وأطولها لأنها دامت عليهم مدّة عشر سنين لا يفتر يوما واحدا يحرق فيها كنائسهم، ويعذب رجالهم، ويطلب من استتر منهم أو هرب ليقتل، يريد بذلك قطع أثر النصارى، وإبطال دين النصرانية من الأرض، فلهذا اتخذوا ابتداء ملك دقلطيانوس تاريخا، وكان ابتداء ملكه يوم الجمعة، وبينه وبين يوم الاثنين أوّل يوم من توت، وهو أوّل أيام ملك الإسكندر بن فيلبس المقدونيّ خمسمائة وأربع وتسعون سنة، وأحد عشر شهرا، وثلاثة أيام، وبين يوم الجمعة أوّل يوم من تاريخ دقلطيانوس، وبين يوم الخميس أوّل يوم من سنة الهجرة النبوية ثلثمائة وثمان وثلاثون سنة قمرية وتسعة وثلاثون يوما، وجعلوا شهور السنة القبطية اثني عشر شهرا كل شهر منها عدده ثلاثون يوما سواء، فإذا تمت الأشهر الاثنا عشر أتبعوها بخمسة أيام زيادة على عدد أيامها، وسموا هذه الخمسة الأيام أبو عمنا، وتعرف اليوم: بأيام النسيء، فيكون الحال في النسيء على ذلك ثلاث سنين متواليات، فإذا كان في السنة الرابعة جعلوا النسيء ستة أيام، فتكون سنوهم ثلاث سنين متواليات كل سنة ثلثمائة وخمسة وستون يوما والرابعة يصير عددها ثلثمائة وستة وستين يوما، ويرجع حكم سنتهم إلى حكم سنة اليونانيين بأن تصير سنتهم الوسطى ثلثمائة وخمسة وستين يوما وربع يوم إلا أن الكبس يختلف، فإذا كان كبس القبط في سنة كان كبس اليونانيين في السنة الداخلة.
وأسماء شهور القبط «1» : توت، بابه. هتور، كهيك، طوبه، أمشير، برمهات، برموده، بشنس، بؤونة، أبيب، مسرى؛ فهذه اثنا عشر شهرا كل شهر منها عدده ثلاثون يوما، وإذا كانت عدّة شهر مسري، وهو الشهر الثاني عشر زادوا أيام النسيء بعد ذلك، وعملوا النوروز أوّل يوم من شهر توت.
ذكر أسابيع الأيام
إعلم: أن القدماء من الفرس والصفد وقبط مصر الأول يم يكونوا يستعملون الأسابيع من الأيام في الشهور، وأوّل من استعملها أهل الجانب الغربيّ من الأرض لا سيما أهل الشام، وما حواليه من أجل ظهور الأنبياء عليهم السلام فيما هنا لك، وأخبارهم عن الأسبوع الأوّل وبدء العالم فيه، وإنّ الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام من الأسبوع، ثم انتشر ذلك منهم في سائر الأمم، واستعملته العرب العاربة بسبب تجاوز ديارهم، وديار أهل الشام، فإنهم كانوا قبل تحوّلهم إلى اليمن ببابل، وعندهم أخبار نوح عليه السلام، ثم بعث الله تعالى إليهم هودا، ثم صالحا عليهما السلام، وأنزل فيهم إبراهيم خليل الرحمن ابنه إسماعيل عليهما السلام، فتعرّب إسماعيل، وكانت القبط الأول تستعمل أسماء الأيام الثلاثين من كل شهر، فتجعل لكل يوم منها اسما، كما هو العمل في تاريخ الفرس،(2/25)
وما زالت القبط على هذا إلى أن ملك مصر أغشطش بن بوحس، فأراد أن يحملهم على كبس السنين ليوافقوا الروم أبدا فيها، فوجدوا الباقي حينئذ إلى تمام السنة الكبيسة الكبرى خمس سنين، فانتظر حتى مضى من ملكه خمس سنين، ثم حملهم على كبس الشهور في كل أربع سنين بيوم، كما تفعل الروم، فترك القبط من حينئذ استعمال أسماء الأيام الثلاثين، لاحتياجهم في يوم الكبس إلى اسم يخصه، وانقرض بعد ذلك مستعملو أسماء الأيام الثلاثين من أهل مصر، والعارفون بها، ولم يبق لها ذكر يعرف في العالم بين الناس، بل دثرت كما دثر غيرها من أسماء الرسوم القديمة، والعادات الأول سنة الله في الذين خلوا من قبل، وكانت أسماء شهور القبط في الزمن القديم: توت، بؤوني، أتور، سواق، طوبى، ماكير، فامينوت، برموتي، باحون، باوني، افيعي، ابيقا؛ وكل شهر منها ثلاثون يوما، ولكل يوم اسم يخصه، ثم أحدث بعض رؤساء القبط بعد استعمالهم الكبس الأسماء التي هي اليوم متداولة بين الناس بمصر، إلا أن من الناس من يسمى كيهك كياك، ويقول في برمهات برمهوط، وفي بشنس بشانس، وفي مسري ماسوري، ومن الناس من يسمى الخمسة الأيام الزائدة أيام النسيء، ومنهم من يسميها أبو عمنا، ومعنى ذلك الشهر الصغير، وهي كما تقدّم تلحق في آخر مسرى، وفيه يزاد اليوم الكبيس، فيكون أبو عمنا ستة أيام حينئذ، ويسمون السنة الكبيسة النقط، ومعناه العلامة، ومن خرافات القبط أنّ شهورهم هي شهور سني نوح وشيث وآدم منذ ابتداء العالم، وإنها لم تزل على ذلك إلى أن خرج موسى ببني إسرائيل من مصر، فعملوا أوّل سنتهم خامس عشر نيسان، كما أمروه به في التوراة إلى أن نقل الإسكندر رأس سنتهم إلى أوّل تشرين، وكذلك المصريون نقل بعض ملوكهم أوّل سنتهم إلى أوّل يوم من ملكه، فصار أوّل توت عندهم يتقدّم أوّل يوم خلق فيه العالم بمائتين وثمانية أيام أوّلها يوم الثلاثاء، وآخرها يوم السبت، وكان توت أوّله في ذلك الوقت يوم الأحد، وهو أوّل يوم خلق الله فيه العالم الذي يقال له الآن: تاسع عشري برمهات وذلك أنّ أوّل من ملك على الأرض بعد الطوفان نمرود بن كنعان بن حام بن نوح، فعمر بابل، وهو أبو الكلدانيين، وملك بنو مصرايم بن حام بن نوح عليه السلام: متش فبنى منف بمصر على النيل، وسماها باسم جدّه مصرايم، وهو ثاني ملك ملك على الأرض، وهذان الملكان استعملا تاريخ جدّهما نوح عليه السلام، واستن بسنتهم من جاء بعدهم حتى تغيرت كما تقدّم.
ذكر أعياد القبط من النصارى بديار مصر
روى يونس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: اجتنبوا عيد اليهود والنصارى، فإنّ السخط ينزل عليهم في مجامعهم، ولا تتعلموا رطانتهم فتخلقوا ببعض خلقهم.
وعن ابن عباس في قوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا(2/26)
كِراماً
[الفرقان/ 72] قال: أعياد المشركين، فقيل له: أو ما هذا في الشهادة بالزور، فقال:
لا إنما أية شهادة الزور، ولا تقف ما ليس لك به علم إنّ السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا.
اعلم: أنّ نصارى مصر من القبط ينحلون مذهب اليعقوبية كما تقدّم ذكره، وأعيادهم الآن التي هي مشهورة بديار مصر أربعة عشر عيدا في كل سنة من سنيهم القبطية منها سبعة أعياد يسمونها أعيادا كبارا، وسبعة يسمونها أعيادا صغارا. فالأعياد الكبار عندهم: عيد البشارة، وعيد الزيتونة، وعيد الفصح، وعيد خميس الأربعين، وعيد الخميس، وعيد الميلاد، وعيد الغطاس.
والأعياد الصغار: عيد الختان، وعيد الأربعين، وخميس العهد، وسبت النور، وأحد الحدود، والتجلي، وعيد الصليب، ولهم مواسم أخر ليست هي عندهم من الأعياد الشرعية لكنها عندهم من المواسم العادية، وهو يوم النوروز، وسأذكر من خبر هذه الأعياد ما لا تجده مجموعا في غير هذا الكتاب على ما استخرجته من كتب النصارى، وتواريخ أهل الإسلام.
عيد البشارة: هذا العيد عيد النصارى أصله بشارة جبريل مريم بميلاد المسيح عليهما السلام، وهم يسمون جبريل غبريال، ويقولون: مارت مريم، ويسمون المسيح: ياشوع، وربما قالوا: السيد يشوع، وهذا العيد تعمله نصارى مصر في اليوم التاسع والعشرين من شهر برمهات «1» .
عيد الزيتونة: ويعرف عندهم: بعيد الشعانين، ومعناه التسبيح، ويكون في سابع أحد من صومهم وسنتهم في عيد الشعانين أن يخرجوا سعف النخل من الكنيسة، ويرون أنه يوم ركوب المسيح العنو، وهو الحمار في القدس، ودخوله إلى صهيون، وهو راكب والناس بين يديه يسبحون، وهو يأمر بالمعروف، ويحث على عمل الخير، وينهى عن المنكر، ويباعد عنه، وكان عيد الشعانين من مواسم النصارى بمصر التي تزين فيها كنائسهم، فلما كان لعشر خلون من شهر رجب سنة ثمان وسبعين وثلثمائة، كان عيد الشعانين فمنع الحاكم بأمر الله أبو عليّ منصور بن العزيز بالله النصارى من تزيين كنائسهم، وحملهم الخوص على ما كانت عادتهم، وقبض على عدّة ممن وجد معه شيئا من ذلك، وأمر بالقبض على ما هو محبس على الكنائس من الأملاك، وأدخلها في الديوان، وكتب لسائر الأعمال بذلك، وأحرقت عدّة من صلبانهم على باب الجامع العتيق والشرطة.
عيد الفصح: هذا العيد عندهم هو العيد الكبير، ويزعمون أنّ المسيح عليه السلام،(2/27)
لما تمالأ اليهود عليه، واجتمعوا على تضليله وقتله، قبضوا عليه، وأحضروه إلى خشبة ليصلب عليها، فصلب على خشبة عليها لصان، وعندنا وهو الحق أنّ الله تعالى رفعه إليه، ولم يصلب، ولم يقتل وأنّ الذي صلب على الخشبة مع اللصين غير المسيح ألقى الله عليه شبه المسيح، قالوا: واقتسم الجند ثيابه، وغشي الأرض ظلمة من الساعة السادسة من النهار إلى الساعة التاسعة من يوم الجمعة خامس عشر هلال نيسان للعبرانيين، وتاسع عشري برمهات، وخامس عشري آذار سنة «1» ودفن الشبيه آخر النهار بقبر، وأطبق عليه حجر عظيم، وختم عليه رؤساء اليهود، وأقاموا عليه الحرس باكر يوم السبت، كيلا يسرق فزعموا أنّ المقبور قام من القبر ليلة الأحد سحرا، ومضى بطرس، ويوحنا التلميذان إلى القبر، وإذا الثياب التي كانت على المقبور بغير ميت، وعلى القبر ملاك الله بثياب بيض، فأخبرهما بقيام المقبور من القبر، قالوا: وفي عشية يوم الأحد هذا، دخل المسيح على تلاميذه، وسلّم عليهم، وأكل معهم، وكلمهم وأوصاهم، وأمرهم بأمور قد تضمنها إنجيلهم، وهذا العيد عندهم بعد عيد الصلبوت بثلاثة أيام.
خميس الأربعين: ويعرف عند أهل الشام بالمسلاق، ويقال له أيضا: عيد الصعود، وهو الثاني والأربعون من الفطر، ويزعمون أنّ المسيح عليه السلام بعد أربعين يوما من قيامته خرج إلى بيت عينا، والتلاميذ معه، فرفع يديه وبارك عليهم، وصعد إلى السماء، وذلك عند إكماله ثلاثا وثلاثين سنة وثلاثة أشهر، فرجع التلامذة إلى أوراسليم يعني بيت المقدس، وقد وعدهم باشتهار أمرهم، وغير ذلك مما هو معروف عندهم، فهذا اعتقادهم في كيفية رفع المسيح، ومن أصدق من الله حديثا.
عيد الخميس: وهو العنصرة، ويعملونه بعد خمسين يوما من يوم القيام، وزعموا أن بعد عشرة أيام من الصعود وخمسين يوما من قيامة المسيح، اجتمع التلاميذ في علية صهيون، فتجلى لهم روح القدس في شبه ألسنة من نار، فامتلأوا من روح القدس، وتكلموا بجميع الألسن، وظهرت على أيديهم آيات كثيرة، فعاداهم اليهود، وحبسوهم فنجاهم الله منهم، وخرجوا من السجن، فساروا في الأرض متفرّقين يدعون الناس إلى دين المسيح.
عيد الميلاد: يزعمون أنه اليوم الذي ولد فيه المسيح، وهو يوم الاثنين فيحيون عشية ليلة الميلاد، وسنتهم فيه كثرة الوقود بالكنائس، وتزيينها، ويعملونه بمصر في التاسع والعشرين من كيهك «2» ولم يزل بديار مصر من المواسم المشهورة، فكان يفرّق فيه أيام الدولة الفاطمية على أرباب الرسوم من الأستاذين المحنكين، والأمراء المطوّقين، وسائر الموالي من الكتاب وغيرهم، الجامات من الحلاوة القاهرية، والمثارد التي فيها السميذ،(2/28)
وقربات الجلاب، وطمافير الزلابية، والسمك المعروف بالبوريّ، ومن رسم النصارى في الميلاد اللعب بالنار. ومن أحسن ما قيل:
ما اللعب بالنار في الميلاد من سفه ... وإنما فيه للإسلام مقصود
ففيه بهت النصارى أنّ ربهم ... عيسى ابن مريم مخلوق ومولود
وأدركنا الميلاد بالقاهرة ومصر، وسائر إقليم مصر موسما جليلا يباع فيه من الشموع المزهرة بالأصباغ المليحة، والتماثيل البديعة بأموال لا تنحصر، فلا يبقى أحد من الناس أعلاهم وأدناهم حتى يشتري من ذلك لأولاده وأهله، وكانوا يسمونها: الفوانيس، واحدها فانوس، ويعلقون منها في الأسواق بالحوانيت شيئا يخرج عن الحدّ في الكثرة والملاحة، ويتنافس الناس في المغالات في أثمانها حتى لقد أدركت شمعة عملت فبلغ مصروفها: ألف درهم وخمسمائة درهم فضة عنها يومئذ ما ينيف على سبعين مثقالا من الذهب واعرف السؤال في الطرقات أيام هذه المواسم، وهم يسألون الله أن يتصدّق عليهم بفانوس، فيشتري لهم من صغار الفوانيس، ما يبلغ ثمنه الدرهم، وما حوله ثم لما اختلت أمور مصر، كان من جملة ما بطل من عوايد الترف، عمل الفوانيس في الميلاد إلّا قليلا.
الغطاس: ويعمل بمصر في اليوم الحادي عشر من شهر طوبه «1» ، وأصله عند النصارى، أنّ يحيى بن زكرياء عليهما السلام المعروف عندهم بيوحنا المعمدانيّ: عمّد المسيح أي غسله في بحيرة الأردن، وعندما خرج المسيح عليه السلام من الماء، اتصل به روح القدس، فصار النصارى لذلك يغمسون أولادهم في الماء في هذا اليوم، وينزلون فيه بأجمعهم، ولا يكون ذلك إلا في شدّة البرد، ويسمونه يوم الغطاس، وكان له بمصر موسم عظيم إلى الغاية.
قال المسعوديّ: ولليلة الغطاس بمصر شأن عظيم عند أهلها لا ينام الناس فيها، وهي ليلة الحادي عشر من طوبه، ولقد حضرت سنة ثلاثين وثلثمائة ليلة الغطاس بمصر، والإخشيد محمد بن طفج أمير مصر في داره المعروفة بالمختار في الجزيرة الراكبة للنيل، والنيل يطيف بها، وقد أمر فأسرج في جانب الجزيرة، وجانب الفسطاط ألف مشعل غير ما أسرج أهل مصر من المشاعل والشمع، وقد حضر بشاطئ النيل في تلك الليلة آلاف من الناس من المسلمين، ومن النصارى منهم في الزواريق، ومنهم في الدور الدانية من النيل، ومنهم على سائر الشطوط لا يتناكرون كل ما يمكنهم إظهاره من المآكل والمشارب والملابس، وآلات الذهب والفضة، والجوهر والملاهي، والعزف والقصف، وهي أحسن ليلة تكون بمصر، وأشملها سرورا، ولا تغلق فيها الدروب، ويغطس أكثرهم في النيل، ويزعمون أنّ ذلك أمان من المرض ونشزة للداء.(2/29)
وقال المسبحيّ في تاريخه: من حوادث سنة سبع وستين وثلثمائة: منع النّصارى من إظهار ما كانوا يفعلونه في الغطاس من الاجتماع، ونزول الماء، وإظهار الملاهي، ونودي أن من عمل ذلك نفي من الحضرة، وقال في سنة ثمان وثمانين وثلثمائة: كان الغطاس فضربت الخيام والمضارب والأسرّة في عدّة مواضع على شاطىء النيل، ونصبت أسرّة للرئيس فهد بن إبراهيم النصرانيّ كاتب الأستاذ برجوان «1» ، وأوقدت له الشموع والمشاعل، وحضر المغنون والملهون، وجلس مع أهله يشرب إلى أن كان وقت الغطاس، فغطس وانصرف.
وقال: في سنة إحدى وأربعمائة، وفي ثامن عشري جمادى الأولى، وهو عاشر طوبه منع النصارى من الغطاس، فلم يغطس أحد منهم في البحر، وقال: في حوادث سنة خمس عشرة وأربعمائة، وفي ليلة الأربعاء رابع ذي القعدة، كان غطاس النصارى، فجرى الرسم من الناس في شراء الفواكه والضأن وغيره، ونزل أمير المؤمنين الظاهر لإعزاز دين الله لقصر جدّه العزيز بالله في مصر، لنظر الغطاس، ومعه الحرم، ونودي أن لا يختلط المسلمون مع النصارى عند نزولهم في البحر في النيل، وضرب بدر الدولة الخادم الأسود متولي الشرطتين، خيمة عند الجسر، وجلس فيها وأمر أمير المؤمنين بأن توقد النار والمشاعل في الليل، وكان وقيدا كثيرا، وحضر الرهبان والقسوس بالصلبان والنيران، فقسسوا هناك طويلا إلى أن غطسوا، وقال ابن المأمون في تاريخه: من حوادث سنة سبع عشرة وخمسمائة، وذكر الغطاس، ففرّق أهل الدولة ما جرت به العادة لأهل الرسوم من الأترج والنارنج والليمون في المراكب، وأطنان القصب والبوري بحسب الرسوم المقرّرة بالديوان لكل واحد.
الختان: يعمل في سادس شهر بؤونة «2» ، ويزعمون أنّ المسيح ختن في هذا اليوم، وهو الثامن من الميلاد، والقبط من دون النصارى تختن بخلاف غيرهم.
الأربعون: وهو عندهم دخول المسيح الهيكل، ويزعمون أنّ سمعان الكاهن: دخل بالمسيح مع أمّه، وبارك عليه، ويعمل في ثامن شهر أمشير «3» .
خميس العهد: ويعمل قبل الفصح بثلاثة أيام، وسنتهم فيه أن يملئوا إناء من ماء، ويزمزمون عليه، ثم يغسل للتبرّك به أرجل سائر النصارى، ويزعمون أنّ المسيح فعل هذا بتلامذته في مثل هذا اليوم كي يعلمهم التواضع، ثم أخذ عليهم العهد أن لا يتفرّقوا، وأن(2/30)
يتواضع بعضهم لبعض، وعوامّ أهل مصر في وقتنا يقولون: خميس العدس من أجل أنّ النصارى تطبخ فيه العدس المصفى، ويقول أهل الشام: خميس الأرز وخميس البيض، ويقول أهل الأندلس: خميس أبريل، وأبريل اسم شهر من شهورهم، وكان في الدولة الفاطمية تضرب في خميس العدس هذا خمسمائة دينار، فتعمل خراريب تفرّق في أهل الدولة برسوم مفردة كما ذكر في أخبار القصر من القاهرة عند ذكر دار الضرب من هذا الكتاب، وأدركنا خميس العدس هذا في القاهرة ومصر، وأعمالها من جملة المواسم العظيمة، فيباع في أسواق القاهرة من البيض المصبوغ عدّة ألوان ما يتجاوز حدّ الكثرة، فيقامر به العبيد والصبيان والغوغاء، وينتدب لذلك من جهة المحتسب من يردعهم في بعض الأحيان، ويهادي النصارى بعضهم بعضا، ويهدون إلى المسلمين أنواع السمك المنوّع مع العدس المصفى، والبيض، وقد بطل ذلك لما حلّ بالناس وبقيت منه بقية.
سبت النور: وهو قبل الفصح بيوم، ويزعمون: أنّ النور يظهر على قبر المسيح بزعمهم في هذا اليوم بكنيسة القيامة من القدس، فتشعل مصابيح الكنيسة كلها، وقد وقف أهل الفصح، والتفتيش على أنّ هذا من جملة مخاريق النصارى، لصناعة يعملونها، وكان بمصر هذا اليوم من جملة المواسم، ويكون ثالث يوم من خميس العدس، ومن توابعه.
حدّ الحدود: وهو بعد الفصح بثمانية أيام فيعمل أوّل أحد بعد الفطر لأن الآحاد قبله مشغولة بالصوم، وفيه يجدّون الآلات والأثاث واللباس، ويأخذون في المعاملات، والأمور الدنيوية والمعاش.
عيد التجلي: يعمل في ثالث عشر شهر مسرى «1» يزعمون أن المسيح تجلى لتلاميذه بعد ما رفع، وتمنوا عليه أن يحضر لهم إيلياء، وموسى عليهما السلام، فأحضرهما إليهم بمصلى بيت المقدس، ثم صعد إلى السماء وتركهم.
عيد الصليب: ويعمل في اليوم السابع عشر من شهر توت «2» ، وهو من الأعياد المحدثة، وسببه ظهور الصليب بزعمهم على يد هيلانة أم قسطنطين، وله خبر طويل عندهم ملخصه ما أنت تراه.
ذكر قسطنطين: وقسطنطين هذا: هو ابن قسطنش بن وليطنوش بن أرشميوش بن دقبون بن كلوديش بن عايش بن كتبيان اعسب الأعظم الملقب قيصر، وهو أوّل من ثبت دين النصرانية، وأمر بقطع الأوثان، وهدم هياكلها، وبنيان البيع، وآمن من الملوك بالمسيح، وكانت أمّه هيلانة من مدينة الرها، فنشأ بها مع أمّه، وتعلم العلوم، ولم يزل في غاية من(2/31)
الظفر والسعادة معانا منصورا على كل من حاربه، وكان في أوّل أمره على دين المجوس شديدا على النصارى ماقتا لدينهم، وكان سبب رجوعه عن ذلك إلى دين النصرانية أنه ابتلي بجذام ظهر عليه، فاغتمّ لذلك غما شديدا، وجمع الحذاق من الأطباء، فاتفقوا على أدوية دبّروها له، وأوجبوا أن يستنقع بعد أخذ تلك الأدوية في صهريج مملوء من دماء أطفال رضع ساعة يسيل منهم، فتقدّم أمره بجمع جملة من أطفال الناس، وأمر بذبحهم في صهريج ليستنقع في دمائهم، وهي طرية، فجمعت الأطفال لذلك، وبرز ليمضي فيهم ما تقدّم به من ذبحهم، فسمع ضجيج النساء اللّاتي أخذ أولادهنّ، فرحمهنّ وأمر فدفع لكل واحدة ابنها، وقال: احتمال علّتي أولى بي، وأوجب من هلاك هذه العدّة العظيمة من البشر، فانصرف النساء بأولادهنّ، وقد سررن سرورا كثيرا، فلما صار من الليل إلى مضجعه رأى في منامه شيخا يقول له: إنك رحمت الأطفال وأمّهاتهم، ورأيت احتمال علتك أولى من ذبحهم، فقد رحمك الله، ووهبك السلامة من علتك، فابعث إلى رجل من أهل الإيمان يدعى: شلبشقر، قد فرّ خوفا منك، وقف عندما يأمرك به، والتزم ما يخصك عليه تتم لك العافية، فانتبه مذعورا، وبعث في طلب شلبشقر الأسقف، فأتي به إليه وهو يظنّ أنه يريد قتله، لما عهده من غلظته على النصارى، ومقته لدينهم، فعندما رآه تلقاه بالبشر، وأعلمه بما رآه في منامه، قفص عليه دين النصرانية، وكانت له معه أخبار طويلة مذكورة عندهم، فبعث قسطنطين في جمع الأساقفة المنفيين، والمسيرين والتزم دين النصرانية، وشفاه الله من الجذام، فأيد الديانة، أعلن بالإيمان بدين المسيح، وبينا هو في ذلك إذ توقع وثوب أهل رومة عليه، وإيقاعهم به، فخرج عنها وبنى مدينة قسطنطينية «1» بنيانا جليلا فعرفت به، وسكنها فصارت موضع تخت الملك من عهده، وقد كان النصارى من لدن زمان بيرون الملك الذي قبل الحواريين، ومن بعده ممن ملك رومة في كل وقت يقتلون، ويحبسون ويشرّدون بالنفي، فلما سكن قسطنطين مدينة قسطنطينية جمع إلى نفسه أهل المسيح، وقوّى وجوههم وأذلّ عبّاد الأوثان، فشق ذلك على أهل رومة، وخلعوا طاعته، وقدّموا عليهم ملكا، فأهمه ذلك، ومرّت له معهم عدّة أخبار مذكورة في تاريخ رومة، ثم إنه خرج من قسطنطينية يريد رومة، وقد استعدّوا لحربه، فلما قاربهم أذعنوا له، والتزموا طاعته، فدخلها فأقام إلى أن رجع لحرب الفرس، وخرج إليهم، فقهرهم ودانت له أكثر ممالك الدنيا، فلما كان في عشرين سنة من دولته، خرجت الفرس على بعض أطرافه، فغزاهم وأخرجهم عن بلاده، ورأي في منامه كأن بنودا شبه الصليب قد رفعت، وقائلا يقول له: إن أردت أن تظفر بمن خالفك، فاجعل هذه العلامات على جميع بركك، وسكك، فما انتبه أمر بتجهيز أمه هيلانة إلى بيت المقدس في طلب آثار المسيح عليه السلام، وبناء الكنائس، وإقامة شعائر النصرانية، فسارت إلى بيت المقدس، وبنت الكنائس، فيقال: إنّ الأسقف مقاريوس دلّها على الخشبة(2/32)
التي زعموا أن المسيح صلب عليها، وقد قص عليها ما عمل به اليهود، فحفرت فإذا قبر وثلاث خشبات على شكل الصليب، فزعموا أنهم ألقوا الثلاث خشبات على ميت واحدة بعد واحدة، فقام حيّا عندما وضعت عليه الخشبة الثالثة منها، فاتخذوا ذلك اليوم عيدا، وسمّوه: عيد الصليب، وكان في اليوم الرابع عشر من أيلول والسابع عشر من توت، وذلك بعد ولادة المسيح بثلاثمائة وثمان وعشرين سنة، وجعلت هيلانة لخشبات الصليب غلافا من ذهب، وبنت كنيسة القيامة «1» ببيت المقدس على قبر المسيح بزعمهم، وكانت لها مع اليهود أخبار كثيرة قد ذكرت عندهم، ثم انصرفت بالصليب معها إلى ابنها، وما زال قسطنطين على ممالك الروم إلى أن مات بعد أربع وعشرين سنة من ولايته، فقام من بعده بممالك الروم ابنه قسطنطين الأصغر، وقد كان لعيد الصليب بمصر موسم عظيم يخرج الناس فيه إلى بني وائل بظاهر فسطاط مصر، ويتظاهرون في ذلك اليوم بالمنكرات من أنواع المحرّمات، ويمرّ لهم فيه ما يتجاوز الحدّ، فلما قدمت الدولة الفاطمية إلى ديار مصر، وبنوا القاهرة، واستوطنوها، وكانت خلافة أمير المؤمنين العزيز بالله أمر في رابع شهر رجب في سنة إحدى وثمانين وثلثمائة، وهو يوم الصليب، فمنع الناس من الخروج إلى بني وائل وضبط الطرق والدروب، ثم لما كان عيد الصليب في اليوم الرابع عشر من شهر رجب سنة اثنتين وثمانين وثلثمائة خرج الناس فيه إلى بني وائل، وجروا على عادتهم في الاجتماع واللهو، وفي صفر سنة اثنتين وأربعمائة قرىء في سابعه سجل بالجامع العتيق وفي الطرقات كتب عن الحاكم بأمر الله يشتمل على منع النصارى من الاجتماع على عمل عيد الصليب، وأن لا يظهروا بزينتهم فيه، ولا يقربوا كنائسهم، وأن يمنعوا منها ثم بطل ذلك، حتى لم يكد يعرف اليوم بديار مصر البتة.
النيروز: هو أوّل السنة القبطية بمصر، وهو أوّل يوم من توت، وسنتهم فيه إشعال النيران، والتراش بالماء، وكان من مواسم لهم المصريين قديما وحديثا. قال ابن وهب:
بردت النار في الليلة التي ألقي فيها إبراهيم، وفي صبيحتها على الأرض كلها، فلم ينتفع بها أحد في الدنيا تلك الليلة، وذلك الصباح، فمن أجل ذلك بات الناس على النار في تلك الليلة التي رمي فيها إبراهيم عليه السلام، ووثبوا عليها، وتبخروا بها، وسموا تلك الليلة:
نيروزا، والنيروز في اللسان السرياني: العيد. وسئل ابن عباس عن النيروز لم اتخذوه عيدا، فقال: إنه أوّل السنة المستأنفة وآخر السنة المنقطعة، فكانوا يستحبون أن يقدموا فيه على ملوكهم بالطرف، والهدايا، فاتخذته الأعاجم سنّة.
قال الحافظ أبو القاسم عليّ بن عساكر في تاريخ دمشق من طريق ابن عباس رضي الله(2/33)
عنهما، قال: إنّ فرعون لما قال للملأ من قومه: إن هذا لساحر عليم، قالوا له: ابعث إلى السحرة، فقال فرعون لموسى: يا موسى اجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن، ولا أنت، فتجتمع أنت وهارون وتجتمع السحرة، فقال موسى: موعدكم يوم الزينة، قال:
ووافق ذلك يوم السبت في أوّل يوم من السنة، وهو يوم النيروز، وفي رواية: أن السحرة قالوا لفرعون: أيها الملك واعد الرجل، فقال: قد واعدته يوم الزينة، وهو عيدكم الأكبر، ووافق ذلك يوم السبت، فخرج الناس لذلك اليوم، قال: والنوروز أوّل سنة الفرس، وهو الرابع عشر من آذار، وفي شهر برمهات، ويقال: أوّل من أحدثه جمشيد «1»
من ملوك الفرس، وإنه ملك الأقاليم السبعة، فلما كمل ملكه، ولم يبق له عدوّ اتخذ ذلك اليوم عيدا، وسماه نوروزا في اليوم الجديد، وقيل: إن سليمان بن داود عليهما السلام، أوّل من وضعه في اليوم الذي رجع إليه فيه خاتمه، وقيل: هو اليوم الذي شفي فيه أيوب عليه السلام، وقال الله سبحانه وتعالى له: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ
[ص/ 42] فجعل ذلك اليوم عيدا، وسنّوا فيه رش الماء، ويقال: كان بالشام سبط من بني إسرائيل أصابهم الطاعون، فخرجوا إلى العراق، فبلغ ملك العجم خبرهم، فأمر أن تبنى عليهم حظيرة يجعلون فيها، فلما صاروا فيها ماتوا، وكانوا أربعة آلاف رجل، ثم إن الله تعالى أوحى إلى نبيّ ذلك الزمان أرأيت بلاد كذا وكذا، فحاربهم بسبط بني فلان، فقال: يا رب كيف أحارب بهم، وقد ماتوا، فأوحى الله إليه: إني أحييهم لك، فأمطرهم الله ليلة من الليالي في الحظيرة، فأصبحوا أحياء فهم الذين قال الله فيهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ، فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ
[البقرة/ 243] فرفع أمرهم إلى ملك فارس، فقال: تبرّكوا بهذا اليوم، وليصب بعضكم على بعض الماء، فكان ذلك اليوم يوم النوروز، فصارت سنّة إلى اليوم، وسئل الخليفة المأمون عن رش الماء في النوروز، فقال قول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ
[البقرة/ 243] هؤلاء قوم أجدبوا تقول مات فلان هزالا فغيثوا في هذا اليوم برشة من مطر فعاشوا، فأخصب بلدهم، فلما أحياهم الله بالغيث، والغيث يسمى الحيا جعلوا صب الماء في مثل هذا اليوم سنّة يتبرّكون بها إلى يومنا هذا.
وقد روي: أن الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف قوم من بني إسرائيل فرّوا من الطاعون، وقيل: أمروا بالجهاد، فخافوا الموت بالقتل في الجهاد، فخرجوا من ديارهم فرارا من ذلك، فأماتهم الله ليعرّفهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء، ثم أحياهم على يد حزقيل أحد أنبياء بني إسرائيل في خبر طويل قد ذكره أهل التفسير.(2/34)
وقال عليّ بن حمزة الأصفهانيّ «1» في كتاب أعياد الفرس: إنّ أوّل من اتخذ النيروز، جمشيد، ويقال: جمشاد أحد ملوك الفرس الأول، ومعنى النوروز اليوم الجديد، والنوروز عند الفرس يكون يوم الاعتدال الربيعيّ، كما أنّ المهرجان أوّل الاعتدال الخريفيّ، ويزعمون أن النوروز أقدم من المهرجان، فيقولون: إن المهرجان كان في أيام أفريدون، وإنه أوّل من عمله لما قتل الضحاك، وهو بيوراست، فجعل يوم قتله عيدا سماه المهرجان، وكان حدوثه بعد النوروز بألفي سنة وعشرين سنة.
وقال ابن وصيف شاه في ذكر مناوش بن منقاوش أحد ملوك القبط في الدهر القديم:
وهو أوّل من عمل النوروز بمصر، فكانوا يقيمون سبعة أيام يأكلون ويشربون إكراما للكواكب.
وقال ابن رضوان: ولمّا كان النيل هو السبب الأعظم في عمارة أرض مصر، رأى المصريون القدماء، وخاصة الذين كانوا في عهد قلديانوس الملك أن يجعلوا أوّل السنة في أوّل الخريف عند استكمال النيل الحاجة في الأمر الأكثر، فجعلوا أوّل شهورهم توت، ثم بابه ثم هاتور، وعلى هذا الولاء بحسب المشهور من ترتيب هذه الشهور.
وقال ابن زولاق: وفي هذه السنة، يعني سنة ثلاث وستين وثلثمائة، منع أمير المؤمنين المعز لدين الله من وقود النيران ليلة النوروز في السكك، ومن صبّ الماء يوم النوروز.
وقال: في سنة أربع وستين، وفي يوم النوروز زاد اللعب بالماء، ووقود النيران، وطاف أهل الأسواق، وعملوا فيه وخرجوا إلى القاهرة بلعبهم، ولعبوا ثلاثة أيام، وأظهروا السماجات والحلي في الأسواق، ثم أمر المعز بالنداء بالكف، وأن لا توقد نار، ولا يصب ماء، وأخذ قوم فحبسوا، وأخذ قوم فطيف بهم على الجمال. وقال ابن المأمون في تاريخه:
وحلّ موسم النوروز في اليوم التاسع من رجب سنة سبع عشرة وخمسمائة، ووصلت الكسوة المختصة بالنوروز من الطراز، وثغر الإسكندرية مع ما يتبعها من الآلات المذهبة، والحريري والسوادج، وأطلق جميع ما هو مستقرّ من الكسوات الرجالية والنسائية والعين والورق، وجميع الأصناف المختصة بالموسم على اختلافها بتفصيلها، وأسماء أربابها، وأصناف النوروز البطيخ والرمان، وعناقيد الموز، وأفراد البسر، وأقفاص التمر القوصي، وأقفاص السفرجل، وبكل الهريسة المعمولة من لحم الدجاج، ومن لحم الضأن، ومن لحم(2/35)
البقر من كل لون بكلة مع حبرير مارق، قال: وأحضر كاتب الدفتر الحسابات بما جرت به العادة من إطلاق العين والورق، والكسوات على اختلافها في يوم النوروز، وغير ذلك من جميع الأصناف، وهو أربعة آلاف دينار ذهبا وخمسة عشر ألف درهم فضة، والكسوات عدّة كثيرة من شقق ديبقية مذهبات وحريريات، ومعاجر وعصائب نسائيات ملوّنات وسقولاد مذهب وحريري، ومسفع، وفوط ديبقية حريرية، فأما العين والورق والكسوات، فذلك لا يخرج عمن تحوزه القصور، ودار الوزارة والشيوخ والأصحاب، والحواشي والمستخدمين ورؤساء العشاريات، وبحاريها، ولم يكن لأحد من الأمراء على اختلاف درجاتهم في ذلك نصيب.
وأما الأصناف من البطيخ والرّمان والبسر والموز والسفرجل والعناب والهرائس على اختلافها، فيشمل ذلك جميع من تقدّم ذكرهم، ويشركهم فيه جميع الأمراء أرباب الأطواق والإنصاف وغيرهم من الأماثل، والأعيان من له جاه، ورسم في الدولة.
وقال القاضي الفاضل في متجدّدات سنة أربع وثمانين وخمسمائة يوم الثلاثاء رابع عشر رجب يوم النوروز القبطيّ، وهو مستهلّ توت، وتوت أوّل سنتهم، وقد كان بمصر في الأيام الماضية والدولة الخالية من مواسم بطالاتهم، ومواقيت ضلالاتهم، فكانت المنكرات ظاهرة فيه، والفواحش صريحة فيه، ويركب فيه أمير موسوم بأمير النوروز، ومه جمع كثير، ويتسلط على الناس في طلب رسم رتبه، ويرسم على دور الأكابر بالجمل الكبار، ويكتب مناشير، ويندب مرسمين كل ذلك يخرج مخرج الطير، ويقنع بالميسور من الهبات، ويجتمع المغنون، والفاسقات تحت قصر اللؤلؤ بحيث يشاهدهم الخليفة، وبأيديهم الملاهي، وترتفع الأصوات، ويشرب الخمر والمزر شربا ظاهرا بينهم، وفي الطرقات، ويتراش الناس بالماء، وبالماء والخمر، وبالماء ممزوجا بالأقذار، وإن غلط مستور، وخرج من بيته لقيه من يرشه، ويفسد ثيابه، ويستخف بحرمته، فإمّا أن يفدي نفسه، وإمّا أن يفضح، ولم يجر الحال على هذا، ولكن قد رش الماء في الحارات، وقد أحيى المنكرات في الدور أرباب الخسارات.
وقال في متجدّدات سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة: وجرى الأمر في النوروز على العادة من رش الماء، واستجدّ فيه هذا العام التراجم بالبيض، والتصافع بالأنطاع، وانقطع الناس عن التصرّف، ومن ظفر به في الطريق رش بمياه نجسة، وخرق به، وما زال يوم النوروز يعمل فيه ما ذكر من التراش بالماء، والتصافع بالجلود، وغيرها إلى أن كانت أعوام بضع وثمانين وسبعمائة، وأمر الدولة بديار مصر، وتدبيرها إلى الأمير الكبير برقوق «1» قبل(2/36)
أن يجلس على سرير الملك، ويتسمى بالسلطان، فمنع من لعب النوروز، وهدّد من لعبه بالعقوبة، فانكف الناس عن اللعب في القاهرة، وصاروا يعملون شيئا من ذلك في الخلجان، والبرك، ونحوها من مواضع التنزه، بعد ما كانت أسواق القاهرة تتعطل في يوم النوروز زمن البيع والشراء، ويتعاطى الناس فيه من اللهو واللعب ما يخرجون عن حدّ الحياء والحشمة إلى الغاية من الفجور والعهور، وقلما انقضى يوم نوروز إلّا وقتل فيه قتيل أو أكثر، ولم يبق الآن للناس من الفراغ ما يقتضي ذلك، ولا من الرفه والبطر ما يوجب لهم عمله، وما أحسن قول بعضهم:
كيف ابتهاجك بالنوروز يا سكني ... وكل ما فيه يحكيني وأحكيه
فتارة كلهيب النار في كبدي ... وتارة كتوالي دمعتي فيه
وقال آخر:
نوروز الناس ونورزت ولكن بدموعي ... وذكت نارهم والنار ما بين ضلوعي
وقال آخر:
ولما أتى النوروز يا غاية المنى ... وأنت على الأعراض والهجر والصدّ
بعثت بنار الشوق ليلا إلى الحشا ... فنورزت صبحا بالدموع على الخدّ
ذكر ما يوافق أيام الشهور القبطية من الأعمال في الزراعات، وزيادة النيل، وغير ذلك على ما نقله أهل مصر عن قدمائهم واعتمدوا عليه في أمورهم
اعلم: أنّ المصريين القدماء اعتمدوا في تاريخهم السنة الشمسية كما تقدّم ذكره ليصير الزمان محفوظا، وأعمالهم واقعة في أوقات معلومة من كل سنة، لا يتغير وقت عمل من أعمالهم بتقديم ولا تأخير البتة.
توت: بالقبطيّ هو أيلول، وكانت عادة مصر مذ عهد فراعنتها في استخراج خراجها، وجباية أموالها إنه لا يستتم استيفاء الخراج من أهلها، إلّا عند تمام الماء، وافتراشه على سائر أرضها، ويقع إتمامه في شهر توت، فإذا كان كذلك، وربما كانت زيادة عن ذلك أطلق الماء في جميع نواحيها من ترعها، ثم لا يزال يترجح في الزيادة والنقصان، حتى يفرغ توت، وفي أوّل يكون يوم النوروز، ورابعه أوّل أيلول، وسابعه يلقط الزيتون، وثاني عشره(2/37)
يطلع الفجر بالصرفة «1» ، وسابع عشره عيد الصليب، فيشرط البلسان، ويستخرج دهنه، ويفتح ما يتأخر من الأبحر والترع، وترتب المدامسة لحفظ الجسور، وفي ثامن عشرة تنقل الشمس إلى برج الميزان، فيدخل فصل الخريف، وفي خامس عشريه يطلع الفجر بالعوّا «2» ، ويكبر صغار السمك، وفي هذا الشهر يعم ماء النيل أراضي مصر، وفيه تسجل النواحي، وتسترفع السجلات والقوانين، وتطلق التقاوي من الغلال لتخضير الأراضي، وفيه يدرك الرّمان والبسر والرطب والزيتون والقطن والسفرجل، وفيه يكون هبوب ريح الشمال أقوى من هبوب ريح الجنوب، وهبوب الصبا أقوى من الدبور، وكان قدماء المصريين لا ينصبون فيه أساسا وفيه يكثر بمصر العنب الشتويّ وتبذر المحمضات.
بابه: في أوّله يحصد الأرز، ويزرع الفول والبرسيم، وسائر الحبوب التي لا تشق لها الأرض، وفي رابعه أوّل تشرين الأوّل، وفي ثامنه طلوع الفجر بالسماك «3» ، وهو نهاية زيادة النيل، وابتداء نقصه، وقد لا يتم الماء فيه، فيعجز بعض الأرض عن أن يركبها الماء، فيكون من ذلك نقص الخراج عن الكمال، وفي تاسعه يكون مجيء الكراكي إلى أرض مصر، وفي عاشره يزرع الكتان، وفي ثاني عشره يكون ابتداء شق الأرض بصعيد مصر لبذر القمح، والشعير، وفي ثامن عشره تنقل الشمس إلى برج العقرب، ويقطع الخشب، وفي تاسع عشره يكون ابتداء نقص ماء النيل، ويكثر البعوض، وفي حادي عشريه يطلع الفجر بالغفر «4» .
وفي هذا الشهر تصرف المياه عن الأراضي، ويخرج المزارعون لتخضير الأراضي فيبدأون ببذر زراعة القرط، ثم بزراعة الغلة البدرية أوّلا فأوّلا، وفيه يستخرج دهن الآس، ودهن النيلوفر، ويدرك التمر والزبيب والسمسم والقلقاس، وفيه يكثر صغار السمك، ويقل كباره، ويسمن الراي، والأبرميس من السمك خاصة، وتستحكم حلاوة الرّمان، ويكون فيه أطيب منه في سائر الشهور التي يكون فيها، ويضع الضأن والمعز والبقر الخيسية، وفيه يملح السمك المعروف بالبوري، ويهزل الضأن والمعز والبقر، ولا تطيب لحومها، وتدر المحمضات، وفيه يجب كتابة التذاكر بالأعمال القوصية، وفيه يغرس المنثور، ويزرع السلجم.
هاتور: في خامسه يكون أوّل تشرين الثاني، ويطلع الفجر بالزبانا «5» في رابعه، وفي سادسه يزرع الخشخاش، وفي سابعه يصرف ماء النيل عن أراضي الكتان، ويبذر في النصف منه، وبعد تمام شهر يسبخ، وفي ثامنه أوان المطر الموسمي، وفي حادي عشره تهب ريح الجنوب، وفي خامس عشره تبرد المياه بمصر، وفي سابع عشره يطلع الفجر بالإكليل «6» ، وفي ثامن عشره تحل الشمس برج القوس، وفي تاسع عشره يغلق(2/38)
البحر الملح، وفي سابع عشريه تهب الرياح اللواقح.
وفي هذا الشهر يلبس أهل مصر الصوف من سابعه، وفيه يكسر ما يحتاج إليه من قصب السكر برسم المعاصر، وبراح الغلة في جميع ما يحتاج إليه فيها، ويهتم بعلف أبقارها وجمالها بعد بيع شارفها وعاجزها، والتعويض عنه بغيره، وأفراد الأتيان برسم وقود القنود، وترتيب القوامصة لعمل الأباليح والقواديس، والأمطار برسم القنود، والأعسال، وفيه يدرك البنفسج، والنيلوفر، والمنثور، ومن البقولات الإسباناخ والبلسان، واختار قدماء المصريين في هاتور نصب الأساسات، وزرع القمح، وأطيب حملان السنة حمله، وفيه يكثر العنب الذي كان يحمل من قوص.
كهيك: أوّله الأربعينات بمصر، ويدخل الطير وكره، وفي سادسه بشارة مريم بحمل عيسى عليهما السلام، وفي سابعه أوّل كانون الأول، وفي عاشره آخر الليالي البلق، وأوّلها أوّل هاتور، وفي حادي عشره أوّل الليالي السود، ويدخل النمل الأحجرة، وفي ثالث عشره يطلع الفجر بالشولة «1» ، وتظهر البراغيث، ويسخن باطن الأرض، وفي سادس عشره يسقط ورق الشجر، وفي سابع عشرة تنقل الشمس إلى برج الجدي، فيدخل فصل الشتاء، ويزرع الهليون، وفي حادي عشريه يكون آخر الليالي البلق، وفي ثاني عشريه عيد البشارة، وفي ثالث عشريه تزرع الحلبة والترمس، وفي سادس عشريه يطلع الفجر بالنعائم «2» ، وفي ثامن عشريه يبيض النعام، وفي تاسع عشريه الميلاد.
وفي هذا الشهر يزرع الخيار بعد إغراق أرضه، وفيه يتكامل بذر القمح والشعير والبرسيم الحراثيّ، وفيه يستخرج خراج البرسيم بدار الوجه القبليّ، وفيه ترتب حراس الطير، وفيه كسر قصب السكر واعتصاره، واستخدام الطباخين لطبخ القنود، وفيه يكون إدراك النرجس، والمحمضات، والفول الأخضر، والكرنب والجزر والكرّاث الأبيض واللفت، وفيه يقل هبوب ريح الشمال، ويكثر هبوب ريح الجنوب، وفيه يجود الجدا، ويكون أطيب منها في جميع الشهور التي يكون فيها، وفيه يزرع أكثر حبوب الحرث، ولا يزرع بعده في شيء من أرض مصر غير السمسم، والمقاثي والقطن.
طوبه: في ثالثه ابتداء زراعة الحمص والجلبان والعدس، وفي سادسه أوّل كانون الثاني، وفي تاسعه يطلع الفجر بالبلد «3» ، وعاشره صوم الغطاس، وحادي عشره الغطاس، وفي ثاني عشره يشتدّ البرد، وفي رابع عشره يرتفع الوباء بمصر، ويغرس النخل، وفي سابع عشره تحل الشمس أوّل برج الدلو، ويكثر الندى، ويكون ابتداء غرس الأشجار، وفي العشرين منه يكون آخر الليالي السود، وحادي عشريه الليالي البلق الثانية، وفي ثاني عشريه(2/39)
يطلع الفجر بسعد الذابح «1» ، وفي ثالث عشريه تهب الرياح الباردة، وفي رابع عشريه تفرخ جوارح الطير، وفي خامس عشريه يكون نتاج الإبل المحمودة، وفي سابع عشريه يصفو ماء النيل، وفي ثامن عشريه يتكامل إدراك القرط.
وفي هذا الشهر تقلم الكروم، وينظف زرع الغلة من اللبسان وغيره، وينظف زرع الكتان من الفجل وغيره، وفيه تبرش الأراضي أوّل سكة برسم الصيافي والمقائي والقطن والسمسم، وينتهي برشها في أوّل أمشير، وفيه تسقى أرض القلقاس والقصب، وتشق الجسور في آخره، وفيه تستخرج أراضي الخرس، ويكسر القصب الراس بعد إفراز ما يحتاج إليه من الزريعة، وهو لكل فدّان طين قيراط طيب قصب راس، وفيه يهتم بعمارة السواقي وحفر الآبار، وابتياع الأبقار، وفيه يظهر اللوز الأخضر والنبق والهليون، وفيه أيضا يكون هبوب ريح الجنوب أكثر من هبوب الشمال، وهبوب الصبا أكثر من هبوب الدبور، وفيه يكون الباقلا الأخضر والجزر أطيب منهما في غيره، وفيه يتناهى ماء النيل في صفائه، ويخزن فلا يتغير في أوانيه، ولو طال لبثه فيها، وفيه تطيب لحوم الضأن أطيب منها في سائر الشهور، وفيه تربط الخيول والبغال على القرط من أجل ربيعها، وبطوبه يطالب الناس بافتتاح الخراج، ومحاسبة المتقبلين على الثمن من السجلات من جميع ما بأيديهم من المحلول والمعقود.
أمشير: في أوّله تختلف الرياح، وفي خامسه يطلع الفجر بسعد بلع «2» ، وفي سادسه يكون أوّل شباط، وفي تاسعه يجري الماء في العود، وحادي عشره أوّل جمرة باردة، وسادس عشره تحل الشمس بأوّل برج الحوت، وفي سابع عشره يخرج النمل من الأحجرة، وفي ثامن عشره يطلع الفجر بسعد السعود «3» ، وفي العشرين منه ثاني جمرة فاترة، وفي ثالث عشريه تقلم الكروم، وخامس عشريه يفرخ النحل، وسابع عشريه ثالث جمرة حامية، ويورق الشجر، وهو آخر غرسها، وفي آخره يكون آخر الليالي البلق.
وفي هذا الشهر يقلع السلجم، ويستخرج خراجه، وفيه يثنى برش الصيافي وتبرش أيضا ثالث سكة، وفيه يعمل مقاطع الجسور، وتمسح الأراضي، ويرقد البيض في المعامل أربعة أشهر آخرها بشنس، وفيه يكون ريح الشمال أكثر الرياح هبوبا، وفيه ينبغي أن تعمل أواني الخزف للماء لتستعمل فيه طول السنة، فإنّ ما عمل فيه من أواني الخزف يبرّد الماء في الصف أكثر من تبريد ما يعمل في غيره من الشهور، وفيه يتكامل غرس الشجر، وتقليم الكروم، وفيه يدرك النبق واللوز الأخضر، ويكثر البنفسج والمنثور.
ويقال: أمشير يقول للزرع سير، ويلحق بالطويل القصير، وفيه يقل البرد، ويهب الهواء الذي فيه سخونة ما، وفي أمشير يؤخذ الناس فيه بإتمام ربع الخراج من السجلات.
برمهات: أوّل يوم منه يطلع الفجر بالأخبية «4» ، وفي خامسه يحضن دود القز،(2/40)
وسادسه يزرع السمسم، وثاني عشره يقلع الكتان، ورابع عشره يكون أوّل الأعجاز، ويطلع الفجر بالفرغ المقدّم «1» ، وفي سادس عشره تفتح الحيات أعينها، وفي سابع عشره تنقل الشمس إلى برج الحمل، وهو أوّل فصل الربيع، ورأس سنة الجند، ورأس سنة العالم، وفي العشرين منه يكون آخر الإعجاز، وثاني عشريه نتاج الخيل المحمودة وثالث عشريه يظهر الذباب الأزرق، وخامس عشريه تظهر هوام الأرض، وسابع عشريه يطلع الفجر بالفرغ المؤخر «2» ، وفي آخره يتفرّق السحاب.
وفي هذا الشهر تجري المراكب السفرية في البحر الملح إلى ديار مصر من المغرب والروم، ويهتم فيه بتجريد الأجناد إلى الثغور كالإسكندرية ودمياط وتنيس ورشيد، وفيه كانت تجهز الأساطيل، ومراكب الشواني لحفظ الثغور، وفيه زرع المقائي والصيفيّ، ويدرك الفول والعدس، ويقلع الكتان، وتزرع أقصاب السكر في الأرض المبروشة المختارة لذلك البعيدة العهد عن الزراعة، ويأخذ المقشرون في تنظيف الأرض المزروعة من القش في وقت الزراعة، ويأخذ القطاعون في قطع الزريعة، ويأخذ المزارعون في رمي قطع القصب، وفيه يؤخذ في تحصيل النطرون وحمله من وادي هبيت إلى الشونة السلطانية، وفيه يكون ريح الشمال أكثر الرياح هبوبا، وفيه تزهر الأشجار، وينعقد أكثر ثمارها، وفيه يكون اللبن الرائب أطيب منه في جميع الشهور التي يعمل فيها، وفي برمهات يطالب الناس بالربع الثاني، والثمن من الخراج.
برموده: في سادسه أوّل نيسان، وفي عاشره يطلع الفجر بالرشاء «3» ، وفي ثاني عشره يقلع الفجل، وفي سابع عشره تحل الشمس أوّل برج الثور، وفي ثالث عشريه يطلع الفجر بالشرطين «4» ، وهو رأس الحمل، وأوّل منازل القمر، وفيه ابتداء كسار الفول، وحصاد القمح، وهو ختام الزرع.
وفي هذا الشهر يهتم بقطع خشب السنط من الخراج الذي كان بمصر في القديم أيام الدولة الفاطمية والأيوبيّة، ويجرّ إلى السواحل لتيسر حمله في زمن النيل إلى ساحل مصر ليعمل شواني وأحطابا برسم الوقوع في المطابخ السلطانية، وفيه يكثر الورد، ويزرع الخيار شنبر والملوخيا والباذنجان، وفيه يقطف أوائل عسل النحل، وينفض بزر الكتان، وأحسن ما يكون الورد فيه من جميع زمانه، وفيه يظهر البطن الأوّل من الجميز، وفيه تقع المساحة على أهل الأعمال، ويطالب الناس بإغلاق نصف الخراج من سجلاتهم، ويحصد بدريّ الزرع.
بشنس: في خامسه تكثر الفاكهة، وسادسه أوّل أيار، وفيه طلوع الفجر بالبطين «5» ،(2/41)
وثامنه عيد الشهيد، وتاسعه انفتاح البحر المالح، ورابع عشره يزرع الأرز، وثامن عشره تحل الشمس أوّل بزرج الجوزاء، وفيه يطيب الحصاد، وفي تاسع عشره يطلع الفجر بالثريا «1» ، وفيه زراعة الأرز والسمسم، ورابع عشريه يكون عيد البلسان بالمطرية، ويزعمون أنه اليوم الذي دخلت فيه مريم إلى مصر.
وفي هذا الشهر يكون دراس الغلة، وهدار الكتان، ونفض البزر، والنقاوي والأتبان، وحملها، وفيه زراعة البلسان وتقليمه وسقيه، وتكريم أراضيه من بؤونة إلى آخر هاتور، واستخراج دهنه بعد شرطه في نصف توت، وإن كان في أوّله، فهو أصلح إلى آخر هاتور، وصلاح أيامه أيام الندى، ويقيم في الندى سنة كاملة إلى أن يشرب إعكاره، وأوساخه، ويطبخ الدهن في الفصل الربيعيّ في شهر برمهات، فيعمل لكل رطل مصريّ أربعة وأربعون رطلا من مائة، فيحصل منه قدر عشرين درهما، وما حولها من الدهن.
وفي هذا الشهر أكثر ما يهب من الرياح الشمالية، وفيه يدرك التفاح القاسمي، ويبتدي فيه التفاح المسكي، والبطيخ العبدلي، ويقال: إنه أوّل ما عرف بمصر عندما قدم إليها عبد الله بن طاهر بعد المائتين من سني الهجرة، فنسب إليه، وقيل له العبدليّ، وفيه أيضا يبتدئ البطيخ الجربيّ والمشمس والخوخ الزهريّ، ويجني الورد الأبيض، وفيه تقرّر المساحة، ويطالب الناس بما يضاف إلى المساحة من أبواب، وجوه المال كالصرف والجهبذة، وحق المراعي والقرط والكتان على رسوم كل ناحية، ويستخرج فيه إتمام الربع مما تقرّرت عليه العقود، والمساحة ويطلق الحصاد لجميع الناس.
بؤونة: في ثانية يطلع الفجر بالدبران «2» ، وفي خامسه يتنفس النيل، وفي تاسعه أوان قطف النحل، وفي حادي عشره تهب رياح السموم، وفي ثاني عشره عيد ميكائيل، فيؤخذ قاع النيل، وفي ثالث عشره يشتدّ الحرّ، وفي خامس عشره يطلع الفجر بالهنعة «3» ، وفي عشريه تحل الشمس أوّل برج السلطان، وهو أوّل فصل الصيف، وفي سابع عشريه ينادى على النيل بما زاده من الأصابع، وفي ثامن عشريه يطلع الفجر بالهقعة «4» .
وفي هذا الشهر تسفر المراكب لإحضار الغلال والتبن والقنود والأعسال، وغير ذلك من الأعمال القوصية، ونواحي الوجه البحريّ، وفيه يقطف عسل النحل، وتخرّص الكروم، ويستخرج زكاتها، وفيه يندّى الكتان، ويقلب أربعة أوجه في بؤونة وأبيب، وفيه زراعة النيلة بالصعيد الأعلى، وتحصد بعد مائة يوم، ثم تترك وتحصد في كل مائة يوم حصدة، ويحصل في أوّل كيهك وطوبة وأمشير وبرمهات، ويطلع في برمودة، وتحصد في عشرة أيام من أبيب، وتقيم في الأرض الجيدة ثلاث سنين، وتسقي كل عشرة أيام دفعتين، وثاني سنة ثلاث دفعات، وثالث سنة أربع دفعات، وفي هذا الشهر يكون التين الفيوميّ والخوخ الزهريّ والكمثرى والقراصيا والقثاء والبلح والحصرم، ويبتدئ إدراك العصفر، وفيه يدخل(2/42)
بعض العنب ويطيب التوت الأسود، ويقطف جمهور العسل، فتكون رياحه قليلة والتين يكون فيه أطيب منه في سائر الشهور، وفيه يطلع النخل، وفيه يستخرج تمام نصف الخراج مما بقي بعد المساحة.
أبيب: في سابعه أوّل تموز، وفي عاشره آخر قطع الخشب، وفي حادي عشره يطلع الفجر بالذراع «1» ، وثاني عشره ابتداء تعطين الكتان، وفي خامس عشره يقلّ ماء الآبار، وتدرك الفواكه، ويموت الدود، وفي حادي عشريه تحل الشمس بأوّل برج الأسد، وتذهب البراغيث ويبرد باطن الأرض، وتهيج أوجاع العين، وفي خامس عشريه يطلع الفجر بالنثرة «2» ، وفي سادس عشريه تطلع الشعرى «3» العبور اليمانية.
وفي هذا الشهر أكثر ما يهب من الرياح الشمال، ويكثر فيه العنب، ويجود، وفيه يطيب التين المقرون بمجيء العنب، ويتغير البطيخ العبدليّ، وتقل حلاوته، وتكثر الكمثرى السكرية، ويطيب البلخ، وفيه يقطف بقايا عسل النحل، وتقوى زيادة ماء النيل، فيقال: في أبيب يدب الماء دبيب، وفيه ينقع الكتان بالمبلات، ويباع برسيم البذر برسم زراعة القرط والكتان، وفيه تدرك ثمرة العنب، ويحصد القرطم، وفيه تستتم ثلاثة أرباع الخراج.
مسرى: في سابعه يطلع الفجر بالطرف «4» ، وفي ثامنه أوّل آب، وفي حادي عشره يجمع القطن، وفي رابع عشره يحمي الماء، ولا يبرد، وفي سابع عشره استكمال الثمار، وفي عشريه يطلع الفجر بالجبهة «5» ، وفي حادي عشريه تحلّ الشمس برج السنبلة، وفي ثالث عشريه يتغير طعم الفاكهة لغلبة ماء النيل على الأرض، وفي خامس عشريه يكون آخر السموم، وفي تاسع عشريه يطلع سهيل «6» بمصر.
وفي هذا الشهر يكون وفاء النيل ستة عشر ذراعا في غالب السنين، حتى قيل: إن لم يوف النيل في مسرى فانتظره في السنة الأخرى، وفيه يجري ماء النيل في خليج الإسكندرية، ويسافر فيه المراكب بالغلال والبهار والسكر، وسائر أصناف المتاجر، وفيه يكثر البسر، وكانوا يخرّصون النخل، ويخرجون زكاة الثمار في هذا الشهر عندما كانت الزكوات يجيبها السلطان من الرعية، وأكثر ما يهب في هذا الشهر ريح الشمال، وفيه يعصر قبط مصر الخمر، ويعمل الخل من العنب، وفيه يدرك الموز وأطيب ما يكون الموز بمصر في هذا الشهر، وفيه يدرك الليمون التفاحي، وكان من جملة أصناف الليمون بأرض مصر ليمون يقال له: التفاحيّ يؤكل بغير سكر لقلة حمضه، ولذة طعمه، وفيه يكون ابتداء إدراك الرّمان، وإذا انقضت أيام مسرى ابتدأت أيام النسيء ففي أوّلها ابتداء هيج النعام، وفي(2/43)
رابعها يطلع الفجر بالخراتان، وفي مسرى يغلق الفلاحون خراج أراضي زراعاتهم، وكانوا يؤخرون البقايا على دق الكتان في مسرى وأبيب، لأنّ الكتان يبلّ في توت، ويدق في بابه.
ذكر تحويل السنة الخراجية القبطية إلى السنة الهلالية العربية
وكيف عمل ذلك في الإسلام؟ قد تقدّم فيما سلف من هذا الكتاب التعريف بالسنة الشمسية، والسنة القمرية، وما للأمم في كبس السنين من الآراء، فما جاء الله تعالى بالإسلام تحرّز المسلمون من كبس السنين خشية الوقوع في النسيء الذي قال الله سبحانه وتعالى فيه: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا
[التوبة/ 37] ، ثم لما رأوا تداخل السنين القمرية في السنين الشمسية، أسقطوا عند رأس كل اثنتين وثلاثين سنة قمرية، وسموا ذلك الازدلاق لأنّ لكل ثلاث وثلاثين سنة قمرية، اثنتين وثلاثين سنة شمسية بالتقريب، وسأتلوا عليك من نبأ ذلك ما لم أره مجموعا.
قال أبو الحسين عبد الله بن أحمد بن أبي طاهر في كتاب أخبار أمير المؤمنين المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن أبي أحمد طلحة الموفق ابن المتوكل، ومنه نقلت، وخرج أمر المعتضد في ذي الحجة سنة إحدى وثمانين، ومائتين بتصيير النوروز لإحدى عشرة ليلة خلت من حزيران رأفة بالرعية، وإيثارا لإرقاقها، وقالوا: خرج التوقيع في المحرّم سنة اثنتين وثمانين ومائتين بإنشاء الكتب إلى جميع العمال في النواحي والأمصار بترك افتتاح الخراج في النوروز الفارسيّ الذي يقع يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة خلت من صفر، وأن يجعل ما يفتتح من خراج سنة اثنتين وثمانين ومائتين يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة تخلو من شهر ربيع الآخر من هذه السنة، وهو اليوم الحادي عشر من حزيران، ويسمى هذا النوروز المعتضديّ ترفيها لأهل الخراج ونظرا لهم.
ونسخة التوقيع الخارج في تصيير افتتاح الخراج في حزيران: أمّا بعد: فإنّ الله لما حوّل أمير المؤمنين للمحل الذي أحله به من أمور عباده وبلاده، رأى أن من حق الله عليه أن لا يكلفها إلا ما به بالعدل والإنصاف لها، والسيرة القاصدة، وأن يتولى لها إصلاح أمورها، ويستقرئ السير والمعاملات التي كانت تعامل بها، ويقرّ منها ما أوجب الحق إقراره، ويزيل ما أوجب إزالته غير مستكثر لها كثير ما يسقطه العدل، ولا مستقل لها قليل ما يلزمه إياها الجور، وقد وفق الله أمير المؤمنين لما يرجو أن يكون لحق الله فيها قاضيا ولنصيبها من العدل موازيا، وبالله يستعين أمير المؤمنين على حفظ ما استرعاه منها، وحياطة ما قلده من أمورها، وهو خير موفق ومعين، وإن أبا القاسم عبيد الله رفع إلى أمير المؤمنين، فيما أمر أمير المؤمنين من ردّ النوروز الذي يفتتح به الخراج بالعراق والمشرق، وما يتصل بهما، ويجري مجراهما من الوقت الذي صار فيه من الزمان إلى الوقت الذي كان عليه متقدّما مع(2/44)
ما أمر به في مستقبل السنين من الكبس، حتى يصير العدل عامّا في الزمان كله باقيا على غابر الدهر، ومرّ الأيام مؤامرة أمير المؤمنين، فأمر بتسجيلها لك في آخر كتابه مع ما وقع به فيها لتمثيله، فافعل ذلك إن شاء الله تعالى والسلام عليك ورحمة الله وبركاته، وكتب يوم الخميس لثلاث عشرة خلت من ذي الحجة سنة إحدى وثمانين ومائتين.
نسخة المؤامرة أنهيت إلى أمير المؤمنين أن مما أنعم الله به على رعيته، ورزقها إياه من رأفته، وحسن نظره، وإقامته عليها من عدله، وإنصافه ورفعه عنها في خلافته من الظلم الشامل ما كان الأقصى والأدنى، والصغير والكبير، والمسلم والذميّ فيه سواء ما حرّرته من نقل كتب الخراج عن السنة التي كانت تنسب إليها من سني الهجرة إلى السنة التي فيها تدرك الغلات، ويستخرج المال، وإن ذلك ما كان بعض أهل الجهل حاوله، وبعض المتغلبين استعمله من تثبيت الخراج على أهله، ومطالبتهم به قبل وقت الزراعة، وإعيائهم بذكر سنة من السنتين اللتين ينسب الخراج لإحداهما، وتدرك الغلات، ويقع الاستخراج في الأخرى منهما في حساب شهور الفرس التي عليها يجري العمل في الخراج بالسواد، وما يليه، والأهواز وفارس والجبل، وما يتصل به من جميع نواحي المشرق، وما يضاف إليه إذا كان عمل الشأم والجزيرة والموصل، جرى على حساب شهور الروم الموافقة للأزمنة، فليست تختلف أوقاتها مع الكبيسة المستعملة فيها، والعمل في خراج مصر، وما والاها على شهور القبط الموافقة لشهور الروم، وكانت من شهور الفرس قد خالفت موافقها من الزمان بما ترك من الكبس منذ أزال الله ملك فارس، وفتح للمسلمين بلادهم، فصار النوروز الذي كان الخراج يفتتح فيه بالعراق والمشرق قد تقدّم في ترك الكبس شهرين وصارا بينه وبين إدراك الغلة، فأمر أمير المؤمنين بما جبل الله عليه رأيه في التوصل إلى كل ما عاد بصلاح رعيته.
وحسما للأسباب المؤدّية إلى إعيائها بتأخير النوروز الذي يقع في شهور سنة اثنتين وثمانين ومائتين من سني الهجرة عن الوقت الذي يتفق فيه أيام سنة الفرس، وهو يوم الجمعة لإحدى عشر تخلو من صفر مثل عدّة أيام الشهرين من شهور الفرس التي ترك كبسها، وهي ستون يوما، حتى يكون نوروز السنة واقعا يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة تخلو من شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثمانين ومائتين، وهو الحادي عشر من حزيران، وهو يتصل بهما، ويجري مجراهما، وينسب ويضاف إليهما، وبسائر أعمالهم، وبما يعمله أصحاب الحساب من التقويمات وجميع الأعمال، وما يعدّه الفرس من شهورهم إلى شهوره الكبيسة الأول والأخر، ثم يكبس بعد ذلك في كل أربع سنين من سني الفرس، ولا يقع تفاوت بينه وبينها على مرور الأيام، وليكن أبدا واقعا في حزيران، وغير خارج عنه، وأن يلغي ذكر كل سنة من أربع سنين تنسب إلى الخراج بالعراق، وفي المشرق والمغرب، وسائر النواحي والآفاق إذ كان مقدار سني أيام الهجرة، والسنة الجامعة للأزمنة التي تتكامل فيها الغلات، وأن يخرج التوقيع بذلك لتنشأ الكتب به من ديوان الرسائل إلى ولاة المعاون والأحكام،(2/45)
وتقرأ على المنابر، ويحمل أصحاب المعاون الرعية عليه، وتأخذها بامتثال ما أمر به أمير المؤمنين، وسنة الحكام في ديوان حكمهم لتمثيل الضمان والمقاطعين ذلك على حسبه، واستطلع رأي أمير المؤمنين في ذلك، فرأى أمير المؤمنين في ذلك موفق إن شاء الله تعالى، وتكتب نسخة التوقيع بتنفيذ ذلك إن شاء الله تعالى، وكتب في شهر ذي الحجة سنة إحدى وثمانين ومائتين.
قال: وكان السبب في نقل الخراج إلى حزيران في أيام المعتضد ما حدّثني به أبو أحمد يحيى بن عليّ بن يحيى المنجم القديم قال: كنت أحدّث أمير المؤمنين المعتضد، فذكرت خبر المتوكل في تأخير النوروز، فاستحسنه، وقال لي: كيف كان ذلك؟
قلت: حدّثني أبي قال: دخل المتوكل قبل تأخير النوروز بعض بساتينه الخاصة التي كانت في يدي وهو متوكئ عليّ يحادثني، وينظر إلى ما أحدث في ذلك البستان، فمرّ بزرع فرآه أخضر، فقال: يا عليّ، إنّ الزرع اخضرّ بعد ما أدرك، وقد استأمرني عبيد الله بن يحيى في استفتاح الخراج، فكيف كانت الفرس تستفتح الخراج في النوروز والزرع لم يدرك بعد؟
قال: فقلت له: ليس يجري الأمر اليوم على ما كان يجري عليه في أيام الفرس، ولا النوروز في هذه الأيام في وقته الذي كان في أيامها، قال: وكيف ذاك؟ فقلت: لأنها كانت تكبس في كل مائة وعشرين سنة شهرا.
وكان النوروز إذا تقدّم شهرا، وصار في خمس من حزيران كبست ذلك الشهر، فصار في خمس من أيار، وأسقطت شهرا، وردته إلى خمس من حزيران، فكان لا يتجاوز هذا، فلما تقلّد العراق خالد بن عبد الله القسري، وحضر الوقت الذي تكبس فيه الفرس منعها من ذلك، وقال: هذا من النسيء الذي نهى الله عنه، فقال: إنما النسيء زيادة في الكفر وأنا لا أطلقه حتى أستأمر فيه أمير المؤمنين، فبذلوا على ذلك مالا جليلا، فامتنع عليهم من قبوله.
وكتب إلى هشام بن عبد الملك يعرّفه ذلك، ويستأمره، ويعلمه أنه من النسيء الذي نهى الله عنه، فأمر بمنعهم من ذلك، فلما امتنعوا من الكبس تقدّم النوروز تقدّما شديدا حتى صار يقع في نيسان والزرع أخضر، فقال له المتوكل: فاعمل لهذا يا عليّ عملا تردّ النوروز فيه إلى وقته الذي كان يقع فيه أيام الفرس، وعرّف بذلك عبيد الله بن يحيى، وأدّ إليه رسالة مني في أن يجعل استفتاح الخراج فيه، قال: فصرت إلى أبي الحسن عبيد الله بن يحيى، وعرّفته ما جرى بيني وبين المتوكل، وأدّيت إليه رسالته، فقال لي: يا أبا الحسن قد والله فرّجت عني، وعن الناس، وعملت عملا كثيرا يعظم ثوابك عليه، وكسبت لأمير المؤمنين أجرا وشكرا، فأحسن الله جزاءك، فمثلك من يجالس الخلفاء، وأحب أن يتقدّم بالعمل الذي أمر به المتوكل، وينفذه إليّ حتى أجري الأمر عليه، وأتقدّم في كتب الكتب، باستفتاح الخراج، قال: فرجعت، وحرّرت الحساب، فوجدت النوروز لم يكن يتقدّم في(2/46)
أيام الفرس أكثر من شهر يتقدّم من خمس تخلو من حزيران، فيصير في خمسه أيام تخلو أيار، فتكبس سنتها، وتردّه إلى خمسة أيام من حزيران، وأنفذته إلى عبيد الله بن يحيى، فأمر أن يستفتح الخراج في خمس من حزيران، وتقدّم إلى إبراهيم بن العباس في أن ينشئ كتابا عن أمير المؤمنين في ذلك ينفذ نسخته إلى النواحي، فعمل إبراهيم بن العباس كتابه المشهور في أيدي الناس.
قال أبو أحمد: فقال لي المعتضد: يا يحيى، هذا والله فعل حسن، وينبغي أن يعمل به، فقلت: ما أحد أولى بفعل الحسن، وإحياء السنن الشريفة من سيدنا، ومولانا أمير المؤمنين لما جمعه الله فيه من المحاسن، ووهبه له من الفضائل، فدعا بعبيد الله بن سليمان، وقال له: اسمع من يحيى ما يخبرك به، وامض الأمر في استفتاح الخراج عليه، قال: فصرت مع عبيد الله بن سليمان إلى الديوان، وعرّفته الخبر، فأحب تأخيره عن ذلك لئلا يجري الأمر المجرى الأوّل بعينه، فجعله في أحد عشر من حزيران، واستأمر المعتضد في ذلك فأمضاه فقلت في ذلك شعرا أنشدته للمعتضد في هذا المعنى:
يوم نوروزك يوم ... واحد لا يتأخر
من حزيران يوافي ... أبدا في أحد عشر
قال: وأخبرني بعض مشايخ الكتاب قال: وكانت الخلفاء تؤخر النوروز عن وقته عشرين يوما، وأقل وأكثر ليكون ذلك سببا لتأخير افتتاح الخراج على أهله.
وأمّا المهرجان فلم تكن تؤخره عن وقته يوما واحدا، فكان أوّل من قدّمه عن وقته بيوم المعتمد بمدينة السلام في سنة خمس وستين ومائتين، وأمر المعتضد بتأخير النوروز عن وقته ستين يوما.
وقال أبو الريحان محمد بن أحمد البيرونيّ في كتاب الآثار الباقية عن القرون الخالية:
ومنه نقلت ما ذكر ابن أبي طاهر وزاد، ونفذت الكتب إلى الآفاق يعني عن المتوكل في محرّم سنة ثلاث وأربعين ومائتين، وقتل المتوكل، ولم يتم له ما دبر، واستمرّ الأمر حتى قام المعتضد، فاحتذى ما فعله المتوكل في تخير النوروز غير أنه نظر فإذا المتوكل أخذ ما بين سنته، وبين أوّل تاريخ يزدجرد، فأخذ المعتضد ما بين سنته، وبين السنة التي زال فيها ملك الفرس بهلاك يزدجرد، ظنا أن إهمالهم أمر الكبس من ذلك الوقت، فوجده مائتي سنة، وثلاثا وأربعين سنة، حصتها من الأرباع ستون يوما وكسر، فزاد ذلك على النوروز في سنة، وجعله منتهى تلك الأيام، وهو من خردادماه في تلك السنة، وكان يوم الأربعاء، ويوافقه اليوم الحادي عشر من حزيران، ثم وضع النوروز على شهور الروم لتكبس شهوره إذا كبست الروم شهورها.
وقال القاضي السعيد ثقة الثقات ذو الرياستين أبو الحسن عليّ بن القاضي المؤتمن(2/47)
ثقة الدولة أبي عمرو عثمان بن يوسف المخزومي في كتاب المنهاج في علم الخراج: والسنة الخراجية مركبة على حكم السنة الشمسية لأنّ السنة الشمسية ثلثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم، ورتب المصريون سنتهم على ذلك ليكون أدار الخراج عند إدراك الغلات من كل سنة، ووافقها السنة القبطية، لأنّ أيام شهورها ثلثمائة وستون يوما، ويتبعها خمسة أيام النسيء وربع يوم بعد تقضي مسرى، وفي كل أربع سنين تكون أيام النسيء ستة أيام، لينجبر الكسر.
ويسمون تلك السنة كبيسة، وفي كل ثلاث وثلاثين سنة تسقط سنة، فيحتاج إلى نقلها لأجل الفصل بين السنين الشمسية والسنين الهلالية، لأنّ السنة الشمسية ثلثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم، والسنة الهلالية ثلثمائة وأربعة وخمسون يوما وكسر، ولما كان كذلك احتيج إلى استعمال النقل الذي تطابق به إحدى السنتين الأخرى، وقد قال أبو الحسن عليّ بن الحسن الكاتب رحمه الله: عهدت جباية أموال الخراج في سنين قبل سنة إحدى وأربعين ومائتين من خلافة أمير المؤمنين المتوكل على الله رحمة الله عليه، تجري كل سنة في السنة التي بعدها، بسبب تأخير الشهور الشمسية عن الشهور القمرية في كل سنة أحد عشر يوما وربع يوم، وزيادة الكسر عليه، فلما دخلت سنة اثنتين وأربعين ومائتين، كان قد انقضى من السنين التي قبلها ثلاث وثلاثون سنة، أوّلهنّ سنة ثمان ومائتين من خلافة أمير المؤمنين المأمون رحمة الله عليه، واجتمع من هذا المتأخر فيها أيام سنة شمسية كاملة، وهي ثلثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم، وزيادة الكسر، وبها إدراك غلات، وثمار سنة إحدى وأربعين ومائتين في صفر سنة اثنتين وأربعين ومائتين، وأمر أمير المؤمنين المتوكل على الله رحمة الله عليه، بإلغاء ذكر سنة إحدى وأربعين ومائتين، إذ كانت قد انقضت، وينسب الخراج إلى سنة اثنتين وأربعين ومائتين، فجرت الأعمال على ذلك سنة بعد سنة، إلى أن انقضت ثلاث وثلاثون سنة آخرهنّ انقضاء سنة أربع وسبعين ومائتين، فلم ينبه كتاب أمير المؤمنين المعتمد على الله رحمة الله عليه على ذلك، إذ كان رؤساؤهم في ذلك الوقت إسماعيل بن بلبل وبني الفرات، ولم يكونوا عملوا في ديوان الخراج والضياع في خلافة أمير المؤمنين المتوكل على الله رحمة الله عليه ولا كانت أسنانهم أسنانا بلغت معرفتهم معها هذا النقل، بل كان مولد أحمد بن محمد بن الفرات قبل هذه السنة بخمس سنين، ومولد عليّ أخيه فيها، وكان إسماعيل بن بلبل يتعلم في مجلس لم يبلغ أن ينسخ، فلما تقلدت لناصر الدين أبي أحمد طلحة الموفق رحمه الله أعمال الضياع بقزوين «1» ونواحيها، لسنة ست وسبعين ومائتين، وكان مقيما بأذربيجان «2» ، وخليفته بالجبل جرادة بن محمد،(2/48)
وأحمد بن محمد كاتبه، واحتجت إلى رفع جماعتي إليه ترجمتها بجماعة سنة ست وسبعين ومائتين التي أدركت غلاتها وثمارها في سنة سبع وسبعين ومائتين، ووجب إلغاء ذكر سنة ست وسبعين ومائتين، فلما وقفا على هذه الترجمة أنكراها، وسألاني عن السبب فيها، فشرحت لهما، وأكدت ذلك بأن عرّفتهما إني قد استخرجت حساب السنين الشمسية، والسنين القمرية من القرآن الكريم بعد ما عرضته على أصحاب التفسير، فذكروا أنه لم يأت فيه شيء من الأثر، فكان ذلك أوكد في لطف استخراجي، وهو أنّ الله تعالى قال في سورة الكهف: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً
[الكهف/ 25] فلم أجد أحدا من المفسرين عرف معنى قوله: وازدادوا تسعا، وإنما خاطب الله عز وجل نبيه صلّى الله عليه وسلّم بكلام العرب، وما تعرفه من الحساب، فمعنى هذه التسع أنّ الثلاثمائة كانت شمسية بحساب العجم، ومن كان لا يعرف السنين القمرية، فإذا أضيف إلى الثلاثمائة القمرية زيادة التسع، كانت سنين شمسية صحيحة، فاستحسناه، فلما انصرف جرادة مع الناصر لدين الله إلى مدينة السلام، وتوفي الناصر رحمه الله، وتقلد القاسم عبيد الله بن سليمان كتابة أمير المؤمنين المعتضد بالله أجرى له جرادة ذكر هذا النقل، وشرح له سببه تقرّبا إليه وطعنا على أبي القاسم عبيد الله في تأخيره إياه، فلما وقف المعتضد على ذلك تقدّم إلى أبي القاسم بإنشاء الكتب بنقل سنة ثمان وسبعين إلى سنة تسع وسبعين ومائتين، وكان هذا النقل بعد أربع سنين من وجوبه، ثم مضت السنون سنة بعد سنة إلى أن انقضت الآن ثلاث وثلاثون سنة، أولاهنّ السنة التي كان النقل وجب فيها، وهي سنة خمس وسبعين ومائتين، وآخرتهنّ انقضاء سنة سبع وثلثمائة، وقد تهيأ إدراك الغلات، والثمار في صدر سنة ثمان وثلثمائة، ونسبته إليها، وقد عملت نسخة هذا النقل نسختها تحت هذا الموضع ليوقف عليها، وقد كان أصحاب الدواوين في أيام المتوكل لما نقل سنة إحدى وأربعين ومائتين إلى سنة اثنتين وأربعين ومائتين جبوا الجوالي والصدقات لسنتي إحدى واثنتين وأربعين ومائتين في وقت واحد، لأنّ الجوالي بسرّمن رأى «1» ، ومدينة السلام «2» ، وقصب المدن المشهورة كانت تجبي على شهور الأهلة، وما كان من جماجم أهل القرى في الخراج والضياع والصدقات والمستغلات، كان يجبى على شهور الشمس، وفي ثلاث وثلاثين سنة اجتمعت أيام سنة شمسية كاملة، فألزم أهل الذمّة خاصة بالجوالي، ورفعها العمال في حساباتهم فمن لم يرفعها ألزموه بجوالي السنة الزائدة، فأحفظ أنه اجتمع من ذلك ألوف دراهم، ثم جدّدت الكتب إلى العمال بأن تكون حساباتهم الجوالي على شهور الأهلة،(2/49)
فجرى الأمر على ذلك، قال القاضي أبو الحسن: وقد كان النقل أغفل في الديار المصرية، حتى كانت سنة تسع وتسعين وأربعمائة الهلالية تجري مع سنة سبع وتسعين الخراجية، فنقلت سنة سبع وتسعين وأربعمائة إلى سنة إحدى وخمسمائة، هكذا رأيت في تعليقات أبي رحمه الله، وآخر ما نقلت السنة في وقتنا هذا سنة خمس وستين وخمسمائة إلى سنة سبع وستين وخمسمائة الهلالية، فتطابقت السنتان، وذلك أنني لما قلت للقاضي الفاضل أبي عليّ عبد الرحيم بن عليّ البيسانيّ: أنه قد آن نقل السنة، فأنشأ سجلا بنقلها نسخ الدواوين، وحمل الأمر على حكمه، وما برح الملوك والوزراء يعتنون بنقل السنين في أحيانها.
وقال أبو الحسين هلال بن المحسن الصابي: حدّثني أبو عليّ قال: لما أراد الوزير أبو محمد المهلبيّ «1» نقل سنة خمس وثلثمائة الهلالية أمر أبا إسحاق والدي وغيره من كتابة في الخراج، والرسائل بإنشاء كتاب عن المطيع لله في هذا المعنى، فكتب كل منهم، وكتب والدي الكتاب الموجود في رسائله، وعرضت النسخ على الوزير، فاختاره منها، وتقدّم بأن يكتب إلى أصحاب الأطراف، وقال لأبي الفرج بن أبي هشام خليفته: اكتب إلى العمال بذلك كتبا محققه، وانسخ في أواخرها هذا الكتاب السلطانيّ، فغاظ أبا الفرج وقوع التفضيل والاختيار لكتاب والدي، وقد كان عمل نسخة اطرحت في جملة ما اطرح وكتب، قد رأينا نقل سنة خمسين إلى إحدى وخمسين، فاعمل على ذلك، ولم ينسخ الكتاب السلطانيّ، وعرف الوزير ما كتب به أبو الفرج، فقال له: لماذا أغفلت نسخ الكتاب السلطانيّ في آخر الكتب إلى العمال، وإثباته في الديوان، فأجاب جوابا علك فيه، فقال له: يا أبا الفرج ما تركت ذلك إلّا حسدا لأبي إسحاق، وهو والله في هذا الفنّ أكتب أهل زمانه، فأعد الآن الكتب، وانسخ الكتاب في أواخرها، قال القاضي أبو الحسن: وأنا أذكر بمشيئة الله نسخة الكتاب الذي أشار إليه أبو الحسن عليّ بن الحسن الكاتب، وكتاب أبي إسحاق، وكتاب القاضي الفاضل، ليستبين للناظر طريق نقل السنين الخراجية إلى السنين الهلالية، فإذا قاربت الموافقة، وحسنت فيها المطابقة، فالكتاب الفاضليّ أكثر نجازا، وأعظم إعجازا، ولا يخفى على المتأمّل قدر ما أورد فيه من البلاغة، كما لا يخفى على العارف قدر ما تضمنه كتاب الصابي من الصناعة.
نسخة الكتاب الذي أشار إليه أبو الحسن الكاتب: إنّ أولى ما صرف إليه أمير المؤمنين عنايته، وأعمل فيه فكره ورويته، وشغل فيه تفقده، ورعايته أمر الفيء الذي خصه الله به، وألزمه جمعه، وتوفيره وحياطته، وتكثيره وجعله عماد الدين، وقوام أمر المسلمين،(2/50)
وفيما يصرف منه إلى أعطيات الأولياء والجنود، ومن يستعان به لتحصين البيضة، والذب عن الحريم، وحج البيت، وجهاد العدوّ، وسدّ الثغور، وأمن السبيل، وحقن الدماء، وإصلاح ذات البيت، وأمير المؤمنين يسأل الله تعالى، راغبا إليه ومتوكلا عليه أن يحسن عونه على ما حمله منه، ويديم توفيقه بما أرضاه، وإرشاده إلى أن يقضي عنه وله، وقد نظر أمير المؤمنين فيما كان يجري عليه أمر جباية هذا الفيء في خلافة آبائه الراشدين صلوات الله عليهم، فوجده على حسب ما كان يدرك من الغلات والثمار من كل سنة أوّلا أوّلا على مجاري شهور سني الشمس في النجوم التي يحل مال كل صنف منها فيها، ووجد شهور السنة الشمسية تتأخر عن شهور السنة الهلالية أحد عشر يوما وربعا، وزيادة عليه، ويكون إدراك الغلات والثمار في كل سنة بحسب تأخرها، فلا تزال السنون تمضي على ذلك سنة بعد سنة حتى تنقضي منها ثلاث وثلاثون سنة، وتكون عدّة الأيام المتأخرة منها أيام سنة شمسية كاملة، وهي ثلثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم وزيادة عليه.
فحينئذ يتهيأ بمشيئة الله تعالى وقدرته إدراك الغلات التي تجري عليها الضرائب، والطسوق «1» في استقبال المحرّم من سني الأهلة، ويجب مع ذلك إلغاء السنة الخارجة إذا كانت قد انقضت، ونسبتها إلى السنة التي أدركت الغلات والثمار فيها، لأنه وجد ذلك قد كان وقع في أيام أمير المؤمنين المتوكل على الله رحمة الله عليه عند انقضاء ثلاث وثلاثين سنة آخرتهنّ سنة إحدى وأربعين ومائتين، فجرت المكاتبات والحسبانات، وسائر الأعمال بعد ذلك سنة بعد سنة إلى أن مضت ثلاث وثلاثون سنة آخرتهنّ انقضاء سنة أربع وسبعين ومائتين، ووجب إنشاء الكتب بإلغاء ذكر سنة أربع وسبعين ومائتين، ونسبتها إلى سنة خمس وسبعين ومائتين، فذهب ذلك على كتاب أمير المؤمنين المعتمد على الله، وتأخر الأمر أربع سنين إلى أن أمر أمير المؤمنين المعتضد بالله رحمة الله عليه في سنة سبع وسبعين ومائتين بنقل خراج سنة ثمان وسبعين إلى سنة تسع وسبعين ومائتين.
فجرى الأمر على ذلك إلى أن انقضت في هذا الوقت ثلاث وثلاثون سنة: أولاهنّ السنة التي كان يجب نقلها فيها، وهي سنة خمس وسبعين ومائتين، وآخرتهنّ انقضاء شهور خراج سنة سبع وثلثمائة، ووجب افتتاح خراج ما يجري على الضرائب والطسوق في أوّلها، وإن من صواب التدبير واستقامة الأعمال، واستعمال ما يخف على الرعية معاملتها به، نقل سنة الخراج سنة سبع وثلثمائة إلى سنة ثمان وثلثمائة، فرأى أمير المؤمنين لما يلزمه نفسه، ويؤاخذها به من العناية بهذا الفيء، وحياطة أسبابه، وإجرائها مجاريها، وسلوك سبيل آبائه الراشدين رحمة الله عليهم أجمعين فيها، أن يكتب إليك، وإلى سائر العمال في النواحي(2/51)
بالعمل على ذلك، وأن يكون ما يصدر إليكم من الكتب، وتصدرونه منكم، وتجري عليه أعمالكم ورفوعكم وحسباناتكم، وسائر مناظراتكم على هذا النقل، فاعلم ذلك من رأي أمير المؤمنين، واعمل به مستشعرا فيه، وفي كل مضنة تقوى الله، وطاعته ومستعملا عليه ثقات الأعوان وكفاتهم، ومشرفا عليهم، ومقوّما لهم، واكتب بما يكون منك في ذلك إن شاء الله تعالى.
نسخة أبي إسحاق الصابي: أما بعد: فإنّ أمير المؤمنين لا زال مجتهدا في مصالح المسلمين، وباعثا لهم على مراشد الدنيا والدين، ومهيأ لهم أحسن الاختيار فيما يوردون ويصدرون، وأصوب الرأي فيما يبرمون وينقضون، فلا يلوح له خلة داخلة على أمورهم إلّا سدّها، وتلافاها ولا حال عائدة بحظ عليهم إلا اعتمدها، وأتاها، ولا سنة عادلة إلا أخذهم بإقامة رسمها، وإمضاء حكمها، والاقتداء بالسلف الصالح في العمل بها، والإتباع لها، وإذا عرض من ذلك ما تعلمه الخاصة بوفور ألبابها، وتجهله العامّة بقصور أفهامها، وكانت أوامره فيه خارجة إليك، وإلى أمثالك من أعيان رجاله، وأماثل عماله الذين يكتفون بالإشارة، ويجتزون بيسير الإبانة والعبارة لم يدع أن يبلغ من تخليص اللفظ، وإيضاح المعنى إلى الحدّ الذي يلحق المتأخر بالمتقدّم، ويجمع بين العالم والمتعلم، ولا سيما إذا كان ذلك فيما يتعلق بمعاملات الرعية، ومن لا يعرف إلّا الظواهر الجلية دون البواطن الخفية، ولا يسهل عليه الانتقال عن العادات المتكرّرة إلى الرسوم المتغيرة ليكون القول بالمشروح لمن برز في المعرفة مذكرا، ولمن تأخر فيها مبصرا، ولأنه ليس من الحق أن تمنع هذه الطبقة من برد اليقين في صدورها، ولا أن يقتصر على اللمحة الدالة في مخاطبة جمهورها، حتى إذا استوت الأقدام بطوائف الناس في فهم ما أمروا به وفقه ما دعوا إليه، وصاروا على حكمه سواء لا يعترضهم شك الشاكين، ولا استرابة المستريبين، اطمأنت قلوبهم، وانشرحت صدورهم، وسقط الخلاف بينهم، واستمرّ الاتفاق بهم، واستيقنوا أنهم مؤسسون على استقامة من المنهاج، ومحروسون من حزائز الزيغ والاعوجاج، فكان الانقياد منهم، وهم دارون عالمون لا مقلدون مسلمون، وطائعون مختارون لا مكرهون، ولا مجبرون.
وأمير المؤمنين يستمدّ الله تعالى في جميع أغراضه، ومراميه ومطالبه، ومغازيه مادّة من صنعه يقف بها على سنن الصلاح، ويفتح له أبواب النجاح، وينهضه بما أهّله لحمله من الأعباء التي لا يدّعي الاستقلال بها إلا بتوفيقه، ومعونته، ولا يتوجه فيها إلّا بدلالته وهدايته، وحسب أمير المؤمنين الله، ونعم الوكيل يرى أنّ أولى الأقوال أن يكون سدادا، وأحرى الأفعال أن يكون رشادا ما وجد له في السابق من حكم الله أصول وقواعد، وفي النص من كتابه آيات وشواهد، وكان منصبا بالأمّة إلى قوام من دين أو دنيا، ووفاق في آخره أو أولى، فذلك هو البناء الذي يثبت، ويعلو، والغرس الذي ينبت ويزكو، والسعي الذي(2/52)
تنجح مباديه وهواديه، وتبهج عواقبه وتواليه، وتستنير سبله لسالكيها، وتوردهم موارد السعود في مقاصدهم فيها غير ضالين ولا عادلين، ولا منحرفين ولا زائلين، وقد جعل الله عز وجل لعباده من هذه الأفلاك الدائرة، والنجوم السائرة، فيما تنقلب عليه من اتصال وافتراق ويتعاقب عليها من اختلاف، واتفاق منافع تظهر في كرور الشهور والأعوام، ومرور الليالي والأيام، وتفاوت الضياء والظلام، واعتدال المسالك والأوطان، وتغاير الفصول والأزمان، ونشو النبات والحيوان، مما ليس في نظام ذلك خلل، ولا في صنعه زلل بل هو منوط بعضه ببعض، ومحوط من كل تلمة ونقض.
قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ
[يونس/ 5] ، وقال جلّ من قائل: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
[الرعد/ 2] ، وقال تعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ
[يس/ 38] ، وقال عزت قدرته: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ
[يس/ 39] ، ففضل الله تعالى بهذه الآيات بين الشمس والقمر، وأنبأنا في الباهر من حكمه، والمعجز من كلامه أن لكل منهما طريقا سخر فيها، وطبيعة جبل عليها وأن تلك المباينة والمخالفة في المسير يؤدّيان إلى موافقة، وملازمة في التدبير، فمن هنا لك زادت السنة الشمسية.
فصارت ثلثمائة وخمسة وستين يوما وربعا بالتقريب المعمول عليه، وهي المدّة التي تقطع الشمس فيها الفلك مرّة واحدة، ونقصت الهلالية، فصارت ثلثمائة وأربعة وخمسين يوما، وهي المدّة التي يجامع القمر فيها الشمس اثنتي عشرة مرّة، واحتيج إذا انساق هذا الفضل إلى استعمال النقل الذي يطابق إحدى السنتين بالأخرى إذا افترقنا، ويداني بينهما إذا تفاوتتا، وما زالت الأمم السالفة تكبس زيادات السنين على افتنان من طرقها ومذاهبها، وفي كتاب الله عز وجل شهادة بذلك إذ يقول في قصة أهل الكهف: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً
[الكهف/ 25] ، فكانت هذه الزيادة بأنّ الفضل في السنين المذكورة على تقريب التقريب.
فأما الفرس: فإنهم أجروا معاملاتهم على السنة المعتدلة التي شهورها اثنا عشر شهرا، وأيامها ثلثمائة وستون يوما، ولقبوا الشهور باثني عشر لقبا، وسموا أيام الشهر منها بثلاثين اسما، وأفردوا الخمسة الأيام الزائدة، وسموها المسترقة، وكبسوا الربع في كل مائة وعشرين سنة شهرا، فلما انقرض ملكهم بطل في كبس هذا الربع تدبيرهم، وزال نوروزهم عن سنته، وانفرج ما بينه، وبين حقيقة وقته انفراجا هو زائد لا يقف، ودائر لا ينقطع، حتى إن موضوعهم في النوروز أن يقع في مدخل الصيف، وسينتهي إلى أن يقع في مدخل الشتاء(2/53)
ويتجاوز ذلك، وموضوعهم في المهرجان أن يقع في مدخل الشتاء، وينتهي إلى أن يقع في مدخل الصيف، ويتجاوز.
وأما الروم: فكانوا أتقن منهم حكمة، وأبعد نظرا في العاقبة لأنهم رتبوا شهور السنة على أرصاد شهروها، وأنواء عرفوها، وفضوا الخمسة الأيام على الشهور، وساقوها على الدهور، وكبسوا الربع في كل أربع سنين يوما، ورسموا أن يكون إلى شباط مضافا، فقرّبوها ما بعّده غيرهم، وسهّلوا على الناس أن يقتفوا أثرهم، لا جرم أن المعتضد بالله رحمه الله على أصولهم بنى، ولمثالهم احتذى في تصييره نوروزه اليوم الحادي عشر من حزيران، حتى سلم مما لحق النواريز في سالف الأزمان، وتلافوا الأمر في عجز سني الهلال عن سني الشمس بأن جبروها بالكبس، فكلما اجتمع من فصول سني الشمس، وما بقي تمام شهر جعلوا السنة الهلالية، يتفق ذلك فيها ثلاثة عشر هلالا، فربما تمّ الشهر الثالث عشر في ثلاث سنين، وربما تمّ في سنتين بحسب ما يوجبه الحساب، فتصير سنتا الشمس والهلال عندهم متقاربتين أبدا لا يتباعد ما بينهما.
وأمّا العرب: فإنّ الله تعالى فضّلها على الأمم الماضية، وورثها ثمرات مشاقها المتعبة، وأجرى شهر صيامها، ومواقيت أعيادها، وزكاة أهل ملتها، وجزية أهل ذمّتها على السنة الهلالية، وتعبدها فيها برؤية الأهلة إرادة منه أن تكون مناهجها واضحة، وأعلامها لائحة، فيتكافأ في معرفة الغرض، ودخول الوقت الخاص منها والعام، والناقص الفقه والتام، والأنثى والذكر، والصغير والكبير والأكبر، فصاروا حينئذ يحسبون في سنة الشمس حاصل الغلات المقسومة، وخراج الأرض الممسوحة، ويجبون في سنة الهلال الجوالي، والصدقات والأرجاء، والمقاطعات والمستغلات، وسائر ما يجري على المشاهرات، وحدث من التداخل بين السنين ما لو استمرّ لقبح جدا، وازداد بعدا إذ كانت الجباية الخراجية في السنة التي ينتهي إليها تنسب إلى الشمسية، وإلى ما قبلها، فوجب مع هذا أن تطرح تلك السنة، وتلغي ويتجاوز إلى ما بعدها، ويتخطى، ولم يجز لهم أن يعتدّوا لمخالفتهم في كبس السنة الهلالية بشهر ثالث عشر، ولأنهم لو فعلوا ذلك لزحزحت الأشهر الحرم عن موافقها، وارتجت المناسك عن حقائقها، ونقصت الجباية في سني الأهلة القبطية بقسط ما استغرقه الكبس منها، فانتظروا بذلك الفضل إلى أن تتم السنة، وأوجب الحساب المقرّب أن يكون كل اثنتين وثلاثين سنة شمسية ثلاثا وثلاثين هلالية، فنقلوا المتقدّمة إلى المتأخرة نقلا لا يتجاوز الشمسية.
وكانت هذه الكلفة في دنياهم مستسهلة مع تلك النعمة في دينهم، وقد رأى أمير المؤمنين نقل سنة خمسين وثلثمائة الخراجية إلى سنة إحدى وخمسين وثلثمائة الهلالية جمعا بينهما، ولزوما لتلك السنة فيهما، فاعمل بما ورد به أمر أمير المؤمنين عليك،(2/54)
وتضمنه كتابه هذا إليك، ومر الكتاب قبلك أن يحتذوا رسمه فيما يكتبون به إلى عمال نواحيك، ويخلدونه في الدواوين من ذكورهم ورفوعهم، ويعدونه من خروج الأموال وينظمونه في الدواوين والأعمال، ويثبتون عليه الجماعات والحسبانات، ويوغرون بكتبه من الروزنامجات، والبراءات وليكن المنسوب من ذلك إلى سنة خمسين وثلثمائة التي وقع النقل إليها، وأقم في نفوس من بحضرتك من أصناف الجند والرعية، وأهل الملة والذمة أن هذا النقل لا يغير لهم رسما، ولا يلحق بهم ثلما، ولا يعود على قابضي العطاء بنقصان ما استحقوا قبضه، ولا على مؤدّي حق بيت المال بإغضاء عما وجب أداؤه، فإنّ قرائح أكثرهم فقيرة إلى إفهام أمير المؤمنين الذي آثر أن تزاح فيه العلة، ويسدّ بهم سهم الخلة إذ كان هذا الشأن لا يتجدّد إلا في المدد الطوال التي في مثلها يحتاج إلى تعريف الناسي، وأجب بما يكون منك جوابا يحسن موقعه لك إن شاء الله تعالى.
وقال ابن المأمون في تاريخه: من حوادث سنة إحدى وخمسمائة، وأوّل ما تحدّث فيه نقل السنة الشمسية إلى العربية، وكان قد حصل بينهما تفاوت أربع سنين، فتحدّث القائد أبو عبد الله محمد بن فاتك البطائحيّ «1» مع الأفضل بن أمير الجيوش في ذلك، فأجاب إليه، وخرج أمره إلى الشيخ أبي القاسم بن الصيرفيّ بإنشاء سجل به.
فأنشأ ما نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي ارتضى أمير المؤمنين أمينه في أرضه وخليفته، وألهمه أن يعمّ بحسن التدبير عبيده وخليقته، ووفقه لمصالح يستمدّ أسبابها، ويفتح بحسن نظره أبوابها، وأورثه مقام آبائه الراشدين الذين اختصهم بشرف المفخر، وجعل اعتقاد موالاتهم سبب النجاة في المحشر، وعناهم بقوله: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ
، وأعلى منار سلطانه بمدبر أفلاكك دولته، ومبيد أعداء مملكته، وأشرف من نصب للجند علما وراية، ووقف على مصلحة البرية نظره ورأيه، وأرشد بهداتيه الألباب الحائرة، وأذهب بمعدلته الأحكام الجائرة السيد الأجل الأفضل، ونتمم النعوت بالدعاء للذي كمل تدبيره نظام الصلاح وتممه، وسدّد تقريره الأمور في كل ما قصده ويممه، ونبّه في السياسة على ما أهمله من سبقه، وأغفله من تقدّمه، وتتبع أحوال المملكة، فلم يدع مشكلا إلا أوضحه وبين الواجب فيه، ولا خللا إلا أصلحه، وبادر بتلافيه، ولا مهملا إلا استعمله على ما يوافق الصواب، ولا ينافيه إيثارا لعمارة الأعمال، وقصدا لما يقضي بتوفير الأموال.
وتوخيا لما عاد بضروب الاستغلال، واعتناء برجال الدولة العلوية وأجنادها، واهتماما(2/55)
بمصالحهم التي ضعفت قواهم عن ارتيادها، ورعاية لمن ضمنه أقطار المملكة من الرعايا، وحملا لهم على أعدل السنن، وأفضل القضايا يحمده أمير المؤمنين على ما أعانه عليه من حسن النظر للأمّة، وادّخره لأيامه من الفضائل التي صفت بها ملابس النعمة، ووفقه لما يعود على الكافة بشمول الانتفاع، حتى صار استبدال الحقوق بواجبات الشريعة الواضحة الأدلة واستيفاؤها بمقتضى المعدلة، فيما يجري على أحكام الخراج، وأوضاع الأهلة، ويرغب إليه بالصلاة على محمد الذي ميزه بالحكمة، وفصل الخطاب، وبين به ما استيهم من سبل الصواب، وأنزل عليه في محكم الكتاب: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ
[يونس/ 5] صلى الله عليه، وعلى أخيه وابن عمه أبينا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كافيه فيما أعضل لمّا عدم المساعد، وواقيه بنفسه لما تخاذل الكف والساعد، وعلى الأئمة من ذريتهما العاملين برضى الله تعالى فيما يقولون ويفعلون، والذين يهددون بالحق، وبه يعدلون، وإنّ أولى ما أولاه أمير المؤمنين حظا وافيا من تفقده، وأسهم له جزءا وافرا من كريم تعهده، ونظر إليه بعين اهتمامه، واختصه بالقسم الأجزل من استمالة أمر الأموال التي يستعان بها على سدّ الخلل، وبرجائها يستدفع ما يطرق من الحادث الجلل، وبوفورها تستثبت شؤون المملكة، وتستقيم أحوال الدول، وباستخراجها على حكم العدل الشامل، ووصية إنصاف المعامل تكون العمارة التي هي أصل زيادتها، ومادة كثرتها وغزارتها.
ولما كانت جباياتها على حكمين: أحدهما: يجيء هلاليا، وذلك ما لا يدخله عارض ولا إشكال، ولا إبهام، ولا يحتاج فيه إلى إيضاح ولا إفهام، لأن شهور الهلال يشترك في معرفتها الأمير والمقصر، ويستوي في الفهم بها المتقدّم في العلم والمتأخر، إذ كان الناس آلفين لأزمنة متعبداتهم السنين مما يحفظ لهم نظام مرسوم، والآخر يجيء خراجيا ويثبت بنسبته إلى الخراج لأنها تضبط أوقات ما يجري ذلك لأجله من النيل المبارك، والزراعة وتحفظ أحيانه دون السنة الهلالية، وتحرس أوضاعه، ولا يستقل بمعرفته إلا من باشره، وعرف موارده ومصادره، فوجب أن يقصر على السنة الخراجية النظر، ويفعل فيها ما تعظم به الفائدة، ويحسن فيه الأثر ويعتمد في إيضاح أمرها، وتقديم حكمها على ما تتحلى به التواريخ، وتزين به السير، ويكون ذلك شاهدا لمساعي السيد الأجل الأفضل الذي لا يزال ساهرا ليله في حياطه الهاجعين شاهرا لسيفه في حماية الوادعين مطلعا للدولة بدور السعادة، وشموسها مذللا صعب الحوادث، وشموسها ناطقة تارة بأن أمّة هو راعيها قد فضل الله سائسها، وأسعد مسوسها، وهذا حين التبصير والإرشاد، وأوان التبيين للغرض والمراد، لتتساوى العامّة والخاصة في علمه وتسعهم الفائدة في معرفة حكمه، وتتحقق المنفعة لهم فيما يمنع من تداخل السنين واستقبالها، وتتيقن المعدلة عليهم فيما يؤمن من المضار التي يحتاج إلى استدراكها.(2/56)
ومعلوم أنّ أيام السنة الخراجية، وهي السنة الشمسية بخلاف السنة الهلالية لأن أيام السنة الخراجية من استقبال النوروز إلى آخر النسيء ثلثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم، وأيام السنة الهلالية لاستقبال المحرّم إلى آخر ذي الحجة ثلثمائة وأربعة وخمسون يوما، والخلاف في كل سنة بالتقريب أحد عشر يوما، وفي كل ثلاث وثلاثين سنة سنة واحدة على حكم التقريب ويتقضيه ما تقدّم من الترتيب، فإذا اتفق أن يكون أوّل الهلالية موافقا لمدخل السنة الخراجية، وكانت نسبتهما واحدة استمرّ اتفاق التسمية فيهما، وبقي ذلك جاريا عليهما، ولم يزالا متداخلين لكون مدخل الخراجية في أثناء شهور الهلالية إلى انقضاء ثلاث وثلاثين سنة، فإذا انقضت هذه المدّة بطلت المداخلة، وخلت السنة الهلالية من نوروز يكون فيها، وبحكم ذلك بطل اتفاق التسمية، ويكون التفاوت سنة واحدة للعلّة المقدّم ذكرها، ومن أين يستمرّ بينهما ائتلاف، أو يعدم لهما اختلاف، أم كيف يعتقد ذلك أحد من البشر.
والله تعالى يقول: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ
[يس/ 40] فقد وضح دليل التباعد بما جاء منصوصا في الكتاب، وظهر برهانه بما اقتضاه موجب الحساب، فيحتاج بحكم ذلك إلى نقل السنة الشمسية إلى التي تليها لتكون موافقة للهلالية، وجارية معها، وفائدة النقل أن لا تخلو السنة الهلالية من مال خاص ينسب إلى السنة الموافقة لها، لأنّ واجبات العسكرية على عظمها، واتساعها وأرزاق المرتزقة على اختلاف أجناسها، وأوضاعها جارية على أحكام الهلالية غير معدول بها عن ذلك في حال من الأحوال، والمحافظة على ثمرة ارتفاعها متعينة، ومنفعة العناية بما تجري عليه واضحة مبينة، ولما أهلت سنة إحدى وخمسمائة، ودخلت فيها سنة تسع وتسعين وأربعمائة الخراجية المواقة لسنة إحدى وخمسمائة الهلالية كان في ذلك من التباين، والتعارض والتفاوت، والتنافر بحكم إهمال النقل فيما تقدّم ما صارت السنة الهلالية الحاضرة لا يجبي خراج ما يوافقها فيها، ولا تدرك غلّات السنة المجرى ما لها عليها إلّا في السنة التي تليها، فهي تستهل وتنقضي.
وليس لها في الخراجيّ ارتفاع والأعمال تطيف بالزراعة، ولا حظ لها في ذلك، ولا انتفاع، وهذه الحال المضرّة بها على بيت المال غير خفية، والأذية فيها للرجال المقطعين بادية، وأسباب لحوقها إياهم مستمرّة متمادية، ولا سيما من وقع له بإثبات وأنعم عليه بزيادات، فإنّهم يتعجلون الاستقبال، ويتأجلون الاستغلال، ومتى لم تنقل هذه السنة الخراجية كانت متداخلة بين سنين هلالية، وهي موافقة لغيرها، وما لها يجري على سنة تجري بينهما لأنّ مدخلها في اليوم العاشر من المحرّم سنة إحدى وخمسمائة، وانقضاؤها في العشرين من المحرّم سنة اثنتين وخمسمائة، وهي متداخلة بين هاتين السنتين، وما لهما يجري على سنة إحدى وخمسمائة، والحال في ذلك لا ينتهي إلى أمد، ولا يزال الفساد(2/57)
يتزايد طول الأبد، وقد رأى أمير المؤمنين وبالله توفيقه ما خرج به أمره إلى السيد الأجل الأفضل الذي نبه على هذا الأمر، وكشف غامضه، وأزال بحسن توصله تنافيه، وتناقضه أن يوعز إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل مضمنا ما رآه ودبره مودعا إنفاذ ما أحكمه، وقرّره من نقل سنة تسع وتسعين وأربعمائة إلى سنة إحدى وخمسمائة، لتكون موافقة لها.
ويجري عليها ما لها، ويكون ما يستأدونه من إقطاعاتهم، ويستخرجونه من واجباتهم جاريا على نظام محروس، ونطاق محيط غير منحوس، وشاهدا بنصيب موفي غير منقوص، ويتضح ما أبهم إشكاله التعمية، ويزول الاستكراه في اختلاف التسمية، ويستمرّ الوفاق بين السنين الهلالية والخراجية إلى سنة أربع وثلاثين وخمسمائة، وينسب مال الخراج والمقاسمات، وما يستغلّ، ويجبي من الإقطاعات مما كان جاريا على ذكر سنة تسع وتسعين وأربعمائة إلى سنة إحدى وخمسمائة، وتجري الإضافة إليها مجرى ما يرتفع من الهلاليّ فيها لتكون سنة إحدى من هذه مشتملة على ما يخصها من مالها، وعلى مال السنة الخراجية بما يشرح من انتقالها، وكذلك نقل سنة تسع وتسعين وأربعمائة الخراجية الثابتة بالتسمية إلى سنة إحدى وخمسمائة المشار إليها، ويكون مالها جاريا عليها، فليعتمد ذلك في الدواوين بالحضرة، وفي سائر أعمال الدولة قاصيها ودانيها، وفارسها وشاميها، وليتنبه كافة الكتاب والمستخدمين، وجميع العمال والمتصرّفين إلى اقتفاء هذه السنن وأتباعه، وليحذروا الخروج عن أحكامه المقرّرة وأوضاعه، وليبادروا إلى امتثال المرسوم فيه، وليحذروا من تجاوزه وتعدّيه، ولينسخ في دواوين الأموال والجيوش المنصورة، وليخلد بعد ذلك في بيوت المال المعمورة، وكتب في محرّم سنة إحدى وخمسمائة.
وقال القاضي الفاضل في متجدّدات سنة سبع وستين وخمسمائة ومن خطه نقلت مستهلّ المحرّم نسخ منشور بنقل السنة الخراجية إلى السنة الهلالية، والمطابقة بين اسمهما لموافقة الشهور العربية للشهور القبطية، وخلوّ سنة سبع من نوروز، فنقلت سنة خمس وستين وخمسمائة الخراجية إلى هذه السنة، وكان آخر نقل نقلته هذه السنة في الأيام الأفضلية، فإنّ سنة ثمان وتسعين وأربعمائة، وسنة تسع وتسعين الخراجيتين نقلتا إلى سنة إحدى وخمسمائة الخراجية، وسبب هذا الانفراج بينهما زيادة عدد السنة الشمسية على عدد الهلالية أحد عشر يوما، وإغفال النقل في سنة ثلاث وثلاثين في أيام الوزير الأفضل رضوان بن ولخشي، وانسحب ذيل هذه الزيادة، وتداخل السنين بعضها في بعض إلى أن صار التفاوت بينهما سنتين في هذه السنة فنقلت، وهو انتقال لا يتعدّى التسمية، ولا يتجاوز اللفظ، ولا ينقص مالا لديوان، ولا لمقطع، وإنما يقصد به إزالة الإلباس، وحل الإشكال.
وقال القاضي أبو الحسين: ونسخة الكتاب الذي أنشأه القاضي الفاضل خرجت الأوامر الملكية الناصرية زاد الله في إعلائها بإبداع هذا المنشور إنا نؤثر من حسن النظر ما(2/58)
يؤثر أحسن الخبر، ولا ينصرف بنا الفكر عمّا تحلى به السير، وتجلى به الغير، ولا تزال خواطرنا تعتلي فتطلع الدراري، وتغوص فتخرج الدرر، وإنّ أولى ما استحدّت به البصائر، وحرست فيه المصائر كل أمر يصحح المعاملات ويشرحها، ويطلق عقولهم من عقول الإشكال، ويسرّحها، ولما وجب نقل السنة الخراجية، والمطابقة بينها وبين الهلالية، لانفراجهما بسنتين، وموافقة الشهور الخراجية والهلالية في هذه السنة مطلع المستهلين أمضينا هذه السنة الخالية في هذه السنة الآتية، واستخرنا الله تعالى في نقل سنتي خمس وست وستين وخمسمائة إلى سنة سبع وستين وخمسمائة التي سميت بهذا النقل هلالية خراجية نفيا للأمور المشتبهة، والتسمية المموّهة، وتنزيها لسني الإسلام عن التكبيس، ولتاريخه عن ملابسة التلبيس، وإعلاما بالوفاق الذي استشعرته آباؤها وبنوها، وإعلانا باتباعه عناية بعوايد السلف التي خلفوها للخلف وبنوها، وفي ذلك ما تحمد به العواقب، وتنفسخ به المذاهب، وتتيسر به المطالب، ويزول به الإشكال، ويؤمن به الاختلال، وينحسم به الغلط في الحساب، ويؤلف بين السنين المتلفة الأنساب، ويحفظ على القمر معاملته، ويبعد عن التاريخ معاطلته، ويقرّب على الكاتب محاولته، ويصرف عن نعمة الله هجنة كونها مقدّمة في التسنية مؤخرة في التسمية، وعن معاملة بيت المال وصمة كونها معذوقة بالمطل، وقد بالغت في التوفيه لأنّ من أعطى في سنة سبع وستين وخمسمائة استحقاق سنة خمس، فلا ريب أنه قد مطل بحكم السمع، وإن كان قد أنجز بحكم الشرع فتوسم هذه السنة المباركة بالهلالية الخراجية، وترفع الحسبانات بهذا الوضع، ويعمل في التقريرات والتسجيلات على هذا، فليفعل في ذلك ما يقضي بإرتاج هذا الانفراج، وجبر هذا الصدع، وليعلم في الدواوين علمه، ولينفذ فيها حكمه بعد ثبوته إلى حيث يثبت مثله إن شاء الله تعالى.
وأما تاريخ العرب: فإنه لم يزل في الجاهلية والإسلام يعمل بشهور الأهلة، وعدّة شهور السنة عندهم: اثنا عشر شهرا، إلا أنهم اختلفوا في أسمائها، فكانت العرب العاربة تسميها: ناتق، ونقيل، وطليق، واسخ، أنخ، وحلك، وكسح، وزاهر، ونوط، وحرف، وبغش. فناتق هو: المحرّم، ونقيل هو: صفر، وهكذا ما بعده على سرد الشهور.
وكانت ثمود تسميها: موجب، وموجر، ومورد، وملزم، ومصد، وهوبر، وهوبل، وموها، وديمر، ودابر، وحيقل، ومسيل، فموجب هو: المحرّم، وموجر: صفر، إلا أنهم كانوا يبدأون بالشهور من ديمر، وهو شهر رمضان، فيكون أوّل شهور السنة عندهم، ثم كانت العرب تسميها بأسماء أخر هي: مؤتمر، وناجر، وخوّان، وصوان، وحنتم، وزبا، والأصم، وعادل، وبايق، ووعل، وهواع، وبرك، ومعنى المؤتمر: أنه يأتمر بكل شيء مما تأتي به السنة من أقضيتها، وناجر: من النجر، وهو شدّة الحرّ، وخوّان: فعال من الخيانة، وصوان، بكسر الصاد وضمها: فعال من الصيانة، والزبا: الداهية العظيمة المتكاثفة سمي(2/59)
بذلك لكثرة القتال فيه، ومنهم من يقول: بعد صوان الزبا، وبعد الزبا بائدة، وبعد بائدة الأصم، ثم واغل، وباطل، وعادل، ورنه، وبرك، فالبائد من القتال إذ كان فيه يبيد كثير من الناس، وجرى المثل بذلك فقيل العجب كل العجب بين جمادى ورجب، وكانوا يستعجلون فيه ويتوخون بلوغ النار والغارات قبل رجب فإنه شهر حرام، ويقولون له الأصم لأنهم كانوا يكفون فيه عن القتال، فلا يسمع فيه صوت السلاح، والواغل الداخل على شرب ولم يدعوه، وذلك لأنه تهجم على شهر رمضان، وكان يكثر في شهر رمضان شربهم الخمر لأن الذي يتلوه هي شهور الحج، وباطل هو مكيال الخمر سمي به لإفراطهم فيه في الشرب، وكثرة استعمالهم لذلك المكيال، وأما العادل فهو من العدل لأنه من أشهر الحج، وكانوا يشتغلون فيه عن الباطل، وأما الزبا فلأن الأنعام كانت تزب فيه لقرب النحر، وأما برك فهو لبروك الإبل إذا حضرت المنحر.
وقد روي: أنهم كانوا يسمون المحرّم: مؤتمر، وصفر: ناجر، وربيع الأوّل: نصار، وربيع الآخر: خوان، وجمادى الأولى: حمتن، وجمادى الآخرة: الرنة، ورجب: الأصم وهو شهر مضر، وكانت العرب تصومه في الجاهلية، وكانت تمتار فيه، وتمير أهلها، وكان يأمن بعضهم بعضا فيه، ويخرجون إلى الأسفار، ولا يخافون، وشعبان: عادل، ورمضان:
ناتق، وشوّال: واغل، وذو القعدة: هواع، وذو الحجة: برك، ويقال فيه أيضا: أبروك، وكانوا يسمونه الميمون، ثم سمت العرب أشهرها بالمحرّم، وصفر، وربيع الأوّل، وربيع الآخر، وجمادى الأولى، وجمادى الآخرة، ورجب، وشعبان، ورمضان، وشوّال، وذي القعدة، وذي الحجة، واشتقوا أسماءها من أمور اتفق وقوعها عند تسميتها، فالمحرّم كانوا يحرّمون فيه القتال، وصفر كانت تصفر فيه بيوتهم لخروجهم إلى الغزو، وشهرا ربيع كانا زمن الربيع، وشهرا جمادى كانا يجمد فيهما الماء لشدّة البرد، ورجب الوسط، وشعبان يشعب فيه القتال، ورمضان من الرمضاء لأنه كان يأتي فيه القيظ، وشوّال تشيل فيه الإبل أذنابها، وذو القعدة لقعودهم في دورهم، وذو الحجة لأنه شهر الحج، وأنت إذا تأمّلت اشتقاق أسماء شهور الجاهلية أوّلا، ثم اشتقاقها ثانيا تبين لك أنّ بين التسميتين زمانا طويلا، فإنّ صفر في أحدهما هو: صميم الحروب، وفي الآخر: رمضان، ولا يمكن ذلك في وقت واحد أو وقتين متقاربين، وكانت العرب أوّلا تستعمل هذه الشهور على نحو ما يستعمله أهل الإسلام إما بطريق إلهيّ، أو لأنّ العرب لم يكن لها دراية بمراعاة حساب حركات النيرين، فاحتاجت إلى استعمال مبادي الشهور لرؤية الأهلة، وجعلت زمان الشهر بحسب ما يقع بين كل هلالين، فربما كان بعض الشهور تامّا أعني ثلاثين يوما، وربما كان ناقصا أعني تسعة وعشرين يوما، وربما كانت أشهر متوالية تامّة أكثرها أربعة، وهذا نادر، وربما كانت أشهر متوالية ناقصة أكثرها ثلاثة، وكان يقع حج العرب في أزمنة السنة كلها، وهو أبدا عاشر ذي الحجة من عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فإذا انقضى موسم الحج تفرّقت العرب(2/60)
طالبة أماكنها، وأقام أهل مكة بها، فلم يزالوا على ذلك دهرا طويلا إلى أن غيروا دين إبراهيم وإسماعيل، فأحبوا أن يتوسعوا في معيشتهم، ويجعلوا حجهم في وقت إدراك شغلهم من الأدم والجلود والثمار ونحوها، وأن يثبت ذلك على حالة واحدة في أطيب الأزمنة، وأخصبها فتعلموا كبس الشهور من اليهود الذين نزلوا يثرب من عهد شمويل نبيّ بني إسرائيل، وعملوا النسيء «1» قبل الهجرة بنحو مائتي سنة، وكان الذي يلي النسيء يقال له: القلمس يعني الشريف، وقد اختلف في أول من أنسأ الشهور منهم فقيل: القلمس هو:
عديّ بن زيد، وقيل: القلمس هو: سرير بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة، وإنه قال:
أرى شهور الأهلة ثلثمائة وأربعة وخمسين يوما، وأرى شهور العجم ثلثمائة وخمسة وستين يوما، فبيننا وبينهم أحد عشر يوما، ففي كل ثلاث سنين ثلاثة وثلاثون يوما، ففي كل ثلاث سنين شهر، وكان إذا جاءت ثلاث سنين قدّم الحج في ذي القعدة، فإذا جاءت ثلاث سنين أخر في المحرّم، وكانت العرب إذا حجت قلّدت الإبل النعال، وألبستها الجلال، وأشعرتها، فلا يتعرّض لها أحد إلّا خثعم، وكان النسيء في بني كنانة، ثم في بني ثعلبة بن مالك بن كنانة، وكان الذي يلي ذلك منهم: أبو ثمامة المالكيّ، ثم من بني فقيم، وبنو فقيم هم النساءة، وهو منسيء الشهور، وكان يقوم على باب الكعبة، فيقول: إنّ إلهتكم العزى قد أنسأت صفر الأوّل، وكان يحله عاما ويحرّمه عاما، وكان إتباعهم على ذلك غطفان وهوازن وسليم وتميم، وآخر النساءة: جنادة بن عوف بن أمية بن قلع بن عباد بن حذيفة بن عبد بن فقيم.
وقيل: القلمس هو: حذيفة بن عبد بن فقيم بن عديّ بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة، ثم توارث ذلك منه بنوه من بعده، حتى كان آخرهم الذي قام عليه السلام أبو ثمامة جنادة، وكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه فأحلّ لهم من الشهور، وحرّم، فأحلوا ما أحلّ وحرّموا ما حرّم، وكان إذا أراد أن ينسئ منها شيئا أحل المحرّم، فأحلوه، وحرّم مكانه صفر فحرّموه ليواطئوا عدّة الأربعة، فإذا أرادوا الهدي اجتمعوا إليه، فقال: اللهم إني لا أجاب، ولا أعاب في أمري والأمر لما قضيت، اللهم إني قد أحللت دماء المحلين من طي وخثعم، فاقتلوهم حيث ثقفتموهم أي ظفرتم به، اللهم إني قد أحللت أحد الصفرين الصفر الأوّل وأنسأت الآخر من العام المقبل، وإنما أحل دم طي وخثعم لأنهم كانوا يعدون على الناس في الشهر الحرام من بين جميع العرب.
وقيل: أوّل من أنسأ سرير بن ثعلبة، وانقرض فأنسأ من بعده ابن أخيه: القلمس واسمه عديّ بن عامر بن ثعلبة بن الحرث بن كنانة، ثم صار النسيء في ولده، وكان آخرهم أبو ثمامة جنادة، وقيل: عوف بن أمية بن قلع عن أبيه أمية بن قلع عن جدّه قلع بن عباد عن(2/61)
جدّ أبيه عباد بن حذيفة عن جدّ جدّه حذيفة بن عبد بن فقيم، وكان يقال لحذيفة القلمس، وهو أوّل من أنسأ الشهور على العرب، فأحل منها ما أحل وحرّم ما حرّم، ثم كان بعد عوف المذكور ولده أبو ثمامة جنادة بن عوف، وعليه قام الإسلام، وكان أبعدهم ذكرا، وأطولهم أمدا يقال: إنه أنسأ أربعين سنة، ولهم يقول عمير بن قيس جذل الطعان يفتخر:
وأيّ الناس لم يسبق بوتر ... وأيّ الناس لم يعلك لجاما
ألسنا الناسئين على معدّ ... شهور الحل نجعلها حراما
وقال آخر:
أتزعم أني من فقيم بن مالك ... لعمري لقد غيرت ما كنت أعلم
لهم ناسئ يمشون تحت لوائه ... يحل إذا شاء الشهور ويحرم
وقيل: كانت العرب تكبس في كل أربع وعشرين سنة قمرية بتسعة أشهر، فكانت شهورهم ثابتة مع الأزمنة جارية على سنن واحد لا تتأخر عن أوقاتها، ولا تتقدّم وكان النسيء الأوّل للمحرّم، فسمي صفر باسمه، وشهر ربيع الأوّل باسم صفر، ثم والوا بين أسماء الشهور، فكان النسيء الثاني بصفر، فسمي الذي كان يتلوه بصفر أيضا، وكذلك حتى دار النسيء في الشهور الاثني عشر، وعاد إلى المحرّم، فأعادوا فعلهم الأوّل، وكانوا يعدّون أدوار النسيء، ويحدّون بها الأزمنة، فيقولون: قد دارت السنون من لدن زمان كذا إلى زمان كذا: وكذا دورة، فإن ظهر لهم مع ذلك تقدّم شهر عن فصله من الفصول الأربعة لما يجتمع من كسور سنة الشمس بقية فضل ما بينها، وبين سنة القمر الذي ألحقوه بها كبسوها كبسا ثانيا، وكان يظهر لهم ذلك بطلوع منازل القمر، وسقوطها حتى هاجر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وكانت نوبة النسيء بلغت شعبان، فسمي: محرّما، وشهر رمضان: صفر، وقيل: إن الناسيء الأوّل نسأ المحرّم، وجعله كبسا، وأخر المحرّم إلى صفر، وصفر إلى ربيع الأوّل، وكذا بقية الشهور، فوقع لهم في تلك السنة عاشر المحرّم، وجعل تلك السنة ثلاثة عشر شهرا، ونقل الحج بعد كل ثلاث سنين شهرا فمضى على ذلك مائتان وعشر سنين، وكان انقضاؤها سنة حجة الوداع، وكان وقوع الحج في السنة التاسعة من الهجرة عاشر ذي القعدة، وهي السنة التي حج فيها أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه بالناس، ثم حجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في السنة العاشرة حجة الوداع لوقوع الحج فيها عاشر ذي الحجة كما كان في عهد إبراهيم وإسماعيل، ولذلك قال صلّى الله عليه وسلّم في حجته هذه: «إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض» يعني رجوع الحج والشهور إلى الوضع، وأنزل الله تعالى إبطال النسيء بقوله تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ
[التوبة/ 37] فبطل ما أحدثته الجاهلية من النسيء، واستمرّ وقوع الحج والصوم برؤية الأهلة، ولله الحمد.(2/62)
وكانت العرب لها تواريخ معروفة عندها قد بادت، فما كانت تؤرخ به، إنّ كنانة أرخت من موت كعب بن لؤيّ حتى كان عام الفيل، فأرخوا به، وهو عام مولد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان بين كعب بن لؤيّ، والفيل خمسمائة وعشرون سنة، وكان بين الفيل، وبين الفجار أربعون سنة، ثم عدّوا من الفجار إلى وفاة هشام بن المغيرة، فكان ست سنين، ثم عدّوا من وفاة هشام بن المغيرة إلى بنيان الكعبة، فكان تسع سنين، ثم كان بين بنائها، وبين هجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خمس عشرة سنة.
ثم وقع التاريخ من الهجرة النبوية، فعن سعيد بن المسيب قال: جمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس فسألهم من أيّ يوم يكتب التاريخ؟ فقال عليّ بن أبي طالب:
من يوم هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وترك أرض الشرك، ففعله عمر، وعن سهل بن سعد الساعديّ قال: أخطأ الناس في العدد ما عدّوا من مبعثه، ولا من وفاته إنما عدّوا من مقدمه المدينة، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان التاريخ من السنة التي قدم فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، وقال قرّة بن خالد عن محمد: كان عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه عامل جاء من اليمن فقال لعمر: أما تؤرخون؟ تكتبون في سنة كذا وكذا من شهر كذا وكذا، فأراد عمر والناس أن يكتبوا من مبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم قالوا: من عند وفاته، ثم أرادوا أن يكون ذلك من الهجرة، ثم قالوا: من أي شهر، فأرادوا أن يكون من رمضان، ثم بدا لهم، فقالوا:
من المحرّم. وقال ميمون بن مهران: رفع إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، صكّ محله شعبان، فقال: أيّ شعبان هو؟ أشعبان الذي نحن فيه أو الآتي؟ ثم جمع وجوه الصحابة فقال: إنّ الأموال قد كثرت، وما قسمنا منها غير مؤقت، فكيف التوصل إلى ما يضبط به ذلك، فقالوا: يجب أن يعرف ذلك من رسوم الفرس، فعندها استحضر عمر رضي الله عنه الهرمزان، وسأله عن ذلك، فقال: إنّ لنا حسابا نسميه: ماه روز، معناه:
حساب الشهور والأيام، فعرّبوا الكلمة، وقالوا: مؤرخ، ثم جعلوه اسم التاريخ واستعملوه، ثم طلبوا وقتا يجعلونه أوّلا لتاريخ دولة الإسلام، فاتفقوا على أن يكون المبدأ من سنة الهجرة، وكانت الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة، وقد تصرّم من شهور السنة، وأيامها المحرّم وصفر، وأيام من ربيع الأوّل، فلما عزموا على تأسيس الهجرة رجعوا القهقرى ثمانية وستين يوما، وجعلوا التاريخ من أوّل محرّم هذه السنة، ثم أحصوا من أوّل يوم في المحرّم إلى آخر عمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكان عشر سنين وشهرين، وأما إذا حسب عمره المقدّس من الهجرة حقيقة، فيكون قد عاش صلّى الله عليه وسلّم بعدها تسع سنين، وأحد عشر شهرا واثنين وعشرين يوما، وكان بين مولده صلّى الله عليه وسلّم وبين مولد المسيح عليه السلام، خمسمائة وثمان وسبعون سنة تنقص شهرين وثمانية أيام.
وابتداء تاريخ الهجرة يوم الخميس أوّل شهر الله المحرّم، وبينه وبين الطوفان ثلاثة(2/63)
آلاف وسبعمائة، وخمس وثلاثون سنة، وعشرة أشهر واثنان وعشرون يوما على ما عرّفناه من الخلاف في ذلك، وبينه وبين تاريخ الإسكندر بن فيليبس المقدونيّ الروميّ: تسعمائة وإحدى وستون سنة قمرية وأربعة وخمسون يوما لتكون من السنين الشمسية تسعمائة واثنتين وثلاثين سنة، ومائتين وتسعة وثمانين يوما عنها تسعة أشهر وتسعة عشر يوما، وبينه وبين تاريخ القبط: ثلثمائة وسبع وثلاثون سنة وتسعة وثلاثون يوما.
وقال ابن ماشا الله «1» : إنّ انتقال المرمن المثلثة الهوائية التي هي برج الجوزاء دولتها إلى برج السرطان، ومثلثته المائية التي كانت دولة الإسلام فيها عند تمام ستة آلاف وثلثمائة وخمس وأربعين سنة وثلاثة أشهر وعشرين يوما من وقت القران الأوّل الواقع في بدء التحرّك يعني خلق آدم عليه السلام، وإن القران من هذه المثلثة وقع في أربع درج ودقيقة واحدة من برج العقرب، وهو قران الملة الإسلامية، قال: وفي السنة الثانية من هذا القران ولد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان بين دخول الشمس برج الحمل في هذه السنة، وبين أوّل يوم من سنة الهجرة سنون فارسية عدّتها إحدى وخمسون سنة، وثلاثة أشهر وثمانية أيام وست عشرة ساعة، فكان من وقت الطوفان إلى وقت قران الملة ثلاثة آلاف وتسعمائة واثنتا عشرة سنة، وستة أشهر وأربعة عشر يوما.
وزعمت اليهود أنّ من آدم عليه السلام إلى سنة الهجرة أربعة آلاف واثنتين وأربعين سنة وثلاثة أشهر.
وزعمت النصارى أن بينهما خمسة آلاف وتسعمائة وتسعين سنة وثلاثة أشهر.
وزعمت المجوس أعني الفرس أن بينهما أربعة آلاف ومائة واثنتين وثمانين سنة وعشرة أشهر، وتسعة عشر يوما، وقد عرفت أنّ شهور تاريخ الهجرة قمرية، وأيام كل سنة منها عدّتها ثلثمائة وأربعة وخمسون يوما، وخمس وسدس يوم، وجميع الأحكام الشرعية مبنية على رؤية الهلال عند جميع فرق الإسلام ما عدا الشيعة، فإنّ الأحكام مبنية عندهم على عمل شهور السنة بالحساب على ما ستراه في ذكر القاهرة وخلفائها، ثم لما احتاج منجمو الإسلام إلى استخراج من لا بدّ منه من معرفة الأهلة، وسمت القبلة، وغير ذلك بنوا أزياجهم على التاريخ العربيّ، وجعلوا شهور السنة العربية شهرا كاملا، وشهرا ناقصا، وابتدأوا بالمحرّم اقتداء بالصحابة رضي الله عنهم، فجعلوا المحرّم ثلاثين يوما، وصفر تسعة وعشرين يوما، وربيعا الأوّل ثلاثين يوما، وربيعا الآخر تسعة وعشرين يوما، وجمادى الأولى ثلاثين يوما، وجمادى الآخرة تسعة وعشرين يوما، ورجب ثلاثين يوما، وشعبان تسعة وعشرين يوما، ورمضان ثلاثين يوما، وشوّالا تسعة وعشرين يوما، وذا القعدة ثلاثين(2/64)
يوما، وذا الحجة تسعة وعشرين يوما، وزادوا من أجل كسر اليوم الذي هو خمس وسدس يوما في ذي الحجة إذا صار هذا الكسر أكثر من نصف يوم، فيكون شهر ذي الحجة في تلك السنة ثلاثين يوما، ويسمون تلك السنة كبيسة، ويصير عددها ثلثمائة وخمسة وخمسين يوما، ويجتمع في كل ثلاثين من الكبس أحد عشر يوما، والله أعلم.
وأما تاريخ الفرس، ويعرف أيضا بتاريخ يزدجرد، فإنه من ابتداء تملك يزدجرد بن شهربار بن كسرى أبرويز، أرخ به الفرس من أجل أن يزدجرد قام في المملكة بعد ما تبدّد ملك فارس، واستولى عليه النساء، والمتغلبون، وهو أيضا آخر ملوك فارس، وبقتله تمزق ملكهم، وأوّل هذا التاريخ يوم الثلاثاء، وبينه وبين تاريخ الهجرة تسع سنين، وثلثمائة وثمانية وثلاثون يوما، وأيام سنة هذا التاريخ تنقص عن السنة الشمسية ربع يوم، فيكون في كل مائة وعشرين سنة شهرا واحدا، ولهم في كبس السنة آراء ليس هذا موضع إيرادها، وعلى هذا التاريخ يعتمد في زمننا أهل العراق وبلاد العجم، ولله عاقبة الأمور.
ذكر فسطاط مصر
قال الجوهريّ: الفسطاط بيت من شعر، قال: ومنه فسطاط مدينة مصر، إعلم: أن فسطاط مصر اختط في الإسلام بعد ما فتحت أرض مصر، وصارت دار إسلام، وقد كانت بيد الروم، والقبط وهم نصارى ملكانية، ويعقوبية وميانية، وحين اختط المسلمون الفسطاط انتقل كرسيّ المملكة من مدينة الإسكندرية بعد ما كانت منزل الملك، ودار الإمارة زيادة على تسعمائة سنة، وصار من حينئذ الفسطاط دار إمارة ينزل به أمراء مصر، فلم يزل على ذلك حتى بنى العسكر بظاهر الفسطاط، فنزل فيه أمراء مصر، وسكنوه، وربما سكن بعضهم الفسطاط، فلما أنشأ الأمير أبو العباس أحمد بن طولون القطائع بجانب العسكر سكن فيها، واتخذها الأمراء من بعده منزلا إلى أن انقرضت دولة بني طولون، فصار أمراء مصر من بعد ذلك ينزلون بالعسكر خارج الفسطاط، وما زالوا على ذلك حتى قدمت عساكر الإمام المعز لدين الله أبي تميم معدّ الفاطميّ مع كاتبه جوهر القائد، فبنى القاهرة، وصارت خلافة، واستمرّ سكنى الرعية بالفسطاط، وبلغ من وفور العمارة، وكثرة الخلائق، ما أربى على عامّة مدن المعمور حاشا بغداد، وما زال على ذلك، حتى تغلب الفرنج على سواحل البلاد الشامية، ونزل مخري ملك الفرنج بجموعه الكثيرة على بركة الحبش «1» يريد الاستيلاء على مملكة مصر، وأخذ الفسطاط والقاهرة، فعجز الوزير شاور «2» ابن مجير السعديّ عن حفظ(2/65)
البلدين معا، فأمر الناس بإخلاء مدينة الفسطاط، واللحاق بالقاهرة للامتناع من الفرنج، وكانت القاهرة إذ ذاك من الحصانة، والامتناع بحيث لا ترام، فارتحل الناس من الفسطاط، وساروا بأسرهم إلى القاهرة، وأمر شاور، فألقى العبيد النار في الفسطاط، فلم تزل به بضعا وخمسين يوما حتى احترقت أكثر مساكنه، فلما رحل مري عن القاهرة، واستولى شيركوه»
على الوزارة تراجع الناس إلى الفسطاط، ورموا بعض شعثه، ولم يزل في نقص وخراب إلى يومنا هذا، وقد صار الفسطاط يعرف في زمننا بمدينة مصر، والله أعلم.
ذكر ما كان عليه موضع الفسطاط قبل الإسلام إلى أن اختطه المسلمون مدينة
اعلم: أنّ موضع الفسطاط الذي يقال له اليوم: مدينة مصر كان فضاء ومزارع فيما بين النيل، والجبل الشرقيّ الذي يعرف بالجبل المقطم، ليس فيه من البناء، والعمارة سوى حصن يعرف اليوم بعضه: بقصر الشمع، وبالمعلقة ينزل به شحنة الروم المتولي على مصر من قبل القياصر ملوك الروم عند مسيره من مدينة الإسكندرية، ويقيم فيه ما شاء، ثم يعود إلى دار الإمارة، ومنزل الملك من الإسكندرية، وكان هذا الحصن مطلا على النيل، وتصل السفن في النيل إلى بابه الغربيّ الذي كان يعرف بباب الحديد، ومنه ركب المقوقس في السفن في النيل من بابه الغربيّ حين غلبه المسلمون على الحصن المذكور، وصار فيه إلى الجزيرة التي تجاه الحصن، وهي التي تعرف اليوم: بالروضة قبالة مصر، وكان مقياس النيل بجانب الحصن.
وقال ابن المتوّج: وعمود المقياس موجود في زقاق مسجد ابن النعمان قلت: وهو باق إلى يومنا هذا، أعني سنة عشرين وثمانمائة، وكان هذا الحصن لا يزال مشحونا بالمقاتلة، وسيرد في هذا الكتاب خبره إن شاء الله تعالى، وكان بجوار هذا الحصن من بحريه، وهي الجهة الشمالية أشجار وكروم صار موضعها الجامع العتيق، وفيما بين الحصن والجبل عدّة كنائس، وديارات للنصارى في الموضع الذي يعرف اليوم براشدة، وبجانب الحصن فيما بين الكروم التي كانت بجانبه، وبين الجرف الذي يعرف اليوم: بجبل يشكر، حيث جامع ابن طولون، والكبش عدّة كنائس، وديارات للنصارى في الموضع الذي كان يعرف في أوائل الإسلام بالحمراء، وعرف الآن بخط قناطر السباع والسبع سقايات، وبقي بالحمراء عدّة من الديارات إلى أن هدمت في سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاون على ما ذكر في هذا الكتاب عند ذكر كنائس النصارى، فلما افتتح عمرو بن العاص مدينة(2/66)
الإسكندرية الفتح الأوّل نزل بجوار هذا الحصن، واختط الجامع المعروف بالجامع العتيق، وبجامع عمرو بن العاص، واختطت قبائل العرب من حوله، فصارت مدينة عرفت بالفسطاط، ونزل الناس بها، فانحسر بعد الفتح بأعوام ماء النيل عن أرض تجاه الحصن والجامع العتيق، فصار المسلمون يوقفون هناك دوابهم، ثم اختطوا فيه المساكن شيئا بعد شيء، وصار ساحل البلد حيث الموضع الذي يقال له اليوم في مصر: المعاريج مارّا إلى الكوم الذي على يسرة الداخل من باب مصر بحدّ الكبارة، وفي موضع هذا الكوم كانت الدور المطلة على النيل، ويمرّ الساحل من باب مصر المذكور إلى حيث بستان ابن كيسان الذي يعرف اليوم: ببستان الطواشي في أوّل مراغة مصر، وجميع الأماكن التي تعرف اليوم:
بمراغة مصر وبالجرف إلى الخليج عرضا، ومن حيث قنطرة السدّ إلى سوق المعاريج طولا، كان غامرا بماء النيل إلى أن انحسر عنه ماء النيل بعد سنة ستمائة من سني الهجرة، فصار رملة، ثم اختط فيه الأمراء مما يلي النيل آدرا عند ما عمر الملك الصالح نجم الدين أيوب قلعة الروضة، واختط بعضه شونا إلى أن أنشأ الملك الناصر محمد بن قلاون جامعه المعروف بالجامع الجديد الناصري ظاهر مصر، فعمر ما حوله، وقد كان عند فتح مصر سائر المواضع التي من منشأة المهرانيّ إلى بركة الحبش طولا، ومن ساحل النيل بموردة الحلفاء، وتجاه الجامع الجديد إلى سوق المعاريج، وما على سمته إلى تجاه المشهد الذي يقال له: مشهد الراس، وتسميه العامّة اليوم: مشهد زين العابدين كلها بحرا لا يحول بين الحصن والجامع، وما على سمتهما إلى الحمراء الدنيا التي منها اليوم: خط قناطر السباع، وبين جزيرة مصر التي تعرف اليوم: بالروضة شيء سوى ماء النيل، وجميع ما في هذه المواضع من الأبنية انكشف عنه النيل قليلا قليلا، واختط على ما يتبين لك في هذا الكتاب.
ذكر الحصن الذي يعرف بقصر الشمع «1»
اعلم: أن هذا القصر أحدث بعد خراب مصر على يد بخت نصر، وقد اختلف في الوقت الذي بنى فيه، ومن أنشأه من الملوك، فذكر الواقديّ: أن الذي بناه اسمه: الريان بن الوليد بن أرسلاوس، وكان هذا القصر يوقد عليه الشمع في رأس كل شهر، وذلك أنه إذا حلّت الشمس في برج من البروج أوقد في تلك الليلة الشمع على رأس ذلك القصر، فيعلم الناس بوقود الشمع أنّ الشمس انتقلت من البرج الذي كانت فيه إلى برج آخر غيره، ولم يزل القصر على حاله، إلى أن خربت مصر زمن بخت نصر بن نيروز الكلدانيّ، فأقام خرابا خمسمائة سنة، ولم يبق منه إلا أثره فقط، فلما غلب الروم على مصر، وملكوها من أيدي اليونانيين، ولي مصر من قبلهم رجل يقال له: أرجاليس بن مقراطيس فبنى القصر على ما وجد من أساسه.(2/67)
وقال ابن سعيد: وصارت مصر والشام بعد بخت نصر في مملكة الفرس، فوليها منهم: كشرجوش الفارسيّ باني قصر الشمع، وبعده طخارست الطويل الولاية، وتوالت بعده نوّاب الفرس إلى ظهور الإسكندر، وقال غيره: إن الذي بناه طخشاشت أحد ملوك الفرس عند ما سار لمحاربة أهل مصر، فلما غلب قسطو ملك مصر الذي يعرف بفرعون سابان، وفرّ منه إلى مقدونية غلب على ملك مصر، واستولى عليها وبنى للفرس قصرا، وجعل فيه بيت نار على شاطىء النيل الشرقيّ، وعرف بقصر الشمع لأنه كان له باب يقال له: باب الشمع، وجعل في القصر بيت نار وهو باق.
وقال ابن عبد الحكم عن الليث بن سعد: وكانت الفرس قد أسست بناء الحصن الذي يقال له: باب اليون «1» ، وهو الحصن الذي بفسطاط مصر اليوم، فلما انكشفت جموع فارس عن الروم، وأخرجتهم الروم من الشام أتمت بناء ذلك الحصن، وأقامت به، فلم تزل مصر في ملك الروم حتى فتحها الله تعالى على المسلمين قال: وكان أبو الأسود نصر بن عبد الجبار يقولها بالميم، يعني باب اليوم، ويقال: إنما سمي كذا لأنهم كانوا يقولون: من يقاتل اليوم.
وقال القضاعيّ: ذكر الحصن المعروف بقصر الشمع يقال: إن فارس لما ظهرت على الروم وملكت عليهم الشام، وملكت مصر بدأت ببناء هذا القصر، وبنت فيه هيكلا لبيت النار، ولم يتم بناؤه على أيديهم إلى أن ظهرت الروم عليهم، فتممت بناءه وحصنته، ولم تزل فيه إلى حين الفتح، وهيكل الناس هو القبة المعروفة اليوم بقبة الدخان، وبحضرتها مسجد معلق أحدثه المسلمون.
وقال أبو عبيد البكريّ: باب اليون بمصر إن كان عربيا، فإنه مثل يوم، ويوح مما فاؤه ياء، وعينه واو، وقد يجوز أن يكون فعلا من بين، وهو اسم موضع على مذهب أبي الحسن في فعل من البيع بوع قال: وليست الألف واللام فيه للتعريف، فعلى هذا يجب أن تثبت في الرسم. وقال أبو صخر:
وحلوا تهامي أرضنا وتبدّلوا ... بمكة باب اليون والربط بالعصب
والرواية في شعر كثير عزّة في قوله:
جرى بين باب اليون والعصب دونه ... رياح أشفت بالنقي وأشمت
بالباء، وبفتح النون غير مجرور للعجمة على أن همزته مقطوعة، وصلها للضرورة. وقال الحازميّ: باب البون بالباء اسم مدينة مصر فتحها المسلمون، وسموها(2/68)
الفسطاط، وقال عبد الملك بن هشام بابليون المنسوب إليه مصر هو: بابليون بن سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان وأن من ولده عمرو بن امرئ القيس بن بابليون بن سبا، وهو الملك على مصر لما قدم إليها إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليه، والقبط تسمي عمرا هذا: طوطيس، ومن ولده حلوان بن بابليون بن عمرو بن امرئ القيس، وبه سميت حلوان.
وقال القاضي القضاعيّ: في ظاهر الفسطاط القصر المعروف بباب ليون بالشرف، ليون اسم بلد مصر بلغة السودان والروم، وقد بقيت من بنائه بقية مبنية بالحجارة على طرف الجبل بالشرف، وعليه اليوم مسجد.
قال المؤلف: فهذا كما ترى صريح في أن قصر باب اليون غير قصر الشمع، فإنّ قصر الشمع في داخل الفسطاط، وقصر باب اليون هذا عند القضاعيّ على الجبل المعروف بالشرف، والشرف خارج الفسطاط، وهو خلاف ما قاله ابن عبد الحكم في كتاب فتوح مصر، والله أعلم. ويقال: إنّ في زمن ناحور بن شاروع، وهو الثامن عشر من آدم ملك مصر رجل اسمه: أفطوطس مدّة اثنتين وثلاثين سنة، وأنه أوّل من أظهر علم الحساب والسحر، وحمل كتب ذلك من بلاد الكلدانيين إلى مصر، وفي ذلك الزمان بنيت بابليون على بحر النيل بمصر، وذلك لتمام ثلاثة آلاف وثلثمائة وتسعين للعالم، وقال ابن سعيد في كتاب المعرب: وأما فسطاط مصر، فإنّ مبانيها كانت في القديم متصلة بمباني مدينة عين شمس، وجاء الإسلام، وبها بناء يعرف: بالقصر حوله مساكن، وعليه نزل عمرو بن العاص، وضرب فسطاطه حيث المسجد الجامع المنسوب إليه، وهذا وهم من ابن سعيد، فإنّ فسطاط عمرو إنما كان مضروبا عند درب حمام شموط بخط الجامع هكذا هو بخط الشريف محمد بن أسعد الجواني «1» النسابة، وهو أقعد بخطط مصر، وأعرف من ابن سعيد، وأما موضع الجامع، فكان كروما وجنانا، وحاز موضعه قيسبة التجيبيّ، ثم تصدّق به على المسلمين، فعمل المسجد، وستقف على هذا إن شاء الله تعالى في ذكر جامع عمرو عند ذكر الجوامع من هذا الكتاب.
وقال ابن المتوّج: خط قصر الشمع هذا الخط يعرف بقصر الشمع، وفيه قصر الروم وفيه أزقة ودروب، قال: وكنيسة المعلقة بمصر بباب القصر، وهو قصر الروم.
وقال ابن عبد الحكم: وأقرّ عمرو بن العاص القصر لم يقسمه ووقفه.
وقال أبو عمرو الكنديّ في كتاب الأمراء: وقد ذكر قيام عليّ بن محمد بن عبد الله بن(2/69)
الحسن بن عليّ بن أبي طالب، وطروق المسجد في إمارة يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة على مصر، وورد كتاب أبي جعفر المنصور على يزيد بن حاتم يأمره بالتحوّل من العسكر إلى الفسطاط، وأن يجعل الديوان في كنائس القصر، وذلك في سنة ست وأربعين ومائة، والله أعلم.(2/70)
ذكر حصار المسلمين للقصر وفتح مصر
اختلف الناس في فتح مصر، فقال محمد بن إسحاق، وأبو معشر، ومحمد بن عمرو الواقديّ، ويزيد بن أبي حبيب، وأبو عمرو الكنديّ: فتحت سنة عشرين، وقال سيف بن عمر: فتحت سنة ست عشرة، وقيل: فتحت سنة ست وعشرين، وقيل: سنة إحدى وعشرين، وقيل: سنة اثنتين وعشرين، والأوّل أصح وأشهر.
قال ابن عبد الحكم: لما قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الجابية قام إليه عمرو بن العاص، فخلا به، فقال: يا أمير المؤمنين ائذن لي أن أسير إلى مصر، وحرّضه عليها، وقال: إنك إن فتحتها كانت قوّة للمسلمين، وعونا لهم، وهي أكثر الأرض أموالا، وأعجز عن القتال والحرب.
فتخوّف عمر بن الخطاب، وكره ذلك، فلم يزل عمرو يعظم أمرها عند عمر بن الخطاب، ويخبره بحالها، ويهوّن عليه فتحها حتى ركن لذلك، فعقد له على أربعة آلاف رجل، كلّهم من عك، ويقال: بل ثلاثة آلاف وخمسمائة، وقال له عمر: سر وأنا مستخير الله في مسيرك، وسيأتيك كتابي سريعا إن شاء الله تعالى، فإن أدركك كتابي آمرك فيه بالانصراف عن مصر قبل أن تدخلها، أو شيئا من أرضها، فانصرف، وإن أنت دخلتها قبل أن يأتيك كتابي فامض لوجهك، واستعن بالله واستنصره.
فسار عمرو بن العاص من جوف الليل، ولم يشعر به أحد من الناس، واستخار عمر الله، فكأنه تخوّف على المسلمين في وجههم ذلك، فكتب إلى عمرو بن العاص أن ينصرف بمن معه من المسلمين، فأدرك عمرا الكتاب إذ هو برفج «1» فتخوّف عمرو إن هو أخذ الكتاب، وفتحه أن يجد فيه الانصراف كما عهد إليه عمر، فلم يأخذ الكتاب من الرسول، ودافعه وسار كما هو حتى نزل قرية فيما بين رفج والعريش، فسأل عنها فقيل: إنها من مصر، فدعا بالكتاب فقرأه على المسلمين، فقال عمرو لمن معه: ألستم تعلمون أنّ هذه القرية من مصر؟ قالوا: بلى، قال: فإنّ أمير المؤمنين عهد إليّ، وأمرني إن لحقني كتابه،(2/71)
ولم أدخل أرض مصر أن أرجع، ولم يلحقني كتابه حتى دخلنا أرض مصر، فسيروا، وامضوا على بركة الله.
ويقال: بل كان عمرو بفلسطين، فتقدّم عمرو بأصحابه إلى مصر بغير إذن، فكتب فيه إلى عمر رضي الله عنه، فكتب إليه عمر وهو دون العريش، فحبس الكتاب فلم يقرأه حتى بلغ العريش، فقرأه فإذا فيه من عمر بن الخطاب إلى العاصي ابن العاصي: أما بعد، فإنك سرت إلى مصر، ومن معك وبها جموع الروم، وإنما معك نفر يسير، ولعمري لو نكل بك ما سرت بهم، فإن لم تكن بلغت مصر، فارجع. فقال عمرو: الحمد لله أية أرض هذه؟
قالوا: من مصر فتقدّم كما هو، ويقال: بل كان عمرو في جنده على قيسارية مع من كان بها من أجناد المسلمين، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ ذاك بالجابية، فكتب سرّا فاستأذن أن يسير إلى مصر، وأمر أصحابه، فتنحوا كالقوم الذين يريدون أن يتنحوا من منزل إلى منزل قريب، ثم سار بهم ليلا، فلما فقده أمراء الأجناد استنكروا الذي فعل، ورأوا أن قد غدر، فرفعوا ذلك إلى عمر بن الخطاب، فكتب إليه عمر إلى العاصي ابن العاصي: أما بعد، فإنك قد غررت بمن معك، فإن أدركك كتابي، ولم تدخل مصر فارجع، وإن أدركك، وقد دخلت فامض، واعلم أنّي ممدّك.
ويقال: إنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كتب إلى عمرو بن العاص بعد ما فتح الشام: أن اندب الناس إلى المسير معك إلى مصر، فمن خف معك فسر به، وبعث به مع شريك بن عبدة، فندبهم عمرو، فأسرعوا إلى الخروج مع عمرو، ثم إنّ عثمان بن عفان رضي الله عنه دخل على عمر بن الخطاب، فقال عمر: كتبت إلى عمرو بن العاص يسير إلى مصر من الشام، فقال عثمان: يا أمير المؤمنين إنّ عمر لجريء وفيه إقدام وحبّ للإمارة، فأخشى أن يخرج في غير ثقة ولا جماعة، فيعرّض المسلمين للهلكة رجاء فرصة لا يدري تكون أم لا؟ فندم عمر على كتابه إلى عمرو، وأشفق مما قال عثمان، فكتب إليه: إن أدركك كتابي قبل أن تدخل إلى مصر، فارجع إلى موضعك، وإن كنت دخلت، فامض لوجهك.
فلما بلغ المقوقس قدوم عمرو بن العاص إلى مصر توجه إلى موضع الفسطاط، فكان يجهز على عمرو الجيوش، وكان على القصر رجل من الروم يقال له: الأعيرج، واليا عليه، وكان تحت المقوقس، وأقبل عمرو حتى إذا كان بجبل الجلال نفرت معه راشدة، وقبائل من لخم فتوجه عمرو حتى إذا كان بالعريش أدركه النحر، فضحى عن أصحابه يومئذ بكبش، وتقدّم، فكان أوّل موضع قوتل فيه الفرما «1» قاتلته الروم قتالا شديدا نحوا من شهر، ثم فتح(2/72)
2 لله عليه، وكان عبد الله بن سعد على ميمنة عمرو منذ توجه من قيسارية إلى أن فرغ من حربه، وكان بالإسكندرية أسقف للقبط يقال له: أبو ميامين، فلما بلغه قدوم عمرو إلى مصر كتب إلى القبط يعلمهم أنه لا يكون للروم دولة، وإنّ ملكهم قد انقطع، ويأمرهم بتلقي عمرو.
فيقال: إنّ القبط الذين كانوا بالفرما كانوا يومئذ لعمرو أعوانا، ثم توجه عمرو لا يدافع إلا بالأمر الخفيف، حتى نزل القواصر، فسمع رجل من لخم نفرا من القبط يقول بعضهم لبعض: ألا تعجبون من هؤلاء القوم يقدمون على جموع الروم، وإنما هم في قلة من الناس، فأجابه رجل منهم فقال: إن هؤلاء القوم لا يتوجهون إلى أحد إلّا ظهروا عليه، حتى يقتلوا خيرهم، وتقدّم عمرو لا يدافع إلا بالأمر الخفيف حتى أتى بلبيس فقاتلوه بها نحوا من الشهر حتى فتح الله عليه، ثم مضى لا يدافع إلا بالأمر الخفيف، حتى أتى أم دنين «1» ، فقاتلوه بها قتالا شديدا، وأبطأ عليه الفتح، فكتب إلى عمر يستمدّه فأمدّه بأربعة آلاف تمام ثمانية آلاف، وقيل: بل أمدّه باثني عشر ألفا، فوصلوا إليه أرسالا يتبع بعضهم بعضا.
فكان فيهم أربعة آلاف عليهم أربعة: الزبير بن العوّام، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد. وقيل: إنّ الرابع: خارجة بن حذافة دون مسلمة، ثم أحاط المسلمون بالحصن، وأميره يومئذ المندقور الذي يقال له: الأعيرج من قبل المقوقس بن قرقت اليونانيّ، وكان المقوقس ينزل الإسكندرية وهو في سلطان هرقل غير أنه كان حاضرا لحصن حين حاصره المسلمون، فقاتل عمرو بن العاص من بالحصن، وجاء رجل إلى عمرو فقال: اندب معي خيلا حتى آتي من دياراتهم عند القتال، فأخرج معه خمسمائة فارس عليهم: خارجة بن حذافة في قول، فساروا من وراء الجبل حتى دخلوا مغار بني وائل قبل الصبح، وكانت الروم قد خندقوا خندقا، وجعلوا له أبوابا، وبنوا في أفنيتها حسك الحديد، فالتقى القوم حين أصبحوا، وخرج خارجة من ورائهم، فانهزموا حتى دخلوا الحصن، وكانوا قد خندقوا حوله، فنزل عمرو على الحصن، وقاتلهم قتالا شديدا يصبحهم ويمسيهم، وقيل: إنه لما أبطأ الفتح على عمرو كتب إلى عمر بن الخطاب يستمدّه، ويعلمه بذلك، فأمدّه بأربعة آلاف رجل على كل ألف رجل منهم مقام الألف الزبير بن العوّام، والمقداد بن عمرو، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد، وقيل: بل خارجة بن حذافة لا يعدّون مسلمة. وقال عمر: إعلم أنّ معك اثني عشر ألفا، ولا تغلب اثنا عشر ألفا من قلة.
وقيل: قدم الزبير في اثني عشر ألفا، وإن عمرا لما قدم من الشام كان في عدّة قليلة،(2/73)
فكان يفرّق أصحابه ليرى العدوّ أنهم أكثر مما هم، فلما انتهى إلى الخندق نادوه أن قد رأينا ما صنعت، وإنما معك من أصحابك كذا وكذا، فلم يخطئوا برجل واحد، فأقام عمرو على ذلك أياما يغدو في السحر، فيصف أصحابه على أفواه الخندق عليهم السلاح، فبينا هو على ذلك إذ جاءه خبر الزبير بن العوام، أنه قدم في اثني عشر ألفا، فتلقاه عمرو، ثم أقبلا يسيران، ثم لم يلبث الزبير أن ركب، ثم طاف بالخندق، ثم فرّق الرجال حول الخندق، وألح عمرو على القصر، ووضع عليه المنجنيق، ودخل عمرو إلى صاحب الحصن، فتناظرا في شيء مما هم فيه، فقال عمرو: أخرج وأستشير أصحابي، وقد كان صاحب الحصن أوصى الذي على الباب إذا مرّ به عمرو أن يلقي عليه صخرة فيقتله، فمرّ عمرو، وهو يريد الخروج برجل من العرب، فقال له: قد دخلت، فانظر كيف تخرج؟ فرجع عمرو إلى صاحب الحصن، فقال له: إني أريد أن آتيك بنفر من أصحابي حتى يسمعوا منك مثل الذي سمعت، فقال العلج في نفسه: قتل جماعة أحب إليّ من قتل واحد.
وأرسل إلى الذي كان أمره بما أمره به من قتل عمرو أن لا يتعرّض له، رجاء أن يأتيه بأصحابه، فيقتلهم، فخرج عمرو وعبادة بن الصامت في ناحية يصلي وفرسه عنده، فرآه قوم من الرّوم، فخرجوا إليه، وعليهم حلية وبزة، فلما دنوا منه سلّم من صلاته، ووثب على فرسه، ثم حمل عليهم، فلما رأوه ولّوا راجعين فأتبعهم، فجعلوا يلقون مناطقهم ومتاعهم، ليشغلوه بذلك عن طلبهم، وهو لا يلتفت إليه حتى دخلوا الحصن، ورمى عبادة من فوق الحصن بالحجارة، فرجع، ولم يتعرّض لشيء مما طرحوا من متاعهم حتى رجع إلى موضعه الذي كان به، فاستقبل الصلاة، وخرج الروم إلى متاعهم يجمعونه، فلما أبطأ الفتح على عمرو قال الزبير: إني أهب الله نفسي، أرجو أن يفتح الله بذلك على المسلمين، فوضع سلّما إلى جانب الحصن من ناحية سوق الحمام، ثم صعد، فأمرهم إذا سمعوا تكبيره أن يجيبوه جميعا، فما شعروا إلّا والزبير على رأس الحسن يكبر، ومعه السيف، وتحامل الناس على السلم، حتى نهاهم عمرو خوفا من أن ينكسر، وكبر الزبير، فكبرت الناس معه، وأجابهم المسلمون من خارج، فلم يشك أهل الحصن أن العرب قد اقتحموا جميعا، فهربوا، وعمد الزبير وأصحابه إلى باب الحصن، ففتحوه، واقتحم المسلمون الحصن، فخاف المقوقس على نفسه، ومن معه.
فحينئذ سأل عمرو بن العاص الصلح، ودعاه إليه على أن يفرض للعرب على القبط دينارين على كل رجل منهم، فأجابه عمرو إلى ذلك وكان مكثهم على باب القصر حتى فتحوه سبعة أشهر، قال: وقد سمعت في فتح القصر وجها آخر، هو أنّ المسلمين لما حصروا باب اليون كان به جماعة من الروم، وأكابر القبط ورؤسائهم، وعليهم المقوقس، فقاتلوهم شهرا، فلما رأى القوم الجدّ من العرب على فتحه والحرص، ورأوا من صبرهم على القتال، ورغبتهم فيه خافوا أن يظهروا عليهم، فتنحى المقوقس وجماعة من أكابر(2/74)
القبط، وخرجوا من باب القصر القبليّ، ودونهم جماعة يقاتلون العرب، فلحقوا بالجزيرة موضع الصناعة، وأمروا بقطع الجسر، وذلك في جري النيل.
ويقال: إنّ الأعيرج تخلف في الحصن بعد المقوقس، وقيل: خرج معهم، فلما خاف فتح الحصن ركب هو وأهل القوّة والشرف، وكانت سفنهم ملصقة بالحصن، ثم لحقوا بالمقوقس بالجزيرة، فأرسل المقوقس إلى عمرو: إنكم قوم قد ولجتم في بلادنا، وألححتم على قتالنا وطال مقامكم في أرضنا، وإنما أنتم عصبة يسيرة، وقد أظلتكم الروم، وجهزوا إليكم، ومعهم من العدة والسلاح، وقد أحاط بكم هذا النيل، وإنما أنتم أسارى في أيدينا، فابعثوا إلينا رجالا منكم نسمع من كلامهم، فلعله أن يأتي الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبون ونحب، وينقطع عنا وعنكم القتال قبل أن تغشاكم جموع الروم، فلا ينفعنا الكلام، ولا نقدر عليه، ولعلكم أن تندموا إن كان الأمر مخالفا لطلبتكم، ورجائكم فابعثوا إلينا رجالا من أصحابكم نعاملهم على ما نرضي نحن وهم به من شيء.
فلما أتت عمرو بن العاص رسل المقوقس، حبسهم عنده يومين وليلتين، حتى خاف عليهم المقوقس، فقال لأصحابه: أترون أنهم يقتلون الرسل، ويستحلون ذلك في دينهم؟
وإنما أراد عمرو بذلك أن يروا حال المسلمين فردّ عليهم عمرو مع رسله، أنه ليس بيني وبينكم إلّا إحدى ثلاث خصال: إما أن دخلتم في الإسلام، فكنتم إخواننا، وكان لكم ما لنا، وإن أبيتم فأعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وإما أن جاهدناكم بالصبر والقتال حتى يحكم الله بيننا وبينكم، وهو خير الحاكمين، فلما جاءت رسل المقوقس إليه، قال:
كيف رأيتم هؤلاء؟ قالوا: رأينا قوما الموت أحب إلى أحدهم من الحياة، والتواضع أحب إلى أحدهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة، ولا نهمة، إنما جلوسهم على التراب، وأكلهم على ركبهم، وأميرهم كواحد منهم ما يعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السيد منهم من العبد، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها منهم أحد يغسلون أطرافهم بالماء، ويخشعون في صلاتهم، فقال عند ذلك المقوقس: والذي يحلف به لو أنّ هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها، وما يقوى على قتال هؤلاء أحد، ولئن لم نغتنم صلحهم اليوم، وهم محصورون بهذا النيل لم يجيبوا بعد اليوم إذ أمكنتهم الأرض، وقووا على الخروج من موضعهم، فردّ إليهم المقوقس رسله: ابعثوا إلينا رسلا منكم نعاملهم، ونتداعى نحن وهم إلى ما عساه أن يكون فيه صلاح لنا ولكم.
فبعث عمرو بن العاص: عشرة نفر، أحدهم: عبادة بن الصامت، وكان طوله عشرة أشبار، وأمره أن يكون متكلم القوم، ولا يجيبهم إلى شيء دعوه إليه إلّا إحدى هذه الثلاث خصال، فإن أمير المؤمنين قد تقدّم إليّ في ذلك، وأمرني أن لا أقبل شيئا سوى خصلة من هذه الثلاث خصال، وكان عبادة أسود، فلما ركبوا السفن إلى المقوقس، ودخلوا عليه تقدّم(2/75)
عبادة، فهابه المقوقس لسواده، وقال: نحوا عني هذا الأسود، وقدّموا غيره يكلمني، فقالوا جميعا: إنّ هذا الأسود أفضلنا رأيا وعلما، وهو سيدنا وخيرنا، والمقدّم علينا، وإنما نرجع جميعا إلى قوله ورأيه، وقد أمره الأمير دوننا بما أمره، وأمرنا أن لا نخالف رأيه وقوله، قال: وكيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم، وإنما ينبغي أن يكون هو دونكم؟ قالوا:
كلا إنه وإن كان أسود كما ترى فإنه من أفضلنا موضعا وأفضلنا سابقة وعقلا ورأيا، وليس ينكر السواد فينا، فقال المقوقس لعبادة: تقدّم يا أسود، وكلمني برفق، فإني أهاب سوادكم وإن اشتدّ كلامك عليّ ازددت لك هيبة، فتقدّم عليه عبادة، فقال:
قد سمعت مقالتك، وإنّ فيمن خلفت من أصحابي ألف رجل أسود كلهم أشدّ سوادا مني وأفظع منظرا، ولو رأيتهم لكنت أهيب لهم منك لي، وأنا قد ولّيت وأدبر شبابي، وإني مع ذلك بحمد الله، ما أهاب مائة رجل من عدوّي لو استقبلوني جميعا، وكذلك أصحابي، وذلك إنما رغبتنا وهمتنا الجهاد في الله، وإتباع رضوانه، وليس غزونا عدوّنا ممن حارب الله لرغبة في دنيا، ولا طلب للاستكثار منها إلا أنّ الله عز وجل، قد أحل لنا ذلك، وجعل ما غنمنا من ذلك حلالا، وما يبالي أحدنا إن كان له قنطار من ذهب أم كان لا يملك إلا درهما، لأنّ غاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها يسدّ بها جوعه لليلة «1» ونهاره وشملة يلتحفها، فإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه، وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه في طاعة الله، واقتصر على هذا الذي بيده، ويبلغه ما كان في الدنيا لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم، ورخاءها ليس برخاء، إنما النعيم والرخاء في الآخرة، وبذلك أمرنا الله، وأمرنا به نبينا، وعهد إلينا أن لا تكون همة أحدنا من الدنيا إلّا ما يمسك جوعته، ويستر عورته، تكون همته وشغله في رضوانه وجهاد عدوّه.
فلما سمع المقوقس ذلك منه، قال لمن حوله: هل سمعتم مثل كلام هذا الرجل قط؟
لقد هبت منظره، وإنّ قوله لأهيب عندي من منظره، إنّ هذا وأصحابه أخرجهم الله لخراب الأرض ما أظنّ ملكهم إلّا سيغلب على الأرض كلها، ثم أقبل المقوقس على عبادة بن الصامت، فقال له: أيها الرجل الصالح، قد سمعت مقالتك، وما ذكرت عنك وعن أصحابك، ولعمري ما بلغتم ما بلغتم إلّا بما ذكرت، وما ظهرتم على من ظهرتم عليه إلا لحبهم الدنيا، ورغبتهم فيها، وقد توجه إلينا لقتالكم من جمع الروم، ما لا يحصى عدده قوم معروفون بالنجدة والشدّة ما يبالي أحدهم من لقي، ولا من قاتل، وإنا لنعلم أنكم لن تقدروا عليهم، ولن تطيقوهم لضعفكم وقلتكم، وقد أقمتم بين أظهرنا أشهرا، وأنتم في ضيق وشدّة من معاشكم وحالكم، ونحن نرق عليكم لضعفكم وقلتكم، وقلة ما بين أيديكم، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين دينارين،(2/76)
ولأميركم مائة دينار، ولخليفتكم ألف دينار، فتقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم قبل أن يغشاكم ما لا قوام «1» لكم به. فقال عبادة بن الصامت: يا هذا لا تغرنّ نفسك، ولا أصحابك أمّا ما تخوّفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم، وأنا لا نقوى عليهم، فلعمري ما هذا بالذي تخوّفنا به، ولا بالذي يكسرنا عما نحن فيه، وإن كان ما قلتم حقا، فذلك والله أرغب ما يكون في قتالهم، وأشدّ لحرصنا عليهم لأن ذلك أعذر لنا عند ربنا إذا قدمنا عليه، إن قتلنا عن آخرنا كان أمكن لنا في رضوانه وجنته، وما شيء أقرّ لأعيننا، ولا أحب لنا من ذلك، وإنا منكم حينئذ لعلى إحدى الحسنيين: إما أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم، أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا، ولأنها أحب الخصلتين إلينا بعد الاجتهاد منا، وإن الله عز وجلّ قال لنا في كتابه: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ
[البقرة/ 249] .
وما منا رجل إلا وهو يدعو ربه صباحا ومساء أن يرزقه الشهادة، وأن لا يردّه إلى بلده، ولا إلى أرضه، ولا إلى أهله وولده، وليس لأحد منا همّ فيمات خلفه، وقد استودع كل واحد منا ربّه أهله وولده، وإنما همنا ما أمامنا، وأما قولك: إنا في ضيق وشدّة من معاشنا وحالنا، فنحن في أوسع السعة لو كانت الدنيا كلها لنا، ما أردنا منها لأنفسنا أكثر مما نحن عليه، فانظر الذي تريد فيه فبينه لنا، فليس بيننا وبينك خصلة نقبلها منك، ولا نجيبك إليها إلّا خصلة من ثلاث، فاختر أيتها شئت، ولا تطمع نفسك في الباطل، بذلك أمرني الأمير، وبها أمره أمير المؤمنين وهو عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قبل «2» إلينا، إما إن أجبتم «3» إلى الإسلام الذي هو الدين القيم الذي لا يقبل الله غيره، وهو دين أنبيائه ورسله وملائكته، أمرنا الله تعالى أن نقاتل من خالفه، ورغب عنه حتى يدخل فيه، فإن فعل كان له ما لنا، وعليه ما علينا، وكان أخانا في دين الله، فإن قبلت ذلك أنت وأصحابك، فقد سعدتم في الدنيا والآخرة، ورجعنا عن قتالكم، ولم نستحل أذاكم، ولا التعرّض لكم، وإن أبيتم إلّا الجزية، فأدّوا إلينا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وأن نعاملكم على شيء نرضى به نحن، وأنتم في كل عام أبدا ما بقينا، وبقيتم ونقاتل عنكم من ناواكم، وعرض لكم في شيء من أرضكم ودمائكم وأموالكم، ونقوم بذلك عنكم إذ كنتم في ذمتنا، وكان لكم به عهد علينا، وإن أبيتم فليس بيننا وبينكم إلّا المحاكمة بالسيف، حتى نموت من آخرنا أو نصيب ما نريد منكم، هذا ديننا الذي ندين الله تعالى به، ولا يجوز لنا فيما بيننا وبينه غيره، فانظروا لأنفسكم.
فقال المقوقس: هذا ما لا يكون أبدا ما تريدون إلّا أن تتخذونا عبيدا ما كانت الدنيا.(2/77)
فقال له عبادة: هو ذاك، فاختر لنفسك ما شئت. فقال المقوقس: أفلا تجيبونا إلى خصلة غير هذه الثلاث خصال؟ فرفع عبادة يديه إلى السماء فقال: لا ورب هذه السماء، ورب هذه الأرض، ورب كل شيء ما لكم عندنا خصلة غيرها، فاختاروا لأنفسكم.
فالتفت المقوقس عند ذلك إلى أصحابه فقال: قد فرغ القوم، فما ترون؟ فقالوا:
أو يرضى أحد بهذا الذل! أمّا ما أرادوا من دخولنا في دينهم، فهذا لا يكون أبدا أن نترك دين المسيح ابن مريم، وندخل في دين غيره لا نعرفه، وأمّا ما أرادوا أن يسبونا ويجعلونا عبيدا، فالموت أيسر من ذلك لو رضوا منا أن نضعف لهم ما أعطيناهم مرارا كان أهون علينا.
فقال المقوقس لعبادة: قد أبى القوم، فما ترى فراجع صاحبك على أن نعطيكم في مرّتكم هذه، ما تمنيتم وتنصرفون، فقال عبادة وأصحابه: لا، فقال المقوقس عند ذلك:
أطيعوني وأجيبوا القوم إلى خصلة من هذه الثلاث، فو الله ما لكم بهم طاقة، ولئن لم تجيبوا إليها طائعين لتجيبنهم إلى ما هو أعظم كارهين، فقالوا: وأيّ خصلة تجيبهم إليها؟ قال: إذا أخبركم، أمّا دخولكم في غير دينكم فلا آمركم به، وأمّا قتالهم فأنا أعلم أنكم لن تقووا عليهم، ولن تصبروا صبرهم، ولا بدّ من الثالثة، قالوا: فنكون لهم عبيدا أبدا؟ قال: نعم تكونون عبيدا مسلطين في بلادكم آمنين على أنفسكم وأموالكم وذراريكم خير لكم من أن تموتوا من آخركم، وتكونوا عبيدا تباعوا، وتمزقوا في البلاد مستعبدين أبدا أنتم، وأهليكم وذراريكم، قالوا: فالموت أهون علينا، وأمروا بقطع الجسر من الفسطاط، وبالجزيرة وبالقصر من جمع القبط والروم كثير.
فألح المسلمون عند ذلك بالقتال على من بالقصر حتى ظفروا بهم، وأمكن الله منهم، فقتل منهم خلق كثير، وأسر من أسر وانجرّت السفن كلها إلى الجزيرة، وصار المسلمون يراقبونهم، وقد أحدق بهم الماء من كل وجه لا يقدرون على أن ينفذوا نحو الصعيد، ولا إلى غير ذلك من المدن والقرى، والمقوقس يقول لأصحابه: ألم أعلمكم «1» وأخافه عليكم! ما تنتظرون! فو الله لتجيبنهم إلى ما أرادوا طوعا أو لتجيبنهم إلى ما هو أعظم منه كرها، فأطيعوني من قبل أن تندموا، فلما رأوا منهم ما رأوا، وقال لهم المقوقس ما قال، أذعنوا بالجزية ورضوا بذلك على صلح يكون بينهم يعرفونه.
وأرسل المقوقس إلى عمرو بن العاص: إني لم أزل حريصا على إجابتكم إلى خصلة من تلك الخصال التي أرسلت إليّ بها، فأبى عليّ من حضرني من الروم والقبط، فلم يكن لي أن أفتات عليهم في أموالهم، وقد عرفوا نصحي لهم، وحبي صلاحهم، ورجعوا إلى قولي، فأعطني أمانا أجتمع أنا وأنت، أنا في نفر من أصحابي، وأنت في نفر من(2/78)
أصحابك، فإن استقام الأمر بيننا تمّ ذلك جميعا، وإن لم يتمّ رجعنا إلى ما كنا عليه.
فاستشار عمرو أصحابه في ذلك فقالوا: لا نجيبهم إلى شيء من الصلح ولا الجزية حتى يفتح الله علينا، وتصير الأرض كلها لنا فيئا وغنيمة، كما صار لنا القصر وما فيه، فقال عمرو: قد علمتم ما عهد إليّ أمير المؤمنين في عهده، فإن أجابوا إلى خصلة من الخصال الثلاث التي عهد إليّ فيها أجبتهم إليها، وقبلت منهم مع ما قد حال هذا الماء بيننا، وبين ما نريد من قتالهم فاجتمعوا على عهد بينهم، واصطلحوا على أن يفرض لهم على جميع من بمصر أعلاها وأسفلها من القبط ديناران ديناران عن كل نفس شريفهم ووضيعهم، ممن بلغ منهم الحلم ليس على الشيخ الفاني، ولا على الصغير الذي لم يبلغ الحلم، ولا على النساء شيء، وعلى أن للمسلمين عليهم لنزل بجماعتهم حيث نزلوا، ومن نزل عليه ضيف واحد من المسلمين أو أكثر من ذلك كانت لهم ضيافة ثلاثة أيام مفترضة عليهم، وأنّ لهم أرضهم وأموالهم لا تعرّض لهم في شيء منها، فشرط ذلك كله على القبط خاصة، وأحصوا عدد القبط يومئذ خاصة من بلغ منهم الجزية، وفرض عليهم الديناران، رفع ذلك عرفاؤهم بالإيمان المؤكدة، فكان جميع من أحصى يومئذ بمصر أعلاها وأسفلها من جميع القبط فيما أحصوا، وكتبوا ورفعوا أكثر من ستة آلاف ألف «1» نفس، فكانت فريضتهم يومئذ اثني عشر ألف ألف «2» دينار في كل سنة.
وقال ابن لهيعة عن يحيى بن ميمون الحضرميّ: لما فتح عمرو مصر صالح عن جميع من فيها من الرجال من القبط، ممن راهق الحلم إلى ما فوق ذلك ليس فيهم امرأة، ولا شيخ ولا صبيّ، فأحصوا بذلك على دينارين دينارين، فبلغت عدّتهم ثمانية آلاف ألف، قال: وشرط المقوقس للروم أن يخيروا، فمن أحب منهم أن يقيم على مثل هذا، أقام على ذلك لازما له مفترضا عليه ممن أقام بالإسكندرية، وما حولها من أرض مصر كلها، ومن أراد الخروج منها إلى أرض الروم خرج، وعلى أن للمقوقس الخيار في الروم خاصة، حتى يكتب إلى ملك الروم، ويعلمه ما فعل، فإن قبل ذلك، ورضيه جاز عليهم، وإلا كانوا جميعا على ما كانوا عليه، وكتبوا به كتابا، وكتب المقوقس إلى ملك الروم كتابا يعلمه بالأمر كله.
فكتب إليه ملك الروم: يقبح رأيه، ويعجزه ويردّ عليه ما فعل، ويقول في كتابه: إنما أتاك من العرب اثنا عشر ألفا، وبمصر من بها من كثرة عدد القبط ما لا يحصى، فإن كان القبط كرهوا القتال، وأحبوا أداء الجزية إلى العرب، واختاروهم علينا، فإن عندكم بمصر من الروم وبالإسكندرية، ومن معك أكثر من مائة ألف معهم العدّة والقوّة والعرب وحالهم،(2/79)
وضعفهم على ما قد رأيت، فعجزت عن قتالهم، ورضيت أن تكون أنت ومن معك من الروم في حال القبط أذلاء فقاتلهم أنت ومن معك من الروم، حتى تموت أو تظهر عليهم، فإنهم فيكم على قدر كثرتكم، وقوّتكم وعلى قدر قلتهم، وضعفهم كاكلة، ناهضهم القتال، ولا يكن لك رأي غير ذلك، وكتب ملك الروم بمثل ذلك كتابا إلى جماعة الروم، فقال المقوقس لما أتاه كتاب ملك الروم: والله أعلم إنهم على قلتهم وضعفهم أقوى وأشدّ منا على قوّتنا، وكثرتنا إن الرجل الواحد منهم ليعدل مائة رجل منا، وذلك أنهم قوم الموت أحب إلى أحدهم من الحياة يقاتل الرجل منهم، وهو مستقبل يتمنى أن لا يرجع إلى أهله ولا بلده، ولا ولده ويرون أن لهم أجرا عظيما فيمن قتلوه منا، ويقولون أنهم إن قتلوا دخلوا الجنة، وليس لهم رغبة في الدنيا، ولا لذة إلّا قدر بلغة العيش من الطعام، واللباس، ونحن قوم نكره الموت، ونحب الحياة ولذتها، فكيف نستقيم نحن وهؤلاء؟ وكيف صبرنا معهم، واعلموا معشر الروم، والله إني لا أخرج مما دخلت فيه، ولا صالحت العرب عليه، وإني لأعلم أنكم سترجعون غدا إلى قولي ورأيي وتتمنون أن لو كنتم أطعتموني، وذلك أني قد عاينت ورأيت، وعرفت ما لم يعاين الملك، ولم يره، ولم يعرفه أما يرضى أحدكم أن يكون آمنا في دهره على نفسه، وماله وولده بدينارين في السنة.
ثم أقبل المقوقس إلى عمرو، فقال له: إنّ الملك قد كره ما فعلت، وعجّزني وكتب إليّ وإلى جماعة الروم: أن لا نرضى بمصالحتك، وأمرهم بقتالك حتى يظفروا بك أو تظفر بهم، ولم أكن لأخرج عما دخلت فيه، وعاقدتك عليه، وإنما سلطاني على نفسي، ومن أطاعني وقد تمّ صلح القبط فيما بينك وبينهم، ولم يأت من قبلهم نقض، وأنا متمّ لك على نفسي، والقبط متمون لك على الصلح الذي صالحتهم عليه وعاقدتهم، وأمّا الروم فأنا منهم بريء، وأنا أطلب إليك أن تعطيني ثلاث خصال، لا تنقض بالقبط، وأدخلني معهم، وألزمني ما لزمهم، وقد اجتمعت كلمتي وكلمتهم على ما عاقدتك عليه، فهم متمون لك على ما تحب، وأمّا الثانية إن سألك الروم بعد اليوم أن تصالحهم، فلا تصالحهم حتى تجعلهم فيئا وعبيدا، فإنهم أهل ذلك لأني نصحتهم فاستغشوني، ونظرت لهم، فاتهموني وأما الثالثة: أطلب إليك إن أنا مت أن تأمرهم أن يدفنوني بجسر الإسكندرية، فأنعم له عمرو بذلك، وأجابه إلى ما طلب على أن يضمنوا له الجسرين جميعا، ويقيموا لهم الأنزال والضيافة، والأسواق والجسور، ما بين الفسطاط إلى الإسكندرية، ففعلوا.
وصارت لهم القبط أعوانا كما جاء في الحديث. وقال ابن وهب في حديثه عن عبد الرحمن بن شريح: فسار عمرو بمن معه حتى نزل على الحصن، فحاصرهم حتى سألوه أن يسير منهم بضعة عشر أهل بيت، ويفتحوا له الحصن، ففعل ذلك ففرض عليهم عمرو لكل رجل من أصحابه دينارا وجبة وبرنسا وعمامة وخفين، وسألوه: أن يأذن لهم أن يهيئوا له ولأصحابه صنيعا، ففعل، وأمر عمرو أصحابه فتهيئوا ولبسوا البرود، ثم أقبلوا فلما فرغوا(2/80)
من طعامهم سألهم عمرو: كم أنفقتم؟ قالوا: عشرين ألف دينار، قال عمرو: لا حاجة لنا بصنيعكم بعد اليوم أدّوا إلينا عشرين ألف دينار، فجاءه النفر من القبط، فاستأذنوه إلى قراهم وأهليهم، فقال لهم عمرو: كيف رأيتم أمرنا؟ قالوا: لم نر إلّا حسنا، فقال الرجل الذي قال في المرّة الأولى: إنكم لن تزالوا تظهرون على كل من لقيتم حتى تقتلوا خيركم رجلا، فغضب عمرو، وأمر به فطلب إليه أصحابه، وأخبروه أنه لا يدري ما يقول، حتى خلصوه.
فلما بلغ عمرا قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أرسل في طلب ذلك القبطيّ، فوجدوه قد هلك، فعجب عمرو من قوله ويقال: إنّ عمرو بن العاص قال: فلما طعن عمر بن الخطاب، قلت هو ما قال القبطيّ، فلما حدّثت أنه إنما قتله أبو لؤلؤة رجل نصرانيّ قلت: لم يعن هذا إنما عنى من قتله المسلمون، فلما قتل عثمان عرفت أن ما قال الرجل حق، فلما فرغ القبط من صنيعهم، أمر عمرو بن العاص بطعام، فصنع لهم وأمرهم أن يحضروا لذلك، فصنع لهم الثريد والعراق، وأمر أصحابه بلباس الأكسية، واشتمال الصمّاء والقعود على الركب، فلما حضرت الروم، وضعوا كراسي الديباج، فجلسوا عليها، وجلست العرب إلى جوانبهم، فجعل الرجل من العرب يلتقم اللقمة العظيمة من الثريد، وينهش من ذلك اللحم، فيتطاير على من إلى جنبه من الروم، فبشعت الروم ذلك، وقالت:
أين أولئك الذين كانوا أتونا قبل؟ فقيل لهم: أولئك أصحاب المشورة، وهؤلاء أصحاب الحرب.
وقال الكنديّ: وذكر يزيد بن أبي حبيب: أنّ عدد الجيش الذين كانوا مع عمرو بن العاص خمسة عشر ألفا وخمسمائة، وذكر عبد الرحمن بن سعيد بن مقلاص: أنّ الذي جرت سهمانهم في الحصن من المسلمين اثنا عشر ألفا وثلثمائة بعد من أصيب منهم في الحصار بالقتل والموت، ويقال: إنّ الذين قتلوا في هذا الحصار من المسلمين دفنوا في أصل الحصن.
وذكر القضاعيّ: أنّ مصر فتحت يوم الجمعة مستهلّ المحرّم سنة عشرين، وقيل:
فتحت سنة ست عشرة، وهو قول الواقديّ، وقيل: فتحت والإسكندرية سنة خمس وعشرين، والأكثر على أنها فتحت قبل عام الرّمادة، وكانت الرّمادة في آخر سنة سبع عشرة، وأول ثمان عشرة.
ذكر ما قيل في مصر هل فتحت بصلح أو عنوة؟
وقد اختلف في فتح مصر، فقال قوم: فتحت صلحا، وقال آخرون: إنما فتحت عنوة، فأمّا الذين قالوا كان فتح مصر بصلح، فإنّ حسين بن شفي قال: لما فتح عمرو بن(2/81)
العاص الإسكندرية بقي من الأسارى بها ممن بلغ الخراج، وأحصي يومئذ ستمائة ألف سوى النساء والصبيان، فاختلف الناس على عمرو في قسمهم، فكان أكثر المسلمين يريد قسمها، فقال عمرو: لا أقدر على قسمها، حتى أكتب إلى أمير المؤمنين، فكتب إليه يعلمه بفتحها وشأنها، وأنّ المسلمين طلبوا قسمها، فكتب إليه عمر رضي الله عنه: لا تقسمها، وذرهم يكون خراجهم فيئا للمسلمين، وقوّة لهم على جهاد عدوّهم، فأقرّها عمرو، وأحصى أهلها، وفرض عليهم الخراج، فكانت مصر كلها صلحا بفريضة: دينارين دينارين، إلّا أنه يلزم بقدر ما يتوسع فيه من الأرض والزرع إلّا الإسكندرية فإنهم كانوا يؤدّون الخراج والجزية على قدر ما يرى من وليهم، لأنّ الإسكندرية فتحت عنوة بغير عهد، ولا عقد، ولم يكن لهم صلح ولا ذمّة.
وقال الليث عن يزيد بن أبي حبيب: مصر كلها صلح إلّا الإسكندرية فإنها فتحت عنوة.
وقال عبد الله بن أبي جعفر: حدّثني رجل ممن أدرك عمرو بن العاص قال: للقبط عهد عند فلان، وعهد عن فلان، فسمي ثلاثة نفر، وفي رواية: إنّ عهد أهل مصر كان عند كبرائهم، وفي رواية: سألت شيخا من القدماء عن فتح مصر، قلت له: فإن ناسا يذكرون أنه لم يكن لهم عهد، فقال: ما يبالي أن لا يصلي من قال: إنه ليس لهم عهد، فقلت: فهل كان لهم كتاب؟ فقال: نعم، كتب ثلاثة: كتاب عند ظلما صاحب إخنا، وكتاب عند قرمان صاحب رشيد، وكتاب عند بحنس صاحب البرلس؛ قلت: كيف كان صلحهم؟ قال:
دينارين على كل إنسان جزية، وأرزاق المسلمين، قلت: فتعلم ما كان من الشروط؟ قال:
نعم، ستة شروط: لا يخرجون من ديارهم، ولا تنزع نساؤهم، ولا كفورهم، ولا أراضيهم، ولا يزاد عليهم.
وقال يزيد بن أبي حبيب عن أبي جمعة مولى عقبة قال: كتب عقبة بن عامر إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه: يسأله أرضا يسترفق بها عند قرية عقبة، فكتب له معاوية: بألف ذراع في ألف ذراع، فقال له مولى له كان عنده: انظر أصلحك الله أرضا صالحة، فقال له عقبة: ليس لنا ذلك إنّ في عهدهم شروطا ستة لا يؤخذ من أنفسهم شيء، ولا من نسائهم، ولا من أولادهم، ولا يزاد عليهم، ويدفع عنهم موضع الخوف من عدوّهم، وأنا شاهد لهم بذلك.
وعن يزيد بن أبي حبيب عن عوف بن حطان: أنه كان لقريات من مصر منهنّ:
أم دنين وبلهيت عهد، وإنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما سمع بذلك، كتب إلى عمرو يأمره أن يخبرهم، فإن دخلوا في الإسلام فذاك، وإن كرهوا فارددهم إلى قراهم، وقال يحيى بن أيوب وخالد بن حميد: ففتح الله أرض مصر كلها بصلح غير الإسكندرية، وثلاث(2/82)
قريات ظاهرت الروم على المسلمين سلطيس «1» ومصيل «2» وبلهيت «3» ، فإنه كان للروم جمع، فظاهروا الروم على المسلمين، فلما ظهر عليها المسلمون استحلوها، وقالوا: هؤلاء لنا فيء مع الإسكندرية، فكتب عمرو بن العاص بذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكتب إليه عمر: أن يجعل الإسكندرية، وهؤلاء الثلاث قريات ذمّة للمسلمين، ويضربون عليهم الخراج، ويكون خراجهم، وما صالح عليه القبط كله قوّة للمسلمين لا يجعلون فيئا، ولا عبيدا، ففعلوا ذلك إلى اليوم.
وقال آخرون: بل فتحت مصر عنوة بلا عهد، ولا عقد. قال سفيان بن وهب الخولانيّ: لما افتتحنا مصر بغير عهد، ولا عقد، قام الزبير بن العوّام فقال: اقسمها يا عمرو بن العاص، فقال عمرو: والله لا أقسمها، فقال الزبير: والله لنقسمنها، كما قسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خيبر، فقال عمرو: والله لا أقسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين، فكتب إلى عمر، فكتب إليه عمر: أقرّها حتى يغزو منها حبل الحبلة، وصولح الزبير على شيء أرضي به، وقال ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة: إنّ مصر فتحت عنوة، وعن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم قال: سمعت أشياخنا يقولون: إنّ مصر فتحت عنوة بغير عهد، ولا عقد منهم، أبي يحدّثنا عن أبيه، وكان فيمن شهد فتح مصر، وعن أبي الأسود عن عروة: إنّ مصر فتحت عنوة، وعن عمرو بن العاص أنه قال: لقد قعدت مقعدي هذا، وما لأحد من قبط مصر عليّ عهد، ولا عقد إلّا أهل أنطابلس «4» كان لهم عهد يوفي به إن شئت قبلت، وإن شئت خمست، وإن شئت بعت. وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن: أنّ عمرو بن العاص فتح مصر بغير عهد، ولا عقد، وأنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه حبس درها وضرعها أن يخرج منه شيء نظرا للإسلام وأهله.
وعن يزيد بن أسلم قال: كان تابوت لعمر بن الخطاب فيه كل عهد كان بينه وبين أحد ممن عاهده، فلم يوجد فيه لأهل مصر عهد، فمن أسلم منهم أقامه ومن أقام منهم قوّمه، وكتب حيان بن شريح إلى عمر بن عبد العزيز يسأله أن يجعل جزية موتي القبط على أحيائهم، فسأل عمر عراك بن مالك، فقال عراك: ما سمعت لهم بعهد ولا عقد، وإنما أخذوا عنوة بمنزلة العبيد، فكتب عمر إلى حيّان: أن يجعل جزية موتي القبط على أحيائهم، وقال يحيى بن عبد الله بن بكير: خرج أبو سلمة بن عبد الرحمن يريد الإسكندرية في سفينة، فاحتاج إلى رجل يجذف، فسخر رجلا من القبط، فكلم في(2/83)
ذلك، فقال: إنما هم بمنزلة العبيد إن احتجنا إليهم.
وقال ابن لهيعة عن الصلت بن أبي عاصم: إنه قرأ كتاب عمر بن عبد العزيز إلى حيان بن شريح: أنّ مصر فتحت عنوة بغير عهد ولا عقد.
وعن عبيد الله بن أبي جعفر: أن كاتب حيان حدّثه: أنه احتيج إلى خشب لصناعة الجزيرة، فكتب حيان إلى عمر بن عبد العزيز يذكر ذلك له، وأنه وجد خشبا عند بعض أهل الذمّة، وأنه كره أن يأخذها منهم حتى يعلمه، فكتب إليه عمر: خذها منهم بقيمة عدل، فإني لم أجد لأهل مصر عهدا أفي لهم به، وقال عمر بن عبد العزيز لسالم: أنت تقول ليس لأهل مصر عهد؟ قال: نعم. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه: أنّ عمرو بن العاص كتب إلى عمر بن الخطاب في رهبان يترهبون بمصر، فيموت أحدهم، وليس له وارث، فكتب إليه عمر: أن من كان منهم له عقب، فادفع ميراثه إلى عقبه، فإن لم يكن له عقب، فاجعل ماله في بيت مال المسلمين، فإن ولاءه للمسلمين.
وقال ابن شهاب: كان فتح مصر بعضها بعهد وذمّة، وبعضها عنوة، فجعلها عمر بن الخطاب رضي الله عنه جميعها ذمّة، وحملهم على ذلك، فمضى ذلك فيهم إلى اليوم، واشترى الليث بن سعد شيئا من أرض مصر لأنه كان يحدّث عن يزيد بن أبي حبيب: أن مصر صلح، وكان مالك بن أنس ينكر على الليث ذلك، وأنكر عليه أيضا عبد الله بن لهيعة، ونافع بن يزيد لأنّ مصر عندهم كانت عنوة.
