين وستمائة، جلس بدار العدل واستدعى تاج الدين ابن القرطبيّ وقال له: قد أضجرتني مما تقول عندي مصالح لبيت المال، فتحدّث الآن بما عندك، فتكلّم في حق قاضي القضاة تاج الدين، وفي حق متولي جزيرة سواكن، وفي حق الأمراء، وأنهم إذا مات منهم أحد أخذ ورثته أكثر من استحقاقهم، فأنكر عليه وأمر بحبسه، وتحدّث السلطان في أمر الأجناد وأنه إذا مات أحدهم في مواطن الجهاد لا يصل إليه شاهد حتى يشهد عليه بوصيته، وأنه يشهد بعض أصحابه، فإذا حضر إلى القاهرة لا تقبل شهادته، وكان الجنديّ في ذلك الوقت لا تقبل شهادته، فرأى السلطان أن كلّ أمير يعين من جماعته عدّة ممن يعرف خيره ودينه ليسمع قولهم، وألزم مقدّمي الأجناد بذلك، فشرع قاضي القضاة في اختيار رجال جياد من الأجناد وعينهم لقبول شهادتهم، ففرحت العساكر بذلك.
وجلس أيضا في تاسع عشرية بدار العدل فوقف له شخص وشكا أن الأملاك الديوانية لا يمكن أحد من سكانها أن ينتقل منها، فأنكر السلطان ذلك وأمر أن من انقضت مدّة إجارته وأراد الخلوّ فلا يمنع من ذلك، وله في ذلك عدّة أخبار كلها صالحة، رحمه الله تعالى.
وما برحت دار العدل هذه باقية إلى أن استجدّ السلطان الملك المنصور قلاون الإيوان فهجرت دار العدل هذه إلى أن كانت سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة، فهدمها السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون، وعمل موضعها الطبلخاناه، فاستمرّت طبلخاناه إلى يومنا، إلّا أنه كان في أيام عمارتها إنما يجلس بها دائما في أيام الجلوس نائب دار العدل ومعه القضاة، وموقع دار العدل والأمراء، فينظر نائب دار العدل. في أمور المتظلمين، وتقرأ عليه(3/360)
القصص، وكان الأمر على ذلك في أيام الظاهر بيبرس وأيام ابنه الملك السعيد بركة، ثم أيام الملك المنصور قلاون.
الإيوان: المعروف بدار العدل، هذا الإيوان أنشأه السلطان الملك المنصور قلاون الألفيّ الصالحيّ النجميّ، ثم جدّده ابنه السلطان الملك الأشرف خليل، واستمرّ جلوس نائب دار العدل به، فلما عمل الملك الناصر محمد بن قلاون الروك أمر بهدم هذا الإيوان، فهدم وأعاد بناءه على ما هو عليه الآن، وزاد فيه، وأنشأ به قبة جليلة، وأقام به عمدا عظيمة نقلها إليه من بلاد الصعيد ورخمه، ونصب في صدره سرير الملك، وعمله من العاج والأبنوس، ورفع سمك هذا الإيوان وعمل أمامه رحبة فسيحة مستطيلة، وجعل بالإيوان باب سرّ من داخل القصر، وعمل باب الإيوان مسبوكا من حديد بصناعة بديعة تمنع الداخل إليه، وله منه باب يغلق، فإذا أراد أن يجلس فتح حتى ينظر منه ومن تخاريم الحديد بقية العسكر الواقفين بساحة الإيوان، وقرّر للجلوس فيه بنفسه يوم الاثنين ويوم الخميس، فاستمرّ الأمر على ذلك، وكان أوّلا دون ما هو اليوم، فوسع في قبته وزاد في ارتفاعه وجعل قدّامه دركاة كبيرة، فجاء من أعظم المباني الملوكية، وأوّل ما جلس فيه عند انتهاء عمل الروك بعد ما رسم لنقيب الجيش أن يستدعي سائر الأجناد، فلما تكامل حضورهم جلس وعين أن يحضر في كلّ يوم مقدّما ألوف بمضافيهما، فكان المقدّم يقف بمضافيه ويستدعي بمضافيه من تقدمته على قدر منازلهم، فيتقدّم الجنديّ إلى السلطان فيسأله أنت ابن من ومملوك من، ثم يعطيه مثالا، واستمرّ على ذلك من مستهل المحرّم سنة خمس عشرة وسبعمائة إلى مستهل صفر منها، وما برح بعد ذلك يواظب على الجلوس به في يومي الاثنين والخميس، وعنده أمراء الدولة والقضاة والوزير وكاتب السرّ وناظر الجيش وناظر الخاص وكتاب الدست، وتقف الأجناد بين يديه على قدر أقدارهم، فلما مات الملك الناصر اقتدى به في ذلك أولاده من بعده، واستمرّوا على الجلوس بالإيوان إلى أن استبدّ بمملكة مصر الملك الظاهر برقوق، فالتزم ذلك أيضا، إلّا أنه صار يجلس فيه إذا طلعت الشمس جلوسا يسيرا يقرأ عليه فيه بعض قصص لا لمعنى سوى إقامة رسوم المملكة فقط، وكان من قبله من ملوك بني قلاون إنما يجلسون بالإيوان سحرا على الشمع، وكان موضع جلوس السلطان في الإيوان للنظر في المظالم، فأعرض الملك الظاهر عن ذلك وجعل لنفسه يومين يجلس فيهما بالإصطبل السلطانيّ للحكم بين الناس، كما سيأتي ذكره عن قريب إن شاء الله تعالى، وصار الإيوان في أيام الظاهر برقوق وأيام ابنه الملك الناصر فرج، وأيام الملك المؤيد شيخ، إنما هو شيء من بقايا الرسوم الملوكية لا غير.
ذكر النظر في المظالم
اعلم أنّ النظر في المظالم عبارة عن قود المتظالمين إلى التناصف بالرهبة، وزجر(3/361)
المتنازعين عن التجاحد بالهيبة، وكان من شروط الناظر في المظالم أن يكون جليل القدر، نافذ الأمر، عظيم الهيبة، ظاهر العفة، قليل الطمع، كثير الورع، لأنه يحتاج في نظره إلى سطوة الحماة، وتثبت القضاة، فيحتاج إلى الجمع بين صفتي الفريقين، وأن يكون بجلالة القدر نافذ الأمر في الجهتين، وهي خطة حدثت لفساد الناس، وهي كلّ حكم يعجز عنه القاضي، فينظر فيه من هو أقوى منه يدا.
وأوّل من نظر في المظالم من الخلفاء، أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه. وأوّل من أفرد للظلامات يوما يتصفح فيه قصص المتظلمين من غير مباشرة النظر، عبد الملك بن مروان، فكان إذا وقف منها على مشكل، واحتاج فيها إلى حكم ينفذ، ردّه إلى قاضيه ابن إدريس الأزديّ، فينفذ فيه أحكامه. وكان ابن إدريس هو المباشر، وعبد الملك الآمر، ثم زاد الجور، فكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله أوّل من ندب نفسه للنظر في المظالم فردّها، ثم جلس لها خلفاء بني العباس، وأوّل من جلس منهم المهديّ محمد، ثم الهادي موسى، ثم الرشيد هارون، ثم المأمون عبد الله، وآخر من جلس منهم المهتديّ بالله محمد بن الواثق، وأوّل من أعلم أنه جلس بمصر من الأمراء للنظر في المظالم، الأمير أبو العباس أحمد بن طولون، فكان يجلس لذلك يومين في الأسبوع، فلما مات وقام من بعده ابنه أبو الجيش خمارويه، جعل على المظالم بمصر محمد بن عبيدة بن حرب، في شعبان سنة ثلاث وسبعين ومائتين، ثم جلس لذلك الأستاذ أبو المسك كافور الإخشيديّ، وابتدأ ذلك في سنة أربعين وثلاثمائة وهو يومئذ خليفة الأمير أبي القاسم أونوجور بن الإخشيد، فعقد مجلسا صار يجلس فيه كلّ يوم سبت، ويحضر عنده الوزير أبو الفضل جعفر بن الفضل بن الفرات، وسائر القضاة والفقهاء والشهود، ووجوه البلد، وما برح على ذلك مدّة أيامه بمصر إلى أن مات، فلم ينتظم أمر مصر بعده إلى أن قدم القائد أبو الحسين جوهر بجيوش المعز لدين الله أبي تميم معدّ، فكان يجلس للنظر في المظالم ويوقع على رقاع المتظلمين، فمن توقيعاته بخطه على قصة رفعت إليه، سوء الاجترام أوقع بكم طول الانتقام، وكفر الأنعام أخركم من حفظ الذمام، فالواجب فيكم ترك الإيجاب، واللازم لكم ملازمة الاجتناب، لأنكم بدأتم فأسأتم، وعدتم فتعدّيتم، فابتداؤكم ملوم وعودكم مذموم، وليس بينهما فرجة تقتضي إلّا الذم لكم والإعراض عنكم، ليرى أمير المؤمنين رأيه فيكم.
ولما قدم المعز لدين الله، إلى مصر وصارت دار خلافة، استقرّ النظر في المظالم، مدّة يضاف إلى قاضي القضاة، وتارة ينفرد بالنظر فيه أحد عظماء الدولة، فلما ضعف جانب المستنصر بالله أبي تميم معدّ بن الظاهر، وكانت الشدّة العظمى بمصر، قدم أمير الجيوش بدر الجمالي إلى القاهرة وولي الوزارة، فصار أمر الدولة كله راجعا إليه، واقتدى به من بعده من الوزراء، وكان الرسم في ذلك أن الوزير صاحب السيف يجلس للمظالم بنفسه، ويجلس(3/362)
قبالته قاضي القضاة، وبجانبه شاهدان معتبران، ويجلس بجانب الوزير الموقع بالقلم الدقيق، ويليه صاحب ديوان المال، ويقف بين يدي الوزير صاحب البلاد واسفهسلار العساكر، وبين أيديهما الحجاب والنوّاب على طبقاتهم، ويكون هذا الجلوس يومين في الأسبوع، وآخر من تقلد المظالم في الدولة الفاطمية، رزيك بن الوزير الأجلّ، الملك الصالح طلائع بن رزيك، في وزارة أبيه، وكتب له سجل عن الخليفة منه، وقد قلدك أمير المؤمنين النظر في المظالم وإنصاف المظلوم من الظالم، وكانت الدولة إذا خلت من وزير صاحب سيف، جلس للنظر في المظالم صاحب الباب في باب الذهب من القصر، وبين يديه الحجاب والنقباء، وينادي مناد بحضرته يا أرباب الظلامات، فيحضرون إليه، فمن كانت ظلامته مشافهة أرسلت إلى الولاة أو القضاة رسالة بكشفها، ومن تظلم من أهل النواحي التي خارج القاهرة ومصر. فإنه يحضر قصة فيها شرح ظلامته، فيتسلمها الحاجب منه حتى تجتمع القصص فيدفعها إلى الموقّع بالقلم الدقيق، فيوقع عليها، ثم تحمل بعد توقيعه عليها إلى الموقّع بالقلم الجليل، فيبسط ما أشار إليه الموقع بالقلم الدقيق، ثم تحمل التواقيع في خريطة إلى ما بين يدي الخليفة فيوقع عليها، ثم تخرج في خريطتها إلى الحاجب فيقف على باب القصر ويسلم كلّ توقيع إلى صاحبه.
وأوّل من بنى دار العدل من الملوك، السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي رحمة الله تعالى عليه بدمشق، عند ما بلغه تعدّي ظلم نوّاب أسد الدين شير كوه بن شادي إلى الرعية، وظلمهم الناس، وكثرة شكواهم إلى القاضي كمال الدين الشهرزوريّ، وعجزه عن مقاومتهم، فلما بنيت دار العدل أحضر شير كوه نوّابه وقال: إن نور الدين ما أمر ببناء هذه الدار إلّا بسببي، والله لئن أحضرت إلى دار العدل بسبب أحد منكم لأصلبنه، فامضوا إلى كلّ من كان بينكم وبينه منازعة في ملك أو غيره فافصلوا الحال معه وأرضوه بكلّ طريق أمكن ولو أتى على جميع ما بيدي. فقالوا إن الناس إذا علموا بذلك اشتطوا في الطلب. فقال: لخروج أملاكي عن يدي أسهل عليّ من أن يراني نور الدين بعين أني ظالم، أو يساوي بيني وبين أحد من العامّة في الحكومة. فخرج أصحابه وعملوا ما أمرهم به من إرضاء أخصامهم، وأشهدوا عليهم. فلما جلس نور الدين بدار العدل في يومين من الأسبوع، وحضر عنده القاضي والفقهاء، أقام مدّة لم يحضر أحد يشكو شير كوه، فسأل عن ذلك فعرّف بما جرى منه ومن نوّابه، فقال الحمد الله الذي جعل أصحابنا ينصفون من أنفسهم قبل حضورهم عندنا. وجلس أيضا السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب في يومي الاثنين والخميس لإظهار العدل، ولما تسلطن الملك المعز أيبك التركمانيّ أقام الأمير علاء الدين أيدكين البندقداريّ في نيابة السلطنة بديار مصر، فواظب الجلوس في المدارس الصالحية بين القصرين ومعه نوّاب دار العدل ليرتب الأمور وينظر في المظالم، فنادى بإراقة الخمور وإبطال ما عليها من المقرّر، وكان قد كثر الإرجاف بمسير الملك(3/363)
الناصر صلاح الدين يوسف بن العزيز محمد بن الظاهر غازي بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب الشام لأخذ مصر، فلما انهزم الملك الناصر واستبدّ الملك المعز أيبك، أحدث وزيره من المكوس شيئا كثيرا، ثم إنّ الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ بنى دار العدل وجلس بها للنظر في المظالم. كما تقدّم، فلما بنى الإيوان الملك الناصر محمد بن قلاون واظب الجلوس يوم الاثنين والخميس فيه، وصار يفصل فيه الحكومات في الأحايين إذا أعيي من دونه فصلها، فلما استبدّ الملك الظاهر برقوق بالسلطنة عقد لنفسه مجلسا بالإصطبل السلطانيّ من قلعة الجبل، وجلس فيه يوم الأحد ثامن عشري شهر رمضان سنة تسع وثمانين وسبعمائة، وواظب ذلك في يومي الأحد والأربعاء، ونظر في الجليل والحقير، ثم حوّل ذلك إلى يومي الثلاثاء والسبت، وأضاف إليهما يوم الجمعة بعد العصر، وما زال على ذلك حتى مات، فلما ولى ابنه الملك الناصر فرج بعده واستبدّ بأمره، جلس للنظر في المظالم بالإصطبل اقتداء بأبيه، وصار كاتب السرّ فتح الدين فتح الله يقرأ القصص عليه، كما كان يقرؤها على أبيه، فانتفع أناس وتضرّر آخرون بذلك، وكان الضرر أضعاف النفع، ثم لما استبدّ الملك المؤيد شيخ بالمملكة جلس أيضا للنظر في المظالم كما جلسا، والأمر على ذلك مستمرّ إلى وقتنا هذا، وهو سنة تسع عشرة وثمانمائة.
وقد عرف النظر في المظالم منذ عهد الدولة التركية بديار مصر والشام بحكم السياسة، وهو يرجع إلى نائب السلطنة وحاجب الحجاب، ووالي البلد ومتولى الحرب بالأعمال، وسيرد إن شاء الله تعالى الكلام في حكم السياسة عن قريب.
ذكر خدمة الإيوان المعروف بدار العدل
كانت العادة أنّ السلطان يجلس بهذا الإيوان بكرة الاثنين والخميس طول السنة خلا شهر رمضان، فإنه لا يجلس فيه هذا المجلس، وجلوسه هذا إنما هو للمظالم، وفيه تكون الخدمة العامّة واستحضار رسل الملوك غالبا، فإذا جلس للمظالم كان جلوسه على كرسيّ إذا قعد عليه يكاد تلحق الأرض رجله، وهو منصوب إلى جانب المنبر الذي هو تخت الملك وسرير السلطنة، وكانت العادة أوّلا أن يجلس قضاة القضاة من المذاهب الأربعة عن يمينه، وأكبرهم الشافعيّ، وهو الذي يلي السلطان، ثم إلى جانب الشافعيّ الحنفيّ، ثم المالكيّ، ثم الحنبليّ، وإلى جانب الحنبليّ الوكيل عن بيت المال، ثم الناظر في الحسبة بالقاهرة، ويجلس على يسار السلطان كاتب السرّ، وإن كان الوزير من أرباب السيوف، كان واقفا على بعد مع بقية أرباب الوظائف، وإن كان نائب السلطنة، فإنه يقف مع أرباب الوظائف، ويقف من وراء السلطان صفان عن يمينه ويساره من السلاحدارية والجمدارية والخاصكية، ويجلس على بعد بقدر خمسة عشر ذراعا عن يمنته ويسرته ذو والسنّ والقدر من أكابر أمراء المئين، ويقال لهم أمراء المشورة، ويليهم من أسفل منهم أكابر الأمراء وأرباب الوظائف، وهم(3/364)
وقوف، وبقية الأمراء وقوف من وراء أمراء المشورة، ويقف خلف هذه الحلقة المحيطة بالسلطان الحجاب والدوادارية، لإعطاء قصص الناس وإحضار الرسل وغيرهم من الشكاة وأصحاب الحوائج والضرورات، فيقرأ كاتب السرّ وموقعو الدست القصص على السلطان، فإن احتاج إلى مراجعة القضاة راجعهم فيما يتعلق بالأمور الشرعية والقضايا الدينية، وما كان متعلقا بالعسكر فإن كانت القصص في أمراء الإقطاعات قرأها ناظر الجيش، فإن احتاج إلى مراجعة في أمر العسكر تحدّث مع الحاجب وكاتب الجيش فيه، وما عدا ذلك يأمر فيه السلطان بما يراه، وكانت العادة الناصرية أن تكون الخدمة في هذا الإيوان على ما تقدّم ذكره في بكرة يوم الاثنين، وأما بكرة يوم الخميس فإن الخدمة على مثل ذلك، إلّا أنّه لا يتصدّى السلطان فيه لسماع القصص، ولا يحضره أحد من القضاة ولا الموقعين ولا كاتب الجيش، إلا إن عرضت حاجة إلى طلب أحد منهم، وهذا القعود عادته طول السنة ما عدا رمضان.
وقد تغير بعد الأيام الناصرية هذا الترتيب، فصارت قضاة القضاة تجلس عن يمنة السلطان ويسرته، فيجلس الشافعيّ عن يمينه ويليه المالكيّ ويليه قاضي العسكر، ثم محتسب القاهرة، ثم مفتي دار العدل الشافعيّ. ويجلس الحنفيّ عن يسرة السلطان، ويليه الحنبليّ، وصارت القصص تقرأ والقضاة وناظر الجيش يحضرون في يوم الخميس أيضا، وكانت العادة أيضا أنه إذا ولي أحد المملكة من أولاد الملك الناصر محمد بن قلاون، فإنه عند ولايته يحضر الأمراء إلى داره بالقلعة وتفاض عليه الخلعة الخليفية السوداء، ومن تحتها فرجية خضراء وعمامة سوداء مدوّرة، ويقلد بالسيف العربيّ المذهب، ويركب فرس النوبة ويسير والأمراء بين يديه، والغاشية قدّامه، والجاويشية تصيح، والشبابة السلطانية ينفخ بها، والطبردارية حواليه إلى أن يعبر من باب النحاس إلى درج هذا الإيوان، فينزل عن الفرس ويصعد إلى التخت فيجلس عليه، ويقبّل الأمراء الأرض بين يديه، ثم يتقدّمون إليه ويقبلون يده على قدر رتبهم، ثم مقدمو الحلقة، فإذا فرغوا حضر القضاة والخليفة، فتفاض التشاريف على الخليفة، ويجلس مع السلطان على التخت، ويقلد السلطان المملكة بحضور القضاة والأمراء، ويشهد عليه بذلك، ثم ينصرف ومعه القضاة، فيمدّ السماط للأمراء، فإذا انقضى أكلهم قام السلطان ودخل المقصورة وانصرف الأمراء.
ومما قيل في هذا الإيوان لمّا بناه السلطان الملك الناصر:
شرّفت إيوانا جلست بصدره ... فشرحت بالإحسان منه صدورا
قد كاد يستعلي الفراقد رفعة ... إذ حاز منك الناصر المنصورا
ملك الزمان ومن رعية ملكه ... من عدله لا يظلمون نقيرا
لا زال منصور اللواء مؤيدا ... أبد الزمان وضدّه مقهورا
وقيل أيضا:(3/365)
يا ملكا أطلع من وجهه ... إيوانه لما بدا بدرا
أنسيتنا بالعدل كسرى ولن ... نرضى لنا جبرا به كسرا
القصر الأبلق: هذا القصر يشرف على الإصطبل، أنشأه الملك الناصر محمد بن قلاون في شعبان سنة ثلاث عشرة وسبعمائة، وانتهت عمارته في سنة أربع عشرة، وأنشأ بجواره جنينة، ولما كمل عمل فيه سماطا حضره الأمراء وأهل الدولة، ثم أفيضت عليهم الخلع وحمل إلى كلّ أمير من أمراء المئين ومقدّمي الألوف ألف دينار، ولكلّ من مقدّمي الحلقة خمسمائة درهم، ولكلّ من أمراء الطبلخاناه عشرة آلاف درهم فضة، عنها خمسمائة دينار، فبلغت النفقة على هذا المهم خمسمائة ألف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم.
وكانت العادة أن يجلس السلطان بهذا القصر كلّ يوم للخدمة ما عدا يومي الاثنين والخميس، فإنه يجلس للخدمة بدار العدل، كما تقدّم ذكره، وكان يخرج إلى هذا القصر المطلّ على الإصطبل، وتارة يقعد دونه على الأرض والأمراء وقوف على ما تقدّم، خلا أمراء المشورة والقرباء من السلطان فإنه ليس لهم عادة بحضور هذا المجلس، ولا يحضر هذا المجلس من الأمراء الكبار إلّا من دعت الحاجة إلى حضوره، ولا يزال السلطان جالسا إلى الثالثة من النهار، فيقوم ويدخل إلى قصوره الجوّانيية، ثم إلى دار حريمه ونسائه، ثم يخرج في أخريات النهار إلى قصوره الجوّانية فينظر في مصالح ملكه، ويعبر إليه إلى قصوره الجوّانية خاصته من أرباب الوظائف في الأشغال المتعلقة به، على ما تدعو الحاجة إليه، ويقال لها خدمة القصر، وهذا القصر تجاه بابه رحبة يسلك إليها من الرحبة التي تجاه الإيوان، فيجلس بالرحبة التي على باب القصر خواص الأمراء قبل دخولهم إلى خدمة القصر، ويمشي من باب القصر في دهاليز مفروشة بالرخام، قد فرش فوقه أنواع البسط إلى قصر عظيم البناء شاهق في الهواء، بإيوانين أعظمهما الشماليّ، يطلّ منه على الإصطبلات السلطانية، ويمتدّ النظر إلى سوق الخيل والقاهرة وظواهرها إلى نحو النيل وما يليه من بلاد الجيزة وقراها، وفي الإيوان الثاني القبليّ باب خاص لخروج السلطان وخواصه منه إلى الإيوان الكبير أيام الموكب، ويدخل من هذا القصر إلى ثلاثة قصور جوّانية، منها واحد مسامت لأرض هذا القصر، واثنان يصعد إليهما بدرج، في جميعها شبابيك حديد تشرف على مثل منظرة القصر الكبير، وفي هذه القصور كلها مجاري الماء مرفوعا من النيل بدواليب تديرها الأبقار من مقرّه إلى موضع ثم إلى آخر حتى ينتهي الماء إلى القلعة ويدخل إلى القصور السلطانية وإلى دور الأمراء الخواص المجاورين للسلطان، فيجري الماء في دورهم، وتدور به حماماتهم، وهو من عجائب الأعمال لرفعته من الأرض إلى السماء قريبا من خمسمائة ذراع من مكان إلى مكان، ويدخل من هذه القصور إلى دور الحريم، وهذه القصور جميعها من ظاهرها مبنية بالحجر الأسود والحجر الأسفر، موزرة من داخلها(3/366)
بالرخام والفصوص المذهبة المشجرة بالصدف والمعجون وأنواع الملوّنات، وسقوفها كلها مذهبة قد موّهت باللازورد، والنور يخرق في جدرانها بطاقات من الزجاج القبرسيّ الملوّن كقطع الجوهر المؤلفة في العقود، وجميع الأراضي قد فرشت بالرخام المنقول إليها من أقطار الأرض مما لا يوجد مثله، وتشرف الدور السلطانية من بعضها على بساتين وأشجار وساحات للحيوانات البديعة والأبقار والأغنام والطيور الدواجن، وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر هذه القصور والبساتين والأحواش مفصلا. وكان بهذا القصر الأبلق رسوم وعوايد تغير كثير منها وبطل معظمها، وبقيت إلى الآن بقايا من شعار المملكة ورسوم السلطنة، وسأقص من أنباء ذلك إن شاء الله تعالى ما لا تراه بغير هذا الكتاب مجموعا، والله يؤتي فضله من يشاء.
الأسمطة السلطانية: وكانت العادة أن يمدّ بالقصر في طرفي النهار من كلّ يوم أسمطة جليلة لعامّة الأمراء خلا البرّانيين، وقليل ما هم. فبكرة يمدّ سماط أوّل لا يأكل منه السلطان، ثم ثان بعده يسمى الخاص، قد يأكل منه السلطان وقد لا يأكل، ثم ثالث بعده ويسمى الطارئ ومنه مأكول السلطان. وأما في آخر النهار فيمتدّ سماطان، الأوّل والثاني المسمى بالخاص، ثم إن استدعي بطارىء حضّر، وإلّا فلا، ما عدا المشويّ فإنه ليس له عادة محفوظة النظام، بل هو على حسب ما يرسم به، وفي كلّ هذه الأسمطة يؤكل ما عليها ويفرّق نوالات، ثم يسقى بعدها الأقسماء المعمولة من السكر والأفاويه المطيبة بماء الورد المبرّدة، وكانت العادة أن يبيت في كلّ ليلة بالقرب من السلطان أطباق فيها أنواع من المطجنات والبوارد والقطر والقشطة والجبن المقليّ والموز والسكباج، وأطباق فيها من الأقسماء والماء البارد برسم أرباب النوبة في السهر حول السلطان، ليتشاغلوا بالمأكول والمشروب عن النوم، ويكون الليل مقسوما بينهم بساعات الرمل، فإذا انتهت نوبة نبهت التي تليها، ثم ذهبت هي فنامت إلى الصباح، هكذا أبدا سفرا أو حضرا، وكانت العادة أيضا أن يبيت في المبيت السلطانيّ من القصر أو المخيم إن كان في السرحة المصاحف الكريمة لقراءة من يقرأ من أرباب النوبة، ويبيت أيضا الشطرنج ليتشاغل به عن النوم. وبلغ مصروف السماط في كلّ يوم عيد الفطر من كلّ سنة، خمسين ألف درهم، عنها نحو ألفين وخمسمائة دينار، تنهبه الغلمان والعامّة، وكان يعمل في سماط الملك الظاهر برقوق في كل يوم خمسة آلاف رطل من اللحم، سوى الأوز والدجاج، وكان راتب المؤيد شيخ في كلّ يوم لسماطه وداره ثمانمائة رطل من اللحم، فلما كان في المحرّم سنة ست وعشرين وثمانمائة، سأل الملك الأشرف برسباي عن مقدار ما يطبخ له في كلّ يوم بكرة وعشيا فقيل له: ستمائة رطل في الوجبتين، فأمر أن يطبخ بين يديه، لأنه بلغه أنه يوخذ مما ذكر لشادّ الشرابخاناه، ونحوه مائة وعشرون رطلا، فجعل راتب اللحم في كل يوم بزيادة أيام الخدمة، ونقصان أيام عدة الخدمة، خمسمائة رطل وستة أرطال عن وجبتي الغداء والعشاء، ومن الدجاج ستة وعشرين(3/367)
طائرا ولعمل المأمونية رطلين ونصفا من السكر، وما يعمل برسم الجمدارية فإنه بعسل النحل.
ذكر العلامة السلطانية
قد جرت العادة أن السلطان يكتب خطه على كل ما يأمر به، فأمّا مناشير الأمراء والجند وكلّ من له إقطاع فإنه يكتب عليه علامته، وكتبها الملك الناصر محمد بن قلاون، الله أملي، وعمل ذلك الملوك بعده إلى اليوم، وأما تقاليد النوّاب، وتواقيع أرباب المناصب من القضاة والوزراء والكتاب، وبقية أرباب الوظائف، وتواقيع أرباب الرواتب والإطلاقات، فإنه يكتب عليها اسمه واسم أبيه إن كان أبوه ملكا، فيكتب مثلا محمد بن قلاون، أو شعبان بن حسين، أو فرج بن برقوق، وإن لم يكن أبوه ممن تسلطن كبرقوق أو شيخ، فإنه يكتب اسمه فقط، ومثاله برقوق، أو شيخ. وأما كتب البريد وخلاص الحقوق والظلامات، فإنه يكتب أيضا عليها اسمه، وربما كرّم المكتوب إليه فكتب إليه أخوه فلان، أو والده فلان، وأخوه يكتب للأكابر من أرباب الرتب والذي يعلم عليه السلطان، أما إقطاع فالرسم فيه أن يقال خرج الأمر الشريف، وأما وظائف ورواتب وإطلاقات، فالرسم في ذلك أن يقال رسم بالأمر الشريف، وأعلى ما يعلم عليه ما افتتح بخطبة أولها الحمد لله، ثم ما افتتح بخطبة أوّلها أما بعد حمد الله، حتى يأتي على خرج الأمر في المناشير، أو رسم بالأمر في التواقيع، ثم بعد هذا أنزل الرتب، وهو أن يفتتح في المناشير، خرج الأمر وفي التواقيع رسم بالأمر، وتمتاز المناشير المفتتح فيها بالحمد لله. أوّل الخطبة، أن تطغر بالسواد وتتضمن اسم السلطان وألقابه، وقد بطلت الطغرافي وقتنا هذا، وكانت العادة أن يطالع نوّاب المملكة السلطان بما يتجدّد عندهم تارة على أيدي البريدية، وتارة على أجنحة الحمام، فتعود إليهم الأجوبة السلطانية وعليها العلامة، فإذا ورد البريديّ أحضره أمير جاندار، وهو من أمراء الألوف، والدوادار وكاتب السرّ بين يدي السلطان، فيقبّل البريديّ الأرض، ويأخذ الدوادار الكتاب فيمسحه بوجه البريدي، ثم يناول للسلطان فيفتحه، ويجلس حينئذ كاتب السرّ ويقرأ على السلطان سرّا، فإن كان أحد من الأمراء حاضرا تنحى حتى يفرغ من القراءة، ويأمر السلطان فيه بأمر، وإن كان الخبر على أجنحة الحمام، فإنه يكتب في ورق صغير خفيف ويحمل على الحمام الأزرق، وكان لحمام الرسائل مراكز كما كان للبريد مراكز، وكان بين كلّ مركزين من البريد أميال، وفي كلّ مركز عدّة خيول كما بيناه في ذكر الطريق فيما بين مصر والشام، وكانت مراكز الحمام كلّ مركز منها ثلاثة مراكز من مراكز البريد، فلا يتعدّى الحمام ذلك المركز، وينقل عند نزوله المركز على ما على جناحه إلى طائر حتى يسقط بقلعة الجبل، فيحضره البرّاج، ويقرأ كاتب السرّ البطاقة، وكلّ هذا مما يعلم عليه بالقصر، ومما كان يحضر إلى القصر بالقلعة في كلّ يوم ورقة الصباح، يرفعها والى القاهرة ووالي مصر، وتشتمل على إنهاء ما تجدّد في كل يوم وليلة بحارات البلدين وأخطاطهما من حريق أو قتل قتيل أو سرقة سارق ونحو ذلك، ليأمر السلطان فيه بأمره.(3/368)
الأشرفية: هذا القصر المعروف بالأشرفية أنشأ الملك الأشرف خليل بن قلاون في سنة اثنتين وتسعين وستمائة، ولما فرغ صنع به مهما عظيما لم يعمل مثله في الدولة التركية، وختن أخاه الملك الناصر محمد بن قلاون، وابن أخيه الأمير موسى بن الصالح عليّ بن قلاون، وجمع سائر أرباب الملاهي، وجميع الأمراء، ووقف الخزاندارية بأكياس الذهب، فلما قام الأمراء من الخاصكية للرقص، نثر الخزاندارية على كلّ من قام للرقص حتى فرغ الختان، فأنعم على كلّ أمير من الأمراء بفرس كامل القماش، وألبس خلعة عظيمة، وأنعم على عدّة منهم كلّ واحد بألف دينار وفرس، وأنعم على ثلاثين من الأمراء الخاصكية لكل واحد مبلغ خمسة آلاف دينار، وأنعم على البليبل المغني بألف دينار، وكان الذي عمل في هذا المهم من الغنم ثلاثة آلاف رأس، ومن البقر ستمائة رأس، ومن الخيل خمسمائة أكديس، ومن السكر برسم المشروب ألف قنطار وثمانمائة قنطار، وبرسم الحلوى مائة وستون قنطارا، وبلغت النفقة على هذا المهمّ في عمل السماط والمشروب والأقبية والطراز والسروج وثياب النساء مبلغ ثلاثمائة ألف دينار عينا.
البيسرية: ومن جملة دور القلعة قاعة البيسرية، أنشأها السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون، وكان ابتداء بنائها في أوّل يوم من شعبان سنة إحدى وستين وسبعمائة، ونهاية عمارتها في ثامن عشري ذي الحجة من السنة المذكورة، فجاءت من الحسن في غاية لم ير مثلها، وعمل لهذه القاعة من الفرش والبسط ما لا تدخل قيمته تحت حصر، فمن ذلك تسعة وأربعون ثريا برسم وقود القناديل، جملة ما دخل فيها من الفضة البيضاء الخالصة المضروبة مائتا ألف وعشرون ألف درهم، وكلها مطلية بالطهب، وجاء ارتفاع بناء هذه القاعة طولا في السماء ثمانية وثمانين ذراعا، وعمل السلطان بها برجا يبيت فيه، من العاج والأبنوس، مطعّم يجلس بين يديه، وأكناف وباب يدخل منه إلى أرض كذلك، وفيه مقرنص قطعة واحدة يكاد يذهل الناظر إليه، بشبابيك ذهب خالص، وطرازات ذهب مصوغ، وشرافات ذهب مصوغ، وقبة مصوغة من ذهب صرف، فيه ثمانية وثلاثون ألف مثقال من الذهب، وصرف في مؤنه وأجره تتمة ألف درهم فضة، عنها خمسون ألف دينار، ذهبا، وبصدر إيوان هذه القاعة شباك حديد يقارب باب زويلة يطل على جنينة بديعة الشكل.
الدهيشة: عمّرها السلطان الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن محمد بن قلاون، في سنة خمس وأربعين وسبعمائة، وذلك أنه بلغه عن الملك المؤيد عماد الدين صاحب حماه أنه عمر بحماه دهيشة لم يبن مثلها، فقصد مضاهاته، وبعث الأمير أقجبا وابجيج المهندس لكشف دهيشة حماه، وكتب لنائب حلب ونائب دمشق بحمل ألفي حجر بيض، وألفي حجر حمر من حلب ودمشق، وحشرت الجمال لحملها حتى وصلت إلى قلعة(3/369)
الجبل، وصرف في حمولة كلّ حجر من حلب اثنا عشر درهما، ومن دمشق ثمانية دراهم، واستدعى الرخام من سائر الأمراء وجميع الكتاب، ورسم بإحضار الصناع للعمل، ووقع الشروع فيها حتى تمت في شهر رمضان منها، وقد بلغ مصروفها خمسمائة ألف درهم، سوى ما قدم من دمشق وحلب وغير هما، وعمل لها من الفرش والبسط والآلات ما يجلّ وصفه، وحضر بها سائر الأغاني، وكان مهما عظيما.
السبع قاعات: هذه القاعات تشرف على الميدان وباب القرافة، عمّرها الملك الناصر محمد بن قلاون، وأسكنها سراريه، ومات عن ألف ومائتي وصيفة مولدة، سوى من عداهنّ من بقية الأجناس.
الجامع بالقلعة: هذا الجامع أنشأه السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة ثمان عشرة وسبعمائة، وكان قبل ذلك هناك جامع دون هذا، فهدمه السلطان وهدم المطبخ والحوائجخاناه والفراشخاناه، وعمله جامعا، ثم أخربه في سنة خمس وثلاثين وسبعمائة، وبناه هذا البناء، فلما تم بناؤه جلس فيه واستدعى جميع مؤذني القاهرة ومصر، وجميع القرّاء والخطباء، وعرضوا بين يديه، وسمع تأذينهم وخطابتهم وقراءتهم، فاختار منهم عشرين مؤذنا رتبهم فيه، وقرّر فيه درس فقه، وقارئا يقرأ في المصحف، وجعل عليه أوقافا تكفيه وتفيض، وصار من بعده من الملوك يخرجون أيام الجمع إلى هذا الجامع ويحضر خاصة الأمراء معه من القصر، ويجيء باقيهم من باب الجامع، فيصلي السلطان عن يمين المحراب في مقصورة خاصة به، ويجلس عنده أكابر خاصته، ويصلي معه الأمراء خصتهم وعامّتهم خارج المقصورة عن يمنتها ويسرتها على مراتبهم، فإذا انقضت الصلاة دخل إلى قصوره ودور حرمه، وتفرّق كلّ أحد إلى مكانه.
وهذا الجامع متسع الأرجاء مرتفع البناء، مفروش الأرض بالرخام، مبطن السقوف بالذهب، وبصدره قبة عالية يليها مقصورة مستورة، هي والرواقات بشبابيك الحديد المحكمة الصنعة، ويحف صحنه رواقات من جهاته.
الدار الجديدة: هذه الدار عند باب سرّ القلعة المطل على سوق الخيل، عمّرها الملك الظاهر بيبرس البندقداريّ في سنة أربع وستين وستمائة، وعمل بها في جمادى الأولى منها دعوة للأمراء عند فراغها.
خزانة الكتب: وقع بها الحريق يوم الجمعة رابع صفر سنة إحدى وتسعين وستمائة، فتلف بها من الكتب في الفقه والحديث والتاريخ وعامة العلوم شيء كثير جدا، كان من ذخائر الملوك، فانتهبها الغلمان وبيعت أوراقا محرّقة، ظفر الناس منها بنفائس غريبة ما بين ملاحم وغيرها، وأخذوها بأبخس الأثمان.(3/370)
القاعة الصالحية: عمّرها الملك الصالح نجم الدين أيوب، وكانت سكن الملوك إلى أن أحترقت في سادس ذي الحجة سنة أربع وثمانين وستمائة، واحترق معها الخزانة السلطانية.
باب النحاس: هذا الباب من داخل الستارة، وهو أجل أبواب الدور السلطانية، عمّره الناصر محمد بن قلاون، وزاد في سعة دهليزه.
باب القلة: عرف بذلك من أجل أنه كان هناك قلة بناها الملك الظاهر بيبرس، وهدمها الملك المنصور قلاون في يوم الأحد عاشر شهر رجب سنة خمس وثمانين وستمائة، وبنى مكانها قبة، فرغت عمارتها في شوّال منها، ثم هدمها الملك الناصر محمد بن قلاون وجدّد باب القلة على ما هو عليه الآن، وعمل له بابا ثانيا.
الرفرف: عمّره الملك الأشرف خليل بن قلاون، وجعله عاليا يشرف على الجيزة كلها، وبيّضه وصوّر فيه أمراء الدولة وخواصها، وعقد عليه قبة على عمد، وزخرفها، وكان مجلسا يجلس فيه السلطان، واستمرّ جلوس الملوك به حتى هدمه الملك الناصر حمد بن قلاون في سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، وعمل بجواره برجا بجوار الإصطبل، نقل إليه المماليك.
الجب: كان بالقلعة جب يحبس فيه الأمراء، وكان مهولا مظلما كثير الوطاويط كريه الرائحة، يقاسي المسجون فيه ما هو كالموت أو أشدّ منه، عمره الملك المنصور قلاون في سنة إحدى وثمانين وستمائة، فلم يزل إلى أن قام الأمير بكتمر الساقي في أمره مع الملك الناصر محمد بن قلاون، حتى أخرج من كان فيه من المحابيس ونقلهم إلى الأبراج وردمه، وعمّر فوق الردم طباقا، في سنة تسع وعشرين وسبعمائة.
الطبلخاناه تحت القلعة: ذكر هشام بن الكلبيّ: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قدم الشام، تلقاه المقلسون من أهل الأديان بالسيوف والريحان، فكره عمر رضي الله عنه النظر إليهم وقال: ردّوهم. فقال له أبو عبيدة بن الجرّاح رضي الله عنه، إنها سنة الأعاجم، فإن منعتهم ظنوا أنه نقض لعهدهم. فقال عمر رضي الله عنه: دعوهم والتقليس: الضرب بالطبل أو الدف.
وهذه الطبلخاناه الموجودة الآن تحت القلعة فيما بين باب السلسلة وباب المدرج، كانت دار العدل القديمة التي عمرها الملك الظاهر بيبرس، وتقدّم خبرها. فلما كانت سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة، هدمها الناصر محمد بن قلاون وبناها هذه الطبلخاناه الموجودة الآن تحت قلعة الجبل، فيما بين باب السلسلة وباب المدرج، وصار ينزل إلى عمارتها كلّ قليل، وتولى شدّ العمارة بها آق سنقر شادّ العمائر، ووجد في أساسها أربعة قبور كبار،(3/371)
المقدار عليها قطع رخام منقوش عليها أسماء المقبورين وتاريخ وفاتهم، فنبشوا ونقلوا قريبا من القلعة، فكانوا خلقا كبيرا عظيما في الطول والعرش، على بعضهم ملاءة ديبقية ملوّنة، ساعة مستها الأيدي تمزقت وتطايرت هباء، وفيهم اثنان عليهما آلة الحرب وعدّة الجهاد، وبهما آثار الدماء والجراحات، وفي وجه أحد هما ضربة سيف بين عينيه، والجرح مسدود بقطنة، فلما أمسكت القطنة ورفعت عن الجرح فوق الحاجب، نبع من تحتها دم يظنّ أنه جرح طريّ، فكان في ذلك موعظة وذكرى، وكانت الطبلخاناه ساحة بغير سقف، فلما ولي الأمير سودون داز أمير أخور، وسكن الإصطبل السلطانيّ، عمّر هذه الطباق فوق الطباق، وكان الغرض من عمارتها صحيحا، فإن المدرسة الأشرفية كانت حينئذ قائمة تجاه الطبلخاناه، ولما كان زمان الفتن بين أمراء الدولة، تحصن فوقها طائفة ليرموا على الإصطبل والقلعة، فأراد بناء هذه الطباق فوق الطباق أن يجعل بها رماة، حتى لا يقدر أحد يقيم فوق المدرسة الأشرفية، وقد بطل ذلك، فإن الملك الناصر فرج بن برقوق هدم المدرسة الأشرفية، كما ذكر في هذا الكتاب عند ذكر المدارس.
الطباق بساحة الإيوان: عمّرها الملك الناصر محمد بن قلاون، وأسكنها المماليك السلطانية، وعمر حارة تختص بهم، وكانت الملوك تعني بها غاية العناية، حتى أن الملك المنصور قلاون كان يخرج في غالب أوقاته إلى الرحبة عند استحقاق حضور الطعام للمماليك، ويأمر بعرضه عليه ويتفقد لحمهم ويختبر طعامهم في جودته ورداءته، فمتى رأى فيه عيبا اشتدّ على المشرف والاستادار ونهر هما وحلّ بهما منه أيّ مكروه، وكان يقول: كلّ الملوك عملوا شيئا يذكرون به ما بين مال وعقار، وأنا عمّرت أسوارا وعملت حصونا مانعة لي ولأولادي وللمسلمين، وهم المماليك، وكانت المماليك أبدا تقيم بهذه الطبقات لا تبرح فيها، فلما تسلطن الملك الأشرف خليل بن قلاون سمح للمماليك أن ينزلوا من القلعة في النهار ولا يبتوا إلا بها، فكان لا يقدر أحد منهم أن يبيت بغيرها، ثم أنّ الملك الناصر محمد بن قلاون سمح لهم بالنزول إلى الحمام يوما في الأسبوع، فكانوا ينزلون بالنوبة مع الخدّام، ثم يعودون آخر نهارهم، ولم يزل هذا حالهم إلى أن انقرضت أيام بني قلاون، وكانت للمماليك بهذه الطباق عادات جميلة، أوّلها أنه إذا قدم بالمملوك تاجره عرضه على السلطان ونزله في طبقات جنسه وسلمه لطواشيّ برسم الكتابة، فأوّل ما يبدأ به تعليمه ما يحتاج إليه من القرآن الكريم، وكانت كلّ طائفة لها فقيه يحضر إليها كلّ يوم ويأخذ في تعليمها كتاب الله تعالى ومعرفة الخط والتمرّن بآداب الشريعة، وملازمة الصلوات والأذكار، وكان الرسم إذ ذاك أن لا تجلب التجار إلا المماليك الصغار، فإذا شبّ الواحد من المماليك علّمه الفقيه شيئا من الفقه، وأقرأه فيه مقدّمة، فإذا صار إلى سنّ البلوغ أخذ في تعليمه أنواع الحرب من رمى السهام ولعب الرمح ونحو ذلك، فيتسلم كلّ طائفة معلم حتى يبلغ الغاية في معرفة ما يحتاج إليه، وإذا ركبوا إلى لعب الرمح أو رمي النشاب لا يجسر جندي ولا(3/372)
أمير أن يحدّثهم أو يدنو منهم، فينقل إذن إلى الخدمة ويتنقل في أطوارها رتبة بعد رتبة إلى أن يصير من الأمراء، فلا يبلغ هذه الرتبة إلا وقد تهذبت أخلاقه وكثرت آدابه، وامتزج تعظيم الإسلام وأهله بقلبه، واشتدّ ساعده في رماية النشاب، وحسن لعبه بالرمح، ومرن على ركوب الخيل، ومنهم من يصير في رتبة فقيه عارف، أو أديب شاعر، أو حاسب ماهر، هذا ولهم أزمّة من الخدّام، وأكابر من رؤوس النوب يفحصون عن حال الواحد منهم الفحص الشافي، ويؤاخذونه أشدّ المؤاخذة، ويناقشونه على حركاته وسكناته، فإن عثر أحد من مؤدّبيه الذي يعلّمه القرآن، أو الطواشيّ الذي هو مسلّم إليه، أو رأس النوبة الذي هو حاكم عليه، على أنه اقترف ذنبا، أو أخلّ برسم، أو ترك أدبا من آداب الدين أو الدنيا، قابله على ذلك بعقوبة مؤلمة شديدة بقدر جرمه، وبلغ من تأديبهم أن مقدّم المماليك كان إذا أتاه بعض مقدّمي الطباق في السحر، يشاور على مملوك أنه يغتسل من جنابة، فيبعث من يكشف عن سبب جنابته، إن كان من احتلام فينظر في سراويله، هل فيه جنابة أم لا، فإن لم يجد به جنابة جاءه الموت من كلّ مكان، فلذلك كانوا سادة يدبرون الممالك، وقادة يجاهدون في سبيل الله، وأهل سياسة يبالغون في إظهار الجميل، ويردعون من جارة أو تعدّى، وكانت لهم الإدرارات الكثيرة من اللحوم والأطعمة والحلاوات والفواكه والكسوات الفاخرة والمعاليم من الذهب والفضة، بحيث تتسع أحوال غلمانهم، ويفيض عطاؤهم على من قصدهم.
ثم لما كانت أيام الظاهر برقوق، راعى الحال في ذلك بعض الشيء إلى أن زالت دولته في سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، فلما عاد إلى المملكة رخص للمماليك في سكنى القاهرة، وفي التزوّج، فنزلوا من الطباق من القلعة ونكحوا نساء أهل المدينة، واخلدوا إلى البطالة، ونسوا تلك العوائد، ثم تلاشت الأحوال في أيام الناصر فرج بن برقوق، وانقطعت الرواتب من اللحوم وغيرها حتى عن مماليك الطباق مع قلة عددهم، ورتب لكلّ واحد منهم في اليوم مبلغ عشرة دراهم من الفلوس، فصار غذاؤهم في الغالب الفول المصلوق، عجزا عن شراء اللحم وغيره، وهذا وبقي الجلب من المماليك إنما هم الرجال الذين كانوا في بلادهم ما بين ملاح سفينة ووقاد في تنور خباز، ومحوّل ماء في غيط أشجار ونحو ذلك، واستقرّ رأي الناصر على أن تسليم المماليك للفقيه يتلفهم، بل يتركون وشؤونهم، فبدّلت الأرض غير الأرض، وصارت المماليك السلطانية أرذل الناس وأدناهم وأخسهم قدرا، وأشحهم نفسا، وأجهلهم بأمر الدنيا، وأكثرهم إعراضا عن الدين، ما فيهم إلّا من هو أزنى من قرد، وألص من فأرة، وأفسد من ذئب، لا جرم أن خربت أرض مصر والشام، من حيث يصب النيل إلى مجرى الفرات، بسوء إبالة الحكام، وشدّة عبث الولاة، وسوء تصرّف أولي الأمر، حتى أنه ما من شهر إلّا ويظهر من الخلل العام ما لا يتدارك فرطه، وبلغت عدّة المماليك السلطانية في أيام الملك المنصور قلاون ستة آلاف وسبعمائة، فأراد ابنه الأشرف(3/373)
خليل تكميل عدّتها عشرة آلاف مملوك، وجعلهم طوائف، فأفرد طائفتي الأرمن والجركس وسماها البرجية لأنه أسكنها في أبراج بالقلعة، فبلغت عدّتهم ثلاثة آلاف وسبعمائة، وأفرد جنس الخطا والقبجاق وأنزلهم بقاعة عرفت بالذهبية والزمرذية، وجعل منهم جمدارية وسقاة، وسماهم خاصكية، وعمل البرجية سلاحدارية وجمقدارية وجاشنكيرية وأوشاقية، ثم شغف الملك الناصر محمد بن قلاون بجلب المماليك من بلاد أزبك وبلاد توريز وبلاد الروم وبغداد، وبعث في طلبهم وبذل الرغائب للتجار في حملم إليه، ودفع فيهم الأموال العظيمة، ثم أفاض على من يشتريه منهم أنواع العطاء من عامّة الأصناف دفعة واحدة في يوم واحد، ولم يراع عادة أبيه ومن كان قبله من الملوك في تنقل المماليك في أطوار الخدم حتى يتدرب ويتمرّن، كما تقدّم، وفي تدريجه من ثلاثة دنانير في الشهر إلى عشرة دنانير، ثم نقله من الجامكية إلى وظيفة من وظائف الخدمة، بل اقتضى رأيه أن يملأ أعينهم بالعطاء الكثير دفعة واحدة، فأتاه من المماليك شيء كثير رغبة فيما لديه، حتى كان الأب يبيع ابنه للتاجر الذي يجلبه إلى مصر، وبلغ ثمن المملوك في أيامه إلى مائة ألف درهم فما دونها، وبلغت نفقات المماليك في كلّ شهر إلى سبعين ألف درهم، ثم تزايدت حتى صارت في سنة ثمان وأربعين وسبعمائة مائتين وعشرين ألف درهم.
دار النيابة: كان بقلعة الجبل دار نيابة بناها الملك المنصور قلاون في سنة سبع وثمانين وستمائة، سكنها الأمير حسام الدين طرنطاي، ومن بعده من نوّاب السلطنة، وكانت النوّاب تجلس بشباكها حتى هدمها الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة سبع وثلاثين وسبعمائة، وأبطل النيابة وأبطل الوزارة أيضا، فصار موضع دار النيابة ساحة، فلما مات الملك الناصر أعاد الأمير قوصون دار النيابة عند استقراره في نيابة السلطنة، فلم تكمل حتى قبض عليه، فولي نيابة السلطنة الأمير طشتمر حمص أخضر وقبض عليه، فتولى بعد نيابة السلطنة الأمير شمس الدين آق سنقر في أيام الملك الصالح إسماعيل بن الملك الناصر محمد بن قلاون، فجلس بها في يوم السبت أوّل صفر سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة في شباك دار النيابة، وهو أوّل من جلس بها من النوّاب بعد تجديدها، وتوارثها النوّاب بعده، وكانت العادة أن يركب جيوش مصر يومي الاثنين والخميس في الموكب تحت القلعة، فيسيرون هناك من رأس الصوة إلى باب القرافة، ثم تقف العسكر مع نائب السلطنة وينادى على الخيل بينهم، وربما نودي على كثير من آلات الجند والخيم والجركاوات والأسلحة، وربما نودي على كثير من العقار، ثم يطلعون إلى الخدمة السلطانية بالإيوان بالقلعة على ما تقدّم ذكره، فإذا مثل النائب في حضرة السلطان، وقف في ركن الإيوان إلى أن تنقضي الخدمة، فيخرج إلى دار النيابة والأمراء معه، ويمدّ السماط بين يديه كما يمدّ سماط السلطان، ويجلس جلوسا عاما للناس، ويحضره أرباب الوظائف، وتقف قدّامه الحجاب، وتقرأ القصص، وتقدّم إليه الشكاة، ويفصل أمورهم.(3/374)
فكان السلطان يكتفي بالنائب ولا يتصدّى لقراءة القصص عليه وسماع الشكوى، تعويلا منه على قيام النائب بهذا الأمر، وإذا قرئت القصص على النائب نظر، فإن كان مرسومه يكفي فيها أصدره عنه، وما لا يكفي فيه إلّا مرسوم السلطان أمر بكتابته عن السلطان وأصدره، فيكتب ذلك وينبه فيه على أنه بإشارة النائب، ويميز عن نوّاب السلطان بالممالك الشامية بأن يعبر عنه بكافل المملكة الشريفة الإسلامية، وما كان من الأمور التي لا بدّ له من إحاطة علم السلطان بها، فإنه إما أن يعلمه بذلك منه إليه وقت الاجتماع به، أو يرسل إلى السلطان من يعلمه به، ويأخذ رأيه فيه وكان ديوان الإقطاع، وهو الجيش في زمان النيابة ليس لهم خدمة إلا عند النائب، ولا اجتماع إلّا به، ولا يجتمع ناظر الجيش بالسلطان في أمر من الأمور، فلما أبطل الملك الناصر محمد بن قلاون النيابة، صار ناظر الجيش يجتمع بالسلطان، واستمرّ ذلك بعد إعادة النيابة، وكان الوزير وكاتب السرّ يراجعان النائب في بعض الأمور دون بعض، ثم اضمحلت نيابة السلطنة في أيام الناصر محمد بن قلاون، وتلاشت أوضاعها، فلما مات أعيدت بعده ولم تزل إلى أثناء أيام الظاهر برقوق، وآخر من وليها على أكثر قوانينها الأمير سودون الشيخيّ، وبعده لم يل النيابة أحد في الأيام الظاهرية، ثم إن الناصر فرج بن برقوق أقام الأمير تمراز في نيابة السلطنة، فلم يسكن دار النيابة في القلعة، ولا خرج عما يعرفه من حال حاجب الحجاب، ولم يل النيابة بعد تمراز أحد إلى يومنا هذا، وكانت حقيقة النائب أنه السلطان الثاني، وكانت سائر نوّاب الممالك الشامية وغيرها تكاتبه في غالب ما تكاتب فيه السلطان، ويراجعونه فيه، كما يراجع السلطان، وكان يستخدم الجند ويخرج الإقطاعات من غير مشاورة، ويعين الأمر لكن بمشاورة السلطان، وكان النائب هو المتصرّف المطلق التصرّف في كلّ أمر، فيراجع في الجيش والمال والخبر، وهو البريد، وكلّ ذي وظيفة لا يتصرّف إلّا بأمره، ولا يفصل أمرا معضلا إلّا مراجعته، وهو الذي يستخدم الجند ويرتب في الوظائف إلّا ما كان منها جليلا كالوزارة والقضاء وكتابة السرّ والجيش، فإنه يعرض على السلطان من يصلح، وكان قل أن لا يجاب في شيء يعينه، وكان من عدا نائب السلطنة بديار مصر يليه في رتبة النيابة، وكلّ نوّاب الممالك تخاطب بملك الأمراء إلّا نائب السلطنة بمصر فإنه يسمى كافل الممالك، تمييزا له وإبانة عن عظيم محله، وبالحقيقة ما كان يستحق اسم نيابة السلطنة بعد النائب بمصر سوى نائب الشام بدمشق فقط، وإنما كانت النيابة تطلق أيضا على أكابر نوّاب الشام، وليس لأحد منهم من التصرّف ما كان لنائب دمشق، إلّا أن نيابة السلطنة بحلب تلي رتبة نيابة السلطنة بدمشق، وقد اختلت الآن الرسوم، واتضعت الرتب، وتلاشت الأحوال، وعادت أسماء لا معنى لها، وخيالات حاصلها عدم. والله يفعل ما يشاء.(3/375)
ذكر جيوش الدولة التركية وزيّها وعوايدها
اعلم أنه قد كان بقلعة الجبل مكان معدّ لديوان الجيش، وأدركت منه بقية إلى أثناء دولة الظاهر برقوق، وكان ناظر الجيش، وسائر كتاب الجيش لا يبرحون في أيام الخدمة نهارهم مقيمين بديوان الجيش، وكانت لهذا الديوان عوايد قد تغير أكثرها ونسي غالب رسومه، وكانت جيوش الدولة التركية بديار مصر على قسمين، منهم من هو بحضرة السلطان، ومنهم من هو في أقطار المملكة وبلادها وسكان بادية كالعرب والتركمان.
وجندها مختلط من أتراك وجركس وروم وأكراد وتركمان، وغالبهم من المماليك المبتاعين، وهم طبقات، أكابرهم من له إمرة مائة فارس، وتقدمة ألف فارس، ومن هذا القبيل تكون أكابر النوّاب، وربما زاد بعضهم بالعشرة فوارس والعشرين. ثم أمراء الطبلخاناه، ومعظمهم من تكون له إمرة أربعين فارسا، وقد يوجد فيهم من له أزيد من ذلك إلى السبعين، ولا تكون الطبلخاناه لأقل من أربعين. ثم أمراء العشراوات، ممن تكون له إمرة عشرة، وربما كان فيهم من له عشرون فارسا ولا يعدّون في أمراء العشراوات. ثم جند الحلقة، وهؤلاء تكون مناشيرهم من السلطان، كما أنّ مناشير الأمراء من السلطان، وأما أجناد الأمراء فمناشيرهم من أمرائهم، وكان منشور الأمير يعين فيه للأمير ثلث الإقطاع ولأجناده الثلثان، فلا يمكن الأمير ولا مباشروه أن يشاركوا أحدا من الأجناد فيما يخصهم إلّا برضاهم، وكان الأمير لا يخرج أحدا من أجناده حتى يتبين للنائب موجب يقتضي إخراجه، فحينئذ يخرجه نائب السلطان ويقيم عند الأمير عوضه، وكان لكل أربعين جنديا من جند الحلقة مقدّم عليهم، ليس له عليهم حكم إلّا إذا خرج العسكر لقتال، فكانت مواقف اوربعين مع مقدّمهم وترتيبهم في موقفهم إليه ويبلغ بمصر إقطاع بعض أكابر أمراء المئني المقدّمين من السلطان مائتي ألف دينار جيشية، وربما زاد على ذلك، وأما غيرهم فدون ذلك، يعبر أقلها إلى ثمانين ألف دينار وما حولها. وأمّا الطبلخاناه فمن ثلاثين ألف دينار إلى ثلاثة وعشرين ألف دينار، وأما العشراوات فأعلاها سبعة آلاف دينار إلى ما دونها، وأما إقطاعات أجناد الحلقة فأعلاها ألف وخمسمائة دينار، وهذا القدر وما حوله إقطاعات أعيان مقدّمي الحلقة، ثم بعد ذلك الأجناد بابات، حتى يكون أدناهم مائتين وخمسين دينارا، وسيرد تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى وأما إقطاعات جند الأمراء فإنها على ما يراه الأمير من زيادة بينهم ونقص.
وأما إقطاعات الشام فإنها لا تقارب هذا، بل تكون على الثلثين مما ذكرنا، ما خلا نائب السلطنة بدمشق فإنه يقارب إقطاعه أعلى إقطاعات أكابر أمراء مصر المقرّبين.
وجميع جند الأمراء تعرض بديوان الجيش ويتبت اسم الجندي وحليته، ولا يستبدل أميره به غير إلّا بتنزيل من عوّض به وعرضه.
وكانت للأمراء على السلطان في كلّ سنة ملابس ينعم بها عليهم، ولهم في ذلك حظ(3/376)
وافر، وينعم على أمراء المئين بخيول مسرجة ملجمة، ومن عداهم بخيول عري، ويميز خاصتهم على عامتهم، وكان لجميع الأمراء من المئين والطبلخاناه والعشراوات على السلطان الرواتب الجارية في كلّ يوم، من اللحم وتوابله كلها والخبز، والشعير لعليق الخيل، والزيت.
ولبععضهم الشمع والسكّر والكسوة في كلّ سنة. وكذلك لجميع ممليك السلطان وذوي الوظائف من الجند، وكانت العادة إذا نشأ لأحد الأمراء ولد، أطلق له دنانير ولحم وخبز وعليق، حتى يتأهل للإقطاع في جملة الحلقة، ثم منهم من ينتقل إلى إمرة عشرة أو إلى إمرة طبلخاناه، بحسب الحظ، واتفق للأميرين طرنطاي وكتبغا أنّ كلا منهما زوّج ولده بابنة الآخر، وعمل لذلك المهم العظيم، ثم سأل الأمير طرنطاي، وهو إذ ذاك نائب السلطان، الأمير بيلبك الأيدمريّ والأمير طيبرس أن يسألا السلطان الملك المنصور قلاون في الإنعام على ولده وولد الأمير كتبغابا قطاعين في الحلقة، فقال لهما: والله لو رأيتهما في مصاف القتال يضربان بالسيف، أو كانا في زحف قدّامي، أستقبح أن أعطي لهما أخبازا في الحلقة، خشية أن يقال أعطى الصبيان الأخباز، ولم يجب سؤالهما هذا. وهم من قد عرفت.
لكن كان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله، إذا مات الجنديّ أعطى إقطاعه لولده، فإن كان صغيرا رتب معه من يلى أمره حتى يكبر، فكان أجناده يقولون:
الإقطاعات أملاكنا يرثها أولادنا الولد عن الوالد، فنحن نقاتل عليها. وبه اقتدى كثير من ملوك مصر في ذلك. وللأمراء المقدّمين حوائص ذهب في وقت الركوب إلى الميدان، ولكلّ أمير من الخواص على السلطان مرتب من السكر والحلوى في شهر رمضان، ولسائرهم الأضحية في عيد الأضحى على مقادير رتبهم، ولهم البرسيم لتربيع دوابهم، ويكون في تلك المدجة بدل العليق المرتب لهم، وكانت الخيول السلطانية تفرّق على الأمراء مرّتين في كلّ سنة، مرّة عند ما يخرج السلطان إلى مرابط خيوله في الربيع عند اكتمال تربيعها، ومرّة عند لعبه بالأكرة في الميدان. ولخاصة السلطان المقرّبين زيادة كثيرة من ذلك، بحيث يصل إلى بعضهم في السنة مائة فرس، ويفرّق السلطان أيضا الخيول على المماليك السلطانية في أوقات أخر، وربما يعطى بعض مقدّمي الحلقة، ومن نفق له فرس من المماليك، يحضر من لحمه والشهادة بأنه نفق، فيعطى بدله. ولخاصة السلطان المقرّبين أنعام من الإنعامات، كالعقارات والأبنية الضخمة التي ربما أنفق على بعضها زيادة على مائة ألف دينار، ووقع هذا في الأيام الناصرية مرارا، كما ذكر عند ذكر الدول من هذا الكتاب، ولهم أيضا كساوى القماش المنوّع، ولهم عند سفرهم إلى الصيد وغيره العلوفات والأنزال، وكانت لهم آداب لا يخلّون بها، منها أنهم إذا أدخلوا إلى الخدمة بالإيوان أو القصر، وقف كلّ أمير في مكانه المعروف به، ولا يجسر أحد منهم ولا من المماليك أن يحدّث رفيقه في الخدمة ولا بكلمة واحدة، ولا يلتفت إلى نحوه أيضا، ولا يجسر أحد منهم ولا من المماليك أن يجتمع بصاحبه في نزهة ولا في رمي النشاب ولا غير ذلك، ومن بلغ السلطان(3/377)
عنه أنه اجتمع بآخر نفاه أو قبض عليه.
واختلف زي الأمراء والعساكر في الدولة التركية، وقد بينا ما كان عليه زيّهم حتى غيره الملك المنصور قلاون عند ذكر سوق الشرابشيين، وصار زيهم إذا دخلوا إلى الخدمة، بالأقبية التترية والكلاوات فوقها، ثم القباء الإسلاميّ فوقها، وعليه تشدّ المنطقة والسيف.
ويتميز الأمراء والمقدّمون وأعيان الجند بلبس أقبية قصيرة الأكمام فوق ذلك، وتكون أكمامها أقصر من القباء التحتانيّ، بلا تفاوت كبير في قصر الكمّ والطول، وعلى رؤوسهم كلهم كلوتات صغار غالبها من الصوف الملطيّ الأحمر، وتضرب ويلف فوقها عمائم صغار، ثم زادوا في قدر الكلوتات وما يلفّ فوقها في أيام الأمير بلبغا الخاصكيّ، القائم بدولة الأشرف شعبان بن حسين، وعرفت بالكلوتات الطرخانية، وصاروا يسمون تلك الصغيرة ناصرية، فلما كانت أيام الظاهر برقوق بالغوا في كبر الكلوتات، وعملوا في شدّتها عوجا، وقيل لها كلوتات جركسية، وهم على ذلك إلى اليوم. ومن زيهم لبس المهماز على الإخفاف، ويعمل المنديل في الحياصة «1» على الصولق من الجانب الأيمن، ومعظم حوائص المماليك فضة، وفيهم من كان يعملها من الذهب، وربما عملت باليشم وكانت حوائص أمراء المئين الأكابر، التي تخرج إليهم مع الخلع السلطانية من خزانة الخاص، يرصّع ذهبها بالجواهر. وكان معظم العسكر يلبس الطراز، ولا يكفت مهمازه بالذهب، ولا يلبس الطراز إلّا من له إقطاع في الحلقة، وأما من هو بالحامكية أو من أجناد الأمراء، فلا يكفت مهمازه بالذهب ولا يلبس طرازا، وكانت العساكر من الأمراء وغيرهم تلبس المنوّع من الكمخا والخطاي والكبخي والمخمل والإسكندرانيّ والشرب ومن النصافي والأصواف الملوّنة. ثم بطل لبس الحرير في أيام الظاهر برقوق، واقتصروا إلى اليوم على لبس الصوف الملوّن في الشتاء، ولبس النصافي المصقول في الصيف.
وكانت العادة أن السلطان يتولى بنفسه استخدام الجند، فإذا وقف قدّامه من يطلب الإقطاع المحلول، ووقع اختياره على أحد، أمر ناظر الجيش بالكتابة له، فيكتب ورقة مختصرة تسمى المثال، مضمونها حيز فلان كذا، ثم يكتب فوقه اسم المستقرّ له، ويناولها السلطان فيكتب عليها بخطه، يكتب ويعطيها الحاجب لمن رسم له، فيقبّل الأرض، ثم يعاد المثال إلى ديوان الجيش فيحفظ شاهدا عندهم، ثم تكتب مربعة مكملة بخطوط جميع مباشري ديوان الإقطاع، وهم كتاب ديوان الجيش، فيرسمون علاماتهم عليها، ثم تحمل إلى ديوان الإنشاء والمكاتبات، فيكتب المنشور ويعلّم عليه السلطان كما تقدّم ذكره، ثم يكمل المنشور بخطوط كتاب ديوان الجيش بعد المقابلة على حجة أصله.
واستجدّ السلطان الملك المنصور قلاون طائفة سمّاها البحرية، وهي أن البحرية(3/378)
الصالحية لما تشتتوا عند قتل الفارس أقطاي في أيام المعز أيبك، بقيت أولادهم بمصر في حالة رذيلة، فعندما أفضت السلطنة إلى قلاون جمعهم ورتب لهم الجوامك والعليق واللحم والكسوة، ورسم أن يكونوا جالسين على باب القلعة، وسمّاهم البحرية، وإلى اليوم طائفة من الأجناد تعرف بالبحرية.
