ولد تقي الدين أبي العباس أحمد بن علي بن عبد القادر العبيدي المقريزي في القاهرة سنة 766 هـ / 1363 م. تتلمذ على ابن خلدون وغيره. فبدأ دراساته بعلوم الشريعة وكان على خلاف أستاذه ابن دُقماق الحنفي، شافعياً متعصباً. أخذ علوم الحديث في القاهرة في عهد المراهقة ثم تلقى سائر العلوم. تولّى في القاهرة منصب القضاء ثم الاحتساب. هاجر إلى دمشق وتصدى للتدريس وشؤون الأوقاف في سنة 811 هـ. وبعد عشر سنوات عاد إلى القاهرة ومن حينها قضى وقته بالتأليف في مجال التاريخ حيث كان شديد الحب بهذا العلم. وفي عام 834 هـ سافر مع عائلته إلى الحج وبقي في الحجاز مدة تعرف فيها على السعودية والحبشة وهذا ما هو ظاهر في مؤلفاته التاريخية. وفي سنة 839 هـ عاد من الحجاز إلى القاهرة وبقي فيها حتى سنة 845 هـ وهي سنة وفاته.
كان المقريزي يتمتع بشخصية مرموقة بين سائر المؤرخين الإسلاميين المصريين من حيث دقته في الرواية ونشاطه الواسع وعمله الدؤوب وسعة دائرة أبحاثه ودراساته واهتمامه الفائق بالجانب الاجتماعي والإحصائيات السكانية التاريخية، ويمكن عدّه إلى حدّ ما مؤسساً لمدرسة تاريخية كان لها ازدهارها في مصر آنذاك وبزغت منها أسماء مشرقة كالعيني وابن حجر من معاصري المقريزي، وأبي المحاسن، تلميذة وندّه بعد ذلك، والتنحاوي الذي كان متأخراً عنه وغير متفائل به، ثم السيوطي وبالتالي ابن إياس الذي شهد الفتح العثماني.
كان المقريزي ولعاً بالتاريخ وخلافاً لسائر المؤلفين العرب، لم يكتب في أي مجال آخر سوى التاريخ.(0/0)
الجزء الاول
تقديم
بسم الله الرّحمن الرّحيم ها نحن أيها القارئ العربي العزيز نضع بين يديك كتابا جليلا من كتب تراثنا العربي ليكون لك عونا في التعرف على ماضي من سبقوا ووضعوا لبنة في بناء الحضارة العالمية، وفي مهد الحضارات وأمّ الدنيا مصر العزيزة.
هذا الكتاب، كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار والمعروف بالخطط المقريزية، نسبة لمؤلفه العلامة الجليل تقي الدين أبي العباس أحمد بن علي المقريزي المتوفى سنة 845 هـ.
والذي يؤرخ فيه لأمّ الدنيا مصر العزيزة خلال الفترة الممتدة من سنة عشرين للهجرة النبوية الشريفة وحتى سنة ست وتسعمائة. مبينا فيه ما للنيل العظيم من أثر في حياة مصر، متعرضا لمناخها وطقسها، مؤرخا للكيفية التي تمّ بها إنشاء كل من مصر والقاهرة. القاهرة التي اختط أساسها القائد جوهر من الطوب النيء، مبتدئا بحارات القاهرة وظواهرها معددا سبعا وثلاثين حارة مبينا كيفية بناءها ومن قام على هذا البناء منطلقا إلى ما لا يطلق عليه اسم حارة أو درب بل يسمّى خطا، وهي كثيرة وكل قليل تتغير أسماؤها وقد أورد ما تيسّر له منها فكانت ثلاثون خطا، مبينا ما كان عليه كل خط وما آل إليه ومن أمر بإنشائه ومن قام على إنشائه وأسباب إنشائه. منتقلا إلى ذكر الدروب والأزقة مبينا أسماءها التي كانت وماذا أصبحت وإلى من تنسب من الأشخاص وما فيها من محال ودكاكين، وكان عددها خمس وستون دربا وثمان أزقة. ثم يعدد الخوخ، والخوخة نافذة في باب كبير وعددها أربع عشرة خوخة. ثم ينتقل إلى الرحاب، والرحبة تعني الموضع الواسع والرحاب كثيرة لا تتغيّر إلّا بأن يبنى فيها وقد ذكر تسع وأربعون رحبة ثم ينتقل إلى ذكر الدور الهامة وعددها ست وخمسون دارا مسمّيا إياها بأسماء أصحابها. ثم ينتقل إلى ذكر الحمامات والقياسر والفنادق والخانات والأسواق والسويقات والحكر أو الأحكار، مترجما لها وللأمراء والسلاطين الذين عملوا على بنائها.
ثم ينتقل إلى الخلجان والقناطر والبرك والجسور التي تمّ بناءها لجرّ مياه النيل إلى الحارات والخطط.(1/3)
ثم يؤرخ للملوك والسلاطين الذين تعاقبوا عليها منذ بناء قلعة الجبل مبتدئا بمن حكم من الأكراد، بدءا بالقائد أبو الحسن جوهر الذي قدم إلى إفريقيا بعساكر مولاه المعز لدين الله أبي تميم معدّ في سنة عشرين للهجرة، منتهيا بالملك الأشرف قانصوه الغوري الأشرفي قايتباي سنة ست وتسعمائة.
مترجما لحياتهم وكيفية وصولهم إلى السلطة وفتوحاتهم وغزواتهم وما قاموا به من خير أو شر لرعيتهم، وما بنوا وما هدموا وكان عددهم ست وخمسون سلطانا وملكا.
ثم انتقل إلى الجوامع ذاكرا بناتها والكيفية التي تمّ عليها البناء وعددها ثمان وثمانون جامعا. ثم ذكر مذاهب أهل مصر ونحلهم منذ افتتح عمرو بن العاص أرض مصر إلى أن صاروا إلى اعتقاد مذاهب الأئمة وما كان من الأحداث في ذلك.
ثم ذكر فرق الخليقة واختلاف عقائدها وتباينها، وفرق أهل الإسلام وانحصار الفرق المتهالكة في عشر طوائف هي: المعتزلة والمشبهة والقدرية والمجبرة والمرجئة والحرورية والبخارية والجهمية والروافض والخوارج، كما ذكر الحال في عقائد أهل الإسلام منذ ابتداء الملة الإسلامية إلى أن انتشر مذهب الأشعرية.
ثم انتقل إلى ذكر المدارس ومن قام على بنائها والأوقاف الموقوفة عليها وما حلّ بها من تبدّل وتغير وعددها ثلاث وسبعون مدرسة. ثم انتقل إلى ذكر المساجد والمارستانات والخوانك والربط والزوايا والمشاهد والمقابر والقرافات ومساجد القرافات والجواسق والمصليّات والمعابد.
ثم انتقل إلى ذكر الملل غير الإسلامية الموجودة في مصر والقاهرة وهم اليهود والنصارى وذكر أحوالهم وكنائسهم ودياراتهم وما كان منهم وعليهم وما آلوا إليه من فرق وخلافات فيما بينهم ومع المسلمين.
ورغم كل ما يقدمه هذا العالم الجليل يعترف بتقصيره عن إتمام الكمال الذي لا يصله إلّا الله وحده.
ويختتم كتابه بحمد الله والاتكال عليه.(1/4)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[مقدمة المؤلف]
الحمد لله الذي عرّف وفهم، وعلم الإنسان ما لم يكن يعلم، وأسبغ على عباده نعما باطنة وظاهره، ووالى عليهم من مزيد آلائه مننا متظافرة متواترة، وبثهم في أرضه حينا يتقلبون، واستخلفهم في ماله فهم به يتنعمون، وهدى قوما إلى اقتناص شوارد المعارف والعلوم، وشوّقهم للتفنن في مسارح التدبر والركض بميادين الفهوم وأرشد قوما إلى الانقطاع من دون الخلق إليه، ووفقهم للاعتماد في كل أمر عليه وصرف آخرين عن كل مكرمة وفضيلة، وقيض لهم قرناء قادوهم إلى كل ذميمة من الأخلاق ورذيلة، وطبع على قلوب آخرين فلا يكادون يفقهون قولا، وثبطهم عن سبل الخيرات، فما استطاعوا قوّة ولا حولا، ثم حكم على الكل بالفناء ونقلهم جميعا من دار التمحيص والابتلاء إلى برزخ البيود والبلاء، وسيحشرهم أجمعين إلى دار الجزاء ليوفي كل عامل منهم عمله، ويسأله عما أعطاه وخوّله.
وعن موفقه بين يديه سبحانه وما أعدّ له لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. أحمده سبحانه حمد من علم أنه إله لا يعبد إلا إياه، ولا خالق للخلق سواه حمدا يقتضي المزيد من النعماء، ويوالي المنن بتجدّد الآلاء، وصلى الله على سيدنا محمد وعبده ورسوله ونبيه وخليله سيد البشر وأفضل من مضى وغبر الجامع لمحاسن الأخلاق والسير، والمستحق لاسم الكمال على الإطلاق من البشر الذي كان نبيا وآدم بين الماء والطين، ورقم اسمه من الأزل في عليين، ثم تنقل من الأصلاب الفاخرة الزكية إلى الأرحام الطاهرة المرضية حتى بعثه الله عزّ وجلّ إلى الخلائق أجمعين، وختم به الأنبياء والمرسلين وأعطاه ما لم يعط أحدا من العالمين وعلى آله وصحابته والتابعين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
وبعد، فإنّ علم التاريخ من أجل العلوم قدرا، وأشرفها عند العقلاء مكانة وخطرا، لما يحويه من المواعظ والإنذار بالرحيل إلى الآخرة عن هذه الدار والاطلاع على مكارم الأخلاق ليقتدى بها، واستعلام مذامّ الفعال ليرغب عنها أولو النهي، لا جرم إن كانت الأنفس الفاضلة به وامقة والهمم العالية إليه مائلة وله عاشقة. وقد صنف فيه الأئمة كثيرا، وضمّن الأجلّة كتبهم منه شيئا كبيرا، وكانت مصر هي مسقط رأسي، وملعب أترابي ومجمع ناسي، ومغنى عشيرتي وحامتي، وموطن خاصتي وعامّتي، وجؤجؤي الذي ربى جناحي(1/5)
في وكره وعش مأربي فلا تهوى الأنفس غير ذكره لا زلت مذ شذوت العلم وآتاني ربي الفطانة والفهم أرغب في معرفة أخبارها وأحبّ الأشراف على الاغتراف من آبارها، وأهوى مسائلة الركبان عن سكان ديارها فقيدت بخطى في الأعوام الكثيرة، وجمعت من ذلك فوائد قل ما يجمعها كتاب، أو يحويها لعزتها وغرابتها أهاب إلّا أنها ليست بمرتبة على مثال ولا مهذبة بطريقة ما نسج على منوال، فأردت أن ألخص منها أنباء ما بديار مصر من الآثار الباقية، عن الأمم الماضية والقرون الخالية، وما بقي بفسطاط مصر من المعاهد غير ما كاد يفنيه البلى والقدم ولم يبق إلّا أن يمحو رسمها الفناء والعدم، وأذكر ما بمدينة القاهرة من آثار القصور الزاهرة، وما اشتملت عليه من الخطط والأصقاع، وحوته من المباني البديعة الأوضاع، مع التعريف بحال من أسس ذلك من أعيان الأماثل، والتنويه بذكر الذي شادها من سراة الأعاظم والأفاضل وأنثر خلال ذلك نكتا لطيفة، وحكما بديعة شريفة من غير إطالة ولا إكثار، ولا إجحاف مخل بالغرض ولا اختصار، بل وسط بين الطرفين، وطريق بين بين.
فلهذا سميته (كتاب المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار) ، وإني لأرجو أن يحظى إن شاء الله تعالى عند الملوك ولا ينبو عنه طباع العاميّ والصعلوك ويجله العالم المنتهي، ويعجب به الطالب المبتدي، وترضاه خلائق العابد الناسك، ولا يمجه سمع الخليع الفاتك ويتخذه أهل البطالة والرفاهية سمرا، ويعدّه أولو الرأي والتدبير موعظة وعبرا، يستدلون به على عظيم قدرة الله تعالى في تبديل الأبدال، ويعرفون به عجائب صنع ربنا سبحانه من تنقل الأمور إلى حال بعد حال، فإن كنت أحسنت فيما جمعت وأصبت في الذي صنعت ووضعت، فذلك من عميم منن الله تعالى وجزيل فضله وعظيم أنعمه عليّ، وجليل طوله، وإن أنا أسأت فيما فعلت وأخطأت إذ وضعت فما أجدر الإنسان بالإساءة والعيوب إذا لم يعصمه ويحفظه علام الغيوب:
وما أبرّئ نفسي أنني بشر ... أسهو وأخطىء ما لم يحمني قدر
ولا ترى عذرا أولى بذي زلل ... من أن يقول مقرّا أنني بشر
فليسبل الناظر في هذا التأليف على مؤلفه ذيل ستره إن مرّت به هفوة، وليغض تجاوزا وصفحا إن وقف منه على كبوة، أو نبوة فأيّ جواد وإن عنق ما يكبو، وأيّ عضب مهند لا يكل ولا ينبو لا سيما والخاطر بالأفكار مشغول، والعزم لالتواء الأمور وتعسرها فاتر محلول، والذهن من خطوب هذا الزمن القطوب كليل والقلب لتوالي المحن، وتواتر الإحن عليل:
يعاندني دهري كأني عدوّه ... وفي كل يوم بالكريهة يلقاني
فإن رمت شيئا جاءني منه ضدّه ... وإن راق لي يوما تكدّر في الثاني(1/6)
اللهمّ غفرا ما هذا من التبرّم بالقضاء، ولا التضجر بالمقدور، بل إنه سقيم ونفثة مصدور يستروح أن أبدي التوجع والأنين، ويجد خفا من ثقله إذا باح بالشكوى والحنين:
ولو نظروا بين الجوانح والحشا ... رأوا من كتاب الحب في كبدي سطرا
ولو جرّبوا ما قد لقيت من الهوى ... إذا عذروني أو جعلت لهم عذرا
والله أسأل أن يحلي هذا الكتاب بالقبول عند الجلة والعلماء، كما أعوذ به من تطرّق أيدي الحساد إليه والجهلاء، وأن يهديني فيه وفيما سواه من الأقوال والأفعال إلى سواء السبيل، إنه حسبنا ونعم الوكيل وفيه جلّت قدرته لي سلوّ من كل حادث، وعليه عز وجل أتكل في جميع الحوادث، لا إله إلا هو ولا معبود سواه.(1/7)
ذكر الرءوس الثمانية
اعلم أنّ عادة القدماء من المعلمين قد جرت أن يأتوا بالرؤوس الثمانية قبل افتتاح كل كتاب، وهي: الغرض والعنوان والمنفعة، والمرتبة، وصحة الكتاب، ومن أيّ صناعة هو وكم فيه من أجزاء، وأيّ أنحاء التعاليم المستعملة فيه فنقول:
(أما الغرض) في هذا التأليف فإنه جمع ما تفرّق من أخبار أرض مصر، وأحوال سكانها كي يلتئم من مجموعها معرفة جمل أخبار إقليم مصر وهي التي إذا حصلت في ذهن إنسان اقتدر على أن يخبر في كل وقت بما كان في أرض مصر من الآثار الباقية والبائدة ويقص أحوال من ابتدأها، ومن حلها وكيف كانت مصائر أمورهم وما يتصل بذلك على سبيل الاتباع لها بحسب ما تحصل به الفائدة الكلية بذلك الأثر.
(وأمّا عنوان هذا الكتاب) أعني الذي وسمته به فإني لما فحصت عن أخبار مصر وجدتها مختلطة متفرّقة فلم يتهيأ لي إذ جمعتها أن أجعل وضعها مرتبا على السنين لعدم ضبط وقت كل حادثة لا سيما في الأعصر الخالية، ولا أن أضعها على أسماء الناس لعلل أخر تظهر عند تصفح هذا التأليف فلهذا فرّقتها في ذكر الخطط والآثار، فاحتوى كل فصل منها على ما يلائمه ويشاكله، وصار بهذا الاعتبار قد جمع ما تفرّق وتبدّد من أخبار مصر، ولم أتحاش من تكرار الخبر إذا احتجت إليه بطريقة يستحسنها الأريب، ولا يستهجنها الفطن الأديب كي يستغني مطالع كل فصل بما فيه عما في غيره من الفصول، فلذلك سميته:
(كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار) .
(وأما منفعة هذا الكتاب) فإنّ الأمر فيها يتبين من الغرض في وضعه، ومن عنوانه أعني أنّ منفعته هي أن يشرف المرء في زمن قصير على ما كان في أرض مصر من الحوادث والتغييرات في الأزمنة المتطاولة والأعوام الكثيرة، فتتهذب بتدبر ذلك نفسه وترتاض أخلاقه فيحب الخير ويفعله، ويكره الشرّ ويتجنبه، ويعرف فناء الدنيا فيحظى بالإعراض عنها، والإقبال على ما يبقى.
(وأما مرتبة هذا الكتاب) فإنه من جملة أحد قسمي العلم اللذين هما العقليّ والنقليّ، فينبغي أن يتفرّغ لمطالعته وتدبر مواعظه بعد إتقان ما تجب معرفته من العلوم النقلية والعقلية، فإنه يحصل بتدبره لمن أزال الله أكنة قلبه وغشاوة بصره نتيجة العلم بما صار إليه(1/9)
أبناء جنسه بعد التخوّل في الأموال والجنود من الفناء والبيود، فإذا مرتبته بعد معرفة أقسام العلوم العقلية والنقلية ليعرف منه كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبل.
(وأما واضع هذا الكتاب ومرتّبه) فاسمه أحمد بن عليّ بن عبد القادر بن محمد، ويعرف بالمقريزيّ رحمه الله تعالى ولد بالقاهرة المعزية من ديار مصر بعد سنة ستين وسبعمائة من سني الهجرة المحمدية، ورتبته من العلوم ما يدل عليه هذا الكتاب وغيره مما جمعه وألفه.
(وأما من أيّ علم هذا الكتاب) فإنه من علم الأخبار وبها عرفت شرائع الله تعالى التي شرعها، وحفظت سنن أنبيائه ورسله، ودوّن هداهم الذي يقتدى به من وفقه الله تعالى إلى عبادته، وهداه إلى طاعته، وحفظه من مخالفته، وبها نقلت أخبار من مضى من الملوك والفراعنة وكيف حل بهم سخط الله تعالى لما أتوا ما نهوا عنه، وبها اقتدر الخليقة من أبناء البشر على معرفة ما دوّنوه من العلوم والصنائع، وتأتي لهم على ما غاب عنهم من الأقطار الشاسعة، والأمصار النائية وغير ذلك مما لا ينكر فضله، ولكل أمّة من أمم العرب والعجم على تباين آرائهم واختلاف عقائدهم أخبار عندهم معروفة مشهورة ذائعة بينهم، ولكل مصر من الأمصار المعمورة حوادث قد مرّت به يعرفها علماء ذلك المصر في كل عصر ولو استقصيت ما صنف علماء العرب والعجم في ذلك لتجاوز حدّ الكثرة، وعجزت القدرة البشرية عن حصره.
(وأما أجزاء هذا الكتاب فإنها سبعة) : أولها: يشتمل على جمل من أخبار أرض مصر، وأحوال نيلها وخراجها وجبالها.
وثانيها: يشتمل على كثير من مدنها وأجناس أهلها.
وثالثها: يشتمل على أخبار فسطاط مصر ومن ملكها.
ورابعها: يشتمل على أخبار القاهرة وخلائقها وما كان لهم من الآثار.
وخامسها: يشتمل على ذكر ما أدركت عليه القاهرة وظواهرها من الأحوال.
وسادسها: يشتمل على ذكر قلعة الجبل وملوكها.
وسابعها: يشتمل على ذكر الأسباب التي نشأ عنها خراب إقليم مصر.
وقد تضمن كل جزء من هذه الأجزاء السبعة عدّة أقسام.
وأما أيّ أنحاء التعاليم التي قصدت في هذا الكتاب، فإني سلكت فيه ثلاثة أنحاء، وهي النقل من الكتب المصنفة في العلوم، والرواية عمن أدركت من شيخه العلم وجلة الناس، والمشاهدة لما عاينته ورأيته. فأما النقل من دواوين العلماء التي صنفوها في أنواع العلوم فإني أعزو كل نقل إلى الكتاب الذي نقلته منه لأخلص من عهدته، وأبرأ من جريرته فكثيرا ممن ضمني وإياه العصر، واشتمل علينا المصر صار لقلة إشرافه على العلوم وقصور(1/10)
باعه في معرفة علوم التاريخ، وجهل مقالات الناس يهجم بالإنكار على ما لا يعرفه ولو أنصف لعلم أن العجز من قبله وليس ما تضمنه هذا الكتاب من العلم الذي يقطع عليه، ولا يحتاج في الشريعة إليه وحسب العالم أن يعلم ما قيل في ذلك ويقف عليه.
وأما الرواية عمن أدركت من الجلة والمشايخ فإني في الغالب والأكثر أصرح باسم من حدّثني إلا أن لا يحتاج إلى تعيينه، أو أكون قد أنسيته وقلّ ما يتفق مثل ذلك.
وأمّا ما شاهدته فإني أرجو أن أكون ولله الحمد غير متهم ولا ظنين، وقد قلت في هذه الرءوس الثمانية ما فيه قنع وكفاية، ولم يبق إلا أن أشرع فيما قصدت، وعزمي أن أجعل الكلام في كل خط من الأخطاط وفي كل أثر من الآثار على حدة ليكون العلم بما يشتمل عليه من الأخبار أجمع وأكثر فائدة وأسهل تناولا والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وفوق كلّ ذي علم عليم.
(فصل) : أوّل من رتب خطط مصر وآثارها، وذكر أسبابها في ديوان جمعه: أبو عمر محمد بن يوسف الكنديّ «1» ، ثم كتب بعده القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعيّ «2» كتابه المنعوت بالمختار في ذكر الخطط والآثار، ومات في سنة سبع وخمسين وأربعمائة قبل سني الشدّة، فدثر أكثر ما ذكر اه.
ولم يبق إلا يلمع وموضع بلقع بما حل بمصر من سني الشدّة المستنصرية من سنة سبع وخمسين إلى سنة أربع وستين وأربعمائة من الغلاء والوباء، فمات أهلها وخربت ديارها وتغيرت أحوالها، واستولى الخراب على عمل فوق من الطرفين بجانبي الفسطاط الغربيّ والشرقيّ. فأما الغربيّ فمن قنطرة بني وائل حيث الوراقات الآن قريبا من باب القنطرة خارج مدينة مصر إلى الشرف المعروف الآن بالرصد، وأنت مار إلى القرافة الكبرى. وأما الشرقيّ فمن طرف بركة الحبش التي تلي القرافة إلى نحو جامع أحمد بن طولون، ثم دخل أمير الجيوش بدر الجمالي مصر في سنة ست وستين وأربعمائة، وهذه المواضع خاوية على عروشها خالية من سكانها وأنيسها قد أبادهم الوباء والتباب، وشتتهم الموت والخراب ولم يبق بمصر إلا بقايا من الناس كأنهم أموات قد اصفرّت وجوههم وتغيرت سحنهم من غلاء الأسعار، وكثرة الخوف من العسكرية، وفساد طوائف العبيد والملحية، ولم يجد من يزرع الأراضي. هذا والطرقات قد انقطعت بحرا وبرّا إلا بخفارة وكلفة كثيرة، وصارت القاهرة(1/11)
أيضا يبابا داثرة، فأباح للناس من العسكرية والملحية والأرض، وكل من وصلت قدرته إلى عمارة أن يعمر ما شاء في القاهرة مما خلا من دور الفسطاط بموت أهلها فأخذ الناس في هدم المساكن ونحوها بمصر، وعمروا بها في القاهرة، وكان هذا أوّل وقت اختط الناس فيه بالقاهرة.
ثم كان المنبه بعد القضاعي على الخطط والتعريف بها تلميذه أبو عبد الله محمد بن بركات النحويّ في تأليف لطيف نبه فيه الأفضل أبا القاسم شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجمالي على مواضع قد اغتصبت وتملكت بعد ما كانت أحباسا ثم كتب الشريف محمد بن أسعد الجواني «1» (كتاب النقط بعجم ما أشكل من الخطط) نبه فيه على معالم قد جهلت وآثار قد دثرت، وآخر من كتب في ذلك القاضي تاج الدين محمد بن عبد الوهاب بن المتوّج «2» (كتاب إيعاظ المتأمّل وإيقاظ المتغفل) في الخطط بيّن فيه جملا من أحوال مصر وخططها إلى أعوام بضع وعشرين وسبعمائة قد دثرت بعده معظم ذلك في وباء سنة تسع وأربعين وسبعمائة ثم في وباء سنة إحدى وستين ثم في غلاء سنة ست وسبعين وسبعمائة.
وكتب القاضي محيي الدين عبد الله بن عبد «3» الظاهر (كتاب الروضة البهية الزاهرة في خطط المعزية القاهرة) ففتح فيه بابا كانت الحاجة داعية إليه، ثم تزايدت العمارة من بعده في الأيام الناصرية محمد بن قلاوون بالقاهرة وظواهرها إلى أن كادت تضيق على أهلها حتى حل بها وباء سنة تسع وأربعين وسنة إحدى وستين ثم غلاء سنة ست وسبعين فخربت بها عدّة أماكن فلما كانت الحوادث والمحن من سنة ست وثمانمائة شمل الخراب القاهرة ومصر وعامّة الإقليم، وسأورد من ذكر الخطط ما تصل إليه قدرتي إن شاء الله تعالى.(1/12)
ذكر طرف من هيئة الأفلاك
اعلم أنه لما كانت مصر قطعة من الأرض تعيّن قبل التعريف بموقعها من الأرض وتبيين موضع الأرض من الفلك أن أذكر طرفا من هيئة الأفلاك، ثم أذكر صورة الأرض وموضع الأقاليم منها، وأذكر محل مصر من الأرض، وموضعها من الأقاليم وأذكر حدودها واشتقاقها وفضائلها وعجائبها وكنوزها وأخلاق أهلها، وأذكر نيلها وخلجانها وكورها ومبلغ خراجها، وغير ذلك ممّا يتعلق بها قبل الشروع في ذكر خطط مصر والقاهرة فأقول: علم النجوم ثلاثة أقسام: (الأوّل) : معرفة تركيب الأفلاك، وكمية الكواكب، وأقسام البروج، وأبعادها وعظمها وحركتها ويقال لهذا القسم: علم الهيئة. (والقسم الثاني) : علم الزيج، وعلم التقويم. (والقسم الثالث) : معرفة كيفية الاستدلال بدوران الفلك وطوالع البروج على الحوادث قبل كونها ويسمى هذا القسم علم الأحكام، والغرض هنا إيراد نبذ من علم الهيئة تكون توطئة لما يأتي ذكره. اعلم أن الكواكب أجسام كريات والذي أدرك منها الحكماء بالرصد ألف كوكب وتسعة وعشرون كوكبا، وهي على قسمين: سيارة، وثابتة. فالسيارة سبعة وهي: زحل، والمشتري، والمرّيخ، والشمس، والزهرة، وعطارد، والقمر، وقد نظمت في بيت واحد وهو:
زحل شرى مرّيخه من شمسه ... فتزاهرت بعطارد الأقمار
ويقال لهذه السبعة: الخنّس، وقيل: إنها التي عناها الله تعالى بقوله: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ
[التكوير/ 15] والتي عناها الله تعالى بقوله: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً
[النازعات/ 5] ، وقيل لها: الخنس لاستقامتها في سيرها ورجوعها، وقيل لها: الكنس لأنها تجري في البروج ثم تكنس أي تستتر كما يكنس الظبي، وقيل: الكنس والخنس منها خمسة وهي: ما سوى الشمس والقمر سميت بذلك من الانحناس وهو الانقباض، وفي الحديث:
«الشيطان يوسوس للعبد فإذا ذكر الله خنس» أي انقبض ورجع فيكون الخنس على هذا في الكواكب بمعنى الرجوع وسميت بالكنس من قولهم: كنس الظبي إذا دخل الكناس وهو مقرّة فالكنس على هذا في الكواكب بمعنى اختفائها تحت ضوء الشمس ويقال لهذه الكواكب المتحيرة لأنها ترجع أحيانا عن سمت مسيرها بالحركة الشرقية وتتبع الغربية في رأي العين فيكون هذا الارتداد لها شبه التحير، وهذه الأسماء التي لهذه الكواكب يقال: إنها مشتقة من صفاتها.(1/13)
فزحل مشتق من زحل فلان إذا أبطأ سمي بذلك لبطء سيره، وقيل: للزحل والزحل الحقد، وهو بزعمهم يدل على ذلك ويقال: إنه المراد في قوله تعالى: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ
[الطارق/ 1- 3] . والمشتري سمي بذلك لحسنه كأنه اشترى الحسن لنفسه، وقيل: لأنه نجم الشراء والبيع، ودليل الريح والمال في قولهم.
والمرّيخ مأخوذ من المرخ وهو شجر يحتك بعض أغصانه ببعض فيوري نارا سمي بذلك لاحمراره، وقيل: المرّيخ سهم لا ريش له إذا رمي به لا يستوي في ممرّه، وكذا المرّيخ فيه التواء كثير في سيره ودلالته بزعمهم تشبه ذلك، والشمس لما كانت واسطة بين ثلاثة كواكب علوية لأنهم من فوقها، وثلاثة سفلية لأنهم من تحتها سميت بذلك لأنّ الواسطة التي في المخنقة تسمى شمسة، والزهرة من الزاهر وهو الأبيض النير من كل شيء، وعطارد هو النافذ في كل الأمور ولذلك يقال له أيضا الكاتب فإنه كثير التصرّف مع ما يقارنه ويلابسه من الكواكب، والقمر مأخوذ من القمرة وهي البياض والأقمر الأبيض.
ويقال لزحل كيوان، وللمشتري تبر والبرجيس أيضا، وللمرّيخ بهرام، وللشمس مهر، وللزهرة أياهيد وسدحت أيضا، ولعطارد هرمس، وللقمر ماه، وقد جمعت في بيت واحد وهو هذا:
لا زلت تبقى وترقى للعلى أبدا ... ما دام للسبعة الأفلاك أحكام
مهر وماه وكيوان وتبر معا ... وهرمس وأياهيد وبهرام
ويقال: لما عدا هذه الكواكب السبعة من بقية نجوم السماء الكواكب الثابتة.
سميت بذلك لثباتها في الفلك بموضع واحد، وقيل: لبطء حركتها فإنها تقطع الفلك بزعمهم بعد كل ستة وثلاثين ألف سنة شمسية مرّة واحدة.
ولكل كوكب من الكواكب السبعة السيارة فلك من الأفلاك يخصه، والأفلاك أجسام كريات مشقات بعضها في جوف بعض وهي تسعة أقربها إلينا فلك القمر، وبعده فلك عطارد، ثم بعده فلك الزهرة، وبعده فلك الشمس، وفوقه فلك المريخ، ثم فلك المشتري، وفوقه فلك زحل، ثم فلك الثوابت وفيه كل كوكب يرى في السماء سوى السبعة السيارة، ومن فوق فلك الثوابت الفلك المحيط وهو الفلك التاسع، ويسمى الأطلس، وفلك الأفلاك، وفلك الكل، وقد اختلف في الأفلاك فقيل: هي السماوات، وقيل: بل السماوات غيرها، وقيل: بل هي كرية، وقيل غير ذلك. وقيل: الفلك الثامن هو الكرسي، والفلك التاسع هو العرش، وقيل غير ذلك. وهذا الفلك التاسع دائم الدوران كالدولاب ويدور في كل أربعة وعشرين ساعة مستوية دورة واحدة، ودورانه يكون أبدا من المشرق إلى المغرب، ويدور بدورانه جميع الأفلاك الثمانية وما حوته من الكواكب دورانا حركته قسرية لإدارة(1/14)
التاسع لها وعن حركة التاسع المذكور يكون الليل والنهار فالنهار مدّة بقاء الشمس فوق أفق الأرض والليل مدّة غيبوبة الشمس تحت أفق الأرض، وفلك الكواكب الثابتة مقسوم باثني عشر قسما كحجز البطيخة كل قسم منها يقال له: برج وهي: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت. وكل برج من هذه البروج الاثني عشر ينقسم ثلاثين قسما يقال: لكل قسم منها درجة، وكل درجة من هذه الثلاثين مقسومة ستين قسما يقال لكل قسم منها دقيقة وكل دقيقة من هذه الستين مقسومة ستين قسما يقال لكل قسم منها ثانية وهكذا إلى الثوالث والروابع والخوامس إلى الثواني عشر وما فوقها من الأجزاء وكل ثلاثة بروج تسمى فصلا. فالزمان على ذلك أربعة فصول: وهي الربيع، والصيف، والخريف، والشتاء. وجهات الأقطار أربعة: الشرق، والغرب، والشمال، والجنوب. والأركان أربعة: النار، والهواء، والماء، والتراب. والطبائع أربعة: الحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة. والأخلاط أربعة:
الصفراء، والسوداء، والبلغم، والدم. والرياح أربعة: الصبا، والدبور، والشمال، والجنوب.
فالبروج منها ثلاثة ربيعية صاعدة في الشمال زائدة النهار على الليل وهي: الحمل، والثور، والجوزاء، وثلاثة صيفية هابطة في الشمال آخذة الليل من النهار وهي: السرطان، والأسد، والسنبلة، وثلاثة خريفية هابطة في الجنوب زائدة الليل على النهار وهي: الميزان، والعقرب، والقوس، وثلاثة شتوية صاعدة في الجنوب آخذة النهار من الليل وهي: الجدي، والدلو، والحوت، والفلك المحيط كما تقدم دائم الدوران كالدولاب يدور أبدا من المشرق إلى المغرب فوق الأرض، ومن المغرب إلى المشرق تحتها فيكون دائما نصف الفلك، وهو ستة بروج بمائة وثمانين درجة فوق الأرض ونصفه الآخر وهو ستة بروج بمائة وثمانين درجة تحت الأرض، وكلما طلعت من أفق المشرق درجة من درجات الفلك التي عدّتها ثلثمائة وستون درجة غرب نظيرها في أفق المغرب من البرج السابع فلا يزال دائما ستة بروج طلوعها بالنهار، وستة بروج طلوعها بالليل، والأفق عبارة عن الحدّ الفاصل من الأرض بين المرئيّ والخفيّ من السماء، والفلك يدور على قطبين شماليّ وجنوبيّ كما يدور الحق على قطبي المخروطة، ويقسم الفلك خط من دائرة تقسمه نصفين متساويين بعدهما من كلا القطبين سواء، وتسمى هذه الدائرة دائرة معدّل النهار فهي تقاطع فلك البروج ودائرة فلك البروج تقاطع دائرة معدّل النهار، ويميل نصفها إلى الجانب الشمالي بقدر أربع وعشرين درجة تقريبا وهذا النصف فيه قسمة البروج الستة الشمالية وهي من أوّل الحمل إلى آخر السنبلة ويميل نصفها الثاني عنها إلى الجنوب بمثل ذلك وفيه قسمة البروج الستة الجنوبية.
وهي من أوّل برج الميزان إلى آخر برج الحوت، وموضع تقاطع هاتين الدائرتين أعني دائرة معدّل النهار، ودائرة فلك البروج من الجانبين هما: نقطتا الاعتدالين أعني رأس الحمل(1/15)
ورأس الميزان، ومدار الشمس والقمر، وسائر النجوم على محاذاة دائرة فلك البروج دون دائرة معدّل النهار وتمرّ الشمس على دائرة معدّل النهار عند حلولها بنقطتي الاعتدالين فقط لأنها موضع تقاطع الدائرتين، وهذا هو خط الاستواء الذي لا يختلف فيه الزمان بزيادة الليل على النهار ولا النهار على الليل. لأنّ ميل الشمس عنه إلى كلا الجانبين الشماليّ والجنوبيّ سواء فالشمس تدور الفلك وتقطع الاثني عشر برجا في مدّة ثلثمائة وخمسة وستين يوما وربع يوم بالتقريب. وهذه هي: مدّة السنة الشمسية وتقيم في كل برج ثلاثين يوما وكسرا من يوم، وتكون أبدا بالنهار ظاهرة فوق الأرض، وبالليل بخلاف ذلك وإذا حلت في البروج الستة الشمالية التي هي: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة فإنها تكون مرتفعة في الهواء قريبة من سمت رؤوسنا وذلك زمن فصل الربيع وفصل الصيف، وإذا حلت في البروج الجنوبية وهي: الميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت، كان فصل الخريف وفصل الشتاء، وانحطت الشمس وبعدت عن سمت الرءوس.
وزعم وهب بن منبه أن أوّل ما خلق الله تعالى من الأزمنة الأربعة الشتاء فجعله باردا رطبا، وخلق الربيع فجعله حارا رطبا، وخلق الصيف فجعله حارا يابسا، وخلق الخريف فجعله باردا يابسا، وأوّل الفصول عند أهل زماننا الربيع ويكون فصل الربيع عندما تنتقل الشمس من برج الحوت، وقد اختلف القدماء في البداية من الفصول فمنهم من اختار فصل الربيع وصيّره أوّل السنة، ومنهم من اختار تقديم الانقلاب الصيفيّ، ومنهم من اختار تقديم الاعتدال الخريفيّ، ومنهم من اختار تقديم الانقلاب الشتويّ، فإذا حلت أوّل جزء من برج الحمل استوى الليل والنهار واعتدل الزمان وانصرف الشتاء ودخل الربيع، وطاب الهواء، وهبّ النسيم، وذاب الثلج، وسالت الأودية، ومدّت الأنهار فيما عدا مصر، ونبت العشب، وطال الزرع، ونما الحشيش وتلألأ الزهر وأوراق الشجر، وتفتح النور، واخضرّ وجه الأرض ونتجت البهائم، ودرت الضروع، وأخرجت الأرض زخرفها، وازينت وصارت كصبية شابة قد تزينت للناظرين ولله درّ القائل، وهو الحافظ جمال الدين يوسف بن أحمد اليعمريّ رحمه الله تعالى:
واستنشقوا لهوا الربيع فإنه ... نعم النسيم وعنده ألطاف
يغذي الجسوم نسيمه وكأنه ... روح حواها جوهر شفاف
وقال ابن قتيبة: ومن ذلك الربيع يذهب الناس إلى أنه الفصل الذي يتبع الشتاء ويأتي فيه النور، والورد، ولا يعرفون الربيع غيره، والعرب تختلف في ذلك فمنهم من يجعل الربيع الفصل الذي تدرك فيه الثمار، وهو الخريف وفصل الشتاء بعده ثم فصل الصيف بعد الشتاء وهو الوقت الذي تدعوه العامّة الربيع ثم فصل القيظ وهو الذي تدعوه العامّة الصيف، ومن العرب من يسمي الفصل الذي يعتدل وتدرك فيه الثمار وهو الخريف الربيع الأوّل، ويسمى الفصل الذي يتلوه الشتاء ويأتي فيه الكمام والنور الربيع الثاني وكلهم مجتمعون على(1/16)
أن الربيع هو الخريف فإذا حلت الشمس آخر برج الجوزاء، وأوّل برج السرطان تناهي طول النهار، وقصر الليل وابتدأ نقص النهار وزيادة الليل وانصرم فصل الربيع، ودخل فصل الصيف، واشتدّ الحرّ، وحمى الهواء، وهبت السمائم، ونقصت المياه إلا بمصر، ويبس العشب، واستحكم الحب، وأدرك حصاد الغلال، ونضجت الثمار، وسمنت البهائم، واشتدّت قوّة الأبدان، ودرت أخلاف النعم، وصارت الأرض كأنها عروس فإذا بلغت آخر برج السنبلة وأوّل برج الميزان تساوى الليل والنهار مرّة ثانية وأخذ الليل في الزيادة والنهار في النقصان وانصرم فصل الصيف ودخل فصل الخريف فبرد الهواء، وهبت الرياح، وتغير الزمان، وجفت الأنهار، وغارت العيون، واصفرّ ورق الشجر، وصرّمت الثمار، ودرست البيادر، واختزن الحبّ، واقتنى العشب، واغبرّ وجه الأرض إلا بمصر، وهزلت البهائم، وماتت الهوامّ، وانحجرت الحشرات، وانصرف الطير والوحش يريد البلاد الدافئة، وأخذ الناس يخزنون القوت للشتاء وصارت الدنيا كأنها امرأة كهلة قد أدبرت وأخذ شبابها يولي ولله درّ القائل وهو الإمام عز الدين أبو الحسن أحمد بن عليّ ابن معقل الأزديّ المهلبيّ الحمصيّ حيث يقول:
لله فصل الخريف المستلذ به ... برد الهواء لقد أبدى لنا عجبا
أهدى إلى الأرض من أوراقه ذهبا ... والأرض من شأنها أن تهدي الذهبا
وقال أيضا:
لله فصل الخريف فصلا ... رقت حواشيه فهو رائق
فالماء يجري بقلب سال ... والدمع يبدو بوجه عاشق
فبرد هذا ولون هذا ... يلذه ذائق ووامق
وقال أيضا:
أتى فصل الخريف بكل طيب ... وحسن معجب قلبا وعينا
أرانا الدوح مصفرّا نضارا ... وصافي الماء مبيضا لجينا
فأحسن كلّ إحسان إلينا ... وأنعم كلّ إنعام علينا
وقال آخر يذم الخريف:
خذ في التدثر في الخريف فإنه ... مستو بل ونسيمه خطاف
يجري مع الأجسام جري حياتها ... كصديقا ومن الصديق يخاف
وقال آخر:
يا عائبا فصل الخريف وغائبا ... عن فضله في ذمه لزمانه
لا شيء ألطف منه عندي موقعا ... أبدا يعرّي الغصن من قمصانه(1/17)
وتراه يفرش تحته أثوابه ... فأعجب لرأفته وفرط حنانه
وألذ ساعات الوصال إذا دنا ... وقت الرحيل وحان حين أوانه
فإذا حلّت الشمس آخر برج القوس وأوّل برج الجدي تناهى طول الليل وقصر النهار، وأخذ النهار في الزيادة والليل في النقصان، وانصرم فصل الخريف، وحلّ فصل الشتاء، واشتدّ البرد، وخشن الهواء، وتساقط ورق الشجر، ومات أكثر النبات، وغارت الحيوانات، في جوف الأرض وضعف قوى الأبدان وعري وجه الأرض من الزينة، ونشأت الغيوم وكثرت الأنداء، وأظلم الجوّ وكلح وجه الأرض إلا بمصر، وامتنع الناس من التصرّف، وصارت الدنيا كأنها عجوز هرمة قد دنا منها الموت. فإذا بلغت آخر برج الحوت وأوّل برج الحمل عاد الزمان كما كان عام أوّل وهذا دأبه ذلك تقدير العزيز العليم وتدبير الخبير الحكيم لا إله إلّا هو. وقد شبه بطليموس فصل الربيع بزمان الطفولية، وفصل الصيف بالشباب، والخريف بالكهولة، والشتاء بالشيخوخة، وعن حركة الشمس وتنقلها في البروج الاثني عشر المذكورة تكون أزمان السنة وأوقات اليوم من الليل والنهار وساعاتهما، وعن حركة القمر في البروج الاثني عشر تكون الشهور القمرية والسنة القمرية، فالقمر يدور البروج الاثني عشر ويقطع الفلك كله في مدّة ثمانية وعشرين يوما وبعض يوم، ويقيم في كل برج يومين وثلث يوم بالتقريب، ويقيم في كلّ منزلة من منازل القمر الثمانية والعشرين منزلة يوما وليلة، فيظهر عند إهلاله من ناحية الغرب بعد غروب جرم الشمس، ويزيد نوره في كل ليلة قدر نصف سبع حتى يكمل نوره، ويمتلئ في ليلة الرابع عشر من إهلاله، ثم يأخذ من الليلة الخامسة عشر في النقصان فينقص من نوره في كلّ ليلة نصف سبع كما بدا إلى أن يمحق نوره في آخر الثمانية وعشرين يوما من إهلاله ويمرّ في هذه المدّة منذ يفارق الشمس، ويبدو في ناحية الغرب، ويستمرّ إلى أن يجامعها بثمانية وعشرين منزلة وهي: السرطان «1» ، والبطين، والثريا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرف، والجبهة، والزبرة، والصرفة، والعوّا، والسماك، والغفر، والزبانا، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، وسعد الذابح، وسعد بلع، وسعد السعود، وسعد الأخبية، والفرغ المقدّم، والفرغ المؤخر، وبطن الحوت. ولحساب ذلك كتب موضوعة وفيما ذكر كفاية والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
ذكر صورة الأرض وموضع الأقاليم منها
ولما تقدّم في الأفلاك من القول ما يتبين به لمن ألهمه الله تعالى كيف تكون الحركة التي بها الليل والنهار، وتركب الشهور والأعوام منهما جاز حينئذ الكلام على الأرض.(1/18)
فأقول: الجهات من حيث هي ست: الشرق وهو حيث تطلع الشمس. والقمر، وسائر الكواكب في كل قطر من الأفق، والغرب وهو حيث تغرب، والشمال وهو حيث مدار الجدي والفرقدين، والجنوب وهو حيث مدار سهيل، والفوق وهو مما يلي السماء، والتحت وهو مما يلي مركز الأرض.
والأرض جسم مستدير كالكرة، وقيل: ليست بكرية الشكل وهي واقفة في الهواء بجميع جبالها وبحارها وعامرها وغامرها، والهواء محيط بها من جميع جهاتها كالمحّ في جوف البيضة وبعدها من السماء متساو من جميع الجهات وأسفل الأرض ما تحقيقه هو عمق باطنها مما يلي مركزها من أيّ جانب كان. ذهب الجمهور إلى أن الأرض كالكرة موضوعة في جوف الفلك كالمح في البيضة، وأنها في الوسط وبعدها في الفلك من جميع الجهات على التساوي.
وزعم هشام بن الحكم: أن تحت الأرض جسما من شأنه الارتفاع وهو المانع للأرض من الانحدار، وهو ليس محتاجا إلى ما بعده، لأنه ليس يطلب الانحدار بل الارتفاع، وقال:
إن الله تعالى وقفها بلاد عماد.
وقال ديمقراطس: أنها تقوم على الماء، وقد حصر الماء تحتها حتى لا يجد مخرجا فيضطرّ إلى الانتقال، وقال آخر: هي واقفة على الوسط على مقدار واحد من كلّ جانب والفلك يجذبها من كل وجه فلذلك لا تميل إلى ناحية من الفلك دون ناحية، لأنّ قوة الأجزاء متكافئة، وذلك كحجر المغناطيس في جذبه الحديد فإنّ الفلك بالطبع مغناطيس الأرض، فهو يجذبها فهي واقفة في الوسط، وسبب وقوفها في الوسط سرعة تدوير الفلك ودفعه إياها من كل جهة إلى الوسط.
كما إذا وضعت ترابا في قارورة وأدرتها بقوّة فإنّ التراب يقوم في الوسط.
وقال محمد بن أحمد الخوارزمي «1» : الأرض في وسط السماء، والوسط هو السفلى بالحقيقة، وهي مدوّرة مضرسة من جهة الجبال البارزة والوهاد الغائرة، وذلك لا يخرجها عن الكرية إذا اعتبرت جملتها لأنّ مقادير الجبال وإن شمخت يسيرة بالقياس إلى كرة الأرض، فإن الكرة التي قطرها ذراع، أو ذراعان مثلا إذا أنتأ منها شيء أو غار فيها لا يخرجها عن الكرية، ولا هذه التضاريس لإحاطة الماء بها من جميع جوانبها وغمرها، بحيث لا يظهر منها شيء. فحينئذ تبطل الحكمة المؤدّية المودعة في المعادن، والنبات والحيوان، فسبحان من لا يعلم أسرار حكمه إلا هو. وأما سطحها الظاهر المماس للهواء من جميع(1/19)
الجهات فإنه فوق، والهواء فوق الأرض يحيط بها ويجذبها من سائر الجهات، وفوق الهواء الأفلاك المذكورة فيما تقدّم واحدا فوق آخر إلى الفلك التاسع الذي هو أعلى الأفلاك، ونهاية المخلوقات بأسرها، وقد اختلف فيما وراء ذلك فقيل: خلا.
وقيل: ملاء، وقيل: لا خلاء ولا ملاء وكل موضع يقف فيه الإنسان من سطح الأرض فإنّ رأسه أبدا يكون مما يلي السماء إلى فوق، ورجلاه أبدا تكون أسفل مما يلي مركز الأرض، وهو دائما يرى من السماء: نصفها ويستر عنه النصف الآخر حدبة الأرض، وكلما انتقل من موضع إلى آخر ظهر له من السماء بقدر ما خفي عنه.
والأرض غامرة بالماء كعنبة طافية فوق الماء قد انحسر عنها نحو النصف، وانغمر النصف الآخر في الأرض، وصار المنكشف من الأرض نصفين، كأنما قسم بخط مسامت لخط معدّل النهار يمرّ تحت دائرته، وجميع البلاد التي على هذا الخط، لا عرض لها البتة، والقطبان غير مرتبين فيها، ويكونان هناك على دائرة الأفق من الجانبين.
وكلما بعد موضع بلد عن هذا الخط إلى ناحية الشمال قدر درجة ارتفع القطب الشماليّ الذي هو: الجدي على أهل ذلك البلد درجة، وانخفض القطب الجنوبيّ الذي هو: سهيل درجة، وهكذا ما زاد ويكون الأمر فيما بعد من البلاد الواقعة في ناحية الجنوب كذلك من ارتفاع القطب الجنوبيّ، وانحطاط القطب الشماليّ، وبهذا عرف عرض البلدان، وصار عرض البلد عبارة عن ميل دائرة معدّل النهار عن سمت رؤوس أهله، وارتفاع القطب عليهم، وهو أيضا بعد ما بين سمت رؤوس أهل ذلك البلد، وسمت رؤوس أهل بلد لا عرض له، فأمّا ما انكشف من الأرض مما يلي الجنوب من خط الاستواء، فإنه خراب، والنصف الآخر الذي يلي الشمال من خط الاستواء، فهو الربع العامر، وهو المسكون من الأرض، وخط الاستواء لا وجود له في الخارج، وإنما هو فرض بوهمنا أنه خط ابتداؤه من المشرق إلى المغرب تحت مدار رأس الحمل، وسمي بذلك من أجل أنّ النهار، والليل هناك أبدا سواء لا يزيد ولا ينقص أحدهما عن الآخر شيئا البتة في سائر أوقات السنة كلها، ونقطتا هذا الخط ملازمتان للأفق إحداهما على مدار سهيل في ناحية الجنوب، والأخرى مما يلي الجدي في ناحية الشمال.
والعمارة من المشرق إلى المغرب مائة وثمانون درجة من الجنوب إلى الشمال من خط أريس إلى بنات نعش: ثمان وأربعون درجة، وهو مقدار ميل الشمس مرّتين، وخلف خط أريس، وهو مقدار: ستة عشر درجة، وجملة معمور الأرض نحو من: سبعين درجة لاعتدال مسير الشمس في هذا الوسط، ومرورها على ما وراء الحمل والميزان مرّتين في السنة، وأما الشمال والجنوب، فالشمس لا تحاذيهما إلّا مرّة واحدة، ولأنّ أوج الشمس مرّتين في جهة الشمال، كانت العمارة فيه لارتفاعها وانتفاء ضرر قربها عن ساكنيه، ولأن(1/20)
حضيضها في الجنوب، عدمت العمارة هنالك.
وقد اختلف الناس في مسافة الأرض، فقيل: مسافتها خمسمائة عام ثلث عمران، وثلث خراب، وثلث بحار، وقيل: المعمور من الأرض مائة وعشرون سنة: تسعون ليأجوج ومأجوج، واثنا عشر: للسودان، وثمانية للروم، وثلاثة للعرب، وسبعة لسائر الأمم.
وقيل: الدنيا سبعة أجزاء: ستة ليأجوج ومأجوج، وواحد لسائر الناس، وقيل:
الأرض خمسمائة عام: البحار ثلثمائة، ومائة خراب، ومائة عمران، وقيل: الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ: للسودان اثنا عشر ألف، وللروم ثمانية آلاف، ولفارس ثلاثة آلاف، وللعرب ألف.
وعن وهب بن منبه: ما العمارة من الدنيا في الخراب إلا كفسطاط في الصحراء.
وقال أزدشير بن بابك: الأرض أربعة أجزاء: جزء منها للترك، وجزء للعرب، وجزء للفرس، وجزء للسودان، وقيل: الأقاليم سبعة: والأطراف أربعة، والنواحي خمسة وأربعون، والمدائن عشرة آلاف، والرساتيق مائتا ألف وستة وخمسون ألفا، وقيل: المدن والحصون أحد وعشرون ألفا وستمائة مدينة وحصن، ففي الإقليم الأوّل ثلاثة آلاف ومائة مدينة كبيرة، وفي الثاني ألفان وسبعمائة وثلاثة عشر مدينة وقرية كبيرة، وفي الثالث ثلاثة آلاف وتسع وسبعون مدينة وقرية، وفي الرابع وهو بابل ألفان وتسعمائة وأربع وسبعون مدينة، وفي الخامس ثلاثة آلاف مدينة وست مدائن، وفي السادس ثلاثة آلاف وأربعمائة وثمان مدن، وفي السابع ثلاثة آلاف وثلاثمائة مدينة في الجزائر.
وقال الخوارزميّ: قطر الأرض سبعة آلاف فرسخ، وهو نصف سدس الأرض والجبال والمفاوز والبحار، والباقي خراب يباب لا نبات فيه ولا حيوان، وقيل: المعمور من الأرض مثل: طائر، رأسه الصين، والجناح الأيمن الهند والسند، والجناح الأيسر الخزر، وصدره مكة والعراق والشام ومصر، وذنبه الغرب، وقيل: قطر الأرض سبعة آلاف وأربعمائة وأربعة عشر ميلا ودورها عشرون ألف ميل وأربعمائة ميل، وذلك جميع ما أحاطت به من برّ وبحر.
وقال أبو زيد أحمد بن سهل البلخيّ «1» : طول الأرض من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب نحو أربعمائة مرحلة، وعرضها من حيث العمران الذي من جهة الشمال، وهو مساكن يأجوج ومأجوج إلى حيث العمران الذي من جهة الجنوب، وهو مساكن السودان(1/21)
مائتان وعشرون مرحلة وما بين براري يأجوج ومأجوج إلى البحر المحيط في الشمال، وما بين براري السودان، والبحر المحيط في الجنوب خراب ليس فيه عمارة، ويقال: إن مسافة ذلك: خمسة آلاف فرسخ، وهذه أقوال لا دليل على صدقها.
والطريق في معرفة مساحة الأرض أنّا لو سرنا على خط نصف النهار من الجنوب إلى الشمال بقدر ميل دائرة معدّل النهار عن سمت رؤوسنا إلى الجنوب درجة من درج الفلك التي هي جزء من ثلاثمائة وستين جزءا، وارتفع القطب علينا درجة نظير تلك الدرجة فإنا نعلم أنا قد قطعنا من محيط جرم الأرض جزءا من ثلاثمائة وستين جزءا، وهو نظير ذلك الجزء من الفلك، فلو قسنا من ابتداء مسيرنا إلى انتهاء مكاننا الذي وصلنا إليه حيث ارتفع القطب علينا درجة، فإنا نجد حقيقة الدرجة الواحدة من الفلك قد قطعت من الأرض ستة وخمسين ميلا، وثلثي ميل عنها خمسة وعشرون فرسخا فإذا ضربنا حصة الدرجة الواحدة، وهو ما ذكر من الأميال في ثلاثمائة وستين خرج من الضرب عشرون ألفا، وأربعمائة ميل، وذلك مساحة دور الأرض فإذا قسمنا هذه الأميال التي هي مساحة دور الأرض على ثلاثة وسبع خرج من القسمة ستة آلاف وأربعمائة، وأربعون ميلا، وهي مساحة قطر الأرض، فلو ضربنا هذا القطر في مبلغ دور الأرض، لبلغت مساحة بسط الأرض بالتكسير مائة ألف ألف واثنين وثلاثين ألف ألف وستمائة ألف ميل بالتقريب. فعلى هذا مساحة ربع الأرض المسكون بالتكسير ثلاثة وثلاثون ألف ألف ميل ومائة وخمسون ألف ميل، وعرض المسكون من هذا الربع بقدر بعد مدار السرطان عن القطب، وهو خمسة وخمسون جزءا وسدس جزء، وهذا هو سدس الأرض وانتهاؤه إلى جزيرة تولي في برطانية، وهي آخر المعمور من الشمال، وهو من الأميال ثلاثة آلاف وسبعمائة وأربعة وستون ميلا، فإذا ضربنا هذا السدس الذي هو مساحة عرض الأرض في النصف، وهو مقدار الطول، كان المعمور من الشمال قدر نصف سدس الأرض. وأما الطول فإنه يقل لتضايق أقسام كرة الأرض، ومقداره مثل خمس الدور، وهو بالتقريب أربعة آلاف وثمانون ميلا، وفي الربع المسكون من الأرض: سبعة أبحر كبار، وفي كل بحر منها عدة جزائر، وفيه خمسة عشر بحيرة منها ملح وعذب، وفيه مائتا جبل طوال، ومائتا نهر، وأربعون نهرا طوالا، ويشتمل على سبعة أقاليم تحتوي على سبعة عشر ألف مدينة كبيرة.
وقال في كتاب هروشيوس: لما استقامت طاعة بوليس الملقب قيصر الملك في عامّة الدنيا، تخير أربعة من الفلاسفة سماهم، فأمرهم أن يأخذوا له وصف خدود الدنيا، وعدّة بحارها، وكورها أرباعا فولّى أحدهم أخذ وصف جزء المشرق، وولى آخر أخذ وصف جزء المغرب، وولى الثالث أخذ وصف جزء الشمال. وولى الرابع أخذ وصف جزء الجنوب، فتمت كتابة الجميع على أيديهم في نحو من ثلاثين سنة، فكانت جملة البحار المسماة في الدنيا تسعة وعشرين بحرا قد سمّوها: منها بجزء الشرق ثمانية، وبجزء الغرب ثمانية،(1/22)
وبجزء الشمال أحد عشر، وبجزء الجنوب اثنان، وعدّة الجزائر المعروفة الأمهات: إحدى وسبعون جزيرة منها: في الشرق ثمان، وفي الغرب ست عشرة، وفي جهة الشمال إحدى وثلاثون، وفي جهة الجنوب ست عشرة. وعدّة الجبال الكبار المعروفة في جميع الدنيا ستة وثلاثون وهي أمّهات الجبال وقد سموها فيما فسروه منها: في جهة الشرق سبعة، وفي جهة المغرب خمسة عشر، وفي الشمال اثنا عشر، وفي الجنوب اثنان، والبلدان الكبار ثلاثة وستون منها: في المشرق سبعة، وفي المغرب خمسة وعشرون، وفي الشمال تسعة عشر، وفي الجنوب اثنا عشر. وقد سموها، والكور الكبار المعروفة تسع ومائتان منها: في المشرق خمس وسبعون، وفي المغرب ست وستون، وفي الشمال ست، وفي الجنوب اثنان وستون. والأنهار الكبار المعروفة في جميع الدنيا ستة وخمسون منها: لجزء الشرق سبعة عشر، ولجزء الغرب ثلاثة عشر، ولجزء الشمال تسعة عشر، ولجزء الجنوب سبعة.
والأقاليم السبعة كل إقليم منها كأنه بساط مفروش قد مدّ طوله من الشرق إلى الغرب، وعرضه من الشمال إلى الجنوب وهذه الأقاليم مختلفة الطول والعرض. فالإقليم الأوّل منها يمرّ وسطه بالمواضع التي طول نهار الأطول ثلاثة عشر ساعة والسابع منها يمرّ وسطه بالمواضع التي طول نهارها الأطول ست عشر ساعة لأنّ ما حاذى حدّ الإقليم الأوّل إلى نحو الجنوب يشتمل عليه البحر ولا عمارة فيه وما حاذى الإقليم السابع إلى الشمال لا يعلم فيه عمارة فجعل طول الأقاليم السبعة من الشرق إلى الغرب مسافة اثنتي عشرة ساعة من دور الفلك وصارت عروضها تتفاضل نصف ساعة من ساعات النهار الأطول فأطولها وأعرضها الإقليم الأوّل وطوله من المشرق إلى المغرب نحو ثلاثة آلاف فرسخ، وعرضه من الشمال إلى الجنوب مائة وخمسون فرسخا.
وأقصرها طولا وعرضا الإقليم السابع وطوله من الشرق إلى الغرب ألف وخمسمائة فرسخ، وعرضه من الشمال إلى الجنوب نحو من سبعين فرسخا، وبقية الأقاليم الخمسة فيما بين ذلك، وهذه الأقاليم خطوط متوهمة لا وجود لها في الخارج وضعها القدماء الذين جالوا في الأرض ليقفوا على حقيقة حدودها، ويتيقنوا مواضع البلدان منها، ويعرفوا طرق مسالكها هذا حال الربع المسكون، وأما الثلاثة الأرباع الباقية فإنها خراب، فجهة الشمال واقعة تحت مدار الجدي قد أفرط هناك البرد، وصارت ستة أشهر ليلا مستمرّا، وهي مدّة الشتاء عندهم لا يعرف فيها نهار، ويظلم الهواء ظلمة شديدة، وتجمد المياه لقوّة البرد، فلا يكون هناك نبات ولا حيوان، ويقابل هذه الجهة الشمالية ناحية الجنوب حيث مدار سهيل، فيكون النهار ستة أشهر بغير ليل، وهي مدّة الصيف عندهم، فيحمي الهواء ويصير سموما محرقا يهلك بشدّة حرّه الحيوان والنبات، فلا يمكن سلوكه ولا السكنى فيه، وأما ناحية الغرب، فيمنع البحر المحيط من السلوك فيه لتلاطم أمواجه وشدّة ظلماته وناحية الشرق تمنع من سلوكها الجبال الشامخة، وصار الناس أجمعهم قد انحصروا في الربع المسكون من(1/23)
الأرض ولا علم لأحد منهم بالأرض أي بالثلاثة الأرباع الباقية، والأرض كلها بجميع ما عليها من الجبال، والبحار نسبتها إلى الفلك كنقطة في دائرة، وقد اعتبرت حدود الأقاليم السبعة بساعات النهار، وذلك أن الشمس إذا حلت برأس الحمل، تساوى طول النهار والليل في سائر الأقاليم كلها، فإذا انتقلت في درجات برج الحمل والثور والجوزاء اختلفت ساعات نهار كل إقليم، فإذا بلغت آخر الجوزاء وأوّل برج السرطان، بلغ طول النهار في وسط الإقليم الأوّل ثلاث عشرة ساعة سواء، وصارت في وسط الإقليم الثاني ثلاث عشرة ساعة ونصف ساعة، وفي وسط الإقليم الثالث أربع عشرة ساعة، وصارت في وسط الإقليم الثاني ثلاث عشرة ساعة ونصف ساعة، وفي وسط الإقليم الثالث أربع عشرة ساعة، وفي وسط الإقليم الرابع أربع عشرة ساعة ونصف ساعة، وفي وسط الإقليم الخامس خمس عشرة ساعة، وفي وسط الإقليم السادس خمس عشرة ساعة ونصف ساعة، وفي وسط الإقليم السابع ست عشرة ساعة سواء، وما زاد على ذلك إلى عرض تسعين درجة يصير نهارا كلّه.
ومعنى طول البلد: هو بعدها من أقصى العمارة في الغرب، وعرضها هو بعدها عن خط الاستواء، وخط الاستواء كما تقدّم هو الموضع الذي يكون فيه الليل والنهار طول الزمان سواء، فكل بلد على هذا الخط لا عرض له، وكل بلد في أقصى الغرب لا طول له، ومن أقصى الغرب إلى أقصى الشرق، مائة وثمانون درجة، وكل بلد يكون طوله تسعين درجة، فإنه في وسط ما بين الشرق والغرب، وكل بلد كان طوله أقل من تسعين درجة فإنه أقرب إلى الغرب وأبعد من الشرق، وما كان طوله من البلاد أكثر من تسعين درجة، فإنه أبعد عن الغرب، وأقرب إلى الشرق.
وقد ذكر القدماء أن العالم السفليّ مقسوم سبعة أقسام، كل قسم يقال له: إقليم، فإقليم الهند لزحل، وإقليم بابل للمشتري، وإقليم الترك للمرّيخ، وإقليم الروم للشمس، وإقليم مصر لعطارد، وإقليم الصين للقمر.
وقال قوم: الحمل والمشتري لبابل، والجدي وعطارد للهند، والأسد والمريخ للترك، والميزان والشمس للروم، ثم صارت القسمة على اثني عشر برجا، فالحمل ومثلاه للمشرق، والثور ومثلاه للجنوب، والجوزاء ومثلاها للمغرب، والسرطان ومثلاه للشمال، قالوا وفي كل إقليم مدينتان عظيمتان بحسب بيتي كل كوكب إلا إقليم الشمس، وإقليم القمر فإنه ليس في كل إقليم منهما سوى مدينة واحدة عظيمة. وجميع مدائن الأقاليم السبعة، وحصونها أحد وعشرون ألف مدينة، وستمائة مدينة وحصن بقدر دقائق درج الفلك.
وقال هرمس: إذا جعلت هذه الدقائق روابع كانت أناس هذه الأقاليم، وإذا مات أحد ولد نظيره ويقال: إن عدد مدن الإقليم الأول من مطلع الشمس وقراها ثلاثة آلاف ومائة(1/24)
مدينة وقرية كبيرة، وأنّ في الثاني ألفان وسبعمائة وثلاث عشرة مدينة وقرية كبيرة، وفي الثالث ثلاثة آلاف وتسع وسبعون، وفي الرابع وهو بابل ألفان وتسعمائة وأربع وسبعون، وفي الخامس ثلاثة آلاف وست مدن، وفي السادس ثلاثة آلاف وأربعمائة وثمان مدن، وفي السابع ثلاثة آلاف وثلاثمائة مدينة وقرية كبيرة في الجزائر.
فالإقليم الأوّل يمرّ وسطه بالمواضع التي طول نهارها الأطول ثلاث عشرة ساعة، ويرتفع القطب الشماليّ فيها عن الأفق ست عشرة درجة وثلثا درجة، وهو العرض وانتهاء عرض هذا الإقليم من حيث يكون طول النهار الأطول فيه ثلاث عشرة ساعة وربع ساعة، وارتفاع القطب الشماليّ، وهو العرض عشرون درجة ونصف درجة، وهو مسافة أربعمائة وأربعين ميلا، وابتداؤه من أقصى بلاد الصين، فيمرّ فيها إلى ما يلي الجنوب، ويمرّ بسواحل الهند، ثم ببلاد السند، ويمرّ في البحر على جزيرة العرب وأرض اليمن، ويقع بحر القلزم فيمرّ ببلاد الحبشة، ويقطع نيل مصر إلى بلاد الحبشة، ومدينة دنقلة من أرض النوبة، ويمرّ في أرض المغرب على جنوب بلاد البربر إلى نحو البحر المحيط، وفي هذا الإقليم عشرون جبلا فيها ما طوله من عشرين فرسخا إلى ألف فرسخ، وفيه ثلاثون نهرا طويلا منها ما طوله ألف فرسخ إلى عشرين فرسخا، وفيه خمسون مدينة كبيرة، وعامّة أهل هذا الإقليم سود الألوان، ولهذا الإقليم من البروج الحمل والقوس، وله من الكواكب السيارة المشتري، وهو مع فرط حرارته كثير المياه كثير المروج وزرع أهله الذرة والأرز إلّا أنّ الاعتدال عندهم معدوم، فلا يثمر عندهم كرم ولا حنطة، والبقر عندهم كثير لكثرة المروج، وفي مشرقه البحر الخارج وراء خط الاستواء، بثلاث عشرة درجة، وفي مغربه النيل، وبحر الغرب ومن هذا الإقليم يأتي نيل مصر، وشرقهم معمور بالبحر الشرقيّ الذي هو بحر الهند واليمن.
والإقليم الثاني: حيث يكون طول النهار الأطول ثلاث عشرة ساعة ونصف، ويرتفع القطب الشماليّ فيه قدر أربعة وعشرين جزءا وعشر جزء، وعرضه من حدّ الإقليم الأوّل إلى حيث يكون النهار الأطول ثلاث عشرة ساعة ونصف وربع ساعة، وارتفاع القطب الشماليّ، وهو العرض سبعة وعشرون درجة ونصف درجة، ومساحة هذا الإقليم أربعمائة ميل ويبتدئ من بلاد الشرق مارّا ببلاد الصين إلى بلاد الهند والسند، ثم بملتقى البحر الأخضر وبحر البصرة، ويقطع جزيرة العرب في أرض نجد وتهامة، فيدخل في هذا الإقليم اليمامة، والبحران، وهجر، ومكة، والمدينة، والطائف، وأرض الحجاز، ويقطع بحر القلزم، فيمرّ بصعيد مصر الأعلى ويقطع النيل، فيصير فيه مدينة قوص، واخميم وأسنى وأنصنا وأسوان، ويمرّ في أرض المغرب على وسط بلاد إفريقية، فيمرّ على بلاد البربر إلى البحر في المغرب، وفي هذا الإقليم سبعة عشر جبلا، وسبعة عشر نهرا طوالا وأربعمائة وخمسون مدينة كبيرة، وألوان أهل هذا الإقليم ما بين السمرة والسواد، وله من البروج الجدي، ومن السيارة زحل، ويسكن هذا الإقليم الرحالة، ففي المغرب منهم حدا له وصنهاجة ولمتونة(1/25)
ومسوفة، ويتصل بهم رحالة مصر من ألواح وفي هذا الإقليم يكون يحل، وفيه مكة والمدينة ومنه السماوة من أهل العراق إلى رحالة الترك.
والإقليم الثالث: وسطه حيث يكون طول النهار الأطول أربع عشرة ساعة وارتفاع القطب، وهو العرض ثلاثون درجة ونصف وخمس درجة، وعرض هذا الإقليم من حدّ الإقليم الثاني إلى حيث يكون النهار الأطول أربع عشرة ساعة وربع ساعة، وارتفاع القطب وهو العرض ثلاث وثلاثون درجة ومسافته ثلاثمائة وخمسون ميلا ويبتدئ من الشرق، فيمر بشمال الصين، وبلاد الهند، وفيه مدينة الهندهار ثم بشمال السند، وبلاد كابل، وكرمان، وسجستان إلى سواحل بحر البصرة، وفيه اصطخر وسابور، وشيراز وسيراف ويمرّ بالأهواز والعراق، والبصرة، وواسط، وبغداد، والكوفة، والأنبار وهيت، ويمرّ ببلا الشام إلى سلمية وصور وعكا، ودمشق وطبرية وقيسارية وبيت المقدس وعسقلان وغزة ومدين والقلزم ويقطع أسفل أرض مصر من شمال انصنا إلى فسطاط مصر، وسواحل البحر، وفيه الفيوم والإسكندرية والعرما وتنيس ودمياط ويمرّ ببلاد برقة إلى إفريقية فيدخل فيه القيروان وينتهي في البحر إلى الغرب وبهذا الإقليم ثلاث وثلاثون جبلا كبارا واثنان وعشرون نهرا طوالا ومائة وثمانية وعشرون مدينة وأهله سمر الألوان ومن له من البروج العقرب، ومن السيارة الزهرة، وفي هذا الإقليم العمائر المتواصلة من أوّله إلى آخره اه.
والإقليم الرابع: وسطه حيث يكون النهار الأطول أربع عشرة ساعة ونصف ساعة، وارتفاع القطب الشماليّ، وهو العرض ست وثلاثون درجة وخمس درجة، وحدّ هذا الإقليم من حدّ الإقليم الثالث إلى حيث يكون النهار الأطول أربع عشرة ساعة ونصف وربع ساعة، والعرض تسعا وعشرين درجة وثلث درجة، ومسافة هذا الإقليم: ثلاثمائة ميل ويبتدئ من الشرق فيمر ببلاد التبت، وخراسان وخجندة وفرغانة وسمرقند وبخارى وهراة ومرو الروذ وسرخس وطوس ونيسابور وجرجان وقومس وطبرستان وقزوين والديلم والريّ وأصفهان وهمذان ونهاوند ودينور والموصل ونصيبين وآمد ورأس العين وشميساط والرقة ويمرّ ببلاد الشام فيدخل فيه بالس، ومسح وملطية وحلب وأنطاكية وطرابلس والمصيصة وحماه وصيدا وطرسوس وعمورية واللاذقية، ويقطع بحر الشام على جزيرة قبرس ورودس، ويمرّ ببلاد طنجة، فينتهي إلى بحر المغرب، وفي هذا الإقليم: خمسة وعشرون جبلا كبارا وخمسة وعشرون نهرا طوالا ومائتا مدينة واثنتا عشرة مدينة، وألوان أهله ما بين السمرة والبياض، وله من البروج الجوزاء، ومن السيارة عطارد، وفيه البحر الرومي من مغربه إلى القسطنطينية، ومن هذا الإقليم ظهرت الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم أجمعين، ومنه انتشر الحكماء والعلماء فإنه وسط الأقاليم، ثلاثة جنوبية، وثلاثة شمالية، وهو في قسم الشمس، وبعده في الفضيلة الإقليم الثالث والخامس فإنهما على جنبيه، وبقية الأقاليم منحطة أهلوها ناقصون ومنحطون عن الفضيلة لسماجة صورهم وتوحش أخلاقهم كالزنج،(1/26)
والحبشة وأكثر أمم الإقليم الأوّل والثاني والسادس والسابع يأجوج ومأجوج، والتغرغر والصقالبة ونحوهم.
والإقليم الخامس: وسطه حيث يكون النهار الأطول خمس عشرة ساعة، وارتفاع القطب الشمالي، وهو العرض إحدى وأربعون درجة وثلث درجة، وابتداؤه من نهاية عرض الإقليم الرابع إلى حيث يكون النهار الأطول خمس عشرة ساعة ونصف ساعة، والعرض ثلاثا وأربعين درجة، ومسافته خمسون ومائتا ميل ويبتدئ من المشرق إلى بلاد يأجوج ومأجوج، ويمرّ بشمال خراسان، وفيه خوارزم واسبيجاب وأذربيجان وبردعة وسجستان وأردن وخلاط ويمرّ على بلاد الروم إلى رومية الكبرى والأندلس، حتى ينتهي إلى البحر الذي في المغرب وفي هذا الإقليم من الجبال الطوال: ثلاثون جبلا، ومن الأنهار الكبار خمسة عشر نهرا، ومن المدائن الكبار مائتا مدينة، وأكثر أهله بيض الألوان وله من البروج الدلو، ومن السيارة القمر.
والإقليم السادس: وسطه حيث يكون النهار الأطول خمس عشرة ساعة ونصف ساعة، وارتفاع القطب الشماليّ، وهو العرض خمسا وأربعين درجة وخمسي درجة، وابتداؤه من حدّ نهاية عرض الإقليم الخامس إلى حيث يكون النهار الأطول خمس عشرة ساعة ونصف وربع ساعة، والعرض سبعا وأربعين درجة وربع درجة.
ومسافة هذا الإقليم مائتا ميل وعشرة أميال، ويبتدي من المشرق، فيمرّ بمساكن الترك من أبحر خير والتغرغر إلى بلاد الخزر من شمال نجومهم على اللان والشرير، وأرض برحان والقسطنطينية، وشمال الأندلس إلى البحر المحيط الغربي، وفي هذا الإقليم من الجبال الطوال: اثنان وعشرون جبلا، ومن الأنهار الطوال: اثنان وثلاثون نهرا، ومن المدن الكبار تسعون مدينة وأكثر أهل هذا الإقليم ألوانهم ما بين الشقرة والبياض، وله من البروج السرطان، ومن السيارة المرّيخ.
والإقليم السابع: وسطه حيث يكون النهار الأطول ست عشرة ساعة سواء، وارتفاع القطب الشمالي وهو العرض ثمانيا وأربعين درجة وثلثي درجة، وابتداء هذا الإقليم من حدّ نهاية الإقليم السادس إلى حيث يكون النهار الأطول ست عشرة ساعة وربع ساعة، والعرض خمسين درجة ونصف درجة، ومسافته مائتا وخمسة وثمانون ميلا، فتبين أن ما بين أوّل حدّ الإقليم الأوّل، وآخر حدّ الإقليم السابع ثلاث ساعات ونصف، وأن ارتفاع القطب الشماليّ ثمانية وثلاثون درجة تكون من الأميال، ألفين ومائة وأربعين ميلا، ويبتدي الإقليم السابع من المشرق على بلاد يأجوج ومأجوج، ويمرّ ببلاد الترك على سواحل بحر جرجان مما يلي الشمال، ويقطع بحر الروم على بلاد جرجان والصقالبة إلى أن ينتهي إلى البحر المحيط في المغرب، وبهذا الإقليم عشرة جبال طوال وأربعون نهرا طوالا، واثنتان وعشرون مدينة(1/27)
كبيرة، وأهله شقر الألوان، وله من البروج الميزان، ومن السيارة الشمس، وفي كل إقليم من هذه الأقاليم السبعة أمم مختلفة الألسن، والألوان، وغير ذلك من الطبائع والأخلاق والآراء والديانات والمذاهب، والعقائد والأعمال والصنائع، والعادات والعبادات لا يشبه بعضهم بعضا، وكذلك الحيوانات والمعادن والنبات مختلفة في الشكل والطعم واللون والريح بحسب اختلاف أهوية البلدان، وتربة البقاع، وعذوبة المياه وملوحتها على ما اقتضته طوالع كل بلد من البروج على أفقه وممرّ الكواكب على مسامته البقاع من الأرض، ومطارح شعاعاتها على المواضع كما هو مقرّر في مواضعه من كتب الحكمة ليتدبر أولو النهي، ويعتبر ذوو الحجى بتدبير الله في خلقه، وتقديره لما يشاء وفعله لما يريد لا إله إلّا هو ومع ذلك فإن الربع المسكون من الأرض على تفاوت أقطاره مقسوم بين سبع أمم كبار: وهم الصين، والهند، والسودان، والبربر، والروم، والترك، والفرس، فجنوب مشرق الأرض في يد الصين وشماله في يد الترك ووسط جنوب الأرض في يد الهند وفي وسط شمال الأرض الروم وفي جنوب مغرب الأرض السودان وفي شمال مغرب الأرض البربر وكانت الفرس في وسط هذه الممالك قد أحاطت بهم الأمم الست.
ذكر محل مصر من الأرض وموضعها من الأقاليم السبعة
وإذ يسر الله سبحانه بذكر جمل أحوال الأرض، ومعرفة ما في كل إقليم من أقاليم الأرض، فلنذكر محل مصر من ذلك فنقول:
ديار مصر بعضها واقع في الإقليم الثاني، وبعضها واقع في الإقليم الثالث، فما كان منها في الصعيد الأعلى كقوص، واخميم وأسنى وأنصنا وأسوان، فإنّ ذلك واقع في أقسام الإقليم الثاني، وما كان من ديار مصر في جهة الشمال من أنصنا، وهو الصعيد الأدنى من أسيوط إلى فسطاط مصر، والفيوم والقاهرة والإسكندرية والفرما وتنيس ودمياط فإن ذلك من أقسام الإقليم الثالث، وطول مدينة مصر الفسطاط والقاهرة، وهو بعدهما من أوّل العمارة في جهة المغرب: خمس وخمسون درجة، والعرض وهو البعد من خط الاستواء ثلاثون درجة، وطول النهار الأطول أربع عشرة ساعة، وغاية ارتفاع الشمس في الفلك بها ثلاث وثمانون درجة وثلث وربع درجة، وفسطاط مصر مع القاهرة من مكة شرّفها الله تعالى واقعان في الربع الجنوبيّ الشرقيّ، والصعيد الأعلى أشدّ تشريقا لبعده عن مدينة الفسطاط بأيام عديدة في جهة الجنوب، فيكون على ذلك مقابلا لمكة من غربيها، ومصر لا يتوصل إليها إلا من مفازة، ففي شرقيها بحر القلزم من وراء الجبل الشرقي، وفي غربيها صحراء المغرب، وفي جنوبها مفازة النوبة والحبشة، وفي شمالها البحر الشامي، والرمال التي فيها بين بحر الروم، وبحر القلزم وبين مصر وبغداد على ما ذكره ابن خرداذبه «1» في كتاب(1/28)
الممالك والمسالك: ألف وسبعمائة وعشرة أميال، يكون خمسمائة وسبعين فرسخا، ومائة وبعضا وأربعين بريدا، وبين مصر والشام أعني دمشق: ثلاثمائة وخمسة وستون ميلا تكون من الفراسخ مائة وإحدى وعشرين فرسخا وثلثي فرسخ، عنها ثلاثون بريدا وكسر.
وقال ابن خرداذبه: أرض الحبشة والسودان مسيرة سبع سنين، وأرض مصر جزءا واحد من ستين جزءا من أرض السودان، وأرض السودان جزء واحد من الأرض كلها.
وفي كتاب هردوشيش: بلد مصر الأدنى شرقه فلسطين، وغربه أرض ليبية، وأرض مصر الأعلى تمتدّ إلى ناحية الشرق، وحدّه في الشمال خليج الغرب، وفي الجنوب البحر المحيط، وفي الغرب مصر الأدنى، وفي الشرق بحر القلزم، وفيه من الأجناس ثمانية وعشرون جنسا.(1/29)
ذكر حدود مصر وجهاتها
اعلم أن التحديد هو صفة المحدود على ما هو عليه، والحدّ هو نهاية الشيء، والحدود تكثر وتقل بحسب المحدود والجهات التي تحدّ بها المساكن.
والبقاع أربع جهات وهي: جهة الشمال: التي هي إشارة إلى موضع قطب الفلك الشماليّ المعروف من كواكبه الجدي، والفرقدان، ويقابل جهة الشمال الجهة الجنوبية، والجنوب عبارة: عن موضع قطب الفلك الجنوبيّ الذي يقرب منه سهيل، وما يتبعه من كواكب السفينة، والجهة الثالثة: جهة المشرق وهو مشرق الشمس في الاعتدالين اللذين هما رأس الحمل أوّل فصل الربيع، ورأس الميزان أوّل فصل الخريف، والجهة الرابعة: جهة المغرب وهو مغرب الشمس في الاعتدالين المذكورين، فهذه الجهات الأربع ثابتة بثبوت الفلك غير متغيرة بتغير الأوقات وبها تحدّ الأراضي ونحوها من المساكن، وبها يهتدي الناس في أسفارهم وبها يستخرجون سمت محاريبهم.
فالمشرق والمغرب معروفان، والشمال والجنوب جهتان مقاطعتان لجهتي المشرق والمغرب على تربيع الفلك، فالخط المار بنقطتي الشمال والجنوب يسمى: خط نصف النهار، وهو مقاطع للخط المار بنقطتي المشرق والمغرب المسمى: بخط الاستواء على زوايا قائمة، وأبعاد ما بين هذين الخطين متساوية فالمستقبل للجنوب يكون أبدا مستدبرا للشمال، ويصير المغرب عن يمينه، والمشرق عن يساره، وهذه الجهات الأربع هي التي ينسب إليها ما يحد من البلاد، والأراضي والدور إلا أن أهل مصر يستعملون في تحديدهم بدلا من الجهة الجنوبية لفظة القبلية، فيقولون الحدّ القبليّ ينتهي إلى كذا، ولا يقولون الحدّ الجنوبيّ، وكذلك يقولون الحدّ البحريّ ينتهي إلى كذا، ويريدون بالبحريّ الحدّ الشماليّ، وقد يقع في هاتين الجهتين الغلط في بعض البلاد وذلك أن البلاد التي توافق عروضها عرض مكة إذا كانت أطوالها أقل من طول مكة، فإن القبلة تكون في هذه البلاد نفس الشرق بخلاف التي توافق عروضها عرض مكة، إلا أن أطوالها أطول من طول مكة، فإنّ القبلة في هذه البلاد تكون نفس الغرب، فمن حدّد في شيء من هذه البلاد أرضا أو مسكنا بحدود أربعة، فإنه يصير حدّان منها حدّا واحدا، وكذلك جهة البحر لما جعلوها قبالة جهة القبلة، وحدّدوا ما بينهما من الأراضي، والدور بما يسامتها منه، فإنهم أيضا ربما غلطوا، وذلك أن(1/30)
القبلة والبحر يكونان في بعض البلاد في جهة واحدة، فإذا عرفت ذلك فاعلم أن أرض مصر: لها حدّ يأخذ من بحر الروم ومن الإسكندرية، وزعم قوم من برقة في البرّ حتى ينتهي إلى ظهر الواحات، ويمتدّ إلى بلد النوبة، ثم يعطف على حدود النوبة في حدّ أسوان على حدّ أرض السبخة في قبليّ أسوان حتى ينتهي إلى بحر القلزم، ثم يمتدّ على بحر القلزم ويجاوز القلزم إلى طور سينا، ويعطف على تيه بني إسرائيل مارا إلى بحر الروم في الجفار خلف العريش ورفح، ويرجع إلى الساحل مارّا على بحر الروم إلى الإسكندرية، ويتصل بالحدّ الذي قدمت ذكره من نوحي برقة.
وقال أبو الصلت أمية بن عبد العزيز في رسالته المصرية: أرض مصر بأسرها واقعة في المعمورة في قسمي الإقليم الثاني، والإقليم الثالث، ومعظمها في الثالث، وحكى المعتنون بأخبارها وتواريخها أنّ حدّها في الطول من مدينة برقة التي في جنوب البحر الروميّ إلى أيلة من ساحل الخليج الخارج من بحر الحبشة والزيج والهند والصين، ومسافة ذلك قريب من أربعين يوما، وحدّها في العرض من مدينة أسوان وما سامتها من الصعيد الأعلى المتآخم لأرض النوبة إلى رشيد، وما حاذاها من مساقط النيل في البحر الروميّ ومسافة ذلك قريب من ثلاثين يوما، ويكتنفها في العرض إلى منتهاها جبلان أحدهما في الضفة الشرقية من النيل، وهو المقطم، والآخر في الضفة الغربية منه، والنيل متسرب فيما بينهما، وهما جبلان أجردان غير شامخين يتقاربان جدّا في وضعهما من لدن أسوان إلى أن ينتهيا إلى الفسطاط، ثم يتسع ما بينهما، وينفرج قليلا، ويأخذ المقطم منهما مشرّقا والآخر مغرّبا على وراب في مأخذيهما، وتفريج في مسلكيهما، فتتسع أرض مصر من الفسطاط إلى ساحل البحر الرومي الذي عليه الفرماء وتنيس ودمياط ورشيد والإسكندرية، فهناك تتقطع في عرضها الذي هو مسافة ما بين أوغلها في الجنوب، وأوغلها في الشمال، وإذا نظرنا بالطريق البرهانية في مقدار هذه المسافة من الأميال لم تبلغ ثلاثين ميلا، بل تنقص عنها نقصانا ما له قدر، وذلك لأن فضل ما بين عرض مدينة أسوان التي هي أوغلها في الجنوب، وعرض مدينة تنيس التي هي أوغلها في الشمال تسعة أجزاء ونحو سدس جزء وليس بين طوليها فضل له قدر يعتدّ به، وينوب ذلك نحو خمسمائة وعشرين ميلا بالتقريب، وذلك مسافة عشرين يوما أو قريب منها وفي هذه المدّة من الزمان تقطع السفار ما بين البلدين بالسير المعتدل أو أكثر من ذلك لما في الطريق من التعويج وعدم الاستقامة.
وقال القضاعي: الذي يقع عليه اسم مصر من العريش إلى آخر لوبية ومراقيه وفي آخر أرض مراقيه تلقى أرض انطابلس وهي برقة، ومن العريش فصاعدا يكون ذلك مسيرة أربعين ليلة، وهو ساحل كله على البحر الرومي، وهو بحريّ أرض مصر، وهو مهب الشمال منها إلى القبلة شيئا ما فإذا بلغت آخر أرض مراقيه عدّت ذات الشمال، واستقبلت الجنوب، وتسير في الرمل وأنت متوجه إلى القبلة يكون الرمل من مصبه عن يمينك إلى إفريقة وعن(1/31)
يسارك من أرض مصر إلى أرض الفيوم منها وأرض الواحات الأربعة فذلك غربيّ مصر، وهو ما استقبلته منه ثم تعوج من آخر أرض الواحات، وتستقبل المشرق سائرا إلى النيل تسير ثماني مراحل إلى النيل، ثم على النيل فصاعدا وهي آخر أرض الإسلام هناك، ويليها بلاد النوبة ثم ينقطع النيل فتأخذ من أسوان في المشرق منكبا عن بلد أسوان إلى عيداب ساحل البحر الحجازيّ، فمن أسوان إلى عيداب خمس عشرة مرحلة، وذلك كله قبليّ أرض مصر ومهب الجنوب منها ثم ينقطع البحر الملح من عيداب إلى أرض الحجاز فينزل الحوراء أوّل أرض مصر وهي متصلة بأعراض مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا البحر المحدود: هو بحر القلزم، وهو داخل في أرض مصر بشرقيه وغربيه وبحريه فالشرقيّ منه أرض الحوراء وطنسه والنبك وأرض مدين وأرض أيلة فصاعدا إلى المقطم بمصر، والغربيّ منه ساحل عيداب إلى بحر النعام إلى المقطم، والبحريّ منه مدينة القلزم وجبل الطور ومن القلزم إلى الفرماء مسيرة يوم وليلة وهو الحاجز فيما بين البحرين طحر الحجاز وبحر الروم وهذا كله شرقيّ أرض مصر من الحوراء إلى العريش، وهو مهب الصبا منها فهذا المحدود من أرض مصر، وما كان بعد هذا من الحدّ الغربيّ، فمن فتوح أهل مصر، وثغورهم من البرقة إلى الأندلس.
ذكر بحر القلزم «1»
القلازم: الدواهي والمضايقة ومنه بحر القلزم لأنه مضيق بين جبال، ولما كانت أرض مصر منحصرة بين بحرين هما بحر القلزم من شرقيها وبحر الروم من شماليها، وكان بحر القلزم داخلا في أرض مصر كما تقدّم صار من شرط هذا الكتاب التعريف به.
فنقول: هذا البحر إنما عرف في ناحية ديار مصر: بالقلزم لأنه كان بساحله الغربيّ في شرقيّ أرض مصر مدينة تسمى: القلزم وقد خربت كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى في موضعه من هذا الكتاب عند ذكرى قرى مصر ومدنها فسمّى هذا البحر باسم تلك المدينة، وقيل له: بحر القلزم على الإضافة، ويقال له بالعبرانية: (ثم تسوب) وهذا البحر إنما هو خليج يخرج من البحر الكبير المحيط بالأرض الذي يقال له: بحر اقيانس ويعرف أيضا:
ببحر الظلمات لتكاثف البخار المتصاعد منه، وضعف الشمس عن حله فيغلظ وتشتدّ الظلمة، ويعظم موج هذا البحر، وتكثر أهواله، ولم يوقف من خبره إلّا على ما عرف من بعض سواحله، وما قرب من جزائره، وفي جانب هذا البحر الغربيّ الذي يخرج منه البحر الرومي الآتي ذكره إن شاء الله.
الجزائر الخالدات وهي فيما يقال: ست جزائر يسكنها قوم متوحشون، وفي جانب(1/32)
هذا البحر الشرقيّ مما يلي الصين ست جزائر أيضا تعرف: بجزائر السبلي نزلها بعض العلويين في أوّل الإسلام خوفا على أنفسهم من القتل، ويخرج من هذا المحيط ستة أبحر أعظمها اثنان: وهما اللذان عناهما الله تعالى بقوله: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ
[الرحمن/ 19] ، وقوله: وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً
[النمل/ 61] ، فأحدهما: من جهة الشرق، والآخر:
من جهة الغرب. فالخارج من جهة الشرق يقال له: البحر الصينيّ، والبحر الهنديّ، والبحر الفارسيّ، والبحر اليمنيّ، والبحر الحبشيّ، بحسب ما يمرّ عليه من البلدان. وأما الخارج من الغرب فيقال له: البحر الروميّ. فأما البحر الهنديّ الخارج من جهة الشرق فإن مبدأ خروجه من مشرق الصين وراء خط الاستواء بثلاثة عشر درجة ويجري إلى ناحية الغرب فيمرّ على بلاد الصين وبلاد الهند إلى مدينة كنبانة وإلى التبير من بلاد كمران فإذا صار إلى بلاد كمران ينقسم هناك قسمين: أحدهما يسمى: بحر فارس، والآخر يسمى: بحر اليمن فيخرج بحر اليمن من ركن جبل خارج في البر يسمى هذا الركن: رأس الجمجمة فيمتد من هناك إلى مدينة ظفار ويسير إلى المسجر وساحل بلاد حضرموت إلى عدن وإلى باب المندب، وطول هذا البحر الهنديّ ثمانية آلاف ميل في عرض ألف وسبعمائة ميل عند بعض المواضع وربما ضاق عن هذا القدر من العرض فإذا انتهى إلى باب المندب يخرج إلى بحر القلزم، والمندب جبل طوله اثنا عشر ميلا وسعة فوهته قدر ما يرى الرجل الآخر من البرّ تجاهه فإذا فارق باب المندب مرّ في جهة الشمال بساحلي زبيد والحرون إلى عثر وكانت عثر مقر الملك في القديم ويمرّ من هناك على حلى إلى عسفان وأنمار وهي فرضة المدينة النبوية على الحال بها أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام، ومنها على ما يقابل الجحفة حيث يسمى اليوم رابغ إلى الحوراء ومدين وأيلة والطور وفاران ومدينة القلزم، فإذا وصل إلى القلزم انعطف من جهة الجنوب ومرّ إلى القصير وهي فرضة قوص ومن القصير إلى عيداب وهي فرضة البجه «1» ، ويمتدّ من عيداب إلى بلد الزيلع، وهو ساحل بلاد الحبشة ويتصل ببربر وطول هذا البحر ألف وخمسمائة ميل وعرضه من أربعمائة ميل إلى ما دونها وهو بحر كريه المنظر والرائحة وفي هذا البحر مصب دجلة والفرات وعلى أطرافه بلاد السند، وبلاد اليمن كأنها جزائر أحاط بها الماء من جهاتها الثلاث وهو: يردع نهر مهران كردع البحر الرومي لنيل مصر. وفيه فيما بين مدينة القلزم، ومدينة أيلة مكان يعرف: بمدينة قاران وعندها جبل لا يكاد ينجو منه مركب لشدّة اختلاف الريح وقوّة ممرّها من بين شعبتي جبلين وهي بركة سعتها ستة أميال تعرف: ببركة الغرندل، يقال: إن فرعون غرق فيها فإذا هبت ريح الجنوب لا يمكن سلوك هذه البركة، ويقال: إن الغرندل اسم صنم كان في القديم هناك قد وضع ليحبس من خرج من أرض مصر مغاضبا للملك أو فارا منه، وأنّ موسى عليه السلام لما خرج ببني إسرائيل من مصر وسار بهم مشرقا أمره الله سبحانه وتعالى: أن(1/33)
ينزل تجاه هذا الصنم فلما بلغ ذلك فرعون ظنّ أنّ الصنم قد حبس موسى ومن معه ومنعهم من المسير كما يعهدونه منه فخرج بجنوده في طلب موسى وقومه ليأخذهم بزعمه فكان من غرقه ما قصه الله تعالى وسيرد خبر موسى عليه السلام عند ذكر كنيسة دموة من هذا الكتاب في ذكر كنائس اليهود.
وفي بحر القلزم هذا خمس عشرة جزيرة منها: أربع عامرات وهي: جزيرة دهلك، وجزيرة سواكن، وجزيرة النعمان، وجزيرة السامريّ ويخرج من هذا البحر خلجان: خليج لطيف ببلاد الهند المتصلة بالبحر الأعظم، وخليج يحول بين بلاد السودان، وبلاد اليمن عرض دقاقه نحو من فرسخين، ويقرب هذا البحر من البحر الرومي في أعمال بلاد الشام وديار مصر حتى يكون بينهما نحو يوم.
ذكر البحر الرومي «1»
ولما كانت عدّة بلاد من أرض مصر مطلة على البحر الرومي كمدينة الإسكندرية، ودمياط وتنيس، والفرماء، والعريش وغير ذلك، وكان حدّ أرض مصر ينتهي في الجهة الشمالية إلى هذا البحر وهو نهاية مصب النيل حسن التعريف بشيء من أخباره، وقد تقدّم أن مخرج البحر الرومي هذا من جهة الغرب وهو يخرج في الإقليم الرابع بين الأندلس، والغرب سائرا إلى القسطنطينية، ويقال: إن إسكندر الجبار حفره وأجراه من البحر المحيط الغربيّ وأن جزيرة الأندلس وبلاد البربر كانت أرضا واحدة يسكنها البربر والأشبان فكان بعضهم يغير على بعض إلى أن ملك إسكندر الجبار بن سلقوس بن اعريقس بن دوبان فرغب إليه الأشبان في أن يجعل بينهم وبين البربر خليجا من البحر يمكن به احتراز كل طائفة عن الأخرى فحفر زقاقا طوله ثمانية عشر ميلا في عرض اثني عشر ميلا، وبنى بجانبيه سكرين وعقد بينهما قنطرة يجاز عليها وجعل عندها حرسا يمنعون البربر من الجواز عليها إلا بإذن وكان قاموس البحر أعلى من أرض هذا الزقاق فطما الماء حتى غطى السكرين مع القنطرة وساق بين يديه بلادا كثيرة وطغى على عدّة بلاد ويقال: إن المسافرين في هذا الزقاق بالبحر يخبرون أن المراكب في بعض الأوقات يتوقف سيرها مع وجود الريح فيجدون المانع لها كونها قد سلكت بين شرافات السور وبين حائطين ثم عظم هذا الزقاق في الطول والعرض حتى صار بحرا عرضه ثمانية عشر ميلا ويذكرون أن البحر إذا جزر ترى القنطرة حينئذ وهذا الخبر أظنه غير صحيح فإن أخبار هذا البحر وكونه بسواحل مصر لم يزل ذكره في الدهر الأوّل قبل إسكندر بزمان طويل، فإما أن يكون ذلك قد كان في أوّل الدهر مما عمله بعض الأوائل، وإما أن يكون(1/34)
خبرا واهيا وإلا فزمان إسكندر حادث بعد كون هذا البحر، والله أعلم.
وهذا الزقاق صعب السلوك شديد الهول متلاطم الأمواج، وإذا خرج البحر من هذا الزقاق مرّ مشرقا في بلاد البربر وشمال الغرب الأقصى إلى وسط بلاد المغرب على إفريقية وبرقة والإسكندرية وشمال التيه وأرض فلسطين، والسواحل من بلاد الشام، ثم يعطف من هناك إلى العلايا وأنطاكية إلى ظهر بلاد القسطنطينية حتى ينتهي إلى البحر المحيط الذي خرج منه وطول هذا البحر خمسة آلاف ميل، وقيل: ستة آلاف ميل، وعرضه من سبعمائة ميل إلى ثلاثمائة ميل، وفيه مائة وسبعون جزيرة عامرة فيها أمم كثيرة معروفة إلا أنه ليس من شرط هذا الكتاب منها صقلية وصورقة وأقريطش وقبالة البحر الهنديّ من جهة المغرب بحر خارج من المحيط في مغرب بلاد الزنج ينتهي إلى قريب من جبل القمر وفيه مصب النيل المار على بلاد الحبشة وفي أسفله جزائر الخالدات التي هي منتهى الطول في المغرب، ويقابل البحر الشاميّ من نحية المشرق بحر جرجان وقيل: إنه يتصل بالبحر المحيط من بين جبال شامخة وبحر الصقلب بحر يخرج من جهة المغرب بين الإقليم السادس، والإقليم السابع، وهو متسع وفيه جزائر كثيرة، ومنها جزيرة الأندلس إلا أنها تتصل بالبرّ الكبير وهو جبل كالذراع يتصل بهذا البرّ عند برشلونة ولهم بحر يعرف يأجوج ومأجوج غزير وفيه عجائب إلا أنه ليس من شرط هذا الكتاب ذكرها ويقال: إن مسافة هذا البحر الروميّ نحو أربعة أشهر.
وقال أبو الريحان محمد بن أحمد البيرونيّ «1» ، في كتاب تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن: وقد كان حرّض بعض ملوك الفرس في بعض استيلائهم على مصر على أن يحفروا ما بين البحرين القلزم والروميّ ويرفعوا من بينهما البرزخ وكان أوّلهم شاسيس بن طراطس الملك ثم من بعده دارنوش الملك فلم يتمكن لهم ذلك لارتفاع ماء القلزم على أرض مصر.
فلما كانت دولة اليونانيين: جاء بطليموس الثالث ففعل ذلك على يد أرسمدس بحيث يحصل الغرض بلا ضرر. فلما كانت دولة الروم القياصرة طموه منعا لمن يصل إليهم من أعدائهم وذكر بعض أصحاب السير من الفلاسفة أن ما بين الإسكندرية وبلادها وبين القسطنطينية كان في قديم الزمان أرضا تنبت الجميز وكانت مسكونة وخمة وكان أهلها من اليونانية، وأن الإسكندر خرق إليها البحر فغلب على تلك الأرض وكان بها فيما يزعمون:
الطائر الذي يقال له قفنس، وهو طائر حسن الصوت وإذا حان موته زاد حسن صوته قبل(1/35)
ذلك بسبعة أيام حتى لا يمكن أحد يسمع صوته لأنه يغلب على قلبه من حسن صوته ما يميت السامع وأنه يدركه قبل موته بأيام طرب عظيم وسرور فلا يهدأ من الصياح، وزعموا أن عامل الموسيقى من الفلاسفة أراد أن يسمع صوت قفنس في تلك الحال فخشي إن هجم عليه أن يقتله حسن صوته فسدّ أذنيه سدّا محكما ثم قرب إليه فجعل يفتح من أذنيه شيئا بعد شيء حتى استكمل فتح الأذنين في ثلاثة أيام يريد أن يتوصل إلى سماعه رتبة بعد رتبة فلا يبغته حسنه في أوّل مرّة فيأتي عليه، وزعموا: أن ذلك الطائر هلك ولم يبق منه ولا من فراخه شيء بسبب هجوم ماء البحر عليه، وعلى رهطه بالليل في الأوكار فلم يبق له بقية، ويقال: إن بعض الفلاسفة أراد ملك من الملوك قتله فأعطاه قدحا فيه سمّ ليشربه فأعلمه بذلك فظهر منه مسرّة وفرح فقال له: ما هذا أيها الحكيم؟ فقال: هل أعجز أن أكون مثل قفنس.
ذكر اشتقاق مصر ومعناها وتعداد أسمائها
ويقال: كان اسمها في الدهر الأوّل قبل الطوفان جزلة، ثم سميت مصر، وقد اختلف أهل العلم في المعنى الذي من أجله سميت هذه الأرض بمصر فقال قوم: سميت بمصر ابن مركابيل بن دوابيل بن عرياب بن آدم وهو مصر الأوّل. وقيل: بل سميت بمصر الثاني وهو مصرام بن يعراوش الجبار بن مصريم الأوّل وبه سمي مصر بن بنصر بن حام بعد الطوفان، وقيل: بل سميت بمصر الثالث وهو مصر بن بنصر بن حام بن نوح وهو اسم أعجميّ لا ينصرف. وقال آخرون: هي اسم عربيّ مشتق فأمّا من ذهب إلى أنّ مصر اسم أعجميّ فإنه استدل بما رواه أهل العلم بالأخبار من نزول مصر بن بنصر بهذه الأرض وقسمها بين أولاده فعرفت به اه.
وذكر الحسن بن أحمد الهمداني «1» : أنّ مصر بن حام وهو مصريم، وقيل: أنّ بنصر بن هرمس بن هردوس جدّ الإسكندر قال: ونكح لوما بن حام بنت شاويل بن يافث بن نوح فولدت له بوقير وقبط أبا القبط قبط مصر، ومن ههنا أن مصر بن حام وإنما هو مصر بن هرمس بن هردش بن بيطون بن روي بن ليطي بن يونان وبه سميت مصر فهي مقدونية.
وذكر أبو الحسن المسعوديّ «2» في كتاب أخبار الزمان: أنّ بني آدم لما تحاسدوا وبغى عليهم بنو أقابيل بن آدم ركب نقراوس الجبار ابن مصريم ابن مركابيل بن دوابيل بن عرياب بن آدم عليه السلام في نيف وسبعين راكبا من بني عرياب جبابرة كلهم يطلبون موضعا من(1/36)
الأرض يقطنون فيه فرارا من بني أبيهم فلم يزالوا يمشون حتى وصلوا إلى النيل، فأطالوا المشي عليه فلما رأوا سعة البلد فيه وحسنه أعجبهم وقالوا: هذه بلد زرع، وعمارة فأقطنوا فيه، واستوطنوا وبنوا فيه الأبنية المحكمة، والصنائع العجيبة.
وبنى نقراوس مصر وسماها باسم أبيه مصريم وكان نقراوس جبارا له قوّة، وكان مع ذلك عالما وله ائتمر الجنّ في هلاك بني أبيه ولم يزل مطاعا وقد كان وقع إليه من العلوم التي كان زواميل علمها لآدم عليه السلام ما قهر به الجبابرة الذين كانوا قبله وملوكهم، ثم أمر حين ملك ببناء مدينة في موضع خيمته فقطعوا له الصخور من الجبال، وأثاروا معادن الرصاص وبنوا مدينة سماها: أمسوس وأقاموا فيها أعلاما طول كل لم منها: مائة ذراع وزرعوا وعمروا الأرض، ثم أمرهم ببناء المدائن، والقرى وأسكن كل ناحية من الأرض من رأى ثم حفروا النيل حتى أجروا ماءه إليهم ولم يكن قبل ذلك معتدل الجري إنما كان ينبطح ويتفرّق في الأرض حتى يتوجه إلى النوبة فهندسوه وساقوا منه أنهارا إلى مواضع كثيرة من مدنهم التي بنوها، وساقوا منه نهرا إلى مدينتهم أمسوس يجري في وسطها، ثم سميت مصر بعد الطوفان بمصر بن بنصر بن حام بن نوح وذلك أن قليمون الكاهن خرج من مصر ولحق بنوح عليه السلام وآمن به هو وأهله وولده وتلامذته وركب معه في السفينة، وزوّج ابنته من بنصر بن حام بن نوح فلما خرج نوح من السفينة وقسم الأرض بين أولاده، وكانت ابنة قليمون قد ولدت لبنصر ولد أسماه مصرايم، فقال قليمون لنوح: ابعث معي يا نبيّ الله ابني حتى أمضي به بلدي، وأظهره على كنوزي وأوقفه على علومه ورموزه فأنفذه معه في جماعة من أهل بيته وكان غلاما مرفها فلما قرب من مصر بنى له عريشا من أغصان الشجر، وستره بحشيش الأرض ثم بنى له بعد ذلك في هذا الموضع مدينة وسماها: درسان أي باب الجنة، فزرعوا وغرسوا الأشجار والأجنة من درسان إلى البحر فصارت هناك زروع وأجنة وعمارة وكان الذي مع مصرايم جبابرة فقطعوا الصخور وبنوا المعالم والمصانع وأقاموا في أرغد عيش ويقال: إن أهل مصر أقاموا عليهم مصرايم بن بنصر ملكا في أيام تالغ بن عابر بن شامخ بن أرفخشد بن سام بن نوح فملك مصر وهي مدينة منيعة على النيل وسماها باسمه ويقال: إن مصرايم غرس الأشجار بيده وكانت ثمارها عظيمة بحيث يشق الأترجة نصفين فيحمل على البعير نصفها وكان القثاء في طول أربعة عشر شبرا ويقال: إنه أوّل من صنع السفن بالنيل وإنّ أوّل سفينة كانت ثلثمائة ذراع طولا في عرض مائة ذراع.
ويقال: إن مصرايم نكح امرأة من بني الكهنة فولدت له ولدا فسماه قبطيم، ونكح قبطيم بعد سبعين سنة من عمره امرأة ولدت له أربعة نفر: قبطيم، وأشمون، وأتريب، وصا، فكثروا وعمروا الأرض وبورك لهم فيها وقيل: إنه كان عدد من وصل معهم ثلاثين رجلا فبنوا مدينة سموها نافة ومعنى نافة ثلاثون بلغتهم وهي (منف) وكشف أصحاب قليمون الكاهن عن كنوز مصر وعلومهم وأثاروا المعادن، وعلومهم علم الطلسمات(1/37)
ووضعوا لهم علم الصنعة، وبنوا على غير البحر مدنا منها رقودة مكان الإسكندرية ولما حضر مصرايم الوفاة عهد إلى ابنه قبطيم، وكان قد قسم أرض مصر بين بنيه فجعل لقبطيم من قفط إلى أسوان ولأشمون من أشمون إلى منف ولأتريب الحوف كله ولصا من ناحية صا البحرية إلى قرب برقة وقال لأخيه: فارق لك من برقة إلى الغرب فهو صاحب إفريقة ووالد الأفارقة وأمر كل واحد من بنيه أن يبني لنفسه مدينة في موضعه وأمرهم عند موته أن يحفروا له في الأرض سربا وأن يفرشوه بالمرمر الأبيض، ويجعلوا فيه جسده، ويدفنوا معه جميع ما في خزائنه من الذهب، والجوهر، ويزبروا عليه أسماء الله تعالى المانعة من أخذه فحفروا له سربا طوله مائة وخمسون ذراعا وجعلوا في وسطه مجلسا مصفحا بصفائح الذهب، وجعلوا أربعة أبواب على كل باب منها تمثال من ذهب عليه تاج مرصع بالجوهر وهو جالس على كرسيّ من ذهب قوائمه من زبرجد وزبروا في صدر كل تمثال آيات مانعة وجعلوا جسده في جمد مرمر مصفح بالذهب وزبروا على مجلسه مات مصرايم بن بنصر بن حام بن نوح بعد سبعمائة عام مضت من أيام الطوفان ولم يعبد الأصنام إذ لا هرم، ولا سقام، ولا حزن، ولا اهتمام وحصنه بأسماء الله العظام، ولا يصل إليه إلا ملك ولدته سبعة ملوك تدين بدين الملك الديان ويؤمن بالمبعوث بالفرقان الداعي إلى الإيمان آخر الزمان، وجعلوا معه في ذلك المجلس: ألف قطعة من الزبرجد المخروط، وألف تمثال من الجوهر النفيس، وألف برنية مملوءة من الدرّ الفاخر والصنعة الإلهية والعقاقر، والطلسمات العجيبة، وسبائك الذهب وسقفوا ذلك بالصخور، وهالوا فوقها الرمال بين جبلين وولي ابنه قبطيم الملك.
قال أبو محمد عبد الملك بن هشام «1» في كتاب التحائف: أنّ عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود أخي عاد ابن عامر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام واسم عبد شمس هذا: عامر، وعرف بعبد شمس لأنه أوّل من عبد الشمس وقيل له أيضا: (سبأ) لأنه أوّل من سبأ وهو سبأ الأكبر أبو حمير وكهلان ملك بعد أبيه يشجب بأرض اليمن جميع بني قحطان وبني هود عليه السلام، وحثهم على الغزو ثم سار بهم إلى أرض بابل ففتحها وقتل من كان بها من الثوار حتى بلغ أرض أرمينية، وملك أرض بني يافث بن نوح وأراد أن يعبر من هناك إلى الشام، وأرض الجزيرة فقيل له: ليس لك مجاز غير الرجوع في طريقك فبنى قنطرة على البحر وجاز عليها إلى الشام فأخذ تلك الأراضي إلى الدرب، ولم يكن خلف الدرب إذ ذاك أحد ثم نهض يريد بلاد العرب فنزل على النيل، وجمع أهل مشورته وقال لهم: إني رأيت أن أبني مصرا إلى حدّ بين هذين البحرين يعني بحر الروم، وبحر القلزم. فيكون فاصلا بين الشرق والغرب فقالوا: نعم الرأي أيها الملك، فبنى مدينة سماها مصر، وولى عليها ابنه بابليون ومضى إلى بني حام بن نوح(1/38)
وهم نزول في البراري إلى قمونية ويعمونية القبط فأوقع بجميع تلك الطوائف وسبى ذراريهم كما فعل ببلاد الشرق فقيل له: من أجل ذلك سبأ ثم عاد إلى مصر ومضى فيها إلى الشام يريد الحجاز وأوصى ابنه بابليون عند رحيله اه:
ألا قل لبابليون والقول حكمة ... ملكت زمام الشرق والغرب فأجمل
وخذ لبني حام من الأمر وسطه ... فإن صدفوا يوما عن الحق فأقبل
وإن جنحوا بالقول للرفق طاعة ... يريدون وجه الحق والعدل فأعدل
ولا تظهرنّ الرأي في الناس يجتروا ... عليك به واجعله ضربة فيصل
ولا تأخذن المال في غير حقه ... وإن جاء لا تدينه نحوك وابذل
وداوي ذوي الأحقاد بالسيف إنه ... متى يلق منك العزم ذو الحقد يجمل
وجد لذوي الأحساب لينا وشدّة ... ولا تك جبارا عليهم وأجمل
وكن لسؤال الناس غوثا ورحمة ... ومن يك ذا عرف من الناس يسأل
وإياك والسفر القريب فإنه ... سيغني بما يوليه في كل منهل
ثم عاد إلى اليمن، وبنى سد مأرب وهو سدّ فيه سبعون نهرا، ويصل إليه السيل من مسيرة ثلاثة أشهر في مثلها، ثم مات عن خمسمائة سنة، وقام من بعده ابنه حمير بن سبا فعتا بنو حام على بابليون وأرادوا تخريب مصر فاستدعى أخاه حمير لينجده عليهم فقدم عليه مصر، ومضى إلى بلاد المغرب فأقام بها مائة عام يبني المدائن، ويتخذ المصانع فمات بابليون بن سبأ بمصر. وولى بعده ابنه امرئ القيس بابليون ثم مات حمير بن سبأ عن أربعمائة سنة وخمس وأربعين سنة منها في الملك أربعمائة سنة، وأقام من بعده وائل بن حمير. ثم مات فقام من بعده ابنه السكسك بن وائل الذي يقال له: مقعقع الحمد وقد افترق ملك حمير، فحارب الثوار، وسار إلى الشام فلقيه عمرو بن امرئ القيس بن بابليون بن سبأ بالرملة وقد ملك بعد أبيه وقدّم له هدية فأقرّه على مصر حتى قدم عليه إبراهيم الخليل عليه السلام ووهبه هاجر.
وقال أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم «1» في كتاب فتوح مصر وأخبارها عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كان لنوح عليه السلام أربعة من الولد:
سام، وحام، ويافث، ويخطون، وأنّ نوحا رغب إلى الله عزّ وجلّ وسأله أن يرزقه الإجابة في ولده وذريته حين تكاملوا بالنماء والبركة فوعده ذلك فنادى نوح ولده وهم نيام عند السحر فنادى ساما فأجابه يسعى وصاح سام في ولده فلم يجبه أحد منهم إلا ابنه أرفخشد فانطلق به معه حتى أتياه فوضع نوح يمينه على سام وشماله على أرفخشد بن سام وسأل الله(1/39)
عزّ وجل أن يبارك في سام أفضل البركة وأن يجعل الملك والنبوّة في ولد أرفخشد، ثم نادى حاما وتلفت يمينا وشمالا فلم يجبه ولم يقم إليه هو ولا أحد من ولده فدعا الله عز وجل نوح أن يجعل ولده أذلاء وأن يجعلهم عبيدا لولد سام، وكان مصر بن بنصر بن حام نائما إلى جنب جدّه فلما سمع دعاء نوح على جدّه وولده قام يسعى إلى نوح وقال: يا جدّي قد أجبتك إذ لم يجبك جدّي ولا أحد من ولده فاجعل لي دعوة من دعائك ففرح نوح ووضع يده على رأسه وقال: اللهمّ إنه قد أجاب دعوتي فبارك فيه وفي ذريته وأسكنه الأرض المباركة التي هي أمّ البلاد، وغوث العباد التي نهرها أفضل أنهار الدنيا وأجعل فيها أفضل البركات، وسخر له ولولده الأرض وذللها لهم وقوّهم عليها، ثم دعا ابنه يافث فلم يجبه ولا أحد من ولده، فدعا الله عليهم أن يجعلهم شرار الخلق، وعاش سام مباركا إلى أن مات وعاش ابنه أرفخشد بن سام مباركا حتى مات وكان الملك الذي يحبه الله والنبوّة والبركة في ولد أرفخشد بن سام وكان أكبر ولد حام: كنعان بن حام، وهو الذي حمل به في الرجز في الفلك فدعا عليه نوح فخرج أسود وكان في ولده الملك والجبروت والجفاء وهو:
أبو السودان والحبش كلهم وابنه الثاني: كوش بن حام، وهو أبو السند والهند وابنه الثالث:
قوط بن حام وهو: أبو البربر وابنه الأصغر الرابع: بنصر بن حام، وهو أبو القبط كلهم فولد بنصر بن حام أربعة: مصر بن بنصر وهو أكبرهم والذي دعا له نوح بما دعا له. وفارق بن بنصر، وماح بن بنصر، وقيل: ولد مصر أربعة: قفط بن مصر، وأشمن بن مصر، وأتريب بن مصر، وصا بن مصر؛ وعن ابن لهيعة وعبد الله بن خالد أوّل من سكن مصر بنصر بن حام بن نوح عليه السلام بعد أن أغرق الله تعالى قومه وأوّل مدينة عمرت بمصر منف فسكنها بنصر بولده وهم: ثلاثون نفسا منهم أربعة أولاد له قد بلغوا وتزوجوا وهم:
مصر، وفارق، وياح، وماح، وكان مصر أكبرهم فبنوا مصر، وكانت إقامتهم قبل ذلك بسفح المقطم، ونقروا هناك منازل كثيرة، وكان نوح عليه السلام قد دعا لمصر أن يسكنه الله الأرض الطيبة المباركة التي هي أمّ البلاد، وغوث العباد، ونهرها أفضل الأنهار، ويجعل له فيها أفضل البركات ويسخر له الأرض ولولده ويذللها لهم ويقوّيهم عليها، فسأله عنها فوصفها له وأخبره بها قالوا: وكان مصر بن بنصر مع نوح في السفينة لما دعا له وكان بنصر بن حام قد كبر وضعف فساق ولده مصر، وجميع إخوته إلى مصر فنزلوها وبذلك سميت مصر فلما قرّ قرار بنصر وبنيه بمصر قال لمصر إخوته فارق وماح وياح وبنوا بنصر قد علمنا أنك أكبرنا وأفضلنا وأن هذه الأرض التي أسكنك إياها جدّك نوح، ونحن نضيق عليك أرضك، وذلك حين كثر ولده وأولادهم، ونحن نطلب إليك البركة التي جعلها فيك جدّنا نوح أن تبارك لنا في أرض نلحق بها ونسكنها وتكون لنا ولأولادنا، فقال: نعم عليكم بأقرب البلاد إليّ ولا تباعدوا مني فإنّ لي في بلادي مسيرة شهر من أربعة وجوه أحوزها لنفسي فتكون لي ولولدي ولأولادهم، فحاز مصر بن بنصر لنفسه ما بين الشجرتين التي بالعريش(1/40)
إلى أسوان طولا، ومن برقة إلى أيلة عرضا، وحاز فارق لنفسه ما بين برقة إلى إفريقية، وكان ولده الأفارقة ولذلك سميت إفريقية، وذلك مسيرة شهر، وحاز ماح ما بين الشجرتين من منتهى حدّ مصر إلى الجزيرة مسيرة شهر، وهو أبو قبط الشام، وحاز باح ما وراء الجزيرة كلّها ما بين البحر إلى الشرق مسيرة شهر، وهو أبو قبط العراق، ثم توفي بنصر بن حام، ودفن في موضع دير أبي هرميس غربيّ الأهرام، فهي أوّل مقبرة قبر فيها بأرض مصر، وكثر أولاد مصر وكان الأكابر منهم قفط، وأتريب، وأشمن، وصا، والقبط من ولد مصر هذا ويقال: إنّ قبط أخو قفط، وهو بلسانهم قفطيم وقبطيم ومصرايم، قال: ثم إنّ بنصر بن حام وتوفي واستخلف ابنه مصر، وحاز كل واحد من إخوة مصر: قطعة من الأرض لنفسه سوى أرض مصر التي حازها لنفسه ولولده، فلما كثر ولد مصر وأولاد أولادهم قطع مصر لكل واحد من ولده قطيعة يحوزها لنفسه ولولده، وقسم لهم هذا النيل فقطع لابنه قفط موضع قفط فسكنها وبه سميت قفط قفطا، وما فوقها إلى أسوان، وما دونها إلى أشمون في الشرق والغرب، وقطع لأشمن من أشمون فما دونها إلى منف في الشرق والغرب فسكن أشمن أشمون فسميت به، وقطع لأتريب ما بين منف إلى صا فسكن أتريبا فسميت به، وقطع لصا ما بين صا إلى البحر فسكن صا فسميت به فكانت مصر كلها على أربعة أجزاء: جزأين بالصعيد، وجزأين بأسفل الأرض.