ذكر من شهد فتح مصر من الصحابة رضي الله عنهم
قال ابن عبد الحكم: وكان من حفظ من الذين شهدوا فتح مصر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قريش وغيرهم، وممن لم يكن له برسول الله صلّى الله عليه وسلّم صحبة الزبير بن العوّام، وسعد بن أبي وقاص، وعمرو بن العاص، وكان أمير القوم، وعبد الله بن عمرو، وخارجة ابن حذاقة العدويّ، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وقيس بن أبي العاص السهميّ، والمقداد بن الأسود، وعبد الله بن أبي سعد بن أبي سرح العامري، ونافع بن عبد قيس الفهريّ، ويقال: بل هو عقبة بن نافع، وأبو عبد الرحمن يزيد بن أنيس الفهريّ، وأبو رافع مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وابن عبدة، وابن عبد الرحمن وربيعة ابنا شرحبيل بن حسنة، ووردان مولى عمرو بن العاص، وكان حامل لواء عمرو بن العاص وقد اختلف في سعد بن أبي وقاص، فقيل: إنما دخلها بعد الفتح، وشهد الفتح من الأنصار عبادة بن الصامت، وقد شهد بدرا وبيعة العقبة، ومحمد بن مسلمة الأنصاريّ، وقد شهد بدرا وهو الذي بعثه عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى مصر، فقاسم عمرو بن العاص ماله، وهو أحد من كان صعد الحصن مع الزبير بن العوّام، ومسلمة بن مخلد الأنصاريّ، يقال له: صحبة، وأبو أيوب خالد بن زيد الأنصاريّ، وأبو الدرداء عويمر بن عامر، وقيل: عويمر بن زيد، ومن أحياء(2/84)
القبائل أبو نصرة جميل بن نصرة الغفاريّ، وأبو ذر جندب بن جنادة الغفاريّ، وشهد الفتح مع عمرو بن العاص: هبيب بن معقل، وإليه ينسب وادي هبيب الذي بالمغرب، وعبد الله ابن الحارث ابن جزء الزبيديّ، وكعب بن ضبة العبسيّ، ويقال: كعب بن يسار بن ضبة، وعقبة بن عامر الجهنيّ، وهو كان رسول عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص حين كتب إليه يأمره أن يرجع إلى لم يكن دخل أرض مصر، وأبو زمعة البلويّ وبرح بن حسكل «1» ويقال: برح بن عسكر.
وشهد فتح مصر واختط بها، وجنادة بن أبي أمية الأزديّ، وسفيان بن وهب الخولانيّ، وله صحبة، ومعاوية بن خديج الكنديّ، وهو كان رسول عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب بفتح الإسكندرية، وقد اختلف فيه، فقال قوم: له صحبة، وقال آخرون:
ليست له صحبة، وعامر مولى حمل الذي يقال له: عامر حمل شهد الفتح، وهو مملوك، وعمار بن يسار، ولكن دخل بعد الفتح في أيام عثمان وجهه إليها في بعض أموره. وقال ابن عبد الحكم: منهم من اختط بالبلد، فذكرنا خطته، ومنهم من لم يذكر له خطة، قال:
فاختط عمرو بن العاص داره التي عند باب المسجد بينهما الطريق، وداره الأخرى اللاصقة إلى جنبها، وفيها دفن عبد الله بن عمرو، فيما زعم بعض مشايخ البلد لحدث كان يومئذ في البلد، والحمام الذي يقال له حمام الفار، وإنما قيل له: حمام الفار لأنّ حمامات الروم كانت ديماسات كبارا، فلما نبي هذا الحمام، ورأوا صغره قالوا: من يدخل هذا؟ هذا حمام الفار.
ذكر السبب في تسمية مدينة مصر بالفسطاط
قال ابن عبد الحكم عن يزد بن أبي حبيب: أنّ عمرو بن العاص لما فتح الإسكندرية، ورأى بيوتها، وبناءها مفروغا منها، همّ أن يسكنها، وقال: مساكن قد كفيناها، فكتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستأذنه في ذلك، فسأل عمر الرسول: هل يحول بيني وبين المسلمين ماء؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، إذا جرى النيل، فكتب عمر إلى عمرو: إني لا أحب أن تنزل بالمسلمين منزلا يحول الماء بيني وبينهم في شتاء ولا صيف، فتحوّل عمرو من الإسكندرية إلى الفسطاط، قال: وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى سعد بن أبي وقاص، وهو نازل بمدائن كسرى، وإلى عامله بالبصرة، وإلى عمرو بن العاص، وهو نازل بالإسكندرية: أن لا تجعلوا بيني وبينكم ماء متى أردت أن أركب إليكم راحلتي حتى أقدم عليكم قدمت، فتحوّل سعد من مدائن كسرى إلى الكوفة، وتحوّل صاحب البصرة من المكان الذي كان فيه، فنزل البصرة، وتحوّل عمرو بن العاص من الإسكندرية إلى الفسطاط.(2/85)
قال: وإنما سميت الفسطاط لأنّ عمرو بن العاص لما أراد التوجه إلى الإسكندرية لقتال من بها من الروم، أمر بنزع فسطاطه، فإذا فيه يمام قد فرّخ، فقال عمرو: لقد تحرّم منا بمتحرّم، فأمر به فأقرّ كما هو، وأوصى به صاحب القصر، فلما قفل المسلمون من الإسكندرية قالوا: أين ننزل؟ قالوا: الفسطاط، لفسطاط عمرو الذي كان خلفه، وكان مضروبا في موضع الدار التي تعرف اليوم بدار الحصار عند دار عمرو الصغيرة.
قال الشريف محمد بن أسعد الجوّانيّ: كان فسطاط عمرو عند درب حمام شمول بخط الجامع، وقال ابن قتيبة في كتاب غريب الحديث في حديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:
«عليكم بالجماعة فإنّ يد الله على الفسطاط» يرويه سويد بن عبد العزيز عن النعمان بن المنذر عن مكحول عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
والفسطاط: المدينة، وكل مدينة: فسطاط، ولذلك قيل لمصر: فسطاط. وقال البكريّ: الفسطاط بضم أوّله وكسره وإسكان ثانيه: اسم لمصر، ويقال: فسطاط وبسطاط.
قال المطرّزي: وفصطاد، وفستاد، وبكسر أوائل جميعها، فهي عشر لغات. وقال ابن قتيبة:
كل مدينة فسطاط، وذكر حديث: عليكم بالجماعة، فإنّ يد الله على الفسطاط، وأخبرني أبو حاتم عن الأصمعيّ أنه قال: حدّثني رجل من بني تميم قال: قرأت في كتاب رجل من قريش: هذا ما اشترى فلان بن فلان من عجلان مولى زياد، اشترى منه خمسمائة جريب «1» حيال الفسطاط، يريد البصرة، ومنه قول الشعبيّ في الآبق إذا أخذ في الفسطاط عشرة، وإذا أخذ خارجا عن الفسطاط أربعون، وأراد أن يد الله على أهل الأمصار وأنّ من شذ عنهم، وفارقهم في الرأي فقد خرج عن يد الله، وفي ذلك آثار، والله أعلم.
ذكر الخطط التي كانت بمدينة الفسطاط
اعلم: أنّ الخطط التي كانت بمدينة فسطاط مصر، بمنزلة الحارات التي هي اليوم بالقاهرة، فقيل لتلك في مصر: خطة، وقيل لها في القاهرة: حارة.
قال القضاعيّ: ولما رجع عمرو من الإسكندرية، ونزل موضع فسطاطه، انضمت القبائل بعضها إلى بعض، وتنافسوا في المواضع، فولى عمرو على الخطط: معاوية بن خديج التجيبيّ، وشريك بن سميّ الغطيفيّ، وعمرو بن قحزم الخولانيّ، وحيويل بن ناشزة المغافريّ، وكانوا هم الذين أنزلوا الناس، وفصلوا بين القبائل، وذلك في سنة إحدى وعشرين.(2/86)
خطة أهل الراية: أهل الراية جماعة من قريش، والأنصار وخزاعة، وأسلم، وغفار، ومزينة، وأشجع، وجهينة، وثقيف، ودوس، وعبس بن بغيض، وحرش من بني كنانة، وليث بن بكر، والعتقاء منهم إلا أنّ منزل العتقاء في غير الراية، وإنما سموا أهل الراية، ونسبت الخطة إليهم لأنهم جماعة لم يكن لكل بطن منهم من العدد ما ينفرد بدعوة من الديوان، فكره كل بطن منهم أن يدعى باسم قبيلة غير قبيلته، فجعل لهم عمرو بن العاص راية، ولم ينسبها إلى أحد فقال: يكون موقفكم تحتها، فكانت لهم كالنسب الجامع، وكان ديوانهم عليها، وكان اجتماع هذه القبائل لما عقده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الولاية بينهم، وهذه الخطة محيطة بالجامع من جميع جوانبه، ابتدأوا من المصف الذي كانوا عليه في حصارهم الحصن، وهو باب الحصن الذي يقال له: باب الشمع، ثم مضوا بخطتهم إلى حمام الفار، وشرعوا بغربيها إلى النيل، فإذا بلغت إلى النحاسين، فالجانبان لأهل الراية إلى باب المسجد الجامع المعروف: بباب الوراقين، ثم يسلك على حمام شمول، وفي هذه الخطة زقاق القناديل إلى تربة عفان إلى سوق الحمام إلى باب القصر الذي بدأنا بذكره.
خطة مهرة: بن حيدان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة بن مالك بن حمير: وخطة مهرة هذه قبليّ خطة الراية، واختطت مهرة أيضا على سفح الجبل الذي يقال له: جبل يشكر مما يلي الخندق إلى شرقيّ العسكر إلى جنان بني مسكين، ومن جملة خطة مهرة الموضع الذي يعرف اليوم بمساطب الطباخ، واسمه حمد، ويقال: إنّ الخطة التي لهم قبليّ الراية كانت حوزا لهم يربطون فيها خيلهم إذا رجعوا إلى الجمعة، ثم انقطعوا إليها، وتركوا منازلهم بيشكر.
خطة تجيب: وتجيب هم بنو عديّ، وسعد ابني الأشرس بن شبيب بن السكن بن الأشرس بن كندة، فمن كان من ولد عديّ، وسعد يقال لهم: تجيب، وتجيب: أمّهم، وهذه الخطة تلي خطة مهرة، وفيها درب الممصوصة آخره حائط من الحصن الشرقيّ.
وخطط لخم في موضعين: فمنها خطة لخم بن عديّ بن مرّة بن أدد، ومن خالطها من جذام، فابتدأت لخم بخطتها من الذي انتهت إليه خطة الراية وأصعدت ذات الشمال، وفي هذه الخطة سوق بربر، وشارعه مختلط فيما بين لخم، والراية ولهم خطتان أخريان، إحداهما منسوبة إلى بني رية بن عمرو بن الحارث بن وائل بن راشدة من لخم، وأوّلها شرقيّ الكنيسة المعروفة: بمكائيل التي عند خليج بني وائل، وهذا الموضع اليوم وراقات يعمل فيها الورق بالقرب من باب القنطرة خارج مصر، والخطة الثانية: خطة راشدة بن أدب بن جزيلة من لخم، وهي متاخمة للخطة التي قبلها، وفي هذه الخطة جامع راشدة، وجنان كهمس بن معمر الذي عرف: بالمادرانيّ، ثم عرف بجنان الأمير تميم، وهو اليوم يقال له: المعشوق بجوار الآثار النبوية، ولهم مواضع مع اللفيف، وخطط أيضا بالحمراء.(2/87)
خطط اللفيف: إنما سموا بذلك لالتفات بعضهم ببعض، وسبب ذلك: أنّ عمرو بن العاص، لما فتح الإسكندرية أخبر أنّ مراكب الروم قد توجهت إلى الإسكندرية لقتال المسلمين، فبعث عمرو بعمرو بن جمالة الأزديّ الحجريّ ليأتيه بالخبر، فمضى وأسرعت هذه القبائل التي تدعى اللفيف، وتعاقدوا على اللحاق به، واستأذنوا عمرو بن العاص في ذلك، فأذن لهم وهم جمع كثير، فلما رآهم عمرو بن جمالة استكثرهم، وقال: تالله ما رأيت قوما قد سدّوا الأفق مثلكم، وإنكم كما قال الله تعالى: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً
[الإسراء/ 104] فبذلك سموا من يومئذ اللفيف، وسألوا عمرو بن العاص: أن يفرد لهم دعوة فامتنعت عشائرهم من ذلك، فقالوا لعمرو: فإنا نجتمع في المنزل حيث كنا، فأجابهم إلى ذلك، فكانوا مجتمعين في المنزل متفرّقين في الديوان إذا دعي كل بطن منهم، انضم إلى بني أبيه.
قال قتادة ومجاهد والضحاك بن مزاحم في قوله: جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً
[الإسراء/ 104] قال: جميعا، وكان عامتهم من الأزد من الحجر، ومن غسان، ومن شجاعة، والتف بهم نفر من جذام ولخم والزحاف، وتنوخ من قضاعة، فهم مجتمعون في المنزل متفرّقون في الديوان، وهذه الخطة أوّلها مما يلي الراية سالكا ذات الشمال إلى نقاشي البلاط، وفيها دار ابن عشرات إلى نحو من سوق وردان.
خطط أهل الظاهر: إنما سمي هذا المنزل بالظاهر، لأنّ القبائل التي نزلته كانت بالإسكندرية، ثم قفلت بعد قفول عمرو بن العاص، وبعد أن اختط الناس خططهم، فخاصمت إلى عمرو، فقال لهم معاوية بن خديج: وكان ممن يتولى الخطط يومئذ أرى لكم أن تظهروا على أهل هذه القبائل، فتتخذوا منزلا فسمي الظاهر بذلك، وكانت القبائل التي نزلت الظاهر العتقاء، وهم جماع من القبائل، كانوا يقطعون على أيام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فبعث إليهم، فأتى بهم أسرى، فأعتقهم، فقيل لهم: العتقاء، وديوانهم مع أهل الراية، وخطتهم بالظاهر متوسطة فيه، وكان فيهم طوائف من الأزد وفهم، وأوّل هذه الخطة من شرقيّ خطة لخم، وتتصل بموضع العسكر، ومن هذه الخطة سويقة العراقيين، وعرفت بذلك ونّ زيادا لما ولاه معاوية بن أبي سفيان البصرة، غرّب جماعة من الأزد إلى مصر، وبها مسلمة بن مخلد في سنة ثلاث وخمسين، فنزل منهم هنا نحو من مائة وثلاثين، فقيل لموضعهم من خطة الظاهر: سويقة العراقيين.
خطط غافق: هو غافق بن الحارث بن عك بن عدنان بن عبد الله بن الأزد، وهذه الخطة تلي خطة لخم إلى خطة الظاهر، بجوار درب الأعلام.
خطط الصدف: واسمه مالك بن سهل بن عمرو بن قيس بن حمير، ودعوتهم مع كندة.(2/88)
خطط الفارسيين: واستبدّ بخطة خولان من حضر فتح مصر من الفارسيين، وهم بقايا جند باذان عامل كسرى على اليمن قبل الإسلام، أسلموا بالشأم، ورغبوا في الجهاد، فنفروا مع عمرو بن العاص إلى مصر، فاختطوا بها، وأخذوا في سفح الجبل الذي يقال له: جبل باب البون، وهذا الجبل اليوم شرقيّ من وراء خطة جامع ابن طولون تعرف أرضه بالأرض الصفراء، وهي من جملة العسكر.
خطة مذحج: بالحاء قبل الجيم، وهو مالك بن مرّة بن أدد بن زيد بن كهلان.
خطة غطيف: بن مراد.
خطة وعلان: بن قرن بن ناجية بن مراد، وكلهم من مذحج، فاختطت وعلان من الزقاق الذي فيه الصنم المعروف بسرية فرعون، وهذا الزقاق أوّله باب السوق الكبير، واختطت أيضا بجولان، ثم انفردت وعلان بخططها مقابل المسجد المعروف: بالدينوريّ، وأسندت إلى خولان، وهذه الخطة اليوم: كيمان تطلّ على قبر القاضي بكار.
خطة يحصب: بن مالك بن أسلم بن زيد بن غوث، وهذه الخطة موضعها: كيمان، وهي تتصل بالشرف الذي يعرف اليوم: بالرصد المطلّ على راشدة.
خطة رعين: بن زيد بن سهل.
خطة ذي الكلاع: بن شرحبيل بن سعد من حمير.
خطة المغافر: بن يعفر بن مرّة بن أدد، وهذه الخطة من الرصد إلى قاية بن طولون، وهي القناطر التي تطلّ على عفصة، وتفصل بين القرافتين والقناطر للمغافر، ولهم إلى مصلى خولان، وإلى الكوم المشرف على المصلى.
خطة سبا وخطة الرحبة: بن زرعة بن كعب.
خطة السلف بن سعد: فيما بين الكوم المطلّ على القاضي بكار، وبين المغافر.
خطة بني وائل: بن زيد مناة بن أفصى بن إياس بن حرام بن جذام بن عديّ، وهي من سفح الشرف المعروف بالرصد إلى خطة الجولان.
خطة القبض: بالتحريك، بن مرثد، وهي بجانب خطة بني وائل إلى نحو بركة الحبش، قال: وكان سبب نزول بني وائل، والقبض ورية وراشدة والفارسيين هذه المواضع أنهم كانوا في طوالع عمرو بن العاص، فنزلوا في مقدّمة الناس، وحازوا هذه المواضع قبل الفتح.
خطط الحمراوات الثلاث: قال الكنديّ: وكانت الحمراء على ثلاثة: بنو نبه وروبيل(2/89)
والأزرق، وكانوا ممن سار مع عمرو بن العاص من الشام إلى مصر من عجم الشأم ممن كان رغب في الإسلام من قبل اليرموك، ومن أهل قيسارية وغيرهم.
قال القضاعيّ: وإنما قيل الحمراء لنزول الروم بها، وهط خطط بليّ بن عمرو بن الحاف بن قضاعة وفهم وعدوان، وبعض الأزد وهم ثراد، وبني بحر، وبني سلامان ويشكر بن لخم وهذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر وبني نبه، وبني الأزرق، وهم من الروم، وبني روبيل، وكان يهوديا، فأسلم. فأوّل ذلك الحمراء الدنيا خطة بليّ بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، ومنها خطة ثراد من الأزد، وخطة فهم بن عمرو بن قيس عيلان، ومنها خطة بني بحر بن سوادة من الأزد.
ومن ذلك الحمراء الوسطى: منها خطة بني نبه، وهم قوم من الروم حضر الفتح منهم مائة رجل، ومنها خطة هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر، ومنها خطة بني سلامان من الأزد، ومنها خطة عدوان.
ومن ذلك الحمراء القصوى، وهي خطة بني الأزرق، وكان روميا حضر الفتح منهم أربعمائة، وخطة بني روبيل، وكان يهوديا فأسلم، وحضر الفتح منهم ألف رجل، وخطة بني يشكر بن جزيلة بن لخم وكانت منازل يشكر مفرّقة في الجبل، فدثرت قديما، وعادت صحراء حتى جاءت المسودّة، يعني جيوش بني العباس، فعمروها، وهي الآن خراب.
وقال ابن المتوّج: الحمراوات ثلاث: أولى، ووسطى، وقصوى. فأمّا الأولى:
فتجمع جابر الأور، وعقبة العدّاسين، وسوق وردان، وخطة الزبير إلى نقاشي البلاط طولا وعرضا على قدر ذلك، وأمّا الوسطى: فمن درب نقاشي البلاط إلى درب معاني طولا وعرضا على قدره، وأمّا القصوى فمن درب معاني إلى القناطر الظاهرية يعني قناطر السباع، وهي حدّ ولاية مصر من القاهرة، وكانت هذه الحمراوات جلّ عمارة مصر في زمن الروم، فإذا الحمراء الأولى والوسطى هما الآن خراب، وموضعهما فيما بين سوق المعاريج، وحمام طن من شرقيهما إلى ما يقابل المراغة في الشرق، وأما الحمراء الدنيا فهي الآن تعرف بخط قناطر السباع، وبخط السبع سقايات، وبحكر الخليليّ، وحكر أقبغا والكوم، حيث الأسرى ومنها أيضا خط الكبش، وخط الجامع الطولونيّ والعسكر، ومنها حدرة ابن قميحة إلى حيث قنطرة السدّ، وبستان الطواشي، وما في شرقيه إلى مشهد الرأس المعروف بزين العابدين، وسيأتي لذلك مزيد بيان إن شاء الله تعالى عند ذكر العسكر، وكانت مدينة الفسطاط على قسمين هما: عمل فوق، وعمل أسفل.
فعمل فوق له طرفان غربيّ وشرقيّ، فالغربيّ من شاطىء النيل في الجهة القبلية، وأنت مار في الشرف المعروف اليوم بالرصد إلى القرافة الكبرى، والشرقيّ من القرافة الكبرى إلى العسكر، وعمل أسفل ما عدا ذلك إلى حدّ القاهرة.(2/90)
ذكر أمراء الفسطاط من حين فتحت مصر إلى أن بني العسكر
اعلم: أنّ عدّة من ولي مصر من الأمراء في الإسلام منذ فتحت، وسكن الفسطاط إلى أن بني العسكر تسعة وعشرون أميرا في مدّة مائة وثلاث عشرة سنة وسبعة أشهر، أوّلها يوم الجمعة مستهل المحرّم سنة عشرين من الهجرة النبوية، وهو يوم فتح مصر، وآخرها سلخ شهر رجب سنة ثلاث ومائة آخر ولاية صالح بن عليّ بن عبد الله بن عباس على مصر، وأوّل ولاية أبي عون عبد الملك، وهو أوّل من سكن العسكر من أمراء مصر.
وأوّل أمراء الفسطاط بعد الفتح على ما ذكر الكنديّ وغيره: عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر بن مالك: أبو عبد الله، كان تاجرا في الجاهلية، وكان يختلف بتجارته إلى مصر، وهي الأدم والعطر، ثم ضرب الدهر ضرباته حتى فتح المسلمون الشأم، فخلا بعمر بن الخطاب رضي الله عنه، فاستأذنه في المسير إلى مصر، فسار في سنة تسع عشرة، وأتى الحصن، فحاصره سبعة أشهر إلى أن فتحه في يوم الجمعة مستهل المحرّم سنة عشرين، وقيل: كان فتح مصر في ثاني عشر بؤنة سنة سبع وخمسين وثلثمائة لدقلطيانوس، فعلى هذا يكون فتح مصر في سنة تسع عشرة من الهجرة، وتحرير ذلك أن الذي بين يوم الجمعة أوّل يوم من ملك دقلطيانوس، وبين يوم الخميس أوّل سنة الهجرة ثمان وثلاثون وثلثمائة سنة فارسية، وتسعة وثلاثون يوما، فإذا ألغينا ذلك من تاريخ مصر في ثاني عشر بؤنة سنة سبع وخمسين وثلثمائة بقي ثمان عشر سنة، وثمانية أشهر وثلاثة أيام، وهذه سنون شمسية عنها من سني القمر تسع عشر سنة وشهر وثلاثة عشر يوما، فيكون ذلك في ثالث عشر ربيع الأوّل سنة عشرين، فلعل الوهم وقع في الشهر القبطيّ، وحاز الحصن بما فيه، وسار إلى الإسكندرية في ربيع الأوّل منها، فحاصرها ثلاثة أشهر، ثم فتحها عنوة، وهو الفتح الأوّل، ويقال: بل فتحها مستهل سنة إحدى وعشرين، ثم سار عنها إلى برقة، فافتتحها عنوة في سنة اثنتين وعشرين، وقيل: في سنة ثلاث وعشرين، وقدم على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قدمتين استخلف في إحداهما زكريا بن جهم العبدريّ، وفي الثانية ابنه عبد الله، وتوفي عمر رضي الله عنه في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وبويع أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، فوفد عليه عمرو، وسأله عزل عبد الله بن سعد بن أبي سرح عن صعيد مصر، وكان عمر ولاه الصعيد، فامتنع من ذلك عثمان، وعقد لعبد الله بن سعد على مصر كلها، فكانت ولاية عمرو على مصر: صلاتها وخراجها، منذ افتتحها إلى أن صرف عنها أربع سنين وأشهرا.(2/91)
عبد الله بن سعد «1» بن أبي سرح، واسمه الحسام بن الحارث بن حبيب بن جذيمة بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤيّ، ولي من قبل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، فجاءه الكتاب بالفيوم، فجعل لأهل أطواف جعلا فقدموا به الفسطاط، ثم إن منويل الخصيّ سار إلى الإسكندرية في سنة أربع وعشرين، فسأل أهل مصر: عثمان أن يردّ عمرو بن العاص لمحاربته، فردّه واليا على الإسكندرية، فحارب الروم بها حتى افتتحها، وعبد الله بن سعد مقيم بالفسطاط، حتى فتحت الإسكندرية الفتح الثاني عنوة في سنة خمس وعشرين، ثم جمع لعبد الله بن سعد أمير مصر صلاتها وخراجها، ومكث أميرا مدّة ولاية عثمان رضي الله عنه كلها، محمودا في ولايته، وغزا ثلاث غزوات كلها لها شأن، غزا إفريقية سنة سبع وعشرين، وقتل ملكها جرجير، وغزا غزوة الأساود حتى بلغ دنقلة في سنة إحدى وثلاثين، وغزا ذا الصواري في سنة أربع وثلاثين، فلقيهم قسطنطين بن هرقل في ألف مركب، وقيل: في سبعمائة مركب والمسلمون في مائتي مركب، فهزم الله الروم، وإنما سميت غزوة ذي الصواري لكثرة صواري المراكب، واجتماعها، ووفد على عثمان حين تكلم الناس بالطعن على عثمان، واستخلف عقبة بن عامر الجهنيّ، وقيل: السائب بن هشام العامريّ، وجعل على خراجها سليمان بن عتر التجيبي، وكان ذلك سنة خمس وثلاثين في رجب.
محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف. أمّر في شوال سنة خمس وثلاثين على عقبة بن عامر خليفة عبد الله بن سعد، فأخرجه من الفسطاط، ودعا إلى خلع عثمان، وأسعر البلاد، وحرّض على عثمان بكل شرّ يقدر عليه، فاعتزله شيعة عثمان، ونابذوه، وهم: معاوية بن خديج، وخارجة بن حذافة، وبسر بن أرطأة، ومسلمة بن مخلد في جمع كثير، وبعثوا إلى عثمان بأمرهم، وبصنيع ابن أبي حذيفة، فبعث سعد بن أبي وقاص: ليصلح أمرهم، فخرج إليه جماعة، فقلبوا عليه فسطاطه، وشجوه وسبوه، فركب وعاد راجعا، ودعا عليهم، وأقبل عبد الله بن سعد، فمنعوه أن يدخل، فانصرف إلى عسقلان، وقتل عثمان رضي الله عنه، وابن سعد بعسقلان، ثم أجمع ابن أبي حذيفة على بعث جيش إلى عثمان، فجهز إليه ستمائة رجل عليهم عبد الرحمن بن عديس البلويّ، ثم قتل عثمان في ذي الحجة منها، فثار شيعة عثمان بمصر، وعقدوا لمعاوية بن خديج «2» ، وبايعوه على الطلب بدم عثمان، وساروا إلى الصعيد، فبعث إليهم ابن أبي حذيفة خيلا، فهزمت، ومضى ابن خديج إلى برقة، ثم رجع إلى الإسكندرية، فبعث(2/92)
إليه ابن أبي حذيفة بجيش آخر فاقتتلوا بخربتا «1» في أوّل شهر رمضان سنة ست وثلاثين، فانهزم الجيش، وأقامت شيعة عثمان بخربتا.
وقدم معاوية بن أبي سفيان يريد الفسطاط، فنزلت سلمنت «2» في شوّال، فخرج إليه ابن أبي حذيفة في أهل مصر، فمنعوه ثم اتفقا على أن يجعلا رهنا، ويتركا الحرب، فاستخلف ابن أبي حذيفة على مصر: الحكم بن الصلت، وخرج في الرهن هو وابن عديس، وعدّة من قتلة عثمان، فلما بلغوا لدّا سجنهم معاوية بها، وسار إلى دمشق، فهربوا من السجن، وتبعهم أمير فلسطين، فقتلهم في ذي الحجة سنة ست وثلاثين.
قيس بن سعد «3» بن عبادة الأنصاري: ولاه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، لما بلغه مصاب ابن أبي حذيفة، وجمع له الخراج والصلاة، فدخل مصر مستهل ربيع الأوّل سنة سبع وثلاثين، فاستمال الخارجية بخربتا شيعة عثمان، وبعث إليهم أعطياتهم، ووفد عليهم وفدهم، فأكرمهم، وكان من ذوي الرأي، فجهد عمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان على أن يخرجاه من مصر ليغلبا على أمرها، فإنها كانت من جيش عليّ رضي الله عنه، فامتنع منهما بالدهاء والمكايدة، فلم يقدرا على مصر، حتى كاد معاوية قيسا من قبل عليّ رضي الله عنه، فأشاع أن قيسا من شيعته، وأنه يبعث إليه بالكتب والنصيحة سرّا، فسمع ذلك جواسيس عليّ رضي الله عنه، وما زال به محمد بن أبي بكر، وعبد الله بن جعفر، حتى كتب إلى قيس بن سعد يأمره بالقدوم إليه، فوليها إلى أن عزل أربعة أشهر وخمسة أيام، وصرف لخمس خلون من رجب سنة سبع وثلاثين، فوليها:
الأشتر مالك بن الحارث بن خالد النخعيّ من قبل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، فلما قدم القلزم شرب عسلا فمات، فبلغ ذلك عمرا ومعاوية، فقال عمرو: إن لله جنودا من عسل.
ثم وليها: محمد بن أبي بكر الصدّيق من قبل عليّ رضي الله عنه، وجمع له صلاتها وخراجها، فدخلها للنصف من رمضان سنة سبع وثلاثين، فهدم دور شيعة عثمان، ونهب أموالهم وسجن ذراريهم، فنصبوا له الحرب، ثم صالحهم على أن يسيرهم إلى معاوية، فلحقوا بمعاوية بالشام، فبعث معاوية عمرو بن العاص في جيوش أهل الشام إلى الفسطاط وتغيب ابن أبي بكر، فظفر به معاوية بن خديج فقتله، ثم جعله في جيفة(2/93)
حمار ميت، وأحرقه بالنار لأربع عشرة خلت من صفر سنة ثمان وثلاثين، فكانت ولايته خمسة أشهر.
ثم وليها: عمرو بن العاص: ولايته الثانية من قبل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، فاستقبل بولايته شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وثلاثين، وجعل إليه الصلاة والخراج جميعا، وجعلت مصر له طعمة بعد عطاء جندها، والنفقة في مصلحتها، ثم خرج عمرو للحكومة، واستخلف على مصر ابنه عبد الله، وقيل: بل خارجة بن حذافة، ورجع إلى مصر، وتعاقد بنو لخم عبد الرحمن وقيس ويزيد على قتل عليّ ومعاوية وعمرو، وتواعدوا ليلة من رمضان سنة أربعين، فمضى كل منهم إلى صاحبه، وكان يزيد هو صاحب عمرو، فعرضت لعمرو علة منعته من حضور المسجد، فصلى خارجة بالناس، فشدّ عليه يزيد فضربه، حتى قتله، فدخل به على عمرو، فقال: أما والله ما أردت غيرك يا عمرو، قال عمرو: ولكن الله أراد خارجة، ولله در القائل:
وليتها إذ فدت عمرا بخارجة ... فدت عليا بمن شاءت من البشر
وعقد عمرو لشريك بن سميّ على غزو لواتة «1» من البربر، فغزاهم في سنة أربعين، وصالحهم ثم انتقضوا، فبعث إليهم عقبة بن نافع في سنة إحدى وأربعين، فغزاهم حتى هزمهم، وعقد لعقبة أيضا على غزوة هوّارة، وعقد لشريك بن سميّ: على غزوة لبدة «2» ، فغزواهما في سنة ثلاث وأربعين، فقفلا، وعمرو شديد الدنف «3» في مرض موته، وتوفي ليلة الفطر، فغسله عبد الله بن عمرو، وأخرجه إلى المصلى وصلى عليه، فلم يبق أحد شهد العيد إلّا صلى عليه، ثم صلى بالناس صلاة العيد، وكان أبوه استخلفه، وخلف عمرو بن العاص سبعين بهارا دنانير، والبهار: جلد ثور، ومبلغه أردبان بالمصريّ، فلما حضرته الوفاة أخرجه، وقال: من يأخذه بما فيه، فأبى ولده أخذه، وقالا: حتى تردّ إلى كل ذي حق حقه، فقال: والله ما أجمع بين اثنين منهم، فبلغ معاوية، فقال: نحن نأخذه بما فيه.
ثم وليها: عتبة بن أبي سفيان من قبل أخيه معاوية بن أبي سفيان على صلاتها، فقدم في ذي القعدة سنة ثلاث وأربعين، وأقام شهرا، ثم وفد على أخيه، واستخلف عبد الله بن قيس بن الحارث، وكان فيه شدّة، فكره الناس ولايته، وامتنعوا منها، فبلغ ذلك عتبة، فرجع إلى مصر، وصعد المنبر فقال: يا أهل مصر قد كنتم تعذرون ببعض المنع منكم لبعض الجور عليكم، وقد وليكم من إذا قال فعل، فإن أبيتم درأكم بيده، فإن أبيتم درأكم بسيفه، ثم رجا في الأمير ما أدرك في الأوّل أن البيعة شائعة لنا عليكم السمع، ولكم علينا العدل،(2/94)
وأينا غدر، فلا ذمّة له عند صاحبه، فناداه المصريون من جنبات المسجد سمعا سمعا فناداهم عدلا عدلا، ثم نزل ثم جمع له معاوية الصلات والخراج، وعقد عتبة لعلقمة بن زيد على الإسكندرية في اثني عشر ألفا من أهل الديوان تكون لها رابطة، ثم خرج إليها مرابطا في ذي الحجة سنة أربع وأربعين، فمات بها واستخلف على مصر عقبة بن عامر الجهنيّ، فكانت ولايته ستة أشهر.
ثم وليها: عقبة بن عامر «1» بن عبس الجهنيّ من قبل معاوية، وجعل له صلاتها وخراجها، وكان قارئا فقيها مفرضا شاعرا، له الهجرة والصحبة والسابقة، ثم وفد مسلمة بن محمد الأنصاريّ على معاوية، فولاه مصر، وأمره أن يكتم ذلك عن عقبة بن عامر، وجعل عقبة على البحر، وأمره أن يسير إلى رودس، فقدم مسلمة، فلم يعلم بإمارته، وخرج مع عقبة إلى الإسكندرية، فلما توجه سائرا استوى مسلمة على سرير إمارته، فبلغ ذلك عقبة فقال: أخلعا وغربة، وكان صرفه لعشر بقين من ربيع الأوّل سنة سبع وأربعين، وكانت ولايته سنتين وثلاثة أشهر.
فولي مسلمة بن مخلد «2» بن صامت بن نيار الأنصاريّ من قبل معاوية، وجمع له الصلات والخراج والغزو، فانتظمت غزواته في البر والبحر، وفي إمارته نزلت الروم البرلس «3» في سنة ثلاث وخمسين، فاستشهد يومئذ: وردان مولى عمرو بن العاص في جمع من المسلمين، وهدم ما كان عمرو بن العاص بناه من المسجد، وبناه وأمر بابتناء منارات المساجد كلها إلا خولان وتجيب، وخرج إلى الإسكندرية في سنة ستين، واستخلف عابس بن سعيد، ومات معاوية بن أبي سفيان في رجب منها، واستخلف ابنه يزيد بن معاوية، فأقرّ مسلمة، وكتب إليه بأخذ البيعة، فبايعه الجند إلّا عبد الله بن عمرو بن العاص، فدعا عابس بالنار ليحرق عليه بابه! فحينئذ بايع ليزيد، وقدم مسلمة من الإسكندرية، فجمع لعابس مع الشرط القضاء في سنة إحدى وستين، وقال مجاهد: صليت خلف مسلمة بن مخلد، فقرأ سورة البقرة، فما ترك ألفا ولا واوا، وقال ابن لهيعة عن الحرث بن يزيد: كان مسلمة بن مخلد يصلي بنا، فيقوم في الظهر، فربما قرأ الرجل البقرة، وتوفي مسلمة، وهو وال لخمس بقين من رجب سنة اثنتين وستين، فكانت ولايته خمس عشرة سنة وأربعة أشهر، واستخلف عابس بن سعيد.
ثم وليها سعيد بن يزيد بن علقمة بن يزيد بن عوف الأزدي من أهل فلسطين، فقدم(2/95)
مستهلّ رمضان سنة اثنتين وستين فتلقاه عمرو بن قحزم الخولانيّ، فقال: يغفر الله لأمير المؤمنين أما كان فينا مائة شاب كلهم مثلك، يولي علينا أحدهم، ولم تزل أهل مصر على الشنآن له، والإعراض عنه، والتكبر عليه حتى توفي يزيد بن معاوية، ودعا عبد الله بن الزبير رضي الله عنه إلى نفسه، فقامت الخوارج الذين بمصر، وأظهروا دعوته، وسار منهم إليه، فبعث لعبد الرحمن بن جحدم، فقدم واعتزل سعيدا، فكانت ولايته سنتين غير شهر.
ثم وليها: عبد الرحمن بن عتبة بن جحدم من قبل عبد الله بن الزبير، فدخل في شعبان سنة أربع وستين في جمع كثير من الخوارج، فأظهروا التحكيم، ودعوا إليه، فاستعظم الجند ذلك، وبايعه الناس على غل في قلوب شيعة بني أمية، ثم بويع مروان بن الحكم بالخلافة في أهل الشام، وأهل مصر معه في الباطن، فسار إليها، وبعث ابنه عبد العزيز في جيش إلى أيلة ليدخل مصر من هناك، وأجمع ابن جحدم على حربه، وحفر الخندق في شهر، وهو الذي في شرقيّ القرافة، وقدم مروان، فحاربه ابن جحدم، وقتل بينهما كثير من الناس ثم اصطلحا، ودخل مروان لعشر من جمادى الأولى سنة خمس وستين، فكانت مدّة ابن جحدم تسعة أشهر، ووضع مروان العطاء، فبايعه الناس إلّا نفرا من المغافر قالوا: لا نخلع بيعة ابن الزبير، فضرب أعناقهم، وكانوا ثمانين رجلا، وذلك للنصف من جمادى الآخرة، يومئذ مات عبد الله بن عمرو بن العاص، فلم يستطع أن يخرج بجنازته إلى المقبرة لشغب الجند على مروان، وجعل مروان صلات مصر، وخراجها إلى ابنه عبد العزيز، وسار وقد أقام بها شهرين لهلال رمضان.
عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص أبو الأصبغ ولي من قبل أبيه لهلال رجب سنة خمس وستين على الصلات والخراج، ومات أبوه، وبويع من بعده عبد الملك بن مروان، فأقرّ أخاه عبد العزيز، ووقع الطاعون بمصر سنة سبعين، فخرج عبد العزيز منها، ونزل حلوان، فاتخذها دارا وسكنها، وجعل بها الأعوان، وبنى بها الدور والمساجد، وعمرها أحسن عمارة، وغرس نخلها وكرمها، وعرّف بمصر، وهو أول من عرّف بها في سنة إحدى وسبعين، وجهز البعث في البحر لقتال ابن الزبير في سنة اثنتين وسبعين، ثم مات لثلاث عشرة خلت من جمادى الأولى سنة ست وثمانين، فكانت ولايته عشرين سنة، وعشرة أشهر وثلاثة عشر يوما.
فولي: عبد الله بن عبد الملك بن مروان من قبل أبيه على صلاتها وخراجها، فدخل يوم الاثنين لإحدى عشرة خلت من جمادى الآخرة سنة ست وثمانين، وهو ابن تسع وعشرين سنة، وقد تقدّم إليه أبوه أن يقتفي آثار عمه عبد العزيز، فاستبدل بالعمال وبالأصحاب، ومات عبد الملك، بويع ابنه الوليد بن عبد الملك، فأقرّ أخاه عبد الله، وأمر عبد الله، فنسخت دواوين مصر بالعربية، وكانت بالقبطية، وفي ولايته غلت الأسعار،(2/96)
فتشاءم الناس به، وهي أوّل شدّة رأوها بمصر، وكان يرتشي، ثم وفد على أخيه في صفر سنة ثمان وثمانين، واستخلف عبد الرحمن بن عمرو بن قحزم الخولانيّ، وأهل مصر في شدّة عظيمة، ورفع سقف المسجد الجامع في سنة تسع وثمانين، ثم صرف، فكانت ولايته ثلاث سنين وعشرة أشهر.
فولي: قرّة بن شريك «1» بن مرثد بن الحرث العبسيّ للوليد بن عبد الملك على صلات مصر وخراجها، فقدمها يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من ربيع الأوّل سنة تسعين، وخرج عبد الله بن عبد الملك من مصر بكل ما ملكه، فأحيط به في الأردن، وأخذ سائر ما معه، وحمل إلى أخيه، وأمر الوليد بهدم ما بناه عبد العزيز في المسجد، فهدم أوّل سنة اثنتين وتسعين، وبنى واستنبط قرّة بن شريك: بركة الحبش من الموات وأحياها، وغرس فيها القصب، فقيل لها: اصطبل قرّة، واصطبل القاش، ثم مات وهو وال ليلة الخميس لست بقين من ربيع الأوّل سنة ست وتسعين، واستخلف على الجند والخراج عبد الملك بن رفاعة، فكانت ولايته ست سنين وأياما.
ثم ولي: عبد الملك بن رفاعة بن خالد بن ثابت الفهميّ: من قبل الوليد بن عبد الملك على صلاتها، وتوفي الوليد، واستخلف سليمان بن عبد الملك، فأقرّ ابن رفاعة، وتوفي سليمان، وبويع عمر بن عبد العزيز، فعزل ابن رفاعة، فكانت ولايته ثلاث سنين.
ثم ولي: أيوب بن شرحبيل «2» بن أكسوم بن أبرهة بن الصباح، من قبل عمر بن عبد العزيز على صلاتها في ربيع الأوّل سنة تسع وتسعين، فورد كتاب أمير المؤمنين:
عمر بن عبد العزيز بالزيادة في أعطيات الناس عامّة، وخمرت الخمر، وكسرت وعطلت حاناتها، وقسم للغارمين بخمسة وعشرين ألف دينار، ونزعت مواريث القبط عن الكور، واستعمل المسلمون عليها، ومنع الناس الحمامات، وتوفي عمر بن عبد العزيز، واستخلف يزيد بن عبد الملك، فأقرّ أيوب على الصلات إلى أن مات لإحدى عشرة، وقيل: لسبع عشرة خلت من رمضان سنة إحدى ومائة، فكانت ولايته سنتين ونصفا.
فولي: بشر بن صفوان «3» الكلبيّ: من قبل يزيد بن عبد الملك قدمها لسبع عشرة خلت من رمضان سنة إحدى ومائة، وفي إمرته نزل الروم تنيس، ثم ولاه يزيد على إفريقية،(2/97)
فخرج إليها في شوّال سنة اثنتين ومائة، واستخلف أخاه حنظلة.
فولي: حنظلة بن صفوان باستخلاف أخيه، فأقرّه يزيد بن عبد الملك، وخرج إلى الإسكندرية في سنة ثلاث ومائة، واستخلف عقبة بن مسلمة التجيبيّ، وكتب يزيد بن عبد الملك في سنة أربع ومائة بكسر الأصنام والتماثيل، فكسرت كلها، ومحيت التماثيل، ومات يزيد بن عبد الملك، وبويع هشام بن عبد الملك، فصرف حنظلة في شوّال سنة خمس ومائة، فكانت ولايته ثلاث سنين.
وولي: محمد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم من قبل أخيه هشام بن عبد الملك على الصلات، فدخل مصر لإحدى عشرة خلت من شوّال سنة خمس ومائة، ووقع وباء شديد بمصر، فترفع محمد إلى الصعيد هاربا من الوباء أياما، ثم قدم وخرج عن مصر لم يلها إلّا نحوا من شهر، وانصرف إلى الأردن.
فولي: الحرّ بن يوسف بن يحيى بن الحكم من قبل هشام بن عبد الملك على صلاتها، فدخل لثلاث خلون من ذي الحجة سنة خمس ومائة، وفي إمرته كان أوّل انتفاض القبط في سنة سبع ومائة، ورابط بدمياط ثلاثة أشهر، ثم وفد إلى هشام بن عبد الملك، فاستخلف حفص بن الوليد، وقدم في ذي القعدة من سنة سبع، وانكشف النيل عن الأرض فبنى فيها، وصرف في ذي القعدة سنة ثمان ومائة، باستعفائه لمغاضبة كانت بينه وبين عبد الله بن الحبحاب متولي خراج مصر، فكانت ولايته ثلاث سنين سواء.
وولي: حفص بن الوليد «1» بن سيف بن عبد الله من قبل هشام بن عبد الملك، ثم صرف بعد جمعتين يوم الأضحى بشكوى ابن الحبحاب منه، وقيل: صرف سلخ ثمان ومائة.
فولي: عبد الملك بن رفاعة ثانيا على الصلات، فقدم من الشام عليلا لثنتي عشرة بقيت من المحرّم سنة تسع ومائة، وكان أخوه الوليد يخلفه من أوّل المحرّم، وقيل: بل ولي أوّل المحرّم، ومات للنصف منه، وكانت ولايته خمس عشرة ليلة.
ثم ولي أخوه: الوليد بن رفاعة باستخلاف أخيه، فأقرّه هشام بن عبد الملك على الصلات، وفي ولايته نقلت قيس إلى مصر، ولم يكن بها أحد منهم، وخرج وهيب اليحصبيّ شاردا في سنة سبع عشرة ومائة من أجل أنّ الوليد أذن للنصارى في ابتناء كنيسة يوحنا بالحمراء، وتوفي وهو وال أوّل جمادى الآخرة سنة سبع عشرة، واستخلف عبد الرحمن بن خالد، فكانت إمرته تسع سنين وخمسة أشهر.(2/98)
فولي: عبد الرحمن بن خالد بن مسافر الفهميّ أبو الوليد من قبل هشام بن عبد الملك على صلاتها، وفي إمرته نزل الروم على تروجة «1» ، فحاصروها، ثم اقتتلوا فأسروا، فصرفه هشام، فكانت ولايته سبعة أشهر.
وولي: حنظلة بن صفوان ثانيا فقدم لخمس خلون من المحرّم سنة تسع ومائة، فانتفض القبط، وحاربهم في سنة إحدى وعشرين ومائة، وقدم رأس زيد بن عليّ إلى مصر في سنة اثنتين وعشرين ومائة، ثم ولاه هشام إفريقية، فاستخلف حفص بن الوليد بإمرة هشام، وخرج لسبع خلون من ربيع الآخر سنة أربع وعشرين ومائة، فكانت ولايته هذه خمس سنين وثلاثة أشهر.
وولي: حفص بن الوليد الحضرميّ ثانيا باستخلاف حنظلة له على صلاتها، فأقرّه هشام بن عبد الملك إلى ليلة الجمعة لثلاث عشرة خلت من شعبان سنة أربع وعشرين، فجمع له الصلات والخراج جميعا، واستسقى بالناس، وخطب ودعا، ثم صلى بهم، ومات هشام بن عبد الملك، واستخلف من بعده: الوليد بن يزيد، فأقرّ حفصا على الصلات والخراج، ثم صرف عن الخراج بعيسى بن أبي عطاء لسبع بقين من شوّال سنة خمس وعشرين ومائة، وانفرد بالصلات، ووفد على الوليد بن يزيد، واستخلف عقبة بن نعيم الرعيني، وقتل الوليد بن يزيد، وحفص بالشام، وبويع يزيد بن الوليد بن عبد الملك، فأمر حفصا باللحاق بجنده، وأمّره على ثلاثين ألفا وفرض الفروض، وبعث بيعة أهل مصر إلى يزيد بن الوليد، ثم توفي يزيد وبويع إبراهيم بن الوليد، وخلعه مروان بن محمد الجعدي، فكتب حفص يستعفيه من ولاية مصر، فأعفاه مروان، فكانت ولاية حفص هذه ثلاث سنين إلا شهرا.
وولي: حسان بن عتاهية بن عبد الرحمن التجيبيّ وهو بالشام، فكتب إلى خير بن نعيم باستخلافه، فسلم حفص إلى خير، ثم قدم حسان لثنتي عشرة خلت من جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين ومائة على الصلات، وعيسى بن أبي عطاء على الخراج، فأسقط حسان فروض حفص كلها، فوثبوا به، وقالوا: لا نرضى إلّا بحفص، وركبوا إلى المسجد، ودعوا إلى خلع مروان وحصروا حسان في داره، وقال له: اخرج عنا، فإنك لا تقيم معنا ببلد، وأخرجوا عيسى بن أبي عطاء صاحب الخراج، وذلك في آخر جمادى الآخرة، وأقاموا حفصا، فكانت ولاية حسان ستة عشر يوما.
فولي: حفص بن الوليد الثالثة: كرها أخذه قوّاد الفروض بذلك، فأقام على مصر رجب وشعبان، ولحق حسان بمروان، وقدم حنظلة بن صفوان من إفريقية، وقد أخرجه(2/99)
أهلها فنزل الجيزة، وكتب مروان بولايته على مصر، فامتنع المصريون من ولاية حنظلة، وأظهروا الخلع، وأخرجوا حنظلة إلى الحوف الشرقيّ، ومنعوه من المقام بالفسطاط، وهرب ثابت بن نعيم من فلسطين يريد الفسطاط، فحاربوه وهزموه، وسكت مروان عن مصر بقية سنة سبع وعشرين ومائة، ثم عزل حفصا مستهل سنة ثمان وعشرين.
وولي: الحوثرة بن سهيل «1» بن العجلان الباهليّ: فسار إليها في آلاف، وقدم أوّل المحرّم، وقد اجتمع الجند على منعه، فأبى عليهم حفص، فخافوا حوثرة، وسألوه الأمان، فأمّنهم، ونزل ظاهر الفسطاط، وقد اطمأنوا إليه فخرج إليه حفص، ووجوه الجند، فقبض عليهم، وقيدهم، فانهزم الجند ودخل معه عيسى بن أبي عطاء على الخراج لثنتي عشرة خلت من المحرّم، وبعث في طلب رؤساء الفتنة، فجمعوا له وضرب أعناقهم، وقتل حفص بن الوليد، ثم صرف في جمادى الأولى سنة إحدى وثلاثين ومائة، وبعثه مروان إلى العراق فقتل، واستخلف على مصر حسان بن عتاهية، وقيل: أبا الجرّاح بشر بن أوس، وخرج لعشر خلون من رجب، وكانت ولايته ثلاث سنين وستة أشهر.
ثم ولي: المغيرة بن عبيد الله بن المغيرة الفزاريّ على الصلاة من قبل مروان، فقدم لست بقين من رجب سنة إحدى وثلاثين، وخرج إلى الإسكندرية، واستخلف أبا الجرّاح الحرشي، وتوفي لثنتي عشرة خلت من جمادى الأولى سنة اثنتين وثلاثين ومائة، فكانت ولايته عشرة أشهر، واستخلف ابنه الوليد بن المغيرة، ثم صرف الوليد في النصف من جمادى الآخرة.
وولى: عبد الملك بن مروان بن موسى بن نصير من قبل مرون على الصلات والخراج، وكان واليا على الخراج قبل أن يولي الصلات في جمادى الآخرة سنة اثنتين وثلاثين ومائة، فأمر باتخاذ المنابر في الكور، ولم تكن قبله، وإنما كانت ولاة الكور يخطبون على العصيّ إلى جانب القبلة، وخرج القبط فحاربهم، وقتل كثيرا منهم، وخالف عمرو بن سهيل بن عبد العزيز بن مروان على مروان، واجتمع عليه جمع من قيس في الحوف الشرقيّ، فبعث إليهم عبد الملك بجيش، فلم يكن حرب، وسار مروان بن محمد إلى مصر منهزما من بني العباس، فقدم يوم الثلاثاء لثمان بقين من شوّال سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وقد سوّد أهل الحوف الشرقيّ، وأهل الإسكندرية، وأهل الصعيد وأسوان، فعزم مروان على تعديه النيل، وأحرق دار آل مروان المذهبة، ثم رحل إلى الجيزة، وخرق الجسرين، وبعث بجيش إلى الإسكندرية، فاقتتلوا بالكريون «2» ، وخالفت القبط برشيد،(2/100)
فبعث إليهم وهزمهم، وبعث إلى الصعيد، فقدم صالح بن عليّ بن عبد الله بن عباس في طلب مروان هو وأبو عون عبد الملك بن يزيد يوم الثلاثاء للنصف من ذي الحجة، فأدرك صالح مروان ببوصير من الجيزة بعد ما استخلف على الفسطاط معاوية بن بحيرة بن ريسان، فحارب مروان حتى قتل ببوصير يوم الجمعة لسبع بقين من ذي الحجة، ودخل صالح إلى الفسطاط يوم الأحد لثمان خلون من المحرّم سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وبعث برأس مروان إلى العراق، وانقضت أيام بني أمية.
فولي: صالح بن عليّ بن عبد الله بن عباس، ولي من قبل أمير المؤمنين أبي العباس عبد الله بن محمد السفاح، فاستقبل بولايته المحرّم سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وبعث بوفد أهل مصر إلى أبي العباس السفاح ببيعة أهل مصر، وأسر عبد الملك بن موسى بن نصير وجماعة، وقتل كثيرا من شيعة بني أمية، وحمل طائفة منهم إلى العراق، فقتلوا بقلنسوة «1» من أرض فلسطين، وأمر للناس بأعطياتهم للمقاتلة والعيال، وقسمت الصدقات على اليتامى والمساكين، وزاد صالح في المسجد، وورد عليه كتاب أمير المؤمنين السفاح، بإمارته على فلسطين والاستخلاف على مصر، فاستخلف أبا عون مستهلّ شعبان سنة ثلاث وثلاثين، وسار ومعه عبد الملك بن نصير ملزما، وعدّة من أهل مصر صحابة لأمير المؤمنين، وأقطع الذين سوّدوا قطائع منها: منية بولاق، وقرى إهناس، وغيرها ثم من بعد صالح بن عليّ.
سكن أمراء مصر العسكر، وأوّل من سكنه أبو عون، والله تعالى أعلم.
ذكر العسكر الذي بني بظاهر مدينة فسطاط مصر
اعلم: أن موضع العسكر قد كان يعرف في صدر الإسلام بالحمراء القصوى، وقد تقدّم أن الحمراء القصوى كانت خطة بني الأزرق، وبني روبيل، وبني يشكر بن جزيلة، ثم دثرت هذه الخطط بعد العمارة بتلك القبائل، حتى صارت صحراء، فلما قدم مروان بن محدم آخر خلفاء بني أمية إلى مصر منهزما من بني العباس نزلت عساكر صالح بن عليّ، وأبي عون عبد الملك بن يزيد في هذه الصحراء، حيث جبل يشكر حتى ملؤوا الفضاء، وأمر أبو عون أصحابه بالبناء فيه، فبنوا وذلك في سنة ثلاث وثلاثين ومائة.
فلما خرج صالح بن عليّ من مصر خرب أكثر ما بنى فيه إلى زمن موسى بن عيسى الهاشميّ فابتنى فيه دارا أنزل فيها حشمة وعبيده، وعمر الناس، ثم ولي: السريّ بن الحكم، فأذن للناس في البناء، فابتنوا فيه وصار مملوكا بأيديهم، واتصل بناؤه ببناء الفسطاط، وبنيت فيه دار الإمارة، ومسجد جامع عرف بجامع العسكر، ثم عرف بجامع ساحل الغلة، وعملت(2/101)
الشرطة أيضا في العسكر، وقيل لها: الشرطة العليا، وإلى جانبها بنى أحمد بن طولون جامعه الموجود الآن، وسمي من حينئذ ذلك الفضاء بالعسكر، وصار أمراء مصر إذا ولوا ينزلون به من بعد أبي عون، فقال الناس من يومئذ: كنا بالعسكر، وخرجنا إلى العسكر، وكتب من العسكر، وصار مدينة ذات محال، وأسواق ودور عظيمة، وفيه بنى أحمد بن طولون مارستانه «1» ، فأنفق عليه، وعلى مستغله ستين ألف دينار، وكان بالقرب من بركة قارون التي صارت كيمانا، وبعضها بركة على يسرة من سار من حدرة ابن قميحة يريد قنطرة السدّ، وعلى بركة قارون هذه كانت جنان بني مسكين، وبني كافور الإخشيدي دارا أنفق عليها مائة ألف دينار، وسكنها في رجب سنة ست وأربعين وثلثمائة، وانتقل منها بعد أيام عليها مائة ألف دينار، وسكنها في رجب سنة ست وأربعين وثلثمائة، وانتقل منها بعد أيام لوباء وقع في غلمانه من بخار البركة، وعظمت العمارة في العسكر جدّا إلى أن قدم أحمد بن طولون من العراق إلى مصر، فنزل بدار الإمارة من العسكر، وكان لها باب إلى جامع العسكر، وينزلها الأمراء منذ بناها صالح بن عليّ بعد قتله مروان، وما زال بها أحمد بن طولون إلى أن بنى القصر، والميدان بالقطائع، فتحوّل من العسكر، وسكن قصره بالقطائع، فلما ولي أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون بعد أبيه، جعل دار الإمارة ديوان الخراج، ثم فرّقت حجرا بعد دخول محمد بن سليمان الكاتب إلى مصر، وزوال دولة بني طولون، فسكن محمد بن سليمان بدار الإمارة في العسكر عند المصلى القديم، وكان المصلى القديم حيث الكوم المطلّ الآن على قبر القاضي بكار، وما زالت الأمراء تنزل بالعسكر إلى أن قدم القائد جوهر «2» من المغرب، وبنى القاهرة المعزية، ولما بنى أحمد بن طولون القطائع اتصلت مبانيها بالعسكر، وبنى جامعه على جبل يشكر، فعمرها هنا لك عمارة عظيمة تخرج عن الحدّ في الكثرة، وقدم جوهر القائد بعساكر مولاه المعز لدين الله في سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، والعسكر عامر إلّا أنه منذ بنيت القطائع هجر اسم العسكر، وصار يقال: مدينة الفسطاط والقطائع، وربما قيل: والعسكر أحيانا، فلما خرّب محمد بن سليمان قصر ابن طولون، وميدانه بقي في القطائع مساكن جليلة حيث كان العسكر، وأنزل المعز لدين الله عمه أبا عليّ في دار الإمارة، فلم يزل أهله بها إلى أن خربت القطائع في الشدّة العظمى التي كانت في خلافة المستنصر أعوام بضع وخمسين وأربعمائة، فيقال: إنه كان هناك زيادة على مائة ألف دار سوى البساتين، وما هذا ببعيد، فإنّ ذلك كان ما بين سفح الشرف الذي عليه الآن قلعة الجبل، وبين ساحل مصر القديم حيث الآن الكبارة خارج مصر، وما على سمتها إلى كوم الجارح، ومن كوم الجارح إلى جامع ابن طولون، وخط(2/102)
قناطر السباع، وخط السبع سقايات إلى قنطرة السدّ، ومراغة مصر إلى المعاريج بمصر، وإلى كوم الجارح، ففي هذه المواضع كان العسكر والقطائع، ويخص العسكر من بين ذلك ما بين قناطر السباع، وحدرة ابن قميحة إلى كوم الجارح حيث الفضاء الذي يتوسط ما بين قنطرة السدّ، وبين سور القرافة الذي يعرف بباب المجدم، فهذا هو العسكر، ولما استولى الخراب في المحنة أمر ببناء حائط يستر الخراب عن نظر الخليفة إذا سار من القاهرة إلى مصر، فيما بين العسكر والقطائع، وبين الطريق، وأمر ببناء حائط آخر عند جامع ابن طولون.
فلما كان في خلافة الآمر بأحكام الله أبي عليّ منصور بن المستعلي أمر وزيره أبو عبد الله محمد بن فاتك المنعوت بالأجل المأمون بن البطائحي، فنودي مدّة ثلاثة أيام في القاهرة ومصر، بأنّ من كان له دار في الخراب، أو مكان فليعمره، ومن عجز عن عمارته يبيعه أو يؤجره من غير نقل شيء من أنقاضه، ومن تأخر بعد ذلك، فلا حق له ولا حكر يلزمه، وأباح تعمير جميع ذلك بغير طلب حق، وكان سبب هذا النداء أنه لما قدم أمير الجيوش بدر الجماليّ في آخر الشدّة العظمى، وقام بعمارة إقليم مصر، أخذ الناس في نقل ما كان بالقطائع والعسكر من أنقاض المساكن حتى أتى على معظم ما هنا لك الهدم، فصار موحشا، وخرب ما بين القاهرة ومصر من المساكن، ولم يبق هنا لك إلّا بعض البساتين، فلما نادى الوزير المأمون عمّر الناس ما كان من ذلك، مما يلي القاهرة من جهة المشهد النفيسيّ إلى ظاهر باب زويلة، كما يرد خبر ذلك في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى، ونقلت أنقاض العسكر كما تقدّم، فصار هذا الفضاء الذي يتوصل إليه من مشهد السيدة نفيسة، ومن الجامع الطولونيّ، ومن قنطرة السدّ، ومن باب المجدم في سور القرافة، ويسلك في هذا الفضاء إلى كوم الجارح، ولم يبق الآن من العسكر ما هو عامر سوى جبل يشكر الذي عليه جامع ابن طولون، وما حوله من الكبش، وحدرة ابن قميحة إلى خط السبع سقايات، وخط قناطر السباع إلى جامع ابن طولون، وأما سوق الجامع من قبليه، وما وراء ذلك إلى المشهد النفيسيّ، وإلى القبيبات، والرميلة تحت القلعة، فإنما هو من القطائع كما ستقف عليه عند ذكر القطائع، وعند ذكر هذه الخطط، إن شاء الله تعالى، وطالما سلكت هذا الفضاء الذي بين جامع ابن طولون، وكوم الجارح، حيث كان العسكر، وتذكرت ما كان هنا لك من الدور الجليلة والمنازل العظيمة، والمساجد والأسواق والحمامات والبساتين والبركة البديعة، والمارستان العجيب، وكيف بادت حتى لم يبق لشيء منها أثر البتة فأنشدت أقول:
وبادوا فلا مخبر عنهم ... وماتوا جميعا وهذا الخبر
فمن كان ذا عبرة فليكن ... فطينا ففي من مضى معتبر
وكان لهم أثر صالح ... فأين هم ثم أين الأثر(2/103)
وسيأتي لذلك مزيد بيان عند ذكر القطائع، وعند ذكر خط قناطر السباع، وغيره من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
ذكر من نزل العسكر من أمراء مصر من حين بني إلى أن بنيت القطائع
إعلم: أنّ أمراء مصر ما برحوا ينزلون فسطاط مصر منذ اختط بعد الفتح إلى أن بنى أب عون العسكر، فصارت أمراء مصر من عهد أبي عون إنما ينزلون بالعسكر، وما برحوا على ذلك إلى أن أنشأ الأمير أبو العباس أحمد بن طولون القصر والميدان والقطائع، فتحوّل من العسكر إلى القصر، وسكن فيه وسكنه الأمراء من أولاده بعده إلى أن زالت دولتهم، فسكن الأمراء بعد ذلك العسكر إلى أن زالت دولة الإخشيدية بقدوم جوهر القائد من المغرب.
وأوّل من سكن العسكر من أمراء مصر: أبو عون: عبد الملك بن يزيد من أهل جرجان ولي صلاة مصر وخراجها، باستخلاف صالح بن عليّ له، في مستهل شعبان سنة ثلاث وثلاثين ومائة، ووقع الوباء بمصر، فهرب أبو عون إلى يشكر، واستخلف صاحب شرطته عكرمة بن عبد الله بن عمرو بن قحزم، وخرج إلى دمياط في سنة خمس وثلاثين ومائة، واستخلف عكرمة، وجعل على الخراج: عطاء بن شرحبيل، وخرج القبط بسمنود، فبعث إليهم وقتلهم، وورد الكتاب بولاية صالح بن عليّ على مصر وفلسطين والمغرب، جمعلت له، ووردت الجيوش من قبل أمير المؤمنين السفاح لغزو المغرب.
فولي: صالح بن عليّ الثانية على الصلاة والخراج، فدخل لخمس خلون من ربيع الآخر سنة ست وثلاثين ومائة، فأقرّ عكرمة على شرطة الفسطاط، وجعل على شرطته بالعسكر: يزيد بن هاني الكنديّ، وولى أبا عون جيوش المغرب، وقدّم أمامه دعاة لأهل إفريقية، وخرج أبو عون في جمادى الآخرة، وجهزت المراكب من الإسكندرية إلى برقة، فمات السفاح في ذي الحجة، واستخلف أبو جعفر عبد الله بن محمد المنصور، فأقرّ صالحا، وكتب إلى أبي عون بالرجوع، وردّ الدعاة، وقد بلغوا شبرت «1» ، وبلغ أبو عون برقة، فأقام بها أحد عشر يوما، ثم عاد إلى مصر في جيشه، فجهزه صالح إلى فلسطين لحربه فغلب، وسير إلى مصر ثلاثة آلاف رأس، ثم خرج صالح إلى فلسطين، واستخلف ابنه الفضل، فبلغ بلبيس ورجع، ثم خرج لأربع خلون من رمضان سنة سبع وثلاثين، فلقي أبا عون بالفرما، فأمّره على مصر صلاتها وخراجها، ومضى فدخل أبو عون الفسطاط لأربع بقين من رمضان.(2/104)
فولي: أبو عون ولايته الثانية من قبل صالح بن عليّ، ثم أفرده أبو جعفر بولايتها، وقدم أبو جعفر بيت المقدس، وكتب إلى أبي عون بأن يستخلف على مصر، ويخرج إليه، فاستخلف عكرمة على الصلاة، وعطاء على الخراج، وخرج للنصف من ربيع الأوّل سنة إحدى وأربعين ومائة، فلما صار إلى أبي جعفر ببيت المقدس، بعث أبو جعفر: موسى بن كعب فكانت ولاية أبي عون هذه ثلاث سنين، وستة أشهر.
فوليها: موسى بن كعب «1» بن عيينة ابن عائشة أبو عيينة من تميم من قبل أبي جعفر المنصور، وكان أحد نقباء بني العباس، فدخلها لأربع عشرة بقيت من ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين ومائة على صلاتها وخراجها، ونزل العسكر وبها الناس من الجند يغدون، ويروحون إليه، كما كانوا يفعلون بالأمراء قبله، فانتهوا عنه حتى لم يكن أحد يلزم بابه، وكان قد اتهم في خراسان بأمر أبي مسلم، فأمر به أسد بن عبد الله البجليّ والي خراسان، فألجم بلجام، ثم كسرت أسنانه، فكان يقول بمصر كانت لنا أسنان وليس عندنا خبز، فلما جاء الخبز ذهبت الأسنان. وكتب إليه أبو جعفر: إني عزلتك من غير سخطة، ولكن بلغني أنّ غلاما يقتل بمصر يقال له: موسى، فكرهت أن تكونه، فكان ذلك موسى بن مصعب زمن المهديّ، كما يأتي إن شاء الله تعالى، فولي موسى بن كعب سبعة أشهر، وصرف في ذي القعدة، واستخلف على الجند ابن خاله ابن حبيب، وعلى الخراج نوفل بن الفرات، وخرج لست بقين منه.
فولي: محمد بن الأشعث بن عقبة الخزاعيّ من قبل أبي جعفر على الصلاة والخراج، وقدم لخمس خلون من ذي الحجة سنة إحدى وأربعين ومائة، وبعث أبو جعفر إلى نوفل بن الفرات: أن اعرض على محمد بن الأشعث ضمان خراج مصر، فإن ضمنه فأشهد عليه، واشخص إليّ، وإن أبى فاعمل على الخراج، فعرض عليه ذلك فأبى، فانتقل نوفل الدواوين، فافتقد ابن الأشعث الناس، فقيل له: هم عند صاحب الخراج، فندم على تسليمه، وعقد على جيش بعث به إلى المغرب لحربه فانهزم، وخرج ابن الأشعث يوم الأضحى سنة اثنتين وأربعين، وتوجه إلى الإسكندرية، واستخلف محمد بن معاوية بن بجير بن رسان صاحب شرطته، ثم صرف ابن الأشعث، فكانت ولايته سنة وشهرا.
وولي: حميد بن قحطبة «2» بن شبيب بن خالد بن سعدان الطائيّ من قبل أبي جعفر على الصلاة والخراج، فدخل في عشرين ألفا من الجند لخمس خلون من رمضان سنة ثلاث(2/105)
وأربعين ومائة، ثم قدم عسكر آخر في شوّال، وقدم عليّ بن محمد بن عبد الله بن حسن بن الحسن داعية لأبيه وعمه، فدس إليه حميد، فتغيب، فكتب بذلك إلى أبي جعفر، فصرفه في ذي القعدة، وخرج لثمان بقين من ذي القعدة سنة أربع وأربعين.
فولي: يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة من قبل أبي جعفر على الصلاة والخراج، فقدم على البريد للنصف من ذي القعدة، فاستخلف على الخراج معاوية بن مروان بن موسى بن نصير، وفي إمرته ظهرت دعوة بني الحسن بن عليّ بمصر، وتكلم بها الناس، وبايع كثير منهم لعليّ بن محمد بن عبد الله، وطرق المسجد لعشر خلون من شوّال سنة خمس وأربعين، كما يذكر في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى، ثم قدمت الخطباء برأس إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن عليّ في ذي الحجة، فنصبت في المسجد، وورد كتاب أبي جعفر بأمر يزيد بن حاتم بالتحوّل من العسكر إلى الفسطاط، وأن يجعل الديوان في كنائس القصر، وذلك في سنة ست وأربعين ومائة من أجل ليلة المسجد، ومنع يزيد أهل مصر من الحج سنة خمس وأربعين، فلم يحج أحد منهم، ولا من أهل الشام، لما كان بالحجاز من الاضطراب بأمر بني حسن، ثم حج يزيد في سنة سبع وأربعين، واستخلف عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية بن خديج صاحب شرطته، وبعث جيشا لغزو الحبشة من أجل خارجيّ ظهر هناك، فظفر به الجيش، وقدم رأسه في عدّة رؤوس، فحملت إلى بغداد، وضم يزيد برقة إلى عمل مصر، وهو أوّل من ضمها إلى مصر، وذلك في سنة ثمان وأربعين، وخرج القبط بسخا «1» في سنة خمسين ومائة، فبعث إليهم جيشا، فشتته القبط ورجع منهزما، فصرفه أبو جعفر في ربيع الآخر سنة اثنتين وخمسين ومائة، فكانت ولايته سبع سنين وأربعة أشهر.
وولي: عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية بن حديج من قبل أبي جعفر على الصلاة لثنتي عشرة بقيت من ربيع الآخر، وهو أوّل من خطب بالسواد، وخرج إلى أبي جعفر لعشر بقين من رمضان سنة أربع وخمسين ومائة، واستخلف أخاه محمدا، ورجع في آخرها، ومات وهو وال مستهلّ صفر سنة خمس وخمسين ومائة، واستخلف أخاه محمدا، فكانت ولايته سنتين وشهرين.
فولي: محمد بن عبد الرحمن بن معاوية بن خديج باستخلاف أخيه، فأقرّه أبو جعفر على الصلاة، ومات وهو وال للنصف من شوّال، فكانت ولايته ثمانية أشهر ونصفا، واستخلف موسى بن عليّ.
فولي: موسى بن عليّ بن رباح باستخلاف محمد بن خديج، فأقرّه أبو جعفر على(2/106)
الصلاة وخرج القبط بهبيب في سنة ست وخمسين، فبعث إليهم وهزمهم، وكان يروح إلى المسجد ماشيا، وصاحب شرطته بين يديه يحمل الحربة، وإذا أقام صاحب الشرطة الجدود يقول له: ارحم أهل البلاد، فيقول: أيها الأمير ما يصلح الناس إلا ما يفعل بهم، وكأن يحدّث، فيكتب الناس عنه، ومات أبو جعفر لست خلون من ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ومائة، وبويع ابنه محمد المهديّ، فأقرّ موسى بن عليّ إلى سابع عشر ذي الحجّة سنة إحدى وستين ومائة، فكانت ولايته ست سنين وشهرين.
وولي: عيسى بن لقمان «1» بن محمد الجمحيّ: من قبل المهديّ على الصلاة والخراج، فقدم لثلاث عشرة بقيت من ذي الحجة سنة إحدى وستين ومائة، وصرف لثنتي عشرة بقيت من جمادى الأولى سنة اثنتين وستين ومائة فوليها أربعة أشهر.
ثم ولي: واضح مولى أبي جعفر من قبل المهديّ على الصلاة والخراج، فدخل لست بقين من جمادى الأولى وصرف في رمضان.
فولي: منصور بن يزيد بن منصور الرعينيّ، وهو ابن خال المهديّ على الصلاة، فقدم لإحدى عشرة خلت من رمضان سنة اثنتين وستين ومائة، وصرف للنصف من ذي الحجة، فكان مقامه شهرين وثلاثة أيام.
ثم ولي: يحيى بن داود أبو صالح من أهل خراسان من قبل المهديّ على الصلاة والخراج، فقدم في ذي الحجة، وكان أبوه تركيا، وهو من أشدّ الناس، وأعظمهم هيبة، وأقدمهم على الدم، وأكثرهم عقوبة، فمنع من غلق الدروب بالليل، ومن غلق الحوانيت حتى جعلوا عليها شرائح القصب لمنع الكلاب، ومنع حرّاس الحمامات أن يجلسوا فيها، وقال: من ضاع له شيء، فعليّ أداؤه، وكان الرجل يدخل الحمام، فيضع ثيابه، ويقول: يا أبا صالح احرسها، فكانت الأمور على هذا مدّة ولايته، وأمر الأشراف والفقهاء، وأهل النوبات بلبس القلانس الطوال، والدخول بها على السلطان يوم الاثنين والخميس بلا أردية، وكان أبو جعفر المنصور إذا ذكره قال: هو رجل يخافني، ولا يخاف الله، فولي إلى المحرّم سنة أربع وستين.
وقدم: سالم بن سوادة التميميّ من قبل المهديّ على الصلاة، ومعه أبو قطيعة إسماعيل بن إبراهيم على الخراج لثنتي عشرة خلت من المحرّم.
ثم ولي: إبراهيم بن صالح بن عليّ بن عبد الله بن عباس من قبل المهديّ على الصلاة والخراج، فقدم لإحدى عشرة خلت من المحرّم سنة خمس وستين، وابتنى دارا عظيمة(2/107)
بالموقف من العسكر، وخرج دحية بن المعصب بن الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان بالصعيد، ونابذ، ودعا إلى نفسه بالخلافة، فتراخى عنه إبراهيم، ولم يحفل بأمره حتى ملك عامّة الصعيد، فسخط المهديّ لذلك، وعزله عزلا قبيحا لسبع خلون من ذي الحجة سنة سبع وستين، فوليها ثلاث سنين.
ثم ولي: موسى بن مصعب بن الربيع من أهل الموصل على الصلاة والخراج من قبل المهديّ، فقدم لسبع خلون من ذي الحجة المذكور، فردّ إبراهيم، وأخذ منه وممن عمل له ثلثمائة ألف دينار، ثم سيره إلى بغداد، وشدّد موسى في استخراج الخراج، وزاد على كل فدّان ضعف ما يقبل به، وارتشى في الأحكام، وجعل خرجا على أهل الأسواق، وعلى الدواب، فكرهه الجند ونابذوه، وثارت قيس واليمانية، وكاتبوا أهل الفسطاط، فاتفقوا عليه وبعث بجيش إلى قتال دحية بالصعيد، وخرج في جند مصر كلهم لقتال أهل الحوف.
فلما التقوا انهزم عنه أهل مصر بأجمعهم، وأسلموه فقتل من غير أن يتكلم أحد من أهل مصر لتسع خلون من شوّال سنة ثمان وستين ومائة، فكانت ولايته عشرة أشهر، وكان ظالما غاشما سمعه الليث بن سعد يقرأ في خطبته:: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها
، فقال الليث: اللهم لا تمقتنا.
ثم ولي: عسامة بن عمرو «1» باستخلاف موسى بن مصعب، وبعث إلى دحية جيشا مع أخيه بكار بن عمرو، فحارب يوسف بن نصير، وهو على جيش دحية، فتطاعنا ووضع يوسف الرمح في خاصرة بكار، ووضع بكار الرمح في خاصرة يوسف فقتلا معا، ورجع الجيشان منهزمين، وذلك في ذي الحجة، وصرف عسامة لثلاث عشرة خلت من ذي الحجة بكتاب ورد عليه من الفضل بن صالح بأنه ولي مصر، وقد استخلفه، فخلعه إلى سلخ المحرّم سنة تسع وستين ومائة.
ثم قدم الفضل بن صالح بن عليّ بن عبد الله بن عباس سلخ المحرّم المذكور في جيوش الشام، ومات المهديّ في المحرّم هذا، وبويع موسى الهادي، فأقرّ الفضل، وقدم مصر يضطرب من أهل الخوف ومن خروج دحية، فإنّ الناس كانوا قد كاتبوه ودعوه، فسير العساكر حتى هزم دحية، وأسر وسيق إلى الفسطاط فضربت عنقه، وصلب في جمادى الآخرة سنة تسع وستين، فكان الفضل يقول: أنا أولى الناس بولاية مصر، لقيامي في أمر دحية، وقد عجز عنه غيري فعزل، وندم على قتل دحية، والفضل هو الذي بنى الجامع بالعسكر في سنة تسع وستين، فكانوا يجمعون فيه.(2/108)
ثم ولي: عليّ بن سليمان بن عليّ بن عبد الله بن عباس من قبل الهادي على الصلاة والخراج، فدخل في سنة تسع وستين ومائة، ومات الهادي للنصف من ربيع الأوّل سنة سبعين ومائة، وبويع هارون بن محمد الرشيد، فأقرّ عليّ بن سليمان، وأظهر في ولايته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنع الملاهي والخمور، وهدم الكنائس المحدثة بمصر، وبذل له في تركها خمسون ألف دينار، فامتنع وكان كثير الصدقة في الليل، وأظهر أنه تصلح له الخلافة، وطمع فيها، فسخط عليه هارون الرشيد، وعزله لأربع بقين من ربيع الأوّل سنة إحدى وسبعين ومائة.
ثم ولي: موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن عباس من قبل الرشيد على الصلاة، فأذن للنصارى في بنيان الكنائس التي هدمها عليّ بن سليمان، فبنيت بمشورة الليث بن سعد، وعبد الله بن لهيعة، ثم صرف لأربع عشرة خلت من رمضان سنة اثنتين وسبعين ومائة، فكانت ولايته سنة وخمسة أشهر ونصفا.
ثم ولي: مسلمة بن يحيى بن قرّة بن عبيد الله البجليّ من أهل جرجان من قبل الرشيد على الصلاة، ثم صرف في شعبان سنة ثلاث وسبعين، فوليها أحد عشر شهرا.
ثم ولي: محمد بن زهير الأزدي على الصلاة والخراج لخمس خلون من شعبان، فبادر الجند لعمر بن غيلان صاحب الخراج، فلم يدفع عنه، فصرف بعد خمسة أشهر في سلخ ذي الحجة سنة ثلاث وسبعين ومائة.
فولي: داود بن يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة، وقدم هو وإبراهيم بن صالح بن عليّ، فولى داود الصلاة، وبعث بإبراهيم لإخراج الجند الذين ثاروا من مصر، فدخل لأربع عشرة خلت من المحرّم سنة أربع وسبعين ومائة، فأخرجت الجند العديدة إلى المشرق والمغرب في عالم كثير، فساروا في البحر فأسرتهم الروم، وصرف لست خلون من المحرّم سنة خمس وسبعين، فكانت ولايته سنة ونصف شهر.
ثم ولي: موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن عباس على الصلاة والخراج من قبل الرشيد، فدخل لسبع خلون من صفر سنة خمس وسبعين، وصرف لليلتين بقيتا من صفر سنة ست وسبعين ومائة، فولي سنة واحدة.
ثم ولي: إبراهيم بن صالح بن عليّ بن عبد الله بن عباس ثانيا من قبل الرشيد، فكتب إلى عسامة بن عمرو، فاستخلفه، ثم قدم نصر بن كلثوم خليفته على الخراج مستهلّ ربيع الأوّل، وتوفي عسامة لسبع بقين من ربيع الآخر، فقدم روح بن روح بن زنباع خليفة لإبراهيم على الصلاة والخراج، ثم قدم إبراهيم للنصف من جمادى الأولى، وتوفي وهو وال لثلاث خلون من شعبان، فكان مقامه بمصر شهرين وثمانية عشر يوما، وقام بالأمر بعده ابنه(2/109)
صالح بن إبراهيم، مع صاحب شرطته خالد بن يزيد.
ثم ولي: عبد الله بن المسيب بن زهير بن عمرو الضبيّ من قبل الرشيد على الصلاة لإحدى عشرة بقيت من رمضان سنة ست وسبعين ومائة، وصرف في رجب سنة سبع وسبعين ومائة.
فولي: إسحاق بن سليمان بن عليّ بن عبد الله بن عباس من قبل الرشيد على الصلاة والخراج مستهلّ رجب، فكشف أمر الخراج، وزاد على المزارعين زيادة أجحفت بهم، فخرج عليه أهل الحوف، فحاربهم، فقتل كثير من أصحابه، فكتب إلى الرشيد بذلك، فعقد لهرثمة بن أعين في جيش عظيم، وبعث به فنزل الحوف، فتلقاه أهله بالطاعة، وأذعنوا فقبل منهم، واستخرج الخراج كله، فكان صرف إسحاق في رجب سنة ثمان وسبعين ومائة.
فولي: هرثمة بن أعين من قبل الرشيد على الصلاة والخراج لليلتين خلتا من شعبان ثم سار إلى إفريقية لثنتي عشر خلت من شوّال، فأقام بمصر شهرين ونصفا.
ثم ولي: عبد الملك بن صالح بن عليّ بن عبد الله بن عباس من قبل الرشيد على الصلاة والخراج، فلم يدخل مصر، واستخلف عبد الله بن المسيب بن زهير الضبيّ، وصرف في سلخ سنة ثمان وسبعين ومائة.
فولي: عبيد الله بن المهديّ محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عباس من قبل الرشيد على الصلاة والخراج في يوم الاثنين لثنتي عشرة خلت من المحرّم سنة تسع وسبعين ومائة، فاستخلف ابن المسيب، ثم قدم لإحدى عشرة خلت من ربيع الأول، وصرف في شهر رمضان، فولي تسعة أشهر وخرج من مصر لليلتين خلتا من شوّال. فأعاد الرشيد موسى بن عيسى وولاه مرّة ثالثة على الصلاة، فقدم ابنه يحيى بن موسى خليفة له لثلاث خلون من رمضان، ثم قدم آخر ذي القعدة، وصرف في جمادى الآخرة سنة ثمانين ومائة.
فولى الرشيد عبيد الله بن المهديّ ثانيا على الصلاة، فقدم داود بن حباش خليفة له لسبع خلون من جمادى الآخرة، ثم قدم لأربع خلون من شعبان، وصرف لثلاث خلون من رمضان سنة إحدى وثمانين ومائة.
فولي: إسماعيل بن صالح بن عليّ بن عبد الله بن عباس على الصلاة لسبع خلون من رمضان، فاستخلف عون بن وهب الخزاعيّ، ثم قدم لخمس بقين منه. قال ابن عفير:
ما رأيت على هذه الأعواد أخطب من إسماعيل بن صالح، ثم صرف في جمادى الآخرة سنة اثنتين وثمانين ومائة.
فولي: إسماعيل بن عيسى بن موسى بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن عباس من قبل الرشيد على الصلاة، فقدم لأربع عشرة بقيت من جمادى الآخرة، وصرف في رمضان.(2/110)
فولي: الليث بن الفضل «1» البيورديّ من أهل بيورد على الصلاة والخراج، وقدم لخمس خلون من شوّال، ثم خرج إلى الرشيد لسبع بقين من رمضان سنة ثلاث وثمانين ومائة بالمال والهدايا، واستخلف أخاه الفضل بن عليّ، ثم عاد في آخر السنة، وخرج ثانيا بالمال لتسع بقين من رمضان سنة خمس وثمانين، واستخلف هاشم بن عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية بن حديج، وقدم لأربع عشرة خلت من المحرّم سنة ست وثمانين، فكان كلما غلق خراج سنة، وفرغ من حسابها خرج بالمال إلى أمير المؤمنين هارون الرشيد، ومعه الحساب، ثم خرج عليه أهل الحوف، وساروا إلى الفسطاط، فخرج إليهم في أربعة آلاف ليومين بقيا من شعبان سنة ست وثمانين ومائة، واستخلف عبد الرحمن بن موسى بن عليّ بن رباح على الجند والخراج، فواقع أهل الحوف، وانهزم عنه الجند، فبقي في نحو المائتين فحمل بهم، وهزم القوم من أرض الجبّ إلى غيفة «2» ، وبعث إلى الفسطاط بثمانين رأسا، وقدم فرجع أهل الحوف، ومنعوا الخراج، فخرج ليث إلى الرشيد، وسأله أن يبعث معه بالجيوش، فإنه لا يقدر على استخراج الخراج من أهل الأحواف إلّا بجيش، فرفع محفوظ بن سليمان أنه يضمن خراج مصر عن آخره بغير سوط ولا عصا، فولاه الرشيد الخراج، وصرف ليثا عن الصلاة والخراج، وبعث أحمد بن إسحاق على الصلاة، مع محفوظ، وكانت ولاية ليث أربع سنين، وسبعة أشهر.
فولي: أحمد بن إسماعيل بن عليّ بن عبد الله بن عباس من قبل الرشيد على الصلاة والخراج، وقدم لخمس بقين من جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين، ثم صرف لثمان عشرة خلت من شعبان سنة تسع وثمانين، فولى سنتين وشهرا ونصفا.
ثم ولي: عبيد الله بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن عباس على الصلاة، واستخلف لهيعة بن عيسى بن لهيعة الحضرميّ، ثم قدم للنصف من شوّال، وصرف لإحدى عشرة بقيت من شعبان سنة تسعين ومائة، وخرج واستخلف هاشم بن عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية بن خديج.
وولي: الحسين بن جميل «3» من قبل الرشيد على الصلاة، وقدم لعشر خلون من رمضان، ثم جمع له الخراج مع الصلاة في رجب سنة إحدى وتسعين، وخرج أهل الحوف، وامتنعوا من أداء الخراج، وخرج أبو النداء بأيلة في نحو ألف رجل، فقطع الطريق(2/111)
بأيلة «1» ، وشعيب، ومدين «2» ، وأغار على بعض قرى الشام، وضوى إليه من جذام جماعة، فبلغ من النهب والقتل مبلغا عظيما، فبعث الرشيد من بغداد جيشا لذلك، وبعث الحسين بن جميل من مصر: عبد العزيز بن الوزير بن صابي الجرويّ في عسكر، فالتقى العسكران بأيلة، فظفر عبد العزيز بأبي النداء، وسار جيش الرشيد إلى بلبيس في شوّال سنة إحدى وتسعين ومائة، فأذعن أهل الحوف بالخراج، وصرف ابن جميل لثنتي عشرة خلت من ربيع الآخر سنة اثنتين، وتسعين ومائة.
فولي: مالك بن دلهم «3» بن عمير الكلبيّ على الصلاة والخراج، وقدم لسبع بقين من ربيع الآخر، وفرغ يحيى بن معاذ أمير جيش الرشيد من أمر الحوف، وقدم الفسطاط لعشر بقين من جمادى الآخرة، فكتب إلى أهل الأحواف أن اقدموا حتى أوصي بك مالك بن دلهم، فدخل الرؤساء من اليمانية والقيسية، فأخذت عليهم الأبواب، وقيدوا، وسار بهم للنصف من رجب، وصرف مالك لأربع خلت من صفر سنة ثلاث وتسعين ومائة.
فولي الحسن بن التختاح بن التختكان على الصلاة والخراج، فاستخلف العلاء بن عاصم الخولانيّ، وقدم لثلاث خلون من ربيع الأوّل، ثم مات الرشيد، واستخلف ابنه محمد الأمين، فثار الجند بمصر، ووقعت فتنة عظيمة قتل فيها عدّة، وسير الحسن مال مصر، فوثب أهل الرملة، وأخذوه، وبلغ الحسن عزله، فسار من طريق الحجاز لفساد طريق الشام لثمان بقين من ربيع الأوّل سنة أربع وتسعين ومائة، واستخلف عوف بن وهب على الصلاة، ومحمد بن زياد بن طبق القيسيّ على الخراج.
فولي حاتم بن هرثمة بن أعين من قبل الأمين على الصلاة والخراج، وقدم في ألف من الأبناء، فنزل بلبيس، فصالحه أهل الأحواف على خراجهم، وثار عليه أهل تنو وتمي «4» ، وعسكروا، فبعث إليهم جيشا، فانهزموا، ودخل حاتم إلى الفسطاط، ومعه نحو مائة من الرهائن لأربع خلون من شوّال، وصرف في جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين ومائة.
فولي جابر بن الأشعث بن يحيى الطائيّ من قبل الأمين على الصلاة والخراج لخمس بقين من جمادى الآخرة، وكان لينا، فلما حدثت فتنة الأمين والمأمون، قام السريّ بن الحكم غضبا للمأمون، ودعا الناس إلى خلع الأمين، فأجابوه وبايعوا المأمون(2/112)
لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ست وتسعين، وأخرجوا جابر بن الأشعث، وكانت ولايته سنة.
فولي عباد بن محمد بن حيان أبو نصر من قبل المأمون على الصلاة والخراج، لثمان خلون من رجب بكتاب هرثمة بن أعين، وكان وكيله على ضياعه بمصر في الثامن من رجب سنة ست وتسعين، فبلغ الأمين ما كان بمصر، فكتب إلى ربيعة بن قيس بن الزبير الجرشي رئيس قيس الحوف بولاية مصر، وكتب إلى جماعة بمعاونته، فقاموا ببيعة الأمين، وخلعوا المأمون، وساروا لمحاربة أهل الفسطاط، فخندق عباد، وكانت حروب، فقتل الأمين، وصرف عباد في صفر سنة ثمان وتسعين ومائة، فكانت ولايته سنة وسبعة أشهر.
فولي المطلب بن عبد الله بن مالك الخزاعيّ من قبل المأمون على الصلاة والخراج، فدخل من مكة للنصف من ربيع الأوّل، فكانت في أيامه حروب، وصرف في شوّال بعد سبعة أشهر.
فولي العباس بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن عباس من قبل المأمون على الصلاة والخراج، فقدم ابنه عبد الله، ومعه الحسين بن عبيد بن لوط الأنصاريّ في آخر شوّال، فسجنا المطلب، فثار الجند مرارا، فمنعهم الأنصاريّ أعطياتهم وتهدّدهم، وتحامل على الرعية وعسفها، وتهدّد الجميع، فثاروا، وأخرجوا المطلب من الحبس، وأقاموه لأربع عشرة خلت من المحرّم سنة تسع وتسعين ومائة، وأقبل العباس، فنزل بلبيس، ودعا قيسا إلى نصرته، ومضى إلى الجرويّ بتنيس، ثم عاد فمات في بلبيس لثلاث عشرة بقيت من جمادى الآخرة، ويقال: إن المطلب دسّ إليه سما في طعامه فمات منه، وكانت حروب وفتن، فكانت ولاية المطلب هذه سنة وثمانية أشهر.
ثم ولي السري بن الحكم بن يوسف من قوم الزط ومن أهل بلخ بإجماع الجند عليه عند قيامه على المطلب في مستهلّ رمضان سنة مائتين.
ثم ولي سليمان بن غالب بن جبريل البجليّ على الصلاة والخراج بمبايعة الجند له لأربع خلون من ربيع الأوّل سنة إحدى ومائتين، فكانت حروب، ثم صرف بعد خمسة أشهر.
وأعيد السري بن الحكم ثانيا من قبل المأمون على الصلاة والخراج، فذمّت ولايته، وأخرجه الجند من الحبس لثنتي عشرة خلت من شعبان، وتتبع من حاربه، وقوي أمره ومات، وهو وال لانسلاخ جمادى الأولى سنة خمس ومائتين، فكانت ولايته هذه ثلاث سنين وتسعة أشهر وثمانية عشر يوما.
فولي ابنه محمد بن السريّ أبو نصر أوّل جمادى الآخرة على الصلاة والخراج، وكان(2/113)
الجروي قد غاب على أسفل الأرض فجرت بينهما حروب، ثم مات لثمان خلون من شعبان سنة ست ومائتين، وكانت ولايته أربعة عشر شهرا.
ثم ولي عبيد الله بن السريّ بن الحكم بمبايعة الجند لتسع خلون من شعبان على الصلاة والخراج، فكانت بينه وبين الجرويّ حروب إلى أن قدم عبد الله بن طاهر، وأطعن له عبيد الله في آخر صفر سنة إحدى عشرة ومائتين.
فولي عبد الله بن طاهر «1» بن الحسين بن مصعب من قبل المأمون على الصلاة والخراج، فدخل يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من ربيع الأوّل سنة إحدى عشرة ومائتين، وأقام في معسكره حتى خرج عبد الله بن السريّ إلى بغداد للنصف من جمادى الأولى، ثم سار إلى الإسكندرية مستهلّ صفر سنة اثنتي عشرة، واستخلف عيسى بن يزيد الجلوديّ، فحصرها بضع عشرة ليلة، ورجع في جمادى الآخرة، وأمر بالزيادة في الجامع العتيق، فزيد فيه مثله، وركب النيل متوجها إلى العراق لخمس بقين من رجب، وكان مقامه بمصر واليا سبعة عشر شهرا، وعشرة أيام.
ثم ولي عيسى بن يزيد الجلوديّ باستخلاف ابن طاهر على صلاتها إلى سابع عشر ذي القعدة سنة ثلاث عشرة، فصرف ابن طاهر، وولي الأمير أبو إسحاق بن هارون الرشيد مصر، فأقرّ عيسى على الصلاة فقط، وجعل على الخراج: صالح بن شيرازاد، فظلم الناس، وزاد عليهم في خراجهم، فانتفض أهل أسفل الأرض، وعسكروا، فبعث عيسى بابنه محمد في جيش، فحاربوه فانهزم، وقتل أصحابه في صفر سنة أربع عشرة.
فولي عمير بن الوليد التميميّ باستخلاف أبي إسحاق بن الرشيد على الصلاة لسبع عشرة خلت من صفر، وخرج ومعه عيسى الجلوديّ لقتال أهل الحوف في ربيع الآخر، واستخلف ابنه محمد بن عمير فاقتتلوا، وكانت بينهم معارك قتل فيها عمير لست عشرة خلت من ربيع الآخر، فكانت مدّة إمرته ستين يوما.
فولي عيسى الجلوديّ ثانيا لأبي إسحاق على الصلاة، فحارب أهل الحوف بمنية مطر، ثم انهزم في رجب، وأقبل أبو إسحاق إلى مصر في أربعة آلاف من أتراكه، فقاتل أهل الحوف في شعبان، ودخل إلى مدينة الفسطاط لثمان بقين منه، وقتل أكابر الحوف، ثم خرج إلى الشام غرّة المحرّم سنة خمس عشرة ومائتين في أتراكه، ومعه جمع من الأسارى في ضر وجهد شديد.(2/114)
وولي على مصر عبدويه بن جبلة «1» من الأبناء على الصلاة، فخرج ناس بالحوف في شعبان، فبعث إليهم وحاربهم حتى ظفر بهم، ثم قدم الأفشين حيدر بن كاوس الصفديّ إلى مصر لثلاث خلون من ذي الحجة، ومعه عليّ بن عبد العزيز الجرويّ لأخذ ماله، فلم يدفع إليه شيئا، فقتله، وصرف عبدويه، وخرج إلى برقة.
وولي عيسى بن منصور بن موسى بن عيسى الرافعيّ، فولى من قبل أبي إسحاق أوّل سنة ست عشرة على الصلاة، فانتقضت أسفل الأرض عربها، وقبطها في جمادى الأولى، وأخرجوا العمال لسوء سيرتهم، وخلعوا الطاعة، فقدم الأفشين من برقة للنصف من جمادى الآخرة، ثم خرج هو وعيسى في شوّال، فأوقعا بالقوم، وأسرا منهم وقتلا، ومضى الأفشين ورجع عيسى، فسار الأفشين إلى الحوف، وقتل جماعتهم، وكانت حروب إلى أن قدم أمير المؤمنين عبد الله المأمون لعشر خلون من المحرّم سنة سبع عشرة ومائتين، فسخط على عيسى وحلّ لواءه، فأخذه بلباس البياض، ونسب الحدث إليه، وإلى عماله وسير الجيوش وأوقع بأهل الفساد وسبى القبط، وقتل مقاتلتهم، ثم رحل لثمان عشرة خلت من صفر بعد تسعة وأربعين يوما.
وولي كيدر «2» وهو نصر بن عبد الله أبو مالك الصفديّ، فورد كتاب المأمون عليه بأخذ الناس بالمحنة في جمادى الآخرة سنة ثمان عشرة، والقاضي بمصر يومئذ هارون بن عبد الله الزهريّ، فأجاب، وأجاب الشهود، ومن وقف منهم سقطت شهادته، وأخذ بها القضاة والمحدّثون والمؤذنون، فكانوا على ذلك من سنة ثمان عشرة إلى سنة اثنتين وثلاثين، ومات المأمون في رجب سنة ثمان عشرة، وبويع أبو إسحاق المعتصم، فورد كتابه على كيدر ببيعته، ويأمره بإسقاط من في الديوان من العرب، وقطع العطاء عنهم، ففعل ذلك، فخرج يحيى بن الوزير الجرويّ في جمع من لخم وجذام، ومات كيدر في ربيع الآخر سنة تسع عشرة ومائتين.
فولى ابنه المظفر بن كيدر باستخلاف أبيه وخرج إلى يحيى بن وزير، وقاتله وأسره في جمادى الآخرة، ثم صرفت مصر إلى أبي جعفر أشناس فدعي له بها، وصرف مظفر في شعبان.
فولي موسى بن أبي العباس ثابت من قبل أشناس على الصلاة مستهلّ شهر رمضان(2/115)
سنة تسع عشرة، وصرف في ربيع الآخرة سنة أربع وعشرين ومائتين، فكانت ولايته أربع سنين، وسبعة أشهر.
فولى مالك بن كيدر بن عبد الله الصفديّ من قبل أشناس على الصلاة وقدم لسبع بقين من ربيع الآخر، وصرف لثلاث خلون من ربيع الآخر سنة ست وعشرين، فولى سنتين وأحد عشر يوما، وتوفي لعشر خلون من شعبان سنة ثلاث وثلاثين ومائتين.
فولي عليّ بن يحيى «1» الأرمنيّ من قبل أشناس على صلاتها، وقدم لسبع خلون من ربيع الآخر سنة ست وعشرين ومائتين، ومات المعتصم في ربيع الأوّل سنة سبع وعشرين، وبويع: الواثق بالله، فأقرّه إلى سابع ذي الحجة سنة ثمان وعشرين ومائتين، فكانت ولايته سنتين وثلاثة أشهر.
ثم ولي عيسى بن منصور الثانية من قبل أشناس على صلاتها، فدخل لسبع خلون من المحرّم سنة تسع وعشرين ومائتين، ومات أشناس سنة ثلاثين، وجعل مكانه إيتاخ، فأقرّ عيسى، ومات الواثق، وبويع المتوكل، فصرف عيسى للنصف من ربيع الأوّل سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، وقدم عليّ بن مهرويه خليفة هرثمة بن النضر، ثم مات عيسى في قبة الهواء بعد عزله لإحدى عشرة خلت من ربيع الآخر.
فولي هرثمة بن نضر الجبليّ من أهل الجبل لإيتاخ على الصلاة، وقدم لست خلون من رجب سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، فورد كتاب المتوكل يترك الجدال في القرآن لخمس خلون من جمادى الآخرة سنة أربع وثلاثين ومائتين، ومات هرثمة، وهو وال لسبع بقين من رجب سنة أربع، واستخلف ابنه حاتم بن هرثمة.
فولي حاتم بن هرثمة بن النضر باستخلاف أبيه له على الصلاة، وصرف لست خلون من رمضان.
فولي عليّ بن يحيى بن الأرمنيّ الثانية من قبل إيتاخ على الصلاة لست خلون من رمضان، وصرف إيتاخ في المحرّم سنة خمس وثلاثين، واستصفيت أمواله بمصر، وترك الدعاء له، ودعي للمنتصر مكانه، وصرف عليّ في ذي الحجة منها.
فولي إسحاق بن يحيى «2» بن معاذ بن مسلم الجبليّ من قبل المنتصر وليّ عهد أبيه المتوكل على الله على الصلاة والخراج، فقدم لإحدى عشرة خلت من ذي الحجة، فورد(2/116)
كتاب المتوكل والمنتصر بإخراج الطالبيين من مصر إلى العراق، فأخرجوا، ومات إسحاق بعد عزله أوّل ربيع الآخر سنة سبع وثلاثين ومائتين.
فولي خوط عبد الواحد بن يحيى بن منصور بن طلحة بن زريق من قبل المنتصر على الصلاة والخراج، فقدم لتسع بقين من ذي القعدة سنة ست وثلاثين ومائتين، وصرف عن الخراج لتسع خلون من صفر سنة سبع وثلاثين، وأقرّ على الصلاة، ثم صرف سلخ صفر سنة ثمان وثلاثين بخليفته عنبسة على الصلاة والشركة في الخراج مستهل ربيع الأوّل.
فولي عنبسة بن إسحاق «1» بن شمر عبس أبو جابر من قبل المنتصر على الصلاة، وشريكا لأحمد بن خالد الضريقسيّ صاحب الخراج، فقدم لخمس خلون من ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين ومائتين وأخذ العمال بردّ المظالم، وأقامهم للناس، وأنصف منهم، وأظهر من العدل ما لم يسمع بمثله في زمانه، وكان يروح ماشيا إلى المسجد الجامع من العسكر، وكان ينادي في شهر رمضان السحور، وكان يرمى بمذهب الخوارج، وفي ولايته نزل الروم دمياط، وملكوها وما فيها، وقتلوا بها جمعا كثيرا من الناس وسبوا النساء والأطفال، فنفر إليهم يوم النحر من سنة ثمان وثلاثين في جيشه، وكثير من الناس، فلم يدركهم، وأضيف له الخراج مع الصلاة، ثم صرف عن الخراج أوّل جمادى الآخرة سنة إحدى وأربعين، وأفرد بالصلاة، وورد الكتاب بالدعاء للفتح بن خاقان «2» في ربيع الأوّل سنة اثنتين وأربعين، فدعا له، وعنبسة هذا آخر من ولي مصر من العرب، وآخر أمير صلى بالناس في المسجد الجامع، وصرف أوّل رجب منها، فقدم العباس بن عبد الله بن دينار خليفة يزيد بن عبد الله بولاية يزيد، وكانت ولاية عنبسة أربع سنين، وأربعة أشهر، وخرج إلى العراق في رمضان سنة أربع وأربعين.
فولي يزيد بن عبد الله بن دينار أبو خالد من الموالي، ولاه: المنتصر على الصلاة، فقدم لعشر بقين من رجب سنة اثنتين وأربعين، فأخرج المؤنثين من مصر، وضربهم وطاف بهم، ومنع من النداء على الجنائز، وضرب فيه، وخرج إلى دمياط مرابطا في المحرّم سنة خمس وأربعين ورجع في ربيع الأوّل، فبلغه نزول الروم الفرما، فرجع إليها، فلم يلقهم، وعطل الرهان وباع الخيل التي تتخذ للسلطان، فلم تجر إلى سنة تسع وأربعين، وتتبّع الروافض، وحملهم إلى العراق، وبنى مقياس النيل في سنة سبع وأربعين، وجرت على(2/117)
العلويين في ولايته شدائد، ومات المتوكل في شوّال، وبويع ابنه محمد المنتصر، ومات الفتح بن خاقان، فأقرّ المنتصر يزيد على مصر، ثم مات المنتصر في ربيع الأوّل سنة ثمان وأربعين، وبويع المستعين، فورد كتابه بالاستسقاء لقحط كان بالعراق، فاستسقوا السبع عشرة خلت من ذي القعدة، واستسقى أهل الآفاق في يوم واحد، وخلع المستعين في المحرّم سنة اثنتين وخمسين، وبويع المعتز، فخرج جابر بن الوليد بأرض الإسكندرية، وكانت هناك حروب ابتدأت من ربيع الآخر، فقدم مزاحم بن خاقان من العراق معينا ليزيد في جيش كثيف لثلاث عشرة بقيت من رجب، فواقعهم حتى ظفر بهم، ثم صرف يزيد، وكانت مدّته عشر سنين، وسبعة أشهر وعشرة أيام.
فولي مزاحم بن خاقان بن عرطوج أبو الفوارس التركيّ لثلاث خلون من ربيع الأوّل سنة ثلاث، وخمسين ومائتين على الصلاة من قبل المعتز، وخرج إلى الحوف، فأوقع بأهله وعاد، ثم خرج إلى الجيزة، فسار إلى تروجة، فأوقع بأهلها، وأسر عدّة من أهل البلاد، وقتل كثيرا، وسار إلى الفيوم، فطاش سيفه، وكثر إيقاعه بسكان النواحي وعاد.
وولي الشرطة أرجوز، فمنع النساء من الحمامات والمقابر، وسجن المؤنثين والنوائح، ومنع من الجهر بالبسملة في الصلاة بالجامع في رجب سنة ثلاث وخمسين، ولم يزل أهل مصر على الجهر بها في الجامع منذ الإسلام إلى أن منع منها: أرجوز، وأخذ أهل الجامع بتمام الصفوف، ووكل بذلك رجلا من العجم يقوم بالسوط من مؤخر المسجد، وأمر أهل الحلق بالتحوّل إلى القبلة قبل إقامة الصلاة، ومنع من المساند التي يستند إليها، ومن الحصر التي كانت للمجالس في الجامع، وأمر أن تصلى التراويح في رمضان خمس تراويح، ولم يزل أهل مصر يصلونها ستا إلى شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين ومائتين، ومنع من التثويب، وأمر بالأذان يوم الجمعة في مؤخر المسجد، وأن يغلس بصلاة الصبح، ونهى أن يشق ثوب على ميت أو يسوّد وجه، أو يحلق شعر، أو تصيح امرأة، وعاقب في ذلك، وشدّد فيه، ثم مات مزاحم لخمس مضين من المحرّم سنة أربع وخمسين.
فاستخلف ابنه أحمد بن مزاحم، فولي باستخلاف أبيه على الصلاة إلى أن مات لسبع خلون من ربيع الآخر، فكانت ولايته شهرين ويوما، فاستخلف أرجوز بن أولع طرخان التركيّ على الصلاة، فولي خمسة أشهر ونصفا، وخرج أوّل ذي القعدة بعد أن صرف بأحمد بن طولون «1» في شهر رمضان سنة أربع وخمسين ومائتين، وإليه كان أمر البلد جميعه، من أيام مزاحم، وفي أيام ابنه أحمد أيضا، والله تعالى أعلم.(2/118)
ذكر القطائع ودولة بني طولون
اعلم: أنّ القطائع قد زالت آثارها، ولم يبق لها رسم يعرف، وكان موضعها: من قبة الهواء التي صار مكانها قلعة الجبل إلى جامع ابن طولون، وهذا أشبه أن يكون طول القطائع، وأمّا عرضها: فإنه من أوّل الرميلة تحت القلعة إلى الموضع الذي يعرف اليوم بالأرض الصفراء عند مشهد الرأس الذي يقال له الآن: زين العابدين، وكانت مساحة القطائع ميلا في ميل، فقبة الهواء كانت في سطح الجرف الذي عليه قلعة الجبل.
وتحت قبة الهواء: قصر ابن طولون، وموضع هذا القصر: الميدان السلطانيّ تحت القلعة والرميلة التي تحت القلعة مكان سوق الخيل والحمير والجمال. كانت بستانا، ويجاورها الميدان في الموضع الذي يعرف اليوم: بالقبيبات، فيصير الميدان، فيما بين القصر والجامع الذي أنشأه أحمد بن طولون، وبحذاء الجامع: دار الأمارة في جهته القبلية، ولها باب من جدار الجامع يخرج منه إلى المقصورة المحيطة بمصلى الأمير إلى جوار المحراب، وهناك أيضا دار الحرم، والقطائع: عدّة قطع، تسكن فيها عبيد ابن طولون، وعساكره وغلمانه، وكل قطيعة لطائفة، فيقال: قطيعة السودان، وقطيعة الروم، وقطيعة الفرّاشين، ونحو ذلك، فكانت كل قطيعة لسكنى جماعة بمنزلة الحارات التي بالقاهرة، وكان ابتداء عمارة هذه القطائع، وسببها: أنّ أمير المؤمنين المعتصم بالله أبا إسحاق محمد بن هارون الرشيد، لما اختص بالأتراك، ووضع من العرب، وأخرجهم من الديوان، وأسقط أسماءهم، ومنعهم العطاء، وجعل الأتراك أنصار دولته، وأعلام دعوته. كان من عظمت عنده منزلته قلّده الأعمال الجليلة الخارجة عن الحضرة فيستخلف على ذلك العمل الذي تقلده من يقوم بأمره، ويحمل إليه ماله، ويدعى له على منابره كما يدعى للخليفة، وكانت مصر عندهم بهذه السبيل.
وقصد المعتصم، ومن بعده من الخلفاء بذلك، العمل مع الأتراك محاكاة ما فعله الرشيد، بعبد الملك بن صالح، والمأمون بطاهر بن الحسين، ففعل المعتصم مثل ذلك بالأتراك، فقلد أشناس، وقلّد الواثق إيتاخ، وقلد المتوكل نقا ووصيف، وقلد المهتدي ماجور، وغير من ذكرنا من أعمال الأقاليم ما قد تضمنته كتب التاريخ، فتقلد باكباك مصر، وطلب من يخلفه عليها، وكان أحمد بن طولون قد مات أبوه في سنة أربعين ومائتين، ولأحمد عشرون سنة منذ ولد من جارية كانت تدعى قاسم، وكان مولده في سنة عشرين ومائتين، وولدت أيضا أخاه موسى وحبسية وسمانة، وكان طولون من الطغرغر مما حمله نوح بن أسد عامل بخارى إلى المأمون فيما كان موظفا عليه من المال، والرقيق والبراذين، وغير ذلك في كل سنة، وذلك في سنة مائتين، فنشأ أحمد بن طولون نشأ جميلا غير نشء أولاد العجم، فوصف بعلوّ الهمة، وحسن الأدب والذهاب بنفسه عما كان يترامى إليه أهل(2/119)
طبقته، وطلب الحديث، وأحب الغزو، وخرج إلى طرسوس «1» مرّات، ولقي المحدّثين، وسمع منهم، وكتب العلم، وصحب الزّهاد وأهل الورع، فتأدّب بآدابهم، وظهر فضله، فاشتهر عند الأولياء، وتميز على الأتراك، وصار في عداد من يوثق به، ويؤتمن على الأموال والأسرار، فزوّجه ماجور ابنته، وهي أم ابنه العباس، وابنته فاطمة.
ثم إنه سأل الوزير عبيد الله بن يحيى أن يكتب له برزقه على الثغر، فأجابه وخرج إلى طرسوس، فأقام بها وشق على أمّه مفارقته، فكاتبته بما أقلقه، فلما قفل الناس إلى سرّ من رأى سار معهم إلى لقاء أمّه، وكان في القافلة، نحو خمسمائة رجل، والخليفة إذ ذاك:
المستعين بالله أحمد بن المعتصم، وكان قد أنفذ خادما إلى بلاد الروم لعمل أشياء نفيسة، فلما عاد بها، وهي: وقر بغل إلى طرسوس، خرج مع القافلة، وكان من رسم الغزاة أن يسيروا متفرّقين، فطرق الأعراب بعض سوادهم، وجاء الصائح: فبدر أحمد بن طولون لقتالهم وتبعوه، فوضع السيف في الأعراب، ورمى بنفسه فيهم حتى استنفذ منهم جميع ما أخذوه، وفرّوا منه، وكان من جملة ما استنفذ من الأعراب البغل المحمل بمتاع الخليفة، فعظم أحمد بما فعل عند الخادم، وكبر في أعين القافلة، فلما وصلوا إلى العراق، وشاهد المستعين ما أحضره الخادم أعجب به، وعرّفه الخادم خروج الأعراب، وأخذهم البغل بما عليه، وما كان من صنع أحمد بن طولون، فأمر له بألف دينار، وسلم عليه مع الخادم، وأمره أن يعرّفه به إذا دخل مع المسلمين، ففعل ذلك، وتوالت عليه صلاة الخليفة حتى حسنت حاله، ووهبه جارية اسمها: مياس استولدها ابنه خمارويه في النصف من المحرّم سنة خمسين ومائتين، فلما خلع المستعين، وبويع المعتز أخرج المستعين إلى واسط، واختار الأتراك أحمد بن طولون أن يكون معه، فسلم إليه ومضى به، فأحسن عشرته، وأطلق له التنزه والصيد، وخشي أن يلحقه منه احتشام، فألزمه كاتبه أحمد بن محمد الواسطيّ، وهو إذ ذاك غلام حسن الشاهد حاضر النادرة، فأنس به المستعين.
ثم إن فتيحة أم المعتز كتبت إلى أحمد بن طولون بقتل المستعين، وقلدته واسط، فامتنع من ذلك، وكتب إلى الأتراك يخبرهم بأنه لا يقتل خليفة له في رقبته بيعة، فزاد محله عند الأتراك بذلك، ووجهوا سعيد الحاجب، وكتبوا إلى ابن طولون بتسليم المستعين له، فتسلمه منه وقتله، وواراه ابن طولون، وعاد إلى سرّ من رأى، وقد تقلد باكباك مصر، وطلب من يوجهه إليها، فذكر له أحمد بن طولون، فقلده خلافته، وضم إليه جيشا، وسار إلى مصر، فدخلها يوم الأربعاء لسبع بقين من شهر رمضان سنة أربع وخمسين ومائتين متقلّدا للقصبة دون غيرها من الأعمال الخارجة عنها، كالإسكندرية ونحوها، ودخل معه(2/120)
أحمد بن محمد الواسطيّ، وجلس الناس لرؤيته، فسأل بعضهم غلام أبي قبيل: صاحب الملاحم، وكان مكفوفا عما يجده في كتبهم، فقال: هذا رجل نجد صفته كذا وكذا وأنه يتقلد الملك هو وولده قريبا من أربعين سنة، فما تمّ كلامه حتى أقبل أحمد بن طولون، وإذا هو على النعت الذي قال.
ولما تسلم أحمد بن طولون مصر كان على الخراج أحمد بن محمد بن المدبر، وهو من دهاة الناس، وشياطين الكتاب، فأهدى إلى أحمد بن طولون هدايا قيمتها عشرة آلاف دينار بعد ما خرج إلى لقائه هو وشقير الخادم غلام فتيحة أم المعتز، وهو يتقلد البريد، فرأى ابن طولون بين يدي ابن المدبر مائة غلام من الغور، قد انتخبهم وصيرهم عدّة وجمالا، وكان لهم خلق حسن وطول أجسام، وبأس شديد، وعليهم أقبية ومناطق تقال عراض، وبأيديهم مقارع غلاظ على طرف كل مقرعة مقمعة من فضة، وكانوا يقفون بين يديه في حافتي مجلسه إذا جلس، فإذا ركب ركبوا بين يديه، فيصير له بهم هيبة عظيمة في صدور الناس، فلما بعث ابن المدبر بهديته إلى ابن طولون ردّها عليه، فقال ابن المدبر: إنّ هذه لهمة عظيمة، من كانت هذه همته لا يؤمن على طرف من الأطراف، فخافه وكره مقامه بمصر معه، وسار إلى شقير الخادم صاحب البريد، واتفقا على مكاتبة الخليفة بإزالة ابن طولون، فلم يكن غير أيام حتى بعث ابن طولون إلى ابن المدبر يقول له: قد كنت أعزك الله أهديت لنا هدية وقع الغنى عنها، ولم يجز أن يغتنم مالك كثّره الله، فرددتها توفيرا عليك، ونحب أن تجعل العوض منها الغلمان الذين رأيتهم بين يديك، فأنا إليهم أحوج منك، فقال ابن المدبر: لما بلغته الرسالة هذه أخرى أعظم مما تقدّم قد ظهرت من هذا الرجل إذ كان يردّ الأعراض، والأموال ويستهدي الرجال، ويثابر عليهم، ولم يجد بدّا من أن بعثهم إليه، فتحوّلت هيبة ابن المدبر إلى ابن طولون، ونقصت مهابة ابن المدبر بمفارقة الغلمان مجلسه.
فكتب ابن المدبر فيه إلى الحضرة يغري به، ويحرّض على عزله، فبلغ ذلك ابن طولون، فكتم في نفسه، ولم يبده واتفق موت المعتز في رجب سنة خمس وخمسين، وقيام المهتدي بالله محمد بن الواثق، وقتل باكباك، وردّ جميع ما كان بيده إلى ماجور التركيّ حموا بن طولون، فكتب إليه: تسلم من نفسك لنفسك، وزاده الأعمال الخارجة عن قصبة مصر، وكتب إلى إسحاق بن دينار، وهو يتقلد الإسكندرية أن يسلمها لأحمد بن طولون، فعظمت لذلك منزلته، وكثر قلق ابن المدبر وغمه، ودعته ضرورة الخوف من ابن طولون إلى ملاطفته، والتقرّب من خاطره، وخرج ابن طولون إلى الإسكندرية وتسلمها من إسحاق بن دينار، وأقرّه عليها، وكان أحمد بن عيسى «1» بن شيخ الشيبانيّ يتقلد جندي فلسطين والأردن.(2/121)
فلما مات وثب ابنه على الأعمال، واستبدّ بها، فبعث ابن المدبر سبعمائة ألف وخمسين ألف دينار حملا من مال مصر إلى بغداد، فقبض ابن شيخ عليها، وفرّقها في أصحابه، وكانت الأمور قد اضطربت ببغداد، فطمع ابن شيخ في التغلب على الشامات، وأشيع أنه يريد مصر، فلما قتل المهتدي في رجب سنة ست وخمسين، وبويع المعتمد بالله أحمد بن المتوكل لم يدع ابن شيخ له، ولا بايع هو، ولا أصحابه، فبعث إليه بتقليد أرمينية زيادة على ما معه من بلاد الشام، وفسح له في الاستخلاف عليها، والإقامة على عمله، فدعا حينئذ للمعتمد، وكتب إلى ابن طولون أن يتأهب لحرب ابن شيخ، وأن يزيد في عدّته، وكتب لابن المدبر أن يطلق له من المال ما يريد، فعرض ابن طولون الرجال، وأثبت من يصلح، واشترى العبيد من الروم والسودان، وعمل سائر ما يحتاج إليه، وخرج في تجمل كبير وجيش عظيم، وبعث إلى ابن شيخ يدعوه إلى طاعة الخليفة، وردّ ما أخذ من المال، فأجاب بجواب قبيح، فسار لست خلون من جمادى الآخرة، واستخلف أخاه موسى بن طولون على مصر، ثم رجع من الطريق بكتاب ورد عليه من العراق، ودخل الفسطاط في شعبان.
وقدم من العراق: ماجور التركيّ لمحاربة ابن شيخ، فلقيه أصحاب ابن شيخ، وعليهم ابنه، فانهزموا منه، وقتل الابن، واستولى ماجور على دمشق، ولحق ابن شيخ بنواحي أرمينية، وتقلد ماجور أعمال الشام كله، وصار أحمد بن طولون من كثرة العبيد، والرجال والآلات بحال يضيق به داره، ولا يتسع له فركب إلى سفح الجبل في شعبان، وأمر بحرث قبور اليهود والنصارى، واختط موضعها فبنى القصر والميدان، وتقدّم إلى أصحابه وغلمانه وأتباعه أن يختطوا لأنفسهم حوله، فاختطوا وبنوا حتى اتصل البناء لعمارة الفسطاط، ثم قطعت القطائع، وسميت كل قطيعة باسم من سكنها، فكانت للنوبة قطيعة مفردة تعرف بهم، وللروم قطيعة مفردة تعرف بهم، وللفرّاشين قطيعة مفردة تعرف بهم، ولكل صنف من الغلمان قطيعة مفردة تعرف بهم.
وبنى القوّاد مواضع متفرّقة، فعمرت القطائع عمارة حسنة، وتفرّقت فيها السكك والأزقة، وبنيت فيها المساجد الحسان والطواحين والحمامات والأفران، وسميت أسواقها، فقيل: سوق العيارين، وكان يجمع العطارين والبزازين، وسوق الفاميين، ويجمع الجزارين والبقالين والشوّايين، فكان في دكاكين الفاميين جميع ما في دكاكين نظرائهم في المدينة.
وأكثر وأحسن، وسوق الطباخين، ويجمع الصيارف، والخبازين والحلوانيين، ولكل من الباعة سوق حسن عامر، فصارت القطائع مدينة كبيرة، أعمر وأحسن من الشام، وبنى ابن طولون قصره ووسعه وحسنه، وجعل له ميدانا كبيرا يضرب فيه بالصوالجة، فسمي القصر كله الميدان، وكان كل من أراد الخروج من صغير وكبير إذا سئل عن ذهابه يقول:(2/122)
إلى الميدان، وعمل للميدان أبوابا لكل باب اسم، وهي باب الميدان، ومنه كان يدخل ويخرج معظم الجيش، وباب الصوالجة، وباب الخاصة، ولا يدخل منه إلا خاصة ابن طولون، وباب الجبل لأنه مما يلي جبل المقطم، وباب الحرم، ولا يدخل منه إلا خادم خصيّ أو حرمة، وباب الدرمون لأنه كان يجلس عنه حاجب أسود عظيم الخلقة يتقلد جنايات الغلمان السودان الرجالة فقط يقال له: الدرمون، وباب دعناج لأنه كان يجلس عنده حاجب يقال له: دعناج، وباب الساج لأنه عمل من خشب الساج، وباب الصلاة لأنه كان في الشارع الأعظم، ومنه يتوصل إلى جامع ابن طولون، وعرف هذا الباب أيضا بباب السباع، لأنه كان عليه صورة سبعين من جبس، وكان الطريق الذي يخرج منه ابن طولون، وهو الذي يعرج منه إلى القصر طريقا واسعا فقطعه بحائط وعمل فيه ثلاثة أبواب كأكبر ما يكون من الأبواب، وكانت متصلة بعضها ببعض واحدا بجانب الآخر.
وكان ابن طولون إذا ركب يخرج معه عسكر متكاثف الخروج على ترتيب حسن بغير زحمة، ثم يخرج ابن طولون من الباب الأوسط من الأبواب الثلاثة بمفرده من غير أن يختلط به أحد من الناس، وكانت الأبواب المذكورة تفتح كلها في يوم العيد، أو يوم عرض الجيش، أو يوم صدقة، وما عدا هذه الأيام لا تفتح إلا بترتيب في أوقات معروفة، وكان القصر له مجلس يشرف منه ابن طولون يوم العرض، ويوم الصدقة لينظر من أعلاه من يدخل ويخرج، وكان الناس يدخلون من باب الصوالجة، ويخرجون من باب السباع، وكان على باب السباع مجلس يشرف منه ابن طولون ليلة العيد على القطائع ليرى حركات الغلمان، وتأهبهم وتصرّفهم في حوائجهم، فإذا رأى في حال أحد منهم نقصا أو خللا، أمر له بما يتسع به، ويزيد في تجمله، وكان يشرف منه أيضا على البحر، وعلى باب مدينة الفسطاط، وما يلي ذلك.
فكان منتزها حسنا، وبنى الجامع، فعرف بالجامع الجديد، وبنى العين والسقاية بالمغافر، وبنى تنور فرعون فوق الجبل، واتسعت أحواله وكثرت اصطبلاته وكراعه، وعظم صيته، فخافه ماجور، وكتب فيه إلى الحضرة يغري به، وكتب فيه ابن المدبر وشقير الخادم، وكانت لابن طولون أعين، وأصحاب أخبار يطالعونه بسائر ما يحدث، فلما بلغه ذلك تلطف أصحاب الأخبار له ببغداد عند الوزير، حتى سير إلى ابن طولون بكتب ابن المدبر، وكتب شقير من غير أن يعلما بذلك، فإذا فيها: أنّ أحمد بن طولون عزم على التغلب على مصر والعصيان بها، فكتم خبر الكتب وما زال بشقير حتى مات وكتب إلى الحضرة يسأل صرف ابن المدبر عن الخراج، وتقليد هلال فأجيب إلى ذلك، وقبض على ابن المدبر وحبسه.(2/123)
وكات له معه أمور آلت إلى خروج ابن المدبر عن مصر، وتقلد ابن طولون خراج مصر مع المعونة والثغور الشامية، فأسقط المعاون والمرافق، وكانت بمصر خاصة في كل سنة مائة ألف دينار، فأظفره الله عقيب ذلك، بكنز فيه ألف ألف دينار: بنى منه المارستان، وخرج إلى الشام، وقد تقلدها فتسلم دمشق وحمص، ونازل أنطاكية حتى أخذها، وكانت صدقاته على أهل المسكنة والستر، وعلى الضعفاء والفقراء، وأهل التجمل متواترة، وكان راتبه لذلك في كل شهر ألفي دينار سوى ما يطرأ عليه من النذور، وصدقات الشكر على تجديد النعم، وسوى مطابخه التي أقيمت في كل يوم للصدقات في داره وغيرها. يذبح فيها البقر والكباش، ويغرف للناس في القدور والفخار والقصاع على كل قدر أو قصعة لكل مسكين أربعة أرغفة في اثنين منها فالوذج، والاثنان الآخران على القدر، وكانت تعمل في داره، وينادي من أحبّ أن يحضر دار الأمير فليحضر، وتفتح الأبواب ويدخل الناس الميدان، وابن طولون في المجلس الذي تقدّم ذكره ينظر إلى المساكين، ويتأمل فرحهم بما يأكلون ويحملون، فيسرّه ذلك، ويحمد الله على نعمته.
ولقد قال له مرّة إبراهيم ابن قراطغان، وكان على صدقاته: أيّد الله الأمير إنّا نقف في المواضع التي تفرّق فيها الصدقة، فتخرج لنا الكف الناعمة المخضوبة نقشا، والمعصم الرائع فيه الحديدة، والكف فيها الخاتم فقال: يا هذا كل من مدّ يده إليك، فأعطه فهذه هي اللطيفة المستوردة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه فقال: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ
[البقرة/ 273] فاحذر أن تردّ يدا امتدّت إليك، وأعط كل من يطلب منك.
فلما مات أحمد بن طولون، وقام من بعده ابنه خمارويه أقبل على قصر أبيه، وزاد فيه، وأخذ الميدان الذي كان لأبيه، فجعله كله بستانا، وزرع فيه أنواع الرياحين، وأصناف الشجر، ونقل إليه الودى اللطيف الذي ينال ثمره القائم، ومنه ما يتناوله الجالس من أصناف خيار النخل، وحمل إليه كل صنف من الشجر المطعم العجيب، وأنواع الورد، وزرع فيه الزعفران، وكسا أجسام النخل نحاسا مذهبا حسن الصنعة، وجعل بين النحاس، وأجساد النخل مزاريب الرصاص، وأجرى فيها الماء المدبر، فكان يخرج من تضاعيف، قائم النخل عيون الماء، فتنحدر إلى فساقي معمولة، ويفيض منها الماء إلى مجار تسقي سائر البستان، وغرس فيه من الريحان المزروع على نقوش معمولة، وكتابات مكتوبة يتعاهدها البستانيّ بالمقراض حتى لا تزيد ورقة على ورقة، وزرع فيه النيلوفر الأحمر، والأزرق والأصفر والجنوى العجيب، وأهدى إليه من خراسان وغيرها، كل أصل عجيب، وطعموا له شجر المشمش باللوز، وأشباه ذلك من كل ما يستظرف ويستحسن، وبنى فيه برجا من خشب الساج المنقوش بالنقر النافذ، ليقوم مقام الأقفاص، وزوّقه بأصناف الأصباغ وبلط أرضه، وجعل في تضاعيفه أنهارا لطافا جدا ولها يجري فيها الماء مدبرا من السواقي التي تدور على(2/124)
الآبار العذبة، ويسقي منها الأشجار وغيرها، وسرّح في هذا البرج من أصناف القماري «1» والدباسي «2» والنونيات، وكل طائر مستحسن حسن الصوت، فكانت الطير تشرب، وتغتسل من تلك الأنهار الجارية في البرج، وجعل فيه أوكارا في قواديس لطيفة ممكنة في جوف الحيطان، لتفرخ الطيور فيها، وعارض لها فيه عيدانا ممكنة في جوانبه لتقف عليها إذا تطايرت حتى يجاوب بعضها بعضا بالصياح، وسرّح في البستان من الطير العجيب كالطواويس، ودجاج الحبش، ونحوها شيئا كثيرا.
وعمل في داره مجلسا برواقة سماه بيت الذهب طلى حيطانه كلها بالذهب المجاول باللازورد المعمول في أحسن نقش، وأظرف تفصيل، وجعل فيه على مقدار قامة ونصف صورا في حيطانه بارزة من خشب معمول على صورته، وصور حظاياه، والمغنيات اللّاتي تغنينه بأحسن تصوير، وأبهج تزويق، وجعل على رؤوسهنّ الأكاليل من الذهب الخالص الإبريز الرزين، والكوادن المرصعة بأصناف الجواهر، وفي آذانها الأجراس الثقال الوزن، المحكمة الصنعة، وهي مسمرة في الحيطان، ولوّنت أجسامها بأصناف أشباه الثياب من الأصباغ العجيبة.
فكان هذا البيت من أعجب مباني الدنيا وجعل بين يدي هذا البيت فسقية مقدّرة وملأها زئبقا، وذلك أنه شكا إلى طبيبه كثرة السهر، فأشار عليه بالتغمير «3» ، فأنف من ذلك، وقال: لا أقدر على وضع يد أحد عليّ، فقال له: تأمر بعمل بركة من زئبق، فعمل بركة يقال: إنها خمسون ذراعا طولا في خمسين ذراعا عرضا، وملأها من الزئبق، فأنفق في ذلك أموالا عظيمة، وجعل في أركان البركة سككا من الفضة الخالصة، وجعل في السكك زنانير من حرير محكمة الصنعة في حلق من الفضة، وعمل فرشا من أدم يحشى بالريح حتى ينتفخ، فيحكم حينئذ شدّة، ويلقي على تلك البركة الزئبق، وتشدّ زنانير الحرير التي في حلق الفضة بسكك الفضة، وينام على هذا الفرش، فلا يزال الفرش يرتج ويتحرّك بحركة الزئبق، ما دام عليه، وكانت هذه البركة من أعظم ما سمع به من الهمم الملوكية، فكان يرى لها في الليالي المقمرة منظر عجيب، إذا تألف نور القمر بنور الزئبق، ولقد أقام الناس بعد خراب القصر مدّة يحفرون لأخذ الزئبق من شقوق البركة، وما عرف ملك قط تقدّم خمارويه «4» في عمل مثل هذه البركة.(2/125)
وبنى أيضا في القصر قبة تضاهي قبة الهواء سماها الدكة، فكانت أحسن شيء بني، وجعل لها الستر التي تقي الحرّ والبرد، فتسبل إذا شاء، وترفع إذا أحب، وفرش أرضها بالفرش السرية، وعمل لكل فصل فرشا يليق به، وكان كثيرا ما يجلس في هذه القبة ليشرف منها على جميع ما في داره من البستان وغيره، ويرى الصحراء والنيل والجبل، وجميع المدينة، وبنى ميدانا آخر أكبر من ميدان أبيه، وكان أحمد بن طولون، قد اتخذ حجرة بقربه فيها رجال سمّاهم بالمكبرين عدّتهم اثنا عشر رجلا يبيت منهم في كل ليلة أربعة يتعاقبون الليل نوبا يكبرون ويسبحون ويحمدون، ويهللون ويقرءون القرآن تطريبا بألحان، ويتوسلون بقصائد زهدية، ويؤذنون أوقات الأذان، فلما ولي خمارويه: أقرّهم على حالهم، وأجراهم على رسمهم، وكان يجلس للشرب مع حظاياه في الليل، وقيناته تغنين، فإذا سمع أصوات هؤلاء يذكرون الله، والقدح في يده وضعه بالأرض، وأسكت مغنياته، وذكر الله معهم أبدا، حتى يسكت القوم لا يضجره ذلك، ولا يغيظه أن قطع عليه ما كان فيه من لذته بالسماع.
وبنى أيضا في داره: دارا للسباع عمل فيها بيوتا بآزاج، كل بيت يسع سبعا، ولبوته، وعلى تلك البيوت أبواب تفتح من أعلاها بحركات، ولكل بيت منها طاق صغير يدخل منه الرجل الموكل بخدمة ذلك البيت يفرشه بالزبل، وفي جانب كل بيت حوض من رخام بميزاب من نحاس يصب فيه المال، وبين يدي هذه البيوت قاعة فسيحة متسعة فيها رمل مفروش بها، وفي جانبها حوض كبير من رخام يصب فيه ماء من ميزاب كبير، فإذا أراد سائس سبع من تلك السباع تنظيف بيته أو وضع وظيفة اللحم التى لغذائه، رفع الباب بحيلة من أعلى البيت، وصاح بالسبع، فيخرج إلى القاعة المذكورة، ويردّ الباب، ثم ينزل إلى البيت من الطاق، فيكنس الزبل، ويبدّل الرمل بغيره مما هو نظيف، ويضع الوظيفة من اللحم في مكان معدّ لذلك بعدما يخلص ما فيه من الغدد، ويقطعه لهما، ويغسل الحوض، ويملأه ماء، ثم يخرج ويرفع الباب من أعلاه، وقد عرف السبع ذاك، فحال ما يرفع السائس باب البيت دخل إليه الأسد، فأكل ما هيئ له من اللحم، حتى يستوفيه، ويشرب من الماء كفايته، فكانت هذه مملوءة من السباع، ولهم أوقات يفتح فيها سائر بيوت السباع، فتخرج إلى القاعة، وتتمشى فيها وتمرح وتلعب، ويهارش بعضها بعضا، فتقيم يوما كاملا إلى العشيّ، فيصبح بها السّواس، فيدخل كل سبع إلى بيته لا يتخطاه إلى غيره.
وكان من جملة هذه السباع: سبع أزرق العينين يقال له: زريق قد أنس بخمارويه، وصار مطلقا في الدار لا يؤذي أحدا، ويقام له بوظيفته من الغذاء في كل يوم، فإذا نصبت مائدة خمارويه أقبل زريق معها، وربض بين يديه، فرمى إليه بيده الدجاجة بعد الدجاجة، والفضلة الصالحة من الجدي، ونحو ذلك مما على المائدة، فيتفكه به.
وكانت له لبوة لم تستأنس كما أنس، فكانت مقصورة في بيت، ولها وقت معروف(2/126)
يجتمع معها فيه، فإذا نام خمارويه جاء زريق ليحرسه، فإن كان قد نام على سرير ربض بين يدي السرير، وجعل يراعيه، ما دام نائما، وإن كان إنما نام على الأرض بقي قريبا منه، وتفطن لمن يدخل، ويقصد خمارويه لا يغفل عن ذلك لحظة واحدة، وكان على ذلك دهره قد ألف ذلك، ودرب عليه، وكان في عنقه طوق من ذهب، فلا يقدر أحد من أن يدنو من خمارويه ما دام نائما لمراعاة زريق له، وحراسته إياه حتى إذا شاء الله إنفاذ قضائه في خمارويه كان بدمشق، وزريق غائب عنه بمصر، ليعلم أنه لا يغني حذر من قدر، وبنى أيضا دار الحرم، ونقل إليها أمهات أولاد أبيه، مع أولادهنّ، وجعل معهنّ المعزولات من أمهات أولاده، وأفرد لكل واحدة حجرة واسعة نزل في كل حجرة منها بعد زوال دولتهم قائد جليل فوسعته، وفضل عنه منها شيء، وأقام لكل حجرة من الأنزال والوظائف الواسعة، ما كان يفضل عن أهلها منه شيء كثير، فكان الخدم الموكلون بالحرم من الطباخين، وغيرهم يفضل لكل منهم مع كثرة عددهم بعد التوسع في قوته الزلة «1» الكبيرة، والتي فيها العدّة من الدجاج، فمنها ما قلع فخذها، ومنها ما قد تشعب صدرها، ومن الفراخ مثل ذلك مع القطع الكبار من الجدي ولحوم الضأن، والعدّة من ألوان عديدة، والقطع الصالحة من الفالوذج، والكثير من اللوزينج، والقطائف والهرائس من العصيدة التي تعرف اليوم في وقتنا هذا بالمامونية، وأشباه ذلك مع الأرغفة الكبار، واشتهر بمصر بيعهم لذلك، وعرفوا به، فكان الناس يتناوبونهم لذلك، وأكثر ما تباع الزلة الكبيرة منها بدرهمين، ومنها ما يباع بدرهم، فكان كثير من الناس يتفكهون من هذه الزلات، وكان شيئا موجودا في كل وقت لكثرته، واتساعه بحيث إنّ الرجل إذا طرقه ضيف، خرج من فوره إلى باب دار الحرم، فيجد ما يشتريه ليتجمل به لضيفه، مما لا يقدر على عمل مثله، ولا يتهيأ له من اللحوم، والفراخ والدجاج والحلوى مثل ذلك.
واتسعت أيضا اصطبلات خمارويه، فعمل لكل صنف من الدواب اصطبلا مفردا، لكان للخيل الخاص اصطبل مفرد ولدواب الغلمان اصطبلات عدّة، ولبغال القباب اصطبلات، ولبغال النقل غير بغال القباب اصطبلات، وللنجائب والبخاتي «2» اصطبلات لكل صنف اصطبل مفرد للاتساع في المواضع والتفنن في الأثقال، وعمل للنمور دارا مفردة، وللفهود دارا مفردة، وللفيلة دارا، وللزرافات دارا، كل ذلك سوى الاصطبلات التي بالجيزة، فإنه كان له عدّة ضياع من الجيزة اصطبلات مثل: نهيا، ووسيم، وسفط، وطهرمس، وغيرها، وكانت هذه الضياع لا تزرع إلا القرط برسم الدواب، وكان للخليفة أيضا بمصر اصطبلات سوى ما ذكر تنتج فيها الخيل: لحلبة السباق، وللرباط في سبيل الله تعالى برسم الغزو، وكان لكل دار من الدور المذكورة، ولكل اصطبل وكلاء لهم الرزق(2/127)
السنيّ والوظائف الكثيرة والأموال المتسعة، وبلغ رزق الجيش في أيام خمارويه تسعمائة ألف دينار في كل سنة، وقام مطبخه المعروف بمطبخ العامة بثلاثة وعشرين ألف دينار في كل شهر، سوى ما هو موظف لجواريه وأرزاق من يخدمهنّ ويتصرّف في حوائجهنّ.
وكان قد اتخذ لنفسه من ولد الحوف وشناترة الضياع قوما معروفين بالشجاعة، والبأس لهم خلق عظيم تامّ، وعظم أجسام، وأدرّ عليهم الأرزاق، ووسع لهم في العطاء، وشغلهم عما كانوا فيه من قطع الطريق، وأذية الناس بخدمته، وألبسهم الأقبية، وجواشن الديباج، وصاغ لهم المناطق العراض الثقال، وقلّدهم السيوف المحلاة يضعونها على أكتافهم، فإذا مشوا بين يديه، وموكبه على ترتيبه، ومضت أصناف العسكر وطوائفه تلاهم السودان، وعدّتهم ألف أسود لهم درق من حديد، محكم الصنعة، وعليهم أقبية سود، وعمائم سود، فيخالهم الناظر إليهم بحرا أسود يسير، لسواد ألوانهم، وسواد قيابهم، ويصير لبريق درقهم وحلي سيوفهم والبيض التي تلمع على رؤوسهم من تحت العمائم زيّ بهج، فإذا مضى السودان قدم خمارويه، وقد انفرد عن موكبه، وصار بينه وبين الموكب نحو نصف غلوة سهم والمختارة تحف به، وكان تامّ الظهر، ويركب فرسا تامّا، فيصير كالكوكب إذا أقبل لا يخفى على أحد، كأنه قطعة جبل في وسط المختارة، وكان مهابا ذا سطوة، وقد وقع في قلوب الكافة أنه متى أشار إليه أحد بإصبعه، أو تكلم أو قرب من، لحقه مكروه عظيم، فكان إذا أقبل كما ذكرنا لا يسمع من أحد كلمة، ولا سعلة ولا عطسة، ولا نحنحة البتة، كأنما على رؤوسهم الطير، وكان يتقلد في يوم العيد سيفا بحمائل، ولا يزال يتفرّج ويتنزه ويخرج إلى مواضع لم يكن أبوه يهش إليها، كالأهرام، ومدينة العقاب، ونحو ذلك لأجل الصيد، فإنه كان مشغوفا به لا يكاد يسمع بسبع، إلا قصده، ومعه رجال عليهم لبود، فيدخلون إلى الأسد ويتناولونه بأيديهم من غابه عنوة، وهو سليم فيضعونه في أقفاص من خشب محكمة الصنعة يسع الواحد منها السبع، وهو قائم فإذا قدم خمارويه من الصيد سار القفص، وفيه السبع بين يديه، وكانت حلبة السباق في أيامهم تقوم مقام الأعياد، لكثرة الزينة وركوب سائر الغلمان، والعساكر على كثرتهم بالسلاح التام، والعدد الكاملة، فيجلس الناس لمشاهدة ذلك، كما يجلسون في الأعياد وتطلق الخيل من غايتها، فتمرّ متفاوتة يقدم بعضها بعضا حتى يتم السبق.
قال القضاعيّ: المنظر بناه أحمد بن طولون في ولايته لعرض الخيل، وكان عرض الخيل من عجائب الإسلام الأربعة التي منها هذا العرض، ورمضان بمكة، والعيد كان بطرسوس، والجمعة ببغداد، فبقي من هذه الأربعة، شهر رمضان بمكة، والجمعة ببغداد، وذهبت اثنتان، قال كاتبه: وقد ذهبت الجمعة ببغداد أيضا بعد القضاعيّ، بقتل هولاكو للخليفة المستعصم، وزوال شعائر الإسلام من العراق، وبقيت مكة شرّفها الله تعالى، وليس في شهر رمضان الآن بها ما يقال فيه أنه من عجائب الإسلام، ولما تكامل عزّ خمارويه،(2/128)
وانتهى أمره بدأ يسترجع منه الدهر ما أعطاه، فأوّل ما طرقه موت خطيبته بوران التي من أجلها بنى بيت الذهب، وصوّر فيه صورتها وصورته، كما تقدّم، وكان يرى أن الدنيا لا تطيب له إلا بسلامتها وبنظره إليها، وتمتعه بها فكدّر موتها عيشه، وانكسر انكسارا بان عليه، ثم إنه أخذ في تجهيز ابنته، فجهزها جهازا ضاهى به نعم الخلافة، فلم يبق خطيرة ولا طرفة من كل لون وجنس إلا حمله معها، فكان من جملته: دكة أربع قطع من ذهب عليها قبة من ذهب مشبك في كل عين من التشبيك قرط معلق فيه حبة جوهر لا يعرف لها قيمة، ومائة هون من ذهب.
قال القضاعيّ: وعقد المعتضد النكاح على ابنته، يعني ابنة خمارويه: قطر الندى، فحملها أبو الجيش خمارويه مع عبد الله بن الخصاص، وحمل معها ما لم ير مثله، ولا يسمع به، ولما دخل إليه ابن الخصاص يودّعه، قال له خمارويه: هل بقي بيني وبينك حساب؟ فقال: لا، فقال: انظر حسابك، فقال: كسر بقي من الجهاز، فقال: أحضروه، فأخرج ربع طومار فيه سبت ذكر النفقة، فإذا هي أربعمائة ألف دينار، قال محمد بن عليّ المادرانيّ، فنظرت في الطومار، فإذا فيه وألف تكة الثمن عنها عشرة آلاف دينار، فأطلق له الكل.
قال القضاعيّ: وإنما ذكرت هذا الخبر لتستدل به على أشياء منها سعة نفس أبي الجيش، ومنها كثرة ما كان يملكه ابن الخصاص حتى أنه قال: كسر بقي من الجهاز، وهو أربعمائة ألف دينار، لو لم يقتضه ذلك، لم يذكره، ومنها ميسور ذلك الزمان لما طلب فيه ألف تكة من أثمان عشرة دنانير قدر عليها في أيسر وقت، وبأهون سعي، ولو طلب اليوم خمسون، لم يقدر عليها، قال كاتبه: ولا يعرف اليوم في أسواق القاهرة ومصر تكة بعشرة دنانير، إذا طلبت توجد في الحال، ولا بعد شهر، إلّا أن يتعنى بعملها، فتعمل، ولما فرغ خمارويه من جهاز ابنته أمر فبنى لها على رأس كل مرحلة تنزل بها قصر، فيما بين مصر وبغداد، وأخرج معها أخاه شيبان بن أحمد بن طولون في جماعة مع ابن الخصاص، فكانوا يسيرون بها سير الطفل في المهد، فإذا وافت المنزل وجدت قصرا قد فرش فيه جميع ما يحتاج إليه، وعلقت فيه الستور، وأعدّ فيه كل ما يصلح لمثلها في حال الإقامة، فكانت في مسيرها من مصر إلى بغداد على بعد الشقة، كأنها في قصر أبيها تنتقل من مجلس إلى مجلس، حتى قدمت بغداد أوّل المحرّم سنة اثنتين وثمانين ومائتين، فزفت على الخليفة المعتضد.
وبعد ذلك قتل خمارويه بدمشق، وكانت مدّة بني طولون بمصر سبعا وثلاثين سنة، وستة أشهر واثنين وعشرين يوما.
وولي منهم خمسة أمراء أوّلهم: أحمد بن طولون، ولي مصر من قبل المعتز على(2/129)
صلاتها، فدخل يوم الخميس لسبع بقين من شهر رمضان سنة أربع وخمسين ومائتين، وخرج بغا الأصفر وهو أحمد بن محمد بن عبد الله بن طباطبا، فيما بين برقة والإسكندرية في جمادى الأولى سنة خمس وخمسين، وسار إلى الصعيد، فقتل في الحرب، وحمل رأسه إلى الفسطاط لإحدى عشرة بقيت من شعبان، وخرج ابن الصوفي العلويّ، وهو إبراهيم بن محمد بن يحيى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن عليّ بن أبي طالب، ودخل إسنا في ذي القعدة، فنهب وقتل، فبعث إليه ابن طولون جيشا، فهزم الجيش في ربيع الأوّل سنة ست وخمسين، فبعث بجيش آخر، فواقعه بإخميم في ربيع الآخر، فانهزم ابن الصوفيّ إلى الواح، فأقام به، وخرج أحمد بن طولون يريد حرب عيسى بن الشيخ، ثم عاد، فابتدأ في أبناء الميدان، وقدم العباس وخمارويه ابنا أحمد بن طولون من العراق على طريق مكة سنة سبع وخمسين، وورد كتاب ماجور بتسلم أحمد بن طولون الأعمال الخارجة عن يده من أرض مصر، فتسلم الإسكندرية، وخرج إليها لثمان خلون من شهر رمضان، واستخلف طفج صاحب الشرط، ثم قدم لأربع عشرة بقيت من شوّال، وسخط على أخيه موسى، وأمره بلباس البياض.
وخرج إلى الإسكندرية ثانيا لثمان بقين من شعبان سنة تسع وخمسين، واستخلف ابنه العباس، وقدم لثمان خلون من شوّال، وأمر ببناء المسجد الجامع على الجبل في صفر سنة تسع وخمسين، وببناء المارستان للمرضى، وورد كتاب المعتمد يستحثه في حمل الأموال، فكتب إليه لست أطيق ذلك، والخراج بيد غيري، فأنفذ المعتمد نفيسا الخادم بتقليد أحمد بن طولون الخراج، وبولايته على الثغور الشامية، فأقرّ أبا أيوب أحمد بن محمد بن شجاع على الخراج خليفة له عليه، وعقد لطخشى بن بلبرد على الثغور، فخرج في جمادى الأولى سنة أربع وستين، وتقدّم أبو أحمد الموفق إلى موسى بن بغا في صرف أحمد بن طولون، وتقليدها ماجور التركي والي دمشق، فكتب إليه بذلك، فتوقف لعجزه عن مقاومة ابن طولون، فخرج موسى بن بغا، ونزل الرقة، فبلغ ابن طولون أنه سائر إليه فابتدأ في بناء الحصن بالجزيرة، ليكون معقلا لماله وحرمه في سنة ثلاث وستين، واجتهد في عمل المراكب الحربية، وأظافها بالجزيرة، فأقام موسى بالرقة عشرة أشهر، واضطربت أموره، ومات في صفر سنة أربع وستين، ومات ماجور بدمشق، واستخلف ابنه عليّ بن ماجور، فحرّك ذلك أحمد بن طولون على المسير، وكتب إلى ابن ماجور أنه سائر إليه، وأمره بإقامة الأنزال والميرة، فأجاب بجواب حسن، وشكا أهل مصر إلى ابن طولون ضيق المسجد الجامع يوم الجمعة بجنده وسودانه، فأمر ببناء المسجد الجامع بجبل يشكر، فابتدأ ببنائه في سنة أربع وتم في سنة ست وستين ومائتين، وخرج في جيوشه لثمان بقين من شعبان سنة أربع وستين، واستخلف ابنه العباس، وضم إليه أحمد بن محمد الواسطيّ مدبرا ووزيرا، فبلغ الرملة، وتلقاه محمد بن رافع واليها، وأقام له بها الدعوة، فأقرّه ومضى إلى دمشق،(2/130)
فتلقاه عليّ بن ماجور، وأقام له بها الدعوة، فأقام بها حتى استوثق له أمرها، ومضى إلى حمص فتسلمها، وبعث إلى سيما الطويل، وهو بأنطاكية يأمره بالدعاء له فأبى، فسار إليه في جيش عظيم، وحاصره، ورماه بالمجانيق، حتى دخلها في المحرّم سنة خمس وستين، فقتل سيما، واستباح أمواله ورجاله، ومضى إلى طرسوس، فدخلها في ربيع الأوّل، فضاقت به، وغلا السعر بها، فنابذه أهلها، فقاتلهم وأمر أصحابه أن ينهزموا عن أهل طرسوس ليبلغ طاغية الروم، فيعلم أنّ جيوش ابن طولون مع كثرتها وشدّتها، لم تقم لأهل طرسوس، فانهزموا، وخرج عنهم واستخلف عليها طخشي، فورد الخبر عليه بأنّ ابنه العباس قد خالف عليه، فأزعجه ذلك، وسار فخاف العباس، وقيد الواسطيّ، وخرج بطائفته إلى الجيزة لثمان خلون من شعبان سنة خمس وستين ومائتين، فعسكر بها، واستخلف أخاه ربيعة بن أحمد، وأظهر أنه يريد الإسكندرية، وسار إلى برقة، فقدم أحمد بن طولون من الشام لأربع خلون من رمضان، لأنفذ القاضي بكار بن قتيبة في نفر بكتابه إلى العباس، فساروا إليه ببرقة، فأبى أن يرجع، وعاد بكار في أوّل ذي الحجة، ومضى العباس يريد إفريقية في جمادى الأولى سنة ست وستين، فنهب لبدة «1» ، وقتل من أهلها عدّة، وضجت نساؤهم، فاجتمع عليه: جيش ابن الأغلب والإباضية، فقاتلهم بنفسه، وحسن بلاؤه يومئذ وقال:
لله درّي إذ أعدوا على فرسي ... إلى الهياج ونار الحرب تستعر
وفي يدي صارم أفري الرءوس به ... في حدّه الموت لا يبقي ولا يذر
إن كنت سائلة عني وعن خبري ... فها أنا الليث والصمصامة الذكر
من آل طولون أصلي إن سألت فما ... فوقي لمفتخر بالجود مفتخر
لو كنت شاهدة كرّي بلبدة إذ ... بالسيف أضرب والهامات تبتذر
إذا لعاينت مني ما تبادره ... عني الأحاديث والأنباء والخبر
وقتل يومئذ صناديد عسكره، ووجوه أصحابه، ونهبت أمواله، وفرّ إلى برقة في ضرّ.
وعقد أحمد بن طولون على جيش، وبعث به إلى برقة في رمضان سنة سبع وستين، ثم خرج بنفسه في عسكر عظيم يقال: إنه بلغ مائة ألف لثنتي عشر خلت من ربيع الأوّل سنة ثمان وستين، فأقام بالإسكندرية، وفرّ إليه أحمد بن محمد الواسطيّ من عند العباس، فصغر عنده أمر العباس، فعقد على جيش سيّره إلى برقة، فواقعوا أصحاب العباس وهزموهم، وقتلوا منهم كثيرا، وأدركوا العباس لأربع خلون من رجب وعاد أحمد إلى الفسطاط لثلاث عشرة خلت منه، وقدم العباس والأسرى في شوّال، ثم أخرجوا أوّل ذي(2/131)
القعدة، وقد بنيت لهم دكة عالية، فضربوا وألقوا من أعلاها، ثم بعث بلؤلؤ في جيش إلى الشام، فخالف على أحمد، ومال مع الموفق، وصار إليه، فخرج أحمد، واستخلف ابنه خمارويه في صفر سنة تسع وستين، فنزل دمشق، ومعه ابنه العباس مقيدا، فخالف عليه أهل طرسوس، فخرج يريد محاربتهم ثم توقف لورود كتاب المعتمد عليه، أنه قادم عليه ليلتجئ إليه، فخرج كالمتصيد من بغداد، وتوجه نحو الرقة، فبلغ أبا أحمد الموفق مسيره، وهو محارب لصاحب الزنج، فعمل عليه حتى عاد إلى سامراء، ووكل به جماعة، وعقد لإسحاق بن كنداخ الخزريّ على مصر، فبلغ ذلك ابن طولون، فرجع إلى دمشق، وأحضر القضاة والفقهاء من الأعمال، وكتب إلى مصر كتابا قرئ على الناس بأنّ: أبا أحمد الموفق نكث بيعة المعتمد، وأسره في دار أحمد بن الخصيب، وإنّ المعتمد قد صار من ذلك إلى ما لا يجوز ذكره، وإنه بكى بكاء شديدا، فلما خطب الخطيب يوم الجمعة، ذكر ما نيل من المعتمد، وقال: اللهم فاكفه من حصره وظلمه، وخرج من مصر بكار بن قتيبة «1» ، وجماعة إلى دمشق، وقد حضر أهل الشامات والثغور، فأمر ابن طولون بكتاب فيه: خلع الموفق من ولاية العهد، لمخالفة المعتمد، وحصره إياه، وكتب فيه: إنّ أبا أحمد الموفق خلع الطاعة، وبرىء من الذمّة، فوجب جهاده على الأمّة، وشهد على ذلك جميع من حضر إلّا بكار بن قتيبة وآخرين.
وقال بكار: لم يصح عندي ما فعله أبو أحمد، ولم أعلمه، وامتنع من الشهادة والخلع، وكان ذلك لإحدى عشرة خلت من ذي القعدة، فبلغ ذلك الموفق، فكتب إلى عماله: بلعن أحمد بن طولون على المنابر، فلعن عليه بما صيغته: اللهم العنه لعنا يفلّ حدّه، ويتعس جدّه، واجعله مثلا للغابرين إنك لا تصلح عمل المفسدين، ومضى أحمد إلى طرسوس، فنازلها، وكان البرد شديدا، ثم رحل عنها إلى أذنة «2» ، وسار إلى المصيصة «3» ، فنزلت به علة الموت، فأعدّ السير يريد مصر، حتى بلغ الفرما، فركب النيل إلى الفسطاط، فدخل لعشر بقين من جمادى الآخرى سنة سبعين، فأوقف بكار بن قتيبة، وبعث به إلى السجن، وتزايدت به العلة، حتى مات ليلة الأحد لعشر خلون من ذي القعدة سنة سبعين ومائتين، فلما بلغ المعتمد موته اشتدّ وجده وجزعه عليه، وقال يرثيه:
إلى الله أشكو أسى ... عراني كوقع الأسل(2/132)
على رجل أروع «1» ... يرى منه فضل الوجل
شهاب خبا وقده ... وعارض غيث أفل
شكت دولتي فقده ... وكان يزين الدول
فقام بعده ابنه: أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون، وبايعه الجند يوم الأحد لعشر خلون من ذي القعدة، فأمر بقتل أخيه العباس لامتناعه من مبايعته، وعقد لأبي عبد الله أحمد الواسطيّ، على جيش إلى الشام لست خلون من ذي الحجة، وعقد لسعد الأعسر على جيش آخر، وبعث بمراكب في البحر لتقيم على السواحل الشامية، فنزل الواسطيّ فلسطين، وهو خائف من خمارويه أن يوقع به، لأنه كان أشار عليه بقتل أخيه العباس، فكتب إلى أبي أحمد الموفق: يصغر أمر خمارويه، ويحرّضه على المسير إليه، فأقبل من بغداد، وانضمّ إليه إسحاق بن كنداح، ومحمد بن أبي الساج، ونزل الرقة، فتسلم قنسرين «2» والعواصم وسار إلى شيرز «3» ، فقاتل أصحاب خمارويه، وهزمهم ودخل دمشق، فخرج خمارويه في جيش عظيم لعشر خلون من صفر سنة إحدى وسبعين، فالتقى مع أحمد بن الموفق بنهر أبي بطرس المعروف بالطواحين من أرض فلسطين، فاقتتلا فانهزم أصحاب خمارويه، وكان في سبعين ألفا، وابن الموفق في نحو أربعة آلاف، واحتوى على عسكر خمارويه بما فيه، ومضى خمارويه إلى الفسطاط، وأقبل كمين له عليه: سعد الأعسر، ولم يعلم بهزيمة خمارويه، فحارب ابن الموفق، حتى أزاله عن المعسكر، وهزمه اثني عشر ميلا ومضى إلى دمشق، فلم يفتح له، ودخل خمارويه إلى الفسطاط لثلاث خلون من ربيع الأوّل، وسار سعد الأعسر والواسطيّ، فملكا دمشق، وخرج خمارويه من مصر لسبع بقين من رمضان، فوصل إلى فلسطين، ثم عاد لاثنتي عشرة بقيت من شوّال، ثم خرج في ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين، فقتل سعدا الأعسر، ودخل دمشق لسبع خلون من المحرّم سنة ثلاث وسبعين، وسار لقتال ابن كنداح، فكانت على خمارويه، فانهزم أصحابه، وثبت هو في طائفة، فهزم ابن كنداح، وأتبعه حتى بلغ أصحابه سرّ من رأى، ثم اصطلحا وتظاهرا، وأقبل إلى خمارويه، فأقام في عسكره، ودعا له في أعماله التي بيده، وكاتب خمارويه أبا أحمد الموفق في الصلح، فأجابه إلى ذلك، وكتب له بذلك كتابا، فورد عليه به: فالق الخادم إلى مصر في رجب ذكر فيه: أنّ المعتمد والموفق وابنه كتبوه بأيديهم، وبولاية خمارويه وولده ثلاثين سنة على مصر والشامات، ثم قدم خمارويه سلخ رجب،(2/133)
فأمر بالدعاء لأبي أحمد الموفق، وترك الدعاء عليه، وجعل على المظالم بمصر: محمد بن عبدة بن حرب، وبلغه مسير محمد بن أبي الساج إلى أعماله، فخرج إليه في ذي القعدة، ولقيه شيبة العقاب من دمشق، فانهزم أصحاب خمارويه وثبت هو، فحاربه حتى هزمه أقبح هزيمة، وعاد إلى مصر فدخلها لست بقين من جمادى الآخرة سنة ست وسبعين، ثم خرج إلى الإسكندرية لأربع خلون من شوّال، وورد الخبر أنه دعي له بطرسوس في جمادى الآخرة سنة سبع وسبعين، وخرج إلى الشام لسبع عشرة من ذي القعدة، ومات الموفق في سنة ثمان وسبعين، ثم مات المعتمد في رجب سنة تسع وسبعين، وبويع المعتضد أبو العباس أحمد بن الموفق، فبعث إليه خمارويه بالهدايا، وقدم من الشام لست خلون من ربيع الأوّل سنة ثمانين، فورد كتاب المعتضد بولاية خمارويه على مصر هو وولده ثلاثين سنة، من الفرات إلى برقة، وجعل له الصلاة والخراج والقضاء وجميع الأعمال، على أن يحمل في كل عام مائتي ألف دينار عما مضى، وثلثمائة ألف للمستقبل، ثم قدم رسول المعتضد بالخلع، وهي اثنتا عشرة خلعة وسيف وتاج ووشاح مع خادم في رمضان، وعقد المعتضد نكاح قطر الندى بنت خمارويه في سنة إحدى وثمانين، وفيها خرج خمارويه إلى نزهته ببربوط في شعبان، ومضى إلى الصعيد فبلغ سيوط، ثم رجع من الشرق إلى الفسطاط أوّل ذي القعدة، وخرج إلى الشام لثمان خلون من شعبان سنة اثنتين وثمانين، فأقام بمنية الأصبغ، ومنية مطر، ثم رحل حتى أتى دمشق، فقتل بها على فراشه، ذبحه جواريه وخدمه، وحمل في صندوق إلى مصر، وكان لدخول تابوته يوم عظيم، واستقبله جواريه، وجواري غلمانه، ونساء قوّاده، ونساء القطائع بالصياح، وما يصنع في المآتم، وخرج الغلمان، وقد حلوا أقبيتهم، وفيهم من سوّد ثيابه وشققها، وكانت في البلد ضجة عظيمة، وصرخة تتعتع القلوب حتى دفن، وكانت مدّته اثنتي عشرة سنة، وثمانية عشر يوما.
ثم ولي أبو العساكر بن خمارويه «1» بن أحمد بن طولون لليلة بقيت من ذي القعدة سنة اثنتين وثمانين ومائتين بدمشق، فسار إلى مصر، واشتمل على أمور أنكرت عليه، فاستوحش من عظماء الجند وتنكر لهم، فخافوه ودأبوا في الفساد، فخرج منتزها إلى منية الأصبغ، ففرّ جماعة من عظماء الدولة إلى المعتضد، وخلعه أحمد بن طغان، وكان على الثغر، وخلعه طغج بن جف بدمشق، فوثب جيش على عمه مضر بن أحمد بن طولون فقتله، فوثب عليه الجيش، وخلعوه وجمعوا الفقهاء والقضاة، فتبرّأ من بيعته وحللهم منها، وكان خلعه لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وثمانين، فولي ستة أشهر واثني عشر يوما، ومات في السجن بعد أيام.(2/134)
ثم ولي أبو موسى هارون بن خمارويه يوم خلع جيش، فقام طائفة من الجند، وكاتبوا ربيعة بن أحمد بن طولون، وكان بالإسكندرية، ودعوه، ووعدوه بالقيام معه، فجمع جمعا كثيرا من أهل البحيرة، ومن البربر وغيرهم، وسار حتى نزل ظاهر فسطاط مصر، فخذله القوم، وخرج إليه القوّاد، فقاتلوه وأسروه لإحدى عشرة ليلة خلت من شعبان سنة أربع وثمانين، وضرب ألف سوط ومائتي سوط فمات، ومات المعتضد في ربيع الآخر سنة تسع وثمانين، وبويع ابنه محمد المكتفي بالله، وخرج القرمطيّ بالشام في سنة تسعين، فخرج القوّاد من مصر وحاربوه، فهزمهم، وبعث المكتفي محمد بن سليمان الكاتب «1» ، فنزل حمص، وبعث بالمراكب من الثغر إلى سواحل مصر، وأقبل إلى فلسطين، فخرج هارون يوم التروية سنة إحدى وتسعين، وسير المراكب الحربية، فالتقوا بمراكب محمد بن سليمان في تنيس، فغلبوا، وملك أصحاب محمد بن سليمان تنيس ودمياط، فسار هارون إلى العباسة، ومعه أهله وأعمامه في ضيق وجهد، فتفرّق عنه كثير من أصحابه وبقي في نفر يسير، وهو متشاغل باللهو، فأجمع عمّاه: شيبان وعديّ: ابنا أحمد بن طولون على قتله، فدخلا عليه وهو ثمل، فقتلاه ليلة الأحد لإحدى عشرة بقيت من صفر سنة اثنتين وتسعين، وسنه يومئذ اثنان وعشرون سنة، فكانت ولايته ثمان سنين وثمانية أشهر وأياما.
ثم ولي شيبان بن أحمد بن طولون أبو المواقيت لعشر بقين من صفر، فرجع إلى الفسطاط، وبلغ طفج بن جف، وغيره من القوّاد قتل هارون، فأنكروه، وخالفوا على شيبان، وبعثوا إلى محمد بن سليمان فأمنهم، وحرّكوه على المسير إلى مصر، فسار حتى نزل العباسة، فلقيه طفج في ناس من القوّاد كثير، فساروا به إلى الفسطاط، وأقبل إليهم عامّة أصحاب شيبان، فخاف حينئذ شيبان، وطلب الأمان فأمنه محمد بن سليمان، وخرج إليه لليلة خلت من ربيع الأوّل سنة اثنتين وتسعين ومائتين، وكانت ولايته اثني عشر يوما، ودخل محمد بن سليمان يوم الخميس أوّل ربيع الأوّل، فألقى النار في القطائع، ونهب أصحابه الفسطاط، وكسروا السجون، وأخرجوا من فيها، وهجموا الدور، واستباحوا الحريم، وهتكوا الرعية، وافتضوا الأبكار، وساقوا النساء، وفعلوا كل قبيح من إخراج الناس من دورهم، وغير ذلك، وأخرج ولد أحمد بن طولون، وهم عشرون إنسانا، وأخرج قوّادهم، فلم يبق بمصر منهم أحد يذكر، وخلت منهم الديار، وعفت منهم الآثار، وتعطلت منهم المنازل، وحلّ بهم الذل بعد العز، والتطريد والتشريد بعد اجتماع الشمل، ونضرة الملك، ومساعدة الأيام، ثم سيق أصحاب شيبان إلى محمد بن سليمان، وهو راكب،(2/135)
فذبحوا بين يديه، كما تذبح الشياه، وقتل من السودان سكان القطائع خلقا كثيرا فقال أحمد بن محمد الحبيشيّ:
الحمد لله إقرارا بما وهبا ... قد لمّ بالأمن شعب الحق فانشعبا
الله أصدق هذا الفتح لا كذب ... فسوء عاقبة المثوى لمن كذبا
فتح به فتح الدنيا محمدها ... وفرّج الظلم والإظلام والكربا
لا ريب رب هياج يقتضي دعة ... وفي القصاص حياة تذهب الريبا
رمى الإمام به عذراء غادره ... فاقتض عذرتها بالسيف واقتضبا
محمد بن سليمان أعزهم ... نفسا وأكرمهم في الذاهبين أبا
سرى بأسد الشرى لو لم يروا بشرا ... أضحى عرينهم الخطيّ لا القضبا
جمّ الفضاء على اليحموم حين أتوا ... مثل الزبا يمتحون الزبية الذأبا
أيها علوت على الأيام مرتبة ... أبا عليّ ترى من دونها الرتبا
لما أطال بنو طولون خطبتهم ... من الخطوب وعافت منهم الخطبا
هارت بهارون من ذكراك بقعته ... وشيّب الرعب شيبانا وقد رعبا
وكم ترى لهم من جنة أنف ... ومن نعيم جنى من غدرهم عطبا
فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم ... كأنها من زمان غابر ذهبا
وقال أحمد بن يعقوب:
إن كنت تسأل عن جلالة ملكهم ... فارتع وعج بمرابع الميدان
وانظر إلى تلك القصور وما حوت ... واسرح بزهرة ذلك البستان
وإن اعتبرت ففيه أيضا عبرة ... تنبيك كيف تصرّف العصران
يا قتل هارون اجتثثت أصولهم ... وأشبت رأس أميرهم شيبان
لم يغن عنكم بأس قيس إذا غدا ... في جحفل لجب ولا غسان
وعديه البطل الكميّ وخزرج ... لم ينصرا بأخيهما عدنان
زفت إلى آل النبوّة والهدى ... وتمزقت عن شيعة الشيطان
وقال إسماعيل بن أبي هاشم:
قف وقفة بقباب باب الساج ... والقصر ذي الشرفات والأبراج
وربوع قوم أزعجوا عن دارهم ... بعد الإقامة أيما إزعاج
كانوا مصابيحا لدى ظلم الدجى ... يسري بها السارون في الإدلاج
وكأنّ أوجههم إذا أبصرتها ... من فضة بيضاء أو من عاج
كانوا ليوثا لا يرام حماهم ... في كل ملحمة وكل هياج(2/136)
فانظر إلى آثارهم تلقي لهم ... علما بكل ثنية وفجاج
وعليهم ما عشت لا أدع البكا ... مع كل ذي نظر وطرف ساجي
وقال سعيد القاص:
تجري دمعه ما بين سحر إلى نحر ... ولم يجر حتى أسلمته يد الصبر
وبات وقيذا للذي خامر الحشا ... يئنّ كما أنّ الأسير من الأسر
وهل يستطيع الصبر من كان ذا أسى ... يبيت على جمر ويضحى على جمر
تتابع أحداث يضيعن صبره ... وغدر من الأيام والدهر ذو غدر
أصاب على رغم الأنوف وجدعها ... ذوي الدين والدنيا بقاصمة الظهر
طوى زينة الدنيا ومصباح أهلها ... بفقد بني طولون والأنجم الزهر
وفقد بني طولون في كل موطن ... أمرّ على الإسلام فقدا من القطر
فبادوا وأضحوا بعد عز ومنعة ... أحاديث لا تخفى على كل ذي حجر
وكان أبو العباس أحمد ماجدا ... جميل المحيّا لا يبيت على وتر
كأنّ ليالي الدهر كانت لحسنها ... وإشرافها في عصره ليلة القدر
يدل على فضل ابن طولون همة ... محلقة بين المساكين والغفر
فإن كنت تبغي شاهدا ذا عدالة ... يخبر عنه بالجليّ من الأمر
فبالجبل الغربيّ خطة يشكر ... له مسجد يغني عن المنطق الهذر
يدل ذوي الألباب أن بناءه ... وبانيه لا بالضنين ولا الغمر
بناه بآجرّ وساج وعرعر ... وبالمرمر المسنون والجص والصخر
بعيد مدى الأقطار سام بناؤه ... وثيق المباني من عقود ومن جدر
فسيح رحاب يحصر الطرف دونه ... رقيق نسيم طيب العرف والنشر
وتنور فرعون الذي فوق قلة ... على جبل عال على شاهق وعر
بنى مسجدا فيه يروق بناؤه ... ويهدي به في الليل إن ضلّ من يسري
تخال سنا قنديله وضياءه ... سهيلا إذا ما لاح في الليل للسفر
وعين معين الشرب عين زكية ... وعين أجاج للرواة وللطهر
كأن وفود النيل في جنباتها ... تروح وتغدو بين مدّ إلى جزر
فأرك بها مستنبطا لمعينها ... من الأرض من بطن عميق إلى ظهر
بناء لو أنّ الجنّ جاءت بمثله ... لقيل لقد جاءت بمستفظع نكر
يمرّ على أرض المغافر كلها ... وشعبان والأحمور والحيّ من بشر
قبائل لا نوء السحاب يمدّها ... ولا النيل يرويها ولا جدول يجري
ولا تنس مارستانه واتساعه ... وتوسعة الأرزاق للحول والشهر(2/137)
وما فيه من قوّامه وكفاته ... ورفقتهم بالمعتفين ذوي الفقر
فللميت المقبور حسن جهازه ... وللحيّ رفق في علاج وفي جبر
وإن جئت رأس الجسر فانظر تأمّلا ... إلى الحصن أو فاعبر إليه على الجسر
ترى أثرا لم يبق من يستطيعه ... من الناس في بدو البلاد ولا حضر
مآثر لا تبلى وإن باد أهلها ... ومجد يؤدي وارثيه إلى الفخر
لقد ضمن القبر المقدّر ذرعه ... أجلّ إذا ما قيس من قبتي حجر
وقام أبو الجيش ابنه بعد موته ... كما قام ليث الغاب في الأسل السمر
أتته المنايا وهو في أمن داره ... فأصبح مسلوبا من النهي والأمر
كذاك الليالي من أعارته بهجة ... فيا لك من ناب حديد ومن ظفر
وورث هارون ابنه تاج ملكه ... كذاك أبو الأشبال ذو الناب والهصر
وقد كان جيش قبله في محله ... ولكنّ جيشا كان مستقصر العمر
فقام بأمر الملك هارون مدّة ... على كظظ «1» من ضيق باع ومن حصر
وما زال حتى زال والدهر كاشح «2» ... عقاربه من كل ناحية تسري
تذكرتهم لما مضوا فتتابعوا ... كما أرفض سلك من جمان ومن شذر
فمن يبك شيئا ضاع من بعد أهله ... لفقدهم فليبك حزنا على مصر
ليبك بني طولون إذ بان عصرهم ... فبورك من دهر وبورك من عصر
وقال أيضا:
من لم ير الهدم للميدان لم يره ... تبارك الله ما أعلى وأقدره
لو أن عين الذي أنشأه تبصره ... والحادثات تعاديه لأكبره
كانت عيون الورى تعشوا لهيبته ... إذا أضاف إليه الملك عسكره
أين الملوك التي كانت تحلّ به ... وأين من كان بالإنفاذ دبره
وأين من كان يحميه ويحرسه ... من كل ليث يهاب الليث منظره
صاح الزمان بمن فيه ففرّقهم ... وحط ريب البلى فيه فدعثره «3»
وأخلق الدهر منه حسن جدّته ... مثل الكتاب محا العصر أن أسطره
دكت مناظره واجتثّ جوسقه ... كأنما الخسف فاجأه فدمّره
أو هبّ إعصار نار في جوانبه ... فعاد معروفه للعين منكره
كم كان يأوي إليه في مقاصره ... أحوى أغنّ غضيض الطرف أحوره(2/138)
كم كان فيه لهم من مشرب غدق ... فعب صرف الردى فيه فكدّره
أين ابن طولون بانيه وساكنه ... أماته الملك الأعلى فأقبره
ما أوضح الأمر لو صحت لنا فكر ... طوبى لمن خصه رشد فذكره
وقال أحمد بن إسحاق الجفر:
وإذا ما أردت أعجوبة الده ... ر تراها فانظر إلى الميدان
تنظر البين والهموم وأنوا ... عا توالت به من الأشجان
يعلم العالم المبصر أن الده ... ر فيما يراه ذو ألوان
أين ما فيه من نعيم ومن عي ... ش رخيّ ونضرة وحسان
أين ذاك المسك الذي ديف «1» بالعن ... بر بحتا وعلّ «2» بالزعفران
أين ذاك الخز المضاعف والوشي ... وما استخلصوا من الكتان
أين تلك القيان تشدو على العر ... س بما استحسنوا من الألحان
حوّز الدهر آل طولون في هوّة ... نقر مسكونها غير دان
وأعاض الميدان من بعد أهليه ... ذئابا تعوي بتلك المغاني
ثم أمر الحسين بن أحمد المادراني متولي خراج مصر بهدم الديوان، فابتدىء في هدمه في شهر رمضان سنة ثلاث وتسعين ومائتين، وبيعت أنقاضه، ودثر كأنه لم يكن. فقال محمد بن طسويه:
وكأنّ الميدان ثكلى أصيبت ... بحبيب قد ضاع ليلة عرس
تتغشى الرياح منه محلا ... كان للصون في ستور الدمقس
وبفرش الأضريج والبسط الدي ... باج في نعمة وفي لين لمس
ووجوه من الوجوه حسان ... وخدود مثل اللآلئ ملس
وكل نجلاء كالغزال وبخلا ... ورداح «3» من بين حور ولعس «4»
آل طولون كنتم زينة الأر ... ض فأضحى الجديد أهدام لبس
وقال ابن أبي هاشم:
يا منزلا لبني طولون قد دثرا ... سقاك صرف الغوادي القطر والمطرا
يا منزلا صرت أجفوه وأهجره ... وكان يعدل عندي السمع والبصرا
بالله عندك علم من أحبتنا ... أم هل سمعت لهم من بعدنا خبرا(2/139)
وقال:
ألا فاسأل الميدان ثم اسأل الجبل ... عن الملك الماضي ابن طولون ما فعل
وعن ابنه العباس إن كنت سائلا ... وأين أبو الجيش الفصافصة البطل
وجيش وهارون الذي قام بعده ... وشيبان بالأمس الذي خانه الأمل
ومن قبله أردى ربيعة يومه ... وكان هزبرا لا يطاق إذا حمل
وأين ذراريهم وأين جموعهم ... وكيف تقضي عنهم الملك فاضمحل
وأين بناء القصر والجوسق الذي ... عهدناه معمور الفناء له زجل
لقد ملكوه برهة من زماننا ... بدولتهم ثم انقضوا بانقضا الدول
فما منهم خلق يحس ولا يرى ... بذكر طوال الدهر لما انقضى الأجل
وصاروا أحاديثا لمن جاء بعدهم ... وكان بهم في ملكهم يضرب المثل
وقال:
قف وقفة وانظر إلى الميدان ... والقصر ذي الشرفات والإيوان
والجوسق العالي المنيف بناؤه ... ما باله قفر من السكان
أين الذين لهوا به وعنوا به ... زمنا مع القينات والنسوان
يجبي الخراج إليهم في دارهم ... لا يرهبون غوائل الحدثان
جمعوا الجموع مع الجموع فأكثروا ... واستأثروا بالروم والسودان
فانظر إلى ما شيدوا من بعدهم ... هل فيه غير البوم والغربان
أين الأولى حفروا العيون بأرضه ... وتأنقوا فيه وفي البنيان
غرسوا صنوف النخل في ساحاته ... وغرائب الأعناب والرّمان
والزعفران مع البهاء بأرضه ... والورد بين الآس والريحان
كانوا ملوك الأرض في أيامهم ... كبراء كل مدينة ومكان
فتمزقوا وتفرّقوا فهناك هم ... تحت الثرى يبلون في الأكفان
إلا أغيلمة أسارى بعدهم ... في دار مضيعة ودار هوان
متلذذين بأسرهم قد شرّدوا ... ونفوا عن الأهلين والأوطان
والله وارث كل حيّ بعدهم ... وله البقاء وكل شيء فان
وقال:
إن في قبة الهواء لذي اللب معتبر ... والقصور المشيدات مع الدور والحجر
والبساتين والمجالس والبيت والزهر ... والجواري المغنيات ذوي الدل والخفر
يتبخترن في الحرير وفي الوشي والحبر ... وملوك عبيدهم عدد الشوك والشجر
وجيوش مؤيدوون لدى البأس بالظفر ... من صنوف السودان والترك والروم والخزر(2/140)
عمروا الأرض مدّة ثم صاروا إلى الحفر ... واستبدّ الزمان من عاش منهم فلم يذر
فهم في الهوان والذل أسرى على خطر ... وهم بعد صفو عيش من الذل في كدر
يا آل طولون ما لكم صرتم للورى سمر ... يا آل طولون كنتم خبرا فانقضى الخبر
وقال:
مررت على الميدان معتبرا به ... فناديته أين الجبال الشوامخ
خمار وعباس وأحمد قبلهم ... وأين ترى شبانهم والمشايخ
وأين ذراري آل طولون بعدهم ... أما فيك منهم أيها الربع صارخ
وأين ثياب الخز والوشي والحلى ... وأربابها أم أين تلك المطابخ
وأين فتات المسك والعنبر الذي ... عنيت به دهرا وتلك اللطائخ
لقد غالك الدهر الخؤون بصرفه ... فأصبحت منحطا وغيرك باذخ
وقال:
مررت على الميدان بالأمس ضاحيا ... فأبصرته قفر الجناب فراعني
فناديت فيه يا آل طولون ما لكم ... فهود فما حلق بحرف أجابني
فأذريت عينا ذات دمع غزيرة ... ورحت كئيب القلب مما أصابني
وإني عليهم ما بقيت لموجع ... ولست أبالي من لحاني وعابني
وحدّث محمد بن أبي يعقوب الكاتب قال: لما كانت ليلة عيد الفطر من سنة اثنتين وتسعين ومائتين تذكرت ما كان فيه آل طولون في مثل هذه الليلة من الزيّ الحسن بالسلاح، وملوّنات البنود والأعلام، وشهرة الثياب، وكثرة الكراع وأصوات الأبواق والطبول، فاعتراني لذلك فكرة، ونمت في ليلتي، فسمعت هاتفا يقول: ذهب الملك التملك والزينة لما مضى بنو طولون.
وقال القاضي أبو عمرو عثمان النابلسيّ في كتاب حسن السيرة في اتخاذ الحصن بالجزيرة: رأيت كتابا قدر اثنتي عشرة كراسة مضمونة فهرست شعراء الميدان الذي لأحمد بن طولون قال: فإذا كانت أسماء الشعراء في ثنتي عشرة كراسة، كم يكون شعرهم؟ مع أنه لم يوجد من لك الآن ديوان واحد. وقال أبو الخطاب بن دحية في كتاب النبراس: وخربت قطائع أحمد بن طولون، يعني في الشدّة العظمى زمن الخليفة المستنصر، وهلك جميع من كان بها من الساكنين، وكانت نيفا على مائة ألف دار نزهة للناظرين محدقة بالجنان والبساتين، والله يرث الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.(2/141)
ذكر من ولي مصر من الأمراء بعد خراب القطائع إلى أن بنيت قاهرة المعز على يد القائد جوهر
وكان أوّل من ولي مصر بعد زوال دولة بني طولون وخراب القطائع.
محمد بن سليمان الكاتب «1» كاتب لؤلؤ غلام أحمد بن طولون دخل مصر يوم الخميس مستهلّ ربيع الأوّل سنة اثنتين وتسعين ومائتين، ودعا على المنبر لأمير المؤمنين المكتفي بالله وحده، وجعل أبا عليّ الحسين بن أحمد المادرانيّ على الخراج عوضا عن أحمد بن عليّ المادرانيّ.
ثم ورد كتاب المكتفي بولاية: عيسى بن محمد «2» النوشريّ أبي موسى، فولي على الصلاة، ودخل خليفته لأربع عشرة خلت من جمادى الأولى، فتسلم الشرطتين وسائر الأعمال، ثم قدم عيسى لسبع خلون من جمادى الآخرة، وخرج محمد بن سليمان مستهلّ رجب، وكان مقامه بمصر أربعة أشهر، فأخرج كل من بقي من الطولونية، فلما بلغوا دمشق، انخنس عنهم محمد بن عليّ الخليج في جمع كثير ممن كره مفارقة مصر من القوّاد، فعقدوا له عليهم، وبايعوه بالإمرة في شعبان، ورجع إلى مصر، فبعث إليه النوشريّ بجيش أوّل رمضان، وقد دخل أرض مصر، ثم خرج إليه النوشري، وعسكر بباب المدينة أوّل ذي القعدة، وسار إلى العباسة، ثم رجع لثلاث عشرة خلت منه، وخرج إلى الجيزة من غده وأحرق الجسرين، وسار يريد الإسكندرية، ففرّ عنه طائفة إلى ابن الخليج، فبعث إليه بجيش، فهزمه وسار إلى الصعيد.
ودخل محمد بن الخليج الفسطاط لأربع عشرة بقيت من ذي القعدة، فوضع العطاء، وفرض الفروض، وقدم أبو الأعز من قبل المكتفي في طلب ابن الخليج، فخرج إليه لثلاث خلون من المحرّم سنة ثلاث وتسعين وحاربه، فانهزم منه أبو الأعز، وأسر من أصحابه جمعا كثيرا، وعاد لثمان بقين منه، فقدم فاتك المعتضدي من بغداد في البرّ، فعسكر وقدم دميانة «3» في المراكب، فنزل فاتك النويرة «4» ، فخرج ابن الخليج وعسكر بباب المدينة، وقام في الليل بأربعة آلاف من أصحابه ليبيت فاتكا، فأضلوا الطريق، وأصبحوا قبل أن يبلغوا النويرة، فعلم بهم فاتك، فنهض بأصحابه، وحارب ابن الخليج، فانهزم عنه(2/142)
أصحابه، وثبت في طائفة، ثم انهزم إلى الفسطاط لثلاث خلون من رجب، فاستتر، ودخل دميانة في مراكب الثغور، وأقبل عيسى النوشري، ومعه الحسين المادرانيّ، ومن كان معهما لخمس خلون منه، فعاد النوشري إلى ما كان عليه من صلاتها، والمادرانيّ إلى ما كان عليه من الخراج، وعرف النوشريّ بمكان ابن الخليج، فهجم عليه وقيده لست خلون من رجب، وكانت مدّة ابن الخليج بمصر سبعة أشهر وعشرين يوما، ودخل فاتك في عسكره إلى الفسطاط لعشر خلون من رجب، فأخرج ابن الخليج في البحر لست خلون من شعبان، فلما قدم بغداد طيف به وبأصحابه وهم ثلاثون نفرا، فكان يوما مذكورا، وابتدئ في هدم ميدان بني طولون في شهر رمضان، وبيعت أنقاضه، وخرج فاتك إلى العراق للنصف من جمادى الأولى سنة أربع وتسعين، وأمر النوشري بنفي المؤنثين، ومنع النوح والنداء على الجنائز، وأمر بإغلاق المسجد الجامع فيما بين الصلاتين، ثم أمر بفتحه بعد أيام، ومات المكتفي في ذي القعدة سنة خمس وتسعين، فشغب الجند بمصر، وحاربوا النوشريّ على طلب مال البيعة، فظفر بجماعة منهم، وبويع جعفر المقتدر، فأقرّ النوشري على الصلاة، وقدم زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب أمير إفريقية مهزوما من أبي عبد الله الشيعيّ في رمضان سنة ست وتسعين إلى الجيزة، فمنعه النوشري من العبور، وكانت بين أصحابه، وبين جند مصر منافسة، ثم أذن له أن يعبر وحده، ومات النوشري لأربع بقين من شعبان سنة سبع وتسعين، وهو وال، فكانت ولايته خمس سنين وشهرين ونصفا، منها مدّة ابن الخليج سبعة أشهر وعشرون يوما، وقام من بعده ابنه أبو الفتح محمد بن عيسى.
ثم ولي تكين الخزريّ أبو منصور، من قبل المقتدر على الصلاة، فدعي له بها يوم الجمعة لإحدى عشرة خلت من شوّال، وقدم خليفته لسبع بقين منه، ثم قدم تكين لليلتين خلتا من ذي الحجة، وتقدّم إليه بالجدّ في أمر المغرب، والاحتراس منه، فبعث جيشا إلى برقة عليه أبو اليمن، فحاربه حباسة بن يوسف بعساكر المهديّ عبيد الله الفاطميّ صاحب إفريقية، واستولى على برقة، وسار إلى الإسكندرية في زيادة على مائة ألف، فدخلها في المحرّم سنة اثنتين وثلثمائة، فقدمت الجيوش من العراق مددا لتكين في صفر، وقدم الحسين المادرانيّ، وأحمد بن كيغلغ «1» في جمع من القوّاد، وبرزت العساكر إلى الجيزة في جمادى الأولى، وخرج تكين، فكانت واقعة حباسة:
قتل فيها آلاف من الناس، وعاد حباسة إلى المغرب، وقدم مونس الحادم من بغداد في جيوشه للنصف من رمضان، ومعه جمع من الأمراء، فنزل الحمراء، ولقي الناس منهم(2/143)
شدائد، وخرج ابن كيغلغ إلى الشام في رمضان، وصرف تكين لأربع عشرة خلت من ذي القعدة صرفه مؤنس، فخرج لسبع خلون من ذي الحجة، وأقام مونس يدعى ويخاطب بالأستاذ.
ثم ولي: ذكا الروميّ أبو الحسن الأعور من قبل المقتدر على الصلاة، فدخل لثنتي عشرة خلت من صفر سنة ثلاث وثلثمائة، وخرج موسى بجميع جيوشه لثمان خلون من ربيع الآخر، وخرج ذكا إلى الإسكندرية في المحرّم سنة أربع وثلثمائة، ثم عاد في ثامن ربيع الأوّل، وتتبع كل من يومأ إليه بمكاتبة المهديّ صاحب إفريقية، فسجن منهم، وقطع أيدي أناس، وأرجلهم، وجلا أهل لوبية «1» ومراقية «2» إلى الإسكندرية خوفا من صاحب برقة، وسير العساكر إلى الإسكندرية، ثم فسد ما بينه وبين الرعية بسبب سب الصحابة رضي الله عنهم، وسب القرآن، وقدمت عساكر المهديّ صاحب إفريقية إلى لوبية ومراقية عليها أبو القاسم، فدخل الإسكندرية ثامن صفر سنة سبع وثلثمائة، وفرّ الناس من مصر إلى الشام في البرّ والبحر، فهلك أكثرهم، وأخرج ذكا الجند المخالفون له، فعسكر بالجيزة، وقدم أبو الحسن بن المادرانيّ واليا على الخراج، فوضع العطاء، وجدّ ذكا في أمر الحرب، واحتفر خندقا على عسكره بالجيزة، فمرض ومات لإحدى عشرة خلت من ربيع الأوّل بالجيزة، فكانت إمرته أربع سنين وشهرا.
فولي: تكين مرّة ثانية من قبل المقتدر، وقدمت جيوش العراق عليها، محمود بن حمل، وإبراهيم بن كيغلغ في ربيع الأوّل، ودخل تكين لإحدى عشرة خلت من شعبان، فنزل الجيزة، وحفر خندقا ثانيا، وأقبلت مراكب المغرب، فظفر بها في شوّال، وقدم مونس الخادم من بغداد بعساكره لخمس خلون من المحرّم سنة ثمان وثلثمائة، فنزل الجيزة، وكان في نحو ثلاثة آلاف وسيّر ابن كيغلغ إلى الأشمونين، فمات بالبهنساء أوّل ذي القعدة، وملك أصحاب المهديّ الفيوم، وجزيرة الأشمونين، فقدم جنى الخادم من بغداد في عسكر آخر ذي الحجة، فعسكر بالجيزة، فكانت حروب مع أصحاب المهديّ بالفيوم والإسكندرية، ورجع أبو القاسم بن المهديّ إلى برقة، وصرف تكين لثلاث عشرة خلت من ربيع الأوّل سنة تسع وثلثمائة.
فولّى مونس: أبا قابوس محمود بن حمل، فأقام ثلاثة أيام، وعزله ورد تكين لخمس بقين من ربيع الأوّل، ثم صرفه بعد أربعة أيام، وأخرجه إلى الشام في أربعة آلاف من أهل الديوان.(2/144)
ثم ولي: هلال بن بدر من قبل المقتدر على الصلاة، فدخل لست خلون من ربيع الآخر، وخرج مونس لثمان عشرة خلت منه ومعه ابن حمل، فشغب الجند على هلال، وخرجوا إلى منية الأصبغ، ومعهم محمد بن طاهر صاحب الشرط، فكثر النهب والقتل والفساد بمصر، إلى أن صرف عنها في ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وثلثمائة وخرج في نفر من أصحابه.
فولي: أحمد بن كيغلغ من قبل المقتدر على الصلاة، وقدم ابنه أبو العباس خليفة له أوّل جمادى الأولى، ثم قدم ومعه محمد بن الحسين بن عبد الوهاب المادرانيّ على الخراج في رجب، فأحضرا الجند، ووضعا العطاء، وأسقطا كثيرا من الرجالة، وكان ذلك بمنية الأصبغ، فثار الرجالة به، ففرّ إلى فاقوس «1» ، وأدخل المادرانيّ إلى المدينة لثمان خلون من شوال، وأقام ابن كيغلغ بفاقوس إلى أن صرف بقدوم رسول تكين في ثالث ذي القعدة.
فولي: تكين المرّة الثالثة من قبل المقتدر على الصلاة، وخلفه ابن منجور إلى أن قدم يوم عاشوراء سنة اثنتي عشرة وثلثمائة، فأسقط كثيرا من الرجالة، وكانوا أهل الشرّ والنهب، ونادى ببراءة الذمّة، ممن أقام منهم بالفسطاط، وصلى الجمعة في دار الإمارة بالعسكر، وترك حضور الجمعة في مسجد العسكر، والمسجد الجامع العتيق في سنة سبع عشرة، ولم يصلّ قبله أحد من الأمراء في دار الإمارة الجمعة، ثم قتل المقتدر في شوّال سنة عشرين، وبويع أبو منصور القاهر بالله، فأقرّ تكين حتى مات في سادس عشر ربيع الأوّل سنة إحدى وعشرين وثلثمائة، فحمل إلى بيت المقدس، وكانت إمرته هذه تسع سنين وشهرين وخمسة أيام.
فقام ابنه محمد بن تكين موضعه، وقام أبو بكر محمد بن عليّ المادرانيّ بأمر البلد كله، ونظر في أعماله فشغب الجند عليه في طلب أرزاقهم، وأحرقوا دوره، ودور أهله، فخرج ابن تكين إلى منية الأصبغ، فبعث إليه المادرانيّ يأمره بالخروج من أرض مصر، وعسكر بباب المدينة، وأقام هناك بعدما رحل ابن تكين إلى سلخ ربيع الأوّل، فلحق ابن تكين بدمشق، ثم أقبل يريد مصر، فمنعه المادرانيّ.
ثم ولي: محمد بن طغج «2» بن جف الفرغانيّ أبو بكر من قبل القاهر بالله على الصلاة، فورد كتابه لسبع خلون من رمضان سنة إحدى وعشرين، ودعي له، وهو بدمشق(2/145)
مدّة اثنتين وثلاثين يوما إلى أن قدم رسول أحمد بن كيغلغ بولايته الثانية من قبل القاهر بالله لتسع خلون من شوّال، واستخلف أبا الفتح بن عيسى النوشريّ، فشغب الجند في أرزاقهم على المادرانيّ صاحب الخراج، فاستتر منهم، فأحرقوا دوره ودور أهله، وكانت فتن قتل فيها جماعة إلى أن أتاهم محمد بن تكين من فلسطين لثلاث عشرة خلت من ربيع الأوّل سنة اثنتين وعشرين، فأنكر المادرانيّ ولايته، وتعصب له طائفة، ودعي له بالإمارة، وخرج قوم إلى الصعيد فيهم: ابن النوشريّ، فأمّروه عليهم وهم على الدعاء لابن كيغلغ، فنزل منية الأصبغ لثلاث خلون من رجب، فلحق به كثير من أصحاب تكين، ففرّ ابن تكين ليلا، ودخل ابن كيغلغ المدينة لست خلون منه، وكان مقام ابن تكين بالفسطاط مائة يوم واثني عشر يوما، وخلع القاهر، وبويع أبو العباس الراضي بالله، فعاد ابن تكين، وأظهر أنّ الراضي ولّاه فخرج إليه العسكر، وحاربوه فيما بين بلبيس وفاقوس، فانهزم وجيء به إلى المدينة، فحمل إلى الصعيد، فورد الخبر بأنّ محمد بن طفج سار إلى مصر بولاية الراضي له، فبعث إليه ابن كيغلغ بجيش ليمنعوه من دخول الفرما، فأقبلت مراكب ابن طغج إلى تنيس، وسارت مقدّمته في البرّ، وكانت بينهما حروب في تاسع عشر شعبان سنة ثلاث وعشرين كانت لأصحاب ابن طفج، وأقبلت مراكبه إلى الفسطاط سلخ شعبان، وأقبل فعسكر ابن كيغلغ للنصف من رمضان، ولاقاه لسبع بقين منه، فسلم ابن كيغلغ إلى محمد بن طفج من غير قتال.
وولي: محمد بن طغج الثانية من قبل الراضي على الصلاة والخراج، فدخل لست بقين من رمضان، وقدم أبو الفتح الفضل»
بن جعفر بن محمد بن فرات بالخلع لمحمد بن طغج، وكانت حروب مع أصحاب ابن كيغلغ انهزموا منها إلى برقة، وساروا إلى القائم بأمر الله محمد بن المهديّ بالمغرب، فحرّضوه على أخذ مصر، فجهز جيشا إلى مصر، فبعث ابن طغج عسكره إلى الإسكندرية والصعيد، ثم ورد الكتاب من بغداد بالزيارة في اسم الأمير محمد بن طغج، فلقب الإخشيد ودعي له بذلك على المنبر في رمضان سنة سبع وعشرين، وسار محمد «2» بن رائق إلى الشامات، ثم سار في المحرّم سنة ثمان وعشرين، واستخلف أخاه الحسن بن طغج، فنزل الفرما، وابن رائق بالرملة، فسفر بينهما الحسن بن طاهر بن يحيى العلويّ في الصلح، حتى تمّ، وعاد إلى الفسطاط مستهل جمادى الأولى، ثم أقبل ابن رائق من دمشق في شعبان، فسير إليه الإخشيد الجيوش، ثم خرج لست عشرة خلت من شعبان، والتقيا للنصف من رمضان بالعريش، فكانت بينهما وقعة عظيمة انكسرت فيها(2/146)
ميسرة الإخشيد، ثم حمل بنفسه، فهزم أصحاب ابن رائق، وأسر كثيرا منهم، وأثخنهم قتلا وأسرا، ومضى ابن رائق فقتل الحسين بن طغج باللجون «1» ، ودخل الإخشيد الرملة بخمسمائة أسير، فتداعى ابن طغج وابن رائق إلى الصلح، فمضى ابن رائق إلى دمشق على صلح، وقدم الإخشيد محمد بن طغج إلى مصر لثلاث خلون من المحرّم سنة تسع وعشرين، ومات الراضي بالله، وبويع المتقي لله إبراهيم في شعبان، فأقرّ الإخشيد، وقتل محمد بن رائق بالموصل، قتله بنو حمدان في شعبان سنة ثلاثين وثلثمائة، فبعث الإخشيد بجيوشه إلى الشام، ثم سار لست خلون من شوّال، واستخلف أخاه أبا المظفر الحسن بن طغج، ودخل دمشق، ثم عاد لثلاث عشرة خلت من جمادى الأولى سنة إحدى وثلاثين، فنزل البستان الذي يعرف اليوم بالكافوريّ من القاهرة، ثم دخل داره، وأخذ البيعة لابنه أبي القاسم أونوجور على جميع القوّاد، آخر ذي القعدة، وسار المتقي لله إلى بلاد الشام، ومعه بنو حمدان، فسار الإخشيد لثمان خلون من رجب سنة اثنتين وثلاثين، واستخلف أخاه الحسن، فلقي المتقي، ثم رجع فنزل البستان لأربع خلون من جمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثين، وخلع المتقي، وبويع عبد الله المستكفي لسبع خلون من جمادى الآخرة، فأقرّ الإخشيد، وبعث الإخشيد بحانك وكافور «2» في الجيوش إلى الشام.
ثم خرج لخمس خلون من شعبان سنة ست وثلاثين، واستخلف أخاه الحسن، فلقي عليّ بن عبد الله «3» بن حمدان بأرض قنسرين وحاربه، ومضى فأخذ منه حلب، وخلع المستكفي، ودعي للمطيع لله الفضل بن جعفر في شوّال سنة أربع وثلاثين، فأقرّ الإخشيد إلى أن مات بدمشق يوم الجمعة لثمان بقين من ذي الحجة.