وأما البلاد الشامية، فليس للنائب بالمملكة مدخل في تأمير أمير عوض أمير مات، بل إذا مات أمير سواء كان كبيرا أو صغيرا طولع السلطان بموته فأمّر عوضه، إما ممن في حضرته ويخرجه إلى مكان الخدمة، أو ممن هو في مكان الخدمة، أو ينقل من بلد آخر، من يقع اختياره عليه. وأما جند الحلقة فإنهم إذا مات أحدهم استخدم النائب عوضه، وكتب المثال على نحو من ترتيب السلطان، ثم كتب المربعة وجهزها مع البريد إلى حضرة السلطان فيقابل عليها في ديوان الإقطاع، ثم إن أمضاها السلطان كتب عليها يكتب، فتكتب المربعة من ديوان الإقطاع، ثم يكتب عليها المنشور كما تقدّم في الجند الذين بالحضرة، وإن لم يمضها السلطان أخرج الإقطاع لمن يريد. ومن مات من الأمراء والجند قبل استكمال مدّة الخدمة حوسب ورثته على حكم الاستحقاق، ثم إمّا يرتجع منهم أو يطلق لهم على قدر حصول العناية بهم، وإقطاعات الأمراء والجند منها ما هو بلاد يستغلها مقطعها كيف شاء، ومنها ما هو نقد على جهات يتناولها منها، ولم يزل الحال على ذلك حتى راك الملك الناصر محمد بن قلاون البلاد كما تقدّم في أوّل هذا الكتاب، عند الكلام على الخراج ومبلغه، فأبطل عدّة جهات من المكوس وصارت الإقطاعات كلها بلادا، والذي استقرّ عليه الحال في إقطاعات الديار المصرية مما رتبه الملك الناصر محمد بن قلاون في الروك الناصريّ، وهو عدة الجيوش المنصورة بالديار المصرية أربعة وعشرون ألف فارس، تفصيل ذلك: أمراء الألوف ومماليكهم ألفان وأربعمائة وأربعة وعشرون فارسا، تفصيل ذلك: نائب ووزير وألوف خاصكية ثمانية أمراء، وألوف خرجية أربعة عشر أميرا، ومماليكهم ألفان وأربعمائة فارس. أمراء طبلخاناه ومماليكهم ثمانية آلاف ومائتا فارس، تفصيل ذلك: خاصكية أربعة وخمسون أميرا، وخرجية مائة وستة وأربعون أميرا، ومماليكهم ثمانية آلاف فارس.
كشاف وولاة بالأقاليم خمسمائة وأربعة وسبعون، تفصيل ذلك: ثغر الإسكندرية واحد، والبحيرة واحد، والغربية واحد، والشرقية واحد، والمنوفيه واحد وقطيا واحد، وكاشف الجيزة واحد، والفيوم واحد، والبهنسا واحد، والأشمونين واحد، وقوص واحد، واسوان واحد، وكاسف الوجه البحريّ واحد، وكاشف الوجه القبليّ واحد. ومماليكهم خمسمائة وستون. أمراء العشراوات ومماليكهم ألفان ومائتا فارس، تفصيل ذلك: خاصكية ثلاثون، وخرجية مائة وسبعون أميرا، ومماليكهم ألفان.
ولاة الأقاليم سبعة وسبعون أميرا، تفصيلهم: أشمون الرّمان واحد، وقليوب واحد،(3/379)
والجيزة واحد، وتروجا واحد، وحاجب الإسكندرية واحد، واطفيح واحد، ومنفلوط واحد، ومماليكهم سبعون فارسا.
مقدّموا الحلقة والأجناد أحد عشر ألفا ومائة وستة وسبعون فارسا، تفصيل ذلك:
مقدّموا المماليك السلطانية أربعون، مقدّموا الحلقة مائة وثمانون، نقباء الألوف أربعة وعشرون نقيبا، مماليك السلطان وأجناد الحلقة عشرة آلاف وتسعمائة واثنان وثلاثون فارسا، تفصيل ذلك: مماليك السلطان ألفا مملوك، أجناد الخلقة ثمانية آلاف وتسعمائة واثنان وثلاثون فارسا.
عبرة ذلك الخاصكية، الألوف والنائب والوزير، كلّ منهم مائة ألف دينار، وكلّ دينار عشرة دراهم، الارتفاع ألف ألف درهم، بما فيه من ثمن الغلال، كلّ أردب واحد من القمح بعشرين درهما، والحبوب كلّ أردب منها بعشرة دراهم، من ذلك الكلف مائة ألف درهم، والخالص تسعمائة ألف درهم.
الألوف الخرجية، كلّ منهم خمسة وثمانون ألف دينار، كلّ دينار عشرة دراهم، الارتفاع ثمانمائة ألف وخمسون ألفا، بما فيه من ثمن الغلال على ما شرح فيه، من ذلك الكلف سبعون ألف درهم، والخالص لكلّ منهم سبعمائة وثمانون ألف درهم.
الطبلخاناه الخاصكية، كلّ منهم أربعون ألف دينار، كلّ دينار عشرة دراهم، الارتفاع أربعمائة ألف درهم بما فيه من ثمن الغلال على ما شرح فيه، من ذلك الكلف خمسة وثلاثون ألف درهم، والخالص لكلّ منهم ثلاثمائة وخمسة وستون ألف درهم.
الطبلخاناه الخرجية ثلاثون ألف دينار، كلّ دينار ثمانية دراهم، الارتفاع مائتا ألف وأربعون ألف درهم، بما فيه من ثمن الغلال على ما شرح، من ذلك الكلف أربعة وعشرون ألف درهم، والخالص مائتا ألف وستة عشر ألف درهم.
العشراوات الخاصكية كل منهم عشرة آلاف دينار، كلّ دينار عشرة دراهم، الارتفاع مائة ألف درهم بما فيه من ثمن الغلال على ما شرح، من ذلك الكلف سبعة آلاف درهم، والخالص لكلّ منهم ثلاثة وتسعون ألف درهم.
العشراوات الخرجية كلّ منهم سبعة آلاف دينار، كلّ دينار عشرة دراهم، الارتفاع سبعون ألف درهم، بما فيه من ثمن الغلال، على ما شرح. من ذلك الكلف خمسة آلاف درهم، والخالص لكلّ منهم خمسة وستون ألف درهم.
الكشّاف لكلّ منهم عشرون ألف دينار، كلّ دينار ثمانية دراهم، الارتفاع مائة ألف وستون ألف درهم بما فيه من ثمن الغلال على ما شرح، من ذلك الكلفة خمسة عشر ألف درهم، والخالص مائة ألف وخمسة وأربعون ألف درهم.(3/380)
الولاة الاصطبلخاناه، كلّ منهم خمسة عشر ألف دينار، كلّ دينار ثمانية دراهم، الارتفاع مائة وعشرون ألف درهم بما فيه من ثمن الغلال على ما شرح، من ذلك الكلف عشرة آلاف درهم، والخالص لكلّ منهم مائة ألف وعشرة آلاف درهم.
الولاة العشراوات، لكلّ منهم خمسة آلاف دينار، كلّ دينار سبعة دراهم، الارتفاع خمسة وثلاثون ألف درهم، بما فيه من ثمن المغل على ما شرح، من ذلك الكلف ثلاثة آلاف درهم، والخالص لكلّ منهم اثنان وثلاثون ألف درهم.
مقدّمو مماليك السلطان، كلّ منهم ألف ومائتا دينار، كلّ دينار عشرة دراهم، الارتفاع اثنا عشر ألف درهم بما فيه من ثمن الغلال على ما شرح، من ذلك الكلف ألف درهم، والخالص لكلّ منهم أحد عشر ألف درهم.
مقدّموا الحلقة، كلّ منهم ألف دينار، كلّ دينار تسعة دراهم، الارتفاع تسعة آلاف درهم بما فيه من ثمن الغلال، من ذلك الكلف تسعمائة درهم، والخالص لكلّ منهم ثمانية آلاف درهم ومائة درهم.
نقباء الألوف لكل منهم أربعمائة دينار، كلّ دينار تسعة دراهم، الارتفاع ثلاثة آلاف وستمائة درهم، بما فيه من ثمن الغلال، من ذلك الكلف أربعمائة درهم، والخالص لكلّ منهم ثلاثة آلاف ومائتا درهم.
مماليك السلطان ألفان، بابة أربعمائة مملوك، لكلّ منهم ألف وخمسمائة دينار، كلّ دينار عشرة دراهم، عنها لأخمسة عشر ألف درهم، بابة خمسمائة مملوك، كل واحد ألف وثلثمائة دينار، سعره عشرة دراهم، عنها ثلاثة عشر ألف درهم، بابة خمسمائة مملوك، لكل منهم ألف دينار ومائتا دينار، عنها اثنا عشر ألف درهم. بابة ستمائة مملوك، لكل واحد ألف دينار، عنها عشرة آلاف درهم.
اجناد الحلقة ثمانئة آلاف وتسعمائة واثنان وثلاثون فارسا، بابه ألف وخمسمائة فارس لكلّ منهم تسعمائة دينة بتسعة آلاف درهم، بابة ألف وثلاثمائة وخمسين جنديا لكلّ منهم ثمانمائة دينار بثمانية آلاف درهم، بابة ألف وثلاثمائة وخمسين جنديا كل منهم سبعمائة دينار عنها سبعة آلاف درهم. بابة ألف وثلاثمائة جنديّ لكلّ منهم ستمائة دينار بستة آلاف درهم، بابة ألف وثلاثمائة كلّ منهم بخمسمائة دينار بخمسة آلاف درهم. بابة ألف ومائة جنديّ لكلّ منهم أربعمائة دينار بأربعة آلاف درهم، بابة ألف واثنين وثلاثين جنديا لكل منهم ثلاثمائة دينار سعر عشرة دراهم عنها ثلاثة آلاف درهم.
وأرباب الوظائف من الأمراء بعد النيابة والوزارة، أمير سلاح والدوادار، والحجبة، وأمير جاندار، والاستادار، والمهندار، ونقيب الجيوش، والولاة.(3/381)
فلما مات الملك الناصر محمد بن قلاون، حدث بين أجناد الحلقة نزول الواحد منهم عن إقطاعه لآخر بمال، أو مقايضة الإقطاعات بغيرها فكثر الدخيل في الأجناد بذلك، واشترت السوقة والأراذل الإقطاعات، حتى صار في زمننا أجناد الحلقة أكثرهم أصحاب حرف وصناعات، وخربت منهم أراضي إقطاعاتهم. وأوّل ما حدث ذلك أن السلطان الملك الكامل شعبان بن محمد بن قلاون، لما تسلطن في شهر ربيع الآخر سنة ست وأربعين وسبعمائة، تمكن منه الأمير شجاع الدين أغرلوشادّ الدواوين، واستجدّ أشياء منها المقايضة بالإقطاعات في الحلقة، والنزول عنها. فكان من أراد مقايضة أحد بإقطاعه، حمل كلّ منهما مالا لبيت المال يقرّر عليهما، ومن اختار حيزا بالحلقة، يزن على قدر عبرته في عبرته في السنة دنانير يحملها لبيت المال، فإن كانت عبرة الحيز الذي يريده خمسمائة دينار في السنة، حمل خمسمائة دينار، ومن أراد النزول عن إقطاعه حمل مالا لبيت المال بحسب ما يقرّر عليه اغرلو، وأفرد لذلك ولما يؤخذ من طالبي الوظائف والولايات ديوانا سمّاه ديوان البدل، وكان يعين في المنشور الذي يخرج بالمقايضة، المبلغ الذي يقوم به كلّ من الجنديين، وكان ابتداء هذا في جمادى الأولى من السنة المذكورة، فقام الأمراء في ذلك مع السلطان حتى رسم بإبطاله، فلما ولي الأمير منجك اليوسفيّ الوزارة وسيره في المال، فتح في سنة تسع وأربعين باب النزول والمقايضات، فكان الجنديّ يبيع إقطاعه لكلّ من بذل له فيه مالا، فأخذ كثير من العامّة الإقطاعات، فكان يبذل في الإقطاع مبلغ عشرين ألف درهم، وأقل منه على قدر متحصله، وللوزير رسم معلوم، ثم منع من ذلك، فلما كانت نيابة الأمير سيف الدين قيلاي في سنة ثلاث وخمسين، مشى أحوال الأجناد في المقايضات والنزولات، فاشترى الإقطاعات الباعة وأصحاب الصنائع، وبيعت تقادم الحلقة، وانتدب لذلك جماعة عرفت بالمهيسين بلغت عدّتهم نحو الثلاثمائة مهيس، وصاروا يطوفون على الأجناد ويرغبونهم في النزول عن إقطاعاتهم أو المقايضة بها، وجعلوا لهم على كلّ ألف درهم مائة درهم، فلما فحش الأمر أبطل الأمير شيخون العمري النزولات والمقايضات عندما استقرّ رأس نوبة، واستقل بتدبير أمور الدولة، وتقدّم لمباشري ديوان الجيش أن لا يأخذوا رسم المنشور والمحاسبة سوى ثلاثة دراهم، بعد ما كانوا يأخذون عشرين درهما.
ذكر الحجبة
وكانت رتبة الحجبة في الدولة التركية جليلة، وكانت تلي رتبة نيابة السلطنة، ويقال لأكبر الحجبة حاجب الحجاب. وموضوع الحجبة أن متوليها بنصف من الأمراء والجند، تارة بنفسه وتارة بمشاورة السلطان وتارة بمشاورة النائب، وكان إليه تقديم من يعرض ومن يردّ، وعرض الجند، فإن لم يكن نائب السلطنة فإنه هو المشار إليه في الباب، والقائم مقام النوّاب في كثير من الأمور، وكان حكم الحاجب لا يتعدّى النظر في مخاصمات الأجناد(3/382)
واختلافهم في أمور الإقطاعات ونحو ذلك، ولم يكن أحد من الحجاب فيما سلف يتعرّض للحكم في شيء من الأمور الشرعية، كتداعي الزوجين وأرباب الديون، وإنما يرجع ذلك إلى قضاة الشرع، ولقد عهدنا دائما أن الواحد من الكتاب أو الضمان ونحوهم، يفرّ من باب الحاجب ويصير إلى باب أحد القضاة ويستجير بحكم الشرع فلا يطمع أحد بعد ذلك في أخذه من باب القاضي، وكان فيهم من يقيم الأشهر والأعوام في ترسيم القاضي حماية له من أيدي الحجاب، ثم تغير ما هنالك وصار الحاجب اليوم اسما لعدّة جماعة من الأمراء، ينتصبون للحكم بين الناس لا لغرض إلّا لتضمين أبوابهم بمال مقرّر في كلّ يوم على رأس نوبة النقباء، وفيهم غيروا حد ليس لهم على الأمرة إقطاع، وإنما يرتزقون من مظالم العباد، وصار الحاجب اليوم يحكم في كلّ جليل وحقير من الناس، سواء كان الحكم شرعيا أو سياسيا بزعمهم، وإن تعرّض قاض من قضاة الشرع لأخذ غريم من باب الحاجب، لم يمكّن من ذلك، ونقيب الحاجب اليوم مع رذالة الحاجب وسفالته، وتظاهره من المنكر بما لم يكن يعهد مثله، يتظاهر به أطراف السوقة، فإنه يأخذ الغريم من باب القاضي ويتحكم فيه من الضرب وأخذ المال بما يختار، فلا ينكر ذلك أحد البتة، وكانت أحكام الحجاب أوّلا يقال لها حكم السياسة، وهي لفظة شيطانية لا يعرف أكثر أهل زمننا اليوم أصلها، ويتماهلون في التلفظ بها ويقولون: هذا الأمر مما لا يمشي في الأحكام الشرعية، وإنما هو من حكم السياسة، ويحسبونه هينا، وهو عند الله عظيم، وسأبين معنى ذلك، وهو فصل عزيز.
ذكر أحكام السياسة
اعلم أن الناس في زمنا، بل ومنذ عهد الدولة التركية بديار مصر والشام، يرون أن الأحكام على قسمين: حكم الشرع، وحكم السياسة. ولهذه الجملة شرح، فالشريعة هي ما شرّع الله تعالى من الدين وأمر به، كالصلاة والصيام والحج وسائر أعمال البرّ، واشتقّ الشرع من شاطىء البحر، وذلك أن الموضع الذي على شاطىء البحر تشرع فيه الدواب، وتسميه العرب الشريعة، فيقولون للإبل إذا وردت شريعة الماء وشربت: قد شرع فلان إبله، وشرّعها، بتشديد الراء إذا أوردها شريعة لماء، والشريعة والشراع والشرعة، المواضع التي ينحدر الماء فيها. ويقال: شرّع الدين يشرّعه شرعا بمعنى سنّه. قال الله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً
[الشورى/ 13] ويقال: ساس الأمر سياسة، بمعنى قام به. وهو سائس من قوم ساسة وسوس، وسوّسه القوم. جعلوه يسوسهم، والسوس الطبع والخلق، فيقال: الفصاحة من سوسه والكرم من سوسه، أي من طبعه. فهذا أصل وضع السياسة في اللغة. ثم رسمت بأنها القانون الموضوع لرعاية الآداب والمصالح وانتظام الأحوال.(3/383)
والسياسة نوعان: سياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر، فهي من الأحكام الشرعية، علمها من علمها، وجهلها من جهلها. وقد صنف الناس في السياسة الشرعية كتبا متعدّدة. والنوع الآخر سياسة ظالمة، فالشريعة تحرّمها وليس ما يقوله أهل زماننا في شيء من هذا، وإنما هي كلمة مغليّة، أصلها ياسه، فحرّفها أهل مصر وزادوا بأوّلها سينا فقالوا سياسة، وأدخلوا عليها الألف واللام فظنّ من لا علم عنده أنها كلمة عربية، وما الأمر فيها إلّا ما قلت لك.
واسمع الآن كيف نشأت هذه الكلمة حتى انتشرت بمصر والشام. وذلك أن جنكز خان القائم بدولة التتر في بلاد الشرق، لما غلب الملك أونك خان وصارت له دولة، قرّر قواعد وعقوبات أثبتها في كاتب، سمّاه ياسه، ومن الناس من يسميه يسق، والأصل في اسمه ياسه، ولما تمم وضعه كتب ذلك نقشا في صفائح الفولاذ، وجعله شريعة لقومه فالتموه بعده حتى قطع الله دابرهم. وكان جنكز خان لا يتدين بشيء من أديان أهل الأرض، كما تعرف هذا إن كنت أشرفت على أخباره، فصار الياسه حكما بتّا بقي في أعقابه لا يخرجون عن شيء من حكمه.
وأخبرني العبد الصالح الداعي إلى الله تعالى، أبو هاشم أحمد بن البرهان، رحمه الله:
أنه رأى نسخة من الياسة بخزانة المدرسة المستنصرية ببغداد، ومن جملة ما شرعه جنكزخان في الياسه أن: من زنى قتل، ولم يفرق بين المحصن وغير المحصن. ومن لاط قتل، ومن تعمّد الكذب أو سحر أو تجسس على أحد، أو دخل بين اثنين وهما يتخاصمان وأعان أحد هما على الآخر قتل. ومن بال في الماء أو على الرماد قتل. ومن أعطي بضاعة فخسر فيها فإنه يقتل بعد الثالثة. ومن أطعم أسير قوم أو كساه بغير إذنهم قتل ومن وجد عبدا هاربا أو أسيرا قد هرب ولم يردّه على من كان في يده قتل. وأنّ الحيوان تكتّف قوائمه ويشقّ بطنه ويمرس قلبه إلى أن يموت ثم يؤكل لحمه. وأنّ من ذبح حيوانا كذبيحة المسلمين ذبح.
ومن وقع حمله أو قوسه أو شيء من متاعه وهو يكرّ أو يفرّ في حالة القتال وكان وراءه أحد، فإنه ينزل ويناول صاحبه ما سقط منه، فإن لم ينزل ولم يناوله قتل. وشرط أن لا يكون على أحد من ولد عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه مؤنة ولا كلفة، وأن لا يكون على أحد من الفقراء ولا القرّاء ولا الفقهاء ولا الأطباء ولا من عداهم من أرباب العلوم وأصحاب العبادة والزهد والمؤذنين ومغسلي الأموات كلفة ولا مؤنة، وشرط تعظيم جميع الملل من غير تعصب لملة على أخرى، وجعل ذلك كله قربة إلى الله تعالى، وألزم قومه أن لا يأكل أحد من يد أحد حتى يأكل المناول منه أوّلا، ولو أنه أمير، ومن يناوله أسير. وألزمهم أن لا يتخصص أحد بأكل شيء وغيره يراه، بل يشركه معه في أكله. وألزمهم أن لا يتميز أحد منهم بالشبع على أصحابه، ولا يتخطى أحد نارا ولا مائدة ولا الطبق الذي يؤكل عليه، وأنّ(3/384)
من مرّ بقوم وهم يأكلون فله أن ينزل ويأكل معهم من غير إذنهم، وليس لأحد منعه.
وألزمهم أن لا يدخل أحد منهم يده في الماء، ولكنه يتناول الماء بشيء يغترفه به، ومنعهم من غسل ثيابهم بل يلبسونها حتى تبلى، ومنه أن يقال لشيء أنه نجس، وقال: جميع الأشياء طاهرة، ولم يفرق بين طاهر ونجس. وألزمهم أن لا يتعصبوا لشيء من المذاهب، ومنعهم من تفخيم الألفاظ ووضع الألقاب، وإنما يخاطب السلطان ومن دونه ويدعى باسمه فقط، وألزم القائم بعده بعرض العساكر وأسلحتها إذا أرادوا الخروج إلى القتال. وأنّه يعرض كلّ ما سافر به عسكره، وينظر حتى الإبرة والخيط، فمن وجده قد قصر في شيء مما يحتاج إليه عند عرضه أياه عاقبه. وألزم نساء العساكر بالقيام بما على الرجال من السخر والكلف في مدّة غيبتهم في القتال، وجعل على العساكر إذا قدمت من القتال كلفة يقومون بها للسلطان ويؤدّونها إليه. وألزمهم عند رأس كلّ سنة بعرض سائر بناتهم الأبكار على السلطان ليختار منهنّ لنفسه وأولاده.
ورتب لعساكره أمراء وجعلهم أمراء ألوف وأمراء مئين وأمراء عشراوات، وشرّع أن أكبر الأمراء إذا أذنب وبعث إليه الملك أخس من عنده حتى يعاقبه فإنه يلقي نفسه إلى الأرض بين يدي الرسول وهو ذليل خاضع، حتى يمضي فيه ما أمر به الملك من العقوبة، ولو كانت بذهاب نفسه. وألزمهم أن لا يتردّد الأمراء لغير الملك، فمن تردّد منهم لغير الملك قتل، ومن تغير عن موضعه الذي يرسم له بغير إذن قتل. وألزم السلطان بإقامة البريد حتى يعرف أخبار مملكته بسرعة، وجعل حكم الياسه لولده جقتاي بن جنكز خان، فلما مات التزم من بعده من أولاده وأتباعهم حكم الياسه، كالتزام أوّل المسلمين حكم القرآن، وجعلوا ذلك دينا لم يعرف عن أحد منهم خالفته بوجه.
فلما كثرت وقائع التتر في بلاد المشرق والشمال وبلاد القبجاق، وأسروا كثيرا منهم وباعوهم، تنقلوا في الأقطار، واشترى الملك الصالح نجم الدين أيوب جماعة منهم سماهم البحرية، ومنهم من ملك ديار مصر، وأوّلهم المعز أيبك. ثم كانت لقطز معهم الواقعة المشهورة على عين جالوت، وهزم التتار وأسر منهم خلقا كثيرا صاروا بمصر والشام، ثم كثرت الوافدية في أيام الملك الظاهر بيبرس وملؤوا مصر والشام، وخطب للملك بركة بن يوشي بن جنكز خان على منابر مصر والشام والحرمين، فغصت أرض مصر والشام بطوائف المغل، وانتشرت عاداتهم بها وطرائقهم، هذا وملوك مصر وأمراؤها وعساكرها قد ملئت قلوبهم رعبا من جنكز خان وبنيه، وامتزج بلحمهم ودمهم مهابتهم وتعظيمهم، وكانوا إنما ربّوا بدار الإسلام ولقّنوا القرآن وعرفوا أحكام الملة المحمدية، فجمعوا بين الحق والباطل، وضموا الجيد إلى الرديء، وفوّضوا القاضي القضاة كل ما يتعلق بالأمور الدينية من الصلاة والصوم والزكاة والحج، وناطوبه أمر الأوقاف والأيتام، وجعلوا إليه النظر في الأقضية الشرعية، كتداعي الزوجين وأرباب الديون ونحو ذلك، واحتاجوا في ذات أنفسهم إلى(3/385)
الرجوع لعادة جنكز خان والاقتداء بحكم الياسة، فلذلك نصبوا الحاجب ليقضي بينهم فيما اختلفوا فيه من عوايدهم، والأخذ على يد قويهم، وانصاف الضعيف منه على مقتضى ما في الياسة، وجعلوا إليه مع ذلك النظر في قضايا الدواوين السلطانية عند الاختلاف في أمور الإقطاعات، لينفذ ما استقرّت عليه أوضاع الديوان وقواعد الحساب، وكانت من أجلّ القواعد وأفضلها حتى تحكم القبط في الأموال وخراج الأراضي، فشرّعوا في الديوان ما لم يأذن به الله تعالى، ليصير لهم ذلك سبيلا إلى أكل مال الله تعالى بغير حقه، وكان مع ذلك يحتاج الحاجب إلى مراجعة النائب أو السلطان في معظم الأمور.
هذا وستر الحياء يومئذ مسدول، وظلّ العدل صاف، وجناب الشريعة محترم، وناموس الحشمة مهاب، فلا يكاد أحد أن يزيغ عن الحق، ولا يخرج عن قضية الحياء، إن لم يكن له وازع من دين، كان له ناه من عقل. ثم تقلص ظلّ العدل، وسفرت أوجه الفجور، وكشّر الجور أنيابه، وقلت المبالاة، وذهب الحياء والحشمة من الناس، حتى فعل من شاء ما شاء، وتعدّت منذ عهد المحن التي كانت في سنة ست وثمانمائة الحجاب، وهتكوا الحرمة، وتحكموا بالجور تحكما خفي معه نور الهدى، وتسلطوا على الناس مقتا من الله لأهل مصر وعقوبة لهم بما كسبت أيديهم، ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون.
وكان أوّل ما حكم الحجاب في الدولة التركية بين الناس بمصر، أن السلطان الملك الكامل شعبان بن الناصر محمد بن قلاون، استدعى الأمير شمس الدين آق سنقر الناصريّ، نائب طرابلس، ليوليه نيابة السلطنة بديار مصر عوضا عن الأمير سيف الدين بيغوا، أميرا حاجبا كبيرا، يحكم بين الناس، فخلع عليه في جمادى الأولى سنة ست وأربعين وسبعمائة، فحكم بين الناس كما كان نائب السلطنة يحكم، وجلس بين يديه موقعان من موقعي السلطان لمكاتبة الولاة بالأعمال ونحوهم، فاستمرّ ذلك. ثم رسم في جمادى الآخرة منها أن يكون الأمير رسلان يصل حاجبا مع بيغوا يحكم بالقاهرة على عادة الحجاب، فلما انقضت دولة الكامل بأخيه الملك المظفر حاجي بن محمد، استقرّ الأمير سيف الدين أرقطاي نائب السلطنة، فعاد أمر الحجاب إلى العادة القديمة، إلى أن كانت ولاية الأمير سيف الدين جرجي الحجابة في أيام السلطان الملك الصالح صالح بن محمد بن قلاون، فرسم له أن يتحدّث في أرباب الديون ويفصلهم من غرمائهم بأحكام السياسة، ولم تكن عادة الحجاب فيما تقدّم أن يحكموا في الأمور الشرعية، وكان سبب ذلك ووقوف تجار العجم للسلطان بدار العدل في أثناء سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة، وذكروا أنهم ما خرجوا من بلادهم إلّا لكثرة ما ظلمهم التتار وجاروا عليهم، وأن التجار بالقاهرة اشتروا منهم عدّة بضائع وأكلوا أثمانها، ثم هم يثبتون على يد القاضي الحنفيّ أعسارهم، وهم في سجنه، وقد أفلس بعضهم فرسم للأمير جرجي بإخراج غرمائهم من السجن وخلاص ما في قبلهم للتجار،(3/386)
وأنكر على قاضي القضاة جمال الدين عبد الله التركمانيّ الحنفيّ ما عمله، ومنع من التحدث في أمر التجار والمدينين، فأخرج جرجي غرماء التجار من السجن وعاقبهم، حتى أخذ للتجار أموالهم منهم شيئا بعد شيء، وتمكن الحجاب من حينئذ من التحكم على الناس بما شاؤوا.
أمير جاندار: موضوع أمير جاندار، التسلم لباب السلطان، ولرتبة البرد دارية، وطوائف الركابية، والحرامانية، والجندارية. وهو الذي يقدم البريد إذا قدم مع الدوادار وكاتب السرّ، وإذا أراد السلطان تقرير أحد من الأمراء على شيء أو قتله بذنب، كان ذلك على يد أمير جاندار، وهو أيضا المتسلم للزردخاناه، وكانت أرفع السجون قدرا، ومن اعتقل بها لا تطول مدّته بها، بل يقتل أو يخلى سبيله، وهو الذي يدور بالزفة حول السلطان في سفره مساء وصباحا.
الأستادار: إليه أمر البيوت السلطانية كلها من المطابخ والشراب خاناه والحاشية والغلمان، وهو الذي كان يمشي بطلب السلطان في السرحات والأسفار، وله الحكم في غلمان السلطان وباب داره، وإليه أمور الجاشنكيرية. وإن كان كبيرهم نظيره في الأمرة من ذوي المئين، وله أيضا الحديث المطلق والتصرّف التام في استدعاء ما يحتاجه كلّ من في بيت من بيوت السلطان من النفقات والكساوى، وما يجري مجرى ذلك.
ولم تزل رتبة الأستادار على ذلك حتى كانت أيام الظاهر برقوق، فأقام الأمير جمال الدين محمود بن عليّ بن اصفر عيّنه استادارا وناط به تدبير أموال المملكة، فتصرّف في جميع ما يرجع إلى أمر الوزير وناظر الخاص، وصارا يتردّدان إلى بابه ويمضيان الأمور برأيه، فجلت من حينئذ رتبة الأستادار، بحيث أنه صار في معنى ما كان فيه الوزير في أيام الخلفاء، سيما إذا اعتبرت حال الأمير جمال الدين يوسف الاستادار في أيام الناصر فرج بن برقوق، كما ذكرناه عند ذكر المدارس من هذا الكتاب، فإنك تجده إنما كان كالوزير العظيم، لعموم تصرّفه ونفوذ أمره في سائر أحوال المملكة، واستقرّ ذلك لمن ولي الاستادارية من بعده، والأمر على هذا إلى اليوم.
أمير سلاح: هذا الأمير هو مقدّم السلاحدارية، والمتولي لحمل سلاح السلطان فى المجامع الجامعة، وهو المتحدّث في السلاح خاناه وما يستعمل بها وما يقدم إليها ويطلق منها، وهو أبدا من أمراء المئين.
الدوادار: ومن عادة الدولة أن يكون بها من أمرائها من يقال له الدوادار، وموضوعه لتبليغ الرسائل عن السلطان، وابلاغ عامّة الأمور، وتقديم القصص إلى السلطان، والمشاورة على من يحضر إلى الباب، وتقديم البريد هو أمير جاندار وكاتب السرّ، وهو الذي يقدم إلى السلطان كل ما تؤخذ عليه العلامة السلطانية من المناشير والتواقيع والكتب، وكان يخرج عن(3/387)
السلطان بمرسوم مما يكتب، فيعين رسالته في المرسوم، واختلفت آراء ملوك الترك في الدوادار، فتارة كان من أمراء العشراوات والطبلخاناه، وتارة كان من أمراء الألوف.
فلما كانت أيام الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاون، ولي الأمير اقتمر الحنليّ وظيفة الدوادارية، وكان عظيما في الدولة، فصار يخرج المراسيم السلطانية بغير مشاورة، كما يخرج نائب السلطنة، ويعين في المرسوم إذ ذاك انه كتب برسالته، ثم نقل إلى نيابة السلطنة وأقام الأشرف عوضة الأمير طاش تمر الدوادار، وجعله من أكبر أمراء الألوف، فاقتدى به الملك الظاهر برقوق وجعل الأمير يونس الدوادار من أكبر أمراء الألوف، فعظمت منزلته وقويت مهابته، ثم لما عادت الدولة الظاهرية بعد زوالها، ولي الدوادارية الأمير بوطا، فتحكم تحكما زائدا عن المعهود في الدوادارية، وتصرّف كتصرّف النوّاب، وولّى وعزل وحكم في القضايا المعضلة، فصار ذلك من بعده عادة لمن ولي الدوادارية، سيما لما ولي الأمير يشبك والأمير حكم الدوادارية في أيام الناصر فرج، فإنهما تحكمت في جليل أمور الدولة وحقيرها، من المال والبريد والأحكام والعزل والولاية، وما برح الحال على هذا في الأيام الناصرية، وكذلك الحال في الأيام المؤيدية يقارب ذلك.
نقابة الجيوش: هذه الرتبة كانت في الدولة التركية من الرتب الجليلة، ويكون متوليها كأحد الحجاب الصغار، وله تحلية الجند في عرضهم، ومعه يمشي النقباء، فإذا طلب السلطان أو النائب أو حاجب الحجاب أميرا أو جنديا، كان هو المخاطب في الإرسال إليه، وهو الملزوم بإحضاره، وإذا أمر أحد منهم بالترسيم على أمير أو جنديّ، كان نقيب الجيش هو الذي يرسم عليه، وكان من رسمه أنه هو الذي يمشي بالحراسة السلطانية في الموكب حالة السرحة، وفي مدّة السفر، ثم انحطت اليوم هذه الرتبة، وصار نقيب الجيش عبارة عن كبير من النقباء المعدّين لترويع خلق الله تعالى، وأخذ أموالهم بالباطل على سبيل القهر، عند طلب أحد إلى باب الحاجب، ويضيفون إلى أكلهم أموال الناس بالباطل افتراءهم على الله تعالى بالكذب، فيقولون على المال الذي يأخذونه باطلا هذا حق الطريق، والويل لمن نازعهم في ذلك، وهم أحد أسباب خراب الإقليم كما بين في موضعه من هذا الكتاب، عند ذكر الأسباب التي أوجبت خراب الإقليم.
الولاية: وهي التي يسميها السلف الشرطة، وبعضهم يقول صاحب العسس، والعسس الطواف بالليل لتتبع أهل الريب يقال: عس يعس عسا وعسسا. وأوّل من عس بالليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أمره أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه بعس المدينة. خرّج أبو داود عن الأعمش عن زيد قال: أتى عبد الله بن مسعود فقيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمرا، فقال عبد الله رضي الله عنه: إنّا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به. وذكر الثعلبيّ عن زيد بن وهب أنه قال: قيل لابن مسعود رضي الله عنه، هل لك في(3/388)
الوليد بن عتبة تقطر لحيته خمرا؟ فقال: إنّا قد نهينا عن التجسس، فإن ظهر لنا شيء نأخذ به، وكان عمر رضي الله عنه يتولى في خلافته العسس بنفسه، ومعه مولاه أسلم رضي الله عنه، وكان ربما استصحب معه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه.
قاعة الصاحب: وكانت وظيفة الوزارة أجلّ رتب أرباب الأقلام، لأنّ متوليها ثاني السلطان إذ أنصف وعرف حقه، إلّا أن ملوك الدولة التركية قدّموا رتبة النيابة على الوزارة، فتأخرت الوزارة حتى قعد بها مكانها، ووليها في الدولة التركية أناس من أرباب السيوف وأناس من أرباب الأقلام، فصار الوزير إذا كان من أرباب الأقلام يطلق عليه اسم الصاحب، بخلاف ما إذا كان من أرباب السيوف فإنه لا يقال له الصاحب، وأصل هذه الكلمة في إطلاقها على الوزير، أنّ الوزير إسماعيل بن عباد كان يصحب مؤيد الدولة أبا منصور بويه بن ركن الدولة الحسن بن بويه الديلميّ، صاحب بلاد الرّيّ، وكان مؤيد الدولة شديد الميل إليه والمحبة له، فسماه الصاحب، وكان الوزير حينئذ أبو الفتح عليّ بن العميد يعاديه لشدّة تمكنه من مؤيد الدولة، فتلقب الوزراء بعد ابن عباد بالصاحب، ولا أعلم أحدا من وزراء خلفاء بني العباس، ولا وزراء الخلفاء الفاطميين قيل له الصاحب، وقد جمعت في وزراء الإسلام كتابا جليل القدر، وأفردت وزراء مصر في تصنيف بديع، والذي أعرف، أنّ الوزير صفيّ الدين عبد الله بن شكر وزير العادل والكامل من ملوك مصر من بني أيوب، كان يقال له الصاحب، وكذلك من بعده من وزراء مصر إلى اليوم.
وكان وضع الوزير أنّه أقيم لنفاذ كلمة السلطان وتمام تصرّفه، غير أنها انحطت عن ذلك بنيابة السلطنة، ثم انقسم ما كان للوزير إلى ثلاثة هم: الناظر في المال، وناظر الخاص، وكاتب السرّ، فإنه يوقع في دار العدل ما كان يوقع فيه الوزير بمشاورة واستقلال.
ثم تلاشت الوزارة في أيام الظاهر برقوق بما أحدثه من الديوان المفرد، وذلك أنه لما ولي السلطنة أفرد إقطاعه لما كان أميرا قبل سلطنته، وجعل له ديوانا سمّاه الديوان المفرد، وأقام فيه ناظرا وشاهدين وكتابا، وجعل مرجع هذا الديوان إلى الأستادار، وصرف ما يتحصل منه في جوامك مماليك استجدّها شيئا بعد شيء حتى بلغت خمسة آلاف مملوك، وأضاف إلى هذا الديوان كثيرا من أعمال الديار المصرية، وبذلك قوي جانب الاستادار، وضعفت الوزارة حتى صار الوزير قصار نظره التحدّث في أمر المكوس، فيستخرجها من جهاتها ويصرفها في ثمن اللحم وحوايج المطبخ وغير ذلك، ولقد كان الوزير الصاحب سعد الدين نصر الله بن البقريّ يقول: الوزارة اليوم عبارة عن حوايج كاش عفش، يشتري اللحم والحطب وحوايج الطعام، وناظر الخاص غلام صلف يشتري الحرير والصوف والنصافي والسنجاب، وأمّا ما كان للوزراء ونظار الخاص في القديم فقد بطل، ولقد صدق فيما قال، فإنّ الأمر على هذا.
وما رأينا الوزارة من بعد انحطاط رتبتها يرتفع قدر متوليها إلّا إذا أضيفت إلى الأستادارية، كما وقع للأمير جمال الدين يوسف الأستادار، والأمير فخر الدين عبد الغنيّ بن أبي الفرج.(3/389)
وأما من ولي الوزارة بمفردها، سيما من أرباب الأقلام، فإنما هو كاتب كبير يتردّد ليلا ونهارا إلى باب الأستادار، ويتصرّف بأمره ونهيه، وحقيقة الوزارة اليوم أنها انقسمت بين أربعة وهم: كاتب السرّ، والأستادار، وناظر الخاص، والوزير. فأخذ كاتب السرّ من الوزارة التوقيع على القصص بالولايات والعزل ونحو ذلك في دار العدل وفي داره. وأخذ الأستادار التصرّف في نواحي أرض مصر، والتحدّث في الدواوين السلطانية، وفي كشف الأقاليم، وولاة النواحي، وفي كثير من أمور أرباب الوظائف، وأخذ ناظر الخاص جانبا كبيرا من الأموال الديوانية السلطانية، ليصرفها في تعلقات الخزانة السلطانية، وبقي للوزير شيء يسير جدّا من النواحي، والتحدّث في المكوس، وبعض الدواوين، ومصارف المطبخ السلطاني والسواقي، وأشياء أخر، وإليه مرجع ناظر الدولة، وشادّ الدواوين، وناظر بيت المال، وناظر الأهراء ومستوفي الدولة، وناظر الجهات، وأمّا ناظر البيوت وناظر الإصطبلات، فإنه أمرهما يرجع إلى غيره. والله أعلم.
نظر الدولة: هذه الوظيفة يقال لمتوليها ناظر النظار، ويقال له ناظر المال، وهو يعرف اليوم بناظر الدولة، وتلي رتبته رتبة الوزارة، فإذا غاب الوزير وتعطلت الوزارة من وزير، قام ناظر الدولة بتدبير الدولة، وتقدّم إلى شادّ الدواوين بتحصيل الأموال وصرفها في النفقات والكلف، واقتصر الملك الناصر محمد بن قلاون على ناظر الدولة مدّة أعوام من غير تولية وزير، ومشّى أمور الدولة على ذلك حتى مات، ولا بدّ أن يكون مع ناظر الدولة مستوفون يضبطون كلّيّات المملكة وجزئياتها، ورأس المستوفين مستوفي الصحبة، وهو يتحدّث في سائر المملكة مصرا وشاما، ويكتب مراسيم يعلّم عليها السلطان، فتكون تارة بما يعمل في البلاد، وتارة بالإطلاقات، وتارة باستخدام كتّاب في صغار الأعمال، ومن هذا النحو وما يجري مجراه.
ديوان النظر: وهي وظيفة جليلة تلي نظر الدولة، وبقية المستوفين كلّ منهم حديثه مقيد، لا يتعدّى حديثه قطرا من أقطار المملكة، وهذا الديوان، أعني ديوان النظر، هو أرفع دواوين المال، وفيه تثبت التواقيع والمراسيم السلطانية، وكلّ ديوان من دواوين المال إنما هو فرع هذا الديوان، وإليه يرفع حسابه وتتناهى أسبابه، وإليه يرجع أمر الاستيمار الذي يشتمل على أرزاق ذوي الأقلام وغيرهم. مياومة ومشاهرة ومسانهة من الرواتب، وكانت أرزاق ذوي الأقلام مشاهرة من مبلغ عين وغلة، وكان لأعيانهم الرواتب الجارية في اليوم من اللحم بتوابله أو غير توابله، والخبز والعليق لدوابهم، وكان لأكابرهم السكر والشمع والزيت والكسوة في كلّ سنة والأضحية، وفي شهر رمضان السكر والحلوى، وأكثرهم نصيبا الوزير، وكان معلومه في الشهر مائتين وخمسين دينارا جيشية، مع الأصناف المذكورة والغلة، وتبلغ نظير المعلوم. ثم ما دون ذلك من المعلوم لمن عدا الوزير وما دون دونه، وكان معلوم القضاة والعلماء أكثره خمسون دينارا في كلّ شهر، مضافا لما بيدهم من(3/390)
المدارس التي يستدرون من أوقافها، وكان أيضا يصرف على سبيل الصدقات الجارية والرواتب الدارة على جهات، ما بين مبلغ وغلة وخبز ولحم وزيت وكسوة وشعير، هذا سوى الأرض من النواحي التي يعرف المرتب عليها بالرزق الإحباسية، وكانوا يتوارثون هذه المرتبات ابنا عن أب، ويرثها الأخ عن أخيه، وابن العم عن ابن العمّ، بحيث أنّ كثيرا ممن مات وخرج ادراره من مرتبة لأجنبيّ، لما جاء قريبه وقدّم قصته يذكر فيها أولويته بما كان لقريبه، أعيد إليه ذلك المرتب ممن كان خرج باسمه.
نظر البيوت: كان من الوظائف الجليلة، وهي وظيفة متوليها منوط بالأستادار، فكلّ ما يتحدّث فيه أستادار السلطان فإنه يشاركه في التحدّث، وهذا كان أيام كون الأستادار ونظره لا يتعدّى بيوت السلطان، وما تقدّم ذكره، فأما منذ عظم قدر الأستادار ونفذت كلمته في جمهور أموال الدولة، فإن نظر البيوت اليوم شيء لا معنى له.
نظر بيت المال: كان وظيفة جليلة معتبرة، وموضوع متوليها التحدّث في حمول المملكة مصرا وشاما إلى بيت المال بقلعة الجبل، وفي صرف ما ينصرف منه، تارة بالوزن، وتارة بالتسبيب بالأقلام، وكان أبدا يصعد ناظر بيت المال ومعه شهود بيت المال وصيرفيّ بيت المال وكاتب المال إلى قلعة الجبل، ويجلس في بيت المال، فيكون له هناك أمر ونهي وحال جليلة لكثرة الحمول الواردة، وخروج الأموال المصروفة في الرواتب لأهل الدولة، وكانت أمرا عظيما، بحيث أنها بلغت في السنة نحو أربعمائة ألف دينار، وكان لا يلي نظر بيت المال إلا من هو من ذوي العدالات المبرزة، ثم تلاشى المال وبيت المال، وذهب الاسم والمسمّى، ولا يعرف اليوم بيت المال من القلعة، ولا يدرى ناظر بيت المال من هو.
نظر الإصطبلات: هذه الوظيفة جليلة القدر إلى اليوم، وموضوعها الحديث في أموال الإصطبلات والمناخات وعليقها وأرزاق من فيها من المستخدمين، وما بها من الاستعمالات والإطلاق، وكل ما يبتاع لها أو يبتاع بها، وأوّل من استجدّها الملك الناصر محمد بن قلاون، وهو أوّل من زاد في رتبة أمير اخور واعتنى بالأوجاقية والعرب الركابة، وكان أبوه المنصور قلاون يرغب في خيل برقة أكثر من خيل العرب، ولا يعرف عنه أنه اشترى فرسا بأكثر من خمسة آلاف درهم، وكان يقول خيل برقة نافعة، وخيل العرب زينة، بخلاف الناصر محمد، فإنه شغف باستدعاء الخيول من عرب آل مهنا وآل فضل وغيرهم، وبسببها كان يبالغ في إكرام العرب ويرغبهم في أثمان خيولهم حتى خرج عن الحدّ في ذلك، فكثرت رغبة آل مهنا وغيرهم في طلب خيول من عداهم من العربان، وتتبعوا عتاق الخيل من مظانها، وسمحوا بدفع الأثمان الزائدة على قيمتها حتى أتتهم طوائف العرب بكرائم خيولهم، فتمكنت آل مهنا من السلطان وبلغوا في أيامه الرتب العلية، وكان لا يحب خيول برقة، وإذا أخذ منها شيئا أعدّه للتفرقة على الأمراء البرّانيين، ولا يسمح بخيول آل مهنا إلّا(3/391)
لأعز الأمراء وأقرب الخاصكية منه، وكان جيد المعرفة بالخيل، شياتها وأنسابها، لا يزال يذكر أسماء من أحضرها إليه ومبلغ ثمنها، فلما اشتهر عنه ذلك جلب إليه أهل البحرين والحساء والقطيف وأهل الحجاز والعراق كرائم خيولهم، فدفع لهم في الفرس من عشرة آلاف درهم إلى عشرين إلى ثلاثين ألف درهم، عنها ألف وخمسمائة مثقال من الذهب، سوى ما ينعم به على مالكه من الثياب الفاخرة له ولنسائه، ومن السكر ونحوه، فلم تبق طائفة من العرب حتى قادت إليه عتاق خيلها، وبلغ من رغبة السلطان فيها أنه صرف في أثمانها دفعة واحدة من جهة كريم الدين ناظر الخاص ألف ألف درهم في يوم واحد، وتكرّر هذا منه غير مرّة، وبلغ ثمن الفرس الواحد من خيول آل مهنا السنتين ألف درهم والسبعين ألف درهم، واشترى كثيرا من الحجور بالثمانين ألفا والتسعين ألفا، واشترى بنت الكرشاء بمائة ألف درهم، عنها خمسة آلاف مثقال من الذهب، هذا سوى الإنعامات بالضياع من بلاد الشام، وكان من عنايته بالخيل لا يزال يتفقدها بنفسه، فإذا أصيب منها فرس أو كبر سنه بعث به إلى الجشار «1» ، وتنزى «2» الفحول المعروفة عنده على الحجور «3» بين يديه، وكتّاب الإصطبل تؤرّخ تاريخ نزوها، واسم الحصان، والحجرة، فتوالدت عنده خيول كثيرة اغتنى بها عن الجلب، ومع ذلك فلم تكن عنده في منزلة ما يجلب منها، وبهذا ضخمت سعادة آل مهنا وكثرت أموالهم وضياعهم، فعزّ جانبهم وكثر عددهم وهابهم من سواهم من العرب، وبلغت عدّة خيول الجشارات في أيامه نحو ثلاثة آلاف فرس، وكان يعرضها في كلّ سنة ويدوّغ أولادها بين يديه ويسلمها للعربان الركابة، وينعم على الأمراء الخاصكية بأكثرها، ويتبجح بها ويقول: هذه فلانة بنت فلان، وهذا فلان بن فلانة، وعمره كذا، وشراء أم هذا كذا وكذا، كان لا يزال يؤكد على الأمراء في تضمير الخيول، ويلزم كلّ أمير أن يضمر أربعة أفراس، ويتقدّم لأمير اخور أن يضمر للسلطان عدّة منها ويوصيه بكتمان خبرها، ثم يشيع أنها لأيدغمش أمير اخور، ويرسلها مع الخيل في حلبة السباق خشية أن يسبقها فرس أحد من الأمراء فلا يحتمل ذلك، فإنه ممن لا يطيق شيئا ينقص ملكه، وكان السباق في كلّ سنة بميدان القبق، ينزل بنفسه وتحضر الأمراء بخيولها المضمرة، فيجريها وهو على فرسه حتى تنقضي نوبها، وكانت عدّتها مائة وخمسين فرسا فما فوقها، فاتفق أنه كان عند الأمير قطلو بغا الفخريّ حصان أدهم سبق خيل مصر كلها في ثلاث سنين متوالية أيام السباق، وبعث إليه الأمير مهنا فرسا شهباء على أنها إن سبقت خيل مصر فهي للسلطان، وإن سبقها فرس ردّت إليه ولا يركبها عند السابق إلّا بدويّ قادها، فركب السلطان للسباق في أمرائه على عادته ووقف معه سليمان وموسى ابنا مهنا، وأرسلت الخيول من بركة الحاج على عادتها وفيها(3/392)
فرس مهنا، وقد ركبها البدويّ عريا بغير سرج، فأقبلت سائر الخيول تتبعها حتى وصلت المدى وهي عري بغير سرج، والبدويّ عليها بقميص وطاقية، فلما وقفت بين يدي السلطان صاح البدويّ: السعادة لك اليوم يا مهنا، لا شقيت. فشق على السلطان أن خيله سبقت، وأبطل التضمير من خيله، وصارت الأمراء تضمر على عادتها، ومات الناصر محمد عن أربعة آلاف وثمانمائة فرس، وترك زيادة على خمسة آلاف من الهجن الأصائل والنوق المهريات والقرشيات، سوى أتباعها. وبطل بعده السباق، فلما كانت أيام الظاهر برقوق عني بالخيل أيضا ومات عن سبعة آلاف فرس وخمسة عشر ألف جمل.
ديوان الإنشاء: وكان بجوار قاعة الصاحب بقلعة الجبل ديوان الإنشاء، يجلس فيه كاتب السرّ، وعنده موقعو الدرج وموقعو الدست في أيام المواكب طول النهار، ويحمل إليهم من المطبخ السلطانيّ المطاعم، وكانت الكتب الواردة وتعليق ما يكتب من الباب السلطانيّ موضوعة بهذه القاعة، وأنا جلست بها عند القاضي بدر الدين محمد بن فضل الله العمريّ أيام مباشرتي التوقيع السلطانيّ، إلى نحو السبعين والسبعمائة، فلما زالت دولة الظاهر برقوق ثم عادت اختلت أمور كثيرة منها أمر قاعة الإنشاء بالقلعة، وهجرت وأخذ ما كان فيها من الأوراق، وبيعت بالقنطار، ونسي رسمها، وكتابة السرّ رتبة قديمة، ولها أصل في السنّة، فقد خرّج أبو بكر عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستانيّ في كتاب المصاحف من حديث الأعمش، عن ثابت بن عبيد عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها تأتيني كتب لا أحب أن يقرأها كلّ أحد، فهل تستطيع أن تعلّم كتاب العبرانية أو قال السريانية» فقلت نعم. قال: فتعلمتها في سبع عشرة ليلة، ولم يزل خلفاء الإسلام يختارون لكتابة سرّهم الواحد بعد الواحد، وكان موضوع كتابة السرّ في الدولة التركية على ما استقرّ عليه الأمر في أيام الناصر محمد بن قلاون، أنّ لمتوليها المسمى بكاتب السرّ وبصاحب ديوان الإنشاء، ومن الناس من يقول ناظر ديوان الإنشاء، قراءة الكتب الواردة على السلطان وكتابة أجوبتها، إما بخطه أو بخط كتاب الدست أو كتاب الدرج بحسب الحال، وله تفسير الأجوبة بعد أخذ علامة السلطان عليها، وله تصريف المراسيم ورودا وصدورا، وله الجلوس بين يدي السلطان بدار العدل لقراءة القصص والتوقيع عليها بخطه في المجلس. فصار يوقع فيما كان يوقع عليه بقلم الوزارة، وصار إليه التحدّث في مجلس السلطان عند عقد المشورة وعند اجتماع الحكام لفصل أمر مهم، وله التوسط بين الأمراء والسلطان فيما يندب إليه عند الاختلاف أو التدبير، وإليه ترجع أمور القضاة ومشايخ العلم ونحوهم في سائر المملكة مصرا وشاما، فيمضي من أمورهم ما أحب ويشاور السلطان فيما لا بدّ من مشاورته فيه، وكانت العادة أن يجلس تحت الوزير، فلما عظم، تمكن القاضي فتح الدين فتح الله كاتب السرّ من الدولة، جلس فوق الوزير الصاحب سعد الدين إبراهيم البشيري، فاستمرّ ذلك لمن بعده ورتبة كاتب السرّ(3/393)
أجلّ الرتب، وذلك أنها منتزعة من الملك.
فإن الدولة العباسية صار خلفاؤها في أوّل أمرهم منذ عهد أبي العباس السفاح إلى أيام هارون الرشيد يستبدّون بأمورهم، فلما صارت الخلافة إلى هارون ألقى مقاليد الأمور إلى يحيى بن جعفر البرمكيّ، فصار يحيى يوقع على رقاع الرافعين بخطه في الولايات وإزالة الظلامات وإطلاق الأرزاق والعطيات، فجلّت لذلك رتبته، وعظمت من الدولة مكانته، وكان هو أوّل من وقع من وزراء خلفاء بني العباس، وصار من بعده من الوزراء يوقعون على القصص كما كان يوقع، وربما انفرد رجل بديوان السرّ وديوان الترسل، ثم أفردت في أخريات دولة بني العباس واستقلّ بها كتاب لم يبلغوا مبلغ الوزراء، وكانوا ببغداد يقال لهم كتاب الإنشاء، وكبيرهم يدعى رئيس ديوان الإنشاء، ويطلق عليه تارة صاحب ديوان الإنشاء، وتارة كاتب السرّ، ومرجع هذا الديوان إلى الوزير، وكان يقال له الديوان العزيز، وهو الذي يخاطبه الملوك في مكاتبات الخلفاء. وكان في الدولة السلجوقية يسمى ديوان الإنشاء بديوان الطغرا، وإليه ينسب مؤيد الدين الطغراءي والطغراهي طرّة المكتوب، فيكتب أعلى من البسملة بقلم غليظ القاب الملك، وكانت تقوم عندهم مقام خط السلطان بيده على المناشير والكتب، ويستغني بها عن علامة السلطان، وهي لفظة فارسية، وفي بلاد المغرب يقال لرئيس ديوان الإنشاء صاحب القلم الأعلى، وأما مصر فإنه كان بها في القديم لما كانت دار إمارة ديوان البريد، ويقال لمتوليه صاحب البريد، وإليه مرجع ما يرد من دار الخلافة على أيدي أصحاب البريد من الكتب، وهو الذي يطالع بأخبار مصر، وكان لأمراء مصر كتاب ينشئون عنهم الكتب والرسائل إلى الخليفة وغيره، فلما صارت مصر دار خلافة كان القائد جوهر يوقع على قصص الرافعين إلى أن قدم المعز لدين الله، فوقع وجعل أمر الأموال وما يتعلق بها إلى يعقوب بن كلس، وعسلوج بن الحسن، فوليا أموال الدولة، ثم فوّض العزيز بالله أمر الوزارة ليعقوب بن كلس، فاستبدّ بجميع أحوال المملكة، وجرى مجرى يحيى بن جعفر البرمكيّ، وكان يوقع.
ومع ذلك ففي أمراء الدولة من يلي البريد، وجرى الأمر فيما بعد على أن الوزراء يوقعون، وقد يوقع الخليفة بيده، فلما كانت أيام المستنصر بالله أبي تميم معدّ بن الظاهر وصرف أبا جعفر محمد بن جعفر بن المغربيّ عن وزارته، أفرد له ديوان الإنشاء فوليه مدّة طويلة، وأدرك أيام أمير الجيوش بدر الجماليّ، وصار يلي ديوان الإنشاء بعده الأكابر إلى أن انقرضت الدولة، وهو بيد القاضي الفاضل عبد الرحيم بن عليّ البيساني، فاقتدت بهم الدولة الأيوبية، ثم الدولة التركية في ذلك، وصار الأمر على هذا إلى اليوم، وصار متولي رتبة كتابة السرّ أعظم أهل الدولة، إلّا أنه في الدولة التركية يكون معه من الأمراء واحد يقال له الدوادار، منزلته منزلة صاحب البريد في الزمن الأوّل، ومنزلة كاتب السرّ منزلة صاحب ديوان الإنشاء، إلّا أنّه يتميز بالتوقيع على القصص، تارة بمراجعة السلطان وتارة بغير(3/394)
مراجعة، فلذلك يحتاج إليه سائر أهل الدولة من أرباب السيوف والأقلام، ولا يستغني عن حسن سفارته نائب الشام، فمن دونه، ولله الأمر كله.
وأما في الدولة الأيوبية فإن كتاب الدرج كانوا في الدولة الكاملية قليلين جدا وكانوا في غاية الصيانة والنزاهة وقلة الخلطة بالناس، واتفق أنّ الصاحب زين الدين يعقوب بن الزبير كان من جملتهم، فسمع الملك الصالح نجم الدين أيوب عنه أنه يحضر في السماعات، فصرفه من ديون الإنشاء وقال: هذا الديوان لا يحتمل مثل هذا. وكانت العادة أن لا يحضر كتاب الإنشاء الديوان يوم الجمعة، فعرض للملك الصالح في بعض أيام الجمع شغل مهم، فطلب بعض الموقعين فلم يجد أحدا منهم، فقيل له أنهم لا يحضرون يوم الجمعة، فقال: استخدموا في الديوان كاتبا نصرانيا يقعد يوم الجمعة لمهم يطرأ، فاستخدم الأمجد بن العسال كاتب الدرج لهذا المعنى.
نظر الجيش: قد تقدّم أنّه كان يجلس بالقلعة دواوين الجيش في أيام الموكب، وتقدّم في ذكر الإقطاعات وذكر النيابة ما يدل على حال متولي نظر الجيش، ولا بدّ مع ناظر الجيش أن يكون من المستوفين، من يضبط كليّات المملكة وجزئياتها في الإقطاعات وغيرها.
نظر الخاص: هذه الوظيفة وإن كان لها ذكر قديم من عهد الخلفاء الفاطميين، فإن متوليها لم يبلغ من جلالة القدر ما بلغ إليه في الدولة التركية، وذلك أن الملك الناصر محمد بن قلاون لما أبطل الوزارة، وأقام القاضي كريم الدين الكبير في وظيفة نظر الخاص، صار متحدّثا فيما هو خاص بمال السلطان، يتحدّث في مجموع الأمر الخاص بنفسه، وفي القيام بأخذ رأيه فيه، فبقي تحدّثه فيه وبسببه كأنه هو الوزير، لقربه من السلطان وزيادة تصرّفه. وإلى ناظر الخاص التحدّث في الخزانة السلطانية، وكانت بقلعة الجبل، وكانت كبيرة الوضع لأنها مستودع أموال المملكة، وكان نظر الخزانة منصبا جليلا، إلى أن استحدثت وظيفة نظر الخاص فضعف أمر نظر الخزانة، وأمر الخزانة أيضا، وصارت تسمى الخزانة الكبرى، وهو اسم أكبر من مسماه، ولم يبق بها إلّا خلع يخلع منها أو ما يحضر إليها ويصرف أوّلا فأوّلا، وصار نظر الخزانة مضافا إلى ناظر الخاص، وكان الرسم أن لا يلي نظر الخزانة إلّا القضاة أو من يلحق بهم، وما برحت الخزانة بقلعة الجبل حتى عملها الأمير منطاش سجنا لمماليك الظاهر برقوق، في سنة تسعين وسبعمائة، فتلاشت من حينئذ ونسي أمرها، وصارت الخلع ونحوها عند ناظر الخاص في داره، وكانت لأهل الدولة في الخلع عوايد وهم على ثلاثة أنواع، أرباب السيوف والأقلام والعلماء، فأما أرباب السيوف فكانت خلع أكابر أمراء المئين الأطلس الأحمر الروميّ، وتحته الأطلس الأصفر الروميّ، وعلى الفوقانيّ طرز زركش ذهب، وتحته سنجاب، وله سجف من ظاهره، مع الغشاء قندس وكلوتة زركش بذهب وكلاليب ذهب وشاش لانس رفيع موصول به، في طرفيه حرير(3/395)
أبيض مرقوم بألقاب السلطان مع نقوش باهرة من الحرير الملوّن، مع منطقة ذهب، ثم تختلف أحوال المنطقة بحسب مقاديرهم، فأعلاها ما عمل بين عمدها بواكر وسطى ومجنبتان بالبلخس والزمرّد واللؤلؤ، ثم ما كان ببيكارية واحدة مرصعة، ثم ما كان ببيكارية واحدة غير مرصعة. وأما من تقلد ولاية كبيرة منهم فإنه يزاد سيفا محلى بذهب يحضر من السلاح خاناه، ويحليه ناظر الخلوص، ويزاد فرسا مسرجا ملجما بكنبوش ذهب، والفرس من الإصطبل، وقماشه من الركاب خاناه، ومرجع العمل في سروج الذهب والكنابيش إلى ناظر الخاص.
وكان رسم صاحب حماه من أعلى هذه الخلع، ويعطى بدل الشاش اللانس شاش من عمل الإسكندرية حرير شبيه بالطول، وينسج بالذهب يعرف بالمثمر، ويعطى فرسين أحد هما كما ذكر والآخر يكون عوض كنبوشه زناري أطلس أحمر، وكانت لنائب الشام على ما استقرّ في أيام الناصر محمد بن قلاون مثل هذا، وزيد لتنكر تركيبة زركش ذهب دائرة بالقباء الفوقانيّ.
ودون هذه الرتبة في الخلع نوع يسمّى طرزوحش، يعمل بدار الطراز التي كانت بالإسكندرية وبمصر وبدمشق، وهو مجوّخ جاخات كتابة بألقاب السلطان، وجاخات طرزوحش، وجاخات ألوان ممتزجة بقصب مذهب، يفصل بين هذه الجاخات نقوش وطراز، هذا يكون من القصب، وربما كبر بعضهم فركب عليه طرازا مزركشا بالذهب، وعليه فرو سنجاب وقندس كما تقدّم، وتحت القباء الطرزوحش قباء من المقترح الإسكندراني الطرح، وكلوتة زركش بكلاليب وشاش على ما تقدّم، وحياصة ذهب، فتارة تكون ببيكارية وتارة لا يكون بها بيكارية، وهذه لأصاغر أمراء المئين ومن يلحق بهم.
ودون هذه الرتبة في الخلع، كمخا عليه نقش من لون آخر غير لونه، وقد يكون من نوع لونه بتفاوت بينهما، وتحته سنجاب بقندس، والبقية كما تقدّم، إلا أن الحياصة والشاش لا يكونان بأطراف رقم، بل تكون مجوّخة بأخضر وأصفر مذهب، والحياصة لا تكون ببيكارية.
ودون هذه المرتبة، كمخا تكون واحدة بسنجاب مقندس، والبقية على ما ذكر، وتكون الكلوتة خفيفة الذهب، وجانباها يكاد أن يكونان خاليين بالجملة، ولا حياصة له.
ودون هذه الرتبة، مجوّم، لون واحد، والبقية على ما ذكر خلا الكوتة والكلاليب.
ودون هذه الرتبة مجوم مقندس، وهو قباء ملوّن بجاخات من أحمر وأخضر وأزرق وغير ذلك من الألوان، بسنجاب وقندس وتحته قباء إمّا أزرق أو أخضر، وشاش أبيض بأطراف من نسبة ما تقدّم ذكره، ثم دون هذا من هذا النوع.(3/396)
وأما الوزراء والكتاب فأجلّ ما كانت خلعهم الكمخا الأبيض المطرّز برقم حرير ساذج، وسنجاب مقندس، وتحته كمخا أخضر وبقيار، كان من عمل دمياط مرقوم، وطرحه. ثم دون هذه الرتبة عدم السنجاب، بل يكون القندس بدائر الكمين وطول الفرج، ودونها ترك الطرحة، ودونها أن يكون التحتانيّ مجوما ودون هذا أن يكون الفوقانيّ من الكمخا لكنه غير أبيض، ودونه أن يكون الفوقانيّ مجوما أبيض، ودونه أن يكون تحته عنابيّ.
وأما القضاة والعلماء فإن خلعهم من الصوف بغير طراز، ولهم الطرحة، وأجلّهم أن يكون أبيض وتحته أخضر، ثم ما دون ذلك وكانت العادة أن أهبة الخطباء وهي السواد تحمل إلى الجوامع من الخزانة، وهي دلق مدوّر وشاش أسود وطرحة سوداء وعلمان أسودان مكتوبان بأبيض أو بذهب، وثياب المبلغ قدّام الخطيب مثل ذلك خلا الطرحة، وكانت العادة إذا خلقت الأهبة المذكورة أعيدت إلى الخزانة وصرف عوضها، وكانت للسلطان عادات بالخلع: تارة في ابتداء سلطنته، وتشمل حينئذ الخلع سائر أرباب المملكة، بحيث خلع في يوم واحد عند إقامة الأشرف كجك بن الناصر محمد بن قلاون ألف ومائتا تشريف في وقت لعبه بالكرة، على أناس جرت عوايدهم بالخلع في ذلك الوقت، كالجوكندارية والولاة، ومن له خدمة في ذلك. وتارة في أوقات الصيد عند ما يسرح، فإذا حصل أحد شيئا مما يصيده خلع عليه، وإذا أحضر أحد إليه غزالا أو نعاما خلع عليه قباء مسجفا مما يناسب خلعة مثله على قدره، وكذلك يخلع على البزدارية وجملة الجوارح ومن يجري مجراهم عند كلّ صيد. وكانت العادة أيضا أن ينعم على غلمان الطشت خاناه والشراب خاناه والفراش خاناه ومن يجري مجراهم في كلّ سنة عند أوان الصيد.
وكانت العادة أن من يصل إلى الباب من البلاد أو يرد عليه أو يهاجر من مملكة أخرى إليه أن ينعم عليه مع الخلع بأنواع الإدرارات والأرزاق والإنعامات، وكذلك التجار الذين يصلون إلى السلطان ويبيعون عليه لهم مع الخلع الرواتب الدائمة من الخبز واللحم والتوابل والحلوى والعليق والمسامحات، بنظير كلّ ما يباع من الرقيق المماليك والجواري، مع ما يسامحون به أيضا من حقوق أخرى تطلق، وكلّ واحد من التجار إذا باع على السلطان ولو رأسا واحدا من الرقيق، فله خلعة مكملة بحسبه خارجا عن الثمن وعما ينعم به عليه، أو يسفر به من مال السبيل على سبيل القرض ليتاجر به.