قال البكري: ومصر مؤنثة قال تعالى: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ
[الزخرف/ 51] ، وقال:
ادْخُلُوا مِصْرَ
[يوسف/ 99] . وقال عامر بن أبي واثلة الكناني لمعاوية: أما عمرو بن العاص، فأقطعته مصر، وأما قوله سبحانه: اهْبِطُوا مِصْراً
[البقرة/ 61] فإنه أراد مصرا من الأمصار، وقرأ سليم الأعمش: اهبطوا مصر، وقال: هي مصر التي عليها سليم بن عليّ فلم يجرّها.
وقال القضاعي: وكان بنصر بن حام قد كبر، وضعف فساقه ولده مصر، وجميع إخوته إلى مصر، فنزلوها وبذلك سميت مصر، وهو اسم لا ينصرف في المعرفة لأنه اسم مذكر سميت به هذه المدينة فاجتمع فيها التأنيث والتعريف، فمعناها الصرف، ثم قيل: لكل مدينة عظيمة يطرقها السفار: مصر فإذا أريد مصر من الأمصار صرف لزوال إحدى العلتين، وهي التعريف، وأما قوله تعالى إخبارا عن موسى عليه السلام: اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ
[البقرة/ 61] فإنه مصروف في قراءة سائر القراء، وفي قراءة الحسن والأعمش:
غير مصروف فمن صرفها فله وجهان: أحدهما: أنه أراد هبوط مصرا من الأمصار لأنهم كانوا يومئذ في التيه، والآخر: أنه أراد مصر هذه بعينها وصرفها لأنه جعل مصرا اسما للبلد، وهو اسم مذكر سمي به مذكّر فلم يمنعه الصرف، وأما من لم يصرفه فإنه أراد بمصر هذه المدينة، وكذلك قوله تعالى إخبارا عن يوسف عليه السلام: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ
[يوسف/ 99] ، وقول فرعون: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ
[الزخرف/ 51] إنما يراد به مصر(1/41)
هذه، فأما المصر في كلام العرب فهو الحدّ بين الأرضين، ويقال: إن أهل هجر يقولون:
اشتريت الدار بمصورها أي بحدودها.
وقال الجاحظ في كتاب مدح مصر: إنما سميت مصر بمصر لمصير الناس إليها، واجتماعهم بها. كما سمي مصير الجوف مصيرا ومصرانا لمصير الطعام إليه، قال: وجمع المصر من البلدان أمصار، وجمع مصير الطعام مصران، وليس لمصر هذه جمع لأنها واحدة قال: وقال الأخطل: هممت بالإسلام، ثم توقفت عنه، قيل: ولم ذلك؟ قال: أتيت امرأة لي وأنا جائع فقلت: أطعميني شيئا، فقالت: يا جارية ضعي لأبي مالك مصيرا في النار، ففعلت، فاستعجلتها بالطعام فقالت: يا جارية أين مصير أبي مالك؟ قالت: في النار، قال:
فتطيرت وهممت بأن أسلم فتوقفت.
وقال الجوهريّ «1» في كتاب الصحاح: مصر هي المدينة المعروفة تذكر وتؤنث عن ابن السراج والمصران الكوفة والبصرة، وقال ابن خالويه «2» : في كتاب ليس ليس أحد: فسّر لنا لم سميت مصر مقدونية قديما إلا في اللسان العبرانيّ، قال: مقدونية مغيث وإنما سميت مصر لما سكنها بنصر بن حام، وتزعم الروم أن بلاد مقدونية جميعا وقف على الكنيسة العظمى التي بالقسطنطينية، ويسمون بلاد مقدونية الأوصفية وهي عندهم الإسكندرية، وما يضاف إليها وهي مصر كلها بأسرها إلا الصعيد الأعلى، ويقال لمصر: أم خنور، وتفسيره النعمة والمصر الفرق بين الشيئين. قال الشاعر يصف الله تعالى:
وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به ... بين النهار وبين الليل قد فصلا
هذا البيت قائله عديّ بن زيد العباديّ ويروى لأمية بن الصلت الثقفيّ وهو من أبيات أوّلها:
اسمع حديثا كما يوما تحدّثه ... عن ظهر غيب إذا ما سائل سألا
كيف بدا ثم ربى الله نعمته ... فيها وعلمنا آياته ألا ولا
كانت رياح وسيل ذو كرانية ... وظلمة لم تدع فتقا ولا خللا
فآمر الظلمة السوداء فانكشفت ... وعزل الماء عما كان قد شغلا
وبسط الأرض بسطا ثم قدّرها ... تحت السّماء سواميل وما نقلا
وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به ... بين النهار وبين الليل قد فصلا
وفي السماء مصابيح تضيء لنا ... ما إن تكلفنا زيتا ولا فتلا
قضى لستة أيام خليقته ... وكان آخر شيء صوّر الرجلا(1/42)
فأخذ الله من طين فصوّره ... لما رأى أنه قد تم واعتدلا
دعاه آدم صوتا فاستجاب له ... فنفخ الروح في الجسم الذي جبلا
ثمة أورثه الفردوس يسكنها ... وزوجه ضلعة من جنبه جعلا
لم ينهه ربه عن غير واحدة ... من شجر طيب إن شم أو أكلا
وكانت الحية الرقشاء إذ خلقت ... كما ترى ناقة في الخلق أو جملا
فلامها الله إذ أطغت خليفته ... طول الليالي ولم يجعل لها أكلا
تمشي على بطنها في الأرض ما عمرت ... والترب تأكله حزنا وإن سهلا
وقال الحافظ أبو الخطاب مجد الدين عمر بن دحية: ومصر أخصب بلاد الله وسماها الله بمصر وهي هذه دون غيرها بإجماع القرّاء على ترك صرفها، وهي اسم لا ينصرف في معرفة لأنه اسم مذكر سميت به هذه المدينة، واجتمع فيه التأنيث والتعريف فمنعاه الصرف، وهي عندنا مشتقة من مصرت الشاة إذا أخذت من ضرعها اللبن فسميت: مصر لكثرة ما فيها من الخير مما ليس في غيرها فلا يخلو ساكنها من خير يدرّ عليه منها كالشاة التي ينتفع بلبنها، وصوفها، وولادتها. وقال ابن الأعرابيّ: المصر الوعاء، ويقال للمعا المصير، وجمعه مصران ومصارين، وكذلك هي خزائن الأرض. قال أبو بصرة الغفاريّ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مصر خزائن الأرض كلها ألا ترى إلى قول يوسف عليه السلام: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ
[يوسف/ 55] فأغاث الله بمصر يومئذ وخزائنها كل حاضر وباد ذكره الحوفيّ في تفسيره.
وقال البكري: أمّ خنور بفتح أوّله وتشديد ثانيه وبالراء المهملة اسم لمصر، وقال أرطاة بن شهبة: يا آل ذبيان! ذودوا عن دمائكم، ولا تكونوا كقوم أم خنور. يقول: لا تكونوا أذلاء ينالكم من أراد، يجب التأمل في هذه الجملة، وهي أم خنور. قال كراع: أم خنور:
النعمة ولذلك سميت مصر أم خنور لكثرة خيرها. وقال عليّ بن حمزة: سميت أم خنور لأنها يساق إليها القصار الأعمار، ويقال للضبع: خنور وخنوز بالراء والزاي، وقال ابن قتيبة في غرائب الحديث: ومصر الحدّ، وأهل هجر يكتبون في شروطهم اشترى فلان الدار بمصورها كلها أي بحدودها، وقال عديّ بن زيد:
وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به ... بين النهار وبين الليل قد فصلا
أي حدّا.
ذكر طرف من فضائل مصر
ولمصر فضائل كثيرة منها: أنّ الله عزّ وجلّ ذكرها في كتابه العزيز بضعا وعشرين مرّة تارة بصريح الذكر وتارة إيماء. قال تعالى: اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ
[البقرة/ 61] .
قال أبو محمد عبد الحق بن عطية في تفسيره: وجمهور الناس يقرءون مصرا بالتنوين وهو(1/43)
خط المصاحف إلا ما حكي عن بعض مصاحف عثمان رضي الله عنه، وقال مجاهد وغيره:
من صرفها أراد مصرا من الأمصار غير معين، واستدلوا بما اقتضاه القرآن من أمرهم بدخول القرية، وبما تظاهرت به الرواية أنهم سكنوا الشام بعد التيه، وقالت طائفة ممن صرفها: أراد مصر فرعون بعينها واستدلوا بما في القرآن أن الله تعالى أورث بني إسرائيل ديار فرعون وآثاره، وأجازوا صرفها. قال الأخفش: لخفتها وشبهها بهند ودعد، وسيبويه لا يجير هذا.
وقال غير الأخفش: أراد المكان فصرف. وقرأ الحسن وأبان بن ثعلب وغيرهما: اهبطوا مصر بترك الصرف؛ وكذلك هي في مصحف أبيّ بن كعب. وقال: هي مصر فرعون. قال الأعمش «1» : هي مصر التي عليها صالح بن علي، وقال أشهب: قال لي مالك: هي عندي مصر قريتك مسكن فرعون، قال تعالى: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ
[يوسف/ 99] . قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبريّ في تفسيره عن فرقد الشيخي.
قال: خرج يوسف عليه السلام يتلقى يعقوب عليه السلام، وركب أهل مصر مع يوسف، وكانوا يعظمونه فلما دنا أحدهما من صاحبه وكان يعقوب يمشي وهو يتوكأ على رجل من ولده يقال له: يهوذا فنظر يعقوب إلى الخيل، وإلى الناس، فقال: يا يهوذا هذا فرعون مصر؟ قال: لا، هذا ابنك فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه قال يعقوب عليه السلام: عليك يا ذاهب الأحزان عني. هكذا قال: يا ذاهب الأحزان عني.
وقال تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ
[يونس/ 87] . قال الطبري «2» عن ابن عباس وغيره: كانت بنو إسرائيل تخاف فرعون، فأمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد يصلون فيها. قال قتادة: وذلك حين منعهم فرعون الصلاة فأمروا أن يجعلوا مساجدهم في بيوتهم وأن يوجهوا نحو القبلة، وعن مجاهد: بيوتكم قبلة قال: نحو الكعبة حين خاف موسى ومن معه من فرعون أن يصلوا في الكنائس الجامعة فأمروا أن يجعلوا في بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة يصلون فيها سرّا، وعن مجاهد في قوله: أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً
[يونس/ 87] قال: مصر: الإسكندرية.
وقال تعالى مخبرا عن فرعون أنه قال: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ
[الزخرف/ 51] . قال ابن عبد الحكم، وأبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس، وغيرهما عن أبي رهم السماعي أنه قال في قوله تعالى: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي
[الزخرف/ 51] قال: ولم يكن يومئذ في الأرض ملك أعظم من(1/44)
ملك مصر، وكان جميع أهل الأرضيين يحتاجون إلى مصر، وأما الأنهار فكانت قناطر وجسورا بتقدير وتدبير حتى أن الماء يجري من تحت منازلها وأفنيتها فيحبسونه كيف شاءوا، فهذا ما ذكره الله سبحانه في مصر من آي الكتاب العزيز بصريح الذكر.
(وأما) ما وقعت إليه الإشارة فيه من الآيات فعدّة.
قال تعالى: وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ
[يونس/ 93] ، وقال تعالى:
وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ
[المؤمنون/ 50] . قال ابن عباس، وسعيد بن المسيب، ووهب بن منبه: هي مصر، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه: هي الإسكندرية، وقال تعالى: فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ
[الشعراء/ 57] ، وقال تعالى: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ
[الدخان/ 25] . قال ابن يونس في قول الله سبحانه: فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ
[الشعراء/ 57] . قال أبو رهم: كانت الجنات بحافتي النيل من أوّله إلى آخره من الجانبين ما بين أسوان إلى رشيد، وسبعة خلج: خليج الإسكندرية، وخليج سخا، وخليج دمياط، وخليج سردوس، وخليج منف، وخليج الفيوم، وخليج المنهى متصلة لا ينقطع منها شيء عن شيء وزروع ما بين الجبلين كله من أوّل مصر إلى آخرها مما يبلغه الماء، وكان جميع أرض مصر كلها تروي يومئذ من ستة عشر ذراعا لما قد دبروا من قناطرها، وجسورها. قال: والمقام الكريم: المنابر كان بها ألف منبر. وقال مجاهد وسعيد بن جبير: المقام الكريم: المنابر، وقال قتادة: ومقام كريم أي حسن ونعمة كانوا فيها فاكهين ناعمين. قال: أي والله أخرجه الله من جنانه، وعيونه، وزروعه حتى ورطه في البحر. وقال سعيد بن كثير بن عفير: كنا بقبة الهواء عند المأمون لما قدم مصر فقال لنا:
ما أدري ما أعجب فرعون من مصر حيث يقول: أليس لي ملك مصر؟ فقلت: أقول: يا أمير المؤمنين، فقال: قل يا سعيد، فقلت: إنّ الذي ترى بقية مدمّر لأنّ الله عزّ وجلّ يقول:
وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ
[الأعراف/ 137] قال: صدقت، ثم أمسك، وقال تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ
[القصص/ 5] ، وقال تعالى مخبرا عن فرعون أنه قال: يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ
[غافر/ 29] ، وقال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ
[الأعراف/ 137] ، وقال تعالى مخبرا عن قوم فرعون: أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ
[الأعراف/ 127] يعني أرض مصر، وقال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام أنه قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ
[يوسف/ 55] . روى ابن يونس عن أبي نضرة الغفاريّ رضي الله عنه قال: مصر خزائن الأرض كلها، وسلطانها سلطان الأرض كلها ألا(1/45)
ترى إلى قول يوسف عليه السلام لملك مصر: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ
ففعل فأغيث بمصر وخزائنها يومئذ كل حاضر، وباد من جميع الأرض، وقال تعالى: وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ
[يوسف/ 56] ، فكان ليوسف بسلطانه بمصر جميع سلطان الأرض كلها لحاجتهم إليه، وإلى ما تحت يديه، وقال تعالى مخبرا عن موسى عليه السلام أنه قال: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ
[يونس/ 88] ، وقال تعالى: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ
[الأعراف/ 129] ، وقال تعالى: وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ
[غافر/ 26] يعني أرض مصر، وقال تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ
[القصص/ 4] يعني أرض مصر، وقال تعالى حكاية عن بعض إخوة يوسف عليه السلام: فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ
[يوسف/ 80] يعني أرض مصر، وقال تعالى: إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ
[القصص/ 19] يعني أرض مصر. قال ابن عباس رضي الله عنه: سميت مصر بالأرض كلها في عشرة مواضع من القرآن، فهذا ما يحضرني مما ذكرت فيه مصر من آي كتاب الله العزيز.
وقد جاء في فضل مصر أحاديث: روى عبد الله بن لهيعة من حديث عمرو بن العاص أنه قال: حدّثني عمر أمير المؤمنين رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا فتح الله عليكم بعدي مصر فاتخذوا فيها جندا كثيفا فذلك الجند خير أجناد الأرض» . قال أبو بكر رضي الله عنه: ولم ذلك يا رسول الله؟ قال: «لأنهم في رباط إلى يوم القيامة» . وعن عمرو بن الحمق «1» : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ... تكون فتنة أسلم الناس فيها أو خير الناس فيها الجند الغربيّ ... » . قال: فلذلك قدمت عليكم مصر، وعن تبيع بن عامر الكلاعيّ قال: أقبلت من الصائفة فلقيت أبا موسى الأشعريّ رضي الله عنه فقال لي: من أين أنت؟
فقلت: من أهل مصر، قال: من الجند العربيّ؟ فقلت: نعم، قال: الجند الضعيف؟ قال:
قلت: أهو الضعيف؟ قال: نعم، قال: أما إنه ما كادهم أحد إلا كفاهم الله مؤنته، اذهب إلى معاذ بن جبل حتى يحدّثك قال: فذهبت إلى معاذ بن جبل فقال لي: ما قال لك الشيخ فأخبرته، فقال لي: وأيّ شيء تذهب به إلى بلادك أحسن من هذا الحديث، أكتبت في أسفل ألواحك، فلما رجعت إلى معاذ أخبرني أن بذلك أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى ابن وهب من حديث صفوان بن عسال قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ... فتح الله بابا للتوبة في الغرب عرضه سبعون عاما لا يغلق حتى تطلع الشمس من نحوه ... » . وروى ابن لهيعة من حديث عمرو بن العاص: حدّثني عمر أمير المؤمنين رضي الله عنه، أنه سمع(1/46)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله عز وجل سيفتح عليكم بعدي مصر فاستوصوا بقبطها خيرا فإنّ لهم منكم صهرا وذمّة ... » . وروى ابن وهب قال: أخبرني حرملة بن عمران التجيبي عن عبد الرحمن بن شماسة المهريّ قال: سمعت أبا ذر رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيرا فإنّ لهم ذمّة ورحما فإذا رأيتم رجلين يقتتلان في موضع لبنة فأخرجوا منها ... » . قال: فمرّ بربيعة وعبد الرحمن ابني شرحبيل يتنازعان في موضع لبنة فخرج منها، وفي رواية:
«ستفتحون مصر وهي أرض يسمى فيها القيراط فإذا افتحتموها فأحسنوا إلى أهلها فإن لهم ذمّة ورحما أو قال: ذمّة وصهرا» الحديث، ورواه مالك، والليث وزاد: فاستوصوا بالقبط خيرا. أخرجه مسلم في الصحيح عن أبي الطاهر عن ابن وهب. قال ابن شهاب: وكان يقال إنّ أمّ إسماعيل منهم، قال الليث بن سعد: قلت لابن شهاب: ما رحمهم، قال: إن أمّ إسماعيل بن إبراهيم صلوات الله عليهما منهم، وقال محمد بن إسحاق «1» : قلت للزهريّ «2» : ما الرحم التي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كانت هاجر أمّ إسماعيل منهم، وروى ابن لهيعة من حديث أبي سالم الجيشاني: أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنكم ستكونون أجنادا وإن خير أجنادكم أهل الغرب منكم فاتقوا الله في القبط لا تأكلوهم أكل الخضر» ، وعن مسلم بن يسار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «استوصوا بالقبط خيرا فإنكم ستجدونهم نعم الأعوان على قتال العدوّ» ، وعن يزيد بن أبي حبيب: أن أبا سلمة ابن عبد الرحمن حدّثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى عند وفاته أن تخرج اليهود من جزيرة العرب، وقال: «الله الله في قبط مصر فإنكم ستظهرون عليهم، ويكونون لكم عدّة، وأعوانا في سبيل الله» ، وروى ابن وهب عن موسى بن أيوب الغافقي عن رجل من الرّند: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرض فأغمي عليه ثم أفاق فقال: «استوصوا بالأدم الجعد» ثم أغمي عليه الثانية، ثم أفاق فقال مثل ذلك، ثم أغمي عليه الثالثة، فقال مثل ذلك، فقال القوم: لو سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأدم الجعد، فأفاق فسألوه، فقال: «قبط مصر، فإنهم أخوال، وأصهار، وهم أعوانكم على عدوّكم وأعوانكم على دينكم» ، قالوا: كيف يكونون أعواننا على ديننا يا رسول الله؟ قال: «يكفونكم أعمال الدنيا وتتفرّغون للعبادة فالراضي بما يؤتى إليهم كالفاعل بهم والكاره لما يؤتى إليهم من الظلم كالمتنزه عنهم» ، وعن عمرو بن حريب وأبي عبد الرحمن الحلبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنكم ستقدمون على قوم جعد رؤوسهم فاستوصوا بهم خيرا فإنهم قوّة لكم وبلاغ إلى عدوّكم بإذن الله» يعني قبط مصر.(1/47)
وعن ابن لهيعة: حدّثني مولى عفرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الله الله في أهل المدرة السوداء السجم الجعاد فإن لهم نسبا وصهرا» ، قال عمرو مولى عفرة صهرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسرّى فيهم، ونسبهم أن أمّ إسماعيل عليهم السلام منهم. قال ابن وهب:
فأخبرني ابن لهيعة أن أمّ إسماعيل هاجر من أمّ العرب قرية كانت أمام الفرما من مصر وقال مروان القصاص: صاهر إلى القبط من الأنبياء ثلاثة: إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام تسرّى هاجر، ويوسف تزوّج بنت صاحب عين شمس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم تسرّى مارية. وقال يزيد بن أبي حبيب: قرية هاجر باق التي عندها أمّ دنين، وقال هشام: العرب تقول:
هاجر، وآجر، فيبدلون من الهاء الألف كما قالوا: هراق الماء، وأراق الماء، ونحوه.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: الأمصار سبعة. فالمدينة مصر، والشأم مصر، ومصر، والجزيرة، والبحرين، والبصرة، والكوفة. وقال مكحول: أول الأرض خرابا أرمينة، ثم مصر. وقال عبد الله بن عمر: وقبطة مصر أكرم الأعاجم كلها، وأسمحهم يدا، وأفضلهم عنصرا، وأقربهم رحما بالعرب عامة، وبقريش خاصة، ومن أراد أن يذكر الفردوس، أو ينظر إلى مثلها في الدنيا فلينظر إلى أرض مصر حين يخضر زرعها وتنور ثمارها. وقال كعب الأحبار «1» : من أراد أن ينظر إلى شبه الجنة فلينظر إلى مصر إذا أخرقت، وفي رواية: إذا أزهرت.
(ومن فضائل مصر) : أنه كان من أهلها السحرة، وقد آمنوا جميعا في ساعة واحدة، ولا يعلم جماعة أسلمت في ساعة واحدة أكثر من جماعة القبط، وكانوا في قول يزيد بن أبي حبيب، وغيره اثني عشر ساحرا رؤساء، تحت يد كل ساحر منهم عشرون عريفا، تحت يد كل عريف منهم ألف من السحرة، فكان جميع السحرة مائتي ألف وأربعين ألفا ومائتين واثنين وخمسين إنسانا بالرؤساء، والعرفاء، فلما عاينوا ما عاينوا أيقنوا أن ذلك من السماء وأن السحر لا يقوم لأمر الله فخرّ الرؤساء الاثنا عشر عند ذلك سجدا، فأتبعهم العرفاء، واتبع العرفاء من بقي، وقالوا: آمنا برب العالمين رب موسى وهارون. قال تبيع: كانوا من أصحاب موسى عليه السلام ولم يفتتن منهم أحد مع من افتتن من بني إسرائيل في عبادة العجل. قال تبيع: ما آمن جماعة قط في ساعة واحدة مثل جماعة القبط، وقال كعب الأحبار: مثل قبط مصر كالغيضة كلما قطعت نبتت حتى يخرّب الله عز وجل بهم وبصناعتهم جزائر الروم، وقال عبد الله بن عمرو: خلقت الدنيا على خمس صور: على صورة الطير برأسه، وصدره، وجناحيه، وذنبه. فالرأس مكة، والمدينة، واليمن. والصدر الشأم، ومصر والجناح الأيمن العراق، وخلف العراق أمّة يقال لها: واق، وخلف واق أمّة يقال(1/48)
لها: واق واق وخلف ذلك من الأمم ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، والجناح الأيسر السند، وخلف السند الهند، وخلف الهند أمّة يقال لها: ناسك، وخلف ناسك أمّة يقال لها:
منسك، وخلف ذلك من الأمم ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، والذنب من ذات الحمام إلى مغرب الشمس، وشرّ ما في الطير الذنب، وقال الجاحظ: الأمصار عشرة: الصناعة بالبصرة، والفصاحة بالكوفة، والتحنيث ببغداد، والعيّ بالري، والجفا بنيسابور، والحسن بهراة، والطرمذة بسمرقند، والمروءة ببلخ، والتجارة بمصر، والبخل بمرو، الطرمذة: كلام ليس له فعل، وعن يحيى بن داخر الغافريّ أنه سمع عمرو بن العاص يقول في خطبته:
واعملوا أنكم في رباط إلى يوم القيامة لمكث الأعداء حولكم، ولإشراف قلوبهم إليكم، وإلى داركم معدن الزرع، والمال، والخير الواسع، والبركة النامية.
وعن عبد الرحمن بن غنم الأشعريّ: أنه قدم من الشأم إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فقال: ما أقدمك إلى بلادنا؟ قال: كنت تحدّثني أن مصر أسرع الأرض خرابا ثم أراك قد اتخذت منها، وبنيت فيها القصور، واطمأننت فيها، قال: إن مصر قد أوفت خرابها حطّمها البخت نصر، فلم يدع فيها إلا السباع، والضباع، فهي اليوم أطيب الأرضين ترابا، وأبعدها خرابا، ولا يزال فيها بركة ما دام في شيء من الأرض بركة، ويقال: مصر متوسطة الدنيا، قد سلمت من حرّ الإقليم الأوّل والثاني، ومن برد الإقليم السادس والسابع، ووقعت في الإقليم الثالث، فطاب هواها، وضعف حرّها، وخف بردها، وسلم أهلها من مشاتي الأهواز، ومصايف عمان، وصواعق تهامة، ودماميل الجزيرة، وجرب اليمن، وطواعين الشأم، وبرسام العراق، وعقارب عسكر مكرم، وطحال البحرين، وحمى خيبر، وأمنوا من غارات الترك، وجيوش الروم، وهجوم العرب، ومكايد الدّيلم، وسرايا القرامطة، ونزف الأنهار، وقحط الأمطار، وبها ثمانون كورة ما فيها كورة إلا وبها طرائف، وعجاب من أنواع البرّ، والأبنية، والطعام، والشراب، والفاكهة، وسائر ما تنتفع به الناس، وتدخره الملوك يعرف بكل كورة، وجهاتها وينسب كل لون إلى كورة، فصعيدها أرض حجازية حرّة حرّ العراق، وينبت النخل، والأراك، والقرظ، والدوم، والعشر، وأسفل أرضها شامي يمطر مطر الشأم، وينبت ثمار الشأم من الكروم، والزيتون، واللوز، والتين، والجوز، وسائر الفواكه، والبقول، والرياحين، ويقع به الثلج، والبرد.
وكورة الإسكندرية، ولوبية، ومراقيه براري، وجبال، وغياض تنبت الزيتون، والإعناب، وهي بلاد إبل، وماشية، وعسل، ولبن. وفي كل كورة من كور مصر مدينة، في كل مدينة منها آثار كريمة من الأبنية، والصخور، والرخام، والعجائب، وفي نيلها السفن التي تحمل السفينة الواحدة منها ما يحمله خمسمائة بعير، وكل قرية من قرى مصر تصلح أن تكون مدينة يؤيد ذلك قول الله سبحانه وتعالى: وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ
[الشعراء/ 36] ، ويعمل بمصر معامل كالتنانير يعمل بها البيض بصنعة يوقد عليه، فيحاكي نار(1/49)
الطبيعة في حضانة الدجاجة لبيضها، ويخرج من تلك المعامل الفراريج، وهي معظم دجاج مصر، ولا يتم عمل هذا بغير مصر. وقال عمر بن ميمون: خرج موسى عليه السلام ببني إسرائيل، فلما أصبح فرعون أمر بشاة، فأتى بها فأمر بها أن تذبح، ثم قال: لا يفرغ من سلخها حتى يجتمع عندي خمس مائة ألف من القبط، فاجتمعوا إليه، فقال لهم فرعون: إن هؤلاء لشرذمة قليلون، وكان أصحاب موسى عليه السلام ستمائة ألف وسبعين ألفا.
ووصف بعضهم مصر، فقال: ثلاثة أشهر لؤلؤة بيضاء، وثلاثة أشهر مسكة سوداء، وثلاثة أشهر زمردة خضراء، وثلاثة أشهر سبيكة ذهب حمراء، فأما اللؤلؤة البيضاء، فإن مصر في أشهر أبيب ومسرى وبوت يركبها الماء، فترى الدنيا بيضاء، وضياعها على روابي، وتلال مثل الكواكب قد أحيطت بها المياه من كل وجه، فلا سبيل إلى قرية من قراها إلا في الزوارق، وأما المسكة السوداء، فإن في أشهر بابه، وهاتور، وكيهك ينكشف الماء عن الأرض فتصير أرضا سوداء، وفي هذه الأشهر تقع الزراعات، وأما الزمرذة الخضراء فإن في أشهر طوبه وامشير وبرمهات يكثر نبات الأرض، وربيعها فتصير خضراء كأنها زمرذة، وأما السبيكة الحمراء فإن في أشهر برمودة وبشنس وبؤنة يتورد العشب، ويبلغ الزرع الحصاد، فيكون كالسبيكة التي من الذهب منظرا ومنفعة، وسأل بعض الخلفاء الليث بن سعد عن الوقت الذي تطيب فيه مصر؟ فقال: إذا غاض ماؤها، وارتفع وباها وجف ثراها وأمكن مرعاها، وقال آخر: نيلها عجب، وأرضها ذهب، وخيرها جلب، وملكها سلب، ومالها رغب، وفي أهلها صخب، وطاعتهم رهب، وسلامهم شعب، وحربهم حرب، وهي لمن غلب. وقال آخر: مصر من سادات القرى ورؤساء المدن، وقال زيد بن أسلم في قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌ
[البقرة/ 265] هي: مصر إن لم يصبها مطر أزكت، وإن أصلبها مطرا ضعفت، قاله المسعودي في تاريخه، ويقال: لما خلق الله آدم عليه السلام مثل له الدنيا شرقها، وغربها، وسهلها، وجبلها، وأنهارها، وبحارها، وبناءها، وخرابها، ومن يسكنها من الأمم ومن يملكها من الملوك، فلما رأى مصر أرضا سهلة ذات نهر جار مادّته من الجنة تنحدر فيه البركة، ورأى جبلا من جبالها مكسوّا نورا لا يخلو من نظر الرب إليه بالرحمة في سفحه أشجار مثمرة، وفروعها في الجنة تسقى بماء الرحمة، فدعا آدم عليه السلام في النيل بالبركة، ودعا في أرض مصر بالرحمة، والبرّ والتقوى، وبارك في نيلها وجبلها سبع مرّات وقال: يا أيها الجبل المرحوم: سفحك جنة، وتربتك مسكة يدفن فيها غراس الجنة أرض حافظة مطيعة رحيمة لا خلتك يا مصر بركة، ولا زال بك حفظ ولا زال منك ملك وعزيا أرض مصر فيك الخبايا، والكنوز، ولك البرّ والثروة، وسال نهرك عسلا كثر الله زرعك، ودرّ ضرعك، وزكى نباتك وعظمت بركتك، وخصبت ولا زال فيك خير ما لم تتجبري وتتكبري، أو تخوني فإذا فعلت ذلك عد النشر، ثم يغور خيرك، فكان آدم أوّل من دعا لها بالرحمة، والخصب والرأفة والبركة.(1/50)
وعن ابن عباس: أن نوحا عليه السلام دعا لمصر بن بيصر بن حام فقال: اللهمّ إنه قد أجاب دعوتي فبارك فيه وفي ذريته وأسكنه الأرض المباركة التي هي أم البلاد، وغوث العباد التي نهرها أفضل أنهار الدنيا، واجعل فيها أفضل البركات، وسخر له ولولده الأرض، وذللها لهم وقوّهم عليها.
وقال كعب الأحبار: لولا رغبتي في بيت المقدس لما سكنت إلا مصر فقيل له: لم؟
فقال: لأنها بلد معافاة من الفتن ومن أرادها بسوء أكبه الله على وجهه وهو بلد مبارك لأهله فيه. وقال ابن وهب: أخبرني يحيى بن أيوب عن خالد بن يزيد عن ابن أبي هلال: أن كعب الأحبار كان يقول: إني لأحب مصر وأهلها، لأن مصر بلد معافاة وأهلها أصحاب عافية، وهم بذلك مفارقون، ويقال: إن في بعض الكتب الإلهية: مصر خزائن الأرض كلها فمن أرادها بسوء قصمه الله تعالى.
وقال عمرو بن العاص: ولاية مصر جامعة تعدل الخلافة يعني إذا جمع الخراج مع الإمارة، وقال أحمد بن مدبر: تحتاج مصر إلى ثمانية وعشرين ألف ألف فدان، وإنما يعمر منها ألف ألف فدّان، وقد كشفت أرض مصر، فوجدت غامرها أضعاف عامرها، ولو اشتغل السلطان بعمارتها لوفت له بخراج الدنيا. وقال بعضهم: إنّ خراج العراق لم يكن قط أوفر منه في أيام عمر بن عبد العزيز، فإنه بلغ ألف ألف درهم وسبعة عشر ألف ألف درهم، ولم تكن مصر قط أقل من خراجها في أيام عمرو بن العاص، وأنه بلغ اثني عشر ألف ألف دينار، وكانت الشامات بأربعة عشر ألف ألف سوى الثغور. ومن فضائل مصر: أنه ولد بها من الأنبياء موسى، وهارون، ويوشع عليهم السلام، ويقال: إن عيسى بن مريم صلوات الله عليه أخذ على سفح الجبل المقطم، وهو سائر إلى الشام، فالتفت إلى أمّه وقال: يا أمّاه هذه مقبرة أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، ويذكر أنه ولد في قرية اهناس من نواحي صعيد مصر وأنه كانت به نخلة يقال: إنها النخلة المذكورة في القرآن بقوله سبحانه وتعالى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ
[مريم/ 25] وهذا القول وهم، فإنه لا خلاف بين علماء الأخبار من أهل الكتاب، ومن يعتمد عليه من علماء المسلمين أن عيسى صلوات الله عليه ولد بقرية بيت لحم من بيت المقدس، ودخل مصر من الأنبياء، إبراهيم خليل الرحمن، وقد ذكر خبر ذلك عند ذكر خليج القاهرة من هذا الكتاب. ودخلها أيضا يعقوب ويوسف والأسباط، وقد ذكر ذلك في خبر الفيوم، ودخلها أرميا، وكان من أهلها مؤمن آل فرعون الذي أثنى عليه الله جلّ جلاله في القرآن.
ويقال: إنه ابن فرعون لصلبه، وأظنه أنه غير صحيح، وكان منها جلساء فرعون الذين أبان الله فضيلة عقلهم بحسن مشورتهم في أمر موسى وهارون عليهما السلام، لما استشارهم فرعون في أمرهما فقال تعالى: قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ(1/51)
أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ
[الشعراء/ 34- 37] ، وأين هذا من قول أصحاب النمرود في إبراهيم صلوات الله عليه، حيث أشاروا بقتله قال تعالى حكاية عنهم: قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ
[الأنبياء/ 68] ومن أهل مصر، امرأة فرعون التي مدحها الله تعالى في كتابه العزيز بقوله:
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
[التحريم/ 11] ومن أهلها، ماشطة بنت فرعون وآمنت بموسى عليه السلام، فمشطها فرعون بأمشاط الحديد كما يمشط الكتان، وهي ثابتة على إيمانها بالله.
وقال صاعد اللغوي «1» في كتاب طبقات الأمم: إن جميع العلوم التي ظهرت قبل الطوفان إنما صدرت عن هرمس الأوّل الساكن بصعيد مصر الأعلى، وهو أوّل من تكلم في الجواهر العلوية، والحركات النجومية، وهو أوّل من ابتنى الهياكل، ومجد الله فيها، وأوّل من نظر في علم الطب، وألف لأهل زمانه قصائد موزونة في الأشياء الأرضية والسماوية، وقالوا: إنه أوّل من أنذر بالطوفان، ورأى أن آفة سماوية تصيب الأرض من الماء، والنار فخاف ذهاب العلم، واندراس الصنائع فبنى الأهرام، والبرابي «2» التي في صعيد مصر الأعلى، وصوّر فيها جميع الصنائع، والآلات ورسم فيها صفات العلوم حرصا على تخليدها لمن بعده، وخيفة أن يذهب رسمها من العالم، وهرمس هذا هو: إدريس عليه السلام.
وقال أبو محمد الحسن بن إسماعيل بن الفرات في أخبار مصر: إن الخضر جاز البحر مع موسى عليه السلام، وكان مقدّما عنده، وكان بمصر من الحكماء جماعة ممن عمرت الدنيا بكلامهم وحكمهم وتدبيرهم، وكان من علومهم علم الطب، وعلم النجوم، وعلم المساحة، وعلم الهندسة، وعلم الكيمياء، وعلم الطلسمات، ويقال: كانت مصر في الزمن الأوّل يسير إليها طلاب العلوم لتزكو عقولهم، وتجود أذهانهم ويتميز عندهم الذكاء وتدق الفطنة.
ومن فضائل مصر: أنها تمير أهل الحرمين وتوسع عليهم ومصر فرضة الدنيا يحمل خيرها إلى ما سواها، فساحلها بمدينة القلزم يحمل منه إلى الحرمين واليمن والهند والصين وعمان والسند والشحر، وساحلها من جهة تنيس ودمياط والفرما فرضة بلاد الروم،(1/52)
والإفرنج، وسواحل الشام والثغور إلى حدود العراق، وثغر إسكندرية فرضة أقريطس وصقلية وبلاد المغرب، ومن جهة الصعيد يحمل إلى بلاد الغرب والنوبة والبجة والحبشة والحجاز واليمن، وبمصر عدّة من الثغور المعدّة للرباط في سبيل الله تعالى وهي: البراس ورشيد والإسكندرية وذات الحمام والبحيرة واخنا ودمياط وشطا وتنيس والأشتوم والفرما والواردة والعريش وأسوان وقوص والواحات، فيغزى من هذه الثغور الروم والفرنج والبربر والنوبة والحبشة والسودان. وبمصر عدّة مشاهد وكثير من المساجد، وبها النيل، والأهرام والبرابي والأديار والكنائس وأهلها يستغنون بها عن كل بلد حتى أنه لو ضرب بينها وبين بلاد الدنيا بسوره لاستغنى أهلها بما فيها عن جميع البلاد. وبمصر دهن البلسان الذي عظمت منفعته، وصارت ملوك الأرض تطلبه من مصر، وتعتني به وملوك النصرانية تترامى على طلبه، والنصارى كافة تعتقد تعظيمه وترى أنه لا يتم تنصر نصرانيّ إلا بوضع شيء من دهن البلسان في ماء المعمودية عند تغطيسه فيها، وبها السقنقور ومنافعه لا تنكر وبها النمس والعرس، ولهما في أكل الثعابين فضيلة لا تنكر فقد قيل: لولا العرس والنمس لما سكنت مصر من كثرة الثعابين، وبها السمكة الرعادة ونفعها في البرء من الحمى إذا علقت على المحموم عجيب، وبمصر حطب السنط، ولا نظير له في معناه فلو وقد منه تحت قدر يوما كاملا لما بقي منه رماد، وهو مع ذلك صلب الكسر سريع الاشتعال بطيء الخمود. ويقال:
إنه أبنوس غيرته بقعة مصر فصار أحمر. وبها الأفيون عصارة الخشخاش، ولا يجهل منافعه إلا جاهل، وبها البنج وهو ثمر قدر اللوز الأخضر كان من محاسن مصر إلا أنه انقطع قبل سنة سبعمائة من الهجرة؛ وبها الأترج. قال أبو داود «1» صاحب السير في كتاب الزكاة:
شبرت قثاءة بمصر ثلاثة عشر شبرا، ورأيت أترجة على بعير قطعتين، وصيرت مثل عدلين.
قال المسعودي في التاريخ: والأترج المدوّر حمل من أرض الهند بعد الثلاثمائة من سني الهجرة، وزرع بعمان، ثم نقل منها إلى البصرة والعراق والشام، حتى كثر في دور الناس بطرسوس، وغيرها من الثغور الشامية، وفي أنطاكية وسواحل الشام وفلسطين ومصر، وما كان يعهد ولا يعرف فعدمت منه الأراهج الحمراء الطيبة، واللون الحسن الذي كان فيه بأرض الهند لعدم ذلك الهواء والتربة وخاصية البلد. وفي مصر معدن الزمرد، ومعدن النفط والشب والبرام ومقاطع الرخام، ويقال: كان بمصر من المعادن ثلاثون معدنا؛ وأهل مصر يأكلون صيد بحر الروم، وصيد بحر اليمن طريا لأن بين البحرين مسافة ما بين مدينة القلزم، والفرما، وذلك يوم وليلة، وهو الحاجز المذكور في القرآن قال تعالى: وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً
[النمل/ 61] قيل: هما بحر الروم، وبحر القلزم، وقال تعالى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ
[الرحمن/ 19] . قال بعض المفسرين: البرزخ ما بين القلزم والفرما.(1/53)
ومن محاسن مصر: أنه يوجد بها في كل شهر من شهور السنة القبطية صنف من المأكول والمشموم دون ما عداه من بقية الشهور فيقال: رطب توت، ورمان بابه، وموزها تور، وسمك كيهك، وماء طوبة، وخروف امشير، ولبن برمهات، وورد برمودة، ونبق بشنس، وتين بؤنة، وعسل أبيب، وعنب مسرى، ومنها: أن صيفها خريف لكثرة فواكهه وشتاءها ربيع لما يكون بمصر حينئذ من القرظ والكنان.
ومن محاسنها: أن الذي ينقطع من الفواكه في سائر البلدان أيام الشتاء يوجد حينئذ بمصر. ومنها: أن أهل مصر لا يحتاجون في حرّ الصيف إلى استعمال الخيش والدخول في جوف الأرض كما يعانيه أهل بغداد، ولا يحتاجون في برد الشتاء إلى لبس الفرو، والاصطلاء بالنار الذي لا يستغني عنه أهل الشام. كما أنهم أيضا في الصيف غير محتاجين إلى استعمال الثلج، ويقال: زبرجد مصر، وقباطي مصر، وحمير مصر، وثعابين مصر، ومنافعها في الدرياق جليلة.
ومن فضائل مصر: أن الرخامة التي في الحجر من الكعبة من مصر بعث بها محمد بن طريف مولى العباس بن محمد في سنة إحدى وأربعين ومائتين، مع رخامة أخرى خضراء هدية للحجر، فجعلت إحدى الرخامتين على سطح جدر الكعبة، وهما من أحسن الرخام في المسجد خضرة وكان المتولي عليهما عبد الله بن محمد بن داود، ذرعها ذراع وثلاث أصابع. قاله الفاكهي في أخبار مكة.
ومن فضائل مصر: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تسرّى من أهلها، وولد له صلى الله عليه وسلم من نساء مصر، ولم يولد له ولد من غير نساء العرب إلا من نساء مصر. قال ابن عبد الحكم: لما كانت سنة ست من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية بعث إلى الملوك، فمضى حاطب بن أبي بلتعة بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انتهى إلى الإسكندرية، وجد المقوقس في مجلس مشرف على البحر، فركب البحر فلما حاذى مجلسه أشار بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصبعيه، فلما رآه أمر بالكتاب فقبض وأمر به فأوصل إليه، فلما قرأ الكتاب قال: ما منعه إن كان نبيا أن يدعو عليّ فيسلط عليّ. فقال له حاطب: ما منع عيسى بن مريم أن يدعو على من أبى عليه أن يفعل به، ويفعل، فوجم ساعة، ثم استعادها، فأعادها عليه حاطب فسكت فقال له حاطب: إنه قد كان قبلك رجل زعم أنه الرب الأعلى فانتقم الله به، ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك، ولا تعتبر بك، وإن لك دينا لن تدعه إلا لما هو خير فيه، وهو الإسلام الكافي لنبيه عمّا سواه، وما بشارة موسى بعيسى إلى كبشارة عيسى بمحمد، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، ولسنا ننهاك عن دين المسيح ولكنا نأمرك به.
ثم قرأ الكتاب فإذا فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى المقوقس(1/54)
عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى؛ أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام فأسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرّتين ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) فلما قرأه أخذه فجعله في حق من عاج وختم عليه. وعن أبان بن صالح قال:
أرسل المقوقس «1» إلى حاطب ليلة وليس عنده أحد إلا الترجمان فقال له: ألا تخبرني عن أمور أسألك عنها فإني أعلم أن صاحبك قد تخيرك حين بعثك، قلت: لا تسألني عن شيء إلا صدقتك، قال: إلى ما يدعو محمد؟ قال: إلى أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتخلع ما سواه، ويأمر بالصلاة. قال: فكم تصلون؟ قال: خمس صلوات في اليوم والليلة، وصيام شهر رمضان، وحج البيت، والوفاء بالعهد، وينهى عن أكل الميتة، والدم. قال: من أتباعه؟ قال: الفتيان من قومه، وغيرهم. قال: وهل يقبل قوله؟ قال: نعم، قال: صفه لي؟
قال: فوصفته بصفة من صفته، ولم آت عليها، قال: قد بقيت أشياء لم أرك ذكرتها في عينيه حمرة قلّ ما تفارقه، وبين كتفيه خاتم النبوّة يركب الحمار، ويلبس الشملة، ويجتزي بالتمرات والكسر لا يبالي من لاقى من عمّ ولا ابن عمّ، قلت: هذه صفته، قال: قد كنت أعلم أن نبيا بقي وقد كنت أظنّ أن مخرجه الشام، وهناك كانت تخرج الأنبياء من قبله، فأراه قد خرج في أرض العرب في أرض جهد، وبؤس، والقبط لا تطاوعني في أتباعه، ولا أحب أن تعلم بمحاورتي إياك وسيظهر على البلاد وينزل أصحابه من بعده بساحتنا هذه حتى يظهروا على ما ههنا، وأنا لا أذكر للقبط من هذا حرفا فارجع إلى صاحبك. قال: ثم دعي كاتبا يكتب بالعربية فكتب: (لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط سلام. أما بعد:
فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيا قد بقي وقد كنت أظن أن نبيا يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم، وبكسوة، وأهديت إليك بغلة لتركبها، والسلام) .
وعن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: لما مضى حاطب بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قبل المقوقس الكتاب، وأكرم حاطبا وأحسن نزله، ثم سرّحه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهدى له كسوة، وبغلة بسرجها، وجاريتين إحداهما أمّ إبراهيم، ووهب الأخرى لجهم بن قيس العبدري، فهي أمّ زكريا بن جهم الذي كان خليفة عمرو بن العاص على مصر ويقال: بل وهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحمد بن مسلمة الأنصاريّ، ويقال: بل لدحية بن خليفة الكلبي، وقيل: بل لحسان بن ثابت.(1/55)
وعن يزيد بن أبي حبيب «1» : أن المقوقس لما أتاه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ضمه إلى صدره، وقال: هذا زمان يخرج فيه النبيّ الذي نجد نعته وصفته في كتاب الله تعالى، وإنا لنجد صفته أنه لا يجمع بين أختين في ملك يمين، ولا نكاح، وأنه يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة، وأن جلساءه المساكين وإن خاتم النبوّة بين كتفيه، ثم دعا رجلا عاقلا، ثم لم يدع بمصر أحسن ولا أجمل من مارية وأختها، وهما من أهل جفن بفتح أوّله وسكون ثانيه ثم نون بعده من كورة انصنا، فبعث بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهدى له بغلة شهباء وحمارا أشهب، وثيابا من قباطي مصر، وعسلا من عسل بنها، وبعث إليه بمال صدقة.
ويقال: إن المقوقس أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع جواري، وقيل: جاريتين، وبغلة اسمها الدلدل، وحمارا اسمه يعفور، وقبأ وألف مثقال ذهبا وعشرين ثوبا من قباطي مصر، وخصيا يسمى مايور، ويقال: إنه ابن عمّ مارية، وفرسا يقال له: الكرّار، وقدحا من زجاج، وعسلا من عسل بنها، فأعجب النبيّ صلى الله عليه وسلم، ودعا فيه بالبركة، وقال: ضنّ الخبيث بملكه ولا بقاء لملكه، فإن المقوقس قال خيرا وأكرم حاطب ابن أبي بلتعة وقارب الأمر ولم يسلم.
وقال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر الواقديّ: أنبأنا يعقوب بن محمد بن أبي صعصعة عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة قال: أهدى المقوقس صاحب الإسكندرية إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم في سنة سبع من الهجرة، مارية وأختها سيرين، وألف مثقال ذهبا وعشرين ثوبا، وبغلته الدلدل، وحماره عفيرا، وخصيا يقال له: مابور فعرض حاطب على مارية الإسلام فأسلمت هي وأختها، ثم أسلم الخصي بعد وكان الذي بعثه المقوقس، مع مارية اسمه جبرين بن عبد الله القبطي. مولى بني عفار. قال ابن عبد الحكم: وأمر رسوله أن ينظر من جلساؤه وينظر إلى ظهره هل يرى شامة كبيرة ذات شعر ففعل ذلك الرسول، فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قدّم إليه الأختين والدابتين، والعسل والثياب، وأعلمه أن ذلك كله هدية، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدية، وكان لا يردّها من أحد من الناس. قال: فلما نظر إلى مارية وأختها أعجبتاه وكره أن يجمع بينهما، وكانت إحداهما تشبه الأخرى فقال:
«اللهم اختر لنبيك» ، فاختار الله له مارية. وذلك أنه لما قال لهما: «اشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا عبده ورسوله» ، فبادرت مارية فشهدت وآمنت قبل أختها، ومكثت أختها ساعة، ثم تشهدت وآمنت، فوهب رسول الله صلى الله عليه وسلم أختها لمحمد «2» بن مسلمة الأنصاريّ، وقال(1/56)
بعضهم: بل وهبها لدحية «1» بن خليفة الكلبيّ.
وعن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الرحمن بن شامة المهري عن عبد الله بن عمر قال:
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمّ إبراهيم أمّ ولده القبطية، فوجد عندها نسيبا لها كان قدم معها من مصر، وكان كثيرا ما يدخل عليها، فوقع في نفسه شيء فرجع، فلقيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فعرف ذلك في وجهه، فسأله فأخبره، فأخذ عمر السيف، ثم دخل على مارية وقريبها عندها، فأهوى إليه بالسيف فلما رأى ذلك كشف عن نفسه، وكان مجبوبا ليس بين رجليه شيء. فلما رآه عمر رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن جبريل أتاني فأخبرني أن الله عز وجل قد برّأها وقريبها وإن في بطنها غلاما مني وأنه أشبه الخلق بي وأمرني أن أسميه إبراهيم وكناني بأبي إبراهيم» .
وقال الزهري عن أنس: لما ولدت أمّ إبراهيم إبراهيم كأنه وقع في نفس النبيّ صلى الله عليه وسلم منه شيء حتى جاءه جبريل، فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم، ويقال: إن المقوقس بعث معها بخصيّ كان يأوي إليها، وقيل: إن المقوقس أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم جواري منهنّ أمّ إبراهيم وواحدة وهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي جهم بن حذيفة وواحدة وهبها لحسان بن ثابت فولدت مارية لرسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم. وكان أحب الناس إليه حتى مات فوجد به وكان سنه يوم مات ستة عشر شهرا، وكانت البغلة والحمار أحب دوابه إليه وسمى البغلة الدلدل، وسمى الحمار يعفورا، وأعجبه العسل، فدعا في عسل بنها بالبركة، وبقيت تلك الثياب حتى كفن في بعضها صلى الله عليه وسلم، وكان اسم أخت مارية قيصر، وقيل: بل كان اسمها سيرين، وقيل: حمنة.
وكلم الحسن بن عليّ معاوية بن أبي سفيان في أن يضع الجزية عن جميع قرية أمّ إبراهيم لحرمتها ففعل، ووضع الخراج عنهم فلم يكن على أحد منهم خراج، وكان جميع أهل القرية من أهلها وأقربائها فانقطعوا. ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو بقي إبراهيم ما تركت قبطيا إلا وضعت عنه الجزية» ، وماتت مارية في محرّم سنة خمس عشرة بالمدينة.
وقال ابن وهب: أخبرني يحيى بن أيوب، وابن لهيعة عن عقيل عن الزهريّ عن يعقوب بن عبد الله بن المغيرة بن الأخفش عن ابن عمر: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «دخل إبليس العراق فقضى حاجته منها، ثم دخل الشام فطردوه حتى دخل جبل شاق، ثم دخل مصر فباض فيها وفرّخ وبسط عبقريه» حديث صحيح غريب، وقد عاب بعضهم مصر فقال:
محاسنها مجلوبة إليها حتى العناصر الأربعة؛ الماء وهو في النيل مجلوب من الجنوب، والتراب مجلوب في حمل الماء، وإلا فهي رمل محض لا تنبت الزرع، والنار لا يوجد بها شجرها، والهواء لا يهب بها إلا من أحد البحرين، إما من الروميّ، وإما من القلزم، وقد(1/57)
زاد هذا في تحامله. وقال كعب الأحبار: الجزيرة آمنة من الخراب حتى تخرب أرمينية، ومصر آمنة من الخراب حتى تخرب الجزيرة والكوفة آمنة من الخراب حتى تكون الملحمة.
ذكر العجائب التي كانت بمصر من الطلسمات والبرابي ونحو ذلك
ذكر في كتاب عجائب الحكايات وغرائب الماجزيات أنه كان بمصر حجر من جمع كفيه عليه تقيأ جميع ما في جوده. قال القضاعي: ذكر الجاحظ وغيره: أنّ عجائب الدنيا ثلاثون أعجوبة منها بسائر الدنيا عشر أعجوبات، وهي مسجد دمشق، وكنيسة الرّها، وقنطرة سنجر، وقصر غمدان، وكنيسة رومية، وصنم الزيتون، وإيوان كسرى بالمدائن، وبيت الريح بتدمر، والخورنق، والسدير بالحيرة، والثلاثة الأحجار ببعلبك، وذكر أنها بيت المشتري والزهرة، وأنه كان لكل كوكب من السبعة بيت فيها، فتهدّمت.
(ومنها بمصر عشرون أعجوبة) فمن ذلك الهرمان، وهما أطول بناء وأعجبه ليس على وجه الدنيا بناء باليد حجر على حجر أطول منهما، وإذا رأيتهما ظننت أنهما جبلان موضوعان، ولذلك قال بعض من رآهما: ليس من شيء إلا وأنا أرحمه من الدهر إلا الهرمين فإني لأرحم الدهر منهما.
ومن ذلك صنم الهرمين، وهو بلهوية ويقال بلهيت «1» ويقال: إنه طلسم للرمل لئلا يغلب على إبليز الجيزة.
ومن ذلك بربا سمنود، وهو من أعاجيبها وذكر عن أبي عمرو الكنديّ أنه قال: رأيته وقد خزن فيه بعض عمالها قرظا فرأيت الجمل إذا دناه من بابه بحمله وأراد أن يدخله سقط كل دبيب في القرظ لم يدخل منه شيء إلى البربا، ثم خرب عند الخمسين والثلاثمائة.
ومن ذلك: بربا اخميم عجب من العجائب بما فيه من الصور، وأعاجيب وصور الملوك الذين يملكون مصر، وكان ذو النون الإخميمي يقرأ البرابي، فرأى فيها حكما عظيمة فأفسد أكثرها.
ومن ذلك بربا دندره، وهو بربا عجيب فيه ثمانون ومائة كوّة تدخل الشمس كل يوم من كوّة منها، ثم الثانية حتى تنتهي إلى آخرها، ثم تكرّر راجعة إلى موضع بدائها.
ومن ذلك حائط العجوز من العريش إلى أسوان يحيط بأرض مصر شرقا وغربا.
ومن ذلك الإسكندرية وما فيها من العجائب فمن عجائبها المنارة، والسواري، والمعلب الذي كانوا يجتمعون فيه في يوم من السنة، ثم يرمون بكرة فلا تقع في حجر أحد(1/58)
إلا ملك مصر، وحضر عيدا من أعيادهم عمرو بن العاص، فوقعت الكرة في حجره فملك البلد بعد ذلك في الإسلام، ثم يحضر هذا الملعب ألف ألف من الناس فلا يكون فيهم أحد إلا وهو ينظر في وجه صاحبه، ثم إن قرىء كتاب سمعوه جميعا أو لعب نوع من أنواع اللعب رأوه عن آخرهم لا يتطاولون فيه بأكثر من المراتب العلية والسفلية.
ومن عجائبها: المسلتان وهما: جبلان قائمان على سرطانات نجاس في أركانها كل ركن على سرطان، فلو أراد مريد أن يدخل تحتها شيئا حتى يعبره من جانبه الآخر لفعل.
ومن عجائبها: عمودا الأعيا، وهما عمودان ملقيان وراء كل عمود منهما جبل حصبا كصبر الجمار بمنى يقبل المعنى التعب النصب بسبع حصيات حتى يلتقي على أحدهما، ثم يرمي وراءه السبع، ويقوم ولا يلتفت ويمضي لطيته فكأنما يحمل حملا لا يحس بشيء من تعبه.
ومن عجائبها: القبة الخضراء وهي: أعجب قبة ملبسة نحاسا كأنه الذهب الإبريز لا يبليه القدم ولا يخلقه الدهر.
ومن عجائبها: منية عقبة وقصر فارس وكنيسة أسفل الأرض، ثم هي مدينة على مدينة ليس على وجه الأرض مدينة بهذه الصفة سواها، ويقال: إنها إرم ذات العماد؛ سميت بذلك لأن عمدها ورخامها من البدنجنا والاصطنيدس المخطط طولا وعرضا.
ومن عجائب مصر أيضا: الجبال التي هي بصعيدها على نيلها وهي ثلاثة أجبل؛ فمنها جبل الكهف، ويقال: الكف، ومنها الطبلمون، ومنها جبل زماجيز الساحرة. يقال: إن فيه حلقة من الجبل ظاهرة مشرفة على النيل لا يصل إليها أحد يلوح فيها خط مخلوق باسمك اللهم.
ومن عجائبها: شعب «1» البوقيرات بناحية اشمون من أرض الصعيد، وهو شعب في جبل فيه صدع تأتيه البوقيرات في يوم من السنة كان معروفا فتعرض أنفسها على الصدع فكلما أدخل بوقير منها منقاره في الصدع مضى لسبيله، فلا يزال يفعل ذلك حتى يلتقي الصدع على بوقير منها، فتحبسه وتمضي كلها ولا يزال ذلك الذي يحبسه متعلقا حتى يتساقط ويتلاشى.
ومن عجائبها: عين شمس وهي هيكل الشمس وبها العمودان اللذان لم ير أعجب(1/59)
منهما، ولا من شأنهما. طولهما في السماء نحو من خمسين ذراعا، وهما محمولان على وجه الأرض وفيهما صورة إنسان على دابة، وعلى رأسهما شبه الصومعتين من نحاس، فإذا جاء النيل قطر من رأسهما ماء وتستبينه وتراه منهما واضحا ينبع حتى يجري في أسفلهما فينبت في أصلهما العوسج، وغيره، وإذا حلت الشمس دقيقة من الجدي وهو أقصر يوم في السنة انتهت إلى الجنوبيّ منها فطلعت عليه على قمة رأسه وهي منتهى الميلين، وخط الاستواء في الواسطة منهما، ثم خطرت بينهما ذاهبة وجاثية سائر السنة كذا يقول أهل العلم بذلك.
ومن عجائبها: منف، وعجائبها وأصنامها وأبنيتها ودفائنها وكنوزها، وما يذكر فيها أكثر من أن يحصى من آثار الملوك والحكماء، والأنبياء لا يدفع ذلك.
ومن عجائبها: الفرما وهي أكثر عجائبا وأكثر آثارا.
ومن عجائبها: الفيوم.
ومن عجائبها: نيلها. ومن عجائبها: الحجر المعروف بحجر الخل يطفو على الخل، ويسبح فيه كأنه سمكة وكان يوجد بها حجر، إذا أمسكه الإنسان بكلتا يديه تقيأ كل شيء في بطنه، وكان بها خرزة، تجعلها المرأة على حقوها فلا تحبل وكان بها حجر؛ يوضع على حرف التنور فيتساقط خبزه، وكان يوجد بصعيدها حجارة رخوة تكسر فتتقد كالمصابيح.
ومن عجائبها: حوض كان بدلالات تدور من حجارة يركب فيها الواحد والأربعة، ويحرّكون الماء بشيء فيعبرون من جانب إلى جانب لا يعلم من عمله، فأخذه كافور الإخشيديّ إلى مصر فنظر إليه، ثم أخرج من الماء فألقي في البرّ وكان في أسفله كتابة لا يدري ما هي ثم بطل.
ومن عجائبها: أن بصعيدها ضيعة تعرف بدشنى، فيها سنطة إذا تهدّدت بالقطع تدبل، وتجتمع وتضمر فيقال لها: قد عفونا عنك، وتركناك فتتراجع، والمشهور وهو الموجود الآن سنطة في الصعيد إذا نزلت اليد عليها دبلت، وإذا رفعت عنها تراجعت وقد حملت إلى مصر، وشوهدت. وبها نوع من الخشب يرسب في الماء كالأبنوس وبها الخشب السنط الذي يوقد منه القدر الكثير في الزمن الطويل فلا يوجد له رماد.
وذكر ابن نصر المصري: أنه كان على باب القصر الكبير الذي يقال له باب الريحان عند الكنيسة المعلقة صنم من نحاس على خلقة الجمل، وعليه رجل راكب عليه عمامة منتكب قوسا عربية، وفي رجليه نعلان كانت الروم والقبط وغيرهم إذا تظالموا بينهم، واعتدى بعضهم على بعض تجاروا إليه حتى يقفوا بين يدي ذلك الجمل، فيقول المظلوم للظالم: انصفني قبل أن يخرج هذا الراكب الجمل، فيأخذ الحق لي منك شئت أم أبيت يعنون بالراكب النبيّ محمدا صلى الله عليه وسلم.(1/60)
فلما قدم عمرو بن العاص غيبت الروم ذلك الجمل لئلا يكون شاهدا عليهم. قال ابن لهيعة: بلغني أن تلك الصورة في ذلك الموضع قد أتى الآن عليها سنين لا يدرى من عملها.
قال القضاعيّ: فهذه عشرون أعجوبة من جملتها ما يتضمن عدّة عجائب، فلو بسطت لجاء منها عدد كثير، ويقال: ليس من بلد فيه شيء غريب إلا وفي مصر مثله أو شبيه به. ثم تفضل مصر على البلدان بعجائبها التي ليست في بلد سواها.
وفي كتاب تحفة الألباب: أنه كان بمصر بيت تحت الأرض فيه رهبان من النصارى، وفي البيت سرير صغير من خشب تحت صبيّ ميت ملفوف في نطع أديم مشدود بحبل، وعلى السرير مثل الباطية فيها أنبوب من نحاس فيه فتيل إذا اشتعل الفتيل بالنار وصار سراجا خرج من ذلك الأنبوب الزيت الصافي الحسن الفائق حتى تمتلىء تلك الباطية، وينطفي السراج بكثرة الزيت فإذا انطفأ لم يخرج من الدهن شيء، فإذا خرج الصبي الميت من تحت السرير لم يخرج من الزيت شيء والباطية يريقها الإنسان فلا يرى تحتها شيئا، ولا موضعا فيه ثقب، وأولئك الرهبان يتعيشون من ذلك الزيت يشتريه الناس منهم فينتفعون به.
وقال الأستاذ إبراهيم بن وصيف «1» شاه: عديم الملك ابن تقطريم كان جبارا لا يطاق عظيم الخلق، فأمر بقطع الصخور ليعمل هرما كما عمل الأوّلون، وكان في وقته الملكان اللذان أهبطا من السماء، وكانا في بئر يقال له افتارة، وكانا يعلمان أهل مصر السحر.
وكان يقال: إن الملك عديم بن البودشير استكثر من علمهما، ثم انتقلا إلى بابل، وأهل مصر من القبط يقولون: إنهم شيطانان يقال لهما: مهلة وبهالة، وليس هما الملكين والملكان ببابل في بئر هناك يغشاها السحرة إلى أن تقوم الساعة. ومن ذلك الوقت عبدت الأصنام وقال قوم: كان الشيطان يظهر وينصبها لهم. وقال قوم: أوّل من نصبها بدوره وأوّل صنم أقامه صنم الشمس، وقال آخرون: بل النمرود الأوّل أمر الملوك بنصبها، وعبادتها وعديم أول من صلب، وذلك أن امرأة زنت برجل من أهل الصناعات، وكان لها زوج من أصحاب الملك، فأمر بصلبهما على منارين، وجعل ظهر كل واحد منهما إلى ظهر الآخر وزبر على المنارين اسمهما وما فعلاه، وتاريخ الوقت الذي عمل ذلك بهما فيه، فانتهى الناس عن الزنى وبنى أربع مداين، وأودعها صنوفا كثيرة من عجائب الأعمال والطلسمات، وكنز فيها كنوزا كثيرة وعمل في الشرق منارا وأقام على رأسه صنما موجها إلى الشرق مادّا يديه يمنع دواب البحر والرمال أن تتجاوز حدّه، وزبر في صدره تاريخ الوقت(1/61)
الذي نصبه فيه ويقال: إن هذا المنار قائم إلى وقتنا هذا. ولولا هذا لغلب الماء الملح من البحر الشرقيّ على أرض مصر وعمل على النيل قنطرة في أول بلد النوبة، ونصب عليها أربعة أصنام موجهة إلى أربع جهات الدنيا في يدي كل واحد من الأصنام حربتان يضرب بهما إذا أتاهم آت من تلك الجهة فلم تزل بحالها إلى أن هدمها فرعون موسى عليه السلام، وعمل البربا على باب النوبة، وهو هناك إلى وقتنا هذا، وعمل في إحدى المدائن الأربع التي ذكرناها حوضا من صوّان أسود مملوء ماء لا ينقص طول الدهر، ولا يتغيّر ماؤه لأنه اجتلب إليه من رطوبة الهواء، وكان أهل تلك الناحية، وأهل تلك المدينة يشربون منه ولا ينقص ماؤه، وعمل ذلك لبعدهم عن النيل.
وذكر بعض كهنة القبط أن ذلك الماء ثم لقربه من البحر الملح فإن الشمس ترفع بحرّها بخار البحر فينحصر من ذلك البخار جزء بالهندسة، أو بالسحر، وتجعله ينحط ذلك في ذلك الموضع بالجوهر مثل الظل، وتمدّه بالهواء فلا ينقص بذلك ماؤه على الدهر، ولو شرب منه العالم وعمل قدحا لطيفا على مثل هذا العمل، وأهداه حوميل الملك إلى إسكندر اليوناني وملكهم عديم مائة وأربعين سنة، ومات وهو ابن سبعمائة وثلاثين سنة، ودفن في إحدى المدائن ذات العجائب وقيل: في صحراء قفط.
وذكر بعض القبط أن ناووس عديم عمل في صحراء قفط على وجه الأرض تحت قبة عظيمة من زجاج أخضر برّاق معقود على رأسها كرة من ذهب عليها طائر من ذهب موشح بجوهر منشور الجناحين يمنع من الدخول إلى القبة، وكان قطرهما مائة ذراع في مثلها وجعل جسده في وسطها على سرير من ذهب مشبك، وهو مكشوف الوجه، وعليه ثياب منسوجة بالذهب المغروز بالجوهر المنظوم، وطول القبة أربعون ذراعا، وجعل في القبة مائة وسبعين مصحفا من مصاحف الحكمة وسبع موائد بأوانيها. منها مائدة من درّ رماني أحمر وأوانيها منها ومائدة من ذهب قلموني أوانيها منها، ومائدة من حجر الشمس المضيء بآنيتها وهو الزبرجد الذي إذا نظرت إليه الأفاعي سالت أعينها ومادة من كبريت أحمر مدبر بآنيتها، ومائدة من ملح أبيض مدبر برّاق بآنيتها ومائدة من زئبق معقود وجعل في القبة جواهر كثيرة وبرابي صنعة مدبرة، وحوله سبعة أسياف، وأتراس من حديد أبيض مدبر، وتماثيل أفراس من ذهب عليها سروج من ذهب، وسبعة توابيت من دنانير عليها صورته، وجعل معه من أصناف العقاقير والسمومات والأدوية في برابي من حجارة، وقد ذكر من رأى هذه القبة أنهم أقاموا أياما فما قدروا على الوصول إليها وأنهم إذا قصدوها، وكانوا منها على ثمانية أذرع دارت القبة عن أيمانهم أو عن شمائلهم.
ومن أعجب ما ذكروه أنهم كانوا يحاذون آزاجها أزجا «1» أزجا فلا يرون غير الصورة(1/62)
التي يرونها من الأزج الآخر على معنى واحد. وذكروا أنهم رأوا وجه الملك قدر ذراع ونصف بالكبير ولحيته كبيرة مكشوفة، وقدّروا طول بدنه عشرة أذرع وزيادة، وذكر هؤلاء الذين رأوها أنهم خرجوا لحاجة، فوجدوها اتفاقا. وأنهم سألوا أهل قفط عنها فلم يجدوا أحدا يعرفها سوى شيخ منهم.
وأوصى عديم الملك ابنه شداب بن عديم أن ينصب في كل حيز من أحياز ولايته منارا، ويزبر عليه اسمه فانحدر إلى الأشمونين، وعمل مناراتها وزبر عليها اسمه، وعمل بها ملاعب وعمل في صحرائها منارا أقام عليه صنما برأسين على اسم كوكبين كانا مقترنين في الوقت الذي خرج فيه إلى اتريب وبنى فيها قبة عظيمة مرتفعة على عمد وأساطين بعضها فوق بعض، وعلى رأسها صنما صغيرا من ذهب، وعمل هيكلا للكواكب، ومضى إلى حيز صا فعمل فيه منارا على رأسه مرآة من أخلاط تورى الأقاليم، ورجع وعمل شداب بن عديم هيكل ارمنت. وأقام فيه أصناما بأسماء الكواكب من جميع المعادن وزينه بأحسن الزينة، ونقشه بالجواهر والزجاج الملوّن وكساه الوشي والديباج، وعمل في المدائن الداخلة من أنصنا هيكلا وأقام فيه باتريب، وهيكلا شرقيّ الإسكندرية، وأقام صنما من صوّان أسود باسم زحل على عبرة النيل من الجانب الغربيّ وبنى في الجانب الشرقيّ مداين في إحداها صورة صنم قائم، وله إحليل إذا أتاه المعقود والمسحور ومن لا ينتشر ذكره فمسحه بكلتي يديه انتشر ذكره، وقوي على الباه وفي إحداها بقرة، لها ضرعان كبيران إذا انعقد لبن امرأة أتتها ومسحتها بيديها فإنه يدر لبنها، وجمع التماسيح بطلسم عمله بناحية أسيوط، فكانت تنصب من النيل إلى اخميم انصبابا فيقتلها ويستعملها جلودا في السفن وغيرها.
وعمل منقاوس الملك بيتا تدور به تماثيل بجميع العلل، وكتب على رأس كل تمثال ما يصلح من العلاج، فانتفع الناس بها زمانا إلى أن أفسدها بعض الملوك وعمل صورة امرأة مبتسمة لا يراها مهموم إلا زال همه ونسيه فكان الناس يتناوبونها، ويطوفون حولها ثم عبدوها من جملة ما عبدوه بعد ذلك.
وعمل تمثالا من صفر مذهب بجناحين لا يمرّ به زان ولا زانية إلا كشف عورته بيده، وكان الناس يمتحنون به الزناة فامتنعوا من الزنا فرقا منه. فلما ملك كلكن عشقت حظية عنده رجلا من خدمه، وخافت أن تمتحن بذلك الصنم. فأخذت في ذكر الزواني مع الملك وأكثرت من سبهنّ وذمّهنّ فذكر كلكن ذلك الصنم، وما فيه من المنافع. فقالت: صدق الملك غير أن منقاوس لم يصب في أمره لأنه أتعب نفسه وحكماءه فيما جعله لإصلاح العامة دون نفسه، وكان حكم هذا أن ينصب في دار الملك حيث يكون نساؤه وجواريه فإن اقترفت إحداهنّ ذنبا علم بها فيكون رادعا لهنّ متى عرض بقلوبهنّ شيء من الشهوة فقال:(1/63)
كلكن صدقت، وظنّ أن هذا منها نصح، فأمر بنزع الصنم من موضعه ونقله إلى داره، فبطل عمله وعملت المرأة ما كانت همت به.
وبنى هيكلا على جبل القصير للسحرة، فكانوا لا يطلقون الرياح للمراكب المقلعة إلا بضريبة يأخذونها منهم للملك.
وبنى مناوس بن منقاوس في صحراء الغرب مدينة بالقرب من مدينة السحرة تعرف:
بقنطرة ذات عجائب، وجعل بوسطها قبة عليها كالسحابة تمطر شتاء وصيفا مطرا خفيفا، وتحت القبة مطهرة فيها ماء أخضر يداوي به من كل داء فيبريه، وعمل في شرقيها بربا لطيفا له أربعة أبواب لكل باب عضادتان في كل عضادة صورة وجه يخاطب كل واحد منهما صاحبه بما يحدث في يومه فمن دخل البربا على غير طهارة نفخا في وجهه فأصابه رعدة فظيعة لا تفارقه حتى يموت. وكانوا يقولون: إن في وسطه مهبط النور في صورة العمود من اعتنقه لم يحتجب عن نظره شيء من الروحانية وسمع كلامهم، ورأى ما يعملون، وعلى كل باب من أبواب هذه المدينة صورة راهب في يده مصحف فيه علم من العلوم. فمن أحب معرفة ذلك العلم أتى تلك الصورة، فمسحها بيديه وأمرّهما على صدره فيثبت ذلك العلم في صدره. ويقال: إن هاتين المدينتين بنيتا على اسم هرمس، وهو عطارد وأنهما بحالهما (وحكي عن رجل أنه أتى عبد العزيز بن مروان، وهو أمير مصر، فعرّفه أنه تاه في صحراء الشرق، فوقع على مدينة خراب فيها شجرة تحمل كل صنف من الفاكهة، وأنه أكل منها وتزوّد فقال له رجل من القبط: هذه إحدى مدينتي هرمس، وفيها كنوز كثيرة فوجه عبد العزيز معه جماعة معهم ماء وزاد، فأقاموا يطوفون تلك الصحاري شهرا فلم يقفوا لها على أثر.
وعملت أم ميلاطس الملك بركة عظيمة في صحراء الغرب، وجعلت في وسطها عمودا طوله ثلاثون ذراعا، وفي أعلاه قصعة من حجارة يفور منها الماء فلا ينقص أبدا.
وجعلت حول البركة أصناما من حجارة ملونة على صور الحيوانات من الوحش، والطير والبهائم، فكان كل جنس يأتي إلى صورته ويألفها فيؤخذ باليد وينتفع به.
وعملت لابنها منتزها لأنه كان يحب الصيد، فجعلت فيه مجالس مركبة على أساطين من مرمر مصفّح بالذهب مرصع بالجوهر، والزجاج الملوّن وزخرفته بالتصاوير العجيبة، والنقوش فكان الماء يطلع من فوّارات وينصب إلى أنهار قد صفحت بالفضة تجري إلى حدائق فيها بديع الفروشات، وقد أقيم حولها تماثيل تصفر بأنواع اللغات، وأرخت على المجلس ستورا من ديباج، واختارت لابنها من حسان بنات عمه وبنات الملوك وزوجته وحولته إلى هذه الجنة وبنت حول الجنة مجالس للوزراء، والكهنة، وأشراف أهل الصناعات، فكانوا يرفعون إليه جميع ما يعملونه، فإذا فرغوا من أعمالهم حمل إليهم الطعام(1/64)
والشراب، وكان ميلاطس تقلد الملك بعد أبيه مرقوه وهو صبيّ وكانت أمه مدبرة الملك، وهي حازمة مجرّبة فأجرت الأمور على ما كانت عليه في حياة أبيه وأحسنت وعدلت في الرعية ووضعت عنهم بعض الخراج، وكانت أيامه سعيدة كلها في الخصب الكثير والسعة للناس والعدل، وكان له يوم يخرج فيه إلى الصيد، ويرجع إلى جنته فيأمر لكل من معه بالجوائز والأطعمة ويجلس للنظر يوما في مصالح الناس وقضاء حوائجهم ويخلو يوما بنسائه. وكان ملكه ثلاث عشرة سنة، وجدّر فمات.
وعمل فرسون بن قيلمون بن أتريب منارا على بحر القلزم، وعلى رأسه مرآة تجتذب بها المراكب إلى شاطىء البحر فلا يمكنها أن تبرح إلا أن تعشر فإذا عشرت سترت المرآة حتى تجوز المراكب، وأقام فرسون مائتي سنة وستين سنة؛ وعمل لنفسه ناووسا خلف الجبل الأسود الشرقي في وسطه قبة حولها اثنا عشر بيتا في كل بيت أعجوبة لا تشبه الأخرى، وزبر عليها اسمه ومدة ملكه.
وكا مرقونس الملك حكيما محبا للنجوم، والعلوم والحكمة، فعمل في أيامه درهما إذا ابتاع به صاحبه شيئا اشترط أن يزن له ما يبتاعه منه بوزن الدرهم، ولا يطلب عليه زيادة فيغترّ البائع بذلك ويقبل الشرط فإذا تم ذلك بينهما وقع في وزن الدرهم أرطال كثيرة تساوي عشرة أضعافه، وكان إذا أحب أن يدخل في وزنه أضعاف تلك الأرطال دخل، وقد وجد هذا الدرهم في كنوزهم ثم في خزائن بني أمية وكان الناس يتعجبون منه ووجدوا دراهم أخر، قيل: إنها عملت في وقته أيضا فيكون الدرهم منها في ميزان الرجل فإذا أراد أن يبتاع حاجة أخذ ذلك الدرهم، وقبله وقال: اذكر العهد وابتاع به ما أراد فإذا أخذ السلعة ومضى إلى بيته وجد الدرهم قد سبقه إلى منزله، ويجد البائع موضع ذلك الدرهم، ورقة آس أو قرطاسا أو مثل ذلك بدور الدرهم، وفي وقته عملت الآنية الزجاج التي توزن فإذا ملئت ماء أو غيره، ثم وزنت لم تزد عن وزنها الأوّل شيئا وعمل في وقته الآنية التي إذا جعل فيها الماء صار خمرا في لونه ورائحته وفعله، وقد وجد من هذه الآنية باطفيح في أمارة هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون شربة جزع بعروة زرقاء ببياض، وكان الذي وجدها أبو الحسن الصائغ الخراساني هو ونفر معه، فأكلوا على شاطىء النيل وشربوا بها الماء فوجدوه خمرا سكروا منه وقاموا ليرقصوا فوقعت الشربة، فانكسرت عدّة قطع؛ فاغتم الرجل وجاء بها إلى هارون فأسف عليها، وقال: لو كانت صحيحة لاشتريتها ببعض ملكي.
وأما الآنية النحاسية التي تجعل الماء خمرا، فإنها منسوبة إلى قلوبطرة «1» بنت بطليموس ملكة الإسكندرية فكثير، وفي وقته عملت الصور الحيثمية من الضفادع والخنافس(1/65)
والذباب والعقارب وسائر الحشرات، وكانت إذا جعلت في موضع اجتمع إليها ذلك الجنس، ولا يقدر على مفارقة تلك الصورة حتى يقتل، وكأنه يعمل أعماله كلها بصور درج الفلك وأسمائها، وطوالعها فيتم له من ذلك ما يريده.
وعمل في صحراء الغرب ملعبا من زجاج ملوّن في وسطه قبة من زجاج أخضر صافي اللون. فإذا طلعت عليه الشمس ألقت شعاعها على مواضع بعيدة وعمل في جوانبه الأربعة أربعة مجالس عالية من زجاج كل مجلس لون ونقش عليها بغير لونها طلسمات عجيبة، ونقوشات غريبة وصورا بديعة كل ذلك من زجاج مطلق يشف، وكان يقيم في هذا الملعب الأيام وعمل له ثلاثة أعياد في كل سنة. فكان الناس يحجون إليه في كل عيد ويذبحون له ويقيمون فيه سبعة أيام، ولم يزل هذا الملعب تقصده الأمم فإنه لم يكن له نظير، ولا عمل في العالم مثله إلى أن هدمه بعض الملوك لعجزه عن عمل مثله.
وكانت أم مرقونس ابنة ملك النوبة وكان أبوها يعبد الكوكب الذي يقال له السها ويسميه إلها. سألت ابنها أن يعمل لها هيكلا يفردها به، فعمله وصفحه بالذهب والفضة، وأقام فيه صنما وأرخى عليه الستور الحرير، فكانت تدخل إليه بجواريها وحشمها وتسجد له في كل يوم ثلاث مرّات، وعملت لكل شهر عيدا تقرّب له قرابين وتبخره ليله ونهاره، ونصبت له كاهنا من النوبة يقوم به ويقرّب له ويبخره، ولم تزل بابنها حتى سجد له، ودعي إلى عبادته. فلما رأى الكاهن الأمر في عبادة الكواكب قد تم وأحكم من جهة الملك أحب أن يكون لكوكب السّها مثالا في الأرض على صورة حيوان يتعبد له، فأقام بعمل الحيلة في ذلك إلى أن اتفق أن العقبان كثرت بمصر، وأضرّت بالناس فأحضر الملك هذا الكاهن وسأله عن سبب كثرتها، فقال: إن إلهك أرسلها لتعمل لها نظيرا ليسجد له.
فقال مرقونس: إن كان يرضيه ذلك، فأنا فاعله. فقال: إن ذلك رضاه، فأمر بعمل عقاب طوله ذراعان في عرض ذراع من ذهب مسبوك وعمل عينيه من ياقوتتين، وعمل له وشاحين من لؤلؤ منظوم على أنابيب جوهر أخضر، وفي منقاره درة معلقة وسرو له بالدرّ الأحمر، وأقامه على قاعدة من فضة منقوشة قد ركبت على قائمة زجاج أزرق، وجعله في أزج عن يمين الهيكل، وألقى عليه ستور الحرير وجعل له دخنة من جميع الأفاويه والصموغ وقرّب له عجلا أسود، وبكارة الفراريج، وباكورة الفواكه والرياحين. فلما تمت له سبعة أيام دعاهم إلى السجود إليه؛ فأجابه الناس، ولم يزل الكاهن يجهد نفسه في عبادة العقاب وعمل له عيدا. فلما تم لذلك أربعون يوما نطق الشيطان من جوفه. وكان أوّل ما دعاهم إليه أن ينجز له في إنصاف الشهور بالمندل، ويرش الهيكل بالخمر العتيقة التي تؤخذ من رؤوس الخوابي، وعرّفهم أنه قد أزال عنهم العقبان وضررها، وكذلك يفعل في غيرها مما يخافون. فسرّ الكاهن بذلك، وتوجه إلى أمّ الملك يعرّفها ذلك، فسارت إلى الهيكل(1/66)
وسمعت كلام العقاب فسرّها ذلك وأعظمته. وبلغ الملك فركب إلى الهيكل حتى خاطبه وأمره ونهاه فسجد له، وأقام له سدنة وأمر أن يزين بأصناف الزينة، وكان مرقونس يقوم بهذا الهيكل ويسجد لتلك الصورة، ويسألها عما يريد فتخبره. وعمل من الكيمياء ما لم يعمله أحد من الملوك فيقال: إنه دفن في صحراء الغرب خمسمائة دفين؛ ويقال: إنه عمل على باب مدينة صا عمودا عليه صنم في صورة امرأة جالسة وفي يدها مرآة تنظر إليها، وكان العليل يأتي إلى هذه المرأة وينظر فيها أو ينظر له أحد فيها فإن كان يموت من علته تلك رؤي ميّتا وإن كان يعيش رآه حيا، وينظر فيها أيضا للمسافر فإن رأوه مقبلا بوجهه علموا أنه راجع، وإن رأوه موليا علموا أنه يتمادى في سفره، وإن كان مريضا أو ميتا رأوه كذلك في المرآة.
وعمل بالإسكندرية صورة راهب جالس على قاعدة وعلى رأسه كالبرنس وفي يده كالعكاز فإذا مرّ به تاجر جعل بين يديه شيئا من المال على قدر بضاعته فإن تجاوزه ولو عن بعد من غير أن يضع بين يديه المال لم يقدر على الجواز وثبت قائما مكانه فكان يجتمع من ذلك مال عظيم يفرّق في الزمنى، والضعفاء والفقراء.
وعمل في زمنه كل أعجوبة ظريفة وأمر أن يزبر اسمه عليها وعلى كل علم وكل طلسم وكل صنم.
وعمل لنفسه ناووسا «1» في داخل الأرض عند جبل يقال له: سدام وعمل تحته أزجا يقال: إن طوله مائة ذراع وارتفاعه ثلاثون ذراعا وعرضه عشرون ذراعا، وصفحه بالمرمر، والزجاج الملوّن وسقفه بالحجارة، وعمل فيها دائرة مساطب مبلطة بزجاج على كل مسطبة أعجوبة وفي وسط الأزج دكة من زجاج على كل ركن من أركانها صورة تمنع الدنوّ إليها وبين كل صورتين منارة عليها حجر مضيء وفي وسط الدكة حوض من ذهب فيه جسده بعدما ضمده بالأدوية الماسكة، ونقل إليه ذخائره من الذهب والجوهر وغيره، وسدّ باب الأزج بالصخور والرصاص، وهيل عليها الرمال وكان ملكه ثلاثا وسبعين سنة وعمره مائتين وأربعين سنة، وكان جميلا ذا وفرة حسنة، فتنسكت نساؤه ولزمن الهيكل من بعده. وملك بعده ابنه إيساد، ثم صا بن إيساد. وقيل: صا بن مرقونس أخو إيساد فعمل مرآة في مدينة منف تري الأوقات التي تخصب فيها مصر وتجدب وبنى بداخل الواحات مدينة، ونصب قرب البحر أعلاما كثيرة.
وعمل خلف المقطم صنما يقال له: صنم الحيلة، فكان كل من تعذر عليه أمر يأتيه ويبخره فيتيسر ذلك الأمر له، وجعل بحافة البحر الملح منارا يعلم منه أمر البحر،(1/67)
وما يحدث فيه من أقصى ما يصل إليه البصر على مسيرة أيام. وهو أوّل من اتخذها ويقال:
إنه بنى أكثر مدينة منف وكل بنيان عظيم بالإسكندرية.
ولما ملك بدارس بن صا الأحياز كلها بعد أبيه، وصفا له ملك مصر بنى في غربي مدينة منف بيتا عظيما لكوكب الزهرة، وأقام فيه صنما عظيما من لازورد مذهب، وتوجّه بذهب يلوح بزرقة وسوّره بسوارين من زبرجد أخضر، وكان الصنم في صورة امرأة لها ضفيرتان من ذهب أسود مدبر. وفي رجليها خلخالان من حجر أحمر شفاف، ونعلان من ذهب وبيدها قضيب مرجان، وهي تشير بسبابتها كأنها مسلمة على من في الهيكل، وجعل بحذائها تمثال بقرة ذات قرنين، وضرعين من نحاس أحمر مموّه بذهب موشحة بحجر اللازورد، ووجّه البقرة تجاه وجه الزهرة، وبينهما مطهرة من أخلاط الأجساد على عمود رخام مجزع، وفي المطهرة ماء مدبر يستنشق به من كل داء وفرش الهيكل بحشيشة الزهرة يبدلونها في كل سبعة أيام، وجعل في الهيكل كراسي للكهنة قد صفحت بالذهب والفضة، وقرّب لهذا الصنم ألف رأس من الضأن والمعز والوحش والطير، وكان يحضر يوم الزهرة ويطوف به وفرش الهيكل وستره، وجعل فيه تحت قبة صورة رجل راكب على فرس له جناحان ومعه حربة في سنانها رأس إنسان معلق.
ولم يزل هذا الهيكل إلى أن هدمه بخت نصر في أيام ماليق بن تدارس، وكان موحدا على دين قبطيم ومصرايم خرج في جيش عظيم في البر والبحر فغزا البربر، وأرض إفريقية، وبلاد الأندلس وأرض الإفرنج إلى البحر، وعمل في البحر أعلا ما زبر عليها اسمه ومسيره، ورجع فهابه ملوك الأرض وكان في غربي مصر مدينة يقال لها: قرميدة بها قوم قد ملكوا عليهم امرأة ساحرة فغزاهم، فلم ينل منهم قصدا، ورجع فأرادت ملكتهم إفساد مصر، فعملت من سحرها وأمرت، فألقي في النيل ففاض الماء على المزارع حتى أفسدها وكثرت التماسيح والضفادع، وفشت الأمراض في الناس، وانبثت فيهم الثعابين والعقارب، فأحضر ماليق الكهنة والحكماء في دار حكمتهم وألزمهم بالنظر لذلك. فنظروا في نجومهم فرأوا أن هذه الآفة أتتهم من ناحية الغرب، وإنّ امرأة عملته وألقته في النيل، فعلموا حينئذ أنه من فعل تلك الساحرة، واجتهدوا في دفع ذلك بما عندهم من العلم حتى انكشف عنهم الماء الفاسد، وهلكت الدواب المضرة وجهزوا قائدا في جيش إلى المدينة فلم يجدوا بها غير رجل واحد فأخذوا من الأموال والجواهر والأصنام ما لا يحصى.
فمن ذلك صورة كاهن من زبرجد أخضر على قائمة من حجر الأسباديم، وصورة روحانيّ من ذهب رأسه من جوهر أحمر، وله جناحان من دور في يده مصحف فيه كثير من علومهم في دفتين مرصعتين بجوهر، ومطهرة من ياقوت أزرق على قاعدة زجاج أخضر فيها ماء لدفع الأسقام، وفرس من فضة إذا عزم عليه بعزائمه ودخن بدخنته وركبه أحد طار به(1/68)
فأحضر ذلك وغيره من عجائب السحرة وأصنامهم والأموال والجواهر إلى مصر، ومعهم الرجل، فسأله الملك عن أعجب أعمالهم قال: قصدهم بعض ملوك البربر بجمع كثيف، وتخاييل هائلة. فأغلق أهل مدينتنا حصنهم ولجوا إلى الأصنام، فأتى الكاهن إلى بركة عظيمة بعيدة القعر كانوا يشربون منها، فجلس على حافتها وأحاط رؤساء الكهنة بها. وأخذ يزمزم على الماء حتى فار وخرج من وسطه نار في وسطها وجه كدارة الشمس لها ضوء فخرّ الجماعة لها سجودا، وتلك الصورة تعظم حتى صعدت وخرقت القبة، وسمع منها قد كفيتم شرّ عدوّكم، فقاموا وإذا بعدوّهم قد هلك وسائر من معه وذلك أن صورة الشمس التي ظهرت من الماء مرّت فصاحت عليهم صيحة هلكوا بها.
ولما ملك كلكن مصر بعد أبيه خريبا؛ كان النمرود في وقته، فاتصل بنمرود خبر حكمته وسحره فاستزاره، ووجه إليه أن يلقاه، وكان النمرود يسكن سواد العراق وغلب على كثير من الأمم فأقبل كلكن على أربعة أفراس تحمله لها أجنحة قد أحاطب به كالنار، وحوله صور هائلة؛ فدخل بها وهو متوشح بثعبان ومحزم ببعضه وذلك التنين فأغرفاه، ومعه قضيب آس أخضر كلما حرّك التنين رأسه ضربه بالقضيب، فلما رأى النمرود ذلك هاله، واعترف له بجليل الحكم.
وتقول القبط: إن كلكن كان يرتفع فيجلس على الهرم الغربيّ في قبة تلوح على رأسه، وكان أهل البلد إذا دهمهم أمر اجتمعوا حول الهرم، ويقولون: إنه ربما أقام على رأس الهرم أياما لا يأكل ولا يشرب، ثم إنه استتر مدّة حتى توهموا أنه هلك فطمع الملوك في مصر.
وقصدها ملك من المغرب. يقال له: سادوم في جيش عظيم إلى أن بلغ وادي هيبب، فأقبل كلكن وجللهم من سحره بشيء كالغمام شديد الحرارة، وهم تحته أياما لا يدرون أين يتوجهون، ثم ارتفع وصار بمصر يعرّفهم ما عمل وأمرهم، فخرجوا. فإذا بالقوم ودوابهم قد ماتوا فهابه جميع الكهنة وصوّروه في سائر الهياكل وبنى هيكلا لزحل من صوان أسود في ناحية الغرب وجعل له عيدا.
(وفي أيام دارم بن الريان) وهو الفرعون الرابع الذي يقال له عند القبط: دريموش، ظهر معدن فضة على ثلاثة أيام من النيل فأثاروا منه شيئا عظيما وعمل صنما على اسم القمر لأن طالعه كان برج السرطان، ونصبه على القصر الرخام الذي بناه أبوه في شرقيّ النيل، ونصب حوله أصناما كلها من الفضة وألبسها الحرير الأحمر، وعمل للصنم عيدا كلما دخل برج السرطان. ولمّا ولى اكسايس الملك بعد أبيه معدان بن معاديوس بن دارم بن دريموس وهو الفرعون السادس أقام أعلاما كثيرة حول منف، وجعل عليها أساطين يمشي من بعضها إلى بعض، وعمل برقودة وصا ومدائن الصعيد، وأسفل الأرض أعلاما، ومنائر للوقود،(1/69)
وطلسمات كثيرة، وعمل كودة من فضة ونقش عليها صورة الكواكب ودهنها بالدهن الصينيّ، وأقامها على منار في وسط منف، وعمل في هيكل أبيه روحاني زحل من ذهب أسود مدبر، وعمل في وقته ميزانا يعتبر به الناس كفتاه من ذهب، وعلاقته من فضة، وسلاسله من ذهب فكان معلقا في هيكل الشمس، وكتب على إحدى كفتيه: حق، والأخرى: باطل، وتحته فصوص قد نقش عليها أسماء الكواكب، فيدخل الظالم والمظلوم يأخذ كل منهما فصا من تلك الفصوص ويسمى عليه ما يريده، ويجعل أحد الفصين في كفة، والآخر في كفة، فتثقل كفة الظالم، وترتفع كفة المظلوم، ومن أراد سفرا أخذ فصين وذكر على أحدهما اسم السفر، وعلى الآخر الإقامة، وجعل كل واحد في كفة فإن ثقلا جميعا ولم يرتفع أحدهما على الآخر لم يسافر، وإن ارتفعا سافر، وإن ارتفع أحدهما أخر السفر، ثم سافر وكذا من عليه دين ومن له غائب أو ينظر في صلاح أمره وفساده.
ويقال: إن بخت نصر لمّا دخل إلى مصر حمل هذا الميزان معه فيما حمل إلى بابل، وجعله في بيت من بيوت النار. وعمل في أيامه تنورا أيضا يشوي فيه من غير نار، ويطبخ فيه بغير نار، وسكينا تنصب فإذا رآها شيء من البهائم أقبل حتى يذبح نفسه بها. وعمل ماء يستحيل نارا وزجاجا يستحيل هواء، وشيئا من النيرنجيات والنواسيس.
(وأما البرابي) فذكر ابن وصف شاه: أن سوريد الذي بنى الأهرام هو الذي بنى البرابي كلها، وعمل فيها الكنوز وزبر عليها علوما ووكل بها روحانية تحفظها ممن يقصدها.
وقال في كتاب الفهرست: وبمصر أبنية يقال لها: البرابي من الحجارة العظيمة الكبيرة، وهي على أشكال مختلفة، وفيها مواضع الصحن والسحق والحل والعقد والتقطير تدل على أنها عملت لصناعة الكيمياء، وفي هذه الأبنية نقوش وكتابات لا يدرى ما هي وقد أصيبت تحت الأرض فيها هذه العلوم مكتوبة في التوز، وهي صفائح الذهب والنحاس وفي الحجارة.
وذكر الحسن بن أحمد الهمداني أن برابي مصر تنسب إلى براب بن الدرمسيل بن نحويل بن خنوخ بن قار بن آدم عليه السلام.
وذكر أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني، في كتاب الإشارات الباقية عن القرون الخالية: أن كنيسة في بعض قرى مصر قد شاهدها الموثوق بقولهم المأخوذ برأيهم المأمون من جهتهم الرواية عنهم فيها سرداب ينزل إليه بنيف وعشرين مرقاة، وفيه سرير تحته رجل وصبيّ مشدودين في نطع وفوقه ثور رخام في جوفه باطية زجاج يدخلها قنينة من نحاس في جوفها فتيلة كتان توقد فيصب فيها زيت فلا يلبث إلا أن تمتلىء الباطية الزجاج زيتا، وتفيض إلى الثور الرخام، فينفق على تلك الكنيسة وقناديلها.(1/70)
وذكر الجهانيّ: أنه صار إليه من وثق به ورفع الباطية عن الثور وأفرغ الزيت من الباطية والثور جميعا وأطفأ النار وأعادها جميعا إلا الزيت فإنه صبّ زيتا من عنده وأبدله فتيلة أخرى وأشعلها، فما لبث الزيت أن فاض إلى الباطية الزجاج ثم فاض إلى الثور الرخام من غير مدد ولا عنصر.
وذكر الجهانيّ: أنه إذا أخرج الميت من تحت السرير انطفأت النار، ولم يفض الزيت.
وذكر عن أهل القرية: أن المرأة المتوهمة في نفسها حملا تحمل ذلك الصبيّ، وتضعه في حجرها فيتحرّك ولدها في البطن إن كان الحمل حقيقة، أو تيأس إن لم تحس بحركة.
قال المؤلف رحمه الله: أخبرني داود بن رزق الله بن عبد الله وكانت له سياحات كثيرة بأراضي مصر ومعرفة أحوالها أنه عبر في مغارة كبيرة يقال لها: مغارة شقلقيل بالوجه القبلي فإذا فيها كوم عظيم من سندروس وأنه تخطاه ومضى فإذا شيء كثير إلى الغاية من السمك، وجميعها ملفوفة بثياب كأنها قد كفنت بعد الموت، وأنه أخذ منها سمكة وفتشها فإذا في فمها دينار عليه كتابة لا يحسن قراءتها. وأنه صار يأخذها سمكة سمكة، ويخرج من فم كل واحدة دينارا حتى اجتمع له من ذلك عدّة دنانير. وأنه أخذ تلك الدنانير ورجع ليخرج حتى جاء إلى الكوم السندروس، وإذا به ارتفع حتى سدّ عليه الموضع، فعاد إلى السمك، وأعاد الدنانير إلى مواضعها، وخرج فإذا السندروس كما كان أوّلا بحيث يتجاوزه، ويخرج. فعاد وأخذ الدنانير، ومشى يخرج بها فإذا السندروس قد ارتفع حتى سدّ عليه الموضع. فعاد إلى السمك، وأعاد الدنانير إلى موضعها، وخرج فإذا السندروس على حاله كما كان أوّلا بحيث يتجاوزه ويخرج. وأنه كرّر أخذ الدنانير، وإعادتها مرارا.
والحال على ما ذكر حتى خشي الهلاك، فتركها وخرج. فلما كان مدّة سكن موضعها، فرأى حجلا في جدار، وقد قوّر، ووضع حجر آخر فحاول الحجر الآخر حتى رفعه فإذا تحته ستة دنانير من تلك الدنانير التي وجدها في أفواه السمك، فأخذ منها واحدا وترك البقية في موضعها، وأعاد الحجر على الحجر، وقدّر الله بعد ذلك أنه ركب النيل ليعدّي من البرّ الشرقيّ إلى البرّ الغربيّ.
قال: فلما توسط البحر وإذا بالأسماك تثب من الماء، وتلقي أنفسها في المركب حتى كدنا نغرق من كثرتها، فصاح الركاب خوفا من الهلاك قال: فتذكرت الدينار الذي معي، وأنّ هذا ربما كان بسببه فأخرجته من جيبي وألقيته في الماء فتواثبت الأسماك من المركب، وألقت نفسها في الماء حتى لم يبق منها شيء.(1/71)
قلت: وأخبرني قديما بعض من لا أتهمه أنه، ظفر بطلسم من هذا المعنى، وأنه عنده وأراد أن يريني السمك يثب من الماء فلم يقدر لي أن أرى ذلك.
قال ابن عبد الحكم: لما أغرق الله آل فرعون، بقيت مصر بعد غرقهم ليس فيها من أشراف أهلها أحد. ولم يبق بها إلا العبيد، والأجراء والنساء. فاتفق من بمصر من النساء أن يولين منهم أحدا، وأجمع رأيهنّ أن يولينّ امرأة منهنّ يقال لها: دلوكة بنت زبا، وكان لها عقل ومعرفة وتجارب، وكانت في شرف منهنّ وموضع وهي يومئذ بنت مائة وستين سنة.
فملكوها، فخافت أن يتناولها الملوك فجمعت نساء الأشراف، وقالت لهنّ: إنّ بلادنا لم يكن يطمع فيها أحد ولا يمدّ عينه إليها، وقد هلك أكابرنا وأشرافنا وذهب السحرة الذين كنا نقوى بهم، وقد رأيت أن أبني حصنا أحدق به جميع بلادنا، فأضع عليه المحارس من كل ناحية فإنا لا نأمن من أن يطمع فينا الناس، فبنت جدارا أحاطت به على جميع أرض مصر كلها، المزارع والمدائن والقرى، وجعلت دونه خليجا يجري فيه الماء، وأقامت القناطر والترع، وجعلت فيه محارس ومسالح على كل ثلاثة أميال محرس ومسلحة، وفيما بين ذلك محارس صغار على كل ميل، وجعلت في كل محرس رجالا وأجرت عليهم الأرزاق، وأمرتهم أن يحرسوا بالأجراس فإذا أتاهم آت يخافونه ضرب بعضهم إلى بعض الأجراس، فأتاهم الخبر من أي وجه كان في ساعة واحدة، فنظروا في ذلك فمنعت بذلك مصر من أرادها وفرغت من بنائه في ستة أشهر، وهو الجدار الذي يقال له: جدار العجوز بمصر، وقد بقيت بالصعيد منه بقايا كثيرة.
قال المسعودي وقيل: إنما ينته خوفا على ولدها، وكان كثير القنص فخافت عليه سباع البرّ والبحر، واغتيال من جاور أرضهم من الملوك والبوادي، فحوّطت الحائط من التماسيح، وغيرها. وقد قيل غير ما وصفنا. فملكتهم ثلاثين سنة في قول. قال المؤلف رحمه الله: قد بقي من حائط العجوز هذا في بلاد الصعيد بقايا. أخبرني الشيخ المعمر محمد بن المسعودي: أنه سار في بلاد الصعيد على حائط العجوز ومعه رفقة فاقتلع أحدهم منها لبنة فإذا هي كبيرة جدا تخالف المعهود الآن من اللبن في المقدار، فتناولها القوم واحدا بعد واحد يتأمّلونها، وبينما هم في رؤيتها إذ سقطت إلى الأرض، فانفلقت عن حبة فول في غاية الكبر الذي يتعجب منه لعدم مثله في زماننا، فقشروا ما عليها فوجدوها سالمة من السوس، والعيب، كأنها قريبة عهد بحصادها لم يتغير فيها شيء البتة فأكلها الجماعة قطعة قطعة. وكأنها إنما خبئت لهم من الزمن القديم، والأعصر الخالية. إنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها.
قال ابن عبد الحكم: وكان ثم عجوز ساحرة يقال لها: بدور وكانت السحرة تعظمها، وتقدّمها في علمهم وسحرهم فبعثت إليها دلوكة ابنة زبا: إنا قد احتجنا إلى سحرك، وفزعنا(1/72)
إليك، ولا نأمن أن يطمع فينا الملوك، فاعملي لنا شيئا نغلب به من حولنا. فقد كان فرعون يحتاج إليك، فكيف وقد ذهب أكابرنا، يعني في الغرق مع فرعون موسى وبقي أقلنا، فعملت بربا من حجارة في وسط مدينة منف، وجعلت لها أربعة أبواب كل باب منها إلى جهة القبلة، والبحر والغرب والشرق، وصوّرت فيه صور الخيل، والبغال والحمير والسفن والرجال، وقالت لهم: قد عملت لكم عملا يهلك به كل من أرادكم من كل جهة تؤتون منها برّا أو بحرا، وهذا يغنيكم عن الحصن، ويقطع عنكم مؤنة من أتاكم من كل جهة فإنهم إن كانوا في البرّ على خيل أو بغال أو إبل أو في سفن أو رجالة، تحركت هذه الصور من جهتهم التي يأتون منها فما فعلتم بالصور من شيء أصابهم ذلك في أنفسهم على ما تفعلون بهم. فلما بلغ الملوك حولهم أنّ أمرهم قد صار إلى ولاية النساء، طمعوا فيهم، وتوجهوا إليهم، فلما دنوا من عمل مصر تحرّكت تلك الصور التي في البربا فطفقوا لا يهيجون تلك الصور بشيء، ولا يفعلون بها شيئا إلا أصاب ذلك الجيش الذي كان أقبل إليهم مثله إن كان خيلا. فما فعلوا بتلك الخيل المصوّرة في البربا من قطع رؤوسها أو سوقها أو فقء عيونها أو بقر بطونها أثر مثل ذلك بالخيل التي أرادتهم، وإن كانت سفنا أو رجالة، فمثل ذلك وكانوا أعلم الناس بالسحر، وأقواهم عليه وانتشر ذلك فتبادرهم الناس، وكان نساء أهل مصر حين غرق فرعون وقومه، ولم يبق إلا العبيد والأجراء لم يصبرن عن الرجال. فطفقت المرأة تعتق عبدها، وتتزوّجه وتتزوّج الأخرى أجيرها، وشرطن على الرجال أن لا يفعلوا شيئا إلا بإذنهنّ، فأجابوهنّ في ذلك فكان أمر النساء على الرجال.
قال يزيد بن حبيب: إنّ نساء القبط على ذلك إلى اليوم اتباعا لمن مضى منهم. لا يبيع أحد منهم، ولا يشتري إلا قال: استأمر امرأتي فملكتهم دلوكة بنت زبا عشرين سنة. تدبر أمرهم بمصر حتى بلغ صبيّ من أبناء أكابرهم، وأشرافهم يقال له: دركون بن بلوطس، فملكوه عليهم فلم تزل مصر ممتنعة بتدبير تلك العجوز نحوا من أربعمائة سنة.
وكلما انهدم من ذلك البربا الذي صوّر فيه الصور لم يقدر أحد على إصلاحه إلا تلك العجوز، وولدها وولد ولدها، وكانوا أهل بيت لا يعرف ذلك غيرهم فانقطع أهل ذلك البيت، وانهدم من البربا موضع في زمان لقاس بن مرنيوس. فلم يقدر أحد على إصلاحه، ومعرفة علمه وبقي على حاله وانقطع ما كان يقهرون به الناس. وبقوا كغيرهم إلا أنّ الجمع كثير والمال عندهم. فلما قدم بخت نصر بيت المقدس وظهر على بني إسرائيل، وسباهم، وخرج بهم إلى أرض بابل قصد مصر، وخرب مدائنها، وقراها، وسبى جميع أهلها ولم يترك بها شيئا، حتى بقيت مصر أربعين سنة خرابا ليس فيها ساكن يجري نيلها ويذهب لا ينتفع به ثم ردّ أهل مصر إليها بعد أربعين سنة، فعمروها ولم تزل مقهورة من يومئذ.(1/73)
وقال بعض الحكماء: رأيت البرابي وأخذت أتأملها، فوجدتها مستحكمة على جميع أشكال الفلك، والذي ظهر لي أنه لم يعملها حكيم واحد بل تولى عملها قوم بعد قوم، حتى تكاملت في دور كامل. وهو ستة وثلاثون ألف سنة شمسية، لأنّ مثل هذه الأعمال لا تعمل إلا بالأرصاد، ولا يتكامل رصد المجموع في أقل من هذه المدّة المذكورة، وكانوا يجعلون الكتاب حفرا، ونقرا في الصخور، ونقشا في الحجارة، وحلقة مركبة في البنيان، وربما كان الكتاب هو الحفر إذا كان متضمنا لأمر جسيم، أو عهدا لأمر عظيم، أو موعظة يرتجى نفعها أو إحياء شرف يريدون تخليد ذكره.
وقد كتب غير المصريين كذلك كما كتبوا على قبة غمدان، وعلى باب القيروان، وعلى باب سمرقند، وعلى عمود مأرب، وعلى ركن المستقرّ، وعلى الأبلق المفرد، وعلى باب الرها، وكانوا يعمدون إلى الأماكن الشريفة، والمواضع المذكورة فيضعون الخط في أبعد المواضع من الدثور وأمنعها من الدروس، وأجدر أن يراها من مرّ بها، ولا ينسى على طول الدهر.
وقال المسعوديّ: واتخذت دلوكة بمصر البرابي والصور وأحكمت آلات السحر، وجعلت في البرابي صور من يرد من كل ناحية ودوابهم إبلا كانت أو خيلا، وصورت فيها من يرد من البحر في المراكب من بحر الغرب، والشام وجمعت في هذه البرابي العظيمة المشيدة البنيان أسرار الطبيعة، وخواص الأحجار، والنباتات والحيوانات، وجعلت ذلك في أوقات فلكية واتصالها بالمؤثرات العلوية، وكانوا إذا ورد إليهم جيش من نحو الحجاز، واليمن عوّرت تلك الصور التي في البريا من الإبل وغيرها فيتعوّر ما في ذلك الجيش وينقطع عنهم ناسه، وحيوانه وإذا كان الجيش من نحو الشام فعل في تلك الصور التي من تلك الجهة التي أقبل منها جيش الشام ما فعل بما وصفنا. فيحدث في ذلك الجيش من الآفات في ناسه وحيوانه ما صنع في تلك الصور التي من تلك الجهة، وكذلك من ورد من جيوش الغرب، ومن ورد في البحر من رومية والشام، وغير ذلك من الممالك. فهابهم الملوك والأمم ومنعوا ناحيتهم من عدوّهم واتصل ملكهم بتدبير هذه العجوز وإتقانها لزمّ أقطار المملكة وأحكامها السياسية.
وقد تكلم من سلف وخلف في هذه الخواص وأسرار الطبيعة التي كانت ببلاد مصر وهذا الخبر من فعل العجوز مستفيض لا يشكون فيه والبرابي بمصر من صعيدها وغيره باقية إلى هذا الوقت وفيها أنواع الصور مما إذا صوّرت في بعض الأشياء أحدثت أفعالا على حسب ما رسمت له، وصنعت من أجله على حسب قولهم في الطبائع والله أعلم بكيفية ذلك.
قال: وأخبرني غير واحد من بلاد اخميم من صعيد مصر عن أبي الفيض ذي النون بن(1/74)
إبراهيم المصريّ «1» الإخميميّ الزاهد: وكان حكيما وكانت له طريقة يأتيها، ونحلة يقصدها، وكان ممن يقرّ على أخبار هذه البرابي وامتحن كثيرا مما صوّر فيها ورسم عليها من الكتابة، والصور، قال: رأيت في بعض البرابي كتابا تدبرته فإذا هو: احذر العبيد المعتقين، والأحداث والجند المتعبدين، والنبط المستعربين، ورأيت في بعضها كتابا تدبرته فإذا فيه: يقدّر المقدّر والقضاء يضحك. وفي آخره كتابة تثبتها في ذلك العلوم فوجدتها:
تدبر بالنجوم ولست تدري ... ورب النجم يفعل ما يريد
قال: وكانت هذه الأمة التي اتخذت هذه البرابي لهجة بالنظر في أحكام النجوم من المواظبين على معرفة أسرار الطبيعة، وكان عندها مما دلت عليه أحكام النجوم: أنّ طوفانا سيكون في الأرض، ولم يقطع على ذلك الطوفان ما هو؟ أنار تأتي على الأرض فتحرق ما عليها؟ أو ماء يغرقها، أو سيف يبيد أهلها، فخافت دثور العلوم، وفناءها بفناء أهلها، فاتخذت هذه البرابي ورسمت فيها علومها من الصور والتماثيل والكتابة، وجعلت بنيانها نوعين طينا وحجارة وفرزت ما بني بالطين مما بني بالحجارة، وقالت: إن كان هذا الطوفان نارا استحجر ما بني بالطين، وإن كان الطوفان الوارد ماء أذهب ما بنينا بالطين، ويبقى ما بني بالحجارة، وإن كان الطوفان سيفا بقي كل من النوعين مما هو من الطين وما هو من الحجر. وهذا ما قيل، والله أعلم. إنه كان قبل الطوفان، وإنّ الطوفان الذي كانوا يرقبونه ولم يعينوه أنار هو أم ماء أم سيف. كان سيفا أتى على جميع أهل مصر من أمّة غشيتها، وملك نزل عليها فأباد أهلها.
ومنهم من رأى أن ذلك الطوفان كان وباء عمّ أهلها. ومصداق ذلك ما يوجد ببلاد تنيس من التلال المتقذرة من الناس من صغير وكبير، وذكر وأنثى، كالجبال العظام، وهي المعروفة ببلاد تنيس من أرض مصر بذات الكوم، وما يوجد ببلاد مصر، وصعيدها من الناس المنكسين بعضهم على بعض في الكهوف والغيران والنواويس، ومواضع كثيرة من الأرض لا يدرى من أي الأمم هم، فلا النصارى تخبر عنهم أنهم من أسلافهم، ولا اليهود تقول إنهم من أوائلهم ولا المسلمون يدرون من هؤلاء، ولا تاريخ ينبئ عن حالهم، وعليهم أثوابهم وكثيرا ما يوجد في تلك البرابي والجبال من حليتهم. والبرابي ببلاد مصر بنيان قاتم عجيب كالبربا التي بأخميم والتي بسمنود وغير ذلك.(1/75)
ذكر الدفائن والكنوز التي تسميها أهل مصر المطالب
الأصل في جواز تتبع الدفائن ما رواه أبو عمرو بن عبد البر والبيهقيّ في الدلائل من حديث ابن عباس.
أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، لما انصرف من الطائف مرّ بقبر أبي رغال «1» فقال: «هذا قبر أبي رغال، وهو أبو ثقيف» . كان إذا هلك قوم صاح في الحرم فمنعه الله. فلما خرج من الحرم رماه بقارعة، وآية ذلك أنه دفن معه عمود من ذهب فابتدر المسلمون قبره فنبشوه واستخرجوا العمود منه.
ومن حديث عبد الله بن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول حين خرجنا معه إلى الطائف فمررنا بقبر، فقال: «هذا قبر أبي رغال وكان بهذا الحرم يدفع عنه، فلما أخرج أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان فدفن فيه وآية ذلك أنه دفن معه عصا من ذهب إن نبشتم عليه أصبتموه معه» ، فابتدره الناس فأخرجوا العصا الذي كان معه.
وبمصر كنوز يوسف عليه السلام، وكنوز الملوك من قبله، والملوك من بعده لأنه كان يكنز ما يفضل عن النفقات، والمؤن لنوائب الدهر، وهو قول الله عز وجل: فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ
[الشعراء/ 58] ويقال: إن علم الكنوز في كنيسة القسطنطينية نقلت إليها من طليطلة.
ويقال: إنّ الروم لما خرجت من الشام ومصر، اكتنزت كثيرا من أموالها في مواضع أعدّتها لذلك، وكتبت كتبا بأعلام مواضعها، وطرق الوصول إليها، وأودعت هذه الكتب قسطنطينية، ومنها يستفاد معرفة ذلك، وقيل: إن الروم لم تكتب، وإنما ظفرت بكتب معالم كنوز من ملك قبلها من اليونانيين، والكلدانيين، والقبط. فلما خرجوا من مصر والشام، حملوا تلك الكتب معهم، وجعلوها في الكنيسة وقيل: إنه لا يعطى من ذلك أحد حتى يخدم الكنيسة مدّة. فيدفع إليه ورقة تكون حظه.
قال المسعوديّ: ولمصر أخبار عجيبة من الدفائن والبنيان، وما يوجد في الدفائن من ذخائر الملوك التي استودعوها الأرض، وغيرهم من الأمم ممن سكن تلك الأرض. وتدعى بالمطالب إلى هذه الغاية وقد أتينا على جميع ذلك فيما سلف من كتبنا.(1/76)
(فمن أخبارها) ما ذكره يحيى بن بكير قال: كان عبد العزيز بن مروان، عاملا على مصر لأخيه عبد الملك بن مروان، فأتاه رجل متنصح فسأله عن نصحه فقال: بالقبة الفلانية كنز عظيم. قال عبد العزيز: وما مصداق ذلك. قال: هو أن يظهر لنا بلاط من المرمر والرخام عند يسير من الحفر. ثم ينتهي بنا الحفر إلى باب من الصفر تحته عمود من الذهب على أعلاه ديك عيناه ياقوتتان تساويان ملك الدنيا، وجناحاه مضرجان بالياقوت، والزمرد «1» ورأسه على صفائح من الذهب على أعلى ذلك العمود، فأمر له عبد العزيز بنفقة لأجرة من يحفر من الرجال في ذلك ويعمل فيه. وكان هناك تل عظيم، فاحتفروا حفيرة عظيمة في الأرض، والدلائل المقدّم ذكرها من الرخام والمرمر تظهر فازداد عبد العزيز حرصا على ذلك، وأوسع في النفقة وأكثر من الرجالة، ثم انتهوا في حفرهم إلى ظهور رأس الديك، فبرق عند ظهوره لمعان عظيم. لما في عينيه من الياقوت، ثم بان جناحاه، ثم بانت قوائمه، وظهر حول العمود عمود من البنيان بأنواع الحجارة، والرخام وقناطر مقنطرة، وطاقات على أبواب معقودة، ولاحت منها تماثيل، وصور أشخاص من أنواع الصور الذهب وأجرنة من الأحجار قد أطبق عليها أغطيتها، وسبكت.
فركب عبد العزيز بن مروان، حتى أشرف على الموضع، فنظر إلى ما ظهر من ذلك فأسرع بعضهم، ووضع قدمه على درجة من نحاس ينتهي إلى ما هناك، فلما استقرّت قدماه على المرقاة ظهر سيفان عاديان عن يمين الدرجة، وشمالها فالتقيا على الرجل فلم يدرك حتى جزآه قطعا وهوى جسمه سفلا. فلما استقرّ جسمه على بعض الدرج اهتز العمود، وصفر الديك صفيرا عجيبا أسمع من كان بالبعد من هناك، وحرّك جناحيه، وظهرت من تحته أصوات عجيبة، قد عملت بالكواكب والحركات إذا مال وقع على بعض تلك الدرج شيء أو ماسها شيء انقلبت فتهاوى من هناك من الرجال إلى أسفل تلك الحفرة، وكان فيها ممن يحفر ويعمل وينقل التراب، وينظر ويحوّل ويأمر وينهي نحو ألف رجل. فهلكوا جميعا، فخرج عبد العزيز وقال: هذا ردم عجيب الأمر ممنوع النيل نعوذ بالله منه وأمر جماعة من الناس فطرحوا ما أخرج من هناك من التراب على من هلك من الناس. فكان الموضع قبرا لهم.