فولي بعده ابنه (أونوجور) أبو القاسم باستخلافه إياه، وقبض على أبي بكر محمد بن عليّ بن مقاتل في ثالث المحرّم سنة خمس وثلاثين، وجعل مكانه على الخراج محمد بن عليّ المادرانيّ، وقدم العسكر من الشام أوّل صفر، فلم يزل أونوجور واليا إلى أن مات لسبع خلون من ذي القعدة سنة سبع وأربعين وثلثمائة، وحمل إلى القدس، فدفن عند أبيه، وكان كافور متحكما في أيامه، ويطلق له في السنة أربعمائة ألف دينار، فلما مات، قوي كافور، وكانت ولايته أربع عشرة سنة وعشرة أشهر.(2/147)
فأقام كافور أخاه عليّ بن الإخشيد أبا الحسن لثلاث عشرة خلت من ذي القعدة، فأقرّ المطيع لله على الحرب والخراج بمصر والشام والحرمين، وصار خليفته على ذلك كافور غلام أبيه، وأطلق له ما كان يطلق لأخيه في كل سنة، وفي سنة إحدى وخمسين ترفع السعر، واضطربت الإسكندرية والبحيرة بسبب المغاربة الواردين إليها، وتزايد الغلاء، وعز وجود القمح، وقدم القرمطيّ إلى الشام في سنة ثلاث وخمسين، وقلّ ماء النيل، ونهبت ضياع مصر، وتزايد الغلاء، وسار ملك النوبة إلى أسوان، ووصل إلى إخميم، فقتل ونهب وأحرق، واشتدّ اضطراب الأعمال، وفسد ما بين كافور وبين عليّ بن الإخشيد، فمنع كافور من الاجتماع به، واعتلّ عليّ بعد ذلك علة أخيه، ومات لإحدى عشرة خلت من المحرّم سنة خمس وخمسين وثلثمائة، فحمل إلى القدس، وبقيت مصر بغير أمير أياما، ولم يدع بها إلّا للمطيع لله وحده، وكافور يدبر أمورها، ومعه أبو الفضل جعفر بن الفرات.
ثم ولي كافور الخصيّ الأسود مولى الإخشيد من قبل المطيع على الحرب والخراج، وجميع أمور مصر والشام والحرمين، فلم يغير لقبه، وإنما كان يدعى ويخاطب بالأستاذ «1» ، وأخرج كتاب المطيع بولايته لأربع بقين من المحرّم سنة خمس وخمسين، فلم يزل إلى أن توفي لعشر بقين من جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وثلثمائة.
فولي أحمد بن عليّ «2» الإخشيد أبو الفوارس وسنة إحدى عشرة سنة في يوم وفاة كافور، وجعل الحسين بن عبيد الله بن طغج يخلفه، وأبو الفضل جعفر بن الفرات يدبر الأمور وسمول الإخشيديّ «3» العساكر إلى أن قدم جوهر القائد من المغرب بجيوش المعز لدين الله في سابع عشر شعبان سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، ففرّ الحسين بن عبيد الله، وتسلم جوهر البلاد، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فكانت مدّة الدعاء لبني العباس بمصر، منذ ابتدئت دولتهم إلى أن قدم القائد جوهر إلى مصر: مائتي سنة، وخمسا وعشرين سنة، ومدّة الدولة الإخشيدية بها أربعا وثلاثين سنة وعشرة أشهر، وأربعة وعشرين يوما، ومنذ افتتحت مصر إلى أن انتقل كرسيّ الإمارة منها إلى القاهرة ثلثمائة سنة وسبع وثلاثون سنة وأشهر، والله تعالى أعلم.(2/148)
ذكر ما كانت عليه مدينة الفسطاط من كثرة العمارة
قال ابن يونس عن الليث بن سعد: أن حكيم بن أبي راشد حدّثه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن: أنه وقف على جزار، فسأله عن السعر؟ فقال: بأربعة أفلس الرطل، فقال له أبو سلمة: هل لك أن تعطينا بهذا السعر ما بدا لنا وبدا لك؟ قال: نعم، فأخذ منه أبو سلمة، ومرّ في القصبة، حتى إذا أراد أن يوفيه، قال: بعثني بدينار، ثم قال: اصرفه فلوسا، ثم وفه.
وقال الشريف أبو عبد الله محمد بن أسعد الجوانيّ النسابة في كتاب النقط على الخطط: سمعت الأمير تأييد الدولة تميم بن محمد المعروف بالضمضام يقول: في سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، وحدّثني القاضي أبو الحسين عليّ بن الحسين الخلعيّ عن القاضي أبي عبد الله القضاعيّ قال: كان في مصر الفسطاط من المساجد، ستة وثلاثون ألف مسجد، وثمانية آلاف شارع مسلوك، وألف ومائة، وسبعون حماما، وإن حمام جنادة في القرافة ما كان يتوصل إليها إلّا بعد عناء من الزحام، وإن قبالتها في كل يوم جمعة خمسمائة درهم.
وقال القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعيّ في كتاب الخطط: إنه طلب لقطر الندى ابنة خمارويه بن أحمد بن طولون ألف تكة بعشرة آلاف دينار من أثمان كل تكة بعشرة دنانير، فوجدت في السوق في أيسر وقت، وبأهون سعي، وذكر عن القاضي أبي عبيد: أنه لما صرف عن قضاء مصر كان في المودع مائة ألف دينار، وإنّ فائقا مولى أحمد بن طولون اشترى دارا بعشرين ألف دينار، وسلم الثمن إلى البائعين، وأجلهم شهرين، فلما انقضى الأجل سمع فائق صياحا عظيما وبكاء فسأل عن ذلك؟ فقيل: هم الذين باعوا الدار، فدعاهم وسألهم عن ذلك؟ فقالوا: إنما نبكي على جوارك، فأطرق وأمر بالكتب، فردّت عليهم، ووهب لهم الثمن، وركب إلى أحمد بن طولون، فأخبره فاستصوب رأيه، واستحسن فعله.
ويقال: إنه كان لفائق ثلثمائة فرشة كل فرشة لحظية مثمنة، وإنّ دار الحرم بناها خمارويه لحرمه، وكان أبوه اشتراها له، فقام عليه الثمن وأجرة الصناع والبناء بسبعمائة ألف دينار، وإنّ عبد الله بن أحمد بن طباطبا الحسينيّ دخل الجامع، فلم يجد مكانا في الصفّ الأوّل، فوقف في الصف الثاني، فالتفت أبو حفص بن الجلاب، فلما رآه تأخر، وتقدّم الشريف مكانه، فكافأه على ذلك بنعمة حملها إليه، ودارا ابتاعها له، ونقل أهله إليها بعد أن كساهم وحلّاهم.
وذكر غير القضاعيّ: أنه دفع إليه خمسمائة دينار قال: ويقال: إنه أهدى إلى أبي جعفر الطحاويّ كتبا قيمتها ألف دينار، وإنّ رشيقا الإخشيديّ استحجبه أبو بكر محمد بن(2/149)
عليّ المادرانيّ، فلما مضت عليه سنة رفع فيه أنه كسب عشرة آلاف دينار، فخاطبه في ذلك، فحلف بالإيمان الغليظة على بطلان ذلك، فأقسم أبو بكر المادرانيّ بمثل ما أقسم به لئن خرجت سنتنا هذه، ولم تكسب هذه الجملة لأصحبتني، ولم يزل في صحبته إلى أن صودر أبو بكر، فأخذ منه، ومن رشيق مال جزيل، وذكر: أن الحسن بن أبي المهاجر موسى بن إسماعيل بن عبد الحميد بن بحر بن سعد كان على البريد في زمن أحمد بن طولون، وقتله خمارويه، وسبب ذلك ما كان في نفس عليّ بن أحمد المادرانيّ منه، فأغرى خمارويه به، وقال: قد بقي لأبيك مال غير الذي ذكره في وصيته، ولم يقف عليه غير ابن مهاجر، فطالبه، فلم يزل خمارويه بابن مهاجر إلى أن وصف له موضع المال من دار خمارويه، فأخرج فكان مبلغه ألف ألف دينار، فسلمه إلى أحمد المادرانيّ، فحمله إلى داره، وأقبلت توقيعات خمارويه فأخرج، فكان مبلغه ألف ألف دنار، فسلمه أموال الضياع والمرافق، وحصلت له تلك الأموال، ولم يضع يده عليها إلى أن قتل، وصودر أبو بكر محمد بن عليّ في أيام الإخشيد، وقبضت ضياعه، فعاد إلى تلك الألف ألف دينار مع ما سواها من ذخائره وأعراضه وعقده، فما ظنك برجل ذخيرته ألف ألف دينار، سوى ما ذكر عن أبي بكر محمد بن عليّ المادرانيّ أنه قال: بعث إليّ أبو الجيش خمارويه أن أشتري له أردية وأقنعة للجواري، وعمل دعوة خلا فيها بنفسه وبهم، وغدوت متعرّفا لخبره، فقيل له: إنه طرب لما هو فيه، فنثر دنانير على الجواري والغلمان، وتقدّم إليهم أنّ ما سقط من ذلك في البركة، فهو لمحمد بن عليّ كاتبي، فلما حضرت، وبلغني ذلك أمرت الغلمان، فنزلوا في البركة، فأصعدوا إليّ منها سبعين ألف دينار، فما ظنك بمال نثر على أناس فتطاير منه إلى بركة ماء هذا المبلغ.
وقال ابن سعيد في كتاب المعرب في حل المغرب: وفي الفسطاط دار تعرف بعبد العزيز يصب فيها لمن بها في كل يوم أربعمائة راوية ماء، وحسبك من دار واحدة يحتاج أهلها في كل يوم إلى هذا القدر من الماء.
وقال ابن المتوّج في كتاب إيقاظ المتغفل واتعاظ المتأمّل عن ساحل مصر، ورأيت من نقل عمن نقل عمن رأى الأسطال التي كانت بالطاقات المطلة على النيل، وكان عددها ستة عشر ألف سطل مؤبدة ببكر، وأطناب بها ترخى وتملأ. أخبرني بذلك من أثقل بنقله، قال:
وكان بالفسطاط في جهته الشرقية حمام من بناء الروم عامرة زمن أحمد بن طولون. قال الراوي: دخلتها في زمن خمارويه بن أحمد بن طولون، وطلبت بها صانعا يخدمني، فلم أجد فيها صانعا متفرّغا لخدمتي، وقيل لي: إن كل صانع معه اثنان يخدمهم وثلاثة، فسألت كم فيها من صانع؟ فأخبرت: أنّ بها سبعين صانعا قلّ من معه دون ثلاثة، سوى من قضى حاجته، وخرج قال: فخرجت ولم أدخله لعدم من يخدمني بها، ثم طفت غيرها، فلم أقدر على من أجده فارغا إلّا بعد أربع حمامات، وكان الذي خدمني فيها نائبا، فانظر رحمك الله(2/150)
ما اشتمل عليه هذا الخبر، مع ما ذكره القضاعيّ من عدد الحمامات، وأنها ألف ومائة وسبعون حماما، تعرف من ذلك كثرة ما كان بمصر من الناس، هذا والسعر راخ والقمح كل خمسة أرادب بدينار، وبيعت عشرة أرادب بدينار في زمن أحمد بن طولون.
قال ابن المتوّج: خطة مسجد عبد الله أدركت بها آثار دار عظيمة، قيل: إنها كانت دار كافور الإخشيديّ، ويقال: إن هذه الخطة تعرف بسوق العسكر، وكان به مسجد الزكاة، وقيل: إنه كان منه قصبة سوق متصلة إلى جامع أحمد بن طولون، وأخبرني بعض المشايخ العدول عن والده، وكان من أكابر الصلحاء أنه قال: عددت من مسجد عبد الله إلى جامع ابن طولون ثلثمائة وتسعين قدر حمص مصلوق بقصبة هذا السوق بالأرض، سوى المقاعد والحوانيت التي بها الحمص، فتأمّل أعزك الله ما في هذا الخبر مما يدل على عظمة مصر، فإن هذا السوق كان خارج مدينة الفسطاط، وموضعه اليوم الفضاء الذي بين كوم الجارح وبين جامع ابن طولون، ومن المعروف أن الأسواق التي تكون بداخل المدينة أعظم من الأسواق التي هي خارجها، ومع ذلك ففي هذا السوق من صنف واحد من المآكل هذا القدر، فكم ترى تكون جملة ما فيه من سائر أصناف المآكل، وقد كان إذ ذاك بمصر عشرة أسواق كلها أو أكثرها أجلّ من هذا السوق، قال: ودرب السفافير بني فيه زقاق بني الرصاص، كان به جماعة إذا عقد عندهم عقد لا يحتاجون إلى غريب، وكانوا هم وأولادهم نحوا من أربعين نفسا.
وقال ابن زولاق «1» في كتاب سيرة المادرانيين: ولما قدم الأستاذ مونس الخادم من بغداد إلى مصر استدعى أبو عليّ الحسين بن أحمد المادرانيّ المعروف بأبي زنبور الدقاق، وهو الذي نسميه اليوم الطحان، وقال: إن الأستاذ مؤنسا قد وافى، ولي بمشتول «2» قدر ستين ألف أردب قمحا، فإذا وافى، فقم له بالوظيفة، فكان يقوم له بما يحتاج إليه من دقيق حواري مدّة شهر، فلما كمل الشهر قال كاتب مونس للدقاق: كم لك حتى ندفعه إليك؟
فأعلمه الخبر، فقال: ما أحسب الأستاذ يرضى أن يكون في ضيافة أبي عليّ، وأعلم مونسا بذلك، فقال: أنا آكل خبز حسين؟! لا يبرح الرجل حتى يقبض ماله، فمضى الدقاق وعلم أبا زنبور، فقام من فوره إلى مونس، فأكب على رجليه، فاحتشم منه، وقال: والله لا أجيبك إلا هذا الشهر الذي مضى ولا تعاود، ثم رجع فقال الدقاق: قم له بالوظيفة في المستقبل واعمل ما يريده؟ قال: فجئته وقد فرغ القمح، ومعي الحساب، وأربعمائة دينار قال:(2/151)
إيش هذا؟ فقلت: بقية ذلك القمح، فقال: أعفني منه وتركه، فتأمّل ما اشتمل عليه هذا الخبر من سعة حال كاتب من كتاب مصر، كيف كان له في قرية واحدة هذا القدر من صنف القمح، وكيف صار مما يفضل عنه، حتى يجعله ضيافة، وكيف لم يعبأ بأربعمائة دينار، حتى وهبها لدقاق قمح، وما ذاك إلا من كثرة المعاش، وقس عليه باقي الأحوال.
وقال عن أبي بكر محمد بن عليّ المادرانيّ: أنه حج اثنتين وعشرين حجة متوالية، أنفق في كل حجة مائة ألف دينار، وخمسين ألف دينار، وأنه كان يخرج معه بتسعين ناقعة لقبته التي يركبها، وأربعمائة لجهازه وميرته، ومعه المحامل فيها أحواض البقل، وأحواض الرياحين، وكلاب الصيد، وينفق على الأشراف، وأولاد الصحابة، ولهم عنده ديوان بأسمائهم، وأنه أنفق في خمس حجات أخر ألفي ألف دينار، ومائتي ألف دينار، وكانت جاريته تواصل معه الحج، ومعها لنفسها ثلاثون ناقة لقبتها، ومائة وخمسون عربيا لجهازها، وأحصى ما يعطيه كل شهر لحاشيته، وأهل الستر، وذوي الأقدار جراية من الدقيق الحواري، فكان بضعا وثمانين ألف رطل، وكان سنة القرمطيّ بمكة، فمن جملة ما ذهب له به مائتا قميص ديبقي ثمن كل ثوب منها خمسون دينارا، وقال مرّة: وهو في عطلته أخذ مني محمد بن طفج الإخشيد عينا وعرضا يبلغ نيفا وثمانين ويبة دنانير، فاستعظم من حضر ذلك، فقال ابنه الذي أخذ أكثر: وأنا أوقفه عليه، ثم قال لأبيه: يا مولاي أليس نكتب ثلاث مرّات؟ قال: قريب منها، قال: وعرض وعين؟ قال: كذلك، فأمر بعض الحساب بضبط ذلك، فجاء ما ينيف عن ثلاثين أردبا من ذهب؟! فانظر ما تضمنته أخبار المادرانيّ، وقس عليها بقية أحوال مصر، فما كان سوى كاتب الخراج، وهذه أمواله كما قد رأيت.
وقال الشريف الجوانيّ: إن أبا عبد الله محمد بن مفسر قاضي مصر سمع بأن المادرانيّ عمل في أيامه الكعك المحشوّ بالسكر، والقرص الصغار المسمى افطن له، فأمرهم بعمل الفستق الملبس بالسكر الأبيض الفانيد المطيب بالمسك، وعمل منه في أوّل الحال أشياء عوض لبه: لب ذهب في صحن واحد، فمضى عليه جملة، وخطف قدّامه تخاطفه الحاضرون، ولم يعد لعمله بل الفستق الملبس، وكان قد سمع في سيرة المادرانيين أنه عمل له هذا الإفطن له، وفي كل واحدة خمسة دنانير، ووقف أستاذ على السماط، فقال لأحد الجلساء: افطن له، وكان عمل على السماط عدّة صحون من ذلك الجنس، لكن ما فيه الدنانير صحن واحد، فلما رمز الأستاذ لذلك الرجل بقوله: افطن له، وأشار إلى الصحن تناول ذلك الرجل منه، فأصاب الذهب، واعتمد عليه، فحصل له جملة، ورآه الناس وهو إذا أكل يخرج من فمه، ويجمع بيده، ويحط في حجره، فتنبهوا له، وتزاحموا عليه فقيل لذلك من يومئذ: افطن له.(2/152)
وقال أبو سعيد «1» عبد الرحمن بن أحمد بن يونس في تاريخ مصر: حدّثني بعض أصحابنا بتفسير رؤيا رآها غلام ابن عقيل الخشاب عجيبة، فكانت حقا، كما فسرت، فسألت غلام ابن عقيل عنها؟ فقال لي: أنا أخبرك، كان أبي في سوق الخشابين فأنفق بضاعته، ورثت حاله وماله، فأسلمتني أمي إلى ابن عقيل، وكان صديقا لأبي، فكنت أخدمه، وأفتح حانوته وأكنسها، ثم أفرش ما يجلس عليه، فكان يجري عليّ رزقا أتقوّت به، فأتى يوما في الحانوت، وقد جلس أستاذي ابن عقيل، فجاء ابن العسال مع رجل من أهل الريف يطلب عود خشب لطاحونة، فاشترى من ابن عقيل عود طاحونة بخمسة دنانير، فسمعت قوما من أهل السوق يقولون: هذا ابن العسال المفسر للرؤيا عند ابن عقيل، فجاء منهم قوم، وقصوا عليه منامات رأوها، ففسرها لهم، فذكرت رؤيا رأيتها في ليلتي، فقلت له: إني رأيت البارحة في نومي كذا وكذا، فقصصت عليه الرؤيا، فقال لي: أيّ وقت رأيتها من الليل، فقلت: انتبهت بعد رؤياي في وقت كذا، فقال لي: هذه رؤيا لست أفسرها إلّا بدنانير كثيرة، فألححت عليه، فقال أستاذي ابن عقيل: إن قرّبت علينا وزنت أنا لك ذلك من عندي، فلم يزل به ينزله، حتى قال: والله لا آخذ أقل من ثمن العود الخشب خمسة دنانير، فقال له ابن عقيل: إن صحت الرؤيا دفعت إليك العود بلا ثمن، فقال له: يأخذ مثل هذا اليوم ألف دينار، قال أستاذي: فإذا لم يصح هذا، فقال: يكون العود عندك إلى مثل هذا اليوم، فإن كان لم يصح أخذ ما قلت له في ذلك اليوم، فليس لي عندك شيء، ولا أفسر رؤيا أبدا، فقال له أستاذي: قد أنصفت ومضت الجمعة، فلما كان مثل ذلك اليوم غدوت مثل ما كنت أغدو إلى دكان أستاذي، ففتحتها ورششتها، واستلقيت على ظهري أفكر فيما قال لي، ومن أين يمكن أن يصير إليّ ألف دينار، فقلت: لعل سقف المكان ينفرج، فيسقط منه هذا المال، وجعلت أجيل فكري، وإني كذلك إلى ضحى إذ وقف عليّ جماعة من أعوان الخراج معهم ناس، فقالوا: هذه دكان ابن عقيل؟ ثم قالوا لي: قم، فقلت لهم:
لست ابن عقيل، أنا غلامه، فقالوا: بل أنت ابنه، وجبذوني، فأخرجوني من الدكان، فقلت: إلى أين؟ فقالوا: إلى ديوان الأستاذ أبي عليّ الحسين بن أحمد يعنون أبا زنبور، فقلت: وما يصنع بي؟ فقالوا: إذا جئت سمعت كلامه، وما يريده منك، وكنت بعقب علة ضعيف البدن، فقلت: ما أقدر أمشي، فقالوا: اكتر حمارا تركبه، ولم يكن معي ما أكتري به حمارا، فنزعت تكة سراويلي من وسطي، ودفعتها على درهمين لمن أكراني الحمار، ومضيت معهم، فجاءوا بي إلى دار أبي زنبور، فلما دخلت قال لي: أنت ابن عقيل؟
فقلت: لا يا سيدي، أنا غلام في حانوته، قال،: أفليس تبصر قيمة الخشب؟ قلت: بلى، قال: فاذهب مع هؤلاء، فقوّم لنا هذا الخشب، فانظر بحيث لا يزيد ولا ينقص، فمضيت(2/153)
معهم، فجاءوا بي إلى شط البحر إلى خشب كثير من أثل وسنط جاف، وغير ذلك مما يصلح لبناء المراكب، فقوّمته تقويم جزع، حتى بلغت قيمته ألفي دينار، فقالوا لي: انظر هذا الموضع الآخر فيه من الخشب أيضا، فنظرت فإذا هو أكثر مما قوّمت بنحو مرّتين فأعجلوني، ولم أضبط قيمة الخشب، فردّوني إلى أبي زنبور، فقال لي: قوّمت الخشب كما أمرتك؟ ففزعت، فقلت: نعم، فقال: هات كم قوّمته، فقلت: ألفا دينار، فقال: انظر لا تغلط، فقلت: هو قيمته عندي، فقال لي: فخذه أنت بألفي دينار، فقلت: أنا فقير لا أملك دينارا واحدا، فكيف لي بقيمته، قال: ألست تحسن تدبيره وتبيعه؟ فقلت: بلى، قال:
فدبره وبعه ونحن نصبر عليك بالثمن إلى أن تبيع شيئا شيئا، وتؤدّي ثمنه، فقلت: أفعل، فأمر بكتاب يكتب عليّ في الديوان بالمال، فكتب عليّ، ورجعت إلى الشط أعرف عدد الخشب، وأوصي به الحرّاس، فوافيت جماعة أهل سوقنا، وشيوخهم قد أتوا إلى موضع الخشب، فقالوا لي: إيش صنعت؟ قوّمت الخشب؟ قلت: نعم، قالوا: بكم قوّمته؟ فقلت:
بألفي دينار، فقالوا لي: وأنت تحسن تقوّم؟ لا يساوي هذا هذه القيمة، فقلت لهم: قد كتب عليّ كتاب في الديوان، وهو عندي يساوي أضعاف هذا، فقالوا لي: اسكت لا يسمعك أحد، وكانوا قد قوّموه قبلي لأبي زنبور بألف دينار، فقال بعضهم لبعض: أعطوا هذا ربحه، وتسلموه أنتم، فقال قائل: أعطوه ربحه خمسمائة دينار، فقلت: لا والله لا آخذ، فقالوا: قد رأى رؤيا، فزيدوه، فقلت: لا والله لا آخذ أقلّ من ألف دينار، قالوا: فلك ألف دينار، فحوّل اسمك من الديوان نعطك إذا بعنا ألف دينار، فقلت: لا والله لا أفعل حتى آخذ الألف دينار في وقتي هذا، فمضوا إلى حوانيتهم، وإلى منازلهم حتى جاءوني بألف دينار، فقلت: لا آخذها إلا بنقد الصيرفيّ وميزانه، فمضيت معهم إلى صيرفيّ الناحية، حتى وزنوا عنده الألف دينار، ونقدتها وأخذتها فشددتها في طرف رداءي، فمضيت معهم إلى الديوان، وحوّلت أسماءهم مكان اسمي، ووفوا حتى الديوان من عندهم، ورجعت وقت الظهر إلى أستاذي، فقال لي: قبضت ألف دينار منهم؟ فقلت: نعم ببركتك، وتركت الدنانير بين يديه، وقلت له: يا أستاذ خذ ثمن العود الخشب، فقال: لا والله لا آخذ منك شيئا أنت عندي مقام ابني، وجاء في الوقت ابن العسال، فدفع إليه أستاذي العود الخشب، فمضى، فهذا خبر رؤياي وتفسيرها، فتأمّل أعزك الله ما يشتمل عليه من عظم ما كانت عليه مصر، وسعة حال الديوان، وكيف فضل فيه خشب يساوي آلافا من الذهب، ونحن اليوم في زمن إذا احتيج فيه إلى عمارة شيء من الأماكن السلطانية بخشب أو غيره أخذ من الناس إما بغير ثمن أو بأخس القيم، مع ما يصيب مالكه من الخوف والخسارة للأعوان، وكيف لما قوّم هذا الخشب لم يكلف المشتري دفع المال في الحال، وفي زمننا إذا طرحت البضاعة السلطانية على الباعة يكلفون حمل ثمنها بالسرعة، حتى أنّ فيهم من يبيعها بأقلّ من نصف ما اشتراها به، ويكمل الثمن إمّا من ماله، أو يقترضه بربح، وكيف لما علم أهل السوق أن الخشب بيع بدون القيمة(2/154)
لم يمضوا إلى الديوان، ويدفعون فيه زيادة إمّا لقلة شره الناس إذ ذاك وتركهم الأخلاق الرذيلة من الحسد ونحوه أو لعلمهم بعدل السلطان، وإنه لا ينكث ما عقده، وفي زمننا لو ادّعى عدوّ على عدوّه أنّ البضاعة التي كان اشتراها من الديوان قيمتها أكثر مما أخذها به لقبل قوله، ورغم زيادة على ما ادّعاه عدوّه من قلة القيمة جملة أخرى لا جرم أنه تظاهر سفهاء الناس بكل رذيلة وذميمة من الأخلاق، فإنّ الملك سوق يجبى إليه ما نفق به، وكيف لما علم ابن عقيل أنّ غلامه استفاد على اسمه ألف دينار، لم يشره إلى أخذها بل دفع عنه خمسة الدنانير، وما ذاك إلا من انتشار الخير في الناس، وكثرة أموالهم، وسعة حال كل أحد بحسبه وطيب نفوس الكافة، ولعمري لو سمع زمننا أحد من الأمراء والوزراء فضلا عن الباعة، أنّ غلاما من غلمانه أخذ على اسمه عشر هذا المبلغ لقامت قيامته، وكيف اتسعت أحوال الخشابين حتى وزنوا ألف دينار في ساعة، وإنه ليعسر اليوم على الخشابين أن يزنوا في يوم مائة دينار، وهذا كله من وفور غنى الناس بمصر، وعظم أمرهم، وكثرة سعاداتهم، وكان الفسطاط نحو ثلث بغداد، ومقداره فرسخ على غاية العمارة، والخصب والطيبة، واللذة، وكانت مساكن أهلها خمس طبقات وستا وسبعا وربما سكن في الدار الواحدة المائتان من الناس، وكان فيه دار عبد العزيز بن مروان يصب فيها لمن في كل يوم أربعمائة راوية ماء، وكان فيها خمسة مساجد وحمامان، وعدّة أفران يخبز بها عجين أهلها، وقد قال أبو داود في كتاب السنن: شبرت قثاءة بمصر: ثلاثة عشر شبرا، ورأيت أترجة على بعير قطعتين: قطعت، وصيرت على مثل عدلين، ذكره في باب صدقة الزرع من كتاب الزكاة، قلت: وقد ذكر أن هذا كان في جنان بني سنان البصريّ خارج مدينة الفسطاط، وكانت بحيث لم ير أبدع منها، فلما قدم أمير المؤمنين عبد الله المأمون بن هارون الرشيد مصر:
سنة سبع عشرة ومائتين، رأى جنان بني سنان هذه؟ فأعجب بها، وسأل إبراهيم بن سنان:
كم عليه من الخراج لجنانه؟ فذكر أنه يحمل إلى الديوان في كل سنة عشرين ألف دينار، فقال المأمون: وكم ترد عليك هذه الجنان؟ قال: لا أستطيع حصره إلا أن ما زاد على مائة ألف دينار، أتصدّق به ولو درهما هذا، وله ولد اسمه أحمد بن إبراهيم بن سنان يوصف بعلم وزهد، والله تعالى أعلم.
ذكر الآثار الواردة في خراب مصر
روى قاسم بن أصبغ عن كعب الأحبار قال: الجزيرة آمنة من الخراب، حتى تخرب أرمينية، ومصر آمنة من الخراب حتى تخرب الجزيرة، والكوفة آمنة من الخراب، حتى تكون الملحمة، ولا يخرج الدجال حتى تفتح القسطنطينية.
وعن وهب بن منبه أنه قال: الجزيرة آمنة من الخراب، حتى تخرب أرمينية، وأرمينية آمنة من الخراب حتى تخرب مصر، ومصر آمنة من الخراب، حتى تخرب الكوفة، ولا(2/155)
تكون الملحمة الكبرى حتى تخرب الكوفة، فإذا كانت الملحمة الكبرى، فتحت القسطنطينية على يدي رجل من بني هاشم، وخراب الأندلس من قبل الزنج، وخراب إفريقية من قبل الأندلس، وخراب مصر من انقطاع النيل، واختلاف الجيوش فيها، وخراب العراق من قبل الجوع والسيف، وخراب الكوفة من قبل عدوّ من ورائهم يخفرهم، حتى لا يستطيعوا أن يشربوا من الفرات قطرة، وخراب البصرة من قبل العراق، وخراب الأبلة من قبل عدوّ يخفرهم مرّة برّا، ومرّة بحرا، وخراب الريّ من قبل الديلم، وخراب خراسان من قبل التبت، وخراب التبت من قبل الصين، وخراب الصين من قبل الهند، وخراب اليمن من قبل الجراد والسلطان، وخراب مكة من قبل الحبشة، وخراب المدينة من قبل الجوع، وفي رواية: وخراب أرمينية من قبل الرجف والصواعق، وخراب الأندلس، وخراب الجزيرة من سنابك الخيل، واختلاف الجيوش.
وعن عبد الله بن الصامت قال: إن أسرع الأرضين خرابا البصرة ومصر، فقيل له: وما يخربهما وفيهما عيون الرجال والأموال؟ فقال: يخربهما القتل الأحمر والجوع الأغبر، كأني بالبصرة: كأنها نعامة جاثمة، وأما مصر: فإنّ نيلها ينضب، أو قال: ييبس، فيكون ذلك خرابها، وعن الأوزاعيّ: إذا دخل أصحاب الرايات الصفر مصر، فلتحفر أهل الشام أسرابا تحت الأرض.
وعن كعب: علامة خروج المهديّ ألوية تقبل من قبل المغرب عليها رجل من كندة أعرج، فإذا ظهر أهل المغرب على مصر، فبطن الأرض يومئذ خير لأهل الشام.
وعن سفيان الثوريّ «1» قال: يخرج عنق من البربر، فويل لأهل مصر. وقال ابن لهيعة عن أبي الأسود عن مولى لشرحبيل بن حسنة أو لعمرو بن العاص قال: سمعته يوما، واستقبلنا فقال: إيها لك مصر إذا رميت بالقسيّ الأربع: قوس الأندلس، وقوس الحبشة، وقوس الترك، وقوس الروم.
وعن قاسم بن أصبغ: حدّثنا أحمد بن زهير حدثنا هارون بن معروف حدثنا ضمرة عن الشيبانيّ قال: تهلك مصر غرقا، أو حرقا.
وعن عبد الله بن مغلا أنه قال لابنته: إذا بلغك أن الإسكندرية قد فتحت، فإن كان خمارك بالمغرب، فلا تأخذيه حتى تلحقي بالمشرق.
وذكر مقاتل بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس يرفعه قال: أنزل الله تعالى من الجنة(2/156)
إلى الأرض خمسة أنهار: سيحون، وهو نهر الهند، وجيحون، وهو نهر بلخ، ودجلة والفرات، وهما نهرا العراق، والنيل وهو نهر مصر، أنزلها الله تعالى من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل عليه السلام، واستودعها الجبال، وأجراها في الأرض، وجعل فيها منافع للناس في أصناف معايشهم، وذلك قوله عز وجل: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ
[المؤمنون/ 18] فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله تعالى جبريل عليه السلام، فرفع من الأرض القرآن كله، والعلم كله، والحجر من ركن البيت، ومقام إبراهيم، وتابوت موسى بما فيه، وهذه الأنهار الخمسة، فيرفع كل ذلك إلى السماء، فذلك قوله تعالى: وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ
[المؤمنون/ 18] فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقدت أهلها خير الدنيا والدين، وقال ابن لهيعة عن عقبة بن عامر الحضرميّ عن حيان بن الأعين عن عبد الله بن عمرو قال: إنّ أوّل مصر خرابا أنطابلس، وقال الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن سالم بن أبي سالم عن عبد الله بن عمرو قال: إني لأعلم السنة التي تخرجون فيها من مصر قال: فقلت له: ما يخرجنا منها يا أبا محمد، أعدوّ؟ قال: لا، ولكن يخرجكم منها نيلكم هذا، يغور فلا تبقى منه قطرة حتى تكون فيه الكثبان من الرمل، وتأكل سباع الأرض حيتانه.
ذكر خراب الفسطاط
وكان لخراب مدينة فسطاط مصر سببان: أحدهما: الشدّة العظمى التي كانت في خلافة المستنصر بالله الفاطمي، والثاني: حريق مصر في وزارة شاور بن مجير السعديّ.
فأما الشدّة العظمى: فإنّ سببها أنّ السعر ارتفع بمصر في سنة ست وأربعين وأربعمائة، وتبع الغلاء، وباء، فبعث الخليفة المستنصر بالله أبو تميم معدّ بن الظاهر لإعزاز دين الله أبي الحسن عليّ إلى متملك الروم بقسطنطينية أن يحمل الغلال إلى مصر، فأطلق أربعمائة ألف أردب، وعزم على حملها إلى مصر، فأدركه أجله ومات قبل ذلك، فقام في الملك بعده امرأة، وكتبت إلى المستنصر تسأله أن يكون عونا لها، ويمدّها بعساكر مصر إذا ثار عليها أحد، فأبى أن يسعفها في طلبتها، فجردت لذلك، وعاقت الغلال عن المسير إلى مصر، فخنق المستنصر، وجهز العساكر، وعليها مكين الدولة الحسن بن ملهم، وسارت إلى اللاذقية، فحاربتها بسبب نقض الهدنة وإمساك الغلال عن الوصول إلى مصر، وأمدّها بالعساكر الكثيرة، ونودي في بلاد الشام بالغزو، فنزل ابن ملهم قريبا من فامية «1» ، وضايق أهلها، وجال في أعمال أنطاكية، فسبى ونهب، فأخرج صاحب قسطنطينية ثمانين قطعة في البحر، فحاربها ابن ملهم عدّة مرار، وكانت عليه، وأسر هو وجماعة كثيرة في شهر ربيع(2/157)
الأوّل منها، فبعث المستنصر في سنة سبع وأربعين: أبا عبد الله القضاعيّ برسالة إلى القسطنطينية فوافى إليها رسول طغربل السلجوقيّ من العراق بكتابة يأمر متملك الروم بأن يمكن الرسول من الصلاة في جامع القسطنطينية، فأذن له في ذلك، فدخل إليه وصلى فيه صلاة الجمعة.
وخطب للخليفة القائم بأمر الله العباسيّ، فبعث القاضي القضاعيّ إلى المستنصر يخبره بذلك، فأرسل إلى كنيسة قمامة بيت المقدس، وقبض على جميع ما فيها، وكان شيئا كثيرا من أموال النصارى، ففسد من حينئذ ما بين الروم والمصريين، حتى استولوا على بلاد الساحل كلها، وحاصروا القاهرة كما يرد في موضعه إن شاء الله تعالى، واشتدّ في هذه السنة الغلاء، وكثر الوباء بمصر والقاهرة، وأعمالها إلى سنة أربع وخمسين وأربعمائة، فحدث مع ذلك الفتنة العظيمة التي خرب بسببها إقليم مصر كله، وذلك أنّ المستنصر لما خرج على عادته في كل سنة على النجب مع النساء، والحشم إلى أرض الجب خارج القاهرة، وجرّد بعض الأتراك سيفا، وهو سكران على أحد عبيد الشراء، فاجتمع عليه كثير من العبيد وقتلوه، فحنق لقتله الأتراك، وساروا بجميعهم إلى المستنصر.
وقالوا: إن كان هذا عن رضاك، فالسمع والطاعة، وإن كان من غير رضى أمير المؤمنين، فلا نرضى بذلك، فتبرّأ المستنصر مما جرى وأنكره، فتجمع الأتراك لمحاربة العبيد، وكانت بينهما حروب شديدة بناحية كوم شريك قتل فيها عدّة من العبيد.
وانهزم من بقي منهم، فشق ذلك على أمّ المستنصر، فإنها كانت السبب في كثرة العبيد السود بمصر، وذلك أنها كانت جارية سوداء، فأحبت الاستكثار من جنسها، واشترتهم من كل مكان، وعرفت رغبتها في هذا الجنس، فجلبت الناس إلى مصر منهم، حتى يقال: إنه صار في مصر إذ ذاك على زيادة على خمسين ألف عبد أسود، فلما كانت وقعة كوم شريك أمدّت العبيد بالأموال والسلاح سرّا، وكانت أمّ المستنصر قد تحكمت في الدولة، وحقدت على الأتراك، وحثت على قتلهم مولاها أبا سعد التستريّ، فقويت العبيد لذلك، حتى صار الواحد منهم يحكم بما يختار، فكرهت الأتراك ذلك، وكان ما ذكر، فظفر بعض الأتراك يوما بشيء من المال والسلاح قد بعثت به أمّ المستنصر إلى العبيد تمدّهم به بعد انهزامهم من كوم شريك، فاجتمعوا بأسرهم، ودخلوا على المستنصر، وأغلظوا في القول، فحلف أنه لم يكن عنده علم بما ذكر، وصار إلى أمه، فأنكرت ما فعلت، وخرج الأتراك، فصار السيف قائما، ووقعت الفتنة ثانيا فانتدب المستنصر: أبا الفرج ابن المغربيّ ليصلح بين الطائفتين، فاصطلحه على غلّ، وخرج العبيد إلى شبرا دمنهور، فكان هذا أوّل اختلال أحوال أهل مصر، ودبت عقارب العداوة بين الفئتين إلى سنة تسع وخمسين، فقويت شوكة الأتراك، وضروا على المستنصر، وزاد طمعهم فيه، وطلبوا منه الزيادة في واجباتهم، وضاقت أحوال(2/158)
العبيد، واشتدّت ضرورتهم، وكثرت حاجتهم، وقلّ مال السلطان، واستضعف جانبه، فبعثت أم المستنصر إلى قوّاد العبيد تغريهم بالأتراك، فاجتمعوا بالجيزة، وخرج إليهم الأتراك، ومقدّمهم ناصر الدين حسين بن حمدان «1» ، فاقتتلا عدّة مرار ظهر في آخرها الأتراك على العبيد، وهزموهم إلى بلاد الصعيد، فعاد ابن حمدان إلى القاهرة، وقد عظم أمره، وقوي جأشه، وكبرت نفسه، واستخف بالخليفة، فجاءه الخبر: أنه قد تجمع من العبيد ببلاد الصعيد نحو خمسة عشر ألف فارس، فقلق وبعث بمقدّمي الأتراك إلى المستنصر، فأنكر ما كان من اجتماع العبيد، وجفوا في خطابهم، وفارقوه على غير رضى منهم، فبعثت أم المستنصر إلى من بحضرتها من العبيد، تأمرهم بالإيقاع على غفلة بالأتراك، فهجموا عليهم، وقتلوا منهم عدّة، فبادر ابن حمدان إلى الخروج ظاهر القاهرة، وتلاحق به الأتراك، وبرز إليهم العبيد المقيمون بالقاهرة ومصر، وحاربوهم عدّة أيام، فحلف ابن حمدان أنه لا ينزل عن فرسه حتى ينفصل الأمر إمّا له أو عليه، وجدّ كل من الفريقين في القتال، فظهرت الأتراك على العبيد، وأثخنوا في قتلهم وأسرهم، فعادوا إلى القاهرة، وتتبع ابن حمدان من في البلد منهم، حتى أفنى معظمهم، هذا والعبيد ببلاد الصعيد على حالهم، وبالإسكندرية أيضا منهم جمع كثير، فسار ابن حمدان إلى الإسكندرية، وحاصرهم فيها مدّة حتى سألوه الأمان، فأخرجهم، وأقام فيها من يثق به، وانقضت هذه السنة كلها في قتال العبيد، ودخلت سنة ستين وأربعمائة، وقد خرق الأتراك ناموس المستنصر، واستهانوا به، واستخفوا بقدره، وصار مقرّرهم في كل شهر أربعمائة ألف دينار بعدما كان ثمانية وعشرين ألف دينار، ولم يبق في الخزائن مال، فبعثوا يطالبونه بالمال، فاعتذر إليهم بعجزه عما طلبوه، فلم يعذروه، وقالوا: بع ذخائرك، فلم يجد بدّا من إجابتهم، وأخرج ما كان في القصر من الذخائر، فصاروا يقوّمون ما يخرج إليهم بأخس القيم، وأقل الأثمان، ويأخذون ذلك في واجباتهم.
وتجهز ابن حمدان، وسار إلى الصعيد يريد قتال العبيد، وكانت شرورهم قد كثرت، وضررهم وفسادهم قد تزايد، فلقيهم وواقعهم غير مرّة، والأتراك تنكسر منهم، وتعود إلى محاربتهم إلى أن حمل العبيد عليهم حملة انهزموا فيها إلى الجيزة، فأفحشوا عند ذلك في أمر المستنصر، ونسبوه إلى مباطنة العبيد، وتقويتهم، فأنكر ذلك، وحلف عليه، فأخذوا في إصلاح شأنهم، ولمّ شعثهم وساروا لقتال العبيد، وما زالوا يلحون في قتالهم حتى انكسرت العبيد كسرة شنيعة، وقتل منهم خلق كثير، وفرّ من بقي، فذهبت شوكتهم، وزالت دولتهم، ورجع ابن حمدان، وقد كشف قناع الحياء، وجهر بالسوء للمستنصر، واستبدّ بسلطنة(2/159)
البلاد، ودخلت سنة إحدى وستين وابن حمدان مستبدّ بالأمر مجاف للمستنصر، فنقل مكانه على الأتراك، وتفرّغوا من العبيد، والتفتوا إليه، وقد استبدّ بالأمور دونهم، واستأثر بالأموال عليهم، ففسد ما بينهم وبينه، وشكوا منهم إلى الوزير خطير الملك، فأغراهم به، ولامهم على ما كان من تقويته، وحسن لهم الثورة به، فصاروا إلى المستنصر، ووافقوه على ذلك، فبعث إلى ابن حمدان يأمره بالخروج عن مصر، ويهدّده إن امتنع، فلم يقدر على الامتناع منه، لفساد الأتراك عليه، وميلهم مع المستنصر، فخرج إلى الجيزة، وانتهب الناس دوره ودور حواشيه، فلما جنّ عليه الليل عاد من الجيزة سرّا إلى دار القائد تاج الملوك شادي، وترامى عليه، وقبل رجليه، وسأله النصرة على الذكر والوزير الخطير، فإنهما قاما بهذه الفتنة، فأجابه إلى ذلك، ووعده بقتل المذكورين وفارقه ابن حمدان، فلما كان من الغد ركب شادي في أصحابه، وأخذ يسير بين القصرين بالقاهرة، وأقبل الوزير الخطير، في موكبه، فبادره شادي على حين غفلة وقتله، ففرّ الذكر إلى القصر، والتجأ بالمستنصر، فلم يكن بأسرع من قدوم ابن حمدان، وقد استعدّ للحرب، فيمن معه فركب المستنصر بلأمة الحرب، واجتمع إليه الأجناد والعامّة، وصار في عدد لا ينحصر، وبرزت الفرسان، فكانت بين الخليفة، وابن حمدان حروب آلت إلى هزيمة ابن حمدان، وقتل كثير من أصحابه، فمضى في طائفة إلى البحيرة، وترامى على بني سيس، وتزوّج منها، فعظم الأمر بالقاهرة ومصر من شدّة الغلاء، وقلة الأقوات لما فسد من الأعمال بكثرة النهب، وقطع الطريق حتى أكل الناس الجيف والميتات، ووقف أرباب الفساد في الطريق، فصاروا يقتلون من ظفروا به في أزقة مصر، فهلك من أهل مصر في هذه الحروب والفتن ما لا يمكن حصره، وامتدّ ذلك إلى أن دخلت سنة ثلاث وستين، فجهز المستنصر عساكره لقتال ابن حمدان بالبحيرة، فسارت إليه ولم يوفق في محاربته، فكسرها كلها، واحتوى على ما كان معها من سلاح وكراع ومال، فتقوّى به، وقطع الميرة عن البلد، ونهب أكثر الوجه البحريّ، وقطع منه الخطبة للمستنصر، ودعا للخليفة القائم بأمر الله العباسيّ بالإسكندرية ودمياط، وعامّة الوجه البحريّ، فاشتدّ الجوع، وتزايد الموتان بالقاهرة ومصر حتى أنه كان يموت الواحد من أهل البيت، فلا يمضي يوم وليلة من موته، حتى يموت سائر من في ذلك البيت، ولا يوجد من يستولي عليه، ومدّت الأجناد أيديها إلى النهب، فخرج الأمر عن الحدّ، ونجا أهل القوّة بأنفسهم من مصر، وساروا إلى الشام والعراق، وخرج من خزائن القصر ما يجل وصفه، وقد ذكر طرف من ذلك في أخبار القاهرة عند ذكر خزائن القصر، فاضطرّ الأجناد ما هم فيه من شدّة الجوع إلى مصالحة ابن حمدان بشرط أن يقيم في مكانه، ويحمل إليه مال مقرّر، وينوب عنه شادي بالقاهرة، فرضي بذلك، وسير الغلال إلى القاهرة ومصر، فسكن ما بالناس من شدّة الجوع قليلا، ولم يكن ذلك إلا نحو شهر، ووقع الاختلاف عليه، فقدم من البحيرة إلى مصر، وحاصرها وانتهبها، وأحرق دورا عديدة بالساحل، ورجع إلى البحيرة،(2/160)
فدخلت سنة أربع وستين، والحال على ذلك، وشادى قد استبدّ بأمر الدولة، وفسد ما بينه وبين ابن حمدان، ومنعه من المال الذي تقرّر له وشح به عليه، فلم يوصله إلى القليل، فجرد من ذلك ابن حمدان، وجمع العربان، وسار إلى الجيزة، وخادع شادي حتى صار إليه ليلا في عدّة من الأكابر، فقبض عليه وعليهم، وبعث أصحابه فنهبوا مصر، وأطلقوا فيها النار، فخرج إليهم عسكر المستنصر من القاهرة، وهزموهم، فعاد إلى البحيرة، وبعث رسولا إلى الخليفة القائم بأمر الله ببغداد بإقامة الخطبة له، وسأله الخلع والتشاريف فاضمحل أمر المستنصر، وتلاشى ذكره، وتفاقم الأمر في الشدّة من الغلاء، حتى هلكوا فسار ابن حمدان إلى البلد، وليس في أحد قوّة يمنعه بها، فملك القاهرة وامتنع المستنصر بالقصر، فسير إليه رسولا يطلب منه المال، فوجده، وقد ذهب سائر ما كان يعهده من أبهة الخلافة، حتى جلس على حصير، ولم يبق معه سوى ثلاثة من الخدم، فبلغه رسالة ابن حمدان، فقال المستنصر للرسول: ما يكفي ناصر الدولة أن اجلس في مثل هذا البيت على هذا الحال؟ فبكى الرسول رقة له، وعاد إلى ابن حمدان فأخبره بما شاهد من اتضاع أمر المستنصر، وسوء حاله، فكف عنه، وأطلق له في كل شهر مائة دينار، وامتدّت يده وتحكم وبالغ في إهانة المستنصر مبالغة عظيمة، وقبض على أمه وعاقبها أشد العقوبة، واستصفى أموالها، فحاز منها شيئا كثيرا، فتفرّق حينئذ عن المستنصر جميع أقاربه، وأولاده من الجوع فمنهم من سار إلى المغرب، ومنهم من سار إلى الشام والعراق.
قال الشريف محمد بن أسعد الجوانيّ «1» النسابة في كتاب النقط: حلّ بمصر غلاء شديد، في خلافة المستنصر بالله في سنة سبع وخمسين وأربعمائة، وأقام إلى سنة أربع وستين وأربعمائة، وعمّ مع الغلاء وباء شديد، فأقام ذلك سبع سنين، والنيل يمدّ وينزل، فلا يجد من يزرع، وشمل الخوف من العسكرية، وفساد العبيد، فانقطعت الطرقات برّا وبحرا إلّا بالخفارة الكثيرة مع ركوب الغرر، ونزا المارقون بعضهم على بعض، واستولى الجوع لعدم القوت، وصار الحال إلى أن بيع رغيف من الخبز الذي وزنه رطل بزقاق القناديل:
كبيع الطرف في النداء بأربعة عشر درهما، وبيع أردب من القمح بثمانين دينارا، ثم عدم ذلك، وأكلت الكلاب والقطاط، ثم تزايد الحال حتى أكل الناس بعضهم بعضا، وكان بمصر طوائف من أهل الفساد قد سكنوا بيوتا قصيرة السقوف قريبة ممن يسعى في الطرقات ويطوف، وقد أعدّوا سلبا، وخطاطيف فإذا مرّ بهم أحد شالوه في أقرب وقت، ثم ضربوه بالأخشاب، وشرّحوا لحمه وأكلوه.
قال: وحدّثني بعض نسائنا الصالحات قالت: كانت لنا من الجارات امرأة ترينا أفخاذها، وفيها كالحفر، فكنا نسألها، فتقول: أنا ممن خطفني أكلة الناس في الشدّة،(2/161)
فأخذني إنسان، وكنت ذات جسم وسمن، فأدخلني إلى بيت فيه سكاكين وآثار الدماء، وزفرة القتلى، فأضجعني على وجهي، وربط في يديّ ورجليّ سلبا إلى أوتاد حديد عريانة، ثم شرّح من أفخاذي شرائح وأنا أستغيث، ولا أحد يجيبني، ثم أضرم الفحم وشوي من لحمي، وأكل أكلا كثيرا، ثم سكر حتى وقع على جنبه لا يعرف أين هو، فأخذت في الحركة إلى أن انحل أحد الأوتاط، وأعان الله على الخلاص، وتخلصت وحللت الرباط، وأخذت خرقا من داره، ولففت بها أفخاذي، وزحفت إلى باب الدار، وخرجت أزحف إلى أن وقعت إلى المأمن، وجئت إلى بيتي، وعرّفتهم بموضعه، فمضوا إلى الوالي، فكبس عليه وضرب عنقه، وأقام الدواء في أفخاذي سنة إلى أن ختم الجرح، وبقي كذا حفرا، وبسبب هذا الغلاء خرب الفسطاط، وخلا موضع العسكر والقطائع، وظاهر مصر، مما يلي القرافة حيث الكيمان الآن إلى بركة الحبش، فلما قدم أمير الجيوش بدر الجماليّ إلى مصر، وقام بتدبير أمرها نقلت أنقاض ظاهر مصر مما يلي القاهرة حيث كان العسكر والقطائع، وصار فضاء وكيمانا، فيما بين مصر والقاهرة، وفيما بين مصر والقرافة، وتراجعت أحوال الفسطاط بعد ذلك حتى قارب ما كان عليه قبل الشدّة.
وأما حريق مصر: فكان سببه: أنّ الفرنج لما تغلبوا على ممالك الشام، واستولوا على الساحل حتى صار بأيديهم ما بين ملطية «1» إلى بلبيس إلّا مدينة دمشق فقط، وصار أمر الوزارة بديار مصر: لشاور بن مجير السعديّ، والخليفة يومئذ العاضد لدين الله عبد الله بن يوسف، اسم لا معنى له، وقام في منصب الوزارة بالقوّة في صفر سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، وتلقب بأمير الجيوش، وأخذ أموال بني رزيك وزراء مصر، وملوكها من قبله، فلما استبدّ بالإمرة حسده ضرغام صاحب الباب، وجمع جموعا كثيرة، وغلب شاور على الوزارة في شهر رمضان منها، فسار شاور إلى الشام، واستقل ضرغام بسلطنة مصر، فكان بمصر في هذه السنة ثلاثة وزراء هم: العادل بن رزيك بن طلائع بن رزيك، وشاور بن مجير، وضرغام، فأساء ضرغام السيرة في قتل أمراء الدولة، وضعفت من أجل ذلك دولة الفاطميين بذهاب رجالها الأكابر، ثم إن شاور استنجد بالسلطان: نور الدين محمود بن زنكي «2» صاحب الشام، فأنجده وبعث معه عسكرا كثيرا في جمادى الأولى سنة تسع وخمسين، وقدم عليه أسد الدين شيركوه على أن يكون لنور الدين إذا عاد شاور إلى منصب الوزارة ثلث خراج مصر بعد إقطاعات العساكر، وأن يكون شيركوه عنده بعساكره في مصر، ولا يتصرّف إلا بأمر نور الدين، فخرج ضرغام بالعسكر، وحاربه في بلبيس فانهزم، وعاد إلى مصر، فنزل شاور بمن معه عند التاج خارج القاهرة، وانتشر عسكره في البلاد، وبعث(2/162)
ضرغام إلى أهل البلاد، فأتوه خوفا من الترك القادمين معه، وأتته الطائفة الريحانية والطائفة الجيوشية، فامتنعوا بالقاهرة، وتطاردوا مع طلائع شاور بأرض الطبالة، فنزل شاور في المقس، وحارب أهل القاهرة فغلبوه، وحتى ارتفع إلى بركة الحبش، فنزل على الرصد واستولى على مدينة مصر، وأقام أياما فمال الناس إليه، وانحرفوا عن ضرغام لأمور، فنزل شاور باللوق، وكانت بينه وبين ضرغام حروب آلت إلى إحراق الدور من باب سعادة إلى باب القنطرة خارج القاهرة، وقتل كثير من الفريقين، واختلّ أمر ضرغام، وانهزم، فملك شاور القاهرة، وقتل ضرغام آخر جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين، فأخلف شيركوه ما وعد به السلطان نور الدين، وأمره بالخروج عن مصر، فأبى عليه واقتتلا.
وكان شيركوه قد بعث بابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى بلبيس، ليجمع له الغلال وغيرها من الأموال، فحشد شاور، وقاتل الشاميين، فجرت وقائع، واحترق وجه الخليج خارج القاهرة بأسره، وقطعة من حارة زويلة، فبعث شاور إلى الفرنج واستنجد بهم فطمعوا في البلاد، وخرج ملكهم مري من عسقلان بجموعه، فبلغ ذلك شيركوه، فرحل عن القاهرة بعد طول محاصرتها، ونزل بلبيس فاجتمع على قتاله بها شاور وملك الفرنج، وحصروه بها، وكانت إذا ذاك حصينة ذات أسوار، فأقام محصورا مدّة ثلاثة أشهر، وبلغ ذلك نور الدين، فأغار على ما قرب منه من بلاد الفرنج، وأخذها من أيديهم، فخافوه، ووقع الصلح مع شيركوه على عوده إلى الشام، فخرج في ذي الحجة، ولحق بنور الدين، فأقام وفي نفسه من مصر أمر عظيم إلى أن دخلت سنة اثنتين وستين، فجهزه نور الدين إلى مصر في جيش قويّ في ربيع الأوّل، وسيره فبلغ ذلك شاور، فبعث إلى مري ملك الفرنج مستنجدا به، فسار بجموع الفرنج، حتى نزل بلبيس، فوافاه شاور وأقام حتى قدم شيركوه إلى أطراف مصر، فلم يطق لقاء القوم، فسار حتى خرج من إطفيح «1» إلى جهة بلاد الصعيد من ناحية بحر القلزم، فبلغ شاور أنّ شيركوه قد ملك بلاد الصعيد، فسقط في يده، ونهض للفور من بلبيس ومعه الفرنج، فكان من حروبه مع شيركوه ما كان حتى انهزم بالأشمونين، وسار منها بعد الهزيمة إلى الإسكندرية فملكها، وأقرّ بها ابن أخيه صلاح الدين، وخرج إلى الصعيد، فخرج شاور بالفرنج وحصر الإسكندرية أشدّ حصار، فسار شيركوه من قوص ونزل على القاهرة، وحاصرها، فرحل إليه شاور، وكانت أمور آلت إلى الصلح وسار شيركوه بمن معه إلى الشام في شوّال، فطمع مري في البلاد، وجعل له شحنة بالقاهرة، وصارت أسوارها بيد فرسان الفرنج، وتقرّر لهم في كل سنة مائة ألف دينار، ثم رحل إلى بلاده، وترك بالقاهرة من يثق به من الفرنج، وسار شيركوه إلى الشام، فتحكم الفرنج في القاهرة حكما جائرا، وركبوا المسلمين بالأذى العظيم، وتيقنوا عجز الدولة عن مقاومتهم، وانكشفت لهم(2/163)
عورات الناس إلى أن دخلت سنة أربع وستين، فجمع مري جمعا عظيما من أجناس الفرنج، وأقطعهم بلاد مصر، وسار يريد أخذ مصر، فبعث إليه شاور يسأله عن سبب مسيره، فاعتل بأنّ الفرنج غلبوه على قصد ديار مصر، وأنه يريد ألفي ألف دينار يرضيهم بها، وسار فنزل على بلبيس، وحاصرها حتى أخذها عنوة في صفر، فسبي أهلها، وقصد القاهرة، فسير العاضد كتبه إلى نور الدين، وفيها شعور نسائه وبناته يسأله إنقاذ المسلمين من الفرنج، وسار مري من بلبيس، فنزل على بركة الحبش، وقد انضم الناس من الأعمال إلى القاهرة، فنادى شاور بمصر أن لا يقيم بها أحد، وأزعج الناس في النقلة منها، فتركوا أموالهم وأثقالهم ونجوا بأنفسهم، وأولادهم وقد ماج الناس واضطربوا كأنما خرجوا من قبورهم إلى المحشر لا يعبأ والد بولده، ولا يلتفت أخ إلى أخيه، وبلغ كراء الدابة من مصر إلى القاهرة بضعة عشر دينارا، وكراء الحمل إلى ثلاثين دينارا، ونزلوا بالقاهرة في المساجد، والحمامات والأزقة وعلى الطرقات، فصاروا مطروحين بعيالهم وأولادهم، وقد سلبوا سائر أموالهم، وينتظرون هجوم العدوّ على القاهرة بالسيف، كما فعل بمدينة بلبيس، وبعث شاور إلى مصر بعشرين ألف قارورة نفط، وعشرة آلاف مشعل نار، فرّق ذلك فيها، فارتفع لهب النار ودخان الحريق إلى السماء، فصار منظرا مهولا، فاستمرّت النار تأتي على مساكن مصر من اليوم التاسع والعشرين من صفر لتمام أربعة وخمسين يوما، والنّهابة من العبيد، ورجال الأسطول وغيرهم بهذه المنازل في طلب الخبايا، فلما وقع الحريق بمصر، رحل مري من بركة الحبش، ونزل بظاهر القاهرة، مما يلي باب البرقية، وقاتل أهلها قتالا كثيرا، حتى زلزلوا زلزالا شديدا، وضعفت نفوسهم، وكادوا يؤخذون عنوة، فعاد شاور إلى مقاتلة الفرنج، وجرت أمور آلت إلى الصلح على مال، فبينا هم في جبايته إذ بلغ الفرنج مجيء أسد الدين شيركوه بعساكر الشام من عند السلطان نور الدين محمود، فرحلوا في سابع ربيع الآخر إلى بلبيس، وساروا منها إلى فاقوس، فصاروا إلى بلادهم بالساحل، ونزل شيركوه بالمقس خارج القاهرة، وكان من قتل شاور، واستيلاء شيركوه على مصر ما كان، فمن حينئذ خربت مصر الفسطاط هذا الخراب الذي هو الآن: كيمان مصر، وتلاشى أمرها، وافتقر أهلها، وذهبت أموالهم، وزالت نعمهم، فلما استبدّ شيركوه بوزارة العاضد، أمر بإحضار أعيان أهل مصر الذين خلوا عن ديارهم في الفتنة، وصاروا بالقاهرة، وتغمم لمصابهم وسفه رأي شاور في إحراق المدينة، وأمرهم بالعود إليها، فشكوا إليه ما بهم من الفقر والفاقة وخراب المنازل، وقالوا: إلى أيّ مكان نرجع؟ وفي أيّ مكان ننزل ونأوي؟
وقد صارت كما ترى، وبكوا وأبكوا، فوعدهم جميلا، وترفق بهم وأمر، فنودي في الناس بالرجوع إلى مصر، فتراجع إليها الناس قليلا وعمروا ما حول الجامع إلى أن كانت المحنة من الغلاء والوباء العظيم في سلطنة الملك العادل أبي بكر بن أيوب لسنتي خمس وخمسمائة فخرب من مصر جانب كبير، ثم تحايا الناس بها، وأكثروا من العمارة بجانب(2/164)
مصر الغربيّ على شاطىء النيل، لمّا عمّر الملك الصالح نجم الدين أيوب قلعة الروضة، وصار بمصر عدّة آدار جليلة، وأسواق ضخمة، فلما كان غلاء مصر والوباء الكائن في سلطنة الملك العادل: كتبغا سنة ست وتسعين وستمائة خرب كثير من مساكن مصر، وتراجع الناس بعد ذلك في العمارة إلى سنة تسع وأربعين وسبعمائة، فحدث الفناء الكبير الذي أقفر منه معظم دور مصر، وخربت ثم تحايا الناس من بعد الوباء، وصار ما يحيط بالجامع العتيق، وما على شط النيل عامرا إلى سنة ست وسبعين وسبعمائة، فشرقت بلاد مصر، وحدث الوباء بعد الغلاء، فخرب كثير من عامر مصر، ولم يزل يخرب شيئا بعد شيء إلى سنة تسعين وسبعمائة، فعظم الخراب في خط زقاق القناديل، وخط النحاسين، وشرع الناس في هدم دور مصر، وبيع أنقاضها، حتى صارت على ما هي عليه الآن، وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا.
ذكر ما قيل في مدينة فسطاط مصر
قال ابن رضوان: والمدينة الكبرى اليوم بأرض مصر ذات أربعة أجزاء: الفسطاط، والقاهرة، والجزيرة، والجيزة، وبعد هذه المدينة عن خط الاستواء ثلاثون درجة، والجبل المقطم في شرقيها، وبينها وبين مقابر المدينة.
وقد قالت الأطباء: إن أردأ المواضع ما كان الجبل في شرقيه يعوق ريح الصبا عنه، وأعظم أجزائها: هو الفسطاط، ويلي الفسطاط من الغرب: النيل، وعلى شط النيل الغربيّ أشجار طوال وقصار، وأعظم أجزاء الفسطاط: موضع في غور، فإنه يعلوه من المشرق المقطم، ومن الجنوب الشرف، ومن الشمال الموضع العالي من عمل فوق، أعني الموقف والعسكر وجامع ابن طولون، ومتى نظرت إلى الفسطاط من الشرق أو من مكان آخر عال:
رأيت وضعها في غور. وقد بيّن أبقراط أن المواضع المتسفلة: أسخن من المواضع المرتفعة، وأردأ هواء لاحتقان البخار فيها، ولأن ما حولها من المواضع العالية يعوق تحليل الرياح لها، وأزقة الفسطاط وشوارعها ضيقة، وأبنيتها عالية، وقد قال روفس: إذا دخلت مدينة، فرأيتها ضيقة الأزقة مرتفعة البناء، فاهرب منها لأنها وبيئة أراد أن البخار لا ينحل منها كما ينبغي لضيق الأزقة وارتفاع البناء.
ومن شأن أهل الفسطاط أن يرموا ما يموت في دورهم من السنانير والكلاب، ونحوها من الحيوان الذي يخالط الناس في شوارعهم وأزقتهم فتعفن، وتخالط عفونتها الهواء، ومن شأنهم أيضا: أن يرموا في النيل الذي يشربون منه فضول حيواناتهم وجيفها، وخرّارا كنفهم تصب فيه، وربما انقطع جري الماء، فيشربون هذه العفونة باختلاطها بالماء، وفي خلال الفسطاط مستوقدات عظيمة يصعد منها في الهواء دخان مفرط، وهي أيضا كثيرة الغبار لسخانة أرضها، حتى أنك ترى الهواء في أيام الصيف كدرا يأخذ بالنفس، ويتسخ الثوب(2/165)
النظيف في اليوم الواحد، وإذا مرّ الإنسان في حاجة لم يرجع إلّا وقد اجتمع في وجهه ولحيته غبار كثير، ويعلوها في العشيات خاصة في أيام الصيف بخار كدر أسود وأغبر، سيّما إذا كان الهواء سليما من الرياح، وإذا كانت هذه الأشياء كما وصفنا، فمن البيّن أنه يصير الروح الحيوانيّ الذي فيها حالة كهذه الحال، فيتولد إذا في البدن من هذه الأعراض فضول كثيرة، واستعدادات نحو العفن إلّا أنّ ألف أهل الفسطاط لهذه الحال، وأنسهم بها يعوق عنهم أكثر شرّها، وإن كانوا على كل حال أسرع أهل مصر وقوعا في الأمراض، وما يلي النيل من الفسطاط، يجب أن يكون أرطب مما يلي الصحراء، وأهل الشرق أصلح حالا لتخرّق الرياح لدورهم، وكذلك عمل فوق والحمراء، إلّا أن أهل الشرف الذي يشربونه أجود لأنه يستقى قبل أن تخالطه عفونة الفسطاط، فأمّا القرافة فأجود هذه المواضع، لأن المقطم يعوق بخار الفسطاط من المرور بها، وإذا هبت ريح الشمال مرّت بأجزاء كثيرة من بخار الفسطاط، والقاهرة على الشرف، فغيرت حاله، وظاهر أن المواضع المكشوفة في هذه المدينة هي أصح هواء، وكذلك حال المواضع المرتفعة، وأردأ موضع في المدينة الكبرى هو ما كان من الفسطاط حول الجامع العتيق إلى ما يلي النيل والسواحل، وإذا كان في الشتاء وأوّل الربيع حمل من بحر الملح سمك كثير، فيصل إلى هذه المدينة، وقد عفن، وصارت له رائحة منكرة جدّا، فساغ في القاهرة، ويأكله أهلها وأهل الفسطاط، فيجتمع في أبدانهم منه فضول كثيرة عفنة، فلولا الاعتدال أمزجتهم وصحة أبدانهم في هذا الزمان لكان ذلك يولد في أبدانهم أمراضا كثيرة، قاتلة، إلّا أن قوّة الاستمرار تعوق عن ذلك، وربما انقطع النيل في آخر الربيع، وأوّل الصيف من جهة الفسطاط، فيعفن بكثرة ما يلقي فيه إلى أن يبلغ عفنه إلى أن تصير له رائحة منكرة محسوسة، وظاهر أن هذا الماء إذا صار على هذه الحال، غيّر مزاج الناس تغيرا محسوسا. قال: فمن البيّن أن أهل هذه المدينة الكبرى بأرض مصر أسرع وقوعا في الأمراض من جميع أهل هذه الأرض ما خلا أهل الفيوم، فإنها أيضا قريبة، وأردأ ما في المدينة: الموضع الغائر من الفسطاط، ولذلك غلب على أهلها الحين، وقلة الكرم، وأنه ليس أحد منهم يغيث، ولا يضيف الغريب إلا في النادر، وصاروا من السعاية والاغتياب على أمر عظيم، ولقد بلغ بهم الجبن إلى أنّ خمسة أعوان تسوق منهم مائة رجل وأكثر، ويسوق الأعوان المذكورين: رجل واحد من أهل البلدان الأخر، وممن قد تدرّب في الحرب، فقد استبان إذا العلة والسبب في أن صار أهل المدينة الكبرى بأرض مصر أسرع وقوعا في الأمراض من جميع أهل هذه الأرض، وأضعف أنفسا، ولعل لهذا السبب اختار القدماء: اتخاذ المدينة في غير هذا الموضع، فمنهم من جعلها بمنف، وهي: مصر القديمة، ومنهم من جعلها بالإسكندرية، ومنهم من جعلها بغير هذه المواضع، ويدل على ذلك آثارهم.
وقال ابن سعيد عن كتاب الكمائم: وأما فسطاط مصر فإنّ مبانيها كانت في القديم(2/166)
متصلة بمباني مدينة عين شمس، وجاء الإسلام، وبها بناء يعرف بالقصر حوله مساكن، وعليه نزل عمرو بن العاص، وضرب فسطاطه حيث المسجد الجامع المنسوب إليه، ثم لما فتحها: قسم المنازل على القبائل، ونسبت المدينة إليه، فقيل: فسطاط عمرو، وتداولت عليها بعد ذلك ولاة مصر، فاتخذوها سريرا للسلطنة وتضاعفت عمارتها، فأقبل الناس من كل جانب إليها، وقصروا أمانيهم عليها إلى أن رسخت بها دولة بني طولون، فبنوا إلى جانبها المنازل المعروفة بالقطائع، وبها كان مسجد ابن طولون الذي هو الآن إلى جانب القاهرة، وهي مدينة مستطيلة يمرّ النيل مع طولها، ويحط في ساحلها المراكب الآتية من شمال النيل، وجنوبه بأنواع الفوائد، ولها منتزهات، وهي في الإقليم الثالث، ولا ينزل فيها مطر إلّا في النار، وترابها تثيره الأرجل، وهو قبيح اللون تتكدّر منه أرجاؤها ويسوء بسببه هواؤها، ولها أسواق ضخمة إلّا أنّها ضيقة ومبانيها بالقصب، والطوب طبقة على طبقة، ومذ بنيت القاهرة، ضعفت مدينة الفسطاط، وفرّط في الاغتباط بها بعد الإفراط، وبينهما نحو ميلين، وأنشد فيها الشريف العقيلي:
أحنّ إلى الفسطاط شوقا وإنني ... لأدعو لها أن لا يحلّ بها القطر
وهل في الحيا من حاجة لجنابها ... وفي كل قطر من جوانبها نهر
تبدّت عروسا والمقطم تاجها ... ومن نيلها عقد كما انتظم الدر
وقال عن كتاب آخر: فالفسطاط هي قصبة مصر، والجبل المقطم شرقها، وهو متصل بجبل الزمرّذ.
وقال عن كتاب ابن حوقل: والفسطاط مدينة حسنة ينقسم النيل لديها، وهي كبيرة نحو ثلث بغداد، ومقدارها نحو فرسخ على غاية العمارة والطيبة واللذة، ذات رحاب في محالها، وأسواق عظام فيها ضيق، ومتاجر فخام، ولها ظاهر أنيق وبساتين نضرة، ومنتزهات على ممرّ الأيام خضرة، وفي الفسطاط قبائل، وخطط للعرب تنسب إليها كالبصرة والكوفة إلا أنها أقل من ذلك، وهي سبخة الأرض غير نقية التربة، وتكون بها الدار سبع طبقات وستا وخمسا، وربما يسكن في الدار المائتان من الناس، ومعظم بنيانهم بالطوب، وأسفل دورهم غير مسكون، وبها مسجدان للجمعة: بنى أحدهما عمرو بن العاص في وسط الفسطاط، والآخر على الموقف بناه أحمد بن طولون، وكان خارج الفسطاط أبنية بناها أحمد بن طولون ميلا في ميل يسكنها جنده تعرف بالقطائع، كما بنى بنو الأغلب خارج القيروان وقادة، وقد خربتا في وقتنا هذا، وأخلف الله بدل القطائع بظاهر مدينة الفسطاط القاهرة.
قال ابن سعيد: ولما استقررت بالقاهرة تشوّقت إلى معاينة الفسطاط، فسار معي أحد أصحاب العزمة، فرأيت عند باب زويلة من الحمير المعدّة لركوب من يسير إلى الفسطاط(2/167)
جملة عظيمة لا عهد لي بمثلها في بلد، فركب منها حمارا، وأشار إليّ أن اركب حمارا آخر، فأنفت من ذلك جريا على عادة ما خلّفته في بلاد المغرب، فأعلمني أنه غير معيب على أعيان مصر، وعاينت الفقهاء وأصحاب البزة والسادة الظاهرة يركبونها فركبت، وعندما استويت راكبا أشار المكاري على الحمار، فطار بي، وأثار من الغبار الأسود، ما أعمى عيني، ودنس ثيابي، وعاينت ما كرهته، ولقلة معرفتي بركوب الحمار، وشدّة عدوه على قانون لم أعهده، وقلة رفق المكاري، وقفت في تلك الظلمة المثارة من ذلك العجاج فقلت:
لقيت بمصر أشدّ البوار ... ركوب الحمار وكحل الغبار
وخلفي مكار يفوق الريا ... ح لا يعرف الرفق بهمي استطار
أناديه مهلا فلا يرعوي ... إلى أن سجدت سجود العثار
وقد مدّ فوقي رواق الثرى ... وألحد فيه ضياء النهار
فدفعت إلى المكاري أجرته، وقلت له: إحسانك إليّ أن تتركني أمشي على رجليّ، ومشيت إلى أن بلغتها، وقدّرت الطريق بين القاهرة والفسطاط، وحققت بعد ذلك نحو الميلين، ولما أقبلت على الفسطاط أدبرت عني المسرّة، وتأمّلت أسوار مثلمة سوداء، وآفاقا مغبرّة، ودخلت من بابها، وهو دون غلق مفض إلى خراب معمور بمبان سيئة الوضع غير مستقيمة الشوارع، قد بنيت من الطوب الأدكن والقصب، والنخيل طبقة فوق طبقة، وحول أبوابها من التراب الأسود، والأزبال ما يقبض نفس النظيف، ويغض طرف الطريف، فسرت وأنا معاين لاستصحاب تلك الحال إلى أن سرت في أسواقها الضيقة، فقاسيت من ازدحام الناس فيها بحوائج السوق والروايا التي على الجمال ما لا يفي به إلّا مشاهدته ومقاساته إلى أن انتهيت إلى المسجد الجامع، فعاينت من ضيق الأسواق التي حوله ما ذكرت به ضدّه في جامع إشبيلية، وجامع مراكش، ثم دخلت إليه فعاينت جامعا كبيرا قديم البناء غير مزخرف، ولا محتفل في حصره التي تدور مع بعض حيطانه، وتبسط فيه، وأبصرت العامّة رجالا ونساء قد جعلوه معبرا بأوطئة أقدامهم يجوزون فيه من باب إلى باب ليقرب عليهم الطريق، والبياعون يبيعون فيه أصناف المكسرات والكعك، وما جرى مجرى ذلك، والناس يأكلون منه في أمكنة عديدة غير محتشمين لجري العادة عندهم بذلك، وعدّة صبيان بأواني ماء يطوفون على من يأكل قد جعلوا ما يحصل لهم منهم رزقا، وفضلات مآكلهم مطروحة في صحن الجامع، وفي زواياه والعنكبوت قد عظم نسجه في السقوف والأركان والحيطان، والصبيان يلعبون في صحنه، وحيطانه مكتوبة بالفحم، والحمرة بخطوط قبيحة مختلفة من كتب فقراء العامّة إلّا أن مع هذا كله على الجامع المذكور من الرونق، وحسن القبول، وانبساط النفس، ما لا تجده في جامع إشبيلية مع زخرفته، والبستان الذي في صحنه، وقد تأمّلت ما وجدت فيه من الارتياح والأنس دون منظر يوجب ذلك، فعلمت أنه سرّ مودع من(2/168)
وقوف الصحابة رضوان الله عليهم في ساحته عند بنائه، واستحسنت ما أبصرته فيه من حلق المصدّرين لإقراء القرآن والفقه والنحو في عدّة أماكن، وسألت عن موارد أرزاقهم، فأخبرت أنها من فروض الزكاة، وما أشبه ذلك. ثم أخبرت أن اقتضاءها يصعب إلا بالجاه والتعب، ثم انفصلنا من هنالك إلى ساحل النيل، فرأيت ساحلا كدر التربة غير نظيف، ولا متسع الساحة، ولا مستقيم الاستطالة، ولا عليه سور أبيض، إلّا أنه مع ذلك كثير العمارة بالمراكب، وأصناف الأرزاق التي تصل من جميع أقطار الأرض والنيل، ولئن قلت إني لم أبصر على نهر ما أبصرته على ذلك الساحل، فإني أقول حقا والنيل هنا لك ضيق لكون الجزيرة التي بنى فيها سلطان الديار المصرية الآن قلعته قد توسطت الماء ومالت إلى جهة الفسطاط، وبحسن سورها المبيض الشامخ: حسن منظر الفرجة في ذلك الساحل، وقد ذكر ابن حوقل «1» الجسر الذي يكون ممتدّا من الفسطاط إلى الجزيرة، وهو غير طويل، ومن الجانب الآخر إلى البرّ الغربيّ المعروف ببرّ الجيزة جسر آخر من الجزيرة إليه، وأكثر جواز الناس بأنفسهم ودوابهم في المراكب لأن هذين الجسرين قد احترما بحصولهما في حيز قلعة السلطان، ولا يجوز أحد على الجسر الذي بين الجزيرة والفسطاط راكبا احتراما لموضع السلطان، ويتنافى ليلة ذلك اليوم بطيارة «2» مرتفعة على جانب النيل فقلت:
نزلنا من الفسطاط أحسن منزل ... بحيث امتداد النيل قد دار كالعقد
وقد جمعت فيه المراكب سحرة ... كسرب قطا أضحى يزف على ورد
وأصبح يطغى الموج فيه ويرتمي ... ويطغو حنانا وهو يلعب بالنرد
غدا ماؤه كالريق ممن أحبه ... فمدّت عليه حلية من حلي الخدّ
وقد كان مثل الزهر من قبل مدّة ... فأصبح لما زاده المدّ كالورد
قلت: هذا لأني لم أذق في المياه أحلى من مائه، وأنه يكون قبل المدّ الذي يزي به، ويفيض على أقطاره أبيض، فإذا كان عباب النيل صار أحمر. وأنشدني علم الدين فخر الترك أيدمر عتيق وزير الجزيرة في مدح الفسطاط وأهلها:
حبذا الفسطاط من والدة ... جنبت أولادها درّ الجفا
يرد النيل إليها كدرا ... فإذا مازج أهليها صفا
لطفوا فالمزن لا يألفهم ... خجلا لما رآهم ألطفا
ولم أر في أهل البلاد ألطف من أهل الفسطاط، حتى أنهم ألطف من أهل القاهرة، وبينهما نحو ميلين، وجملة الحال أن أهل الفسطاط في نهاية من اللطافة واللين في الكلام،(2/169)
وتحت ذلك من الملق، وقلة المبالاة برعاية قدم الصحبة، وكثرة الممازجة والألفة ما يطول ذكره، وأما ما يرد على الفسطاط من متاجر البحر الإسكندرانيّ، والبحر الحجازي، فإنه فوق ما يوصف، وبها مجمع ذلك لا بالقاهرة، ومنها تجهز إلى القاهرة، وسائر البلاد، وبالفسطاط مطابخ السكر والصابون، ومعظم ما يجري هذا المجرى، لأن القاهرة بنيت للاختصاص بالجند، كما أنّ جميع زيّ الجند بالقاهرة أعظم منه بالفسطاط وكذلك ما ينسج، ويصاغ وسائر ما يعمل من الأشياء الرفيعة السلطانية، والخراب في الفسطاط كثير، والقاهرة أجدّ وأعمر، وأكثر زحمة بسبب انتقال السلطان إليها، وسكنى الأجناد فيها، وقد نفخ روح الاعتناء والنموّ في مدينة الفسطاط الآن لمجاورتها للجزيرة الصالحية، وكثير من الجند قد انتقل إليها للقرب من الخدمة، وبنى على سورها جماعة منهم مناظر تبهج الناظر، يعني ابن سعيد: ما بني على شقة مصر من جهة النيل.
ذكر ما عليه مدينة مصر الآن وصفتها
قد تقدّم من الأخبار جملة تدل على عظم ما كان بمدينة فسطاط مصر من المباني وكثرتها، ثم الأسباب التي أوجبت خرابها، وآخر ما رأيت من الكتب التي صنفت في خطط مصر كتاب إيقاظ المتغفل، واتعاظ المتأمّل تأليف: القاضي الرئيس تاج الدين محمد بن عبد الوهاب بن المتوّج الزبيريّ رحمه الله، وقطع على سنة خمس وعشرين وسبعمائة، فذكر من الأخطاط المشهورة بذاتها لعهده اثنين وخمسين خطا، ومن الحارات ثنتي عشرة حارة، ومن الأزقة المشهورة: ستة وثمانين زقاقا، ومن الدروب المشهورة: ثلاثة وخمسين دربا، ومن الخوخ المشهورة: خمسا وعشرين خوخة، ومن الأسواق المشهورة: تسعة عشر سوقا، ومن الخطط المشهورة بالدور: ثلاثة عشر خطا، ومن الرحاب المشهورة: خمس عشرة رحبة، ومن العقبات المشهورة: إحدى عشرة عقبة، ومن الكيمان المسماة: ستة كيمان، ومن الأقباء: عشرة أقباء، ومن البرك: خمس برك، ومن السقائف: خمسا وستين سقيفة، ومن القياسر: سبع قياسر، ومن مطابخ السكر العامرة: ستة وستين مطبخا، ومن الشوارع: ستة شوارع، ومن المحارس: عشرين محرسا، ومن الجوامع التي تقام فيها الجمعة بمصر، وظاهرها من الجزيرة، والقرافة: أربعة عشر جامعا، ومن المساجد: أربعمائة وثمانين مسجدا، ومن المدارس: سبع عشرة مدرسة، ومن الزوايا: ثماني زوايا، ومن الربط التي بمصر والقرافة: بضعا وأربعين رباطا، ومن الأحباس والأوقاف كثيرا، ومن الحمامات:
بضعا وسبعين حماما، ومن الكنائس وديارات النصارى: ثلاثين ما بين دير وكنيسة، وقد باد أكثر ما ذكره ودثر، وسيرد ما قاله من ذلك في مواضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
فأقول: إنّ مدينة مصر محدودة الآن بحدود أربعة: فحدّها الشرقيّ اليوم: من قلعة الجبل، وأنت آخذ إلى باب القرافة، فتمرّ من داخل السور الفاصل بين القرافة، ومصر إلى(2/170)
كوم الجارح، وتمرّ من كوم الجارح، وتجعل كيمان مصر كلها عن يمينك حتى تنتهي إلى الرصد حيث أوّل بركة الحبش، فهذا طول مصر من جهة المشرق، وكان يقال لهذه الجهة عمل فوق.
وحدّها الغربي: من قناطر السباع خارج القاهرة إلى موردة الحلفاء، وتأخذ على شاطىء النيل إلى دير الطين، فهذا أيضا طولها من جهة المغرب. وحدّها القبليّ من شاطىء النيل بدير الطين حيث ينتهي الحدّ الغربيّ إلى بركة الحبش تحت الرصد، حيث انتهى الحدّ الشرقيّ، فهذا عرض مصر من جهة الجنوب التي تسميها أهل مصر الجهة القبلية.
وحدّها البحريّ: من قناطر السباع حيث ابتداء الحدّ الغربيّ إلى قلعة الجبل، حيث ابتداء الحدّ الشرقيّ، فهذا عرض مصر من جهة الشمال التي تعرف بمصر بالجهة البحرية، وما بين هذه الجهات الأربع فإنه يطلق عليه الآن مصر، فيكون أوّل عرض مصر في الغرب بحر النيل، وآخر عرضها في الشرق أوّل القرافة، وأوّل طولها من قناطر السباع، وآخره بركة الحبش، فإذا عرفت ذلك ففي الجهة الغربية خط السبع سقايات، ويجاوره الخليج، وعليه من شرقيه حكر أقبغا، ومن غربيه المريس، ومنشأه المهرانيّ، ويحاذي المنشأة من شرقيّ الخليج خط قنطرة السدّ، وخط بين الزقّاقين، وخط موردة الحلفاء، وخط الجامع الجديد، ومن شرقيّ خط الجامع الجديد خط المراغة، ويتصل به خط الكبارة، وخط المعاريج، ويجاوز خط الجامع الجديد من بحريه الدور التي تطلّ على النيل، وهي متصلة إلى جسر الأفرم المتصل بدير الطين وما جاوره إلى بركة الحبش، وهذه الجهة هي أعمر ما في مصر الآن، وأما الجهة الشرقية، فليس فيها شيء عامر إلّا قلعة الجبل، وخط المراغة المجاور لباب القرافة إلى مشهد السيدة نفيسة، ويجاور خط مشهد السيدة نفيسة من قبليه الفضاء الذي كان موضع الموقف، والعسكر إلى كوم الجارح، ثم خط كوم الجارح، وما بين كوم الجارح إلى آخر حدّ طول مصر عند بركة الحبش تحت الرصد، فإنه كيمان، وهي الخطط التي ذكرها القضاعيّ، وخربت في الشدّة العظمى زمن المستنصر، وعند حريق شاور لمصر كما تقدّم، وأما عرض مصر الذي من قناطر السباع إلى القلعة، فإنه عامر ويشتمل على بركة الفيل الصغرى، بجوار خط السبع سقايات، ويجاور الدور التي على هذه البركة من شرقيها خط الكبش، ثم خط جامع أحمد بن طولون، ثم خط القبيبات، وينتهي إلى الفضاء الذي يتصل بقلعة الجبل، وأما عرض مصر الذي من شاطىء النيل بخط دير الطين إلى تحت الرصد حيث بركة الحبش، فليس فيه عمارة سوى خط دير الطين، وما عدا ذلك فقد خرب بخراب الخطط، وكان فيه خط بني وائل، وخط راشدة، فأما خط السبع سقايات: فإنه من جملة الحمراء الدنيا، وسيرد عند ذكر الأخطاط إن شاء الله تعالى، وما عدا ذلك فإنه يتبين من ذكر ساحل مصر.(2/171)
ذكر ساحل النيل بمدينة مصر
قد تقدّم أنّ مدينة فسطاط مصر اختطها المسلمون حول جامع عمرو بن العاص، وقصر الشمع، وأنّ بحر النيل كان ينتهي إلى باب قصر الشمع الغربيّ المعروف بالباب الجديد، ولم يكن عند فتح أرض مصر بين جامع عمرو وبين النيل حائل، ثم انحسر ماء النيل عن أرض تجاه الجامع، وقصر الشمع، فابتنى فيها عبد العزيز بن مروان، وحاز منه بشر بن مروان لما قدم على أخيه عبد العزيز، ثم حاز منه هشام بن عبد الملك في خلافته، وبنى فيه، فلما زالت دولة بني أمية قبض ذلك في الصوافي، ثم أقطعه الرشيد السريّ بن الحكم، فصار في يد ورثته من بعده يكترونه، ويأخذون حكره، وذلك أنه كان قد اختط فيها المسلمون شيئا بعد شيء وصار شاطىء النيل بعد انحساره ماء النيل عن الأرض المذكورة حيث الموضع الذي يعرف اليوم بسوق المعاريج.
قال القضاعيّ: كان ساحل أسفل الأرض بإزاء المعاريج القديم، وكانت آثار المعاريج قائمة سبع درج حول ساحل البيما إلى ساحل البوريّ اليوم، فعرف ساحل البوريّ بالمعاريج الجديد، يعني بالمعاريج الجديد: موضع سوق المعاريج اليوم، وكان من جملة خطط مدينة فسطاط مصر: الحمراوات الثلاث، فالحمراء الأولى من جملتها سوق وردان، وكان يشرف بغربيه على النيل، ويجاوره: الحمراء الوسطى، ومن بعضها الموضع الذي يعرف اليوم بالكبارة، وكانت على النيل أيضا، وبجانب الكبارة: الحمراء القصوى، وهي من بحريّ الحمراء الوسطى إلى الموضع الذي هو اليوم: خط قناطر السباع، ومن جملة الحمراء القصوى: خط خليج مصر من حدّ قناطر السباع إلى تجارة قنطرة السدّ من شرقيها، وبآخر الحمراء القصوى: الكبش وجبل يشكر، وكان الكبش يشرف على النيل من غربيه، وكان الساحل القديم، فيما بين سوق المعاريج اليوم إلى دار التفاح بمصر، وأنت مارّ إلى باب مصر بجوار الكبارة، وموضع الكوم المجاور لباب مصر من شرقيه، فلما خربت مصر بحريق شاور بن مجير إياها صار هذا الكوم من حينئذ، وعرف بكوم المشانيق، فأنه كان يشنق بأعلاه أرباب الجرائم، ثم بنى الناس فوقه دورا فعرف إلى يومنا هذا بكوم الكبارة، وكان يقال لما بين سوق المعاريج، وهذا الكوم لما كان ساحل النيل القالوص «1» .
قال القضاعيّ: رأيت بخط جماعة من العلماء القالوص: بألف، والذي يكتب في هذا الزمان القلوص بحذف الألف، فأما القلوص: بحذف الألف، فهي من الإبل والنعام الشابة، وجمعها قلص، وقلاص وقلائص، والقلوص من الحباري الأنثى الصغيرة، فلعل هذا المكان سمي بالقلوص لأنه في مقابلة الجمل الذي كان على باب الريحان الذي يأتي ذكره في(2/172)
عجائب مصر، وأما القالوص بالألف: فهي كلمة رومية ومعناها بالعربية: مرحبا بك، ولعل الروم كانوا يصفقون لراكب هذا الجمل، ويقولون هذه الكلمة على عاداتهم. وقال ابن المتوّج: والساحل القديم أوّله من باب مصر المذكور يعني المجاور للكبارة، وإلى المعاريج جميعه كان بحرا يجري فيه ماء النيل، وقيل: إنّ سوق المعاريج كان موردة سوق السمك يعني ما ذكره القضاعيّ من أنه كان يعرف بساحل البوريّ، ثم عرف بالمعاريج الجديد.
قال ابن المتوّج «1» : ونقل أنّ بستان الجرف المقابل لبستان حوض ابن كيسان كان صناعة العمارة، وأدركت أنا فيه بابها، ورأيت زريبة من ركن المسجد المجاور للحوض من غربيه تتصل إلى قبالة مسجد العادل الذي بمراغة الدواب الآن.
قال مؤلفه رحمه الله: بستان الجرف يعرف بذلك إلى اليوم، وهو على يمنة من سلك إلى مصر من طريق المراغة، وهو جار في وقف الخانقاه التي تعرف بالواصلة بين الزقاقين، وحوض ابن كيسان يعرف اليوم: بحوض الطواشي، تجاه غيط الجرف المذكور، يجاوره بستان ابن كيسان الذي صار صناعة، وقد ذكر خبر هذه الصناعة عند ذكر مناظر الخلفاء، ويعرف بستان ابن كيسان اليوم ببستان الطواشي أيضا، وبين بستان الجرف، وبستان الطواشي هذا مراغة مصر المسلوك منها إلى الكبارة، وباب مصر.
قال ابن المتوّج: ورأيت من نقل عمن نقل عمن رأى هذا القلوص يتصل إلى آدر الساحل القديم، وأنه شاهد ما عليه من العمائر المطلة على بحر النيل من الرباع والدور المطلة، وعدّ الأسطال التي كانت بالطاقات المطلة على بحر النيل، فكانت عدّتها ستة عشر ألف سطل مؤبدة ببكر مؤبدة فيها أطناب ترخى بها وتملأ أخبرني بذلك من أثق بنقله، وقال: إنه أخبره به من يثق به متصلا بالمشاهد له الموثوق به، قال: وباب مصر الآن بين البستان الذي قبليّ الجامع الجديد يعني بستان العالمة، وبين كوم المشانيق يعني كوم الكبارة، ورأيت السور يتصل به إلى دار النحاس، وجميع ما بظاهره شون، ولم يزل هذا السور القديم الذي هو قبليّ بستان العالمة موجودا أراه وأعرفه إلى أن اشترى أرضه من باب مصر إلى موقف المكارية بالخشابين القديمة الأمير حسام الدين طرنطاي المنصوري، فأجّر مكانه للعامة، وصار كل من استأجر قطعة هدم ما بها من البناء بالطوب اللبن، وقلع الأساس الحجر، وبنى به، فزال السور المذكور، ثم حدث الساحل الجديد.
قال مؤلفه رحمه الله: وهذا الباب الذي ذكره ابن المتوّج كان يقال له: باب الساحل، وأوّل حفر ساحل مصر في سنة ست وثلاثين وثلثمائة، وذلك أنه جف النيل عن برّ مصر(2/173)
حتى احتاج الناس أن يستقوا من بحر الجيزة الذي هو فيما بين جزيرة مصر التي تدعى الآن بالروضة، وبين الجيزة، وصار الناس يمشون هم والدواب إلى الجزيرة، فحفر الأستاذ كافور الإخشيديّ، وهو يومئذ مقدّم أمراء الدولة لأونوجور بن الإخشيد خليجا حتى اتصل بخليج بني وائل، ودخل الماء إلى ساحل مصر، ثم إنه لما كان قبل سنة ستمائة تقلص الماء عن ساحل مصر القديمة، وصار في زمن الاحتراق يقل حتى تصير الطريق إلى المقاييس يبسا، فلما كان في سنة ثمان وعشرين وستمائة خاف السلطان الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب من تباعد البحر عن العمران بمصر، فاهتم بحفر البحر من دار الوكالة بمصر إلى صناعة التمر الفاضلية، وعمل فيه بنفسه فوافقه على العمل في ذلك الجمّ الغفير، واستوى في المساعدة السوقة، والأمير، وقسط مكان الحفر على الدور بالقاهرة ومصر والروضة والمقياس، فاستمرّ العمل فيه من مستهلّ شعبان إلى سلخ شوّال مدّة ثلاثة أشهر حتى صار الماء يحيط بالمقياس، وجزيرة الروضة دائما بعد ما كان عند الزيادة يصير جدولا رقيقا في ذيل الروضة، فإذا اتصل ببحر بولاق في شهر أبيب كان ذلك من الأيام المشهودة بمصر، فلما كانت أيام الملك الصالح، وعمر قلعة الروضة، أراد أن يكون الماء طول السنة كثيرا فيما دار بالروضة، فأخذ في الاهتمام بذلك، وغرّق عدّة مراكب مملوءة بالحجارة في برّ الجيزة تجاه باب القنطرة خارج مدينة مصر، ومن قبليّ جزيرة الروضة، فانعكس الماء، وجعل البحر حينئذ يمرّ قليلا قليلا، وتكاثر أوّلا فأوّلا في برّ مصر من دار الملك إلى قريب المقس، وقطع المنشأة الفاضلية.
قال ابن المتوّج عن موضع الجامع الجديد: وكان في الدولة الصالحية، يعني الملك الصالح نجم الدين أيوب: رملة تمرّغ الناس فيها الدواب في زمن احتراق النيل، وجفاف البحر الذي هو أمامها، فلما عمر السلطان الملك الصالح قلعة الجزيرة، وصار في كل سنة يحفر هذا البحر بجنده ونفسه، ويطرح بعض رمله في هذه البقعة، شرع خواص السلطان في العمارة على شاطىء هذا البحر، فذكر من عمّر على هذا البحر من قبالة موضع الجامع الجديد الآن إلى المدرسة المعزية، وذكر ما وراء هذه الدور من بستان العالمة المطل عليه الجامع الجديد وغيره، ثم قال: وإنما عرف بالعالمة لأنه كان قد حله السلطان الملك الصالح لهذه العالمة، فعمرت بجانبه منظرة لها، وكان الماء يدخل من النيل لباب المنظرة المذكورة، فلما توفيت بقي البستان مدّة في يد ورثتها، ثم أخذ منهم، وذكر أن بقعة الجامع الجديد كانت قبل عمارته شونا للأتبان السلطانية، وكذلك ما يجاورها، فلما عمر السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون الجامع الجديد كثرت العمائر من حدّ موردة الحلفاء على شاطىء النيل، حتى اتصلت بدير الطين، وعمر أيضا ما وراء الجامع من حدّ باب مصر الذي كان بحرا كما تقدّم إلى حدّ قنطرة السدّ، وأدركنا ذلك كله على غاية العمارة، وقد اختل منذ الحوادث بعد سنة ست وثمانمائة، فخرب خط بين الزقاقين المطل من غربيه على الخليج،(2/174)
ومن شرقيه على بستان الجرف، ولم يبق به إلا القليل من الدور، وموضعه كما تقدّم كان في قديم الزمان غامرا بماء النيل، ثم ربى جرفا، وهو بين الزقاقين المذكور، فعمر عمارة كبيرة، ثم خرب الآن وخرب أيضا خط موردة الحلفاء، وكان في القديم غامرا بالماء، فلما ربى النيل الجرف المذكور، وتربت الجزيرة قدّام الساحل القديم الذي هو الآن البكارة إلى المعاريج، وأنشأ الملك الناصر محمد بن قلاون الجامع الجديد عمرت موردة الحلفاء هذه، واتصلت من بحريها بمنشأة المهرانيّ، ومن قبليها بالأملاك التي تمتدّ من تجاه الجامع الجديد إلى دير الطين، وصارت موردة الحلفاء عظيمة تقف عندها المراكب بالغلال وغيرها، ويملأ منها الناس الروايا، وكان البحر لا يبرح طول السنة هناك، ثم صار ينشّف في فصل الربيع والصيف، واستمرّ على ذلك إلى يومنا هذا، وخراب ما خلف الجامع الجديد أيضا من الأماكن التي كانت بحرا تجاه الساحل القديم، ثم لما انحسر الماء صارت مراغة للدواب، فعرفت اليوم بالمراغة وهي من آخر خط قنطرة السدّ إلى قريب من الكبارة، ويحصرها من غربيها بستان الجرف المقدّم ذكره، وعدّة دور كانت بستانا وشونا إلى باب مصر، ومن شرقيها بستان ابن كيسان الذي صار صناعة، وعرف الآن ببستان الطواشي، ولم يبق الآن بخط المراغة إلّا مساكن يسيرة حقيرة.
ذكر المنشأة
اعلم أن خليج مصر كان يخرج من بحر النيل، فيمرّ بطريق الحمراء القصوى، وكان في الجانب الغربيّ من هذا الخليج عدّة بساتين من جملتها بستان، عرف ببستان الخشاب، ثم خرب هذا البستان، وموضعه الآن يعرف: بالمريس، فلما كان بعد الخمسمائة من سني الهجرة انحسر النيل عن أرض فيما بين ميدان اللوق الآتي ذكره في الأحكار ظاهر القاهرة إن شاء الله تعالى، وبين بستان الخشاب المذكورة، فعرفت هذه الأرض بمنشأة الفاضل، لأنّ القاضي الفاضل عبد الرحيم بن عليّ البيسانيّ أنشأ بها بستانا عظيما كان يمير أهل القاهرة من ثماره وأعنابه، وعمر بجانبه جامعا، وبنى حوله فقيل لتلك الخطة منشأة الفاضل، وكثرت بها العمارة، وأنشأ بها موفق الدين محمد بن أبي بكر المهدويّ العثمانيّ الديباجيّ بستانا دفع له فيه ألف دينار في أيام الظاهر بيبرس، وكان الصرف قد بلغ كل دينار ثمانية وعشرين درهما ونصفا، فاستولى البحر على بستان الفاضل وجامعه، وعلى سائر ما كان بمنشأة الفاضل من البساتين والدور، وقطع ذلك حتى لم يبق لشيء منه أثر، وما برح باعة العنب بالقاهرة ومصر تنادي على العنب بعد خراب بستان الفاضل هذا عدّة سنين: رحم الله الفاضل يا عنب، إشارة لكثرة أعناب بستان الفاضل وحسنها، وكان أكل البحر لمنشأة الفاضل هذه بعد سنة ستين وستمائة، وكان الموفق الديباجيّ المذكور يتولى خطابة جامع الفاضل الذي كان بالمنشأة، فلم تلف الجامع باستيلاء النيل عليه سأل: الصاحب بهاء الدين بن حنا، وألحّ عليه وكان من ألزامه، حتى قام في عمارة الجامع بمنشأة المهرانيّ، ومنشأة المهرانيّ هذه(2/175)
موضعها فيما بين النيل والخليج، وفيها من الحمراء القصوى فوهة الخليج انحسر عنها ماء النيل قديما وعرف موضعها بالكوم الأحمر من أجل أنه كان يعمل فيها أقمنة الطوب، فلما سأل الصاحب بهاء الدين بن حنا الملك الظاهر بيبرس في عمارة جامع بهذا المكان ليقوم مقام الجامع الذي كان بمنشأة الفاضل أجابه إلى ذلك، وأنشأ الجامع بخط الكوم الأحمر كما ذكر في خبره عند ذكر الجوامع، فأنشأ هناك الأمير سيف الدين بلبان المهرانيّ دارا وسكنها، وبنى مسجدا، فعرفت هذه الخطة به، وقيل لها: منشأة المهرانيّ، فإنّ المهرانيّ المذكور أوّل من ابتنى فيها بعد بناء الجامع، وتتابع الناس في البناء بمنشأة المهرانيّ وأكثروا من العمائر حتى يقال: إنه كان بها فوق الأربعين من أمراء الدولة سوى من كان هناك من الوزراء، وأماثل الكتاب، وأعيان القضاة، ووجوه الناس، ولم تزل على ذلك حتى انحسر الماء عن الجهة الشرقية فخربت، وبها الآن بقية يسيرة من الدور، ويتصل بخط الجامع الجديد خط دار النحاس، وهو مطلّ على النيل، ودار النحاس هذه من الدور القديمة، وقد دثرت، وصار الخط: يعرف بها.
قال القضاعيّ:
دار النحاس اختطها: وردان مولى عمرو بن العاص، فكتب مسلمة بن مخلد، وهو أمير مصر إلى معاوية يسأله أن يجعلها ديوانا، فكتب معاوية إلى وردان يسأله فيها، وعوّضه فيها دار وردان التي بسوقه الآن، وقال ربيعة: كانت هذه الدار من خطة الحجر من الأزد، فاشتراها عمر بن مروان، وبناها، فكانت في يد ولده، وقبضت عنهم وبيعت في الصوافي سنة ثمان وثلثمائة، ثم صارت إلى شمول الإخشيديّ، فبناها قيسارية وحماما، فصارت دار النحاس قيسارية شمول.
وقال ابن المتوّج: دار النحاس خط نسب لدار النحاس، وهو الآن فندق الأشراف ذو البابين أحدهما من رحبة أمامه، والثاني شارع بالساحل القديم، وبآخر هذه الشقة التي تطل على النيل (جسر الأفرم) ، وهو في طرف مصر فيما بين المدرسة المعزية، وبين رباط الآثار كان مطلا على النيل دائما، والآن ينحسر الماء عنه عند هبوط النيل، وعرف بالأمير عز الدين أيدمر الأفرم الصالحيّ النجميّ أمير جندار، وذلك أنه لما استأجر بركة الشعيبية، كما ذكر عند ذكر البرك من هذا الكتاب جعل منها فدّانين من غربيها أذن للناس في تحكيرها، فحكرت وبنى عليها عدّة دور بلغت الغاية في إتقان العمارة، وتنافس عظماء دولة الناصر محمد بن قلاون من الوزراء، وأعيان الكتاب في المساكن بهذا الجسر، وبنوا وتأنقوا، وتفننوا في بدع الزخرفة، وبالغوا في تحسين الرخام، وخرجوا عن الحدّ في كثرة إنفاق الأموال العظيمة على ذلك بحيث صار خط الجسر خلاصة العامر من إقليم مصر، وسكانه أرق الناس عيشا، وأترف المتنعمين حياة، وأوفرهم نعمة، ثم خرب هذا الجسر بأسره، وذهبت دوره.(2/176)
وأما الجهة الشرقية من مصر: ففيها قلعة الجبل، وقد أفردنا لها خبرا مستقلا يحتوي على فوائد كثيرة تضمنه هذا الكتاب فانظره، ويتصل آخر قلعة الجبل بخط باب القرافة، وهو من أطراف القطائع والعسكر، ويلي خط باب القرافة الفضاء الذي كان يعرف بالعسكر، وقد تقدّم ذكره، وكان بأطراف العسكر مما يلي كوم الجارح.
الموقف «1» قال ابن وصيف شاه في أخبار الريان بن الوليد: وهو فرعون نبيّ الله يوسف صلوات الله عليه، ودخل إلى البلد في أيامه غلام من أهل الشام احتال عليه إخوته وباعوه، وكانت قوافل الشام تعرّس بناحية الموقف اليوم، فأوقف الغلام، ونودي عليه، وهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليهم، فاشتراه أطفين العزيز، ويقال: إنّ الذي أخرج يوسف من الجب: مالك بن دعر بن حجر بن جزيلة بن لخم بن عديّ بن الحارث بن مرّة بن أدد بن زيد بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
وقال القضاعيّ: كان الموقف فضاء لأم عبد الله بن مسلمة بن مخلد، فتصدّقت به على المسلمين، فكان موقفا تباع فيه الدواب، ثم ملك بعد وقد ذكرته في الظاهر يعني في خطط أهل الظاهر، فإنّ الموقف من جملة خطط أهل الظاهر.
وقال ابن المتوّج: بقعة (خط الصفاء) هذا الخط دثر جميعه، ولم يبق له أثر، وهو قبليّ الفسطاط أوّله بجوار المصنع، وخط الطحانين أدركته، كان صفين طواحين متلاصقة متصلة من درب الصفاء إلى كوم الجارح، وأدركت به جماعة من أكابر المصريين أكثرهم عدول، وكان المار بين هذين الصفين لا يسمع حديث رفيقه إذا حدّثه لقوّة دوران الطواحين، وكان من جملتها طاحون واحد فيه سبعة أحجار، دثر جميع ذلك، ولم يبق له أثر.
قال:
وبقعة درب الصفاء هو الدرب الذي كان باب مصر، وقيل: إنه كان بظاهره سوق يوسف عليه السلام، وكان بابا بمصراعين يعلوهما عقد كبير، وهو بعتبة كبيرة سفلى من صوّان، وكان بجوار المصنع الخراب الموجود الآن، وكان حول المصنع عمد رخام بدائرة حاملة الساباط يعلوه مسجد معلق، هدم ذلك جميعه في ولاية سيف الدين المعروف بابن سلار، والي مصر في دولة الظاهر بيبرس، وهذا الدرب يسلك منه إلى درب الصفاء، والطحانين.
قال مؤلفه رحمه الله: كان هذا الباب المذكور أحد أبواب مدينة مصر، وبابها الآخر من ناحية الساحل الذي موضعه اليوم باب مصر بجوار الكبارة، وأنا أدركت آثار درب الصفاء المذكور والمصنع الخراب، وكان يصب فيه الماء للسبيل، وهو قريب من كوم(2/177)
الجارح، وسيأتي ذكر كوم الجارح في ذكر الكيمان من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
وأما الذي يلي كوم الجارح إلى آخر حدّ طول مصر عند بركة الحبش، فإنها الخطط القديمة، وأدركتها عامرة لا سيما خط النخالين، وخط زقاق القناديل، وخط المصاصة، وقد خرب جميع ذلك، وبيعت أنقاضه من بعد سنة تسعين وسبعمائة.
وأما
الجهة القبلية من مصر: فإن» خط دير الطين حدثت العمارة فيه بعد سنة ستمائة لما أنشأ الصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين عليّ بن حنا الجامع هناك، وعمّر الناس في جسر الأفرم، وكان قبل ذلك آخر عمارة مدينة مصر دار الملك التي موضعها الآن بجوار المدرسة المعزية، وأما موضع الجسر فإنه كان بركة ماء، تتصل بخط راشدة حيث جامع راشدة، ومن قبليّ هذه البركة البستان الذي كان يعرف ببستان الأمير تميم بن المعز، ويعرف اليوم: بالمعشوق، وهو على رباط الآثار، ويجاور المعشوق بركة الحبش، وما بين خط دير الطين، وآخر عرض مصر من الجهة القبلية طرف خط راشدة.
وأما
الجهة البحرية من مصر: فإنه يتصل بخط السبع سقايات الدور المطلّة على البركة التي يقال لها بركة قارون، وهي التي تجاور الآن حدرة ابن قميحة، وهي من جملة الحمراء القصوى، وبقبليّ البركة المذكورة الكوم المعروف بالأسرى، وهو من جملة العسكر، وسيرد إن شاء الله تعالى ذكره عند ذكر الكيمان، ويجاور البركة المذكورة خط الكبش، وقد ذكر في الجبال، ويأتي إن شاء الله تعالى له خبر عند ذكر الأخطاط، ويلي خط الكبش خط الجامع الطولونيّ، ويلي خط الجامع القبيبات، وخط المشهد النفيسيّ، وجميع ذلك إلى قلعة الجبل من جملة القطائع.
ذكر أبواب مدينة مصر
وكان لفسطاط مصر أبواب في القديم خربت، وتجدّد لها بعد ذلك أبواب أخر.
باب الصفاء: هذا الباب كان هو في الحقيقة باب مدينة مصر، وهي في كمالها، ومنه تخرج العساكر، وتعبر القوافل، وموضعه الآن بالقرب من كوم الجارح، وهدم في أيام الملك الظاهر بيبرس.
باب الساحل: كان يفضي بسالكه إلى ساحل النيل القديم، وموضعه قريب من الكبارة.
باب مصر: هذا الباب هو الذي بناه قراقوش، ومنه يسلك الآن من دخل إلى مدينة مصر من الطريق التي تعرف بالمراغة، وهو مجاور للكوم الذي يقال له: كوم المشانيق، ويعرف اليوم بالكبارة، وكان موضع هذا الباب غامرا بماء النيل، فلما انحسر الماء عن ساحل مصر صار الموضع المعروف بالمراغة، والموضع المعروف بغيط الجرف، إلى موردة(2/178)
الحلفاء فضاء لا يصل إليه ماء النيل البتة، فأحب السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب أن يدير سورا يجمع فيه القاهرة ومصر وقلعة الجبل، فزاد في سور القاهرة على يد قراقوش من باب القنطرة إلى باب الشعرية، وإلى باب البحر يريد أن يمدّ السور من باب البحر إلى الكوم الأحمر الذي هو اليوم حافة خليج مصر تجاه خط بين الزقاقين ليصل أيضا من الكوم الأحمر إلى باب مصر هذا، فلم يتهيأ له هذا، وانقطع السور من عند جامع المقس، وزاد في سور القاهرة أيضا من باب النصر إلى قلعة الجبل، فلم يكمل له ومدّ السور من قلعة الجبل إلى باب القنطرة خارج مصر، فصار هذا الباب غير متصل بالسور.
باب القنطرة: هذا الباب في قبليّ مدينة مصر عرف بقنطرة بني وائل التي كانت هناك، وهو أيضا من بناء قراقوش.(2/179)
ذكر القاهرة قاهرة المعز لدين الله
اعلم: أن القاهرة المعزية رابع موضع انتقل سرير السلطنة إليه من أرض مصر في الدولة الإسلامية، وذلك أن الإمارة كانت بمدينة الفسطاط، ثم صار محلها العسكر خارج الفسطاط، فلما عمرت القطائع صارت دار الإمارة إلى أن خربت، فسكن الأمراء بالعسكر إلى أن قدم القائد جوهر بعساكر مولاه الإمام المعز لدين الله معدّ، فبنى القاهرة حصنا، ومعقلا بين يدي المدينة، وصارت القاهرة دار خلافة ينزلها الخليفة بحرمه، وخواصه إلى أن انقرضت الدولة الفاطمية.
فسكنها من بعدهم: السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وابنه الملك العزيز عثمان، وابنه الملك المنصور محمد، ثم الملك العادل أبو بكر بن أيوب، وابنه الملك الكامل محمد، وانتقل من القاهرة إلى قلعة الجبل، فسكنها بحرمه وخواصه، وسكنها الملوك من بعده إلى يومنا هذا، فصارت القاهرة مدينة سكنى بعد ما كانت حصنا يعتقل به، ودار خلافة يلتجأ إليها، فهانت بعد العز، وابتذلت بعد الاحترام، وهذا شأن الملوك ما زالوا يطمسون آثار من قبلهم، ويميتون ذكر أعدائهم، فقد هدموا بذلك السبب أكثر المدن والحصون، وكذلك كانوا أيام العجم، وفي جاهلية العرب، وهم على ذلك في أيام الإسلام، فقد هدم عثمان بن عفان صومعة غمدان، وهدم الآطام التي كانت بالمدينة، وقد هدم زياد كل قصر، ومصنع كان لابن عامر، وقد هدم بنو العباس مدن الشام لبني مروان:
وإذا تأمّلت البقاع وجدتها ... تشقى كما تشقى الرجال وتسعد
وسيأتي من أخبار القاهرة، والكلام على خططها وآثارها ما تنتهي إليه قدرتي، ويصل إلى معرفته علمي وفوق كل ذي علم عليم.
ذكر ما قيل في نسب الخلفاء الفاطميين بناة القاهرة
اعلم: أن القوم كانوا ينسبون إلى الحسين بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما، والناس فريقان في أمرهم: فريق يثبت صحة ذلك، وفريق يمنعه، وينفيهم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويزعم أنهم أدعياء من ولد ديصان البونيّ الذي ينسب إليه النوبة، وإنّ ديصان كان له ابن اسمه: ميمون القدّاح كان له مذهب في الغلوّ، فولد ميمون: عبد الله،(2/180)
وكان عبد الله عالما بجميع الشرائع، والسنن والمذاهب.
وأنه رتب سبع دعوات يندرج الإنسان فيها حتى ينحل عن الأديان كلها، ويصير معطلا إباحيا لا يرجو ثوابا، ولا يخاف عقابا، ويرى أنه، وأهل نحلته على هدى، وجميع من خالفهم أهل ضلالة، وإنه قصد بذلك أن يجعل له أتباعا، وكان يدعو إلى الإمام من آل البيت محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، وأنه كان من الأهواز، واشتهر بالعلم والتشيع، وصار له دعاة، وقصد بالمكروه، ففرّ إلى البصرة، فاشتهر أمره، وسار منها إلى سلمية «1» من أرض الشام، فولد له ابن بها اسمه: أحمد، ومات فقام من بعده أحمد، وبعث بالحسين الأهوازيّ داعية إلى العراق، فلقي أحمد بن الأشعث المعروف: بقرمط في سواد الكوفة، ودعاه إلى مذهبه، فأجابه، وقام هناك بالأمر، وإلى قرمط هذا تنسب القرامطة، وولد لأحمد بن عبد الله بن ميمون القدّاح: الحسين، ومحمد المعروف بأبي الشعلع، فلما مات أحمد خلفه ابنه الحسين في الدعوة حتى مات، فقام من بعده أخوه: أبو الشعلع، وكان لأحمد بن عبد الله ولد اسمه سعيد، فصار تحت حجر عمه، وبعث أبو الشعلع بداعيين إلى المغرب وهما: أبو عبد الله وأخوه أبو العباس، فنزلا في البربر، ودعوها، واشتهر سعيد بسلمية بعد موت عمه، وكثر ماله فطلبه السلطان ففر من سلمية إلى مصر يريد المغرب، وكان على مصر عيسى النوشريّ، فورد عليه كتاب الخليفة ببغداد بالقبض عليه، ففاته، وصار بسلجماسة «2» في زيّ التجار، فبعث المعتضد من بغداد في طلبه، فأخذ وحبس حتى أخرجه أبو عبد الله الشيعيّ من محبسه، فتسمى حينئذ بعبيد الله، وتكنى بأبي محمد، وتلقب بالمهديّ، وصار إماما علويا من ولد محمد بن جعفر الصادق، وإنما هو: سعيد بن الحسين بن أحمد بن عبد الله بن ميمون القدّاح بن ديصان البونيّ الأهوازيّ، وأصله من المجوس، فهذا قول من ينكر نسبهم.
وبعض منكري نسبهم في العلوية يقول: إنّ عبيد الله من اليهود، وإنّ الحسين بن أحمد المذكور تزوّج امرأة يهودية من نساء سلمية كان لها ابن من يهوديّ حدّاد، مات وتركه لها، فرباه الحسين، وأدّبه وعلمه، ثم مات عن غير ولد فعهد إلى ابن امرأته هذا، فكان هو:
عبيد الله المهديّ، وهذه أقوال إن أنصفت تبين لك أنها موضوعة، فإن بني عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، قد كانوا إذ ذاك على غاية من وفور العدد وجلالة القدر عند الشيعة، فما الحامل لشيعتهم على الإعراض عنهم، والدعاء لابن مجوسيّ، أو لابن يهودي، فهذا مما لا يفعله أحد، ولو بلغ الغاية في الجهل والسخف، وإنما جاء ذلك من قبل ضعفة خلفاء(2/181)
بني العباس عندما غصوا بمكان الفاطميين، فإنهم كانوا قد اتصلت دولتهم نحوا من مائتين وسبعين سنة، وملكوا من بني العباس: بلاد المغرب ومصر والشام وديار بكر والحرمين واليمن، وخطب لهم ببغداد نحو أربعين خطبة، وعجزت عساكر بني العباس عن مقاومتهم، فلاذت حينئذ بتنفير الكافة عنهم بإشاعة الطعن في نسبهم، وبث ذلك عنهم خلفاؤهم، وأعجب به أولياؤهم، وأمراء دولتهم الذين كانوا يحاربون عساكر الفاطميين كي يدفعوا بذلك عن أنفسهم وسلطانهم معرّة العجز عن مقاومتهم ودفعهم عما غلبوا عليه من ديار مصر والشام والحرمين، حتى اشتهر ذلك ببغداد، وأسجل القضاة بنفيهم من نسب العلويين.
وشهد بذلك من أعلام الناس جماعة منهم الشريفان: الرضي والمرتضى، وأبو حامد الإسفراينيّ والقدوريّ في عدّة وافرة عندما جمعوا لذلك في سنة اثنتين وأربعمائة أيام القادر، وكانت شهادة القوم في ذلك على السماع لما اشتهر وعرف بين الناس ببغداد، وأهلها، إنما هم شيعة بني العباس الطاعنون في هذا النسب، والمتطيرون من بني عليّ بن أبي طالب الفاعلون فيهم منذ ابتداء دولتهم الأفاعيل القبيحة، فنقل الإخباريون وأهل التاريخ ذلك كما سمعوه، ورووه حسب ما تلقوه من غير تدبر، والحق من وراء هذا، وكفاك بكتاب المعتضد من خلائف بني العباس حجة، فإنه كتب في شأن عبيد الله إلى ابن الأغلب بالقيروان، وابن مدرار بسلجماسة بالقبض على عبيد الله، فتفطن أعزك الله لصحة هذا الشاهد، فإنّ المعتضد لولا صحة نسب عبيد الله عنده ما كتب لمن ذكرنا بالقبض عليه إذ القوم حينئذ لا يدعون لدعيّ البتة، ولا يذعنون له بوجه، وإنما ينقادون لمن كان علويا، فخاف مما وقع، ولو كان عنده من الأدعياء لما مرّ له بفكر، ولا خافه على ضيعة من ضياع الأرض، وإنما كان القوم أعني بني عليّ بن أبي طالب تحت ترقب الخوف من بني العباس، لتطلبهم لهم في كل وقت، وقصدهم إياهم دائما بأنواع من العقاب، فصاروا ما بين طريد شريد، وبين خائف يترقب، ومع ذلك فإن لشيعتهم الكثيرة المنتشرة في أقطارهم من المحبة لهم، والإقبال عليهم، ما لا مزيد عليه، وتكرّر قيام الرجال منهم مرّة بعد مرّة، والطلب عليهم من ورائهم، فلاذوا بالاختفاء، ولم يكادوا يعرفون حتى تسمى محمد بن إسماعيل الإمام جدّ عبيد الله المهديّ بالمكتوم سماه بذلك الشيعة عند اتفاقهم على إخفائه حذرا من المتغلبين عليهم.
وكانت الشيعة فرقا فمنهم: من كان يذهب إلى أنّ الإمام من ولد جعفر الصادق هو إسماعيل ابنه، وهؤلاء يعرفون ممن بين فرق الشيعة: بالإسماعيلية من أجل أنهم يرون أنّ الإمام من بعد جعفر ابنه إسماعيل، وأنّ الإمام بعد إسماعيل بن جعفر الصادق هو ابنه محمد المكتوم، وبعد ابنه محمد المكتوم ابنه جعفر الصادق، ومن بعد جعفر الصادق ابنه محمد الحبيب، وكانوا أهل غلوّ في دعاويهم في هؤلاء الأئمة، وكان محمد بن جعفر هذا يؤمّل ظهوره، وأنه يصير له دولة، وكان باليمن من أهل هذا المذهب كثير يعدن بإفريقية، وفي(2/182)
كتامة «1» ، ونقرة «2» ، تلقوا ذلك من عهد جعفر الصادق، فقدم على محمد بن جعفر والد عبيد الله رجل من شيعته باليمن، فبعث معه الحسن بن حوشب في سنة ثمان وستين ومائتين، فأظهرا أمرهما باليمن، وأشهرا الدعوة في سنة سبعين، وصار لابن حوشب دولة بصنعاء، وبث الدعاة بأقطار الأرض، وكان من جملة دعاته أبو عبد الله الشيعيّ، فسيره إلى المغرب، فلقي كتامة ودعاهم، فلما مات محمد بن جعفر عهد لابنه عبيد الله، فطلبه المكتفي العباسيّ، وكان يسكن عسكر مكرّم، فسار إلى الشام، ثم سار إلى المغرب، فكان من أمره ما كان، وكانت رجال هذه الدولة الذين قاموا ببلاد المغرب، وديار مصر «3» عشر رجلا هذه خلاصة أخبارهم في أنسابهم، فتفطن ولا تغترّ بزخرف القول الذي لفقوه من الطعن فيهم، والله يهدي من يشاء.
ذكر الخلفاء الفاطميين
وكان ابتداء الدولة الفاطمية أن أبا عبد الله الحسين بن أحمد بن محمد بن زكرياء الشيعيّ سار إلى أبي القاسم الحسين بن فرج بن حوشب الكوفيّ القائم ببلاد اليمن، وصار من كبار أصحابه وله علم، وعنده دهاء ومكر، فورد على ابن حوشب من المغرب، خبر موت الحلوانيّ داعية في المغرب ورفيقه، فقال لأبي عبد الله الشيعيّ: قد خرّب الحوانيّ، وأبو يوسف بلاد المغرب، وقد ماتا، وليس للبلاد إلّا أنت فإنها موطأة ممهدة، فخرج أبو عبد الله إلى مكة، وقصد حجاج كتامة، فجلس قريبا منهم، وسمعهم يتحدّثون بفضائل البيت، فحدّثهم في معناه، فمالوا إليه، وسألوه أن يأذن لهم في زيارته، فلما زاروه سألوه عن مقصده، فلم يخبرهم، وأوهمهم أنه يريد مصر، فسرّوا بصحبته، ورحلوا، وهو رفيقهم فشاهدوا من عبادته، وزهده ما زادهم رغبة فيه، هذا وهو يسألهم عن أحوالهم وقبائلهم، حتى صار يعرف جميع أمورهم، فلما وصلوا مصر همّ بمفارقتهم، فقالوا: أيّ شيء تطلب من مصر؟ فقال: أطلب التعليم بها، فقالوا: إذا كان قصدك هذا، فبلادنا أنفع لك، وما زالوا به حتى سار معهم، فلما وصلوا بلادهم اقترعوا فيمن يضيفه منهم، ومن بقية أصحابهم، ووصلوا به أرض كتامة للنصف من ربيع الأوّل سنة ثمان وثمانين ومائتين، وكادوا يحتربون عليه أيّهم ينزل عنده، فأبى أن ينزل عندهم، وقال: أين يكون فج الأخيار؟ فعجبوا لذلك! إذ لم يكونوا ذكروه له قط، فدلوه عليه، فسار إليه، وقال: هذا فج الأخيار، وما سمي إلا بكم، ولقد جاء في الآثار للمهديّ هجرة عن الأوطان ينصره فيها الأخيار من أهل ذلك الزمان قوم اسمهم مشتق من الكتمان، وبخروجكم في هذا الفج سمي فج الأخيار،(2/183)
فتسامعت به القبائل، وأتوه فعظم أمره وهو لا يذكر اسم المهديّ البتة، فبلغ خبره إبراهيم بن أحمد بن الأغلب أمير إفريقية، فبعث يسأل عن خبره، وكانت له معه قصص آلت إلى قيام أبي عبد الله ومحاربته لمن خالفه، فظفر بهم، وصارت إليه أموالهم، وغلب على مدائن، وهزم جيوش ابن الأغلب، وقتل كثيرا من أصحابه، فمات إبراهيم بن الأغلب، وولي زيادة الله بن الأغلب، وكان كثير اللهو، فقوي أمر أبي عبد الله، وانتشرت جنوده في البلاد، وصار يقول: المهديّ يخرج في هذه الأيام، ويملك الأرض فيا طوبى لمن هاجر إليّ، وأطاعني ويغري الناس بزيادة الله بن الأغلب ويعيبه، وكان أكثر خواص زيادة الله شيعة، فلم يكن يسوءهم ظفر أبي عبد الله، وأكثر من ذكر كرامات المهديّ، والإرسال إلى أصحاب زيادة الله إلى أن تمكن، فبعث برجال من كتامة إلى سلمية من أرض الشام، فقدموا على عبيد الله، وأخبروه بما فتح الله عليه، وكان قد اشتهر هناك، وطلبه الخليفة المكتفي، فخرج من سلمية فارا، ومعه ابنه أبو القاسم نزار، ومعهما أهلهما ومواليهما، فأقاما بمصر مستترين، فوردت على عيسى النوشريّ أمير مصر الكتب من بغداد بصفة عبيد الله وحليته، وإنه يأخذ عليه الطريق ويقبضه، فبلغ ذلك عبيد الله، فخرج والأعوان في طلبه، ويقال: إنّ النوشريّ ظفر به، فناشده الله في أمره، فخلى عنه ووصله، فسار إلى طرابلس، وقد سبق خبره إلى زيادة الله، فسار إلى قسطيلية «1» ، فقدم كتاب زيادة الله بن الأغلب إلى عامل طرابلس بأخذ عبيد الله وقد فاتهم، فلم يدركوه، فرحل إلى سلجماسة، وأقام بها، وقد أقيمت له المراصد بالطرقات، فتلطف باليسع بن مدرار صاحب سلجماسة، وأهدى إليه فكف عنه، ووافاه كتاب زيادة الله بالقبض على عبيد الله، فلم يجد بدّا من أن قبض عليه وسجنه، واشتغل زيادة الله بجمع العساكر لمحاربة أبي عبد الله وتجهيزهم إليه فغلبهم أبو عبد الله، وغنم سائر ما معهم، وقتل أكثرهم، وبلغه ما كان من سجن عبيد الله، فكتب إليه يبشره، فوصل إليه الكتاب، وهو بالسجن مع قصاب دخل به إليه، وهو يبيع اللحم، وما زال أبو عبد الله يضايق زيادة الله إلى أن فرّ إلى مصر، وقام من بعده إبراهيم بن الأغلب، فلم يتم له أمر، وملك أبو عبد الله القيروان، ونزل برقادة «2» مستهل رجب سنة ست وتسعين ومائتين، فأمر ونهى، وبث العمال في الأعمال، وقتل من يخاف شرّه، وأمر فنقش على السكة في أحد الوجهين: بلغت حجة الله، وفي الآخر: تفرّق أعداء الله ونقش على السلاح عدّة في سبيل الله، ووسم الخيل على أفخاذها: الملك لله، وأقام على ما كان عليه من لبس الخشن الدون، وتناول القليل الغليظ من الطعام، فلما دخل شهر رمضان سار من رقادة في جيوش عظيمة اهتز لها المغرب بأسره يريد سلجماسة، فحاربه اليسع يوما كاملا إلى الليل، ثم فرّ في خاصته، فدخل أبو عبد الله من الغد إلى البلد، وأخرج عبيد الله وابنه، ومشى في(2/184)
ركابهما بجميع رؤساء القبائل، وهو يقول للناس: هذا مولاكم، وهو يبكي من شدّة الفرح حتى وصل بهما إلى فسطاط ضربه في العسكر، فأنزلهما فيه، وبعث الخيل في طلب اليسع، فأدركته وجاءت به فقتله، وأقام عبيد الله بسلجماسة أربعين يوما، ثم سار إلى إفريقية في ربيع الآخر سنة سبع وتسعين، ونزل برقادة، وأمر يوم الجمعة أن يذكر في الخطبة وتلقب بالمهديّ أمير المؤمنين، فدعي له في جميع البلاد بذلك، وجلس بعد الصلاة الدعاة ودعوا الناس كافة إلى مذهبهم، فمن أجاب قبل منه، ومن أبى قتل، وعرض جواري زيادة الله، واختار منهنّ لنفسه ولولده، وفرّق ما بقي على وجوه كتامة، وقسم عليهم أعمال إفريقية، ودوّن الدواوين، وجبى الأموال ودانت له البلاد، فشق ذلك على أبي عبد الله، ونافس المهديّ، وحسده من أجل أنه كف يده، ويده، ويد أخيه أبي العباس، فعظم عليه الفطام عن الأمر والنهي والأخذ والعطاء، وأقبل أبو العباس يرزي على المهديّ في مجلس أخيه، ويؤنب أخاه على ما فعل حتى أثر في نفسه، فسأل المهديّ: أن يفوّض إليه الأمور ويجلس في القصر، وكان قد بلغ المهديّ ما يجهر به أبو العباس من السوء في حقه، فردّ أبا عبد الله ردّا لطيفا، وأسرّها في نفسه، وأكثر أبو العباس من قوله حتى أغرى المقدّمين بالمهديّ، وقال:
ما هذا بالذي كنا نعتقد طاعته، وندعو إليه لأنّ المهديّ يأتي بالآيات الباهرة، فمال إليه جماعة، وواجه بعضهم المهديّ بذلك، وقال له: إن كنت المهديّ، فأظهر لنا آية، فقد شككنا فيك، فبعد ما بين المهديّ، وبين أبي عبد الله، وأوجس كلّ منهما في نفسه خيفة من الآخر، وأخذ أبو العباس يدبر في قتل المهديّ، والمهديّ يحلّ ما كان يبرمه، وثم رتب رجالا، فلما ركب أبو عبد الله، وأخوه إلى قصر المهديّ ثار بهما الرجال، فقال أبو عبد الله:
لا تفعلوا، فقالوا له: إنّ الذي أمرتنا بطاعته أمرنا بقتلك، فقتل هو وأخوه للنصف من جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين ومائتين بمدينة رقادة، فثارت فتنة بسبب قتلهما، فركب المهديّ حتى سكنت وتتبع جماعة منهم، فقتلهم فلما استقام له الأمر عهد إلى ابنه أبي القاسم، وتتبع بني الأغلب، فقتل منهم جماعة، وجهز في سنة إحدى وثلثمائة ابنه أبا القاسم بالعساكر إلى مصر، فأخذ برقة والإسكندرية والفيوم، وكانت له مع عساكر مصر، وعساكر العراق الواردة إلى مصر مع مؤنس الخادم عدّة حروب، وعاد إلى الغرب، فجهز المهديّ في سنة اثنتين وثلثمائة: حباسة بجيوش إلى مصر، فغلب على الإسكندرية، وكان من أمره ما تقدّم ذكره.
وكان للمهدي ببلاد المغرب عدّة حروب، وكان يوجد في الكتب خروج أبي يزيد النكاريّ على دولته، فبنى المهدية، وأدار عليها سورا جعل فيه أبوابا زنة كل مصراع منها، مائة قنطار من حديد، وكان ابتداء بنائها في ذي القعدة سنة ثلاث وثلثمائة، وبنى المصلى بظاهرها، وقال: إلى هنا يصل صاحب الحمار، يعني أبا يزيد، فكان كذلك، وأنشأ صناعة فيها تسعمائة شونة، وقال: إنما بنيت هذه لتعتصم الفواطم بها ساعة من نهار، فكان كذلك،(2/185)
ثم إنه جهز ابنه أبا القاسم في سنة ست وثلثمائة على جيش إلى مصر، فأخذ الإسكندرية، وملك جزيرة الأشمونين، وكثيرا من صعيد مصر، وكانت هناك حروب مع عساكر مصر والعراق، ثم عاد إلى المغرب، وخرج أبو القاسم في سنة خمس عشرة بالجيوش إلى المغرب، فحارب قوما وعاد، فمات عبيد الله في ليلة الثلاثاء منتصف شهر ربيع الأوّل سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة بالمهدية من القيروان عن ثلاث وستين سنة، وكانت خلافته أربعا وعشرين سنة وشهرا وعشرين يوما، ولما مات: أخفى ابنه موته.
وقام من بعد عبيد الله المهديّ وليّ عهده: القائم بأمر الله أبو القاسم محمد، ويقال:
كان اسمه بالمشرق: عبد الرحمن، فتسمى في بلاد المغرب: بمحمد، وذلك بسلمية في المحرّم سنة ثمانين ومائتين، فلما فرغ من جميع ما يريده، وتمكن أظهر موت أبيه، واستقل بالأمر، وله سبع وأربعون سنة، وتبع سيرة أبيه وثار عليه جماعة، فظفر بهم وبث جيوشه في البرّ والبحر، فسبوا وغنموا من بلد جنوة، وبعث جيشا إلى مصر، فملكوا الإسكندرية والإخشيد يومئذ أمير مصر، فلما كان في سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة، خرج عليه أبو يزيد مخلد بن كندار «1» النكاريّ الخارجيّ بإفريقية، واشتدّت شوكته، وكثرت أتباعه، وهزم جيوش القائم غير مرّة، وكان مذهبه تكفير أهل الملة، وإراقة دمائهم ديانة، فملك باجة»
، وحرّقها، وقتل الأطفال، وسبى النسوان، ثم ملك القيروان، فاضطرب القائم، وخاف الناس وهموا بالنقلة من زويلة، وقوي أمر أبي يزيد، ونازل المهدية، وحصر القائم بها، وكاد أن يغلب عليها، فلما بلغ المصلى حيث أشار المهديّ أنه يصل هزمه أصحاب القائم، وقتلوا كثيرا من أصحابه، وكانت له قصص، وأنباء إلى أن مات القائم لثلاث عشرة خلت من شوّال سنة أربع وثلاثين وثلثمائة عن أربع وخمسين سنة وتسعة أشهر، ولم يرق منبرا، ولا ركب دابة لصيد مدّة خلافته، حتى مات وصلى مرّة على جنازة، وصلى بالناس العيد مرّة واحدة، وكانت مدّة خلافته اثنتي عشرة سنة وستة أشهر وأياما، وترك أبا الظاهر إسماعيل، وأبا عبد الله جعفرا، وحمزة وعدنان، وعدّة أخر.
وقام من بعده ابنه: المنصور بنصر الله أبو الظاهر إسماعيل، وكتم موت أبيه خوفا أن يعلم أبو يزيد فإنه كان قريبا منه، وأبقى الأمور على حالها، ولم يتسمّ بالخليفة، ولا غير السكة، ولا الخطبة ولا البنود، وجدّ في حرب أبي يزيد حتى ظفر به وحمل إليه، فمات من جراحات كانت به سلخ المحرّم سنة ست وثلاثين وثلثمائة، ولم يزل المنصور إلى أن مات سلخ شوّال سنة إحدى وأربعين وثلثمائة عن إحدى وأربعين سنة وخمسة أشهر، وكانت(2/186)
مدّة خلافته ثمان سنين، وقيل: سبع سنين وعشرة أيّام، وقد اختلف في تاريخ ولادته، فقيل: ولد أوّل ليلة من جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلثمائة بالمهدية، وقيل: بل ولد في سنة اثنتين، وقيل: سنة إحدى وثلثمائة، وكان خطيبا بليغا يرتجل الخطبة لوقته شجاعا عاقلا.
وقام من بعده ابنه: المعز لدين الله أبو تميم معدّ، وعمره نحو أربع وعشرين سنة، فإنه ولد للنصف من رمضان سنة سبع عشرة وثلثمائة، فانقاد إليه البربر، وأحسن إليهم فعظم أمره، واختص من مواليه: بجوهر، وكناه بأبي الحسين وأعلى قدره، وصيره في رتبة الوزارة، وعقد له على جيش كثيف فيهم: الأمير زيري بن مناد الصنهاجيّ، فدوّخ المغرب وافتتح مدنا، وقهر عدّة أكابر وأسرهم حتى أتى البحر المحيط، فأمر باصطياد سمكة منه، وسيّرها في قلة من ماء إلى المعز إشارة إلى أنه ملك حتى سكان البحر المحيط الذي لا عمارة بعده، ثم قدم غانما مظفرا، فعظم قدره عند المعز، ولما كان في بعض الأيام استدعى المعز في يوم شات عدّة من شيوخ كتامة، فدخلوا عليه في مجلس قد فرش باللبود، وحوله كساء، وعليه جبة، وحوله أبواب مفتحة تفضي إلى خزائن كتب، وبين يديه دواة وكتب.
فقال: يا إخواننا أصبحت اليوم في مثل هذا الشتاء والبرد، فقلت لأمّ الأمراء، وإنها الآن بحيث تسمع كلامي: أترى إخواننا يظنون أنا في مثل هذا اليوم نأكل ونشرب، ونتقلب في المثقل والديباج والحرير، والفنك والسمور والمسك والخمر، والقباء كما يفعل أرباب الدنيا، ثم رأيت أن أنفذ إليكم فأحضرتكم لتشاهدوا حالي إذا خلوت دونكم، واحتجبت عنكم، وإني لا أفضلكم في أحوالكم إلّا بما لا بدّ لي منه من دنياكم، وبما خصني الله به من إمامتكم، وإني مشغول بكتب ترد عليّ من المشرق والمغرب أجيب عنها بخطي، وإني لا أشتغل بشيء من ملاذ الدنيا إلا بما يصون أرواحكم، ويعمر بلادكم، ويذل أعداءكم، ويقمع أضدادكم، فافعلوا يا شيوخ في خواتكم مثل ما أفعله، ولا تظهروا التكبر والتجبر، فينزع الله النعمة عنكم، وينقلها إلى غيركم، وتحننوا عليّ من وراءكم ممن لا يصل إليّ، كتحنني عليكم ليتصل في الناس الجميل، ويكثر الخير، وينتشر العدل، وأقبلوا بعدها على نسائكم والزموا الواحدة التي تكون لكم، ولا تشرهوا إلى التكثر منهنّ والرغبة فيهنّ، فيتنغص عشيكم، وتعود المضرّة عليكم، وتنهكوا أبدانكم وعقولكم، واعلموا أنكم إذا لزمتم ما آمركم به رجوت أن يقرّب الله علينا أمر المشرق كما قرّب أمر المغرب بكم انهضوا رحمكم الله ونصركم، فخرجوا عنه، واستدعى يوما أبا جعفر حسين بن مهذب صاحب بيت المال، وهو في وسط القصر قد جلس على صندوق، وبين يديه ألوف صناديق مبدّدة، فقال له: هذه صناديق مال، وقد شذ عني ترتيبها فانظرها ورتبها قال: فأخذت أجمعها إلى أن صارت مرتبة، وبين يديه جماعة من خدّام بيت المال، والفرّاشين، فأنفذت إليه أعلمه فأمر برفعها في الخزائن على ترتيبها، وأن يغلق عليها، وتختم بخاتمه، وقال: قد خرجت عن خاتمنا وصارت إليك، فكانت جملتها أربعة وعشرين ألف ألف دينار، وذلك في سنة سبع وخمسين(2/187)
وثلثمائة، فأنفقها أجمع على العساكر التي سيرها إلى مصر من سنة ثمان وخمسين إلى سنة اثنتين وستين وثلثمائة.
ولما أخذ في تجهيز جوهر بالعساكر إلى أخذ ديار مصر، حتى تهيأ أمره، وبرز للمسير، بعث المعز خفيفا الصقلبيّ إلى شيوخ كتامة يقول: يا إخواننا قد رأينا أن ننفذ رجالا إلى بلدان كتامة يقيمون بينهم، ويأخذون صدقاتهم، ومراعيهم ويحفظونها عليهم في بلادهم، فإذا احتجنا إليها أنفذنا خلفها، فاستعنا بها على ما نحن بسبيله، فقال بعض شيوخهم لخفيف لما بلغه ذلك، قل لمولانا والله لا فعلنا هذا أبدا، كيف تؤدّي كتامة الجزية، ويصير عليها في الديوان ضريبة، وقد أعزها الله قديما بالإسلام، وحديثا معكم بالإيمان وسيوفنا بطاعتكم في المشرق والمغرب، فعاد خفيف إلى المعز بذلك، فأمر بإحضار جماعة كتامة، فدخلوا عليه، وهو راكب فرسه، فقال: ما هذا الجواب الذي صدر عنكم؟ فقالوا: هذا جواب جماعتنا ما كنا يا مولانا بالذي يؤدّي جزية تبقى علينا، فقام المعز في ركابه، وقال: بارك الله فيكم فهكذا أريد أن تكونوا، وإنما أردت أن أختبركم، فانظر كيف أنتم بعدي، فسار جوهر، وأخذ مصر، كما قد ذكر في ترجمته عند ذكر سور القاهرة من هذا الكتاب.
فلما ثبتت قدم جوهر بمصر كتب إليه المعز جوابا عن كتابه، وأما ما ذكرت يا جوهر، من أن جماعة بني حمدان وصلت إليك كتبهم يبذلون الطاعة، ويعدون بالمسارعة في المسير إليك، فاسمع لما أذكره لك، احذر أن تبتدىء أحدا من آل حمدان بمكاتبة ترهيبا له، ولا ترغيبا، ومن كتب إليك كتابا منهم، فأجبه بالحسن الجميل، ولا تستدعه إليك، ومن ورد إليك منهم، فأحسن إليه، ولا تمكن أحدا منهم من قيادة جيش، ولا ملك طرف، فبنو حمدان يتظاهرون بثلاثة أشياء عليها مدار العالم، وليس لهم فيها نصيب، يتظاهرون بالدين، وليس لهم فيه نصيب، ويتظاهرون بالكرم، وليس لواحد منهم كرم في الله، ويتظاهرون بالشجاعة، وشجاعتهم للدنيا لا للآخرة، فاحذر كل الحذر من الاستناد إلى أحد منهم.
ولما عزم المعز على المسير إلى مصر أجال فكره، فيمن يخلفه في بلاد المغرب، فوقع اختياره على جعفر بن عليّ الأمير، فاستدعاه، وأسرّ إليه أنه يريد استخلافه بالمغرب، فقال: تترك معي أحد أولادك أو إخوتك يجلس في القصر، وأنا أدبر، ولا تسألني عن شيء من الأموال، لأنّ ما أجيبه يكون بإزاء ما أنفقه من الأموال، وإذا أردت أمرا فعلته من غير أن أنتظر ورود أمرك فيه لبعد ما بين مصر والمغرب، ويكون تقليد القضاء والخراج وغيره إليّ، فغضب المعز، وقال: يا جعفر عزلتني عن ملكي؟ وأردت أن تجعل لي فيه شريكا في أمري؟ واستبددت بالأعمال والأموال دوني؟ قم فقد أخطأت حظك، وما أصبت رشدك، فخرج عنه.(2/188)
ثم إنه استدعى يوسف «1» بن زيري الصنهاجيّ، وقال له: تأهب لخلافة المغرب، فأكبر ذلك، وقال: يا مولانا، أنت وآباؤك الأئمة من ولد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما صفا لكم المغرب، فكيف يصفو لي، وأنا صنهاجيّ بربري؟ قتلتني يا مولانا بغير سيف ولا رمح، فما زال به المعز حتى أجاب بشريطة أنّ المعز يولي القضاء والخراج لمن يراه ويختاره، ويجعل الحيز لمن يثق به، ويجعله قائما بين أيدي هؤلاء، فمن استعصى عليهم يأمره هؤلاء به حتى يعمل به ما يجب، ويكون الأمر لهم ويصير كالخادم بين أولئك، فأحب المعز ما قال وشكره، فلما انصرف قال أبو طالب بن القائم بأمر الله للمعز: يا مولانا، وتثق بهذا القول من يوسف، وإنه يقوم بوفاء ما ذكر، فقال المعز: يا عمنا كم بين قول يوسف، وقول جعفر، فاعلم يا عمّ أن الأمر الذي طلبه جعفر ابتداء، هو آخر ما يصير إليه أمر يوسف، وإذا تطاولت المدّة سينفرد بالأمر، ولكن هذا أوّلا أحسن، وأجود عند ذوي العقل، وهو نهاية ما يفعله، وكانت أم الأمراء قد وجهت من المغرب صبية لتباع بمصر، فعرضها وكيلها في مصر للبيع، وطلب فيها ألف دينار، فحضر إليه في بعض الأيام امرأة شابة على حمار لتقلب الصبية، فساومته ففيها، وابتاعتها منه بستمائة دينار، فإذا هي ابنة الإخشيد محمد بن طفج، وقد بلغها خبر هذه الصبية.
فلما رأتها شغفتها حبا، فاشترتها لتستمتع بها، فعاد الوكيل إلى المغرب، وحدّث المعز بذلك، فأحضر الشيوخ، وأمر الوكيل فقص عليهم خبر ابنة الإخشيد مع الصبية إلى آخره، فقال المعز: يا إخواننا انهضوا إلى مصر، فلن يحول بينكم وبينها شيء، فإنّ القوم قد بلغ بهم الترف إلى أن صارت امرأة من بنات الملوك فيهم تخرج بنفسها، وتشتري جارية لتتمتع بها، وما هذا إلّا من ضعف نفوس رجالهم، وذهاب غيرتهم، فانهضوا لمسيرنا إليهم، فقالوا: السمع والطاعة، فقال: خذوا في حوائجكم، فنحن نقدّم الاختيار لمسيرنا إن شاء الله تعالى. وكان قيصر، ومظفر الصقلبيان قد بلغا رتبة عظيمة عند المنصور والد المعز، وكان المظفر يدل على المعز من أجل أنه علمه الخط في صغره، فحرد عليه مرّة، وولى فسمعه المعز يتكلم بكلمة صقلبية استراب منها، ولقنها منه، وأنفت نفسه من السؤال عن معناها، فأخذ يحفظ اللغات، فابتدأ بتعلم اللغة البربرية، حتى أحكمها، ثم تعلم الرومية والسودانية حتى أتقنهما، ثم أخذ يتعلم الصقلبية، فمرّت به تلك الكلمة، فإذا هي سب قبيح، فأمر بمظفر، فقتل من أجل تلك الكلمة، وبلغه أمر الحرب التي كانت بين بني حسن، وبني جعفر بالحجاز، حتى قتل من بني حسن أكثر ممن قتل من بني جعفر، فأنفذ مالا ورجالا في السرّ ما زالوا بالطائفتين حتى اصطلحتا، وتحمل الرجال عن كل منهما(2/189)
الحمالات، فجاء الفاضل في القتلى لبني حسن عند بني جعفر نحو سبعين قتيلا، فأدّوا عنهم وعقدوا بينهم الصلح في الحرم تجاه الكعبة، وتحملوا عنهم الديات من مال المعز، وكان ذلك في سنة ثمان وأربعين وثلثمائة، فصارت هذه الفعلة يدا عند بني حسن للمعز، فلما ملك جوهر مصر: بادر حسن بن جعفر الحسنيّ بالدعاء للمعز في مكة، وبعث إلى جوهر بالخبر، فسير إلى المعز يعرّفه بإقامة الدعوة له بمكة، فأنفذ إليه بتقليده الحرم وأعماله.
وسار المعز بعساكره من المغرب حتى نزل بالجيزة فعقد له جوهر جسرا جديدا عند المختار بالجزيرة، فسار عليه، وقد زينت له مدينة الفسطاط، فلم يشقها ودخل إلى القاهرة بجميع أولاده وإخوته وسائر أولاد عبيد الله المهديّ، وبتوابيت آبائه، وذلك لسبع خلون من رمضان سنة اثنتين وستين وثلثمائة، فعندما دخل القصر صلى ركعتين، فاقتدى به من حضر، وبات به ثم أصبح فجلس للهناء، وأمر فكتب في سائر مدينة مصر: خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، وأثبت اسم المعز لدين الله، واسم أبيه عبد الله الأمير، وجلس في القصر على السرير الذهب، وصلى بالناس صلاة عيد الفطر في المصلى، فسبح في كل ركعة، وفي كل سجدة ثلاثين تسبيحة، ثم خطب بعد الصلاة، وركب لفتح خليج مصر يوم الوفاء، وعمل عيد غدير خم، ومات بعض بني عمه، فصلى عليه، وكبر سبعا، وكبر على ميت آخر خمسا، وقدمت القرامطة إلى مصر، فسير إليهم الجلوس وهزموهم، وما زال إلى أن توفي من علة اعتلها بعد دخوله إلى القاهرة بسنتين وسبعة أشهر وعشرة أيام، وعمره خمس وأربعون سنة وستة أشهر تقريبا، فإنّ مولده بالمهدية في حادي عشر شهر رمضان سنة تسع عشرة وثلثمائة، ووفاته بالقاهرة لأربع عشرة خلت من ربيع الآخر سنة خمس وستين وثلثمائة، وكانت مدّة خلافته بالمغرب، وديار مصر، ثلاثا وعشرون سنة وعشرة أيام، وهو أوّل الخلفاء الفاطميين بمصر، وإليه تنسب القاهرة المعزية لأنّ عبده جوهر القائد بناها حسب ما رسم له كما ذكر في خبر بنائها.
وكان المعز عالما فاضلا جوادا حسن السيرة منصفا للرعية مغرما بالنجوم أقيمت له الدعوة بالمغرب كله وديار مصر والشام، والحرمين، وبعض أعمال العراق.
وقام من بعده ابنه: العزيز بالله أبو منصور نزار، فأقام في الخلافة إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفا، ومات وعمره اثنتان وأربعون سنة وثمانية أشهر وأربعة عشر يوما في الثامن والعشرين من رجب سنة ست وثمانين وثلثمائة بمدينة بلبيس، وحمل إلى القاهرة.
وقام من بعده ابنه: الحاكم بأمر الله أبو عليّ منصور، وكانت مدّة خلافته إلى أن فقد خمسا وعشرين سنة وشهرا، وفقد وعمره ست وثلاثون سنة وسبعة أشهر في ليلة السابع والعشرين من شوّال سنة إحدى عشرة وأربعمائة، وقد بسطت خبر العزيز والحاكم عند ذكر الجوامع من هذا الكتاب.(2/190)
وقام من بعده ابنه: الظاهر لإعزاز دين الله أبو الحسين عليّ بن الحاكم، بأمر الله، ولد بالقاهرة يوم الأربعاء، لعشر خلون من رمضان سنة خمس وتسعين وثلثمائة، وبويع له بالخلافة يوم عيد النحر، سنة إحدى عشرة وأربعمائة، وعمره ست عشرة سنة، فخرج إلى صلاة العيد، وعلى رأسه المظلة، وحوله العساكر، وصلى بالناس في المصلى، وعاد فكتب بخلافته إلى الأعمال، وشرب الخمر ورخص فيه للناس، وفي سماع الغناء، وشرب الفقاع، وأكل الملوخيا وجميع الأسماك، فأقبل الناس على اللهو، ووزر له الخطير رئيس الرؤساء أبو الحسن عمار «1» بن محمد، وكان يلي ديوان الإنشاء وغيره، واستوزره بعده بدر الدولة أبا الفتوح موسى بن الحسين، وكان يتولى الشرطة، ثم ولي ديوان الإنشاء بعد ابن حيران، وصرف عن الوزارة في المحرّم سنة ثلاث عشرة، وقبض عليه في شوّال، وقتل فوجد له من العين ستمائة ألف دينار وعشرون ألف دينار، وولي بعده الأزارة الأمير شمس الملوك المكين مسعود بن طاهر.
وفي سنة أربع عشرة قلد منتخب الدولة الدريزي متولي قيساورية ولاية فلسطين، فكانت له مع حسان بن مفرح بن جراح الطائيّ حروب، وفيها نزع السعر بمصر، وتعذر وجود الخبز، وفي المحرّم سنة خمس عشرة لقب الخادم الأسود معضاد «2» ، بالقائد عز الدولة وسنائها أبي الفوارس معضاد الظاهر، وخلع عليه، وثار رجل من بني الحسين ببلاد الصعيد، فقبض عليه، وأقرّ أنه قتل الحاكم بأمر الله، ووجد معه قطعة من جلد رأسه، وقطعة من الفوطة التي كانت عليه، فسئل عن سبب قتله إياه؟ فقال: غرت لله وللإسلام، ثم قتل نفسه بسكين كانت معه، فقطعت رأسه، وسيرت إلى القاهرة، وفيها اشتدّ الغلاء بمصر، وكثر نقص النيل.
وفيها قرّر الشريف الكبير العجميّ، والشيخ نجيب الدولة الجرجراي «3» ، والشيخ العميد محسن بن بدوس، مع القائد معضاد أن لا يدخل على الظاهر أحد غيرهم، وكانوا يدخلون كل يوم خلوة ويخرجون، فيتصرّفون في سائر أمور الدولة، والظاهر مشغول بلذاته، وصار شمس الملوك مظفر صاحب المظلمة، وابن حيران صاحب الإنشاء، وداعي(2/191)
الدعاة، ونقيب نقباء الطالبيين، وقاضي القضاة، ربما دخلوا على الظاهر في كل عشرين يوما مرّة، ومن عداهم لا يصل إلى الظاهر البتة، والثلاثة الأول هم الذين يقضون الأشغال، ويمضون الأمور بعد الاجتماع عند القائد معضاد، ومنع الناس من ذبح الأبقار لقلتها، وعزت الأقوات بمصر، وقلت البهائم كلها حتى بيع الرأس البقر بخمسين دينارا، وكثر الخوف في ظواهر البلد، وكثر اضطراب الناس، وتحدّث زعماء الدولة بمصادرة التجار، فاختلف بعضهم على بعض، وكثر ضجيج طوائف العسكر من الفقر والحاجة، فلم يجابوا وتحاسد زعماء الدولة، فقبض على العميد محسن، وضرب عنقه واشتدّ الغلاء، وفشت الأمراض، وكثر الموت في الناس، وفقد الحيوان، فلم يقدر على دجاجة، ولا فروج وعز الماء لقلة الظهر، فعمّ البلاء من كل جهة، وعرض الناس أمتعتهم للبيع، فلم يوجد من يشتريها، وخرج الحاج فقطع عليهم الطريق بعد رحيلهم من بركة الجب، وأخذت أموالهم، وقتل منهم كثير وعاد من بقي، فلم يحج أحد من أهل مصر، وتفاقم الأمر في شدّة الغلاء، فصاح الناس بالظاهر: الجوع الجوع يا أمير المؤمنين؟ لم يصنع بنا هذا أبوك ولا جدّك، فالله الله في أمرنا، وطرقت عساكر ابن جراح الفرما، ففرّ أهلها إلى القاهرة، وأصبح الناس بمصر على أقبح حال من الأمراض والموتان، وشدّة الغلاء، وعدم الأقوات، وكثر الخوف من الذعار التي تكبس حتى أنه لما عمل سماط عيد النحر بالقصر كبس العبيد على السماط، وهم يصيحون: الجوع، ونهبوا سائر ما كان عليه، ونهبت الأرياف وكثر طمع العبيد ونهبهم، وجرت أمور من العامّة قبيحة، واحتاج الظاهر إلى القرض، فحمل بعض أهل الدولة إليه مالا، وامتنع آخرون، واجتمع نحو الألف عبد لتنهب البلد من الجوع، فنودي بأن من تعرّض له أحد من العبيد، فليقتله وندب جماعة لحفظ البلد، واستعدّ الناس، فكانت نهبات بالساحل، ووقائع مع العبيد احتاج الناس فيها إلى أن خندقوا عليهم خنادق، وعملوا الدروب على الأزقّة والشوارع، وخرج معضاد في عسكر، فطردهم وقبض على جماعة منهم ضرب أعناقهم، وأخذ العبيد في طلب الحرحراي وغيره من وجوه الدولة، فحرسوا أنفسهم، وامتنعوا في دورهم وانقضت السنة، والناس في أنواع من البلاء.
وفي سنة ست عشرة أمر الظاهر، فأخرج من بمصر من الفقهاء المالكية وغيرهم، وأمر الدعاة أن يحفظوا الناس كتاب دعائم الإسلام، ومختصر الوزير، وجعل لمن حفظ ذلك مالا.
وفي سنة سبع عشرة ثار بمصر رعاف عظيم بالناس، وكثرت زيادة النيل عن العادة، وتصدّق الظاهر بمائة ألف دينار من أجل أنه سقط عن فرسه وسلم.
وفي سنة ثمان عشرة وقعت الهدنة مع صاحب الروم، وخطب للظاهر في بلاده، وأعاد الجامع بقسطنطينية، وعمل فيه مؤذنا، فأعاد الظاهر كنيسة قمامة بالقدس، وأذن لمن(2/192)
أظهر الإسلام في أيام الحاكم أن يعود إلى النصرانية، فرجع إليها كثير منهم، وصرف الظاهر وزيره عميد الدولة، وناصحها أبا محمد الحسن بن صالح الروذبادي، وأقام بدله أبا القاسم عليّ بن أحمد الحرحراي.
وفي سنة عشرين كانت فتنة بين المغاربة والأتراك قتل فيها كثير.
وفي سنة إحدى وعشرين بويع لابن الظاهر بولاية العهد، وعمره ثمانية أشهر، وأنفق على ذلك في خلع لأهل الدولة، وطعام ونثار للعامة ما يجل وصفه.
وفي سنة اثنتين وعشرين تحرّك السعر لنقص ماء النيل، ثم زاد بعد أوانه بأربعة أشهر.
وفي سنة ثلاث وعشرين قتل الظاهر أحد الدعاة، فاضطربت الرعية والجند، وتحدّث الناس بخلعه، ثم سكنت الفتنة بعد إنفاق مال جزيل.
وفي سنة أربع وعشرين ركب وليّ العهد من القاهرة إلى مصر، وقد زينت الطرقات، فكان إذا مرّ بقوم قبلوا له الأرض، ونثر يومئذ على العامّة مبلغ خمسة آلاف دينار، فكان يوما عظيما.
وفي سنة خمس وعشرين بث الظاهر دعاته ببغداد عند اختلاف الأتراك بها، فكثرت دعاته هناك، واستجاب لهم خلق كثير، فلما كان في سنة ست وعشرين كثر الوباء بمصر، ومات الظاهر للنصف من شعبان سنة سبع وعشرين وأربعمائة عن اثنتين وثلاثين سنة إلّا أياما، فكانت مدّة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأياما، وكان مشغوفا باللهو محبا للغناء، فتأنق الناس في أيامه بمصر، واتخذوا المغنيات والرقاصات، وبلغوا من ذلك مبلغا عظيما، واتخذ حجرا لمماليكه وعلمهم أنواع العلوم، وسائر فنون الحرب، واتخذ خزانة البنود، وأقام فيها ثلاثة آلاف صانع، وراسل الملوك واستكثر من شراء الجواهر، وكانت مملكته بإفريقية ومصر والشام والحجاز، وغلب صالح «1» بن مرداس على حلب في أيامه، واستولى على ما يليها، وتغلّب حسان بن جرّاح على أكثر بلاد الشام، فتضعضعت الدولة.
وقام من بعده ابنه وليّ العهد، وبويع له وهو: المستنصر بالله أبو تميم معدّ، ومولده في السادس عشر من جمادى الآخرة سنة عشرين وأربعمائة، وبويع بالخلافة للنصف من شعبان سنة سبع وعشرين، وعمره يومئذ سبع سنين، فأقام ستين سنة وأشهرا في الخلافة كانت فيها أنباء، وقصص شنيعة بديار مصر منها: أنّ أمّه كانت أمة سوداء لتاجر يهوديّ يقال له:
أبو سعد سهل بن هارون التستريّ، فابتاعها منه الظاهر، واستولدها المستنصر، فلما أفضت الخلافة إليه استدنت أمّه أبا سعد، ورقته درجة عليّة، وكان الوزير يومئذ أبا القاسم(2/193)
الحرحراي، فلم يتمكن أبو سعد من إظهار ما في نفسه حتى مات الحرحراي، وتولى أبو منصور صدقة بن يوسف العلاجيّ الوزارة، فانبسطت يد أبي سعد، وصار العلاجيّ يأتمر بأمر، فعمل عليه وقتله كما ذكر في خبر خزانة البنود، فحقدت أم المستنصر على العلاجيّ، وصرفته عن الوزارة واستقر أبو البركات صفيّ الدين الحسين بن محمد بن أحمد الحرحراي في الوزارة.
وفي سنة أربعين سار ناصر الدولة الحسين بن حمدان متولي دمشق بالعساكر إلى حلب، وحارب متوليها: ثمال بن صالح بن مرداس، ثم رجع بغير طائل، فقلد مظفر الصقلبيّ دمشق، وقبض على ابن حمدان، وصادره واعتقله بصور، ثم بالرملة، وخرج أمير الأمراء: رفق الخادم على عسكر تبلغ عدّته نحو الثلاثين ألفا بلغت النفقة عليه أربعمائة ألف دينار يريد الشام، ومحاربة بني مرداس.
وفي المحرّم سنة إحدى وأربعين صرف قاضي القضاة قاسم بن عبد العزيز بن النعمان عن القضاء بعدما باشره ثلاث عشرة سنة وشهر أو أربعة أيام، وتقلد وظيفة القضاء بعده القاضي الأجل خطير الملك أبو محمد البازوريّ.
وفيها حارب رفق بني مرداس، فظفروا به وأسروه، فمات بقلعة حلب، فأفرج عن ابن حمدان، وبقي بالحضرة، وقبض على الوزير أبي البركات الحرحراي، ونفي إلى الشام، وعمل أبو المفضل صاعد بن مسعود واسطة لا وزيرا، ثم قلد القضاة أبو محمد البازوريّ الوزارة مع وظيفة القضاء، ولقب بسيد الوزراء.
وفي سنة اثنتين وأربعين كانت حروب البحيرة، وإخراج بني قرّة منها، وإنزال بني سنيس بعدهم بها، وفيها دعا عليّ بن محمد الصليحيّ باليمن للمستنصر، وبعث إليه بمال النجوة والهدن.
وفي سنة أربع وأربعين كتب ببغداد محاضر بالقدح في نسب الخلفاء المصريين، ونفيهم من الانتساب إلى عليّ بن أبي طالب، وسيرت إلى الآفاق وقصر مدّ النيل، فتحرّك السعر بمصر، ثم قصر أيضا مدّ النيل في سنة ست وأربعين، فقوي الغلاء، وكثر الموت في الناس.
وفي سنة ثمان وأربعين خرج أبو الحارث «1» البساسيري من بغداد منتميا للمستنصر،(2/194)
فسيرت إليه الأموال والخلع.
وفي سنة ثمان وأربعين عادت حلب إلى مملكة المستنصر.
وفي سنة خمسين قبض على الوزير الناصر للدين أبي محمد البازوريّ، وتقلد بعده الوزارة أبو الفرج محمد بن جعفر المغربي بن عبد الله بن محمد، وولي القضاء بعد البازوريّ أبو عليّ أحمد بن عبد الحكم، ثم صرف بعبد الحاكم المليحيّ، وفيها أخذ البساسيري بغداد، وأقام فيها الخطبة للمستنصر، وفرّ الخليفة القائم بأمر الله العباسيّ إلى قريش «1» بن بدران، فبعث به إلى غانة، وسيرت ثياب القائم، وعمامته وغير ذلك من الأموال إلى مصر، وفيها سار ناصر الدولة إلى دمشق أميرا عليها.
وفي سنة إحدى وخمسين أقيمت دعوة المستنصر بالبصرة وواسط وجميع تلك الأعمال، فقدم طغريل إلى بغداد، وأعاد الخليفة القائم بعد ما خطب للمستنصر ببغداد أربعون خطبة، وقتل البساسيريّ، وفيها قطعت خطبة المستنصر أيضا من حلب، فسار إليها ابن حمدان، وحارب أهلها، فانكسر كسرة شديدة شنيعة، وعاد إلى دمشق، وفيها صرف أبو الفرج بن المغربيّ عن الوزارة، وعبد الحاكم عن القضاء، وأعيد إلى الوزارة أبو الفرج البابليّ، واستقرّ في وظيفة القضاء أحمد بن أبي زكري.
وفي سنة ثلاث وخمسين كثر صرف الوزراء والقضاة، وولايتهم لكثرة مخالطة الرعاع للخليفة، وتقدّم الأراذل بحيث كان يصل إليه في كل يوم ثمانمائة رقعة فيها المرافعات والسعايات، فاشتبهت عليه الأمور، وتناقضت الأحوال، ووقع الاختلاف بين عبيد الدولة، وضعفت قوى الوزراء عن التدبير لقصر مدّة كل منهم، وخربت الأعمال، وقلّ ارتفاعها، وتغلب الرجال على معظمها مع كثرة النفقات والاستخفاف بالأمور، وطغيان الأكابر إلى أن آل الأمر إلى حدوث الشدّة العظمى، كما قد ذكر في موضعه من هذا الكتاب، وكان من قدوم أمير الجيوش بدر الجماليّ «2» في سنة ست وستين وأربعمائة، وقيامه بسلطنة مصر ما ذكر في ترجمته عند ذكر أبواب القاهرة، فلم يزل المستنصر مدّة أمير الجيوش ملجما عن التصرّف إلى أن مات في سنة سبع وثمانين، فأقام العسكر من بعده في الوزارة ابنه الأفضل شاهنشاه، فباشر الأمور يسيرا، ومات المستنصر ليلة الخميس لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة سبع وثمانين عن سبع، وستين سنة وخمسة أشهر منها في الخلافة ستون سنة، وأربعة(2/195)
أشهر وثلاثة أيام مرّت فيها أهوال عظيمة، وشدائد آلت به إلى أن جلس على نخ، وفقد القوت فلم يقدر عليه حتى كانت امرأة من الأشراف تتصدّق عليه في كل يوم بقعب فيه فتيت، فلا يأكل سواه مرّة في كل يوم، وقد مرّ في غير موضع من هذا الكتاب كثير من أخباره، فلما مات المستنصر أقام الأفضل بن أمير الجيوش في الخلافة من بعده ابنه:
المستعلي بالله أبا القاسم أحمد، وكان مولده في العشرين من المحرّم سنة سبع وستين وأربعمائة، فحالف عليه أخوه نزار، وفرّ إلى الإسكندرية وكان القائم بالأمور كلها الأفضل، فحاربه حتى ظفر به، وقتله كما تقدّم في خبر أفتكين عند خزائن القصر.
وفي سنة تسعين وقع بمصر غلاء ووباء وقطعت الخطبة من دمشق للمستعلي، وخطب بها للعباسيّ، وخرج الفرنج من قسطنطينية لأخذ سواحل الشام، وغيرها من أيدي المسلمين فملكوا أنطاكية.
وفي سنة إحدى وتسعين خرج الأفضل بعسكر عظيم من القاهرة، فأخذ بيت المقدس من الأرمن، وعاد إلى القاهرة.
وفي سنة اثنتين وتسعين ملك الفرنج الرملة وبيت المقدس، فخرج الأفضل بالعساكر، وسار إلى عسقلان، فسار إليه الفرنج وقاتلوه، وقتلوا كثيرا من أصحابه، وغنموا منه شيئا كثيرا وحصروه، فنجا بنفسه في البحر، وصار إلى القاهرة.
وفي سنة ثلاث وتسعين عمّ الوباء أكثر البلاد، فهلك بمصر عالم عظيم.
وفي سنة أربع وتسعين خرج عسكر مصر لقتال الفرنج، وكانت بينهما حروب كثيرة.
وفي سنة خمس وتسعين وأربعمائة مات المستعلي بالله لثلاث عشرة بقيت من صفر، وعمره سبع وعشرون سنة وسبعة وعشرون يوما، ومدّة خلافته سبع سنين وشهران، وفي أيامه اختلت الدولة، وانقطعت الدعوة من أكثر مدن الشام، فإنها صارت بين الأتراك والفرنج، وصارت الإسماعيلية فرقتين: فرقة نزارية تطعن في إمامة المستعلي، وفرقة ترى صحة خلافته، ولم يكن للمستعلي مع الأفضل أمر ولا نهي، ولا نفوذ كلمة، وقيل: إنه سمّ، وقيل: بل قتل سرّا.
فلما مات أقام الأفضل من بعده في الخلافة ابنه: الآمر بأحكام الله أبا عليّ منصورا، وعمره خمس سنين وشهر وأيام، فقتل الأفضل في أيامه، وأقام في الخلافة تسعا وعشرين سنة وثمانية أشهر ونصفا، وقد ذكرت ترجمته عند ذكر الجامع الأقمر في ذكر الجوامع من هذا الكتاب، ولما قتل الآمر بأحكام الله.
أقيم من بعده: الحافظ لدين الله أبو الميمون عبد المجيد ابن الأمير أبي القاسم محمد بن المستنصر بالله، وكان قد ولد بعسقلان في المحرّم سنة سبع، وقيل: في سنة ثمان(2/196)
وتسعين وأربعمائة لما أخرج المستنصر ابنه أبا القاسم مع بقية أولاده في أيام الشدّة، فلذلك كان يقال له في أيام الآمر بأحكام الله الأمير عبد المجيد العسقلانيّ ابن عمّ مولانا.
ولما قتل النزارية: الخليفة الآمر أقام برغش وهزار الملوك الأمير عبد المجيد في دست الخلافة، ولقباه بالحافظ لدين الله، وأنه يكون كفيلا لمنتظر في بطن أمّه من أولاد الآمر، واستقرّ هزاز الملوك وزيرا، فثار العسكر، وأقاموا أبا عليّ بن الأفضل وزيرا، وقتل هزار الملوك، ونهب شارع القاهرة، وذلك كله في يوم واحد، فاستبدّ أبو عليّ بالوزارة يوم السادس عشر من ذي القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة، وقبض على الحافظ، وسجنه مقيدا، فاستمرّ إلى أن قتل أبو عليّ في سادس عشر المحرّم سنة ست وعشرين، فأخرج من معتقله، وأخذ له العهد على أنه وليّ عهد كفيل لمن يذكر اسمه، فاتخذ الحافظ هذا اليوم عيدا سماه عيد النصر، وصار يعمل كل سنة، ونهبت القاهرة يومئذ وقام يانس صاحب الباب بالوزارة إلى أن هلك في ذي الحجة منها بعد تسعة أشهر، فلم يستوزر الحافظ بعده أحدا، وتولى الأمور بنفسه إلى سنة ثمان وعشرين، فأقام ابنه سليمان وليّ عهده مقام وزير، فلم تطل أيامه سوى شهرين ومات، فجعل مكانه ابن حيدرة، فخنق ابنه حسن، وثار بالفتنة، وكان من أمره ما ذكر في خبر الحارة اليانسية من هذا الكتاب، فلما قتل حسن قام بهرام الأرمنيّ، وأخذ الوزارة في جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين، وكان نصرانيا، فاشتدّ ضرر المسلمين من النصارى، وكثرت أذيتهم فسار رضوان بن ولخشي، وهو يومئذ متولي الغربية، وجمع الناس لحرب بهرام، وسار إلى القاهرة، فانهزم بهرام، ودخل رضوان القاهرة، واستولى على الوزارة في جمادى الأولى سنة إحدى وثلاثين، فأوقع بالنصارى وأذلهم، فشكره الناس إلا أنه كان خفيفا عجولا، فأخذ في إهانة حواشي الخليفة، وهمّ بخلع، وقال: ما هو بإمام، وإنما هو كفيل لغيره، وذلك الغير لم يصح، فتوحش الحافظ منه، وما زال يدبر عليه حتى ثارت فتنة انهزم فيها رضوان، وخرج إلى الشام، فجمع وعاد في سنة أربع وثلاثين، فجهز له الحافظ العساكر لمحاربته، فقاتلهم وانهزم منهم إلى الصعيد فقبض عليه، واعتقل، فلم يستوزر الحافظ أحدا بعده إلى أن كانت سنة ست وثلاثين، فغلت الأسعار بمصر وكثر الوباء، وامتدّ إلى سنة سبع وثلاثين، فعظم الوباء.
وفي سنة اثنتين وأربعين خلص رضوان من معتقله بالقصر، وخرج من نقب، وثار بجماعة، وكانت فتنة آلت إلى قتله.
وفي سنة أربع وأربعين ثارت فتنة بالقاهرة بين طوائف العسكر، فمات الحافظ ليلة الخامس من جمادى الآخرة عن سبع وسبعين سنة منها مدّة خلافته ثمان عشرة سنة وأربعة أشهر وتسعة يوما، أصابته فيها شدائد كثيرة، وكان حازما سيوسا كثير المداراة عارفا جماعا للمال مغرى بعلم النجوم يغلب عليه الحلم.(2/197)
فلما مات والفتنة قائمة أقيم ابنه: الظاهر بأمر الله أبو منصور إسماعيل، ومولده للنصف من ربيع الآخر سنة سبع وعشرين وخمسمائة، فأقام في الخلافة أربع سنين وثمانية أشهر إلا خمسة أيام، وكان محكوما عليه من الوزارة، وفي أيامه أخذت عسقلان، فظهر الخلل في الدولة، وقد ذكرت أخباره في خط الخشيبة عند ذكر الخطط من هذا الكتاب.
فلما قتل أقيم من بعده ابنه: الفائز بنصر الله أبو القاسم عيسى، أقامه في الخلافة بعد مقتل أبيه الوزير عباس، وعمره خمس سنين، فقدم طلائع بن رزيك «1» والي الأشمونين بجموعه إلى القاهرة، ففرّ عباس، واستولى طلائع على الوزارة، وتلقب بالصالح، وقام بأمر الدولة إلى أن مات الفائز لثلاث عشرة بقيت من رجب سنة خمس وخمسين عن إحدى عشرة سنة، وستة أشهر ويومين منها في الخلافة ست وستين وخمسة أشهر وأيام، لم ير فيها خيرا فإنه لما أخرج ليقام خليفة رأى أعمامه قتلى، وسمع الصراخ، فاختلّ عقله، وصار يصرخ حتى مات.
فأقام الصالح بن رزيك في الخلافة بعده: العاضد لدين الله أبا محمد عبد الله بن الأمير يوسف بن الحافظ لدين الله، ومولده لعشر بقين من المحرّم سنة ست وأربعين وخمسمائة، وكان عمره يوم بويع نحو إحدى عشرة سنة، وقام الصالح بتدبير الأمور إلى أن قتل في رمضان سنة ست وخمسين كما ذكر في خبره عند ذكر الجوامع، فقام من بعده ابنه رزيك بن طلائع، وحسنت سيرته، فعزل شاور بن مجير السعديّ عن ولاية قوص، فلم يقبل العزل، وحشد وسار على طريق الواحات في البرية إلى تروجة، فجمع الناس، وسار إلى القاهرة، فلم يثبت رزيك، وفرّ فقبض عليه بإطفيح، واستقرّ شاور في الوزارة لأيام خلت من صفر سنة ثمان وخمسين، فأقام إلى أن ثار ضرغام صاحب الباب، ففرّ منه إلى الشام، واستبدّ ضرغام بالوزارة، فقتل أمراء الدولة، وأضعفها بسبب ذهاب أكابرها، فقدم الفرنج، ونازلوا مدينة بلبيس مدّة، ودافعهم المسلمون عدّة مرار، حتى عادوا إلى بلادهم بالساحل، ورجع العسكر إلى القاهرة، وقد قتل منهم كثير، فوصل شاور بعساكر الشام في جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين، فحاربه ضرغام على بلبيس بعساكر مصر، وكانت لهم منه معارك انهزموا في آخرها، وغنم شاور ومن معه سائر ما خرجوا به، وكان شيئا جليلا، فسرّوا بذلك، وساروا إلى القاهرة فكانت بين الفريقين حروب آلت إلى هزيمة ضرغام، وقتله في شهر رمضان منها.
فاستولى شاور على الوزارة مرّة ثانية، واختلف مع الغزاة القادمين معه من الشام، وكانت له معهم حروب آلت إلى أن شاور كتب إلى مري ملك الفرنج يستدعيه إلى القاهرة(2/198)
ليعينه على محاربة شيركوه، ومن معه من الغز، فحضر، وقد صار شيركوه في مدينة بلبيس، فخرج شاور من القاهرة، ونزل هو ومري على بلبيس، وحصرا شيركوه ثلاثة أشهر، ثم وقع الصلح، فسار شيركوه بالغز إلى الشام، ورحل الفرنج، وعاد شاور إلى القاهرة في سنة ستين وخمسمائة، فلم يزل إلى أن قدم شيركوه من الشام بالعساكر مرّة ثانية في ربيع الآخر، فخرج شاور من القاهرة إلى لقائه، واستدعى مري ملك الفرنج، فسار شيركوه على الشرق، وخرج من إطفيح، فسار إليه شاور بالفرنج، وكانت له معه الوقعة المشهورة، فسار شيركوه بعد الوقعة من الأشمونين، وأخذ الإسكندرية بعد أن استخلف عليها ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب، ولم يزل يسير من الإسكندرية إلى قوص، وهو يجبي البلاد، فخرج شاور من القاهرة بالفرنج، ونازل الإسكندرية، فبلغ شيركوه ذلك، فعاد من قوص إلى القاهرة، وحصرها.
ثم كانت أمور آخرها مسير شيركوه وأصحابه من أرض مصر إلى الشام في شوّال، وقد طمع الفرنج في البلاد وتسلموا أسوار القاهرة، وأقاموا فيها شحنة معه عدّة من الفرنج لمقاسمة المسلمين ما يتحصل من مال البلد، وفحش أمر شاور، وساءت سيرته، وكثر تجرّيه على الدماء، وإتلافه للأموال، فلما كان في سنة أربع وستين قوي تمكن الفرنج في القاهرة، وجاروا في حكمهم بها، وركبوا المسلمين بأنواع الإهانة.
فسار مري يريد أخذ القاهرة، ونزل على مدينة بلبيس، وأخذها عنوة، فكتب العاضد إلى نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام يستصرخه، ويحثه على نجدة الإسلام، وإنقاذ المسلمين من الفرنج، فجهز أسد الدين شيركوه في عسكر كثير، وجهزهم وسيرهم إلى مصر، وقد أحرق شاور مدينة مصر، كما تقدّم ونزل مري ملك الفرنج على القاهرة، وألحّ في قتال أهلها حتى كاد أن يأخذها عنوة، فسير إليها شاور وخادعه حتى رضي بمال يجمعه له، فشرع في جبايته، وإذا بالخبر ورد بقدوم شيركوه، فرحل الفرنج عن القاهرة في سابع ربيع الآخر، ونز شيركوه على القاهرة بالغز ثالث مرّة، فخلع عليه العاضد، وأكرمه، فأخذ شاور يفتك بالغز على عادته، فكان من قتله ما ذكر في موضعه، وذلك في سابع عشر ربيع الآخر المذكور، وتقلد شيركوه وزارة العاضد، وقام بالدولة شهرين وخمسة أيام، ومات في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة، ففوّض العاضد الوزارة لصلاح الدين يوسف بن أيوب، فساس الأمور، ودبر لنفسه، فبذل الأموال، وأضعف العاضد باستنفاد ما عنده من المال، فلم يزل أمره في ازدياد.
وأمر العاضد في نقصان، وصار يخطب من بعد العاضد للسلطان محمود نور الدين، وأقطع أصحابه البلاد، وأبعد أهل مصر، وأضعفهم، واستبدّ بالأمور، ومنع العاضد من التصرّف حتى تبين للناس ما يريده من إزالة الدولة إلى أن كان من واقعة العبيد ما ذكرنا،(2/199)
فأبادهم وأفناهم، ومن حينئذ تلاشى العاضد، وانحلّ أمره، ولم يبق له سوى إقامة ذكره في الخطبة فقط، هذا وصلاح الدين يوالي الطلب منه في كل يوم ليضعفه، فأتى على المال والخيل والرقيق وغير ذلك حتى لم يبق عند العاضد غير فرس واحد، فطلب منه، وألجأه إلى إرساله، وأبطل ركوبه من ذلك الوقت.
وصار لا يخرج من القصر البتة، وتتبع صلاح الدين جند العاضد، وأخذ دور الأمراء وإقطاعاتهم، فوهبها لأصحابه، وبعث إلى أبيه وإخوته وأهله، فقدموا من الشام عليه، فلما كان في سنة ست وستين أبطل المكوس من ديار مصر، وهدم دار المعونة بمصر، وعمرها مدرسة للشافعية، وأنشأ مدرسة أخرى للمالكية، وعزل قضاة مصر الشيعة، وقلد القضاء صدر الدين بن عبد الملك بن درباس الشافعيّ، وجعل إليه الحكم في إقليم مصر كله، فعزل سائر القضاة، واستتاب قضاة شافعية، فتظاهر الناس من تلك السنة بمذهب مالك والشافعيّ رضي الله عنهما، واختفى مذهب الشيعة إلى أن نسي من مصر، وأخذ في غزو الفرنج، فخرج إلى الرملة، وعاد في ربيع الأوّل، ثم سار إلى أيلة، ونازل قلعتها، حتى أخذها من الفرنج في ربيع الآخر، ثم سار إلى الإسكندرية، ولمّ شعث سورها، وعاد وسير توران شاه «1» ، فأوقع بأهل الصعيد، وأخذ منهم ما لا يمكن وصفه كثرة، وعاد فكثر القول من صلاح الدين، وأصحابه في ذم العاضد، وتحدّثوا بخلعه، وإقامة الدعوة العباسية بالقاهرة ومصر، ثم قبض على سائر من بقي من أمراء الدولة، وأنزل أصحابه في دورهم في ليلة واحدة، فأصبح في البلد من العويل والبكاء، ما يذهل، وتحكم أصحابه في البلد بأيديهم، وأخرج إقطاعات سائر المصريين لأصحابه، وقبض على بلاد العاضد، ومنع عنه سائر موادّه، وقبض على القصور، وسلمها إلى الطواشي بهاء الدين «2» قراقوش الأسديّ، وجعله زمامها، فضيق على أهل القصر، وصار العاضد معتقلا تحت يده، وأبطل من الأذان: حيّ على خير العمل، وأزال شعار الدولة، وخرج بالعزم على قطع خطبة العاضد، فمرض ومات، وعمره إحدى وعشرون سنة إلّا عشرة أيام منها في الخلافة إحدى عشرة سنة وستة أشهر وسبعة أيام، وذلك في ليلة يوم عاشوراء سنة سبع وستين وخمسمائة بعد قطع اسمه من الخطبة، والدعاء للمستنجد العباسيّ بثلاثة أيام، وكان كريما لين الجانب مرّت به مخاوف وشدائد، وهو آخر الخلفاء الفاطميين بمصر، وكانت مدّتهم بالمغرب ومصر منذ قام عبيد الله المهديّ إلى أن مات العاضد مائتي سنة واثنتين وسبعين سنة وأياما بالقاهرة، منها مائتان وثماني سنين، فسبحان الباقي.(2/200)
ذكر ما كان عليه موضع القاهرة قبل وضعها
إعلم أن
مدينة الإقليم منذ كان فتح مصر على يد عمرو بن العاص رضي الله عنه كانت مدينة الفسطاط المعروفة في زماننا بمدينة: مصر قبليّ القاهرة، وبها كان محل الأمراء، ومنزل ملكهم، وعاليها تجبى ثمرات الأقاليم، وتأوي الكافة، وكانت قد بلغت من وفور العمارة، وكثرة الناس وسعة الأرزاق والتفنن في أنواع الحضارة، والتأنق في النعيم ما أربت به على كل مدينة في المعمور حاشا بغداد، فإنها كانت سوق العالم، وقد زاحمتها مصر، وكادت أن تساميها إلّا قليلا، ثم لما انقضت الدولة الإخشيدية من مصر، واختلّ حال الإقليم بتوالي الغلوات، وتواتر الأوباء، والفنوات حدثت مدينة القاهرة عند قدوم جيوش المعز لدين الله أبي تميم معدّ أمير المؤمنين على يد عبده، وكاتبه القائد جوهر، فنزل حيث القاهرة الآن، وأناخ هناك، وكانت حينئذ رملة، فيما بين مصر وعين شمس يمرّ بها الناس عند مسيرهم من الفسطاط إلى عين شمس، وكانت فيما بين الخليج المعروف في أوّل الإسلام بخليج أمير المؤمنين، ثم قيل له خليج القاهرة، ثم هو الآن يعرف بالخليج الكبير، وبالخليج الحاكميّ، وبين الخليج المعروف باليحاميم، وهو الجبل الأحمر، وكان الخليج المذكور فاصلا بين الرملة المذكورة، وبين القرية التي يقال لها: أم دنين، ثم عرفت الآن بالمقس، وكان من يسافر من الفسطاط إلى بلاد الشام ينزل بطرف هذه الرملة في الموضع الذي كان يعرف بمنية الأصبغ، ثم عرف إلى يومنا بالخندق، وتمرّ العساكر والتجار، وغيرهم من منية الأصبغ إلى بني جعفر على غيفة وسلمنت إلى بلبيس، وبينها وبين مدينة الفسطاط أربعة وعشرون ميلا، ومن بلبيس إلى العلاقمة إلى الفرما، ولم يكن الدرب الذي يسلك في وقتنا من القاهرة إلى العريش في الرمل يعرف في القديم، وإنما عرف بعد خراب تنيس والفرما، وإزاحة الفرنج عن بلاد الساحل بعد تملكهم له مدّة من السنين، وكان من يسافر في البرّ من الفسطاط إلى الحجاز ينزل بجب عميرة المعروف اليوم ببركة الجب، وببركة الحاج، ولم يكن عند نزول جوهر بهذه الرملة فيها بنيان سوى أماكن هي بستان الإخشيد محمد بن ظفج المعروف اليوم بالكافوريّ من القاهرة، ودير للنصارى يعرف بدير:
العظام، تزعم النصارى أنّ فيه بعض من أدرك المسيح عليه السلام، وبقي الآن بئر هذا الدير، وتعرف ببئر العظام والعامة تقول بئر العظمة، وهي بجوار الجامع الأقمر من القاهرة، ومنها ينقل الماء إليه، وكان بهذه الرملة أيضا مكان ثالث يعرف بقصيّر الشوك بصيغة التصغير تنزله بنو عذرة في الجاهلية، وصار موضعه عند بناء القاهرة يعرف بقصر الشوك من جملة القصور الزاهرة، هذا الذي اطلعت عليه أنه كان في موضع القاهرة قبل بنائها بعد الفحص والتفتيش، وكان النيل حينئذ بشاطئ المقس يمرّ من موضع الساحل القديم بمصر الذي هو الآن سوق المعاريج، وحمام طن والمراغة، وبستان الجرف، وموردة الحلفاء، ومنشأة(2/201)
المهرانيّ على ساحل الحمراء، وهي موضع قناطر السباع، فيمرّ النيل بساحل الحمراء إلى المقس موضع جامع المقس الآن، وفيما بين الخليج، وبين ساحل النيل بساتين الفسطاط، فإذا صار النيل إلى المقس حيث الجامع الآن مرّ من هناك على طرف الأرض التي تعرف اليوم بأرض الطبالة من الموضع المعروف اليوم بالجرف، وصار إلى البعل، ومرّ على طرف منية الأصبغ من غربيّ الخليج إلى المنية، وكان فيما بين الخليج والجبل مما يلي بحريّ موضع القاهرة مسجد بني على رأس إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، ثم مسجد تبر الإخشيديّ، فعرف بمسجد تبر، والعامّة تقول: مسجد التبن، ولم يكن الممرّ من الفسطاط إلى عين شمس، وإلى الحوف الشرقيّ، وإلى البلاد الشامية إلّا بحافة الخليج، ولا يكاد يمرّ بالرملة التي في موضعها الآن مدينة القاهرة كثير جدا، ولذلك كان بها دير للنصارى إلّا أنه لما عمر الإخشيد البستان المعروف: بالكافوريّ، أنشأ بجانبه ميدانا، وكان كثيرا ما يقيم به، وكان كافور أيضا يقيم به، وكان فيما بين موضع القاهرة، ومدينة الفسطاط مما يلي الخليج المذكور: أرض تعرف في القديم منذ فتح مصر بالحمراء القصوى، وهي موضع قناطر السباع، وجبل يشكر حيث الجامع الطولونيّ، وما دار به، وفي هذه الحمراء عدّة كنائس، وديارات للنصارى خربت شيئا بعد شيء إلى أن خرب آخرها في أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون، وجميع ما بين القاهرة ومصر مما هو موجود الآن من العمائر، فإنه حادث بعد بناء القاهرة، ولم يكن هناك قبل بنائها شيء البتة، سوى كنائس الحمراء، وسيأتي بيان ذلك مفصلا في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
ذكر حدّ القاهرة
قال ابن عبد الظاهر في كتاب الروضة البهية الزاهرة في خطط المعزية القاهرة الذي استقرّ عليه الحال أنّ حدّ القاهرة من مصر من السبع سقايات، وكان قبل ذلك من المجنونة إلى مشهد السيدة رقية عرضا، اهـ. والآن تطلق القاهرة على ما حازه السور الحجر الذي طوله من باب زويلة الكبير إلى باب الفتوح وباب النصر، وعرضه من باب سعادة، وباب الخوخة إلى باب البرقية والباب المحروق، ثم لما توسع الناس في العمارة بظاهر القاهرة، وبنوا خارج باب زويلة حتى اتصلت العمائر بمدينة فسطاط مصر، وبنوا خارج باب الفتوح، وباب النصر إلى أن انتهت العمائر إلى الريدانية، وبنوا خارج باب القنطرة إلى حيث الموضع الذي يقال له بولاق حيث شاطىء النيل، وامتدّوا بالعمارة من بولاق على الشاطئ إلى أن اتصلت بمنشأة المهرانيّ، وبنوا خارج باب البرقية، والباب المحروق إلى سفح الجبل بطول السور، فصار حينئذ العامر بالسكنى على قسمين: أحدهما يقال له: القاهرة، والآخر يقال له: مصر. فأما مصر: فإنّ حدّها على ما وقع عليه الاصطلاح في زمننا هذا الذي نحن فيه من حدّ أوّل قناطر السباع إلى طرف بركة الحبش القبليّ، مما يلي بساتين الوزير، وهذا هو(2/202)
طول حدّ مصر، وحدّها في العرض من شاطىء النيل الذي يعرف قديما بالساحل الجديد حيث فم الخليج الكبير، وقنطرة السدّ إلى أوّل القرافة الكبرى.
وأما حدّ القاهرة، فإنّ طولها من قناطر السباع إلى الريدانية، وعرضه من شاطىء النيل ببولاق إلى الجبل الأحمر، ويطلق على ذلك كله مصر والقاهرة، وفي الحقيقة قاهرة المعز التي أنشأها القائد جوهر عند قدومه من حضرة مولاه المعز لدين الله أبي تميم معدّ إلى مصر في شعبان سنة ثمان وخمسين وثلثمائة إنما هي ما دار عليه السور فقط غير أن السور المذكور الذي أداره القائد جوهر تغير، وعمل منذ بنيت إلى زمننا هذا ثلاث مرّات، ثم حدثت العمائر فيما وراء السور من القاهرة، فصار يقال لداخل السور: القاهرة، ولما خرج عن السور ظاهر القاهرة، وظاهر القاهرة أربع جهات: الجهة القبلية، وفيها الآن معظم العمارة، وحدّ هذه الجهة طولا من عتبة باب زويلة إلى الجامع الطولونيّ، وما بعد الجامع الطولونيّ، فإنه من حدّ مصر، وحدّها عرضا من الجامع الطيبرسيّ بشاطئ النيل غربيّ المريس إلى قلعة الجبل، وفي الاصطلاح الآن أن القلعة من حكم مصر، والجهة البحرية، وكانت قبل السبعمائة من سني الهجرة، وبعدها إلى قبيل الوباء الكبير فيها أكثر العمائر والمساكن، ثم تلاشت من بعد ذلك، وطول هذه الجهة من باب الفتوح، وباب النصر إلى الريدانية، وعرضها من منية الأمراء المعروفة في زمننا الذي نحن فيه بمنية الشيرج «1» إلى الجبل الأحمر، ويدخل في هذا الحدّ مسجد تبر والريدانية، والجهة الشرقية فإنها حيث ترب أهل القاهرة، ولم تحدث بها العمر من التربة إلا بعد سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، وحدّ هذه الجهة طولا من باب القلعة المعروف بباب السلسلة إلى ما يحاذي مسجد تبر في سفح الجبل، وحدّها عرضا فيما بين سور القاهرة، والجبل والجهة الغربية، فأكثر العمائر بها لم يحدث أيضا إلّا بعد سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، وإنما كانت بساتين وبحرا، وحدّ هذه الجهة طولا من منية الشيرج إلى منشأة المهرانيّ بحافة بحر النيل، وحدّها عرضا من باب القنطرة، وباب الخوخة وباب سعادة إلى ساحل النيل، وهذه الأربع جهات من خارج السور يطلق عليها: ظاهر القاهرة.
وتحوي مصر والقاهرة من الجوامع، والمساجد، والربط والمدارس، والزوايا، والدور العظيمة، والمساكن الجليلة، والمناظر البهجة، والقصور الشامخة، والبساتين النضرة، والحمامات الفاخرة، والقياسر المعمورة بأصناف الأنواع، والأسواق المملوءة مما تشتهي الأنفس، والخانات المشحونة بالواردين، والفنادق الكاظة بالسكان والترب التي تحكي القصور ما لا يمكن حصره، ولا يعرف ما هو قدره إلا أن قدر ذلك بالتقريب الذي(2/203)
يصدّقه الاختبار طولا بريدا «1» ، وما يزيد عليه، وهو من مسجد تبر إلى بساتين الوزير قبليّ بركة الحبش، وعرضا يكون نصف بريد فما فوقه، وهو من ساحل النيل إلى الجبل، ويدخل في هذا الطول والعرض بركة الحبش، وما داربها وسطح الجرف المسمى: بالرصد، ومدينة الفسطاط التي يقال لها: مدينة مصر، والقرافة الكبرى والصغرى، وجزيرة الحصن المعروف اليوم: بالروضة، ومنشأة المهرانيّ، وقطائع ابن طولون التي تعرف الآن بحدرة ابن قميحة، وخط جامع ابن طولون والرميلة تحت القلعة، والقبيبات وقلعة الجبل والميدان الأسود الذي هو اليوم مقابر أهل القاهرة خارج باب البرقية إلى قبة النصر، والقاهرة المعزية، وهو ما دار عليه السور الحجر، والحسينية والريدانية، والخندق وكوم الريش، وجزيرة الفيل، وبولاق، والجزيرة الوسطى المعروفة بجزيرة أروى «2» ، وزريبة قوصون، وحكر ابن الأثير، ومنشأة الكاتب، والأحكار التي فيما بين القاهرة، وساحل النيل، وأراضي اللوق، والخليج الكبير الذي تسميه العامّة بالخليج الحاكميّ، والحبانية والصليبة والتبانة، ومشهد السيدة نفيسة، وباب القرافة، وأرض الطبالة، والخليج الناصريّ، والمقس والدكة، وغير ذلك مما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى، وقد أدركنا هذه المواضع، وهي عامرة، والمشيخة تقول: هي خراب بالنسبة لما كانت عليه قبل حدوث طاعون سنة تسع وأربعين وسبعمائة الذي يسميه أهل مصر: الفناء الكبير، وقد تلاشت هذه الأماكن، وعمها الخراب منذ كانت الحوادث بعد سنة ست وثمانمائة، ولله عاقبة الأمور.
ذكر بناء القاهرة وما كانت عليه في الدولة الفاطمية
وذلك أن القائد جوهر الكاتب: لمّا قدم الجيزة بعساكر مولاه الإمام المعز لدين الله أبي تميم معدّ أقبل في يوم الثلاثاء لسبع عشرة خلت من شعبان سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، وسارت عساكره بعد زوال الشمس، وعبرت الجسر أفواجا، وجوهر في فرسانه إلى المناخ الذي رسم له المعز موضع القاهرة الآن، فاستقرّ هناك، واختط القصر، وبات المصريون، فلما أصبحوا حضروا للهناء، فوجدوه قد حفر أساس القصر بالليل، وكانت فيه ازورارات غير معتدلة، فلما شاهدها جوهر لم يعجبه، ثم قال: قد حفر في ليلة مباركة، وساعة سعيدة، فتركه على حاله، وأدخل فيه دير العظام، ويقال: إن القاهرة اختطها جوهر في يوم السبت لست بقين من جمادى الآخرة، سنة تسع وخمسين، واختطت كل قبيلة خطة عرفت بها: فزويلة بنت الحارة المعروفة بها، واختطت جماعة من أهل برقة الحارة البرقية، واختطت الروم حارتين: حارة الروم الآن، وحارة الروم الجوّانية بقرب باب النصر، وقصد(2/204)
جوهر باختطاط القاهرة حيث هي اليوم أن تصير حصنا فيما بين القرامطة، وبين مدينة مصر ليقاتلهم من دونها، فأدار السور اللبن على مناخه الذي نزل فيه بعساكره، وأنشأ من داخل السور جامعا، وقصرا، وأعدّها معقلا يتحصن به، وتنزله عساكره، واحتفر الخندق من الجهة الشامية ليمنع اقتحام عساكر القرامطة إلى القاهرة، وما وراءها من المدينة، وكان مقدار القاهرة حينئذ أقل من مقدارها اليوم، فإن أبوابها كانت من الجهات الأربعة، ففي الجهة القبلية التي تفضي بالسالك منها إلى مدينة مصر: بابان متجاوران يقال لهما: بابا زويلة، وموضعهما الآن بحذاء المسجد الذي تسميه العامّة: بسام بن نوح، ولم يبق إلى هذا العهد سوى عقده، ويعرف باب القوس، وما بين باب القوس هذا، وباب زويلة الكبير ليس هو من المدينة التي أسسها القائد جوهر، وإنما هي زيادة حدثت بعد ذلك، وكان في جهة القاهرة البحرية، وهي التي يسلك منها إلى عين شمس بابان أحدهما، باب النصر، وموضعه بأوّل الرحبة التي قدّام الجامع الحاكميّ الآن، وأدركت قطعة منه كانت قدّام الركن الغربيّ من المدرسة القاصدية، وما بين هذا المكان، وباب النصر الآن مما زيد في مقدار القاهرة بعد جوهر، والباب الآخر من الجهة البحرية: باب الفتوح، وعقده باق إلى يومنا هذا، مع عضادته اليسرى، وعليه أسطر مكتوبة بالقلم الكوفيّ، وموضع هذا الباب الآن بآخر سوق المرحلين، وأوّل رأس حارة بهاء الدين مما يلي باب الجامع الحاكميّ، وفيما بين هذا العقد، وباب الفتوح من الزيادات التي زيدت في القاهرة من بعد جوهر، وكان في الجهة الشرقية من القاهرة، وهي الجهة التي يسلك منها إلى الجبل بابان: أحدهما يعرف الآن:
بالباب المحروق، والآخر يقال له: باب البرقية، وموضعهما دون مكانهما إلى الآن ويقال لهذه الزيادة من هذه الجهة: بين السورين، وأحد البابين القديمين موجود إلى الآن اسكفته، وكان في الجهة الغربية من القاهرة، وهي المطلة على الخليج الكبير بابان أحدهما: باب سعادة، والآخر باب الفرج، وباب ثالث يعرف: بباب الخوخة، أظنه حدث بعد جوهر، وكان داخل سور القاهرة يشتمل على قصرين، وجامع يقال لأحد القصرين: القصر الكبير الشرقيّ، وهو منزل سكنى الخليفة، ومحل حرمه، وموضع جلوسه لدخول العساكر، وأهل الدولة، وفيه الدواوين وبيت المال، وخزائن السلاح، وغير ذلك، وهو الذي أسسه القائد جوهر، وزاد فيه المعز، ومن بعده من الخلفاء، والآخر تجاه هذا القصر، ويعرف: بالقصر الغربيّ، وكان يشرف على البستان الكافوريّ، ويتحوّل إليه الخليفة في أيام النيل للنزهة على الخليج، وعلى ما كان إذ ذاك بجانب الخليج الغربيّ من البركة التي يقال لها بطن البقرة، ومن البستان المعروف بالبغدادية، وغيره من البساتين التي كانت تتصل بأرض اللوق، وجنان الزهريّ، وكان يقال لمجموع القصرين: القصور الزاهرة، ويقال للجامع:
جامع القاهرة، والجامع الأزهر.