وأما جلّابة الخيل من عرب الحجاز والشام والبحرين وبرقة وبلاد المغرب، فإن لهم الخلع والرواتب والعلوفات والأنزال ورسوم الإقامات، خارجا عن مسامحات تكتب لهم بالمقرّرات عن تجارة يتجرون بها مما أخذوه من أثمان الخيول، وكان يثمّن الفرس بأزيد من قيمته، حتى ربما بلغ ثمنه على السلطان الذي يأخذه محضره نظير قيمته عليه عشر مرّات،(3/397)
غير الخلع وسائر ما ذكر، ولم يبق اليوم سوى ما يخلع على أرباب الدولة، وقد استجدّ في الأيام الظاهرية، وكثر في أيام الناصر فرج نوع من الخلع يقال له الجبة، يلبسه الوزير ونحوه من أرباب الرتب العلية، جعلوا ذلك ترفعا عن لبس الخلعة، ولم تكن الملوك تلبس من الثياب إلا المتوسط، وتجعل حوائصها بغير ذهب، فلم تزد حياصة الناصر محمد على مائة درهم فضة، ولم يزد أيضا سقط سرجه على مائة درهم فضة على عباءة صوف تدمري أو شامي. فلما كانت دولة أولاده بالغوا في الترف وخالفوا فيه عوايد أسلافهم، ثم سلك الظاهر برقوق في ملابسه بعض ما كان عليه الملوك الأكابر لا كله، وترك لبس الحرير.
الميدان بالقلعة: هذا الميدان من بقايا ميدان أحمد بن طولون الذي تقدّم ذكره عند ذكر القطائع من هذا الكتاب، ثم بناه الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب في سنة إحدى عشرة وستمائة، وعمر إلى جانبه بركا ثلاثا لسقيه وأجرى الماء إليها، ثم تعطل هذا الميدان مدّة، فلما قام من بعده ابنه الملك العادل أبو بكر محمد بن الكامل محمد اهتم به، ثم اهتم به الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل اهتماما زائدا، وجدّد له ساقية أخرى، وأنشأ حوله الأشجار، فجاء من أحسن شيء يكون إلى أن مات، فتلاشى أمر الميدان بعده وهدمه الملك المعز أيبك سنة إحدى وخمسين وستمائة. وعفت آثاره. فلما كانت سنة اثنتي عشرة وسبعمائة ابتدأ الملك الناصر محمد بن قلاون عمارته، فاقتطع من باب الإصطبل إلى قريب باب القرافة، وأحضر جميع جمال الأمراء فنقلت إليه الطين حتى كساه كله، وزرعه وحفر به الآبار وركب عليها السواقي، وغرس فيه النخل الفاخر والأشجار المثمرة، وأدار عليه هذا السور الحجر الموجود الآن، وبنى حوضا للسبيل من خارجه، فلما كمل ذلك نزل إليه ولعب فيه الكرة مع أمرائه وخلع عليهم، واستمرّ يلعب فيه يومي الثلاثاء والسبت، وصار القصر الأبلق يشرف على هذا الميدان، فجاء ميدانا فسيح المدى يسافر النظر في أرجائه، وإذا ركب السلطان إليه نزل من درج تلي قصره الجوّاني، فينزل السلطان إلى الإصطبل الخاص، ثم إلى هذا الميدان وهو راكب وخواص الأمراء في خدمته، فيعرض الخيول في أوقات الإطلاقات ويلعب فيه الكرة، وكان فيه عدّة أنواع الوحوش المستحسنة المنظر، وكانت تربط به أيضا الخيول للتفسح، وفي هذا الميدان يصلي السلطان أيضا صلاة العيدين، ويكون نزوله إليه في يوم العيد، وصعوده من باب خاص من دهليز القصر غير المعتاد النزول منه، فإذا ركب من باب قصره ونزل إلى منفذه من الإصطبل إلى هذا الميدان، ينزل في دهليز سلطانيّ قد ضرب له على أكمل ما يكون من الأبهة، فيصلّي ويسمع الخطبة، ثم يركب ويعود إلى الإيوان الكبير ويمدّ به السماط ويخلع على حامل القبة والطير وعلى حامل السلام والاستادار والجاشنكير وكثير من أرباب الوظائف، وكانت العادة أن تعدّ للسلطان أيضا خلعة العيد، على أنه يلبسها كما كانت العادة في أيام الخلفاء، فينعم بها على بعض أكابر أمراء المئين، ولم يزل الحال على هذا إلى أن كانت سنة ثمانمائة، فصلّى الملك(3/398)
الظاهر برقوق صلاة عيد النجر بجامع القلعة، لتخوّفه بعد واقعة الأمير علي باي، فهجر الميدان واستمرّت صلاة العيد بجامع القلعة من عامئذ طول الأيام الناصرية والمؤيدية.
الحوش: ابتدئ العمل فيه على أيام الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة، وكان قياسه أربعة فدادين، وكان موضعه بركة عظيمة قد قطع ما فيها من الحجر لعمارة قاعات القلعة، حتى صارت غورا كبيرا، ولما شرع في العمل، رتب على كلّ أمير من أمراء المئين مائة رجل ومائة بهيمة، لنقل التراب برسم الردم، وعلى كلّ أمير من أمراء الطبلخاناه بحسبه، وندب الأمير أقبغا عبد الواحد شاد العمل، فحضر من عند كلّ من الأمراء أستاداره ومعه جنده ودوا به للعمل، وأحضر الأساري، وسخّر والي القاهرة ووالي مصر الناس، وأحضرت رجال النواحي، وجلس أستاذار كلّ أمير في خيمة ووزع العمل عليهم بالأقصاب، ووقف الأمير أقبغا يستحث الناس في سرعة العمل، وصار الملك الناصر يحضر في كلّ يوم بنفسه، فنال الناس من العمل ضرر زائد، وأخرق أقبغا بجماعة من أماثل الناس، ومات كثير من الرجال في العمل لشدّة العسف وقوّة الحرّ، وكان الوقت صيفا، فانتهى عمله في ستة وثلاثين يوما، وأحضر إليه من بلاد الصعيد ومن الوجه البحريّ ألفي رأس غنم وكثيرا من الأبقار البلق لتوقف في هذا الحوض، فصار مراح غنم ومربط بقر، وأجرى الماء إلى هذا الحوش من القلعة، وأقام الأغنام حوله، وتتبع في كلّ المراحات من عيذاب وقوص إلى ما دونهما من البلاد، حتى يؤخذ ما بهما من الأغنام المختارة، وجلبها من بلاد النوبة ومن اليمن، فبلغت عدّتها بعد موته ثلاثين ألف رأس سوى اتباعها، وبلغ البقل الأخضر الذي يشترى لفراخ الإوز في كلّ يوم خمسين درهما، عنها زيادة على مثقالين من الذهب.
فلما كانت أيام الظاهر برقوق عمل المولد النبويّ بهذا الحوض في أوّل ليلة جمعة من شهر ربيع الأوّل في كلّ عام، فإذا كان وقت ذلك ضربت خيمة عظيمة بهذا الحوض، وجلس السلطان وعن يمينه شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن رسلان بن نصر البلقينيّ، ويليه الشيخ المعتقد إبراهيم برهان الدين بن محمد بن بهادر بن أحمد بن رفاعة المغربيّ، ويليه ولد شيخ الإسلام، ومن دونه وعن يسار السلطان الشيخ أبو عبد الله محمد بن سلامة التوزريّ المغربيّ، ويليه قضاة القضاة الأربعة، وشيوخ العلم، ويجلس الأمراء على بعد من السلطان، فإذا فرغ القرّاء من قراءة القرآن الكريم، قام المنشدون واحدا بعد واحد، وهم يزيدون على عشرين منشدا، فيدفع لكلّ واحد منهم صرّة فيها أربعمائة درهم فضة، ومن كلّ أمير من أمراء الدولة شقة حرير، فإذا انقضت صلاة المغرب مدّت أسمطة الأطعمة الفائقة، فأكلت وحمل ما فيها، ثم مدّت أسمطة الحلوى السكرية من الجوارشات والعقائد ونحوها، فتؤكل وتخطفها الفقهاء، ثم يكون تكميل إنشاد المنشدين ووعظهم إلى نحو ثلث الليل، فإذا فرغ المنشدون قام القضاة وانصرفوا، وأقيم السماع بقية الليل،(3/399)
واستمرّ ذلك مدّة أيامه، ثم أيام ابنه الملك الناصر فرج.
ذكر المياه التي بقلعة الجبل
وجميع مياه القلعة من ماء النيل، تنقل من موضع إلى موضع حتى تمرّ في جميع ما يحتاج إليه بالقلعة، وقد اعتنى الملوك بعمل السواقي التي تنقل الماء من بحر النيل إلى القلعة عناية عظيمة، فأنشأ الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة اثنتي عشرة وسبعمائة أربع سواق على بحر النيل، تنقل الماء إلى السور، ثم من السور إلى القلعة. وعمل نقالة من المصنع الذي عمله الظاهر بيبرس بجوار زاوية تقيّ الدين رجب، التي بالرميلة تحت القلعة إلى بئر الإصطبل. فلما كانت سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، عزم الملك الناصر على حفر خليج من ناحية حلوان إلى الجبل الأحمر المطلّ على القاهرة، ليسوق الماء إلى الميدان الذي عمله بالقلعة، ويكون حفر الخليج في الجبل، فنزل لكشف ذلك ومعه المهندسون، فجاء قياس الخليج طولا اثنين وأربعين ألف قصبة، فيمرّ الماء فيه من حلوان حتى يحاذي القلعة، فإذا حاذاها بنى هناك خبايا تحمل الماء إلى القلعة، ليصير الماء بها غزيرا كثيرا دائما صيفا وشتاء لا ينقطع، ولا يتكلف لحلمه ونقله، ثم يمرّ من محاذاة القلعة حتى ينتهي إلى الجبل الأحمر فيصبّ من أعلاه إلى تلك الأرض حتى تزرع، وعند ما أراد الشروع في ذلك طلب الأمير سيف الدين قطاوبك بن قراسنقر الجاشنكير، أحد أمراء الطبلخاناه بدمشق، بعد ما فرغ من بناء القناة وساق العين إلى القدس، فحضر ومعه الصناع الذين عملوا قناة عين بيت المقدس على خيل البريد إلى قلعة الجبل، فأنزلوا، ثم أقيمت لهم الجرايات والرواتب وتوجهوا إلى حلوان، ووزنوا مجرى الماء وعادوا إلى السلطان وصوّبوا رأيه فيما قصد والتزموا بعمله، فقال: كم تريدون؟ قالوا: ثمانين ألف دينار. فقال: ليس هذا بكثير.
فقال: كم تكون مدّة العمل فيه حتى يفرغ؟ قالوا: عشر سنين. فاستكثر طول المدّة. ويقال أنّ الفخر ناظر الجيش هو الذي حسن لهم أن يقولوا هذه المدّة، فإنه لم يكن من رأيه عمل هذا الخليج، وما زال يخيل للسلطان من كثرة المصروف عليه ومن خراب القرافة ما حمله على صرف رأيه عن العمل، وأعاد قطلوبك والصناع إلى دمشق، فمات قطلوبك عقيب ذلك في سنة تسع وعشرين وسبعمائة في ربيع الأوّل.
فلما كانت سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، اهتم الملك الناصر بسوق الماء إلى القلعة وتكثيره بها لأجل سقي الأشجار وملء الفساقي، ولأجل مراحات الغنم والأبقار، فطلب المهندسين والبنائين ونزل معهم وسار في طول القناطر التي تحمل الماء من النيل إلى القلعة، حتى انتهى إلى الساحل، فأمر بحفر بئر أخرى ليركب عليها القناطر حتى تتصل بالقناطر العتيقة، فيجتمع الماء من بئرين ويصير ماء واحدا يجري إلى القلعة، فيسقي الميدان وغيره، فعمل ذلك، ثم أحبّ الزيادة في الماء أيضا، فركب ومعه المهندسون إلى بكرة(3/400)
الجيش، وأمر بحفر خليج صغير يخرج من البحر ويمرّ إلى حائط الرصد، وينقر في الحجر تحت الرصد عشر آبار يصبّ فيها الخليج المذكور، ويركّب على الآبار السواقي لتنقل الماء إلى القناطر العتيقة التي تحمل الماء إلى القلعة. زيادة لمائها، وكان فيما بين أوّل هذا المكان الذي عيّن لحفر الخليج وبين آخره تحت الرشد، أملاك كثيرة. وعدّة بساتين، فندب الأمير أقبغا عبد الوحد لحفر هذا الخليج وشراء الأملاك من أربابها، فحفر الخليج وأجراه في وسط بستان الصاحب بهاء الدين بن حنا، وقطع أنشابه وهدم الدور، وجمع عامّة الحجارين لقطع الحجر، ونقر الآبار، وصار السلطان يتعاهد النزول للعمل كلّ قليل، فعمل عمق الخليج من فم البحر أربع قصبات، وعمق كلّ بئر في الحجر أربعين ذراعا، فقدّر الله تعالى موت الملك الناصر قبر تمام هذا العمل، فبطل ذلك وانطمّ الخليج بعد ذلك، وبقيت منه إلى اليوم قطعة بجوار رباط الآثار، وما زالت الحائط قائمة من حجر في غاية الإتقان من إحكام الصناعة. وجودة البناء عند سطح الجرف الذي يعرف اليوم بالرصد، قائما من الأرض في طول الجرف إلى أعلاه، حتى هدمه الأمير يلبغا السالميّ في سنة اثنتي عشرة وثمانمائة، وأخذ ما كان به من الحجر فرمّ به القناطر التي تحمل إلى اليوم حتى يصل إلى القلعة، وكانت تعرف بسواقي السلطان، فلما هدمت جهل أكثر الناس أمرها ونسوا ذكرها.
المطبخ: كان أوّلا موضعه في مكان الجامع، فأدخله السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون فيما زاده في الجامع، وبنى هذا المطبخ الموجود الآن، وعمل عقوده بالحجارة خوفا من الحريق، وكانت أحوال المطبخ متسعة جدا سيما في سلطنة الأشرف خليل بن قلاون، فإنه تبسط في المآكل وغيرها، حتى لقد ذكر جماعة من الأعيان أنهم أقاموا مدّة سفرهم معه يرسلون كلّ يوم عشرين درهما فيشترى لهم بها مما يأخذه الغلمان، أربع خوافق صيني مملوءة طعاما مفتخرا بالقلوبات ونحوها، في كلّ خافقية ما ينيف على خمسة عشر رطل لحم، أو عشرة أطيار دجار سمان، وبلغ راتب الحوايج خاناه في أيام الملك العادل كتبغا كلّ يوم عشرين ألف رطل لحم، وراتب البيوت والجرايات غير أرباب الرواتب في كلّ يوم سبعمائة أردب قمحا، واعتبر القاضي شرف الدين عبد الوهاب النشو ناظر الخاص أمر المطبخ السلطانيّ في سنة تسع وثلاثين وسبعمائة، فوجد عدّة الدجاج الذي يذبح في كلّ يوم للسماط والمخاطي التي تخص السلطان ويبعث بها إلى الأمراء سبعمائة طائر، وبلغ مصروف الحوايج خاناه في كلّ يوم ثلاثة عشر ألف درهم، فأكثر أولاد الناصر من مصروفها حتى توقفت أحوال الدولة في أيام الصالح إسماعيل، وكتبت أوراق بكلف الدولة في سنة خمس وأربعين وسبعمائة، فبلغت في السنة ثلاثين ألف ألف درهم، ومنها مصروف الحوايج خاناه في كلّ يوم اثنان وعشرون ألف درهم. وبلغ في أيام الناصر محمد بن قلاون راتب السكّر في شهر رمضان خاصة من كل سنة، ألف قنطار، ثم تزايد حتى بلغ في شهر رمضان سنة خمس وأربعين وسبعمائة ثلاثة آلاف قنطار، عنها ستمائة ألف درهم، عنها ثلاثون ألف(3/401)
دينار مصرية، وكان راتب الدور السلطانية في كل يوم من أيام شهر رمضان ستين قنطارا من الحلوى برسم التفرقة للدور وغيرها، وكانت الدولة قد توقفت أحوالها فوفر من المصروف في كلّ يوم أربعة آلاف رطل لحم، وستمائة كماجة سميذ، وثلاثمائة أردب من الشعير، ومبلغ ألفي درهم في كلّ شهر وأضيف إلى ديوان الوزارة سوق الخيل والدواب والجال، وكانت بيد عدّة أجناد عوّضوا عنها إقطاعات بالنواحي.
واعتبر في سنة ست وأربعين وسبعمائة متحصل الحاج عليّ الطباخ، فوجد له على المعاملين في كل يوم خمسمائة درهم، ولابنه أحمد في كلّ يوم ثلاثمائة درهم سوى الأطعمة المفتخرة وغيرها، وسوى ما كان يتحصّل له في عمل المهمات مع كثرتها، ولقد تحصل له من ثمن الروس والأكارع وسقط الدجاج والأوز في مهم عمله للأمير بكتمر الساقي، ثلاثة وعشرون ألف درهم، عنها نحو ألفين ومائتي دينار، فأوقعت الحوطة عليه وصودر، فوجد له خمسة وعشرون دارا على البحر وفي عدّة أماكن. واعتبر مصروف الحوائج خاناه في سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، فكان في كلّ يوم اثنين وعشرين ألف رطل من اللحم.
أبراج الحمام: كان بالقلعة أبراج برسم الحمام التي تحمل البطائق، وبلغ عدّتها على ما ذكره ابن عبد الظاهر في كتاب تمائم الحمائم، إلى آخر جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين وستمائة، ألف طائر وتسعمائة طائر، وكان بها عدّة من المقدّمين، لكلّ مقدّم منهم جزء معلوم، وكانت الطيور المذكورة لا تبرح في الأبراج بالقلعة، ما عدا طائفة منها فإنها في برج بالبرقية خارج القاهرة، يعرف ببرج الفيوم، رتبه الأمير فخر الدين عثمان بن قزل أستادار الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وقيل له برج الفيوم، فإن جيمع الفيول كانت في إقطاع ابن قزل، وكانت البطائق ترد إليه من الفيوم، ويبعثها من القاهرة إلى الفيوم من هذا البرج، فاستمرّ هذا البرج يعرف بذلك. وكان بكلّ مركز حمام في سائر نواحي المملكة مصرا وشاما، ما بين أسوان إلى الفرات، فلا تحصى عدّة ما كان منها في الثغور والطرقات الشامية والمصرية، وجميعها تدرج وتنقل من القلعة إلى سائر الجهات، وكان لها بغال الحمل من الإصطبلات السلطانية، وجاميكات البرّاجين والعلوفات تصرف من الأهراء السلطانية، فتبلغ النفقة عليها من الأموال ما لا يحصى كثرة، وكانت ضريبة العلف لكل مائة طائر ربع ويبة فول في كلّ يوم، وكانت العادة أن لا تحمل البطاقة إلّا في جناح الطائر، لأمور منها حفظ البطاقة من المطر وقوّة الجناح، ثم إنهم عملوا البطاقة في الذنب، وكانت العادة إذا بطق من قلعة الجبل إلى الإسكندرية فلا يسرّح الطائر إلّا من منية عقبة بالجيزة، وهي أوّل المراكز، وإذا سرّح إلى الشرقية لا يطلق إلّا من مسجد تبر خارج القاهرة، وإذا سرّح إلى دمياط لا يسرّح إلّا من ناحية بيسوس، وكان يسير مع البرّاجين من يوصلهم إلى هذه الأماكن من الجاندارية، وكذلك كانت العادة في كلّ مملكة يتوخى الإبعاد(3/402)
في التسريح عن مستقر الحمّام، والقصد بذلك أنها لا ترجع إلى أبراجها من قريب، وكان يعمل في الطيور السلطانية علائم، وهي داغات في أرجلها أو على مناقيرها، ويسميها أرباب الملعوب الاصطلاح، وكان الحمام إذا سقط بالبطاقة لا يقطع البطاقة من الحمام إلا السلطان بيده من غير واسطة، وكانت لهم عناية شديدة بالطائر، حتى أن السلطان إذا كان يأكل وسقط الطائر لا يمهل حتى يفرغ من الأكل، بل يحل البطاقة ويترك الأكل، وهكذا إذا كان نائما لا يمهل بل ينبه.
قال ابن عبد الظاهر: وهذا الذي رأينا عليه ملوكنا، وكذلك في الموكب وفي لعب الأكرة، لأنه بلمحة يفوت ولا يستدرك المهم العظيم، إمّا من واصل أو هارب، وإمّا من متجدّد في الثغور. قال: وينبغي أن تكتب البطائق في ورق الطير المعروف بذلك، ورأيت الأوائل لا يكتبون في أولها بسملة، وتؤرّخ بالساعة واليوم لا بالسنين، وأنا أورخها بالسنة، ولا يكثر في نعوت المخاطب فيها، ولا يذكر حشو في الألفاظ، ولا يكتب إلّا لبّ الكلام وزبدته، ولا بدّ وأن يكتب سرّح الطائر ورفيقه، حتى إن تأخر الواحد ترقّب حضوره، أو تطلب ولا يعمل للبطائق هامش ولا تجمّل، ويكتب آخرها حسبلة، ولا تعنون إلّا إذا كانت منقولة، مثل أن تسرّح إلى السلطان من مكان بعيد، فيكتب لها عنوان لطيف حتى لا يفتحها أحد، وكلّ وال تصل إليه يكتب في ظهرها أنها وصلت إليه ونقلها، حتى تصل مختومة.
قال: ومما شاهدته وتوليت أمره، أنّه في شهور سنة ثمان وثمانين وستمائة، حضر من جهة نائب الصبيبة نيف وأربعون طائرا صحبة البرّاجين، ووصل كتابه أنه درجها إلى مصر، فأقامت مدّة لم يكن شغل تبطق فيه فقال برّاجوها: قد أزفّ الوقت عليها في القرنصة، وجرى الحديث مع الأمير بيدار نائب السلطنة، فتقرّر كتب بطائق على عشرة منها بوصولها لا غير، وسرّحت يوم أربعاء جميعها، فاتفق وقوع طائرين منها، فأحضرت بطائقهما وحصل الاستهزاء بها، فلما كان بعد مدّة وصل كتاب السلطان أنها وصلت إلى الصبيبة في ذلك اليوم بعينه، وبطق بذلك في ذلك اليوم بعينه إلى دمشق، ووصل الخبر إلى دمشق في يوم واحد، وهذا مما أنا مصرّفه وحاضره والمشير به. قال مؤلفه رحمه الله: قد بطل الحمام من سائر المملكة إلّا ما ينقل من قطيا إلى بلبيس ومن بلبيس إلى قلعة الجبل، ولا تسل بعد ذلك عن شيء. وكأني بهذا القدر وقد ذهب، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.
ذكر ملوك مصر منذ بنيت قلعة الجبل
اعلم أن الذين ولوا أرض مصر في الملة الإسلامية على ثلاثة أقسام. القسم الأول:
من ولي بفسطاط مصر، منذ فتح الله تعالى أرض مصر، على أيدي العرب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم وتابعيهم فصارت دار إسلام، إلى أن قدم القائد أبو الحسين جوهر من بلاد إفريقية بعساكر مولاه المعز لدين الله أبي تميم معدّ وبنى القاهرة، وهؤلاء(3/403)
يقال لهم امراء مصر، ومدّتهم ثلاثمائة وسبع وثلاثون سنة وسبعة أشهر وستة عشر يوما أوّلها يوم الجمعة مستهل المحرم، سنة عشرين من الهجرة، وآخرها يوم الاثنين سادس عشر شعبان، سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة. وعدّة هؤلاء الأمراء مائة واثنا عشر أميرا.
القسم الثاني: من وليّ بالقاهرة منذ بنيت إلى أن مات الإمام العاضد لدين الله أبو محمد عبد الله رحمه الله، وهؤلاء يقال لهم الخلفاء الفاطميون، ومدّتهم بمصر مائتا سنة وثماني سنين وأربعة أشهر واثنان وعشرون يوما، أوّلها يوم الثلاثاء سابع عشر شعبان، سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، وآخرها يوم الأحد عاشر المحرّم، سنة سبع وستين وخمسمائة.
وعدّة هؤلاء الخلفاء أحد عشر خليفة.
والقسم الثالث: من ملك مصر بعد موت العاضد إلى وقتنا هذا الذي نحن فيه، ويقال لهم الملوك والسلاطين، وهم ثلاثة أقسام: القسم الأول ملوك بني أيوب، وهم أكراد.
والقسم الثاني البحرية وأولادهم، وهم مماليك أتراك لبني أيوب. والقسم الثالث مماليك أولاد البحرية، وهم جراكسة، وقد تقدّم في هذا الكتاب ذكر الأمراء والخلفاء، وستقف إن شاء الله تعالى على ذكر من ملك من الأكراد والأتراك والجراكسة، وتعرف أخبارهم على ما شرطنا من الاختصار، إذ قد وضعت لبسط ذلك كتابا سميته كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك، وجردت تراجمهم في كتاب التاريخ الكبير المقفى، فتطلبهما تجد فيهما ما لا تحتاج بعده إلى سواهما في معناهما.
ذكر من ملك مصر من الأكراد
اعلم أن الناس قد اختلفوا في الأكراد، فذكر العجم أنّ الأكراد فضل طعم الملك بيوراسف، وذلك أنه كان يأمر أن يذبح له كلّ يوم إنسانان ويتخذ طعامه من لحومهما، وكان له وزير يسمى أرماييل، وكان يذبح واحدا ويستحيي واحدا ويبعث به إلى جبال فارس، فتوالدوا في الجبال وكثروا.
ومن الناس من ألحقهم بإماء سليمان بن داود عليهما السلام، حين سلب ملكه ووقع على نسائه المنافقات الشيطان الذي يقال له الجسد، وعصم الله تعالى منه المؤمنات، فعلق منه المنافقات، فلما ردّ الله تعالى على سليمان عليه السلام ملكه، ووضع هؤلاء الإماء الحوامل من الشيطان قال: أكردوهم إلى الجبال والأودية، فربتهم أمّهاتهم وتناكحوا وتناسلوا، فذلك بدء نسب الأكراد.
والأكراد عند الفرس من ولد كرد بن اسفندام بن منوشهر، وقيل هم ينسبون إلى كرد بن مرد بن عمرو بن صعصعة بن معاوية بن بكر، وقيل هم من ولد عمر ومزيقيا بن عامر ابن ماء السماء، وقيل من بني حامد بن طارق، من بقية أولاد حميد بن زهير بن الحارث بن(3/404)
أسد بن عبد العزى بن قصيّ. وهذه أقوال الفقهاء لهم ممن أراد الحظوة لديهم لما صار الملك إليهم.
وإنما هم قبيل من قبائل العجم، وهم قبائل عديدة: كورانية بنو كوران وهذبانية وبشتوية وشاصنجانية وسرنجية وبزولية ومهرانية وزردارية وكيكانية وجاك وكرودنيلية وروادية ودسنية وهكارية وحميدية ووركجية ومروانية وجلانية وسنيكية وجوني. وتزعم المروانية أنها من بني مروان بن الحكم، ويزعم بعض الهكارية أنها من ولد عتبة بن أبي سفيان بن حرب.
وأوّل من ملك مصر من الأكراد الأيوبية.
السلطان الملك الناصر صلاح الدين: أبو المظفر يوسف بن نجم الدين أبي الشكر أيوب بن شادي بن مروان الكرديّ، من قبيل الروادية، أحد بطون الهذبانية. نشأ أبوه أيوب وعمه أسد الدين شير كوه ببلد دوين من أرض أذربيجان من جهة أرّان وبلاد الكرج، ودخلا بغداد وخدما مجاهد الدين بهروز، شحنة «1» بغداد، فبعث أيوب إلى قلعة تكريت وأقامه بها مستحفظا لها، ومعه أخوه شير كوه وهو أصغر منه سنا، فخدم أيوب الشهيد زنكي لما انهزم، فشكر له خدمته، واتفق بعد ذلك أنّ شير كوه قتل «2» رجلا بتكريت فطرد هو وأخوه أيوب من قلعتها، فمضيا إلى زنكي بالموصل فآواهما وأقطعهما إقطاعا عنده، ثم رتب أيوب بقلعة بعلبك مستحفظا، ثم أنعم عليه بإمرة، واتصل شير كوه بنور الدين محمود بن زنكي في أيام أبيه وخدمه، فلما ملك حلب بعد أبيه كان لنجم الدين أيوب عمل كثير في أخذ دمشق لنور الدين، فتمكنا في دولته، حتى بعث شير كوه مع الوزير شاور بن مجير السعديّ إلى مصر، فسار صلاح الدين في خدمته من جملة أجناده، وكان من أمر شير كوه ما كان حتى مات.
فأقيم بعده في وزارة العاضد ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب في يوم الثلاثاء خامس عشري جمادى الآخرة، سنة أربع وستين وخمسمائة، ولقبه بالملك الناصر، وأنزله بدار الوزارة من القاهرة، فاستمال قلوب الناس وأقبل على الجدّ وترك اللهو وتعاضد هو والقاضي الفاضل عبد الرحيم بن عليّ البيسانيّ رحمه الله على إزالة الدولة الفاطمية، وولى صدر الدين بن درباس قضاء القضاة، وعزل قضاة الشيعة، وبنى بمدينة مصر مدرسة للفقهاء المالكية، ومدرسة للفقهاء الشافعية، وقبض على أمراء الدولة وأقام أصحابه عوضهم، وأبطل المكوس بأسرها من أرض مصر، ولم يزل يدأب في إزالة الدولة حتى تم له ذلك،(3/405)
وخطب لخليفة بغداد المستنصر بأمر الله أبي محمد بن الحسن العباسيّ، وكان العاضد مريضا فتوفي بعد ذلك بثلاثة أيام، واستبدّ صلاح الدين بالسلطنة من أوّل سنة سبع وستين وخمسمائة، واستدعى أباه نجم الدين أيوب وإخوته من بلاد الشام، فقدموا عليه بأهاليهم.
وتأهب لغزو الفرنج وسار إلى الشوبك وهي بيد الفرنج، فواقعهم وعاد إلى أيلة فجبى الزكوات من أهل مصر وفرّقها على أصنافها، ورفع إلى بيت المال سهم العاملين وسهم المؤلفة وسهم المقاتلة وسهم المكاتبين، وأنزل الغز بالقصر الغربيّ وأحاط بأموال القصر وبعث بها إلى الخليفة ببغداد، وإلى السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بالشام، فأتته الخلع الخليفية فلبسها، ورتب نوب الطبلخاناه في كلّ يوم ثلاث مرّات، ثم سار إلى الإسكندرية، وبعث ابن أخيه تقيّ الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب على عسكر إلى برقة، وعاد إلى القاهرة. ثم سار في سنة ثمان وخمسين إلى الكرك وهي بيد الفرنج فحصرها وعاد بغير طائل، فبعث أخاه الملك المعظم شمس الدولة توران شاه ابن أيوب إلى بلاد النوبة، فأخذ قلعة إبريم وعاد بغنائم وسبي كثير، ثم سار لأخذ بلاد اليمن فملك زبيد وغيرها، فلما مات نور الدين محمود بن زنكي توجه السلطان صلاح الدين في أوّل صفر سنة سبعين إلى الشام وملك دمشق بغير مانع، وأبطل ما كان يؤخذ بها من المكوس كما أبطلها من ديار مصر، وأخذ حمص وحماه، وحاصر حلب وبها الملك الصالح مجير الدين إسماعيل بن العادل نور الدين محمود بن زنكي، فقاتله أهلها قتالا شديدا، فرحل عنها إلى حمص وأخذ بعلبك بغير حصار، ثم عاد إلى حلب، فوقع الصلح على أن يكون له ما بيده من بلاد الشام مع المعرّة وكفر طاب، ولهم ما بأيديهم، وعاد فأخذ بغزاس بعد حصار، وأقام بدمشق، وندب قراقوس التقويّ لأخذ بلاد المغرب، فأخذ أيجلن وعاد إلى القاهرة. وكانت بين السلطان وبين الحبيين وقعة هزمهم فيها وحصرهم بحلب أياما، وأخذ بزاعة ومنبج وعزاز، ثم عاد إلى دمشق.
وقدم القاهرة في سادس عشرى ربيع الأوّل سنة اثنتين وسبعين بعد ما كانت لعساكره حروب كثيرة مع الفرنج، فأمر ببناء سور يحيط بالقاهرة ومصر وقلعة الجبل، وأقام على بنائه الأمير بهاء الدين قراقوش الأسديّ، فشرع في بناء قلعة الجبل وعمل السور وحفر الخندق حوله، وبدأ السلطان بعمل مدرسة بجوار قبر الإمام الشافعيّ رضي الله عنه في القرافة، وعمل مارستانا بالقاهرة، وتوجه إلى الإسكندرية فصام بها شهر رمضان، وسمع الحديث على الحافظ أبي طاهر أحمد السلفيّ، وعمر الأسطول وعاد إلى القاهرة، وأخرج قراقوش التقويّ إلى بلاد المغرب، وأمر بقطع ما كان يؤخذ من الحجاج، وعوّض أمير مكة عنه في كلّ سنة ألفي دينار وألف أردب غلة، سوى إقطاعه بصعيد مصر وباليمن، ومبلغه ثمانية آلاف أردب.(3/406)
ثم سار من القاهرة في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين إلى عسقلان وهي بيد الفرنج، وقتل وأسر وسبى وغنم، ومضى يريدهم بالرملة فقاتل البرنس أرياط متملك الكرك قتالا شديدا، ثم عاد إلى القاهرة، ثم سار منها في شعبان يريد الفرنج وقد نزلوا على حماه حتى قدم دمشق وقد رحلوا عنها، فواصل الغارات على بلاد الفرنج وعساكره تغزو بلاد المغرب، ثم فتح بيت الأحزان من عمل صفد وأخذه من الفرنج عنوة، وسار في سنة ست وسبعين لحرب فتح الدين فليح «1» أرسلان صاحب قونيه من بلاد الروم، وعاد ثم توجه إلى بلاد الأرمن، وعاد فخرّب حصن بهنسا «2» ومضى إلى القاهرة فقدمها في ثالث عشر شعبان.
ثم خرج إلى الإسكندرية وسمع بها موطأ الإمام مالك على الفقيه أبي طاهر بن عوف، وأنشأ بها مارستانا ودارا للمغاربة ومدرسة، وجدّد حفر الخليج ونقل فوهته، ثم مضى إلى دمياط وعاد إلى القاهرة، ثم سار في خامس المحرّم سنة ثمان وسبعين على إيلة، فأغار على بلاد الفرنج ومضى إلى الكرك، فعاثت عساكره ببلاد طبرية وعكا، وأخذ الشقيف من الفرنج، ونزل السلطان بدمشق وركب إلى طبرية فواقع الفرنج، وعاد فتوجه إلى حلب ونازلها ثم مضى إلى البيرة على الفرات، وعدّى إلى الرها فأخذها، وملك حرّان والرقّة ونصيبين، وحاصر الموصل فلم ينل منها غرضا، فنازل سنجار حتى أخذها، ثم مضى على حرّان إلى آمد فأخذها وسار على عين تاب إلى حلب، فملكها في ثامن عشر صفر سنة تسع وسبعين، وعاد إلى دمشق وعبر الأران «3» وحرّق بيسان على الفرنج وخرّب لهم عدّة حصون وعاد إلى دمشق، ثم سار إلى الكرك فلم ينل منها غرضا، وعاد ثم خرج في سنة ثمانين من دمشق فنازل الكرك، ثم رحل عنها إلى نابلس فحرّقها وأكثر من الغارات حتى دخل دمشق، ثم سار منها إلى حماه ومضى حتى بلغ حرّان، ونزل على الموصل وحصرها، ثم سار عنها إلى خلاط فلم يملكها، فمضى حتى أخذ ميافارقين وعاد إلى الموصل، ثم رحل عنها وقد مرض إلى حرّان، فتقرّر الصلح مع المواصلة على أن خطبوا له بها وبديار بكر وجميع البلاد الأرتقية، وضرب السكة فيها باسمه، ثم سار إلى دمشق فقدمها في ثاني ربيع الأوّل سنة اثنتين وثمانين، وخرج منها في أوّل سنة ثلاث وثمانين، ونازل الكرك والشوبك وطبرية، فملك طبرية في ثالث عشري ربيع الآخر من الفرنج، ثم واقعهم على حطين «4» وهم في خمسين ألفا، فهزمهم بعد وقائع عديدة وأسر منهم عدّة ملوك، ونازل عكا حتى تسلمها في ثاني جمادى الأولى، وأنقذ منها أربعة آلاف أسير مسلم من الأسر، وأخذ مجدل يافا وعدّة حصون، منها الناصرية وقيسارية وحيفا وصفورية والشقيف والغولة والطور وسبسطية(3/407)
ونابلس وتبنين وصرخد وصيدا وبيروت وجبيل، وأنقذ من هذه البلاد زيادة على عشرين ألف أسير مسلم كانوا في أسر الفرنج، وأسر من الفرنج مائة ألف إنسان، ثم ملك منهم الرملة وبلد الخليل عليه السلام وبيت لحم من القدس ومدينة عسقلان ومدينة غزة وبيت جبريل، ثم فتح بيت المقدس «1» في يوم الجمعة سابع عشري رجب وأخرج منه ستين ألفا من الفرنج بعد ما أسر ستة عشر ألفا ما بين ذكر وأنثى، وقبض من مال المفاداة ثلاثمائة ألف دينار مصرية، وأقام الجمعة بالأقصى وبنى بالقدس مدرسة للشافعية، وقرّر على من يرد كنيسة قمامة «2» من الفرنج قطيعة يؤديها، ثم نازل عكا وصور ونازل في سنة أربع وثمانين حصن كوكب، وندب العساكر إلى صفد والكرك والشوبك.
وعاد إلى دمشق فدخلها سادس ربيع الأوّل وقد غاب عنها في هذه الغزوة أربعة عشر شهرا وخمسة أيام، ثم خرج منها بعد خمسة أيام فشنّ الغارات على الفرنج وأخذ منهم أنطرسوس «3» وخرّب سورها وحرّقها وأخذ جبلة واللاذقية وصهيون والشغر وبكاس وبقراص، ثم عاد إلى دمشق آخر شعبان بعد ما دخل حلب، فملكت عساكره الكرك والشوبك والسلع في شهر رمضان، وخرج بنفسه إلى صفد وملكها من الفرنج في رابع عشر شوّال، وملك كوكب في نصف ذي القعدة وسار إلى القدس، ومضى بعد النحر إلى عسقلان ونزل بعكا وعاد إلى دمشق أوّل صفر سنة خمس وثمانين، ثم سار منها في ثالث ربيع الأوّل ونازل شقيف أرنون وحارب الفرنج حروبا كثيرة، ومضى إلى عكا وقد نزل الفرنج عليها وحصروا من بها من المسلمين، فنزل بمرج عكا وقاتل الفرنج من أوّل شعبان حتى انقضت السنة.
وقد خرج الألمان من قسطنطينية في زيادة ألف ألف يريد بلاد الإسلام، فاشتدّ الأمر ودخلت سنة ست وثمانين والسلطان بالخرّوبة على حصار الفرنج، والإمداد تصل إليه، وقدم الألمان طرسوس يريد بيت المقدس، فخرّب السلطان سور طبرية ويافا وأرسوف وقيسارية وصيدا وجبيل، وقوي الفرنج بقدوم ابن الألمان إليهم تقوية لهم، وقد مات أبوه بطرسوس وملك بعده، فقدّر الله تعالى موته أيضا على عكا، ودخلت سنة سبع وثمانين، فملك الفرنج عكا في سابع عشر جمادى الآخرة وأسروا من بها من المسلمين وحاربوا السلطان وقتلوا جميع من أسروه من المسلمين وساروا إلى عسقلان فرحل السلطان في أثرهم وواقعهم بأرسوف، فانهزم من معه وهو ثابت حتى عادوا إليه، فقاتل الفرنج وسبقهم إلى عسقلان وخرّبها، ثم مضى إلى الرملة وخرّب حصنها وخرّب كنيسة له ودخل القدس(3/408)
فأقام بها إلى عاشر رجب سنة ثمان وثمانين، ثم سار إلى يافا فأخذها بعد حروب وعاد إلى القدس وعقد الهدنة بينه وبين الفرنج مدّة ثلاث سنين وثلاثة أشهر، أوّلها حادي عشر شعبان، على أنّ للفرنج من يافا إلى عكا إلى صور وطرابلس وأنطاكية، ونودي بذلك، فكان يوما مشهودا، وعاد السلطان إلى دمشق فدخلها خامس عشري شوّال وقد غاب عنها أربع سنين، فمات بها في يوم الأربعاء سابع عشري صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة، عن سبع وخمسين سنة، منها مدّة ملكه بعد موت العاضد، اثنتان وعشرون سنة وستة عشر يوما، فقام من بعده بمصر ولده.
السلطان الملك العزيز عماد الدين أبو الفتح عثمان «1» : وقد كان يومئذ ينوب عنه بمصر وهو مقيم بدار الوزارة من القاهرة، وعنده جلّ عساكر أبيه من الأسدية والسلاحية والأكراد، فأتاه ممن كان عند أخيه الملك الأفضل عليّ، الأمير فخر الدين جهاركس، والأمير فارس الدين ميمون القصريّ، والأمير شمس الدين سنقر الكبير، وهم عظماء الدولة، فأكرمهم. وقدم عليه القاضي الفاضل فبالغ في كرامته، وتنكر ما بينه وبين أخيه الأفضل، فسار من مصر لمحاربته وحصره بدمشق، فدخل بينهما العادل أبو بكر حتى عاد العزيز إلى مصر على صلح فيه دخل، فلم يتم ذلك، وتوحش ما بينهما وخرج العزيز ثانيا إلى دمشق، فدبر عليه عمه العادل حتى كاد أن يزول ملكه وعاد خائفا، فسار إليه الأفضل والعادل حتى نزلا بلبيس، فجرت أمور آلت إلى الصلح، وأقام العادل مع العزيز بمصر، وعاد الأفضل إلى مملكته بدمشق، فقام العادل بتدبير أمور الدولة، وخرج بالعزيز لمحاربة الأفضل فحصراه بدمشق حتى أخذاها منه بعد حروب وبعثاه إلى صرخد، وعاد العزيز إلى مصر وأقام العادل بدمشق حتى مات العزيز في ليلة العشرين من محرّم سنة خمس وتسعين وخمسمائة، عن سبع وعشرين سنة وأشهر، منها مدّة سلطنته بعد أبيه ست سنين تنقص شهرا واحدا، فأقيم بعده ابنه.
السلطان الملك المنصور ناصر الدين محمد «2» : وعمره تسع سنين وأشهر بعهد من أبيه، وقام بأمور الدولة بهاء الدين قراقوش الأسديّ الأتابك، فاختلف عليه أمراء الدولة وكاتبوا الملك الأفضل عليّ بن صلاح الدين، فقدم من صرخد في خامس ربيع الأوّل، فاستولى على الأمور ولم يبق للمنصور معه سوى الاسم، ثم سار به من القاهرة في ثالث رجب يريد أخذ دمشق من عمه العادل بعد ما قبض على عدّة من الأمراء، وقد توجه العادل إلى ماردين، فحصر الأفضل دمشق، وقد بلغ العادل خبره فعاد وسار يريده حتى دخل دمشق، فجرت حروب كثيرة آلت إلى عود الأفضل إلى مصر بمكيدة دبرها عليه العادل، وخرج العادل في أثره وواقعه على بلبيس فكسره في سادس ربيع الآخر سنة ست وتسعين،(3/409)
والتجأ إلى القاهرة وطلب الصلح، فعوّضه العادل صرخد ودخل إلى القاهرة في يوم السبت ثامن عشره، وأقام بأتابكية المنصور ثم خلعه في يوم الجمعة حادي عشر شوّال، وكانت سلطنته سنة وثمانية أشهر وعشرين يوما، واستبدّ بالسلطنة بعده عمّ أبيه.
السلطان الملك العادل سيف الدين أبو بكر محمد بن أيوب «1» : فخطب له بديار مصر وبلاد الشام وحرّان والرها وميافارقين، وأخرج المنصور وإخوته من القاهرة إلى الرها، واستناب ابنه الملك الكامل محمدا عنه، وعهد إليه بعده بالسلطنة، وحلف له الأمراء، فسكن قلعة الجبل واستمرّ أبوه في دار الوزارة، وفي أيامه توقفت زيادة النيل ولم يبلغ سوى ثلاثة عشر ذراعا تنقص ثلاثة أصابع، وشرقت أراضي مصر إلّا الأقل، وغلت او سعار وتعذر وجود الأقوات حتى أكلت الجيف، وحتى أكل الناس بعضهم بعضا، وتبع ذلك فناء كبير وامتدّ ذلك ثلاث سنين، فبلغت عدّة من كفنه العادل وحده من الأموات في مدّة يسيرة نحو مائتي ألف وعشرين ألف إنسان، فكان بلاء شنيعا، وعقب ذلك تحرّك الفرنج على بلاد المسلمين في سنة تسع وتسعين، فكانت معهم عدّة حروب على بلاد الشام آلت إلى أن عقد العادل معهم الهدنة، فعاودوا الحرب في سنة ستمائة وعزموا على أخذ القدس، وكثر عيثهم وفسادهم، وكانت لهم وللمسلمين شؤون آلت إلى نزولهم على مدينة دمياط في رابع ربيع الأوّل سنة خمس عشرة وستمائة، والعادل يومئذ بالشام، فخرج الملك الكامل لمحاربتهم، فمات العادل بمرج الصفر في يوم الخميس سابع جمادى الآخرة منها وحمل إلى دمشق، فكانت مدّة سلطنته بديار مصر تسع عشرة سنة وشهرا واحدا وتسعة عشر يوما وقام من بعده ابنه.
السلطان الملك الكامل ناصر الدين أبو المعالي محمد «2» : بعهد أبيه. فأقام في السلطنة عشرين سنة وخمسة وأربعين يوما ومات بدمشق يوم الأربعاء حادي عشري رجب سنة خمس وثلاثين وستمائة. وأقيم بعده ابنه.
السلطان الملك العادل سيف الدين أبو بكر: فاشتغل باللهو عن التدبير، وخرجت عنه حلب، واستوحش منه الأمراء لتقريبه الشباب، وسار أخوه الملك الصالح نجم الدين أيوب من بلاد الشرق إلى دمشق وأخذها في أوّل جمادى الأولى سنة ست وثلاثين، وجرت له أمور آخرها أنه سار إلى مصر فقبض الأمراء على العادل وخلعوه يوم الجمعة ثامن ذي القعدة سنة سبع وثلاثين وستمائة، فكانت سلطنته سنتين وثلاثة أشهر وتسعة. وقام بعده بالسلطنة أخوه.
السلطان الملك الصالح نجم الدين أبو الفتوح أيوب «3» : فاستولى على قلعة الجبل في(3/410)
يوم الأحد رابع عشر ذي القعدة وجلس على سرير الملك بها، وكان قد خطب له قبل قدومه، فضبط الأمور وقام بأعباء المملكة أتم قيام، وجمع الأموال التي أتلفها أخوه، وقبض على الأمراء ونظر في عمارة أرض مصر، وحارب عربان الصعيد، وقدّم مماليكه وأقامهم أمراء، وبنى قلعة الروضة وتحوّل من قلعة الجبل إليها وسكنها، وملك مكة وبعث لغزو اليمن، وعمر المدارس الصالحية بين القصرين من القاهرة، وقرّر بها دروسا أربعة للشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة، وفي أيامه نزل الفرنج على دمياط في ثالث عشري صفر سنة سبع وأربعين وعليهم الملك روادفرنس «1» وملكوها، وكان السلطان بدمشق، فقدم عند ما بلغه حركة الفرنج ونزل أشموم «2» طناح وهو مريض، فمات بناحية المنصورة مقابل الفرنج، في يوم الأحد رابع عشر شعبان منها، وكانت مدّة سلطنته بعد أخيه تسع سنين وثمانية أشهر وعشرين يوما، فقامت أمّ ولده خليل واسمها شجرة الدرّ «3» بالأمر، وكتمت موته واستدعت ابنه توران شاه من حصن كيفا وسلمت إليه مقاليد الأمور. فقام من بعده ابنه.
السلطان الملك المعظم غياث الدين توران شاه: وقد سار من حصن كيفا في نصف شهر رمضان فمرّ على دمشق وتسلطن بقلعتها في يوم الاثنين لليلتين بقيتا منه، وركب إلى مصر فنزل الصالحية طرف الرمل لأربع عشرة بقيت من ذي القعدة، فأعلن حينئذ بموت الصالح ولم يكن أحد قبل ذلك يتفوّه بموت السلطان، بل كانت الأمور على حالها والخدمة تعمل بالدهليز والسماط يمدّ وشجرة الدرّ تدبر أمور الدولة، وتوهم الكافة أن السلطان مريض ما لأحد عليه سبيل، ولا وصول، ثم سار المعظم من الصالحية إلى المنصورة، فقدمها يوم الخميس حادي عشريه، فأساء تدبير نفسه وتهدّد البحرية حتى خافوه، وهم يومئذ جمرة العسكر، فقتلوه بعد سبعين يوما في يوم الاثنين تاسع عشري المحرّم سنة ثمان وأربعين وستمائة، وبموته انقضت دولة بني أيوب من ديار مصر بعد ما أقامت إحدى وثمانين سنة وسبعة عشر يوما، وملك منهم ثمانية ملوك.
ذكر دولة المماليك البحرية
وهم الملوك الأتراك، وكان ابتداء أمر هذه الطائفة، أنّ السلطان الملك الصالح نجم(3/411)
الدين أيوب، كان قد أقرّه أبوه السلطان الملك الكامل محمد ببلاد الشرق، وجعل ابنه العادل أبا بكر وليّ عهده في السلطنة بمصر، فلما مات قام من بعده العادل في السلطنة، وتنكر ما بينه وبين ابن عمه الملك الجواد مظفر الدين يونس بن مودود بن العادل أبي بكر بن أيوب، وهو نائب دمشق، فاستدعى الصالح نجم الدين من بلاد الشرق ورتب ابنه المعظم ثوران شاه على بلاد الشرق، وأقرّه بحصن كيفا، وقدم دمشق وملكها، فكاتبه أمراء مصر تحثه على أخذها من أخيه العادل، وخامر عليه بعضهم، فسار من دمشق في رمضان سنة ست وثلاثين، فانزعج العادل انزعاجا كبيرا وكتب إلى الناصر داود صاحب الكرك، فسار إليه ليعاونه على أخيه الصالح، فاتفق مسير الملك الصالح إسماعيل بن العادل أبي بكر بن أيوب من حماه وأخذه دمشق للملك العادل أبي بكر بن الملك الكامل محمد، في سابع عشري صفر سنة سبع وثلاثين، والملك الصالح نجم الدين أيوب يومئذ على نابلس، فانحلّ أمره وفارقه من معه حتى لم يبق معه إلّا مماليكه، وهم نحو الثمانين، وطائفة من خواصه نحو العشرين، وأما الجميع فإنهم مضوا إلى دمشق وكان الناصر داود قد فارق العادل وسار من القاهرة مغاضبا له إلى الكرك، ومضى إلى الصالح نجم الدين أيوب وقبضه بنابلس في ثاني عشر ربيع الأول منها وسجنه بالكرك، فأقام مماليك الصالح بالكرك حتى خلص من سجنه في سابع عشري شهر رمضان منها، فاجتمع عليه مماليكه وقد عظمت مكانتهم عنده، وكان من أمره ما كان حتى ملك مصر، فرعى لهم ثباتهم معه حين تفرّق عنه الأكراد، وأكثر من شرائهم وجعلهم أمراء دولته وخاصته وبطانته والمحيطين بدهليزه، إذا سافر وأسكنهم معه في قلعة الروضة، وسماهم البحرية، وكانوا دون الألف مملوك، قيل ثمانمائة، وقيل سبعمائة وخمسون، كلهم أتراك. فلما مات الملك الصالح بالمنصورة أحس الفرنج بشيء من ذلك، فركبوا من مدينة دمياط وساروا على فارسكور، وواقعوا العسكر في يوم الثلاثاء أوّل شهر رمضان سنة سبع وأربعين، ونزلوا بقرية شرمشاح، ثم بالبرمون، ونزلوا تجاه المنصورة، فكانت الحروب بين الفريقين إلى خامس ذي القعدة، فلم يشعر المسلمون إلّا والفرنج معهم في المعسكر، فقتل الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ، وانهزم الناس، ووصل روادفرنس ملك الفرنج إلى باب قصر السلطان، فبرزت البحرية وحملوا على الفرنج حملة منكرة حتى أزاحوهم وولوا، فأخذتهم السيوف والدبابيس وقتل من أعيانهم ألف وخمسمائة، فظهرت البحرية من يومئذ واشتهرت، ثم لما قدم الملك المعظم توران شاه أخذ في تهديد شجرة الدرّ ومطالبتها بمال أبيه، فكاتبت البحرية تذكرهم بما فعلته من ضبط المملكة حتى قدم المعظم، وما هي فيه من الخوف منه، فشق ذلك عليهم، وكان قد وعد الفارس أقطاي المتوجه إليه من المنصورة لاستدعائه من حصن كيفا بإمرة، فلم يف له، فتنكر له وهو من أكابر البحرية، وأعرض مع ذلك عن البحرية وأطرح جانب الأمراء وغيرهم حتى قتلوه، وأجمعوا على أن يقيموا بعده في السلطنة سرّية أستاذهم.(3/412)
الملكة عصمة الدين أم خليل شجرة الدر الصالحية: فأقاموها في السلطنة وحلفوا لها في عاشر صفر، ورتبوا الأمير عز الدين أيبك التركمانيّ الصالحيّ أحد البحرية مقدّم العسكر، وسار عز الدين أيبك الروميّ من العسكر إلى قلعة الجبل، وأنهى ذلك إلى شجرة الدرّ، فقامت بتدبير المملكة وعلمت على التواقيع بما مثاله والدة خليل، ونقش على السكة اسمها ومثاله، المستعصمة الصالحية ملكة المسلمين والدة المنصور خليل خليفة أمير المؤمنين، وكانت البحرية قد تسلمت مدينة دمياط من الملك روادفرنس بعد ما قرّر على نفسه أربعمائة ألف دينار، وعاد العسكر من المنصورة إلى القاهرة في تاسع صفر وحلفوا لشجرة الدرّ في ثالث عشره، فخلعت عليهم وأنفقت فيهم الأموال، ولم يوافق أهل الشام على سلطنتها، وطلبوا الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن العزيز صاحب حلب فسار إليهم بدمشق وملكها، فانزعج العسكر بالقاهرة، وتزوّج الأمير عز الدين أيبك التركمانيّ بالملكة شجرة الدرّ، ونزلت له عن السلطنة وكانت مدّتها ثمانين يوما. وملك بعدها.
السلطان الملك المعز عز الدين أيبك الجاشنكير التركمانيّ الصالحيّ «1» : أحد المماليك الأتراك البحرية، وكان قد انتقل إلى الملك الصالح من أولاد ابن التركمانيّ، فعرف بالتركمانيّ، ورقّاه في خدمه حتى صار من جملة الأمراء ورتبة جاشنكيره «2» ، فلما مات الصالح وقدّمته البحرية عليهم في سلطنة شجرة الدرّ، كتب إليهم الخليفة المستعصم من بغداد يذمّهم على إقامة امرأة، ووافق مع ذلك أخذ الناصر لدمشق، وحركتهم لمحاربته، فوقع الاتفاق على إقامة أيبك في السلطنة، فأركبوه بشعار السلطنة في يوم السبت آخر شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين وستمائة، ولقبوه بالملك المعز، وجلس على تخت الملك بقلعة الجبل، فورد الخبر من الغد بأخذ الملك المغيث عمر بن العادل الصغير الكرك والشوبك، وأخذ الملك السعيد قلعة الصبيبة، فاجتمع رأي الأمراء على إقامة الأشرف مظفر الدين موسى بن الناصر، ويقال المسعود يوسف بن الملك المسعود يوسف، ويقال طسز، ويقال أيضا اقسيس بن الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، شريكا للمعز في السلطنة، فأقاموه معه وعمره نحو ست سنين، في خامس جمادى الأولى، وصارت المراسيم تبرز عن الملكين، إلّا أن الأمر والنهي للمعز، وليس للأشرف سوى مجرّد الاسم، وولى المعز الوزارة لشرف الدين أبي سعيد هبة الله بن صاعد الفائزيّ، وهو أوّل قبطيّ وليّ وزارة مصر، وخرج المعز بالعساكر وعربان مصر لمحاربة الناصر يوسف في(3/413)
ثالث ذي القعدة، وخيم بمنزلة الصالحية وترك الأشرف بقلعة الجبل، واقتتل مع الناصر في عاشره، فكانت النصرة له على الناصر، وعاد في ثاني عشره، فنزل بالناس من البحرية بلاء لا يوصف ما بين قتل ونهب وسبي، بحيث لو ملك الفرنج بلاد مصر ما زادوا في الفساد على ما فعله البحرية، وكان كبراؤهم ثلاثة، الأمير فارس الدين أقطاي، وركن الدين بيبرس البند قداريّ، وبليان الرشيديّ، ثم في محرّم سنة تسع وأربعين خرج المعز بالأشرف والعساكر فنزل بالصالحية وأقام بها نحو سنتين، والرسل تتردّد بينه وبين الناصر، وأحدث الوزير الأسعد هبة الله الفائزيّ مظالم لم تعهد بمصر قبله، فورد الخبر في سنة خمسين بحركة التتر على بغداد، فقطع المعز من الخطبة اسم الأشرف وانفرد بالسلطنة وقبض على الأشرف وسجنه، وكان الأشرف موسى آخر ملوك بني أيوب بمصر، ثم إن المعز جمع الأموال فأحدث الوزير مكوسا كثيرة سماها الحقوق السلطانية، وعاد المعز إلى قلعة الجبل في سنة إحدى وخمسين وأوقع بعرب الصعيد وقبض على الشريف حصن الدين ثعلب بن ثعلب، وأذلّ سائر عرب الوجهين القبليّ والبحريّ وأفناهم قتلا وأسرا وسبيا، وزاد في القطيعة على من بقي منهم حتى ذلوا وقلوا، ثم قتل الفارس أقطاي، ففرّ منه معظم البحرية، بيبرس وقلاون في عدد كثير منهم إلى الشام وغيرها، ولم يزل إلى أن قتلته شجرة الدرّ في الحمام ليلة الأربعاء رابع عشري ربيع الأوّل سنة خمس وخمسين وستمائة، فكانت مدّته سبع سنين تنقص ثلاثة وثلاثين يوما، وكان ظلوما غشوما سفاكا للدماء، أفنى عوالم كثيرة بغير ذنب وقام من بعده ابنه.
السلطان الملك المنصور نور الدين عليّ بن المعز أيبك «1» : في يوم الخميس خامس عشري ربيع الأوّل وعمره خمس عشرة سنة، فدبر أمره نائب أبيه الأمير سيف الدين قطز، ثم خلعه في يوم السبت رابع عشري ذي القعدة سنة سبع وخمسين وستمائة، فكانت مدّته سنتين وثمانية أشهر وثلاثة أيام، وقام من بعده.
السلطان الملك المظفر سيف الدين قطز «2» : في يوم السبت، وأخرج المنصور بن المعز منفيا هو وأمّه إلى بلاد الأشكريّ، وقبض على عدّة من الأمراء، وسار فأوقع بجمع هولاكو على عين جالوت وهزمهم في يوم الجمعة خامس عشري رمضان، سنة ثمان وخمسين، وقتل منهم وأسر كثيرا بعد ما ملكوا بغداد وقتلوا الخليفة المستعصم بالله عبد الله، وأزالوا دولة بني العباس وخرّبوا بغداد وديار بكر وحلب ونازلوا دمشق فملكوها، فكانت هذه الوقعة أوّل هزيمة عرفت للتتر منذ قاموا، ودخل المظفر قطز إلى دمشق وعاد منها يريد مصر، فقتله الأمير ركن الدين بيبرس البندقداريّ قريبا من المنزلة الصالحية في يوم السبت(3/414)
نصف ذي القعدة منها، فكانت مدّته سنة تنقص ثلاثة عشر يوما، وقام من بعده.
السلطان الملك الظاهر ركن الدين أبو الفتح بيبرس البند قداريّ «1» الصالحيّ «2» :
التركيّ الجنس أحد المماليك البحرية، وجلس على تخت السلطنة بقلعة الجبل في سابع عشر ذي القعدة سنة ثمان وخمسين، فلم يزل حتى مات بدمشق في يوم الخميس سابع عشري المحرّم، سنة ست وسبعين وستمائة، فكانت مدّته سبع عشرة سنة وشهرين واثني عشر يوما، وقام من بعده ابنه.
السلطان الملك السعيد ناصر الدين أبو المعالي محمد بركة قان»
: وهو يومئذ بقلعة الجبل ينوب عن أبيه، وقد عهد إليه بالسلطنة وزوّجه بابنة الأمير سيف الدين قلاون الألفيّ، فجلس على التخت في يوم الخميس سادس عشري صفر، سنة ست وسبعين، إلى أن خلعه الأمراء في سابع ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين، وكانت مدّته سنتين وشهرين وثمانية أيام، لم يحسن فيها تدبير ملكه، وأوحش ما بينه وبين الأمراء. فأقيم بعده أخوه.
السلطان الملك العادل بدر الدين سلامش بن الظاهر بيبرس «4» : وعمره سبع سنين وأشهر، وقام بتدبيره الأمير قلاون أتابك العساكر، ثم خلعه بعد مائة يوم وبعث به إلى الكرم، فسجن مع أخيه بركة بها. وقام من بعده.
السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاون الألفيّ العلائيّ الصالحيّ «5» : أحد المماليك الأتراك البحرية، كان قبجاقي الجنس من قبيلة مرج أغلى، فجلب صغيرا واشتراه الأمير علاء الدين آق سنقر الساقي العادليّ بألف دينار، وصار بعد موته إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب في سنة سبع وأربعين وستمائة، فجعله من جملة البحرية، فتنقلت به الأحوال حتى صار أتابك العساكر في أيام العادل سلامش، وذكر اسمه مع العادل على المنابر، ثم جلس على التخت بقلعة الجبل في يوم الأحد العشرين من شهر رجب سنة ثمان وسبعين، وتلقب بالملك المنصور وأبطل عدّة مكوس، فثار عليه الأمير شمس الدين سنقر الأشقر بدمشق وتسلطن ولقب نفسه بالملك الكامل، في يوم الجمعة رابع عشري ذي الحجة، فبعث إليه وهزمه واستعاد دمشق، ثم قدمت التتر إلى بلاد حلب وعاثوا بها، فتوجه إليهم السلطان بعساكره وأوقع بهم على حمص في يوم الخميس رابع عشري رجب، سنة(3/415)
ثمانين وستمائة، وهزمهم بعد مقتلة عظيمة وعاد إلى قلعة الجبل، وتوجه في سنة أربع وثمانين حتى نازل حصن المرقب ثمانية وثلاثين يوما وأخذه عنوة من الفرنج، وعاد إلى القلعة، ثم بعث العسكر فغزا بلاد النوبة في سنة سبع وثمانين وعاد بغنائم كثيرة، ثم سار في سنة ثمان وثمانين لغزو الفرنج بطرابلس، فنازلها أربعة وثلاثين يوما حتى فتحها عنوة في رابع ربيع الآخر وهدمها جميعها، وأنشأ قريبا منها مدينة طرابلس الموجودة الآن، وعاد إلى قلعة الجبل وبعث لغزو النوبة ثانيا عسكرا فقتلوا وأسروا وعادوا، ثم خرج لغزو الفرنج بعكا، وهو مريض، فمات خارج القاهرة ليلة السبت سادس ذي القعدة سنة تسع وثمانين وستمائة، فكانت مدّته إحدى عشرة سنة وشهرين وأربعة وعشرين يوما. وقام من بعده ابنه.
السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل: في يوم الأحد سابع ذي القعدة المذكور، وسار لفتح عكا في ثالث ربيع الأوّل سنة تسعين وستمائة، ونصب عليها اثنين وتسعين منجنيقا وقاتل من بها من الفرنج أربعة وأربعين يوما حتى فتحها عنوة، في يوم الجمعة سابع عشر جمادى الأولى، وهدمها كلها بما فيها، وحرّقها وأخذ صور وحيفا وعتليت وانطرسوس وصيدا، وهدمها وأجلى الفرنج من الساحل فلم يبق منهم أحد ولله الحمد، وتوجه إلى دمشق وعاد إلى مصر فدخل قلعة الجبل يوم الاثنين تاسع شعبان، ثم خرج في ثامن ربيع الآخر سنة إحدى وتسعين وستمائة بعد ما نادى بالنفير للجهاد، فدخل دمشق وعرض العساكر ومضى منها فمرّ على حلب ونازل قلعة الروم، ونصب عليها عشرين منجنيقا حتى فتحها بعد ثلاثة وثلاثين يوما عنوة، وقتل من بها من النصارى الأرمن وسبى نساءهم وأولادهم، وسماها قلعة المسلمين، فعرفت بذلك، وعاد إلى مصر فدخل قلعة الجبل في يوم الأربعاء ثاني ذي القعدة، وسار في رابع المحرّم سنة اثنتين وتسعين حتى بلغ مدينة قوص من صعيد مصر، ونادى فيها بالتجهز لغزو اليمن، وعاد ثم سار مخفا على الهجن في البريّة إلى الكرك، ومضى إلى دمشق فقدمها في تاسع جمادى الآخرة، وقصد غزو بهنسا وأخذها من الأرمن، فقدموا إليه وسلموها من تلقاء أنفسهم وسلموا أيضا مرعش وتل حمدون، ومضى من دمشق في ثاني رجب، وعبر من حمص إلى سلمية «1» وهجم على الأمير مهنا بن عيسى وقبضه وإخوته وحملهم في الحديد إلى قلعة الجبل، وعاد إلى دمشق ثم رجع إلى مصر فقدم قلعة الجبل في ثامن عشري رجب، ثم توجه للصيد فبلغ الطرّانة، وانفرد في نفر يسير ليصطاد، فاقتحم عليه الأمير بيدار في عدّة معه وقتلوه في يوم السبت ثاني عشر المحرّم سنة ثلاث وتسعين وستمائة، فكانت مدّته ثلاث سنين وشهرين وأربعة أيام، ثم حمل ودفن بمدرسة الأشرفية «2» وأقيم من بعده أخوه.(3/416)
السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون «1» : وعمره سبع سنين، وقام الأمير زين الدين كتبغا بتدبيره، ثم خلعه بعد سنة تنقص ثلاثة أيام، وقام من بعده.
السلطان الملك العادل زين الدين كتبغا المنصوريّ: أحد مماليك الملك المنصور قلاون، وجلس على التخت بقلعة الجبل في يوم الأربعاء حادي عشر المحرّم، سنة أربع وتسعين، وتلقب بالملك العادل، فكانت أيامه شرّ أيام لما فيها من قصور مدّ النيل وغلاء الأسعار وكثرة الوباء في الناس، وقدوم الأويراتية «2» . فقام عليه نائبه الأمير حسام الدين لاجين وهو عائد من دمشق بمنزلة العرجاء، في يوم الاثنين ثامن عشري المحرّم سنة ست وتسعين، ففرّ إلى دمشق واستولى لاجين على الأمر، فكانت مدّته سنتين وسبعة عشر يوما، وقدم لاجين بالعسكر إلى مصر وقام في السلطنة:
السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين المنصوريّ: أحد مماليك المنصور قلاون، وجلس على التخت بقلعة الجبل وتلقب بالملك المنصور في يوم الاثنين ثامن عشري المحرّم المذكور، واستناب مملوكه منكوتمر فنفرت القلوب عنه حتى قتل في ليلة الجمعة حادي عشر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وستمائة، فكانت مدّته سنتين وشهرين وثلاثة عشر يوما، ودبر الأمراء بعده أمور الدولة حتى قدم من الكرك.
السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون: وأعيد إلى السلطنة مرّة ثانية في يوم الاثنين سادس جمادى الأولى، وقام بتدبير الأمور الأميران سلار نائب السلطنة، وبيبرس الجاشنكير أستادار، حتى سار كأنه يريد الحج، فمضى إلى الكرك وانخلع من السلطنة، فكانت مدّته تسع سنين وستة أشهر وثلاثة عشر يوما، فقام من بعده.
السلطان الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير: أحد مماليك المنصور قلاون، في يوم السبت ثالث عشري ذي الحجة، سنة ثمان وسبعمائة، حتى فرّ من قلعة الجبل في يوم الثلاثاء سادس عشر رمضان، سنة تسع وسبعمائة، فكانت مدّته عشرة أشهر وأربعة وعشرين يوما. ثم قدم من الشام في العساكر:
السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون: وأعيد إلى السلطنة مرّة ثالثة في يوم الخميس ثاني شوّال منها، فاستبدّ بالأمر حتى مات في ليلة الخميس حادي عشري ذي الحجة، سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، وكانت مدّته الثالثة اثنتين وثلاثين سنة وشهرين وخمسة وعشرين(3/417)
يوما، ودفن بالقبة المنصورية على أبيه، وأقيم بعده ابنه.