قال المسعودي: وقد كان جماعة من أهل الدفائن والمطالب ومن قد اعتنى وأغرى بحفر الحفائر، وطلب الكنوز وذخائر الملوك والأمم السالفة المستودعة بطن الأرض ببلاد مصر، قد وقع إليهم كتاب ببعض الأقلام السالفة فيه وصف موضع ببلاد مصر على أذرع يسيرة من بعض الأهرام بأن فيه مطلبا عجيبا، فأخبروا الإخشيد محمد بن طفج «2» بذلك(1/77)
فأمرهم بحفره، وأباحهم استعمال الحيلة في إخراجه، فحفروا حفرا عظيما إلى أن انتهوا إلى أزج وأقباء وحجارة مجوّفة في صخرة منقورة فيها تماثيل قائمة على أرجلها من الخشب قد طلي بالأطلية المانعة من سرعة البلاء وتفرّق الأجزاء والصور مختلفة فيها صور شيوخ وشبان ونساء وأطفال. أعينهم من أنواع الجواهر كالياقوت والزمرد والزبرجد والفيروزج، ومنها ما وجوهها ذهب، وفضة فكسر بعض تلك التماثيل فوجدوا في أجوافها رمما بالية، وأجساما فانية، وإلى جانب كل تمثال منها نوع من الأبنية كالبراني وغيرها من المرمر والرخام، وفيه من الطلي الذي قد طلي منه ذلك الميت الموضوع في التماثيل الخشب والطلاء دواء مسحوق، وأخلاط معمولة لا رائحة لها، فجعل منه على النار شيء ففاح منه ريح طيبة مختلفة لا تعرف في نوع من أنواع الطيب. وقد جعل كل تمثال من الخشب على صورة ما فيه من الناس على اختلاف أسنانهم، ومقادير أعمارهم، وتباين صورهم، وبإزاء كل تمثال تمثال من الحجر المرمر، أو من الرخام الأخضر على هيئة الصنم على حسب عبادتهم للتماثيل والصور. عليها أنواع من الكتابات لم يقف أحد على استخراجها من أهل الملل، وزعم قوم من أهل الدراية أن لذلك القلم منذ فقد من أرض مصر. أربعة آلاف سنة، وفيما ذكرناه دلالة على أن هؤلاء ليسوا بيهود ولا نصارى ولم يؤدّهم الحفر إلا لما ذكرناه من هذه التماثيل، وكان ذلك في سنة ثمان وعشرين وثلثمائة، وقد كان من سلف وخلف من ولاة مصر. من أحمد بن طولون وغيره، إلى هذا الوقت وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة، لهم أخبار عجيبة فيما استخرج في أيامهم من الدفائن، والأموال والجواهر، وما أصيب في هذه المطالب من القبور، وقد أتينا على ذكرها فيما تقدّم من تصنيفنا.
(وركب) أحمد «1» بن طولون يوما إلى الأهرام، فأتاه الحجاب بقوم عليهم ثياب صوف، ومعهم المساحي والمعاول، فسألهم عن ما يعملون فقالوا: نحن قوم نطلب المطالب، فقال لهم: لا تخرجوا بعدها إلا بمشورتي أو رجل من قبلي وأخبروه أنّ في سمت الأهرام مطلبا قد عجزوا عنه فضم إليهم الرافقي وتقدّم إلى عامل الجيزة في إعانتهم بالرجال والنفقات، وانصرف فأقاموا مدّة يعملون حتى ظهر لهم، فركب أحمد بن طولون إليهم وهم يحفرون، فكشفوا عن حوض مملوء دنانير، وعليه غطاء مكتوب عليه بالبربطية فأحضر من قرأه: فإذا فيه أنا فلان بن فلان الملك الذي ميز الذهب من غشه ودنسه فمن أراد أن يعلم فضل ملكي على ملكه فلينظر إلى فضل عيار ديناري على عيار ديناره، فإن مخلص الذهب من الغش مخلص في حياته وبعد وفاته، فقال أحمد بن طولون: الحمد لله أنّ ما(1/78)
نبهتني عليه هذه الكتابة أحبّ إليّ من المال، ثم أمر لكل من القوم المطالبية بمائتي دينار منه ولكل من الصناع بخمسة دنانير بعد توفية أجرة عمله، وللرافقي بثلاثمائة دينار، ولنسيم الخادم بألف دينار وحمل باقي الدنانير، فوجدها أجود من كل عيار، وشدّد من حينئذ في العيار بمصر. حتى صار عيار ديناره الذي عرف بالأحمديّ أجود عيار، وكان لا يطلى إلا به.
ذكر هلاك أموال أهل مصر
قال الله عز وجل: وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما
[يونس/ 88- 89] هذا دعاء من موسى عليه السلام، على فرعون وقومه من أهل مصر، لكفرهم أن يهلك الله أموالهم. قال الزجاج: طمس الشيء: إذهابه عن صورته.
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وعن محمد بن كعب القرظي أنهما قالا:
صارت أموال أهل مصر ودراهمهم حجارة منقوشة كهيئتها صحاحا، وأثلاثا وأنصافا، فلم يبق معدن إلا طمس الله عليه فلم ينتفع به أحد بعدهم. وقال قتادة: بلغنا أن أموالهم وزروعهم صارت حجارة. وقال مجاهد: وعطية أهلكها الله تعالى حتى لا ترى يقال: عين مطموسة أي ذاهبة، وطمس الموضع: إذا عفا ودرس. وقال ابن زيد: صارت دنانيرهم ودراهمهم وفرشهم وكل شيء لهم حجارة. وقال محمد بن كعب: وكان الرجل منهم يكون مع أهله وفراشه وقد صارا حجرين. قال: وقد سألني عمر بن عبد العزيز، فذكرت ذلك فدعا بخريطة أصيبت بمصر، فأخرج منها الفواكه والدراهم والدنانير وإنها لحجارة.
وقال محمد بن شهاب الزهري: دخلت على عمر بن عبد العزيز فقال: يا غلام ائتني بالخريطة. فجاء بخريطة نثر ما فيها، فإذا فيها دراهم ودنانير وتمر وجوز وعدس وفول.
فقال: كل يا ابن شهاب فأهويت فإذا هو حجارة فقلت: ما هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا مما أصاب عبد العزيز بن مروان في مصر إذ كان عليها واليا وهو مما طمس الله عليه من أموالهم.
وقال المضارب بن عبد الله الشامي: أخبرني من رأى النخلة بمصر مصروعة وإنها لحجر. ولقد رأيت ناسا كثيرا قياما وقعودا في أعمالهم لو رأيتهم ما شككت فيهم قبل أن تدنو منهم إنهم أناس وإنهم لحجارة. ولقد رأيت الرجل من رقيقهم وإنه لحارث على ثورين وإنه وثوريه لحجارة. ونقل وسمة بن موسى في قصص الأنبياء: أن فرعون لما هلك وقومه وآمنت بنو إسرائيل غائلته ندب موسى عليه السلام؛ من نقبائه الاثني عشر نقيبين: أحدهما:
كالب بن موقيا، والآخر: يوشع بن نون، مع كل واحد من سبطه اثنا عشر ألفا وأرسلهما إلى(1/79)
مصر. وقد خلت من حاميها لغرق أهلها مع فرعون فأخذوا ذخائر فرعون وكنوزه، وعادوا إلى موسى. فذلك توريثهم أرض مصر يعني قول الله عز وجل عن قوم فرعون:
فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ
[الشعراء/ 58] ، كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ
[الدخان/ 28] ، وقوله تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها
[الأعراف/ 137] يعني أرض مصر أورثناها بني إسرائيل لأنهم هم المستضعفون الذين كانوا فيها بدليل قوله تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ
[القصص/ 5] . قال جامعه ومؤلفه رحمه الله تعالى: أخبرني داود بن رزق بن عبد الله وكانت له سياحات كثيرة بأرض مصر أنه عبر إلى واد بالقرب من القلمون بالوجه القبلي فرأى فيه مقاتات كثيرة ما بين بطيخ وقثاء وتفاح وكلها حجارة وكان قد أخبرني قديما بعض الأعيان أنه شاهد في سفره إلى البلاد من أرض مصر بطيخا كثيرا كله حجارة وكذلك البطيخ من الصنف الذي يقال له العبدلي.
ذكر أخلاق أهل مصر وطبائعهم وأمزجتهم
قال أبو الحسن عليّ بن رضوان «1» الطبيب: مصر، اسم فيما نقلت الرواة يدل على أحد أولاد نوح النبي عليه السلام، فإنهم ذكروا أنّ مصر هذا نزل بهذه الأرض فانسل فيها، وعمرها فسميت باسمه، والذي يدل عليه هذا الاسم اليوم هو الأرض التي يفيض عليها النيل، ويحيط بها حدود أربعة؛ وهي: أنّ الشمس تشرق على أقصى العمارة بالشرق قبل أن تغيب عن آخر العمارة بالغرب بثلاث ساعات، وثلثي ساعة. فيجب من ذلك أن تكون هذه الأرض في النصف الغربيّ من الربع العامر، والنصف الغربيّ من الربع العامر على ما قال أبقراط، وبطليموس: أقل حرارة وأكثر رطوبة من النصف الشرقيّ. لأنه قسم كوكب القمر، والنصف الشرقيّ في قسم كوكب الشمس، وذلك أن الشمس تشرق على النصف الشرقيّ قبل شروقها على النصف الغربيّ، والقمر يهل على النصف الغربيّ قبل النصف الشرقيّ.
وقد زعم قوم من القدماء أنّ أرض مصر في وسط الربع من المعمور من الأرض بالطبع، فأما بالقياس فعلى ما ذكرنا من أنها في النصف الغربيّ، والحدّ الثالث هو أن أوّل بعد هذه الأرض عن خط الاستواء في جهة الجنوب أسوان وبعدها عن خط الاستواء اثنان وعشرون درجة ونصف، فالشمس تسامت رؤوس أهلها مرّتين في السنة عند كونها في آخر الجوزاء، أو في أوّل السرطان، وفي هذين الوقتين لا يكون للقائم بأسوان نصف النهار ظل أصلا، فالحرارة واليبس والإحراق غالب على مزاجها لأنّ الشمس تنشف رطوبتها، ولذلك صارت ألوانهم سودا وشعورهم جعدة لاحتراق أرضهم.(1/80)
والحدّ الرابع هو: أن آخر بعد أرض مصر عن خط الاستواء في جهة الشمال طرف بحر الروم، وعليه من أرض مصر بلدان كثيرة كالإسكندرية ورشيد ودمياط وتنيس والفرما.
وبعد دمياط عن خط الاستواء في الشمال أحد وثلاثون جزءا وثلث، وهذا البعد هو آخر الإقليم الثالث، وأوّل الإقليم الرابع. فالشمس لا تبعد عنهم كل البعد، ولا تقرب منهم كل القرب فالغالب عليهم الاعتدال مع ميل يسير إلى الحرارة فإن الموضع المعتدل على الصحة من البلدان العامة وهو أوّل وسط الإقليم الرابع، وأيضا فمجاورة دمياط للبحر وإحاطته بها تجعلها معتدلة بين الحرّ والبرد خارجة عن الاعتدال إلى الرطوبة، فيكون الغالب عليها المزاج الرطب الذي ليس بحارّ ولا بارد، ولذلك صارت ألوانهم سمرا وأخلاقهم سهلة وشعورهم سبطة، وإذا كان أوّل مصر من جهة الجنوب الغالب عليه الاحتراق وآخرها من جهة الشمال الغالب عليها الاعتدال مع ميل يسير نحو الحرارة فما بين هذين الموضعين من أرض مصر الغالب عليه الحرارة، وتكون قوّة حرارته بقدر بعده من أسوان، وقربه من بحر الروم.
ومن أجل هذا قال أبقراط وجالينوس: إن المزاج الغالب على أرض مصر الحرارة قال: وجبل لوقا في مشرق هذه الأرض يعوق عنها ريح الصبا، فإنه لم يوجد بفسطاط مصر صبا خالصة، لكن متى هبت الصبا عندهم، هبت نكبا بين المشرق والشمال، أو المشرق والجنوب، وهذه الرياح يابسة مانعة من العفن. وقد عدمت أهل مصر هذه الفضيلة ومن أجل ذلك صارت المواضع التي تهب فيها ريح الصبا من أرض مصر أحسن حالا من غيرها كالإسكندرية وتنيس، ويعوّق «1» أيضا هذا الجبل إشراق الشمس على أرض مصر إذا كانت على الأفق فيكون زمان لبث الشعاع على هذه الأرض أقل من الطبيعيّ. ومثل هذه الحال سبب لركود الهواء وغلظه.
وأرض مصر أرض كثيرة الحيوان والنبات جدّا لا تكاد تجد فيها موضعا خلوا من الحيوان والنبات. وهي أرض متخلخلة فإنك تراها عند انصراف النيل بمنزلة الحمأة، فإذا حلّت الحرارة ما فيها من الرطوبة تشققت شقوقا عظاما، والمواضع الكثيرة الحيوان والنبات أرض كثيرة العفونة، وقد اجتمع على أرض مصر حرارة مزاجها وكثرة ما فيها من الحيوان والنبات، فأوجب ذلك احتراقها وسواد طينها، فصارت أرضا سوداء. وما قرب منها من الجبل سبخ إما بورقيّ أو مالح. ويظهر من أرض مصر بالعشيات بخار أسود أو أغبر وخاصة في أيام الصيف. وأرض مصر ذات أجزاء كثيرة ويختص كل جزء منها بشيء دون غيره، وعلة ذلك ضيق عرضها واشتمال طولها على عرض الإقليم الثاني والثالث، فإن الصعيد فيه من النخل والسنط وآجام القصب والبردي ومواضع إحراق الفحم وغير ذلك شيء كثير.(1/81)
والفيوم فيه من النقائع وآجام القصب ومواضع تعطين الكتان شيء كثير.
وأسفل أرض مصر فيه من النبات أنواع كثيرة كالقلقاس والموز وغير ذلك.
وبالجملة؛ فكل بقعة من أرض مصر لها أشياء تختص بها وتتفضل عن غيرها. قال: والنيل يرطب يبس الصيف والخريف فقد استبان أنّ المزاج الغالب على أرض مصر الحرارة والرطوبة الفصلية وإنها ذات أجزاء كثيرة. وأنّ هواءها وماءها رديئان، وقد بيّن الأوائل أن المواضع الكثيرة العفن يتحلل منها في الهواء فضول كثيرة لا تدعه يستقرّ على حال لاختلاف تصعدها.
وقد كان استبان أنّ هواء أرض مصر يسرع إليه التغير لأنّ الشمس لا يثبت على أرض مصر شعاعها المدّة الطبيعية، فمن أجل هذين كثر اختلاف هواء أرض مصر، فصار يوجد في اليوم الواحد على حالات مختلفة مرّة حرّ، ومرّة برد، ومرّة يابس، وأخرى رطب، ومرّة متحرّك، وأخرى ساكن، ومرّة الشمس صاحية، ومرّة قد سترها الغيم.
وبالجملة هواء مصر كثير الاختلاف غير لازم لطريقة واحدة فيصير من أجل ذلك في الأوعية والعروق من أخلاط البدن لا يلزم حدّا واحدا. وأيضا فإنّ ما يتحلل كل يوم من البخار الرطب بأرض مصر يعوقه اختلاف الهواء وقلة سمك الجبال، وكثرة حرارة الأرض عن الاجتماع في الجوّ، فإذا برد الهواء ببرد الليل انحدر هذا البخار على وجه الأرض فيتولد عنه الضباب الذي يحدث عنه الطل والندا، وربما تحلل هذا البخار بالتحلل الخفي فإذا يتحلل كل يوم ما كان اجتمع من البخار في اليوم الذي قبله فمن أجل هذا لا يجتمع الغيم الممطر بأرض مصر إلا في الندرة. وظاهر أيضا، أنّ أرض مصر يترطب هواؤها في كل يوم بما يترقى إليه من البخار الرطب وما يتحلل.
وقد قال بعض الناس: أنّ الضباب يتكوّن من استحالة الهواء إلى طبيعة الماء فإذا انضاف هذا إلى ما قلناه كان أزيد في بيان سرعة تغير الهواء بأرض مصر، وكثرة العفونة فيها وقد استبان أنّ أرض مصر كثيرة الاختلاف كثيرة الرطوبة الفضلية التي يسرع إليها العفن.
والعلة القصوى في جميع ذلك هو أن أخص الأوقات بالجفاف في الأرض كلها يكثر فيه بمصر الرطوبة لأنها تترطب في الصيف والخريف بمدّ النيل وفيضه. وهذا بخلاف ما عليه البلدان الأخر.
وقد علّمنا أبقراط أنّ رطوبة الصيف والخريف فضيلة أعني: خارجة عن المجرى الطبيعيّ كرطوبة المطر الحادث في الصيف، ومن أجل هذه قلنا: إن رطوبة مصر فضلية، وذلك أن الحرارة واليبس هو بالحقيقة مزاج مصر الطبيعيّ، وإنما عرض له ما أخرجه عن اليبس إلى الرطوبة الفضيلة بمدّ النيل في الصيف والخريف. ولذلك كثرت العفونات بهذه الأرض فهذا هو السبب الأعظم في أن صارت أرض مصر على ما هي عليه من سخافة(1/82)
الأرض، وكثرة العفن، ورداءة الماء، والهواء. إلا أن هذه الأشياء لا تحدث في أبدان المصريين استحالة محسوسة إذا جرت على عادتها من أجل إلف المصريين لهذه الحال، ومشاكلة أبدانهم لها، فإن كل ما يتولد بأرض مصر من الحيوان والنبات مشابه لما عليه مصر في سخافة الأبدان وضعف القوى، وكثرة التغير وسرعة الوقوع في الأمراض، وقصر المدّة كالحنطة بمصر فإنها وشيكة الزوال سريع إليها العفن في المدّة اليسيرة ولا مطعن أن أبدان الناس وغيرهم تخالف ما عليه الحنطة من سرعة الاستحالة، وكيف لا يكون الأمر كذلك وأبدانهم مبنية من هذه الأشياء فحال ما يتولد بأرض مصر من النبات، والحيوان في السخافة، وكثرة الفضول، والعفن وسرعة الوقوع في الأمراض كحال سخافة أرضها وعفنها، وفضولها وسرعة استحالتها لأنّ النسبة واحدة. ولذلك أمكن حياة الحيوان فيها ونبات النبات بها فإن هذه الأشياء من حيث ناسبتها ولم تبعد من مشاكلتها أمكن حياتها.
فأما الأشياء الغريبة فإنها إذا دخلت إلى مصر تغيرت في أوّل لقائها لهذا الهواء حتى إذا استقرّت وألّفت الهواء، واستمرّت عليه صحت مشاكلة لأرض مصر.
قال: وأما جنس ما يؤكل، ويشرب بأرض مصر. فإنّ الغلات سريعة التغير سخيفة متخلخلة تفسد في الزمان اليسير كالحنطة والشعير والعدس والحمص والباقلاء والجلبان.
فإنّ هذه تسوّس في المدّة القليلة ليس لشيء من الأغذية التي تعمل منها لذاذة ما لنظيره في البلدان الأخر. وذلك أنّ الخبز المعمول من الحنطة بمصر متى لبث يوما واحدا بليلته لا يؤكل وإن أكل لم يوجد له لذاذة ولا تماسك لبعضه ببعض ولا يوجد فيه علوكة، ولكنه يتكرّج في الزمان اليسير وكذلك الدقيق، وهذا خلاف أخبار البلدان الأخر، وكذلك الحال في جميع غلات مصر وفواكهها، وما يعمل فيها فإنها وشيكة الزوال سريعة الاستحالة والتغير. فأما ما يحمل من هذه إلى مصر فظاهر أنّ مزاجها يتبدّل باختلاف الهواء عليها ويستحيل عما كانت عليه إلى مشاكلة أرض مصر إلا أنّ ما كان حديثا قريب العهد بالسفر، فقد بقيت فيه من جودته بقايا صالحة فهذا حال الغلات.
وأما الحيوان الذي يأكله الناس، فالبلدي منه مزاجه مشاكل لمزاج الناس بهذه الأراضي في السخافة وسرعة الاستحالة فهو على هذا ملائم لطبائعهم، والمجلوب كالكباش البرقية فالسفر يحدث في أبدانها قحلا ويبسا وأخلاطا لا تشاكل أخلاط المصريين.
ولها إذا دخلت مصر مرض أكثرها. فإذا استقرّت زمانا صالحا تبدّل مزاجها ووافق مزاج المصريين.
وأهل مصر يشرب الجمهور منهم من ماء النيل وقد قلنا في ماء النيل ما فيه كفاية وبعضهم يشرب مياه الأبار، وهي قريبة من مشاكلتهم والمياه المخزونة فقلّ من يشربها بأرض مصر.
وأجود الأشربة عندهم الشمسيّ: لأنّ العسل الذي فيه يحفظ قوّته ولا يدعه يتغير بسرعة والزمان(1/83)
الذي يعمل فيه خالص الحرّ فهو ينضجه والزبيب الذي يعمل منه مجلوب من بلاد أجود هواء.
وأما الخمر فقلّ من يعتصرها إلا ويلقي معها عسلا وهي معتصرة من كرومهم، فتكون مشاكلة لهم، ولهذا صاروا يختارون الشمسيّ عليها وما عدا الشمسيّ والخمر من الشراب بأرض مصر فرديء لا خير فيه لسرعة استحالته من فساد مادّته، كالنبيذ التمري، والمطبوخ والمزر المعمول من الحنطة.
وأغذية أهل مصر مختلفة فإنّ أهل الصعيد يغتذون كثيرا بتمر النخل، والحلاوة المعمولة من قصب السكر، ويحملونها إلى الفسطاط وغيرها. فتباع هناك وتؤكل، وأهل أسفل الأرض يغتذون كثيرا بالقلقاس والجلبان ويحملون ذلك إلى مدينة الفسطاط وغيرها.
فتباع هناك وتؤكل وكثير من أهل مصر يكثرون أكل السمك طريا ومالحا وكثير يكثرون أكل الألبان، وما يعمل منها وعند فلاحيهم نوع من الخبز يدعى كعكا يعمل من جريش الحنطة، ويجفف وهو أكثر أكلهم السنة كلها. وبالجملة فكل قوم قد ابتنت أبدانهم من أشياء بأعيانها وألفتها. ونشأت عليها إلا أن الغالب على أهل مصر الأغذية الرديئة وليست تغير مزاجهم ما دامت جارية على العادة. وهذا أيضا مما يؤكد أمرهم في السخافة وسرعة الوقوع في الأمراض. وأهل الريف أكثر حركة رياضة من أهل المدن ولذلك هم أصح أبدانا لأنّ الرياضة تصلب أعضاءهم، وتقوّيها وأهل الصعيد أخلاطهم أرق وأكثر دخانية وتخلخلا وسخافة لشدّة حرارة أرضهم من أسفل الأرض، وأهل أسفل الأرض بمصر أكثر استفراغ فضولهم، بالبراز والبول لفتور حرارة أرضهم واستعمالهم للأشياء الباردة، والغليظة كالقلقاس. وأما أخلاط المصريين فبعضها شبيه ببعض لأنّ قوى النفس تابعة لمزاج البدن، وأبدانهم سخيفة سريعة التغير قليلة الصبر والجلد، وكذلك أخلاقهم يغلب عليها الاستحالة والتنقل من شيء إلى شيء والدعة والجبن والقنوط والشح وقلة الصبر والرغبة في العلم وسرعة الخوف والحسد والنميمة والكذب والسعي إلى السلطان وذمّ الناس. وبالجملة فيغلب عليهم الشرور الدنية التي تكون من دناءة الأنفس وليس هذه الشرور عامّة فيهم ولكنها موجودة في أكثرهم، ومنهم: من خصه الله بالفضل وحسن الخلق وبرّأه من الشرور، ومن أجل توليد أرض مصر، الجبن والشرور الدنيئة في النفس لم تسكنها الأسد وإذا دخلت ذلت ولم تتناسل وكلابها أقل جرأة من كلاب غيرها من البلدان. وكذلك سائر ما فيها أضعف من نظيره في البلدان الأخر ما خلا ما كان منها في طبعه ملائمة لهذه الحال كالحمار والأرنب.
وقال: إنّ جالينوس يرى أن فصل الربيع طبيعته الاعتدال، ويناقض من ظنّ أنه حار رطب، ومن شأن هذا الفصل أن تصح فيه الأبدان، ويجود هضمها وتنتشر الحرارة لغريزية فيه، ويصفو الروح الحيواني لاعتدال الهواء وصفائه ومساواة ليله لنهاره، وغلبة الدم والهواء المعتدل هو الذي لا يحس فيه ببرد ظاهر ولا حرّ ولا رطوبة ولا يبس، ويكون في نفسه(1/84)
صافيا نقيا فيقوى فيه الروح الحيواني لهذا السبب، وتصح الأبدان ويكثر نشاط الحيوان وتنمو الأشياء وتزيد وتتوالد. وإذا طلبنا بأرض مصر مثل هذا الهواء لم نجده في وقت من السنة إلا في امشير وبرمهات وبرمودة وبشنس، عندما تكون الشمس في النصف الأخير من الدلو والحوت والحمل والثور. فإنا نجد بمصر في هذا الزمان أياما معتدلة نقية صافية لا يحس فيها بحرّ ظاهر، ولا برد ولا رطوبة ولا يبوسة، وتكون الشمس فيها نقية من الغيوم، والهواء ساكنا لا يتحرّك إلا أن يكون ذلك في برمودة وبشنس فإنه يحتاج إلى أن تهب ريح الشمال ليعتدل ببردها حرّ الشمس.
وفي هذا الزمان تكثر حركة الحيوان وسفاده وتحسن أصواته، وتورق الأشجار ويعقد الزهر، وتقوى القوة المولدة ويغلب كيموس الدم. وهذا الفصل في أرض مصر يتقدّم زمانه الطبيعيّ بمقدار ما ينقص عن آخره، وعلة ذلك قوّة حرارة هذه الأرض، وقد يعرض في أوّل هذا الفصل أيام شديدة البرود وذلك في أمشير إذا هبت ريح الشمال، وكانت الشمس غير نقية من الغيوم، وعلة ذلك دخول فصل الربيع في فصل الشتاء. فإذا هبت ريح الشمال برد ببردها الهواء، فأعادته بعد الاعتدال إلى البرد ولكثرة ما يصعد من الأرض في هذا الزمان من البخار الرطب يرطب الهواء، ويعود إلى حاله في فصل الشتاء، وربما برد الهواء من هبوب رياح أخر فإن ريح الجنوب التي هي أشدّ الرياح حرارة إذا هبت في هذا الزمان اكتسبت برودة من الأرض، والماء الذين قد بردّهما هواء الشتاء.
فإذا مرّت بشيء بردّته ببرودتها العرضية حتى إذا دام هبوبها أياما كثيرة متوالية عادت إلى حرارتها، وأسخنت الهواء، وأحدثت فيه يبسا. والدليل على أن برد رياح الجنوب التي تعرفها المصريون بالمريسي يتولد من برد مياه مصر، وأرضها لا بشيء طبيعي لها أنه لا يجتمع في الجوّ في أيام هبوبها الضباب الذي يجتمع من تحليل الحرارة للبخار الرطب بالنهار. وجمع البرودة له بالليل. فحرارة ريح الجنوب تفرّق البرودة عن جمعه، وتبدّده في الهواء، وإذا دام هبوب هذه الريح أسخنت الماء، والأرض وعادت إلى طبيعتها في الحرارة.
وإذا كان فصل الربيع يتقدّم زمانه الطبيعي، ويختلف هذا الاختلاف. والهواء في الأصل بمصر يختلف بكثرة استحالته، وما يرقى إليه من البخار فما ظنك بغيره من الفصول ولذلك كثرت فيه الرياح.
وأخر الأطباء فيه سقي الأدوية المسهلة إلى أن يستقرّ أمره في شمس الحمل مع الثور، ثم يدخل فصل الصيف في آخر بشنس «1» وبؤنة «2» وأبيب «3» وبعض مسرى «4» . عند ما تكون الشمس في الجوزاء والسرطان والأسد وبعض السنبلة، فيشتدّ الحرّ واليبس في هذا الزمان وتجف الغلات وتنضج الثمار ويجتمع من أكلها في الأبدان كيموسات رديئة وإذا نزلت(1/85)
الشمس في السرطان أخذ النيل في الزيادة، والفيض على أرض مصر. فيتغير مزاج الصيف الطبيعي بكثرة ما يترقى إلى الهواء من بخار الماء، ويوجد في أوّل هذا الفصل عند ما تكون الشمس في الجوزاء أيام يشاكل هواؤها هواء الربيع عندما تكون الشمس مستورة بالغيوم أو تكون الريح الشمال هاوية. ولهذا يغلط كثير من الأطباء ويسقي الأدوية المسهلة في هذا الزمان، لظنه أن فصل الربيع لم يخرج إلا من كان منهم أحذق فهو يختار ما كان من هذه الأيام أسكن حرارة والأكثر لا يشعرون البتة بهذه الحال.
وفي آخر الصيف يكون فيض النيل فظاهر أن هذا الفصل يتقدّم دخوله الزمان الطبيعيّ بقدر ما يتقدم آخره وأنه كثير الاضطراب بكثرة ما يرقى إليه من بخار الأرض. فلولا استمرار أبدانهم على هذا الاختلاف، ومشاكلتهم لهذه الحال لحدثت فيهم الأمراض التي ذكر أبقراط: أنها تحدث إذا كان الصيف رطبا.
ثم يدخل فصل الخريف وطبيعته يابسة من النصف الأخير من مسرى ثم توت «1» وبابة وبعض أيام هاتور. وتكون الشمس في آخر السنبلة والميزان والعقرب، فتكمل زيادة النيل في أوّل هذا الفصل ويطلق على الأرضين فيطبق أرض مصر ويرتفع منه في الجوّ بخار كثير، فينتقل مزاج الخريف عن اليبس إلى الرطوبة حتى أنه ربما وقع فيه الأمطار، وكثرة الغيم في الجوّ. ويوجد في هذا الفصل أيام شديدة الحرّ لأنها على الحقيقة صيفية. فإذا نقي الجوّ من البخار الرطب عادت إلى طبيعتها من الحرارة. وفيه أيضا أيام شديدة الشبه بأيام الربيع تكون عند ما يساوي الليل النهار ويرطب الماء يبس الهواء، ويشتدّ في هذا الفصل اضطراب الهواء بكثرة ما يرتقى إليه من البخار الرطب، فيكون مرّة حارّا أو أخرى باردا ومرّة يابسا، وأكثر أوقاته يغلب عليه الرطوبة فلا يزال كذلك يتمزج حتى يغلب عليه رطوبة الماء في آخر الأمر ويصاد في أيام الخريف من النيل أسماك كثيرة جدا يولد أكلها في الأبدان أخلاطا لزجة.
وكثيرا ما يستحيل إلى الصفر إذا صادفت في البدن خلطا صفراويا. فمن أجل ذلك يضطرب ما في الأبدان من الروح الحيوانيّ، وتهيج الأخلاط، ويفسد الهضم في البطون والأوعية والعروق ويتولد من ذلك كيموسات رديئة كثيرة الأخلاط بعضها مرّة صفراء وبعضها مرّة سوداء وبعضها بلغم لزج وبعضها خلط خام وبعضها مرّة محترقة، وكثير منها يتركب من هذه الأشياء فتثير الأمراض حتى إذا انصرف النيل في آخر الخريف، وانكشفت الأرض وبرد الهواء، وكثرت الأسماك واحتقن البخار، وكثر ما يرتفع به من الأرض من العفونة، واستحكم عند ذلك وجود العفن تزايدت الأمراض. ولولا إلف أهل مصر لهذه الأشياء لكان ما يحدث فيهم من الأمراض أكثر من ذلك.
ثم يدخل فصل الشتاء، وطبيعته باردة رطبة من النصف الآخر من هاتور ثم(1/86)
كيهك «1» وطوبة، وذلك عند ما تكون الشمس في القوس والجدي، وبعض الدلو وذلك أقل من ثلاثة أشهر والعلة في ذلك قوّة حرارة أرض مصر، وكون الأبدان مضطربة، وتنكشف الأرض في أوّل هذا الفصل وتحرث وتعفن بالجملة لكثرة ما يلقي فيها من البزور وما فيها من أزبال الحيوان، وفضولها ولأنها سخيفة. وهي كالحمأة في هذا الزمان فيتولد فيها من أنواع الفار والدود والنبات والعشب وغير ذلك ما لا يحصى كثرة. وينحل منها في الجوّ أبخرة كثيرة حتى يصير الضباب بالغدوات ساترا للأبصار عن الألوان القريبة، ويصاد أيضا من الأسماك المحبوسة في المياه المخزونة شيء كثير، وقد داخلها العفن لقلة حركتها فيولد أكلها في الأبدان فضولا كثيرة لزجة شديدة الاستعداد للعفن فتقوي الأمراض في أوّل هذا الفصل. حتى إذا اشتدّ البرد، وقوي الهضم في الأبدان، واستقرّ الهواء على شيء واحد، وعادت الحرارة الغريزية إلى داخل، وتطبقت الأرض بالنبات، وسكنت عفونتها صحت عند ذلك الأبدان. وهذا يكون في آخر كيهك أو في طوبة فقد استبان أن الفصول بأرض مصر كثيرة الاختلاف وإن أردأ أوقات السنة عندهم وأكثرها أمراضا هو آخر الخريف وأوّل الشتاء وذلك في شهر هاتور وكيهك، فإذا اختلاف الفصول مشاكل لما عليه أرضهم من الرداءة.
فمضرة الفصول إذا بالأبدان في أرض مصر أقل منها في البلدان الأخر إذا اختلفت هذا الاختلاف، واستبان أيضا أن السبب الأول في ذلك هو: مدّ النيل في أيام الصيف، وتطبيقه الأرض في أيام الخريف بخلاف ما عليه مياه الأنهار في العمارة كلها فإنها إنما تمتدّ في أخص الأوقات بالرطوبة وهو الشتاء والربيع.
قال: وقد استبان مما تقدم أن الرطوبة الفضيلة بأرض مصر كثيرة وظاهر أن أمراضهم البلدية تكون من نوع هذه الرطوبة. فإني أنا قلما رأيت أمراضهم البلدية تكون من نوع هذه كلها لا يشوبها في أول أمرها البلغم والخلط الخام. والأمراض كلها تحدث عندهم في الأوقات كلها كما قال أبقراط، وأكثر أمراضهم هي الفضيلة، أعني العفنة من أخلاط صفراوية وبلغمية على ما يشاكل كل مزاج أرضهم.
وما ذكرناه فيما تقدّم يوجب حدوث الأمراض كثيرا إلا أن مشاكلة هذه بعضها بعضا واتفاقها في سنة واحدة تمنع من أن تكون في أنفسها ممرضة متى لزمت العادة فأما إذا خرجت عن عادتها فهي تحدث مرضا. وخروجها عن عادتها بمصر هو الذي أعدّه اختلافا ممرضا لا الاختلاف الموجود فيها على الدائم، والنيل ليس يحدث في الأبدان كل سنة مرضا، ولكنه إذا أفرطت زيادته ودام مدّة تزيد على العادة كان ذلك سببا لحدوث المرض الوافد. فإن قيل: إذا كانت أبدان الناس بأرض مصر من السخافة على ما ذكرت فلعلها في مرض دائم. فالجواب: لسنا نبالي بهذا كيف كان، لأن المرض هو ما يضرّ بالفعل ضررا(1/87)
محسوسا من غير توسط. فمن أجل ذلك ليس أبدان المصريين في مرض دائم ولكنها كثيرة الاستعداد نحو الأمراض. قال: أما أمراض مصر البلدية فقد ذكرنا من أمرها ما فيه كفاية وظهر أن أكثرها الأمراض الفضيلة التي يشوبها صفراء وخام على أن باقي الأمراض تحدث عندهم بسرعة، وقرب وخاصة في آخر الخريف وأوّل الشتاء.
وأما الأمراض الوافدة: ومعنى المرض الوافد: هو ما يعمّ خلقا كثيرا في بلد واحد وزمان واحد ومنه نوع يقال له: الموتان؛ وهو الذي يكثر معه الموت، وحدوث الأمراض الوافدة تكون عن أسباب كثيرة يجتمع في أجناس أربعة وهي تغير كيفية الهواء، وتغير كيفية الماء، وتغير كيفية الأغذية، وتغير كيفية الأحداث النفسانية. فالهواء تغير كيفيته على ضربين: أحدهما تغيره الذي جرت به العادة، وهذا لا يحث مرضا وافدا، وليس تغيرا ممرضا. والثاني: التغير الخارج عن مجرى العادة وهذا هو الذي يحدث المرض الوافد.
وكذلك الحال في الأجناس الباقية وخروج تغير الهواء عن عادته يكون: إما بأن يسخن أكثر، أو يبرد أو يرطب، أو يجفف أو يخالطه حال عفنة، والحالة العفنة إما أن تكون قريبة أو بعيدة. فإن أبقراط وجالينوس يقولان: إنه ليس يمنع مانع من أن يحدث ببلد اليونانيين مرض وافد عن عفونة اجتمعت في بلاد الحبشة، وتراقت إلى الجوّ وانحدرت على اليونانيين، فأحدثت فيهم المرض الوافد.
وقد يتغير أيضا مزاج الهواء عن العادة بأن يصل وفد كثير قد أنهك أبدانهم طول السفر، وساءت أخلاطهم فيخالط الهواء منها شيء كثير، ويقع الأعداء في الناس، ويظهر المرض الوافد. والماء ضا قد يحدث المرض الوافد إما بأن يفرط مقداره في الزيادة أو النقصان، أو يخالطه حال عفنة ويضطرّ الناس إلى شربه، ويعفن به أيضا الهواء المحيط بأبدانهم، وهذه الحال تخالطه إما قريبا أو بعيدا بمنزلة ما يمرّ في جريانه بموضع خرب قد اجتمع فيه من جيف الموتى شيء كثير، أو بمياه تقاطع عفنة فيحذرها معه ويخالط جسمه، والأغذية تحدث المرض الوافد. إما إذا لحقها اليرقان، وارتفعت أسعارها، واضطرّ الناس إلى أكلها، وإما إذا أكثر الناس منها في وقت واحد، كالذي يكون في الأعياد فيكثر فيهم التخم، ويمرضون مرضا متشابها. وإما من قبيل فساد مرعى الحيوان الذي يؤكل، أو فساد الماء الذي يشرب، والأحداث النفسانية تحدث المرض الوافد متى حدث في الناس خوف عام من بعض الملوك فيطول سفرهم وتفكرهم في الخلاص منه، وفي وقوع البلاء، فيسوء هضمهم وتتغير حرارتهم الغريزية. وربما اضطروا إلى حركة عنيفة في هذه الحال، أو يتوقعوا قحط بعض السنين فيكثرون الحركة والاجتهاد في ادّخار الأشياء، ويشتد غمهم بما سيحدث. فجميع هذه الأشياء تحدث في أبدان الناس المرض الوافد متى كان المتعرض لها خلق كثير في بلد واحد ووقت واحد. وظاهر أنه إذا كثر في وقت واحد المرضى بمدينة واحدة؛ ارتفع من أبدانهم بخار كثير فيتغير مزاج الهواء فإذا صادف بدنا مستعدّا أمرضه، وإن(1/88)
كان صاحبه لم يتعرّض لما يتعرّض إليه الناس.
فالأمراض الوافدة بمصر تحدث إما عن فساد لم تجر به العادة يعرض للهواء سواء كان مادّة فساده من أرض مصر، أو من البلاد التي تجاورها كالسودان والحجاز والشام وبرقة، أو يعرض للنيل بأن تفرط زيادته، فتكثر زيادة الرطوبة والعفن، أو تقل زيادته جدّا فيجف الهواء عن مقدار العادة، ويضطرّ الناس إلى شرب مياه رديئة أو يخالطه عفونة تحدث عن جرب يكون بأرض مصر أو ببلاد السودان أو غيرها يموت فيها خلق كثير، ويرتفع بخار جيفهم في الهواء فيعفنه، ويتصل عفنه إليهم، أو يسيل الماء، ويحمل معه العفن، أو يغلو السعر أو يلحق الغلات آفة، أو يدخل على الكباش ونحوها مضرة أو يحلق الناس خوف عام أو قنوط. وكل واحد من هذه الأسباب يحدث في أرض مصر مرضا وافدا يكون قوّته بمقدار قوّة السبب المحدث له وإن كان أكثر من سبب واحد كان ذلك المرض أشدّ وأقوى وأسرع في القتل.
قال: فمزاج أرض مصر حار رطب بالرطوبة الفضلية، وما قرب من الجنوب بأرض مصر كان أسخن، وأقل عفنا في ماء النيل مما كان منها في الشمال، ولا سيما من كان في شمال الفسطاط. مثل أهل البشمور فإن طباعهم أغلظ، والبله عليهم أغلب، وذلك أنهم يستعملون أغذية غليظة جدّا ويشربون من الماء الرديء.
وأما إسكندرية وتنيس وأمثال هذه، فقربها من البحر، وسكون الحرارة، والبرد عنهم، وظهور الصبا فيهم مما يصلح أمرهم، ويرق طباعهم، ويرفع هممهم ولا يعرض لهم ما يعرض لأهل البشمور من غلظ الطبع، والجمادية وإحاطة البحر بمدينة تنيس، توجب غلبة الرطوبة عليها وما يسر أخلاق أهلها قال: إنه لما كانت أرض مصر، وجميع ما فيها سخيفة الأجسام سريعا إليها التغير، والعفن وجب على الطبيب أن يختار من الأغذية، والأدوية ما كان قريب العهد حديثا. لأنّ قوّته بعد باقية عليه، لم تتغير كل التغير، وأن يجعل علاجه ملائما لما عليه الأبدان بأرض مصر، ويجتهد في أن يجعل ذلك إلى الجهة المضادة أميل قليلا، ويتجنب الأدوية القوية الإسهال، وكل ما له قوّة مفرطة. وإن نكاية هذه الأبدان سريعة. سيما وأبدان المصريين سريعة الوقوع في النكايات، ويختار ما يكون من الأدوية المسهلة، وغيرها ألين قوّة حتى لا يكون على طبيعة المصريين منها كلفة، ولا يلحق أبدانهم مضرّة، ولا يقدم على الأدوية الموجودة في كتب أطباء اليونانيين والفرس. فإن أكثرها عملت لأبدان قويّة البنية عظيمة الأخلاط، وهذه الأشياء قلما توجد بمصر.
فلذلك يجب، على الطبيب أن يتوقف في إعطاء هذه الأدوية للمرضى، ويختار ألينها وينقص عن مقدار شرباتها ويبدل كثيرا منها بما يقوم مقامه، ويكون ألين منه، فيتخذ السكنجبين السكريّ في مقام العسلي، والجلاب بدلا من ماء العسل. واعلم أن هواء مصر(1/89)
يعمل في المعجونات، وسائر الأدوية ضعفا في قوتها فأعمار الأدوية المفردة والمركبة المعجون منها، وغير المعجون بمصر أقصر من أعمارها في غير مصر. فيحتاج الطبيب بمصر إلى تقدير ذلك وتمييزه حتى لا يشتبه عليه شيء مما يحتاج إليه. وإذا لم يكتف في تنقية البدن بالدواء المسهل دفعة واحدة، فلا بأس بإعادته بعد أيام، فإن ذلك أحمد من إيراد الدواء الشديد القوّة في دفعة واحدة. قال: ولكون أرض مصر تولد في الأجسام سخافة، وسرعة قبول للمرض وجب أن تكون الأبدان على الهيئة الفاضلة بأرض مصر قليلة جدا.
فأما الأبدان الباقية فكثيرة وأن تكون الصحة التامّة عندهم على الأمر الأكثر في القريبة من الهيئة الفاضلة، والطريق الأولى التي تدبر بها الأبدان في الهيئة الفاضلة يحتاج فيها بأرض مصر إلى أن يدبر الهواء، والغذاء والماء وسائر الأشياء تدبيرا يصير به في غاية الاعتدال.
ولأنّ الهضم كثيرا ما يسوء بأرض مصر. وكذلك الروح الحيواني، فيجب صرف العناية إلى مراعاة أمر القلب والدماغ والكبد والمعدة والعروق وسائر الأعضاء الباطنة في تجويد الهضم، وإصلاح أمر الروح الحيواني وتنظيف الأوساخ الأححة.
وقال في شرح كتاب الأربع لبطليموس: وأما سائر أجزاء الربع الذي يميل إلى وسط جميع الأرض المسكونة أعني بلاد برقة، وسواحل البحر من مريوط إلى الإسكندرية ورشيد ودمياط وتنيس والفرما، وأسفل الأرض بمصر، ونواحي مدينة منف ومدينة الفسطاط، وما يلي شرقي النيل من صعيد مصر والفيوم إلى أعلى الصعيد مما في غرب النيل وأرض الواحات، وأرض النوبة والبجة والأرض التي على البحر في شرقي بلاد النوبة، والحبشة.
فإن هذه البلاد موضوعة في الزاوية التي تؤثر في جميع الربع الموضوع فيما بين الدبور والجنوب. وهي من جملة النصف الغربي من الربع المعمور والكواكب الخمسة المتحيرة تشترك في تدبيرها. فصار أهلها محبين لله، ويعظمون الجنّ، ويحبون النوح، ويدفنون موتاهم في الأرض، ويخفونهم ويستعملون سننا مختلفة، وعادات وآراء شتى لميلهم إلى الأسرار التي تدعو كل طائفة منهم إلى أمر من الأمور الخفية، فيعتقده ويوافقه جماعة ومن أجل هذه الأسرار كان المستخرج للعلوم الدقيقة، كالهندسة والنجوم وغيرها في الزمان الأول أهل مصر، ومنهم تفرقت في العالم وإذا ساسهم غيرهم كانوا أذلّاء. والغالب عليهم الجبن والاستحذاء في الكلام وإذا ساسوا غيرهم كانت أنفسهم طيبة، وهممهم كثيرة، ورجالهم يتخذون نساء كثيرة، وكذلك نساؤهم يتخذن عدة رجال. وهم منهمكون في الجماع، ورجالهم كثيرو النسل، ونساؤهم سريعات الحمل، وكثير من ذكرانهم تكون أنفسهم ضعيفة مؤنثة.
وقال أبو الصلت: وأما سكان أرض مصر فأخلاط من الناس مختلفوا الأصناف والأجناس من قبط وروم وعرب وأكراد وديلم وحبشان، وغير ذلك من الأصناف إلا أن جمهورهم قبط قالوا: والسبب في اختلاطهم تداول المالكين لها، والمتغلبين عليها من(1/90)
العمالقة واليونانيين والروم، وغيرهم. فلهذا اختلطت أنسابهم، واقتصروا من التعريف بأنفسهم على الإشارة إلى مواضعهم، والانتماء إلى مساقطهم فيها.
وحكى أنهم كانوا في الزمن السالف عباد أصنام ومدبري هياكل إلى أن ظهر دين النصرانية، وغلب على أرض مصر. فتنصروا وبقوا على ذلك إلى أن فتحها المسلمون، فأسلم بعضهم، وبقي بعضهم على دين النصرانية.
وأما أخلاقهم فالغالب عليها اتباع الشهوات والانهماك في اللذات والاشتغال بالترهات والتصديق بالمحالات وضعف المرائر والعزمات، ولهم خبرة بالكيد والمكر، وفيهم بالفطرة قوّة عليه وتلطف فيه وهداية إليه لما في أخلاقهم من الملق والبشاشة التي أربوا فيها على من تقدّم وتأخر. وخصوا بالإفراط فيها دون جميع الأمم. حتى صار أمرهم في ذلك مشهورا والمثل بهم مضروبا وفي خبثهم ومكرهم يقول أبو نواس:
محضتكم يا أهل مصر نصيحتي ... ألا فخذوا من ناصح بنصيب
رماكم أمير المؤمنين بحية ... أكول لحيات البلاد شروب
فإن يك باق أفك فرعون فيكم ... فإن عصا موسى بكف خصيب
قال مؤلفه رحمه الله تعالى: وقد مرّ لي قديما أن منطقة الجوزاء تسامت رؤوس أهل مصر. فلذلك يتحدّثون بالأشياء قبل كونها، ويخبرون بما يكون وينذرون بالأمور المستقبلة. ولهم في هذا الباب أخبار مشهورة.
قال ابن الطوير: وقد ذكر استيلاء الفرنج على مدينة صور، فعاد الحفظ والحراسة على مدينة عسقلان فما زالت محمية بالأبدال المجرّدة إليها من العساكر والأساطيل. والدولة تضعف أوّلا فأوّلا باختلاف الآراء فثقلت على الأجناد وكبر أمرها عندهم، واشتغلوا عنها فضايقها الفرنج حتى أخذوها في سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، ولقد سمعت رجلا قبل ذلك بسنين يحدّث بهذه الأمور ويقول في سنة ثمان تؤخذ عسقلان بالأمان.
ومن هذا الباب واقعة الكنائس التي للنصارى، وذلك أنه لما كان يوم الجمعة تاسع شهر ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين وسبعمائة؛ والناس في صلاة الجمعة كأنما نودي في إقليم مصر كله من قوص إلى الإسكندرية بهدم الكنائس. فهدم في تلك الساعة بهذه المسافة الكبيرة عدد كثير من الكنائس كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب، عند ذكر كنائس النصارى.
ومن هذا الباب واقعة ألدمر وذلك: أنه خرج الأمير ألدمر «1» أمير جندار يريد الحج(1/91)
من القاهرة في سنة ثلاثين وسبعمائة؛ وكانت فتنة بمكة قتل فيها ألدمر يوم الجمعة رابع عشر ذي الحجة فأشيع في هذا اليوم بعينه في القاهرة ومصر وقلعة الجبل بأنّ وقعة كانت بمكة قتل فيها ألدمر فطار هذا الخبر في ريف مصر واشتهر، فلم يكترث الملك الناصر محمد بن قلاوون «1» بهذا الخبر. فلما قدم المبشرون على العادة أخبروا بالواقعة. وقتل الأمير سيف الدين ألدمر في ذلك اليوم الذي كانت الإشاعة فيه بالقاهرة. قال جامع السيرة الناصرية:
كنت مع الأمير علم الدين الخازن في الغربية وقد خرج إليها كاشفا، فلما صليت أنا وهو صلاة الجمعة، وعدنا إلى البيت قدم بعض غلمانه من القاهرة فأخبرنا أنه أشيع بأن فتنة كانت بمكة، قتل فيها جماعة من الأجناد، وقتل فيها الأمير ألدمر أمير جندار. فقال له الأمير علم الدين: هل حضر أحد من الحجاز بهذا الخبر؟ قال: لا، فقال: ويحك، الناس ما تحضر من منى بمكة إلا ثالث يوم بعد عيد النحر، فكيف سمعتم هذا الخبر الذي لا يسمعه عاقل؟
فقال: قد استفيض ذلك وكان الأمر كما أشيع.
ووقع لي في شهر رمضان من شهور سنة إحدى وتسعين وسبعمائة؛ أني مررت في الشارع بين القصرين بالقاهرة بعد العتمة فإذا العامّة تتحدّث بأن الملك الظاهر «2» برقوق خرج من سجنه بالكرك واجتمع عليه الناس فضبطت ذلك، فكان اليوم الذي خرج فيه من السجن وفي هذا الباب من هذا كثير.
ومن أخلاق أهل مصر: قلة الغيرة وكفاك ما قصه الله سبحانه وتعالى من خبر يوسف عليه السلام ومراودة امرأة العزيز له عن نفسه، وشهادة شاهد من أهلها عليها بما بيّن لزوجها منها السوء، فلم يعاقبها على ذلك بسوى قوله: اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ
[يوسف/ 29] .
وقال ابن عبد الحكم: وكان نساء أهل مصر حين غرق من غرق منهم، مع فرعون ولم يبق إلا العبيد والأجراء لم يصبروا عن الرجال فطفقت المرأة تعتق عبدها، وتتزوّجه. وتتزوّج الأخرى أجيرها وشرطن على الرجال أن لا يفعلوا شيئا إلا بإذنهنّ، فأجابوهنّ إلى ذلك.
فكان أمر النساء على الرجال.
فحدّثني ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب: أن نساء القبط على ذلك إلى اليوم إتباعا(1/92)
لمن مضى منهم لا يبيع أحدهم ولا يشتري إلا قال: استأمر امرأتي. وقال: إن فرعون لما غرق ومعه أشراف مصر. لم يبق من الرجال من يصلح للمملكة، فعدّ الناس في مراتبهم بنت الملك؛ ملكة وبنت الوزير وزيرة وبنت الوالي وبنت الحاكم على هذا الحكم، وكذلك بنات القوّاد، والأجناد فاستولت النساء على المملكة مدّة سنين وتزوّجن بالعبيد واشترطن عليهم أن الحكم والتصرف لهنّ. فاستمرّ ذلك مدّة من الزمان، ولهذا صارت ألوان أهل مصر سمرا من أجل أنهم أولاد العبيد السود الذين نكحوا نساء القبط بعد الغرق، واستولدوهنّ؟!. وأخبرني الأمير الفاضل الثقة ناصر الدين محمد بن محمد بن الغرابيلي الكركيّ رحمه الله تعالى: أنه مذ سكن مصر يجد من نفسه رياضة في أخلاقه وترخصا لأهله ولينا ورقة طبع من قلة الغيرة، ومما لم نزل نسمعه دائما بين الناس إن شرب ماء النيل ينسي الغريب وطنه.
ومن أخلاق أهل مصر الإعراض عن النظر في العواقب فلا تجدهم يدّخرون عندهم زادا كما هي عادة غيرهم من سكان البلدان بل يتناولون أغذية كل يوم من الأسواق بكرة وعشيا.
ومن أخلاقهم: الانهماك في الشهوات والإمعان من الملاذ وكثرة الاستهتار وعدم المبالاة قال لي شيخنا الأستاذ أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون رحمه الله تعالى: أهل مصر كأنما فرغوا من الحساب. وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه سأل كعب الأحبار عن طبائع البلدان، وأخلاق سكانها فقال: إن الله تعالى لما خلق الأشياء جعل كل شيء لشيء فقال العقل: أنا لاحق بالشام، فقالت الفتنة: وأنا معك، وقال الخصب: أنا لاحق بمصر، فقال الذل: وأنا معك، وقال الشقاء: أنا لاحق بالبادية، فقالت الصحة: وأنا معك.
ويقال: لما خلق الله الخلق خلق معهم عشرة أخلاق: الإيمان والحياء والنجدة والفتنة والكبر والنفاق والغنى والفقر والذل والشقاء، فقال الإيمان: أنا لاحق باليمن، فقال الحياء:
وأنا معك. وقالت النجدة: أنا لا حقة بالشام، فقالت الفتنة: وأنا معك. وقال الكبر: أنا لاحق بالعراق، فقال النفاق: وأنا معك. وقال الغنى: أنا لاحق بمصر، فقال الذل: وأنا معك. وقال الفقر: أنا لاحق بالبادية، فقال الشقاء: وأنا معك.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: المكر عشرة أجزاء. تسعة منها في القبط وواحد في سائر الناس. ويقال: أربعة لا تعرف في أربعة: السخاء في الروم، والوفاء في الترك، والشجاعة في القبط، والعمر في الزنج.
ووصف ابن العربية «1» أهل مصر فقال: عبيد لمن غلب. أكيس الناس صغارا،(1/93)
وأجلهم كبارا. وقال المسعودي: لما فتح عمر بن الخطاب رضي الله عنه البلاد على المسلمين من العراق والشام ومصر، وغير ذلك، كتب إلى حكيم من حكماء العصر: إنا لناس عرب قد فتح الله علينا البلاد، ونريد أن نتبوّأ الأرض، ونسكن البلاد، والأمصار.
فصف لي المدن وأهويتها ومساكنها وما تؤثره الترب والأهوية في سكانها. فكتب إليه: وأما أرض مصر؛ فأرض قوراء غوراء ديار الفراعنة، ومساكن الجبابرة ذمّها أكثر من مدحها، هواؤها كدر، وحرّها زائد، وشرّها مائد تكدر الألوان والفطن وتركب الإحن وهي معدن الذهب والجوهر، ومغارس الغلات. غير أنها تسمن الأبدان وتسودّ الإنسان وتنمو فيها الأعمار وفي أهلها مكر ورياء وخبث ودهاء وخديعة. وهي بلدة مكسب ليست بلدة مسكن لترادف فتنها واتصال شرورها.
وقال عمر بن شبه: ذكر ابن عبيدة في كتاب أخبار البصرة عن كعب الأحبار: خير نساء على وجه الأرض: نساء أهل البصرة إلا ما ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم من نساء قريش، وشرّ نساء على وجه الأرض: نساء أهل مصر.
وقال عبد الله بن عمرو: لما أهبط إبليس، وضع قدمه بالبصرة، وفرخ بمصر. وقال كعب الأحبار: ومصر أرض نجسة كالمرأة العاذل يطهرها النيل كل عام.
وقال معاوية بن أبي سفيان: وجدت أهل مصر ثلاثة أصناف: فثلث ناس، وثلث يشبه الناس، وثلث لا ناس. فأما الثلث الذين هم الناس: فالعرب، والثلث الذين يشبهون الناس: فالموالي، والثلث الذين لا ناس: المسالمة- يعني القبط-.(1/94)
ذكر شيء من فضائل النيل
أخرج مسلم من حديث أنس رضي الله عنه في حديث المعراج: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:
«ثم رفعت لي سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر وإذا ورقها مثل آذان الفيلة. قلت: ماذا يا جبريل؟ قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان، ونهران ظاهران.
فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات» . وفي التوراة: وخلق فردوسا في عدن، وجعل الإنسان فيه وأخرج منه نهران فقسمهما أربعة أجزاء: جيحون المحيط بأرض حويلا، وسيحون المحيط بأرض كوش وهو نيل مصر ودجلة الأخذ إلى العراق والفرات.
وروى ابن عبد الحكم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: نيل مصر سيد الأنهار سخر الله له كل نهر بين المشرق والمغرب، فإذا أراد الله أن يجري نيل مصر أمر كل نهر أن يمدّه فتمدّه الأنهار بمائها وفجر الله له الأرض عيونا فأجرته إلى ما أراد الله عز وجل.
فإذا انتهت جريته أوحى إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره.
وعن يزيد بن أبي حبيب: أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه سأل كعب الأحبار: هل تجد لهذا النيل في كتاب الله خبرا؟ قال: أي والذي فلق البحر لموسى إني لأجده في كتاب الله إن الله يوحي إليه في كل عام مرّتين يوحي إليه عند جريته أن الله يأمرك أن تجري فيجري ما كتب الله له، ثم يوحي إليه بعد ذلك يا نيل عد حميدا. وعن كعب الأحبار أنه قال: أربعة أنهار من الجنة وضعها الله في الدنيا: النيل نهر العسل في الجنة، والفرات نهر الخمر في الجنة، وسيحان نهر الماء في الجنة، وجيحان نهر اللبن في الجنة.
وقال المسعودي: نهر النيل من سادات الأنهار وأشراف البحار لأنه يرج من الجنة على ما ورد به خبر الشريعة. وقد قال: إن النيل إذا زاد غاضت له الأنهار والأعين والآبار، وإذا غاض زادت فزيادته من غيضها وغيضه من زيادتها وليس في أنهار الدنيا نهر يسمى بحرا غير نيل مصر لكبره واستبحاره.
وقال ابن قتيبة «1» في كتاب غريب الحديث: وفي حديثه عليه السلام: «نهران مؤمنان،(1/95)
ونهران كافران. أما المؤمنان: فالنيل والفرات، وأما الكافران: فدجلة ونهر بلخ» . إنما جعل النيل والفرات مؤمنين على التشبيه لأنهما يفيضان على الأرض ويسقيان الحرث، والشجر بلا تعب في ذلك ولا مؤنة، وجعل دجلة ونهر بلخ كافرين لأنهما لا يفيضان على الأرض ولا يسقيان إلا شيئا قليلا، وذلك القليل بتعب ومؤنة فهذان في الخير والنفع كالمؤمنين، وهذان في قلة الخير والنفع كالكافرين.
ذكر مخرج النيل وانبعاثه
اعلم أن البحر المحيط بالمعمور إذا خرج منه نهر الهند، افترق قطعا كما تقدّم وكان منه قطعة تسمى بحر الزنج «1» وهي مما يلي: بلاد اليمن وبحر بربر.
وفي هذه القطعة عدّة جزائر منها: جزيرة القمر- بضم القاف وإسكان الميم وراء مهملة-. ويقال لهذه الجزيرة أيضا: جزيرة ملاي، وطولها أربعة أشهر في عرض عشرين يوما إلى أقل من ذلك؛ وهذه الجزيرة تحاذي جزيرة سرنديب، وفيها عدة بلاد كثيرة منها قمرية، وإليها ينسب الطائر القمري، ويقال: إن بهذه الجزيرة خشب ينحت من الخشبة ساق طوله ستون ذراعا يجذف على ظهره مائة وستون رجلا، وإن هذه الجزيرة ضاقت بأهلها فبنوا على الساحل محلات يسكنونها في سفح جبل يعرف بهم يقال له: جبل القمر.
واعلم أن الجبال كلها متشعبة من الجبل المستدير بغالب معمور الأرض، وهو المسمى بجبل قاف وهو أم الجبال، كلها تتشعب منه فيتصل في موضع، وينقطع في آخر، وهو كالدائرة لا يعرف له أوّل إذ كان كالحلقة المستديرة لا يعرف طرفاها وإن لم يكن استدارة كريه ولكنها استدارة إحاطة.
وزعم قوم أن أمّهات الجبال جبلان: خرج أحدهما من البحر المحيط في المغرب آخذا جنوبا، وخرج الآخر من البحر الرومي آخذا شمالا، حتى تلاقيا عند السدّ، وسموا الجنوبيّ قاف، وسموا الشمالي قاقونا، والأظهر أنه جبل واحد، ومحيط بغالب بسيط المعمور، وأنه هو الذي يسمى بجبل قاف، فيعرف بذلك في الجنوب ويعرف في الشمال بجبل قاقونا. ومبدأ هذا الجبل المحيط من كتف السدّ آخذا من وراء صنم الخط المشجوج إلى شعبته الخارجة منه المعمول بها باب الصين أخذا على غربي صين الصين، ثم ينعطف على جنوبه مستقيما في نهاية الشرق على جانب البحر المحيط، مع الفرجة المنفرجة بينه وبين البحر الهندي الداخلة، ثم ينقطع عند مخرج البحر الهنديّ المحيط مع خط الاستواء.
حيث الطول مائة وسبعون درجة، ثم يتصل من شعبة البحر الهندي الملاقي لشعبة المحيط الخارجة إلى بحر الظلمات من الشرق بجنوب كثير من وراء مخرج البحر الهندي في(1/96)
الجنوب؛ وتبقى الظلمات من هاتين الشعبتين شعبة المحيط الجائية على جنوب الظلمات شرقا مغربا؛ ومخرج البحر الهندي الجائية على الظلمات حتى تتلاقى الشعبتان عند مخرج هذا الجبل كتفصيل السراويل؛ ثم ينفرج برأس البحرين شعبتان على مبدأ هذا الجبل، ويبقى الجبل بينهما كأنه خارج من نفس الماء.
ومبدأ هذا الجبل هنا وراء قبة أرين عن شرقيها، وبعده منها خمس عشرة درجة.
ويقال لهذا الجبل في أوّله: المجرّد، ثم يمتد حتى ينتهي في القسم الغربي إلى طوله إلى خمس وستين درجة؛ من أوّل المغرب وهناك يتشعب من الجبل المذكور جبل القمر، وينصب منه النيل وبه أحجار برّاقة كالفضة تتلألأ تسمى: ضحكة الباهت كل من نظرها ضحك، والتصق بها حتى يموت ويسمى: مغناطيس الناس. ويتشعب منه شعب تسمى:
أسيفي أهله كالوحوش، ثم ينفرج منه فرجة ويمرّ منه شعب إلى نهاية المغرب في البحر المحيط يسمى: جبل وحشية به سباع لها قرون طوال لا تطاق، وينطف دون تلك الفرجة من جبل قاف شعاب منها شعبتان إلى خط الاستواء يكتنفان مجرى النيل من الشرق والغرب، فالشرقي يعرف: بجبل قاقول، وينقطع عند خط الاستواء.
والغربي يعرف: بأدمرية يجري عليه نيل السودان المسمى ببحر الدمادم، وينقطع تلقاء مجالات الحبشة ما بين مدينة سفرة وحيمى وراء هذه الشعبة يمتدّ منه شعبة هي الأم من الموضع المعروف فيه الجبل بأسيفي المذكور إلى خط الاستواء حيث الطول هناك عشرون درجة، ويعرف هناك بجبل كرسقابه، وبه وحوش ضارية ثم ينتهي إلى البحر المحيط، وينقطع دونه بفرجة. وذلك وراء التكرور عند مدينة قلمتبور أو وراء هذا الجبل سودان يقال لهم: تمتم يأكلون الناس، ثم تتصل الأم من ساحل البحر الشامي في شماله شرقي رومية الكبرى مسامتا للشعبة المسماة أدمدمه المنقطعة بين سمعرة، وحيمي لا يكاد يخطوها حيث الطول خمس وثلاثون درجة، ويقع منشأ اتصال هذه الأم على عرض خمسين درجة، وكذلك تقطع شعبها الآخذة في الجنوب على عرض خمسين درجة عند آخرها ما بين سردانة وبلنسية «1» وتتناهى، وصلة هذه الأم إلى البحر المحيط في نهاية الشمال قبالة جزيرة بركانية. وتبقى سوسية داخل الجبل.
ثم تمتد هذه الأم بعد انقطاع لطيف، وينعطف انعطاف خرجة البحر المحيط في المغرب على الصقلب المسماة ببحر الأنفلشين، ممتدا إلى غاية المشرق ويسمى هناك بجبل قاقونا ويبقى وراءه البحر جامدا لشدة البرد، ثم ينعطف من الشمال إلى المشرق جنوبا بتغريب إلى كتف السدّ الشمالي فيتلاقى هناك الطرفان وبينهما في الفرجة المنفرجة سوّى ذو القرنين بين الصدفين.(1/97)
وفي
جزيرة القمر، ثلاثة أنهار: أحدها في شرقيها من قنطورا ومعلا، وثانيها في غربيها ينصب من جبل قدم آدم على مدينة سبا، ويأخذ مارا على مدينة فردرا، وينجر هناك بحيرة في جنوبها مدينة كيما، حيث محل السودان الذين يأكلون الناس. وثالثها في غربيها أيضا ويخرج من الجبل المشبه ماء محدودب الذيل يطوف بمدينة دهما فتبقى مدينة دهما في جزيرة بينهما يكون هو محيطا بها شرقا وجنوبا وغربا ويصير لذلك كالجزيرة، ويتصل شمالها بالبحر الهندي، وتقع مدينة قوارة في غربيه، حيث يصب في البحر الهندي.
ومن جبل القمر يخرج نهر النيل، وقد كان يتبدّد على وجه الأرض فلما قدم نقراوش الحدار بن مصريم الأوّل ابن مركابيل ابن دوابيل بن عرباب ابن آدم عليه السلام إلى أرض مصر ومعه عدّة من بني عرباب، واستوطنوها، وبنوا بها مدينة أمسوس وغيرها من المدائن حفروا النيل حتى أجروا ماءه إليهم، ولم يكن قبل ذلك معتدل الجري بل ينبطح، ويتفرّق في الأرض حتى وجه إلى النوبة الملك نقراوش، فهندسوه وساقوا منه أنهارا إلى مواضع كثيرة من مدنهم التي بنوها، وساقوا منه نهرا إلى مدينة أمسوس، ثم لما خربت أرض مصر بالطوفان، وكانت أيام البودشيرين قفط بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام عدل جانبي النيل تعديلا ثانيا بعدما أتلفه الطوفان.
قال الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه فملك البودشير، وتجبر، وهو أوّل من تكهن، وعمل بالسحر، واحتجب عن العيون وقد كانت أعمامه أشمن وأتريب وصا ملوكا على أحيازهم. إلا أنه قهرهم بجبروته، وقوّته فكان الذكر له كما تجبر أبوه على من قبله لأنه كان أكبرهم ولذلك أغضوا عنه فيقال: إنه أرسل هرمس- الكاهن المصري- إلى جبل القمر الذي يخرج النيل من تحته، حتى عمل هناك التماثيل النحاس، وعدل البطيحة التي ينصب فيها ماء النيل. ويقال: إنه الذي عدل جانبي النيل، وقد كان يفيض وربما انقطع في مواضع.
وهذا القصر الذي فيه تماثيل النحاس يشتمل على خمس وثمانين صورة جعلها هرمس جامعة لما يخرج من ماء النيل بمعاقد ومصاب مدورة وقنوات يجري فيها الماء وينصب إليها إذا خرج من تحت جبل القمر حتى يدخل من تلك الصور، ويخرج من حلوقها، وجعل لها قياسا معلوما بمقاطع، وأذرع مقدّرة، وجعل ما يخرج من هذه الصور من الماء ينصب إلى الأنهار ثم يصير منها إلى بطيحتين، ويخرج منهما حتى ينتهي إلى البطيحة الجامعة للماء الذي يخرج من تحت الجبل، وعمل لتلك الصور مقادير من الماء الذي يكون معه الصلاح بأرض مصر. وينتفع به أهلها دون الفساد، وذلك الانتهاء المصلح ثمانية عشر ذراعا بالذراع الذي مقداره اثنان وثلاثون إصبعا. وما فضل عن ذلك عدل عن يمين تلك الصور، وشمالها إلى مسارب يخرج، ويصب في رمال وغياض لا ينتفع بها من خلف خط الاستواء. ولولا ذلك لغرّق ماء النيل البلدان التي يمر عليها.(1/98)
قال: وكان الوليد بن دومع العمليقي، قد خرج في جيش كثيف يتنقل في البلدان، ويقهر ملوكها ليسكن ما يوافقه منها. فلما صار إلى الشام انتهى إليه خبر مصر، وعظم قدرها وإن أمرها قد صار إلى النساء، وباد ملوكها. فوجه غلاما له يقال له: عون إلى مصر، وسار إليها بعده، واستباح أهلها وأخذ الأموال، وقتل جماعة من كهنتها، ثم سنح له أن يخرج ليقف على مصب النيل. فيعرف ما بحافتيه من الأمم فأقام ثلاث سنين يستعدّ لخروجه وخرج في جيش عظيم فلم يمرّ بأمّة إلا أبادها، ومرّ على أمم السودان، وجاوزهم ومرّ على أرض الذهب، فرأى فيها قضبانا نابتة من ذهب، ولم يزل يسير حتى بلغ البطيحة التي ينصب ماء النيل فيها من الأنهار التي تخرج من تحت جبل القمر. وسار حتى بلغ البطيحة هيكل الشمس، وتجاوزه حتى بلغ جبل القمر، وهو جبل عال وإنما سمي: جبل القمر لأنّ القمر لا يطلع عليه لأنه خارج من تحت خط الاستواء، ونظر إلى النيل يخرج من تحته فيمرّ في طريق وأنهار دقاق حتى ينتهي إلى حظيرتين، ثم يخرج منهما في نهرين حتى ينتهي إلى حظيرة أخرى، فإذا جاوز خط الاستواء مدّته عين تخرج من ناحية نهر مكران بالهند؛ وتلك العين أيضا تخرج من تحت جبل القمر إلى ذلك الوجه. ويقال: إن نهر مكران، مثل النيل يزيد وينقص، وفيه التماسيح والأسماك التي مثل أسماك النيل.
ووجد الوليد بن دومع: القصر الذي فيه التماثيل النحاس التي عملها هرمس الأوّل في وقت البودشير بن قنطريم بن قبطيم ابن مصرايم. وقد ذكر قوم من أهل الأثر أن الأنهار الأربعة تخرج من أصل واحد من قبة في أرض الذهب التي من وراء البحر المظلم وهي سيحون، وجيحون، والفرات، والنيل. وأن تلك الأرض من أرض الجنة. وأن تلك القبة من زبرجد، وأنها قبل أن تسلك البحر المظلم أحلى من العسل وأطيب رائحة من الكافور.
وممن جاء بهذا رجل من ولد العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام وصل إلى تلك القبة؛ وقطع البحر المظلم وكان يقال له: حايد، وقال آخرون: تنقسم هذه الأنهار على اثنين وسبعين قسما حذاء اثنين وسبعين لسانا للأمم. وقال آخرون: هذه الأنهار من ثلوج تتكاثف ويذيبها الحرّ، فتسيل إلى هذه الأنهار وتسقي من عليها لما يريد الله عز وجل من تدبير خلقه قالوا: ولما بلغ الوليد جبل القمر، رأى جبلا عاليا؛ فعمل حيلة إلى أن صعد إليه ليرى ما خلفه، فأشرف على البحر الأسود الزفتي المنتن، ونظر إلى النيل يجري عليه كالأنهار الدقاق. فأتته من ذلك البحر روائح منتنة هلك كثير من أصحابه من أجلها، فأسرع النزول بعد أن كاد يهلك.
وذكر قوم: أنهم لم يروا هناك شمسا ولا قمرا إلا نورا أحمر كنور الشمس عند غيابها.
وأما ما ذكر عن حايد وقطعه البحر المظلم ماشيا عليه لا يلصق بقدمه منه شيء؛ وكان فيما يذكر نبيا وأوتي حكمة وأنه سأل الله تعالى: أن يريه منتهى النيل، فأعطاه قوّة على ذلك(1/99)
فيقال: إنه أقام يمشي عليه ثلاثين سنة في عمران وعشرين سنة في خراب. قالوا: وأقام الوليد في غيبته أربعين سنة، وعاد ودخل منف، وأقام بمصر فاستعبد أهلها واستباح حريمهم وأموالهم وملكهم مائة وعشرين سنة؛ فأبغضوه وسئموه إلى أن ركب في بعض أيامه متصيدا فألقاه فرسه في وهدة فقتله، واستراح الناس منه.
وقال قدامة بن جعفر «1» في كتاب الخراج: انبعاث النيل من جبل القمر وراء خط الاستواء من عين تجري منها عشرة أنهار كل خمسة منها تصب إلى بطيحة، ثم يخرج من كل بطيحة نهران، وتجري الأنهار الأربعة إلى بطيحة كبيرة في الإقليم الأوّل، ومن هذه البطيحة «2» يخرج نهر النيل.
وقال في كتاب نزهة المشتاق إلى اختراق الآفاق: إن هذه البحيرة تسمى بحيرة كوري منسوبة لطائفة من السودان يسكنون حولها. متوحشين يأكلون من وقع إليهم من الناس، ومن هذه البحيرة يخرج لهم نهر غانة وبحر الحبشة، فإذا خرج النيل منها يشق بلاد كوري، وبلادينه. وهم طائفة من السودان بين كاتم والنوبة فإذا بلغ دنقلة مدينة النوبة عطف من غربيها، وانحدر إلى الإقليم الثاني فيكون على شطيه عمارة النوبة. وفيه هناك جزائر متسعة عامرة بالمدن والقرى ثم يشرق إلى الجنادل.
وقال المسعودي رحمه الله تعالى: رأيت في كتاب جغرافيا: النيل مصوّرا ظاهرا من تحت جبل القمر، ومنبعه ومبدأ ظهوره من اثني عشرة عينا؛ فتصب تلك المياه إلى بحيرتين هنالك كالبطائح ثم يجتمع الماء منهما جاريا فيمرّ برمال هنالك وجبال، ويخرق أرض السودان فيما يلي بلاد الزنج، فيتشعب منه خليج يصب في بحر الزنج، ويجري على وجه الأرض تسعمائة فرسخ. وقيل: ألف فرسخ في عامر وغامر من عمران، وخراب حتى يأتي أسوان من صعيد مصر.
وقال في كتاب هردسوس: نهر النيل مخرجه من ريف بحر القلزم، ثم يميل إلى ناحية الغرب فيصير في وسطه جزيرة، وآخر ذلك يميل إلى ناحية الشمال فيسقي أرض مصر.
وقيل: إن مخرجه من عين فيما يجاوز الجبل، ثم يغيب في الرمال ثم يخرج غير بعيد فيصير له محبس عظيم، ثم يساير البحر المحيط على قفار الحبشة، ثم يميل على اليسار إلى أرض مصر، فيحق ما يظن بهذا النهر أنه عظيم إذ كان مجراه على ما حكيناه.
قال: ونهر النيل وهو الذي يسمى بلون مخرجه خفيّ ولكن ظاهر إقباله من أرض الحبشة، ويصير له هناك محبس عظيم مجراه إليه مائتا ميل وذكر مخرجه حتى ينتهي إلى(1/100)
البحر قال: وكثيرا ما يوجد في نهر النيل التماسيح، وإقبال النيل من أرض الحبشة ليس يختلف فيه أحد، وعدّة أمياله من مخرجه المعروف إلى موقفه مائة ألف وتسعون ألفا وتسعمائة وثلاثون ميلا.
وماء النيل عكر مرمل عذب وفيّ، انتهى. والنيل إذا وصل إلى الجنادل كان عند انتهاء مراكب النوبة انحدار أو مراكب الصعيد إقلاعا. وهناك حجارة مضرسة لا مرور للمراكب عليها إلا في أيام زيادة النيل. ثم يأخذ على الشمال فيكون على شرقيه أسوان من الصعيد الأعلى، ويمرّ بين جبلين يكتنفان أعمال مصر أحدهما شرقيّ والآخر غربي، حتى يأتي مدينة فسطاط مصر، فتكون في بره الشرقيّ. فإذا تجاوز فسطاط مصر بمسافة يوم صار فرقتين: فرقة تمرّ حتى تصب في بحر الروم عند دمياط، وتسمى هذه الفرقة: بحر الشرق، والفرقة الأخرى هي: عمود النيل ومعظمه يقال لها: بحر الغرب تمرّ حتى تصب في بحر الروم أيضا عند رشيد، وكانت مدينة كبيرة في قديم الزمان.
ويقال: إن مسافة النيل من منبعه إلى أن يصب في البحر عند رشيد سبعمائة وثمانية وأربعون فرسخا. وأنه يجري في الخراب أربعة أشهر، وفي بلاد السودان شهرين، وفي بلاد الإسلام مسافة شهر.
وذهب بعضهم إلى أن زيادة ماء النيل إنما تكون بسبب المدّ الذي يكون في البحر فإذا فاض ماؤه تراجع النيل، وفاض على الأراضي ووضع في ذلك كتابا حاصله: إن حركة البحر التي يقال لها المدّ والجزر، توجد في كل يوم وليلة مرّتين، وفي كل شهر قمريّ مرّتين، وفي كل سنة مرّتين. فالمدّ والجزر اليوميّ تابع لقرص القمر، ويخرج الشعاع عنه من جنبتي جرم الماء.
فإذا كان القمر وسط السماء كان البحر في غاية المدّ، وكذا إذا كان القمر في وتد الأرض فإذا بزغ القمر طالعا من الشرق أو غرب كان الجزر. والمدّ الشهري يكون عند استقبال القمر للشمس في نصف الشهر، ويقال له: الامتلاء أيضا عند الاجتماع، ويقال له: السرار.
والجزر يكون أيضا في وقتين عند تربيع القمر للشمس في سابع الشهر، وفي ثاني عشريه.
والمدّ السنوي يكون أيضا في وقتين: أحدهما عند حلول الشمس آخر برج السنبلة، والآخر عند حلول الشمس بآخر برج الحوت، فإن اتفق أن يكون ذلك في وقت الامتلاء أو الاجتماع، فإنه حينئذ يجتمع الامتلاءان الشهريّ والسنويّ، ويكون عند ذلك البحر في غاية الفيض لا سيما إن وقع الاجتماع أو الامتلاء في وسط السماء، ووقع مع النيرين أو مع أحدهما أحد الكواكب السيارة فإنه يعظم الفيض. فإن وقع كوكب فصاعدا مع أحد النيرين، تزايد عظم الفيض، وكانت زيادة النيل تلك السنة عظيمة جدا، وزاد أيضا نهر مهران. فإن كان الاجتماع أو الامتلاء زائلا عن وسط السماء، وليس مع أحد النيرين كوكب فإن النيل ونهر مهران لا يبلغان غاية زيادتهما لعدم الأنوار التي تثير المياه.(1/101)
ويكون بمصر في السنة الغلاء والجزء السنوي يكون عند حلول الشمس برأسي الجدي والسرطان. فأما المدّ اليوميّ الدافع من البحر المحيط فإنه لا ينتهي في البحر الخارج من المحيط أكثر من درجة واحدة فلكية، ومساحتها من الأرض نحو من ستين ميلا ثم ينصرف، وانصرافه هو الجزر وكذلك الأودية إذا كانت الأرض وهدة، والمدّ الشهري ينتهي إلى أقاصي البحار، وهو يمسكها حتى لا تنصب في البحر المحيط، وحيث ينتهي المدّ الشهريّ فهناك منتهى ذلك البحر وطرفه. وأما المدّ السنوي فإنه يزيد في البحار الخارجة عن البحر المحيط زيادة بينة، ومن هذه الزيادة تكون زيادة النيل وامتلاؤه، وامتلاء نهر مهران، والديتلو الذي ببلاد السند. قال: ولما جاء أرسطو إلى مصر مع الإسكندر ورأى مصب النيل، وعلم أن من المحال أن يكون النيل في أسوان واد من الأودية. وكلما استحل اتسع حتى أن عرضه في أسفل ديار مصر لينتهي إلى مائة ميل عند غاية الفيض، وله أفواه كثيرة شارعه في البحر تسع كل ما يهبط من الميزان في ذلك الصنع، فرأى محالا أن يكون الوادي بحيث يضيق أسفله عن حمل ما يأتي به أعلاه مع ضيق أعلاه وسعة أسفله.
فلما رأى ذلك قال: إن رياحا تستقبل جرية الماء وتردعه، فيفيض لذلك. وقال الإسكندر: إن من المحال أن يكون الريح يردع الماء السائل في الوادي حتى يفيض أكثر من مائة ميل، ولو كانت الريح تفعل ذلك لكان الماء السائل ينفلت من أسفل الوادي، ويسيل إلى البحر، لأن البحر لا يمسك إلا أعلاه؛ ولكن الرياح تقذف الرمل في أفواه تلك الشوارع التي تفضي إلى البحر، فيعثر بها شبه الردم فيفيض. قال: وأغفل أن الرمل جسم متخلخل، فالماء يتخلله وينفذه سائلا إلى البحر، مع أن الرمل لم يعتل اعتلاء يظهر للحسن، والماء سائل في كل حين على حلق تنيس ودمياط وحلق رشيد وحلق الإسكندرية، ففطنوا لاستحالة كونه سائلا عن سيل حامل ونسبوا توقفه إلى الريح والرمل. وهم استقصوا الهواء واستقصوا الأرض وأغفلوا الاستقصاء الثالث الذي هو الماء لأنهم لم يعرفوا حركة البحر السنوية لأنها لا تبلغ الغاية إلا في ثلاثة أشهر فلا يظهر مقدار صعودها في كل يوم للحس. ولذلك وضع أمير مصر المقياس بديار مصر.
قال: والمدّ كله واحد وهو أن القمر يقابل الماء كما تقابل الشمس الأرض، فنور القمر إذا قابل كرة الأرض سخنها كما تسخن الشمس الهواء المحيط فيعتري الهواء المحيط بالماء بعض تسخين يذيب الماء، فيفيض وينمى بخاصته كالمرآة المحرقة الملهبة للجوّ حتى تحرق القطنة الموضوعة بين المرآة والشمس. فهذا مثاله في المقابلة ومثاله في المسرار كون الزجاجة المملوءة ما يلقى الشعاع إلى حلقها، فتحترق القطنة أيضا. فالقمر جسم نوريّ باكتسابه ذلك من الشمس. فإذا حال بين الشمس والأرض خرج عن جانبي الماء شعاع نافذ يمرّ مع جنبي الماء فيسخن ما قابله فينمو. والماء جسم شفاف عن جانبيه يخرج الشعاع كما(1/102)
يخرج عن جانبي الزجاجة، فيحدث لها نور يسخن الهواء الذي يحيط بالزجاجة أو بالأرض، فيقترف الماء شبه تسخين ينمي به ويزيد وذلك قبالة القرص، وقبالة مخرج الشعاع من قبالة وتد القمر، فهذا هو المدّ دائما، ويستدير باستدارة الفلك، وتدويره لفلك القمر وتدوير فلك القمر للقمر.
والمدّ الشهريّ هو أن يقابل القمر الشمس أو يستتر تحتها. لأنه ليس إلا كون القمر قبالة الشمس لكونه في تربيع الشمس أضعف وفي المقابلة أقوى، وكذلك إذا قابلها على وسط كرة الأرض بحيث تكون الحركة أشدّ، والاكتناف للماء والأرض أعم فذلك هو المدّ السنوي.
فصل في الردّ على من اعتقد أن النيل من سيل يفيض
أما العامة فليس عندهم ما يجيء على وجه الأرض أنه سيل، ومن تفطن إلى عظمه واتساعه في أسفله وضيقه في أعلاه، ولم ينظر إلى ماء ولا أرض، ولا هواء. نسب ذلك إلى الخيال المحض.
كما فعل صاحب كتاب المسالك والممالك: الذي زعم أن الماء يسافر من كل أرض، وموطن إلى النيل تحت الأرض فيمدّه لأن النيل إنما يفيض في الخريف. والعيون والآبار في ذلك الوقت يقل ماؤها، والنيل يكثر فرأوا كثرة وقلة فأضافوا أحدهما إلى الآخر بالخيال، ومما يدلك على أنه ليس عن سيل يفيض أن السيل يكون في غير وقت فيض البحر، ولا يفيض النيل لكون البحر في الجزر، فيصل السيل ويمرّ نحو البحر، فلا يردعه رادع..
ومنها: أن فيض النيل على تدريج مدّة ثلاثة أشهر من حلول الشمس رأس السرطان إلى حلولها بآخر برج السنبلة، والناس يحسبون به قبل فيضه بمدّة شهرين ولعامل مصر في وسط النيل مقياس موضوع، وهو سارية فيها خطوط يسمونها أذرعا يعلم بها مقدار صعوده في كل يوم..
ومنها: أن فيضه أبدا في وقت واحد، فلو كان بالسيل لاختلف بعض الاختلاف.
ومنها: أنه قد يجيء السيل في غير هذا الوقت فلا يفيض.
ومنها: أن الحذاق بمصر إذا رأوا الحر يزيد علموا أن النيل سيزيد لأنّ شدّة الحرّ تذيب الهواء فيذوب الماء، ولا يكون إلا عن زيادة كوكب، ودنوّ نور.
ومنها: أن موضع مصبه من أسوان إنما هو واد من الأودية وما أسحل اتسع حتى يكون عرض اتساعه نحوا من مائة ميل وأسوان هو منتهى بلوغ الردع، فما ظنك بسيل مسيره نصف شهر لا نسبة بين مصب أعلاه وأسفله، كيف كان يكون أعلاه لو كان امتلاء أسفله عن(1/103)
السيل! ومنها: أن أهل أسوان إنما يرقبون بلوغ الردع إليهم مراقبة، ويحافظون عليه بالنهار محافظة، فإذا جنّ الليل أخذوا حقة خزف، فوضعوا فيها مصباحا، ثم يضعونه على حجر معدّ عندهم لذلك. وجعلوا يرقبونه فإذا طفىء المصباح يطفو الماء عليه علموا أن الردع قد وصل غايته المعهودة عندهم بأخذه في الجزر فيكتبوا بذلك إلى أمير مصر يعلموه أن الردع قد وصل غايته المعهودة عندهم وأنهم قد أخذوا بقسطهم من الشرب. فحينئذ يأمر بكسر الأسداد التي على أفواه قرص المشارب، فيفيض الماء على أرض مصر دفعة واحدة.
ومنها: أن جميع تلك المشارب تسدّ عند ابتداء النيل بالخشب، والتراب ليجتمع ما يسيل من الماء العذب في النيل، ويكثر ويعم جميع أرضهم ويمنع بجملته دخول الماء الملح عليه. فلو كان سيلا ما احتاج إلى ذلك، ولفتحت له أفواه قرص المشارب عند ابتداء ظهوره.
ومنها: أن الخلجان إذا سدّت ولم يكن لها رادع من البحر كان السيل من جنبه إلى البحر إذ أسفل النيل أوسع وأخفض من أعلاه.
ومنها: أن ماء البحر يصعد أكثر من عشرين ميلا في حلق رشيد وتنيس ودمياط، كما يفعل في سائر الأودية التي تدخل المدّ والجزر، فلو كان النيل خاليا من الماء العذب، وصل البحر من أسوان إلى منتهى بلوغ الردع، لأن الماء يطلب بطبعه ما انخفض من الأرض وأن يكون في صفحة كرة مستوية الخطوط الخارجة من النقطة إلى المحيط متساوية.
ومنها: أنها إذا فتحت تلك الأسداد، وكسرت الخلج، وفاض النيل على بطائح أرض مصر. شعر بذلك أهل أسوان للحين، وقالوا في هذه الساعة كسرت الخلج، وفاض ماء النيل على أرض مصر، لأن ذلك يتبين لهم بتحوّل الماء دفعة، فلو كان سيلا وهم على أعلى المصب لقالوا: قد ارتفع المطر عن الأرض التي يسيل منها السيل.
ومنها: أن قسميه الذي يمرّ ببلاد الحبشة المنبعث وإياه من جبل القمر لا يفيض كمدّة فيض النيل ثلاثة أشهر، ولا يقيم على وجه الأرض مدّة مقامه. لكنه إذا كثر فيه السيل غمر جوانبه على قدر انبساطها، وإذا نصبت مادّته أردع عليه، فلو كان فيض النيل عن السيل وهما من شعب واحد لكان شأنهما واحدا، ولا نقول: إن فيض النيل بسبب فيض البحر فقط إذ لولا كونه سيل ماء لما دخل ردع البحر إليه ولكان شاطىء ديار مصر كسائر السواحل المجاورة له. ولولا السيل السائل فيه لردمه البحر إذ عادة البحر ردم السواحل، وإنما دخل الشك على أهل مصر في أيام النيل، لأنهم لم يشاهدوا منشأه، ولا عاينوا مبدأه من جبل القمر. لأنه في موضع لا ساكن عليه، ولا تحققوا المدّ السنويّ الرادع له، فلم يتحققوا شيئا من أمره، لأنه بعيد من أذهان العامّة أن يعلموا: أن ماء البحر يعظم في أيام الصيف، لأن المعهود عندهم في البحر أن يعظم في أيام الشتاء، وطمو البحر في الشتاء إنما يكون عن(1/104)
الرياح الهابة عليه من أحد جانبيه، فيفيض ويخرج إلى الجانب الآخر، إلا ما كان من البحر المحيط فإنه يتحرّك أبدا من داخل البحر إلى البر.
وهو أن المحيط يطلب بطبعه أن يكون على وجه الأرض، والأرض ليست بسيطة، فهي تمانعه بما فيها من التركيب فهو يطلب أبدا أن يعلوها ويركبها ببردها. قال: والسبب في عظم المدّ والجزر كثرة الأشعة. فإذا زاحمت الشمس والقمر، الكواكب السيارة عظم فيض البحر، وإذا عظم فيض البحر فاضت الأنهار، وكذلك إذا نهض القمر لمقابلة أحد السيارة ارتفع البخار، وصعد إلى كورة الزمهرير، ونزل المطر فإذا فارق القمر الكواكب ارتفع المطر لكثرة التحليل. كما يكون في نصف النهار عند توسط الشمس لرؤوس الخلق، وكما يكون عند حلول الكواكب الكبيرة على وسط خط أرين، والله تعالى أعلم بالصواب.
قال مؤلفه رحمه الله تعالى: الذي تحصل من هذا القول إن النيل مخرجه من جبل القمر. وأن زيادته إنما هي من فيض البحر عند المدّ فأما كون مخرجه من جبل القمر فمسلم، إذ لا نزاع في ذلك.
وأما كون زيادته لا تكون إلا من ردع البحر له بما حصل فيه من المدّ فليس كذلك.
نعم توالى هبوب الرياح الشمالية على وفور الزيادة، وردع البحر له إعانة على الزيادة، ومن تأمل النيل علم أن سيلا سال فيه، ولا بد فإنه لا يزال أيام الشتاء، وأوائل فصل الربيع ماؤه صافيا من الكدرة فإذا فرغت أيام زيادته، وكان في غاية نقصه تغير طعمه، ومال لونه إلى الخضرة، وصار بحيث إذا وضع في إناء يرسب منه شبه أجزاء صغيرة من طحلب. وسبب ذلك: أن البطيحة التي في أعالي الجنوب تردها الفيلة ونحوها من الوحوش حتى يتغير ماؤها فإذا كثرت أمطار الجنوب في فصل الصيف، وعظمت السيول الهابطة في هذه البطيحة، فاض منها ما تغير من الماء وجرى إلى أرض مصر فيقال عند ذلك: توحم النيل، ولا يزال الماء كذلك حتى يعقبه ماء متغير، ويزاد عكره بزيادة الماء، فإذا وضع منه أيام الزيادة شيء في إناء رسب بأسفله طين لم يعهد فيه قبل أيام الزيادة وهذا الطين هو الذي تحمله السيول التي تنصب في النيل حتى تكون زيادته منها وفيه يكون الزرع بعد هبوط النيل، وإلا فأرض مصر سبخة لا تنبت، ولا ينبت منها إلا ما مرّ عليه ماء النيل، وركد منه هذا الطين وقوله: إن السيل يكون في غير وقت فيض البحر ولا يفيض النيل لكون البحر في الجزر فيصل السيل، ويمرّ نحو البحر، فلا يردعه رادع غير مسلم وإن العادة أن السيول التي عليها زيادة ماء النيل لا تكون إلا عن غزارة الأمطار ببلاد الجنوب وأمطار الجنوب لا تكون إلا في أيام الصيف، ولم يعهد قط زيادة النيل في الشتاء. وأول دليل على أن كون زيادته عن سيل يسيل فيه إنما يزيد بتدريج على قدر ما يهبط فيه من السيول.
وأما استدلاله بصب النيل في أسوان واتساعه أسفل الأرض فإنما ذلك لأنه يصب من(1/105)
علو في منخرق بين جبلين، يقال لهما: الجنادل وينبطح في الأرض حتى يصب في البحر، فاتساعه حيث لا يجد حاجزا يحجزه عن الانبساط. وأما قوله: إن الأسداد إذا كثرت فاض الماء على الأرض دفعة فليس كذلك؟ بل يصير الماء عند كسر كل سدّ من الأسداد في خليج، ثم يفتح ترع من الخليج إلى الخليج إلى ما على جانبه من الأراضي حتى يروى.
فمن تلك الأراضي ما يروى سريعا، ومنها ما يروى بعد أيام، ومنها ما لا يروى لعلوّه.
وأما قوله: إن جميع تلك المشارب تستدّ عند ابتداء صعود النيل ليجتمع ما يسيل من الماء في النيل، ويكثر فيعم جميع أرضهم، ويمنع بجملته دخول الماء الملح عليه، فغير مسلّم أن تكون السداد كما ذكر. بل أراضي مصر أقسام كثيرة منها: عال لا يصل إليه الماء إلا من زيادة كثيرة، ومنها: منخفض يروى من يسير الزيادة والأراضي متفاوتة في الارتفاع والانخفاض تفاوتا كثيرا. ولذلك احتيج في بلاد الصعيد إلى حفر الترع. وفي أسفل الأرض إلى عمل الجسور حتى يحبس الماء ليروي أهل النواحي على قدر حاجتهم إليه عند الاحتياج. وإلا فهو يزيد أولا في غير سقي الأراضي حتى إذا اجتمع من زيادته المقدار الذي هو كفاية الأراضي في وقت خلوّ الأراضي من الغلال. وذلك غالبا في أثناء شهر مسرى فتح سدّ الخليج حتى يجري فيه الماء إلى حدّ معلوم، ووقف حتى يروي ما تحت ذلك الحدّ الذي وقف عنده الماء من الأرض.
ثم فتح ذلك الحدّ في يوم النيروز «1» حتى يجري إلى حدّ آخر، ويقف عنده حتى يروي ما تحت هذا الحدّ الثاني من الأراضي، ثم يفتح هذا الحدّ في يوم عيد «2» الصليب بعد النوروز بسبعة عشر يوما حتى يجري الماء، ويقف على حدّ ثالث حتى يروي ما تحت هذا الحدّ من الأراضي، ثم يفتح هذا الحدّ فيجري الماء، ويروي ما هنالك من الأراضي، ويصب في البحر الملح.
هذا هو الحال في سدود أراضي مصر وقوله: إن ماء البحر يصعد أكثر من عشرين ميلا في حلق رشيد وتنيس ودمياط فلو كان خاليا من الماء العذب لوصل البحر من أسوان إلى منتهى بلوغ الردع فنقول: هذا قول من لم يعرف أرض مصر، فإن النيل عند مصبه بأعالي أسوان يكون أعلى منه عند كونه أسفل الأرض بقامات عديدة. فإذا فاض ماء البحر حبسه أن يتدافع هو وماء النيل، وربما غلب ماء البحر ماء النيل في أيام نقصان النيل حتى يملح ماء النيل فيما بين دمياط وفارس كور.
وأما في أيام زيادة النيل، فإني شاهدت مصب النيل في البحر من دمياط وكل منهما يدافع الآخر فلا يطيقه حتى صارا متمانعين عبرة لمن اعتبر. وقوله: إن الأسداد إذا فتحت(1/106)
علم أهل أسوان بذلك في الحال غير مسلم، بل لم نزل نشاهد النيل في الأعوام الكثيرة إذا فتح منه خليج أو انقطع مقطع فأغرق ماؤه أراضي كثيرة لا يظهر النقص فيه إلا فيما قرب من ذلك الموضع، وما برح المفرد يخرج من قوص ببشارة وفاء النيل. وقد أوفى عندهم ستة عشر ذراعا، فلا يوفي ذلك المقياس بمصر إلا بعد ثلاثة أيام ونحوها. وأما قوله: إن ما كان من النيل يمرّ ببلاد الحبشة يخالفه فليس كذلك، بل الزيادة في النيل أيام زيادته تكون ببلاد النوبة، وما وراءها في الجنوب كما تكون في أرض مصر، ولا فرق بينهما إلا في شيئين:
أحدهما: أنه في أرض مصر يجري في حدود وهناك يتبدّد على الأراضي، والثاني: أن زيادته تعتبر بالقياس في أرض مصر، وهناك لا يمكن قياسه لتبدّده ومن عرف أخبار مصر علم أن زيادة ماء النيل تكون عن أمطار الجنوب.
ويقال: إن النيل ينصب من عشرة أنهار من جبل القمر المتقدّم ذكره. كل خمسة أنهار من شعبة، ثم تتبحر تلك الأنهار العشرة في بحرين، كل خمسة أنهار تتبحر بحيرة بذاتها، ثم يخرج من البحيرة الشرقية بحر لطيف يأخذ شرقا على جبل قاقولي، ويمتدّ إلى مدن هناك، ثم يصب في البحر الهندي.
ويخرج من البحيرتين ستة أنهار من كل بحيرة ثلاثة أنهار، وتجتمع الأنهار الستة في بحيرة متسعة تسمى البطيحة، وفيها جبل يفرّق الماء نصفين يخرج أحدهما من غرب البطيحة، وهو نيل السودان، ويصير نهرا يسمى بحر الدمادم، ويأخذ مغربا ما بين سمغرة وغانة على جنوبيّ سمغرة وشماليّ غانة، ثم ينعطف هناك. منه فرقة ترجع جنوبا إلى غانة، ثم تمرّ على مدينة برنسة، وتأخذ تحت جبل في جنوبها خارج خط الاستواء إلى زفيلة، ثم تتبحر في بحيرة هناك وتستمرّ الفرقة الثانية مغرّبة إلى بلاد مالي والتكرور، حتى تنصب في البحر المحيط شماليّ مدينة قلبتو، ويخرج النصف الآخر متشاملا آخذا على الشمال إلى شرقيّ مدينة حيما، ثم يتشعب منه هناك شعبة تأخذ شرقا إلى مدينة سحرت. ثم ترجع جنوبا ثم تعطف شرقا بجنوب إلى مدينة سحرتة، ثم إلى مدينة مركة.
وينتهي إلى خط الاستواء حيث الطول خمس وستون درجة، ويتبحر هناك بحيرة ويسمى:
عمود النيل من قبالة تلك الشعبة شرقيّ مدينة شيمي متشاملا آخذا على أطراف بلاد الحبشة، ثم يتشامل على بلاد السودان إلى مدينة دنفلة حتى يرمي على الجنادل إلى أسوان، وينحدر وهو يشق بلاد الصعيد إلى مدينة فسطاط مصر، ويمرّ حتى يصب في البحر الشاميّ، وقد استفيض ببلاد السودان أن النيل ينحدر من جبال سود يبين على بعد كأن عليها الغمام ثم يتفرّق نهرين يصب أحدهما في البحر المحيط إلى جهة بحر الظلمة الجنوبيّ، والآخر يتصل إلى مصر حتى يصب في البحر الشاميّ. ويقال: إنه في الجنوب يتفرّق سبعة أنهار تدخل في صحراء منقطعة، ثم تجتمع الأنهار السبعة، وتخرج من تلك الصحراء نهرا واحدا في بلاد السودان.(1/107)
ذكر مقاييس النيل وزيادته
قال ابن عبد الحكم: أوّل من قاس النيل بمصر، يوسف عليه السلام، وضع مقياسا بمنف ثم وضعت العجوز دلوكة ابنة زبا وهي صاحبة حائط العجوز مقياسا بأنصنا «1» . وهو صغير الذرع، ومقياسا بإخميم «2» ، ووضع عبد العزيز بن مروان مقياسا بحلوان «3» ، وهو صغير ووضع أسامة بن زيد التنوخيّ في خلافة الوليد مقياسا بالجزيرة «4» ، وهو أكبرها.
قال يحيى بن بكير: أدركت القياس يقيس في مقياس منف «5» ويدخل بزيادته إلى الفسطاط.
وقال القضاعيّ: كان أوّل من قاس النيل بمصر، يوسف عليه السلام وبنى مقياسا بمنف وهو أوّل مقياس وضعه عليه السلام. وقيل: إن النيل كان يقاس بمصر بأرض علوة إلى أن بنى مقياس منف.
وأن القبط كانت تقيس عليه إلى أن بطل ومن بعده دلوكة العجوز بنت مقياسا بانصنا، وهو صغير الذرع وآخر بأخميم وهي التي بنت الحائط المحيط بمصر. وقيل: إنهم كانوا يقيسون الماء قبل أن يوضع المقياس بالرصاصة فلم يزل المقياس فيما مضى قبل الفتح بقيسارية الأكسية ومعالمه هناك إلى أن ابتنى المسلمون بين الحصن، والبحر أبنيتهم الباقية الآن. وكان للروم أيضا مقياس بالقصر خلف الباب يمنة من دخل منه في داخل الزقاق أثره قائم إلى اليوم وقد بني عليه وحواليه.
ثم بنى عمرو بن العاص عند فتحه مصر مقياسا بأسوان ثم بنى بموضع يقال له:
دندرة، ثم بنى في أيام معاوية مقياس بانصنا، فلم يزل يقاس عليه إلى أن بنى عبد العزيز بن مروان مقياسا بحلوان وكانت منزله، وكان هذا المقياس صغير الذرع. فأمّا المقياس القديم الذي بنى في الجزيرة فالذي وضعه أسامة بن زيد. وقيل: إنه كسر فيه ألفي أوقية، وهو الذي بنى بيت المال بمصر. ثم كتب أسامة بن زيد التنوخيّ، عامل خراج مصر لسليمان بن عبد الملك ببطلانه، فكتب إليه سليمان بأن يبني مقياسا في الجزيرة فبناه في سنة سبع(1/108)
وتسعين، ثم بنى المتوكل فيها مقياسا في أوّل سنة سبع وأربعين ومائتين في ولاية يزيد بن عبد الله التركيّ على مصر. وهو المقياس الكبير المعروف بالجديد وأمر بأن يعزل النصارى عن قياسه، فجعل يزيد بن عبد الله التركيّ على المقياس أبا الردّاد المعلم واسمه: عبد الله بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي الردّاد المؤذن. كان يقول القميّ: أصله بالبصرة قدم مصر وحدث بها وجعل على قياس النيل، وأجرى عليه سليمان بن وهب صاحب خراج مصر يومئذ سبعة دنانير في كل شهر فلم يزل المقياس من ذلك الوقت في يد أبي الردّاد وولده إلى اليوم، وتوفي أبو الردّاد سنة ست وستين ومائتين.
ثم ركب أحمد بن طولون سنة تسع وخمسين ومائتين، ومعه أبو أيوب صاحب خراجه، وبكار بن قتيبة القاضي فنظر إلى المقياس، وأمر بإصلاحه وقدّر له ألف دينار فعمرو بني الحارث في الصناعة مقياسا وأثره باق لا يعتمد عليه.
وقال ابن عبد الحكم: ولما فتح عمرو بن العاص مصر، أتى أهلها إلى عمرو حين دخل بؤنة من أشهر العجم، فقالوا له: أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها. فقال لهم: وما ذاك؟ قالوا: إنه إذا كان لثنتي عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر من أبويها، فأرضينا أبويها، وجعلنا عليها من الحليّ والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في النيل. فقال لهم عمر: وإن هذا لا يكون في الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما كان قبله، فأقاموا بؤنة وأبيب ومسرى، وهو لا يجري قليلا ولا كثيرا حتى هموا بالجلاء، فلما رأى عمرو ذلك كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بذلك فكتب إليه عمر: أن قد أصبت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وقد بعثت إليك ببطاقة، فألقها في داخل النيل إذا أتاك كتابي.
فلما قدم الكتاب إلى عمرو فتح البطاقة فإذا فيها: من عبد الله أمير المؤمنين إلى نيل مصر، أما بعد: فإن كنت تجري من قبلك فلا تجر، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك، فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك. فألقى عمرو البطاقة في النيل قبل يوم الصليب بيوم، وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج منها لأنه لا يقوم بمصلحتهم فيها إلا النيل، وأصبحوا يوم الصليب، وقد أجراه الله تعالى ستة عشر ذراعا في ليله، وقطع تلك السنة السوء عن أهل مصر.
وذكر بعضهم: أن جاحلا الصدفيّ هو الذي جاء ببطاقة عمر رضي الله عنه إلى النيل حين توقف، فجرى بإذن الله تعالى. وقال يزيد بن أبي حبيب: أن موسى عليه السلام دعا على آل فرعون، فحبس الله عنهم النيل حتى أرادوا الجلاء، فطلبوا إلى موسى أن يدعو الله، فدعا الله رجاء أن يؤمنوا، وذلك ليلة الصليب، فأصبحوا، وقد أجراه الله في تلك الساعة ستة عشر ذراعا، فاستجاب الله بطوله لعمر بن الخطاب كما استجاب لنبيه موسى عليه السلام.
قال القضاعي: ووجدت في رسالة منسوبة إلى الحسن بن محمد بن عبد المنعم، قال: لما(1/109)
فتحت العرب مصر عرف عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما يلقي أهلها من الغلاء عند وقوف النيل عن حدّه في مقياس لهم فضلا عن تقاصره، وإن فرط الاستشعار يدعوهم إلى الاحتكار، وأن الاحتكار يدعو إلى تصاعد الأسعار بغير قحط، فكتب عمر إلى عمرو يسأله عن شرح الحال، فأجابه: إني وجدت ما تروي به مصر حتى لا يقحط أهلها أربعة عشر ذراعا، والحدّ الذي يروى منه سائرها حتى يفضل عن حاجتهم، ويبقى عندهم قوت سنة أخرى ستة عشر ذراعا، والنهايتان المخوفتان في الزيادة والنقصان وهما الظمأ والاستئجار اثنا عشر ذراعا في النقصان وثمانية عشر ذراعا في الزيادة هذا، والبلد في ذلك الوقت محفور الأنهار معقود الجسور عند ما تسلموه من القبط، وخميرة العمارة فيه.
فاستشار أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، عليا رضي الله عنه في ذلك فأمره أن يكتب إليه أن يبني مقياسا وأن ينقص ذراعين من اثني عشر ذراعا، وأن يقرّ ما بعدها على الأصل، وأن ينقص من كل ذراع بعد الستة عشر ذراعا إصبعين، ففعل ذلك، وبناه بحلوان فاجتمع له بذلك كل ما أراد من حل الإرجاف، وزوال ما منه كان يخاف بأن جعل الاثني عشر ذراعا أربع عشرة لأن كل ذراع أربع وعشرون إصبعا، فجعلها ثمانيا وعشرين من أوّلها إلى الاثني عشر ذراعا يكون مبلغ الزيادة على الاثني عشر ثمانيا وأربعين إصبعا وهي الذراعان، وجعل الأربع عشرة ست عشرة والست عشرة ثماني عشرة والثماني عشرة عشرين.
قال القضاعيّ: وفي هذا الحساب نظر في وقتنا لزيادة فساد الأنهار وانتقاض الأحوال وشاهد ذلك: أن المقاييس القديمة الصعيدية من أوّلها إلى آخرها أربع وعشرون إصبعا، كل ذراع، والمقاييس الإسلامية على ما ذكر منها المقياس الذي بناه أسامة بن زيد التنوخي بالجزيرة، وهو الذي هدمه الماء وبنى المأمون آخر بأسفل الأرض بالبروذات وبنى المتوكل آخر بالجزيرة، وهو الذي يقاس عليه الماء الآن وقد تقدّم ذكره.
قال ابن عفير «1» عن القبط المتقدّمين إذا كان الماء في اثني عشر يوما من مسرى اثنتي عشرة ذراعا فهي سنة ماء. وإلا فالماء ناقص، وإذا تمّ ست عشرة ذراعا قبل النوروز فالماء يتم فاعلم ذلك. وقال أبو الصلت: وأما النيل وينبوعه فهو من وراء خط الاستواء من جبل هناك يعرف بجبل القمر، فإنه يبتدئ في التزايد في شهر أبيب، والمصريون يقولون: إذا دخل أبيب كان للماء دبيب، وعند ابتدائه في التزايد يتغير جميع كيفياته، ويفسد. والسبب في ذلك مروره بنقائع مياه آجنة يخالطها فيجتلبها معه إلى غير ذلك مما يحتمله فإذا بلغ الماء خمسة عشر ذراعا وزاد من السادس عشر إصبعا واحدا كسر الخليج، ولكسره يوم معدود، ومقام مشهود، ومجتمع خاص يحضره العام والخاص، فإذا كسر فتحت الترع وهي فوهات(1/110)
الخلجان ففاض الماء، وساح وغمر القيعان والبطاح، وانضم الناس إلى أعالي مساكنهم من الضياع والمنازل وهي على آكام وربا لا ينتهي الماء إليها ولا يتسلط السيل عليها، فتعود أرض مصر بأسرها عند ذلك بحرا غامرا لما بين جبليها ريثما يبلغ الحدّ المحدود في مشيئة الله عز وجل له، وأكثر ذلك يحوم حول ثماني عشرة ذراعا، ثم يأخذ عائدا في صبه إلى مجرى النيل ومسربه، فينضب أوّلا عما كان من الأرض عاليا ويصير فيما كان منها متطامنا، فيترك كل قرارة كالدرهم، ويغادر كل ملقة كالبرد المسهم.
وقال القاضي أبو الحسن عليّ بن محمد الماورديّ «1» في كتاب الأحكام السلطانية:
وأما الذراع السوداء فهي أطول من ذراع الدور بأصبع وثلثي أصبع، وأوّل من وضعها أمير المؤمنين هارون الرشيد قدّرها بذراع خادم أسود كان على رأسه قائما، وهي التي تتعامل الناس بها في ذرع البز والتجارة والأبنية، وقياس نيل مصر.
وأكثر ما وجد في القياس من النقصان سنة سبع وتسعين ومائة وجد في المقياس تسعة أذرع وأحد وعشرون أصبعا. وأقل ما وجد منه سنة خمس وستين ومائة فإنه وجد فيه ذراع واحد وعشر أصابع، وأكثر ما بلغ في الزيادة سنة تسع وتسعين ومائة فإنه بلغ ثمانية عشر ذراعا وتسعة عشر أصبعا، وأقل ما كان في سنة ست وخمسين وثلثمائة الهلالية فإنه بلغ اثني عشر ذراعا وتسع عشرة أصبعا، وهي أيام كافور الإخشيدي.
والمقياس عمود رخام أبيض مثمن في موضع ينحصر فيه الماء عند انسيابه إليه، وهذا العمود مفصل على اثنين وعشرين ذراعا، كل ذراع مفصل على أربعة وعشرين قسما متساوية تعرف بالأصابع ما عدا الاثني عشر ذراعا الأولى، فإنها مفصلة على ثمان وعشرين أصبعا كل ذراع.
وقال المسعوديّ: قالت الهند: زيادة النيل ونقصانه بالسيول ونحن نعرف ذلك بتوالي الأنواء وكثرة الأمطار.
وقالت الروم: لم يزد قط ولم ينقص وإنما زيادته، ونقصانه من عيون كثرت واتصلت.
وقالت القبط: زيادته ونقصانه من عيون في شاطئه يراها من سافر ولحق بأعاليه.
وقيل: لم يزد قط وإنما زيادته بريح الشمال إذا كثرت، واتصلت تحبسه، فيفيض على وجه الأرض.
وقال قوم: سبب زيادته هبوب ريح تسمى ريح الملتن، وذلك أنها تحمل السحاب(1/111)
الماطر من خلف خط الاستواء فيمطر ببلاد السودان، والحبشة، والنوبة فيأتي مدده إلى أرض مصر بزيادة النيل، ومع ذلك فإن البحر الملح يقف ماؤه على وجه النيل، فيتوقف حتى يروي البلاد وفي ذلك يقول «1» :
فاسمع فللسامع أعلى يدا ... عندي وأسمى من يد المحسن
فالنيل ذو فضل ولكنه ... الشكر في ذلك للملتن
ويبتدئ النيل بالتنفس، والزيادة بقية بؤنة وهو حزيران، وأبيب وهو تموز، ومسرى وهو آب، فإذا كان الماء زائدا زاد شهر توت كله، وهو أيلول إلى انقضائه. فإذا انتهت الزيادة إلى الذراع الثامن عشر؛ ففيه تمام الخراج وخصب الأرض وهو ضارّ بالبهائم لعدم الرعي والكلا.
وأتمّ الزيادات كلها العامّة النفع للبلد كله سبعة عشر ذراعا وفي ذلك كفايتها وريّ جميع أرضها، وإذا زاد على ذلك، وبلغ ثمانية عشر ذراعا، وغلقها استبحر من أرض مصر الربع. وفي ذلك ضرر لبعض الضياع لما ذكرنا من الاستبحار، وإذا كانت الزيادة على ثمانية عشر ذراعا كانت العاقبة في انصرافه حدوث وباء وأكثر الزيادات ثمان عشرة ذراعا.
وقد بلغ في خلافة عمر بن عبد العزيز اثني عشر ذراعا، ومساحة الذراع إلى أن يبلغ اثنتي عشرة ذراعا، ثمان وعشرون أصبعا، ومن اثنتي عشرة ذراعا إلى ما فوق ذلك يكون الذراع أربعا وعشرين أصبعا، وأقل ما يبقى في قاع المقياس من الماء ثلاثة أذرع، وفي تلك السنة يكون الماء قليلا، والأذرع التي يستسقى عليها بمصر هي ذراعان تسميان منكرا ونكيرا، وهي الذراع الثالث عشر، والذراع الرابع عشر، فإذا انصرف الماء عن هذين الذراعين وزيادة نصف ذراع من الخمس عشرة استستقى الناس بمصر. فكان الضرر الشامل لكل البلدان، وإذا تمّ خمس عشرة ودخل في ست عشرة ذراعا كان فيه صلاح لبعض الناس، ولا يستسقى فيه وكان ذلك نقصا من خراج السلطان، والنبيذ يتخذ بمصر من ماء طوبة، وهو كانون الثاني بعد الغطاس، وهو لعشرة تمضي من طوبة، وأصفى ما يكون ماء النيل في ذلك الوقت، وأهل مصر يفتخرون بصفاء ماء النيل في هذا الوقت، وفيه يخزن الماء أهل تنيس ودمياط وتونة وسائر قرى البحيرة.
وقد كانت مصر كلها تروي من ست عشرة ذراعا، غامرها وعامرها لما أحكموا من جسورها وبناء قناطرها، وتنقية خلجانها، وكان الماء إذا بلغ في زيادته تسع أذرع، دخل خليج المنهي، وخليج الفيوم، وخليج سردوس، وخليج سخا.
قال: والمعمول عليه في وقتنا هذا، وهو سنة خمس وأربعين وثلثمائة إنه إن زاد على(1/112)
الستة عشر ذراعا أو نقص عنها نقص من خراج السلطان، وقد تغير في زماننا هذا عامة ما تقدّم ذكره لفساد حال الجسور والترع والخلجان وقانون اليوم: أنه يزيد في القيظ إذا حلت الشمس برج السرطان والأسد والسنبلة حين تنقص عامة الأنهار التي في المعمور، ولذلك قيل: إن الأنهار تمدّه بمائها عند غيضها، فتكون زيادته وتبتدىء الزيادة من خامس بؤنة «1» ، وتظهر في ثاني عشره، وأول دفعه في الثاني من أبيب «2» وتنتهي زيادته في ثامن بابه «3» ، ويؤخذ في النقصان من العشرين منه. فتكون مدّة زيادته من ابتدائها إلى أن ينقص ثلاثة أشهر وخمسة وعشرين يوما. وهي: أبيب ومسرى «4» وتوت «5» وعشرون يوما من بابه، ومدّة مكثه بعد انتهاء زيادته اثنا عشر يوما ثم يأخذ في النقصان.
ومن العادة أن ينادى عليه دائما في اليوم السابع والعشرين من بؤنة بعد ما يؤخذ قاعه، وهو ما بقي من الماء القديم في ثالث عشر بؤنة، وبفتح الخليج الكبير إذا أكمل الماء ستة عشر ذراعا وأدركت الناس يقولون: نعوذ بالله من أصبع من عشرين وكنا نعهد الماء إذا بلغ أصابع من عشرين ذراعا فاض ماء النيل، وغرّق الضياع والبساتين وفارت البلاليع، وها نحن في زمن منذ كانت الحوادث بعد سنة ست وثمانمائة إذا بلغ الماء في سنة أصبعا من عشرين لا يعم الأرض كلها لما قد فسد من الجسور، وكان إلى ما بعد الخمسمائة من الهجرة قانون النيل ستة عشر ذراعا في مقياس الجزيرة، وهي في الحقيقة ثمانية عشر ذراعا؛ وكانوا يقولون: إذا زاد على ذلك ذراعا واحدة؛ زاد خراج مصر مائة ألف دينار لما يروي من الأراضي العالية؛ فإن بلغ ثمانية عشر ذراعا كانت الغاية القصوى، فإن الثمانية عشر ذراعا في مقياس الجزيرة اثنان وعشرون ذراعا في الصعيد الأعلى؛ فإن زاد على الثمانية عشر ذراعا واحدا نقص من الخراج مائة ألف دينار لما يستبحر من الأرض المنخفضة.