فأما
القصر الكبير الشرقيّ: فإنه كان من باب الذهب الذي موضعه الآن محراب(2/205)
المدرسة الظاهرية التي أنشأها الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ «1» ، وكان يعلو عقد باب الذهب منظرة يشرف الخليفة فيها من طاقات في أوقات معروفة، وكان باب الذهب هذا هو أعظم أبواب القصر، ويسلك من باب الذهب المذكور إلى باب البحر، وهو الباب الذي يعرف اليوم: بباب قصر بشتاك، مقابل المدرسة الكاملية، وهو من باب البحر إلى الركن المخلق، ومنه إلى باب الريح، وقد أدركنا منه عضادتيه، واسكفته، وعليها أسطر بالقلم الكوفيّ، وجميع ذلك مبنيّ بالحجر إلى أن هدمه الأمير الوزير المشير جمال الدين يوسف الإستادار، وفي موضعه الآن قيسارية أنشأها المذكور بجوار مدرسته من رحبة باب العيد، ويسلك من باب الريح المذكور إلى باب الزمرّذ، وهو موضع المدرسة الحجازية الآن، ومن باب الزمرّذ إلى باب العيد، وعقده باق، وفوقه قبة إلى الآن في درب السلامي بخط رحبة باب العيد، وكان قبالة باب العيد هذا رحبة عظيمة في غاية الاتساع تقف فيها العساكر الكثيرة من الفارس والراجل في يومي العيدين تعرف: برحبة العيد، وهي من باب الريح إلى خزانة البنود، وكان يلي باب العيد السفينة، وبجوار السفينة خزانة البنود، ويسلك من خزانة البنود إلى باب قصر الشوك، وأدركت منه قطعة من أحد جانبيه كانت تجاه الحمام التي عرفت بحمام الأيدمريّ، ثم قيل لها في زمننا: حمام يونس بجوار المكان المعروف: بخزانة البنود، وقد عمل موضع هذا الباب زقاق يسلك منه إلى المارستان العتيق، وقصر الشوك، ودرب السلامي وغيره، ويسلك من باب قصر الشوك إلى باب الديلم، وموضعه الآن المشهد الحسينيّ، وكان فيما قصر الشوك، وباب الديلم رحبة عظيمة تعرف برحبة قصر الشوك، أوّلها من رحبة خزانة البنود، وآخرها حيث المشهد الحسينيّ الآن، وكان قصر الشوك يشرف على اصطبل الطارمة، ويسلك من باب الديلم إلى باب تربة الزعفران، وهي مقبرة أهل القصر من الخلفاء، وأولادهم ونسائهم، وموضع باب تربة الزعفران فندق الخليليّ في هذا الوقت، ويعرف بخط الزراكشة العتيق، وكان فيما بين باب الديلم، وباب تربة الزعفران الخوخ السبع التي يتوصل منها الخليفة إلى الجامع الأزهر في ليالي الوقدات، فيجلس بمنظرة الجامع الأزهر، ومعه حرمه لمشاهدة الوقيد والجمع، وبجوار الخوخ السبع اصطبل الطارمة، وهو برسم الخيل الخاص المعدّة لركاب الخليفة، وكان مقابل باب الديلم، ومن وراء اصطبل الطارمة الجامع المعدّ لصلاة الخليفة بالناس أيام الجمع، وهو الذي يعرف في وقتنا هذا بالجامع الأزهر، ويسمى في كتب التاريخ: بجامع القاهرة، وقدّام هذا الجامع رحبة متسعة من حدّ اصطبل الطارمة إلى الموضع الذي يعرف اليوم:
بالأكفانيين، ويسلك من باب تربة الزعفران إلى باب الزهومة، وموضعه الآن باب سرّ قاعة(2/206)
مدرسة الحنابلة من المدارس الصالحية، وفيما بين تربة الزعفران، وباب الزهومة دراس العلم، وخزانة الدرق، ويسلك من من باب الزهومة إلى باب الذهب المذكور أوّلا، وهذا هو دور القصر الشرقيّ الكبير، وكان بحذاء رحبة باب العيد: دار الضيافة، وهي الدار المعروفة: بدار سعيد السعداء «1» التي هي اليوم: خانقاه للصوفية، ويقابلها: دار الوزارة، وهي حيث الزقاق المقابل لباب سعيد السعداء، والمدرسة القراسنقرية، وخانقاه بيبرس، وما يجاورها إلى باب الجوّانية، وما وراء هذه الأماكن، وبجوار دار الوزارة الحجر، وهي من حذاء دار الوزارة بجوار باب الجوّانية إلى باب النصر القديم، ومن وراء دار الوزارة:
المناخ السعيد، ويجاوره حارة العطوفية، وحارة الروم الجوّانية، وكان جامع الخطبة الذي يعرف اليوم بجامع الحاكم خارجا عن القاهرة، وفي غربيه الزيادة التي هي باقية إلى اليوم، وكانت أهراء «2» لخزن الغلال التي تدّخر بالقاهرة، كما هي عادة الحصون، وكان في غربيّ الجامع الأزهر: حارة الديلم، وحارة الروم البرّانية، وحارة الأتراك، وهي تعرف اليوم:
بدرب الأتراك، وحارة الباطلية، وفيما بين باب الزهومة، والجامع الأزهر، وهذه الحارات خزائن القصر، وهي خزانة الكتب، وخزانة الأشربة، وخزانة السروج، وخزانة الخيم، وخزائن الفرش، وخزائن الكسوات، وخزائن دار أفتكين، ودار الفطرة، ودار التعبية، وغير ذلك من الخزائن هذا ما كان في الجهة الشرقية من القاهرة.
وأما
القصر الصغير الغربيّ: فإنه موضع المارستان الكبير المنصوريّ إلى جوار حارة برجوان، وبين هذا القصر، وبين القصر الكبير الشرقيّ فضاء متسع يقف فيه عشرة آلاف من العساكر ما بين فارس وراجل يقال له: بين القصرين، وبجوار القصر الغربيّ الميدان، وهو الموضع الذي يعرف بالخرنشف، واصطبل الطارمة، وبحذاء الميدان البستان الكافوريّ المطل من غربيه على الخليج الكبير، ويجاور الميدان، دار برجوان العزيزيّ، وبحذائها رحبة الأفيال، ودار الضيافة القديمة، ويقال لهذه المواضع الثلاثة: حارة برجوان، ويقال دار برجوان المنحر، وموضعه الآن يعرف: بالدرب الأصفر، ويدخل إليه من قبالة خانقاه بيبرس، وفيما بين ظهر المنحر، وباب حارة برجوان سوق أمير الجيوش، وهو من باب حارة برجوان الآن إلى باب الجامع الحاكميّ، ويجاور حارة برجوان من بحريها اصطبل الحجرية، وهو متصل بباب الفتوح الأوّل، وموضع باب اصطبل الحجرية يعرف اليوم:
بخان الوراقة، والقيسارية تجاه الجملون الصغير، وسوق المرحلين، وتجاه اصطبل الحجرية الزيادة، وفيما بين الزيادة والمنحر درب الفرنجية.(2/207)
وبجوار البستان الكافوري حارة زويلة، وهي تتصل بالخليج الكبير من غربيها، وتجاه حارة زويلة اصطبل الجميزة، وفيه خيول الخليفة أيضا، وفي هذا الاصطبل بئر زويلة، وموضعها الآن قيسارية معقودة على البئر المذكورة يعلوها ربع يعرف: بقيسارية يونس من خط البندقانيين، فكان اصطبل الجميزة المذكور فيما بين القصر الغربيّ من بحريه، وبين حارة زويلة، وموضعه الآن قبالة باب سرّ المارستان المنصوريّ إلى البندقانيين، وبحذاء القصر الغربيّ من قبيلة مطبخ القصر تجاه باب الزهومة المذكور، والمطبخ موضعه الآن الصاغة قبالة المدارس الصالحية، وبجوار المطبخ الحارة العدوية، وهي من الموضع الذي يعرف بحمام خشيبة إلى حيث الفندق الذي يقال له فندق الزمام، وبجوار العدوية، حارة الأمراء، ويقال لها اليوم: سوق الزجاجين، وسوق الحريريين الشراربيين.
ويجاور الصاغة القديمة: حبس المعونة، وهو موضع قيسارية العنبر، وتجاه حبس المعونة، عقبة الصباغين، وسوق القشاشين، وهو يعرف اليوم: بالخرّاطين، ويجاور حبس المعونة دكة الحسبة، ودار العيار، ويعرف موضع دكة الحسبة الآن، بالإبزاريين، وفيما بين دكة الحسبة وحارتي الروم والديلم: سوق السرّاجين، ويقال له الآن: الشوّايين، وبطرف سوق السرّاجين مسجد ابن البناء الذي تسميه العامّة: سام بن نوح، ويجاور هذا المسجد:
باب زويلة، وكان من حذاء حارة زويلة من ناحية باب الخوخة: دار الوزير يعقوب بن كلس، وصارت بعده: دار الديباج، ودار الاستعمال وموضعها الآن المدرسة الصالحية، وما وراءها ويتصل دار الديباج بالحارة الوزيرية، وإلى جانب الوزيرية: الميدان الآخر إلى باب سعادة، وفيما بين باب سعادة وباب زويلة أهراء أيضا وسطاح. هذا ما كانت عليه صفة القاهرة في الدولة الفاطمية، وحدّثت هذه الأماكن شيئا بعد شيء، ولم تزل القاهرة دار خلافة، ومنزل ملك، ومعقل قتال لا ينزلها إلّا الخليفة وعساكره، وخواصه الذين يشرّفهم بقربه فقط.
وأما ظاهر القاهرة من جهاتها الأربع: فإنه كان في الدولة الفاطمية على ما أذكر.
أما الجهة القبلية: وهي التي فيما بين باب زويلة ومصر طولا، وفيما بين الخليج الكبير والجبل عرضا، فإنها كانت قسمين: ما حاذى يمينك إذا خرجت من باب زويلة تريد مصر، وما حاذى شمالك إذا خرجت منه نحو الجبل، فأما: ما حاذى يمينك، وهي المواضع التي تعرف اليوم بدار التفاح، وتحت الربع والقشاشين، وقنطرة باب الخرق، وما على حافتي الخليج من جانبيه طولا إلى الحمراء التي يقال لها اليوم: خط قناطر السباع، ويدخل في ذلك سويقة عصفور، وحارة الحمزيين، وحارة بني سوس إلى الشارع، وبركة الفيل، والهلالية والمحمودية إلى الصليبة، ومشهد السيدة نفيسة، فإنّ هذه الأماكن كلها كانت بساتين تعرف بجنان الزهريّ، وبستان سيف الإسلام، وغير ذلك، ثم حدث في الدولة(2/208)
هناك حارات للسودان، وعمر الباب الجديد، وهو الذي يعرف اليوم بباب القوس من سوق الطيور في الشارع عند رأس «1» ، وحدثت الحارة الهلالية، والحارة المحمودية، وأما: ما حاذى شمالك حيث الجامع المعروف: بجامع الصالح، والدرب الأحمر إلى قطائع ابن طولون التي هي الآن الرميلة، والميدان تحت القلعة فإن ذلك كان مقابر أهل القاهرة.
وأما جهة القاهرة الغربية: وهي التي فيها الخليج الكبير، وهي من باب القنطرة إلى المقس، وما جاور ذلك، فإنها كانت بساتين من غربيها النيل، وكان ساحل النيل بالمقس حيث الجامع الآن، فيمرّ من المقس إلى المكان الذي يقال له الجرف، ويمضي على شماليّ أرض الطبالة إلى البعل، وموضع كوم الريش إلى المنية، ومواضع هذه البساتين اليوم أراضي اللوق والزهري، وغيرها من الحكورة التي في برّ الخليج الغربيّ إلى بركة قرموط، والخور، وبولاق، وكان فيما بين باب سعادة، وباب الخوخة، وباب الفرج، وبين الخليج فضاء لا بنيان فيه، والمناظر تشرف على ما في غربيّ الخليج من البساتين التي وراءها بحر النيل، ويخرج الناس فيما بين المناظر والخليج للنزهة، فيجتمع هناك من أرباب البطالة، واللهو ما لا يحصى عددهم، ويمرّ لهم هنالك من اللذات والمسرّات ما لا تسع الأوراق حكايته خصوصا في أيام النيل عند ما يتحوّل الخليفة إلى اللؤلؤة، ويتحوّل خاصته إلى دار الذهب، وما جاورها، فإنه يكثر حينئذ الملاذ بسعة الأرزاق، وإدرار النعم في تلك المدّة، كما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
وأما جهة القاهرة البحرية، فإنها كانت قسمين: خارج باب الفتوح، وخارج باب النصر، أما خارج باب الفتوح: فإنه كان هناك منظرة من مناظر الخلفاء، وقدّامها البستانان الكبيران، وأوّلهما من زقاق الكحل، وآخرهما منية مطر التي تعرف اليوم: بالمطرية، ومن غربيّ هذه المنظرة في جانب الخليج الغربيّ منظرة البعل فيما بين أرض الطبالة، والخندق، وبالقرب منها مناظر الخمس وجوه، والتاج ذات البساتين الأنيقة المنصوبة لتنزه الخليفة، وأما خارج باب النصر: فكان به مصلى العيد التي عمل من بعضها مصلى الأموات لا غير، والفضاء من المصلى إلى الريدانية، وكان بستانا عظيما، ثم حدث فيما خرج من باب النصر تربة أمير الجيوش بدر الجمالي، وعمر الناس الترب بالقرب منها، وحدث فيما خرج عن باب الفتوح عمائر منها: الحسينية، وغيرها.
وأما جهة القاهرة الشرقية، وهي ما بين السور والجبل، فإنه كان فضاء ثم أمر الحاكم بأمر الله أن تلقى أتربة القاهرة من وراء السور، لتمنع السيول أن تدخل إلى القاهرة، فصار منها الكيمان التي تعرف بكيمان البرقية، ولم تزل هذه الجهة خالية من العمارة إلى أن انقرضت الدولة الفاطمية، فسبحان الباقي بعد فناء خلقه.(2/209)
ذكر ما صارت إليه القاهرة بعد استيلاء الدولة الأيوبية عليها
قد تقدّم أن القاهرة إنما وضعت منزل سكنى للخليفة، وحرمه، وجنده، وخواصه، ومعقل قتال يتحصن بها، ويلتجأ إليها، وإنها ما برحت هكذا حتى كانت السنة العظمى في خلافة المستنصر، ثم قدم أمير الجيوش بدر الجمالي، وسكن القاهرة، وهي يباب دائرة خاوية على عروشها غير عامرة، فأباح للناس من العسكرية، والملحية، والأرمن، وكل من وصلت قدرته إلى عمارة بأن يعمر ما شاء في القاهرة مما خلا من فسطاط مصر، ومات أهله، فأخذ الناس ما كان هناك من أنقاض الدور، وغيرها، وعمروا به المنازل في القاهرة، وسكنوها فمن حينئذ سكنها أصحاب السلطان إلى أن انقرضت الدولة الفاطمية باستيلاء السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي في سنة سبع وستين وخمسمائة.
فنقلها عما كانت عليه من الصيانة، وجعلها مبتذلة لسكن العامّة والجمهور، وحط من مقدار قصور الخلافة، وأسكن في بعضها، وتهدّم البعض، وأزيلت معالمه، وتغيرت معاهده، فصارت خططا وحارات، وشوارع ومسالك، وأزقة، ونزل السلطان منها في دار الوزارة الكبرى حتى بنيت قلعة الجبل، فكان السلطان صلاح الدين يتردّد إليها، ويقيم بها، وكذلك ابنه الملك العزيز عثمان، وأخوه الملك العادل، أبو بكر، فلما كان الملك الكامل ناصر الدين محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب تحوّل من دار الوزارة إلى القلعة، وسكنها ونقل سوق الخيل والجمال والحمير إلى الرميلة تحت القلعة، فلما خرب المشرق والعراق بهجوم عساكر التتر منذ كان جنكيزخان في أعوام بضع عشرة وستمائة إلى أن قتل الخليفة المستعصم ببغداد في صفر سنة ست وخمسين وستمائة، كثر قدوم المشارقة إلى مصر، وعمرت حافتي الخليج الكبير، وما دار على بركة الفيل، وعظمت عمارة الحسينية، فلما كانت سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاون الثالثة بعد سنة إحدى عشرة وسبعمائة، واستجدّ بقلعة الجبل المباني الكثيرة من القصور وغيرها، حدثت فيما بين القلعة وقبة النصر عدّة ترب بعد ما كان ذلك المكان فضاء يعرف: بالميدان الأسود وميدان القبق، وتزايدت العمائر بالحسينية، حتى صارت من الريدانية إلى باب الفتوح، وعمر جميع ما حول بركة الفيل، والصليبة إلى جامع ابن طولون، وما جاوره إلى المشهد النفيسيّ، وحكر الناس أرض الزهريّ، وما قرب منها، وهو من قناطر السباع إلى منشاة المهرانيّ، ومن قناطر السباع إلى البركة الناصرية إلى اللوق إلى المقس، فلما حفر الملك الناصر محمد بن قلاون الخليج الناصريّ اتسعت الخطة فيما بين المقس، والدكة إلى ساحل النيل، وأنشأ الناس فيها البساتين العظيمة، والمساكن الكثيرة، والأسواق والجوامع والمساجد، والحمامات والشون، وهي من المواضع التي من باب البحر خارج المقس إلى ساحل النيل المسمى(2/210)
ببولاق، ومن بولاق إلى منية الشيرج، ومنه في القبلة إلى منشأة المهرانيّ، وعمر ما خرج عن باب زويلة يمنة ويسرة من قنطرة الخرق إلى الخليج، ومن باب زويلة إلى المشهد النفيسيّ، وعمرت القرافة من باب القرافة إلى بركة الحبش طولا، ومن القرافة الكبرى إلى الجبل عرضا، حتى أنه استجدّ في أيام الناصر بن قلاون بضع وستون حكرا، ولم يبق مكان يحكر، واتصلت عمائر مصر والقاهرة، فصارا بلدا واحدا يشتمل على البساتين والمناظر والقصور، والدور والرباع، والقياسر، والأسواق، والفنادق، والخانات، والحمامات، والشوارع، والأزقة، والدروب، والخطط والحارات، والأحكار والمساجد، والجوامع، والزوايا والربط، والمشاهد والمدارس، والترب والحوانيت، والمطابخ والشون، والبرك والخلجان والجزائر والرياض، والمنتزهات متصلا جميع ذلك بعضه ببعض من مسجد تبر إلى بساتين الوزير قبليّ بركة الحبش، ومن شاطىء النيل بالجيزة إلى الجبل المقطم، وما زالت هذه الأماكن في كثرة العمارة، وزيادة العدد تضيق بأهلها لكثرتها، وتختال عجبا بهم لما بالغوا في تحسينها، وتأنقوا في جودتها، وتنميقها إلى أن حدث الفناء الكبير في سنة تسع وأربعين وسبعمائة، فخلا كثير من هذه المواضع، وبقي كثير أدركناه، فلما كانت الحوادث من سنة ست وثمانمائة، وقصر جري النيل في مدّة، وخربت البلاد الشامية بدخول الطاغية تيمور لنك، وتحريقها، وقتل أهلها وارتفاع أسعار الديار المصرية، وكثرة الغلاء فيها، وطول مدّته، وتلاف النقود المتعامل بها، وفسادها، وكثرة الحروب والفتن بين أهل الدولة، وخراب الصعيد، وجلاء أهله عنه، وتداعى أسفل أرض مصر من البلاد الشرقية والغربية إلى الخراب، واتضاع أمور ملوك مصر، وسوء حال الرعية، واستيلاء الفقر والحاجة والمسكنة على الناس، وكثرة تنوّع المظالم الحادثة من أرباب الدولة بمصادرة الجمهور، وتتبع أرباب الأموال، واحتجاب ما بأيديهم من المال بالقوّة والقهر والغلبة، وطرح البضائع مما يتجر فيه السلطان، وأصحابه على التجار والباعة بأغلى الأثمان إلى غير ذلك مما لا يتسع لأحد ضبطه، ولا تسع الأوراق حكايته، كثر الخراب بالأماكن التي تقدّم ذكرها، وعمّ سائرها، وصارت كيمانا، وخرائب موحشة مقفرة يأويها البوم والرخم أو مستهدمة واقعة، أو آئلة إلى السقوط والدثور، سنة الله التي قد خلت في عباده، ولن تجد لسنة الله تبديلا.(2/211)
ذكر طرف مما قيل في القاهرة ومنتزهاتها
قال أبو الحسن عليّ بن رضوان الطبيب: ويلي الفسطاط في العظم، وكثرة الناس القاهرة، وهي في شمال الفسطاط، وفي شرقيها أيضا الجبل المقطم يعوق عنها ريح الصبا، والنيل منها أبعد قليلا، وجميعها مكشوف للهواء، وإن كان عمل فوق ربما عاق عن بعض ذلك، وليس ارتفاع الأبنية بها كارتفاع الفسطاط، لكن دونها كثيرا، وأزقتها وشوارعها بالقياس إلى أزقة الفسطاط، وشوارعها أنظف، وأقل وسخا، وأبعد عن العفن، وأكثر شرب أهلها من مياه الآبار، وإذا هبت ريح الجنوب أخذت من بخار الفسطاط على القاهرة شيئا كثيرا، وقرب مياه آبار القاهرة من وجه الأرض مع سخافتها موجب ضرورة أن تكون يصل إليها بالرشح من عفونة الكتف شيء ما، وبين القاهرة والفسطاط بطائح تمتلىء من رشح الأرض في أيام فيض النيل، ويصب فيها بعض خرّارات القاهرة، ومياه البطائح هذه رديئة وسخة أرضها، وما يصب فيها من العفونة يقتضي أن يكون البخار المرتفع منها على القاهرة، والفسطاط زائدا في رداءة الهواء بهما، ويطرح في جنوب القاهرة قذر كثير نحو حارة الباطلية، وكذلك يطرح في وسط حارة العبيد إلّا أنه إذا تأمّلنا حال القاهرة، كانت بالإضافة إلى الفسطاط أعدل وأجود هواء، وأصلح حالا، لأنّ أكثر عفوناتهم ترمى خارج المدينة والبخار ينحل منها أكثر، وكثير أيضا من أهل القاهرة يشرب من ماء النيل، وخاصة في أيام دخوله الخليج، وهذا الماء يستقى بعد مروره بالفسطاط، واختلاطه بعفوناتها.
قال: وقد اقتصر أمر الفسطاط والجيزة والجزيرة، فظاهر أن أصح أجزاء المدينة الكبرى: القرافة، ثم القاهرة، والشرف، وعمل فوق مع الحمراء والجيزة، وشمال القاهرة أصح من جميع هذه لبعده عن بخار الفسطاط، وقربه من الشمال، وأرقى موضع في المدينة الكبرى هو ما كان من الفسطاط حول الجامع العتيق إلى ما يلي النيل، والسواحل، وإلى جانب القاهرة من الشمال الخندق، وهو في غور فهو يتغير أبدا لهذا السبب، فأما المقس فمجاورته للنيل تجعله أرطب. وقال ابن سعيد في كتاب المعرب في حلي المغرب عن البيهقيّ: وأما مدينة القاهرة، فهي الحالية الباهرة التي تفنن فيها الفاطميون، وأبدعوا في بنائها، واتخذوها وطنا لخلافتهم، ومركزا لأرجائها، فنسي الفسطاط، وزهد فيه بعد الاغتباط.(2/212)
قال: وسميت القاهرة، لأنها تقهر من شذّ عنها، ورام مخالفة أميرها، وقدّروا أن منها يملكون الأرض، ويستولون على قهر الأمم، وكانوا يظهرون ذلك، ويتحدّثون به.
قال ابن سعيد: هذه المدينة اسمها أعظم منها، وكان ينبغي أن تكون في ترتيبها ومبانيها على خلاف ما عاينته، لأنها مدينة بناها المعز أعظم خلفاء العبيديين، وكان سلطانه، قد عمّ جميع طول المغرب من أوّل الديار المصرية إلى البحر المحيط، وخطب له في البحرين من جزيرة عند القرامطة، وفي مكة والمدينة، وبلاد اليمن، وما جاورها، وقد علت كلمته، وسارت مسير الشمس في كل بلدة، وهبت الريح في البرّ والبحر، لا سيما، وقد عاين مباني أبيه المنصور في مدينة المنصورية «1» التي إلى جانب القيروان، وعاين المهدية «2» مدينة جدّه عبيد الله المهديّ لكن الهمة السلطانية ظاهرة على قصور الخلفاء بالقاهرة، وهي ناطقة إلى الآن بألسن الآثار ولله درّ القائل:
هم الملوك إذا أرادوا ذكرها ... من بعدهم فبألسن البنيان
إن البناء إذا تعاظم شأنه ... أضحى يدل على عظيم الشأن
واهتم من بعد الخلفاء المصريون بالزيادة في تلك القصور، وقد عاينت فيها إيوانا يقولون: إنه بني على قدر إيوان كسرى الذي بالمدائن، وكان يجلس فيه خلفاؤهم، ولهم على الخليج الذي بين الفسطاط والقاهرة مبان عظيمة جليلة الآثار، وأبصرت في قصورهم حيطانا عليها طاقات عديد من الكلس والجبس، ذكر لي أنهم كانوا يجدّدون تبييضها في كل سنة، والمكان المعروف في القاهرة ببين القصرين هو من الترتيب السلطانيّ، لأنّ هناك ساحة متسعة للعسكر، والمتفرّجين ما بين القصرين، ولو كانت القاهرة عظيمة القدر كاملة الهمة السلطانية، ولكن ذلك أمد قليل، ثم تسير منه إلى أمد ضيق، وتمرّ في ممرّ كدر حرج بين الدكاكين إذا ازدحمت فيه الخيل مع الرجالة كان ذلك ما تضيق منه الصدور، وتسخن منه العيون، ولقد عاينت يوما وزير الدولة، وبين يديه أمراء الدولة، وهو في موكب جليل، ولقد لقي في طريقه عجلة بقر تحمل حجارة، وقد سدّت جميع الطرق بين يدي الدكاكين، ووقف الوزير وعظم الازدحام، وكان في موضع طباخين والدخان في وجه الوزير، وعلى ثيابه، وقد كاد يهلك المشاة، وكدت أهلك في جملتهم.
وأكثر دروب القاهرة ضيقة مظلمة كثيرة التراب، والأزبال، والمباني عليها من قصب وطين مرتفعة قد ضيقت مسلك الهواء والضوء بينهما، ولم أر في جميع بلاد المغرب أسوأ(2/213)
حالا منها في ذلك، ولقد كنت إذا مشيت فيها بضيق صدري، ويدركني وحشة عظيمة حتى أخرج إلى بين القصرين.
ومن عيوب القاهرة: أنها في أرض النيل الأعظم، ويموت الإنسان فيها عطشا لبعدها عن مجرى النيل لئلا يصادرها، ويأكل ديارها، وإذا احتاج الإنسان إلى فرجة في نيلها مشى في مسافة بعيدة بظاهرها بين المباني التي خارج السور إلى موضع يعرف: بالمقس، وجوّها لا يبرح كدرا، بما تثيره الأرجل من التراب الأسود، وقد قلت فيها حين أكثر عليّ رفاقي من الحض على العود فيها:
يقولون سافر إلى القاهرة ... وما لي بها راحة ظاهره
زحام وضيق وكرب وما ... تثير بها أرجل السائره
وعند ما يقبل المسافر عليها، يرى سورا أسود كدرا، وجوّا مغبرّا، فتنقبض نفسه، ويفرّ أنسه، وأحسن موضع في ظواهرها للفرجة أرض الطبالة، لا سيما أرض القرط والكتان فقلت:
سقى الله أرضا كلما زرت أرضها ... كساها وحلّاها بزينته القرط
تجلت عروسا والمياه عقودها ... وفي كل قطر من جوانبها قرط
وفيها خليج لا يزال يضعف بين خضرتها حتى يصير كما قال الرصافي:
ما زالت الأنحال تأخذه ... حتى غدا كذؤابة النجم
وقلت في نوّار الكتان على جانبي هذا الخليج:
انظر إلى النهر والكتان يرمقه ... من جانبيه بأجفان لها حدق
رأته سيفا عليه للصبا شطب ... فقابلته بأحداق بها أرق
وأصبحت في يد الأرواح تنسجها ... حتى غدت حلقا من فوقها حلق
فقم وزرها ووجه الأفق متضح ... أو عند صفرته إن كنت تغتبق
وأعجبني في ظاهرها بركة الفيل لأنها دائرة كالبدر، والمناظرة فوقها كالنجوم، وعادة السلطان أن يركب فيها بالليل، وتسرج أصحاب المناظر على قدر همتهم، وقدرتهم فيكون بذلك لها منظر عجيب وفيها أقول:
انظر إلى بركة الفيل التي اكتنفت ... بها المناظر كالأهداب للبصر
كأنما هي والأبصار ترمقها ... كواكب قد أداروها على القمر
ونظرت إليها وقد قابلتها الشمس بالغدوّ فقلت:(2/214)
انظر إلى بركة الفيل التي نحرت ... لها الغزالة نحرا من مطالعها «1»
وخل طرفك مجنونا ببهجتها ... تهيم وجدا وحبا في بدائعها
والفسطاط أكثر أرزاقا، وأرخص أسعارا من القاهرة لقرب النيل من الفسطاط، فالمراكب التي تصل بالخيرات تحط هناك، ويباع ما يصل فيها بالقرب منها، وليس يتفق ذلك في ساحل القاهرة، لأنه بعيد عن المدينة، والقاهرة هي أكثر عمارة، واحتراما وحشمة من الفسطاط، لأنها أجلّ مدارس، وأضخم خانات، وأعظم دثارا لسكنى الأمراء فيها لأنها المخصوصة بالسلطنة لقرب قلعة الجبل منها، فأمور السلطنة كلها فيها أيسر، وأكثر، وبها الطراز وسائر الأشياء التي تتزين بها الرجال والنساء، إلّا أنّ في هذا الوقت لما اعتنى السلطان الآن ببناء قلعة الجزيرة التي أمام الفسطاط، وصيرها سرير السلطنة عظمت عمارة الفسطاط، وانتقل إليها كثير من الأمراء، وضخمت أسواقها وبنى فيها للسلطان أمام الجسر الذي للجزيرة قيسارية عظيمة تنقل إليها من القاهرة سوق الأجناد التي يباع فيها الفراء والجوخ، وما أشبه ذلك.
ومعاملة القاهرة والفسطاط بالدراهم المعروفة بالسوداء، كل درهم منها ثلث من الدرهم الناصريّ، وفي المعاملة بها شدّة وخسارة في البيع والشراء، ومخاصمة مع الفريقين، وكان بها في القديم الفلوس، فقطعها الملك الكامل فبقيت إلى الآن مقطوعة منها، وهي في الإقليم الثالث، وهواءها رديء لا سيّما إذا هبّ المريسي من جهة القبلة، وأيضا رمد العين فيها كثير، والمعايش فيها متعذرة نزرة، لا سيّما أصناف الفضلاء وجوامك المدارس قليلة كدرة، وأكثر ما يتعيش بها اليهود والنصارى في كتابة الخراج والطب، والنصارى بها يمتازون بالزنار في أوساطهم، واليهود بعلامة صفراء في عمائمهم، ويركبون البغال، ويلبسون الملابس الجليلة، ومآكل أهل القاهرة الدميس، والصير، والصحناة، والبطارخ، ولا تصنع النيدة، وهي حلاوة القمح إلا بها وبغيرها من الديار المصرية، وفيها جوار طباخات أصل تعليمهن من قصور الخلفاء الفاطميين لهنّ في الطبخ صناعة عجيبة ورياسة متقدّمة، ومطابخ السكر، والمطابخ التي يصنع فيها الورق المنصوري مخصوصة بالفسطاط دون القاهرة، ويصنع فيها من الأنطاع المستحسنة، ما يسفر إلى الشام وغيرها، ولها من الشروب الدمياطية وأنواعها، ما اختصت به، وفيها صناع للقسيّ كثيرون متقدّمون، ولكن قسيّ دمشق بها يضرب المثل وإليها النهاية، ويسفر من القاهرة إلى الشام ما يكون من أنواع الكمرانات، وخرائط الجلد، والسيور، وما أشبه ذلك وهي الآن عظيمة آهلة يجبى إليها من الشرق والغرب والجنوب والشمال، ولا ترسيما وعذابا، ولا يطلب برفيق له إذا مات فيقال له: ترك عندك مالا، فربما سجن في شأنه أو ضرب وعصر، والفقير(2/215)
المجرّد فيها مستريح من جهة رخص الخبز وكثرته، ووجود السماعات، والفرج في ظواهرها ودواخلها، وقلة الاعتراض عليه، فيما تذهب إليه نفسه يحكم فيها كيف شاء من رقص في السوق أو تجريد، أو سكر من حشيشة أو غيرها أو صحبة المردان، وما أشبه ذلك بخلاف غيرها من بلاد المغرب، وسائر الفقراء لا يعترضون بالقبض للأسطول إلّا المغاربة، فذلك وقف عليهم لمعرفتهم بمعاناة البحر، فقد عمّ ذلك من يعرف معاناة البحر منهم، ومن لا يعرف، وهم في القدوم عليها بين حالين إن كان المغربيّ غنيا طولب بالزكاة، وضيقت عليه أنفاسه حتى يفرّ منها، وإن كان مجرّدا فقيرا حمل إلى السجن حتى يجيء وقت الأسطول، وفي القاهرة أزاهير كثيرة غير منقطعة الاتصال، وهذا الشأن في الديار المصرية تفضل به كثيرا من البلاد، وفي اجتماع النرجس والورد فيها أقول:
من فضل النرجس وهو الذي ... يرضى بحكم الورد إذ يرأس
أما ترى الورد غدا قاعدا ... وقام في خدمته النرجس
وأكثر ما فيها من الثمرات والفواكه: الرمان والموز والتفاح، وأما الإجاص فقليل غال، وكذلك الخوخ، وفيها الورد والنرجس والنسرين واللينوفر والبنفسج والياسمين والليمون الأخضر والأصفر، وأما العنب والتين فقيل غال ولكثرة ما يعصرون العنب في أرياف النيل لا يصل منه إلا القليل، ومع هذا فشراؤه عندهم في نهاية الغلاء، وعامّتها يشربون المزر الأبيض المتخذ من القمح، حتى أن القمح يطلع عندهم سعره بسببه، فينادي المنادي من قبل الوالي بقطعه، وكسر أوانيه، ولا ينكر فيها إظهار أواني الخمر، ولا آلات الطرب ذوات الأوتار، ولا تبرّج النساء العواهر، ولا غير ذلك مما ينكر في غيرها من بلاد المغرب، وقد دخلت في الخليج الذي بين القاهرة ومصر، ومعظم عمارته فيما يلي القاهرة، فرأيت فيه من ذلك العجائب، وربما وقع فيه قتل بسبب السكر، فيمنع فيه الشرب، وذلك في بعض الأحيان، وهو ضيق عليه في الجهتين مناظر كثيرة العمارة بعالم الطرب والتهكم، والمخالفة حتى إنّ المحتشمين والرؤساء لا يجيزون العبور به في مركب، وللسرج في جانبيه الليل منظر فتان، وكثيرا ما يتفرّج فيه أهل الستر بالليل، وفي ذلك أقول:
لا تركبن في خليج مصر ... إلا إذا أسدل الظلام
فقد علمت الذي عليه ... من عالم كلهم طغام
صفان للحرب قد أظلا ... سلاح ما بينهم كلام
يا سيدي لا تسر إليه ... إلا إذا هوّم النيام
والليل ستر على التصابي ... عليه من فضله لثام
والسرج قد بدّدت عليه ... منها دنانير لا ترام
وهو قد امتدّ والمباني ... عليه في خدمة قيام
لله كم دوحة جنينا ... هناك أثمارها الآثام(2/216)
انتهى. وفيه تحامل كثير. وقال زكي الدين الحسين من رسالة كتبها من مصر في شهر رجب سنة اثنتين وستين وسبعمائة إلى أخيه، وهو بدمشق يتشوّق إليها، ويذكر ما فيها من المواضع، والمنتزهات، ويذم من مصر بقوله: فكيف يبقى لمن حلّ في جنة النعيم ورياضها، ويرتع في ميادين المسرّات، وغياضها تلفت إلى من سلمته يد الأقدار إلى أرض ليست بذات قرار، وبدّلوا بجنتهم ذات البان المتفاوح، والورق المتصادح، والنشر المتقادح، والماء المطلق المسلسل، والنسيم الصحيح العليل جنتين ذواتي أكل خمط «1» ، وأثل وشيء من سدر قليل، وتقصدتهم يد القضاء، فأخذتهم بالبأساء والضرّاء، وأوقعتهم بمصر وشموسها، وحميمها وغمومها، وحزونها، ووعورها، وحرورها، وزفيرها، وسعيرها، وكيمانها، ونيرانها، وسودانها، وفلاحيها، وملاحيها، ومشاربها، ومساربها، ومسالكها، ومهالكها، وصحناتها، وعصفورها، وبوريها، وصقورها، ومخاوف نوروها، وحرارة تموزها، ودارس طلولها، ورائس أسطولها، وتعكر مائها، وتكدّر هوائها، فلو تراهم في أرجائها القصوى كالأباعر الهمل، وهم يصطخرون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل.
فأجابه من دمشق بكتاب من جملته على لسان دمشق، كأنها تخاطبه: ويا أيها الولد العزيز كيف سمحت فطرتك السليمة، ومروءتك الكريمة، وسيرتك المستقيمة، وصبرك المحافظ، ودينك المراقب الملاحظ بذم من جنيت نعمها، وسكنت حرمها، وقلت مصر وشموسها، وسقت عليها القول من كل جانب، واستعرت لها التكدير حتى في المشارب والمسارب، وهلا ذكرتها، وقد باكرها نيل نيل النعيم، بمغيثة بليل النسيم بكأس من تسنيمه، وطما البحر عليها زاخرا، فأغناها عن بكاء السحاب وتجهيمه، وعمّ معظم أرضها، وعبّ عبابه في طولها وعرضها، حتى كاد يعلو رفيع قصورها، ويتسوّر بسورته شامخ سورها، ومع ذا لا تراه جسورا على ضعاف جسورها، وقد طبق التهائم والأنجاد، وغرّق الآكام والوهاد، وعلا أعلى الصعيد والصعاد، وأعاد البرّ سلطانه بحرا بالازدياد، فإذا ارتوى أوام «2» أكباد البلاد، وروى السهل والوعر والهضاب والوهاد، وذهب إملاق الأرض بكل ملقة وخليج، وانجاب عنها فاهتزت وربت وأنبتت من كلزوج بهيج، بدت روضة نضرة بأملاق مقطعة، كزمرّذة أخضر بلآل مرصعة، فكم من غدير مستدير كبدر منير، ودقيق مستطيل كسيف صقيل، وكم من قليب قلاب بماء كجلاب، وكم من عظيم بركة حرّكها النسيم بلطفه، وطيبها عبير عنبرها، فضمّخها بكفه، وزهت بزهو نيلوفرها، فعرّفها بعرفه، وكم ترى من ملقة لبقة، عليها عيون النرجس محدّقة، كصحن خدّ عروس منمقة، والنوّار(2/217)
قد دارت بمدام الندى كؤوسه، وجالت في مراح الأفراح نفوسه، ونجم نجمه وابتسم عروسه، وسامره الرذاذ المنهل، وباكره الطل، فكلله بلؤلؤه وقلده، وزاره النسيم المعتل فأقامه وأقعده، ونمق أرضه وروضه، فذهّبه وفضّضه، قد تاهت برياضها الغناء، وزهت بزخرفها وزينتها الحسناء، وامتدّ بساطها الزمرّدي، وانبسط مدادها الزبرجدي، فلا يدرك أقصاه ناظر مسافر، ولا يحيط بمنتهاه خيال ولا خاطر، فلله درّها من روضة مرن، وكعبة حسن، ومقطعات بماء غير آسن، وحرم بحر لحجاج طيره آمن، آتاها حجيج الطير من كل فج عميق، ملبيا داعي حسنها من كل مكان سحيق، قد امتطى ركبها متون الرياح، وعلا جثمانها عالم الأرواح، ووصلن الإدلاج بالصباح، وقطعن أجناح الليل بخفاق الجناح، كأنهن الدراري السواري، أو المنشآت الجواري، أو المطايا المهاري:
تواصل من جوّ حوائض نيله ... صعود على حكم الطريق نزول
رفاق تعاهدن على الوفاء، وتحالفن على النعماء والبلاء، خرجن مهاجرات من الأوطان ألوفا، وقدمن صافات كالمصلين صفوفا، يقدمهن دليل كأنه إمام، قد قتل طرق الآفاق خبرا واستوى لديه الإضواء والإظلام، أبصر من زرقاء اليمامة، وأطير من الورقاء والهامة، وأهدى من النجم، وأشدّ من السهم، يتناجين بلغات أعجميات، سبحات بألحان مطربات، فطفن في حرمها الآمن، واعتمرن بتلك المحاسن، فتراها عند إقبال نوّها، وحومها في جوّها، ما تستقيم خطا مستقيما، وإن كانت تصطف صفا عظيما، فمنها ما يستهل هلالا، ومنها ما يحكي بنات نعس حالا، ومنها ما ينثني بإدلاله دالا، ومنها ما يخط نونا نونا، فيحكي حاجبا مقرونا، ومنها ما يكتب زينا، فيعيدها عينا، ومنها ما يصوّر ميم الهجاء، فيشاهد مبسم السماء، ومنها ما يأتي زرافات ووحدانا، فيبدع في إعجابه حسنا وإحسانا، فكم من حبل أوز معلق بالسماء، يحلق إلى ذلك الماء، وأوانس عرّيسات، أنيسات كيّسات وصور صور، كأمثال حور، وطير لغلغ «1» ، مكتس بديباج مصبغ، وجليل حبرج «2» ، كعلج متوّج، وكركيّ عريض طويل، كبعير كبير جميل، وغرير غرّ، مغرّر متغير، وسبيطر «3» شديد شويطر، وكم ضخم الدسيعة جوّال، ككوهي بالقوّة المنيعة صوّال، ورخام مرزم كذي إمرة محتشم، وجلالة نسر في الشائع الذائع، والحاضر الواقع، أبهى من النسر الطائر والواقع، وعظم عقاب تمّ الحسن بحسنه، وكل الصيد في ضمنه، وكم من خضاري وحرمان، وبلشون وشهرمان، صنوان وغير صنوان، وكم من بط على شط وخلط، وقطقط «4» منقط، وغرّ وغرنوق، وكرسوغ ممشوق، ونورس مستأنس، وقد امتلأت بهنّ(2/218)
الآفاق وتكللت بنجومهنّ الأملاق، وشربن من جريالها، فأسكرهنّ الاصطباح «1» والاغتباق «2» ، فكم من مسودّ كخال بخدّ، وأزرق كلا زورد، وأشقر كزهر ورد، أحمر ناصع، وأصفر فاقع، وأبيض ذي خضاب عندمي، بلطيف منقار بقمي، ومبرقش ومبقع، ومعمم ومقتنع، وأشقر منقش، وأرقش مرشش، وعودي، وهندي، وصيني مسني، وعينين كياقوتتين، قد رصعتا في لجين، وكم من طائر أبهى من قمر سائر بفرق مثل صبح سافر، فتراهنّ في الماء صموتا وقوفا، صفوفا عكوفا، كصور أصنام، أو حجارة مبدّدة في آكام، وكم من أطيار ظراف، ملاح لطاف، ذوات ألحان، ونضرة وألوان، وخلق وأخلاق، ونطق وأطواق، وإيناس مع شماس، قد ازدانت الأرض بأصواتها، واختلاف لغاتها وعجائب صفاتها، فبرزت بأنواع الأعاجيب، وتجلت بأجمل الجلابيب، وأبدعت في صور الإحسان، وتصوّرت في بدائع الألوان، فإذا بدت زرقاء في زهر كتانها، مذهبة بأزهار لبسانها، مفضضة بنجوم أقحوانها، خلعت السماء عليها خلعة جميل أردانها «3» ، وإذا فاح نشر نوّار قرطها، شممت المسك الذكيّ من مرطها «4» ، ورأيت لآلىء سمطها، مبسوطة على خضر بسطها، ومغالاتها بغالية نور فولها، وهزاتها إذا رفل النسيم في ذيولها، قد رصعت أغصانه بفصوص لجينها، ونقطته من حسنها بسواد عينها، فعيونه كعيون غزلانها في فتكها، وأحداقه كأحداق ولدانها من تركها، وكم لها من طرّة معتبرة، وجبهة منوّرة، ووجنة مزعفرة، وملاءة منشورة معصفرة، وخدّ مورّد، وطرف مهند، ولماها صيغ من عقيق الشقيق، وسكرها من ذلك الريق على التحقيق، وأين بزوغ بشنينها، وامتداد يقطينها، وأين حلاوة عرائس نخلاتها، وطلاوة أوانس قاماتها، بمشابهتها في صفاتها، وغرائس فسيلاتها «5» ، وأين نضيد طلعها، وحميد فرعها، ومديد جذعها، وفرّ جمارها، عن غرّة جمارها، واخضرار أكمامها، واحمرار لثامها، وبنان بسرها المطرف، وبنان نشرها المشرف، وانتظام سرورها، بابتسام منثورها، وورد واديها ومنحناها، وندي ندّها وتمرحناها، وآسي آسها، وطبيب طيب أنفاسها، وتبرّجها بأترجها، وتبهرجها بنارنجها، وتختمها بمختمها، وتبسمها عن بلسمها، وتشقق أبرادها، عن نهود كبادها، وتضاعف أرجها، بمضعف بنفسجها، وجلالة مقدارها، إذا فتحت أزرارها عن جل نارها، وطيب شميمها من أشمومها، ونسيمها ووسيمها بأوسيمها، وجنان قليوبها، وحرمان قليبها، وأحواضها، ببهنيها ورياضها، وطربتها(2/219)
بمطريتها، ونفيس أنسها بمقسها «1» ، وغريب غرسها ببلقسها، وعظيم آسها بمحلق مقياسها، وكريم تحيتها من قبل اليمن هبوب أنفاسها، واجتماع أسعدها، وارتفاع رصدها، وسواقيها الحنانة في سجعها، الهتانة بسكبها من دمعها، وجنة لوقها، ولجة بولاقها، وبركة فيلها، من بركة نيلها، وجزيرة ذهبها، وقلعة الجزيرة بذهبها، من عجبها حكت فلكها في بحرها، وأحكمت مملكتها في برّها، وعظم جللها بقلعة جبلها، واتلاء أعلامها، ببناء أهرامها، وإذا نظرت إلى سعود صعودها، إلى سعيد صعيدها، واغتباطها بانحطاطها، إلى صوب سكندريتها ودمياطها، ألهتك عن حسن الثريا ومناطها، ولا تنس الجواري المنشآت في البحر كالأعلام، التي تسبق عند طياب الرياح مفوّقات السهام، وإعجابها بغربانها البحرية، وحراقاتها الحربية، وشوانيها وحول مبانيها، وجلال شكلها وجمال معانيها، تبدو موشاة بالنضار الأحمر، منقشة باللون الأفخر، فهي كالأرقم «2» المنمر، أو كمتلوّن الثمر، أو الطاوس الذكر أو الناوس لبني الأصفر، معمرة بيأس الحديد والأحجار، محمولة على سيح الماء التيار، مشحونة بالرجال، منصورة عند القتال، مصونة بالمجنّ والنبال تبرز مذكرة بالآية النوحية، وتضمن إحراز الهمة العلية الفتحية، حصون أمنع من أعز قلاع، تطير إذا فتح لها جناح القلاع، فتسبق وفد الريح عند الإسراع، وتفوق سرعة السحاب عند الاتساع، فهن مع العقبان في النيق «3» حوّم، وهن مع البنيان في البحر عوّم، لو أقسم من رآها، ولو قال مشاهد معناها، إن الله نفخ فيها الروح فأحياها، لبرّ في يمينه التي أقسم وتلاها، وكم من مركب لحسنه معجب، وكم من سفين قويّ أمين، وخضاري جليل، وعشاري طويل، ومسماري طويل جميل وفستراوي، عكاوي، ولكة ودرمونة، ومعدّية مكينة، وسلور دقيق، وشختور رشيق، وقرقور رقيق، وزورق ذي زواريق، وطريدة بخيل الطراد معمورة، دهماء بحمل الجياد والأجناد مشهورة، ومخلوف في الآفاق بالمعروف معروف، وما أحلى بنان رطبها المخضب، ورشيق قامة قصبها المقصب، وبهجة فوز ما بطلح موزها، وخضر أعلام أوراقها، وصفر كرام إعلاقها، فلا البلاغة تبلغ من إحصاء فضلها مراما، ولا الفصاحة تصوغ لوصف تشبيهها كلاما، فنسأل الله تعالى أن يكنفها بركنه الذي لا يرام، ويحرسها بعينه التي لا تنام بمنه وكرمه.
وقال الرئيس شهاب الدين أحمد بن يحيي بن فضل الله العمري كاتب السرّ:
لمصر فضل باهر ... بعيشها الرغد النضر
في كل سفح يلتقي ... ماء الحياة والخضر(2/220)
وقال إبراهيم بن القاسم الكاتب الملقب بالرشيق يتشوّق إلى مصر، وقد خرج عنها في سنة ست وثمانين وثلثمائة من قصيدة:
هل الريح إن سارت مشرّقة تسري ... تؤدّي تحياتي إلى ساكني مصر
فما خطرت إلّا بكيت صبابة ... وحملتها ما ضاق عن حمله صدري
لأني إذا هبت قبولا بنشرهم ... شممت نسيم المسك من ذلك النشر
فكم لي بالأهرام أو دير نهية ... مصايد غزلان المطايد والقفر
إلى جيزة الدنيا وما قد تضمنت ... جزيرتها ذات المواخر والجسر
وبالمقس والبستان للعين منظر ... أنيق إلى شاطىء الخليج إلى القصر
وفي بئر دوس مستراد وملعب ... إلى دير محنا إلى ساحل البحر
فكم بين بستان الأمير وقصره ... إلى البركة النضراء من زهر نضر
تراها كمرآة بدت في رفارف ... من السندس الموشى تنشر للتجر «1»
وكم ليلة بالقرافة خلتها ... لما نلت من لذاتها ليلة القدر
وقال أحمد بن رستم بن إسفهسلار الديلميّ: يخاطب الوزير نجم الدين أبا يوسف بن الحسين المجاور، وتوفي في رابع عشر ذي الحجة سنة إحدى وعشرين وستمائة:
حيّ الديار بشاطئي مقياسها ... فالمقسم الفياح بين دهاسها «2»
فالروضتين وقد تضوّع عرفها ... أرج البنفسج في غضارة أسها
فمنازل العين المنيفة أصبحت ... يغني سناها عن سنا نبراسها
فخليجها لذاته مطلوبة ... تسمو محاسنه علا بأناسها
حافاته محفوفة بمنازل ... نزلت بها الآرام دون كناسها
وقال العلامة جلال الدين محمد الشيرازيّ المعروف بإمام منكلي بغا:
حيّا الحيا مصرا وسكانها ... وباكر الوسميّ «3» كثبانها
وجاد صوب المزن من أرضها ... معاهد الأنس وأوطانها
معاهد بالأنس معمورة ... لم أنس مهما عشت إحسانها
كم أيقظتني في ذرا دوحها ... عجماء لا تفقه ألحانها
وكم نعيم قد تخيلته ... فيها وكم غازلت غزلانها
وعاينت عيني بها أغيدا ... منعس المقلة وسنانها(2/221)
تسحر بالتفتير ألحاظه ... كأنّ من بابل شيطانها
وكم شجت قلبي بها غادة ... قد كحلت بالغنج أجفانها
إذا دعت صبا إلى حبها ... لا يستطيع الصب عصيانها
وكم ليال لي بها قد مضت ... تسحب بالإعجاب أردانها
وألهف نفسي كيف شطت بها ... حوادث قوّضن بنيانها
فارقتها لا عن قلى صدّني ... عنها فراق الروح جسمانها
واعتضت عن غزلانها والمها ... نعاج جيرون وثيرانها
يا سائلي عن حالتي بعدها ... ها أنا ذا أذكر عنوانها
ما حال من فارق أصحابه ... وفارق الدنيا وجيرانها
تقلب فوق الجمر أحشاؤه ... تؤجج الأشواق نيرانها
والعين لا تنفك من عبرة ... ترسل فوق الخدّ طوفانها
يا سائق النوق يبث الثرى ... كمثل بث السحب تهتانها «1»
حيّ ربا مصر وجناتها ... وحورها العين وولدانها
ودورها الزهر وساحاتها ... وبين قصريها وميدانها
وأرضها المخصب أرجاؤها ... ونيلها الزاهي وخلجانها
والروضة الفيحاء تلك التي ... تجلو عن الأنفس أحزانها
ومنية الشيرج لا تنسها ... وقرطها الأحوى وكتانها
والتاج الخمس وجوه التي ... أضحت من الأعين إنسانها
وحيّ يا برق وجد بالحيا ... جزيرة الفيل وغيطانها
وبانها الغض ونسرينها ... ووردها البكر وريحانها
وظلها الضافي وأزهارها ... وماءها الصافي وغدرانها
والمعهد المأنوس من ربعها ... وحيّ أهليها وسكانها
لم أنس لا أنسى اصطباحي بها ... ولا اغتباقاتي وإبانها
ولا أويقات التصابي ولا ... تلك الخلاعات وأزمانها
أيام لا انفك من صبوة ... أهوى اللذا ذات وإعلانها
أخطر تيها في رياض الصبا ... مرنح الأعطاف كسلانها
وخيل لهوي في ميادينها ... تجرجر الصبوة أرسانها
ودوحتي ناضرة غضة ... تعطف ريح اللهو أغصانها
حاشاي أن أنقض عهدا لها ... حاشاي أن أصبح خوّانها
حاشاي أن أهجرها قاليا ... حاشاي أن أحدث سلوانها(2/222)
حاشاي أن أرضى بديلا بها ... روابي الشام وقيعانها
وماءها الثج وحصباءها ... وصخرها الصلد وصوّانها
قد تاقت النفس إلى الفها ... وحثت الأشواق أظعانها
وادّكرت في البعد أحبابها ... فهيّج التبريح «1» أشجانها
وما لها غيرك من ملتجا ... يا أوحد الدنيا وإنسانها(2/223)
ذكر ما قيل في مدّة بقاء القاهرة ووقت خرابها
قال المعارف محيي الدين محمد بن العربيّ الطائيّ الحاتميّ في الملحمة المنسوبة إليه قاهرة تعمر في سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، وتخرب سنة ثمانين وسبعين، ووقفت لها على شرح لم أعرف تصنيف من هو، فإنه لم يسمّ في النسخة التي وقفت عليها، وهو شرح لطيف قليل الفائدة، فإنه ترك كلام المصنف فيما مضى على ما هو معروف في كتب التاريخ، ولم يبين مراده، فيما يستقبل، وكانت الحاجة ماسة إلى معرفة ما يستقبل أكثر من المعرفة بحال ما مضى، لكن أخبرني غير واحد من الثقات، أنه وقف لهذه الملحمة على شرح كبير في مجلدين، قال هذا الشارح: كانت بداية عمارة القاهرة والنّيران في شرفهما: الشمس في برج الحمل، والقمر في برج الثور، وهو برج ثابت. قال: فعمّر القاهرة، ومدّتها أربعمائة، وإحدى وستون سنة، قال في الأصل: وإذا نزل زحل برج الجوزاء عزت الأقوات بمصر، وقلّ أغنياؤهم، وكثر فقراءهم ويكون الموت فيهم ويخرج أهل برقة عن أوطانهم، لا سيما إذا قارن زحل الجوزهر، فإنّ الحال يكون أشدّ وأقوى.
قال الشارح: كان ذلك في سنة أربع وستين وستمائة في أيام الملك الظاهر ركن الدين بيبرس، فإنه نزل زحل برج الجوزاء، فوقع الغلاء، وفي آخر سنة أربع، وأوّل سنة خمس وتسعين وستمائة، في أيام الملك العادل: كتبغا «1» حلّ زحل في برج الجوزاء، وكان معه الجوزهر، فكانت أشدّ وأقوى وكثر الغلاء والوباء.
قال: سئل المعز عن الترك ما هم؟ فقال: قوم مسلمون يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويقيمون الحدود والواجبات، ويقاتلون في سبيل الله أعداء الله، فقيل له:
أتطول مدّتهم؟ قال: لا تطول مدّتهم، قيل: فكيف يكون زوالهم؟ قال: يكون هكذا، وكان إلى جانبه طبق كيزان، فحرّكه حركة شديدة، فتكسرت الكيزان، فقال: هكذا يكون زوالهم يقتل بعضهم بعضا، قال:
احذر بنيّ من القران العاشر ... وارحل بأهلك قبل نقر الناقر(2/224)
قال الشارح: أوّل القران العاشر في سنة خمس وثمانين وسبعمائة، وفيه تكون حالات رديئة بأرض مصر، وهذا يوافق ما في القول عن القاهرة، وتخرب في سنة خمس وثمانين وسبعمائة، يعني بداية انحطاطها من سنة خمس وثمانين وسبعمائة التي فيها القران العاشر، ويثبت في عشرين سنة التي هي أيام القران، وقد ذكر في الربع الآخر أربعمائة، وإحدى وستين سنة، وقد تخيلت أنها مدّة عمر القاهرة، فإذا زدتها على تاريخ عمارتها بلغ ذلك ثمانمائة وتسع عشرة سنة، وفي ذلك الوقت يكون زوالها، وهو ما بين سنة ثمانين، وسبعمائة إلى سنة تسع عشرة وثمانمائة، ويكون ذلك سببه قحط عظيم، وقلة خير، وكثرة شرّ حتى تتخرّب ويضعف أهلها.
قال: قران زحل والمرّيخ في برج الجدي يكون في سنة سبعين وسبعمائة، فتعدّ لكل مائة سنة من سني الهجرة ثلاث سنين، فيكون ثلاثا وعشرين سنة تزيدها على سبعمائة وسبعين سنة تبلغ سبعمائة، وثلاثا وتسعين سنة، ففي مثلها من سني الهجرة يكون أوّل أوقات خراب القاهرة، انتهى.
وتهذيب هذا القول: أنّ زحل كلما حلّ برج الجوزاء،. اتضعت أحوال مصر، وقلت أموالهم، وكثر الغلاء والفناء عندهم، بحسب الأوضاع الفلكية، وزحل يحلّ في برج الجوزاء كل ثلاثين سنة شمسية، فيقيم فيه نحوا من ثلاثين شهرا، وأنت إذا اعتبرت أمور العالم وجدت الحال كما ذكرنا، فإنه كلما حلّ زحل برج الجوزاء وقع الغلاء بمصر، وذكر أنّ القران العاشر تتضع فيه أحوال القاهرة، ورأينا الأمر كما ذكرنا، فإنّ القران العاشر كان في سنة ست وثمانين وسبعمائة، ومدّة سنينه عشرون سنة شمسية، آخرها سابع عشر رجب سنة سبع وثمانمائة، وفي هذه المدّة اتضع حال القاهرة وأهلها، اتضاعا قبيحا، ومن الأوقات المحذورة لها أيضا اقتران زحل والمريخ في برج السرطان، ويكون ذلك في كل ثلاثين سنة شمسية، ويقترنان في سنة ثمان عشرة وثمانمائة، وفي مدّته تنقضي الأربعمائة والإحدى والستون سنة التي ذكر أنها عمر القاهرة في سنة تسع عشرة وثمانمائة، وشواهد الحال اليوم تصدّق ذلك لما عليه أهل القاهرة الآن من الفقر والفاقة، وقلة المال وخراب الضياع والقرى، وتداعى الدور للسقوط، وشمول الخراب أكثر معمور القاهرة، واختلاف أهل الدولة، وقرب انقضاء مدّتهم وغلاء سائر الأسعار.
ولقد سمعت عمن يرجع إليه في مثل ذلك: أنّ العمارة تنتقل من القاهرة إلى بركة الحبش، فيصير هناك مدينة، والله تعالى أعلم.(2/225)
ذكر مسالك القاهرة وشوارعها على ما هي عليه الآن
وقبل أن نذكر خطط القاهرة، فلنبتدىء بذكر شوارعها، ومسالكها: المسلوك منها إلى الأزقة، والحارات لتعرف بها الحارات والخطط والأزقة والدروب، وغير ذلك مما ستقف عليه إن شاء الله تعالى.
فالشارع الأعظم: قصبة القاهرة من باب زويلة إلى بين القصرين، عليه باب الخرنفش أو الخرنشف، ومن باب الخرنفش ينفرق من هنالك طريقان ذات اليمين، ويسلك منها إلى الركن المخلق، ورحبة باب العيد إلى باب النصر، وذات اليسار، ويسلك منها إلى الجامع الأقمر، وإلى حارة برجوان إلى باب الفتوح، فإذا ابتدأ السالك بالدخول من باب زويلة، فإنه يجد يمنة الزقاق الضيق الذي يعرف اليوم: بسوق الخلعيين، وكان قديما يعرف:
بالخشابين، ويسلك من هذا الزقاق إلى حارة الباطلية، وخوخة حارة الروم البرّانية، ثم يسلك الداخل أمامه، فيجد على يسرته سجن متولي القاهرة المعروف: بخزانة شمايل، وقيسارية سنقر الأشقر، ودرب الصفيرة، ثم يسلك أمامه، فيجد على يمنته: حمام الفاضل المعدّة لدخول الرجال، وعلى يسرته تجاه هذه الحمام: قيسارية الأمير بهاء الدين رسلان الدوادار الناصريّ إلى أن ينتهي بين الحوانيت، والرباع فوقها إلى بابي زويلة الأوّل، ولم يبق منهما سوى عقد أحدهما، ويعرف الآن: بباب القوس، ثم يسلك أمامه فيجد على يسرته الزقاق المسلوك فيه إلى سوق الحدّادين، والحجارين المعروف اليوم بسوق الأنماطيين، وسكن الملاهي، وإلى المحمودية، وإلى سوق الأخفافيين، وحارة الجودرية والصوّافين، والقصارين والفحامين وغير ذلك، ويجد تجاه هذا الزقاق عن يمينه المسجد المعروف قديما، بابن البناء وتسميه العامّة الآن: بسام بن نوح، وهو في وسط سوق الغرابليين والمناخليين، ومن معهم من الضببيين، ثم يسلك أمامه فيجد سوق السرّاجين، ويعرف اليوم: بالشوّايين، وفي هذا السوق على يمينه: الجامع الظافريّ المعروف بجامع الفكاهين، وبجانبه الزقاق المسلوك منه إلى حارة الديلم، وسوق القفاصين، وسوق الطيوريين، والأكفانيين القديمة المعروفة الآن بسكنى دقاقي الثياب، ويجد على يسرته الزقاق المسلوك منه إلى حارة الجودرية، ودرب كركامة، ودكة الحسبة المعروفة قديما بسوق الحدّادين وسوق الورّاقين القديمة، وإلى سوق الفاميين المعروف اليوم: بالأبازرة،(2/226)
وإلى غير ذلك، ثم يسلك أمامه إلى سوق الحلاويين الآن، فيجد عن يمينه الزقاق المسلوك فيه إلى سوق الكعكيين المعروف قديما بالقطانيين، وسكنى الأساكفة، وإلى بابي قيسارية جهاركس، وعن يسرته: قيسارية الشرب، ثم يسلك أمامه إلى سوق الشرابشيين المعروف قديما يسكن الحالقيين، وعن يمنته درب قيطون، ثم يسلك أمامه شاقا في سوق الشرابشيين، فيجد عن يمنته قيسارية أمير علي، ويجد عن يسرته سوق الجملون الكبير المسلوك فيه إلى قيسارية ابن قريش، وإلى سوق العطارين والوراقين، وإلى سوق الكفتيين، والصيارف، والأخفافيين، وإلى بئر زويلة والبندقانيين، وإلى غير ذلك، ثم يسلك أمامه، فيجد عن يمينه الزقاق المسلوك فيه إلى سوق الفرّايين الآن، وكان يعرف أوّلا بدرب البيضاء، وإلى درب الأسواني، وإلى الجامع الأزهر، وغير ذلك، ويجد عن يسرته قيسارية بني أسامة، ثم يسلك أمامه شاقا في سوق الجوخيين واللجميين، فيجد عن يمينه قيسارية السروج، وعن يسرته قيسارية «1» ثم يسلك أمامه إلى سوق السقطيين والمهامزيين، فيجد عن يمينه درب الشمسيّ، ويقابله باب قيسارية الأمير علم الدين الخياط، وتعرف اليوم: بقيسارية العصفر، ثم يسلك أمامه شاقا في السوق المذكور، فيجد عن يمينه الزقاق المسلوك فيه إلى سوق القشاشين، وعقبة الصباغين المعروف اليوم بالخرّاطين، وإلى سوق الخيميين، وإلى الجامع الأزهر، وغير ذلك ويجد قبالة هذا الزقاق عن يسرته قيسارية العنبر المعروفة قديما بحبس المعونة، ثم يسلك أمامه، فيجد على يسرته الزقاق المسلوك فيه إلى سوق الورّاقين، وسوق الحريريين الشراربيين المعروف قديما بسوق الصاغة القديمة، وإلى درب شمس الدولة، وإلى سوق الحريريين، وإلى بئر زويلة والبندقانيين، وإلى سويقة الصاحب، والحارة الوزيرية، وإلى باب سعادة وغير ذلك، ثم يسلك أمامه شاقا في بعض سوق الحريريين، وسوق المتعيشين، وكان قديما سكنى الدجاجين والكعكيين، وقبل ذلك أوّلا سكنى السيوفيين، فيجد عن يمينه قيسارية الصنادقيين، وكانت قديما تعرف بفندق الدبابليين، ويجد عن يسرته مقابلها، دار المأمون البطائحي المعروفة بمدرسة الحنفية، ثم عرفت اليوم بالمدرسة السيوفية، لأنها كانت في سوق السيوفيين، ثم يسلك أمامه في سوق السيوفيين الذي هو الآن سوق المتعيشين، فيجد عن يمينه خان مسرور، وحجرتي الرقيق، وكدة المماليك بينهما، ولم تزل موضعا لجلوس من يعرض من المماليك الترك والروم، ونحوهم للبيع إلى أوائل أيام الملك الظاهر برقوق، ثم بطل ذلك، ويجد عن يسرته قيسارية الرماحين، وخان الحجر، ويعرف اليوم هذا الخط بسوق باب الزهومة، ثم يسلك أمامه، فيجد عن يسرته الزقاق والساباط «2» المسلوك فيه إلى حمام خشيبة، ودرب شمس الدولة، وإلى حارة العدوية المعروفة اليوم بفندق الزمام، وإلى(2/227)
حارة زويلة وغير ذلك، ويجد بعد هذا الزقاق قريبا منه في صفة درب السلسلة، ومن هنا ابتداء خط بين القصرين، وكان قديما في أيام الدولة الفاطمية مراحا واسعا ليس فيه عمارة البتة، يقف فيه عشرة آلاف فارس، والقصران هما موضع سكنى الخليفة أحدهما شرقيّ، وهو القصر الكبير، وكان على يمنة السالك من موضع خان مسرور طالبا باب النصر وباب الفتوح، وموضعه الآن المدارس الصالحية النجمية، والمدرسة الصاهرية الركنية، وما في صفها من الحوانيت، والرباع إلى رحبة العيد، وما وراء ذلك إلى البرقية، ويقابل هذا القصر الشرقيّ القصر الغربيّ، وهو القصر الصغير، ومكانه الآن المارستان المنصوريّ، وما في صفه من المدارس والحوانيت، إلى تجاه باب الجامع الأقمر، فإذا ابتدأ السالك بدخول بين القصرين من جهة خان مسرور، فإنه يجد على يسرته درب السلسلة، ثم يسلك أمامه، فيجد على يمينه الزقاق المسلوك فيه إلى سوق الأمشاطيين المقابل لمدرسة الصالحية التي للحنفية والحنابلة، وإلى الزقاق الملاصق لسور المدرسة المذكورة المسلوك فيه إلى خط الزراكشة العتيق حيث خان الخليليّ، وخان منج، وإلى الخوخ السبع حيث الآن سوق الأبارين، وإلى الجامع الأزهر، وإلى المشهد الحسينيّ وغير ذلك، ثم يسلك أمامه شاقا في سوق السيوفيين الآن، فيجد على يساره دكاكين السيوفيين، وعلى يمينه دكاكين النقليين ظاهر سوق الكتبيين الآن، وعلى يساره سوق الصيارف برأس باب الصاغة، وكان قديما مطبخ القصر قبالة باب الزهومة، ثم يسلك أمامه فيجد على يمينه باب المدارس الصالحية تجاه باب الصاغة، ثم يسلك أمامه فيجد عن يمينه القبة الصالحية، وبجوارها المدرسة الطاهرية الركنية، ويجد على يساره باب المارستان المنصوري، وفي داخله القبة المنصورية التي فيها قبور الملوك، وتحت شبابيكها دكك القفصيات التي فيها الخواتيم ونحوها، فيما بين القبة المذكورة، والمدرسة الظاهرية المذكورة، وفي داخله أيضا المدرسة المنصورية، وتحت شبابيكها أيضا، دكك القفصيات فيما بين شبابيكها، وشبابيك المدرسة الصالحية التي للشافعية والمالكية، وتحتها خيمة الغلمان بجوار قبة الصالح، وفي داخله أيضا المارستان الكبير المنصوريّ المتوصل من باب سرّه إلى حارة زويلة، وإلى الخرنشف، وإلى الكافوري وإلى البندقانيين، وغير ذلك، ثم يسلك باب المارستان، فيجد على يمنته سوق السلاح والنشابين الآن تحت الربع المعروف: بوقف أمير سعيد، ويجد على يسرته المدرسة الناصرية الملاصقة لمئذنة القبة المنصورية، ثم يسلك أمامه، فيجد على يمنته: خان بشتاك، وفوقه الربع وعرف الآن هذا الخان: بالمستخرج، ويجد على يسرته: المدرسة الظاهرية الجديدة بجوار المدرسة الناصرية، وكانت قبل إنشائها مدرسة فندقا يعرف: بخان الزكاة، ثم يسلك أمامه، فيجد على يمنته، باب قصر بشتاك، ويجد على يسرته المدرسة الكاملية المعروفة:
بدار الحديث، وهي ملاصقة للمدرسة الظاهرية الجديدة، ثم يسلك أمامه، فيجد على يمنته الزقاق المسلوك فيه إلى بيت أمير سلاح المعروف بقصر أمير سلاح، وهو الأمير فخر الدين(2/228)
بكتاش الفخريّ الصالحيّ النجميّ، وإلى دار الأمير سلار نائب السلطنة، وإلى دار الطواشي سابق الدين، ومدرسته التي يقال لها المدرسة السابقية، وكان في داخل هذا الزقاق مكان يتوصل إليه من تحت قبو المدرسة السابقية يعرف بالسودوس فيه عدّة مساكن صارت كلها اليوم دارا واحدة إنشاء الأمير جمال الدين الإستادار، وكان تجاه باب المدرسة السابقية ربع تحته فرن، ومن ورائه عدّة مساكن يعرف مكانها بالحدرة، فهدم الأمير جمال الدين المذكور الربع، وما وراءه، وحفر فيه صهريجا وأنشأ به عدة آدر هي الآن جارية في أوقافه.
وكان يسلك من باب السابقية على باب الربع، والفرن المذكورين إلى دهليز طويل مظلم ينتهي إلى باب القصر، تجاه سور سعيد السعداء، ومنه يخرج السالك إلى رحبة باب العيد، وإلى الركن المخلق، فهدمه الأمير جمال الدين، وجعل مكانه قيسارية، وركب على رأس هذا الزقاق تجاه حمام البيسريّ، دربا في داخله دروب ليصون أمواله، وانقطع التطرّق من هذا الزقاق، وصار دربا غير نافذ، ويجد السالك عن يسرته قبالة هذا الزقاق، وصار دربا مدربا باب قصر البيسرية، وقد بنى في وجهه حوانيت بجانبها حمام البيسري، ومن هنا ينقسم شارع القاهرة المذكورة إلى طريقين: إحداهما ذات اليمين، والأخرى ذات اليسار، فأمّا ذات اليسار، فإنها تتمة القصبة المذكورة، فإذا مرّ السالك من باب حمام الأمير بيسري، فإنه يجد على يسرته باب الخرنشف المسلوك فيه إلى باب سرّ البيسرية، وإلى باب حارة برجوان، الذي يقال له: أبو تراب، وإلى الخرنشف، واصطبل القطبية، وإلى الكافوري، وإلى حارة زويلة، وإلى البندقانيين، وغير ذلك، ثم يسلك أمامه فيجد سوقا يعرف أخيرا بالوزارزين والدجاجين يباع فيه الأوز، والدجاج والعصافير، وغير ذلك من الطيور، وأدركناه عامرا سوقا كبيرا من جملته دكان لا يباع فيها غير العصافير، فيشتريها الصغار للعب بها.
وفي هذا السوق على يمنة السالك: قيسارية يعلوها ربع كانت مدّة سوقا يباع فيه الكتب، ثم صارت لعمل الجلود، وكانت من جملة أوقاف المارستان المنصوري، فهدمها بعض من كان يتحدّث في نظره عن الأمير أيتمش في سنة إحدى وثمانمائة، وعمرها على ما هي عليه الآن، وعلى يسرة السالك في هذا السوق ربع يجري في وقف المدرسة الكاملية، وكان هذا السوق يعرف قديما بالتبانين والقماحين، ثم يمرّ سالكا أمامه، فيجد سوق الشماعين متصلا بسوق الدجاجين، وكان سوقا كبيرا فيه صفان عن اليمين والشمال من حوانيت باعة الشمع أدركته عامرا، وقد بقي منه الآن يسير، وفي آخر هذا السوق على يمنة السالك: الجامع «1» الأقمر، وكان موضعه قديما سوق القماحين، وقبالته درب الخضريّ،(2/229)
وبجانب الجامع الأقمر من شرقيه الزقاق الذي يعرف بالمحايريين ويسلك فيه إلى الركن المخلق وغيره، وقبالة هذا الزقاق بئر الدلاء، ثم يسلك المارّ أمامه، فيجد على يمنته زقاقا ضيقا، ينتهي إلى دور ومدرسة تعرف بالشرابشية، يتوصل من باب سرّها إلى الدرب الأصفر تجاه خانقاه بيبرس، ثم يسلك أمامه في سوق المتعيشين، فيجد على يسرته باب حارة برجوان، ثم يسلك أمامه شاقا في سوق المتعيشين، وقد أدركته سوقا عظيما لا يكاد يعدم فيه شيء مما يحتاج إليه من المأكولات، وغيرها بحيث إذا طلب منه شيء من ذلك في ليل أو نهار وجد.
وقد خرب الآن، ولم يبق منه إلا اليسير، وكان هذا السوق قديما يعرف بسوق أمير الجيوش، وبآخره خان الروّاسين، وهو زقاق على يمنة السالك غير نافذ، ويقابل هذا الزقاق على يسرة السالك إلى باب الفتوح شارع يسلك فيه إلى سوق يعرف اليوم بسويقة أمير الجيوش، وكان قبل اليوم يعرف بسوق الخروقيين، ويسلك من هذا السوق إلى باب القنطرة في شارع معمور بالحوانيت من جانبيه، ويعلوها الرباع، وفيما بين الحوانيت دروب ذات مساكن كثيرة، ثم يسلك أمامه من رأس سويقة أمير الجيوش، فيجد على يمينه الجملون الصغير المعروف بجملون ابن صيرم، وكان مسكنا للبزازين فيه عدّة حوانيت عامرة بأصناف الثياب أدركتها عامرة، وفيه مدرسة ابن صيرم المعروفة بالمدرسة الصيرمية، وفي آخره باب زيادة الجامع الحاكميّ، وكان على بابها عدّة حوانيت تعمل فيها الضبب التي برسم الأبواب، ويخرج من هذا الجملون إلى طريقين: إحداهما يسلك فيها إلى درب الفرنجية، وإلى دار الوكالة وشارع باب النصر، والأخرى إلى درب الرشيديّ النافذ إلى درب الجوّانية، ثم يسلك أمامه فيجد على يمنته شباك المدرسة الصيرمية، ويقابله باب قيسارية خوانداردكين الأشرفية، ثم يسلك أمامه شاقا في سوق المرحلين، وكان صفين من حوانيت عامرة فيها جميع ما يحتاج إليه في ترحيل الجمال، وقد خرب وبقي منه قليل، وفي هذا السوق على يسرة السالك زقاق يعرف بحارة الورّاقة، وفيه أحد أبواب قيسارية خوند المذكورة، وعدّة مساكن وكان مكانه يعرف قديما باصطبل الحجرية، ثم يسلك أمامه فيجد على يمنته أحد أبواب الجامع الحاكميّ وميضأته، ويجد باب الفتوح القديم، ولم يبق منه سوى عقدته، وشيء من عضادته، وبجواره شارع على يسرة السالك يتوصل منه إلى حارة بهاء الدين، وباب القنطرة، ثم يسلك أمامه شاقا في سوق المتعيشين، فيجد على يمينه بابا آخر من أبواب الجامع الحاكميّ، ثم يسلك أمام، فيجد عن يسرته زقاقا بساياط ينفذ إلى حارة بهاء الدين فيه كثير من المساكن، ثم يسلك أمامه، فيجد عن يمينه باب الجامع الحاكمي الكبير، ويجد عن يساره فندق العادل، ويشق في سوق عظيم إلى باب الفتوح، وهو آخر قصبة القاهرة، وأما ذات اليمين من شارع بين القصرين، فإن المارّ إذا سلك من الدرب الذي يقابل حمام البيسري طالبا الركن المخلق، فإنه يشق في سوق القصاصين، وسوق الحصريين إلى(2/230)
الركن المخلق، ويباع فيه الآن النعال، وبه حوض في ظهر الجامع الأقمر لشرب الدواب تسميه العامة حوض النبي، ويقابله مسجد يعرف بمراكع موسى، وينتهي هذا السوق إلى طريقين: إحداهما إلى بئر العظام التي تسميها العامة: بئر العظمة، ومنها ينقل الماء إلى الجامع الأقمر والحوض المذكور بالركن المخلق، ويسلك منه إلى المحايريين والطريق الأخرى تنتهي إلى الدنق المعروف بقيسارية الجلود، ويعلوها ربع أنشأت ذلك خوند بركة أمّ الملك الأشرف شعبان «1» بن حسين، وبجوار هذه القيسارية بوّابة عظيمة، قد سترت بحوانيت يتوصل منها إلى ساحة عظيمة هي من حقوق المنحر كانت خوند المذكورة، قد شرعت في عمارتها قصرا لها، فماتت دون إكماله، ثم يسلك أمامه فيجد الرباع التي تعلو الحوانيت، والقيسارية المستجدّة في مكان باب القصر الذي كان ينتهي إلى مدرسة سابق الدين، وبين القصرين، وكان أحد أبواب القصر، ويعرف بباب الريح، وهذه الرباع والقيسارية من جملة إنشاء الأمير جمال الدين الإستادار، وكانت قبله حوانيت ورباعا، فهدمها وأنشأها على ما هي عليه اليوم، ثم يسلك أمامه فيجد عن يمينه مدرسة الأمير جمال الدين المذكور، وكان موضعها خانا، وظاهره حوانيت، فبنى مكانها مدرسة وحوضا للسبيل، وغير ذلك، ويقال لهذه الأماكن رحبة باب العيد، ويسلك منها إلى طريقين:
إحداهما ذات اليمين، والأخرى ذات اليسار، فأما ذات اليمين فإنها تنتهي إلى المدرسة الحجازية، وإلى درب قراصيا، وإلى حبس الرحبة، وإلى درب السلاميّ المسلوك منه إلى باب العيد الذي تسميه العامة بالقاهرة، وإلى المارستان العتيق، وإلى قصر الشوك، ودار الضرب، وإلى باب سرّ المدارس الصالحية، وإلى خزانة البنود، ويسلك من رأس درب السلاميّ هذا في رحبة باب العيد إلى السفينة، وخط خزانة البنود، ورحبة الأيد مريّ، والمشهد الحسينيّ، ودرب الملوخيا، والجامع الأزهر، والحارة الصالحية، والحارة البرقية إلى باب البرقية، والباب المحروق، والباب الجديد. وأما ذات اليسار من رحبة باب العيد، فإنّ المارّ يسلك من باب مدرسة الأمير جمال الدين إلى باب زاوية الخدّام إلى باب الخانقاه المعروفة بدار سعيد السعداء، فيجد عن يمينه زقاقا بجوار سور دار الوزارة يسلك فيه إلى خرائب تتر، وإلى خط الفهادين، وإلى درب ملوخيا، وغير ذلك. ثم يسلك أمامه فيجد عن يمينه المدرسة القراسنقرية، وخانقاه ركن الدين بيبرس، وهما من جملة دار الوزارة، وما جاور الخانقاه إلى باب الجوّانية، وتجاه خانقاه بيبرس الدرب الأصفر، وهو المنحر الذي كانت الخلفاء تنحر فيه الأضاحي، ثم يسلك أمامه، فيجد على يمنته دار الأمير قزمان بجوار خانقاه بيبرس، وبجوارهما دار الأمير شمس الدين سنقر الأعسر الوزير، وقد عرفت الآن(2/231)
بدار خوند طولوباي زوجة السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون، وبجوارها حمام الأعسر المذكور، وجميع هذا من دار الوزارة، ويجد على يسرته: درب الرشيدي تجاه حمام الأعسر المسلوك فيه إلى درب الفرنجية وجملون بن صيرم، ثم يسلك أمامه، فيجد على يمينه الشارع المسلوك فيه إلى الجوّانية، وإلى خط الفهادين، وإلى درب ملوخيا، وإلى العطوفية، وقد خربت هذه الأماكن ويجد على يسرته الوكالة المستجدّة من إنشاء الملك الظاهر برقوق، ثم يسلك أمامه، فيجد على يسرته زقاقا يسلك فيه إلى جملون ابن صيرم، وإلى درب الفرنجية، ثم يسلك أمامه فيجد على يمنته: دار الأمير شهاب الدين أحمد، ابن خالة الملك الناصر محمد بن قلاوون، ودار الأمير علم الدين سنجر الجاولي، وهما من حقوق الحجرانتي كانت بها مماليك الخلفاء، وأجنادهم، ويجد على يسرته: وكالة الأمير قوصون ثم يسلك من باب الوكالة، فيجد مقابل باب قاعة الجاولي: خان الجاولي، وبعدها باب النصر القديم، وأدركت فيه قطعة كانت تجاه ركن المدرسة الفاصدية الغربيّ، وقد زال ويسلك منه إلى رحبة الجامع الحاكمي، فيجد على يمنته المدرسة القاصدية، وعلى يسرته بابي الجامع الحاكميّ، وتجاه أحدهما الشارع المسلوك فيه إلى حارة العبدانية، وحارة العطوفية، وغير ذلك، ومن باب الجامع الحاكميّ ينتهي إلى باب النصر، فيما بين حوانيت ورباع ودور، فهذه صفة القاهرة الآن، وستقف إن شاء الله تعالى على كيفية ابتداء موضع هذه الأماكن، وما صارت إليه، وذكر التعريف بمن نسبت إليه أو عرفت به على ما التقطت ذلك من كتب التواريخ، ومجامع الفضلاء، ووقفت عليه بخطوط الثقات، وأخبرني بذلك من أدركته من المشيخة، وما شاهدته من ذلك سالكا فيه سبيل التوسط في القول بين الإكثار والاختصار، والله الموفق بمنه وكرمه لا إله غيره.(2/232)
ذكر سور القاهرة
اعلم أن القاهرة مذ أسست عمل سورها ثلاث مرّات: الأولى: وضعه القائد جوهر، والمرّة الثانية: وضعه أمير الجيوش بدر الجماليّ في أيام الخليفة المستنصر، والمرّة الثالثة:
بناه الأمير الخصيّ بهاء الدين قراقوش الأسديّ في سلطنة الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب أوّل ملوك القاهرة.
السور الأوّل: كان من لبن وضعه جوهر القائد على مناخه الذي نزل به هو وعساكره حيث القاهرة الآن، فأداره على القصر والجامع، وذلك أنه لما سار من الجيزة بعد زوال الشمس، من يوم الثلاثاء لسبع عشرة خلت من شعبان سنة ثمان وخمسين وثلثمائة بعساكره، وقصد إلى مناخه الذي رسمه له مولاه الإمام المعز لدين الله أبو تميم معدّ، واستقرّت به الدار اختط القصر، وأصبح المصريون يهنونه، فوجدوه قد حفر الأساس في الليل، فأدار السور اللبن، وسماها المنصورية إلى أن قدم المعز لدين الله من بلاد المغرب إلى مصر، ونزل بها فسماها: القاهرة.
ويقال في سبب تسميتها: إن القائد جوهرا لما أراد بناءها أحضر المنجمين، وعرّفهم أنه يريد عمارة بلد ظاهر مصر ليقيم بها الجند، وأمرهم باختيار طالع سعيد لوضع الأساس بحيث لا يخرج البلد عن نسلهم أبدا، فاختاروا طالعا لوضع الأساس، وطالعا لحفر السور، وجعلوا بدائر السور قوائم خشب بين كل قائمتين حبل فيه أجراس، وقالوا للعمال: إذا تحرّكت الأجراس، فارموا ما بأيديكم من الطين والحجارة، فوقفوا ينتظرون الوقت الصالح لذلك، فاتفق أنّ غرابا وقع على حبل من تلك الحبال التي فيها الأجراس، فتحرّكت كلها، فظن العمال أن المنجمين قد حرّكوها، فألقوا ما بأيديهم من الطين والحجارة، وبنوا فصاح المنجمون: القاهرة في الطالع فمضى ذلك، وفاتهم ما قصدوه.
ويقال: إنّ المرّيخ كان في الطالع عند ابتداء وضع الأساس، وهو قاهر الفلك، فسموها: القاهرة، واقتضى نظرهم أنها لا تزال تحت القهر، وأدخل في دائر هذه السور بئر العظام، وجعل القاهرة حارات للواصلين صحبته، وصحبة مولاه المعز، وعمّر القصر بترتيب ألقاه إليه المعز.(2/233)
ويقال: إنّ المعز لما رأى القاهرة لم يعجبه مكانها، وقال الجوهر: لما فاتك عمارة القاهرة بالساحل، كان ينبغي عمارتها بهذا الجبل يعني سطح الجرف الذي يعرف اليوم بالرصد المشرف على جامع راشدة، ورتب في القصر جميع ما يحتاج إليه الخلفاء بحيث لا تراهم الأعين في النقلة من مكان إلى مكان، وجعل في ساحاته البحرة والميدان، والبستان وتقدّم بعمارة المصلى بظاهر القاهرة، وقد أدركت من هذا السور اللبن قطعا، وآخر ما رأيت منه قطعة كبيرة كانت فيما بين باب البرقية، ودرب بطوط هدمها شخص من الناس في سنة ثلاث وثمانمائة، فشاهدت من كبر لبنها ما يتعجب منه في زمننا، حتى أنّ اللبنة تكون قدر ذراع في ثلثي ذراع، وعرض جدار السور: عدّة أذرع يسع أن يمر به فارسان، وكان بعيدا عن السور الحجر الموجود الآن، وبينهما نحو الخمسين ذراعا، وما أحسب أنه بقي الآن من هذا السور اللبن شيء.
وجوهر هذا: مملوك روميّ رباه المعز لدين الله أبو تميم معدّ، وكناه بأبي الحسن، وعظم محله عنده في سنة سبع وأربعين وثلثمائة، وصار في رتبة الوزارة، فصيره قائد جيوشه وبعثه في صفر منها، ومعه عساكر كثيرة فيهم الأمير: زيري بن مناد الصنهاجي وغيره من الأكابر، فسار إلى تاهرت «1» وأوقع بعدّة أقوام، وافتتح مدنا وسار إلى فاس، فنازلها مدّة، ولم ينل منها شيئا، فرحل عنها إلى سجلماسة، وحارب ثائرا، فأسره بها، وانتهى في مسيره إلى البحر المحيط، واصطاد منه سمكا، وبعثه في قلة ماء إلى مولاه المعز، وأعلمه أنه قد استولى على ما مرّ به من المدائن والأمم، حتى انتهى إلى البحر المحيط، ثم عاد إلى فاس، فألح عليه بالقتال إلى أن أخذها عنوة، وأسر صاحبها، وحمله هو والثائر بسجلماسة في قفصين، مع هدية إلى المعز، وعاد في أخريات السنة، وقد عظم شأنه وبعد صيته، ثم لما قوي عزم المعز على تسيير الجيوش لأخذ مصر، وتهيأ أمرها، فقدّم عليها القائد جوهرا، وبرز إلى رمادة، ومعه ما ينيف على مائة ألف فارس، وبين يديه أكثر من ألف صندوق من المال، وكان المعز يخرج إليه في كل يوم ويخلو به، وأطلق يده في بيوت أمواله، فأخذ منها ما يريد زيادة على ما حمله معه، وخرج إليه يوما، فقام جوهر بين يديه، وقد اجتمع الجيش، فالتفت المعز إلى المشايخ الذين وجههم مع جوهر، وقال: والله لو خرج جوهر هذا وحده لفتح مصر، ولتدخلن إلى مصر بالأردية من غير حرب، ولتنزلن في خرابات ابن طولون، وتبنى مدينة تسمى القاهرة تقهر الدنيا، وأمر المعز بإفراغ الذهب في هيئة الأرحية، وحملها مع جوهر على الجمال ظاهرة، وأمر أولاده وإخوانه الأمراء، ووليّ العهد، وسائر أهل الدولة أن يمشوا في خدمته، وهو راكب وكتب إلى سائر عماله يأمرهم(2/234)
إذا قدم عليهم جوهر أن يترجلوا مشاة في خدمته، فلما قدم برقة افتدى صاحبها من ترجله ومشيه في ركابه بخمسين ألف دينار ذهبا، فأبى جوهر إلّا أن يمشي في ركابه، وردّ المال فمشى، ولمّا رحل من القيروان إلى مصر في يوم السبت رابع عشر ربيع الأوّل سنة ثمان وخمسين وثلثمائة أنشد محمد «1» بن هانىء، في ذلك:
رأيت بعيني فوق ما كنت أسمع ... وقد راعني يوم من الحشر أروع
غداة كأن الأفق سدّ بمثله ... فعاد غروب الشمس من حيث تطلع
فلم أدر إذ ودّعت كيف أودع ... ولم أدر إذا شيّعت كيف أشيع
إلا أن هذا حشد من لم يذق له ... غرار الكرى جفن ولا بات يهجع
إذا حلّ في أرض بناها مدائنا ... وإن سار عن أرض غدت «2» وهي بلقع
تحلّ بيوت المال حيث محله ... وجمّ العطايا والرواق المرفع
وكبّرت الفرسان لله إذ بدا ... وظل السلاح المنتضى يتقعقع
وعب عباب الموكب الفخم حوله ... ورق كما رق الصباح الملمع
رحلت إلى الفسطاط أوّل رحلة ... بأيمن فأل بالذي أنت تجمع
فإن يك في مصر ظماء لمورد ... فقد جاءهم نيل سوى النيل يهرع
ويمّمهم من لا يغار بنعمة ... فيسلبهم لكن يزيد فيوسع
ولما دخل إلى مصر واختط القاهرة، وكتب بالبشارة إلى المعز قال ابن هانىء:
تقول بنو العباس قد فتحت مصر ... فقل لبني العباس قد قضي الأمر
وقد جاوز الإسكندرية جوهر ... تصاحبه «3» البشرى ويقدمه النصر
ولم يزل معظما مطاوعا، وله حكم ما فتح من بلاد الشام، حتى ورد المعز من المغرب إلى القاهرة، وكان جعفر بن فلاح يرى نفسه أجلّ من جوهر، فلما قدم معه إلى مصر سيره جوهر إلى بلاد الشام في العساكر، فأخذ الرملة، وغلب الحسن بن عبد الله بن طفج، وسار فملك طبرية ودمشق.
فلما صارت الشام له شمخت نفسه عن مكاتبة جوهر، فأنفذ كتبه من دمشق إلى المعز، وهو بالمغرب سرّا من جوهر يذكر فيها طاعته، ويقع في جوهر، ويصف ما فتح الله للمعز على يده، فغضب المعز لذلك، وردّ كتبه كما هي مختومة، وكتب إليه: قد أخطأت(2/235)
الرأي لنفسك، نحن قد أنفذناك مع قائدنا جوهر، فاكتب إليه فما وصل منك إلينا على يده قرأناه، ولا تتجاوزه بعد، فلسنا نفعل لك ذلك على الوجه الذي أردته، وإن كنت أهله عندنا، ولكنا لا نستفسد جوهرا مع طاعته لنا، فزاد غضب جعفر بن فلاح، وانكشف ذلك لجوهر، فلم يبعث ابن فلاح لجوهر يسأله نجدة خوفا أن لا ينجده بعسكر، وأقام مكانه لا يكاتب جوهرا بشيء من أمره إلى أن قدم عليه الحسن بن أحمد القرمطيّ، وكان من أمره ما قد ذكر في موضعه.
ولما مات المعز واستخلف من بعده ابنه العزيز، وورد إلى دمشق: هفتكين الشرابيّ من بغداد، ندب العزيز بالله جوهرا القائد إلى الشام، فخرج إليها بخزائن السلاح، والأموال والعساكر العظيمة، فنزل على دمشق لثمان بقين من ذي القعدة سنة خمس وستين وثلثمائة، فأقام عليها، وهو يحارب أهلها إلى أن قدم الحسن بن أحمد القرمطيّ من الإحساء إلى الشام، فرحل جوهر في ثالث جمادى الأولى سنة ست وستين، فنزل على الرملة والقرمطيّ في إثره فهلك، وقام من بعده جعفر القرمطيّ، فحارب جوهرا، واشتدّ الأمر على جوهر، وسار إلى عسقلان، وحصره هفتكين بها حتى بلغ من الجهد مبلغا عظيما، فصالح هفتكين، وخرج من عسقلان إلى مصر بعد أن أقام بها، وبظاهر الرملة نحوا من سبعة عشر شهرا، فقدم على العزيز، وهو يريد الخروج إلى الشام.
فلما ظفر العزيز بهفتكين، واصطنعه في سنة ثمانين وثلثمائة، واصطنع منجوتكين التركيّ أيضا، أخرجه راكبا من القصر وحده في سنة إحدى وثمانين، والقائد جوهر وابن عمار، ومن دونهما من أهل الدولة مشاة في ركابه، وكانت يد جوهر في يد ابن عمار، فزفر ابن عمار زفرة كاد أن ينشق لها، وقال: لا حول ولا قوّ إلا بالله، فنزع جوهر يده منه، وقال: قد كنت عندي يا أبا محمد أثبت من هذا، فظهر منك إنكار في هذا المقام، لأحدّثنك حديثا عسى يسليك عما أنت فيه، والله ما وقف على هذا الحديث أحد غيري.
لما خرجت إلى مصر وأنفذت إلى مولانا المعز من أسرته، ثم حصل في يدي آخرون اعتقلتهم، وهم نيف على ثلثمائة أسير من مذكوريهم والمعروفين فيهم، فلما ورد مولانا المعز إلى مصر أعلمته بهم، فقال: أعرضهم عليّ، واذكر في كل واحد حاله، ففعلت، وكان في يده كتاب مجلد يقرأ فيه، فجعلت آخذ الرجل من يد الصقالبة، وأقدّمه إليه، وأقول: هذا فلان، ومن حاله وحاله، فيرفع رأسه، وينظر إليه، ويقول: يجوز ويعود إلى قراءة ما في الكتاب حتى أحضرت له الجماعة، وكان آخرهم غلاما تركيا، فنظر إليه وتأمّله، ولما ولي أتبعه بصره، فلما لم يبق أحد قبلت الأرض، وقلت: يا مولانا رأيتك فعلت لما رأيت هذا التركيّ ما لم تفعله مع من تقدّمه، فقال: يا جوهر يكون عندك مكتوما حتى ترى أنه يكون لبعض ولدنا غلام من هذا الجنس تنفق له فتوحات عظيمة في بلاد كثيرة، ويرزقه(2/236)
الله على يده ما لم يرزقه أحد منا مع غيره، وأنا أظنّ أنه ذاك الذي قال لي مولانا المعز، ولا علينا إذا فتح الله لموالينا على أيدينا أو على يد من كان، يا أبا محمد، لكل زمان دولة ورجال، أنريد نحن أن نأخذ دولتنا ودولة غيرنا، لقد أرجل لي مولانا المعز لما سرت إلى مصر أولاده وإخوته، ووليّ عهده، وسائر أهل دولته، فتعجب الناس من ذلك، وها أنا اليوم أمشي راجلا بين يدي منجوتكين، أعزونا وأعزوا بنا غيرنا، وبعد هذا، فأقول: اللهم قرّب أجلي ومدّتي فقد أنفت على الثمانين، أو أنا فيها، فمات في تلك السنة، وذلك أنه اعتلّ، فركب إليه العزيز بالله عائدا أو حمل إليه قبل ركوبه خمسة آلاف دينار ومرتبة مثقل، وبعث إليه الأمير منصور بن العزيز بالله خمسة آلاف دينار، توفي يوم الاثنين لسبع بقين من ذي القعدة سنة إحدى وثمانين وثلثمائة، فبعث إليه العزيز بالحنوط والكفن، وأرسل إليه الأمير منصور بن العزيز أيضا الكفن، وأرسلت إليه السيدة العزيزية الكفن، فكفن في سبعين ثوبا ما بين مثقل ووشي مذهب، وصلى عليه العزيز بالله، وخلع على ابنه الحسين، وحمله وجعله في مرتبة أبيه، ولقبه بالقائد ابن القائد، ومكنه من جميع ما خلفه أبوه، وكان جوهر عاقلا محسنا إلى الناس كاتبا بليغا، فمن مستحسن توقيعاته على قصة رفعت إليه بمصر:
سوء الاجترام، أوقع بكم حلول الانتقام، وكفر الإنعام أخرجكم من حفظ الذمام، فالواجب فيكم ترك الإيجاب، واللازم لكم ملازمة الاحتساب، لأنكم بدأتم فأسأتم، وعدتم فتعدّيتم، فابتداؤكم ملوم، وعودكم مذموم، وليس بينهما فرجة إلا تقتضي الذم لكم والإعراض عنكم ليرى أمير المؤمنين صلوات الله عليه رأيه فيكم، ولما مات رثاه كثير من الشعراء.
السور الثاني: بناه أمير الجيوش بدر الجماليّ في سنة ثمانين وأربعمائة، وزاد فيه الزيادات التي فيما بين بابي زويلة، وباب زويلة الكبير، وفيما بين باب الفتوح الذي عند حارة بهاء الدين، وباب الفتوح الآن، وزاد عند باب النصر أيضا جميع الرحبة التي تجاه جامع الحاكم الآن إلى باب النصر، وجعل السور من لبن، وأقام الأبواب من حجارة، وفي نصف جمادى الآخرة سنة ثماني عشرة وثمانمائة ابتدئ بهدم السور الحجر، فيما بين باب زويلة الكبير، وباب الفرج عندما هدم الملك المؤيد شيخ الدور ليبني جامعه، فوجد عرض السور في الأماكن نحو العشرة أذرع.
السور الثالث: ابتدأ في عمارته السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب في سنة ست وستين وخمسمائة، وهو يومئذ على وزارة العاضد لدين الله، فلما كانت سنة تسع وستين، وقد استولى على المملكة، انتدب لعمل السور الطواشي بهاء الدين قراقوش الأسدي، فبناه بالحجارة على ما هو عليه الآن، وقصد أن يجعل على القاهرة ومصر والقلعة سورا واحدا، فزاد في سور القاهرة القطعة التي من باب القنطرة إلى باب الشعرية، ومن باب الشعرية إلى باب البحر، وبنى قلعة المقس، وهي برج كبير، وجعله على النيل بجانب جامع المقس، وانقطع السور من هناك، وكان في أمله مدّ السور من المقس إلى أن يتصل بسور مصر، وزاد(2/237)
في سور القاهرة قطعة مما يلي باب النصر ممتدّة إلى باب البرقية، وإلى درب بطوط، وإلى خارج باب الوزير ليتصل بسور قلعة الجبل، فانقطع من مكان يقرب الآن من الصوّة تحت القلعة لموته، وإلى الآن آثار الجد وظاهرة لمن تأمّلها فيما بين آخر السور إلى جهة القلعة، وكذلك لم يتهيأ له أن يصل سور قلعة الجبل بسور مصر، وجاء دور هذا السور المحيط بالقاهرة الآن تسعة وعشرين ألف ذراع وثلثمائة ذراع وذراعين بذراع العمل، وهو الذراع الهاشميّ، من ذلك ما بين قلعة المقس على شاطىء النيل، والبرج بالكوم الأحمر بساحل مصر عشرة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع، ومن قلعة المقس إلى حائط قلعة الجبل بمسجد سعد الدولة ثمانية آلاف وثلثمائة واثنان وتسعون ذراعا، ومن جانب حائط قلعة الجبل من جهة مسجد سعد الدولة إلى البرج بالكوم الأحمر سبعة آلاف، ومائتا ذراع، ومن وراء القلعة بحيال مسجد سعد الدولة ثلاثة آلاف، ومائتان وعشرة أذرع، وذلك طول قوسه في أبراجه من النيل إلى النيل، وقلعة المقس المذكور كانت برجا مطلا على النيل في شرقيّ جامع المقس، ولم تزل إلى أن هدمها الوزير الصاحب شمس الدين عبد الله المقسيّ، عندما جدّد الجامع المذكور في سنة سبعين وسبعمائة، وجعل في مكان البرج المذكور جنينته، وذكر أنه وجد في البرج مالا، وأنه إنما جدّد الجامع منه، والعامّة تقول اليوم جام المقسيّ بالإضافة وكان يحيط بسور القاهرة خندق شرع في حفره من باب الفتوح إلى المقس في المحرّم سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، وكان أيضا من الجهة الشرقية خارج باب النصر إلى باب البرقية، وما بعده، وشاهدت آثار الخندق باقية، ومن ورائه سور بأبراج له عرض كبير مبنيّ بالحجارة، إلّا أنّ الخندق انطمّ، وتهدّمت الأسوار التي كانت من ورائه، وهذا السور هو الذي ذكره القاضي الفاضل في كتابه إلى السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، فقال: والله يحيي المولى حتى يستدير بالبلدين نطاقه، ويمتدّ عليهما رواقه، فما عقيلة ما كان معصمها ليترك بغير سوار، ولا خصرها ليتحلى بغير منطقة تضار، والآن قد استقرّت خواطر الناس، وأمنوا به من يد تتخطف، ومن يد مجرم يقدم، ولا يتوقف.(2/238)
ذكر أبواب القاهرة
وكان للقاهرة من جهتها القبلية: بابان متلاصقان يقال لهما: باب زويلة، ومن جهتها البحرية: بابان متباعدان، أحدهما: باب الفتوح، والآخر: باب النصر، ومن جهتها الشرقية: ثلاثة أبواب متفرقة: أحدها: يعرف الآن بباب البرقية، والآخر: بالباب الجديد، والآخر: بالباب المحروق، ومن جهتها الغربية ثلاثة أبواب: باب القنطرة، وباب الفرج، وباب سعادة، وباب آخر يعرف: باب الخوخة، ولم تكن هذه الأبواب على ما هي عليه الآن، ولا في مكانها عندما وضعها جوهر.
باب زويلة «1»
كان باب زويلة عندما وضع القائد جوهر القاهرة بابين متلاصقين بجوار المسجد المعروف اليوم: بسام ابن نوح، فلما قدم المعز إلى القاهرة دخل من أحدهما، وهو الملاصق للمسجد الذي بقي منه إلى اليوم عقد، ويعرف بباب القوس، فتيامن الناس به، وصاروا يكثرون الدخول والخروج منه، وهجروا الباب المجاور له، حتى جرى على الألسنة أن من مرّ به لا تقضى له حاجة، وقد زال هذا الباب، ولم يبق له أثر اليوم إلّا أنه يفضي إلى الموضع الذي يعرف اليوم: بالحجارين، حيث تباع آلات الطرب من الطنابير، والعيدان ونحوهما، وإلى الآن مشهور بين الناس أن من يسلك من هناك لا تقضى له حاجة، ويقول بعضهم: من أجل أن هناك آلات المنكر، وأهل البطالة من المغنين والمغنيات، وليس الأمر كما زعم، فإنّ هذا القول جار على ألسنة أهل القاهرة من حين دخل المعز إليها قبل أن يكون هذا الموضع سوقا للمعازف، وموضعا لجلوس أهل المعاصي.(2/239)
فلما كان في سنة خمس وثمانين وأربعمائة، بنى أمير الجيوش بدر الجماليّ: وزير الخليفة المستنصر بالله باب زويلة الكبير الذي هو باق إلى الآن، وعلى أبراجه، ولم يعمل له باشورة، كما هي عادة أبواب الحصون من أن يكون في كل باب عطف، حتى لا تهجم عليه العساكر في وقت الحصار، ويتعذر سوق الخيل، ودخولها جملة لكنه عمل في بابه زلاقة كبيرة من حجارة صوّان عظيمة بحيث إذا هجم عسكر على القاهرة لا تثبت قوائم الخيل على الصوّان، فلم تزل هذه الزلاقة باقية إلى أيام السلطان الملك الكامل ناصر الدين محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، فاتفق مروره من هنا لك، فاختلّ فرسه، وزلق به، وأحسبه سقط عنه، فأمر بنقضها، فنقضت، وبقي منها شيء يسير ظاهر، فلما ابتنى الأمير جمال الدين يوسف الإستادار المسجد المقابل لباب زويلة، وجعله باسم الملك الناصر فرج ابن الملك الظاهر برقوق، ظهر عند حفرة الصهريج الذي به بعض هذه الزلاقة، وأخرج منها حجارة من صوّان لا تعمل فيها العدّة الماضية، وأشكالها في غاية من الكبر لا يستطيع جرّها إلّا أربعة أرؤس بقر، فأخذ الأمير جمال الدين منها شيئا، وإلى الآن حجر منها ملقى تجاه قبو الخرنشف من القاهرة.
ويذكر أن ثلاثة إخوة قدموا من الرها بنائين بنوا: باب زويلة، وباب النصر، وباب الفتوح، وكل واحد بنى بابا، وأن باب زويلة هذا بني في سنة أربع وثمانين وأربعمائة، وأن باب الفتوح بني في سنة ثمانين وأربعمائة.
وقد ذكر ابن عبد الظاهر في كتاب خطط القاهرة: أن باب زويلة هذا بناه العزيز بالله نزار بن المعز، وتممه أمير الجيوش، وأنشد لعليّ بن محمد النيلي:
يا صاح لو أبصرت باب زويلة ... لعلمت قدر محله بنيانا
باب تأزر بالمجرّة وارتدى ال ... شعرى ولاث برأسه كيوانا
لو أنّ فرعونا بناه لم يرد ... صرحا ولا أوصى به هامانا
اهـ. وسمعت غير واحد يذكر أنّ فردتيه يدوران في سكرجتين من زجاج.
وذكر جامع سيرة الناصر محمد بن قلاوون: أن في سنة خمس وثلاثين وسبعمائة رتب أيدكين والي القاهرة في أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون على باب زويلة خليلية تضرب كل ليلة بعد العصر.
وقد أخبرني من طاف البلاد، ورأى مدن الشرق، أنه لم يشاهد في مدينة من المدائن عظم باب زويلة، ولا يرى مثل بدنتيه اللتين عن جانبيه، ومن تأمّل الأسطر التي قد كتبت على أعلاه من خارجه، فإنه يجد فيها اسم أمير الجيوش، والخليفة المستنصر، وتاريخ بنائه، وقد كانت البدنتان أكبر مما هما الآن بكثير، هدم أعلاهما الملك المؤيد شيخ لما أنشأ الجامع داخل باب زويلة، وعمر على البدنتين منارتين، ولذلك خبر تجده(2/240)
في ذكر الجوامع، عند ذكر الجامع المؤيدي.
باب النصر «1»
كان باب النصر أوّلا دون موضعه اليوم، وأدركت قطعة من أحد جانبيه، كانت تجاه ركن المدرسة القاصدية الغربيّ، بحيث تكون الرحبة التي فيما بين المدرسة القاصدية، وبين بابي جامع الحاكم القبليين خارج القاهرة، ولذلك تجد في أخبار الجامع الحاكميّ أنه وضع خارج القاهرة، فلما كان في أيام المستنصر، وقدم عليه أمير الجيوش بدر الجماليّ من عكا، وتقلد وزارته، وعمر سور القاهرة، نقل باب النصر، من حيث وضعه القائد جوهر إلى حيث هو الآن، فصار قريبا من مصلى العيد، وجعل له باشورة أدركت بعضها إلى أن احتفرت أخت الملك الظاهر برقوق الصهريج السبيل تجاه باب النصر، فهدمته، وأقامت السبيل مكانه، وعلى باب النصر مكتوب بالكوفيّ في أعلاه: لا إله إلّا الله محمد رسول الله عليّ وليّ الله صلوات الله عليهما.
باب الفتوح «2»
وضعه القائد جوهر دون موضعه الآن، وبقي منه إلى يومنا هذا عقده، وعضادته اليسرى، وعليه أسطر من الكتابة بالكوفيّ، وهو برأس حارة بهاء الدين من قبليها دون جدار الجامع الحاكميّ، وأما الباب المعروف اليوم: بباب الفتوح، فإنه من وضع أمير الجيوش، وبين يديه باشورة، قد ركبها الآن الناس بالبنيان، لما عمر ما خرج عن باب الفتوح.
أمير الجيوش: أبو النجم بدر الجماليّ كان مملوكا أرمنيا لجمال الدولة بن عمار، فلذلك عرف: بالجماليّ، وما زال يأخذ بالجدّ من زمن سبيه فيما يباشره، ويوطن نفسه على قوّة العزم، ويتنقل في الخدم، حتى ولي إمارة دمشق من قبل المستنصر في يوم الأربعاء ثالث عشري ربيع الآخر سنة خمس وستين وأربعمائة، ثم سار منها كالهارب في ليلة الثلاثاء لأربع عشرة خلت من رجب سنة ست وخمسين، ثم وليها ثانيا يوم الأحد سادس شعبان سنة(2/241)
ثمان وخمسين، فبلغه قتل ولده شعبان بعسقلان، فخرج في شهر رمضان سنة ستين وأربعمائة، فثار العسكر، وأخربوا قصره، وتقلد نيابة عكا، فلما كانت الشدّة بمصر من شدّة الغلاء، وكثرة الفتن، والأحوال بالحضرة قد فسدت، والأمور قد تغيرت، وطوائف العسكر قد شغبت، والوزراء يقنعون بالاسم دون نفاذ الأمر والنهي، والرخاء قد أيس منه، والصلاح لا مطمع فيه، ولواته قد ملكت الريف، والصعيد بأيدي العبيد، والطرقات قد انقطعت برّا وبحرا إلّا بالخفارة الثقيلة، فلما قتل بلدكوش «1» : ناصر الدولة حسين بن حمدان، كتب المستنصر إليه يستدعيه ليكون المتولي لتدبير دولته، فاشترط أن يحضر معه من يختاره من العساكر، ولا يبقى أحدا من عسكر مصر، فأجابه المستنصر إلى ذلك، فاستخدم معه عسكرا، وركب البحر من عكا في أوّل كانون، وسار بمائة مركب بعد أن قيل له: إنّ العادة لم تجر بركوب البحر في الشتاء لهيجانه، وخوف التلف، فأبى عليهم، وأقلع فتمادى الصحو، والسكون مع الريح الطيبة مدّة أربعين يوما، حتى كثر التعجب من ذلك، وعدّ من سعادته، فوصل إلى تنيس ودمياط، واقترض المال من تجارها ومياسيرها، وقام بأمر ضيافته، وما يحتاج إليه من الغلال: سليمان اللواتيّ كبير أهل البحيرة، وسار إلى قليوب، فنزل بها وأرسل إلى المستنصر يقول: لا أدخل إلى مصر حتى تقبض على بلدكوش، وكان أحد الأمراء، وقد اشتدّ على المستنصر بعد قتل ابن حمدان، فبادر المستنصر، وقبض عليه، واعتقله بخزانة البنود، فقدم بدر عشية الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة خمس وستين وأربعمائة، فتهيأ له أن قبض على جميع أمراء الدولة، وذلك أنه لما قدم لم يكن عند الأمراء علم من استدعائه، فما منهم إلّا من أضافه، وقدّم إليه، فلما انقضت نوبهم في ضيافته استدعاهم إلى منزله في دعوة صنعها لهم، وبيت مع أصحابه أن القوم إذا أجنهم الليل، فإنهم لا بدّ يحتاجون إلى الخلاء، فمن قام منهم إلى الخلاء يقتل هناك، ووكل بكل واحد واحدا من أصحابه، وأنعم عليه بجميع ما يتركه ذلك الأمير من دار ومال، وإقطاع وغيره، فصار الأمراء إليه وظلوا نهارهم عنده، وباتوا مطمئنين، فما طلع ضوء النهار حتى استولى أصحابه على جميع دور الأمراء، وصارت رؤوسهم بين يديه، فقويت شوكته، وعظم أمره، وخلع عليه المستنصر بالطيلسان المقوّر، وقلده وزارة السيف والقلم، فصارت القضاة والدعاة، وسائر المستخدمين من تحت يده، وزيد في ألقابه أمير الجيوش كافل قضاة المسلمين، وهادي دعاة المؤمنين، وتتبع المفسدين، فلم يبق منهم أحدا حتى قتله، وقتل من أماثل المصريين، وقضاتهم ووزرائهم جماعة، ثم خرج إلى الوجه البحريّ، فأسرف في قتل من هنا لك من لواتة، واستصفى أموالهم، وأزاح المفسدين وأفناهم بأنواع القتل، وصار(2/242)
إلى البرّ الشرقيّ، فقتل منه كثيرا من المفسدين، ونزل إلى الإسكندرية، وقد ثار بها جماعة مع ابنه الأوحد، فحاصرها أياما من المحرّم سنة سبع وسبعين وأربعمائة، إلى أن أخذها عنوة، وقتل جماعة ممن كان بها، وعمر جامع العطارين من مال المصادرات، وفرغ من بنائه في ربيع الأوّل سنة تسع وسبعين وأربعمائة، ثم سار إلى الصعيد، فحارب جهينة والثعالبة، وأفتى أكثرهم بالقتل، وغنم من الأموال، ما لا يعرف قدره كثرة، فصلح به حال الإقليم بعد فساده، ثم جهز العساكر لمحاربة البلاد الشامية، فصارت إليها غير مرّة، وحاربت أهلها، ولم يظفر منها بطائل، واستناب ولده شاهنشاه، وجعله وليّ عهده.
فلما كان في سنة سبع وثمانين وأربعمائة مات في ربيع الآخر، وقيل: في جمادى الأولى منها، وقد تحكم في مصر تحكم الملوك، ولم يبق للمستنصر معه أمر، واستبدّ بالأمور، فضبطها أحسن ضبط، وكان شديد الهيبة، وافر الحرمة مخوف السطوة قتل من مصر خلائق لا يحصيها إلا خالقها، منها أنه قتل من أهل البحيرة نحو العشرين ألف إنسان إلى غير ذلك من أهل دمياط والإسكندرية، والغربية والشرقية، وبلاد الصعيد وأسوان، وأهل القاهرة ومصر، إلّا أنه عمر البلاد، وأصلحها بعد فسادها وخرابها، بإتلاف المفسدين من أهلها، وكان له يوم مات نحو الثمانين سنة، وكانت له محاسن منها: أنه أباح الأرض للمزارعين ثلاث سنين، حتى ترفهت أحوال الفلاحين، واستغنوا في أيامه، ومنها حضور التجار إلى مصر لكثرة عدله بعد انتزاحهم منها في أيام الشدّة، ومنها كثرة كرمه، وكانت مدّة أيامه بمصر إحدى وعشرين سنة، وهو أوّل وزراء السيوف الذين حجروا على الخلفاء بمصر.
ومن آثاره الباقية بالقاهرة: باب زويلة، وباب الفتوح، وباب النصر، وقام من بعده بالأمر ابنه شاهنشاه الملقب بالأفضل بن أمير الجيوش، وبه وبابنه الأفضل أبهة الخلفاء الفاطمية بعد تلاشي أمرها، وعمرت الديار المصرية بعد خرابها، واضمحلال أحوال أهلها، وأظنه هو الذي أخبر عنه المعز فيما تقدّم من حكاية جوهر عنه، فإنه لم يتفق ذلك لأحد من رجال دولتهم غيره، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
باب القنطرة
عرف بذلك لأنّ جوهر القائد بنى هناك قنطرة فوق الخليج الذي بظاهر القاهرة ليمشي عليها إلى المقس عند مسير القرامطة إلى مصر في شوّال سنة ستين وثلثمائة.(2/243)
باب الشعرية
يعرف بطائفة من البربر يقال لهم: بنو الشعرية، هم ومزانة وزيارة وهوارة من أحلاف لواتة الذين نزلوا بالمنوفية.
باب سعادة
عرف بسعادة بن حيان، غلام المعز لدين الله، لأنه لما قدم من بلاد المغرب بعد بناء القائد جوهر القاهرة نزل بالجيزة، وخرج جوهر إلى لقائه، فلما عاين سعادة جوهرا ترجل وسار إلى القاهرة في رجب سنة ستين وثلثمائة، فدخل إليها من هذا الباب، فعرف به، وقيل له: باب سعادة، ووافى سعادة هذا القاهرة بجيش كبير معه، فلما كان في شوّال سيره جوهر في عسكر مجر عند ورود الخبر من دمشق بمجيء الحسين بن أحمد القرمطيّ المعروف:
بالأعصم، إلى الشام، وقتل جعفر بن فلاح، فسار سعادة يريد الرملة، فوجد القرمطيّ قد قصدها، فانحاز بمن معه إلى يافا، ورجع إلى مصر، ثم خرج إلى الرملة، فملكها في سنة إحدى وستين، فأقبل إليه القرمطيّ، ففرّ منه إلى القاهرة، وبها مات لخمس بقين من المحرّم سنة اثنتين وستين وثلثمائة، وحضر جوهر جنازته، وصلى عليه الشريف أبو جعفر مسلم، وكان فيه برّ وإحسان.
الباب المحروق
كان يعرف قديما بباب القرّاطين، فلما زالت دولة بني أيوب، واستقل بالملك: الملك المعز عز الدين أيبك التركمانيّ «1» ، أوّل من ملك من المماليك بمملكة مصر في سنة خمسين وستمائة، كان حينئذ أكبر الأمراء البحرية مماليك، الملك الصالح نجم الدين أيوب، الفارس أقطاي الجمدار، وقد استفحل أمره، وكثرت أتباعه، ونافس المعز أيبك، وتزوّج بابنة الملك المظفر صاحب حماه، وبعث إلى المعز بأن ينزل من قلعة الجبل، ويخليها له، حتى يسكنها بامرأته المذكورة، فقلق المعز منه، وأهمّه شأنه، وأخذ يدبر عليه، فقرّر مع عدّة من مماليكه أن يقفوا بموضع من القلعة عينه لهم، وإذا جاء الفارس أقطاي فتكوا به، وأرسل إليه وقت القائلة يستدعيه ليشاوره في أمر مهمّ، فركب في قائلة يوم الاثنين حادي عشري شعبان سنة اثنتين وخمسين وستمائة في نفر من مماليكه، وهو آمن مطمئن بما(2/244)
صار له في الأنفس من الحرمة والمهابة، وبما يثق به من شجاعته، فلما صار بقلعة الجبل، وانتهى إلى قاعة العواميد عوّق من معه من المماليك عن الدخول معه، ووثب به المماليك الذين أعدّهم المعزّ، وتناولوه بالسيوف، فهلك لوقته، وغلقت أبواب القلعة، وانتشر الصوت بقتله في البلد، فركب أصحابه وخشداشيته «1» ، وهم نحو السبعمائة فارس إلى تحت القلعة، وفي ظنهم أنّ الفارس أقطاي لم يقتل، وإنما قبض عليه السلطان، وإنهم يقاتلونه حتى يطلقه لهم، فلم يشعروا إلّا برأس الفارس أقطاي، وقد ألقيت عليهم من القلعة، فانفضوا لوقتهم، وتواعدوا على الخروج من مصر إلى الشام، وأكابرهم يومئذ بيبرس البندقداريّ، وقلاون الإلفيّ، وسنقر الأشقر، وبيسري، وسكز، وبرامق، فخرجوا في الليل من بيوتهم بالقاهرة إلى جهة باب القرّاطين، ومن العادة أن تغلق أبواب القاهرة بالليل، فألقوا النار في الباب حتى سقط من الحريق، وخرجوا منه، فقيل له من ذلك الوقت: الباب المحروق وعرف به، وأما القوم فإنهم ساروا إلى الملك الناصر يوسف بن العزيز صاحب الشام، فقبلهم وأنعم عليهم، وأقطعهم إقطاعات، واستكثر بهم، وأصبح المعز، وقد علم بخروجهم إلى الشام، فأوقع الحوطة على جميع أموالهم ونسائهم وأولادهم وعامّة تعلقاتهم، وسائر أسبابهم، وتتبعهم ونادى عليهم في الأسواق بطلب البحرية، وتحذير العامّة من إخفائهم، فصار إليه من أموالهم ما ملأ عينه، واستمرّت البحرية في الشام إلى أن قتل المعز أيبك، وخلع ابنه المنصور، وتسلطن الأمير قطز، فتراجعوا في أيامه إلى مصر، وآلت أحوالهم إلى أن تسلطن منهم: بيبرس وقلاون، ولله عاقبة الأمور.
باب البرقية «2»(2/245)
ذكر قصور الخلفاء ومناظرهم والإلماع بطرف من مآثرهم وما صارت إليه أحوالها من بعدهم
إعلم أنه كان للخلفاء الفاطميين بالقاهرة، وظواهرها: قصور ومناظر، منها: القصر الكبير الشرقيّ الذي وضعه القائد جوهر عندما أناخ في موضع القاهرة، ومنها: القصر الصغير الغربيّ، والقصر اليافعيّ، وقصر الذهب، وقصر الأقيال، وقصر الظفر، وقصر الشجرة، وقصر الشوك، وقصر الزمرّذ، وقصر النسيم، وقصر الحريم، وقصر البحر، وهذه كلها قاعات، ومناظر من داخل سور القصر الكبير، ويقال لها: القصور الزاهرة، ويسمى مجموعها: القصر، وكان بجوار القصر الغربيّ: الميدان والبستان الكافوريّ، وكان لهم عدّة مناظر وآدر سلطانية غير هذه القصور، منها: دار الضيافة، ودار الوزارة، ودار الوزارة القديمة، ودار الضرب، والمنظرة بالجامع الأزهر، والمنظرة بجوار الجامع الأقمر، ومنظرة اللؤلؤة على الخليج بظاهر القاهرة، ومنظرة الغزالة، ودار الذهب، ومنظرة المقس، ومنظرة الدكة والبعل، والخمس وجوه، والتاج وقبة الهواء، والبساتين الجيوشية، والبستان الكبير، ومنظرة السكرة، والمنظرة ظاهر باب الفتوح، ودار الملك بمدينة مصر، ومنازل العز بها، ومنظرة الصناعة بالساحل، ومنظرة بجوار جامع القرافة الكبرى المعروف اليوم: بجامع الأولياء والأندلس بالقرافة، والمنظرة ببركة الحبش، وسأذكر من أخبار هذه الأماكن في مدّة الدولة الفاطمية، وما آل إليه حالها بحسب ما انتهى إليّ علمه إن شاء الله تعالى.
القصر الكبير
هذا القصر كان في الجهة الشرقية من القاهرة، فلذلك يقال له: القصر الكبير الشرقيّ، ويسمى: القصر المعزي لأنّ المعز لدين الله أبا تميم معدّا هو الذي أمر عبده، وكاتبه جوهرا ببنائه، حين سيره من رمادة أحد بلاد إفريقية بالعساكر إلى مصر، وألقى إليه ترتيبه، فوضعه على الترتيب الذي رسمه له، ويقال: إن جوهرا لما أسسه في الليلة التي أناخ قبلها في موضعه، وأصبح رأي فيه ازورارات غير معتدلة لم تعجبه، فقيل له في تغييرها، فقال: قد(2/246)
حفر في ليلة مباركة، وساعة سعيدة، فتركه على حاله.
وكان ابتداء وضعه مع وضع أساس سور القاهرة في ليلة الأربعاء الثامن عشر من شعبان سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، وركّب عليه بابان يوم الخميس لثلاث عشرة خلت من جمادى الأولى سنة تسع وخمسين، ثم إنه أدار عليه سورا محيطا به في سنة ستين وثلثمائة، وهذا القصر كان دار الخلافة، وبه سكن الخلفاء إلى آخر أيامهم، فلما انقرضت الدولة على يد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، أخرج أهل القصر منه وأسكن فيه الأمراء، ثم خرب أوّلا فأوّلا.
وذكر ابن عبد الظاهر في كتاب خطط القاهرة عن مرهف بوّاب باب الزهومة «1» أنه قال: أعلم هذا الباب المدّة الطويلة، وما رأيته دخل إليه حطب، ولا رمي منه تراب قال:
وهذا أحد أسباب خرابة، لوقود أخشابه، وتكوين ترابه، قال: ولما أخذه صلاح الدين، وأخرج من كان به كان فيه اثنا عشر ألف نسمة، ليس فيهم فحل إلا الخليفة، وأهله وأولاده، فأسكنهم دار المظفر بحارة برجوان «2» ، وكانت تعرف: بدار الضيافة، قال: ووجد إلى جانب القصر بئر تعرف ببئر الصنم، كان الخلفاء يرمون فيها القتلى، فقيل: إنّ فيها مطلبا، وقصد تغويرها، فقيل: إنها معمورة بالجانّ، وقتل عمارها جماعة من أشياعه، فردمت وتركت، انتهى.
وكان صلاح الدين لما أزال الدولة أعطى هذا القصر الكبير لأمراء دولته، وأنزلهم فيه، فسكنوه وأعطى القصر الصغير الغربيّ لأخيه الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب، فسكنه وفيه ولد له ابنه الكامل ناصر الدين محمّد، وكان قد أنزل والده نجم الدين أيوب بن شادي في منظرة اللؤلؤة، ولما قبض على الأمير داود ابن الخليفة العاضد، وكان وليّ عهد أبيه، وينعت بالحامد لله اعتقله وجميع إخوته، وهم: أبو الأمانة جبريل، وأبو الفتوح، وابنه أبو القاسم، وسليمان بن داود بن العاضد، وعبد الوهاب بن إبراهيم بن العاضد، وإسماعيل بن العاضد، وجعفر بن أبي الطاهر بن جبريل، وعبد الظاهر بن أبي الفتوح بن جبريل بن الحافظ وجماعة، فلم يزالوا في الاعتقال بدار المظفر وغيرها إلى أن انتقل الكامل محمد بن العادل من دار الوزارة بالقاهرة إلى قلعة الجبل، فنقل معه ولد العاضد وإخوته(2/247)
وأولاد عمه، واعتقلهم بها، وفيها مات داود بن العاضد، ولم يزل بقيتهم معتقلين بالقلعة، إلى أن استبدّ السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ، فأمر في سنة ستين بالإشهاد على كمال الدين إسماعيل بن العاضد، وعماد الدين أبي القاسم ابن الأمير أبي الفتوح بن العاضد، وبدر الدين عبد الوهاب بن إبراهيم بن العاضد أن جميع المواضع التي قبليّ المدارس الصالحية من القصر الكبير، والموضع المعروف بالتربة باطنا وظاهرا بخط الخوخ السبع، وجميع الموضع المعروف بالقصر اليافعي «1» بالخط المذكور، وجميع الموضع المعروف بالجباسة بالخط المذكور، وجميع الموضع المعروف بالجباسة بالخط المذكور، وجميع الموضع المعروف: بخزائن السلاح السلطانية، وما هو بخطه، وجميع الموضع المعروف بسكن أولاد شيخ الشيوخ وغيرهم من القصر الشارع بابه قبالة دار الحديث النبويّ الكاملية، وجميع الموضع المعروف بالقصر الغربيّ، وجميع الموضع المعروف بدار القنطرة بخط المشهد الحسينيّ، وجميع الموضع المعروف بدار الضيافة بحارة برجوان، وجميع الموضع المعروف بدار الذهب بظاهر القاهرة، وجميع الموضع المعروف باللؤلؤة «2» ، وجميع قصر الزمرّذ، وجميع البستان «3» الكافوريّ، ملك لبيت المال بالنظر المولويّ السلطانيّ الملكيّ الظاهريّ من وجه صحيح شرعيّ، لا رجعة لهم فيه، ولا لواحد منهم في ذلك، ولا في شيء منه ولاء، ولا شبهة بسبب يد ولا ملك، ولا وجه من الوجوه كلها خلا ما في ذلك من مسجد لله تعالى أو مدفن لآبائهم، فأشهدوا عليهم بذلك، وورخوا الإشهاد بالثالث عشر من جمادى الأولى سنة ستين وستمائة، وأثبت على يد قاضي القضاة الصاحب تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز الشافعيّ، وتقرّر مع المذكورين أنه مهما كان قبضوه من أثمان بعض الأماكن المذكورة التي عاقد عليها وكلاؤهم، واتصلوا إليه يحاسبوا به من جملة ما تحرّر ثمنه عند وكيل بيت المال، وقبضت أيدي المذكورين عن التصرّف في الأماكن المذكورة، وغيرها مما هو منسوب إلى آبائهم، ورسم ببيع ذلك، فباعه وكيل بيت المال كمال الدين ظافر شيئا بعد شيء، ونقضت تلك المباني، وابتنى في مواضعها على غير تلك الصفة من المساكن وغيرها كما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى، وكان هذا القصر يشتمل على مواضع منها:
قاعة الذهب: وكان يقال لقاعة الذهب: قصر الذهب، وهو أحد قاعات القصر الذي(2/248)
هو قصر المعز لدين الله معدّ، وبنى قصر الذهب العزيز بالله نزار بن المعز، وكان يدخل إليه من باب الذهب الذي كان مقابلا للدار القطبية التي هي اليوم المارستان المنصوريّ، ويدخل إليه أيضا من باب البحر الذي هو الآن تجاه المدرسة الكاملية، وجدّد هذا القصر من بعد العزيز الخليفة المستنصر في سنة ثمان وعشرين وأربعمائة، وبهذه القاعة كانت الخلفاء تجلس في الموكب يوم الاثنين، ويوم الخميس، وبها كان يعمل سماط شهر رمضان للأمراء، وسماط العيدين، وبها كل سرير الملك.
هيئة جلوس الخليفة بمجلس الملك: قال الفقيه أبو محمد الحسن بن إبراهيم بن زولاق في كتاب سيرة المعز: وكان وصول المعز لدين الله إلى قصره بمصر في يوم الثلاثاء لسبع خلون من شهر رمضان سنة اثنتين وستين وثلثمائة، ولما وصل إلى قصره خرّ ساجدا، ثم صلى ركعتين وصلى بصلاته كل من دخل معه، واستقرّ في قصره بأولاده وحشمه، وخواص عبيده، والقصر يومئذ يشتمل على ما فيه من عين، وورق، وجوهر، وحلى، وفرش، وأوان، وثياب وسلاح، وأسفاط وأعدال، وسروج ولجم، وبيت المال بحاله بما فيه، وفيه جميع ما يكون للملوك، وللنصف من رمضان جلس المعجز في قصره على السرير الذهب الذي عمله عبده القائد جوهر في الإيوان الجديد، وأذن بدخول الأشراف أوّلا، ثم أذن بعدهم للأولياء، ولسائر وجوه الناس، وكان القائد جوهر قائما بين يديه يقدّم الناس قوما بعد قوم، ثم مضى القائد جوهر، وأقبل بهديته التي عباها ظاهرة يراها الناس، وهي:
من الخيل مائة وخمسون فرسا مسرجة ملجمة منها مذهب، ومنها مرصع، ومنها معنبر، وإحدى وثلاثون قبة على نوق بخاتي بالديباج، والمناطق والفرش منها تسعة بديباج مثقل، وتسع نوق مجنوبة مزينة بمثقل، وثلاثة وثلاثون بغلا منها سبعة مسرجة ملجمة، ومائة وثلاثون بغلا للنقل، وتسعون نجيبا، وأربعة صناديق مشبكة، يرى ما فيها، وفيها أواني الذهب والفضة، ومائة سيف محلى بالذهب والفضة، ودرجان من فضة مخرقة فيها جوهر، وشاشية مرصعة في غلاف وتسعمائة ما بين سفط وتخت فيها سائر ما أعدّ له من ذخائر مصر.
وفي يوم عرفة نصب المعز الشمسية التي عملها للكعبة على إيوان قصره، وسعتها:
اثنا عشر شبرا في اثني عشر شبرا، وأرضها ديباج أحمر، ودورها اثنا عشر هلال ذهب، في كل هلال أترجة ذهب مسبك، جوف كل أترجة خمسون درة كبار كبيض الحمام، وفيها الياقوت الأحمر، والأصفر، والأزرق، وفي دورها كتابة آيات الحج بزمرّذ أخضر قد فسر، وحشو الكتابة در كبير لم ير مثله، وحشو الشمسية: المسك المسحوق يراها الناس في القصر، ومن خارج القصر لعلوّ موضعها، وإنما نصبها عدّة فرّاشين، وجرّوها لثقل وزنها.
وقال في كتاب الذخائر والتحف: وما كان بالقصر من ذلك إن وزن ما استعمل من الذهب الإبريز الخالص في سرير الملك الكبير، مائة ألف مثقال وعشرة آلاف مثقال ووزن(2/249)
ما حلي به الستر الذي أنشأه سيد الوزراء أبو محمد البازوري من الذهب أيضا ثلاثون ألف مثقال، وإنه رصع بألف وخمسمائة وستين قطعة جوهر من سائر ألوانه، وذكر أن في الشمسية الكبيرة ثلاثين ألف مثقال ذهبا، وعشرين ألف درهم مخرّقة، وثلاثة آلاف وستمائة قطعة جوهر من سائر ألوانه وأنواعه، وأن في الشمسية التي لم تتمّ من الذهب سبعة عشر ألف مثقال.
وقال المرتضى أبو محمد عبد السلام بن محمد بن الحسن بن عبد السلام بن الطوير الفهريّ القيسرانيّ: الكاتب المصريّ في كتاب نزهة المقلتين في أخبار الدولتين الفاطمية والصلاحية، الفصل العاشر في ذكر هيئتهم في الجلوس العام بمجلس الملك، ولا يتعدّى ذلك يومي الاثنين والخميس، ومن كان أقرب الناس إليهم، ولهم خدم لا تخرج عنهم، وينتظر لجلوس الخليفة أحد اليومين المذكورين، وليس على التوالي بل على التفاريق، فإذا تهيأ ذلك في يوم من هذه الأيام استدعى الوزير من داره صاحب الرسالة على الرسم المعتاد في سرعة الحركة، فيركب في أبهته، وجماعته على الترتيب المقدّم ذكره يعني في ذكر الركوب أوّل العام، وسيأتي إن شاء الله تعالى في موضعه من هذا الكتاب، فيسير من مكان ترجله عن دابته بدهليز العمود إلى مقطع الوزارة، وبين يديه أجلاء أهل الإمارة، كل ذلك بقاعة الذهب التي كان يسكنها السلطان بالقصر، وكان الجلوس قبل ذلك بالإيوان الكبير الذي هو خزائن السلاح في صدره على سير الملك، وهو باق في مكانه إلى الآن من هذا المكان إلى آخر أيام المستعلي، ثم إنّ الآمر نقل الجلوس في هذا المكان، واسمه مكتوب بأعلى باذهنجه «1» إلى اليوم، ويكون المجلس المذكور معلقا فيه ستور الديباج شتاء، والدبيقيّ صيفا، وفرش الشتاء بسط الحرير عوضا عن الصوف مطابقا لستور الديباج، وفرش الصيف مطابقا لستور الديبقيّ، ما بين طبري وطبرستاني مذهب معدوم المثل، وفي صدره:
المرتبة المؤهلة لجلوسه في هيئة جليلة على سرير الملك المغشى بالقرقوبيّ، فيكون وجه الخليفة عليه قبالة وجوه الوقوف بين يديه، فإذا تهيأ الجلوس استدعى الوزير من المقطع إلى باب المجلس المذكور، وهو مغلق وعليه ستر، فيقف بحذائه، وعن يمينه زمام القصر، وعن يساره زمام بيت المال، فإذا انتصب الخليفة على المرتبة وضع أمين الملك مفلح أحد الأستاذين المحنكين «2» الخواص الدواة مكانها من المرتبة، وخرج من المقطع الذي يقال له فردا لكم، فإذا الوزير واقف أمام باب المجلس، وحواليه الأمراء المطوّقون أرباب الخدم(2/250)
الجليلة، وغيرهم، وفي خلالهم قرّاء الحضرة، فيشير صاحب المجلس إلى الأستاذين، فيرفع كل منهم جانب الستر، فيظهر الخليفة جالسا بمنصبه المذكور، فتستفتح القرّاء بقراءة القرآن الكريم، ويسلم الوزير بعد دخوله إليه، فيقبل يديه ورجليه، ويتأخر مقدار ثلاثة أذرع، وهو قائم قدر ساعة زمانية، ثم يؤمر بأن يجلس على الجانب الأيمن، وتطرح له مخدّة تشريفا، ويقف الأمراء في أماكنهم المقرّرة، فصاحب الباب، واسفهسلار «1» العساكر من جانبي الباب يمينا ويسارا، ويليهم من خارجه لاصقا بعتبته زمام الآمرية والحافظية كذلك، ثم يرتبهم على مقاديرهم، فكل واحد لا يتعدّى مكانه هكذا إلى آخر الرواق، وهو الإفريز العالي عن أرض القاعة، ويعلوه الساباط على عقود القناطر التي على العهد هناك، ثم أرباب القصب والعماريات يمنة ويسرة كذلك، ثم الأماثل، والأعيان من الأجناد المترشحين للتقدمة، ويقف مستندا للصدر الذي يقابل باب المجلس: بوّاب الباب، والحجاب، ولصاحب الباب في ذلك المحل الدخول والخروج، وهو الموصل عن كل قائل ما يقول، فإذا انتظم ذلك النظام، واستقرّ بهم المقام، فأوّل ماثل للخدمة بالسلام: قاضي القضاة، والشهود المعروفون بالاستخدام، فيجيز صاحب الباب القاضي دون من معه، فيسلم متأدّبا، ويقف قريبا، ومعنى الأدب في السلام، أنه يرفع يده اليمنى، ويشير بالمسبحة، ويقول بصوت مسموع: السلام على أمير المؤمنين، ورحمة الله وبركاته، فيتخصص بهذا الكلام دون غيره من أهل السلام، ثم يسلم بالأشراف الأقارب زمامهم، وهو من الأستاذين المحنكين، وبالأشراف الطالبيين نقيبهم، وهو من الشهود المعدّلين، وتارة يكون من الأشراف المميّزين، فيمضي عليهم كذلك ساعتان زمانيتان أو ثلاث، ويخص بالسلام في ذلك الوقت خلع عليه: لقوص، أو الشرقية أو الغربية أو الإسكندرية، فيشرّفون بتقبيل القبة، فإن دعت حاجة الوزير إلى مخاطبة الخليفة في أمر قام من مكانه، وقرب منه منحنيا على سيفه، فيخاطبه مرّة أو مرّتين، ثم يؤمر الحاضرون، فيخرجون حتى يكون آخر من يخرج الوزير بعد تقبيل يد الخليفة ورجله، ويخرج فيركب على عادته إلى داره، وهو مخدوم بأولئك، ثم يرخي الستر، ويغلق باب المجلس إلى يوم مثله، فيكون الحال كما ذكر، ويدخل الخليفة إلى مكانه المستقرّ فيه، ومعه خواص أستاذيه، وكان أقرب الناس إلى الخلفاء: الأستاذون المحنكون، وهم أصحاب الأنس لهم، ولهم من الخدم ما لا يتطرّق إليه سواهم، ومنهم زمام القصر، وشاد التاج الشريف، وصاحب بيت المال، وصاحب الدفتر، وصاحب الرسالة، وزمام الأشراف الأقارب، وصاحب المجلس، وهم المطلعون على أسرار الخليفة، وكانت لهم طريقة محمودة في بعضهم بعضا، منها: أنه متى ترشح أستاذ للتحنيك، وحنك: حمل إليه كل واحد من المحنكين بدلة من ثياب، ومنديلا وفرشا(2/251)
وسيفا، فيصبح لاحقا بهم، وفي يديه مثل ما في أيديهم، وكان لا يركب أحد في القصر إلا الخليفة، ولا ينصرف ليلا ونهارا إلا كذلك، وله في الليل شدّادات من النساء يخدمن البغلات والحمير الإناث للجواز في السراديب القصيرة الأقباء، والطلوع على الزلاقات إلى أعالي المناظر والأماكن، وفي كل محلة من محلات القصر فسقية مملوءة بالماء خيفة من حدوث حريق في الليل.
كيفية سماط شهر رمضان بهذه القاعة
قال ابن الطوير: فإذا كان اليوم الرابع من شهر رمضان، رتب عمل السماط كل ليلة بالقاعة بالقصر إلى السادس والعشرين منه، ويستدعى له: قاضي القضاة ليالي الجمع توقيرا له، فأما الأمراء، ففي كل ليلة منهم قوم بالنوبة، ولا يحرمونهم الإفطار مع أولادهم، وأهاليهم، ويكون حضورهم بمسطور يخرج إلى صاحب الباب، وأسفهسلاره، فيعرف صاحب كل نوبة ليلته، فلا يتأخر ويحضر الوزير، فيجلس صدره، فإن تأخر كان ولده أو أخوه، وإن لم يحضر أحد من قبله كان صاحب الباب، ويهتم فيه اهتماما عظيما تاما بحيث لا يفوته شيء من أصناف المأكولات الفائقة، والأغذية الرائقة، وهو مبسوط في طول القاعة، مادّ من الرواق إلى ثلثي القاعة المذكورة، والفرّاشون قيام لخدمة الحاضرين، وحواشي الأستاذين يحضرون الماء المبخر في كيزان الخزف برسم الحاضرين، ويكون انفصالهم العشاء الآخرة، فيعمهم ذلك، ويصل منه شيء إلى أهل القاهرة من بعض الناس لبعض، ويأخذ الرجل الواحد ما يكفي جماعة، فإذا حضر الوزير أخرج إليه مما هو بحضرة الخليفة، وكانت يده فيه تشريفا له، وتطييبا لنفسه، وربما حمل لسحوره من خاص ما يعين لسحور الخليفة نصيب وافر، ثم يتفرّق الناس إلى أماكنهم بعد العشاء الآخرة بساعة أو ساعتين، قال: ومبلغما ينفق في شهر رمضان لسماطه مدّة سبعة وعشرين يوما ثلاثة آلاف دينار.
عمل سماط عيد الفطر بهذه القاعة
قال الأمير المختار عز الملك بن عبيد الله بن أحمد بن إسماعيل بن عبد العزيز المسبحيّ في تاريخه الكبير: وفي آخر يوم منه يعني شهر رمضان سنة ثمانين وثلثمائة، حمل يانس الصقلبي صاحب الشرطة السفلى السماط، وقصور السكر والتماثيل، وأطباقا فيها تماثيل حلوى، وحمل أيضا عليّ بن سعد المحتسب القصور وتماثيل السكر.
وقال ابن الطوير: فأما الأسمطة الباطنة التي يحضرها الخليفة بنفسه، ففي يوم عيد الفطر: اثنان، ويوم عيد النحر: واحد، فأما الأوّل من عبيد الفطر، فإنه يعين في الليل بالإيوان قدّام الشباك الذي يجلس فيه الخليفة، فيمدّ ما مقداره ثلثمائة ذراع في عرض سبعة(2/252)
أذرع من الخشكنان، والفانيذ، والبسندود المقدّم ذكر عمله بدار الفطرة، فإذا صلى الفجر في أوّل الوقت حضر إليه الوزير، وهو جالس في الشباك، ومكن الناس من ذلك الممدود، فأخذ وحمل ونهب، فيأخذه من يأكله في يومه، ومن يدّخره لغده، ومن لا حاجة له به، فيبيعه ويتسلط عليه أيضا حواشي القصر المقيمون هناك، فإذا فرغ من ذلك، وقد بزغت الشمس ركب من باب الملك بالإيوان، وخرج من باب العيد إلى المصلى، والوزير معه كما وصفنا في هيئة ركوب هذا العيد في فصله مخليا لقاعة الذهب لسماط الطعام، فينصب له سرير الملك قدّام باب المجلس في الرواق، وينصب فيه مائدة من فضة، ويقال لها:
المدوّرة، وعليها أواني الفضيات والذهبيات، والصيني الحاوية للأطعمة الخاص الفائحة الطيب الشهية من غير خضراوات، سوى الدجاج الفائق المسمن المعمول بالأمزجة الطيبة النافعة، ثم ينصب السماط أمام السرير إلى باب المجلس قبالته، ويعرف بالمحول طول القاعة، وهو اليوم الباب الذي يدخل منه إليها من باب البحر الذي هو باب القصر اليوم، والسماط خشب مدهون شبه الدكك اللاطية، فيصير من جمعه للأواني سماطا عاليا في ذلك الطول، وبعرض عشرة أذرع، فيفرش فوق ذلك الأزهار، ويرص الخبز على حافتيه سواميذ كل واحد ثلاثة أرطال من نقيّ الدقيق، ويدهن وجهها عند خبزها بالماء، فيحصل لها بريق، ويحسن منظرها، ويعمر داخل ذلك السماط على طوله بأحد وعشرين طبقا في كل طبق أحد وعشرون ثنيا سمينا مشويا، وفي كل من الدجاج والفراريج وفراخ الحمام ثلثمائة وخمسون طائرا، فيبقى طائلا مستطيلا، فيكون كقامة الرجل الطويل، ويسوّر بشرائح الحلواء اليابسة، ويزين بألوانها المصبغة، ثم يسدّ خلل تلك الأطباق بالصحون الخزفية التي في كل واحد منها سبع دجاجات، وهي مترعة بالألوان الفائقة من الحلواء المائعة والطباهجة «1» المشققة، والطيب غالب على ذلك كله، فلا يبعد أن تناهز عدّة الصحون المذكورة خمسمائة صحن، ويرتب ذلك أحسن ترتيب من نصف الليل بالقاعة إلى حين عود الخليفة من المصلى، والوزير معه، فإذا دخل القاعة، وقف الوزير على باب دخول الخليفة، لينزع عنه الثياب العيدية التي في عمامتها السمة، ويلبس سواها من خزائن الكسوات الخاصة التي قدّمنا ذكرها، وقد عمل بدار الفطرة، قصران من حلى في كلواحد سبعة عشر قنطارا، وحملا، فمنهما واحد يمضي به من طريق قصر الشوك إلى باب الذهب، والآخر يشق به بين القصرين يحملهما العتالون، فينصبان أوّل السماط وآخره، وهما شكل مليح مدهونان بأوراق الذهب، وفيهما شخوص ناتئة كأنها مسبوكة في قوالب لوحا لوحا، فإذا عبر الخليفة راكبا، ونزل على السرير الذي عليه المدوّرة الفضة، وجلس قام على رأسه أربعة من كبار الأستاذين المحنكين، وأربعة من خواص الفرّاشين، ثم يستدعي الوزير، فيطلع إليه ويجلس عن يمينه، ويستدعي الأمراء المطوّقين، ومن يليهم من الأمراء دونهم،(2/253)
فيجلسون على السماط كقيامهم بين يديه، فيأكل من أراد من غير إلزام، فإنّ في الحاضرين من لا يعتقد الفطر في ذلك اليوم، فيستولي على ذلك المعمول الآكلون، وينقل إلى دار أرباب الرسوم، ويباح فلا يبقى منه إلا السماط فقط، فيعم أهل القاهرة ومصر من ذلك نصيب وافر، فإذا انقضى ذلك عند صلاة الظهر، انفض الناس، وخرج الوزير إلى داره مخدوما بالجماعة الحاضرين، وقد عمل سماطا لأهله وحواشيه، ومن يعز عليه لا يلحق بأيسر يسير من سماط الخليفة، وعلى هذا العمل يكون سماط عيد النحر أوّل يوم منه، وركوبه إلى المصلى، كما ذكرنا، ولا يخرج عن هذا المنوال ولا ينقص عن هذا المثال، ويكون الناس كلهم مفطرين، ولا يفوت أحدا منهم شيء، كما ذكرنا في عيد الفطر.
قال: ومبلغ ما ينفق في سماطي الفطر، والأضحى أربعة آلاف دينار، وكان يجلس على أسمطة الأعياد في كل سنة رجلان من الأجناد يقال لأحدهما: ابن فائز، والآخر الديلميّ يأكل كل واحد منهما خروفا مشويا، وعشر دجاجات محلاة، وجام حلوى عشرة أرطال، ولهما رسوم تحمل إليهما بعد ذلك من الأسمطة لبيوتهما ودنانير وافرة على حكم الهبة، وكان أحدهما أسر بعسقلان في تجريدة جرّد إليها، وأقام مدّة في الأسر فاتفق أنه كان عندهم عجل سمين فيه عدّة قناطير لحم، فقال له الذي أسره وهو يداعبه: إن أكلت هذا العجل أعتقتك، ثم ذبحه، وسوّى لحمه، وأطعمه حتى أتى على جميعه، فوفى له وأعتقه، فقدم على أهله بالقاهرة، ورأيته يأكل على السماط.
الإيوان الكبير
قال القاضي الرئيس محيي الدين عبد الله بن عبد الظاهر الروحي الكاتب في كتاب الروضة البهية الزهراء في خطط المعزية القاهرة، الإيوان الكبير بناه العزيز بالله أبو منصور نزار بن المعز لدين الله معدّ في سنة تسع وستين وثلثمائة، انتهى.
وكان الخلفاء أولا يجلسون به في يومي الاثنين والخميس إلى أن نقل الخليفة الآمر بأحكام الله الجلوس منه في اليومين المذكورين إلى قاعة الذهب كما تقدّم، وبصدر هذا الإيوان كان الشباك الذي يجلس فيه الخليفة، وكان يعلو هذا الشباك قبة، وفي هذا الإيوان، كان يمدّ سماط الفطرة بكرة يوم عيد الفطر كما تقدّم به، وبه أيضا كان يعمل الاجتماع، والخطبة في يوم عيد الغدير، وكان بجانب هذا الإيوان الدواوين، وكان بهذا الإيوان ضلعا سمكة إذا أقيما واريا الفارس بفرسه، ولم يزالا حتى بعثهما السلطان صلاح الدين يوسف إلى بغداد في هدية.
عيد الغدير «1» : إعلم أن عيد الغدير لم يكن عيدا مشروعا، ولا عمله أحد من سالف(2/254)
الأمّة المقتدى بهم، وأوّل ما عرف في الإسلام بالعراق أيام معز الدولة عليّ بن بويه، فإنه أحدثه في سنة اثنتين وخمسين وثلثمائة، فاتخذه الشيعة من حينئذ عيدا، وأصلهم فيه، ما خرّجه الإمام أحمد في مسنده الكبير من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفر لنا، فنزلنا بغدير خم، ونودي الصلاة جامعة وكسح لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحت شجرتين، فصلى الظهر، وأخذ بيد عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: «ألستم أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى، قال: ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن من نفسه؟ قالوا: بلى، فقال: من كنت مولاه فعليّ مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» .
قال: فلقيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: هنيئا لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة.
وغدير خم: على ثلاثة أميال من الجحفة يسرة الطريق، وتصب فيه عين، وحوله شجر كثير، ومن سنتهم في هذا العيد، هو أبدا يوم الثامن عشر من ذي الحجة أن يحيوا ليلته بالصلاة، ويصلوا في صبيحته ركعتين قبل الزوال، ويلبسوا فيه الجديد، ويعتقوا الرقاب، ويكثروا من عمل البرّ، ومن الذبائح، ولما عمل الشيعة هذا العيد بالعراق أرادت عوامّ السنية مضاهاة فعلهم، ونكايتهم، فاتخذوا في سنة تسع وثمانين وثلثمائة بعد عيد الغدير بثمانية أيام عيدا، أكثروا فيه من السرور واللهو، وقالوا: هذا يوم دخول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الغار هو وأبو بكر الصدّيق رضي الله عنه، وبالغوا في هذا اليوم في إظهار الزينة، ونصب القباب، وإيقاد النيران، ولهم في ذلك أعمال مذكورة في أخبار بغداد ... وقال ابن زولاق: وفي يوم ثمانية عشر من ذي الحجة سنة اثنتين وستين وثلثمائة، وهو يوم الغدير: تجمع خلق من أهل مصر والمغاربة، ومن تبعهم للدعاء لأنه يوم عيد، لأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب فيه، واستخلفه، فأعجب المعز ذلك من فعلهم، وكان هذا أوّل ما عمل بمصر.
قال المسبحيّ، وفي يوم الغدير، وهو ثامن عشر ذي الحجة اجتمع الناس بجامع القاهرة والقرّاء والفقهاء، والمنشدون، فكان جمعا عظيما أقاموا إلى الظهر، ثم خرجوا إلى القصر، فخرجت إليهم الجائزة، وذكر أن الحاكم بأمر الله، كان قد منع من عمل عيد الغدير، قال ابن الطوير: إذا كان العشر الأوسط من ذي الحجة اهتمّ الأمراء، والأجناد بركوب عيد الغدير، وهو في الثامن عشر منه، وفيه خطبة وركوب الخليفة بغير مظلمة، ولا(2/255)
سمة، ولا خروج عن القاهرة، ولا يخرج لأحد شيء، فإذا كان ذلك اليوم ركب الوزير بالاستدعاء الجاري به العادة، فيدخل القصر، وفي دخوله بروز الخليفة لركوبه من الكرسيّ على عادته، فيخدم ويخرج ويركب من مكانه من الدهليز، ويخرج فيقف قبالة باب القصر، ويكون ظهره إلى دار فخر الدين جهاركس اليوم، ثم يخرج الخليفة راكبا أيضا، فيقف في الباب، ويقال له: القوس، وحواليه الأستاذون المحنكون رجالة، ومن الأمراء المطوّقين من يأمره الوزير بإشارة خدمة الخليفة على خدمته، ثم يجوز زيّ كل من له زيّ على مقدار همته، فأوّل ما يجوز زيّ الخليفة، وهو الظاهر في ركوبه، فتجد الجنائب الخاص التي قدّمنا ذكرها أوّلا، ثم زيّ الأمراء المطوّقين لأنهم غلمانه واحدا فواحدا بعددهم، وأسلحتهم، وجنائبهم إلى آخر أرباب القصب والعماريات، ثم طوائف العسكر أزمّتها أمامها، وأولادهم مكانهم لأنهم في خدمة الخليفة وقوف بالباب طائفة طائفة، فيكونون أكثر عددا من خمسة آلاف فارس، ثم المترجلة الرماة بالقسيّ بالأيدي والأرجل، وتكون عدّتهم قريبا من ألف، ثم الراجل من الطوائف الذين قدّمنا ذكرهم في الركوب، فتكون عدّتهم قريبا من سبعة آلاف كل منهم بزمام وبنود ورايات وغيرها، بترتيب مليح مستحسن، ثم يأتي زيّ الوزير مع ولده، أو أحد أقاربه، وفيه جماعته وحاشيته في جمع عظيم، وهيئة هائلة، ثم زيّ صاحب الباب، وهم أصحابه وأجناده، ونوّاب الباب، وسائر الحجاب، ثم يأتي زيّ اسفهسلار العساكر بأصحابه، وأجناده في عدّة وافرة، ثم يأتي زيّ والي القاهرة، وزيّ والي مصر، فإذا فرغا خرج الخليفة من الباب والوقوف بين يديه مشاة في ركابه خارجا عن صبيان ركابه الخاص، فإذا وصل إلى باب الزهومة بالقصر، انعطف على يساره داخلا من الدرب هناك جائزا على الخوخ «1» ، فإذا وصل إلى باب الديلم الذي داخله المشهد الحسينيّ، فيجد في دهليز ذلك الباب: قاضي القضاة والشهود، فإذا وازاهم خرجوا للخدمة والسلام عليه، فيسلم القاضي كما ذكرنا من تقبيل رجله الواحدة التي تليه، والشهود أمام رأس الدابة بمقدار قصبة، ثم يعودون ويدخلون من ذلك الدهليز إلى الإيوان الكبير، وقد علق عليه الستور القرقوبية جميعه على سعته، وغير القرقوبية سترا فسترا، ثم يعلق بدائرة على سعته ثلاث صفوف: الأوسط طوارق فارسيات مدهونة، والأعلى والأسفل درق، وقد نصب فيه كرسيّ الدعوة، وفيه تسع درجات لخطابة الخطيب في هذا العيد، فيجلس القاضي والشهود تحته، والعالم من الأمراء، والأجناد، والمتشيعين، ومن يرى هذا الرأي من الأكابر والأصاغر، فيدخل الخليفة من باب العيد إلى الإيوان إلى باب الملك، فيجلس بالشباك، وهو ينظر القوم، ويخدمه الوزير عندما ينزل، ويأتي هو ومن معه، فيجلس بمفرده على يسار منبر الخطيب، ويكون قد سير لخطيبه بدلة حرير يخطب فيها، وثلاثون دينارا، ويدفع له كرّاس(2/256)
محرّر من ديوان الإنشاء يتضمن نص الخلافة من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه ورضي عنه بزعمهم، فإذا فرغ ونزل صلى قاضي القضاة بالناس ركعتين، فإذا قضيت الصلاة، قام الوزير إلى الشباك، فيخدم الخليفة، وينفض الناس بعد التهاني من الإسماعيلية بعضهم بعضا، وهو عندهم أعظم من عيد النحر، وينحر فيه أكثرهم.
قال: وكان الحافظ لدين الله أبو الميمون عبد المجيد: لما سلم من يد أبي عليّ بن الأفضل الملقب كتيفات، لما وزر له، وخرج عليه عمل عيدا في ذلك اليوم، وهو السادس عشر من المحرّم من غير ركوب، ولا حركة بل إنّ الإيوان باق على فرشه، وتعليقه من يوم الغدير، فيفرش المجلس المحوّل اليوم في الإيوان الذي بابه خورنق.
وكان يقابل الإيوان الكبير الذي هو اليوم: خزائن السلاح، بأحسن فرش، وينصب له مرتبة هائلة قريبا من باذهنجه، فيجتمع أرباب الدولة سيفا وقلما، ويحضرون إلى الإيوان إلى باب الملك المجاور للشباك، فيخرج الخليفة راكبا إلى المجلس، فيترجل على بابه، وبين يديه الخواص، فيجلس على المرتبة، ويقفون بين يديه صفين إلى باب المجلس، ثم يجعل قدّامه كرسيّ الدعوة، وعليه غشاء قرقوبيّ، وحواليه الأمراء الأعيان، وأرباب الرتب، فيصعد قاضي القضاة، ويخرج من كمه كراسة مسطحة تتضمن فصولا، كالفرج بعد الشدّة بنظم مليح، يذكر فيه كل من أصابه من الأنبياء والصالحين والملوك شدّة، وفرّج الله عنه واحدا فواحدا، حتى يصل إلى الحافظ، وتكون هذه الكراسة محمولة من ديوان الإنشاء، فإذا تكاملت قراءتها، نزل عن المنبر، ودخل إلى الخليفة، ولا يكون عنده من الثياب أجلّ مما لبسه، ويكون قد حمل إلى القاضي قبل خطابته بدلة مميزة يلبسها للخطابة، ويوصل إليه بعد الخطابة خمسون دينارا.
وقال الأمير جمال الدين أبو عليّ موسى بن المأمون أبي عبد الله محمد بن فاتك بن مختار الطائحيّ في تاريخه، واستهل عيد الغدير يعني من سنة ست عشرة وخمسمائة، وهاجر إلى باب الأجل يعني الوزير المأمون البطائحي الضعفاء والمساكين من البلاد، ومن انضمّ إليهم من العوالي، والأدوان على عادتهم في طلب الحلال، وتزويج الأيامى، وصار موسما يرصده كل أحد، ويرتقبه كل غنيّ وفقير، فجرى في معروفه على رسمه، وبالغ الشعراء في مدحه بذلك، ووصلت كسوة العيد المذكور، فحمل ما يختص بالخليفة والوزير، وأمر بتفرقة ما يختص بأزمّة العساكر فارسها وراجلها من عين وكسوة، ومبلغ ما يختص بهم من العين سبعمائة وتسعون دينارا، ومن الكسوات مائة وأربع وأربعون قطعة، والهيئة المختصة بهذا العيد، برسم كبراء الدولة، وشيوخها وأمرائها وضيوفها، والأستاذين المحنكين والمميزين منهم خارجا عن أولاد الوزير وإخوته، ويفرّق من مال الوزير بعد الخلع عليه ألفان وخمسمائة دينار وثمانون دينارا، وأمر بتعليق جميع أبواب القصور،(2/257)
وتفرقة المؤذنين بالجوامع والمساجد عليها، وتقدّم بأن تكون الأسمطة بقاعة الذهب على حكم سماط أوّل يوم من عيد النحر، وفي باكر هذا اليوم توجه الخليفة إلى الميدان، وذبح ما جرت به العادة، وذبح الجزارون بعده مثل عدد الكباش المذبوحة في عيد النحر، وأمر بتفرقة ذلك للخصوص دون العموم، وجلس الخليفة في المنظرة وخدمت الرهجية «1» .
وتقدّم الوزير والأمراء، وسلموا، فلما حان وقت الصلاة والمؤذنون على أبواب القصر يكبرون تكبير العيد إلى أن دخل الوزير، فوجد الخطيب على المنبر قد فرغ، فتقدّم القاضي أبو الحجاج يوسف بن أيوب فصلى به وبالجماعة صلاة العيد، وطلع الشريف بن أنس الدولة، وخطب خطبة العيد، ثم توجه الوزير إلى باب الملك، فوجد الخليفة قد جلس قاصدا للقائه، قد ضربت المقدّمة، فأمره بالمضيّ إليها، وخلع عليه خلعة مكملة من بدلات النحر وثوبها أحمر بالشدّة الدائمية، وقلده سيفا مرصعا بالياقوت والجواهر، وعندما نهض ليقبل الأرض وجده قد أعدّ له العقد الجوهر، وربطه في عنقه بيده، وبالغ في إكرامه، وخرج من باب الملك فتلقاه المقرّبون، وسارع الناس إلى خدمته، وخرج من باب العيد وأولاده وإخوته والأمراء المميزون بحجبه، وخدمت الرهجية، وضربت العربية والموكب جميعه بزيه، وقد اصطفت العساكر، وتقدّم إلى ولده بالجلوس على أسمطته وتفرّقتها برسومها، وتوجه إلى القصر، واستفتح المقرئون، فسلم الحاضرون، وجرى الرسم في السماط الأوّل والثاني، وتفرقة الرسوم والموائد على حكم أوّل يوم من عيد النحر، وتوجه الخليفة بعد ذلك إلى السماط الثالث الخاص بالدار الجليلة لأقاربه وجلسائه.
ولما انقضى حكم التعييد جلس الوزير في مجلسه، واستفتح المقرئون، وحضر الكبراء وبياض البلدين لتهنىء بالعيد والخلع، وخرج الرسم، وتقدّم الشعراء، فأنشدوا وشرحوا الحال، وحضر متولي خزائن الكسوة الخاص بالثياب التي كانت على المأمون قبل الخلع، وقبضوا الرسم الجاري به العادة، وهو مائة دينار، وحضر متولي بيت المال، وصحبته صندوق فيه خمسة آلاف دينار برسم فكاك العقد الجوهر والسيف المرصع، فأمر الوزير المأمون الشيخ أبا الحسن بن أبي أسامة: كاتب الدست الشريف بكتب مطالعة إلى الخليفة بما حمل إليه من المال برسم منديل الكم، وهو ألف دينار، ورسم الأخوة والأقارب ألف دينار، وتسلم متولي الدولة بقية المال ليفرّق على الأمراء المطوّقين والمميزين والضيوف والمستخدمين.
المحول: قال ابن عبد الظاهر: المحول هو مجلس الداعي «2» ، ويدخل إليه من باب(2/258)
الريح، وبابه من باب البحر، ويعرف بقصر البحر، وكان في أوقات الاجتماع يصلي الداعي بالناس في رواقه.
وقال المسبحيّ: وفي ربيع الأوّل يعني من سنة خمس وثمانين وثلثمائة، جلس القاضي محمد بن النعمان على كرسيّ بالقصر لقراءة علوم آل البيت على الرسم المعتاد المتقدّم له ولأخيه بمصر، ولأبيه بالمغرب، فمات في الزحمة أحد عشر رجلا، فكفنهم العزيز بالله، وقال ابن الطوير: وأما داعي الدعاة فإنه يلي قاضي القضاة في الرتبة، ويتزيا بزيه في اللباس وغيره، ووصفه أنه يكون عالما بجميع مذاهب أهل البيت يقرأ عليه، ويأخذ العهد على من ينتقل من مذهبه إلى مذهبهم، وبين يديه من نقباء المعلمين اثنا عشر نقيبا، وله نوّاب كنوّاب الحكم في سائر البلاد، ويحضر إليه فقهاء الدولة، ولهم مكان يقال له:
دار العلم «1» ، ولجماعة منهم على التصدير بها أرزاق واسعة، وكان الفقهاء منهم يتفقون على دفتر يقال له: مجلس الحكمة في كل يوم اثنين وخميس، ويحضر مبيضا إلى داعي الدعاة فينفذه إليهم، ويأخذه منهم، ويدخل به إلى الخليفة في هذين اليومين المذكورين، فيتلوه عليه إن أمكن، ويأخذ علامته بظاهره، ويجلس بالقصر لتلاوته على المؤمنين في مكانين للرجال على كرسيّ الدعوة بالإيوان الكبير، وللنساء بمجلس الداعي، وكان من أعظم المباني وأوسعها.
فإذا فرغ من تلاوته على المؤمنين والمؤمنات حضروا إليه، لتقبيل يديه، فيمسح على رؤوسهم بمكان العلامة، أعني خط الخليفة، وله أخذ النجوى من المؤمنين بالقاهرة ومصر وأعمالهما، لا سيما الصعيد، ومبلغها ثلاثة دراهم وثلث، فيجتمع من ذلك شيء كثير يحمله إلى الخليفة بيده بينه، وبينه، وأمانته في ذلك مع الله تعالى، فيفرض له الخليفة منه ما يعينه لنفسه وللنقباء، وفي الإسماعيلية المموّلين من يحمل ثلاثة وثلاثين دينارا وثلثي دينار على حكم النجوى، وصحبة ذلك رقعة مكتوبة باسمه، فيتميز في المحول فيخرج له عليها خط الخليفة بارك الله فيك، وفي مالك وولدك ودينك، فيدّخر ذلك، ويتفاخر به، وكانت هذه الخدمة متعلقة بقوم يقال لهم: بنو عبد القويّ أبا عن جدّ آخرهم الجليس، وكان الأفضل بن أمير الجيوش نفاهم إلى المغرب، فولد الجليس بالمغرب، وربي به، وكان يميل إلى مذهب أهل السنة، وولي القضاء مع الدعوة، وأدركه أسد الدين شيركوه، وأكرمه وجعله واسطة عند الخليفة العاضد، وكان قد حجر على العاضد ولولاه لم يبق في الخزائن شيء لكرمه، وكأنه علم أنه آخر الخلفاء.(2/259)
قال المسبحيّ: وكان الداعي يواصل الجلوس بالقصر لقراءة ما يقرأ على الأولياء، والدعاوي المتصلة، فكان يفرد للأولياء مجلسا، وللخاصة وشيوخ الدولة، ومن يختص بالقصور من الخدم وغيرهم مجلسا، ولعوام الناس، وللطارئين على البلد مجلسا، وللنساء في جامع القاهرة المعروف بالجامع الأزهر مجلسا، وللحرم وخواص نساء القصر مجلسا، وكان يعمل المجالس في داره، ثم ينفذها إلى من يختص بخدمة الدولة، ويتخذ لهذه المجالس كتبا يبيضونها بعد عرضها على الخليفة، وكان يقبض في كل مجلس من هذه المجالس ما يتحصل من النجوى من كل من يدفع شيئا من ذلك عينا وورقا من الرجال والنساء، ويكتب أسماء من يدفع شيئا على ما يدفعه، وكذلك في عيد الفطر يكتب ما يدفع عن الفطرة، ويحصل من ذلك مال جليل، يدفع إلى بيت المال شيئا بعد شيء، وكانت تسمى مجالس الدعوة: مجالس الحكمة، وفي سنة أربعمائة كتب سجل عن الحاكم بأمر الله فيه رفع الخمس والزكاة والفطرة والنجوى التي كانت تحمل، ويتقرّب بها، وتجري على أيدي القضاة، وكتب سجل آخر بقطع مجالس الحكمة التي تقرأ على الأولياء يوم الخميس والجمعة، انتهى. ووظيفة داعي الدعاة كانت من مفردات الدولة الفاطمية، وقد لخصت من أمر الدعوة طرفا أحببت إيراده هنا.
وصف الدعوة وترتيبها: وكانت الدعوة مرتبة على منازل: دعوة بعد دعوة.
الدعوة الأولى: سؤال الداعي لمن يدعوه إلى مذهبه عن المشكلات، وتأويل الآيات، ومعاني الأمور الشرعية، وشيء من الطبيعيات، ومن الأمور الغامضة، فإن كان المدعوّ عارفا سلم له الداعي وإلّا تركه يعمل فكره فيما ألقاه عليه من الأسئلة، وقال له: يا هذا، إنّ الدين لمكتوم، وإنّ الأكثر له منكرون، وبه جاهلون، ولو علمت هذه الأمّة ما خص الله به الأئمة من العلم، لم تختلف؟ فيتشوق حينئذ المدعوّ إلى معرفة ما عند الداعي من العلم فإذا علم منه الإقبال أخذ في ذكر معاني القراءات وشرائع الدين، وتقرير أنّ الآفة التي نزلت بالأمّة، وشتت الكلمة، وأورثت الأهواء المضلة، ذهاب الناس عن أئمة نصبوا لهم، وأقيموا حافظين لشرائعهم يؤدونها على حقيقتها، ويحفظون معانيها، ويعرفون بواطنها غير أنّ الناس لما عدلوا عن الأئمة، ونظروا في الأمور بعقولهم، واتبعوا ما حسن في رأيهم، وقلدوا أسفلتهم، وأطاعوا سادتهم وكبراءهم اتباعا للملوك، وطلبا للدنيا التي هي أيدي متبعي لإثم وأجناد الظلمة، وأعوان الفسقة الذين يحبون العاجلة، ويجتهدون في طلب الرئاسة على الضعفاء ومكايدة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أمّته وتغيير كتاب الله عزّ وجلّ، وتبديل سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومخالفة دعوته، وإفساد شريعته، وسلوك غير طريقته، ومعاندة الخلفاء الأئمة من بعده بختر من قبل ذلك، وصار الناس إلى أنواع الضلالات، فإنّ دين محمد صلّى الله عليه وسلّم ما جاء بالتحلي، ولا بأمانيّ الرجال، ولا شهوات الناس، ولا بما خف على الألسنة،(2/260)
وعرفته دهماء العامّة، ولكنه صعب مستصعب، وأمر مستقبل، وعلم خفيّ غامض ستره الله في حجبه، وعظم شأنه عن ابتذال أسراره، فهو سرّ الله المكتوم، وأمره المستور الذي لا يطيق حمله، ولا ينهض بأعبائه، وثقله إلّا ملك مقرّب، أو نبيّ مرسل، أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للتقوى، فإذا ارتبط المدعوّ على الداعي، وأنس له، نقله إلى غير ذلك.
فمن مسائلهم ما معنى: رمي الجمار؟ والعدو بين الصفا والمروة؟ ولم كانت الحائض تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة؟ وما بال الجنب يغتسل من ماء دافق يسير؟ ولا يغتسل من البول النجس الكثير القذر؟ وما بال الله خلق الدنيا في ستة أيام؟ أعجز عن خلقها في ساعة واحدة؟ وما معنى الصراط المضروب في القرآن مثلا؟ والكاتبين الحافظين وما لنا لا نراهما؟
أخاف أن نكابره، ونجاحده حتى أدلى العيون، وأقام علينا الشهود، وقيد ذلك في القرطاس بالكتابة، وما تبديل الأرض غير الأرض؟ وما عذاب جهنم؟ وكيف يصح تبديل جلد مذنب بجلد لم يذنب حتى يعذب؟ وما معنى: ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية؟ وما إبليس؟
وما الشياطين؟ وما وصفوا به وأين مستقرّهم؟ وما مقدار قدرهم؟ وما يأجوج ومأجوج وهاروت وماروت وأين مستقرّهم؟ وما سبعة أبواب النار؟ وما ثمانية أبواب الجنة؟ وما شجرة الزقوم النابتة في الجحيم؟ وما دابة الأرض ورؤس الشياطين؟ والشجرة الملعونة في القرآن؟ والتين والزيتون؟ وما الخنس الكنس؟ وما معنى ألم والمص؟ وما معنى كهيعص وحمعسق، ولم جعلت السماوات سبعا والأرضون سبعا، والمثاني من القرآن سبع آيات، ولم فجرت العيون اثنتي عشرة عينا، ولم جعلت الشهور اثني عشر شهرا، وما يعمل معكم عمل الكتاب والسنة، ومعاني الفرائض اللازمة؟ فكروا أوّلا في أنفسكم أين أرواحكم؟
وكيف صورها؟ وأن مستقرّها؟ وما أوّل أمرها والإنسان ما هو؟ وما حقيقته؟ وما الفرق بين حياته وحياة البهائم؟ وفضل ما بين حياة البهائم وحياة الحشرات؟ وما الذي بانت به حياة الحشرات من حياة النبات؟ وما معنى قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خلقت حوّاء من ضلع آدم» ؟ وما معنى قول الفلاسفة: الإنسان عالم صغير والعالم إنسان كبير؟ ولم كانت قامة الإنسان منتصبة دون غيره من الحيوانات؟ ولم كان في يديه من الأصابع عشر، وفي رجليه عشر أصابع؟ وفي كل أصبع من أصابع يديه ثلاثة شقوق إلا الإبهام، فإنّ فيه شقين فقط؟ ولم كان في وجهه سبع ثقب؟ وفي سائر بدنه ثقبان؟ ولم كان في ظهره اثنتا عشرة عقدة وفي عنقه سبع عقد؟
ولم جعل عنقه صورة ميم، ويداه: حاء، وبطنه: ميما، ورجلاه: دالا حتى صار ذلك كتابا مرسوما يترجم عن محمد، ولم جعلت قامته إذا انتصب صورة ألف، وإذا ركع صارت صورة: لام، وإذا سجد صارت صورة هاء، فكان كتابا يدل على الله، ولم جعلت أعداد عظام الإنسان كذا؟ وأعداد أسنانه كذا؟ والأعضاء الرئيسة كذا إلى غير ذلك من التشريح، والقول في العروق والأعضاء، ووجوه منافع الحيوان، ثم يقول الداعي: ألا تتفكرون في حالكم، وتعتبرون وتعلمون أنّ الذي خلقكم حكيم غير مجازف، وأنه فعل جميع ذلك(2/261)
لحكمة، وله فيها أسرار خفية، حتى جمع ما جمع، وفرّق ما فرّق، فكيف يسعلكم الإعراض عن هذه الأمور، وأنتم تسمعون قول الله عز وجل: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ
[الذاريات/ 20، 21] ، وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
[إبراهيم/ 25] ، سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ
[فصلت/ 53] . فأيّ شيء رآه الكفار في أنفسهم وفي الآفاق، حتى عرفوا أنه الحق، وأيّ حق عرفه من جحد الديانة، ألا يدلكم هذا على أنّ الله جل اسمه أراد أن يرشدكم إلى بواطن الأمور الخفية، وأسرار فيها مكتومة لو نبهتم لها، وعرفتموها لزالت عنكم كل حيرة، ودحضت كل شبهة، وظهرت لكم المعارف السنية، ألا ترون أنكم جهلتم أنفسكم التي من جهلها، كان حريا أن لا يعلم غيرها، أليس الله تعالى يقول: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا
[الإسراء/ 72] ونحو ذلك من تأويل القرآن، وتفسير السنن والأحكام، وإيراد أبواب من التجويز والتعليل، فإذا علم الداعي أن نفس المدعوّ قد تعلقت بما سأله عنه، وطلب منه الجواب عنها قال له: حينئذ لا تعجل فإنّ دين الله أعلى وأجل من أن يبذل لغير أهله، ويجعل غرضا للعب وجرت عادة الله، وسنته في عباده عند شرع من نصبه أن يأخذ العهد على من يرشده، ولذلك قال: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً
[الأحزاب/ 7] ، وقال عز وجلّ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا
[الأحزاب/ 23] ، وقال جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ
[المائدة/ 1] ، وقال: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً
[النحل/ 91] ، وقال: لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ
[المائدة/ 70] . ومن أمثال هذا فقد أخبر الله تعالى أنه لم يملك حقه إلا لمن أخذ عهده فأعطنا صفقة يمينك، وعاهدنا بالموكد من أيمانك وعقودك، أن لا تفشي لنا سرّا، ولا تظاهر علينا أحدا، ولا تطلب لنا غيلة، ولا تكتمنا نصحا، ولا توالي لنا عدوّا، فإذا أعطى العهد قال له الداعي: أعطنا جعلا من مالك نجعله مقدّمة أمام كشفنا لك الأمور، وتعريفك إياها، والرسم في هذا الجعل بحسب ما يراه الداعي، فإن امتنع المدعوّ أمسك عنه الداعي، وإن أجاب وأعطى نقله إلى الدعوة الثانية، وإنما سميت الإسماعيلية بالباطنية لأنهم يقولون: لكل ظاهر من الأحكام الشرعية باطن، ولكل تنزيل تأويل.
الدعوة الثانية: لا تكون إلّا بعد تقدّم الدعوى الأولى، فإذا تقرّر في نفس المدعوّ جميع ما تقدّم، وأعطى الجعل، قال له الداعي: إنّ الله تعالى لم يرض في إقامة حقه، وما شرعه لعباده إلّا أن يأخذوا ذلك عن أئمة نصبهم للناس، وأقامهم لحفظ شريعته على ما أراده الله تعالى، ويسلك في تقرير هذا، ويستدل عليه بأمور مقرّرة في كتبهم، حتى يعلم أن(2/262)
اعتقاد الأئمة قد ثبت في نفس المدعوّ، فإذا اعتقد ذلك، نقله إلى الدعوة الثالثة.
الدعوة الثالثة: مرتبة على الثانية، وذلك أنه إذا علم الداعي ممن دعاه، أنّ ارتباطه على دين الله لا يعلم إلّا من قبل الأئمة، قرّر حينئذ عنده أن الأئمة سبعة، قد رتبهم الباري تعالى كما رتب الأمور الجليلة، فإنه جعل الكواكب السيارة سبعة، وجعل السماوات سبعا، وجعل الأرضين سبعا، ونحو ذلك مما هو سبع من الموجودات.
وهؤلاء الأئمة السبعة هم: عليّ بن أبي طالب، والحسن بن عليّ، والحسين بن عليّ، وعليّ بن الحسين الملقب زين العابدين، ومحمد بن عليّ، وجعفر بن محمد الصادق، والسابع هو: القائم صاحب الزمان.
وهم أعني الشيعة مختلفون في هذا القائم، فمنهم من يجعله: محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، ويسقط إسماعيل بن جعفر، ومنهم من يعدّ إسماعيل بن جعفر إماما، ثم يعدّ ابنه محمد بن إسماعيل، فإذا تقرّر عند المدعوّ أن الأئمة سبعة انحل عن معتقد الإمامية من الشيعة القائلين بإمامة اثني عشر إماما، وصار إلى معتقد الإسماعيلية، بأنّ الإمامة انتقلت إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر، فإذا علم الداعي ثبات هذا العقد في نفس المدعوّ، شرع في ثلب بقية الأئمة الذين قد اعتقد الإمامية فيهم الإمامة، وقرّر عند المدعوّ أنّ محمد بن إسماعيل عنده علم المستورات، وبواطن المعلومات التي لا يمكن أن توجد عند أحد غيره، وأنّ عنده أيضا علم التأويل، ومعرفة تفسير ظاهر الأمور، وعنده سرّ الله تعالى في وجه تدبيره المكتوم، وإتقان دلالته في كل أمر يسأل عنه في جميع المعدومات، وتفسير المشكلات، وبواطن الظاهر كله والتأويلات، وتأويل التأويلات، وأنّ دعاته هم: الوارثون لذلك كله من بين سائر طوائف الشيعة لأنهم أخذوا عنه، ومن جهته رووا، وإنّ أحدا من الناس المخالفين لهم لا يستطيع أن يساويهم، ولا يقدر على التحقق بما عندهم إلّا منهم، ويحتج لذلك بما هو معروف في كتبهم مما لا يسع هذا الكتاب حكايته لطوله، فإذا انقاد المدعوّ، وأذعن لما تقرّر، نقله إلى الدعوة الرابعة.
الدعوة الرابعة: لا يشرع الداعي في تقريرها حتى يتيقن صحة انقياد المدعوّ لجميع ما تقدّم، فإذا تيقن منه صحة الانقياد، قرّر عنده أنّ عدد الأنبياء الناسخين للشرائع المبدّلين لأحكامها، أصحاب الأدوار، وتقليب الأحوال، الناطقين بالأمور، سبعة فقط، كعدد الأئمة سواء، وكل واحد من هؤلاء الأنبياء لا بدّ له من صاحب يأخذ عنه دعوته، ويحفظها على أمّته، ويكون معه ظهيرا له في حياته، وخليفة له من بعد وفاته، إلى أن يبلغ شريعته إلى أحد يكون سبيله معه، كسبيله هو مع نبيه الذي اتبعه، ثم كذلك كل مستخلف خليفة إلى أن يأتي منهم على تلك الشريعة، سبعة أشخاص.
ويقال لهؤلاء السبعة: الصامتون لثباتهم على شريعة اقتفوا فيها أثر واحد هو أوّلهم،(2/263)
ويسمى الأوّل من هؤلاء السبعة: السوس، وأنه لا بدّ عند انقضاء هؤلاء السبعة، ونفاذ دورهم من استفتاح دور ثان يظهر فيه نبيّ ينسخ شرع من مضى من قبله، وتكون الخلفاء من بعده أمورهم تجري كأمر من كان قبلهم، ثم يكون من بعدهم نبيّ ناسخ يقوم من بعده سبعة صمت أبدا، وهكذا حتى يقوم النبيّ السابع من النطقاء، فينسخ جميع الشرائع التي كانت قبله، ويكون صاحب الزمان الأخير.
فكان أوّل هؤلاء الأنبياء النطقاء: آدم عليه السلام، وكان صاحبه وسوسه ابنه شيث، وعدوّ إتمام السبعة الصامتين على شريعة آدم.
وكان الثاني من الأنبياء النطقاء نوح عليه السلام فإن نطق بشريعة، نسخ بها شريعة آدم، وكان صاحبه وسوسه ابنه سام، وتلاه بقية السبعة الصامتين على شريعة نوح.
ثم كان الثالث من الأنبياء النطقاء إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليه، فإنه نطق بشريعة نسخ بها شريعة نوح وآدم عليهما السلام، وكان صاحبه وسوسه في حياته، والخليفة القائم من بعده المبلغ شريعته ابنه إسماعيل عليه السلام، ولم يزل يخلفه صامت بعد صامت على شريعة إبراهيم، حتى تمّ دور السبعة الصمت.
وكان الرابع من الأنبياء النطقاء: موسى بن عمران عليه السلام، فإنه نطق بشريعة نسخ بها شريعة آدم ونوح وإبراهيم، وكان صاحبه وسوسه أخوه هارون، ولما مات هارون في حياة موسى، قام من بعد موسى، يوشع بن نون خليفة له صمت على شريعته، وبلغها فأخذها عنه واحد بعد واحد إلى أن كان آخر الصمت على شريعة موسى، يحيى بن زكرياء وهو آخر الصمت.
ثم كان الخامس من الأنبياء النطقاء المسيح عيسى ابن مريم صلوات الله عليه، فإنه نطق بشريعة نسخ بها شرائع من كان قبله، وكان صاحبه وسوسه: شمعون الصفا، ومن بعده تمام السبعة الصمت على شريعة المسيح.
إلى أن كان السادس من الأنبياء النطقاء نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، فإنه نطق بشريعة نسخ بها جميع الشرائع التي جاء بها الأنبياء من قبله، وكان صاحبه وسوسه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم من بعد عليّ ستة صمتوا على الشريعة المحمدية، وقاموا بميراث أسرارها، وهم: ابنه الحسن، ثم ابنه الحسين، ثم عليّ بن الحسين، ثم محمد بن عليّ، ثم جعفر بن محمد، ثم إسماعيل بن جعفر الصادق، وهو آخر الصمت من الأئمة المستورين والسابع من النطقاء هو صاحب الزمان.
وعند هؤلاء الإسماعيلية أنه: محمد بن إسماعيل بن جعفر وأنه الذي انتهى إليه علم الأوّلين، وقام بعلم بواطن الأمور وكشفها، وإليه المرجع في تفسيرها دون غيره، وعلى(2/264)
جميع الكافة أتباعه والخضوع له، والانقياد إليه، والتسليم له، لأنّ الهداية في موافقته وأتباعه، والضلال والحيرة إلى في العدول عنه، فإذا تقرّر ذلك عند المدعوّ انتقل الداعي إلى الدعوة الخامسة.
الدعوة الخامسة: مترتبة على ما قبلها، وذلك أنه إذا صار المدعوّ في الرتبة الرابعة من الاعتقاد أخذ الداعي يقرّر أنه لا بدّ مع كل إمام قائم في كل عصر حجج متفرّقون في جميع الأرض عليهم تقوم، وعدّة هؤلاء الحجج أبدا اثنا عشر رجلا في كل زمان كما أنّ عدد الأئمة سبعة، ويستدل لذلك بأمور منها: أنّ الله تعالى لم يخلق شيئا عبثا، ولا بدّ في خلق كل شيء من حكمة، وإلّا فلم خلق النجوم التي بها قوام العالم سبعة، وجعل أيضا السماوات سبعا، والأرضين سبعا، والبروج اثني عشر، والشهور اثني عشر شهرا، ونقباء بني إسرائيل اثني عشر نقيبا، ونقباء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الأنصار اثني عشر نقيبا، وخلق تعالى في كف كل إنسان أربع أصابع، وفي كل أصبع ثلاث شقوق تكون جملتها اثني عشر شقا، على أنه في يد كل إبهام شقان، دلالة على أنّ الإنسان بدنه كالأرض، وأصابعه كالجزائر الأربع والشقوق التي في الأصابع كالحجج، والإبهام الذي به قوام جميع الكف، وسداد الأصابع، كالذي يقوّم الأرض بقدر ما فيها، والشقان اللذان في الإبهام إشارة إلى أنّ الإمام وسوسة لا يفترقان، ولذلك صار في ظهر الإنسان: اثنتا عشرة خرزة، إشارة إلى الحجج الاثني عشر، وصار في عنقه: سبع، فكان العنق عاليا في خرزات الظهر، وذلك إشارة إلى الأنبياء النطقاء، والأئمة السبعة، وكذلك الأثقاب السبعة التي في وجه الإنسان العالي على بدنه، وأشياء من هذا النوع كثيرة، فإذا تمهد عند المدعوّ ما دعاه إليه الداعي، وتقرّر نقله حينئذ إلى الدعوة السادسة.
الدعوة السادسة: لا تكون إلا بعد ثبوت جميع ما تقدّم في نفس المدعوّ، وذلك أنه إذا صار إلى الرتبة الخامسة، أخذ الداعي في تفسير معاني شرائع الإسلام من الصلاة والزكاة والحج والطهارة، وغير ذلك من الفرائض بأمور مخالفة للظاهر، بعد تمهيد قواعد تبين في أزمنة من غير عجلة تؤدّي إلى أنّ هذه الأشياء، وضعت على جهة الرموز لمصلحة العامة، وسياستهم حتى يشتغلوا بها عن بغي بعضهم على بعض، وتصدّهم عن الفساد في الأرض، حكمة من الناصبين للشرائع، وقوّة في حسن سياستهم لأتباعهم، وإتقانا منهم لما رتبوه من النواميس ونحو ذلك، حتى يتمكن هذا الاعتقاد في نفس المدعوّ، فإذا طال الزمان، وصار المدعوّ يعتقد أنّ أحكام الشريعة كلها وضعت على سبيل الرمز لسياسة العامّة، وأنّ لها معاني أخر غير ما يدل عليه الظاهر، ونقله الداعي إلى الكلام في الفلسفة، وحضه على النظر في كلام أفلاطون، وأرسطو، وفيثاغورس، ومن في معناهم، ونهاه عن قبول الأخبار، والاحتجاج بالسمعيات، وزين له الاقتداء بالأدلة العقلية، والتعويل عليها، فإذا استقرّ ذلك عنده واعتقده، نقله بعد ذلك إلى الدعوة السابعة، ويحتاج ذلك إلى زمان طويل.(2/265)
الدعوة السابعة: لا يفصح بها الداعي ما لم يكثر أنسه بمن دعاه، ويتيقن أنه قد تأهل إلى الانتقال إلى رتبة أعلى مما هو فيه، فإذا علم ذلك منه قال: إنّ صاحب الدلالة، والناصب للشريعة، لا يستغني بنفسه، ولا بدّ له من صاحب معه يعبر عنه ليكون أحدهما الأصل والآخر عنه كان وصدر، وهذا إنما هو إشارة العام السفليّ، لما يحويه العالم العلويّ، فإنّ مدبر العالم في أصل الترتيب، وقوام النظام صدر عنه أوّل موجود بغير واسطة، ولا سبب نشأ عنه، وإليه الإشارة بقوله تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
[يس/ 82] إشارة إلى الأوّل في الرتبة، والآخر هو القدر الذي قال فيه: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ
[القمر/ 49] وهذا معنى ما نسمعه من أنّ الله: أوّل ما خلق القلم، فقال للقلم: اكتب، فكتب في اللوح ما هو كائن، وأشياء من هذا النوع موجودة في كتبهم، وأصلها مأخوذ من كلام الفلاسفة القائلين: الواحد لا يصدر عنه إلّا واحد، وقد أخذ هذا المعنى المتصوّفة، وبسطوه بعبارات أخر في كتبهم، فإن كنت ممن ارتاض وعرف مقالات الناس تبين ذلك ما ذكرت، ولا يحتمل هذا الكتاب بسط القول في هذا المعنى، وإذا تقرّر ما ذكر في هذه الدعوة عند المدعوّ، نقله الداعي إلى الدعوة الثامنة.
الدعوة الثامنة: متوقفة على اعتقاد سائر ما تقدّم، فإذا استقرّ ذلك عند المدعوّ، دينا له، قال له الداعي: اعلم أن أحد المذكورين اللذين هما مدبر الوجود والصادر عنه، إنما تقدّم السابق على اللاحق، تقدّم العلة على المعلول، فكانت الأعيان كلها ناشئة، وكائنة عن الصادر الثاني، بترتيب معروف في بعضهم، ومع ذلك فالسابق عندهم: لا اسم له، ولا صفة، ولا يعبر عنه، ولا يقيد فلا يقال هو موجود، ولا معدوم، ولا عالم، ولا جاهل، ولا قادر، ولا عاجز، وكذلك سائر الصفات، فإنّ الإثبات عندهم يقتضي شركة بينه وبين المحدثات، والتقي يقتضي التعطيل، وقالوا: ليس بقديم، ولا محدث، بل القديم أمره وكلمته والمحدث خلقه وفطرته، كما هو مبسوط في كتبهم، فإذا استقرّ ذلك عند المدعوّ قرر عنده الداعي، أن التالي يدأب في أعماله حتى يلحق بمنزلة السابق، وأنّ الصامت في الأرض يدأب في أعماله حتى يصير بمنزلة الناطق سواء، وأنّ الداعي يدأب في أعماله حتى يبلغ منزلة السوس، وحالة سواء.
وهكذا تجري أمور العالم في أكواره وأدواره، ولهذا القول بسط كثير، فإذا اعتقده المدعوّ قرّر عنده الداعي أنّ معجزة النبيّ الصادق الناطق ليست غير أشياء ينتظم بها سياسة الجمهور، وتشمل الكافة مصلحتها بترتيب من الحكمة تحوي معاني فلسفية تنبىء عن حقيقة أنية السماء والأرض، وما يشتمل العالم عليه بأسره من الجواهر والأعراض، فتارة برموز يعقلها العالمون، وتارة بإفصاح يعرفه كل أحد، فينتظم بذلك للنبيّ شريعة يتبعها الناس، ويقرّر عنده أيضا أنّ القيامة، والقرآن، والثواب، والعقاب، معناها: سوى ما يفهمه(2/266)
العامّة، وغير ما يتبادر الذهن إليه، وليس هو إلّا حدوث أدوار عند انقضاء أدوار من أدوار الكواكب، وعوالم اجتماعاتها من كون، وفساد جاء على ترتيب الطباع، كما قد بسطه الفلاسفة في كتبهم، فإذا استقرّ هذا العقد عند المدعوّ، نقله الداعي إلى الدعوة التاسعة.
الدعوة التاسعة: هي النتيجة التي يحاول الداعي بتقرير جميع ما تقدّم رسوخها في نفس من يدعوه، فإذا تيقن أنّ المدعوّ تأهل لكشف السرّ، والإفصاح عن الرموز أحاله على ما تقرّر في كتب الفلاسفة من علم الطبيعيات، وما بعد الطبيعة والعلم الإلهي، وغير ذلك من أقسام العلوم الفلسفية، حتى إذا تمكن المدعوّ من معرفة ذلك، كشف الداعي قناعه وقال اذكر من الحدوث، والأصول رموز إلى معاني المبادىء، وتقلب الجواهر، وأنّ الوحي إنما هو صفاء النفس، فيجد النبيّ في فهمه ما يلقي إليه، ويتنزل عليه، فيبرزه إلى الناس، ويعبر عنه بكلام الله الذي ينظم به النبيّ شريعته بحسب ما يراه من المصلحة في سياسة الكافة، ولا يجب حينئذ العمل بها إلّا بحسب الحاجة من رعاية مصالح الدهماء، بخلاف العارف، فإنه لا يلزمه العمل بها، ويكفيه معرفته، فإنها اليقين الذي يجب المصير إليه وما عدا المعرفة من سائر المشروعات، فإنما هي أثقال وآصار حملها الكفار أهل الجهالة لمعرفة الأعراض والأسباب. ومن جملة المعرفة عندهم: أن الأنبياء النطقاء أصحاب الشرائع، إنّما هم لسياسة العامّة، وإنّ الفلاسفة أنبياء حكمة الخاصة، وإنّ الإمام إنما وجوده في العالم الروحاني، إذا صرنا بالرياضة في المعارف إليه، وظهوره الآن إنما هو ظهور أمره ونهيه على لسان أوليائه، ونحو ذلك مما هو مبسوط في كتبهم، وهذا حاصل علم الداعي، ولهم في ذلك مصنفات كثيرة، منها اختصرت ما تقدّم ذكره.
ابتداء هذه الدعوة: إعلم أنّ هذه الدعوة منسوبة إلى شخص كان بالعراق يعرف:
بميمون القدّاح، وكان من غلاة الشيعة، فولد ابنا عرف: بعبد الله بن ميمون، اتسع علمه وكثرت معارفه، وكاد أن يطلع على جميع مقالات الخليقة، فرتب له مذهبا، وجعله في تسع دعوات، ودعا الناس إلى مذهبه، فاستجاب له خلق، وكان يدعو إلى الإمام محمد بن إسماعيل، وظهر من الأهواز، ونزل بعسكر مكرّم، فصار له مال، واشتهرت دعاته، فأنكر الناس عليه، وهموا به ففرّ إلى البصرة، ومعه من أصحابه الحسين الأهوازيّ، فلما انتشر ذكره بها طلب، فصار إلى بلاد الشام، وأقام بسلمية، وبها ولد له ابنه أحمد، فقام من بعد أبيه عبد الله بن ميمون فسير الحسين الأهوازيّ داعية له إلى العراق، فلقي حمدان بن الأشعث المعروف: بقرمط بسواد الكوفة، فدعاه واستجاب له، وأنزله عنده، وكان من أمره ما هو مذكور في أخبار القرامطة من كتابنا هذا، عند ذكر المعز لدين الله معدّ، ثم إنه ولد لأحمد بن عبد الله: ابنه الحسين ومحمد المعروف: بأبي الشلعلع، فلما هلك أحمد خلفه ابنه الحسين، ثم قام من بعده أخوه أبو الشلعلع، وكان من أمرهم ما هو مذكور في موضعه، فانتشرت الدعاة في أقطار الأرض، وتفقهوا في الدعوة، حتى وضعوا فيها الكتب الكثيرة،(2/267)
وصارت علما من العلوم المدوّنة، ثم اضمحلت الآن، وذهبت بذهاب أهلها، ولهذا يقال:
إنّ أصل دعوة الإسماعيلية مأخوذ من القرامطة، ونسبوا من أجلها إلى الإلحاد.