السلطان الملك المنصور سيف الدين أبو بكر: بعهد أبيه في يوم الخميس حادي عشري ذي الحجة، وقام الأمير قوصون بتدبير الدولة، ثم خلعه بعد تسعة وخمسين يوما، في يوم الأحد لعشرين من صفر سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، وأقام بعده أخاه:
السلطان الملك الأشرف علاء الدين كجك بن الناصر محمد بن قلاون: ولم يكمل له من العمر ثمان سنين «1» فتنكرت قلوب الأمراء على قوصون وحاربوه وقبضوا عليه كما ذكر في ترجمته، وخلعوا الأشرف في يوم الخميس أوّل شعبان، فكانت مدّته خمسة أشهر وعشرة أيام، وقام الأمير أيدغمش بأمر الدولة، وبعث يستدعي من بلاد الكرم:
السلطان الملك الناصر شهاب الدين أحمد بن الناصر محمد بن قلاون: وكان مقيما بقلعة الكرك من أيام أبيه، فقدم على البريد في عشرة من أهل الكرك ليلة الخميس ثامن عشري شهر رمضان، وعبر الدور من قلعة الجبل بمن قدم معه، واحتجب عن الأمراء ولم يخرج لصلاة العيد، ولا حضر السماط على العادة إلى أن لبس شعار السلطنة، وجلس على التخت في يوم الاثنين عاشر شوّال، وقلوب الأمراء نافرة منه لإعراضه عنهم، فساءت سيرته، ثم خرج إلى الكرك في يوم الأربعاء ثاني ذي القعدة، واستخلف الأمير آق سنقر السلاريّ نائب الغيبة. فلما وصل قبة النصر نزل عن فرسه ولبس ثياب العرب ومضى مع خواصه أهل الكرك على البريد، وترك الأطلاب فسارت على البرّ حتى وافته بالكرك، فردّ العسكر إلى بلد الخليل وأقام بقلعة الكرك، وتصرّف أقبح تصرّف، فخلعه الأمراء في يوم الأربعاء حادي عشري المخرّم، سنة ثلاث وأربعين، فكانت مدّته ثلاثة أشهر وثلاثة عشر يوما. وأقاموا بعده أخاه.
السلطان الملك الصالح عماد الدين إسماعيل: في يوم الخميس ثاني عشري المحرّم المذكور، وقام الأمير أرغون زوج أمّه بتدبير المملكة مع مشاركة عدّة من الأمراء، وسارت الأمراء والعساكر لقتال الناصر أحمد في الكرك حتى أخذ وقتل، فلما أحضرت رأسه إلى السلطان الصالح ورآها فزع، ولم يزل يعتاده المرض حتى مات ليلة الخميس رابع عشر ربيع الآخر سنة ست وأربعين وسبعمائة، فكانت مدّته ثلاث سنين وشهرين وأحد عشر يوما. وقام بعده أخوه.
السلطان الملك الكامل سيف الدين شعبان: بعهد أخيه وجلس على التخت من غد، فأوحش ما بينه وبين الأمراء حتى ركبوا عليه، فركب لقتالهم فلم يثبت من معه وعاد إلى القلعة منهزما، فتبعه الأمراء وخلعوه، وذلك في يوم الاثنين مستهلّ جمادى الآخرة سنة سبع(3/418)
وأربعين وسبعمائة، فكانت مدّته سنة وثمانية وخمسين يوما. فأقيم بعده أخوه.
السلطان الملك المظفر زين الدين حاجي: من يومه، فساءت سيرته وانهمك في اللعب، فركب الأمراء عليه، فركب إليهم وحاربهم فخانه من معه وتركوه حتى أخذ وذبح في يوم الأحد، ثاني عشر رمضان، سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، وكانت مدّته سنة وثلاثة أشهر واثني عشر يوما. وأقيم من بعده أخوه.
السلطان الملك الناصر بدر الدين أبو المعالي حسن بن محمد: في يوم الثلاثاء رابع عشرة، وعمره إحدى عشرة سنة، فلم يكن له من الأمر شيء، والقائم بالأمر الأمير شيخو العمريّ، فلما أخذ في الاستبداد بالتصرّف خلع وسجن في يوم اثنين ثامن عشري جمادى الآخرة، سنة اثنتين وخمسين، فكانت مدّته أربع سنين تنقص خمسة عشر يوما، منها تحت الحجر ثلاث سنين ونيف، ومدّة استبداده نحو من تسعة أشهر. وأقيم من بعده أخوه.
السلطان الملك الصالح صلاح الدين صالح: في يوم الاثنين المذكور، فكثر لهوه وخرج عن الحدّ في التبذل واللعب، فثار عليه الأميران شيخو وطاز وقبضا عليه وسجناه بالقلعة، في يوم الاثنين ثاني شوّال، سنة خمس وخمسين وسبعمائة، فكانت مدّته ثلاث سنين وثلاثة أشهر وثلاثة أيام.
وأعيد السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون: في يوم الاثنين المذكور، فأقام حتى قام عليه مملوكه الأمير يلبغا الخاصكيّ وقتله في ليلة الأربعاء، تاسع جمادى الأولى سنة اثنتين وستين، فكانت مدّته هذه ست سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام.
وأقيم من بعده ابن أخيه السلطان الملك المنصور صلاح الدين محمد بن المظفر حاجي بن محمد بن قلاون: وعمره أربع عشرة سنة، في يوم الأربعاء المذكور، وقام بالأمر الأمير يلبغا، ثم خلعه وسجنه بالقلعة في يوم الاثنين رابع عشر شعبان، سنة أربع وستين وسبعمائة.
وأقام بعده السلطان الملك الأشرف زين الدين أبا المعالي شعبان بن حسين بن الناصر محمد بن المنصور قلاون: وعمره عشر سنين، في يوم الثلاثاء خامس عشر شعبان المذكور، ولم يل من بني قلاون من أبوه لم يتسلطن سواه، فأقام تحت حجر يلبغا حتى قتل يلبغا في ليلة الأربعاء عاشر ربيع الآخر، سنة ثمان وستين وسبعمائة، فأخذ يستبدّ بملكه حتى انفرد بتدبيره، إلى أن قتل في يوم الثلاثاء سادس ذي القعدة، سنة ثمان وسبعين وسبعمائة، بعد ما أقيم بدله ابنه في السلطنة، فكانت مدّته أربع عشرة سنة وشهرين وخمسة عشر يوما.
فقام بالأمر ابنه السلطان الملك المنصور علاء الدين عليّ بن شعبان بن حسين: وعمره(3/419)
سبع سنين، في يوم السبت ثالث ذي القعدة المذكور، وأبوه حيّ، فلم يكن حظه من السلطنة سوى الاسم حتى مات في يوم الأحد، ثالث عشري صفر سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة، فكانت مدّته خمس سنين وثلاثة أشهر وعشرين يوما.
فأقيم بعده أخوه السلطان الملك الصالح زين الدين حاجي: في يوم الاثنين رابع عشري صفر المذكور، فقام بأمر الملك وتدبير الأمور الأمير الكبير برقوق، حتى خلعه في يوم الأربعاء تاسع شهر رمضان سنة أربع وثمانين وسبعمائة، فكانت مدّته سنة وشهرين ينقصان أربعة أيام، وبه انقضت دولة المماليك البحرية الأتراك وأولادهم، ومدّتهم مائة وست وثلاثون سنة وسبعة أشهر وتسعة أيام، أوّلها يوم الخميس عاشر صفر سنة ثمان وأربعين وستمائة، وآخرها يوم الثلاثاء ثامن عشر شهر رمضان سنة أربع وثمانين وسبعمائة، وعدّتهم أربعة وعشرون ذكرا، ما بين رجل وصبيّ، وامرأة واحدة، وأوّلهم امرأة وآخرهم صبيّ ولما أقيم الناصر حسن بعد أخيه المظفر حاجي طلب المماليك الجراكسة الذين قرّبهم المظفر بسفارة الأمير أغرلو، فإنه كان يدّعي أنه كان جركسيّ الجنس، وجلبهم من أماكن حتى ظهروا في الدولة وكبرت عمائمهم وكلوتاتهم، فأخرجوا منفيين أنحس خروج، فقدموا على البلاد الشامية والله تعالى أعلم.
ذكر دولة المماليك الجراكسة
وهم واللاض والروس أهل مدائن عامرة، وجبال ذات أشجار، ولهم أغنام وزروع، وكلهم في مملكة صاحب مدينة سراي قاعدة خوارزم، وملوك هذه الطوائف لملك سراي كالرعية، فإن داروه وهادوه كفّ عنهم، وإلّا غزاهم وحصرهم، وكم مرجة قتلت عساكره منهم خلائق، وسبت نساءهم وأولادهم، وجلبتهم رقيقا إلى الأقطار، فأكثر المنصور قلاون من شرائهم، وجعلهم وطائفة اللاض جميعا في أبراج القلعة، وسماهم البرجية، فبلغت عدّتهم ثلاثة آلاف وسبعمائة، وعمل منهم أوشاقية «1» وجمقدارية وجاشنكيرية وسلاحدارية، وأوّلهم:
السلطان الملك الظاهر أبو سعيد برقوق بن آنص: أخذ من بلاد الجركس وبيع ببلاد القرم، فجلبه خواجا فخر الدين عثمان بن مسافر إلى القاهرة، فاشتراه منه الأمير الكبير يلبغا الخاصكيّ وأعتقه وجعله من جملة مماليكه الأجلاب، فيعرف ببرقوق العثمانيّ. فلما قتل يلبغا أخرج الملك الأشرف الأجلاب من مصر، فسار منهم برقوق إلى الكرك، فأقام في عدّة منهم مسجونا بها عدّة سنين، ثم أفرج عنه وعمن كان معه، فمضوا إلى دمشق وخدموا عند الأمير منجك نائب الشام حتى طلب الأشرف اليلبغاوية، فقدم برقوق في جملتهم واستقرّ في(3/420)
خدمة ولدي السلطان عليّ وحاجي مع من استقرّ من خشداشيته «1» ، فعرفوا باليلبغاوية إلى أن خرج السلطان إلى الحج، فثاروا بعد سفره وسلطنوا ابنه عليا، وحكم في الدولة منهم الأمير قرطاي الشهابيّ، فثار عليه خشداشية أينبك البدريّ، فأخرجه إلى الشام وقام بعده بتدبير الدولة، وخرج إلى الشام فثارت عليه اليلبغاوية وفيهم برقوق، وقد صار من جملة الأمراء، فعاد قبل وصوله بلبيس، ثم قبض عليه، وقام بتدبير الدولة غير واحد في أيام يسيرة، فركب برقوق في يوم الأحد ثالث عشري ربيع الآخر سنة تسع وسبعين وسبعمائة، وقت الظهيرة، في طائفة من خشداشيته وهجم على باب السلسلة وقبض على الأمير يلبغا الناصريّ، وهو القائم بتدبير الدولة، وملك الإصطبل وما زال به حتى خلع الصالح حاجي وتسلطن في يوم الأربعاء تاسع عشر رمضان سنة أربع وثمانين وسبعمائة وقت الظهر، فغير العوائد وأفنى رجال الدولة، واستكثر من جلب الجراكسة إلى أن ثار عليه الأمير يلبغا الناصريّ، وهو يومئذ نائب حلب، وسار إليه ففرّ من قلعة الجبل في ليلة الثلاثاء خامس جمادى الأولى سنة إحدى وتسعين، وملك الناصريّ القلعة وأعاد الصالح حاجي ولقبه بالملك المنصور، وقبض على برقوق وبعثه إلى الكرك فسجنه بها، فثار الأمير منطاش على الناصري وقبض عليه وسجنه بالإسكندرية، وخرج يريد محاربة برقوق وقد خرج من سجن الكرك، وسار إلى دمشق في عسكر، فحاربه برقوق على شقجب ظاهر دمشق وملك ما معه من الخزائن، وأخذ الخليفة والسلطان حاجي والقضاة وسار إلى مصر، فقدمها يوم الثلاثاء رابع عشر صفر سنة اثنتين وتسعين، واستبدّ بالسلطنة حتى مات ليلة الجمعة للنصف من شوّال سنة إحدى وثمانمائة، فكانت مدّته أتابكا وسلطانا إحدى وعشرين سنة وعشرة أشهر وستة عشر يوما، خلع فيها ثمانية أشهر وتسعة أيام. وقام من بعده ابنه.
السلطان الملك الناصر زين الدين أبو السعادات فرج: في يوم الجمعة المذكور، وعمره نحو العشر سنين، فدبر أمر الدولة الأمير الكبير ايتمش، ثم ثار به الأمير يشبك وغيره، ففرّ إلى الشام وقتل بها، ولم تزل أيام الناصر كلها كثيرة الفتن والشرور والغلاء والوباء، وطرق بلاد الشام فيها الأمير تيمورلنك فخرّبها كلها وحرّقها، وعمها بالقتل والنهب والأسر حتى فقد منها جميع أنواع الحيوانات، وتمزق أهلها في جميع أقطار الأرض، ثم دهمها بعد رحيله عنها جراد لم يترك بها خضراء، فاشتدّ بها الغلاء على من تراجع إليها من أهلها، وشنع موتهم، واستمرّت بها مع ذلك الفتن، وقصر مدّ النيل بمصر حتى شرقت الأراضي إلّا قليلا، وعظم الغلاء والفناء، فباع أهل الصعيد أولادهم من الجوع، وصاروا أرقاء مملوكين، وشمل الخراب الشنيع عامّة أرض مصر وبلاد الشام من حيث يصب النيل من الجنادل إلى حيث مجرى الفرات، وابتلى مع ذلك بكثرة فتن الأميرين نوروز الحافظي(3/421)
وشيخ المحموديّ، وخروجهما ببلاد الشام عن طاعته، فتردّد لمحاربتهما مرارا حتى هزماه ثم قتلاه بدمشق، في ليلة السبت سادس عشر صفر سنة خمس عشرة وثمانمائة، فكانت مدّته منذ مات أبوه إلى أن فرّ في يوم الأحد خامس عشري ربيع الأول سنة ثمان وثمانمائة، واختفى، وأقيم بعده أخوه عبد العزيز، ولقب الملك المنصور ست سنين وخمسة أشهر وأحد عشر يوما، وأقام الناصر في الاختفاء سبعين يوما ثم ظهر في يوم السبت خامس عشر جمادي الآخرة، واستولى على قلعة الجبل واستبدّ بملكه أقبح استبداد، إلى أن توجه لحرب نوروز وشيخ وقاتلهما على اللجون، في يوم الاثنين ثالث عشر المحرّم، سنة خمس عشرة، فانهزم إلى دمشق وهما في إثره، وقد صار الخليفة المستعين بالله في قبضتهما ومعه مباشر والدولة، فنزلا على دمشق وحصراه، ثم ألزما الخليفة بخلعة من السلطنة فلم يجد بدّا من ذلك وخلعه في يوم السبت خامس عشرية، ونودي بذلك في الناس، فكانت مدّته الثانية ست سنين وعشرة أشهر سواء.
وأقيم من بعده الخليفة المستعين بالله أمير المؤمنين أبو الفضل العباس بن محمد العباسي: وأصل هؤلاء الخلفاء بمصر، أنّ أمير المؤمنين المستعصم بالله عبد الله آخر خلفاء بني العباس، لما قتله هولاكو بن تولي بن جنكزخان في صفر سنة ست وخمسين وستمائة ببغداد وخلت الدنيا من خليفة، وصار الناس بغير إمام قرشيّ إلى سنة تسع وخمسين، فقدم الأمير أبو القاسم أحمد بن الخليفة الظاهر أبي نصر محمد بن الخليفة الناصر العباسيّ من بغداد إلى مصر، في يوم الخميس تاسع رجب منها، فركب السلطان الملك الظاهر بيبرس إلى لقائه وصعد به قلعة الجبل، وقام بما يجب من حقه وبايعه بالخلافة وبايعه الناس، وتلقب بالمستنصر، ثم توجّه لقتال التتر ببغداد فقتل في محاربتهم، لأيام خلت من المحرّم سنة ستين وستمائة، فكانت خلافته قريبا من سنة.
ثم قدم من بعده الأمير أبو العباس أحمد بن أبي عليّ الحسن بن أبي بكر من ذرية الخليفة الراشد بالله أبي جعفر منصور بن المسترشد، في سابع عشري ربيع الأوّل، فأنزله السلطان في برج بقلعة الجبل وأجرى عليه ما يحتاج إليه، ثم بايعه في يوم الخميس ثامن المحرّم سنة إحدى وستين بعد ما أثبت نسبه على قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز، ولقّبه بالحاكم بأمر الله، وبايعه الناس كافة، ثم خطب من الغد وصلى بالناس الجمعة في جامع القلعة، ودعي له من يومئذ على منابر أراضي مصر كلها قبل الدعاء للسلطان، ثم خطب له على منابر الشام، واستمرّ الحال على الدعاء له ولمن جاء من بعده من الخلفاء، وما زال بالبرج إلى أن منعه السلطان من الاجتماع بالناس في المحرّم سنة ثلاث وستين، فاحتجب وصار كالمسجون زيادة على سبع وعشرين سنة، بقية أيام الظاهر بيبرس وأيام ولديه محمد بركة وسلامش، وأيام قلاون. فلما صارت السلطنة إلى الأشرف خليل بن قلاون أخرجه من سجنه مكرّما، في يوم الجمعة العشرين من شهر رمضان، سنة(3/422)
تسعين وستمائة، وأمره فصعد منبر الجامع بالقلعة وخطب وعليه سواده، وقد تقلد سيفا محلّى، ثم نزل فصلى بالناس صلاة الجمعة قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، وخطب أيضا خطبة ثالثة في يوم الجمعة تاسع عشري ربيع الأوّل سنة إحدى وتسعين، وحج سنة أربع وتسعين، ثم منع من الاجتماع بالناس، فامتنع حتى أفرج عنه المنصور لاجين في سنة ست وتسعين وأسكنه بمناظر الكبش، وأنعم عليه بكسوة له ولعياله، وأجرى عليه ما يقوم به، وخطب بجامع القلعة خطبة رابعة وصلى بالناس الجمعة، ثم حج سنة سبع وتسعين، وتوفي ليلة الجمعة ثامن عشر جمادى الأولى، سنة إحدى وسبعمائة، فكانت خلافته مدّة أربعين سنة ليس له فيها أمر ولا نهي، إنما حظه أن يقال أمير المؤمنين، وكان قد عهد إلى ابنه الأمير أبي عبد الله محمد المستمسك، ثم من بعده لأخيه أبي الربيع سليمان المستكفي، فمات المستمسك في حياته، واشتدّ جزعه عليه، فعهد لابنه إبراهيم بن محمد المستمسك.
فلما مات الحاكم أقيم من بعده ابنه المستكفي بالله أبو الربيع سليمان بعده له، فشهد وقعة شقجب مع الملك الناصر محمد بن قلاون وعليه سواده، وقد أرخى له عذبة طويلة وتقلد سيفا عربيا محلى، ثم تنكر عليه وسجنه في برج بالقلعة نحو خمسة أشهر، وأفرج عنه وأنزله إلى داره قريبا من المشهد النفيسيّ بتربة شجرة الدر، فأقام نحو ستة أشهر وأخرجه إلى قوص في سنة سبع وثلاثين وسبعمائة، وقطع راتبه وأجرى له بقوص ما يتقوّت به، فمات بها في خامس شعبان سنة أربعين.
وعهد إلى ولده، فلم يمض الملك الناصر محمد عهده، وبويع ابن أخيه أبو إسحاق إبراهيم بن محمد المستمسك بن أحمد الحاكم بيعة خفية لم تظهر، في يوم الاثنين خامس عشري شعبان المذكور، وأقام الخطباء أربعة أشهر لا يذكرون في خطبهم الخليفة، ثم خطب له في يوم الجمعة سابع ذي القعدة منها، ولقب بالواثق بالله، فلما مات الناصر محمد وأقيم بعده ابنه المنصور أبو بكر استدعى أبو القاسم أحمد بن أبي الربيع سليمان، وأقيم في الخلافة ولقب بالحاكم بعد ما كان يلقب بالمستنصر، وكني بأبي العباس، في يوم السبت سلخ ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، وفاستمرّ حتى مات في يوم الجمعة رابع شعبان، سنة ثمان وأربعين وسبعمائة.
فأقيم بعده أخوه المعتضد بالله أبو بكر، وكنيته أبو الفتح بن أبي الربيع سليمان، في يوم الخميس سابع عشرة واستقرّ مع ذلك في نظر مشهد السيدة نفيسة رضي الله عنها ليستعين بما يريد إلى ضريحها من نذر العامّة على قيام أوده، فإن مرتب الخلفاء كان على مكس الصاغة، وحسبه أن يقوم بما لا بدّ منه في قوتهم، فكانوا أبدا في عيش غير موسع، فحسنت حال المعتضد بما يبيعه من الشمع المحمول إلى المشهد النفيسيّ ونحوه إلى أن توفي يوم(3/423)
الثلاثاء عاشر جمادى الأولى سنة ثلاث وستين، وكان يبلغ بالكاف، وحج مرّتين إحداهما سنة أربع وخسمسين، والثانية سنة ستين.
فأقيم بعده ابنه المتوكل على الله أبو عبد الله محمد بعهده إليه في يوم الخميس ثاني عشرة، وخلع عليه بين يدي السلطان الملك المنصور محمد بن الملك المظفر حاجي، وفوّض إليه نظر المشهد، ونزل إلى داره فلم يزل حتى تنكر له الأمير أينبك في أوّل ذي القعدة سنة ثمان وسبعين بعد قتل الملك الأشرف شعبان بن حسين، وأخرجه ليسير إلى قوص.
وأقام عوضه في الخلافة ابن عمه زكريا بن إبراهيم بن محمد في ثالث عشري صفر سنة تسع وسبعين، وكان قد أمر بردّ المتوكل من نفيه، فردّ إلى منزله من يومه، فأقام به حتى رضي عنه أينبك وأعاده في العشرين من ربيع الأوّل منها إلى خلافته، ثم سخط عليه الظاهر برقوق وسجنه مقيدا في يوم الاثنين أوّل رجب سنة خمس وثمانين، وقد وشي به أنه يريد الثورة وأخذ الملك.
وأقيم بعده في الخلافة الواثق بالله أبو حفص عمر بن المعتصم أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن الحاكم، في يوم الاثنين المذكور، فما زال خليفة حتى مات يوم السبت تاسع شوّال سنة ثمان وثمانين. فأقام الظاهر بعده في الخلافة أخاه زكريا بن إبراهيم في يوم الخميس ثامن عشرية، ولقب بالمستعصم، وركب بالخلعة وبين يديه القضاة من القلعة إلى منزله، فلما أشرف الظاهر برقوق على زوال ملكه وقرب الأمير يلبغا الناصريّ نائب حلب بالعساكر، استدعى المتوكل على الله من محبسه وأعاده إلى الخلافة، وخلع عليه في يوم الأربعاء أوّل جمادى الأولى سنة إحدى وتسعين، وبالغ في تعظيمه، وأنعم عليه، فلم يزل على خلافته حتى توفي ليلة الثلاثاء ثامن عشري رجب سنة ثمان وثمانمائة، وهو أوّل من اتسعت أحواله من الخلفاء بمصر، وصار له إقطاعات ومال.
فأقيم في الخلافة بعده ابنه المستعين بالله أبو الفضل العباس، وخلع عليه في يوم الاثنين رابع شعبان بالقلعة بين يدي الناصر فرج بن برقوق، ونزل إلى داره ثم سار مع الناصر إلى الشام، وحضر معه وقعة اللجون حتى انهزم، فدعاه الأميران شيخ ونوروز فمضى من موقفه إليهما ومعه مباشر والدولة، فأنزلاه ووكلا به وسارا به لحصار الناصر، ثم ألزماه حتى خلعه من السلطنة، وأقامه شيخ في السلطنة وبايعه ومن معه، في يوم السبت خامس عشري المحرّم سنة خمس عشرة وثمانمائة، وبعث إلى نوروز وهو بشماليّ دمشق حتى بايعه، فنالوا بإقامته أغراضهم من قتل الناصر وانتظام أمرهم، ثم سار به شيخ إلى مصر وأقام نوروز بدمشق، فلما قدم به أسكنه القلعة ونزل هو بالحراقة من باب السلسلة، وقام بجميع الأمور وترك الخليفة في غاية الحصر، حتى استبدّ بالسلطنة، فكانت مدّة الخليفة منذ أقاموه سلطانا(3/424)
سبعة أشهر وخمسة أيام، ونقل الخليفة إلى بعض دور القلعة ووكل به من يحفظه وأهله وقام من بعده بالسلطانة.
السلطان الملك المؤيد أبو النصر شيخ المحموديّ: أحد مماليك الظاهر برقوق، في يوم الاثنين أوّل شعبان سنة خمس عشرة وثمانمائة، فسجن الخليفة في برج بالقلعة ثم حمله إلى الإسكندرية، فسجنه بها، ولم يزل سلطانا حتى مات في يوم الاثنين ثامن المحرّم سنة أربع وعشرين، فكانت مدّته ثمان سنين وخمسة أشهر وستة أيام. فأقيم بعده ابنه.
السلطان الملك المظفر شهاب الدين أبو السعادات أحمد: وعمره سنة واحدة ونصف، فقام بأمره الأمير ططر، وفرّق ما جمعه المؤيد من الأموال، وخرج بالمظفر يريد محاربة الأمراء بالشام، فظفر بهم، وخلع المظفر، وكانت مدّته ثمانية أشهر تنقص سبعة أيام. وقام بعده.
السلطان الملك الظاهر أبو الفتح ططر: أحد مماليك الظاهر برقوق، وجلس على التخت بقلعة دمشق في يوم الجمعة تاسع عشري شعبان، سنة أربع وعشرين، وقدم إلى قلعة الجبل وهو موعوك البدن، في يوم الخميس رابع شوّال، فثقل في مرضه من يوم الاثنين ثاني عشرية حتى مات في الأحد، رابع عشري ذي الحجة، فكانت مدّته ثلاثة أشهر ويومين، فأقيم بعده ابنه.
السلطان الملك الصالح ناصر الدين محمد: وعمره نحو عشر سنين، فقام بأمره الأمير برسباي الدقاقيّ، ثم خلعه بعد أربعة أشهر وأربعة أيام. وقام من بعده.
السلطان الملك الأشرف سيف الدين أبو النصر برسباي: أحد مماليك الظاهر برقوق، وجلس على تخت الملك في يوم الأربعاء ثامن شهر ربيع الآخر، سنة خمس وعشرين وثمانمائة.
هذا آخر الجزء الثالث من أصل مصنفه الإمام المقريزيّ رحمه الله تعالى ورضي عنه.
ووجد على هامش بعض النسخ ما صورته: وتوفي الأشرف برسباي ثالث عشر ذي الحجة، سنة إحدى وأربعين وثمانمائة، فكانت مدّته ست عشرة سنة وتسعة شهور، ثم قام من بعده ولده: الملك العزيز يوسف، وسنّه نحو خمس عشرة سنة، ثم خلع في تاسع عشر ربيع الأوّل سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة، فكانت مدّته نحو ثلاثة أشهر.
وقام من بعده الملك الظاهر جقمق في تاسع عشر ربيع المذكور، وخلع نفسه من الملك في مرض موته، وتولى بعده بعهده ولده. الملك المنصور عثمان في حادي عشري المحرّم سنة سبع وخمسين وثمانمائة، فكانت مدّة الظاهر جقمق أربع عشرة سنة ونحو عشرة شهور، ثم خلع ولده المنصور عثمان في سابع ربيع الأوّل سنة سبع وخمسين وثمانمائة،(3/425)
فأقام في الملك أحدا وأربعين يوما، وتولى عوضه الملك الأشرف أينال: في ثامن من ربيع الأوّل سنة سبع وخمسين وثمانمائة، وخلع نفسه في مرض موته في جمادى الأولى سنة خمس وستين وثمانمائة، فكانت مدّته ثمان سنين وشهرين، وتولى بعده ولده الملك المؤيد أحمد ثم خلع في ثامن عشر رمضان سنة خمس وستين وثمانمائة، فكانت مدّته أربعة أشهر.
وتولى الملك الظاهر خشقدم تاسع عشر رمضان، سنة خمس وستين وثمانمائة، ومات عشر شهر ربيع الأوّل سنة اثنتين وسبعين، فكانت مدّته نحو ست سنين ونصف.
ثم تولى الملك الظاهر بلباي في حادي عشر الشهر المذكور، ثم خلع في سابع جمادى الأولى من السنة المذكورة، فكانت مدّته ستة وخمسين يوما. ثم تولى الملك الظاهر تمربغا في ثامن جمادى الأولى المذكور، ثم خلع في العشر الأول من شهر رجب الفرد، سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة، وكانت مدّته نحو تسعة وخمسين يوما، وتولى الملك الأشرف قايتباي في ثاني عشر رجب من السنة المذكورة، وتوفي في ثاني عشري ذي القعدة سنة إحدى وتسعمائة، فكانت مدّته تسعا وعشرين سنة وأربعة شهور وأياما.
وتولى بعده ولده الملك الناصر محمد في التاريخ المذكور، ثم قتل بالجيزة في آخر يوم الأربعاء، النصف من ربيع الأوّل سنة أربع وتسعمائة، فكانت مدّته سنتين وثلاثة أشهر وأياما. ثم تولى خاله الملك الظاهر قانصوه الأشرفيّ قايتباي في ضحوة يوم الجمعة سابع عشر ربيع الأوّل المذكور، ثم خلع في سابع ذي الحجة سنة خمس وتسعمائة، فكانت مدّته نحو عشرين شهرا. وتولى عوضه الملك الأشرف جان بلاط الأشرفيّ قايتباي، وأتانا خبرة بمنزله الجديدة في العود من المدينة الشريفة، في يوم الجمعة سادس عشري ذي الحجة سنة خمس وتسعمائة، فكانت مدّته ستة شهور وأياما، ثم خلع في يوم السبت ثامن عشر جمادى الآخرة سنة ست وتسعمائة وتولى الملك العادل طومان باي الأشرفيّ قايتباي ثم خلع سلخ رمضان من السنة المذكورة، فكانت مدّته نحو مائة يوم، وتولى بعده الملك الأشرف قانصوه الغوريّ الأشرفيّ قايتباي مستهل شوال من السنة المذكورة، انتهى والله تعالى أعلم بالصواب.
تم الجزء الثالث، ويليه الجزء الرابع وأوله: «ذكر المساجد الجامعة» .(3/426)
الجزء الرابع
ذكر المساجد الجامعة
بسم الله الرّحمن الرّحيم اعلم أن أرض مصر لما فتحت في سنة عشرين من الهجرة، واختط الصحابة رضي الله عنهم فسطاط مصر كما تقدّم، لم يكن بالفسطاط غير مسجد واحد، وهو الجامع الذي يقال له في مدينة مصر الجامع العتيق، وجامع عمرو بن العاص. وما برح الأمر على هذا إلى أن قدم عبد الله بن عليّ بن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما من العراق، في طلب مروان بن محمد في سنة ثلاث وثلاثين ومائة، فنزل عسكره في شماليّ الفسطاط، وبنوا هناك الأبنية، فسمي ذلك الموضع بالعسكر، وأقيمت هناك الجمعة في مسجد، فصارت الجمعة تقام بمسجد عمرو بن العاص وبجامع العسكر، إلى أن بنى الأمير أحمد بن طولون جامعه على جبل يشكر، في سنة تسع وخمسين ومائتين، حين بنى القطائع، فتلاشى من حينئذ جامع العسكر، وصارت الجمعة تقام بجامع عمرو وبجامع ابن طولون، إلى أن قدم جوهر القائد من بلاد القيروان بالمغرب، ومعه عساكر مولاه المعز لدين الله أبي تميم معدّ، فبنى القاهرة وبنى الجامع الذي يعرف بالجامع الأزهر في سنة ستين وثلاثمائة، فكانت الجمعة تقام في جامع عمرو، وجامع ابن طولون، والجامع الأزهر، وجامع القرافة الذي يعرف اليوم بجامع الأولياء. ثم إنّ العزيز بالله أبا منصور نزار بن المعز لدين الله، بنى في ظاهر القاهرة من جهة باب الفتوح الجامع الذي يعرف اليوم بجامع الحاكم، في سنة ثمانين وثلاثمائة، وأكمله ابنه الحاكم بأمر الله أبو عليّ منصور، وبنى جامع المقس، وجامع راشدة، فكانت الجمعة تقام في هذه الجوامع كلها إلى أن انقرضت دولة الخلفاء الفاطميين، في سنة سبع وستين وخمسمائة، فبطلت الخطبة من الجامع الأزهر، واستمرّت فيما عداه.
فلما كانت الدولة التركية حدث بالقاهرة والقرافة ومصر وما بين ذلك عدّة جوامع، أقيمت فيها الجمعة، وما برح الأمر يزداد حتى بلغ عدد المواضع التي تقام بها الجمعة، فيما بين مسجد تبر خارج القاهرة من بحريها إلى دير الطين قبليّ مدينة مصر، زيادة على مائة موضع. وسيأتي من ذكر ذلك ما فيه كفاية إن شاء الله تعالى.
وقد بلغت عدّة المساجدة التي تقام بها الجمعة مائة وثلاثين مسجدا. منها: بمدينة مصر: جامع عمرو بن العاص، والجامع الجديد، والمدرسة المعزية، وجامع ابن اللبان،(4/3)
وجامع القرّاء، وجامع تقيّ الثمار، وجامع راشدة، وجامع الفيلة، وجامع دير الطين، وجامع بساتين الوزير.
ومنها بالقرافة: جامع الأولياء، وجامع الأفرم، وخانكاه بكتمر، وجامع ابن عبد الظاهر، وجامع الجوّاني، وجامع الضراب، وجامع قوصون، وجامع الشافعيّ، وجامع الديليّ، وجامع محمود، وجامع بقرب تربة الست.
ومنها بالروضة: جامع المقياس، وجامع عين، وجامع الرئيس، وجامع الأباريقيّ، وجامع المقسيّ.
ومنها بالحسينية خارج القاهرة: جامع أحمد الزاهد، وجامع آل ملك، وجامع كزاي، وجامع الكافوريّ، بالقرب من السميساطية، وجامع الخندق، وجامع نائب الكرك، وجامع سويقة الجميزة، وجامع قيدار، وجامع ابن شرف الدين، وجامع الظاهر، وجامع الحاج كمال التاجر، تجدّد هو وجامع سويقة الجميزة في أيام الظاهر برقوق.
ومنها خارج القاهرة مما يلي النيل: جامع كوم الريش، جامع جزيرة الفيل، جامع أمين الدين بن تاج الدين موسى، جامع الفخر على النيل، جامع الأسيوطي، جامع الواسطيّ، جامع ابن بدر، جامع الخطيري، جامع ابن غازي، جامع المقس، جامع ابن التركمانيّ، جامع بنت التركمانيّ، جامع الطواشي، جامع باب الرخاء، جامع الزاهد، جامع ميدان القمح، جامع صاروجا، جامع ابن زيد، جامع بركة الرطليّ، جامع الكيمختي، جامع باب الشعرية، جامع ابن مياله، جامع ابن المغربيّ، جامع العجميّ بقنطرة الموسكي، الجامع المعلق بقنطرة الموسكي أيضا، جامع الجاكي بسويقة الريش، جامع السروجيّ بسويقة الريش أيضا، جامع البكجريّ، جامع ابن حسون بالدكة، جامع ابن المغربيّ على الخليج، جامع الطباخ بخط اللوق، جامع الست نصيرة بخط باب اللوق حيث كان الكوم، فحفر فإذا بقبر عرف بالست نصيرة، وعمل عليه مسجد وأقيمت به الجمعة في أيام الظاهر برقوق. جامع شاكر بجوار قنطرة قدادار عمّر سنة ست وعشرين وثمانمائة، جامع غيط القاصد خلف قنطرة قدادار، جامع الجزيرة الوسطى، جامع كريم الدين بخط الزريبة، جامع ابن غلامها بخط الزريبة أيضا، الجامع الأخضر، جامع سويقة الموفق، جامع سلطان شاه بباب الخرق، جامع زين الدين الخشاب خارج باب الروق، كان زاوية للفقراء فأقيمت به الجمعة بعد سنة ثمانمائة، جامع منكلي بسويقة القيمريّ.
ومنها فيما بين القاهرة ومصر: جامع بشتاك، جامع الإسماعيليّ على البركة الناصرية، جامع الست مسكة، جامع آق سنقر بمجرى السقائين، جامع الشيخ محمد بن حسن الحنفيّ، جامع ست حدق بالمريس، جامع الطيبرسيّ، جامع الرحمة عمارة الصاحب أمين الدين عبد الله بن غنام، جامع منشأة المهرانيّ، جامع يونس بالسبع سقايات على البركة، جامع بركة الاستادار بحدرة ابن قيحة، جامع ابن طولون، جامع المشهد النفيسيّ، جامع(4/4)
البقليّ بالقبيبات، جامع شيخو، جامع قانباي برلس، سويقة منعم، جامع الماس، جامع قوصون، جامع الصالح بمدرسة الناصر حسن بسوق الخيل، جامع الجاي، جامع الماردينيّ، جامع أصلم.
ومنها بقلعة الجبل: الجامع الناصريّ، جامع التوبة، جامع الإصطبل، الجامع المؤيدي.
ومنها: خارج القاهرة بالترب وما قرب من القلعة: تربة جوش، وتربة الظاهر برقوق، وتربة طشتمر حمص أخضر بالصحراء، جامع الخضري، جامع التوبة، الجامع المؤيدي.
ومنها بالقاهرة: الجامع الأزهر، والجامع الحاكميّ، والجامع الأقمر، ومدرسة الظاهر برقوق، والمدرسة الصالحية، والحجازية، والمشهد الحسينيّ، وجامع الفاكهاني، والزمامية، والصاحبية، والبوبكرية، والجامع المؤيديّ، والأشرفية، وجامع الدواداري قريبا من البرقية، وجامع التوبة بالبرقية، مدرسة ابن البقريّ، والباسطية.
ذكر الجوامع
اعلم أنه لما اتصلت مباني القاهرة المعزية بمباني مدينة فسطاط مصر، بحيث صارتا كأنهما مدينة واحدة، واتخذ أهل القاهرة وأهل مصر القرافتين لدفن أمواتهم، ذكرت ما في هذه المواضع الأربع من المساجد الجامعة، وأضفت إليها ما في جزيرة فسطاط مصر التي يقال لها الروضة من الجوامع أيضا، فإنها منتزه أهل البلدين، وجمعت إلى ذلك ما في ظواهر القاهرة ومصر من الجوامع، مع التعريف بحال من أسسها. وبالله التوفيق.
الجامع العتيق
هذا الجامع بمدينة فسطاط مصر، ويقال له تاج الجوامع، وجامع عمرو بن العاص، وهو أوّل مسجد أسس بديار مصر في الملة الإسلامية بعد الفتح.
خرّج الحافظ أبو القاسم بن عساكر من حديث معاوية بن قرّة قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من صلّى صلاة مكتوبة في مسجد مصر من الأمصار، كانت له كحجة متقبلة، فإن صلّى تطوّعا كانت له كعمرة مبرورة.
وعن كعب: من صلّى في مسجد مصر من الأمصار صلاة فريضة، عدلت حجة متقبلة، ومن صلّى صلاة تطوع عدلت عمرة متقبلة، فإن أصيب في وجهه ذلك، حرّم لحمه ودمه على النار أن تطعمه، وذنبه على من قتله.
وأول مسجد بني في الإسلام مسجد قبا، ثم مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال هشام بن عمار: حدّثنا المغيرة بن المغيرة، حدّثنا يحيى بن عطاء الخراسانيّ عن أبيه. قال: لما افتتح عمر البلدان، كتب إلى أبي موسى وهو على البصرة يأمره أن يتخذ مسجدا للجماعة، ويتخذ للقبائل مساجد، فإذا كان يوم الجمعة انضموا إلى مسجد الجماعة. وكتب إلى سعد بن أبي وقاص وهو على الكوفة بمثل ذلك، وكتب إلى عمرو بن العاص وهو على(4/5)
مصر بمثل ذلك، وكتب إلى أمراء أجناد الشام أن لا يتبدّدوا إلى القرى، وأن ينزلوا المدائن، وأن يتخذوا في كلّ مدينة مسجدا واحدا، ولا تتخذ القبائل مساجد، فكان الناس متمسكين بأمر عمر وعهده.
وقال أبو عمر محمد بن يوسف بن يعقوب بن حفص الكنديّ، في كتاب أخبار مسجد أهل الراية الأعظم: وأوّل أمره وبنائه وزيادة الأمراء فيه وغيرهم، ومجالس الحكام والفقهاء منه وغير ذلك، قال هبيرة بن أبيض عن شيخه تجيب: أن قيسبة بن كلثوم التجيبيّ أحد بني سوم، سار من الشام إلى مصر مع عمرو بن العاص، فدخلها في مائة راحلة وخمسين عبدا وثلاثين فرسا، فلما أجمع المسلمون وعمرو بن العاص على حصار الحصن، نظر قيسبة بن كلثوم فرأى جنانا تقرب من الحصن، فعرّج إليها في أهله وعبيده، فنزل وضرب فيها فسطاطه وأقام فيها طول حصارهم الحصن حتى فتحه الله عليهم ثم خرج قيسبة مع عمرو إلى الإسكندرية وخلف أهله فيها، ثم فتح الله عليهم الإسكندرية، وعاد قيسبة إلى منزله هذا فنزله، واختط عمرو بن العاص داره مقابل تلك الجنان التي نزلها قيسبة، وتشاور المسلمون أين يكون المسجد الجامع، فرأوا أن يكون منزل قيسبة، فسأله عمرو فيه وقال: أنا أختط لك يا أبا عبد الرحمن حيث أحببت. فقال قيسبة: لقد علمتم يا معاشر المسلمين أني حزت هذا المنزل وملكته، وإني أتصدّق به على المسلمين وارتحل، فنزل مع قومه بني سوم واختط فيهم، فبني مسجدا في سنة إحدى وعشرين من الهجرة، وفي ذلك يقول أبو قبان بن نعيم بن بدر التجيبي:
وبابليون «1» قد سعدنا بفتحها ... وحزنا لعمر الله فيأ ومغنما
وقيسبة الخير بن كلثوم داره ... أباح حماها للصلاة وسلّما
فكلّ مصلّ في فنانا صلاته ... تعارف أهل المصر ما قلت فاعلما
وقال أبو مصعب قيس بن سلمة الشاعر في قصيدته التي امتدح فيها عبد الرحمن بن قيسبة:
وأبوك سلّم داره وأباحها ... لجباه قوم ركّع وسجود
وقال الليث بن سعد: كان مسجدنا هذا حدائق وأعنابا. وقال الشريف محمد بن أسعد الجوانيّ: ومن جملة مزارعها جامع مصر، وقد بقي إلى الآن من جملة الأنشاب التي كانت في البستان في موضع الجامع، شجرة زنزلخت، وهي باقية إلى الآن خلف المحراب الكبير والحائط الذي به المنبر، ومن العلماء من قال: إنّ هذه الشجرة باقية من عهد موسى عليه السلام، وكان لها نظير شجرة أخرى في الورّاقين، احترقت في حريق مصر سنة أربع وستين وخمسمائة، وظهر بالجامع العتيق بئر البستان التي كانت به، وهي اليوم يستقي منها الناس الماء بموضع حلة الفقيه ابن الجيزيّ المالكيّ.(4/6)
قال الكنديّ: وقال يزيد بن أبي حبيب: سمعت أشياخنا ممن حضر مسجد الفتح يقولون: وقف على إقامة قبلة المسجد الجامع ثمانون رجلا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيهم الزبير بن العوام، والمقداد، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وفضالة بن عبيد، وعقبة بن عامر، رضي الله عنهم. وفي رواية أسس مسجدنا هذا أربعة من الصحابة، أبو ذر، وأبو بصيرة، ومحمئة بن جزء الزبيديّ ونبيه بن صواب.
وقال عبد الله بن أبي جعفر: أقام محرابنا هذا عبادة بن الصامت، ورافع بن مالك، وهما نقيبان. وقال داود بن عقبة: أن عمرو بن العاص بعث ربيعة بن شرحبيل بن حسنة، وعمرو بن علقمة القرشيّ، ثم العدويّ، يقيمان القبلة، وقال لهما: قوما إذا زالت الشمس.
أو قال: انتصفت الشمس، فاجعلاها على حاجبيكما ففعلا.
وقال الليث: إنّ عمرو بن العاص كان يمدّ الحبال حتى أقيمت قبلة المسجد. وقال عمرو بن العاص: شرّقوا القبلة تصيبوا الحرم. قال: فشرّقت جدّا، فلما كان قرّة بن شريك تيامن بها قليلا، وكان عمرو بن العاص إذا صلّى في مسجد الجامع يصلي ناحية الشرق إلّا الشيء اليسير، وقال رجل من تجيب: رأيت عمرو بن العاص دخل كنيسة فصلّى فيها ولم ينصرف عن قبلتهم إلّا قليلا، وكان الليث وابن لهيعة إذا صليا تيامنا، وكان عمر بن مروان عمّ الخلفاء إذا صلّى في المسجد الجامع تيامن. وقال يزيد بن حبيب في قوله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ، فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها
، هي قبلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التي نصبها الله عز وجل مقابل الميزاب، وهي قبلة أهل مصر وأهل الغرب، وكان يقرأها فلنولينك قبلة نرضاها بالنون. وقال هكذا أقرأناها أبو الخير.
وقال الخليل بن عبد الله الأزديّ: حدّثني رجل من الأنصار أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاه جبريل فقال: ضع القبلة وأنت تنظر إلى الكعبة، ثم قال بيده، فأماط كلّ جبل بينه وبين الكعبة، فوضع المسجد وهو ينظر إلى الكعبة، وصارت قبلته إلى الميزاب.
وقال ابن لهيعة: سمعت أشياخنا يقولون: لم يكن لمسجد عمرو بن العاص محراب مجوّف، ولا أدري بناه مسلمة أو بناه عبد العزيز. وأوّل من جعل المحراب قرّة بن شريك.
وقال الواقديّ: حدّثنا محمد بن هلال قال: أوّل من أحدث المحراب المجوّف عمر بن عبد العزيز، ليالي بني مسجد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وذكر عمر بن شيبة أن عثمان بن مظعون تفل في القبلة فأصبح مكتئبا، فقالت له امرأته: ما لي أراك مكتئبا؟ قال: لا شيء إلّا أني تفلت في القبلة وأنا أصلي، فعمدت الى القبلة فغسلتها، ثم عملت خلوقا «1» فخلقتها، فكانت أوّل من خلق القبلة.
وقال أبو سعيد سلف الحميريّ: أدركت مسجد عمرو بن العاص طوله خمسون ذراعا(4/7)
في عرض ثلاثين ذراعا، وجعل الطريق يطيف به من كلّ جهة، وجعل له بابان يقابلان دار عمرو بن العاص، وجعل له بابان في بحريه، وبابان في غربيه، وكان الخارج إذا خرج من زقاق القناديل وجد ركن المسجد الشرقيّ محاذيا لركن دار عمرو بن العاص الغربيّ، وذلك قبل أن أخذ من دار عمرو بن العاص ما أخذ، وكان طوله من القبلة إلى البحري مثل طول دار عمرو بن العاص، وكان سقفه مطاطأ جدّا ولا صحن له، فإذا كان الصيف جلس الناس بفنائه من كلّ ناحية، وبينه وبين دار عمرو سبع أذرع.
قلت: وأوّل من جلس على منبر أو سرير ذي أعواد ربيعة بن محاسن. وقال القضاعيّ في كتاب الخطط: وكان عمرو بن العاص قد اتخذ منبرا، فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعزم عليه في كسره ويقول: أما يحسبك أن تقوم قائما والمسلمون جلوس تحت عقبيك، فكسره. قال مؤلفه رحمه الله: وفي سنة إحدى وستين ومائة، أمر المهديّ محمد بن أبي جعفر المنصور بتقصير المنابر وجعلها بقدر منبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. قال القضاعيّ: وأوّل من صلّى عليه من الموتى داخل الجامع، أبو الحسين سعيد بن عثمان صاحب الشرط، في النصف من صفر، وكانت وفاته فجأة، فأخرج ضحوة يوم الأحد السادس عشر من صفر، وصلّي عليه خلف المقصورة وكبّر عليه خمسا، ولم يعلم أحد قبله صلّي عليه في الجامع. وذكر عمر بن شيبة في تاريخ المدينة، أنّ أوّل من عمل مقصورة بلبن، عثمان بن عفان، وكانت فيها كوى تنظر الناس منها إلى الإمام، وأن عمر بن عبد العزيز عملها بالساج. قال القضاعيّ: ولم تكن الجمعة تقام في زمن عمرو بن العاص بشيء من أرض مصر إلّا في هذا الجامع. قال أبو سعيد عبد الرحمن بن يونس: جاء نفر من بحافق إلى عمرو بن العاص فقالوا: إنا نكون في الريف، أفنجمع في العيدين الفطر والأضحى ويؤمنّا رجل منا؟ قال: نعم. قالوا: فالجمعة؟ قال: لا، ولا يصلي الجمعة بالناس إلّا من أقام الحدود وآخذ بالذنوب وأعطى الحقوق.
وأوّل من زاد في هذا الجامع مسلمة بن مخلد الأنصاريّ سنة ثلاث وخمسين وهو يومئذ أمير مصر من قبل معاوية. قال الكنديّ في كتاب أخبار مسجد أهل الراية: ولما ضاق المسجد بأهله شكى ذلك إلى مسلمة بن مخلد، وهو الأمير يومئذ، فكتب فيه إلى معاوية بن أبي سفيان، فكتب إليه يأمره بالزيادة فيه، فزاد فيه من شرقيه مما يلي دار عمرو بن العاص، وزاد فيه من بحريه، ولم يحدث فيه حدثا من القبليّ ولا من الغربيّ، وذلك في سنة ثلاث وخمسين، وجعل له رحبة في البحريّ منه كان الناس يصيفون فيها، ولا طه بالنورة وزخرف جدرانه وسقوفه، ولم يكن المسجد الذي لعمر، وجعل فيه نورة ولا زخرف، وأمر بابتناء منار المسجد الذي في الفسطاط، وأمر أن يؤذنوا في وقت واحد، وأمر مؤذني الجامع أن يؤذنوا للفجر إذا مضى نصف الليل، فإذا فرغوا من أذانهم أذن كلّ مؤذن في الفسطاط في وقت واحد. قال ابن لهيعة فكان لأذانهم دويّ شديد، فقال عابد بن هشام الأزديّ: ثم السلامانيّ لمسلمة بن مخلد:(4/8)
لقد مدّت لمسلمة الليالي ... على رغم العداة من الأمان
وساعده الزمان بكلّ سعد ... وبلغه البعيد من الأماني
أمسلم فارتقي لا زلت تعلو ... على الأيام مسلم والزمان
لقد أحكمت مسجدنا فأضحى ... كأحسن ما يكون من المباني
فتاه به البلاد وساكنوها ... كما تاهت بزينتها الغواني
وكم لك من مناقب صالحات ... وأجدل بالصوامع للأذان
كأنّ تجاوب الأصوات فيها ... إذا ما الليل ألقى بالجران «1»
كصوت الرعد خالطه دويّ ... وأرعب كلّ مختطف الجنان
وقيل أنّ معاوية أمره ببناء الصوامع للأذان، قال: وجعل مسلمة للمسجد الجامع أربع صوامع في أركانه الأربع، وهو أوّل من جعلها فيه، ولم تكن قبل ذلك. قال: وهو أوّل من جعل فيه الحصر، وإنما كان قبل ذلك مفروضا بالحصباء، وأمر أن لا يضرب بناقوس عند الأذان يعني الفجر، وكان السلّم الذي يصعد منه المؤذنون في الطريق، حتى كان خالد بن سعيد، فحوّله داخل المسجد.
قال القاضي القضاعيّ: ثم إن عبد العزيز بن مروان هدمه في سنة تسع وسبعين من الهجرة، وهو يومئذ أمير مصر من قبل أخيه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، وزاد فيه من ناحية الغرب، وأدخل فيه الرحبة التي كانت في بحريه، ولم يجد في شرقيه موضعا يوسعه به. وذكر أبو عمر الكنديّ في كتاب الأمراء أنه زاد فيه من جوانبه كلها، ويقال أنّ عبد العزيز بن مروان لما أكمل بناء المسجد خرج من دار الذهب عند طلوع الفجر، فدخل المسجد فرأى في أهله خفة، فأمر بأخذ الأبواب على من فيه، ثم دعا بهم رجلا رجلا، فيقول للرجل: ألك زوجة؟ فيقول لا، فيقول زوّجوه، ألك خادم؟ فيقول لا، فيقول أخدموه. أحججت؟ فيقول: لا. فيقول أحجوه. أعليك دين؟ فيقول: نعم. فيقول إقضوا دينه. فأقام المسجد بعد ذلك دهرا عامرا ولم يزل إلى اليوم. وذكر أن عبد الله بن عبد الملك بن مروان في ولايته على مصر، من قبل أخيه الوليد، أمر برفع سقف المسجد الجامع، وكان مطاطأ، وذلك في سنة تسع وثمانين. ثم إن قرّة بن شريك العبسيّ هدمه مستهلّ سنة اثنتين وتسعين بأمر الوليد بن عبد الملك، وهو يومئذ أمير مصر من قبله، وابتدأ في بنيانه في شعبان من السنة المذكورة، وجعل على بنائه يحيى بن حنظلة، مولى بني عامر بن لؤيّ، وكانوا يجمعون الجمعة في قيسارية العسل حتى فرغ من بنائه، وذلك في شهر رمضان سنة ثلاث وتسعين، ونصب المنبر الجديد في سنة أربع وتسعين، ونزع المنبر الذي كان في المسجد، وذكر أنّ عمرو بن العاص كان جعله فيه، فلعله بعد وفاة عمر بن(4/9)
الخطاب رضي الله عنه. وقيل هو منبر عبد العزيز بن مروان، وذكر أنه حمل إليه من بعض كنائس مصر، وقيل أنّ زكريا بن برقني ملك النوبة أهداه إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وبعث معه نجاره حتى ركبه، واسم هذا النجار بقطر من أهل دندرة، ولم يزل هذا المنبر في المسجد حتى زاد قرّة بن شريك في الجامع، فنصب منبرا سواه على ما تقدّم شرحه، ولم يكن يخطب في القرى إلّا على العصا إلى أن ولي عبد الملك بن موسى بن نصير اللخمي مصر، من قبل مروان بن محمد، فأمر باتخاذ المنابر في القرى، وذلك في سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وذكر أنه لا يعرف منبرا أقدم منه، يعني من منبر قرّة بن شريك بعد منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلم يزل كذلك إلى أن قلع وكسر في أيام العزيز بالله بنظر الوزير يعقوب بن كلس، في يوم الخميس لعشر بقين من شهر ربيع الأوّل سنة تسع وسبعين وثلاثمائة وجعل مكانه منبر مذهب، ثم أخرج هذا المنبر إلى الإسكندرية وجعل في جامع عمرو بها، وأنزل إلى الجامع المنبر الكبير الذي هو به الآن، وذلك في أيام الحاكم بأمر الله في شهر ربيع الأوّل سنة خمس وأربعمائة، وصرف بنو عبد السميع عن الخطابة، وجعلت خطابة الجامع العتيق لجعفر بن الحسن بن خداع الحسينيّ، وجعل إلى أخيه الخطابة بالجامع الأزهر، وصرف بنو عبد السميع بن عمر بن الحسين بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس من جميع المنابر بعد أن أقاموا هم، وسلفهم فيها ستين سنة. وفي شهر ربيع الأوّل من هذه السنة وجد المنبر الجديد الذي نصب في الجامع قد لطخ بعذرة، فوكّل به من يحفظه وعمل له غشاء من أدم مذهب في شعبان من هذه السنة، وخطب عليه ابن خداع وهو مغشى، وزيادة قرّة من القبليّ والشرقيّ، وأخذ بعض دار عمرو وابنه عبد الله بن عمرو فأدخله في المسجد، وأخذ منهما الطريق الذي بين المسجد وبينهما، وعوّض ولد عمرو ما هو في أيديهم اليوم من الرباع، وأمر قرّة بعمل المحراب المجوّف على ما تقدّم شرحه، وهو المحراب المعروف بعمرو، لأنه في سمت محراب المسجد القديم الذي بناه عمرو، وكانت قبلة المسجد القديم عند العمد المذهبة في صف التوابيت اليوم، وهي أربعة عمد، اثنان في مقابلة اثنين، وكان قرّة أذهب رؤوسها، وكانت مجالس قيس، ولم يكن في المسجد عمد مذهبة غيرها، وكانت قديما حلقة أهل المدينة، ثم روق أكثر العمد وطوّق في أيام الإخشيد سنة أربع وعشرين وثلاثمائة، ولم يكن للجامع أيام قرّة بن شريك غير هذا المحراب، فأمّا المحراب الأوسط الموجود اليوم فعرف بمحراب عمر بن مروان عمّ الخلفاء، وهو أخو عبد الملك وعبد العزيز، ولعله أحدثه في الجدار بعد قرّة، وقد ذكر قوم أن قرة عمل هذين المحرابين، وصار للجامع أربعة أبواب، وهي الأبواب الموجودة في شرقيه الآن، آخرها باب إسرائيل وهو باب النحاسين، وفي غربيه أربعة أبواب شارعة في زقاق كان يعرف بزقاق البلاط، وفي بحريه ثلاثة أبواب، وبيت المال الذي في علو الفوّارة بالجامع بناه أسامة بن زيد التنوخيّ متولي الخراج بمصر، سنة سبع وتسعين في أيام سليمان بن عبد الملك، وأمير(4/10)
مصر يومئذ عبد الملك بن رفاعة الفهميّ، وكان مال المسلمين فيه، وطرق المسجد في ليلة سنة خمس وأربعين ومائة في ولاية يزيد بن حاتم المهلبيّ من قبل المنصور، طرقه قوم ممن كان بايع عليّ بن محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان أوّل علويّ قدم مصر، فنهبوا بيت المال ثم تضاربوا عليه بسيوفهم، فلم يصل إليهم منه إلّا اليسير، فأنفذ إليهم يزيد من قتل منهم جماعة وانهزموا، فنهبوا بيت المال ثم تضاربوا عليه بسيوفهم، فلم يصل إليهم منه إلّا اليسير، فأنفذ إليهم يزيد من قتل منهم جماعة وانهزموا، وذكر أن هذا المكان تسوّر عليه لص في إمارة أحمد بن طولون وسرق منه بدرتي دنانير، فظفر به أحمد بن طولون واصطنعه وعفا عنه.
وفي سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة أمر العزيز بالله بعمل الفوّارة تحت قبة بيت المال، فعملت وفرغ منها في شهر رجب سنة تسع وسبعين وثلاثمائة، ثم زاد فيه صالح بن عليّ بن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وهو يومئذ أمير مصر من قبل أبي العباس السفاح، في مؤخرة أربع أساطين، وذلك في سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وهو أوّل من ولى مصر لبني العباس. فيقال أنه أدخل في الجامع دار الزبير بن العوّام رضي الله عنه، وكانت غربيّ دار النحاس، وكان الزبير تخلى عنها ووهبها لمواليه، لخصومة جرت بين غلمانه وغلمان عمرو بن العاص، واختط الزبير فيما يلي الدار المعروفة به الآن، ثم اشترى عبد العزيز بن مروان دار الزبير من مواليه، فقسّمها بين ابنه الأصبغ وأبي بكر، فلما قدم صالح بن عليّ أخذها عن أمّ عاصم بنت عاصم بن أبي بكر، وعن طفل يتيم وهو حسان بن الأصبغ فأدخلها في المسجد، وباب الكحل من هذه الزيادة، وهو الباب الخامس من أبواب الجامع الشرقية الآن، وعمر صالح بن عليّ أيضا مقدّم المسجد الجامع عند الباب الأوّل موضع البلاطة الحمراء، ثم زاد فيه موسى بن عيسى الهاشميّ، وهو يومئذ أمير مصر من قبل الرشيد في شعبان سنة خمس وسبعين ومائة، الرحبة التي في مؤخره، وهي نصف الرحبة المعروفة بأبي أيوب، ولما ضاق الطريق بهذه الزيادة أخذ موسى بن عيسى دار الربيع بن سليمان الزهريّ شركة بني مسكين بغير عوض للربيع، ووسع بها الطريق وعوّض بني مسكين، ووصل عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب مولى خراعة أميرا من قبل المأمون في شهر ربيع الأوّل سنة إحدى عشرة ومائتين، وتوجه إلى الإسكندرية مستهلّ صفر سنة اثنتي عشرة ومائتين، ورجع إلى الفسطاط في جمادى الآخرة من السنة المذكورة، وأمر بالزيادة في المسجد الجامع، فزيد فيه مثله من غربيه، وعاد ابن طاهر إلى بغداد لخمس بقين من رجب من السنة المذكورة، وكانت زيادة ابن طاهر المحراب الكبير وما في غربيه إلى حدّ زيادة الخازن، فأدخل فيه الزقاق المعروف أوّلا بزقاق البلاط، وقطعة كبيرة من دار الرمل، ورحبة كانت بين يدي دار الرمل، ودورا ذكرها القضاعيّ.
وذكر بعضهم أن موضع فسطاط عمرو بن العاص حيث المحراب والمنبر، قال: وكان(4/11)
الذي تمم زيادة عبد الله بن طاهر بعد مسيره إلى بغداد، عيسى بن يزيد الجلوديّ، وتكامل ذرع الجامع، سوى الزيادتين، مائة وتسعين ذراعا بذراع العمل طولا، في مائة وخمسين ذراعا عرضا. ويقال أنّ ذرع جامع ابن طولون مثل ذلك سوى الرواق المحيط بجوانبه الثلاثة.
ونصب عبد الله بن طاهر اللوح الأخضر، فلما احترق الجامع احترق ذلك اللوح، فجعل أحمد بن محمد العجيفيّ هذا اللوح مكان ذلك، وهو هذا اللوح الأخضر الباقي إلى اليوم، ورحبة الحارث هي الرحبة البحرية من زيادة الخازن، وكانت رحبة يتبايع الناس فيها يوم الجمعة، وذكر أبو عمر الكنديّ في كتاب الموالي: أن أبا عمرو الحارث بن مسكين بن محمد بن يوسف مولى محمد بن ريان بن عبد العزيز بن مروان، لما ولي القضاء من قبل المتوكل على الله في سنة سبع وثلاثين ومائتين، أمر ببناء هذه الرحبة ليتسع الناس بها، وحوّل سلّم المؤذنين إلى غربيّ المسجد، وكان عند باب إسرائيل، وبلّط زيادة بن طاهر، وأصلح بنيان السقف، وبنى سقاية في الحذائين، وأمر ببناء الرحبة الملاصقة لدار الضرب ليتسع الناس بها، وزيادة أبي أيوب أحمد بن محمد بن شجاع ابن أخت أبي الوزير أحمد بن خالد، صاحب الخراج في أيام المعتصم، كان أبو أيوب هذا أحد عمال الخراج زمن أحمد بن طولون، وزيادته في بقية الرحبة المعروفة برحبة أبي أيوب. والمحراب المنسوب إلى أبي أيوب هو الغربيّ من هذه الزيادة عند شباك الحذائين، وكان بناؤها في سنة ثمان وخمسين ومائتين، ويقال أن أبا أيوب مات في سجن أحمد بن طولون بعد أن نكبه واصطفى أمواله، وذلك في سنة ست وستين ومائتين، وأدخل أبو أيوب في هذه الزيادة أماكن ذكرها. قال:
وكان قد وقع في مؤخر المسجد الجامع حريق، فعمر وزيدت هذه الزيادة في أيام أحمد بن طولون، ووقع في الجامع في ليلة الجمعة لتسع خلون من صفر سنة خمس وسبعين ومائتين، حريق أخذ من بعد ثلاث حنايا من باب إسرائيل إلى رحبة الحارث بن مسكين، فهلك فيه أكثر زيادة عبد الله بن طاهر والرواق الذي عليه اللوح الأخضر، فأمر خمارويه بن أحمد بن طولون بعمارته على يد أحمد بن محمد العجيفيّ، فأعيد على ما كان عليه، وأنفق فيه ستة آلاف وأربعمائة دينار، وكتب اسم خمارويه في دائر الرواق الذي عليه اللوح الأخضر، وهي موجودة الآن، وكانت عمارته في السنة المذكورة. وأمر عيسى النوشزي في ولايته الثانية على مصر، في سنة أربع وتسعين ومائتين، بإغلاق المسجد الجامع فيما بين الصلوات، فكان يفتح للصلاة فقط، وأقام على ذلك أياما، فضجّ أهل المسجد ففتح لهم.
وزاد أبو حفص العباسيّ في أيام نظره في قضاء مصر، خلافة لأخيه محمد، الغرفة التي يؤذن فيها المؤذنون في السطح، وكانت ولايته في رجب من سنة ست وثلاثين وثلاثمائة وكان إمام مصر والحرمين، وإليه إقامة الحج، ولم يزل قاضيا بمصر خلافة لأخيه إلى أن صرف من القضاء بالخصيبيّ، في ذي الحجة سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة وتوفي في سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة بعد قدومه من الحج، ثم زاد فيه أبو بكر محمد بن عبد الله الخازن(4/12)
رواقا واحدا من دار الضرب، وهو الرواق ذو المحراب والشباكين المتصل برحبة الحارث، ومقداره تسع أذرع، وكان ابتداء ذلك في رجب سنة سبع وخمسين وثلاثمائة ومات قبل تمام هذه الزيادة، وتممها ابنه عليّ بن محمد، وفرغت في العشر الأخر من شهر رمضان سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة. وزاد فيه الوزير أبو الفرج يعقوب بن يوسف بن كلس بأمر العزيز بالله، الفوّارة التي تحت قبة بيت المال، وهو أوّل من عمل فيه فوّارة، وزاد فيه أيضا مساقف الخشب المحيطة بها على يد المعروف بالمقدسيّ الأطروش، متولي مسجد بيت المقدس، وذلك في سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة ونصب فيها حباب الرخام التي للماء. وفي سنة سبع وثمانين وثلاثمائة جدّد بياض المسجد الجامع وقلع شيء كثير من الفسيفساء الذي كان في أروقته، وبيض مواضعه، ونقشت خمسة ألواح وذهّبت ونصبت على أبوابه الخمسة الشرقية، وهي التي عليها الآن، وكان ذلك على يد برجوان الخادم، وكان اسمه ثابتا في الألواح فقلع بعد قتله.
وقال المسبحيّ في تاريخه، وفي سنة ثلاث وأربعمائة أنزل من القصر إلى الجامع العتيق بألف ومائتين وثمانية وتسعين مصحفا، ما بين ختمات وربعات، فيها ما هو مكتوب كله بالذهب، ومكن الناس من القراءة فيها، وأنزل إليه أيضا بتور من فضة عمله الحاكم بأمر الله برسم الجامع، فيه مائة ألف درهم فضة، فاجتمع الناس وعلّق بالجامع بعد أن قلعت عتبتا الباب حتى أدخل به، وكان من اجتماع الناس لذلك ما يتجاوز الوصف.
قال القضاعيّ: وأمر الحاكم بأمر الله بعمل الرواقين اللذين في صحن المسجد الجامع، وقلع عمد الخشب وجسر الخشب التي كانت هناك، وذلك في شعبان سنة ست وأربعمائة، وكانت العمد والجسر قد نصبها أبو أيوب أحمد بن محمد بن شجاع، في سنة سبع وخمسين ومائتين، زمن أحمد بن طولون، لأنّ الحرّ اشتدّ على الناس فشكوا ذلك إلى ابن طولون، فأمر بنصب عمد الخشب وجعل عليها الستائر في السنة المذكورة، وكان الحاكم قد أمر بأن تدهن هذه العمد الخشب بدهن أحمر وأخضر، فلم يثبت عليها، ثم أمر بقلعها وجعلها بين الرواقين. وأوّل ما عملت المقاصير في الجوامع في أيام معاوية بن أبي سفيان، سنة أربع وأربعين، ولعل قرّة بن شريك لما بنى الجامع بمصر عمل المقصورة. وفي سنة إحدى وستين ومائة، أمر المهديّ بنزع المقاصير من مساجد الأمصار، وبتقصير المنابر، فجعلت على مقدار منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم أعيدت بعد ذلك. ولما ولي مصر موسى بن أبي العباس من أهل الشاش، من قبل أبي جعفر اشناس، أمر المعتصم أن يخرج المؤذنون إلى خارج المقصورة، وهو أوّل من أخرجهم، وكانوا قبل ذلك يؤذنون داخلها، ثم أمر الإمام المستنصر بالله بن الظاهر بعمل الحجر المقابل للمحراب، وبالزيادة في المقصورة في شرقيها وغربيها، حتى اتصلت بالحذائين من جانبيها، وبعمل منطقة فضة في صدر المحراب الكبير أثبت عليها اسم أمير المؤمنين، وجعل لعمودي المحراب أطواق فضة، وجرى ذلك على يد عبد الله بن محمد بن عبدون، في شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة.(4/13)
قال مؤلفه رحمه الله: ولم تزل هذه المنطقة الفضة إلى أن استبدّ السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب على مملكة مصر، بعد موت الخليفة العاضد لدين الله، في محرّم سنة سبع وستين وخمسمائة، فقلع مناطق الفضة من الجوامع بالقاهرة، ومن جامع عمرو بن العاص بمصر، وذلك في حادي عشر شهر ربيع الأوّل من السنة المذكورة.