قال ابن ميسر في حوادث سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وفيها بلغت زيادة ماء النيل تسعة عشر ذراعا وأربعة أصابع، وبلغ الماء الباب الجديد أوّل الشارع خارج القاهرة، وكان الناس يتوجهون إلى القاهرة من مصر من ناحية المقابر، فلما بلغ الخليفة الحافظ لدين الله أبا الميمون عبد المجيد بن محمد أن الماء وصل إلى الباب الجديد أظهر الحزن، والانقطاع فدخل إليه بعض خواصه، وسأله عن السبب، فأخرج له كتابا فإذا فيه: إذا وصل الماء بالباب الجديد انتقل الإمام عبد المجيد، ثم قال: هذا الكتاب الذي تعلم منه أحوالنا وأحوال دولتنا،(1/113)
وما يأتي بعدها فمرض الحافظ في آخر هذه السنة، ومات في أوّل سنة أربع وأربعين وخمسمائة.
وقال القاضي الفاضل: في متجدّدات سنة ست وسبعين وخمسمائة وفي يوم الاثنين السادس والعشرين من شهر ربيع الأوّل، وهو السادس عشر من مسرى. وفي النيل على ستة عشر ذراعا، وهو الوفاء ولا يعرف وفاؤه بهذا التاريخ في زمن متقدّم، وهذا أيضا مما تغير فيه قانون النيل في زماننا فإنه صار يوفي في أوائل مسرى ولقد كان الوفاء في سنة اثنتي عشرة، وثمانمائة في اليوم التاسع والعشرين من أبيب قبل مسرى بيوم، وهذا من أعجب ما يؤرخ في زيادات النيل، واتفق أن في الحادي عشر من جمادى الأولى سنة تسع وسبعمائة، وفي النيل وكان ذلك اليوم التاسع عشر من بابه بعد النوروز بتسعة وأربعين يوما.
قال: وفي تاسع عشرة يعني شوّال سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة. كسر بحر أبي المنجى وباشر الملك العزيز عثمان كسره وزاد النيل فيه أصبعا وهي الأصبع الثامنة عشرة من ثمان عشرة ذراعا، وهذا الحدّ يسمى عند أهل مصر اللجة الكبرى. فانظر كيف يسمي القاضي الفاضل هذا القدر اللجة الكبرى؟! وإنه والعياذ بالله لو بلغ ماء النيل في سنة هذا القدر فقط لحل بالبلاد غلاء يخاف منه أن يهلك فيه الناس، وما ذاك إلا لما أهمل من عمل الجسور؛ ويحصل لأهل مصر بوفاء النيل ست عشرة ذراعا فرح عظيم، فإن ذلك كان قانون الري في القديم واستمرّ ذلك إلى يومنا هذا. ويتخذ ذلك اليوم عيدا يركب فيه السلطان بعساكره، وينزل في المراكب لتخليق المقياس.
وقد ذكرنا ما كان في الدولة الفاطمية من الاهتمام بفتح الخليج عند ذكر مناظر اللؤلؤة. وقال بعض المفسرين رحمهم الله تعالى: إن يوم الوفا هو اليوم الذي وعد فرعون موسى عليه السلام بالاجتماع في قوله تعالى: قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى
[طه/ 59] .
وقد جرت العادة أن اجتماع الناس للتخليق يكون في هذا الوقت.
ومن أحسن السياسات في أمر النداء على النيل ما حكاه الفقيه ابن زولاق «1» في سيرة المعز «2» لدين الله قال: وفي هذا الشهر، يعني شوّال، سنة اثنتين وستين وثلثمائة منع المعز لدين الله من النداء بزيادة النيل، وأن لا يكتب بذلك إلا إليه، وإلى القائد جوهر، فلما تم(1/114)
أباح النداء، يعني لما تم ست عشرة ذراعا، وكسر الخليج فتأمّل ما أبدع هذه السياسة؛ فإنّ الناس دائما إذا توقف النيل في أيام زيادته، أو زاد قليلا يقلقون، ويحدّثون أنفسهم بعدم طلوع النيل، فيقبضون أيديهم على الغلال، ويمتنعون من بيعها رجاء ارتفاع السعر، ويجتهد من عنده مال في خزن الغلة؛ إما لطلب السعر، أو لطلب ادّخار قوت عياله، فيحدث بهذا الغلاء. فإن زاد الماء انحلّ السعر وإلا كان الجدب والقحط ففي كتمان الزيادة عن العامّة أعظم فائدة، وأجلّ عائدة.
وقال المسبحي «1» في تاريخ مصر: وخرج أمر صاحب القصر إلى ابن حيران بتحرير ما يستفتح به القياسون كلامهم إذا نادوا على النيل، فقال: نعم لا تحصى من خزائن الله لا تفنى زاد الله في النيل المبارك كذا، ومن عادة نيل مصر إذا كان عند ابتداء زيادته اخضرّ ماؤه، فتقول عامّة أهل مصر: قد توحم النيل، ويرون أن الشرب منه حينئذ مضر. ويقال في سبب اخضراره: إنّ الوحوش سيما الفيلة ترد البطيحات التي في أعالي النيل، وتستنقع فيها مع كثرة عددها لشدّة الحرّ هناك، فيتغير ماء تلك البطيحات، فإذا وقع المطر في الجهة الجنوبية في أوقاته عندهم تكاثرت السيول حينئذ في البطيحات، فخرج ما كان فيها من الماء الذي قد تغير، ومرّ إلى مصر، وجاء عقيبه الماء الجديد، وهو الزيادة بمصر وحينئذ يكون الماء محمرّا لما يخالطه من الطين الذي تأتي به السيول فإذا تناهت زيادته غشي أرض مصر، فتصير القرى التي في الأقاليم فوق التلال والروابي، وقد أحاط بها الماء، فلا يتوصل إليها إلا في المراكب، أو من فوق الجسور الممتدّة التي يصرف عليها إذا عملت كما ينبغي ربع الخراج ليحفظ عند ذلك ماء النيل حتى ينتهي ريّ كل مكان إلى الحدّ المحتاج إليه، فإذا تكامل ريّ ناحية من النواحي قطع أهلها الجسور المحيطة بها من أمكنة معروفة عند خولة البلاد، ومشايخها في أوقات محدودة لا تتقدّم، ولا تتأخر عن أوقاتها المعتادة على حسب ما يشهد به قوانين كل ناحية من النواحي، فتروى كل جهة مما يليها مع ما يجتمع فيها من الماء المختص؛ ولولا إتقان ما هنالك من الجسور، وحفر الترع والخلجان لقل الانتفاع بماء النيل كما قد جرى في زماننا هذا. وقد حكى أنه كان يرصد لعمارة جسور أراضي مصر في كل سنة ثلث الخراج لعنايتهم في القديم بها من أجل أنه يترتب على عملها ريّ البلاد الذي به مصالح العباد، وستقف إن شاء الله تعالى عن قريب على ما كان من أعمال القدماء، ومن بعدهم في ذلك، وكان للمقياس في الدولة الفاطمية رسوم لكنس مجاري الماء خمسون دينارا في كل سنة تطلق لابن أبي الردّاد.(1/115)
ذكر الجسر الذي كان يعبر عليه في النيل
اعلم أنه كان في النيل جسر من سفن فيما بين الفسطاط والجزيرة التي تعرف اليوم:
بالروضة، وكان فيما بين الجزيرة، والجيزة أيضا جسر في كل جسر منهما ثلاثون سفينة.
ذكر ما قيل في ماء النيل من مدح وذم
قال الرئيس أبو عليّ ابن سينا عفا الله عنه، وقوم يفرطون في مدح النيل إفراطا شديدا، ويجمعون محامده في أربعة: بعد منبعه، وطيب مسلكه، وغمورته، وأخذه إلى الشمال عن الجنوب. فأخذه إلى الشمال عن الجنوب: ملطف لما يجري فيه من المياه، وأما غمورته فيشاركه فيها غيره. قال: فأفضل المياه مياه العيون، ولا كل العيون ولكن مياه العيون الحرّة الأرض التي لا يغلب على تربتها شيء من الأحوال والكيفيات الغريبة أو تكون حجرية فتكون أولى بأن لا تعفن عفونة الأرضية لكن التي هي من طينة حرّة خير من الحجرية، ولا كل عين حرّة، بل التي هي مع ذلك جارية، ولا كل جارية بل الجارية المكشوفة للشمس، والرياح وإنّ هذا مما يكسب الجارية فضيلة. وأما الراكدة فربما اكتسب بالكشف رداءة لا تكسبها بالغور والستر.
واعلم أنّ المياه التي تكون طيبة المسيل خير من التي تجري على الأحجار، فإنّ الطين ينقي الماء ويأخذ منه الممزوجات الغريبة ويروّقه، والحجارة لا تفعل ذلك. لكنه يجب أن يكون طين مسيله حرّا لا حمأة، ولا سبخة، ولا غير ذلك. فإن اتفق أن كان هذا الماء غمرا شديد الجرية يحيل بكثرة ما يخالطه إلى طبيعته. فإن كان يأخذ إلى الشمس في جريانه فيجري إلى المشرق، وخصوصا إلى الصيفيّ منه، فهو أفضل لا سيّما إذا بعد جدّا من ميدانه، ثم ما يتوجه إلى الشمال والمتوجه إلى المغرب والجنوب رديء خصوصا عند هبوب ريح الجنوب، والذي ينحدر من مواضع عالية مع سائر الفضل أفضل، وما كان بهذه الصفة كان عذبا يخيل، إنه حلو ولا يحتمل الخمر إذا مزج به منه إلا قليلا، وكان خفيف الوزن سريع البرد، والتسخين لتخلخله باردا في الشتاء حارا في الصيف لا يغلب عليه طعم البتة، ولا رائحة ويكون سريع الانحدار من الشراسيف سريعا لهري ما يهري فيه وطبخ ما يطبخ فيه.
قال الرئيس علاء الدين عليّ بن أبي الحرم بن نفيس في شرح القانون: هذه المحامد التي ذكرها ليست علامات للحمد بل هي من الأشياء الموجبة لكونه محمودا وأحد هذه الأربعة بعد منبعه، وقد بينا أنّ ذلك يوجب لطافة الماء بسبب كثرة حركته، واعلم أن منبع النيل من جبل يقال له جبل القمر، وهذا الجبل وراء خط الاستواء بإحدى عشرة درجة وثلاثين دقيقة، فماؤه أعظم دائرة في الأرض بثلاثمائة درجة وستين، وابتداء هذا الجبل من السادسة والأربعين درجة وثلاثين دقيقة من أوّل العمارة من جهة المغرب، وآخره عند آخر(1/116)
إحدى وستين درجة وخمسين دقيقة، فيكون امتداد هذا الجبل مقدار خمس عشرة درجة وعشرين دقيقة، مما به أعظم دائرة في الأرض ثلثمائة وستون درجة، ويخرج من هذا الجبل عشرة أنهار من أعين فيه ترمي كل خمسة منها إلى بحيرة عظيمة مدوّرة، وإحدى هاتين البحيرتين مركزها حيث البعد من ابتداء العمارة بالمغرب خمسون درجة، والبعد من خط الاستواء في الجنوب سبع درج وإحدى وثلاثون دقيقة، ومركز الثانية حيث البعد عن أوّل العمارة بالمغرب سبع وخمسون درجة، وحيث البعد من خط الاستواء في الجنوب سبع درج وإحدى وثلاثون دقيقة، وهاتان البحيرتان متساويتان وقطر كل واحدة منهما مقدار خمس درج، ويخرج من كل واحدة من البحيرتين أربعة أنهار ترمي إلى بحيرة صغيرة مدوّرة في الإقليم الأوّل بعد مركزها عن أوّل العمارة بالمغرب ثلاث وخمسون درجة وثلاثون دقيقة، وعن خط الاستواء من الشمال درجتان من الإقليم الأوّل، ومقدار قطرها درجتان ويصب كل واحد من الأنهار الثمانية في بحيرة وفي هذه البحيرة نهر واحد وهو: نيل مصر، ويمرّ ببلاد النوبة «1» نهر آخر ابتداؤه من غير مركزها على خط الاستواء كبيرة مستديرة مقدار قطرها ثلاث درج وبعد مركزها من أوّل العمارة بالمغرب: ثلاث وأربعون درجة، ويلقي نهر هذه العين لنهر النيل حيث البعد من أوّل العمارة بالمغرب ثلاث وأربعون دقيقة، وإذا تعدّى النيل مدينة مصر إلى بلد يقال له: شطنوف «2» يفرق هناك إلى نهرين يرميان إلى البحر المالح أحدهما يعرف ببحر رشيد، ومنه يكون خليج الإسكندرية، وثانيهما يعرف ببحر دمياط، وهذا البحر إذا وصل إلى المنصورة تفرّع منه نهر يعرف ببحر أشمون يرمي إلى بحيرة هناك. وباقية يرمي إلى البحر المالح عند دمياط، وزيادة النيل هي من أمطار كثيرة ببلاد الحبشة، والله أعلم.
واعلم أن الوزن من الدستورات المنتخبة من حال الماء فإنّ الأخف في أكثر الأحوال أفضل فهذا ما ذكره الرئيس ابن سيناء من صفات المياه الفاضلة، واعتبر ما قاله تجد ذلك قد اجتمع في ماء النيل.
فأوّله أن ماء النيل عين تمرّ على أراضي حرّة، ولا يغلب على تربه ما يمرّ به شيء من الأحوال والكيفيات الردية كمعادن النفط، والشب والأملاح والكباريت، ونحوها بل يمرّ على الأراضي التي تنبت الذهب بدليل ما يظهر في الشطوط من قراضات الذهب، وقد عانى جماعة تصويل الذهب من الرمل المأخوذ من شطوط النيل فربحوا منه مالا وفضيلة كون الذهب في المال لا تنكر.
الثاني: أن النيل في جريانه أبدا مكشوف للشمس والرياح.(1/117)
الثالث: أنّ طينه من طين مسيل مياه مجتمعة من أمطار تمرّ على أراضي حرّة، ويظهر لك ذلك من عطرية روائح الطين إذا نديته بماء.
الرابع: غمورة ماء النيل، وشدّة جريته التي تكاد تقصف العمد إذا اعترضتها، وتدفع الأثقال العظيمة إذا عارضتها.
الخامس: بعد مبدأ خروجه من مصبه في البحر المالح، وقد تقدّم من طول مسافته ما لا نجده في نهر غيره من أنهار المعمور.
السادس: انحداره من علوّ فإن الجنوب مرتفع عن الشمال لا سيما إذا صار إلى الجنادل انحط من أعلى جبل مرتفع إلى وادي مصر.
وذكر ابن قتيبة في كتاب غريب الحديث من حديث جرير بن عبد الله البجليّ حين سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن منزله ببلنسة فذكره إلى أن قال: وماؤنا يمتنع أن يجري من علوّ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «خير الماء السنم» أي ما كان ظاهرا على وجه الأرض والسنم: الماء على وجه الأرض، وكل شيء علا شيئا فقد تسنمه مأخوذ من سنام البعير لعلوّه.
وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ
[المطففين/ 27] أي يمزج بما ينزل من علوّ.
السابع: أنه يمرّ من الجنوب إلى الشمال فتستقبله ريح الشمال الطيبة دائما.
الثامن: من خفته في الوزن، وقد اعتبر ذلك غير مرّة مع غيره من المياه فخف عنها في الوزن.
التاسع: عذوبة طعمه وحسن أثره في هضم الغذاء وأحداره عن المعدة بحيث إنه يحدث بعد شربه جشاء، وهذه صفات إن كنت ممن مارس العلم الطبيعيّ، وعرف الطب فإنه يعظم عندك قدر ماء النيل، وتبين لك غزارة نفعه وكثرة محاسنه.
ويقال: إنّ ذا القرنين كتب كتابا فيه ما شاهده من عجائب الدنيا فضمنه كل أعجوبة، ثم قال في آخره: وليس ذلك بعجب بل العجب نيل مصر، وقال بعض الحكماء: لولا ما جعل الله في نيل مصر من حكمة الزيادة في زمن الصيف على التدريج حتى يتكامل ريّ البلاد، وهبوط الماء عنها عند بدء الزراعة لفسد إقليم مصر، وتعذر سكناه لأنه ليس فيه أمطار كافية، ولا عيون جارية تعم أرضه إلا بعض إقليم الفيوم، ولله در القائل:
واها لهذا النيل أيّ عجيبة ... بكر بمثل حديثها لا يسمع
يلقي الثرى في العام وهو مسلم ... حتى إذا ما ملّ عاد يودّع
مستقبل مثل الهلال فدهره ... أبدا يزيد كما يريد ويرجع(1/118)
وقال آخر:
كأنّ النيل ذو فهم ولب ... لما يبدو لعين الناس منه
فيأتي حين حاجتهم إليه ... ويمضي حين يستغنون عنه
وقال تميم بن المعتمر:
يوم لنا بالنيل مختصر ... ولكل يوم مسرّة قصر
والسفن تجري كالخيول بنا ... صعدا وجيش الماء منحدر
وكأنما أمواجه عكن ... وكأنما داراته سرر
وقال أيضا:
أما ترى الرعد بكى واشتكى ... والبرق قد أومض واستضحكا
فاشرب على غيم بصنع الدجى ... يضحك وجه الأرض لما بكى
وانظر لماء النيل في مدّه ... كأنما صندل أو مصطكا «1»
وقال آخر:
والله مجرى النيل منه إذا الصبا ... أرينا به من برها عسكرا بحرا
بشط بنهر السمهرية دبلا ... وموج بنهر البيض هندية بترا
إذا مرّ حاكى الورد غضا وإن صفا ... حكى ماءه لونا ولو بعده مرّا
وقال أبو الحسن محمد بن الوزير في تدريج زيادة النيل وعظم منفعته:
أرى أبدا كثيرا من قليل ... وبدرا في الحقيقة من هلال
فلا تعجب فكل خليج ماء ... بمصر مسيب بخليج مال
زيادة أصبع في كل يوم ... زيادة أذرع في حسن حال
وقال الشهاب أحمد بن فضل الله العمري:
بمصر فضل باهر ... لعيشها الرغد النضر
في سفح روض يلتقي ... ماء الحياة والخضر
وقال ابن قلاقس:
انظر إلى الشمس فوق النيل غاربة ... وانظر لما بعدها من حمرة الشفق
غابت وألقت شعاعا منه يخلفها ... كأنما احترقت بالماء في الغرق
وللهلال فها وافى لينفدها ... في إثرها زورق قد صيغ من ورق(1/119)
وقال بشر الملك ابن المنجم:
يا رب سامية في الجو قمت بها ... أمدّ طرفي في أرض من الأفق
حيث العشية في التمثيل معترك ... إذا رآها جبان مات للفرق
للشمس غاربة للغرب ذاهبة ... بالنيل مصفرّة من هجمة الغسق
وللهلال انعطاف كالسنان بدا ... من سورة الطعن ملقى في دم الشفق
وقال القاضي الفاضل رحمه الله تعالى عليه: وأما النيل، فقد ملأ البقاع، وانتقل من الأصبع إلى الذراع، فكأنما غار على الأرض، فغطاها وأغار عليها فاستقعدها، وما تخطاها فما يوجد بمصر قاطع طريق سواه، ولا مرغوب مرهوب إلا إياه.
ونيل مصر: مخالف في جريه لغالب الأنهار، فإنه يجري من الجنوب إلى الشمال وغيره، ليس كذلك إلا نهران فإنهما يجريان كما يجري النيل، وهما نهر مكران بالسند ونهر الأريط «1» ، وهو الذي يعرف اليوم بنهر العاصي في حماه إحدى مدائن الشام. وقد عاب ماء النيل قوم.
قال أبو بكر ابن وحشية «2» في كتاب الفلاحة النبطية: وأما ماء النيل فمخرجه من جبال وراء بلاد السودان يقال لها جبال القمر، وحلاوته وزيادته يدلان على موقعه من الشمس أنها أحرقته لا كل الإحراق، بل أسخنته إسخانا طويلا لينا لا تزعجه الحرارة، ولا تقوى عليه بحيث تبدّد أجزاءه الرطبة وتبقى أجزاءه الراسخة، بل يعتدل عليه فصار ماؤه لذلك حلوا جدّا، وصار كثرة شربه يعفن البدن، ويحدث البثور، والدماميل والقروح، وصار أهل مصر- الشاربون منه- دمويين محتاجين إلى استفراغ الدم عن أبدانهم في كل مدّة قصيرة، فمن كان عالما منهم بالطبيعة، فهو يحسن مداواة نفسه حتى يدفع عن جسمه ضرر ماء النيل، وإلا فهو يقع فيما ذكرنا من العفونات وانتشار البثر والدماميل.
وذلك أن هذا الماء ناقص البرد عن سائر المياه قد صير له الطبخ قواما هو أثخن من قوام الماء؛ فصار إذا خالط الطعام في الأبدان كثر فيها الفضول الردية العفنة، فيحدث من ذلك ما ذكرناه. ودواء أهل مصر الذي يدفع عنهم ضرر ماء النيل، إدمان شرب ربوب الفاكهة الحامضة القابضة، وأخذ الأدوية المستفرغة للفضول ولو زادت حرارة الشمس على ماء النيل، وطال طبخها له لصار مالحا بمنزلة ماء البحار الراكدة التي لا حركة لها إلا وقت(1/120)
جزر البحر، وهبوب الرياح، وهو أوفق للزروع والمنابت من الحيوان.
وقال ابن رضوان: والنيل يمرّ بأمم كثيرة من السودان، ثم يصير إلى أرض مصر، وقد غسل ما في بلاد السودان من العفونات، والأوساخ ويشق مارا بوسط أرض مصر من الجنوب إلى الشمال إلى أن يصب في بحر الروم. ومبدأ زيادته في فصل الصيف، وتنتهي زيادته في فصل الخريف، ويرتقي في الجوّ منه في أوقات مدّة رطوبات كثيرة بالتحلل الخفيّ، فيرطب ذلك يبس الصيف، والخريف، وإذا مدّ النهر فاض على أرض مصر فغسل ما فيها من الأوساخ نحو جيف الحيوانات، وأزبالها وفضول الآجام، والنبات ومياه النقاع، وأحدر جميع ذلك معه، وخالطه من تراب هذه الأرض، وطينها مقدار كثير من أجل سخافتها وباض فيه من السمك الذي تربى فيه وفي مياه النقائع، ومن قبل ذلك تراه في أوّل مدّة يخضر لونه بكثرة ما يخالطه من مياه النقائع العفنة التي قد اجتمع فيها العرمض، والطحلب واخضر لونها من عفنها ثم يتعكر حتى يصير آخر أمره مثل الحمأة، وإذا صفا اجتمع منه في الإناء طين كثير، ورطوبة لزجة لها سهوكة، ورائحة منكرة. وهذا من أوكد الأشياء في ظهور رداءة هذا الماء، وعفنه.
وقد بيّن بقراط وجالينوس: أنّ أسرع المياه إلى العفن ما لطفته الشمس بمياه الأمطار ومن شأن هذا الماء أن يصل إلى أرض مصر، وهو في الغاية من اللطافة من شدّة حرارة بلاد السودان، فإذا اختلط به عفونات أرض مصر زاد ذلك في استحالته، ولذلك يتولد منه من أنواع السمك شيء كثير جدّا. فإنّ فضول الحيوانات والنبات وعفونة هذا الماء، وبيض السمك يصير جميعها موادّا في تكوّن هذه الأسماك.
كما قال أرسطاطاليس في كتاب الحيوان: وذلك شيء ظاهر للحس فإن كل شيء يتعفن يتولد من عفونته الحيوان، ولهذا صار ما يتولد من الدود، والفأر والثعابين والعقارب والزنابير والذباب، وغيرها بأرض مصر كثيرا، فقد استبان أن المزاج الغالب على أرض مصر الحرارة والرطوبة الفضلية. وإنها ذات أجزاء كثيرة، وإن هواءها وماءها رديان، وربما انقطع النيل في آخر الربيع وأوّل الصيف من جهة الفسطاط. فيعفن بكثرة ما يلقي فيه إلى أن يبلغ عفنه إلى أن يصير له رائحة منكرة محسوسة. وظاهر أن هذا الماء إذا صار على هذه الحالة غيّر مزاج الناس تغيرا محسوسا، وينبغي أن يستقي ماء النيل من الموضع الذي فيه جريه أشدّ، والعفونة فيه أقل، ويصفي كل إنسان هذا الماء بحسب ما يوافق مزاجه. أما المحرورون في أيام الصيف فبالطباشير، والطين الأرمنيّ، والمغرة والنبق المرضوض، والزعرور المرضوض، والخل. وأما المبرودون في أيام الشتاء فباللوز المرّ، داخل نوى المشمش، والصعتر والشب. وينبغي أن ينظف ما يروّق ويشرب وإن شئت أن تصفيه بأن تجعله في آنية الخزف، والفخار والجلود، وما يمصل من ذلك بالرشح، وإن شئت طبخته(1/121)
بالنار، وجعلته في هواء الليل حتى يروق، ثم نظفت منه ما يروق واستعملته.
وإذا ظهرت فيه كيفيات رديئات فاطبخه بالنار ثم بردّه تحت السماء في برودة الليل، وصفه بأخلاط الأدوية التي ذكرتها وأجود ما اتخذ هذا الماء أن يصفى مرارا، وذلك بأن يسخنه أو يطبخه، ثم يبرّده في هواء الليل، ويقطف ما يروق منه فتصفيه أيضا ببعض الأدوية ثم تأخذ ما يروق فتجعله في آنية تمصل في برد الليل، وتأخذ الرشح فتشربه، واجعل آنية هذا الماء في الصيف الخزف، والفخار المعمولين في طوبة والظروف الحجرية، والقرب ونحوها مما يبرد. وفي الشتاء الآنية الزجاج والمدهون، وما يعمل في الصيف من الفخار، والخزف ويكون موضعه في الصيف تحت الأسراب وفي مخاريق ريح الشمال، وفي الشتاء بالمواضع الحارة، ويبرد في الصيف بأن يخلط معه ماء الورد، ويؤخذ خرقة نظيفة ويشدّ فيها طباشير وبزر رجلة أو خشخاش أبيض أو طين أرمنيّ، أو مغرة ويلقي فيه كيما يأخذ من بردها، ولا يخالطه جسمها، وتغسل ظروفه في الصيف بالخزف المدقوق وبدقيق الشعير، والباقلاء والصندل.
وفي الشتاء بالأشنان والسعد ويبخر بالمصطكى، والعود. وأردأ ما يكون ماء النيل بمصر عند فيضه، وعند وقوف حركته، فعند ذلك ينبغي أن يطبخ ويبالغ في تصفيته بقلوب نوى المشمش وسائر ما يقطع لزوجته. وأجود ما يكون في طوبة عند تكامل البرد، ومن أجل هذا عرفت المصريون بالتجربة أن ماء طوبة أجود المياه حتى صار كثير منهم يخزنه في القوارير الزجاج والصينيّ ويشربه السنة كلها، ويزعم أنه لا يتغير وصاروا أيضا لا يصفونه في هذا الزمان لظنهم أنه على غاية الخلاص، وأما أنت فلا تسكن إلى ذلك وصفه على أي حالة كان فالماء المخزون لا بدّ أن يتغير فهذا ما عندي من ذمّ ماء النيل. وحاصله: أن الماء تتغير كيفيته بما يمرّ عليه، لا أن ذاته ردية، فلا يهولنك ما تسمع، فما الأمر إلا ما قلت لك، وإذا كان الضرر بحسب ما تغير من كيفيته لا من كميته، فقد عرفت ما تعالجه به كي يزول ما يخالطه من الكيفيات الردية، والله الموفق بمنه وكرمه.
ذكر عجائب النيل
ومن عجائب النيل فرس البحر. قال عبد الله بن أحمد بن سليم الأسواني في كتاب أخبار النوبة: ومسافة ما بين دنقلة إلى أوّل بلد علوة أكثر مما بين دنقلة وأسوان، وفي ذلك من القرى والضياع والجزائر، والمواشي والنخل والشجر والمقل والزرع والكرم. أضعاف ما في الجانب الذي يلي أرض الإسلام.
وفي هذه الأماكن جزائر عظام مسيرة أيام فيها الحيات والوحوش والسباع، ومفاوز يخاف فيها العطش، وماء النيل ينعطف من هذه النواحي إلى مطلع الشمس، وإلى مغربها مسافة أيام حتى يصير الصعيد كالمنحدر، وهي الناحية التي تبلغ العطوف من النيل إلى(1/122)
المعدن المعروف بالشتكة وهي بلد معروف بشنقير، ومنه يخرج القمريّ وفرس البحر يكثر في هذا الموضع.
وحدثني سيمون صاحب عهد علوة أنه أحصى في جزيرة سبعين دابة منها، وهي من دواب الشطوط في خلق الفرس في غلظ الجاموس قصيرة القوائم لها خف، وهي في ألوان الخيل بأعراف وآذان صغار كآذان الخيل، وأعناقها كذلك، وأذنابها مثل أذناب الجواميس، ولها خرطوم عريض يظنّ الناظر إليها أنّ عليها مخلاة لها صهيل وأنياب لا يقوم حذاءها تمساح، وتعترض المراكب عند الغضب فتغرّقها ورعيها في البرّ العشب، وجلدها فيه متانة عظيمة يتخذ منه دبابيس، انتهى.
وهو كفرس البرّ إلا أنه أكبر عرفا وذنبا وأحسن لونا وحافره مشقوق كحافر البقر، وجثته أكبر من الحمار بقليل، وهو يأكل التمساح أكلا ذريعا، ويقوى عليه قوّة ظاهرة، وربما خرج من الماء ونزا على فرس البرّ، فيتولد بينهما فرس في غاية الحسن.
واتفق أن بعض الناس نزل على طرف النيل ومعه حجرة، فخرج من الماء فرس أدهم عليه نقط بيض، فنزا على الحجرة، فحملت منه، وولدت مهرا عجيب الصورة، فطمع في مهر آخر. فجاء بالحجرة والمهر إلى ذلك الموضع، فخرج الفرس من الماء، وشمّ المهر ساعة، ثم وثب إلى الماء، ومعه المهر فصار الرجل يتعهد ذلك المكان كثيرا فلم يعد الفرس ولا المهر إليه.
قال المسعودي: وفي نيل مصر وأرضها عجائب كثيرة من الحيوانات، فمن ذلك السمك المعروف بالرعاد والواحدة نحو الذراع إذا وقعت في شبكة الصياد ارتعدت يده، وعضده، فيعلم بوقوعها فيبادر إلى أخذها، وإخراجها من شبكته ولو أمسكها بخشب أو قصب فعلت ذلك. وقد ذكرها جالينوس أنها إن جعلت على رأس من به صداع شديد أو شقيقة وهي في الحياة هدأ من ساعته.
قال ابن البيطار «1» عن جالينوس: هو الحيوان البحري الذي يحدث الخدر، وزعم قوم أنه أدنى من رأس من يشتكي الصداع سكن صداعه، وإن أدنى من مقعدة من انقلبت مقعدته أصلحها، ولكن أنا جربت الأمرين جميعا فلم أجد يفعل ولا واحدا منهما، ففكرت أني أدنيته من رأس المصدوع والحيوان ما هو حيّ لأنني ظننت أنه على هذه الحال يكون دواء يمكن أن يسكن الصداع بمنزلة الأدوية، فوجدته ينفع ما دام حيا. قال ديسقوريدوس: هو سمكة بحرية مخدّرة إذا وضعت على الرأس الذي عرض له الصداع المزمن سكن شدّة(1/123)
وجعه، وإذا احتمله ذو المقعدة التي تبرز إلى خارج أصلحها.
وقال يونس: الزيت الذي يطبخ فيه يسكن أوجاع المفاصل الحريفة إذا دهنت به.
قال ابن البيطار: رأيت بساحل مدينة مالقة من بلاد الأندلس سمكة عريضة لون ظاهرها لون رعاد مصر سواء، وباطنها أبيض، وفعلها في تخدير ماسكها كفعل رعاد مصر، أو أشدّ إلا أنها لا تؤكل البتة. وقال بعضهم: إذا علقت المرأة شيئا من الرعاد عليها لم يطق زوجها البعد عنها، وكذلك إن علق منها الرجل عليه لم تكد المرأة أن تفارقه.
والسقنقور «1» : هو صنف يتوالد من السمك، والتمساح فلا يشاكل السمك، لأنّ له يدين ورجلين، ولا يشاكل التمساح لأنّ ذنبه أجرد أملس عريض غير مضرّس، وذنب التمساح سخيف مضرّس، ويتعالج بشحم السقنقور للجماع، ولا يكون بمكان إلا في النيل، وفي نهر مهران من أرض الهند، وقد بلغني أنّ أقواما شووها وأكلوا منها فماتوا كلهم في ساعة واحدة.
والسقنقور قال ابن سيناء: هو ورن يصاد من نيل مصر. يقولون: إنه من نسل التمساح، وأجود ما يصطاد في الربيع. وقال آخر: إنه فرخ التمساح فإذا خرج من البيض فما قصد الماء صار تمساحا، وما قصد الرمل صار سقنقورا.
وقال ابن البيطار: هو جنس من الجراد يحفف في الخريف إذا شرب منه وزن درهمين من الموضع الذي يلي كلاه بشراب أنهض الجماع، وهو شديد الشبه بالورن. يوجد بالرمال التي تلي نيل مصر في نواحي صعيدها، وهو مما يسعى في البر، ويدخل في الماء يعني النيل، ولهذا قيل له: الورن المائيّ لشبهه به، ولدخوله في الماء وهو يتولد من ذكر وأنثى، ويوجد للذكر خصيتان كخصيتي الديك في خلقهما وموضعهما، وإنانة تبيض فوق العشرين بيضة وتدفنها في الرمل، وللذكر من السقنقور إحليلان، وللأنثى فرجان، والسقنقور يعض الإنسان، ويطلب الماء فإن وجده دخل فيه وإن لم يجده بال، وتمرّغ في بوله، وإذا فعل ذلك مات المعضوض لوقته وسلم السقنقور، فإن اتفق أن سبق المعضوض إلى الماء فدخله قبل دخول السقنقور الماء وتمرّغه في بوله مات السقنقور لوقته وسلم المعضوض. والأفضل الذكر منه والأبلغ في نفع الباه بل هو المخصوص بذلك دون الأنثى. والمختار من أعضائه ما يلي أصل ذنبه ومحاذى سرته. والوقت الذي يصاد فيه: الربيع فإنه يكون فيه هائجا للسفاد، فيكون في هذا الوقت أبلغ نفعا فإذا أخذ ذكى في يوم صيده فإنه إن ترك حيا زال شحمه، وهزل لحمه، وضعف فعله، ثم يقطع رأسه وطرف ذنبه من غير استئصال ويشق(1/124)
جوفه طولا ويلقي ما فيه إلا كلاه، وكيسه فإذا نظف حشي ملحا وخيط الشق، وعلق منكوسا في ظل معتدل الهواء حتى يجف ويؤمن فساده، ثم يرفع في إناء متخرق للهواء كالسلال المضفورة من قضبان شجر الصفصاف، والخوص ونحوه إلى وقت الحاجة. ولحمه طريا حار رطب والمجفف أشدّ حرارة، وأقل رطوبة ولا يوافق استعماله من مزاجه حار يابس.
وإنما يوافق ذوي الأمزجة الباردة الرطبة، وخاصة لحمه وشحمه. إنهاض شهوة الجماع، ويهيج الشبق ويقوّي الاتعاظ، وينفع أمراض العصب الباردة وخاصة ما يلي سرته، ويحاذي ذنبه وينفع مفردا ومركبا، واستعماله مفردا أبلغ والمقدار منه بعد تجفيفه من مثقال إلى ثلاثة مثاقيل بحسب السنّ، والمزاج والبلد والوقت الحاضر يسحق ويذاب بشراب أو ماء العسل، أو نقيع الزبيب أو يذرّ على صفرة بيض الدجاج النيمرشت ويتحسى، وكذلك يفعل بلحمه، إذا أخذ منه من درهم إلى درهمين، وذرّ على صفرة البيض بمفرده أو مع مثله بزر جرجير مسحوق، ولا يوجد السقنقور إلا في بلاد الفيوم خاصة وأكثر صيده في الأربعينات إذا اشتدّ البرد، وخرج من الماء إلى البرّ فحينئذ يصاد.
وقال المسعوديّ: والفرس الذي يكون في نيل مصر إذا خرج من الماء وانتهى وطؤه إلى بعض المواضع من الأرض، علم أهل مصر أنّ النيل يزيد إلى ذلك الموضع بعينه غير زائد عليه، ولا مقصر عنه لا يتخلف ذلك عندهم لطول العادات، والتجارب. وفي ظهوره من الماء ضرر بأرباب الأرض والغلات لرعيه الزرع، وذلك أنه يظهر من الماء في الليل، فينتهي إلى موضع من الزرع ثم يولي عائدا إلى الماء، فيرعى في حال رجوعه من الموضع الذي انتهى إليه مسيره، ولا يرعى من ذلك الذي قد رعاه شيئا في ممرّه، وإذا رعى ورد الماء وشرب ثم قذف ما في جوفه في مواضع شتى فينبت ذلك مرّة ثانية، وإذا كثر ذلك من فعله واتصل ضرره بأرباب الضياع طرحوا له من الترمس في الموضع الذي يعرف خروجه منه مكاكي كثيرة مبدرا مبسوطا فيأكله ثم يعود إلى الماء، فإذا شرب منه ربا الترمس «1» في جوفه وانتفخ، فينشق جوفه منه، ويموت ويطفو على الماء، ويقذف به إلى الساحل والموضع الذي يرى فيه لا يرى به تمساح، وهو على صورة الفرس إلا أنّ حوافره وذنبه بخلاف ذلك، وجبهته واسعة.
وقال المسبحي: إنّ الصنف المعروف بالبلطي من أصناف السمك أوّل ما عرف بنيل مصر في أيام الخليفة- العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله- ولم يكن يعرف قبله في النيل، وظهر في أيامه أيضا سمك يعرف باللبيس، وإنما سمي باللبيس لأنه يشبه البوري الذي بالبحر الملح، فالتبس به وغالب الظنّ أنها من أسماك البحر الملح دخلت في الحلو.
ومن حيوان البحر: التمساح. قال ابن البيطار: التمساح حيوان معروف يكون في(1/125)
الأنهار الكبار. وفي النيل كثيرا ويوجد في نهر مهران، وقد يوجد في بلاد السودان، وهو الورن النيليّ.
وقال ابن زهران: كل حيوان يحرّك فكه الأسفل إذا أكل ما خلا التمساح فإنه يحرّك فكه الأعلى دون الأسفل وشحم التمساح إذا عجن بالسمن، وجعل فيه فتيلة وأسرج في نهر أو أجمة لم ينعق ضفادعها، ما دامت تقد، وإن طيف بجلد تمساح حول قرية، ثم علق على سطح دهليز لم يقع البرد في تلك القرية، وإذا عض التمساح إنسانا فوضع على العضة شحم التمساح برأ من ساعته، وإن لطخ بشحمه جبهة كبش نطاح نفر كل كبش يناطحه، وهرب منه. ومرارته يكتحل بها للبياض في العين فيذهبه، وكبده ينجر بها المجنون فيبرأ، وزبل التمساح يزيل البياض من العين الحديث والقديم، وإن قلعت عيناه وهو حيّ وعلقت على من به جذام أوقفه، ولم يزد عليه شيء، وإن علق شيء من التي بجانب الأيمن رجل زاد في جماعه، وعينه اليمنى لمن يشتكي عينه اليمنى، وعينه اليسرى لمن يشتكي عينه اليسرى، وشحمه إذا أذيب بدهن ورد نفع من وجع الصلب والكليتين وزاد في الباه، وإذا أخذ دم التمساح وخلط به هليلج وأملج وطلي به على الوضح أذهبه، وغيّر لونه، وإذا طلي به على الجبهة والصدغين نفع من وجع الشقيقة، وإذا أكل لحمه اسفيد باجا سمن البدن النحيف، وشحمه إذا قطر بعد أن يذاب في الأذن الوجعة نفعها، وإن أدمن تقطيره في الأذن نفع من الصمم، وإذا دهن به صاحب حمى الربع سكنت عنه، ولحمه رديء الكيموس.
وقال المسعودي: وكذلك التمساح آفته من دويبة تكون في سواحل النيل وجزائره، وهو أنّ التمساح لا دبر له وما يأكله يتكوّن في بطنه دودا، فإذا أذاه ذلك خرج إلى البرّ فاستلقى على قفاه فاغرا فاه فينقض إليه طير الماء، وقد اعتاد ذلك منه، فيأكل ما يظهر من جوفه من ذلك الدود العظيم وتكون تلك الدويبة قد كمنت في الرمل فتثب إلى حلقه وتصير إلى جوفه وتخرج فيخبط بنفسه إلى الأرض ويطلب قعر النيل حتى تأتي الدويبة على حشو جوفه، ثم تخرج جوفه وتخرج. وربما قتل نفسه قبل أن تخرج فتخرج بعد موته، وهذه الدويبة تكون نحو الذراع على صورة ابن عرس ذات قوائم شتى ومخالب. ويقال: إن بجبال فسطاط مصر طلسم معمول بها، وكان التمساح لا يستطيع القرب حوله بل كان إذا بلغ حددوده انقلب، واستلقى على ظهره فيعبث به الصبيان إلى أن يجاوز نهاية المدينة، ثم يعود مستويا ويعود إلى طباعه، ثم إن هذا الطلسم كسر فبطل فعله، ويقال: إن التمساح يبيض كبيض الأوز، وربما تولد فيه جرادين صغار ثم تكبر حتى يبلغ طولها عشرة أذرع، وتزداد طولا كلما عمرت، والتمساح يرتعش ستين مرّة في حركة واحدة ومحل واحد، وسنه اليسرى نافعة للنافض.(1/126)
ذكر طرف من تقدمة المعرفة بحال النيل في كل سنة
قال ابن رضوان في شرح الأربع: وقد يحتاج أمر النيل إلى شروط. منها: أن تكون الأمطار متوالية في نواحي الجنوب قبل مدّه، وفي وقت مدّه، ولذلك وجب أن يكون النيل متى كانت الزهرة وعطارد مقترنين في مدخل الصيف، كثير الزيادة لرطوبة الهواء، ومتى كان المريخ، أو بعض المنازل في ناحية الجنوب في مدخل الربيع أو الصيف كان قليلا لقلة الأمطار في تلك الناحية، ومنها: أن تكون الرياح شمالية لتوقف جريه.
فأما الجنوبية: فإنها تسرع انحداره ولا تدعه يلبث فإذا علمت ما يكون في ناحية الجنوب من كثرة الأمطار أو قلتها وفي ناحية مصر من هبوب مصر في فصلي الربيع والصيف، فقد علمت حال النيل كيف يكون، وتعلم من حاله ما يعرض بمصر من الخصب والجدب.
وقال أبو سامر بن يونس المنجم عن بطليموس: إذا أردت أن تعلم مقدار النيل في الزيادة والنقصان، فانظر حين تحل الشمس برج السرطان إلى الزهرة، وعطارد، والقمر، فإن كانت أحوالها جيدة وهي برية من النحوس، فالنيل يمتدّ وتبلغ الحاجة به وإن كانت أحوالها بخلاف ذلك وهي ضعيفة فانكس القول فإن ضعف بعضها وصلح البعض توسط الحال في النيل، والضابط أن قوّة الثلاثة تدل على تمام النيل، وضعفها على توسطه، وانتحاسها أو احتراقها أو وقوعها في بعدها الأبعد من الأرض على النقص، وإنه قليل جدّا إلا أن احتراق الزهرة في برج الأسد يستنزل الماء من الجنوب.
وقال أبو معشر «1» : ينظر عند انتقال الشمس إلى برج السرطان للزهرة وعطارد والقمر، فإن كانت في سيرها الأكبر فإن زيادة النيل عظيمة، وإن كانت في سيرها الأوسط فاعرف كم أكثر مسيرها، وكم أقله وأنسبه بحسب ما تراه، وإن كانت بطيئة السير فزيادة النيل قليلة، وإن اختلف مسير هذه الثلاثة فكان بعضها في مسيره الأكبر، وبعضها بطيء السير، فغلب أقواها وأمزج الدلالة وقل بحسب ذلك.
وقالت القبط: ينظر أوّل يوم من شهر برمودة «2» ما الذي يوافقه من أيام الشهر العربيّ، فما كان من الأيام فزد عليه خمسة وثمانين، فما بلغ خذ سدسه فإنه يكون عدد مبلغ النيل من الأذرع في تلك السنة.(1/127)
قالوا: ومن المعتبر أيضا في أمر النيل أن تنظر اليوم الذي تفطر فيه النصارى اليعاقبة بمصر وما بقي من الشهر العربيّ فزد عليها أربعا وثلاثين، فما بلغ أسقطه اثني عشر فإن بقي بعد ذلك الإسقاط من العدد زيادة على اثني عشر، فهو زيادة النيل من الأذرع في تلك السنة، مع الاثني عشر وإن بقي اثني عشر فهي سنة رديئة. قالوا: وإذا كان العاشر من الشهر العربيّ موافقا لشهر أبيب «1» ، والقمر في برج العقرب، فإن كان مقارنا لقلب العقرب كان النيل مقصرا وإلا فهو جيد. قالوا: وينظر أوّل يوم من بؤنة «2» فإن هبت الريح شمالا في بكرة النهار كان النيل عاليا، وإن هبت وسط النهار فإنه متوسط، وإن هبت آخر النهار كان نيلا قاصرا، وإن لم تهب لم يطلع تلك السنة. وقيل: يعتبر هكذا أول خميس من بؤنة.
ومن المعتبر الذي جرّبته أنا سنين، وأخبرني بعض شيوخنا: أنه جرّبه وأخبره به من جرّبه فصح أن ينظر أوّل يوم من مسرى كم مبلغ النيل، فزد عليه ثمانية أذرع، فما بلغ فهو زيادة النيل في تلك السنة، ومما اشتهر عند أهل مصر وجربته أيضا، فصح أن يؤخذ قبل عيد ميكائيل بيوم في وقت الظهر من الطين الذي مرّ عليه ماء النيل قطعة زنتها ستة عشر درهما سواء، وترفع في إناء مغطى إلى بكرة يوم عيد ميكائيل وتوزن فما زاد على وزنها من الخراريب كان مبلغ النيل في تلك السنة بقدر عدد تلك الخراريب لكل خرّوبة ذراع، ومن ذلك أخذ شيء من دقيق القمح، وعجنه بماء النيل في إناء فخار، وقد عمل من طين مرّ عليه النيل، وتركه مغطى طول ليلة عيد ميكائيل، فإذا وجد بكرة يوم العيد قد اختمر بنفسه، كان النيل تامّا وافيا، وإن وجده لم يختمر دل على قصور هذا النيل، ثم ينظرون مع ذلك بكرة يوم عيد ميكائيل إلى الهواء، فإن هبت طيابا فهو نيل كبير، وإن هبت غير طياب فهو نيل مقصر، لا سيما إن هبت مريسيا فإنه يكون نيلا غير كاف، والشأن عندهم إنما هو في دلالة العلامات الثلاث على شيء واحد، فأما إذا اختلف فالحكم لا يكاد يصح.
وقال أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني في كتاب الآثار الباقية عن القرون الخالية، وذكر أصحاب التجارب: أنه إذا تقدّم فعمد إلى لوح وزرع عليه من كل زرع ونبات حتى إذا كانت الليلة الخامسة والعشرون من شهر تموز أحد شهور الروم وهي آخر أيام الباحور، ثم وضع اللوح بارزا لطلوع الكواكب، وغروبها لا يحول بينه وبين السماء شيء، فإن كل ما لا يزكو في تلك السنة من الزروع يصبح أصفر، وما يصلح ريعه منها يبقى أخضر، وكذلك كانت القبط تفعل ذلك وقد جرّبت أنا على ما أفادنيه بعض الكتاب أنه إذا حصل مطر ولو قل في شهر بابة ينظر ما ذلك اليوم من الشهر القبطيّ فإنه يبلغ سعر الويبة القمح تلك السنة من الدراهم بعدد ما مضى من أيام شهر بابة. وأوّل ما جرّبت هذا أنه وقع مطر في بابة يوم الخميس الخامس عشر منها فبيعت الويبة «3» تلك السنة بخمسة عشر درهما.(1/128)
ذكر عيد الشهيد
ومما كان يعمل بمصر عيد الشهيد، وكان من أنزه فرج مصر، وهو (اليوم الثامن من بشنس) «1» . أحد شهور القبط، ويزعمون أن النيل بمصر لا يزيد في كل سنة حتى يلقي النصارى فيه تابوتا من خشب فيه أصبع من أصابع أسلافهم الموتى. ويكون ذلك اليوم عيدا ترحل إليه النصارى من جميع القرى، ويركبون فيه الخيل، ويلعبون عليها، ويخرج عامّة أهل القاهرة، ومصر على اختلاف طبقاتهم، وينصبون الخيم على شطوط النيل وفي الجزائر، ولا يبقى مغنّ ولا مغنية، ولا صاحب لهو، ولا رب ملعوب، ولا بغيّ ولا مخنث ولا ماجن، ولا خليع ولا فاتك ولا فاسق إلا ويخرج لهذا العيد، فيجتمع عالم عظيم لا يحصيهم إلا خالقهم.
وتصرف أموال لا تنحصر ويتجاهر هناك بما لا يحتمل من المعاصي والفسوق، وتثور فتن وتقتل أناس ويباع من الخمر خاصة في ذلك اليوم بما ينيف على مائة ألف درهم فضة عنها خمسة آلاف دينار ذهبا وباع نصرانيّ في يوم واحد بإثني عشر ألف درهم فضة من الخمر، وكان اجتماع الناس لعيد الشهيد دائما بناحية شبرى من ضواحي القاهرة، وكان اعتماد فلاحي شبرى دائما في وفاء الخراج على ما يبيعونه من الخمر في عيد الشهيد.
ولم يزل الحال على ما ذكر من الاجتماع كذلك إلى أن كانت سنة اثنتين وسبعمائة، والسلطان يومئذ بديار مصر: الملك الناصر محمد بن قلاوون، والقائم بتدبير الدولة الأمير:
ركن الدين بيبرس «2» الجاشنكير، وهو يومئذ أستادار السلطان، والأمير سيف الدين سلار نائب السلطنة بديار مصر، فقام الأمير بيبرس في إبطال ذلك قياما عظيما، وكان إليه أمور ديار مصر هو والأمير سلار والناصر تحت حجرهما لا يقدر على شبع بطنه إلا من تحت أيديهما، فتقدم أمر الأمير بيبرس أن لا يرمي أصبع في النيل، ولا يعمل له عيد، وندب الحجاب ووالى القاهرة لمنع الناس من الاجتماع بشبرى على عادتهم، وخرج البريد إلى سائر أعمال مصر، ومعهم الكتب إلى الولاة بإجهار النداء وإعلانه في الأقاليم بأن لا يخرج أحد من النصارى، ولا يحضر لعمل عيد الشهيد، فشق ذلك على أقباط مصر كلهم من أظهر الإسلام منهم، وزعم أنه مسلم، ومن هو باق على نصرانيته، ومشى بعضهم إلى بعض وكان منهم رجل يعرف: بالتاج بن سعيد الدولة يعاني الكتابة، وهو يومئذ في خدمة الأمير بيبرس، وقد احتوى على عقله واستولى على جميع أموره كما هي عادة ملوك مصر، وأمرائها(1/129)
من الأتراك في الانقياد لكتابهم من القبط سواء منهم من أسرّ الكفر ومن جهر به.
وما زال الأقباط بالتاج إلى أن تحدّث مع مخدومه الأمير بيبرس في ذلك، وخيل له من تلف مال الخراج إذا بطل هذا العيد. فإن أكثر خراج شبرى إنما يحصل من ذلك، وقال له: متى لم يعمل العيد لم يطلع النيل أبدا. ويخرب إقليم مصر لعدم طلوع النيل، ونحو ذلك من هتف القول، وتنميق المكر فثبت الله الأمير بيبرس، وقوّاه حتى أعرض عن جميع ما زخرفه من القول واستمرّ على منع عمل العيد. وقال للتاج: إن كان النيل لا يطلع إلا بهذا الأصبع فلا يطلع، وإن كان الله سبحانه هو المتصرف فيه فنكذب النصارى، فبطل العيد من تلك السنة ولم يزل منقطعا إلى سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة.
وعمّر الملك الناصر محمد بن قلاوون الجسر في بحر النيل ليرمي قوّة التيار عن برّ القاهرة إلى ناحية الجيزة كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب، فطاب الأمير يلبغا اليحياويّ، والأمير الطنبغا «1» المارديني من السلطان أن يخرجا إلى الصيد ويغيبا مدّة، فلم تطب نفسه بذلك لشدّة غرامه بهما، وتهتكه في محبتهما، وأراد صرفهما عن السفر، فقال لهما: نحن نعيد عمل عيد الشهيد، فيكون تفرّجكما عليه أنزه من خروجكما إلى الصيد، وكان قد قرب أوان وقت عيد الشهيد فرضيا منه بذلك، وأشيع في الإقليم إعادة عمل عيد الشهيد، فلما كان اليوم الذي كانت العادة بعمله فيه ركب الأمراء النيل في الشخاتير بغير حراريق، واجتمع الناس من كل جهة، وبرز أرباب الغناء وأصحاب اللهو والخلاعة، فركبوا النيل وتجاهروا بما كانت عادتهم المجاهرة به من أنواع المنكرات، وتوسع الأمراء في تنوّع الأطعمة والحلاوات، وغيرها توسعا خرجوا فيه عن الحدّ في الكثرة البالغة، وعمّ الناس منهم ما لا يمكن وصفه لكثرته، واستمرّوا على ذلك ثلاثة أيام، وكانت مدّة انقطاع عمل عيد الشهيد منذ أبطله الأمير بيبرس إلى أن أعاده الملك الناصر، ستا وثلاثين سنة، واستمرّ عمله في كل سنة بعد ذلك إلى أن كانت سنة خمس وخمسين وسبعمائة، تحرّك المسلمون على النصارى وعملت أوراق بما قد وقف من أراضي مصر على كنائس النصارى، ودياراتهم. وألزم كتاب الأمراء بتحرير ذلك وحمل الأوراق إلى ديوان الأحباس، فلما تحرّرت الأوراق اشتملت على خمسة وعشرين ألف فدّان كلها موقوفة على الديارات والكنائس، فعرضت على أمراء الدولة القائمين بتدبير الدولة في أيام الملك الصالح: صالح «2» بن محمد بن قلاوون وهم:
الأمير شيخو العمري، والأمير صرغتمش، والأمير طاز، فتقرّر الحال على أن ينعم بذلك على الأمراء زيادة على إقطاعاتهم، وألزم النصارى بما يلزمهم من الصغار، وهدمت لهم(1/130)
عدّة كنائس كما هو مذكور في موضعه من هذا الكتاب عند ذكر الكنائس، فلما كان العشر الأخير من شهر رجب من السنة المذكورة خرج الحاجب والأمير علاء الدين عليّ بن الكورانيّ والي القاهرة إلى ناحية شبرى الخيام من ضواحي مصر، فهدمت كنيسة النصارى، وأخذ منها أصبع الشهيد في صندوق وأحضر إلى الملك الصالح، وأحرق بين يديه في الميدان، وذرى رماده في البحر حتى لا يأخذه النصارى، فبطل عيد الشهيد من يومئذ إلى هذا العهد، ولله الحمد والمنة.(1/131)
ذكر الخلجان التي شقت من النيل
اعلم أن النيل إذا انتهت زيادته فتحت منه خلجان وترع، يتخرّق الماء فيها يمينا وشمالا إلى البلاد البعيدة عن مجرى النيل، وأكثر الخلجان والترع والجسور، والأخوار بالوجه البحريّ. وأما الوجه القبليّ: وهو بلاد الصعيد فإن ذلك قليل فيه، وقد ذهبت معالمه ودرست رسومه من هنالك.
والمشهور من الخلجان: خليج منجا، وخليج منف، وخليج المنهى، وخليج أشموم طناح، وخليج سردوس، وخليج الإسكندرية، وخليج دمياط، وخليج القاهرة، وبحر أبي المنجا، والخليج الناصري ظاهر القاهرة.
قال ابن عبد الحكم عن أبي رهم السماعيّ قال: كانت مصر ذات قناطر، وجسور بتقدير وتدبير حتى إن الماء ليجري تحت منازلها وأفنيتها، فيحسبونه كيف شاءوا، ويرسلونه كيف شاءوا، فذلك قوله تعالى، عما حكى عن قول فرعون: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ
[الزخرف/ 51] ، ولم يكن يومئذ في الأرض ملك أعظم من ملك مصر، وكانت الجنات بحافتي النيل من أوّله إلى آخره في الجانبين معا جميعا مما بين أسوان إلى رشيد، وسبع خلج: خليج الإسكندرية، وخليج سخا، وخليج دمياط، وخليج منف، وخليج الفيوم، وخليج المنهي، وخليج سردوس، جنات متصلة لا ينقطع منها شيء عن شيء، والزرع ما بين الجبلين من أوّل مصر إلى آخرها مما يبلغه الماء.
وكانت جميع أرض مصر كلها تروى من ستة عشر ذراعا لما قدّروا ودبروا من قناطرها وخلجها وجسورها، فذلك قوله تعالى: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ
[الدخان/ 26] . قال: والمقام الكريم: المنابر، كان بها ألف منبر.
(خليج سخا) «1» وخليج سخا: حفره ندارس بن صا ابن قبطيم بن مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح وهو: أحد ملوك القبط القدماء الذين ملكوا مصر في الدهر الأوّل.
قال ابن وصيف شاه: ندارس الملك أوّل من ملك الأحياز كلها بعد أبيه صا، وصفا له ملك مصر، وكان ندارس محتنكا مجرّبا ذا أيد وقوّة، ومعرفة بالأمور، فأظهر العدل، وأقام(1/132)
الهياكل وأهلها قياما حسنا، ودبر جميع الأحياز. ويقال: إنه الذي حفر خليج سخا وارتفع مال البلد على يده مائة ألف ألف دينار وخمسين ألف ألف دينار، وقصده بعض عمالقة الشام فخرج إليه واستباحه، ودخل فلسطين، وقتل بها خلقا، وسبى بعض حكمائها وأسكنهم مصر، وهابته الملوك وعلى رأس ثلاثين من ملكه طمع السودان من الزنج والنوبة في أرضه، وعاثوا وأفسدوا، فجمع الجيوش من أعمال مصر وأعد المراكب، ووجه قائدا يقال له: فلوطس في ثلثمائة ألف، وقائدا آخر في مثلها، ووجه في النيل ثلثمائة سفينة في كل سفينة كاهن يعمل أعجوبة من العجائب، ثم خرج في جيوش كثيرة، فلقي جمع السودان، وكانوا في زهاء ألف ألف فهزمهم، وقتل أكثرهم أبرح قتل، وأسر منهم خلقا وتبعتهم جيوشه حتى وصلوا إلى أرض الفيلة من بلاد الزنج، فأخذوا منها عدّة ومن النمور والوحوش وساقوها إلى مصر فذللها وعمل على حدود بلده منارا وزبر عليه مسيره، وظفره الوقت الذي سار فيه، ومات بمصر فدفن في ناووس نقل إليه شيئا كثيرا من أصنام الكواكب، ومن الذهب والجوهر والصيغة والتماثيل، وزبر عليه اسمه وتاريخ هلاكه، وجعل له طلسمات تمنع منه وعهد إلى ابنه ماليق بن ندارس.
(خليج سردوس) «1» : حفره هامان. قال ابن وصيف شاه طلما بن قومس الملك:
جلس على سرير الملك، وحاز جميع ما كان في خزائنهم، وهو الذي تذكر القبط أنه فرعون موسى.
فأما أهل الأثر فيزعمون أنه الوليد بن مصعب، وأنه من العمالقة، وذكروا أن الفراعنة سبعة، وكان طلما فيما حكي عنه: قصيرا طويل اللحية أشهل العينين صغير العين اليسرى في جبينه شامة، وكان أعرج. وزعم قوم: أنه من القبط ونسب أهل بيته مشهور عندهم.
وذكر آخرون: أنه دخل منف على أتان عليها نطرون جاء ليبيعه، وكانوا قد اضطربوا في تولية الملك فرضوا أن يملكوا عليهم أوّل من يطرأ من الناس، فلما رأوه ملكوه عليهم، ولما جلس في الملك بذل الأموال، وقرب من أطاعه، وقتل من خالفه فاعتدل أمره، واستخلف هامان، وكان يقرب منه في نسبه، وأثار بعض الكنوز وصرفها في بناء المدائن والعمارات وحفر خلجانا كثيرة.
ويقال: إنه الذي حفر خليج سردوس، وكان كلما عرّجه إلى قرية من قرى الحوف حمل إليه أهلها مالا حتى اجتمع من ذلك مال كثير فأمر بردّه على أهله.
وقال ابن عبد الحكم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن فرعون استعمل هامان على حفر خليج سردوس فلما ابتدأ حفره أتاه أهل كل قرية يسألونه أن يجري(1/133)
الخليج تحت قريتهم، ويعطونه مالا؛ قال: وكان يذهب به إلى هذه القرية من نحو الشرق، ثم يردّه إلى قرية من نحو دبر القبلة، ثم يردّه إلى قرية في الغرب ثم يردّه إلى أهل قرية في القبلة، ويأخذ من أهل كل قرية مالا حتى اجتمع له من ذلك مائة ألف دينار، فأتى بذلك يحمله إلى فرعون فسأله عن ذلك، فأخبره بما فعل في حفره فقال له فرعون: ويحك إنه ينبغي للسيد أن يعطف على عباده، ويفيض عليهم، ولا يرغب فيما بأيديهم ردّ على أهل كل قرية ما أخذت منهم فردّه كله على أهله. قال: فلا يعلم بمصر خليج أكثر انعطافا منه لما فعل هامان في حفره كان هامان نبطيا.
(خليج الإسكندرية) : قال ابن عبد الحكم: ويقال: إن الذي بنى منارة الإسكندرية (فليطرة الملكة) وهي التي ساقت خليجها حتى أدخلته الإسكندرية، ولم يكن يدخلها الماء كان يعدل من قرية يقال لها: كسا قبالة الكريون، فحفرته حتى أدخلته الإسكندرية وهي التي بلطت قاعته. وقال الكندي: إن الحارث بن مسكين قاضي مصر حفر خليج الإسكندرية.
وقال الأسعد بن مماتي في كتاب قوانين الدواوين: خليج الإسكندرية عليه عدّة ترع وطوله من فم الخليج ثلاثون ألف قصبة وستمائة قصبة، وعرضه من قصبتين ونصف إلى ثلاث قصبات ونصف، ومقام الماء فيه بالنسبة إلى النيل فإن كان مقصر أقصرت مدّة إقامته فيه، وإن كان عاليا أقام فيه ما يزيده على شهرين.
ورأيت جماعة من أهل الخبرة، وذوي المعرفة يقولون: إنه إذا عملت من قبالة منية نتيج إلى نتيج زلاقة استقرّ الماء فيه صيفا وشتاء، ورأيت البحيرة جميعها وحوف ودمسيس والكفور الشاسعة، وقد زرعت عليه القصب، والقلقاس والنيلة وأنواع زراعة الصيفيّ وجرى مجرى بحر الشرق والمحلة، وتضاعفت عليه البلاد، وعظم ارتفاعها وإقامة هذه الزلاقة ممكنة لوجود الحجارة في ربوة والطوب في البحيرة، وإنهم قدّروا ما يحتاج إليه فوجدوه يناهز عشرة آلاف دينار.
ويقال: إنه كان الماء فيه جاريا طول السنة، وكان السمك فيه غاية من الكثرة بحيث تصيده الأطفال بالخرق فضمنه بعض الولاة بمال، ومنع الناس من صيده، فعدم منه السمك، ولم ير بعد ذلك فيه سمكة فصار يخرج بالشباك.
(خليج الفيوم والمنهى) : مما حفره نبيّ الله يوسف الصديق عليه السلام عندما عمّر الفيوم كما هو مذكور في خبر الفيوم من هذا الكتاب، وهو مشتق من النيل لا ينقطع جريه أبدا، وإذا قابل النيل ناحية دورة سريام التي تعرف اليوم بدورة الشريف يعني ابن يغلن النائب في الأيام الظاهرية بيبرس تشعبت منه في غربيه شعبة تسمى المنهى تستقل نهرا يصل إلى الفيوم، وهو الآن عرف: ببحر يوسف، وهو نهر لا ينقطع جريانه في جميع السنة، فيسقي الفيوم عامّة سقيا دائما، ثم ينجرّ فضل مائه في بحيرة هناك، ومن العجب أنه ينقطع ماؤه من(1/134)
فوهته، ثم يكون له بلل دون المكان المندي ثم يجري جريا ضعيفا دون مكان البلل، ثم يستقل نهرا جاريا لا يقطع إلا بالسفن، ويتشعب منه أنهار وينقسم قسما يعمّ الفيوم ويسقي قراه ومزارعه وبساتينه وعامّة أماكنه، والله أعلم.
(خليج القاهرة) : هذا الخليج بظاهر القاهرة من جانبها الغربي فيما بينها وبين المقس عرف في أوّل الإسلام: بخليج أمير المؤمنين، وتسميه العامّة اليوم: بخليج الحاكمي، وبخليج اللؤلؤة، وهو خليج قديم أوّل من حفره طوطيس بن ماليا أحد ملوك مصر الذين سكنوا مدينة منف، وهو الذي قدم إبراهيم الخليل صلوات الله عليه في أيامه إلى مصر، وأخذ منه امرأته سارة، وأخدمها هاجر أم إسماعيل صلوات الله عليهما؛ فلما أخرجها إبراهيم هي وابنها إسماعيل إلى مكة بعثت إلى طوطيس تعرّفه أنها بمكان جدب وتستغيثه، فأمر بحفر هذا الخليج، وبعث إليها فيه بالسفن تحمل الحنطة وغيرها إلى جدّة، فأحيا بلد الحجاز، ثم إن أندرومانوس الذي يعرف: بإيليا أحد ملوك الروم بعد الإسكندر بن فيلبس المقدوني، جدّد حفر هذا الخليج، وسارت فيه السفن، وذلك قبل الهجرة النبوية بنيف وأربعمائة سنة. ثم إن عمرو بن العاص رضي الله عنه، جدد حفره لما فتح مصر وأقام في حفره ستة أشهر، وجرت فيه السفن بحمل الميرة إلى الحجاز فسمي: خليج أمير المؤمنين، يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه هو الذي أشار بحفره، ولم تزل تجري فيه السفن من فسطاط مصر إلى مدينة القلزم التي كانت على حافة البحر الشرقي حيث الموضع الذي يعرف اليوم على البحر: بالسويس، وكان يصب ماء النيل في البحر من عند مدينة القلزم إلى أن أمر الخليفة أبو جعفر المنصور بطمه في سنة خمسين ومائة، فطم وبقي منه ما هو موجود الآن، وسيأتي الكلام عليه مبسوطا إن شاء الله تعالى عند ذكر ظواهر القاهرة من هذا الكتاب.
(بحر أبي المنجا) «1» : هذا الخليج تسميه العامّة: بحر أبي المنجا الذي حفره:
الأفضل بن أمير الجيوش في سنة ست وخمس مائة، وكان على حفره أبو المنجا بن شعيا اليهودي. فعرف به، وقد ذكر خبر هذا الخليج عند ذكر مناظر الخلفاء، ومواضع نزههم من هذا الكتاب.
(الخليج الناصري) : هذا الخليج في ظاهر المقس، حفره: الناصر محمد بن قلاوون في سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وقد ذكر في موضعه من هذا الكتاب.
ذكر ما كانت عليه أرض مصر في الزمن الأوّل
قال المسعوديّ: وقد كانت أرض مصر على ما زعم أهل الخبرة والعناية، بأخبار شأن(1/135)
العالم يركب أرضها ماء النيل، وينبسط على بلاد الصعيد إلى أسفل الأرض وموضع الفسطاط في وقتنا هذا، وكان بدء ذلك من موضع يعرف: بالجنادل بين أسوان والنوبة إلى أن عرض لذلك موانع من انتقال الماء، وجريانه وما يتصل من النوبة بتياره من موضع إلى موضع، فنضب الماء عن بعض المواضع من بلاد مصر، وسكن الناس بلاد مصر، ولم يزل الماء ينضب عن أرضها قليلا قليلا حتى امتلأت أرض مصر من المدن والعمائر، وطرّقوا للماء، وحفروا له الخلجان، وعقدوا في وجهه المسببات إلى أن خفي ذلك على ساكنيها لأنّ طول الزمان ذهب بمعرفة أوّل سكناهم كيف كان انتهى.
قلت: ومما ذكر أرسطاطاليس في كتاب الآثار العلوية: أن أرض مصر كان النيل ينبسط عليها، فيطبقها كأنها بحر، ولم يزل الماء ينضب عنها، وييبس ما علا منها أوّلا فأوّلا، ويسكن إلى أن امتلأت بالمدن والقرى والناس. ويقال: إن الناس كانوا قبل سكنى مدينة منف يسكنون بسفح الجبل المقطم في منازل كثيرة نقروها، وهي المغاير التي في الجبل المقابل لمنف من قبليّ المقطم في الجبل المتصل بدير القصير الذي يعرف: بدير البغل المطل على ناحية طرى، ومن وقف عند أهرام نهيار، أي المغائر في الشرقي، وبينهما النيل، ومن صعد من طرا إلى الجبل وسار فيه دخلها وهي: مغاير متسعة، وفيها مغائر تنفذ إلى القلزم تسع المغارة منها أهل مدينة، وإذا دخلها أحد، ولم يهتد على ما يدله على المخرج هلك في تحيره، ويقال: كانت مصر جرداء لا نبات بها فأقطعها متوشلح بن أخنوخ بن يازد بن مهلاييل بن فتيان بن أنوس بن شيث بن آدم لطائفة من أولاده، فلما نزلوها وجدوا نيلها قد سدّ ما بين الجبلين فنضب الماء عن أرض زروعها، فأخرجت الأرض بركاتها، ثم بعد زمان أخذها عنقام الأوّل بن عرياب بن آدم بالغلبة، ونسل بها خلقا عظيما، وجهز لقتال أولاد يزد سبعين ألف مقاتل، وحفر من البحر إلى الجبل نهرا عرضه أربعون قصبة ليمنع من يأتيه، فأتاه بنو يزد، فلم يجدوا إليه سبيلا ففزعوا إلى الله تعالى فبعث على أرض مصر نارا.
ذكر أعمال الديار المصرية وكورها
اعلم أن أرض مصر كانت في الزمن الأوّل الغابر مائة وثلاثا وخمسين كورة «1» ، في كل كورة مدينة وثلثمائة وخمس وستون كورة، فلما عمرت أرض مصر بعد بخت نصر، صارت على خمس وثمانين كورة، ثم تناقصت حتى جاء الإسلام، وفيها أربعون عامرة بجميع قراها لا تنقص شيئا، ثم استقرّت أرض مصرها كلها في الجملة على قسمين: الوجه القبلي: وهو ما كان في جهة الجنوب من مدينة مصر؛ والوجه البحري: وهو ما كان في شمال مدينة مصر.(1/136)
وقد قسمت الأرض جميعها قبليها وبحريها على ستة وعشرين عملا وهي: الشرقية، والمرتاحية، والدقهلية، والإيوانية، وثغر دمياط.
الوجه البحري: جزيرة قويسنا، والغربية، والسمنودية، والدنجاوية، والمنوفية، والستراوية، وفوّه، والمزاحمتين، وجزيرة بني نصر، والبحيرة، وإسكندرية وضواحيها، وحوف دمسيس.
والوجه القبلي: الجيزة، والأطفيحية، والبوصيرية، والفيومية، والبهنساوية، والأشمونين، والمنفلوطية، والأسيوطية، والإخميمية، والقوصية. وهي أيضا ثلاثون كورة، وهي: كورة الفيوم، وفيها مائة وست وخمسون قرية، ويقال: إنها كانت ثلثمائة وستين قرية، وكورة منف ووسيم خمس وخمسون قرية، وكورة الشرقية وتعرف بالأطفيحية سبع عشرة قرية، وقرى أهناس ومنه: قمن ثماني قرى، وكور تادلاص، وبوصير ست قرى، وكورة أهناس خمس وتسعون قرية، سوى الكفور، وكورة البهنسا مائة وعشرون قرية، وكورة الفشن سبع وثلاثون قرية، وكورة طحا سبع وثلاثون قرية، وحوز سنودة ثمان قرى، وكورة الأشمونين مائة وثلاث وثلاثون قرية، وكورة أسفل انصنا إحدى عشرة قرية، وكورة سيوط سبع وثلاثون قرية، وكورة شطب ثمان قرى، وكورة أعلا أنصنا ثنتا عشرة قرية، وكورة قهقوه سبع وثلاثون قرية، وكورة أخميم والدوير ثلاث وستون قرية، وكورة السبابة والواحات ثلاث وستون قرية سوى الكفور، وكورة هو عشرون قرية، وكورة فاو ثمان قرى، وكورة قنا سبع قرى، وكورة دندرة عشر قرى، وكورة قفط ثنتان وعشرون قرية، وكورة الأقصر خمس قرى، وكورة أسنا خمس قرى، وكورة أرمنت سبع قرى، وكورة أسوان سبع قرى، فجميع قرى الصعيد ألف وثلاثون وأربعون قرية سوى المنى، والكفور في ثلاثين كورة.
كورة أسفل الأرض: الحوف الشرقيّ خمس وستون قرية، كورة أتريب مائة وثمان قرى سوى المنى والكفور، كورة بنو سبع وثمانون قرية سوى المنى والكفور، كورة نما مائة وخمسون قرية سوى المنى والكفور، كورة بسطة تسع وثلاثون قرية، كورة طرابية ثمان وعشرون قرية منها: السدير والهامة وفاقوس، كورة هربيط ثمان عشرة قرية سوى المنى والكفور، كورة صا وإبليل ست وأربعون قرية منها: سنهور والفرما والعريش.
فجميع قرى الحوف الشرقي خمسمائة وتسع وعشرون قرية سوى المنى في سبع كور.
بطن الريف كورتادمسيس، ومنوف مائة وأربع قرى سوى المنى والكفور. كورة تاطورة منوف اثنتان وسبعون قرية سوى المنى والكفور، كورة سخا مائة وخمس عشرة قرية، كورة بيدة والأفراحون ثلاث وعشرون قريّة سوى المنى والكفور، كورة البشرود اربع وعشرون قرية، كورة نفر اثنتا عشرة قرية سوى المنى، كورة ببا وبوصير ثمان وثمانون قرية سوى المنى(1/137)
والكفور، كورة سمنود مائة وثمان وعشرون قرية سوى المنى والكفور، كورة نوسا إحدى وعشرون قرية سوى المنى، كورة الأوسية أربعون قرية سوى المنى، كورة النجوم أربعون قرية سوى المنى، تنيس ودمياط ثلاث عشرة قرية سوى المنى، وهي شيء كثير.
الإسكندرية، الحوف الغربي: كورة صا ثلاث وسبعون قرية سوى المنى والكفور، كورة شباس اثنان وعشرون قرية سوى المنى والكفور، كورة اليدقون ثلاث وأربعون قرية سوى المنى والكفور، حيز اليدقون تسع وعشرون قرية سوى المنى والكفور، الشراك تسع قرى، كورة ترنوط ثمان قرى، كورة خربتا اثنا وستون قرية سوى المنى والكفور، كورة قرطسا اثنان وعشرون قرية سوى المنى والكفور، كورتا مصيل والمليدس تسع وأربعون قرية سوى المنى، كورتا احنور ورشيد سبع عشرة قرية، البحيراء والحصص بالإسكندرية والكرومات والبعل ومريوط ومدينة الإسكندرية ولويبه ومراقبه مائة وأربع وعشرون قرية سوى المنى. فالحوف الغربيّ: أربعمائة وتسع وأربعون قرية سوى المنى في ثلاث عشرة كورة.
قال المسبّحي في تاريخه: تصير قرى مصر أسفل الأرض ألفا وأربعمائة وتسعا وثلاثين قرية، ويكون جميع ذلك بالصعيد، وأسفل الأرض ألفين وثلثمائة وخمسا وتسعين قرية.
وقال القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعي: أرض مصر قسمين: فمن ذلك صعيدها وهو ما يلي: مهب الجنوب منها، وأسفل أرضها وهو ما يلي: مهب الشمال منها، فقسم الصعيد على ثمان وعشرين كورة، فمن ذلك كورة الفيوم كلها، وكورتا منف ووسيم، وكورة الشرقية، وكورتا دلاص وأبو صير، وكورة أهناس، وكورتا الفشن والبهنسا، وكورة طحا وحيز سنودة، وكورة بويط، وكورتا الأشمونين وأسفل أنصنا وأعلاها وشطب قوص قام، وكورة سيوط، وكورة قهقوه، وكورتا أخميم والدير وأبشاية، وكورة هوّ وأقنا وفاو ودندرة، وكورة قفط والأقصر، وكورة اسنا وارمنت، وكورة أسوان.
فهذه كور الصعيد، ومن ذلك كور أسفل الأرض وهي خمس وعشرون كورة. وفي نسخة: ثلاث وثلاثون كورة، وفي نسخة: ثمان وثلاثون كورة، فمن ذلك:
كورة الجوف الشرقيّ: كورتا اتريب وعين شمس، وكورتا بني ونمى، وكورتا بسطه وطرابية، وكورة هربيط، وكورة صا وإبليل، وكورة الفرما والعريش والجفار ومن ذلك: كور بطن الريف من أسفل الأرض، كورة ببا وبوصير، وكورتا سمنود وبوسا، وكورتا الأوسية والنجوم، وكورة دقملة، وكورتا تنيس ودمياط. ومنها: كورة الجزيرة من أسفل الأرض، وكورة دمسيس ومنوف، وكورة طوه ومنوف، وكورة سخا وبيدة والأفراحون، وكورة مقين وديصا، وكورة البشرود.(1/138)
ومن ذلك
كور الحوف الغربيّ: كورة صا، وكورة شباس، وكورة اليدقون وحيزها، وكورة الخيس والشراك، وكورة خربتا، وكورة قرطسا ومصيل والمليدس، وكورتا اخنا والبحيرة ورشيد، وكورة الإسكندرية، وكورة مريوط، وكورة لويبة ومراقية.
ومن
كور القبلة: كرى الحجاز وهي: كورة الطور وفاران، وكورة راية والقلزم، وكورة ايلة وحيزها ومدين وحيزها والعونيد والحوراء وحيزها، ثم كورة بدا أو شغب.
وذكر من له معرفة بالخراج، وأمر الديوان أنه وقف على جريدة عتيقة بخط ابن عيسى بقطر بن شغا الكاتب القبطيّ المعروف: بالبولس متولي خراج مصر للدولة الإخشيدية.
يشتمل على ذكر كور مصر وقراها إلى سنة خمس وأربعين وثلثمائة إن قرى مصر بالصعيدين، وأسفل الأرض ألفان وثلثمائة وخمس وتسعون قرية منها بالصعيد: تسعمائة وست وخمسون قرية، وبأسفل الأرض: ألف وأربعمائة وتسع وثلاثون قرية، وهذا عددها في الوقت الذي جرّدت فيه الجرائد المذكورة، وقد تغيرت بعد ذلك بخراب ما خرب منها.
وقال ابن عبد الحكم عن الليث بن سعد رضي الله عنه: لما ولي الوليد بن رفاعة مصر، خرج ليحصي عدّة أهلها، وينظر في تعديل الخراج عليهم، فأقام في ذلك ستة أشهر بالصعيد حتى بلغ أسوان، ومعه جماعة من الكتاب، والأعوان يكفونه ذلك بجدّ وتشمير، وثلاثة أشهر بأسفل الأرض، وأحصوا من القرى أكثر من عشرة آلاف قرية، فلم يحصر في أصغر قرية منها أقل من خمسمائة جمجمة من الرجال الذين تفرض عليهم الجزية يكون جملة ذلك خمسة آلاف ألف رجل.
والذي استقرّ عليه الحال في دولة الناصر (محمد بن قلاوون) أن الوجه القبلي ستة أعمال وهي من عمل قوص، وهو أجلها، ومنه أسوان وغرب قوله، وعمل أخميم، وعمل أسيوط، وعمل منفلوط، وعمل الأشمونين وبها الطحاوية، وعمل البهنساوية الغربيّ، وهو عبارة عن قرى على غربي المنهي المارّ إلى الفيوم، وعمل الفيوم، وعمل أطفيح، وعمل الجيزة.
والوجه البحري ستة أعمال: عمل البحيراء، وهو متصل البرّ بالإسكندرية وبرقة، وعمل الغربية جزيرة واحدة يشتمل عليها ما بين البحرين، وهما البحر المارّ مسكبه عند دمياط ويسمى الشرقيّ، والبحر الثاني مسكبه عند رشيد ويسمى الغربي، والمنوفية ومنها:
ابيار، وجزيرة بني نصر، وعمل قليوب، وعمل الشرقية، وعمل أسموم طناح ومنها:
الدقهلية والمرتاحية، وهناك موقع ثغر البرلس، وثغر رشيد والمنصورة، وفي هذا الوجه الإسكندرية ودمياط ولا عمل لهما.(1/139)
وأما الواحات: فمنقطعة وراء الوجه القبلي مغاربة لم تعدّ في الولايات ولا في الأعمال، ولا يحكم عليها والي السلطان وإنما يحكم عليها من قبل مقطعها، والله تعالى أعلم.
ذكر ما كان يعمل في أراضي مصر من حفر الترع وعمارة الجسور ونحو ذلك من أجل ضبط ماء النيل وتصريفه في أوقاته
قال ابن عبد الحكم عن يزيد بن أبي حبيب: وكانت فريضة مصر بحفر خليجها، وإقامة جسورها، وبناء قناطرها، وقطع جزائرها مائة ألف وعشرين ألفا. معهم المساحي والطوريات والأداة يعتقبون ذلك لا يدعونه شتاء ولا صيفا.
وعن أبي قبيل قال: زعم بعض مشايخ أهل مصر: أن الذي كان يعمل به مصر على عهد ملوكها أنهم كانوا يقرّون القرى في أيدي أهلها كل قرية، بكراء معلوم لا ينقص عنهم إلا في كل أربع سنين من أجل الظمأ، وتنقل اليسار فإذا مضت أربع سنين نقض ذلك، وعدّل تعديلا جديدا، فيرفق بممن استحق الرفق ويزاد على من احتمل الزيادة، ولا يحمل عليهم من ذلك ما يشق عليهم، فإذا جبي الخراج وجمع كان للملك من ذلك الربع خالصا لنفسه يصنع به ما يريد، والربع الثاني لجنده ومن يقوى به على حربه وجباية خراجه ودفع عدوه، والربع الثالث في مصلحة الأرض وما تحتاج إليه من جسورها وحفر خلجها، وبناء قناطرها والقوّة للزارعين على زرعهم وعمارة أرضهم، والربع الرابع يخرج منه ربع ما يصيب كل قرية من خراجها، فيدفن ذلك لنائبة تنزل أو جائحة بأهل القرية، فكانوا على ذلك، والذي يدفن في كل قرية من خراجها هي: كنوز فرعون التي يتحدّث الناس بها أنها ستظهر فيطلبها الذين يتتبعون الكنوز.
وذكر أن بعض فراعنة مصر جبى خراج مصر اثنين وسبعين ألف ألف دينار، وأن من عمارته أنه أرسل ويبة قمح إلى أسفل الأرض وإلى الصعيد في وقت تنظيف الأرض والترع من العمارة، فلم يوجد لها أرض فارغة تزرع فيها، وذكر أنه كان عند تناهي العمارة يرسل بأربع ويبات برسيم إلى الصعيد، وإلى أسفل الأرض وإلى أيّ كورة، فإن وجد لها موضعا خاليا فزرعت فيه، ضرب عنق صاحب الكورة، وكانت مصر يومئذ عمارتها متصلة أربعين فرسخا في مثلها، والفرسخ: ثلاثة أميال، والبريد: أربعة فراسخ، فتكون عشرة برد في مثلها، ولم تزل الفراعنة تسلك هذا المسلك إلى أيام فرعون موسى فإنه عمرها عدلا وسماحة، وتتابع الظمأ ثلاث سنين في أيامه، فترك لأهل مصر خراج ثلاث سنين، وأنفق على نفسه وعساكره من خزائنه، ولما كان في السنة الرابعة أضعف الخراج واستمرّ فاعتاض ما أنفق(1/140)
وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه: أن اسئل المقوقس عن مصر، من أين تأتي عمارتها وخرابها؟ فسأله عمرو، فقال له المقوقس:
عمارتها وخرابها من وجوه خمسة: أن يستخرج خراجها في إبان واحد عند فراغ أهلها من زروعهم، ويرفع خراجها في إبان واحد عند فراغ أهلها من عصر كرومهم، ويحفر في كل سنة خلجانها، وتسدّ ترعها وجسورها، ولا يقبل مطل أهلها يريد البغي، فإذا فعل هذا فيها عمرت وإن عمل فيها بخلافه خربت.
وعن زيد بن أسلم عن أبيه قال: لما استبطأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عمرو بن العاص رضي الله عنه، في الخراج كتب إليه: أن ابعث إليّ رجلا من أهل مصر، فبعث إليه رجلا قديما من القبطة فاستخبره عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن مصر وخراجها قبل الإسلام فقال: يا أمير المؤمنين مصر كان لا يؤخذ منها شيء إلا بعد عمارتها، وعاملك لا ينظر إلى العمارة، وإنما يأخذ ما ظهر له كأنه لا يريدها إلا لعام واحد، فعرف عمر رضي الله عنه ما قال، وقبل من عمرو ما كان يعتذر به.
وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه للمقوقس: أنت وليت مصر فبم تكون عمارتها؟
فقال: بخصال أن تحفروا خلجانها، وتسدّ جسورها وترعها، ولا يؤخذ خراجها إلا من غلتها، ولا يقبل مطل أهله، ويوفي لهم بالشروط، ويدر الأرزاق على العمال لئلا يرتشوا، ويرتفع عن أهله المعاون والهدايا، ليكون قوّة لهم، فبذلك تعمر ويرجى خراجها.
ويقال: إن ملوك مصر من القبط كانوا يقسمون الخراج أربعة أقسام: قسم لخاصة الملك، وقسم لأرزاق الجند، وقسم لمصالح الأرض، وقسم يدخر لحادثة تحدث فينفق فيها.
ولما ولي عبيد الله بن الحبحاب خراج مصر، لهشام بن عبد الملك خرج بنفسه، فمسح أرض مصر كلها عامرها وغامرها مما يركبه النيل، فوجد فيها مائة ألف ألف فدّان، والباقي استبحر وتلف، واعتبر مدّة الحرث، فوجدها ستين يوما، والحرّاث يحرث خمسين فدّانا، وكانت محتاجة إلى أربعمائة ألف وثمانين ألف حرّاث.
ذكر مقدار خراج مصر في الزمن الأوّل
قال ابن وصيف شاه: وكان منقاوس «1» قسم خراج البلاد أرباعا، فربع للملك خاصة يعمل فيه ما يريد، وربع ينفق في مصالح الأرض وما تحتاج إليه من عمل الجسور وحفر(1/141)
الخلج وتقوية أهلها على العمارة، وربع يدفن لحادثة تحدث أو نازلة تنزل، وربع للجند، وكان خراج البلد ذلك الوقت مائة ألف ألف وثلاثة آلاف ألف دينار وقسمها على مائة وثلاث كور بعدّة الآلاف.
ويقال: إن كل دينار عشرة مثاقيل من مثاقيلنا الإسلامية وهي اليوم: خمس وثمانون كورة. أسفل الأرض: خمس وأربعون كورة، والصعيد: أربعون كورة، وفي كل كورة كاهن يدبرها، وصاحب حرب وارتفع مال البلد على يد ندارس بن صا مائة ألف ألف دينار وخمسين ألف ألف دينار، وفي أيام كلكن بن خربتا بن ماليق بن ندارس مائة ألف ألف دينار وبضعة عشر ألف ألف دينار ولما زالت دولة القبط الأولى من مصر وملكها العمالقة اختل أمرها، وكان فرعون الأوّل يجبيها تسعين ألف ألف دينار يخرج من ذلك عشرة آلاف ألف دينار لأولياء الأمر والجند والكتّاب، وعشرة آلاف ألف دينار لمصالح فرعون، ويكنزون لفرعون خمسين ألف ألف دينار.
وبلغ خراج مصر في أيام الريان بن الوليد وهو فرعون يوسف عليه السلام، سبعة وتسعين ألف ألف دينار، فأحب أن يتمه مائة ألف ألف دينار، فأمر بوجوه العمارات وإصلاح جسور البلد، والزيادة في استنباط الأرض حتى بلغ ذلك وزاد عليه.
وقال ابن دحية: وجبيت مصر في أيام الفراعنة فبلغت تسعين ألف ألف دينار بالدينار الفرعونيّ وهو ثلاثة مثاقيل في مثقالنا المعروف الآن بمصر الذي هو: أربعة وعشرون قيراطا، كل قيراط: ثلاث حبات من قمح، فيكون بحساب ذلك مائتي ألف ألف وسبعين ألف ألف دينار مصرية.
وذكر الشريف الجوّاني «1» : أنه وجد في بعض البرابي بالصعيد مكتوبا باللغة الصعيدية مما نقل بالعربية مبلغ ما كان يستخرج لفرعون يوسف عليه السلام، وهو الريان بن الوليد من أموال مصر بحق الخراج مما يوجبه الخراج، وسائر وجوه الجبايات لسنة واحدة على العدل والإنصاف، والرسوم الجارية من غير تأوّل ولا اضطهاد ولا مشاحة على عظيم فضل كان في يد المؤدي لرسمه وبعد وضع ما يجب وضعه لحوادث الزمان نظرا للعاملين وتقوية لحالهم من العين أربعة وعشرون ألف ألف دينار وأربعمائة ألف دينار، وذكر ما فيه كما في خبر الحسن بن علي الأسدي.
وقال الحسن بن علي الأسدي: أخبرني أبي قال: وجدت في كتاب قبطي باللغة(1/142)
الصعيدية، مما نقل إلى اللغة العربية أن مبلغ ما كان يستخرج لفرعون مصر بحق الخراج الذي يوجد وسائر وجوه الجبايات لسنة كاملة على العدل والإنصاف والرسوم الجارية من غير اضطهاد ولا مناقشة على عظيم فضل كان في يد المؤدّي لرسمه وبعد وضع ما يجب وضعه لحوادث الزمان رفقا بالمعاملين وتقوية لهم من العين أربعة وعشرين ألف ألف دينار وأربعمائة ألف دينار من جهات مصر، وذلك ما يصرف في عمارة البلاد لحفر الخلج وإتقان الجسور، وسدّ الترع وإصلاح السبل، والساسة ثم في تقوية من يحتاج التقوية من غير رجوع عليه بها لإقامة العوامل والتوسعة في البدار وغير ذلك، وثمن الآلات وأجرة من يستعان به من الأجراء لحمل الأصناف، وسائر نفقات تطريق أراضيهم من العين ثمانمائة ألف دينار، ولما يصرف في أرزاق الأولياء الموسومين بالسلاح وحملته والغلمان، وأشياعهم مع ألف كاتب موسومين بالدواوين سوى أتباعهم من الخزان، ومن يجري مجراهم وعدّتهم مائة ألف وأحد عشر ألف رجل من العين ثمانية آلاف ألف دينار، ولما يصرف في الأرامل، والأيتام فرضا لهم من بيت المال، وإن كانوا غير محتاجين إليه حتى لا تخلو آمالهم من برّ يصل إليهم من العين أربعمائة ألف دينار، ولما يصرف في كهنة برابيهم، وأئمتهم وسائر بيوت صلواتهم من العين مائة ألف دينار، ولما يصرف في الصدقات، وينادى في الناس: برئت الذمة من رجل كشف وجهه لفاقة، فليحضر فلا يرد عند ذلك أحد، والأمناء جلوس فإذا رؤي رجل لم تجر عادته بذلك أفرد بعض قبض ما يقبضه، حتى إذا فرّق المال، واجتمع من هذه الطائفة عدّة دخل أمناء فرعون إليه وهنوه بتفرقة المال، ودعوا له بالبقاء والسلامة وأنهوا حال الطائفة المذكورة، فيأمر بتغيير شعثها بالحمام واللباس، وبمدّ الأسمطة، ويأكلون ويشربون، ثم يستعلم من كلواحد سبب فاقته، فإن كان من آفة الزمان ردّ عليه مثل ما كان وأكثر، وإن كان عن سوء رأي وضعف تدبير ضمه إلى من يشرف عليه، ويقوم بالأمر الذي يصلح له من العين مائتا ألف دينار.
فذلك جملة ما تبين، وفصل في هذه الجهات المذكورة من العين تسعة آلاف ألف وثمانمائة ألف دينار، ويحصل بعد ذلك ما يتسلمه فرعون في بيوت أمواله عدّة لنوائب الدهر، وحادثات الزمان من العين أربعة عشر ألف ألف دينار وستمائة ألف دينار.
وقيل لبعضهم: متى عقدت مصر تسعين ألف ألف دينار؟ قال: في الوقت الذي أرسل فرعون بويبة قمح إلى أسفل الأرض وإلى الصعيد فلم يجد لها موضعا تبذر فيه لشغل جميع البلاد بالعمارة.
ذكر ما عمله المسلمون عند فتح مصر في الخراج وما كان من أمر مصر في ذلك مع القبط
قال زهير بن معاوية: حدثنا سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(1/143)
«منعت العراق درهمها وقفيزها «1» ، ومنعت الشام مدّها «2» ودينارها، ومنعت مصر إردبها «3» وعدتم من حيث بدأتم» . قال أبو عبيد: قد أخبر صلى الله عليه وسلم بما لم يكن، وهو في علم الله كائن فخرّج لفظه على لفظ الماضي لأنه ماض في علم الله وفي إعلامه بهذا قبل وقوعه، ما دل على إثبات نبوّته، ودل على رضاه من عمر رضي الله عنه ما وظفه على الكفرة من الخراج في الأمصار.
وفي تفسير المنع وجهان: أحدهما: أنه علم أنهم سيسلمون ويسقط عنهم ما وظف عليهم، فصاروا مانعين بإسلامهم ما وظف عليهم، يدل عليه قوله: «وعدتهم من حيث بدأتم» . وقيل معناه: أنهم يرجعون عن الطاعة، والأوّل أحسن.
وقال ابن عبد الحكم عن عبيد الله لن لهيعة: لما فتح عمرو بن العاص مصر صولح على جميع من فيها من الرجال من القبط ممن راهق الحلم إلى ما فوق ذلك ليس فيهم امرأة ولا صبيّ ولا شيخ على دينارين دينارين، فأحصوا ذلك، فبلغت عدّتهم ثمانية آلاف ألف.
وعن هشام بن أبي رقية اللخميّ: أن عمرو بن العاص لما فتح مصر قال لقبط مصر:
إن من كتمني كنزا عنده فقدرت عليه قتلته، وإنّ قبطيا من أرض الصعيد يقال له: بطرس، ذكر لعمرو: إن عنده كنزا فأرسل إليه فسأله، فأنكر، وجحد فحبسه في السجن، وعمرو يسأل عنه: هل تسمعونه يسأل عن أحد؟ فقالوا: لا، إنما سمعناه يسأل عن راهب في الطور، فأرسل عمرو إلى بطرس، فنزع خاتمه، ثم كتب إلى ذلك الراهب: أن ابعث إليّ بما عندك، وختمه بخاتمه، فجاء الرسول بقلّة شامية مختومة بالرصاص، ففتحها عمرو، فوجد فيها صحيفة مكتوب فيها: (ما لكم تحت الفسقية «4» الكبيرة) فأرسل عمرو إلى الفسقية، فحبس عنها الماء، ثم قلع البلاط الذي تحتها، فوجد فيها اثنين وخمسين أردبا ذهبا مصريا مضروبة، فضرب عمرو رأسه عند باب المسجد، فأخرج القبط كنوزهم شفقا أن يبغي على أحد منهم، فيقتل كما قتل بطرس.
وعن يزيد بن أبي حبيب: أن عمرو بن العاص، استحل مال قبطيّ من قبط مصر لأنه(1/144)
استقرّ عنده أنه يظهر الروم على عورات المسلمين، ويكتب إليهم بذلك، فاستخرج منه بضعا وخمسين أردبا دنانير.
قال ابن عبد الحكم: وكان عمرو بن العاص رضي الله عنه، يبعث إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالجزية بعد حبس ما كان يحتاج إليه، وكانت فريضة مصر لحفر خلجها، وإقامة جسورها، وبناء قناطرها، وقطع جزائرها مائة ألف وعشرين ألفا معهم الطور والمساحي والأداة يعتقبون ذلك لا يدعون ذلك صيفا ولا شتاء، ثم كتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن تختم في رقاب أهل الذمّة بالرصاص، ويظهروا مناطقهم، ويجزوا نواصيهم ويركبوا على الأكف عرضا، ولا يضربوا الجزية إلا على من جرتعليه الموسى، ولا يضربوا على النساء، ولا على الولدان، ولا تدعهم يتشبهون بالمسلمين في ملبوسهم.
وعن يزيد بن أسلم: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أمراء الأجناد: أن لا يضربوا الجزية إلا على من جرت عليه الموسى، وجزيتهم أربعون درهما على أهل الورق، وأربعة دنانير على أهل الذهب، وعليهم من أرزاق المسلمين من الحنطة والزيت مدّان من حنطة، وثلاثة أقساط من زيت في كل شهر لكل إنسان من أهل الشام، والجزيرة، وودك «1» وعسل لا أدري كم هو، ومن كان من أهل مصر، فأردب في كل شهر لكل إنسان، ولا أدري كم الودك والعسل، وعليهم من البز الكسوة التي يكسوها أمير المؤمنين الناس ويضيفون من نزل بهم من أهل الإسلام ثلاثة أيام وعلى أهل العراق خمسة عشر صاعا لكل إنسان، ولا أدري كم لهم من الودك، وكان لا يضرب الجزية على النساء والصبيان، وكان يختم في أعناق رجال أهل الجزية، وكانت ويبة عمر في ولاية عمرو بن العاص: ستة أمداد.
قال: وكان عمرو بن العاص، لما استوثق له الأمر أقرّ قبطها على جباية الروم، فكانت جبايتهم بالتعديل إذا عمرت القرية، وكثر أهلها زيد عليهم، وإن قل أهلها وخربت نقصوا، فيجتمع عرّافوا كل قرية وأمراءها ورؤساء أهلها فيتناظرون في العمارة والخراب حتى إذا أقرّوا من القسم بالزيادة انصرفوا بتلك القسمة إلى الكور، ثم اجتمعوا هم ورؤساء القرى، فوزعوا ذلك على احتمال القرى وسعة المزارع، ثم يجتمع كل قرية بقسمهم فيجمعون قسمهم وخراج كل قرية، وما فيها من الأرض العامرة، فيبتدئون ويخرجون من الأرض فدّادين لكنائسهم وحماياتهم ومعدياتهم من جملة الأرض، ثم يخرج منها عدد الضيافة للمسلمين، ونزول السلطان فإذا فرغوا نظروا لما في كل قرية من الصناع والأجراء فقسموا عليهم بقدر احتمالهم، فإن كانت فيهم جالية قسموا عليها بقدر احتمالها، وقلما كانت تكون إلا لرجل الشاب أو المتزوج ثم ينظرون ما بقي من الخراج، فيقسمونه بينهم(1/145)
على عدد الأرض، ثم يقسمون ذلك بين من يريد الزرع منهم على قدر طاقتهم، فإنن عجز أحد منهم وشكا ضعفا عن زرع أرضه، وزعوا ما عجز عنه على ذوي الاحتمال، وإن كان منهم من يريد الزيادة أعطي ما عجز عنه أهل الضعف، فإن تشاحوا قسموا ذلك على عدّتهم، وكانت قسمتهم على قراريط الدنانير أربعة وعشرين قيراطا «1» يقسمون الأرض على ذلك.
ولذلك روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيرا» .
وجعل لكل فدان عليهم: نصف أردب قمح، وويبتين من شعير إلا القرظ «2» فلم يكن عليه ضريبة، والويبة ستة أمداد، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأخذ ممن صالحه من المعاهدين ما سمى على نفسه لا يضع من ذلك شيئا، ولا يزيد عليه، ومن نزل منهم على الجزية ولم يسم شيئا يؤدّيه نظر عمر في أمره فإذا احتاجوا خفف عنهم، وإن استغنوا زاد عليهم بقدر استغنائهم.
وقال هشام بن أبي رقية اللخمي: قدم صاحب أخنا على عمرو بن العاص رضي الله عنه فقال له: أخبرنا ما على أحدنا من الجزية فنصير لها؟ فقال عمرو، وهو يشير إلى ركن كنيسة: لو أعطيتني من الأرض إلى السقف ما أخبرتك ما عليك إنما أنتم خزانة لنا إن كثر علينا كثرنا عليكم، وإن خفف عنا خففنا عنكم، ومن ذهب إلى هذا الحديث ذهب إلى أن مصر فتحت عنوة.
وعن يزيد بن أبي حبيب قال: قال عمر بن عبد: العزيز أيّما ذميّ أسلم فإن إسلامه يحرز له نفسه وماله، وما كان من أرض فإنها من فيء الله على المسلمين، وأيما قوم صالحوا على جزية يعطونها فمن أسلم منهم كانت داره وأرضه لبقيتهم.
وقال الليث: كتب إليّ يحيى بن سعيد: أن ما باع القبط في جزيتهم، وما يؤخذون به من الحق الذي عليهم من عبد أو وليدة أو بعير أو بقرة أو دابة فإن ذلك جائز عليهم، فمن ابتاعه منهم فهو غير مردود عليهم أن أيسروا وما أكروا من أرضهم فجائز كراؤه إلا أن يكون يضر بالجزية التي عليهم فلعل الأرض إن ترد عليهم أن أضرت بجزيتهم وإن كان فضلا بعد الجزية، فإنا نرى كراءها جائزا لمن يكراها منهم.
قال يحيى: فنحن نقول: الجزية جزيتان: جزية على رؤوس الرجال، وجزية جملة(1/146)
تكون على أهل القرية يؤخذ بها أهل القرية، فمن هلك من أهل القرية التي عليهم جزية مسماة على القرية ليست على رؤوس الرجال، فإنا نرى أنّ من هلك من أهل القرية ممن لا ولد له ولا وارث إن أرضه ترجع إلى قريته في جملة ما عليهم من الجزية، ومن هلك ممن جزيته على رؤوس الرجال، ولم يدع وارثا فإن أرضه للمسلمين.
وقال الليث عن عمر بن العزيز: الجزية على الرءوس وليست على الأرضين، يريد أهل الذمّة.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى حيان بن شريح: أن يجعل جزية موتي القبط على أحيائهم، وهذا يدل على أنّ عمر كان يرى أنّ أرض مصر فتحت عنوة، وأن الجزية إنما هي على القرى، فمن مات من أهل القرى كانت تلك الجزية ثابتة عليهم وإن موت من مات منهم لا يضع عنهم من الجزية شيئا. قال: ويحتمل أن تكون مصر فتحت بصلح فذلك الصلح ثابت على من بقي منهم وإن موت من مات منهم لا يضع عنهم ممن صالحوا عليه شيئا.
قال الليث: وضع عمر بن عبد العزيز الجزية على من أسلم من أهل الذمّة من أهل مصر، وألحق في الديوان صلح من أسلم منهم في عشائر من أسلموا على يديه، وكانت تؤخذ قبل ذلك ممن أسلم، وأوّل من أخذ الجزية ممن أسلم من أهل الذمّة: الحجاج بن يوسف، ثم كتب عبد الملك بن مروان إلى عبد العزيز بن مروان: أن يضع الجزية على من أسلم من أهل الذمّة، فكلمه ابن حجيرة في ذلك فقال: أعيذك بالله أيها الأمير أن تكون أوّل من سنّ ذلك بمصر، فو الله إن أهل الذمّة ليتحملون جزية من ترهب منهم، فكيف نضعها على من أسلم منهم فتركهم عند ذلك.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى حيان بن شريح: أن تضع الجزية عمن أسلم من أهل الذمة، فإن الله تبارك وتعالى قال: فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
[التوبة/ 5] ، وقال: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ
[التوبة/ 29] .
وكتب حيان بن شريح إلى عمر بن عبد العزيز: أما بعد: فإن الإسلام قد أضر بالجزية حتى سلفت من الحارث بن ثابتة عشرين ألف دينارا تمت بها عطاء أهل الديوان، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بقضائها فعل، فكتب إليه عمر: أما بعد: فقد بلغني كتابك، وقد وليتك جند مصر، وأنا عارف بضعفك، وقد أمرت رسولي بضربك على رأسك عشرين سوطا، فضع الجزية عن من أسلم قبح الله رأيك فإن الله إنما بعث محمدا صلى الله عليه وسلم هاديا ولم يبعثه جابيا، ولعمري لعمر أشقى من أن يدخل الناس كلهم الإسلام على يديه.(1/147)
قال: ولما استبطأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخراج من قبل عمرو بن العاص كتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص سلام الله عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإني فكرت في أمرك والذي أنت عليه فإذا أرضك أرض واسعة عريضة رفيعة، وقد أعطى الله أهلها عددا وجلدا وقوّة في برّ وبحر، وأنها قد عالجتها الفراعنة، وعملوا فيها عملا محكما مع شدّة عتوهم وكفرهم فعجبت من ذلك، وأعجب مما عجبت أنها لا تؤدّي نصف ما كانت تؤدّيه من الخراج قبل ذلك على غير قحوط، ولا جدب، وقد أكثرت في مكاتبتك في الذي على أرضك من الخراج، وظننت أن ذلك سيأتينا على غير نزر، ورجوت أن تفيق فترفع إليّ ذلك، فإذا أنت تأتيني بمعاريض تعبأ بها لا توافق الذي في نفسي لست قابلا منك دون الذي كانت تؤخذ به من الخراج قبل ذلك، ولست أدري مع ذلك ما الذي نفرك من كتابي، وقبضك، فلئن كنت مجرّبا كافيا صحيحا إن البراءة لنافعة، وإن كنت مضيعا نطعا إن الأمر لعلى غير ما تحدّث به نفسك، وقد تركت أن أبتلي ذلك منك في العام الماضي رجاء أن تفيق، فترفع إليّ ذلك وقد علمت أنه لم يمنعك من ذلك إلا أن أعمالك عمال السوء، وما توالس عليك وتلفف اتخذوك كهفا، وعندي بإذن الله دواء فيه شفاء عما أسألك فيه فلا تجزع أبا عبد الله أن يؤخذ منك الحق وتعطاه، فإن النهر يخرج الدرّ والحق أبلج ودعني وما عنه تلجلج، فإنه قد برح الخفاء والسلام.
فكتب إليه عمرو بن العاص: بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عمر أمير المؤمنين من عمرو بن العاص سلام الله عليك، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد: فقد بلغني كتابك أمير المؤمنين في الذي استبطأني فيه من الخراج والذي ذكر فيها من عمل الفراعنة قبلي وإعجابه من خراجها على أيديهم ونقص ذلك منها مذ كان الإسلام، ولعمري للخراج يومئذ أوفر وأكثر، والأرض أعمر لأنهم كانوا على كفرهم، وعتوّهم أرغب في عمارة أرضهم منا مذ كان الإسلام، وذكرت أن النهر يخرج الدر، فحلبتها حلبا قطع درها، وأكثرت في كتابك وأنبت وعرضت وتربت وعلمت أن ذلك عن شيء تخفيه على غير خبر، فجئت لعمري بالمقطعات المقدّعات، ولقد كان لك فيه من الصواب من القول رصين صارم بليغ صادق، ولقد عملنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولمن بعده، فكنا نحمد الله مؤدّين لأماناتنا حافظين لما عظم الله من حق أئمتنا نرى غير ذلك قبيحا، والعمل به شينا، فتعرف ذلك لنا وتصدّق فيه قلبنا معاذ الله من تلك الطعم ومن شرّ الشيم، والاجتراء على كل مأثم، فامض عملك فإن الله قد نزهني عن تلك الطعم الدنية، والرغبة فيها بعد كتابك الذي لم تستبق فيه عرضا، ولم تكرم فيه أخا، والله يا ابن الخطاب لأنا حين يراد ذلك مني أشدّ غضبا لنفسي ولها إنزاها وإكراما، وما عملت من عمل أرى عليه فيه متعلقا، ولكني حفظت ما لم تحفظ، ولو كنت من يهود يثرب ما زدت، يغفر الله لك ولنا، وسكتّ عن أشياء كنت بها عالما وكان اللسان(1/148)
بها مني ذلولا، ولكن الله عظم من حقك ما لا يجهل.
فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص: سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد: فإني قد عجبت من كثرة كتبي إليك في إبطائك بالخراج، وكتابك إلى بثنيات الطرق، وقد علمت أني لست أرضى منك إلا بالحق البين، ولم أقدّمك إلى مصر أجعلها لك طعمة، ولا لقومك ولكني وجهتك لما رجوت من توفيرك الخراج، وحسن سياستك، فإذا أتاك كتابي هذا فاحمل الخراج فإنما هو فيء المسلمين، وعندي من قد تعلم قوم محصورون، والسلام. فكتب إليه عمرو بن العاص: بسم الله الرحمن الرحيم لعمر بن الخطاب، من عمرو بن العاص سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فقد أتاني كتاب أمير المؤمنين يستبطئني في الخراج ويزعم أني أحيد عن الحق، وأنكث عن الطريق، وإني والله ما أرغب عن صالح ما تعلم، ولكن أهل الأرض استنظروني إلى أن تدرك غلتهم، فنظرت للمسلمين فكان الرفق بهم خيرا من أن نخرق بهم، فيصيروا إلى بيع ما لا غنى بهم عنه، والسلام.
وقال الليث بن سعد رضي الله عنه: جباها عمرو بن العاص رضي الله عنه اثني عشر ألف ألف دينار، وجباها المقوقس قبله لسنة عشرين ألف ألف دينار، فعند ذلك كتب إليه عمر بن الخطاب بما كتب، وجباها عبد الله بن سعد بن سرح حين استعمله عثمان رضي الله عنه على مصر أربعة عشر ألف ألف دينار، فقال عثمان لعمرو بن العاص بعد ما عزله عن مصر: (يا أبا عبد الله درت اللقحة بأكثر من درها الأوّل) . قال: أضررتم بولدها، فقال:
ذلك أن لم يمت الفصيل.
وكتب معاوية بن أبي سفيان إلى وردان»
، وكان قد ولي خراج مصر: أن زد على كل رجل من القبط قيراطا، فكتب إليه وردان: كيف نزيد عليهم وفي عهدهم أن لا يزاد عليهم شيء؟ فعزله معاوية وقيل في عزل وردان غير ذلك.
وقال ابن لهيعة: كان الديوان في زمان معاوية أربعين ألفا، وكان منهم أربعة آلاف في مائتين مائتين، فأعطى مسلمة «2» بن مخلد أهل الديوان عطياتهم، وعطيات عيالهم، وأرزاقهم ونوائب البلاد من الجسور، وأرزاق الكتبة وحملان القمح إلى الحجاز، ثم بعث إلى معاوية بستمائة ألف دينار فضل.(1/149)
وقال ابن عفير: فلما نهضت الإبل لقيهم برح بن كسحل المهري فقال: ما هذا؟
ما بال مالنا يخرج من بلادنا؟ ردّوه، فردّوه حتى وقف على باب المسجد، فقال: أخذتم عطياتكم، وأرزاقكم وعطاء عيالكم ونوائبكم، قالوا: نعم، قال: لا بارك الله لهم فيه خذوه فساروا به.
وقال بعضهم: جبى عمرو بن العاص عشرة آلاف دينار فكتب إليه عمر بن الخطاب بعجزه، ويقول له جباية الروم: عشرون ألف ألف دينار فلما كان العام المقبل جباه عمرو اثني عشر ألف ألف دينار، وقال ابن لهيعة: جبى عمرو بن العاص الإسكندرية الجزية ستمائة ألف دينار، لأنه وجد فيها ثلاثمائة ألف من أهل الذمّة فرض عليهم دينارين دينارين، والله تعالى أعلم.
ذكر انتقاض القبط وما كان من الأحداث في ذلك
خرّج الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: كيف أنتم إذا لم تجبوا دينارا ولا درهما؟ قالوا: وكيف نرى ذلك كائنا يا أبا هريرة؟ قال: إي والذي نفس أبي هريرة بيده عن قول الصادق والمصدوق، قالوا: عم ذلك؟ قال: تنتهك ذمّته وذمّة رسوله فيشدّ الله عز وجل قلوب أهل الذمّة فيمنعون ما في أيديهم.
قال أبو عمرو محمد بن يوسف «1» الكنديّ في كتاب أمراء مصر، وأمرة الحرّ «2» بن يوسف أمير مصر كتب عبد الله بن الحبحاب صاحب خراجها إلى هشام بن عبد الملك، بأنّ أرض مصر تحتمل الزيادة، فزاد على كل دينار قيراطا، فانتقصت كورة تنو ونمي وقربيط وطرابية، وعامة الحوف الشرقيّ، فبعث إليهم الحر بأهل الديوان، فحاربوهم فقتل منهم بشر كثير، وذلك أول انتقاض القبط بمصر، وكان انتقاضهم في سنة سبع ومائة، ورابط الحرّ بن يوسف بدمياط ثلاثة أشهر، ثم انتقض أهل الصعيد، وحارب القبط عمالهم في سنة إحدى وعشرين ومائة، فبعث إليهم حنظلة بن صفوان أمير مصر، أهل الديوان، فقتلوا من القبط ناسا كثيرا، وظفر بهم وخرج- بخنس- رجل من القبط في سمنود، فبعث إليه عبد الملك بن مروان: موسى بن نصير أمير مصر، فقتل- بخنس- في كثير من أصحابه، وذلك في سنة اثنين وثلاثين ومائة، وخالفت القبط برشيد.
فبعث إليهم مروان بن محمد الجعديّ لما دخل مصر فارا من بني العباس، بعثمان بن(1/150)
أبي قسعة، فهزمهم، وخرج القبط على يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة أمير مصر بناحية سخا، ونابذوا العمال وأخرجوهم، وذلك في سنة خمسين ومائة، وصاروا إلى شبرا سنباط، وانضم إليهم أهل اليشرود والأريسية والنجوم، فأتى الخبر يزيد بن حاتم، فعقد لنصر بن حبيب المهلبيّ على أهل الديوان، ووجوه مصر، فخرجوا إليهم فبتهم القبط، وقتلوا من المسلمين. فألقى المسلمون النار في عسكر القبط، وانصرف المسلمون إلى مصر منهزمين.
وفي ولاية موسى بن عليّ بن رباح على مصر خرج القبط ببلهيب في سنة ست وخمسين ومائة، فخرج إليهم عسكر فهزمهم، ثم انتقضوا مع من انتقض في سنة ست عشرة ومائتين، فأوقع بهم الأفشين في ناحية اليشرود حتى نزلوا على حكم أمير المؤمنين، عبد الله المأمون، فحكم فيهم بقتل الرجال، وبيع النساء والأطفال. فبيعوا وسبى أكثرهم.
ومن حينئذ أذل الله القبط في جميع أرض مصر، وخذل شوكتهم فلم يقدر أحد منهم على الخروج، ولا القيام على السلطان، وغلب المسلمون على القرى، فعاد القبط من بعد ذلك إلى كيد الإسلام وأهله بإعمال الحيلة، واستعمال المكر، وتمكنوا من النكاية بوضع أيديهم في كتاب الخراج، وكان للمسلمين فيهم وقائع يأتي خبرها في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
ذكر نزول العرب بريف مصر واتخاذهم الزرع معاشا وما كان في نزولهم من الأحداث
قال الكندي: وفي ولاية الوليد بن رفاعة الفهميّ «1» على مصر، نقلت قيس إلى مصر في سنة تسع ومائة، ولم يكن بها أحد منهم قبل ذلك إلا ما كان من فهم وعدوان، فوفد ابن الحبحاب على هشام بن عبد الملك، فسأله أن ينقل إلى مصر منهم أبياتا، فأذن له هشام في لحاق ثلاثة آلاف منهم، وتحويل ديوانهم إلى مصر على أن لا ينزلهم بالفسطاط، فعرض لهم ابن الحبحاب وقدم بهم فأنزلهم الحوف الشرقيّ، وفرّقهم فيه.
ويقال: إن عبيد الله بن الحبحاب لما ولاه هشام بن عبد الملك مصر قال: ما أرى لقيس فيها حظا إلا لناس من جديلة وهم فهم وعدوان. فكتب إلى هشام: إنّ أمير المؤمنين أطال الله بقاءه قد شرّف هذا الحيّ من قيس ونعشهم ورفع من ذكرهم وإني قدمت مصر، ولم أر لهم حظا إلا أبياتا من فهم، وفيها كور ليس فيها أحد، وليس يضر بأهلها نزولهم(1/151)
معهم، ولا يكسر ذلك خراجا وهي بلبيس. فإن رأى أمير المؤمنين أن ينزلها هذا الحي من قيس، فليفعل.
فكتب إليه هشام: أنت وذاك، فبعث إلى البادية فقدم عليه مائة أهل بيت من بني نضر، ومائة أهل بيت من بني سليم، فأنزلهم بلبيس، وأمرهم بالزرع، ونظر إلى الصدقة من العشور فصرفها إليهم، فاشتروا إبلا فكانوا يحملون الطعام إلى القلزم، وكان الرجل يصيب في الشهر العشرة دنانير وأكثر، ثم أمرهم باشتراء الخيول فجعل الرجل يشتري المهر، فلا يمكث إلّا شهرا حتى يركب، وليس عليهم مؤونة في علف إبلهم ولا خيلهم لجودة مرعاهم.
فلما بلغ ذلك عامة قومهم تحملوا إليهم فوصل إليهم خمسمائة أهل بيت من البادية، فكانوا على مثل ذلك فأقاموا سنة فأتاهم نحو من خمسمائة أهل بيت، فصار ببلبيس: ألف وخمسمائة أهل بيت من قيس، حتى إذا كان زمن مروان بن محمد، وولى الحوثرة بن سهيل الباهلي مصر. مالت إليه قيس فمات مروان، وبها ثلاث آلاف أهل بيت، ثم توالدوا وقدم عليهم من البادية من قدم.