صفة العهد الذي يؤخذ على المدعوّ: وهو إنّ الداعي يقول لمن يأخذ عليه العهد ويحلفه: جعلت على نفسك عهد الله وميثاقه، وذمّة رسوله، وأنبيائه، وملائكته، وكتبه، ورسله، وما أخذه على النبيين من عقد، وعهد، وميثاق إنك تستر جميع ما تسمعه، وسمعته، وعلمته، وتعلمه، وعرفته، ونعرفه من أمري، وأمر المقيم بهذا البلد لصاحب الحق الإمام الذي عرّفت إقراري له، ونصحي لمن عقد ذمّته، وأمور إخوانه وأصحابه وولده، وأهل بيته المطيعين له على هذا الدين، ومخالصته له من الذكور والإناث، والصغار والكبار، فلا تظهر من ذلك شيئا قليلا، ولا كثيرا، ولا شيئا يدل عليه إلا ما أطلقت لك أن تتكلم به، أو أطلقه لك صاحب الأمر المقيم بهذا البلد، فتعمل في ذلك بأمرنا ولا تتعدّاه، ولا تزيد عليه، وليكن ما تعمل عليه قبل العهد، وبعده بقولك، وفعلك أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وتشهد أن محمدا عبده ورسوله، وتشهد أن الجنة حقّ، وأن النار حقّ، وأن الموت حق، وأن البعث حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور، وتقيم الصلاة لوقتها، وتؤتي الزكاة لحقها، وتصوم رمضان، وتحج البيت الحرام، وتجاهد في سبيل الله حق جهاده على ما أمر الله به ورسوله، وتوالي أولياء الله، وتعادي أعداء الله، وتقوم بفرائض الله وسننه، وسنن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله الطاهرين ظاهرا وباطنا، وعلانية سرّا وجهرا فإنّ ذلك يؤكد هذا العهد، ولا يهدمه، ويثبته، ولا يزيله، ويقرّ به، ولا يباعده، ويشدّه، ولا يضعفه، ويوجب ذلك، ولا يبطله ويوضحه، ولا يعميه، كذلك هو الظاهر والباطن، وسائر ما جاء به النبييون من ربهم صلوات الله عليهم أجمعين على الشرائط المبينة في هذا العهد، جعلت على نفسك الوفاء بذلك، قل: نعم، فيقول المدعوّ: نعم.
ثم يقول الداعي له: والصيانة له بذلك، وأداء الأمانة على أن لا تظهر شيئا أخذ عليك في هذا العهد في حياتنا، ولا بعد وفاتنا لا في غضب، ولا على حال رضى، ولا على رغبة، ولا في حال رهبة، ولا عند شدّة، ولا في حال رخاء، ولا على طمع، ولا على حرمان، تلقي الله على الستر لذلك، والصيانة له على الشرائط المبينة في هذا العهد، وجعلت على نفسك عهد الله وميثاقه، وذمّته وذمة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، أن تمنعني وجميع من أسميه لك، وأثبته عندك مما تمنع منه نفسك، وتنصح لنا ولوليك وليّ الله نصحا ظاهرا وباطنا، فلا تخن الله ووليه، ولا أحدا من إخواننا وأوليائنا، ومن تعلم أنه منا بسبب في أهل ولا مال، ولا رأي، ولا عهد، ولا عقد تتأوّل عليه بما يبطله، فإن فعلت شيئا من ذلك، وأنت تعلم أنك قد خالفته، وأنت على ذكر منه فأنت بريء من الله خالق السماوات والأرض الذي سوّى خلقك، وألف تركيبك، وأحسن إليك في دينك ودنياك، وآخرتك، وتبرأ من رسله الأوّلين(2/268)
والآخرين، وملائكته المقرّبين الكروبيين، والروحانيين والكلمات التامّات، والسبع المثاني، والقرآن العظيم، وتبرأ من التوراة، والإنجيل، والزبور، والذكر الحكيم، ومن كل دين ارتضاه الله في مقدّم الدار الآخرة، ومن كل عبد رضي الله عنه، وأنت خارج من حزب الله، وحزب أوليائه وخذلك الله خذلانا بينا، يعجل لك بذلك النقمة والعقوبة، والمصير إلى نار جهنم التي ليس لله فيها رحمة، وأنت بريء من حول الله وقوّته، وملجأ إلى حول نفسك، وقوّتك، وعليك لعنة الله التي لعن الله بها إبليس، وحرّم عليه بها الجنة وخلده في النار، إن خالقت شيئا من ذلك، ولقيت الله يوم تلقاه، وهو عليك غضبان، ولله عليك أن تحج إلى بيته الحرام ثلاثين حجة حجا واجبا ماشيا حافيا، لا يقبل الله منك إلّا الوفاء بذلك، وكل ما تملك في الوقت الذي تخالفه فيه، فهو صدقة على الفقراء والمساكين الذين لا رحم بينك، وبينهم لا يأجرك الله عليه، ولا يدخل عليك بذلك منفعة وكل مملوك لك من ذكر وأنثى في ملكك، أو تستفيده إلى وقت وفاتك إن خالفت شيئا من ذلك، فهم أحرار لوجه الله عز وجل، وكل امرأة لك أو تتزوّجها إلى وقت وفاتك إن خالفت شيئا من ذلك، فهنّ طوالق ثلاثا بتة، طلاق الحرج لا مثوبة لك، ولا خيار، ولا رجعة، ولا مشيئة، وكل ما كان لك من أهل ومال وغيرهما، فهو عليك حرام، وكل ظهار فهو لازم لك، وأنا المستحلف لك لإمامك، وحجتك، وأنت الحالف لهما، وإن نوت أو عقدت أو أضمرت، خلاف ما أحملك عليه، وأحلفك به، فهذه اليمين من أوّلها إلى آخرها مجدّدة عليك لازمة لك، لا يقبل الله منك، إلّا الوفاء بها والقيام بما عاهدت بيني وبينك. قل: نعم، فيقول: نعم، ولهم مع ذلك وصايا كثيرة أضربنا عنها خشية الإطالة وفيما ذكرناه كفاية لمن عقل.(2/269)
الدواوين
وكانت دواوين الدولة الفاطمية لما قدم المعز لدين الله إلى مصر، ونزل بقصره في القاهرة، محلها بدار الإمارة من جوار الجامع الطولونيّ.
فلما مات المعز، وقلد العزيز بالله الوزارة، ليعقوب بن كلس نقل الدواوين إلى داره، فلما مات يعقوب نقلها العزيز بعد موته إلى القصر، فلم تزل به إلى أن استبدّ الأفضل بن أمير الجيوش، وعمر دار الملك بمصر فنقل إليها الدواوين، فلما قتل عادت من بعده إلى القصر، وما زالت هناك حتى زالت الدولة.
قال في كتاب الذخائر والتحف: وحدّثني من أثق به، قال: كنت بالقاهرة يوما من شهور سنة تسع وخمسين وأربعمائة، وقد استفحل أمر المارقين، وقويت شوكتهم، وامتدّت أيديهم إلى أخذ الذخائر المصونة في قصر السلطان بغير أمره، فرأيت وقد دخل من باب الديلم أحد أبواب القصور المعمورة الزاهرة المعروف بتاج الملوك شادي، وفخر العرب عليّ بن ناصر الدولة بن حمدان، ورضي الدولة بن رضي الدولة، وأمير الأمراء بحتكين ابن بسكتكين، وأمير العرب بن كيغلغ والأعز بن سنان، وعدّة من الأمراء أصحابهم البغداديين وغيرهم، وصاروا في الإيوان الصغير، فوقفوا عند ديوان الشام لكثرة عددهم وجماعتهم، وكان معهم أحد الفرّاشين المستخدمين برسم القصور المعمورة، فدخلوا إلى حيث كان الديوان النظريّ في الديوان المذكور، وصحبتهم فعلة، وانتهوا إلى حائط مجيّر، فأمروا الفعلة بكشف الجير عنه، فظهرت حنية باب مسدود، فأمروا بهدمه، فتوصلوا منه إلى خزانة، ذكر أنها عزيزية من أيام العزيز بالله فوجدوا فيها من السلاح ما يروق الناظر، ومن الرماح العزيزية المطلية أسنتها بالذهب، ذات مهارك فضة مجراة بسواد ممسوح، وفضة بياض ثقيلة الوزن عدّة رزم، أعوادها من الزان الجيد، ومن السيوف المجوهرة النصول ومن النشاب الخلنجيّ وغيره، ومن الدرق اللمطيّ، والجحف التينيّ وغير ذلك، ومن الدروع المكلل سلاح بعضها والمحلّى بعضها بالفضة المركبة عليه، ومن التخافيف، والجواشن، والكراعيدات الملبسة ديباجا المكوكبة بكواكب فضة، وغير ذلك، مما ذكر أنّ قيمته تزيد على عشرين ألف دينار، فحملوا جميع ذلك بعد صلاة المغرب.
ولقد شاهدت بعض حواشيهم، وركابياتهم يكسرون الرماح، ويتلفون بذلك أعوادها(2/270)
الزان، ليأخذوا المهارك الفضة ومنهم من يجعل ذلك في سراويله، وعمامته، وجيبه، ومنهم من يستوهب من صاحب السيف الثمين، وكان فيها من الرماح الطوال الخطية السمر الجياد عدّة، حملوا منها ما قدروا عليه، وبقي منها ما كسره الركابية، ومن يجري مجراهم كانوا يبيعونه للمغازليين، ولصناع المرادن، حتى كثر هذا الصنف بالقاهرة، ولم تعترضهم الدولة، ولا التفتت إلى قدر ذلك، ولا احتفلت به، وجعلته هو وغيره فداء لأموال المسلمين، وحفظا لما في منازلهم.
ديوان المجلس
قال ابن الطوير: ديوان المجلس، هو أصل الدواوين قديما، وفيه علوم الدولة بأجمعها، وفيه عدّة كتاب، ولكل واحد مجلس مفرد، وعنده معين أو معينان، وصاحب هذا الديوان، هو المتحدّث في الإقطاعات، ويلحق بديوان النظر ويخلع عليه وينشأ له السجل، وله المرتبة والمسند والدواة والحاجب إلى غير ذلك.
قال: ذكر خدمهم الخاصة المتصلة بهم، فأوّلها دفتر المجلس، وصاحبه من الأستاذين المحنكين، ثم يتولاه أجلّ كتاب الدولة ممن يكون مترشحا لرأس الدواوين، ويتضمن ذلك الدفتر، وله مكان ديوان بالقصر الباطن من الإنعام في العطايا، والظاهر من الرسوم المعروفة في غرّة السنة، والضحايا والمرتب من الكسوات للأولّاد، والأقارب والجهات، وأرباب الرتب على اختلاف الطبقات، وما يرد من ملوك الدنيا من التحف والهدايا، وما يرسل إليهم من الملاطفات، ومقادير الصلات للمترسلين بالمكاتبات، وما يخرج من الأكفان لمن يموت من أرباب الجهات المحترمات، ثم يضبط ما ينفق في الدولة من المهمات ليعلم ما بين كل سنة من التفاوت، فالصرّة المنعم بها في أوّل العام من الدنانير، والرباعية والقراريط تقرب من ثلاثة آلاف دينار، وثمن الضحايا يقرّب من ألفي دينار، وما ينفق في دار الفطرة فيما يفرّق على الناس سبعة آلاف دينار، وما ينفق في دار الطراز للاستعمالات الخاص، وغيرها في كل سنة عشرة آلاف دينار، وما ينفق في مهمّ فتح الخليج غير المطاعم ألفا دينار، وما ينفق في شهر رمضان في سماطه ثلاثة آلاف دينار، وما ينفق في سماطي الفطر، والنخر أربعة آلاف دينار، وهذا خارج عما يطلق للناس أصنافا من خزائنه من المآكل والمشارب والمواصلة من الهبات، وما تخرج به الخطوط من التشريفات «1» ، والمسامحات «2» ، وما يطلق من الأهراء من الغلات حتى لا يفوتهم علم شيء من هذه المطلقات، وفي هذه الخدمة كاتب مستقل بين يدي صاحب ديوانه الأصليّ، ومعه(2/271)
كاتبان آخران لتنزيل ذلك في الدفتر، والدفتر عبارة عن جرائد مسطوحات ينزل ذلك فيها في أوقاته من غير فوات.
قال: وإذا انقضى عيد النحر من كل سنة تقدّم بعمل الاستيمار لتلك السنة تمام ذي الحجة منها، فيجتمع كتاب ديوان الرواتب عند متوليه، وتحمل العروض إليه، فإذا تحرّرت نسخة التحرير: بيّضت بعد أن يستدعي من المجلس أوراق بالإدرار الذي يقبض بغير حرج، وفي الإدرار ما هو مستقرّ بالوجهين، فيضاف هذا المبلغ بجهاته إلى المبالغ المعلومة بديوان الرواتب وجهاتها، حتى لا يفوت من الاستيمار شيء من كل ما تقرّر شرحه، ويعلم مقداره عينا وورقا، وغلة وغير ذلك، فيحرّر ذلك كله بأسماء المرتزقين، وأوّلهم: الوزير، ومن يلوذ به، وعلى ذلك إلى أن ينتهي الجميع إلى أرباب الضرّ، فإذا تكمل استدعى له من خزانة الفرش وطاء حرير لشدّه، وشرابة لمسكه، إمّا خضراء أو حمراء، ويعمل له صدر من الكلام اللائق بما بعده، وهذا كله خارج عن الكسوات المطلقة لأربابها، والرسوم المعدّة في كل سنة، وما يحمل من دار الفطرة من الأصناف برسم عيد الفطر، وعما يشهد به دفتر المجلس من العطايا الخافية والرسوم، وقد انعقد مرّة، وأنا أتولى ديوان الرواتب على ما مبلغه نيف ومائة ألف دينار أو قريب من مائتي ألف دينار، ومن القمح والشعير على عشرة آلاف أردب، فإذا فرغ من مسكه في الشرابة حمل إلى صاحب ديوان النظر إن كان، وإلّا فلصاحب ديوان المجلس ليعرضه على الخليفة، إن كان يعني مستبدّا أو الوزير لاستقبال المحرّم من السنة الآتية في أوقات معلومة، فيتأخر في العرض، وربما يستوعب المحرّم ليحيط العلم بما فيه، فإذا كمل العرض أخرج إلى الديوان، وقد شطب على بعضه، وكانوا يتحرّجون من الإقامات على مال الدولة التي لا أصل لها، وعلى غير متوفر، ويتنجزها أربابها بالمستقبلات على الخلفاء والوزراء، وينقص قوم للاستكثار، ويزاد قوم للاستحقاق، ويصرف قوم، ويستخدم آخرون على ما تقتضيه الآراء في ذلك الوقت، ثم يسلم لرب هذا الديوان فيحمل الأمر على ما شطب عليه، وعلامة الإطلاق خروجه من العرض.
وقيل: إنه عمل مرّة في أيام المستنصر بالله، فلما استؤذن على عرضه، قال: هل وقع أحد بما فيه غيرنا؟ قيل له: معاذ الله يا مولانا، ما تمّ إنعام إلّا لك، ولا رزق إلّا من الله على يديك، فقال: ما ينقص به أمرنا، ولا خطنا، وما صرفناه في دولتنا بإذننا، وتقدّم إلى وليّ الدولة بن جبران كاتب الإنشاء بإمضائه للناس من غير عرض، وحمل الأمر على حكمه، ووقع عن الخليفة بظاهره: الفقر مرّ المذاق، والحاجة تذل الأعناق، وحراسة النعم بإدرار الأرزاق، فليجروا على رسومهم في الإطلاق ما عندكم ينفد، وما عند الله باق.
ووقع في خلافة الحافظ لدين الله على استيمار الرواتب ما نصه: أمير المؤمنين لا يستكثر في ذات الله كثيرا لإعطاء، ولا يكدّره بالتأخير له، والتسويف، والإبطاء، ولما انتهى(2/272)
إليه ما أرباب الرواتب عليه من القلق للامتناع من إيجاباتهم، وحمل خروجاتهم، قد ضعفت قلوبهم، وقنطت نفوسهم، وساءت ظنونهم، شملهم برحمته ورأفته، وأمنهم مما كانوا وجلين من مخافته، وجعل التوقيع بذلك بخط يده تأكيدا للإنعام والمنّ، وتهنئة بصدقة لا تتبع بالأذى والمنّ، فليعتمد في ديوان الجيوش المنصورة إجراء ما تضمنت هذه الأوراق ذكرهم على ما ألفوه، وعهدوه من رواتبهم، وإيجابها على سياقها لكافتهم من غير تأوّل، ولا تعنت ولا استدراك ولا تعقب وليجروا في نسبياتهم على عادتهم لا ينقض من أمرهم ما كان مبرما، ولا ينسخ من رسمهم ما كان محكما، كرما من أمير المؤمنين، وفعلا مبرورا، وعملا بما أخبر به عز وجل في قوله تعالى: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً
[الإنسان/ 9] ولينسخ في جميع الدواوين بالحضرة إن شاء الله تعالى.
وقال في كتاب كنز الدرر: إن في سنة ست وأربعمائة: عرض على الحاكم بأمر الله الاستيمار باسم المتفقهين، والقرّاء، والمؤذنين بالقاهرة ومصر، وكانت الجملة في كل سنة: أحدا وسبعين ألف دينار، وسبعمائة، وثلاثة وثلاثين دينارا وثلثي دينار وربع دينار، فأمضى جميع ذلك.
وقال ابن المأمون: وأما الاستيمار، فبلغني ممن أثق به أنه كان في الأيام الأفضلية اثني عشر ألف دينار، وصار في الأيام المأمونية لاستقبال سنة ست عشرة، وخمسمائة ستة عشر ألف دينار، وأما تذكر الطراز، فالحكم فيها مثل الاستيمار، والشائع فيها أنها كانت تشمل في الأيام الأفضلية على أحد وثلاثين ألف دينار، ثم اشتملت في الأيام المأمونية على ثلاثة وأربعين ألف دينار، وتضاعفت في الأيام الآمرية، وعرض روزنامج بما أنفق عينا من بيت المال في مدّة أوّلها محرّم سنة سبع وعشرة وخمسمائة، وآخرها: سلخ ذي الحجة منها في العساكر المسيرة لجهاد الفرنج برّا، والأساطيل بحرا، والمنفق في أرباب النفقات من الحجرية والمصطيعية والسودان على اختلاف قبوضهم، وما ينصرف برسم خزانة القصور الزاهرة، وما يبتاع من الحيوان برسم المطابخ، وما هو برسم منديل الكمّ الشريف في كل سنة، مائة دينار، والمطلق في الأعياد والمواسم، وما ينعم به عند الركوبات من الرسوم والصدقات، وعند العود منها، وثمن الأمتعة المبتاعة من التجار على أيدي الوكلاء والمطلق برسم الرسل، والضيوف، ومن يصل متسأمنا، ودار الطراز، ودار الديباج، والمطلق برسم الصلاة والصدقات، ومن يعتدي للإسلام، وما ينعم به على الولاة عند استدامهم في الخدم، ونفقات بيت المال، والعمائر وهو من العين: أربعمائة ألف وثمانية وستون ألفا، وسبعمائة وسبعة وتسعون دينارا ونصف من جملة: خمسمائة ألف وسبعة وستين وألفا، ومائة وأربعين دينارا ونصف، يكون الحاصل بعد ذلك مما يحمل إلى الصناديق الخاص برسم المهمات لما يتجدّد من تسفير العساكر، وما يحمل إلى الثغور عند نفاد ما بها: ثمانية وتسعين ألفا، ومائة وسبعة وتسعين دينارا وربعا وسدسا، ولم يكن يكتب من بيت المال وصول، ولا مجرى ولا(2/273)
تعرّف، وذلك خارج عما يحمل مشاهرة برسم الديوان المأمونيّ، والأجلاء إخوته، وأولاده، وما أنعم به على ما تضمنت اسمه مشاهرة من الأصحاب، والحواشي، وأرباب الخدم، والكتاب، والأطباء، والشعراء، والفرّاشين الخاص والجوق، والمؤدبين، والخياطين، والرفائين، وصبيان بيت المال، ونوّاب الباب، ونقباء الرسائل، وأرباب الرواتب المستقرّة من ذوي النسب، والبيوتات والضعفاء، والصعاليك من الرجال والنساء عن مشاهرتهم، ستة عشر ألفا، وستمائة واثنان وثمانون دينارا وثلثا دينار يكون في السنة:
مائتي ألف ومائة دينار، فتكون الجملة سبمائة ألف وسبعة وستين ألفا ومائتين وأربعة وتسعين دينارا ونصفا.
قال: وفي هذا الوقت، يعني شوّال، سنة سبع عشرة وخمسمائة: وقعت مرافعة في أبي البركات بن أبي الليث متولي ديوان المجلس صورتها المملوك يقبل الأرض، وينهى إنه ما واصل إنهاء حال هذا الرجل، وما يعتمده لأنه أهل أن ينال خدمته، وإنما هي نصيحة تلزمه في حق سلطانه، وقد حصل له من الأموال والذخائر ما لا عدد له ولا قيمة عليه، ويضرب المملوك عن وجوه الجناية التي هي ظاهرة، لأن السلطان لا يرضى بذكرها في عالي مجلسه ولا سماعها في دولته، وله ولأهله مستخدمون في الدولة ست عشرة سنة بالجاري الثقيل لكل منهم.
ويذكر المملوك ما وصلت قدرته إلى علمه، ما هو باسمه خاصة دون من هو مستخدم في الدواوين من أهله، وأصحابه، ويبدأ بما باسمه مياومة إدرارا من بيت المال، والخزائن ودار التعبية، والمطابخ، وشون الحطب، وهو ما يبين برسم البقولات والتوابل: نصف دينار، ومن الضأن: رأس واحد، ومن الحيوان: ثلاثة أطيار، ومن الحطب: حملة واحدة، ومن الدقيق: خمسة وعشرون رطلا، ومن الخبز: عشرون وظيفة، ومن الفاكهة: ثمرة زهرة قصريتان وشمامة، وفي كل اثنين وخميس من السماط بقاعة الذهب: طيفور «1» خاص وصحن من الأوائل، وخمسة وعشرون رغيفا من الخبز الموائدي والسميذ، وفي كل يوم أحد وأربعاء من الأسمطة بالدار المأمونية مثل ذلك، وفي كل يوم سبت وثلاثاء من أسمطة الركوبات: خروف مشويّ، وجام حلوى ورباعي عنبا، ويحضر إليه في كل يوم من الإصطبلات بغلة بمركوب محلى وبغلة برسم الراجل، وفراشين من الجوق برسم خدمته، وتبيت على بابه، وإذا خرج من بين يدي السلطان في الليل، كان له شمعة من الموكبيات توصله إلى داره وزنها: سبعة عشر رطلا، ولا تعود، وبرسم ولده: في كل يوم ثلاثة أرطال لحم، وعشرة أرطال دقيق، وفي أيام الركوبات رباعي، والمشاهرة جاري ديوان الخاص،(2/274)
والمجلس برسمه: مائة وعشرون دينارا، وبرسم ولده: راتبا عشرة دنانير وأثبت أربعة غلمان نصارى، ونسبهم للإسلام في جملة المستخدمين في الركاب، ولم يخدموا لا في الليل، ولا في النهار بما مبلغه سبعة دنانير، ومن السكر خمسة عشر رطلا، ومن عسل النحل:
عشرة أرطال، ومن قلب الفستق: ثلاثة أرقال، وقلب البندق: خمسة أرطال، وقلب اللوز:
أربعة أرطال، وورد مربى: رطلان، زيت طيب: عشرة أرطال، شيرج: خمسة أرطال، زيت حار: ثلاثون رطلا، خل: ثلاث جرار، أرز: نصف ويبة، سماق: أربعة أرطال، حصرم وكشك، وحب رمّان، وقراصيا بالسوية: اثنا عشر رطلا، سدر وأشنا: ويبة، ومن الكيزان:
عشرون شربة عزيزية وثلجية واحدة، ومن الشمع ست شمعات منهنّ: اثنتان منويات، وأربعة رطليات، والمسانهة في بكور الغرّة برسم الخاصة: خمسة دنانير، وخمسة رباعية، وعشرة قراريط جدد، وبرسم ولده: دينار ورباعي، وثلاثة قراريط، وخروف مقموم، وخمسة أرؤس، وربع قنطار خبز برماذق، وصحن أرز بلبن وسكر، ومن السماط بالقصر في اليوم المذكور خروف شواء، وزبادي، وجام حلوى والخبز، وقطعة منفوخ، ومن القمح: ثلثمائة أردب، ومن الشعير: مائة وخمسون أردبا.
وفي المواليد الأربعة: أربع صواني فطرة، وكسوة الشتاء، برسمه خاصة منديل حريري وشقة ديبقيّ حرير وشقة ديباج، ورداء أطلس، وشقة ديباج داري، وشقتان سقلاطون إحداهما اسكندرانية وشقتان عتابيّ وشقتان خز مغربيّ، وشقتان اسكندرانيّ، وشقتان دمياطيّ، وشقة طلي مرش، وفوطة خاص.
وبرسم ولده: شقة سقلاطون داري، وشقة عتابيّ داري، وشقة خز مغربيّ، وشقتان دمياطيّ، وشقتان اسكندرانيّ، وشقة طلي وفوطة.
وبرسم من عنده: منديلا كم أحدهما خزائنيّ خاص، ونصفي أردية ديبقي، وشقة سقلاطون داري وشقة عتابيّ، وشقة سوسيّ، وشقة دمياطيّ، وشقتان اسكندرانيّ، وفوطة، وبرسمه أيضا في عيد الفطر: طيفوران، فطرة مشورة، ومائة حبة بوري، وبدلة مذهبة مكملة، ولولده: بدلة حرير، وبرسم من عنده حلة مذهبة، وفي عيد النحر: رسمه مثل عيد الفطر، ويزيد عنه هبة مائة دينار، ولولده: مثل عيد الفطر وزيادة عشرة دنانير، ويساق إليه من الغنم ما لم يكن باسمه.
وفي موسم فتح الخليج: أربعون دينارا، وصينية فطرة، وطيفور خاص من القصر، وخروف شواء، وحام حلواء، وبرسم ولده: خمسة دنانير، ولخاصه في النوروز: ثلاثون دينارا، وشقة ديبقي حريري، وشقة لاذ ومعجر حريري، ومنديل كم حريري، وفوطة، ومائة بطيخة، وسبعمائة حبة رمان، وأربعة عناقيد موز، وفرد بسر وثلاثة أقفاص تمر قوصيّ، وقفصان سفرجل، وثلاث بكالي هريسة، واحدة بدجاج، وأخرى بلحم ضان،(2/275)
والثالثة بلحم بقريّ، وأربعون رطلا خبز برماذق، ولولده: خمسة دنانير وحوائج النوروز بما تقدّم ذكره، وبرسم الغيطاس: خمسمائة حبة ترنج ونارنج وليمون مركب، وخمسة عشر طنّ قصب، وعشر حبات بوري، وباسمه في عيد الغدير من السماط بالقصر مثل عيد النحر، وله هبة عن رسم الخلع من المجلس المأمونيّ، يعني مجلس الوزارة ثلاثون دينارا، ولولده خمسة دنانير، ومن تكون هذه رسومه في أيّ وجه تنصرف أمواله، والذي باسم أخيه نظير ذلك، وكذلك صهره في ديوان الوزارة وابن أخيه في الديوان التاجيّ، ووجوه الأموال من كل جهة واصلة إليهم، والأمانة مصروفة عنهم.
وقد اختصر المملوك فيما ذكر، والذي باسمه أكثر، وإذا أمر بكشف ذلك من الدواوين تبين صحة قول المملوك، وعلم أنه ممن يتجنب قول المحال، ولا يرضاه لنفسه سيما أن رفعه إلى المقام الكريم، وشنع ذلك بكثرة القول فيهم، وعرّض بالقبض عليهم، وأوجب على نفسه أنه يثبت في جهاتهم من الأموال التي تخرج عن هذا الإنعام ما يجده حاضرا مدخورا عند من يعرفه مائة ألف دينار، فلم يسمع كلامه إلى أن ظهر الراهب في الأيام الآمرية، فوجد هو وغيره الفرصة فيهم، وكثر الوقائع عليهم، فقبض عليهم عن آخرهم، ومن يعرفهم، وأخذ منهم الجملة الكبيرة، ثم بعد ذلك عادوا إلى خدمهم بما كان من أسمائهم، وتجدّد من جاههم، وانتقامهم من أعدائهم أكثر مما كان أوّلا، انتهى.
فانظر أعزك الله إلى سعة أحوال الدولة من معلوم رجل واحد من كتاب دواوينها، يتبين لك بما تقدّم ذكره في هذه المرافعة من عظم الشأن وكثر العطاء، ما يكون دليلا على باقي أحوال الدولة.
ديوان النظر
قال ابن الطوير: أما دواوين الأموال، فإنّ أجلّها من يتولى النظر عليهم، وله العزل، والولاية، ومن يده عرض الأوراق في أوقات معروفة على الخليفة أو الوزير، ولم ير فيه نصرانيّ، إلّا الأحزم، ولم يتوصل إليه إلّا بالضمان، وله الاعتقال بكل مكان يتعلق بنوّاب الدولة، وله الجلوس بالمرتبة، والمسند، وبين يديه حاجب من أمراء الدولة، وتخرج له الدواة بغير كرسي، وهو يندب المترسلين لطلب الحساب، والحث على طلب الأموال، ومطالبة أرباب الدولة، ولا يعترض فيما يقصده من أحد من الدولة.
ديوان التحقيق
هو ديوان مقتضاه المقابلة على الدواوين، وكان لا يتولاه إلّا كاتب خبير، وله الخلع المرتبة، والحاجب، ويلحق برأس الديوان يعني متولي النظر، ويفتقر إليه في أكثر الأوقات.
وقال ابن المأمون: وفي هذه السنة يعني سنة إحدى وخمسمائة: فتح ديوان المجلس،(2/276)
قال: ولما كثرت الأموال عند ابن أبي الليث صاحب الديوان، رغب في التبجح على الأفضل بن أمير الجيوش ينهضه، ويسأله أن يشاهده قبل حمله، وذكر أنه سبعمائة ألف دينار خارجا عن نفقات الرجال، فجعلت الدنانير في صناديق بجانب، والدراهم في صناديق بجانب، وقام ابن أبي الليث بين الصفين، فلما شاهد الأفضل بن أمير الجيوش ذلك، قال لابن أبي الليث: يا شيخ تفرّحني بالمال؟ وتربة أمير الجيوش إن بلغني أن بئرا معطلة، أو أرضا بائرة، أو بلدا خراب، لأضربنّ عنقك، فقال: وحق نعمتك لقد حاشا الله أيامك أن يكون فيها بلد خراب، أو بئر معطلة، أو أرض بور، فأبى أن يكشف عما ذكر انتهى.
وقتل ابن أبي الليث في سنة ثمان عشرة وخمسمائة.
ديوان الجيوش والرواتب
قال ابن الطوير: أما الخدمة في ديوان الجيوش، فتنقسم قسمين: الأوّل ديوان الجيش، وفيه مستوف أصيل ولا يكون إلّا مسلما، وله مرتبة على غيره لجلوسه بين يدي الخليفة داخل عتبة باب المجلس، وله الطرّاحة، والمسند، وبين يديه الحاجب، وترد عليه أمور الأجناد، له العرض والحلي والثياب.
ولهذا الديوان خازنان برسم رفع الشواهد، وإذا عرض أحد الأجناد، ورضي به عرض دوابه، فلا يثبت له إلّا الفرس الجيد من ذكور الخيل، وإناثها، ولا يترك لأحد منهم برذون ولا بغل، وإن كان عندهم البراذين والبغال، وليس لهم تغيير أحد من الأجناد إلّا بمرسوم، وكذلك إقطاعهم، ويكون بين يدي هذا المستوفي: نقباء الأمراء ينهون إليه متجدّدات الأجناد من الحياة والموت والمرض والصحة، وكان قد فسح للأجناد في مقايضة بعضهم بعضا في الإقطاع بالتوقيعات بغير علامة، بل بتخريج صاحب ديوان المجلس، ومن هذا الديوان تعمل أوراق أرباب الجرايات، وما كان لأمير، وإن علا قدره بلد مقور إلّا نادرا.
وأما القسم الثاني من هذا الديوان: فهو ديوان الرواتب، ويشتمل على أسماء كل مرتزق، وجار، وجارية، وفيه كاتب أصيل بطرّاحة، وفيه من المعينين والمبيضين نحو عشرة أنفس والتعريفات واردة عليه من كل عمل باستمرار من هو مستمرّ، ومباشرة من استجدّ، وموت من مات ليوجب استحقاقه على النظام المستقيم.
وفي هذا الديوان عدّة عروض، العرض الأوّل: يشتمل على راتب الوزير، وهو في الشهر خمسة آلاف دينار، ومن يليه من ولد، وأخ من ثلثمائة دينار إلى مائتي دينار، ولم يقرّر لولد وزير خمسمائة دينار سوى شجاع بن شاور، المنعوت: بالكامل، حواشيهم على مقتضى عدّتهم، من خمسمائة إلى أربعمائة إلى ثلثمائة خارجا عن الإقطاعات.
العرض الثاني حواشي الخليفة، وأوّلهم: الأستاذون المحنكون على رتبهم، وجواري(2/277)
خدمهم التي لا يباشرها سواهم، فزمام القصر، وصاحب بيت المال، وحامل الرسالة، وصاحب الدفتر، ومشاد التاج، وزمام الأشراق الأقارب، وصاحب المجلس لكل واحد منهم: مائة دينار في كل شهر، ومن دونهم ينقص عشرة دنانير حتى يكون آخرهم من له في كل شهر عشرة دنانير، وتزيد عدّتهم على ألف نفس، ولطبيبي الخاص لكل واحد: خمسون دينارا، ولمن دونهما من الأطباء برسم المقيمين بالقصر، لكل واحد عشرة دنانير.
العرض الثالث: يتضمن أرباب الرتب بحضرة الخليفة، فأوّله كاتب الدست الشريف، وجارية: مائة وخمسون دينارا، ولكل واحد من كتابه ثلاثون دينارا، ثم صاحب الباب وجارية: مائة وعشرون دينارا، ثم حامل السيف وحامل الرمح لكل منهما: سبعون دينارا وبقية الأزمّة على العساكر والسودان: من خمسين إلى أربعين دينارا إلى ثلاثين دينارا.
العرض الرابع: يشتمل على المستقرّ لقاضي القضاة، ومن يلي قاضي القضاة: مائة دينار، وداعي الدعاة: مائة دينار، ولكل من قرّاء الحضرة: عشرون دينارا إلى خمسة عشر إلى عشرة، والخطباء الجوامع: من عشرين دينارا إلى عشرة، وللشعراء من عشرين دينارا إلى عشرة دنانير.
العرض الخامس: يشتمل على أرباب الدواوين، ومن يجري مجراهم، وأوّلهم: من يتولى ديوان النظر وجاريه: سبعون دينارا، وديوان التحقيق جاريه: خمسون دينارا، وديوان المجلس: أربعون دينارا، وصاحب دفتر المجلس: خمسة وثلاثون دينارا، وكاتبه: خمسة دنانير، وديوان لجيوش وجاريه: أربعون دينارا، والموقع بالقلم الجليل: ثلاثون دينارا، ولجميع أصحاب الدواوين الجاري فيها المعاملات لكل واحد: عشرون دينارا، ولكل معين: من عشرة دنانير إلى سبعة إلى خمسة دنانير.
العرض السادس: يشتمل على المستخدمين بالقاهرة ومصر لكل احد من المستخدمين في ولاية القاهرة، وولاية مصر في الشهر: خمسون دينارا، والحماة بالإهراء، والمناخات والجوالي والبساتين، والأملاك وغيرها لكل منهم: من عشرين دينارا إلى خمسة عشر إلى عشرة إلى خمسة دنانير.
العرض السابع: الفرّاشون بالقصور برسم خدمها وتنظيفها خارجا وداخلا ونصب الستائر المحتاج إليها، وخدمة المناظر الخارجة عن القصر، فمنهم خاص برسم خدمة الخليفة، وعدّتهم: خمسة عشر رجلا منهم: صاحب المائدة، وحامي المطابخ: من ثلاثين دينارا إلى ما حولها، ولهم رسوم متميزة، ويقربون من الخليفة في الأسمطة التي يجلس عليها، ويليهم الرشاشون داخل القصر وخارجه، ولهم عرفاء، ويتولى أمرهم أستاذ من خواص الخليفة وعدّتهم: نحو الثلاثمائة رجل، وجار بهم: من عشرة دنانير إلى خمسة دنانير.(2/278)
العرض الثامن: صبيان الركاب، وعدّتهم: تزيد على ألفي رجل، ومقدّموهم أصحاب ركاب الخليفة، وعدّتهم: اثنا عشر مقدّما، منهم: مقدّم المقدّمين، وهو صاحب الركاب اليمين، ولكل من هؤلاء المقدّمين في كل شهر: خمسون دينارا، ولهم نقباء من جهة المذكورين يعرفونهم وهم مقرّرون جوقا على قدر جواريهم، جوقة لكل منهم: خمسة عشر دينارا، وجوقة لكل منهم: عشرة دنانير، وجوقة لكل منهم: خمسة دنانير، ومنهم من ينتدب في الخدم السلطانية، ويكون لهم نصيب في الأعمال التي يدخلونها، وهم الذين يحملون الملحقات لركوب الخليفة في المواسم وغيرها.
وأوّل من قرّر العطاء لغلمانه، وخدمه، وأولادهم الذكور والإناث، ولنسائهم، وقرّر لهم أيضا الكسوة: العزيز «1» بالله نزار بن المعز.
ديوان الإنشاء والمكاتبات
وكان لا يتولاه إلّا أجل كتاب البلاغة، ويخاطب: بالشيخ الأجل، ويقال له: كاتب الدست الشريف، ويسلم المكاتبات الواردة مختومة، فيعرضها على الخليفة من بعده، وهو الذي يأمر بتنزيلها، والإجابة عنها للكتاب، والخليفة يستشيره في أكثر أموره، ولا يحجب عنه متى قصد المثول بين يديه، وهذا أمر لا يصل إليه غيره، وربما بات عند الخليفة ليالي وكان جاريه: مائة وعشرين دينارا في الشهر، وهو أوّل أرباب الإقطاعات، وأرباب الكسوة، والرسوم والملاطفات ولا سبيل أن يدخل إلى ديوانه بالقصر، ولا يجتمع بكتابه أحد إلّا الخواص، وله حاجب من الأمراء الشيوخ، وفرّاشون وله المرتبة الهائلة، والمخادّ، والمسند، والدواة لكنها بغير كرسيّ، وهي من أخص الدوى، ويحملها أستاذ من أستاذي الخليفة.
التوقيع بالقلم الدقيق في المظالم
وكان لا بدّ للخليفة من جليس يذاكره ما يحتاج إليه من كتاب الله، وتجويد الخط، وأخبار الأنبياء، والخلفاء، فهو يجتمع به في أكثر الأيام، ومعه أستاذ من المحنكين مؤهل لذلك، فيكون الأستاذ ثالثهما، ويقرأ على الخليفة ملخص السير، ويكرّر عليه: ذكر مكارم الأخلاق، وله بذلك رتبة عظيمة تلحق برتبة كاتب الدست، ويكون صحبته للجلوس دواة محلاة، فإذا فرغ من المجالسة، ألقي في الدواة كاغد: فيه عشرة دنانير، وقرطاس: فيه(2/279)
ثلاثة مثاقيل ندّ مثلث خاص ليتبخر به عند دخوله على الخليفة ثاني مرة، وله منصب التوقيع بالقلم الدقيق، وله طرّاحة، ومسند، وفرّاش يقدّم إليه ما يوقع عليه، وله موضع من حقوق ديوان المكاتبات، لا يدخل إليه أحد إلّا بإذن، وهو يلي صاحب ديوان المكاتبات في الرسوم، والكساوي وغيرها.
التوقيع بالقلم الجليل
وهي رتبة جليلة، ويقال لها: الخدمة الصغرى، ولها الطرّاحة، والمسند بغير حاجب، بل الفرّاش لترتيب ما يوقع فيه.
مجلس النظر في المظالم
كانت الدولة إذا خلت من وزير صاحب سيف، جلس صاحب الباب في باب الذهب «1» بالقصر، وبين يديه النقباء والحجاب، فينادي المنادي بين يديه: يا أرباب الظلامات، فيحضرون، فمن كانت ظلامته مشافهة أرسلت إلى الولاة والقضاة رسالة بكشفها، ومن تظلم ممن ليس من أهل البلدين أحضر قصة بأمره، فيتسلمها الحاجب منه، فإذا جمعها أحضرها إلى الموقع بالقلم الدقيق، فيوقع عليها، ثم تحمل إلى الموقع بالقلم الجليل، فيبسط ما أشار إليه الموقع الأوّل، ثم تحمل في خريطة إلى الخليفة، فيوقع عليها، ثم تخرج في الخريطة إلى الحاجب، فيقف على باب القصر، ويسلم كل توقيع لصاحبه، فإن كان وزيره صاحب سيف: جلس للمظالم بنفسه، وقبالته: قاضي القضاة، ومن جانبيه شاهدان معتبران، ومن جانب الوزير: الموقع بالقلم الدقيق، ويليه: صاحب ديوان المال، وبين يديه صاحب الباب واسفهسلار العساكر، وبين أيديهما النوّاب، والحجاب على طبقاتهم، ويكون الجلوس بالقصر في مجلس المظالم في يومين من الأسبوع، وكان الخليفة إذا رفعت إليه القصة، وقع عليها: يعتد ذلك إن شاء الله تعالى، ويوقع في الجانب الأيمن منها، يوقع بذلك، فتخرج إلى صاحب ديوان المجلس، فيوقع عليها جليلا، ويخلي مكان العلامة فيعلم عليها الخليفة وتثبت، وكانت علامتهم أبدا: الحمد لله رب العالمين، وكان الخليفة يوقع في المسامحة، والتسويغ والتحبيس: قد أنعمنا بذلك، وقد أمضينا ذلك، وكان إذا أراد أن يعلم ذلك الشيء الذي أنهي وقع ليخرج الحال في ذلك، فإذا أحضر إليه إخراج الحال، علم عليه فإن كان حينئذ وزير وقع الخليفة بخطه، وزيرنا السيد الأجل وذكر نعته المعروف به أمتعنا الله ببقائه يتقدّم بنجاز ذلك إن شاء الله تعالى، فيكتب الوزير تحت خط(2/280)
الخليفة: يمتثل أمر مولانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه، ويثبت في الدواوين.
رتب الأمراء
كان أجل خدم الأمراء: أرباب السيوف، خدم الباب، ويقال لمتولي هذه الخدمة:
صاحب الباب، وينعت أوّلا بالمعظم، وأوّل من خدم بها: المعظم خمرتاش في أيام الخليفة الحافظ، وكان من العقلاء، وناب عن الحافظ في مرضه، فلما عوفي أراده على الوزارة، فامتنع، وله نائب يقال له: النائب، وتسمى الخدمة فيها: بالنيابة الشريفة ومقتضاها أنها مميزة، ولا يليها إلّا أعيان العدول، وأرباب العمائم، وينعت أبدا بعدي الملك، وهو الذي يتلقى الرسل الواصلة من الدول، ومعه نوّاب الباب في خدمته، ويحفظهم ينزلهم بالأماكن المعدّة لهم، ويقدّمهم للسلاح على الخليفة، والوزير مع صاحب الباب، فيكون صاحب الباب يمينا، وهو يسار، ويتولى افتقادهم، والحث على ضيافتهم، ولا يمكن من التقصير في حقوقهم، واجتماع الناس بهم، والاطلاع على ما جاؤوا فيه، ولا من ينقل الأخبار إليهم، ويلي رتبة صاحب الباب، الإسفهسلار، وهو زمام كل زمام، وإليه أمور الأجناد، ثم يليه حامل سيف الخليفة أيام الركوب بالمظلة واليتيمة، ثم من يزم طائفتي الحافظية، والآمرية، وهما وجه الأجناد، وهؤلاء أرباب الأطواق، ويليهم: أرباب القصب، والعماريات، وهي الأعلام، ثم زي الطوائف، ثم من يترشح لذلك من الأماثل وكانت الدولة لا تسند ذلك إلّا إلى أرباب الشجاعة، والنجدة، ولهذا دخل فيه أخلاط الناس من الأرمن والروم وغيرهم، وعلى ذلك كان عملهم لا للزينة والتباهي.
قاضي القضاة
وكان من عادة الدولة، أنه إذا كان وزير: رب سيف، فإنه يقلد القضاء رجلا نيابة عنه، وهذا إنما حدث من عهد أمير الجيوش بدر الجماليّ، وإذا كان الخليفة مستبدّا قلد القضاء رجلا، ونعته بقاضي القضاة، وتكون رتبته أجل رتب أرباب العمائم، وأرباب الأقلام، ويكون في بعض الأوقات داعيا، فيقال له حينئذ: قاضي القضاة، وداعي الدعاة ولا يخرج شيء من الأمور الدينية عنه، ويجلس السبت والثلاثاء، بزيادة جامع عمرو بن العاص بمصر على طرّاحة ومسند حرير.
فلما ولي ابن عقيل القضاء، رفع المرتبة والمسند، وجلس على طرّاحات السامان، فاستمرّ هذا الرسم ويجلس الشهود حواليه يمنة ويسرة بحسب تاريخ عدالتهم، وبين يديه خمسة من الحجاب اثنان بين يديه، واثنان على باب المقصورة، وواحد ينفذ الخصوم إليه، وله أربعة من الموقعين بين يديه: اثنان يقابلان اثنين، وله كرسيّ الدواة، وهي دواة محلاة(2/281)
بالفضة تحمل إليه من خزائن القصور، ولها حامل بجامكية «1» في الشهر على الدولة، ويقدّم له من الإصطبلات برسم ركوبه على الدوام: بغلة شهباء، وهو مخصوص بهذا اللون من البغال دون أرباب الدولة، وعليها من خزانة السروج، سرج محلي ثقيل وراء دفتر فضة، ومكان الجلد حرير، وتأتيه في المواسم الأطواق، ويخلع عليه الخلع المذهبة بلا طبل، ولا بوق إلّا إذا ولي الدعوة مع الحكم، فإنّ للدعوة في خلعها الطبل، والبوق، والبنود الخاص وهي نظير البنود التي يشرّف بها الوزير صاحب السيف، وإذا كان للحكم خاصة كان حواليه القرّاء رجالة، وبين يديه المؤذنون يعلنون بذكر الخليفة، والوزير إن كان، ثم ويحمل بنوّاب الباب والحجاب، ولا يتقدّم عليه أحد في محضر هو حاضره من رب سيف وقلم، ولا يحضر لأملاك ولا جنازة إلا بإذن، ولا سبيل إلى قيامه لأحد، وهو في مجلس الحكم ولا يعدّل شاهد إلّا بأمره، ويجلس بالقصر في يومي الاثنين والخميس، أوّل النهار للسلام على الخليفة، ونوّابه لا يفترون عن الأحكام، ويحضر إليه وكيل بيت المال، وكان له النظر في ديوان الضرب لضبط ما يضرب من الدنانير فكان يحضر مباشرة التغليق بنفسه، ويختم عليه، ويحضر لفتحه، وكان القاضي لا يصرف إلّا بجنحة، ولا يعدّل أحد إلّا بتزكية عشرين شاهدا: عشرة من مصر، وعشرة من القاهرة، ورضي الشهود به، ولا يحتمي أحد على الشرع ومن فعل ذلك أدب.
قاعة الفضة
وهي من جملة قاعات القصر.
قاعة السدرة
كانت بجوار المدرسة، والتربة الصالحية، واشتراها قاضي القضاة: شمس الدين محمد بن ابراهيم بن عبد الواحد بن عليّ بن سرور المقدسيّ الحنبليّ، مدرس الحنابلة بالمدرسة الصالحية: بألف وخمسة وتسعين دينارا في رابع شهر ربيع الآخر: سنة ستين وستمائة من كمال الدين ظافر بن الفقيه نصر وكيل بيت المال، ثم باعها شمس الدين المذكور للملك الظاهر بيبرس في حادي عشري ربيع الآخر المذكور، وكان يتوصل إليها من باب البحر.
قاعة الخيم
كانت شرقيّ قاعة السدرة، وقد دخلت قاعة السدرة، وقاعة الخيم في مكان المدرسة الظاهرية العتيقة.(2/282)
المناظر الثلاث
استجدّهن الوزير المأمون البطائحي، وزير الخليفة الآمر بأحكام الله: إحداهن بين باب الذهب، وباب البحر والأخرى: على قوس باب الذهب، ومنظرة ثالثة، وكان يقال لها: الزاهرة، والفاخرة، والناضرة، وكان يجلس الخليفة في إحداها لعرض العساكر يوم عيد الغدير، ويقف الوزير في قوس باب الذهب.
قصر الشوك
«1» قال ابن عبد الظاهر كان منزلا لبني عذرة قبل القاهرة يعرف: بقصر الشوك، وهو الآن أحد أبواب القصر انتهى، والعامّة تقول: قصر الشوق، وأدركت مكانه دارا استجدّت بعد الدولة الفاطمية، هدمها الأمير جمال الدين يوسف الإستادار في سنة إحدى عشرة وثمانمائة، لينشئها دارا، فمات قبل ذلك، وموضعه اليوم بالقرب من دار الضرب فيما بينه، وبين المارستان العتيق.
قصر أولاد الشيخ
هذا المكان من جملة القصر الكبير، وكان قاعة، فسكنها الوزير الصاحب الأمير الكبير: معين الدين حسين بن شيخ الشيوخ صدر الدين بن حمويه في أيام الملك الصالح:
نجم الدين أيوب، فعرف به، وأدركت هذا المكان خطا يعرف: بالقصر يتوصل إليه من زقاق تجاه حمام بيسري، وفيه عدّة دور منها: دار الطواشي سابق الدين، ومدرسته المعروفة بالمدرسة السابقية، وكان يتوصل إليه من الركن المخلق أيضا من الباب المظلم تجاه سور سعيد السعداء بالمعروف قديما: بباب الريح، ثم عرف: بقصر ابن الشيخ، وعرف في زمننا: بباب القصر إلى أن هدمه جمال الدين الإستادار كما يأتي إن شاء الله تعالى.
قصر الزمرّد
هو من جملة القصر الكبير، وعرف أخيرا: بقصر قوصون، ثم عرف في زمننا: بقصر الحجازية، وقيل له: قصر الزمرّد لأنه كان بجوار: باب الزمرد، أحد أبواب القصر، ووجد به في سنة بضع وسبعين وسبعمائة تحت التراب عمودان عظيمان من الرخام الأبيض، فعمل لهما ابن عابد رئيس الحراريق السلطانية أساقيل، وجرّهما إلى المدرسة التي أنشأها الملك الأشرف شعبان بن حسين تجاه: الطبلخاناة من قلعة الجبل، وأدركنا لجرّ هذين العمودين(2/283)
أوقاتا في أيام تجمع الناس فيها من كل أوب لمشاهدة ذلك، ولهجوا بذكرهما زمنا، وقالوا فيهما شعرا، وغناء كثيرا، وعملوا نموذجات من ثياب الحرير، وتطريز المناديل عرفت بجرّ العمود، وكانت الأنفس حينئذ منبسطة، والقلوب خالية من الهموم وللناس إقبال على اللهو لكثرة نعمهم، وطول فراغهم، وكان العمودان المذكوران، مما ارتدم من أنقاض القصر فسبحان الوارث.
الركن المخلق «1»
موضعه الآن: تجاه حوض الجامع الأقمر على يمنة من أراد الدخول إلى المسجد المعروف الآن: بمعبد موسى «2» وقيل له: الركن المخلق لأنه ظهر في: سنة ستين وستمائة في هذا الموضع حجر مكتوب عليه: هذا مسجد موسى عليه السلام، فخلق بالزعفران، وسمي من ذلك اليوم بالركن المخلق، وأخبرني الأمير الوزير أبو المعالي يلبغا السالميّ، أنه قرأ في الأسطر المكتوبة: بأسكفة باب الجامع الأقمر كلاما من جملته، والحوانيت التي بالركن المخوّق: بواو بعد الخاء، فرأيت بعد ذلك في الأمالي للقالي، وقال أبو عبيدة عن أبي عمر، والخوقاء: الصحراء التي لا ماء بها، ويقال: الواسعة وأخوق: واسع، فلعله سمي: المخوّق بمعنى الاتساع، فكان ركنا متسعا، وفي بناء واسع أو يكون المخلق باللام من قولهم قدح مخلق بضم الميم، وفتح الخاء، وتشديد اللّام، وفتحها أي: مستو أملس، وكل ما لين وملس، فقد خلق، فكل مملس مخلق، وسمته العامة بعد ذلك: الركن المخلق عندما خلقوه بالزعفران، والله أعلم.
السقيفة «3»
وكان من جملة القصر الكبير موضع يعرف: بالسقيفة يقف عنده المتظلمون، وكانت عادة الخليفة أن يجلس هناك كل ليلة لمن يأتيه من المتظلمين، فإذا ظلم أحد وقف تحت السقيفة، وقال بصوت عال: لا إله إلّا الله محمد رسول الله عليّ وليّ الله، فيسمعه الخليفة، فيأمر بإحضاره إليه، أو يفوّض أمره إلى الوزير أو القاضي أو الوالي، ومن غريب ما وقع أن(2/284)
الموفق بن الخلال: لما كان يتحدّث في أمور الدواوين أيام الخليفة الحافظ لدين الله، وخرج من انتدب بعد انحطاط النيل من العدول، والنصارى الكتاب إلى الأعمال لتحرير ما شمله الريّ، وزرع من الأراضي وكتابة المكلفات، فخرج إلى بعض النواحي من يمسحها من شادّ، وناظر، وعدول، وتأخر الكاتب النصرانيّ، ثم لحقهم وأراد التعدية إلى الناحية، فحمله ضامن تلك المعدّية إلى البرّ، وطلب منه أجرة التعدية، فنفر فيه النصرانيّ ووسبّه، وقال: أنا ماسح هذه البلدة، وتريد مني حق التعدية، فقال له الضامن: إن كان لي زرع خذه، وقلع لجام بغلة النصرانيّ، وألقاه في معدّيته، فلم يجد النصراني بدّا من دفع الأجرة إليه، حين أخذ لجام بغلته، فلما تمم مساحة البلد، وبيض مكلفة المساحة ليحملها إلى دواوين الباب، وكانت عادتهم حينئذ، كتب الجملة بزيادة عشرين فدّانا ترك بياضا في بعض الأوراق، وقابل العدول على المكلفة، وأخذ الخطوط عليها بالصحة، ثم كتب في البياض الذي تركه: أرض اللجام باسم ضامن المعدّية عشرين فدانا، قطيعة كل فدّان: أربعة دنانير، عن ذلك ثمانون دينارا، وحمل المكلفة إلى ديوان الأصل وكانت العادة إذا مضى من السنة الخراجية أربعة أشهر ندب من الجند من فيه حماسة، وشدّة، ومن الكتاب العدول، وكاتب نصرانيّ، فيخرجون إلى سائر الأعمال لاستخراج ثلث الخراج على ما تشهد به المكلفات المذكورة فينفق في الأجناد، فإنه لم يكن حينئذ للأجناد إقطاعات، كما هو الآن، وكان من العادة أن يخرج إلى كل ناحية ممن ذكر من لم يكن خرج وقت المساحة، بل ينتدب قوم سواهم، فلما خرج الشادّ والكاتب والعدول لاستخراج ثلث مال الناحية استدعوا أرباب الزرع على ما تشهد به المكلفة، ومن جملتهم ضامن المعدّية، فلما حضر: ألزم بستة وعشرين دينارا وثلثي دينار عن نظير ثلث المال الثمانين دينارا التي تشهد بها المكلفة، عن خراج أرض اللجام فأنكر الضامن أن تكون له زراعة بالناحية، وصدّقه أهل البلد، فلم يقبل الشادّ ذلك، وكان عسوفا، وأمر به فضرب بالمقارع واحتج بخط العدول على المكلفة، وما زال به حتى باع معدّيته وغيرها، وأورد ثلث المال الثابت في المكلفة وسار إلى القاهرة، فوقف تحت السقيفة، وأعلن بما تقدّم ذكره، فأمر الخليفة الحافظ بإحضاره، فلما مثل بحضرته قص عليه ظلامته مشافهة، وحكى له ما اتفق منه في حق النصرانيّ، وما كاده به، فأحضر ابن الخلال، وجميع أرباب الدواوين، وأحضرت المكلفات التي عملت للناحية المذكورة في عدّة سنين ماضية، وتصفحت بين يديه سنة سنة، فلم يوجد لأرض اللجام ذكر البتة، فحينئذ أمر الخليفة الحافظ: بإحضار ذلك النصرانيّ، وسمر في مركب وأقام له من يطعمه ويسقيه، وتقدّم بأن يطاف به سائر الأعمال، وينادى عليه، ففعل ذلك، وأمر بكف أيدي النصرانية كلها عن الخدم في سائر المملكة، فتعطلوا مدّة إلى أن ساءت أحوالهم.
وكان الحافظ مغرما بعلم النجوم وله عدّة من المنجمين من جملتهم: شخص صار إليه عدّة من أكابر كتاب النصارى، ودفعوا إليه جملة من المال، ومعهم رجل منهم يعرف:(2/285)
بالأخرم بن أبي زكريا، وسألوه أن يذكر للحافظ في أحكام تلك السنة حلية هذا الرجل، فإنه إن أقامه في تدبير دولته زاد النيل، ونما الارتفاع، وزكت الزروع، ونتجت الأغنام، ودرّت الضروع، وتضاعفت الأسماك، وورد التجار، وجرت قوانين المملكة على أجمل الأوضاع، فطمع ذلك المنجم في كثرة ما عاينه من الذهب وعمل ما قرّره النصارى معه، فلما رأى الحافظ ذلك تعلقت نفسه بمشاهدة تلك الصفة، فأمر بإحضار الكتاب من النصارى، صار يتصفح وجوههم من غير أن يطلع أحدا على ما يريده، وهم يؤخرون الأخرم عن الحضور إليه قصدا منهم، وخشية أن يفطن بمكرهم إلى أن اشتدّ إلزامهم بإحضار سائر من بقي منهم، فأحضروه بعد أن وضعوا من قدره، فلما رآه الحافظ: رأى فيه الصفات التي عينها منجمه، فاستدناه إليه، وقربه وآل أمره إلى أن ولّاه أمير الدواوين، فأعاد كتاب النصارى أوفر ما كانوا عليه، وشرعوا في التجبر، وبالغوا في إظهار الفخر، وتظاهروا بالملابس العظيمة، وركبوا البغلات الرائعة، والخيول المسوّمة بالسروج المحلاة، واللجم الثقيلة، وضايقوا المسلمين في أرزاقهم واستولوا على الأحباس الدينية، الأوقاف الشرعية، واتخذوا العبيد والمماليك، والجواري من المسلمين والمسلمات، وصودر بعض كتاب المسلمين، فألجأته الضرورة إلى بيع أولاده وبناته، فيقال: إنه اشتراهم بعض النصارى، وفي ذلك يقول ابن الخلال:
إذا حكم النصارى في الفروج ... وغالوا بالبغال وبالسروج
وذلت دولة الإسلام طرّا ... وصار الأمر في أيدي العلوج
فقل للأعور الدجال هذا ... زمانك إن عزمت على الخروج
وموضع السقيفة فيما بين درب السلامي، وبين خزانة البنود يتوصل إليه من تجاه البئر التي قدّام دار كانت تعرف: بقاعة ابن كتيلة، ثم استولى عليها جمال الدين الإستادار، وجعلها مسكنا لأخيه ناصر الدين الخطيب وغير بابها.
دار الضرب «1»
هذا المكان الذي هو الآن: دار الضرب من بعض القصر، فكان خزانة بجوار الإيوان الكبير سجن بها الخليفة الحافظ لدين الله أبو الميمون عبد المجيد ابن الأمير أبي القاسم محمد بن المستنصر بالله أبي تميم معدّ، ذلك أنّ الآمر لما قتل في يوم الثلاثاء: رابع عشر ذي القعدة سنة أربع وعشرين خمسمائة، قام العادل برغش، وهزار الملوك جوامرد «2» ، وكانا أخص غلمان الآمر بالأمير عبد المجيد، ونصباه خليفة، ونعتاه بالحافظ لدين الله، وهو(2/286)
يومئذ أكبر الأقارب سنا، وذكر أن الآمر، قال قبل أن يقتل بأسبوع عن نفسة المسكين المقتول بالسكين، وإنه أشار إلى أن بعض جهاته حامل منه، وأنه رأى أنها ستلذ ذكرا، وهو الخليفة من بعده، وأن كفالته للأمير عبد المجيد، فجلس على أنه كافل للمذكور، وندب هزار الملوك للوزارة، وخلع عليه، فلم ترض الأجناد به، وثاروا بين القصرين، وكبيرهم رضوان بن ولخشي، وقاموا بأبي عليّ بن الأفضل الملقب: بكتيفات، وقالوا: لا نرضى إلّا أن يصرف هزار الملوك وتفوّض الوزارة لأحمد بن الأفضل في سادس عشرة، فكان أوّل ما بدأ به أن أحاط على الخليفة الحافظ، وسجنه بالقاعة المذكورة، وقيده، وهمّ بخلعه، فلم يتأت له ذلك، وكان إماميا، فأبطل ذكر الحافظ من الخطبة، وصار يدعو للقائم المنتظر، ونقش على السكة: الله الصمد الإمام محمد، فلما قتل في يوم الثلاثاء سادس عشر المحرّم سنة ست وعشرين وخمسمائة بالميدان خارج باب الفتوح، سارع صبيان الخاص الذين تولوا قتله إلى الحافظ، وأخرجوه من الخزانة المذكورة وفكوا عنه قيده، وكان كبيرهم: يانس «1» ، وأجلسوه في الشباك على منصب الخلافة، وطيف برأس أحمد بن الأفضل، وخلع على:
يانس خلع الوزارة، وما زالت الخلافة في يد الحافظ، حتى مات ليلة الخميس لخمس خلون من جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين، وخمسمائة عن: سبع وستين سنة منها: خليفة من حين قتل ابن الأفضل: ثمان عشرة سنة، وأربعة أشهر وأيام.
خزائن السلاح
كانت بالإيوان الكبير الذي تقدّم ذكره في صدر الشباك الذي يجلس فيه الخليفة تحت القبة التي هدمت في سنة سبع وثمانين وسبعمائة كما تقدّم، وخزائن السلاح المذكورة هي الآن باقية بجوار دار الضرب خلف المشهد الحسينيّ، وعقد الإيوان باق، وقد تشعث.
المارستان العتيق «2»
قال القاضي الفاضل في متجدّدات سنة سبع وسبعين وخمسمائة في تاسع ذي القعدة:
أمر السلطان يعني صلاح الدين يوسف بن أيوب بفتح: مارستان للمرضى والضعفاء، فاختير له مكان بالقصر، وأفرد برسمه من أجرة الرباع الديوانية مشاهرة، مبلغها مائتا دينار، وغلات جهاتها الفيوم، واستخدم له أطباء، وطبائعيين، وجرايحيين، ومشارف، وعاملا، وخداما،(2/287)
ووجد الناس به رفقا، وإليه مستروحا، وبه نفعا، وكذلك بمصر أمر: بفتح مارستانها القديم وأفرد برسمه من ديوان الأحباس ما تقدير ارتفاعه: عشرون دينارا، واستخدم له طبيب، وعامل ومشارف، وارتفق به الضعفاء، وكثر بسبب ذلك الدعاء.
وقال ابن عبد الظاهر: كان قاعة بناها العزيز بالله في سنة أربع وثمانين وثلثمائة، وقيل: إن القرآن مكتوب في حيطانها، ومن خواصها أنه لا يدخلها ثمل لطلسم بها، ولما قيل ذلك لصلاح الدين رحمه الله قال: هذا يصلح أن يكون مارستانا، وسألت مباشريه عن ذلك، فقالوا: إنه صحيح، وكان قديما المارستان، فيما بلغني القشاشين، وأظنه المكان المعروف: بدار الديلم انتهى، والقشاشين المذكورة تعرف اليوم: بالخرّاطين المسلوك فيها إلى الخيميين، والجامع الأزهر.
التربة المعزية
كان من جملة القصر الكبير: التربة المعزية، وفيها دفن المعز لدين الله، آباءه الذين أحضرهم في توابيت معه من بلاد المغرب، وهم الإمام المهدي عبيد الله، وابنه القائم بأمر الله محمد، وابنه الإمام المنصور بنصر الله إسماعيل، واستقرّت مدفنا يدفن فيه الخلفاء، وأولادهم، ونساءهم، وكانت تعرف: بتربة الزعفران، وهو مكان كبير من جملتها الموضع الذي يعرف اليوم: بخط الزراكشة العتيق، ومن هناك بابها، ولما انشأ الأمير: جهاركس الخليليّ خانه المعروف به في الخط المذكور، أخرج ما شاء الله من عظامهم، فألقيت في المزابل على كيمان البرقية، ويمتدّ من هناك من حيث المدرسة البديرية خلف المدارس الصالحية النجمية، وبها إلى اليوم بقايا من قبورهم، وكان لهذه التربة عوايد ورسوم منها:
أن الخليفة كلما ركب بمظلة، وعاد إلى القصر لا بدّ أن يدخل إلى زيارة آبائه بهذه التربة، وكذلك لا بدّ أن يدخل في يوم الجمعة دائما، وفي عيدي الفطر والأضحى مع صدقات ورسوم تفرّق.
قال ابن المأمون: وفي هذا الشهر يعني شوّالا سنة ست عشرة وخمسمائة، تنبه ذكر الطائفة النزارية، وتقرّر بين يدي الخليفة الآمر بأحكام الله أن يسير رسول إلى صاحب الموق بعد أن جمعوا الفقهاء من الإسماعيلية، والإمامية، وقال لهم الوزير المأمون البطائحيّ ما لكم من الحجة في الرد على هؤلاء الخارجين على الإسماعيلية؟ فقال كل منهم: لم يكن لنزار إمامة ومن اعتقد هذا، فقد خرج عن المذهب، وضلّ، ووجب قتله، وذكروا حجتهم، فكتب الكتاب، ووصلت كتب من خواص الدولة تتضمن أن القوم قويت شوكتهم، واشتدّت في البلاد طمعتهم، وأنهم سيروا الآن ثلاثة آلاف برسم النجوى وبرسم المؤمنين الذين تنزل الرسل عندهم، ويختفون في محلهم، فتقدّم الوزير بالفحص عنهم، والاحتراز التام على الخليفة في ركوبه، ومنتزهاته، وحفظ الدور والأسواق، ولم يزل البحث في طلبهم إلى أن(2/288)
وجدوا، فاعترفوا بأن خمسة منهم هم الرسل الواصلون بالمال فصلبوا.
وأما المال وهو ألفا دينار، فإنّ الخليفة أبى قبوله، وأمر أن ينفق في السودان عبيد الشراء، وأحضر من بيت المال نظير المبلغ، وتقدّم بأن يصاغ به قنديلان من ذهب، وقنديلان من فضة، وأن يحمل منها قنديل ذهب، وقنديل فضة إلى مشهد الحسين بثغر عسقلان، وقنديل إلى التربة المقدّسة تربة الأئمة بالقصر، وأمر الوزير المأمون: بإطلاق ألفي دينار من ماله، وتقدّم بأن يصاغ بها قنديل ذهب، وسلسلة فضة برسم المشهد العسقلانيّ، وأن يصاغ على المصحف الذي بخط أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب بالجامع العتيق بمصر من فوق الفضة ذهب، وأطلق حاصل الصناديق التي تشتمل على مال النجاوي برسم الصدقات عشرة آلاف درهم تفرّق في الجوامع الثلاثة: الأزهر بالقاهرة، والعتيق بمصر، وجامع القرافة، وعلى فقراء المؤمنين على أبواب القصور، وأطلق من الاهراء ألفي أردب قمحا، وتصدّق على عدّة من الجهات بجملة كثيرة، واشتريت عدّة جوار من الحجر، وكتب عتقهن للوقت، وأطلق سراحهن، وقال في كتاب الذخائر: إنّ الأتراك طلبوا من المستنصر نفقة في أيام الشدّة، فماطلهم وإنهم هجموا على التربة المدفون فيها أجداده، فأخذوا ما فيها من قناديل الذهب وكانت قيمة ذلك، مع ما اجتمع إليه من الآلات الموجودة هناك مثل المداخن، والمجامر وحلي المحاريب وغير ذلك خمسين ألف دينار.
القصر النافعيّ «1»
قال ابن عبد الظاهر: القصر النافعيّ قرب التربة يقرب من جهة السبع خوخ كان فيه عجائز من عجائز القصر وأقارب الأشراف انتهى.
وموضع هذا القصر اليوم فندق المهمندار الذي يدق فيه الذهب، وما في قبليه من خان منجك، ودار خواجا عبد العزيز المجاورة للمسجد الذي بحذاء خان منجك، وما بجوار دار خواجا من الزقاق المعروف: بدرب الحبشيّ، وكان حدّ هذا القصر الغربيّ ينتهي إلى الفندق الذي بالخيميين المعروف قديما: بخان منكورس، ويعرف اليوم: بخان القاضي، واشترى بعض هذا القصر لما بيع بعد زوال الدولة، الأمير ناصر الدين عثمان بن سنقر الكامليّ المهمندار الذي يعرف: بفندق المهمندار بعد أن كان اصطبلا له، واشترى بعضه الأمير حسام الدين لاجين الإيدمري المعروف: بالدر قيل دوادار الملك الظاهر بيبرس، وعمّره اصطبلا، ودارا، وهي الدار التي تعرف اليوم: بخواجا عبد العزيز على باب درب الحبشي، ثم عمل الإصطبل الخان الذي يعرف اليوم: بخان منجك، وابتنى الناس في مكان درب(2/289)
الحبشيّ الدور، وزال أثر القصر، فلم يبق منه شيء البتة.
الخزائن التي كانت بالقصر
وكانت بالقصر الكبير عدّة خزائن منها: خزانة الكتب، وخزانة البنود، وخزائن السلاح، وخزائن الدرق، وخزائن السروج، وخزانة الفرش، وخزانة الكسوات، وخزانة الأدم، وخزائن الشراب، وخزنة التوابل، وخزائن الخيم، ودار التعبية، وخزائن دار أفتكين، ودار الفطرة، ودار العلم، وخزانة الجوهر والطيب، وكان الخليفة يمضي إلى موضع من هذه الخزائن، وفي كل خزانة دكة عليها طرّاحة، ولها فرّاش يخدمها، وينظفها طول السنة، وله جار في كل شهر، فيطوفها كلها في السنة.
خزانة الكتب «1»
قال المسبحيّ: وذكر عند العزيز بالله، كتاب العين للخليل بن أحمد، فأمر خزان دفاتره، فأخرجوا من خزانته نيفا وثلاثين نسخة من كتاب العين، منها نسخة بخط الخليل بن أحمد، وحمل إليه رجل نسخة من كتاب تاريخ الطبري: اشتراها بمائة دينار، فأمر العزيز الخزان، فأخرجوا من الخزانة ما ينيف عن عشرين نسخة من تاريخ الطبريّ، منها نسخة بخطه.
وذكر عنده كتاب: الجمهرة لابن دريد، فأخرج من الخزانة مائة نسخة منها، وقال في كتاب الذخائر: عدّة الخزائن التي برسم الكتب في سائر العلوم بالقصر: أربعون خزانة، خزانة من جملتها ثمانية عشر ألف كتاب من العلوم القديمة، وإن الموجود فيها من جملة الكتب المخرجة في شدّة المستنصر ألفان وأربعمائة ختمة قرآن في ربعات بخطوط منسوبة زائدة الحسن محلاة بذهب وفضة، وغيرهما، وإنّ جميع ذلك كله ذهب فيما أخذه الأتراك في واجباتهم ببعض قيمته، ولم يبق في خزائن القصر البرانية منه شيء بالجملة دون خزائن القصر الداخلة التي لا يتوصل إليها، ووجدت صناديق مملوءة أقلاما مبرية من براية ابن مقلة، وابن البوّاب وغيرهما.
قال: وكنت بمصر في العشر الأول من محرّم سنة إحدى وستين وأربعمائة، فرأيت فيها خمسة وعشرين جملا موقرة كتبا محمولة إلى دار الوزير أبي الفرج محمد بن(2/290)
جعفر «1» المغربيّ، فسألت عنها، فعرفت أنّ الوزير أخذها من خزائن القصر هو، والخطير ابن الموفق في الدين بإيجاب وجبت لهما عما يستحقانه، وغلمانهما من ديوان الجبليين، وإن حصة الوزير أبي الفرج منها قوّمت عليه من جاري مماليكه، وغلمانه بخمسة آلاف دينار، وذكر لي من له خبرة بالكتب أنها تبلغ أكثر من مائة ألف دينار، ونهب جميعها من داره يوم انهزم ناصر الدولة بن حمدان من مصر في صفر من السنة المذكورة مع غيرها، مما نهب من دور من سار معه من الوزير أبي الفرج، وابن أبي كدينة، وغيرهما هذا سوى ما كان في خزائن دار العلم بالقاهرة، وسوى ما صار إلى عماد الدولة أبي الفضل بن المحترق بالإسكندرية، ثم انتقل بعد مقتله إلى المغرب، وسوى ما ظفرت به لواتة محمولا مع ما صار إليه بالابتياع، والغصب في بحر النيل إلى الاسكندرية في سنة إحدى وستين وأربعمائة، ومما بعدها من الكتب الجليلة المقدار، المعدومة المثل في سائر الأمصار صحة، وحسن خط، وتجليد، وغرابة التي أخذ جلودها عبيدهم، وإماؤهم برسم عمل ما يلبسونه في أرجلهم، وأحرق ورقها تأوّلا منهم أنها خرجت من قصر السلطان أعز الله أنصاره، وإنّ فيها كلام المشارقة الذي يخالف مذهبهم سوى ما غرق، وتلف، وحمل إلى سائر الأقطار، وبقي منها ما لم يحرق، وسفت عليه الرياح التراب، فصار تلالا باقية إلى اليوم في نواحي آثار تعرف: بتلال الكتب.
وقال ابن الطوير: خزانة الكتب كانت في أحد مجالس المارستان اليوم يعني:
المارستان العتيق، فيجيء الخليفة راكبا، ويترجل على الدكة المنصوبة، ويجلس عليها، ويحضر إليه من يتولاها، وكان في ذلك الوقت الجليس بن عبد القويّ، فيحضر إليه المصاحف بالخطوط المنسوبة، وغير ذلك مما يقترحه من الكتب، فإن عنّ له أخذ شيء منها أخذه، ثم يعيده، وتحتوي هذه الخزانة على عدّة رفوف في دور ذلك المجلس العظيم، والرفوف مقطعة بحواجز، وعلى كل حاجز باب مقفل بمفصلات، وقفل وفيها من أصناف الكتب ما يزيد على مائتي ألف كتاب من المجلدات، ويسير من المجرّدات، فمنها الفقه على سائر المذاهب، والنحو، واللغة، وكتب الحديث والتواريخ، وسير الملوك، والنجامة، والروحانيات، والكيمياء من كل صنف النسخ، ومنها النواقص التي ما تممت كل ذلك بورقة مترجمة ملصقة على كل باب خزانة، وما فيها من المصاحف الكريمة في مكان فوقها، وفيها من الدروج بخط ابن مقلة، ونظائره كابن البوّاب وغيره، وتولى بيعها ابن صورة في أيام الملك الناصر صلاح الدين، فإذا أراد الخليفة الانفصال مشى فيها مشية لنظرها، وفيها ناسخان، وفرّاشان صاحب المرتبة. وآخر، فيعطى الشاهد عشرين دينارا،(2/291)
ويخرج إلى غيرها، وقال ابن أبي طي بعد ما ذكر استيلاء صلاح الدين على القصر، ومن جملة ما باعوه: خزانة الكتب، وكانت من عجائب الدنيا، ويقال: إنه لم يكن في جميع بلاد الإسلام دار كتب أعظم من التي كانت بالقاهرة في القصر، ومن عجائبها: أنه كان فيها ألف، ومائتا نسخة من تاريخ الطبريّ إلى غير ذلك، ويقال: إنها كانت تشتمل على ألف وستمائة ألف كتاب، وكان فيها من الخطوط المنسوبة أشياء كثيرة انتهى، ومما يؤيد ذلك أن القاضي الفاضل عبد الرحيم بن عليّ: لما أنشأ المدرسة الفاضلية بالقاهرة، جعل فيها من كتب القصر مائة ألف كتاب مجلد، وباع ابن صورة دلال الكتب منها جملة في مدّة أعوام، فلو كانت كلها مائة ألف لما فضل عن القاضي الفاضل منها شيء، وذكر ابن أبي واصل: أن خزانة الكتب كانت تزيد على مائة وعشرين ألف مجلد.
خزانة الكسوات
قال ابن أبي طي: وعمل يعني لمعز الدين الله دارا، وسماها: دار الكسوة كان يفصل فيها من جميع أنواع الثياب والبز، ويكسو بها الناس على اختلاف أصنافهم كسوة الشتاء والصيف، وكانت لأولاد الناس، ونسائهم كذلك وجعل ذلك رسما يتوارثونه في الأعقاب، وكتب بذلك كتبا، وسمى هذا الموضع: خزانة الكسوة، وقال عند ذكر انقراض الدولة.
ومن أخبارهم: أنهم كانوا يخرجون من خزائن الكسوة إلى جميع خدمهم وحواشيهم، ومن يلوذ بهم من صغير وكبير، ورفيع، وحقير كسوات الصيف والشتاء من العمامة إلى السراويل، وما دونه من الملابس والمنديل من فاخر الثياب، ونفيس الملبوس، ويقومون لهم بجميع ما يحتاجون إليه من نفيس المطعومات والمشروبات، وسمعت من يقول: إنه حضر كسا القصر التي تخرج في الصيف والشتاء، فكان مقدارها ستمائة ألف دينار وزيادة، وكانت خلعهم على الأمراء الثياب الديبقيّ، والعمائم بالطراز الذهب، وكان طراز الذهب والعمامة من خمسمائة دينار، ويخلع على أكابر الأمراء الأطواق والأسورة والسيوف المحلاة، وكان يخلع على الوزير عوضا عن الطوق عقد جوهر.
وقال ابن المأمون: وجلس الأجلّ يعني الوزير المأمون في مجلس الوزارة لتنفيذ الأمور، وعرض المطالعات، وحضر الكتاب، ومن جملتهم ابن أبي الليث كاتب الدفتر، ومعه ما كان أمر به من عمل جرائد الكسوة للشتاء بحكم حلوله، وأوان تفرقتها، فكان ما اشتمل عليه المنفق فيها لسنة ست عشرة وخمسمائة: من الأصناف أربعة عشر ألفا وثلثمائة وخمس قطع، وإنّ أكثر ما أنفق عن مثل ذلك في الأيام الأفضلية في طول مدّتها لسنة ثلاث عشرة، وخمسمائة: ثمانية آلاف وسبعمائة وخمس وسبعون قطعة، يكون الزائد عنها بحكم ما رسم به في منفق سنة، ست عشرة: خمسة آلاف وستمائة وأربعا وثلاثين قطعا، ووصلت الكسوة المختصة بالعيد في آخر الشهر، وقد تضاعفت عما كانت عليه في الأيام(2/292)
الأفضلية لهذا الموسم، وهي تشتمل على ذهوب وسلف دون العشرين ألف دينار، وهو عندهم الموسم الكبير، ويسمى: بعيد الحلل، لأنّ الحلل فيه تعمّ الجماعة، وفي غيره للأعيان خاصة، فأحضر الأمير: افتخار الدولة مقدّم خزانة الكسوة الخاص ليتسلم ما يختص بالخليفة، وهو برسم الموكب: بدلة خاص جليلة مذهبة، ثوبها موشح مجاوم مذايل عدّتها باللفافتين إحدى عشرة قطعة، السلف عنها مائة وستة وسبعون دينارا ونصف، ومن الذهب العالي المغزول: ثلثمائة وسبعون وخمسون مثقالا ونصف، كل مثقال أجرة غزله ثمن دينار، ومن الذهب العراقي: ألفان وتسعمائة وأربع وتسعون قصبة.
تفصيل ذلك: شاشية طميم السلف: ديناران، وسبعون قصبة ذهبا عراقيا منديل بعمود ذهب السلف: سبعون وألفان ومائتان وخمسون قصبة ذهبا عراقيا، فإن كان الذهب نظير المصريّ، كان الذي يرقم فيه: ثلثمائة وخمسة وعشرين مثقالا، لأنّ كل مثقال نظير تسع قصبات ذهبا عراقيا وسط سرب بطانة للمنديل السلف: عشرة دنانير وسبعون قصبة ذهبا عراقيا ثوب موشح مجاوم مطرّف السلف: خمسون دينارا وثلثمائة وأحد وخمسون مثقالا ونصف ذهبا عاليا، أجرة كل مثقال ثمن دينار، تكون جملة مبلغه، وقيمة ذهبه: ثلثمائة وأربعة وتسعين دينارا ونصفا، ثوب ديبقيّ حريريّ وسلطانيّ السلف: اثنا عشر دينارا، غلالة ديبقيّ حريريّ السلف: عشرون دينارا، منديل كم أوّل مذهب السلف: خمسة دنانير ومائتان وأربع قصبات ذهبا عراقيا، منديل كم ثان حريريّ السلف: خمسة دنانير، حجرة السلف:
أربعة دنانير، عرضيّ مذهب السلف: خمسة دنانير وخمسة عشر مثقالا ذهبا عاليا، عرضي لفافة للتخت دينار واحد ونصف، بدلة ثانية برسم الجلوس على السّماط عدّتها باللفافتين، عشر قطع السلف: مائة وأربعة عشر دينارا، ومن الذهب العالي خمسة وخمسون مثقالا، ومن الذهب العراقيّ: سبعمائة وأربعون قصبة.
تفصيل ذلك: شاشية طميم السلف: ديناران، وسبعون قصبة ذهبا عراقيا، منديل السلف: ستون دينارا، وستمائة قصبة ذهبا عراقيا، شقة وكم السلف: ستة عشر دينارا، وخمسة وخمسون مثقالا ذهبا عاليا، أجرة كل مثقال ثمن دينار شقة ديبقيّ حريريّ وسلطانيّ:
اثنا عشر دينارا، شقة ديبقيّ غلالة ثمانية دنانير، منديل الكمّ الحريريّ: خمسة دنانير، حجرة أربعة دنانير، عرضي خمسة دنانير، عرضي برسم التخت دينار واحد ونصف، وهذه البدلة لم تكن فيما تقدّم في أيام الأفضل لأنه لم يكن ثم سماط يجلس عليه الخليفة، فإنه كان قد نقل ما يعمل في القصور من الأسمطة، والدواوين إلى داره، فصاره يعمل هناك، ما هو برسم الأجل أبي الفضل: جعفر أخي الخليفة الآمر بدلة مذهبة مبلغها: تسعون دينارا ونصف، وخمسة وعشرون مثقالا ذهبا عاليا، وأربعمائة وسبعون قصبة ذهبا عراقيا، تفصيل ذلك: منديل السلف: عشرة دنانير، شقة غلالة ديبقيّ السلف: ثمانية دنانير، حجرة: ثلاثة دنانير وثلث، عرضي ديبقيّ: ثلاثة دنانير، الجهة العالية بالدار الجديدة التي يقوم بخدمتها(2/293)
جوهر: حلة مذهبة موشح مجاوم مذايل مطرّف عدّتها: خمس عشرة قطعة سلفها: ستة آلاف وثلثمائة وثلاثون قصبة، تفصيل ذلك: مذهب مكلف موشح مجاوم السلف: خمسة عشر دينارا، وستمائة وستون قصبة، سداسيّ مذهب السلف: ثمانية عشر دينارا، ومائتا قصبة معجر أوّل مذهب موشح مجاوم مطرّف السلف: خمسون دينارا، وألف وتسعمائة قصبة. معجز ثان حريريّ السلف: خمسة وثلاثون دينارا ونصف، رداء حريريّ أوّل السلف:
عشرة دنانير ونصف، رداء حريريّ ثان، السلف: تسعة دنانير، دراعة موشح مجاوم مذايل مذهبة السلف: خمسة وتسعون دينارا، ومن الذهب العراقيّ ألفان وستمائة وخمس وخمسون قصبة، شقة ديبقيّ حريريّ وسطاني السلف: عشرون دينارا ونصف، شقة ديبقيّ بغير رقم برسم عجز التفصيل: ثلاثة دنانير، ملاءة ديبقيّ السلف: أربعة وعشرون دينارا وستمائة قصبة، منديل كم أوّل السلف: ستة دنانير، ومائة وستون قصبة، منديل كم ثان السلف: خمسة دنانير، ومائة وستون قصبة منديل كم ثالث السلف: خمسة دنانير، حجرة:
ثلاثة دنانير، عرضي ديبقيّ: ثلاثة دنانير، جهة مكنون القاضي بمثل ذلك على الشرح، والعدّة جهة مرشد: حلة مذهبة عدّتها، أربع عشرة قطعة السلف: مئة وأحد وأربعون دينارا، ومن الذهب العراقيّ: ألف وستمائة وتسع وثمانون قصبة، جهة عنبر مثل ذلك.
السيدة جهة ظل: مثل ذلك، جهة منجب: مثل ذلك، الأمير أبو القاسم عبد الصمد:
بدلة مذهبة، الأمير داود مثله، السيدة العمة حلة مذهبة، السيدة العابدة العمة مثل ذلك، الموالي الجلساء من بني الأعمام، وهم أبو الميمون بن عبد المجيد، والأمير أبو اليسر ابن الأمير محسن، والأمير أبو عليّ ابن الأمير جعفر، والأمير حيدرة ابن الأمير عبد المجيد، والأمير موسى ابن الأمير عبد الله، والأمير أبو عبد الله ابن الأمير داود لكل منهم: بدلة مذهبة، البنون والبنات من بني الأعمام غير الجلساء لكل منهم: بدلة حريريّ، ست سيدات لكل منهنّ حلة حريريّ، جهة المولى أبي الفضل جعفر التي يقوم بخدمتها ريحان حلة مذهبة، جهة المولى عبد الصمد حلة حريري، ما يختص بالدار الجيوشية والمظفرية فعلى ما كان بأسمائهم، المستخدمات لخزانة الكسوة الخاص زين الخزان المقدّمة: حلة مذهبة، ست خزان لكل منهنّ حلة حريريّ، عشر وقافات لكل منهنّ كذلك، المعلمة مقدّمة المائدة كذلك، رايات مقدّمة خزانة الشراب كذلك، المستخدمات من أرباب الصنائع من القصوريات، وممن انضاف إليهنّ من الأفضليات مائة وسبعون حلة مذهبة وحريريّ على التفصيل المتقدّم، المستخدمات عند الجهات العالية، جهة جوهر عشرون حلة مذهبة وحريريّ، وكذلك المستخدمات عند مكنون الأمراء.
الأستاذون المحنكون: الأمير الثقة زمام القصور: بدلة مذهبة، الأمير نسيب الدولة مرشد متولي الدفتر كذلك، الأمير خاصة الدولة ريحان متولي بيت المال كذلك، الأمير عظيم الدولة، وسيفها حامل المظلة كذلك، الأمير صارم الدولة صاف متولي الستر كذلك.(2/294)
وفيّ الدولة إسعاف متولي المائدة مثله، الأمير افتخار الدولة جندب بدلة مذهبة، نظير البدلة المختصة بالأمير الثقة ولكل من غير هؤلاء المذكورين: حلة حريريّ أربع قطع ولفافة فوطة، مختار الدولة ظل بدلة حريريّ، ستة أستاذين في خزانة الكسوة الخاص عند الأمير افتخار الدولة جندب لكل منهم بدلة مذهبة، جوهر زمام الدار الجديدة بدلة حريريّ، تاج الملك أمين بيت المال مثله، مفلح برسم الخدمة في المجلس مثله، مكنون متولي خدمة الجهة العالية مثله، فنون متولي خدمة التربة مثله، مرشد الخاصي مثله، النوّاب عن الأمير الثقة في زمان القصور، وعدّتهم أربعة لكل منهم بدلة حريريّ خسرواني، العظمي مقدّم خزانة الشراب، ورفيقه لكل منهما بدلة. كذلك الصقالبة أرباب المداب، وعدّتهم أربعة لكل منهم: بدلة حريريّ وشقة وفوطة، نائب الستر مثل ذلك. الأستاذون برسم خدمة المظلة، وعدّتهم خمسة لكل منهم: منديل سوسيّ، وشقة دمياطيّ، وشقة اسكندرانيّ، وفوطة، الأستاذون الشدّادون برسم الدواب، وعدّتهم ستة كذلك، ما حمل برسم السيد الأجل المأمون يعني الوزير: بدلة خاصة مذهبة كبيرة موكبية عدّتها: إحدى عشرة، وما هو برسم جهاته وبرسم أولاده: الأجل تاج الرياسة، وتاج الخلافة، وسعد الملك محمود، وشرف الخلافة جمال الملك موسى، وهو صاحب التاريخ نظير ما كان باسم أولاد الأفضل بن أمير الجيوش، وهم: حسن، وحسين، وأحمد الأجل المؤتمن سلطان الملوك يعني أخا الوزير عن تقدمة العساكر، وزم الأزمّة وبرسم الجهة المختصة به، وركن الدولة عزا الملوكأ بو الفضل جعفر عن حمل السيف الشريف خارجا عما له من حماية خزانة الكسوات، وصناديق النفقات، وما يحمل أيضا للخزائن المأمونية مما ينفق منها على من يحسن في الرأي من الحاشية المأمونية: ثلاثون بدلة.
الشيخ الأجل أبو الحسن بن أبي أسامة كاتب الدست الشريف: بدلة مذهبة عدّتها خمس قطع وكمّ وعرضي، الأمير فخر الخلافة حسام الملك متولي حجبية الباب: بدلة مذهبة، كذلك القاضي ثقة الملك ابن النائب في الحكم: بدلة مذهبة عدّتها أربع قطع وكمّ وعرضي، الشيخ الداعي وليّ الدولة بن أبي الحقيق: بدلة مذهبة، الأمير الشريف أبو عليّ أحمد بن عقيل نقيب الأشراف «1» : بدلة حريري ثلاث قطع وفوطة، الشريف أنس الدولة متولي ديوان الإنشاء بدلة كذلك، ديوان المكاتبات الشيخ أبو الرضى ابن الشيخ الأجل أبي الحسن النائب عن والده في الديوان المذكور: بدلة مذهبة عدّتها ثلاث قطع وكمّ، أبو المكارم: هبة الله أخوه بدلة مذهبة ثلاث قطع وفوطة، أبو محمد حسن أخوهما كذلك أخوهم أبو الفتح بدلة حريريّ قطعتان وفوطة، الشيخ أبو الفضل يحيى بن سعيد الندميّ(2/295)
منشئ ما يصدر عن ديوان المكاتبات، ومحرّر ما يؤمر به من المهمات: بدلة مذهبة عدّتها ثلاث قطع وكم ومزنر، أبو سعيد الكاتب: بدلة حريريّ، أبو الفضل الكاتب كذلك، الحاج موسى المعين في الإلصاق كذلك.
وأما الكتاب بديوان الإنشاء فلم يتفق وجود الحساب الذي فيه أسماؤهم، فيذكروا، ومن القياس أن يكونوا قريبا من ذلك، الشيخ وليّ الدولة أبو البركات متولي ديوان المجلس والخاص: بدلة مذهبة عدّتها خمس قطع وكم وعرضي، ولامرأته حلة مذهبة. الشيخ أبو الفضائل هبة الله بن أبي الليث متولي الدفتر، وما جمع إليه بدلة، أبو المجد ولده بدلة حريريّ، عدى الملك أبو البركات متولي دار الضيافة: بدلة مذهبة، وبعده الضيوف الواردون إلى الدولة جميعهم، منهم من له بدلة مذهبة ومنهم من له بدلة حريريّ، وكذلك من يتفق حضوره من الرسل على هذا الحكم.
مقدّمو الركاب: عفيف الدولة مقبل بدلة مذهبة، القائد موفق والقائد تميم مثل ذلك، أربعة من المقدّمين برسم الشكيمة لكل منهم: بدلة حريري الروّاض عدّتهم ثلاثة لكل منهم:
بدلة حريري، الخاص من الفرّاشين، وهم اثنان وعشرون رجلا منهم أربعة مميزون لكل منهم: بدلة مذهبة، وبقيتهم لكل واحد بدلة حريريّ.
الأطباء: الشديد أبو الحسن عليّ بن أبي الشديد: بدلة حريري، أبو الفضل النسطوري بدلة حريري، وكذلك الفئة المستخدمون برسم الحمام، وهم ثمانية مقدّمهم: بدلة مذهبة، وبقيتهم لكل واحد بدلة حريريّ، والي القاهرة، ووالي مصر لكل منهما بدلة مذهبة.
المستخدمون في المواكب: الأمير كوكب الدولة حامل الرمح الشريف وراء الموكب، والدرقة المعزية: بدلة حريريّ، حاملا الرمحين المعزية أيضا أمام الموكب بغير درق لكل منهما: منديل وشقة وفوطة، وهؤلاء الثلاثة رماح ما هي عربية بل هي خشوت قدم بها المعز من المغرب، حاملا لواء الحمد المختصان بالخليفة عن يمينه ويساره لكل منهما بدلة، متولي بغل الموكب الذي يحمل عليه جميع العدّة المغربية بدلة حريري، متولي حمل المظلة كذلك، عشرة نفر من صبيان الخاص برسم حمل العشرة رماح العربية المغشاة بالديباج وراء الموكب لكل منهم: منديل وشقة وفوطة، حامل السبع وراء الموكب: بدلة حريري.
المقدّمون من صبيان الخاص، وهم عشرون لكل منهم: بدلة، عرفاء الفرّاشين الذين ينحطون عن فرّاشي الخاص، وفرّاشي المجلس، وفرّاشي خزائن الكسوة الخاص لكل منهم: بدلة حريري، الفرّاشون في خزائن الكسوات المستخدمون بالإيوان، وهم الذين يشدّون ألوية الحمد بين يدي الخليفة ليلة الموسم فإنها لا تشدّ إلّا بين يديه، ويبدأ هو باللف عليها بيده على سبيل البركة، ويكمل المستخدمون بقية شدّها، وما سوى ذلك من القضب الفضة، وألوية الوزارة، وغيرها، وعدّتهم: سبعة لكل منهم: منديل سوسي، وشقتان(2/296)
اسكندرانيّ. المستخدمون برسم حمل القضب الفضة، ولوائي الوزارة أربعة عشر كذلك، مشارف خزانة الطيب، وكانت من الخدم الجليلة، وكان بها أعلام الجوهر التي يركب بها الخليفة في الأعياد، ويستدعى منها عند الحاجة، ويعاد إليها عند الغنى عنها، وكذلك السيف والثلاثة رماح المعزية، مشارف خزائن السروج بدلة حريري، مشارف خزائن الفرش، وكاتب بيت المال، ومشارف خزائن الشراب، ومشارف خزائن الكتب كل منهم:
بدلة حريري، وبركات الأدمي والمستخدمون بالدولة بالباب، وسنان الدولة مز الكركنديّ عن زم الرهجية، والمبيت على أبواب القصور وكانت من الخدم الجليلة، والصبيان الحجرية المشدّون بلواء الموكب بعد المقرّبين، وعدّتهم عشرون لكل منهم الكسوة في الشتاء، والعيدين وغيرهما، وعدّة الذين يقبضون الكسوة في العيدين من الفرّاشين أكثر من صبيان الركاب، وذلك أنهم يتولون الأسمطة، ويقفون في تقدمتها، وينفرد عنهم المستخدمون في الركاب بما لهم من المتحصل في المخلفات في العيدين، وهو ما مبلغه ستة آلاف دينار ما لأحد معهم فيها نصيب، وكان يكتب في كل كسوة هي برسم وجوه الدولة رقعة من ديوان الانشاء.
فمما كتب به من إنشاء ابن الصيرفيّ مقترنة بكسوة عيد الفطر من سنة: خمس وثلاثين وخمسمائة، ولم يزل أمير المؤمنين منعما بالرغائب، موليا إحسانه كل حاضر من أوليائه، وغائب مجزلا حظهم من منائحه ومواهبه، موصلا إليهم من الحباء ما يقصر شكرهم عن حقه وواجبه، وإنك أيها الأمير لأولاهم من ذلك بجسيمه، وأحراهم باستنشاق نسيمه، وأخلقهم بالجزء الأوفى منه عند فضه وتقسيمه، إذ كنت في سماء المسابقة بدرا، وفي جرائد المناصحة صدرا، وممن أخلص في الطاعة سرّا وجهرا، وحظي في خدمة أمير المؤمنين بما عطر له وصوفا وسير له ذكرا، ولما أقبل هذا العيد السعيد، والعادة فيه أن يحسن الناس هيآتهم ويأخذوا عند كل مسجد زينتهم، ومن وظائف كرم أمير المؤمنين تشريف أوليائه وخدمه فيه، وفي المواسم التي تجاريه، بكسوات على حسب منازلهم تجمع بين الشرف والجمال، ولا يبقى بعدها مطمع للآمال، وكنت من أخص الأمراء المقدّمين.
قال: ووصلت الكسوة المختصة بغرّة شهر رمضان، وجمعتيه برسم الخليفة للغرّة بدلة كبيرة موكبية مكملة مذهبة، وبرسم الجامع الأزهر للجمعة الأولى من الشهر: بدلة موكبية حريريّ مكملة منديلها وطيلسانها بياض، وبرسم الجامع الأنور للجمعة الثانية بدلة منديلها وطيلسانها شعري، وما هو برسم أخي الخليفة للغرّة خاصة بدلة مذهبة، ويرسم له مع جهات الخليفة أربع حلل مذهبات، وبرسم الوزير للغرّة بدلة مذهبة مكملة موكبية، وبرسم الجمعتين بدلتان حريري، ولم يكن لغير الخليفة، وأخيه الوزير في ذلك شيء فيذكر، ووصلت الكسوة المختصة بفتح الخليج، وهي برسم الخليفة تختان ضمنهما بدلتان إحداهما: منديلها وطيلسانها طميم برسم المضيّ، والأخرى جميعها حريريّ، برسم العود، وكذلك ما يختص بإخوته، وجهاته بدلتان مذهبتان وأربع حلل مذهبة، وبرسم الوزير بدلة(2/297)
موكبية مذهبة في تخت، وبرسم أولاده الثلاثة: ثلاث بدلات مذهبة، وبرسم جهته حلة مذهبة في تخت وبقية ما يخص المستخدمين، وابن أبي الردّاد في تخوت كل تخت: عدّة بدلات، وحضر متولي الدفتر، واستأذن على ما يحمل برسم الخليفة، وما يفرّق ويفصل برسم الخلع، وما يخرج من حاصل الخزائن عن الواصل، وهو ما يفصل برسم الخاص من الغلمان برسم: سبعمائة قباء وخمسمائة وشقين سقلاطون داري، وبرسم رؤساء العشاريات من الشقق الدمياطيّ، والمناديل السوسيّ، والفوط الحرير الحمر، وبرسم النواتية التي برسم الخاص من العشارية من الشقق الإسكندرانيّ، والكلوتات، وقد تقدّم تفصيل الكسوات جميعها، وعددها وأسماء المستمرّين لقبضها.
وقال في كتاب الذخائر: وحدّثني من أثق به عن ابن عبد العزيز أنه قال: قوّمنا ما أخرج من خزائن القصر يعني في سني الشدّة أيام المستنصر، من سائر ألوان الخسرواني، ما يزيد على خمسين ألف قطعة أكثرها مذهب، وسألت ابن عبد العزيز، فقال: أخرج من الخزائن مما حرّرت قيمته على يدي، وبحضرتي أكثر من ألف قطعة.
وحدّثني أبو الفضل يحيى بن دينار البغداديّ: أحد أصحاب الدواوين بالحضرة أن الذي تولى أبو سعيد النهاوندي المعروف: بالمعتمد بيعه خاصة من مخرج القصر دون غيره من الأمناء في مدّة يسيرة: ثمانية عشر ألف قطعة من بلور، ويحكم منها ما يساوي الألف دينار إلى عشرة دنانير ونيف، وعشرون ألف قطعة خسرواني. وحدّثني عميد الملك أبو الحسن عليّ بن عبد الكريم فخر الوزراء بن عبد الحاكم، أن ناصر الدولة أرسل يطالب المستنصر بما بقي لغلمانه، فذكر أنه لم يبق عنده شيء إلّا ملابسه، فأخرج ثمانمائة بدلة من ثيابه بجميع آلاتها كاملة فقوّمت وحملت إليه.
وقال ابن الطوير: الخدمة في خزائن الكسوات لها رتبة عظيمة في المباشرات، وهما خزانتان، فالظاهرة يتولاها خاصة أكبر حواشي الخليفة إمّا أستاذ أو غيره، وفيها من الحواصل ما يدل على إسباغ نعم الله تعالى على من يشاء من خلقه من الملابس الشروب، والخاص الديبقيّ الملوّنة، رجالية ونسائية، والديباج الملوّنة، والسقلاطون وإليها يحمل ما يستعمل في دار الطراز بتنيس ودمياط وإسكندرية من خاص المستعمل وبها صاحب المقص، وهو مقدّم الخياطين، ولأصحابه مكان لخياطتهم، والتفصيل يعمل على مقدار الأوامر وما تدعو الحاجة إليه، ثم ينقل إلى خزانة الكسوة الباطنة ما هو خاص للباس الخليفة، ويتولاها امرأة تنعت: بزين الخزان أبدا، وبين يديها ثلاثون جارية، فلا يغير الخليفة أبدا ثيابه إلّا عندها، ولباسه خافيا الثياب الدارية وسعة أكمامها سعة نصف أكمام الظاهر، وليس في جهة من جهاته ثياب أصلا، ولا يلبس إلّا من هذه الخزانة، وكان برسم هذه الخزانة بستان من أملاك الخليفة على شاطىء الخليج يعني أبدا فيه النسرين، والياسمين(2/298)
فيحمل في كل يوم منه شيء في الصيف والشتاء، لا ينقطع البتة برسم الثياب والصناديق، فإذا كان أوان التفرقة الصيفية أو الشتوية شدّ لمن تقدّم ذكره من أولاد الخليفة، وجهاته وأقاربه، وأرباب الرواتب والرسوم من كل صنف شدّة على ترتيب الفروض من شقق الديباج الملوّن، والسقلاطون إلى السوسيّ، والإسكندرانيّ على مقدار الفصول من الزمان، ما يقرب من مائتي شدّة، فالخواص في العراضي الديبقي، ودونهم في أوطية حرير، ودونهم في فوط إسكندرية، ويدخل في ذلك: كتاب ديواني الإنشاء، والمكاتبات دون غيرهم من الكتاب على مقدارهم، وذلك يخرج من الجواري في الشهر المطلقات.
وقال القاضي الفاضل في متجدّدات سنة سبع وستين وخمسمائة بعد وفاة العاضد:
وكشف حاصل الخزائن الخاصة بالقصر، فقيل: إن الموجود فيها: مائة صندوق كسوة فاخرة من موشى، ومرصع، وعقود ثمينة، وذخائر فخمة، وجواهر نفيسة، وغير ذلك من ذخائر عظيمة الخطر، وكان الكاشف بهاء الدين قراقوش.
خزائن الجوهر والطيب والطرائف
قال ابن المأمون: وكان بها الأعلام والجوهر التي يركب بها الخليفة في الأعياد ويستدعى منها عند الحاجة، ويعاد إليها عند الغنى عنها، وكذلك السيف الخاص، والثلاثة رماح المعزية، وقال في كتاب الذخائر والتحف: وذكر بعض شيوخ دار الجوهر بمصر: أنه استدعى يوما هو وغيره من الجوهريين من أهل الخبرة بقيمة الجوهر إلى بعض خزائن القصر يعني في أيام الشدّة زمن المستنصر، فأخرج صندوق كيل منه: سبعة أمداد زمرّد قيمتها، على الأقل: ثلثمائة ألف دينار، وكان هناك جالسا فخر العرب بن حمدان، وابن سنان، وابن أبي كدينة، وبعض المخالفين فقال بعض من حضر من الوزراء المعطلين للجوهريين: كم قيمة هذا الزمرّد؟ فقالوا: إنما نعرف قيمة الشيء إذا كان مثله موجودا، ومثل هذا لا قيمة له، ولا مثل! فاغتاظ، وقال ابن أبي كدينة: فخر العرب كثير المؤنة، وعليه خرج، فالتفت إلى كتاب الجيش، وبيت المال، فقال: يحسب عليه فيه خمسمائة دينار، فكتب ذلك، وقبضه وأخرج عقد جوهر قيمته على الأقل: من ثمانين ألف دينار فصاعدا، فتحرّيا فيه، فقال: يكتب بألفي دينار، وتشاغلوا بنظر ما سواه، وانقطع سلكه فتناثر حبّه، فأخذوا واحد منهم واحدة، فجعلها في جيبه، وأخذ ابن أبي كدينة أخرى، وأخذ فخر العرب بعض الحب، وباقي المخالفين التقطوا ما بقي منه، وغاض كأن لم يكن، وأخذ ما كان أنفذه: الصليحي من نفيس الدرّ الرفيع الرائع وكيله على ما ذكر سبع ويبات، وأخذوا ألفا ومائتي خاتم ذهبا وفضة فصوصها من سائر أنواع الجوهر المختلف الألوان والقيم والأثمان، والأنواع مما كان لأجداده وله، وصار إليه من وجوه دولته منها ثلاثة خواتم ذهب مربعة عليها ثلاثة فصوص أحدها زمرّذ، والاثنان ياقوت سماقيّ، ورمّانيّ بيعت باثني عشر ألف دينار بعد ذلك.(2/299)
وأحضر خريطة «1» فيها نحو ويبة جوهر، وأحضر الخبراء من الجوهريين، وتقدّم إليهم بقيمتها، فذكروا أن لا قيمة لها، ولا يشتري مثلها إلّا الملوك، فقوّمت: بعشرين ألف دينار، فدخل جوهر الكاتب المعروف: بالمختار عز الملك إلى المستنصر، وأعلمه أن هذا الجوهر اشتراه جدّه: بسبعمائة ألف دينار واسترخصه، فتقدّم بإنفاقه في الأتراك، فقبض كل واحد منهم جزء بقيمة الوقت، وفرّق عليهم.
قال: فأمّا ما أخذ مما في خزائن البلور، والمحكم والمينا المجرى بالذهب والمجرود، والبغدادي والخيار، والمدهون، والخلنج، والعينيّ، والدهيميّ، والآمديّ، وخزائن الفرش والبسط، والستور، والتعاليق فلا يحصى كثرة.
وحدّثني من أثق به من المستخدمين في بيت المال: أنه أخرج يوما في جملة ما أخرج من خزائن القصر عدّة صناديق، وإنّ واحدا منها فتح، فوجد فيه على مثال كيزان الفقاع من صافي البلور المنقوش والمجرود شيء كثير، وإنّ جميعها مملوء من ذلك وغيره، وحدثني من أثق به أنه رأى: قدح بلور بيع مجرودا بمائتين وعشرين دينارا، ورأى خردادي بلور بيع:
بثلاثمائة وستين دينارا، وكوز بلور بيع: بمائتين وعشرة دنانير، ورأى صحون مينا كثيرة تباع من: المائة دينار إلى ما دونها.
وحدّثني من أثق بقوله أنه رأى بطرابلس قطعتين من البلور الساذج، الغاية في النقاء، وحسن الصنعة إحداهما خردادي، والأخرى باطية مكتوب على جانب كل واحدة منهما:
اسم العزيز بالله، تسع الباطية سبعة أرطال بالمصري ماء، والخردادي تسعة، وإنه عرضهما على جلال الملك أبي الحسن عليّ بن عمار، فدفع فيهما: ثمانمائة دينار، فامتنع من بيعهما، وكان اشتراهما من مصر من جملة ما أخرج من الخزائن، وإن الذي تولى بيعه: أبو سعيد النهاندي من مخرج القصر دون غيره من الأمناء في مديدة يسيرة، ثمانية عشر ألف قطعة من بلور، ويحكم منها ما يساوي: الألف دينار إلى عشرة دنانير.
وأخرج من صواني الذهب المجراة بالمينا، وغير المجراة المنقوشة بسائر أنواع النقوش المملوء جميعها من سائر أنواعه، وألوانه، وأجناسه شيء كثير جدّا، ووجد فيما وجد غلف خيار مبطنة بالحرير محلاة بالذهب مختلفة الأشكال خالية مما فيها من الأواني عدّتها: سبعة عشر ألف غلاف؛ كان في كل قطعة إما بلور مجرود أو محكم أو ما يشاكله، ووجد أكثر من مائة كأس باد زهر، ونصب، وأشباهها، على أكثرها اسم هارون الرشيد وغيره.
ووجد في خزائن القصر عدّة صناديق كثيرة مملوءة سكاكين مذهبة، ومفضضة بنصب(2/300)
مختلفة من سائر الجواهر وصناديق كثيرة مملوءة من أنواع الدوى المربعة، والمدوّرة والصغار، والكبار المعمولة من الذهب والفضة والصندل والعود، والأبنوس الزنجيّ، والعاج، وسائر أنواع الخشب المحلاة بالجوهر، والذهب والفضة، وسائر الأنواع الغريبة، والصنعة المعجزة الدقيقة بجميع آلاتها فيها ما يساوي: الألف دينار، والأكثر والأقل سوى ما عليها من الجواهر، وصناديق مملوءة مشارب ذهب وفضة مخرقة بالسواد صغار، وكبار مصنوعة بأحسن ما يكون من الصنعة، وعدّة أزيار «1» صينيّ كبار، مختلفة الألوان مملوءة:
كافورا قيصوريا، وعدّة من جماجم «2» العنبر الشحريّ، ونوافج المسك التبتي، وقواريره وشجر العود وقطعه.
ووجد للسيدة رشيدة ابنة المعز حين ماتت في سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة: ما قيمته ألف ألف دينار وسبعمائة ألف دينار من جملته: ثلاثون ثوب خز مقطوع واثنا عشر ألفا من الثياب المصمت ألوانا، ومائة قاطرميز مملوءة كافورا قيصوريا، ومما وجد لها معممات بجواهرها من أيام المعز، وبيت هرون الرشيد الخز الأسود الذي مات فيه بطوس، وكان من ولي من الخلفاء ينتظرون وفاتها، فلم يقض ذلك إلّا للمستنصر بالله، فحازه في خزانته.
ووجد لعبدة بنت المعز: أيضا وماتت في سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة ما لا يحصى.
حدّثني بعض خزان القصر: أن خزائن السيدة عبدة، ومقاصيرها وصناديقها، وما يجب أن يختم عليه ذهب من الشمع في خواتيمه على الصحة والمشاهدة أربعون رطلا بالمصريّ وإنّ بطائق المتاع الموجود كتبت: في ثلاثين رزمة ورق، ومما وجد لها أيضا: أربعمائة قمطرة «3» ، وألف وثلثمائة قطعة مينا فضة مخرّقة زنة كل مينا: عشرة آلاف درهم، وأربعمائة سيف محلى بالذهب، وثلاثون ألف شقة صقلية، ومن الجوهر ما لا يحدّ كثرة، وزمرذ كيله: أردب واحد، وأن سيد الوزراء أبا محمد البازوري وجد في موجوداتها: طستا وإبريقا، فلفرط استحسانه لهما، سأل المستنصر فيهما، فوهبهما له، ووجد مدهن ياقوت أحمر وزنه: سبعة وعشرون مثقالا، وأخرج أيضا: تسعون طستا وتسعون إبريقا من صافي البلور، ووجد في القصر خزائن مملوءة من سائر أنواع الصيني منها: أجاجين صيني كبار محلاة، كل إجانة منها على ثلاثة أرجل على صورة الوحوش، والسباع قيمة كل قطعة منها:
ألف دينار، معمولة لغسل الثياب، ووجد عدّة أقفاص مملوءة ببيض صينيّ معمول على هيئة البيض في خلقته، وبياضه يجعل فيها ماء البيض النيمبرشت يوم الفصاد، ووجد حصير ذهب وزنها: ثمانية عشر رطلا ذكر أن الحصير التي جليت عليها: بوران بنت الحسن بن سهل(2/301)
على المأمون، وأخرج ثمان وعشرون صينية مينا مجرابا لذهب بكعوب، كان أرسلها ملك الروم إلى العزيز بالله، قوّمت كل صينية منها: بثلاثة آلاف دينار، أنفذ جميعها إلى ناصر الدولة.
ووجد عدّة صناديق مملوءة مرائي حديد من صيني، ومن زجاج المينا لا يحصى ما فيها كثرة، جميعها محلى بالذهب المشبك والفضة، ومنها المكلل بالجوهر في غلف الكيمخت، وسائر أنواع الحرير والخيزران وغيره، مضبب بالذهب والفضة، ولها المقابض من العقيق وغيره، وأخرج من المظال وقضبها الفضة والذهب شيء كثير، وأخرج من خزائن الفضة ما يقارب: الألف درهم من الآلات المصنوعة من الفضة المجراة بالذهب فيها: ما زنة القطعة الواحدة منه، خمسة آلاف درهم، الغريبة النقش والصنعة التي تساوي خمسة دراهم بدينار، وإنّ جميعه بيع كل عشرين درهما بدينار، سوى ما أخذ من العشاريات الموكبية، وأعمدة الخيام، وقضب المظال والمتحوقات، والأعلام والقناديل، والصناديق، والتوقات، والروّازين والسروج واللجم والمناطق التي للعماريات، والقباب وغيرها مثل ذلك وأضعافه.
وأخرج من الشطرنج والنرد المعمولة من سائر أنواع الجوهر، والذهب، والفضة، والعاج والآبنوس برقاع الحرير، والمذهب ما لا يحدّ كثرة ونفاسة، وأخرج آلات فضة وزنها: ثلثمائة ألف ونيف، وأربعون ألف درهم تساوي ستة دراهم بدينار، وأخرج أقفاص مملوءة من سائر آلات مصوغة مجراة بالذهب عدّتها أربعمائة قفص كبار، سبكت جميعها، وفرّقت على المخالفين، وأخرجت أربعة آلاف نرجسية مجوّفة بالذهب، يعمل فيها النرجس، وألفا بنفسجية كذلك، وأخرج من خزانة الطرائف: ستة وثلاثون ألف قطعة من محكم وبلور، وقوّم السكاكين بأقل القيم، فجاءت قيمتها على ذلك: ستة وثلاثين ألف دينار وأخرج من تماثيل العنبر: اثنان وعشرون ألف قطعة، أقل تمثال منها وزنه: اثنا عشر منا، وأكبره يجاوز ذلك، ومن تماثيل الخليفة ما لا يحدّ، من جملتها ثمانمائة بطيخة كافور.
وأخرجت الكلوتة «1» المرصعة بالجوهر، وكانت من غريب ما في القصر، ونفيسه، ذكر أن قيمتها: ثلاثون ألف دينار، ومائة ألف دينار، قوّمت: بثمانين ألف دينار، وكان وزن ما فيها من الجوهر: سبعة عشر رطلا اقتسمها فخر العرب، وتاج الملوك، فصار إلى فخر العرب منها قطعة بلخش وزنها: ثلاثة وعشرون مثقالا، وصار إلى تاج الدين مما وقع إليه حبات درّ، كل حبة: ثلاثة مثاقيل، عدّتها مائة حبة فلما كانت هزيمتهم من مصر نهبت،(2/302)
وأخرج من خزائن الطيب: خمسة صواري عود هندي، كل واحد من تسعة أذرع إلى عشرة أذرع، وكافور قيصوري زنة كل حبة: من خمسة مثاقيل إلى ما دونها، وقطع عنبر وزن القطعة: ثلاثة آلاف مثقال، وأخرج متارد صيني محمولة على ثلاثة أرجل ملء كل وعاء منها: مائتا رطل من الطعام، وعدّة قطع شب وباد زهر منها: جام سعته ثلاثة أشبار ونصف، وعمقه شبر، مليح الصنعة، وقاطرميز بلور فيه: صور ثابتة تسع سبعة عشر رطلا، وبلوجة بلور مجرود تسع عشرين رطلا، وقصرية نصب كبيرة جدّا، وطابع ندّ فيه ألف مثقال، كان فخر الدولة أبو الحسن عليّ بن ركن الدولة بن بويه الديلميّ عمله مكتوب في وسطه فخر الدولة شمس الملة، وأبيات منها:
ومن يكن شمس أهل الأرض قاطبة ... فندّه طابع من ألف مثقال
وطاوس ذهب مرصع بنفيس الجوهر، عيناه من ياقوت أحمر، وريشه من الزجاج المينا المجري بالذهب على ألوان ريش الطاوس، وديك من الذهب له عرف مفروق كأكبر ما يكون من أعراف الديوك من الياقت الأحمر مرصع بسائر الدر، والجوهر، وعيناه ياقوت، وغزال مرصع بنفيس الدر والجوهر، وبطنه أبيض، قد نظم من در رائع، ومجمع سكارج من بلور تخرج منه وتعود فيه، فتحته أربعة أشبار، مليح الصنعة في غلاف خيزران، وبطيخة من الكافور في شباك ذهب مرصعة وزنها خالصة سبعون مثقالا من كافور، وقطعة عنبر تسمى:
الخروف وزنها سوى ما يمسكها من الذهب: ثمانون منا، وبطيخة كافور أيضا وجد ما عليها من الذهب: ثلاثة آلاف مثقال، ومائدة نصب كبيرة واسعة قوائمها منها، وبيضة بلخش وزنها: سبعة وعشرون مثقالا أشدّ صفاء من الياقوت الأحمر، وقاطر ميز بلور مليح التقدير، يسع مروقتين قوّم في المخرج: بثمانمائة دينار دفع إلى تاج الملوك فيه بعد ذلك ألفا دينار، فامتنع من بيعه، مائدة جزع يقعد عليها جماعة، قوائمها مخروطة منها، ونخلة ذهب مكللة بالجوهر، وبديع الدرّ في إجانة ذهب تجمع الطلع والبلح، والرطب بشكله، ولونه وعلى صفته، وهيأته من الجواهر لا قيمة لها، وكوز زير بلور يحمل عشرة أرطال ماء، ودارج مرصع بنفيس الجوهر لا قيمة له، ومزيرة مكللة بحب لؤلؤ نفيس، وقبة العشاريّ، وكارته وكسوة رحله الذي استعمله عليّ بن أحمد الجرجراي، وفيه مائة ألف وسبعة وستون ألفا، وسبعمائة درهم نقرة، وأطلق للصناع عن أجرة صياغته، وثمن ذهب للطلاء: ألفان وتسعمائة دينار، وكان سعر الفضة حينئذ: كل مائة درهم بستة دنانير وربع، سعر ستة عشر درهما بدينار، وأخرج العشاريّ الفضي الذي استعمله عليّ بن أحمد لأمّ المستنصر، وكان فيه مائة ألف، وعشرون ألف درهم نقرة، وصرف أجرة صياغة، وطلاء ألفان وأربعمائة دينار، وكسوة بمال جليل، وأخرج جميع كسا العشاريات التي برسم البرية والبحرية، وعدّتها، ومناطقها ورؤوس منحرفات وأهلة، وصفريات وكانت أربعمائة ألف دينار لستة(2/303)
وثلاثين عشاريا، وعدّة مياكيم فضة فيها ما وزنه مائة وتسعة أرطال فضة، وأخرج بستان أرضه فضة مخرقة مذهبة وطينة ندّ، وأشجاره فضة مذهبة مصوغة وأثماره عنبر، وغيره وزنه ثلثمائة وستة أرطال، وبطيخة كافور وزنها ستة عشر ألف مثقال، وقطع ياقوت أزرق زنة كل قطعة: سبعون درهما، قطع زمرّذ زنة كل قطعة ثمانون درهما، ونصاب مرآة من زمرّذ له طول وثخن كل ذلك أخذه المخالفون.
خزائن الفرش والأمتعة
قال في كتاب الذخائر: وحدّثني من أثق به عن ابن عبد العزيز الأنماطيّ قال: قوّمنا ما أخرج من خزائن القصر من سائر الخسرواني، ما يزيد على خمسين ألف قطعة أكثرها مذهب، وسألت ابن عبد العزيز، فقال: أخرج من الخزائن ما حرّرت قيمته على يدي وبحضرتي أكثر من مائة ألف قطعة، وأخرج مرتبة خسرواني حمراء بيعت: بثلاثة آلاف وخمسمائة دينار، ومرتبة قلموني بيعت: بألفين وأربعمائة دينار، وثلاثون سندسية بيعت كل واحدة منها: بثلاثين دينارا، ونيف وعشرون ألف قطعة خسرواني في هدبه لم يقطع منها شيء، وكانت قيمة العرض المبيع بأقل القيم، وأبرز الأثمان في مدّة خمسة عشر يوما من صفر سنة ستين وأربعمائة سوى ما نهب وسرق ثلاثون ألف ألف دينار قبض جميعها الجند، والأتراك ليس لأحد منهم درهم واحد قبضه عن استحقاق.
وحدّثني الأمير أبو الحسن عليّ بن الحسن أحد مقدّمي الخيميين بالقصر: أنّ الفرّاشين دخلوا إلى بعض خزائن الفرش لما اشتدّت مطالبة المارقيّ للمستنصر بالمال إلى الخزانة المعروفة: بخزانة الرفوف، وسميت بذلك لكثرة رفوفها، لكل رف منها سلم مفرد، فأنزلوا منها ألفي عدل شقق طميم بهدبها من سائر أنواع الخسرواني وغيره لم تستعمل بعد، وجميع ما فيها مذهب معمول بسائر الأشكال، والصور، وأنهم فتحوا عدلا منها، فوجدوا ما فيه أجلة معمولة للفيلة من خسرواني أحمر مذهب كأحسن ما يكون من العمل، وموضع نزول أفخاذ الفيل، ورجليه ساذجة بغير ذهب. وأخرج من بعض الخزائن ثلاثة آلاف قطعة خسرواني أحمر مطرّز بأبيض في هدبها لم يفصل من كسا بيوت كاملة بجميع آلاتها ومقاطعها، وكل بيت يشتمل على مسانده، ومخادّه، ومساوره، ومراتبه، وبسطه وعتبه مقاطعه وستوره، وكل ما يحتاج إليه فيه.
قال: وأخرج من خزائن الفرش من البيوت الكاملة الفرش من القلمونيّ والديبقيّ من سائر ألوانه، وأنواعه المخمل، والخسرواني، والديباج الملكيّ، والخز وسائر الحرير من جميع ألوانه وأنواعه ما لا يحصى كثرة، ولا يعرف قدره نفاسة، وأخرج من الحصر، والأنخاخ السامان المطرّزة بالذهب والفضة وغير المطرّزة من المخرمة، والطيور والفيلة المصوّرة بسائر أنواع الصور شيء كثير، والتمس بعض الأتراك من المستنصر مقرمة يعني(2/304)
ستارة سندس أخضر مذهبة، فأخرج عدل منها مكتوب عليه: مائة وثمانية وثمانون من جملة أعداد أعدال، فيها من المتاع، ووجد من الستور الحرير المنسوجة بالذهب على اختلاف ألوانها وأطوالها عدّة مئين تقارب الألف فيها: صور الدول وملوكها، والمشاهير فيها مكتوب على صورة كل واحد اسمه ومدّة أيامه وشرح حاله.
وأخرج من خزائن الفرش أربعة آلاف رزمة خسروانيّ مذهب في كل رزمة فرش مجلس ببسطه وتعاليقه، وسائر آلاته منسوجة في خيط واحد باقية على حالها لم تمس، وصار إلى فخر العرب مقطع من الحرير الأزرق التستريّ القرقوبيّ غريب الصنعة منسوج بالذهب، وسائر ألوان الحرير، كان المعز لدين الله أمر بعمله في سنة ثلاث وخمسين وثلثمائة، فيه صورة أقاليم الأرض وجبالها، وبحارها، ومدنها، وأنهارها، ومسالكها شبه جغرافيا، وفيه صورة مكة والمدينة مبينة للناظر مكتوب على كل مدينة، وجبل وبلد ونهر، وبحر، وطريق اسمه بالذهب أو الفضة أو الحرير، وفي آخره مما أمر بعمله المعز لدين الله شوقا إلى حرم الله، وإشهارا لمعالم رسول الله في سنة ثلاث وخمسين وثلثمائة، والنفقة عليه: اثنان وعشرون ألف دينار، وصار إلى تاج الملوك: بيت أرمنيّ أحمر منسوج بالذهب، عمل للمتوكل على الله لا مثل له ولا قيمة، وبساط خسروانيّ دفع إليه فيه ألف دينار، فامتنع من بيعه.
وقال ابن الطوير: خزانة الفرش، وهي قريبة من باب الملك يحضر إليها الخليفة من غير جلوس، ويطوف فيها ويستخبر عن أحوالها، ويأمر بإدامة الاستعمال، وكان من حقوقها استعمال السامان في أماكن خارجها بالقاهرة ومصر، ويعطي مستخدمها: خمسة عشر دينارا يعني يوم يطوف بها الخليفة.
خزائن السلاح
قال في كتاب الذخائر: فأما خزائن السيوف، والآلات، والسلاح فإنّ بعضها أخذ، وقسم بين العشرة الثائرين على المستنصر، وهم ناصر الدولة بن حمدان، وأخواه، وبلد كوس، وابن سبكتكين، وسلام عليك، وشاور بن حسين. حتى صار ذو الفقار: إلى تاج الملوك، وصمصامة عمرو بن معدي كرب، وسيف عبد الله بن وهب الراسيّ، وسيف كافور، وسيف المعز، وسيف أبي المعز إلى: الأعز بن سنان، ودرع المعز لدين الله، وكانت تساوي ألف دينار، وسيف الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهما السلام، ودرقة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، وسيف جعفر الصادق رضي الله عنه، ومن الخود والدروع، والتخافيف، والسيوف المحلاة بالذهب، والفضة، والسيوف الحديدية، وصناديق النصول، وجعاب السهام الخلنج، وصناديق القسيّ، ورزم الرماح الزان الخطية، وشدات القسا الطوال والزرد والبيض مئين ألوف، وكان كل صنف منها مفردا عشرات ألوف.(2/305)
وقال ابن الطوير: خزانة السلاح يدخل إليها الخليفة، ويطوفها قبل جلوسه على السرير هناك، ويتأمّل حواصلها من الكراغندات المدفونة بالزرد المغشاة بالديباج المحكمة الصناعة، والجواشن المبطنة المذهبة، والزرديات السابلة برءوسها، والخود المحلاة بالفضة وكذلك أكثر الزرديات، والسيوف على اختلافها من العربيات، والقلجوريات، والرماح القنا، والقنطاريات المدهونة والمذهبة، والأسنة البرصانية، والقسيّ لرماية اليد المنسوبة إلى صناعها مثل الخطوط المنسوبة إلى أربابها، فيحضر إليه منها ما يجرّبه، ويتأمّل النشاب، وكانت نصوله مثلثة الأركان على اختلافها، ثم قسيّ الرجل والركاب، وقسيّ اللولب الذي زنة نصله: خمسة أرطال، ويرمى من كل سهم بين يديه، فينظر كيف مجراه، والنشاب الذي يقال له: الجراد، وطوله: شبر يرمى به عن قسيّ في مجار معمولة برسمه، فلا يدري به الفارس أو الراجل إلّا وقد نفذ، فإذا فرغ من نظر ذلك كله، خرج من خزانة الدرق، وكانت في المكان الذي هو خان مسرور، وهي برسم الاستعمالات للأساطيل من الكبورة الخرجية، والخود الجلودية إلى غير ذلك، فيعطي مستخدمها: خمسة وعشرون دينارا، ويخلع على متقدّم الاستعمالات جوكانية مزيد حريرا، وعمامة لطيفة.
خزائن السروج
قال في كتاب الذخائر: أخرج فيما أخرج: صناديق سروج محلاة بفضة مجراة بسواد ممسوحة وجد على صندوق منها: الثامن والتسعون والثلاثمائة، وعدّة ما فيها زيادة على أربعة آلاف سرج، وأخرج المستنصر من خزائن السروج: خمسة آلاف سرج كان أبو سعد إبراهيم بن سهل التستريّ دخرها له فيها، وتقدّم بحفظها كل سرج منها يساوي: من سبعة آلاف دينار إلى ألف، وأكثرها عال سبك جميعها، وفرّق في الأتراك كان برسم ركابه منها أربعة آلاف سرج، وأخذ من خزائن السيدة والدته: أربعة آلاف سرج مثلها، ودونها صنع بها مثل ذلك. وقال ابن الطوير: خزانة السروج تحتوي على ما لا يحتوي عليه مملكة من الممالك، وهي قاعة كبيرة بدورها مصطبة علوها ذراعان، ومجالسها كذلك، وعلى تلك المصطبة متكآت مخلصة الجانبين على كل متكأ ثلاثة سروج متطابقة، وفوقه في الحائط وتد مدهون مضروب في الحائط قبل تبييضه، وهو بارز بروزا متكئا عليه المركبات الحلي على لجم تلك السروج الثلاثة من الذهب خاصة أو الفضة خاصة أو الذهب، والفضة، وقلائدها وأطواقها لأعناق الخيل، وهي لخاص الخليفة، وأرباب الرتب ما يزيد على ألف سرج، ومنها لجام هو الخاص ومنها الوسط، ومنها الدون، وهي خيار غيرها برسم العواري لأرباب الرتب والخدم، ومنها ما هو قريب من الخاص فيكون عند المستخدم بشداده الدائم، وجاريه على الخليفة ما دام مستخدما، والعلف مطلق من الأهراء وأما الصاغة: فإنّ فيها منهم ومن المركبين والخرّازين عددا جمادا ثمين لا يفترون عن العمل، وكل مجلس(2/306)
مضبوط بعدد متكآته، وما عليها من السروج، والأوتاد واللجم، وكل مجلس لذلك عند مستخدميه في العرض، فلا يختل عليهم منها شيء، وكذلك وسط قاعدتها بعدّة متوالية أيضا، والشدّادون مطلوبون بالنقائص منها أيام المواسم وهم يحضرونها أو قيمتها فيعرض ويركب، ويحضر إليها الخليفة، ويطوفها من غير جلوس، ويعطي حاميها للتفرقة في المستخدمين عشرين دينارا.
ويقال: إنّ الحافظ لدين الله عرضت له فيها حاجة، فجاء إليها مع الحامي، فوجد الشاهد غير حاضر وختمه عليها، فرجع إلى مكانه، وقال: لا يفك ختم العدل إلّا هو، ونحن نعود في وقت حضوره انتهى.
وكان الخليفة الآمر بأحكام الله تحدّثه نفسه بالسفر إلى المشرق والغارة على بغداد، فأعدّ لذلك شروجا مجوّفة القرابيص، وبطنها بصفائح من قصدير ليجعل فيها الماء، وجعل لها فما فيه صفارة، فإذا دعت الحاجة إلى الماء شرب منه الفارس، وكان كل سرج منها يسع سبعة أرطال ماء، وعمل عدّة مخال للخيل من ديباج، وقال في ذلك:
دع اللوم عني لست مني بموثق ... فلا بدّ لي من صدمة المتحقّق
وأسقي جيادي من فرات ودجلة ... وأجمع شمل الدين بعد التفرّق
وأوّل من ركب المتصرّفين في دولته من يخوله بالمراكب الذهب في المواسم:
العزيز بالله نزار بن المعز.
خزائن الخيم
قال في كتاب الذخائر: وأخبرني سماء الرؤساء أبو الحسن عليّ بن أحمد بن مدبر وزير ناصر الدولة قال: أخرج فيما أخرج من خزائن القصر عدّة لم تحص من أعدال الخيم، والمضارب، والفازات، والمسطحات، والجركاوات، والحصون، والقصور، والشراعات، والمشارع، والفساطيط المعمولة من الديبقيّ، والمخمل والخسرانيّ، والديباج الملكيّ، والأرمنيّ، والبهنساويّ، والكردوانيّ والجيد من الحلبيّ، وما أشبه ذلك من سائر ألوانه، وأنواعه، ومن السندس والطميم أيضا منها المفيل، والمسبع، والمخيل، والمطوّس والمطير، وغير ذلك من سائر الوحوش، والطير والآدميين من سائر الأشكال، والصور البديعة الرائعة، ومنها الساذج والمنقوش في ظاهره بغرائب النقوش بجميع آلاتها من الأعمدة الملبسة أنابيب الفضة، والثياب المذهبة، وغير المذهبة من سائر أنواعها، وألوانها، والصفريات الفضة على أقدارها، والحبال الملبسة القطن، والحرير، والأوتاد، وسائر ما يحتاج إليه من جميع آلاتها وعدّتها المبطن جميعها بالديبقيّ الطميم المذهب، والخسروانيّ المذهب، وثياب الحرير الصينيّ، والتستريّ، والمضبب، والرجيح، والشرفيّ، والشعريّ،(2/307)
والديباج والمريش، وسائر أنواع الحرير من سائر الألوان، وأنواعها كبارا وصغارا منها ما يحمل خرقه، وأوتاده، وعمده، وسائر عدّته على عشرين بعيرا، ودون ذلك، وفوقه.
فالمسطح بيت مربع له أربع حيطان، وسقف بستة أعمدة منها عمودان للحائط الواحد المرفوع للدخول والخروج، والخيمة ظهرها حائط مربع وسقيفتها إلى الباب حائط مربع، وأركانها شوارك من الجانبين على قدر القائم، وفيها أربعة أعمدة اثنان في الباب واثنان في وسطها، وكلما زادت زاد عمدها وسقفها، لها حدان مشروكان من الجانبين، والشراع حائط في الظهر مسقف على الرأس بعمودين من أيّ موضع دارت الشمس حوّل إلى ناحية الشمس، والمشرعة فيه مثل المظلة على عمود واحد تامّ، وشراع سابل خلفها من أيّ موضع دارت الشمس أدير، والقبة على حالها.
وحدّثني أبو الحسن عليّ بن الحسن الخيميّ قال: أخرجنا في جملة ما أخرج من خزائن القصر أيام المارقين حين اشتدّت المطالبة على السلطان: فسطاطا كبيرا أكبر ما يكون يسمى: المدورة الكبيرة يقوم على فرد عمود طوله: خمسة وستون ذراعا بالكبير، ودائر فلكته: عشرون ذراعا، وقطرها: ستة أذرع وثلثا ذراع، ودائره خمسمائة ذراع، وعدّة قطع خرقه: أربع وستون قطعة كل قطعة منها تحزم في عدل واحد يجمع بعضه إلى بعض بعرى وشراريب حتى ينصب، يحمل خرقه وحباله، وعدّته على: مائة جمل، وفي صفريته المعمولة من الفضة ثلاثة قناطير مصرية يحملها من داخل قضبان حديد من سائر نواحيها، تمتلىء ماء من راوية جمل قد صوّر في رفرفه كل صورة حيوان في الأرض، وكل عقد مليح، وشكل ظريف، وفيه باذهنج طوله: ثلاثون ذراعا. في أعلاه، كان أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن البازوري أمر بعمله أيام وزارته، فعمله الصناع، وعدّتهم: مائة وخمسون صانعا في مدّة تسع سنين، واشتملت النفقة عليه على ثلاثين ألف دينار، وكان عمله على مثال القاتول «1» الذي كان العزيز بالله أمر بعمله أيام خلافته إلّا أن هذا أعلى عمودا منه، وأوسع، وأعظم، وأحسن، وكان الخليفة أنفذ إلى متملك الروم في طلب عمودين للفسطاط طول كل واحد منهما: سبعون ذراعا بعد أن غرم عليهما ألف دينار أحدهما في هذا الفسطاط بعد أن قطع منه خمسة أذرع، والآخر حمله ناصر الدولة بن حمدان حين خرج على الخليفة المستنصر بالله إلى الاسكندرية، وما أدري ما فعل به.
قال: وأقمنا مدّة طويلة في تفصيل بعضه من بعض، وتقطيعه خرقا وشققا قوّمت على المذكورين بأقل القيم، وتفرّق في الآفاق، وقال لي أيضا: أخرجنا مسطحا قلمونيا مخملا موجها من جانبيه، عمل بتنيس للعزيز بالله يسمى: دار البطيخ، وسطه بكنيس على ستة(2/308)
أعمدة، أربعة منها في أركان الكنيس، وفي أربعة الأركان أربع قباب، ومن القبة إلى القبة رواق دائر عليه، والقباب دونه، وفي كل قبة أربعة أعمدة ذول كل عمود من أعمدة الكنيس ثمانية عشر ذراعا، وكذلك طول قائم القباب، وفعلنا به مثل ما فعلنا في الأوّل.
وقال لي: أخرجنا مسطحا عمل للظاهر لإعزاز دين الله: بتنيس ذهب في ذهب طميم، قائم على عمود له: ست صفاري بلور، وستة أعمدة فضة أنفق عليه أربعة عشر ألف دينار، ومسطحا ديبقيا كبيرا مذهبا بدوائر كردواني منقوش، وأخرجنا قصورا تحيط بالخيام بشرفات من المخمل والقلمونيّ، والديبقيّ «1» ، والديباج الخسروانيّ، والحرير من سائر أنواعه، وألوانه المذهبة المنقوشة بحياضها، ودككها، ومصاطبها، وقدورها، وزجاجها، وسائر عددها.
وأخرجنا من الخيام الكردواني شيئا كثيرا، وأخرجنا خيمة كبيرة مدوّرة كردوانيّ مليحة النقش والصنعة، عدّتها قطع كثيرة طول عمودها خمسة وثلاثون ذراعا فعلنا بجميعها مثل ما فعلنا بالأوّل، وأخرج في جملتها الفسطاط الكبير المعروف بالمدوّرة الكبيرة المتولي عمله بحلب أبو الحسن عليّ بن أحمد المعروف بابن الأيسر في سني نيف وأربعين وأربعمائة المنفق على خرقه، ونقشه وعمله، وعدّته ثلاثون ألف دينار الذي عموده أثول ما يكون من صواري درامين الروم البنادقة أربعون ذراعا، ودائر فلكة عوده أربعة وعشرون شبرا، ويحمل على سبعين جملا، ووزن صفريته الفضة قنطاران سوى أنابيب عمده، ويتولى إتقان عمده، ونصبه مائتا رجل من فرّاش ومعين، وهو شبيه بالقاتول العزيزيّ، وسمي بالقاتول: لأنه ما نصب قط إلّا، وقتل رجلا أو رجلين ممن يتولى إتقانه من فرّاش وغيره.
قال: ووجد في خزائن مملوءة من سائر أنواع الصواني المدهونة ببغداد المذهبة التي حشيت، كل واحدة منها بما دونها في السعة إلى ما سعته دون الدرهم، ومن سائر أنواع الأطباق الخلع الرازي في هذه السعة، وفوق ذلك ودونه قد حشيت بطونها بما دونها في السعة، إلى ما سعته دون الدينار، ومن الموائد القوائمية الصغار، والكبار ألوف، ومن موائد الكرم، وما أشبهها شيء كثير، ومن الجفان الحور الواسعة التي قد عملت مقابضها من الفضة، وحليت بأنواع الحلي التي لا يقدر الجمل القويّ على حمل جفنتين منها، لعظمها تساوي الواحدة منها: مائة دينار، وفوقها، ودونها شيء كثير، ووجد من الدكك، والمحاريب، والأسرّة العود، والصندل، والعاج والأبنوس، والبقم شيء كثير مليح الصنعة.
وقال ابن ميسر: وعمل الأفضل بن أمير الجيوش خيمة سماها: خيمة الفرح اشتملت على:(2/309)
ألف ألف وأربعمائة ألف ذراع، وقائمها ارتفاعه خمسون ذراعا بذراع العمل، صرف عليها:
عشرة آلاف دينار، ومدحها جماعة من الشعراء.
خزانة الشراب
قال ابن المأمون: ولم يكن في الإيوان فيما تقدّم شراب حلو، بل إنها قرّرت لاستقبال النظر المأمونيّ، وأطلق لها من السكر: مائة وخمسة عشر قنطارا، وبرسم الورد المربى خمسة عشر قنطارا، وأما ما يستعمل بالكافوريّ من الحلو الفانيذ والحامض، فالمبلغ في ذلك على ما حصره شاهده في السنة: ستة آلاف وخمسمائة دينار، وما يحمل للكافوريّ أيضا برسم كرك الماورد ما يستدعيه متولي الشراب.
وقال ابن الطوير: خزانة الشراب، وهي أحد مجالسه أيضا يعني القاعة التي هي الآن:
المارستان العتيق، فإذا جلس الخليفة على السرير عرض عليه ما فيها حاميها، وهو من كبار الأستاذين وشاهدها، فيحضر إليه فرّاشوها بين يدي مستخدمها من عيون الأصناف العالية من المعاجين العجيبة في الصينيّ، والطيافير الخلنج، فيذوق ذلك شاهدها بحضرته، ويستخبر عن أحوالها بحضور أطباء الخاص، وفيها من الآلات، والأزياء الصينيّ، والبرابي عدّة عظيمة للورد، والبنفسج، والمرسين، وأصناف الأدية من الراوند الصيني، وما يجري مجراه، مما لا يقدر أحد على مثله إلّا هناك، وما يدخل في الأدوية من آلات العطر إلى ذلك، ويسأل عن الدرياق الفاروق، ويأمرهم بتحصيل أصنافه ليستدرك عمله قبل انقطاع الحاصل منه، ويؤكد في ذلك تأكيدا عظيما، ويستأذن على ما يطلق منها برقاع أطباء الخاص للجهات، وحواشي القصر، فيأذن في ذلك، ويعطي الحامي للتفرقة في الجماعة: ثلاثين دينارا.
خزانة التوابل
وقال ابن المأمون: فأما التوابل العالي منها والدون، فإنها جملة كثيرة، ولم يقع لي شاهد بها، بل إنني اجتمعت بأحد من كان مستخدما في خزانة التوابل، فذكر أنها تشتمل على: خمسين ألف دينار في السنة، وذلك خارج عما يحمل من البقولات، وهي باب مفرد مع المستخدم في الكافوري، والذي استقرّ إطلاقه على حكم الاستيمار من الجرايات المختصة بالقصور، والرواتب المستجدّة، والمطلق من الطيب، ويذكر الطراز، وما يبتاع من الثغور، ويستعمل بها وغير ذلك.
فأوّلها: جراية القصور، وما يطلق لها من بيت المال إدرارا لاستقبال النظر المأمونيّ:
ستة آلاف وثلثمائة وثلاثة وأربعون دينارا، تفصيله: منديل الكم الخاص الآمري في الشهر:
ثلاثة آلاف دينار، عن مائة دينار كل يوم أربع جمع الحمام في كل جمعة: مائة دينار(2/310)
أربعمائة دينار، وبرمس الإخوة والأخوات، والسيدة الملكة، والسيدات، والأمير أبي عليّ، وإخوته، والموالي، والمستخدمات، ومن استجدّ من الأفضليات ألفان وتسعمائة وثلاثة وأربعون دينارا، ولم يكن للقصور في الأيام الأفضلية من الطيب راتب فيذكر، بل كان إذا وصلت الهدية والجاوي من البلاد اليمنية تحمل برمّتها إلى الإيوان، فينقل منها بعد ذلك للأفضل، والطيب المطلق للخليفة من جملتها فانفسخ هذا الحكم.
وصار المرتب من الطيب مياومة، ومشاهرة على ما يأتي ذكره ما هو برسم الخاص الشريف في كل شهر ندّ مثلث: ثلاثون مثقالا، عود صيفيّ: مائة وخمسة دراهم، كافور قديم: خمسة عشر درهما، عنبر خام: عشرة مثاقيل، زعفران: عشرون درهما، ماء ورد:
ثلاثون رطلا، برسم بخور المجلس الشريف في كل شهر في أيام السلام، ندّ مثلث: عشرة مثاقيل، عود صيفي: عشرون درهما، كافور قديم: ثمانية دراهم، زعفران شعر: عشرة دراهم، ما هو برسم بخور الحمام في كل ليلة جمعة عن أربع جمع في الشهر، ندّ مثلث:
أربعة مثاقيل، عود صيفي: عشرة مثاقيل، ما هو برسم السيدات، والجهات، والأخوة في كل شهر: ندّ مثلث خمسة وثلاثون مثقالا، عود صيفي: مائة وعشرون درهما، زعفران شعر: خمسون درهما، عنبر خام: عشرون مثقالا، كافور قديم: عشرون درهما، مسك:
خمسة عشر مثقالا، ماء ورد: أربعون رطلا، ما هو برسم المائدة الشريفة ما تستلمه المعلمة مسك خمسة عشر مثقالا، ماء ورد: خمسة عشر رطلا، ما هو برسم خزانة الشراب الخاص مسك: ثلاثة مثاقيل، ندّ ثلث سبعة مثاقيل، عود صيفي: خمسة وثلاثون درهما، ماء ورد:
عشرون رطلا، ما هو برسم بخور المواكب الستة، وهي الجمعتان الكائنتان في شهر رمضان، برسم الجامعين بالقاهرة يعني الجامع الأزهر، والجامع الحاكمي، والعيدان، وغيد الغدير، وأوّل السنة بالجوامع والمصلى، ندّ خاص جملة كثيرة لم تتحقق فتذكر، ولم يكن للغرّتين غرّة السنة، وغرّة شهر رمضان، وفتح الخليج بخور فيذكر، وعدّة المبخرين في المواكب ستة: ثلاثة عن اليمين، وثلاثة عن الشمال، وكل منهم مشدود الوسط، وفي كمه فحم برسم تعجيل المدخنة، والمداخن فضة، وحامل الدرج الفضة الذي فيه البخور أحد مقدّمي بيت المال، وهو فيما بين المبخرين طول الطريق، ويضع بيده البخور في المدخنة، وإذا مات أحد هؤلاء المبخرين لا يخدم عوضا عنه إلّا من يتبرّع بمدخنة فضة، لأنّ لهم رسوما كثيرة في المواسم مع قربهم في المواكب من الخليفة، ومن الوقت الذي يتبرّع فيه بالمدخنة يرجع في حاصل بيت المال، وإذا توفي حاملها لا ترجع لورثته، وعدّة ما يبخر في الجوامع والمصلى غير هؤلاء في مداخن كبار، في صواني فضة: ثلاث صوان، في المحراب إحداهنّ، وعن يمين المنبر، وشماله اثنتان، وفي الموضع الذي يجلس فيه الخليفة إلى أن تقام الصلاة صينية رابعة.
وأما البخور المطلق برسم المأمون فهو في كل شهر: ندّ مثلث: خمسة عشر مثقالا،(2/311)
عود صيفيّ: ستون درهما، عنبر خام: ستة مثاقيل، كافور: ثمانية دراهم، زعفران شعر:
عشرة دراهم، ماء ورد: خمسة عشر رطلا ومنها مقرّر الحلوى، والفستق، ومما استجدّ ما يعمل في الإيوان برسم الخاص في كل يوم من الحلوى: اثنا عشر جاما رطبة ويابسة نصفين وزن كل جام من الرطب: عشرة أرطال، ومن اليابس: ثمانية أرطال، ومقرّر الخشكنانج «1» والبسندود «2» في كل ليلة على الاستمرار برسم الخاص الآمريّ، والمأمونيّ: قنطار واحد سكر، ومثقالان مسك وديناران برسم المؤن لعمل خشكنانج وبسندود في قعبان وسلال صفصاف، ويحمل ثلثا ذلك إلى القصر والثلث إلى الدار المأمونية.
قال وجرت مفاوضة بين متولي بيت المال، ودار الفطرة بسبب الأصناف، ومن جملتها: الفستق، وقلة وجوده وتزايد سعره إلى أن بلغ رطل ونصف: بدينار، وقد وقف منه لأرباب الرسوم ما حصل شكواهم بسببه، فجاوبه متولي الديوان، بأن قال: ما تمّ موجب الإنفاق لما هو راتب من الديوان، وطالعا المقام العالي بأنه لما رسم لهما: ذكرا جميع ما اشتمل عليه ما هو مستقرّ الإنفاق من قلب الفستق والذي يطلق من الخزائن من قلب الفستق إدرارا مستقرّا بغير استدعاء، ولا توقيع مياومة، كل يوم حسابا في الشهر التام عن ثلاثين يوما خمسمائة وخمسة وثمانون رطلا، وفي الشهر الناقص عن تسعة وعشرين يوما خمسمائة وخمسة وستون رطلا حسابا عن كل: يوم تسعة عشر رطلا ونصف من ذلك ما يستلمه الصناع الحلاويون، والمستخدمون بالإيوان مما يصنع به خاص خارجا عما يصنع بالمطابخ الآمرية عن اثني عشر جام حلوى خاص وزنها: مائة وثمانية أرطال منها: رطب ستون رطلا، ويابس وغيره: ثمانية وأربعون رطلا مما يحمل في يومه وساعته، منها ما يحمل مختوما برسم المائدتين الآمريتين بالباذهنج «3» ، والدار الجديدة اللتين ما يحضرهما إلّا من كبرت منزلته، وعظمت وجاهته جامان رطبا ويابسا، وما يفرّق في العوالي من الموالي، والجهات على أوضاع مختلفة تسع جامات، وما يحمل إلى الدار المأمونية برسم المائدة بالداردون السماط: جام واحد.
تتمة المياومة المذكورة ما يتسلمه الشاهد، والمشارف على المطابخ الآمرية، مما يصنع فيها برسم الجامات الحلوى، وغيره مما يكون على المدورة في الأسمطة المستمرّة بقاعة الذهب في أيام السلام، وفي أيام الركوبات، وحلول الركاب بالمناظر أربعة أرطال،(2/312)
وما يتسلمه الحاج مقبل الفرّاش برسم المائدة المأمونية، مما يوصله لزمام الدار دون المطابخ الرجالية رطلان الحكم الثاني يطلق مشاهرة بغير توقيع، ولا استدعاء بأسماء كبراء الجهات، والمستخدمين من الأصحاب، والحواشي في الخدم المميزة، وهو في الشهر ثلاثة عشر رطلا، والديوان شاهد بأسماء أربابه، وما يطلق من هذه الخزائن السعيدة بالاستدعاءات والمطالعات، ويوقع عليه بالإطلاق من هذا الصنف في كل سنة على ما يأتي ذكره، وما يستدعى برسم التوسعة في الراتب عند تحويل الركاب العالي إلى اللؤلؤة مدّة أيام النيل المبارك في كل يوم رطلان، وما يستدعى برسم الصيام مدّة تسعة وخمسين يوما رجب وشعبان حسابا عن كل يوم: رطلان مائة وثمانية عشر رطلا وما يستدعى لما يصنع بدار الفطرة في كل ليلة برسم الخاص خشكنانج لطيفة، وبسندود، وجوارشات، ونواطف، ويحمل في سلال صفصاف لوقته، عن مدّة أوّلها مستهل رجب، وآخرها سلخ رمضان عن تسعة وثمانين يوما مائة وثمانية وسبعون رطلا، لكل ليلة: رطلان، ويسمى ذلك: بالتعبية، وما يستدعيه صاحب بيت المال، ومتولي الديوان.
فيما يصنع بالإيوان الشريف برسم الموالد الشريفة الأربعة: النبويّ، والعلويّ، والفاطميّ، والآمريّ مما هو برسم الخاص، والموالي، والجهات بالقصور الزاهرة، والدار المأمونية، والأصحاب، والحواشي خارجا عما يطلق مما يصنع بدر الوكالة، ويفرّق على الشهود، والمتصدّرين والفقراء، والمساكين مما يكون حسابه من غير هذه الخزائن عشرون رطلا قلب فستق حسابا لكل يوم مؤبد منها: خمسة أرطال.
ما يستدعى برسم ليالي الوقود الأربع الكائنات في رجب وشعبان، مما يعمل بالإيوان برسم الخاصيين، والقصور خاصة: عشرون رطلا لكل ليلة خمسة أرطل.
وأما ما ينصرف في الأسمطة، والليالي المذكورات في الجامع الأزهر بالقاهرة، والجامع الظاهريّ بالقرافة فالحكم في ذلك يخرج عن هذه الخزائن، ويرجع إلى مشارف الدار السعيدة، وكذلك ما يستدعيه المستخدمون في المطابخ الآمرية من التوسعة من هذا الصنف المذكور في جملة غيره برسم الأسمطة لمدّة تسعة وعشرين يوما من شهر رمضان وسلخه لأسماط فيه، وفي الأعياد جميعها بقاعة الذهب، وما يستدعيه النائب برسم ضيافة من يصرف من الأمراء في الخدم الكبار، ويعود إلى الباب، ومن يرد إليه من جميع الضيوف، وما يستدعيه المستخدمون في دار الفطرة برسم فتح الخليج، وهي الجملتان الكبيرتان، فجميع ذلك لم يكن في هذه الخزائن محاسبته، ولا ذكر جملته، والمعاملة فيه مع مشارف الدار السعيدة، وأما: ما يطلق من هذا الصنف من هذه الخزائن في هذه الولائم، والأفراح، وإرسال الأنعام فهو شيء لم تتحقق أوقاته، ولا مبلغ استدعائه، أنهى المملوكان ذلك، والمجلس فضل السموّ، والقدرة فيما يأمر به إن شاء الله تعالى.(2/313)
دار التعبية
قال ابن المأمون: دار التعبية كانت في الأيام الأفضلية تشتمل على مبلغ يسير، فانتهى الأمر فيها إلى عشرة دنانير كل يوم خارجا عما هو موظف على البساتين السلطانية، وهو النرجس والنينوفران الأصفر، والأحمر، والنخل الموقوف برسم الخاص، وما يصل إليه من الفيوم، وثغر الإسكندرية، ومن جملتها تعبية للجهات، والخاص والسيدات، ولدار الوزارة، وتعبية المناظر في الركوبات إلى الجمع في شهر رمضان خارجا عن تعبية الحمامات، وما يحمل كل يوم من الزهرة، وبرسم خزانة الكسوة الخاص، وبرسم المائدة، وتفرقة الثمرة الصيفية في كل سنة على الجهات، والأمراء، والمستخدمين، والحواشي، والأصحاب، وما يحمل لدار الوزارة، والضيوف وحاشية دار الوزارة.
خزانة الأدم
قال: وأما الراتب من عند بركات الأدميّ، فإنه في كل شهر ثمانون زوجا أو طية من ذلك، برسم الخاص: ثلاثون زوجا، برسم الجهات: أربعون زوجا، برسم الوزارة: عشرة أزواج خارجا عن السباعيات، فإنها تستدعى من خزانة الكسوة، وفي كل موسم تكون مذهبة.
خزائن دار أفتكين «1»
قال ابن الطوير: وكانت لهم دار كبرى يسكنها: نصر الدولة أفتكين الذي رافق نزار بن المستنصر بالإسكندرية جعلوها: برسم الخزن، فقيل: خزائن دار أفتكين، وتحتوي على أصناف عديدة من الشمع المحمول من الإسكندرية وغيرها، وجميع القلوب المأكولة من الفستق وغيره، والأعسال على اختلاف أصنافها، والسكر، والقند، والشيرج، والزيت، فيخرج من هذه الخزائن بيد حاميها، وهو من الأستاذين المميزين ومشارفها، وهو من المعدّلين راتب المطابخ: خاصا وعامّا أو لأيام، ينفق منها للمستخدمين، ثم لأرباب التوقيعات من الجهات، وأرباب الرسوم في كل شهر من أرباب الرتب حتى لا يخرج عما يحتاجونه فيها إلا اللحم، والخضراوات، فهي أبدا معمورة بذلك انتهى. خبر نزار وأفتكين:
لما مات الخليفة المستنصر بالله أبو تميم معدّ بن الإمام الظاهر لإعزاز دين الله أبي الحسن عليّ بن الحاكم بأمر الله أبي عليّ منصور: في ليلة الخميس الثامن عشر من ذي الحجة سنة(2/314)
سبع وثمانين وأربعمائة، بادر الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجمالي إلى القصر، وأجلس: أبا القاسم أحمد بن المستنصر في منصب الخلافة، ولقبه: بالمستعلي بالله، وسير إلى الأمير نزار، والأمير عبد الله، والأمير إسماعيل: أولاد المستنصر فجاؤوا إليه، فإذا أخوهم أحمد، وهو أصغرهم قد جلس على سرير الخلافة، فامتعضوا لذلك، وشق عليهم.
وأمرهم الأفضل بتقبيل الأرض، وقال لهم: قبلوا الأرض لمولانا المستعلي بالله، وبايعوه فهو الذي نص عليه الإمام المستنصر قبل وفاته بالخلافة من بعده، فامتنعوا من ذلك، وقال كل منهم: إن أباه قد وعده بالخلافة، وقال نزار: لو قطعت ما بايعت من هو أصغر مني سنا، وخط والدي عندي بأني وليّ عهده، وأنا أحضره، وخرج مسرعا ليحضر الخط، فمضى لا يدري به أحد، وتوجه إلى الاسكندرية.
فلما أبطأ مجيئه بعث الأفضل إليه ليحضر بالخط، فلم يعلم له خبرا. فانزعج لذلك انزعاجا عظيما، وكانت نفرة نزار من الأفضل لأمور منها: أنه خرج يوما فإذا بالأفضل قد دخل من باب القصر، وهو راكب، فصاح به نزار: انزل يا أرمنيّ الجنس «1» ، فحقدها عليه، وصار كل منهما يكره الآخر، ومنها: أنّ الأفضل: كان يعارض نزارا في أيام أبيه، ويستخف به، ويضع من حواشيه، وأسبابه، ويبطش بغلمانه، فلما مات المستنصر خافه، لأنه كان رجلا كبيرا، وله حاشية، وأعوان، فقدّم لذلك أحمد بن المستنصر بعد ما اجتمع بالأمراء وخوّفهم من نزار، وما زال بهم حتى وافقوه على الإعراض عنه، وكان من جملتهم:
محمود بن مصال، فسير خفية إلى نزار، وأعلمه بما كان من اتفاق الأفضل مع الأمراء على إقامة أخيه أحمد، وإدارته لهم عنه، فاستعدّ إلى المسير إلى الاسكندرية هو وابن مصال، فلما فارق الأفضل، ليحضر إليه بخط أبيه، خرج من القصر متنكرا، وسار هو وابن مصال إلى الاسكندرية، وبها الأمير نصر الدولة أفتكين أحد مماليك أمير الجيوش بدر الجمالي، ودخلا عليه ليلا وأعلماه بما كان من الأفضل، وتراميا عليه، ووعده نزار بأن يجعله وزيرا مكان الأفضل، فقبلهما أتمّ قبول، وبايع نزارا، وأحضر أهل الثغر لمبايعته فبايعوه، ونعته بالمصطفى لدين الله، فبلغ ذلك الأفضل، فأخذ يتجهز لمحاربتهم وخرج في آخر المحرّم سنة ثمان وثمانين بعسكره، وسار إلى الاسكندرية، فبرز إليه نزار وأفتكين، وكانت بين الفريقين عدّة حروب شديدة انكسر فيها الأفضل، ورجع بمن معه منهزما إلى القاهرة، فقوي نزار وأفتكين، وصار إليهما كثير من العرب، واشتدّ أمر نزار، وعظم واستولى على بلاد الوجه البحريّ، وأخذ الأفضل يتجهز ثانيا إلى المسير لمحاربة نزار، ودس إلى أكابر العربان، ووجوه أصحاب نزار وأفتكين، وصاروا إلى الاسكندرية، فنزل الأفضل إليها، وحاصرها حصارا شديدا، وألحّ في مقاتلتهم، وبعث إلى أكابر أصحاب نزار، ووعدهم.(2/315)
فلما كان في ذي القعدة وقد اشتدّ البلاء من الحصار جمع ابن مصال ماله، وفرّ في البحر إلى جهة بلاد المغرب، ففت ذلك في عضد نزار وتبين فيه الانكسار، واشتدّ الأفضل، وتكاثرت جموعه، فبعث نزار وأفتكين إليه يطلبان الأمان منه، فأمنهما ودخل الاسكندرية، وقبض على نزار وأفتكين، وبعث بهما إلى القاهرة، فأما نزار: فإنه قتل في القصر بأن أقيم بين حائطين بنيا عليه فمات بينهما، وأما أفتكين، فإنه قتله الأفضل بعد قدومه، ودار أفتكين هذه كانت خارج القصر وموضعها الآن حيث مدرسة القاضي الفاضل، وآدره بدرب ملوخيا.
خزانة البنود «1»
البنود: هي الرايات والأعلام، ويشبه أن تكون هي التي يقال لها في زمننا: العصائب السلطانية، وكانت خزانة البنود ملاصقة للقصر الكبير، ومن حقوقه فيما بين قصر الشوك، وباب العيد بناها: الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله أبو هاشم عليّ بن الحاكم بأمر الله، وكان فيها ثلاثة آلاف صانع مبرزين في سائر الصنائع، وكانت أيام الظاهر هذا سكونا وطمأنينة، وكان مشتغلا بالأكل والشرب، والنزه، وسماع الأغاني.
وفي زمانه تأنق أهل مصر والقاهرة في اتخاذ الأغاني والرقاصات، وبلغ من ذلك المبالغ العجيبة، واتخذت له حجرة المماليك، وكانوا يعلمونهم فيها أنواع العلوم وأنواع آلة الحرب، وصنوف حيلها من الرماية، والمطاعنة، والمسابقة وغير ذلك.
وقال في كتاب الذخائر والتحف: ولما وهب السلطان يعني الخليفة المستنصر لسعد الدولة المعروف بسلام عليك ما في خزانة البنود من جميع المتاع والآلات، وغير ذلك في اليوم السادس من صفر سنة إحدى وستين وأربعمائة، حمل جميعه ليلا، وكان فيما وجد سعد الدولة فيها ألفا وتسعمائة درقة إلى ما سوى ذلك من آلات الحرب وما سواه، وغير ذلك من القضب الفضة والذهب والبنود، وما سواه، وفي خلال ذلك سقط من بعض الفرّاشين: مقط شمع موقد نارا، فصادف هناك أعدال كتان، ومتاعا كثيرا، فاحترق جميعه، وكانت لتلك غلبة عظيمة، وخوف شديد فيما يليها من القصر، ودور العامّة والأسواق.
وأعلمني من له خبرة بما كان في خزانة البنود أن مبلغ ما كان فيها من سائر الآلات، والأمتعة، والذخائر لا يعرف له قيمة عظما، وإنّ المنفق فيها كل سنة: من سبعين ألف دينار إلى ثمانين ألف دينار من وقت دخول القائد جوهر، وبناء القصر من سنة ثمان وخمسين(2/316)
وثلثمائة إلى هذا الوقت، وذلك زائد عن مائة سنة، وإنّ جميعه باق فيها على الأيام لم يتغير، وإنّ جميعه احترق حتى لم يبق منه باقية، ولا أثر، وإنه احترق في هذه الليلة من قربات النفط عشرات ألوف، ومن زراقات النفط أمثالها، فأما الدرق والسيوف والرماح والنشاب، فلا تحصى بوجه، ولا سبب مع ما فيها من قضب الفضة، وثيابها المذهبة وغيرها، والبنود المجملة، وسروج ولجم وثياب الفرحية المصبغات والبنادين، وغيرها بعد أن أخذوا ما قدروا عليه، حتى لواء الحمد «1» ، وسائر البنود، وجميع العلامات، والألوية.
وحدّثني من أثق به أيضا: أنه احترق فيها من السيوف عشرات ألوف، وما لا يحصى كثرة، وإن السلطان بعد ذلك بمدّة طويلة احتاج إلى إخراج شيء من السلاح لبعض مهماته، فأخرج من خزانة واحدة مما بقي وسلم خمسة عشر ألف سيف مجوهرة سوى غيرها.
حدّثني بجميعه الأجل: عظيم الدولة متولي الستر الشريف انتهى.
وجعلت خزانة البنود بعد هذا الحريق حبسا، وفيها يقول القاضي المهذب بن الزبير لما اعتقل بها، وكتب بها للكامل بن شاور:
أيا صاحبي سجن الخزانة خليا ... نسيم الصبا يرسل إلى كبدي نفحا
وقولا لضوء الصبح هل أنت عائد ... إلى نصري أم لا أرى بعدها صبحا
ولا تيأسا من رحمة الله أن أرى ... سريعا بفضل الكامل العفو والصفحا
وقال:
أيا صاحبي سجن الخزانة خليا ... من الصبح ما يبدو سناه لناظري
فو الله ما أدري أطرفي ساهر ... على طول هذا الليل أم غير ساهر
وما لي من أشكو إليه إذا كما ... سوى ملك الدنيا شجاع بن شاور
واستثمرت سجنا للأمراء، والوزراء، والأعيان إلى أن زالت الدولة، فاتخذها ملوك بني أيوب أيضا سجنا، تعتقل فيه الأمراء والمماليك.
ومن غريب ما وقع بها أن الوزير: أحمد بن عليّ الجرجرائي «2» : لما توفي طلب الوزارة: الحسن بن عليّ الأنباري: فأجيب إليها، فتعجل من سوء التدبير قبل تمامه ما فوّته مراده، وضيع ماله ونفسه، وذلك أنه كان قد نبغ في أيام الحاكم بأمر الله أخوان يهوديان:(2/317)
بتصرّف أحدهما في التجارة، والآخر في الصرف، وبيع ما يحمله التجار من العراق.
وهما: أبو سعد إبراهيم، وأبو نصر هارون ابنا سهل التستريّ، واشتهر من أمرهما في البيوع وإظهار ما يحصل عندهما من الودائع الخفية لمن يفقد من التجار في القرب والبعد، ما ينشأ به جميل الذكر في الآفاق، فاتسع حالهما لذلك، واستخدم الخليفة الظاهر لإعزار دين الله: أبا سعد إبراهيم بن سهل التستريّ في ابتياع ما يحتاج إليه من صنوف الأمتعة، وتقدّم عنده، فباع له جارية سوداء، فتحظى بها الظاهر، وأولدها: ابنه المستنصر، فرعت لأبي سعد ذلك، فلما أفضت الخلافة إلى المستنصر ولدها قدّمت: أبا سعد، وتخصصت به في خدمتها.
فلما مات الوزير الجرجرائي، وتكلم ابن الأنباري في الوزارة قصده أبو نصر أخو أبي سعد، فجبهه أحد أصحابه بكلام مؤلم، فظنّ أبو نصر أن الوزير ابن الأنباري إذا بلغه ذلك ينكر على غلامه، ويعتذر إليه، فجاء منه خلاف ما ظنه، وبلغه عنه أضعاف ما سمعه من الغلام، فشكا ذلك إلى أخيه أبي سعد، وأعلمه بأنّ الوزير متغير النية لهما، فلم يفتر أبو سعد عن ابن الأنباريّ، وأغرى به أمّ المستنصر مولاته، فتحدّثت مع ابنها الخليفة المستنصر في أمره حتى عزله عن الوزارة فسعى أبو سعد عند أمّ المستنصر: لأبي نصر صدقة بن يوسف الفلاحيّ في الوزارة، فاستوزره المستنصر، وتولى أبو سعد الإشراف عليه، وصار الوزير الفلاحيّ منقادا لأبي سعد تحت حكمه، وأخذ الفلاحي يعمل على ابن الأنباري ويغري به، ويصنع عليه ديونا، ويذكر عنه ما يوجب الغضب عليه، حتى تمّ له ما يريد، فقبض عليه، وخرّج عليه من الدواوين أموالا كثيرة، مما كان يتولاه قديما، وألزمه بحملها، ونوّع له أصناف العذاب، واستصفى أمواله، وهو معتقل بخزانة البنود، ثم قتله في يوم الاثنين الخامس من المحرّم سنة أربعين وأربعمائة بها، فاتفق أن الفلاحي لما صرف عن الوزارة، اعتقل بخزانة البنود حيث كان ابن الأنباري، قم قتل بها، وحفر له ليدفن، فظهر في الحفر رأس ابن الأنباري قبل أن يمضي فيه القتل، فقال لا إله إلّا الله: هذا رأس ابن الأنباري أنا قتلته، ودفنته ههنا وأنشد:
رب لحد قد صار لحدا مرارا ... ضاحكا من تزاحم الأضداد «1»
فقتل، ودفن في تلك الحفرة مع ابن الأنباري، فعدّ ذلك من غرائب الاتفاق.
ثم إن خزانة البنود جعلت منازل للأسرى من الفرنج المأسورين من البلاد الشامية أيام(2/318)
كانت محاربة المسلمين لهم، فأنزل بها الملك الناصر محمد بن قلاون: الأسارى بعد حضوره من الكرك، وأبطل السجن بها، فلم يزالوا فيها بأهاليهم، وأولادهم في أيام السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون، فصار لهم فيها أفعال قبيحة، وأمور منكرة شنيعة من التجاهر: ببيع الخمر، والتظاهر بالزنا واللياطة، وحماية من يدخل إليها من أرباب الديون، وأصحاب الجرائم وغيرهم، فلا يقدر أحد، ولو جلّ على أخذ من صار إليهم واحتمى بهم.
والسلطان يغضي عنهم لما يرى في ذلك من مراعاة المصلحة، والسياسة التي اقتضاها الحال من مهادنة ملوك الفرنج، وكان يسكن بالقرب منها الأمير الحاج آل ملك الجوكندار، ويبلغه ما يفعله الفرنج من العظائم الشنيعة، فلا يقدر على منعهم، وفحش أمرهم، فرفع الخبر إلى السلطان، وأكثر من شكايتهم غير مرّة والسلطان يتغافل عن ذلك إلى أن كثرت مفاوضة الحاج آل ملك للسلطان في أمرهم، فقال له السلطان: أتنقل أنت عنهم يا أمير؟
فلم يسعه إلّا الإعراض عن ذلك، وعمّر داره التي بالحسينية، والإصطبل، والجامع المعروف: بآل ملك والحمام والفندق، وانتقل من داره التي كان فيها بجوار خزانة البنود، وسكن بالحسينية إلى أن مات السلطان الملك الناصر في أخريات سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، وتنقل الملك في أولاده إلى أن جلس الملك الصالح عماد الدين إسماعيل ابن الملك الناصر محمد بن قلاون، وضرب شورى على من يكون نائب السلطنة بالديار المصرية يدبر أحوال المملكة، كما كانت العادة في ذلك مدّة الدلة التركية، فأشير بتولية الأمير: بدر الدين جنكل بن البابا، فتنصل من ذلك، وأبى قبوله، فعرضت النيابة على الأمير الحاج آل مالك فاستبشر وقال: لي شروط أشرطها على السلطان، فإن أجابني إليها فعلت ما يرسم به.
وهي أن لا يفعل شيء في المملكة إلا برأيي، وأن يمنع الناس من شرب الخمر، ويقام منار الشرع، ولا يعترض على أمر من الأمور، فأجيب إلى ما سأل، وأحضرت التشاريف، فأفيضت عليه بالجامع من قلعة الجبل في يوم الجمعة الثاني عشر من المحرّم سنة أربع وأربعين وسبعمائة، وأصبح يوم السبت جالسا في دار النيابة من القلعة، وحكم بين الناس، وأوّل ما بدأ به: أن أمر والي القاهرة بالنزول إلى خزانة البنود، وأن يحتاط على جميع ما فيها من الخمر والفواحش، ويخرج الأسرى منها، ويهدمها حتى يجعلها دكا، ويسوّي بها الأرض، فنزل إليها ومعه الحاجب في عدّة وافرة، وهجموا على من فيها، وهم آمنون، وأحاطوا بسائر ما تشتمل عليه، وقد اجتمع من العامّة والغوغاء، ما لا يقع عليه حصر، فأراقوا منها خمورا كثيرة تتجاوز الحدّ في الكثرة، وأخرج من كان فيها من النساء البغايا، وغيرهنّ من الشباب، وأرباب الفساد، وقبض على الفرنج والأرمن، وهدمها حتى(2/319)
لم يبق لها أثر، ونودي في الناس، فحكروها وبنوا فيها الدور والطواحين على ما هي علي الآن، وأمر بالأسرى، فأنزلوا بالقرب من المشهد النفيسيّ، بجوار كيمان مصرفهم هناك إلى الآن، وأنزل من كان منهم أيضا بقلعة الجبل، فأسكنوا معهم وطهر الله تلك الأرض منهم، وأراح العباد من شرّهم، فإنها كانت شرّ بقعة من بقاع الأرض يباع فيها لحم الخنزير على الوضم، كما يباع لحم الضأن، ويعصر فيها من الخمور في كل سنة ما لا يستطيع أحد حصره، حتى يقال: إنه كان يعصر بها في كل سنة: اثنان وثلاثون ألف جرّة خمر، ويباع فيها الخمر نحو: اثني عشر رطلا بدرهم إلى غير ذلك من سائر أنواع الفسوق.
دار الفطرة «1»
قال ابن الطوير: دار الفطرة خارج القصر، بناها: العزيز بالله، وهو أوّل من بناها، وقرّر فيها ما يعمل مما يحمل إلى الناس في العيد، وهي قبالة باب الديلم من القصر الذي يدخل منه إلى المشهد الحسينيّ، ويكون مبدأ الاستعمال فيها، وتحصيل جميع أصنافها من السكر والعسل، والقلوب، والزعفران، والطيب، والدقيق لاستقبال النصف الثاني من شهر رجب كل سنة ليلا ونهارا، من الخشكنانج والبسندود، وأصناف الفانيذ الذي يقال له:
كعب الغزال، والبرماورد، والفستق، وهو شوابير مثال الصنج، والمستخدمون يرفعون ذلك إلى أماكن وسيعة مصونة فيحصل منه في الحاصل شيء عظيم هائل، بيد مائة صانع للعلاويين مقدّم، وللخشكانيين آخر، ثم يندب لها مائة فرّاش لحمل طيافير للتفرقة على أرباب الرسوم خارجا عمن هو مرتب لخدمتها من الفرّاشين الذين يحفظون رسومها ومواعينها الحاصلة بالدائم، وعدّتهم: خمسة فيحضر إليها الخليفة، والوزير معه، ولا يصحبه في غيرها من الخزائن لأنها خارج القصر، وكلها للتفرقة فيجلس على سريره بها، ويجلس الوزير على كرسي ملين على عادته في النصف الثاني من شهر رمضان، ويدخل معه قوم من الخواص، ثم يشاهد ما فيها من تلك الحواصل المعمولة المعباة مثل الجبال من كل صنف، فيفرّقها من ربع قنطار إلى عشرة أرطال إلى رطل واحد، وهو أقلها.
ثم ينصرف الخليفة والوزير بعد أن ينعم على مستخدميها بستين دينارا، ثم يحضر إلى حاميها ومشارفها الأدعية «2» المعمولة المخرجة من دفتر المجلس، كل دعو لتفريق فريق من خاص، وغيره حتى لا يبقى أحد من أرباب الرسوم إلّا واسمه وارد في دعو من تلك الأدعية، ويندب صاحب الديوان الكتاب المسلمين في الديوان، فيسيرهم إلى مستخدميها، فيسلم كل كاتب دعوا أو دعوين أو ثلاثة على كثرة ما يحتويه وقلته، ويؤمر بالتفرقة من ذلك(2/320)
اليوم، فيقدمون أبدا مائتي طيفور من العالي والوسط والدون، فيحملها الفرّاشون برقاع من كتاب الأدعية باسم صاحب ذلك الطيفور علا، أو دنا، وينزل اسم الفرّاش بالدعو، أو عريفه حتى لا يضيع منها شيء، ولا يختلط، ولا يزال الفرّاشون يخرجون بالطيافير ملأى ويدخلون بها فارغة، فبمقدار ما تحمل المائة الأولى عبيت المائة الثانية، فلا يفتر ذلك طول التفرقة، فأجل الطيافير ما عدد خشكنانه مائة حبة، ثم إلى سبعين وخمسين، ويكون على صاحب المائة طرحة فوق قوّارته، ثم إلى خمسين ثم إلى ثلاث وثلاثين، ثم إلى خمس وعشرين، ثم إلى عشرين، ونسبة منثور كل واحد على عدد خشكنانه، ثم العبيد السودان بغير طيافير، كل طائفة يتسلمه لها عرفاؤها في أفراد الخواص، لكل طائفة على مقدارها الثلاثة الأفراد والخمسة والسبعة إلى العشرة فلا يزالون كذلك إلى أن ينقضي شهر رمضان، ولا يفوت أحدا شيء من ذلك ويتهاداه الناس في جميع الإقليم.
قال: وما ينفق في دار الفطرة فيما يفرّق على الناس منها: سبعة آلاف دينار. وقال ابن عبد الظاهر: دار الفطرة بالقاهرة قبالة مشهد الإمام الحسين عليه السلام، وهي الفندق الذي بناه الأمير سيف الدين بهادر الآن في سنة: ست وخمسين وستمائة، أوّل من رتبها الإمام العزيز بالله، وهو أوّل من سنّها، وكانت الفطرة قبل أن ينتقل الأفضل إلى مصر تعمل بالإيوان، وتفرّق منه، وعند ما تحوّل إلى مصر نقل الدواوين من القصر إليها، واستجدّ لها مكانا قبالة دار الملك بإيواني المكاتبات، والانشاء، فإنهما كانا بقرب الدار ويتوصل إليهما من القاعة الكبرى التي فيها جلوسه، ثم استجدّ للفطرة دارا عملت بعد ذلك وراقة، وهي الآن دار الأمير عز الدين الأفرم بمصر قبالة: دار الوكالة، وعملت بها الفطرة مدّة، وفرّق منها إلّا ما يخص الخليفة والجهات والسيدات والمستخدمات، والأستاذين، فإنه كان يعمل بالإيوان على العادة.
ولما توفي الأفضل، وعادت الدواوين إلى مواضعها أنهى: خاصة الدولة ريحان، وكان يتولى بيت المال، إنّ المكان بالإيان يضيق بالفطرة، فأمره المأمون أن يجمع المهندسين، ويقطع قطعة من اصطبل الطارمة، يبنيه دار الفطرة، فأنشأ الدار المذكورة قبالة مشهد الحسين، والباب الذي بمشهد الحسين يعرف: بباب الديلم، وصار يعمل بها ما استجدّ من رسوم المواليد والوقودات، وعقد لها جملتان إحداهما: وجدت فسطرت، وهي عشرة آلاف دينار خارجا عن جواري المستخدمين، والجملة الثانية: فصلت فيها الأصناف، وشرحها: دقيق ألف حملة، سكر: سبعمائة قنطار، قلب فستق: ستة قناطير، قلب لوز:
ثمانية قناطير، قلب بندق: أربعة قناطير، تمر: أربعمائة إردب، زبيب: ثلثمائة أردب، خل: ثلاثة قناطير، عسل نحل: خمسة عشر قنطارا، شيرج: مائتا قنطار، حطب: ألف ومائتا حملة، سمسم أردبان، آنيسون أردبان، زيت طيب برسم الوقود ثلاثون قنطارا، ماء ورد خمسون رطلا، مسك خمس نوافج، كافور قديم عشرة مثاقيل، زعفران مطحون مائة(2/321)
وخمسون درهما، وبيد الوكيل برسم المواعين والبيض والسقائين، وغير ذلك من المؤن على ما يحاسب به، وبرفع المحازيم خمسمائة دينار.
ووجدت بخط ابن ساكن قال: كان المرتب في دار الفطرة، ولها ما يذكر، وهو زيت طيب برسم القناديل خمسة عشر قنطارا: مقاطع سكندري برسم القوارات: ثلثمائة مقطع، طيافير جدد: برسم السماط ثلثمائة طيفور، شمع برسم السماط، وتوديع الأمراء ثلاثون قنطارا، أجرة الصناع ثلثمائة دينار، جاري الحامي: مائة وعشرون دينارا، جاري العامل، والمشارف مائة وثمانون دينارا، وشقة ديبقيّ، بياض حريري، ومنديل ديبقي كبير حيري، وشقة سقلاطون أندلسي يلبسها قدّام الفطرة يوم حملها ليفرّق طيافير الفطرة على الأمراء، وأرباب الرسومات، وعلى طبقات الناس حتى يعمّ الكبير والصغير، والضعيف والقوي، ويبدأ بها من أوّل رجب إلى آخر رمضان.
ذكر ما اختص من صفة الطيافير: الأعلى منها: طيفور فيه مائة حبة خشكنانج وزنها مائة رطل، وخمسة عشر قطعة حلاوة زنتها مائة رطل، سكر سليمانيّ، وغيره عشرة أرطال، قلوبات ستة أرطال، بسندود عشرون حبة، كعك وزبيب وتمر قنطار، جملة الطيفور ثلاثة قناطير وثلث إلى ما دون ذلك على قدر الطبقات إلى عشر حبات.
وقال ابن أبي طيّ: وعمل المعز لدين الله دارا سماها: دار الفطرة، فكان يعمل فيها من الخشكنانج، والحلواء، والبسندود، والفانيذ، والكعك والتمر والبندق شيء كثير من أوّل رجب إلى نصف رمضان، فيفرّق جميع ذلك في جميع الناس الخاص والعام على قدر منازلهم في أوان لا تستعاد، وكان قبل ليلة العيد يفرّق على الأمراء الخيول بالمراكب الذهب، والخلع النفيسة، والطراز الذهب، والثياب برسم النساء.
المشهد الحسينيّ
قال الفاضل محمد بن عليّ بن يوسف بن ميسر: وفي شعبان سنة إحدى وتسعين وأربعمائة، خرج الأفضل بن أمير الجيوش بعساكر جمة إلى بيت المقدس، وبه: سكان وابلغازي ابنا ارتق في جماعة من أقاربهما، ورجالهما وعساكر كثيرة من الأتراك، فراسلهما الأفضل يلتمس منهما تسليم القدس إليه بغير حرب، فلم يجيباه لذلك، فقاتل البلد، ونصب عليها المجانيق، وهدم منها جانبا، فلم يجدا بدّا من الإذعان له، وسلّماه إليه، فخلع عليهما، وأطلقهما، وعاد في عساكره، وقد ملك القدس، فدخل عسقلان.
وكان بها مكان دارس فيه رأس الحسين بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما فأخرجه وعطره، وحمله في سفط إلى أجلّ دار بها، وعمّر المشهد، فلما تكامل، حمل الأفضل الرأس الشريف على صدره وسعى به ماشيا إلى أن أحله في مقرّه، وقيل: إنّ المشهد(2/322)
بعسقلان بناه: أمير الجيوش بدر الجماليّ، وكمله ابنه الأفضل وكان حمل الرأس إلى القاهرة من عسقلان، ووصوله إليها في يوم الأحد ثامن جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، وكان الذي وصل بالرأس من عسقلان: الأمير سيف المملكة تميم واليها كان، والقاضي المؤتمن بن مسكين مشارفها، وحصل في القصر يوم الثلاثاء العاشر من جمادى الآخرة المذكور.
ويذكر أنّ هذا الرأس الشريف لما أخرج من المشهد بعسقلان وجد دمه لم يجف، وله ريح كريح المسك، فقدم به الأستاذ مكنون في عشاري «1» من عشاريات الخدمة، وأنزل به إلى الكافوري، ثم حمل في السرداب إلى قصر الزمرّذ، ثم دفن عند قبة الديلم بباب دهليز الخدمة، فكان كل من يدخل الخدمة يقبل الأرض أمام القبر، وكانوا ينحرون في يوم عاشوراء عند القبر الإبل والبقر والغنم، ويكثرون النوح والبكاء، ويسبون من قتل الحسين، ولم يزالوا على ذلك حتى زالت دولتهم.
وقال ابن عبد الظاهر: مشهد الإمام الحسين صلوات الله عليه، قد ذكرنا أن طلائع بن رزيك المنعوت بالصالح، كان قد قصد نقل الرأس الشريف من عسقلان لما خاف عليها من الفرنج، وبنى جامعه خارج باب زويلة ليدفنه به، ويفوز بهذا الفخار، فغلبه أهل القصر على ذلك، وقالوا: لا يكون ذلك إلّا عندنا، فعمدوا إلى هذا المكان، وبنوه له، ونقلوا الرخام إليه، وذلك في خلافة الفائز على يد طلائع في سنة تسع وأربعين وخمسمائة.
وسمعت من يحكي حكاية يستدل بها على بعض شرف هذا الرأس الكريم المبارك، وهي أن السلطان الملك الناصر رحمه الله، لما أخذ هذا القصر وشى إليه بخادم له قدر في الدولة المصرية، وكان زمام القصر، وقيل له: إنه يعرف الأموال التي بالقصر والدفائن، فأخذ وسئل، فلم يجب بشيء، وتجاهل، فأمر صلاح الدين نوّابه بتعذيبه، فأخذه متولي العقوبة، وجعل على رأسه خنافس وشدّ عليها قرمزية، وقيل: إن هذه أشدّ العقوبات، وإنّ الإنسان لا يطيق الصبر عليها ساعة إلّا تنقب دماغه وتقتله ففعل ذلك به مرارا، وهو لا يتأوّه، وتوجد الخنافس ميتة، فعجب من ذلك، وأحضره، وقال له: هذا سرّ فيك، ولا بدّ أن تعرّفني به؟ فقال: والله ما سبب هذا إلا أني لما وصلت رأس الإمام الحسين حماتها، قال: وأيّ سرّ أعظم من هذا وراجع في شأنه فعفا عنه.
ولما ملك السلطان الملك الناصر جعل به حلقة تدريس وفقهاء، وفوّضها للفقيه البهاء الدمشقيّ، وكان يجلس للتدريس عند المحراب الذي الضريح خلفه، فلما وزر معين الدين(2/323)
حسين بن شيخ الشيوخ بن حمويه، وردّ إليه أمر هذا المشهد بعد إخوته، جمع من أوقاته ما بنى به إيوان التدريس الآن، وبيوت الفقهاء العلوية خاصة، واحترق هذا المشهد في الأيام الصالحية في سنة بضع وأربعين وستمائة، وكان الأمير جمال الدين بن يعمور نائبا عن الملك الصالح في القاهرة، وسببه أن أحد خزان الشمع دخل ليأخذ شيئا، فسقطت منه شعلة، فوقف الأمير جمال الدين المذكور بنفسه حتى طفىء وأنشدته حينئذ فقلت:
قالوا تعصب للحسين ولم يزل ... بالنفس للهول المخوف معرّضا
حتى انضوى ضوء الحرق وأصبح ال ... مسودّ من تلك المخاوف أبيضا
أرضى الإله بما أتى فكأنه ... بين الأنام بفعله موسى الرضى
قال: ولحفظة الآثار، وأصحاب الحديث، ونقلة الأخبار ما إذا طولع وقف منه على المسطور، وعلم منه ما هو غير المشهور، وإنما هذه البركات مشاهدة مرئية، وهي بصحة الدعوى ملية، والعمل بالنية.
وقال في كتاب الدر النظيم في أوصاف القاضي الفاضل عبد الرحيم، ومن جملة مبانيه الميضأة قريب مشهد الإمام الحسين بالقاهرة والمسجد والساقية، ووقف عليها أراضي قريب الخندق في ظاهر القاهرة، ووقفها دارّ جار، والانتفاع بهذه المثوبة عظيم، ولما هدم المكان الذي بنى موضعه مئذنة وجد فيه شيء من طلسم لم يعلم لأيّ شيء هو، فيه اسم الظاهر بن الحاكم، واسم أمّه رصد.
خبر الحسين: هو الحسين بن عليّ بن أبي طالب، واسمه عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصيّ، أبو عبد الله، وأمّه فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولد لخمس خلون من شعبان سنة أربع، وقيل: سنة ثلاث، وعق عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم سابعه بكبش، وحلق رأسه، وأمر أن يتصدّق بزنته فضة، وقال: أروني ابني ما سميتموه؟ فقال عليّ بن أبي طالب: حربا، فقال: بل هو حسين وكان أشبه الناس بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم ما كان أسفل من صدره، وكان فاضلا دينا كثير الصوم والصلاة والحج، وقتل يوم الجمعة لعشر خلون من المحرّم يوم عاشوراء، سنة إحدى وستين من الهجرة بموضع يقال له: كربلاء من أرض العراق بناحية الكوفة، ويعرف الموضع أيضا: بالطف، قتله سنان بن أنس اليحصبي «1» ، وقيل: قتله رجل من مذحج، وقيل: قتله شمر بن ذي الجوشن، وكان أبرص، وأجهز عليه خولي بن يزيد الأصبحيّ من حمير، حزّ رأسه، وأتى عبيد الله بن زياد، وقال:
أوقر ركابي فضة وذهبا ... إني قتلت الملك المحجبا(2/324)
قتلت خير الناس أمّا وأبا ... وخيرهم إذ ينسبون نسبا
وقيل: قتله عمرو بن سعد بن أبي وقاص، وكان الأمير على الخيل التي أخرجها عبيد الله بن زياد إلى قتل الحسين، وأمّر عليهم: عمرو بن سعد، ووعده أن يوليه الريّ إن ظفر بالحسين وقتله.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: رأيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيما يرى النائم نصف النهار، وهو قائم أشعث أغبر بيده قارورة فيها دم، فقلت: بأبي أنت وأمي ما هذا؟ قال: هذا دم الحسين لم أزل ألتقطه منذ اليوم، فوجدته قد قتل في ذلك اليوم، وهذا البيت زعموا قديما لا يدرى قائله:
أترجو أمّه قتلت حسينا ... شفاعة جدّه يوم الحساب
وقتل مع الحسين: سبعة عشر رجلا كلهم من ولد فاطمة، وقد قتل معه من أهل بيته، وإخوته ثلاثة وعشرون رجلا. وكان سبب قتله أنه لما مات معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه في سنة ستين، وردت بيعة اليزيد على الوليد بن عقبة بالمدينة، ليأخذ البيعة على أهلها، فأرسل إلى الحسين بن عليّ، وإلى عبد الله بن الزبير ليلا فأتى بهما، فقال: بايعا، فقالا:
مثلنا لا يبايع سرّا، ولكنا نبايع على رؤوس الناس إذا أصبحنا، فرجعا إلى بيوتهما، وخرجا من ليلهما إلى مكة، وذلك ليلة الأحد لليلتين بقيتا من رجب، فأقام الحسين بمكة شعبان ورمضان وشوّالا وذو القعدة، وخرج يوم التروية يريد الكوفة، وبكتب أهل العراق.
فلما بلغ عبيد الله بن زياد مسير الحسين من مكة بعث الحصين بن تميم «1» التميمي صاحب شرطته، فنزل القادسية، ونظم الخيل ما بينها، وبين جبل لعلع، فبلغ الحسين الحاجز له عن البلاد فكتب إلى أهل الكوفة، يعرّفهم بقدومه مع قيس بن مسهر، فظفر به الحصين، وبعث به إلى ابن زياد فقتله، وأقبل الحسين يسير نحو الكوفة، فأتاه خبر قتل مسلم بن عقيل، وخبر قتل أخيه من الرضاعة «2» ، فقام حتى أعلم الناس بذلك وقال: قد خذلنا شيعتنا، فمن أحب أن يتصرف، فليتصرف، فليس عليه ذمام منا فتفرّقوا، حتى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من مكة وسار، فأدركته الخيل، وهم ألف فارس مع الحرّ بن يزيد التميميّ.
ونزل الحسين، فوقفوا تجاهه وذلك في نحر الظهيرة، فسقى الحسين الخيل، وحضرت صلاة الظهر، فأذن مؤذنه وخرج، فحمد الله، وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إنها(2/325)
معذرة إلى الله، وإليكم إني لم آتكم، حتى أتتني كتبكم ورسلكم، أن أقدم علينا، فليس لنا إمام، لعل الله أن يجمعنا بك على الهدى، وقد جئتكم، فإن تعطوني ما أطمئنّ إليه من عهودكم أقدم مصركم، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين، انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه فسكتوا، وقال للمؤذن: أقم، فأقام وقال الحسين للحرّ: أتريد أن تصلي أنت بأصحابك؟ قال: بل صلّ أنت، ونصلي بصلاتك، فصلى بهم، ودخل فاجتمع إليه أصحابه وانصرف الحرّ إلى مكانه، ثم صلى بهم العصر، واستقبلهم فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: يا أيها الناس إنكم إن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم السائرين فيكم بالجور والعدوان، فإن أنتم كرهتمونا، وجهلتم حقنا، وكان رأيكم غير ما أتتني به كتبكم انصرفت عنكم، فقال الحرّ: إنا والله ما ندري ما هذه الكتب والرسل التي تذكر، فأخرج خرجين مملوءين صحفا، فنشرها بين أيديهم، فقال الحرّ: إنا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، وقد أمرنا إذا نحن لقيناك أن لا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على عبيد الله بن زياد، فقال الحسين: الموت أدنى إليك من ذلك، ثم أمر أصحابه لينصرفوا فركبوا، فمنعهم الحرّ من ذلك، فقال له الحسين: ثكلتك أمّك ما تريد، فقال له: والله لو كان غيرك من العرب يقولها، ما تركت ذكر أمّه بالثكل كائنا من كان، والله ما لي إلى ذكر أمّك من سبيل إلّا بأحسن ما نقدر عليه، فقال له الحسين: ما تريد؟ قال: أريد أن أنطلق بك إلى ابن زيادة، وترادّ الكلام، فقال له الحرّ:
إني لم أومر بقتالك، وإنما أمرت أن لا أفارقك حتى أدخلك الكوفة، فخذ طريقا لا تدخلك الكوفة، ولا تزول إلى المدينة، حتى أكتب إلى ابن زياد، وتكتب أنت إلى يزيد، أو إلى ابن زياد، فلعل الله أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلي بشيء من أمرك، فتياسر عن طريق العذيب والقادسية، والحرّ يسايره.
فلما كان يوم الجمعة الثالث من المحرّم سنة إحدى وستين، قدم عمرو بن سعد بن أبي وقاص من الكوفة في أربعة آلاف، وبعث إلى الحسين رسولا يسأله ما الذي جاء به، فقال: كتب إليّ أهل مصر كم هذا أن أقدم عليهم، فإذا كرهوني، فأنا أنصرف عنهم، فكتب عمرو إلى ابن زياد يعرّفه ذلك، فكتب إليه أن يعرض على الحسين بيعة يزيد، فإن فعل رأينا فيه رأينا، وإلّا نمنعه، ومن معه الماء، فأرسل عمرو بن سعد خمسمائة فارس، فنزلوا على الشريعة، وحالوا بين الحسين، وبين الماء، وذلك قبل قتله بثلاثة أيام، ونادى مناد:
يا حسين ألا تنظر الماء لا ترى منه قطرة حتى تموت عطشا، ثم التقى الحسين بعمرو بن سعد مرارا، فكتب عمرو بن سعد إلى عبيد الله بن زياد: أما بعد، فإنّ الله قد أطفأ الثائرة، وجمع الكلمة، وقد أعطاني الحسين أن يرجع إلى المكان الذي أتى منه، أو أن تسيره إلى أيّ ثغر من الثغور شاء، أو أن يأتي يزيد أمير المؤمنين، فيضع يده في يده، وفي هذا الكم رضى، وللأمّة صلاح.(2/326)
فقال ابن زياد لشمر بن ذي الجوشن: اخرج بهذا الكتاب إلى عمرو فليعرض على الحسين وأصحابه النزول على حكمي، فإن فعلوا فليبعث بهم، وإن أبوا، فليقاتلهم، فإن فعل فاسمع له، وأطع وإن أبى فأنت الأمير عليه، وعلى الناس، واضرب عنقه وابعث إليّ برأسه.
وكتب إلى عمرو بن سعد: أمّا بعد، فإني لم أبعثك إلى الحسين لتكف عنه، ولا لتنميه، ولا لتطاوله ولا لتقعد له عندي شافعا أنظر، فإنّ نزل حسين وأصحابه على الحكم، واستسلموا فابعث بهم إليّ سلما، وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم، وتمثل بهم، فإنهم لذلك مستحقون، فإن قتل الحسين، فأوطىء الخيل صدره وظهره، فإنه عاق شاق قاطع ظلوم، فإن أنت مضيت لأمرنا جزيناك جزاء السامع المطيع، وإن أنت أبيت، فاعتزل جندنا، وخل بين شمر وبين العسكر والسلام.
فلما أتاه الكتاب ركب والناس معه بعد العصر، فأرسل إليهم الحسين: ما لكم؟
فقالوا: جاء أمر الأمير بكذا، فاستمهلهم إلى غدوة، فلما أمسوا، قام الحسين ومن معه الليل كله يصلون ويستغفرون ويدعون ويتضرّعون، فلما صلى عمرو بن سعد الغداة يوم السبت، وقيل: يوم الجمعة يوم عاشوراء، خرج فيمن معه، وعبىء الحسين أصحابه، وكان معه اثنان وثلاثون فارسا، وأربعون راجلا، وركب ومعه مصحف بين يديه وضعه أمامه، واقتتل أصحابه بين يديه، وأخذ عمرو بن سعد سهما، فرمى به، وقال: اشهدوا أنّي أوّل من رمى الناس، وحمل أصحابه فصرعوا رجالا، وأحاطوا بالحسين من كل جانب، وهم يقاتلون قتالا شديدا، حتى انتصف النهار، ولا يقدرون يأتونهم إلّا من وجه واحد، وحمل شمر حتى بلغ فسطاط الحسين، وحضر وقت الصلاة، فسأل الحسين أن يكفوا عن القتال حتى يصلي، ففعلوا، ثم اقتتلوا بعد الظهر أشدّ قتال، ووصل إلى الحسين، وقد صرعت أصحابه، ومكث طويلا من النهار، كلما انتهى إليه رجل من الناس رجع عنه، وكره أن يتولى قتله.
فأقبل عليه رجل من كندة يقال له: مالك فضربه على رأسه بالسيف، قطع البرنس وأدماه، فأخذ الحسين دمه بيده، فصبه في الأرض ثم قال: اللهمّ إن كنت حبست عنا النصر من السماء، فاجعل ذلك لما هو خير وانتقم من هؤلاء الظالمين، واشتدّ عطشه، فدنا ليشرب فرماه حصين بن تميم بسهم، فوقع في فمه، فتلقى الدم بيده، ورمى به إلى السماء، ثم قال بعد حمد الله والثناء عليه: اللهمّ إني أشكو إليك ما يصنع بابن بنت نبيك، اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا، ولا تبقى منهم أحدا، فأقبل شمر في نحو عشرة إلى منزل الحسين، وحالوا بينه وبين رحله، وأقدم عليه وهو يحمل عليهم، وقد بقي في ثلاثة، ومكث طويلا من النهار ولو شاءوا أن يقتلوه لقتلوه، ولكنهم كان يتقي(2/327)
بعضهم ببعض، ويحب هؤلاء أن يكفيهم هؤلاء.
فنادى شمر في الناس: ويحكم؟ ما تنتظرون بالرجل اقتلوه ثكلتكم أمّكم! فحملوا عليه من كل جانب، فضرب زرعة بن شريك التميمي كفه الأيسر، وضرب عاتقه، وهو يقوم ويكبو، فحمل عليه في تلك الحال سنان بن أنس النخعيّ، فطعنه بالرمح، فوقع وقال لخولي بن يزيد الأصبحيّ: احتز رأسه، فأرعد وضعف، فنزل عليه، وذبحه، وأخذ رأسه، فدفعه إلى خولي، وسلب الحسين ما كان عليه حتى سراويله، ومال الناس، فانتهبوا ثقله ومتاعه، وما على النساء.