قال القضاعيّ: وفي شهر رمضان من سنة أربعين وأربعمائة جدّدت الخزانة التي في ظهر دار الضرب في طريق الشرطة، مقابلة لظهر المحراب الكبير، وفي شعبان من سنة إحدى وأربعين وأربعمائة أذهب بقية الجدار القبليّ حتى اتصل الإذهاب من جدار زيادة الخازن إلى المنبر، وجرى ذلك على يد القاضي أبي عبد الله أحمد بن محمد بن يحيى بن أبي زكريا.
وفي شهر ربيع الآخر من سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة، عملت لموقف الإمام في زمن الصيف مقصورة خشب ومحراب ساج منقوش بعمودي صندل، وتقلع هذه المقصورة في الشتاء إذا صلّى الإمام في المقصورة الكبيرة.
وفي شعبان سنة أربع وأربعين وأربعمائة، زيد في الخزانة مجلس من دار الضرب، وطريق المستحم، وزخرف هذا المجلس وحسّن، وجعل فيه محراب ورخّم بالرخام الذي قلع من المحراب الكبير حين نصب عبد الله بن محمد بن عبدون منطقة الفضة في صدر المحراب الكبير، وجرت هذه الزيادة على يد القاضي أبي عبد الله أحمد بن محمد بن يحيى.
وفي ذي الحجة من سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة، عمر القاضي أبو عبد الله أحمد بن محمد بن أبي زكريا غرفة المؤذنين بالسطح، وحسّنها وجعل لها روشنا على صحن الجامع، وجعل بعدها ممرقا ينزل منه إلى بيت المال، وجعل للسطح مطلعا من الخزانة المستجدّة في ظهر المحراب الكبير، وجعل له مطلعا آخر من الديوان الذي في رحبة أبي أيوب.
وفي شعبان من سنة خمس وأربعين وأربعمائة، بنيت المئذنة التي فيما بين مئذنة غرفة والمئذنة الكبيرة، على يد القاضي أبي عبد الله أحمد بن زكريا. انتهى ما ذكره القضاعيّ.
وفي سنة أربع وستين وخمسمائة تمكن الفرنج من ديار مصر وحكموا في القاهرة حكما جائرا، وركبوا المسلمين بالأذى العظيم، وتيقنوا أنه لا حامي للبلاد من أجل ضعف الدولة، وانكشفت لهم عورات الناس، فجمع مري ملك الفرنج بالساحل جموعه، واستجدّ قوما قوّى بهم عساكره، وسار إلى القاهرة من بلبيس بعد أن أخذها وقتل كثيرا من أهلها، فأمر شاور بن مجير السعديّ وهو يومئذ مستول على ديار مصر وزارة للعاضد بإحراق مدينة مصر، فخرج إليها في اليوم التاسع من صفر من السنة المذكورة عشرون ألف قارورة نفط،(4/14)
وعشرة آلاف مشعل مضرمة بالنيران، وفرّقت فيها. ونزل مري بجموع الفرنج على بركة الحبش، فلما رأى دخان الحريق تحوّل من بركة الحبش ونزل على القاهرة مما يلي باب البرقية، وقاتل أهل القاهرة وقد انحشر الناس فيها، واستمرّت النار في مصر أربعة وخمسين يوما، والنهابة تهدم ما بها من المباني وتحفر لأخذ الخبايا إلى أن بلغ مري قدوم أسد الدين شيركوه بعسكر من جهة الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام، فرحل في سابع شهر ربيع الآخر من السنة المذكورة، وتراجع المصريون شيئا بعد شيء إلى مصر، وتشعث الجامع، فلما استبدّ السلطان صلاح الدين بمملكة مصر بعد موت العاضد، جدّد الجامع العتيق بمصر في سنة ثمان وستين وخمسمائة، وأعاد صدر الجامع والمحراب الكبير ورخمه ورسم عليه اسمه، وجعل في سقاية قاعة الخطابة قصبة إلى السطح، يرتفق بها أهل السطح، وعمر المنظرة التي تحت المئذنة الكبيرة، وجعل لها سقاية، وعمر في كنف دار عمرو الصغرى البحريّ مما يلي الغربيّ، قصبة أخرى إلى محاذاة السطح، وجعل لها ممشاة من السطح إليها يرتفق بها أهل السطح، وعمر غرفة الساعات وحرّرت، فلم تزل مستمرّة إلى أثناء أيام الملك المعز عز الدين أيبك التركمانيّ، أوّل من ملك من المماليك، وجدّد بياض الجامع وأزال شعثه، وجلى عمده، وأصلح رخامه، حتى صار جميعه مفروشا بالرخام وليس في سائر أرضه شيء بغير رخام حتى تحت الحصر.
ولما تقلد قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب بن الأعز أبي القاسم خلف بن رشيد الدين محمود بن بدر، المعروف بابن بنت الأعز العلائي الشافعيّ، قضاء القضاة بالديار المصرية، ونظر الأحباس في ولايته الثانية أيام الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البند قداريّ، كشف الجامع بنفسه، فوجد مؤخره قد مال إلى بحريه، ووجد سوره البحريّ قد مال وانقلب علوه عن سمت سفله، ورأى في سطح الجامع غرفا كثيرة محدثة، وبعضها مزخرف، فهدم الجميع ولم يدع بالسطح سوى غرفة المؤذنين القديمة وثلاث خزائن لرؤساء المؤذنين لا غير، وجمع أرباب الخبرة فاتفق الرأي على إبطال جريان الماء إلى فوّارة الفسقية، وكان الماء يصل إليها من بحر النيل، فأمر بإبطاله لما كان فيه من الضرر على جدر الجامع، وعمر بغلات بالزيادة البحرية تشدّ جدار الجامع البحريّ، وزاد في عمد الزيادة ما قوّى به البغلات المذكورة، وسدّ شباكين كانا في الجدار المذكور ليتقوّى بذلك، وأنفق المصروف على ذلك من مال الأحباس، وخشي أن يتداعى الجامع كله إلى السقوط، فحدّث الصاحب الوزير بهاء الدين عليّ بن محمد بن سليم بن حنا في مفاوضة السلطان في عمارة ذلك من بيت المال، فاجتمعا معا بالسلطان الملك الظاهر بيبرس وسألاه في ذلك، فرسم بعمارة الجامع، فهدم الجدار البحريّ من مقدّم الجامع، وهو الجدار الذي فيه اللوح الأخضر، وحط اللوح وأزيلت العمد والقواصر العشر، وعمر الجدار المذكور وأعيدت العمد والقواصر كما كانت، وزيد في العمد أربعة قرن، بها أربعة مما هو تحت اللوح الأخضر، والصف الثاني منه،(4/15)
وفصل اللوح الأخضر أجزاء وجدّد غيره وأذهب وكتب عليه اسم السلطان الملك الظاهر، وجليت العمد كلها وبيض الجامع بأسره، وذلك في شهر رجب سنة ست وستين وستمائة، وصلّى فيه شهر رمضان بعد فراغه، ولم تتعطل الصلاة فيه لأجل العمارة.
ولما كان في شهور سنة سبع وثمانين وستمائة، شكا قاضي القضاة تقيّ الدين أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الوهاب ابن بنت الأعز للسلطان الملك المنصور قلاون، سوء حال جامع عمرو بمصر، وسوء حال الجامع الأزهر بالقاهرة، وأن الأحباس على أسوأ الأحوال، وأن مجد الدين بن الحباب أخرب هذه الجهة لما كان يتحدّث فيها، وتقرّب بجزيرة الفيل الوقف الصلاحيّ على مدرسة الشافعية إلى الأمير علم الدين الشجاعيّ، وذكر له بأن في أطيانها زيادة، فقاسوا ما تجدّد بها من الرمال وجعلوه للوقف، وأقطعوا الأطيان القديمة الجارية في الوقف، وتقرّب أيضا إليه بأن في الأحباس زيادة، من جملتها بالأعمال الغربية ما مبلغه في السنة ثلاثون ألف درهم، وأن ذلك لجهة عمارة الجامعين، وسأل السلطان في إعادة ذلك وإبطال ما أقطع منه، فلم يجب إلى ذلك، وأمر الأمير حسام الدين طرنطاي بعمارة الجامع الأزهر، والأمير عز الدين الأفرم بعمارة جامع عمرو، فحضر الأفرم إلى الجامع بمصر ورسم على مباشري الأحباس، وكشف المساجد لغرض كان في نفسه، وبيض الجامع وجرّد نصف العمد التي فيه، فصار العمود نصفه الأسفل أبيض وباقيه بحاله، ودهن واجهة غرفة الساعات بالسيلقون، وأجرى الماء من البئر التي بزقاق الأقفال إلى فسقية الجامع، ورمى ما كان بالزيادات من الأتربة، وبطر العوام به فيما فعله بالجامع، فصاروا يقولون نقل الديماس من البحر إلى الجامع، لكونه دهن الغرفة بالسيلقون، وألبس العواميد للشيخ العريان، لكونه جرّد نصفها التحتانيّ، فصار أبيض الأسفل أسمر الأعلى، كما كان الشيخ العريان، فإن نصفه الأسفل كان مستورا بمئزر أبيض، وأعلاه عريان، ولم يفعل بالجامع سوى ما ذكر.
ولما حدثت الزلزلة في سنة اثنتين وسبعمائة، تشعث الجامع، فاتفق الأمير أن بيبرس الجاشنكير، وهو يومئذ أستادار الملك الناصر محمد بن قلاون، والأمير سلار، وهو نائب السلطنة، وإليهما تدبير الدولة، على عمارة الجامعين بمصر والقاهرة، فتولى الأمير ركن الدين بيبرس عمارة الجامع الحاكميّ بالقاهرة، وتولى الأمير سلار عمارة جامع عمرو بمصر، فاعتمد سلار على كاتبه بدر الدين بن الخطاب، فهدم الحدّ البحريّ من سلّم السطح إلى باب الزيادة البحرية والشرقية، وأعاده على ما كان عليه، وعمل بابين جديدين للزيادة البحرية والغربية، وأضاف إلى كلّ عمود من الصف الأخير المقابل للجدار الذي هدمه عمودا آخر تقوية له، وجرّد عمد الجامع كلها وبيض الجامع بأسره، وزاد في سقف الزيادة الغربية رواقين، وبلط سفل ما أسقف منها، وخرّب بظاهر مصر وبالقرافتين عدّة مساجد وأخذ عمدها ليرخم بها صحن الجامع، وقلع من رخام الجامع الذي كان تحت الحصر كثيرا(4/16)
من الألواح الطوال، ورص الجميع عند باب الجامع المعروف بباب الشراربيين، فنقل من هناك إلى حيث شاء، ولم يعمل منه في صحن الجامع شيء البتة، وكان فيما نقل من ألواح الرخام ما طوله أربعة أذرع في عرض ذراع وسدس، ذهب بجميع ذلك. ولما ولي علاء الدين بن مروانة نيابة دار العدل، قسم جامعي مصر والقاهرة، فجعل جامع القاهرة مع نبيه الدين بن السعرتيّ، وجامع عمرو مع بهاء الدين بن السكريّ، فسقفت الزيادة البحرية الشرقية، وكانت قد جعلت حاصلا للحصر، وجعل لها دار بزين بين البابين يمنع الجانبين من المارّ، من باب الجامع إلى باب الزيادة المسلوك منه إلى سوق النحاسين، وبلط أرضها، ورقع بعض رخام صحن الجامع، وبلط المجازات، وعمل عضائد أعتاب تحوز الصحن عن مواضع الصلاة. ولما كان في شهور سنة ست وتسعين وستمائة، اشترى الصاحب تاج الدين دارا بسوق الأكفانيين وهدمها، وجعل مكانها سقاية كبيرة، ورفعها إلى محاذاة سطح الجامع، وجعل لها ممشى يتوصل إليها من سطح الجامع، وعمل في أعلاها أربعة بيوت يرتفق بهم في الخلاء، ومكانا برسم أزيار الماء العذب، وهدم سقاية الغرفة التي تحت المئذنة المعروفة بالمنظرة، وبناها برجا كبيرا من الأرض إلى العلوّ، حيث كان أوّلا، وجعل بأعلى هذا البرج بيتا مرتفقا يختص بالغرفة المذكورة، كما كان أوّلا، وبيتا ثانيا من خارج الغرفة يرتفق به من هو خارج الغرفة ممن يقرب منها. وعمر القاضي صدر الدين أبو عبد الله محمد بن البارنباريّ، سقاية في ركن دار عمرو البحريّ الغربيّ من داره الصغرى، بعد ما كانت قد تهدّمت، فأعادها كأحسن ما كانت، ثم إن الجامع تشعث ومالت قواصره ولم يبق إلا أن يسقط، وأهل الدولة بعد موت الملك الظاهر برقوقا في شغل من اللهو عن عمل ذلك، فانتدب الرئيس برهان الدين إبراهيم بن عمر بن عليّ المحليّ رئيس التجار يومئذ بديار مصر، لعمارة الجامع بنفسه وذويه، وهدم صدر الجامع بأسره فيما بين المحراب الكبير إلى الصحن طولا وعرضا وأزال اللوح الأخضر وأعاد البناء كما كان أوّلا، وجدّد لوحا أخضر بدل الأوّل ونصبه كما كان، وهو الموجود الآن، وجرّد العمد كلها، وتتبع جدار الجامع فرمّ شعثها كله، وأصلح من رخام الصحن ما كان قد فسد، ومن السقوف ما كان قد وهى، وبيض الجامع كله، فجاء كما كان وعاد جديدا بعد ما كاد أن يسقط، ولا أقام الله عز وجل هذا الرجل مع ما عرف من شحه وكثرة ضنته بالمال، حتى عمره. فشكر الله سعيه وبيض محياه، وكان انتهاء هذا العمل في سنة أربع وثمانمائة، ولم يتعطل منه صلاة جمعة ولا جماعة في مدّة عمارته.
قال ابن المتوج إن ذرع هذا الجامع اثنان وأربعون ألف ذراع بذراع البز المصريّ القديم، وهو ذراع الحصر المستمرّ إلى الآن، فمن ذلك مقدّمة ثلاثة عشر ألف ذراع وأربعمائة وخمسة وعشرون ذراعا، ومؤخره مثل ذلك، وصحنه سبعة آلاف وخمسمائة ذراع، وكلّ من جانبيه الشرقيّ والغربيّ ثلاثة آلاف وثمانمائة وخمسة وعشرون ذراعا،(4/17)
وذرعه كله بذراع العمل ثمانية وعشرون ألف ذراع، وعدد أبوابه ثلاثة عشر بابا، منها في القبليّ باب الزيز لخته الذي يدخل منه الخطيب، كان به شجرة زيزلخت عظيمة، قطعت في سنة ست وستين وسبعمائة، وفي البحري ثلاثة أبواب، وفي الشرقيّ خمسة، وفي الغربيّ أربعة، وعدد عمده ثلاثمائة وثمانية وسبعون عمودا، وعدد مآذنه خمس، وبه ثلاث زيادات، فالبحرية الشرقية كانت لجلوس قاضي القضاة بها في كل أسبوع يومين، وكان بهذا الجامع القصص.
قال القضاعيّ: روى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لم يقص في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا أبي بكر ولا عمر ولا عثمان رضي الله عنهم، وإنما كان القصص في زمن معاوية رضي الله عنه. وذكر عمر بن شيبة قال: قيل للحسن متى أحدث القصص؟ قال: في خلافة عثمان بن عفان. قيل: من أوّل من قص؟ قال: تميم الداري.
وذكر عن ابن شهاب قال: أوّل من قص في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تميم الداري، استأذن عمر أن يذكر الناس فأبى عليه حتى كان آخر ولايته، فاذن له أن يذكر في يوم الجمعة قبل أن يخرج عمر، فاستأذن تميم عثمان بن عفان رضي الله عنه في ذلك فأذن له أن يذكر يومين في الجمعة، فكان تميم يفعل ذلك.
وروى ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أنّ عليا رضي الله عنه قنت، فدعا على قوم من أهل حربه، فبلغ ذلك معاوية، فأمر رجلا يقص بعد الصبح وبعد المغرب يدعو له ولأهل الشام، قال يزيد: وكان ذلك أول القصص.
وروي عن عبد الله بن مغفل قال: أمّنا عليّ رضي الله عنه في المغرب، فلما رفع رأسه من الركعة الثالثة ذكر معاوية أوّلا، وعمرو بن العاص ثانيا، وأبا الأعور، يعني السلميّ ثالثا، وكان أبو موسى الرابع.
وقال الليث بن سعد: هما قصصان، قصص العامّة، وقصص الخاصة، فأما قصص العامّة فهو الذي يجتمع إليه النفر من الناس يعظهم ويذكرهم، فذلك مكروه ولمن فعله ولمن استمعه، وأما قصص الخاصة فهو الذي جعله معاوية، ولّى رجلا على القصص، فإذا سلّم من صلاة الصبح جلس وذكر الله عز وجل وحمده ومجده وصلّى على النبي صلّى الله عليه وسلّم، ودعا للخليفة ولأهل ولايته ولحشمه وجنوده، ودعا على أهل حربه وعلى المشركين كافة.
ويقال أن أوّل من قص بمصر سليمان بن عتر التجيبي، في سنة ثمان وثلاثين، وجمع له القضاء إلى القصص، ثم عزل عن القضاء وأفرد بالقصص، وكانت ولايته على القصص والقضاء سبعا وثلاثين سنة، منها سنتان قبل القضاء. ويقال أنه كان يختم القرآن في كلّ ليلة ثلاث مرّات، وكان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، ويسجد في المفصل، ويسلّم(4/18)
تسليمة واحدة، ويقرأ في الركعة الأولى بالبقرة، وفي الثانية بقل هو الله أحد، ويرفع يديه في القصص إذا دعا. وكان عبد الملك بن مروان شكا إلى العلماء ما انتشر عليه من أمور رعيته وتحوّفه من كلّ وجه. فأشار عليه أبو حبيب الحمصيّ القاضي بأن يستنصر عليهم برفع يديه إلى الله تعالى، فكان عبد الملك يدعو ويرفع يديه، وكتب بذلك إلى القصاص فكانوا يرفعون أيديهم بالغداة والعشي.
وفي هذا الجامع مصحف أسماء، وهو الذي تجاه المحراب الكبير. قال القضاعيّ:
كان السبب في كتب هذا المصحف، أنّ الحجاج بن يوسف الثقفيّ كتب مصاحف وبعث بها إلى الأمصار، ووجه إلى مصر بمصحف منها، فغضب عبد العزيز بن مروان من ذلك، وكان الوالي يومئذ من قبل أخيه عبد الملك وقال: يبعث إلى جند أنا فيه بمصحف؟ فأمر فكتب له هذا المصحف الذي في المسجد الجامع اليوم، فلما فرغ منه قال: من وجد فيه حرفا خطأ فله رأس أحمر وثلاثون دينارا، فتداوله القرّاء، فأتى رجل من قراء الكوفة اسمه زرعة بن سهل الثقفيّ فقرآه تهجيا، ثم جاء إلى عبد العزيز بن مروان فقال له: إني قد وجدت في المصحف حرفا خطأ. فقال: مصحفي؟ قال نعم. فنظر فإذا فيه إنّ هذا أخي له تسع وتسعون نعجة. فإذا هي مكتوبة نجعة، قد قدّمت الجيم قبل العين، فأمر بالمصحف فأصلح ما كان فيه، وأبدلت الورقة، ثم أمر له بثلاثين دينارا وبرأس أحمر، ولما فرغ من هذا المصحف كان يحمل إلى المسجد الجامع غداة كلّ جمعة، من دار عبد العزيز، فيقرأ فيه ثم يقص ثم يردّ إلى موضعه. فكان أوّل من قرأ فيه عبد الرحمن بن حجيرة الخولانيّ، لأنه كان يتولى القصص والقضاء يومئذ، وذلك في سنة ست وسبعين، ثم تولى بعده القصص أبو الخير مرثد بن عبد الله اليزنيّ، وكان قاضيا بالاسكندرية قبل ذلك، ثم توفي عبد العزيز في سنة ست وثمانين، فبيع هذا المصحف في ميراثه، فاشتراه ابنه أبو بكر بألف دينار، ثم توفي أبو بكر فاشترته أسماء ابنة أبي بكر بن عبد العزيز بسبعمائة دينار، فأمكنت الناس منه وشهرته، فنسب إليها. فلما توفيت أسماء اشتراه أخوها الحكم بن عبد العزيز بن مروان من ميراثها بخمسمائة دينار، فأشار عليه توبة بن نمر الحضرميّ القاضي، وهو متولي القصص يومئذ بالمسجد الجامع، بعد عقبة بن مسلم الهمدانيّ، وإليه القضاء. وذلك في سنة ثمان عشرة ومائة، فجعله في المسجد الجامع، وأجرى على الذي يقرأ فيه ثلاثة دنانير في كل شهر من غلة الإصطبل، فكان توبة أوّل من قرأ فيه بعد أن أقرّ في الجامع، وتولى القصص بعد توبة أبو اسماعيل خير بن نعيم الحضرميّ القاضي، في سنة عشرين ومائة، وجمع له القضاء والقصص، فكان يقرأ في المصحف قائما، ثم يقص وهو جالس، فهو أوّل من قرأ في المصحف قائما، ولم تزل الأئمة يقرءون في المسجد الجامع في هذا المصحف في كلّ يوم جمعة، إلى أن ولي القصص أبو رجب العلاء بن عاصم الخولانيّ، في سنة اثنتين وثمانين ومائة فقرأ فيه يوم الاثنين، وكان قد جعل المطلب الخزاعيّ أمير مصر، من قبل(4/19)
المأمون، رزق أبي رجب العلاء عشرة دنانير على القصص، وهو أوّل من سلّم في الجامع تسليمتين بكتاب ورد من المأمون يأمر فيه بذلك، وصلّى خلفه محمد بن إدريس الشافعيّ حين قدم إلى مصر، فقال: هكذا تكون الصلاة، ما صليت خلف أحد أتم صلاة من أبي رجب ولا أحسن.
ولما ولي القصص حسن بن الربيع بن سليمان، من قبل عنبسة بن إسحاق أمير مصر، من قبل المتوكل في سنة أربعين ومائتين، أمر أن تترك قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة، فتركها الناس. وأمر أن تصلّى التراويح خمس تراويح، وكانت تصلّى قبل ذلك ست تراويح، وزاد في قراءة المصحف يوما، فكان يقرأ يوم الاثنين ويوم الخميس ويوم الجمعة.
ولما ولي حمزة بن أيوب بن إبراهيم الهاشميّ القصص بكتاب من المكتفي، في سنة اثنتين وتسعين ومائتين، صلّى في مؤخر المسجد حين نكس، وأمر أن يحمل إليه المصحف ليقرأ فيه، فقيل له انه لم يحمل المصحف إلى أحد قبلك، فلو قمت وقرأت فيه في مكانه.
فقال: لا أفعل، ولكن ائتوني به فإن القرآن علينا أنزل، وإلينا أتى. فأتي به، فقرأ فيه في المؤخر وهو أوّل من قرأ في المصحف في المؤخر، ولم يقرأ في المصحف بعد ذلك في المؤخر إلى أن تولى أبو بكر محمد بن الحسن السوسيّ الصلاة والقصص، في اليوم العشرين من شعبان، سنة ثلاث وأربعمائة، فنصب المصحف في مؤخر الجامع حيال الفوّارة وقرأ فيه أيام نكس الجامع، فاستمرّ الأمر على ذلك إلى الآن.
ولما تولى القصص أبو بكر محمد بن عبد الله بن مسلم الملطيّ، في سنة إحدى وثلاثمائة عزم على القراءة في المصحف في كلّ يوم، فتكلم عليّ بن قديد في ذلك ومنع منه وقال: أعزم على أن يخلق المصحف ويقطعه، أيرى عبد العزيز بن مروان حيا فيكتب له مثله، فرجع إلى القراءة ثلاثة أيام.
وكان قد حضر إلى مصر رجل من أهل العراق وأحضر مصحفا ذكر أنه مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه، وأنه الذي كان بين يديه يوم الدار، وكان فيه أثر الدم، وذكر أنه استخرج من خزائن المقتدر، ودفع المصحف إلى عبد الله بن شعيب المعروف بابن بنت وليد القاضي، فأخذه أبو بكر الخازن وجعله في الجامع، وشهره وجعل عليه خشبا منقوشا، وكان الإمام يقرأ فيه يوما، وفي مصحف أسماء يوما، ولم يزال على ذلك إلى أن رفع هذا المصحف واقتصر على القراءة في مصحف أسماء، وذلك في أيام العزيز بالله، لخمس خلون من المحرّم سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة. وقد أنكر قوم أن يكون هذا المصحف مصحف عثمان رضي الله عنه، لأن نقله لم يصح، ولم يثبت بحكاية رجل واحد. ورأيت أنا هذا المصحف وعلى ظهر مما نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، هذا المصحف الجامع لكتاب الله جل ثناؤه وتقدّست أسسماؤه، حمله المبارك مسعود بن سعد(4/20)
الهيتيّ لجماعة المسلمين القرّاء للقرآن التالين له، المتقرّبين إلى الله جلّ ذكره بقراءته، والمتعلمين له، ليكون محفوظا أبدا ما بقي ورقه، ولم يذهب اسمه ابتغاء ثواب الله عز وجلّ، ورجاء غفرانه، وجعله عدّة ليوم فقره وفاقته وحاجته إليه، أنا له الله ذلك برأفته، وجعل ثوابه بينه وبين جماعة من نظر فيه، وقد درس ما بعد هذا الكلام من ظهر المصحف، والمندرس يشبه أن يكون: وتبصر في ورقه، وقصد بابداعه فسطاط مصر في المسجد الجامع، جامع المسلمين العتيق، ليحفظ حفظ مثله مع سائر مصاحف المسلمين، فرحم الله من حفظه ومن قرأ فيه ومن عنى به، وكان ذلك في يوم الثلاثاء مستهل ذي القعدة سنة سبع وأربعين وثلاثمائة وصلّى الله على محمد سيد المرسلين وعلى آله وسلّم تسليما كثيرا، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
قال ابن المتوّج: ودليل بطلان ما قاله هذا المعترض، ظهور التعصب على عثمان رضي الله عنه من تجيب وخلفائهم، أن الناس قد جرّبوا هذا المصحف، وهو الذي على الكرسيّ الغربيّ من مصحف أسماء، أنه ما فتح قط إلّا وحدث حادث في الوجود لتحقيق ما حدث أوّلا. والله أعلم.
قال القضاعيّ: ذكر المواضع المعروفة بالبركة من الجامع يستحبّ الصلاة والدعاء عندها. منها البلاطة التي خلف الباب الأوّل في مجلس ابن عبد الحكم، ومنها باب البرادع، روي عن رجل من صلحاء المصريين يقال له أبو هارون الخرقيّ قال: رأيت الله عز وجلّ في منامي، فقلت له يا رب أنت تراني وتسمع كلامي؟ قال: نعم. ثم قال أتريد أن أريك بابا من أبواب الجنة؟ قلت نعم. يا رب، فأشار إلى باب أصحاب البرادع أو الباب الأقصى مما يلي رحبة حارث، وكان أبو هارون هذا يصلي الظهر والعصر فيما بينهما.
وقال ابن المتوّج: وعند المحراب الصغير الذي في جدار الجامع الغربيّ، ظاهر المقصورة، فيما بين بابي الزيادة الغربية الدعاء عنده مستجاب. قال: من ذلك باب مقصورة عرفة، ومنها عند خرزة البئر التي بالجامع، ومنها قبال اللوح الأخضر، ومنها زاوية فاطمة، ويقال أنها فاطمة ابنة عفان، لمّا وصى والدها أن تترك لله في الجامع فتركت في هذا المكان فعرف بها، ومنها سطح الجامع والطواف به سبع مرّات، يبدأ بالأولى من باب الخزانة الأولى التي يستقبلها الداخل من باب السطح، وهو يتلو إلى أن يصل إلى زاوية السطح التي عند المئذنة المعروفة بعرفة، يقف عندها ثم يدعو بما أراد، ثم يمرّ وهو يتلو إلى أن يصل إلى الركن الشرقيّ عند المئذنة المشهورة بالكبيرة، ثم يدعو بما أراد ويمرّ إلى الركن البحريّ الشرقيّ، فيقف محاذيا لغرفة المؤذنين ويدعو، ثم يمرّ وهو يتلو إلى المكان الذي ابتدأ منه. يفعل ذلك سبع مرّات، فإنّ حاجته تقضى.
قال القضاعيّ: ولم يكن الناس يصلّون بالجامع بمصر صلاة العيد، حتى كانت سنة(4/21)
ست، ويقال سنة ثمان وثلاثمائة. فصلّى فيه رجل يعرف بعليّ بن أحمد بن عبد الملك الفهميّ، يعرف بابن أبي شيخة صلاة الفطر، ويقال أنه خطب من دفتر نظرا، وحفظ عنه اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلّا وأنتم مشركون. فقال بعض الشعراء:
وقام في العيد لنا خاطب ... فحرّض الناس على الكفر
وتوفي سنة تسع وثلاثمائة.
وبالجامع زوايا يدرّس فيها الفقه: منها زاوية الإمام الشافعيّ رضي الله عنه، يقال أنه درّس بها الشافعيّ فعرفت به، وعليها أرض بناحية سندبيس وقفها السلطان الملك العزيز عثمان بن السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، ولم يزل يتولى تدريسها أعيان الفقهاء وجلة العلماء. ومنها الزاوية المجدية بصدر الجامع، فيما بين المحراب الكبير ومحراب الخمس، داخل المقصورة الوسطى بجوار المحراب الكبير، رتبها مجد الدين أبو الأشبال الحارث بن مهذب الدين أبي المحاسن مهلب بن حسن بن بركات بن عليّ بن غياث المهلبيّ الأزديّ البهنسيّ الشافعيّ، وزير الملك الأشرف موسى بن العادل أبي بكر بن أيوب بحرّان، وقرّر في تدريسها قريبه قاضي القضاة وجيه الدين عبد الوهاب البهنسيّ، وعمل على هذه الزاوية عدّة أوقاف بمصر والقاهرة، ويعدّ تدريسها من المناصب الجليلة، وتوفي المجد في صفر سنة ثمان وعشرين وستمائة بدمشق، عن ثلاث وستين سنة. ومنها الزاوية الصاحبية، حول عرفة رتبها الصاحب تاج الدين محمد بن فخر الدين محمد بن بهاء الدين بن حنا، وجعل لها مدرّسين أحدهما مالكيّ والآخر شافعيّ، وجعل عليها وقفا بظاهر القاهرة بخط البراذعيين. ومنها الزاوية الكمالية بالمقصورة المجاورة لباب الجامع الذي يدخل إليه من سوق الغزل، رتبها كمال الدين السمنوديّ، وعليها فندق بمصر موقوف عليها. ومنا الزاوية التاجية، أمام المحراب الخشب، رتبها تاج الدين السطحيّ، وجعل عليها دورا بمصر موقوفة عليها. ومنها الزاوية المعينية في الجانب الشرقيّ من الجامع، رتبها معين الدين الدهر وطيّ، وعليها وقف بمصر. ومنها الزاوية العلائية، تنسب لعلاء الدين الضرير، وهي في صحن الجامع، وهي لقراءة ميعاد. ومنها الزاوية الزينية، رتبها الصاحب زين الدين بقراءة ميعاد أيضا، ذكر ذلك ابن المتوّج. وأخبرني المقرئ الأديب المؤرخ الضابط شهاب الدين أحمد بن عبد الله بن الحسن الأوحديّ رحمه الله قال:
أخبرني المؤرّخ ناصر الدين محمد بن عبد الرحيم بن الفرات، قال: أخبرني العلامة شمس الدين محمد بن عبد الرحمن بن الصائغ الحنفيّ، أنه أدرك بجامع عمرو بن العاص بمصر قبل الوباء، الكائن في سنة تسع وأربعين وسبعمائة، بضعا وأربعين حلقة لإقراء العلم، لا تكاد تبرح منه. قال ابن المأمون: حدّثني القاضي المكين بن حيدرة وهو من أعيان الشهود بمصر، أن من جملة الخدم التي كانت بيد والده مشارقة الجامع العتيق، وأنّ القومة(4/22)
بأجمعهم كانوا يجتمعون قبل ليلة الوقود عنده، إلى أن يعملوا ثمانية عشر ألف فتيلة، وأن المطلق برسمه خاصة في كلّ ليلة ترسم وقوده أحد عشر قنطار أو نصف زيتا طيبا.
ذكر المحاريب التي بديار مصر وسبب اختلافها وتعيين الصواب فيها وتبيين الخطأ منها
اعلم أن محاريب ديار مصر التي يستقبلها المسلمون في صلواتهم أربعة محاريب.
أحدها
محراب الصحابة رضي الله عنهم، الذي أسسوه في البلاد التي استوطنوها، والبلاد التي كثر ممرّهم بها من إقليم مصر، وهو محراب المسجد الجامع بمصر، المعروف بجامع عمرو، ومحراب المسجد الجامع بالجيزة، وبمدينة بلبيس، وبالإسكندرية، وقوص، وأسوان، وهذه المحاريب المذكورة على سمت واحد، غير أن محاريب ثغر أسوان أشدّ تشريقا من غيرها، وذلك أن أسوان مع مكة شرّفها الله تعالى في الإقليم الثاني، وهو الحدّ الغربيّ من مكة بغير ميل إلى الشمال، ومحراب بلبيس مغرّب قليلا.
والمحراب الثاني محراب مسجد أحمد بن طولون، وهو منحرف عن سمت محراب الصحابة، وقد ذكر في سبب انحرافه أقوال منها: أنّ أحمد بن طولون لما عزم على بناء هذا المسجد، بعث إلى محراب مدينة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أخذ سمته، فإذا هو مائل عن خط سمت القبلة المستخرج بالصناعة نحو العشر درج إلى جهة الجنوب، فوضع حينئذ محراب مسجده هذا مائلا عن خط سمت القبلة إلى جهة الجنوب بنحو ذلك، اقتداء منه بمحراب مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقيل: أنه رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في منامه، وخط له المحراب، فلما أصبح وجد النمل قد أطاف بالمكان الذي خطه له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المنام. وقيل غير ذلك.
وأنت إن صعدت إلى سطح جامع ابن طولون، رأيت محرابه مائلا عن محراب جامع عمرو بن العاص إلى الجنوب، ورأيت محراب المدارس التي حدثت إلى جانبه قد انحرفت عن محرابه إلى جهة الشرق، وصار محراب جامع عمرو فيما بين محراب ابن طولون والمحاريب الأخر، وقد عقد مجلس بجامع ابن طولون في ولاية قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن محمد بن جماعة، حضره علماء الميقات، منهم الشيخ تقيّ الدين محمد بن محمد بن موسى الغزوليّ، والشيخ أبو الطاهر محمد بن محمد، ونظروا في محرابه، فأجمعوا على أنه منحرف عن خط سمت القبلة إلى جهة الجنوب مغربا بقدر أربع عشرة درجة، وكتب بذلك محضر وأثبت على ابن جماعة.
والمحراب الثالث: محراب جامع القاهرة، المعروف بالجامع الأزهر، وما في سمته من بقية محاريب القاهرة، وهي محاريب يشهد الامتحان بتقدّم واضعها في معرفة استخراج القبلة، فإنها على خط سمت القبلة من غير ميل عنه ولا انحراف البتة.(4/23)
والمحراب الرابع: محاريب المساجد التي في قرى بلاد الساحل، فإنها تخالف محاريب الصحابة، إلّا أنّ محراب جامع منية غمر قريب من سمت محاريب الصحابة، فإن الوزير أبا عبد الله محمد بن فاتك المنعوت بالمأمون البطائحيّ، وزير الخليفة الآمر بأحكام الله أبي عليّ منصور بن المستعلي بالله، أنشأ جامعا بمنية زفتا في سنة ست عشرة وخمسمائة، فجعل محرابه على سمت المحاريب الصحيحة. وفي قرافة مصر بجوار مسجد الفتح عدّة مساجد تخالف محاريب الصحابة مخالفة فاحشة، وكذلك بمدينة مصر الفسطاط غير مسجد على هذا الحكم. فأما محاريب الصحابة التي بفسطاط مصر والإسكندرية، فإن سمتها يقابل مشرق الشتاء، وهو مطالع برج العقرب مع ميل قليل إلى ناحية الجنوب، ومحاريب مساجد القرى وما حول مسجد الفتح بالقرافة، فإنها تستقبل خط نصف النهار الذي يقال له خط الزوال، وتميل عنه إلى جهة المغرب، وهذا الاختلاف بين هذين المحرابين اختلاف فاحش يفضي إلى إبطال الصلاة. وقد قال ابن عبد الحكم: قبلة أهل مصر أن يكون القطب الشماليّ على الكتف الأيسر، وهذا سمت محاريب الصحابة. قال:
وإذا طلعت منازل العقرب وتكملت صورته، فمحاذاته سمت القبلة لديار مصر وبرقة وإفريقية وما والاها، وفي الفرقدين والقطب الشماليّ كفاية للمستدلين، فإنهم إن كانوا مستقبلين في مسيرهم من الجنوب جهة الشمال، استقبلوا القطب والفرقدين، وإن كانوا سائرين إلى الجنوب من الشمال استدبروها، وإن كانوا سائرين إلى الشرق من المغرب جعلوها على الأذن اليسرى، وإن كانوا سائرين من الشرق إلى المغرب جعلوها على الأذن اليمنى، وإن كان مسيرهم إلى النكباء «1» التي بين الجنوب والصبا جعلوها على الكتف الأيسر، وإن كان مسيرهم إلى النكباء التي بين الجنوب والدبور جعلوها على الكتف الأيمن، وإن كان مسيرهم إلى النكباء التي بين الشمال والدبور جعلوها على الحاجب الأيمن، وإن كان مسيرهم إلى النكباء التي بين الشمال والصبا جعلوها على الحاجب الأيسر. وإذا عرف ذلك فإنه يستحيل تصويب محرابين مختلفين في قطر واحد إذا زاد اختلافهما على مقدار ما يتسامح به في التيامن والتياسر، وبيان ذلك أن كلّ قطر من أقطار الأرض كبلاد الشام وديار مصر ونحوهما من الأقطار، قطعة من الأرض واقعة في مقابلة جزء من الكعبة، والكعبة تكون في جهة من جهات ذلك القطر، فإذا اختلف محرابان في قطر واحد، فإنا نتيقن أن أحدهما صواب والآخر خطأ، إلّا أن يكون القطر قريبا من مكّة، وخطته التي هو محدود بها متسعة اتساعا كثيرا يزيد على الجزء الذي يخصه لو وزعت الكعبة أجزاء متماثلة، فإنه حينئذ يجوز التيامن والتياسر في محاريبه، وذلك مثل بلاد البجة، فإنها على الساحل الغربيّ من بحر القلزم، ومكة واقعة في شرقيها ليس بينهما إلّا مسافة البحر(4/24)
فقط وما بين جدّة ومكة من البرّ، وخطة بلاد الجبة مع ذلك واسعة مستطيلة على الساحل، أوّلها عيذاب، وهي محاذية لمدينة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتميل عنها في الجنوب ميلا قليلا، والمدينة شامية عن مكة بنحو عشرة أيام، وآخر بلاد البجة من ناحية الجنوب سواكن، وهي مائلة في ناحية الجنوب عن مكة ميلا كثيرا، وهذا المقدار من طول بلاد البجة يزيد على الجزء الذي يخص هذه الخطة من الأرض لو وزعت الأرض أجزاء متساوية إلى الكعبة، فيتعين والحالة هذه التيامن أو التياسر في طرفي هذه البلاد لطلب جهة الكعبة.
وأما إذا بعد القطر عن الكعبة بعدا كثيرا، فإنه لا يضرّ اتساع خطته، ولا يحتاج فيه إلى تيامن ولا تياسر، لاتساع الجزء الذي يخصه من الأرض، فإن كلّ قطر منها له جزء يخصه من الكعبة، من أجل أن الكعبة من البلاد المعمورة كالكرة من الدائرة، فالأقطار كلها في استقبال الكعبة، محيطة بها كاحاطة الدائرة بمركزها، وكل قطر فإنه يتوجه إلى الكعبة في جزء يخصه، والأجزاء المنقسمة إذا قدّرت الأرض كالدائرة فإنها تتسع عند المحيط وتتضايق عند المركز، فإذا كان القطر بعيدا عن الكعبة فإنه يقع في متسع الحدّ ولا يحتاج فيه إلى تيامن ولا تياسر، وبخلاف ما إذا قرب القطر من الكعبة، فإنه يقع في متضايق الجزء ويحتاج عند ذلك إلى تيامن أو تياسر، فإنّ فرضنا أن الواجب إصابة عين الكعبة في استقبال الصلاة لمن بعد عن مكة، وقد علمت ما في هذه المسألة من الاختلاف بين العلماء، فإنه لا يتسامح في اختلاف المحاريب بأكثر من قدر التيامن والتياسر الذي لا يخرج عن حدّ الجهة، فلو زاد الاختلاف حكم ببطلان أحد المحرابين، ولا بدّ اللهمّ إلّا أن يكونا في قطرين بعيدين بعضهما من بعض، وليسا على خط واحد من مسامته الكعبة، وذلك كبلاد الشام وديار مصر، فإن البلاد الشامية لها جانبان وخطتها متسعة مستطيلة في شمال مكة، وتمتدّ أكثر من الجزء الخاص بها بالنسبة إلى مقدار بعدها عن الكعبة، ووفي هذين القطرين يجري ما تقدّم ذكره في أرض البجة، إلّا أنّ التيامن والتياسر ظهوره في البلاد الشامية أقل من ظهوره في أرض البجة، من أجل بعد البلاد الشامية عن الكعبة، وقرب أرض البجة، وذلك أن البلاد الشامية وقعت في متسع الجزء الخاص بها، فلم يظهر أثر التيامن والتياسر ظهورا كثيرا كظهوره في أرض البجة، لأنّ البلاد الشامية لها جانب شرقيّ وجانب غربيّ ووسط، فجانبها الغربيّ هو أرض بيت المقدس وفلسطين إلى العريش، أوّل حدّ مصر، وهذا الجانب من البلاد الشامية يقابل الكعبة على حدّ مهب النكباء التي بين الجنوب والصبا، وأمّا جانب البلاد الشامية الشرقيّ، فإنه ما كان مشرّقا عن مدينة دمشق إلى حلب والفرات، وما يسامت ذلك من بلاد الساحل، وهذه الجهة تقابل الكعبة مشرقا عن أوسط مهب الجنوب قليلا، وأما وسط بلاد الشام فإنها دمشق وما قاربها، وتقابل الكعبة على وسط مهب الجنوب، وهذا هو سمت مدينة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع ميل يسير عنه إلى ناحية المشرق.
وأما مصر فإنها تقابل الكعبة فيما بين الصبا ومهب النكباء التي بين الصبا والجنوب،(4/25)
ولذلك لما اختلف هذان القطران، أعني مصر والشام في محاذاة الكعبة، اختلفت محاريبهما، وعلى ذلك وضع الصحابة رضي الله عنهم محاريب الشام ومصر على اختلاف السمتين، فأما مصر بعينها وضواحيها وما هو في حدّها أو على سمتها أو في البلاد الشامية وما في حدّها أو على سمتها، فإنه لا يجوز فيها تصويب محرابين مختلفين اختلافا بينا، فإن تباعد القطر عن القطر بمسافة قريبة أو بعيدة، وكان القطران على سمت واحد في محاذاة الكعبة لم يضرّ حينئذ تباعدهما، ولا تختلف محاريبهما، بل تكون محاريب كلّ قطر منهما على حدّ واحد وسمت واحد، وذلك كمصر وبرقة وأفريقية وصقلية والأندلس، فإن هذه البلاد وان تباعد بعضها عن بعض فإنها كلها تقابل الكعبة على حدّ واحد، وسمتها جميعها سمت مصر من غير اختلاف البتة، وقد تبين بما تقرّر حال الأقطار المختلفة من الكعبة في وقوعها منها.
وأما اختلاف محاريب مصر فإن له أسبابا، أحدها حمل كثير من الناس قوله صلّى الله عليه وسلّم، الذي رواه الحافظ أبو عيسى الترمذيّ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه «ما بين المشرق والمغرب قبلة على العموم» وهذا الحديث قد روي موقوفا على عمر وعثمان وعليّ وابن عباس ومحمد ابن الحنفية رضي الله عنهم، وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا. قال أحمد بن حنبل: هذا في كلّ البلدان. قال: هذا المشرق وهذا المغرب وما بينهما قبلة، قيل له: فصلاة من صلّى بينهما جائزة؟ قال: نعم، وينبغي أن يتحرّى الوسط، وقال أحمد بن خالد قول عمر: ما بين المشرق والمغرب قبلة، قاله: بالمدينة فمن كانت قبلته مثل قبلة المدينة فهو في سعة مما بين المشرق والمغرب، ولسائر البلدان من السعة في القبلة مثل ذلك بين الجنوب والشمال. وقال أبو عمر بن عبد البرّ: لاختلاف بين أهل العلم فيه. قال مؤلفه رحمه الله: إذا تأمّلت وجدت هذا الحديث يختص بأهل الشام والمدينة. وما على سمت تلك البلاد شمالا وجنوبا فقط، والدليل على ذلك أنه يلزم من حمله على العموم إبطال التوجه إلى الكعبة في بعض الأقطار، والله سبحانه قد افترض على الكافة أن يتوجهوا إلى الكعبة في الصلاة حيثما كانوا بقوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ
[البقرة/ 144] وقد عرفت إن كنت تمهرت في معرفة البلدان وحدود الأقاليم أن الناس في توجههم إلى الكعبة كالدائرة حول المركز، فمن كان في الجهة الغربية من الكعبة فإن جهة قبلة صلاته إلى المشرق، ومن كان في الجهة الشرقية من الكعبة فإنه يستقبل في صلاته جهة المغرب، ومن كان في الجهة الشمالية من الكعبة فإنه يتوجه في صلاته إلى جهة الجنوب، ومن كان في الجهة الجنوبية من الكعبة كانت صلاته إلى جهة الشمال، ومن كان من الكعبة فيما بين المشرق والجنوب فإن(4/26)
قبلته فيما بين الشمال والمغرب، ومن كان من الكعبة فيما بين الجنوب والمغرب فإن قبلته فيما بين الشمال والمشرق، ومن كان من الكعبة فيما بين المشرق والشمال فقبلته فيما بين الجنوب والمغرب، ومن كان من الكعبة فيما بين الشمال والمغرب فقبلته فيما بين الجنوب والمشرق. فقد ظهر ما يلزم من القول بعموم هذا الحديث من خروج أهل المشرق الساكنين به، وأهل المغرب أيضا عن التوجه إلى الكعبة في الصلاة عينا وجهة، لأنّ من كان مسكنه من البلاد ما هو في أقصى المشرق من الكعبة، لو جعل المشرق عن يساره والمغرب عن يمينه لكان إنما يستقبل حينئذ جنوب أرضه ولم يستقبل قط عين الكعبة ولا جهتها، فوجب ولا بدّ حمل الحديث على أنه خاص بأهل المدينة والشام، وما على سمت ذلك من البلاد، بدليل أن المدينة النبوية واقعة بين مكة وبين أوسط الشام على خط مستقيم، والجانب الغربيّ من بلاد الشام التي هي أرض المقدس وفلسطين يكون عن يمين من يستقبل بالمدينة الكعبة، والجانب الشرقيّ الذي هو حمص وحلب وماو إلى ذلك واقع عن يسار من استقبل الكعبة بالمدينة، والمدينة واقعة في أواسط جهة الشام على جهة مستقيمة، بحيث لو خرج خط من الكعبة ومرّ على استقامة إلى المدينة النبوية لنفذ منها إلى أوسط جهة الشام سواء، وكذلك لو خرج خط من مصلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتوجه على استقامة، لوقع فيما بين الميزاب من الكعبة وبين الركن الشاميّ، فلو فرضنا أن هذا الخط خرق الموضع الذي وقع فيه من الكعبة ومرّ لنفذ إلى بيت المقدس على استواء من غير ميل ولا انحراف البتة، وصار موقع هذا الخط فيما بين نكباء الشمال والدبور، وبين القطب الشمالي. وهو إلى القطب الشماليّ أقرب وأميل، ومقابلته ما بين أوسط الجنوب ونكباء الصبا والجنوب، وهو إلى الجنوب أقرب، والمدينة النبوية، مشرّقة عن هذا السمت، ومغرّبة عن سمت الجانب الآخر من بلاد الشام، وهو الجانب الغربيّ تغريبا يسيرا، فمن يستقبل مكة بالمدينة يصير المشرق عن يساره والمغرب عن يمينه، وما بينهما فهو قبلته، وتكون حينئذ الشام بأسرها وجملة بلادها خلفه، فالمدينة على هذا في أوسط جهات البلاد الشامية.
ويشهد بصدق ذلك ما رويناه من طريق مسلم رحمه الله عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: رقيت على بيت أختي حفصة، فرأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قاعدا لحاجته، مستقبل الشام مستدبر القبلة، وله أيضا من حديث ابن عمر بينا الناس في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أنزل عليه الليلة وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستدار إلى الكعبة.
فهذا أعزك الله أوضح دليل أنّ المدينة بين مكة والشام على حدّ واحد، وأنها في أوسط جهة بلاد الشام، فمن استقبل بالمدينة الكعبة فقد استدبر الشام، ومن استدبر بالمدينة الكعبة فقد استقبل الشام، ويكون حينئذ الجانب الغربيّ من بلاد الشام وما على سمته من البلاد جهة القبلة عندهم أن يجعل الواقف مشرق الصيف عن يساره، ومغرب الشتاء عن يمينه، فيكون ما بين ذلك قبلته. وتكون قبلة الجانب الشرقي من بلاد الشام وما على سمت ذلك من(4/27)
البلدان، أن يجعل المصلي مغرب الصيف عن يمينه، ومشرق الشتاء عن يساره، وما بينهما قبلته. ويكون أوسط البلاد الشامية التي هي حدّ المدينة النبوية قبلة المصلي بها، أن يجعل مشرق الاعتدال عن يساره، ومغرب الاعتدال عن يمينه، وما بينهما قبلة له، فهذا أوضح استدلال على أن الحديث خاص بأهل المدينة، وما على سمتها من البلاد الشامية، وما وراءها من البلدان المسامتة لها.
وهكذا أهل اليمن وما على سمت اليمن من البلاد، فإن القبلة واقعة فيما هنالك بين المشرق والمغرب لكن على عكس وقوعها في البلاد الشامية، فإنه تصير مشارق الكواكب في البلاد الشامية التي على يسار المصلي، واقعة عن يمين المصلي في بلاد اليمن، وكذلك كل ما كان من المغرب عن يمين المصلي بالشام، فإنه ينقلب عن يسار المصلي باليمن، وكلّ من قام ببلاد اليمن مستقبلا الكعبة فإنه يتوجه إلى بلاد الشام فيما بين المشرق والمغرب، وهذه الأقطار سكانها هم المخاطبون بهذا الحديث، وحكمه لازم لهم، وهو خاص بهم دون من سواهم من أهل الأقطار الأخر، ومن أجل حمل هذا الحديث على العموم كان السبب في اختلاف محاريب مصر.
السبب الثاني: في اختلاف محاريب مصر، أن الديار المصرية افتتحها المسلمون كانت خاصة بالقبط والروم مشحونة بهم، ونزل الصحابة رضي الله عنهم من أرض مصر في موضع الفسطاط الذي يعرف اليوم بمدينة مصر وبالإسكندرية، وتركوا سائر قرى مصر بأيدي القبط، كما تقدّم في موضعه من هذا الكتاب، ولم يسكن أحد من المسلمين بالقرى، وإنما كانت رابطة تخرج إلى الصعيد حتى إذا جاء أوان الربيع انتشر الأتباع في القرى لرعي الدواب، ومعهم طوائف من السادات، ومع ذلك فكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينهي الجند عن الزرع، ويبعث إلى أمراء الأجناد بإعطاء الرعية أعطياتهم وأرزاق عيالهم، وينهاهم عن الزرع. روى الإمام أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن الحكم في كتاب فتوح مصر، من طريق ابن وهب، عن حيوة بن شريح، عن بكر بن عمر، وعن عبد الله بن هبيرة: أن عمر بن الخطاب أمر بناذره أن يخرج إلى أمراء الأجناد يتقدّمون إلى الرعية، أنّ عطاءهم قائم، وأنّ أرزاق عيالهم سابل، فلا يزرعون ولا يزارعون. قال ابن وهب: وأخبرني شريك بن عبد الرحمن المراديّ قال: بلغنا أن شريك بن سميّ الغطفانيّ أتى إلى عمرو بن العاص فقال: إنكم لا تعطونا ما يحسبنا، أفتأذن لي بالزرع؟ فقال له عمرو: ما أقدر على ذلك. فزرع شريك من غير إذن عمرو، فلما بلغ ذلك عمرا كتب إلى عمر بن الخطاب يخبره أن شريك بن سميّ الغطفانيّ حرث بأرض مصر، فكتب إليه عمر أن ابعث إليّ به، فلما انتهى كتاب عمر إلى عمرو، أقرأه شريكا. فقال شريك لعمرو: وقتلتني يا عمرو. فقال عمرو: ما أنا بالذي قتلتك، أنت صنعت هذا بنفسك. فقال له: إذا كان هذا من رأيك فأذن لي بالخروج من غير كتاب، ولك عليّ عهد الله أن أجعل يدي في يده، فأذن له(4/28)
بالخروج، فلما وقف على عمر قال: تؤمنني يا أمير المؤمنين؟ قال: ومن أيّ الأجناد أنت؟
قال: من جند مصر، قال: فلعلك شريك بن سميّ الغطفانيّ؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين.
قال: لأجعلنك نكالا لمن خلفك. قال: أو تقبل مني ما قبل الله تعالى من العباد؟ قال:
وتفعل؟ قال: فكتب إلى عمرو بن العاص أن شريك بن سميّ جاءني تائبا فقبلت منه.
قال: وحدّثنا عبد الله بن صالح بن عبد الرحمن بن شريح عن أبي قبيل، قال: كان الناس يجتمعون بالفسطاط إذا قفلوا، فإذا حضر مرافق الريف خطب عمرو بن العاص الناس فقال: قد حضر مرافق الريف ربيعكم فانصرفوا، فإذا حمض اللبن واشتدّ العود وكثر الذباب فحيّ على فسطاطكم، ولا أعلمن ما جاء أحد قد أسمن نفسه وأهزل جواده.
وقال ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب قال: كان عمرو يقول للناس إذا قفلوا من غزوهم: أنه قد حضر الربيع، فمن أحبّ منكم أن يخرج بفرسه يربعه فليفعل، ولا أعلمن ما جاء أحد قد أسمن نفسه وأهزل فرسه، فإذا حمض اللبن وكثر الذباب ولوى العود فارجعوا إلى قيروانكم.
وعن ابن لهيعة عن الأسود بن مالك الحميريّ عن بجير بن ذاخر المعافريّ قال: رحت أنا ووالدي إلى صلاة الجمعة تهجيرا، وذلك بعد حميم النصارى بأيام يسيرة، فأطلنا الركوع إذا أقبل رجال بأيديهم السياط يزجرون الناس، فذعرت فقلت: يا أبت من هؤلاء؟ فقال: يا بنيّ هؤلاء الشرط فأقام المؤذنون الصلاة، فقام عمرو بن العاص على المنبر فرأيت رجلا ربعة قصير القامة، وافر الهامة، أدعج أبلج، عليه ثياب موشاة كأن به العقبان تأتلق، عليه حلة وعمامة وجبة، فحمد الله وأثنى عليه حمدا موجزا، وصلّى على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ووعظ الناس وأمرهم ونهاهم، فسمعته يحض على الزكاة وصلة الأرحام، ويأمر بالاقتصاد وينهي عن الفضول وكثرة العيال، وإخفاض الحال في ذلك فقال: يا معشر الناس إيّاكم وخلالا أربعا، فإنها تدعو إلى النصب بعد الراحة، وإلى الضيق بعد السعة، وإلى الذلة بعد العزة، إياكم وكثرة العيال، وإخفاض الحال، وتضييع المال، والقيل بعد القال، في غير درك ولا نوال. ثم أنه لا بدّ من فراغ يؤول إليه المرء في توديع جسمه والتدبير لشأنه وتخليته بين نفسه وبين شهواتها، ومن صار إلى ذلك فليأخذ بالقصد والنصيب الأقل، ولا يضيع المرء في فراغه نصيب العلم من نفسه، فيجوز من الخير عاطلا، وعن حلال الله وحرامه غافلا. يا معشر الناس: إنه قد تدلت الجوزاء وذلت الشعري، وأقلعت السماء وارتفع الوباء، وقلّ الندى وطاب المرعى، ووضعت الحوامل ودرجت السخائل، وعلى الراعي بحسن رعيته حسن النظر، فحيّ لكم على بركة الله تعالى إلى ريفكم، فنالوا من خيره ولبنه وخرافه وصيده، واربعوا خيلكم وأسمنوها وصنونوها وأكرموها، فإنها جنتكم من عدوّكم، وبها مغانمكم وأنفالكم، واستوصوا بمن جاورتموه من القبط خيرا، وإياكم والمومسات(4/29)
المعسولات، فإنهنّ يفسدن الدين ويقصرن الهمم. حدّثني عمر أمير المؤمنين أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ الله سيفتح عليكم بعدي مصر، فاستوصوا بقبطها خيرا، فإن لهم فيكم صهرا وذمّة، فكفوا أيديكم، وعفوا فروجكم، وغضوا أبصاركم» ولا أعلمن ما أتى رجل قد أسمن جسمه وأهزل فرسه، واعلموا أني معترض الخيل كاعتراض الرجال، فمن أهزل فرسه من غير علة حططته من فريضته قدر ذلك، واعلموا أنكم في رباط إلى يوم القيامة لكثرة الأعداء حولكم، وتشوّق قلوبهم إليكم، وإلى داركم معدن الزرع والمال والخير الواسع والبركة النامية، وحدّثني عمر أمير المؤمنين أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول:
«إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جندا كثيفا، فذلك الجند خير أجناد الأرض» فقال له أبو بكر رضي الله عنه: ولم يا رسول الله؟ قال: «لأنهم وأزواجهم في رباط إلى يوم القيامة» فاحمدوا الله معشر الناس على ما أولاكم، فتمتعوا في ريفكم ما طاب لكم، فإذا يبس العود وسخن الماء وكثرت الذباب وحمض اللبن وصوّح البقل وانقطع الورد من الشجر، فحيّ إلى فسطاطكم، على بركة الله، ولا يقدمن أحد منكم ذو عيال إلا ومعه تحفة لعياله على ما أطاق من سعته أو عسرته، أقول قولي هذا واستحفظ الله عليكم.
قال فحفظت ذلك عنه. فقال والدي بعد انصرافنا إلى المنزل لما حكيت له خطبته أنه يا بنيّ يحذر الناس إذا انصرفوا إليه على الرباط كما حذرهم على الريف والدعة. قال: وكان إذا جاء وقت الربيع كتب لكلّ قوم بربيعهم ولبنهم إلى حيث أحبوا، وكانت القرى التي يأخذ فيها معظمهم منوف وسمنود وأهناس وطحا، وكان أهل الراية متفرّقين، فكان آل عمرو بن العاص وآل عبد الله بن سعد يأخذون في منوف ووسيم، وكانت هذيل تأخذ في ببا وبوصير، وكانت عدوان تأخذ في بوصير وقرى عك، والذي يأخذ فيه معظمهم بوصير ومنوف وسندبيس وارتيب، وكانت بلى تأخذ في منف وطرّانية، وكانت فهم تأخذ في اتريب وعين شمس ومنوف، وكانت مهرة جذام تأخذ في مناونمي وبسطة ووسيم، وكانت لخم تأخذ في الفيوم وطرّانية وقربيط، وكانت جذام تأخذ في قربيط وطرّانية، وكانت حضر موت تأخذ في ببا وعين شمس واتريب، وكانت مراد تأخذ في منف والفيوم ومعهم عبس بن زوف، وكانت حمير تأخذ في بوصير وقرى أهناس، وكانت خولان تأخذ في قرى أهناس والقيس والبهنسا، وآل وعلة يأخذون في سفط من بوصير، وآل ابرهة يأخذون في منف وغفار، وأسلم يأخذون مع وائل من جذام وسعد في بسطة وقربيط وطرّانية، وآل يسار بن ضبة في أتريب، وكانت المعافر. تأخذ في أتريب وسخا ومنوف، وكانت طائفة من تجيب ومراد يأخذون باليدقون، وكان بعض هذه القبائل ربما جاور بعضا في الربيع، ولا يوقف في معرفة ذلك على أحد إلا أن معظم القبائل كانوا يأخذون حيث وصفنا، وكان يكتب لهم بالربيع فيربعون ما أقاموا وباللبن، وكان لغفار وليث أيضا مربع باتريب. قال: وأقامت مدلج بخربتا فاتخذوها منزلا، وكان معهم نفر من حمير حالفوهم فيها، فهي منازلهم. ورجعت خشين وطائفة من لخم(4/30)
وجذام فنزلوا أكناف ضان وأبليل وطرانية، ولم تكن قيس بالحوف الشرقيّ قديما، وإنما أنزلهم به ابن الحبحاب، وذلك أنه وفد إلى هشام بن عبد الملك فأمر له بفريضة خمسة آلاف رجل، فجعل ابن الحبحاب الفريضة في قيس، وقدم بهم فأنزلهم الجوف الشرقيّ بمصر، فانظر أعزك الله ما كان عليه الصحابة وتابعوهم عند فتح مصر من قلة السكنى بالريف، ومع ذلك فكانت القرى كلها في جميع الإقليم أعلاه وأسفله مملوءة بالقبط والروم، ولم ينتشر الإسلام في قرى مصر إلا بعد المائة من تاريخ الهجرة، وعند ما أنزل عبيد الله بن الحبحاب مولى سلول قيسا بالحوف الشرقيّ، فلما كان في المائة الثانية من سني الهجرة، كثر انتشار المسلمين بقرى مصر ونواحيها، وما برحت القبط تنقض وتحارب المسلمين إلى ما بعد المائتين من سني الهجرة.
قال أبو عمرو محمد بن يوسف الكنديّ في كتاب أمراء مصر: وفي امرة الحرّ بن يوسف أمير مصر، كتب عبيد الله بن الحبحاب صاحب خراج مصر إلى هشام بن عبد الملك، بأن أرض مصر تحتمل الزيادة، فزاد على كلّ دينار قيراطا، فنقضت كورة تنو ونمى وقريط وطرانية وعامّة الحوف الشرقيّ، فبعث إليهم الحرّ بأهل الديوان فحاربوهم فقتل منهم خلق كثير، وذلك أوّل نقض القبط بمصر، وكان نقضهم في سنة تسع ومائة، ورابط الحرّ بن يوسف بدمياط ثلاثة أشهر، ثم نقض أهل الصعيد وحارب القبط عمالهم في سنة إحدى وعشرين ومائة، فبعث إليهم حنظلة بن صفوان أمير مصر أهل الديوان، فقتلوا من القبط ناسا كثيرا، فظفر بهم وخرج بحنس، وهو رجل من القبط من سمنود، فبعث إليه عبد الملك بن مروان موسى بن نصير أمير مصر فقتل بحنس في كثير من أصحابه، وذلك في سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وخالفت القبط أيضا برشيد، فبعث إليهم مروان بن محمد الحمار لما دخل مصر، فارّا من بني العباس، عثمان بن أبي سبعة، فهزمهم وخرج القبط على يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة أمير مصر بناحية سخا، ونابذوا العمال وأخرجوهم في سنة خمسين ومائة، وصاروا إلى شبراسنباط، وانضم إليهم أهل البشرود والأوسية والنخوم، فأتى الخبر يزيد بن حاتم فعقد لنصر بن حبيب المهلبيّ على أهل الديوان ووجوه أهل مصر، فخرجوا إليهم ولقيهم القبط وقتلوا من المسلمين، فألقى المسلمون النار في عسكر القبط وانصرف العسكر إلى مصر منهزما.
وفي ولاية موسى بن عليّ بن رباح على مصر، خرج القبط ببلهيت في سنة ست وخمسين ومائة، فخرج إليهم عسكر فهزمهم، ثم نقضت القبط في جمادى الأولى سنة ست عشرة ومائتين مع من نقض من أهل أسفل الأرض من العرب، وأخرجوا العمال وخلعوا الطاعة لسوء سيرة العمال فيهم، فكانت بينهم وبين الجيوش حروب امتدّت إلى أن قدم الخليفة عبد الله أمير المؤمنين المأمون إلى مصر، لعشر خلون من المحرّم، سنة سبع عشرة ومائتين، فعقد على جيش بعث به إلى الصعيد وارتحل هو إلى سخا، وأوقع الأفشين بالقبط(4/31)
في ناحية البشرود حتى نزلوا على حكم أمير المؤمنين، فحكم بقتل الرجال وبيع النساء والأطفال، فبيعوا وسبي أكثرهم، وتتبع كلّ من يومأ إليه بخلاف، فقتل ناسا كثيرا، ورجع إلى الفسطاط في صفر، ومضى إلى حلوان، وعاد لثمان عشرة خلت من صفر فكان مقامه بالفسطاط وسخا وحلوان تسعة وأربعين يوما. فانظر أعزك الله كيف كانت إقامة الصحابة، إنما هي بالفسطاط والإسكندرية، وأنه لم يكن لهم كثير إقامة بالقرى، وأن النصارى كانوا متمكنين من القرى، والمسلمون بها قليل، وأنهم لم ينتشروا بالنواحي إلا بعد عصر الصحابة والتابعين، يتبين لك أنهم لم يؤسسوا في القرى والنواحي مساجد، وتفطن لشيء آخر، وهو أن القبط ما برحوا كما تقدّم يثبتون لمحاربة المسلمين، دالة منهم بما هم عليه من القوة والكثرة، فلما أوقع بهم المأمون الوقعة التي قلنا غلب المسلمون على أماكنهم من القرى لما قتلوا منهم وسبوا، وجعلوا عدّة من كنائس النصارى مساجد، وكنائس النصارى مؤسسة على استقبال المشرق واستدبار المغرب، زعما منهم أنهم أمروا باستقبال مشرق الاعتدال، وأنه الجنة، لطلوع الشمس منه، فجعل المسلمون أبواب الكنائس محاريب عند ما غلبوا عليها.
وصيروها مساجد، فجاءت موازية لخط نصف النهار، وصارت منحرفة عن محاربي الصحابة انحرافا كثيرا يحكم بخطئها وبعدها عن الصواب كما تقدّم.
السبب الثالث: تساهل كثير من الناس في معرفة أدلة القبلة، حتى أنك لتجد كثيرا من الفقهاء لا يعرفون منازل القمر صورة وحسابا، وقد علم من له ممارسة بالرياضيات أن بمنازل القمر يعرف وقت الحسر وانتقال الفجر في المنازل، وناهيك بما يترتب على معرفة ذلك من أحكام الصلاة والصيام، وهذه المنازل التي للقمر من بعض ما يستدل به على القبلة، والطرقات، وهي من مبادي العلم، وقد جهلوه، فمن أعوزه الأدنى فحريّ به أن يجهل ما هو أعلى منه وأدق.