وفي سنة ثمان وسبعين ومائة، كشف إسحاق بن سليمان بن عليّ بن عبد الله بن عباس أمير مصر أمر الخراج، وزاد على المزارعين زيادة أجحفت بهم، فخرج عليهم أهل الحوف وعسكروا فبعث إليهم الجيوش، وحاربهم فقتل من الجيش جماعة، فكتب إلى أمير المؤمنين: هارون الرشيد يخبره بذلك، فعقد لهرثمة بن أعين في جيش عظيم، وبعث به إلى مصر، فنزل الحوف وتلقاه أهله بالطاعة، وأذعنوا بأداء الخراج فقبل هرثمة منهم واستخرج خراجه كله، ثم إن أهل الحوف خرجوا على الليث بن الفضل البيودي أمير مصر، وذلك أنه بعث بمساح يمسحون عليهم أراضي زرعهم، فانتقصوا من القصبة «1» أصابع فتظلم الناس إلى الليث، فلم يسمع منهم فعسكروا، وساروا إلى الفسطاط، فخرج إليهم الليث في أربعة آلاف من جند مصر في شعبان سنة ست وثمانين ومائة، فالتقى معهم في رمضان فانهزم عنه الجند في ثاني عشره وبقي في نحو المائتين، فحمل بمن معه على أهل الحوف، فهزمهم حتى بلغ بهم غيفة، وكان التقاؤهم على أرض جب عميرة، وبعث الليث إلى الفسطاط بثمانين رأسا من رؤوس القيسية، ورجع إلى الفسطاط، وعاد أهل الحوف إلى منازلهم، ومنعوا الخراج.
فخرج ليث إلى أمير المؤمنين هارون الرشيد في محرم سنة سبع وثمانين ومائة، وسأله أن يبعث معه بالجيوش فإنه لا يقدر على استخراج الخراج من أهل الحوف إلا بجيش يبعث معه، وكان محفوظ بن سليم بباب الرشيد، فرفع محفوظ إلى الرشيد يضمن له خراج مصر(1/152)
عن آخره بلا سوط ولا عصا، فولاه الخراج، وصرف ليث بن الفضل عن صلاة مصر، وخراجها، وفي ولاية الحسين بن جميل امتنع أهل الحوف من أداء الخراج، فبعث أمير المؤمنين هارون الرشيد يحيى بن معاذ في أمرهم فنزل بلبيس في شوال سنة إحدى وتسعين ومائة، وصرف الحسين بن جميل عن أمارة مصر في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وتسعين ومائة.
وولى مالك بن دلهم، وفرغ يحيى بن معاذ من أمر الحوف، وقدم الفسطاط في جمادى الآخرة، فورد عليه كتاب الرشيد، يأمره بالخروج إليه فكتب إلى أهل الحوف: أن اقدموا حتى أوصي بكم مالك بن دلهم، وأدخل بينكم وبينه في أمر خراجكم، فدخل كل رئيس منهم من اليمانية والقيسية، وقد أعدّ لهم القيود فأمر بالأبواب، فأخذت ثم دعا بالحديد، فقيدهم وتوجه بهم للنصف من رجب منها.
وفي أمارة عيسى بن يزيد الجلوديّ على مصر ظلم، صالح بن شيرزاد عامل الخراج الناس، وزاد عليهم في خراجهم، فانتقض أهل أسفل الأرض وعسكروا، فبعث عيسى بابنه محمد في جيش لقتالهم، فنزل بلبيس، وحاربهم فنجا من المعركة بنفسه، ولم ينج أحد من أصحابه وذلك في صفر سنة أربع عشرة ومائتين، فعزل عيسى عن مصر.
وولى عمير بن الوليد التميميّ فاستعدّ لحرب أهل الحوف، وسار في جيوشه في ربيع الآخر، فزحفوا عليه واقتتلوا، فقتل من أهل الحوف جمع وانهزموا، فتبعهم عمير في طائفة من أصحابه، فعطف عليه كمين لأهل الحوف، فقتلوه لست عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر.
فولى عيسى الجلودي ثانيا، وسار إليهم فلقيهم بمنية مطر فكانت بينهم وقعة آلت إلى أن انهزم منهم إلى الفسطاط، وأحرق ما ثقل عليه من رحله، وخندق على الفسطاط وذلك في رجب، وقدم أبو إسحاق بن الرشيد من العراق فنزل الحوف، وأرسل إلى أهله فامتنعوا من طاعته، فقاتلهم في شعبان ودخل وقد ظفر بعدة من وجوههم إلى الفسطاط في شوال، ثم عاد إلى العراق في المحرّم سنة خمس عشرة ومائتين بجمع من الأسارى. فلما كان في جمادى الأولى سنة ست عشرة ومائتين انتقض أسفل الأرض بأسره عرب البلاد، وقبطها وأخرجوا العمال، وخلعوا الطاعة لسوء سيرة عمال السلطان فيهم، فكانت بينهم وبين عساكر الفسطاط حروب امتدّت إلى أن قدم الخليفة عبد الله أمير المؤمنين المأمون إلى مصر لعشر خلون من المحرّم سنة سبع عشرة ومائتين، فسخط على عيسى بن منصور الرافقي، وكان على أمارة مصر وأمر بحل لوائه، وأخذه بلباس البياض عقوبة له. وقال: لم يكن هذا الحدث العظيم إلا عن فعلك وفعل عمالك، حملتم الناس ما لا يطيقون، وكتمتني الخبر حتى تفاقم الأمر واضطرب البلد.
ثم عقد المأمون على جيش بعث به إلى الصعيد، وارتحل هو إلى سخا، وبعث(1/153)
بالأفشين «1» إلى القبط وقد خلعوا الطاعة، فأوقع بهم في ناحية البشرود، وحصرهم حتى نزلوا على حكم أمير المؤمنين، فحكم فيهم المأمون بقتل الرجال، وبيع النساء والأطفال، فسبى أكثرهم، وتتبع المأمون كل من يومي إليه بخلاف، فقتل ناسا كثيرا، ورجع إلى الفسطاط في صفر ومضى إلى حلوان، وعاد فارتحل لثمان عشرة خلت من صفر، وكان مقامه بالفسطاط وسخا وحلوان تسعة وأربعين يوما. وكان خراج مصر قد بلغ في أيام المأمون على حكم الإنصاف في الجباية أربعة آلاف ألف دينار ومائتي ألف دينار وسبعة وخمسين ألف دينار.
ويقال: إن المأمون، لما سار في قرى مصر كان يبني له بكل قرية دكة يضرب عليها سرادقة والعساكر من حوله، وكان يقيم في القرية يوما وليلة، فمرّ بقرية يقال لها: طاء النمل، فلم يدخلها لحقارتها، فلما تجاوزها خرجت إليه عجوز تعرف بمارية القبطية صاحبة القرية وهي تصيح، فظنها المأمون مستغيثة متظلمة، فوقف لها وكان لا يمشي أبدا إلا والتراجمة بين يديه من كل جنس، فذكروا له إن القبطية قالت: يا أمير المؤمنين، نزلت في كل ضيعة وتجاوزت ضيعتي، والقبط تعيرني بذلك، وأنا أسأل أمير المؤمنين أن يشرفني بحلوله في ضيعتي ليكون لي الشرف، ولعقبي، ولا تشمت الأعداء بي، وبكت بكاء كثيرا.
فرقّ لها المأمون وثنى عنان فرسه إليها ونزل فجاء ولدها إلى صاحب المطبخ، وسأله كم تحتاج من الغنم والدجاج والفراخ والسمك والتوابل والسكر والعسل والطيب والشمع والفاكهة والعلوفة، وغير ذلك مما جرت به عادته، فأحضر جميع ذلك إليه بزيادة.
وكان مع المأمون أخوه المعتصم وابنه العباس، وأولاد أخيه الواثق والمتوكل ويحيى بن أكثم والقاضي أحمد بن داود، فأحضرت لكل واحد منهم ما يخصه على انفراده، ولم تكل أحدا منهم ولا من القوّاد إلى غيره، ثم أحضرت للمأمون من فاخر الطعام ولذيذه شيئا كثيرا، حتى أنه استعظم ذلك. فلما أصبح، وقد عزم على الرحيل حضرت إليه ومعها عشر وصائف مع كل وصيفة طبق. فلما عاينها المأمون من بعد. قال لمن حضر: قد جاءتكم القبطية بهدية الريف الكامخ والصحناه والصبر فلما وضعت ذلك بين يديه إذا في كل طبق كيس من ذهب فاستحسن ذلك وأمرها بإعادته. فقالت: لا والله لا أفعل فتأمّل الذهب، فإذا به ضرب عام واحد كله، فقال: هذا والله أعجب، ربما يعجز بيت مالنا عن مثل ذلك.
فقالت: يا أمير المؤمنين، لا تكسر قلوبنا ولا تحتقر بنا، فقال: إن في بعض ما صنعت لكفاية، ولا نحب التثقيل عليك فردّي مالك بارك الله فيك، فأخذت قطعة من الأرض وقالت: يا أمير المؤمنين، هذا وأشارت إلى الذهب، من هذا وأشارت إلى الطينة التي(1/154)
تناولتها من الأرض، ثم من عدلك يا أمير المؤمنين وعندي من هذا شيء كثير فأمر به فأخذ منها، وأقطعها عدّة ضياع، وأعطاها من قريتها طاء النمل مائتي فدّان بغير خراج، وانصرف متعجبا من كبر مروءتها وسعة حالها.
ذكر قبالات أراضي مصر بعد ما فشا الإسلام في القبط ونزول العرب في القرى وما كان من ذلك إلى الروك الأخير الناصري
وكان من خبر أراضي مصر بعد نزول العرب بأريافها واستيطانهم وأهاليهم فيها واتخاذهم الزرع معاشا وكسبا وانقياد جمهور القبط إلى إظهار الإسلام واختلاط أنسابهم بأنساب المسلمين لنكاحهم المسلمات، أنّ متولي خراج مصر كان يجلس في جامع عمرو بن العاص من الفسطاط في الوقت الذي تتهيأ فيه قبالة الأراضي، وقد اجتمع الناس من القرى والمدن فيقوم رجل ينادي على البلاد صفقات صفقات، وكتاب الخراج بين يدي متولي الخراج يكتبون ما ينتهي إليه مبالغ الكور والصفقات على من يتقبلها من الناس، وكانت البلاد يتقبلها متقبلوها بالأربع سنين لأجل الظمأ والاستبحار، وغير ذلك فإذا انقضى هذا الأمر، خرج كل من كان تقبل أرضا وضمنها إلى ناحيته فيتولى زراعتها، وإصلاح جسورها وسائر وجوه أعمالها بنفسه وأهله، ومن ينتدبه لذلك، ويحمل ما عليه من الخراج في إبائه على أقساط ويحسب له من مبلغ قبالته، وضمانه لتلك الأراضي ما ينفقه على عمارة جسورها وسدّ تراعها وحفر خلجها بضرائب مقدّرة في ديوان الخراج، ويتأخر من مبلغ الخراج في كل سنة في جهات الضمان والمتقبلين.
يقال: لما تأخر من مال الخراج البواقي وكانت الولاة تشدّد في طلب ذلك مرّة وتسامح به مرّة، فإذا مضى من الزمان ثلاثون سنة حوّلوا السنة، وراكوا البلاد كلها، وعدّلوها تعديلا جديدا، فزيد فيما يحتمل الزيادة من غير ضمان البلاد، ونقص فيما يحتاج إلى التنقيص منها، ولم يزل ذلك يعمل في جامع عمرو بن العاص إلى أن عمّر أحمد بن طولون جامعه وصار العسكر منزلا لأمراء مصر. فنقل الديوان إلى جامع أحمد بن طولون، ثم نقل أيام العزيز بالله نزار إلى دار الوزير يعقوب بن كلس، فلما مات الوزير نقل الديوان إلى القصر بالقاهرة، واستمرّ به مدّة الدولة الفاطمية، ثم نقل منه بعدها وسأتلوا عليك من نبأ ذلك ما يتضح به ما ذكرت.
قال ابن ذولاق في كتاب أخبار الماردانيين كتاب مصر: وحضر أبو الحسن وهب بن إسماعيل، مجلس أبي بكر بن عليّ المارداني في المسجد الجامع، وهو يعقد الضياع، فقال له أبو بكر: الساعة آمر بالنداء على صفقة فخذها شركة بيني وبينك، فنودي على صفقة، فقال أبو بكر: اعقدوها على أبي الحسن، فعقدت عليه، وتحملها فأفضلت له(1/155)
أربعين ألف دينار فاستنض عشرين ألف دينار، ولم يدر ما يعمل فيها إلى أن اجتمع مع أبي يعقوب- كاتب أبي بكر- ليتحدثا، فقال أبو يعقوب: رأيت الشيخ- يعني أبا بكر الماردانيّ- في اليوم مشغول القلب أراد جمع مال، وقد عجز عنه، فقال له أبو الحسن:
عندي نحو عشرين ألف دينار، فقال: جئني بها فأنفذها إليه، وجاءه خطه بالمبلغ فاتفق أن مضى أبو الحسن إلى أبي بكر الماردانيّ، فقال له: تلك الصفقة قد غلقت ما عليها وفضل أربعون ألف دينار، وقد حصل عندي عشرون ألف دينار حملتها إلى أبي يعقوب، وأرسلت في استخراج الباقي فأحمله، فقال الماردانيّ: ما هذا العجز؟ إنما قلت لك: تكون بيني وبينك خوفا من تفريطك، وإنما أردت حفظ المال عليك ثم أمر أبا يعقوب أن يردّ عليه ما دفعه إليه، وقال لأبي الحسن: ردّ عليه خطه فقبض ما دفعه إلى أبي يعقوب.
وبلغ خراج مصر في السنة التي دخل فيها جوهر القائد ثلاثة آلاف ألف دينار وأربعمائة ألف دينار ونيفا. وقال في كتاب سيرة المعز لدين الله: معدّ ولست عشرة بقيت من المحرّم سنة ثلاث وستين وثلثمائة، قلد المعز لدين الله الخراج، ووجوه الأموال، وغير ذلك:
يعقوب بن كلس، وعسلوج بن الحسن، وجلسا في هذا اليوم في دار الإمارة في جامع ابن طولون للنداء على الضياع، وسائر وجوه الأموال، وحضر الناس للقبالات، وطلبوا البقايا من الأموال مما على المالكين والمتقبلين والعمال.
وقال جامع سيرة الوزير الناصر للدين الحسن بن عليّ اليازوري «1» : وأراد أن يعرف قدر ارتفاع الدولة وما عليها من النفقات ليقايس بينهما، فتقدّم إلى أصحاب الدواوين بأن يعمل كل منهم ارتفاع ما يجري في ديوانه، وما عليه من النفقات، فعمل ذلك وسلمه إلى متولي ديوان المجلس، وهو زمام الدواوين فنظم عليه عملا جامعا وأحضره إياه، فرأى ارتفاع الدولة ألفي ألف دينار، منها الشام ألف ألف دينار ونفقاته بإزاء ارتفاعه، ومنها الريف وباقي الدولة ألف ألف دينار يقف منها عن معلول ومنكسر على موتى وهرّاب ومفقود مائتا ألف دينار ويبقى ثمانمائة ألف دينار يصرف منها للرجال عن واجباتهم وكساويهم ثلثمائة ألف دينار، وعن ثمن غلة للقصور مائة ألف دينار، وعن نفقات القصور مائتا ألف دينار، وعن عمائر وما يقام للضيوف الواصلين من الملوك وغيرهم مائة ألف دينار، ويبقى بعد ذلك مائة ألف دينار حاصله يحملها كل سنة إلى بيت المال المصون، فحظي بذلك عند سلطانه وخف على قلبه. قال: وانتهى ارتفاع الأرض السفلى إلى ما لا نسبة له من ارتفاعها الأوّل، يعني بعد موت البازوري وحدوث الفتن، وهو قبل سني هذه الفتن يعني في أيام البازوري ستمائة ألف دينار كانت تحمل في دفعتين في السنة في مستهل رجب ثلاثمائة ألف دينار،(1/156)
وفي مستهل المحرّم بثلاثمائة ألف دينار، فاتضع الارتفاع وعظمت الواجبات.
وقال ابن ميسرة: وأمر الأفضل بن أمير الجيوش بعمل تقدير ارتفاع ديار مصر، فجاء خمسة آلاف دينار وكان متحصل الأهراء ألف ألف أردب، وقال الأمير جمال الدين والملك موسى بن المأمون البطائحيّ في تاريخه من حوادث سنة إحدى وخمسمائة ثم رأى القائد أبو عبد الله محمد بن فاتك البطائحي من اختلال أحوال الرجال العسكرية والمقطعين، وتضررهم من كون إقطاعاتهم قد خس ارتفاعها، وساءت أحوالهم لقلة المتحصل منها وإن إقطاعات الأمراء قد تضاعف ارتفاعها، وازدادت عن غيرها، وإن في كل ناحية من الفواضل للديوان جملة تجيء بالعسف، وبتردّد الرسل من الديوان الشريف بسببها، فخاطب الأفضل ابن أمير الجيوش: في أن يحل الإقطاعات جميعها ويروكها وعرّفه أن المصلحة في ذلك تعود على المقطعين والديوان لأنّ الديوان يتحصل له من هذه الفواضل جملة يحصل بها بلاد مقورة، فأجاب إلى ذلك، وحلّ جميع الإقطاعات وراكها وأخذ كل من الأقوياء والمميزين يتضررون، ويذكرون أن لهم بساتين وأملاكا ومعاصر في نواحيهم فقال له: من كان له ملك فهو باق عليه لا يدخل في الإقطاع وهو محكم إن شاء باعه، وإن شاء آجره.
فلما حلت الإقطاعات أمر الضعفاء من الأجناد أن يتزايدوا فيها فوقعت الزيادة في إقطاعات الأقوياء إلى أن انتهت إلى مبلغ معلوم، وكتبت السجلات بأنها باقية في أيديهم إلى مدّة ثلاثين سنة لا يقبل عليهم فيها زائد وأحضر الأقوياء وقال لهم: ما تكرهون من الإقطاعات التي كانت بيد الأجناد؟ قالوا: كثرة عبرتها وقلة متحصلها وخرابها، وقلة الساكن بها. فقال لهم: ابذلوا في كل ناحية ما تحمله، وتقوى رغبتكم فيه ولا تنظروا في العبرة الأولى، فعند ذلك طابت نفوسهم، وتزايدوا فيها إلى أن بلغت إلى الحدّ الذي رغب كل منهم فيه، فأقطعوا به وكتب لهم السجلات على الحكم المتقدّم، فشملت المصلحة الفريقين، وطابت نفوسهم وحصل للديوان بلاد مقورة بما كان مفرّقا في الإقطاعات بما مبلغه خمسون ألف دينار.
وقال في حوادث سنة خمس عشرة وخمسمائة، وكان قد تقدّم أمر الأجلّ المأمون بعمل حساب الدولة من الهلالي والخراجيّ، وجعل نظمه على جملتين: إحداهما إلى سنة عشر وخمسمائة الهلالية الخراجية، والجملة الثانية إلى آخر سنة خمس عشرة وخمسمائة هلالية، وما يوافقها من الخراجية فعقدت على جملة كثيرة من العين والأصناف، وشرحت بأسماء أربابها، وتعيين بلادها. فلما أحضرت أمر بكتب سجل يتضمن المسامحة بالبواقي إلى آخر سنة عشر وخمسمائة، ونسخته بعد التصدير.
ولما انتهى إلينا حال المعاملين، والضمناء والمتصرفين وما في جهاتهم من بقايا معاملاتهم أنعمنا بما تضمنه هذا السجل من المسامحة قصدا في استخلاص ضامن طالت(1/157)
غفلته، وخربت ذمّته، وإنقاذ عامل أجحف به من الديوان طلبته وتوفير الرغبة على عمارتها، وجريها فيها على قديم عادتها، ولما كان ذلك من جميل الأحدوثة التي لم نسبق إليها ولا شاركنا ملك فيها اقتضت الحال إيرادها في هذا الكتاب، وإيداعها هذا الباب لما اطلعنا عليه مما انتهت إليه أحوال الضمناء والمعاملين بالمملكة من الاختلال وتجمد البقايا في جهاتهم، والأموال عطفنا عليهم برأفة ورحمة وطالعنا المقام الأشرف النبويّ بالتفصيل من أمورهم والجملة واستخرجنا الأمر العالي بوضع ذلك في الحال وأنشأ السجلات الكريمة مقصورة على ذكر هذا الإحسان وتنفيذها إلى جميع البلدان ليقرأ على رؤوس الأشهاد بسائر البلاد، ومبلغ ما انتهت إليه هذه المسامحة إلى حين ختم هذا السجل من العين ألفا ألف وسبعمائة ألف وعشرون ألفا وسبعمائة وسبعة وستون دينارا ونصف وثلث وثلثان وربع قيراط، ومن الفضة النقرة أربعة دراهم، ومن الورق سبعة وستون ألفا وخمسة دراهم ونصف وسدس درهم، ومن الغلة ثلاثة آلاف ألف وثمان مائة ألف وعشرة آلاف ومائتان وتسعة وثلاثون أردبا وثمن ونصف سدس وثلثي قيراط، ومن العناب ربع أردب، ومن ورق الصباغ ألفان وأربعمائة وثلاثة أرادب ونصف، ومن زريعة الوسمة عشرة أرادب وربع، ومن الصباغ ألف وأربعمائة وثمانون قنطارا ورطل ونصف، ومن الفوّة أربعمائة وسبعون رطلا، ومن الشب تسعمائة وثلاثة عشر قنطارا ونصف، ومن الحديد خمسمائة رطل واحد وثلاثون رطلا، ومن الزفت ألف وثلثمائة وثلاثة أرطال وربع وسدس، ومن القطران تسعة عشر رطلا وثلث، ومن الثياب الحلبيّ ثلاثة أثواب، ومن المآزر مائة مئز صوف، ومن الغرابيل مائة وسبعون غربالا، ومن الأغنام مائتا ألف وخمسة وثلاثون ألفا وثلثمائة وخمسة أرؤس، ومن البسر ثلثمائة وثلاثة عشر قنطارا وثمانية وثلاثون رطلا، ومن السحيل ثلاثمائة ألف وخمسة وسبعون ألفا وخمسمائة وخمسون باعا، ومن الجريد أربعمائة ألف وثمانية وثلاثون ألفا وسبعمائة وثلاثة وخمسون جريدة، ومن السلب ألف وأربعمائة وثلاثة وعشرون سلبة، ومن الأطراف ستة آلاف وسبعمائة وثلاثة أطراف، ومن الملح ألفان وسبعمائة وثلاثة وتسعون أردبا وثلث، ومن الأشنان أحد عشر أردبا، ومن الرمان ألفا حبة، ومن العسل النحل خمسمائة واحد وأربعون قنطارا أو سدس، ومن الشهد اثنان وثلاثون زيرا وقادوسا واحدا، ومن الشمع أربعمائة وأربعون رطلا، ومن الخلايا ثلاثة آلاف وأربعمائة وخليتان، ومن عسل القصب مائة وثمانية وثلاثون قنطارا، ومن الأبقار اثنان وعشرون ألفا ومائة وأربعة وستون رأسا، ومن الدواب أربعة وسبعون رأسا، ومن السمن ألفان وتسعمائة وستة وتسعون مطر أو سدس وثمن، ومن الجبن ثلثمائة وعشرون رطلا، ومن الصوف أربعة آلاف ومائة وثلاثة وعشرون جزة، ومن الشعر ستة آلاف وخمسون رطلا وربع، ومن بيوت الشعر بيتان، وفصل ذلك بجهاته ومعاملاته. قال: ولما انتهى إلى المأمون ما يعتمد في الدواوين من قبول الزيادات وفسخ عقود الضمانات وانتزاعها ممن كابد فيها المشقة، والتعب وتسليمها إلى(1/158)
باذل الزيادة من غير كلفة ولا نصب أنكر ذلك، ومنع من ارتكابه ونهى عن الولوج في بابه، وخرج أمره بإعفاء الكافة أجمعين والضمناء والمعاملين من قبول الزيادة فيما يتصرفون فيه، ويستولون عليه ما داموا مغلقين وبأقساطهم قائمين، وتضمن ذلك منشور قرىء في الجامعين الأزهر بالقاهرة والعتيق بمصر، وديواني المجلس والخاص إلّا أمرين السعيدين ونسخته بعد التصدير.
ولما انتهى إلى حضرتنا ما يعتمد في الدواوين ويقصده جماعة من المتصرفين والمستخدمين من تضمين الأبواب والرباع والبساتين والحمامات والقياسر والمساكن، وغير ذلك من الضمانات للرّاغبين فيها ممن تستمرّ معاملته، ولا تنكر طريقته فما هو إلا أن يحضر من يزيد عليه في ضمانه حتى قد نقض عليه حكم الضمان، وقبل ما يبذل من الزيادة كائنا من كان وقبضت يد الضامن الأوّل عن التصرّف، ومكن الضامن الثاني من التصرف من غير رعاية للعقد على الضامن الأول، ولا تحرّز في فسخه الذي لا يبيحه الشرع، ولا يتأوّل أنكرنا ذلك على معتمديه، وذممنا من قصدنا عليه ومرتكبيه إذ كان للحق مجانبا وعن مذهب الصواب ذاهبا، وعرضنا ذلك بالمواقف المقدّسة المطهرة ضاعف الله أنوارها وأعلى أبدا منارها واستخرجنا الأوامر المطاعة في كتب هذا المنشور إلى سائر الأعمال بأنه أيّ أحد من الناس ضمن ضمانا من باب، أو ربع أو بستان أو ناحية أو كفر، وكان لأقساط ضمانه مؤدّيا، ولما يلزمه من ذلك مبديا، وللحق متبعا فإن ضمانه باق في يده لا تقبل زيادة عليه مؤدّيا، ولما يلزمه من ذلك مبديا، وللحق متبعا فإن ضمانه باق في يده لا تقبل زيادة عليه مدّة ضمانه على العقد المعقود عملا بالواجب، والنظام المحمود وإتباعا لما أمر الله تعالى به في كتابه المجيد إذ يقول جلّ من قائل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ
[المائدة/ 1] إلى أن تنقضي مدّة الضمان، ويزول حكمها ويذهب وضعها ورسمها حملا على قضية الواجب وسننها، واعتمادا على حكم الشريعة التي ما ضل من اهتدى بفرائضها وسننها.
فأما من ضمن ضمانا ولم يقم بما يجب عليه فيه وأصرّ على المدافعة والمغالطة التي لا يعتمدها إلا كل ذميم الطباع سفيه، فذلك الذي فسخ حكم ضمانه بنقصه الشروط المشروطة عليه، وحكمه حكم من إذا زيد عليه في ضمانه نقل عنه، وأخرج من يديه لأنه الذي بدأ بالفسخ، وأوجد السبيل إليه، فليعتمد كافة أرباب الدواوين وجميع المتصرفين والمستخدمين العمل بما تضمنه هذا المشهور، وامتثال المأمور وحمل هؤلاء الضمناء والمعاملين على ما نص فيه، والحذر من تجاوزه وتعدّيه بعد ثبوته في ديواني المجلس والخاص إلّا أمرين السعيدين، وبحيث يثبت مثله إن شاء الله تعالى.
قال: ووصلته المكاتبة من الوالي والمشارف، ومن كان ندب صحبته لكشف الأراضي والسواقي ومساحتها متضمنة ما أظهره الكشف، وأوضحته المساحة على من بيده السواقي، وهم عدّة كثيرة ومن جملتها ساقية مساحتها: ثلثمائة وستون فدّانا تشتمل على النخل والكرم(1/159)
وقصب السكر بمدينة إسنا، خراجها في السنة عشرة دنانير، وما يجري في الأعمال هذا المجرى وأنهم وضعوا يد الديوان على جميعها، وطلبوا من أرباب السواقي ما يدل على ما بأيديهم، فذكروا أنها انتقلت إليهم ولم يظهروا ما يدل عليها، وقد سيروا أملاكها إلى الباب تحت الحوطة ليخرج الأمر بما يعتمد عليه في أمرهم، وعند وصولهم أوقع الترسيم عليهم إلى أن يقوموا بما يجب من الخراج عن هذه السواقي فإن الأملاك بجملتها لا تقوم بما يجب عليها، فوقف المذكورون للمأمون في يوم جلوسه للمظالم، فأمر بحضورهم بين يديه، وتقدّم إلى القاضي، جلال الملك أبو الحجاج يوسف بن أبي أيوب المغربيّ وهو يومئذ قاضي القضاة لمحاكمتهم فجرى له معهم مفاوضة أوجبت الحق عليهم، وألزمهم بالقيام بما يستغرق أموالهم وأملاكهم، فحصل من تضرّرهم ما أوجب العاطفة عليهم، وأخذهم بالخراج من بعد، وأن يضرب عما تقدّم صفحا.
وكتب منشور نسخته: قد علم الكافة ما تراه من إفاضة سحب العدل عليهم، والإحسان والنظر في مصالح كل قاص منهم ودان. وإنا لا ندع ضررا يتوجه إلى أحد من الرعية إلا حسمناه، ولا نعلم صلاحا يعود نفعه عليه إلا قوينا سببه، ووصلناه حسب ما يتعين على رعاة الأمم، وعملا بالواجب في البعيد والأمم وسلوكا لمحجة الدولة الفاطمية خلد الله ملكها القويمة، واستمرارا على قضاياها وسجاياها الكريمة، ولما كنا نرى النظر في مصالح الرعايا أمرا واجبا ونصرف إلى سياستهم عزما ماضيا، ورأيا ثاقبا. كذلك نرى النظر في أمور الدواوين واستيفاء حقوقها المصروفة إلى حماية البيضة، والمحاماة عن الدين وجهاد الكفرة والملحدين ليكون ما نراعيه، وننظر فيه جاريا على سنن الواجب محروسا من الخلل بإذن الله من جميع الجوانب، ومن الله نستمدّ مواد التوفيق في الحل والعقد، ونسأله الإرشاد إلى سواء السبيل والقصد، وما توفيقنا إلا بالله عليه نتوكل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وكان القاضي الرشيد بن الزبير أيام مشارفته الصعيد الأعلى قد طالع المجلس الأفضليّ بحال أرباب الأملاك هناك، وأنهم قد استضافوا إلى أماكنهم من أملاك الدواوين أراضي اغتصبوها، ومواضع مجاورة لأملاكهم تعدّوا عليها، وخلطوها بها وحازوها، ورسم له كشفها ونظم المشاريج بها، وارتجاعها للديوان. وأن يعتمد في ذلك ما يوجبه حكم العدل المثبت في كل قطر ومكان، وبآخر ذلك سيرنا من الباب من يكشف ذلك على حقيقته، وإنهائه على طيته فاعتمدوا ما أمروا به من الكشف في هذه الأملاك، ووردت المطالعة منهم بأنهم التمسوا ممن بيده ملك أو ساقية ما يشهد بصحة ملكه ومبلغ فدنه، وذكر حدوده، فلم يحضر أحد منهم كتابا ولا أوضح جوابا، وأصدروا إلى الديوان المشاريج بما كشفوه، وأوضحوه فوجدوا التعدّي فيه ظاهرا وباب الحيف والظلم غير متقاصر، والشرع يوجب وضع اليد على ما هذه حاله ومطالبة صاحبه بريعه، واستغلاله، لا سيما وليس بيده كتاب(1/160)
يشهد بصحة الملك رأسا، ولا يستند في ذلك حجة ادّخرها احترازا عن مجاهدة سبيله، واحتراسا. ولكن نحكم بما نراه من المصلحة للرعية والعدل الذي أقمنا مناره، وأحيينا معالمه وآثاره مع الرغبة في عمارة البلاد ومصالح أحوالها، واستنباط الأرضين الداثرة، وإنشاء الغروس، وإقامة السواقي بها أمرنا بكتب هذا المنشور، وتلاوته بأعمال الصعيد الأعلى بإقرار جميع الأملاك والأرضين والسواقي بأيدي أربابها الآن من غير انتزاع شيء منها، ولا ارتجاعه، وأن يقرّر عليها من الخراج ما يجب تقريره، ويشهد الديوان على أمثالهم بمثله إحسانا إليهم. لم نزل نتابع مثله ونواليه وإنعاما ما برحنا نعيده عليهم ونبديه، وقد أنعمنا وتجاوزنا عما سلف، ونهينا من يستأنف، وسامحنا من خرج عن التعدّي إلى المألوف وجرينا على سننا في العفو والمعروف، وجعلناها توبة مقبولة من الجماعة الجانين، ومن عاد من الكافة أجمعين فلينتقم الله منه، وطولب بمستأنفه وأمسه وبرئت الذمة من ماله ونفسه وتضاعفت عليه الغرامة والعقوبة، وسدّت في وجهه أبواب الشفاعة والسلامة، وقد فسحنا مع ذلك لكل من يرغب في عمارة أرض حلفاء داثرة، وإدارة بئر مهجورة معطلة في أن يسلم إليه ذلك، ويقاس عليه، ولا يؤخذ منه خراج إلا في السنة الرابعة من تسليمه إياه، وأن يكون المقرّر على كل فدّان ما توجبه زراعته لمثله خراجا مؤبدا وأمرا مؤكدا، فليعتمد ذلك النوّاب، وحكام البلاد ومن جرت العادة بحضوره عقد مجلس، وإحضار جميع أرباب الأملاك والسواقي، وإشعارهم ما شملهم من هذا الإحسان الذي تجاوز آمالهم في إجابتهم إلى ما كانوا يسألون فيه، وتقرير ما يجب على الأملاك المذكورة من الخراج على الوضع الذي مثلناه، ويجيز الديوان تقريره ويرضاه مع تضمين الأراضي الدائرة، والآبار المعطلة لمن يرغب في ضمانها ونظم المشاريج بذلك وإصدارها إلى الديوان ليخلد فيه على حكم أمثالها بعد ثبوت هذا المنشور بحيث يثبت مثله قال: ولما سرت هذه المصالح إلى جميع أهل هذه الأعمال حصل الاجتهاد في تحصيل مال الديوان وعمارة البلاد.
واعلم أنه لم يكن في الدولة الفاطمية بديار مصر ولا فيما مضى قبلها من دول أمراء مصر لعساكر البلاد إقطاعات بمعنى ما عليه الحال اليوم في أجناد الدولة التركية، وإنما كانت البلاد تضمن بقبالات معروفة لمن شاء من الأمراء، والأجناد والوجوه وأهل النواحي من العرب والقبط، وغيرهم لا يعرف هذه إلّا بذة التي يقال لها اليوم الفلاحة، ويسمى المزارع المقيم بالبلد: فلاحا قرارا، فيصير عبدا قنا لمن أقطع تلك الناحية إلا أنه لا يرجو قط أن يباع ولا أن يعتق بل هو قنّ ما بقي، ومن ولد له كذلك.
بل كان من اختار زراعة أرض يقبلها كما تقدّم، وحمل ما عليه لبيت المال، فإذا صار مال الخراج بالديوان أنفق في طوائف العسكر من الخزائن، وكان مع ذلك إذا انحط ماء النيل عن الأراضي، وتعلقت نواحي مصر بأصناف الزراعات ندب من الحضرة من فيه نباهة،(1/161)
وخرج معه عدول يوثق بهم، وكانت لهم معرفة بعلم الخراج وكثيرا ما كان هذا الكاتب من النصارى الأقباط ويخرج إلى كل ناحية من ذكرنا، فيحرّرون مساحة ما شمله الريّ من الأراضي مما لعله بار أو شرق.
ويكتب بذلك مكلفات واضحة بالفدن، والقطائع على جميع الأصناف المزروعة، ويحضر إلى دواوين الباب. فإذا مضى من السنة القبطية أربعة أشهر ندب من الأجناد من عرف بالحماسة وقوّة البطش، وعين معه من الكتاب العدول من قد اشتهر بالأمانة، وكاتب من نصارى القبط غير من خرج عند المساحة، وساروا إلى كل ناحية. كذلك فاستخرج مباشر وأكل بلد ثلث ما وجب من مال الخراج على ما شهدت به المكلفات، فإذا أحضر هذا الثلث صرف في واجبات العساكر، وهكذا العمل في استخراج كل قسط طول الزمان من كل سنة، وكانت تبقى في جهات الضمان والمتقبلين جملة بواق.
وكانت بلاد مصر إذ ذاك تقبل بعين وغلة وأصناف، وقد عرف ذلك من نسخة المسموح الذي تضمن ترك البواقي في أيام الخليفة الآمر بأحكام الله، ووزارة المأمون البطائحي، ورأيت بخط الأسعد بن مهذب بن زكريا بن مماتي الكاتب المصري سألت القاضي الفاضل عبد الرحيم: كم كانت عدّة العساكر في عرض ديوان الجيش لما كان سيدنا يتولى ذلك في أيام رزيك بن الصالح؟ فقال: أربعين ألف فارس ونيفا وثلاثين ألف راجل من السودان.
وقال أبو عمرو عثمان النابلسي في كتاب حسن السريرة في اتخاذ الحصن بالجزيرة:
أنّ ضرغاما لما ثار على شاور وفرّ شاور إلى السلطان نور الدين محمود بن زنكي بدمشق يستنجد به على ضرغام، ويعده بأنه يكون نائبا عنه بمصر، ويحمل إليه الخراج أنشأ لنور الدين عزما لم يكن، فجهز ألف فارس، وقدّم عليه أسد الدين شيركوه، وأمره بالتوجه فأبى وقال: لا أمضي أبدا. فإنّ هلاكي ومن معي وسوء ما سمعه السلطان معلوم من هنا، وكيف أمضي بألف فارس إلى إقليم فيه عشرة آلاف فارس ومائة سبهبد فيها عشرة آلاف مقاتل وأربعون ألف عبد، وقوم مستوطنون في أوطانهم فرأيت حرابتهم، ونحن نأتيهم من تعب السفر بهذه العدّة القليلة. قال: ثم أجابه بعد ذلك هذا أعزك الله بعد ما كانت عساكر أحمد بن طولون ما سنراه في ذكر القطائع إن شاء الله تعالى.
ثم ما كان من عساكر الأمير أبي بكر محمد بن طغج الإخشيد وهي على ما حكاه غير واحد، منهم ابن خلكان: أنها كانت أربعمائة ألف، ولما انقضت دولة الفاطميين بدخول الغز من بلاد الشام، واستولى صلاح الدين يوسف بن أيوب على مملكة مصر، تغير الحال بعض التغير لا كله.
قال القاضي الفاضل في متجدّدات سنة سبع وستين وخمسمائة في ثامن المحرّم:(1/162)
خرجت الأوامر الصلاحية بركوب العساكر قديمها وجديدها بعد أن أنذر حاضرها وغائبها وتوافى وصولها، وتكامل سلاحها وخيولها، فحضر في هذا اليوم جموع شهد كل من علا سنه وقرطس «1» ظنه أن ملكا من ملوك الإسلام لم يحز مثلها، وشاهدت رسل الروم والفرنج ما أرغم أنوف الكفرة، ولم يتكامل اجتياز العساكر موكبا بعد موكب، وطلبا بعد طلب.
والطلب بلغة الغز هو: الأمير المقدّم الذي له علم معقود، وبوق مضروب، وعدّة من مائتي فارس إلى مائة فارس إلى سبعين فارسا إلى أن انقضى النهار، ودخل الليل، وعاد ولم يكمل عرضهم، وكانت العدّة الحاضرة مائة وسبعة وأربعين طلبا والغائب منها عشرون طلبا، وتقدير العدّة يناهز أربعة عشر ألف فارس أكثرها طواشية، والطواشي: من رزقه من سبعمائة إلى ألف إلى مائة وعشرين، وما بين ذلك وله برك من عشرة رؤوس إلى ما دونها ما بين فرس، وبرذون وبغل وجمل وله، غلام يحمل سلاحه وقرا غلامية تتمة الجملة.
قال: وفي هذه السفرة عرض العربان الخدّامين، فكانت عدّتهم سبعة آلاف فارس واستقرّت عدّتهم على ألف وثلثمائة فارس لا غير. وأخذ بهذا الحكم عشر الواجب، وكان أصله ألف ألف دينار على حكم الاعتداد الذي يتأصل ولا يتحصل وكلف التغالبة ذلك، فامتعضوا ولوّحوا بالتحيز إلى الفرنج.
وقال في متجدّدات شهر رجب سنة سبع وسبعين وخمسمائة، استمر انتصاب السلطان صلاح الدين في هذه السنة للنظر في أمور الإقطاعات، ومعرفة عبرها والنقص منها، والزيادة فيها وإثبات المحروم وزيادة المشكور إلى أن استقرّت العدّة على ثمانية آلاف وستمائة وأربعين فارسا أمراء مائة وأحد عشر أميرا طواشية «2» ستة آلاف وتسعمائة وستة وسبعون قراغلامية ألف وخمسمائة وثلاثون وخمسون، والمستقرّ لهم من المال ثلاثة آلاف ألف وستمائة ألف وسبعون ألفا وخمسمائة دينار، وذاك خارج عن المحلولين من الأجناد الموسومين بالجوالة على العشر، وعن عدّة العربان المقطعين بالشرقية والبحيرة، وعن الكاتبين والمصريين والفقهاء والقضاة والصوفية، وعما يجري بالديوان ولا يقصر عن ألف ألف دينار.
وقال في متجدّدات سنة خمس وثمانين وخمسمائة أوراق بما استقر عليه عبر البلاد من إسكندرية إلى عيذاب إلى آخر الرابع والعشرين من شعبان سنة خمس وثمانين وخمسمائة خارجا عن الثغور وأبواب الأموال الديوانية والأحكار والحبس ومنفلوط ومنقباط، وعدّة نواح أوردت أسماءها ولم يعين لها في الديوان عبرة من جملة أربعة آلاف ألف وستمائة ألف(1/163)
وثلاثة وخمسين ألفا وتسعة عشر دينارا. بعدما يجري في الديوان العادلي السعيد وغيره عن الشرقية والمرتاحية والدقهلية وبوش وغير ذلك، وهو ألف ألف ومائة ألف وتسعون ألفا وتسعمائة وثلاثة وعشرون دينارا.
تفصيل ذلك: الديوان العادلي: سبعمائة ألف وثمانية وعشرون ألفا ومائتان وثمانية وأربعون دينارا. الأمراء والأجناد المرسوم بإبقاء إقطاعاتهم بالأعمال المذكورة مائة ألف وثمانية وخمسون ألفا ومائتان وثلاثة دنانير. ديوان السور المبارك والأشراف: ثلاثة عشر ألفا وثمانمائة وأربعة دنانير، العربان: مائتا ألف وأربعة وثلاثون ألفا ومائتان وستة وتسعون دينارا. الكنانية: خمسة وعشرون ألفا وأربعمائة واثنا عشر دينارا، القضاة والشيوخ: سبعة آلاف وأربعمائة وثلاثة دنانير، القيمارية والصالحية والأجناد المصريون: اثنا عشر ألفا وخمسمائة وأربعة دنانير، الغزاة والعساقلة المركزة بدمياط وتنيس وغيرهم: عشرة آلاف وسبعمائة وخمسة وعشرون دينارا، البارز: ثلاثة آلاف ألف وأربعمائة ألف واثنان وستون ألفا وخمسة وتسعون دينارا.
الوجه البحري: ألف ألف ومائة ألف واحد وخمسون ألفا وثلاثة وخمسون دينار (تفصيله) ضواحي ثغر الاسكندرية وثمانية وثلاثون دينارا، ثغر رشيد: ألفا دينار، البحيرة:
مائة ألف وخمسة عشر ألفا وخمسمائة وستة وسبعون دينارا، حوف رمسيس: اثنان وتسعون ألفا وأربعمائة وثلاثة دنانير، فوّه والمزاحميتين: عشرة آلاف ومائة وخمسة وعشرون دينارا، النبراوية: خمسة عشر ألفا وثلثمائة وخمسة دنانير، جزيرة بني نصر: مائة ألف واثنا عشر ألفا وستمائة وستة وأربعون دينارا، جزيرة قوسنينا: مائة ألف وثلاثون ألفا وخمسمائة واثنان وتسعون دينارا، الغربية: ستمائة ألف وأربعة وسبعون ألفا وستمائة وخمسة دنانير، السمنودية: مائتا ألف وخمسة وأربعون ألفا وأربعمائة وتسعة وسبعون دينارا، الدنجاوية:
ستة وأربعون ألفا ومائتا وأربعة وسبعون دينارا، المنوفية: مائة ألف وثمانية وأربعون ألفا وثلثمائة وسبعة وأربعون دينارا.
الوجه القبلي: ألف ألف وستمائة وعشرة آلاف وأربعمائة وأحد وأربعون دينارا.
تفصيل ذلك: الجيزة: مائة ألف وثلاثة وخمسون ألفا ومائتان وأربعة دنانير، الأفطيحية: تسعة وخمسون ألفا وسبعمائة وثمانية وعشرون دينارا، البوصيرية: ستون ألفا وأربعمائة وستة وستون دينارا، الفيومية: مائة ألف واثنان وخمسون ألفا وستمائة وأربعة وثلاثون دينارا، البهنسية: ثلثمائة ألف واثنان وخمسون ألفا وستمائة وأربعة وثلاثون دينارا، الواحات الداخلة، والخارجتين، وواح البهنسا: خمسة وعشرون ألف دينار، الأشمونين:
مائة ألف وسبعون ألفا وخمسمائة وأربعة دنانير، الأخميمية: مائة ألف وثمانية آلاف وثمانمائة واثنا عشر دينارا، الأعمال القوصية: ثلثمائة ألف واثنان وستون ألفا وخمسمائة(1/164)
دينار، ثغر أسوان: خمسة وعشرون ألف دينار، ثغر عيذاب: يجري في غير هذا الديوان.
وقال في متجدّدات سنة ثمان وثمانين وخمسمائة: والذي انعقد عليه ارتفاع الديوان السلطانيّ ثلثمائة ألف وأربعة وخمسون ألفا وأربعة وأربعون دينارا، والذي يميز زائد الارتفاع لسنة سبع وثمانين وخمسمائة على ارتفاع سنة ست وثمانين اثنان وعشرون ألفا وأربعمائة وخمسة وأربعون دينارا، والذي انساق من البواقي للسنة المذكورة أحد وثلاثون ألفا وستمائة واثنان وعشرون دينارا والذي اشتمل عليه متحصل ديوان الخاص الملكي الناصري بالديار المصرية لسنة سبع وثمانين اثنان وعشرون ألفا وأربعمائة وخمسة وأربعون دينارا؛ والذي انساق من البواقي للسنة المذكورة أحد وثلاثون ألفا وستمائة واثنان وعشرون دينارا والذي اشتمل عليه متحصل ديوان الخاص الملكي الناصري بالديار المصرية لسنة سبع وثمانين وخمسمائة ثلثمائة ألف وأربعة وخمسون ألفا وأربعمائة وأربعة وخمسون دينارا ونصف وثلث وثمن.
ذكر الروك الأخير الناصري «1»
وكان الجندي، إقطاعه بمفرده، وله تبع واحد من عشرين ألف درهم إلى ثلاثين، وفيهم من إقطاعه خمسة عشر ألفا وأقلهم عشرة آلاف، وذلك سوى الضيافة، وبلغ خمسة آلاف درهم في الإقطاع الثقيل، وكان الجنديّ يخرج إلى السكان بطوالة خيل، ويخرج مقدّم الحلقة كأمير عشرة، وتكون مضافته إذا نزل حوله، وأكثرهم يأكل على سماطه ولا يمكن الأمير أن يأكل إلا وجميع أجناده معه، ويأخذ غلمان أجناده كل يوم الطعام من مطبخه، وإذا رأى نارا توقد سأل عنها فيقال: إن فلانا اشتهى كذا، فيغضب ممن لا يأكل عنده، ومع ذلك كانت أشكالهم بشعة وملابسهم غير خائلة.
فلما أفضت السلطنة إلى المنصور لاجين «2» : راك «3» البلاد وذلك أن أرض مصر كانت أربعة وعشرين قيراطا، فيختص السلطان منها بأربعة قراريط، ويختص الأجناد بعشرة قراريط، ويختص الأمراء بعشرة قراريط، وكان الأمراء يأخذون كثيرا من إقطاعات الأجناد فلا يصل إلى الأجناد منها شيء، ويصير ذلك الإقطاع في دواوين الأمراء، ويحتمي بها قطاع الطريق وتثور بها الفتن، ويقوم بها الهوشات ويمنع منها الحقوق والمقرّرات الديوانية،(1/165)
وتصير مأكلة لأعوان الأمراء ومستخدميهم، ومضرّة على أهل البلاد التي تجاورها، فأبطل السلطان ذلك، وردّ تلك الإقطاعات على أربابها وأخرجها بأسرها من دواوين الأمراء.
وأوّل ما بدأ به ديوان الأمير سيف الدين منكوتمر نائب السلطنة، فأخرج منه ما كان فيه من هذه الإقطاعات، وكان يتحصل له منها مائة ألف أردب غلة في كل سنة، واقتدى به جميع الأمراء، وأخرجوا ما في إقطاعاتهم من ذلك فبطلت الحمايات، وجعل السلطان في هذا الروك للأمراء والأجناد أحد عشر قيراطا، وأفرد تسعة قراريط ليخدم بها عسكر أو يقطعهم إياها ثم رتب أوراقا بتكفية الأمراء والأجناد بعشرة قراريط، ووفر قيراطا لزيادة من عساه يطلب زيادة لقلة متحصل إقطاعه، وأفرد لخاص السلطان عدّة أعمال جليلة، وأفرد للنائب منكوتمر لتفرقة المثالات في تابعيه، فتنكرت قلوب الأمراء حتى كان من المنصور لاجين، ونائبه منكوتمر ما كان.
فلما كانت الأيام الناصرية راك الناصر محمد البلاد، قال جامع السيرة الناصرية: وفي سنة خمس عشرة وسبعمائة اختار السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون أن يروك الديار المصرية، وأن يبطل منها مكوسا كثيرة، ويفضل لخاص مملكته شيئا كثيرا من أراضي مصر، وكان سبب ذلك أنه اعتبر كثيرا من أخباز المماليك والحاشية الذين كانوا للملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والأمير سلار وسائر المماليك البرحية، فإذا هي ما بين ألف دينار إلى ثمانمائة دينار، وخشي من قطع أخباز المذكورين، فولد له الرأي مع القاضي فخر الدين محمد بن فضل الله ناظر الجيش أن يروك ديار مصر، ويقرّر إقطاعات مما يختار، ويكتب بها مثالات سلطانية، فتقدّم الفخر، ناظر الجيش، فعمل أوراقا بما عليه عبر النواحي ومساحتها.
وعين السلطان لكل إقليم من أقاليم ديار مصر أناسا، وكتب مرسوما للأمير بدر الدين جيكل بن البابا أن يخرج لناحية الغربية ومعه أعزل الحاجب ومن الكتاب المكين بن فرويته، وأن يخرج الأمير عز الدين إيدمر الخطيريّ إلى ناحية الشرقية، ومعه الأمير ايتمش المجدي، ومن الكتاب أمين الدولة ابن قرموط، وأن يخرج الأمير بلبان الصرخدي والقليجي وابن طرنطاي، وبيبرس الجمدار إلى ناحية المنوفية والبحيرة، وأن يخرج البليلي والمرتيني إلى الوجه القبلي، وندب معهم كتابا ومستوفين وقياسين، فساروا إلى حيث ذكر، فكان كل منهم إذا نزل بأوّل عمله طلب مشايخ كل بلد ودللائها وعدولها وقضاتها وسجلاتها التي بأيدي مقطعيها، وفحص عن متحصلها من عين وغلة وأصناف، ومقدار ما تحتوي عليه من الفدن ومزروعها وبورها، وما فيها من ترايب وبواق وغرس ومستبحر، وعبرة الناحية وما عليها لمقطعيها من غلة ودجاج وخراف وبرسيم وكشك وكعك، وغير ذلك من الضيافة فإذا حرّر ذلك كله ابتدأ بقياس تلك الناحية وضبط بالعدول والقياسين وقاضي العمل ما يظهر بالقياس الصحيح، وطلب مكلفات تلك القرية وغنداقها وفضل ما فيها من الخاص السلطاني وبلاد(1/166)
الأمراء وإقطاعات الأجناد والرزق حتى ينتهي إلى آخر عمله.
ثم حضروا بعد خمسة وسبعين يوما وقد تحرّر في الأوراق المحضرة حال جميع ضياع أرض مصر، ومساحتها وعبرة أراضيها وما يتحصل عن كل قرية من عين وغلة وصنف، فطلب السلطان الفخر ناظر الجيش والتقيّ الأسعد بن أمين الملك المعروف بكاتب سرلغي وسائر مستوفي الدولة وألزمهم بعمل أوراق تشتمل على بلاد الخاص السلطاني التي عينها لهم، وعلى إقطاعات الأمراء، وأضاف على عبرة كل بلد ما كان على فلاحيها من ضيافة لمقطعيها وأضاف إلى العبرة ما في الإقطاع من الجوالي، وكتب مثالات للأجناد بإقطاعات على هذا الحكم فاعتدّ منها بما كان يصرف في كلف حمل الغلال من النواحي إلى ساحل القاهرة، وما كان عليها من المكس، وأبطل السلطان عدّة مكوس: منها مكس ساحل الغلة، وكان جلّ متحصل الديوان وعليه إقطاعات الأمراء والأجناد ويتحصل منه في السنة أربعة آلاف ألف وستمائة ألف درهم وعليه أربعمائة مقطع لكل منهم من عشرة آلاف إلى ثلاثة آلاف ولكل من الأمراء من أربعين ألف إلى عشرة آلاف، وكانت جهة عظيمة لها متحصل كثير جدّا، وينال القبط منها منافع كثيرة لا تحصى، ويحلّ بالناس من ذلك بلاء شديد وتعب عظيم من المغارم والظلم. فإن مظالمها كانت تتعدّد ما بين نواتية «1» تسرق وكيالين تبخس وشادّين «2» وكتاب يريد كل منهم شيئا، وكان مقرّر الأردب: درهمين للسلطان، ويلحقه نصف درهم غير ما ينهب ويسرق، وكان لهذه الجهة مكان يعرف بخص الكيالة في ساحل بولاق يجلس فيه شاد وستون متعمما ما بين كتاب ومستوفين وناظر، وثلاثون جنديا مباشرون، ولا يمكن أحدا من الناس أن يبيع قدحا من غلة في سائر النواحي بل تحمل الغلات حتى تباع في خص الكيالة ببولاق.
ومما أبطل أيضا نصف السمسرة، وهو عبارة عن أن من باع شيئا من الأشياء فإنه يعطي أجرة الدلال على ما تقرّر من قديم عن كل مائة درهم درهمين، فلما ولي ناصر الدين الشيخي الوزارة قرّر على كل دلال من دلالته درهما من كل درهمين. فصار الدلال يعمل معدّله ويجتهد حتى ينال عادته وتصير الغرامة على البائع، فتضرّر الناس من ذلك وأوذوا فلم يغاثوا حتى أبطل ذلك السلطان، ومما أبطل رسوم الولاية وكانت جهة تتعلق بالولاة المقدّمين، فيجبيها المذكورون من عرفاء الأسواق وبيوت الفواحش، ولهذه الجهة ضامن وتحت يده عدّة صبيان وعليها جند مستقطعون وأمراء وغيرهم، وكانت تشتمل على ظلم شنيع وفساد، قبيح وهتك قوم مستوزين وهجم لبيوت أكثر الناس، ومما أبطل مقرّر الحوائص والبغال من المدينة وسائر أعمال مصر كلها من الوجه القبلي والبحري، فكان على(1/167)
كل من الولاة والمقدّمين مقرر يحمل في كل قسط من أقساط السنة إلى بيت المال عن ثمن حياصة ثلثمائة درهم، وعن ثمن بغل خمسمائة درهم وعلى هذه الجهة عدّة مقطعين ويفضل منها ما يحمل، وكان يصيب الناس من هذه الجهة ما لا يوصف ويحلّ بهم من عسف الرقاصين ما يهون معه الموت، ومن ذلك مقرّر السجون، وهو عبارة عما يؤخذ من كل من يسجن فللسجان على حكم المقرّر ستة دراهم سوى كلف أخرى، وعلى هذه الجهة عدّة مقطعين ويرغب فيها الضمان ويتزايدون في مبلغ ضمانها لكثرة ما يتحصل منها فإنه كان لو تخاصم رجل مع امرأته أو ابنه رفعه الوالي إلى السجن فبمجرّد ما يدخل السجن، ولو لم يقم به إلا لحظة واحدة أخذ منه المقرّر، وكذلك كان على سجن القضاة أيضا.
ومن ذلك مقرّر طرح الفراريج: ولها ضمان عدّة في سائر نواحي أرض مصر يطرحون على الناس الفراريج فيمرّ بضعفاء الناس من ذلك بلاء عظيم، وتقاسي الأرامل من العسف والظلم شيئا كثيرا، وكان على هذه الجهة عدّة مقطعين، ولا يمكن أحدا من الناس في جميع الأقاليم أن يشتري فروجا فما فوقه إلا من الضامن ومن عثر عليه أنه اشترى أو باع فروجا من سوى الضامن جاءه الموت من كل مكان، وما هو بميت.
ومن ذلك مقرّر الفرسان: وهو عبارة عما يجيبه ولاة النواحي من سائر البلاد فلا يؤخذ درهم مقرّر حتى يغرم عليه صاحبه درهمين ويقاسي الناس فيه أهوالا صعبة.
ومن ذلك مقرّر الأقصاب والمعاصر: وهو ما يجبى من مزارعي قصب السكر، ومن المعاصر ورجال المعاصر.
ومن ذلك مقرّر رسوم الأفراح: ويجبي من سائر النواحي ولهذه الجهة عدّة ضمان ولا يعرف لهذه الجهة أصل البتة، وإنما يجبي بضرائب ينال الناس فيها مع المقرّر غرامات وروعات.
ومن ذلك حماية المراكب: وهي عبارة عما يؤخذ من كل مركب بتقرير معين يعرف بمقرّر الحماية وكانت هذه الجهة أشدّ ما ظلم به الناس فيؤخذ من كل من ركب البحر للسفر حتى من السؤال والمكدين.
ومن ذلك حقوق القينات: وهو عبارة عما يجمع من الفواحش والمنكرات فيجبيه مهتار الطشتخاناه السلطانية من أوباش الناس.
ومن ذلك شدّ الزعماء: وهي جهة مفردة وحقوق السودان وكشف المراكب ومقرّر ما على كل جارية، أو عبد حين نزولهم بالخانات لعمل الفاحشة فيؤخذ من كل ذكر وأنثى مقرّر معين، ومتوفر الجراريف، وهو ما يجبي من سائر النواحي فيحمل ذلك مهندسوا البلاد إلى بيت المال بإعانة الولاة لهم في تحصيل ذلك وعلى هذه الجهة عدّة مقطعين من الجند.(1/168)
ومقرّر المشاعلية وهو عبارة عما يؤخذ عن كسح الأفنية وحمل ما يخرج منها من الوسخ إلى الكيمان، فكان إذا امتلأ سراب جامع أو مدرسة أو مسمط أو تربة أو منزل من منازل سائر الناس لا يمكنه ولو بلغ من العظمة ما عسى أن يبلغ التعرّض لذلك حتى يأتيه ضامن الجهة، ويقاوله على كسح ذلك بما يريد وكان من عادة الضامن الإشطاط في السوم، وطلب أضعاف القيمة فإن لم يرض رب المنزل بما طلب الضامن وإلا تركه وانصرف فلا يقدر على مقاساة ترك الوسخ ويضطرّ إلى سؤاله ثانيا، فيعظم تحكمه ويشتدّ بأسه إلى أن يرضيه بما يختار حتى يتمكن من كسح فنائه ورفع ما هنالك من الأقذار.
ومن ذلك إبطال المباشرين من النواحي: وكانت بلاد مصر كلها من الوجهين القبليّ والبحري ما من بلد صغير وكبير إلا وفيه عدّة من كتاب وشادّ ونحو ذلك، فأبطل السلطان المباشرين وتقدّم منعهم من مباشرة النواحي إلا من بلد فيها مال السلطان فقط، فأراح الله سبحانه الخلق بإبطال هذه الجهات من بلاء لا يقدر قدره ولا يمكن وصفه.
ولما أبطل السلطان، هذه الجهات، وفرغ من تعيين الإقطاعات للأمراء والأجناد أفرز لخاص السلطان من بلاد أرض مصر عدّة نواح، مما كان في إقطاعات البرجية وهي الجيزة وأعمالها وهو والكوم الأحمر، ومنفلوط والمرج والخصوص، وغير ذلك مما بلغ عشرة قراريط من الإقليم، وصار لإقطاعات الأمراء والأجناد، وغيرهم أربعة عشر قيراطا، ومكر الأقباط فيما أمكنهم المكر فيه، فبدأوا بأن أضعفوا عسكر مصر، ففرّقوا الإقطاع الواحد في عدّة جهات، فصار بعض الجبي في الصعيد وبعضه في الشرقية، وبعضه في الغربية إتعابا للجنديّ، وتكثيرا للكلفة، وأفردوا جوالي «1» الذمّة من الخاص، وفرّقوها في البلاد التي أقطعت للأمراء والأجناد.
فإن النصارى كانوا مجتمعين في ديوان واحد كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى، فصار نصارى كل بلد يدفعون جاليتهم إلى مقطع تلك الضيعة، فاتسع مجال النصارى، وصاروا يتنقلون في القرى، ولا يدفعون من جزيتهم إلا ما يريدون، فقلّ متحصل هذه الجهة بعد كثرته، وأفردوا ما بقي من جهات المكوس «2» برسم الحوائج خاناه التي تصرف للسماط ليتناولوا ذلك ويوردوا منه ما شاءوا، ثم يتولوا صرف ما يحصل منه في جهات تستهلك بالأكل، وصارت جهات المكوس مما يتحدّث فيه الوزير، وشاد الدواوين.
ثم نظر السلطان فيما كان بيد الأميرين بيبرس الجاشنكير، وسلار نائب السلطنة من البلاد، فأخذ ما كان باسم كل منهما وباسم حواشيه، ولم يدع من ذلك شيئا مما كانوا قد(1/169)
وقفوه حتى حله، وجعل الجميع إقطاعات، واعتدّ في سائر الإقطاعات بما كان يستهديه المقطع من فلاحه، فحسب ذلك وأقامه من جملة عبر الإقطاع وأبطل الهدية، فلم يتهيأ له الفراغ من ذلك إلى آخر السنة، فلما أهلّ المحرّم من سنة ست عشرة وسبعمائة، وقد نظمت الحسبانات على ثلث مغلّ سنة خمس عشرة. جلس السلطان في الإيوان الذي استجدّه بقطعة الجبل، وقد تقدّم لسائر نقباء الأجناد على لسان نقيب الجيش بالحضور بأجنادهم، وجعل للعرض في كل يوم أميرين من الأمراء المقدّمين بمضافيهما، فكان الأمير مقدّم الألف يقف، ومعه مضافوه، وناظر الجيش يستدعيهم من تقدمة ذلك الأمير بأسمائهم على قدر منازلهم، فيقدّم نقيب الجيش، الواحد بعد الواحد من يد نقيبه إلى ما بين يدي السلطان، فإذا مثل بحضرته سأله السلطان بنفسه من غير واسطة عن اسمه، وأصله وجنسه، ووقت حضوره إلى ديار مصر، ومع من قدم، وإلى من صار من الأمراء وغيرهم، وعن مشاهده التي حضرها في الغزو، وعما يعرفه من صناعة الحرب وغير ذلك من الاستقصاء، فإذا انتهى استفهامه إياه ناوله بيده مثالا من غير تأمّل بحسب ما قسم الله له، فلم يمرّ به في مدّة العرض أحد إلا وقد عرفه وأشار إلى الأمراء بذكر شيء من خبره.
هذا وقد تقدّم إلى سائر الأمراء بأسرهم بأن يحضروا إلى الإيوان عند العرض، ولا يعارض أحد منهم السلطان في شيء يفعله، فكانوا يحضرون وهم سكوت لا يتكلم أحد منهم خوفا من مخالفة السلطان لما يقوله، وأخذ السلطان في مواربة الأمراء فما أثنوا على أحد في مجلس العرض إلا وأعطاه السلطان مثالا بإقطاع رديء، فلما عملوا ذلك أمسكوا عن الكلام معه جملة، وانفرد بالاستبداد بأموره دونهم، فما عرف منه أنه قدّم إليه أحد إلا وسأله: إن كان مملوكا عمن أقدمه من التجار، وسائر ما تقدّم، وإن كان شيخا فعن أصله وسنه وكم مصاف حضرها؟ حتى أتى على الجميع وأفرد المشايخ العاجزين فلم يعطهم إقطاعات، وجعل لكل منهم مرتبا يقوم به، فانتهى العرض في طول المحرّم، وتوفر كثير من مثالات الأجناد فبلغ عدّة مائتي مثال، ثم أخذ في عرض أطباق المماليك السلطانية، ووفر من جوامكهم كثيرا، وقطع عدّة رواتب من رواتبهم، وعوّضهم عن ذلك إقطاعات، وجعل جهة مكس قطيا لضعفاء الأجناد ممن قطع خبزه فجعل لك منهم في السنة ثلاثة آلاف درهم.
وكان لبيبرس، وسلار الجوكندار، تعلقات كثيرة في بيت المال وفي الأعمال كالجيزة والإسكندرية من متجر، وحمايات فارتجع ذلك وأبطله وما شابهه، وأضاف ما لم يقطعه إلى ديوان الخاص، ومما أمر به في مدّة العرض أن لا يردّ أحد مثالا أخذه من السلطان ولو استقله، ولا يشفع أمير في جنديّ، وإنّ من خالف ذلك ضرب وحبس ونفي وقطع خبزه، فعظمت مهابة السلطان وقويت حرمته، ولم يجسر أحد أن يردّ عليه مثالا أخذ من السلطان، ولا استطاع أمير أن يتكلم لأحد، وصار كثير ممن كان إقطاعه مثلا ألف دينار إلى إقطاع مائتي دينار، ونحوها وكثير ممن كان إقطاعه قليلا إلى إقطاع معتبر، فإنه كان يعطي المثال(1/170)
من غير تأمّل كيفما وقعت يده عليه.
وقدّر الله سبحانه وتعالى أنّ السلطان كان من جملة صبيان مطبخه، رجل مضحك يهزل بحضرته، فيضحك منه، ويعجب به ولا يعترض فيما يقول من السخف، فجلس السلطان في بعض أيام العرض في البستان بقلعة الجبل، وعنده الخاصة من الأمراء فدخل هذا المضحك، وأخذ في السخرية على عادته ليضحك السلطان، إلى أن قال: وجدت بعض أجناد الروك الناصريّ، وهو راكب الإكديش، وخرجه خلفه ورمحه فوق كتفه يقصد بهذا السخرية، والطعن، فغضب السلطان غضبا شديدا وصاح: خذوه وعرّوه ثيابه، فتبادره الأعوان، وجرّوه برجله، ونزعوا ثيابه وربطوه في الساقية مع القواديس، وأكثروا من ضرب الأبقار حتى أسرعت بدوران الساقية، فصار المسكين ينقلب مع القواديس ويغطس في المادة تارة ويرقى أخرى ثم ينتكس، والماء يمرّ عليه مقدار ساعة إلى أن انقطع حسه، وأشرف على الهلاك، واشتدّ رعب الأمراء لما رأوا من قوّة غضب السلطان.
ثم تقدّم الأمير طغاي الدوادار في طائفة من الأمراء الخاصكية، واعتذروا عن هذا المسكين بأنه لم يرد إلا أن يضحك السلطان من كلامه، ولم يقصد عيب الأجناد، ولا انتقاصهم ونحو هذا من القول إلى أن أمر بحله، فإذا ليس فيه حركة، فسحب ورسم السلطان بأنه إن كان حيا لا يبيت بديار مصر، فأخرج من وقته منفيا وحمد الله كل من الأمراء على ما وفقه من السكوت عن الكلام في حال العرض.
وما زال الأمر بمصر على ما رسمه الملك الناصر في هذا الروك إلى أن زالت دولة بني قلاوون بالملك الظاهر برقوق في شهر رمضان سنة أربع وثمانين وسبعمائة، فأبقي الأمر على ذلك إلا أنّ أشياء منه أخذت تتلاشى قليلا قليلا إلى أن كانت الحوادث والمحن في سنة ست وثمانمائة حيث حدث من أنواع التغيرات، وتنوّع الظلم ما لم يخطر ببال أحد، وسيمرّ بك حمل من ذلك عند ذكر أسباب خراب إقليم مصر إن شاء الله تعالى، وكانت لأراضي مصر تقاو مخلدة في نواحيها وهي على قسمين: تقاو سلطانية، وتقاو بلدية، فالتقاوي السلطانية، وضعها الملوك في النواحي، وكان الأمير أو الجنديّ عند ما يستقرّ على الإقطاع يقبض ماله من التقاوي السلطانية، فإذا خرج عنه طولب بها، فلما كان الروك الناصري خلدت تقاوي كل ناحية بها، وضبطت في الديوان السلطاني فبلغت جملتها مائة ألف وستين ألف أردب سوى التقاوي البلدية.(1/171)
ذكر الديوان
قال أقضى القضاة أبو الحسن الماورديّ: الديوان محفوظ بحفظ ما تعلق بحقوق السلطنة من الأعمال والأموال، ومن يقوم بها من الجيوش والعمال، وفي تسميته ديوانا وجهان: أحدهما: أن كسرى اطلع ذات يوم على كتاب ديوانه فرآهم يحسبون مع أنفسهم، فقال: ديوانه، أي: مجانين، فسمي موضعهم بهذا الاسم، ثم حذفت الهاء عند كثرة الاستعمال تخفيفا للاسم، فقيل: ديوان. والثاني: أن الديوان اسم بالفارسية للشياطين، فسمي الكتاب باسمهم لحذقهم بالأمور، ووقوفهم على الجليّ والخفيّ، وجمعهم لما شذ وتفرّق، واطلاعهم على ما قرب وبعد، ثم سمي مكان جلوسهم باسمهم، فقيل: ديوان.
انتهى.
واعلم أن كتابة الديوان على ثلاثة أقسام: كتابة الجيوش، وكتابة الخراج، وكتابة الإنشاء والمكاتبات، ولا بدّ لكل دولة من استعمال هذه الأقسام الثلاثة، وقد أفرد العلماء في كتابة الخراج، وفي كتابة الإنشاءات عدّة مصنفات، ولم أر أحدا جمع شيئا في كتابة الجيوش، والعساكر، وكانت كتابة الدواوين في صدر الإسلام أن يجعل ما يكتب فيه صحفا مدرجة، فلما انقضت أيام بني أمية، وقام عبد الله بن محمد: أبو العباس السفاح، استوزر خالد بن برمك بعد أبي سلمة حفص بن سليمان الخلال، فجعل الدفاتر في الدواوين من الجلود، وكتب فيها وترك الدروج إلى أن تصرّف جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك في الأمور أيام الرشيد، فاتخذ الكاغد، وتداوله الناس من بعده إلى اليوم.
وذكر أبو النمر الوراق قال: حدّثني أبو حازم القاضي قال: قال لي أبو الحسن بن المدبر: لو عمرت مصر كلها لوفت بأعمال الدنيا، وقال: إنّ أرض مصر مساحتها للزراعة ثمانية وعشرون ألف ألف فدّان، وإنما المعمر منها ألف ألف فدّان. قال: وقال لي ابن المدبر: إنه كان يتقلد ديوان المشرق وديوان المغرب. قال: ولم أبت قط ليلة من الليالي حتى أنهيه، ولا بقيته، وتقلدت مصر فكنت ربما نمت وقد بقي عليّ شيء من العمل فأستتمه إذا أصبحت.(1/172)
ذكر ديوان العساكر والجيوش
يقال: إنّ أول من وضع ديوان الجند بخيلهم، كيهراسف، أحد ملوك الطبقة الثانية من الفرس، وإنّ كيقباذ قبله كان قد أخذ العشر من الغلات، وصرفه في أرزاق جنده، وأما في الإسلام، فما خرجه البخاري ومسلم من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
«اكتبوا لي من تلفظ بالإسلام من الناس» ، فكتبنا له ألفا وخمسمائة رجل، الحديث. ذكره البخاريّ في باب كتابة الإمام الناس، وللبخاري من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، وامرأتي حاجة؟ قال: «ارجع فاحجج مع امرأتك» . وقال عمرو بن منبه عن معمر عن قتادة قال: آخر ما أتي به النبيّ صلى الله عليه وسلم ثمانمائة ألف درهم من البحرين، فما قام من مجلسه حتى أمضاه، ولم يكن للنبيّ صلى الله عليه وسلم بيت مال، ولا لأبي بكر.
وأوّل من اتخذ بيت مال عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقال ابن شهاب: عمر أوّل من دوّن الدواوين. وروى ابن سعد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قسم أبي الفيء عام أوّل، فأعطى الحرّ عشرة، والملوك عشرة، والمرأة عشرة، وأمتها عشرة، ثم قسم العام الثاني، فأعطاهم عشرين عشرين. فقيل: إن سببه أن أبا هريرة رضي الله عنه قدم على عمر رضي الله عنه بمال من البحرين، فقال له عمر: ماذا جئت به؟ فقال: خمسمائة ألف درهم، فاستكثره عمر! وقال: أتدري ما تقول؟ قال: نعم، مائة ألف خمس مرّات، فقال عمر:
أطيب هو؟ قال: لا أدري، فصعد عمر المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، قد جاءنا مال كثير، فإن شئتم كلنا لكم كيلا، وإن شئتم عددنا لكم عدّا، فقام إليه رجل، فقال: يا أمير المؤمنين قد رأيت الأعاجم يدوّنون ديوانا لهم، فدوّن أنت ديوانا، فدوّن عمر.
وقيل: بل سببه أن عمر بعث بعثا وعنده الهرمزان، فقال لعمر: هذا بعث قد أعطيت أهله الأموال، فإن تخلف منهم رجل من أين يعلم صاحبك به، فأثبت لهم ديوانا، فسأله عن الديوان حتى فسره له، فاستشار المسلمين في تدوين الدواوين فقال له عليّ بن أبي طالب:
تقسم كل سنة ما اجتمع عندك من المال، ولا تمسك منه شيئا، وقال عثمان رضي الله عنه:
أرى مالا كثيرا يسع الناس، فإن لم يحصوا حتى يعرف من أخذ ممن لم يأخذ خشيت أن ينتشر الأمر، وقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: قد كنت بالشام، فرأيت ملوكها دوّنوا ديوانا وجندوا جنودا، فدوّن ديوانا، وجند جنودا، فأخذ بقوله، ودعا عقيل بن أبي طالب، ومخرمة بن نوفل، وجبير بن مطعم، وكانوا كتاب قريش، فقال: اكتبوا الناس على منازلهم، فبدأوا ببني هاشم، وكتبوهم، ثم أتبعوهم أولاد أبي بكر، وقومه، ثم عمر وقومه، وكتبوا القبائل، ووضعوها على الخلافة، ثم رفعوا ذلك إلى عمر رضي الله عنه، فلما نظر فيه قال:
لا، ولكن ابدأوا بقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأقرب، فالأقرب حتى تضعوا عمر حيث وضعه الله(1/173)
فشكره العباس رضي الله عنه على ذلك، وقال: وصلت رحمك، وقد اختلف في السنة التي فرض فيها عمر رضي الله عنه الأعطية ودوّن الدواوين فقال الكلبيّ في سنة خمس عشرة، وحكى ابن سعد عن عمر الواقدي: أنه جعل ذلك في سنة عشرين. قال الزهريّ: وكان ذلك في المحرّم سنة عشرين من الهجرة، وقيل: لما فتح الله على المسلمين القادسية، وقدمت على عمر رضي الله عنه الفتوح من الشام جمع المسلمين، وقال: ما يحلّ للوالي من هذا المال، فقالوا: جميعا. أما الخاصة، فقوته وقوت عياله لا وكس وشطط، وكسوته وكسوتهم للشتاء والصيف، ودابتان إلى جهاده وحوائجه وحملانه إلى حجته وعمرته، والقسم بالسوية، وأن يعطي أهل البلاد على قدر بلادهم ويرم أمور الناس بعد، ويتعاهدهم في الشدائد والنوازل حتى تنكشف، ويبدأ بأهل القيء ثم يجوزهم إلى كل مغلوب ما بلغ الفيء.
وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: لما افتتحت القادسية، وصالح من صالح من أهل السواد، وافتتحت دمشق وصالح أهل الشام. قال عمر رضي الله عنه للناس:
اجتمعوا فأحضروني علمكم فيما أفاء الله على أهل القادسية وأهل الشام، فاجتمع رأي عليّ وعمر رضي الله عنهما أن يأخذوه من قبل القرآن فقالوا: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى
[الحشر/ 7] يعني: من الخمس فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ
يعني: من الله الأمر وعلى الرسول القسم وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ
ثم فسروا ذلك بالآية الأخرى التي تليها:
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ
[الحشر/ 8] الآية، فأخذوا أربعة الأخماس على ما قسم عليه الخمس فيمن بدىء به، وثنى وثلث وأربعة أخماس لمن أفاء الله عليه المغنم، ثم استشهدوا على ذلك بقوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ
[الأنفال/ 41] الآية من تلك الطبقات الثلاث وأربعة أخماس لمن أفاء الله عليه، فقسم الأخماس على ذلك، فاجتمع على ذلك عمر وعليّ، وعمل به المسلمون بعد ذلك، فبدأ بالمهاجرين ثم الأنصار ثم التابعين الذين شهدوا معهم، وأعانوهم ثم فرض الأعطية من الجزاء على من صالح، أو دعا إلى الصلح من حرابة فردّه عليهم بالمعروف، وليس في الجزء أخماس الجزء لمن منع الذمّة، ووفى لهم ممن ولي ذلك منهم، ولمن لحق بهم، فأعانهم بأسوة إلا أن يواسوا بفضله عن طيب أنفس منهم، من لم ينل مثل الذي نالوا.
وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال عمر رضي الله عنه: إني مجيد المسلمين على الأعطية ومدوّنهم ومتحرّي الحق، فقال عبد الرحمن بن عوف وعثمان وعليّ رضي الله عنهم: ابدأ بنفسك، قال: لا أبدأ إلا بعم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الأقرب فالأقرب منهم من رسول الله، ففرض للعباس، وبدأ به، ثم فرض لأهل بدر خمسة آلاف خمسة آلاف، ثم فرض لمن بعد بدر إلى الحديبية أربعة آلاف أربعة آلاف، ثم فرض لمن بعد الحديبية إلى أن أقلع أبو بكر رضي الله عنه عن أهل الردّة ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف، ودخل في ذلك من شهد الفتح، وقاتل عن أبي بكر ومن ولي الأيام قبل القادسية، كل هؤلاء على ثلاثة آلاف ثلاثة(1/174)
آلاف، ثم فرض لأهل القادسية، وأهل الشام أصحاب اليرموك ألفين ألفين، وفرض لأهل البلاد النازح منهم ألفين وخمسمائة ألفين وخمسمائة، فقيل له: لو ألحقت أهل القادسية بأهل الأيام، فقال: لم أكن لألحقهم بدرجة من لم يدركوا لاها الله إذن، وقيل له: قد سوّيتهم على بعد دارهم بمن قد قربت داره، وقاتل عن فنائه، فقال: هم كانوا أحق بالزيادة لأنهم كانوا ردء الحقوق، وشجى للعدوّ. وأيم الله ما سوّيتهم حتى استطبتهم، فهلا قال المهاجرون مثل قولهم حين سوّينا بين السابقين من المهاجرين، وبين الأنصار، وقد كانت نصرة الأنصار بفنائهم، وهاجر إليهم المهاجرون من بعد، وفرض للروادف الذين ردفوا بعد افتتاح القادسية واليرموك بعد الفتح ثلثمائة ثلثمائة سوّى كل طبقة في العطاء ليس بينهم تفاضل، قويهم وضعيفهم عربيهم وأعجميهم في طبقاتهم سواء حتى إذا حوى أهل الأمصار من حووا من سباياهم، وردفت المربع من الروادف فرض لهم على خمسين ومائتين، وفرض لمن ردف من الروادف الخمس على مائتين، فكان آخر من فرض له عمر رضي الله عنه أهل هجر على مائتين، ومات عمر على ذلك.
وأدخل في أهل بدر أربعة من غير أهل بدر: الحسن والحسين وأبا ذر وسلمان، وقال أبو سلمة: فرض عمر للعباس على خمسة وعشرين ألفا. وقال الزهريّ: على اثني عشر ألفا، وجعل نساء أهل بدر إلى الحديبية على أربعمائة أربعمائة، ونساء من بعد ذلك إلى الأيام قبل القادسية على ثلثمائة ثلثمائة، ثم نساء أهل القادسية على مائتين مائتين، ثم سوّى بين النساء بعد ذلك، وجعل للصبيان من أهل بدر وغيرهم مائة مائة، ثم دعا ستين مسكينا، فأطعمهم خبزا بملح فأحصوا ما أكلوه فوجدوه يخرج من جزيتين، ففرض لكل إنسان يقوم بالأمر له ولعياله جزيتين جزيتين في كل شهر: مسلمهم وكافرهم، وفرض لأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف عشرة آلاف، إلا من جرى عليه البيع، فقالت أمّهات المؤمنين: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفضلنا عليهنّ في القسمة ولكن كان يسوّي بيننا فسوّ بيننا، فجعلهن على عشرة آلاف عشرة آلاف، وفضل عائشة رضي الله عنها بألفين، فأبت. فقال لفضل: منزلتك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أخذتها فشأنك.
وكان الناس أعشارا، فكانت العرفاء ثلاثة آلاف عريف كل عريف على عشرة، ورزق الخيل على أعرافها، فما زالوا كذلك حتى اختطت الكوفة والبصرة، فغيرت العرفاء والأعشار، وجعلت أسباعا، وجعل مائة عريف على كل مائة ألف درهم عريف، وكانت كل عرافة من القادسية خاصة ثلاثة وأربعين رجلا وثلاثا وأربعين امرأة، وخمسين من العيال لهم مائة ألف درهم، وكل عرافة من أهل الأيام عشرين رجلا على ثلاثة آلاف وعشرين امرأة، ولكل عيل مائة على مائة ألف درهم، وكل عرافة من الرادفة الأولى ستين رجلا وستين امرأة، وأربعين من العيال ممن كان رجالهم ألحقوا على ألف وخمسمائة على مائة ألف درهم، وكان العطاء يدفع إلى أمراء الأسباع وأصحاب الرايات، والرايات على أيادي العرب(1/175)
فيدفعونه إلى العرفاء والنقباء والأمناء، فيدفعونه إلى أهله في دورهم. فمات عمر رضي الله عنه والأمر على ذلك، وقد عزم قبل موته أن يجعل العطاء أربعة آلاف أربعة آلاف، وقال:
لقد هممت أن أجعل العطاء أربعة آلاف أربعة آلاف، ألف يخلفها الرجل في أهله، وألف يتزوّدها معه في سفره، وألف يتجهز بها، وألف يترفق بها، فمات وهو في ارتياد ذلك قبل أن يفعل، وكان يقري البعوث على قدر المسافة إن كان بعيدا فسنة، وإن كان دون ذلك فستة أشهر، فإذا أخل الرجل بثغره نزعت عمامته، وأقيم في مسجد حيه، فقيل هذا فلان قد أخل. وقال سيف بن عمر: أول عطاء أخذ سنة خمس عشرة، وكان عمرو بن العاص رضي الله عنه يبعث من مصر إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالجزية بعد حبس ما كان يحتاج إليه، فلما استخلف عثمان رضي الله عنه لثلاث مضين من المحرّم سنة أربع وعشرين زاد الناس مائة، وكان أوّل من زاد، ورفد أهل الأمصار، وهو أوّل من رفدهم، وصنع فيهم الصنائع، فاستن به الخلفاء في الزيادة.
وكان عمر، قد فرض لكل نفس منفوسة من أهل الفيء في رمضان درهما في كل يوم، وفرض لأمهات المؤمنين درهمين. فقيل له: لو صنعت لهم به طعاما، فجمعتهم عليه فقال: اشبعوا الناس في بيوتهم، فأقرّ عثمان رضي الله عنه ذلك، وزاد فوضع لهم طعام رمضان. وقال: هو للمتعبد الذي يتخلف في المسجد، ولابن السبيل، وللمعترين بالناس في رمضان فاقتدى به الخلفاء من بعده.
وكان بمصر، في خلافة معاوية بن أبي سفيان أربعون ألفا، وكان منهم أربعة آلاف في مائتين مائتين، وكان إنما يحمل إلى معاوية ستمائة ألف دينار عن فضل أعطيات الجند، وما يصرف إلى الناس، وكان معاوية قد جعل على كل قبيلة من قبائل العرب بمصر، رجلا يصبح كل يوم فيدور على المجالس فيقول: هل ولد الليلة فيكم مولود؟ وهل نزل بكم نازل؟ فيقال: ولد لفلان غلام، ولفلان جارية، فيكتب أسماءهم، ويقال: نزل بهم رجل من أهل كذا بعياله، فيسميه وعياله فإذا فرغ من القيل أتى الديوان حتى يثبت ذلك، وأعطى مسلمة بن مخلد الأنصاري أمير مصر، أهل الديوان أعطياتهم وأعطيات عيالهم، وأرزاقهم ونوائبهم ونوائب البلاد من الجسور، وأرزاق الكتبة وحملان القمح إلى الحجاز، وبعث إلى معاوية ستمائة ألف دينار فضلا.
وأوّل تدوين كان بمصر على يد عمرو بن العاص رضي الله عنه، ثم دوّن عبد العزيز بن مروان تدوينا ثانيا، ودوّن قرّة بن شريك التدوين الثالث، ثم دوّن بشر بن صفوان تدوينا رابعا، ثم لم يكن بعد تدوين بشر شيء له ذكر إلا ما كان من إلحاق قيس بالديوان في خلافة هشام بن عبد الملك بن مروان.
فلما انقرضت دولة بني أمية وغلبت المسودّة بنو العباس أحدثوا أشياء حتى إذا مات(1/176)
عبد الله المأمون بن هارون الرشيد لسبع خلون من رجب سنة ثماني عشرة ومائتين، وبويع أخوه المعتصم، أبو إسحاق محمد بن هارون كتب إلى كندر بن نصر الصفدي أمير مصر، يأمره بإسقاط من في ديوان مصر من العرب، وقطع العطاء عنهم ففعل ذلك، وكان مروان بن محمد الجعدي آخر خلائف بني أمية قطع عن أهل مصر العطاء سنة، ثم كتب إليهم كتابا يعتذر فيه: إني إنما حبست عنكم العطاء في السنة الماضية لعدوّ حضرني، فاحتجت إلى المال، وقد وجهت إليكم بعطاء السنة الماضية، وعطاء هذه السنة فكلوه هنيئا مريئا، وأعوذ بالله أن أكون أنا الذي يجري الله قطع العطاء على يديه، ولما قطع كندر عطاء أهل مصر خرج يحيى بن الوزير الجرويّ في جمع من لخم وجذام وقال له: هذا أمر لا يقوم فينا أفضل منه لأنا منعنا حقنا وفيئنا، فاجتمع إليه نحو خمسمائة رجل.
ومات كندر في ربيع الآخر سنة تسع عشرة ومائتين، وولي ابنه المظفر مصر من بعده، فسار إلى يحيى، وقاتله في بحيرة تنيس، وأخذه أسيرا فانقرضت دولة العرب من مصر، وصار جندها العجم والموالي من عهد المعتصم إلى أن ولي الأمير أبو العباس أحمد بن طولون مصر، فاستكثر من العبيد، وبلغت عدّتهم زيادة على أربعة وعشرين ألف غلام تركيّ، وأربعين ألف أسود، وسبعة آلاف حرّ مرتزق، ثم استجدّ ابنه الأمير أبو الجيش خمارويه بعده عدّة من شناترة حوف مصر، فلما كانت إمارة الأمير أبي بكر محمد بن طغج الإخشيد على مصر، بلغت عدّة عساكره بمصر والشام أربعمائة ألف تشتمل على عدّة طوائف.
ثم إن الأستاذ أبا المسك كافورا الإخشيدي استجدّ عدّة من السودان في أيام تحكمه بمصر، فلما تغلب الإمام المعز لدين الله أبو تميم معدّ الفاطمي على مصر صارت عساكرها ما بين كتامة وزويلة ونحوها من طوائف البربر، وفيهم الروم والصقالبة، وهم في العدد كما قيل. ومنهم معدّ. ولم تكن جيوشه تعدّ، ولا لما أوتيه كان حدّ، من كل ما يسعد فيه جدّ، وحتى قيل: إنه لم يطأ الأرض بعد جيش الإسكندر بن فليبس المقدوني أكثر عددا من جيوش المعز، فلما قام في الخلافة بمصر من بعده ابنه العزيز بالله أبو منصور نزار استخدم الديلم والأتراك واختص بهم.
وذكر الأمير المختار عبد الملك المسبحي في تاريخه: أن خزانة الخاص حملها لما خرج العزيز إلى الشام عشرون ألف جمل خارجا عن خزائن القوّاد وأكابر الدولة.
وذكر ابن ميسر في تاريخه: أن عبيد السيدة أم المستنصر بالله أبي تميم، معدّ بن الظاهر لإعزاز دين الله أبي الحسن عليّ بن الحاكم بأمر الله أبي عليّ منصور بن العزيز بالله خاصة كانت عدّتهم خمسين ألف عبد سوى طوائف العسكر، ورأيت بخط الأسعد بن مماتي أن عدّة الجيوش بمصر في أيام رزيك بن الصالح طلائع بن رزيك كانت أربعين ألف فارس،(1/177)
وستة وثلاثين ألف راجل، وزاد غيره، وعشرة شواني «1» بحرية فيها عشرة آلاف مقاتل، وهذا عند انقراض الدولة الفاطمية، فلما زالت دولتهم على يد السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، أزال جند مصر من العبيد السود والأمراء المصريين والعربان والأرمن، وغيرهم واستجدّ عسكرا من الأكراد والأتراك خاصة، وبلغت عدّة عساكره بمصر اثني عشر ألف فارس لا غير، فلما مات، افترقت من بعده، ولم يبق بمصر مع ابنه الملك العزيز عثمان سوى ثمانية آلاف فارس، وخمسمائة فارس إلا أن فيهم من له عشرة أتباع، وفيهم من له عشرون، وفيهم من له أكثر من ذلك إلى مائة تبع لرجل واحد من الجند، فكانوا إذا ركبوا ظاهر القاهرة يزيدون على مائتي ألف، ثم لم يزالوا في افتراق، واختلاف حتى زالت دولتهم بقيام عبيدهم المماليك الأتراك، فحذوا حذو مواليهم بني أيوب، واقتصروا على الأتراك وشيء من الأكراد، واستجدّوا من المماليك التي تجلب من بلاد الترك شيئا كثيرا حتى يقال: إنّ عدّة مماليك الملك المنصور قلاون كانت سبعة آلاف مملوك، ويقال: اثني عشر ألفا، وكانت عدّة مماليك ولده الأشرف خليل بن قلاون اثني عشر ألف مملوك، لم تبلغ بعد ذلك قريبا من هذا إلى أن زالت دولة بني قلاون في شهر رمضان سنة أربع وثمانين وسبعمائة بالملك الظاهر برقوق، فأخذ في محو المماليك الأشرفية، وأنشأ لنفسه دولة من المماليك الجركسية بلغت عدّتهم ما بين مشترى ومستخدم أربعة آلاف أو تزيد قليلا، فلما قدم من بعده ابنه الناصر فرج، افترقوا واختلفوا، فلم يقتل حتى هلك كثير منهم بالقتل وغيره.
وعساكر مصر في الدولة التركية على قسمين: أجناد الحلقة، والمماليك السلطانية، وأكثر ما كانت أجناد الحلقة في أيام الناصر محمد بن قلاون، فإنها بلغت على ما رأيته في جرائد ديوان الجيش بأوراق الروك الناصري أربعة وعشرين ألف فارس، ثم ما زالت تنقص حتى صارت اليوم مع قلّة عدّتها سواء منها الألف والواحد فإنها لا تنفع ولا تدفع، وأما المماليك، فإنها اليوم قليل عددها بحيث لو جمعت أجناد الحلقة مع المماليك السلطانية لا تكاد أن تبلغ خمسة آلاف فارس يصلح منها لأن يباشر القتال ألف أو دونها، وهي اليوم قسمان: أجناد الحلقة، والمماليك السلطانية.
والمماليك السلطانية ثلاثة أقسام: ظاهرية وناصرية ومؤيدية، والمؤيدية ما بين حكمية ونوروزية، ومن استجدّه المؤيد وإن خوفي ليكثر أن يكون الحال بعد الملك المؤيّد، أبي النصر شيخ- خلد الله ملكه- يتلاشى إلى أن يؤيد الله الملك بابنه الأمير، صارم الدين إبراهيم- شدّ الله به أزره- فإنه فتح من البلاد الرومية ما لا ملكه أحد من(1/178)
ملوك مصر في الدولة الإسلامية قبله.
والشبل في المخبر مثل الأسد، وابن السريّ إذا سري أسراهما. ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده،
بأبه اقتدى عدي في الكرم ... ومن يشابه أبه فما ظلم
إن الأصول عليها ينبت الشجر.
ثم لما ملك الأشرف برسباي «1» صارت المماليك سبع طوائف: ظاهرية وناصرية ومؤيدية ونوروزية وحكمية وططرية وأشرفية، كل طائفة منها مباينة لجميعها، فلذلك اضمحلت شوكتهم، وانكسرت حدّتهم، وأمنت على السلطان غائلتهم، ولم يخف ثورتهم لتفرّقهم، وإن كانوا مجتمعين وتباينهم وإن كانوا في الظاهر متفقين.
واعلم أنه كانت عادة الخلفاء من بني أمية وبني العباس والفاطميين من لدن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه أن تجبى أموال الخراج، ثم تفرّق من الديوان في الأمراء أو العمال والأجناد على قدر رتبهم، وبحسب مقاديرهم، وكان يقال لذلك في صدر الإسلام العطاء، وما زال الأمر على ذلك إلى أن كانت دولة العجم، فغير هذا الرسم، وفرّقت الأراضي إقطاعات على الجند، وأوّل من عرف أنه فرّق الإقطاعات على الجند نظام الملك أبو عليّ الحسن بن عليّ بن إسحاق بن العباس الطوسي وزير البرشلان بن داود بن ميكال بن سلجوق، ثم وزر ابنه ملكشاه بن البرشلان، وذلك أن مملكته اتسعت، فرأى أن يسلم إلى كل مقطع قرية أو أكثر أو أقلّ على قدر إقطاعه لأنه رأى أن في تسليم الأراضي إلى المقطعين عمارتها لاعتناء مقطعيها بأمرها بخلاف ما إذا شمل جميع أعمال المملكة ديوان واحد، فإن الخرق يتسع ويدخل الخلل في البلاد ففعل نظام الملك ذلك، وعمرت به البلاد، وكثرت الغلات، واقتدى بفعله من جاء بعده من الملوك من أعوام بضع وثمانين وأربعمائة إلى يومنا هذا، وكانت الخلفاء ترزق من بيت المال. فذكر عطاء بن السائب، في حديث: أن أبا بكر رضي الله عنه، لما استخلف فرض له كل يوم شطر شاة وما يكسى به الرأس والبطن، وذكر عن حميد بن هلال: أنه فرض له بردان إذا أخلقهما وضعهما، وأخذ مثلهما، وطهره إذا سافر ونفقته على أهله، كما كان ينفق قبل أن يستخلف.
وذكر ابن الأثير في تاريخه: أن الذي فرضوا له ستة آلاف درهم في السنة، وفرض لعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما استخلف ما يصلحه ويصلح عياله بالمعروف، وقال له عليّ رضي الله عنه: ليس لك غيره، فقال القوم: القول ما قال عليّ يأخذ قوته، وفرض(1/179)
عمر لمعاوية بن أبي سفيان على عمله في الشام عشرة آلاف دينار في السنة، وقيل: بل رزقه ألف دينار وهو أشبه.
ذكر القطائع والإقطاعات
يقال: اقتطع طائفة من الشيء: أخذها، والقطيعة ما اقتطعه منه وأقطعني إياها أذن لي في اقتطاعها واستقطعه إياهما: سأله أن يقطعه إياها، وأقطعه نهرا وأرضا أباح له ذلك، وقد أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتألف على الإسلام قوما، وأقطع الخلفاء من بعده من رأوا في إقطاعه صلاحا.
روى ابن أبي نجيح عن عمرو بن شعيب عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع أناسا من مزينة أو جهينة أرضا، فلم يعمروها، فجاء قوم فعمروها، فخاصمهم الجهينيون أو المزينيون إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال عمر: لو كانت مني أو من أبي بكر لرددتها، ولكنها قطيعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: من كانت له أرض ثم تركها ثلاث سنين لا يعمرها، فعمرها قوم آخرون فهم أحق بها.
وقال هشام بن عروة، عن أبيه: أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير أرضا فيها نخل من أموال بني النضير، وذكر أنها أرض يقال لها الجرف.
وذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أقطع العقيق: أجمع الناس حتى جازت قطيعة عروة، فقال ابن الزبير: المستقطعون فند اليوم، فإن يك فيه خير فتحت قدمي. قال خوّات بن جبير: أقطعنيه فأقطعه إياه، وقال سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال: لما قدم النبيّ أقطع أبا بكر وأقطع عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وقال أشعث بن سوار، عن حبيب بن أبي ثابت، عن صلت المكيّ، عن أبي رافع قال: أعطى النبيّ صلى الله عليه وسلم قوما أرضا فعجزوا عن عمارتها، فباعوها في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بثمانية آلاف دينارا وبثمانمائة ألف درهم، فوضعوا أموالهم عند عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فلما أخذوها، وجدوها ناقصة، فقالوا: هذا ناقص، قال: احسبوا زكاته، قال: فحسبوا زكاته فوجدوه وافيا، فقال: أحسبتم أن أمسك مالا ولا أزكيه، وقد سأل تميم الداري، رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطعه عيون البلد الذي كان منه بالشام قبل فتحه، ففعل.
وسأله أبو ثعلبة الخشني أن يقطعه أرضا كانت بيد الروم، فأعجبه ذلك وقال: ألا تسمعون ما يقول؟ فقال: والذي بعثك بالحق ليفتحن عليك، فكتب له بذلك كتابا، وقال ثابت بن سعد عن أبيه عن جده: إن الأبيض بن جمال، استقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملح مأرب فأقطعه، فقال الأقرع بن حابس التميمي: يا رسول الله إني وردت هذا الملح في الجاهلية وهو بأرض ليس فيها ملح، من ورده أخذه، وهو مثل الماء العذب بالأرض، فاستقال(1/180)
الأبيض، فقال: قد أقلتك على أن تجعله مني صدقة، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «هو منك صدقة، وهو مثل الماء العذب من ورده أخذه» . وقال كثير بن عبد الله بن عوف المزنيّ عن أبيه عن جدّه: أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم بلال بن الحارث المعادن القبلية جليتها وغورتها، وقال مالك عن ربيعة عن قوم من علمائهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحرث المزني معادن بناحية الفرع.
وعن ربيعة عن الحرث بن بلال عن أبيه بلال بن الحرث، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقطعه العقيق أجمع، وعن حماد بن سلمة عن أبي مكين عن أبي عكرمة مولى بلال بن الحرث قال:
أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا أرضا فيها جبل معدن، فباع بنو بلال: عمر بن عبد العزيز أرضا منها، فظهر فيها معدن، أو قال: معدنان، فقالوا: إنما بعناك أرض حرث ولم نبعك المعادن، وجاءوا بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم لهم في جريدة، فقبلها عمر وفتح ومسح بها عينيه، وقال لقيمه: انظر ما خرج منها، وما أنفقت، فقاصهم بالنفقة، وردّ عليهم الفضل، واصطفى عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أرض السواد أموال كسرى، وأهل بيته، وما هرب عنه أربابه أو هلكوا، فكان مبلغ غلته تسعة آلاف ألف درهم كان يصرفها في مصالح المسلمين، ولم يقطع شيئا منها، ثم إن عثمان رضي الله عنه أقطعها لأنه رأى إقطاعها أوفر لغلتها من تعطيلها، وشرط على من أقطعها أن يأخذ منه حق الفيء، فكان مبلغ غلته خمسين ألف ألف درهم كان منها صلاته وعطاياه، ثم تناقلها الخلفاء بعده، فلما كان عام الجماجم سنة اثنتين وثمانين في فتنة عبد الرحمن بن الأشعث، أحرق الديوان، وأخذ كل قوم ما يليهم، وأقطع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ابن سندر منية الأصبغ، فحاز منها لنفسه ألف فدّان، وقال وكيع عن سفيان عن جابر الجعفي عن عامر: لم يقطع أبو بكر ولا عمر ولا عليّ رضي الله عنهم، وأوّل من أقطع القطائع، عثمان رضي الله عنه، وبيعت الأرضون في خلافة عثمان.
قال الليث بن سعد: ولم يبلغنا أن عمر بن الخطاب أقطع أحدا من الناس شيئا من أرض مصر إلا ابن سندر، فإنه أقطعه أرض منية الأصبغ، فلم تزل له حتى مات، فاشتراها الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان من ورثته، فليس بمصر قطيعة أقدم منها، ولا أفضل. وقال الأعمش عن إبراهيم بن المهاجر عن موسى بن طلحة قال: أقطع عثمان رضي الله عنه عبد الله ابن مسعود النهرين، وعمار بن ياسر إسنسا، وأقطع خبابا وصهيبا، وأقطع سعد بن أبي وقاص قرية هرمز وكان عبد الله بن مسعود وسعد يعطيان أرضهما بالثلث والربع.
وقال سيف بن عمر، عن عمرو بن محمد عن عمر قال: أقطع الزبير وخباب وعبد الله ابن مسعود وعمار بن ياسر، وابن هبار أزمان عثمان، فإن يكن عثمان أخطأ، فالذين قبلوا منه الخطأ أخطأوا، وهم الذين أخذنا عنهم ديننا، وأقطع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، طلحة وجرير بن عبد الله والربيل بن عمرو، وأقطع أبا مفرز دار النيل في عدّة ممن أخذنا عنه، وإنما القطائع على وجه النفل من خمس ما أفاء الله.(1/181)
وكتب عمر رضي الله عنه إلى عثمان بن حنيف مع جرير بن عبد الله البجلي: أما بعد، فأقطع جرير بن عبد الله قدر ما يقوّته ولا وكس ولا شطط، فكتب عثمان إلى عمر: إن جريرا قدم عليّ بكتاب منك نقطعه ما يقوّته، فكرهت أن أمضي ذلك حتى أراجعك فيه، فكتب إليه صدق جرير، فأنفذ ذلك، وقد أحسنت في مؤامرتي، وأقطع أبو موسى الأشعريّ، وأقطع عليّ بن أبي طالب رحبة كردوس بن هاني، وأقطع سويد بن غفلة الجعفي.
قال سيف عن ثابت بن هزيمة عن سويد بن غفلة قال: استقطت عليا، فقال: اكتب هذا ما أقطع عليّ سويدا أرضا لدوابه ما بين كذا إلى كذا ما شاء الله، وذكر أبو القسم، عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم ما أقطعه معاوية بن أبي سفيان ومن بعده من الخلفاء من دور مصر، فأورد شيئا كثيرا.
وقد كان خلفاء بني أمية وخلفاء بني العباس يقطعون الأراضي من أرض مصر، النفر من خواصهم لا كما هو الحال اليوم، بل يكون مال خراج أرض مصر يصرف منه أعطية الجند، وسائر الكلف، ويحمل ما يفضل إلى بيت المال، وما أقطع من الأراضي فإنه بيد من أقطعه. وأما منذ كانت أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى يومنا هذا. فإن أراضي مصر كلها صارت تقطع للسلطان وأمرائه وأجناده.
وأرض مصر اليوم على سبعة أقسام: قسم يجري في ديوان السلطان، وهذا القسم ثلاثة أقسام، منه ما يجري في الديوان الخاص، ومنه ما يجري في الديوان المفرد، وقسم من أراضي مصر قد أقطع الأمراء والأجناد، وقد ذكر تفصيل ذلك عند ذكر الروك الناصري، وقسم ثالث جعل وقفا محبسا على الجوامع والمدارس والخوانك «1» ، وعلى جهات البرّ، وعلى ذراري واقفي تلك الأراضي وعتقائهم، وقسم رابع يقال له: الأحباس يجري فيه أراض بأيدي قوم يأكلونها. إما عن قيامهم بمصالح مسجد أو جامع، وإما يكون لهم لا في مقابلة عمل، وقسم خامس قد صار ملكا يباع ويشتري ويورث ويوهب لكونه اشترى من بيت المال، وقسم سادس لا يزرع للعجز عن زراعته فترعاه المواشي أو ينبت الحطب ونحوه، وقسم سابع لا يشمله ماء النيل، فهو قفر وهذا القسم منه ما لم يزل كذلك منذ عرفت أحوال الخليقة، ومنه ما كان عامرا في الدهر الأوّل ثم خرب، وسائر هذه الأقسام مذكورة أخبارها في هذا الكتاب تجدها إن أنت تأمّلته إن شاء الله تعالى.
وقال أبو عبد الله «2» القاسم بن سلام في كتاب الأموال في الكلام على حديث معمر(1/182)
عن عبد الله بن طاوس عن أبيه طاوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عادي الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم» . قلت: ما معنى ذلك؟ قال: تكون إقطاعا، هذا الخبر أصل في الإقطاع والعادي كل أرض كان لها سكان فانقرضوا، أي صارت خرابا فإن حكمها إلى الإمام قال:
وأما الأرض التي جعلها النبيّ صلى الله عليه وسلم لبعض الناس وهي عامرة لها أهل فإعطاء الإمام يكون على وجه النفل، ومن ذلك ما أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم تميما الداري، فإنه أعطاه أرضا بالشام من قبل أن يفتح الشام، وقبل أن يملكها المسلمون، فجعلها له نفلا من أموال أهل الحرب إذا ظهر عليهم، كما فعل نائبه، نفيلة، لما وهبها الشيباني قبل افتتاح الحيرة، فأمضاها له خالد بن الوليد رضي الله عنه، وكذلك أمضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه لتميم الداري لما فتحت فلسطين، ما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم نفله، انتهى.
فقد خرّج أبو عبد الله، هذه العطية المعلقة مخرج النفل الذي ينفله الإمام بعض المقاتلة.
وقال أبو الحسن عليّ بن محمد بن حبيب الماوردي «1» في الأحكام السلطانية:
والإقطاع ضربان: إقطاع استغلال، وإقطاع تمليك. والثاني ينقسم إلى موات وعامر، والثاني ضربان: أحدهما: ما يتعين مالكه ولا نظر للسلطان فيه إلا بتلك الأرض في حق لبيت المال إذا كانت في دار الإسلام فإن كانت في دار الحرب حيث لم يثبت للمسلمين عليها يد، فأراد الإمام أن يقطعها ليملكها المقطع عند الظفر بها، فإنه يجوز فقد سأل تميم الداري، رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيه عيون البلد الذي كان منه قبل أن يفتح الشام ففعل، وسأله أبو ثعلبة الخشني أن يقطعه أرضا كانت بيد الروم فأعجبه ذلك وقال: ألا تسمعون ما يقول هذا؟
فقال: والذي بعثك بالحق ليفتحنّ عليك، فكتب له بذلك كتابا.
قال الماورديّ: وهكذا لو استوهب أحد من الإمام مالا في دار الحرب وهو على ملك أهلها أو استوهبه شيئا من سبيها أو ذراريها ليكون أحق به إذا فتحت جاز وصحت العطية منه مع الجهالة بها لتعلقها بالأمور العامة.
وقد روي الشعبيّ: أن خزيمة بن أوس الطائيّ، قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إن افتح الله عليك الحيرة فأعطني بنت نفيلة، فلما أراد خالد صلح أهل الحيرة قال له خزيمة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني بنت نفيلة، فلا تدخلها في صلحك، فشهد له بشر بن سعد، ومحمد بن مسلمة، فاستثناها من الصلح ودفعها إلى خزيمة، فاشتريت بألف درهم، وكانت عجزت وحالت عما عهد منها، فقيل له: قد أرخصتها وكان أهلها يدفعون لك أضعاف ما سألت، فقال: ما كنت أظنّ أن عددا يكون أكثر من ألف.(1/183)
قال الماورديّ: وإذا صح الإقطاع والتمليك على هذا الوجه نظر حال الفتح فإن كان صلحا خلصت الأرض لمقطعها، وكانت خارجة عن حكم الصلح بالإقطاع السابق، وإن كان الفتح عنوة كان المقطع والمستوهب أحق بما استقطعه، واستوهبه من الغانمين ونظر في الغانمين فإن كانوا علموا بالإقطاع أو الهبة قبل الفتح، فليس لهم المطالبة بعوض، وإن لم يعلموا حتى فتحوا عاوضهم الإمام بما يستطيب نفوسهم من غير ذلك من الغنائم.
وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: لا يلزم الإمام استطابة نفوسهم منه ولا من غيره من الغنائم إذا رأى المصلحة في ذلك.
ذكر ديوان الخراج والأموال
يقال لكتابة الخراج: قلم التصريف، وأوّل ما دوّن هذا الديوان في الإسلام بدمشق والعراق على ما كان عليه قبل الإسلام، وكان ديوان الشام بالرومية، وديوان العراق بالفارسية، وديوان مصر بالقبطية، فنقلت دواوين هذه الأمصار إلى العربية، والذي نقل ديوان مصر من القبطية إلى العربية: عبد الله بن عبد الملك بن مروان أمير مصر، في خلافة الوليد بن عبد الملك سنة سبع وثمانين، ونسخها بالعربية وصرف أنتناش عن الديوان وجعل عليه ابن يربوع الفزاريّ من أهل حمص، وأوّل من نقل الدواوين من الفارسية إلى العربية:
الوليد بن هشام بن مخزوم بن سليمان بن ذكوان، وتوفي سنة اثنتين وعشرين ومائتين، والأكثرون على أن الذي نقل ديوان العراق إلى العربية صالح بن عبد الرحمن كاتب الحجاج، وكان مولى لبني سعد، وهو يومئذ صاحب دواوين العراق، وذلك بعد سنة ثمانين، وسبب ذلك أن صالح بن عبد الرحمن هذا، كان أبوه من سبي سجستان، ومهر صالح في الكتابة، وكتب لزادان فروح كاتب الحجاج بن يوسف الثقفيّ، وخط بين يديه بالفارسية والعربية، فخف على قلب الحجاج فخاف من زادان، وقال له: أنت الذي رقيتني حتى وصلت إلى الأمير، وأراه قد استخفني، ولا آمن أن يقدّمني عليك، فتسقط منزلتك، فقال زادان: لا تظنّ ذلك هو أحوج إليّ مني إليه لأنه لا يجد من يكفيه حسابه غيري، فقال صالح: والله لو شئت أن أحوّل الحساب إلى العربية لحوّلته، قال: فحوّل منه أسطرا حتى أرى! ففعل، فقال له: تمارض، فتمارض، فبعث إليه الحجاج بطبيبه، فشق ذلك على زادان، وأمره أن لا يظهر للحجاج، فاتفق عقيب ذلك أن زادان قتل في فتنة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وهو خارج من موضع كان فيه إلى منزله، فاستكتب الحجاج بعده صالحا، فأعلم الحجاج بما جرى له مع زادان في نقل الديوان، فأعجبه ذلك وعزم عليه في إمضائه، فنقله من الفارسية إلى العربية، وشق ذلك على الفرس، وبذلوا له مائة ألف درهم على أن لا يظهر النقل، فأبى عليهم، فقال له مروان شاه بن زادان فروح: قطع الله أصلك من الدنيا كما قطعت أصل الفارسية، وكان(1/184)
عبد الحميد بن يحيى يقول: لله در صالح ما أعظم منته على الكتاب.
وأما ديوان الشام، فإن الذي نقله من الرومية إلى العربية أبو ثابت سليمان بن سعد «1» كاتب الرسائل، واختلف في وقت نقله فقيل: نقل في خلافة عبد الملك بن مروان، وقيل:
في خلافة هشام بن عبد الملك، وكان الذي يكتب على ديوان الشام، سرجون بن منصور النصراني في أيام معاوية بن أبي سفيان، ثم كتب بعده ابنه منصور بن سرجون.
ذكر خراج مصر في الإسلام
أوّل من جبى خراج مصر في الإسلام، عمرو بن العاص رضي الله عنه، فكانت جبايته اثني عشر ألف ألف دينار، بفريضة دينارين دينارين من كل رجل، ثم جبى، عبد الله بن سعد ابن أبي سرح مصر أربعة عشر ألف ألف دينار، فقال عثمان بن عفان رضي الله عنه لعمرو بن العاص: يا أبا عبد الله درت اللقحة بأكثر من درها الأوّل، فقال: أضررتم بولدها، وهذا الذي جباه عمرو، ثم عبد الله إنما هو من الجماجم خاصة دون الخراج، وانحط خراج مصر بعدهما لنموّ الفساد مع الزمان، وسريان الخراب في أكثر الأرض، ووقوع الحروب، فلم يجبها بنو أمية، وخلفاء بني العباس إلا دون الثلاثة آلاف ألف، ما خلا أيام هشام بن عبد الملك، فإنه وصى عبيد الله بن الحبحاب عامل مصر بالعمارة فيقال: إنه لم يظهر من خراج مصر بعد تناقصه كثرة إلا في وقتين، أحدهما في خلافة هشام بن عبد الملك عند ما ولي الخراج عبيد الله بن الحبحاب، فخرج بنفسه ومسح العامر من أراضي مصر، والغامر مما يركبه ماء النيل، فوجد قانون ذلك ثلاثين ألف ألف فدّان سوى ارتفاع الجرف ووسخ الأرض فراكها كلها، وعدّ لها غاية التعديل، فعقدت معه أربعة آلاف ألف دينار هذا والسعر راخ، والبلد بغير مكس، ولا ضريبة.
وفي سنة سبع ومائة لأوّل أيام هشام بن عبد الملك، وظف ابن الحبحاب بمصر، طبقات معلومة منسوبة في الدواوين، ولم تزل إلى ما بعد ذهاب بني أمية، ومبلغها ألف ألف دينار وسبعمائة ألف دينار وثمانمائة وسبعة وثلاثون دينارا منها على كور الصعيد: ألف ألف وأربعمائة دينار وعشرون دينارا. ونصف والباقي على كور أسفل الأرض.
ويقال: إن أسامة بن زيد جباها في خلافة سليمان بن عبد الملك، مبلغ اثني عشر ألف ألف دينار.
والوقت الثاني في إمارة أحمد بن طولون لما تسلم أرض مصر من أحمد بن محمد بن مدبر، وقد خربت أرض مصر حتى بقي خراجها ثمانمائة ألف ألف دينار، فاستقصى(1/185)
أحمد بن طولون في العمارة، وبالغ فيها، فعقدت معه أربعة آلاف ألف دينار وثلثمائة ألف دينار، وجباها ابنه الأمير أبو الجيش، خمارويه بن أحمد أربعة آلاف ألف دينار مع رخاء الأسعار أيامئذ، فإنه ربما بيع في الأيام الطولونية القمح كل عشرة أرادب بدينار.
وذكر ابن خرداذبه أن خراج مصر في أيام فرعون، كان ستة وتسعين ألف ألف دينار، وأن ابن الحبحاب، وجباها ألفي ألف وسبعمائة ألف وثلاثة وعشرين ألفا وثمانمائة وتسعة وثلاثين دينارا، وهذا وهم منه، فإن هذا القدر هو ما حمله إلى بيت المال بدمشق بعد أعطية أهل مصر، وكلفها قال: وحمل منها موسى بن عيسى الهاشميّ ألفي ألف ومائة ألف وثمانين ألف دينار، يعني بعد العطاء والمؤن وسائر الكلف، قال: وكان خراج مصر إذا بلغ النيل سبع عشرة ذراعا وعشر أصابع أربعة آلاف ألف دينار ومائتي ألف وسبعة وخمسين ألف دينار، والمقبوض عن الفدّان دينارين في خلافة المأمون وغيره.
وبلغ خراج مصر في أيام الأمير أبي بكر محمد بن طغج الإخشيد ألفي ألف دينار سوى ضياعه التي كانت ملكا له والإخشيد أوّل من عمر الرواتب بمصر، وكان كاتبه، ابن كلا، قد عمل تقديرا عجز فيه المرتب عن الارتفاع مائتي ألف دينار، فقال له الإخشيد:
كيف نعمل؟ قال: حط من الجرايات والأرزاق فليس هؤلاء أولى من الواجب، فقال: غدا تجيئني، وتدبر هذا، فلما أتاه من الغد قال له الإخشيد: قد فكرت فيما قلت فإذا أصحاب الرواتب الضعفاء، وفيهم المستورون وأبناء النعم، ولستت آخذ هذا النقص إلا منك، فقال ابن كلا: سبحان الله! فقال: تسبيحا، وما زال به الإخشيد حتى أخذ خطه بالقيام بذلك، فعوتب على ما صنعه، فقال: يا قوم اسمعوا إيش كان يعمل؟ جاءه أحمد بن محمد بن المارداني فقال له: ما بيني وبين السلطان معاملة، ولا للإخشيد عليّ طريق، وهذه هدية عشرة آلاف دينار للإخشيد وألف دينار لك، فجاءني، وقال لك قبل ابن المارداني مطالبة، فقلت: لا، فقال: هذه ألف دينار قد جاءتك على وجه الماء، فأعطاني ألفا وأخذ عشرة آلاف دينار، وأهدى إليّ محمد بن عليّ المارداني في وقت عشرين ألف دينار على يده فاستقللتها، فلما اجتمعنا عاتبته فقال لي: أرسلت إليك مائة ألف دينار ولابن كلا كاتبك عشرين ألف دينار، فأخذ المائة وأعطاني العشرين ألفا، فذكرت قول محمد بن عليّ له، فقال: ما أبرد هذا! حفظت لك المائة ألف لوقت حاجتك تريدها خذها، وأنا أعلم أنك تتلفها.
وبلغت الرواتب في أيام كافور الإخشيدي، خمسمائة ألف دينار في السنة لأرباب النعم والمستورين وأجناس الناس ليس فيهم أحد من الجيش، ولا من الحاشية، ولا من المتصرّفين في الأعمال، فحسن له عليّ بن صالح الروذبادي الكاتب، أن يوفر من مال الرواتب شيئا ينتقصه من أرزاق الناس، فساعة جلس يعمل حكه جبينه، فحكه بقلمه(1/186)
والحكاك يزيد به إلى أن قطع العمل، وقام لما به، فعولج حينئذ بالحديد حتى مات في رمضان سنة سبع وأربعين وثلثمائة، وهذه موعظة من الله لمن توسط للناس بالسوء، قال تعالى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ
[فاطر/ 43] .