ووجد بالحسين: ثلاث وثلاثون طعنة، وأربع وأربعون ضربة، ونادى عمرو بن سعد في أصحابه: من ينتدب للحسين فيوطئه فرسه، فانتدى عشر فداسوا الحسين بخيولهم، حتى رضوا ظهره وصدره، وكان عدّة من قتل معه: اثنين وسبعين رجلا، ومن أصحاب عمرو بن سعد: ثمانية وثمانين رجلا غير الجرحى، ودفن أهل الغاضرية من بني أسد الحسين بعد قتله بيوم وبعد أن أخذ عمرو بن سعد رأسه، ورؤوس أصحابه وبعث بها إلى ابن زياد، فأحضر الرءوس بين يديه، وجعل ينكث بقضيب ثنايا الحسين، وزيد بن أرقم حاضر، وأقام ابن سعد بعد قتل الحسين يومين، ثم رحل إلى الكوفة، ومعه ثياب الحسين وإخوانه، ومن كان معه من الصبيان، وعليّ بن الحسين مريض، فأدخلهم على زياد، ولما مرّت زينب بالحسين صريعا صاحت: يا محمداه هذا حسين بالعراء! مزمل بالدماء! مقطع الأعضاء! يا محمد بناتك سبايا، وذريتك مقتلة فأبكت كل عدوّ وصديق، وطيف برأسه بالكوفة على خشبة، ثم أرسل بها إلى يزيد بن معاوية، وأرسل النساء والصبيان، وفي عنق عليّ بن الحسين ويديه الغل، وحملوا على الأقتاب، فدخل بعض بني أمة على يزيد، فقال: أبشر يا أمير المؤمنين، فقد أمكنك الله من عدوّ الله، وعدوّك قد قتل، ووجه برأسه إليك، فلم يلبث إلّا أياما حتى جيء برأس الحسين، فوضع بين يدي يزيد في طشت، فأمر الغلام فرفع الثوب الذي كان عليه، فحين رآه خمر وجهه بكمه كأنه شمّ منه رائحة، وقال: الحمد لله الذي كفانا المؤنة بغير مؤنة، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأ الله، قالت ريّا حاضنة يزيد، فدنوت منه، فنظرت إليه وبه ردغ من حناء، والذي أذهب نفسه، وهو قادر على أن يغفر له، لقد رأيته يقرع ثناياه بقضيب في يده، ويقول أبياتا من شعر ابن الزبعري، ومكث الرأس مصلوبا بدمشق ثلاثة أيام، ثم أنزل في خزائن السلاح، حتى ولي سليمان بن عبد الملك الملك، فبعث إليه، فجيء به، وقد محل، وبقي عظما أبيض، فجعله في سفط، وطيبه وجعل عليه ثوبا، ودفنه في مقابر المسلمين.
فلما ولي عمر بن عبد العزيز بعث إلى خازن بيت السلاح أن وجه إليّ برأس الحسين ابن عليّ، فكتب إليه: إنّ سليمان أخذه وجعله في سفط، وصلى عليه، ودفنه، فلما دخلت(2/328)
المسودّة سألوا عن موضع الرأس الكريمة الشريفة، فنبشوه وأخذوه، والله أعلم ما صنع به.
وقال السريّ: لما قتل الحسين بن عليّ بكت السماء عليه، وبكاؤها حمرتها، وعن عطاء في قوله تعالى: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ
[الدخان/ 29] قال: بكاؤها حمرة أطرافها. وعن عليّ بن مسهر قال: حدّثتني جدّتي قالت: كنت أيام الحسين جارية شابة، فكانت السماء أياما كأنها علقة. وعن الزهري بلغني: أنه لم يقلب حجر من أحجار بيت المقدس يوم قتل الحسين إلّا وجد تحته دم عبيط.
ويقال: إنّ الدنيا أظلمت يوم قتل ثلاثا، ولم يمس أحد من زعفرانهم شيئا، فجعله على وجهه إلّا احترق وأنهم أصابوا إبلا في عسكر الحسين يوم قتل، فنحروها وطبخوها فصارت مثل العلقم، فما استطاعوا أن يسيغوا منها شيئا، وروي: أن السماء أمطرت دما، فأصبح كل شيء لهم ملآن دما.
ما كان يعمل في يوم عاشوراء
قال ابن زولاق في كتاب سيرة المعز لدين الله في يوم عاشوراء من سنة ثلاث وستين وثلثمائة، انصرف خلق من الشيعة، وأشياعهم إلى المشهدين: قبر كلثوم ونفيسة، ومعهم جماعة من فرسان المغاربة، ورجالتهم بالنياحة والبكاء على الحسين عليه السلام، وكسروا أواني السقائين في الأسواق، وشققوا الروايا، وسبوا من ينفق في هذا اليوم، ونزلوا حتى بلغوا مسجد الريح، وثارت عليهم جماعة من رعية أسفل، فخرج أبو محمد الحسين بن عمار، وكان يسكن هناك في دار محمد بن أبي بكر، وأغلق الدرب، ومنع الفريقين، ورجع الجميع، فحسن موقع ذلك عند المعز، ولولا ذلك لعظمت الفتنة، لأنّ الناس قد غلقوا الدكاكين وأبواب الدور، وعطلوا الأسواق، وإنما قويت أنفس الشيعة بكون المعز بمصر، وقد كانت مصر لا تخلو منهم في أيام الإخشيدية، والكافورية في يوم عاشوراء عند قبر كلثوم، وقبر نفيسه؟ وكان السودان وكافور يتعصبون على الشيعة، وتتعلق السودان في الطرقات بالناس، ويقولون للرجل: من خالك؟ فإن قال: معاوية، أكرموه، وإن سكت لقي المكروه، وأخذت ثيابه، وما معه حتى كان كافور قد وكل بالصحراء ومنع الناس من الخروج.
وقال المسبحيّ: وفي يوم عاشوراء، يعني من سنة ست وتسعين وثلثمائة جرى الأمر فيه على ما يجري كل سنة من تعطيل الأسواق، وخروج المنشدين إلى جامع القاهرة، ونزولهم مجتمعين بالنوح والنشيد ثم جمع بعد هذا اليوم قاضي القضاة عبد العزيز من النعمان، سائر المنشدين الذين يتكسبون بالنوح والنشيد وقال لهم: لا تلزموا الناس أخذ شيء منهم إذا وقفتم على حوانيتهم، ولا تؤذوهم، ولا تتكسبوا بالنوح والنشيد، ومن أراد ذلك فعليه بالصحراء، ثم اجتمع بعد ذلك طائفة منهم يوم الجمعة في الجامع العتيق بعد(2/329)
الصلاة، وأنشدوا، وخرجوا على الشارع بجمعهم، وسبّوا السلف، فقبضوا على رجل، ونودي عليه: هذا جزاء من سب عائشة، وزوجها صلّى الله عليه وسلّم، وقدّم الرجل بعد النداء، وضرب عنقه.
وقال ابن المأمون: وفي يوم عاشوراء، يعني من سنة خمس عشرة وخمسمائة عبىء السماط بمجلس العطايا من دار الملك بمصر، التي كان يسكنها الأفصل بن أمير الجيوش، وهو السماط المختص بعاشوراء، وهو يعبئ في غير المكان الجاري به العادة في الأعياد، ولا يعمل مدورة خشب بل سفرة كبيرة من أدم، والسماط يعلوها من غير مرافع نحاس، وجميع الزبادي أجبان، وسلائط ومخللات، وجميع الخبز من شعير، وخرج الأفضل من باب فردالكم، وجلس على بساط صوف من غير مشورة، واستفتح المقرئون، واستدعى الأشراف على طبقاتهم، وحمل السماط لهم، وقد عمل في الصحن الأول الذي بين يدي الأفضل إلى آخر السماط عدس أسود، ثم بعده عدس مصفى إلى آخر السماط، ثم رفع وقدّمت صحون جميعها عسل نحل.
ولما كان يوم عاشوراء من سنة ست عشرة وخمسمائة جلس الخليفة الآمر بأحكام الله على باب الباذهنج يعني من القصر بعد قتل الأفضل وعود الأسمطة إلى القصر على كرسيّ جريد بغير مخدّة متلثما هو وجميع حاشيته، فسلم عليه الوزير المأمون وجميع الأمراء الكبار، والصغار بالقيراميز، وأذن للقاضي، والداعي، والأشراف، والأمراء بالسلام عليه، وهم بغير مناديل ملثمون حفاة، وعبىء السماط في غير موضعه المعتاد، وجميع ما عليه خبز الشعير والحواضر على ما كان في الأيام الأفضلية، وتقدّم إلى والي مصر والقاهرة بأن لا يمكنا أحدا من جمع ولا قراءة مصرع الحسين، وخرج الرسم المطلق للمتصدّرين والقرّاء الخاص، والوعاظ، والشعراء، وغيرهم على ما جرت به عادتهم.
قال: وفي ليلة عاشوراء من سنة سبع عشرة وخمسمائة: اعتمد الأجل الوزير المأمون على السنة الأفضلية من المضيّ فيها إلى التربة الجيوشية، وحضور جميع المتصدّرين، والوعاظ، وقرّاء القرآن إلى آخر الليل، وعوده إلى داره، واعتمد في صبيحة الليلة المذكورة مثل ذلك، وجلس الخليفة على الأرض متلثما يرى به الحزن، وحضر من شرف بالسلام عليه، والجلوس على السماط بما جرت به العادة.
قال ابن الطوير: إذا كان اليوم العاشر من المحرّم: احتجب الخليفة عن الناس فإذا علا النهار ركب قاضي القضاة، والشهود، وقد غيروا زيهم فيكونون كما هم اليوم، ثم صاروا إلى المشهد الحسينيّ، وكان قبل ذلك يعمل في الجامع الأزهر، فإذا جلسوا فيه، ومن معهم من قرّاء الحضرة، والمتصدّرين في الجوامع جاء الوزير، فجلس صدرا، والقاضي والداعي من جانبيه، والقرّاء يقرءون نوبة بنوبة، وينشد قوم من الشعراء غير شعراء الخليفة شعرا(2/330)
يرثون به أهل البيت عليهم السلام، فإن كان الوزير رافضيا تغالوا، وإن كان سنيا اقتصدوا، ولا يزالون كذلك إلى أن تمضي ثلاث ساعات، فيستدعون إلى القصر بنقباء الرسائل، فيركب الوزير، وهو بمنديل صغير إلى داره، ويدخل قاضي القضاة والداعي، ومن معهما إلى باب الذهب، فيجدون الدهاليز قد فرشت مصاطبها بالحصر بدل البسط، وينصب في الأماكن الخالية من المصاطب دكك لتلحق بالمصاطب لتفرش، ويجدون صاحب الباب جالسا هناك، فيجلس القاضي والداعي إلى جانبه، والناس على اختلاف طبقاتهم، فيقرأ القرّاء وينشد المنشدون أيضا ثم يفرش عليهم سماط الحزن مقدار ألف زبدية من العدس، والملوحات، والمخللات، والأجبان والألبان الساذجة والأعسال النحل، والفطير والخبز المغير لونه، فإذا قرب الظهر وقف صاحب الباب، وصاحب المائدة، وأدخل الناس للأكل منه، فيدخل القاضي والداعي، ويجلس صاحب الباب نيابة عن الوزير، والمذكوران إلى جانبه، وفي الناس من لا يدخل، ولا يلزم أحد بذلك، فإذا فرغ القوم انفصلوا إلى أماكنهم ركبانا بذلك الزي الذي ظهروا فيه، وطاف النوّاح بالقاهرة ذلك اليوم، وأغلق البياعون حوانيتهم إلى جواز العصر، فيفتح الناس بعد ذلك أو يتصرّفون.
ذكر أبواب القصر الكبير الشرقي
وكان لهذا القصر الكبير الشرقيّ تسعة أبواب أكبرها وأجلها: باب الذهب، ثم باب البحر، ثم باب الريح، ثم باب الزمرّذ، ثم باب العيد، ثم باب قصر الشوك، ثم باب الديلم، ثم باب تربة الزعفران، ثم باب الزهومة.
باب الذهب «1» : وهو باب القصر الذي تدخل منه العساكر، وجميع أهل الدولة في يومي الاثنين والخميس للموكب المقدّم ذكره بقاعة الذهب.
قال ابن أبي طيء عن المعز لدين الله: أنه لما خرج من بلاد المغرب أخرج أموالا كانت له ببلاد المغرب، وأمر بسبكها أرحية كأرحية الطواحين، وأمر بها حين دخل إلى مصر فألقيت على باب قصره، وهي التي كان الناس يسمونها: الحشرات، ولم تزل على باب القصر إلى أن كان زمن الغلاء في أيام الخليفة المستنصر بالله، فلما ضاق بالناس الأمر أذن لهم أن يبردوا منها بمبارد، فاتخذ الناس مبارد حادّة وغرّهم الطمع، حتى ذهبوا بأكثرها، فأمر بحمل الباقي إلى القصر فلم تر بعد ذلك.
وقال ابن ميسر: إن المعز لما قدم إلى القاهرة كان معه مائة جمل عليها الطواحين من الذهب، وقال غيره: كانت خمسمائة جمل على كل جمل: ثلاثة أرحية ذهبا، وإنه عمل(2/331)
عضادتي الباب من تلك الأرحية واحدة فوق أخرى، فسمي: باب الذهب.
جلوس الخليفة في الموالد بالمنظرة علو باب الذهب: قال ابن المأمون في أخبار سنة ست عشرة وخمسمائة: وفي الثاني عشر من المحرّم، كان المولد الآمريّ، واتفق كونه في هذا الشهر يوم الخميس، وكان قد تقرّر أن يعمل أربعون صينية خشكنانج، وحلوى وكعك، وأطلق برسم المشاهد المحتوية على الضرائح الشريفة لكل مشهد سكر وعسل ولوز ودقيق وشيرج، وتقدّم بأن يعمل خمسمائة رطل حلوى، وتفرّق على المتصدّرين، والقرّاء والفقراء للمتصدّرين، ومن معهم في صحون، وللفقراء على أرغفة السميذ، ثم حضر في الليلة المذكورة القاضي والداعي، والشهود، وجميع المتصدّرين وقرّاء الحضرة، وفتحت الطاقات التي قبليّ باب الذهب، وجلس الخليفة وسلموا عليه، ثم خرج متولي بيت المال بصندوق مختوم، ضمنه عينا مائة دينار، وألف وثمانمائة وعشرون درهما برسم أهل القرافة، وساكنيها وغيرهم، وفرّقت الصواني بعد ما حمل منها للخاص، وزمام القصر ومتولي الدفتر خاصة وإلى دار الوزارة، والأجلاء الأخوة، والأولاد، وكاتب الدست، ومتولي حجبة الباب، والقاضي والداعي، ومفتي الدولة ومتولي دار العلم، والمقرئين الخاص، وأئمة الجوامع بالقاهرة ومصر، وبقية الأشراف.
قال: وخرج الآمر، يعني في سنة سبع عشرة وخمسمائة بإطلاق ما يخص المولد الآمريّ برسم المشاهد الشريفة من سكر وعسل وشيرج ودقيق، وما يصنع مما يفرّق على المساكين بالجامعين الأزهر بالقاهرة، والعتيق بمصر، وبالقرافة خمسة قناطير حلوى وألف رطل دقيق، وما يعمل بدار الفطرة، ويحمل للأعيان، والمستخدمين من بعد القصور، والدار المأمونية صينية خشكنانج، وحضر القاضي والداعي، والمستخدمون بدار العيد، والشهود في عشية اليوم المذكور، وقطع سلوك الطريق بين القصرين، وجلس الخليفة في المنظرة، وقبلوا الأرض بين يديه، والمقرئون الخاص جميعهم يقرءون القرآن وتقدّم الخطيب، وخطب خطبة وسع القول فيها، وذكر الخليفة والوزير، ثم حضر من أنشد، وذكر فضيلة الشهر والمولود فيه، ثم خرج متولي بيت المال، ومعه صندوق من مال النجاوي خاصة مما يفرّق على الحكم المتقدّم ذكره. قال: واستهلّ ربيع الأوّل، ونبدأ بما شرّف به الشهر المذكور، وهو ذكر مولد سيد الأوّلين والآخرين محمد صلّى الله عليه وسلّم لثلاث عشرة منه، وأطلق ما هو برسم الصدقات من مال النجاوي خاصة ستة آلاف درهم، ومن الأصناف من دار الفطرة أربعون صينية فطرة، ومن الخزائن برسم المتولين، والسدنة للمشاهد الشريفة التي بين الجبل والقرافة التي فيها أعضاء آل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولوز عسل، وشيرج لكل مشهد، وما يتولى تفرقته: سنا الملك ابن ميسر أربعمائة رطل حلاوة، وألف رطل خبز.
قال: وكان الأفضل بن أمير الجيوش قد أبطل أمر الوالد الأربعة: النبويّ، والعلويّ،(2/332)
والفاطميّ، والإمام الحاضر، وما يهتمّ به، وقدم العهد به حتى نسي ذكرها، فأخذ الأستاذون يجدّدون ذكرها للخليفة الآمر بأحكام الله، ويردّدون الحديث معه فيها، ويحسنون له معارضة الوزير بسببها، وإعادتها، وإقامة الجواري والرسوم فيها، فأجاب إلى ذلك، وعمل ما ذكر.
وقال ابن الطوير: ذكر جلوس الخليفة في الموالد الستة في تواريخ مختلفة، وما يطلق فيها، وهي مولد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ومولد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، ومولد فاطمة عليها السلام، ومولد الحسن، ومولد الحسين عليهما السلام، ومولد الخليفة الحاضر، ويكون هذا الجلوس في المنظرة التي هي أنزل المناظر، وأقرب إلى الأرض قبالة دار فخر الدين جهاركس، والفندق المستجدّ، فإذا كان اليوم الثاني عشر من ربيع الأوّل، تقدّم بأن يعمل في دار الفطرة عشرون قنطارا من السكر اليابس حلواء يابسة من طرائفها، وتعبى في ثلثمائة صينية من النحاس، وهو مولد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فتفرّق تلك الصواني في أرباب الرسوم من أرباب الرتب، وكل صينية في قوارة من أوّل النهار إلى ظهره.
فأوّل أرباب الرسوم قاضي القضاة، ثم داعي الدعاة، ويدخل في ذلك القرّاء بالحضرة، والخطباء والمتصدّرون بالجوامع بالقاهرة، وقومة المشاهد، ولا يخرج ذلك مما يتعلق بهذا الجانب بدعو يخرج من دفتر المجلس كما قدّمناه، فإذا صلى الظهر ركب قاضي القضاة، والشهود بأجمعهم إلى الجامع الأزهر، ومعهم أرباب تفرقة الصواني، فيجلسون مقدار قراءة الختمة الكريمة، ثم يستدعي قاضي القضاة، ومن معه فإن كانت الدعوة مضافة إليه، وإلّا حضر الداعي معه بنقباء الرسائل، فيركبون ويسيرون إلى أن يصلوا إلى آخر المضيق من السيوفيين قبل الابتداء بالسلوك بين القصرين، فيقفون هناك، وقد سلكت الطريق على السالكين من الركن المخلق، ومن سويقة أمير الجيوش عند الحوض هناك، وكنست الطريق فيما بين ذلك، ورشت بالماء رشا خفيفا، وفرش تحت المنظرة المذكورة بالرمل الأصفر.
ثم يستدعى صاحب الباب من دار الوزارة، ووالي القاهرة ماض، وعائد لحفظ ذلك اليوم من الازدحام على نظر الخليفة، فيكون بروز صاحب الباب من الركن المخلق هو وقت استدعاء القاضي ومن معه من مكان وقوفهم، فيقربون من المنظرة، يترجلون قبل الوصول إليها بخطوات، فيجتمعون تحت المنظرة دون الساعة الزمانية بسمت وتشوّف لانتظار الخليفة، فتفتح إحدى الطاقات، فيظهر منها وجهه، وما عليه من المنديل، وعلى رأسه عدّة من الأستاذين المحنكين، وغيرهم من الخواص منهم، ويفتح بعض الأستاذين طاقة، ويخرج منها رأسه ويده اليمنى في كمه، ويشير به قائلا: أمير المؤمنين يردّ عليكم السلام، فيسلم بقاضي القضاة أوّلا بنعوته وبصاحب الباب بعده كذلك، وبالجماعة الباقية جملة جملة(2/333)
من غير تعيين أحد، فيستفتح قرّاء الحضرة بالقراءة ويكونون قياما في الصدر وجوههم للحاضرين، وظهورهم إلى حائط المنظرة، فيقدّم خطيب الجامع الأنور المعروف بجامع الحاكم، فيخطب كما يخطب فوق المنبر إلى أن يصل إلى ذكر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فيقول: وإنّ هذا يوم مولده إلى ما منّ الله به على ملة الإسلام من رسالته، ثم يختم كلامه بالدعاء للخليفة، ثم يؤخر ويقدّم خطيب الجامع الأزهر، فيخطب كذلك، ثم خطيب الجامع الأقمر فيخطب كذلك، والقرّاء في خلال خطابة الخطباء يقرءون. فإذا انتهت خطابة الخطباء أخرج الأستاذ رأسه، ويده في كمه من طاقته، وردّ على الجماعة السلام، ثم تغلق الطاغتان، فتنفض الناس ويجري أمر الموالد الخمسة الباقية على هذا النظام إلى حين فراغها على عدّتها من غير زيادة ولا نقص، انتهى.
وهذا الباب صار بعد زوال الدولة الفاطمية يقابل دار الأمير فخر الدين جهاركس الصلاحيّ التي عرفت بعد ذلك بالدار القطبية، وهي الآن المارستان المنصوري، وصار موضع هذا الباب محراب مدرسة الظاهر ركن الدين بيبرس.
باب البحر «1» : هو من إنشاء الحاكم بأمر الله أبي عليّ منصور، وهدم في أيام الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ، وشوهد فيه أمر عجيب.
قال جامع السيرة الظاهرية: لما كان يوم عاشوراء يعني من سنة اثنتين وسبعين وستمائة رسم بنقض علو أحد أبواب القصر المسمى بباب البحر، قبالة المدرسة دار الحديث الكاملية لأجل نقل عمدة فيه لبعض العمائر السلطانية، فظهر صندوق في حائط مبنيّ عليه، فللوقت أحضرت الشهود وجماعة كثيرة، وفتح الصندوق، فوجد فيه صورة من نحاس أصفر مفرغ على كرسيّ شبه الهرام، ارتفاعه قدر شبر له أربعة أرجل تحمل الكرسيّ، والصنم جالس متورّكا، وله يدان مرفوعتان ارتفاعا جيدا يحمل صحيفة دورها: قدر ثلاثة أشبار، وفي هذه الصحيفة أشكال ثابتة، وفي الوسط صورة رأس بغير جسد، ودائرة مكتوب كتابة بالقبطيّ، وبالقلفطيريات وإلى جانبها في الصحيفة شكل له قرنان يشبه شكل السنبلة، وإلى الجانب الآخر شكل آخر، وعلى رأسه صليب، والآخر في يده عكاز، وعلى رأسه صليب، وتحت أرجلهم أشكال طيور، وفوق رؤوس الأشكال كتابة، ووجد مع هذا الصنم في الصندوق لوح من ألواح الصبيان التي يكتبون فيها بالمكاتب مدهون وجهه الواحد أبيض، ووجهه الواحد أحمر، وفيه كتابة قد تكشط أكثرها من طول المدّة، وقد بلي اللوح وما بقيت الكتابة تلتئم، ولا الخط يفهم.
وهذا نص ما فيه، وأخليت مكان كتابته التي تكشطت، وأمّا الوجه الأبيض: فهو(2/334)
مكتوب بقلم الصحيفة القبطيّ، والمكتوب في الوجه الأحمر على هذه الصورة: السطر الأوّل بقي منه مكتوبا الإسكندر «1» ، السطر الثاني: الأرض وهبها له، السطر الثالث:
وجرب لكل «2» ، السطر الرابع: أصحاب «3» ، السطر الخامس: وهو يحرس «4» ، السطر السادس: واحترازه بقوّة، السطر السابع: الملك مرجو، وأبواب السطر الثامن غير بيته سبعة «5» ، السطر التاسع: عالم حكيم عالم في عقله، السطر العاشر: وصفها فلا تفسد، السطر الحادي عشر: طارد كل سوء، والذي صاغها النساء، السطر الثاني: عشر سد أيضا كل آثار اسدية بيبرس، وهي أحد «6» ، السطر الثالث عشر: بيبرس ملك الزمان والحكمة كلمة الله عز وجل، هذا صورة ما وجد في اللوح مما بقي من الكتابة والبقية قد تكشط.
وقيل: إنّ هذا اللوح بخط الخليفة الحاكم، وأعجب ما فيه اسم السلطان، وهو بيبرس، ولما شاهد السلطان ذلك: أمر بقراءته، فعرض على قرّاء الأقلام، فقرىء، وذلك بالقلم القبطيّ، ومضمونه طلسم عمل للظاهر بن الحاكم، واسم أمّه رصد، وفيه أسماء الملائكة، وعزائم ورقي وأسماء روحانية، وصور ملائكة أكثره حرس لديار مصر وثغورها، وصرف الأعداء عنها، وكفهم عن طروقهم إليها، وابتهال إلى الله تعالى بأقسام كثيرة لحماية الديار المصرية، وصونها من الأعداء، وحفظها من كل طارق من جميع الأجناس، وتضمن هذا الطلسم: كتابة بالقلفطيريات، وأوفاقا، وصورا، وخواص لا يعلمها إلّا الله تعالى، وحمل هذا الطلسم إلى السلطان، وبقي في ذخائره. قال: ورأيت في كتاب عتيق رث سماه مصنفه: وصية الإمام العزيز بالله، والد الإمام الحاكم بأمر الله لولده المذكور، وقد ذكر فيه الطلسمات التي على أبواب القصر، ومن جملتها: إنّ أوّل البروج: الحمل، وهو بيت المريخ وشرف الشمس، وله القوّة على جميع سلطان الفلك، لأنه صاحب السيف، واسفهسلارية العسكر بين يدي الشمس الملك، وله الأمر والحرب والسلطان والقوّة، والمستولي لقوّة روحانيته على مدينتنا، وقد أقمنا طلسما لساعته ويومه لقهر الأعداء، وذل المنافقين في مكان أحكمناه على إشرافه عليه، والحصن الجامع لقصر مجاور الأوّل باب بنيناه، هذا نص ما رأيته، انتهى.
ولعل معنى كتابة بيبرس في هذا اللوح إشارة إلى أن هدم هذا الباب يكون على زمان بيبرس، فإنّ القوم كانت لهم معارف كثيرة، وعنايتهم بهذا الفنّ وافرة كبيرة، والله أعلم، وموضع باب البحر هذا اليوم يعرف: بباب قصر بشتاك، قبالة المدرسة الكاملية.
باب الريح «7» : كان على ما أدركته تجاه سور سعيد السعداء على يمنة السالك من(2/335)
الركن المخلق إلى رحبة باب العيد، وكان بابا مربعا، يسلك فيه من دهليز مستطيل مظلم إلى حيث المدرسة السابقية، ودار الطواشي سابق الدين، وقصر أمير السلاح، وينتهي إلى ما بين القصرين تجاه حمام البيسري، وعرف هذا الباب في الدولة الأيوبية: بباب قصر ابن الشيخ، وذلك أن الوزير: الصاحب معين الدين حسين بن شيخ الشيوخ، وزير الملك الصالح نجم الدين أيوب: كان يسكن بالقصر الذي في داخل هذا الباب، ثم قيل له في زمننا: باب القصر، وكان على حاله، له عضادتان من حجارة، ويعلوه اسكفة حجر مكتوب فيها نقرا في الحجر عدّة أسطر، بالقلم الكوفيّ لم يتهيأ لي قراءة ما فيها، وكان دهليز هذا الباب عريضا يتجاوز عرضه فيما أقدّر: العشرة أذرع في طول كبير جدّا، ويعلو هذا الباب دور للسكنى تشرف على الطريق، وما زال على ذلك، إلى أن أنشأ الأمير الوزير المشير جمال الدين يوسف الإستادار مدرسته برحبة باب العيد، واغتصب لها أملاك الناس، وكان مما اغتصب ما بجوار المدرسة المذكورة من الحوانيت، والرباع التي فوقها، وما جاوز ذلك، وهدمها ليبنيها على ما يريد، فهدم هذا الباب في صفر سنة إحدى عشرة وثمانمائة، وبنى في مكانه، ومكان الدهليز المظلم الذي كان ينتهي بالسالك فيه من هذا الباب إلى المدرسة السابقية: هذه القيسارية الكبيرة ذات الحوانيت، والسقيفة والأبواب الجديدة، ودخل فيها بعض مما كان بجانبي هذا الباب من الحوانيت وعلوها، ولما هدم هذا الباب ظهر في داخل بنيانه شخص، وبلغني ذلك فسرت إلى الأمير المذكور، وكان بيني وبين صحبة، لأشاهد هذا الشخص المذكور، والتمست منه إحضاره، فأخبرني أنه أحضر إليه شخص من حجارة: قصير القامة إحدى عينيه أصغر من الأخرى، فقلت: لا بدّ لي من مشاهدته، فأمر بإحضاره الموكل بالعمارة، وأنا معه إذ ذاك في موضع الباب، وقد هدم ما كان فيها من البناء، فذكر أنه رماه بين أحجار العمارة، وأنه تكسر وصار فيما بينها، ولا يستطيع تمييزه منها، فأغلظ عليه وبالغ في الفحص عنه، فأعياهم إحضاره.
فسألت الرجل حينئذ فقال لي: إنهم لما انتهوا في الهدم إلى حيث كان هذا الشخص إذا بدائرة فيها كتابة وبوسطها شخص قصير، صغير إحدى العينين من حجارة، وهذه كانت صفة جمال الدين فإنه كان قصير القامة، إحدى عينيه أصغر من الأخرى، ويشبه، والله أعلم، أن يكون قد عين في تلك الكتابة التي كانت حول الشخص، أنّ هذا الباب يهدمه من هذه صفته، كما وجد في باب البحر اسم بيبرس الذي هدم على يديه، وبأمره، وقد ظفر جمال الدين هذا بأموال عظيمة وجدها في داخل هذا القصر، لما أنشأ داره الأولى في الحدرة من داخل هذا الباب في سنة ست وتسعين وسبعمائة، وكان لكثرة هذا المال لا يستطيع كتمانه، ومن شدّة خوفه يومئذ من الظاهر برقوق أن يظهر عليه، لا يقدر أن يصرّح به، فكان يقول لأصحابه وخواصه: وجدت في هذا المكان سبعين قفة من حديد.
أخبرني اثنان رئيسان من أعيان الدولة عنه: إنه قال لهما هذا القول، وكنت إذ ذاك أيام(2/336)
عمارته لهذه القاعة أتردّد لشيخنا سراج الدين عمر بن الملقن رحمه الله تعالى بالمدرسة السابقية، وبها كان يسكن، فتعرّفت بجمال الدين منه، وكان يومئذ من عرض الجند، ويعرف: باستادار نحاس، فاشتهر هناك أنه وجد حال هدمه وعمارته القاعة، والرواق بالحدرة مكانا مبنيا تحت الأرض مبيض الحيطان، فيه مال فما كان عندي شك أنه من أموال خبايا الفاطميين، فإنه قد ذكر غير واحد من الإخباريين، أن السلطان صلاح الدين لما استولى على القصر بعد موت العاضد لم يظفر بشيء من الخبايا، وعاقب جماعة، فلم يوقفوه على أمرها.
باب الزمرد «1» : سمي بذلك لأنه كان يتوصل منه إلى قصر الزمرذ، وموضعه الآن المدرسة الحجازية بخط رحبة باب العيد.
باب العيد «2» : هذا الباب مكانه اليوم في داخل درب السلامي بخط رحبة باب العيد، وهو عقد محكم البناء ويعلوه قبة قد عملت مسجدا، وتحتها حانوت يسكنه سقّاء، ويقابله مصطبة، وأدركت العامّة، وهم يسمون هذه القبة بالقاهرة، ويزعمون أن الخليفة كان يجلس بها، ويرخي كمه فتأتي الناس وتقبله، وهذا غير صحيح، وقيل لهذا الباب: باب العيد، لأنّ الخليفة كان يخرج منه في يومي العيد إلى المصلى بظاهر باب النصر، فيخطب بعد أن يصلي بالناس صلاة العيد، كما ستقف عليه عند ذكر المصلى إن شاء الله تعالى، وفي سنة إحدى وستين وستمائة: بنى الملك الظاهر بيبرس خانا للسبيل بظاهر مدينة القدس، ونقل إليه باب العيد هذا، فعمله بابا له، وتم بناؤه في سنة اثنتين وستين.
باب قصر الشوك «3» : وهو الذي كان يتوصل منه إلى قصر الشوك، وموضعه الآن تجاه حمام عرفت بحمام الإيدمريّ، ويقال لها اليوم: حمام يونس عند موقف المكارية، بجوار خزانة البنود على يمنة السالك منها إلى رحبة الإيدمريّ، وهو الآن زقاق ينتهي إلى بئر يسقى منها بالدلاء، ويتوصل من هناك إلى المارستان العتيق وغيره، وأدركت منه قطعة من جانبه الأيسر.
باب الديلم «4» : وكان يدخل منه إلى المشهد الحسينيّ، وموضعه الآن درج ينزل منها(2/337)
إلى المشهد تجاه الفندق الذي كان دار الفطرة، ولم يبق لهذا الباب أثر البتة.
باب تربة الزعفران «1» : مكانه الآن بجوار خان الخليلي من بحريه، مقابل فندق المهمندار الذي يدق فيه ورق الذهب، وقد بني بأعلاه طبقة، ورواق ولا يكاد يعرفه كثير من الناس، وعليه كتابة بالقلم الكوفيّ، وهذا الباب كان يتوصل منه إلى تربة القصر المذكورة فيما تقدّم.
باب الزهومة «2» : كان في آخر ركن القصر، مقابل خزانة الدرق التي هي اليوم: خان مسرور، وقيل له: باب الزهومة لأن اللحوم وحوائج الطعام التي كانت تدخل إلى مطبخ القصر الذي للحوم إنما يدخل بها من هذا الباب. فقيل له: باب الزهومة يعني باب الزفر، وكان تجاهه أيضا درب السلسلة الآتي ذكره إن شاء الله تعالى. وموضعه الآن: باب قاعة الحنابلة من المدارس الصالحية، تجاه فندق مسرور الصغير، ومن بعد باب الزهومة المذكور باب الذهب الذي تقدّم ذكره، فهذه أبواب القصر الكبير التسعة.
ذكر المنحر «3»
وكان بجوار هذا القصر الكبير: المنحر، وهو الموضع الذي اتخذه الخلفاء لنحر الأضاحي في عيد النحر، وعيد الغدير وكان تجاه رحبة باب العيد، وموضعه الآن يعرف:
بالدرب الأصفر تجاه خانقاه بيبرس، وصار موضعه ما في داخل هذا الدرب من الدور والطاحون وغيرها، وظاهره تجاه رأس حارة برجوان يفصل بينه وبين حارة برجوان الحوانيت التي تقابل باب الحارة، ومن جملة المنحر الساحة العظيمة التي عملت لها خوند بركة أمّ السلطان الملك الأشرف شعبان بن حسين، البوّابة العظيمة بخط الركن المخلق بجوار قيسارية الجلود التي عمل فيها حوانيت الأساكفة، وكان الخليفة إذا صلى صلاة عيد النحر، وخطب ينحر بالمصلى، ثم يأتي المنحر المذكور، وخلفه المؤذنون يجهرون بالتكبير، ويرفعون أصواتهم كلما نحر الخليفة شيئا، وتكون الحربة في يد قاضي القضاة، وهو بجانب الخليفة ليناوله إياها إذا نحر، وأوّل من سنّ منهم إعطاء الضحايا، وتفرقتها في أولياء الدولة على قدر رتبهم: العزيز بالله نزار.(2/338)
ما كان يعمل في عيد النحر: قال المسبحيّ: وفي يوم عرفة يعني من سنة ثمانين وثلثمائة حمل يانس صاحب الشرطة السماط، وحمل أيضا عليّ بن سعد المحتسب سماطا آخر، وركب العزيز بالله يوم النحر، فصلى وخطب على العادة، ثم نحر عدّة نوق بيده، وانصرف إلى قصره، فنصب السماط، والموائد، وأكل ونحر بين يديه، وأمر بتفرقة الضحايا على أهل الدولة، وذكر مثل ذلك في باقي السنين.
وقال ابن المأمون في عيد النحر من سنة خمس عشرة وخمسمائة: وأمر بتفرقة عيد النحر، والهبة وجملة العين، ثلاثة آلاف وثلثمائة وسبعون دينارا، ومن الكسوات مائة قطعة، وسبع قطع برسم الأمراء المطوّقين، والأستاذين المحنكين، وكاتب الدست، ومتولي حجبة الباب، وغيرهم من المستخدمين، وعدّة ما ذبح: ثلاثة أيام النحر في هذا العيد، وعيد الغدير: ألفان وخمسمائة وأحد وستون رأسا.
تفصيله: نوق مائة وسبعة عشر رأسا، يقر أربعة وعشرون رأسا، جاموس عشرون رأسا، هذا الذي ينحره ويذبحه الخليفة بيده في المصلى والنحر، وباب الساباط، ويذبح الجزارون من الكباش ألفين وأربعمائة رأس، والذي اشتملت عليه نفقات الأسمطة في الأيام المذكورة خارجا عما يعمل بالدار المأمونية من الأسمطة، وخارجا عن أسمطة القصور عند الحرم، وخارجا عن القصور الحلواء، والقصور المنفوخ المصنوعة بدار الفطرة: ألف وثلثمائة وستة وعشرون دينارا، وربع وسدس دينار، ومن السكر برسم القصور، والقطع المنفوخ أربعة وعشرون قنطارا.
تفصيله عن قصرين في أوّل يوم خاصة اثنا عشر قنطارا المنفوخ عن ثلاثة الأيام اثنا عشر قنطارا، وقال في سنة ست عشرة وخمسمائة: وحضر وقت تفرقة كسوة عيد النحر ووصل ما تأخر فيها بالطراز، وفرّقت الرسوم على من جرت عادته خارجا عما أمر به من تفرقة العين المختص بهذا العيد وأضحيته، وخارجا عما يفرّق على سبيل المناخ، ومن باب الساباط مذبوحا، ومنحورا ستمائة دينار وسبعة عشر دينارا، وفي التاسع من ذي الحجة، جلس الخليفة الآمر بأحكام الله على سرير الملك، وحضر الوزير، وأولاده وقاموا بما يجب من السلام، واستفتح المقرئون، وتقدّم حامل المظلة، وعرض ما جرت عادته من المظال الخمسة التي جميعها مذهب، وسلم الأمراء على طبقاتهم، وختم المقرئون، وعرضت الدواب جميعها، والعماريات والوحوش وعاد الخليفة إلى محله، فلما أسفر الصبح: خرج الخليفة، وسلم على من جرت عادته بالسلام عليه، ولم يخرج شيء عما جرت به العادة في الركوب والعود، وغير الخليفة ثيابه، ولبس ما يختص بالنحر، وهي البدلة الحمراء بالشدّة التي تسمى: بشدّة الوفار، والعلم الجوهر في وجهه بغير قضيب ملك في يده إلى أن دخل المنحر، وفرشت الملاءة الديبقيّ الحمراء وثلاث بطائن(2/339)
مصبوغة حمر، ليتقي بها الدم مع كون كل من الجزارين، بيده مكبة صفاف مدهونة يلقي بها الدم عن الملاءة، وكبر المؤذنون، ونحر الخليفة أربعا وثلاثين ناقة، وقصد المسجد الذي آخر صف المنحر، وهو مغلق بالشروب والفاكهة المعبأة فيه بمقدار ما غسل يديه، ثم ركب من فوره، وجملة ما نحره، وذبحه الخليفة خاصة في المنحر، وباب الساباط دون الأجل الوزير المأمون، وأولاده، وإخوته في ثلاثة الأيام ما عدّته: ألف وتسعمائة وستة وأربعون رأسا.
تفصيله: نوق مائة وثلاث عشرة ناقة، نحر منها في المصلى عقيب الخطبة، ناقة وهي التي تهدي وتطلب من آفاق الأرض للتبرّك بلحمها، ونحر في المناخ مائة ناقة، وهي التي يحمل منها للوزير، وأولاده وإخوته والأمراء، والضيوف، والأجناد، والعسكرية والمميزين من الراجل، وفي كل يوم يتصدّق منها على الضعفاء والمساكين بناقة واحدة، وفي اليوم الثالث من العيد تحمل ناقة منحورة للفقراء في القرافة، وينحر في باب الساباط ما يحمل إلى من حوته القصور، وإلى داره الوزارة، وإلى الأصحاب، والحواشي اثنتا عشرة ناقة، وثماني عشرة بقرة وخمس عشرة جاموسة، ومن الكباش ألف وثمانمائة رأس، ويتصدّق كل يوم في باب الساباط بسقط ما يذبح من النوق والبقر.
وأما مبلغ المنصرف على الأسمطة في ثلاثة الأيام خارجا عن الأسمطة بالدار المأمونية، فألف وثلثمائة وستة وعشرون دينارا وربع وسدس دينار، ومن السكر برسم قصور الحلاوة، والقطع المنفوخ المصنوعة بدار الفطرة خارجا عن المطابخ ثمانية وأربعون قنطارا.
وقال ابن الطوير: فإذا انقضى ذو القعدة، وأهلّ ذو الحجة، اهتمّ بالركوب في عيد النحر، وهو يوم عاشره، فيجري حاله كما جرى في عيد الفطر من الزي، والركوب إلى المصلى، ويكون لباس الخليفة فيه: الأحمر الموشح، ولا ينخرم منه شيء، وركوبه ثلاثة أيام متوالية، فأوّلها: يوم الخروج إلى المصلى والخطابة، كعيد الفطر، وثاني يوم وثالثه إلى المنحر، وهو المقابل لباب الريح الذي في ركن القصر المقابل لسور دار سعيد السعداء، الخانقاه «1» اليوم، وكان براحا خاليا لا عمارة فيه، فيخرج من هذا الباب الخليفة بنفسه، ويكون الوزير واقفا عليه، فيترجل ويدخل ماشيا بين يديه بقربه، هذا بعد انفصالهما من المصلى، ويكون قد قيّد إلى هذا المنحر أحد وثلاثون فصيلا وناقة أمام مصطبة مفروشة يطلع(2/340)
عليها الخليفة والوزير، ثم أكابر الدولة، وهو بين الأستاذين المحنكين، فيقدّم الفرّاشون له إلى المصطبة رأسا، ويكون بيده حربة، من رأسها الذي لا سنان فيه ويد قاضي القضاة في أصل سنانها، فيجعله القاضي في نحر النحيرة، ويطعن بها الخليفة، وتجرّ من بين يديه، حتى يأتي على العدّة المذكورة، فأوّل نحيرة هي التي تقدّد، وتسير إلى داعي اليمن، وهو الملك فيه، فيفرّقها على المعتقدين من وزن نصف درهم إلى ربع درهم، ثم يعمل ثاني يوم كذلك فيكون عدد ما ينحر: سبعا وعشرين، ثم يعمل في اليوم الثالث كذلك وعدّة ما ينحر ثلاث وعشرون.
هذا: وفي مدّة هذه الأيام الثلاثة يسير رسم الأضحية إلى أرباب الرتب والرسوم كما سيرت الغرّة في أوّل السنة من الدنانير بغير رباعية، ولا قراريط على مثال الغرّة من عشرة دنانير إلى دينار، وأما لحم الجزور، فإنه يفرّق في أرباب الرسوم للتبرّك في أطباق مع أدوان الفرّاشين، وأكثر ذلك تفرقة قاضي القضاة وداعي الدعاة للطلبة بدار العلم، والمتصدّرين بجوامع القاهرة، ونقباء المؤمنين بها من الشيعة للتبرّك، فإذا انقضى ذلك خلع الخليفة على الوزير ثيابه الحمر التي كانت عليه، ومنديلا آخر بغير السمة، والعقد المنظوم من القصر عند عود الخليفة من المنحر، فيركب الوزير من القصر بالخلع المذكورة شاقا القاهرة، فإذا خرج من باب زويلة انعطف على يمينه سالكا على الخليج، فيدخل من باب القنطرة إلى دار الوزارة، وبذلك انفصال عيد النحر.
وقال ابن أبي طيّ: عدّة ما يذبح في هذا العيد في ثلاثة أيام النحر، وفي يوم عيد الغدير: ألفان وخمسمائة وأحد وستون رأسا، وتفصيله: نوق مائة وسبعة عشر رأسا، بقر أربعة وعشرون رأسا، جاموس عشرون رأسا، هذا الذي ينحره الخليفة، ويذبحه بيده في المصلى، والمنحر، وباب الساباط، ويذبح الجزارون بين يديه من الكباش ألفا وأربعمائة رأس.
وقال ابن عبد الظاهر: كان الخليفة ينحر بالمنحر: مائة رأس، ويعود إلى خزانة الكسوة فيغير قماشه، ويتوجه إلى الميدان، وهو الخرنشف «1» بباب الساباط للنحر والذبح، ويعود بعد ذلك إلى الحمام ويغير ثيابه للجلوس على الأسمطة، وعدّة ما يذبحه ألف وسبعمائة وستة وأربعون رأسا: مائة وثلاث عشر ناقة والباقي بقر وغنم.
قال ابن الطوير: وثمن الضحايا على ما تقرّر ما يقرب من ألفي دينار، وكانت تخرج المخلقات إلى الأعمال بشائر بركوب الخليفة في يوم عيد النحر.(2/341)
فمما كتب به الأستاذ البارع أبو القسم عليّ بن منجيب بن سليمان الكاتب المعروف:
بابن الصيرفيّ المنعوت: بتاج الرياسة، أما بعد: فالحمد لله الذي رفع منار الشرع، وحفظ نظامه ونشر راية هذا الدين، وأوجب إعظامه، وأطلع بخلافة أمير المؤمنين كواكب سعوده، وأظهر للمؤالف والمخالف عزة أحزابه وقوّة جنوده، وجعل فرعه ساميا ناميا، وأصله ثابتا راسخا، وشرّفه على الأديان بأسرها وكان لعراها فاصما ولأحكامها ناسخا، يحمده أمير المؤمنين أن الزم طاعته الخليقة، وجعل كراماته الأسباب الجديرة بالإمارة الخليقة، ويرغب إليه في الصلاة على جدّه محمد الذي حاز الفخار أجمعه، وضمن الجنة لمن آمن به واتبع النور الذي أنزل معه، ورفعه إلى أعلى منزلة تخير له منها المحل، وأرسله بالهدى ودين الحق، فزهق الباطل، وخمدت ناره واضمحل، صلى الله عليه، وعلى أخيه وابن عمه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب خير الأمّة وإمامها، وحبر الملة وبدر تمامها، والموفي يومه في الطاعات على ماضي أمسه، ومن أقامه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المباهلة مقام نفسه، واختصه بأبعد غاية في سورة براءة، فنادى في الحج بأوّلها، ولم يكن غيره ينفذ نفاذه ولا يسدّ مكانه، لأنه قال: «لا يبلغ عني إلّا رجل من أهل بيتي» عملا في ذلك بما أمر الله به سبحانه، وعلى الأئمة من ذريتهما خلفاء الله في أرضه، والقائمين في سياسة خلقه بصريح الإيمان ومحضه، والمحكمين من أمر الدين ما لا وجه لحله، ولا سبيل إلى نقضه، وسلم عليهم أجمعين سلاما يتصل دوامه، ولا يخشى انصرامه، ومجد وكرّم، وشرّف وعظم، وكتاب أمير المؤمنين هذا إليك يوم الأحد عيد النحر من سنة ست وثلاثين وخمسمائة الذي تبلج فجره عن سيئات محصت، ونفوس من آثار الذنوب خلصت، ورحمة امتدّت ظلالها وانتشرت ومغفرة هنأت ونشرت، وكان من خبر هذا اليوم: أن أمير المؤمنين برز لكافة من بحضرته من أوليائه، متوجها لقضاء حق هذا العيد السعيد وأدائه، في عترة راسخة قواعدها متمكنة، وعساكر جمة تضيق عنها ظروف الأمكنة، ومواكب تتوالى كتوالي السيل، وتهاب هيبة مجيئه في الليل، بأسلحة تحسر لها الأبصار وتبرق وترتاع الأفئدة منها وتفرق، فمن مشرفيّ إذا ورد تورّد، ومن سمهريّ إذا قصد تقصد، ومن عمد إذا عمدت تبرّأت المغافر من ضمانها، ومن قسيّ إذا أرسلت بنانها وصلت إلى القلوب بغير استئذانها، ولم يزل سائرا في هدي الإمامة وأنوارها، وسكينة الخلافة ووقارها، إلى أن وصل إلى المصلى قدام المحراب، وأدّى الصلاة إذ لم يكن بينه وبين التقبيل حجاب، ثم علا المنبر فاستوى على ذروته، ثم هلل الله وكبر، وأثنى على عظمته وأحسن إلى الكافة بتبليغ موعظته، وتوجه إلى ما أعدّ من البدن فنحره تكميلا لقربته، وانتهى في ذلك إلى ما أمر الله عز وجل، وعاد إلى قصوره المكرّمة، ومنازله المقدّسة، قد رضي الله عمله، وشكر فعله وتقبله، أعلمك أمير المؤمنين بذلك، لتشكر الله على النعمة فيه، وتذيعه قبلك على الرسم مما تجاريه، فاعلم هذا، واعمل به إن شاء الله تعالى.(2/342)
ذكر دار الوزارة الكبرى
وكان بجوار هذا القصر الكبير الشرقيّ تجاه رحبة باب العيد، دار الوزارة الكبرى، ويقال لها: الدار الأفضلية والدار السلطانية.
قال ابن عبد الظاهر: دار الوزارة بناها: بدر الجماليّ أمير الجيوش، ثم لم يزل يسكنها من يلي إمرة الجيوش إلى أن انتقل الأمر عن المصريين، وصار إلى بني أيوب، فاستقرّ سكن الملك الكامل بقلعة الجبل خارج القاهرة، وسكنها السلطان الملك الصالح ولده، ثم أرصدت دار الوزارة لمن يرد من الملوك، ورسل الخليفة إلى هذا الوقت، وكانت دار الوزارة قديما تعرف بدار القباب، وأضافها الأفضل إلى دور بني هريسة، وعمرها دارا وسماها دار الوزارة، انتهى.
والذي تدل عليه كتب ابتياعات الأملاك القديمة التي بتلك الخطة أنها من بناء الأفضل، لا من عمارة أبيه بدر، والدار التي عمرها أمير الجيوش بدر هي داره: بحارة برجوان التي قيل لها دار المظفر، وما زال وزراء الدولة الفاطمية أرباب السيوف من عهد الأفضل بن أمير الجيوش يسكنون بدار الوزارة هذه إلى أن زالت الدولة فاستقرّ بها السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، وابنه من بعده: الملك العزيز عثمان، ثم ابنه الملك المنصور، ثم الملك العادل أبو بكر بن أيوب، ثم ابنه الملك الكامل، وصاروا يسمونها الدار السلطانية، وأوّل من انتقل عنها من الملوك، وسكن بالقلعة الملك الكامل ناصر الدين محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وجعلها منزلا للرسل، فلما ولي قطز سلطنة ديار مصر، وتلقب بالملك العادل في سنة سبع وخمسين وستمائة، وحضر إليه البحرية وفيهم بيبرس البندقداريّ، وقلاون الألفيّ من الشام، خرج الملك العادل قطز إلى لقائهم، وأنزل الأمير ركن الدين بيبرس بدار الوزارة، فلم يزل بها، حتى سافر صحبة قطز إلى الشام، وقتله وعاد إلى مصر فتسلطن، وسكن بقلعة الجبل. وفي سنة ثلاث وتسعين وستمائة، لما قتل الأشرف خليل بن قلاون في واقعة بيدرا «1» ، ثم قتل بيدرا، وأجلس الملك الناصر محمد علي تخت الملك، وثارت الأشرفية من المماليك على الأمراء، وقتل من قتل منهم، خاف بقية الأمراء من شرّ المماليك الأشرفية، فقبض منهم على نحو الستمائة مملوك، وأنزل بهم من القلعة، وأسكن منهم نحو: الثلاثمائة بدار الوزارة، وأسكن منهم كثير في مناظر الكبش، وأجريت عليهم الرواتب، ومنعوا من الركوب إلى أن كان من أمرهم ما هو مذكور في موضعه من هذا الكتاب.(2/343)
ولما كانت سنة سبعمائة: أخذ الأمير شمس الدين قرا سنقر المنصوري نائب السلطنة في أيام الملك المنصور حسام الدين لاجين: قطعة من دار الوزارة، فبنى بها الربع المقابل خانقاه سعيد السعداء، ثم بنى المدرسة المعروفة: بالقراسنقرية، ومكتب الأيتام، فلما كانت دولة البرجية بنى الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير: الخانقاه الركنية، والرباط بجانبها من جملة دار الوزارة، وذلك في سنة تسع وسبعمائة، ثم استولى الناس على ما بقي من دار الوزارة، وبنوا فيها، فمن حقوقها الربع تجاه الخانقاه الصلاحية دار سعيد السعداء، والمدرسة القراسنقرية، وخانقاه ركن الدين بيبرس، وما بجوارها من دار قزمان ودار الأمير شمس الدين سنقر الأعسر الوزير، المعروفة: بدار خوند طولوباي الناصرية، جهة الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون، وحمام الأعسر التي بجانبها، والحمام المجاور لها، وما وراء هذه الأماكن من الآدر وغيرها. وهي الفرن والطاحون التي قبليّ المدرسة القراسنقرية، ومن الآدر والخربة التي قبليّ ربع قراسنقر، وما جاور باب سرّ المدرسة القراسنقرية من الآدر، وخربة أخرى هناك، والدار الكبرى المعروفة بدار الأمير سيف الدين برلغي الصغير صهر الملكك المظفر بيبرس الجاشنكير المعروفة اليوم: بدار الغزاوي، وفيها السرداب الذي كان رزيك بن الصالح رزيك فتحه في أيام وزارته من دار الوزارة إلى سعيد السعداء، وهو باق إلى الآن في صدر قاعتها، وذكر أنّ فيه حية عظيمة، ومن حقوق دار الوزارة المناخ المجاور لهذه القاعة، وكان على دار الوزارة: سور مبنيّ بالحجارة وقد بقي الآن منه قطعة في حدّ دار الوزارة الغربيّ، وفي حدّها القبليّ، وهو الجدار الذي فيه باب الطاحون والساقية تجاه باب سعيد السعداء من الزقاق الذي يعرف اليوم: بخرائب تتر، ومنه قطعة في حدّها الشرقيّ عند باب الحمام، والمستوقد بباب الجوّانية، وكان بدار الوزارة هذا الشباك الكبير المعمول من الحديد في القبة التي دفن تحتها بيبرس الجاشنكير من خانقاهه، وهو الشباك الذي يقرأ فيه القرّاء، وكان موضوعا في دار الخلافة ببغداد يجلس فيه الخلفاء من بني العباس.
فلما استولى الأمير أبو الحرث البساسيري «1» على بغداد، وخطب فيها للخليفة المستنصر بالله الفاطميّ أربعين جمعة، وانتهب قصر الخلافة، وصار الخليفة القائم بأمر الله العباسيّ إلى عانة، وسير البساسيريّ الأموال، والتحف من بغداد إلى المستنصر بالله بمصر في سنة سبع وأربعين وأربعمائة: كان من جملة ما بعث به منديل الخليفة القائم بأمر الله الذي عممه بيده في قالب من رخام، قد وضع فيه كما هو حتى لا تتغير شدّته، ومع هذا المنديل رداءه، والشباك الذي كان يجلس فيه، ويتكئ عليه، فاحتفظ بذلك إلى أن عمرت دار الوزارة على يد الأفضل بن أمير الجيوش، فجعل هذا الشباك بها، يجلس فيه الوزير،(2/344)
ويتكئ عليه، وما زال بها إلى أن عمر الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير الخانقاه الركنية، وأخذ من دار الوزارة أنقاضا منها هذا الشباك، فجعله في القبة، وهو شباك جليل، وأما العمامة والرداء: فما زالا بالقصر حتى مات العاضد، وتملك السلطان صلاح الدين ديار مصر، فسيرهما في جملة ما بعث من مصر إلى الخليفة المستضيء بالله العباسيّ ببغداد، ومعهما الكتاب الذي كتبه الخليفة القائم على نفسه، وأشهد عليه العدول فيه أنه لا حق لبني العباس، ولا له من جملتهم في الخلافة مع وجود بني فاطمة الزهراء عليها السلام.
وكان البساسيريّ ألزمه حتى أشهد على نفسه بذلك، وبعث بالأشهاد إلى مصر، فأنفذه صلاح الدين إلى بغداد مع ما سير به من التحف التي كانت بالقصر، وأخبرني شيخ معمر:
يعرف بالشيخ عليّ السعوديّ ولد في سنة سبع وسبعمائة قال: رأيت مرّة، وقد سقط من ظهر الرباط المجاور لخانقا هبيبرس من جملة ما بقي من سور دار الوزارة جانب، ظهرت منه علبة فيها رأس إنسان كبير، وعندي أن هذا الرأس من جملة رؤوس الأمراء البرقية الذين قتلهم ضرغام في أيام وزارته للعاضد بعد شاور، فإنه كان عمل الحيلة عليهم بدار الوزارة، وصار يستدعي واحدا بعد واحد إلى خزانة بالدار، ويوهم أنه يخلع عليهم، فإذا صار واحد منهم في الخزانة قتل، وقطع رأسه، وذلك في سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، وكانت دار الوزارة في الدولة الفاطمية تشتمل على عدّة قاعات، ومساكن وبستان وغيره، وكان فيها مائة وعشرون مقسما للماء الذي يجري في بركها، ومطابخها ونحو ذلك.
ذكر رتبة الوزارة، وهيئة خلعهم، ومقدار جاريهم، وما يتعلق بذلك
أما المعز لدين الله: أوّل الخلفاء الفاطميين بديار مصر، فإنه لم يوقع اسم الوزارة على أحد في أيامه، وأوّل من قيل له الوزير في الدولة الفاطمية، الوزير يعقوب بن كاس وزير العزيز بالله أبي منصور نزار بن المعز، وإليه تنسب الحارة الوزيرية، كما ستقف عليه، عند ذكر الحارات من هذا الكتاب، فلما مات ابن كاس، لم يستوزر العزيز بالله بعده أحدا، وإنما كان رجل يلي الوساطة، والسفارة، فاستقرّ في ذلك جماعة كثيرة بقية أيام العزيز، وسائر أيام ابنه أبي عليّ منصور الحاكم بأمر الله، ثم ولي الوزارة: أحمد بن عليّ الجرجرأيّ في أيام الظاهر أبي هاشم عليّ بن الحاكم، وما زال الوزراء من بعده واحدا بعد واحد، وهم أرباب أقلام حتى قدم أمير الجيوش بدر الجماليّ.
قال ابن الطوير: وكان من زيّ هؤلاء الوزراء، أنهم يلبسون المناديل الطبقيات بالأحناك تحت حلوقهم، مثل العدول الآن، وينفردون بلباس ثياب قصار، يقال لها:
الذراريع، واحدها: ذراعة، وهي مشقوقة أمام وجهه إلى قريب من رأس الفؤاد بأزرار وعرى، ومنهم من تكون أزراره ممن ذهب مشبك، ومنهم من أزراره لؤلؤ، وهذه علامة الوزارة، ويحمل له الدواة المحلاة بالذهب، ويقف بين يديه الحجاب، وأمره نافذ في أرباب(2/345)
السيوف من الأجناد وأرباب الأقلام، وكان آخرهم الوزير: ابن المغربيّ الذي قدم عليه أمير الجيوش بدر الجماليّ من عكا، ووزر للمستنصر: وزير سيف، ولم يتقدّمه في ذلك أحد، انتهى.
وترتيب وزارته بأن تكون وزارته وزارة صاحب سيف بأن تكون الأمور كلها مردودة إليه، ومنه إلى الخليفة، دون سائر خدمه، فعقد له هذا العقد، وأنشئ له السجل، ونعت بالسيد الأجل أمير الجيوش، وهو النعت الذي كان لصاحب ولاية دمشق وأضيف إليه: كافل قضاة المسلمين وهادي دعاة المؤمنين، وجعل القاضي والداعي نائبين عنه، ومقلدين من قبله.
وكتب له في سجله، وقد قلدك أمير المؤمنين: جميع جوامع تدبيره، وناط بك النظر في كل ما وراء سريره، فباشر ما قلدك أمير المؤمنين من ذلك مدبرا للبلاد، ومصلحا للفساد، ومدمرا أهل العناد، وخلع عليه بالعقد المنظوم بالجوهر مكان الطوق، وزيد له الحنك مع الذؤابة المرخاة، والطيلسان المقوزريّ قاضي القضاة، وذلك في سنة سبع وستين وأربعمائة، فصارت الوزارة من حينئذ وزارة تفويض، ويقال لمتوليها: أمير الجيوش، وبطل اسم الوزارة، فلما قام شاهنشاه بن أمير الجيوش من بعد أبيه، ومات الخليفة المستنصر، ولقبه بالمستعلي، صار يقال له: الأفضل ومن بعده صار من يتولى هذه الرتبة يتلقب به أيضا.
وأوّل من لقب بالملك منهم مضافا إلى بقية الألقاب: رضوان بن ولخشي، عندما وزر للحافظ لدين الله، فقيل له: السيد الأجل الملك الأفضل، وذلك في سنة ثلاثين وخمسمائة، وفعل ذلك من بعده، فتلقب طلائع بن رزيك: بالملك المنصور، وتلقب ابنه رزيك بن طلائع: بالملك العادل وتلقب شاور بالملك المنصور، وتلقب آخرهم: صلاح الدين يوسف بن أيوب بالملك الناصر، وصار وزير السيف من عهد أمير الجيوش بدر إلى آخر الدولة، هو سلطان مصر، وصاحب الحل والعقد، وإليه الحكم في الكافة من الأمراء والأجناد، والقضاة، والكتاب، وسائر الرعية، وهو الذي يولي أرباب المناصب الديوانية، والدينية، وصار حال الخليفة معه كما هو حال ملوك مصر من الأتراك إذا كان السلطان صغيرا والقائم بأمره من الأمراء، وهو الذي يتولى تدبير الأمور، كما كان الأمير يلبغا الخاصكيّ مع الأشرف شعبان، وكما أدركنا الأمير برقوق قبل سلطنته مع ولدي الأشرف، وكما كان الأمير أيتمش مع الملك الناصر فرج بعد موت الظاهر برقوق.
قال ابن أبي طي: وكانت خلعهم يعني الخلفاء الفاطميين على الأمراء: الثياب الديبقيّ، والعمائم الصب بالطراز الذهب، وكان طراز الذهب، والعمامة من خمسمائة دينار، ويخلع على أكابر الأمراء: الأطواق الذهب، والأسورة والسيوف المحلاة، وكان يخلع على الوزير عوضا عن الطوق عقد جوهر.(2/346)
قال ابن الطوير «1» : وخلع عليه، يعني على أمير الجيوش بدر الجماليّ بالعقد المنظوم بالجوهر مكان الطوق، وزيد له الحنك، مع الذؤابة المرخاة، والطيلسان المقوّر زي قاضي القضاة، وهذه الخلع تشابه خلع الوزراء، وأرباب الأقلام في زمننا هذا، غير أنه لقصور أحوال الدولة جعل عوض العقد الجوهر الذي كان للوزير، ويفك بخمسة آلاف مثقال ذهبا قلادة من عنبر مغشوش يقال لها: العنبرية، ويتميز بها الوزير خاصة، ويلبس أيضا:
الطيلسان المقوّر، ويسمى اليوم: بالطرحة، ويشاركه فيها جميع أرباب العمائم، إذا خلع عليهم، فإنه تكون خلعهم بالطرحة، وترك أيضا اليوم من خلعة الوزير، وغيره الذؤابة المرخاة، وهي العذبة وصارت الآن من زي القضاة فقط، وهجرها الوزوراء، ويشبه، والله أعلم، أن يكون وضعها في الدولة الفاطمية للوزير في خلعه إشارة إلى أنه كبير أرباب السيوف، والأقلام، فإنه كان مع ذلك يتقلد بالسيف وكذلك ترك في الدولة التركية من خلع الوزارة تقليد السيف لأنه لا حكم له على أرباب السيوف، ولما قام الأفضل بن أمير الجيوش خلع أيضا عليه بالسيف والطيلسان المقوّر، وبعد الأفضل لم يخلع على أحد من الوزراء كذلك إلى أن قدم طلائع بن رزيك، ولقب بالملك الصالح عندما خلع عليه للوزارة، وجعل في خلعته السيف والطيلسان المقوّر.
قال ابن المأمون: وفي يوم الجمعة ثانية، يعني ثاني ذي الحجة يعني سنة خمس عشرة وخمسمائة: خلع على القائد ابن فاتك البطائحي من الملابس الخاص الشريفة في فردكم مجلس الكعبة، وطوّق بطوق ذهب مرصع وسيف ذهب كذلك، وسلم على الخليفة الآمر بأحكام الله، وأمر الخليفة الأستاذين المحنكين بالخروج بين يديه وأن يركب من المكان الذي كان الأفضل بن أمير الجيوش يركب منه، ومشى في ركابه القوّاد على دعاة من تقدّمه وخرج بتشريف الوزارة يعني: من باب الذهب، ودخل من باب العيد راكبا، وجرى الحكم فيه على ما تقدّم للأفضل ووصل إلى داره، فضاعف الرسوم، وأطلق الهبات.
ولما كان يوم الاثنين خامس ذي الحجة اجتمع أمراء الدولة لتقبيل الأرض بين يدي الخليفة الآمر على العادة التي قرّرها مستجدّة، واستدعى الشيخ أبا الحسن بن أبي أسامة، فلما حضر أمر بإحضار السجل للأجل الوزير المأمون من يده، فقبله وسلمه لزمام القصر، وأمر الخليفة الوزير المأمون بالجلوس عن يمينه، وقرىء السجل على باب المجلس، وهو أوّل سجل قرىء في هذا المكان، وكانت سجلات الوزراء قبل ذلك تقرأ بالإيوان، ورسم للشيخ أبي الحسن أن ينقل النسبة للأمراء، والمحنكين من الأمراء إلى المأموني للناس أجمع، ولم يكن أحد منهم ينتسب للأفضل، ولا لأمير الجيوش، وقدّمت الدواة للمأمون، فعلم في مجلس الخليفة، وتقدّمت الأمراء، والأجناد فقبلوا الأرض، وشكروا على هذا(2/347)
الإحسان، وأمر الخليفة بإحضار الخلع لحاجب الحجاب حسام الملك، وطوّق بطوق ذهب، وسيف ذهب، ومنطقة ذهب، ثم أمر بالخلع للشيخ أبي الحسن بن أبي أسامة باستمراره على ما بيده من كتابة الدست الشريف، وشرفه بالدخول إلى مجلس الخليفة، ثم استدعى الشيخ أبا البركات بن أبي الليث، وخلع عليه بدلة مذهبة، وكذلك أبو الرضى سالم ابن الشيخ أبي الحسن، وكذلك أبو المكارم أخوه، وأبو محمد أخوهما، ثم أبو الفضل بن الميدميّ، ووهبه دنانير كثيرة بحكم أنه الذي قرأ السجل، وخلع على الشيخ أبي الفضائل بن أبي الليث، صاحب دفتر المجلس، ثم استدعى عدي الملك سعيد بن عماد الضيف متولي أمور الضيافات، والرسل الواصلين إلى الحضرة من مجلس الأفضل، ولا يصل لعتبته أحد لا حاجب الحجاب، ولا غيره سوى عدي الملك هذا، فإنه كان يقف من داخل العتبة، وكانت هذه الخدمة في ذلك الوقت من أجل الخدم وأكبرها، ثم عادت من أهون الخدم، وأقلها، فعند ذلك قال القاضي أبو الفتح بن قادوس: يمدح الوزير المأمون عند مثوله بين يديه وقد زيد في نعوته:
قالوا أتاه النعت وهو السيد ال ... مأمون حقا والأجلّ الأشرف
ومغيث أمة أحمد ومجيرها ... ما زادنا شيئا على ما نعرف
قال: ولما استمرّ حسن نظر المأمون للدولة، وجميل أفعاله، بلغ الخليفة الآمر بأحكام الله، فشكره وأثنى عليه فقال له المأمون: ثمّ كلام يحتاج إلى خلوة، فقال الخليفة:
تكون في هذا الوقت، وأمر بخلوّ المجلس، فعند ذلك مثل بين يدي الخليفة، وقال له: يا مولانا امتثالنا الأمر صعب، ومخالفته أصعب، وما يتسع خلافه قدّام أمراء دولته، وهو في دست خلافته، ومنصب آبائه وأجداده، وما في قواي ما يرومه مني، ويكفيني هذا المقدار، وهيهات أن أقوم به والأمر كبير، فعند ذلك تغير الخليفة، وأقسم إن كان لي وزير غيرك، وهو في نفسي من أيام الأفضل، وهو مستمرّ على الاستعفاء، إلى أن بان له التغير في وجه الخليفة، وقال: ما اعتقدت أنك تخرج عن أمري، ولا تخالفني فقال له المؤمون عند ذلك:
لي شروط، وأنا أذكرها، فقال له: مهما شئت اشترط، فقال له: قد كنت بالأمس مع الأفضل وكان قد اجتهد في النعوت، وحل المنطقة، فلم أفعل فقال الخليفة: علمت ذلك في وقته، قال: وكان أولاده يكتبون إليه بما يعلمه مولاي من كوني قد خنته في المال والأهل، وما كان والله العظيم ذلك مني يوما قط، ثم مع ذلك معاداة الأهل جميعا والأجناد، وأرباب الطيالس، والأقلام، وهو يعطيني كل رقعة تصل إليه منهم، وما سمع كلام أحد منهم فيّ، فعند ذلك، قال له الخليفة: فإذا كان فعل الأفضل معك ما ذكرته إيش يكون فعلي أنا، فقال المأمون: يعرّفني المولى ما يأمر به، فأمتثله بشرط أن لا يكون عليه زائد، فأوّل ما ابتدأ به أن قال: أريد الأموال لا تجبى إلا بالقصر ولا تصل الكسوات من الطراز والثغور إلّا إليه، ولا تفرّق إلّا منه، وتكون أسمطة الأعياد فيه، ويوسع في رواتب(2/348)
القصور من كل صنف وزيادة رسم منديل الكمّ، فعند ذلك قال له المأمون: سمعا وطاعة، أما الكسوات والجباية من الأسمطة، فما تكون إلّا بالقصور، وأما توسعة الرواتب فما ثم من يخالف الأمر، وأما زيادة رسم منديل الكم، فقد كان الرسم في كل يوم ثلاثين دينارا، يكون في كل يوم مائة دينار، ومولانا سلام الله عليه يشاهد ما يعمل بعد ذلك في الركوبات، وأسمطة الأعياد، وغيرها في سائر الأيام، ففرح الخليفة، وعظمت مسرّته، ثم قال المأمون: أريد بهذا مسطورا بخط أمير المؤمنين، ويقسم لي فيه بآبائه الطاهرين أن لا يلتفت لحاسد، ولا مبغض، ومهما ذكر فيّ يطلعني عليه، ولا يأمر فيّ بأمر سرّا، ولا جهرا، يكون فيه ذهاب نفسي، وانحطاط قدري، وهذه الإيمان باقية إلى وقت وفاتي فإذا توفيت تكون لأولادي، ولمن أخلفه بعدي، فحضرت الدواة، وكتب ذلك جميعه، وأشهد الله تعالى في آخرها على نفسه، فعندما حصل الخط بيد المأمون وقف، وقبل الأرض، وجعله على رأسه، وكان الخط بالأيمان نسختين: إحداهما في قصبة فضة، قال: فلما قبض على المأمون في شهر رمضان سنة تسع وعشرين وخمسمائة أنفذ الخليفة الآمر بأحكام الله يطلب الإيمان، فنفذ له التي في القصبة الفضة، فحرّقها لوقتها، وبقيت النسخة الأخرى عندي، فعدمت في الحركات التي جرت.
وقال ابن ميسر: في حوادث سنة خمس عشرة وخمسمائة، وفيها: تشرّف القائد أبو عبد الله محمد ابن الأمير نور الدولة أبي شجاع فاتك ابن الأمير منجد الدولة أبي الحسن مختار المستنصري المعروف: بابن البطائحيّ في الخامس من ذي الحجة، وكان قبل ذلك عند الأفضل استاداره، وهو الذي قدّمه إلى هذه المرتبة، واستقرّت نعوته في سجله المقرّر على كافة الأمراء، والأجناد بالأجل المأمون، تاج الخلافة، عز الإسلام، فخر الأنام، نظام الدين والدنيا، ثم نعت بما كان ينعت به الأفضل، وهو السيد الأجل المأمون أمير الجيوش سيف الإسلام، ناصر الأنام، كافل قضاة المسلمين، وهادي دعاة المؤمنين.
ولما كان يوم الثلاثاء التاسع من ذي الحجة، وهو يوم الهناء بعيد النحر، جلس المأمون في داره عند أذان الصبح، وجاء الناس لخدمته للهناء على طبقاتهم من أرباب السيوف، والأقلام، ثم الأمراء، والأستاذون المحنكون، والشعراء بعدهم، فركب إلى القصر، وأتى باب الذهب، فوجد المرتبة المختصة بالوزارة، وقد هيئت له في موضعها الجاري به العادة، وأغلق الباب الذي عندها على الرسم المعتاد لوزراء السيوف والأقلام، وهذا الباب يعرف: بباب السرداب، فعند ما شاهد الحال في المرتبة توقف عن الجلوس عليها، لأنها حالة لم يجر معه حديث فيها، ثم ألجأته الضرورة لأجل حضور الأمراء إلى الجلوس فجلس عليها، وجلس أولاده الثلاثة عن يمينه، وأخواه عن يساره، والأمراء المطوّقون خاصة دون غيرهم قيام بين يديه، فإنه لا يصل أحد إلى هذا المكان سواهم، فلم يكن بأسرع من أن فتح الباب، وخرج عدّة من الأستاذين المحنكين بسلام أمير المؤمنين،(2/349)
وخرج إليه الأمير الثقة متولي الرسالة، وزمام القصور، فعند حضوره وقف له أولاد المأمون، وأخواه فطلع عند خروجه قبالة المرتبة، وقال أمير المؤمنين يردّ على السيد الأجل المأمون السلام، فوقف عند ذلك المأمون، وقبل الأرض، وعاد فجلس مكانه، وتأخر الأمير إلى أن نزل من المصطبة، وقبل الأرض، وقبل يد المأمون، ودخل من فوره من الباب، وأغلق الباب على حاله على ما كان عليه الأفضل، وكان الأفضل يقول: ما أزال أعدّ نفسي سلطانا حتى أجلس على تلك المرتبة، والباب يغلق في وجهي والدخان في أنفي، فإن الحمام كانت من حلف الباب في السرداب، ثم فتح الباب، وعاد الثقة، وأشار بالدخول إلى القصر فدخل إلى المكان الذي هيئ له، وعاد لمجلس الوزارة، وبقي الأمراء بالدهاليز إلى أن جلس الخليفة.
واستفتح القرّاء، واستدعى المأمون، فحضر بين يديه وسلم عليه أولاده، وإخوته وأحلّ الأمراء على قدر طبقاتهم، أوّلهم: أرباب الأطواق، ويليهم أرباب العماريات، والأقصاب، ثم الضيوف والأشراف، ثم دخل ديوان المكاتبات وسلم بهم الشيخ أبو الحسن ابن أبي أسامة، ثم ديوان الإنشاء، وسلم بهم الشريف ابن أنس الدولة، ثم بقية الطالبيين من الأشراف، ثم سلم القاضي ابن الرسعنيّ بشهوده والداعي ابن عبد الحق بالمؤمنين، ثم سلم القائد مقبل مقدّم الركاب الآمري، بجميع المقدّمين الآمرية، ثم سلم بعدهم الشيخ أبو البركات بن أبي الليث متولي ديوان المملكة ثم دخل الأجناد من باب البحر، وسلم كل طائفة بمقدّمها، فلما انقضى ذلك دخل والي القاهرة، ووالي مصر وسلم كل منهما ببياض أهل البلدين.
ثمّ دخل البطرك بالنصارى، وفيهم كتاب الدولة من النصارى، ورئيس اليهود، ومعه الكتاب من اليهود، ثم سلم المقربون، وقد قارب القصر، ودخل الشعراء على طبقاتهم، وأنشد كل منهم ما سمحت به قريحته.
قال: فكان هذا رتبة الوزير المأمون، قال ابن المأمون: وأما ما قرّر للوزارة عينا في الشهر بغير إيجاب بل يقبض من بيت المال، فهو ثلاثة آلاف دينار. تفصيلها: ما هو على حكم النيابة في العلامة: ألف دينار، وما هو على حكم الراتب: ألف وخمسمائة دينار، وما هو عن مائة غلام برسم مجلسه، وخدمته لكل غلام: خمسة دنانير في الشهر، فأما الغلمان الركابية، وغيرهم من الفرّاشين والطباخين، فعلى حكم ما يرغب في إثباته، وفي السنة من الإقطاعات: خمسون ألف دينار منها: دهشور، وجزيرة الذهب، وبقية الجملة صفقات، ومن البساتين ثلاثة: بستان لأمير تميم، وبستانان بكوم أشفين.
ومن القوت يعني القمح، ومن القضم يعني الشهير والبرسيم في السنة: عشرون ألف إردب قمحا وشعيرا، ومن الغنم برسم مطابخه، ساقه من المراحات ثمانية آلاف رأس، وأما(2/350)
الحيوان والأحطاب، وجميع التوابل العال منها والدون، فمهما استدعاه متولي المطابخ يطلق من دار أفتكين، وشون الأحطاب، وغير ذلك، وقد تقدّم مقرّر كسوة الوزارة في العيدين، وفصلي الشتاء والصيف، وموسم عيد الغدير وفتخ الخليج، وغير ذلك من غرّتي شهر رمضان، وأوّل العام وغيره، كما سيرد في موضعه من هذا الكتاب، إن شاء الله تعالى.
وقد استقصيت سير الوزراء في كتابي الذي سميته تلقيح العقول، والآراء في تنقيح أخبار الجلة الوزراء. فانظره.
ذكر الحجر «1» التي كانت برسم الصبيان الحجرية
وكان بجوار دار الوزارة مكان كبير يعرف: بالحجر: جمع حجرة فيها الغلمان المختصون بالخلفاء، كما أدركنا بالقلعة البيوت التي كان يقال لها: الطباق، وكانت هذه الحجر من جانب حارة الجوّانية، وإلى حيث المسجد الذي يعرف: بمسجد القاصد تجاه باب الجامع الحاكميّ الذي يفضي إلى باب النصر، فمن حقوق هذه الحجر: دار الأمير بهادر اليوسفيّ السلاحدار الناصريّ، التي تجاور المسجد الكائن على يمنة من سلك من باب الجوّنية طالبا باب النصر، ومنها الحوض المجاور لهذه الدار، ودار الأمير أحمد قريب الملك الناصر محمد بن قلاون، والمسجد المعروف بالنخلة، وما بجواره من القاعتين اللتين تعرف إحداهما: بقاعة الأمير علم الدين سنجر الجاوليّ، وما في جانبها إلى مسجد القاصد، وما وراء هذه الدور، وكان لهؤلاء الحجرية: إصطبل برسم دوابهم سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
وما زالت هذه الحجر باقية بعد انقضاء دولة الخلفاء الفاطميين إلى ما بعد السبعمائة، فهدمت وابتنى الناس مكانها الأماكن المذكورة.
قال ابن أبي طيّ: عن المعز لدين الله، وجعل كل ماهر في صنعة صانعا للخاص، وأفرد لهم مكانا برسمهم، وكذلك فعل بالكتاب والأفاضل، وشرط على ولاة الأعمال عرض أولاد الناس بأعمالهم، فمن كان ذا شهامة، وحسن خلقة أرسله ليخدم في الركاب، فسيروا إليه عالما من أولاد الناس، فأفرد لهم دورا، وسماها الحجر.
وقال ابن الطوير: وكوتب الأفضل بن أمير الجيوش من عسقلان باجتماع الفرنج، فاهتمّ للتوجه إليها، فلم يبق ممكنا من مال وسلاح، وخيل ورجال واستناب أخاه المظفر:(2/351)
أبا محمد جعفر بن أمير الجيوش بدر بين يدي الخليفة مكانه، وقصد استنفاذ الساحل من يد الفرنج، فوصل إلى عسقلان، وزحف عليها بذلك العسكر، فخذل من جهة عسكره، وهي نوبة النصة، وعلم أنّ السبب في ذلك من جنده، ولما غلب حرّق جميع ما كان معه من الآلات، وكان عند الفرنج شاعر منتجع إليهم فقال: يخاطب صنجل ملك الفرنج:
نصرت بسيفك دين المسيح ... فلله درك من صنجل
وما سمع الناس فيما رووه ... بأقبح من كسرة الأفضل
فتوصل الأفضل إلى ذبح هذا الشاعر، ولم ينتفع بعد هذه النوبة أحد من الأجناد بالأفضل، وحظر عليهم النعوت ولم يسمع لأحد منهم كلمة، وأنشأ سبع حجر، واختار من أولاد الأجناد ثلاثة آلاف راجل، وقسمهم في الحجر، وجعل لكل مائة زمانا، ونقيبا، وزم الكل بأمير يقال له: الموفق، وأطلق لكل منهم ما يحتاج إليه من خيل وسلاح، وغيره.
وعني بهؤلاء الأجناد، فكان إذا دهمه أمر مهمّ جهزهم إليه مع الزمام الأكبر.
وقال ابن المأمون: وكان من جملة الحجرية الذين يحضرون السماط رجل يعرف بابن زحل، وكان يأكل خروفا كبيرا مشويا، ويستوفيه إلى آخره، ثم يقدّم له صحن كبير من القصور المعمولة بالسكرة، وجميع صنوف الحيوانات على اختلاف أجناسها، ما لم يعمل قط مثله من الأطعمة، فيأكل معظمه، وكان يقعد في طرف المدوّرة، حتى يكون بالقرب من نظر الخليفة، لا لميزته، وكان من الأجناد وأسر في أيام الأفضل، وقيده الفرنجيّ الذي أسره، وعذبه وطالت مدّته في الأسر، وكان فقيرا، فاتفق أن ذكر للفرنجيّ كثرة أكله، فأراد أن يمتحنه، فقال له: أحضر لي عجلا أكبر عجل عندكم آكله إلى آخره، فضحك منه الفرنجيّ، ونقص عقله وأتاه بعجل كبير، ويقال: بخنزير، فقال له: اذبحه واشوه وائتني معه بجرّة خل، ثم قال: إذا أكلته ما يكون لي عندك، فغلط الفرنجيّ، وقال له: أطلقك حتى تمضي إلى أهلك، فاستحلفه على ذلك، وغلظ عليه اليمين، وأحضر الفرنجيّ عدّة من أصحابه ليشاهدوا فعله، فلما استوفى العجل جميعه صلّب كل من الحاضرين على وجهه وتعجب من فعله، وأطلقه، فقال: أخاف من أن يعتقد أنني هربت فأرد إليكم، فأحضر الفرنجيّ من العربان من سلمه إليهم، ولم يشعر به إلّا بباب عسقلان، فطلع منها، وأعفي بعد ذلك من السفر، وبقي برسم الأسمطة.
وقال ابن عبد الظاهر: الحجر قريب من باب النصر، وهو مكان كبير في صف دار الوزارة إلى جانبه باب القوس الذي يسمى: باب النصر قديما على يمنة الخارج من القاهرة، كان تربى فيه جماعة من الشباب يسمون: صبيان الحجر، يكونون في جهات متعدّدة، وهم يناهزون خمسة آلاف نسمة، ولكل حجرة اسم تعرف به، وهي المنصورة، والفتح والجديدة، وغير ذلك مفردة لهم، وعندهم سلاحهم، فإذا جرّوا خرج كل منهم لوقته لا(2/352)
يكون له ما يمنعه، وكانوا في ذلك على مثال الذؤابة، والأستار، وكانوا إذا سمى الرجل منهم: بعقل وشجاعة خرج من هناك إلى الأمرة، أو التقدمة مثل عليّ بن السلار، وغيره، ولا يأوي أحد منهم إلا بحجرته بفرسه، وعدّته وقماشه، وللصبيان الحجرية حجرة مفردة، عليهم أستاذون يبيتون عندهم، وخدّام برسمهم.
ذكر المناخ السعيد
وكان من وراء القصر الكبير فيما يلي ظهر دار الوزارة الكبرى والحجر: المناخ، وهو موضع برسم طواحين القمح التي تطحن جرايات القصور، وبرسم مخازن الأخشاب، والحديد ونحو ذلك.
قال ابن الطوير: وأما المناخات ففيها من الحواصل، ما لا يحصره، إلّا القلم من الأخشاب، والحديد، والطواحين النجدية، والغشيمة، وآلات الأساطيل من الأسلحة المعمولة بيد الفرنج القاطنين فيه، والقنب، والكتان، والمنجنيقات المعدّة، والطواحين الدائرة برسم الجرايات المقدّم ذكرها، والزفت في المخازن الذي عليه الأتربة، ولا ينقطع إلّا بالمعاول، وقد أدركت هذه الدولة، يعني دولة بني أيوب منه شيئا كثيرا في هذا المكان انتفع به، وإليه يأوي الفرنج في بيوت برسمهم، وكانت عدّتهم كثيرة، ففيه من النجارين والجزارين، والدهانين والخبازين والخياطين، والفعلة، ومن العجانين، والطحانين في تلك الطواحين، والفرّانين في أفران الجرايات، وفي هذا المكان مادّة أكثر أهل الدولة، وحامية أمير من الأمراء ومشارفه من العدول، وفيه أيضا شاهد النفقات، وعامل يتولى التنفيذ مع المشارف، وعامل برسم نظم الحساب من تعلقاتهما بجار غير جواريهم، لأنّ أوقاتهم مستغرقة في مباشرة الإطلاقات وغيرها، وذكر ابن الطوير: أن المأمون بن البطائحيّ استجدّ طواحين برسم الرواتب.
ذكر اصطبل الطارمة «1»
الطارمة: بيت من خشب، وهو دخيل، وكان بجوار القصر الكبير، تجاه باب الديلم من شرقيّ الجامع الأزهر اصطبل.
قال ابن الطوير: وكان لهم اصطبلان أحدهما يعرف بالطارمة يقابل قصر الشوك، والآخر بحارة زويلة يعرف بالجميزة.(2/353)
وكان للخليفة الحاضر ما يقرب من ألف رأس في كل اصطبل، النصف من ذلك منها، ما هو برسم الخاص، ومنها ما يخرج برسم العواري لأرباب الرتب، والمستخدمين دائما، ومنها ما يخرج أيام المواسم، وهي التغيرات المتقدّم ذكر إرسالها لأرباب الرتب، والخدم، والمرتب لكل اصطبل منها لكل: ثلاثة أرؤس سائس واحد ملازم، ولكل واحد منها: شدّاد برسم تسييرها، وفي كل اصطبل بئر بساقية، تدور إلى أحواض، ومخازن فيها الشعير، والأقراط اليابسة المحمولة من البلاد إليها، ولكل عشرين رجلا من السّواس: عريف يلتزم دركهم بالضمان لأنهم الذين يتسلمون من خزائن السروج المركبات بالحلي، ويعيدونها إليها كما تقدّم ذكره في خزائن السروج ولكل من الاصطبلين: رائض كأمير أخور، ولهما ميرة، وجامكية متسعة، وللعرفاء على السّواس ميرة، وللجماعات الجرايات من القمح، والخبز خارجا عن الجامكيات، فإذا بقي لأيام المواسم التي يركب فيها الخليفة بالمظلة مدّة أسبوع أخرج إلى كل رائض في الإصطبل مع أستاذ مظلة ديبقيّ مركبة على قنطارية مدهونة، ويختص الرائض على ما يركبه الخليفة إما فرسين أو ثلاثة، وعليهما المركبات الحلي التي يركبها الخليفة، فيركبها الرائض بحائل بينه وبين السرج، ويركب الأستاذ بغلة مظلة، ويحمل تلك المظلة، ويسير في براح الاصطبل، وفيه سعة عظيمة مارّا، وعائدا وحولها البوق والطبل، فيكرّر ذلك عدّة دفعات في كل يوم مدّة ذلك الأسبوع، ليستقرّ ما يركبه الخليفة من الدواب على ذلك، ولا ينفر منه في حال الركوب عليه، فيعمل كذلك في كل اصطبل من الاصطبلين، والدواب البغلة التي تتهيأ، هي التي يركبها الخليفة، وصاحب المظلة يوم الموسم، ولا يختل ذلك.
ويقال: إنه ما راثت دابة ولا بالت، والخليفة راكبها، ولا بغلة صاحب المظلة أيضا إلى حين نزولهما عنهما، وكان في الساحل بطريق مصر من القاهرة في البساتين المنسوبة إلى ملك صارم الدين حللبا: شونتان مملوءتان تبنا معبيتان كتعبيته في المراكب كالجبلين الشاهقين، ولهما مستخدمون حام، ومشارف، وعامل بجامكية جيدة تصل بذلك المراكب التبانة المؤهلة له، من موظف الأتبان بالبلاد الساحلية وغيرها، مما يدخل إليه في أيام النيل، ولها رؤساء، وأمرها جار في ديوان العمائر، والصناعة، والإنفاق منها بالتوقيعات السلطانية للاصطبلات المذكورة وغيرها من الأواسي الديوانية، وعوامل بساتين الملك، وإذا جرى بين المستخدمين خلف في الشنف التبن المعتبر، عادوا إلى قبضه بالوزن، فيكون الشنف التبن: ثلثمائة وستين رطلا بالمصريّ، نقيا وإذا أنفقوا دريسا قد تغيرت صورة قته كان عن القتة اثنا عشر رطلا، ولم يزل ذلك كذلك إلى آخر وقته، ومما يخبر عنهم أنهم لم يركبوا حصانا أدهم قط، ولا يرون إضافته إلى دوابهم بالاصطبلات، وقال ابن عبد الظاهر:
اصطبل الطارمة: كان اصطبلا للخليفة، فلما زالت تلك الأيام اختط وبنى آدرا.(2/354)
ذكر دار الضرب «1» وما يتعلق بها
وكان بجوار خزانة الدرق التي هي اليوم: خان مسرور الكبير، دار الضرب، وموضعها حينئذ كان بالقشاشين التي تعرف اليوم: بالخرّاطين، وصار مكان دار الضرب اليوم: درب يعرف بدرب: الشمسيّ في وسط سوق السقطيين المهامزيين، وباب هذا الدرب: تجاه قيسارية العصفر، فإذا دخلت هذا الدرب، فما كان على يسارك من الدور فهو موضع دار الضرب، وبجوارها دار الوكالة الحافظية، فجعلت الحوانيت التي على يمنة من سلك من رأس الخرّاطين تجاه سوق العنبر طالبا الجامع الأزهر في ظهر دار الضرب، وأنشأ هذه الحوانيت، وما كان يعلوها من البيوت الأمير المعظم: خمرتاش الحافظيّ، وجعلها وقفا، وقال في كتاب وقفها: وحدّ هذه الحوانيت الغربيّ ينتهي إلى دار الضرب، وإلى دار الوكالة، وقد صارت هذه الحوانيت الآن من جملة أوقاف المدرسة الجمالية مما اغتصب من الأوقاف، وما زالت دار الضرب هذه في الدولة الفاطمية باقية إلى أن استبدّ السلطان صلاح الدين، فصارت دار الضرب حيث هي اليوم، كما تقدّم ذكره، وكان لدار الضرب المذكورة في أيامهم أعمال ويعمل بها دنانير الغرّة، ودنانير خميس العدس، ويتولاها قاضي القضاة لجلالة قدرها عندهم.
قال ابن المأمون: وفي شوّال منها، وهي سنة ست عشرة وخمسمائة أمر الأجل ببناء دار الضرب بالقاهرة المحروسة لكونها مقرّ الخلافة وموطن الإمامة، فبنيت بالقشاقشين:
قبالة المارستان، وسميت بالدار الآمرية، واستخدم لها العدول، وصار دينارها أعلى عيارا من جميع ما يضرب بجميع الأمصار، انتهى.
وكانت دار الضرب المذكورة تجاه المارستان، فكان المارستان، بجوار خزانة الدرق، فما عن يمينك الآن إذا سلكت من رأس الخرّاطين، فهو موضع دار الضرب، ودار الوكالة هكذا إلى الحمام التي بالخرّاطين، وما وراءها، وما عن يسارك، فهو موضع المارستان.
قال ابن عبد الظاهر: في أيام المأمون بن البطائحي وزير الآمر بأحكام الله بنيت دار الضرب في القشاشين قبالة المارستان الذي هناك وسميت بالدار الآمرية.
دار العلم الجديدة «2» : وكان بجوار القصر الكبير الشرقيّ: دار في ظهر خزانة الدرق من باب تربة الزعفران لما أغلق الأفضل بن أمير الجيوش دار العلم التي كان الحاكم بأمر الله(2/355)
فتحها في باب التبانين اقتضى الحال بعد قتله إعادة دار العلم، فامتنع الوزير المأمون من إعادتها في موضعها، فأشار الثقة زمام القصور بهذا الموضع، فعمل دار العلم في شهر ربيع الأوّل سنة سبع عشرة وخمسمائة، وولاها لأبي محمد حسن بن أدم، واستخدم فيها مقرئين ولم تزل دار العلم عامر حتى زالت الدولة الفاطمية.
قال ابن عبد الظاهر: رأيت في بعض كتب الأملاك القديمة ما يدل على أنها قريبة من القصر النافعيّ، وكذا ذكر لي السيد الشريف الحلبيّ، أنها دار ابن أزدمر المجاورة لدار سكنى الآن، خلف فندق مسرور الكبير، وكذلك قال لي والدي رحمه الله، وقد بناها جمال الدين الإستادار الحلبيّ: دارا عظيمة غرم عليها مائة ألف، وأكثر من ذلك على ما ذكره، انتهى. وموضع دار العلم هذه دار كبيرة ذات زلاقة بجوار درب ابن عبد الظاهر قريبا من خان الخليلي، بخط الزراكشة العتيق.
موسم أوّل العام: قال ابن المأمون، وأسفرت غرّة سنة سبع عشرة، وخمسمائة، وبادر المستخدمون في الخزائن، وصناديق الإنفاق بحمل ما يحضر بين يدي الخليفة من عين، وورق من ضرب السنة المستجدّة، ورسم جميع من يختص به من إخوته، وجهاته، وقرابته، وأرباب الصنائع، والمستخدمات، وجميع الأستاذين العوالي والأدوان، وثنوا بحمل ما يختص بالأجلّ المأمون، وأولاده، وإخوته، واستأذنوا على تفرقة ما يختص بالأجلّ المأمون، وأولاده، والأصحاب والحواشي والأمراء، والضيوف، والأجناد، فأمروا بتفرقته، والذي اشتمل عليه المبلغ في هذه السنة نظير ما كان قبلها، وجلس المأمون باكرا على السماط بداره، وفرّقت الرسوم على أرباب الخدم والمميزين من جميع أصنافه على ما تضمنته الأوراق، وحضرت التعاشير، والتشريفات، وزي الموكب إلى الدار المأمونية، وتسلم كل من المستخدمين المدارج بأسماء من شرف بالحجبة، ومصفات العساكر، وترتيب الأسمطة، وأصمد كل منهم إلى شغله، وتوجه لخدمته، ثم ركب الخليفة، واستدعى الوزير المأمون، ثم خرج من باب الذهب، وقد نشرت مظلته، وخدمت الرهجية، ورتب الموكب والجنائب، ومصفات العساكر عن يمينه وشماله، وجميع تجار البلدين من الجوهريين والصيارف، والصاغة، والبزازين، وغيرهم قد زينوا الطريق بما تقتضيه تجارة كل منهم، ومعاشه لطلب البركة بنظر الخليفة.
وخرج من باب الفتوح، والعساكر فارسها وراجلها بتجملها وزيها، وأبواب حارات العبيد معلقة بالستور، ودخل من باب النصر والصدقات تعمّ المساكين، والرسوم تفرّق على المستقرّين إلى أن دخل من باب الذهب، فلقيه المقرئون بالقرآن الكريم في طول الدهاليز إلى أن دخل خزانة الكسوة الخاص، وغير ثياب الموكب بغيرها، وتوجه إلى تربة آبائه للترحيم على عادته، وبعد ذلك إلى ما رآه من قصوره على سبيل الراحة، وعبيت الأسمطة،(2/356)
وجرى الحال فيها، وفي جلوس الخليفة، ومن جرت عادته، وتهيئة قصور الخلافة، وتفرقة الرسوم على ما هو مستقرّ.
وتوجه الأجلّ المأمون إلى داره، فوجد الحال في الأسمطة على ما جرت به العادة والتوسعة فيها أكثر مما تقدّمها، وكذلك الهناء في صبيحة الموسم بالدار المأمونية والقصور، وحضر من جرت العادة بحضوره للهناء وبعدهم الشعراء على طبقاتهم، وعادت الأمور في أيام السلام، والركوبات، وترتيبها على المعهود، وأحضر كل من المستخدمين في الدواوين ما يتعلق بديوانه من التذاكر، والمطالعات مما تحتاج إليه الدولة في طول السنة، وينعم به ويتصدّق ويحمل إلى الحرمين الشريفين من كل صنف على ما فصل في التذاكر على يد المندوبين، ويحمل إلى الثغور ويخزن من سائر الأصناف ما يستعمل، ويباع في الثغور والبلاد والاستيمار وجريدة الأبواب، وتذكرة الطراز والتوقيع عليها.
وقال ابن الطوير: فإذا كان العشر الأخير من ذي الحجة في كل سنة انتصب كل من المستخدمين بالأماكن لإخراج آلات الموكب من الأسلحة وغيرها، فيخرج من خزائن الأسلحة ما يحمله صبيان الركاب حول الخليفة من الأسلحة، وهو الصماصم المصقولة المذهبة، مكان السيوف المحدّبة، والدبابيس الكيمخت «1» الأحمر والأسود، ورؤوسها مدوّرة مضرّسة، واللتوت «2» كذلك ورؤوسها مستطيلة مضرّسة أيضا، وآلات يقال لها:
المستوفيات، وهي عمد حديد من طول ذراعين مربة الأشكال بمقابض مدوّرة في أيديهم بعدّة معلومة من كل صنف، فيتسلمها نقباؤهم، وهي في ضمانهم، وعليهم إعادتها إلى الخزائن بعد تقضي الخدمة بها، ويخرج للطائفة من العبيد الأقوياء السودان الشباب، ويقال لهم: أرباب السلاح الصفر، وهم ثلثمائة عبد لكل واحد حربتان بأسنة مصقولة تحتها جلب فضة كل اثنتين في شرابة وثلثمائة درقة بكوامخ فضة، يتسلم ذلك عرفاؤهم على ما تقدّم، فيسلمونه للعبيد لكل واحد حربتان ودرقة.
ثم يخرج من خزانة التجمل، وهي من حقوق خزائن السلاح القصب الفضة برسم تشريف الوزير، والأمراء أرباب الرتب، وأزمّة العساكر، والطوائف من الفارس، والراجل وهي رماح ملبسة بأنابيب الفضة المنقوشة بالذهب إلّا ذراعين منها، فيشدّ في ذلك الخالي من الأنابيب عدّة من المعاجر الشرب الملوّنة، ويترك أطرافها المرقومة مسبلة كالصناجق «3» ، وبرءوسها رمامين منفوخة فضة مذهبة وأهلة مجوّفة كذلك، وفيها جلاجل لها حس إذا(2/357)
تحرّكت، وتكون عدّتها ما يقرب من مائة، ومن العماريات «1» ، وهي شبه الكخاوات «2» من الديباج الأحمر، وهو أجلها والأصفر والقرقوبيّ، والسقلاطون «3» مبطنة مضبوطة بزنانير حرير، وعلى دائر التربيع منها: مناطق بكوامخ فضة مسمورة في جلد نظير عدد القصب، فيسير من القصب عشرة، ومن العماريات مثلها من الحمر خاصة، ويخرج للوزير خاصة لواءان على رمحين طويلين ملبسين، بمثل تلك الأنابيب ونفس اللواء ملفوف غير منشور، وهذا التشريف يسير أمام الوزير، وهو للأمراء من ورائهم، ثم يسير للأمراء أرباب الرتب في الخدم، وأوّلهم صاحب الباب، وهو أجلهم خمس قصبات، وخمس عماريات، ويرسل لأسفهسلار العساكر أربع قصبات، وأربع عماريات من عدّة ألوان، ومن سواهما من الأمراء على قدر طبقاتهم: ثلاث ثلاث واثنتان اثنتان، وواحدة واحدة، ثم يخرج من البنود الخاص الديبقيّ المرقوم الملوّن برماح ملبسة بالأنابيب، وعلى رؤوسها الرمامين، والأهلة للوزير خاصة، ودون هذه البنود مما هو من الحرير على رماح غير ملبسة ورؤوسها ورمامينها من نحاس مجوّف مطليّ بالذهب، فتكون هذه أمام الأمراء المذكورين من تسعة إلى سبعة أذرع برأسها طلعة مصقولة، وهي من خشب القنطاريات داخلة في الطلعة، وعقبها حديد مدوّر أسفل، فهي في كف حاملها الأيمن، وهو يفتلها فيه فتلا متدارك الدوران، وفي يده اليسرى تشابه كبير يخطر بها، وعدّتها ستون مع ستين رجلا يسيرون رجالة في الموكب يسيرون يمنة ويسرة.
ثم يخرج من النقارات «4» حمل عشرين بغلا على كل بغل ثلاث مثل نقارات الكوسات «5» بغير كوسات يقال لها طبول، فيتسلمها صناعها، ويسيرون في الموكب اثنين اثنين ولها حس مستحسن، وكان لها ميزة عندهم في التشريف، ثم يخرج لقوم متطوّعين بغير جار، ولا جراية تقرب عدّتهم من مائة رجل لكل واحد درقة من درق اللمط «6» ، وهي واسعة وسيف، ويسيرون أيضا رجالة في الموكب هذا وظيفة خزائن السلاح.
ثم يحضر حامي خزائن السروج وهو من الأستاذين المحنكين إليها مع مشارفها، وهو من الشهود المعدّلين، فيخرج منها برسم خاص الخليفة من المركبات الحلي ما هو برسم(2/358)
ركوبه، وما يجنب في موكبه مائة سرج، منها سبعون على سبعين حصانا، ومنها ثلاثون على ثلاثين بغلة كل مركب مصوغ من ذهب أو من ذهب وفضة، أو من ذهب منزل فيه المينا، أو من فضة منزلة بالمينا، وروادفها وقرابيسها من نسبتها، ومنها ما هو مرصع بالجواهر الفائقة، وفي أعناقها الأطواق الذهب، وقلائد العنبر، وربما يكون في أيدي وأرجل أكثرها خلاخل مسطوحة دائرة عليها، ومكان الجلد من السروج الديباج الأحمر والأصفر، وغيرهما من الألوان والسقلاطون المنقوش بألوان الحرير، قيمة كل دابة، وما عليها من العدّة ألف دينار، فيشرّف الوزير من هذه بعشرة حصن لركوبه وأولاده وإخوته، ومن يعز عليه من أقاربه، ويسلم ذلك لعرفاء الاصطبلات بالعرض عليهم من الجرائد التي هي ثابتة فيها بعلاماتها في أماكنها، وأعدادها، وعدد كل مركب منقوش عليه مثل: أوّل وثان وثالث إلى آخرها كما هو مسطور في الجرائد، فيعرف بذلك قطعة قطعة، ويسلمها العرفاء للشدّادين بضمان عرفائهم إلى أن تعود، وعليهم غرامة ما نقص منها، وإعادتها برمّتها.
ثم يخرج من الخزائن المذكورة لأرباب الدواوين المرتبين في الخدم على مقاديرهم مركبات أيضا من الحليّ دون ما تقدّم ذكره، وما تقرب عدّته من ثلثمائة مركب على خيل وبغلات، وبغال يتسلمها العرفاء المتقدّم ذكرهم على الوجه المذكور، وينتدب حاجب يحضر على التفرقة لفلان، وفلان من أرباب الخدم سيفا وقلما، فيعرّف كل شدّاد صاحبه، فيحضر إليه بالقاهرة ومصر سحر يوم الركوب، ولهم من الركاب رسوم من دينار إلى نصف دينار إلى ثلث دينار، فإذا تكمل هذا الأمر، وسلم أيضا الجمالون بالمناخات أغشية العماريات، ويكون إراحة في ذلك كله إلى آخر الثامن والعشرين من ذي الحجة، وأصبح اليوم التاسع والعشرون من سلخه على رأي القوم، عزم الخليفة على الجلوس في الشباك لعرض دوابه الخاص المقدّم ذكرها، ويقال له: يوم عرض الخيل، فيستدعي الوزير بصاحب الرسالة، وهو من كبار الأستاذين المحنكين، وفصحائهم وعقلائهم ومحصليهم، فيمضي إلى استدعائه في هيئة المسرعين على حصان دهراج «1» امتثالا لأمر الخليفة بالإسراع على خلاف حركته المعتادة، فإذا عاد مثل بين يدي الخليفة، وأعلمه باستدعائه الوزير، فيخرج راكبا من مكانه في القصر ولا يركب أحد في القصر إلّا الخليفة، وينزل في السدلا «2» بدهليز باب الملك الذي فيه الشباك، وعليه من ظاهره للناس ستر، فيقف من جانبه الأيمن زمام القصر «3» ، ومن جانبه الأيسر صاحب بيت المال، وهما من الأستاذين المحنكين فيركب(2/359)
الوزير من داره، وبين يديه الأمراء، فإذا وصل إلى باب القصر ترجل الأمراء، وهو راكب، ويكون دخوله في هذا اليوم من باب العيد، ولا يزال راكبا إلى أوّل باب من الدهاليز الطوال، فينزل هناك، ويمشي فيها، وحواليه حاشيته، وغلمانه وأصحابه، ومن يراه من أولاده، وأقاربه ويصل إلى الشباك فيجد تحته كرسيا كبيرا من كراسي البلق الجيد، فيجلس عليه، ورجلاه تطأ الأرض، فإذا استوى جالسا رفع كل أستاذ الستر من جانبه، فيرى الخليفة جالسا في المرتبة الهائلة، فيقف ويسلم ويخدم بيده إلى الأرض ثلاث مرات، ثم يؤمر بالجلوس على كرسيه، فيجلس ويستفتح القرّاء بالقراءة قبل كل شيء بآيات لائقة بذلك الحال، مقدار نصف ساعة، ثم يسمر الأمراء، ويسرع في عرض الخيل، والبغال الخاص المقدّم ذكرها دابة دابة، وهي هادئة كالعرائس بأيدي شدّاديها إلى أن يكمل عرضها، فيقرأ القرّاء لختم ذلك الجلوس، ويرخي الأستاذان الستر، فيقدّم الوزير ويدخل إليه، ويقبل يديه ورجليه وينصرف عنه إلى داره، فيركب من مكان نزوله، والأمراء بين يديه لوداعه إلى داره ركبانا ومشاة، إلى قريب المكان فإذا صلى الخليفة الظهر بعد انفضاض ما تقدّم، جلس لعرض ما يلبسه في عيد تلك الليلة، وهو يوم افتتاح العام بخزائن الكسوات الخاص، ويكون لباسه فيه البياض غير الموشح فيعين على منديل خاص وبدلة، فأما المنديل: فيسلم الشادّ التاج الشريف، ويقال له شدّة الوقار «1» ، وهو من الأستاذين المحنكين، وله ميزة لممارسة ما يعلو تاج الخليفة فيشدّها شدّة غريبة لا يعرفها سواه، شكل الإهليلجة، ثم يحضر إليه اليتيمة، وهي جوهرة عظيمة لا يعرف لها قيمة فتنظم هي وحواليها ما دونها من الجواهر، وهي موضوعة في الحافر، وهو شكل الهلال من ياقوت أحمر ليس له مثال في الدنيا، فتنظم على خرقة حرير أحسن وضع، ويخيطها شادّ التاج بخياطة خفيفة ممكنة، فتكون بأعلى جبهة الخليفة.
ويقال: إنّ زنة الجوهرة سبعة دراهم، وزنة الحافر: أحد عشر مثقالا، وبدائرها قصبة زمرّذ ذبابي «2» له قدر عظيم ثم يؤمر بشدّ المظلة التي تشابهها تلك البدلة المحضرة بين يديه، وهي مناسبة للثياب، ولها عندهم جلالة لكونها تعلو رأس الخليفة، وهي اثنا عشر شوزكا «3» عرض سفل كل شوزك شبر، وطوله ثلاثة أذرع وثلث، وآخر الشورك من فوق دقيق جدّا، فيجتمع ما بين الشوازك في رأس عودها بدائره، وهو قنطارية من الزان ملبسة بأنابيب الذهب، وفي آخر أنبوبة تلي الرأس من جسمه،(2/360)
فلكة «1» بارزة مقدار عرض إبهام فيشدّ آخر الشوارك في حلقة من ذهب، ويترك متسعا في رأس الرمح، وهو مفروض فتلقى تلك الفلكة، فتمنع المظلة من الحدور في العمود المذكور ولها أضلاع من خشب الخلنج مربعات مكسوّة بوزن الذهب على عدد الشوارك خفاف في الوزن طولها طول الشوارك، وفيها خطاطيف لطاف، وحلق يمسك بعضها بعضا، وهي تنضم وتنفتح على طريقة شوكات الكيزان، ولها رأس شبه الرمانة، ويعلوه رمانة صغيرة، كلها ذهب مرصع بجوهر يظهر للعيان، ولها رفرف دائر يفتحها من نسبتها عرضه أكثر من شبر ونصف، وسفل الرمانة فاصل يكون مقداره ثلاث أصابع، فإذا أدخلت الحلقة الذهب الجامعة لآخر شوارك المظلة في رأس العمود ركبت الرمانة عليها، ولفت في عرض ديبقيّ مذهب، فلا يكشفها منه إلا حاملها عند تسليمها إليه أوّل وقت الركوبة.
ثم يؤمر بشدّ لواءي الحمد المختصين بالخليفة، وهما رمحان طويلان ملبسان بمثل أنابيب عمود المظلة إلى حدّ نصفهما، وهما من الحرير الأبيض المرقوم بالذهب، وغير منشورين بل ملفوفين على جسم الرمحين، فيشدّان ليخرجا بخروج المظلة إلى أميرين من حاشية الخليفة، برسم حملهما ويخرج إحدى وعشرون راية لطاف من الحرير المرقوم ملوّنة بكتابة تخالف ألوانها من غيره.
ونص كتابتها: نصر من الله وفتح قريب، على رماح مقوّمة من القنا المنتقى، طول كل راية ذراعان في عرض ذراع ونصف في كل واحدة ثلاث طرازات، فتسلم لأحد وعشرين رجلا من فرسان صبيان الخاص «2» ، ولهم بشارة عود الخليفة سالما عشرون دينارا، ثم يخرج رمحان رؤوسهما أهلة من ذهب صامتة في كل واحد سبع من ديباج أحمر وأصفر، وفي فمه طارة مستديرة يدخل فيها الريح، فينفتحان فيظهر شكلهما، ويتسلمهما فارسان من صبيان الخاص، فيكونان أمام الرايات، ثم يخرج السيف الخاص، وهو من صاعقة وقعت على ما يقال، وجلبته ذهب مرصعة بالجوهر في خريطة مرقومة بالذهب لا يظهر إلا رأسه، ليسلم إلى حامله، وهو أمير عظيم القدر، وهذه عندهم رتبة جليلة المقدار، وهو أكبر حامل، ثم يخرج الرمح وهو رمح لطيف في غلاف منظوم من اللؤلؤ، وله سنان مختصر بحلية ذهب، ودرقة بكوامخ ذهب فيها سعة منسوبة إلى حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه في غشاء من حرير لتخرج إلى حاملها، وهو أمير مميز، ولهذه الخدمة وصاحبها عندهم جلالة.
ثم تشعر الناس بطريق الموكب، وسلوكه لا يتعدّى دورتين إحداهما كبرى، والأخرى(2/361)
صغرى، أما الكبرى: فمن باب القصر إلى باب النصر مارّا إلى حوض عز الملك نبا، ومسجده هناك، وهو أقصاها ثم ينعطف على يساره طالبا باب الفتوح إلى القصر، والأخرى إذا خرج من باب النصر سار حافا بالسور، ودخل من باب الفتوح، فيعلم الناس بسلوك إحداهما، فيشيرون إذا ركب الخليفة فيها من غير تبديل للموكب ولا تشويش، ولا اختلال، فلا يصبح الصبح من يوم الركوب إلّا وقد اجتمع من بالقاهرة ومصر من أرباب الرتب وأرباب التميزات من أرباب السيوف، والأقلام قياما بين القصرين، وكان براحا واسعا خاليا من البناء الذي فيه اليوم، فيسع القوم لانتظار الخليفة، ويبكر الأمراء إلى الوزير إلى داره، فيركب إلى القصر من غير استدعاء لأنها خدمة لازمة للخليفة، فيسير أمامه تشريفه المقدّم ذكره، والأمراء بين يديه ركبانا ومشاة، وأمامه أولاده وإخوته وكل منهم مرخي الذؤابة بلا حنك، وهو في أبهة عظيمة من الثياب الفاخرة، والمنديل، وهو بالحنك، ويتقلد بالسيف المذهب، فإذا وصل القصر ترجل قبله أهله في أخص مكان لا يصل الأمراء إليه، ودخل من باب القصر، وهو راكب دون الحاضرين إلى دهليز يقال له دهليز العمود، فيترجل على مصطبة هناك، ويمشي بقية الدهليز إلى القاعة فيدخل مقطع الوزارة هو وأولاده وإخوته، وخواص حاشيته، ويجلس الأمراء بالقاعة على دكك معدّة لذلك مكسوّة في الصيف بالحصر السامان، وفي الشتاء بالبسط الجهرمية المحفورة، فإذا أدخلت الدابة لركوب الخليفة وأسندت إلى الكرسيّ الذي يركب عليه من باب المجلس، أخرجت المظلة إلى حاملها، فيكشفها مما هي ملفوفة فيه غير مطوية، فيتسلمها بإعانة أربعة من الصقالبة «1» برسم خدمتها، فيركزها في آلة حديد متخذة شكل القرن وهو مشدود في ركاب حاملها الأيمن بقوّة وتأكيد، فيمسك العمود بحاجز فوق يده، فيبقى وهو منتصف واقف ولم يذكر قط أنها اضطربت في ريح عاصف، ثم يخرج بالسيف، فيتسلمه حامله فإذا تسلمه أرخيت ذؤابته ما دام حاملا له، ثم تخرج الدواة، فتسلم لحاملها، وهو من الأستاذين المحنكين.
وكان الوزراء حملوها لقوم من الشهود المعدّلين، وهي الدواة التي كانت من أعاجيب الزمان، وهي في نفسها من الذهب، وحليتها مرجان، وهي ملفوفة في منديل شرب بياض مذهب، وقد قال فيها بعض الشعر: يخاطب الخليفة التي صنعت حلية المرجان في وقته وهذا من أغرب ما يكون ذكر ذلك في بيتين وهما:
ألين لداود الحديد كرامة ... فقدّر منه السرد كيف يريد
ولأن لك المرجان وهو حجارة ... ومقطعه صعب المرام شديد
فيخرج الوزير، ومن كان معه من المقطع، وتنضم إليه الأمراء، ويقفون إلى جانب(2/362)
الراية، فيرفع صاحب المجلس الستر فيخرج من كان عند الخليفة للخدمة منهم، وفي إثرهم يبرز الخليفة بالهيئة للشروح حالها في لباسه الثياب المعروضة عليه، والمنديل الحامل لليتيمة بأعلى جبهته، وهو محنك مرخي الذؤابة مما يلي جانيه الأيسر، ويتقلد بالسيف المغربي وبيده قضيب الملك، وهو طول شبر ونصف من عود مكسوّ بالذهب المرصع بالدرر والجوهر، فيسلم على الوزير قوم مرتبون لذلك، وعلى أهله على الأمراء بعدهم، ثم يخرج أولئك أوّلا فأوّلا، والوزير يخرج بعد الأمراء فيركب ويقف قبالة باب القصر بهيئته.
ويخرج الخليفة وحواليه الأستاذون ودابته ماشية على بسط مفروشة خيفة من زلقها على الرخام، فإذا قارب الباب، وظهر وجهه ضرب رجل ببوق لطيف من ذهب معوج الرأس يقال له: الغربية، بصوت عجيب يخالف أصوات البوقات، فإذا سمع ذلك ضربت الأبواق في الموكب، ونشرت المظلة، وبرز الخليفة من الباب، ووقف وقفة يسيرة بمقدار ركوب الأستاذين المحنكين وغيرهم من أرباب الرتب الذين كانوا بالقاعة للخدمة، وسار الخليفة وعلى يساره صاحب المظلة، وهو يبالغ أن لا يزول عنها ظلها، ثم يكتنف الخليفة مقدّمو صبيان الركاب منهم، اثنان في الشكيمة، واثنان في عنق الدابة من الجانبين، واثنان في ركابه فالأيمن مقدّم المقدّمين، وهو صاحب المقرعة التي يتناولها، ويناولها، وهو المؤدّي عن الخليفة مدّة ركوبه الأوامر، والنواهي، ويسير الموكب بالحث.
فأوّله الأمراء وأولادهم، وأخلاط بعض العسكر الأماثل إلى أرباب القصر إلى أرباب الأطواق إلى الأستاذين المحنكين إلى حامل اللوائين من الجانبين إلى حامل الدواة، وهي بينه وبين قربوس السرج إلى صاحب السيف، وهما في الجانب الأيسر كل واحد ممن تقدّم ذكره بين عشرة إلى عشرين من أصحابه، ويحجبه أهل الوزير المقدّم ذكرهم من الجانب الأيمن بعد الأستاذين المحنكين، ثم يأتي الخليفة، وحواليه صبيان الركاب المذكورة، تفرقة السلاح فيهم، وهم أكثر من ألف رجل، وعليهم المناديل الطبقيات، ويتقلدون بالسيوف، وأوساطهم مشدودة بمناديل، وفي أيديهم السلاح مشهور، وهم من جانبي الخليفة كالجناحين المادّين وبينهما فرجة لوجه الفرس ليس فيها أحد، وبالقرب من رأس الصقلبيان الحاملان للمذبتين، وهما مرفوعتان كالنخلتين لما يسقط من طائر وغيره، وهو سائر على تؤدة، ورفق وفي طول الموكب من أوّله إلى آخره والي القاهرة مارّ وعائد، يفسح الطرقات ويسير الركبان فيلقي في عوده الإسفهسلار كذلك مارا وعائدا لحث الأجناد في الحركة والإنكار على المزاحمين المعترضين، ويلقي في عوده صاحب الباب، ومروره في زمرة الخليفة إلى أن يصل إلى الإسفهسلار، فيعود لترتيب الموكب، وحراسة طرقات الخليفة، وفي يد كل منهم دبوس، وهو راكب خير دوابه وأسرعها، هذا لمن أمام الموكب، ثم يسير خلف دابة الخليفة قوم من صبيان(2/363)
الركاب لحفظ أعقابه، ثم عشرة يحملون عشرة سيوف في خرائط ديباج أحمر وأصفر بشراريب غزيرة يقال لها: سيوف الدم برسم ضرب الأعناق ثم يسير بعدهم صبيان السلاح الصغير، أرباب الفرنجيات المقدّم ذكرهم.
ثم يأتي الوزير في هيبة، وفي ركابه من أصحابه قوم يقال لهم: صبيان الزرد من أقوياء الأجناد يختارهم لنفسه ما مقداره خمسمائة رجل من جانبيه بفرجة لطيفة أمامه، دون فرجة الخليفة، وكأنه على وفز من حراسة الخليفة، ويجتهد أن لا يغيب عن نظره، وخلفه الطبول والصنوج والصفافير، وهو مع عدّة كثيرة تدوي بأصواتها وحسّها الدنيا، ثم يأتي حامل الرمح المقدّم ذكره ودرقته حمراء.
ثم طوائف الراجل من الركابية والجيوشية، وقبلهما المصامدة، ثم الفرنجية، ثم الوزيرية زمرة زمرة في عدّة وافرة تزيد على أربعة آلاف في الوقت الحاضر، وهم أضعاف ذلك، ثم أصحاب الرايات والسبعين، ثم طوائف العساكر من الآمرية والحجرية الكبار، والحافظية، والحجرية الصغار المنقولين، والأفضلية والجيوشية، ثم الأتراك المصطنعون، ثم الديلم، ثم الأكراد، ثم الغز المصطنعة، وقد كان تقدّم هؤلاء الفرسان عدّة وافرة من المترجلة أرباب قسيّ اليد، وقسيّ الرجل في أكثر من خمسمائة، وهم المعدّون للأساطيل، ويكون من الفرسان المقدّم ذكرهم ما يزيد على ثلاثة آلاف، وهذا كله بعض من كل.
فإذا انتهى الموكب إلى المكان المحدود، عادوا على أدراجهم، ويدخلون من باب الفتوح، ويقفون بين القصرين بعد الرجوع، كما كانوا قبله، فإذا وصل الخليفة إلى الجامع الأقمر بالقماحين اليوم وقف وقفة بجملته في موكبه، وانفرج الموكب للوزير، فيتحرّك مسرعا ليصير أمام الخليفة، حتى يدخل بين يديه فيمرّ الخليفة، ويسكع «1» له سكعة ظاهرة، فيشير الخليفة للسلام عليه إشارة خفية، وهذه أعظم مكارمة تصدر عن الخليفة، ولا تكون إلّا للوزير صاحب السيف، وسبقه إلى دخول باب القصر راكبا على عادته إلى موضعه، ويكون الأمراء، قد نزلوا قبله لأنهم في أوائل الموكب، فإذا وصل الخليفة إلى باب القصر، ودخله ترجل الوزير، ودخل قبله الأستاذون المحنكون، وأحدقوا به، والوزير أمام وجه الفرس مكان ترجله إلى الكرسيّ الذي ركب منه، فينزل عليه ويدخل إلى مكانه بعد خدمة المذكورين له، فيخرج الوزير، ويركب من مكانه الجاري به على عادته، والأمراء بين يديه، وأقاربه حواليه، فيركبون من أماكنهم ويسيرون صحبته إلى داره، فيدخل وينزل أيضا إلى مكانه على كرسيّ فتخدمه الجماعة بالوداع، ويتفرّق الناس إلى أماكنهم.(2/364)
فيجدون قد أحضر إليهم الغرّة «1» ، وهو أنه يقدّم الخليفة بأن يضرب بدار الضرب في العشر الآخر من ذي الحجة بتاريخ السنة التي ركب أوّلها في هذا اليوم جملة من الدنانير والرباعية والدراهم المدوّرة المقسقلة، فيحمل إلى الوزير منها ثلثمائة وستون دينارا، وثلثمائة وستون رباعيا وثلثمائة وستون قيراطا، وإلى أولاده، وإخوته من كل صنف من ذلك خمسون، وإلى أرباب الرتب من أصحاب السيوف، والأقلام من عشرة دنانير، وعشر رباعيات، وعشرة قراريط إلى دينار واحد، ورباعيّ واحد، وقيراط واحد، فيقبلون ذلك على حكم البرمكية من مبلغ الخليفة قال: ومبلغ الغرّة التي ينعم بها في أوّل العام المقدّم ذكره من الدنانير والرباعيات والقراريط ما يربط من ثلاثة آلاف دينار، والله تعالى أعلم.
ذكر ما كان يضرب في خميس العدس من خراريب الذهب
قال ابن المأمون: وأحضر الأجل المأمون كاتب الدفتر، وأمره بالكشف عما كان يضرب برسم خميس العدس من الخراريب الذهب، وهو خمسمائة دينار عن عشرين ألف خروبة، واستدعى كاتب بيت المال، ووقع له بإطلاق ألف دينار، وأمره بإحضار مشارف «2» دار الضرب، وسلمها إليه، فاعتمد ذلك، وضربت عشرون ألف خروبة وأحصرها، فأمر بحملها إلى الخليفة، فسير الخليفة منها إلى المأمون ثلثمائة دينار، وذكر أنها لم تضرب في مدّة خلافة الحافظ لدين الله غير سنة واحدة، ثم بطل حكمها، ونسي ذكرها.
قال: وصار ما يضرب باسم الخليفة يعني الآمر بأحكام الله في ستة مواضع: القاهرة، ومصر، وقوص، وعسقلان، وصور، والإسكندرية.
وقال ابن عبد الظاهر: خميس العدس كان يضرب فيه خمسمائة، تعمل عشرة آلاف خروبة، كان الأفضل بن أمير الجيوش يحمل منها للخليفة مائتي دينار، والبقية برسمه، ثم جعلت في الأيام المأمونية ألف دينار، وربما زادت أو نقصت يسيرا، وقد تقدّم أنّ قاضي القضاة كان يتولى عيار دار الضرب، ويحضر التغليق بنفسه، ويختم عليه ويحضر للموعد الآخر لفتحه.
ذكر دار الوكالة الآمرية
كانت دار الوكالة المذكورة، بجانب دار الضرب، وموضعها الآن على يمنة السالك(2/365)
من رأس الخرّاطين إلى سوق الخيميين، والجامع الأزهر.
قال ابن المأمون: في شوّال سنة ست عشرة وخمسمائة، ثم أنشأ، يعني المأمون بن البطائحيّ، وزير الخليفة الآمر بأحكام الله دار الوكالة بالقاهرة المحروسة، لمن يصل من العراقيين والشاميين وغيرهما من التجار، ولم يسبق إلى ذلك.
ذكر مصلى العيد
وكان في شرقيّ القصر الكبير مصلى العيد من خارج باب النصر، وهذا المصلى بناه القائد جوهر لأجل صلاة العيد في شهر رمضان سنة: ثمان وخمسين وثلثمائة، ثم جدّده العزيز بالله، وبقي بقي إلى الآن بعض هذا المصلى، واتخذ في جانب منه موضع مصلى الأموات اليوم.
ذكر هيئة صلاة العيد وما يتعلق بها
قال ابن زولاق: وركب المعز لدين الله، يوم الفطر لصلاة العيد إلى مصلى القاهرة التي بناها القائد جوهر، وكان محمد بن أحمد بن الأدرع الحسنيّ، قد بكر وجلس في المصلى تحت القبة في موضع، فجاء الخدم وأقاموه، وأقعدوا موضعه أبا جعفر مسلما، وأقعدوه هو دونه، وكان أبو جعفر مسلم، خلف المعز عن يمينه، وهو يصلي وأقبل المعز في زيه وبنوده وقبابه، وصلى بالناس صلاة العيد تامّة طويلة، قرأ في الأولى بأمّ الكتاب، وهل أتاك حديث الغاشية، ثم كبر بعد القراءة، وركع فأطال، وسجد فأطال، أنا سبحت خلفه في كل ركعة، وفي كل سجدة نيفا وثلاثين تسبيحة.
وكان القاضي النعمان بن محمد يبلغ عنه التكبير، وقرأ في الثانية بأمّ الكتاب، وسورة والضحى، ثم كبر أيضا بعد القراءة، وهي صلاة جدّه عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وأطال أيضا في الثانية الركوع والسجود، أنا سبحت خلفه نيفا وثلاثين تسبيحة في كل ركعة، وفي كل سجدة، وجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في كل سورة، وأنكر جماعات يتوسمون بالعلم قراءة قبل التكبير لقلة علمهم، وتقصيرهم في العلوم.
حدّثنا محمد بن أحمد قال: حدّثنا عمر بن شيبة، ثنا عبد الله، ورجاء عن إسرائيل، عن أبي إسحاق عن الحارث عن عليّ عليه السلام: أنه كان يقرأ في صلاة العيد قبل التكبير، فلما فرغ المعز من الصلاة، صعد المنبر وسلم على الناس يمينا وشمالا، ثم ستر بالسترين اللذين كانا على المنبر، فخطب وراءهما على رسمه، وكان في أعلى درجة من المنبر وسادة ديباج مثقل، فجلس عليها بين الخطبتين، واستفتح الخطبة: ببسم الله الرحمن الرحيم، وكان معه على المنبر القائد جوهر، وعمار بن جعفر، وشفيع صاحب المظلة، ثم قال: الله أكبر الله أكبر واستفتح بذلك، وخطب وأبلغ، وأبكى الناس، وكانت خطبة بخشوع(2/366)
وخضوع، فلما فرغ من خطبته، انصرف في عساكره وخلفه أولاده الأربعة بالجواشن والخود على الخيل بأحسن زيّ، وساروا بين يديه بالفيلين، فلما حضر في قصره أحضر الناس، فأكلوا وقدّمت إليهم السمط، ونشطهم إلى الطعام، وعتب على من تأخر، وهدّد من بلغه عنه صيام العيد.
وقال المسبحيّ في حوادث آخر يوم من رمضان: سنة ثمانين وثلثمائة، وبقيت مصاطب ما بين القصور والمصلى الجديدة ظاهر باب النصر عليها المؤذنون، حتى يتصل التكبير من المصلى إلى القصر، وفيه تقدّم أمر القاضي محمد بن النعمان، بإحضار المتفقهة والمؤمنين يعني الشيعة، وأمرهم بالجلوس يوم العيد على هذه المصاطب ولم يزل يرتب الناس، وكتب رقاعا فيها أسماء الناس، فكانت تخرج رقعة رقعة، فيجلس الناس على مصطبة مصطبة بالترتيب.
وفي يوم العيد: ركب العزيز بالله لصلاة العيد، وبين يديه الجنائب، والقباب الديباج بالحليّ والعسكر في زيه من الأتراك، والديلم والعزيزية، والإخشيدية، والكافورية، وأهل العراق بالديباج المثقل والسيوف، والمناطق الذهب، وعلى الجنائب السروج الذهب بالجوهر، والسروج بالعنبر، وبين يديه الفيلة عليها الرجالة بالسلاح، والزرّاقة، وخرج بالمظلة الثقيلة بالجوهر، وبيده قضيب جدّه عليه السلام، فصلى على رسمه وانصرف.
وقال ابن المأمون: ولما توفي أمير الجيوش بدر الجماليّ، وانتقل الأمر إلى ولده:
الأفضل بن أمير الجيوش جرى على سنن والده في صلاة العيد، ويقف في قوس باب داره الذي عند باب النصر يعني: دار الوزارة فلما سكن بمصر صار يطلع من مصر باكرا، ويقف على باب داره على الحالة الأولى، حتى تستحق الصلاة، فيدخل من باب العيد إلى الإيوان، ويصلي به القاضي ابن الرسعنيّ، ثم يجلس بعد الصلاة على المرتبة إلى أن تنقضي الخطبة فيدخل من باب الملك، ويسلم على الخليفة، بحيث لا يراه أحد غيره، ثم يخلع عليه، ويتوجه إلى داره بمصر، فيكون السماط بها مدى الأعياد، فلما قتل الأفضل، واستقرّ بعده المأمون بن البطائحيّ في الوزارة قال: هذا نقص في حق العيد، ولا يعلم السبب في كون الخليفة لا يظهر، فقال له الخليفة الآمر بأحكام الله: فما تراه أنت؟ فقال: يجلس مولانا في المنظرة التي استجدّت بين باب الذهب، وباب البحر، فإذا جلس مولانا في المنظرة، وفتحت الطاقات، وقف المملوك بين يديه في قوس باب الذهب، وتجوز العساكر فارسها وراجلها، وتشملها بركة نظر مولانا إليها، فإذا حان وقت الصلاة توجه المملوك بالموكب والزيّ وجميع الأمراء والأجناد، واجتاز بأبواب القصر، ودخل الإيوان، فاستحسن ذلك منه، واستصوب رأيه، وبالغ في شكره، ثم عاد المأمون إلى مجلسه، وأمر بتفرقة كسوة العيد والهبات، يعني في عيد النحر، سنة خمس عشرة وخمسمائة، وجملة العين: ثلاثة(2/367)
آلاف وثلثمائة دينار وسبعة دنانير ومن الكسوات: مائة قطعة وسبع قطع برسم الأمراء المطوّقين، والأستاذين المحنكين، وكاتب الدست، ومتولي حجبة الباب وغيرهم.
قال: ووصلت الكسوة المختصة بالعيد في آخر شهر رمضان يعني من سنة ست عشرة وخمسمائة وهي تشتمل على دون العشرين ألف دينار، وهو عندهم الموسم الكبير، ويسمى بعيد الحلل، لأنّ الحلل فيه تعم الجماعة، وفي غيره للأعيان خاصة، وقد تقدّم تفصيلها عند ذكر خزانة الكسوة من هذا الكتاب.
قال: ولما كان في التاسع والعشرين من شهر رمضان، خرجت الأوامر بأضعاف ما هو مستقرّ للمقرئين والمؤذنين في كل ليلة برسم السحور بحكم أنها ليلة ختم الشهر، وحضر المأمون في آخر النهار إلى القصر للفطور مع الخليفة، والحضور على الأسمطة على العادة وحضر إخوته وعمومته، وجميع الجلساء، وحضر المقرئون والمؤذنون، وسلّموا على عادتهم وجلسوا تحت الروشن»
، وحمل من عند معظم الجهات والسيدات، والمميزات من أهل القصور بلاحي وموكبيات مملوءة ماء ملفوفة في عراضي ديبقي، وجعلت أمام المذكورين، ليشملها بركة ختم القرآن، واستفتح المقرئون من الحمد إلى خاتمة القرآن تلاوة، وتطريبا ثم وقف بعد ذلك من خطب فأسمع، ودعا فأبلغ، ورفع الفرّاشون ما أعدّوه برسم الجهات، ثم كبر المؤذنون، وهللوا، وأخذوا في الصوفيات إلى أن نثر عليهم من الروشن دراهم ودنانير ورباعيات، وقدّمت جفان القطائف على الرسم مع الحلوى، فجروا على عادتهم، وملأوا أكمامهم، ثم خرج أستاذ من باب الدار الجليلة بخلع خلعها على الخطيب وغيره، ودراهم تفرّق على الطائفتين من المقرئين والمؤذنين، ورسم أن تحمل الفطرة إلى قاعة الذهب، وأن تكون التعبية في مجلس الملك، وتعبى الطيافير المشورة الكبار من السرير إلى باب المجلس، وتعبى من باب المجلس إلى ثلثي القاعة سماطا واحدا مثل سماط الطعام، ويكون جميعه سدا واحدا من حلاوة الموسم، ويزين بالقطع المنفوخ، فامتثل الأمر، وحضر الخليفة إلى الإيوان، واستدعى المأمون، وأولاده وإخوته، وعرضت المظال المذهبة المحاومة، وكان المقرئون يلوّحون عند ذكرها بالآيات التي في سورة النحل والله جعل لكم مما خلق ظلالا إلى آخرها.
وجلس الخليفة ورفعت الستور، واستفتح المقرئون، وجدّد المأمون السلام عليه، وجلس على المرتبة عن يمينه، وسلم الأمراء جميعهم على حكم منازلهم لا يتعدّى أحد منهم مكانه والنوّاب جميعهم يستدعونهم بنعوتهم، وترتيب وقوفهم، وسلم الرسل الواصلون من جميع الأقاليم، ووقفوا في آخر الإيوان، وختم المقرئون، وسلموا، وخدمت الرهجية، وتقدّم متولي كل اصطبل من الروّاض وغيرهم يقبل الأرض، ويقف ودخلت الدواب من باب(2/368)
الديلم والمستخدمون في الركاب بالمناديل يتسلمونها من الشدّادين ويدورون بها حول الإيوان، ودواب المظلة متميزة عن غيرها يتسلمها الأستاذون، والمستخدمون في الركاب ويعلون بها إلى قريب من الشباك الذي فيه الخليفة، وكلما عرض دواب اصطبل قبل الأرض متوليه. وانصرف. وتقدّم متولي غيره على حكمه إلى أن يعرض جميع ما أحضروه، وهو ما يزيد على ألف فارس خارجا عن البغال وما تأخر من العشاريات والحجور والمهارة، ولما عرضت الدواب أبطلت الرهجية، وعاد استفتاح المقرئين، وكانوا محسنين فيما ينتزعونه من القرآن الكريم، مما يوافق الحال، مثل الآية من آل عمران: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ
إلى آخرها، ثم بعدها: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ
، إلى آخرها.
وعرضت الوحوش بالأجلة الديباج والديبقيّ بقباب الذهب، والمناطق، والأهلة وبعدها النجب، والبخاتي بالأقتاب الملبسة بالديبقيّ الملوّن المرقوم، وعرض السلاح، وآلات الموكب جميعها، ونصبت الكسوات على باب العيد، وضربت طول الليل وحملت الفطرة الخاص التي يفطر عليها الخليفة بأصناف الجوارشات بالمسك، والعود والكافور والزعفران والتمور المصبغة التي يستخرج ما فيها، وتحشى بالطيب وغيره، وتسدّ، وتختم وسلمت للمستخدمين في القصور، وعبيت في مواعين الذهب المكللة بالجواهر، وخرجت الأعلام والبنود.
وركب المأمون، فلما حصل بقاعة الذهب أخذ في مشاهدة السماط من سرير الملك إلى آخرها، وخرج الخليفة لوقته من الباذهنج، وطلع إلى سرير ملكه، وبين يديه الصواني المقدّم ذكرها، واستدعى بالمأمون، فجلس عن يمينه بعد أداء حق السلام، وأمر بإحضار الأمراء المميزين والقاضي والداعي والضيوف، وسلم كل منهم على حكم ميزته، وقدمت الرسل، وشرّفوا بتقبيل الأرض والمقرئون يتلون، والمؤذنون يهللون ويكبرون، وكشفت القوّارات الشرب المذهبات، عما هو بين يدي الخليفة فبدأ وكبر، وأخذ بيده تمرة، فأفطر عليها، وناول مثلها الوزير، فأظهر الفطر عليها، وأخذ الخليفة في أن يستعمل من جميع ما حضر، ويناول وزيره منه، وهو يقبله ويجعله في كمه، وتقدّمت الأجلاء إخوة الوزير وأولاده من تحت السرير، وهو يناولهم من يده، فيجعلونه في أكمامهم بعد تقبيله، وأخذ كل من الحاضرين كذلك، ويومئ بالفطور ويجعله في كمه على سبيل البركة، فمن كان رأيه الفطور أفطر، ومن لم يكن رأيه أومأ، وجعله في كمه لا ينتقد على أحد فعله.
ثم قال المأمون بعد ذلك: ما على من يأخذ من هذا المكان نقيصة بل له به الشرف والميزة، ومدّ يده، وأخذ من الطيفور الذي كان بين يديه عود نبات، وجعله في كمه بعد تقبيله، وأشار إلى الأمراء، فاعتمد كل من الحاضرين ذلك وملأوا أكمامهم، ودخل الناس، فأخذوا جميع ذلك، ثم خرج الوزير إلى داره والجماعة في ركابه، فوجد التعبية فيها من(2/369)
صدر المجلس إلى آخره على ما أمر به، ولم يعدم مما كان بالقصر غير الصواني الخاص، فجلس على مرتبته والأجلاء أولاده، واستدعى بالعوالي من الأمراء، والقاضي والداعي، والضيوف، فحضروا وشرّفوا بجلوسهم معه، وحصل من مسرّتهم بذلك ما بسطهم، ورفعوا اليسير مما حضر على سبيل الشرف، ثم انصرفوا وحضرت الطوائف، والرسل على طبقاتهم إلى أن حمل جميع ما كان بالدار بأسره، وانقضى حكم الفطور.
وعاد للتنفيذ في غيره، وضربت الطبول، والأبواق على أبواب القصور، والدار المأمونية، وأحضرت التغايير، وفرّقت على أربابها من الأجناد والمستخدمين، وخرجت أزمة العساكر فارسها وراجلها، وندب الحاجب الذي بيده الدعوة لترتيب صفوفها من باب القصر إلى المصلى، ثم حضر إلى الدار المأمونية الشيوخ المميزون، وجلس المأمون في مجلسه وأولاده بهيئة العيد وزينته، ورفعت الستور، وابتدأ المقرئون، وسلم متولي الباب والشيوخ، ولم يدخل المجلس غير كاتب الدست، ومتولي الحجبة، وبالغ كل منهما في زيه وملبوسه، وجروا على رسمهم في تقبيل الأرض وعتبة المجلس، ووصل إلى الدار المأمونية التجمل الخاص الذي برسم الخليفة جميعه، القصب الفضة والأعلام والمنجوقات، والعقبات والعماريات، ولواء الوزارة لركوب الخليفة بالمظلة بالطميم، والمراكيب الذهب المرصعة بالجواهر، وغير ذلك من التجملات.
وركب المأمون من داره وجميع التشاريف الخاص بين يديه، وخدمت الرهجية، ومن جملتهم الغربية وهي أبواق لطاف عجيبة غريبة الشكل تضرب كل وقت يركب فيه الخليفة ولا تضرب قدّام الوزير إلّا في المواسم خاصة وفي أيام الخلع عليه والأمراء مصطفون عن يمينه، وعن شماله، ويليهم إخوته وبعدهم أولاده، ودخل إلى الإيوان، وجلس على المرتبة المختصة به، وعن يمينه جميع الأجلاء والمميزون وقوف أمامه، ومن انحط عنهم من باب الملك إلى الإيوان قيام، ويخرج خاصة الدولة ريحان إلى المصلى بالفرش الخاص، وآلات الصلاة، وعلق المحراب بالشروب المذهبة، وفرش فيه ثلاث سجادات متراكبة، وأعلاها السجادة اللطيفة التي كانت عندهم معظمة، وهي قطعة من حصير ذكر أنها من جملة حصير:
لجعفر بن محمد الصادق عليهما السلام، يصلي عليها، وفرش الأرض جميعها بالحصر المحاريب، ثم علق على جانبي المنبر، وفرش جميع درجه، وجعل أعلاه المخادّ التي يجلس عليها الخليفة، وعلق اللواءان عليه، وقعد تحت القبة خاصة الدولة ريحان والقاضي وأطلق البخور.
ولم يفتح من أبوابه إلّا باب واحد، وهو الذي يدخل منه الخليفة، ويقعد الداعي في الدهليز ونقباء المؤمنين بين يديه، وكذلك الأمراء، والأشراف، والشيوخ، والشهود، ومن سواهم من أرباب الحرف ولا يمكن من الدخول إلّا من يعرفه الداعي، ويكون في ضمانه،(2/370)
واستفتحت الصلاة، وأقبل الخليفة من قصوره بغاية زيه، والعلم الجوهر في منديله، وقضيب الملك بيده، وبنو عمه، وإخوته وأستاذوه في ركابه، وتلقاه المقرئون عند وصوله والخواص، واستدعى بالمأمون، فتقدّم بمفرده، وقبل الأرض، وأخذ السيف والرمح من مقدّمي خزائن الكسوة، والرهجية تخدم، وحمل لواء الحمد بين يديه إلى أن خرج من باب العيد، فوجد المظلة قد نشرت عن يمينه، والذي بيده المدعو في ترتيب الحجبة لمن شرّف بها، لا يتعدّى أحد حكمه، وسائر المواكب بالجنائب الخاص، وخيل التخافيف، ومصفات العساكر والطوائف جميعها بزيها، وراياتها وراء الموكب إلى أن وصل إلى قريب المصلى، والعماريات والزرافات، وقد شدّ على الفيلة بالأسرّة مملوءة رجالا مشيكة بالسلاح لا يتبين منهم إلّا الأحداق، وبأيديهم السيوف المجرّدة، والدرق الحديد الصيني، والعساكر قد اجتمعت وترادفت صفوفا من الجانبين إلى باب المصلى، والنظارة قد ملأت الفضاء لمشاهدة ما لم يبلغوه، والموكب سائر بهم، وقد أحاط بالخليفة والوزير صبيان الخاص، وبعدهم الأجناد بالدروع المسبلة، والزرديات بالمغافر ملثمة، والبروك الحديد بالصماصم والدبابيس.
ولما طلع الموكب من ربوة المصلى ترجل متولي الباب، والحجاب ووقف الخليفة بجمعه بالمظلة إلى أن اجتاز المأمون راكبا بمن حول ركابه، وردّ الخليفة السلام عليه بكمه، وصار أمامه، وترجل الأمراء المميزون والأستاذون المحنكون بعدهم، وجميع الأجلاء، وصار كل منهم يبدأ بالسلام على الوزير، ثم على الخليفة إلى أن صار الجميع في ركابه، ولم يدخل من باب المصلى راكبا غير الوزير خاصة، ثم ترجل على بابه الثاني إلى أن وصل الخليفة إليه فاستدعى به، سلم وأخذ الشكيمة بيده إلى أن ترجل الخليفة في الدهليز الآخر، وقصد المحراب والمؤذنون يكبرون قدّامه، واستفتح الخليفة في المحراب وسامته فيه:
وزيره والقاضي، والداعي عن يمينه وشماله ليوصلوا التكبير لجماعة المؤذنين من الجانبين، ويتصل منهم التكبير إلى مؤذني مصلى الرجال والنساء الخارجين عن المصلى الكبير، وكاتب الدست وأهله، ومتولي ديوان الإنشاء يصلون تحت عقد المنبر، ولا يمكن غيرهم أن يكون معهم.
ولما قضى الخليفة الصلاة، وهي ركعتان قرأ في الأولى بفاتحة الكتاب، وهل أتاك حديث الغاشية، وكبر سبع تكبيرات، وركع وسجد، وفي الثانية بالفاتحة، وسورة والشمس وضحاها، وكبر خمس تكبيرات، وهذه سنة الجميع ومن ينوب عنهم في صلاة العيدين على الاستمرار وسلم، وخرج من المحراب، وعطف عن يمينه، والحرص عليه شديد ولا يصل إليه إلّا من كان خصيصا به، وصعد المنبر بالخشوع والسكينة، وجميع من بالمصلى والتربة لا يسأم نظره ويكثرون من الدعاء له، ولما حصل في أعلى المنبر أشار إلى المأمون، فقبل الأرض وسارع في الطلوع إليه، وأدّى ما يجب من سلامه، وتعظيم مقامه، ووقف بأعلى(2/371)
درجة، وأشار إلى القاضي، فتقدّم وقبل كل درجة إلى أن يصل إلى الدرجة الثالثة، وقف عندها، وأخرج الدعو من كمه، وقبله ووضعه على رأسه، وأعلى بما تضمنه وهو ما جرت به العادة من تسمية يوم العيد، وسنته والدعاء للدولة.
وكانت الحال في أيام وزراء الأقلام والسيوف إذا حصل الخليفة في أعلى المنبر بقي الوزير مع غيره، وأشار الخليفة إلى القاضي، فيقبل الأرض، ويطلع إلى الدرجة الثالثة ويخرج الدعو من كمه ويقبله، ويضعه على رأسه، ويذكر يوم العيد، وسنته والدعاء للدولة، ثم يستدعي بالوزير بعد ذلك فيصعد بعد القاضي، فراعى الخليفة ذلك الأمر في حق الوزير، فجعل الإشارة منه إليه أوّلا، ورفعه عن أن يكون مأمورا مثل غيره، وجعلها له ميزة على غيره ممن تقدّمه، واستمرّت فيما بعد، واستفتح الخليفة بالتكبير الجاري به العادة في الفطر، والخطبتين إلى آخرهما، وكبر المؤذنون، ورفع اللواءان، وترجل كل أحد من موضعه كما كان ركوبه، وصار الجميع في ركاب الخليفة، وجرى الأمر في رجوعه على ما تقدّم شرحه، ومضى إلى تربة آبائه، وهي سنتهم في كل ركبة بمظلة، وفي كل يوم جمعة مع صدقات، ورسوم تفرّق.
وأمّا الوزير المأمون فإنه توجه وخرج من باب العيد، والأمراء بين يديه إلى أن وصل إلى باب الذهب، فدخل منه بعد أن أمر ولده الأكبر بالوصول إلى داره والجلوس على سماط العيد على عادته، ولما دخل المأمون بقاعة الذهب وجد السروع قد وقع من المستخدمين بتعبية السماط، فأمر بتفرقة الرسوم على أربابها، وهو ما يحمل إلى مجلس الوزارة برسم الحاشية، ولكل من حاشية أولاده وإخوته، وكاتب الدست، ومتولي حجبة الباب، ومتولي الديوان، وكاتب الدفتر، والنائب لكل منهم رسم يصرف قبل جلوس الخليفة، وعند انقضاء الأسمطة لغير المذكورين على قدر منزلة كل منهم، ثم حضر أبو الفضائل ابن أبي الليث، واستأذن على طيافير الفطرة الكبار التي في مجلس الخليفة فأمره الوزير بأن يعتمد في تفرقتها على ما كان يعتمده في الأيام الأفضلية، وهو لكل من يصعد المنبر مع الخليفة طيفور.
فلما أخذ الخليفة راحة بعد مضيه إلى التربة جلس على السرير، وبين يديه المائدة اللطيفة الذهب بالمينا، معبأة بالزبادي الذهب، واستدعى الوزير واصطف الناس من المدورة إلى آخر السماط من الجانبين على طبقاتهم، ورفعت الستور، واستفتح المقرئون، ووفيّ الدولة إسعاف متولي المائدة مشدود الوسط، ومقدّم خزانة الشراب، بيده شربة في مرفع ذهب، وغطاء مرصعين بالجوهر والياقوت، ومتولي خزائن الإنفاق بيده خريطة مملوءة دنانير لمن يقف يطلب صدقة، وإنعاما فيؤمر بما يدفع إليه، وتفرقة الرسوم الجاري بها العادة، ولعبت المنافقون، والتحسارية، وتناوب القرّاء، والمنشدون، وأرخيت الستور وعبىء السماط ثانيا على ما كان عليه أوّلا.(2/372)
ثم رفعت الستور، وجلس على المدورة والسماط من جرت العبادة به، وفرّقت الدنانير على المقرئين، والمنشدين والتحسارية والمنافقين، ومن هو معروف بكثرة الأكل، ونهبت قصور الخلافة، وفرّق من الأصناف ما جرت به العادة، وأرخيت الستور، وأحضر متولي خزانة الكسوة الخاص للخليفة: بدلة إلى أعلى السرير حسبما كان أمره، فلبسها وخلع الثياب التي كانت عليه على الوزير بعد ما بالغ في شكره، والثناء عليه، وتوجه إلى داره، فوصل إليه من الخليفة الصواني الخاص المكللة معبأة على ما كانت بين يديه، وغيرها من الموائد، وكذلك إلى أولاده وإخوته صينية صينية، ولكاتب الدست، ومتولي حجبة الباب مثل ذلك ويكبر الوزير بجلوسه في داره معلنا، وتسارع الناس على طبقاتهم بالعيد، والخلع وبما جرى في صعود المنبر، وحضر الشعراء، وأسنيت لهم الجوائز، وجرى الحال يومئذ في جلوس الخليفة، وفي السلام لجميع الشيوخ والقضاة والشهود والأمراء، والكتاب، ومقدّمي الركاب والمتصدّرين بالجوامع، والفقهاء، والقاهريين، والمصريين، واليهود برئيسهم، والنصارى ببطريقهم على ما جرت به عادتهم، وختم المقرئون، وقدمت الشعراء على طبقاتهم إلى آخرهم وجدّد لكل من الحاضرين سلامه، وانكفأ الخليفة إلى الباذهنج لأداء فريضة الصلاة والراحة بمقدار ما عبيت المائدة الخاص، واستحضر المأمون، وأولاده وإخوته على عادتهم، واستدعى من شرّف بحضور المائدة، وهم الشيخ أبو الحسن كاتب الدست، وأبو الرضى سالم ابنه، ومتولى حجبة الباب، وظهير الدين الكنانيّ على ما كان عليه الحال قبل الصيام، وانقضى حكم العيد.
وقال ابن الطوير: إذا قرب آخر العشر الآخر من شهر رمضان خرج الزي من أماكنه، على ما وصفنا في ركوب أوّل العام، ولكن فيه زيادات يأتي ذكرها، ويركب في مستهلّ شوّال بعد تمام شهر رمضان، وعدّته عندهم أبدا ثلاثون يوما، فإذا تهيأت الأمور من الخليفة، والوزير والأمراء، وأرباب الرتب على ما تقدّم، وصار الوزير بجماعته إلى باب القصر، ركب الخليفة بهيئة الخلافة من المظلة واليتيمة والآلات المقدّم ذكرها، ولباسه في هذا اليوم الثياب البياض الموشحة المحومة، وهي أجل لباسهم، والمظلة كذلك، فإنها أبدا تابعة لثيابه كيف كانت الثياب، ويكون خروجه من باب العيد إلى المصلى، والزيادة ظاهرة في هذا اليوم في العساكر، وقد انتظم القوم له صفين من باب القصر إلى باب المصلى، ويكون صاحب بيت المال قد تقدّم على الرسم، لفرش المصلى، فيفرش الطرّاحات على رسمها في المحراب مطابقة، ويعلق سترين يمنة ويسرة في الأيمن: البسملة والفاتحة، وسبح اسم ربك الأعلى، وفي الأيسر: مثل ذلك، وهل أتاك حديث الغاشية، ثم يركز في جانب المصلى لواءين مشدودين على رمحين ملبسين بأنابيب الفضة، وهما مستوران مرخيان، فيدخل الخليفة من شرقيّ المصلى إلى مكان يستريح فيه دقيقة، ثم يخرج محفوظا، كما يحفظ في جامع القاهرة، فيصير إلى المحراب، ويصلي صلاة العيد،(2/373)
بالتكبيرات المسنونة، والوزير وراءه والقاضي، ويقرأ في كل ركعة، ما هو مرقوم في السترين فإذا فرغ وسلم صعد المنبر للخطابة العيدية يوم الفطر، فإذا جلس في الذروة وهناك طرّاحة سامان أو ديبقيّ على قدرها وباقية يستر بياض على مقداره في تقطيع درجه، وهو مضبوط لا يتغير، فيراه أهل ذلك الجمع جالسا في الذروة ويكون قد وقف أسفل المنبر الوزير، وقاضي القضاة، وصاحب «1» الباب إسفهسلار العساكر، وصاحب السيف وصاحب الرسالة، وزمام القصر، وصاحب دفتر «2» المجلس، وصاحب المظلة، وزمام الأشراف الأقارب، وصاحب بيت المال، وحامل الرمح، ونقيب الأشراف الطالبيين، ووجه الوزير إليه فيشير إليه فيصعد، ويقرب وقوفه منه، ويكون وجهه موازيا رجليه، فيقبلهما بحيث يراه العالم، ثم يقوم ويقف على يمينه، فإذا وقف أشار إلى قاضي القضاة، فيصعد إلى سابع درجة، ويتطلع إليه صاغيا لما يقول، فيشير إليه فيخرج من كمه مدرجا قد أحضر إليه أمس من ديوان الإنشاء بعد عرضه على الخليفة والوزير، فيعلن بقراءة مضمونه.
ويقول: بسم الله الرحمن الرحيم: ثبت بمن شرّف بصعوده المنبر الشريف في يوم كذا، وهو عيد الفطر من سنة كذا من عبيد أمير المؤمنين صلوات الله عليه، وعلى آبائه الطاهرين، وأبنائه الأكرمين بعد صعود السيد الأجل، ونعوته المقرّرة ودعائه المحرّر، فإن أراد الخليفة أن يشرّف أحدا من أولاد الوزير، وإخوته استدعاه القاضي بالنعت المذكور، ثم يتلو ذلك ذكر القاضي وهو القارئ، فلا يتسع له أن يقول عن نفسه نعوته ولا دعاءه، بل يقول: المملوك فلان بن فلان، وقرأه مرّة القاضي ابن أبي عقيل.
فلما وصل إلى اسمه قال: العبد الذليل المعترف بالصنع الجميل في المقام الجليل أحمد بن عبد الرحمن بن أبي عقيل، فاستحسن ذلك منه، ثم حذا حذوه الأعز بن سلامة، وقد استقضى في آخر الوقت، فقال المملوك في محل الكرامة الذي عليه من الولاء أصدق علامة: حسن بن عليّ بن سلامة، ثم يستدعي من ذكرنا وقوفهم على باب المنبر بنعوتهم، وذكر خدمهم ودعائهم على الترتيب، فإذا طلع الجماعة وكل منهم يعرف مقامه في المنبر يمنة ويسرة أشار الوزير إليهم، فأخذ هو من كل جانب بيده نصيبا من اللواء الذي بجانبه، فيستر الخليفة، ويسترون وينادى في الناس بأن ينصتوا، فيخطب الخليفة من المسطور على العادة، وهي خطبة بليغة موافقة لذلك اليوم، فإذا فرغ ألقى كل من في يده من اللواء شيء خارج المنبر، فينكشفون وينزلون أوّلا فأوّلا، الأقرب فالأقرب إلى القهقرى فإذا خلا المنبر منهم، قام الخليفة هابطا، ودخل إلى المكان الذي خرج منه، فلبث يسيرا وركب في زيه(2/374)
المفخم وعاد من طريقه بعينها إلى إن يصل إلى قريب القصر، فيتقدّمه الوزير كما شرحنا، ثم يدخل من باب العيد، فيجلس في الشباك، وقد نصب منه إلى فسقية كانت في وسط الإيوان مقدار عشرين قصبة سماط من الخشكنان والبسندود والبرماورد «1» مثل الجبل الشاهق، وفيه القطعة وزنها من ربع قنطار إلى رطل، فيدخل ذلك الجمع إليه، ويفطر منه من يفطر، وينقل منه من ينقل، ويباح ولا يحجر عليه، ولا مانع دونه، فيمرّ ذلك بأيدي الناس وليس هو مما يعتدّ به ولا يعبئ مما يفرّق للناس، ويحمل إلى دورهم، ويعمل في هذا اليوم سماط من الطعام في القاعة يحضر عليه الخليفة والوزير، فإذا انقضى ذو القعدة، وهلّ هلال ذي الحجة، اهتمّ بركوب عيد النحر، فيجري حاله كما جرى في عيد الفطر من الزي والركوب إلى المصلى، ويكون لباس الخليفة فيه الأحمر الموشح، ولا ينخرم منه شيء، انتهى.
وصعد مرّة الخليفة الحافظ لدين الله أبو الميمون عبد المجيد المنبر يوم عيد، فوقف الشريف ابن أنس الدولة بإزائه، وقال مشيرا إلى الحاضرين:
خشوعا فإنّ الله هذا مقامه ... وهمسا فهذا وجهه وكلامه
وهذا الذي في كل وقت بروزه ... تحياته من ربنا وسلامه
فضرب الحافظ الجانب الأيسر من المنبر، فرقي إليه زمام القصر، فقال له: قل للشريف حسبك، قضيب حاجتك، ولم يدعه يقول شيئا آخر، وكانت تكبت المخلقات بركوب أمير المؤمنين لصلاة العيد، ويبعث بها إلى الأعمال.
فمما كتب به من إنشاء ابن الصيرفي: أمّا بعد، فالحمد لله الذي رفع بأمير المؤمنين، عماد الإيمان، وثبت قواعده وأعز بخلافته معتقده، وأذل بمعابته معانده، وأظهر من نوره مان انبسط في الآفاق، وزال معه الإظلام، ونسخ به ما تقدّمه من الملل، فقال: إنّ الدين عند الله الإسلام، وجعل المعتصم بحبله مفضلا على من يفاخره، ويباهيه وأوجب دخول الجنة، وخلودها لمن عمل بأوامره ونواهيه، وصلى الله على سيدنا محمد نبيه الذي اصطفى له الدين وبعثه إلى الأقربين والأبعدين، وأيده في الإرشاد حتى صار العاصي مطيعا، ودخل الناس في التوحيد فرادى وجميعا، وغدوا بعروته الوثقى متمسكين، وأنزل عليه قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا، وما كان من المشركين، وعلى أخيه وابن عمه أبينا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب إمام الأمّة، وكاشف الغمة، وأوجه الشفعاء لشيعته يوم العرض، ومن الإخلاص في ولائه قيام بحق وأداء فرض، وعلى الأئمة من ذريتهما سادة البرية، والعادلين في القضية، والعاملين بالسيرة المرضية، وسلم وكرم،(2/375)
وشرّف وعظم وكتاب أمير المؤمنين هذا إليك يوم الثلاثاء: عيد الفطر من سنة ست وثلاثين وخمسمائة، وقد كان من قيام أمير المؤمنين بحقه وأدائه، وجريه في ذلك على عادته، وعادة من قبله من آبائه، ما ينبئك به، ويطلعك على مستوره عنك ومغيبه، وذلك أن دنس ثوب الليل لما بيضه الصباح، وعاد المحرّم المحظور بما أطلقه المحلل المباح، توجهت عساكر أمير المؤمنين من مظانها إلى بابه، وأفطرت بين يديه بعد ما حازته من أجر الصيام وثوابه، ثم انثنت إلى مصافها في الهيئات، التي يقصر عنها تجريد الصفات، وتغني مهابتها عن تجريد المرهفات، وتشهد أسلحتها وعددها بالتنافس في الهمم، وتلق مواضيها في أغمادها شوقا إلى الطلى والقمم، وقد امتلأت الأرض بازدحام الرجل والخيل، وثار العجاج فلم ير أغرب من اجتماع النهار والليل، وبرز أمير المؤمنين من قصوره، وظهر للأبصار على أنه محتجب بضيائه ونوره، وتوجه إلى المصلى في هدي جدّه وأبيه، والوقار الذي ارتفع فيه عن النظير والشبيه، ولما انتهى إليه قصد المحراب واستقبله، وأدّى الصلاة على وضع رضيه الله وتقبله، وأجرى أمرها على أفضل المعهود، ووفاها حقها من القراءة والتكبير والركوع والسجود، وانتهى إلى المنبر، فعلا وكبر الله، وهلله على ما أولاه، وذكر الثواب على إخراج الفطرة وبشر به، وإنّ المسارعة إليه من وسائل المحافظة على الخير وقربه، ووعظ وعظا ينتفع قابله في عاجلته ومنقلبه، ثم عاد إلى قصوره الزاهرة مشمولا بالوقاية، مكنوفا بالكفاية، منتهيا في إرشاد عبيده، ورعاياه أقصى الغاية، أعلمك أمير المؤمنين خبر هذا اليوم، لتعلم منه ما تسكن إليه وتعلن بتلاوته على الكافة ليشتركوا في معرفته، ويشكروا الله عليه، فاعلم هذا، واعمل به إن شاء الله تعالى. وكان من أهل برقة طائفة تعرف بصبيان الخف لها إقطاعات وجرايات، وكسوات ورسوم فإذا ركب الخليفة في العيدين مدّوا حبلين مسطوحين من أعلى باب النصر إلى الأرض حبلا عن يمين الباب، وحبلا عن شماله، فإذا عاد الخليفة من المصلى، نزل على الحبلين طائفة من هؤلاء على أشكال خيل من خشب، مدهون وفي أيديهم رايات، وخلف كل واحد منهم رديف، وتحت رجليه آخر معلق بيديه ورجليه، ويعملون أعمالا تذهل العقول، ويركب منهم جماعة في الموكب على خيول، فيركضون وهم يتقلبون عليها، ويخرج الواحد منهم من تحت إبط الفرس، وهو يركض، ويعود يركب من الجانب الآخر، ويعود، وهو على حاله لا يتوقف، ولا يسقط منه شيء إلى الأرض، ومنهم من يقف على ظهر الحصان، فيركض به، وهو واقف.
ذكر القصر الصغير الغربي
وكان تجاه القصر الكبير الشرقيّ الذي تقدّم ذكره في غريبه قصر آخر صغير يعرف بالقصر الغربي، ومكانه الآن حيث المارستان المنصوري، وما في صفّه من المدارس، ودار الأمير بيسري، وباب قبو الخرنشف، وربع الملك الكامل المطل على سوق الدجاجين اليوم المعروف قديما بالتبانين، وما يجاوره من الدرب المعروف اليوم بدرب الخضيري تجاه(2/376)
الجامع الأقمر، وما وراء هذه الأماكن إلى الخليج، وكان هذا القصر الغربيّ يعرف أيضا بقصر البحر والذي بناه العزيز بالله نزار بن المعز.
قال المسبحي: ولم يبن مثله في شرق، ولا في غرب.
وقال ابن أبي طيّ في أخبار سنة سبع وخمسين وأربعمائة، ففيها تمم الخليفة المستنصر بناء القصر الغربيّ، وسكنه، وغرم عليه ألفي ألف دينار وكان ابتداء بنيانه في سنة خمسين وأربعمائة، وكان سبب بنائه أنه غرم على أن يجعله منزلا للخليفة القائم بأمر الله صاحب بغداد، ويجمع بني العباس إليه، ويجعله كالمجلس لهم، فخانه أمله، وتممه في هذه السنة، وجعله لنفسه وسكنه.
وقال ابن ميسر: إن ست الملك أخت الحاكم كانت أكبر من أخيها الحاكم، وإنّ والدها العزيز بالله كان قد أفردها بسكنى القصر الغربيّ، وجعل لها طائفة برسمها كانوا يسمون: بالقصرية، وهذا يدلك على أنّ القصر الغربيّ كان قد بنى قبل المستنصر، وهو الصحيح، وكان هذا القصر يشتمل أيضا على عدّة أماكن:
الميدان: وكان بجوار القصر الغربيّ، ومن حقوقه الميدان، ويعرف هذا الميدان اليوم بالخرنشف واصطبل القطبية.
البستان الكافوري: وكان من حقوق القصر الصغير الغربيّ: البستان الكافوريّ، وكان بستانا أنشأه الأمير أبو بكر محمد بن طفج بن جف الإخشيد أمير مصر، وكان مطلا على الخليج، فاعتنى به الإخشيد، وجعل له أبوابا من حديد، وكان ينزل به، ويقيم فيه الأيام، واهتمّ بشأنه من بعد الإخشيد ابناه: الأمير أبو القاسم أونوجور بن الإخشيد، والأمير أبو الحسن عليّ بن الإخشيد في أيام إمهارتهما بعد أبيهما، فلما استبدّ من بعدهما الأستاذ أبو المسك كافور الإخشيديّ بإمارة مصر كان كثيرا ما يتنزه به، ويواصل الركوب إلى الميدان الذي كان فيه وكانت خيوله بهذا الميدان.
فلما قدم القائد جوهر من المغرب بجيوش مولاه المعز لدين الله لأخذ ديار مصر، أناخ بجوار هذا البستان، وجعله من جملة القاهرة، وكان منتزها للخلفاء الفاطميين مدّة أيامهم، وكانوا يتوصلون إليه من سراديب مبنية تحت الأرض، ينزلون إليها من القصر الكبير الشرقيّ، ويسيرون فيها بالدواب إلى البستان الكافوريّ، ومناظر اللؤلؤة، بحيث لا تراهم الأعين، وما زال البستان عامرا إلى أن زالت الدولة، فحكر وبنى فيه في سنة إحدى وخمسين وستمائة، كما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى، عند ذكر الحارات والخطط من هذا الكتاب، وأما الأقباء والسراديب، فإنها عملت أسربة للمراحيض، وهي باقية إلى يومنا هذا تصب في الخليج.(2/377)
القاعة: وكان من جملة القصر الغربيّ قاعة كبيرة هي الآن المارستان المنصوري، حيث المرضى، كانت سكن ست الملك أخت الحاكم بأمر الله، وكانت أحوالها متسعة جدّا.
قال في كتاب الذخائر والتحف: وأهدت السيدة الشريفة ست الملك أخت الحاكم بأمر الله إلى أخيها يوم الثلاثاء التاسع من شعبان سنة سبع وثمان وثلثمائة: هدايا من جملتها: ثلاثون فرسا بمركبها ذهبا، منها: مركب واحد مرصع، ومركب من حجر البلور وعشرون بغلة بسروحها ولحمها، وخمسون خادما منهم عشرة صقالبة، ومائة تخت من أنواع الثياب، وفاخرها، وتاج مرصع بنفيس الجوهر، وبديعه وشاشية مرصعة، وأسفاط كثيرة من طيب من سائر أنواعه، وبستان من الفضة مزروع من أنواع الشجر.
قال: وخلفت حين ماتت في مستهل جمادى الآخرة من سنة خمس وعشرين وأربعمائة ما لا يحصى كثرة، وكان إقطاعها في كل سنة يغل خمسين ألف دينار، ووجد لها بعد وفاتها ثمانية آلاف جارية منها بنيات ألف وخمسمائة، وكانت سمحة نبيلة كريمة الأخلاق والفعل، وكان في جملة موجودها نيف وثلاثون زيرا صينيا مملوءا جميعها مسكا مسحوقا، ووجد لها جوهر نفيس من جملته قطعة ياقوت ذكر أن فيها عشرة مثاقيل.
قال المسبحيّ: ولدت بالمغرب في ذي القعدة سنة خمس وثلثمائة، ولما زالت الدولة عرفت هذه الدار: بالأمير فخر الدين جهاركس «1» موسك ثم بالملك المفضل قطب الدين «2» بن الملك العادل، فلما كان في شهر ربيع الآخر من سنة ثلاث وثمانين وستمائة، شرع الملك المنصور قلاون الألفي في بنائها مارستانا، ومدرسة وتربة، وتولى عمارتها الأمير علم الدين سنجر الشجاعيّ، مدبر الممالك، ويقال: إن ذرع هذه الدار عشرة آلاف وستمائة ذراع.
أبواب القصر الغربيّ
كان لهذا القصر عدّة أبواب: منها: باب الساباط، وباب التبانين، وباب الزمرّذ.
باب الساباط: هذا الباب موضعه الآن باب سرّ المارستان المنصوري الذي يخرج منه الآن إلى الخرنشف وكان من الرسم، أن يذبح في باب الساباط المذكور، مدّة أيام النحر، وفي عيد الغدير عدّة ذبائح تفرّق على سبيل الشرف.
قال ابن المأمون: في سنة ست عشرة وخمسمائة، وجملة ما نحره الخليفة الآمر بأحكام الله، وذبحه خاصة في المنحر، وباب الساباط دون المأمون، وأولاده وإخوته في ثلاثة الأيام: ألف وسبعمائة وستة وأربعون رأسا، فذكر ما كان بالمنحر قال: وفي باب(2/378)
الساباط مما يحمل إلى من حوته القصور، وإلى دار الوزارة، والأصحاب والحواشي اثنتا عشرة ناقة، وثمانية عشر رأس بقر، وخمسة عشر رأس جاموس، ومن الكباش: ألف وثمانمائة رأس، ويتصدّق كل يوم في باب الساباط بسقط ما يذبح من النوق والبقر.
وقال ابن عبد الظاهر: كان في القصر باب يعرف بباب الساباط، كان الخليفة في العبيد يخرج منه إلى الميدان، وهو الخرنشف الآن لينحر فيه الضحايا.
باب التبانين: هذا الباب، مكان باب الخرنشف الآن، وجعل في موضعه دار العلم التي بناها الحاكم الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى.
باب الزمرّذ: كان موضع اصطبل القطبية قريبا من باب البستان الكافوريّ الموجود الآن.
ذكر دار العلم
وكان بجوار القصر الغربيّ من بحريه دار العلم، ويدخل إليها من باب التبانين الذي هو الآن يعرف: بقبو الخرنشف، وصار مكان دار العلم الآن، الدار المعروفة: بدار الخضيري الكائنة بدرب الخضيري المقابل للجامع الأقمر ودار العلم هذه، اتخذها الحاكم بأمر الله، فاستمرّت إلى أن أبطلها الأفضل بن أمير الجيوش.
قال الأمير المختار عز الملك محمد بن عبد الله المسبحيّ: وفي يوم السبت هذا يعني العاشر من جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين وثلثمائة: فتحت الدار الملقبة بدار الحكمة بالقاهرة، وجلس فيها الفقهاء، وحملت الكتب إليها من خزائن القصور المعمورة ودخل الناس إليها، ونسخ كل من التمس نسخ شيء مما فيها مما التمسه، وكذلك من رأى قراءة شيء مما فيها، وجلس فيها القرّاء والمنجمون، وأصحاب النحو واللغة، والأطباء بعد أن فرشت هذه الدار، وزخرفت وعلقت على جميع أبوابها وممرّاتها الستور، وأقيم قوّام وخدّام وفرّاشون، وغيرهم وسموا بخدمتها، وحصل في هذه الدار من خزائن أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله من الكتب التي أمر بحملها إليها من سائر العلوم، والآداب والخطوط المنسوبة ما لم ير مثله مجتمعا لأحد قط من الملوك.
وأباح ذلك كله لسائر الناس، على طبقاتهم ممن يؤثر قراءة الكتب، والنظر فيها فكان ذلك من المحاسن المأثورة أيضا، التي لم يسمع بمثلها من إجراء الرزق السنيّ، لمن رسم له بالجلوس فيها، والخدمة لها من فقيه وغيره، وحضرها الناس على طبقاتهم، فمنهم من يحضر لقراءة الكتب، ومنهم من يحضر للنسخ، ومنهم من يحضر للتعلم، وجعل فيها ما يحتاج الناس إليه من الحبر، والأقلام، والورق والمحابر، وهي الدار المعروفة بمختار الصقلبيّ. قال: وفي سنة ثلاث وأربعمائة: أحضر جماعة من دار العلم من أهل الحساب(2/379)
والمنطق وجماعة من الفقهاء منهم: عبد الغنيّ بن سعيد، وجماعة من الأطباء إلى حضرة الحاكم بأمر الله، وكانت كل طائفة تحضر على انفرادها للمناظرة بين يديه، ثم خلع على الجميع ووصلهم، ووقف الحاكم بأمر الله أماكن في فسطاط مصر على عدّة مواضع، وضمنها كتابا ثبت على قاضي القضاة: مالك بن سعيد، وقد ذكر عند ذكر الجامع الأزهر، وقال فيه: وقد ذكر دار العلم، ويكون العشر وثمن العشر لدار الحكمة لما يحتاج إليه في كل سنة من العين المغربيّ: مائتان وسبعة وخمسون دينارا، من ذلك الثمن الحصر العبدانيّ، وغيرها لهذه الدار عشرة دنانير، ومن ذلك لورق الكاتب يعني الناسخ تسعون دينارا، ومن ذلك للخازن بها ثمانية وأربعون دينارا، ومن ذلك لثمن الماء اثنا عشر دينارا، ومن ذلك للفرّاش خمسة عشر دينارا، ومن ذلك للورق والحبر، والأقلام لمن ينظر فيها من الفقهاء اثنا عشر دينارا، ومن ذلك لمرمّة الستارة: دينار واحد، ومن ذلك لمرمة ما عسى أن يتقطع من الكتب وما عساه أن يسقط من ورقها: اثنا عشر دينارا، ومن ذلك لثمن لبود للفرش في الشتاء خمسة دنانير، ومن ذلك لثمن طنافس في الشتاء أربعة دنانير.
وقال ابن المأمون: وفي هذا الشهر يعني شهر ذي الحجة سنة ست عشرة وخمسمائة جرت نوبة القصار، وهي طويلة، وأوّلها من الأيام الأفضلية، وكان فيهم رجلان يسمى أحدهما: بركات، والآخر: حميد بن مكيّ الإطفيحيّ القصار، مع جماعة يعرفون بالبديعية، وهم على الإسلام والمذاهب الثلاثة المشهورة، وكانوا يجتمعون في دار العلم بالقاهرة، فاعتمد بركات من جملتهم أن استفسد عقول جماعة، وأخرجهم عن الصواب، وكان ذلك في أيام الأفضل فأمر للوقت بغلق دار العلم، والقبض على المذكور، فهرب، وكان من جملة من استفسد عقله بركات المذكور: أستاذان من القصر.
فلما طلب بركات المذكور، واستتر دقق الأستاذان الحيلة إلى أن دخلاه عندهما في زيّ جارية اشترياها، وقاما بحقه، وجميع ما يحتاج إليه، وصار أهله يدخلون إليه في بعض الأوقات، فمرض بركات عند الأستاذين، فحارا في أمره ومداواته، وتعذر عليهما إحضار طبيب له، واشتدّ مرضه، ومات، فأعملا الحيلة، وعرّفا زمام القصر، أنّ إحدى عجائزهما قد توفيت، وأن عجائزهما يغسلنها على عادة القصور، ويشيعنها إلى تربة النعمان بالقرافة، وكتبا عدّة من يخرج، ففسح لهما في العدّة، وأخذا في غسله، وألبساه ما أخذاه من أهله، وهو ثياب معلمة، وشاشية ومنديل، وطيلسان مقوّر، وأدرجوه في الديبقيّ، وتوجه مع التابوت الأستاذان المشار إليهما، فلما قطعوا به بعض الطريق أرادا تكميل الأجر له على قدر عقولهما، فقالا للحمالين: هو رجل تربيته عندنا فنادوا عليه: نداء الرجال، واكتموا الحال، وهذه أربعة دنانير لكم، فسرّ الحمالون بذلك، فلما عادوا إلى صاحب الدكان عرّفوه بما جرى، وقاسموه الدنانير، فخافت نفسه، وعلم أنها قضية لا تخفى، فمضى بهم إلى الوالي، وشرح له القضية فأودعهم في الاعتقال، وأخذ الذهب منهم، وكتب مطالعة بالحال.(2/380)
فمن أوّل ما سمع القائد أبو عبد الله بن فاتك الذي قيل له بعد ذلك: المأمون بالقضية، وكان مدبر الأمور في الأيام الأفضلية قال: هو بركات المطلوب، وأمر بإحضار الأستاذين والكشف عن القضية، وإحضار الحمالين، والكشف عن القبر بحضورهم، فإذا تحققوه أمرهم بلعنه، فمن أجاب إلى ذلك منهم أطلقوه، ومن أبى أحضروه، فحققوا معرفته، فمنهم من بصق في وجهه، وتبرّأ منه، ومنهم من همّ بتقبيله، ولم يتبرّأ منه، فجلس الأفضل واستدعى الوالي والسياف، واستدعى من كان تحت الحوطة من أصحابه، فكل من تبرّأ منه، ولعنه أطلق سبيله، وبقي من الجماعة ممن لم يتبرّأ منه: خمسة نفر وصبيّ لم يبلغ الحلم، فأمر بضرب رقابهم، وطلب الأستاذين، فلم يقدر عليهما، وقال للصبيّ: من لفظه تبرّأ منه، وأنعم عليك، وأطلق سبيلك فقال له: الله يطالبك إن لم تلحقني بهم، فإني مشاهد ما هم فيه، وأخذ بسيفه على الأفضل، فأمر بضرب عنقه، فلما توفي الأفضل أمر الخليفة الآمر بأحكام الله: وزيره المأمون بن البطائحيّ باتخاذ دار العلم، وأفسد عقل أستاذ وخياط، وجماعة، وادّعى الربوبية فحضر الداعي ابن عبد الحقيق إلى الوزير المأمون، وعرّفه بأنّ هذا قد تعرّف بطرف من علم الكلام، على مذهب أبي الحسن الأشعريّ، ثم انسلخ عن الإسلام، وسلك طريق الحلاج في التمويه فاستهوى من ضعف عقله، وقلة بصيرته، فإنّ الحلاج في أوّل أمره كان يدّعي أنه: داعية المهديّ، ثم ادّعى أنه المهديّ ثم ادّعى الإلهية، وأنّ الجنّ تخدمه، وأنه أحيى عدّة من الطيور، وكان هذا القصار شيعيّ الدين، وجرت له أمور في الأيام الأفضلية، ونفي دفعة واعتقل أخرى، ثم هرب بعد ذلك، ثم حضر وصار يواصل طلوع الجبل، واستصحب من استهواء من أصحابه، فإذا أبعد قال لبعضهم بعد أن يصلي ركعتين: نطلب شيئا تأكله أصحابنا فيمضي، ولا يلبث دون أن يعود، ومعه ما كان أعدّه مع بعض خاصته الذين يطلعون على باطنه، فكانوا يهابونه ويعظمونه حتى أنهم يخافون الإثم في تأمّل صورته، فلا ينفكون مطرقين بين يديه، وكان قصيرا دميم الخلقة، وادّعى مع ذلك الربوبية وكان ممن اختص بحميد رجل خياط وخصيّ، فرسم المأمون بالقبض على المذكور، وعلى جميع أصحابه فهرب الخياط، وطلب فلم يوجد، ونودي عليه وبذل لمن يحضر به مال، فلم يقدر عليه، واعتقل القصار وأصحابه، وقرّروا فلم يقرّوا بشيء من حاله، وبعد أيام تماوت في الحبس.
فلما استؤمر عليه أمر بدفنه، فلما حمل ليدفن ظهر أنه حيّ، فأعيد إلى الاعتقال، وبقي كل من لم يتبرّأ منه معتقلا ما خلى الخصيّ، فإنه لم يتبرّأ منه، وذكر أن القتل لا يصل إليه فأمر بقطع لسانه، ورمى قدّامه، وهو مصرّ على ما في نفسه، فأخرج القصار، والخصيّ، ومن لم يتبرّأ منه من أصحابه فصلبوا على الخشب، وضربوا بالنشاب، فماتوا لوقتهم، ثم نودي على الخياط ثانيا، فاحضر وفعل به ما فعل بأصحابه بعد أن قيل له: ها أنت تنظره، فلم يتبرّأ منه، وصلب إلى جانبه.(2/381)
وذكر أن بعض أصحاب هذا القصار ممن لم يعرف أنه كان يشتري الكافور، ويرميه بالقرب من خشبته التي هو مصلوب عليها، فيستقبل رائحته من سلك تلك الطريق ويقصد بذلك أن يربط عقول من كان القصار قد أضله، فأمر المأمون أن يحطوا عن الخشب، وأن تخلط رممهم ويدفنوا متفرّقين، حتى لا يعرف قبر القصار من قبورهم، وكان قتلهم في سنة سبع عشرة وخمسمائة، وابتداء هذه القضية سنة ثلاث عشرة وخمسمائة.
قال: وكان الشريف عبد الله يحدّث عن صديق له مأمول القول: إنه أخبره أنه لما شاع خبر هذا القصار، وما ظهر منه أراد أن يمتحنه، فتسبب إلى أن خالطه، وصار في جملة أصحابه، ومن يعظمه ويطلع معه إلى الجبل، فأفسد عقله، وغير معتقده، وأخرجه عن الإسلام، وأنه لامه على ذلك، وردعه فحدّثه بعجائب منها أنه قال: والله ما من الجماعة الذين يطلعون معه إلى الجبل أحد إلّا ويسأله، ويستدعيه ما يريد على سبيل الامتحان فيحضره إليه لوقته، وإنّ بيده سكينا لا تقطع إلّا بيده، وإذا أمسك طائرا، وقبضه أحد من الحاضرين يدفع السكين التي معه له، ويقول له: اذبحه، فلا تمشي في يده، فيأخذها هو ويذبحه بها ويجري دمه، ثم يعود ويمسكه بيده، ويسرّحه فيطير، ويقول: إنّ الحديد لا يعمل فيه، ويوسع القول فيما يشاهده منه، ويسمعه، فلما اعتقل القصار بقي هذا الرجل مصرّا على اعتقاده، فلما قتل وخرج إليه وشاهده، وتحقق موته علم أن ما كان فيه سحر، وزور وإفك، فتصدّق بجملة من ماله، وعاد إلى مذهبه، وصحّ معتقده.
وقال ابن عبد الظاهر: دار العلم كان الأفضل بن أمير الجيوش قد أبطلها، وهي بجوار باب التبانين، وهي متصلة بالقصر الصغير، وفيها مدفون الداعي: المؤيد في الدين هبة الله بن موسى الأعجميّ، وكان لإبطالها أمور سببها اجتماع الناس، والخوض في المذاهب والخوف من الاجتماع على المذهب النزاريّ، ولم يزل الخدّام يتوصلون إلى الخليفة الآمر بأحكام الله، حتى تحدّث في ذلك مع الوزير المأمون فقال: أين تكون هذه الدار؟ فقال بعض الخدّام: تكون بالدار التي كانت أوّلا، فقال المأمون: هذا لا يكون لأنه باب صار من جملة أبواب القصر، وبرسم الحوائج، ولا يمكن الاجتماع ولا يؤمن من غريب يتحصل به، فأشار كل من الأستاذين بشيء، فأشار بعضهم أن تكون في بيت المال القديم، فقال المأمون: يا سبحان الله قد منعنا أن تكون متاخمة للقصر الكبير الذي هو سكن الخليفة نجعلها ملاصقة؟ فقال الثقة زمام القصور: في جواري موضع ليس ملاصقا للقصر، ولا مخالطا له يجوز أن يعمر، ويكون دار العلم، فأجاب المأمون إلى ذلك وقال: بشرط أن يكون متوليها رجلا دينا، والداعي الناظر فيها، ويقام فيها متصدّرون برسم قراءة القرآن، فاستخدم فيها أبو محمد حسن بن آدم، فتولاها، وشرط عليه ما تقدّم ذكره، واستخدم فيها مقرئون.(2/382)
ذكر دار الضيافة
خرّج مالك في الموطأ: عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه قال: كان إبراهيم عليه السلام أوّل من ضيّف الضيف، وأوّل من اتخذ دار ضيافة الإسلام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سنة سبع عشرة، وأعدّ فيها الدقيق والسمن والعسل وغيره، وجعل بين مكة والمدينة من يحمل المنقطعين من ماء إلى ماء حتى يوصلهم إلى البلد، فلما استخلف عثمان بن عفان رضي الله عنه، أقام الضيافة لأبناء السبيل، والمتعبدين في المسجد وأوّل من بنى دار الضيافة بمصر للناس: عثمان بن قيس بن أبي العاص السهميّ، أحد من شهد فتح مصر من الصحابة، وكان ميدان القصر الغربيّ الذي هو الآن الخرنشف دار الضيافة بحارة برجوان «1» ، وكانت هذه الدار أوّلا تعرف: بدار الأستاذ برجوان، وفيها كان يسكن حيث الموضع المعروف بحارة برجوان، ثم لما قدم أمير الجيوش بدر الجماليّ في أيام الخليفة المستنصر من عكا، واستبدّ بأمر الدولة أنشأ هناك دارا عظيمة، وسكنها ولم يسكن بدار الديباج التي كانت دار الوزارة القديمة.
فلما مات أمير الجيوش بدر، واستولى سلطنة ديار مصر ابنه الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش، وأنشأ دار القباب التي عرفت: بدار الوزارة الكبرى قريبا من رحبة باب العيد، أقرّ أخاه أبا محمد جعفرا المنعوت: بالمظفر ابن أمير الجيوش، بدار أمير الجيوش من حارة برجوان، فعرفت: بدار المظفر، وما زال بها حتى مات، وقبر بها، وإلى اليوم قبره بها، وتسميه العامّة: جعفرا الصادق. ولما مات المظفر اتخذت داره المذكورة دار ضيافة برسم الرسل الواردين من الملوك، واستمرّت كذلك إلى أن انقرضت الدولة، فأنزل بها السلطان صلاح الدين أولاد العاضد إلى أن نقلهم إلى قلعة الجبل، الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب.
فلما كان في سنة تسع وسبعين وستمائة، تقدّم أمر الملك المنصور قلاون لوكيل بيت المال القاضي: مجد الدين عيسى بن الخشاب ببيع دار المظفر، فباع القاعة الكبرى، وما هو من حقوقها، وبيعت دار المظفر الصغرى، وهدمها الناس، وبنوا في مكانها دورا، وموضعها الآن دار قاضي القضاة شمس الدين محمد الطرابلسيّ الحنفيّ، وما بجوارها إلى الدار التي بها سكنى اليوم، وهي من حقوق دار المظفر الصغرى، على ما في كتبها القديمة، ولما أنشأ قاضي القضاة شمس الدين المذكور داره: في سنة سبع أو سنة ثمان وثمانين وسبعمائة، ظهر من تحت الأرض عند حفر الأساس حجر عظيم، قيل: إنه عتبة دار المظفر الكبرى، وكان إذ(2/383)
ذاك الأمير جهاركس الخليليّ يتولى عمارة مدرسة الملك الظاهر برقوق، التي في خط بين القصرين، فلما بلغه خبر هذا الحجر بعث إليه، وأمر بجرّه إلى العمارة، فعمل عتبة باب المزمّلة، التي للمدرسة وكان من وراء هذه الدار، رحبة الأفيال أدركتها ساحة ثم عمر فيها.
قال ابن الطوير: الخدمة المعروفة: بالنيابة للقاء المرسلين، وهي خدمة جليلة يقال لمتوليها النائب، وينعت بعدي الملك، وهو ينوب عن صاحب الباب في لقاء الرسل الوافدين على مسافة، وإنزال كل واحدة في دار تصلح له، ويقيم له من يقوم بخدمته، وله نظير في دار الضيافة، وهو يسمى اليوم بمهمندار، ويرتب لهم ما يحتاجون إليه، ولا يمكن أحدا من الاجتماع بهم، ويذكر صاحب الباب بهم، ويبالغ في نجاز ما وصلوا فيه، وهو الذي يسلم بهم أبدا عند الخليفة والوزير، وينفذ بهم، ويستأذن عليهم، ويدخل الرسول وصاحب الباب قابض على يده اليمنى، والنائب بيده اليسرى، فيحفظ ما يقولون، وما يقال لهم، ويجتهد في انفصالهم على أحسن الوجوه، وبين يديه من الفرّاشين المقدّم ذكرهم عدّة لإعانته وإذا غاب أقام عنه نائبا إلى أن يعود وله من الجاري خمسون دينارا في كل شهر، وفي اليوم نصف قنطار خبز، وقد يهدي إليه المرسلون طرفا فلا يتناولها إلّا بإذن، انتهى.
وفي هذه الدولة التركية يقال لمتولي هذه الوظيفة: مهمندار، ولا يليها عندهم إلّا صاحب سيف من الأمراء العشراوات، وكانت في الدولة الفاطمية على ما ذكره ابن الطوير:
لا يليها إلّا أعيان العدول، وأرباب العمائم، وينعت أبدا بعدي الملك، وأصل هذه الكلمة الفارسية: مهمان دار (ومعناها ملتقى الضيوف) .
ذكر اصطبل الحجريّة
وكان بجوار دار الضيافة: اصطبل الصبيان الحجرية المقدّم ذكرهم، وموضع هذا الاصطبل اليوم يعرف: بخان الوراقة داخل باب الفتوح القديم، بسوق المرحلين، على يسرة من أراد الخروج من باب الفتوح القديم، تجاه زيادة الجامع الحاكميّ، ومن حقوق هذا الاصطبل أيضا الموضع الذي فيه الآن القيسارية المعروفة بقيسارية الست التي هي اليوم تجاه المدرسة الصيرمية، والجملون الصغير، وكانت بهذه الإصطبل خيول الصبيان الحجرية إحدى طوائف العساكر في زمن الخلفاء الفاطميين.
ذكر مطبخ القصر
وكان بجوار القصر الغربيّ قبالة باب الزهومة من القصر الكبير: مطبخ القصر، وموضعه الآن: الصاغة تجاه المدارس الصالحية، ولما كانت مطبخا، كان يخرج إليه من باب الزهومة، وذكر ابن عبد الظاهر: أنه كان يخرج من المطبخ المذكورة مدّة شهر رمضان:
ألف ومائتا قدر من جميع ألوان الطعام، تفرّق كل يوم على أرباب الرسوم والضعفاء.(2/384)
درب السلسلة: وكان بجوار مطبخ القصر: درب السلسلة، قال ابن الطوير: ويبيت خارج باب القصر في كل ليلة خمسون فارسا، فإذا أذن بالعشاء الآخرة داخل القاعة، وصلى الإمام الراتب بها بالمقيمين فيها من الأستاذين وغيرهم وقف على باب القصر أمير يقال له: سنان الدولة بن الكركنديّ، فإذا علم بفراغ الصلاة، أمر بضرب النوبات من الطبل والبوق، ولوائقهما من عدّة وافرة بطرائق مستحسنة مدّة ساعة زمانية، ثم يخرج بعد ذلك أستاذ برسم هذه الخدمة، فيقول أمير المؤمنين يردّ على سنان الدولة السلام، فيصقع «1» ويغرس حربة على الباب ثم يرفعها بيده، فإذا رفعها أغلق الباب، وسار حوالي القصر سبع دورات، فإذا انتهى ذلك جعل على الباب البياتين والفرّاشين المقدّم ذكرهم، وانصرف المؤذنون إلى خزانتهم هناك، وترمي السلسلة عند المضيق آخر بين القصرين من جانب السيوفيين، فينقطع المار من ذلك المكان إلى أن تضرب النوبة سحرا قرب الفجر، فتنصرف الناس من هناك بارتفاع السلسلة.
وقال ابن عبد الظاهر: درب السلسلة الذي هو الآن إلى جانب السيوفيين كانت عنده سلسلة منه إلى قبالته، تعلق كل يوم من الظهر، حتى لا يعبر راكب تحت القصر، وهذا الدرب يعرف: بسنان الدولة بن الكركنديّ، وهذا الدرب هو المختص بالتقفيزة، وهذه التقفزية أمرها مستظرف، لا من قبل الحسن، بل من قبل التعجب من العقول.
ولها خمسة أوقات، وهي: ليالي العيدين، وغرّة السنة، وغرّة شهر رمضان ويوم فتح الخليج، وهو: أنه يقف راكبا في وسط الزلاقة «2» التي لباب الذهب، قبالة الدار القطبية، فيخرج إليه السلام من الخليفة، ثم يخدم الرهجية، ثم يصعد على كندرة باب الزهومة، وقدّامه دواب المظلة يمنة ويسرة، والرهجية تخدم وأرباب الضوء، ومستخدمو الطرق على السلسلة، فإذا كان الطرف وصلوا إليه، واجتمعت الرهجية كلهم، وركب فرسا وعليه ثياب حسنة، وكشف عن راياته، وأخذ بيده رمحا، واجتمعت الرهجية حوله، ويعبر مشورا، وأولئك خلفه بالصراخ والصياح بشعار الإمام، ثم يسير بذاك الجمع وخيل المظلة إلى أبواب القصر، فيقف عند كل باب تخدم الرهجية إلى أن يعودوا إلى باب الذهب، ثم إلى دار الوزارة للهناء، فلم يزالوا كذلك إلى ولاية ابن الكركندي فبطلت هذه السنة في الأيام الآمرية، وصاحب التقفيزة: ممن واصل آباؤه صحبة المعز لدين الله من بلاد المغرب فكانت هذه سنتهم.(2/385)
ذكر الدار المأمونية
وكان بجوار درب السلسلة الدار المأمونية، وهي المدرسة السيوفية، وكانت هذه الدار سكن المأمون ابن البطائحي، وعرفت قديما، بقوام الدولة حبوب، ثمجدّدها المأمون محمد ابن فاتك.
المأمون البطائحي: هو أبو عبد الله محمد ابن الأمير نور الدولة أبي شجاع فاتك بن الأمير منجد الدولة أبي الحسن مختار المستنصري، اتصل بخدمة الأفضل بن أمير الجيوش في شهر شوّال سنة إحدى وخمسمائة، عند ما تغير على تاج المعالي المختار الذي كان اصطنعه، وفخم أمره وسلم إليه خزائن أمواله، وكسواته، وسلم ما كان بيده من الخدمة لمحمد بن فاتك، فتصرّف فيها، وقرّر له الأفضل ما كان باسم مختار من العين خاصة دون الإقطاع، وهو مائة دينار في كل شهر، وثلاثون دينارا عن جاري الخزائن مضافا إلى الأصناف الراتبة مياومة ومشاهرة ومسانهة فحسن عند الأفضل موقع خدمته، فاعتمد عليه وسلم له جميع أموره، وصرّفه في كل أحواله.
فلما كثر عليه الشغل استعان بأخويه أبي تراب حيدرة، وأبي الفضل جعفر، فأطلق الأفضل لهما ما وسع به عليهما من المياومة والمشاهرة والمسانهة، ونعته الأفضل بالقائد، فصار يخاطب بالقائد، ويكاتب به، وصار عنده بمنزلة الأستادار «1» ، فلما قتل الأفضل ليلة عيد الفطر من سنة خمس عشرة وخمسمائة، قام القائد أبو عبد الله بن فاتك لخدمة الخليفة الآمر بأحكام الله وأطلعه على أموال الأفضل، وبالغ في مناصحته، حتى لقد اتهم أنه هو الذي دبر في قتل الأفضل بإشارة الخليفة، فخلع عليه الآمر في مستهل ذي القعدة، بمجلس اللعبة من القصر، وهو المجلس الذي يجلس فيه الخليفة، ولم يخلع قبله على أحد فيه، وحل المنطقة من وسطه، وخلع على ولده، وحل منطقته، وخلع على إخوته، واستمرّ تنفيذ الأمور إليه إلى أن استهل ذو الحجة، ففي يوم الجمعة ثانية، خلع عليه من الملابس الخاص في فرد كمّ مجلس اللعبة طوق ذهب مرصع، وسيف ذهب كذلك، وسلم على الخليفة، وتقدّم الأمر للأمراء، وكافة الأستاذين المحنكين بالخروج بين يديه، وأن يركب من المكان الذي كان الأفضل يركب منه، ومشى في ركابه القوّاد، على عادة من تقدّمه، وخرج بتشريف الوزارة، ودخل من باب العيد راكبا، ووصل إلى داره، فضاعف الرسوم، وأطلق الهبات.
فلما كان يوم الاثنين خامسه اجتمع الأمراء بين يدي الخليفة، وأحضر السجل في لفافة خاص مذهبة، فسلمه الخليفة له من يده فقبله، وسلمه لزمام القصر، فأمره الخليفة(2/386)
بالجلوس إلى جانبه عن يمينه، وقرىء السجل على باب المجلس، وهو أوّل سجل قرىء هناك، وكانت سجلات الوزراء قبل ذلك تقرأ بالإيوان، ورسم للشيخ أبي الحسن بن أبي أسامة كاتب الدست أن ينقل نسبة الأمراء، والمحنكين من الآمريّ إلى المأمونيّ، وكذا الناس أجمع، ولم يكن أحد ينتسب إلى الأفضل، ولا لأمير الجيوش، وقدّمت له الدواة، فعلم في مجلس الخليفة، ونعت بالسيد الأجل، المأمون تاج الخلافة ووجيه الملك، فخر الصنائع، ذخر أمير المؤمنين، عز الإسلام، فخر الأنام، نظام الدين، أمير الجيوش سيف الإسلام، ناصر الأنام، كافل قضاة المسلمين، وهادي دعاة المؤمنين، وكان يجلس بداره في يومي الأحد والأربعاء للراحة والنفقة في العسكر البساطية إلى الظهر، ثم يرفع النفقة، ويحط السماط، ويجلس بعد العصر، والكتاب بين يديه، فينفق في الراجل إلى آخر النهار، وفي يوم الجمعة يطلق للمقرئين بحضرته خمسة دنانير، ولكل من هو مستمرّ القراءة على بابه من الضعفاء، والأجراء مما هو ثابت بأسمائهم: خمسمائة درهم، ولبقية الضعفاء والمساكين: خمسمائة درهم أخرى.
فإذا توجه يوم الجمعة إلى القرافة يكون المبلغ المذكور مستقرّا لأربابه، ولم يزل إلى ليلة السبت الرابع من رمضان سنة تسع عشرة وخمسمائة، فقبض الآمر المذكور عليه، وعلى إخوته الخمسة «1» مع ثلاثين رجلا من خواصه وأهله، واعتقله ثم صلبه مع إخوته في سنة اثنتين وعشرين.