السبب الرابع: الاعتذار بنجم سهيل، فإن كثيرا ما يقع الاعتذار عن مخالفة محاريب المتأخرين بأنها بنيت على مقابلة سهيل، ومن هناك يقع الخطأ، فإن هذا أمر يحتاج فيه إلى تحرير، وهو أن دائرة سهيل مطلعها جنوب مشرق الشتاء قليلا، وتوسطها في أوسط الجنوب، وغروبها يميل عن أوسط الجنوب قليلا، فلعل من تقدّم من السلف أمر ببناء المساجد في القرى على مقابلة مطالع سهيل، ومطلعه في سمت قبلة مصر تقريبا، فجهل من قام بأمر البنيان فرق ما بين مطالع سهيل وتوسطه وغروبه، وتساهل فوضع المحراب على مقابلة توسط سهيل، وهو أوسط الجنوب، فجاء المحراب حينئذ منحرفا عن السمت الصحيح انحرافا لا يسوغ التوجه إليه البتة.
السبب الخامس: أن المحاريب الفاسدة بديار مصر أكثرها في البلاد الشمالية التي تعرف بالوجه البحريّ، والذي يظهر أن الغلط دخل على من وضعها من جهة ظنه أن هذه(4/32)
البلاد لها حكم بلاد الشام، وذلك أن بلاد مصر التي في الساحل كثيرة الشبه ببلاد الشام في كثرة أمطارها وشدّة بردها، وحسن فواكهها، فاستطرد الشبه حتى في المحاريب ووضعها على سمت المحاريب الشامية، فجاء شيئا خطأ، وبيان ذلك أن هذه البلاد ليست بشمالية عن الشام حتى يكون حكمها في استقبال الكعبة كالحكم في البلاد الشامية، بل هي مغرّبة عن الجانب الغربيّ من الشام بعدّة أيام، وسمتاهما مختلفان في استقبال الكعبة، لاختلاف القطرين، فإن الجانب الغربيّ من الشام كما تقدّم يقابل ميزاب الكعبة على خط مستقيم، وهو حيث مهب النكباء التي بين الشمال والدبور «1» ، ووسط الشام كدمشق وما والاها شمال مكة من غير ميل، وهم يستقبلون أوسط الجنوب في صلاتهم، بحيث يكون القطب الشماليّ المسمى بالجدي وراء ظهورهم، والمدينة النبوية بين هذا الحدّ من الشام وبين مكة مشرّقة عن هذا الحدّ قليلا، فإذا كانت مصر مغرّبة عن الجانب الغربيّ من الشام بأيام عديدة، تعين ووجب أن تكون محاريبها ولا بدّ مائلة إلى جهة المرق بقدر بعد مصر وتغريبها عن أوسط الشام، وهذا أمر يدركه الحس ويشهد لصحته العيان، وعلى ذلك أسس الصحابة رضي الله عنهم المحاريب بدمشق وبيت المقدس مستقبلة ناحية الجنوب، وأسسوا المحاريب بمصر مستقبلة المشرق مع ميل يسير عنه إلى ناحية الجنوب، فرض- رحمه الله- نفسك في التمييز، وعوّد نظرك التأمّل، وأربأ بنفسك أن تقاد كما تقاد البهيمة بتقليدك من لا يؤمن عليه الخطأ. فقد نهجت لك السبيل في هذه المسألة، وألنت لك من القول، وقرّبت لك حتى كأنك تعاين الأقطار، وكيف موقعها من مكة. ولي هنا مزيد بيان، فيه الفرق بين إصابة العين وإصابة الجهة، وهو أن المكلف لو وقف وفرضنا أنه خرج خط مستقيم من بين عينيه ومرّ حتى اتصل بجدار الكعبة من غير ميل عنها إلى جهة من الجهات، فإنه لا بدّ أن ينكشف لبصره مدى عن يمينه وشماله، ينتهي بصره إلى غيره إن كان لا ينحرف عن مقابلته، فلو فرضنا امتداد خطين من كلا عيني الواقف، بحيث يلتقيان في باطن الرأس على زاوية مثلثة، ويتصلان بما انتهى إليه البصر من كلا الجانبين، لكان ذلك شكلا مثلثا يقسمه الخط الخارج من بين العينين إلى الكعبة بنصفين، حتى يصير ذلك الشكل بين مثلثين متساويين، فالخط الخارج من بين عيني مستقبل الكعبة الذي فرق بين الزاويتين، هو مقابلة العين التي اشترط الشافعيّ رحمه الله وجوب استقباله من الكعبة عند الصلاة، ومنتهى ما يكشف بصر المستقبل من الجانبين، هو حدّ مقابلة الجهة التي قال جماعة من علماء الشريعة بصحة استقباله في الصلاة، والخطان الخارجان من العينين إلى طرفيه هما آخر الجهة من اليمين والشمال، فمهما وقعت صلاة المستقبل على الخط الفاصل بين الزاويتين، كان قد استقبل عين الكعبة، ومهما وقعت صلاته منحرفة عن يمين الخط أو يساره بحيث لا يخرج استقباله عن منتهى حدّ الزاويتين المحدودتين بما يكشف بصره من الجانبين، فإنه مستقبل جهة الكعبة، وإن خرج(4/33)
استقباله عن حدّ الزاويتين من أحد الجانبين، فإنه يخرج في استقباله عن حدّ جهة الكعبة، وهذا الحدّ في الجهة يتسع ببعد المدى، ويضيق بقربه، فأقصى ما ينتهي إليه اتساعه ربع دائرة الأفق، وذلك أن الجهات المعتبرة في الاستقبال أربع، المشرق والمغرب والجنوب والشمال، فمن استقبل جهة من هذه الجهات كان أقصى ما ينتهي إليه سعة تلك الجهة ربع دائرة الأفق، وإن انكشف لبصره أكثر من ذلك فلا عبرة به من أجل ضرورة تساوي الجهات، فإنا لو فرضنا إنسانا وقف في مركز دائرة واستقبل جزأ من محيط الدائرة، لكانت كلّ جهة من جهاته الأربع التي هي وراءه وأمامه ويمينه وشماله، تقابل ربعا من أرباع الدائرة، فتبين بما قلنا أن أقصى ما ينتهي إليه اتساع الجهة قدر ربع دائرة الأفق، فأيّ جزء من أجزاء دائرة الأفق، قصده الواقف بالاستقبال في بلد من البلدان، كانت جهة ذلك الجزء المستقبل ربع دائرة الأفق، وكان الخط الخارج من بين عيني الواقف إلى وسط تلك الجهة هو مقابلة العين، ومنتهى الربع من جانبيه يمنة ويسرة هو منتهى الجهة التي قد استقبلها، فما خرج من محاريب بلد من البلدان عن حدّ جهة الكعبة لا تصح الصلاة لذلك المحراب بوجه من الوجوه، وما وقع في جهة الكعبة صحت الصلاة إليه عند من يرى أنّ الفرض في استقبال الكعبة إصابة جهتها، وما وقع في مقابلة عين الكعبة فهو الأسدّ الأفضل الأولى عند الجمهور.
وإن أنصفت علمت أنه مهما وقع الاستقبال في مقابلة جهة الكعبة، فإنه يكون سديدا، وأقرب منه إلى الصواب ما وقع قريبا من مقابلة العين يمنة أو يسرة، بخلاف ما وقع بعيدا عن مقابلة العين، فإنه بعيد من الصواب، ولعله هو الذي يجري فيه الخلاف بين علماء الشريعة والله أعلم.
وحيث تقرّر الحكم الشرعيّ بالأدلة السمعية والبراهين العقلية في هذه المسألة، فاعلم أن المحاريب المخالفة لمحاريب الصحابة التي بقرافة مصر وبالوجه البحريّ من ديار مصر، واقعة في آخر جهة الكعبة من مصر، وخارجة عن حدّ الجهة، وهي مع ذلك في مقابلة ما بين البجة والنوبة، لا في مقابلة الكعبة، فإنها منصوبة على موازاة خط نصف النهار، ومحاريب الصحابة على موازاة مشرق الشتاء تجاه مطالع العقرب مع ميل يسير عنها إلى ناحية الجنوب، فإذا جعلنا مشرق الشتاء المذكور مقابلة عين الكعبة لأهل مصر، وفرضنا جهة ذلك الجزء ربع دائرة الأفق، صار سمت المحاريب التي هي موازية لخط نصف النهار خارجا عن جهة الكعبة، والذي يستقبلها في الصلاة يصلي إلى غير شطر المسجد الحرام، وهو خطر عظيم فاحذره.
واعلم أن صعيد مصر واقع في جنوب مدينة مصر، وقوص واقعة في شرقيّ الصعيد، وفيما بين مهب ريح الجنوب والصبا من ديار مصر، فالمتوجه من مدينة قوص إلى عيذاب(4/34)
يستقبل مشرق الشتاء، سواء إلى أن يصل إلى عيذاب ولا يزال كذلك إذا سار من عيذاب حتى ينتهي في البحر إلى جدّة، فإذا سار من جدّة في البرّ استقبل المشرق كذلك حتى يحل بمكة، فإذا عاد من مكة استقبل المغرب، فاعرف من هذا أن مكة واقعة في النصف الشرقيّ من الربع الجنوبيّ بالنسبة إلى أرض مصر، وهذا هو سمت محاريب الصحابة التي بديار مصر والإسكندرية، وهو الذي يجب أن يكون سمت جميع محاريب إقليم مصر.
برهان آخر: وهو أن من سار من مكة يريد مصر على الجادّة، فإنه يستقبل ما بين القطب الشماليّ الذي هو الجدي، وبين مغرب الصيف مدّة يومين، وبعض اليوم الثالث، وفي هذه المدّة يكون مهب النكباء التي بين الشمال والمغرب تلقاء وجهه، ثم يستقبل بعد ذلك في مدّة ثلاثة أيام أوسط الشمال، بحيث يبقى الجدي تلقاء وجهه إلى أن يصل إلى بدر، فإذا سار من بدر إلى المدينة النبوية صار مشرق الصيف تلقاء وجهه تارة ومشرق الاعتدال تارة إلى أن ينتهي إلى المدينة، فإذا رجع من المدينة إلى الصفراء، استقبل مغرب الشتاء إلى أن يعدل إلى ينبع، فيصير تارة يسير شمالا وتارة يسير مغربا، ويكون ينبع من مكة على حد النكباء التي بين الشمال ومغرب الصيف، فإذا سار من ينبع استقبل ما بين الجدي ومغرب الثريا، وهو مغرب الصيف، وهبت النكباء تلقاء وجهه إلى أن يصل إلى مدين، فإذا سار من مدين استقبل تارة الشمال وأخرى مغرب الصيف حتى يدخل إيلة، ومن إيلة لا يزال يستقبل مغرب الاعتدال تارة ويميل عنه إلى جهة الجنوب مع استقبال مغرب الشتاء أخرى، إلى أن يصل إلى القاهرة ومصر، فلو فرضنا خطا خرج من محاريب مصر الصحيحة التي وضعها الصحابة، ومرّ على استقامة من غير ميل ولا انحراف لا تصل بالكعبة ولصق بها.
واعلم أن أهل مصر والإسكندرية وبلاد الصعيد وأسفل الأرض وبرقة وإفريقية وطرابلس المغرب وصقلية والأندلس وسواحل المغرب إلى السوس الأقصى والبحر المحيط وما على سمت هذه البلاد، يستقبلون في صلاتهم من الكعبة ما بين الركن الغربيّ إلى الميزاب، فمن أراد أن يستقبل الكعبة في شيء من هذه البلاد فليجعل بنات نعش إذا غربت خلف كتفه الأيسر، وإذا طلعت على صدغه الأيسر، ويكون الجدي على أذنه اليسرى، ومشرق الشمس تلقاء وجهه أو ريح الشمال خلف أذنه اليسرى، أو ريح الدبور خلف كتفه الأيمن، أو ريح الجنوب التي تهب من ناحية الصعيد على عينه اليمنى، فإنه حينئذ يستقبل من الكعبة سمت محاريب الصحابة الذين أمرنا الله باتباع سبيلهم، ونهانا عن مخالفتهم بقوله عز وجل:
وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً
[النساء/ 155] ألهمنا الله بمنه اتباع طريقهم، وصيرنا بكرمه من حزبهم وفريقهم إنه على كلّ شيء قدير.(4/35)
جامع العسكر
هذا الجامع بظاهر مصر، وهو حيث الفضاء الذي هو اليوم فيما بين جامع أحمد بن طولون وكوم الجارح بظاهر مدينة مصر، وكان إلى جانب الشرطة والدار التي يسكنها أمراء مصر، ومن هذه الدار إلى الجامع باب، وكان يجمع فيه الجمعة، وفيه منبر ومقصورة، وهذا الجامع بناه الفضل بن صالح بن عليّ بن عبد الله بن عباس في ولايته إمارة مصر، ملاصقا لشرطة العسكر التي كانت يقال لها الشرطة العليا، في سنة تسع وستين ومائة، فكانوا يجمعون فيه، وكانت ولاية الفضل إمارة مصر من قبل المهديّ محمد بن أبي جعفر المنصور على الصلاة والخراج، فدخلها سلخ المحرّم سنة تسع وستين ومائة، في عسكر من الجند عظيم أتى بهم من الشام، ومصر تضطرم لما كان في الحوف، ولخروج دحية بن مصعب بن الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان، فقام في ذلك وجهز الجنود حتى أسر دحية وضرب عنقه في جمادى الآخرة من السنة المذكورة، وكان يقول أنا أولى الناس بولاية مصر لقيامي في أمر دحية، وقد عجز عنه غيري، حتى كفيت أهل مصر أمره، فعزله موسى الهادي لما استخلف بعد موت أبيه المهديّ، بعد ما أقرّه فندم الفضل على قتل دحية وأظهر توبة وسار إلى بغداد، فمات عن خمسين سنة، في سنة اثنتين وسبعين ومائة، ولم يزل الجامع بالعسكر إلى أن ولي عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب مولى خزاعة على صلاة مصر وخراجها، من قبل عبد الله أمير المؤمنين المأمون في ربيع الأوّل سنة إحدى عشرة ومائتين، فزاد في عمارته، وكان الناس يصلون فيه الجمعة قبل بناء جامع أحمد بن طولون، ولم يزل هذا الجامع إلى ما بعد الخمسمائة من سني الهجرة. قال ابن المأمون في تاريخه من حوادث سنة سبع عشرة وخمسمائة، وكان يطلق في الأربع ليالي الوقود، وهي مستهلّ رجب ونصفه، ومستهلّ شعبان ونصفه، برسم الجوامع الستة، الأزهر والأنور والأقمر بالقاهرة، والطولونيّ والعتيق بمصر، وجامع القرافة والمشاهد التي تتضمن الأعضاء الشريفة، وبعض المساجد التي يكون لأربابها وجاهة جملة كثيرة من الزيت الطيب، ويختص بجامع راشدة وجامع ساحل الغلة بمصر، والجامع بالمقس يسير، ويعني بجامع ساحل الغلة جامع العسكر، فإنّ العسكر حينئذ كان قد خرب وحملت أنقاضه، وصار الجامع بساحل مصر، وهو الساحل القديم المذكور في موضعه من هذا الكتاب.
ذكر العسكر
كان مكان العسكر في صدر الإسلام يعرف بعد الفتح بالحمراء القصوى، وهي كما تقدّم خطة بني الأزرق وخطة بني روبيل وخطة بني يشكر بن جزيلة من لخم، ثم دثرت هذه الحمراء وصارت صحراء، فلما زالت دولة بني أمية ودخلت المسودة إلى مصر في طلب(4/36)
مروان بن محمد الجعديّ، في سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وهي خراب فضاء يعرف بعضه بجبل يشكر، نزل صالح بن عليّ بن عبد الله بن عباس، وأبو عون عبد الملك بن يزيد بعسكرهما في هذا الفضاء، وأمر عبد الملك أبو عون أصحابه بالبناء فيه، فبنوا. وسمي من يومئذ بالعسكر، وصار أمراء مصر إذا قدموا ينزلون فيه من بعد أبي عون. وقال الناس من عهده كنا بالعسكر، خرجنا إلى العسكر، وكنت في العسكر. فصارت مدينة الفسطاط والعسكر. ونزل الأمراء من عهد أبي عون بالعسكر، فلما ولي يزيد بن حاتم إمارة مصر، وقام عليّ بن محمد بن عبد الله بن حسن وطرق المسجد، كتب أبو جعفر المنصور إلى يزيد بن حاتم يأمره أن يتحوّل من العسكر إلى الفسطاط، وأن يجعل الديوان في كنائس القصر، وذلك في سنة ست وأربعين ومائة، إلى أن قدم الأمير أبو العباس أحمد بن طولون من العراق أميرا على مصر، فنزل بالعسكر بدار الإمارة التي بناها صالح بن عليّ بعد هزيمة مروان وقتله، وكان لها باب إلى الجامع الذي بالعسكر، وكان الأمراء ينزلون بهذه الدار إلى أن نزلها أحمد بن طولون، ثم تحوّل منها إلى القطائع، وجعلها أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون عند إمارته على مصر ديوانا للخراج، ثم فرّقت حجرا حجرا بعد دخول محمد بن سليمان الكاتب إلى مصر، وزوال دولة بني طولون، وسكن محمد بن سليمان أيضا بدار في العسكر عند المصلّى القديم، ونزلها الأمراء من بعده إلى أن ولي الإخشيد محمد بن طفج فنزل بالعسكر أيضا، ولما بنى أحمد بن طولون القطائع اتصلت مبانيها بالعسكر، وبنى الجامع على جبل يشكر، فعمر ما هناك عمارة عظيمة، بحيث كانت هناك دار على بركة قارون أنفق عليها كافور الإخشيديّ مائة ألف دينار، وسكنها. وكان هناك مارستان أحمد بن طولون أنفق عليه وعلى مستغله ستين ألف دينار.
وقدمت عساكر المعز لدين الله مع كاتبه وغلامه جوهر القائد في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة والعسكر عامر، غير أنه منذ بنى أحمد بن طولون القطائع هجر اسم العسكر، وصار يقال مدينة الفسطاط والقطائع، فلما خرّب محمد بن سليمان الكاتب قصر ابن طولون وميدانه، كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب، صارت القطائع فيها المساكن الجليلة، حيث كان العسكر، وأنزل المعز لدين الله عمه أبا عليّ في دار الإمارة، فلم يزل أهله بها إلى أن خربت القطائع في الغلاء الكائن بمصر في خلافة المستنصر، أعوام بضع وخمسين وأربعمائة. فيقال أنه كان هنالك ما ينيف على مائة ألف دار، ولا ينكر ذلك. فانظر ما بين سفح الجبل حيث القلعة الآن، وبين ساحل مصر القديم الذي يعرف اليوم بالكبارة، وما بين كوم الجارح من مصر، وقناطر السباع، فهناك كانت القطائع والعسكر، ويخص العسكر من ذلك ما بين قناطر السباع وحدرة ابن قميحة إلى كوم الجارح، حيث الفضاء الذي يتوسط فيما بين قنطرة السدّ وباب المخدم من جهة القرافة، فهناك كان العسكر. ولما استولى(4/37)
الخراب في المحنة زمن المستنصر، أمر الوزير الناصر للدين عبد الرحمن البازوريّ ببناء حائط يستر الخراب إذا توجه الخليفة إلى مصر، فيما بين العسكر والقطائع وبين الطريق، وأمر فبنى حائط آخر عند جامع ابن طولون. فلما كان في خلافة الآمر بأحكام الله أبي عليّ منصور بن المستعلي بالله، أمر وزيره أبو عبد الله محمد بن فاتك المنعوت بالمأمون البطائحيّ، فنودي مدّة ثلاثة أيام في القاهرة ومصر، بأن من كان له دار في الخراب أو مكان يعمره، ومن عجز عن عمارته يبيعه أو يؤجره، من غير نقل شيء من أنقاضه، ومن تأخر بعد ذلك فلا حق له ولا حكر يلزمه، وأباح تعمير جميع ذلك بغير طلب حق، فعمر الناس ما كان منه مما يلي القاهرة، من حيث مشهد السيدة نفيسة إلى ظاهر باب زويلة، ونقلت أنقاض العسكر، فصار الفضاء الذي يوصل إليه من مشهد السيدة نفيسة، ومن الجامع الطولونيّ، ومن قنطرة السدّ، ويسلك فيه إلى حيث كوم الجارح. والعامر الآن من العسكر جبل يشكر الذي فيه جامع ابن طولون وما حوله إلى قناطر السباع. كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى.
جامع ابن طولون
هذا الجامع موضعه يعرف بجبل يشكر. قال ابن عبد الظاهر: وهو مكان مشهور بإجابة الدعاء، وقيل أنّ موسى عليه السّلام ناجى ربه عليه بكلمات. وابتدأ في بناء هذا الجامع الأمير أبو العباس أحمد بن طولون بعد بناء القطائع، في سنة ثلاث وستين ومائتين.
قال جامع السيرة الطولونية: كان أحمد بن طولون يصلّى الجمعة في المسجد القديم الملاصق للشرطة، فلما ضاق عليه بنى الجامع الجديد، مما أفاء الله عليه من المال الذي وجده فوق الجبل في الموضع المعروف بتنور فرعون، ومنه بنى العين. فلما أراد بناء الجامع قدّر له ثلاثمائة عمود، فقيل له: ما تجدها، أو تنفذ إلى الكنائس في الأرياف والضياع الخراب، فتحمل ذلك، فأنكر ذلك ولم يختره، وتعذب قلبه بالفكر في أمره، وبلغ النصرانيّ الذي تولى له بناء العين، وكان قد غضب عليه وضربه ورماه في المطبق الخبر.
فكتب إليه يقول: أنا أبنيه لك كما تحب وتختار بلا عمد إلّا عمودي القبلة، فأحضره وقد طال شعره حتى نزل على وجهه، فقال له: ويحك ما تقول في بناء الجامع؟ فقال: أنا أصوّره للأمير حتى يراه عيانا بلا عمد إلّا عمودي القبلة. فأمر بأن تحضر له الجلود، فأحضرت، وصوّره له فأعجبه واستحسنه، وأطلقه وخلع عليه، وأطلق له للنفقة عليه مأئة ألف دينار. فقال له: أنفق، وما احتجت إليه بعد ذلك أطلقناه لك. فوضع النصرانيّ يده في البناء في الموضع الذي هو فيه، وهو جبل يشكر، فكان ينشر منه ويعمل الجيرو يبني إلى أن فرغ من جميعه، وبيّضه وخلّقه وعلّق فيه القناديل بالسلاسل الحسان الطوال، وفرش فيه الحصر، وحمل إليه صناديق المصاحف، ونقل إليه القرّاء والفقهاء، وصلّى فيه بكار بن قتيبة القاضي، وعمل الربيع بن سليمان بابا فيما روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من بنى لله مسجدا(4/38)
ولو كمفحص «1» قطاة، بنى الله له بيتا في الجنة» . فلما كان أوّل جمعة صلاها فيه أحمد بن طولون وفرغت الصلاة، جلس محمد بن الربيع خارج المقصورة، وقام المستملي وفتح باب المقصورة، وجلس أحمد بن طولون، ولم ينصرف والغلمان قيام وسائر الحجاب حتى فرغ المجلس، فلما فرغ المجلس خرج إليه غلام بكيس فيه ألف دينار وقال: يقول لك الأمير نفعك الله بما علّمك، وهذه لأبي طاهر، يعني ابنه، وتصدّق أحمد بن طولون بصدقات عظيمة فيه، وعمل طعاما عظيما للفقراء والمساكين، وكان يوما عظيما حسنا.
وراح أحمد بن طولون ونزل في الدار التي عملها فيه للإمارة، وقد فرشت وعلّقت وحملت إليها الآلات والأواني وصناديق الأشربة وما شاكلها، فنزل بها أحمد وجدّد طهره وغير ثيابه وخرج من بابها إلى المقصورة، فركع وسجد شكرا لله تعالى على ما أعانه عليه من ذلك ويسره له. فلما أراد الانصراف، خرج من المقصورة حتى أشرف على الفوّارة، وخرج إلى باب الريح. فصعد النصرانيّ الذي بنى الجامع ووقف إلى جانب المركب النحاس وصاح: يا أحمد بن طولون، يا أمير الأمان، عبدك يريد الجائزة ويسأل الأمان، أن لا يجري عليه مثل ما جرى في المرّة الأولى. فقال له أحمد بن طولون: انزل فقد أمّنك الله، ولك الجائزة. فنزل وخلع عليه وأمر له بعشرة آلاف دينار، وأجرى عليه الرزق الواسع إلى أن مات. وراح أحمد بن طولون في يوم الجمعة إلى الجامع، فلما رقى الخطيب المنبر وخطب، وهو أبو يعقوب البلخيّ، دعا للمعتمد ولولده، ونسي أن يدعو لأحمد بن طولون، ونزل عن المنبر، فأشار أحمد إلى نسيم الخادم أن أضربه خمسمائة سوط. فذكر الخطيب سهوه وهو على مراقي المنبر، فعاد وقال: الحمد لله، وصلّى الله على محمد وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً
[طه/ 115] اللهمّ وأصلح الأمير أبا العباس أحمد بن طولون مولى أمير المؤمنين. وزاد في الشكر والدعاء له بقدر الخطبة ثم نزل، فنظر أحمد إلى نسيم أن أجعلها دنانير، ووقف الخطيب على ما كان منه، فحمد الله تعالى على سلامته وهنأه الناس بالسلامة.
ورأى أحمد بن طولون الصنّاع يبنون في الجامع عند العشاء، وكان في شهر رمضان فقال: متى يشتري هؤلاء الضعفاء إفطارا لعيالهم وأولادهم، اصرفوهم العصر. فصارت سنّة إلى اليوم بمصر. فلما فرغ شهر رمضان، قيل له: قد انقضى شهر رمضان فيعودون إلى رسمهم. فقال: قد بلغني دعاؤهم، وقد تبرّكت به، وليس هذا مما يوفر العمل علينا. وفرغ منه في شهر رمضان سنة خمس وستين ومائتين، وتقرّب الناس إلى ابن طولون بالصلاة فيه، وألزم أولادهم كلهم صلاة الجمعة في فوّارة الجامع، ثم يخرجون بعد الصلاة إلى مجلس(4/39)
الربيع بن سليمان ليكتبوا العلم، مع كلّ واحد منهم ورّاق وعدّة غلمان. وبلغت النفقة على هذا الجامع في بنائه مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار. ويقال أنّ أحمد بن طولون رأى في منامه كأنّ الله تعالى قد تجلّى ووقع نوره على المدينة التي حول الجامع، إلّا الجامع فإنه لم يقع عليه من النور شيء، فتألم وقال: والله ما بنيته إلّا لله خالصا، ومن المال الحلال الذي لا شبهة فيه. فقال له معبّر حاذق: هذا الجامع يبقى ويخرب كل ما حوله، لأنّ الله تعالى قال: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا
[الأعراف/ 143] فكل شيء يقع عليه جلال الله عز وجل لا يثبت. وقد صحّ تعبير هذه الرؤيا، فإن جميع ما حول الجامع خرب دهرا طويلا، كما تقدّم في موضعه من هذا الكتاب، وبقي الجامع عامرا، ثم عادت العمارة لما حوله كما هي الآن.
قال القضاعيّ رحمه الله، وذكر أن السبب في بنائه، أنّ أهل مصر شكوا إليه ضيق الجامع يوم الجمعة من جنده وسودانه، فأمر بإنشاء المسجد الجامع بجبل يشكر بن جديلة من لخم، فابتدأ بنيانه في سنة ثلاث وستين ومائتين، وفرغ منه سنة خمس وستين ومائتين، وقيل أنّ أحمد بن طولون قال: أريد أن أبنى بناء، إن احترقت مصر بقي، وإن غرقت بقي.
فقيل له: يبنى بالجير والرماد والآجر الأحمر القويّ النار إلى السقف، ولا يجعل فيه أساطين رخام، فإنه لا صبر لها على النار، فبناه هذا البناء وعمل في مؤخره ميضأة وخزانة شراب فيها جميع الشرابات والأدوية، وعليها خدم وفيها طبيب جالس يوم الجمعة لحادث يحدث للحاضرين للصلاة، وبناه على بناء جامع سامراء، وكذلك المنارة، وعلّق فيه سلاسل النحاس المفرغة، والقناديل المحكمة، وفرشه بالحصر العبدانية والسامانية.
حديث الكنز: قال جامع السيرة: لما ورد على أحمد بن طولون كتاب المعتمد بما استدعاه من ردّ الخراج بمصر إليه، وزاده المعتمد مع ما طلب الثغور الشامية، رغب بنفسه عن المعادن ومرافقها، فأمر بتركها، وكتب بإسقاطها في سائر الأعمال، ومنع المتقبلين من الفسخ على المزارعين، وخطر الارتفاق على العمال، وكان قبل إسقاط المرافق بمصر، قد شاور عبد الله بن دسومة في ذلك، وهو يومئذ أمين على أبي أيوب متولي الخراج. فقال:
إن أمنني الأمير تكلمت بما عندي. فقال له: قد أمنك الله عز وجلّ. فقال: أيها الأمير، إنّ الدنيا والآخرة ضرّتان والحازم من لم يخلط إحداهما مع الأخرى، والمفرّط من خلط بينهما، فيتلف أعماله ويبطل سعيه، وأفعال الأمير أيّده الله الخير وتوكله توكل الزهاد، وليس مثله من ركب خطة لم يحكمها، ولو كنا نثق بالنصر دائما طول العمر، لما كان شيء عندنا آثر من التضييق على أنفسنا في العاجل بعمارة الآجل، ولكن الإنسان قصير العمر، كثير المصائب، مدفوع إلى الآفات، وترك الإنسان ما قد أمكنه وصار في يده تضييع، ولعل الذي(4/40)
حماه، نفسه يكون سعادة لمن يأتي من بعده، فيعود ذلك توسعة لغيره بما حرمه هو، ويجتمع للأمير أيده الله بما قد عزم على إسقاطه من المرافق في السنة بمصر دون غيرها مائة ألف دينار، وإنّ فسخ ضياع الأمراء والمتقبلين في هذه السنة، لأنها سنة ظمأ توجب الفسيخ، زاد مال البلد وتوفر توفرا عظيما ينضاف إلى مال المرافق، فيضبط به الأمير أيّده الله أمر دنياه، وهذه طريقة أمور الدنيا وأحكام أمور الرياسة والسياسة، وكلّ ما عدل الأمير أيده الله إليه من أمر غير هذا، فهو مفسد لدنياه، وهذا رأيي، والأمير أيده الله على ما عساه يراه.
فقال له: ننظر في هذا إن شاء الله. وشغل قلبه كلامه، فبات تلك الليلة بعد أن مضى أكثر الليل يفكر في كلام ابن دسومة، فرأى في منامه رجلا من إخوانه الزهاد بطرسوس وهو يقول له: ليس ما أشار به عليك من استشرته في أمر الارتفاق «1» والفسخ «2» برأي تحمد عاقبته، فلا تقبله. ومن ترك شيئا لله عز وجلّ عوّضه الله عنه، فأمض ما كنت عزمت عليه.
فلما أصبح أنفذ الكتب إلى سائر الأعمال بذلك، وتقدّم به في سائر الدواوين بإمضائه، ودعا بابن دسومة فعرّفه بذلك، فقال له: قد أشار عليك رجلان، الواحد في اليقظة والآخر ميت في النوم، وأنت إلى الحيّ أقرب وبضمانه أوثق. فقال: دعنا من هذا، فلست أقبل منك.
وركب في غد ذلك اليوم إلى نحو الصعيد، فلما أمعن في الصحراء ساخت في الأرض يد فرس بعض غلمانه، وهو رمل، فسقط الغلام في الرمل، فإذا بفتق، ففتح فأصيب فيه من المال ما كان مقداره ألف ألف دينار، وهو الكنز الذي شاع خبره، وكتب به إلى العراق أحمد بن طولون بخير المعتمد به ويستأذنه فيما يصرفه فيه من وجوه البرّ وغيرها، فبنى منه المارستان، ثم أصاب بعده في الجبل مالا عظيما، فبنى منه الجامع ووقف جميع ما بقي من المال في الصدقات، وكانت صدقاته ومعروفه لا تحصى كثرة. ولما انصرف من الصحراء وحمل المال أحضر ابن دسومة وأراه المال وقال له: بئس الصاحب والمستشار أنت، هذا أوّل بركة مشورة الميت في النوم، ولولا أنني أمنتك لضربت عنقك، وتغيّر عليه وسقط محله عنده، ورفع إليه بعد ذلك أنه قد أجحف بالناس وألزمهم أشياء ضجوا منها، فقبض عليه وأخذ ماله وحبسه، فمات في حبسه. وكان ابن دسومة واسع الحيلة بخيل الكف زاهدا في شكر الشاكرين، لا يهش إلى شيء من أعمال البرّ. وكان أحمد بن طولون من أهل القرآن، إذا جرت منه إساءة استغفر وتضرّع.
وقال ابن عبد الظاهر: سمعت غير واحد يقول إنه لما فرغ أحمد بن طولون من بناء هذا الجامع، أسرّ للناس بسماع ما يقوله الناس فيه من العيوب. فقال رجل: محرابه صغير،(4/41)
وقال آخر: ما فيه عمود. وقال آخر: ليست له ميضأة. فجمع الناس وقال: أما المحراب فإني رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد خطه لي، فأصبحت فرأيت النمل قد أطافت بالمكان الذي خطه لي، وأما العمد فإني بنيت هذا الجامع من مال حلال وهو الكنز، وما كنت لأشوبه بغيره، وهذه العمد إمّا أن تكون من مسجد أو كنيسة فنزهته عنها، وأما الميضأة فإني نظرت فوجدت ما يكون بها من النجاسات فطهرته منها، وها أنا أبنيها خلفه، ثم أمر ببنائها. وقيل أنه لما فرغ من بنائه رأى في منامه كأن نارا نزلت من السماء فأخذت الجامع دون ما حوله، فلما أصبح قص رؤياه، فقيل له: أبشر بقبول الجامع، لأنّ النار كانت في الزمان الماضي إذا قبل الله قربانا نزلت نار من السماء أخذته، ودليله قصة قابيل وهابل. قال: ورأيت من يقول أنه عمّر ما حوله حتى كان خلفه مسطبة ذراع في ذراع، أجرتها في كلّ يوم اثنا عشر درهما، في بكرة النهار، لشخص يبيع الغزل ويشتريه، والظهر لخباز، والعصر لشيخ يبيع الحمص والفول.
وقيل عن أحمد بن طولون أنه كان لا يعبث بشيء قط، فاتفق أنه أخذ درجا أبيض بيده وأخرجه ومدّه واستيقظ لنفسه وعلم أنه قد فطن به، وأخذ عليه لكونه لم تكن تلك عادته، فطلب المعمار على الجامع وقال: تبني المنارة التي للتأذين هكذا، فبنيت على تلك الصورة، والعامّة يقولون أن العشاري الذي على المنارة المذكورة يدور مع الشمس، وليس صحيحا وإنما يدور مع دوران الرياح، وكان الملك الكامل قد اعتنى بوقودها ليلة النصف من شعبان، ثم أبطلها. وقال المسبحيّ: إن الحاكم أنزل إلى جامع ابن طولون ثمانمائة مصحف وأربعة عشر مصحفا. وفي سنة ست وسبعين وثلاثمائة في ليلة الخميس لعشر خلون من جمادى الأولى، احترقت الفوّارة التي كانت بجامع ابن طولون فلم يبق منها شيء، وكانت في وسط صحنه قبة مشبكة من جميع جوانبها، وهي مذهبة على عشر عمد رخام وستة عشر عمود رخام في جوانبها، مفروشة كلها بالرخام، وتحت القبة قصعة رخام فسحتها أربعة أذرع، في وسطها فوّارة تفور بالماء، وفي وسطها قبة مزوّقة يؤذن فيها، وفي أخرى على سلمها، وفي السطح علامات الزوال، والسطح بدرابزين ساج، فاحترق جميع هذا في ساعة واحدة. وفي المحرّم سنة خمس وثمانين وثلاثمائة أمر العزيز بالله بن المعز ببناء فوّارة عوضا عن التي احترقت، فعمل ذلك على يد راشد الحنفيّ، وتولى عمارتها ابن الرومية وابن البناء، وماتت أمّ العزيز في سلخ ذي القعدة من السنة والله أعلم.
تجديد الجامع: وكان من خبر جامع ابن طولون أنه لما كان غلاء مصر في زمان المستنصر، وخربت القطائع والعسكر، عدم الساكن هناك وصار ما حول الجامع خرابا، وتوالت الأيام على ذلك وتشعث الجامع وخرب أكثره، وصار أخيرا ينزل فيه المغاربة بأباعرها ومتاعها عند ما تمرّ بمصر أيام الحج، فهيأ الله جلّ جلاله لعمارة هذا الجامع، أن كان بين الملك الأشرف خليل بن قلاون وبين الأمير بيدر أمور موشحة تزايدت وتأكدت،(4/42)
إلى أن جمع بيدر من يثق به وقتل الأشرف بناحية تروجه في سنة ثلاث وتسعين وستمائة، كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى عند ذكر مدرسته، وكان ممن وافق الأمير بيدرا على قتل الأشرف، الأمير حسام الدين لاجين المنصوريّ، والأمير قراسنقر، فلما قتل بيدر في محاربة مماليك الأشرف له، فرّ لاجين وقراسنقر من المعركة، فاختفى لاجين بالجامع الطولونيّ، وقراسنقر في داره بالقاهرة، وصار لاجين يتردّد بمفرده من غير أحد معه في الجامع وهو حينئذ خراب لا ساكن فيه، وأعطى الله عهدا إن سلّمه الله من هذه المحنة ومكنه من الأرض أن يجدّد عمارة هذا الجامع ويجعل له ما يقوم به، ثم إنه خرج منه في خفية إلى القرافة فأقام بها مدّة، وراسل قراسنقر فتحيل في لحاقه به، وعملا أعمالا إلى أن اجتمعا بالأمير زين الدين كتبغا المنصوري، وهو إذ ذاك نائب السلطنة في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون، والقائم بأمور الدولة كلها، فأحضرهما إلى مجلس السلطان بقلعة الجبل بعد أن أتقن أمرهما مع الأمراء ومماليك السلطان، فخلع عليهما وصار كلّ منهما إلى داره وهو آمن، فلم تطل أيام الملك الناصر في هذه الولاية حتى خلعه الأمير كتبغا وجلس على تخت الملك، وتلقب بالملك العادل، فجعل لاجين نائب السلطنة بديار مصر، وجرت أمور اقتضت قيام لاجين على كتبغا وهم بطريق الشام، ففرّ كتبغا إلى دمشق واستولى لاجين على دست المملكة، وسار إلى مصر وجلس على سرير الملك بقلعة الجبل، وتلقب بالملك المنصور في المحرّم من سنة ست وتسعين وستمائة، فأقام قراسنقر في نيابة السلطنة بديار مصر، وأخرج الناصر محمد بن قلاون من قلعة الجبل إلى كرك الشوبك، فجعله في قلعتها، وأعانه أهل الشام على كتبغا حتى قبض عليه وجعله نائب حماه، فأقام بها مدّة سنين بعد سلطنة مصر والشام وخلع على الأمير علم الدين سنجر الدواداريّ وأقامه في نيابة دار العدل، وجعل إليه شراء الأوقاف على الجامع الطولونيّ، وصرف إليه كلّ ما يحتاج إليه في العمارة، وأكد عليه في أن لا يسخّر فيه فاعلا ولا صانعا، وأن لا يقيم مستحثا للصناع، ولا يشتري لعمارته شيئا مما يحتاج إليه من سائر الأصناف إلّا بالقيمة التامة، وأن يكون ما ينفق على ذلك من ماله، وأشهد عليه بوكالته، فابتاع منية أندونة من أراضي الجيزة، وعرفت هذه القرية بأندونة، كاتب بمصر كان نصرانيا في زمن أحمد بن طولون، وممن نكبه وأخذ منه خمسين ألف دينار، واشترى أيضا ساحة بجوار جامع أحمد بن طولون مما كان في القديم عامرا ثم خرب، وحكرها وعمر الجامع، وأزال كلّ ما كان فيه من تخريب، وبلطه وبيضه ورتب فيه دروسا لإلقاء الفقه على المذاهب الأربعة التي عمل أهل مصر عليها الآن، ودرسا يلقى فيه تفسير القرآن الكريم، ودرسا لحديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ودرسا للطب، وقرّر للخطيب معلوما، وجعل له إماما راتبا، ومؤذنين وفرّاشين وقومة، وعمل بجواره مكتبا لإقراء أيتام المسلمين كتاب الله عز وجلّ، وغير ذلك من أنواع القربات ووجوه البرّ، فبلغت النفقة على عمارة الجامع وثمن مستغلاته عشرين ألف دينار، فلما شاء الله سبحانه أن يهلك لاجين، زيّن له(4/43)
سوء عمله، عزل الأمير قراسنقر من نيابة السلطنة، فعزله وولى مملوكه منكوتمر، وكان عسوفا عجولا حادّا، ولاجين مع ذلك يركن إليه ويعوّل في جميع أموره عليه ولا يخالف قوله ولا ينقض فعله، فشرع منكوتمر في تأخير أمراء الدولة من الصالحية والمنصورية، وأعجل في إظهار التهجم لهم والإعلان بما يريده من القبض عليهم وإقامة أمراء غيرهم، فتوحشت القلوب منه وتمالأت على بغضه، ومشى القوم بعضهم إلى بعض وكاتبوا إخوانهم من أهل البلاد الشامية، حتى تمّ لهم ما يريدون، فواعد جماعة منهم إخوانهم على قتل السلطان لاجين ونائبه منكوتمر، فما هو إلّا أن صلّى السلطان العشاء الآخرة من ليلة الجمعة العاشر من شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وتسعين وستمائة، وإذا بالأمير كرجي وكان ممن هو قائم بين يديه، تقدّم ليصلح الشمعة، فضربه بسيف قد أخفاه معه أطار به زنده، وانقض عليه البقية ممن واعدوهم بالسيوف والخناجر، فقطعوه قطعا، وهو يقول الله الله، وخرجوا من فورهم إلى باب القلة من قلعة الجبل، فإذا بالأمير طفج قد جلس في انتظارهم ومعه عدّة من الأمراء، وكانوا إذ ذاك يبيتون بالقلعة دائما، فأمروا بإحضار منكوتمر من دار النيابة بالقلعة وقتلوه بعد مضيّ نصف ساعة من قتل أستاذه الملك المنصور حسام الدين لاجين المنصوريّ رحمه الله. فلقد كان مشكور السيرة.
وفي سنة سبعة وستين وسبعمائة جدّد الأمير يلبغا العمريّ الخاصكيّ درسا بجامع ابن طولون، فيه سبعا مدرّسين للحنفية، وقرّر لكلّ فقيه من الطلبة في الشهر أربعين درهما وأردب قمح، فانتقل جماعة من الشافعية إلى مذهب الحنفية. وأوّل من ولّي نظره بعد تجديده الأمير علم الدين سنجر الجاوليّ وهو إذ ذاك دوادار السلطان الملك المنصور لاجين، ثم ولّي نظره قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة، ثم من بعده الأمير مكين في أيام الناصر محمد بن قلاون، فجدّد في أوقافه طاحونا وفرنا وحوانيت. فلما مات وليه قاضي القضاة عز الدين بن جماعة، ثم ولّاه الناصر للقاضي كريم الدين الكبير، فحدّد فيه مئذنتين، فلما نكبه السلطان عاد نظره إلى قاضي القضاة الشافعيّ، وما برح إلى أيام الناصر حسن بن محمد بن قلاون، فولّاه للأمير صرغتمش، وتوفر في مدّة نظره من مال الوقف مائة ألف درهم فضة، وقبض عليه وهي حاصلة، فباشره قاضي القضاة إلى أيام الأشرف شعبان بن حسين، ففوّض نظره إلى الأمير الجاي اليوسفيّ إلى أن غرق، فتحدّث فيه قاضي القضاة الشافعيّ إلى أن فوّض السلطان الملك الظاهر برقوق نظره إلى الأمير قطلو بغا الصفويّ، في العشرين من جمادى الآخرة سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة، وكان الأمير منطاش مدّة تحكمه في الدولة فوّضه إلى المذكور في أواخر شوّال سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، ثم عاد نظره إلى القضاة بعد الصفويّ وهو بأيديهم إلى اليوم. وفي سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة جدّد الرواق البحريّ الملاصق للمئذنة، الحاج عبيد الله محمد بن عبد الهادي الهويديّ البازدار مقدّم الدولة. وجدّد ميضأة بجانب الميضأة القديمة، وكان عبيد(4/44)
هذا بازدارا، ثم ترقّى حتى صار مقدّم الدولة، في شهر ربيع الأوّل سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة، ثم ترك زيّ المقدّمين وتزيّا بزيّ الأمراء، وحاز نعمة جليلة وسعادة طائلة حتى مات يوم السبت رابع عشر صفر سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة.
ذكر دار الإمارة
وكان بجوار الجامع الطولونيّ دار أنشأها الأمير أحمد بن طولون عندما بني الجامع، وجعلها في الجهة القبلية، ولها باب من جدار الجامع يخرج منه إلى المقصورة بجوار المحراب والمنبر، وجعل في هذه الدار جميع ما يحتاج إليه من الفرش والستور والآلات، فكان ينزل بها إذا راح إلى صلاة الجمعة، فإنها كانت تجاه القصر والميدان، فيجلس فيها ويجدّد وضوءه ويغير ثيابه، وكان يقال لها دار الإمارة، وموضعها الآن سوق الجامع حيث البزازين وغيرهم، ولم تزل هذه الدار باقية إلى أن قدم الإمام المعز لدين الله أبو تميم معدّ من بلاد المغرب، فكان يستخرج فيها أموال الخراج. قال الفقيه الحسن بن إبراهيم بن زولاق في كتاب سيرة المعز: ولست عشرة بقيت من المحرّم، يعني من سنة ثلاث وستين وثلاثمائة قلّد المعز لدين الله الخراج وجميع وجوه الأعمال والحسبة والسواحل والأعشار والجوالي والأحباس والمواريث والشرطيين، وجميع ما ينضاف إلى ذلك، وما يطرأ في مصر وسائر الأعمال، أبا الفرج يعقوب بن يوسف بن كلس، وعسلوج بن الحسن، وكتب لهما سجلا بذلك قريء يوم الجمعة على منبر جامع أحمد بن طولون، وجلسا غد هذا اليوم في دار الإمارة في جامع أحمد بن طولون للنداء على الضياع وسائر وجوه الأعمال، ثم خربت هذه الدار فيما خرب من القطائع والعسكر، وصار موضعها ساحة إلى أن حكرها الدويداريّ عند تجديد عمارة الجامع كما تقدّم، وقد ذكر بناء القيسارية في موضعه من هذا الكتاب عند ذكر الأسواق.
ذكر الأذان بمصر وما كان فيه من الاختلاف
اعلم أن أوّل من أذن لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلال بن رباح، مولى أبي بكر الصدّيق رضي الله عنهما، بالمدينة الشريفة وفي الأسفار، وكان ابن أمّ مكتوم واسمه عمرو بن قيس بن شريح من بني عامر بن لؤيّ، وقيل اسمه عبد الله، وأمّه أمّ مكتوم، واسمها عاتكة بنت عبد الله بن عنكثة من بني مخزوم، ربما أذن بالمدينة، وأذن أبو محذورة، واسمه أوس، وقيل سمرة بن معير بن لوذان بن ربيعة بن معير بن عريج بن سعد بن جمح، وكان استأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أن يؤذن مع بلال، فأذن له وكان يؤذن في المسجد الحرام، وأقام بمكة ومات بها ولم يأت المدينة.
قال ابن الكلبيّ: كان أبو محذورة لا يؤذن للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم بمكة إلّا في الفجر، ولم يهاجر وأقام بمكة.(4/45)
وقال ابن جريج: علّم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أبا محذورة الأذان بالجعرانة حين قسم غنائم حنين، ثم جعله مؤذنا في المسجد الحرام.
وقال الشعبيّ: أذن لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلال وأبو محذورة وابن أمّ مكتوم، وقد جاء أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يؤذن بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند المنبر، وقال محمد بن سعد عن الشعبيّ: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة مؤذنين، بلال وأبو محذورة وعمرو بن أمّ مكتوم، فإذا غاب بلال أذن أبو محذورة، وإذا غاب أبو محذورة أذن ابن أمّ مكتوم.
قلت: لعلّ هذا كان بمكة. وذكر ابن سعد أنّ بلالا أذن بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر رضي الله عنه، وأن عمر رضي الله عنه أراده أن يؤذن له فأبى عليه فقال له: إلى من ترى أن أجعل النداء؟ فقال: إلى سعد القرظ فإنه قد أذن لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدعاه عمر رضي الله عنه فجعل النداء إليه وإلى عقبه من بعده، وقد ذكر أن سعد القرظ كان يؤذن لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقباء.
وذكر أبو داود في «مراسيله» والدارقطنيّ في «سننه» ، قال بكير بن عبد الله الأشج:
كانت مساجد المدينة تسعة سوى مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كلهم يصلون بأذان بلال رضي الله عنه. وقد كان عند فتح مصر الأذان إنما هو بالمسجد الجامع المعروف بجامع عمرو، وبه صلاة الناس بأسرهم، وكان من هدى الصحابة والتابعين رضي الله عنهم المحافظة على الجماعة وتشديد النكير على من تخلف عن صلاة الجماعة. قال أبو عمرو الكندي في ذكر من عرّف على المؤذنين بجامع عمرو بن العاص بفسطاط مصر، وكان أوّل من عرّف على المؤذنين أبو مسلم سالم بن عامر بن عبد المراديّ، وهو من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد أذن لعمر بن الخطاب، سار إلى مصر مع عمرو بن العاص يؤذن له حتى افتتحت مصر، فأقام على الأذان وضمّ إليه عمرو بن العاص تسعة رجال يؤذنون هو عاشرهم، وكان الأذان في ولده حتى انقرضوا.
قال أبو الخير: حدّثني أبو مسلم وكان مؤذنا لعمرو بن العاص، أن الأذان كان أوّله لا إله إلا الله، وآخره لا إله إلّا الله، وكان أبو مسلم يوصي بذلك حتى مات ويقول: هكذا كان الأذان. ثم عرّف عليهم أخوه شرحبيل بن عامر وكانت له صحبة، وفي عرافته زاد مسلمة بن مخلد في المسجد الجامع وجعل له المنار، ولم يكن قبل ذلك، وكان شرحبيل أوّل من رقي منارة مصر للأذان، وأن مسلمة بن مخلد اعتكف في منارة الجامع، فسمع أصوات النواقيس عالية بالفسطاط فدعا شرحبيل بن عامر، فأخبره بما ساءه من ذلك. فقال شرحبيل: فإني أمدّد بالأذان من نصف الليل إلى قرب الفجر، فإنههم أيها الأمير أن ينقسوا إذا أذنت، فنهاهم مسلمة عن ضرب النواقيس وقت الأذان، ومدّد شرحبيل ومطط أكثر الليل إلى أن مات شرحبيل سنة خمس وستين.(4/46)
وذكر عن عثمان رضي الله عنه أنه أوّل من رزق المؤذنين، فلما كثرت مساجد الخطبة أمر مسلمة بن مخلد الأنصاريّ في إمارته على مصر ببناء المنار في جميع المساجد خلا مساجد تجيب وخولان، فكانوا يؤذنون في الجامع أوّلا، فإذا فرغوا أذن كلّ مؤذن في الفسطاط في وقت واحد، فكان لأذانهم دويّ شديد. وكان الأذان أوّلا بمصر كأذان أهل المدينة، وهو الله أكبر الله أكبر وباقيه كما هو اليوم، فلم يزل الأمر بمصر على ذلك في جامع عمرو بالفسطاط، وفي جامع العسكر، وفي جامع أحمد بن طولون وبقية المساجد إلى أن قدم القائد جوهر بجيوش المعز لدين الله وبنى القاهرة، فلما كان في يوم الجمعة الثامن من جمادى الأولى سنة تسع وخمسين وثلاثمائة، صلّى القائد جوهر الجمعة في جامع أحمد بن طولون، وخطب به عبد السميع بن عمر العباسيّ بقلنسوة وسبني وطيلسان دبسيّ، وأذن المؤذنون حيّ على خير العمل، وهو أوّل ما أذن به بمصر، وصلّى به عبد السميع الجمعة فقرأ سورة الجمعة إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ
وقنت في الركعة الثانية وانحط إلى السجود ونسي الركوع، فصاح به عليّ بن الوليد قاضي عسكر جوهر بطلت الصلاة أعد ظهرا أربع ركعات، ثم أذن بحيّ على خير العمل في سائر مساجد العسكر إلى حدود مسجد عبد الله، وأنكر جوهر على عبد السميع أنه لم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في كلّ سورة، ولا قرأها في الخطبة، فأنكره جوهر ومنعه من ذلك.
ولأربع بقين من جمادى الأولى المذكور، أذّن في الجامع العتيق بحيّ على خير العمل، وجهروا في الجامع بالبسملة في الصلاة، فلم يزل الأمر على ذلك طول مدّة الخلفاء الفاطميين، إلّا أن الحاكم بأمر الله في سنة أربعمائة أمر بجمع مؤذني القصر وسائر الجوامع، وحضر قاضي القضاة مالك بن سعيد الفارقيّ، وقرأ أبو عليّ العباسيّ سجلا فيه الأمر بترك حيّ على خير العمل في الأذان، وأن يقال في صلاة الصبح الصلاة خير من النوم، وأن يكون ذلك من مؤذني القصر عند قولهم السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله، فامتثل ذلك. ثم عاد المؤذنون إلى قول حيّ على خير العمل في ربيع الآخر سنة إحدى وأربعمائة، ومنع في سنة خمس وأربعمائة مؤذني جامع القاهرة ومؤذني القصر من قولهم بعد الأذان السلام على أمير المؤمنين، وأمرهم أن يقولوا بعد الأذان، الصلاة رحمك الله. ولهذا الفعل أصل. قال الواقديّ: كان بلال رضي الله عنه يقف على باب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيقول: السلام عليك يا رسول الله، وربما قال: السلام عليك بأبي أنت وأمي يا رسول الله، حيّ على الصلاة حيّ على الصلاة، السلام عليك يا رسول الله.
قال البلاذريّ وقال غيره: كان يقول السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح، الصلاة يا رسول الله. فلما ولي أبو بكر رضي الله عنه الخلافة كان سعد القرظ يقف على بابه فيقول: السلام عليك يا خليفة رسول الله ورحمة الله(4/47)
وبركاته، حي على الصلاة حيّ على الفلاح، الصلاة يا خليفة رسول الله. فلما استخلف عمر رضي الله عنه كان سعد يقف على بابه فيقول: السلام عليك يا خليفة خليفة رسول الله ورحمة الله، حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح، الصلاة يا خليفة خليفة رسول الله. فلما قال عمر رضي الله عنه للناس: أنتم المؤمنين وأنا أميركم. فدعي أمير المؤمنين، استطالة لقول القائل يا خليفة خليفة رسول الله، ولمن بعده خليفة خليفة رسول الله. كان المؤذن يقول:
السلام عليك أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح، الصلاة يا أمير المؤمنين. ثم إن عمر رضي الله عنه أمر المؤذن فزاد فيها رحمك الله. ويقال أنّ عثمان رضي الله عنه زادها، وما زال المؤذنون إذا أذنوا سلموا على الخلفاء وأمراء الأعمال، ثم يقيمون الصلاة بعد السلام، فيخرج الخليفة أو الأمير فيصلي بالناس. هكذا كان العمل مدّة أيام بني أمية، ثم مدّة خلافة بني العباس أيام كانت الخلفاء وأمراء الأعمال تصلي بالناس.
فلما استولى العجم وترك خلفاء بني العباس الصلاة بالناس، ترك ذلك كما ترك غيره من سنن الإسلام، ولم يكن أحد من الخلفاء الفاطميين يصلي بالناس الصلوات الخمس في كل يوم، فسلم المؤذنون في أيامهم على الخليفة بعد الأذان للفجر فوق المنارات، فلمّا انقضت أيامهم وغير السلطان صلاح الدين رسومهم لم يتجاسر المؤذنون على السلام عليه احتراما للخليفة العباسيّ ببغداد، فجعلوا عوض السلام على الخليفة السلام على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واستمرّ ذلك قبل الأذان للفجر في كلّ ليلة بمصر والشام والحجاز، وزيد فيه بأمر المحتسب صلاح الدين عبد الله البرلسيّ، الصلاة والسلام عليك يا رسول الله، وكان ذلك بعد سنة ستين وسبعمائة، فاستمرّ ذلك.
ولمّا تغلب أبو عليّ بن كتيفات بن الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجماليّ على رتبة الوزارة في أيام الحافظ لدين الله أبي الميمون عبد المجيد بن الأمير أبي القاسم محمد بن المستنصر بالله، في سادس عشر ذي القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة، وسجن الحافظ وقيده واستولى على سائر ما في القصر من الأموال والذخائر، وحملها إلى دار الوزارة، وكان إماميا متشدّدا في ذلك، خالف ما عليه الدولة من مذهب الإسماعيلية، وأظهر الدعاء للإمام المنتظر، وأزال من الأذان حيّ على خير العمل، وقولهم محمد وعليّ خير البشر، وأسقط ذكر إسماعيل بن جعفر الذي تنتسب إليه الإسماعيلية، فلما قتل في سادس عشر المحرّم سنة ست وعشرين وخمسمائة، عاد الأمر إلى الخليفة الحافظ وأعيد إلى الأذان ما كان أسقط منه.
وأوّل من قال في الأذان بالليل محمد وعليّ خير البشر، الحسين المعروف بأمير كابن شكنبه، ويقال أشكنبه، وهو اسم أعجميّ معناه الكرش، وهو عليّ بن محمد بن عليّ بن(4/48)
إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب، وكان أوّل تأذينه بذلك في أيام سيف الدولة بن حمدان بحلب في سنة سبع وأربعين وثلاثمائة. قاله الشريف محمد بن أسعد الجوّانيّ النسابة، ولم يزل الأذان بحلب يزاد فيه حيّ على خير العمل، ومحمد وعليّ خير البشر إلى أيام نور الدين محمود. فلما فتح المدرسة الكبيرة المعروفة بالحلاوية، استدعى أبا الحسن عليّ بن الحسن بن محمد البلخيّ الحنفيّ إليها، فجاء ومعه جماعة من الفقهاء وألقى بها الدروس، فلما سمع الأذان أمر الفقهاء فصعدوا المنارة وقت الأذان وقال لهم: مروهم يؤذنوا الأذان المشروع، ومن امتنع كبوه على رأسه. فصعدوا وفعلوا ما أمرهم به، واستمرّ الأمر على ذلك.
وأمّا مصر فلم يزل الأذان بها على مذهب القوم إلى أن استبدّ السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بسلطنة ديار مصر، وأزال الدولة الفاطمية في سنة سبع وستين وخمسمائة، وكان ينتحل مذهب الإمام الشافعيّ رضي الله عنه، وعقيدة الشيخ أبي الحسن الأشعري رحمه الله، فأبطل من الأذان قول حيّ على خير العمل، وصار يؤذن في سائر إقليم مصر والشام بأذان أهل مكة، وفيه تربيع التكبير وترجيع الشهادتين، فاستمرّ الأمر على ذلك إلى أن بنت الأتراك المدارس بديار مصر وانتشر مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه في مصر، فصار يؤذن في بعض المدارس التي للحنيفة بأذان أهل الكوفة، وتقام الصلاة أيضا على رأيهم، وما عدا ذلك فعلى ما قلنا، إلّا أنه في ليلة الجمعة إذا فرغ المؤذنون من التأذين سلموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو شيء أحدثه محتسب القاهرة صلاح الدين عبد الله بن عبد الله البرلسيّ بعد سنة ستين وسبعمائة، فاستمرّ إلى أن كان في شعبان سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، ومتولي الأمر بديار مصر الأمير منطاش، القائم بدولة الملك الصالح المنصور، أمير حاج المعروف بحاجي بن شعبان بن حسين بن محمد بن قلاون. فسمع بعض الفقراء الخلاطين سلام المؤذنين على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ليلة جمعة، وقد استحسن ذلك طائفة من إخوانه فقال لهم: أتحبون أن يكون هذا السلام في كلّ أذان؟ قالوا: نعم. فبات تلك الليلة وأصبح متواجدا يزعم أنه رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في منامه، وأنه أمره أن يذهب إلى المحتسب فيبلغه عنه أن يأمر المؤذنين بالسلام على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في كلّ أذان، فمضى إلى محتسب القاهرة وهو يومئذ نجم الدين محمد الطنبديّ وكان شيخا جهولا وبلهانا مهولا سيء السيرة في الحسبة والقضاء، متهافتا على الدرهم ولو قاده إلى البلاء، لا يحتشم من أخذ البرطيل والرشوة، ولا يراعي في مؤمن إلّا ولا ذمّة قد ضرى على الآثام، وتجسد من أكل الحرام، يرى أن العلم إرخاء العذبة ولبس الجبة، ويحسب أنّ رضي الله سبحانه في ضرب العباد بالدرة وولاية الحسبة، لم تحمد الناس قط أياديه، ولا شكرت أبدا مساعيه، بل جهالاته شائعة وقبائح أفعاله ذائعة، أشخص غير مرّة إلى مجلس المظالم، وأوقف مع من أوقف للمحاكمة بين يدي السلطان من أجل عيوب فوادح، حقق فيها شكاته عليه القوادح، وما زال في السيرة(4/49)
مذموما ومن العامّة والخاصة ملوما. وقال له: رسول الله يأمرك أن تتقدّم لسائر المؤذنين بأن يزيدوا في كل أذان قولهم الصلاة والسلام عليك يا رسول الله، كما يفعل في ليالي الجمع، فأعجب الجاهل هذا القول، وجهل أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يأمر بعد وفاته إلّا بما يوافق ما شرّعه الله على لسانه في حياته، وقد نهى الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز عن الزيادة فيما شرعه حيث يقول: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ
[الشورى/ 21] وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إياكم ومحدثات الأمور» فأمر بذلك في شعبان من السنة المذكورة، وتمت هذه البدعة واستمرّت إلى يومنا هذا في جميع ديار مصر وبلاد الشام، وصارت العامّة وأهل الجهالة ترى أن ذلك من جملة الأذان الذي لا يحلّ تركه، وأدّى ذلك إلى أن زاد بعض أهل الإلحاد في الأذان ببعض القرى السلام بعد الأذان على شخص من المعتقدين الذين ماتوا، فلا حول ولا قوّة إلّا بالله، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
وأما التسبيح في الليل على المآذن، فإنه لم يكن من فعل سلف الأمّة، وأوّل ما عرف من ذلك أن موسى بن عمران صلوات الله عليه، لما كان ببني إسرائيل في التيه بعد غرق فرعون وقومه، اتخذ بوقين من فضة مع رجلين من بني إسرائيل، ينفخان فيهما وقت الرحيل ووقت النزول، وفي أيام الأعياد، وعند ثلث الليل الأخير من كلّ ليلة، فتقوم عند ذلك طائفة من بني لاوي سبط موسى عليه السّلام ويقولون نشيدا منزلا بالوحي، فيه تخويف وتحذير وتعظيم لله تعالى، وتنزيله له تعالى، إلى وقت طلوع الفجر، واستمر الحال على هذا كلّ ليلة مدّة حياة موسى عليه السّلام، وبعده أيام يوشع بن نون، ومن قام في بني إسرائيل من القضاة إلى أن قام بأمرهم داود عليه السّلام وشرع في عمارة بيت المقدس، فرتّب في كلّ ليلة عدّة من بني لاوي يقومون عند ثلث الليل الآخر، فمنهم من يضرب بالآلات كالعود والسطير والبربط والدف والمزمار. ونحو ذلك، ومنهم من يرفع عقيرته بالنشائد المنزلة بالوحي على نبيّ الله موسى عليه السّلام، والنشائد المنزلة بالوحي على داود عليه السّلام. ويقال أنّ عدد بني لاوي هذا كان ثمانين وثلاثين ألف رجل، قد ذكر تفصيلهم في كتاب الزبور، فإذا قام هؤلاء ببيت المقدس، قام في كلّ محلة من محال بيت المقدس رجال يرفعون أصواتهم بذكر الله سبحانه من غير آلات، فإنّ الآلات كانت مما يختص ببيت المقدس فقط، وقد نهوا عن ضربها في غير البيت، فيتسامع من قرية بيت المقدس، فيقوم في كلّ قرية رجال يرفعون أصواتهم بذكر الله تعالى حتى يهمّ الصوت بالذكر جميع قرى بني إسرائيل ومدنهم، وما زال الأمر على ذلك في كلّ ليلة إلى أن خرّب بخت نصر بيت المقدس وجلا بني إسرائيل إلى بابل، فبطل هذا العمل وغيره من بلاد بني إسرائيل مدّة جلائهم في بابل سبعين سنة، فلما اعاد بنو إسرائيل من بابل وعمروا البيت العمارة(4/50)
الثانية، أقاموا شرائعهم وعاد قيام بني لاوي بالبيت في الليل، وقيام أهل محال القدس وأهل القرى والمدن على ما كان العمل عليه أيام عمارة البيت الأولى، واستمرّ ذلك إلى أن خرب القدس بعد قتل نبيّ الله يحيى بن زكريا، وقيام اليهود على روح الله ورسوله عيسى ابن مريم صلوات الله عليهم على يد طيطش، فبطلت شرائع بني إسرائيل من حينئذ وبطل هذا القيام فيما بطل من بلاد بني إسرائيل.
وأما في الملة الإسلامية فكان ابتداء هذا العمل بمصر، وسببه أن مسلمة بن مخلد أمير مصر بنى منارا لجامع عمرو بن العاص، واعتكف فيه فسمع أصوات النواقيس عالية، فشكا ذلك إلى شرحبيل بن عامر عريف المؤذنين فقال: إني أمدّد الأذان من نصف الليل إلى قرب الفجر، فإنههم أيها الأمير أن ينقسوا إذا أذنت. فنهاهم مسلمة عن ضرب النواقيس وقت الأذان، ومدّد شرحبيل ومطط أكثر الليل، ثم إن الأمير أبا العباس أحمد بن طولون كان قد جعل في حجرة تقرب منه رجالا تعرف بالمكبرين، عدّتهم اثنا عشر رجلا، يبيت في هذه الحجرة كلّ ليلة أربعة يجعلون الليل بينهم عقبا، فكانوا يكبرون ويسبحون ويحمدون الله سبحانه في كلّ وقت ويقرءون القرآن بألحان، ويتوسلون ويقولون قصائد زهية، ويؤذنون في أوقات الأذان، وجعل لهم أرزاقا واسعة تجري عليهم. فلما مات أحمد بن طولون وقام من بعده ابنه أبو الجيش خمارويه، أقرّهم بحالهم وأجراهم على رسمهم مع أبيه، ومن حينئذ اتخذ الناس قيام المؤذنين في الليل على المآذن، وصار يعرف ذلك بالتسبيح. فلما ولي السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب سلطنة مصر وولى القضاء صدر الدين عبد الملك بن درباس الهدبانيّ المارانيّ الشافعيّ، كان من رأيه ورأي السلطان اعتقاد مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعريّ في الأصول، فحمل الناس إلى اليوم على اعتقاده، حتى يكفّر من خالفه، وتقدّم الأمر إلى المؤذنين أن يعلنوا في وقت التسبيح على المآذن بالليل بذكر العقيدة التي تعرف بالمرشدة، فواظب المؤذنون على ذكرها في كلّ ليلة بسائر جوامع مصر والقاهرة إلى وقتنا هذا. ومما أحدث أيضا، التذكير في يوم الجمعة من أثناء النهار بأنواع من الذكر على المآذن، ليتهيأ الناس لصلاة الجمعة، وكان ذلك بعد السبعمائة من سني الهجرة. قال ابن كثير رحمه الله في يوم الجمعة سادس ربيع الآخر سنة أربع وأربعين وسبعمائة، رسم بأن يذكر بالصلاة يوم الجمعة في سائر مآذن دمشق كما يذكر في مآذن الجامع الأمويّ، ففعل ذلك.