ولما مات كافور نزلت محن شديدة كثيرة بمصر من الغلاء والفناء والفتن، فاتضع خراجها إلى أن قدم جوهر القائد من بلاد المغرب بعساكر مولاه، المعز لدين الله أبي تميم معدّ، فجبى الخراج لسنة ثمان وخمسين وثلثمائة ثلاثة آلاف ألف دينار وأربعمائة ألف دينار ونيفا، وأمر الوزير الناصر للدين أبو الحسين عبد الرحمن اليازوري وزير مصر، في خلافة المستنصر بالله بن الظاهر أن يعمل قدر ارتفاع الدولة، وما عليها من النفقات، فعمل أرباب كل ديوان ارتفاعه، وما عليه وسلّم الجميع لمتولي ديوان المجلس، وهو زمام الدواوين، فنظم عليه عملا جامعا وأتاه به، فوجد ارتفاع الدولة ألفي ألف دينار منها، الشام ألف ألف دينار، ونفقاته بإزاء ارتفاعه، والريف وباقي الدولة ألف ألف دينار. قال القاضي أبو الحسن في كتاب المنهاج في علم الخراج: وقفت على مقايسة عملت لأمير الجيوش، بدر الجمالي «1» حين قدم مصر في أيام الخليفة المستنصر وغلب على أمرها، وقهر من كان بها من المفسدين شرح فيها أن الذي اشتمل عليه الارتفاع في الهلاليّ لسنة ثلاث وثمانين وأربعمائة، وفي الخراجيّ على ما يقتضيه الديوان فيه، مما كان جاريا في الأعمال المصرية من الخراج، وما يجري معه، والمضمون والمقطع والمورد بغيره والمحلول بالقاهرة ومصر وضواحيهما وناحيتي الشرقية والغربية من أسفل الأرض، وأعمالها وتنيس ودمياط وأعمالها والإسكندرية والبحيرة والأعمال الصعيدية العالية، والدانية وواحات، وعيذاب لسنة ثمانين وأربعمائة الخراجية على الرسوم المصرية، وما كان من الأعمال الشامية التي أوّلها من حدّ الشجرتين، وهو أوّل الأعمال الفلسطينية والأعمال الطبرابلسية ولسنة ثمان وسبعين وأربعمائة الخراجية على ما استقرّت عليه الجملة عينا ثلاثة آلاف ألف ومائة ألف دينار، وإن الذي استقرّ عليه جملة ما كان يتأدّى في سنة ست وستين وأربعمائة الهلالية قبل نظر أمير الجيوش الموافقة لسنة ثلاث وستين وأربعمائة الخراجية، فكان مبلغها ألفي ألف وثمانمائة ألف دينار، وكان الزائد للسنة الجيوشية عما قبلها ثلثمائة ألف دينار، مما أعرب عنه حسن العمارة، وشمول العدل، وكان نظم هذه المقايسة سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة.
وذكر ابن ميسر: أن الأفضل بن أمير الجيوش أمر بعمل تقدير ارتفاع ديار مصر، فجاء خمسة آلاف ألف دينار.(1/187)
وذكر القاضي الفاضل في مياوماته: أنه عبر البلاد من إسكندرية إلى عيذاب لسنة خمس وثمانين وخمسمائة خارجا عن الثغور، وأرباب الأموال الديوانية، وعدّة نواح أربعة آلاف ألف وستمائة ألف وثلاثة وخمسين ألفا وتسعة وعشرين دينارا، ثم تقاصرت إلى أن جباها القاضي الموفق أبو الكرم بن معصوم العاصميّ التنيسيّ، عينا خالصا إلى بيت المال بعد المؤن، والكلف ألف ألف دينار، ومائتي ألف دينار إلى آخر سنة أربعين وخمسمائة، ثم بعده لم يجبها هذه الجباية أحد حتى انقرضت الدولة الفاطمية.
وسبب اتضاع خراج مصر، بعد ما بلغ مع الروم في آخر سنة ملكوا قبل فتح مصر عشرين ألف ألف دينار، أن الملوك لم تسمح نفوسهم بما كان ينفق في كلف عمارة الأرض، فإنها تحتاج أن ينفق عليها ما بين ربع متحصلها إلى ثلثه، وآخر ما اعتبر حال أرض مصر، فوجد مدّة حرثها ستين يوما، ومساحة أرضها مائة ألف ألف وثمانين ألف ألف فدّان، يزرع منها في مباشرة ابن مدبر أربعة وعشرون ألف ألف فدّان، وإنه لا يتم خراجها، حتى يكون فيها أربعمائة ألف وثمانون ألف حرّاث يلزمون العمل فيها دائما، فإذا أقيم بها هذا القدر من العمال في الأرض تمت عمارتها، وكمل خراجها، وآخر ما كان بها مائة ألف وعشرون ألف مزارع في الصعيد، سبعون ألفا، وفي أسفل الأرض خمسون ألفا، وقد تغير الآن جميع ما كان بها من الأوضاع القديمة، واختلت اختلالا فاضحا.
ذكر أصناف أراضي مصر وأقسام زراعتها
اعلم أن أراضي مصر عدّة أصناف: أعلاها قيمة وأوفاها سعرا وأعلاها قطيعة الباق «1» ، وهو: أثر القرط، والمقاثي «2» فإنه يصلح لزراعة القمح، وبعد الباق ري الشراقي، وهو الأرض التي ظمئت في الخالية، فلما رويت في الآتية، وصارت مستريحة من الزرع، وزرعت أنجب زرعها، والبرايب، وهو أثر القمح والشعير وسعرها دون الباق لضعف الأرض بزراعة هذين الصنفين، فمتى زرعت على أثر أحدهما لم ينجب كنجابة الباق، والبرايب صالح لزراعة القرط والقطاني والمقاثي، فإن الأرض تستريح بزراعة هذه الأصناف وتصير في القابل أرض باق، والسقماهية أثر الكتان فإن زرعت قمحا خسر، والشتونية أثر ما روي، وبار في السنة الماضية، وهو دون الشراقي، والسلايح ما روي وبار فحرث وتعطل، وهو مثل ريّ الشراقي فإن زرعه يكون ناجبا والنقا: كل أرض خلت من أثر ما زرع فيها، ولم يبق بها شاغل عن قبول ما يزرع فيها من أصناف الزراعات، والوسخ: كل أرض استحكم وسخها، ولم يقدر الزارعون على إزاحته كله منها بل حرثوا، وزرعوا فيها فجاء(1/188)
زرعها مختلطا بالحلفاء ونحوها، والغالب كل أرض حصل فيها نبات شغلها عن قبول الزراعة، ومنع كثرته من زراعتها، وصارت مراعي، والخرس: كل أرض فسدت بما استحكم فيها من موانع قبول الزرع وكانت بها مراع وهو أشدّ من الوسخ الغالب، وإذا أدمن على إزالة ما فيها من الموانع تهيأ صلاحها، والشراقي: كل أرض لم يصل إليها الماء إما لقصور ماء النيل أو علوّ الأرض، أو سدّ طريق الماء عنها، أو غير ذلك، والمستبحر: كل أرض وطيئة حصل بها الماء، ولم يجد مصرفا حتى فات أوان الزرع، وهو باق في الأرض، والسباخ: كل أرض غلب عليها الملح حتى ملحت، ولم ينتفع بها في زراعة الحبوب، وربما زرعت ما لم يستحكم السباخ فيها غير الحبوب كالهليون والباذنجان، ويزرع فيها القصب الفارسي.
ومما لا غنى لأراضي مصر عنه الجسور وهي على قسمين: سلطانية وبلدية.
فالجسور السلطانية: هي العامة النفع في حفظ النيل على البلاد كافة إلى حين يستغني عنه ولها رسوم موظفة على الأعمال الشرقية، والأعمال الغربية، وكانت في القديم تعمل من أموال النواحي ويتولى عملها مستقبلو الأراضي، ويعتدّ لهم بما صرف عليها مما عليهم من قبالات الأراضي، ثم صار بعد ذلك يستخرج برسم عملها من هذين العملين، مال بأيدي المستخدمين من الديوان، ويصرف عليها ويفضل من المال بقية تحمل إلى بيت المال، ثم صار يتولى ذلك أعيان أمراء الدولة إلى أن حدثت الحوادث في أيام الناصر فرج، فصار يجبي من البلاد مال عظيم، ولا يصرف منه شيء البتة، بل يرفع إلى السلطان، ويتفرّق كثير منه بأيدي الأعوان، ويسخر أهل البلاد في عمل الجسور، فيجيء الخلل كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى عند ذكر أسباب الخراب.
وأما
الجسور البلدية: فإنها عبارة عما يخص نفعها ناحية دون ناحية، ويتولى إقامتها المقطعون والفلاحون من أصل مال الناحية. ومحل الجسور السلطانية من القرى محل سور المدينة الذي يتعين على السلطان الاهتمام بعمارته، وكفاية الرعية أمره. ومحل الجسور البلدية، محل الدوز التي من داخل السور، فيلزم صاحب كل دار أن يصلحها، ويزيل ضررها ومن العادة أن المقطع إذا انفصل وكان قد أنفق شيئا من مال إقطاعه في إقامة جسر لأجل عمارة السنة التي انتقل الإقطاع عنه فيها، فإن له أن يستعيد من المقطع الثاني نظير ما أنفقه من مال سنته في عمارة سنة غيره.
وأصلح ما زرع القمح في أثر الباق والشراقي، وكان يزرع بالصعيد القمح على أثر القمح لكثرة الطرح، وربما زرع هناك على أثر الكتان والشعير، ويزرع القمح من نصف شهر بابه إلى آخر هتور، وهذا في العوالي من الأرض التي تخرج بدريا.
وأما
البحائر المتأخرة: فيمتدّ وقت الزرع فيها إلى آخر كيهك، ومقدار ما يحتاج إليه(1/189)
الفدّان الواحد من بذر القمح يختلف بحسب قوّة الأرض وضعفها ورقتها وتوسطها وما يزرع في اللوق وما يزرع في الحرث، وأكثر البذر من أردب إلى خمس ويبات وأربع ويبات أيضا.
ويوجد في الصعيد أراض تحتمل دون هذا وفي حوف رمسيس أراض يكفي الفدّان منها نحو الويبتين، ويدرك الزرع بمصر في بشنس وهو نيسان، ويختلف ما يخرج من فدّان القمح بحسب الأراضي فيرمي من أردبين إلى عشرين أردبا.
وقال أبو بكر بن وحشية في كتاب الفلاحة: وذكر أن في مصر إذا زرعوا يخرج من المدّ ثلثمائة مدّ، والعلة في ذلك حرارة هواء بلادهم مع سمن أرضهم، وكثرة كدورة ماء النيل.
ولما كان في سنة ست وثمانمائة انحسر الماء عن قطعة أرض من بركة الفيوم التي يقال لها اليوم: بحر يوسف، فزرعت وجاء زرعها عجيبا رمى الفدّان منها، أحدا وسبعين أردبا من شعير بكيل الفيوم، وأردبها تسع ويبات، وكانت قطيعة فدّان القمح ببلاد الصعيد في أيام الفاطمية: ثلاثة أرادب، فلما مسحت البلاد في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة تقرّر على كل فدّان أردبان ونصف، ثم صار يؤخذ أردبان عن الفدّان.
وأما أراضي أسفل الأرض فيأخذ عنها لا غلة، ويزرع الشعير في أثر القمح وغيره في الأرض التي غرقت وهي رطبة، ويتقدّم زراعته على زراعة القمح بأيام، وكذلك حصاده، فإنه يحصد قبل القمح، ويحتاج الفدّان منه أن يبذر فيه بحسب الأرض ويخرج أكثر من القمح ويكون إدراكه في برموده وهو أذار.
ويزرع الفول في الحرث إثر البرايب، من أوّل شهر بابه ويؤكل وهو أخضر في شهر كيهك، ويحتاج الفدّان من البذر منه إلى ثلاث ويبات ونحوها، ويدرك في برموده، ويتحصل من فدّانه، ما بين عشرين أردبا إلى ما دون ذلك.
ويزرع العدس والحمص من هتور إلى كيهك، والجلبان لا يزرع إلا في أرق الأراضي حرثا من الأرض العالية، ويزرع تلويقا في الأراضي الخرس، ويبذر في كل فدّان من الحمص من أردب إلى ثمان ويبات، ومن الجلبان: من أردب إلى أربع ويبات، ومن العدس، من ويبتين إلى ما دونهما، وتدرك هذه الأصناف في برموده، ويتحصل من فدّان الحمص من أربعة أرادب إلى عشرة، ومن الجلبان، من عشرة أرادب إلى ما دونها، والعدس من عشرين أردبا فما دونها.
وأنجب ما يكون الكتان ذا زرع في البرش «1» ، ويحتاج أن يسبخ بتراب سباخ، وهو إذا(1/190)
طال رقد، ويقلع قضبانا ويسمى حينئذ: أسلافا وينشر في موضعه حتى يجف، فإذا جف حمل وهدر وعزل جوزه، فيخرج منه بزر الكتان، ويستخرج منه الزيت الحار، ويزرع الكتان في شهر هتور، ويحتاج الفدّان أن يبذر فيه من البزر ما بين أردب وثلث إلى ما دون ذلك، ويدرك في شهر برموده، ويخرج من الفدّان ما بين ثلاثين شدّة إلى ما دون ذلك، ومن البزر من ستة أرادب إلى ما دونها، وكانت قطيعة الفدّان منه في القديم بأرض الصعيد، من خمسة دنانير إلى ثلاثة، وفي دلاص ثلاثة عشر دينارا، وفيما عدا ذلك ثلاثة دنانير.
ويزرع القرط «1» عند أخذ ماء النيل في النقصان، ولا ينبغي تأخير زرعه إلى أوان هبوب الريح الجنوبية التي يقال لها: المريسية وأوّل ما يبذر في شهر بابه، وربما زرع بعد النوروز، والحراثيّ منه، يزرع في كيهك وطوبة، ويزرع أحيانا في هتور ويبذر في كل فدّان من ويبتين ونصف إلى ما حولها، ويدرك الأخضر منه في آخر شهر كيهك، ويدرك الحراثي في طوبة وأمشير، ويتحصل من الفدّان الحراثيّ ما بين أردبين إلى أربع ويبات.
ويزرع البصل والثوم من شهر هتور إلى نصف كيهك، ويبذر في فدّان البصل، من نصف وربع ويبة إلى ويبة، والثوم من مائة حزمة إلى مائة وخمسين حزمة، ويدرك ذلك في برموده، والبصل الذي يخرج ليزرع زريعة فإنه يزرع من أوّل كيهك إلى العاشر من طوبة، ويخرج من زريعته، عشرة أرادب من الفدّان ويدرك في بشنس.
ويزرع الترمس في طوبة وزريعته لكل فدّان أردب، ويدرك في برموده، ويتحصل من الفدّان ما بين عشرين أردبا إلى ما دونها، وهذه هي الأصناف الشتوية.
وأما الأصناف الصيفية: فإنّ البطيخ واللوبيا يزرعان من نصف برمهات إلى نصف برموده، ويزرع في الفدّان قدحان ويدرك في بشنس، ويزرع السمسم في برموده وزريعته ربع ويبة للفدّان، ويدرك في أبيب ومسري، ويتحصل من الفدّان ما بين أردب إلى ستة أرادب.
ويزرع القطن في برموده وزريعته أربع ويبات حب للفدّان، ويدرك في توت فيخرج من الفدّان، من ثمانية قناطير بالجرويّ إلى ما دونها.
ويزرع قصب السكر من نصف برمهات في أثر الباق والبرش وتبرش أرضه سبع سكك، وأنجبه ما تكامل له ثلاث غرقات قبل انقضاء شهر بشنس، ومقدار زريعته ثمن فدّان وما حوله لكل فدّان، ويحتاج القصب إلى أرض جيدة دمثة قد شملها الريّ، وعلاها ماء النيل، وقلع ما بها من الحلفاء ونظفت، ثم برشت بالمقلقلات وهي محاريث كبار ستة(1/191)
وجوه، وتجرّف حتى تتمهد، ثم تبرش ستة وجوه أخرى وتجرّف، ومعنى البرش: الحرث.
فإذا صلحت الأرض وطابت ونعمت وصارت ترابا ناعما، وتساوت بالتحريف شقت حينئذ بالمقلقلات ويرمي فيها القصب قطعتين، قطعة مثناة، وقطعة مفردة بعد أن تجعل الأرض أحواضا وتفرز لها جداول يصل الماء إلى الأحواض، ويكون طول كل قطعة من القصب ثلاثة أنابيب كوامل، وبعض أنبوبة من أعلى القطعة وبعض أخرى من أسفلها، ويختار ما قصرت أنابيبه وكثرت كعوبه من القصب ويقال لهذا الفعل: النصب، فإذا كمل نصب القصب أعيد التراب عليه، ولا بدّ في النصب أن تكون القطعة ملقاة لا قائمة، ثم يسقي من حين نصبه في أوّل فصل الربيع لكل سبعة أيام مرّة فإذا أنبت القصب، وصار أوراقا ظاهرة نبتت معه الحلفاء والبقلة الحمقاء التي يسميها أهل مصر، الرجلة، فعند ذلك تعزق أرضه، ومعنى العزاق: أن تنكش أرض القصب، وينظف ما نبت مع القصب ولا يزال يتعاهد ذلك حتى يغزر القصب ويقوى ويتكاثف، فيقال عند ذلك: طرد القصب عزاقه فإنه لا يمكن عزاق الأرض، ولا يكون هذا حتى يبرز الأنبوب منه، ومجموع ما يسقي بالقادوس ثمانية وعشرون ماء، والعادة أن الذي ينصب من الأقصاب على كل مجال بحرانيّ أي مجاور للبحر إذا كانت مزاحة الغلة بالأبقار الجياد مع قرب رشا الآبار ثمانية أفدنة، ويحتاج إلى ثمانية أرؤس بقر، فإن كانت الآبار بعيدة عن مجرى النيل لا يمكن حينئذ أن يقوم المجال بأكثر من ستة أفدنة إلى أربعة، فإذا طلع النيل وارتفع سقى القصب عند ذلك ماء الراحة.
وصفة ذلك أن يقطع عليه من جانب جسر يكون قد أدير عليه ليقيه من الغرق عند ارتفاع النيل بالزيادة فيدخل الماء من ثلمه في ذلك الجسر حتى يعلو على أرض القصب نحو شبر ثم يسدّ عنه الماء حتى لا يصل إليه، ويترك الماء فوق الأرض قدر ساعتين أو ثلاث إلى أن يسجن، ثم يصرف من جانب آخر حتى ينضب كله ويجدّد عليه ماء آخر كذلك فيتعاهد ما ذكرنا مرارا في أيام متفرّقة بقدر معلوم، ثم يفطم بعد ذلك فإذا عمل ما قلناه وفي القصب حقه، فإن نقص عن ذلك حصل فيه الخلل، ولا بدّ للقصب من القطران قبل أن يحلو حتى لا يسوّس، ويكسر القصب في كيهك ولا بدّ من حرق آثار القصب بالنار ثم سقيه وعزقه كما تقدّم، فينبت قصبا يقال له: الخلفة، ويسمى الأوّل: الرأس، وقنود الخلفة أجود غالبا من قنود الرأس، ووقت إدراك الرأس في طوبة، والخلفة في نصف هتور، وغاية إدارة معاصر القصب إلى النوروز، ويحصل من الفدّان، ما بين أربعين أبلوجة قند إلى ثمانين أبلوجة، والأبلوجة تسع قنطارا فما حوله.
ويزرع القلقاس مع القصب، ولكل فدّان عشرة قناطير قلقاس جروية ويدرك في هتور.
ويزرع الباذنجان في برمهات وبرموده وبشنس وبؤونة ويدرك من بؤونة إلى مسرى.
وتزرع النيلة من بشنس، والزريعة للفدّان ويبة ويدرك من أبيب.(1/192)
ويزرع الفجل طول السنة وزريعة الفدّان من قدح واحد إلى قدحين.
ويزرع اللفت في أبيب وزريعة الفدّان قدح واحد، ويدرك بعد أربعين يوما.
ويزرع الخس في طوبة شتلا، ويؤكل بعد شهرين.
ويزرع الكرنب في توت شتلا ويدرك في هتور.
ويغرس الكرم في أمشير نقلا وتحويلا.
ويغرس التين والتفاح في أمشير.
ويقلم التوت في برمهات.
ويغرس ويبلّ اللوز والخوخ والمشمش في ماء طوبة ثلاثة أيام، وهي قضبان، ثم يغرس ويحوّل شجرها في طوبة.
ويزرع نوى التمر ثم يتحوّل وديا فينقل.
ويدفن بصل النرجس في مسرى.
ويزرع الياسمين في أيام النسيء وفي أمشير.
ويزرع المرسين «1» في طوبة وأمشير غرسا.
ويزرع الريحان في برموده.
ويزرع حب المنثور في أيام النيل.
ويزرع الموز الشتويّ في طوبة والصيفيّ في أمشير.
ويحوّل الخيار شنبر في برمهات.
وتقلم الكروم على ريح الشمال إلى ليال من برمهات حتى تخرج العين منها.
وتقلم الأشجار في طوبة وأمشير إلا السدر، وهو شجر النبق فإنه يقلم في برمودة.
وتسقي الأشجار في طوبة ماء واحدا ويسمونه ماء الحياة، وتسقي في أمشير ثانيا عند خروج الزهر، وتسقي في برمهات ماءين آخرين إلى أن ينعقد التمر، وتسقي في بشنس ثلاث مياه وتسقي في بؤونة وأبيب ومسرى ماء في كل سبعة أيام، وتسقي في توت وبابة مرّة واحدة تغريقا من ماء النيل، وتسقي في هتور من ماء النيل بتغريق المساطب، ويسقي البعل(1/193)
من الكروم في هتور من ماء النيل مرّة واحدة تغريقا.
وجميع أراضي مصر تقاس بالفدّان، وهو عبارة عن أربعمائة قصبة حاكمية طولا في عرض قصبة واحدة، والقصبة ستة أذرع وثلثا ذراع بذراع القماش، وخمسة أذرع بذراع النجار تقريبا.
وقال القاضي أبو الحسن في كتاب المنهاج: خراج مصر قد ضرب على قصبة في المساحة اصطلح عليها زرع المزارع على حكمها، وتكسير الفدّان أربعمائة قصبة لأنه عشرون قصبة طولا في عشرين قصبة عرضا وقصبة المساحة تعرف بالحاكمية، وهي تقارب خمسة أذرع بالنجاري.
ذكر أقسام مال مصر
اعلم أن مال مصر في زمننا ينقسم قسمين: أحدهما يقال له: خراجيّ، والآخر يقال له: هلاليّ. فالمال الخراجيّ: ما يؤخذ مسانهة من الأراضي التي تزرع حبوبا ونخلا وعنبا وفاكهة، وما يؤخذ من الفلاحين هدية مثل الغنم والدجاج والكشك وغيره من طرف الريف.
والمال الهلاليّ عدّة أبواب، كلها أحدثوها ولاة السوء شيئا بعد شيء، وأصل ذلك في الإسلام أن أمير المؤمنين، عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بلغه أن تجارا من المسلمين يأتون أرض الجند، فيأخذون منهم العشر، فكتب إلى أبي موسى الأشعريّ، وهو على البصرة أن خذ من كل تاجر يمرّ بك من المسلمين من كل مائتي درهم خمسة دراهم، وخذ من كل تاجر من تجار العهد، يعني أهل الذمة من كل عشرين درهما درهما، ومن تجار الحرب، من كل عشرة دراهم درهما، وقيل لابن عمر: كان عمر يأخذ من المسلمين العشر، قال: لا، ونهى عمر بن عبد العزيز عن ذلك، وكتب: ضعوا عن الناس هذه المكوس فليس بالمكس، ولكنه النجس.
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتاه ناس من أهل الشام فقالوا: أصبنا دواب وأموالا فخذ منها صدقة تطهر نابها، فقال: كيف أفعل ما لم يفعل من كان قبلي؟ وشاور، فقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: لا بأس به إن لم يأخذه من بعدك، فأخذ عن العبد عشرة دراهم، وكذلك عن الفرس وعن الهجين ثمانية، وعن البرذون والبغل خمسة.
وأوّل من وضع على الحوانيت الخراج في الإسلام أمير المؤمنين أبو عبد الله محمد بن أبي جعفر المنصور في سنة سبع وستين ومائة وولي ذلك سعيد الجرسي.
وأوّل من أحدث مالا سوى مال الخراج بمصر أحمد بن محمد بن مدبر لما ولي خراج مصر بعد سنة خمسين ومائتين، فإنه كان من دهاة الناس، وشياطين الكتاب، فابتدع في مصر بدعا صارت مستمرّة من بعده لا تنقض، فأحاط بالنطرون وحجر عليه بعد ما كان مباحا(1/194)
لجميع الناس، وقرّر على الكلأ الذي ترعاه البهائم مالا سماه المراعي، وقرّر على ما يطعم الله من البحر مالا وسماه المصايد إلى غير ذلك، فانقسم حينئذ مال مصر إلى خراجيّ وهلاليّ، وكان الهلاليّ يعرف في زمنه وما بعده: بالمرافق والمعاون، فلما ولي الأمير أبو العباس أحمد بن طولون إمارة مصر، وأضاف إليه أمير المؤمنين المعتمد على الله الخراج والثغور الشامية، رغب وتنزه عن أدناس المعاون والمرافق، وكتب بإسقاطها في جميع أعماله، وكانت تبلغ بمصر خاصة، مائة ألف دينار في كل سنة، وله في ذلك خبر فيه أكبر معتبر قد ذكرته عند ذكر أخبار الجامع الطولوني من هذا الكتاب، ثم أعيدت الأموال الهلالية في أثناء الدولة الفاطمية عند ما ضعفت، وصارت تعرف: بالمكوس.
فلما استبدّ السلطان الناصر صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن أيوب بملك مصر، أمر بإسقاط مكوس مصر والقاهرة. فكتب عنه القاضي الفاضل مرسوما بذلك، وكان جملة ذلك في كل سنة: مائة ألف دينار.
تفصيلها: مكس البهار وعمالته: ثلاثة وثلاثون ألفا وثلثمائة وأربعة وستون دينارا؛ مكس البضائع والقوافل وعمالتها: تسعة آلاف وثلثمائة وخمسون دينارا؛ منفلت الصناعة عن مكس البز الوارد إليها والنحاس والقزدير والمرجان والفاضلات: خمسة آلاف ومائة وثلاثة وتسعون دينارا؛ الصادر عن الصناعة بمصر: ستة آلاف وستمائة وستة وستون دينارا؛ سمسرة التمر: ثلثمائة دينار؛ الفندق بالمنية عن مكس البضائع: ثمانمائة دينار وستة وخمسون دينارا؛ رسوم دار القند: ثلاثة آلاف ومائة وثمانية دنانير؛ رسوم الخشب الطويل والملح: ستمائة وستة وسبعون دينارا؛ رسوم العلب المنسوبة إلى بلبيس والبوري: مائة دينار؛ رسوم التفتيش بالصناعة عن البهار وغيره: مائتان وسبعة عشر دينارا؛ خيمة أرمنت عن الوارد إليها: سبعة وستون دينارا؛ فندق القطن: ألفا دينار؛ سوق الغنم بالقاهرة ومصر والسمسرة وعبور الأغنام بالجيزة: ثلاثة آلاف وثلثمائة وأحد عشر دينارا؛ عبور الأغنام والكتّان والأبقار بباب القنطرة: ألف ومائتا دينارا؛ واجب ما ورد من الكتان الحطب إلى الصناعة: مائتا دينار؛ رسوم واجب الغلات كالحبوب الواردة إلى الصناعة، والمقس والمنية والجسر والتباين، ومفالت جزيرة الذهب، وطموه ومنبر الدرج: ستة آلاف دينار.
مكس ما يرد إلى الصناعة من الأغنام: ستة وثلاثون دينارا؛ الأغنام البيتوتية؛ اثنا عشر دينارا؛ العرصة والسرسناوي بالجيزة، ومكس الأغنام: مائة وتسعون دينارا؛ منفلت الفيوم عما يرد من الكتان من القبلة، ومن البضائع الواردة من الفيوم وغيره: أربعة آلاف ومائة وستون دينارا؛ مكس الورق المجلوب إلى الصناعة، ورسم التفتيش: مائتا دينارا؛ الحصة بساحل الغلة والأقوات والرسائل: سبعمائة وثمانية وستون دينارا؛ دار التفاح والرطب بمصر والعرصة بالقاهرة: ألف وسبعمائة دينار؛ رسم ابن المليحي: مائتا دينار؛ دار الجبن: ألف(1/195)
دينار؛ مشارفة الخزائن: مائتان وأربعون دينارا؛ واجب الحلي الوارد من الوجه البحري، والقطن: ألف وعشرون دينارا؛ رسم سمسرة الصفا: ألف ومائتا دينار؛ منفلت بالصعيد:
مائة وأحد وستون دينارا؛ خاتم الشرب والديبقي: ألف وخمسمائة دينار؛ مكس الصوف:
مائتا دينار؛ نصف الموردة بساحل المقس: أربعة عشر دينارا؛ دكة السمسار: ثلثمائة وخمسون دينارا؛ منفلت العريف بالصناعة وحملة البهار والبضائع: مائتان وستة عشر دينارا؛ الحلفاء الواردة من القبلة: مائة وخمسة وثلاثون دينارا؛ الوقد والسرقين والطعم بدار التفاح ومنفلت القبلة بالتبانين والجسر: خمسة وثلاثون دينارا؛ رسوم الصفا والحمراء ورسوم دار الكتان: ستون دينارا؛ حماية الغلات بالمقس ودار الجبن: مائة وأربعون دينار؛ الحلفاء الواردة على الجسر ومعدّية المقياس: مائة دينار؛ خمس البرنية بالجيزة: عشرون دينارا؛ تلّ التعريف بالصناعة: ثمانية وعشرون دينارا؛ منفلت الغلات بمعدّية جزيرة الذهب: عشرة دنانير؛ رسوم الحمام بساحل الغلة: خمسمائة وأربعة وثلاثون دينارا؛ واجب الحناء الواردة في البرّ: ثمانمائة دينار؛ واجب الحلفاء والقصاب: ثلاثة وستون دينارا؛ مكس ما يرد من البضائع إلى المنية: مائة وأربعة وثمانون دينارا؛ مسلخة شطنوف والبرانية:
مائتا دينار؛ سوق السكر: بين خمسون دينارا؛ رسوم خيمة الجملي بالشارع وسوق وردان:
تسعة عشر دينارا؛ واجب الفحم الوارد إلى القاهرة: عشرة دنانير؛ معدّية الجسر بالجيزة:
مائة وعشرون دينارا؛ خيمة البقري: أربعون دينارا؛ الخيمة بدار الدباغة: تسعة عشر دينارا.
سمسمرة الحبس الجيوشي: ثلثمائة واثنا عشر دينارا؛ دكان الدهن ومعصرة الشيرج والخل بالقاهرة: خمسمائة دينار؛ الخل الحامض وما معه: أربعمائة دينار؛ بيوت الغزل والمصطبة: ثلثمائة وخمسون دينارا؛ ذبائح الأبقار: ألف دينار؛ سوق السمك بالقاهرة ومصر: ألف ومائتا دينار؛ رسوم الدلالة: ثلثمائة دينار؛ سمسرة الكتان: ثلثمائة دينار؛ رسوم حماية الصناعتين: أربعمائة دينار؛ مربعة العسل: مائتان واثنان وثلاثون دينارا؛ معادي جزيرة الذهب وغيرها: ثلثمائة دينار؛ خاتم الشمع بالقاهرة: ثلاثة وستون دينارا؛ زريبة الذبيحة: سبعمائة دينار؛ معدّية المقياس وأنبابة: مائتا دينار؛ حمولة السلجم: ثلثمائة وثلاثون دينارا؛ دكة الدباغ: ثمانمائة دينار؛ سوق الرقيق: خمسمائة دينار؛ معمل الطبري:
مائتان وأربعون دينارا؛ سوق منبوية: مائة وأربعة وستون دينارا؛ ذبائح الضأن بالجيزة، ورسوم ساحل السنط: عشرة دنانير؛ نخ السمك: خمسة دنانير؛ تنور الشوي: مائة دينار؛ نصف الرطل من مطابخ السكر: مائة وخمسة وثلاثون دينارا؛ سوق الدواب بالقاهرة ومصر: أربعمائة دينار؛ سوق الجمال: مائتان وخمسون دينارا؛ قبان الحناء: ثلاثون دينارا؛ واجب طاقات الأدم: ستة وثلاثون دينارا؛ امنفلت الخام بالشاشيين: ثلاثة وثلاثون دينارا؛ أنولة القصار: أربعون دينارا؛ بيوت الفرّوج: ثلاثون دينارا؛ الشعر والطارات: أربعة دنانير؛ رسوم الصبغ والحرير: ثلثمائة وأربعة وثلاثون دينارا؛ وزن الطفل: مائة وأربعون دينارا؛(1/196)
معمل المزر: أربعة وثمانون دينارا؛ الفاخور بمصر والقاهرة: مائتان وستة وثلاثون دينارا.
وذكر ابن أبي طيّ: أن الذي أسقطه السلطان صلاح الدين والذي سامح به لعدّة سنين، آخرها سنة أربع وستين وخمسمائة مبلغه عن نيف ألف ألف دينار وألفي ألف أردب، سامح بذلك وأبطله من الدواوين، وأسقطه عن المعاملين.
فلما ولي السلطان الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف، أعاد المكوس وزاد في شناعتها.
قال القاضي الفاضل في متجدّدات سنة تسعين وخمسمائة، وكان قد تتابع في شعبان أهل مصر والقاهرة في إظهار المنكرات، وترك الإنكار لها، وإباحة أهل الأمر والنهي لها، وتفاحش الأمر فيها إلى أن غلا سعر العنب لكثرة من يعصره، وأقيمت طاحون بحارة المحمودية لطحن حشيش المزر «1» ، وأفردت برسمه وحميت بيوت المزر، وأقيمت عليها الضرائب الثقيلة، فمنها ما انتهى أمره في كل يوم إلى ستة عشر دينارا، ومنع المزر البيوتي ليتوفر الشراء من البيوت المحمية، وحملت أواني الخمر على رؤوس الأشهاد، وفي الأسواق من غير منكر، وظهر من عاجل عقوبة الله عز وجل، وقوف زيادة النيل عن معتادها، وزيادة سعر الغلة في وقت ميسورها.
وقال في متجدّدات سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، وآل الأمر إلى وقوف وظيفة الدار العزيزية من خبز ولحم إلى أن يتحمل في بعض الأوقات لا كلها لبعض ما يتبلغ به من خبز، وكثر ضجيجهم، وشكواهم فلم يسمع. ووقف الحال فيما ينفق في دار السلطان، وفيما يصرف إلى عياله، وفيما يقتات به أولاده، وما يغصب من أربابه، وأفضى هذا إلى غلاء الأسعار، فإنّ المتعيشين من أرباب الدكاكين يزيدون في أسعار المأكولات العامة بمقدار ما يؤخذ منهم للدار السلطانية، فأفضى ذلك إلى النظر في المكاسب الخبيثة، وضمن المزر والخمر باثني عشر ألف دينار.
وفسح في إظهار منكره والإعلان به والبيع له في القاعات والحوانيت، مع قرب استهلال رجب، وما استطاع أحد من العامة الإنكار لا باليد ولا باللسان، وصار هذا السحت مما ينفرد السلطان به لنفقته وطعامه، وانتقل مال الثغور، ومال الجواليّ الحل الطيب إلى أن يصير حوالات لمن لا يبالي من أين أخذ المال، ولا يفرّق بين الحرام والحلال، وفي شهر رمضان: غلا سعر الأعناب لكثرة العصير منها، وتظاهر به أربابه لتحكير تضمينه السلطانيّ، واستيفاء رسمه بأيدي مستخدميه، وبلغ ضمانه سبعة عشر ألف دينار، وحصل منه شيء حمل إليه، فبلغني أنه صنع به آلات للشراب ذهبيات وفضيات، وكثر اجتماع(1/197)
النساء والرجال في شهر رمضان لا سيما على الخليج لما فتح، وعلى مصر لما زاد الماء وتلقى فيه النيل بمعاص نسأل الله أن لا يؤاخذنا بها، وأن لا يعاقبنا عليها بجرأة أهلها.
وقال جامع السيرة التركية: ولما استقل الملك المعز عز الدين أيبك التركمانيّ الصالحيّ بمملكة مصر في سنة خمسين وستمائة، بعد انقراض دولة بني أيوب استوزر شخصا من نظار الدواوين يعرف بشرف الدين هبة الله بن صاعد الفائزي، أحد كتاب الأقباط، وكان قد أظهر الإسلام من أيام الملك الكامل، وترقى في خدمة الكتابة، فقرّر في وزارته أموالا على التجار، وذوي اليسار، وأرباب العقار، ورتب مكوسا وضمانات سموها:
حقوقا ومعاملات.
ولما ولي الملك المظفر «1» سيف الدين قطز: مملكة مصر، بعد خلعه الملك المنصور، علّي بن المعز أيبك أحدث عند سفره الذي قتل فيه مظالم كثيرة لأجل جمع المال، وصرفه في الحركة لقتال جموع التتر، منها: تصقيع الأملاك، وتقويمها وزكاتها، وأحدث على كل إنسان دينارا يؤخذ منه، وأخذ ثلث التركات الأهلية، فبلغ ذلك ستمائة ألف دينار في كل سنة.
فلما قتل قطز وجلس الملك الظاهر ركن الدين بيبرس بعده على سرير الملك بقلعة الجبل، أبطل ذلك جميعه، وكتب به مساميح قرئت على المنابر، ثم أبطل ضمان المزر وجهاته في سنة اثنتين وستين وستمائة.
وكتب وهو بالشام إلى الأمير عز الدين الحليّ نائب السلطنة بمصر: أن يبطل بيوت المزر، ويعفي آثاره، ويخرب بيوته، ويكسر مواعينه، ويسقط ارتفاعه من الديوان. فإنّ بعض الصالحين تحدّث معي في ذلك، وقال: القمح الذي جعله الله تعالى يداس بالأرجل، وقد تقرّبت إلى الله تعالى بإبطاله، ومن ترك شيئا لله عوّضه خيرا منه، ومن كان له على هذه الجهة شيء يعوّضه الله من المال الحلال، فأبطل الحليّ ذلك، وعوّض المقطعين عليه بدله.
وفي سنة ثلاث وستين أبطل حراسة النهار بالقاهرة ومصر، وكانت جملة مستكثرة، وكتب بذلك توقيعا، وأبطل من أعمال الدقهلية والمرتاحية عن رسوم الولاية، أربعة وعشرين ألف دينار، وفي خامس عشري شهر رمضان سنة اثنتين وستين وستمائة، قرىء بجامع مصر مكتوب بإبطال ما قرّر على رسوم ولاية مصر من الرسوم، وهي مائة ألف درهم مصرية، فبطل ذلك، وأبطل ضمان الحشيش من ديار مصر كلها في سنة خمس وستين وستمائة.(1/198)
وأمر بإراقة الخمور، وإبطال المنكرات، وتعفية بيوت المسكرات، ومنع الخانات والخواطىء بجميع أقطار مملكة مصر والشام، فطهرت من ذلك البقاع، ولما وردت المراسيم بذلك على القاضي ناصر الدين أحمد بن المنير قال:
ليس لإبليس عندنا أرب ... غير بلاد الأمير مأواه
حرفته الخمر والحشيش معا ... حرّمتا ماؤه ومرعاه
وقال الأديب الفاضل أبو الحسين الجزار:
قد عطل الكوب من حبابه ... وأخلى الثغر من رضابه
وأصبح الشيخ وهو يبكي ... على الذي فات من شبابه
وفي تاسع جمادى الآخرة سنة ست وستين وستمائة، أمر الملك الظاهر بيبرس بإراقة الخمور وإبطال الفساد، ومنع النساء الخواطىء من التعرّض للبغاء من جميع القاهرة ومصر، وسائر الأعمال المصرية، فتطهرت أرض مصر من هذا المنكر، ونهبت الخانات التي كانت معدّة لذلك، وسلب أهلها جميع ما كان لها، ونفى بعضهم، وحبست النساء حتى يتزوّجن.
وكتب إلى جميع البلاد بمثل ذلك، وحط المال المقرّر على البغايا من الديوان، وعوّض الحاشية من جهات حلّ بنظيره، وفي سابع عشر ذي الحجة سنة تسع وستين وستمائة، أريقت الخمور، وأبطل ضمانها، وكان كل يوم ألف دينار، وكتب توقيع بذلك قرىء على المنابر، وافتتح سنة سبعين بإراقة الخمور، والتشدّد في إزالة المنكرات، وكان يوما مشهودا بالقاهرة، وبلغه في سنة أربع وسبعين عن الطواشي شجاع الدين عنبر المعروف: بصدر الباز، وكان قد تمكن منه تمكنا كثيرا أنه يشرب الخمر، فشنقه تحت قلعة الجبل.
ولما ولي الملك المنصور سيف الدين قلاون الإلفي، مملكة مصر أبطل زكاة الدولة، وهو ما كان يؤخذ من الرجل عن زكاة ماله أبدا، ولو عدم منه، وإذا مات يؤخذ من ورثته، وأبطل ما كان يجبى من أهل إقليم مصر كله إذا حضر مبشر بفتح حصن، أو نحوه، فيؤخذ من الناس بالقاهرة ومصر على قدر طبقاتهم، ويجتمع من ذلك مال كثير، وأبطل ما كان يجبى من أهل الذمة، وهو دينار سوى الجالية برسم نفقة الأجناد في كل سنة، وأبطل مقرّر جباية الدينار من التجار عند سفر العسكر والغزاة، وكان يؤخذ من جميع تجار القاهرة ومصر من كل تاجر دينار، وأبطل ما كان يجبى عند وفاء النيل مما يعمل به شوى وحلوى وفاكهة في المقياس، وجعل مصر ذلك من بيت المال، وأبطل أشياء كثيرة من هذا النمط.
وأبطل الملك الناصر، محمد بن قلاون عدّة جهات قد ذكرت في الروك الناصريّ،(1/199)
وآخر ما أدركنا إبطاله ضمان الأغاني، وضمان القراريط في سنة ثمان وسبعين وسبعمائة، على يد الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاون.
فأما ضمان الأغاني فكان بلاء عظيما، وهو عبارة عن أخذ مال من النساء البغايا، فلو خرجت أجلّ امرأة في مصر تريد البغاء حتى نزلت اسمها عند الضامنة، وقامت بما يلزمها لما قدر أكبر أهل مصر على منعها من عمل الفاحشة، وكان على النساء، إذا تنفسن أو عرّسن امرأة أو خضبت امرأة يدها بحناء، أو أراد أحد أن يعمل فرحا لا بدّ من مال بتقرير تأخذه الضامنة، ومن فعل فرحا بأغان أو نفس امرأته من غير إذن الضامنة حلّ به بلاء لا يوصف.
وأما ضمان القراريط، فإنه كان يؤخذ من كل من باع ملكا عن كل ألف درهم، عشرون درهما، وكان متحصل هاتين الجهتين مالا كثيرا جدّا.
وأبطل الملك الظاهر برقوق، ما كان يؤخذ من أهل البرلس وشورى وبلطيم شبه الجالية في كل سنة ستين ألف درهم، وأبطل ما كان على القمح من مكس، يؤخذ من الفقراء بثغر دمياط ممن يبتاع من أردبين، فما دونهما، وأبطل ما كان يؤخذ مكسا من معمل الفرّوج بالنحريرية، والأعمال الغربية، وأبطل ما كان يؤخذ تقدمة لمن يسرح إلى العباسة من الخيل والجمال والغنم وغير ذلك، وأبطل ما كان يؤخذ على الدريس والحلفاء بباب النصر خارج القاهرة، وأبطل ضمان الأغاني بمنية ابن خصيب بأعمال الأشمونين، وبزفتا بالأعمال الغربية، وأبطل الأبقار التي كانت ترمي بالوجه البحري عند فراغ الجسور، وأبطل الأمير بلبغا السالمي، لما ولي استادار السلطان الملك الناصر فرج بن برقوق في سنة إحدى وثمانمائة تعريف الغلال بمنية ابن خصيب، وضمان العرصة بها وأخصاص الغسالين، وكانت من المظالم القبيحة، وأبطل من القاهرة ضمان بحيرة البقر، ثم أعاده القبط من بعده.
وقد بقيت إلى الآن من المكوس بقايا، أخبرني الأمير الوزير المشير الإستادار بلبغا السالمي في أيام وزارته، أن جهات المكوس بديار مصر تبلغ في كل يوم، بضعا وسبعين ألف درهم، وأنه اعتبرها فلم يجدها تصرف في شيء من مصالح الدولة، بل إنما هي منافع للقبط وحواشيهم، وكان قد عزم على إبطال المكوس فلم يمهل.
والمال الهلالي: عبارة عما يستأدي مشاهرة كأجر الأملاك المسقفة من الآدر والحوانيت والحمامات والأفران والطواحين، وعداد الغنم والجهة الهوائية المضمونة والمحلولة، وعدّ بعض الكتاب، أحكار البيوت وريع البساتين التي تستخرج أجرها مشاهرة ومصايد السمك ومعاصر الشيرج والزيت في المال الهلالي.(1/200)
ومن اصطلاح كتاب مصر القدماء، أن تورد جزية أهل الذمة من اليهود والنصارى، قلما واحدا مستقلا بذاته بعد الهلالي، وقبل الخراجي، وذلك أنها تستأدي مسانهة، وكانوا يرون وجوبها مشاهرة وفائدته فيمن أسلم أو مات أثناء الحول، فإنهم كانوا يلزمونه بقدر ما مضى من السنة قبل إسلامه، أو وفاته فلذلك أوردت فيما بين الهلاليّ والخراجيّ.
وكانوا في الإقطاعات الجيشية يجرونها، مجرى المال الهلاليّ عند خروج إقطاع من يقطع، ودخول آخر على ذلك الإقطاع، فإنها كانت تستخرج على حكم الشهور الهلالية لا الشمسية بحيث لو تعجلها مقطع في غرّة السنة على العادة في ذلك، وخرج الإقطاع عنه في أثناء السنة بوفاة أو نقلة إلى غيره، استحق منها نظير ما مضى من شهور السنة إلى حين انتقال الإقطاع عنه، لا على حكم ما استحق من المغلّ، ويستحق المتصل من استقبال تاريخ منشوره كعادة النقود، والمتخلل بينهما من المدّة مستحق ذلك الديوان، فيردّ من جملة المحلولات من الإقطاعات وكان من أبواب الهلالي جهات تسمى المعاملات، وهي: الزكاة والمواريث والثغور والمتجر والشب والنطرون والجبس الجيوشي ودار الضرب ودار العيار والجاموس وأبقار الجبس والأغنام والغروس والبساتين والأحكار والرباع والمراكب، وما يستأدي من الذمة غير الجوالي، وساحل السنط، والخراج والقرظ ومقرّر الجسور وموظف الاتبان ومقرّر القصب ومقرّر البريد ومقرّر البسط وعشر العرق، وغير ذلك من جهات المكوس.
فأما الجزية: وتعرف في زمننا بالجوالي فإنها تستخرج سلفا وتعجيلا في غرّة السنة، وكان يتحصل منها مال كثير فيما مضى. قال القاضي الفاضل في متجدّدات الحوادث الذي انعقد عليه ارتفاع الجوالي لسنة سبع وثمانين وخمسمائة مائة ألف وثلاثون ألف دينار، وأما في وقتنا هذا، فإنّ الجوالي قلت جدّا لكثرة إظهار النصارى للإسلام في الحوادث التي مرّت بهم.
ولما استبدّ السلطان الملك المؤيد شيخ بملك مصر، بعد الخليفة العباس بن محمد أمير المؤمنين المستعين بالله، ولى رجلا جباية الجوالي فكثر الاستقصاء عن الذمة والكدّ في الاستخراج منهم، فبلغت الجوالي في سنة ست عشرة وثمانمائة أحد عشر ألف دينار وأربعمائة دينار، سوى ما غرم للأعوان وهو قدر كثير.
وأما المراعي وهو الكلأ المطلق المباح الذي أنبته الله تعالى لرعي دواب بني آدم فأوّل من أدخلها الديوان بمصر أحمد بن مدبر، لما ولي الخراج، وصير لذلك ديوانا وعاملا جلدا يحظر على الناس أن يتبايعوا المراعي، أو يشتروها إلا من جهته، وأدركنا المراعي ببلاد الصعيد مما يضاف إلى الإقطاعات، فيأخذ الأمير ممن يرعى دوابه في أرض بلده الكتيح في كل سنة، مالا عن كل رأس فيجبى من صاحب الماشية بعدد أنعامه، فلما اختلّ أمر الصعيد(1/201)
في الحوادث الكائنة منذ سنة ست وثمانمائة، تلاشى الأمر في ذلك، وكانت العادة القديمة أن يندب للمراعي مشدّ وشهود، وكاتب، فيعدّون المواشي، ويستخرجون من أربابها عن كل رأس شيئا، ولا يكون ذلك إلا بعد هبوط النيل، ونبات الكلأ واستهلاكه للمرعى.
وأما المصايد فهي ما أطعم الله سبحانه وتعالى من صيد البحر، وأوّل من أدخلها الديوان أيضا ابن مدبر، وصير لها ديوانا واحتشم من ذكر المصايد، وشناعة القول فيها، فأمر أن يكتب في الديوان خراج مضارب الأوتار ومغارس الشباك، فاستمرّ ذلك، وكان يندب لمباشرتها مشدّ وشهود وكاتب إلى عدّة جهات، مثل: خليج الإسكندرية، وبحيرة الإسكندرية، وبحيرة نسترو وثغر دمياط وجنادل ثغر أسوان، وغير ذلك من البرك والبحيرات، فيخرجون عند هبوط النيل، ورجوع الماء من المزارع إلى بحر النيل بعد ما تكون أفواه الترع قد سكرت، وأبواب القناطر قد سدّت عند انتهاء زيادة النيل كيما يتراجع الماء، ويتكائف مما يلي المزارع، ثم تنصب شباك، وتصرف المياه، فيأتي السمك وقد اندفع مع الماء الجاري، فتصدّه الشباك عن الانحدار مع الماء، ويجتمع فيها فيخرج إلى البر، ويوضع على أنخاخ ويملح، ويوضع في الأمطار فإذا استوى بيع، وقيل له: الملوحة والصير، ولا يكون ذلك إلا فيما كان من السمك في قدر الأصبع فما دونه، ويسمون هذا الصنف إذا كان طريا ابسارية، فتؤكل مشوية ومقلية، ويصاد من بحيرة نسترو، وبحيرة تنيس، وبحيرة الإسكندرية، أسماك تعرف: بالبوري، وقيل لها ذلك لأنها كانت تصاد عند قرية من قرى تنيس يقال لها: بورة، وقد خربت، والنسبة إليها البوريّ، ونسب إليها جماعة من الناس منهم بنو البوري.
وقيل لهذا السمك البوريّ إضافة إلى القرية المذكورة، وقد بطل في زمننا اليوم أمر هذه المصايد إلا من بحيرة نسترو بالبرلس وبحيرة تنيس بدمياط فقط، وهاتان البحيرتان تجريان في ديوان الخاص وهما مضمنتان، وما يخرج منهما من البوريّ وغيره من أنواع السمك، فللسلطان لا يقدر أحد أن يتعرّض لصيد شيء منه إلا أن يكون من صياديهما القائمين بالضمان، وما عدا هاتين البحيرتين من البرك والأملاق والخلجان، فليست للسلطان، وأما بحيرة اسكندرية فقد جفت وثغر أسوان، فقد خرج عن يد السلطنة وتغلب عليه أولاد الكفرة، ثم برك بأيدي أقوام كبركة الفيل، بيد أولاد الملك الظاهر بيبرس، وبركة الرطلي، بيد أولاد الأمير بكتمر الحاجب، وغير ذلك. فإنّ أسماكها مضمنة لهم يبيعونها ومع ذلك لا يمنع أحد الصيد منها.
وأما بحر النيل فما صيد منه يحمل إلى دار السمك بالقاهرة، فيباع ويؤخذ منه مكس السلطان إلا أنّ الأمير جمال الدين يوسف الإستادار، زاد فيما كان يؤخذ من الصيادين مكسا، ومن حينئذ قلّ السمك بالقاهرة وغلا سعره.(1/202)
وقال أبو سعيد عبد الرحمن «1» بن أحمد بن يونس في تاريخ مصر: إنّ صنما كان بالإسكندرية يقال له شراحيل على حشفة من حشاف البحر مستقبلا بأصبع من كفة قسطنطينية لا يدري أكان مما عمله سليمان النبيّ، أم عمله الإسكندر، فكانت الحيتان تدور بالإسكندرية، وتصاد عنده، فيما زعموا.
قال زيد بن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أخبرني أبي عن أبيه: أنه انبطح على بطنه ومدّ يديه ورجليه فكان طوله طول قدم الصنم، فكتب رجل يقال له: أسامة بن زيد كان عاملا على مصر للوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين: إنّ عندنا بالإسكندرية صنما يقال له:
شراحيل من نحاس، وقد غلت علينا الفلوس فإن رأى أمير المؤمنين أن ينزله ويضربه فلوسا فعل، وإن رأى غير ذلك فليكتب إليّ من أمره، فكتب إليه: لا تنزله حتى أبعث إليك ضمناء يحضرونه، فبعث إليه رجالا أمناء حتى أنزل من الحشفة، فوجدوا عينيه ياقوتتين حمراوين ليس لهما قيمة فضربه فلوسا، فانطلقت الحيتان فلم ترجع إلى ما هناك.
وأما الزكاة: فإنّ السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب أوّل من جباها بمصر.
قال القاضي الفاضل في متجدّدات سنة سبع وستين وخمسمائة ثالث عشر ربيع الآخر، فرّقت الزكوات بعد ما جمعت على الفقراء والمساكين وأبناء السبيل والغارمين، بعد أن رفع إلى بيت المال السهام الأربعة وهي: سهام العاملين، والمؤلفة، وفي سبيل الله، وفي الرقاب، وقرّرت لهم فريضة واستودى على الأموال والبضائع وعلى ما يتقرر عليه من المواشي، والنخل والخضراوات.
قال: والذي انعقد عليه ارتفاع الجوالي لسنة سبع وثمانين وخمسمائة ثلاثون ألف دينار، والزائد في معاملة الزكاة ودار الضرب لسنتي ست وسبع وثمانين وخمسمائة أحد وعشرون ألف دينار وثمانمائة وأحد وستون دينارا.
وقال في سنة ثمان وثمانين واستخدم ابن أحمدان في ديوان الزكاة وكتب خطه بما مبلغه: اثنان وخمسون ألف دينار لسنة واحدة من مال الزكاة، وجعل الطواشي قراغش الشادّ في هذا المال، وأن لا يتصرّف فيه بل يكون في صندوق مودعا للمهمات التي يؤمر بها.
ولما قدم ابن عنين الشاعر من عند الملك العزيز سيف الإسلام طفتكين بن نجم الدين أيوب بن شادي ملك اليمن إلى مصر، وقد أجزل صلته عند ما وفد عليه وفارقه، وقد أثرى ثراء كثيرا، قبض أرباب ديوان الزكاة بمصر على ما قدم به من المتجر وطالبوه بزكاة ما معه، وكان ذلك في أيام الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي فقال:
.(1/203)
ما كان من يتسمى بالعزيز لها ... أهل ولا كل برق سحبه غدقه
بين العزيزين فرق في فعالهما ... هذاك يعطي وهذا يأخذ الصدقه
ثم إنّ العزيز كشف عما يستأدي من الزكاة فإنه انتهى إليه فيها أقوال شنيعة منها: أنه أخذ من رجل فقير يبيع الملح في قفة على رأسه، زكاة عما في القفة، وأنه بيع جمل بخمسة دنانير ذهب، فأخذ زكاتها خمسة دراهم، فأمر بتفويض أمرها إلى أرباب الأموال ومن وجب عليه حق.
ثم لما كانت سلطنة الملك الكامل ناصر الدين محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب أخرج من زكاة الأموال التي كانت تجبى من الناس سهمي الفقراء والمساكين، وأمر بصرفهما في مصارفهما الشرعية، ورتب من جملة هذين السهمين معاليم للفقهاء والصلحاء، وأهل الخير تجري عليهم، فاستحسن ذلك من فعله وحمله إلى ديوان الزكاة قبل منه، ومن لم يحمل لا يتعرّض إليه فبخل الأغنياء بزكاة أموالهم حتى تضرّر الفقراء والمساكين، وأخذ السعاة يبذلون في ضمانها الأموال لتعود إلى ما كانت عليه فولي النظر في ديوان الزكاة القاضي الأسعد شرف الدين أبو المكارم أسعد بن مهذب بن مماتي، فاستخرج الزكاة من أربابها ثم ضمنت بمال كثير، وعاد الأمر فيها إلى ما كان عليه من العسف والجور، وكانت أعوان متولي الزكاة تخرج إلى منية ابن خصيب وأخميم وقوص لكشف أحوال المسافرين من التجار والحجاج وغيرهم، فيبحثون عن جميع ما معهم، ويدخلون أيديهم أوساط الرجال خشية أن يكون معهم مال ويحلفون الجميع بالإيمان الحرجة على ما بأيديهم وما عندهم غير ما وجدوه، وتقوم طائفة من مردة هذه الأعوان وبأيديهم المسال الطوال ذوات الأنصبة، فيصعدون إلى المراكب ويجسون بمسالهم جميع ما فيها من الأحمال والغرائر مخافة أن يكون فيها شيء من بضاعة أو مال فيبالغون في البحث والاستقصاء بحيث يقبح، ويستشنع فعلهم ويقف الحجاج بين يدي هؤلاء الأعوان مواقف خزي ومهانة، لما يصدر منهم عند تفتيش أوساطهم وغرائر أزوادهم، ويحلّ بهم من العسف وسوء المعاملة ما لا يوصف، وكذلك يفعل في جميع أرض مصر منذ عهد السلطان صلاح الدين بن أيوب.
وأما الثغور فهي: دمياط وتنيس ورشيد وعيذاب وأسوان والإسكندرية وهي أعظمها قدرا فإنه كان فيها عدّة جهات منها: الخمس والمتجر، فالخمس: ما يستأدي من تجار الروم الواردين في البحر عما معهم من البضائع للمتجر بمقتضى ما صولحوا عليه، وربما بلغ ما يستخرج منهم ما قيمته مائة دينار ومائتان وخمسة وثلاثون دينارا، وربما انحط عن عشرين دينارا. ويسمى كلاهما خمسا. ومن أجناس الروم من يؤخذ منهم العشر ولذلك ضرائب مقرّرة.
وقال القاضي الفاضل: والحاصل من خمس الإسكندرية في سنة سبع وثمانين(1/204)
وخمسمائة ثمانية وعشرون ألف دينار وستمائة وثلاثة عشر دينارا، والمتجر عبارة عما يبتاع للديوان من بضائع تدعو إليها الحاجة ويقتضيه طلب الفائدة.
قال جامع سيرة الوزير اليازوري: وقصر النيل بمصر في سنة أربع وأربعين وأربعمائة، ولم يكن في مخازن الغلات شيء، فاشتدّت المسغبة بمصر، وكان لخلوّ المخازن سبب أوجب ذلك وهو أنّ الوزير، الناصر للدين لما أضيف إليه القضاء في أيام أبي البركات الوزير كان يبتاع للسلطان في كل سنة غلة بمائة ألف درهم، وتجعل متجرا فمثل القاضي بحضرة الخليفة المستعين بالله، وعرّفه أنّ المتجر الذي يقام بالغلة فيه أوفى مضرّة على المسلمين، وربما انحط السعر عن مشتراها فلا يمكن بيعها فتتعفن في المخازن وتتلف، وأنه يقيم متجرا لا كلفة فيه على الناس، ويفيد أضعاف فائدة الغلة، ولا يخشى عليه من تغيره في المخازن ولا انحطاط سعره وهو الخشب والصابون والحديد والرصاص والعسل وما أشبه ذلك، فأمضى السلطان له ما رآه، واستمرّ ذلك ودام الرخاء على الناس فوسعوا فيه مدّة سنين ثم عمل الملوك بعد ذلك ديوانا للمتجر وآخر من عمله الظاهر برقوق.
وأما
الشب: فإنّ معادنه بالصعيد، وكانت عادة الديوان الإنفاق، في تحصيل القنطار، منه بالليثيّ يبلغ ثلاثين درهما، وكانت العربان تحضره من معادنه إلى ساحل أخميم وسيوط والبهنسا ليحمل إلى الإسكندرية أيام النيل في الخليج ويشترى بالقنطار الليثيّ، ويباع بالقنطار الجرويّ، فيباع منه على تجار الروم قدر اثني عشر ألف قنطاريا بالجروي بسعر أربعة دنانير كل قنطار إلى ستة دنانير ويباع منه بمصر على اللبوديين والصباغين نحو الثمانين قنطارا بالجرويّ سعر ستة دنانير ونصف القنطار، ولا يقدر أحد على ابتياعه من العربان ولا غيرهم، فإن عثر على أحد أنه اشترى منه شيئا أو باعه سوى الديوان نكل به واستهلك ما وجد معه منه، وقد بطل هذا.
وأما
النطرون «1» : فيوجد في البرّ الغربيّ من أرض مصر بناحية الطرّانة، وهو أحمر وأخضر ويوجد منه بالفاقوسية شيء دون ما يوجد في الطرّانة، وهو أيضا مما خطر عليه ابن مدبر من الأشياء التي كانت مباحة، وجعله في ديوان السلطان وكان من بعده على ذلك إلى اليوم، وقد كان الرسم فيه بالديوان أن يحمل منه في كل سنة عشرة آلاف قنطار، ويعطى الضمان منها في كل سنة قدر ثلاثين قنطارا يتسلمونها من الطرّانة، فتباع في مصر بالقنطار المصري، وفي بحر الشرق والصعيد بالجرويّ، وفي دمياط بالليثي. قال القاضي الفاضل:
وباب النطرون كان مضمونا إلى آخر سنة خمس وثمانين وخمسمائة بمبلغ خمسة عشر ألفا وخمسمائة دينار، وحصل منه في سنة ست وثمانين مبلغ سبعة آلاف وثمانمائة دينار،(1/205)
وأدركنا النطرون إقطاعا لعدّة أجناد.
فلما تولى الأمير محمود بن عليّ الإستادارية، وصار مدبر الدولة في أيام الظاهر برقوق حاز النطرون، وجعل له مكانا لا يباع في غيره، وهو إلى الآن على ذلك. وأما الحبس «1» الجيوشي: فكان في البرّين الشرقيّ والغربيّ. ففي الشرقيّ: بهتين والأميرية والمنية، وكانت تسجل هذه النواحي بعين، وفي الغربيّ: سفط ونهيا ووسيم، وهذه النواحي حبسها أمير الجيوش، بدر الجمالي، على عقبه هي والبساتين ظاهر باب الفتوح، فلما مات وطال العهد استأجرها الوزراء بأجرة يسيرة طلبا للفائدة، ثم أدخلت في الديوان.
قال ابن المأمون في تاريخه: وجميع البساتين المختصة بالورثة الجيوشية مع البلاد التي لهم لم تزل في مدّة أيام الوزير المأمون البطائحيّ بأيديهم لم تخرج عنهم بضمان ولا بغيره.
فلما توفي الخليفة الآمر بأحكام الله، وجلس أبو عليّ بن الأفضل بن أمير الجيوش، في الوزارة، أعاد الجميع إلى الملاك لكون نايبه في ذلك الأوفر.
فلما قتل، واستبدّ الخليفة، الحافظ لدين الله أمر بالقبض على جميع الأملاك، وحلّ الأحباس المختصة بأمير الجيوش، فلم يزل يأنس به، لأنه غلام الأفضل والوزير في ذلك الوقت، وعز الملك غلام الأوحد بن أمير الجيوش يتلطفان ويراجعان الخليفة مع الكتب التي أظهرها الورثة، وعليها خطوط الخلفاء إلى أن أبقاها عليهم، ولم يخرجها عنهم، ثم ارتفعت الحوطة عنها في سنة سبع وعشرين وخمسمائة للديوان الحافظي.
ولما خدم الخطير والمرتضى في سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة في وزارة رضوان بن ولخشي، أعاد البساتين خاصة دون البلاد على الورثة بحكم ما آل أمرها إليه من الاختلال ونقص الارتفاع.
ولما انقرض عقب أمير الجيوش ولم يبق منه سوى امرأة كبيرة، أفتى فقهاء ذلك العصر، ببطلان الحبس، فقبضت النواحي وصارت من جملة الأموال السلطانية، فمنها ما هو اليوم في الديوان السلطانيّ، ومنها ما صار وقفا ورزقا أحباسية وغير ذلك.
وأما
دار الضرب: فكان بالقاهرة دار الضرب، وبالإسكندرية دار الضرب، وبقوص دار الضرب، ولا يتولى عيار دار الضرب، إلّا قاضي القضاة أو من يستخلفه، ثم رذلت في زمننا حتى صار يليها مسالمة فسقة اليهود، المصرّين على الفسق، مع ادّعائهم الإسلام، وكان يجتهد في خلاص الذهب وتحرير عياره، إلى أن أفسد الناصر فرج ذلك بعمل الدنانير(1/206)
الناصرية، فجاءت غير خالصة، وكانت بمصر المعاملة بالورق، فأبطلها الملك الكامل، محمد بن أبي بكر بن أيوب في سنة بضع وعشرين، وضرب الدرهم المدوّر الذي يقال له:
الكامليّ، وجعل فيه من النحاس قدر الثلث، ومن الفضة الثلثين، ولم يزل يضرب بالقاهرة إلى أن أكثر الأمير، محمود الإستادار من ضرب الفلوس بالقاهرة والإسكندرية، فبطلت الدراهم من مصر، وصارت معاملة أهلها إلى اليوم بالفلوس، وبها يقوّم الذهب وسائر المبيعات، وسيأتي ذكر ذلك إن شاء الله تعالى، عند ذكر أسباب خراب مصر.
وكانت دار الضرب يحصل منها للسلطان مال كثير، فقلّ في زماننا لقلة الأموال ودار الضرب اليوم جارية في ديوان الخاص.
وأما
دار العيار: فكانت مكانا يحتاط فيه للرعية وتصلح موازينهم ومكاييلهم به ويحصل منها للسلطان مال، وجعلها السلطان صلاح الدين من جملة أوقاف سور القاهرة، وقد ذكرت في خطط القاهرة من هذا الكتاب.
وأما الأحكار: فإنها أجر مقرّرة على ساحات بمصر، والقاهرة، فمنها ما صار دورا للسكنى، ومنها ما أنشئ بساتين، وكانت تلك الأجر من جملة الأموال السلطانية، وقد بطل ذلك من ديوان السلطان، وصارت أحكار مصر، والقاهرة وما بينهما أوقافا على جهات متعدّدة.
وأما
الغروس: فكانت في الغربية فقط عدّة أراض يؤخذ منها شبه الحكر عن كل فدّان مقرّر معلوم، وقد بطل ذلك من الديوان.
وأما مقرّر الجسور: فكان على كل ناحية تقرير بعدّة قطع معلومة يجبي منها عن كل قطعة عشرة دنانير لتصرف في عمل الجسور، فيفضل منها مال كثير يحمل إلى بيت المال، وقد بطل هذا أيضا، وجدّد الناصر فرج على الجسور حوادث قد ذكرت في أسباب الخراب.
وأما موظف الأتبان: فكان جميع تبن أرض مصر على ثلاثة أقسام: قسم للديوان، وقسم للمقطع، وقسم للفلاح، فيجبى التبن على هذا الحكم من سائر الأقاليم، ويؤخذ في التبن عن كل مائة حمل أربعة دنانير وسدس دينار، فيحصل من ذلك مال كثير، وقد بطل هذا أيضا من الديوان.
وأما الخراج: فإنه كان في البهنساوية وسفط ريشين والأشمونين والأسيوطية، والأخميمية والقوصية: أشجار لا تحصى من سنط، لها حرّاس يحمونها حتى يعمل منها مراكب الأسطول، فلا يقطع منها إلا ما تدعو الحاجة إليه، وكان فيها ما تبلغ قيمة العود الواحد منه مائة دينار.
وكان يستخرج من هذه النواحي مال يقال له: رسم الخراج، ويحتج في جبايته بأنه(1/207)
نظير ما تقطعه أهل النواحي، وتنتفع به من أخشاب السنط في عمائرها، ومقرّر آخر، كان يجبي منهم يعرف بمقرّر السنط، فيصرف من هذا المقرّر أجرة قطع الخشب وحزه بضريبة عن كل مائة حمل دينار، وعلى المستخدمين في ذلك أن لا يقطعوا من السنط ما يصلح لعمل مراكب الأسطول، لكنهم إنما يقطعون الأطراف التي ينتفع بها في الوقود فقط، ويقال لهذا الذي يقطع حطب النار، فيباع على التجار منه كل مائة حمل بأربعة دنانير، ويكتب على أيديهم زنة ما بيع عليهم، فإذا وردت المراكب بالحطب إلى ساحل مصر، اعتبرت عليهم وقوبل ما فيها بما عين في الرسالة الواردة واستخرج الثمن على ما في الرسالة، وكانت العادة أنه لا يباع مما في البهنسا إلا ما فضل عن احتياج المصالح السلطانية، وقد بطل هذا جميعه، واستولت الأيدي على تلك الأشجار، فلم يبق منها شيء البتة ونسي هذا من الديوان.
وأما القرظ: فإنه ثمر شجر السنط، وكان لا يتصرّف فيه إلا الديوان، ومتى وجد منه مع أحد شيء اشتراه من غير الديوان، نكل به واستهلك ما وجد معه منه، فإذا اجتمع مال القرظ أقيم منه مراكب تباع، ويؤخذ من ثمنها الربع عندما تصل إلى ساحل مصر بعد ما تقوّم، أو ينادى عليها وكان فيها حيف كبير، وقد بطل ذلك.
وأما ما يستأدى من أهل الذمّة: فإنه كان يأخذ منهم عما يرد ويصدر معهم من البضائع في مصر والإسكندرية وأخميم خاصة دون بقية البلاد، ضرائب بتقرير في الديوان، وقد بطل ذلك أيضا.
وأما مقرّر الجاموس ومقرّر بقر الخيس ومقرّر الأغنام: فإنه كان للسلطان من هذه الأصناف شيء كثير جدّا فيؤخذ من الجاموس للديوان على كل رأس من الراتب في نظير ما يتحصل منه في كل سنة، من خمسة دنانير إلى ثلاثة دنانير، ومن اللاحق بحق النصف من الراتب، وأقل ما تنتج كل مائة خمسون إلى غير ذلك من ضرائب مقرّرة على الجاموس، وعلى أبقار الخيس، وعلى الغنم البيض، والغنم الشعاري، وعلى النحل، وقد بطل ذلك جميعه لقلة مال السلطان، وإعراضه عن العمارة وأسبابها، وتعاطي أسباب الخراب.
وأما المواريث: فإنها في الدولة الفاطمية لم تكن كما هي اليوم، من أجل أنّ مذهبهم توريث ذوي الأرحام، وأنّ البنت إذا انفردت استحقت المال بأجمعه، فلما انقضت أيامهم، واستولت الأيوبية، ثم الدولة التركية، صار من جملة أموال السلطان مال المواريث الحشرية، وهي التي يستحقها بيت المال عند عدم الوارث، فتعدل فيه الوزارة مرّة وتظلم أخرى.
وأما المكوس: فقد تقدّم حدوثها، وما كان من الملوك فيها، والذي بقي منها إلى الآن بديار مصر يلي أمره الوزير، وفي الحقيقة إنما هو نفع للأقباط يتخوّلون فيه بغير حق، وقد تضاعفت المكوس في زمننا عما كنا نعهده، منذ عهد تحدّث الأمير جمال الدين يوسف(1/208)
الإستادار في الأموال السلطانية، كما ذكر في أسباب الخراب.
وأما البراطيل: وهي الأموال التي تؤخذ من ولاة البلاد، ومحتسبيها وقضاتها وعمالها، فأوّل من عمل ذلك بمصر: الصالح بن رزيك في ولاة النواحي فقط، ثم بطل، وعمل في أيام العزيز بن صلاح الدين أحيانا، وعمله الأمير شيخون في الولاة فقط، ثم أفحش فيه الظاهر برقوق كما يأتي في أسباب الخراب.
وأما الحمايات والمستأجرات: فشيء حدث في أيام الناصر فرج، وصار لذلك ديوان ومباشرون، وعمل مثل ذلك الأمراء، وهو من أعظم أسباب الخراب كما يذكر في موضعه إن شاء الله تعالى.(1/209)
ذكر الأهرام
اعلم أنّ الأهرام كانت بأرض مصر كثيرة جدّا، منها بناحية بوصير «1» شيء كثير، بعضها كبار، وبعضها صغار، وبعضها طين ولبن، وأكثرها حجر، وبعضها مدرج، وأكثرها مخروط أملس، وقد كان منها بالجيزة تجاه مدينة مصر، عدّة كثيرة كلها صغار هدمت في أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب على يد قراقوش، وبنى بها قلعة الجبل والسور المحيط بالقاهرة، ومصر والقناطر التي بالجيزة.
وأعظم الأهرام الثلاثة التي هي اليوم قائمة تجاه مصر، وقد اختلف الناس في وقت بنائها، واسم بانيها والسبب في بنائها، وقالوا في ذلك أقوالا متباينة، أكثرها غير صحيح، وسأقص عليك من نبأ ذلك ما يشفي، ويكفي إن شاء الله تعالى.
قال الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه الكاتب في أخبار مصر وعجائبها في أخبار سوريد بن سهلوق بن سرياق بن توميدون بن بدرسان بن هوصال أحد ملوك مصر قبل الطوفان الذين كانوا يسكنون في مدينة أمسوس الآتي ذكرها عند ذكر مدائن مصر من هذا الكتاب، وهو الذي بنى الهرمين العظيمين بمصر المنسوبين إلى شدّاد بن عاد، والقبط تنكر أن تكون العادية دخلت بلادهم لقوّة سحرهم.
وسبب بناء الهرمين أنه كان قبل الطوفان بثلاثمائة سنة، قد رأى سوريد في منامه، كأنّ الأرض انقلبت بأهلها، وكأنّ الناس قد هربوا على وجوههم، وكأنّ الكواكب تتساقط ويصدم بعضها بعضا بأصوات هائلة، فغمه ذلك، ولم يذكره لأحد، وعلم أنه سيحدث في العالم أمر عظيم، ثم رأى بعد ذلك بأيام كأنّ الكواكب الثابتة، نزلت إلى الأرض في صور طيور بيض، وكأنها تختطف الناس، وتلقيهم بين جبلين عظيمين، وكأن الجبلين قد انطبقا عليهم، وكأن الكواكب المنيرة مظلمة مكسوفة، فانتبه مرعوبا مذعورا، ودخل إلى هيكل الشمس، وتضرّع ومرّغ خدّيه على التراب وبكى، فلما أصبح، جمع رؤساء الكهنة من جميع أعمال مصر، وكانوا مائة وثلاثين كاهنا، فخلا بهم وحدّثهم ما رآه أوّلا وآخرا، فأوّلوه بأمر عظيم يحدث في العالم.(1/210)
فقال عظيم الكهان، ويقال له: إقليمون: إنّ أحلام الملوك لا تجري على محال لعظم أقدارهم، وأنا أخبر الملك برؤيا رأيتها منذ سنة، ولم أذكرها لأحد من الناس، رأيت كأني قاعد مع الملك على وسط المنار الذي بأمسوس، وكأنّ الفلك قد انحط من موضعه حتى قارب رؤوسنا، وكان علينا كالقبة المحيطة بنا، وكأن الملك قد رفع يديه نحو السماء، وكواكبها قد خالطتها في صور شتى مختلفة الأشكال، وكأنّ الناس قد جفلوا إلى قصر الملك، وهم يستغيثون به، وكأنّ الملك قد رفع يديه حتى بلغتا رأسه، وأمرني أن أفعل كما فعل، ونحن على وجل شديد، إذ رأينا منها موضعا قد انفتح، وخرج منه نور مضيء، وطلعت علينا منه الشمس، وكأنا استغثنا بالشمس، فخاطبتنا أن الفلك سيعود إلى موضعه، فانتبهت مرعوبا، ثم نمت فرأيت كأن مدينة أمسوس قد انقلبت بأهلها والأصنام تهوي على رؤوسها، وكأن أناسا نزولا من السماء بأيديهم مقام من حديد يضربون الناس بها، فقلت لهم: ولم تفعلون بالناس كذا؟ قالوا: لأنهم كفروا بإلههم! قلت: فما بقي لهم من خلاص؟
قالوا: نعم، من أراد الخلاص، فليلحق بصاحب السفينة، فانتبهت مرعوبا فقال الملك:
خذوا الارتفاع للكواكب، وانظروا هل من حادث؟ فبلغوا غايتهم في استقصاء ذلك، وأخبروا بأمر الطوفان، وبعده بالنار التي تخرج من برج الأسد تحرق العالم، فقال الملك:
انظروا هل تلحق هذه الآفة بلادنا؟ فقالوا: نعم، تأتي في الطوفان على أكثره ويلحقه خراب يقيم عدّة سنين. قال: فانظروا هل يعود عامرا كما كان؟ أو يبقى مغمورا بالماء دائما؛ قالوا:
بل تعود البلاد كما كانت وتعمر، قال: ثم ماذا؟ قالوا: يقصدها ملك يقتل أهلها، ويغنم مالها؛ قال: ثم ماذا؟ قالوا: يقصدها قوم مشوّهون من ناحية جبل النيل، ويملكون أكثرها؛ قال: ثم ماذا؟ قالوا: ينقطع نيلها وتخلو من أهلها؛ فأمر عند ذلك: بعمل الأهرام، وأن يعمل لها مسارب يدخل منها النيل إلى مكان بعينه، ثم يفيض إلى مواضع من أرض الغرب وأرض الصعيد، وملأها طلسمات وعجائب وأموالا وأصناما، وأجساد ملوكهم، وأمر الكهان فزبروا عليها جميع ما قالته الحكماء، وزبر فيها وفي سقوفها وحيطانها وأسطواناتها جميع العلوم الغامضة التي يدّعيها أهل مصر، وصوّر فيها صور الكواكب كلها، وزبر عليها أسماء العقاقير ومنافعها ومضارها وعلم الطلسمات وعلم الحساب والهندسة، وجميع علومهم مفسرا لمن يعرف كتابتهم ولغتهم.
ولما شرع في بنائها أمر بقطع الأسطوانات العظيمة ونشر البلاط الهائل، واستخراج الرصاص من أرض المغرب وإحضار الصخور من ناحية أسوان، فبنى بها أساس الأهرام الثلاثة، الشرقيّ والغربيّ والملوّن، وكانت لهم صحائف، وعليها كتابة، إذا قطع الحجر وتمّ إحكامه وضعوا عليه تلك الصحائف وضربوه، فيبعد بتلك الضربة قدر مائة سهم، ثم يعاودون ذلك حتى يصل الحجر إلى الأهرام، وكانوا يمدّون البلاطة، ويجعلون في ثقب بوسطها قطبا من حديد قائما، ثم يركبون عليها بلاطة أخرى مثقوبة الوسط، ويدخلون(1/211)
القطب فيها، ثم يذاب الرصاص ويصب في القطب حول البلاطة بهندام وإتقان إلى أن كملت.
وجعل لها أبوابا تحت الأرض بأربعين ذراعا، فأما باب الهرم الشرقيّ، فإنه من الناحية الشرقية على مقدار مائة ذراع من وسط حائط الهرم، وأما باب الهرم الغربيّ، فإنه من الناحية الغربية على مقدار مائة ذراع من وسط الحائط، وأما باب الهرم الملوّن فإنه من الناحية الجنوبية على مقدار مائة ذراع من وسط الحائط، فإذا حفر بعد هذا القياس، وصل إلى باب الأزج المبنيّ، ويدخل إلى باب الهرم وجعل ارتفاع كل واحد من الأهرام في الهواء مائة ذراع، بالذراع الملكيّ، وهو بذراعهم خمسمائة ذراع بذراعنا الآن، وجعل طول كل واحد من جميع جهاته، مائة ذراع بذراعهم، ثم هندسها من كل جانب حتى تحدّدت أعاليها من آخر طولها على ثمانية أذرع بذراعنا، وكان ابتداء بنائها في طالع سعيد اجتمعوا عليه وتخيروه، فلما فرغت كساها ديباجا ملوّنا من فوقها إلى أسفلها، وعمل لها عيدا حضره أهل مملكته بأجمعهم ثم عمل في الهرم الغربيّ، ثلاثين مخزنا من حجارة صوّان ملوّن، وملئت بالأموال الجمة، والآلات والتماثيل المعمولة من الجواهر النفيسة، وآلات الحديد الفاخر من السلاح الذي لا يصدأ والزجاج الذي ينطوي، ولا ينكسر والطلسمات الغربية، وأصناف العقاقير المفردة والمؤلفة، والسموم القاتلة، وعمل في الهرم الشرقيّ أصناف القباب الفلكية والكواكب، وما عمله أجداده من التماثيل والدخن التي يتقرّب بها إلى الكواكب ومصاحفها وكوّن الكواكب الثابتة، وما يحدث في أدوارها وقتا وقتا وما عمل لها من التواريخ، والحوادث التي مضت، والأوقات التي ينتظر فيها ما يحدث، وكل من يلي مصر إلى آخر الزمان.
وجعل فيها المطاهر التي فيها المياه المدبرة وما أشبه ذلك، وجعل في الهرم الملوّن أجساد الكهنة في توابيت من صوّان أسود، ومع كل كاهن مصحف فيه عجائب صناعاته وأعماله وسيرته، وما عمل في وقته، وما كان، وما يكون من أوّل الزمان إلى آخره، وجعل في الحيطان من كل جانب أصناما تعمل بأيديها جميع الصنائع على مراتبها وأقدارها، وصفة كل صنعة وعلاجها وما يصلح لها، ولم يترك علما من العلوم حتى زبره ورسمه، وجعل فيها أموال الكواكب التي أهديت إلى الكواكب، وأموال الكهنة، وهو شيء عظيم لا يحصى.
وجعل لكل هرم منها خادما، فخادم الهرم الغربيّ: صنم من حجارة صوّان مجزع، وهو واقف ومعه شبه حربة وعلى رأسه حية قد تطوّق بها من قرب منه، وثبت إليه وطوّقت على عنقه وقتلته، ثم تعود إلى مكانها.
وجعل خادم الهرم الشرقيّ: صنما من جزع أسود مجزع بأسود وأبيض له عينان مفتوحتان برّاقتان، وهو جالس على كرسيّ، ومعه حربة إذا نظر أحد إليه سمع من جهته(1/212)
صوتا يفزع منه، فيخرّ على وجهه، ولا يبرح حتى يموت.
وجعل خادم الهرم الملوّن: صنما من حجر البهت على قاعدة منه، من نظر إليه جذبه حتى يلتصق به، فلا يفارقه حتى يموت، فلما فرغ من ذلك، حصّن الأهرام بالأرواح الروحانية، وذبح لها الذبائح لتمنع عن أنفسها من أرادها إلا من عمل لها أعمال الوصول إليها.
وذكر القبط في كتبهم: أنّ عليها منقوشا تفسيره بالعربية: أنا سوريد الملك، بنيت هذه الأهرام في وقت كذا وكذا، وأتممت بناءها في ست سنين، فمن أتى بعدي، وزعم أنه ملك مثلي، فليهدمها في ستمائة سنة، وقد علم أن الهدم أيسر من البنيان، وإني كسوتها عند فراغها بالديباج، فليكسها بالحصر، فنظروا فوجدوا أنه لا يقوم بهدمها شيء من الأزمان الطوال.
وحكى القبط في كتبهم: أنّ روحانية الهرم الشماليّ، غلام أمرد أصفر اللون عريان في فمه أنياب كبار، وروحانية الهرم الجنوبيّ: امرأة عريانة بادية الفرج حسناء في فمها أنياب كبار تستهوي الإنسان إذا رأته، وتضحك له حتى يدنو منها، فتسلبه عقله، وروحانية الهرم الملوّن: شيخ في يده مجمرة من مجامر الكنائس يبخر بها، وقد رأى غير واحد من الناس هذه الروحانيات مرارا، وهي تطوف حول الأهرام وقت القائلة، وعند غروب الشمس.
قال: ولمّا مات سوريد، دفن في الهرم، ومعه أمواله وكنوزه. وقالت القبط: إن سوريد هو الذي بنى البرابي، وأودع فيها كنوزا وزبر عليها علوما ووكل بها روحانيات تحفظها ممن يقصدها، قال: وأما الأهرام الدهشورية، فيقال: إن شدات بن عديم هو الذي بناها من الحجارة التي كانت قد قطعت في زمن أبيه، وشدادت هذا يزعم بعض الناس أنه شدّاد بن عاد، وقال: من أنكر أن يكون العادية دخلت مصر، وإنما غلطوا باسم شدات بن عديم، فقالوا: شدّاد بن عاد، لكثرة ما يجري على ألسنتهم شدّاد بن عاد، وقلة ما يجري على ألسنتهم شدات بن عديم، وإلّا فما قدر أحد من الملوك يدخل مصر، ولا قوي على أهلها غير بخت نصر، والله أعلم.
وذكر أبو الحسن المسعودي في كتابه أخبار الزمان: ومن أباده الحدثان، أن الخليفة عبد الله المأمون بن هارون الرشيد، لمّا قدم مصر وأتى على الأهرام، أحب أن يهدم أحدها ليعلم ما فيها، فقيل له: إنك لا تقدر على ذلك؟ فقال: لا بدّ من فتح شيء منه، ففتحت له الثلمة المفتوحة الآن بنار توقد وخلّ يرش ومعاول وحدّادين يعملون فيها حتى أنفق عليها أموالا عظيمة، فوجدوا عرض الحائط قريبا من عشرين ذراعا، فلما انتهوا إلى آخر الحائط، وجدوا خلف الثقب مطهرة خضراء فيها ذهب مضروب، وزن كل دينار أوقية، وكان عددها ألف دينار، فجعل المأمون يتعجب من ذلك الذهب ومن جودته، ثم أمر بجملة ما أنفق على(1/213)
الثلمة فوجدوا الذهب الذي أصابوه لا يزيد على ما أنفقوه، ولا ينقص فعجب من معرفتهم بمقدار ما ينفق عليه، ومن تركهم ما يوازيه في الموضع عجبا عظيما، وقيل: إن المطهرة التي وجد فيها الذهب كانت من زبرجد، فأمر المأمون بحملها إلى خزانته، وكان آخر ما عمل من عجائب مصر.
وأقام الناس سنين يقصدونه، وينزلون فيه الزلاقة التي فيه، فمنهم من يسلم ومنهم من يهلك، فاتفق عشرون من الأحداث على دخوله، وأعدّوا لذلك ما يحتاجون من طعام وشراب، وحبال وشمع ونحوه، ونزلوا في الزلاقة، فرأوا فيها من الخفاش ما يكون كالعقبان يضرب وجوههم، ثم إنهم أدلوا أحدهم بالحبال، فانطبق عليه المكان، وحاولوا جذبه حتى أعياهم فسمعوا صوتا أربعهم فغشي عليهم، ثم قاموا وخرجوا من الهرم، فبينما هم جلوس يتعجبون مما وقع لهم، إذ أخرجت الأرض صاحبهم حيا من بين أيديهم يتكلم بكلام لم يعرفوه، ثم سقط ميتا، فحملوه ومضوا به فأخذهم الخفراء وأتوا بهم إلى الوالي فحدّثوه خبرهم، ثم سألوا عن الكلام الذي قال صاحبهم قبل موته، فقيل لهم:
معناه: هذا جزاء من طلب ما ليس له، وكان الذي فسر لهم معناه بعض أهل الصعيد.
وقال علي بن رضوان الطبيب: فكرت في بناء الأهرام، فأوجب علم الهندسة العلمية ورفع الثقيل إلى فوق أن يكون القوم هندسوا سطحا مربعا، ونحتوا الحجارة ذكرا وأنثى، ورصوها بالجبس البحريّ إلى أن ارتفع البناء مقدار ما يمكن رفع الثقيل، وكانوا كلما صعدوا ضموا البناء حتى يكون السطح الموازي للمربع الأسفل مربعا أصغر من المربع السفلانيّ، ثم عملوا في السطح المربع الفوقانيّ مربعا أصغر بمقدار ما بقي في الحاشية ما يمكن رفع الثقيل إليه، وكلما رفعوا حجرا مهندما رصوه إليه ذكرا وأنثى، إلى أن ارتفع مقدار مثل المقدار الأوّل، ولم يزالوا يفعلون ذلك إلى أن بلغوا غاية لا يمكنهم بعدها أن يفعلوا ذلك فقطعوا الارتفاع، ونحتوا الجوانب البارزة التي فرضوها لرفع الثقيل، ونزلوا في النحت من فوق إلى أسفل، وصار الجميع هرما واحدا.
وقياس الهرم الأوّل: بالذراع التي تقاس بها اليوم الأبنية بمصر، كل حاشية منه أربعمائة ذراع، يكون بالذراع السوداء التي طول كل ذراع منها أربعة وعشرون أصبعا خمسمائة ذراع، وذلك أن قاعدته مربع متساوي الأضلاع، والزوايا ضلعان منهما، على خط نصف النهار، وضلعان على خط المشرق والمغرب، وكل ضلع بالذراع السوداء خمسمائة ذراع، والخط المنحدر على استقامة من رأس الهرم إلى نصف ضلع المربع أربعمائة وسبعون ذراعا، يكون إذا تمم أيضا، خمسمائة ذراع.
وأحيط بالهرم، أربع مثلثات ومربع، وكل مثلث منها متساوي الساقين، كل ساق منه إذا تمم خمسمائة وستون ذراعا، والمثلثات الأربعة تجتمع رؤوسها عند نقطة واحدة، وهي(1/214)
رأس الهرم إذا تمم فيلزم أن يكون عموده أربعمائة وثلاثين ذراعا، وعلى هذا العمود مراكز أثقاله، ويكون تكسير كل مثلث من مثلثاته: مائة وخمسة وعشرين ألف ذراع، إذا اجتمع تكاسيرها كان مبلغ تكسير سطح هذا الهرم: خمسمائة ألف ذراع بالسوداء، وما أحسب على وجه الأرض بناء أعظم منه ولا أحسن هندسة ولا أطول، والله أعلم.
وقد فتح المأمون نقبا من هذا الهرم، فوجد فيه زلاقة تصعد إلى بيت مربع مكعب، ووجد في سطحه قبر رخام وهو باق فيه إلى اليوم، ولم يقدر أحد يحطه، وبذلك أخبر جالينوس، أنها قبور. فقال في آخر الخامسة من تدبير الصحة بهذا اللفظ، وهم يسمون، من كان في هذا السن: الهرم، وهو اسم مشتق من الأهرام التي هم إليها صائرون عن قريب.
وقال الحوقليّ في صفة مصر: وبها الهرمان اللذان ليس على وجه الأرض لهما نظير في ملك مسلم ولا كافر ولا عمل ولا يعمل لهما، وقرأ بعض بني العباس على أحدهما:
إني قد بنيتهما فمن كان يدّعي قوّة في ملكه فليهدمها، فالهدم أيسر من البنيان، فهمّ بذلك وأظنه المأمون أو المعتصم، فإذا خراج مصر لا يقوم به يومئذ، وكان خراجها على عهده بالإنصاف في الجباية وتوخي الرفق بالرعية والمعدلة إذا بلغ النيل سبع عشرة ذراعا وعشر أصابع، أربعة آلاف ألف ومائتي ألف وسبعة وخمسين ألف دينار، والمقبوض على الفدّان، دينارين، فأعرض عن ذلك ولم يعد فيه شيئا.
وفي حدّ الفسطاط في غربيّ النيل أبنية عظام يكثر عددها مفترشة في سائر الصعيد تدعى: الأهرام، وليست كالهرمين اللذين تجاه الفسطاط، وعلى فرسخين منها ارتفاع كل واحد منهما: أربعمائة ذراع، وعرضه كارتفاعه، مبنيّ بحجارة الكدّان التي سمك الحجر، وطوله وعرضه من العشر أذرع إلى الثمان بحسب ما دعت الحاجة إلى وضعه في زيادته ونقصه، وأوجبته الهندسة عندهم لأنهما كلما ارتفعا في البناء ضاقا حتى يصير أعلاهما من كل واحد منهما مثل مبرك جمل، وقد ملئت حيطانهما بالكتابة اليونانية، وقد ذكر قوم أنهما قبران وليس كذلك، وإنما حمل صاحبهما على عملهما أنه قضى بالطوفان أنه يهلك جميع ما على وجه الأرض إلا ما حصن في مثلهما، فخزن ذخائره وأمواله فيهما، وأتى الطوفان، ثم نضب فصار ما كان فيهما إلى بيصر بن مصرايم بن حام بن نوح، وقد خزن فيهما بعض الملوك المتأخرين وجعلهما هراءه، والله أعلم.
وقال أبو يعقوب محمد بن إسحاق النديم «1» الوراق في كتاب الفهرست: وقد ذكر هرمس البابليّ قد اختلف في أمره فقيل: إنه كان أحد السدنة السبعة الذين رتبوا لحفظ البيوت السبعة، وإنه كان لترتيب عطارد وباسمه سمي، فإن عطارد باللغة الكلدانية: هرمس،(1/215)
وقيل: إنه انتقل إلى أرض مصر بأسباب، وإنه ملكها وكان له أولاد منهم: طا، وصا، وأشمن، وأتريب، وقفط، وإنه كان حكيم زمانه، وإنه لما توفي دفن في البناء الذي يعرف بمدينة مصر: بأبي هرمس، ويعرفه العامة بالهرمين، فإن أحدهما قبره والآخر قبر زوجته، وقيل: قبر ابنه الذي خلفه بعد موته، وهذه البنية يعني الأهرام: طولها بالذراع الهاشمي، أربعمائة ذراع وثمانون ذراعا على مساحة أربعمائة وثمانين ذراعا، ثم ينخرط البناء فإذا حصل الإنسان في رأسه كان مقدار سطحه أربعين ذراعا، هذا بالهندسة وفي وسط هذا السطح، قبة لطيفة في وسطها شبيهة بالمقبرة، وعند رأس ذلك القبر صخرتان في نهاية النظافة والحسن وكثرة التلوّن، وعلى كل واحدة منهما شخصان من حجارة، صورة ذكر وأنثى، وقد تلاقيا بوجهيهما، وبيد الذكر لوح من حجارة فيه كتابة، وبيد الأنثى مرآة، والرف ذهّب نقشه نقاش، وبين الصخرتين برنية من حجارة على رأسها غطاء ذهب، فلما قلع فإذا فيها شبيه بالنار بغير رائحة قد يبس، وفيها حقة ذهب فنزع رأسها، فإذا فيها دم عبيط ساعة قرعه الهواء جمد، كما يجمد الدم وجف، وعلى القبور أغطية حجارة، فلما قلعت إذا رجل نائم على قفاه على نهاية الصحة والجفاف بين الخلقة ظاهر الشعور، وإلى جنبه امرأة على هيئته، قال: وذلك السطح منقر نحو قامة كما يدور مثل المسمار ذات آزاج من حجارة فيها صور وتماثيل مطروحة وقائمة، وغير ذلك من الآلة التي لا تعرف أشكالها.
وقال العلامة موفق الدين عبد اللطيف بن أبي العز يوسف بن أبي البركات محمد بن عليّ بن سعد البغدادي المعروف بابن المطحن في سيرته، وجاء رجل جاهل عجميّ، فخيّل إلى الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف أن الهرم الصغير تحته مطلب، فأخرج إليه الحجارين وأكثر العسكر وأخذوا في هدمه، وأقاموا على ذلك شهورا، ثم تركوه عن عجز وخسران مبين في المال والعقل، ومن يرى حجارة الهرم يقول: إنه قد استوصل الهرم، ومن يرى الهرم لا يجد به إلا تشعيثا يسيرا، وقد أشرفت على الحجارين فقلت لمقدّمهم: هل تقدرون على إعادته؟ فقال: لو بذل لنا السلطان عن كل حجر ألف دينار لم يمكنا ذلك.
وقال أبو الحسن المسعودي في مروج الذهب: وأما الأهرام فطولها عظيم وبنيانها عجيب عليها أنواع من الكتابات بأقلام الأمم السالفة، والممالك الدائرة لا يدرى ما تلك الكتابة ولا المراد بها، وقد قال من عني بتقدير ذرعها: أن مقدار ارتفاع الهرم الكبير ذهابا في الجوّ نحو أربعمائة ذراع أو أكثر، وكلما صعد دق ذلك، والعرض نحو ما وصفنا، وعليها من الرسوم علوم وخواص وسحر وأسرار الطبيعة، وإن من تلك الكتابة مكتوبا، إنا بنيناها فمن يدّعي موازاتنا في الملك، وبلوغ القدرة وانتهاء أمر السلطان فليهدمها وليزع رسمها فإن الهدم أيسر من البناء والتفريق أسهل من التأليف.
وقد ذكر أن بعض ملوك الإسلام شرع يهدم بعضها فإذا خراج مصر لا يفي بقلعها،(1/216)
وهي من الحجر والرخام، وأنها قبور لملوك، وكان الملك منهم إذا مات، وضع في حوض من حجارة، ويسمى بمصر والشام: الجرون، وأطبق عليه، ثم بني من الهرم على مقدار ما يريدون من ارتفاع الأساس، ثم يحمل الحوض، ويوضع وسط الهرم، ثم يقنطر عليه البنيان، ثم يرفعون البناء على المقدار الذي يرونه، ويجعل باب الهرم تحت الهرم، ثم يحفر له طريق في الأرض، ويعقد أزج طوله تحت الأرض مائة ذراع أو أكثر، ولكل هرم من هذه الأهرام باب مدخله على ما وصفت، قال: وكان القوم يبنون الهرم من هذه الأهرام مدرجا ذا مراق كالدرج، فإذا فرغوا نحتوه من فوق إلى أسفل، فهذه كانت جبلتهم، وكانوا مع ذلك لهم قوّة وصبر وطاعة.
وقال في كتاب البنية والإشراف: والهرمان اللذان في الجانب الغربيّ من فسطاط مصر هما من عجائب بنيان العالم، كل واحد منهما أربعمائة ذراع في سمك مثل ذلك، مبنيان بالحجر العظيم على الرياح الأربع كل ركن من أركانهما يقابل ريحا منها فأعظمهما فيهما تأثيرا ريح الجنوب وهي: المريسي وأحد هذين الهرمين، قبر أعاديمون، والآخر قبر هرمس، وبينهما نحو ألف سنة وأعاديمون المتقدّم، وكان سكان مصر وهم الأقباط يعتقدون نبوّتهما قبل ظهور النصرانية فيهم على ما يوجبه رأي الصابئين في النبوّات لا على طريق الوحي، بل هم عندهم نفوس طاهرة صفت وتهذبت من أدناس هذا العالم، فاتحدت بهم موادّ علوية، فأخبروا عن الكائنات قبل كونها، وعن سرائر العالم وغير ذلك، وفي العرب:
من اليمانية من يرى أنهما قبر شدّاد بن عاد وغيره من ملوكهم السالفة الذين غلبوا على بلاد مصر في قديم الدهر، وهم العرب العارية من العماليق وغيرهم وهي عند من ذكرنا من الصابئين قبور أجساد طاهرة.
وذكر أبو زيد البلخيّ: أنه وجد مكتوبا على الأهرام بكتابتهم خط فعرّب، فإذا هو:
بني هذان الهرمان والنسر الوقع في السرطان، فحسبوا من ذلك الوقت إلى الهجرة النبوية، فإذا هو: ست وثلاثون ألف سنة شمسية مرتين، يكون اثنتين وسبعين ألف سنة شمسية.
وقال الهمداني في كتاب الإكليل: لم يوجد مما كان تحت الماء وقت الغرق من القرى، قرية فيها بقية، سوى نهاوند وجدت كما هي اليوم لم تتغير، وأهرام الصعيد من أرض مصر.
وذكر أبو محمد عبد الله بن عبد الرحيم القيسي في كتاب تحفة الألباب: أن الأهرام مربعة الجملة مثلثة الوجوه، وعددها ثمانية عشر هرما، في مقابلة مصر الفسطاط ثلاثة أهرام، أكبرها دورة ألفا ذراع في كل وجه خمسمائة ذراع، وعلوه خمسمائة ذراع، وكل حجر من حجارتهما ثلاثون ذراعا في غلظ عشرة أذرع قد أحكم إلصاقه ونحته.
ومنها عند مدينة فرعون يوسف، هرم أعظم، وأكبر دوره ثلاثة آلاف ذراع، وعلوه(1/217)
سبعمائة من حجارة، كل حجر خمسون ذراعا، وعند مدينة فرعون موسى أهرام أكبر وأعظم، وهرم آخر يعرف بهرم، مدون كأنه جبل، وهو خمس طبقات، وفتح المأمون الهرم الكبير الذي تجاه الفسطاط، قال: وقد دخلت في داخله، فرأيت قبة مربعة الأسفل مدوّرة الأعلى كبيرة في وسطها بئر عمقها، عشرة أذرع، وهي مربعة ينزل الإنسان فيها، فيجد في كل وجه من تربيع البئر بابا يفضي إلى دار كبيرة فيها موتى من بني آدم عليهم أكفان كثيرة أكثر من مائة ثوب على كل واحد، قد بليت بطول الزمان واسودّت وأجسامهم مثلنا ليسوا طوالا، ولم يسقط من أجسامهم، ولا من شعورهم شيء، وليس فيهم شيخ، ولا من شعره أبيض، وأجسادهم قوية لا يقدر الإنسان أن يزيل عضوا من أعضائهم البتة، ولكنهم خفوا حتى صاروا كالغثا لطول الزمان، وفي تلك البئر أربعة من الدور مملوءة بأجساد الموتى، وفيها خفاش كثير، وكانوا يدفنون أيضا جميع الحيوان في الرمال، ولقد وجدت ثيابا ملفوفة كثيرا مقدار جرمها، أكثر من ذراع، وقد احترقت تلك الثياب من القدم، فأزلت الثياب إلى أن ظهرت خرق صحاح قوية بيض من كتان أمثال العصائب فيها أعلام من الحرير الأحمر، وفي داخلها هدهد ميت لم يتناثر من ريشه، ولا من جسده شيء كأنه قد مات الآن.
وفي القبة التي في الهرم، باب يفضي إلى علو الهرم، وليس فيه درج عرضه نحو خمسة أشبار، يقال: إنه صعد فيها في زمان المأمون فأفضوا إلى قبة صغيرة فيها صورة آدمي من حجر أخضر كالدهنج، فأخرجت إلى المأمون، فإذا هي مطبقة، فلما فتحت وجد فيها جسد آدميّ عليه درع من ذهب مزين بأنواع الجواهر وعلى صدره نصل سيف لا قيمة له، وعند رأسه حجر ياقوت أحمر كبيضة الدجاجة يضيء كلهب النار فأخذه المأمون.
وقد رأيت الصنم الذي أخرج منه ذلك الميت ملقى عند باب دار الملك بمصر في سنة إحدى عشرة وخمسمائة.
وقال القاضي الجليل أبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعي: روي عليّ بن الحسن بن خلف بن قديد عن يحيى بن عثمان بن صالح عن محمد بن عليّ بن صخر التميميّ قال:
حدّثني رجل من عجم مصر من قرية من قراها تدعى قفط، وكان عالما بأمور مصر وأحوالها وطالبا لكتبها القديمة ومعادنها، قال: وجدنا في كتبنا القديمة، قال: وأما الأهرام فإن قوما احتفروا قبرا في دير أبي هرميس، فوجدوا فيه ميتا في أكفانه، وعلى صدره قرطاس ملفوف في خرق فاستخرجوه من الخرق، فرأوا كتابا لا يعرفونه، وكان الكتاب بالقبطية الأولى، فطلبوا من يقرأه لهم، فلم يقدروا عليه، فقيل لهم: إنّ بدير القلمون من أرض الفيوم راهبا يقرأه، فخرجوا إليه، وقد ظنوا أنه في الضيعة، فقرأه لهم، وكان فيه: كتب هذا الكتاب في أوّل سنة من ملك ديقلطيانس الملك، وإنّا استنسخناه من كتاب نسخ: في أوّل سنة من ملك فيلبش الملك، وإنّ فيلبش استنسخه من صحيفة من ذهب فرق كتابتها حرفا حرفا، وكان من(1/218)
الكتاب الأوّل، ترجمه له أخوان من القبط يقال لأحدهما: ايلو، والآخر: يرثا، وإن الملك فيلبس سألهما عن سبب معرفتهما بما جهله الناس من قراءته، فذكرا أنهما من ولد رجل من أهل مصر الأوائل لم ينج من الطوفان من أهل مصر أحد غيره، وكان سبب نجاته أنه أتى نوحا عليه السلام فآمن به، ولم يأته من أهل مصر غيره، فحمله معه في السفينة، فلما نضب ماء الطوفان أتى مصر، ومعه نفر من ولد حام بن نوح، وكان بها حتى هلك، فورث ولده علم كتاب أهل مصر الأوّل، فورثناه عنه كابرا عن كابر.
وكان تاريخه الذي مضى إلى أن استنسخه فيلبش، ألفا وثلثمائة واثنتين وسبعين سنة، وإنّ الذي استنسخه في صحيفة من ذهب فرق كتابتها حرفا حرفا على ما وجده فيلبش، وإن تاريخه إلى أن استنسخه ألف وسبعمائة سنة وخمس وثمانون سنة.
وكان الكتاب المنسوخ: إنا نظرنا فيما تدل عليه النجوم، فرأينا أن آفة نازلة من السماء وخارجة من الأرض، فلما بان لنا الكون نظرنا ما هو فوجدناه ماء مفسدا للأرض وحيوانها ونباتها، فلما تمّ اليقين من ذلك عندنا قلنا لملكنا سوريد بن سهلوق: مر ببناء أفروشات وقبر لك وقبر لأهل بيتك، فبنى لهم الهرم الشرقيّ، وبنى لأخيه هو حيث الهرم الغربيّ، وبنى لابن هو حيث الهرم الملوّن، وبنيت أفروشات في أسفل مصر، وأعلاها فكتبنا في حيطانها علم غامض أمر النجوم وعللها والصنعة والهندسة والطلب، وغير ذلك مما ينفع ويضرّ ملخصا مفسرا لمن عرف كلامنا وكتابتنا، وإن هذه الآفة نازلة بأقطار العالم، وذلك عند نزول قلب الأسد في أوّل دقيقة من رأس السرطان، ويكون الكوكب عند نزوله إياها في هذه المواضع من الفلك الشمس والقمر في أوّل دقيقة من رأس الحمل، وقوريس في درجة وثمان وعشرين دقيقة من الحمل، وراويس في الحوت في تسع وعشرين درجة وثمان وعشرين دقيقة، وآويس في الحوت في تسع وعشرين درجة وثلاث دقائق، وأفرد وبطر في الحوت في ثمان وعشرين درجة ودقائق، وهرمس في الحوت في سبع وعشرين ودقائق، والجوزهر في الميزان وأوج القمر في الأسد في خمس درجات ودقائق.
ثم نظرنا هل يكون بعد هذه الآفة كون مضرّ بالعالم؟ فأصبنا الكواكب تدل على أن آفة نازلة من السماء إلى الأرض وإنها ضدّ الآفة الأولى وهي نار محرقة أقطار العالم، ثم نظرنا متى يكون هذا الكون المضر؟ فرأيناه يكون، عند حلول قلب الأسد في آخر دقيقة من الدرجة الخامسة عشر من الأسد، ويكون إبليس معه في دقيقة واحدة متصلة بقوريس من تثليث الرامي، ويكون راويس مشتري في أوّل الأسد في آخر احتراقه، ومعه آويس في دقيقة، ويكون سليس في الدلو مقابلا لإيليس الشمس، ومعه الذنب في اثنتين وعشرين، ويكون كسوف شديد له مكث يوازي القمر، ويكون هرمس عطارد في بعده الأبعد أمامها مقبلين، أما إفرد وبطن فللاستقامة، وأما هرمس فللرجعة.(1/219)
قال الملك: فهل عندكم من خبر توقفونا عليه غير هاتين الآفتين؟ قالوا: إذا قطع قلب الأسد ثلثي سدس أدواره لم يبق من حيوان الأرض متحرّك إلا تلف، فإذا استتم أدواره تحللت عقد الفلك، وسقط على الأرض، قال لهم: وأيّ يوم فيه انحلال الفلك؟ قالوا:
اليوم الثاني من بدو حركة الفلك، فهذا ما كان في القرطاس.
فلما مات الملك سوريد بن سهلوق دفن في الهرم الشرقيّ، ودفن هو حيث في الهرم الغربيّ، ودفن كرورس في الهرم الذي أسفله من حجارة أسوان وأعلاه كدان.
ولهذه الأهرام أبواب في أزج تحت الأرض طول كل أزج مائة وخمسون ذراعا.
فأما باب الهرم الشرقيّ فمن الناحية البحرية، وأما باب أزج الهرم الموزر فمن الناحية القبلية.
وفي الأهرام من الذهب وحجارة الزمرد ما لا يحتمله الوصف.
وإنّ مترجم هذا الكتاب من القبطيّ إلى العربيّ أجمل التاريخين إلى أوّل يوم من توت، وهو يوم الأحد طلوع شمسه سنة خمس وعشرين ومائتين من سني العرب، فبلغت أربعة آلاف وثلثمائة وإحدى وعشرين سنة لسني الشمس، ثم نظر كم مضى للطوفان إلى يومه هذا فوجده ألفا وسبعمائة وإحدى وأربعين سنة وتسعة وخمسين يوما وثلاث عشرة ساعة وأربعة أخماس ساعة وتسعة وخمسين جزءا من أربعمائة جزء من ساعة، فألقاها من الجملة فبقي معه ثلثمائة وتسع وتسعون سنة ومائتان وخمسة أيام وعشر ساعات وأحد وعشرون جزءا من أربعمائة جزء من ساعة، فعلم أن هذا الكتاب المؤرخ كتب قبل الطوفان بهذه السنين والأيام والساعات والكسر من الساعة.
وأما الهرم الذي بدير أبي هرميس، فإنه قبر قرياس، وكان فارس أهل مصر، وكان يعدّ بألف فارس، فإذا لقيهم لم يقوموا به وانهزموا، وإنه مات فجزع الملك عليه جزعا بلغ منه، واكتأبت لموته الرعية، فدفنوه بدير هرميس وبنوا عليه الهرم مدرجا، وكان طينه الذي بني به مع الحجارة من الفيوم، وهذا معروف إذا نظر إلى طينه لم يعرف له معدن إلا بالفيوم وليس بمنف ووسيم له شبه من الطين.
وأما قبر الملك صاحب قرياس هذا، فإنه الهرم الكبير من الأهرام التي في بحري دير أبي هرميس، وعلى بابه لوح كدان مكتوب فيه باللازورد طول اللوح: ذراعان في ذراع وكله مملوء كتبا مثل كتب البرابي يصعد إلى باب الهرم بدرج بعضها صحيح لم ينخرم، وفي هذا الهرم ذخائر صاحبه من الذهب وحجارة الزمرد، وإنما سدّ بابه حجارة سقطت من أعاليه ومن وقف عليه رآه بيتا.(1/220)
وقال ابن عفير عن أشياخه: أن جياد بن مياد بن شمر بن شدّاد بن عاد بن عوص بن أرم بن سام بن نوح عليه السلام، ملك الإسكندرية، وكانت تسمى إرم ذات العماد، فطال ملكه، وبلغ ثلثمائة سنة.
وهو الذي سار وبنى الأهرام وزبر فيها: أنا جياد بن مياد بن شمر بن شدّاد الشادّ بزراعة الواد المؤيد الأوتاد الجامع الصخر في البلاد المجند الأجناد الناصب العماد الكند الكناد تخرجه أمّة اسم نبيها حماد آية ذلك إذا غشي بلد البلاد سبعة ملوك أجناس السواد تاريخ هذا الزبر ألف سنة وأربعمائة سنة عداد.
وقال ابن عفير وابن عبد الحكم: وفي زمان شدّاد بن عاد بنيت الأهرام فيما ذكر بعض المحدّثين، ولم نجد عند أحد من أهل العلم من أهل مصر معرفة في الأهرام ولا خبر ثبت.
وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكيم: ما أحسب الأهرام بنيت إلا قبل الطوفان، لأنها لو بنيت بعده لكان علمها عند الناس.
وقال عبد الله بن شبرمة الجرهميّ: لما نزلت العماليق أرض مصر حين أخرجها جرهم من مكة بنت الأهرام واتخذت لها المصانع، وبنت فيها العجائب، ولم تزل بمصر حتى أخرجها مالك بن ذعر الخزاعي.
وقال محمد بن عبد الحكم: كان من وراء الأهرام إلى المغرب أربعمائة مدينة سوى القرى من مصر إلى المغرب في غربيّ الأهرام.
وقال ابن عفير: ولم يزل مشايخنا من أهل مصر يقولون: الأهرام بناها شدّاد بن عاد وهو الذي بنى المغار، وجنّد الأجناد، فالمغار والأجناد هي: الدفائن، وكانوا يقولون بالرجعة، وإذا مات أحدهم دفن معه ماله كائنا ما كان، وإن كان صانعا دفن معه آلة صنعته، وكانت الصابئة تحج إلى الأهرام.
وقال أبو الريحان البيروتي في كتاب الآثار الباقية عن القرون الخالية: والفرس والمجوس تنكر الطوفان، وأقرّ به بعض الفرس لكنهم قالوا: كان بالشام والمغرب منه شيء في زمان طهمورث «1» ، ولكنه لم يعمّ العمران كله، ولم يتجاوز عقبة حلوان، ولم يبل ممالك الشرق، وأن أهل المغرب لما أنذر به حكماؤهم بنوا أبنية كالهرمين بمصر ليدخلوها عند الآفة، وإن آثار دماء الطوفان وتأثيرات الأمواج كانت بينة على أنصاف الهرمين لم تتجاوزهما، انتهى.
ويقال: إن الطوفان لما نضب ماؤه لم يوجد تحت الماء قرية سوى: نهاوند، وجدت(1/221)
كما هي، وأهرام مصر وبرابيها وهي التي بناها هرميس الأوّل الذي تسميه العرب: إدريس، وكان قد ألهمه الله علم النجوم، فدلته على أنه سينزل بالأرض آفة وأنه سيبقى بقية من العالم يحتاجون فيها إلى علم، فبنى هو وأهل عصره الأهرام والبرابي وكتب علمه فيها.
وقال أبو الصلت الأندلسيّ في رسالته: وقد ذكر أخلاق أهل مصر، إلا أنه يظهر من أمرهم أنه كان فيهم طائفة من ذوي المعارف والعلوم، وخصوصا علم الهندسة والنجوم، ويدل على ذلك ما خلفوه من الصنائع البديعة المعجزة كالأهرام والبرابي، فإنها من الآثار التي حيرت الأذهان الثاقبة، واستعجزت الأفكار الراجحة، وتركت لها شغلا بالتعجب منها والتفكر فيها، وفي مثلها يقول أبو العلاء أحمد بن سليمان المعري من قصيدته التي يرثي بها أباه:
تضلّ العقول الهبرزيات رشدها ... ولا يسلم الرأي القويم من الأفن
وقد كان أرباب الفصاحة كلما ... رأوا حسنا عدّوه من صنعة الجن
وأيّ شيء أعجب، وأغرب بعد مقدورات الله عز وجلّ، ومصنوعاته من القدرة على بناء جسم جسيم من أعظم الحجارة مربع القاعدة مخروط الشكل، ارتفاع عموده ثلثمائة ذراع وتسعة عشر ذراعا يحيط به أربعة سطوح مثلثات متساويات الأضلاع طول كل ضلع منها: أربعمائة ذراع وستون، وهو مع العظم من أحكام الصنعة وإتقان الهندام، وحسن التقدير بحيث لم يتأثر إلى هلم جرّا بعصف الرياح وهطل السحاب، وزعزعة الزلازل وهذه صفة كل واحد من الهرمين المحاذيين للفسطاط من الجانب الغربيّ على ما شاهدناه منهما.
وقد ذكرت عجائب مصر وإن ما على وجه الأرض بنية إلا وأنا أرثي لها من الليل والنهار إلّا الهرمان فأنا أرثي لليل والنهار منهما، وهذان الهرمان لهما إشراف على أرض مصر وإطلال على بطائحها، وإصعاد في جوفها وهما اللذان أراد أبو الطيب المتنبي بقوله شعر:
أين الذي الهرمان من بنيانه ... ما قومه ما يومه ما المصرع
تتخلف الآثار عن سكانها ... حينا ويدركها الفناء فتتبع
واتفق يوما إنا خرجنا إليهما فلما طفنا بهما واستدرنا حولهما، كثر التعجب منهما فقال بعضنا:
بعيشك هل أبصرت أعجب منظرا ... على طول ما أبصرت من هرمي مصر
أنافا عنانا للسماء وأشرفا ... على الجوّ إشراف السماك أو النسر
وقد وافينا نشزا من الأرض عاليا ... كأنهما نهدان قاما على صدر
وزعم قوم: إنّ الأهرام قبور ملوك عظام آثروا أن يتميزوا بها على سائر الملوك بعد(1/222)
مماتهم كما تميزوا عنهم في حياتهم وتوخوا أن يبقى ذكرهم بسببها على تطاول الدهور وتراخي العصور.
ولما وصل الخليفة المأمون إلى مصر أمر بنقبها، فنقب أحد الهرمين المحاذيين للفسطاط بعد جهد شديد وعناء طويل، فوجدوا داخله مهاوي ومراقي يهول أمرها ويعسر السلوك فيها، ووجدوا في أعلاها بيتا مكعبا طول كل ضلع من أضلاعه، نحو من ثمانية أذرع، وفي وسطه حوض رخام مطبق، فلما كشف غطاؤه لم يجدوا فيه غير رمّة بالية قد أتت عليها العصور الخالية، فعند ذلك أمر المأمون بالكف عن نقب ما سواه، ويقال: إن النفقة على نقبة كانت عظيمة والمؤونة شديدة.
ومن الناس من زعم: أنّ هرمس الأوّل المدعوّ بالمثلث، بالنبوّة والملك والحكمة، وهو الذي تسميه العبرانيون: خنوخ بن يزد بن مهلايل بن قينان بن آنوش بن شيث بن آدم عليه السلام، وهو إدريس عليه السلام استدل من أحوال الكواكب على كون الطوفان يعمّ الأرض، فأكثر من بنيان الأهرام وإيداعها الأموال وصحائف العلوم، وما يشفق عليه من الذهاب والدروس حفظا لها واحتياطا عليها.
ويقال: إن الذي بناها ملك اسمه: سوريد «1» بن سهلوق بن سرياق، وقال آخرون: إن الذي بنى الهرمين المحاذيين للفسطاط شدّاد بن عاد، لرؤيا رآها، والقبط تنكر دخول العمالقة بلد مصر، وتحقق أن بانيها سوريد لرؤيا رآها، وهي أن آفة تنزل من السماء وهي الطوفان، وقالوا: إنه بناهما في مدّة ستة أشهر، وغشاهما بالديباج الملوّن، وكتب عليهما:
قد بنيناهما في ستة أشهر قل لمن يأتي من بعدنا يهدمهما في ستمائة سنة، فالهدم أيسر من البنيان، وكسوناهما الديباج الملوّن، فليكسهما حصرا، فالحصر أهون من الديباج، ورأينا سطوح كل واحد من هذين الهرمين، مخطوطة من أعلاها إلى أسفلها بسطور متضايقة متوازية من كتابة بانيها، لا تعرف اليوم أحرفها ولا تفهم معانيها، وبالجملة الأمر فيها عجيب، حتى أن غاية الوصف لها والإغراق في العبارة عنها، وعن حقيقة الموصوف منها بخلاف ما قاله عليّ بن العباس الروميّ، وإن تباعد الموصوفان وتباين المقصودان إذ يقول:
إذا ما وصفت امرأ لامرىء ... فلا تغل في وصفه واقصد
فإنّك إن تغل تبد الظنو ... ن فيه إلى الغرض الأبعد
فيصغر من حيث عظمته ... لفضل المغيب على المشهد
ويقال: إنّ المأمون أمر من صعد الهرم الكبير أن يدلي حبلا فكان طوله ألف ذراع بالذراع الملكيّ، وهو ذراع وخمسان، وتربيعه أربعمائة ذراع في مثلها، وكان صعوده في(1/223)
ثلاث ساعات من النهار، وأنه وجد مقدار رأس الهرم قدر مبرك ثمانية جمال.