قيل: إن سبب القبض عليه ما بلغ الآمر عنه أنه بعث إلى الأمير جعفر بن المستعلي يغريه بقتل أخيه، ليقيمه مكانه في الخلافة، وكان الذي بلّغ الآمر ذلك الشيخ أبا الحسن بن أبي أسامة، وبلغه أيضا عنه أنه: سير نجيب الدولة أبا الحسن إلى اليمن ليضرب سكة عليها، الإمام المختار محمد بن نزار، وذكر عنه أنه سمّ شيئا، ودفعه لقصاد الخليفة، فنمّ عليه القصاد.
وكان مولد المأمون في سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، وكان من ذوي الآراء، والمعرفة التامّة بتدبير الدول كريما واسع الصدر سفاكا للدماء، كثير التحرّز والتطلع إلى معرفة أحوال الناس من العامّة والجند، فكثر الوشاة في أيامه.
حبس المعونة: وكان بجوار الدار المأمونية حبس المعونة، وموضعه اليوم: قيسارية العنبر.
قال ابن المأمون في سنة سبع عشرة وخمسمائة: تقدّم أمر المأمون إلى الواليين بمصر والقاهرة بإحضار عرفاء السقائين وأخذ الحج على المتعيشين منهم بالقاهرة بحضورهم، متى(2/387)
دعت الحاجة إليهم ليلا ونهارا، وكذلك يعتمد في القربيين، وأن يبيتوا على باب كل معونة، ومعهم عشرة من الفعلة بالطوارىء والمساحي، وأن يقوما لهم بالعشاء من أموالهما بحكم فقرهم، انتهى.
وكان حبس المعونة هذا يسجن فيه أرباب الجرائم، كما هو اليوم السجن المعروف:
بخزانة شمائل، وأما الأمراء، والأعيان، فيسجنون: بخزانة البنود، كما تقدّم، ولم يزل هذا الموضع سجنا مدّة الدولة الفاطمية، ومدّة دولة بني أيوب إلى أن عمره: الملك المنصور قلاون قيسارية، أسكن فيها العنبرانيين في سنة ثمانين وستمائة.
ذكر الحسبة «1» ودار العيار
وكان بجوار حبس المعونة: دكة الحسبة، ومكانها اليوم يعرف: بالإبازرة، ومكسر الحطب بجوار سوق القصارين والفحامين.
قال ابن الطوير: وأما الحسبة، فإنّ من تسند إليه لا يكون إلّا من وجوه المسلمين وأعيان المعدّلين لأنها خدمة دينية، وله استخدام النوّاب عنه بالقاهرة ومصر، وجميع أعمال الدولة، كنوّاب الحكم، وله الجلوس بجامعي القاهرة ومصر يوما بعد يوم، ويطوف نوّابه على أرباب الحرف، والمعايش ويأمر نوّابه بالختم على قدور الهرّاسين، ونظر لحمهم ومعرفة من جزاره، وكذلك الطباخون ويتتبعون الطرقات، ويمنعون من المضايقة فيها، ويلزمون رؤساء المراكب أن لا يحملوا أكثر من وسق السلامة، وكذلك مع الحمالين على البهائم ويأمرون السقائين بتغطية الروايا بالأكسية، ولهم عيار: وهو أربعة وعشرون دلوا، كل دلو: أربعون رطلا، وأن يلبسوا السراويلات القصيرة الضابطة لعوراتهم، وهي زرق، وينذرون معلمي المكاتب بأن لا يضربوا الصبيان ضربا مبرّحا، ولا في مقتل، وكذلك معلمو العلوم بتحذيرهم من التغرير بأولاد الناس، ويقفون على من يكون سيء المعاملة، فينهونه بالردع والأدب، وينظرون المكاييل والموازين، وللمحتسب النظر في دار العيار، ويخلع عليه ويقرأ سجله بمصر والقاهرة على المنبر، ولا يحال بينه، وبين مصلحة إذا رآها، والولاة تشدّ معه إذا احتاج إلى ذلك وجاريه: ثلاثون دينارا في كل شهر، انتهى.
وكان للعيار: مكان يعرف بدار العيار تعير فيه الموازين بأسرها، وجميع الصنج، وكان ينفق على هذه الدار من الديوان السلطانيّ، فيما تحتاج إليه من الأصناف كالنحاس والحديد والخشب والزجاج، وغير ذلك من الآلات، وأجر الصناع والمشارفين ونحوهم،(2/388)
ويحضر المحتسب أو نائبه إلى هذه الدار ليعير المعمول فيها بحضوره، فإن صح ذلك أمضاه، وإلّا أمر بإعادة عمله، حتى يصح، وكان بهذه الدار أمثلة يصحح بها العيار، فلا تباع الصنج، والموازين والأكيال، إلّا بهذه الدار، ويحضر جميع الباعة إلى هذه الدار باستدعاء المحتسب لهم، ومعهم موازينهم، وصنجهم ومكاييلهم، فتعير في كل قليل، فإن وجد فيها الناقص استهلك، وأخذ من صاحبه لهذه الدار، وألزم بشراء نظيره، مما هو محرّر بهذه الدار، والقيام بثمنه، ثم سومح الناس وصار يلزم من يظهر في ميزانه أو صنجه خلل بإصلاح ما فيها من فساط فقط، والقيام بأجرته فقط، وما زالت هذه الدار باقية جميع الدولة الفاطمية.
فلما استولى صلاح الدين على السلطنة أقرّ هذه الدار، وجعلها وقفا على سور القاهرة مع كان جاريا في أوقاف السور من الرباع والنواحي الجارية في ديوان الأسوار، وما زالت هذه الدار باقية.
اصطبل الجميزة: وكان بجوار القصر الغربيّ من قبليه اصطبل الجميزة من جانب باب الساباط الذي هو الآن: باب سرّ المارستان المنصوريّ، وقيل له: اصطبل الجميزة من أجل أنه كان في وسطه شجرة جميز كبيرة، وكان موضع هذا الاصطبل، تجاه من يخرج من باب الساباط، فينزل من الحدرة التي هي الآن تجاه باب سرّ المارستان المتوصل منها إلى حارة زويلة، ويمتدّ فيما حاذاه يسارك، إذا وقفت بأوّل هذه الحدرة، حيث الطاحون الكبيرة التي هي الآن في أوقاف المارستان، وما وراءها ويحاذيها إلى الموضع المعروف اليوم:
بالبندقانيين، وكانت بئره تعرف: ببئر زويلة، وعليها ساقية تنقل الماء لشرب الخيول، وموضع هذا البئر اليوم: قيسارية تعرف بقيسارية يونس تجاه درب الأنجب، وقد شاهدت هذه البئر، لما أنشأ الأمير يونس الدوا دار هذه القيسارية والربع علوها، فرأيت بئرا كبيرة جدّا، وقد عقد على فوهتها عقد ركب فوقه بعض القيسارية، وترك منها شيء، ومنها الآن الناس تسقي بالدلاء، وما زال هذا الاصطبل باقيا إلى أن انقرضت الدولة الفاطمية، فحكر وبنى في مكانه الآدار التي هي موجودة الآن، وحكره جار في أوقاف الصلاح الأزبكيّ، وقد تقدّم ذكر هذا الاصطبل عند ذكر اصطبل الطارمة، فانظر رسومه هناك.
دار الديباج «1» : وكان بجوار اصطبل الطارمة من غربيه: دار الديباج، وهي حيث المدرسة الصاحبية بسويقة الصاحب وما جاورها من جانبها، وما خلفها إلى الوزيرية، وكانت هي: دار الوزارة القديمة، وأوّل من أنشأها: الوزير يعقوب بن يونس بن كاس وزير العزيز بالله، ثم سكنها الوزير الناصر للدين قاضي القضاة، وداعي الدعاة علم المجد أبو(2/389)
محمد الحسن بن عليّ بن عبد الرحمن البازوريّ، وما زالت سكن الوزراء إلى أن قدم أمير الجيوش بدر الجماليّ من عكا، ووزره المستنصر، وصار وزيرا مستبدّا، فأنشأ داره: بحارة برجوان، وسكنها وسكن من بعده ابنه الأفضل ابن أمير الجيوش بدار القباب التي عرفت:
بدار الوزارة الكبرى، وصارت هذه الدار تعرف: بدار الديباج، لأنه يعمل فيها الحرير الديباج، ويتولاها الأماثل والأعيان.
فمن وليها أبو سعيد بن قرقة الطبيب متولي خزائن السلاح، وخزائن السروج والصناعات، فلما انقرضت الدولة الفاطمية بنى الناس في مكان دار الديباج المدرسة السيفية، وما وراءها من المواضع التي تعرف أماكنها اليوم: بدرب الحريريّ، وما جاور هذا الدرب إلى المدرسة الصاحبية، وما بجوارها وما هو في ظهرها، فصار يعرف خط دار الديباج في زمننا بخط سويقة الصاحب.
الأهراء السلطانية «1» : وكانت أهراء الغلال السلطانية في دولة الخلفاء الفاطميين حيث المواضع التي فيها الآن خزانة شمائل، وما وراءها إلى قرب الحارة الوزيرية.
قال ابن الطوير: وأما الأهراء فإنها كانت في عدّة أماكن بالقاهرة وهي اليوم:
اصطبلات ومناخات، وكانت تحتوي على ثلثمائة ألف أردب من الغلات، وأكثر من ذلك.
وكان فيها مخازن يسمى أحدها: بغداي، وآخر: الفول، وآخر: القرافة، ولها الحماة من الأمراء والمشارفين من العدول، والمراكب واصلة إليها بأصناف الغلات إلى ساحل مصر، وساحل المقس، والحمالون يحملون ذلك إليها بالرسائل على يد رؤساء المراكب، وأمنائها من كل ناحية سلطانية، وأكثر ذلك من الوجه القبليّ، ومنها إطلاق الأقوات لأرباب الرتب والخدم وأرباب الصدقات، وأرباب الجوامع، والمساجد، وجرايات العبيد السودان بتعريفات، وما ينفق في الطواحين برسم خاص الخليفة، وهي طواحين مدارها سفل، وطواحينها علو حتى لا تقارب زبل الدواب، ويحمل دقيقها للخاص، وما يختص بالجهات في خرائط من شقق حلبية.
ومن الأهراء تخرج جرايات رجال الأسطول، وفيها ما هو قديم يقطع بالمساحي، ويخلط في بعض الجرايات بالجديد بجرايات المذكورين وجرايات السودان، ومنها ما يستدعي بدار الضيافة لإخباز الرسل، ومن يتبعهم، وما يعمل من القمح برسم الكعك لزاد الأسطول، فلا يفتر مستخدموها من دخل وخرج ولهم جامكية مميزة، وجرايات برسم أقواتهم، وشعير لدوابهم وما يقبض من الواصلين بالغلال إلّا ما يماثل العيون المختومة معهم، وإلّا ذرّي، وطلب العجز بالنسبة.(2/390)
وذكر ابن المأمون: أن غلّات الوجه القبليّ، كانت تحمل إلى الأهراء، وأما الأعمال البحرية، والبحيرة والجزيرتان والغربية والكفور، والأعمال الشرقية، فيحمل منها اليسير، ويحمل باقيها إلى الإسكندرية، ودمياط وتنيس ليسير إلى ثغر عسقلان، وثغر صور، وإنه كان يسير إليهما في كل سنة مائة وعشرون ألف أردب، منها العسقلان خمسون ألفا، ولصور: سبعون ألفا، فيصير هناك ذخيرة، ويباع منها عند الغنى عنها.
قال: وكان متحصل الديوان في كل سنة ألف ألف أردب.
وذكر جامع السيرة البازورية: أن المتجر كان يقام به للديوان من الغلة، وأن الوزير أبا محمد البازوريّ قال للخليفة المستنصر: وهو يومئذ يتقلّد وظيفة قاضي القضاة، وقد قصر النيل في سنة أربع وأربعين وأربعمائة ولم يكن بالمخازن السلطانية غلال، فاشتدّت المسغبة بأمير المؤمنين: إنّ المتجر الذي يقام بالغلة فيه أو في مضرّة على المسلمين، وربما أقحط السعر من مشتراها، ولا يمكن بيعها، فتتغير في المخازن وتتلف، وإنه يقام متجر لا كلفة فيه على الناس، ويفيد أضعاف فائدة الغلة، ولا يخشى عليه من تغير في المخازن، ولا انحطاط سعر، وهو الصابون والخشب والحديد، والرصاص، والعسل، وما أشبه ذلك، فأمضى الخليفة ما رآه، واستمرّ ذلك ودام الرخاء على الناس وتوسعوا.(2/391)
ذكر المناظر التي كانت للخلفاء الفاطميين، ومواضع نزههم ما كان لهم فيها من أمور جميلة
وكان للخلفاء الفاطميين: مناظر كثيرة بالقاهرة ومصر، والروضة، والقرافة، وبركة الحبش، وظواهر القاهرة، وكانت لهم عدّة منتزهات أيضا فمن مناظرهم التي بالقاهرة:
منظرة الجامع الأزهر، ومنظرة اللؤلؤة على الخليج، ومنظرة الدكة، ومنظرة المقس، ومنظرة باب الفتوح، ومنظرة البعل، ومنظرة التاج، والخمس وجوه، ومنظرة الصناعة بمصر، ودار الملك، ومنازل العز، والهودج بالروضة، ومنظرة بركة الحبش، والأندلس بالقرافة وقبة الهواء، ومنظرة السكرة، وكان من منتزهاتهم كسر خليج أبي المنجا، وقصر الورد بالخرقانية، وبركة الجب.
منظرة الجامع الأزهر: وكان بجوار الجامع الأزهر من قبليه: منظرة تشرف على الجامع الأزهر يجلس الخليفة فيها لمشاهدة ليالي الوقود.
ذكر ليالي الوقود «1» : قال المسبحيّ في حوادث شهر رجب من سنة ثمانين وثلثمائة:
وفيه خرج الناس في لياليه على رسمهم في ليالي الجمع، وليلة النصف إلى جامع القاهرة يعني الجامع الأزهر عوضا عن القرافة، وزيد فيه في الوقيد على حافات الجامع، وحول صحنه التنانير، والقناديل، والشمع على الرسم في كل سنة، والأطعمة، والحلوى والبخور في مجامر الذهب والفضة، وطيف بها، وحضر القاضي محمد بن النعمان في ليلة النصف بالمقصورة، ومعه شهوده ووجوه البلد، وقدّمت إليه سلال الحلوى والطعام، وجلس بين يديه القرّاء، وغيرهم والمنشدون، والناحة وأقام إلى نصف الليل، وانصرف إلى داره بعد أن قدّم إلى من معه أطعمة من عنده وبخرهم.
وقال في شعبان وكان الناس في كل ليلة جمعة، وليلة النصف على مثل ما كانوا عليه في رجب، وأزيد، وفي ليلة النصف من شعبان: كان الناس جمع عظيم بجامع القاهرة من الفقهاء، والقرّاء، والمنشدين، وحضر القاضي محمد بن النعمان في جميع شهوده، ووجوه(2/392)
البلد، ووقدت التنانير والمصابيح على سطح الجامع، ودور صحنه، ووضع الشمع على المقصورة وفي مجالس العلماء، وحمل إليهم العزيز بالله بالأطعمة، والحلوى والبخور، فكان جمعا عظيما.
قال: وفي شهر رجب سنة اثنتين وأربعمائة: قطع الرسم الجاري من الخبز، والحلوى الذي يقام في هذه الثلاثة الأشهر لمن يبيت بجامع القاهرة في ليالي الجمع، والأنصاف وحضر قاضي القضاة مالك بن سعيد الفارقيّ «1» إلى جامع القاهرة ليلة النصف من رجب، واجتمع الناس بالقرافة على ما جرت به رسومهم من كثرة اللعب والمزاح.
روى الفاكهيّ في كتاب مكة: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان يصيح في أهل مكة، ويقول: يا أهل مكة أوقدوا ليلة هلال المحرّم فأوضحوا فجاجكم لحاج بيت الله، واحرسوهم ليلة هلال المحرّم، حتى يصبحوا، وكان الأمر على ذلك بمكة في هذه الليلة، حتى كانت ولاية عبد الله بن محمد بن داود على مكة، فأمر الناس أن يوقدوا ليلة هلال رجب، فيحرسوا عمار أهل اليمن، ففعلوا ذلك في ولايته، ثم تركوه بعد.
وفي ليلة النصف من رجب سنة خمس عشرة وأربعمائة: حضر الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله أبو هاشم عليّ بن الحاكم بأمر الله، ومعه السيدات، وخدم الخاصة وغيرهم، وسائر العامّة والرعايا، فجلس الخليفة في المنظرة، وكان في ليلة شعبان أيضا اجتماع لم يشهد مثله من أيام العزيز بالله، وأوقدت المساجد كلها أحسن وقيد، وكان مشهدا عظيما بعد عهد الناس بمثله، لأنّ الحاكم بأمر الله كان أبطل ذلك، فانقطع عمله.
وقال ابن المأمون: ولما كانت ليلة مستهل رجب، يعني من سنة ست عشرة وخمسمائة عملت الأسمطة الجاري بها العادة، وجلس الخليفة الآمر بأحكام الله عليها، والأجلّ المأمون الوزير، ومن جرت عادته بين يديه، وأظهر الخليفة من المسرّة والانشراح، ما لم تجريه عادته، وبالغ في شكره وزيره، وإطرائه وقال: قد أعدت لدولتي بهجتها، وجدّدت فيها من المحاسن ما لم يكن، وقد أخذت الأيام نصيبها من ذلك، وبقيت الليالي وقد كان بها مواسم قد زال حكمها، وكان فيها توسعة وبرّ ونفقات، وهي ليالي الوقود الأربع، وقد آن وقتهنّ فأشتهي نظرهنّ، فامتثل الأمر وتقدّم بأن يحمل إلى القاضي خمسون دينارا يصرفها في ثمن الشمع.
وأن يعتمد الركوب في الأربع الليالي وهي: ليلة مستهل رجب، وليلة نصفه، وليلة مستهل شعبان، وليلة نصفه، وأن يتقدّم إلى جميع الشهود بأن يركبوا صحبته، وأن يطلق(2/393)
للجوامع والمساجد توسعة في الزيت برسم الوقود، ويتقدّم إلى متولي بيت المال بأن يهتمّ برسم هذه الليالي من أصناف الحلاوات مما يجب برسم القصور، ودار الوزارة خاصة.
وقال في سنة سبع عشرة وخمسمائة: وفي الليلة التي صبيحتها مستهل رجب، حضر القاضي أبو الحجاب يوسف بن أيوب المغربيّ، ووقع له بما استجدّ إطلاقه في العام الماضي، وهو خمسون دينارا من بيت المال، لابتياع الشمع برسم أوّل ليلة من رجب، واستدعى ما هو برسم التعبيتين، إحداهما: للمقصورة، والأخرى: للدار المأمونية بحكم الصيام من مستهل رجب إلى سلخ رمضان ما يصنع في دار الفطرة خشكنانج صغير وبسندود في كل يوم قنطار سكر ومثقالان مسكا، وديناران مؤنة.
وكان يطلق في أربع ليالي الوقود برسم الجوامع الستة: الأزهر والأقمر والأنور بالقاهرة، والطولونيّ، والعتيق بمصر، وجامع القرافة، والمشاهد التي تضمنت الأعضاء الشريفة، وبعض المساجد التي لأربابها وجاهة جملة كبيرة من الزيت الطيب، ويختص بجامع راشدة، وجامع ساحل الغلة بمصر والجامع بالمقس يسير قال: ولقد حدّثني القاضي المكين بن حيدرة، وهو من أعيان الشهود أنّ من جملة الخدم التي كانت بيده مشارفة الجامع العتيق، وأن القومة بأجمعهم كانوا يجتمعون قبل ليلة الوقود بمدّة إلى أن يكملوا ثمانية عشر ألف فتيلة، وأنّ المطلق برسمه خاصة في كل ليلة برسم وقوده: أحد عشر قنطارا ونصف قنطار زيت طيب. وذكر ركوب القاضي والشهود في الليلة المذكورة على جاري العادة.
قال: وتوجه الوزير المأمون يوم الجمعة ثاني الشهر بموكبه إلى مشهد السيدة نفيسة، وما بعده من المشاهد، ثم إلى جامع القرافة، وبعده إلى الجامع العتيق بمصر، وقد عمّ معروفه جميع الضعفاء، وقومة المساجد والمشاهد، وصلى الجمعة وعند انقضاء الصلاة، احضر إليه الشريف الخطيب المصحف الذي بخط أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فوقع بإطلاق ألف دينار من ماله، وأن يصاغ عليه فوق حلية الفضة حلية ذهب، وكتب عليه اسمه، وفي الخامس عشر من الشهر المذكور ليلة الوقود جرى الحال في ركوب القاضي، وشهوده على الترتيب الذي تقدّم في أوّل الشهر، ولما وصل إلى الجامع وجده قد عبىء في الرواق الذي عن يمين الخارج منه سماط كعك، وخشكنانج، وحلوى، فجلس عليه بشهود، ونهبه الفقراء، والمساكين، وتوجه بعده إلى ما سواه من جامع القرافة وغيره، فوجد في رواق الجامع المذكور سماطا مثل السماط المذكور، فاعتمد فيه على ما ذكره، وله أيضا رسم صدقة في هذا النصف للفقراء، وأهل الربط، مما يفرّقه القاضي عشرة دنانير يفرّقها القاضي.
وقال ابن الطوير: إذا مضى النصف من جمادى الآخرة، وكان عدده عندهم تسعة(2/394)
وعشرين يوما، أمر أن يسبك في خزائن دار أفتكين: ستون شمعة وزن كل شمعة منها:
سدس قنطار بالمصريّ، وحملت إلى دار قاضي القضاة لركوب ليلة مستهل رجب، فإذا كان بعد صلاة العصر من ذلك اليوم اهتمّ الشهود أيضا، فمنهم من يركب بثلاث شمعات إلى اثنتين إلى واحدة، ويمضي أهل مصر منهم إلى القاهرة، فيصلون المغرب في الجوامع والمساجد، ثم ينتظرون ركوب القاضي، فيركب من داره بهيئته، وأمامه الشمع المحمول إليه موقودا مع المندوبين لذلك من الفرّاشين من الطبقة السفلى، من كل جانب: ثلاثون شمعة، وبينهما المؤذنون بالجوامع يذكرون الله تعالى، ويدعون للخليفة والوزير، بترتيب مقدّر محفوظ، ويندب في حجبته: ثلاثة من نوّاب الباب، وعشرة من الحجاب، خارجا عن حجاب الحكم المستقرّين، وعدّتهم: خمسة في زيّ الأمراء، وفي ركابه القرّاء يطرّبون بالقراءة والشهود وراءه على الترتيب في جلوسهم بمجلس الحكم، الأقدم فالأقدم، وحوالي كل واحد ما له من شمع، فيشقون من أوّل شارع فيه دار القاضي إلى بين القصرين، وقد اجتمع من العالم في وقت جوازهم ما لا يحصى كثرة رجالا ونساء، وصبيانا بحيث لا يعرف الرئيس من المرؤوس، وهو مارّ إلى أن يأتي هو والشهود باب الزمرّذ من أبواب القصر في الرحبة الوسيعة تحت المنظرة العالية في السعة العظيمة من الرحبة المذكورة، وهي التي تقابل درب قراصيا، فيحضر صاحب الباب، ووالي القاهرة والقرّاء، والخطباء كما شرحنا في المواليد الستة ويترجلون تحتها ريثما يجلس الخليفة فيها، وبين يديه شمع ويبين شخصه، ويحضر بين يديه الخطباء الثلاثة، ويخطبون كالمواليد، ويذكرون استهلال رجب، وأن هذا الركوب علامته.
ثم يسلم الأستاذ من الطاقة الأخرى استفتاحا وانصرافا كما ذكرنا، ثم يركب الناس إلى دار الوزارة، فيدخل القاضي والشهود إلى الوزير، فيجلس لهم في مجلسه ويسلمون عليه، ويخطب الخطباء أيضا بأخف من مقام الخليفة، ويدعون له ويخرجون عنه، فيشق القاضي والجماعة القاهرة، وينزل على باب كل جامع بها، ويصلي ركعتين، ثم يخرج من باب زويلة طالبا مصر بغير نظام ووالي القاهرة في خدمته اليوم مستكثرا من الأعوان، والحفظة في الطرقات إلى جامع ابن طولون، فيدخل القاضي إليه للصلاة، فيجد والي مصر عنده للقاء القوم وخدمتهم، فيدخل المشاهد التي في طريقه أيضا، فإذا وصل إلى باب مصر ترتب كما ترتب في القاهرة، وسار شاقا الشارع الأعظم إلى باب الجامع من الزيادة التي يحكم فيها، فيوقد له التنور الفضة الذي كان معلقا فيه، وكان مليحا في شكله، وتعليقه غير منافر في الطول والعرض واسع التدوير فيه عشر مناطق في كل منطقة: مائة وعشرون بزاقة، وفيه سروات بارزة مثل النخيل في كل واحدة عدّة بزاقات تقرب عدّة ذلك من ثلثمائة، ومعلق بدائر سفله: مائة قنديل نجومية، ويخرج له الحاكم فإن كان ساكنا بمصر استقرّ بها وإن كان ساكنا بالقاهرة وقف له والي القاهرة بجامع ابن طولون، فيودّعه والي مصر، ويسير معه والي(2/395)
القاهرة إلى داره، فإذا مضى من رجب أربعة عشر يوما: ركب ليلة الخامس عشر كذلك، وفيه زيارة طلوعه بعد صلاته بجامع مصر إلى القرافة ليصلي في جامعها، والناس يجتمعون له لينظروه، ومن معه في كل مكان، ولا يملون من ذلك فإذا انقضت هذه الليلة: استدعى منه الشمع ليكمل بعضه، حتى يركب به في أوّل شعبان، ونصفه على الهيئة المذكورة والأسواق معمورة بالحلواء، ويتفرّغ الناس لذلك هذه الأربع الليالي.
منظرة للؤلؤة: وكان للخلفاء الفاطميين، منظرة تعرف: بقصر اللؤلؤة، وبمنظرة اللؤلؤة على الخليج بالقرب من باب القنطرة، وكان قصرا من أحسن القصور، وأعظمها زخرفة، وهو أحد منتزهات الدنيا المذكورة، فإنه كان يشرف من شرقيه على البستان الكافوريّ، ويطل من غربيه على الخليج، وكان غربيّ الخليج، إذ ذاك ليس فيه من المباني شيء، وإنما كان فيه بساتين عظيمة، وبركة تعرف ببطن البقرة، فيرى الجالس في قصر اللؤلؤة جميع أرض الطبالة «1» ، وسائر أرض اللوق «2» ، وما هو من قبليها، ويرى بحر النيل من وراء البساتين.
قال ابن ميسر: هذه المنظرة بناها العزيز بالله، ولما ولي برجوان الحاكم بأمر الله بعد أمين الدولة بن عمار الكتاميّ: سكن بمنظرة اللؤلؤة في جمادى الأولى سنة ثمان وثمانين وثلثمائة، إلى أن قتل، وفي السادس والعشرين من ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعمائة: أمر الحاكم بأمر الله بهدم اللؤلؤة، ونهبها، فهدمت، ونهبت وبيع ما فيها.
وقال المسبحيّ: وفي سادس عشري ربيع الآخر، يعني سنة اثنتين وأربعمائة: أمر الحاكم بأمر الله بهدم الموضع المعروف: باللؤلؤة على الخليج موازاة المقس، وأمر بنهب أنقاضه، فنهبت كلها، ثم قبض على من وجد عنده شيء من نهب أنقاض اللؤلؤة واعتقلوا.
وقال ابن المأمون: ولما وقع الاهتمام بسكن اللؤلؤة، والمقام فيها مدّة النيل على الحكم الأوّل يعني قبل وزارة أمير الجيوش بدر وابنه الأفضل، أمر بإزالة ما لم تكن العادة جارية به من مضايقها بالبناء، ولما بدت زيادة النيل، وعوّل الخليفة الآمر بأحكام الله على السكن باللؤلؤة أمر الأجلّ الوزير المأمون: بأخذ جماعة الفرّاشين الموقوفين برسم خدمتها بالمبيت بها على سبيل الحراسة لا على سبيل السكن بها، وعندما بلغ النيل: ستة عشر ذراعا أمر بإخراج الخيم.
وعندما قارب النيل الوفاء: تحوّل الخليفة في الليل من قصوره بجميع جهاته وإخوته،(2/396)
وأعمامه، والسيدات كرائمه، وعماته إلى اللؤلؤة، وتحوّل المأمون إلى دار الذهب، وأسكن الشيخ أبا الحسن محمد بن أبي أسامة الغزالة على شاطىء الخليج، وسكن حسام الملك:
حاجب الباب داره على الخليج، وأمر متولي المعونة أن يكشف الآدر المطلة على الخليج قبليّ اللؤلؤة، ولا يمكن أحدا من السكن في شيء منها إلّا من كان له ملك، ومن كان ساكنا بالأجرة ينقل، ويقام بالأجرة لرب الملك ليسكن بها حواشي الخليفة مدّة سنة، وقرّر من التوسعة في النفقات، وما يكون برسم المستخدمين في المبيتات ما يختص برواتب القصور مدّة المقام في اللؤلؤة في أيام النيل مياومة من الغنم والحيوان، وجميع الأصناف، وهي جملة كبيرة وأمر متولي الباب أن يندب في كل يوم خروف شواء، وقنطار خبز، وكذلك جميع الدروب من يحرسها، ويطلق لهم برسم الغداء مثل ذلك، وتكون نوبة دائرة بينهم، وبقية مستخدمي الركاب ملازمون لأبواب القصر على رسمهم، وفي يومي الركوب يجتمعون للخدمة إلّا من هو في نوبته فيما رسم له، وأمر متولي زمام المماليك الخاص أن يكونوا بأجمعهم، حيث يكون الخليفة، وفي الليل يبيت منهم عدّة برسم الخدمة تحت اللؤلؤة، ولهم في كل يوم مثل ما تقدّم، والرهجية تقسم قسمين أحدهما: على أبواب القصور، والآخر: على أبواب اللؤلؤة، وأصحاب الضوء مثل ذلك، وقرّر للجماعة المقدّم ذكرها في الليل عن رسم المبيت، وعن ثمن الوقود ما يخرج إليهم مختوما بأسماء كل منهم ويعرضهم متولي الباب في كل ليلة بنفسه عند رواحه وعوده، وكذلكما يختص بدار الذهب من الحرس عليها من باب سعادة، ومن باب الخوخة، ولهم رسوم كما تقدّم لغيرهم والمتفرّجون يخرجون كل ليلة للنزهة عليهم، ويقيمون إلى بعض الليل حتى ينصرفوا من غير خروج في شيء من ذلك عما يوجبه الشرع، وفي يومي السلام يمضي الخليفة من قصوره، بحيث لا يراه، إلّا أستاذوه وخواصه إلى قاعة الذهب من القصر الكبير الشرقيّ، ويحضر الوزير على عادته إليه، فيكون السلام بها على مستمرّ العادة، والأسمطة بها في يومي الاثنين والخميس، وتكون الركوبات من اللؤلؤة في يومي السبت والثلاثاء إلى المنتزهات.
وقال في سنة سبع عشرة وخمسمائة، ولما جرى النيل، وبلغ خمسة عشر ذراعا: أمر بإخراج الخيام، والمضارب الديبقيّ، والديباج وتحوّل الخليفة الآمر بأحكام الله إلى اللؤلؤة بحاشيته وأطلقت التوسعة في كل يوم لما يخص الخاص، والجهات والأستاذين من جميع الأصناف، وانضاف إليها ما يطلق كل ليلة عينا وورقا، وأطعمة للبياتين بالنوبة برسم الحرس بالنهار، والشهر في طول الليل من باب القنطرة بما دار إلى مسجد الليمونة من التزين من صبيان الخاص والركاب، والرهجية والسودان، والحجاب كل طائفة بنقيبها والعرض من متولي الباب واقع بالعدّة في طرفي كل ليلة، ولا يمكن بعضهم بعضا من المنام والرهجية تخدم على الدوام، وتحوّل الوزير المأمون إلى دار الذهب، وى 4 لقت التوسعة، والحال في إطلاق الأسمطة لهم في الليل والنهار مستمرّ.(2/397)
وقال ابن عبد الظاهر «1» : المنظرة المعروفة باللؤلؤة على برّ الخليج بناها: الظاهر لإعزاز دين الله بن الحاكم يعني بعدما هدمها أبوه الحاكم، وكانت معدّة لنزهة الخلفاء، وكان التوصل إليها من القصر يعني القصر الغربيّ، من باب مراد، وأظنه فيما ذكر لي: علم الدين بن مماتي الوراق، لأنه شاهد في كتب دار ابن كوخيا التيقة أنه بابها، وكان عادة الخلفاء أن يقيموا بها أيام النيل، ولما حصل التوهم من النزارية، والحشيشية قبل تصرّفهم لا سيما لصغر سنّ الخليفة، وقلة حواشيه، أمر بسدّ باب مراد المذكور الذي يتوصل منه إلى الكافوريّ، وإلى اللؤلؤة، وأسكن في بعضها فرّاشين لحفظها، فإن كان في صبيحة كسر الخليج استؤذن الأفضل ابن أمير الجيوش في فتح باب مراد الذي يتوصل منه إلى اللؤلؤة وغيرها، فيفتح ويروح الخليفة ليتفرّج هو وأهله من النساء، ثم يعود، ويسدّ الباب هذا إلى آخر أيام الأفضل، فلما راجع الوزير المأمون في ذلك سارع إليه، فأصلحت وأزيل ما كان أنشئ قبالتها على ما سيذكر في مكانه إن شاء الله تعالى.
ومات بقصر اللؤلؤة من خلفاء الفاطميين: الآمر بأحكام الله، والحافظ لدين الله، والفائز، وحملوا إلى القصر الكبير الشرقيّ من السراديب. ولما قدم نجم الدين أيوب بن شادي من الشام على ولده: صلاح الدين يوسف، وخرج الخليفة العاضد لدين الله إلى لقائه بصحراء الهليلج بآخر الحسينية عند مسجد تبر «2» ، أنزل بمنظرة اللؤلؤة، فسكنها حتى مات في سنة سبع وستين وخمسمائة، واتفق أن حضر يوما عنده الفقيه نجم الدين عمارة اليمنيّ، والرضى أبو سالم يحيى الأحدب بن أبي حصيبة الشاعر في قصر اللؤلؤة بعد موت الخليفة العاضد، فأنشد ابن أبي حصيبة نجم الدين أيوب فقال:
يا مالك الأرض لا أرضى له طرفا ... منها وما كان منها لم يكن طرفا
قد عجل الله هذي الدار تسكنها ... وقد أعدّ لك الجنات والغرفا
تشرّفت بك عمن كان يسكنها ... فالبس بها العزّ ولتلبس بك الشرفا
كانوا بها صدقا والدار لؤلؤة ... وأنت لؤلؤة صارت لها صدفا
فقال الفقيه عمارة يرد عليه:
أثمت يا من هجا السادات والخلفا ... وقلت ما قلته في ثلبهم سخفا
جعلتهم صدفا حلوا بلؤلؤة ... والعرف ما زال سكنى اللؤلؤ الصدفا(2/398)
وإنما هي دار حل جوهرهم ... فيها وشف فأسناها الذي وصفا
فقال لؤلؤة عجبا ببهجتها ... وكونها حوت الأشراف والشرفا
فهم بسكناهم الآيات إذ سكنوا ... فيها ومن قبلها قد أسكنوا الصحفا
والجوهر الفرد نور ليس يعرفه ... من البرية إلا كل من عرفا
لولا تجسمهم فيه لكان على ... ضعف البصائر للأبصار مختطفا
فالكلب يا كلب أسنى منك مكرمة ... لأن فيه حفاظا دائما ووفا
فلله درّ عمارة لقد قام بحق الوفاء، ووفى بحسن الحفاظ، كما هي عادته، لا جرم أنه قتل في واجب من يهوي كما هي سنة المحبين فالله يرحمه ويتجاوز عنه.
منظرة الغزالة «1» : وكان بجوار منظرة اللؤلؤة منظرة تعرف: بالغزالة على شاطىء الخليج تقابل حمام ابن قرقة وقد خربت هذه المنظرة أيضا، وموضعها الآن تجاه باب جامع ابن المغربيّ الذي من ناحية الخليج، وقد خربت أيضا حمام ابن قرقة، وصار موضعها فندقا بجوار حمام السلطان التي هناك يعرف بفندق عماد، وموضع منظرة الغزالة اليوم ربع يعرف بربع غزالة إلى جانب قنطرة الموسكيّ في الحدّ الشرقيّ، وكان يسكن بهذه المنظرة الأمير أبو القاسم بن المستنصر والد الحافظ لدين الله، ثم سكنها أبو الحسن بن أبي أسامة كاتب الدست، وكان بعد ذلك ينزلها من يتولى الخدمة في الطراز أيام الخلفاء.
قال ابن المأمون: لما ذكر تحوّل الخليفة الأمر بأحكام الله إلى اللؤلؤة: وأسكن الشيخ أبا الحسن بن أبي أسامة كاتب الدست الغزالة التي على شاطىء الخليج، ولم يسكن أحد فيها قبله ممن يجري مجراه ولا كانت إلّا سكن الأمير أبي القاسم ولد المستنصر، ولد الإمام الحافظ.
قال: وأما ما يذكره الطرّاز، فالحكم فيه مثل الاستيمار والشائع فيها أنها كانت تشتمل في الأيام الأفضلية على أحد وثلاثين ألف دينار، فمن ذلك السلف خاصة خمسة عشر ألف دينار قيمة الذهب العراقيّ، والمصريّ ستة عشر ألف دينار، ثم اشتملت في الأيام المأمونية على ثلاثة وأربعين ألف دينار، وتضاعفت في الأيام الآمرية.
وقال ابن الطوير: الخدمة في الطراز، وينعت بالطراز الشريف، ولا يتولاه إلّا أعيان المستخدمين من أرباب العمائم والسيوف، وله اختصاص بالخليفة دون كافة المستخدمين، ومقامه بدمياط، وتنيس وغيرهما وجارية أمير الجواري، وبين يديه من المندوبين مائة رجل لتنفيذ الاستعمالات بالقرى، وله عشاريّ دتماس مجرّد معه، وثلاثة مراكب من الدكاسات،(2/399)
ولها رؤساء، ونواتية لا يبرحون ونفقاتهم جارية من مال الديون، فإذا وصل بالاستعمالات الخاصة التي منها المظلة، وبدلتها والبدنة واللباس الخاص الجمعيّ، وغيره هيئ بكرامة عظيمة، وندب له دابة من مراكيب الخليفة لا تزال تحته حتى يعود إلى خدمته وينزل في الغزالة على شاطىء الخليج، وكانت من المناظر السلطانية، وجدّدها شعاع بن شاور، ولو كان لصاحب الطراز في القاهرة عشرة دور، لا يمكن من نزوله إلّا بالغزالة، وتجري عليه الضيافة كالغرباء الواردين على الدولة، فيمتثل بين يدي الخليفة بعد حمل الأسفاط المشدودة على تلك الكساوي العظيمة، ويعرض جيع ما معه، وهو ينبه على شيء فشيء بيد فراشي الخاص في دار الخليفة مكان سكنه، ولهذا حرمة عظيمة، ولا سيما إذا وافق استعماله غرضهم. فإذا انقضى عرض ذلك بالمدرج الذي يحضر سلم لمستخدم الكسوات، وخلع عليه بين يدي الخليفة باطنا ولا يخلع على أحد كذلك سواه، ثم ينكفئ إلى مكانه، وله في بعض الأوقات التي لا يتسع له الانفصال نائب يصل عنه بذلك غير غريب منه، ولا يمكن أن يكون إلّا ولدا أو أخا، فإن الرتبة عظيمة، والمطلق له من الجامكية في الشهر سبعون دينارا، ولهذا النائب: عشرون دينارا، لأنه يتولى عنه إذا وصل بنفسه، ويقوم إذا غاب في الاستعمال مقامه ومن أدواته أنه إذا عبىء ذلك في الأسفاط: استدعى والي ذلك المكان ليشاهد عند ذلك، ويكوعن الناس كلهم قياما لحلول نفس المظلة، وما يليها من خاص الخليفة في مجلس دار الطراز، وهو جالس في مرتبته، والوالي واقف على رأسه خدمة لذلك، وهذا من رسوم خدمته وميزتها.
دار الذهب: وكان بجوار الغزالة: دار الذهب، وموضعها الآن على يسرة الخارج من باب الخوخة، فيما بينه وبين باب سعادة، وكانت مطلة على الخليج في مكانها اليوم دار تعرف: ببهادر الأعسر، وبقي منها عقد بجوار دار الأعسر يعرف الآن: بقبو الذهب من خطة بين السورين.
قال ابن المأمون: لما ذكر تحوّل الخليفة الآمر بأحكام الله إلى اللؤلؤة: ثم أحضر الوزير المأمون وكيله أبا البركات محمد بن عثمان، وأمره أن يمضي إلى داري الفلك والذهب اللتين على شاطىء الخليج، فالدار الأولى التي من حيز باب الخوخة بناها فلك الملك، وذكر أنه من الأستاذين الحاكمية ولم تكن تعرف إلّا بدار الفلك، ولما بنى الأفضل ابن أمير الجيوش، الدار الملاصقة لها التي من حيز باب سعادة، وسماها دار الذهب غلب الاسم على الدارين، ويصلح ما فسد منهما، ويضيف إليهما دار الشابورة، وذكر أن هذه الدار لم تسمّ بهذا الاسم إلّا لأن جزءا منها بيع في أيام الشدّة في زمن المستنصر بشابورة.
قال: وعندما قارب النيل أقاربه، تحوّل الخليفة في الليل من قصوره بجميع جهاته وإخوته وأعمامه والسيدات كرائمه، وعماته إلى اللؤلؤة، وتحوّل الأجل المأمون بالأجلاء(2/400)
أولاده، إلى دار الذهب، وما أضيف إليها.
وقال ابن عبد الظاهر: دار الذهب بناها: الأفضل بن أمير الجيوش، وكانت عادة الأفضل أن يستريح بها إذا كان الخليفة باللؤلؤة يكون هو بدار الذهب وكذلك كان المأمون من بعده، وكان حرس دار الذهب يسلم للوزيرية من باب سعادة يسلم لهم، ومن باب الخوخة للمصامدة أرباب الشعور، وصبيان الخاص، وكان المقرّر لهم في كل يوم سماطين، أحدهما بقاعة الفلك للمماليك الخاص، والحاشية، وأرباب الرسوم، والآخر على باب الدار برسم المصامدة حتى أنه من اجتاز ورأى أنه يجلس معهم على السماط لا يمنع، والضعفاء، والصعاليك يقعدون بعدهم، وفي أوّل الليل بمثل ذلك، ولكل منهم رسم لجميع من يبيت من أرباب الضوء إلى الأعلى.
منظرة السكرة: وكان من جملة مناظر الخلفاء، منظرة تعرف بمنظرة السكرة في برّ الخليج الغربيّ يجلس فيها الخليفة يوم فتح الخليج، وكان لها بستان عظيم بناها العزيز بالله بن المعز، وقد دثرت هذه المنظرة، ويشبه أن يكون موضعها في المكان الذي يقال له اليوم:
المريس قريبا من قنطرة السدّ، وكانت السكرة من جنات الدنيا المزخرفة، وفيها عدّة أماكن معدّة لنزول الوزير، وغيره من الأستاذين.
ذكر ما كان يعمل يوم فتح الخليج «1»
قال ابن زولاق في كتاب سيرة المعز لدين الله: وفي ذي القعدة، يعني من سنة اثنتين وستين وثلثمائة، وهي السنة التي قدم فيها الخليفة المعز لدين الله إلى القاهرة من بلاد المغرب، ركب المعز لدين الله عليه السلام، لكسر خليج القنطرة، فكسر بين يديه، ثم سار على شاطىء النيل، حتى بلغ إلى بني وائل، ومرّ على سطح الجرف في موكب عظيم وخلفه وجوه أهل الدولة، ومعه أبو جعفر أحمد بن نصر يسير معه، ويعرّفه بالمواضع التي يجتاز عليها، ونجعت له الرعية بالدعاء، ثم عطف على بركة الحبش، ثم على الصحراء على الخندق الذي حفره القائد جوهر، ومرّ على قبر كافور وعلى قبر عبد الله بن أحمد بن طباطبا الحسنيّ وعرّفه، ثم عاد إلى قصره.
وذكر الأمير المسبحيّ في تاريخه الكبير: ركوب العزيز بالله بن المعز، وركوب الحاكم بأمر الله بن العزيز، وركوب الظاهر لإعزاز دين الله بن الحاكم في كل سنة لفتح الخليج.(2/401)
وقال ابن المأمون: في سنة ست عشرة وخمسمائة، وعندما بلغ النيل ستة عشر ذراعا أمر بإخراج الخيم، وأن يضرب الثوب الكبير الأفضليّ المعروف بالقاتول، وهو أعظم ما في الحاصل بأربعة دهاليز وأربع قاعات خارجا عن القاعة الكبيرة، ومساحته على ما ذكر: ألف ألف ذراع، وأربعمائة ذراع بالذراع الكبير خارجا عن القاعة الكبيرة، منه ارتفاعه: خمسون ذراعا، ولما كمل استعماله في أيام الأفضل، ونصب تأذى منه جماعة، ومات رجلان، فسمي: بالقاتول لأجل ذلك، وما زال لا يضرب إلّا بحضور المهندسين، وتنصب له أساقيل عدّة بأخشاب كثيرة، والمستخدمون يكرهون ضربه، ويرغبون في ضرب أحد الثوبين الجيوشيين، وإن كانا عظيمين، إلّا أنهما لا يصلان بجملتهما إلى مقايسته، ولا مؤنته، ولا صنعته.
وأقام هذا الثوب في الاستعمال عدّة سنين مع جمع الصناع عليه، وما يضرب منه سوى القاعة الكبيرة لا غير، وأربعة الدهاليز، وبعض السرادق الذي هو سور عليه لضيق المكان الذي يضرب فيه، وكونه لا يسعه بجملته.
قال: ووصلت كسوة موسم فتح الخليج، وهي ما يختص بالخليفة، وأخيه، وبعض جهاته والوزير.
فأما ما يختص بالخليفة خاصة: فبدلة شرحها بدنة طميم منديل سلفه: مائة وعشرون دينارا، وأحد طرفيه ثلاثة عشر ذراعا ذهبا عراقيا دمجا لوحا واحدا، والثاني ثلاثة أذرع سلفه أربعة وعشرون دينارا، ثوب طميم سلفه: خمسون دينارا، والذهب الذي في الثوب والمنديل والحنك ألف دينار، وخمسة دنانير، فتكون جملتها بالسلف: ألف دينار، ومائة وخمسة وسبعين دينارا، شاشية طميم للسلف: ديناران وسبعون قصبة ذهبا عراقيا، فتكون جملة سلفها، وقيمة ذهبها ثمانية دنانير، منديل سلام سلفه: ديناران، وسبعون قصبة قيمته كذلك، وسط برسم المنديل بخوص ذهب سلفه اثنا عشر دينارا وسبعون قصبة قيمة ذلك عشرون دينارا، شقة ديبقيّ وسطانيّ حريريّ السلف: اثنا عشر دينارا، غلالة ديبقي حريريّ السلف: عشرة دنانير، منديل كم ثان حريري: خمسة دنانير، حجره: أربعة دنانير، عرضيّ لفافة خاص: خمسة دنانير وستة عشر مثقالا ذهبا مصريا، فتكون سلفه وذهبه: خمسة وعشرين دينارا، عرضي ثان برسم تغطية التخت: دينار واحد ونصف، تخت ثان ضمنه:
بدلة خاص حريريّ برسم العود من السكرة شرحها منديل حريريّ سلفه: ستون دينارا، وسط شرب رسمه اثنا عشر دينارا، شقة ديبقيّ: وكم وعشرون دينارا، شقة وسطاني اثنا عشر دينارا، غلالة: خمسة عشر دينارا، وغلالة: عشرة دنانير، منديل سلام ديناران، منديل كم خمسة دنانير، منديل كم ثان أيضا خمسة دنانير، شاشية حريريّ ديناران، حجره أربعة دنانير، عرضي لفافة خمسة دنانير، عرضي ثان برسم لفافة التخت دينار واحد ونصف.(2/402)
قال: ورأيت شاهدا أن قيمة كل حلة من هذه الحلل، وسلفها إذا كانت حريريّ ثلثمائة وستة دنانير، وإذا كانت مذهبة ألف دينار، واختصر ما باسم أبي الفضل جعفر أخي الخليفة وأربع جهات.
وأما ما يختص بالوزير: فبدلة مذهبة شرحها منديل سلفه سبعون دينارا، وخمسمائة وسبعون قصبة عراقي جملة سلفه وذهبه: مائة وأربعة عشر دينارا، شقة ديبقيّ وكم السلف ستة عشر دينارا وثمانية وعشرون مثقالا ذهبا عاليا تكون جملة ذلك خمسين دينارا، تصف شقة ديبقيّ وسطانيّ اثنا عشر دينارا ونصف، شقة وسطانيّ برسم العود ثلاثة دنانير، غلالة ديبقيّ سبعة دنانير ونصف، شقة برسم الغلالة ديناران ونصف، منديل كم سبعة دنانير واثنا عشر مثقالا ذهبا، تكون قيمته تسعة عشر دينارا، حجره ثلاثة دنانير، عرضي أربعة دنانير وأحد عشر مثقالا تكون سلفه وذهبه سبعة عشر دينارا.
ثم ذكر بعد ذلك ما يكون لجهة الوزير، وما يكون برسم صبيان الحمام، وما يفصل برسم المماليك الخاص: صبيان الرايات، والرماح خمسمائة، شقة سقلاطون داري تكون قيمتها: سبعمائة وخمسين، قباء يحمل منها برسم غلمان الوزير مائة قباء، ويفرّق جميع ذلك.
قال: ولم يكن لأحد من الأصحاب، والحواشي وغيرهم في هذا الموسم شيء فيذكر، بل لهم من الهبات العين والرسوم الخارجة عن ذلك ما يأتي ذكره في موضعه، وفي صبيحة هذا الموسم خلع على ابن أبي الردّاد، وعلى رؤساء المراكب، وغيرهم، وحمل إلى المقياس برسم المبيت، وركوب الخليفة بتجمله، ومواكبه إلى السكرة ما فصله، وبينه مما يطول ذكره.
وقال: في سنة سبع عشرة وخمسمائة، ولما جرى النيل، وبلغ خمسة عشر ذراعا، أمر بإخراج الخيام والمضارب الديبقيّ، والديباج وتحوّل الخليفة إلى اللؤلؤة بحاشيته، وتحوّل المأمون إلى دار الذهب، ووصلت كسوة الموسم المذكور من الطراز وإن كانت يسيرة العدّة فهي كثيرة القيمة، ولم تكن للعموم من الحاشية، والمستخدمين بل للخليفة خاصة، وإخوته وأربع من خواص جهاته، والوزير وأولاده، وابن أبي الردّاد، فلما وفى النيل ستة عشر ذراعا ركب الخليفة، والوزير إلى الصناعة بمصر «1» العشريات بين أيديهما، ثم عدّيا في إحداها إلى المقياس «2» ، وصليا ونزل الثقة صدقة بن أبي الردّاد(2/403)
منزلته، وخلّق العمود «1» ، ودعا الخليفة على فوره، وركب البحر في العشاري الفضيّ، والوزير صحبته، والرهجية تخدم برّا وبحرا، والعساكر طول البرّ قبالته إلى أن وصل إلى المقس، ورتب الموكب، وقدم العشاري بالخليفة الآمر بأحكام الله، والوزير المأمون، وسار الموكب، والرهجية تخدم، والصدقات، والرسوم تفرّق، ودخل من باب القنطرة، وقصد باب العيد، واعتمد ما جرت به العادة من تقديم الوزير، وترجله في ركابه إلى أن دخل من باب العيد إلى قصره، وتقدّم بالخلع على ابن أبي الردّاد: بدلة مذهبة، وثوب ديبقيّ حريريّ، وطيلسان مقوّر، وبياض مذهب، وشقة سقلاطون، وشقة تحتانيّ، وشقة خز، وشقة ديبقيّ، وأربعة أكياس دراهم، ونشرت قدّامه الأعلام الخاص الديبقيّ المحاومة بالألوان المختلفة التي لا ترى إلّا قدّامه لأنها من جملة تجمل الخليفة، وأطلق له برسم المبيت من البخور والشموع، والأغنام، والحلاوات كثير.
قال: وهيئت المقصورة في منظرة السكرة برسم راحة الخليفة، وتغيير ثيابه وقد وقعت المبالغة في تعليقها، وفرشها وتعبيتها، وقدّم بين يديه الصواني الذهب التي وقع التناهي فيها من همم الجهات من أشكال الصور الآدمية، والوحشية من الفيلة، والزرافات، ونحوها المعمولة من الذهب والفضة والعنبر والمرسين «2» المشدود والمظفور عليها المكلل باللؤلؤ، والياقوت والزبرجد من الصور الوحشية ما يشبه الفيلة. جميعها عنبر معجون كخلفة الفيل، وناباه فضة، وعيناه جوهرتان كبيرتان في كل منهما مسمار ذهب مجرى سواده وعليه سرير منجور من عود بمتكآت فضة وذهب، وعليه عدّة من الرجال ركبان، وعليهم اللبوس تشبه الزرديات وعلى رؤوسهم الخود، وبأيديهم السيوف المجرّدة، والدرق وجميع ذلك فضة، ثم صور السباع منجورة من عود، وعيناه ياقوتتان حمراوان، وهو على فريسته، وبقية الوحوش، وأصناف تشدّ من المرسين المكلل باللؤلؤ شبه الفاكهة.
قال: ومن جملة ما وقع الاهتمام به في هذا الموسم ما صار يستعمل في الطراز، وإن لم يتقدّم نظيره للولائم التي تتخذ برسم تغطية الصواني عدّة من عراضي ديبقيّ، ثم قوّارات شرب تكون من تحت العراضي على الصواني مفتح كل قوّارة منهنّ دون أربعة أشبار سلف كل واحدة منهنّ خمسة عشر دينارا، ورقم في كل منهنّ سجف ذهب عراقيّ ثمنه: من أربعين إلى ثلاثين دينارا، تكون الواحدة بخمسين دينارا، ويستعمل أيضا برسم الطرح من فوق القوّارات الإسكندرانيّ التي تشدّ على الموائد التي تحمل من عند كل جهة قوّارات ديبقيّ مقصور من كل لون محاومة بالرقم الحريريّ، مفتح كل قوّارة أربعة أذرع يكون الثمن عن كل واحدة: أربعين دينارا، ولقد بيعت عدّة من القوّارات الشرب، فسارع التجار(2/404)
العراقيون إلى شرائها، ونهاية ما بلغ ثمن كل واحدة منهن: ستة عشر دينارا، وسافروا بها إلى البلاد، فلم يبع لهم منها سوى اثنتين، وعادوا بالبقية إلى الديار المصرية في سنة ست وثمانين وخمسمائة وحفظوا منهنّ شيئا عن السوق، فلم يحفظ لهم رأس مالهنّ.
قال: وكان ما تقدّم من الزبادي في الطيافير من الصيني إلى آخر أيام الأفضل بن أمير الجيوش، وأيام المأمون، وإنما استجدّت الأواني الذهب في أواخر الأيام الآمرية والذي يعبئ بين يديه الخليفة قوائمية ضمنها: عدّة من الطيافير المحمولة بالمرافع الفضة برسم الأطباق الحارة، وليس في المواسم مائدة بغير سماط للأمراء، ويجلس عليها الخليفة غير هذا الموسم، وإن كان يجري مجرى الأعياد، وله البخور مطلق مثلها، وينفرد بالجلوس معه الجلساء المميزون والمستخدمون، وعند كمال تعبيتها، وبخورها جلس الخليفة عليها عن يمينه: وزيره، وعن يساره: أخوه، ومن شرّف بحضوره، وفي آخرها فرّق منها ما جرت به العادة على سبيل البركة.
وقال: في سنة ثمان عشرة وخمسمائة، ووصلت الكسوة المختصة بفتح الخليج وهي برسم الخليفة، تختان ضمنهما بدلتان إحداهما منديلها، وثوبها طميم برسم المضيّ، والأخرى جميعها حريريّ برسم العود، وكذلك ما يخص إخوته وجهاته: بدلتان مذهبتان، وأربع حلل مذهبة، وبرسم الوزير بدلة موكبية مذهبة في تخت، وبرسم أولاده الثلاثة ثلاث بدلات مذهبة، وبرسم جهته حلة مذهبة في تخت، وهؤلاء المميزون لكل منهم تخت، وبقية ما يخص المستخدمين وابن أبي الردّاد في تخوت كل تخت فيه: عدّة بدلات، وحضر متولي الدفتر واستأذن على ما يحمل، برسم الخليفة، وما يفرّق، وما يفصل برسم الخلع، وما يخرج من حاصل الخزائن غير الواصل، وهو ما يفصل برسم الغلمان الخاص عن سبعمائة قباء: خمسمائة، وشقتان سقلاطون داري وبرسم رؤساء العشاريّ من الشقق الدمياطيّ والمناديل السوسيّ، والفوط الحرير الأحمر، وبرسم النواتية التي برسم الخاص من العشارية من الشقق الإسكندرانيّ، والكلوتات فوقع بإنفاق جميع ذلك، وتفصيل ما يجب منه، ثم ابتيع ذلك بمطالعة ثانية برسم ما هو مستمرّ العموم من النقد العين والورق للموسم المذكورة، وهو من العين: أربعة آلاف وخمسمائة دينار ومن الورق: خمسة عشر ألف درهم، فوقع بإطلاق ذلك.
وذكر تفصيل الكسوات والهبات بأسماء أربابها وحضر متولي المائدة الآمرية بمطالعة يستدعي ما جرت به العادة في هذا الموسم من الحيوان، والضأن، والبقر، وغير ذلك من الأصناف برسم التفرقة، والأسمطة، وحضر متولي دار التعبية يستدعي ما يبتاع به الثمرة والزهرة، وهيئة المتعينين لتعبية السكرة لأجل حلول الركاب بها، ومقامه فيها، وتعبية جميع مقاصيرها التي برسم الأستاذين، والأصحاب، والحواشي، وهو: مائة دينار، فوقع(2/405)
بإطلاقها، وفي العاشر من الشهر المذكور يعني شهر رجب، وفي النيل: ستة عشر ذراعا، فتوجه المأمون إلى صناعة العمائر بمصر، ورميت العشاريات بين يديه وقد حدّدت وزينت جميعها بالستور الديبقيّ الملوّنة، والكوامخ «1» ، والأهلة الذهب والفضة، وشمل الإنعام أرباب الرسوم على عادتهم، وعدّى في إحدى العشاريات إلى المقياس، وخلّق العمود بما جرت به عادتهم من الطيب وفرّقت رسوم الإطلاق، وانكفأ إلى دار الذهب، وأمر بإطلاق ما يخص المبيت في المقياس بجميع الشهود والمتصدّرين، وهي العشرات من الخبز: عشرة قناطير، وعشرة خراف شوي، وعشر جامات حلوى، وعشر شمعات وأوّل من يحضر المبيت: الشريف الخطيب سيد المقرّبين، وإمام المتصدّرين، وله وللجماعة من الدراهم التي تفرّق أوفى نصيب.
قال: وخرج الخليفة بزي الخلافة، ووقارها وناموسها بالثياب الطميم التي تذهل الأبصار والمنديل بالشدّة العربية التي ينفرد بلباسها في الأعياد، والمواسم خاصة لا على الدوام، وكانت تسمى عندهم: شدّة الوقار مرصعة بغالي الياقوت والزمرذ والجوهر، وعند لباسها تخفق لها الأعلام، ويتجنب الكلام، ويهاب ولا يكون سلام قريب منه، وخليل غير الوزير إلّا بتقبيل الأرض من بعيد من غير دنوّ، ثم بين يديه من مقدّمي خزائنه من يحمل سيفه، ورمحه المرصعين بأفخر ما يكون ثم المذاب التي كل منها عمودها ذهب، وينفرد بحملها الصقالبة، ويمشي بين الصفين المرتبين راجلا على بسط حرير فرشت له، وكل من الصفين يتناهى في مواصلة تقبيل الأرض إلى أن وصل إلى مجلس خلافته، وصعد على الكرسي المغشى بالديباج المنصوب رسم ركوبه، وقد صفّت الروّاض، وأزمّة الاصطبلات خيل المظلة بعد أن أزالت الأغشية الحرير، والشقق الديبقيّ المذهبة عن السروج، وبقيت كما وصفها الله تعالى في كتابه، فقدّم إليه ما وقع اختياره عليه، وأمر بأن يجنب البقية في الموكب بين يديه.
ولما علا ما قدّم إليه استفتح مقرئو الحضرة، وتسلم جميع مقدّمي الركاب ركابه، والروّاض الشكيمة، وزال حكم الأستاذين المستخدمين في الركاب، وعادت الموالي والأقارب إلى محالهم، واستدعي بالوزير بجميع نعوته فواصل تقبيل الأرض إلى أن قبل ركابه، وشرّفه بتقبيل يده بحكم خلوّها من قضيب الملك في هذه المواسم، ولما أدّى ما يجب من فرض السلام، أخذ السيف من الأمير افتخار الدولة أحد الأمراء الأستاذين المميزين المحنكين متولي خزانة الكسوة الخاص، وسلّمه بعد أن قبّله لأخيه الذي يتولى حمله في الموكب بعد أن أرخيت عذبته تشريفا له مدّة حمله خاصة، وترفع بعد ذلك، وشدّ(2/406)
وسطه بالمنطقة الذهب تأدّبا وتعظيما لما معه، وسلم الرمح والدرقة لمن يتولى حملهما بلواء الموكب.
ولم يكن للخدمة المذكورة عذبة مرخاة، ولا منطقة، واستدعى ركوب الوزير وأولاده من عند باب قاعة الذهب، وخرج الخليفة من القاعة المذكورة إلى أوّل دهليز، فتلقته جماعة صبيان ركابه العشرة المقدّمين أرباب الميمنة والميسرة، وصبيان وراء صبيان الرسائل، وصبيان السلام كل منهم في الخدمة المعينة لا يخرج عنها لسواها، وجميعهم بالمناديل الشروب المعلمة، وبأوساطهم العراض الديبقيّ المقصورة، وليس الجميع عبيدا بشراء ولا سودان، بل مولدة، وأولاد أعيان، وأهل فهم ولسان، ثم احتاط بركابه بعدهم من هو على غير زيهم بل بالقنابيز المفرّجة، والمناديل السوسيّ، وهم المتولون لحمل السلاح الخاص الذي لا يكون إلّا في موكبه خاصة على الاستمرار من الصواري، والفرنجيات والدبابيس، واللتوت، والصماصم بالدرق الصينيّ، واليمنيّ بالكوامخ الفضة، والذهب، ويحصل الاستدعاء من صبيان السلام في مسافة الدهاليز لكل من هو مستخدم في الموكب ركوبه من محل حجبته، إلى أن خرج الخليفة من باب الذهب، وقد ضربت الغربية، وأبواق السلام واجتمع الرهج من كل مكان، ونشرت المظلة، فاجتمع إليها الزويلية بالعدد الغريبة، وظلل بها، وسارت بسيره، والقرآن الكريم عن يمينه ويساره، والحجرية الصبيان المنشدون، واجتمع الموكب بجملته على ما ذكر أوّلا، والترتيب أمامه لمتولي الباب وحجابه، وتلوه لمتولي الستر، وكل منهم على حكم المدارج التي وصلت إليه لا سبيل إلى الخروج عما رسم فيها، وسار بجملة موكبه على ترتيب أوضاعه، بين حصنين مانعين من طوارق عساكره فارسها، وراجلها كل طائفة يقدمها زمامها، وقد ازدحموا في المصفات بالعدد المذهبة الحربية، والآلات المانعة المضيئة وليس بينهم طريق لسالك، وقد زين لهم جميع ما يكون أمامهم من الطرق جميعها حوانيتها، وآدرها، وجميع مساكنها، وأبواب حاراتها، بأنواع من الستور، والديباج والديبقيّ على اختلاف أجناسها، ثم بأصناف السلاح وملأت النظارة الفجاج والبطاح، والوها والربا، والصدقات، والرسوم تعمّ أهل الجانبين من أرباب الجوامع والمساجد، وبوّابي الأبواب، والسقائين، والفقراء، والمساكين في طول الطريق إلى أن أظل على الخيام المنصوبة. فوقف بموكبه، واستدعى الوزير بعده من مقدّمي ركابه، فاجتاز راكبا بمفرده، وجمع حاشيته بسلاحهم رجالة في ركابه بعد أن بالغ في الإيماء بتقبيل الأرض أمامه، فردّ عليه بكمه السلام.
وعاد الخليفة في سيره بالموكب بعد أن حصل الوزير أمامه، وترجل جميع من شرّف بحجبته في ركابه، وآخرهم متولي حمل سيفه، ورمحه وصبيان السلام يستدعون كل منهم إلى تقبيل الأرض بجميع نعوته إكبارا له، وتمييزا واحتاطوا بركابه، ووصل إلى المضارب في الحرس الشديد على أبوابها، وسرادقاتها من كل جانب، وقد تبين وجاهة من حصل بها،(2/407)
ومكن من الدخول إليها، وترجل الوزير في الدهليز الثالث من دهاليزها، وتقدّم إلى الخليفة، وأخذ شكيمة الفرس من يد الروّاض، وشق به الخيام التي جمعت جمع الصور الآدمية والوحشية، وقد فرشت جميعها بالبسط الجهرمية والأندلسية إلى أن وصل إلى القاعة الكبرى فيها، وترجل على سرير خلافته، وجلس في محل عظمته، وأجلس وزيره على الكرسيّ الذي أعدّ له، واحتاط به المستخدمون من جملة السلاح المنتصب جميعه، وحجبوا العيون عن النظر إليه وصف بين يديه الأمراء والضيوف، والمشرّفون بحجبته، وختم المقرئون القرآن العظيم، وقدّم عدي الملك النائب: شعراء المجلس على طبقاتهم، وعند انقضاء خدمة آخرهم عادت المستخدمون، والروّاض مقدّمة ما أمروا به من الدواب، فعلاه الخليفة والوزير يمسك الشكيمة بيده، وانتظم موكبا عظيما والقرّاء عوض الرهجية، والجماعة في ركابه رجالة على حكم ما كانوا عليه أوّلا، وصعد من القاعة التي في دهاليز الباب القبليّ منها، فخرج منه، وانفصلت خدمة جميع الأمراء والضيوف من ركابه بأحسن وداع من تقبيل الأرض.
وصعد الخليفة ووزيره، وأولاده وإخوته والأصحاب والحواشي إلى السكرة، وهي من جنات الدنيا المزخرفة، وتلقاه أخوه بعظمة سلامه، وتقبيل الأرض بين يديه، وجلس لوقته، وفتحت الطاقات التي في المنظرة، وعن يمينه وزيره، وعن يساره أخوه جالسان، واعتمد الناس جميعهم عند مشاهدته تقبيل الأرض له، وإدامة النظر نحوه، والمستخدمون جميعهم على السدّ مشدودي الأوساط واقفين عليه.
فلما أمرهم الوزير أن يكسروه: قبلوا الأرض جميعا، وانصرفوا عنه، وتولته الفعلة في البساتين السلطانية بالفتح من الحانيين، والقرآن والتكبير من الجانب الغربيّ، حيث الخليفة والرهج واللعب من الجانب الشرقيّ، ولما كمل فتحه: انحدرت العشاريات عن آخرها اللطيف منها يقدم الكبير، والجميع مزينة بالذهب والفضة، والستور المرقومة، ورؤساؤهم وخدّامهم بالكسوات الجميلة، وبعد ذلك غلقت الطاقات، وحلّ الخليفة بالمقصورة التي لراحته، وكذلك الوزير، وأولاده وإخوته، وجميع الأمراء الأستاذين، والأصحاب والحواشي واستدعي للوقت والي مصر من البرّ الشرقيّ، وخلع عليه بدلة منديلها وثوبها مذهبان، وثوبان عتابيّ وسقلاطون، وقبّل الأرض من تحت المنظرة، وعدّى في البحر إلى حفظ مكانه.
ثم استدعي بعده حامي البساتين ومشارفها، فخلع عليهما بدلتين حريريّ وثوبين سقلاطون، وعتابيّ، ثم متولي ديوان العمائر كذلك، ثم مقدّمي الرؤساء كذلك، واعتمد كل من سلم إليه الإثباتات المشتملة على أصناف الأنعام من العين والورق، وصواني الفطرة والموائد التي يهتمّ بها جميع الجهات، والخراف المشوية، والجامات الحلواء، تفرقة ذلك(2/408)
على ما رسم، وهو شامل غير مخصص من أخي الخليفة، والوزير إلى الأصحاب والحواشي من أرباب السيوف والأقلام، ثم الأمراء المستخدمين والضيوف المميزين من الأجناد، وغيرهم من الأدوان ممن يتعلق به خدمة تختص بالموسم من البحارة، وأرباب اللعب وغيرهم، وعبيت الأسمطة في المسطحات المنصوبة لها بالجانب من الباب الغربيّ، من الخيام.
وأمر الوزير أخاه: بالمضيّ إليها والجلوس عليها، فتوجه وبين يديه متولي حجبة الباب، ونوّابه والمعروفية، والحجاب واستدعت الأمراء والضيوف بالسقاة من خيامهم، وأجلس كل منهم على السماط في موضعه على عادتهم، وتلاهم العساكر على طبقاتهم، ولم يمنع حضورهم ما يسير لكل منهم من جميع ما ذكر على حكم ميزته. ولما انقضى حكم الأسمطة المختصة بالأمراء الكبار، عاد أخو الوزير إلى حيث مقرّ الخلافة، وبقي متولي الباب جالسا لأسمطة العبيد، وجميع المستخدمين من الراجل والسودان، وعبيت المائدة الخاص بالسكرة التي ما يحضرها إلّا العوالي الخاص المستخدمون في الخدم الكبار، ويجمع له حالتان حضوره في أشرف مقام. وجلوسه في محل يحصل له به حرمة، وذمام.
وجلس الخليفة عليها، وأخوه على شماله، ووزيره على يمينه بعد أن أدّى كل منهما ما يجب من سلامه وتعظيمه، وحضر أولاد الوزير، وإخوته والشيخ أبو الحسن: كاتب الدست، وابنه سالم، ومن الأستاذين المحنكين أرباب الخدم، وجرى الحال في المائدة الشريفة على ما هو مألوف، وفرّق من جملتها لكل من أرباب الخدم الذين لم يحضروا عليها، ما هو لكل منهم على سبيل الشرف، وتميز في ذلك اليوم خاصة ما يختص بالقاضي وشهوده، والداعي وابن خاله الذين يخصصون عن سواهم بمقامهم دون غيرهم في قاعة الخيمة الكبرى، أمام سرير الخلافة المنصوب مدّة النهار، مع ما يحمل إليهم من الموائد، وغيرها مما هو بأسمائهم في الإثباتات مذكور ولما تكامل وضع المائدة، وانقضى حكمها قبل كل من الحاضرين الأرض، وانصرف بعد أن استصحب منها ما تقتضيه نفسه على حكم الشرف والبركة.
ويقضي بعد ذلك الفرائض الواجبة في وقتها، ولا بدّ من راحة بعدها وحضر مقدّما الركاب، وحاسبا كاتب الدفتر على ما معهما برسم تفرقة الرسوم، والصدقات في مسافة الطريق فكمل لهما على ما بقي معهما مثل ما كان أوّلا، ولما استحق العود عاد كل من المستخدمين إلى شغلة من ترتيب الموكب، ومصفات العساكر، وترتيب من يشرّف بالحضرة من الأمراء والضيوف، وفرّقت الصواني الخاص التي تكون بين يدي الخليفة مدّة النهار، الجامعة للثروة من كل جهة والزينة من كل معنى، والغرابة من كل صنف، وقد جمعت ملاذ جميع الحواس، والعدّة منها يسيرة، وليس ذلك لتقصير من هم الجهات التي تتنوّع فيها(2/409)
بالغرائب بل للتعب الشديد عليها، ثم لضيق الزمان، لأنّ كلا منها لا مندوحة أن يكون فيه زهرة وثمرة، وطول المكث كذلك يتلف ما فيها، وإذا شملت مع قلتها من له الوجاهة العالية من أخي الخليفة، والوزير لم يكن له غير صينية واحدة، وأخذ كل من الحاشية أهبة تجمله لموضع ميزته، وغير الخليفة ثيابه بما يقتضيه الموكب، وهو بدلة حريريّ، بشدّة الوقار، وعلم الجوهر، وسير إلى الوزير صحبة مقدّم خزانة الكسوة الخاص على يد المستخدمين عنده من الأستاذين من جملة بدلات الجمع التي يتوجه منها إلى زيه، ما يؤمر به من السعي إليه بدلة مكملة حريريّ ومنديلها بياض بالشدّة الدانية غير العربية.
ولما لبس ما سير إليه وحضر بين يديه لشكر نعمته، أمره بركوب أخيه في إحدى العشريات، فامتثل أمره، وتوجه صحبته من السكرة بجميع خواصه وحواشيه، وفتح لهم الباب الذي هو منها بشاطئ الخليج، وقدّم له إحدى العشاريات الموكبية، وفيها مقدّم رياسة البحرية، فركب فيها بجمعه، والوزير واقف راجل على شاطىء الخليج خدمة له إلى أن انحدرت العشاريات جميعها قدّامه، ومراكب اللعب بغير أحد من أرباب الرهج، والمستخدمون في البرّين يمنعون من يقاربه، والمتفرّجون لا يصدّهم ويردّهم ما يحل بهم بل يرمون أنفسهم من على الدواب، ويسيرون بسيره.
وعاد الوزير إلى السكرة، فلما شاهد الخليفة الدواب الخاص التي برسم ركوبه، أمره بما وقع عليه اختياره منها، وعلاه فاحتاط بركابه، مقدّمو الركاب واستفتح القرّاء وخرج من باب السكرة ودخل من باب الخليفة القبليّ وشق قاعتها على سرير مملكته وخص بالسلام فيها شيوخ الكتاب العوالي، والقاضي والداعي، ومن معهما، ولهم بذلك ميزة عظيمة يختصون بها دون غيرهم، وخرج منها إلى البستان المعروف. بنزار، وسار في ميدانه، وجميعه من الجانبين سور معقود من شجر نارنج أصولها مفترقة، وفروعها مجتمعة، وظللت الطريق، وعليها من الثمرة التي أخرجها من وقته إلى هذا اليوم وقد خرجت بهجتها عن المعتاد، وحصل عليها ثمرة سنتين إحداهما انتهت، والأخرى في الابتداء، وهو بهيئته وزيه وترتيب عساكره وأمرائه، وخرج من الباب بعد أن عمّ من له رسم بإنعامه، وعاد الرهج والموكب على ما كان عليه. فلما وصل إلى السدّ الذي على بركة الحبش كسر بين يديه.
وقال في كتاب الذخائر: إن مما أخرج من القصر في سنة إحدى وستين وأربعمائة في خلافة المستنصر قبة العشاريّ وقاربه، وكسوة رحله، وهو مما استعمله الوزير أحمد بن عليّ الجرجراي في سنة ست وثلاثين وأربعمائة، وكان فيه مائة ألف وسبعة وستون ألفا وسبعمائة درهم فضة نقرة، وإن المطلق لصناع الصاغة عن أجرة ذلك، وفي ثمن لطلائه خاصة، ألفان وسبعمائة دينار، وعمل أبو سهل التستريّ لوالدة المستنصر عشاريا يعرف بالفضيّ وحلي رواقة بفضة تقديرها مائة ألف وثلاثون ألف درهم، ولزم ذلك أجرة الصناعة، ولطلاء(2/410)
بعضه: ألفان وأربعمائة دينار، واستعمل كسوة برسمه بمال جليل، وأنفق على العشاريات التي برسم النزه البحرية التي عدّتها ستة وثلاثون عشاريا بالتقدير بجميع آلاتها، وكساها وحلاها من مناطق، ورؤوس منجوقات، وأهلة وصفريات، وغير ذلك: أربعمائة ألف دينار.
وقال ابن الطوير: إذا أذن الله سبحانه وتعالى بزيادة النيل المبارك: طالع ابن أبي الردّاد بما استقرّ عليه أذرع القاع في اليوم الخامس والعشرين من بؤونة «1» ، وأرخه بما يوافقه من أيام الشهور العربيّ، فعلم ذلك من مطالعته وأخرجت إلى ديوان المكاتبات، فنزلت في السير المرتب بأصل القاع، والزيادة بعد ذلك في كل يوم، تؤرخ بيومه من الشهر العربيّ، ما وافقه من أيام الشهر القبطيّ لا يزال كذلك، وهو محافظ على كتمان ذلك لا يعلم به أحد قبل الخليفة، وبعده الوزير، فإذا انتهى في ذراع الوفاء، وهو السادس عشر إلى أن يبقى منه أصبع أو أصبعان وعلم ذلك من مطالعته.
أمر أن يحمل إلى المقياس في تلك الليلة من المطابخ: عشرة قناطير من الخبز السميذ وعشرة من الخراف المشوية، وعشرة من الجامات الحلواء، وعشر شمعات، ويؤمر بالمبيت في تلك الليلة بالمقياس فيحضر إليه قرّاء الحضرة، والمتصدّرون بالجوامع بالقاهرة ومصر، ومن يجري مجراهم، فيستعملون ذلك ويقدون الشمع عليهم من العشاء الآخرة، وهم يتلون القرآن برفق، ويطرّبون بمكان التطريب، فيختمون الختمة الشريفة ويكون هذا الاجتماع في جامع المقياس، فيوفي الماء ستة عشر ذراعا في تلك الليلة، ولوفاء النيل عندهم قدر عظيم، ويبتهجون به ابتهاجا زائدا، وذلك لأنه عمارة الديار، وبه التئام الخلق على فضل الله، فيحسن عند الخليفة موقعه، ويهتمّ بأمره اهتماما عظيما أكثر من كل المواسم، فإذا أصبح الصبح من هذا اليوم، وحضرت مطالعة ابن أبي الردّاد إليه بالوفاء، ركب إلى المقياس لتخليقه، فيستدعي الوزير على العادة، فيحضر إلى القصر، فيركب الخليفة بزيّ أيام الركوب من غير مظلة، ولا ما يجري مجراها بل في هيئة عظيمة من الثياب، والوزير تابعه في الجمع الهائل على ترتيب الموكب، ويخرج شاقا من باب زويلة، وسالكا الشارع إلى آخر الركن من بستان عباس المعروف اليوم: بسيف الإسلام، فيعطف سالكا على جامع ابن طولون، والجسر الأعظم بين الركنين إلى الساحل بمصر إلى الطريق المسلوكة على طرف الخشابين الشرقيّ على دار الفاضل إلى باب الصاغة بجوارها، وله دهليز مادّ بمصاطب مفروشة بالحصر العبدانيّ بسطا وتأزيرا، فيشقها والوزير تابعه، فيخرج منها منعطفا على الصناعة الأخرى، وكانت برسم المكس إلى السيوفيين، ثم على منازل العز التي هي اليوم مدرسة، ثم إلى دار الملك فيدخل من الباب المقابل لسلوكه، فيترجل الوزير عنده للدخول بين يديه(2/411)
ماشيا إلى المكان المعدّ له، ويكون قد حمل أمس ذلك اليوم من القصر البيت المتخذ للعشاريّ الخاص، وهو بيت مثمن من عاج وأبنوس عرض كل جزء ثلاثة أذرع، وطوله قامة رجل تامّ، فيجمع بين الأجزاء الثمانية، فيصير بيتا دوره أربعة وعشرون ذراعا وعليه قبة من خشب محكم الصناعة، وهو بقبته ملبس بصفائح الفضة، والذهب، فيتسلمه رئيس العشاريات الخاص ويركبه على العشاريّ المختص بالخليفة، ويجعل باكر ذلك اليوم الذي يركب فيه الخليفة على الباب الذي يخرج منه للركوب إلى المقياس.
فإذا استقرّ الخليفة بالمنظرة بدار الملك التي يخرج من بابها إلى العشاريّ، وأسند إليه استدعى الوزير من مكانه، فيحضر إليه ويخرج بين يديه إلى أن يركب في العشاريّ، فيدخل البيت المذهب وحده، ومعه من الأستاذين المحنكين من يأمره من ثلاثة إلى أربعة، ثم يطلع في العشاريّ خواص الخليفة خاصة ورسم الوزير اثنان أو ثلاثة من خواصه، وليس في العشاريّ من هو جالس سوى الخليفة باطنا، والوزير ظاهرا في رواق من باب البيت الذي هو بعرانيس من الجانبين قائمة مخروطة من أخف الخشب، وهي مدهونة مذهبة وعليها من جانبيها ستور معمولة برسمها على قدرها.
فإذا اجتمع في العشاريّ من جرت عادته بالاجتماع اندفع من باب القنطرة طالبا باب المقياس العالي على الدرج التي يعلوها النيل، فيدخل الوزير، ومعه الأستاذون بين يدي الخليفة إلى الفسقية، فيصلي هو والوزير ركعات كل واحد بمفرده، فإذا فرغ من صلاته أحضرت الآلة التي فيها الزعفران والمسك، فيديفها «1» بيده بآلة، ويتناولها صاحب بيت المال، فيناولها لابن أبي الردّاد، فيلقي نفسه في الفسقية، وعليه غلالته، وعمامته، والعمود قريب من درج الفسقية، فيتعلق فيه برجليه، ويده اليسرى، ويخلقه بيده اليمنى، وقرّاء الحضرة من الجانب الآخر يقرءون القرآن نوبة بنوبة، ثم يخرج على فوره راكبا في العشاري المذكور، وهو بالخيار إما أن يعود إلى دار الملك، ويركب منها عائدا إلى القاهرة، أو ينحدر في العشاريّ إلى المقس فيتبعه الموكب إلى القاهرة، ويكون في البحر في ذلك اليوم ألف قرقورة «2» مشحونة بالعالم، فرحا بوفاء النيل، وبنظر الخليفة.
فإذا استقرّ بالقصر اهتمّ بركوب فتح الخليج، وفيه همة عظيمة ظاهرة للابتهاج بذلك، ثم يصير ابن أبي الردّاد باكر ثاني ذلك اليوم إلى القصر بالإيوان الكبير الذي في الشباك إلى باب الملك بجواره، فيجد خلعة معبأة هناك، فيؤمر بلبسها ويخرج من باب العيد شاقا بها بين القصرين من أوّله قصدا لإشاعة ذلك، فإنّ ذلك من علامة وفاء النيل، ولأهل البلاد إلى ذلك تطلع، وتكون خلعة مذهبة، وكان من العدول المحنكين، فيشرّف في الخلعة(2/412)
بالطيلسان «1» المقوّر، ويندب له من التغييرات، ولمن يريده خمس تغييرات مركبات بالحلي، ويحمل أمامه على أربع بغال مع أربعة من مستخدمي بيت المال، أربعة أكياس في كل كيس خمسمائة درهم ظاهرة في أكفهم وبصحبته أقاربه، وبنو عمه وأصدقاؤه، ويندب له الطبل والبوق، ويكتنف به عدّة كثيرة من المتصرّفين الرجالة، فيخرج من باب العيد، ويركب إحدى التغييرات، وهي أميزها، وشرّف أمامه بجملين من النقارات التي قدّمنا ذكرها يعني في ركوب أوّل العام من زيّ الموكب، فيسير شاقا القاهرة، والأبواق تضرب أمامه كبارا وصغارا، والبطل وراءه مثل الأمراء، وينزل على كل باب يدخل منه الخليفة، ويخرج من باب القصر فيقبله ويركب.
وهكذا يعمل كل من يخلع عليه من كبير، وصغير من الأمراء المطوّقين إلى من دونهم سيفا وقلما، ويخرج من باب زويلة طالبا مصر من الشارع الأعظم إلى مسجد عبد الله إلى دار الأنماط «2» ، جائزا على الجامع إلى شاطىء البحر، فيعدّي إلى المقياس بخلعه، وأكياسه، وهذه الأكياس معدّة لأرباب الرسوم عليه في خلعه ولنفسه، ولبني عمه بتقرير من أوّل الزمان، فإذا انقضى هذا الشأن، شرع في الركوب إلى فتح الخليج ثاني يوم، وقد كان وقع الاهتمام به، منذ دخلت زيادة النيل ذراع الوفاء اهتماما عظيما، فيعمل في بيت المال من التماثيل شكل الوحوش من الغزلان، والسباع، والفيلة، والزرافات: عدّة وافرة، منها ما هو ملبس بالعنبر، ومنها ما هو ملبس بالصندل، ثم شكل التفاح، والأترج اللطيف، والوحوش مفسرة الأعين والأعضاء بالذهب إلى غير ذلك.
ثم تخرج الخيمة التي يقال لها القاتول لأنّ فرّاشا سقط من أعلى عمودها فمات، فسميت بلك، وطوله سبعون ذراعا، وأعلاه صفرية فضة تسع راوية ماء، وعليه الفلكة التي كانت في الإيوان إلى قريب الوقت، ثم يعمل في أوّل العمود شقة دائرة، ثم أوسع منها، ويتوالى ذلك إلى إحدى عشرة شقة، فتصير سعة الخيمة، ما يزيد على فدّانين مستديرة، وتنصب في برّ الخليج الغربيّ على حافته مكان بستان الحليّ اليوم، وكانت ثمّ منظرة يقال لها السكرة برسم جلوس الخليفة لفتح الخليج في مثل هذا اليوم، وينصب أرباب الرتب من الأمراء من بحريّ تلك لخيمة الكبرى خياما كثيرة، ويتمايزون فيها على قدر هممهم وضربهم إياها في الأماكن الأقرب فالأقرب على قدر رتبهم، فإذا تمّ ذلك وعزم الخليفة على الركوب ثالث يوم التخليق أو رابعه أخرج كل من المستخدمين في المواضع المقدّم ذكرها في ركوب أوّل العام: آلات الموكب على عادته، ويزاد فيه إخراج أربعين بوقا عشرة من الذهب،(2/413)
وثلاثون من الفضة، ويكون بوّاقوها ركبانا، وأرباب الأبواق النحاس مشاة، ومن الطبول الكبار التي مكان خشبها فضة عشرة. فإذا حضر الوزير إلى باب القصر، خرج الخليفة في هيئة عظيمة، وهمة عالية، وقد تضاعفت هم الأجناد في ذلك اليوم فارسها وراجلها، ويخرج زيّ الخليفة من المظلة، والسيف والرمح والألوية، والدواة، وغير ذلك من الأستاذين المحنكين، ويركب في ذلك اليوم من الأقارب المقيمين بالقصر: عشرون أو ثلاثون، وهم بالنوبة في كل سنة فيتقدّمون إلى المنظرة في مكان لهم صحبة أستاذين لخدمتهم، وحفظهم، ويكون قد لف عمود الخيمة الكبرى المشار إليها إما بديباج أبيض، أو أحمر، أو أصفر من أعلاه إلى أسفله، وينصب مسندا إليه سرير الملك، ويغشى بقرقوبيّ وعرانيسه ذهب ظاهرة.
فيخرج الخليفة للرّكوب، ويركب فيخرج من باب القصر، وعليه ثوب يقال له: البدنة وهو كله ذهب وحرير مرقوم، والمظلة من شكله، ولا يلبس هذا الثوب في غير هذا اليوم، ويسير بالموكب الهائل شاقا القاهرة من الطريق التي ركب منها لتخليق المقياس، إلّا أنه لا يدخل طرق مصر من الخشابين، بل خارجها من طريق الساحل، فإذا جاز على جامع ابن طولون، وجد قد ربط من رأس المنارة من مكان العشاريّ النحاس حبل طويل قويّ، موضوع آخره في الطريق، وفيه قوم يقال لهم: التحتبارية واحد في زيّ فارس على شكل فرس وفي يده رمح، وبكتفه درقة، فينحدر على بكرة، وفي رجليه آخر ممسكها، وهو يتقلب في الهواء بطنا وظهرا، حتى يصل إلى الأرض، ويكون قاضي القضاة، وأعيان الشهود جلوسا في باب الجامع من هذه الجهة، فإذا وازاهم الخليفة وكانوا قد ركبوا، وقف لهم وقفة، فيسلم على القاضي، ثم يدخل، فيقبل الرجل التي من جانبه لا غير، ويدخل بالشهود في الفرجة أمام وجه الدابة بمقدار قصبة المساحة، فيسلم عليهم ويرجعون إلى دوابهم، فيركبون، ويكون قد نصب لهم بالقرب من الخيمة الكبرى: خيمتان، إحداهما ديباج أحمر، والأخرى ديبقي أبيض بصفاري فضة لكل واحدة فيتم الخليفة بهيئته إلى أن يدخل من باب الخيمة، ويكون الوزير قد تقدّمه على العادة ليخدمه، فيجده راجلا على باب الخيمة، فيمشي بين يديه إلى سرير الملك، فينزل ويجلس على المرتبة المنصوبة فيه، ويحيط به الأستاذون المحنكون والأمراء المطوّقون بعدهم، ويوضع للوزير الكرسيّ الجاري به عادته، فيجلس عليه، ورجلاه تحك الأرض ويقف أرباب الرتب صافين من ناحية سرير الملك إلى ناحية الخيمة، والقرّاء يقرءون القرآن ساعة زمانية، فإذا ختموا قراءتهم، استأذن صاحب الباب على حضور الشعراء للخدمة بما يطلق هذا اليوم، فيؤمر بتقديمهم واحدا بعد واحد، ولهم منازل على مقدار أقدارهم، فالواحد يتقدّم الواحد بخطوة في الإنشاد، وهو أمر معروف عند مستخدم يقال له النائب، وتقدّم شاعر يقال له ابن جبر، وأنشأ قصيدة منها:
فتح الخليج فسال منه الماء ... وعلت عليه الراية البيضاء(2/414)
فصفت موارده لنا فكأنه ... كف الإمام فعرفها الإعطاء
فانتقد الناس عليه في قوله، فسال منه الماء، وقالوا: أيّ شيء يخرج من البحر غير الماء، فضيع ما قاله بعد هذا المطلع، وتقدّم شاعر يقال له مسعود الدولة بن جرير، وأنشد:
ما زال هذا السدّ ينظر فتحه ... إذن الخليفة بالنوال المرسل
حتى إذا برز الإمام بوجهه ... وسطا عليه كل حامل معول
فجرى كأن قد ديف فيه عنبر ... يعلوه كافور بطيب المندل
فانتقدوا عليه أيضا قوله في البيت الثاني، وقالوا: أهلك وجه الإمام بسطوات المعاول عليه، وإن كان قصد فتح السدّ بالمعاول، لكنه ما نظمه إلا قلقا، ثم تقدّم له شاعر شاهد يقال له: كافي الدولة أبو العباس أحمد، وأنشد قصيدة شهد له جماعة منهم القاضي الأثير بن سنان، فإنه عملها بحضوره بديها:
لمن اجتماع الخلق في ذا المشهد ... للنيل أم لك يا ابن بنت محمد
أم لاجتماعكما معا في موطن ... وافيتما فيه لأصدق موعد
ليس اجتماع الخلق إلّا للذي ... حاز الفضيلة منكما في المولد
شكروا لكلّ منكما لوفائه ... بالسعي لكن ميلهم للأجود
ولمن ذا اعتمد الوفاء ففعله ... بالقصد ليس له كمن لم يقصد
هذا يفي ويعود ينقص تارة ... وتسدّ أنت النقص إن لم يردد
وقواه إن بلغ النهاية قصرت ... وإذا بلغت إلى النهاية تبتدي
فالآن قد ضاقت مسالك سعيه ... بالسدّ فهو به بحال مقيد
فإذا أردت صلاحه فافتح «1» ... ليرى جنابا مخصبا وترى ندي
وأمر بفصد العرق منه فما شكا ... جسم فصيح الجسم إن لم يقصد
واسلم إلى أمثال يومك هذا ... في عيش مغبوط وعز مخلد
فأمر له على الفور بخمسين دينارا، وخلع عليه، وزيد في جاريه، ثم يقوم الخليفة عن السرير راكبا، والوزير بين يديه حتى يطلع على المنظرة المعروفة بالسكرة، وقد فرشت بالفرش المعدّة لها، فيجلس فيها، ويتهيأ أيضا للوزير مكان يجلس فيه، ويحيط بالسدّ حامي البساتين ومشارفها لأنه من حقوق خدمتهما، فتفتح إحدى طاقات المنظرة، ويطل منها الخليفة على الخليج، وطاقة تقاربها يتطلع منها أستاذ من الخواص، ويشير بالفتح، فيفتح بأيدي عمال البساتين بالمعاول ويخدم بالطبل والبوق من البرّين.
فإذا اعتدل الماء في الخليج، دخلت العشاريات اللطاف، ويقال لها السماويات وكأنها(2/415)
خدم بين يدي العشاريّ الذهبيّ المقدّم ذكره، ثم العشاريات الخاص الكبار، وهي ستة:
الذهبيّ المذكور والفضيّ، والأحمر، والأصفر، واللازوردي، والصقلي، وكان أنشأه نجار من رأساء الصناعة صقليّ، وزاد فيه على الإنشاء المعتاد، فنسب إليه، وهذه العشاريات لا تخرج عن خاص الخليفة في أيام النيل، وتحوّله إلى اللؤلؤة للفرجة، وسارت في الخليج، وعلى بيت كل منهما الستور الديبقيّ الملوّنة، وبرءوسها وفي أعناقها الأهلة، وقلائد من الخرز، فتسند إلى البرّ الذي فيه المنظرة الجالس فيها الخليفة، فإذا استقرّ جلوس الخليفة، والوزير بالمنظرة، ودخل قاضي القضاة، والشهود الخيمة الديبقي البيضاء، وصلت المائدة من القصر في الجانب الغربيّ من الخليج على رؤوس الفرّاشين صحبة صاحب المائدة، وعدّتها مائة شدّة في الطيافير الواسعة، وعليها القوّارات الحرير، وفوقها الطرّاحات، ولها رواء عظيم ومسك فاتح، فتوضع في خيمة واسعة منصوبة لذلك ويحمل للوزير ما هو مستقرّ له بعادة جارية، ومن صواني التماثيل المذكورة: ثلاث صوان، ويخصص منها أيضا لأولاده، وإخوته خارجا عن ذلك إكراما وافتقادا، ويحمل إلى قاضي القضاة، والشهود شدّة من الطعام الخاص من غير تماثيل توقيرا للشرع، ويحمل إلى كل أمير في خيمته شدّة طعام، وصينية تماثيل، ويصل بمن ذلك إلى الناس شيء كثير، ولا يزالون كذلك إلى أن يؤذن بالظهر، فيصلون ويقيمون إلى العصر، فإذا أذن به صلى، وركب الموكب كله لانتظار ركوب الخليفة.
فيركب لابسا غير البدنة بل بهيئته، والمظلة مناسبة لثيابه التي عليه، واليتيمة والترتيب بأجمعه على حاله، ويسير في البرّ الغربيّ من الخليج شاقا البساتين هناك، حتى يدخل من باب القنطرة إلى القصر، والوزير تابعه على الرسم المعتاد، ويمرّ فيه لقوم أحسن الأيام، ويمضي الوزير إلى داره مخدوما على العادة.
وقال في كتاب الذخائر والتحف: إنّ المستعمل من الفضة قبة العشاري المعروف بالمقدّم، وقاربه وكسوة رحله في سنة ست وثلاثين وأربعمائة في وزارة عليّ بن أحمد الجرجرائي: مائة ألف وسبعة، وستون ألفا، وسبعمائة درهم نقرة، وإنّ المطلق للصناع عن أجرة الصناعة، وفي ثمن ذهب لطلائه خاصة: ألفان وتسعمائة دينار وسبعون، وكانت الفضة في ذلك الوقت، كل مائة درهم: بستة دنانير وربع، سعر ستة عشر درهما بدينار.
ولما تولى أبو سعيد سهل التستريّ الوساطة سنة ست وثلاثين وأربعمائة، استعمل لأمّ المستنصر عشاريا يعرف: بالفضيّ وحلّي رواقه بفضة تقديرها: مائة ألف وثلاثون ألف درهم، ولزم ذلك أجرة الصناعة، ولطلاء بعضه: ألفان وأربعمائة دينار، سوى كسوة له بمال جليل، والمنفق على ستة وثلاثين عشاريا برسم النزه البحرية، لآلاتها وحلاها من مناطق، ورؤوس منجوقات وأهله وصفريات وغير ذلك: أربعمائة ألف دينار، وكانت العادة عندهم(2/416)
إذا حصل وفاء النيل أن يكتب إلى العمال.
فمما كتب من إنشاء تاج الرياسة أبي القاسم عليّ بن منجب بن سليمان الصيرفي «1» :
أمّا بعد: فإن أحق ما أوجبت به التهنئة والبشرى، وغدت المسارّ منتشرة تتوالى وتترى، وكان من اللطائف التي غمرت بالمنة العظمى، والنعمة الجسيمة الكبرى، ما استدعى الشكر لموجد العالم وخالقه، وظلت النعمة به عامّة لصامت الحيوان وناطقه، وتلك الموهبة بوفاء النيل المبارك الذي يسره الله تعالى، وله الحمد يوم كذا، فإن هذه العطية تؤدّي إلى خصب البلاد وعمارتها، وشمول المصالح وغزارتها، وتفضي بتضاعف المنافع والخيرات، وتكاثر الأرزاق، والأقوات ويتساهم الفائدة فيها جميع العباد، وتنتهي البركة بها إلى كل دان وناء وكل حاضر وباد، فأذع هذه النعمة قبلك، وانشرها في كل من يتدبر عملك، وحثهم على مواصلة الشكر لهذه الألطاف الشاملة لهم، ولك، فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى.
وكتب أيضا: إن أولى ما تضاعف به الابتهاج والجذل، وانفتح فيه الرجاء، واتسع الأمل، ما عمّ نفقه صامت الحيوان وناطقه، وأحدث لكل أحد اغتباطا لزمه، وآلى أن لا يفارقه، وذلك ما منّ الله به من وفاء النيل المبارك الذي تحيى به كل أرض موات، وتكتسى بعد اقشعرارها حلة النبات ويكون سببا لتوافر الأقوات، فإنه وفى المقدار الذي يحتاج إليه، فلتذع هذه المنة في القاضي والداني، لتستعمل الكافة بينهم ضروب البشائر والتهاني إن شاء الله تعالى.
وكتب أيضا: من لطف الله الواجب حمده، اللازم شكره وفضله، الذي لا يمل بشره، ولا يسأم ذكره، ومنّه، الذي استبشر به الأنام، وتضاعف فيه الإنعام، ومثل الله الحياة به في قوله تعالى: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ
[يونس/ 24] أمر النيل المبارك الذي يعمّ النجود والتهائم، وتنتفع به الخلائق، وترتع فيما يظهره البهائم، وقد توجه إليك بهذا الكتاب بهذه البشرى فلان، فأجره على رسمه في إظهاره مجملا، وإيصاله إلى رسمه مكملا، وإذاعة هذه النعمة على الكافة ليتساهموا الاغتباط بها، ويبالغوا في الشكر لله سبحانه وتعالى بمقتضاها، وعلى حسبها فاعلم ذلك، واعمل به إن شاء الله تعالى.
منظرة الدكة: وكان من جملة مناظر الخلفاء الفاطميين، منظرة تعرف: بالدكة لها بستان عظيم بجوار المقس فيما بينه، وبين أراضي اللوق، وما زالت باقية، حتى زالت الدولة، وحكر مكان البستان، وصار خطة تعرف إلى اليوم بخط الدكة، فخربت المنظرة، وزال أثرها.(2/417)
قال ابن عبد الظاهر: الدكة بالمقس، كانت بستانا، وكان الخليفة إذا ركب من كسر الخليج من السكرة بمظلته يسير في البرّ الغربيّ، ومضارب الناس والأمراء، وخيمهم عن يمينه وشماله إلى أن يصل إلى هذا البستان المعروف بالدكة: وقد غلقت أبوابه ودهاليزه، فيدخل إليه بمفرده، ويسقي منه الفرس الذي تحته، وهي قضية، ذكر المؤرخ للسيرة المأمونية: أنهم كانوا يعتمدونها إلى آخر وقت، ولم يعلم سببها، ثم يخرج ويسير إلى أن يقف على الترعة الآتي ذكرها، ويدخل من باب القنطرة، وينزل إلى القصر، والدكة الآن:
آدر وحارات شهرتها تغني عن وصفها، فسبحان من لا يتغير.
وقال ابن الطوير عن الظاهر لإعزاز دين الله أبي هاشم عليّ بن الحاكم بأمر الله: كان بمنظرة يقال لها: الدكة بساحل المقس يعني أنه مات بها.
منظرة المقس «1» : وكان من جملة مناظرهم أيضا: منظرة بجوار جامع المقس الذي تسميه العامّة اليوم: جامع المقسي، وكانت هذه المنظرة بحري الجامع المذكور، وهي مطلة على النيل الأعظم، وكان حينئذ ساحل النيل بالمقس وكانت هذه المنظرة: معدّة لنزول الخليفة بها عند تجهيز الأسطول إلى غزو الفرنج، فتحضر رؤساء المراكب بالشواني، وهي مزينة بأنواع العدد، والسلاح، ويلعبون بها في النيل حيث الآن الخليج الناصري تجاه الجامع وما وراء الخليج من غربيه.
قال ابن المأمون: وذكر تجهيز العساكر في البرّ، عند ورود كتب صاحبي دمشق وحلب في سنة سبع عشرة وخمسمائة، ما يحث على غزو الفرنج، ومسيرها مع حسام الملك، وركب الخليفة الآمر بأحكام الله، وتوجه إلى الجامع بالمقس، وجلس بالمنظرة في أعلاه، واستدعى مقدّم الأسطول الثاني، وخلع عليه، وانحدرت الأساطيل مشحونة بالرجال، والعدد، والآلات، والأسلحة، واعتمد ما جرت العادة به من الإنعام عليهم، وعاد الخليفة إلى البستان المعروف بالبعل إلى آخر النهار، وتوجه إلى قصره بعد تفرقة جميع الرسوم، والصدقات والهبات الجاري بها العادة في الركوبات.
وقال ابن الطوير: فإذا تكملت النفقة، وتجهزت المراكب، وتهيأت للسفر ركب الخليفة والوزير إلى ساحل المقس، وكان هناك على شاطىء البحر بالجامع، منظرة يجلس فيها الخليفة برسم وداعه يعني الأسطول، ولقائه إذا عاد، فإذا جلس هو والوزير للوداع، جاءت القوّاد بالمراكب من مصر إلى هناك للحركات في البحر بين يديه وهي مزينة(2/418)
بأسلحتها، ولبوسها، وفيها المنجنيقات تلعب فتنحدر وتقلع بالمجاذيف كما يفعل في لقاء العدوّ بالبحر الملح، ويحضر بين يدي الخليفة المقدّم والرئيس، فيوصيهما، ويدعو للجماعة بالنصرة والسلامة، ويعطي المقدّم مائة دينار، والرئيس: عشرين دينارا، وتنحدر إلى دمياط، وتخرج إلى البحر الملح، فيكون لها ببلاد العدوّ صيب وهيبة، فإذا وقع لهم مركب لا يسألون عما فيه سوى الصغار والرجال والنساء، والسلاح وما عدا ذلك فللأسطول.
واتفق مرّة أن قدّم على الأسطول سيف الملك الجمل، فكسب بطشة عظيمة فيها ألف وخمسمائة شخص، بعد أن بعث عليهم بالقتال، وقتل منهم نحوا من مائة وعشرين رجلا، وحضر إلى القاهرة، ففرح الخليفة، وركب إلى المقس، وجلس بالمنظرة للقائهم، وأطلقوا الأسرى بين يديه تحت المنظرة من جانب البرّ فاستدعيت الجمال لركوبهم، وشق بهم القاهرة ومصر، وهم كل اثنين على جمل، ظهر الظهر، وعاد الخليفة إلى القصر فجلس في إحدى مناظره لنظرهم في جوازهم، فلما عادوا بهم من مصر صاروا بهم إلى المناخات، فصح منهم ألف رجل، فانضافوا إلى من في المناخ، وأمّا النساء والصبيان فإنهم دخلوا بهم إلى القصر بعد أن حمل منهم للوزير نصيب وافر، وأخذ الجهات، والأقارب بقيتهنّ، فيستخدمونهنّ، ويعلمونهنّ الصنائع، ويتولى الأستاذون تربية الصبيان، وتعليمهم الخط والرماية، ويقال لهم: الترابي، ومن استريب به من الأسرى، ونبه عليه بقوّة أوقع به، والشيخ الذي لا ينتفع به يمضي فيه حكم السيف بمكان يقال له: بئر المنامة في الخراب قريب مصر، ولم يسمع على الدولة قط أنها فادت أسيرا بمال، ولا بأسير مثله، وهذه الحال في كل سنة آخذة في الزيادة لا النقص، وقدّم على الأسطول مرّة أمير يقال له: حرب بن فور، صاحب الحاجب لؤلؤ، فكسب بطشة حصل فيها: خمسمائة رجل، انتهى.
وقد خربت هذه المنظرة، وكان موضعها برج كبير صار يعرف في الدولة الأيوبية بقلعة المقس مشرف على النيل، فلما جدّد الصاحب الوزير شمس الدين عبد الله المقسي جامع المقس على ما هو عليه الآن في سنة سبعين وسبعمائة، هدم هذا البرج، وجعل مكانه جنينة شرقيّ الجامع، وتحدّث الناس أنه وجد فيه مالا، والله أعلم.
منظرة البعل: وكان من مناظرهم بظاهر القاهرة منظرة في بستان أنيق يعرف: بالبعل أنشأه الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجماليّ، وموضع هذا البستان إلى اليوم يعرف بالبعل، وصارت أرضه مزرعة في جانب الخليج الغربيّ، بحريّ أرض الطبالة في كوم الريش، مقابل قناطر الأزر، وقد خربت المنظرة وبقي منها آثار أدركتها، يعطن بها الكتان تدل على عظمها، وجلالتها في حال عمارتها، وكانت منظرة البعل من أجلّ منتزهاتهم، وكان لهم بها أوقات عميمة المبرّات جليلة الخيرات.(2/419)
قال ابن المأمون: فأمّا يوم السبت والثلاثاء فيكون ركوب الوزير من داره بالرهجية، ويتوجه إلى القصر، فيركب الخليفة إلى ضواحي القاهرة للنزهة في مثل الروضة، والمشتهي، ودار الملك، والتاج، والبعل، وقبة الهواء، والخمسة وجوه، والبستان الكبير، وكان لكل منظرة منهنّ فرش معلوم مستقرّ فيها من الأيام الأفضلية للصيف والشتاء، وتفرّق الرسوم ويسلم لمقدّمي الركاب اليمين والشمال لكل واحد عشرون دينارا، وخمسون رباعيا، ولتالي مقدّم الركاب اليمين مائة كاغدة في كل كاغدة ثلاثة دراهم، ومائة كاغدة في كل كاغدة درهمان، ولتالي مقدّم الشمال مثل ذلك، فأمّا الدنانير، فلكل باب يخرج منه من البلد دينار، ولكل باب يدخل منه دينار، ولكل جامع يجتاز عليه دينار، ما خلا جامع مصر، فإن رسمه خمسة دنانير، ولكل مسجد يجتاز عليه رباعيّ، ولكل من يقف ويتلو القرآن:
كاغدة، والفقراء والمساكين من الرجال والنساء، لكل من يقف كاغدة، ولكل من يركب الخليفة ديناران، ويكون مع هذا متولي صناديق الإنفاق يحجب الخليفة وبيده خريطة ديباج فيها خمسمائة دينار لما عساه يؤمر به.
فإذا حصل في إحدى المناظر المذكورة، فرّق من العين ما مبلغه: سبعة وخمسون دينارا، ومن الرباعية: مائة وستة وثمانون دينارا للحواشي، والأستاذين وأصحاب الدواوين والشعراء، والمؤذنين، والمقرئين، والمنجمين وغيرهم، ومن الخزاف الشواء: خمسون رأسا منها طبقان حارّة مكملة مشورة، برسم المائدة الخاص مضافا لما يحضر من القصور من الموائد الخاص، والحلاوات وطبق واحد، برسم مائدة الوزير، وبقية ذلك بأسماء أربابه، ورأسا بقر برسم الهرائس، فإذا جلس الخليفة على المائدة استدعى الوزير، وخواصه، ومن جرت العادة بجلوسه معه، ومن تأخر عن المائدة، ممن جرت عادته بحضورها حمل إليه من بين يدي الخليفة على سبيل التشريف، وعند عود الخليفة إلى القصر يحاسب متولي الدفتر مقدّمي الركاب على ما أنفق عليه في مسافة الطريق من جامع، ومسجد وباب ودابة.
وأمّا تفرقة الصدقات فهم فيها على حكم الأمانة، قال: وإذا وقع الركوب إلى الميادين جرى الحال فيها على الرسم المستقرّ من الإنعام ويؤمر متولي خزائن الخاص، وصناديق الإنفاق أن يكون معه خريطة في السرج ديباج تسمى خريطة الموكب فيها ألف دينار معدّة لمن يؤمر بالإنعام عليه في حال الركوب.
منظرة التاج: هي من جملة المناظر التي كانت الخلفاء تنزلها للنزهة بناها الأفضل بن أمير الجيوش وكان لها فرش معدّ لها للشتاء والصيف، وقد خربت، ولم يبق لها سوى أثر كوم، توجد تحته الحجارة الكبار وما حول هذا الكوم، صار مزارع من جملة أراضي منية الشيرج.(2/420)
قال ابن عبد الظاهر: وأمّا التاج فكان حوله البساتين عدّة، وأعظم ما كان حوله: قبة الهواء، وبعدها الخمس وجوه التي هي باقية.
منظرة الخمس وجوه: كانت أيضا من مناظرهم التي يتنزهون فيها، وهي من إنشاء الأفضل بن أمير الجيوش وكان لها فرش معدّ لها، وبقي منها آثار بناء جليل على بئر متسعة، كان بها: خمسة أوجه من المحال الخشب التي تنقل الماء لسقي البستان، العظيم الوصف البديع الزيّ، البهيج الهيئة، والعامّة تقول التاج، والسبع وجوه إلى الآن وموضعها إلى وقتنا هذا من أعظم متفرّجات القاهرة، وينبت هناك في أيام النيل عندما يعمّ تلك الأراضي البشنين فتفتن رؤيته، وتبهج النفوس نضارته، وزينته، فإذا نضب ماء النيل، زرعت تلك البسطة قرطا، وكتانا يقصر الوصف عن تعداد حسنه، وأدركت حول الخمس وجوه: غروسا من نخل، وغيره تشبه أن تكون من بقايا البستان القديم، وقد تلاشت الآن، ثم إنّ السلطان الملك المؤيد شيخ المحموديّ الظاهريّ جدّد عمارة منظرة: فوق الخمس وجوه، ابتدأ بناءها في يوم الاثنين أوّل شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة.
منظرة باب الفتوح: وكان للخلفاء الفاطميين منظرة خارج باب الفتوح، وكان يومئذ خرج عن باب الفتوح براحا فيما بين الباب، وبين البساتين الجيوشية، وكانت هذه المنظرة معدّة لجلوس الخليفة فيها عند عرض العساكر، ووداعها إذا سارت في البرّ إلى البلاد الشامية.
قال ابن المأمون: وفي هذا الشهر يعني المحرّم سنة سبع عشرة وخمسمائة، وصلت رسل ظهير الدين طفدكين صاحب دمشق، وآق سنقر صاحب حلب، بكتب إلى الخليفة الآمر بأحكام الله، وإلى الوزير المأمون إلى القصر، فاستدعوا لتقبيل الأرض كما جرت العادة من إظهار التجمل، وكان مضمون الكتب بعد التصدير، والتعظيم، والسؤال، والضراعة أنّ الأخبار تظافرت بقلة الفرنج بالأعمال الفلسطينية، والثغور الساحلية، وأنّ الفرصة قد أمكنت فيهم، والله قد أذن بهلاكهم، وأنهم ينتظرون إنعام الدولة العلوية، وعوايد أفضالها، ويستنصرون بقوّتها، ويحثون على نصرة الإسلام، وقطع دابر الكفر وتجهيز العساكر المنصورة، والأساطيل المظفرة، والمساعدة على التوجه نحوهم لئلا يتواصل مددهم، وتعود إلى القوّة شوكتهم، فقوي العزم على النفقة في العساكر فارسها وراجلها، وتجريدها، وتقدّم إلى الأزمّة بإحضار الرجال الأقوياء، وابتدئ بالنفقة في الفرسان بين يدي الخليفة في قاعة الذهب، وأحضر الوزانون، وصناديق المال وأفرغت الأكياس على البساط، واستمرّ الحال بعد ذلك في الدار المأمونية.
وتردّد الرأي فيمن يتقدّم، فوقع الاتفاق على حسام الملك البرني، وأحضر مقدّم الأساطيل الثانية، لأن الأساطيل توجهت في الغزو وخلع عليه، وأمر بأن ينزل إلى الصناعتين(2/421)
بمصر والجزيرة، وينفق في أربعين شينيا «1» ، ويكمل نفقاتها وعددها، ويكون التوجه بها صحبة العسكر، وأنفق في عشرين من الأمراء للتوجه صحبته، فكملت النفقة في الفارس والراجل، وفي الأمراء السائرين، وفي الأطباء، والمؤذنين والقرّاء، وندب من الحجاب عدّة، وجعل لكل منهم خدمة، فمنهم من يتولى خزانة الخيام، وسير معه من حاصل الخزائن برسم ضعفاء العسكر، ومن لا يقدر على خيمة خيم، ومنهم حاجب على خزائن السلاح، وأنفق في عدّة من كتاب ديوان الجيش لعرض العساكر، وفي كتاب العربان:
وأحضر مقدّمو الحراسين بالخفار، وتقدّم إليها بأنه من تأخر عن العرض بعسقلان، وقبض النفقة، فلا واجب له، ولا إقطاع، وكتبت الكتب إلى المستخدمين بالثغور الثلاثة:
الإسكندرية، ودمياط، وعسقلان بإطلاق، وابتياع ما يستدعي برسم الأسمطة على ثغر عسقلان للعساكر والعربان من الأصناف، والغلال.
ووقع الاهتمام بنجاز أمر الرسل الواصلين، وكتبت الأجوبة عن كتبهم، وجهز المال والخلع المذهبات، والأطواق، والسيوف، والمناطق الذهب، والخيل بالمراكب الحلي الثقال، وغير ذلك من التجملات، وخلع على الرسل، وأطلق لهم التغيير، وسلمت إليهم الكتب، والتذاكر وتوجهوا صحبة العسكر.
وركب الخليفة الآمر بأحكام الله إلى باب الفتوح، ونظر بالمنظرة، واستدعى حسام الملك، وخلع عليه بدلة جليلة مذهبة، وطوّقه بطوق ذهب، وقلده ومنطقه بمثل ذلك، ثم قال الوزير المأمون للأمراء: بحيث يسمع الخليفة، هذا الأمير مقدّمكم، ومقدّم العساكر كلها، وما وعد به أنجزته، وما قرّره أمضيته، فقبلوا الأرض، وخرجوا من بين يديه، وسلم متولي بيت المال، وخزائن الكسوة لحسام الملك الكتب بما ضمنته الصناديق من المال، وأعدال الكسوات، وحملت قدّامه، وفتحت طاقات المنظرة، فلما شاهد العساكر الخليفة قبلوا الأرض، فأشار إليهم بالتوجه، فساروا بأجمعهم، وركب الخليفة، وتوجه إلى الجامع بالمقس، وجلس بالمنظرة، واستدعى مقدّم الأسطول، وخلع عليه، وانحدرت الأساطيل مشحونة بالرجال والعدّة.
منظرة الصناعة: وكان من جملة مناظر الخلفاء منظرة بالصناعة في الساحل القديم من مصر يجلس بها الخليفة تارة حتى تقدّم له العشاريات، فيركبها ويسير للمقياس، حتى يخلق بين يديه عند الوفاء، وكان بهذه الصناعة ديوان العمائر.
وأنشأ هذه المنظرة، والصناعة التي هي فيها: الوزير المأمون، لم تزل إلى آخر الدولة، ودهليزها مادّ بمصاطب مفروشة بالحصر العبداني بسطا وتأزيرا، وقد خربت هذه(2/422)
الصناعة والمنظرة، وصار موضعهما الآن بستانا كان يعرف ببستان ابن كيسان، ويعرف في زمننا هذا الذي نحن فيه الآن ببستان الطواشي، وهو بأوّل مراغة مصر، تجاه غيط الجرف على يسرة من يسلك من المراغة يريد الكيارة، وباب مصر.
قال ابن المأمون: وكانت جميع مراكب الأساطيل ما تنشأ إلّا بالصناعة التي بالجزيرة، فأنكر الوزير المأمون ذلك، وأمر بأن يكون إنشاء الشواني، وغيرها من المراكب النيلة الديوانية بالصناعة بمصر، وأضاف إليها دار الزبيب، وأنشأ المنظرة بها واسمه باق إلى الآن عليها، وقصد بذلك أن يكون حلول الخليفة يوم تقدمة الأساطيل، ورميها بالمنظرة المذكورة وأن يكون ما ينشأ من الجراني، والشلنديات في الصناعة بالجزيرة.
قال: ولما وفى النيل ستة عشر ذراعا ركب الخليفة والوزير إلى الصناعة بمصر، ورميت العشاريات بين أيديهما، ثم عدّيا في إحداها إلى المقياس.
وقال ابن الطوير: الخدمة في ديوان الجهاد، ويقال له: ديوان العمائر، وكان محله بصناعة الإنشاء بمصر للأسطول والمراكب الحاملة للغلات السلطانية، والأحطاب وغيرها، وكانت تزيد على خمسين عشاريا، ويليها عشرون ديماسا «1» ، منها عشرة برسم خاص الخليفة أيام الخليج وغيرها، ولكل منها رئيس، ونواتيّ «2» لا يبرحون ينفق فيهم من مال هذا الديوان، وبقية العشاريات الدواميس «3» برسم ولاة الأعمال المميزة، فهي تجرّ لهم، وينفق في رؤسائها ورجالها أينما كانوا من مال هذا الديوان، وتقيم مع أحدهم مدّة مقامه، فإذا صرف عاد فيه، وخرج المتولي الجديد في العشاري المرسي بالصناعة، ولا يخرج إلا بتوقيع بإطلاقه، والإنفاق فيه، وللمشارفين بالأعمال عشاريات دون هذه، وفي هذا الديوان برسم خدمة ما يجري في الأساطيل نائبان من قبل مقدّم الأسطول، وفيه من الحواصل لعمارة المراكب شيء كثير، وإذا لم يف ارتفاعه بما يحتاج إليه استدعى له من بيت المال يسدّ خلله.
قال: وكان من أهم أمورهم احتفالهم بالأساطيل والأجناد، ومواصلة إنشاء المراكب بمصر والإسكندرية ودمياط من الشواني الحربية والشلنديات، والمسطحات «4» إلى بلاد الساحل حين كانت بأيديهم مثل صور وعكا وعسقلان، وكانت جريدة قوّاده أكثر من خمسة آلاف مدوّنة منهم عشرة أعيان تصل جامكية كل منهم إلى عشرين دينارا، ثم إلى خمسة عشر، ثم إلى عشرة دنانير، ثم إلى ثمانية، ثم إلى دينارين، وهي أقلها، ولهم إقطاعات(2/423)
تعرف: بأبواب الغزاة بما فيه من النطرون فيصل دينارهم بالمناسبة إلى نصف دينار وحواليه، ويعين من هؤلاء القوّاد العشرة من يقع الإجماع عليه لرئاسة الأسطول المتوجه للغزو، فيكون معه الفانوس، وكلهم يهتدون به، ويقلعون بإقلاعه، ويرسون بإرسائه، ويقدّم على الأسطول أمير كبير من أعيان الأمراء، وأقواهم جنانا، ويتولى النفقة فيهم للغزو الخليفة بنفسه بحضور الوزير، فإذا أراد النفقة فيما تعين من عدّة المراكب السائرة.
وكانت آخر وقت تزيد على خمسة وسبعين شينيا، وعشر مسطحات، وعشر حمالة، فيتقدّم إلى النقباء بإحضار الرجال، ويسمع بذلك من هو خارج مصر والقاهرة، فيدخل إليها ولهم المشاهرة والجرايات المتقرّرة مدّة أيام السفر، وهم معروفون عند عشرين نقيبا، ولا يعترض أحد أحدا إلّا من رغب في ذلك من نفسه، فإذا اجتمعت العدّة المغلقة للمراكب المطلوبة أعلم المقدّم بذلك الوزير، فطالع الخليفة بالحال، وفرز يوم للنفقة، فحضر الوزير بالاستدعاء على العادة، فيجلس الخليفة على هيئته في مجلس، ويجلس الوزير في مكانه، ويحضر صاحبا ديوان الجيش، وهما المستوفي وهو أميرهما، ويجلس داخل عتبة المجلس، وهذه رتبة له مميزة، وكاتب الجيش الأصل، ويجلس بجانبه تحت العتبة على حصر مفروشة بالقاعة، ولا يخلو المستوفي أن يكون عدلا أو من أعيان الكتاب المسلمين، وأما كاتب الجيش: فيهوديّ في الأغلب، ويفرش أمام المجلس أنطاع تصب عليها الدراهم، ويحضر الوزانون ببيت المال لذلك، فإذا تهيأ الإنفاق أدخل القابضون مائة مائة، ويقفون في آخر الوقوف بين يدي الخليفة من جانب واحد نقابة نقابة، وتكون أسماؤهم قد رتبت في أوراق لاستدعائهم بين يدي الخليفة، ويستدعى مستوفي الجيش من تلك الأوراق واحدا واحدا، فإذا خرج اسمه عبر من الجانب الذي هو فيه إلى الجانب الخالي، فإذا تكمل عشرة رجال:
وزن الوزانون لهم النفقة، وكانت لكل واحد خمسة دنانير صرف، كل دينار ستة وثلاثون درهما، فيستلمها النقيب، وتكتبت بيده وباسمه، وتمضي النفقة كذلك إلى آخرها، فإذا تمّ ذلك اليوم، ركب الوزير من بين يدي الخليفة، وانفض ذلك الجمع، فيحمل من عند الخليفة مائدة يقال لها: غداء الوزير، هي سبع مجيفات أوساط إحداها بلحم دجاج وفستق، والبقية من شواء، وهي مكمورة بالأزهار، فتكون هذه عدّة أيام تارة متوالية، وتارة متفرّقة، فإذا تكملت النفقة، وتجهزت المراكب، وتهيؤت للسفر: ركب الخليفة والوزير إلى ساحل المقس، وذكر ابن أبي طي: أنّ المعز لدين الله، أنشأ ستمائة مركب، لم ير مثلها في البحر على مدينة وعمل دار صناعة بالمقس.
دار الملك: وكان من جملة مناظرهم: دار الملك بمصر، وهي من إنشاء الأفضل بن أمير الجيوش ابتدأ في بنائها وإنشائها في سنة إحدى وخمسمائة، فلما كملت تحوّل إليها من دار القباب بالقاهرة، وسكنها، وحوّل إليها الدواوين من القصر، فصارت بها، وجعل فيها الأسمطة، واتخذ بها مجلسا سماه: مجلس العطايا، كان يجلس فيه، فلما قتل الأفضل(2/424)
صارت دار الملك هذه من جملة منتزهات الخلفاء، وكان بها بستان عظيم، وما زالت عظيمة إلى أن انقرضت الدولة، فجعلها الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب دار متجر، ثم عملت في أيام الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري: دار وكالة، وموضع دار الملك: ما وراء حبة الخرّوب، بجوار المدرسة المعزي، وبقي منها جدار يجلس تحته بياعو الحناء.
قال ابن المأمون: ومن جملة ما قرّره القائد أبو عبد الله من تعظيم المملكة، وتفخيم أمر السلطنة أنّ المجلس الذي يجلس فيه الأفضل بدار الملك يسمى: مجلس العطايا، فقال القائد: مجلس يدعى بهذا الاسم ما يشاهد فيه دينار؟ يدفع لمن يسأل، وأمر بتفصيل ثمان ظروف ديباج أطلس، من كل لون اثنين، وجعل في سبعة منها خمسة وثلاثين ألف دينار وفي كل ظرف: خمسة آلاف دينار سكب، وبطاقة بوزنه، وعدده، وشرّابة حرير كبيرة من ذلك ستة ظروف دنانير بالسوية عن اليمين والشمال في مجلس العطايا الذي برسم الجلوس، وعند مرتبة الأفضل بقاعة اللؤلؤة: ظرفان، أحدهما دنانير، والآخر دراهم جدد، فالذي في اللؤلؤة برسم ما يستدعيه الأفضل إذا كان عند الحرم، وأمّا الذي في مجلس العطايا، فإنّ جميع الشعراء لم يكن لهم في الأيام الأفضلية، ولا فيما قبلها على الشعر جار وإنما كان لهم إذا اتفق طرب السلطان، واستحسانه لشعر من أنشد منهم ما يسهله الله على حكم الجائزة، فرأى القائد أن يكون ذلك من بين يديه من الظروف، وكذلك من يتضرّع ويسأل في طلب صدقة، أو ينعم عليه ابتداء بغير سؤال، يخرج ذلك من الظروف.
وإذا انصرف الحاضرون، نزل القائد المبلغ بخطه في البطاقة، ويكتب عليه الأفضل بخطه: صح، ويعاد إلى الظرف، ويختم عليه، فلما استهلّ رجب من سنة اثنتي عشرة وخمسمائة، وجلس الأفضل في مجلس العطايا على عادته، وحضر الأجلّ المظفر أخوه للهناء، وجلس بين يديه، وشاهد الظروف والقائد، وولده، وأخوه قيام على رأسه، وتقدّمت الشعراء على طبقاتهم، أمر لكل منهم بجائزة، وشاع خبر الظروف وكثر القول فيها، واستعظم أمرها، وضوعف مبلغها، واتسع هذا الإنعام بالصدقات الجاري بها العادة في مثل هذا الشهر لفقهاء مصر، والرباطات بالقرافة وفقرائها.
وقال ابن الطوير: وقد ذكر ركوب الخليفة في أوّل العام وحضور العزّة، وينقطع الركوب بعد هذا اليوم الذي هو أوّل العام، فيركبون في آحاد الأيام إلى أن يكمل شهر ولا يتعدّى ذلك يومي السبت والثلاثاء، فإذا عزم الخليفة على الركوب في أحد هذه الأيام أعلم بذلك، وعلامته إنفاق الأسلحة في صبيان الركاب من خزانة السلاح خاصة دون ما سواها، وأكثر ذلك إلى مصر، ويركب الوزير صحبته من ورائه على أخصر من النظام المتقدّم يعني في ركوب أوّل العام، وأقل جمع، فيخرج شاقا القاهرة وشوارعها على الجامع الطولونيّ(2/425)
على المشاهد إلى درب الصفاء، ويقال له: الشارع الأعظم إلى دار الأنماط إلى الجامع العتيق، فإذا وصل إلى بابه، وجد الشريف الخطيب قد وقف على مصطبة بجانبه فيها محراب مفروشة بحصر معلق عليها سجادة، وفي يده المصحف المنسوب خطه إلى عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، وهو من حاصله فإذا وازاه وقف في موضعه، وناوله المصحف من يده، فيتسمله منه، ويقبله ويتبرّك به مرارا، ويعطيه صاحب الخريطة المرسومة للصلات: ثلاثين دينارا، وهي رسمه متى اجتاز به، فيوصلها الشريف إلى مشارف الجامع، فيكون نصيبهما منها خمسة عشر دينارا، والباقي للقومة والمؤذنين دون غيرهم.
ويسير إلى أن يصل دار الملك، فينزلها والوزير معه ومنذ يخرج من باب القصر إلى أن يصل إلى دار الملك لا يمرّ بمسجد إلا أعطى قيمة من الخريطة دينارا، فلا يزال بدار الملك نهاره فتأتيه المائدة من القصر، وعدّتها: خمسون شدّة على رؤوس الفرّاشين مع صاحب المائدة، وهو أستاذ جليل غير محنك، وكل شدّة فيها: طيفور فيها الأواني الخاص، وفيها من الأطعمة الخاص من كل نوع شهيّ، وكل صنف من المطاعم العالية، ولها رواء، ورائحة المسك فائحة منها، وعلى كل شدّة طرحهة حرير تعلو القوّارة التي هي الشدّة، فيحمل إلى الوزير منها جزء وافر، ولمن صحبه وللأمراء، ولكافة الحاضرين في الخدمة، ويصل منها إلى الناس بمصر ممن بعضهم بعضا شيء كثير، ولا يزال إلى أن يؤذن عليه بالعصر، فيصلي ويتحرّك إلى العود إلى القاهرة، والناس في طريقه لنظره، فيركب وزيه في هذه الأيام أنه يلبس الثياب المذهبة البياض، والملوّنة والمنديل من النسبة، وهو مشدود شدّة مفردة عن شدّات الناس، وذؤابته مرخاة من جانبه الأيسر، ويتقلد بالسيف العربي المجوهر بغير حنك، ولا مظلة، ولا يتيمة، فإنّ ذلك في أوقات مخصومة، ولا يمرّ أيضا بمسجد في سلوكه في هذه الطريق بالساحل إلّا، ويعطي قيّمه دينارا أيضا، كما جرى في الرواح، وينعطف من باب الخرق، ويدخل من باب زويلة شاقا القاهرة حتى يدخل القصر، فيكون ذلك من المحرّم إلى شهر رمضان، إمّا أربع مرّات أو خمس مرّات، ومن شعر الأسعد أسعد بن مهذب بن زكريا بن أبي مليح مما في دار الملك هذه:
حللت بدار الملك والنيل آخذ ... بأطرافها والموج يوسعها ضربا
فخيلته قد غار لما وطئتها ... عليها فأضحى عند ذاك لها خربا
منازل العز
بنتها السيدة تغريد أمّ العزيز بالله بن المعز، ولم يكن بمصر أحسن منها، وكانت مطلة على النيل لا يحجبها شيء عن نظره، وما زال الخلفاء من بعد المعز يتداولونها، وكانت معدّة لنزهتهم، وكان بجوارها حمام، ولها منها باب وموضعها الآن مدرسة تعرف: بالمدرسة التقوية منسوبة للملك المظفر تقيّ الدين عمرو بن شاهنشاه بن نجم الدين أيوب بن شادي.(2/426)
الهودج: وكان من منتزهاتهم العظيمة البناء العجيبة البديعة الزي بناء في جزيرة الفسطاط التي تعرف اليوم: بالروضة، يقال له: الهودج، بناه الخليفة الآمر بأحكام الله لمحبوبته البدوية التي غلب عليه حبها بجوار البستان المختار، وكان يتردد إليه كثيرا، وقتل وهو متوجه إليه وما زال منتزها للخلفاء من بعده.
قال ابن سعيد في كتاب المحلى بالأشعار: قال القرطبيّ «1» في تاريخه: تذاكر الناس في حديث البدوية، وابن مياح من بني عمها وما يتعلق بذلك من ذكر الآمر، حتى صارت رواياتهم في هذا الشأن كأحاديث البطال، وألف ليلة وليلة وما أشبه ذلك.
والاختصار منه أن يقال: إنّ الآمر كان قد بلي بعشق الجواري العربيات، وصارت له عيون بالبوادي، فبلغه أن جارية بالصعيد من أكمل العرب، وأظرفهم شاعرة جميلة، فيقال: إنه تزيا بزيّ بداة الأعراب وكان يجول في الأحياء إلى أن انتهى إلى حيّها، وبات هناك في ضائقة، وتحيل حتى عاينها هنالك، فما ملك صبره ورجع إلى مقرّ ملكه، وأرسل إلى أهلها يخطبها، وتزوّجها، فلما وصلت صعب عليها مفارقة ما اعتادته، وأحبت أن تسرّح طرفها في الفضاء، ولا تنقبض نفسها تحت حيطان المدينة، فبنى لها البناء المشهور في جزيرة الفسطاط المعروف بالهودج، وكان غريب الشكل على شط النيل، وبقيت متعلقة الخاطر بابن عم لها، ربيت معه يعرف: بابن مياح، فكتبت إليه من قصر الآمر:
يا ابن مياح إليك المشتكي ... مالك من بعد قد ملكا
كنت في حيي مطاعا آمرا ... نائلا ما شئت منكم مدركا
فأنا الآن بقصر مرصد ... لا أرى إلّا خبيثا ممسكا
كم تثنينا كأغصان اللوا ... حيث لا نخشى علينا دركا
فأجابها:
بنت عمي والتي غذيتها ... بالهوى حتى علا واحتبكا
بحت بالشكوى وعندي ضعفها ... لو غدا ينفع منا المشتكى
مالك الأمر إليه أشتكي ... مالك وهو الذي قد ملكا
قال: وللناس في طلب ابن مياح، واختفائه أخبار تطول، وكان من عرب طيّ في قصر الآمر: طراد بن مهلهل السنبسي فبلغته هذه القضية، فقال:
ألا بلغوا الآمر المصطفى ... مقال طراد ونعم المقال(2/427)
قطعت الأليفين عن ألفة ... بها سمر الحيّ بين الرجال
كذا كان آباؤك الأكرمون ... سالت فقل لي جواب السؤال
فقال الخليفة الآمر: لما بلغته الأبيات، جواب سؤاله قطع لسانه على فضوله، وطلب في أحياء العرب، فلم يوجد، فقالت العرب: ما أخسر صفقة طراد، باع أبيات الحيّ بثلاثة أبيات، وكان بالإسكندرية: مكين الدولة أبو طالب أحمد بن عبد المجيد بن أحمد بن الحسن بن حديد له مروءة عظيمة، ويحتذى أفعال البرامكة، وللشعراء فيه أمداح كثيرة مدحه ظافر الحدّاد، وأمية بن أبي الصلت، وغيرهما. وكان له بستان يتفرّج فيه به جرن كبير من رخام، وهو قطعة واحدة وينحدر فيه الماء فيبقى كالبركة من كبره، وكان يجد في نفسه برؤيته زيادة على أهل التنعم، والمباهاة في عصره، فوشى به للبدوية محبوبة الآمر، فسألت الخليفة الآمر في حمل الجرن إليها، فأرسل إلى ابن حديد بإحضار الجرن، فلم يجد بدّا من حمله من البستان، فلما صار إلى الآمر أمر بعمله في الهودج، فقلق ابن حديد، وصارت في قلبه حرارة من أخذ الجرن، فأخذ يخدم البدوية، ومن يلوذ بها بأنواع الخدم العظيمة الخارجة عن الحدّ في الكثرة حتى قالت البدوية: هذا الرجل أخجلنا بكثرة تحفه، ولم يكلفنا قط أمرا نقدر عليه عند الخليفة مولانا، فلما قيل له هذا القول عنها قال: ما لي حاجة بعد الدعاء لله بحفظ مكانها، وطول حياتها في عزّ ردّد الفسقية التي قلعت من داري التي بنيتها في أيامها من نعمتهم تردّ إلى مكانها، فتعجبت من ذلك، وردّتها عليه، فقيل له: حصلت في حدّ أن خيّرتك البدوية في جميع المطالب، فنزلت همتك إلى قطعة حجر، فقال: أنا أعرف بنفسي، ما كان لها أمل سوى أن لا تغلّب في أخذ ذلك الحجر من مكانه، وقد بلغها الله أملها، وكان هذا المكين قضاء الإسكندرية، ونظرها في أيام الآمر.
وبلغ من علوّ همته، وعظم مروءته أنّ سلطان الملوك حيدرة أخا الوزير المأمون بن البطائحيّ: لما قلده الآمر ولاية ثغر الإسكندرية في سنة سبع عشرة وخمسمائة، وأضاف إليه الأعمال البحرية، ووصل إلى الثغر، ووصف له الطبيب دهن شمع بحضور القاضي المذكور، فأمر في الحال بعض غلمانه بالمضيّ إلى داره لإحضار دهن شمع. فما كان أكثر من مسافة الطريق إلا أن أحضر حقا مختوما فكّ عنه، فوجد فيه منديل لطيف مذهب على مداف بلور فيه: ثلاثة بيوت، كل بيت عليه قبة ذهب مشبكة مرصعة بياقوت وجوهر، بيت دهن بمسك، وبيت دهن بكافور، وبيت دهن بعنبر طيب، ولم يكن فيه شيء مصنوع لوقته، فعندما أحضره الرسول، تعجب المؤتمن والحاضرون من علوّ همته، فعندما شاهد القاضي ذلك بالغ في شكر أنعامه، وحلف بالحرام إن عاد إلى ملكه، فكان جواب المؤتمن قد قبلته منك لا لحاجة إليه، ولا لنظر في قيمته بل لإظهار هذه الهمة، وإذاعتها، وذكر أن قيمة هذا المداف، وما عليه: خمسمائة دينار، فانظر رحمك الله، إلى من يكون دهن الشمع عنده في(2/428)
إناء قيمته: خمسمائة دينار ودهن الشمع لا يكاد أكثر الناس يحتاج إليه البتة، فماذا تكون ثيابه، وحليّ نسائه، وفرش داره، وغير ذلك من التجملات، وهذا إنما هو حال قاضي الإسكندرية، ومن قاضي الإسكندرية بالنسبة إلى أعيان الدولة بالحضرة؟ وما نسبة أعيان الدولة، وإن عظمت أحوالهم إلى أمر الخلافة، وأبهتها إلّا يسير حقير.
وما زال الخليفة الآمر يتردّد إلى الهودج المذكور إلى أن ركب يوم الثلاثاء رابع ذي القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة يريد الهودج، وقد كمن له عدّة من النزارية في فرن عند رأس الجسر من ناحية الروضة، فوثبوا عليه، وأثخنوه بالجراحة حتى هلك، وحمل في العشاريّ إلى اللؤلؤة، فمات بها، وقيل: قبل أن يصل إليها، وقد خرب هذا الهودج، وجهل مكانه من الروضة، ولله عاقبة الأمور.
قصر القرافة: وكان لهم بالقرافة قصر بنته: السيدة تغريد أم العزيز بالله بن المعز في سنة: ست وستين وثلثمائة، على يد الحسين بن عبد العزيز الفارسيّ المحتسب هو، والحمام الذي في غربيه، وبنت البئر، والبستان وجامع القرافة، وكان هذا القصر نزهة من النزه من أحسن الآثار في إتقان بنيانه وصحة أركانه، وله منظرة مليحة كبيرة محمولة على قبو مادّ تجوز المارّة من تحته، ويقيل المسافرون في أيام القيظ هناك، ويركب الراكب إليه على زلاقة، وكان كأحسن ما يكون من البناء، وتحته حوض لسقي الدواب يوم الحلول فيه، وكان مكانه بالقرب من مسجد الفتح.
ولما كان في سنة عشرين وأربعمائة جدّده الخليفة الآمر، وعمل تحته مصطبة للصوفية وكان يجلس في الطاق بأعلى القصر ويرقص أهل الطريقة من الصوفية، والمجامر بالألوية موضوعة بين أيديهم والشموع الكثيرة تزهر، وقد بسط تحتهم حصر من فوقها بسط، ومدّت لهم الأسمطة التي عليها كل نوع لذيذ ولون شهيّ من الأطعمة، والحلوى أصنافا مصنفة، فاتفق أن تواجد الشيخ أبو عبد الله بن الجوهريّ الواعظ، ومزق مرقعته، وفرّقت على العادة خرقا، وسأل الشيخ أبو إسحاق إبراهيم المعروف بالقارح المقري خرقة منها، ووضعها في رأسه، فلما فرغ التمزيق، قال الخليفة الآمر بأحكام الله: من طاق بالمنظرة يا شيخ أبا إسحاق، قال: لبيك يا مولانا، قال: أين خرقتي؟ فقال مجيبا له في الحال: ها هي على رأسي يا أمير المؤمنين، فاستحسن الآمر ذلك، وأعجبه موقعه فأمر في الساعة، والوقت فأحضر من خزائن الكسوات ألف نصفية، ففرّقت على الحاضرين، وعلى فقراء القرافة، ونثر عليهم متولي بيت المال من الطاق ألف دينار، فتخاطفها الحاضرون، وتعاهد المغربلون الأرض التي هناك أياما لأخذ ما يواريه التراب، وما برح قصر الأندلس بالقرافة، حتى زالت الدولة، فهدم في شهر ربيع الآخر سنة سبع وستين وخمسمائة.(2/429)
المنظرة ببركة الحبش «1» : وكانت لهم منظرة تشرف على بركة الحبش، قال الشريف أبو عبد الله محمد الجواني في كتاب النقط على الخطط: إن الخليفة الآمر بأحكام الله بنى على المنظرة التي يقال لها بئر دكة الخركة منظرة من خشب مدهونة فيها طاقات، تشرف على خضرة بركة الحبش، وصوّر فيها الشعراء كل شاعر وبلده، واستدعى من كل واحد منهم قطعة من الشعر في المدح، وذكر الخركاه، وكتب ذلك عند رأس كل شاعر، وبجانب صورة كل منهم رف لطيف مذهب، فلما دخل الآمر، وقرأ الأشعار أمر أن يحط على كل رف، صرّة مختومة فيها: خمسون دينارا، وأن يدخل كل شاعر، ويأخذ صرّته بيده، ففعلوا ذلك، وأخذوا صررهم، وكانوا عدّة شعراء.
البساتين: وكان للخلفاء عدّة بساتين يتنزهون بها: منها البساتين الجيوشية، وهما بستانان كبيران أحدهما من عند زقاق الكحل، خارج باب الفتوح إلى المطرية، والآخر يمتدّ من خارج باب القنطرة إلى الخنذق، وكان لهما شأن عظيم، ومن شدّة غرام الأفضل بالبستان الذي كان يجاور بستان البعل، عمل له سورا مثل سور القاهرة، وعمل فيه بحرا كبيرا، وقبة عشاري تحمل ثمانية أرادب، وبنى في وسط البحر منظرة محمولة على أربع عواميد من أحسن الرخام، وحفها بشجر النارنج، فكان نارنجها لا يقطع حتى يتساقط وسلط على هذا البحر أربع سواق، وجعل له معبرا من نحاس مخروط زنته قنطار، وكان يملأ في عدّة أيام، وجلب إليه من الطيور المسموعة شيئا كثيرا، واستخدم للحمام الذي كان به عدّة مطيرين، وعمر به أبراجا عدّة للحمام والطيور المسموعة، وسرّح فيه كثيرا من الطاوس، وكان البستانان اللذان على يسار الخارج من باب الفتوح بينهما بستان الخندق، لكل منهما أربعة أبواب من الأربع جهات على كل منها عدّة من الأرمن، وجميع الدهاليز مؤزرة بالحصر العبدانيّ، وعلى أبوابها سلاسل كثيرة من حديد، ولا يدخل منها إلّا السلطان، وأولاده وأقاربه.
قال ابن عبد الظاهر: واتفقت جماعة على أن الذي يشتمل عليه مبيعهما في السنة من زهر وثمر: نيف وثلاثون ألف دينار، وإنها لا تقوم بمؤنهما على حكم اليقين لا الشك، وكان الحاصل بالبستان الكبير، والمحسن إلى آخر الأيام الآمرية، وهي سنة: أربع وعشرين وخمسمائة: ثمانمائة، وأحد عشر رأسا من البقر، ومن الجمال: مائة وثلاثة رؤوس، ومن العمال وغيرهم ألف رجل.(2/430)
وذكر أنّ الذي دار سور البساتين من سنط، وجميز، وأثل من أوّل حدّهما الشرقيّ، وهو ركن بركة الأرمن مع حدّهما البحريّ والغربي جميعا إلى آخر زقاق الكحل في هذه المسافة الطويلة: سبعة عشر ألف ألف، ومائتا شجرة، وبقي قبليهما جميعا لم يحصن.
وإنّ السنط تغصن حتى لحق بالجميز في العظم، وإنّ معظم قرظه يسقط إلى الطريق، فيأخذه الناس، وبعد ذلك يباع بأربعمائة دينار، وكان به كل ثمرة لها دويرة مفردة، وعليها سياج، وفيها نخل منقوش في ألواح عليها برسم الخاص لا تجني إلّا بحضور المشارف، وكان فيهما ليمون تفاحيّ يوكل بقشرة بغير سكر، وأقام هذان البستانان بيد الورثة الجيوشية مع البلاد التي لهم مدّة أيام الوزير المأمون، لم تخرج عنهم، وكشف ذلك في أيام الخليفة الحافظ، فكان فيهما ستمائة رأس من البقر، وثمانون جملا، وقوّم ما عليهما من الأثل والجميز، فكانت قيمته: مائتي ألف دينار، وطلب الأمير شرف الدين وكانت له حرمة عظيمة من الخليفة الحافظ قطع شجرة واحدة من سنط فأبى عليه، فتشفع إليه، وقوّمت بسبعين دينارا، فرسم الخليفة إن كانت وسط البستان تقطع، وإلا فلا، ولما جرى في آخر أيام الحافظ ما جرى من الخلف ذبحت أبقاره، وجماله، ونهب ما فيه من الآلات والأنقاض، ولم يبق إلّا الجميز والسنط والأثل لعدم من يشتريه، انتهى.
وكان هذان البستانان من جملة الحبس «1» الجيوشيّ، وهو أن أمير الجيوش بدر الجماليّ حبس عدّة بلاد وغيرها، منها في البرّ الشرقيّ بناحية بهتيت، والأميرية، والمنية، وفي البرّ الغربيّ ناحية سفط «2» ونهيا ووسيم مع هذين البستانين المذكورين على عقبة، فاستأجر هذا الحبس الوزير مدّة سنين بأجرة يسيرة، وصار يزرع في الشرقيّ منه، الكتان ومنه ما تبلغ قطيعته ثلاثة دنانير ونصفا وربعا عن كل فدّان فيتناولون فيه ربحا جزيلا لأنفسهم، فلما بعد العهد انقرضت أعقابه، ولم يبق من ذرّيته سوى امرأة كبيرة، فأفتح الفقهاء بأن هذا الحبس باطل، فصار للديوان السلطانيّ يتصرّف فيه، ويحمل متحصله مع أموال بيت المال وتلاشت البساتين، وبنى في أماكنها ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى، وبنى العزيز بالله بستانا بناحية سردوس.
قبة الهواء: وكان من أحسن منتزهات الخلفاء الفاطميين، قبة الهواء، وهي مستشرف بهج بديع، فيما بين التاج، والخمس وجوه يحيط به عدّة بساتين، لكل بستان منها: اسم، ولهذه القبة فرش معدّة في الشتاء، والصيف ويركب إليها الخليفة في أيام الركوبات التي هي يوم السبت والثلاثاء.(2/431)
بحر أبي المنجا «1» : وكان من منتزهات الخلفاء، يوم فتح بحر أبي المنجا، قال ابن المأمون: وكان الماء لا يصل إلى الشرقية إلّا من السردوسيّ، ومن الصماصم، ومن المواضع البعيدة، فكان أكثرها يشرق في أكثر السنين، وكان أبو المنجا اليهوديّ مشارف الأعمال المذكورة، فتضرّر المزارعون إليه، وسألوا في فتح ترعة يصل الماء منها في ابتدائه إليهم، فابتدأ بحفر خليج أبي المنجا في يوم الثلاثاء السادس من شعبان سنة ست وخمسمائة، وركب الأفضل بن أمير الجيوش ضحى، وصحبته القائد أبو عبد الله محمد بن فاتك البطائحيّ، وجميع إخوته والعساكر تحاذيه في البرّ وجمعت شيوخ البلاد وأولادها، وركبوا في المراكب، ومعهم حزم البوص «2» في البحر، وصار العشاريّ، والمراكب تتبعها إلى أن رماها الموج إلى الموضع الذي حفروا فيه البحر، وأقام الحفر فيه سنتين، وفي كل سنة تتبين الفائدة فيه، ويتضاعف من ارتفاع البلاد، ما يهوّن الغرامة عليه.
ولما عرض على الأفضل جملة ما أنفق فيه استعظمه وقال: غرمنا هذا المال جميعه، والاسم لأبي المنجا، فغير اسمه، ودعي بالبحر الأفضليّ، فلم يتم ذلك، ولم يعرف إلّا بأبي المنجا ثم جرى بين أبي المنجا، وبين ابن أبي الليث، صاحب الديوان بسبب الذي أنفق خطوب أدت إلى اعتقال أبي المنجا عدّة سنين، ثم نفي إلى الإسكندرية بعد أن كادت نفسه تتلف، ولم يزل القائد أبو عبد الله بن فاتك، يتلطف بحاله إلى تضاعف من عبرة البلاد ما سهل أمر النفقة فيه.
ورأيت بخط ابن عبد الظاهر، وهذا أبو المنجا هو جدّ بني صفير الحكماء اليهود، والذين أسلموا منهم، ولما طال اعتقال أبي المنجا في الإسكندرية في مكان بمفرده مضيقا عليه، تحيل في تحصيل مصحف، وكتب ختمة، وكتب في آخرها: كتبها أبو المنجا اليهوديّ، وبعثها إلى السوق ليبعها، فقامت قيامة أهل الثغر، وطولع بأمره إلى الخليفة، فأخرج.
وقيل له: ما حملك على هذا؟ فقال: طلب الخلاص بالقتل، فأدّب، وأطلق سبيله.
وقيل: إنه كان في محبسه حية عظيمة، فأحضر إليه في بعض الأيام لبن، فرأى الحية، وقد شربت منه، ودخلت حجرها، فصار في كل يوم يحضر لها لبنا، فتخرج وتشرب منه، وتدخل مكانها، ولم تؤذه.(2/432)
ولما ولي المأمون البطائحيّ وزارة الآمر بأحكام الله بعد الأفضل بن أمير الجيوش، تحدّث الآمر معه في رؤية فتح هذا الخليج، وأن يكون له يوم كخليج القاهرة، فندب الآمر معه عدي الملك أبا البركات بن عثمان وكيله، وأمره بأن يبني على مكان السدّ منظرة متسعة، تكون من بحريّ السدّ، وسرّع في عمارتها بعد كمال النيل، وما زال يوم فتح سدّ هذا البحر يوما مشهودا إلى أن زالت الدولة الفاطمية.
فلما استولى بنو أيوب من بعدهم على مملكة مصر، أجروا الحال فيه على ما كان، قال القاضي الفاضل في متجدّدات سنة سبع وسبعين وخمسمائة: وركب السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب لفتح بحر أبي المنجا، وعاد. وقال: وفي سنة تسعين وخمسمائة، كسر بحر أبي المنجا بعد أن تأخر كسره عن عيد الصليب بسبعة أيام، وكان ذلك لقصور النيل في هذه السنة، ولم يباشر السلطان الملك العزيز عثمان ابن السلطان صلاح الدين بنفسه، وركب أخوه شرف الدين يعقوب الطواشي لكسره، وبدت في هذا اليوم من مخايل القبوط ما يوجبه سوء الأفعال من المجاهرة بالمنكرات، والإعلان بالفواحش، وقد أفرط هذا الأمر، واشترك فيه الآمر والمأمور، ولم ينسلخ شهر رمضان، إلّا وقد شهد ما لم يشهده رمضان قبله في الإسلام وبدا عقاب الله في الماء الذي كانت المعاصي على ظهره، فإنّ المراكب كان يركب فيها في رمضان الرجال والنساء مختلطين، مكشفات الوجوه، وأيدي الرجال تنال منها ما تنال في الخلوات، والطبول، والعيدان مرتفعات الأصوات، والصنجات، واستنابوا في الليل عن الخمر بالماء، والجلاب ظاهرا، وقيل: إنهم شربوا الخمر مستورا، وقربت المراكب بعضها من بعض، وعجز المنكر عن الإنكار إلّا بقلبه، ورفع الأمر إلى السلطان، فندب حاجبه في بعض الليالي، ففرّق منهم من وجده في الحالة الحاضرة، ثم عادوا بعد عوده، وذكر أنه وجد في بعض المعادي خمرا فأراقه.
ولما استهل شوّال وهو مطموع فيه تضاعف هذا المنكر، وفشت هذه الفاحشة، ونسأل الله العفو والعافية عن الكبائر، والتجاوز عما تسقط فيه المعاذر.
وقال: في سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة: كسر بحر أبي المنجا، وباشر العزيز كسره، وزاد النيل فيه أصبعا، وهي الأصبع الثامنة عشرة من ثماني عشر ذراعا، وهذا الحدّ يسمى عند أهل مصر: اللجة الكبرى، وقد تلاشى في زمننا أمر الاجتماع في يوم فتح سدّ بحر أبي المنجا، وقلّ الاحتفال به لشغل الناس بهتمّ المعيشة.
قصر الورد بالخاقانية: وكان من أيام منتزهات الخلفاء يوم قصر الورد بناحية الخاقانية، وهي قرية من قرى قليوب «1» ، كانت من خاص الخليفة، وبها جنان كثيرة(2/433)
للخليفة، وكانت من أحسن المنتزهات المصرية وكان بها عدّة دويرات يزرع فيها الورد، فيسير إليها الخليفة يوما، ويصنع له فيها قصر عظيم من الورد، ويخدم بضيافة عظيمة.
قال ابن الطوير عن الخليفة الآمر بأحكام الله: وعمل له بالخاقانية وكانت من خاص الخليفة، قصر من ورد فسار إليها يوما، وخدم بضيافة عظيمة، فلما استقرّ هناك، خرج إليه أمير يقال له: حسام الملك من الأمراء الذين كانوا مع المؤتمن أخي المأمون البطائحيّ، وتخاذلوا عنه، فوصل إلى الخاقانية، وهو لابس لأمة حربه والتمس المثول بين يديه يعني الخليفة، فاستقلّ ما جاء به في ذلك الوقت، مما ينافي ما فيه الخليفة من الراحة، والنزهة وحيل بينه وبين مقصوده، فقال لجماعة من حواشي الخليفة: أنتم منافقون على الخليفة إن لم أصل إليه، فإنه يعاقبكم بذلك، فأطلعوا الخليفة على أمره، وحليته بالسلاح، وقوله فأمر بإحضاره، فلما وقعت عينه عليه قال: يا مولانا، لمن تركت أعداءك؟ يعني الوزير المأمون البطائحيّ، وأخاه، وكان الآمر قد قبض عليهما، واعتقلهما هذا والعهد قريب غير بعيد أأمنت الغدر؟ فما أجابه إلّا وهو على الرهاويج من الخيل، فلم تمض ساعة إلّا، وهو بالقصر، فمضى إلى مكان اعتقال المأمون وأخيه، فزادهما وثاقا وحراسة، وفي أثناء ذلك، وصل ابن نجيب الدولة الذي كان سيره المأمون في وزارته إلى اليمن، لتحقيق نسبه أنه ولد من جارية نزار بن المستنصر، لما خرجت من القصر، وهي به حامل ويدعو إليه بقية الناس، وأحضر إلى القاهرة على جمل مشوّه، فأدخل خزانة البنود، وقتل هو والمأمون، وجماعة في تلك الليلة، وصلبوا ظاهر القاهرة.
بركة الجب: هي بظاهر القاهرة من بحريها، وتسميها العامّة في زمننا هذا الذي نحن فيه: بركة الحاج لنزول الحجاج بها عند مسيرهم من القاهرة إلى الحج في كل سنة، ونزولهم عند العود بها، ومنها يدخلون إلى القاهرة ومن الناس من يقول: جب يوسف، وهو خطأ، وإنما هي أرض جب عميرة، وعميرة هذا هو: ابن تميم بن جزء التجيبي من بني القرناء، نسبت هذه الأرض إليه، فقيل لها: أرض جب عميرة، ذكره ابن يونس، وكان من عادة الخليفة المستنصر بالله أبي تميم معدّ بن الظاهر بن الحاكم في كل سنة أن يركب على النجب مع النساء، والحشم إلى رجب عميرة هذا، وهو موضع نزهة بهيئة أنه خارج إلى الحج على سبيل اللعب والمجانة، وربما حمل معه الخمر في الروايا عوضا عن الماء، ويسقيه من معه، وأنشده مرّة الشريف أبو الحسن عليّ بن الحسين بن حيدرة العقيليّ في يوم عرفة:
قم فانحر الراح يوم النحر بالماء ... ولا تضح ضحى إلّا بصهباء
وادرك حجيج الندامى قبل نفرهم ... إلى منى قصفهم مع كل هيفاء
وعج على مكة الروحاء مبتكرا ... فطف بها حول ركن العود والنائي(2/434)
قال ابن دحية: فخرج في ساعته بروايا الخمر تزجي بنغمات حداة الملاهي وتساق، حتى أناخ بعين شمس في كبكبة من الفساق، فأقام بها سوق الفسوق على ساق، وفي ذلك العام أخذه الله تعالى، وأهل مصر بالسنين، حتى بيع في أيامه الرغيف: بالثمن الثمين، وعاد ماء النيل بعد عذوبته كالفسلين، ولم يبق بشاطئيه أحد بعد أن كانا محفوفين بحور عين.
وقال ابن ميسر: فلما كان في جمادى الآخرة من سنة: أربع وخمسين وأربعمائة، خرج المستنصر على عادته إلى بركة الجب، فاتفق أن بعض الأتراك جرّد سيفا في سكر منه على بعض عبيد الشراء، فاجتمع عليه طائفة من العبيد وقتلوه، فاجتمع الأتراك بالمستنصر، وقالوا: إن كان هذا عن رضاك، فالسمع والطاعة، وإن كان عن غير رضاك، فلا نرضى بذلك، فأنكر المستنصر ما وقع، وتبرّأ مما فعله العبيد، فتجمع الأتراك لحرب العبيد، وبرز بعضهم إلى بعض، وكان بين الفريقين قتال شديد على كوم شريك، انهزم فيه العبيد، وقتل منهم عدد كثير، وكانت أمّ المستنصر تعين العبيد، وتمدّهم بالأموال والأسلحة، فاتفق في بعض الأيام أن بعض الأتراك ظفر بشيء مما تبعث به أمّ المستنصر إلى العبيد، فأعلم بذلك أصحابه، وقد قويت شوكتهم بانهزام العبيد، فاجتمعوا بأسرهم، ودخلوا على المستنصر وخاطبوه في ذلك، وأغلظوا في القول، وجهروا بما لا ينبغي، وصار السيف قائما، والحروب متتابعة إلى أن كان من خراب مصر بالغلاء والفتن، ما كان، وكان من قبل المستنصر يتردّدون إلى بركة الجب.
قال المسبحيّ: ولاثنتي عشرة خلت من ذي القعدة سنة أربع وثمانين وثلثمائة، عرض العزيز بالله عساكره بظاهر القاهرة، عند سطح الجب فنصب له مضرب ديباج روميّ، فيه ألف ثوب بصفرية فضة، ونصبت له فازة مثقل، وقبة مثقل بالجوهر، وضرب لابنه الأمير أبي عليّ منصور مضرب آخر، وعرضت العساكر، وكان عدّتها مائة عسكري، وأقبلت أسارى الروم، وعدّتهم مائتان وخمسون، فطيف بهم، وكان يوما عظيما حسنا لم تزل العساكر تسير بين يديه من ضحوة النهار إلى صلاة المغرب، وما زالت بركة الجب منتزها للخلفاء والملوك من بني أيوب، وكان السلطان صلاح الدين يبرز إليها للصيد، ويقيم فيها الأيام، وفعل ذلك الملوك من بعده، واعتنى بها الملك الناصر محمد بن قلاون، وبنى بها أحواشا وميدانا كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى، وبركة الجب، وما يليها في درك بني صبرة، وهم ينسبون إلى صبرة ابن بطيح بن مغالة بن عجان بن عنب بن الكليب بن أبي عمرو بن دمية بن جدس بن أريش بن أراش بن جزيلة بن لخم، فهم أحد بطون لخم، وفيهم بنو جذام بن صبرة بن بصرة بن غنم بن غطفان بن سعد بن مالك بن حرام بن جذام أخي لخم.
المشتهى: وكان من مواضعهم التي أعدّت للنزهة المشتهى.(2/435)
ذكر الأيام التي كان الخلفاء الفاطميون يتخذونها أعيادا، ومواسم تتسع بها أحوال الرعية، وتكثر نعمهم
وكان للخلفاء الفاطميين في طول السنة: أعياد ومواسم، وهي: موسم رأس السنة، وموسم أوّل العام، ويوم عاشوراء، ومولد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ومولد عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، ومولد الحسن، ومولد الحسين عليهما السلام، ومولد فاطمة الزهراء عليها السلام، ومولد الخليفة الحاضر، وليلة أوّل رجب، وليلة نصفه، وليلة أوّل شعبان، وليلة نصفه، وموسم ليلة رمضان، وغرّة رمضان، وسماط رمضان، وليلة الختم، وموسم عيد الفطر، وموسم عيد النحر، وعيد الغدير، وكسوة الشتاء، وكسوة الصيف، وموسم فتح الخليج، ويوم النوروز، ويوم الغطاس، ويوم الميلاد، وخميس العدس، وأيام الركوبات.
موسم رأس السنة: وكان للخلفاء الفاطميين اعتناء بليلة أوّل المحرّم في كل عام لأنها أوّل ليالي السنة وابتداء أوقاتها، وكان من رسومهم في ليلة رأس السنة أن يعمل بمطبخ القصر عدّة كثيرة من الخراف المقموم والكثير من الرءوس المقموم، وتفرّق على جميع أرباب الرتب، وأصحاب الدواوين من العوالي والأدوان أرباب السيوف والأقلام مع جفان اللبن، والخبز، وأنواع الحلواء، فيعمّ ذلك سائر الناس من خاص الخليفة، وجهاته والأستاذين المحنكين إلى أرباب الضوء، وهم المشاعلية، ويتنقل ذلك في أيدي أهل القاهرة ومصر.
موسم أوّل العام: وكان لهم بأوّل العام عناية كبيرة فيه، يركب الخليفة بزيه المفخم، وهيئته العظيمة كما تقدّم، ويفرّق فيه دنانير الغرّة التي مرّ ذكرها عند ذكر دار الضرب، ويفرّق من السماط الذي يعمل بالقصر لأعيان أرباب الخدم من أرباب السيوف، والأقلام بتقرير مرتب، خرفان شواء، وزبادي طعام وجامات حلواء، وخبر وقطع منفوخة من سكر، وأرز بلبن، وسكر، فيتناول الناس من ذلك ما يجل وصفه، ويتبسطون بما يصل إليهم من دنانير الغرّة من رسوم الركوب كما شرح فيما تقدّم.
يوم عاشوراء «1» : كانوا يتخذونه يوم حزن تتعطل فيه الأسواق، ويعمل فيه السماط(2/436)
العظيم المسمى: سماط الحزن، وقد ذكر عند ذكر المشهد الحسينيّ، فانظره. وكان يصل إلى الناس منه شيء كثير، فلما زالت الدولة اتخذ الملوك من بني أيوب يوم عاشوراء، يوم سرور، يوسعون فيه على عيالهم، ويتبسطون في المطاعم، ويصنعون الحلاوات، ويتخذون الأواني الجديدة، ويكتحلون، ويدخلون الحمام جريا على عادة أهل الشام التي سنّها لهم الحجاج في أيام عبد الملك بن مروان، ليرغموا بذلك آناف شيعة عليّ بن أبي طالب، كرّم الله وجهه، الذين يتخذون يوم عاشوراء يوم عزاء، وحزن فيه على الحسين بن عليّ، لأنه قتل فيه، وقد أدركنا بقايا مما عمله بنو أيوب من اتخاذ يوم عاشوراء، يوم سرور، وتبسط وكلا الفعلين غير جيد، والصواب ترك ذلك، والاقتداء بفعل السلف فقط.
وما أحسن قول أبي الحسين الجزار الشاعر يخاطب الشريف شهاب الدين ناظر الأهراء، وكتب بها إليه ليلة عاشوراء عند ما أخر عنه ما كان من جاريه في الأهراء:
قل لشهاب الدين ذي الفضل الندي ... والسيد بن السيد بن السيد
أقسم بالفرد العليّ الصمد ... إن لم يبادر لنجاز موعدي
لأحضرنّ للهناء في غد ... مكحل العينين مخضوب اليد
يعرّض للشريف: يما يرمي به الأشراف من التشيع، وإنه إذا جاء بهيئة السرور في يوم عاشوراء، غاظه ذلك لأنه من أفعال الغضب، وهو من أحسن ما سمعته في التعريض فلله دره.
عيد النصر: وهو السادس عشر من المحرّم عمله: الخليفة الحافظ لدين الله، لأنه اليوم الذي ظهر فيه من محبسه، ويفعل فيه ما يفعل في الأعياد من الخطبة، والصلاة، والزينة، والتوسعة في النفقة، وكتب فيه أبو القاسم عليّ بن الصيرفيّ إلى بعض الخطباء:
عيد النصر، وهو أفضل الأعياد، وأسناها وأعلاها، وأدلها على تقصير الواصف إذا بلغ وتناهى، ونحن نأمرك أن تبرز في يوم الأحد السادس عشر من المحرّم سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة على الهيئة التي جرت العادة بمثلها في الأعياد، وتوعد بأن تقرأ على الناس الخطبة التي سيرناها إليك قرين هذا الأمر بشرح هذا اليوم وتفصيله، وذكر ما خصه الله به من تشريفه وتفضيله، وتعتمد في ذلك ما جرى الرسم فيه كل يعيد، وتنتهي فيه إلى الغاية التي ليس عليها مزيد، فاعلم هذا، واعمل به إن شاء الله تعالى.
المواليد الستة: كانت مواسم جليلة عمل الناس فيها، ميزان من ذهب، وفضة وخشكنانج، وحلواء كما مرّ ذلك.
ليالي الوقود الأربع: كانت من أبهج الليالي، وأحسنها، يحشر الناس لمشاهدتها من كل أوب، وتصل إلى الناس فيها أنواع من البرّ، وتعظم فيها ميزة أهل الجوامع والمشاهد، فانظره في موضعه تجده.(2/437)
موسم شهر رمضان: وكان لهم في شهر رمضان عدّة أنواع من البرّ منها: كشف المساجد، قال الشريف الجوّاني في كتاب النقط: كان القضاة بمصر إذا بقي لشهر رمضان ثلاثة أيام، طافوا يوما على المشاهد، والمساجد بالقاهرة ومصر، فيبدأون بجامع المقس، ثم بجوامع القاهرة، ثم بالمشاهد، ثم بالقرافة، ثم بجامع مصر، ثم بمشهد الرأس لنظر حصر ذلك، وقناديله، وعمارته، وإزالة شعثه، وكان أكثر الناس ممن يلوذ بباب الحكم، والشهود، والطفيليون يتعينون لذلك اليوم، والطواف مع القاضي لحضور السماط.
إبطال المسكرات: قال ابن المأمون: وكانت العادة جارية من الأيام الأفضلية في آخر جمادى الآخرة من كل سنة: أن تغلق جميع قاعات الخمارين بالقاهرة ومصر، وتختم ويحذر من بيع الخمر، فرأى الوزير المأمون لما ولي الوزارة بعد الأفضل بن أمير الجيوش، أن يكون ذلك في سائر أعمال الدولة، فكتب به إلى جميع ولاة الأعمال، وأن ينادى بأنه من تعرّض لبيع شيء من المسكرات، أو لشرائها سرّا، أو جهرا فقد عرّض نفسه لتلافها وبرئت الذمّة من هلاكها.
ومنها غرّة رمضان: وكان في أوّل يوم من شهر رمضان، يرسل لجميع الأمراء، وغيرهم من أرباب الرتب والخدم لكل واحد طبق، ولكل واحد من أولاده، ونسائه طبق فيه حلواء، وبوسطه صرّة من ذهب، فيعم ذلك سائر أهل الدولة، ويقال لذلك غرّة رمضان.
ومنها ركوب الخليفة في أوّل شهر رمضان: قال ابن الطوير: فإذا انقضى شعبان اهتمّ بركوب أوّل شهر رمضان، وهو يقوم مقام الرؤية، عند المتشيعين، فيجري أمره في اللباس والآلات، والأسلحة، والعرض والركوب والترتيب، والموكب والطريق المسلوكة، كما وصفناه في أوّل العام لا يختلّ بوجه، ويكتب إلى الولاة، والنوّاب والأعمال بمساطير مخلقة يذكر فيها ركوب الخليفة.
ومنها سماط شهر رمضان: وقد تقدّم ذكر السماط في قاعة الذهب من القصر.
سحور الخليفة: قال ابن المأمون: وقد ذكر أسمطة رمضان، وجلوس الخليفة بعد ذلك في الروشن إلى وقت السحور، والمقرئون تحته يتلون عشرا، ويطرّبون بحيث يشاهدهم الخليفة، ثم حضر بعدهم المؤذنون، وأخذوا في التكبير، وذكر فضائل السحور، وختموا بالدعاء، وقدّمت المخادّ للوعاظ، فذكروا فضائل الشهر، ومدح الخليفة والصوفيات، وقام كل من الجماعة للرقص، ولم يزالوا إلى أن انقضى من الليل أكثر من نصفه، فحضر بين يدي الخليفة أستاذ بما أنعم به عليهم، وعلى الفرّاشين، وأحضرت جفان(2/438)
القطائف، جرار الجلاب برسمهم، فأكلوا، وملأوا أكمامهم، وفضل عنهم ما تخطفه الفرّاشون، ثم جلس الخليفة في السدلا التي كان بها عند الفطور، وبين يديه المائدة معبأة جميعها من جميع الحيوان وغيره، والقعبة «1» الكبيرة الخاص مملوءة أوساطه بالهمة المعروفة، وحضر الجلساء، واستعمل كل منهم ما اقتدر عليه، وأومأ الخليفة بأن يستعمل من القعبة، فيفرّق الفرّاشون عليهم أجمعين وكل من تناول شيئا قام، وقبل الأرض، وأخذ منه على سبيل البركة لأولاده، وأهله لأنّ ذلك كان مستفاضا عندهم غير معيب على فاعله، ثم قدّمت الصحون الصينيّ مملوءة قطائف، فأخذ منها الجماعة الكفاية.
وقام الخليفة، وجلس بالباذهنج، وبين يديه السحورات المطيبات من لبئين رطب ومخض، وعدّة أنواع عصارات وافطلوات وسويق ناعم، وجريش جميع ذلك بقلوبات وموز، ثم يكون بين يديه صينية ذهب مملوءة سفوفا، وحضر الجلساء، وأخذ كل منهم في تقبيل الأرض، والسؤال بما ينعم عليه منه، فتناوله المستخدمون، والأستاذون وفرّقوه، فأخذه القوم في أكمامهم، ثم سلم الجميع وانصرفوا.
ومنها الختم في آخر رمضان: وكان يعمل في التاسع والعشرين منه.
قال ابن المأمون: ولما كان التاسع والعشرون من شهر رمضان، خرج الأمر بأضعاف ما هو مستقرّ للمقرئين، والمؤذنين في كل ليلة برسم السحور بحكم أنها ليلة ختم الشهر، وحضر الأجل الوزير المأمون في آخر النهار إلى القصر للفطور مع الخليفة، والحضور على الأسمطة على العادة، وحضر إخوته، وعمومته، وجميع الجلساء، وحضر المقرئون، والمؤذنون، وسلموا على عادتهم وجلسوا تحت الروشن، وحمل من عند معظم الجهات، والسيدات والمميزات من أهل القصور ثلاجي «2» ، وموكبيات مملوءة ملفوفة في عراضي «3» ديبقيّ، وجعلها أمام المذكورين، لتشملها بركة ختم القرآن الكريم، واستفتح المقرئون من الحمد إلى خاتمة القرآن تلاوة وتطريبا، ثم وقف بعد ذلك من خطب، فأسمع ودعا، فأبلغ ورفع الفرّاشون ما أعدّوه برسم الجهات، ثم كبر المؤذنون، وهللوا وأخذوا في الصوفيات إلى أن نثر عليهم من الروشن دنانير، ودراهم ورباعيات، وقدّمت جفان القطائف على الرسم مع البسندود، والحلواء فجروا على عادتهم، وملأوا أكمامهم، ثم خرج أستاذ من باب الدار الجديدة، بخلع خلعها على الخطيب، وغيره ودراهم تفرّق على الطائفتين من المقرئين والمؤذنين.(2/439)
ذكر مذاهبهم في أوّل الشهور
اعلم أن القوم كانوا شيعة، ثم غلوا حتى عدوّا من غلاة أهل الرفض، وللشيعة في أثناء الشهور عمل، أحسن ما رأيت فيه.
ما حكاه أبو الريحان محمد بن أحمد البيروتيّ في كتاب الآثار العافية عن القرون الخالية قال: وفي سنين من الهجرة نجمت ناجمة لأجل أخذهم بالتأويل إلى اليهود والنصارى، فإذا لهم جداول وحسبانات يستخرجون بها شهورهم، ويعرفون منها صيامهم، والمسلمون مضطرّون إلى رؤية الهلال، وتفقد ما اكتساه القمر من النور وجدوهم شاكين في ذلك مختلفين فيه، مقلدين بعضهم بعضا في عمل رؤية الهلال بطريق الزيجات، فرجعوا إلى أصحاب علم الهيئة، فألفوا زيجاتهم مفتتحة بمعرفة أوائل ما يراد من شهور العرب بصنوف الحسبانات، فظنوا أنها معمولة لرؤية الأهلة، فأخذوا بعضها، ونسبوه إلى جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام، وزعموا أنه سرّ من أسرار النبوّة، وتلك الحسبانات مبنية على حركات التدبير الوسطى دون المعدّلة أو معمولة على سنة القمر التي هي: ثلثمائة وأربعة، وخمسون يوما وخمس يوم، وسدس يوم، وأن ستة أشهر من السنة تامة، وستة أشهر ناقصة، وإن كل ناقص منها، فهو تال لتامّ، فلما قصدوا استخراج الصوم والفطر بها، خرجت قبل الواجب بيوم في أغلب الأحوال، فأوّلوا قوله عليه السلام: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» وقالوا: معنى صوموا لرؤيته: أي صوموا اليوم الذي يرى في عشيته، كما يقال: تهيؤا لاستقباله، فيقدّم التهيؤ على الاستقبال، قال: ورمضان لا ينقص عن ثلاثين يوما أبدا.
قافلة الحج: قال في كتاب الذخائر والتحف: إن المنفق على الموسم كان في كل سنة تسافر فيها القافلة: مائة ألف وعشرين ألف دينار منها: ثمن الطيب، والحلواء والشمع راتبا في كل سنة: عشرة آلاف دينار، ومنها: نفقة الوفد الواصلين إلى الحضرة: أربعون ألف دينار، ومنها في ثمن الحمايات، والصدقات، وأجرة الجمال، ومعونة من يسير من العسكرية، وكبير الموسم، وخدم القافلة، وحفر الآبار، وغير ذلك: ستون ألف دينار، وإنّ النفقة كانت في أيام الوزير البازوريّ: قد زادت في كل سنة، وبلغت إلى مائتي ألف دينار، ولم تبلغ النفقة على الموسم مثل ذلك في دولة من الدول.
موسم عيد الفطر: وكان لهم في موسم عيد الفطر عدّة وجوه من الخيرات منها: تفرقة الفطرة، وتفرقة الكسوة، وعمل السماط، وركوب الخليفة لصلاة العيد، وقد تقدّم ذكر ذلك كله فيما سبق.
عيد النحر: فيه تفرقة الرسوم من الذهب والفضة، وتفرقة الكسوة لأرباب الخدم من(2/440)
أهل السيف والقلم، وفيه ركوب الخليفة لصلاة العيد، وفيه تفرقة الأضاحي، كما مرّ ذلك مبينا في موضعه من هذا الكتاب.
عيد الغدير «1» : فيه تزويج الأيامى، وفيه الكسوة، وتفرقة الهبات لكبراء الدولة، ورؤسائها وشيوخها وأمرائها، وضيوفها والأستاذين المحنكين، والمميزين، وفيه النحر أيضا، وتفرقة النحائر على أرباب الرسوم، وعتق الرقاب، وغير ذلك كما سبق بيانه فيما تقدّم.
كسوة الشتاء والصيف: وكان لهم في كل من فصلي الشتاء، والصيف، كسوة تفرّق على أهل الدولة وعلى أولادهم، ونسائهم وقد مرّ ذكر ذلك.
موسم فتح الخليج «2» : وكانت لهم في موسم فتح الخليج وجوه من البرّ منها:
الركوب لتخليق المقياس، ومبيت القرّاء بجامع المقياس، وتشريف ابن أبي الردّاد بالخلع وغيرها، وركوب الخليفة إلى فتح الخليج، وتفرقة الرسوم على أرباب الدولة من الكسوة، والعين والمآكل والتحف، وقد تقدّم تفصيل ذلك.
ذكر النوروز
وكان النوروز القبطيّ في أيامهم من جملة المواسم، فتتعطل فيه الأسواق، ويقلّ فيه سعي الناس في الطرقات، وتفرّق فيه الكسوة لرجال أهل الدولة، وأولادهم ونسائهم والرسوم من المال، وحوائج النوروز.
قال ابن زولاق: وفي هذه السنة، يعني سنة ثلاث وستين وثلثمائة، منع المعز لدين الله من وقود النيران ليلة النوروز في السكك، ومن صب الماء يوم النوروز.
وقال: في سنة أربع وستين وثلثمائة: وفي يوم النوروز زاد اللعب بالماء ووقود النيران، وطاف أهل الأسواق، وعملوا فيلة، وخرجوا إلى القاهرة بلعبهم، ولعبوا ثلاثة أيام، وأظهروا السماجات والحلي في الأسواق، ثم أمر المعز بالنداء بالكشف، وأن لا توقد نار ولا يصب ماء، وأخذ قوم، فحبسوا وأخذ قوم، فطيف بهم على الجمال.
وقال ابن ميسر: في حوادث سنة ست عشرة وخمسمائة: وفيها أراد الآمر بأحكام الله أن يحضر إلى دار الملك في النوروز الكائن في جمادى الآخرة في المراكب على ما كان عليه الأفضل بن أمير الجيوش، فأعاد المأمون عليه أنه لا يمكن، فإنّ الأفضل لا يجري مجراه مجرى الخليفة، وحمل إليه من الثياب الفاخرة برسم النوروز للجهات، ما له قيمة جليلة.(2/441)
وقال ابن المأمون: وحل موسم النوروز في التاسع من رجب سنة سبع عشرة وخمسمائة، ووصلت الكسوة المختصة به من الطراز، وثغر الإسكندرية مع ما يبتاع من المذابّ المذهبة والحريري والسوادج، وأطلق جميع ما هو مستقرّ من الكسوات الرجالية، والنسائية، والعين والورق وجميع الأصناف المختصة بالموسم على اختلافها بتفصيلها، وأسماء أربابها، وأصناف النوروز البطيخ والرّمان وعراجين الموز، وأفراد البسر، وأقفاص التمر القوصيّ، وأقفاص السفرجل، وبكل الهريسة المعمولة من لحم الدجاج، ولحم الضأن، ولحم البقر من كل لون بكلة مع خبز برّ مارق.
قال: وأحضر كاتب الدفتر: الإثبابات بما جرت العادة به من إطلاق العين والورق، والكسوات على اختلافها في يوم النوروز، وغير ذلك من جميع الأصناف، وهو أربعة آلاف دينار، وخمسة عشر ألف درهم فضة، والكسوات عدّة كثيرة من شفق ديبقيّ مذهبات، وحريريات، ومعاجر «1» وعصائب مشاومات ملوّنات، وشفق لاذ مذهب وحريريّ، ومشفع وفوط، ديبقيّ حريريّ.
فأما العين والورق، والكسوات فذلك لا يخرج عمن تحوزه القصور، ودار الوزارة، والشيوخ والأصحاب والحواشي والمستخدمون، ورؤساء العشاريات، وبحارتها، ولم يكن لأحد من الأمراء على اختلاف درجاتهم في ذلك نصيب، وأما الأصناف من البطيخ والرمّان والبسر والتمر والسفرجل والعناب، والهرائس على اختلافها فيشمل ذلك جميع من تقدّم ذكرهم، ويشكرهم في ذلك جميع الأمراء أرباب الأطواق، والأقصاب وسائر الأماثل، وقد تقدّم شرح ذلك، فوقع الوزير المأمون على جميع ذلك بالإنفاق.
وقال القاضي الفاضل في تعليق المتجدّدات لسنة أربع وثمانين وخمسمائة: يوم الثلاثاء أربع عشر رجب يوم النوروز القبطيّ، وهو مستهل «2» توت، وتوت أوّل سنتهم، وقد كان بمصر في الأيام الماضية، والدولة الخالية يعني دولة الخلفاء الفاطميين من مواسم بطالاتهم، ومواقيت ضلالاتهم، فكانت المنكرات ظاهرة فيه، والفواحش صريحة في يومه ويركب فيه أمير موسوم: بأمير النوروز، ومعه جمع كثير، ويتسلط على الناس في طلب رسم رتبه على دور الأكابر بالجمل الكبار، ويكتب مناشير، ويندب مترسمين، كل ذلك يخرج مخرج الطير، ويقنع بالميسور من الهبات، ويتجمع المؤنثون، والفاسقات تحت قصر اللؤلؤة بحيث يشاهدهم الخليفة، وبأيديهم الملاهي، وترفع الأصوات، وتشرب الخمر والمزر شربا ظاهرا بينهم، وفي الطرقات، ويتراش الناس بالماء، وبالماء والخمر، وبالماء ممزوجا بالأقدار، فإن غلط مستور، وخرج من داره لقيه من يرشه، ويفسد ثيابه، ويستخف(2/442)
بحرمته، فإما فدى نفسه، وإما فضح، ولم يجر الحال في هذا النوروز على هذا، ولكن قد رش الماء في الحارات، وأحيى المنكر في الدور أرباب الخسارات.
وقال: في سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة: وجرى الأمر في النوروز على العادة من رش الماء، واستجدّ فيه هذا العام التراجم بالبيض، والتصافع بالأنطاع، وانقطع الناس عن التصرّف، ومن ظفر به في الطريق رش بمياه نجسة وخرق به.
قال مؤلفه رحمه الله تعالى: إنّ أوّل من اتخذ النوروز: جمشيد، ويقال في اسمه أيضا: جمشاد أحد ملوك الفرس الأول، ومعناه: اليوم الجديد، وللفرس فيه آراء، وأعمال على مصطلحهم غير أنه في غير هذا اليوم. وقد صنف عليّ بن حميرة الأصفهانيّ كتابا مفيدا في أعياد الفرس.
وذكر الحافظ أبو القاسم بن عساكر من طريق حماد بن سلمة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال: كان اليوم الذي ردّ الله فيه إلى سليمان بن داود خاتمه يوم النوروز، فجاءت إليه الشياطين بالتحف، وكانت تحفة الخطاطيف أن جاءت بالماء في مناقيرها فرشته بين يدي سليمان، فاتخذ الناس رش الماء من ذلك اليوم.
وعن مقاتل بن سليمان «1» قال: سمي ذلك اليوم: نيروزا، وذلك أنه وافق هذا اليوم الذي يسمونه النيروز، فكانت الملوك تتيمن بذلك اليوم، واتخذوه عيدا، وكانوا يرشون الماء في ذلك اليوم، ويهدون كفعل الخطاف، ويتيمنون بذلك، ولله درّ القائل:
كيف ابتهاجك بالنوروز يا سكني ... وكل ما فيه يحكيني وأحكيه
فناره كلهيب النار في كبدي ... وماؤه كتوالي دمعتي فيه
وقال آخر:
نورز الناس ونورز ... ت ولكن بدموعي
وذكت نارهم والن ... ار ما بين ضلوعي
وقال غيره:
ولما أتى النوروز يا غاية المنى ... وأنت على الإعراض والهجر والصدّ
بعثت بنار الشوق ليلا إلى الحشى ... فنورزت صبحا بالدموع على الخدّ
الميلاد: وهو اليوم الذي ولد فيه عبد الله، ورسوله المسيح عيسى ابن مريم صلّى الله عليه وسلّم، والنصارى تتخذ ليلة يوم الميلاد عيدا، وتعمله قبط مصر في التاسع والعشرين من كيهك «2» ،(2/443)
وما برح لأهل مصر به اعتناء، وكان من رسوم الدولة الفاطمية فيه: تفرقة الجامات المملوءة من الحلاوات القاهرية، والتمارد التي فيها السمك، وقرابات الجلاب، وطيافير الزلابية، والبوري، فيشمل ذلك أرباب الدولة أصحاب السيوف، والأقلام بتقرير معلوم على ما ذكره ابن المأمون في تاريخه.
الغطاس: ومن مواسم النصارى بمصر عمل الغطاس في اليوم الحادي عشر من طوبة «1» .
قال المسعوديّ في مروج الذهب: ولليلة الغطاس بمصر شأن عظيم عند أهلها، لا ينام الناس فيها، وهي ليلة إحدى عشرة من طوبة ولقد حضرت سنة ثلاثين وثلثمائة ليلة الغطاس بمصر، والإخشيد محمد بن طفج في داره المعروفة بالمختار في الجزيرة الراكبة على النيل، والنيل مطيف بها، وقد أمر فأسرج من جانب الجزيرة، وجانب الفسطاط ألف مشعل غير ما أسرج أهل مصر من المشاعل والشمع، وقد حضر النيل في تلك الليلة: مئو ألوف من الناس من المسلمين والنصارى منهم: في الزواريق، ومنهم في الدور الدانية من النيل، ومنهم على الشطوط لا يتناكرون كل ما يمكنهم إظهاره من المآكل، والمشارب، وآلات الذهب والفضة، والجواهر والملاهي والعزف والقصف، وهي أحسن ليلة تكون بمصر، وأشملها سرورا، ولا تغلق فيها الدروب، ويغطس أكثرهم في النيل، ويزعمون أنّ ذلك أمان من المرض، ونشرة للداء.
وقال المسبحيّ: في سنة ثمان وثمانين وثلثمائة: كان غطاس النصارى، فضربت الخيام والمضارب، والأشرعة في عدّة مواضع على شاطىء النيل، فنصبت أسرّة للرئيس فهد ابن إبراهيم النصرانيّ كاتب الأستاذ برجوان، وأوقدت له الشموع والمشاعل، وحضر المغنون، والملهون، وجلس مع أهله يشرب إلى أن كان وقت الغطاس، فغطس وانصرف.
وقال: في سنة خمس عشرة وأربعمائة، وفي ليلة الأربعاء رابع ذي القعدة كان غطاس النصارى، فجرى الرسم من الناس في شراء الفواكه، والضأن وغيره، ونزل أمير المؤمنين الظاهر لإعزاز دين الله بن الحاكم لقصر جدّه العزيز بالله بمصر، لنظر الغطاس، ومعه الحرم، ونودي أن لا يختلط المسلمون مع النصارى عند نزولهم إلى البحر في الليل، وضرب بدر الدولة الخادم الأسود متولي الشرطتين خيمة عند الجسر، وجلس فيها، وأمر الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله بأن توقد المشاعل والنار في الليل، فكان وقيدا كثيرا، وحضر الرهبان والقسوس بالصلبان، والنيران، فقسسوا هناك طويلا إلى أن غطسوا.
وقال ابن المأمون: إنه كان من رسوم الدولة أنه يفرّق على سائر أهل الدولة الترنج(2/444)
والنارنج والليمون المراكبي، وأطنان القصب، والسمك والبوري برسوم مقرّرة لكل واحد من أرباب السيوف والأقلام.
خميس العهد: ويسميه أهل مصر من العامّة: خميس العدس، ويعمله نصارى مصر قبل الفصح بثلاثة أيام ويتهادون فيه، وكان من جملة رسوم الدولة الفاطمية في خميس العدس ضرب خمسمائة دينار ذهبا، عشرة آلاف خرّوبة، وتفرقتها على جميع أرباب الرسوم كما تقدّم.
أيام الركوبات: وكان الخليفة يركب في كل يوم سبت وثلاثاء إلى منتزهاته بالبساتين، والتاج، وقبّة الهواء والخمس وجوه، وبستان البعل، ودار الملك، ومنازل العز، والروضة، فيعمّ الناس في هذه الأيام من الصدقات أنواع ما بين ذهب، ومآكل، وأشربة، وحلاوات، وغير ذلك كما تقدّم بيانه في موضعه من هذا الكتاب.
صلاة الجمعة: وكان الخليفة يركب في كل سنة ثلاث ركبات لصلاة الجمعة بالناس في جامع القاهرة الذي يعرف بالجامع الأزهر مرّة، وفي جامع الخطبة المعروف: بالجامع الحاكميّ مرّة، وفي جامع عمرو بن العاص بمصر أخرى، فينال الناس منه في هذه الجمع الثلاث، رسوم وهبات وصدقات، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى عند ذكر الجامع الأزهر.
ولله در الفقيه عمارة «1» اليمني فقد ضمن مرثيته أهل القصر جملا مما ذكر، وهي القصيدة التي قال ابن سعد فيها، ولم يسمع فيما يكتب في دولة بعد انقراضها أحسن منها:
رميت يا دهر كف المجد بالشلل ... وجيده بعد حسن الحلي بالعطل
سعيت في منهج الرأي العثور فإن ... قدرت من عثرات الدهر فاستقل
جدعت ما رنك الأقنى فأنفك لا ... ينفك ما بين قرع السنّ والخجل
هدمت قاعدة المعروف عن عجل ... سعيت مهلا أما تمشي على مهل
لهفي ولهف بني الآمال قاطبة ... على فجيعتها في أكرم الدول
قدمت مصر فأولتني خلائفها ... من المكارم ما أربى على الأمل
قوم عرفت بهم كسب الألوف ومن ... كمالها أنها جاءت ولم أسل
وكنت من وزراء الدست حين سما ... رأس الحصان يهاديه على الكفل
ونلت من عظماء الجيش مكرمة ... وخلة حرست من عارض الخلل(2/445)
يا عاذلي في هوى أبناء فاطمة ... لك الملامة إن قصرت في عذلي
بالله در ساحة القصرين وابك معي ... عليهما لا على صفين والجمل
وقل لأهليهما والله ما التحمت ... فيكم جراحي ولا قرحي بمندمل
ماذا عسى كانت الإفرنج فاعلة ... في نسل آل أمير المؤمنين علي
هل كان في الأمر شيء غير قسمة ما ... ملكتموا بين حكم السبي والنفل
وقد حصلتم عليها واسم جدّكم ... محمد وأبوكم غير منتقل
مررت بالقصر والأركان خالية ... من الوقود وكانت قبلة القبل
فملت عنها بوجهي خوف منتقد ... من الأعادي ووجه الودّ لم يمل
أسلت من أسفي دمعي غداة خلت ... رحابكم وغدت مهجورة السبل
أبكي على ما تراءت من مكارمكم ... حال الزمان عليها وهي لم تحل
دار الضيافة كانت أنس وافدكم ... واليوم أوحش من رسم ومن طلل
وفطرة الصوم إذ أضحت مكارمكم ... تشكو من الدهر حيفا غير محتمل
وكسوة الناس في الفصلين قد درست ... ورث منها جدد عندهم وبلي
وموسم كان في يوم الخليج لكم ... يأتي تجملكم فيه على الجمل
وأوّل العام والعيدين كم لكم ... فيهنّ من وبل جود ليس بالوشل
والأرض تهتز في يوم الغدير كما ... يهتز ما بين قصريكم من الأسل
والخيل تعرض في وشي وفي شية ... مثل العرائس في حلي وفي حلل
ولا حملتم قرى الأضياف من سعة الأط ... باق إلا على الأكتاف والعجل
وما خصصتم ببرّ أهل ملتكم ... حتى عممتم به الأقصى من الملل
كانت رواتبكم للذمتين ولل ... ضيف المقيم وللطاري من الرسل
ثم الطراز بتنيس الذي عظمت ... منه الصلات لأهل الأرض والدول
وللجوامع من إحسانكم نعم ... لمن تصدّر في علم وفي عمل
وربما عادت الدنيا فمعقلها ... منكم وأضحت بكم محلولة العقل
والله لا فاز يوم الحشر مبغضكم ... ولا نجا من عذاب الله غير ولي
ولا سقى الماء من حرّ ومن ظمأ ... من كف خير البرايا خاتم الرسل
ولا رأى جنة الله التي خلقت ... من خان عهد الإمام العاضد ابن علي
أئمتي وهداتي والذخيرة لي ... إذا ارتهنت بما قدّمت من عملي
تالله لم أوفهم في المدح حقهم ... لأنّ فضلهم كالوا بل الهطل
ولو تضاعفت الأقوال واتسعت ... ما كنت فيهم بحمد الله بالخجل
باب النجاة هم دنيا وآخرة ... وحبهم فهو أصل الدين والعمل
نور الهدى ومصابيح الدجى ومحل ... الغيث إن ربت الأنواء في المحل(2/446)
أئمة خلقوة نورا فنورهم ... من محض خالص نور الله لم يغل
والله ما زلت عن حبي لهم أبدا ... ما أخر الله لي في مدّة الأجل
وبسبب هذه القصيدة قتل عمارة رحمه الله، وتمحلت له الذنوب، انتهى ما ذكره رحمه الله تعالى.(2/447)
ذكر ما كان من أمر القصرين، والمناظر بعد زوال الدولة الفاطمية
ولما مات العاضد لدين الله في يوم عاشوراء سنة سبع وستين وخمسمائة، احتاط الطواشي «1» قراقوش على أهل العاضد، وأولاده، فكانت عدّة الأشراف في القصور: مائة وثلاثين، والأطفال خمسة وسبعين، وجعلهم في مكان أفرد لهم خارج القصر، وجمع عمومته، وعشيرته في إيوان بالقصر، واحترز عليهم، وفرّق بين الرجال والنساء لئلا يتناسلوا، وليكون ذلك أسرع لانقراضهم.
وتسلم السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب القصر، بما فيه من الخزائن والدواوين، وغيرها من الأموال والنفائس، وكانت عظيمة الوصف، واستعرض من فيه من الجواري والعبيد، فأطلق من كان حرّا، ووهب واستخدم باقيهم، وأطلق البيع في كل جديد، وعتيق، فاستمرّ البيع فيما وجد بالقصر، عشر سنين، وأخلى القصور من سكانها، وأغلق أبوابها، ثم ملكها أمراءه، وضرب الألواح على ما كان للخلفاء وأتباعهم من الدور والرباع، وأقطع خواصه منها، وباع بعضها.
ثم قسم القصور، فأعطى القصر الكبير: للأمراء فسكنوا فيه، وأسكن أباه نجم الدين أيوب بن شادي في قصر اللؤلؤة على الخليج، وأخذ أصحابه دور من كان ينسب إلى الدولة الفاطمية، فكان الرجل إذا استحسن دارا أخرج منها سكانها، ونزل بها.
قال القاضي الفاضل: وفي ثالث عشريه يعني ربيعا الآخر سنة سبع وستين: كشف حاصل الخزائن الخاصة بالقصر، فقيل: إن الموجود فيه مائة صندوق كسوة فاخرة من موشح، ومرصع وعقود ثمينة، ودخائر فخمة، وجواهر نفيسة، وغير ذلك من ذخائر جمة الخطر، وكان الكاشف بهاء الدين قراقوش، وبيان، وأخليت أمكنة من القصر الغربيّ سكن بها الأمير موسك والأمير أبو الهيجاء السمنيّ، وغيره من الغزو، ملئت المناظر المصونة عن الناظر، والمنتزهات التي لم يخطر ابتذالها في الخاطر، فسبحان(2/448)
مظهر العجائب، ومحدثها، ووارث الأرض ومورثها.
قال: ومقدار ما يحدس أنه خرج من القصر ما بين دينار ودرهم، ومصاغ وجوهر، ونحاس، وملبوس، وأثاث، وقماش، وسلاح ما لا يقي به ملك الأكاسرة، ولا تتصوّره الخواطر الحاضرة، ولا يشتمل على مثله الممالك العامرة، ولا يقدر على حسابه إلّا من يقدر على حساب الخلق في الآخرة.
وقال الحافظ جمال الدين يوسف اليغموريّ: وجدت بخط المهذب أبي طالب محمد ابن عليّ بن الخيميّ، حدّثني الأمير عضد الدين مرهف بن مجد الدين سويد الدولة بن منقذ:
أن القصر أغلق على ثمانية عشر ألف نسمة عشرة آلاف شريف وشريفة، وثمانية آلاف عبد، وخادم وأمة ومولدة وتربية.
وقال ابن عبد الظاهر عن القصر لما أخذه صلاح الدين، وأخرج من به كان فيه اثنا عشر ألف نسمة ليس فيهم فحل، إلّا الخليفة، وأهله، وأولاده ولما أخرجوا منه، أسكنوا في دار المظفر، وقبض أيضا صلاح الدين على الأمير داود بن العاضد، وكان وليّ العهد وينعت بالحامد لله، واعتقل معه جميع إخوته الأمير أبو الأمانة جبريل، وأبو الفتح، وابنه أبو القاسم، وسليمان بن داود، وعبد الظاهر حيدرة بن العاضد، وعبد الوهاب بن إبراهيم ابن العاضد، وإسماعيل بن العاضد، وجعفر بن أبي الظاهر بن جبريل، وعبد الظاهر بن أبي الفتوح بن جبريل بن الحافظ، وجماعة من بني أعمامه، فلم يزالوا في الاعتقال بدار الأفضل من حارة برجوان إلى أن انتقل الملك الكامل محمد بن العادل بن أبي بكر بن أيوب من دار الوزارة بالقاهرة إلى قلعة الجبل، فنقل معه ولد العاضد وإخوته وأولاد عمه، واعتقلهم بالقلعة، وبهامات العاضد، واستمرّ البقية حتى انقرضت الدولة الأيوبية، وملك الأتراك إلى أن تسلطن الملك الظاهر: ركن الدين بيبرس البندقداريّ.
فلما كان في سنة ستين وستمائة: أشهد على من بقي منهم، وهم كمال الدين إسماعيل بن العاضد وعماد الدين أبو القاسم ابن الأمير أبي الفتوح بن العاضد، وبدر الدين عبد الوهاب بن إبراهيم بن العاضد أن جميع المواضع التي قبليّ المدارس الصالحية من القصر الكبير، والموضع المعروف: بالتربة ظاهرا وباطنا بخط الخوخ السبع، وجميع الموضع المعروف بالقصر اليافعيّ، بالخط المذكور، وجميع الموضع المعروف بسكن أولاد شيخ الشيوخ، وغيرهم من القصر الشارع بابه قبالة دار الحديث النبويّ الكاملية، وجميع الموضع المعروف بالقصر الغربيّ، وجميع الموضع المعروف: بدار الفطرة بخط المشهد الحسينيّ، وجميع الموضع المعروف: بدار الضيافة بحارة برجوان، وجميع الموضع:
المعروف باللؤلؤة، وجميع قصر الزمرّذ، وجميع البستان الكافوريّ: ملك لبيت المال المولويّ السلطانيّ الملكيّ الظاهريّ من وجه صحيح شرعيّ لا رجعة لهم فيه، ولا لواحد(2/449)
منهم في ذلك ولا في شيء منه، ولا مثوبة بسبب يد، ولا ملك، ولا وجه من الوجوه كلها، خلا ما في ذلك من مسجد لله تبارك وتعالى أو مدفن لآبائهم، وورخ ذلك الإشهاد بثالث عشر ربيع الأوّل سنة ستين وستمائة، وأثبت على قاضي القضاة الصاحب تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعزّ الشافعي رحمه الله تعالى.