الجامع الأزهر
هذا الجامع أوّل مسجد أسس بالقاهرة، والذي أنشأه القائد جوهر الكاتب الصقليّ، مولى الإمام أبي تميم معدّ الخليفة أمير المؤمنين المعز لدين الله لما اختط القاهرة، وشرع في بناء هذا الجامع في يوم السبت لست بقين من جمادى الأولى سنة تسع وخمسين(4/51)
وثلاثمائة، وكمل بناؤه لتسع خلون من شهر رمضان سنة إحدى وستين وثلاثمائة وجمع فيه، وكتب بدائر القبة التي في الرواق الأوّل، وهي على يمنة المحراب والمنبر، ما نصه بعد البسملة: مما أمر ببنائه عبد الله ووليه أبو تميم معدّ الإمام المعز لدين الله أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى آبائه وأبنائه الأكرمين، على يد عبده جوهر الكاتب الصقليّ، وذلك في سنة ستين وثلاثمائة. وأوّل جمعة جمعت فيه في شهر رمضان لسبع خلون منه سنة إحدى وستين وثلاثمائة. ثم إن العزيز بالله أبا منصور نزار بن المعز لدين الله جدّد فيه أشياء، وفي سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة سأل الوزير أبو الفرج يعقوب بن يوسف بن كلس الخليفة العزيز بالله في صلة رزق جماعة من الفقهاء، فأطلق لهم ما يكفي كلّ واحد منهم من الرزق الناض، وأمر لهم بشراء دار وبنائها، فبنيت بجانب الجامع الأزهر، فإذا كان يوم الجمعة حضروا إلى الجامع وتحلقوا فيه بعد الصلاة إلى أن تصلّى العصر، وكان لهم أيضا من مال الوزير صلة في كلّ سنة، وكانت عدتهم خمسة وثلاثين رجلا، وخلع عليهم العزيز يوم عيد الفطر، وحملهم على بغلات. ويقال أنّ بهذا الجامع طلسما، فلا يسكنه عصفور، ولا يفرّخ به، وكذا سائر الطيور من الحمام واليمام وغيره، وهو صورة ثلاثة طيور منقوشة، كلّ صورة على رأس عمود، فمنها صورتان في مقدّم الجامع بالرواق الخامس، منهما صورة في الجهة الغربية في العمود، وصورة في أحد العمودين اللذين على يسار من استقبل سدّة المؤذنين، والصورة الأخرى في الصحن في الأعمدة القبلية مما يلي الشرقية، ثم إن الحاكم بأمر الله جدّده ووقف على الجامع الأزهر وجامع المقس والجامع الحاكميّ ودار العلم بالقاهرة رباعا بمصر، وضمّن ذلك كتابا نسخته: هذا كتاب، أشهد قاضي القضاة مالك بن سعيد بن مالك الفارقيّ، على جميع ما نسب إليه مما ذكر ووصف فيه، من حضر من الشهود في مجلس حكمه وقضائه بفسطاط مصر، في شهر رمضان سنة أربعمائة، أشهدهم وهو يومئذ قاضي، عبد الله ووليه المنصور أبي عليّ الإمام الحاكم بأمر الله المؤمنين بن الإمام العزيز بالله صلوات الله عليهما على القاهرة المعزية ومصر والإسكندرية والحرمين حرسهما الله، وأجناد الشام والرقة والرحبة ونواحي المغرب، وسائر أعمالهنّ وما فتحه الله ويفتحه لأمير المؤمنين من بلاد الشرق والغرب، بمحضر رجل متكلم أنّه صحت عنده معرفة المواضع الكاملة، والحصص الشائعة، التي يذكر جميع ذلك، ويحدد في هذا الكتاب، وأنها كانت من أملاك الحاكم إلى أن حبسها على الجامع الأزهر بالقاهرة المحروسة، والجامع براشدة، والجامع بالمقس، اللذين أمر بإنشائهما وتأسيس بنائهما، وعلى دار الحكمة بالقاهرة المحروسة التي وقفها، والكتب التي فيها قبل تاريخ هذا الكتاب، ومنها ما يخص الجامع الأزهر والجامع براشدة ودار الحكمة بالقاهرة المحروسة. مشاعا، جميع ذلك غير مقسوم، ومنها ما يخص الجامع بالمقس، على شرائط يجري ذكرها، فمن ذلك ما تصدّق به على الجامع الأزهر بالقاهرة المحروسة، والجامع براشدة، ودار الحكمة بالقاهرة المحروسة،(4/52)
جميع الدار المعروفة بدار الضرب، وجميع القيسارية المعروفة بقيسارية الصوف، وجميع الدار المعروفة بدار الخرق الجديدة، الذي كله بفسطاط مصر، ومن ذلك ما تصدّق به على جامع المقس، جميع أربعة الحوانيت والمنازل التي علوها والمخزنين الذي ذلك كله بفسطاط مصر بالراية في جانب المغرب من الدار المعروفة كانت بدار الخرق، وهاتان الداران المعروفتان بدار الخرق في الموضع المعروف بحمام الفار، ومن ذلك جميع الحصص الشائعة من أربعة الحوانيت المتلاصقة التي بفسطاط مصر بالراية، أيضا بالموضع المعروف بحمام الفار، وتعرف هذه الحوانيت بحصص القيسيّ، بحدود ذلك كله، وأرضه وبنائه وسفله وعلوه وغرفه ومرتفقاته وحوانيته وساحاته وطرقه وممرّاته ومجاري مياهه، وكل حق هو له داخل فيه وخارج عنه، وجعل ذلك كله صدقة موقوفة محرّمة محبسة بتة بتلة، لا يجوز بيعها ولا هبتها ولا تمليكها، باقية على شروطها جارية على سبلها المعروفة في هذا الكتاب، لا يوهنها تقادم السنين، ولا تغير بحدوث حدث، ولا يستثنى فيها ولا يتأوّل، ولا يستفتي بتجدّد تحبيسها مدى الأوقات، وتستمرّ شروطها على اختلاف الحالات حتى يرث الله الأرض والسماوات، على أن يؤجر ذلك في كلّ عصر من ينتهي إليه ولايتها ويرجع إليه أمرها، بعد مراقبة الله واجتلاب ما يوفر منفعتها من إشهارها عند ذوي الرغبة في إجارة أمثالها، فيبتدأ من ذلك بعمارة ذلك على حسب المصلحة وبقاء العين ومرمّته من غير إجحاف بما حبس ذلك عليه.
وما فضل كان مقصوما على ستين سهما فمن ذلك للجامع الأزهر بالقاهرة المحروسة المذكور في هذا الإشهاد، الخمس، والثمن، ونصف السدس، ونصف التسع، يصرف ذلك فيما فيه عمارة له ومصلحة، وهو من العين المعزيّ الوازن ألف دينار واحدة وسبعة وستون دينارا ونصف دينار وثمن دينار، من ذلك للخطيب بهذا الجامع أربعة وثمانون دينارا، ومن ذلك لثمن ألف ذراع حصر عبدانيّة تكون عدّة له بحيث لا ينقطع من حصره عند الحاجة إلى ذلك، ومن ذلك لثمن ثلاثة عشر ألف ذراع حصر مظفورة لكسوة هذا الجامع في كلّ سنة عند الحاجة إليها مائة دينار واحدة وثمانية دنانير، ومن ذلك لثمن ثلاثة قناطير زجاج وفراخها اثنا عشر دينارا ونصف وربع دينار، ومن ذلك لثمن عود هنديّ للبخور في شهر رمضان وأيام الجمع مع ثمن الكافور والمسك، وأجرة الصانع خمسة عشر دينارا، ومن ذلك لنصف قنطار شمع بالفلفليّ سبعة دنانير، ومن ذلك لكنس هذا الجامع ونقل التراب وخياطة الحصر وثمن الخيط وأجرة الخياطة خمسة دنانير، ومن ذلك لثمن مشاقة لسرج القناديل عن خمسة وعشرين رطلا بالرطل الفلفليّ دينار واحد، ومن ذلك لثمن فحم للبخور عن قنطار واحد بالفلفليّ نصف دينار، ومن ذلك لثمن أردبين ملحقا للقناديل ربع دينار، ومن ذلك ما قدّر لمؤنة النحاس والسلاسل والتنانير والقباب التي فوق سطح الجامع أربعة وعشرون دينارا، ومن ذلك لثمن سلب ليف وأربعة أحبل وست دلاء أدم نصف دينار، ومن ذلك لثمن(4/53)
قنطارين خرقا لمسح القناديل نصف دينار، ومن ذلك لثمن عشر قفاف للخدمة وعشرة أرطال قنب لتعليق القناديل ولثمن مائتين مكنسة لكنس هذا الجامع دينار واحد وربع دينار، ومن ذلك لثمن أزيار فخار تنصب على المصنع ويصبّ فيها الماء مع الجرة حملها ثلاثة دنانير، ومن ذلك لثمن زيت وقود هذا الجامع راتب السنة ألف رطل ومائتا رطل مع أجرة الحمل سبعة وثلاثون دينارا ونصف، ومن ذلك لأرزاق المصلين يعني الأئمة وهم ثلاثة وأربعة قومة ومسة عشر مؤذنا خمسمائة دينار وستة وخمسون دينارا ونصف، منها للمصلين لكلّ رجل منهم ديناران وثلثا دينار وثمن دينار في كلّ شهر من شهور السنة، والمؤذنون والقومة لكلّ رجل منهم ديناران في كلّ شهر، ومن ذلك للمشرف على هذا الجامع في كلّ سنة أربعة وعشرون دينارا، ومن ذلك لكنس المصنع بهذا الجامع ونقل ما يخرج منه من الطين والوسخ دينار واحد، ومن ذلك لمرمّة ما يحتاج إليه في هذا الجامع في سطحه وأترابه وحياطته وغير ذلك مما قدّر لكلّ سنة ستون دينارا، ومن ذلك لثمن مائة وثمانين حمل تبن ونصف حمل جارية لعلف رأسي بقر للمصنع الذي لهذا الجامع ثمانية دنانير ونصف وثلث دينار، ومن ذلك للتبن لمخزن يوضع فيه بالقاهرة أربعة دنانير، ومن ذلك لثمن فدّانين قرط لتربيع رأسي البقر المذكورين في النة سبعة دنانير، ومن ذلك لأجرة متولي العلف وأجرة السقاء والحبال والقواديس وما يجري مجرى ذلك خمسة عشر دينارا ونصف، ومن ذلك لأجرة قيم الميضأة إن عملت بهذا الجامع اننا عشر دينارا. وإلى هنا انقضى حديث الجامع الأزهر، وأخذ في ذكر جامع راشدة ودار العلم وجامع المقس، ثم ذكر أن تنانير الفضة ثلاثة تنانير، وتسعة وثلاثون قنديلا فضة، فللجامع الأزهر تنوران وسبعة وعشرون قنديلا، ومنها لجامع راشدة تنور واثنا عشر قنديلا، وشرط أن تعلق في شهر رمضان وتعاد إلى مكان جرت عادتها أن تحفظ به، وشرط شروطا كثيرة في الأوقاف منها: أنه إذا فضل شيء واجتمع يشترى به ملك، فإن عاز شيئا واستهدم ولم يف الريع بعمارته بيع وعمر به، وأشياء كثيرة، وحبس فيه أيضا عدّة آدر وقياسر لا فائدة في ذكرها، فإنها مما خربت بمصر.
قال ابن عبد الظاهر عن هذا الكتاب: ورأيت منه نسخة، وانتقلت إلى قاضي القضاة تقيّ الدين بن رزين، وكان بصدر هذا الجامع في محرابه منطقة فضة، كما كان في محراب جامع عمرو بن العاص بمصر، قلع ذلك صلاح الدين يوسف بن أيوب في حادي عشر ربيع الأوّل سنة تسع وستين وخمسمائة، لأنه كان فيها انتهاء خلفاء الفاطميين، فجاء وزنها خمسة آلاف درهم نقرة، وقلع أيضا المناطق من بقية الجوامع. ثم أن المستنصر جدّد هذا الجامع أيضا، وجدّده الحافظ لدين الله، وأنشأ فيه مقصورة لطيفة تجاور الباب الغربيّ الذي في مقدّم الجامع بداخل الرواقات، عرفت بمقصورة فاطمة، من أجل أن فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها رؤيت بها في المنام، ثم أنه جدّد في أيام الملك الظاهر بيبرس البندقداريّ.(4/54)
قال القاضي محي الدين بن عبد الظاهر في كتاب سيرة الملك الظاهر: لما كان يوم الجمعة الثامن عشر من ربيع الأوّل سنة خمس وستين وستمائة، أقيمت الجمعة بالجامع الأزهر بالقاهرة، وسبب ذلك أن الأمير عز الدين أيدمر الحليّ كان جار هذا الجامع من مدّة سنين، فرعى وفقه الله حرمة الجار، ورأى أن يكون كما هو جاره في دار الدنيا، أنه غدا يكون ثوابه جاره في تلك الدار، ورسم بالنظر في أمره وانتزع له أشياء مغصوبة كان شيء منها في أيدي جماعة، وحاط أموره حتى جمع له شيئا صالحا، وجرى الحديث في ذلك، فتبرّع الأمير عز الدين له بجملة مستكثرة من المال الجزيل، وأطلق له من السلطان جملة من المال، وشرع في عمارته فعمّر الواهي من أركانه وجدارنه وبيّضه وأصلح سقوفه وبلطه وفرشه وكساه، حتى عاد حرما في وسط المدينة، واستجدّ به مقصورة حسنة، وآثر فيه آثارا صالحة يثيبه الله عليها، وعمل الأمير بيلبك الخازندار فيه مقصورة كبيرة رتب فيها جماعة من الفقهاء لقراءة الفقه على مذهب الإمام الشافعيّ رحمه الله، ورتب في هذه المقصورة محدّثا يسمع الحديث النبويّ والرقائق، ووقف على ذلك الأوقاف الدارّ، ورتب به سبعة لقراءة القرآن، ورتب به مدرّسا أثابه الله على ذلك. ولما تكمّل تجديده تحدّث في إقامة جمعة فيه، فنودي في المدينة بذلك، واستخدم له الفقيه زين الدين خطيبا، وأقيمت الجمعة فيه في اليوم المذكور، وحضر الأتابك فارس الدين، والصاحب بها الدين عليّ بن حنا، وولده الصاحب فخر الدين محمد، وجماعة من الأمراء والكبراء، وأصناف العالم على اختلافهم، وكان يوم جمعة مشهودا، ولما فرغ من الجمعة جلس الأمير عز الدين الحليّ والأتابك والصاحب وقرىء القرآن ودعى للسلطان، وقام الأمير عز الدين ودخل إلى داره ودخل معه الأمراء، فقدّم لهم كلّ ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وانفصلوا، وكان قد جرى الحديث في أمر جواز الجمعة في الجامع وما ورد فيه. من أقاويل العلماء، وكتب فيها فتيا أخذ فيها خطوط العلماء بجواز الجمعة في هذا الجامع وإقامتها، فكتب جماعة خطوطهم فيها، وأقيمت صلاة الجمعة به واستمرّت، ووجد الناس به رفقا وراحة لقربه من الحارات البعيدة من الجامع الحاكميّ.
قال وكان سقف هذا الجامع قد بني قصيرا فزيد فيه بعد ذلك وعلى ذراعا، واستمرّت الخطبة فيه حتى بني الجامع الحاكميّ، فانتقلت الخطبة إليه، فإن الخليفة كان يخطب فيه خطبة وفي الجامع الأزهر خطبة، وفي جامع ابن طولون خطبة، وفي جامع مصر خطبة، وانقطعت الخطبة من الجامع الأزهر لما استبدّ السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بالسلطنة، فإنه قلد وظيفة القضاء لقاضي القضاة صدر الدين عبد الملك بن درباس، فعمل بمقتضى مذهبه، وهو امتناع إقامة الخطبتين للجمعة في بلد واحد كما هو مذهب الإمام الشافعيّ، فأبطل الخطبة من الجامع الأزهر وأقرّ الخطبة بالجامع الحاكميّ من أجل أنه أوسع. فلم يزل الجامع الأزهر معطلا من إقامة الجمعة فيه مائة عام، من حين استولى(4/55)
السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، إلى أن أعيدت الخطبة في أيام الملك الظاهر بيبرس كما تقدّم ذكره. ثم لما كانت الزلزلة بديار مصر في ذي الحجة سنة اثنتين وسبعمائة، سقط الجامع الأزهر والجامع الحاكميّ وجامع مصر وغيره، فتقاسم أمراء الدولة عمارة الجوامع، فتولى الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير عمارة الجامع الحاكميّ، وتولى الأمير سلار عمارة الجامع الأزهر، وتولى الأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار عمارة جامع الصالح، فجدّدوا مبانيها وأعادوا ما تهدّم منها. ثم جدّدت عمارة الجامع الأزهر على يد القاضي نجم الدين محمد بن حسين بن عليّ الأسعرديّ، محتسب القاهرة، في سنة خمس وعشرين وسبعمائة. ثم جدّدت عمارته في سنة إحدى وستين وسبعمائة، عند ما سكن الأمير الطواشي سعد الدين بشير الجامدار الناصريّ، في دار الأمير فخر الدين أبان الزاهديّ الصالحيّ النجميّ بخط الأبارين بجوار الجامع الأزهر، بعد ما هدمها وعمرها داره التي تعرف هناك إلى اليوم بدار بشير الجامدار، فأحب لقربه من الجامع أن يؤثر فيه أثرا صالحا، فاستأذن السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون في عمارة الجامع، وكان أثيرا عنده خصيصا به، فأذن له في ذلك.
وكان قد استجدّ بالجامع عدّة مقاصير ووضعت فيه صناديق وخزائن حتى ضيقته، فأخرج الخزائن والصناديق ونزع تلك المقاصير، وتتبع جدرانه وسقوفه بالإصلاح حتى عادت كأنها جديدة، وبيّض الجامع كله وبلطه، ومنع الناس من المرور فيه، ورتب فيه مصحفا وجعل له قارئا، وأنشأ على باب الجامع القبليّ حانوتا لتسبيل الماء العذب في كلّ يوم، وعمل فوقه مكتب سبيل لإقراء أيتام المسلمين كتاب الله العزيز، ورتب للفقراء المجاورين طعاما يطبخ كلّ يوم، وأنزل إليه قدورا من نحاس جعلها فيه، ورتب فيه درسا للفقهاء من الحنفية يجلس مدرّسهم لإلقاء الفقه في المحراب الكبير، ووقف على ذلك أوقافا جليلة باقية إلى يومنا هذا، ومؤذنو الجامع يدعون في كلّ جمعة وبعد كلّ صلاة للسلطان حسن إلى هذا الوقت الذي نحن فيه.
وفي سنة أربع وثمانين وسبعمائة ولي الأمير الطواشي بهادر المقدّم على المماليك السلطانية نظر الجامع الأزهر، فتنجز مرسوم السلطان الملك الظاهر برقوق بأنّ من مات من مجاوري الجامع الأزهر عن غير وارث شرعيّ وترك موجودا فإنه يأخذه المجاورون بالجامع، ونقش ذلك على حجر عند الباب الكبير البحريّ. وفي سنة ثمانمائة هدمت منارة الجامع، وكانت قصيرة، وعمّرت أطول منها، فبلغت النفقة عليها من مال السلطان خمسة عشر ألف درهم نقرة، وكملت في ربيع الآخر من السنة المذكورة، فعلّقت القناديل فيها ليلة الجمعة من هذا الشهر، وأوقدت حتى اشتعل الضوء من أعلاها إلى أسفلها، واجتمع القرّاء والوعاظ بالجامع وتلوا ختمة شريفة، ودعوا للسلطان فلم تزل هذه المئذنة إلى شوّال سنة سبع عشرة وثمانمائة، فهدمت لميل ظهر فيها، وعمل بدلها منارة من حجر على باب الجامع(4/56)
البحريّ، بعد ما هدم الباب وأعيد بناؤه بالحجر، وركبت المنارة فوق عقده، وأخذ الحجر لها من مدرسة الملك الأشرف خليل التي كانت تجاه قلعة الجبل، وهدمها الملك الناصر فرج بن برقوق، وقام بعمارة ذلك الأمير تاج الدين التاج الشوبكيّ والي القاهرة ومحتسبها، إلى أن تمت في جمادى الآخرة سنة ثمان عشرة وثمانمائة، فلم تقم غير قليل ومالت حتى كادت تسقط، فهدمت في صفر سنة سبع وعشرين، وأعيدت. وفي شوّال منها ابتدئ بعمل الصهريج الذي بوسط الجامع، فوجد هناك آثار فسقية ماء، ووجد أيضا رمم أموات، وتمّ بناؤه في ربيع الأوّل، وعمل بأعلاه مكان مرتفع له قبة يسبل فيه الماء، وغرس بصحن الجامع أربع شجرات، فلم تفلح وماتت، ولم يكن لهذا الجامع ميضأة عندما بني، ثم عملت ميضأته حيث المدرسة الأقبغاوية إلى أن بنى الأمير أقبغا عبد الواحد مدرسته المعروفة بالمدرسة الأقبغاوية هناك، وأما هذه الميضأة التي بالجامع الآن فإن الأمير بدر الدين جنكل بن البابا بناها، ثم زيد فيها بعد سنة عشر وثمانمائة ميضأة المدرسة الأقبغاوية.
وفي سنة ثمان عشرة وثمانمائة ولي نظر هذا الجامع الأمير سودوب القاضي حاجب الحجاب، فجرت في أيام نظره حوادث لم يتفق مثلها، وذلك أنه لم يزل في هذا الجامع منذ بني عدّة من الفقراء يلازمون الإقامة فيه، وبلغت عدّتهم في هذه الأيام سبعمائة وخمسين رجلا ما بين عجم وزيالعة، ومن أهل ريف مصر ومغاربة، ولكلّ طائفة رواق يعرف بهم، فلا يزال الجامع عامرا بتلاوة القرآن ودراسته وتلقينه والاشتغال بأنواع العلوم الفقه والحديث والتفسير والنحو، ومجالس الوعظ وحلق الذكر، فيجد الإنسان إذا دخل هذا الجامع من الإنس بالله والارتياح وترويح النفس ما لا يجده في غيره، وصار أرباب الأموال يقصدون هذا الجامع بأنواع البرّ من الذهب والفضة والفلوس إعانة للمجاورين فيه على عبادة الله تعالى، وكلّ قليل تحمل إليهم أنواع الأطعمة والخبز والحلاوات، لا سيما في المواسم. فأمر في جمادى الأولى من هذه السنة بإخراج المجاورين من الجامع ومنعهم من الإقامة فيه، وإخراج ما كان لهم فيه من صناديق وخزائن وكراسي المصاحف، زعما منه أن هذا العمل مما يثاب عليه، وما كان إلّا من أعظم الذنوب وأكثرها ضررا، فإنه حلّ بالفقراء بلاء كبير من تشتت شملهم وتعذر الأماكن عليهم، فساروا في القرى وتبذلوا بعد الصيانة، وفقد من الجامع أكثر ما كان فيه من تلاوة القرآن ودراسة العلم وذكر الله، ثم لم يرضه ذلك حتى زاد في التعدّي، وأشاع أن أناسا يبيتون بالجامع ويفعلون فيه منكرات، وكانت العادة قد جرت بمبيت كثير من الناس في الجامع ما بين تاجر وفقيه وجنديّ وغيرهم، منهم من يقصد بمبيته البركة، ومنهم من لا يجد مكانا يأويه، ومنهم من يستروح بمبيته هناك خصوصا في ليالي الصيف وليالي شهر رمضان، فإنه يمتلئ صحنه وأكثر رواقاته. فلما كانت ليلة الأحد الحادي عشر من جمادى الآخرة، طرق الأمير سودوب الجامع بعد العشاء الآخرة والوقت صيف، وقبض على جماعة وضربهم في الجامع، وكان قد جاء معه من الأعوان والغلمان(4/57)
وغوغاء العامّة ومن يريد النهب جماعة، فحلّ بمن كان في الجامع أنواع البلاء، ووقع فيهم النهب، فأخذت فرشهم وعمائمهم، وفتشت أوساطهم وسلبوا ما كان مربوطا عليها من ذهب وفضة، وعمل ثوبا أسود للمنبر وعلمين مزوّقين، بلغت النفقة على ذلك خمسة عشر ألف درهم، على ما بلغني، فعاجل الله الأمير سودوب وقبض عليه السلطان في شهر رمضان وسجنه بدمشق.
جامع الحاكم
هذا الجامع بني خارج باب الفتوح، أحد أبواب القاهرة، وأوّل من أسسه أمير المؤمنين العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله معدّ، وخطب فيه وصلّي بالناس الجمعة، ثم أكمله ابنه الحاكم بأمر الله. فما وسّع أمير الجيوش بدر الجماليّ القاهرة وجعل أبوابها حيث هي اليوم، صار جامع الحاكم داخل القاهرة، وكان يعرف أوّلا بجامع الخطبة، ويعرف اليوم بجامع الحاكم، ويقال له الجامع الأنور.
قال الأمير مختار عز الملك محمد بن عبيد الله بن أحمد المسبحيّ في تاريخ مصر:
وفيه يعني شهر رمضان، سنة ثمانين وثلاثمائة خط أساس الجامع الجديد بالقاهرة مما يلي باب الفتوح من خارجه، وبديء بالبناء فيه، وتحلق فيه الفقهاء الذين يتحلقون في جامع القاهرة، يعني الجامع الأزهر، وخطب فيه العزيز بالله. وقال في حوادث سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة لأربع خلون من شهر رمضان، صلّى العزيز بالله في جامعه صلاة الجمعة، وخطب، وكان في مسيره بين يديه أكثر من ثلاثة آلاف، وعليه طيلسان وبيده القضيب، وفي رجله الحذاء. وركب لصلاة الجمعة في رمضان سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة إلى جامعه ومعه ابنه منصور، فجعلت المظلة على منصور وسار العزيز بغير مظلة.
وقال في حوادث سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة: وأمر الحاكم بأمر الله أن يتم بناء الجامع الذي كان الوزير يعقوب بن كلس بدأ في بنيانه عند باب الفتوح، فقدّر للنفقة عليه أربعون ألف دينار، فابتدىء في العمل فيه. وفي صفر سنة إحدى وأربعمائة زيد في منارة جامع باب الفتوح، وعمل لها أركان طول كلّ ركن مائة ذراع، وفي سنة ثلاث وأربعمائة أمر الحاكم بأمر الله بعمل تقدير ما يحتاج إليه جامع باب الفتوح من الحصر والقناديل والسلاسل، فكان تكسير ما ذرع للحصر ستة وثلاثين ألف ذراع، فبلغت النفقة على ذلك خمسة آلاف دينار.
قال: وتمّ بناء الجامع الجديد بباب الفتوح، وعلّق على سائر أبوابه ستور ديبقية عملت له، وعلّق فيه تنانير فضة عدّتها أربع، وكثير من قناديل فضة، وفرش جميعه بالحصر التي عملت له، ونصب فيه المنبر وتكامل فرشه وتعليقه، وأذن في ليلة الجمعة سادس شهر رمضان سنة ثلاث وأربعمائة لمن بات في الجامع الأزهر أن يمضوا إليه، فمضوا. وصار(4/58)
الناس طول ليلتهم يمشون من كلّ واحد من الجامعين إلى الآخر بغير مانع لهم، ولا اعتراض من أحد من عسس القصر، ولا أصحاب الطوف إلى الصبح. وصلّى فيه الحاكم بأمر الله بالناس صلاة الجمعة، وهي أوّل صلاة أقيمت فيه بعد فراغه. وفي ذي القعدة سنة أربع وأربعمائة حبس الحاكم عدّة قياسر وأملاك على الجامع الحاكميّ بباب الفتوح. قال ابن عبد الظاهر: وعلى باب الجامع الحاكميّ مكتوب أنّه أمر بعمله الحاكم أبو عليّ المنصور في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة، وعلى منبره مكتوب أنه أمر بعمل هذا المنبر للجامع الحاكميّ المنشأ بظاهر باب الفتوح في سنة ثلاث وأربعمائة، ورأيت في سيرة الحاكم، وفي يوم الجمعة أقيمت الجمعة في الجامع الذي كان الوزير أنشأه بباب الفتوح. ورأيت في سيرة الوزير المذكور، في يوم الأحد عاشر رمضان سنة تسع وسبعين وثلاثمائة خط أساس الجامع الجديد بالقاهرة خارج الطابية مما يلي باب الفتوح. قال: وكان هذا الجامع خارج القاهرة، فجدّد بعد ذلك باب الفتوح، وعلى البدنة التي تجاور باب الفتوح وبعض البرج مكتوب: إنّ ذلك بني سنة ثلاثين وأربعمائة في زمن المستنصر بالله، ووزارة أمير الجيوش، فيكون بينهما سبع وثمانون سنة. قال: والفسقية وسط الجامع بناها الصاحب عبد الله بن عليّ بن شكر وأجرى الماء إليها، وأزالها القاضي تاج الدين بن شكر، وهو قاضي القضاة في سنة ستين وستمائة، والزيادة التي إلى جانبه قيل إنها بناء ولده الظاهر عليّ ولم يكملها، وكان قد حبس فيها الفرنج فعملوا فيها كنائس، هدمها الملك الناصر صلاح الدين، وكان قد تغلب عليها وبنيت إصطبلات. وبلغني أنها كانت في الأيام المتقدّمة قد جعلت أهراء للغلال.
فلما كان في الأيام الصالحية ووزارة معين الدين حسن بن شيخ الشيوخ للملك الصالح أيوب ولد الكامل، ثبت عند الحاكم أنها من الجامع، وأن بها محرابا، فانتزعت وأخرج الخيل منها وبني فيها ما هو الآن في الأيام المعزية على يد الركن الصيرفيّ، ولم يسقف. ثم جدّد هذا الجامع في سنة ثلاث وسبعمائة. وذلك أنه لما كان يوم الخميس ثالث عشري ذي الحجة سنة اثنتين وسبعمائة، تزلزلت أرض مصر والقاهرة وأعمالهما ورجل كلّ ما عليهما واهتز، وسمع للحيطان قعقعة، وللسقوف قرقعة، ومارت الأرض بما عليها وخرجت عن مكانها، وتخيل الناس أن السماء قد انطبقت على الأرض، فهربوا من أماكنهم وخرجوا عن مساكنهم، وبرزت النساء حاسرات، وكثر الصراخ والعويل، وانتشرت الخلائق فلم يقدر أحد على السكون والقرار لكثرة ما سقط من الحيطان، وخرّ من السقوف والمآذن وغير ذلك من الأبنية، وفاض ماء النيل فيضا غير المعتاد، وألقى ما كان عليه من المراكب التي بالساحل قدر رمية سهم، وانحسر عنها فصارت على الأرض بغير ماء، واجتمع العالم في الصحراء خارج القاهرة وباتوا ظاهر باب البحر بحرمهم وأولادهم في الخيم، وخلت المدينة وتشعثت جميع البيوت حتى لم يسلم ولا بيت من سقوط أو تسقط أو ميل، وقام الناس في الجوامع يبتهلون ويسألون الله سبحانه طول يوم الخميس وليلة الجمعة ويوم الجمعة.(4/59)
فكان مما تهدّم في هذه الزلزلة: الجامع الحاكميّ، فإنه سقط كثير من البدنات التي فيه، وخرب أعالي المئذنتين، وتشعثت سقوفه وجدرانه، فانتدب لذلك الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير ونزل إليه ومعه القضاة والأمراء، فكشفه بنفسه وأمر برمّ ما تهدّم منه، وإعادة ما سقط من البدنات. فأعيدت وفي كلّ بدنة منها طاق، وأقام سقوف الجامع وبيّضه حتى عاد جديدا، وجعل له عدّة أوقاف بناحية الجيزة وفي الصعيد وفي الإسكندرية، تغلّ كلّ سنة شيئا كثيرا، ورتب فيه دروسا أربعة لإقراء الفقه على مذاهب الأئمة الأربعة، ودرسا لإقراء الحديث النبويّ، وجعل لكل درس مدرّسا وعدة كثيرة من الطلبة، فرتّب في تدريس الشافعية قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعيّ، وفي تدريس الحنفية قاضي القضاة شمس الدين أحمد السروجيّ الحنفيّ، وفي تدريس المالكية قاضي القضاة زين الدين عليّ بن مخلوف المالكيّ، وفي تدريس الحنابلة قاضي القضاة شرف الدين الجوّانيّ، وفي درس الحديث الشيخ سعد الدين مسعودا الحارثيّ، وفي درس النحو الشيخ أثير الدين أبا حيان، وفي درس القراءات السبع الشيخ نور الدين الشطنوفيّ، وفي التصدير لإفادة العلوم علاء الدين عليّ بن إسماعيل القونويّ، وفي مشيخة الميعاد المجد عيسى بن الخشاب، وعمل فيه خزانة كتب جليلة، وجعل فيه عدّة متصدّرين لتلقين القرآن الكريم، وعدّة قرّاء يتناوبون قراءة القرآن، ومعلما يقرئ أيتام المسلمين كتاب الله عز وجلّ، وحفر فيه صهريجا بصحن الجامع ليملأ في كل سنة من ماء النيل، ويسبل منه الماء في كلّ يوم ويستقي منه الناس يوم الجمعة، وأجرى على جميع من قرّره فيه معاليم داره، وهذه الأوقاف باقية إلى اليوم، إلّا أن أحوالها اختلت كما اختلّ غيرها، فكان ما أنفق عليه زيادة على أربعين ألف دينار.
وجرى في بنائه لهذا الجامع أمر يتعجب منه، وهو ما حدّثني به شيخنا الشيخ المعروف المسند المعمر أبو عبد الله محمد بن ضرغام بن شكر المقري بمكة، في سنة سبع وثمانين وسبعمائة قال: أخبرني من حضر عمارة الأمير بيبرس للجامع الحاكميّ عند سقوطه في سنة الزلزلة، أنّه لما شرع البناة في ترميم ما وهي من المئذنة التي هي من جهة باب الفتوح، ظهر لهم صندوق في تضاعيف البنيان، فأخرجه الموكل بالعمارة وفتحه، فإذا فيه قطن ملفوف على كف إنسان بزنده وعليه أسطر مكتوبة لم يدر ما هي، والكف طرية كأنها قريبة عهد بالقطع، ثم رأيت هذه الحكاية بخط مؤلف السيرة الناصرية موسى بن محمد بن يحيى، أحد مقدّمي الحلقة. ثم جدّد هذا الجامع وبلط جميعه في أيام الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون في ولايته الثانية، على يد الشيخ قطب الدين محمد الهرماس في سنة ستين وسبعمائة، ووقف قطعة أرض على الهرماس وأولاده، وعلى زيادة في معلوم الإمام بالجامع، وعلى ما يحتاج إليه في زيت الوقود ومرمّة في سقفه وجدرانه، وجرى في عمارة الجامع على يد الهرماس ما حدّثني به الشيخ المعمر شمس الدين محمد بن عليّ إمام(4/60)
الجامع الطيبرسيّ بشاطئ النيل، قال: أخبرني محمد بن عمر البوصيريّ قال: حدّثنا قطب الدين محمد الهرماس، أنه رأى بالجامع الحاكميّ حجرا ظهر من مكان قد سقط منقوش عليه هذه الأبيات الخمسة:
إنّ الذي أسررت مكنون اسمه ... وكتمته كيما أفوز بوصله
مال له جذر تساوى في الهجا ... طرفاه يضرب بعضه في مثله
فيصير ذاك المال إلّا أنّه ... في النصف منه تصاب أحرف كله
وإذا نطقت بربعه متكلما ... من بعد أوّله نطقت بكله
لا نقط فيه إذا تكامل عدّه ... فيصير منقوطا بجملة شكله
قال وهذه الأبيات لغز في الحجر المكرّم.
وقال العلامة شمس الدين محمد بن النقاش في كتاب العبر في أخبار من مضى وغبر:
وفي هذه السنة، يعني سنة إحدى وستين وسبعمائة، صودر الهرماس وهدمت داره التي بناها أمام الجامع الحاكميّ، وضرب ونفي هو وولده. فلما كان يوم الثلاثاء التاسع والعشرون من ذي القعدة استفتى السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون في وقف حصة طندتا، وهي الأرض التي كان قد سأله الهرماس أن يقفها على مصالح الجامع الحاكميّ فعين له خمسمائة وستين فدّانا من طين طندتا، وطلب الموقعين وأمرهم أن يكتبوا صورة وقفها ويحضروه ليشهدوا عليه به، وكان قد تقرّر من شروطه في أوقافه ما قيل أنه رواية عن أبي حنيفة رحمة الله تعالى عليه، من أنّ للواقف أن يشترط في وقفه التغيير والزيادة والنقص وغير ذلك، فأحضر الكركيّ الموقع إليه الكتاب مطويا، فقرأ منه طرّته وخطبته وأوّله، ثم طواه وأعاده إليه مطويا وقال: اشهدوا بما فيه دون قراءة وتأمل، فشهدوا هم بالتفصيل الذي كتبوه وقرّروه مع الهرماس، ولما اطلع السلطان على ذلك بعد نفي الهرماس طلب الكركيّ وسأله عن هذه الواقعة فأجاب بما قد ذكرنا والله أعلم بصحة ذلك. غير أن المعلوم المقرّر أن السلطان ما قصد إلّا مصالح الجامع، نعم سأله أزدمر الخازندار، هل وقفت حصة لطيفة على أولاد الهرماس فإنه قد ذكر ذلك؟ فقال: نعم أنا وقفت عليهم جزأ يسيرا لم أعلم مقداره، وأما التفصيل المذكور في كتاب الوقف فلم أتحققه ولم أطلع عليه، فاستفتى المفتين في هذه الواقعة، فأمّا المفتون كابن عقيل وابن السبكيّ والبلقينيّ والبسطاميّ والهنديّ وابن شيخ الجبل والبغداديّ ونحوهم، فأجابوا ببطلان الحكم المترتب على هذه الشهادة الباطلة، وبطلان التنفيذ، وكان الحنفيّ حكم والبقية نفذوا، وأما الحنفيّ فقال: إنّ الوقف إذا صدر صحيحا على الأوضاع الشرعية فإنه لا يبطل بما قاله الشاهد، وهو جواب عن نفس الواقعة، وأما الشافعيّ فكتب ما مضمونه: إنّ الحنفيّ إن اقتضى مذهبه بطلان ما صححه أوّلا نفذ بطلانه، وحاصل ذلك أن القضاة أجابوا بالصحة، والمفتين أجابوا بالبطلان. فطلب(4/61)
السلطان المفتين والقضاة، فلم يحضر من الحكام غير نائب الشافعيّ، وهو تاج الدين محمد بن إسحاق بن المناويّ، والقضاة الثلاثة الشافعيّ والحنفيّ والحنبليّ وجدوا مرضى لم يمكنهم الحضور إلى سرياقوس، فإن السلطان كان قد سرح إليها على العادة في كلّ سنة، فجمعهم السلطان في برج من القصر الذي بميدان سرياقوس عشاء الآخرة، وذكر لهم القضية وسألهم عن حكم الله تعالى في الواقعة. فأجاب الجميع بالبطلان، غير المناوي فإنه قال:
مذهب أبي حنيفة أن الشهادة الباطلة إذا اتصل بها الحكم صح ولزم. فصرخت عليه المفتون شافعيهم وحنفيهم. أمّا شافعيهم فإنه قال: ليس هذا مذهبك ولا مذهب الجمهور، ولا هو الراجح في الدليل والنظر. وقال له ابن عقيل: هذا مما ينقض به الحكم لو حكم به حاكم وادّعى قيام الإجماع على ذلك. وقال له سراج الدين البلقينيّ: ليس هذا مذهب أبي حنيفة، ومذهبه في العقود والفسوخ ما ذكرت من أن حكم الحاكم يكون هو المعتمد في التحليل والتحريم، وأمّا الأوقاف ونحوها فحكم الحاكم فيها لا أثر له كمذهب الشافعيّ، وادّعوا أن الإجماع قائم على ذلك، وقاموا على المناويّ في ذلك قومة عظيمة فقال: نحن نحكم بالظاهر. فقالوا له: ما لم يظهر الباطن بخلافه. فقال: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: نحن نحكم بالظاهر. قالوا هذا الحديث كذب على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وإنما الحديث الصحيح حديث: «إنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض الحديث» قال المناويّ: الأحكام ما هي بالفتاوى. قالوا له: فبماذا تكون؟ أفي الوجود حكم شرعيّ بغير فتوى من الله ورسوله؟ وكان قد قال في مجلس ابن الدريهم: القائم على نفيس اليهوديّ المدعوّ برأس الجالوت بين اليهود لا يلتفت لقول المفتي. فقيل له: في هذا المجلس ها أنت قد قلت مرّتين أنّ المفتين لا يعتبر قولهم، وأنّ الفتاوى لا يعتدّ بها، وقد أخطأت في ذلك أشدّ الخطأ، وأنبأت عن غاية الجهل، فإن منصب الفتوى أوّل من قام به ربّ العالمين إذ قال في كتابه المبين:
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ
[النساء/ 176] وقال يوسف عليه السّلام:
قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ
[يوسف/ 41] وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لعائشة رضي الله عنها: «قد أفتاني الله ربي فيما استفتيته» وكلّ حكم جاء على سؤال سائل تكفل ببيانه قرآن أو سنة فهو فتوى، والقائم به مفت، فكيف تقول لا يلتفت إلى الفتوى أو إلى المفتين؟ فقال سراج الدين الهنديّ وغيره: هذا كفر، ومذهب أبي حنيفة أن من استخف بالفتوى أو المفتين فهو كافر، فاستدرك نفسه بعد ذلك وقال: لم أرد إلّا أنّ الفتوى إذا خالف المذهب فهي باطلة. قالوا له: وأخطأت في ذلك أيضا، لأنّ الفتوى قد تخالف المذهب المعين ولا تخالف الحق في نفس الأمر. قال: فأردت بالفتوى التي تخالف الحقّ. قالوا: فأطلقت في موضع التقييد وذلك خطأ. فقال السلطان حينئذ: فإذا قدّر هذا وادّعيت أن الفتوى لا أثر لها، فنبطل(4/62)
المفتين والفتوى من الوجود. فتلكأ وحار وقال: كيف أعمل في هذا؟ فتبين لبعض الحاضرين أنه استشكل المسألة، ولم يتبين له وجهها. فقال: لا شك أنّ مولانا السلطان لم ينكر صدور الوقف، وإنما أنكر المصارف، وأن تكون الجهة التي عينها هي هرماس وشهوده وقضاته، وللسلطان أن يحكم فيها بعلمه، ويبطل ما قرّروه من عند أنفسهم. قال: كيف يحكم لنفسه؟ قيل له: ليس هذا حكما لنفسه، لأنه مقرّ بأصل الوقف، وهو للمستحقين ليس له فيه شيء، وإنما بطل وصف الوقف، وهو المصرف الذي قرّر على غير جهة الوقف، وله أن يوقع الشهادة على نفسه بحكم أن مصرّف هذا الوقف الجهة الفلانية دون الفلانية.
ولم يزالوا يذكرون له أوجها تبين بطلان الوقف إمّا بأصله أو بوصفه إلى أن قال: يبطل بوصفه دون أصله، وأذعن لذلك بعد إتعاب من العلماء. وإزعاج شديد من السلطان في بيان وجوه ذكروها تبين وجه الحق، وأنه إنما وقفه على مصالح الجامع المذكور. وهذا مما لا يشك فيه عاقل ولا يرتاب. فالتفت بعد ذلك وقال للحاضرين: كيف نعمل في إبطاله؟
فقالوا: بما قرّرناه من إشهاد السلطان على نفسه بتفصيل صحيح، وأنه لم يزل كذلك منذ صدر منه الوقف إلى هذا الحدّ، وغير ذلك من الوجوه. فجعل يوهم السلطان أن الشهود الذين شهدوا في هذا الوقف متى بطل هذا الوقف ثبت عليهم التساهل وجرحوا بذلك، وقدح ذلك في عدالتهم، ومتى جرحوا الآن لزم بطلان شهادتهم في الأوقاف المتقدّمة على هذا التاريخ، وخيل بذلك للسلطان حتى ذكر له إجماع المسلمين على أن جرح الشاهد لا ينعطف على ما مضى من شهاداته السالفة ولو كفر، والعياذ بالله، وهذا مما لا خلاف فيه.
ثم استقرّ رأيه على أن يبطله بشاهدين يشهدان أن السلطان لمّا صدر منه هذا الوقف كان قد اشترط لنفسه التغيير والتبديل والزيادة والنقص وقام على ذلك.
قال مؤلفه رحمه الله: انظر تثبت القضاة، وقايس بين هذه الواقعة وما كان من تثبت القاضي تاج الدين المناوي، وهو يومئذ خليفة الحكم ومصادمته الجبال، وبين ما ستقف عليه من التساهل والتناقض في خبر أوقاف مدرسة جمال الدين يوسف الأستادار، وميّز بعقلك فرق ما بين القضيتين. وهذه الأرض التي ذكرت هي الآن بيد أولاد الهرماس بحكم الكتاب الذي حاول السلطان نقضه، فلم يوافق المناويّ. والجامع الآن متهدّم وسقوفه كلها ما من زمن إلّا ويسقط منها الشيء بعد الشيء فلا يعاد، وكانت ميضأة هذا الجامع صغيرة بجوار ميضأته الآن، فيما بينها وبين باب الجامع، وموضعها الآن مخزن تعلوه طبقة عمرها شخص من الباعة يعرف بابن كرسون المراحليّ، وهذه الميضأة الموجودة الآن أحدثت وأنشأ الفسقية التي فيها ابن كرسون في أعوام بضع وثمانين وسبعمائة، وبيّض مئذنتي الجامع، واستجدّ المئذنة التي بأعلى الباب المجاور للمنبر رجل من الباعة، وكملت في جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين وثمانمائة، وخرق سقف الجامع حتى صار المؤذنون ينزلون من السطح إلى الدكة التي يكبرون فوقها وراء الإمام.(4/63)
«هيئة صلاة الجمعة في أيام الخلفاء الفاطميين» قال المسبحيّ: وفي يوم الجمعة غرّة رمضان سنة ثمانين وثلاثمائة ركب العزيز بالله إلى جامع القاهرة بالمظلة المذهبة وبين يديه نحو خمسة آلاف ماش، وبيده القضيب، وعليه الطيلسان والسيف. فخطب وصلّى صلاة الجمعة وانصرف، فأخذ رقاع المتظلمين بيده وقرأ منها عدّة في الطريق، وكان يوما عظيما ذكرته الشعراء. قال ابن الطوير: إذا انقضى ركوب أوّل شهر رمضان استراح في أوّل جمعة، فإذا كانت الثانية ركب الخليفة إلى الجامع الأنور الكبير في هيئة المواسم بالمظلة وما تقدّم ذكره من الآلات، ولباسه فيه ثياب الحرير البيض توقيرا للصلاة من الذهب، والمنديل والطيلسان المقوّر الشعريّ، فيدخل من باب الخطابة والوزير معه بعد أن يتقدّمه في أوائل النهار صاحب بيت المال، وهو المقدّم ذكره في الأستاذين، وبين يديه الفرش المختصة بالخليفة إذا صار إليه في هذا اليوم، وهو محمول بأيدي الفرّاشين المميزين، وهو ملفوف في العراضي الديبقية، فيفرش في المحراب ثلاث طرّاحات أماسامان، أو ديبقيّ أبيض، أحسن ما يكون من صنفهما، كلّ منهما منقوش بالحمرة. فتجعل الطرّاحات متطابقات، ويعلّق ستران يمنة ويسرة، وفي الستر الأيمن كتابة مرقومة بالحرير الأحمر واضحة، منقوطة أوّلها البسملة والفاتحة وسورة الجمعة، وفي الستر الأيسر مثل ذلك، وسورة إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ
قد أسبلا وفرشا في التعليق بجانبي المحراب لاصقين بجسمه، ثم يصعد قاضي القضاة المنبر وفي يده مدخنة لطيفة خيزران يحضرها إليه صاحب بيت المال فيها جمرات، ويجعل فيها ندّ مثلث لا يشمّ مثله إلّا هناك، فيجز الذروة التي عليها الغشاء كالقبة لجلوس الخليفة للخطابة، ويكرّر ذلك ثلاث دفعات، فيأتي الخليفة في هيئة موقرة من الطبل والبوق، وحوالي ركابه خارج أصحاب الركاب القرّاء، وهم قرّاء الحضرة من الجانبين يطرّبون بالقراءة نوبة بعد نوبة، يستفتحون بذلك من ركوبه من الكرسيّ على ما تقدّم طول طريقه إلى قاعة الخطابة من الجامع، ثم تحفظ المقصورة من خارجها بترتيب أصحاب الباب واسفهسلار العساكر، ومن داخلها إلى آخرها صبيان الخاص وغيرهم ممن يجري مجراهم، ومن داخلها من باب خروجه إلى المنبر واحد فواحد، فيجلس في القاعة، وإن احتاج إلى تجديد وضوء فعل، والوزير في مكان آخر، فإذا أذّن بالجمعة دخل إليه قاضي القضاة فقال له: السلام على أمير المؤمنين الشريف القاضي ورحمة الله وبركاته، الصلاة يرحمك الله. فيخرج ماشيا وحواليه الأستاذون المحنكون، والوزير وراءه، ومن يليهم من الخواص وبأيديهم الأسلحة من صبيان الخاص، وهم أمراء وعليهم هذا الاسم، فيصعد المنبر إلى أن يصل إلى الذروة تحت تلك القبة المبخرة، فإذا استوى جالسا والوزير على باب المنبر ووجهه إليه، فيشير إليه بالصعود فيصعد إلى أن يصل إليه، فيقبل يديه ورجليه بحيث يراه الناس، ثم يزرر عليه تلك القبة لأنها كالهودج، ثم ينزل مستقبلا، فيقف ضابطا لباب المنبر، فإن لم يكن ثمّ وزير صاحب سيف، زرّر عليه قاضي القضاة كذلك،(4/64)
ووقف صاحب الباب ضابطا للمنبر.
فيخطب خطبة قصيرة من مسطور يحضر إليه من ديوان الإنشاء، يقرأ فيها آية من القرآن الكريم، ولقد سمعته مرّة في خطابته بالجامع الأزهر وقد قرأ في خطبته رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ
الآية، ثم يصلي على أبيه وجدّه، يعني بهما محمدا صلّى الله عليه وسلّم وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، ويعظ الناس وعظا بليغا قليل اللفظ، وتشتمل الخطبة على ألفاظ جزلة، ويذكر من سلف من آبائه حتى يصل إلى نفسه فقال: وأنا أسمعه، اللهمّ وأنا عبدك وابن عبدك لا أملك لنفسي ضرّا ولا نفعا، ويتوسل بدعوات فخمة تليق بمثله، ويدعو للوزير إن كان، وللجيوش بالنصر والتأليف، وللعساكر بالظفر وعلى الكافرين، والمخالفين بالهلاك والقهر، ثم يختم بقوله اذكروا الله يذكركم. فيطلع إليه من زرّر عليه ويفك ذلك التزرير وينزل القهقرى، وسبب التزرير عليهم قراءتهم من مسطور لا كعادة الخطباء، فينزل الخليفة ويصير على تلك الطرّاحات الثلاث في المحراب وحده إماما، ويقف الوزير وقاضي القضاة صفا، ومن ورائهما الأستاذون المحنكون والأمراء المطوّقون وأرباب الرتب من أصحاب السيوف والأقلام والمؤذنون وقوف، وظهورهم إلى المقصورة لحفظه، فإذا سمع الوزير الخليفة أسمع القاضي فأسمع القاضي المؤذنين وأسمع المؤذنون الناس، هذا والجامع مشحون بالعالم للصلاة وراءه، فيقرأ ما هو مكتوب في الستر الأيمن في الركعة الأولى، وفي الركعة الثانية ما هو مكتوب في الستر الأيسر، وذلك على طريق التذكار خيفة الارتجاج، فإذا فرغ خرج الناس وركبوا أوّلا فأوّلا وعاد طالبا القصر والوزير وراءه، وضربت البوقات والطبول في العود، فإذا أتت الجمعة الثانية ركب إلى الجامع الأزهر من القشاشين على المنوال الذي ذكرناه والقالب الذي وصفناه، فإذا كانت الجمعة الثالثة أعلم بركوبه إلى مصر للخطابة في جامعها، فيزين له من باب القصر أهل القاهرة إلى جامع ابن طولون، ويزين له أهل مصر من جامع ابن طولون إلى الجامع بمصر، يرتب ذلك والي مصر، كلّ أهل معيشة في مكان، فيظهر المختار من الآلات والستور المثمنات ويهتمون بذلك ثلاثة أيام بلياليهنّ والوالي مارّ وعائد بينهم، وقد ندب من يحفظ الناس ومتاعهم، فيركب يوم الجمعة المذكور شاقا لذلك كله على الشارع الأعظم إلى مسجد عبد الله الخراب اليوم، إلى دار الأنماط إلى الجامع بمصر، فيدخل إليه من المعونة، ومنها باب متصل بقاعة الخطيب بالزيّ الذي تقدّم ذكره في خطبة الجامعين بالقاهرة، وعلى ترتيبهما. فإذا قضى الصلاة عاد إلى القاهرة من طريقه بعينها شاقا بالزينة إلى أن يصل إلى القصر، ويعطى أرباب المساجد التي يمرّ عليها كلّ واحد دينارا.
وقال ابن المأمون: ووصل من الطراز الكسوة المختصة بغرّة شهر رمضان وجمعتيه برسم الخليفة للغرّة بدلة كبيرة موكبية مكملة مذهبة، وبرسم الجامع الأزهر للجمعة الأولى من الشهر بدلة موكبية حرير مكملة منديلها وطيلسانها بياض، وبرسم الجامع الأنور للجمعة(4/65)
الثانية بدلة منديلها وطيلسانها شعريّ، وما هو برسم أخي الخليفة للغرّة خاصة بدلة مذهبة، وبرسم أربع جهات للخليفة أربع حلل مذهبات، وبرسم الوزير للغرّة خلعة مذهبة مكملة موكبية، وبرسم الجمعتين بدلتان حريرتان، ولم يكن لغير الخليفة وأخيه والوزير في ذلك شيء فنذكره.
جامع راشدة
هذا الجامع عرف بجامع راشدة لأنه في خطة راشدة. قال القضاعيّ: خطة راشدة بن أدوب بن جديلة من لخم، هي متاخمة للخطة التي قبلها إلى الدير المعروف كان بأبي تكموس، ثم هدم وهو الجامع الكبير الذي براشدة، وقد دثرت هذه الخطة، ومنها المقبرة المعروفة بمقبرة راشدة، والجنان التي كانت تعرف بكهمس بن معر، ثم عرفت بالماردانيّ، وهي اليوم تعرف بالأمير تميم.
وقال المسبحيّ في حوادث سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة، وابتدئ بناء جامع راشدة في سابع عشر ربيع الآخر، وكان مكانه كنيسة حولها مقابر لليهود والنصارى، فبني بالطوب ثم هدم وزيد فيه وبنى بالحجر، وأقيمت به الجمعة، وقال: في سنة خمس وتسعين وثلاثمائة وفيه، يعني شهر رمضان، فرش جامع راشدة وتكامل فرشه وتعليق قناديله وما يحتاج إليه، وركب الحاكم بأمر الله عشية يوم الجمعة الخامس عشر منه وأشرف عليه.
وقال: في سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة وفيه، يعني شهر رمضان، صلّى الحاكم بجامعه الذي أنشأه براشدة صلاة الجمعة، وخطب. وفي شهر رمضان سنة أربعمائة أنزل بقناديل وتنور من فضة زنتها ألوف كثيرة، فعلّقت بجامع راشدة. وفي سنة إحدى وأربعمائة هدم وابتدئ في عمارته من صفر، وفي شهر رمضان سنة ثلاث وأربعمائة صلّى الحاكم في جامع راشدة صلاة الجمعة وعليه عمامة بغير جوهر، وسيف محلى بفضة بيضاء دقيقة، والناس يمشون بركابه من غير أن يمنع أحد منه، وكان يأخذ قصصهم ويقف وقوفا طويلا لكلّ منهم، واتفق يوم الجمعة حادي عشر جمادى الآخرة سنة أربع عشرة وأربعمائة أن خطب فيه خطبتان معا على المنبر، وذلك أنّ أبا طالب عليّ بن عبد السميع العباسيّ استقرّ في خطابته بإذن قاضي القضاة أبي العباس أحمد بن محمد بن العوّام، بعد سفر العفيف البخاريّ إلى الشام، فتوصل ابن عصفورة إلى أن خرج له أمر أمير المؤمنين الظاهر لإعزاز دين الله أبي الحسن عليّ بن الحاكم بأمر الله، أن يخطب. فصعدا جميعا المنبر ووقف أحدهما دون الآخر وخطبا معا، ثم بعد ذلك استقرّ أبو طالب خطيبا، وأن يكون ابن عصفورة يخلفه. وقال ابن المتوّج: هذا الجامع فيما بين دير الطين والفسطاط، وهو مشهور الآن بجامع راشدة، وليس بصحيح. وإنما جامع راشدة كان جامعا قديم البناء بجوار هذا الجامع، عمر في زمن الفتح، عمرته راشدة، وهي قبيلة من القبائل كقبيلة تجيب ومهرة نزلت في هذا المكان، وعمروا فيه(4/66)
جامعا كبيرا أدركت أنا بعضه ومحرابه، وكان فيه نخل كثير من نخل المقل، ومن جملة ما رأيت فيه نخلة من المقل عددت لها سبعة رؤوس مفرّعة منها، فذاك الجامع هو المعروف بجامع راشدة، وأما هذا الموجود الآن فمن عمارة الحاكم، ولم يكن في بناء الجوامع أحسن من بنائه، وقيل عمرته حظية الخليفة وكان اسمها راشدة وليس بصحيح، والأوّل هو الصحيح. وفيه الآن نخل وسدر وبئر وساقية رجل، وهو مكان خلوة وانقطاع ومحل عبادة وفراغ من تعلقات الدنيا.
قال مؤلفه: هذا وهم من ابن المتوّج في موضعين: أولهما أن راشدة عمرت هذا الجامع في زمن فتح مصر، وهذا قول لم يقله أحد من مؤرخي مصر، فهذا الكنديّ، ثم القضاعيّ، وعليهما يعوّل في معرفة خطط مصر. ومن قبلهما ابن عبد الحكم، لم يقل أحد منهم أن راشدة عمرت زمن الفتح مسجدا، ولا يعرف من هذا السلف رحمهم الله في جند من أجناد الأمصار التي فتحتها الصحابة رضي الله عنهم أنهم أقاموا خطبتين في مسجد واحد، وقد حكينا ما تقدّم عن المسبحيّ وهو مشاهد ما نقله من بناء الجامع المذكور في موضع الكنيسة بأمر الحاكم بأمر الله، وتغييره لبنائه غير مرّة، وتبعه القضاعيّ على ذلك، وقد عدّ القضاعيّ والكنديّ في كتابيهما المذكور فيهما خطط مصر ما كان بمصر من مساجد الخطبة القديمة والمحدثة، وذكرا مساجد راشدة، ولم يذكرا فيها جامعا اختطته راشدة، وذكرا هذا الدير، وعين القضاعيّ اسمه، هدم وبني في مكانه جامع راشدة، وناهيك بهما معرفة لآثار مصر وخططها.
والوهم الثاني: الاستدلال على الوهم الأوّل بمشاهدة بقايا مسجد قديم ولا أدري كيف يستدل بذلك، فمن أنكر أن يكون قد كان هناك مسجد، بل المدّعي أنه كان لراشدة مساجد، لكن كونها اختطت جامعا هذا غير صحيح. وقال ابن أبي طيّ في أخبار سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة في كتابه تاريخ حلب: كانت النصارى اليعقوبية قد شرعوا في إنشاء كنيسة كانت قد اندرست لهم بظاهر مصر في الموضع المعروف براشدة، فثار قوم من المسلمين وهدموا ما بنى النصارى وأنهي إلى الحاكم ذلك، قيل له إنّ النصارى ابتدأوا بناءها، وقال النصارى إنها كانت قبل الإسلام، فأمر الحاكم الحسين بن جوهر بالنظر في حال الفريقين، فمال في الحكم مع النصارى، وتبين للحاكم ذلك، فأمر أن تبنى تلك الكنيسة مسجدا جامعا، فبنى في أسرع وقت، وهو جامع راشدة. وراشدة اسم للكنيسة، وكان بجواره كنيستان إحداهما لليعقوبية والأخرى للنسطورية، فهدمتا أيضا وبنيتا مسجدين، كان في حارة الروم بالقاهرة آدر للروم وكنيستان لهم، فهدمتا وجعلتا مسجدين أيضا، وحوّل الروم إلى الموضع المعروف بالحمراء وأسس الروم ثلاث كنائس عوضا عما هدم لهم، وهذا أيضا مصرّح بأن جامع راشدة أسسه الحاكم، وفيه وهم لكونه جعل راشدة اسما للكنيسة، وإنما راشدة اسم لقبيلة من العرب نزلوا عند الفتح هناك فعرفت تلك البقاع بخطة راشدة، وقد(4/67)
جدّد جامع راشدة مرارا، وأدركته عامرا تقام فيه الجمعة ويمتلئ بالناس لكثرة من حوله من السكان، وإنما تعطل من إقامة الجمعة بعد حوادث سنة ست وثمانمائة. وقال الشريف محمد بن أسعد الجوّانيّ النسابة: راشدة بطن من لخم، وهم ولد راشدة بن الحارث بن أدّ بن جديلة من لخم بن عديّ بن الحارث بن مرّة بن أدد، وقيل راشدة بن أدوب، ويقال لراشدة خالفة، ولهم خطة بمصر بالجبل المعروف بالرصد، المطلّ على بركة الحبش، وقد دثرت الخطة ولم يبق في موضعها إلّا الجامع الحاكميّ المعروف بجامع راشدة.
جامع المقس
هذا الجامع أنشأه الحاكم بأمر الله على شاطىء النيل بالمقس في «1» لأنّ المقس كان خطة كبيرة، وهي بلد قديم من قبل الفتح، كما تقدّم ذكر ذلك في هذا الكتاب.
وقال في الكتاب الذي تضمن وقف الحاكم بأمر الله الأماكن بمصر على الجوامع، كما ذكر في خبر الجامع الأزهر ما نصه: ويكون جميع ما بقي مما تصدّق به على هذه المواضع، يصرف في جميع ما يحتاج إليه في جامع المقس المذكور، من عمارته، ومن تمن الحصر العبدانية والمظفورة، وثمن العود للبخور، وغيره على ما شرح من الوظائف في الذي تقدّم، وكان لهذا الجامع نخل كثير في الدولة الفاطمية، ويركب الخليفة إلى منظرة كانت بجانبه عند عرض الأسطول فيجلس بها لمشاهدة ذلك كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب عند ذكر المناظر، وفي سنة سبع وثمانين وخمسمائة انشقت زريبة من هذا الجامع في شهر رمضان لكثرة زيادة ماء النيل، وخيف على الجامع السقوط فأمر بعمارتها. ولما بنى السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب هذا السور الذي على القاهرة، وأراد أن يوصله بسور مصر من خارج باب البحر إلى الكوم الأحمر، حيث منشأة المهرانيّ اليوم، وكان المتولي لعمارة ذلك الأمير بهاء الدين قراقوش الأسديّ، أنشأ بجوار جامع المقس برجا كبيرا عرف بقلعة المقس في مكان المنظرة التي كانت للخلفاء، فلما كان في سنة سبعين وسبعمائة جدّد بناء هذا الجامع الوزير الصاحب شمس الدين عبد الله المقسيّ، وهدم القلعة وجعل مكانها جنينة، واتهمه الناس بأنه وجد هنالك مالا كثيرا، وأنه عمر منه الجامع المذكور، فصار العامّة اليوم يقولون جامع المقسيّ، ويظنّ من لا علم عنده أن هذا الجامع من إنشائه، وليس كذلك، بل إنما جدّده وبيضه، وقد انحسر ماء النيل عن تجاه هذا الجامع كما ذكر في خبر بولاق والمقس، وصار هذا الجامع اليوم على حافة الخليج الناصريّ، وأدركنا ما حوله في غاية العمارة، وقد تلاشت المساكن التي هناك وبها إلى اليوم بقية يسيرة، ونظر هذا الجامع اليوم بيد أولاد الوزير المقسيّ، فإنه جدّده وجعل عليه أوقافا لمدرّس وخطيب وقومة ومؤذنين وغير ذلك.(4/68)
وقال جامع السيرة الصلاحية: وهذا المقسم على شاطىء النيل يزار، وهناك مسجد يتبرّك به الأبرار، وهو المكان الذي قسمت فيه الغنيمة عند استيلاء الصحابة رضي الله عنهم على مصر، فلما أمر السلطان صلاح الدين بإدارة السور على مصر والقاهرة، تولى ذلك بهاء الدين قراقوش وجعل نهايته التي تلي القاهرة عند المقس، وبنى فيه برجا يشرف على النبل، وبنى مسجده جامعا، واتصلت العمارة منه إلى البلد، وصار تقام فيه الجمع والجماعات.
العزيز بالله: أبو النصر نزار بن المعز لدين الله أبي تميم معدّ، ولد بالمهدية من بلاد أقريقية في يوم الخميس الرابع عشر من المحرّم سنة أربع وأربعين وثلاثمائة، وقدم مع أبيه إلى القاهرة، وولي العهد. فلما مات المعز لدين الله أقيم من بعده في الخلافة يوم الرابع عشر من شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين وثلاثمائة فأذعن له سائر عساكر أبيه واجتمعوا عليه، وسيّر بذهب إلى بلاد المغرب، فرّق في الناس، واقرّ يوسف بن ملكين على ولاية إفريقية، وخطب له بمكة، ووافى الشام عسكر القرامطة فصاروا مع أفتكين التركيّ، وقوي بهم وساروا إلى الرملة وقاتلوا عساكر العزيز بيافا، فبعث العزيز جوهر القائد بعساكر كثيرة وملك الرملة وحاصر دمشق مدّة، ثم رحل عنها بغير طائل، فأدركه القرامطة وقاتلوه بالرملة وعسقلان نحو سبعة عشر شهرا، ثم خلص من تحت سيوف افتكين وسار إلى العزيز فوافاه وقد برز من القاهرة، فسار معه ودخل العزيز إلى الرملة وأسر أفتكين في المحرّم سنة ثمان وستين وثلاثمائة فأحسن إليه وأكرمه إكراما زائدا.
فكتب إليه الشريف أبو إسماعيل إبراهيم الرئيس يقول: يا مولانا لقد استحق هذا الكافر كلّ عذاب، والعجب من الإحسان إليه؟ فلما لقيه قال: يا إبراهيم قرأت كتابك في أمر أفتكين، وأنا أخبرك. اعلم أنا قد وعدناه الإحسان والولاية، فلما قبل وجاء إلينا نصب فازاته وخيامه حذاءنا، وأردنا منه الانصراف فلج وقاتل، فلما ولى منهزما وسرت إلى فازاته ودخلتها سجدت لله شكرا وسألته أن يفتح لي بالظفر به، فجيء به بعد ساعة أسيرا، أترى يليق بي غير الوفاء.
ولما وصل العزيز إلى القاهرة اصطنع افتكين وواصله بالعطايا والخلع، حتى قال لقد احتشمت من ركوبي مع الخليفة مولانا العزيز بالله، ونظري إليه بما غمرني من فضله وإحسانه، فلما بلغ العزيز ذلك قال لعمه حيدرة: يا عمّ أحبّ أن أرى النعم عند الناس ظاهرة، وأرى عليهم الذهب والفضة والجواهر، ولهم الخيل واللباس والضياع والعقار، وأن يكون ذلك كله من عندي. ومات بمدينة بلبيس من مرض طويل بالقولنج والحصاة، في اليوم الثامن والعشرين من شهر رمضان سنة ست وثمانين وثلاثمائة فحمل إلى القاهرة ودفن بتربة القصر مع آبائه. وكانت مدّة خلافته بعد أبيه المعز إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفا، ومات وعمره اثنتان وأربعون سنة وثمانية أشهر وأربعة عشر يوما. وكان نقش(4/69)
خاتمة: بنصر العزيز الجبار ينتصر الإمام نزار. ولما مات وحضر الناس إلى القصر للتعزية أفحموا عن أن يوردوا في ذلك المقام شيئا، ومكثوا مطرقين لا ينبسون، فقام صبيّ من أولاد الأمراء الكنانيين وفتح باب التعزية وأنشد:
أنظر إلى العلياء كيف تضام ... ومآتم الأحساب كيف تقام
خبرنني ركب الركاب ولم يدع ... للسفر وجه ترحل فأقاموا
فاستحسن الناس إيراده وكأنه، طرّق لهم كيف يوردون المراثي، فنهض الشعراء والخطباء حينئذ وعزوا وأنشد كلّ واحد ما عمل في التعزية، وخلّف من الأولاد ابنه المنصور، وولي الخلافة من بعده، وابنة تدعى سيدة الملك، وكان أسمر طوالا، أصهب الشعر، أعين أشهل عريض المنكبين، شجاعا كريما حسن العفو والقدرة، لا يعرف سفك الدماء البتة، مع حسن الخلق والقرب من الناس، والمعرفة بالخيل وجوارح الطير، وكان محبا للصيد مغرىّ به حريصا على صيد السباع، ووزر له يعقوب بن كلس اثنتي عشرة سنة وشهرين وتسعة عشر يوما، ثم من بعده عليّ بن عمر العدّاس سنة واحدة، ثم أبو الفضل جعفر بن الفرات سنة، ثم أبو عبد الله الحسين بن الحسن البازيار سنة وثلاثة أشهر، ثم أبو محمد بن عمار شهرين، ثم الفضل بن صالح الوزيريّ أياما، ثم عيسى بن نسطورس سنة وعشرة أشهر.