ويقال: إنه وجد على المقبور في الهرم حلّة قد بليت، ولم يبق منها سوى سلوكها من الذهب، وأنّ ثخانة الطلاء الذي عليه قدر شبر من مرّ وصبر.
ويقال: إنه وجد في موضع من هذا الهرم إيوان في صدره ثلاثة أبواب على ثلاثة بيوت طول، كل باب منها عشرة أذرع في عرض خمسة أذرع من رخام منحوت محكم الهندام وعلى صفحاته خط أزرق لم يحسنوا قراءته، وأنهم أقاموا ثلاثة أيام يعملون الحيلة في فتح هذه الأبواب إلى أن رأوا أمامها على عشرة أذرع منها ثلاثة أعمدة من مرمر، وفي كل عمود خرق في طوله وفي وسط الخرق صورة طائر، ففي الأوّل من هذه العمد صورة حمام من حجر أخضر، وفي الأوسط صورة بازي من حجر أصفر، وفي العمود الثالث صورة ديك من حجر أحمر، فحرّكوا البازي، فتحرّك الباب الأوّل الذي في مقابلته، فرفعوا البازي قليلا فارتفع الباب، وكان بحيث لا يرفعه مائة رجل من عظمه، فرفعوا التمثالين الآخرين، فارتفع البابان الآخران، فدخلوا إلى البيت الأوسط فوجدوا فيه ثلاثة سرر من حجارة شفافة مضيئة، وعليها ثلاثة من الأموات على كل ميت ثلاث حلل، وعند رأسه مصحف بخط مجهول، ووجدوا في البيت الآخر عدّة رفوف من حجارة عليها أسفاط من حجارة، فيها أوان من الذهب عجيبة الصنعة مرصعة بأنواع الجواهر، ووجدوا في البيت الثالث عدّة رفوف من حجارة عليها أسفاط من حجارة فيها آلات الحرب، وعدد السلاح، فقيس منها سيف فكان طوله سبعة أشبار، وكل ذرع من تلك الدروع اثنا عشر شبرا، فأمر المأمون بحمل ما وجد في البيوت، وأمر فحطت العمد فانطبقت الأبواب كما كانت.
ويقال: كانت عدّة الأهرام ثمانية عشر هرما منها تجاه مدينة الفسطاط ثلاثة: أكبرها دوره ألفا ذراع وهو مربع في كل وجه من وجوهه الأربعة خمسمائة ذراع، ويقال: إن المأمون لما فتحه وجد فيه حوضا من حجر مغطى بلوح من رخام، وهو مملوء بالذهب وعلى اللوح مكتوب بقلم عرّب فكان: إنّا عمرنا هذا الهرم في ألف يوم وأبحنا لمن يهدمه في ألف سنة، والهدم أسهل من العمارة، وكسونا جميعه بالديباج وأبحنا لمن يكسوه الحصر، والحصر أيسر من الديباج، وجعلنا في كل جهة من جهاته ما لا يقدر ما يصرف على الوصول إليه، فأمر المأمون أن يحسب ما صرف على النقب، فبلغ قدر ما وجد في الحوض من غير زيادة ولا نقص.
ويقال: إنه وجد فيه صورة آدميّ من حجر أخضر كالدهنج فيها طبق كالدواة ففتح فإذا فيه جسد آدميّ عليه درع من ذهب مزين بأنواع الجواهر، وعلى صدره نصل سيف لا قيمة له، وعند رأسه حجر من ياقوت أحمر في قدر بيضة الدجاجة، فأخذه المأمون وقال: هذا خير من خراج الذهب.(1/224)
وذكر بعض مؤرخي مصر: أنّ هذا الصنم الأخضر الذي وجدت الرمّة فيه لم يزل معلقا عند دار الملك بمدينة مصر إلى سنة إحدى عشرة وستمائة من سني الهجرة.
وكان عند مدينة فرعون، هرمان، وعند ميدوم، هرم، وهذا آخرها.
وفي سنة تسع وسبعين وخمسمائة من سني الهجرة ظهر بتربة بوصير من ناحية الجيزة بيت هرميس، ففتحه القاضي ابن الشهرزوري وأخذ منه أشياء من جملتها كباش، وقرود وضفادع من حجر بازهر، وقوارير من دهنج، وأصنام من نحاس.
وقال ابن خرداذبه: من عجيب البنيان أن الهرمين بمصر، سمك كل واحد منهما أربعمائة ذراع، وكلما ارتفع دق، وهما من رخام ومرمر، والطول أربعمائة ذراع في عرض أربعمائة ذراع مكتوب عليهما: باليد كل سحر وكل عجيب من الطب، ومكتوب عليهما:
إني بنيتهما فمن يدّعي قوّة في ملكه فليهدمهما فإنّ الهدم أيسر من البناء فاعتبر ذلك، فإذا خراج الدنيا لا يفي بهدمهما.
وقال في كتاب عجائب البنيان عن الأهرام: قد انفردت مصر بهذه الأشكال، فليس لها بغيرها تمثال يظنهما الناظر للديار المصرية نهدين، ويحسبهما القابل أن مكارم أهلها قد أعدّتهما للتكرّم ابلوجين تراهما العين على بعد المسافة، وإذا حدثت عن عجائبهما يظنّ أنه حديث خرافة، وقد أكثر الناس في ذكر الأهرام، ووصفها ومساحتها وهي كثيرة العدد جدّا، وكلّها ببرّ الجيزة على سمت مصر القديمة تمتدّ نحوا من مسافة ثلاثة أيام، وفي بوصير منها شيء كثير، وبعضها كبار، وبعضها صغار، وبعضها طين، وبعضها لبن، وأكثرها حجر، وبعضها مدرج وأكثرها مخروط أملس.
وقد كان منها بالجيزة: عدد كثير كلها صغار هدمت في زمن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب على يد الطواشي: بهاء الدين قراقوش، أخذ حجارتها وبنى بها القناطر في الجيزة، وقد بقي من هذه الأهرام المهدومة تلّها.
وأمّا الأهرام المتحدّث عنها فهي: ثلاثة أهرام موضوعة على خط مستقيم بالجيزة قبالة الفسطاط، وبينها مسافات كثيرة وزوايا متقابلة نحو الشرق، واثنان عظيمان جدّا في قدر واحد، وهما متقاربان ومبنيان بالحجارة البيض، وأما الثالث: فصغير عنهما نحو الربع لكنه مبنيّ بحجارة الصوّان الأحمر المنقط الشديد القوّة والصلابة، ولا يكاد يؤثر فيه الحديد إلا في الزمان الطويل، وتجده صغيرا بالقياس إلى ذينك فإذا أتيت إليه وأفردته بالنظر هالك مرآه وحيّر النظر في تأمله!.
وقد سلك في بناء الأهرام، طريق عجيب من الشكل والإتقان، ولذلك صبرت على ممرّ الأيام لا بل على ممرّها صبر الزمان، فإنك إذا تأملتها وجدت الأذهان الشريفة قد(1/225)
استهلكت فيها، والعقول الصافية قد أفرغت عليها مجهودها والأنفس النيرة قد أفاضت عليها أشرف ما عندها، والملكات الهندسية قد أخرجتها إلى الفعل مثالا في غاية إمكانها، حتى أنها تكاد تحدث عن قوّة قومها، وتخبر عن سيرتهم، وتنطق عن علومهم، وأذهانهم وتترجم عن سيرهم، وأخبارهم، وذلك أن وضعها على شكل مخروط ويبتدئ من قاعدة مربعة، وينتهي إلى نقطة. ومن خواص الشكل المخروط: أن مركز ثقله في وسطه يتساند على نفسه، ويتواقع على ذاته ويتحامل بعضه على بعض، وليس له جهة أخرى يتساقط عليها.
ومن عجيب وضعه، أنه شكل مربع قد قوبل بزوايا مهاب الرياح الأربع، فإن الريح تنكسر سورتها عند مسامتتها الزاوية، وليست كذلك عندما تلقي السطح.
وذكر المساح: أنّ قاعدة كل من الهرمين العظيمين أربعمائة ذراع بالذراع السوداء، وينقطع المخروط في أعلاه عند سطح مساحته عشرة أذرع في مثلها، وذكر أن بعض الرماة رمى سهما في قطر أحدهما، وفي سمكة فسقط السهم دون نصف المسافة، وذكر أنّ ذرع سطحها أحد عشر ذراعا بذراع اليد، وفي أحد هذين الهرمين، مدخل يلجه الناس يفضي بهم إلى مسالك ضيقة وأسراب متنافذة وآبار ومهالك، وغير ذلك على ما يحكيه من يلجه، وإنّ أناسا كثيرين لهم غرام به وتحيّل فيه فيتوغلون في أعماقه، ولا بدّ أن ينتهوا إلى ما يعجزون عن سلوكه.
وأما المسلوك المطروق كثيرا، فزلاقة تفضي إلى أعلاه، فيوجد فيه بيت مربع فيه ناوس من حجر، وهذا المدخل ليس هو الباب في أصل البناء، وإنما هو منقوب نقبا صادف اتفاقا، وذكر أنّ المأمون فتحه.
وحكى من دخله وصعد إلى البيت الذي في أعلاه فلما نزلوا حدّثوا بعظيم ما شاهدوه، وإنه مملوء بالخفافيش وأبوالها وتعظم فيه حتى تكون قدر الحمام، وفيه طاقات وروازن نحو أعلاه كأنها عملت مسالك للريح ومنافذ للضوء بحجارة جافية طول الحجر منها: من عشرة أذرع إلى عشرين ذراعا، وسمكه من ذراعين إلى ثلاثة أذرع، وعرضه نحو ذلك.
والعجب كل العجب من وضع الحجر على الحجر بهندام ليس في الإمكان أصح منه بحيث لا نجد بينهما مدخل إبرة ولا خلل شعرة، وبينهما طين لونه الزرقة لا يدرى ما هو؟
ولا صفته؟ وعلى تلك الحجارة كتابات بالقلم القديم المجهول الذي لم يوجد بديار مصر من يزعم أنه سمع من يعرفه، وهذه الكتابات كثيرة جدّا حتى لو نقل ما عليها إلى صحف لكانت قدر عشرة آلاف صحيفة، وقرأت في بعض كتب الصابئة القديمة: أنّ أحد هذين الهرمين، قبر أعاديمون، والآخر قبر هرمس، ويزعمون أنهما بيتان عظيمان، وأنّ أعاديمون أقدم وأعظم وإنّه كان يحجج إليهما ويهدى إليهما من أقطار البلاد.(1/226)
وكان الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف بن أيوب لما استقل بالملك بعد أبيه، سوّل له جهلة أصحابه أن يهدم هذه الأهرام فبدأ بالصغير الأحمر، فأخرج إليه النقابين والحجارين وجماعة من أمراء دولته وعظماء مملكته وأمرهم بهدمه، فخيموا عنده وحشروا الرجال والصناع، ووفروا عليهم النفقات وأقاموا نحو ثمانية أشهر بخيلهم ورجلهم يهدمون كل يوم بعد الجهد، واستفراغ بذل الوسع الحجر والحجرين فقوم من فوق يدفعونه بالأسافين وقوم من أسفل يجذبونه بالقلوس «1» والأشطان «2» ، فإذا سقط سمع له وجبة عظيمة من مسافة بعيدة حتى ترجف الجبال، وتزلزل الأرض ويغوص في الرمل فيتعبون تعبا آخر حتى يخرجوه، ويضربون فيه بالأسافين بعد ما ينقبون لها موضعا، ويثبتونها فيه فيتقطع قطعا وتسحب كل قطعة على العجل حتى يلقي في ذيل الجبل، وهي مسافة قريبة، فلما طال ثواءهم، ونفدت نفقاتهم، وتضاعف نصبهم، ووهت عزائمهم كفوا محسورين لم ينالوا بغية بل شوّهوا الهرم، وأبانوا عن عجز وفشل، وكان ذلك في سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة، ومع ذلك فإنّ الرائي لحجارة الهرم يظنّ أنه قد استؤصل فإذا عاين الهرم ظنّ أنه لم يهدم منه شيء وإنما سقط بعض جانب منه، وحين ما شوهدت المشقة التي يجدونها في هدم كل حجر، سئل مقدّم الحجارين فقيل له: لو بذل لكم السلطان ألف دينار على أن تردّوا حجرا واحدا إلى مكانه وهندامه هل كان يمكنكم؟ فأقسم بالله إنهم ليعجزون عنه ولو بذل لهم أضعاف ذلك.
وبإزاء الأهرام مغاير كثيرة العدد كبيرة المقدار عميقة الأغوار لعلّ الفارس يدخلها برمحه ويتخللها يوما أجمع ولا ينهيها لكبرها وسعتها وبعدها ويظهر من حالها أنها مقاطع حجارة الأهرام.
وأما مقاطع حجارة الهرم الأحمر فيقال: إنها بالقلزم وبأسوان، وعند هذه الأهرام آثار أبنية جبابرة ومغاير كثيرة منقبة، وقلما ترى من ذلك شيئا إلّا وترى عليه كتابات بهذا القلم المجهول، ولله در الفقيه عمارة اليمنيّ حيث يقول:
خليليّ ما تحت السماء بنية ... تماثل في إتقانها هرمي مصر
بناء يخاف الدهر منه وكلّ ما ... على ظاهر الدنيا يخاف من الدهر
تنزه طرفي في بديع بنائها ... ولم يتنزه في المراد بها فكري
أخذ هذا من قول بعض الحكماء، كل شيء يخشى عليه من الدهر إلا الأهرام فإنه يخشى على الدهر منها، وقال عبد الوهاب بن حسن بن جعفر بن الحاجب، ومات في سنة(1/227)
سبع وثمانين وثلثمائة:
انظر إلى الهرمين إذ برزا ... للعين في علو وفي صعد
وكأنما الأرض العريضة قد ... ظمئت لطول حرارة الكبد
حسرت عن الثديين بارزة ... تدعو الإله لفرقة الولد
فأجابها بالنيل يشبعها ... ريا وينقذها من الكمد
لكرامة المولى المقيم بها ... خير الأنام مقوّم الأود
وقال سيف «1» الدين بن جبارة:
لله أيّ عجيبة وغريبة ... في صنعة الأهرام للألباب
أخفت عن الأسماع قصة أهلها ... ونضت عن الأبداع كل نقاب
فكأنما هي كالخيام مقامة ... من غير ما عمد ولا أطناب
وقال آخر:
انظر إلى الهرمين واسمع منهما ... ما يرويان عن الزمان الغابر
وانظر إلى سرّ الليالي فيهما ... نظرا بعين القلب لا بالناظر
لو ينطقان لخبرانا بالذي ... فعل الزمان بأوّل وبآخر
وإذا هما بديا لعيني ناظر ... وصفا له أذني جواد عائر
وقال الإمام أبو العباس أحمد بن يوسف التيفاشي:
ألست ترى الأهرام دام بناؤها ... ويفني لدينا العالم الإنس والجنّ
كأن رحى الأفلاك أكوارها على ... قواعدها الأهرام والعالم الطحن
وقال:
قد كان للماضين من ... سكان مصرهم
فالفضل عنهم فضلة ... والعلم فيهم علم
ثم انقضت أعلامهم ... وعلمهم واحتطموا
وانظر تراها ظاهرا ... باد عليها الهرم
وقال:
خليليّ لا باق على الحدثان ... من الأوّل الباقي فيحدث ثاني
إلى هرمي مصر تناهت قوى الورى ... وقد هرمت في دهرها الهرمان
فلا تعجبا أن قد هرمت فإنما ... رماني بفقدان الشباب زماني(1/228)
وعوجا بقرطاجنة فانظرا بها ... جنايتي العادين تنتحبان
وإيوان كسرى فانظراه فإنه ... يخبر كما بالصدق كل أوان
فلا تحسبا أن الفناء يخصني ... ألا كل ما فوق البسيطة فاني
ووجدت بخط الشيخ شهاب الدين أحمد بن يحيى بن أبي حجلة التلمساني أنشدني القاضي فخر الدين عبد الوهاب المصريّ لنفسه في الأهرام سنة خمس وخمسين وسبعمائة وأجاد:
أمباني الأهرام كم من واعظ ... صدع القلوب ولم يفه بلسانه
اذكرنني قولا تقادم عهده ... أين الذي الهرمان من بنيانه
هنّ الجبال الشامخات تكاد أن ... تمتدّ فوق الأرض عن كيوانه
لو أنّ كسرى جالس في سفحها ... لأجلّ مجلسه على إيوانه
ثبتت على حرّ الزمان وبرده ... مددا ولم تأسف على حدثانه
والشمس في إحراقها والريح عن ... د هبوبها والسيل في جريانه
هل عابد قد خصها بعبادة ... فمباني الأهرام من أوثانه
أو قائل يقضي برجعي نفسه ... من بعد فرقته إلى جثمانه
فاختارها لكنوزه ولجسمه ... قبرا ليأمن من أذى طوفانه
أو أنها للسائرات مراصد ... يختار راصدها أعز مكانه
أو أنها وصفت شؤون كواكب ... أحكام فرس الدهر أو يونانه
أو أنهم نقشوا على حيطانها ... علما يحار الفكر في تبيانه
في قلب رائيها ليعلم نقشها ... فكر يعض عليه طرف بنانه
ذكر الصنم الذي يقال له أبو الهول
هذا الصنم بين الهرمين عرف أوّلا ببلهيب، وتقول أهل مصر اليوم أبو الهول.
قال القضاعي: صنم الهرمين وهو بلهويه، صنم كبير من حجارة فيما بين الهرمين لا يظهر منه سوى رأسه فقط تسميه العامة بأبي الهول ويقال: بلهيب، ويقال: إنه طلسم للرمل، لئلا يغلب على إبليز الجيزة.
وقال في كتاب عجائب البنيان: وعند الأهرام رأس وعنق بارزة من الأرض في غاية العظم تسميه الناس: أبا الهول، ويزعمون أن جثته مدفونة تحت الأرض، ويقتضي القياس بالنسبة إلى رأسه أن يكون طوله سبعين ذراعا فصاعدا، وفي وجهه حمرة ودهان يلمع عليه رونق الطراوة، وهو حسن الصورة مقبولها عليه مسحة بهاء وجمال كأنه يضحك تبسما.
وسئل بعض الفضلاء، عن عجيب ما رأى فقال: تناسب وجه أبي الهول، فإنّ أعضاء(1/229)
وجهه كالأنف والعين والأذن متناسبة كما تصنع الطبيعة الصور متناسبة، فإنّ أنف الطفل مثلا مناسب له، وهو حسن به حتى لو كان ذلك الأنف لرجل كان مشوّها، وكذلك أنف الرجل لو كان لصبيّ لتشوّهت صورته، وعلى هذا سائر الأعضاء فكل عضو ينبغي أن يكون على مقدار ماهيته بالقياس إلى الصورة وعلى نسبتها، والعجب من مصوّره كيف قدر أن يحفظ التناسب للأعضاء مع عظمها، وإنه ليس في أعمال الطبيعة ما يحاكيه.
ويقابله في برّ مصر قريبا من دار الملك: صنم عظيم الخلقة والهيئة متناسب الأعضاء كما وصف، وفي حجره مولود وعلى رأسه مأجور، الجميع صوّان ماتع يزعم الناس أنه امرأة وأنها سريّة أبي الهول المذكور، وهي بدرب منسوب إليها ويقال: لو وضع على رأس أبي الهول خيط ومدّ إلى سريته لكان على رأسها مستقيما.
ويقال: إن أبا الهول، طلسم الرمل يمنعه عن النيل، وإنّ السرية طلسم الماء يمنعه عن مصر.
وقال ابن المتوّج «1» : زقاق الصنم، هو الزقاق الشارع، أوّله بأوّل السوق الكبير بجوار درب عمار، ويعرف الصنم بسرية فرعون، وذكر أنه طلسم النيل لئلا يغلب على البلد.
وقيل: إن بلهيب الذي عند الأهرام يقابله، وإنّ ظهر بلهيب إلى الرمل، وظهر هذا إلى النيل، وكل منهما مستقبل الشرق، وقد نزل في سنة إحدى عشرة وسبعمائة، أمير يعرف ببلاط في نفر من الحجارين والقطاعين وكسروا الصنم المعروف بالسرية، وقطعوه أعتابا وقواعد ظنا أن يكون تحته مال، فلم يوجد سوى أعتاب من حجر عظيمة، فحفر تحتها إلى الماء فلم يوجد شيء، وجعل من حجرة قواعد تحتانية للعمد الصوّان التي بالجامع المستجد بظاهر مصر المعروف: بالجامع الجديد الناصريّ، وأزيل عين هذا الصنم من مكانه، والله أعلم.
وفي زمننا، كان شخص يعرف بالشيخ محمد صائم الدهر من جملة صوفية الخانقاه الصلاحية سعيد السعداء، قام في نحو من سنة ثمانين وسبعمائة لتغيير أشياء من المنكرات، وسار إلى الأهرام وشوّه وجه أبي الهول وشعثه، فهو على ذلك إلى اليوم، ومن حينئذ غلب الرمل على أراض كثيرة من الجيزة، وأهل تلك النواحي يرون أن سبب غلبة الرمل على الأراضي فساد وجه أبي الهول ولله عاقبة الأمور، وما أحسن قول ظافر الحدّاد:
تأمّل هيئة الهرمين واعجب ... وبينهما أبو الهول العجيب
كعمار يبتن على رحيل ... بمحبوبين بينهما رقيب(1/230)
وماء النيل تحتهما دموع ... وصوت الريح عندهما نحيب
وظاهر سجن يوسف مثل صب ... تخلف فهو محزون كئيب
ويقال: إن أتريب «1» بن قبط بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح أوصى أخاه صا «2» ، عند موته، أن يحمله في سفينة ويدفنه بجزيرة في وسط البحر، فلما مات، فعل ذلك من غير أن يعلم به أهل مصر فاتهمه الناس بقتل أتريب، وحاربوه تسع سنين، فلما مضى من حربهم خمس سنين مضى بهم حتى أوقفهم على قبر أتريب، فحفروه فلم يجدوا به شيئا، وقد نقلته الشياطين إلى موضع أبي الهول، ودفنته هناك بجانب قبر أبيه وجدّه بيصر، فازدادوا له تهمة وعادوا إلى مدينة منف وتحاربوا فأتاهم إبليس، فدلهم على قبر أتريب حيث نقله، فأخرجوه من قبره، ووضعوه على سرير، فتكلم لهم الشيطان على لسانه حتى افتتنوا به وسجدوا له وعبدوه، فيما عبدوا من الأصنام، وقتلوا صا، ودفنوه على شاطىء النيل فكان النيل إذا زاد لا يعلو قبره، فافتتن به طائفة، وقال: قتل ظلما وصاروا يسجدون لقبره كما يسجد أولئك لأتريب، فعمد آخرون إلى حجر فنحتوه على صورة أشموم، وكان يقال له: أبو الهول، ونصبوه بين الهرمين، وجعلوا يسجدون له، فصار أهل مصر ثلاث فرق ولم تزل الصابئة تعظم أبا الهول وتقرّب إليه الديكة البيض وتبخره بالصندروس.(1/231)
ذكر الجبال
اعلم أنّ أرض مصر بأسرها محصورة بين جبلين آخذين من الجنوب إلى الشمال قليلي الارتفاع، وأحدهما أعظم من الآخر، والأعظم منهما هو الجبل الشرقيّ المعروف بجبل لوقا، والغربيّ جبل صغير، وبعضه غير متصل ببعض والمسافة بينهما تضيق في بعض المواضع وتتسع في بعضها، وأوسع ما يكون بأسفل أرض مصر، وهذان الجبلان أقرعان لا يثبت فيهما نبات، كما يكون في جبال البلدان الأخر، وعلة ذلك: أنهما بورقيان مالحان لأنّ قوّة طين مصر تجذب منهما الرطوبات الموافقة في التكوين، ولأنّ قوّة الحرارة تحلل منهما الجوهر اللطيف العذب، وكذلك مياه الآبار منهما مالحة، وهذان الجبلان يجففان ما يدفن فيهما، فإنّ أرض مصر بالطبع قليلة الأمطار.
وجبل لوقا في مشرق أرض مصر يعوق عنها ريح الصبا، فعدمت مصر هذا الريح، ويعوق أيضا إشراق الشمس على أرض مصر إذا كانت على الأفق وتتعدّد أسماء هذين الجبلين بحسب مواضعهما من الإقليم، فيطلّ على الفسطاط، وعلى القاهرة الجبل المقطم.
ذكر الجبل المقطم
اعلم أنّ الجبل المقطم أوّله من الشرق من الصين حيث البحر المحيط، ويمرّ على بلاد الططر حتى يأتي فرغانة إلى جبال اليتم الممتدّ بها نهر السغد إلى أن يصل الجبل إلى جيحون فيقطعه، ويمضي في وسطه بين شعبتين منه وكأنه قطع، ثم في وسطه ويستمرّ الجبل إلى الجورجان، ويأخذ على الطالقان إلى أعمال مروالرود إلى طوس، فيكون جميع مدن طوس فيه، ويتصل به جبال أصبهان وشيراز إلى أن يصل إلى البحر الهندي، وينعطف هذا الجبل ويمتدّ إلى شهر زور فيمرّ على الدجلة، ويتصل بجبل الجوديّ موقف سفينة نوح عليه السلام في الطوفان ولا يزال هذا الجبل مستمرّا من أعمال آمد وميافارقين، حتى يمرّ بثغور حلب فيسمى هناك جبل اللكام «1» ، إلى أن يعدّي الثغور فيسمى نهرا حتى يجاوز حمص فيسمى لبنان، ثم يمتدّ على الشام حتى ينتهي إلى بحر القلزم من جهة، ويتصل من الجهة الأخرى، ويسمى المقطم، ثم يتشعب ويتصل أواخر شعبه بنهاية الغرب.(1/232)
ويقال: إنه عرف بمقطم بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام.
وجبل المقطم: يمرّ على جانبي النيل إلى النوبة ويعبر من فوق الفيوم فيتصل بالغرب إلى أرض مقراوة ويمضي مغربا إلى سجلماسة، ومنها إلى البحر المحيط مسيرة خمسة أشهر.
وقال إبراهيم بن وصيف شاه: وذكر مجيء مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح إلى أرض مصر، وكشف أصحاب إقليمون الكاهن عن كنوز مصر، وعلومهم التي هي بخط البرابي وآثارهم والمعادن من الذهب والزبرجد والفيروزج، وغير ذلك. ووصفوا لهم عمل الصنعة يعني الكيمياء، فجعل مصرايم أهلها إلى رجل من أهل بيعة يقال له: مقيطام الحكيم، فكان يعمل الكيمياء في الجبل الشرقي، فسمي به: المقطم، من أجل أنّ مقيطام الحكيم كان يعمل فيه الكيمياء، واختصر من اسمه وبقي ما يدل عليه، فقيل له: جبل المقطم، يعني جبل مقيطام الحكيم.
وقال البكري رحمه الله تعالى عليه: المقطم، بضم أوّله وفتح ثانيه، وتشديد الطاء المهملة وفتحها: جبل متصل بمصر يوارون فيه موتاهم.
وقال القضاعي: المقطم، ذكر أبو عبد الله اليمنيّ، أنّ هذا الجبل باسمه، وليس هذا بصحيح لأنه لا يعرف لمصر ولد اسمه المقطم.
والذي ذكره العلماء: أنّ المقطم مأخوذ من القطم، وهو القطع فكأنه لما كان منقطع الشجر والنبات سمي: مقطما، ذكر ذلك عليّ بن الحسن الهناءي الدوسي المنبوذ بكراع وغيره.
وروى عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم عن الليث بن سعد رضي الله عنه، قال:
سأل المقوقس عمرو بن العاص رضي الله عنه، أن يبيعه سفح الجبل المقطم بسبعين ألف دينار، وفي نسخة: بعشرين ألف دينار، فعجب عمرو من ذلك، وقال: اكتب بذلك إلى أمير المؤمنين، فكتب بذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكتب إليه عمر: سله لم أعطاك به ما أعطاك وهي لا تزرع، ولا يستنبط بها ماء؟ فسأله، فقال: إنا لنجد صفتها في الكتب أن فيها غراس الجنة، فكتب بذلك إلى عمر، فكتب إليه: إنا لا نعلم غراس الجنة إلا المؤمنين فاقبر فيها، من مات قبلك من المؤمنين، ولا تبعه بشيء، فكان أوّل من قبر فيها رجلا من المعافر، يقال له: عامر، فقيل: عمرت، فقال المقوقس لعمرو: وما ذلك وما على هذا عاهدتنا، فقطع لهم الحدّ الذي بين المقبرة وبينهم.
وذكر عمر بن أبي عمر الكندي في فضائل مصر: أن عمرو بن العاص رضي الله عنه، سار في سفح الجبل المقطم، ومعه المقوقس، فقال له: ما لجبلكم هذا أقرع؟ أليس به نبات(1/233)
كجبال الشام فلو شققنا في أسفله نهرا من النيل وغرسناه نخلا؟ فقال المقوقس: وجدنا في الكتب أنه كان أكثر الجبال أشجارا ونباتا وفاكهة، وكان منزل المقطم بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام، فلما كانت الليلة التي كلم الله فيها موسى عليه السلام، أوحى الله إلى الجبال إني مكلم نبيا من أنبيائي على جبل منكم فسمت الجبال كلها، وتشامخت إلّا جبل بيت المقدس، فإنه هبط وتصاغر، فأوحى الله إليه لم فعلت ذلك؟ وهو به أخبر! فقال:
إعظاما وإجلالا لك يا رب، قال: فأمر الله سبحانه الجبال أن يحبوه كل جبل بما عليه من النبت، فجادله المقطم بكل ما عليه من النبت حتى بقي كما ترى، فأوحى الله إليه: إني معوّضك على فعلك بشجر الجنة، أو غراس الجنة، فكتب بذلك عمرو بن العاص رضي الله عنه، إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إني لا أعلم شجر الجنة غير المؤمنين فاجعله لهم مقبرة ففعل، فغضب المقوقس من ذلك، وقال لعمرو: ما على هذا صالحتني، فقطع له عمر قطيعا نحو الحبش تدفن فيه النصارى.
قال: وروي أن موسى عليه السلام سجد، فسجد معه كل شجرة من المقطم إلى طرا.
وروي أنه مكتوب، وإذا فتح مقدّسي يريد وادي مسجد موسى عليه السلام بالمقطم عند مقطع الحجارة، فإنّ موسى عليه السلام كان يناجي ربه بذلك الوادي.
وروى أسد بن موسى قال: شهدت جنازة مع موسى بن لهيعة، فجلسنا حوله فرفع رأسه، فنظر إلى الجبل فقال: إنّ عيسى ابن مريم عليه السلام، مرّ بسفح هذا الجبل، وعليه جبة صوف وقدّ شد وسطه بشريط وأمّه إلى جانبه، فالتفت إليها وقال: يا أمّه هذه مقبرة أمّة محمد صلى الله عليه وسلّم، وروى عبد الله بن لهيعة، عن عياش بن عباس: أن كعب الأحبار رضي الله عنه، سأل رجلا يريد مصر، فقال له: اهدني تربة من سفح مقطمها فأتاه منه بجراب، فلما حضرت كعبا الوفاة أمر به، فجعل في لحده تحت جثته.
وروي عن كعب أنه سئل عن جبل مصر، فقال: إنه لمقدّس ما بين القصير إلى اليحموم، قال ابن لهيعة: والمقطّم: ما بين القصير إلى مقطع الحجارة، وما بعد ذلك، فمن اليحموم وفي هذا الجبل حجر الجوهر، وشيء من الفولاذ، وهو يمتدّ إلى أقاصي بلاد السودان.
الجبل الأحمر
هذا الجبل مطلّ على القاهرة من شرقيها الشماليّ، ويعرف: باليحموم. قال القضاعيّ: اليحاميم هي: الجبال المتفرّقة المطلة على القاهرة من جانبها الشرقيّ وجبابها، وتنتهي هذه الجبال إلى بعض طرق الجب، وقيل لها: اليحاميم لاختلاف ألوانها، واليحموم في كلام العرب الأسود المظلم.(1/234)
وقال ابن عبد الحكم عن سعي بن عبيد أنه لما قدم مصر، وأهل مصر، قد اتخذوا مصلى بحذاء ساقية أبي عون التي في العسكر فقال: ما لهم وضعوا مصلاهم في الجبل الملعون وتركوا الجبل المقدّس، يعني المقطّم؟.
وقال ابن عبد الظاهر: الجبل الأحمر، ذكر القضاعيّ: أن اليحموم هو: الجبل المطلّ على القاهرة، ولا أرى جبلا يطلّ على القاهرة غيره.
وقال البكري: اليحموم، بفتح أوّله وإسكان ثانيه. قال الحربي: اليحموم: جبل بمصر.
وروي من طريق أبي قبيل، عن عبد الله بن عمرو: أنه سأل كعبا عن المقطم:
أملعون؟ قال: ليس بملعون، ولكنه مقدّس من القصير إلى اليحموم.
وذكر البكريّ أيضا: أنّ عابدا، بالباء الموحدة والدال المهملة، على وزن فاعل: جبل بمصر قبل المقطم.
جبل يشكر «1»
هذا الجبل فيما بين القاهرة ومصر عليه الجامع الطولوني. قال القضاعيّ: جبل يشكر: هو يشكر بن جديلة من لخم، وهو الذي عليه جامع ابن طولون، ويشكر بن جديلة:
قبيلة من قبائل العرب احتطت عند الفتح بهذا الجبل، فعرف بجبل يشكر لذلك.
قال ابن عبد الظاهر: وجامع ابن طولون على جبل يشكر، وهو مكان مشهور بإجابة الدعاء، ومكان مبارك، وقيل: إن موسى عليه السلام ناجى ربه عليه بكلمات، وكان هذا الجبل يشرف على النيل، وليس بينه وبين النيل شيء، وكان يشرف على البركتين، أعني بركة الفيل، والبركة التي تعرف اليوم: ببركة قارون، وعلى هذا الجبل كانت تنصب المجانيق التي تجرّب قبل إرسالها إلى الثغور.
الكبش: هو جبل، بجوار يشكر كان قديما يشرف على النيل من غربيه، ثم لما اختط المسلمون مدينة الفسطاط بعد فتح أرض مصر، صار الكبش من جملة خطة الحمراء القصوى وسمي: الكبش.
الشرف: اسم لثلاثة مواضع، فاثنان منها: فيما بين القاهرة ومصر، وواحد فيما بين بركة الحبش وفسطاط مصر، فأما الذي بظاهر القاهرة، فأحدهما عليه الآن قلعة الجبل، وهو(1/235)
من جملة الجبل المقطم، والآخر: فيما بين الجامع الطولونيّ ومصر، فيشرف غربيه على جهة الخليج الكبير، ويصير فيما بين كوم الجارح، وخط الجامع الطولونيّ، وكان من خطة تجيب، ثم صار من جملة العسكر، وأما الشرف الثالث فيعرف اليوم: بالرصد، وهو يشرف على راشدة، وكان يقال للشرف: سند، والسند: ما قابلك من الجبل، وعلا من السفح ويقال: فلان سند، أي: معتمد.
ذكر الرّصد
هذا المكان شرف يطلّ من غربيّة على راشدة، ومن قبلّيه على بركة الحبش، فيحسبه من رآه من جهة راشدة جبلا وهو من شرقيه سهل يتوصل إليه من القرافة بغير ارتقاء ولا صعود، وهو محاذ للشرف الذي كان من جملة العسكر، والشرف الذي يعرف اليوم بالكبش، وكان يقال له قديما: الجرف، ثم عرف بالرصد من أجل أنّ الأفضل أبا القاسم شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجماليّ، أقام فوقه كرة لرصد الكواكب، فعرف من حينئذ بالرصد. قال في كتاب عمل الرصد: وحمل إلى الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر من الشام تقاويم لما يستأنف من السنين لاستقبال سنة خمسمائة من سني الهجرة، قيل: مائة تقويم، أو نحوها، وكان منجمو الحضرة يومئذ ابن الحلبيّ وابن الهيثمي وسهلون وغيرهم، يطلق لهم الجاري في كل شهر، والرسوم والكسوة على عمل التقويم في كل سنة، وكان كل منهم يجتهد في حسابه وما تصل قدرته إليه، فإذا كان في غرّة السنة حمل كلّ منهم تقويمه، فيقابل بينها وبين التقويمات المحضرة من الشام، فيوجد بينها اختلاف كثير، فأنكر ذلك، فلما كان غرّة ثلاث عشرة وخمسمائة عند إحصاء التقاويم على العادة، جمع المنجمين والحساب، وأهل العلم وسألهم عن السبب في الخلف بين التقاويم؟ فقالوا: الشاميّ يحسب ويعمل على رأي الزيج المهجور المأمونيّ، ونحن نعمل على رأي الزيج الحاكميّ لقرب عهده، وبين المتقدّم والمتأخر تفاوت وخلف، وقد أجمع القدماء أن القريب العهد أصح من المتقدّم لتنقل الكواكب، وتغير الحساب، وتحدّثوا في معنى ذلك بما هو مذكور في موضعه، وأشاروا عليه بعمل رصد مستجدّ يصحح به الحساب، ويخرج به المعور والتفاوت، وتحصل به المنفعة العظيمة والفائدة الجليلة والسمعة الشريفة والذكر الباقي، فقال: من يتولى ذلك؟ فقال صاحب دسته «1» ومشيره الشيخ الأجل أبو الحسن بن أبي أسامة: هذا القاضي ابن أبي العيش الطرابلسيّ المهندس العالم الفاضل، وكان ابن أبي العيش صهره زوج ابنته، وهو شيخ كبير السنّ والقدر كثير المال، وساعده على ذلك القائد أبو عبد الله الذي تقلد الوزارة بعد الأفضل، ودعي بالمأمون بن البطائحيّ، فاستصوب الأفضل ذلك، وقال: مروه يهتم بذلك، ويستدعي ما يحتاج إليه، فكان أوّل ما بدأ به لما(1/236)
حصل ذلك أن مدح نفسه، وكان الأفضل غيورا على كل شيء أشدّ ما عليه من يفتخر أو يلبس ثيابا مذكورة، ثم قال: هذه الآلات عظيمة، وخطرها جسيم ولا كلّ أحد يقوم عليها، ولا يحسنها، وأكثر الكلام والتوسعة، وقال: يحتاج أنّ الذي يتولى ذلك يعتمد معه الإنعام والإكرام لتطيب نفسه للمباشرة وينشرح صدره، ويقدح خاطره لما يعمل في حقه، فضجر الأفضل من ذلك، وقال: لقد أكثر في مدح نفسه ولدده وما يعاملنا بعد، لا حاجة إلى معاملته، فأشار القائد بن البطائحيّ، وقال: هنا من يبلغ الغرض بأسهل مأخذ، وأقرب وقت وأسرعه، وألطف معنى أبو سعيد بن قرقة الطبيب متولي خزائن السلاح والسروج والصناعات وغير ذلك، فأحضره للوقت فاتفق له من الحديث الحسن السهل، وما سبب عمل الآلات، ومن ابتدأها من الأول.
وذكر القدماء في العلم: ومن رصد منهم واحدا واحدا إلى آخرهم شرحا مستوفيا كأنه يحفظه ظاهرا، أو يقرأه من كتاب، فأعجب الأفضل والحاضرين، وقال: أيّ شيء تحتاج؟
فقال: ما أحتاج كبير أمر، والأمور سهلة وكلّ ما أحتاجه في خزائن السلطان خلد الله ملكه، النحاس والرصاص والآلات، وكلّ ما أحتاج أستدعيه أوّلا أوّلا، إلّا لنفقات وأجرة الصناع، فيتولاها غيري، فأعجب به. وقال: يطلق له جار لنفسه، فقال: أنا مستخدم في عدّة خدم فجواريّ تكفيني، فأنا مملوك الدولة ما أحتاج إلى جار، وإذا بلغت الغرض، وأنهيت الأشغال فهو المقصود. وكان قيل للأفضل، هذا الرصد يحتاج إلى أموال عظيمة، فقال: كم تقول يحتاج إليه؟ فقال: ما ينفق عليه إلا مثل ما ينفق عليه مسجد، أو مستنظر، فرجع يكرّر عليه القول، فقال: هاتوا ورقة، فكتب فيها المملوك يقبل الأرض وينهي دعت الحاجة إلى خروج الأمر العالي إلى دار الوكالة بإطلاق مائتي قنطار من النحاس الثجر وثمانين قنطارا من النحاس القضيب الأندلسيّ، وأربعين قنطارا من النحاس الأحمر ومن الرصاص ألف قنطار، ومن الحطب، ومن الحديد والفولاذ من الصناعة ما لعله يحتاج إليه، ومن الأخشاب ومن النفقة مائة دينار على يد شاهد ينفق عليه، فإذا فرغت أستدعي غيرها، وأختار موضعا يصلح الرصد فيه، ويكون العمل والصناعة فيه ومباشرة السلطان فيما يتوقف عليه وما يستأمر فيه، فاستصوب الأفضل جميع ذلك، وأراد أن يخلع عليه. فقال القائد: هذا فيما بعد إذا شوهدت أعماله، فخدم من أوّل الحال إلى آخرها، ولم يحصل له الدرهم الفرد لأنه كان يستحيي أن يطلب، وهو مستخدم عندهم، وكانوا بأجمعهم يؤملون طول المدّة والبقاء، فقتل الأفضل ثاني سنة وتغيرت الأحوال، ثم إنهم اختاروا للرصد مسجد التنور فوق المقطم، فوجدوه بعيدا عن الحوائج، فأجمعوا على سطح الحرف بالمسجد المعروف:
بالفيلة الكبير.
وكان قد صرف على المسجد خاصة ستة آلاف دينار، فحفروا في مسجد الفيلة نفرا في الجبل مكان الصهريج الآن، فعمل فيه قالب الحلقة الكبيرة وقطرها عشرة أذرع ودورها(1/237)
ثلاثون ذراعا وهندموه وحرّروه أياما، وعمل حوله عشر هرج على كل هرجة منفاخان، وفي كل هرجة: أحد عشر قنطارا نحاسا، وأقلّ وأكثر والجميع مائة قنطار وكسر، قسموها على الهرج وطرح فيها النار من العصر، ونفخوا إلى الثانية من النهار، وحضر الأفضل بكرة، وجلس على كرسيّ، فلما تهيأت الهرج، ودارت أمر الأفضل بفتحها، وقد وقف على كل هرجة رجل وأمروا بفتحها في لحظة، ففتحت، وسال النحاس كالماء إلى القالب، وكان قد بقي فيه بعض النداوة، فلما استقرّ به النحاس بحرارته تقعقع المكان الندي، فلم تتمّ الحلقة، ولما بردت وكشف عنها إذ هي تامة ما خلا المكان النديّ، فضجر الأفضل وضاق صدره، ورمي الصناع بكيس فيه ألف درهم، وغضب وركب فلاطفه ابن قرقة، وقال: مثل هذه الآلة العظيمة التي ما سمع قط بمثلها لو أعيد سبكها عشر مرّات حتى تصح ما كان كثيرا، فقال له الأفضل: اهتم في إعادتها فسبكت وصحت، ولم يحضر الأفضل في المرّة الثانية، ففرح بصحتها وعملت ورفعت إلى سطح مسجد الفيلة، وأحضر لها جميع صناع النحاس، وعمل لها بركار خشب من السنديان، وهو بركار عجيب، وبنى في وسط الحلقة مسطبة حجارة منقبة لرجل البركار، وهو قائم مثل عروس الطاحون، وفيه ساعد مثل ناف الطاحون، وقد لبس بالحديد والجميع سنديان جيد، وطرف الساعد مهيأ لعدّة فنون، تارة لتصحيح وجه الحلقة، وتارة لتعديل الأجناب، وتارة للخطوط والحزوز، وأقام في التصحيح فيها، وأخذ زوائدها بالمبارد مدّة طويلة، وجماعة الصناع والمهندسين وأرباب هذا العلم حاضرون، واستدعى لهم خيمة عظيمة ضربت على الجميع، وعقد تحت الحلقة أقباء وثيقة، وأرادوا قيامها على سطح مسجد الفيلة، فلم يتهيأ لهم فإنهم وجدوا المشرق لأوّل بروز الشمس مسدودا، فاتفقوا على نقلها إلى المسجد الجيوشيّ المجاور الأنطاكي المعروف أيضا بالرصد، وكان الأفضل، بناه ألطف من جامع الفيلة، ولم يكمل.
فلما صار برسم الرصد كمل، فحضر الأفضل، في نقل الحلقة من جامع الفيلة إلى المسجد الجيوشيّ، وقد أحضرت الصواري الطوال العظام، والسرياقات والمنحاتات من الإسكندرية وغيرها، وجمعت الأسطولية ورجال السودان، وبعض أصحاب الركاب والجند حتى أدلوه وحملوه على العجل إلى مسجد الرصد الجيوشيّ، وثاني يوم حضروا بأجمعهم حتى رفعوه إلى السطح وكملوه، وأقاموا الحلقة وجعلوا تحت أكتافها عمودين من رخام سبكوهما بالرصاص من أسفلهما وأعلاهما، حتى لا يرتخي ثقل النحاس، وجعل في الوسط عمود رخام وبأعلاه قطب العضادة مسبوك بالنحاس الكثير لتدور عليه العضادة، وعملت من نحاس، فما تمارست، ولا دارت فعملوها من خشب ساج وقطبها وأطرافها من نحاس صفائح ليخف الدوران، ثم رصدوا بها الشمس بعد كلفة، وكانت الحلقة ترخي الدرجة والدقائق كل وقت للثقل.
فعمل عمود من نحاس فوق عمود الرخام ليمسك رخوها، وغلبوا بعد ذلك فكانت(1/238)
تختلف لشدّة ما كانوا يحرّرونها بالشواقيل وعضادة الخشب، وتردّد إليها الأفضل مع كبر سنه، وهو يرتعش، والقائد يحمله إلى فوق، ويقعد زمانا من التعب لا يتكلّم ويده ترتعش، فرصدوا قدّامه، وفي خلال ذلك قتل الأفضل ليلة عيد الفطر سنة خمس عشرة وخمسمائة، وقيل للأفضل عن ابن قرقة: إنه أسرف في كبر الحلقة، وعظم مقدارها، فقال له الأفضل:
لو اختصرت منها كان أهون، فقال: وحق نعمتك لو أمكنني أن أعمل حلقة تكون رجلها الواحدة على الأهرام، والأخرى على التنور فعلت، فكلما كبرت الآلة صح التحرير، وأين هذا في العالم العلويّ، ثم أكثروا عليه، فعمل حلقة دونها في الموضع المهندم بالطوب الأحمر تحت المسجد الجيوشي، كان قطرها أقل من سبعة أذرع ودورها نحو أحد وعشرين ذراعا.
فلما كملت، قتل الأفضل، ولم ينفق من مال السلطان في الأجرة والمؤن، وما لا بدّ منه سوى نحو مائة وستين دينارا، فلما تمت الوزارة للمأمون البطائحيّ، أحب أن يكملها، ويقال له: الرصد المأموني المصحح، كما قيل للأوّل: الرصد المأموني الممتحن، فأخرج الأمر بنقل الرصد إلى باب النصر بالقاهرة، فنقل على الطريقة الأولى بالعتالين والأسطولية وطوائف الرجال، وكان يدفع لهم كل يوم برسم الغداء جملة دراهم، فلما صار فوق العجل مضوا به على الخندق من وراء الفتح على المشاهد إلى مسجد الذخيرة من ظاهر القاهرة، وتعبوا في دخوله من باب النصر تعبا عظيما لخوفهم أن يصدم فيتغير، فنصبوا الصواري على عقد باب النصر من داخل الباب، وتكاثر الرجال في جذب المياحين من أسفل، ومن فوق حتى وصل إلى السطح الكبير.
ثم نقلوه من السطح الكبير إلى السطح الفوقانيّ، وأوقفوا له العمد كما تقدّم ذكره، ورصدوا بالحلقة الكبرى كما رصدوا بها على سطح الجرف، فصح لهم ما أرادوا من حال الشمس فقط، ثم اهتموا بعمل ذات حلق يكون قطرها خمسة أذرع، وسبكت في فندق بالعطوفية من القاهرة، وكان الأمر فيها سهلا عندما لحقهم من العناء العظيم في الحلقة الكبيرة، والحلقة الوسطى، وتجرّد المأمون لعملها، والحثّ فيها، وكان ابن قرقة يحضر كل يوم دفعتين، ويحضر أبو جعفر بن جسنداي وأبو البركات بن أبي الليث صاحب الديوان وبيده الحل، والعقد فقال له المأمون: اطلع إليهم كل يوم وأيّ شيء طلبوه وقع لهم به من غير مؤامرة، وكان قصده ما أطمعوه فيه من أن يقال: الرصد المأمونيّ المصحح، فلو أراد الله أن يبقي المأمون قليلا كان كمل جميع رصد الكواكب، لكنه قبض عليه ليلة السبت ثالث شهر رمضان سنة تسع عشرة وخمسمائة، وكان من جملة ما عدّد من ذنوبه عمل الرصد المذكور، والاجتهاد فيه، وقيل: أطمعته نفسه في الخلافة بكونه سماه الرصد المأمونيّ، ونسبه إلى نفسه، ولم ينسبه إلى الخليفة الآمر بأحكام الله.(1/239)
وأما العامة والغوغاء، فكانوا يقولون: أرادوا أن يخاطبوا زحل، وأرادوا أن يعلموا الغيب، وقال آخرون منهم: عمل هذا للسحر، ونحو ذلك من الشناعات، فلما قبض على المأمون، بطل وأنكر الخليفة على عمله، فلم يجسر أحد أن يذكره، وأمر فكسر، وحمل إلى المناخات، وهرب المستخدمون ومن كان فيه من الخاص، وكان فيه من المهندسين برسم خدمته وملازمته في كل يوم بحيث لا يتأخر منهم أحد (الشيخ أبو جعفر بن حسنداي والقاضي ابن أبي العيش، والخطيب أبو الحسن عليّ بن سليمان بن أيوب، والشيخ أبو النجا بن سند الساعاتي الإسكندرانيّ المهندس، وأبو محمد عبد الكريم الصقلي المهندس، وغيرهم من الحساب والمنجمين، كابن الحلبيّ وابن الهيثمي وأبي نصر تلميذ سهلون وابن دياب والقلعيّ، وجماعة يحضرون كل يوم إلى ضحوة النهار) ، فيحضر صاحب الديوان ابن أبي الليث، وكان ابن حسنداي ربما تأخر في بعض الأيام فإنه كان امرأ عظيما صاحب كبرياء وهيبة، وفي كل يوم يبعث المأمون من يتفقد الجماعة، ويطالعه بمن غاب منهم لأنه كان كثير التفقد للأمور كلها، وله غمازون وأصحاب أخبار لا تنام، ولا يكاد يفوته شيء من أحوال الخاصة والعامّة بمصر والقاهرة، ومن يتحدّث.
وجعل في كل بلد من الأعمال من يأتيه بسائر أخبارها. وأنا أدركت هذا الموضع الذي يعرف اليوم: بالرصد، حيث جامع الفيلة عامرا فيه عدّة مساكن ومساجد، وبه أناس مقيمون دائما، وقد خرب ما هناك، وصار لا أنيس به وكان الملك الناصر: محمد بن قلاون، قد أنشأ فيه سواقي لنقل الماء من أماكن قد حفر لها خليج من البحر، بجوار رباط الآثار النبوية، فإذا صار الماء في سفح هذا الجرف المسمى بالرصد نقل بسواق هناك، قد أنشئت إلى أن يصير إلى القلعة، فمات ولم يكمل ما أراده من ذلك، كما ذكر في أخبار قلعة الجبل من هذا الكتاب، وما زال موضع هذا الرصد منتزها لأهل مصر.
ويقال: إنّ المعز لدين الله معدّا لما قدم من بلاد المغرب إلى القاهرة لم يعجبه مكانها؟ وقال للقائد جوهر: فاتك بناء القاهرة على النيل، فهلا كنت بنيتها على الجرف؟
يعني هذا المكان، ويقال: إن اللحم علق بالقاهرة، فتغير بعد يوم وليلة، وعلق بقلعة الجبل، فتغير بعد يومين وليلتين، وعلق في موضع الرصد، فلم يتغير ثلاثة أيام ولياليها لطيب هوائه، ولله در القائل:
يا ليلة عاش سروري بها ... ومات من يحسدنا بالكمد
وبت بالمعشوق في المشتهي ... وبات من يرقبنا بالرصد(1/240)
ذكر مدائن أرض مصر
قال ابن سيده «1» : مدّن بالمكان: أقام، والمدينة: الحصن يبني في أسطحة الأرض، مشتق من ذلك، والجمع: مدائن ومدن، ومن هنا حكم أبو الحسن فيما حكى الفارسيّ عنه: أنّ مدينة فعيلة، وقال العلامة أثير الدين أبو حيان: المدينة معروفة مشتقة من مدن، فهي: فعيلة ومن ذهب إلى أنها مفعلة من دان، فقوله ضعيف لإجماع العرب على الهمز في جمعها، فإنهم قالوا: مدائن بالهمز، ولا يحفظ مداين بالياء، ولا ضرورة تدعو إلى أنها مفعلة من دان، ويقطع بأنها فعيلة جمعهم لها، على فعل فإنهم قالوا مدن، كما قالوا صحف في صحيفة؛ واعلم أن مدائن مصر كثيرة، منها ما دثر وجهل اسمه ورسمه، ومنها ما عرف اسمه وبقي رسمه، ومنها ما هو عامر.
وأوّل مدينة عرف اسمها في أرض مصر، مدينة: أمسوس، وقد محا الطوفان رسمها، ولها أخبار معروفة؛ وبها كان ملك مصر قبل الطوفان، ثم صارت مدينة مصر بعد الطوفان، مدينة منف، وكان بها ملك القبط والفراعنة، إلى أن خربها، بخت نصر، فلما قدم الإسكندر بن فيليبس المقدونيّ من مملكة الروم عمّر مدينة الإسكندرية عمارة جديدة، وصارت دار المملكة بمصر إلى أن قدم عمرو بن العاص بجيوش المسلمين، وفتح أرض مصر، فاختط فسطاط مصر، وصارت مدينة مصر إلى أن قدم جوهر القائد من الغرب بعساكر المعز لدين الله أبي تميم معدّ، وملك مصر، واختط القاهرة، فصارت دار المملكة بمصر إلى زالت الدولة الفاطمية على يد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، فبنى قلعة الجبل، وصارت القاهرة مدينة مصر إلى يومنا هذا.
وفي أرض مصر: عدّة مدائن ليست دار ملك وهي: مدينة الفيوم، ومدينة دلاص، ومدينة أهناس، ومدينة البهنسا، ومدينة القيس، ومدينة طلخا، ومدينة «2» الأشمونين، ومدينة أنصنا، ومدينة قوص، ومدينة سيوط، ومدينة فاو، ومدينة أخميم، ومدينة البلينا،(1/241)
ومدين هوّ، ومدينة قنا ومدينة دندرة، ومدينة قفط، ومدينة الأقصر، ومدينة اسنا، ومدينة أرمنت، ومدينة أدفو، وثغر أسوان، وأدركناه مدينة هذه مدائن الوجه القبلي.
وكان أهل مصر يسمون من سكن من القبط بالصعيد: المريس، ومن سكن منهم أسفل الأرض يسمونه: البمبا، وفي الوجه البحري مدينة: نوب من الحوف الشرقي بأسفل الأرض، ومدينة عين شمس، ومدينة أتريب، ومدينة تنوا، ومن قراها ناحية زنكلون، ومدينة نميّ، ومدينة بسطه ويعرف اليوم موضعها: بتل بسطة، ومدينة قربيط، ومدينة البتنون، ومدينة منوف، ومدينة طرّة، ومدينة منوف أيضا، ومدينة سخا، ومدينة الأوسة وهي: دميرة، ومدينة تيدة، ومدينة الأفراحون، ومن جملة قراها: نشا، ومدينة بقيرة، ومدينة بنا، ومدينة شبراساط، ومدينة سمنود، ومدينة نوسا، ومدينة سبتي، ومدينة النجوم، وقد غلب على مدينة النجوم: الرمال والسباخ ويعرف اليوم منها: قرية أدكو على ساحل البحر بين إسكندرية ورشيد، ومدينة تنيس، ومدينة دمياط، ومدينة الفرما، ومدينة العريش، ومدينة صا، ومدينة برنوط، ومدينة قرطسا، ومدينة أخنو، ومدينة رشيد، ومدينة مريوط، ومدينة لوبية ومراقية، وليس بعد لوبية ومراقية إلا أرض أنطابلس وهي: بريّة، وفي كور القبلة مدينة فاران، ومدينة القلزم، ومدينة راية، ومدينة ايلة، ومدينة مدين؛ وأكثر هذه المدائن قد خرب ومنها ما له أخبار معروفة، وقد استحدث في الإسلام بعض مدائن وسيأتي من أخبار ذلك إن شاء الله ما يكفي.
وديار مصر اليوم وجهان: قبليّ وبحريّ جملتهما، خمس عشرة ولاية.
فالوجه القبليّ أكبرهما، وهو تسعة أعمال عمل قوص، وهو أجلها، ومنه أسوان وغرب قمولة، وأسوان حدّ المملكة من الجنوب، وعمل أخميم، وعمل سيوط، وعمل منفلوط، وعمل الأشمونين وبها الطحاوية، وعمل البهنسا، وعمل الفيوم، وعمل اطفيح، وعمل الجيزة.
والوجه البحريّ ستة أعمال: عمل البحيرة، وهو متصل البرّ بالإسكندرية وبرقة، وعمل الغربية وهي جزيرة واحدة يشتمل عليها ما بين البحرين: بحر دمياط، وبحر رشيد، والمنوفية ومنها: أبيار التي تسمى: جزيرة بني نصر، وعمل قليوب، وعمل الشرقية، وعمل أشموم طناح، ومنها الدقهلية، والمرتاحية، وهنا موضع ثغر البرلس وثغر رشيد والمنصورة، وفي هذا الوجه الإسكندرية ودمياط وهما مدينتان لا عمل لهما.
وذكر أبو الحسن المسعوديّ في كتاب أخبار الزمان: أن الكوكة وهي: أمّة من أهل أيلة ملكو الأرض وقسموا الصعيد على ثمانين كورة، وجعلوه أربعة أقسام، وكان عدد مدن مصر الداخلة في كورها ثلاثين مدينة فيها جميع العجائب، والكور مثل: أخميم وقفط وقوص والفيوم ويقال: إنّ مصر بن بيصر، قسم الأرض بين أولاده فأعطى ولده أشمون من(1/242)
حدّ بلده إلى رأس البحر إلى دمياط، وأعطى ولده أنصنا من حدّ أنصنا إلى الجنادل، وأعطى لولده صا: من صا أسفل الأرض إلى الإسكندرية، وأعطى لولده منوف وسط الأرض السفلي منف وما حولها، وأعطى لولده قفط غربيّ الصعيد إلى الجنادل، وأعطى لولده أتريب شرقيّ الأرض إلى البريّة بريّة فاران، وأعطى لبناته الثلاثة وهن: الفرما، وسريام، وبدورة، بقاعا من أرض مصر محدّدة فيما بين إخوتهن.
ذكر مدينة أمسوس وعجائبها وملوكها
قال الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه الكاتب في كتاب أخبار مصر وعجائبها: وكانت مصر القديمة اسمها: أمسوس.
وأوّل من ملك أرض مصر نقراوش الجبار بن مصرايم. ومعنى نقراوش: ملك قومه الأوّل ابن مركاييل بن دواييل بن عرياب بن آدم عليه السلام، ركب في نيف وسبعين راكبا من بني عرياب جبابرة كلهم يطلبون موضعا يقطنون فيه فرارا من بني أبيهم، عندما بغى بعضهم على بعض، وتحاسدوا وبغى عليهم بنو قابيل بن آدم، فلم يزالوا يمشون حتى وصلوا إلى النيل، فلما رأوا سعة البلد فيه، وحسنه أعجبهم، فأقاموا فيه وبنوا الأبنية المحكمة، وبنى نقراوش: مصر، وسماها باسم أبيه: مصرايم، ثم تركها، وأمر ببناء مدينة سماها:
أمسوس.
وقال ابن وصيف شاه: وكان قد وقع إليه علم ذلك من العلوم التي تعلمها دواييل من آدم عليه السلام، فبنى الأعلام، وأقام الأساطين وعمل المصانع واستخرج المعادن، ووضع الطلسمات وشق الأنهار وبنى المدائن، فكل علم جليل كان في أيدي المصريين إنما هو من فضل علم نقراوش، وأصحابه. كان ذلك مرموزا على الحجارة ففسره قليمون الكاهن الذي ركب مع نوح عليه السلام في السفينة ونقراوش هو الذي بنى مدينة أمسوس، وعمل بها عجائب كثيرة منها: طائر يصفر كل يوم عند طلوع الشمس مرّتين، وعند غروبها مرّتين، فيستدلون بصفيره على ما يكون من الحوادث حتى يتهيأون له. ومنها صنم من حجر أسود في وسط المدينة تجاهه صنم مثله إذا دخل إلى المدينة سارق لا يقدر أن يزول حتى يسلك بينهما، فإذا دخل بينهما أطبقا عليه، فيؤخذ وعمل صورة من نحاس على منار عال لا يزال عليها سحاب يطلع، فكل من استمطرها أمطرت عليه ما شاء، وعمل عمل حدّ البلاد أصناما من نحاس مجوّفة وملأها كبريت، أو وكل بها روحانية النار، فكانت إذا قصدهم قاصد أرسلت تلك الأصنام من أفواهها نارا أحرقته، وعمل فوق جبل بطرس، منارا يفور بالماء، ويسقي ما حوله من المزارع، ولم تزل هذه الآثار حتى أزالها الطوفان، ويقال: إنه هو الذي أصلح مجرى النيل، وكان قبله يتفرّق بين الجبلين، وإنه وجه إلى بلاد النوبة جماعة هندسوه، وشقوا نهرا عظيما منه بنوا عليه المدن، وغرسوا الغروس، وأحب أن يعرف مخرج(1/243)
النيل، فسار حتى بلغ خلف خط الاستواء، ووقف على البحر الأسود الزفتي، ورأى النيل يجري على البحر مثل الخيوط حتى يدخل تحت جبل القمر، ويخرج منه إلى بطائح.
ويقال: إنه هو الذي عمل التماثيل التي هناك، وعاد إلى أمسوس وقسم البلاد بين أولاده، فجعل لابنه الأكبر واسمه: نقاوش الجانب الغربيّ، ولابنه شورب الجانب الشرقيّ، وبنى لابنه الأصغر واسمه: مصرايم مدينة برسان، وأسكنه فيها، وأقام ملكا على مصر مائة وثمانين سنة، ولما مات لطخ جسده بأدوية ماسكة، وجعل في تابوت من ذهب، وعمل له ناوس مصفح بالذهب، ووضع فيه ومعه كنوز وإكسير وأوان من ذهب لا يحصى ذلك لكثرته، وزبروا على الناوس تاريخ موته، وأقاموا عليه طلسما يمنعه من الحشرات المفسدة.
وملك بعده ابنه نقاوش بن نقراوش وكان كأبيه في علم الكهانة والطلسمات، وهو أوّل من عمر بمصر هيكلا، وجعل فيه صور الكواكب السبعة، وكتب على هيكل كلّ كوكب منافعه ومضاره، وألبسها كلها الثياب الفاخرة، وأقام لها خدمة وسدنة، وخرج من أمسوس مغرّبا، حتى بلغ البحر المحيط، وأقام عليه أساطين على رؤوسها أصنام تسرج عيونها في الليل، ومضى على بلاد السودان إلى النيل، وأمر ببناء حائط على جنب النيل، وعمل له أبوابا يخرج منها الماء وبنى في صحراء الغرب، خلف الواحات ثلاث مدن على أساطين مشرفات من حجارة ملوّنة شفافة، وفي كل مدينة عدّة خزائن من الحكمة، وفي إحداها صنم للشمس على صورة إنسان، وجسد طائر من ذهب وعيناه من جوهر أصفر، وهو جالس على سرير من مغناطيس، وفي يده مصحف العلوم، وفي إحداها صنم رأسه رأس إنسان بجسد طائر، ومعه صورة امرأة جالسة قد عملت من زئبق معقود لها ذؤابتان في يدها مرآة، وعلى رأسها صورة كوكب، وقد رفعت المرآة بيديها إلى وجهها، وفي إحداها مطهرة فيها سبعة ألوان من سائل يرد إليها ولا يغير بعضها لون بعض، وفي بعضها: صورة شيخ جالس قد عمل من الفيروزج وبين يديه صبية جلوس كلهم من عقيق، وفي بعضها صورة هرمس، يعني عطارد، وهو ينظر إلى مائدة بين يديه من نوشادر على قوائم من كبريت أحمر، وفي وسطها صحفة من جوهر، وجعل فيها صورة عقاب من زبرجد أخضر، وعيناه من ياقوت أصفر، وبين يديه حية زرقاء من فضة قد لوت ذنبها على رجليه، ورفعت رأسها كأنها تنفخ عليه، وجعل فيها صفة المرّيخ وهو راكب على فرس وفي يده سيف مسلول من حديد أخضر، وجعل فيها عمودا من جوهر أحمر، وعليه قبة من ذهب فيها صورة المشتري، وجعل فيها قبلة من آنك على أربعة أعمدة من جزع أزرق، وفي سقفها صورة الشمس والقمر متحاذيين في صورة رجل وامرأة يتحادثان، وجعل فيها قبة من كبريت أحمر فيها صورة الزهرة على هيئة امرأة ممسكة بضفائرها، وتحتها رجل من زبرجد أخضر في يده كتاب فيه علم من علومهم كأنه يقرأ فيه عليها.(1/244)
وجعل في بقية الخزائن من كنوز الأموال والجواهر والحلي وإكسير الصنعة، وصنوف الأدوية والسموم القاتلة ما لا يحصى كثرة، وجعل على باب كل مدينة طلسما يمنع من دخولها، وأنفذ لها مسارب تحت الأرض ينفذ بعضها إلى بعض طول كل سرب ثلاثة أميال، وبنى أيضا مدينة بأرض مصر اسمها: حلجمة، وعمل فيها جنّة صفح حيطانها بالجواهر الملوّنة بالذهب، وغرس فيها أصناف الأشجار، وأجرى تحتها الأنهار، وغرس فيها شجرة مولدة تطعم سائر الفواكه، وعمل فيها قبة من رخام أحمر على رأسها صنم يدور مع الشمس، ووكل بها شياطين إذا خرج أحد من بيته في الليل هلك.
وأقام بها أساطين زبر عليها جميع العلوم، وصور العقاقير ومنافعها ومضارها، وجعل لهذه المدينة مسارب تتصل بمسارب تلك المدن الثلاث بين كل سرب منها، وبين هذه المدينة عشرون ميلا، فلم تزل هذه المدائن حتى أفسدها الطوفان، ولمّا مات بعد مائة وتسع سنين من ملكه على مصر جعل في ناوس مطلسم، ودفن فيه.
وملك بعده أخوه مصرام بن نقراوش الجبار بن مصرايم ويقال: به سميت مصر، وكان حكيما فعمل هيكلا للشمس من مرمر مموّه بذهب أحمر، وفي وسطه فرس من جوهر أزرق عليه صورة الشمس من ذهب أحمر، وعلى رأسه قنديل من الزجاج فيه حجر مدبر يضيء أكثر من السراج، ثم إنه ذلل الأسد وركبها وسار إلى البحر المحيط، وجعل في وسطه قلعة بيضاء عليها صنم للشمس، وزبر عليه اسمه وصفته، وعمل صنما من نحاس زبر عليه:
أنا مصرايم الجبار كاشف الأسرار الغالب القهار، وضعت الطلسمات الصادقة، وأقمت الصور الناطقة، ونصبت الأعلام الهائلة على البحار السائلة ليعلم من بعدي، إنه لا يملك أحد أشدّ من أيدي، وعاد إلى أمسوس، واحتجب عن الناس ثلاثين سنة، واستخلف رجلا يقال له: عيقام من ولد عرياب بن آدم، وكان كاهنا ساحرا. فلمّا مضت المدّة أحب أهل مصر أن يروه، فجمعهم عيقام بعدما أعلم مصرايم، فظهر لهم، في أعلى مجلس مزين بأصناف الزينة في صورة هائلة ملأت قلوبهم رعبا، فخرّوا له ساجدين، ودعوا له، ثم أحضر إليهم الطعام فأكلوا وشربوا، وأمرهم بالرجوع إلى مواضعهم ولم يروه بعدها.
فملك بعده خليفته عيقام، وقد حكي عنه أهل مصر حكايات لا تصدّقها العقول.
ويقال: إنّ إدريس عليه السلام، رفع في أيامه وإنه رأى في علمه كون الطوفان، فبنى خلف خط الاستواء في سفح جبل القمر، قصرا من نحاس، وجعل فيه خمسة وثمانين تمثالا من نحاس يخرج ماء النيل من حلوقها، ويصب في بطحاء تنتهي إلى مصر، وسار إليه من أمسوس، فشاهد حكمة بنيانه وزخرفة حيطانه، وما فيها من النقوش من صور الأفلاك، وغيرها، وكان قصرا تسرج فيه المصابيح، وتنصب به الموائد وعليها من كل الأطعمة(1/245)
الفاخرة في الأواني النفيسة ما لو أكل منها عسكر لما نقصت ذرة، ولا يعرف من عملها، ولا من وضعها، وفي وسط القصر بركة من ماء جامد الظاهر، وترى حركته من وراء ما جمد منه، فأعجب بما رأى، وعاد إلى أمسوس، واستخلف ابنه عرياق، وقلده الملك، وأوصاه، وعاد إلى ذلك القصر، وأقام به حتى هلك.
وإلى عيقام هذا يعزى مصحف القبط الذي فيه تواريخهم، وجميع ما يجري في آخر الزمان.
فقام من بعده ابنه عرياق، ويقال: أرياق بن عيقام، ويقال له: الأثيم، فعمل أعمالا عجيبة منها شجرة صفراء لها أغصان من حديد بخطاطيف إذا قرب الظالم منها أخذته تلك الخطاطيف، ولا تفارقه حتى يقرّ بظلمه، ويخرج منه لخصمه، ومنها: صنم من كدان أسود سمّاه: عبد زحل، كانوا يتحاكمون إليه، فمن زاغ عن الحق ثبت في مكانه، ولم يقدر على الخروج منه حتى ينصف خصمه من نفسه، ولو أقام سنة ومن كانت له حاجة قام ليلا ونظر إلى الكوكب، وتضرّع وذكر اسم عرياق، فإذا أصبح وجد حاجته على بابه.
وعمل شجرة من حديد ذات أغصان، ولطخها بدواء مدبر، فكانت تجلب كل صنف من الدواب والسباع والوحوش إليها، حتى يتمكن من صيدها، وكان إذا غضب على أهل إقليم سلط عليهم الوحوش والسباع، وتارة يجعل ماءهم من الإيداق، ويقال: إن هاروت وماروت كانا في زمانه! وإنه بنى جنة عظيمة، واغتصب النساء الحسان وأسكنهنّ فيها، فعملت عليه امرأة منهنّ وسمّته فهلك.
وملك بعده لوجيم بن نقاوش، ويقال: بل هو من بني نقراوش الجبار، ويعرف:
بلوجيم الفتى، وهو الذي أخذ الملك من عرياق بن عيقام الكاهن، وردّه لبني نقراوش بعد ما خرج منهم بلا حرب، ولا قتل وكان عالما بالكهانة، والطلسمات فعمل أعمالا عجيبة منها: أنّ الغداف «1» والغراب كثر في أيامه، وأتلف الزرع، فعمل أربع منارات في جوانب مدينة أمسوس الأربعة، وعلى كل منارة، صورة غراب في فمه حية قد التوت عليه، فنفرت عنهم الطيور المضرّة من حينئذ، ولم تقر بهم حتى زالت المنارات بالطوفان، وكان حسن السيرة منصفا للرعية عادلا مقرّبا للكهنة، ولما مات دفن في ناوس، ومعه كنوزه، وعمل عليه طلسم يمنعه.
وملك بعده ابنه فحصليم، وكان فاضلا عالما كاهنا، فعمل أعمالا عجيبة، وهو أوّل من عمل مقياسا لزيادة ماء النيل بأن جمع أرباب العلوم والهندسة، فقدّروا بيتا من رخام على حافة النيل، وفي وسطه بركة صغيرة من نحاس فيها ماء موزون، وعليها من جانبيها(1/246)
عقابان من نحاس أحدهما ذكر، والآخر أنثى، فإذا كان أوّل الشهر الذي يزيد فيه النيل فتح هذا البيت وجمع الكهان فيه بين يديه، وزمزم الكهان بكلامهم حتى يصفر أحد العقابين، فإن صفر الذكر، كان الماء تاما، وإن صفرت الأنثى، كان الماء ناقصا، فيستعدّون عند ذلك لغلاء الأسعار بما يصلحون به شأنهم، وهو الذي بنى القنطرة ببلاد النوبة على النيل، ولما مات جعل في ناوس، ومعه كنوزه وعمل عليه طلسم.
وملك بعده ابنه، هو صال، ويقال: يوصال، ومعناه: خادم الزهرة، ويقال: سومال بن لوجيم الملك النقراوشي من بني نقراوش الجبار، ويقال: إن نوحا عليه السلام ولد في أيامه، وكان فاضلا كاهنا عالما بالسحر، والطلسمات، فعمل عجائب، منها أنه بنى مدينة عمل في وسطها صنما للشمس يدور بدورانها، ويبيت مغربا ويصبح مشرقا، وعمل سربا تحت النيل، فشق الأرض وخرج منه متنكرا، حتى بلغ مدينة بابل، وكشف أعمال الملوك، وكان نوح عليه السلام في زمانه وولد له عشرون ولدا، فجعل مع كل ولد منهم: قطرا، وهو رأس الكهنة، وأقام في الملك مائة وسبع عشرة سنة، ثم لزم الهياكل وأقام أولاده على حالهم كل منهم في قسمه الذي أعطاه إياه أبوه مدّة سبع سنين.
ثم اجتمعوا على واحد منهم وملكوه عليهم وكان اسمه تدرشان، وقيل: تدرسان، فلما ملك نفى جميع إخوته إلى المدائن الداخلة في الغرب، واقتصر على امرأة من بنات عمه، وكانت ساحرة، وعمل له قصرا من خشب منقوشا فيه صورة الكواكب، وبسطه بأحسن الفرش وحمله على الماء، وصار يجلس فيه، فبينما هو فيه ذات يوم إذ هبت ريح شديدة اضطرب منها الماء، فانقلب القصر وتكسر فغرق، هو ومن كان معه في القصر.
وملك بعده أخوه، نمرود الجبار، ويقال: شمرود بن هوصال، فأحسن السيرة وأنصف الرعية وبسط العدل، وجمع إخوته وفرّق عليهم كنوز أخيهم، فسرّ الناس به وطلب امرأة أخيه الساحرة، ففرّت منه بابنها إلى مدينة ببلاد الصعيد، وامتنعت عليه بسحرها، وأقامت مدّة واجتمع السحرة إلى ابنها، وكان اسمه توميدون، وحملوه على طلب الملك، فسار وخرج إليه شمرود وأخوته، فاقتتلوا قتالا عظيما كان فيه الظفر لتوميدون فقتله. وملك من بعده، فقام توميدون بن تدرسان بالملك في مدينة أمسوس، وكان عالما فاضلا، فتقوّى بسحر أمه، وعملت له أعمالا عجيبة، منها قبة من زجاج على هيئة الكرة تدور بدوران الفلك، وصوّرت فيها صور الكواكب، فكانوا يعرفون بها أسرار الطبائع وعلوم العالم، فلما ماتت أمّه الساحرة بعد ستين سنة من ملكه طلى جسدها بما يدفع عنه النتن والحشرات، ودفنت تحت صنم القمر، ويقال: إنها كانت بعد موتها يسمع من عندها صوت بعض الأرواح، وتخبرهم بعجائب، وتجيب عما تسأل عنه، ولما مات توميدون بعد مائة سنة من ملكه عمل له صورة من زجاج مقسومة نصفين، وأدخل فيها بعد ما طلي بالأدوية المانعة من(1/247)
النتن، وأطبقت الصورة عليه حتى التحمت وأقيم في هيكل الأصنام، ودفنت كنوزه عنده، وصار يعمل له في كل سنة عيد.
وملك بعده ابنه شرياق، ويقال له: سرياق بن توميدون بن تدرسان بن هوصال، وكان كأبيه في علم الكهانة والسحر والطلسمات، فعمل أعمالا عجيبة منها: على باب مدينة أمسوس هيئة بطة من نحاس قائمة على أسطوانة إذا دخل غريب من ناحية من النواحي صفقت بجناحيها، وصرخت فيؤخذ ذلك الغريب، ويكشف أمره حتى يعرف فيما قدم، وشق من النيل نهرا يمرّ إلى مدائن الغرب وبنى عليه أعلاما ومدنا، ومنتزهات، وسار ملك من بني فراشي بن آدم ويقال: من بني صوانيتي بن آدم خرج من ناحية العراق في أيامه، وغلب على بلاد الشام، وقصد مصر ليأخذ ملكها، فقيل له: إنك لا تقدر عليها لسحر أهلها، فتنكر ودخل في جماعة من خواصه ليكشف حال أهل مصر، فلما وصل إلى أوّل حدّ مصر حبسه الموكلون بذلك الحدّ هو ومن معه، حتى يأمر الملك فيهم بأمره وبعثوا إليه بصفتهم، وكان قد رأى في منامه كأنه على منار عال وكأن طائرا عظيما انقض عليه ليخطفه، فحاد عنه حتى كاد يسقط من المنار، فجاوزه الطائر وسلم منه فانتبه مذعورا.
وقص رؤياه على كبير الكهنة، فقال: يطلبك ملك، ولا يقدر عليك، ونظر في نجومه، فرأى الملك الذي يطلب ملكه قد دخل إلى مصر، وكان ذلك هو الوقت الذي قدم عليه فيه الرسل بصفات الذين وصلوا إلى حدّ مصر، فأمر بإحضارهم إليه بعد ما يطاف بهم على عجائب مصر كلها ليروها، فأوثقوهم وساروا بهم وأوقفوهم على عجائب أرض مصر، وما فيها من الطلسمات حتى بلغوا إلى الإسكندرية، ثم إلى أمسوس، ثم إلى الجنة التي عملها مصرام، كان الملك شرياق مقيما بها، فعند ما وصلوا إليها أظهرت السحرة التماثيل العجيبة، فدخلوا عليه وحوله الكهنة، وبين يديه نار لا يصل إليه أحد حتى يخوضها، فمن كان بريئا لم تضرّه، ومن كان يريد بالملك سوءا أو أضمر له مكروها أخذته النار، فشق القوم في وسط النار واحدا بعد واحد من غير أن تضرّهم حتى انتهى الأمر إلى ملك العراق، فعندما دنا من النار أخذته بحرّها، فولى هاربا فاتبعوه حتى أخذوه وأوقفوه بين يدي شرياق، فلم يزل به حتى اعترف، فأمر بصلب فصلب على الحصن الذي أخذ منه، ونودي عليه هذا جزاء من طلب ما لا يصل إليه، وعفا عن الباقين فساروا من مصر وتحدّثوا بما رأوه من العجائب، فانقطع طمع ملوك الأرض عن طلب ملك مصر، ومات شرياق بعد ما ملك مصر مائة وثلاثين سنة، فجعل في ناوس ومعه أمواله وطلسم يحفظه ممن يقصده.
وملك بعده ابنه: شهلوق، وكان عالما بالكهانة والطلسمات، فقسم ماء النيل موزونا يصرف إلى كل ناحية قسطها، ورتب الدولة وعمل بيت نار، وهو أوّل من عبد النار، وعمل بأمسوس عجائب منها: شجرة على أعلى الجبال تقسم بها الرياح التي تمنع من أراد مصر(1/248)
بأذى أو فساد من جنيّ أو إنسيّ أو سبع أو طائر، وعمل بالمدينة قبة مركبة على سبعة أركان ولها سبعة أبواب على كل ركن باب، وفي وسط القبة قبة من صفر، وفي أعلاها صور الكواكب السبعة، وتحت القبة قبة أخرى معلقة على سبع أساطين، وعلى الباب الأوّل من القبة: أسد ولبوة من صفر، وهما رابضان، كان يذبح لهما جروا أسود ويبخرهما بشعره، وعلى الباب الثاني: ثور وبقرة يذبح لهما عجلا ويبخرهما بشعره، وعلى الباب الثالث:
خنزير وخنزيرة يذبح لهما خنوصا ويبخرهما بشعره، وعلى الباب الرابع: كبش وشاة يذبح لهما سخلة ويبخرهما بشعرها، وعلى الباس الخامس: ثعلب وثعلبة يذبح لهما فرخ ثعلب ويبخرهما بشعره، وعلى الباب السادس: عقاب وأنثاه يذبح لهما فرخ عقاب ويبخرهما بريشه، وعلى الباب السابع: نسر وأنثاه يذبح لهما فرخ نسر ويبخرهما بريشه، ويلطخ كلا منهما بدم ما ذبح له، وتحرق سائر القرابين، ويوضع رمادها تحت عتبات أبواب القبة، وجعل لهذه القبة سدنة يشعلون المصابيح ليلا ونهارا، وقسم الناس بمصر سبع مراتب، لكل مرتبة منهم: باب من أبواب تلك القبة، فكان الخصم إذا تقدّم إلى شيء من تلك الصور، وكان ظالما فإنه يلتصق بها ولا يتخلص منها حتى يخرج من الحق الذي عليه، الذكر للذكر، والأنثى للأنثى، فيعرفون بذلك الظالم من المظلوم.
ولم تزل هذه القبة بأمسوس حتى أزالها الطوفان، ويقال: إنه رأى أباه في النوم وهو يأمره أن ينطلق إلى جبل وصفه له من جبال مصر، فإنّ فيه كوّة صفتها كذا على بابها أفعى لها رأسان إذا أقبل إليها كشرت في وجهه فخذ معك طائرين صغيرين ذكرا وأنثى، فاذبحهما لها وألقمها إياهما، فإنها تأخذ برأسيهما، وتتنحي بهما إلى سرب فإذا غابت، أدخل الكوّة تجد فيها امرأة عظيمة من نور حار يابس، فإنها تسطع لك وتحس بحرارتها فلا تدن منها تحترق ولكن اقعد حذاءها وسلم عليها، فإنها تخاطبك فافهم ما تقول لك واعمل به، فإنك تشرف بذلك، وتدلك على كنوز جدّك مصرام، فإنها حافظة لها، فلما انتبه عمل ما أمره أبوه فلما قعد بجانب المرأة وسلم، قالت له: أتعرفني؟ قال: لا، قالت: أنا صورة النار المعبودة في الأمم الخالية، وقد أردت أن تحيي ذكري وتجدّد لي بيتا تقد لي فيه نارا دائمة بقدر واحد وتتخذ لها عيدا في كل سنة تحضره أنت وقومك فإنك تتخذ بذلك عندي يدا أنيلك بها شرفا إلى شرفك، وملكا إلى ملكك، وأمنع عنك من يطلبك بسوء، وأدلك على كنوز جدّك مصرام، فضمن لها أن يفعل كلّ ما أمرته به فدلته على الكنوز التي تحت المدائن المعلقة، وعلمته كيف يصير إليها وكيف يحترس من الأرواح الموكلة بها، وما ينجيه منها، ثم قال لها: كيف لي بأن أراك في وقت آخر؟ قالت: لا تعد، فإنّ الأفعى لا تمكنك، ولكن بخر في بيتك بكذا فإني آتيك، فسرّ بذلك، وغابت عنه وخرج، ففعل ما أمرته به من عمل بيت النار، وأخذ كنوز مصرام، ولما مات جعل في ناوس ومعه سائر أمواله وكنوزه، وجعل عليه طلسم يحفظه ممن يقصده. وملك بعده ابنه سوريد، وكان حكيما فاضلا، وهو أوّل من(1/249)
جبى الخراج بمصر، وأوّل من أمر بالإنفاق على المرضى، والزمنى من خزائنه، وأوّل من سنّ رقعة الصباح، وعمل أعمالا عجيبة، منها مرآة من أخلاط كان ينظر فيها إلى الأقاليم فيعرف فيها ما حدث من الحوادث، وما يخصب منها وما يجدب، وأقام هذه المرأة في وسط مدينة أمسوس، وكانت من نحاس.
وعمل في أمسوس صورة امرأة جالسة في حجرها صبيّ ترضعه، وكانت المرأة من نساء مصر إذا أصابتها علة في موضع من جسمها أتت هذه الصورة، ومسحت ذلك الموضع من جسدها بمثل ذلك الموضع من الصورة، فتزول عنها العلة، وإن قلّ لبنها مسحت ثديها بثدي الصورة فيغزر لبنها، وإن قلّ حيضها مسحت فرجها بفرج الصورة فيكثر حيضها، وإن كثر دمها مسحت أسفل ركبها بمثل ذلك من الصورة، وإن عسرت ولادة امرأة مسحت رأس الصبيّ الذي في حجر الصورة، فتضع حملها، وإن أرادت التحبب إلى زوجها مسحت وجهها وتقول: افعلي كذا وكذا، فإذا وضعت الزانية يدها عليها ارتعدت حتى تتوب، ولم تزل هذه الصورة إلى أن أزالها الطوفان، وفي كتب القبط: أنها وجدت بعد الطوفان، وأن أكثر الناس عبدوها.
وعمل سوريد، صنما من أخلاط كثيرة، فكان من أصابته علة في موضع من جسده غسل ذلك الموضع من الصنم بماء وشرب الماء، فإنه يبرأ وسوريد هذا هو الذي بنى الهرمين العظيمين بمصر المنسوبين إلى شدّاد بن عاد، والقبط تنكر أن تكون العادية دخلت بلادهم لقوّة سحرهم، ولما مات سوريد دفن في الهرم ومعه كنوزه، ويقال: إنه كان قبل الطوفان بثلاثمائة سنة وأنه ملك مائة سنة وتسعين سنة.
فملك بعده ابنه هرجيب، وكان كأبيه حكيما فاضلا في علم السحر والطلسمات، فعمل أعمالا عجيبة، واستخرج معادن كثيرة وأظهر علم الكيمياء، وبنى أهرام دهشور وحمل إليها أموالا عظيمة وجواهر نفيسة، وعقاقير وسمومات، وجعل عليها روحانيات تحفظها وشج رجل رجلا، فأمر بقطع أصابعه وسرق رجل مالا، فملك المسروق له رق السارق، ولما مات دفن في الهرم، ومعه جميع أمواله وذخائره.
وملك بعده ابنه مناوس، ويقال: منقاوس، وكان كأبيه في الحكمة إلا أنه كان جبارا فاسقا سفاكا للدماء، ينتزع النساء من أزواجهنّ ويبيح ذلك لخواصه، وعمل أعمالا عجيبة واستخرج كنوزا وبنى قصورا من ذهب وفضة، وأجرى فيها الأنهار وجعل حصباءها من أصناف الجواهر النفيسة، وسلط رجلا جبارا اسمه: قرناس، على الناس ووجّهه لمحاربة الأمم الغريبة، فقتل منهم خلائق، ولما مات دفن في بعض قصوره ومعه أمواله، وعمل عليه طلسم يحفظه ويمنعه من كل طالب.
وملك بعده ابنه أفروس، وكان كأبيه في العلم والحكمة، ولما ملك أظهر العدل(1/250)
وأحسن السيرة وردّ النساء اللاتي غصبن في أيام أبيه على أزواجهنّ، وعمل قبة طولها خمسون ذراعا في عرض مائة ذراع، وركب في جوانبها طيورا من صفر تصفر بأصوات مختلفة مطربة لا تفتر ساعة، وعمل في وسط مدينة أمسوس، منارا عليه رأس إنسان من صفر كلما مضى من النهار أو الليل ساعة صاح صيحة يعلم من سمعها بمضيّ ساعة، وعمل منارا عليه قبة من صفر مذهب، ولطخها بلطوخات، فإذا غربت الشمس في كل ليلة اشتعلت القبة نورا تضيء له مدينة أمسوس طول الليل، حتى يصير مثل النهار لا تطفئها الرياح ولا الأمطار فإذا طلع النهار خمد ضوءها وأهدى لبعض ملوك بابل مدهنا من زبرجد قطره خمسة أشبار.
ويقال: إنه وجد بعد الطوفان، وعمل في الجبل الشرقيّ صنما عظيما قائما على قاعدة وهو مصبوغ مصفر بالذهب ووجهه إلى الشمس يدور معها حتى تغرب، ثم يدور ليلا حتى يحاذي المشرق مع الفجر، فإذا أشرقت الشمس استقبلها بوجهه، وبنى بصحراء الغرب مدنا كثيرة، وأودعها كنوزا عظيمة، ونكح ثلثمائة امرأة ولم يولد له ولد، فإنّ الله تعالى، كان قد أعقم الأرحام لما يريد من إهلاك العالم بالطوفان، ووقع الموت في الناس والبهائم، ولما مات وضع في ناوس بالجبل الشرقيّ، ومعه أمواله وطلسم عليه.
وملك بعده أرمالينوس، فعمل أعمالا عجيبة وبنى مدنا ومصانع جدّد الطلسمات، وكان له ابن عم يسمى: فرعان، وكان جبارا، فأبعده وجعله على جيش ساربه عنه، فقهر ملوكا وقتل أمما عظيمة، وغنم أموالا كثيرة، وعاد فشغفت به امرأة من نساء الملك، وما زالت به حتى اجتمع بها تآلفا، وأقاما على ذلك مدّة، فخافا الملك أن يفطن بهما، فعملت المرأة لأرمالينوس سمّا في شرابه هلك منه.
وملك بعده ابن عمه فرعان بن مشور، فلم ينازعه أحد لشجاعته وسياسته، ولم تطل أعوامه حتى رأى قليمون الكاهن، كأنّ طيورا بيضاء قد نزلت من السماء، وهي تقول: من أراد النجاة فليلحق بصاحب السفينة، وكان عندهم علم بحدوث الطوفان من أيام سوريد وبنائه الأهرام، لأجل ذلك، واتخذ الناس سراديب تحت الأرض مصفحة بالزجاج قد حبست الرياح فيها بتدبير، وعمل منها فرعان لنفسه ولأهله عدّة، فما كذب أن جمع أهله وولده وتلميذه ولحق بنوح عليه السلام، وآمن به وأقام معه حتى ركب في السفينة وجاء الطوفان في أيام فرعان، فأغرق أرض مصر كلها، وخرب عمائرها، وأزال تلك المعالم كلها، وأقام الماء عليها ستة أشهر، ووصل إلى أنصاف الهرمين العظيمين، وسيأتي خبر ذلك إن شاء الله تعالى عند ذكر محن مصر من هذا الكتاب.
ويقال: إنّ فرعان كان عاتيا متجبرا يغصب الأموال والنساء، وأنه كتب إلى الدر مثيل ابن لحويل ببابل يشير عليه بقتل نوح عليه السلام، وأنه استخف بالكهنة والهياكل، ففسدت(1/251)
في أيامه أرض مصر، ونقص الزرع وأجدبت النواحي لانهماكه في ضلاله وظلمه وإقباله على لهوه ولعبه، وإنّ الناس اقتدوا به ففشا ظلم بعضهم لبعض، وإنه لما أقبل الطوفان، وسحت الأمطار، قام سكران يريد الهرب إلى الهرم، فتخلخلت الأرض به، وطلب الأبواب فخانته رجلاه وسقط يخور، حتى هلك، وهلك من دخل الأسراب بالغم، والله تعالى أعلم.
ذكر مدينة منف وملوكها
هذه المدينة كانت في غربيّ النيل على مسافة اثني عشر ميلا من مدينة فسطاط مصر، وهي أوّل مدينة عمرت بأرض مصر بعد الطوفان، وصارت دار المملكة بعد مدينة أمسوس التي تقدّم ذكرها، إلى أن أخربها بخت نصر، وقد ذكرها الله تعالى في كتابه العزيز بقوله:
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها
[القصص/ 15] . قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبريّ في كتاب جامع البيان في تفسير القرآن، عن السديّ: أنّه قال: كان موسى عليه السلام حين كبر يركب، كمراكب فرعون، ويلبس مثل ما يلبس، وكان إنما يدعى:
ابن فرعون، ثم إنّ فرعون ركب مركبا، وليس عنده موسى، فلما جاء موسى عليه السلام قيل له: إنّ فرعون قد ركب، فركب في إثره فأدركه المقيل في أرض يقال لها: منف، فدخلها نصف النهار، وقد تغلقت أسواقها وليس في طرقها أحد، وهي التي يقول الله جلّ ذكره: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها
[القصص/ 15] .
قال ابن عبد الحكم، عن عبد الله بن لهيعة: أوّل من سكن بمصر بعد أن أغرق الله قوم نوح عليه السلام، بيصر بن حام بن نوح، فسكن منف، وهي أوّل مدينة عمرت بعد الطوفان هو وولده، وهم ثلاثون نفسا منهم أربعة أولاد قد بلغوا وتزوّجوا، وهم: مصر وفارق وماج وياج وبنو بيصر، وكان مصر أكبرهم، فبذلك سميت: مافه، ومافه بلسان القبط ثلاثون، وكانت إقامتهم قبل ذلك بسفح المقطم، ونقروا هناك منازل كثيرة. وقال ابن خرداذبه في كتاب المسالك والممالك: ومدينة منف هي (مدينة فرعون) التي كان ينزلها، واتخذ لها سبعين بابا من حديد، وجعل حيطان المدينة من الحديد والصفر، وفيها كانت الأنهار تجري من تحت سريره، وهي أربعة، ويروى أنّ مدينة منف كانت قناطر وجسورا بتدبير، وتقدير حتى أنّ الماء ليجري تحت منازلها وأفنيتها، فيحبسونه كيف شاءوا، ويرسلونه كيف شاءوا، فذلك قوله تعالى حكاية عن فرعون: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ
[الزخرف/ 51] ، وكان بها كثير من الأصنام لم تزل قائمة إلى أن سقطت فيما سقط من الأصنام في الساعة التي أشار فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الأصنام، يوم فتح مكة بقضيب في يده، وهو يطوف حولها، ويقول: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً
[الإسراء/ 81] فما أشار إلى صنم منها في وجهه إلا وقع لقفاه، ولا أشار لقفاه إلا وقع لوجهه، حتى ما بقي منها صنم إلا وقع، وفي تلك الساعة سقطت أصنام الأرض من الشرق(1/252)
إلى الغرب، وبقي أصحابها متعجبين لا يعلمون لها سببا أوجب سقوطها، وبقيت أصنام مدينة منف ساقطة من ساعته، وفيها الصنمان الكبيران المجاوران للبيت الأخضر الذي كان به صنم العزيز، وكان من ذهب وعيناه ياقوتتان لا يقدر على مثلهما، ثم قطعت الأصنام والبيت الأخضر من بعد سنة ستمائة.
ويقال: كانت منف ثلاثين ميلا طولا في عشرين ميلا عرضا، وإنّ بعض بني يافث بن نوح عمل في أيام مصرايم آلة تحمل الماء حتى تلقيه على أعلى سور مدينة منف، وذلك أنه جعلها درجا مجوّفة، كلما وصل الماء إلى درجة امتلأت الأخرى، حتى يصعد الماء إلى أعلى السور، ثم ينحط فيدخل جميع بيوت المدينة، ثم يخرج من موضع إلى خارج المدينة.
وكان بمنف بيت من الصوّان الأخضر الماتع «1» الذي لا يعمل فيه الحديد قطعة واحدة، وفيه صور منقوشة وكتابة، وعلى وجه بابه صور حيات ناشرة صدورها، لو اجتمع ألوف من الناس على تحريكه ما قدروا لعظمه وثقله، والصابئة تقول: إنه بيت القمر، وكان هذا البيت من جملة سبعة بيوت كانت بمنف للكواكب السبعة، وهذا البيت الأخضر هدمه، الأمير سيف الدين شيخون العمريّ، بعد سنة خمسين وسبعمائة، ومنه شيء في خانقاهه، وجامعه الذي بخط الصليبة خارج القاهرة.
وقال أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن القيسي في كتابه تحفة الألباب: ورأيت في قصر فرعون موسى بيتا كبيرا من صخرة واحدة أخضر كالآس فيه صورة الأفلاك والنجوم لم نر عجبا أحسن منه.
وقال أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسيّ «2» : وكانت دار الملك بمصر في قديم الدهر مدينة منف، وهي في غربيّ النيل على مسافة اثني عشر ميلا من الفسطاط، فلما بنى الإسكندر مدينة الإسكندرية رغب الناس في عمارتها، فكانت دار العلم، ومقرّ الحكمة، إلى أن فتحها المسلمون في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، واختط عمرو بن العاص مدينته المعروفة، بالفسطاط، فانتشر أهل مصر، وغيرهم من العرب والعجم إلى سكناها، فصارت قاعدة ديار مصر، ومركزها إلى وقتنا هذا.
وقال الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه الكاتب: وقد ذكر أخبار مدينة أمسوس، وخراب عمائر أرض مصر بطوفان نوح عليه السلام، ولما نزل الماء كان أوّل من ملك مصر بعد(1/253)
الطوفان بيصر بن حام بن نوح، وكان معه ثلاثون من الجبابرة من أهله وولده، فاجتمعوا وبنوا مدينة منف، ونزلوا بها، وكان قليمون الكاهن الذي تقدّم ذكره في خبر مدينة أمسوس من جملتهم، وكان قد زوج ابنته ببيصر المذكور، وجاءت معه إلى مصر، وولدت منه ولدا سماه: مصرايم، فلما مات بيصر، دفن في موضع دير أبي هرميس، ويقال: دير أبي هرميس غربيّ الأهرام، ويقال: إنها أوّل مقبرة دفن فيها بأرض مصر، وكان موته بعد ألف وثمانمائة وست سنين مضت من وقت الطوفان، وقال غيره: ثم بنى مصرايم مدينة سماها باسمه، فجاءه رجل من بني يافث، فعمل له سورا قائما، وصنع له درجا وأجرى الماء إلى أن بقي يصعد إلى أعلى السور بحكمة أتقنها، ثم ينزل ذلك الماء من أعلى السور إلى المدينة فينتفع به فيها بغير مشقة ولا كلفة، ثم يخرج من ناحية أخرى، وكتب على السور هذه صنعة من يموت لا صنعة من يدوم.
وملك بعد بيصر، ابنه مصرايم. (ويقال له: مصر) بن بيصر، فأظهره قليمون الكاهن على كنوز مصر وعلمه قراءة خطهم، وأطلعه على حكمهم وبنى مصرايم، المدن وشق الأنهار وغرس الأشجار، وبنى مدينة عظيمة سماها درسان، وهي العريش، ونكح امرأة من أولاد الكهنة، فولدت له ابنا سماه: قفطيم، وبنى مدينة رقودة مكان الإسكندرية.
ولما مات مصرايم، جعل له سرب طوله مائة وخمسون ذراعا، وبسط بالمرمر الأبيض وعمل في وسطه مجلس مصفح بصفائح الذهب، وله أربعة أبواب، على كل باب: تمثال من ذهب على رأسه تاج من ذهب، وهو جالس على كرسيّ من ذهب قوائمه من زبرجد، ونقش في صدر كل تمثال آيات مانعة وحبسوا جسده في جسد من زبرجد أخضر شبه تابوت طوله أربعون ذراعا دفن فيه، ومعه جميع ما كان في خزائنه من ذهب، وفضة وجوهر منها ألف قطعة من زبرجد مخروط وألف تمثال من جوهر نفيس، وألف برنية من ذهب مملوءة درا نفيسا، وألف آنية من ذهب، وعدّة سبائك من فضة، وعمل عليه طلسم مانع من الوصول إليه وزبروا عليه: مات مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح بعد ألفين وستمائة عام، وقيل: بعد سبعمائة سنة مضت من الطوفان، ولم يعبد الأصنام فصار إلى جنة لا هرم فيها ولا سقم، ولا همّ ولا حزن، وكتب اسم الله الأعظم عليه حتى لا يصل إليه أحد إلا ملك، يأتي في آخر الزمان يدين بدين الملك الديان، ويؤمن بالبعث والفرقان، والنبيّ الداعي إلى الإيمان في آخر الزمان، وسقفوا فوق السرب بالصخور العظام، وهالوا عليه الرمال حتى سدّوا بين جبلين متقابلين.
ويقال: كان مصر بن بيصر، مع جدّ أبيه نوح عليه السلام في السفينة، فدعا له أن يسكنه الله الأرض الطيبة المباركة التي هي أم البلاد وغوث العباد، ونهرها أفضل الأنهار، ويجعل له فيها أفضل البركات ويسخر له الأرض ولولده، ويذللها ويقوّيهم عليها، فسأله(1/254)
عنها، فوصفها له، وأخبره بها، وكان بيصر بن حام قد كبر وضعف فساقه ولده مصرايم، وجميع إخوته إلى مصر، فنزلوها وبذلك سميت: مصر.
وملك بعده: ابنه قبطيم (ويقال له: قفط) بن مصرايم، وهو أوّل من عمل العجائب بعد الطوفان، فاستخرج المعادن وشق الأنهار، ونصب الأعلام والمنارات وعمل الطلسمات.
ويقال: إنّ مصرايم لما مات، اختلف أولاده من بعده، وكان قفط أصغرهم، فاجتمعوا عند الأهرام ورضوا بأنّ من غلب منهم أخاه أخذ الملك، فتحارب أشموم وأتريب، فغلب أتريب، ثم تحارب صا، هو وأشموم، فغلب أشموم، ثم تحارب قفط وصا، فغلب قفط فأخذ قفط الملك بعد أبيه، وأطاعه أخوته وسكن مدينة منف دار مملكة أبيه، وتزوّج امرأة ولدت له، أربعة أولادهم: قفطريم، وأشمون، وأتريب، وصا، فتناسلوا وكثروا وعمروا البلاد، ثم إنه قسم الأرض بين أولاده الأربعة عند وفاته، فجعل لولده قفطريم من أسوان إلى قفط، وجعل لولده أشمون من مدينة قفط إلى مدينة منف، وجعل لولده أتريب الجرف كله، وجعل لولده صا من ناحية البحيرة إلى الغرب، وجعل أمرهم إلى قفطريم وأمر كل واحد منهم أن يبني لنفسه مدينة في حيزه، وجعل لنفسه سربا تحت الجبل الكبير، وصفحه بالمرمر، وعمل فيه منافذ للريح فصارت تنخرق فيه بدويّ عظيم، وأقام في السرب رؤوسا من نحاس مطلية تضيء كالسرج ليلا ونهارا. ولما مات وضع جسده بهذا السرب في جرن من ذهب بعد ما ألبس ثيابا منسوجة بالدر والمرجان، وأقيم عند رأسه عمود من مرمر عليه جوهرة تضيء، وعمل حول الجرن توابيت من حجارة ملوّنة حولها مصاحف الحكمة، ووضعت عنده أمواله وكنوزه وذخائره وزبروا عليه كما زبروا على أبيه، وانتقل كل من أولاده إلى حيزه، فانتقل صا بأهله وأولاده وسكن مدينة صا الآتي ذكرها.
ويقال: كانت البلبلة في أيام قفط، وأنه ألهمه الله تعالى اللغة القبطية، وأنه أقام ملكا أربعمائة وثمانين سنة، ومات، فدفن بأرض الواحات وملك بعده أخو أشمن بن مصر، وقيل: بل أسكن في حياته ابنه قفطريم في حيزه، فشرع في العمارة وكان جبارا عظيم الخلقة، فأثار من المعادن ما لم يثره أحد قبله وبنى مدينة دندرة، وعمل في جبل قفط منارا عاليا يرى منه البحر الشرقيّ، ووجد هناك معادن من الزئبق، وعمل البركة التي سماها صيادة الطير، وهلك عاد بالريح في آخر أيامه، وفي أيامه أثارت الشياطين الأصنام التي أغرقها الطوفان، فعبدت، وأقام ملكا أربعمائة وثمانين سنة ومات.
وذكر ابن عبد الحكيم: بعد مصر بن بيصر قفط بن مصر، وأنّ الذي ملك بعد قفط أخوه اشمن، ثم أتريب بن مصر، ثم صا بن مصر، ثم ابنه تدارس بن صا، ثم ابنه ماليق بن تدارس، ثم ابنه حزابا بن ماليق، ثم ابنه كلكلي بن حزابا، ويقال: إنّ أشمن، لما ملك بعد(1/255)
أخيه، سار إليه شدّاد بن هدّاد بن شدّاد بن عاد، وملك أرض مصر، وهدم مبانيها، وبنى أهراما ومضى إلى موضع الإسكندرية، فبناها وأقام دهرا، ثم خرجت العادية من أرض مصر، فعاد أشمن إلى ملكه، وأنه ملك بعده أخوه صا، ثم ملك بعد صا ابنه تدارس، وفي أيامه بعث الله صالحا إلى ثمود ومات.
فملك ابنه ماليق البودسير، وكان من الجبابرة العظام عمل أعمالا عظيمة، منها منار فوقه قبة لها أربعة أركان في كل ركن كوّة يخرج منها في يوم معلوم عندهم من كل سنة، دخان ملتف في ألوان شتى يستدلون بكل لون على شيء، فإن خرج الدخان أخضر، دل على العمارة والخصب في تلك السنة، وإن خرج أبيض، دل على الجدب وقلة الخير، وإن خرج أحمر، دل على الحروب وقصد الأعداء، وإن خرج أصفر، دل على النيران وآفات تحدث من الملك، وإن خرج أسود، دل على الأمطار والسيول، وفساد بعض الأرض، وإن خرج مختلطا، دل على كثرة الظلم وبغي الناس بعضهم على بعض.
وعمل شجرة من نحاس تجذب سائر الوحوش حتى تصل إليها، فلا تستطيع الحركة إلى أن تؤخذ، فشبع أهل مصر من لحوم الوحوش، واتفق أنّ غرابا نقر عين صبي من أولاد الكهنة فقلعها، فعمل شجرة من نحاس عليها غراب منشور الجناحين وفي منقاره حية، وعلى ظهره أسطر، فكانت الغربان تقع على هذه الشجرة، ولا تبرح حتى تموت، وكانت الرمال قد كثرت في أيامه على أرض مصر من ناحية الغرب، فعمل صنما من صوّان أسود على قاعدة منه، وفوق كتبه قفة فيها مسحاة ونقش على وجهه وصدره وذراعيه كتابة، وجعل وجهه إلى الغرب، فانكشفت الرمال ورجعت بها الرياح إلى ورائها، وصارت تلالا عالية.
وبعث بهرمس الحكيم، إلى جبل القمر الذي يخرج منه النيل، فعمل تماثيل النحاس، وعدّل جانبي النيل، وكان قبله يفيض في مواضع وينقطع في مواضع وسار مغرّبا لينظر ما وراء ذلك، فوقع على أرض واسعة ينخرق فيها الماء والأشجار فبنى فيها منتزهات، وأقام بها وحوّل إليها عدّة من أهله فعمروا تلك النواحي حتى صارت أرض الغرب كلها معمورة، ثم خالطتهم البربر، وجرت بينهم حروب كثيرة أفنتهم، فخربت تلك البلاد، ولم يبق منها إلا الواحات، ثم إنّ البودسير احتجب عن الناس، وصار يبرز وجهه من مقعده في النادر، وربما خاطبهم من حيث لا يرونه.
وذكر أبو الحسن المسعوديّ في كتاب أخبار الزمان: إنّ أوّل من تحقق بالكهانة وغير الدين وعبد الكواكب البودسير، وتزعم القبط أنّ الكواكب كانت تخاطبه، وأنّ له عجائب كثيرة منها: أنه استتر عن الناس عدّة سنين من ملكه، وكان يظهر لهم وقتا بعد وقت مرّة في كل سنة، وهو حلول الشمس في برج الحمل، ويدخل الناس إليه، فيخاطبهم، وهم يرونه فيأمرهم وينهاهم ويحذرهم مخالفة أمره، ثم بنيت له قبة من فضة مطلية بذهب، فصار(1/256)
يجلس في أعلاها، وله وجه عظيم فيخاطبهم.
(فلما مات ملك بعده ابنه أرقليمون) : وكان كاهنا ساحرا، فعمل أعمالا عظيمة منها:
أنه كان يجلس في السحاب، فيرونه في صورة إنسان عظيم، وأقام مدّة على ذلك، ثم إنه غاب عن أهل مصر، وصاروا بغير ملك، ثم رأوا صورة بحذاء جرم الشمس عند حلولها أوّل برج الحمل، فأمرهم أن يقلدوا الملك عديم بن قفطيم وأعلمهم أنه ما بقي يعود إليهم.
فولوا عليهم عديم بن قفطيم: وكان جبارا عظيما وهو أوّل من صلب بمصر، وذلك أنّ امرأة ورجلا زنيا، فصلبهما، وجعل ظهر كل منهما لظهر الآخر، وبنى أربع مدائن أودعها كنوزا عظيمة، وجعل عليها طلسمات، وعدّة عجائب وعمل منارا على البحر الشرقيّ، وعليه صنم إلى الشرق حتى لا يغلب البحر على أرض مصر، وعمل قنطرة على النيل في أرض النوبة، وأقام ملكا مائة وأربعين سنة، ومات وعمره سبعمائة وثلاثون سنة.
(وملك بعده ابنه شدّات بن عديم) : وهو الذي تسميه العامة: شدّاد بن عاد، وكان عالما كاهنا ساحرا ويقال: إنه هو الذي بنى الأهرام الدهشورية، وعمل أعمالا عظيمة وطلسمات عجيبة وبنى في الجانب الشرقيّ مدائن، وفي أيامه بنيت قوص وغزا الحبشة، وسباهم وأقام ملكا تسعين سنة، وهو أوّل من اتخذ الجوارح وصاد بها وولّد الكلاب السلوقية، وعمل في بركة سيوط تماسيح منصوبة تنصب إليها التماسيح من النيل انصبابا، فيقتلها ويعلق جلودها في السفن، واتفق أنه طرد صيدا فكبابه فرسه في وهدة، فهلك.
وكان قد غضب على بعض خدمه فرماه من جبل عال، فتقطع، فرأى أنه يصيبه مثل ذلك، ولما هلك وضع في ناوس ودفنت معه أمواله وعمل عليه طلسم يمنعه ممن يقصده، وكتب عليه: لا ينبغي لذي القدرة أن يخرج عن الواجب، ولا يفعل ما لا يجوز له فعله، فيجازي بعمله.
هذا ناوس بن شدّات بن عديم، فعل ما لا يحلّ له فعله، فكوفىء عليه بمثله.
وملك بعده ابنه منقاوش: وكان حكيما فاضلا كاهنا، عمل أعمالا عجيبة، وبنى أشياء معجبة منها: أنه عمل هيكلا لصور الكواكب على ثمانية فراسخ من منف، وكنز من الأموال ما لا يحصى، وفتح عليه من المعادن ما لم يفتح به على غيره، وسار في الجنوب يوما ثم سار مغرّبا يوما وبعض آخر، فانتهى في اليوم الثالث إلى جبل أسود، فعمل تحته أسرابا ومغاير، ودفن فيها أمواله وزبر عليها حتى أنه من كثرتها يقال: إنه دفن حمل اثني عشر ألف عجلة ذهبا وجواهر، وأقام أربع سنين يرسل في كل سنة عجلا كثيرة يدفنها، وبقيت آثار العجل ترى فيما بين منف والمغرب زمانا طويلا، وبنى هيكلا للقمر، ويقال: إنه هو الذي بنى مدينة منف لبناته، وكنّ ثلاثين بنتا، وأنه ألزم الناس بعمل الكيمياء، فكانوا لا(1/257)
يفترون عن عملها ليلا ولا نهارا، حتى اجتمع عنده مال عظيم وجوهر كثير، وهو الذي بنى مدينة عين شمس، وقسم خراج مصر أرباعا، جعل الربع للملك، والربع للجند، والربع ينفق في مصالح الأرض، والربع الرابع يدفن لحادثة تحدث، وهو الذي قسم أرض مصر على مائة وثلاثين كورة، وأقام ملكا إحدى وتسعين سنة ومات.
فملك بعده ابنه عديم بن منقاوش: وكان جبارا لا يطاق، وفي أيامه كان نزول الملكين اللذين يعلمان الناس السحر، والقبط تزعم أنهما نزلا بأرض مصر، ثم نقلا إلى بابل.
ثم ملك بعده أخوه مناوش بن منقاوش، وكان عالما كاهنا فاضلا، بنى مواضع كثيرة في الجبال والصحارى، وكنز فيها كنوزا عظيمة، وأقام عليها أعلاما، وبنى في صحراء الغرب مدينة، وأقام لها منارا وكنز حولها كنوزا عظيمة، وجعل فيها شجرة تطلع كل لون من الفاكهة، وهو أوّل من عبد البقر بمصر، وكان يطلب الحكمة، ويستخرج كتبها، وكذا كان كل من ملك منهم يجتهد في أن يعمل له غريبة من الأعمال لم تعمل لمن كان قبله، وتثبت في كتبهم وتزبر على الحجارة.
ولما مات ملك بعده ابنه هرميس: وكان قليل الحكمة، فلم يعمل شيئا مما عمله آباؤه، ومات وقد أقام إحدى عشرة سنة.
فملك بعده أشمون بن قبطيم بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح: وكان حيزه من أشمون إلى منف في الغرب، وحيزه في الشرق إلى حدّ البحر الملح مما يحاذي برقة، وهو آخر حدّ مصر، ومن بلاد الصعيد إلى حدود أخميم، وكانت منزله بمدينة الأشمونين وكان طولها اثني عشر ميلا في مثلها، وبنى في شرقيّ النيل مدينة أنصنا، وبنى بها قصرا عظيما، واتخذ بها أبنية وملاعب وعجائب كثيرة، وبنى مدينة طهراطيس، وهو أوّل من لعب بالكرة والصولجان.
ويقال: إنه بنى مدنا كثيرة عمل فيها عجائب منها: مدينة في سفح الجبل لها أربعة أبواب من كل ناحية باب، فعلى الباب الشرقيّ: صورة عقاب، وعلى الباب الغربيّ: صورة ثور، وعلى الباب الشماليّ: صورة أسد، وعلى الباب الجنوبيّ: صورة كلب؛ وفي هذه الصور روحانيات تنطق فإذا قدم غريب لا يقدر على الدخول إليها إلا بإذن الموكلين بها، ودفن تحت كل شكل من هذه الأشكال الأربعة صنفا من الكنوز، وغرس في هذه المدينة شجرة مولدة تثمر كل لون من الفاكهة، ونصب منارا طوله ثمانون ذراعا فوقه قبة تتلوّن كل يوم لونا حتى تمضي سبعة أيام ثم تعود إلى اللون الأوّل، فكانت تلك المدينة تكسى من تلك الألوان شعاعا مثل لونها، وأجرى حول المنار ماء شقه من النيل، وجعل فيه سمكا من كل لون وأقام حول المدينة طلسمات في هيئة أناس رؤوسها كالقردة، وأسكن هذه المدينة السحرة، فعرفت بمدينة السحرة، وكانوا يعملون فيها أصناف السحر.(1/258)
وبنى بالقرب منها مدينة عرفت بذات العجائب، وبنى مجالس مصفحة بزجاج ملوّن في وسط النيل، وبنى سربا تحت الأرض من الأشمونين إلى أنصنا.
وقيل: إنه هو الذي بنى مدينة عين شمس، وأنه ملك ثمانمائة سنة، وأنّ قوم عاد انتزعوا منه الملك بعد ستمائة سنة، وأقاموا بمصر تسعين سنة، فأصابهم وباء خرجوا منه إلى المدينة بطريق الحجاز إلى وادي القرى، فعاد أشمون بعد خروج العادية إلى ملك مصر، وهو أوّل من عمل النوروز بمصر.
وفي زمانه: بنيت مدينة البهنسا، ولما مات جعل له ناوس في آخر حدّ الأشمونين، ودفن فيه ومعه كنوزه العظيمة وعجائبه الكثيرة منها: ألف برنية من العقاقير المدبرة لفنون الأعمال وززبروا على ناوسه اسمه ونسبه، وجعل عليه طلسم يمنعه ممن يقصده.
وملك بعده ابنه صا: ثم بعد صا ابنه تدراس.
وقيل: ملك مناقيوش، وكان شجاعا فاضلا فاستأنف العمارة وبنى القرى ونصب الأعلام وعمل العجائب الهائلة، وبنى مدائن منها مدينة أخميم وحوّل الكهنة إليها، وأقام ملكا نيفا وأربعين سنة، ومات فدفن في الهرم الشرقيّ ومعه كنوزه.
وملك بعده ابنه، وقد اختلف في اسمه وكان فاضلا حازما معظما عند أهل مصر، وهو أوّل من عمل المارستان، وأول من عمل الميدان للرياضة، وفي أيامه بنيت مدينة سنترية في صحراء الواحات، ثم إنّ نساء تغايرن عليه فقتلته إحداهنّ بسكين، فدفن في ناوس ومعه أمواله، وعمل عليه طلسم يحفظه.
وملك بعده ابنه مرقورة: وكان حكيما كاهنا، وهو أوّل من ذلل السباع وركبها، وبنى المدن، وعمر الهياكل، وأقام الأصنام، ولما مات جعل له ناوس في صحراء الغرب ودفن معه ماله.
وملك بعده ابنه بلاطس: وكان صبيا، فدبرت أمّه أمر الملك، وكانت حازمة، فأجرت الأمور على أحسن ما يكون، وأظهرت العدل، ووضعت عن الناس الخراج فأحبّوها، ولما كبر ابنها أحب الصيد، فعملت له أمّه أعمالا عجيبة، وأقام ملكا ثلاث عشرة سنة وجدّر فمات، وانتقل الملك إلى أعمامه.
فملك بعده أتريب بن قبطيم بن مصرايم، وهو الثالث عشر من ملوك مصر بعد الطوفان، وهو الذي بنى مدينة أتريب، وعاش خمسمائة سنة منها مدّة ملكه ثلثمائة وستون سنة، ويقال: إن النيل وقف في أيام أتريب مائة وأربعين سنة، حتى أكلت البهائم بأرض مصر، ولم يبق بها بهيمة، ورؤي أتريب ماشيا وهو يبسط يديه ويقبضهما من الجوع، ومات(1/259)
عامّة أهل مصر جوعا، ثم أغيثوا بعد ذلك، وكثر الرخاء ودام مدّة مائتي سنة وبيع كل أردب بدانق وأقل، ولما مات اتهم أخوه صا بقتله وحاربه أهل مصر تسع سنين وقتلوه.
فملكت بعده ابنته تدرورة: وكانت كاهنة ساحرة فساست الملك أحسن سياسة، ودبرت الملك أجود تدبير، وعملت طلسمات عجيبة، منها طلسم منع الوحش والطير أن يشرب من النيل، حتى مات أكثرها عطشا، ووقعت في زمانها صيحة ارتجت لها الأرض فهلكت.
وملك بعدها أخوها قليمون بن أتريب: وكان حكيما فاضلا فبنى البنيان وعمل الطلسمات، وفي أيامه بنيت مدينة تنيس الأولى، وبنيت مدينة دمياط، وأقام ملكا تسعين سنة، ومات فدفن في ناوس.