وتقرّر مع المذكورين أن مهما كان قبضوه من أثمان بعض الأماكن المذكورة التي عاقد عليها وكلاؤهم، واتصلوا إليه يحاسبوا به من جملة ما يحرز ثمنه عند وكيل بيت المال، وقبضت أيدي المذكورين عن التصرّف في الأماكن المذكورة وغيرها، ورسم ببيعها فباعها وكيل بيت المال كمال الدين ظافر أوّلا فأوّلا، ونقضت شيئا شيئا، وبنى في أماكنها ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
واشترى قاعة السدرة بجوار المدرسة، والتربة الصالحية قاضي القضاة شمس الدين محمد بن إبراهيم «1» بن عبد الواحد بن عليّ بن مسرور المقدسيّ الحنبليّ، مدرس الحنابلة بالمدرسة الصالحية: بألف وخمسة وسبعين دينارا في رابع جمادى الآخرة سنة ستين وستمائة من كمال الدين ظافر بن الفقيه نصر وكيل بيت المال، ثم باعها المذكور للملك الظاهر بيبرس في حادي عشري جمادى الآخرة المذكورة، وقاعة السدرة هذه، قد صارت هي، وقاعة الخيم أصل المدرسة الظاهرية الركنية البيبرسية البندقدارية.
قال القاضي الفاضل: وفي يوم الاثنين سادس شهر رجب، يعني من سنة أربع وثمانين وخمسمائة، ظهر تسحب رجلين من المعتقلين في القصر أحدهما من أقارب المستنصر، والآخر من أقارب الحافظ، وأكبرهما سنا كان معتقلا بالإيوان حدث به مرض، وأثخن فيه، ففك حديده، ونقل إلى القصر الغربيّ في أوائل سنة ثلاث وثمانين، واستمرّ لما به، ولم يستقل من المرض، وطلب ففقد، واسمه: موسى بن عبد الرحمن أبي حمزة بن حيدرة بن أبي الحسن أخي الحافظ، واسم الآخر: موسى بن عبد الرحمن بن أبي محمد بن أبي اليسر بن محسن بن المستنصر، وكان طفلا في وقت الكائنة بأهله، وأقام بالقصر الغربيّ مع من أسر به إلى أن كبر وشب.
قال: وذكر أن القصر الغربيّ قد استولى عليه الخراب، وعلا على جدرانه التشعث، والهدم، وإنه يجاور اصطبلات فيها جماعة من المفسدين، وربما تسلق إليه للتطرّق للنساء المعتقلات، والمتسلق منه إذا قويت نفسه على التسحب لم تكن عقلته في القصر المذكور مانعة من التسحب.(2/450)
قال: وعدد من بقي من هذه الذرية بدار المظفر والقصر الغربيّ والإيوان: مائتان واثنان وخمسون شخصا، ذكور ثمانية وتسعون، وإناث مائة وأربعة وخمسون، تفصيله المقيمون بدار المظفر: أحد وثلاثون ذكور، أحد عشر كلهم أولاد العاضد لصلبه، أناث عشرون: بنات العاضد خمسة، إخوته أربع، جهات العاضد أربع، بنات الحافظ ثلاث، جهات يوسف ابنه وجبريل ابن عمه أربع، المعتلقون بالإيوان خمسة وخمسون رجلا منهم الأمير أبو الظاهر بن جبريل بن الحافظ، المقيمون بالقصر الغربيّ: مائة وستة وستون شخصا ذكور اثنان وثلاثون، أكبرهم: عمره عشرون سنة، وأصغرهم عمره سبع عشرة سنة، إناث: مائة وأربع، وثلاثون: بنات أربع وستون، أخوات وعمات وزوجات سبعون.
قال: وفي جمادي الآخرة سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، كانت عدّة من في دار المظفر بحارة برجوان، والقصر الغربيّ، والإيوان من أولاد العاضد، وأقاربه، ومن معهم مضافا إليهم ثلثمائة واثنتين وسبعين نفسا. دار المظفر، أحرار ومماليك: مائة وست وستون نفسا، القصر الغربيّ: أحرار مائة وأربعون نفسا، الإيوان: تسعة وسبعون رجلا بالغون، وأما منازل العز، فاشتراها الملك المظفر تقيّ الدين عمر بن شاهنشاه بن نجم الدين أيوب بن شادي في نصف شعبان سنة: ست وستين وخمسمائة، وجعلها مدرسة للفقهاء الشافعية، واشترى الروضة، وجعلها وقفا على المدرسة المذكورة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
تم الجزء الثاني، ويليه الجزء الثالث وأوله: «ذكر حارات القاهرة وظواهرها»(2/451)
الجزء الثالث
ذكر حارات القاهرة وظواهرها
بسم الله الرّحمن الرّحيم قال ابن سيده: والحارة كلّ محلّة دنت منازلها، قال: والمحلّة منزل القوم. وبالقاهرة وظواهرها عدّة حارات وهى:
حارة بهاء الدين: هذه الحارة كانت قديما خارج باب الفتوح الذي وضعه القائد جوهر «1» عند ما اختطّ أساس القاهرة من الطوب النيء، وقد بقي من هذا الباب عقدة برأس حارة بهاء الدين «2» ، وصارت هذه الحارة اليوم من داخل باب الفتوح الذي وضعه أمير الجيوش بدر «3» الجمالي، وهو الموجود الآن. وحدّ هذه الحارة عرضا من خطّ باب الفتوح «4» الآن إلى خطّ حارة الورّاقة بسوق المرحلين، وحدّها طولا فيما وراء ذلك إلى خطّ باب القنطرة. وكانت هذه الحارة تعرف بحارة الريحانية والوزيرية «5» وهما طائفتان من طوائف عسكر الخلفاء الفاطميين، فإنّ بها كانت مساكنهم، وكان فيها لهاتين الطائفتين دور عظيمة وحوانيت عديدة؛ وقيل لها أيضا بين الحارتين، واتصلت العمارة إلى السور ولم تزل الريحانية والوزيرية بهذه الحارة إلى أن كانت واقعة السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب بالعبيد.(3/3)
ذكر واقعة العبيد «1»
وسببها أنّ مؤتمن الخلافة جوهرا أحد الأستاذين المحنّكين بالقصر تحدّث في إزالة صلاح الدين يوسف بن أيوب من وزارة الخليفة العاضد لدين الله عندما ضايق أهل القصر وشدّد عليهم واستبدّ بأمور الدولة وأضعف جانب الخلافة وقبض على أكابر أهل الدولة، فصار مع جوهر عدّة من الأمراء المصريين والجند. واتفق رأيهم أن يبعثوا إلى الفرنج ببلاد الساحل يستدعونهم إلى القاهرة، حتّى إذا خرج صلاح الدين لقتالهم بعسكر ثاروا وهم بالقاهرة، واجتمعوا مع الفرنج على إخراجه من مصر.
فسيروا رجلا إلى الفرنج وجعلوا كتبهم التي معه في نعل، وحفظت بالجلد مخافة أن يفطن بها، فسار الرجل إلى البئر البيضاء قريبا من بلبيس «2» ، فإذا بعض أصحاب «3» صلاح الدين هناك، فأنكر أمر الرجل من أجل أنّه جعل النعلين في يده، ورآهما وليس فيهما أثر المشي، والرجل رثّ الهيئة؛ فارتاب وأخذ النعلين وشقّهما، فوجد الكتب ببطنهما، فحمل الرجل والكتب إلى صلاح الدين، فتتبّع خطوط الكتب حتّى عرفت، فإذا الذي كتبها من اليهود الكتّاب، فأمر بقتله، فاعتصم بالإسلام وأسلم، وحدّثه الخبر. فبلغ ذلك مؤتمن الخلافة، فاستشعر الشرّ وخاف على نفسه، ولزم القصر وامتنع من الخروج منه، فأعرض صلاح الدين عن ذلك جملة، وطال الأمد؛ فظنّ الخصيّ أنه قد أهمل أمره، وشرع يخرج من القصر. وكانت له منظرة بناها بناحية الخرقانية في بستان، فخرج إليها في جماعة. وبلغ ذلك صلاح الدين، فأنهض إليه عدّة هجموا عليه وقتلوه في يوم الأربعاء لخمس بقين من ذي القعدة سنة أربع وستّين وخمسمائة، واحتزوا رأسه وأتوا بها إلى صلاح الدين، فاشتهر ذلك بالقاهرة وأشيع، فغضب العسكر «4» المصريّ، وثاروا بأجمعهم في سادس عشريّة، وقد انضمّ إليهم عالم عظيم من الأمراء والعامّة حتّى صاروا ما ينيف على خمسين ألفا، وساروا إلى دار الوزارة- وفيها يومئذ ساكنا بها صلاح الدين- وقد استعدّوا بالأسلحة، فبادر شمس الدولة فخر الدين توران شاه أخو صلاح الدين، وصرخ في عساكر الغزّ، وركب صلاح الدين وقد اجتمع إليه طوائف من أهله وأقاربه وجميع الغزّ ورتبهم، ووقفت الطائفة الريحانية والطائفة الجيوشية والطائفة الفرحية وغيرهم من الطوائف السودانية ومن انضمّ إليهم بين القصرين، فثارت الحروب بينهم وبين صلاح الدين، واشتدّ الأمر وعظم الخطب حتّى لم يبق إلا هزيمة صلاح الدين وأصحابه. فعند ذلك أمر توران شاه بالحملة على(3/4)
السودان، فقتل فيها أحد مقدّميهم، فانكفّ بأسهم قليلا، وعظمت حملة الغزّ عليهم، فانكسروا إلى باب الذهب، ثمّ إلى باب الزهومة «1» ، وقتل حينئذ عدّة من الأمراء المصريين وكثير ممّن عداهم.
وكان العاضد في هذه الوقعة يشرف من المنظرة، فلمّا رأى أهل القصر كسرة السودان وعساكر مصر رموا على الغزّ من أعلى القصر بالنشّاب والحجارة حتّى أنكوا فيهم، وكفّوهم عن القتال، وكادوا ينهزمون؛ فأمر حينئذ صلاح الدين النفّاطين بإحراق المنظرة، فأحضر شمس الدولة النفّاطين وأخذوا في تطييب قارورة النفط وصوّبوا بها على المنظرة التي فيها العاضد، فخاف العاضد على نفسه، وفتح باب المنظرة زعيم الخلافة أحد الأستاذين، وقال بصوت عال: أمير المؤمنين يسلّم على شمس الدولة ويقول: دونكم والعبيد الكلاب، أخرجوهم من بلادكم.
فلمّا سمع السودان ذلك ضعفت قلوبهم وتخاذلوا، فحمل عليهم الغزّ فانكسروا، وركب القوم أقفيتهم إلى أن وصلوا إلى السيوفيين «2» ، فقتل منهم كثير وأسر منهم كثير وامتنعوا هناك على الغزّ بمكان، فأحرق عليهم. وكان في دار الأرمن التي كانت قريبا من بين القصرين خلق عظيم من الأرمن كلّهم رماة لهم جار «3» في الدولة يجري عليهم، فعند ما قرب منهم الغزّ رموهم عن يد واحدة حتّى امتنعوا عن أن يسيروا إلى العبيد، فأحرق شمس الدولة دارهم حتّى هلكوا حرقا وقتلا، ومرّوا إلى العبيد، فصاروا كلّما دخلوا مكانا أحرق عليهم وقتلوا فيه إلى أن وصلوا إلى باب زويلة، فإذا هو مغلوق، فحصروا هناك واستمرّ فيهم القتل مدّة يومين. ثمّ بلغهم أنّ صلاح الدين أحرق المنصورة «4» التي كانت أعظم حاراتهم، وأخذت عليهم أفواه السكك «5» ، فأيقنوا أنّهم قد أخذوا لا محالة، فصاحوا الأمان، فأمنوا- وذلك يوم السبت لليلتين بقيتا من ذي القعدة- وفتح لهم باب زويلة، فخرجوا إلى الجيزة، فعدا عليهم شمس الدولة في العسكر وقد قووا بأموال المهزومين وأسلحتهم، وحكّموا فيهم السيف حتى لم يبق منهم إلا الشريد؛ وتلاشى من هذه الواقعة أمر العاضد.
وكان من غرائب الاتّفاقات أن الدولة الفاطمية كان الذي افتتح لها بلاد مصر وبنى القاهرة جوهر القائد؛ والذي كان سببا في إزالة الدولة وخراب القاهرة جوهر المنعوت بمؤتمن الخلافة هذا. ثمّ لما استبدّ صلاح الدين يوسف بسلطنة الديار المصريّة بعد موت(3/5)
الخليفة العاضد «1» لدين الله سكن هذه الحارة الأمير الطواشيّ الخصيّ بهاء الدين قراقوش بن عبد الله الأسدي فعرفت به.
حارة برجوان: منسوبة إلى الأستاذ أبي الفتوح برجوان الخادم، وكان خصيّا أبيض تامّ الخلقة، ربّي في دار الخليفة العزيز «2» بالله، وولاه أمر القصور. فلمّا حضرته الوفاة وصّاه على ابنه الأمير أبي عليّ منصور، فلمّا مات العزيز بالله أقيم ابنه منصور «3» في الخلافة من بعده، وقام بتدبير الدولة أبو محمد الحسن بن عمّار الكتامي، فدبّر الأمور وبرجوان يناكده فيما يصدر عنه ويختصّ بطوائف من العسكر دونه إلى أن أفسد أمر ابن عمّار، فنظر برجوان في تدبير الأمور يوم الجمعة لثلاث بقين من رمضان سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، وصار الواسطة بين الحاكم وبين الناس، فأمر بجمع الغلمان ونهاهم عن التعرّض لأحد من الكتاميين والمغاربة، ووجّه إلى دار ابن عمّار، فمنع الناس عنها بعد أن كانوا قد أحاطوا بها وانتهبوا منها، وأمر أن يجرى لأصحاب الرسوم الرواتب جميع ما كان ابن عمّار قطعه، وأجرى لابن عمّار ما كان يجرى له في أيام العزيز بالله من الجرايات لنفسه ولأهله وحرمه، ومبلغ ذلك من اللحم والتوابل خمسمائة دينار في كلّ شهر يزيد عن ذلك أو ينقص عنه على قدر الأسعار، مع ما كان له من الفاكهة؛ وهو في كلّ يوم سلّة بدينار، وعشرة أرطال شمع بدينار ونصف، وحمل بلح. وجعل كاتبه أبا العلاء فهد بن إبراهيم النصراني، يوقّع عنه وينظر في قصص الرافعين وظلاماتهم، فجلس لذلك في القصر وصار يطالعه بجميع ما يحتاج إليه، ورتّب الغلمان في القصر وأمرهم بملازمة الخدمة وتفقّد أحوالهم، وأزال علل أولياء الدولة، وتفقّد أمور الناس وأزال ضروراتهم، ومنع الناس كافة من الترجّل له؛ فكان الناس يلقونه في داره، فإذا تكامل لقاؤهم ركبوا بين يديه إلى القصر ما عدا الحسين بن جوهر والقاضي ابن النعمان فقط، فإنهما كانا يتقدّمانه من دورهما إلى القصر حتّى أنّه لقّب كاتبه فهدا بالرئيس، فصار يخاطب بذلك ويكاتب به.
وكان برجوان يجلس في دهاليز القصر، ويجلس الرئيس فهد بالدهليز الأول يوقّع وينظر ويطالع برجوان ما يحتاج إليه ممّا يطالع به الحاكم، فيخرج الأمر بما يكون العمل به.
وترقّت أحوال برجوان إلى أن بلغ النهاية، فقصر عن الخدمة، وتشاغل بلذّاته، وأقبل على سماع الغناء وأكثر من الطرب؛ وكان شديد المحبّة في الغناء، فكان المغنّون من الرجال والنساء يحضرون داره فيكون معهم كأحدهم، ثمّ يجلس في داره حتّى يمضي صدر النهار(3/6)
ويتكامل جميع أهل الدولة وأرباب الأشغال على بابه، فيخرج راكبا ويمضي إلى القصر، فيمشي من الأمور ما يختار بغير مشاورة.
فلما تزايد الأمر وكثر استبداده تحرّد له الحاكم، ونقم عليه أشياء من تجرّئه عليه ومعاملته له بالإذلال وعدم الامتثال، منها أنّه استدعاه يوما وهو راكب معه، فصار إليه وقد ثنى رجله على عنق فرسه وصار باطن قدمه وفيه الخفّ قبالة وجه الحاكم، ونحو ذلك من سوء الأدب. فلما كان يوم الخميس سادس عشري شهر ربيع الآخر سنة تسعين وثلاثمائة، أنفذ إليه الحاكم عشيّة للركوب معه إلى المقياس «1» ، فجاء بعد ما تباطأ، وقد ضاق الوقت، فلم يكن بأسرع من خروج عقيق الخادم باكيا يصيح: قتل مولاي. وكان هذا الخادم عينا لبرجوان في القصر، فاضطرب الناس، وأشرف عليهم الحاكم، وقام زيدان صاحب «2» المظلّة فصاح بهم: من كان في الطاعة فلينصرف إلى منزله ويبكر إلى القصر المعمور.
فانصرف الجميع.
فكان من خبر قتل برجوان أنّه لما دخل إلى القصر كان الحاكم في بستان يعرف بدويرة التين والعنّاب ومعه زيدان، فوافاه برجوان بها وهو قائم، فسلّم ووقف، فسار الحاكم إلى أن خرج من باب الدويرة فوثب زيدان على برجوان وضربه بسكّين كانت معه في عنقه، وابتدره قوم كانوا قد أعدّوا للفتك به، فأثخنوه جراحة بالخناجر، واحتزّوا رأسه ودفنوه هناك. ثمّ إنّ الحاكم أحضر إليه الرئيس، فهدأ بعد العشاء الأخيرة وقال له: أنت كابني، وأمّنه وطمّنه، فكانت مدّة نظر برجوان في الوساطة سنتين وثمانية أشهر تنقص يوما واحدا، ووجد الحاكم في تركته مائة منديل يعني عمامة، كلّها شروب ملوّنة معمّمة على مائة شاشية، وألف سراويل دبيقية «3» بألف تكّة حرير أرمنيّ، ومن الثياب المخيطة والصحاح «4» والحليّ والمصاغ والطيب والفرش والصياغات الذهب والفضّة ما لا يحصى كثرة، ومن العين ثلاثة وثلاثين ألف دينار، ومن الخيل الركابيّة مائة وخمسين فرسا وخمسين بغلة، ومن بغال النقل ودواب الغلمان نحو ثلثمائة رأس، ومائة وخمسين سرجا، منها عشرون ذهبا؛ ومن الكتب شيء كثير. وحمل لجاريته من مصر إلى القاهرة رحل على ثمانين حمارا.
قال ابن خلكان: وبرجوان بفتح الباء الموحدة وسكون الراء وفتح الجيم والواو وبعد(3/7)
الألف نون هكذا وجدته مقيّدا بخطّ بعض الفضلاء. وقال ابن عبد الظاهر: ويسمى الوزغ، سماه به الحاكم.
حارة زويلة: قال ابن عبد «1» الظاهر: لما نزل القائد جوهر بالقاهرة اختطت كلّ قبيلة خطة عرفت بها، فزويلة بنت الحارة المعروفة بها والبئر التي تعرف ببئر زويلة في المكان الذي يعمل فيه الآن الروايا، والبابان «2» المعروفان ببابي زويلة. وقال ياقوت: زويلة بفتح الزاي وكسر الواو وياء ساكنة وفتح اللام: أربعة مواضع: الأوّل زويلة السودان وهي قصبة أعمال فزّان «3» في جنوب إفريقية مدينة كثيرة النخل والزرع. الثاني زويلة المهديّة، بلد كالربض للمهديّة اختطّه عبد الله الملقّب بالمهدي وأسكنه الرعيّة، وسكن هو بالمهديّة التي استجدّها، فكانت دكاكين الرعية وأمتعتهم بالمهديّة، ومنازلهم وحرمهم بزويلة، فكانوا يظلّون بالنهار في المهدية ويبيتون ليلا بزويلة. وزعم المهديّ أنه فعل بهم ذلك ليأمن غائلتهم، قال: أحول بينهم وبين أموالهم ليلا وبينهم وبين نسائهم نهارا. الثالث باب زويلة بالقاهرة من جهة الفسطاط الرابع حارة زويلة محلّة كبيرة بالقاهرة بينها وبين باب زويلة عدّة محال، سمّيت بذلك لأنّ جوهرا غلام المعزّ لما اختطّ محلّه بالقاهرة أنزل أهل زويلة «4» بهذا المكان فتسمّى بهم.
الحارة المحمودية «5» : الصواب في هذه الحارة أن يقال حارة المحمودية على الإضافة، فإنّها عرفت بطائفة من طوائف عسكر الدولة الفاطمية كان يقال لها الطائفة المحمودية، وقد ذكرها المسبّحي «6» في تاريخه مرارا قال: في سنة أربع وتسعين وخمسمائة، وفيها اقتتلت الطائفة المحمودية واليانسية. واشتبه أمر هذه الحارة على ابن عبد الظاهر، فلم يعرف نسبتها لمن وقال: لا أعلم في الدولة المصريّة من اسمه محمود إلا ركن الإسلام محمود بن أخت الصالح بن رزّيك صاحب التربة بالقرافة، اللهم إلا أن يكون محمود بن مصال الملكيّ الوزير. فقد ذكر ابن القفطيّ أنّ اسمه محمود، ومحمود صاحب المسجد بالقرافة، وكان في زمان السّري ابن الحكم قبل ذلك. وهذا وهم آخر، فإنّ ابن(3/8)
مصال الوزير اسمه سليمان، وينعت بنجم الدين.
ووقعت في هذه الحارة نكتة، قال القاضي الفاضل في متجدّدات سنة أربع وتسعين وخمسمائة، والسلطان يومئذ بمصر الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين، وكان في شعبان قد تتابع أهل مصر والقاهرة في إظهار المنكرات وترك الإنكار لها وإباحة أهل الأمر والنهي فعلها، وتفاحش الأمر فيها إلى أن غلا سعر العنب لكثرة من يعصره، وأقيمت طاحون بالمحموديّة لطحن حشيشة للبزر، وأفردت برسمه، وحميت بيوت المزر، وأقيمت عليها الضرائب الثقيلة؛ فمنها ما انتهى أمره في كلّ يوم إلى ستّة عشر دينارا، ومنع المزر «1» البيوتي ليتوفر الشراء من مواضع الحمي، وحملت أواني الخمر على رؤوس الأشهاد وفي الأسواق من غير منكر، وظهر من عاجل عقوبة الله تعالى وقوف زيادة «2» النيل عن معتادها وزيادة سعر الغلّة في وقت ميسورها.
حارة الجودرية: هذه الحارة عرفت أيضا بالطائفة الجودرية إحدى طوائف العسكر في أيام الحاكم بأمر الله على ما ذكره المسبّحي، وقال ابن عبد الظاهر: الجودريّة منسوبة إلى جماعة تعرف بالجودريّة اختطّوها وكانوا أربعمائة، منهم أبو عليّ منصور الجودريّ الذي كان في أيام العزيز بالله، وزادت مكانته في الأيام الحاكمية، فأضيفت إليه مع الأحباس «3» الحسبة «4» وسوق الرقيق والسواحل وغير ذلك، ولها حكاية سمعت جماعة يحكونها، وهي أنّها كانت سكن اليهود، والمعروفة بهم؛ فبلغ الخليفة الحاكم أنّهم يجتمعون بها في أوقات خلواتهم ويغنّون:
وأمّة قد ضلّوا ودينهم معتلّ ... قال لهم نبيّهم: نعم الإدام الخلّ
ويسخرون من هذا القول ويتعرّضون إلى ما لا ينبغي سماعه، فأتى إلى أبوابها وسدّها عليهم ليلا وأحرقها، فإلى هذا الوقت لا يبيت بها يهوديّ ولا يسكنها أبدا. وقد كان في الأيام العزيزيّة جودر الصقلبيّ، أيضا ضرب عنقه ونهب ماله في سنة ستّ وثمانين وثلثمائة.
حارة الوزيرية: هي أيضا تنسب إلى طائفة يقال لها الوزيرية من جملة طوائف العسكر، وكانت أوّلا تعرف بحارة بستان المصمودي وعرفت أيضا بحارة الأكراد. قال ابن عبد الظاهر: الوزيرية منسوبة إلى الوزير يعقوب «5» بن يوسف بن كلّس؛ وقال ابن الصيرفيّ(3/9)
والطائفة المنعوتة بالوزيرية إلى الآن منسوبة إليه، يعني الوزير يعقوب بن يوسف بن كلّس أبو الفرج. كان يهوديا من أهل بغداد، فخرج منها إلى بلاد الشام ونزل بمدينة الرملة، وأقام بها فصار فيها وكيلا للتجّار بها، واجتمع في قبله مال عجز عن أدائه، ففرّ إلى مصر في أيّام كافور الإخشيديّ، فتعلّق بخدمته. ووثب إليه بالمتجر، فباع إليه أمتعة أحيل بثمنها على ضياع مصر، فكثر لذلك تردّده على الريف، وعرف أخبار القرى؛ وكان صاحب حيل ودهاء ومكر ومعرفة مع ذكاء مفرط وفطنة، فمهر في معرفة الضياع حتّى كان إذا سئل عن أمر غلالها ومبلغ ارتفاعها وسائر أحوالها الظاهرة والباطنة أتى من ذلك بالغرض، فكثرت أمواله واتسعت أحواله، وأعجب به كافور لما خبر فيه من الفطنة وحسن السياسة فقال: لو كان هذا مسلما لصلح أن يكون وزيرا. فلمّا بلغه هذا عن كافور تاقت نفسه إلى الولاية وأحضر من علّمه شرائع الإسلام سرا، فلمّا كان في شعبان سنة ستّ وخمسين وثلثمائة دخل إلى الجامع بمصر وصلّى صلاة الصبح، وركب إلى كافور ومعه محمد بن عبد الله بن الخازن في خلق كثير، فخلع عليه كافور، ونزل إلى داره ومعه جمع كثير، وركب إليه أهل الدولة يهنئونه، ولم يتأخّر عن الحضور إليه أحد، فغصّ بمكانه الوزير أبو الفضل جعفر «1» بن الفرات، وقلق بسببه، وأخذ في التدبير عليه، ونصب الحبائل له حتّى خافه يعقوب، فخرج من مصر فارّا منه يريد بلاد المغرب في شوّال سنة سبع وخمسين وثلاثمائة. وقد مات كافور، فلحق بالمعزّ لدين الله أبي تميم معدّ، فوقع منه موقعا حسنا، وشاهد منه معرفة وتدبيرا، فلم يزل في خدمته حتّى قدم من المغرب إلى القاهرة في شهر رمضان سنة اثنين وستّين وثلثمائة، فقلّده في رابع عشر المحرّم سنة ثلاث وستين وثلاثمائة الخراج وجميع وجوه الأموال والحسبة والسواحل والأعشار والجوالي «2» والأحباس والمواريث والشرطتين وجميع ما يضاف إلى ذلك وما يطرأ في مصر وسائر الأعمال. وأشرك معه في ذلك كله عسلوج بن الحسن، وكتب لهما سجلا بذلك قرىء في يوم الجمعة على منبر جامع أحمد بن طولون فقبضت أيدي سائر العمّال والمتضمّنين، وجلس يعقوب وعسلوج في دار الإمارة في جامع أحمد بن طولون للنداء على الضياع وسائر وجوه الأموال، وحضر الناس للقبالات، وطالبا بالبقايا من الأموال ممّا على الناس من المالكين والمتقبّلين والعمّال، واستقصيا في الطلب، ونظرا في المظالم، فتوفّرت الأموال وزيد في الضياع، وتزايد الناس وتكاشفوا، أو امتنعا أن يأخذا إلا دينارا معزيا «3» ، فاتضّع الدينار الراضي «4» وانحطّ ونقص من صرفه أكثر من ربع(3/10)
دينار، فخسر الناس كثيرا من أموالهم في الدينار الأبيض والدينار الراضي، وكان صرف المعّزيّ خمسة عشر درهما ونصفا واشتدّ الاستخراج، فكان يستخرج في اليوم نيّف وخمسون ألف دينار معزّية، واستخرج في يوم واحد مائة وعشرون ألف دينار معزّية، وحصل في يوم واحد من مال تنّيس ودمياط الأشمونين أكثر من مائتي ألف دينار وعشرين ألف دينار، وهذا شيء لم يسمع قطّ بمثله في بلد.
فاستمرّ الأمر على ذلك إلى المحرّم سنة خمس وستّين وثلثمائة. فتشاغل يعقوب عن حضور ديوان الخراج، وانفرد بالنظر في أمور المعزّ لدين الله في قصره وفي الدور الموافق عليها، وبعد ذلك بقليل مات «1» المعزّ لدين الله في شهر ربيع الآخر منها وقام من بعده في الخلافة ابنه العزيز بالله أبو منصور نزار «2» ، ففوّض ليعقوب النظر في سائر أموره وجعله وزيرا له في أوّل المحرّم سنة سبع وستّين وثلثمائة. وفي شهر رمضان سنة ثمان وستّين لقبه بالوزير الأجلّ، وأمر أن لا يخاطبه أحد ولا يكاتبه إلّا به، وخلع عليه وحمل ورسم له في محرّم سنة ثلاث وسبعين وثلثمائة أن يبدأ له في مكاتباته باسمه على عنوانات الكتب النافذة عنه، وخرج توقيع العزيز بذلك. وفي هذه السنة اعتقل في القصر، وردّ الأمر إلى خير بن القاسم، فأقام معتقلا عدّة شهور ثم أطلق في سنة أربع وسبعين وحمل على عدّة خيول، وقرىء سجلّ بردّه إلى تدبير الدولة. ووهبه خمسمائة غلام من الناشئة وألف غلام من المغاربة ملّكه العزيز رقابهم، فكان يعقوب أوّل وزراء الخلفاء الفاطميين بديار مصر. فدبّر أمور مصر والشام والحرمين وبلاد المغرب وأعمال هذه الأقاليم كلّها من الرجال والأموال والقضاء والتدبر، وعمل له إقطاعا في كلّ سنة بمصر والشام مبلغها ثلثمائة ألف دينار، واتسعت دائرته وعظمت مكانته حتّى كتب اسمه على الطرز «3» ، وفي الكتب، وكان يجلس كلّ يوم في داره يأمر وينهي ولا ترفع إليه رقعة إلا وقّع فيها، ولا يسأل في حاجة إلا قضاها، ورتب في داره الحجّاب نوبا، وأجلسهم على مراتب وألبسهم الديباج، وقلّدهم السيوف، وجعل لهم المناطق «4» ، ورتب فرسين في داره للنوبة لا تبرح واقفة بسروجها ولجمها، لهم برد «5» ، ونصب في داره الدواوين، فجعل ديوانا للعزيزية فيه عدّة كتّاب، وديوانا للجيش فيه عدّة كتاب، وديوانا للأموال فيه عدّة كتّاب، وعدّة جهابذة «6» ، وديوانا للخراج، وديوانا(3/11)
للسجلات والإنشاء، وديوانا للمستغلّات «1» ، وأقام على هذه الدواوين زمانا، وجعل في داره خزانة للكسوة وخزانة للمال وخزانة للدفاتر وخزانة للأشربة، وعمل على كلّ خزانة ناظرا، وكان يجلس عنده في كلّ يوم الأطبّاء لينظروا في حال الغلمان ومن يحتاج منهم إلى علاج أو إعطاء دواء، ورتّب في داره الكتّاب والأطبّاء يقفون بين يديه، وجعل فيها العلماء والأدباء والشعراء والفقهاء والمتكلّمين وأرباب الصنائع، لكلّ طائفة مكان مفرد، وأجرى على كلّ واحد منهم الأرزاق، وألّف كتبا في الفقه والقراءات، ونصب له مجلسا في داره يحضره في كلّ يوم ثلاثاء، ويحضر إليه الفقهاء والمتكلّمون وأهل الجدل يتناظرون بين يديه. من تأليفه: كتاب في القراءات وكتاب في الأديان- وهو كتاب الفقه واختصره- وكتاب في آداب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتاب في علم الأبدان وصلاحها في ألف ورقة، وكتاب في الفقه ممّا سمعه من الإمام المعزّ لدين الله والإمام العزيز «2» بالله. وكان يجلس في يوم الجمعة أيضا ويقرأ مصنّفاته على الناس بنفسه، وفي حضرته القضاة والفقهاء والقرّاء وأصحاب الحديث والنّحاة والشهود، فإذا فرغ من قراءة ما يقرأ من مصنّفاته قام الشعراء ينشدون مدائحهم فيه. وكان في داره عدّة كتّاب ينسخون القرآن الكريم والفقه والطبّ وكتب الأدب وغيرها من العلوم، فإذا فرغوا من نسخها قوبلت وضبطت، وجعل في داره قرّاء وأئمة يصلّون في مسجد داره، وأقام بداره عدّة مطابخ لنفسه ولجلسائه ولغلمانه وحواشيه، وكان ينصب مائدة لخاصّته يأكل هو وخواصّه من أهل العلم ووجوه كتّابه وخواصّ غلمانه ومن يستدعيه عليها، وينصب عدّة موائد لبقيّة الحجّاب والكتّاب والحواشي. وكان إذا جلس يقرأ كتابه في الفقه الذي سمعه من المعزّ والعزيز لا يمنع أحد من مجلسه، فيجتمع عنده الخاص والعامّ، ورتّب عند العزيز بالله جماعة لا يخاطبون إلا بالقائد، وأنشأ عدّة مساجد ومساكن بمصر والقاهرة، وكان يقيم في شهر رمضان الأطعمة للفقهاء ووجوه الناس وأهل الستر والتعفّف ولجماعة كثيرة من الفقراء، وكان إذا فرغ الفقهاء والوجوه من الأكل معه يطاف عليهم بالطّيب. ومرض مرّة من علّة أصابت يده، فقال فيه عبد الله بن محمد بن أبي الجرع:
يد الوزير هي الدنيا فإن ألمت ... رأيت في كلّ شيء ذلك الألما
تأمّل الملك وانظر فرط علّته ... من أجله واسأل القرطاس والقلما
وشاهد البيض في الأغماد حائمة ... إلى العدا وكثيرا ما روين دما
وأنفس الناس بالشكوى قد اتّصلت ... كأنّما أشعرت من أجله سقما
هل ينهض المجد إلا أن يؤيّده ... ساق يقدّم في إنهاضه قدما
لولا العزيز وآراء الوزير معا ... تحيّفتنا خطوب تشعب الأمما(3/12)
فقل لهذا وهذا أنتما شرف ... لا أوهن الله ركنيه ولا انهدما
كلاكما لم يزل في الصالحات يدا ... مبسوطة ولسانا ناطقا وفما
ولا أصابكما أحداث دهركما ... ولا طوى لكما ما عشتما علما
ولا انمحت عنك يا مولاي عافية ... فقد محوت بما أوليتني العدما
وكان الناس يفتون بكتابه في الفقه، ودرّس فيه الفقهاء بجامع مصر، وأجرى العزيز بالله لجماعة فقهاء يحضرون مجلس الوزير أرزاقا في كلّ شهر تكفيهم، وكان للوزير مجلس في داره للنظر في رقاع المرافعين والمتظلّمين، ويوقع بيده في الرقاع، ويخاطب الخصوم بنفسه. وأراد العزيز بالله أن يسافر إلى الشام في زمن ابتداء الفاكهة، فأمر الوزير أن يأخذ الأهبة لذلك فقال: يا مولاي؛ لكلّ سفر أهبة على مقداره، فما الغرض من السفر؟ فقال:
إنّي أريد التفرّج بدمشق لأكل القراصيا «1» . فقال: السمع والطاعة. وخرج فاستدعى جميع أرباب الحمام وسألهم عمّا بدمشق من طيور مصر، وأسماء من هي عنده، وكانت مائة ونيّفا وعشرين طائرا، ثمّ التمس من طيور دمشق التي هي في مصر عدّة، فأحضرها وكتب إلى نائبه بدمشق يقول: إنّ بدمشق كذا وكذا طائرا، وعرّفه أسماء من هي عنده، وأمره بإحضارها إليه جميعها، وأن يصيب من القراصيا في كلّ كاغدة «2» ، ويشدّها على كلّ طائر منها ويسرّحها في يوم واحد، فلم يمض إلا ثلاثة أيّام أو أربعة حتّى وصلت الحمائم كلّها ولم يتأخر منها إلا نحو عشر، وعلى جناحها القراصيا، فاستخرجها من الكواغد، وعملها في طبق من ذهب، وغطّاها وبعث بها إلى العزيز بالله مع خادم، وركب إليه وقدّم ذلك وقال: يا أمير المؤمنين قد حضّرنا قبالك القراصيا ههنا، فإن أغناك هذا القدر وإلا استدعينا شيئا آخر، فعجب العزيز بالوزير وقال: مثلك يخدم الملوك يا وزير؛ واتفق أنه سابق العزيز بين الطيور، فسبق طائر الوزير يعقوب طائر العزيز، فشقّ ذلك على العزيز، ووجد أعداء الوزير سبيلا إلى الطعن فيه، فكتبوا إلى العزيز أنه قد اختار من كلّ صنف أعلاه ولم يترك لأمير المؤمنين إلا أدناه حتّى الحمام، فبلغ ذلك الوزير فكتب إلى العزيز:
قل لأمير المؤمنين الذي ... له العلى والمثل الثاقب
طائرك السابق لكنّه ... لم يأت إلّا وله حاجب
فأعجب العزيز ذلك وأعرض عما وشي به، ولم يزل على حال رفيعة وكلمة نافذة إلى أن ابتدأت به علّته يوم الأحد الحادي والعشرين من شوّال سنة ثمانين وثلثمائة، ونزل إليه العزيز بالله يعوده، وقال له: وددت أنّك تباع فابتاعك بمالي أو تفدى فأفديك بولدي، فهل من حاجة توصي بها يا يعقوب؟ فبكى وقبّل يده وقال: أمّا فيما يخصّني فأنت(3/13)
أرعى «1» بحقّي من أن أسترعيك إياه وأرأف على من أن أوصيك به، ولكنّي أنصح لك فيما يتعلّق بك وبدولتك سالم الروم «2» ما سالموك، واقنع من الحمدانية بالدعوة والشكر «3» ، ولا تبق على مفرج بن دعقل «4» إن عرضت لك فيه فرصة. وانصرف العزيز فأخذته السكتة، وكان في سياق الموت يقول: لا يغلب الله غالب، ثمّ قضى نحبه ليلة الأحد لخمس خلون من ذي الحجّة، فأرسل العزيز بالله إلى داره الكفن والحنوط، وتولّى غسله القاضي محمد بن النعمان وقال: كنت والله اغسل لحيته وأنا أرفق به خوفا أن يفتح عينه في وجهي.
وكفّن في خمسين ثوبا، ثلاثين مثقلا، يعني: منسوجا بالذهب، ووشي مذهبا، وشرب ديبقي مذهبا، وحقّة كافورا، وقارورتي مسك وخمسين منا ماء ورد؛ وبلغت قيمة الكفن والحنوط عشرة آلاف «5» دينار.
وخرج مختار الصقلبيّ وعليّ بن عمر العدّاس والرجال بين أيديهم ينادون لا يتكلّم أحد ولا ينطق، وقد اجتمع الناس فيما بين القصر ودار الوزير التي عرفت بدار الديباج، ثمّ خرج العزيز من القصر على بغلة والناس يمشون بين يديه وخلفه بغير مظلّة والحزن ظاهر عليه حتّى وصل إلى داره، فنزل وصلّى عليه، وقد طرح على تابوته ثوب مثقل، ووقف حتّى دفن بالقبّة التي كان بناها وهو يبكي، ثمّ انصرف. وسمع العزيز وهو يقول: واطول أسفي عليك يا وزير، والله لو قدرت أفديك بجميع ما أملك لفعلت. وأمر بإجراء غلمانه على عادتهم، وعتق جميع مماليكه، وأقام ثلاثا لا يأكل على مائدته ولا يحضرها من عادته الحضور، وعمل على قبره ثوبان مثقلان، وأقام الناس عند قبره شهرا، وغدا الشعراء إلى قبره، فرثاه مائة شاعر أجيزوا كلّهم، وبلغ العزيز أنّ عليه ستّة عشر ألف دينار دينا، فأرسل بها إلى قبره فوضعت عليه وفرّقت على أرباب الديون، وألزم القرّاء بالمقام على قبره، وأجرى عليهم الطعام، وكانت الموائد تحضر إلى قبره كلّ يوم مدّة شهر، يحضر نساء الخاصّة كلّ يوم ومعهنّ نساء العامّة، فتقوم الجواري بأقداح الفضّة والبلّور وملاعق الفضّة فيسقين النساء الأشربة والسويق «6» بالسكّر، ولم تتأخّر نائحة ولا لاعبة عن حضور القبر مدّة الشهر، وخلّف أملاكا وضياعا قياسير «7» ورباعا وعينا وورقا وأواني ذهبا وفضّة وجوهرا وعنبرا وطيبا وثيابا وفرشا ومصاحف وكتبا وجواري وعبيدا وخيلا وبغالا ونوقا وحمرا وإبلا(3/14)
وغلالا وخزائن ما بين أشربة وأطعمة قوّمت بأربعة آلاف ألف دينار سوى ما جهّز به ابنته وهو ما قيمته مائتا ألف دينار، وخلّف ثمانمائة حظيّة سوى جواري الخدمة، فلم يتعرّض العزيز لشيء ممّا يملكه أهله وجواريه وغلمانه، وأمر بحفظ جهاز ابنته إلى أن زوّجها وأجرى لمن في داره كلّ شهر ستمائة دينار للنفقة سوى الكسوة والجرايات وما يحمل إليهم من الأطعمة من القصر، وأمر بنقل ما خلّفه إلى القصر، فلمّا تمّ له من يوم وفاته شهر قطع الأمير منصور بن العزيز جميع مستغلّاته، وأقرّ العزيز جميع ما فعله الوزير وما ولّاه من العمّال على حاله، وأجرى الرسوم التي كان يجريها، وأقرّ غلمانه على حالهم وقال: هؤلاء صنائعي. وكانت عدّة غلمان الوزير أربعة آلاف غلام عرفوا بالطائفة الوزيريّة، وزاد العزيز أرزاقهم عمّا كانت عليه، وأدناهم، وإليهم تنسب الوزيريّة، فإنّها كانت مساكنهم. واتّفق أنّ الوزير عمّر قبّة أنفق عليها خمسة عشر ألف دينار، وآخر ما قال: لقد طال أمر هذه القبّة، ما هذه قبّة، هذه تربة. فكانت كذلك، ودفن تحتها، وموضع قبره اليوم المدرسة الصاحبيّة، واتّفق أنّه وجد في داره رقعة مكتوب فيها:
احذروا من حوادث الأزمان ... وتوقّوا طوارق الحدثان
قد أمنتم ريب الزمان ونمتم ... ربّ خوف مكمن في الأمان
فلمّا قرأها قال: لا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم، ولم يلبث بعدها إلا أياما يسيرة، ومرض فمات.
حارة الباطلية: عرفت بطائفة يقال لهم الباطلية، قال ابن عبد الظاهر: وكان المعزّ لما قسم العطاء في الناس جاءت طائفة فسألت عطاء فقيل لها: افرغ ما كان حاضرا، ولم يبق شيء؛ فقالوا: رحنا نحن في الباطل، فسمّوا الباطليّة، وعرفت هذه الحارة بهم. وفي سنة ثلاث وستّين وستّمائة احترقت حارة الباطليّة عند ما كثر الحريق في القاهرة ومصر، واتّهم النصارى بفعل ذلك، فجمعهم الملك الظاهر بيبرس، وحملت لهم الأحطاب الكثيرة والحلفاء، وقدّموا ليحرقوا بالنار، فتشفّع لهم الأمير فارس الدين أقطاي أتابك «1» العساكر على أن يلتزموا بالأموال التي احترقت وأن يحملوا إلى بيت المال خمسين ألف دينار فتركوا. وجرى في ذلك ما تستحسن حكايته، وهو أنّه قد جمع مع النصارى سائر اليهود، وركب السلطان ليحرقهم بظاهر القاهرة، وقد اجتمع الناس من كلّ مكان للتشفّي بحريقهم لما نالهم من البلاء فيما دهوا به من حريق الأماكن لا سيّما الباطليّة، فإنّها أتت النار عليها حتّى حرقت بأسرها. فلمّا حضر السلطان وقدم اليهود والنصارى ليحرقوا برز ابن الكازروني اليهوديّ- وكان صيرفيا- وقال للسلطان: سألتك بالله لا تحرقنا مع هؤلاء الكلاب الملاعين(3/15)
أعدائنا وأعدائكم، احرقنا ناحية وحدنا؛ فضحك السلطان والأمراء، وحينئذ تقرّر الأمر على ما ذكر، فندب لاستخراج المال منهم الأمير سيف الدين بلبان المهراني، فاستخلص بعض ذلك في عدّة سنين، وتطاول الحال، فدخل كتّاب الأمراء مع مخادعيهم وتحيّلوا في إبطال ما بقي، فبطل في أيام السعيد «1» بن الظاهر. وكان سبب فعل النصارى لهذا الحريق حنقهم لمّا أخذ الظاهر من الفرنج أرسوف وقيسارية وطرابلس ويافا وأنطاكية. وما زالت الباطلية خرابا، والناس تضرب بحريقها المثل لمن يشرب الماء كثيرا فيقولون: كأنّ في باطنه حريق الباطليّة. ولما عمر الطواشي بهادر المقدّم داره بالباطليّة عمر فيها مواضع بعد سنة خمس وثمانين وسبعمائة.
حارة الروم: قال ابن عبد الظاهر: واختطّت الروم حارتين: حارة الروم الآن وحارة الروم الجوّانية، فلمّا ثقل ذلك عليهم قالوا: الجوّانية لا غير. والورّاقون إلى هذا الوقت يكتبون حارة الروم السفلى وحارة الروم العليا المعروفة اليوم بالجوّانية. وفي سابع عشر ذي الحجّة سنة تسع وتسعين وثلثمائة أمر الخليفة الحاكم بأمر الله بهدم حارة الروم فهدمت ونهبت.
حارة الديلم: عرفت بذلك لنزول الديلم الواصلين مع هفتكين «2» الشرابي حين قدم ومعه أولاد مولاه معزّ الدولة البويهي وجماعة من الدّيلم والأتراك في سنة ثمان وستّين وثلثمائة، فسكنوا بها فعرفت بهم. وهفتكين هذا يقال له الفتكين أبو منصور التركيّ الشرابيّ غلام معزّ الدولة أحمد بن بويه. ترقّى في الخدم حتّى غلب في بغداد على عزّ الدولة مختار بن معزّ الدولة، وكان فيه شجاعة وثبات في الحرب. فلمّا سارت الأتراك من بغداد لحرب الديلم جرى بينهم قتال عظيم اشتهر فيه هفتكين إلّا أنّ أصحابه انهزموا عنه وصار في طائفة قليلة، فولّى بمن معه من الأتراك وهم نحو الأربعمائة، فسار إلى الرحبة «3» وأخذ منها على البرّ إلى أن قرب من حوشبة إحدى قرى الشام، وقد وقع في قلوب العربان منه مهابة، فخرج إليه ظالم بن مرهوب «4» العقيلي من بعلبك، وبعث إلى أبي محمود إبراهيم بن جعفر أمير «5» دمشق من قبل الخليفة المعزّ لدين الله يعلمه بقدومه هفتكين من بغداد لإقامة الخطبة العباسيّة، وخوّفه منه، فأنفذ إليه عسكرا وسار إلى ناحية حوشبة يريد هفتكين، وسار بشارة الخادم من قبل أبي المعالي بن حمدان عونا لهفتكين فردّ ظالم إلى بعلبك من غير حرب، وسار بشارة بهفتكين إلى حمص، فحمل إليه أبو المعالي وتلقّاه وأكرمه. وكان قد ثار(3/16)
بدمشق جماعة من أهل الدّعارة والفساد وحاربوا عمّال السلطان واشتدّ أمرهم، وكان كبيرهم يعرف بابن الماورد، فلمّا بلغهم خبر هفتكين بعثوا إليه من دمشق إلى حمص يستدعونه، ووعدوه بالقيام معه على عساكر المعزّ وإخراجهم من دمشق ليلي عليهم، فوقع ذلك منه بالموافقة، وسار حتّى نزل بثنية العقاب «1» لأيام بقيت من شعبان سنة أربع وستّين وثلثمائة فبلغ عسكر المعزّ خبر الفرنج وأنّهم قد قصدوا طرابلس، فساروا بأجمعهم إلى لقاء العدوّ، ونزل هفتكين على دمشق من غير حرب، فأقام أياما ثم سار يريد محاربة ظالم، ففرّ منه، ودخل هفتكين بعلبكّ، فطرقه العدوّ من الروم والفرنج وانتهبوا بعلبك وأحرقوا، وذلك في شهر رمضان، وانتشروا في أعمال بعلبك والبقاع يقتلون ويأسرون ويحرقون، وقصدوا دمشق وقد التحق بها هفتكين، فخرج إليهم أهل دمشق وسألوهم الكفّ عن البلد، والتزموا بمال، فخرج إليهم هفتكين وأهدى إليهم، وتكلّم معهم في أنه لا يستطيع جباية المال لقوّة ابن الماورد وأصحابه، وأمر ملك الروم به، فقبض عليه وقيّده، وعاد فجبى المال من دمشق بالعنف، وحمل إلى ملك الروم ثلاثين ألف دينار، ورحل إلى بيروت ثمّ إلى طرابلس، فتمكن هفتكين من دمشق، وأقام بها الدعوة لأبي بكر عبد الكريم الطائع بن المطيع العباسيّ، وسيّر إلى العرب السرايا، فظفرت وعادت إليه بعده بمن أسرته من رجال العرب فقتلهم صبرا.
وكان قد تخوّف من المعزّ، فكاتب «2» القرامطة يستدعيهم من الأحساء للقدوم عليه لمحاربة عساكر المعزّ، وما زال بهم حتّى وافوا دمشق في سنة خمس وستّين، ونزلوا على ظاهرها ومعهم كثير من أصحاب هفتكين الذين كانوا قد تشتتوا في البلاد، فقوي بهم، ولقي القرامطة «3» ، وحمل إليهم وسرّ بهم، فأقاموا على دمشق أياما، ثمّ رحلوا نحو الرّملة وبها أبو محمود فلحق بيافا، ونزل القرامطة الرملة ونصبوا القتال على يافا حتّى كلّ الفريقان وسئموا جميعا من طول الحرب، وسار هفتكين على الساحل ونزل صيدا، وبها ظالم بن مرهوب العقيليّ وابن الشيخ من قبل المعزّ، فقاتلهم قتالا شديدا انهزم منه ظالم إلى صور، وقتل بين الفريقين نحو أربعة آلاف رجل، فقطع أيدي القتلى من عسكر المعزّ وسيّرها إلى دمشق، فطيف بها، ثمّ سار عن صيدا يريد عكّا وبها عسكر المعزّ، وكان قد مات المعزّ في ربيع الآخر سنة 365 هـ، وقام من بعده ابنه العزيز بالله، وسيّر جوهرا القائد في عسكر عظيم إلى قتال هفتكين والقرامطة، فبلغ ذلك القرامطة وهم على الرملة ووصل الخبر بمسيره إلى هفتكين وهو على عكّا، فخاف القرامطة وفرّوا عنها، فنزلها جوهر، وسار من القرامطة إلى(3/17)
الأحساء التي هي بلادهم جماعة وتأخّر عدّة، وسار هفتكين من عكّا إلى طبريّة وقد علم بمسير القرامطة وتأخّر بعضهم، فاجتمع بهم في طبرية واستعدّ للقاء جوهر، وجمع الأقوات من بلاد حوران والثنية، وأدخلها إلى دمشق وسار إليها، فتحصن بها، ونزل جوهر على ظاهر دمشق لثمان بقين من ذي القعدة فبنى على معسكره سورا، وحفر خندقا عظيما، وجعل له أبوابا، وجمع هفتكين الناس للقتال.
وكان قد بقي بعد ابن الماورد رجل يعرف بقسّام التراب، وصار في عدّة وافرة من الدعّار، فأعانه هفتكين وقوّاه وأمدّه بالسلاح وغيره، ووقعت بينهم وبين جوهر حروب عظيمة طويلة إلى يوم الحادي عشر من ربيع الأوّل سنة ستّ وستين وثلاثمائة، فاختلّ أمر هفتكين وهمّ بالفرار، ثمّ إنه استظهر ووردت الأخبار بقدوم الحسن بن أحمد القرمطيّ إلى دمشق، فطلب جوهر الصلح «1» على أن يرحل عن دمشق من غير أن يتبعه أحد، وذلك أنه رأى أمواله قد قلّت وهلك كثير ممّا كان في عسكره حتّى صار أكثر عسكره رجّالة وأعوزهم العلف، وخشي قدوم القرامطة، فأجابه هفتكين، وقد عظم فرحه واشتدّ سروره، فرحل في ثالث جمادى الأولى وجدّ في المسير وقد قرب القرامطة؛ فأناخ بطبريّة، فبلغ ذلك القرمطي فقصده، وقد سار عنها إلى الرملة فبعث إليه بسرية كانت لها مع جوهر وقعة قتل فيها جماعة من العرب، وأدركه القرمطي، وسار في أثره هفتكين فمات الحسن بن أحمد القرمطي بالرملة، وقام من بعده بأمر القرامطة ابن عمّه جعفر، ففسد ما بينه وبين هفتكين، ورجع عن الرملة إلى الأحساء، وناصب هفتكين القتال، وألح فيه على جوهر حتّى انهزم عنه وسار إلى عسقلان وقد غنم هفتكين ممّا كان معه شيئا يجلّ عن الوصف، ونزل على البلد محاصرا لها. وبلغ ذلك العزيز، فاستعدّ للمسير إلى بلاد الشام، فلما طال الأمر على جوهر راسل هفتكين حتّى يقرّر الصلح على مال يحمله إليه وأن يخرج من تحت سيف هفتكين، فعلق سيفه على باب عسقلان، وخرج جوهر ومن معه من تحته وساروا إلى القاهرة، فوجد العزيز قد برز يريد المسير، فسار معه، وكان مدّة قتال هفتكين لجوهر على ظاهر الرملة وفي عسقلان سبعة عشر شهرا. وسار العزيز بالله حتّى نزل الرملة، وكان هفتكين بطبريّة، فسار إلى لقاء العزيز ومعه أبو إسحاق وأبو طاهر أخو عز الدولة ابن بختيار بن أحمد بن بويه وأبو اللحاد مر زبان «2» عز الدولة ابن بختيار بن عز الدولة ابن بويه، فحاربوه، فلم يكن غير ساعة حتّى هزمت عساكر العزيز عساكر هفتكين وملكوه في يوم الخميس لسبع بقين من المحرّم سنة ثمان وستّين وثلثمائة، واستأمن أبو إسحاق ومرزبان بن بختيار وقتل أبو طاهر أخو عز الدولة ابن بختيار، وأخذ أكثر أصحابه أسرى، وطلب هفتكين في القتلى فلم يوجد.(3/18)
وكان قد فرّ وقت الهزيمة على فرس بمفرده، فأخذه بعض العرب أسيرا، فقدم به على مفرّج «1» بن دعقل بن الجراح الطائيّ وعمامته في عنقه، فبعث به إلى العزيز، فأمر به فشهر في العسكر، وطيف به على جمل، فأخذ الناس يلطمونه ويهزّون لحيته حتى رأى في نفسه العبر، ثم سار العزيز بهفتكين والأسرى إلى القاهرة، فاصطنعه ومن معه، وأحسن إليه غاية الإحسان، وأنزله في دار وواصله بالعطاء والخلع حتّى قال: لقد احتشمت من ركوبي مع مولانا العزيز بالله وتطوّفي إليه بما غمرني من فضله وإحسانه. فلما بلغ ذلك العزيز قال لعمه حيدرة: يا عمّ؛ والله إني أحبّ أن أرى النعم عند الناس ظاهرة، وأرى عليهم الذهب والفضة والجوهر ولهم الخيل واللباس والضياع والعقار، وأن يكون ذلك كلّه من عندي.
وبلغ العزيز أنّ الناس من العامّة يقولون: ما هذا التركيّ؟ فأمر به فشهّر في أجمل حال، ولمّا رجع من تطوّفه وهب له مالا جزيلا، وخلع عليه وأمر سائر الأولياء بأن يدعوه إلى دورهم، فما منهم إلا من عمل له دعوة، وقدم إليه وقاد بين يديه الخيول، ثمّ إن العزيز قال له بعد ذلك: كيف رأيت دعوات أصحابنا؟ فقال: يا مولانا، حسنة في الغاية وما فيهم إلا من أنعم وأكرم. فصار يركب للصيد والتفرّج، وجمع إليه العزيز بالله أصحابه من الأتراك والديلم، واستحجبه واختصّ به، وما زال على ذلك إلى أن توفّي في سنة اثنين وسبعين وثلثمائة، فاتّهم العزيز وزيره يعقوب بن كلّس أنه سمّه لأنّ هفتكين كان يترفّع عليه، فاعتقله مدّة ثمّ أخرجه.
حارة الأتراك: هذه الحارة تجاه الجامع الأزهر، وتعرف اليوم بدرب الأتراك، وكان نافذا إلى حارة الديلم، والورّاقون القدماء تارة يفردونها من حارة الديلم، وتارة يضيفونها اليها ويجعلونها من حقوقها، فيقولون تارة: حارة الديلم والأتراك، وتارة يقولون: حارتي الديلم والأتراك، وقيل لها حارة الأتراك لأنّ هفتكين لما غلب ببغداد سار معه من جنسه أربعمائة من الأتراك، وتلاحق به عند ورود القرامطة عليه بدمشق عدّة من أصحابه، فلما جمع لحرب العزيز بالله كان أصحابه ما بين ترك وديلم، فلما قبض عليه العزيز ودخل به إلى القاهرة في الثاني والعشرين من شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وستّين وثلثمائة كما تقدّم نزل الديلم مع أصحابهم في موضع حارة الديلم، ونزل هفتكين بأتراكه في هذا المكان، فصار يعرف بحارة الأتراك. وكانت مختلطة بحارة الديلم لأنهما أهل دعوة واحدة، إلا أنّ كلّ جنس على حدة لتخالفهما في الجنسيّة ثم قيل بعد ذلك درب الأتراك.(3/19)
حارة كتامة «1» : هذه الحارة مجاورة لحارة الباطليّة، وقد صارت الآن من جملتها.
كانت منازل كتامة بها عند ما قدموا من المغرب مع القائد جوهر، ثمّ مع العزيز، وموضع هذه الحارة اليوم حمام كواي وما جاورها مما وراء مدرسة ابن الغنام حيث الموضع المعروف بدرب ابن الأعسر إلى رأس الباطلية، وكانت كتامة هي أصل دولة الخلفاء الفاطميين.
ذكر أبي عبد الله الشيعي
هو الحسن «2» بن أحمد بن محمد بن زكريا الشيعي من أهل صنعاء اليمن، ولي الحسبة في بعض أعمال بغداد، ثمّ سار إلى ابن حوشب «3» باليمن، وصار من كبار أصحابه، وكان له علم وفهم وعنده دهاء ومكر، فورد على ابن حوشب موت الحلوانيّ داعي المغرب ورفيقه، فقال لأبي عبد الله الشيعي: إنّ أرض كتامة من بلاد المغرب قد خرّبها الحلوانيّ وأبو سفيان، وقد ماتا، وليس لها غيرك؛ فبادر فإنّها موطّأة ممهّدة لك. فخرج من اليمن إلى مكّة، وقد زوّده ابن حوشب بمال، فسأل عن حجّاج كتامة فأرشد إليهم واجتمع بهم، وأخفى عنهم قصده، وذلك أنه جلس قريبا منهم فسمعهم يتحدّثون بفضائل آل البيت فحدّثهم في ذلك وأطال، ثمّ نهض ليقوم فسألوه أن يأذن لهم في زيارته فأذن لهم، فصاروا يتردّدون إليه لما رأوا من علمه وعقله، ثمّ إنهم سألوه أين يقصد؟ فقال: أريد مصر، فسرّوا بصحبته، ورحلوا من مكّة وهو لا يخبرهم شيئا من خبره وما هو عليه من القصد. وشاهدوا منه عبادة وورعا وتحرّجا وزهادة، فقويت رغبتهم فيه واشتملوا على محبّته واجتمعوا على اعتقاده، وساروا بأسرهم خدما له. وهو في أثناء ذلك يستخبرهم عن بلادهم ويعلم أحوالهم ويفحص عن قبائلهم وكيف طاعتهم للسلطان بإفريقية، فقالوا له: ليس له علينا طاعة، وبيننا وبينه عشرة أيام، قال: أفتحملون السلاح؟ قالوا: هو شغلنا. وما برح حتّى عرف جميع ما هم عليه. فلمّا وصلوا إلى مصر أخذ يودّعهم، فشقّ عليهم فراقه وسألوه عن حاجته بمصر فقال: ما لي بها من حاجة، إلا أنّي أطلب التعليم بها. قالوا: فأمّا إذا كنت تقصد هذا فإنّ بلادنا أنفع لك وأطوع لأمرك، ونحن أعرف بحقّك؛ وما زالوا به حتّى أجابهم إلى المسير معهم، فساروا به إلى أن قاربوا بلادهم، وخرج إلى لقائهم أصحابهم، وكان عندهم حسّ كبير من التشيّع واعتقاد عظيم في محبّة أهل البيت كما قرّره الحلوانيّ، فعرّفهم القوم خبر(3/20)
أبي عبد الله، فقاموا بحقّ تعظيمه وإجلاله، ورغبوا في نزوله عندهم، واقترعوا فيمن يضيفه، ثمّ ارتحلوا إلى أرض كتامة فوصلوا إليها منتصف الربيع الأوّل سنة ثمان «1» وثمانين ومائتين، فما منهم إلا من سأله أن يكون منزله عنده، فلم «2» يوافق أحدا منهم وقال: أين يكون فجّ الأخبار؟ فعجبوا من ذلك ولم يكونوا قطّ ذكروه له منذ صحبوه «3» فدلّوه عليه، فقصده وقال: إذا حللنا به صرنا نأتي كلّ قوم منكم في ديارهم ونزورهم في بيوتهم؛ فرضوا جميعا بذلك. وسار إلى جيل ايلحان «4» وفيه فج الأخيار، فقال هذا فج الأخيار وما سمّي إلا بكم، ولقد جاء في الآثار «5» للمهديّ هجرة ينبو بها عن الأوطان ينصره فيها الأخيار من أهل ذلك الزمان، قوم اسمهم مشتقّ من الكتمان، ولخروجكم في هذا الفجّ سمّي فجّ الأخيار، فتسامعت به القبائل وأتته البربر من كلّ مكان، وعظم أمره حتى أنّ كتامة اقتتلت عليه مع قبائل البربر، وهو لا يذكر اسم المهدي ولا يعرّج عليه، فبلغ خبره إبراهيم بن الأغلب أمير إفريقية، فقال أبو عبد الله لكتامة: أنا صاحب النذر «6» الذي قال لكم أبو سفيان والحلوانيّ، فازدادت محبّتهم له وعظم أمره فيهم، وأتته القبائل من كلّ مكان، وسار إلى مدينة تاصروق «7» ، وجمع الخيل وصيّر أمرها للحسن بن هارون كبير كتامة، وخرج للحرب فظفر وغنم، وعمل على تاصروق خندقا، فرجعت إليه قبائل من البربر وحاربوه فظفر بهم، وصارت إليه أموالهم، ووالى الغزو فيهم حتّى استقام له أمرهم، فسار وأخذ مدائن «8» عدّة، فبعث إليه ابن الأغلب بعساكر كانت له معهم حروب عظيمة وخطوب عديدة وأنباء كثيرة آلت إلى غلب أبي عبد الله وانتشار أصحابه من كتامة في البلاد، فصار يقول: المهديّ يخرج في هذه الأيام ويملك الأرض، فيا طوبى لمن هاجر إليّ وأطاعني. وأخذ يغري الناس بابن الأغلب «9» ، ويذكر كرامات المهدي وما يفتح الله له، ويعدهم بأنّهم يملكون الأرض كلّها.
وسير إلى عبيد الله بن محمد «10» رجالا من كتامة ليخبروه بما فتح الله له وأنه ينتظره، فوافوا عبيد الله بسلمية من أرض حمص، وكان قد اشتهر بها وطلبه الخليفة المكتفي، ففرّ(3/21)
منه بابنه أبي القاسم وسار إلى مصر، وكان لهما قصص مع النوشزيّ «1» عامل مصر حتّى خلصا منه ولحقا ببلاد المغرب. وبلغ ابن الأغلب زيادة الله خبره مسير عبيد الله، فأزكى له العيون وأقام له الأعوان حتّى قبض عليه بسلجماسة، وكان عليها اليسع بن مدرار، وحبس بها هو وابنه أبو القاسم. وبلغ ذلك أبا عبد الله وقد عظم أمره، فسار وضايق زيادة الله بن الأغلب، وأخذ مدائنه شيئا بعد شيء، وصار فيما ينيف على مائتي ألف، وألحّ على القيروان حتّى فرّ زيادة الله إلى مصر، وملكها أبو عبد الله، ثم سار إلى رفادة فدخلها أوّل رجب سنة ست وتسعين ومائتين، وفرّق الدور على كتامة وبعث العمال إلى البلاد، وجمع الأموال ولم يخطب باسم أحد.
فلما دخل شهر رمضان سار من رفّادة «2» فاهتزّ لرحيله المغرب بأسره وخافته زنانة وغيرها، وبعثوا إليه بطاعتهم، وسار إلى سلجماسة «3» ، ففرّ منه اليسع بن مدرار واليها، ودخل البلد فأخرج عبيد الله وابنه من السجن وقال: هذا المهديّ الذي كنت أدعوكم إليه.
وأركبه هو وابنه ومشى بسائر رؤساء القبائل بين أيديهما وهو يقول: هذا مولاكم ويبكي من شدّة الفرح حتى وصل إلى فسطاط «4» ضرب له، فأنزل فيه وبعث في طلب اليسع فأدركه، وحمل إليه فضربه بالسياط وقتله، ثمّ سار المهدي إلى رفادة فصار بها في آخر ربيع الآخر سنة سبع وتسعين ومائتين.
ولما تمكّن قتل أبا عبد الله وأخاه في يوم الاثنين للنصف من جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين ومائتين، فكان هذا ابتداء أمر الخلفاء الفاطميين، وما زالت كتامة هي أهل الدولة مدّة خلافة المهدي عبيد الله وخلافة ابنه القاسم القائم بأمر الله وخلافة المنصور بنصر الله إسماعيل بن القاسم وخلافة معدّ المعز لدين الله ابن المنصور، وبهم أخذ ديار مصر لما سيّرهم إليها مع القائد جوهر «5» في سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، وهم أيضا كانوا أكابر من قدم معه من الغرب في سنة اثنين وستّين وثلثمائة. فلما كان في أيّام ولده العزيز «6» بالله نزار اصطنع الدّيلم والأتراك، وقدّمهم وجعلهم خاصّته، فتنافسوا وصار بينهم وبين كتامة تحاسد إلى أن مات العزيز «7» بالله، وقام من بعده أبو عليّ المنصور الملقّب بالحاكم بأمر الله، فقدّم(3/22)
ابن عمار «1» الكتامي وولّاه الوساطة وهي في معنى رتبة الوزارة، فاستبدّ بأمور الدولة وقدّم كتامة وأعطاهم، وحطّ من الغلمان الأتراك والديلم الذين اصطنعهم العزيز، فاجتمعوا إلى برجوان «2» وكان صقلبيا وقد تاقت نفسه إلى الولاية فأغرى المصطنعة بابن عمّار حتّى وضعوا منه، واعتزل عن الأمر، وتقلّد برجوان الوساطة، فاستخدم الغلمان المصطنعين في القصر، وزاد في عطاياهم وقوّاهم، ثمّ قتل الحاكم ابن عمّار وكثيرا من رجال دولة أبيه وجدّه، فضعفت كتامة وقويت الغلمان.
فلما مات الحاكم «3» وقام من بعده ابنه الظاهر لإعزاز دين الله علي، أكثر من اللهو ومال إلى الأتراك والمشارقة، فانحطّ جانب كتامة، وما زال ينقص قدرهم ويتلاشى أمرهم حتّى ملك المستنصر «4» بعد أبيه الظاهر، فاستكثرت أمّه من العبيد حتّى يقال إنهم بلغوا نحوا من خمسين ألف أسود، واستكثر هو من الأتراك، وتنافس كلّ منهما مع الآخر فكانت الحرب التي آلت إلى خراب مصر وزوال بهجتها إلى أن قدم «5» أمير الجيوش بدر الجمالي «6» من عكّا وقتل رجال الدولة وأقام له جندا وعسكرا من الأرمن، فصار من حينئذ معظم الجيش الأرمن، وذهبت كتامة وصاروا من جملة الرعيّة بعد ما كانوا وجوه الدولة وأكابر أهلها.
حارة الصالحية: عرفت بغلمان الصالح طلائع «7» بن رزبك، وهي موضعان:
الصالحيّة الكبرى والصالحيّة الصغرى، وموضعهما فيما بين المشهد الحسيني ورحبة الأيدمري وبين البرقيّة، وكانت من الحارات العظيمة، وقد خربت الآن وباقيها متداع إلى الخراب. قال ابن عبد الظاهر: الحارة الصالحية منسوبة إلى الصالح طلائع بن رزيك، لأنّ غلمانه كانوا يسكنونها، وهي مكانان، وللصالح دار بحارة الديلم كانت سكنه قبل الوزارة، وهي باقية إلى الآن وبها بعض ذرّيته، والمكان المعروف بخوخة الصالح نسبة إليه.
حارة البرقية: هذه الحارة عرفت بطائفة من طوائف العسكر في الدولة الفاطمية، يقال(3/23)
لها الطائفة البرقية، ذكرها المسبّحي «1» . قال ابن عبد الظاهر: ولما نزل بالقاهرة- يعني المعزّ لدين الله- اختطّت كلّ طائفة خطة عرفت بها، قال: واختطت جماعة من أهل برقة الحارة المعروفة بالبرقية، انتهى. وإلى هذه الحارة تنسب الأمراء البرقية.
ذكر الأمراء البرقيّة ووزارة ضرغام
وذلك أنّ الصالح طلائع بن رزيك كان قد أنشأ في وزارته أمراء يقال لهم البرقيّة، وجعل ضرغاما مقدّمهم، فترقّى حتّى صار صاحب الباب، وطمع في شاور السعدي لما ولي الوزارة بعد رزيك بن الصالح طلائع بن رزيك، فجمع رفقته وتخوّف شاور منه، وصار العسكر فرقتين: فرقة مع ضرغام وفرقة مع شاور. فلمّا كان بعد تسعة أشهر من وزارة شاور ثار ضرغام في رمضان سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، وصاح على شاور فأخرجه من القاهرة، وقتل ولده الأكبر المسمّى بطيّئ، وبقي شجاع المنعوت بالكامل، وخرج شاور من القاهرة يريد الشام كما فعل الوزير رضوان بن ولخشي فإنه كان رفيقا له في تلك الكرّة، واستقرّ ضرغام في وزارة «2» الخليفة العاضد لدين الله بعد شاور، وتلقّب بالملك المنصور، فشكر الناس سيرته، فإنه كان فارس عصره، وكان كاتبا جميل الصورة فكه المحاضرة عاقلا كريما لا يضع كرمه إلا في سمعة ترفعه أو مداراة تنفعه إلا أنه كان أذنا مستحيلا على أصحابه، وإذا ظنّ في أحد شرّا جعل الشكّ يقينا، وعجّل له العقوبة. وغلب عليه مع ذلك في وزارته أخواه ناصر الدين همام وفخر الدين حسام، وأخذ يتنكّر لرفقته البرقيّة الذين قاموا بنصرته وأعانوه على إخراج شاور وتقليده للوزارة من أجل أنه بلغه عنهم أنّهم يحسدونه ويضعون منه، وأنّ منهم من كاتب شاور وحثّه على القدوم إلى القاهرة ووعده بالمعاونة له، فأظلم الجوّ بينه وبينهم، وتجرّد للإيقاع بهم على عادته في أسرع العقوبة، وأحضرهم إليه في دار الوزارة ليلا وقتلهم بالسيف صبرا وهم: صبح بن شاهنشاه، والطهر مرتفع المعروف بالجلواص، وعين الزمان، وعلي بن الزبد، وأسد الفازي وأقاربهم وهم نحو من سبعين أميرا سوى اتباعهم، فذهبت لذلك رجال الدولة واختلّت أحوالها وضعفت بذهاب أكابرها وفقد أصحاب الرأي والتدبير، وقصد الفرنج ديار مصر فخرج إليهم همام أخو ضرغام، وانهزم منهم، وقتل منهم عدّة، ونزلوا على حصن بلبيس «3» ، وملكوا بعض السور، ثمّ ساروا وعاد همام عودا رديئا، فبعث به ضرغام إلى الإسكندرية وبها الأمير مرتفع الجلواص، فأخذه العرب وقاده همام إلى أخيه، فضرب عنقه وصلبه على باب زويلة، فما هو إلا أن قدم رسل الفرنج على ضرغام في طلب مال الهدنة المقرّر في كلّ سنة- وهو ثلاثة(3/24)
وثلاثون ألف دينار- وإذا بالخبر قد ورد بقدوم شاور من الشام ومعه أسد الدين شير كوه في كثير من الغزّ، فأزعجه ذلك، وأصبح الناس يوم التاسع والعشرين من جمادى الأولى سنة تسع وخمسين وخمسمائة خائفين على أنفسهم وأموالهم، فجمعوا الأقوات والماء وتحوّلوا من مساكنهم، وخرج همام بالعسكر أوّل يوم من جمادى الآخرة، فسار إلى بلبيس وكانت له وقعة مع شاور انهزم فيها، وصار إلى شاور وأصحابه جميع ما كان مع عسكر همام، وأسروا عدّة، ونزل شاور بمن معه إلى التاج ظاهر القاهرة في يوم الخميس سادس جمادى الآخرة، فجمع ضرغام الناس، وضمّ إليه الطائفة الريحانية والطائفة الجيوشية بداخل القاهرة، وشاور مقيم بالتاج مدّة أيام- وطوالعه من العربان- فطارد عسكر ضرغام بأرض الطبّالة خارج القاهرة، ثمّ سار شاور ونزل بالمقس، فخرج إليه عسكر ضرغام، وحاربوه فانهزم هزيمة قبيحة، وسار إلى بركة الحبش، ونزل بالشرف الذي يعرف اليوم بالرصد، وملك مدينة مصر، وأقام بها أياما، فأخذ ضرغام مال الأيتام الذي كان بمودع الحكم، فكرهه الناس واستعجزوه، ومالوا مع شاور، فتنكّر منهم ضرغام وتحدّث بإيقاع العقوبة بهم فزاد بغضهم له، ونزل شاور في أرض اللوق خارج باب زويلة، وطارد رجال ضرغام وقد خلت المنصورة والهلالية، وثبت أهل اليانسية بها، وزحف إلى باب سعادة وباب القنطرة، وطرح النار في اللؤلؤة وما حولها من الدور، وعظمت الحروب بينه وبين أصحاب ضرغام، وفني كثير من الطائفة الريحانية، فبعثوا إلى شاور ووعدوه بأنّهم عون له، فانحلّ أمر ضرغام، فأرسل العاضد إلى الرماة يأمرهم بالكفّ عن الرمي، فخرج الرجال إلى شاور وصاروا من جملته وفترت همة أهل القاهرة، وأخذ كلّ منهم يعمل الحيلة في الخروج إلى شاور، فأمر ضرغام بضرب الأبواق لتجتمع الناس فضربت الأبواق والطبول ما شاء الله من فوق الأسوار فلم يخرج إليه أحد، وانفكّ عنه الناس، فسار إلى باب الذهب «1» من أبواب القصر ومعه خمسمائة فارس، فوقف وطلب من الخليفة أن يشرف عليه من الطاق، وتضرّع إليه وأقسم عليه بآبائه فلم يجبه أحد، واستمرّ واقفا إلى العصر والناس تنحلّ عنه حتّى بقي في نحو ثلاثين فارسا، فوردت عليه رقعة فيها خذ نفسك وانج بها، وإذا بالأبواق والطبول قد دخلت من باب القنطرة «2» ومعها عساكر شاور، فمرّ ضرغام إلى باب زويلة، فصاح الناس عليه ولعنوه، وتخطّفوا من معه، وأدركه القوم فأردوه عن فرسه قريبا من الجسر الأعظم فيما بين القاهرة ومصر «3» ، واحتزوا رأسه في سلخ جمادى الآخرة، وفرّ منهم أخوه إلى جهة المطريّة(3/25)
فأدركه الطلب «1» ، وقتل عند مسجد تبر خارج القاهرة، وقتل أخوه الآخر عند بركة الفيل، فصار حينئذ ضرغام ملقى يومين، ثمّ حمل إلى القرافة ودفن بها، وكانت وزارته تسعة أشهر، وكان من أجلّ أعيان الأمراء وأشجع فرسانهم وأجودهم لعبا بالكرة وأشدّهم رميا بالسهام، ويكتب مع ذلك كتابة ابن مقلة وينظم الموشّحات الجيدة، ولمّا جيء برأسه إلى شاور رفع إلى قفاه وطيف به، فقال الفقيه عمارة:
أرى جنك «2» الوزارة صار سيفا ... يحزّ بحدّه جيد الرقاب
كأنّك رائد البلوى وإلا ... بشير بالمنيّة والمصاب
فكان كما قال عمارة فإن البلايا والمنايا من حينئذ تتابعت على دولة الخلفاء الفاطميين حتّى لم يبق منهم عين تطرف ولله عاقبة الأمور.
حارة العطوفية: هذه الحارة تنسب إلى طائفة من طوائف العسكر يقال لها العطوفية، وقال ابن عبد الظاهر: العطوفية منسوبة لعطوف أحد خدّام القصر وهو عطوف غلام الطويلة، وكان قد خدم ستّ الملك أخت الحاكم، قال: وسكنت- يعني الطائفة الجيوشية- بحارة العطوفية بالقاهرة، ولله درّ الأديب إبراهيم المعمار إذ يقول مواليا يشتمل على ذكر حارات بالقاهرة وفيها تورية:
في الجودرية رأيت صورة هلالية ... للباطليّة تميل لا للعطوفيّة
لها من اللؤلؤة ثغرين منشيّه ... إن حرّكوا وجهها بنت الحسينيّة
وكانت العطوفية من أجلّ مساكن القاهرة، وفيها من الدور العظيمة والحمامات والأسواق والمساجد ما لا يدخل تحت حصر، وقد خربت كلّها وبيعت أنقاضها وبيوتها ومنازلها، وأضحت أوحش من وتدعير في قاع. وعطوف هذا كان خادما أسود قتله الحاكم بجماعة من الأتراك وقفوا له في دهليز القصر واحتزّوا رأسه في يوم الأحد لإحدى عشرة خلت من صفر سنة إحدى وأربعمائة قاله المسبّحي.
حارة الجوّانية «3» : كان يقال لهذه الحارة أوّلا حارة الروم «4» الجوّانية، ثمّ ثقل على الألسنة ذلك فقال الناس الجوانية، وكان أيضا يقال لها حارة الروم العليا المعروفة بالجوّانية. وقال المسبّحي: وقد ذكر ما كتبه أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله من الأمانات في(3/26)
سنة خمس وتسعين وثلثمائة فذكر أنه كتب أمانا للعرافة الجوّانية، فدلّ أنّه كان من جملة الطوائف «1» قوم يعرفون بالجوّانية، قال ابن عبد الظاهر: قال لي مؤلّفه القاضي زين الدين وفقه الله: إن الجوّانية منسوبة للأشراف الجوّانيين منهم الشريف النسابة الجوّاني. قال مؤلّفه رحمه الله: فعلى هذا يكون بفتح الجيم، فإن الجوّاني بفتح الجيم وتشديد الواو وفتحها وبعد الواو ألف ساكنة ثمّ نون نسبة إلى جوّان- على وزن حرّان- وهي قرية من عمل مدينة طيبة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام. وعلى القول الأوّل تكون الجوّانية بفتح الجيم أيضا مع فتح الواو وتشديدها، فإن أهل مصر يقولون: لما خرج عن المدينة أو الدار برّا، ولمّا دخل جوّا بضم الجيم- وهو خطأ- ولهذا كان الورّاقون يكتبون حارة الروم البرّانية لأنها من خارج القصر، ويكتبون حارة الروم الجوّانية لأنّها من داخل القاهرة، ولا يصار إليها إلا بعد المرور على القصر. وكان موضعها إذ ذاك من وراء القصر خلف دار الوزارة والحجر «2» ، فكأنها في داخل البلد، ولذلك أصل. قال ابن سيده في مادة (ج و) من كتاب المحكم: وجوّا البيت داخله، لفظة شاميّة، فتعيّن فتح الجيم من الجوّانية ولا عبرة بما تقوله العامّة من ضمّها.
وقال الشريف محمد بن أسعد الجوّاني ابن الحسن بن محمد الجواني ابن عبيد الله الجواني بن حسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وقيل لمحمد بن عبد الله الجوّانيّ بسبب ضيعة من ضياع المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام يقال لها الجوّانية، وكانت تسمّى البصرة الصغرى لخيراتها وغلالها، لا يطلب شيء إلا وجد بها، وهي قريبة من صرار «3» ضيعة الإمام أبي جعفر محمد بن علي الرضى. وكانت الجوّانية ضيعة لعبيد الله، فتوفي عنها فورثها بعده ولده وأزواجه، فاشترى محمد الجوّانيّ ولده بما حصل له بالميراث الباقي من الورثة، فحصلت له كاملة، فعرف بها فقيل: الجوّاني. قال: ولم تزل أجداد مؤلّفه ببغداد إلى حين قدوم ولده أسعد النحويّ مع أبيه من بغداد إلى مصر، ومولده بالموصل في سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة.
حارة البستان: ويقال لها حارة بستان المصموديّ وحارة الأكراد أيضا، وهي الآن من جملة الوزيرية التي تقدّم ذكرها.
حارة المرتاحية: هذه الحارة عرفت بالطائفة المرتاحية إحدى طوائف العسكر. قال ابن عبد الظاهر: خطّ باب القنطرة يعرف في كتب الأملاك القديمة بالمرتاحية.
حارة الفرحية: بالحاء المهملة كانت سكن الطائفة الفرحية، وهي بجوار حارة(3/27)
المرتاحية، فإلى يومنا هذا فيما بين سويقة أمير الجيوش وباب القنطرة زقاق يعرف بدرب الفرحية، والفرحية كانت طائفة من جملة عبيد الشراء، وكانت عبيد الشراء عدّة طوائف وهم: الفرحية والحسينية والميمونية ينسبون إلى ميمون وهو أحد الخدّام.
حارة فرج بالجيم: كانت تعرف قديما بدرب النميري، ثمّ عرفت بالأمير جمال الدين فرج من أمراء بني أيوب. وهي الآن داخلة في درب الطفل من خط قصر الشوك.
حارة قائد القوّاد: هذه الحارة تعرف الآن بدرب ملوخيا «1» ، وكانت أوّلا تعرف بحارة قائد القوّاد، لأن حسين بن جوهر الملقّب قائد القوّاد كان يسكن بها فعرفت به. وهو حسين بن القائد جوهر أبو عبد الله الملقّب بقائد القوّاد. لما مات أبوه جوهر القائد خلع العزيز بالله عليه وجعله في رتبة أبيه ولقّبه بالقائد بن القائد، ولم يتعرّض لشيء مما تركه جوهر، فلمّا مات العزيز وقام من بعده ابنه الحاكم استدناه ثم إنه قلّده البريد والإنشاء في شوّال سنة ستّ وثمانين وثلثمائة، وخلع عليه وحمله على فرس بموكب، وقاد بين يديه عدّة أفراس، وحمل معه ثيابا كثيرة. فاستخلف أبا منصور بشر بن عبيد الله بن سورين الكاتب النصرانيّ على كتابة الإنشاء، واستخلف على أخذ رقاع الناس وتوقيعاتهم أمير الدولة الموصلي. ولما تقلّد برجوان النظر في تدبير الأمور وجلس للوساطة بعد ابن عمّار. كان الكافة يلقونه في داره ويركبون جميعا بين يديه من داره إلى القصر ما خلا القائد الحسين ومحمد بن النعمان القاضي، فإنهما كانا يسلّمان عليه بالقصر فقط. فلما قتل الحاكم الأستاذ «2» برجوان كما تقدّم خلع على القائد حسين لثلاث عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى سنة تسعين وثلثمائة ثوبا أحمر وعمامة زرقاء مذهّبة، وقلّده سيفا محلّى بذهب، وحمله على فرس بسرج ولجام من ذهب، وقاد بين يديه ثلاثة أفراس بمراكبها، وحمل معه خمسين ثوبا صحاحا من كلّ نوع، وردّ إليه التوقيعات والنظر في أمور الناس وتدبير المملكة كما كان برجوان، ولم يطلق عليه اسم وزير، فكان يبكّر إلى القصر ومعه خليفته الرئيس أبو العلاء فهد بن إبراهيم النصراني- كاتب برجوان- فينظران في الأمور ثمّ يدخلان وينهيان الحال إلى الخليفة، فيكون القائد جالسا وفهد من خلفه قائما. ومنع القائد الناس أن يلقوه في الطريق أو يركبوا إليه في داره وأنّ من كان له حاجة فليبلغه إياها بالقصر، ومنع الناس من مخاطبته في الرقاع بسيدنا، وأمر أن لا يخاطب ولا يكاتب إلا بالقائد فقط، وتشدّد في ذلك لخوفه من غيرة الحاكم، حتّى أنّه رأى جماعة من القوّاد الأتراك قياما على الطريق ينتظرونه، فأمسك عنان فرسه ووقف وقال لهم: كلّنا عبيد مولانا صلوات الله عليه(3/28)
ومماليكه، ولست والله أبرح من موضعي أو تنصرفوا عنّي ولا يلقاني أحد إلا في القصر، فانصرفوا وأقام بعد ذلك خدما من الصقالبة «1» الطرّادين على الطريق بالنوبة لمنع الناس المجيء إلى داره ومن لقائه إلا في القصر، وأمر أبا الفتوح مسعود الصقلبي صاحب الستر «2» أن يوصل الناس بأسرهم إلى الحاكم وأن لا يمنع أحدا عنه.
فلمّا كان في سابع عشر جمادى الآخرة قرىء سجل على سائر المنابر بتلقيب القائد حسين بقائد القوّاد وخلع عليه، وما زال إلى يوم الجمعة سابع شعبان سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، فاجتمع سائر أهل الدولة في القصر بعد ما طلبوا، وخرج الأمر إليهم أن لا يقام لأحد، وخرج خادم من عند الخليفة فأسرّ إلى صاحب الستر كلاما، فصاح: صالح بن عليّ، فقام صالح بن عليّ الرودباذي متقلّد ديوان الشام، فأخذ صاحب الستر بيده وهو لا يعلم هو ولا أحد ما يراد به، فأدخل إلى بيت المال وأخرج وعليه درّاعة مصمتة وعمامة مذهّبة ومعه مسعود، فأجلسه بحضرة قائد القوّاد، وأخرج سجلا قرأه ابن عبد السميع الخطيب، فإذا فيه ردّ سائر الأمور التي ينظر فيها قائد القوّاد حسين بن جوهر إليه. فعند ما سمع من السجل ذكره قام وقبّل الأرض. فلما انتهت قراءة السجلّ قام قائد القوّاد وقبّل خدّ صالح وهنأه. وانصرف، فكان يركب إلى القصر ويحضر الأسمطة «3» إلى اليوم الثالث من شوّال أمره الحاكم أن يلزم داره هو وصهره قاضي القضاة عبد العزيز بن النعمان وأن لا يركباهما وسائر أولادهما، فلبسا الصوف، ومنع الناس من الاجتماع بهما، وصاروا يجلسون على حصر. فلمّا كان في تاسع عشر ذي القعدة عفا عنهما الحاكم، وأذن لهما في الركوب، فركبا إلى القصر بزيّهما من غير حلق شعر ولا تغيير حال الحزن، فلمّا كان في حادي عشر جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وثلاثمائة قبض على عبد العزيز بن النعمان، وطلب حسين بن جوهر ففرّ هو وابنه في جماعة، وكثر الصياح بدار عبد العزيز، وغلقت حوانيت القاهرة وأسواقها، فأفرج عنه ونودي أن لا يغلق أحد فردّ حسين بعد ثلاثة أيام بابنيه، وتمثلوا «4» بحضرة الحاكم، فعفا عنهم وأمرهم بالمسير إلى دورهم بعد أن خلع على حسين وعلى صهره عبد العزيز وعلى أولادهما، وكتب لهما أمانان، ثمّ أعيد عبد العزيز في شهر رمضان إلى ما كان يتقلّده من النظر في المظالم، ثم ردّ الحاكم في شهر ربيع الأوّل سنة أربعمائة على حسين بن جوهر وأولاده وصهره عبد العزيز ما كان لهم من الإقطاعات وقرىء لهم سجل بذلك.(3/29)
فلمّا كان ليلة التاسع من ذي القعدة فرّ حسين بأولاده وصهره وجميع أموالهم وسلاحهم، فسيّر الحاكم الخيل في طلبهم نحو دجوة «1» فلم يدركهم وأوقع الحوطة على سائر دورهم، وجعلت للديوان المفرد، وهو ديوان أحدثه الحاكم يتعلّق بما يقبض من أموال من يسخط عليه، وحمل سائر ما وجد لهم بعد ما ضبط، وخرجت العساكر في طلب حسين ومن معه، وأشيع أنّه قد صار إلى بني قرّة بالبحيرة، فأنفدت إليه الكتب بتأمينه واستدعائه إلى الحضور، فأعاد الجواب بأنه لا يدخل ما دام أبو نصر ابن عبدون النصرانيّ الملقّب بالكافي ينظر في الوساطة ويوقّع عن الخليفة، فإنّي أحسنت إليه أيام نظري فسعى بي إلى أمير المؤمنين ونال منّي كلّ منال، ولا أعود أبدا وهو وزير. فصرف ابن عبدون في رابع المحرّم سنة إحدى وأربعمائة، وقدم حسين بن جوهر ومعه عبد العزيز بن النعمان وسائر من خرج معهما، فخرج جميع أهل الدولة إلى لقائه وتلقّته الخلع فأفيضت عليه وعلى أولاده وصهره، وقيّد بين أيديهم الدواب، فلمّا وصلوا إلى باب القاهرة ترجّلوا ومشوا ومشى الناس بأسرهم إلى القصر فصاروا بحضرة الحاكم، ثمّ خرجوا وقد عفا عنهم، وأذن لحسين أن يكاتب بقائد القوّاد ويكون اسمه تاليا للقبه، وأن يخاطب بذلك. وانصرف إلى داره فكان يوما عظيما، وحمل إليه جميع ما قبض له من مال وعقار وغيره، وأنعم عليه وواصل الركوب هو وعبد العزيز بن النعمان إلى القصر، ثم قبض عليه وعلى عبد العزيز واعتقلا ثلاثة أيام، ثمّ حلفا أنّهما لا يغيبان عن الحضرة، وأشهدا على أنفسهما بذلك، وأفرج عنهما، وحلف لهما الحاكم في أمان كتبه لهما. فلما كان في ثاني عشر جمادى الآخرة سنة إحدى وأربعمائة ركب حسين وعبد العزيز على رسمهما إلى القصر، فلمّا خرج للسلام على الناس قيل للحسين وعبد العزيز وأبي علي أخي الفضل: اجلسوا لأمر تريده الحضرة منكم، فجلس الثلاثة، وانصرف الناس فقبض عليهم وقتلوا «2» في وقت واحد، وأحيط بأموالهم وضياعهم ودورهم، وأخذت الأمانات والسجلات التي كتبت لهم. واستدعي أولاد عبد العزيز «3» بن النعمان وأولاد حسين «4» بن جوهر ووعدوا بالجميل وخلع عليهم، وجملوا والله يفعل ما يشاء.(3/30)
حارة الأمراء: ويقال لها أيضا حارة الأمراء الأشراف الأقارب، وموضعها يعرف بدرب شمس «1» الدولة، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
حارة الطوارق: ويقال لها أيضا حارة صبيان الطوارق، وهم من جملة طوائف العسكر، كانوا معدّين لحمل الطوارق. وموضع هذه الحارة في طريق من سلك من الرقيق سوق الخلعيين داخل باب زويلة طالبا الباطلية بالزقاق الطويل الضيّق الذي يقال له اليوم حلق الجمل السالك إلى درب أرقطاي.
حارة الشرابية: عرفت بذلك لأنّها كانت موضع سكن الغلمان الشرابية إحدى طوائف العسكر، وكانت فيما بين الباطلية وحارة الطوارق.
حارة الدميري وحارة الشاميين: هما من جملة العطوفية «2» .
حارة المهاجرين: وموضعها الآن من جملة المكان الذي يعرف بالرقيق المعدّ لسوق الخلعيين بجوار باب زويلة، وكان بعد ذلك سوق الخشّابين، ثمّ هو الآن سوق الخلعيين.
وموضع هذه الحارة بجوار الخوخة «3» التي كانت تعرف بالشيخ السعيد بن فشيرة النصرانيّ الكاتب. وهي الخوخة التي يسلك إليها من الزقاق المقابل لحمام الفاضل المعدّ لدخول النساء، ويتوصل منها إلى درب كوز الزير بحارة الروم، وقد صارت هذه الحارة تعرف بدرب ابن المجندار، وسيأتي ذكره إن شاء الله.
حارة العدوية: قال ابن عبد الظاهر: العدوية هي من باب الخشيبة إلى أوّل حارة زويلة عند حمّام الحسام الجلدكي الآن منسوبة لجماعة عدويين نزلوا هناك، وهذا المكان اليوم هو عبارة عن الموضع الذي تلقاه عند خروجك من زقاق حمّام خشيبة الذي يتوصّل إليه من سوق باب الزهومة، فإذا انتهيت إلى آخر هذا الزقاق وأخذت على يمينك صرت في حارة العدويّة. وموضعها الآن من فندق بلال المغيثي إلى باب سر المارستان، وتدخل في العدوية رحبة بيبرس التي فيها الآن فندق الرخام، عن يمينك إذا خرجت في الرحبة المذكورة التي صارت الآن دربا إلى باب سرّ المارستان وما عن يسارك إلى حمّام الكريك وحمام الجوينيّ الذي تقول له العامّة الجهينيّ، وإلى سوق الزجاجيين. وكلّ هذه المواضع هي من حقوق العدويّة وكانت العدويّة قديما واقعة فيما بين الميدان الذي يعرف اليوم بالخرشتف «4» وحارة(3/31)
زويلة وبين سقيفة العداس والصاغة القديمة التي صار موضعها الآن سوق الحريريين الشرابشيين برأس الوراقين وسوق الزجاجيين.
حارة العيدانية: كانت تعرف أوّلا بحارة البديعيين، ثم قيل لها بعد ذلك الحبّانية من أجل البستان الذي يعرف بالحبانية الجاري في وقف الخانقاه الصلاحية «1» سعيد السعداء، ويتوصّل إلى هذه الحارة من تجاه قنطرة آق سنقر، وبعض دورها الآن يشرف على بستان الحبانية، وبعضها يطل على بركة الفيل.
حارة الحمزيين: كانت أوّلا تعرف بالحبانية، ثمّ قيل لها حارة الحمزيين من أجل أن جماعة من الحمزيين نزلوا بها، منهم الحاج يوسف بن فاتن الحمزي، والحمزيون أيضا ينسبون إلى حمزة بن أدركة «2» الساري، خرج بخراسان في أيام هارون بن محمد الرشيد، فعاث وأفسد وفضّ جموع عيسى بن عليّ عامل خراسان، وقتل منهم خلقا، وانهزم عيسى إلى بابل، ثمّ غرق حمزة بواد في كرمان، فعرفت طائفته بالحمزية. وأخوه ضرغام بن فاتن بن ساعد الحمزيّ والحاج عوني الطحان ابن يونس بن فاتن الحمزي ورضوان بن يوسف بن فاتن الحمزيّ الحمامي وأخوه سالم بن يوسف بن فاتن الحمزيّ، وكان هؤلاء بعد سنة ستّمائة، وهذه الحارة خارج باب زويلة. ومن بلاد أفريقية قرية يقال لها حمزي ينسب إليها محمد بن حمد بن خلف القيسيّ الحمزيّ من أهل القرية وقاضيها، توفي سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، ولا يبعد أن تكون هذه الحارة نسبت إلى أهل قرية حمزة هذه لنزولهم بها كنزول بني سوس وكتامة وغيرهم في المواضع التي نسبت إليهم.
حارة بني سوس: عرفت بطائفة من المصامدة يقال لهم بنو سوس كانوا يسكنون بها.
حارة اليانسية: تعرف بطائفة من طوائف العسكر يقال لها اليانسية منسوبة لخادم خصيّ من خدّام العزيز بالله يقال له أبو الحسن يأنس الصقليّ، خلفه على القاهرة، فلما مات العزيز أقرّه ابنه الحاكم بأمر الله على خلافة القصور، وخلع عليه وحمله على فرسين، فلمّا كان في المحرم سنة ثمان وثمانين وثلثمائة سار لولاية برقة «3» بعد ما خلع عليه وأعطي خمسة آلاف دينار وعدّة من الخيل والثياب. قال ابن عبد الظاهر: اليانسية خارج باب زويلة أظنها منسوبة ليأنس وزير الحافظ لدين الله الملقب بأمير الجيوش سيف الإسلام ويعرف بيانس «4» الفاصد،(3/32)
وكان أرمنيّ الجنس، وسمّي الفاصد لأنه فصد الأمير حسن بن الحافظ وتركه محلولا فصاده حتّى مات. وله خبر غريب في وفاته، كان الحافظ قد نقم عليه أشياء طلب قتله بها باطنا فقال لطبيبه: اكفني أمره بمأكل أو مشرب، فأبى الطبيب ذلك خوفا أن يصير عند الحافظ بهذه العين وربما قتله بها، والحافظ يحثّه على ذلك فاتّفق ليانس الوزير المذكور أنه مرض بزحير «1» ، وإن الحافظ خاطب الطبيب بذلك فقال: يا مولاي، قد أمكنتك الفرصة وبلغت مقصودك، ولو أنّ مولانا عادة في هذه المرضة اكتسب حسن أحدوثة، وهذه المرضة ليس دواؤه منها إلّا الدعة والسكون، ولا شيء أضرّ عليه من الانزعاج والحركة، فبمجرّد ما سمع بقصد مولانا له تحرّك واهتمّ بلقاء مولانا وانزعج، وفي ذلك تلاف نفسه. ففعل الخليفة ذلك وأطال الجلوس عنده فمات «2» . وهذا الخبر فيه أوهام منها أنه جعل اليانسية منسوبة ليانس الوزير، وقد كانت اليانسية قبل يانس هذا بمدّة طويلة، ومنها أنه ادّعى أن حسن بن الحافظ مات من فصادة، وليس كذلك، وإنما مات مسموما، ومنها أنه زعم أن يأنس تولّى فصده وليس كذلك، بل الذي تولى قتله بالسم أبو سعيد ابن فرقة، ومنها أن الذي نقم عليه الحافظ من الأمراء فخانه في ابنه حسن إنما هو الأمير المعظّم جلال الدين محمد المعروف بجلب راغب، وهذا نص الخبر فنزه بالك، والله تعالى أعلم.
ذكر وزارة أبي الفتح ناصر الجيوش يأنس الأرمني
وكان من خبر ذلك أن الخليفة الآمر بأحكام الله أبا عليّ منصورا لما قتله النزارية «3» في ذي القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة أقام هزبر الملوك جوامرد «4» العادل برغش الأمير أبا الميمون عبد المجيد في الخلافة كفيلا للحمل الذي تركه الآمر، ولقّب بالحافظ لدين الله، ولبس هزبر الملوك خلع الوزارة، فثار الجند وأقاموا أبا عليّ أحمد الملقّب بكتيفات ولدا لأفضل ابن أمير الجيوش في الوزارة، وقتل هزبر الملوك واستولى كتيفات على الآمر، وقبض على الحافظ وسجنه بالقصر مقيّدا إلى أن قتل كتيفات في المحرّم سنة ستّ وعشرين وخمسمائة. وبادر صبيان الخاص الذين تولّوا قتله إلى القصر، ودخلوا ومعهم الأمير يأنس متولّي الباب إلى الخزانة التي فيها الحافظ، وأخرجوه إلى الشبّاك وأجلسوه في منصب الخلافة وقالوا له: والله ما حرّكنا على هذا إلا الأمير يأنس، فجازاه الحافظ بأن فوّض إليه الوزارة في الحال، وخلع عليه فباشرها مباشرة جيّدة. وكان عاقلا مهابا متمسّكا(3/33)
متحفّظا لقوانين الدولة، فلم يحدث شيئا ولا خرج عمّا يعيّنه الخليفة له إلا أنه بلغه عن أستاذ من خواصّ الخليفة شيء يكرهه فقبض عليه من القصر من غير مشاورة الخليفة، وضرب عنقه بخزانة «1» البنود، فاستوحش منه الخليفة وخشي من زيادة معناه. وكانت هذه الفعلة غلطة منه، ثمّ إنه خاف من صبيان الخاصّ أن يفتكوا به كما فتكوا بكتيفات، فتنكّر لهم، وتخوّفوه أيضا، فركب في خاصّته وأركب العسكر، وركب صبيان الخاص، فكانت بينهما وقعة قبالة باب التبّانين بين القصرين، قوي فيها يأنس، وقتل من صبيان الخاصّ ما يزيد على ثلثمائة رجل من أعيانهم، فيهم قتلة أبي عليّ كتيفات، وكانوا نحو الخمسمائة فارس، فانكسرت شوكتهم وضعف جانبهم، واشتدّ بأس يأنس وعظم شأنه، فثقل على الخليفة. وتحيّل منه فأحسّ بذلك، فأخذ كلّ منهما في التدبير على الآخر، فأعجل يأنس وقبض على حاشية الخليفة، ومنهم قاضي القضاة وداعي الدعاة أبو الفخر وأبو الفتح بن قادوس وقتلهما، فاشتدّ ذلك على الحافظ، ودعا طبيبه وقال: اكفني أمر يأنس! فيقال أنّه سمّه في ماء المستراح فانفتح دبره واتّسع حتّى ما بقي يقدر على الجلوس، فقال الطبيب: يا أمير المؤمنين قد أمكنتك الفرصة وبلغت مقصودك، فلو أنّ مولانا عاده في هذه المرضة اكتسب حسن الأحدوثة، فإنّ هذا المرض ليس له دواء إلا الدّعة والسكون، ولا شيء عليه أضرّ من الحركة والانزعاج، وهو إذا سمع بقصد مولانا له تحرّك واهتمّ للقاء وانزعج، وفي ذلك تلاف نفسه. فنهض لعيادته، وعند ما بلغ ذلك يأنس قام ليلقاه ونزل عن الفراش وجلس بين يدي الخليفة، فأطال الخليفة جلوسه عنده وهو يحادثه، فلم يقم حتّى سقطت أمعاء يأنس، ومات من ليلته في سادس عشري ذي الحجة سنة ستّ وعشرين وخمسمائة، وكانت وزارته تسعة أشهر وأياما، وترك ولدين كفلهما الحافظ وأحسن إليهما. وكان يأنس هذا مولى أرمنيّا لباديس جدّ عبّاس الوزير، فأهداه إلى الأفضل بن أمير الجيوش، وترقّى في خدمته إلى أن تأمّر، ثمّ ولي الباب وهي أعظم رتب الأمراء، وكنّي بأبي الفتح، ولقّب بالأمير السعيد، ثم لمّا ولي الوزارة نعت بناصر الجيوش سيف الإسلام، وكان عظيم الهمّة بعيد الغور كثير الشرّ شديد الهيبة «2» .
ذكر الأمير حسن بن الخليفة الحافظ
ولمّا مات الوزير يأنس تولّى الخليفة الحافظ الأمور بنفسه، ولم يستوزر أحدا، وأحسن السيرة. فلمّا كان في سنة ثمان وعشرين وخمسمائة عهد إلى ولده سليمان، وكان أسنّ أولاده وأحبّهم إليه، وأقامه مقام الوزير، فمات بعد شهرين من ولاية العهد، فجعل مكانه أخاه حيدرة في ولاية العهد، ونصّبه للنظر في المظالم، فشق ذلك على أخيه الأمير(3/34)
حسن- وكان كثير المال متّسع الحال له عدّة بلاد ومواشي وحاشية وديوان»
مفرد- فسعى في نقض ذلك بأن أوقع الفتنة بين الطائفة الجيوشية والطائفة الريحانية، وكانت الريحانية قويّة الشوكة مهابة مخوفة الجانب، فاشتعلت نيران الحرب بين الفريقين، وصاح الجند: يا حسن يا منصور، يا للحسينية؛ والتقى الفريقان فقتل بينهما ما يزيد على خمسة آلاف نفس، فكانت هذه الوقعة أوّل مصائب الدولة الفاطمية من فقد رجالها ونقص عساكرها، فلم يبق من الطائفة الريحانية إلا من نجا بنفسه من ناحية المقس «2» ، وألقى نفسه في بحر النيل.
واستظهر الأمير حسن وقام بالأمر، وانضمّ إليه أوباش الناس ودعّارهم، ففرّق فيهم الزرد وسمّاهم صبيان الزرد، وجعلهم خاصّته، فاحتفوا به وصاروا لا يفارقونه، فإن ركب أحاطوا به، وإن نزل لازموا داره، فقامت قيامة الناس منهم. وشرع في تتبّع الأكابر، فقبض على ابن العسّاف وقتله، وقصد أباه الخليفة الحافظ وأخاه حيدرة بالضرر حتّى خافا منه وتغيّبا، فجدّ في طلب أخيه حيدرة، وهتك بأوباشه الذين اختارهم حرمة القصر، وخرق ناموسه، وسلّطهم يفتّشون القصر في طلب الخليفة الحافظ وابنه حيدرة، واشتدّ بأسهم، وحسّنوا له كلّ رذيلة، وجرّوه على الأذى، فلم يجد الحافظ بدّا من مداراة حسن وتلافي أمره عساه ينصلح، وكتب سجلا بولايته العهد وأرسله إليه فقرىء على الناس، فما زاده ذلك إلا جرأة عليه وإفسادا له، وشدّد في التضييق على أبيه وأخذ بأنفاسه. فبعث حينئذ الخليفة بالأستاذ ابن إسعاف إلى بلاد الصعيد ليجمع من يقدر عليه من الريحانيّة، فمضى واستصرخ الناس لنصرة الخليفة على ولده حسن، وجمع أمما لا يحصيها إلا الله، وسار بهم، فبلغ ذلك حسنا فزجّ عسكر اللقاء إسعاف، فالتقيا وكانت بينهما وقعة هبّت فيها ريح سوداء على عسكر إسعاف حتّى هزمتهم، وركبهم عسكر حسن فلم ينج منهم إلا القليل، وغرق أكثرهم في البحر وأخذ إسعاف أسيرا، فحمل إلى القاهرة على جمل وفي رأسه طرطور «3» لبد أحمر. فلمّا وصل بين القصرين رشق بالنشّاب حتّى هلك، ورمي من القصر الغربي بأستاذ آخر، فقتل، وقتل الأمير شرف الدين. فاشتدّ ذلك على الحافظ وخاف على نفسه؛ فكتب ورقة- وكاد ابنه بأن ألقى إليه تلك الورقة- وفيها: يا ولدي؛ أنت على كلّ حال ولدي، ولو عمل كلّ منّا لصاحبه ما يكره الآخر ما أراد أن يصيبه مكروه، ولا يحملني قلبي، وقد انتهى الأمر إلى أمراء الدولة وهم فلان وفلان، وقد شدّدت وطأتك عليهم وخافوك وهم معوّلون على قتلك، فخذ حذرك يا ولدي.
فعند ما وقف حسن على الورقة غضب ولم يتأنّ، وبعث إلى أولئك، فلمّا صاروا إليه(3/35)
أمر صبيان الزرد بقتلهم، فقتلوا عن آخرهم، وكانوا عدّة من أعيان الأمراء، وأحاط بدورهم وأخذ سائر ما فيها، فاشتدّت المصيبة وعظمت الرزيّة، وتخوّف من بقي من الجند ونفروا منه، فإنّه كان جريئا مفسدا شديد الفحص عن أحوال الناس والاستقصاء لأخبارهم يريد إقلاب الدولة وتغييرها ليقدّم أوباشه، وأكثر من مصادرة الناس، وقتل قاضي القضاة أبا الثريّا نجم لأنه كان من خواصّ أبيه، وقتل جماعة من الأعيان، وردّ القضاء لابن ميسّر، وتفاقم أمره وعظم خطبه واشتدّت الوحشة بينه وبين الأمراء والأجناد، وهمّوا بخلع الحافظ ومحاربة ابنه حسن، وصاروا يدا واحدة، واجتمعوا بين القصرين وهم عشرة آلاف ما بين فارس وراجل، وسيّروا إلى الحافظ يشكون ما هم فيه من البلاء مع ابنه حسن ويطلبون منه أن يزيله من ولاية العهد، فعجز حسن عن مقاومتهم، فإنه لم يبق معه سوى الراجل من الطائفة الجيوشية ومن يقول بقولهم من الغزّ الغرباء، فتحيّر وخاف على نفسه، فالتجأ إلى القصر وصار إلى أبيه الحافظ، فما هو إلا أن تمكّن منه أبوه، فقبض عليه وقيّده وبعث إلى الأمراء يخبرهم بذلك، فأجمعوا على قتله، فردّ عليهم أنه قد صرفه عنهم ولا يمكّنه أبدا من التصرّف، ووعدهم بالزيادة في الأرزاق والإقطاعات وأن يكفّوا عن طلب قتله، فألحّوا في قتله وقالوا: إمّا نحن «1» وإمّا هو.
اشتدّ طلبهم إياه حتّى أحضروا الأحطاب والنيران ليحرقوا القصر، وبالغوا في التجرّؤ على الخليفة فلم يجد بدّا من إجابتهم إلى قتله، وسألهم أن يمهلوه ثلاثا، فأناخوا بين القصرين، وأقاموا على حالهم حتّى تنقضي الثلاث، فما وسع الحافظ إلا أن استدعى طبيبيه وهما أبو منصور اليهوديّ وابن قرقة «2» النصرانيّ، وبدأ بأبي منصور وفاوضه في عمله سقية قاتله، فامتنع من ذلك وحلف بالتوراة أنه لا يعرف عمل شيء من ذلك، فتركه وأحضر ابن قرقة وكلّمه في هذا فقال: الساعة، ولا يتقطّع منها جسده، بل تفيض النفس لا غير. فأحضر السقية من يومه، فبعثها إلى حسن مع عدّة من الصقالبة، وما زالوا يكرهونه على شربها حتّى فعل، ومات في العشرين من جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين وخمسمائة، فبعث الحافظ إلى القوم سرّا يقول: قد كان ما أردتم، فامضوا إلى دوركم؛ فقالوا: لا بدّ أن يشاهده منّا من نثق به، وندبوا منهم أميرا معروفا بالجرأة والشرّ يقال له المعظّم جلال الدين محمد، ويعرف بجلب راغب الآمري، فدخل إلى القصر وصار جنب حسن، فإذا به قد سجّي بثوب، فكشف عن وجهه وأخرج من وسطه آلة من حديد، وغرزه بها في عدّة مواضع من بدنه إلى أن تيقّن أنه قد مات، وعاد إلى القوم وأخبرهم، فتفرّقوا.(3/36)
وعند ما سكنت الدهماء حقد الحافظ لابن قرفة وقتله بخزانة البنود، وأنعم بجميع ما كان له على أبي منصور اليهودي، وجعله رئيس الأطباء، فهذا ما كان من خبر يأنس وكيفيّة موته وخبر حسن والخبر عن قتله.
حارة المنتجبية: قال ابن عبد الظاهر: بلغني أنّ رجلا كان يتحجّب لشمس الدين قاضي زادة كان يقول: إنّ هذه الخطّة «1» منسوبة لجدّة منتجب الدولة.
الحارة المنصورية: هذه الحارة كانت كبيرة متسعة جدا فيها عدّة مساكن السودان، فلمّا كانت واقعتهم في ذي القعدة سنة أربع وستّين وخمسمائة كما تقدّم في ذكر حارة بهاء الدين، أمر صلاح الدين يوسف بن أيّوب بتخريب المنصورة هذه، وتعفية أثرها، فخرّبها خطلبا بن موسى الملقّب صارم الدين، وعملها بستانا. وكان للسودان بديار مصر شوكة وقوّة، فتبعهم صلاح الدين ببلاد الصعيد حتّى أفناهم بعد أن كان لهم بديار مصر في كلّ قرية ومحلّة وضيعة مكان مفرد لا يدخله وال ولا غيره احتراما لهم. وقد كانوا يزيدون على خمسين ألفا، وإذا ثاروا على وزير قتلوه، وكان الضرر بهم عظيما لامتداد أيديهم إلى أموال الناس وأهاليهم، فلمّا كثر بغيهم وزاد تعدّيهم أهلكهم الله بذنوبهم، وفي واقعة السودان وتخريب المنصورة وقتل مؤتمن الخلافة الذي تقدّم ذكره يقول العماد «2» الأصفهاني الكاتب يخاطب بهاء الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيّوب:
بالملك الناصر استنارت ... في عصرنا أوجه الفضائل
يوسف مصر الذي إليه ... تشدّ آمالنا الرواحل
رأيك في الدهر عن رزايا ... جلى مهماته الجلائل
أجريت نيلين في ثراها ... نيل نجيع ونيل نائل
كم كرم من نداك جار ... وكم دم من عداك سائل
وكم معاد بلا معاد ... ومستطيل بغير طائل
وحاسد كاسد المساعي ... وسائد نافق الوسائل
أقررت عين الإسلام حتّى ... لم يبق فيها قذى لباطل
وكيف يزهى بملك مصر ... من يستقلّ ذنبا لنائل
وما نفيت السودان حتّى ... حكمت البيض في المقاتل
صيّرت رحب الفضا مضيقا ... عليهم كفّة لجائل(3/37)
وكلّ رأي منهم كرا ... وأرض مصر كلام واصل
وقد خلت منهم المغاني ... وأقفرت منهم المنازل
وما أصيبوا إلا بطلّ ... فكيف لو أمطروا بوابل؟
وقد تجلّى بالحقّ ما بال ... باطل في مصر كان عاجل
والسود بالبيض قد تنحّوا ... فهي بواديهم نوازل
مؤتمن القوم خان حتّى ... غالته من شرّه الغوائل
عاملكم بالخنا «1» فأضحى ... ورأسه فوق رأس عامل «2»
وحالف الذلّ بعد عزّ ... والدهر أحواله حوائل
يا مخجل البحر بالأيادي ... قد آن أن تفتح السواحل
نقدّس القدس من خباث ... أرجاس كفر غتم أراذل «3»
وكان موضع المنصور على يمنة من سلك في الشارع خارج باب زويلة. قال ابن عبد الظاهر: كانت للسودان حارة تعرف بهم تسمّى المنصورة خرّبها صلاح الدين، وأخذها خطلبا، فعمرها بستانا وحوضا، وهي إلى جانب الباب الحديد، يعني الذي يعرف اليوم بالقوس عند رأس المنتجبية، فيما بينها وبين الهلالية، وقد حكر هذا البستان في الأيام الظاهرية وبعضها يعني المنصورة من جهة بركة الفيل إلى جانب بستان سيف الإسلام، ويسمّى الآن بحكر الغتمي، لأن الغتمي هذا كان شرع بستان سيف الإسلام فحكر في هذه الجهة، وهي الآن أحكار الديوان السلطاني، وحكر الغتمي الذي كان بستان سيف الإسلام يعرف اليوم بدرب ابن البابا تجاه البندقدارية بجوار حمّام الفارقاني قريب من صليبة جامع ابن طولون.
حارة المصامدة: هذه الحارة عرفت بطائفة المصامدة أحد طوائف عساكر الخلفاء الفاطميين، واختطّت في وزارة المأمون «4» البطائحي وخلافة الآمر بأحكام الله بعد سنة خمس عشرة وخمسمائة. قال ابن عبد الظاهر: حارة المصامدة مقدّمهم عبد الله المصمودي. وكان المأمون البطائحي وزير الخليفة الآمر بأحكام الله قدّمه ونوّه بذكره وسلّم له أبوابه للمبيت عليها، وأضاف إليه جماعة من أصحابه، فلما استخلص المصامدة وقرّبهم سيّر أبا بكر المصمودي ليختار لهم حارة، فتوجّه بالجماعة إلى اليانسية بالشارع، فلم يجد بها مكانا، ووجدها تضيق عنهم، فسيّر المهندسين لاختيار حارة لهم، فاتفقوا على بناء حارة ظاهر باب الحديد على يمنة الخارج على شاطىء بركة الفيل، فقال: بل تكون على يسرة(3/38)
الخارج والفسح قدّامها إلى بركة الفيل. فبنيت الحارة على يسرة الخارج من الباب المذكور، وبني بجانبها مسجد على زلاقة الباب المذكور، وبنى أبو بكر المصمودي مسجدا أيضا، وهذه فيما أعتقد هي الهلالية، وحذّر من بناء شيء قبالتها في الفضاء الذي بينها وبين بركة الفيل لانتفاع الناس، بها وصار ساحل بركة الفيل من المسجد قبالة هذه الحارة إلى آخر حصن دويرة مسعود إلى الباب الحديد، ولم يزل ذلك إلى بعض أيام الخليفة الحافظ لدين الله. قال: وبنى في صفّ هذه الحارة من قبليّها عدّة دور بحوانيت تحتها إلى أن اتّصل البناء بالمساجد الثلاثة الحاكميّة المعلّقة والقنطرة المعروفة بدار ابن طولون وبعدها بستان ذكر أنه كان في جملة قاعات الدار المذكورة. قال: وأظنّ المساجد هي التي قبالة حوض الجاولي، قال: وبنى المأمون ظاهره حوضا وأجرى الماء له وذلك قبالة مشهد محمد الأصغر ومشهد السيّدة سكينة. قال: وأظنّ هذا البستان هو الذي بنته شجر «1» الدرّ بستانا ودارا وحمّامات قريب من مشهد السيّدة نفيسة، قال: وأمر المأمون بالنداء في القاهرة مع مصر ثلاثة أيام بأنّ من كانت له دار في الخراب أو مكان يعمر، ومن عجز عن أن يعمره فليؤجّره من غير نقل شيء من أنقاضه، ومن تأخّر بعد ذلك فلا حقّ له في شيء منه ولا حكر يلزمه. وأباح تعمير ذلك جميعه بغير طلب بحقّ فيه، فطلب الناس كافة ما هو جار في الديوان السلطانيّ وغيره، وعمروه حتّى صار البلدان لا يتخلّلهما داثر ولا دارس، وبنى في الشارع يعني خارج باب زويلة من الباب الجديد إلى الجبل عرضا وهو القلعة الآن. قال: وكان الخراب استولى على تلك الأماكن في زمن المستنصر «2» في أيام وزارة البازوري حتّى أنه كان بنى حائطا يستر الخراب عن نظر الخليفة إذا توجّه من القاهرة إلى مصر، وبنى حائطا آخر عند جامع «3» ابن طولون. قال: وعمر ذلك حتّى صار المتعيّشون بالقاهرة والمستخدمون يصلّون العشاء الأخيرة بالقاهرة ويتوجّهون إلى مساكنهم في مصر لا يزالون في ضوء وسرج وسوق موقود إلى باب الصفا وهو المعاصر الآن، وذلك أنه يخرج من الباب الحديد الحاكمي على يمنة بركة الفيل إلى بستان سيف الإسلام وعدّة بساتين، وقبالة جميع ذلك حوانيت مسكونة عامرة بالمتعيّشين إلى مصر والمعاش مستمر الليل والنهار.
حارة الهلالية: ذكر ابن عبد الظاهر أنّها على يسرة الخارج من الباب الحديد الحاكمي.
حارة البيازرة: هذه الحارة خارج باب القنطرة على شاطىء الخليج من شرقيه فيما بين زقاق الكحل وباب القنطرة حيث المواضع التي تعرف اليوم ببركة جنادق والكدّاشين، وإلى(3/39)
قريب من حارة بهاء الدين، واختطت هذه الحارة في الأيام الآمرية، وذلك أن زمام «1» البيازرة شكا ضيق دار الطيور بمصر، وسأل أن يفسح للبيازرة في عمارة حارة على شاطىء الخليج بظاهر القاهرة لحاجة الطيور والوحوش إلى الماء، فأذن له في ذلك، فاختطّوا هذه الحارة وجعلوا منازلهم مناظر على الخليج، وفي كلّ دار باب سرّ ينزل منه إلى الخليج واتّصل بنا هذه الحارة بزقاق الكحل، فعرفت بهم وسميت بحارة البيازرة، واحدهم بازيار «2» ، ثم إنّ المختار الصقلبي زمام القصر أنشأ بجوارها بستانا وبنى فيه منظرة عظيمة، وهذا البستان يعرف اليوم موضعه ببستان ابن صيرم خارج باب الفتوح، فلما كثرت العمائر في حارة البيازرة أمر الوزير المأمون بعمل الأقنة «3» لشيّ الطوب على شاطىء الخليج الكبير إلى حيث كان البستان الكبير الجيوشيّ الذي تقدّم ذكره في ذكر مناظر الخلفاء ومنتزهاتهم.
حارة الحسينية: عرفت بطائفة من عبيد الشراء يقال لهم الحسينية. قال المسبّحي في حوادث سنة خمس وتسعين وثلثمائة: وأمر بعمل شونة «4» ممّا يلي الجبل ملئت بالسنط والبوص والحلفاء فابتدىء بعملها في ذي الحجة سنة أربع وتسعين وثلثمائة إلى شهر ربيع الأول سنة خمس وتسعين، فخامر قلوب الناس من ذلك جزع شديد، وظنّ كلّ من يتعلّق بخدمة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله أنّ هذه الشونة عملت لهم. ثمّ قويت الإشاعات وتحدّث العوام في الطرقات أنها للكتّاب وأصحاب الدواوين وأسبابهم، فاجتمع سائر الكتّاب وخرجوا بأجمعهم في خامس ربيع الأوّل ومعهم سائر المتصرّفين في الدواوين من المسلمين والنصارى إلى الرماحين بالقاهرة، ولم يزالوا يقبّلون الأرض حتّى وصلوا إلى القصر، فوقفوا على بابه يدعون ويتضرّعون ويضجّون ويسألون العفو عنهم، ومعهم رقعة قد كتبت عن جميعهم إلى أن دخلوا باب القصر الكبير وسألوا أن يعفى عنهم ولا يسمع فيهم قول ساع يسعى بهم، وسلّموا رقعتهم إلى قائد القوّاد الحسين بن جوهر، فأوصلها إلى أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله، فأجيبوا إلى ما سألوا، وخرج إليهم قائد القوّاد، فأمرهم بالانصراف والبكور لقراءة سجلّ بالعفو عنهم، فانصرفوا بعد العصر، وقرىء من الغد سجل كتب منه نسخة للمسلمين ونسخة للنصارى ونسخة لليهود بأمان لهم والعفو عنهم. وقال:
في ربيع الآخر، واشتدّ خوف الناس من أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله، فكتب ما شاء الله من الأمانات للغلمان الأتراك الخاصّة وزمامهم وأمرائهم من الحمدانية والكجورية والغلمان العرفان والمماليك وصبيان الدار وأصحاب الإقطاعات والمرتزقة والغلمان الحاكميّة القدم(3/40)
على اختلاف أصنافهم، وكتب أمان الجماعة من خدم القصر الموسومين بخدمة الحضرة بعد ما تجمّعوا وصاروا إلى تربة للعزيز بالله وضجوا بالبكاء وكشفوا رؤوسهم، وكتبت سجلّات عدّة بأمانات للديلم والجبل والغلمان الشرابية والغلمان الريحانية والغلمان البشارية والغلمان المفرّقة العجم وغيرهم والنقباء والروم المرتزقة، وكتبت عدّة أمانات للزويليين والبنادين والطبّالين والبرقيين والعطوفيين وللعرافة الجوانية والجودرية «1» وللمظفرّية وللصنهاجيين ولعبيد الشراء الحسينية وللميمونية وللفرحية وأمان لمؤذني أبواب القصر وأمانات لسائر البيارزة والفهّادين والحجّالين وأمانات أخر لعدّة أقوام، كلّ ذلك بعد سؤالهم وتضرّعهم. وقال: في جمادى الآخرة وخرج أهل الأسواق على طبقاتهم كلّ يلتمس كتب أمان يكون لهم، فكتب فوق المائة سجل بأمان لأهل الأسواق على طبقاتهم نسخة واحدة، وكان يقرأ جميعها في القصر أبو عليّ أحمد بن عبد السميع العباسيّ، وتسلم أهل كل سوق ما كتب لهم، وهذه نسخة إحداها.
بعد البسملة: هذا كتاب من عبد الله ووليه المنصور أبي عليّ، الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين، لأهل مسجد عبد الله، أنكم من الآمنين بأمان الله، الملك الحق المبين، وأمان جدّنا محمد خاتم النبيين، وأبينا عليّ خير الوصيين، وآبائنا الذريّة النبويّة المهديين، صلى الله على الرسول ووصيه وعليهم أجمعين، وأمان أمير المؤمنين على النفس والحال والدم والمال، لا خوف عليكم، ولا تمتدّ يد بسوء إليكم إلّا في حدّ يقام بواجبه، وحق يؤخذ بمستوجبه، فليوثق بذلك وليعوّل عليه إن شاء الله تعالى. وكتب في جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين وثلاثمائة والحمد لله، وصلى الله على محمد سيد المرسلين، وعلى خير الوصيين، وعلى الأئمة المهديين ذرية النبوّة، وسلم تسليما كثيرا. وقال ابن عبد الظاهر:
فأمّا الحارات التي من باب الفتوح ميمنة وميسرة للخارج منه، فالميمنة إلى الهليلجة، والميسرة إلى بركة الأرمن برسم الريحانية، وهي الحسينية الآن، وكانت برسم الريحانية الغزاوية والمولدة والعجمان وعبيد الشراء، وكانت ثمان حارات وهي: حارة حامد، بين الحارتين، المنشية الكبيرة، الحارة الكبيرة، الحارة الوسطى، سوق الكبير، الوزيرية «2» وللأجناد بظاهر القاهرة حارات وهي: حارة البيازرة والحسينية جميع ذلك سكن الريحانية وسكن الجيوشية والعطوفية بالقاهرة، وبظاهرها الهلالية والشوبك وحلب والحبانية والمأمونية وحارة الروم وحارة المصامدة والحارة الكبيرة والمنصورة الصغيرة واليانسية وحارة أبي بكر والمقس ورأس التبان والشارع. ولم يكن للأجناد في هذا الوجه غير حارة(3/41)
عنتر للمؤمنين المترجلة، وكانت كل حارة من هذه بلدة كبيرة بالبزازين والعطارين والجزارين وغيرهم، والولاة لا يحكمون عليها، ولا يحكم فيها إلّا الأزمة ونوّابهم، وأعظم الجميع الحارة الحسينية التي هي آخر صف الميمنة إلى الهليلجة، وهي الحسينية الآن، لأنها كانت سكن الأرمن، فارسهم وراجلهم، وكان يجتمع بها قريب من سبعة آلاف نفس وأكثر من ذلك، وبها أسواق عدّة.
وقال في موضع آخر: الحسينية منسوبة لجماعة من الأشراف الحسينيين، وكانوا في الأيام الكاملية قدموا من الحجاز، فنزلوا خارج باب النصر بهذه الأمكنة واستوطنوها، وبنوا بها مدابغ صنعوا بها الأديم المشبه بالطائفي، فسمّيت بالحسينية، ثم سكنها الأجناد بعد ذلك وابتنوا بها هذه الأبنية العظيمة، وهذا وهم، فإنه تقدّم أنّ جملة الطوائف في الأيام الحاكمية الطائفة الحسينية، وتقدّم فيما نقله ابن عبد الظاهر أيضا أنّ الحسينية كانت عدّة حارات، والأيام الكاملية، إنما كانت بعد الستمائة، وقد كانت الحسينية قبل ذلك بما ينيف عن مائتي سنة فتدبره.
واعلم أنّ الحسينية شقتان، إحداهما ما خرج عن باب الفتوح، وطولها من خارج باب الفتوح إلى الخندق، وهذه الشقة هي التي كانت مساكن الجند في أيام الخلفاء الفاطميين، وبها كانت الحارات المذكورة. والشقة الأخرى ما خرج عن باب النصر وامتدّ في الطول إلى الريدانية، وهذه الشقة لم يكن بها في أيام الخلفاء الفاطميين سوى مصلى العيد تجاه باب النصر، وما بين المصلى إلى الريدانية فضاء لا بناء فيه، وكانت القوافل إذا برزت تريد الحج تنزل هناك، فلما كان بعد الخمسين وأربعمائة وقدم بدر الجمالي أمير الجيوش، وقام بتدبير أمر الدولة الخليفة المنتصر بالله، أنشأ بحري مصلى العيد خارج باب النصر تربة عظيمة، وفيها قبره هو وولده الأفضل ابن أمير الجيوش، وأبو عليّ كتيفات بن الأفضل وغيره، وهي باقية إلى يومنا هذا. ثم تتابع الناس في إنشاء الترب هناك حتى كثرت، ولم تزل هذه الشقة مواضع للترب، ومقابر أهل الحسينية والقاهرة إلى بعد السبعمائة، ولقد حدّثت عن المشيخة ممن أدرك، بأنّ ما بين مصلى الأموات التي خارج باب النصر وبين دار كهرداش التي تعرف اليوم بدار الحاجب؛ مكانا يعرف بالمراغة، معدّ لتمريغ الدّواب به، وأنّ ما في صف المصلى من بحريها الترب فقط، ولم تعمر هذه الشقة إلا في الدولة التركية، لا سيما لما تغلب التتر على ممالك الشرق والعراق، وجفل الناس إلى مصر، فنزلوا بهذه الشقة وبالشقة الأخرى، وعمروا بها المساكن، ونزل بها أيضا أمراء الدولة فصارت من أعظم عمائر مصر والقاهرة، واتخذ الأمراء بها من بحريها فيما بين الريدانية إلى الخندق مناخات الجمال، واصطبلات الخيل، ومن ورائها الأسواق والمساكن العظيمة في الكثرة، وصار أهلها يوصفون بالحسن، خصوصا لما قدمت الأويراتية.(3/42)
ذكر قدوم الأويراتية
وكان من خبر هذه الطائفة: أنّ بيدو بن طرغاي بن هولاكو لما قتل في ذي الحجة، سنة أربع وتسعين وسبعمائة، وقام في الملك من بعده على المغل الملك غازان محمود بن خر بنده بن إيغاني، تخوّف منه عدّة من المغل يعرفون بالأويراتية، وفرّوا عن بلاده إلى نواحي بغداد، فنزلوا هناك مع كبيرهم طرغاي، وجرت لهم خطوب آلت بهم إلى اللحاق بالفرات فأقاموا بها هنالك، وبعثوا إلى نائب حلب يستأذنوه في قطع الفرات ليعبروا إلى ممالك الشام، فأذن لهم، وعدّوا الفرات إلى مدينة بهنسا، فأكرمهم نائبا وقام لهم بما ينبغي من العلوفات والضيافات، وطولع الملك العادل زين الدين كتيفا، وهو يومئذ سلطان مصر والشام بأمرهم، فاستشار الأمراء فيما يعمل بهم، فاتفق الرأي على استدعاء أكابرهم إلى الديار المصرية، وتفريق باقيهم في البلاد الساحلية وغيرها من بلاد الشام، وخرج إليهم الأمير علم الدين سنجر الدواداري، والأمير شمس الدين سنقر الأعسر إلى دمشق، فجهزا أكابر الأويراتية نحو الثلاثمائة للقدوم على السلطان، وفرّقا من بقي منهم بالبقاع العزيزة وبلاد الساحل، ولما قرب الجماعة من القاهرة، وخرج الأمراء بالعسكر إلى لقائهم، واجتمع الناس من كل مكان حتى امتلأ الفضاء للنظر إليهم، فكان لدخولهم يوم عظيم، وصاروا إلى قلعة الجبل، فأنعم السلطان على طرغاي مقدّمهم بإمرة طبلخانة، وعلى اللصوص بإمرة عشرة، وأعطى البقية تقادما في الحلقة واقطاعات، وأجرى عليهم الرواتب، وأنزلوا بالحسينية، وكانوا على غير الملة الإسلامية، فشق ذلك على الناس، وبلوامع ذلك منهم بأنواع من البلاء لسوء أخلاقهم ونفرة نفوسهم وشدّة جبروتهم، وكان إذ ذاك بالقاهرة ومصر غلاء كبير وفناء عظيم، فتضاعفت المضرّة واشتدّ الأمر على الناس، وقال في ذلك الأديب شمس الدين محمد بن دينار:
ربنا اكشف عنا العذاب فإنّا ... قد تلفنا في الدولة المغلية
جاءنا المغل والغلا فانصلقنا ... وانطبخنا في الدولة المغلية
ولما دخل شهر رمضان من سنة خمس وتسعين وستمائة لم يصم أحد من الأويراتية، وقيل للسلطان ذلك، فأبى أن يكرههم على الإسلام، ومنع من معارضتهم ونهى أن يشوّش عليهم أحد، وأظهر العناية بهم، وكان مراده أن يجعلهم عونا له يتقوّى بهم، فبالغ في إكرامهم حتى أثر في قلوب إمراء الدولة منه احنا وخشوا إيقاعه بهم، فإن الأويراتية كانوا أهل جنس كتيفا، وكانوا مع ذلك صورا جميلة، فافتتن بهم الأمراء وتنافسوا في أولادهم من الذكور والإناث، واتخذوا منهم عدّة صيّروهم من جملة جندهم، وتعشّقوهم، فكان بعضهم يستنشد من صاحبه من اختص به وجعله محل شهوته، ثم ما قنع الأمراء ما كان منهم بمصر حتى أرسلوا إلى البلاد الشامية واستدعوا منهم طائفة كبيرة، فتكاثر نسلهم في القاهرة(3/43)
واشتدّت الرغبة من الكافة في أولادهم على اختلاف الآراء في الإناث والذكور، فوقع التحاسد والتشاجر بين أهل الدولة إلى أن آل الأمر بسببهم وبأسباب أخر إلى خلع السلطان الملك العادل كتيفا من الملك، في صفر سنة ست وتسعين وستمائة.
فلما قام في السلطنة من بعده الملك المنصور حسام الدين لاجين، قبض على طرغاي مقدّم الأويراتية، وعلى جماعة من أكابرهم، وبعث بهم إلى الإسكندرية فسجنهم بها وقتلهم، وفرّق جميع الأويراتية على الأمراء، فاستخدموهم وجعلوهم من جندهم، فصار أهل الحسينية لذلك يوصفون بالحسن والجمال البارع، وأدركنا من ذلك طرفا جيدا، وكان للناس في نكاح نسائهم رغبة، ولآخرين شغف بأولادهم، ولله در الشيخ تقيّ الدين السروجيّ إذ يقول من أبيات:
يا ساعي الشوق الذي مذ جرى ... جرت دموعي فهي أعوانه
خذ لي جوابا عن كتابي الذي ... إلى الحسينية عنوانه
فهي كما قد قيل وادي الحمى ... وأهلها في الحسن غزلانه
أمشي قليلا وانعطف يسرة ... يلقاك درب طال بنيانه
واقصد بصدر الدرب ذاك الذي ... بحسنه تحسّن جيرانه
سلم وقل يخشى مسن أي مسن ... اشت حديثا طال كتمانه
وسل لي الوصل فإن قال بق ... فقل أوت قد طال هجرانه
وما برحوا يوصفون بالزعارة والشجاعة، وكان يقال لهم البدورة، فيقال البدر فلان، والبدر فلان، ويعانون لباس الفتوّة وحمل السلاح، ويؤثر منهم حكايات كثيرة وأخبار جمة، وكانت الحسينية قد أربت في عمارتها على سائر اخطاط مصر والقاهرة، حتى لقد قال لي ثقة ممن أدركت من الشيخة: أنّه يعرف الحسينية عامرة بالأسواق والدور، وسائر شوارعها كافة بازدحام الناس، ومن الباعة والمارة وأرباب المعايش، وأصحاب اللهو والملعوب، فيما بين الريدانية، محطة المحمل يوم خروج الحاج من القاهرة، وإلى باب الفتوح، لا يستطيع الإنسان أن يمرّ في هذا الشارع الطويل العريض طول هذه المسافة الكبيرة إلّا بمشقة من الزحام، كما كنا نعرف شاعر بين القصرين فيما أدركنا. وما زال أمر الحسينية متماسكا إلى أن كانت الحوادث والمحن منذ سنة ست وثمانمائة وما بعدها، فخربت حاراتها، ونقضت مبانيها، وبيع ما فيها من الأخشاب وغيرها، وباد أهلها، ثم حدث بها بعد سنة عشرين وثمانمائة آية من آيات الله تعالى، وذلك أنّ في أعوام بضع وستين وسبعمائة، بدا بناحية برج الزيات فيما بين المطرية وسر ياقوس فساد الأرضة التي من شأنها العبث في الكتب والثياب، فأكلت لشخص نحو ألف وخمسمائة قتة دريس، فكنّا لا نزال نتعجب من ذلك، ثم فشت هناك وشنع عبثها في سقوف الدور، وسرت حتى عاثت في أخشاب سقوف(3/44)
الحسينية وغلات أهلها وسائر أمتعتهم، حتى أتلفت شيئا كثيرا، وقويت حتى صارت تأكل الجدران، فبادر أهل تلك الجهة إلى هدم ما قد بقي من الدور، خوفا عليها من الأرضة شيئا بعد شيء حتى قاربوا باب الفتوح وباب النصر، وقد بقي منها اليوم قليل من كثير يخاف إن استمرّت أحوال الإقليم على ما هي عليه من الفساد أن تدثر وتمحى آثارها، كما دثر سواها، ولله در القائل:
والله إن لم يداركها وقد رحلت ... بلمحة أو بلطف من لديه خفي
ولم يجد بتلافيها على عجل ... ما أمرها صائر إلّا إلى تلف
حارة حلب: هذه الحارة خارج باب زويلة، تعرف اليوم بزقاق حلب، وكانت قديما من جملة مساكن الأجناد. قال ياقوت في باب حلب: الأوّل حلب المدينة المشهورة بالشام، وهي قصبة نواحي قنسرين والعواصم اليوم، الثاني حلب الساجود من نواحي حلب أيضا الثالث كفر حلب من قراها أيضا، الرابع محلة بظاهر القاهرة بالشارع من جهة الفسطاط. والله تعالى أعلم.
ذكر اخطاط القاهرة وظواهرها
قد تقدّم ذكر ما يطلق عليه حارة من الأخطاط، ونريد أن نذكر من الخطط ما لا يطلق عليه اسم حارة ولا درب، وهي كثيرة، وكل قليل تتغير أسماؤها، ولا بدّ من إيراد ما تيسر منها.
خط خان الوراقة: هذا الخط فيما بين حارة بهاء الدين وسويقة أمير الجيوش، وفي شرقيّة سوق المرجلين، وهو يشتمل على عدّة مساكن، وبه طاحون، وكان موضعه قديما اصطبل الصبيان الحجرية لموقف خيولهم كما تقدّم، فلما زالت الدولة الفاطمية اختط مواضع للسكنى وقد شمله الخراب.
خط باب القنطرة: هذا الخط كان يعرف قديما بحارة المرتاحية وحارة الفرحية والرماحين، وكان ما بين الرماحين الذي يعرف اليوم بباب القوس، داخل باب القنطرة، وبين الخليج، فضاء لا عمارة فيه، بطول ما بين باب الرماحين إلى باب الخوخة، وإلى باب سعادة، وإلى باب الفرج، ولم يكن إذ ذاك على حافة الخليج عمائر البتة، وإنما العمائر من جانب الكافوري «1» وهي مناظر اللؤلؤة «2» وما جاورها من قبليها إلى باب الفرج، وتخرج(3/45)
العامّة عصريات كل يوم إلى شاطيء الخليج الشرقي تحت المناظر للتفرّج، فإن بر الخليج الغربيّ كان فضاء ما بين بساتين وبرك، كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
قال القاضي الفاضل في متجدّدات سنة سبع وثمانين وخمسمائة: في شوّال قطع النيل الجسور واقتلع الشجر، وغرّق النواحي وهدم المساكن، وأتلف كثيرا من النساء والأطفال، وكثر الرخاء بمصر، فالقمح كل مائة أردب بثلاثين دينارا، والخبز البايت ستة أرطال بربع درهم، والرطب الأمهات ستة أرطال بدرهم، والموز ستة أرطال بدرهم، والرمان الجيد مائة حبة بدرهم، والحمل الخيار بدرهمين، والتين ثمانية أرطال بدرهم، والعنب ستة أرطال بدرهم في شهر بابه بعد انقضاء موسمه المعهود بشهرين، والياسمين خمسة أرطال بدرهم، وآل أمر أصحاب البساتين إلى أن لا يجمعوا الزهر لنقص ثمنه عن أجرة جمعه، وثمر الحناء عشرة أرطال بدرهم، والبسرة عشرة أرطال بدرهم من جيده، والمتوسط خمسة عشر رطلا بدرهم، وما في مصر إلّا متسخط بهذه النعمة.
قال: ولقد كنت في خليج القاهرة من جهة المقس لانقطاع الطرق بالمياه، فرأيت الماء مملوء سمكا، والزيادة قد طبقت الدنيا، والنخل مملوء تمرا، والمكشوف من الأرض مملوء ريحانا وبقولا، ثم نزلت فوصلت إلى المقس، فوجدت من القلعة التي بالمقس إلى منية السيرج غلالا قد ملأت صبرها الأرض، فلا يدري الماشي أين يضع رجله، متصلا عرض ذلك إلى باب القنطرة، وعلى الخليج عند باب القنطرة من مراكب الغلة ما قد ستر سواحله وأرضه. قال: ودخلت البلد فرأيت في السوق من الأخباز واللحوم والألبان والفواكه ما قد ملأها، وهجمت منه العين على منظر ما رأيت قبله مثله. قال: وفي البلد من البغي ومن المعاصي ومن الجهر بها ومن الفسق بالزنا واللواط ومن شهادة الزور ومن مظالم الأمراء والفقهاء، ومن استحلال الفطر في نهار رمضان وشرب الخمر في ليله ممن يقع عليه اسم الإسلام، ومن عدم النكير على ذلك جميعه ما لم يسمع ولم يعهد مثله، فلا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم، وظفر بجماعة مجتمعين في حارة الروم يتغدّون في قاعة في نهار رمضان، فما كلموا، وبقوم مسلمين ونصارى اجتمعوا على شرب خمر في ليل رمضان، فما أقيم فيهم حدّ، وخط باب القنطرة فيما بين حارة بهاء الدين «1» وسويقة أمير الجيوش «2» وينتهى من قبليه إلى خط بين السورين.
خط بين السورين: هذا الخط من حدّ باب الكافوري في الغرب إلى باب سعادة، وبه الآن صفان من الأملاك، أحدهما مشرف على الخليج، والآخر مشرف على الشارع المسلوك(3/46)
فيه، من باب القنطرة إلى باب سعادة، ويقال لهذا الشارع بين السورين، تسمية للعّامة بها فاشتهر بذلك، وكان في القديم بهذا الخط البستان الكافوري، يشرف عليه بحده الغربي ثمة مناظر اللؤلؤة، وقد بقيت منها عقود مبنية بالآجر، يمرّ السالك في هذا الشارع من تحتها، ثم مناظر دار الذهب، وموضعها الآن دار تعرف بدار بهادر الأعسر، وعلى بابها بئر يستقي منها الماء في حوض يشرب منه الدواب، ويجاورها قبو معقود يعرف بقبو الذهب، وهو من بقية مناظر دار الذهب، وبحدّ دار الذهب منظرة الغزالة، وهي بجوار قنطرة الموسكي، وقد بني في مكانها ربع يعرف إلى اليوم بربع غزالة، ودار ابن قرفة، وقد صار موضعها جامع ابن المغربي، وحمام ابن قرفة، وبقي منها البئر التي يستقي منها إلى اليوم بحمام السلطان، وعدّة دور كلها فيما يلي شقة القاهرة من صف باب الخوخة، وكان ما بين المناظر والخليج براحا، ولم يكن شيء من هذه العمائر التي بحافة الخليج اليوم البتة، وكان الحاكم بأمر الله في سنة إحدى وأربعمائة منع من الركوب في المراكب بالخليج، وسدّ أبواب القاهرة التي تلي الخليج، وأبواب الدور التي هناك، والطاقات المطلة عليه على ما حكاه المسبحيّ.
وقال ابن المأمون في حوادث سنة ست عشرة وخمسمائة، ولما وقع الاهتمام بسكن اللؤلؤة والمقام بها مدّة النيل على الحكم الأوّل، يعني قبل أيام أمير الجيوش بدر وابنه الأفضل، وإزالة ما لم تكن العادة جارية عليه من مضايقة اللؤلؤة بالبناء، وأنها صارت حارات تعرف بالفرحية والسودان وغيرهما، أمر حسام الملك متولي بابه بإحضار عرفاء الفرحية والإنكار عليهم في تجاسرهم على ما استجدّوه وأقدموا عليه، فاعتذروا بكثرة الرجال وضيق الأمكنة عليهم، فبنوا لهم قبابا يسيرة، فتقدّم يعني أمر الوزير المأمون إلى متولي الباب بالإنعام عليهم وعلى جميع من بنى في هذه الحارة بثلاثة آلاف درهم، وأن يقسم بينهم بالسوية، ويأمرهم بنقل قسمهم، وأن يبنو لهم حارة قبالة بستان الوزير، يعني ابن المغربيّ، خارج الباب الجديد من الشارع، خارج باب زويلة.
قال: وتحوّل الخليفة إلى اللؤلؤة بحاشيته، وأطلقت التوسعة في كل يوم لما يخص الخاص والجهات والأستاذين من جميع الأصناف، وانضاف إليها ما يطلق كل ليلة عينا وورقا وأطعمة للبائتين بالنوبة برسم الحرس بالنهار والسهر في طول الليل، من باب قنطرة بهادر إلى مسجد الليمونة من البرين، من صبيان الخاص والركاب والرهجية والسودان والحجاب، كل طائفة بنقيبها، والعرض من متولي الباب واقع بالعدة في طرفي كل ليلة، ولا يمكن بعضهم بعضا من المنام والرهجية تخدم على الدوام.
خط الكافوري: هذا الخط كان بستانا من قبل بناء القاهرة وتملك الدولة الفاطمية لديار مصر، أنشأه الأمير أبو بكر محمد بن طفج بن جف، الملقب بالإخشيد، وكان بجانبه ميدان فيه الخيول، وله أبواب من حديد، فلما قدم جوهر القائد إلى مصر، جعل هذا(3/47)
البستان من داخل القاهرة، وعرف ببستان كافور، وقيل له في الدولة الفاطمية البستان الكافوري، ثم اختط مساكن بعد ذلك.
قال ابن زولاق في كتاب سيرة الإخشيد: ولست خلون من شوّال سنة ثلاثين وثلثمائة، سار الإخشيد إلى الشام في عساكره، واستخلف أخاه أبا المظفر بن طفج. قال:
وكان يكره سفك الدماء، ولقد شرع في الخروج إلى الشام في آخر سفراته، وسار العسكر، وكان نازلا في بستانه في موضع القاهرة اليوم، فركب للمسير، فساعة خرج من باب البستان اعترضه شيخ يعرف بمسعود الصابوني، يتظلّم إليه، فنظر له، فتطير به وقال: خذوه ابطحوه، فبطح وضرب خمس عشرة مقرعة وهو ساكت. فقال الإخشيد: هو ذا يتشاطر.
فقال له كافور: قد مات. فانزعج واستقال سفرته وعاد لبستانه، وأحضر أهل الرجل واستحلهم وأطلق لهم ثلاثمائة دينار، وحمل الرجل إلى منزله ميتا، وكانت جنازته عظيمة، وسافر الإخشيد فلم يرجع إلى مصر، ومات بدمشق. وقال في كتاب تتمة كتاب أمراء مصر للكندي: وكان كافور الإخشيدي أمير مصر يواصل الركوب إلى الميدان وإلى بستانه في يوم الجمعة ويوم الأحد ويوم الثلاثاء، قال: وفي غد هذا اليوم، يعني يوم الثلاثاء، مات الأستاذ كافور الإخشيدي، لعشر بقين من جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وثلثمائة، ويوم مات الأستاذ كافور الإخشيدي، خرج الغلمان والجند إلى المنظرة وخرّبوا بستان كافور، ونهبوا دوابه وطلبوا مال البيعة.
وقال ابن عبد الظاهر: البستان الكافوري هو الذي كان بستانا لكافور الإخشيدي، وكان كثيرا ما يتنزه به، وبنيت القاهرة عنده، ولم يزل إلى سنة إحدى وخمسين وستمائة، فاختطت البحرية والعزيزية به اصطبلات، وأزيلت أشجاره. قال: ولعمري إنّ خرابه كان بحق، فإنه كان عرف بالحشيشة التي يتناولها الفقراء، والتي تطلع به يضرب بها المثل في الحسن. قال شاعرهم نور الدين أبو الحسن علي بن عبد الله بن علي الينبعي لنفسه:
ربّ ليل قطعته ونديمي ... شاهدي هو مسمعي وسميري
مجلسي مسجد وشربي من خض ... راء تزهو بحسن لون نضير
قال لي صاحبي وقد فاح منها ... نشرها مزريا بنشر العبير
أمن المسك؟ قلت ليست من المس ... ك ولكنّها من الكافوري
وقال الحافظ جمال الدين يوسف بن أحمد بن محمود بن أحمد بن محمد الأسديّ الدمشقيّ، المعروف باليغموري: أنشدني الإمام العالم المعروف بجموع الفضائل، زين الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الحنفي لنفسه، وهو أوّل من عمل فيها:
وخضراء كافورية بات فعلها ... بألبابنا فعل الرحيق المعتّق
إذ نفحتنا من شذاها بنفحة ... تدبّ لنا في كل عضو ومنطق(3/48)
غنيت بها عن شرب خمر معتّق ... وبالدلق عن لبس الجديد المزوّق
وأنشدني الحافظ جلال الدين أبو المعز ابن أبي الحسن بن أحمد بن الصائغ المغربيّ لنفسه:
عاطني خضراء كافورية ... يكتب الخمر لها من جندها
أسكرتنا فوق ما تسكرنا ... وربحنا أنفسا من حدّها
وأنشدني لنفسه:
قم عاطني خضراء كافورية ... قامت مقام سلافة الصهباء
يغدو الفقير إذا تناول درهما ... منها له تيه على الأمراء
وتراه من أقوى الورى فإذا خلا ... منها عددناه من الضعفاء
وأنشدني من لفظه لنفسه أيضا:
عاطيت من أهوى وقد زارني ... كالبدر وافى ليلة البدر
والبحر قد مدّ على متنه ... شعاعه جسرا من التبر
خضراء كافورية رنحت ... أعطافه من شدّة السكر
يفعل منها درهم فوق ما ... تفعل أرطال من الخمر
فراح نشوانا بها غافلا ... لا يعرف الحلو من المرّ
قال وقد نال بها أمره ... فبات مردودا إلى أمري
قتلتني قلت نعم سيدي ... قتلين بالسكر وبالبحر
قال: وأمر السلطان الملك الصالح، يعني نجم الدين أيوب، الأمير جمال الدين أبا الفتح موسى بن يغمور، أن يمنع من يزرع في الكافوري من الحشيشة شيئا، فدخل ذات يوم فرأى فيه منها شيئا كثيرا، فأمر بأن يجمع فجمع وأحرق. فأنشدني في الواقعة الشيخ الأديب الفاضل شرف الدين أبو العباس أحمد بن يوسف لنفسه، وذلك في ربيع الأوّل سنة ثلاث وأربعين وستمائة:
صرف الزمان وحادث المقدور ... تركا نكير الخطب غير نكير
ما سالما حيا ولا ميتا ولا ... طودا سما بل دكدكا «1» بالطور
لهفي وهل يجدي التهلف في ذرى ... طرب الغنيّ وأنس كلّ فقير
أخت المذلة لارتكاب محرّم ... قطب السرور بأيسر الميسور
جمعت محاسن ما اجتمعن لغيرها ... من كلّ شيء كان في المعمور(3/49)
منها طعام والشراب كلاهما ... والبقل والريحان وقت حضور
هي روضة إن شئتها ورياضة ... يغنى بها عن روضة وخمور
ما في المدامة كلّها منها سوى ... إثم المدام وصحبة المخمور
كلا ونكهة خمرة هي شاهد ... عدل على حدّ وجلد ظهور
أسفا لدهر غالها ولربما ... ظلّ الكريم بذلة الماسور
جمعت له الأشهاد كرما أخضرا ... كعروسة تجلى بخضر حرير
زفوا لها نارا فخلنا جنة ... برزت لنا قد زوّجت بالنور
ثم اكتست منها غلالة صفرة ... في خضرة مقرونة بزفير
فكأنها لهب اللظى في خضرة ... منها وطرف رمادها المنثور
جارى النضار على مذاب زمرّد ... تركا فتيت المسك في الكافوري
لله درك حية أو ميتة ... من منظر بهج بغير نظير
أوذيت غير ذميمة فسقى الحيا ... تربا تضمّن منك ذوب عبير
عندي لذكرك ما بقيت مخلدا ... سح الدموع ونفثة المصدور
ذكر كافور الإخشيدي «1»
كان عبدا أسود خصيا، مثقوب الشفة السفلى، بطينا قبيح القدمين، ثقيل البدن، جلب إلى مصر وعمره عشر سنين فما فوقها، في سنة عشر وثلثمائة، فلما دخل إلى مصر تمنى أن يكون أميرها، فباعه الذي جلبه لمحمد بن هاشم، أحد المتقبلين للضياع، فباعه لابن عباس الكاتب، فمرّ يوما بمصر على منجّم فنظر له في نجومه وقال له: أنت تصير إلى رجل جليل القدر، وتبلغ معه مبلغا عظيما، فدفع إليه درهمين لم يكن معه سواهما، فرمى بهما إليه وقال: أبشّرك بهذه البشارة وتعطيني درهمين؟ ثم قال له: وأزيدك، أنت تملك هذه البلد وأكثر منه، فاذكرني.
واتفق أنّ ابن عباس الكاتب أرسله بهدية يوما إلى الأمير أبي بكر محمد بن طفج الإخشيد، وهو يومئذ أحد قوّاد تكين أمير مصر، فأخذ كافورا وردّ الهدية، فترقّى عنده في الخدم حتى صار من أخص خدمه.
ولما مات الإخشيد بدمشق، ضبط كافور الأمور ودارى الناس ووعدهم إلى أن سكنت الدهماء، بعد أن اضطرب الناس، وجهز أستاذه وحمله إلى بيت المقدس، وسار إلى مصر(3/50)
فدخلها. وقد انعقد الأمر بعد الإخشيد لابنه أبي القاسم أونوجور «1» ، فلم يكن بأسرع من ورود الخبر من دمشق بأنّ سيف الدولة عليّ بن حمدان أخذها وسار إلى الرملة، فخرج كافور بالعساكر وضرب الدباديب، وهي الطبول، على باب مضربه في وقت كل صلاة، وسار فظفر وغنم ثم قدم إلى مصر وقد عظم أمره، فقام بخلافة أو نوجور، فخاطبه القوّاد بالأستاذ، وصار القوّاد يجتمعون عنده في داره فيخلع عليهم ويحملهم ويعطيهم، حتى أنه وقع لجانك أحد القوّاد الإخشيدية في يوم بأربعة عشر ألف دينار، فما زال عبدا له حتى مات، وانبسطت يده في الدولة، فعزل وولى وأعطى وحرم، ودعي له على المنابر كلها إلّا منبر مصر والرملة وطبرية، ثم دعي له بها في سنة أربعين وثلثمائة، وصار يجلس للمظالم في كل سبت، ويحضر مجلسه القضاة والوزراء والشهود ووجوه البلد، فوقع بينه وبين الأمير أونوجور، وتحرّر كل منهما من الآخر، وقويت الوحشة بينهما، وافترق الجند، فصار مع كل واحد طائفة، واتفق موت أونوجور في ذي القعدة سنة تسع وأربعين وثلثمائة، ويقال أنه سمّه. فأقام أخاه أبا الحسن عليّ بن الإخشيد من بعده، واستبدّ بالأمر دونه، وأطلق له في كل سنة أربعمائة ألف دينار، واستقل بسائر أحوال مصر والشام، ففسد ما بينه وبين الأمير أبي الحسن عليّ، فضيّق عليه كافور ومنع أن يدخل عليه أحد، فاعتل بعلة أخيه ومات، وقد طالت به في محرّم سنة خمس وخمسين وثلثمائة.
فبقيت مصر بغير أمير أياما لا يدعى فيها سوى للخليفة المطيع فقط، وكافور يدبر أمر مصر والشام في الخراج والرجال، فلما كان لأربع بقين من المحرّم المذكور، أخرج كافور كتابا من الخليفة المطيع بتقليده بعد عليّ بن الإخشيد، فلم يغير لقبه بالأستاذ، ودعى له على المنبر بعد الخليفة، وكانت له في أيامه قصص عظام، وقدم عسكر من المعز لدين الله أبي تميم معدّ من المغرب إلى الواحات، فجهّز إليه جيشا أخرجوا العسكر وقتلوا منهم، وصارت الطبول تضرب على بابه خمس مرّات في اليوم والليلة، وعدّتها مائة طبلة من نحاس. وقدمت عليه دعاة المعز لدين الله من بلاد المغرب يدعونه إلى طاعته، فلاطفهم، وكان أكثر الإخشيدية والكافورية وسائر الأولياء والكتّاب قد أخذت عليهم البيعة للمعز، وقصر مدّ النيل في أيامه. فلم يبلغ تلك السنة سوى اثني عشر ذراعا وأصابع، فاشتدّ الغلاء وفحش الموت في الناس، حتى عجزوا عن تكفينهم ومواراتهم، وأرجف بمسير القرامطة إلى الشام، وبدت غلمانه تتنكر له، وكانوا ألفا وسبعين غلاما تركيا سوى الروم والمولدين، فمات لعشر بقين من جمادى الأوّل سنة سبع وخمسين وثلاثمائة، عن ستين سنة، فوجد له من العين سبعمائة ألف دينار، ومن الورق والحلي والجوهر والعنبر والطيب والثياب والآلات والفرش والخيام والعبيد والجواري والدواب ما قوّم بستمائة ألف ألف دينار،(3/51)
وكانت مدّة تدبيره أمر مصر والشام والحرمين إحدى وعشرين سنة وشهرين وعشرين يوما، منها منفردا بالولاية بعد أولاد أستاذه سنتان وأربعة أشهر وتسعة أيام، ومات عن غير وصية ولا صدقة ولا مأثرة يذكر بها، ودعي له على المنابر بالكنية التي كناه بها الخليفة، وهي أبو المسك، أربع عشرة جمعة، وبعده اختلت مصر وكادت تدمر حتى قدمت جيوش المعز على يد القائد جوهر، فصارت مصر دار خلافة، ووجد على قبره مكتوب:
ما بال قبرك يا كافور منفردا ... بصائح الموت بعد العسكر اللجب
يدوس قبرك من أدنى الرجال وقد ... كانت أسود الشرى تخشاك في الكثب
ووجد أيضا مكتوب:
انظر إلى غير الأيام ما صنعت ... أفنت أناسا بها كانوا وما فنيت
دنياهم أضحكت أيام دولتهم ... حتى إذا فنيت ناحت لهم وبكت
خط الخرشتف: هذا الخط فيما بين حارة برجوان والكافوري، ويتوصل إليه من بين القصرين، فيدخل له من قبو يعرف بقبو الخرشتف، وهو الذي كان يعرف قديما بباب التبانين، ويسلك من الخرشتف إلى خط باب سرّ المارستان، وإلى حارة زويلة، وكان موضع الخرشتف في أيام الخلفاء الفاطميين ميدانا بجوار القصر الغربيّ والبستان الكافوريّ، فلما زالت الدولة اختطّ وصار فيه عدّة مساكن، وبه أيضا سوق، وإنما سمّي بالخرشتف لأنّ المعز أوّل من بنى فيه الاصطبلات بالخرشتف، وهو ما يتحجر مما يوقد به على مياه الحمامات من الأزبال وغيرها. قال ابن عبد الظاهر: الحارة المعروفة بالخرشتف كانت قديما ميدانا للخلفاء، فلما ورد المعز بنوا به اصطبلات وكذلك القصر الغربيّ، وقد كان النساء اللاتي أخرجن من القصر يسكنّ بالقصر النافعي، فامتدّت الأيدي إلى طوبه وأخشابه، وبيعت وتلاشى حاله وبني به وبالميدان اصطبلات ودويرات بالخرشتف، فسمي بذلك، ثم بنى به الأدر والطواحين وغيرها، وذلك بعد الستمائة، وأكثر أراضي الميدان حكر للأدر القطبية.
خط اصطبل القطبية «1» : هذا الخط أيضا من جملة أراضي الميدان، ولما انتقلت القاعة التي كانت سكن أخت الحاكم بأمر الله بعد زوال الدولة الفاطمية، صارت إلى الملك المفضل قطب الدين أحمد بن الملك العادل أبي بكر ابن أيوب، فاستقرّ بها هو وذريته، فصار يقال لها الدار القطبية، واتخذ هذا المكان اصطبلا لهذه القاعة، فعرف باصطبل القطبية، ثم لما أخذ الملك المنصور قلاوون القاعة القطبية من مونسة خاتون، المعروفة بدار إقبال ابنة الملك العادل أبي بكر ابن أيوب، أخت المفضل قطب الدين أحمد المعروفة(3/52)
بخاتون القطبية، وعملها المارستان المنصوري، بنى في هذا الإصطبل المساكن، وصارت من جملة الخطط المشهورة، ويتوصل إليه من وسط سوق الخرشتف، ويسلك فيه من آخره إلى المدرسة الناصرية والمدرسة الظاهرية المستجدّة، وعمل على أوّله دربا يغلق وهو خط عامر.
خط باب سر المارستان: هذا الخط يسلك إليه من الخرشتف، ويصير السالك فيه إلى البندقانيين، وبعض هذا الخط وهو جله ومعظمه من جملة اصطبل الجميزة الذي كان فيه خيول الدولة الفاطمية، وقد تقدّم ذكره. وموضع باب سر المارستان المنصوري هو باب الساباط، فلما زالت الدولة واختط الكافوري والخرشتف واصطبل القطبية، صار هذا الخط واقعا بين هذه الأخطاط، ونسب إلى باب سر المارستان لأنه من هنالك، وأدركت بعض هذه الخطة وهي خراب، ثم أنشأ فيه القاضي جمال الدين محمود القيصري محتسب القاهرة في أيام ولايته. نظر المارستان، في سنة إحدى وثمانين وسبعمائة، الطاحون العظيمة ذات الأحجار، والفرن والربع، علوه في المكان الخراب، وجعل ذلك جاريا في جملة أوقاف المارستان المنصوري.
خط بين القصرين: هذا الخط أعمر أخطاط القاهرة وأنزهها، وقد كان في الدولة الفاطمية فضاء كبيرا وبراحا واسعا، يقف فيه عشرة آلاف من العسكر ما بين فارس وراجل، ويكون به طرادهم ووقوفهم للخدمة، كما هو الحال اليوم في الرميلة تحت قلعة الجبل، فلما انقضت أيام الدولة الفاطمية وخلت القصور من أهاليها، ونزل بها أمراء الدولة الأيوبية وغيروا معالمها، صار هذا الموضع سوقا مبتذلا بعد ما كان ملاذا مبجلا، وقعد فيه الباعة بأصناف المأكولات، من اللحمان المتنوّعة والحلاوات المصنعة والفاكهة وغيرها، فصار منتزها تمر فيه أعيان الناس وأماثلهم في الليل مشاة، لرؤية ما هناك من السرج والقناديل الخارجة عن الحدّ في الكثرة، ولرؤية ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، مما فيه لذة للحواس الخمس، وكانت تعقد فيه عدّة حلق لقراءة السير والأخبار وإنشاد الأشعار، والتفنن في أنواع اللعب واللهو، فيصير مجمعا لا يقدّر قدره، ولا يمكن حكاية وصفه، وسأتلو عليك من أنباء ذلك ما لا تجده مجموعا في كتاب.
قال المسبّحي في حوادث جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين وثلثمائة: وفيه منع كل أحد ممن يركب مع المكاريين أن يدخل من باب القاهرة راكبا، ولا المكاريين أيضا بحميرهم، ولا يجلس أحد على باب الزهومة «1» من التجار وغيرهم، ولا يمشي أحد(3/53)
ملاصق القصر من باب الزهومة إلى أقصى باب الزمرّد «1» ، ثم عفى عن المكاريين بعد ذلك وكتب لهم أمان قرىء.
وقال ابن الطوبر: ويبيت خارج باب القصر كل ليلة خمسون فارسا، فإذا أذّن بالعشاء الآخرة داخل القاعة، وصلّى الإمام الراتب بها بالمقيمين فيها من الأستاذين وغيرهم، وقف على باب القصر أمير يقال له سنان الدولة ابن الكركندي، فإذا علم بفراغ الصلاة أمر بضرب النوبات، من الطبل والبوق وتوابعهما من عدّة وافرة بطريق مستحسنة ساعة زمانية، ثم يخرج بعد ذلك أستاذ برسم هذه الخدمة، فيقول: أمير المؤمنين يردّ علي سنان الدولة السلام، فيصقع ويغرس حربة على الباب ثم يرفعها بيده، فإذا رفعها أغلق الباب وسار إلى حوالي القصر سبع دورات، فإذا انتهى ذلك جعل على الباب البياتين والفرّاشين المقدّم ذكرهم، وأفضى المؤذنون إلى خزانتهم هناك، ورميت السلسلة عند المضيق آخر بين القصرين من جانب السيوفيين، فينقطع المار من ذلك المكان إلى أن تضرب النوبة سحرا قريب الفجر، فتنصرف الناس من هناك بارتفاع السلسلة. انتهى.
وأخبرني المشيخة أنه ما زال الرسم إلى قريب، أنه لا يمرّ بشارع بين القصرين حمل تبن ولا حمل حطب، ولا يستطيع أحد أن يسوق فرسا فيه، فإن ساق أحد أنكر عليه وخرق به.
وقال ابن سعيد في كتاب المغرب: والمكان الذي كان يعرف في القاهرة بين القصرين هو من الترتيب السلطانيّ، لأنّ هناك ساحة متسعة للعسكر والمتفرّجين ما بين القصرين، ولو كانت القاهرة كلها كذلك كانت عظيمة القدر كاملة الهمة السلطانية.
وقال ياقوت: وبين القصرين كان ببغداد بباب الطاق، يراد به قصر أسماء بنت المنصور، وقصر عبد الله بن المهدي، وكان يقال لهما أيضا بين القصرين. وبين القصرين بمصر والقاهرة، وهما قصران متقابلان بينهما طريق العامّة والسوق، عمرهما ملوك مصر المغاربة المتعلونة، الذين ادّعوا أنهم علويّة.
وحدّثني الفاضل الرئيس تقيّ الدين عبد الوهاب، ناظر الخواص الشريفة، ابن الوزير الصاحب فخر الدين عبد الله بن أبي شاكر، أنه كان يشتري في كل ليلة من بين القصرين بعد العشاء الآخرة، برسم الوزير الصاحب فخر الدين عبد الله بن خصيب، من الدجاج المطجن والقطا وفراخ الحمام والعصافير المقلاة بمبلغ مائتي درهم، وخمسين درهما فضة، يكون عنها يومئذ نحو من اثني عشر مثقالا من الذهب، وأنّ هذا كان دأبه في كل ليلة، ولا يكاد مثل هذا مع كثرته لرخاء الأسعار يؤثر نقصه، فيما كان هنالك من هذا الصنف، لعظم ما كان(3/54)
يوضع في بين القصرين من هذا النوع وغيره، ولقد أدركنا في كل ليلة من بعد العصر يجلس الباعة بصنف لحمان الطيور التي تقلى صفا، من باب المدرسة الكاملية إلى باب المدرسة الناصرية، وذلك قبل بناء المدرسة الظاهرية المستجدّة، فيباع لحم الدجاج المطجن، ولحم الأوز المطجن، كلّ رطل بدرهم، وتارة بدرهم وربع، وتباع العصافير المقوّة كل عصفور بفلس، حسابا عن كل أربعة وعشرين بدرهم، والمشيخة تقول إنّا حينئذ في غلاء، لكثرة ما تصف من سعة الأرزاق ورخاء الأسعار في الزمن الذي أدركوه قبل الفناء الكبير، ومع ذلك فلقد وقع في سنة ست وثمانين شيء لا يكاد يصدّقه اليوم من لم يدرك ذلك الزمان، وهو أنّه: كان لنا من جيراننا بحارة برجوان، شخص يعاني الجندية، ويركب الخيل، فبلغني عن غلامه أنّه خرج في ليلة من ليالي رمضان، وكان رمضان إذ ذاك في فصل الصيف، ومعه رقيق له من غلمان الخيل، وأنهما سرقا من شارع بين القصرين، وما قرب منه، بضعا وعشرين بطيخة خضراء، وبضعا وثلاثين شقفة جبن، والشقفة أبدا من نصف رطل إلى رطل، فما منّا إلّا من تعجب من ذلك، وكيف تهيأ لاثنين فعل هذا، وحمل هذا القدر يحتاج إلى دابتين، إلى أن قدّر الله تعالى لي بعد ذلك أن اجتمعت بأحد الغلامين المذكورين، وسألته عن ذلك فاعترف لي به، قلت: صف لي كيف عملتما، فذكر أنهما كانا يقفان على حانوت الجبان، أو مقعد البطيخيّ، وكان إذ ذاك يعمل من البطيخ في بين القصرين مرصّات كثيرة جدّا، في كل مرصّ ما شاء الله من البطيخ، قال: فإذا وقفنا قلب أحدنا بطيخة وقلب الآخر أخرى، فلشدّة ازدحام الناس يتناول أحدنا بطيخته بخفة يد وصناعة ويقوم، فلا يفطن به. أو يقلب أحدنا ورفيقه قائم من ورائه، والبياع مشغول البال لكثرة ما عليه من المشترين، وما في ذلك الشارع من غزير الناس، فيحذفها من تحته وهو جالس القرفصا، فإذا أحسّ بها رفيقه تناولها ومرّ. وكذلك كان فعلهم مع الجبانين، وكانوا كثيرا، فانظر- أعزك الله- إلى بضاعة يسرق منها مثل هذا القدر ولا يفطن به من كثرة ما هنالك من البضائع ولعظم الخلق.
ولقد حدّثني غير واحد ممن قدم مع قاضي القضاة عماد الدين أحمد الكركيّ، أنّه لما قدموا من الكرك في سنة اثنين وتسعين وسبعمائة، كادوا يذهلون عند مشاهدة بين القصرين.
وقال لي ابنه محب الدين محمد: أوّل ما شاهدّت بين القصرين، حسبت أنّ زفة أو جنازة كبيرة تمرّ من هنالك، فلما لم ينقطع المارة، سألت ما بال الناس مجتمعين للمرور من ههنا؟
فقيل لي: هذا دأب البلد دائما، ولقد كنا نسمع أنّ من الناس من يقوم خلف الشاب أو المرأة عند التمشي بعد العشاء بين القصرين ويجامع حتى يقضي وطره وهما ماشيان، من غير أن يدركهما أحد لشدّة الزحام، واشتغال كل أحد بلهوه. وما برحت أجد من الازدحام مشقة، حتى أفادني بعض من أدركت أنّ من الرأي في المشي أن يأخذ الإنسان في مشيه نحو شماله، فإنه لا يجد من المشقة كما يجد غيره من الزحام، فاعتبرت ذلك آلاف مرّات في عدّة سنين، فما أخطأ معي، ولقد كنت أكثر من تأمّل المارة بين القصرين، فإذا هم صفان،(3/55)
كلّ صف يمرّ من صوب شماله كالسيل إذا اندفع، وعلّل هذا الذي أفادني، أنّ القلب من يسار كل أحد، والناس تميل إلى جهة قلوبهم، فلذلك صار مشيهم من صوب شمائلهم، وكذا صح لي مع طول الاعتياد. ولما حدثت هذه المحن بعد سنة ست وثمانين وثمانمائة، تلاشى أمر بين القصرين، وذهب ما هناك، وما أخوفني أن يكون أمر القاهرة كما قيل:
هذه بلدة قضى الله يا صا ... ح عليها كما ترى بالخراب
فقف العيس وقفة وابك من كا ... ن بها من شيوخها والشباب
واعتبر إن دخلت يوما إليها ... فهي كانت منازل الأحباب
خط الخشيبة: هذا الخط يتوصل إليه من وسط سوق باب الزهومة، ويسلك فيه إلى الحارة العدوية «1» حيث فندق الرخام برحبة بيبرس، وإلى درب شمس الدولة، وقيل له خط الخشيبة، من أجل أنّ الخليفة الظافر لما قتله نصر بن عباس وبنى على مكانه الذي دفنه فيه المسجد الذي يعرف اليوم بمسجد الخلعيين، ويعرف أيضا بمسجد الخلفاء، نصبت هناك خشبة حتى لا يمرّ أحد من هذا الموضع راكبا، فعرف بخشيبة تصغير خشبة، وما زالت هناك حتى زالت الدولة الفاطمية، وقام السلطان صلاح الدين بسلطنة مصر، فأزال الخشيبة، وعرف هذا الخط بها إلى اليوم، ويقال له خط حمام خشيبة، من أجل الحمام التي هناك.
ولمقتل الظافر خبر يحسن ذكره هنا.
ذكر مقتل الخليفة الظافر
وكان من خبر الظافر أنه لما مات الخليفة الحافظ لدين الله أبو الميمون عبد المجيد ابن الأمير أبي القاسم محمد بن المستنصر، في ليلة الخميس، لخمس خلون من جمادى الآخرة، سنة أربع وأربعين وخمسمائة، بويع ابنه أبو المنصور إسماعيل، ولقب بالظافر بأمر الله، بوصية من أبيه له بالخلافة، وقام بتدبير الوزارة الأمير نجم الدين سليمان بن محمد بن مصال، فلم يرض الأمير المظفر عليّ بن السلار والي الإسكندرية والبحيرة يومئذ بوزارة ابن مصال، وحشد وسار إلى القاهرة، ففرّ ابن مصال، واستقرّ ابن السلار في الوزارة، وتلقّب بالعادل، فجهز العساكر لمحاربة ابن مصال، فحاربته وقتل، فقوي واستوحش منه الظافر، وخاف منه ابن السلار واحترز منه على نفسه، وجعل له رجالا يمشون في ركابه بالزرد والخود، وعددهم ستمائة رجل بالنوبة، ونقل جلوس الظافر من القاعة إلى الإيوان في البراح والسعة، حتى إذا دخل للخدمة يكون أصحاب الزرد معه، ثم تأكدت النفرة بينهما فقبض على صبيان الخاص وقتل أكثرهم، وفرّق باقيهم، وكانوا خمسمائة رجل، وما زال الأمر على ذلك إلى أن قتله ربيبه عباس بن تميم، بيد ولده نصر،(3/56)
واستقرّ بعده في وزارة الظافر، وكان بين ناصر الدين نصر بن عباس الوزير، وبين الظافر، مودّة أكيدة ومخالطة، بحيث كان الظافر يشتغل به عن كل أحد، ويخرج من قصره إلى دار نصر بن عباس التي هي اليوم المدرسة السيوفية، فخاف عباس من جرأة ابنه، وخشي أن يحمله الظافر على قتله، فيقتله كما قتل الوزير علي بن السلار زوج جدّته أمّ عباس، فنهاه عن ذلك وألحف في تأنيبه، وأفرط في لومه، لأنّ الأمراء كانوا مستوحشين من عباس وكارهين منه تقريبه أسامة بن منقد، لما علموه من أنه هو الذي حسّن لعباس قتل ابن السلار كما هو مذكور في خبره، وهمّوا بقتله، وتحدّثوا مع الخليفة الظافر في ذلك، فبلغ أسامة ما هم عليه، وكان غريبا من الدولة، فأخذ يغري الوزير عباس بن تميم بابنه نصر، ويبالغ في تقبيح مخالطته للظافر إلى أن قال لي مرة: كيف تصبر على ما يقول الناس في حق ولدك، من أنّ الخليفة يفعل به ما يفعل بالنساء، فأثّر ذلك في قلب عباس، واتفق أنّ الظافر أنعم بمدينة قليوب «1» على نصر بن عباس، فلما حضر إلى أبيه وأعلمه بذلك وأسامة حاضر، فقال له: يا ناصر الدين، ما هي بمهرك غالية، يعرّض له بالفحش، فأخذ عباس من ذلك ما أخذه، وتحدّث مع أسامة لثقته به في كيفية الخلاص من هذا، فأشار عليه بقتل الظافر إذا جاء إلى دار نصر على عادته في الليل، فأمره بمفاوضة ابنه نصر في ذلك، فاغتنمها أسامة، وما زال بنصر يشنع عليه ويحرّضه على قتل الظافر، حتى وعده بذلك.
فلما كان ليلة الخميس آخر المحرّم، من سنة تسع وأربعين وخمسمائة، خرج الظافر من قصره متنكرا ومعه خادمان، كما هي عادته، ومشى إلى دار نصر بن عباس، فإذا به قد أعدّ له قوما، فعند ما صار في داخل داره وثبوا عليه وقبّلوه هو وأحد الخادمين، وتوارى عنهم الخادم الآخر، ولحق بعد ذلك بالقصر. ثم دفنوا الظافر والخادم تحت الأرض، في الموضع الذي فيه الآن المسجد، وكان سنّة يوم قتل، إحدى وعشرين سنة وتسعة أشهر ونصف، منها في الخلافة بعد أبيه أربع سنين وثمانية أشهر تنقص خمسة أيام، وكان محكوما عليه في خلافته.
وفي أيامه ملك الفرنج مدينة عسقلان، وظهر الوهن في الدولة، وكان كثير اللهو واللعب، وهو الذي أنشأ الجامع المعروف بجامع الفاكهيين.
وبلغ أهل القصر ما عمله نصر بن عباس من قتل الظافر، فكاتبوا طلائع بن رزبك، وكان على الأشمونين، وبعثوا إليه بشعور النساء يستصرخون به على عباس وابنه، فقدم بالجموع، وفرّ عباس وأسامة ونصر، ودخل طلائع وعليه ثياب سود، وأعلامه وبنوده كلها سود، وشعور النساء التي أرسلت إليه من القصر على الرماح، فكان فألا عجيبا، فإنه بعد خمس عشرة سنة، دخلت أعلام بني العباس السود من بغداد إلى القاهرة لما مات العاضد،(3/57)
واستبد صلاح الدين بملك ديار مصر، وكان أوّل ما بدأ به طلائع أن مضى ماشيا إلى دار نصر، وأخرج الظافر والخادم وغسلهما وكفنهما، وحمل الظافر في تابوت مغشّى، ومشى طلائع حافيا والناس كلهم، حتى وصلوا إلى القصر، فصلّى عليه ابنه الخليفة الفائز ودفن في تربة القصر.
خط سقيفة العدّاس «1» : هذا الخط قيّما بين درب شمس الدولة والبندقانيين، كان يقال له أولا سقيفة العدّاس، ثم عرف بالصاغة القديمة، ثم عرف بالأساكفة، ثم هو الآن يعرف بالحريريين الشراريين، وبسوق الزجّاجين، وفيه يباع الزجاج. وهو خط عامر، وهذا العدّاس هو: علي بن عمر بن العدّاس أبو الحسن. ضمن في أيام المعز لدين الله كورة بوصير، فخلع عليه وجمله، وسار خليفته بالبنود والطبول، في جمادى الأولى سنة أربع وستين وثلثمائة.
فلما كان في أوّل خلافة العزيز بالله بن المعز لدين الله، ولّاه الوساطة، وهي رتبة الوزارة، بعد موت الوزير يعقوب بن كلس، ولم يلقبه بالوزير، فجلس في القصر لتسع عشر خلت من ذي الحجة، سنة إحدى وثمانين وثلثمائة، وأمر ونهى ونظر في الأموال، ورتّب العمال، وأمر أن لا يطلق شيء إلا بتوقيعه، ولا ينفذ إلّا ما أمر به وقرّره، وأمره العزيز بالله أن لا يرتفق، أي يرتشي، ولا يرتزق، يعني أنّه لا يقبل هدية، ولا يضيع دينارا ولا درهما، فأقام سنة وصرف في أوّل المحرّم من سنة ثلاث وثمانين، فقرّر في ديوان الاستيفاء إلى أن كان جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة حسن لأبي طاهر محمود النحوي الكاتب، وكان منقطعا إليه أن يلقى الحاكم بأمر الله، ويبلغه ما تشكوه الناس من تظافر النصارى، وغلبتهم على المملكة، وتوازرهم، وأنّ فهد بن إبراهيم هو الذي يقوّي نفوسهم، ويفوّض أمر الأموال والدواوين إليهم، وأنه آفة على المسلمين، وعدّة للنصارى، فوقف أبو طاهر للحاكم ليلا في وقت طوافه في الليل، وبلّغه ذلك.
ثم قال: يا مولانا إن كنت تؤثر جمع الأموال وإعزاز الإسلام، فأرني رأس فهد بن إبراهيم في طشت، وإلّا لم يتم من هذا شيء.
فقال له الحاكم: ويحك، ومن يقوم بهذا الأمر الذي تذكره ويضمنه.
فقال: عبدك عليّ بن عمر بن العدّاس.(3/58)
فقال: ويحك، أو يفعل هذا؟
قال: نعم يا أمير المؤمنين.
قال: قل له يلقاني ههنا في غد.
ومضى الحاكم، فجاء أبو طاهر إلى ابن العدّاس وأعلمه بما جرى. فقال: ويحك قتلتني وقتلت نفسك. فقال: معاذ الله، أفنصبر لهذا الكلب الكافر على ما يفعل بالإسلام والمسلمين، ويتحكم فيهم من اللعب بالأموال، والله إن لم تسع في قتله ليسعين في قتلك، فلما كان في الليلة القابلة وقف عليّ بن عمر العدّاس للحاكم ووافقه على ما يحتاج إليه، فوعدوه بانجاز ما اتفقا عليه، وأمر بالكتمان وانصرف الحاكم. فلما أصبح ركب العداس إلى دار قائد القوّاد حسن بن جوهر القائد، فلقي عنده فهد بن إبراهيم، فقال له فهد: يا هذا، كم تؤذيني وتقدح فيّ عند سلطاني.
فقال العداس: والله ما يقدح ولا يؤذيني عند سلطاني ويسعى عليّ غيرك. فقال فهد:
سلط الله على من يؤذي صاحبه فينا، ويسعى به سيف هذا الإمام الحاكم بأمر الله.
فقال العدّاس: آمين وعجّل ذلك ولا تمهله.
فقتل فهد في ثامن جمادى الآخرة وضربت عنقه، وكان له منذ نظر في الرياسة خمس سنين وتسعة أشهر واثنى عشر يوما، وقتل العداس بعده بتسعة وعشرين يوما، واستجيب دعاء كل منهما في الآخر، وذهبا جميعا، ولا يظلم ربك أحدا.
وذلك أن الحاكم خلع على العداس في رابع عشره، وجعله مكان فهد، وخلع على ابنه محمد بن عليّ، فهناه الناس، واستمرّ إلى خامس عشري رجب منها، فضربت رقبة أبي طاهر محمود بن النحوي، وكان ينظر في أعمال الشام لكثرة ما رفع عليه من التجبر والعسف، ثم قتل العدّاس في سادس شعبان سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة وأحرق بالنار.
خط البندقانيين: هذا الخط كان قديما إصطبل الجميزة، أحد إصطبلات الخلفاء الفاطميين، فلما زالت الدولة اختط وصارت فيه مساكن وسوق، من جملته عدّة دكاكين لعمل قسيّ البندق، فعرف الخط بالبندقانيين لذلك، ثم أنه احترق يوم الجمعة للنصف من صفر سنة إحدى وخمسين وسبعمائة والناس في صلاة الجمعة، فما قضى الناس الصلاة إلّا وقد عظم أمره، فركب إليه وإلى القاهرة والنيران قد ارتفع لهبها، واجتمع الناس، فلم يعرف من أين كان ابتداء الحريق، واتفق هبوب رياح عاصفة فحملت شرر النار إلى آمد بعيد، ووصلت أشعتها إلى أن رؤيت من القلعة، فركب الوزير منجك بمماليك الأمراء، وجمعت السقاءون لطفي النار فعجزوا عن اطفائها، واشتدّ الأمر فركب الأمير شيخو والأمير طاز(3/59)
والأمير مغلطاي أمير أخور، وترجلوا عن خيولهم ومنعوا النهابة من التعرّض إلى نهب البيوت التي احترقت، وعمّ الحريق دكاكين البندقانيين ودكاكين الرسامين وحوانيت الفقاعين والفندق المجاور لها، والربع علوّه، وعملت إلى الجانب الذي يلي بيت بيبرس ركن الدين الملقب بالملك المظفر، والربع المجاور لعالي زقاق الكنيسة، فما زال الأمير شيخو واقفا بنفسه ومماليكه ومعه الأمراء إلى أن هدم ما هنالك، والنار تأكل ما تمرّ به إلى أن وصلت إلى بئر الدلاء التي كانت تعرف قديما ببئر زويلة «1» ، ومنها كان يستقى لأصطبل الجميزة، فأحرقت ما جاور البئر من الأماكن إلى حوانيت الفكاه والطباخ وما يجاورهما من الحوانيت. والربع المجاور لدار الجو كندار، وكادت أن تصل إلى دار القاضي علاء الدين عليّ بن فضل الله كاتب السرّ، المجاورة لحمام الشيخ نجم الدين ابن عبود، ولم يبق أحد في ذلك الخط حتى حوّل متاعه خوفا من الحريق، فكان أهل البيت بينما هم في نقل ثيابهم، وإذا بالنار قد أحاطت بهم فيتركون ما في الدار وينجون بأنفسهم، والأمر يعظم والهدم واقع في الدور المجاورة لأماكن الحريق، خشية من تعلق النار بها، فسرى إلى جميع البلد إلى أن أتى الهدم على سائر ما كان هنالك، فأقام الأمر كذلك يومين وليلتين والأمراء وقوف، فلما خفّ انصرف الأمراء ووقف والي القاهرة ومعه عدّة من الأمراء لطفي ما بقي، فاستمرّوا في طفئه ثلاثة أيام أخر، وكان المصاب بهذا الحريق عظيما، تلف فيه للناس من المال والثياب والمصاغ وغيره بالحريق والنهب ما لا يعلم قدره إلا الله، هذا مع ما كان فيه الأمراء من منع النّهابة وكفهم عن أموال الناس، إلا أنّ الأمر كان قد تجاوز الحدّ، وعطب بالنار جماعة كثيرة، ووصل حريق النار إلى قيسارية طشتمر وربع بكتمر الساقي، فلما كفى الله أمر هذا الحريق، وأعان على طفئه بعد أن هدمت عدّة أماكن جليلة، ما بين رباع وحوانيت، وقع الحريق في أماكن من داخل القاهرة وخارج باب زويلة «2» ، ووجد في بعض المواضع التي بها الحريق كعكات بزيت وقطران، فعلم أن هذا من فعل النصارى، كما وقع في الحريق الذي كان في أيام الملك الناصر، وقد ذكر في خبر السيرة الناصرية، فنودي في الناس أن يحترسوا على مساكنهم، فلم يبق أحد من الناس أعلاهم وأدناهم حتى أعدّ في داره أوعية ملانة بالماء، ما بين أحواض وأزيار، وصاروا يتناوبون السهر في الليل، ومع ذلك فلا يدري أهل البيت إلّا والنار قد وقعت في بيتهم، فيتداركون طفئها لئلا تشتعل ويصعب أمرها. وترك جماعة من الناس الطبخ في الدور، وتمادى ذلك في الناس من نصف صفر إلى عاشر ربيع الأوّل، فأحضر الأمير سيف الدين تشتمرشاد الدواوين نشابة في وسطها نقط قد وجدها في سطح داره، فأراها للأمراء وهي محروقة النصل، فصدر أمر الوزير منجك للأمير علاء الدين(3/60)
عليّ بن الكوراني والي القاهرة، بالقبض على الحرافيش وتقييدهم وسجنهم، خوفا من غائلهم ونهبهم الناس عند وقوع الحريق، فتتبعهم وقبض عليهم في الليل من بيوتهم ومن الحوانيت، حتى خلت السكك، منهم.
ثم إن الأمراء كلموا الوزير في أمرهم، فأمر بإطلاقهم، ونودي في البلد أن لا يقيم فيها غريب، وطلبوا الخفراء وولاة المراكز وأمروا بالاحتفاظ وتتبع الناس، وأخذ من تتوهم فيه ريبة أو يذكر بشيء من أمر هذا، والحريق أمره في تزايد، وصاروا إلى القاهرة من ذلك في تعب كبير لا ينام هو ولا أعوانه في الليل البتة لكثرة الضجات في الليل، ووقع حريق في شونة حلفاء بمصر مجاورة لمطابخ السكر السلطانية، فركب القاضي علم الدين بن زنبور ناظر الخاص في جماعة، وخرج عامّة أهل مصر، وتكاثروا على الشونة حتى طفئت، ووقع الحريق في عدّة أماكن بمصر، واستمرّ للحريق بمصر والقاهرة مدّة شهر، من ابتدائه بالبندقانيين، ولم يعلم له سبب. واستمرّ كثر خط البندقانيين خرابا إلى أن عمر الأمير يونس النوروزيّ، دوادار الملك الظاهر برقوق، الربع فوق بئر الدلاء التي كانت تعرف ببئر زويلة، وأنشأ بجوار درب الأنجب الحوانيت والرباع والقياسرية، في سنة تسع وثمانين وسبعمائة.
ثم أنشأ الأمير شهاب الدين أحمد الحاجب ابن أخت الأمير جمال الدين يوسف الاستادار، داره بجوار حمام ابن عبود، فاتصل ظهرها بدكاكين البندقانيين، فصار فيها ما كان من خراب الحريق هناك، حيث الحوض الذي أنشأه تجاه دار بيبرس. ولقد أدركنا في خط البندقانيين عدّة كثيرة من الحوانيت التي يباع فيها الفقاع، تبلغ نحو العشرين حانوتا، وكانت من أنزه ما يرى فإنها، كانت كلها مرخمة بأنواع الرخام الملوّن، وبها مصانع من ماء تجري إلى فوّارات تقذف بالماء على ذلك الرخام، حيث كيزان الفقاع مرصوصة فيستحسن منظرها إلى الغاية، لأنها من الجانبين، والناس يمرّون بينهما، وكان بهذا الخط عدّة حوانيت لعمل قسيّ البندق، وعدّة حوانيت لرسم إشكال ما يطرّز بالذهب والحرير، وقد بقيت من هذه الحوانيت بقايا يسيرة، وهو من اخطاط القاهرة الجسيمة.
خط دار الديباج: هذا الخط هو فيما بين خط البندقانيين والوزيرية، وكان أوّلا يعرف بخط دار الديباج، لأن دار الوزير يعقوب بن كلس التي من جملتها اليوم المدرسة الصاحبية ودرب الحريري والمدرسة السيفية، عملت دارا ينسج فيها الديباج والحرير برسم الخلفاء الفاطميين، وصارت تعرف بدار الديباج، فنسب إليها الخط إلى أن سكن هناك الوزير صفيّ الدين عبد الله بن عليّ بن شكر، في أيام العادل أبي بكر بن أيوب، فصار يعرف بخط سويقة الصاحب، وهو خط جسيم به مساكن جليلة وسوق ومدرسة.
خط الملحيين: هذا الخط فيما بين الوزيرية والبندقانيين من وراء دار الديباج، وتسميه العامّة خط طواحين الملوحيين بواو بعد اللام وقبل الحاء المهملة، وهو تحريف، وإنما هو(3/61)
خط الملحيين، عرف بطائفة من طوائف العسكر في أيام الخليفة المستنصر بالله يقال لها الملحية، وهم الذي قاموا بالفتنة في أيام المستنصر إلى أن كان من الغلاء ما أوجب خراب البلاد ونهب خزائن الخليفة المستنصر، فلما قدم أمير الجيوش بدر الجمالي إلى القاهرة وتقلد وزارة المستنصر، وتجرد لإصلاح إقليم مصر، وتتبع المفسدين وقتلهم وسار في سنة سبع وستين وأربعمائة إلى الوجه البحريّ وقتل لواته، وقتل مقدّمهم سليمان اللواتي وولده، واستصفى أموالهم ثم توجه إلى دمياط وقتل فيها عدّة من المفسدين، فلما أصلح جميع البرج الشرقيّ عدّى إلى البرّ الغربيّ، وقتل جماعة من الملحية وأتباعهم بثغر الإسكندرية بعد ما أقام أياما محاصر البلد وهم يمتنعون عليه ويقاتلونه إلى أن أخذها عنوة، فقتل منهم عدّة كثيرة، وكان بهذا الخط عدّة من الطواحين، فسمي بخط طواحين الملحيين، وبه إلى الآن يسير من الطواحين.
خط المسطاح: هذا الخط فيما بين خط الملحيين وخط سويقة الصاحب، وفيه اليوم سوق الرقيق الذي يعرف بسوق الحوار والمدرسة الحسامية وما دار به، ويعرف بالمسطاح، وبخارج باب القنطرة قريب من باب الشعرية أيضا خط يعرف بالمسطاح.
خط قصر أمير سلاح: هذا الخط تجاه حمام البيسري بين القصرين، يسلك فيه إلى مدرسة الطواشي سابق الدين، المعروفة بالسابقية، وكان يخرج منه إلى رحبة باب العيد «1» من باب القصر، إلى أن هدمه الأمير جمال الدين يوسف الاستادار، وبنى في مكانه القيسارية المستجدّة بجوار مدرسته من رحبة باب العيد، فصار هذا الخط غير نافذ، وكان شارعا مسلوكا يمرّ فيه الناس والدواب بالأحمال، فركب عليه جمال الدين المذكور دروبا لحفظ أمواله، وكان هذا الخط من أخص أماكن القصر الكبير الشرقي، فلما زالت الدولة الفاطمية وتفرّق أمراء صلاح الدين يوسف القصر، عرف هذا المكان بقصر شيخ الشيوخ بن حمويه الوزير لسكنه فيه، ثم عرف بعد ذلك بقصر أمير سلاح، وبقصر سابق الدين، وهو إلى الآن يعرف بذلك، وسبب شهرته بأمير سلاح أنه اتخذ به عمائر جليلة هي بيد ورثته إلى الآن، وأمير سلاح هذا هو بكتاش الفخريّ الأمير بدر الدين أمير سلاح الصالحي النجمي، كان أوّلا مملوكا لفخر الدين ابن الشيخ، فصار إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب، وتقدّم عنده من جملة من قدّمه من المماليك البحرية الذين ملكوا الديار المصرية من بعد انقضاء الدولة الأيوبية، وتأمّر في أيام الملك الصالح، وتقدّم في أيام الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ، واستمر أميرا ما ينيف على الستين سنة، لم ينكب فيها قط، وعظم في أيام الملك المنصور قلاون الألفيّ، بحيث أنّ الأمير حسام الدين طرنطاي نائب السلطنة(3/62)
بديار مصر في أيام قلاون، تجارى مرّة مع السلطان في حديث الأمراء، فقال له المنصور:
أما اليوم فما بقي في الأمراء خير أمير سلاح إذا قلت فارس خيل شجاع، ما يردّ وجهه من عدوّه، وإذا حلف ما يخون، وإذا قال صدق. فقال طرنطاي والله يا خوند، له إقطاع عظيم ما كان يصلح إلّا لي. فاحمرّ وجه السلطان وغضب وقال له: ويلك إيّاك أن تتكلم بهذا، والله مكان يصل فيه سيف أمير سلاح ما يصل نشابك ولا نشاب غيرك، وكان كريما شجاعا يسافر كل سنة مجرّدا بالعسكر فيصل إلى حلب للغارة ومحاصرة قلاع العدوّ، فاشتهر بذلك في بلاد العدو وعظم صيته واشتدّت مهابته، وكانت له رغبة في شراء المماليك والخيول بأغلى القيم، وكان يبعث للأمراء المجرّدين معه النفقة، ويقوم لهم بالشعير والأغنام، وبلغت مماليكه الغاية في الحشمة، وكان إقطاع كل منهم في السنة عشرين ألف درهم فضة، عنها يومئذ ألف مثقال من الذهب، ولكل من جنده خبز مبلغه في السنة عشرة آلاف درهم، سوء كلفهم من الشعير واللحم، ومع ذلك فكان خيرا ديّنا له صدقات ومعروف وإحسان كثير، ومات بعد ما ترك أمرته في مرضه الذي ما فيه، للنصف من ربيع الآخر سنة ست وسبعمائة رحمه الله. وبهذا الخط عدّة دور جليلة يأتي ذكرها عند ذكر الدور من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
أولاد شيخ الشيوخ: جماعة أصلهم الذي ينتسبون إليه حمويه بن عليّ، يقال أنه من ولد رزم بن يونان، أحد قوّاد كسرى أنوشروان، وولي قيادة جيش نصر بن نوح بن سامان، ودبر دولته، وهو جدّ شيخ الإسلام محمد، وأخيه أبي سعد بني حمويه بن محمد بن حمويه، وكان محمد وأبو سعد من ملوك خراسان، فتركا الدنيا وأقبلا على طريق الآخرة، ومات ركب الإسلام أبو سعد بنجران من قرى جوين في سنة سبع وعشرين وخمسمائة، ومات أخوه شيخ الإسلام محمد بها في سنة ثلاثين وخمسمائة، وترك أبو سعد، زيد الدين أحمد وبنات، وترك شيخ الإسلام محمد ولدا واحدا، وهو أبو الحسن عليّ، فتزوّج عليّ بن محمد بابنة عمه أبي سعد ورزق منها سعد الدين، ومعين الدين حسنا، وعماد الدين عمر، وترك زين الدين أحمد بن أبي سعد، ركن الدين أبا سعد، وعزيز الدين، وزين الدين القاسم، فقدّم عماد الدين عمر بن علي بن محمد بن حمويه إلى دمشق، وصار شيخ الشيوخ بها، وقدم عليه ابنه شيخ الشيوخ صدر الدين عليّ، فلما مات عمر في رجب سنة سبع وسبعين وخمسمائة بدمشق، أقرّ السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، ولده صدر الدين محمدا موضعه، وصار شيخ الشيوخ بدمشق، فتزوّج بابنة القاضي شهاب الدين ابن أبي عصرون، ورزق منها عشرة بنين، منهم عماد الدين عمر، وفخر الدين يوسف، وكمال الدين أحمد، ومعين الدين حسن، فأرضعت أمّهم بنت أبي عصرون السلطان الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، فصار أخا لأولاد صدر الدين شيخ الشيوخ من الرضاعة، وقدم صدر الدين إلى القاهرة وولى تدريس الشافعيّ بالقرافة، ومشيخة الخانقاه(3/63)