وكانت قضاته: أبو طاهر محمد بن أحمد، أبو الحسن عليّ بن النعمان، ثم أبو عبد الله محمد بن النعمان. وخرج إلى السفر أوّلا في صفر سنة سبع وستين، وعاد من العباسية وخرج ثانيا وظفر بأفتكين، وخرج ثالثا في صفر سنة اثنتين وسبعين، ورجع بعد شهر إلى قصره بالقاهرة، وخرج رابعا في ربيع الأوّل سنة أربع وستين، فنزل منية الأصبغ وعاد بعد ثمانية أشهر واثني عشر يوما، وخرج خامسا في عاشر ربيع الآخر سنة خمس وثمانين، فأقام مبرّزا أربعة عشر شهرا وعشرين يوما، ومات في هذه الخرجة ببلبيس. وهو أوّل من اتخذ من أهل بيته وزيرا، أثبت اسمه على الطرز، وقرن اسمه باسمه، وأوّل من لبس منهم الخفين والمنطقة، وأوّل من اتخذ منهم الأتراك واصطنعهم وجعل منهم القوّاد، وأوّل من رمى منهم بالنشاب، وأوّل من ركب منهم بالذؤابة الطويلة والحنك وضرب الصوالجة ولعب بالرمح، وأوّل من عمل مائدة في الشرطة السفلى في شهر رمضان يفطر عليها أهل الجامع العتيق، وأقام طعاما في جامع القاهرة لمن يحضر في رجب وشعبان ورمضان، واتخذ الحمير لركوبه إياها، وكانت أمّه أمّ ولد اسمها درزارة، وكان يضرب بأيامه المثل في الحسن، فإنها كانت كلها أعيادا وأعراسا لكثرة كرمه ومحبته للعفو واستعماله لذلك، ولا أعلم له بمصر من الآثار غير تأسيس الجامع الحاكميّ، وما عدا ذلك فذهب اسمه ومحي رسمه.(4/70)
الحاكم بأمر الله: أبو عليّ منصور بن العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله أبي تميم معدّ، ولد بالقصر من القاهرة المعزية، ليلة الخميس الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول سنة خمس وسبعين وثلاثمائة في الساعة التاسعة، والطالع من برج السرطان سبع وعشرون درجة، وسلّم عليه بالخلافة في مدينة بلبيس بعد الظهر من يوم الثلاثاء عشري شهر رمضان سنة ست وثمانين وثلاثمائة وسار إلى القاهرة في يوم الأربعاء بسائر أهل الدولة والعزيز في قبة على ناقة بين يديه، وعلى الحاكم دراعة مصمت وعمامة فيها الجوهر، وبيده رمح وقد تقلد السيف. ولم يفقد من جميع ما كان مع العساكر شيء، ودخل القصر قبل صلاة المغرب، وأخذ في جهاز أبيه العزيز بالله ودفنه، ثم بكر سائر أهل الدولة إلى القصر يوم الخميس، وقد نصب للحاكم سرير من ذهب عليه مرتبة مذهبة في الإيوان الكبير، وخرج من قصره راكبا عليه معممة الجوهر والناس وقوف في صحن الإيوان، فقبلوا له الأرض ومشوا بين يديه حتى جلس على السرير، فوقف من رسمه الوقوف، وجلس من له عادة أن يجلس، وسلّم الجميع عليه بالإمامة واللقب الذي اختير له، وهو الحاكم بأمر الله، وكان سنّه يومئذ إحدى عشرة سنة وخمسة أشهر وستة أيام، فجعل أبا محمد الحسن بن عمار الكنديّ واسطة، ولقب بأمين الدولة، وأسقط مكوسا كانت بالساحل، وردّ إلى الحسين بن جوهر القائد البريد والإنشاء، فكان يخلفه ابن سورين، وأقرّ عيسى بن نسطورس على ديوان الخاص، وقلد سليمان بن جعفر بن فلاح الشام، فخرج ينجو تكين من دمشق وسار منها لمدافعة سليمان بن جعفر بن فلاح، فبلغ الرملة وانضمّ إليه ابن الجرّاح الطائيّ في كثير من العرب، وواقع ابن فلاح فانهزم وفرّ، ثم أسر فحمل إلى القاهرة وأكرم، واختلف أهل الدولة على ابن عمار، ووقعت حروب آلت إلى صرفه عن الوساطة. وله في النظر أحد عشر شهرا غير خمسة أيام، فلزم داره وأطلقت له رسوم وجرايات، وأقيم الطواشي برجوان الصقليّ مكانه في الوساطة لثلاثة بقين من رمضان سنة سبع وثمانين وثلاثمائة فجعل كاتبه فهد بن إبراهيم يوقع عنه، ولقبه بالرئيس، وصرف سليمان بن فلاح عن الشام بجيش بن الصمصامة، وقلد فحل بن إسماعيل الكتاميّ مدينة صور، وقلد يانس الخادم برقة، وميسور الخادم طرابلس، ويمنا لخادم غزة وعسقلان، فواقع جيش الروم على فاهية وقتل منهم خمسة آلاف رجل، وغزا إلى أن دخل مرعش، وقلد وظيفة قضاء القضاء أبا عبد الله الحسين بن علي بن النعمان في صفر سنة تسع وثمانين وثلاثمائة بعد موت قاضي القضاة محمد بن النعمان، وقتل الأستاذ برجوان لاربع بقين من ربيع الآخر سنة تسع وثمانين وثلاثمائة، وله في النظر سنتان وثمانية أشهر غير يوم واحد، وردّ النظر في أمور الناس وتدبير المملكة والتوقيعات إلى الحسين بن جوهر، ولقب بقائد القوّاد، فخلفه الرئيس بن فهد، واتخذ الحاكم مجلسا في الليل يحضر فيه عدّة من أعيان الدولة، ثم أبطله ومات جيش بن الصمصامة في ربيع الآخر سنة تسعين وثلثمائة، فوصل ابنه بتركته إلى القاهرة ومعه(4/71)
درج بخط أبيه فيه وصية، وثبت بما خلفه مفصلا، وأن ذلك جميعه لأمير المؤمنين الحاكم بأمر الله، لا يستحق أحد من أولاده منه درهما، وكان مبلغ ذلك نحو المأئتي ألف دينار، وما بين عين ومتاع ودواب، قد أوقف جميع ذلك تحت القصر، فأخذ الحاكم الدرج ونظره ثم أعاده إلى أولاد جيش وخلع عليهم وقال لهم بحضرة وجوه الدولة: قد وقفت على وصية أبيكم رحمه الله وما وصى به من عين ومتاع، فخذوه هنيئا مباركا لكم فيه. فانصرفوا بجميع التركة، وولي دمشق فحل بن تميم، ومات بعد شهور فولي عليّ بن فلاح، وردّ النظر في المظالم لعبد العزيز بن محمد بن النعمان، ومنع الناس كافة من مخاطبة أحد أو مكاتبته بسيدنا ومولانا إلّا أمير المؤمنين وحده، وأبيح دم من خالف ذلك، وفي شوّال قتل ابن عمار.
وفي سنة إحدى وتسعين واصل الحاكم الركوب في الليل كل ليلة، فكان يشق الشوارع والأزقة، وبالغ الناس في الوقود والزينة، وأنفقوا الأموال الكثيرة في المآكل والمشارب والغناء واللهو، وكثر تفرّجهم على ذلك حتى خرجوا فيه عن الحدّ، فمنع النساء من الخروج في الليل، ثم منع الرجال من الجلوس في الحوانيت. وفي رمضان سنة اثنتين وتسعين قلّد تموصلت بن بكّار دمسق، عوضا عن ابن فلاح، وابتدأ في عمارة جامع راشدة في سنة ثلاث وتسعين، وقتل فهد بن إبراهيم وله منذ نظر في الرياسة خمس سنين وتسعة أشهر واثنا عشر يوما، في ثامن جمادى الآخرة منها، وأقيم في مكانه عليّ بن عمر العدّاس، وسار الأمير ما روح لإمارة طبرية، ووقع الشروع في إتمام الجامع خارج باب الفتوح، وقطع الحاكم الركوب في الليل، ومات تموصلت فولي دمشق بعده مفلح اللحيانيّ الخادم، وقتل عليّ بن عمر العدّاس والأستاذ زيدان الصقليّ وعدّة كثيرة من الناس، وقلد إمارة برقة صندل الأسود في المحرّم سنة أربع وتسعين، وصرف الحسين بن النعمان عن القضاء في رمضان منها، وكانت مدّة نظره في القضاء خمس سنين وستة أشهر وثلاثة وعشرين يوما، وإليه كانت الدعوة أيضا، فيقال له قاضي القضاة وداعي الدعاة، وقلد عبد العزيز بن محمد بن النعمان وظيفة القضاء والدعوة، مع ما بيده من النظر في المظالم. وفي سنة خمس وتسعين أمر النصارى واليهود بشدّ الزنار ولبس الغيار، ومنع الناس من أكل الملوخية والجرجير والتوكلية والدلينس، وذبح الأبقار السليمة من العاهة إلّا في أيام الأضحية، ومنع من بيع الفقاع وعمله البتة، وأن لا يدخل أحد الحمام إلا بمئزر، وأن لا تكشف امرأة وجهها في طريق، ولا خلف جنازة، ولا تتبرّج، ولا يباع شيء من السمك بغير قشر، ولا يصطاده أحد من الصيادين، وتتبع الناس في ذلك كله وشدّد فيه، وضرب جماعة بسبب مخالفتهم ما أمروا به ونهوا عنه مما ذكر، وخرجت العساكر لقتال بني قرّة أهل البحيرة، وكتب على أبواب المساجد وعلى الجوامع بمصر وعلى أبواب الحوانيت والحجر والمقابر سبّ السلف ولعنهم، وأكره الناس على نقش ذلك وكتابته بالأصباغ في سائر المواضع، وأقبل الناس من(4/72)
سائر النواحي فدخلوا في الدعوة وجعل لهم يومان في الأسبوع، وكثر الازدحام ومات فيه جماعة، ومنع الناس من الخروج بعد المغرب في الطرقات، وأن لا يظهر أحد بها لبيع ولا شراء، فخلت الطرق من المارّة وكسرت أواني الخمور وأريقت من سائر الأماكن، واشتدّ خوف الناس بأسرهم، وقويت الشناعات وزاد الاضطراب، فاجتمع كثير من الكتاب وغيرهم تحت القصر وضجوا يسألون العفو، فكتب عدّة أمانات لجميع الطوائف من أهل الدولة وغيرهم من الباعة والرعية، وأمر بقتل الكلاب فقتل منها ما لا ينحصر حتى فقدت، وفتحت دار الحكمة بالقاهرة وحمل إليها الكتب ودخل إليها الناس، فاشتدّ الطلب على الركابية المستخدمين في الركاب، وقتل منهم كثير، عفي عنهم وكتب لهم أمان، ومنع الناس كافة من الدخول من باب القاهرة، ومنع الناس من المشي ملاصق القصر، وقتل قاضي القضاة حسين بن النعمان وأحرق بالنار، وقتل عددا كثيرا من الناس ضربت أعناقهم.
وفي سنة ست وتسعين خرج أبو ركوة يدعو إلى نفسه وادّعى أنه من بني أمية، فقام بأمره بنو قرّة لكثرة ما أوقع بهم الحاكم وبايعوه، واستجاب له لواته ومزاته وزنادة، وأخذ برقة وهزم جيوش الحاكم غير مرّة، وغنم ما معهم، فخرج لقتاله القائد فضل بن صالح في ربيع الأوّل وواقعه، فانهزم منه فضل واشتدّ الاضطراب بمصر، وتزايدت الأسعار واشتدّ الاستعداد لمحاربة أبي ركوة، ونزلت العساكر بالجيزة، وسار أبو ركوة فواقعه القائد فضل وقتل عدّة ممن معه، فعظم الأمر واشتدّ الخوف وخرج الناس فباتوا بالشوارع. خوفا من هجوم عساكر أبي ركوة، واستمرّت الحروب فانهزم أبو ركوة في ثالث ذي الحجة إلى الفيوم، وتبعه القائد فضل بعد أن بعث إلى القاهرة بستة آلاف رأس ومائة أسير إلى أن قبض عليه ببلاد النبوة، وأحضر إلى القاهرة فقتل بها، وخلع على القائد فضل، وسيّرت البشائر بقتله إلى الأعمال.
وفي سنة سبع وتسعين أمر بمحوسبّ السلف فمحي سائر ما كتب من ذلك، وغلت الأسعار لنقص ماء النيل، فإنه بلغ ستة عشر أصبعا من سبعة عشر ذراعا، نقص، ومات ينجو تكين في ذي الحجة، واشتدّ الغلاء في سنة ثمان وتسعين، وولي عليّ بن فلاح دمشق، وقبض جميع ما هو محبس على الكنائس، وجعل في الديوان، وأحرق عدّة صلبان على باب الجامع بمصر، وكتب إلى سائر الأعمال بذلك.
وفي سادس عشر رجب قرّر مالك بن سعيد الفارقيّ في وظيفة قضاء القضاة، وتسلم كتب الدعوة التي تقرأ بالقصر على الأولياء، وصرف عبد العزيز بن النعمان عن ذلك، وصرف قائد القوّاد الحسين بن جوهر عما كان يليه من النظر في سابع شعبان، وقرّر مكانه صالح بن عليّ الروذباديّ، وقرّر في ديوان الشام مكانه أبو عبد الله الموصليّ الكاتب، وأمر حسين بن جوهر وعبد العزيز بلزوم دورهما، ومنعا من الركوب وسائر أولادهما، ثم عفا(4/73)
عنهما بعد أيام، وأمر بالركوب. وتوقفت زيادة النيل فاستسقى الناس مرّتين، وأمر بإبطال عدّة مكوس، وتعذر وجود الخبز لغلائة وقلته، وفتح الخليج في رابع توت، والماء على خمسة عشر ذراعا فاشتدّ الغلاء.
وفي تاسع المحرّم وهو نصف توت نقص ماء النيل ولم يوف ستة عشر ذراعا، فمنع الناس من التظاهر بالغناء ومن ركوب البحر للتفرّج، ومنع من بيع المسكرات، ومنع الناس كافة من الخروج قبل الفجر وبعد العشاء إلى الطرقات واشتدّ الأمر على الكافة لشدّة ما داخلهم من الخوف مع شدّة الغلاء، وتزايد الأمراض في الناس والموت.
فلما كان في رجب انحلت الأسعار، وقريء سجل فيه يصوم الصائمون على حسابهم ويفطرون، ولا يعارض أهل الرؤية فيما هم عليه صائمون ومفطرون، وصلاة الخمسين للذي جاءهم فيها يصلون، وصلاة الضحى وصلاة التراويح لا مانع لهم منها ولا هم عنها يدفعون، يخمّس في التكبير على الجنائز المخمسون، ولا يمنع من التربيع عليها المربعون، يؤذن بحيّ على خير العمل المؤذنون، ولا يؤذى من بها لا يؤذنون، لا يسب أحد من السلف، ولا يحتسب على الواصف فيهم بما وصف، والحالف منهم بما حلف، لكلّ مسلم مجتهد في دينه اجتهاده. ولقب صالح بن عليّ الروذباديّ بثقة ثقات السيف والقلم، وأعيد القاضي عبد العزيز بن النعمان إلى النظر في المظالم، وتزايدت الأمراض وكثر الموت وعزت الأدوية، وأعيدت المكوس التي رفعت، وهدمت كنائس كانت بطريق المقس، وهدمت كنيسة كانت بحارة الروم من القاهرة، ونهب ما فيها، وقتل كثير من الخدّام ومن الكتاب ومن الصقالية، بعد ما قطعت أيدي بعضهم من الكتاب بالشطور على الخشبة من وسط الذراع، وقتل القائد فضل بن صالح في ذي القعدة، وفي حادي عشر صفر صرف صالح بن عليّ الروذباديّ، وقرّر مكانه ابن عبدون النصرانيّ الكاتب فوقّع عن الحاكم، ونظر وكتب بهدم كنيسة قماسة، وجدّد ديوان يقال له الديوان المفرد برسم من يقبض ماله من المقتولين وغيرهم، وكثرت الأمراض وعزت الأدوية، وشهر جماعة وجد عندهم فقاع وملوخية ودلينس وضربوا، وعدم دائر القصر واشتدّ الأمر على النصارى واليهود في إلزامهم لبس الغيار، وكتب إبطال أخذ الخمس والنجاوي والفطرة، وفرّ الحسين بن جوهر وأولاده، وعبد العزيز بن النعمان، وفرّ أبو القاسم الحسين بن المغربيّ، وكتب عدّة أمانات لعدّة طوائف من شدّة خوفهم، وقطعت قراءة مجالس الحكمة بالقصر، ووقع التشديد في المنع من المسكرات، وقتل كثير من الكتاب والخدّام والفرّاشين، وقتل صالح بن عليّ الروذباديّ في شوّال.
وفي رابع المحرّم سنة إحدى وأربعمائة، صرف الكافي بن عبدون عن النظر والتوقيع، وقرّر بدله أحمد بن محمد القشوريّ الكاتب في الوساطة والسفارة، وحصر الحسين بن(4/74)
جوهر وعبد العزيز بن النعمان إلى القاهرة، فأكرما. ثم صرف ابن القشوريّ بعد عشرة أيام من استقراره وضربت عنقه، وقرّر بدله زرعة بن عيسى بن نسطورس الكاتب النصرانيّ، ولقّب بالشافي، ومنع الناس من الركوب في المراكب في الخليج، وسدّت أبواب الدور التي على الخليج والطاقات المطلة عليه، وأضيف إلى قاضي القضاة مالك بن سعيد النظر في المظالم، وأعيدت مجالس الحكمة، وأخذ مال النجوى، وقتل ابن عبدون وأخذ ماله، وضرب جماعة وشهروا من أجل بيعهم الملوخية والسمك الذي لا قشر له، وبسبب بيع النبيذ، وقتل الحسين بن جوهر وعبد العزيز بن النعمان في ثاني عشر جمادي الآخرة سنة إحدى وأربعمائة، وأحيط بأموالهما، وأبطلت عدّة مكوس، ومنع الناس من الغناء واللهو ومن بيع المغنيات ومن الاجتماع بالصحراء. وفي هذه السنة خلع حسان بن مفرّج بن دغفل بن الجرّاح طاعة الحاكم، وأقام أبا الفتوح حسين بن جعفر الحسنيّ أمير مكة خليفة، وبايعه ودعا الناس إلى طاعته ومبايعته، وقاتل عساكر الحاكم. وفي سنة اثنتين وأربعمائة منع من بيع الزبيب وكوتب بالمنع من حمله، وألقي في بحر النيل منه شيء كثير، وأحرق شيء كثير، ومنع النساء من زيارة القبور، فلم ير في الأعياد بالمقابر امرأة واحدة، ومنع من الاجتماع على شاطىء النيل للتفرّج، ومنع من بيع العنب إلا أربعة أرطال فما دونها. ومنع من عصره وطرح كثير منه وديس في الطرقات، وغرّق كثير منه في النيل، ومنع من حمله وقطعت كروم الجيزة كلها، وسيّر إلى الجهات بذلك.
وفي سنة ثلاث وأربعمائة نزع السعر وازدحم الناس على الخبز، وفي ثاني ربيع الأوّل منها هلك عيسى بن نسطورس، فأمر النصارى بلبس السواد وتعلق صلبان الخشب في أعناقهم، وأن يكون الصليب ذراعا في مثله، وزنته خمسة أرطال، وأن يكون مكشوفا بحيث يراه الناس، ومنعوا من ركوب الخيل، وأن يكون ركوبهم البغال والحمير بسروج الخشب والسيور السود بغير حلية، وأن يسدّوا الزنانير ولا يستخدموا مسلما ولا يشتروا عبدا ولا أمة، وتتبعت آثارهم في ذلك، فأسلم منهم عدّة، وقرّر حسين بن طاهر الوزان في الوساطة والتوقيع عن الحاكم في تاسع عشري ربيع الأوّل منها، ولقب أمين الأمناء، ونقش الحاكم على خاتمه: بنصر الله العظيم الوليّ ينتصر الإمام أبو علي. وضرب جماعة بسبب اللعب بالشطرنج، وهدمت الكنائس وأخذ جميع ما فيها ومالها من الرباع، وكتب بذلك إلى الأعمال فهدمت بها، وفيها لحق أبو الفتح بمكة ودعا للحاكم وضرب السكة باسمه، وأمر الحاكم أن لا يقبّل أحد له الأرض، ولا يقبّل ركابه، ولا يده عند السلام عليه في المواكب، فإنّ الانحناء إلى الأرض لمخلوق من صنيع الروم، وأن لا يزاد على قولهم السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، ولا يصلّى أحد عليه في مكاتبة ولا مخاطبة، ويقتصر في مكاتبته على سلام الله وتحياته. ونوامي بركاته على أمير المؤمنين، ويدعي له بما يتفق من الدعاء لا غير، فلم يقل الخطباء يوم الجمع سوى اللهمّ صلّ على محمد المصطفى، وسلّم(4/75)
على أمير المؤمنين عليّ المرتضى، اللهمّ وسلّم على أمراء المؤمنين آباء أمير المؤمنين، اللهمّ اجعل أفضل سلامك على عبدك وخليفتك، ومنع من ضرب الطبول والأبواق حول القصر، فصاروا يطوفون بغير طبل ولا بوق، وكثرت إنعامات الحاكم فتوقف أمين الأمناء حسين بن طاهر الوزان في إمضائها، فكتب إليه الحاكم بخطه بعد البسملة، الحمد لله كما هو أهله:
أصبحت لا أرجو ولا أتقي ... إلّا إلهي وله الفضل
جدّي نبيّ وإمامي أبي ... وديني الإخلاص والعدل
المال مال الله عز وجلّ، والخلق عباد الله، ونحن أمناؤه في الأرض، أطلق أرزاق الناس ولا تقطعها والسلام وركب الحاكم يوم عيد الفطر إلى المصلي بغير زينة ولا جنائب ولا أبهة، سوى عشرة أفراس تقاد بسروج ولجم محلاة بفضة بيضاء خفيفة، وبنود ساذجة ومظلة بيضاء بغير ذهب عليه بياض، بغير طرز ولا ذهب ولا جوهر في عمامته، ولم يفرش المنبر، ومنع الناس من سبّ السلف، وضرب في ذلك وشهر وصلّى صلاة عيد النحر كما صلّى صلاة عيد الفطر من غير أبهة، ونحر عنه عبد الرحمن بن الياس بن أحمد بن المهديّ، وأكثر الحاكم من الركوب إلى الصحراء بحذاء في رجله وفوطة على رأيه.
وفي سنة أربع وأربعمائة ألزم اليهود أن يكون في أعناقهم جرس إذا دخلوا الحمام، وأن يكون في أعناق النصارى صلبان، ومنع الناس من الكلام في النجوم، وأقيم المنجمون من الطرقات وطلبوا فتغيبوا ونفوا، وكثرت هبات الحاكم وصدقاته وعتقه، وأمر اليهود والنصارى بالخروج من مصر إلى بلاد الروم وغيرها، وأقيم عبد الرحيم بن الياس وليّ العهد، وأمر أن يقال في السلام عليه، السلام على ابن عمّ أمير المؤمنين، ووليّ عهد المسلمين وصار يجلس بمكان في القصر، وصار الحاكم يركب بدراعة صوف بيضاء، ويتعمم بفوطة. وفي رجله خذاء عربيّ بقبالين، وعبد الرحيم يتولى النظر في أمور الدولة كلها، وأفرط الحاكم في العطاء وردّ ما كان أخذ من الضياع والأملاك إلى أربابها، وفي ربيع الآخر أمر بقطع يدي أبي القاسم الجرجانيّ، وكان يكتب للقائد غين، ثم قطع يد غين فصار مقطوع اليدين، وبعث إليه الحاكم بعد قطع يديه بألف من الذهب والثياب، ثم بعد ذلك أمر بقطع لسانه، فقطع. وأبطل عدّة مكوس، وقتل الكلاب كلها، وأكثر من الركوب في الليل، ومنع النساء من المشي في الطرقات، فلم تر امرأة في طريق البتة، وأغلقت حماماتهنّ، ومنع الأساكفة من على خفافهنّ، وتعطلت حوانيتهم، واشتدّت الإشاعة بوقوع السيف في الناس، فتهاربوا وغلفت الأسواق، فلم يبع شيء. ودعي لعبد الرحيم بن الياس على المنابر، وضربت السكة باسمه بولاية العهد، وفي سنة خمس وأربعمائة قتل مالك بن سعيد الفارقيّ، في ربيع الآخر، وكانت مدّة نظره في قضاء القضاة ست سنين وتسعة أشهر وعشرة(4/76)
أيام، وبلغ إقطاعه في السنة خمسة عشر ألف دينار، وتزايد ركوب الحاكم حتى كان يركب في كلّ يوم عدّة مرّات، واشترى الحمير وركبها بدل الخيل.
وفي جمادى الآخرة منها قتل الحسين بن طاهر الوزان، فكانت مدّة نظره في الوساطة سنتين وشهرين وعشرين يوما، فأمر أصحاب الدواوين بلزوم دواوينهم، وصار الحاكم يركب حمارا بشاشية مكشوفة بغير عمامة، ثم أقام عبد الرحيم بن أبي السيد الكاتب وأخاه أبا عبد الله الحسين في الوساطة والسفارة، وأقرّ في وظيفة قضاء القضاة أحمد بن محمد بن أبي العوام، وخرج الحاكم عن الحدّ في العطاء حتى أقطع نواتية المراكب والمشاعلية، وبنى قرّة، فما أقطع الإسكندرية والبحيرة ونواحيهما، وقتل ابني أبي السيد فكانت مدّة نظرهما اثنتين وستين يوما، وقلد الوساطة فضل بن جعفر بن الفرات، ثم قتله في اليوم الخامس من ولايته، وغلب بنو قرّة على الإسكندرية وأعمالها، وأكثر الحاكم من الركوب فركب في يوم ستة مرّات، مرّة على فرس، ومرّة على حمار، ومرّة في محفة تحمل على الأعناق، ومرّة في عشاري في النيل بغير عمامة، وأكثر من إقطاع الجند والعبيد الإقطاعات، وأقام ذا الرياستين قطب الدولة أبا الحسن عليّ بن جعفر بن فلاح في الوساطة والسفارة، وولى عبد الرحيم بن الياس دمشق، فسار إليها في جمادى الآخرة سنة تسع وأربعمائة، فأقام فيها شهرين ثم هجم عليه قوم فقتلوا جماعة ممن عنده، وأخذوه في صندوق وحملوه إلى مصر، ثم أعيد إلى دمشق فأقام بها إلى ليلة عيد الفطر وأخرج منها. فلما كان لليلتين بقيتا من شوّال سنة عشر وأربعمائة، فقد الحاكم وقيل أن أخته قتلته وليس بصحيح، وكان عمره ستا وثلاثين سنة وسبعة أشهر، وكانت مدّة خلافته خمسا وعشرين سنة وشهرا، وكان جوادا سفاكا للدماء، قتل عددا لا يحصى، وكانت سيرته من أعجب السير، وخطب له على منابر مصر والشام وأفريقية والحجاز، وكان يشتغل بعلوم الأوائل، وينظر في النجوم وعمل رصدا واتخذ بيتا في المقطم ينقطع فيه عن الناس لذلك، ويقال أنه كان يعتريه جفاف في دماغه، فلذلك كثر تناقضه، وما أحسن ما قال فيه بعضهم، كانت أفعاله لا تعالى، وأحلام وساوسه لا تؤوّل، وقال المسبحيّ وفي محرّم سنة خمس عشرة وأربعمائة قبض على رجل من بني حسين ثار بالصعيد الأعلى، فأقرّ بأنه قتل الحاكم بأمر الله في جملة أربعة أنفس تفرّقوا في البلاد، وأظهر قطعة من جلدة رأس الحاكم، وقطعة من الفوطة التي كانت عليه، فقيل له لم قتلته؟ فقال: غيرة لله وللإسلام. فقيل له: كيف قتلته؟ فأخرج سكينا ضرب بها فؤاده فقتل نفسه. وقال هكذا قتلته. فقطع رأسه وأنفذ به إلى الحضرة مع ما وجد معه، وهذا هو الصحيح في خبر قتل الحاكم، لا ما تحكيه المشارقة في كتبهم من أن أخته قتلته.
جامع الفيلة
هذا الجامع بسطح الجرف المطلّ على بركة الحبش المعروف الآن بالرصد، بناه(4/77)
الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجماليّ في شعبان سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، وبلغت النفقة على بنائه ستة آلاف دينار، وإنما قيل له جامع الفيلة لأنّ في قبلته تسع قباب في أعلاه ذات قناطر، إذا رآها الإنسان من بعيد شبهها بمدّرعين على فيلة، كالتي كانت تعمل في المواكب أيام الأعياد، وعليها السرير وفوقها المدّرعون أيام الخلفاء، ولما كمل أقام في خطابته الشريف الزكيّ أمين الدولة أبا جعفر محمد بن محمد بن هبة الله بن عليّ الحسينيّ الأفطسيّ النسابة الكاتب الشاعر الطرابلسيّ، بعد صرفه من قضاء الغربية، فلما رقى المنبر أوّل خطبة أقيمت في هذا الجامع قال: بسم الله الحمد لله، وأرتج عليه فلم يدر ما يقول، وكان هناك الشيخ أبو القاسم عليّ بن منجب بن الصيرفيّ الكاتب، وولده مختص الدولة أبو المجد، وأبو عبد الله بن بركات النحويّ، ووجوه الدولة. فلما أضجر من حضر نزل عن المنبر وقد حمّ، فتقدّم قيم الجامع وصلّى ومضى الشريف إلى داره فاعتلّ ومات.
وكان قد ولي قضاء عسقلان وغيرها، ثم قدم إلى مصر فولي الحكم بالمحلة، وولي ديوان الأحباس، وكان أحد الأعيان الأدباء العارفين بالنسب، ومن الشعراء المجيدين والنحاة اللغويين، ولد بطرابلس الشام في سنة اثنتين وستين وأربعمائة، وقدم إلى القاهرة في سنة إحدى وخمسمائة، ومدح الأفضل، ومات في سنة سبع عشرة أو ثمان عشرة وخمسمائة، وقد ترشح للنقابة بمصر ولم ينلها مع تطلعه إليها، وذيل كتاب أبي الغنائم الزيديّ النسابة، ومن شعره بديها، وقد نام مع جاريته على سطوح فطلع القمر عليهما فارتاعا من كشف الجيران عليهما:
ولمّا تلاقينا وغاب رقيبنا ... ورمت التشكي في خلو وفي سرّ
بدا ضوء بدر فافترقنا لضوئه ... فيا من رأى بدرا ينمُّ على بدر
وأهل المطالب يذكرون أنّ الأفضل وجد بموضع الصهريج مطلبا، فختم عليه أشهرا إلى أن نقله وعمله صهريجا وبنى عليه هذا المسجد، وهذا الشرف الذي عليه جامع الفيلة منظرة في غاية الحسن، لأنّ في قبليه بركة الحبش وبستان الوزير المغربيّ والعدوية ودير النسطورية وبئر أبي سلامة، وهي بئر مدوّرة برسم الغنم، وبئر النعش، كان يستقي منها أصحاب الزوايا، وهي بجوار عفصة الصغرى، وهي بئر أبي موسى بن أبي خليد، وسميت بئر النعش لأنها على هيئة النعش، وماؤها يهضم الطعام وهو أصح الأمواه، وشرقيّ هذا الجبل: جبل المقطعم والجبانة والمغافر والقرافة وآخر الأكحول وريحان ورعين والكلاع والأكسوع، وغربيّ هذا الجبل: المعشوق والنيل وبستان اليهوديّ إلى القبلة، وطموه والأهرام وراشدة، وبحريّ هذا الجبل بستان الأمير تميم، وقنطرة خليج بني وائل، ودير المعدّلين، وعقبة بحصب، ومحرى قسطنطين، والشرف وغير ذلك. وهذا الجامع لا تقام فيه اليوم جمعة ولا جماعة لخراب ما حوله من القرافة وراشدة، وينزل فيه أحيانا طائفة من العرب بإبلهم يقال لهم المسلمية، وعما قليل يدثر كما دثر غيره.(4/78)
جامع المقياس
هذا الجامع بجوار مقياس النيل من جزيرة الفسطاط أنشأه ... «1» .
الجامع الأقمر
قال ابن عبد الظاهر: كان مكانه علافون، والحوض مكان المنظرة، فتحدث الخليفة الآمر مع الوزير المأمون بن البطائحيّ في إنشائه جامعا، فلم يترك قدّام القصر دكانا، وبني تحت الجامع المذكور في أيامه دكاكين ومخازن من جهة باب الفتوح، لا من صوب القصر، وكمل الجامع المذكور في أيامه، وذلك في سنة تسع عشرة وخمسمائة، وذكر أن اسم الآمر والمأمون عليه. وقال غيره: واشترى له حمّام شمول ودار النحاس بمصر، وحبسهما على سدنته ووقود مصابيحه ومن يتولى أمره ويؤذن فيه، وما زال اسم المأمون والآمر على لوح فوق المحراب، وفيه تجديد الملك الظاهر بيبرس للجامع المذكور، ولم تكن فيه خطبة، لكنّه يعرف بالجامع الأقمر. فلما كان في شهر رجب سنة تسع وتسعين وسبعمائة، جدّده الأمير الوزير المشير الأستادار يلبغا بن عبد الله السالميّ، أحد المماليك الظاهرية، وأنشأ بظاهر بابه البحريّ حوانيت يعلوها طباق، وجدّد في صحن الجامع بركة لطيفة يصل إليها الماء من ساقية، وجعلها مرتفعة ينزل منها الماء إلى من يتوضأ من بزابيز نحاس، ونصب فيه منبرا، فكانت أوّل جمعة جمعت فيه رابع شهر رمضان من السنة المذكورة، وخطب فيه شهاب الدين أحمد بن موسى الحلبيّ أحد نوّاب القضاة الحنفية، وأرتج عليه، واستمرّ إلى أن مات في سابع عشري شهر ربيع الأول سنة إحدى وثمانمائة، وبني على يمنة المحراب البحريّ مئذنة، وبيّض الجامع كله ودهن صدره بلازورد وذهب. فقلت له: قد أعجبني ما صنعت بهذا الجامع ما خلا تجديد الخطبة فيه وعمل بركة الماء. فإنّ الخطبة غير محتاج إليها هاهنا لقرب الخطب من هذا الجامع، وبركة الماء تضيق الصحن. وقد أنشأت ميضأة بجوار بابه الذي من جهة الركن المخلق، فاحتجّ لعمل المنبر بأن ابن الطوير قال فيه كتاب نزهة المقلتين في أخبار الدولتين، عند ذكر جلوس الخليفة في المواليد الستة: ويقدّم خطيب الجامع الأزهر فيخطب كذلك، ثم يحضر خطيب الجامع الأقمر فيخطب كذلك. قال: فهذا أمر قد كان في الدولة الفاطمية، وما أنا بالذي أحدثته، وأما البركة ففيها عون على الصلاة لقربها من المصلين، وجعل فوق المحراب لوحا مكتوبا فيه ما كان فيه أوّلا، وذكر فيه تجديده لهذا الجامع، ورسم فيه نعوته وألقابه، وجدّد أيضا حوض هذا الجامع الذي تشرب منه الدواب، وهو في ظهر الجامع تجاه الركن المخلق، وبئر هذا الجامع قديمة قبل الملة الإسلامية، كانت في دير من ديارات النصارى بهذا الموضع.(4/79)
فلما قدم القائد جوهر بجيوش المعز لدين الله في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة أدخل هذا الدير في القصر، وهو موضع الركن المخلق تجاه الحوض المذكور، وجعل هذه البئر مما ينتفع به في القصر، وهي تعرف ببئر العظام، وذلك أن جوهر انقل من الدير المذكور عظاما كانت فيه من رمم قوم يقال أنهم من الحواريين، فسميت بئر العظام، والعامّة تقول إلى اليوم بئر المعظمة، وهي بئر كبيرة في غاية السعة، وأوّل ما أعرف من إضافتها إلى الجامع الأقمر، أنّ العماد الدمياطيّ ركب على فوهتها هذه المحال التي بها الآن، وهي من جيد المحال، وكان تركيبها بعد السبعمائة في أيام قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة الشافعيّ، وبهذا الجامع درس من قديم الزمان، ولم تزل مئذنته التي جدّدها السالميّ والبركة إلى سنة خمس عشرة وثمانمائة، فولي نظر الجامع بعض الفقهاء، فرأى هدم المئذنة من أجل ميل حدث بها، فهدمها وأبطل الماء من البركة لإفساد الماء بمروره جدار الجامع القبليّ، والخطبة قائمة به إلى الآن.
الآمر بأحكام الله: أبو عليّ المنصور بن المستعلي بالله أبي القاسم أحمد بن المستنصر بالله أبي تميم معدّ بن الظاهر لاعزاز دين الله أبي الحسن عليّ بن الحاكم بأمر الله أبي عليّ منصور، ولد يوم الثلاثاء ثالث عشر المحرّم سنة تسعين وأربعمائة، وبويع له بالخلافة يوم مات أبوه وهو طفل له من العمر خمس سنين وأشهر وأيام، في يوم الثلاثاء سابع عشر صفر سنة خمس وتسعين، أحضره الأفضل بن أمير الجيوش وبايع له ونصبه مكان أبيه، ونعته بالآمر بأحكام الله، وركب الأفضل فرسا وجعل في السرج شيئا وأركبه عليه لينمو شخص الآمر، وصار ظهره في حجر الأفضل، فلم يزل تحت حجره حتى قتل الأفضل ليلة عيد الفطر سنة خمس عشرة وخمسمائة، فاستوزر بعده القائد أبا عبد الله محمد بن فاتك البطائحيّ، ولقّبه بالمأمون، فقام بأمر دولته إلى أن قبض عليه في ليلة السبت رابع شهر رمضان سنة تسع عشرة وخمسمائة، فتفرّغ الآمر لنفسه ولم يبق له ضدّ ولا مزاحم، وبقي بغير وزير، وأقام صاحبي ديوان أحدهما جعفر بن عبد المنعم، والآخر سامريّ يقال له أبو يعقوب إبراهيم، ومعهما مستوف يعرف بابن أبي نجاح كان راهبا، ثم تحكم هذا الراهب في الناس وتمكن من الدواوين، فابتدأ في مطالبة النصارى، وحقق في جهاتهم الأموال وحملها أوّلا فأوّلا، ثم أخذ في مصادرة بقية المباشرين والمعاملين والضمناء والعمال، وزاد إلى أن عمّ ضرره جميع الرؤساء والقضاة والكتاب والسوقة، بحيث لم يخل أحد من ضرره.
فلما تفاقم أمره قبض عليه الآمر وضرب بالنعال حتى مات بالشرطة، فجر إلى كرسيّ الجسر وسمّر على لوح وطرح في النيل، وحذف حتى خرج إلى البحر الملح. فلما كان يوم الثلاثاء رابع عشر ذي القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة، وثب جماعة على الآمر وقتلوه، كما ذكر عند خبر الهودج، وكان كريما سمحا إلى الغاية، كثير النزهة محبا للمال والزينة، وكانت أيامه كلها لهوا وعيشة راضية لكثرة عطائه وعطاء حواشيه، بحيث لم يوجد بمصر(4/80)
والقاهرة إذ ذاك من يشكو زمانه البتة إلى أن نكّد بالراهب على الناس، فقبحت سيرته وكثر ظلمه واغتصابه للأموال.
وفي أيامه ملك الفرنج كثيرا من المعاقل والحصون بسواحل الشام، فملكت عكافي شعبان سنة سبع وتسعين، وغزة في رجب سنة اثنتين وخمسمائة، وطرابلس في ذي الحجة منها، وبانياس وجبيل وقلعة تبنين فيها أيضا، وملكوا صور في سنة ثمان عشرة وخمسمائة، وكثرت المرافعات في أيامه، وأحدثت رسوم لم تكن، وعمر الهودج بالروضة، ودكة ببركة الحبش، وعمر تنيس ودمياط، وجدّد قصر القرافة، وكانت نفسه تحدّثه بالسفر والغارة إلى بغداد، ومن شعره في ذلك:
دع اللوم عني لست مني بموثق ... فلا بدّلي من صدمة المتحقق
وأسقي جيادي من فرات ودجلة ... وأجمع شمل الدين بعد التفرّق
وقال:
أما والذي حجت إلى ركن بيته ... جراثيم ركبان مقلدة شهبا
لاقتحمنّ الحرب حتى يقال لي ... ملكت زمام الحرب فاعتزل الحربا
وينزل روح الله عيسى ابن مريم ... فيرضى بنا صحبا ونرضى به صحبا
وكان أسمر شديد السمرة، يحفظ القرآن ويكتب خطا ضعيفا، وهو الذي جدّد رسوم الدولة وأعاد إليها بهجتها بعد ما كان الأفضل أبطل ذلك، ونقل الدواوين والأسمطة من القصر بالقاهرة إلى دار الملك بمصر، كما ذكر هناك. وقضاته ابن ذكا النابلسيّ، ثم نعمة الله بن بشير، ثم الرشيد محمد بن قاسم الصقليّ، ثم الجليس بن نعمة الله بن بشير النابلسيّ، ثم صرفه ثانيا بمسلم بن الرسغيّ، وعزله بأبي الحجاج يوسف بن أيوب المغربيّ، ثم مات فولى محمد بن هبة الله بن ميسر، وكتاب إنشائه سنا الملك أبو محمد الزبيديّ الحسنيّ، والشيخ أبو الحسن بن أبي أسامة، وتاج الرياسة أبو القاسم بن الصيرفيّ، وابن أبي الدم اليهوديّ. وكان نقش خاتمه: الإمام الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين. ووقع في آخر أيامه غلاء قلق الناس منه، وكان جريئا على سفك الدماء وارتكاب المحظورات واستحسان القبائح، وقتل وعمره أربع وثلاثون سنة وتسعة أشهر وعشرون يوما، منها مدّة خلافته تسع وعشرون سنة وثمانية أشهر ونصف، وما زال محجورا عليه حتى قتل الأفضل، وكان يركب للنزهة دائما عند ما استبدّ، في يومي السبت والثلاثاء، ويتحوّل في أيام النيل بحرمه إلى اللؤلؤة على الخليج، واختص بغلاميه برغش وهزار الملوك.
يلبغا السالميّ: أبو المعالي عبد الله الأمير سيف الدين الحنفيّ الصوفي الظاهريّ، كان اسمه في بلاده يوسف، وهو حرّ الأصل، وآباؤه مسلمون. فلما جلب من بلاد المشرق سمي(4/81)
يلبغا، وقيل له السالميّ نسبة إلى سالم، تاجره الذي جلبه، فترقّى في خدم السلطان الملك الظاهر برقوق إلى أن ولّاه نظر خانقاه الصلاح سعيد السعداء، في ثامن عشر جمادى الآخرة سنة سبع وتسعين وسبعمائة، فأخرج كتاب الوقف وقصد أن يعمل بشرط الواقف، وأخرج منها جماعة من بياض الناس، فجرت أمور ذكرت في خبر الخانقاه. وفي سابع عشري صفر سنة ثمانمائة، أنعم عليه الملك الظاهر بإمرة عشرة عوضا عن الأمير بهادر فطيلس، ثم نقله إلى أمرة طبلخاناه، ثم جعله ناظرا على الخانقاه الشيخونية بالصليبة، في تاسع شعبان سنة إحدى وثمانمائة، فعسف بمباشر بها وأراد حملهم على مرّ الحق، فنفرت منه القلوب، ولما مرض الظاهر جعله أحد الأوصياء على تركته، فقام بتحليف المماليك السلطانية للملك الناصر فرج بن برقوق، والإنفاق عليهم بحضرة الناصر، فأنفق عليهم كل دينار من حساب أربعة وعشرين درهما، ولما انقضت النفقة نودي في البلدان أنّ صرف كل دينار ثلاثون درهما، ومن امتنع نهب ماله وعوقب، فحصل للناس من ذلك شدّة، وكان قد كثر القبض على الأمراء بعد موت الظاهر، فتحدّث مع الأمير الكبير ايتمش القائم بتدبير دولة الناصر فرج بعد موت أبيه في أن يكون على كلّ أمير من المقدّمين خمسون ألف درهم، وعلى كلّ أمير من الطبلخاناه عشرون ألف درهم، وعلى كلّ أمير عشرة خمسة آلاف درهم، وعلى كلّ أمير خمسة ألفا درهم وخمسمائة درهم. فرسم بذلك وعمل به مدّة ايام الناصر، وحصل به رفق للأمراء ومباشريهم، ثم خلع عليه واستقرّ أستادار السلطان عوضا عن الأمير الوزير تاج الدين عبد الرزاق بن أبي الفرج الملكيّ، في يوم الاثنين ثالث عشري ذي القعدة من السنة المذكورة، فأبطل تعريف منية بني خصيب، وضمان العرصة، وأخصاص الكيالين، وكتب بذلك مرسوما سلطانيا وبعث به إلى والي الأشمونين، وأبطل وفر الشون السلطانية، وما كان مقرّرا على البرددار «1» وهو في الشهر سبعة آلاف درهم، وما كان مقرّرا على مقدّم المستخرج، وهو في الشهر ثلاثة آلاف درهم، وكانت سماسرة الغلال تأخذ ممن يشتري شيئا من الغلة على كلّ أردب در همين سمسرة، وكيالة ولواحة وأمانة، فألزمهم أن لا يأخذوا عن كل أردب سوى نصف درهم، وهدّد على ذلك بالغرامة والعقوبة.
وركب في صفر سنة ثلاث وثمانمائة إلى ناحية المنية وشبرا الخيمة من الضواحي بالقاهرة، وكسر منها ما ينيف على أربعين ألف جرّة خمر، وخرّب بها كنيسة كانت للنصارى، وحمل عدّة جرار فكسرها تحت قلعة الجبل، وعلى باب زويلة، وشدّد على النصارى، فلم يمكنه أمراء الدولة من حملهم على الصغار والمذلة في ملبسهم، وأمر فضرب الذهب كلّ دينار زنته مثقال واحدا، وأراد بذلك إبطال ما حدث من المعاملة بالذهب الإفرنجيّ، فضرب ذلك وتعامل الناس به مدّة، وصار يقال دينار سالميّ إلى أن(4/82)
ضرب الناصر فرج دنانير وسماها الناصرية، وصار يحكم في الأحكام الشرعية، فقلق منه أمراء الدولة وقاموا في ذلك، فمنع من الحكم إلّا فيما يتعلق بالديوان المفرد وغيره مما هو من لوازم الأستادار، وأخذ في مخاشنة الأمراء عند ما عاد الناصر فرج وقد انهزم من تيمور لنك، وشرع في إقامة شعار المملكة والنفقة على العساكر التي رجعت منهزمة، فأخذ من بلاد الأمراء وبلاد السلطان عن كلّ ألف دينار فرسا أو خمسمائة درهم ثمنها، وجبى من أملاك القاهرة ومصر وظواهرهما أجرة شهر، وأخذ من الرزق عن كلّ فدّان عشرة دراهم، وعن الفدّان من القصب المزروع والقلقاس والنيلة نحو مائة درهم، وجبى من البساتين عن كلّ فدّان مائة درهم، وقام بنفسه وكبس الحواصل ليلا ونهارا ومعه جماعة من الفقهاء وغيرهم، وأخذ مما فيها من الذهب والفضة والفلوس نصف ما يجد، سواء كان صاحب المال غائبا أو حاضرا، فعمّ ذلك أموال التجار والأيتام وغيرهم من سائر من وجد له مال، وأخذ ما كان في الجوامع والمدارس وغيرها من الحواصل، فشمل الناس من ذلك ضرر عظيم، وصار يؤخذ من كل مائة درهم ثلاثة دراهم عن أجرة صرف، وستة دراهم عن أجرة الرسول، وعشرة دراهم عن أجرة نقيب، فنفرت منه القلوب وانطلقت الألسن بذمّه والدعاء عليه، وعرض مع ذلك الجند وألزم من له قدرة على السفر بالتجهز للسفر إلى الشام لقتال تيمور لنك، ومن وجده عاجزا عن السفر ألزمه بحمل نصف متحصل إقطاعه، فقبض عليه في يوم الاثنين رابع عشر رجب سنة ثلاث وثمانمائة، وسلّم للقاضي سعد الدين إبراهيم بن غراب، وقرّر مكانه في الاستادارية، فلم يزل إلى يوم عيد الفطر من السنة المذكورة، فأمر بإطلاقه بعد أن حصر وأهين إهانة كبيرة، ثم قبض عليه وضرب ضربا مبرّحا حتى أشفى على الموت، وأطلق في نصف ذي القعدة وهو مريض، فأخرج إلى دمياط وأقام بها مدّة، ثم أحضر إلى القاهرة وقلّد وظيفة الوزارة في سنة خمس وثمانمائة، وجعل مشيرا، فأبطل مكوس البحيرة وهو ما يؤخذ على ما يذبح من البقر والغنم، واستعمل في أموره العسف، وترك مداراة الأمراء، واستعجل فقبض عليه وعوقب وسجن إلى أن أخرج في رمضان سنة سبع وثمانمائة وقلّد وظيفة الإشارة، وكانت للأمير جمال الدين يوسف الأستادار، فلم يترك عادته في الإعجاب برأيه والاستبداد بالأمور، واستعجال الأشياء قبل أوانها، فقبض عليه في ذي الحجة منها وسلّم للأمير جمال الدين يوسف، فعاقبه وبعث به إلى الإسكندرية، فسجن بها إلى أن سعى جمال الدين في قتله بمال بذله للناصر فيه حتى أذن له في ذلك، فقتل خنقا عصر يوم الجمعة وهو صائم السابع عشر من جمادى الآخرة، سنة إحدى عشرة وثمانمائة رحمه الله، وكان كثير النسك من الصلاة والصوم والصدقة، لا يخلّ بشيء من نوافل العبادات، ولا يترك قيام الليل سفرا ولا حضرا، ولا يصلي قط إلّا بوضوء جديد، وكلما أحدث توضأ، وإذا توضأ صلّى ركعتين، وكان يصوم يوما ويفطر يوما، ويخرج في كثرة الصدقات عن الحدّ، ويقرأ فيه كلّ ثلاثة أيام ختمة، ولا يترك أوراده في حال من(4/83)
الأحوال مع المروءة والهمة، وسمع كثيرا من الحديث، وقرأ بنفسه على المشايخ، وكتب الخط المليح، وقرأ القراءات السبع، وعرف التصوّف والفقه والحساب والنجوم، إلّا أنه كان متهوّرا في أخذ الأموال عسوفا لجوجا مصمما لا ينقاد إلى أحد، ويستبدّ برأيه فيغلط غلطات لا تحتمل، ويستخف بغيره، ويعجب بنفسه، ويريد أن يجعل غاية الأمور بدايتها، فلذلك لم يتمّ له أمر.
جامع الظافر
هذا الجامع بالقاهرة في وسط السوق الذي كان يعرف قديما بسوق السرّاجين، ويعرف اليوم بسوق الشوّايين، كان يقال له الجامع الأفخر، ويقال له اليوم جامع الفاكهيين، وهو من المساجد الفاطمية، عمره الخليفة الظافر بنصر الله أبو المنصور إسماعيل بن الحافظ لدين الله أبي الميمون عبد المجيد بن الآمر بأحكام الله منصور، ووقف حوانيته على سدنته ومن يقرأ فيه. قال ابن عبد الظاهر: بناه الظافر، وكان قبل ذلك زريبة تعرف بدار الكباش، وبناه في سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وسبب بنائه أن خادما رأى من مشرف عال ذباحا وقد أخذ رأسين من الغنم، فذبح أحدهما ورمى سكينته ومضى ليقضي حاجته، فأتى رأس الغنم الآخر وأخذ السكين بفمه ورماها في البالوعة، فجاء الجزّار يطوف على السكين، فلم يجدها، وأما الخادم فإنه استصرخ وخلصه منه، وطولع بهذه القضية أهل القصر، فأمروا بعمله جامعا، ويسمى الجامع الأفخر، وبه حلقة تدريس وفقهاء ومتصدّرون للقرآن، وأوّل ما أقيمت به الجمعة في ... «1» .
جامع الصالح
هذا الجامع من المواضع التي عمرت في زمن الخلفاء الفاطميين، وهو خارج باب زويلة. قال ابن عبد الظاهر: كان الصالح طلائع بن رزيك لما خيف على مشهد الإمام الحسين رضي الله عنه إذ كان بعسقلان من هجمة الفرنج، وعزم على نقله، قد بنى هذا الجامع ليدفنه به، فلما فرغ منه لم يمكنه الخليفة من ذلك وقال: لا يكون إلّا داخل القصور الزاهرة، وبنى المشهد الموجود الآن ودفن به، وتمّ الجامع المذكور، واستمرّ جلوس زين الدين الواعظ به، وحضور الصالح إليه. فيقال أنّ الصالح لما حضرته الوفاة جمع أهله وأولاده وقال لهم في جملة وصيته: ما ندمت قط في شيء عملته إلّا في ثلاثة، الأوّل بنائي هذا الجامع على باب القاهرة، فإنه صار عونا لها. والثاني: توليتي لشاور الصعيد الأعلى.
والثالث: خروجي إلى بلبيس بالعساكر وإنفاقي الأموال الجمة، ولم أتم بهم إلى الشام وأفتح بيت المقدس واستأصل ساقة الفرنج. وكان قد أنفق في العساكر في تلك الدفعة مائة(4/84)
ألف دينار، وبنى في الجامع المذكور صهريجا عظيما، وجعل ساقية على الخليج قريب باب الخرق تملأ الصهريج المذكور أيام النيل، وجعل المجاري إليه، وأقيمت الجمعة فيه في الأيام المعزية في سنة بضع وخمسين وستمائة بحضور رسول بغداد الشيخ نجم الدين عبد الله البادرانيّ، وخطب به أصيل الدين أبو بكر الأسعرديّ، وهي إلى الآن، ولما حدثت الزلزلة سنة اثنتين وسبعمائة تهدّم، فعمر على يد الأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار.
طلائع بن رزيك: أبو الغارات الملك الصالح فارس المسلمين نصير الدين، قدم في أوّل أمره إلى زيارة مشهد الإمام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه بأرض النجف من العراق في جماعة من الفقراء، وكان من الشيعة الإمامية، وإمام مشهد عليّ رضي الله عنه يومئذ السيد ابن معصوم، فزار طلائع وأصحابه وباتوا هنالك، فرأى ابن معصوم في منامه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يقول له: قد ورد عليك الليلة أربعون فقيرا، من جملتهم رجل يقال له طلائع بن رزيك من أكبر محبينا، قل له اذهب فقد وليناك مصر. فلما أصبح أمر أن ينادي: من فيكم طلائع بن رزيك فليقم إلى السيد ابن معصوم. فجاء طلائع وسلّم عليه، فقصّ عليه ما رأى، فسار حينئذ إلى مصر وترقى في الخدم حتى ولي منية بني خصيب، فلما قتل نصر بن عباس، الخليفة الظافر، بعث نساء القصر إلى طلائع يستغثن به في الأخذ بثار الظافر، وجعلن في طيّ الكتب شعور النساء، فجمع طلائع عندما وردت عليه الكتب الناس، وسار يريد القاهرة لمحاربة الوزير عباس، فعندما قرب من البلد فرّ عباس ودخل طلائع إلى القاهرة، فخلع عليه خلع الوزارة ونعت بالملك الصالح فارس المسلمين نصير الدين، فباشر البلاد أحسن مباشرة، واستبدّ بالأمر لصغر سنّ الخليفة الفائز بنصر الله إلى أن مات، فأقام من بعده عبد الله بن محمد ولقبه بالعاضد لدين الله، وبايع له، وكان صغيرا لم يبلغ الحلم، فقويت حرمة طلائع وازداد تمكنه من الدولة، فثقل على أهل القصر لكثرة تضييقه عليهم، واستبداده بالأمر دونهم، فوقف له رجال بدهاليز القصر وضربوه حتى سقط على الأرض على وجهه، وحمل جريحا لا يعي إلى داره، فمات يوم الاثنين تاسع عشر شهر رمضان سنة ست وخمسين وخمسمائة، وكان شجاعا كريما جوادا فاضلا محبا لأهل الأدب جيد الشعر، رجل وقته فضلا وعقلا وسياسة وتدبيرا، وكان مهابا في شكله، عظيما في سطوته، وجمع أموالا عظيمة، وكان محافظا على الصلوات فرائضها ونوافلها، شديد المغالات في التشيع، صنف كتابا سماه الاعتماد في الردّ على أهل العناد، جمع له الفقهاء وناظرهم عليه، وهو يتضمن إمامة عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، والكلام على الأحاديث الواردة في ذلك، وله شعر كثير يشتمل على مجلدين في كلّ فن، فمنه في اعتقاده:
يا أمة سلكت ضلالا بينا ... حتى استوى إقرارها وجحودها
ملتم إلى أنّ المعاصي لم يكن ... إلّا بتقدير الإله وجودها(4/85)
لو صح ذا كان الإله بزعمكم ... منع الشريعة أن تقام حدودها
حاشا وكلّا أنّ يكون إلهنا ... ينهى عن الفحشاء ثم يريدها
وله قصيدة سماها الجوهرية، في الردّ على القدرية، وجدّد الجامع الذي بالقرافة الكبرى، ووقف ناحية بلقس على أن يكون ثلثاها على الأشراف من بني حسن وبني حسين ابني عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم، وسبع قراريط منها على أشراف المدينة النبوية، وجعل فيها قيراطا على بني معصوم إمام مشهد عليّ رضي الله عنه، ولما ولى الوزارة مال على المستخدمين بالدولة وعلى الأمراء، وأظهر مذهب الإمامية وهو مخالف لمذهب القوم، وباع ولايات الأعمال للأمراء بأسعار مقرّرة، وجعل مدة كلّ متولى ستة أشهر، فتضرّر الناس من كثرة تردّد الولاة على البلاد، وتعبوا من ذلك، وكان له مجلس في الليل يحضره أهل العلم ويدوّنون شعره، ولم يترك مدّة أيامه غزو الفرنج وتسيير الجيوش لقتالهم في البرّ والبحر، وكان يخرج البعوث في كل سنة مرارا، وكان يحمل في كلّ عام إلى أهل الحرمين مكة والمدينة من الأشراف سائر ما يحتاجون إليه من الكسوة وغيرها، حتى يحمل إليهم ألواح الصبيان التي يكتب فيها، والأقلام والمداد وآلات النساء، ويحمل كلّ سنة إلى العلويين الذين بالمشاهد جملا كبيرة، وكان أهل العلم يغدون إليه من سائر البلاد، فلا يخيب أمل قاصد منهم.
ولما كان في الليلة التي قتل صبيحتها قال: في هذه الليلة ضرب في مثلها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وأمر بقربة ممتلئة فاغتسل وصلّى على رأي الإمامية مائة وعشرين ركعة، أحيا بها ليله، وخرج ليركب فعثر وسقطت عمامته عن رأسه وتشوّشت، فقعد في دهليز دار الوزارة وأمر بإحضار ابن الضيف، وكان يتعمم للخلفاء والوزراء، وله على ذلك الجاري الثقيل، فلما أخذ في إصلاح العمامة قال رجل للصالح:
نعيذ بالله مولانا، ويكفيه هذا الذي جرى أمرا يتطير منه، فإن رأى مولانا أن يؤخر الركوب فعل، فقال: الطيرة من الشيطان، ليس إلى تأخير الركوب سبيل، وركب فكان من ضربه ما كان، وعاد محمولا فمات منها كما تقدّم.
ذكر الأحباس وما كان يعمل فيها
اعلم أن الأحباس في القديم لم تكن تعرف إلّا في الرباع وما يجري مجراها من المباني، وكلها كانت على جهات برّ. فأما المسجد الجامع العتيق بمصر، فكان يلي إمامته في الصلوات الخمس، والخطابة فيه يوم الجمعة، والصلاة بالناس صلاة الجمعة أمير البلد، فتارة يجمع للأمير بين الصلاة والخراج، وتارة يفرد الخراج عن الأمير، فيكون الأمير إليه أمر الصلاة بالناس والحرب، والآخر أمر الخراج، وهو دون مرتبة أمير الصلاة والحرب، وكان الأمير يستخلف عنه في الصلاة صاحب الشرطة إذا شغله أمر، ولم يزل الأمر على ذلك إلى(4/86)
أن ولي مصر عنبسة بن إسحاق بن شمر من قبل المستنصر بن المتوكل على الصلاة والخراج، فقدمها لخمس خلون من ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وأقام إلى مستهل رجب سنة اثنتين وأربعين ومائتين، وصرف فكان آخر من ولي مصر من العرب، وآخر أمير صلّى بالناس في المسجد الجامع، وصار يصلّى بالناس رجل يرزق من بيت المال، وكذلك المؤذنون ونحوهم، وأما الأراضي فلم يكن سلف الأمّة من الصحابة والتابعين يتعرّضون لها، وإنما حدث ذلك بعد عصرهم، حتى أنّ أحمد بن طولون لما بنى الجامع والمارستان والسقاية، وحبس على ذلك الأحباس الكثيرة، لم يكن فيها سوى الرباع ونحوها بمصر، ولم يتعرّض إلى شيء من أراضي مصر البتة، وحبس أبو بكر محمد بن عليّ الماردانيّ بركة الحبش وسيوط وغيرهما على الحرمين وعلى جهات برّ، وحبس غيره أيضا.
فلما قدمت الدولة الفاطمية من الغرب إلى مصر، بطل تحبيس البلاد، وصار قاضي القضاة يتولى أمر الأحباس من الرباع، وإليه أمر الجوامع والمشاهد، وصار للإحباس ديوان مفرد، وأوّل ما قدم المعز أمر في ربيع الآخر سنة ثلاث وستين وثلاثمائة بحمل مال الأحباس من المودع إلى بيت المال الذي لوجوه البرّ، وطولب أصحاب الأحباس بالشرائط ليحملوا عليها. وما يجب لهم فيها، وللنصف من شعبان ضمن الأحباس محمد بن القاضي أبي الطاهر محمد بن أحمد بألف ألف وخمسمائة ألف درهم في كلّ سنة، يدفع إلى المستحقين حقوقهم ويحمل ما بقي إلى بيت المال. وقال ابن الطوير: الخدمة في ديوان الأحباس وهو أوفر الدواوين مباشرة، ولا يخدم فيه إلّا أعيان كتّاب المسلمين من الشهود المعدّلين، بحكم أنها معاملة دينية، وفيها عدّة مدبرين ينوبون عن أرباب هذه الخدم في إيجاب أرزاقهم من ديوان الرواتب، وينجزون لهم الخروج بإطلاق أرزاقهم، ولا يوجب لأحد من هؤلاء خرج إلّا بعد حضور ورقة التعريف، من جهة مشارف الجوامع والمساجد باستمرار خدمته ذلك الشهر جميعه، ومن تأخر تعريفه تأخر الإيجاب له، وإن تمادى ذلك استبدل به، أو توفر ما باسمه لمصلحة أخرى، خلا جواري المشاهد فإنها لا توفر، لكنها تنقل من مقصر إلى ملازم، وكان يطلق لكل مشهد خمسون درهما في الشهر برسم الماء لزوّارها، ويجري من معاملة سواقي السبيل بالقرافة والنفقة عليها من ارتفاعه، فلا تخلو المصانع ولا الأحواض من الماء أبدا، ولا يعترض أحد من الانتفاع به، وكان فيه كاتبان ومعينان.
وقال المسبحي في حوادث سنة ثلاث وأربعمائة: وأمر الحاكم بأمر الله بإثبات المساجد التي لا غلة لها، ولا أحد يقوم بها، وماله منها غلة لا تقوم بما يحتاج إليه، فأثبت في عمل، ورفع إلى الحاكم بأمر الله، فكانت عدّة المساجد على الشرح المذكور ثمانمائة وثلاثين مسجدا، ومبلغ ما تحتاج إليه من النفقة في كلّ شهر تسعة آلاف ومائتان وعشرون درهما. على أنّ لكلّ مسجد في كلّ شهر اثني عشر درهما. وقال في حوادث سنة خمس(4/87)
وأربعمائة: وقريء يوم الجمعة ثامن عشري صفر سجل بتحبيس عدّة ضياع، وهي: اطفيح وصول وطوخ وست ضياع أخر، وعدّة قياسر وغيرها على القرّاء والفقهاء والمؤذنين بالجوامع، وعلى المصانع والقوّام بها، ونفقة المارستانات وأرزاق المستخدمين فيها وثمن الأكفان.
وقال الشريف بن أسعد الجوّانيّ: كان القضاة بمصر إذا بقي لشهر رمضان ثلاثة أيام طافوا يوما على المساجد والمشاهد بمصر والقاهرة يبدأون بجامع المقس، ثم القاهرة، ثم المشاهد، ثم القرافة، ثم جامع مصر، ثم مشهد الرأس لنظر حصر ذلك وقناديله وعمارته وما تشعث منه، وما زال الأمر على ذلك إلى أن زالت الدولة الفاطمية. فلما استقرّت دولة بني أيوب أضيفت الأحباس أيضا إلى القاضي، ثم تفرّقت جهات الأحباس في الدولة التركية وصارت إلى يومنا هذا ثلاث جهات: الأولى تعرف بالأحباس، ويلي هذه الجهة دوادار السلطان، وهو أحد الأمراء ومعه ناظر الأحباس، ولا يكون إلّا من أعيان الرؤساء، وبهذه الجهة ديوان فيه عدّة كتاب ومدبر، وأكثر ما في ديوان الأحباس الرزق الإحباسية، وهي أراض من أعمال مصر على المساجد والزوايا للقيام بمصالحها، وعلى غير ذلك من جهات البرّ، وبلغت الرزق الإحباسية في سنة أربعين وسبعمائة عند ما حرّرها النشو ناظر الخاص في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون، مائة ألف وثلاثين ألف فدّان، عمل النشو بها أوراقا، وحدّث السلطان في إخراجها عمن هي باسمه وقال: جميع هذه الرزق أخرجها الدواوين بالبراطيل والتقرّب إلى الأمراء والحكام، وأكثرها بأيدي أناس من فقهاء الأرياف لا يدرون الفقه، يسمون أنفسهم الخطباء، ولا يعرفون كيف يخطبون ولا يقرءون القرآن، وكثير منها بأسماء مساجد وزوايا معطلة وخراب، وحسن له أن يقيم شادّا وديوانا يسير في النواحي وينظر في المساجد التي هي عامرة، ويصرف لها من رزقها النصف، وما عدا ذلك يجري في ديوان السلطان. فعاجله الله وقبض عليه قبل عمل شيء من ذلك.
الجهة الثانية تعرف بالأوقاف الحكمية بمصر والقاهرة، ويلي هذه الجهة قاضي القضاة الشافعيّ، وفيها ما حبس من الرباع على الحرمين وعلى الصدقات والأسرى وأنواع القرب، ويقال لمن يتولى هذه الجهة ناظر الأوقاف، فتارة ينفرد بنظر أوقاف مصر والقاهرة رجل واحد من أعيان نوّاب القاضي، وتارة ينفرد بأوقاف القاهرة ناطر من الأعيان، ويلي نظر أوقاف مصر آخر، ولكلّ من أوقاف البلدين ديوان فيه كتّاب وجباة، وكانت جهة عامرة يتحصل منها أموال جمة، فيصرف منها لأهل الحرمين أموال عظيمة في كلّ سنة، تحمل من مصر إليهم مع من يثق به قاضي القضاة، وتفرّق هناك صررا، ويصرف منها أيضا بمصر والقاهرة لطلبة العلم ولأهل الستر وللفقراء شيء كثير، إلّا أنها اختلت وتلاشت في زمننا هذا، وعما قليل إن دام ما نحن فيه لم يبق لها أثر البتة، وسبب ذلك أنه ولي قضاء الحنفية كمال الدين عمر بن العديم في أيام الملك الناصر فرج، وولاية الأمير جمال الدين يوسف(4/88)