وملك بعده ابنه فرسون: وكان فاضلا كاهنا، بنى المدائن وجدّد الهياكل، وكان حدثا فقصده بعض ملوك حمير في جموع عظيمة، فخرج إليهم ولقيه مدينة إيليا، وقاتله قتالا شديدا حتى تفانى من الفريقين معظمهما، وأظهر المصريون أشياء من سحرهم، فانهزم الحميري في طائفة يسيرة، وقتل فرسون عامّة أصحابه وأخذ ما كان معهم، وعاد مظفرا إلى مدينة منف، وعمل منارا على بحر القلزم في رأسه مرآة تجذب المراكب إلى الساحل حتى يؤخذ منها ما هو مقرّر عليها من المال، وأقام ملكا مائتي سنة وستين سنة، ومات فدفن في ناوس خلف الجبل الأسود الشرقيّ، وعمل فيه قبة تحتوي على اثني عشر بيتا في كل بيت أعجوبة ودفن معه ماله وعمل عليه طلسم يحفظه.
وملك بعده نحوه أربعة وصار الملك إلى صا بن قبطيم: وكان اصغر ولد أبيه وأحبهم إليه.
ولما مات ملك بعده نونية الكاهنة: وكانت ساحرة فكانت تجلس على سرير من نار فإذا تحاكم إليها أحد، وكان صادقا شق تلك النار من غير أن تضرّه، وإن كان كاذبا أخذته تلك النار، وكانت تتصوّر كل يوم في صور كثيرة الأشكال، ثم بنت قصرا واحتجبت فيه، وجعلت في سوره أنابيب من نحاس مجوّفة، وكتبت على كل أنبوب فنا من الفنون التي يتحاكم الناس بها إليها، فكان من أتاها في محاكمة وقف عند الأنبوب الذي فيه محاكمته، وتكلم بما يريده، وسأل عنه بصوت خفيّ، فإذا فرغ جعل أذنه في الأنبوب فيأتيه منه جواب ما سأل، ولم يزل هذا القصر والأنابيب حتى أتلفه بخت نصر.
وملك بعدها مرقونس: وكان فاضلا حكيما، وكانت أمه بنت ملك النوبة، فعملت عجائب وصنع في أيامه كل غريبة، وملك ثلاثا وسبعين سنة، ومات وعمره مائتان وأربعون سنة.(1/260)
فملك بعده ابنه ايساد وهو ابن خمس وأربعين سنة: وكان جبارا طماح العين، فانتزى امرأة أبيه، وانكشف أمره معها، وكان أكبر همه اللهو واللعب، فجمع كل ملة في مملكته، ورفض العلوم، وأهمل أمر الهياكل والكهنة، وترك النظر في أحوال الناس، وبنى قصورا على النيل ليتنزه فيها، وأتلف أكثر الأموال في اللعب، فكرهه الناس، وكرههم إلى أن سمّوه، فمات عن مائة وعشرين سنة.
وملك بعده ابنه صا: ويقال: إنّ صا هو ابن مرقونس، وهو أخود أيساد، ولما ملك سكن منف، ووعد الناس بخير وملك الأحياز كلها، وعمل بها عجائب وطلسمات، وردّ الكهنة إلى مراتبهم ونفى الملهين وأهل الشرّ، ونصب العقاب الذي عمله أبوه وشرّف هيكله ودعا إليه وبنى بداخل الواحات مدينة ونصب قرب البحر أعلاما كثيرة، وجعل على الأطراف أصحاب أخبار يرفعون إليه ما يجري في حدودهم، وعمل على حافتي النيل مناير يوقد عليها إذا حزبهم أمر أو قصدهم أحد، وجعل بحافة بحر الملح منارا يعلم به أمر البحر، ويقال:
إنه بنى أكثر مدينة منف، وكل بنيان عظيم بالإسكندرية، وكان لما ملك البلد بأسره جمع الحكماء، ونظر في النجوم وكان بها حاذقا، فرأى أن مصر، لا بدّ أن تغرق من نيلها، وإنها تخرب على يد رجل يأتي من ناحية الشام، فجمع كل فاعل بمصر، وبنى مدينة في الواح الأقصى، وقصده ملك الإفرنجة، وملك منه مدينة منف، وقدم معه ألف مركب، وهدم أكثر الإسكندرية ودخل إلى النيل من رشيد حتى أخذ منف وفرّ منه صا إلى المدائن الداخلة، وتحصن بها من عدوّه، فامتنعت بالطلسمات أياما كثيرة، ثم كانت العاقبة له وعاد عدوّه منهزما، ورجع إلى منف فتتبع الكهنة وقتل منهم كثيرا، وأقام ملكا سبعا وستين سنة، وعاش مائة وسبعين سنة.
وملك ابنه تدراس: واستولى على الأحياز كلها وصفا له الوقت وملك مصر، وكان محتكما مجرّبا ذا أيد وقوّة ومعرفة بالأمور، فأظهر العدل وأقام الهياكل وأهلها قياما حسنا وبنى بيتا للزهرة، وحفر خليج سخا وحارب بعض عمالقة الشام، ودخل إلى فلسطين وقتل بها خلقا وسبى بعض أهلها إلى مصر، وغزا السودان من الزنج والحبشة ووجه في النيل بثلاثمائة سفينة فلقي السودان، وكانوا زهاء ألف ألف فهزمهم، وقتل أكثرهم وأسر منهم خلقا كثيرا، وساق الفيلة والنمور إلى مصر، وعمل على حدود بلده منارات زبر عليها اسمه ومسيره وظفره، وفي أيامه بعث الله نبيه صالحا إلى ثمود، ويقال: إنه هو الذي أنزل النوبة حيث هي، وذلك أنه لما أوغل في أرض الحبشة، وقتل أمم السودان وجد فيهم أمة تقرأ صحف آدم وشيث وإدريس فمنّ عليها، وأنزلها على نحو من شهر من أرض مصر، فسموا النوبة، ومات بمنف.
فملك بعده ابنه ماليق: وكان عاقلا كريما، حسن الصورة مجرّبا مخالفا لأبيه وأهل(1/261)
مصر في عبادة الكواكب والبقر، ويقال: إنه كان موحدا على دين أجداده، قبطيم ومصرايم، وكانت القبط تذمه لذلك، وأمر الناس باتخاذ كل قارة من الخيل، واقتنى السلاح وأكثر الأسفار، وأنشأ في بحر المغرب مائتي سفينة وخرج في جيش عظيم في البرّ والبحر، وأتى البربر، فهزمهم واستأصل أكثرهم، وبلغ إفريقية، وسار إلى الأندلس يريد الإفرنجة، فلم يمرّ بأمّة إلا أبادها، فحشد له ملك الإفرنجة وحاربه شهرا، ثم طلب صلحه، وأهدى إليه فسار عنه، ودوّخ الأمم المتصلة بالبحر الأخضر والقبط تذكر أنه رأى سبعين أعجوبة، وعمل أعمالا على البحر، وزبر عليها اسمه ومسيره وخرّب مدن البربر، ورجع فتلقاه أهل مصر بأصناف الرياحين وأنواع اللهو، وفرشت له الطرقات، فهابه الملوك، وحملوا إليه الهدايا وما زال موحدا حتى مات.
فملك بعده ابنه حزابا: وكان لينا سهل الخلق قد عرّفه أبوه التوحيد، ونهاه عن عبادة الأصنام فرجع عن ذلك بعده إلى دين قومه، وغزا الهند والسودان بعد ما عمل مائة سفينة على شكل سفن الهند، وتجهز وحمل معه امرأته ووجوه أصحابه واستخلف ابنه كلكلي على مصر، وكان صبيا وجعل معه وزيرا كاهنا، فمرّ على ساحل اليمن وعاث في مدائنه، وبلغ سرنديب وأوقع بأهلها، وبلغ جزيرة بين الهند والصين، فأذعن له أهلها وتنقل في تلك الجزائر سنين، فيقال: إنه أقام في سفره سبع عشرة سنة، ورجع غانما، فهابه الملوك، وبنى عدّة هياكل، وأقام بها الأصنام للكواكب، ثم غزا نواحي الشام فأطاعه أهله ورجع فغزا النوبة والسودان، وضرب عليهم خراجا يحملونه إليه، ورفع أقدار الكهنة ومصاحفهم، وكان يرى أن هذا الظفر بمعونة الكواكب له، ومات وقد ملك خمسا وسبعين سنة. فقام ابنه كلكلي وعقد له بالإسكندرية، فأقام بها شهرا، ثم قدم إلى منف، وكان أصناميا، فسرّ به أهل مصر، وكان يحب الحكمة، وإظهارالعجائب ويقرّب أهلها ويجيزهم وعمل الكيمياء وخزن أموالا عظيمة بصحارى الغرب، وهو أوّل من أظهر علم الكيمياء بمصر، وكان علمها مكتوما، وكان من تقدّمه من الملوك أمر بترك صنعتها، فعملها كلكلي، وملأ دور الحكمة منها حتى لم يكن الذهب في زمن بمصر أكثر منه في وقته، ولا الخراج لأنه كان مائة ألف ألف، وبضعة عشر ألف ألف مثقال، فاستغنوا عن إثارة المعادن، وعمل أيضا من الحجارة الملوّنة التي تشف شيئا كثيرا، وعمل من الفيروزج وغيره أشياء.
واخترع أمورا تخرج عن حدّ العقل حتى سمي حكيم الملوك، وغلب جميع الكهنة في علومهم، وكان يخبرهم بما يغيب عنهم، وكان نمرود إبراهيم عليه السلام في وقته، فاتصل بنمرود خبر حكمته وسحره، فاستزاره، وكان النمرود جبارا مشوّه الخلق يسكن السواد من العراق، وأتاه الله قوّة وقدرة وبطشا، فغلب على كثير من الأمم، فتقول القبط: إنّ النمرود لما استزار كلكلي وجه إليه أن يلقاه بموضع كذا، فسار إلى الموضع على أربعة أفراس تحمله ذوات أجنحة، وقد أحاط به نور كالنار، وحوله صور هائلة، وقد خيل بها وهو(1/262)
متوشح بثعبان متحزم ببعضه، وقد فغر فاه وهو يضربه بقضيب آس، فلما رآه النمرود هاله، وأقرّ له بجليل الحكمة، وسأله: أن يكون ظهيرا له، ويقال: إنه كان يرتفع ويجلس على الهرم الغربيّ في قبة تلوح على رأسه، فإذا دهم أهل البلد أمر اجتمعوا حول الهرم فيقيم أياما لا يأكل ولا يشرب، ثم استتر مدّة حتى توهموا أنه هلك فطمع فيه الملوك، وقصده ملك من الغرب في جيش عظيم، حتى قدم وادي هبيب، فأقبل حتى جللهم من سحره بشيء كالغمام شديد الحرّ، فأقاموا تحته أياما متحيرين، ثم طار إلى مصر، وأمرهم بالخروج إلى الجيش، فوجدوهم قد ماتوا هم ودوابهم، فهابه الكهنة مهابة لم يهابوها أحدا قبله، وعمر طويلا وغاب فلم يعلم خبره.
وقال ابن عبد الحكم: إنّ كلكلي ابن حزابا ملكهم نحو مائة سنة ثم مات ولا ولد له.
فملك أخوه ماليا بن حزابا. قال ابن وصيف شاه: وقام أخوه ماليا: وكان شرها كثير الأكل والشرب منفردا بالرفاهية غير ناظر في شيء من الحكمة، وجعل أمر البلد إلى وزيره، واشتغل بالنساء، وكان له من النساء ثمانون امرأة فهجم عليه ابنه طوطيس، وهو سكران فقتله، وقتل امرأة كانت عنده.
وملك بعده ابنه طوطيس: ويقال: إنه عمرو بن امرئ القيس بن بابليون بن حمير بن سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان، ويقال: الوليد بن الريان، وأنه أحد فراعنة مصر، من ولد دان بن فهلوج بن أمراز بن أشود بن سام بن نوح.
وقيل: فراعنة مصر من ولد عملاق الأوّل بن لاود بن سام بن نوح، وكان جبارا جريئا شديد البأس مهابا، والقبط تزعم أنه أوّل الفراعنة بمصر، وهو فرعون إبراهيم عليه السلام، ويقال: إن الفراعنة سبعة، هو أوّلهم، وحفر نهرا في شرقيّ مصر بسفح الجبل حتى ينتهي إلى مرفأ السفن في البحر الملح، وكان يحمل إلى هاجر أمّ إسماعيل التي أعطاها إبراهيم عليه السلام الحنطة وأصناف الغلات فتصل إلى جدّة فأحيى بلد الحجاز مدّة، ويقال: إن كل ما حليت به الكعبة في ذلك العصر مما أهداه ملك مصر، ولكثرة ما حمل إلى الحجاز سمته العرب من جرهم الصادوق.
وفي كتاب هروشيش: أن سلطان المصريين في زمن إبراهيم الخليل عليه السلام، كان بأيدي قوم يدعون ببني فاليق بن دارش، ودام ملكهم بمصر مائة وعشرين سنة، وقال ابن إسحاق عن بعضهم: إن فراعنة مصر من ولد دان بن فهلوج بن امراز بن أشود بن سام بن نوح، قال: والمشهور أنهم من العماليق، منهم الريان بن الوليد، ويقال: الوليد بن الريان فرعون يوسف، والوليد بن مصعب فرعون موسى، ومنهم سنان بن علوان.
قال ابن وصيف شاه: وإنما قيل له: فرعون، لأنه أكثر القتل ولم يرزق غير ابنة،(1/263)
وكانت عاقلة فخافت لكثرة قتله الناس، فقتلته بسمّ، وله في الملك مائة وسبعون سنة.
وملكت بعده جورياق: فوعدت الناس بالإحسان، وجمعت الأموال وقدّمت الكهنة وأهل الحكمة ورؤساء السحرة، ورفعت أقدارهم وجدّدت الهياكل، وصار من لم يرضها إلى مدينة أتريب، وملّكوا رجلا من ولد أتريب، وقد تقدّم خبره في الإسكندرية، وجورياق أوّل امرأة ملكت مصر من ولد نوح عليه السلام، وماتت.
فملكت بعدها ابنة عمها زلفى بنت مأمون: وكانت عذراء عاقلة، فوعدت الناس بالجميل، وقام عليها أيمن الإتريبيّ، واستنصر بملك العمالقة، فسير معه قائدا، فأخرجت إليه جيشا فالتقوا بالعريش، واقتتلوا حتى فني منهم كثير من الناس، ثم انهزم أصحاب زلفى إلى منف، وهم في أقفيتهم، فخرجت زلفى إلى الصعيد، ونزلت الأشمونين، فكان بينها وبين عساكر العمالقة حروب انهزموا فيها، وخرجوا عن منف بعد ما عاثوا فيها وعدّوا إلى الجرف، فامتنعوا به، وصارت مصر بينهم نصفين، ثم إنّ زلفى عاودت الحرب، فاستمرّت ثلاثة أشهر حتى انهزمت إلى قوص وأيمن خلفها، فلما أيقنت أنها تؤخذ، سمّت نفسها، فهلكت.
وقال ابن عبد الحكم: ثم توفي طوطيس بن ماليا، فاستخلفت ابنته جورياق ابنة طوطيس، ولم يكن له ولد غيرها، ثم توفيت جورياق فاستخلفت ابنة عمها زلفى ابنة مأمون بن ماليا، فعمرت دهرا طويلا، وكثروا ونموا وملأوا أرض مصر كلها، فطمعت فيهم العمالقة، فغزاهم الوليد بن دومع، فقاتلهم قتالا عظيما، ثم رضوا أن يملكوه عليهم فملكهم نحوا من مائة سنة، فطغى وتكبر، وأظهر الفاحشة، فسلط الله عليه سبعا فافترسه وأكل لحمه.
والذي ملك مصر من الفراعنة خمسة: وملك أيمن وتجبر، وقتل خلقا ممن حاربه، وكان الوليد بن دومع العمليقي قد خرج في جيش كثيف، فبعث غلاما يقال له: فرعون، إلى مصر، ففتحها. ثم قدم بعده واستباح أهل مصر، وأخذ أموالهم ثم خرج ليقف على مصب النيل فرأى جبل القمر، وأقام في غيبته أربعين سنة، ورجع إلى مصر، وقد خالفه فرعون، وفرّ منه فاستعبد أهل مصر وملكهم مائة وعشرين سنة حتى هلك.
وملك ابنه الريان بن الوليد بن دومع: أحد العمالقة، وكان أقوى أهل الأرض في زمانه وأعظمهم ملكا.
والعمالقة: ولد عمليق بن لاود بن سام بن نوح، وهو فرعون يوسف عليه السلام، والقبط تسميه: نهراوش، وقيل: فرعون يوسف، اسمه: الريان بن الوليد بن ليث بن قاران بن عمرو بن عمليق بن بلقع بن عابر بن اشليخا بن لود بن سام بن نوح، وقيل: فرعون(1/264)
يوسف، هو: جدّ فرعون موسى أبو أبيه، واسمه: برخو، وكان عظيم الخليق جميل الوجه عاقلا، فوعد الناس الجميل، وأسقط عنهم الخراج لثلاث سنين وفرّق المال فيهم.
وملك رجلا من أهل بيته يقال له: أطفين، وهو الذي يقال له: العزيز، وكان عاقلا أديبا مستعملا للعدل والعمارة، فأمر أن ينصب له سرير من فضة في قصر الملك يجلس عليه، ويخرج وجميع الكتاب والوزراء بين يديه، فكفى نهراوش ما خلف ستره، وقام بجميع أموره وخلاه للذاته، فأقام على قصفه مدّة والبلد عامر، فقصده رجل من العمالقة، وسار إلى مصر في جيوشه، فخرج إليه وقاتله وهزمه، وسار خلفه، ودخل الشام وعاث هنالك، فهابته الملوك ولاطفته.
وقيل: إنه بلغ الموصل، وضرب على أهل الشام خراجا وخرج لغزو بلاد المغرب في تسعمائة ألف، ومرّ بأرض البربر، وجلا كثيرا منهم، ومرّ إلى البحر الأخضر، وسار إلى الجنوب، فقدم النوبة وعاد إلى مدينة منف، وكان من خبر يوسف معه ما ذكر عند ذكر الفيوم.
وملك بعده ابنه دريموش «1» : ويقال: له دارم بن الريان، وهو الفرعون الرابع، فخالف سنة أبيه، وكان يوسف خليفته، فيقبل منه تارة، ويخالفه تارة، وظهر في أيامه معدن فضة فأثار منه شيئا عظيما.
وفي أيامه مات يوسف عليه السلام، فاستوزر بعده رجلا حمله على أذى الناس، وأخذ أموالهم، فبلغ ذلك منهم مبلغا عظيما، ثم زاد في التجرّي حتى اقتلع كل امرأة جميلة بمدينة منف من أهلها، فكان لا يسمع بامرأة حسناء في موضع إلا وجّه إليها، فحملت إليه فاضطرب الناس وشنعوا عليه وعطلوا الصنائع والأعمال والأسواق، فعدا عليهم، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وزاد الأمر حتى اجتمعوا على خلعه، فبرز لهم وأسقط عنهم خراج ثلاث سنين، وأنفق فيهم مالا فسكتوا، وفي أيامه ثار القبط على بني إسرائيل وطلبوا من الوزير، أن يخرجهم من مصر، فما زال بهم حتى أمسكوا، وبلغ الملك ذلك، وكان قد خرج إلى الصعيد فتوعد أهل مصر، فشغبوا عليه وحشدوا له، فحاربوه فقتل منهم خلقا كثيرا، وظفر بمن بقي، فقتلهم وصلبهم على حافتي النيل، وعاد إلى أعظم ما كان عليه من أخذ الأموال والنساء، واستخدام أشراف القبط وبني إسرائيل، فأجمع الكل على ذمّه، فركب النيل للنزهة، وثار به ريح عاصف، فغرق، فلم يوجد إلا بناحية شطنوف، وقيل: فيما بين طرا وحلوان.
فقدّم الوزير ابنه معاديوس: وكان صبيا، ويقال له: معدان، فأسقط عن الناس(1/265)
ما أسقطه أبوه من الخراج، ووعد بالإحسان فاستقام له الأمر، وردّ نساء الناس، وهو خامس الفراعنة، وحدث في زمانه طوفان مصر، وكثر بنوا إسرائيل وعابوا الأصنام، فأفردوا ناحية عن البلد بحيث لا يختلط بهم غيرهم، وأقطعوا موضعا في قبليّ منف، فاجتمعوا فيه، وبنوا فيه معبدا، وغلب بعض الكنعانيين على الشام، ومنع من الضريبة التي كانت على أهل الشام لملك مصر، فاجتمع الناس إلى معدان، وحثوه على المسير لحربه، فامتنع من المسير ولزم الهيكل، فزعموا أنه قام في هيكل زحل للعبادة، فتجلى له زحل، وخاطبه. وقال له: قد جعلتك ربا على أهل بلدك، وحبوتك بالقدرة عليهم، وعلى غيرهم، وسأرفعك إليّ، فلا تخل من ذكري فعظم عند نفسه وتجبر، وأمر الناس، أن يسموه ربا، وترفع عن أن ينظر في شيء من أمر الملك، وجعل عليه ابنه اكسامس.
فقام ابنه اكسامس في الملك، ويقال: كلسم بن معدان، فرتب الناس مراتب، وقسم الكور والأعمال، وأمر باستنباط العمارات، وإظهار الصناعات، ووسع على الناس في أرزاقهم، وأمر بتنظيف الهياكل، وتجديد لباسها وأوانيها وزاد في القرابين، وهو الذي يقال له: كاشم بن معدان بن دارم بن الريان بن الوليد بن دومع العمليقي، وهو سادس الفراعنة، وسموا فراعنة، بفرعان، الأوّل فصار اسما لكل من تجبر وعلا أمره، فطال ملكه، وأقام أعلاما كثيرة حول منف، وعمل مدنا كثيرة، ومناير للوقودات وطلسمات، وأقام سبع سنين بأجمل أمر، فلما مات وزير أبيه استخلف رجلا من أهل بيت المملكة يقال له ظلما بن قومس، وكان شجاعا ساحرا كاهنا كاتبا حكيما متصرّفا في كل فنّ، وكانت نفسه تنازعه الملك، فأصلح أمر الملك وبنى مدنا من الجانبين، ورأى في نجومه أنه سيكون حدث، فبنى بناحية رقودة والصعيد ملاعب ومصانع وشكا إليه القبط من الإسرائيليين، فقال: هم عبيدكم، فأذلوهم من حينئذ، وخرج إلى ناحية البربر، فعاث وقتل وسبى، وفي أيامه:
بنيت منارة الإسكندرية، وهاج البحر الملح فغرّق كثيرا من القرى والجنان والمصانع، ومات اكسامس، وكان ملكه إحدى وثلاثين سنة، منها إحدى عشرة سنة يدبر أمره ظلما، فلما مات اضطرب الناس، واتهموا ظلما أنه سمه فقام.
وولي لاطيس بن اكسامس: وكان جريئا معجبا صلفا، فأمر ونهى، وألزم الناس أعمالهم، وقال: أنا مستقيم ما استقمتم، وإن ملتم عن الواجب ملت عنكم، وحط جماعة عن مراتبهم، وصرف ظلما عن خلافته، واستخلف غيره، وأنفذ ظلما إلى الصعيد في جماعة من الإسرائيليين، وجدّد بناء الهياكل وبنى القرى وأثار معادن كثيرة وكنز في صحراء الشرق عدّة كنوز، وكان يحب الحكمة، ثم تجبر وعلا أمره، وأمر أن لا يجلس أحد في مجلسه، ولا في قصر الملك، لا كاهن ولا غيره، بل يقومون على أرجلهم حتى يمضوا، وزاد في أذى الناس والعنف بهم، وممنع فضول ما بأيديهم وقصرهم على القوت، وجمع أموالهم وطلب النساء، وانتزع كثيرا منهنّ وفعل أكثر مما فعله من تقدّم قبله، واستعبد بني(1/266)
إسرائيل، وقتل جماعة من الكهنة، فأبغضه الخاص والعام، وثار ظلما بالصعيد، وكاتب وجوه الناس فكتب لاطيس بصرفه عن العمل، فامتنع وحارب عساكره، وزحف حتى دخل منف.
ظلما بن قومس: فرعون موسى، يقال: إن اسمه الوليد بن مصعب بن اراهون بن الهلوت بن قاران بن عمرو بن عمليق بن بلقع بن عابر بن اشليخا بن لود بن سام بن نوح، وإنه من العمالقة، وكان قصيرا طويل اللحية أشهل العين اليمنى صغير العين اليسرى، أعرج، وزعم قوم: أنه من القبط وأن نسبه ونسب أهل بيته مشهور عندهم، وقيل غير ذلك، وكان من خبره ما ذكرنا في كنيسة دموة.
وقال ابن عبد الحكم: ولما أغرق الله فرعون بقيت مصر بعد غرقه، ليس فيها من أشراف أهلها أحد، ولم يبق إلا العبيد والأجراء والنساء، فأعظم أشراف من بمصر من النساء أن يولين منهم أحدا، وأجمع رأيهنّ أن يولين امرأة يقال لها: دلوكة.
فملكت دلوكة ابنة زبا: ويقال: دلوكة بنت قاران، وكان لها عقل وتجارب ومعرفة، وكانت في شرف منهنّ، وهي يومئذ بنت مائة وستين سنة، فبنت جدارا حصنت به مصر من الأعداء، وكان من حدّ زنج إلى إفريقية إلى الواحات إلى بلد النوبة على كل موضع منه حرس قيام ليلهم، ونهارهم يقدون النار وقودا لا يطفأ أبدا أحاطت به على جميع أرض مصر كلها في ستة أشهر، وهو حائط العجوز، وفي أيامها، بنت تدورة الساحرة البرابي في وسط منف، فملكتهم دلوكة عشرين سنة حتى بلغ صبيّ من أبناء أكابرهم يقال له: دركون بن بلاطس، ثم مات واستخلف ابنه تودست، ثم توفي تودست بن دركون، فاستخلف أدقاش، فلم يملك إلا ثلاث سنين، حتى مات فاستخلف أخوه مرينا بن مرينوس، ثم توفي فاستخلف أستادس بن مرينا، فطغى وتكبر وسفك الدم وأظهر الفاحشة، فخلعوه وقتلوه وبايعوا رجلا من أشرافهم يقال له: بلطوس بن مينا كيل، فملكهم أربعين سنة، ثم توفي فقام ابنه مالوس، ثم توفي مالوس، فاستخلف أخوه ميناكيل بن بلطوس بن ميناكيل، فملكهم زمانا، ثم توفي واستخلف ابنه نوله بن ميناكيل، فملكهم مائة وعشرين سنة، وهو الأعرج الذي سبى ملك بيت المقدس، وقدم به إلى مصر، وكان قد تمكن وطغى وبلغ مبلغا لم يبلغه أحد ممن قبله بعد فرعون، فصرعته دابته، فمات.
وقيل له: الأعرج، لأنه لما غزا أهل بيت المقدس ونهبهم، وسبى ملكهم يوشيا بن أمون بن منشا بن حزقيا، همّ أن يصعد على كرسيّ نبيّ الله سليمان بن داود، وكان بلولب لا يمكن أحدا أن يصعد عليه إلا برجليه جميعا، فصعد برجل واحدة، وهي اليمنى، فدار اللولب على ساقه الأخرى فاندقت، فلم يزل يجمع بها إلى أن مات، فلذلك سمي الأعرج.
فاستخلف مرينوس بن نولة، فملكهم زمانا، ثم توفي واستخلف ابنه قرقورة، فملكهم(1/267)
ستين سنة، ثم توفي واستخلف أخوه نقاس بن مرنيوس، وانهدم البربا في زمنه، فلم يقدر أحد على إصلاحه، ثم توفي نقاس واستخلف ابنه قوميس بن نقاس، فملكهم دهرا وحاربه بخت نصر وقتله، وخرّب مدينة منف، وغيرها من المدائن وسبى أهل مصر، ولم يترك بها أحدا حتى بقيت أرض مصر أربعين سنة خرابا ليس فيها ساكن.
وذكر في ترجمة كتاب هروشيش الأندلسيّ في وصف الدول والحروب، أنّ فيما بين غرق فرعون موسى إلى مائة وسبع سنين، كان بمصر ملك يسمى نوشردس كان يقتل الغرباء، والأضياف ويذبحهم لأوثانه، ويجعل دماءهم قربانا لها، وأن بعد غرق فرعون إلى ثلثمائة وثمان وعشرين سنة، كان بمصر ملك يسمى: بروبة، وكان عظيم المملكة قويّ السلطان أخذ بالحرب أكثر نواحي الجنوب برّا وبحرا، وهو أوّل من حارب الروم الذين قيل لهم بعد ذلك الغوط، وكان قد أرسل إليهم يدعوهم إلى طاعته، ويخوّفهم حربه، فأجابوه ليس من الرأي المحمود للملك الغنيّ محاربة قوم فقراء لكثرة نوازل الحروب، واختلاف حوادثها بالظفر والهلاك، وإنا لا ننتظر مجيئك، بل نسرع لغارتك، وأتبعوا قولهم عملا، وخرج فرعون إليهم، فخرجوا مسرعين إليه وهزموا جيوشه، ونهبوا عساكره وأمواله وعدده، وجميع ذخائره ومضوا فنهبوا أرض مصر حتى كادوا يغلبون عليها لولا وحول عرضت لهم منعتهم مما خلفها، ثم انصرفوا إلى بلاد الشام بحروب متصلة، حتى أذلوا أهلها، وجعلوهم يؤدّون إليهم المغارم، وأقاموا محاربين لمن خالفهم في غزوتهم خمس عشرة سنة، ولم ينصرفوا إلى بلادهم حتى أتتهم من نسائهم من يقلن لهم: إما أن تنصرفوا، وإما أن تتخذ الأزواج ونطلب النسل من عند المجاورين لنا، فعند ذلك انصرفوا إلى بلادهم، وقد امتلأت أيديهم أموالا وأوقارا جمة، وقد خلفوا وراءهم ذكرا مفزعا.
ويقال: إنّ ملوك مدين ملكوا مصر، خمسمائة عام بعد غرق فرعون، وهلاك دلوكة حتى أخرجهم منها نبيّ الله سليمان بن داود، فعاد الملك بعدهم إلى القبط، وإنّ جالوت بن بالوت، لما قتله داود، سار ابنه جالوت بن جالوت إلى مصر، وبها ملوك مدين، فأنزله ملك مصر، بالجانب الغربيّ، فأقام بها مدّة ثم سار إلى بلاد الغرب.
ويقال: إنّ القبط ملكوا مصر بعد دلوكة، وابنها مدّة ستمائة سنة وعشرين سنة، وعدّتهم سبعة وعشرون ملكا، هم: ديوسقوليطا، ومدّته ثمان وسبعون سنة، وقيل: ثمان وثمانون سنة.
ثم ملك بعده سمانادوس، ستا وعشرين سنة، وقام بعده سوماناس مدّة مائة سنة، ثم ملك مفخراس أربع سنين، ثم ملك أماناقوناس تسع سنين، ثم اسحوريس ست سنين، ثم فسيناخس تسع سنين، ثم فسوسانس خمسا وثلاثين سنة، ثم ملك سسوناخوسيس إحدى وعشرين سنة، ثم ملك اساليون خمس عشرة سنة، ثم طافالونيس ثلاث عشرة سنة، ثم(1/268)
نطافاناسطلس خمسا وعشرين سنة، ثم أساراثون تسع سنين، ثم ملك فسامرس عشر سنين، ثم أوفاينواس أربعا وأربعين سنة، ثم ساياقور اثنتي عشرة سنة، ثم سخس الحبشي اثنتي عشرة سنة ثم طراحوش الحبشي عشرين سنة، ثم أمراس الحبشي اثنتي عشرة سنة، ثم استطافينياس سبع سنين، ثم باخفاسوس ست سنين، ثم ياخو ثمان سنين، ثم فساماملطيقوش أربعا وأربعين سنة، ثم بحنوقا ست سنين، ثم فسامرتاس سبع عشرة سنة، ثم وافرس خمسا وعشرين سنة، ثم أماسلس اثنتين وأربعين سنة.
وملك بعد هؤلاء: مصر خمسة ملوك من ملوك بابل، وهم: أمرطيوش ست سنين، ثم ما فرطاس سبع سنين، ثم أوخرس اثنتي عشرة سنة، ثم فساموت مدّة سنتين، ثم ملك موتاطوس سبع سنين.
ثم ملك ثلاثة ملوك من أثور، وهم: الجرامقة الذين ملكوا الموصل والجزيرة، وهم:
نافاطانبوش ثلاث عشرة سنة، ثم طوس سبع سنين، ثم نافاطانيناس ثمان عشرة سنة.
ثم انتقل ملك مصر منهم: إلى الإسكندر بن فيليبس اليوناني، وهذه أسماء رومية، ولعلها أو بعضها متداخل فيما تقدّم ذكره ممن ملك بعد دلوكة.
وبين بخت نصر، وبين الطوفان ألفا سنة وثلثمائة وست وخمسون سنة وأشهر، ويجتمع من حساب ما وقع في التوراة، أنّ بين الطوفان، وبين خراب بيت المقدس على يد بخت نصر من السنين، ألفا وستمائة وأربعا وثمانين سنة، وهذا خلاف ما نقله المسعوديّ، والله تعالى أعلم بالصواب.
ذكر مدينة الإسكندرية
هذه المدينة من أعظم مدائن الدنيا وأقدمها وضعا، وقد بنيت غير مرّة، فأوّل ما بنيت بعد كون الطوفان في زمان مصرايم بن بيصر بن نوح، وكان يقال لها: إذ ذاك مدينة رقودة، ثم بنيت بعد ذلك مرّتين.
فلما كان في أيام اليونانيين، جدّدها الإسكندر بن فيليبس المقدونيّ الذي قهر دارا، وملك ممالك الفرس بعد تخريب بخت نصر مدينة منف، بمائة وعشرين سنة شمسية، فعرفت به، ومنذ جدّدها الإسكندر المذكور انتقل تخت المملكة من مدينة منف إلى الإسكندرية، فصارت دار المملكة بديار مصر، ولم تزل على ذلك حتى ظهر دين الإسلام، وقدم عمرو بن العاص بجيوش المسلمين، وفتح الحصن والإسكندرية، وصارت ديار مصر أرض إسلام، فانتقل تخت الملك حينئذ من الإسكندرية إلى فسطاط مصر، وصار الفسطاط من بعد الإسكندرية دار مملكة ديار مصر.
وسأقص عليك من أخبار الإسكندرية ما وصل إليه علمي، إن شاء الله تعالى.(1/269)
ذكر أبو الحسن المسعوديّ في كتاب أخبار الزمان: أنّ الكوكة، وهي أمّة في غابر الدهر من أهل أيلة ملكوا الأرض وقسموها على ثلاثين كورة، وأربعة أقسام، كل قسم عمل، وبنوا في كل عمل، مدينة بها ملك يجلس على منبر من ذهب، وله بربا، وهي بيت الحكمة، وله هيكل على اسم كوكب فيه أصنام من ذهب، وجعلوا الإسكندرية واسمها رقودة، خمس عشرة كورة، وجعلوا فيها كبار الكهنة، ونصبوا في هياكلها من أصنام الذهب أكثر مما نصبوا في غيرها، فكان ما بها مائتا صنم من ذهب، وقسموا الصعيد ثمانين كورة على أربعة أقسام وثلاثين مدينة فيها جميع العجائب.
وذكر بطليموس في كتاب الأقاليم ووصف الجزائر والبحار والمدن: أنّ مدينة الإسكندرية لبرج الأسد ودليلها المرّيخ، وساعاتها أربع عشرة ساعة، وطولها ستون درجة ونصف درجة يكون ذلك أربع ساعات مستوية وثلث عشر ساعة.
وقال ابن وصيف شاه في ذكر أخبار مصرايم بن بيصر بن نوح، وعلمهم أيضا عمل الطلسمات، وكانت تخرج من البحر دواب تفسد زرعهم وجنانهم وبنيانهم، فعملوا لها الطلسمات، فغابت، ولم تعد وبنوا على غير البحر مدنا منها مدينة رقودة مكان الإسكندرية، وجعلوا في وسطها قبة على أساطين من نحاس مذهب، والقبة مذهبة ونصبوا فوقها، مرآة من أخلاط شتى، قطرها خمسة أشبار وارتفاع القبة مائة ذراع، فكانوا إذا قصدهم قاصد من الأمم التي حولهم، فإن كان مما يهمهم، وكان من البحر عملوا لتلك المرآة عملا، فألقت شعاعها على ذلك الشيء فأحرقته، فلم تزل إلى أن غلب البحر عليها.
ويقال: إنّ الإسكندر إنما عمل المنارة تشبيها بها، وكان عليها أيضا مرآة يرى فيها من يقصدهم من بلاد الروم، فاحتال عليهم بعض ملوكهم، ووجه إليها من أزالها، وكانت من زجاج مدبر.
قال: وذكر بعض القبط أنّ رجلا من بني الكهنة الذين قتلهم، ايساد ملك مصر سار إلى ملك كان في بلاد الإفرنجة، فذكر له كثرة كنوز مصر وعجائبها، وضمن له أن يوصله إلى ملكها وأموالها ويرفع عنه أذى طلسماتها حتى يبلغ جميع ما يريد، فلما اتصل صا بن مرقونس أخي ايساد، وهو ملك مصر يومئذ، أنّ صاحب بلاد الإفرنجة يتجهز إليه عمد إلى جبل بين البحر الملح وشرقيّ النيل، فأصعد إليه أكثر كنوزه، وبنى عليها قبابا مصفحة بالرصاص، وظهر صاحب بلاد الإفرنجة في ألف مركب، فكان لا يمرّ بشيء من أعلام مصر ومنازلها إلا هدمه، وكسر الأصنام بمعونة ذلك الكاهن، حتى أتى الإسكندرية الأولى فعاث فيها، وفيما حولها وهدم أكثر معالمها إلى أن دخل النيل من ناحية رشيد، وصعد إلى منف، وأهل النواحي يحاربونه، وهو ينهب ما مرّ به، ويقتل ما قدر عليه إلى أن طلب المدائن الداخلة لأخذ كنوزها، فوجدها ممتنعة بالطلسمات الشداد، والمياه العميقة والخنادق(1/270)
والشداخات، فأقام عليها أياما كثيرة، فلم يمكنه الوصول إليها وغضب على الكاهن، فقتله من أجل أنّ جماعة من أصحابه هلكوا، فاجتمع أهل النواحي، وقتلوا من أصحابه الذين بالمراكب خلقا، وأحرقوا بعض المراكب، وقام أهل مصر بسحرهم وتهاويلهم فأتت رياح أغرقت أكثر مراكبه حتى نجا بنفسه، وقد خرج فعاد الناس إلى منازلهم وقراهم، ورجع الملك صا إلى مدينة منف، وأقام بها، وتجهز لغزو بلدان الروم، وبعث إليها وخرّب الجزائر فهابته الملوك، وتتبع الكهنة فقتل منهم خلقا كثيرا، وأقام ملكا سبعا وستين سنة، ومات وعمره مائة وسبعون سنة، ودفن بمنف في وسطها تحت الأرض، ومعه الأموال والجواهر والتماثيل والطلسمات، كما فعل آباؤه منها: أربعة آلاف مثقال ذهبا على صور حيوانات برّية وبحرية، وتمثال عقاب من حجر أخضر، وتمثال تنين من ذهب، وزبروا عليها اسمه، وغلبته الملوك وسيرته، وعهد إلى ابنه تدراس.
قال: ولما جلست جورياق ابنة طوطيس، أوّل فراعنة مصر، وهو فرعون إبراهيم الخليل عليه السلام على سرير الملك بعد قتلها لأبيها، وعدت الناس بالإحسان، وأخذت في جمع الأموال، فاجتمع لها ما لم يجتمع لملك، وقدّمت الكهنة وأهل الحكمة، ورؤساء السحرة، ورفعت أقدارهم، وأمرت بتجديد الهياكل وصار من لم يرضها إلى مدينة أتريب، وملكوا عليها رجلا من ولد أتريب يقال له: إيداخس، فعقد على رأسه تاجا، واجتمع إليه جماعة، فأنفذت إليه جيشا فهزموه، وقتلوا أكثر أصحابه فهرب إلى الشام، وبها الكنعانيون فاستغاث بملكهم، فجهزه بجيش عظيم ففتحت جورياق الخزائن وفرّقت الأموال وقوّت السحر، فعملوا أعمالهم وتقدّم إيداخس بجيوش الكنعانيين، وعليها قائد منهم يقال له:
جيرون.
فلما نزلوا أرض مصر بعثت ظئرا لها من عقلاء النساء، إلى القائد سرّا عن إيداخس تعرّفه رغبتها في تزوّجه، وأنها لا تختار أحدا من أهل بيتها، وأنه إن قتل إيداخس تزوّجت به وسلمته ملك مصر، ففرح بذلك، وسمّ إيداخس بسمّ أنفذته إليه فقتله، وبعثت إليه بعد قتل إيداخس أنه لا يجوز أن أتزوّجك حتى يظهر قومك في بلدي، وتبني لي مدينة عجيبة، وكان افتخارهم حينئذ بالبنيان وإقامة الأعلام، وعمل العجائب، وقالت: انتقل من موضعك إلى غربيّ بلدي فثم آثار لنا كثيرة، فاقتف تلك الأعمال وابن عليها، ففعل، وبنى مدينة في صحراء الغرب، يقال لها: قيدومة، وأجرى إليها من النيل نهرا وغرس حولها غروسا كثيرة، وأقام بها منارا عاليا فوقه منظر مصفح بالذهب والفضة والزجاج والرخام، وهي تمدّه بالأموال وتكاتب صاحبه عنه وتهاديه، وهو لا يعلم.
فلما فرغ منها قالت له: إنّ لنا مدينة أخرى حصينة كانت لأوائلنا، وقد خرّبت منها أمكنة، وتشعث حصنها، فامض إليها واعمل في إصلاحها حتى أنتقل أنا إلى هذه المدينة(1/271)
التي بنيتها، فإذا فرغت من إصلاح تلك المدينة، فانفذ إليّ جيشك حتى أصير إليك وأبعد عن مدينتي وأهل بيتي فإني أكره أن تدخل عليّ بالقرب منهم، فمضى، وجدّ في عمل الإسكندرية الثانية.
وأهل التاريخ يذكرون أنّ الذي قصدها الوليد بن دومع العمليقي ثاني الفراعنة، وكان سبب قصدها أنه كان به علة فوجه إلى الأقطار ليحمل إليه من مائها حتى يرى ما يلائمه، فوجه إلى مملكة مصر غلاما، فوقف على كثرة خيراتها، وحمل إليه من مائها وألطافها، وعاد إليه فعرّفه حال مصر، فسار إليها في جيش كثيف، وكاتب الملكة يخطبها لنفسه، فأجابته وشرطت عليه أن يبني لها مدينة يظهر فيها أيده وقوّته، ويجعلها لها مهرا، فأجابها وشق مصر إلى ناحية الغرب، فبعثت إليه أصناف الرياحين والفواكه وخلقت وجوه الدواب، فمضى إلى الإسكندرية، وقد خربت بعد خروج العادية منها فنقل ما كان من حجارتها ومعالمها وعمدها، ووضع أساس مدينة عظيمة، وبعث إليها مائة ألف فاعل، وأقام في بنائها مدّة، وأنفق جميع ما كان معه من المال وكلما بنى شيئا خرج من البحر دواب فتقلعه، فإذا أصبح لم يجد من البناء شيئا، فاهتم لذلك، وكانت جورياق قد أنفذت إليه ألف رأس من المعز اللبون يستعمل ألبانها في مطبخه، وكانت مع راع تثق به يرعاها هنالك، فكان إذا أراد أن ينصرف عند المساء خرجت إليه من البحر جارية حسناء، فتتوق نفسه إليها، فإذا كلمها شرطت عليه أن تصارعه، فإن صرعها، كانت له، وإن صرعته، أخذت من المعز رأسين، فكانت طول الأيام تصرعه، وتأخذ الغنم، حتى أخذت أكثر من نصفها وتغير باقيها لشغله بحبّ الجارية عن رعيها ونحل جسمه، فمرّ به صاحبه وسأله عن حاله، فأخبره الخبر خوفا من سطوته، فلبس ثياب الراعي، وتولى رعي الغنم يومه إلى المساء، فخرجت إليه الجارية وشرطت عليه الشرط، فأجابها وصارعها فصرعها وشدّها فقالت: إن كان ولا بدّ من أخذي، فسلمني لصاحبي الأول، فإنه ألطف بي وقد عذبته مدّة، فردّها إليه، وقال له: سلها عن هذا البنيان الذي نبنيه، ويزال من ليلته من يفعل ذلك؟ وهل في ثباته من حيلة؟ فسألها الراعي عن ذلك، فقالت: إنّ دواب البحر التي تنزع بنيانكم، فقال: فهل من حيلة؟ قالت:
نعم، تعملون توابيت من زجاج كثيف بأغطية، وتجعلون فيها أقواما يحسنون التصوير، ويكون معهم صحف وأنقاش، وزاد يكفيهم أياما وتحمل التوابيت في المراكب بعد ما تشدّ بالحبال فإذا توسطوا الماء أمروا المصوّرين أن يصوّروا جميع ما يمرّ بهم، ثم ترفع تلك التوابيت فإذا وقفتم على تلك الصور فاعملوا لها أشباها من صفر أو حجارة أو رصاص وانصبوها قدّام البنيان الذي تبنونه من جانب البحر، فإنّ تلك الدواب إذا خرجت، ورأت صورها هربت، ولم تعد، فعرّف الراعي صاحبه ذلك ففعله، وتمّ البنيان وبنى المدينة.
وقال قوم: إنّ صاحب البناء والغنم هو جيرون، كان قصدهم قبل الوليد، وإنما أتاهم الوليد بعد جورياق وقهرهم وملك مصر.(1/272)
وذكروا: أنّ الأموال التي كانت مع جيرون نفدت كلها في تلك المدينة، ولم تتم، فأمر الراعي أن يخبر الجارية فقالت: إنّ في المدينة التي خربت ملعبا مستديرا حوله سبعة عمد على رؤوسها تماثيل من صفر قيام، فقرّب لكل تمثال منها ثورا سمينا، ولطخ العمود الذي تحته من دم الثور، وبخره بشعر من ذنبه، وشيء من نحاتة قرونه وأظلافه، وقل له:
هذا قربانك، فأطلق لي ما عندك، ثم قس من كل عمود إلى الجهة التي يتوجه إليها وجه التمثال، مائة ذراع، واحفر عند امتلاء القمر، واستقامة زحل، فإنك تنتهي بعد خمسين ذراعا إلى بلاطة عظيمة، فلطخها بمرارة الثور، وأقلها فإنك تنزل إلى سرب طوله، خمسون ذراعا في آخره خزانة مقفلة، ومفتاح القفل تحت عتبة الباب، فخذه ولطخ الباب ببقية المرارة ودم الثور وبخره بنحاتة قرونه وأظلافه وشعر ذنبه، وأدخل فإنه يستقبلك صنم في عنقه لوح من صفر مكتوب فيه جميع ما في الخزانة فخذ ما شئت ولا تعترض ميتا تجده ولا ما عليه، وكذلك كل عمود وتمثاله فإنك تجد مثل تلك الخزانة، وهذه نواويس سبعة من الملوك وكنوزهم، فلما سمع ذلك سرّ به، وامتثله فوجد ما لا يدرك وصفه، ووجد من العجائب شيئا كثيرا، فتمّ بناء المدينة وبلغ ذلك جورياق، فساءها وكانت قد أرادت إتعابه وهلاكه بالحيلة.
ويقال: إنه وجد فيما وجد درجا من ذهب مختوما فيه مكحلة زبرجد فيها ذرور أخضر، ومعها عرق أحمر من اكتحل من ذلك الذرور بالعرق، وكان أشيب عاد شابا واسودّ شعره، وأضاء بصره حتى يدرك الروحانيين، ووجد تمثالا من ذهب إذ ظهر غيمت السماء وأمطرت، وتمثال غراب من حجر إذا سئل عن شيء صوّت وأجاب عنه، ووجد في كل خزانة عشر أعجوبات.
فلما فرغ من بناء المدينة وجه إلى جورياق يحثها على القدوم إليه، فحملت إليه فرشا فاخرا ليبسطه في المجلس الذي يجلس فيه، وقالت له: اقسم جيشك أثلاثا، فانفذ إليّ ثلثه حتى إذا بلغت ثلث الطريق، فانفذ الثلث الآخر، فإذا جزت نصف الطريق، فانفذ الثلث الباقي ليكونوا من ورائي لئلا يراني أحد إذا دخلت عليك، ولا يكون عندك إلا صبية تثق بهم يخدمونك، فإني أوافيك في جوار تكفيك الخدمة، ولا أحتشمهنّ، ففعل.
وأقامت تحمل الجهاز إليه والأموال حتى علم بمسيرها فوجه إليها ثلث جيشه، فعملت لهم الأطعمة والأشربة المسمومة، وأنزلهم جواريها وحشمها، وقدّموا إليهم الأطعمة والأشربة، والطيب وأنواع اللهو، فلم يصبح منهم أحد حيا، وسارت فلقيها الثلث الآخر، ففعلت به مثل ذلك وهي توجه إليه أنها أنفذت جيشه إلى قصرها ومملكتها يحفظونهما، وسارت حتى دخلت عليه هي وظئرها وجواريها، فنفخت ظئرها في وجهه نفخة بهت إليها، ورشت عليه ما كان معها، فارتعدت أعضاؤه وقال: من ظنّ أنه يغلب النساء، فقد كذبته(1/273)
نفسه وغلبته النساء، ثم إنها فصدت عروقه وقالت: دماء الملوك شفاء، وأخذت رأسه ووجهت به إلى قصرها، ونصبته عليه وحوّلت تلك الأموال إلى مدينة منف، وبنت منارا بالإسكندرية، وزبرت عليه اسمها واسمه، وما فعلت به وتاريخ الوقت.
فلما بلغ خبرها الملوك هابوها وأطاعوها وهادوها، وعملت بمصر عجائب كثيرة، وبنت على حدّ مصر من ناحية النوبة حصنا، وقنطرة يجري ماء النيل من تحتها، واعتلت فقلدت ابنة عمها زلفى بنت مأمون وماتت.
وقال ابن خرداذبه: إنّ الإسكندرية بنيت في ثلثمائة سنة، وأنّ أهلها مكثوا سبعين سنة لا يمشون فيها بالنهار إلا بخرق سود مخافة على أبصارهم من شدّة بياض حيطانها ومنارتها العجيبة على سرطان زجاج في البحر، وإنه كان فيها سوى أهلها ستمائة ألف من اليهود خول لأهلها.
وقال ابن وصيف شاه: وكانت العمارة ممتدّة في رمال رشيد والإسكندرية إلى برقة فكان الرجل يسير في أرض مصر، فلا يحتاج إلى زاد لكثرة الفواكه والخيرات، ولا يسير إلا في ظلال تستره من حرّ الشمس، وعمل الملك صا بن قبطيم في تلك الصحاري قصورا، وغرس فيها غروسا وساق إليها من النيل أنهارا فكان يسلك من الجانب الغربيّ إلى حد الغرب في عمارة متصلة، فلما انقرض أولئك القوم بقيت آثارهم في تلك الصحارى، وخربت تلك المنازل وباد أهلها، ولا يزال من دخل تلك الصحارى يحكي ما رآه فيها من الآثار والعجائب.
وقال ابن عبد الحكم: وكان الذي بنى الإسكندرية، وأسس بناءها: ذو القرنين الروميّ، واسمه: الإسكندر، وبه سميت: الإسكندرية، وهو أوّل من عمل لوشى، وكان أبوه أوّل القياصرة، وقيل: إنه رجل من أهل مصر اسمه مرزبا بن مرزبه اليونانيّ من ولد يونان بن يافث بن نوح صلى الله عليه وسلم، وقيل: كان من أهل لوبية كورة من كور مصر الغربية، وقال ابن لهيعة: وأهلها روم ويقال: هو رجل من حمير. قال تبع:
قد كان ذو القرنين جدّي مسلما ... ملكا تدين له الملوك بمحشد
بلغ المغارب والمشارق يبتغي ... أسباب علم من حكيم مرشد
فرأى مغيب الشمس عند غروبها ... في عين ذي خلب وثأط حرمد
ويروى: قد كان ذو القرنين قبلي مسلما، وحدّثني عثمان بن صالح، حدّثني عبد الله بن وهب، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن سعد بن مسعود التجيبيّ، عن شيخين من قومه قالا: كنا بالإسكندرية فاستطلنا يومنا، فقلنا: لو انطلقنا إلى عقبة بن عامر نتحدّث عنده، فانطلقنا إليه فوجدناه جالسا في داره، فأخبرنا: إنا استطلنا يومنا، فقال: وأنا مثل ذلك! إنما خرجت حين استطلته، ثم أقبل علينا فقال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أخدمه، فإذا(1/274)
أنا برجال من أهل الكتاب معهم مصاحف أو كتب فقالوا: استأذن لنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانصرفت إليه، فأخبرته بمكانهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما لي ولهم يسألوني عما لا أدري إنما أنا عبد لا أعلم إلا ما علمني ربي» . ثم قال: «أبلغني وضوءا» فتوضأ، ثم قام إلى مسجد بيته، فركع ركعتين، فلم ينصرف حتى عرفت السرور في وجهه والبشر، ثم انصرف فقال: أدخلهم ومن وجدت بالباب من أصحابي، فأدخله قال: فأدخلتهم فلما وقفوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: «إن شئتم أخبرتكم عما أردتم أن تسألوني قبل أن تتكلموا وإن أحببتم تكلمتم، وأخبرتكم» ، قالوا: بلى، أخبرنا قبل أن نتكلم، قال: «أحببتم أن تسألوني عن ذي القرنين، وسأخبركم عما تجدونه مكتوبا عندكم إن أول أمره إنه غلام من الروم أعطي ملكا، فسار حتى أتى ساحل البحر من أرض مصر، فابتنى عنده مدينة يقال لها:
الإسكندرية، فلما فرغ من بنائها أتاه ملك، فعرج به حتى استقله فرفعه فقال: انظر ما تحتك، فقال: أرى مدينتي، وأرى مدائن معها، ثم عرج به، فقال: انظر! فقال: قد اختلطت مدينتي مع المدائن، فلا أعرفها، ثم زاد، فقال: انظر! فقال: أرى مدينتي وحدها ولا أرى غيرها، قال له الملك: إنما تلك الأرض كلها والذي ترى يحيط بها هو البحر، وإنما أراد بك أن يريك الأرض، وقد جعلك لك سلطانا فيها سوف يعلم الجاهل، ويثبت العالم، فسار حتى بلغ مغرب الشمس، ثم سار حتى بلغ مطلع الشمس، ثم أتى السدّين وهما جبلان لينان يزلق عنهما كل شيء فبنى السدّ، ثم جاز يأجوج ومأجوج فوجد قوما وجوههم وجوه الكلاب يقاتلون يأجوج ومأجوج، ثم قطعهم فوجد أمّه قصارا يقاتلون القوم الذين وجوههم وجوه الكلاب، ووجد أمّة من الغرانيق يقاتلون القوم القصار، ثم مضى فوجد أمّة من الحيات تلتقم الحية منها الصخرة العظيمة، ثم أفضى إلى البحر المدير بالأرض فقالوا: نشهد أن أمره هكذا كما ذكرت وإنا نجده هكذا في كتابنا» «1» .
وعن خالد بن معدان الكلاعيّ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ذي القرنين فقال: «ملك مسح الأرض من تحتها بالأسباب» .
قال خالد: وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا يقول: يا ذا القرنين، فقال:
اللهم غفرا أما رضيتم أن تسموا بالأنبياء حتى تسميتم بالملائكة.
وقال قتادة، عن الحسن: كان ذو القرنين ملكا وكان رجلا صالحا، قال: وإنما سمي ذا القرنين لأنّ عليا رضي الله عنه سئل عن ذي القرنين، فقال: لم يكن ملكا ولا نبيا ولكن كان عبدا صالحا أحب الله فأحبه ونصح لله فنصحه الله بعثه الله عز وجل إلى قومه فضربوه على قرنيه فمات، فسمي ذا القرنين، ويقال: إنما سمي ذا القرنين لأنه(1/275)
جاوز قرني الشمس من المغرب والمشرق.
ويقال: إنما سمي ذا القرنين لأنه كان له غديرتان من شعر رأسه يطأ فيهما، وقيل: بل كان له قرنان صغيران تواريهما العمامة.
وعن ابن شهاب: إنما سمي ذا القرنين لأنه بلغ قرن الشمس من مغربها وقرن الشمس من مشرقها.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: كان أوّل شأن الإسكندرية أنّ فرعون اتخذ بها مصانع ومجالس، وكان أوّل من عمرها وبنى فيها، فلم تزل على بنائه ومصانعه، ثم تداولها ملوك مصر بعده فبنت دلوكة بنت زبا منارة الإسكندرية ومنارة بوقير بعد فرعون، فلما ظهر سليمان بن داود عليهما السلام على الأرض اتخذ بها مجلسا، وبنى فيها مسجدا، ثم إن ذا القرنين ملكها، فهدم ما كان من بناء الملوك والفراعنة، وغيرهم إلا بناء سليمان لم يهدمه، ولم يغيره، وأصلح ما كان رث منه، وأقرّ المنارة على حالها، ثم بنى الإسكندرية من أوّلها بناء يشبه بعضه بعضا ثم تداولها الملوك بعده من الروم وغيرهم، ليس من ملك إلا يكون له بناء يضعه بالإسكندرية يعرف به، وينسب إليه.
قال ابن لهيعة: وبلغني أنه وجد بالإسكندرية حجر مكتوب فيه: أنا شدّاد بن عاد، وأنا الذي نصب العماد، وحيّد الأحياد، وشدّ بذراعه الواد بنيتهنّ إذ لا شيب ولا موت، وإذ الحجارة في اللين مثل الطين، وفي رواية: وكنزت في البحر كنزا على اثني عشر ذراعا لن يخرجه أحد حتى تخرجه أمّة محمد صلى الله عليه وسلم.
قال ابن لهيعة: والأحياد كالمغار، وقال أبو علي القاليّ في كتاب الأمالي، وأنشد ابن الأعرابيّ وغيره:
تسألني عن السنين كم لي ... فقلت عمر الحسل
أو عمر نوح زمن الفطحل ... لو أنني أوتيت علم الحكل
وعشت دهرا زمن الفطحل ... لكنت رهن هرم أو قتل
وفي رواية:
علم سليمان كلام النمل ... أيام كان الصخر مثل الوحل
وقال آخر: زمن الفحطل إذ السلام رطاب، وعندهم أنّ زمن الفحطل: زمان كان بعد الطوفان عظم فيه الخصب، وحسنت أحوال أهله، وقال بعضهم: زمن الفحطل زمن لم يخلف بعده، وقوله: علم الحكل، الحكل ما لا يسمع صوته من الحيوان، وهذا الرجز لرؤبة بن العجاج بن رؤبة بن لبيد بن صخر بن كثيف بن حيي بن بكر بن ربيعة بن سعد بن مالك بن زيد مناة بن تميم، وذلك أنه ورد ماء لعكل، فرأى فتاة فأعجبته، فخطبها، فقالت:(1/276)
أرى سنا، فهل من مال؟ قال: نعم قطعة من إبل، قالت: فهل من ورق؟ قال: لا، قالت:
يا آل عكل أكبروا أمعارا. فقال رؤبة:
لما ازدرت قدري وقلت إبلي ... تألفت واتصلت بعكل
حظي وهزت رأسها تستبلي ... تسألني عن السنين كم لي
فقلت لو عمرت عمر الحسل ... أو عمر نوح زمن الفطحل
والصخر مبتلّ كطين الوحل
وفي رواية:
لو أنني أوتيت علم الحكل ... علم سليمان كلام النمل
وسألت أبا بكر بن دريد عن زمن الفطحل، فقال: تزعم العرب أنه زمان كانت فيه الحجارة رطبة.
قال ابن عبد الحكم، ويقال: إنّ الذي بنى الإسكندرية شدّاد بن عاد، والله أعلم.
وكانت الإسكندرية ثلاث مدن بعضها إلى جنب بعض منيعة، وهي موضع المنارة وما والاها، والإسكندرية وهي موضع قصبة الإسكندرية اليوم ونفيطة، وكان على كل واحدة منهنّ سور وسور من خلف ذلك على الثلاث مدن يحيط بهنّ جميعا، وقيل: كان على الإسكندرية سبعة حصون منيعة وسبعة خنادق، قال: وإنّ ذا القرنين لما بنى الإسكندرية رخمها بالرخام الأبيض جدرها وأرضها، فكان لباسهم فيها السواد والحمرة، فمن قبل ذلك لبس الرهبان السواد من نصوع بياض الرخام، ولم يكونوا يسرجون فيها بالليل من بياض الرخام، وإذا كان القمر أدخل الرجل الذي يخيط بالليل في ضوء القمر مع بياض الرخام الخيط في ثقب الإبرة.
ويقال: بنيت الإسكندرية في ثلثمائة سنة، وسكنت ثلثمائة سنة، وخربت ثلثمائة سنة، ولقد مكثت سبعين سنة ما يدخلها أحد إلا وعلى بصره خرقة سوداء من بياض جصها وبلاطها، ولقد مكثت سبعين سنة ما يستسرج فيها، قال: وكانت الإسكندرية بيضاء تضيء بالليل والنهار، وكانوا إذا غربت الشمس لم يخرج أحد من بيته، ومن خرج اختطف وكان منهم راع يرعى على شاطىء البحر، فكان يخرج من البحر شيء فيأخذ من غنمه، فكمن له الراعي في موضع حتى خرج، فإذا جارية قد نفشت شعرها ومانعته عن نفسها فقوي عليها فذهب بها إلى منزله، فآنست به، فرأتهم لا يخرجون بعد غروب الشمس، فسألتهم فقالوا:
من خرج منا اختطف، فهيأت لهم الطلسمات، فكانت أوّل من وضع الطلسمات بمصر في الإسكندرية، وقيل: كان الرخام قد سخر لهم حتى يكون من بكرة النهار كالعجين فإذا انتصف النهار اشتدّ.(1/277)
وقال المسعوديّ: ذكر جماعة من أهل العلم أنّ الإسكندر المقدونيّ، لما استقام ملكه في بلاده وسار حتى يختار أرضا صحيحة الهواء والتربة والماء، حتى انتهى إلى موضع الإسكندرية، فأصاب فيها أثر بنيان وعمدا كثيرة من الرخام وفي وسطها عمود عظيم عليه مكتوب بالقلم المسند، وهو القلم الأوّل من أقلام حمير وملوك عاد، أنا شدّاد بن عاد شدّدت بساعدي الواد، وقطعت عظيم العماد وشوامخ الجبال، والأطواد، وبنيت إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد، وأردت أن أبني هنا مدينة كإرم وأنقل إليها كل ذي قدم وكرم من جميع العشائر والأمم، وذلك إذ لا خوف ولا هرم ولا اهتمام ولا سقم، فأصابني ما أعجلني، وعما أردت قطعني، ومع وقوعه طال همي وشجني، وقلّ نومي وسكني، فارتحلت بالأمس عن داري، لا لقهر ملك جبار ولا لخوف جيش جرّار، ولا عن رغبة ولا عن صغار، ولكن لتمام المقدار، وانقطاع الآثار، وسلطان العزيز الجبار، فمن رأى أثري، وعرف خبري وطول عمري ونفاد صبري وشدّة حذري، فلا يغترّ بالدنيا بعدي، فإنها غرّارة غدّارة، تأخذ منه ما تعطي، وتسترجع منه ما تؤتي، وكلام كثير يرى فناء الدنيا ويمنع من الاغترار بها والسكون إليها.
فنزل الإسكندر مفكرا يتدبر هذا الكلام، ويعتبره ثم بعث يحشر الصناع من البلاد، وخط الأساس، وجعل طولها وعرضها أميالا وجمع إليها العمد والرخام، وأتته المراكب، فيها أنواع الرخام، وأنواع المرمر والأحجار من جزيرة صقلية، وبلاد إفريقية وأقريطش، وأقاصي بحر الروم مما يلي مصبه بحر أقيانوس، وحمل إليه أيضا من جزيرة رودس، وأمر الفعلة والصناع أن يدوروا بما رسم لهم من أساس سور المدينة، وجعل على كل قطعة من الأرض خشبة قائمة، وجعل من الخشبة إلى الخشبة حبالا منوطة بعضها ببعض، وأوصل جميع ذلك بعمود من الرخام، وكان أمام مضربه وعلق على العمود جرسا عظيما مصوّتا، وأمر الناس والقوّام على البنائين والفعلة والصناع أنهم إذا سمعوا صوت ذلك الجرس، وتحرّكت الجبال، وقد علق على كل قطعة منها جرسا صغيرا حرصوا على أن يضعوا أساس المدينة دفعة واحدة من سائر أقطاره، وأحب الإسكندر أن يجعل ذلك في وقت يختاره وطالع سعد، فحرّك الإسكندر رأسه، وأخذته نعسة في حال ارتقابه بالوقت المحمود، فجاء غراب، فجلس على حبل الجرس الكبير الذي فوق العمود فحرّكه، وخرج صوت الجرس وتحرّكت الجبال، وخفق ما عليها من الأجراس الصغار، وكان ذلك معمولا بحركات هندسية وحيل حكمية، فلما رأى الصناع تلك الجبال قد تحرّكت، وسمعوا الأصوات وضعوا الأساس دفعة واحدة وارتفع الضجيج بالتحميد والتقديس، فاستيقظ الإسكندر من رقدته، وسأل عن الخبر فأخبر بذلك فأعجب! وقال: أردت أمرا وأراد الله غيره، ويأبى الله إلا ما يريد، أردت طول بقائها، وأراد الله سرعة فنائها وخرابها، وتداول الملوك إياها وإنّ الإسكندر لما أحكم بناءها، وثبت أساسها وجنّ الليل عليهم خرجت دواب البحر، فأتت(1/278)
على جميع البنيان، فقال الإسكندر حين أصبح: هذا بدّ والخراب في عمارتها، وتحقق مراد الباري سبحانه من زوالها، فتطير من فعل الدواب فلم تزل البناة في كل يوم تبني وتحكم، ويوكل من يمنع الدواب إذا خرجت من البحر، فيصبحون وقد خرجت وخرّبت البنيان، فقلق الإسكندر لذلك وراعه ما رأى من البحر! فأقبل يفكر ما الذي يصنع وأيّ حيلة تنفع في ذلك حتى تدفع الأذية عن المدينة، فسنحت له الحيلة عند خلوّه بنفسه وإيراده الأمور وإصدارها، فلما أصبح دعا الصناع فاتخذوا له تابوتا من الخشب طوله عشرة أذرع في عرض خمسة أذرع، وجعلت فيه جامات من الزجاج قد أحاط بها خشب التابوت باستدارتها، وقد أمسك ذلك بالقار والزفت وغيره من الأطلية الدافعة للماء حذرا من دخول الماء إلى التابوت، وقد جعل فيها مواضع للحبال، ودخل الإسكندر في التابوت ورجلان من كتابه ممن له علم بإتقان التصوير، وأمر أن تسدّ عليه الأبواب وأن تطلى بما ذكرنا من الأطلية، وأمر بمركبين عظيمين فأخرجا إلى لجة البحر، وعلق في التابوت من أسفله مثقلات الرصاص والحديد والحجارة لتهوي بالتابوت سفلا، وجعل التابوت بين المركبين وألصقهما بخشب بينهما لئلا يفترقا، وشدّ حبال التابوت إلى المركبين وطوّل حباله، فغاص التابوت حتى انتهى إلى قرار البحر، فنظروا إلى دواب البحر وحيوانه من ذلك الزجاج الشفاف في صفاء ماء البحر فإذا بصور الشياطين على مثال الناس، وفيهم من له مثل رؤوس السباع، وفي أيديهم الفوس مع بعضهم، وفي أيدي بعضهم المناشير والمقامع يحكون بذلك صناع المدينة والفعلة، وما في أيديهم من آلات البناء، فأثبت الإسكندر ومن معه تلك الصور، وحكوها بالتصوير في القراطيس على اختلاف أنواعها وتشوّه خلقها، وقدودها ثم حرّك الحبال، فلما أحس بذلك من في المركبين جذبوا الحبال، وأخرجوا التابوت، فخرج الإسكندر، وأمر صناع الحديد والنحاس والحجارة، فعملوا تماثيل تلك الدواب على ما صوّر، فلما فرغوا منها وضعت على العمد بشاطئ البحر، ثم أمرهم فبنوا، فلما جنّ الليل ظهرت الدواب والآفات من البحر، فنظرت إلى صورها على العمد مقابلة إلى البحر، فرجعت ولم تعد بعد ذلك، فبنيت الإسكندرية وشيدت، وأمر الإسكندر أن يكتب على أبوابها: هذه الإسكندرية أردت أن أبنيها على الفلاح والنجاح واليمن والسعادة والسرور والثبات في الدهور، ولم يرد الباري عز وجلّ ملك السماوات والأرض، ومفني الأمم أن يثبتها كذلك، فبنيتها، وأحكمت بنيانها وشيدت سورها، وآتاني الله عز وجل من كل شيء علما وحكمة، وسهل لي وجوه الأسباب، فلم يتعذر عليّ في العالم شيء مما أردته، ولا امتنع عني شيء مما طلبته لطفا من الله عز وجل، وصنعا لي وصلاحا لعباده من أهل عصري، والحمد لله رب العالمين لا إله إلا هو رب كل شيء، ورسم بعد هذه الكتابة كلّ ما يحدث ببلده من الأحداث بعده في مستقبل الزمان من الآفات والعمران والخراب، وما يؤول أمرها إليه إلى وقت دثور العالم.(1/279)
وكان
بناء الإسكندرية طبقات، وتحتها قناطر مقنطرة عليها دور المدينة يسر تحتها الفارس، وبيده رمح لا تضيق به حتى يدور جميع تلك الآزاج والقناطر التي تحت المدينة، وقد عمل لتلك العقود والآزاج مخاريق ومتنفسات للضياء ومنافذ للهواء، وقد كانت الإسكندرية تضيء بالليل بغير مصباح لشدّة بياض الرخام والمرمر، وكانت أسواقها وشوارعها وأزقتها مقنطرة كلها لا يصيب أهلها شيء من المطر، وكان عليها سبعة أسوار من أنواع الحجارة المختلفة الألوان بينها خنادق، وبين كل خندق وسور فصول، وربما تعلق في المدينة شقاق الحرير الأخضر لاختطاف بياض الرخام أبصار الناس لشدّة بياضه.
فلما أحكم بناءها، وسكنها أهلها كانت آفات البحر، وسكانه على ما زعم الإخباريون من المصريين والإسكندريين تختطف بالليل أهل المدينة، فيصبحون، وقد فقد منهم العديد الكثير، فلما علم بذلك الإسكندر اتخذ الطلسمات على أعمدة هنالك تدعى: المسال، وهي باقية إلى هذه الغاية كل واحد من هذه الأعمدة على هيئة السروة وطول كل واحد منها ثمانون ذراعا على عمد من نحاس، وجعل تحتها صورا وأشكالا وكتابة.
قال مؤلفه رحمه الله فيما تقدّم من حكاية ابن وصيف شاه: ما يتبين به وهم ما نقله المسعوديّ، من أن الإسكندر هو الذي عمل التابوت حتى صوّر أشكال حيوانات البحر، فإنّ ابن وصيف شاه أعرف بأخبار أهل مصر، وكذلك ما ذكره المسعوديّ من أنّ المسال، من عمل الإسكندر وهم أيضا، بل هذه المسال هي المناير التي كان ينوّر عليها والأعلام التي كانت ملوك مصر القدماء تنصبها، وهي من أعمال ملوك القبط الأول، ومن أعمال الفراعنة الذين ملكوا مصر من قديم الزمان.
ذكر الإسكندر
هو الإسكندر بن فيليبس بن آمنته (ويقال: آمنتاس) بن هركلش (ويقال: هرقول) الجبار، الذي هو ابن الإسكندر الأعظم، ولي أبوه فيليبس الملك في بلد مجدونية (ويقال:
مقدونية) خمسا وعشرين سنة، استنبط فيها ضروبا من المكر وابتدع أنواعا من الشرّ تقدّم فيها كل من ولي الملك بها قبله.
وكان في أوّل أمره قد جعله أخوه الإسكندر رهينة عند أمير من الروم، فأقام عنده ثلاث سنين، وكان فيلسوفا فتعلم عنده ضروب الفلسفة، فلما قتل أخوه الإسكندر، اجتمع الناس على تولية فيليبس فولوه أميرا، فقام في السلطان مقاما عظيما، فحارب الروم وغلب عليهم ومضى إلى البرية، فقتل بها من الناس آلافا، وغلب على مدائن فاجتمع له جمع لا يقاد، وجيش لا يرام، فأذل جميع الروم وذهبت عينه في بعض الحروب، وغمر البلدان والمدائن عمارة وهدما وسبيا وانتهابا، ثم حشد جميع أهل بلد الروم وعبأ عسكرا فيه: مائتا(1/280)
ألف راجل، وخمسون ألف فارس، سوى من كان فيه من أصحابه المقدونيين، ومن غيرهم من أجناس اليونانيين يريد غزو الفرس.
فبينما هو يجمع هذا الجمع نظر في تزويج ابنة له يقال لها: قلوبطرة من ختنه أخي امرأته، وخال ولده الإسكندر، وجلس قبل العرس بيومين يحدّث قوّاده، إذ سئل عن أيّ الموتات أحق أن يتمناها الإنسان؟ فقال: الواجب على الرجل القويّ الظافر المجرّب يريد نفسه أن لا يتمنى الموت إلا بالسيف فجأة لئلا يعذبه المرض، وتحل قوّته الأوجاع، فعجل له ما تمنى في ذلك العرس، وذلك أنه حضر لعبا كان على الخيل بين ولده الإسكندر، وختنه الإسكندر، فبينما هو في ذلك غافله أحد أحداث الروم بطعنة، فقتله بها ثائرا بأبيه عندما تمكن منه منفردا، فولي الإسكندر، الملك بعد أبيه فيليبس، وكان أوّل شيء أظهر فيه قوّته وعزمه في بلد الروم، وكانوا قد خرجوا عن طاعة المقدونيين إلى طاعة الفرس، فدرسهم واستأصلهم، وخرّب مدنهم وجعلهم سبيا مبيعا، وجعل سائر بلادهم وكورهم تؤدّي إليه الخراج، ثم قتل جميع أختانه، وأكثر أقاربه في وقت تعبيته لمحاربة الفرس، وكان جميع عسكره اثنين وعشرين ألف فارس، وستين ألف راجل، وكانت مراكبه خمسمائة مركب وثمانين مركبا، فحرّك بهذه العدّة كبار ملوك الدنيا، وسار إلى الإسكندرية ودخل بيت المقدس، وقرّب فيه لله تعالى قربانا وخرج يريد محاربة دارا، وكان في عسكر دارا ملك الفرس في أوّل ملاقاته إياه، ستمائة ألف مقاتل، فغلبه الإسكندر، وكانت إذ ذاك على الفرس وقعة شنعاء ونكبة دهياء قتل فيها منهم عدد لا يحصى، ولم يقتل من عسكر الإسكندر إلا مائة وعشرون فارسا وتسعون راجلا.
ومضى الإسكندر ففتح مدائن وانتهب ما فيها فبلغه أنّ دارا قد عبّأ وأقبل نحوه بجمع عظيم، فخاف أن يلحقه في ضيق الجبال التي كان فيها، فقطع نحوا من مائة ميل في سرعة عجيبة، حتى بلغ مدينة طرسوس، وكاد يهلك لفرط البرد حتى انقبض عصبه، فلاقاه دارا في ثلثمائة ألف راجل، ومائة ألف فارس، فلما التقى الجمعان كاد الإسكندر يفرّ لكثرة ما كان فيه دارا، وقلة ما كان فيه، ووقع القتال بينهما وباشر القوّاد الحرب بأنفسهم، وتنازل الأبطال واختلف الطعن والضرب، وضاق الفضاء بأهله، فباشر كلا الملكين الحرب بأنفسهما، دارا والإسكندر، وكان الإسكندر أكمل أهل زمانه فروسية وأشجعهم وأقواهم جسما فباشرا حتى جرحا جميعا، وتمادى الحرب بينهما حتى انهزم دارا، ونزلت الوقيعة بالفرس، فقتل من راجلهم نحو من ثمانين ألفا، ومن فرسانهم نحو من عشرة آلاف، وأسر منهم نحو من أربعين ألفا، ولم يسقط من عسكر الإسكندر إلا مائتان وثلاثون راجلا، ومائة وخمسون فارسا، فانتهب الإسكندر جميع عسكر الفرس، وأصاب فيه من الذهب والفضة والأمتعة الشريفة ما لا يحصى كثرة، وأصيب من جملة الأسارى: أم دارا وزوجته وأخته وابنتاه، فطلب دارا من الإسكندر فديتهنّ بنصف ملكه فلم يجبه إلى ذلك، فعبى دارا مرّة ثالثة،(1/281)
وحشد الفرس عن آخرهم، واستجاش بكل من قدر عليه من الأمم فبعث الإسكندر قائدا في أسطول للغارة على بلد الفرس، ومضى الإسكندر إلى الشام، فتلقاه هنالك ملوك الدنيا خاضعين له، فعفا عن بعض، ونفى بعضا، وقتل بعضا، ومضى إلى إحراز طرسوس، وكانت مدينة زاهرة قديمة عظيمة الشأن، وأهلها قد وثقوا بعون أهل إفريقية لهم لصهر كان بينهم، فحاصرهم فيها حتى افتتحها، ومضى منها إلى رودس وإلى مصر، فانتهب الجميع، وبنى مدينة الإسكندرية بأرض مصر، وقال هروشيوش: وله في بنيانها أخبار طويلة وسياسات كرهنا تطويل كتابنا بها.
ثم إنّ دارا لمّا يئس من مصالحته أقبل في أربعمائة ألف راجل ومائة ألف فارس، فتلقى الإسكندر مقبلا من ناحية مصر في أعمال مدينة طرسوس، فكانت بينهما معركة عجيبة شنيعة اجتهادا من الروم على ما كانوا خبروه، واعتادوا من الغلبة والظفر، واجتهادا من الفرس بالتوطين على الهلاك وتفضيل الموت على الرق والعبودية، فقلما يحكى عن معركة كان القتل فيها أكثر منه في تلك المعركة، فلما نظر دارا إلى أصحابه يتغلب عليهم ويهزمون عزم على استعجال الموت في تلك الحرب بالمباشرة لها بنفسه، والصبر حتى يقتل معترضا للقتل، فلطف به بعض قوّاده حتى سلوه، فانهزم وذهبت قوّة الفرس وعزهم، وذل بعدها سلطانهم، وصار بلد المشرق كله في طاعة الروم، وانقطع ملك الفرس مدّة أربعمائة عام وخمسين عاما، واشتغل الإسكندر بتحصيل ما أصاب في عسكر الفرس والنظر فيه وقسمته على عسكره ثلاثين يوما، ثم مضى إلى مدينة الفرس التي كانت رأس مملكتهم، والتي اجتمعت فيها أموال الدنيا ونعمها، فهدمها ونهب ما فيها، فبلغه عن دارا أنه صار عند قوم مكبلا في كبول من فضة، فتهيأ وخرج في ستة آلاف، فوجده بالطريق مجروحا جراحات كثيرة، فلم يلبث أن هلك منها، فأظهر الإسكندر الحزن عليه والمرثية له، وأمر بدفنه في مقابر الملوك من أهل مملكته، وكان في أمر هذه الثلاث معارك عبرة لمن اعتبر، ووعظ لمن اتعظ، إذ قتل فيها من أهل مملكة واحدة نحو من خمسة عشر ألف ألف بين راكب وراجل من أهل بلد آسيا، وهي العراق، وقد كان قتل من أهل تلك المملكة قبل ذلك بنحو من ستين سنة نحو تسعة عشر ألف ألف إلى ألف ألف ما بين راكب وراجل من أهل بلد العراق والشام وطرسوس ومصر وجزيرة رودس، وجميع البلدان الذين درسهم الإسكندر أجمعين، وكان سلطان الدنيا مقسوما بين قوّاده بعد ما زلزل بدواهيه العظيمة العالم كله، وعمّ أهله بعضا بالمنايا الفظيعة، وبعضا بالتوطين عليها، والمباشرة لأهوالها، وأوصى عند وفاته أن يلقب كل قائم في اليونانيين بعده: ببطليموس تهويلا للأعداء لأنّ معناه الحربيّ، فهذا هو الصحيح من خبر الإسكندر فلا يلتفت إلى ما خالفه.
ويقال: إنه كان أشقر أزرق، وهو أوّل من سمر بالليل، وكان له قوم يضحكونه ويحكون له الخرافات يريد بذلك حفظ ملكه، وحراسة نفسه لا اللذة، وبه اقتدى الملوك في(1/282)
السمر، واتخاذ المضحكين والمخرّفين.
ذكر تاريخ الإسكندر
قال أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني: تاريخ الإسكندر اليونانيّ، الذي يلقبه بعضهم بذي القرنين على سني الروم، وعليه عمل أكثر الأمم لما خرج من بلاد يونان، وهو ابن ست وعشرين سنة لقتال دارا ملك الفرس.
ولما ورد بيت المقدس أمر اليهود، بترك تاريخ داود وموسى عليهما السلام، والتحوّل إلى تاريخه، فأجابوه وانتقلوا إلى تاريخه، واستعملوه فيما يحتاجون إليه بعد أن عملوه من السنة السادسة والعشرين لميلاده، وهو أوّل وقت تحرّكه، ليتموا ألف سنة من لدن، موسى عليه السلام، وبقوا معتصمين بهذا التاريخ، ومستعملين له وعليه عمل اليونانيين، وكانوا قبله يؤخرون بخروج يونان بن نورس عن بابل إلى المغرب.
وأوّل تاريخ الإسكندر يوم الاثنين أوّل تشرين الأوّل، وموافقه اليوم الرابع من بابه، ومبادي الأيام عندهم من وقت طلوع الشمس إلى وقت غروبها، وإلى أن يصبح الصباح وتطلع الشمس، فقد كمل يوم بليلته، ومبادي الشهور ترجع إلى عدد واحد له نظام يجري عليه دائما.
وعدد شهور سنتهم: اثنا عشر شهرا يخالف بعضها بعضا في العدد، وهذه أسماؤها، وعدد أيام كل شهر منها: (تشرين الأوّل) أحد وثلاثون يوما، (تشرين الثاني) ثلاثون يوما، (كانون الأول) أحد وثلاثون يوما، (كانون الثاني) أحد وثلاثون يوما، (شباط) ثمانية وعشرون يوما وربع، (آذار) أحد وثلاثون يوما، (نيسان) ثلاثون يوما، (أيار) أحد وثلاثون يوما، (حزيران) ثلاثون يوما، (تموز) أحد وثلاثون يوما، (آب) أحد وثلاثون يوما، (أيلول) ثلاثون يوما. فسبعة أشهر كل شهر منها أحد وثلاثون يوما، وأربعة أشهر كل شهر ثلاثون يوما، وشهر واحد ثمانية وعشرون يوما وربع يوم، وذلك أنهم جعلوا شباط كل ثلاث سنين متواليات ثمانية وعشرين يوما، وجعلوه في السنة الرابعة تسعة وعشرين يوما.
فيكون عدد أيام سنتهم، ثلثمائة وخمسة وستين يوما وربع يوم، ويجعلون السنة الرابعة ثلثمائة وستة وستين يوما، ويسمونها السنة الكبيسة، وإنما زادوا الربع في كل سنة ليقرب عدد أيام سنتهم من عدد أيام السنة الشمسية، حتى تبقى أمورهم على نظام واحد، فتكون شهور البرد، وشهور الحرّ، وأوان الزرع ولقاح الشجر وجني الثمر في وقت معلوم من السنة لا يتغير وقت شيء من ذلك البتة، وكان ابتداء الكبيس في السنة الثالثة من ملك الإسكندر.
وبين يوم الاثنين أوّل يوم من تاريخ الإسكندر هذا، وبين يوم الخميس أوّل شهر(1/283)
المحرّم من السنة التي هاجر نبينا، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة تسعمائة سنة وثلاث وثلاثون سنة، ومائة وخمسة وخمسون يوما.
وبينه وبين يوم الجمعة أوّل يوم من الطوفان: ألفا سنة وسبعمائة سنة، واثنتان وتسعون سنة، ومائة وثلاثة وتسعون يوما.
وبين ابتداء ملك بخت نصر، وبين أوّل تاريخ الإسكندر، أربعمائة وخمس وثلاثون سنة شمسية ومائتا يوم وثمانية وثلاثون يوما.
وقال أبو بكر أحمد بن عليّ بن قيس بن وحشية «1» في كتاب الفلاحة النبطية الشهر المسمى تموز، فيما ذكر القبط بحسب ما وجدت في كتبهم اسم رجل كانت له قصة عجيبة طويلة، وهو أنه دعا ملكا إلى عبادة الكواكب السبعة، والبروج الاثني عشر، وأن الملك قتله وعاش بعد القتلة، ثم قتله قتلات بعد ذلك قبيحة، وفي كلها يعيش، ثم مات في آخرها.
وإنّ شهورهم هذه، كل واحد منها، اسم رجل فاضل عالم كان في القديم من النبط الذين كانوا، مكان إقليم بابل قبل الكسدانيين، وذلك أن تموز هذا ليس من الكسدانيين ولا الكنعانيين ولا العبرانيين ولا الجرامقة، وإنما هو من الحزناسيين الأوّلين ولذلك يقولون في كل شهورهم: إنها أسماء رجال مضوا، وإنّ تشرين الأوّل، وتشرين الثاني، اسما أخوين كانا فاضلين في العلوم، وكذلك كان كانون الأوّل وكانون الثاني، وإنّ شباط اسم رجل نكح ألف امرأة أبكارا كلهنّ، ولم ينسل نسلا، ولا ولد ولدا، فجعلوه في آخر الشهور لنقصانه عن النسل، فصار النقصان من العدد فيه، والصابئون من البابليين والحزناسيين جميعا إلى وقتنا هذا ينوحون ويبكون على تموز في الشهر المسمى تموز في عيد لهم فيه منسوب إلى تموز، ويعدّدون تعديدا عظيما، وخاصة النساء، فإنهنّ يقمن ههنا جميعا، وينحن ويبكين على تموز، ويهذين في أمره هذيانا طويلا، وليس عندهم علم من أمره أكثر من أن يقولوا، هكذا وجدنا أسلافنا ينوّحون ويبكون على تموز في هذا العيد المنسوب إلى تموز، والنصارى تذكر أنهم يعملونه لرجل يسمى جورجيس أحد حواريّ عيسى عليه السلام، دعا ملكا من الملوك إلى دين النصرانية، فعذبه الملك بتلك الفتلات، فلا أدري وقع إلى النصارى قصة تموز، فأبدلوا مكانها اسم جورجيس، وخالفوا الصابئين في الوقت، لأن الصابئين يعملون ذكران تموز، أوّل يوم من شهر تموز، والنصارى يعملون لجورجيس في آخر نيسان.
ويقال: إنّ بعض ملوك رومية زاد في شهور الروم، كانون الثاني وشباط، فإنّ شهورهم كانت إلى زمانه عشرة أشهر، كل شهر ستة وثلاثون يوما.(1/284)
ويقال: إنّ فيوفيوس، أوّل من ملك مدينة رومية، وأنه أقام ملكا ثلاثا وأربعين سنة، وزاد كانون الثاني وشباط في شهور الروم بحكم أنها كانت إلى ذلك الزمان عشرة أشهر، كل شهر ستة وثلاثون يوما، وكان سبب نقص شباط يومين، وقوع غارة في أيام فيطن رئيس جيش الروم خلف، وحروب بينه وبين فريوريوس آلت إلى نصرة فيطن، وأخذه مملكة الروم، وأمر بفريوريوس، فنودي عليه (اعيا مرديا) وتفسيره: اخرج يا شباط، ثم غرق في البحر وسموا شهر شباط فريوريوس ليكون تذكار سوء له، فإنّ هذا الفعل كان في يومي التاسع والعشرين والثلاثين من شباط فنقصوهما من شباط، وزادوهما في تموز وكانون الثاني، فجعلوا كل شهر منهما أحدا وثلاثين يوما، ثم بعد زمان جاء ملك آخر فقال:
لا يحسن أن يكون شباط في وسط السنة، فنقله إلى آخرها، ولم يزل الروم من ذلك الوقت يتطيرون من شباط.
ذكر الفرق بين الإسكندر وذي القرنين وأنهما رجلان
اعلم أن التحقيق عند علماء الأخبار، أنّ ذا القرنين الذي ذكره الله في كتابه العزيز، فقال: وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً
[الكهف/ 83] الآيات، عربيّ، قد كثر ذكره في أشعار العرب، وأنّ اسمه: الصعب بن ذي مراثد بن الحارث الرائش بن الهمال ذي سدد بن عاد ذي منح بن عامر الملطاط بن سكسك بن وائل بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود بن عابر بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام.
وأنه ملك من ملوك حمير، وهم العرب العاربة، ويقال لهم أيضا: العرب العرباء، وكان ذو القرنين تبعا متوّجا، ولما ولي الملك تجبر، ثم تواضع لله، واجتمع بالخضر.
وقد غلط من ظن أنّ الإسكندر بن فيليبس هو ذو القرنين الذي بنى السدّ، فإنّ لفظة ذو عربية، وذو القرنين من ألقاب العرب ملوك اليمن وذاك روميّ يونانيّ.
قال أبو جعفر الطبريّ: وكان الخضر في أيام أفريدون الملك بن الضحاك في قول عامة علماء أهل الكتاب الأول، وقبل موسى بن عمران عليه السلام، وقيل: إنه كان على مقدّمة ذي القرنين الأكبر الذي كان على أيام إبراهيم الخليل عليه السلام.
وأنّ الخضر بلغ مع ذي القرنين أيام مسيره في البلاد نهر الحياة، فشرب من مائه، وهو لا يعلم به ذو القرنين ولا من معه، فخلد، وهو حيّ عندهم إلى الآن، وقال آخرون:
إنّ ذا القرنين الذي كان على عهد إبراهيم الخليل عليه السلام هو: أفريدون بن الضحاك، وعلى مقدّمته كان الخضر.
وقال أبو محمد عبد الملك بن هشام في كتاب التيجان في معرفة ملوك الزمان، بعد ما(1/285)
ذكر نسب ذي القرنين الذي ذكرناه، وكان تبعا متوّجا لما ولي الملك تجبر، ثم تواضع، واجتمع بالخضر ببيت المقدس، وسار معه مشارق الأرض ومغاربها، وأوتي من كل شيء سببا، كما أخبر الله تعالى وبنى السدّ على يأجوج ومأجوج ومات بالعراق.
وأما الإسكندر فإنه يونانيّ، ويعرف بالإسكندر المجدوني (ويقال: المقدوني) .
سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن ذي القرنين ممن كان؟ فقال: من حمير، وهو الصعب بن ذي مراثد الذي مكنه الله تعالى في الأرض وأتاه من كل شيء سببا، فبلغ قرني الشمس، ورأس الأرض وبنى السدّ على يأجوج ومأجوج؛ قيل له: فالإسكندر؟ قال: كان رجلا صالحا روميا حكيما بنى على البحر في إفريقية منارا وأخذ أرض رومة وأتى بحر الغرب، وأكثر عمل الآثار في الغرب من المصانع والمدن.
وسئل كعب الأحبار عن ذي القرنين؟ فقال: الصحيح عندنا من أحبارنا وأسلافنا أنه من حمير، وأنه الصعب بن ذي مراثد، والإسكندر كان رجلا من يونان من ولد عيصو بن إسحاق بن إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليهما، ورجال الإسكندر أدركوا المسيح ابن مريم منهم: جالينوس، وأرسطاطاليس.
وقال الهمداني في كتاب الأنساب: وولد كهلان بن سبأ زيدا، فولد زيد عربيا ومالكا وغالبا وعميكرب.
وقال الهيثم: عميكرب بن سبأ أخو حمير وكهلان، فولد عميكرب أبا مالك فدرحا ومهيليل ابني عميكرب، وولد غالب جنادة بن غالب، وقد ملك بعد مهيليل بن عميكرب بن سبأ، وولد عريب عمرا، فولد عمر وزيدا، والهميسع ويكنى أبا الصعب، وهو ذو القرنين الأوّل، وهو المساح والبناء، وفيه يقول النعمان بن بشير:
فمن ذا يعاددنا من الناس معشرا ... كراما فذو القرنين منا وحاتم
وفيه يقول الحارثي:
سمّوا لنا واحدا منكم فنعرفه ... في الجاهلية لاسم الملك محتملا
كالتبعين وذي القرنين يقبله ... أهل الحجى فأحق القول ما قبلا
وفيه يقول ابن أبي ذئب الخزاعي:
ومنا الذي بالخافقين تغرّبا ... وأصعد في كل البلاد وصوّبا
فقد نال قرن الشمس شرقا ومغربا ... وفي ردم يأجوج بنى ثم نصبا
وذلك ذو القرنين تفخر حمير ... بعسكر قيل ليس يحصى فيحسبا
قال الهمداني: وعلماء همدان تقول: ذو القرنين: الصعب بن مالك بن الحارث(1/286)
الأعلى بن ربيعة بن الجبار بن مالك.
وفي ذي القرنين أقاويل كثيرة، وقال الإمام فخر الدين الرازي في كتاب تفسير القرآن الكريم، ومما يعترض به على من قال: إنّ الإسكندر هو ذو القرنين، أن معلم الإسكندر كان أرسطاطاليس بأمره يأتمر، وبنهيه ينتهي، واعتقاد أرسطاطاليس مشهور، وذو القرنين نبيّ، فكيف يقتدى نبيّ بأمر كافر في هذا إشكال؟.
وقال الجاحظ في كتاب الحيوان: إنّ ذا القرنين كانت أمه آدمية، وأبوه من الملائكة، ولذلك لما سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا ينادي رجلا يا ذا القرنين، قال:
أفرغتم من أسماء الأنبياء فارتفعتم إلى أسماء الملائكة؟! وروى المختار ابن أبي عبيد: أنّ عليا رضي الله عنه كان إذا ذكر ذا القرنين قال: ذلك الملك الأمرط، والله أعلم.
ذكر من ولي الملك بالإسكندرية بعد الإسكندر
قال في كتاب هروشيوش: إنّ الإسكندر ملك الدنيا اثنتي عشرة سنة، فكانت الدنيا مأسورة بين يديه، طول ولايته، فلما مات، تركها بين يدي قوّاده المستخلفين تحته، فكان مثله معهم كمثل الأسد الذي ألقى صيده بين يدي أشباله، فتقاتلت عليه تلك الأشبال بعده، وذلك أنهم اقتسموا البلاد، فصارت مصر وإفريقية كلها وبلاد الغرب إلى قائده، وصاحب خيله الذي ولي مكانه، وهو بطليموس بن لاوي، ويقال: بطليموس بن ارنبا المنطقي، وذكر بقية ممالك القوّاد من أقصى بلاد الهند إلى آخر بلاد المغرب، ثم قال: فثارت بينهم حروب وسببها رسالة كانت خرجت من عند الإسكندر بأن يرجع جميع الغرباء المنفيين إلى بلادهم، ويسقط عنهم الرق والعبودية، فاستثقل ذلك ملك بلاد الروم إذ خاف أن يكون الغرباء والمنفيون إذا رجعوا إلى بلدانهم ومواطنهم يطلبون النقمة لأنفسهم، فكان هذا الأمر، سبب خروجهم عن طاعة سلطان المجدونيين.
وقال غيره: وبطليموس هذا سبى بني معدّ بعد ما غزا فلسطين، ثم أطلقهم وحباهم بآنية جوهر وضعت في بيت المقدس، وملك عشرين سنة، وقال غيره: ولي أربعين سنة، وقيل: ثمانيا وثلاثين سنة، وقيل: إن اسمه فيلدلفوس، وهو محب الأب وكان مجدونيا، وهو الذي غنم اليهود، ونقل كثيرا منهم إلى مصر، وفي زمانه كان زينون الفيلسوف، وكان هذا الملك فيلسوفا، وأقبل برديقا أحد قوّاد الإسكندر إلى مصر، بعسكر عظيم وجيش عرمرم، فتفرّق سلطان مجدونية على قسمين، ثم إنّ بطليموس جمع عساكر مصر وإفريقية، ولاقى برديقا، فهزمه وأصاب عسكره، ثم قتله وأصاب ما كان معه، وحارب عدّة من قوّاد الإسكندر.
وقال غيره: وكان بطليموس هذا حكيما عالما شابا مدبرا، وهو أوّل من اقتنى البزاة،(1/287)
ولعب بها وضراها، وكان من قبله من الملوك لا يلعب بها.
ولمّا مات، ملك الإسكندرية بعده بطليموس الثاني، واسمه: فيلوذوفوس، ويقال له:
محب الأخ، وكانت مدّة ملكه ثمانيا وثلاثين سنة، وهو الذي أطلق اليهود الذين كانوا مأسورين بأرض مصر، وردّ الأواني المقدّسه على عزيز النبيّ، وهو الذي تخير السبعين مترجما من علماء اليهود الذين ترجموا كتب التوراة والأنبياء من اللسان العبرانيّ إلى اللسان الروميّ اليونانيّ واللاطينيّ، وكان فيلسوفا منجما، ومات فولي بعده ابنه بطليموس أوراخيطس المعروف بمحب الأب ستا وعشرين سنة.
ثم ولي بعده أخوه بطليموس فيلوبطور سبع عشرة سنة، وهو الذي قتل من اليهود نحوا من ستين ألفا، وتغلب عليهم، ويقال: إنه صاحب علم الفلك والنجوم وكتاب المجسطي.
ثم ملك بعده ابنه بطليموس أسفاميش، محب الأم أربعا وعشرين سنة.
ثم ولي بعده ابنه بطليموس فلوناطرة، وهو الصانع، خمسا وثلاثين سنة، وهو الذي غلب ملك الشام، وحمل اليهود أنواع البلاء والعذاب.
ثم ملك الإسكندرية بعده ابنه بطليموس أبرياطيش، وهو الإسكندرانيّ، تسعا وعشرين سنة، وفي زمانه غلب الرومانيون على الأندلس واحترقت مدينة قرطاجنة بالنار، وأقامت النار فيها سبعة عشر يوما فهدمت، وحوّلت أساساتها حتى صار رخام أسوارها غبارا، وذلك إلى تسعمائة سنة من وقت بنيانها، وبيع جميع أهلها رقيقا إلا قليلا من خيارهم وأشرافهم، وكان المتولي لتخريبها قوّاد رومة.
ثم ولي بعده ابنه بطليموس شوطار الذي يقال له: الحديد، سبع عشرة سنة، وكان قبيح السيرة، تزوّج بأخته، ثم فارقها على أقبح حال مما تزوّجها عليه في خبر له، ثم تزوّج ربيبته التي كانت بنت أخته، ثم زوّجها من ابنه المولود من أخته، وكثرت فواحشه حتى نفاه أهل الإسكندرية فمات منفيا.
وولي أخوه بطليموس الإسكندر، وهو الجوّال، عشر سنين.
ثم ولي بعده ابنه بطليموس ديوشيش، ثمانيا وثلاثين سنة، وفي زمانه غلب قائد الرومانيين على بيت المقدس، وجعل اليهود يؤدّون إليه الجزية.
وظهرت في ذلك الزمان علامات في السماء مهولة، منها: أنه ظهر في السماء بناحية مطلع الشمس من مدينة رومة مما يلي ناحية الجنوب، نار ملتهبة عظيمة، وكسر قوم خبزا في صنع لهم، فانفجر من الخبز دم سائل، ونزل بمدينة رومة مدّة سبعة أيام متوالية برد كان(1/288)
يوجد في داخله حجارة وشقاف، وانفتحت الأرض، فصار فيها غور عظيم، وخرج منه لهب اشتعل حتى ظنوه بلغ السماء، ونظر أهل رومة يومئذ إلى عمود من الأرض إلى السماء لونه لون الذهب، وكان من عظمه تكاد الشمس أن تغيب منه.
ثم ولي الإسكندرية بعده كلوباطرة، سنتين، فدامت مملكة الإسكندرية، وهي الدولة المجدونية إلى أوّل ملوك قيصر الذي هو أوّل ملوك الرومانيين، مائتين وإحدى وثمانين سنة، فبعث قيصر قائدين بعساكر كثيرة لفتح مصر، فتزوّج أحدهما كلوباطرة ابنة ديوشيش الملقب بطليموس، وقتل القائد الآخر، وخالف قيصر، فسار إليه قيصر بنفسه، وجرت أمور آلت إلى فتح الإسكندرية بعد حروب، واستولى قيصر على مملكة مصر، وقتل كلوباطرة وولديها، وقتل القائد الذي تزوّجها، ويقال: بل سمت نفسها عندما تيقنت غلبة قيصر لها، ويقال: إنها كانت ذات حزم ومعرفة وتدبير، وإنها حفرت خليج الإسكندرية وأجرت فيه الماء من مصر، وبنت بالإسكندرية أبنية عجيبة منها هيكل زحل، وعملت فيه صنما من نحاس أسود، وكان أهل مصر والإسكندرية يعملون له عيدا في اليوم الثاني والعشرين من هتور، ويحتج إليه اليونانيون من سائر الأقطار، ويذبحون له ذبائح لا تحصى كثرة، فلما ظهرت ملة النصارى في الإسكندرية جعلوا هيكل زحل كنيسة ولم تزل إلى أن هدمها جيوش المعز لدين الله عند قدومهم من المغرب إلى أرض مصر في سنة ثمان وخمسين وثلثمائة من سني الهجرة النبوية.
ويقال: إن كلوباطرة هي التي بنت حائط العجوز بمصر، ويشبه أن يكون هذا غير صحيح، ويقال: إنها بنت مقياسا بمدينة إخميم، ومقياسا آخر بأنصنا، ويقال: كانت مدّة ملكها ثلاثين سنة، وليس بصحيح، وبموت كلوباطرة انقطعت مملكة مصر.
وصارت تحت يد ملوك الروم من أهل مدينة رومة، ثم تحت يد ملوك الروم من أهل قسطنطينة، فلم تزل تحت أيديهم يولون فيها من قبلهم من شاءوا، فيصير إلى الإسكندرية، ويقيم بها إلى أن قدم عمرو بن العاص بالمسلمين، وفتح الله على يده الحصن والإسكندرية، وجميع أرض مصر.
ويقال: معنى كلوباطرة: الباكية، فكان جميع المدّة التي ما بين ذهاب دولة البطالسة من الإسكندرية، وقدوم عمرو بن العاص إلى مصر، وفتحها ستمائة سنة وبعضا وسبعين سنة، وفي خلال هذه المدّة قوي جانب ملوك الفرس على القياصرة، وملكوا منهم بلاد الشام، واستولوا على أرض مصر والإسكندرية في أيام كسرى أبرويز بن هرمز، فبعث قائدا إلى مصر، وملك الإسكندرية، وقتل الروم وأقاموا بالإسكندرية مدّة عشر سنين، فلما استبدّ هرقل بمملكة الروم، وخرج من القسطنطينية لجمع الأموال من سائر مملكته أخذ حماه ودمشق وسار إلى بيت المقدس، وقد خرّبها الفرس، فأمر ببنائها وسار منها إلى أرض مصر(1/289)
ودخل الإسكندرية، وقتل من بها من الفرس، وأقام بها بطريقا، ثم عاد إلى قسطنطينية فاستمرّت مصر بعده تحت إبالة الروم حتى ملكها المسلمون.
ويقال: إن كل بناء بمصر من آجر فهو للفرس، وما فيها من بناء حجر فهو للروم، والله أعلم.
ذكر منارة الإسكندرية
قال المسعوديّ: فأما منارة الإسكندرية، فذهب الأكثرون من المصريين والإسكندرانيين ممن عنى بأخبار بلدهم أن الإسكندر بن فيليبس المقدوني هو الذي بناها ومنهم من رأى أن دلوكة الملكة ابنتها وجعلتها مرقبا لمن يرد من العدوّ إلى بلدهم، ومن الناس من رأى، أن العاشر من فراعنة مصر، هو الذي بناها، ومنهم من رأى أن الذي بنى مدينة رومة هو الذي بنى مدينة الإسكندرية ومنارتها، والأهرام بمصر، وإنما أضيفت الإسكندرية إلى الإسكندر لشهرته باستيلائه على الأكثر من ممالك العالم فشهرت به، وذكروا في ذلك أخبارا كثيرة يستدلون بها على ما قالوا، والإسكندر لم يطرقه في هذا البحر عدوّ ولا هاب ملكا يرد إليه في بلده، ويغزوه في داره فيكون هو الذي جعلها مرقبا وإنّ الذي بناها جعلها على كرسيّ من الزجاج على هيئة السرطان في جوف البحر، وعلى طرف اللسان الذي هو داخل في البحر من البرّ، وجعل على أعلاها تماثيل من النحاس وغيره، منها: تمثال قد أشار بسبابته من يده اليمنى نحو الشمس، أينما كانت من الفلك، وإذا علت في الفلك فأصبعه يشير بها نحوها، فإذا انخفضت صارت يده سفلا، تدور معها حيث دارت، ومنها: تمثال يشير بيده إلى البحر، إذا صار العدوّ منه على نحو من ليلة فإذا دنا وجاوز أن يرى بالبصر لقرب المسافة، سمع لذلك التمثال صوت هائل يسمع من مسيرة ميلين أو ثلاثة، فيعلم أهل المدينة أن العدوّ قد دنا منهم فيرمقونه بأبصارهم، ومنها تمثال كلما مضى من الليل أو النهار ساعة سمعوا له صوتا بخلاف ما صوّت في الساعة التي قبلها وصوته مطرب.
وقد كان ملك الروم، في ملك الوليد بن عبد الملك بن مروان، أنفذ خادما من خواص خدمه، ذا رأي ودهاء، فجاء مستأمنا إلى بعض الثغور، فورد بآلة حسنة ومعه جماعة، فجاء إلى الوليد، فأخبره: أنه من خواص الملك، وأنه أراد قتله لموجدة وحال بلغته عنه لم يكن لها أصل، وأنه استوحش، ورغب في الإسلام، فأسلم على يد الوليد وتقرّب من قلبه، وتنصح إليه في دفائن استخرجها له من بلاد دمشق وغيرها من الشام بكتب كانت معه، فيها صفات تلك الدفائن، فلما صارت إلى الوليد تلك الأموال والجواهر، شرهت نفسه واستحكم طمعه.
فقال له الخادم: يا أمير المؤمنين! إنّ ها هنا أموالا وجواهر ودفائن للملوك، فسأله(1/290)
الوليد عن الخبر؟ فقال: تحت منارة الإسكندرية أموال ملوك الأرض، وذلك أن الإسكندر احتوى على الأموال والجواهر التي كانت لشدّاد بن عاد وملوك مصر، فبنى لها أزجا تحت الأرض، وقنطر لها الأقباء والقناطر والسراديب، وأودعها تلك الذخائر من العين والورق والجوهر، وبنى فوق ذلك هذه المنارة، وكان طولها في الهواء ألف ذراع، والمرآة في علوه، والدبادبة جلوس حوله، فإذا نظروا إلى العدوّ في البحر في ضوء تلك المرآة صوّتوا لمن قرب منهم، ونشروا أعلاما فيراها من بعد منهم، فتحذر الناس وتنذر البلد، فلا يكون للعدوّ عليهم سبيل.
فبعث الوليد مع الخادم، بجيش وأناس من ثقاته وخواصه، فهدم نصف المنارة من أعلاها، وأزيلت المرآة فضج الناس من هذا! وعلموا أنها مكيدة وحيلة في أمرها، فلما علم الخادم استفاضة ذلك وأنه سينم إلى الوليد وأنه قد بلغ ما يحتاج إليه هرب في الليل في مركب كان قد أعدّه، وواطأ على ذلك، فتمت حيلته وبقيت المنارة على ما ذكرنا إلى هذا الوقت وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة.
وكان حوالي منارة الإسكندرية في البحر مغاص يخرج منه قطع من الجوهر يتخذ منه فصوص للخواتم أنواعا من الجواهر، يقال: إنّ ذلك من آلات اتخذها الإسكندر للشراب، فلما مات كسرتها أمه، ورمت بها في تلك المواضع من البحر، ومنهم من رأى أن الإسكندر اتخذ ذلك النوع من الجواهر، وغرّقه حول المنارة لكيلا تخلو من الناس حولها، لأنّ من شأن الجوهر أن يكون مطلوبا أبدا في كل عصر، ويقال: إنّ هذه المنارة إنما جعلت المرآة في أعلاها، لأنّ ملوك الروم بعد الإسكندر كانت تحارب ملوك مصر والإسكندرية، فجعل من كان بالإسكندرية من الملوك تلك المرآة تري من يرد في البحر من عدوّهم، وكان من يدخلها يتيه فيها إلا أن يكون عارفا بالدخول والخروج فيها لكثرة بيوتها وطبقاتها وممرّاتها.
وقد ذكر: أن المغاربة حين وافوا في خلافة المقتدر في جيش صاحب المغرب دخل جماعة منهم على خيولهم إلى المنارة، فتاهوا فيها، وفي طرق تؤول إلى مهاو تهوي إلى السرطان الزجاج، وفيه مخارق إلى البحر، فتهوّرت دوابهم، وفقد منهم عدد كثير وعلم بهم بعد ذلك، وقيل: إن تهوّرهم كان على كرسيّ لها قدّامها، وفي المنارة مسجد في هذا الوقت يرابط فيه مطوّعة المصريين وغيرهم. وفي سنة سبع وسبعين وسبعمائة، سقط رأس المنارة من زلزلة، ويقال: إنّ منارة الإسكندرية، كانت مبنية بحجارة مهندمة مضببة برصاص على قناطر من الزجاج، وتلك القناطر على ظهر سرطان، وكان في المنارة، ثلثمائة بيت بعضها فوق بعض، وكانت الدابة تصعد بحملها إلى سائر البيوت من داخل المنارة، ولهذه البيوتات طاقات تشرف على البحر، وكانت على الجانب الشرقيّ من المنارة كتابة عرّبت، فإذا هي:
بنت هذه المنظرة قريبا بنت مرينوس اليونانية لرصد الكواكب.(1/291)
وقال ابن وصيف شاه: وقد ذكر أخبار مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح وبنوا على البحر مدنا منها رقودة مكان الإسكندرية، وجعلوا في وسطها قبة على أساطين من نحاس مذهب والقبة مذهبة، ونصبوا فوقها منارة عليها مرآة من أخلاط شتى، قطرها خمسة أشبار، وكان ارتفاع القبة مائة ذراع، فكانوا إذا قصدهم قاصد من الأمم التي حولهم، فإن كان مما يهمهم أو من البحر عملوا لتلك المرآة عملا، فألقت شعاعها على ذلك الشيء فأحرقته، فلم تزل على حالها إلى أن غلب عليها البحر فنسفها.
ويقال: إنّ الإسكندر إنما عمل المنار الذي كان شبيها بها وقد كان أيضا عليه مرآة يرى فيها من يقصدهم من بلاد الروم، فاحتال بعض ملوك الروم، فوجه من أزالها، وكانت من زجاج مدبر.
وقال المسعوديّ في كتاب التنبيه والأشراف: وقد كان وزير المتوكل، عبيد الله بن يحيى بن خاقان لمّا أمر المستعين بنفيه إلى برقة في سنة ثمان وأربعين ومائتين، صار إلى الإسكندرية من بلاد مصر، فرأى حمرة الشمس على علو المنارة التي بها وقت المغيب، فقدّر أنه يلزمه أن لا يفطر إذا كان صائما أو تغرب الشمس من جميع أقطار الأرض، فأمر إنسانا أن يصعد إلى أعلى منارة الإسكندرية ومعه حجر، وأن يتأمّل موضع سقوط الشمس، فإذا أسقطت رمي بالحجر، ففعل الرجل ذلك، فوصل الحجر إلى قرار الأرض بعد صلاة العشاء الآخرة، فجعل إفطاره بعد صلاة العشاء الآخرة، فيما بعد إذا صام في مثل ذلك الوقت، وكان عند رجوعه إلى سرّ من رأى لا يفطر إلا بعد عشاء الآخرة، وعنده أنّ هذا فرضه، وأنّ الوقتين متساويان، وهذا غاية ما يكون من قلة العلم بالفرض ومجاري الشرق والغرب.
وقد ذكر أرسطاطاليس في كتاب الآثار العلوية: أن بناحية المشرق الصيفيّ جبلا شامخا جدّا، وأنّ من علامة ارتفاعه أن الشمس لا تغيب عنه إلى ثلاث ساعات من الليل، وتشرق عليه قبل الصبح بثلاث ساعات.
ومنارة الإسكندرية أحد بنيان العالم العجيب، بناها بعض البطالسة ملوك اليونانيين بعد وفاة الإسكندر بن فيليبس الملك، لما كان بينهم وبين ملوك رومة من الحروب في البرّ والبحر، فجعلوا هذه المنارة مرقبا في أعاليها مرآة عظيمة من نوع الأحجار المشفة ليشاهد منها مراكب البحر إذا أقبلت من رومة على مسافة تعجز الأبصار عن إدراكها، فكانوا يراعون ذلك في تلك المرآة فيستعدّون لهم قبل ورودهم، وطول المنارة في هذا الوقت على التقريب، مائتان وثلاثون ذراعا، وكان طولها قديما نحوا من أربعمائة ذراع، فهدمت على طول الأزمان وترادف الزلازل والأمطار، لأنّ بلد الإسكندرية تمطر وليس سبيلها سبيل فسطاط مصر إذ كان الأغلب عليها أن لا تمطر إلا اليسير، وبناؤها ثلاثة أشكال، فقريب من(1/292)
النصف، وأكثر من الثلث مربع الشكل، بناؤه بأحجار بيض يكون نحوا من مائة ذراع وعشرة أذرع على التقريب، ثم من بعد ذلك مثمن الشكل، مبني بالحجر والجص نحو من نيف وستين ذراعا وحواليه فضاء يدور فيه الإنسان وأعلاها مدوّر.
وكان أحمد بن طولون رمّ شيئا منها، وجعل في أعلاه قبة من الخشب ليصعد إليها من داخلها وهي مبسوطة موربة بغير درج، وفي الجهة الشمالية من المنارة، كتابة برصاص مدفون بقلم يونانيّ طول كلّ حرف ذراع في عرض شبر، ومقدارها على جهة الأرض نحو من مائة ذراع، وماء البحر قد بلغ أصلها، وقد كان تهدّم أحد أركانها الغربية مما يلي البحر.
فبناها أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون، وبينها وبين مدينة الإسكندرية في هذا الوقت نحو من ميل، وهي على طرف لسان من الأرض قد ركب البحر جنبتيه، وهي مبنية على فم ميناء الإسكندرية وليس بالميناء القديم، لأنّ القديم في المدينة العتيقة لا ترسي فيه المراكب لبعده عن العمران، والميناء هو الموضع الذي ترسي فيه مراكب البحر.
وأهل الإسكندرية يخبرون عن أسلافهم أنهم شاهدوا بين المنارة وبين البحر نحوا مما بين المدينة والمنارة في هذا الوقت، فغلب عليه ماء البحر في المدّة اليسيرة وأنّ ذلك في زيادة، قال: وتهدّم في شهر رمضان سنة أربع وأربعين وثلثمائة، نحو من ثلاثين ذراعا من أعاليها بالزلزلة التي كانت ببلاد مصر، وكثير من بلاد الشام والمغرب في ساعة واحدة على ما وردت به علينا الأخبار المتواترة، ونحن بفسطاط مصر، وكانت عظيمة جدّا مهولة فظيعة أقامت نحو نصف ساعة زمانية، وذلك لنصف يوم السبت لثمان عشرة خلت من هذا الشهر وهو الخامس من كانون الآخر، والتاسع من طوبة، وكان لهذه المنارة مجمع في يوم خميس العدس يخرج سائر أهل الإسكندرية إلى المنارة من مساكنهم بمآكلهم ولا بد أن يكون فيها عدس، فيفتح باب المنار، ويدخله الناس، فمنهم من يذكر الله، ومنهم من يصلي، ومنهم من يلهو ولا يزالون إلى نصف النهار، ثم ينصرفون ومن ذلك اليوم يحترس على البحر من هجوم العدوّ.
وكان في المنارة قوم مرتبون لوقود النار طول الليل، فيقصد ركاب السفن تلك النار على بعد، فإذا رأى أهل المنار ما يريبهم أشعلوا النار من جهة المدينة، فإذا رآها الحرس ضربوا الأبواق والأجراس، فيتحرّك عند ذلك الناس لمحاربة العدوّ.
ويقال: إنّ المنار كان بعيدا عن البحر، فلما كان في أيام قسطنطين بن قسطنطين هاج البحر وغرّق مواضع كثيرة وكنائس عديدة بمدينة الإسكندرية، ولم يزل يغلب عليها بعد ذلك ويأخذ منها شيئا بعد شيء.
وذكر بعضهم: أنه قاسه فكان مائتي ذراع وثلاثة وثلاثين ذراعا وهي ثلاث طبقات،(1/293)
الطبقة الأولى: مربعة وهي مائة وإحدى وعشرون ذراعا ونصف ذراع، والطبقة الثانية: مثمنة وهي: إحدى وثمانون ذراعا ونصف ذراع، والطبقة الثالثة: مدوّرة وهي إحدى وثلاثون ذراعا ونصف ذراع.
وذكر ابن جبير في رحلته: أن منار الإسكندرية يظهر على أزيد من سبعين ميلا، وأنه ذرع أحد جوانبه الأربعة في سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، فأناف على خمسين ذراعا، وأنّ طول المنار أزيد من مائة وخمسين قامة، وفي أعلاه مسجد يتبرّك الناس بالصلاة فيه.
وقال ابن عبد الحكم: ويقال: إنّ الذي بنى منار الإسكندرية كلوباطرة الملكة وهي التي ساقت خليجها حتى أدخلته الإسكندرية، ولم يكن يبلغها إنما كان يعدل من قرية يقال لها: كسا قبالة الكريون، فحفرته حتى أدخلته الإسكندرية وهي التي بلطت قاعه.
ولما استولى أحمد بن طولون على الإسكندرية بنى في أعلى المنار قبة من خشب فأخذتها الرياح، وفي أيام الظاهر بيبرس تداعى بعض أركان المنار، وسقط فأمر ببناء ما انهدم منه، في سنة ثلاث وسبعين وستمائة، وبنى مكان هذه القبة مسجد أو هدم في ذي الحجة سنة اثنتين وسبعمائة عند حدوث الزلزلة، ثم بنى في شهور سنة ثلاث وسبعمائة على يد الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، وهو باق إلى يومنا هذا، ولله در الوجيه الدرويّ، حيث يقول في منار الإسكندرية:
وسامية الأرجاء تهدي أخا السرى ... ضياء إذا ما حندس الليل أظلما
لبست بها بردا من الإنس صافيا ... فكان بتذكار الأحبة معلما
وقد ظللتني من ذراها بقبة ... ألاحظ فيها من صحابي أنجما
فخيّل أنّ البحر تحتي غمامة ... وأني قد خيمت في كبد السما
وقال ابن قلاقس من أبيات:
ومنزل جاوز الجوزاء مرتقيا ... كأنما فيه للنسرين أوكار
راسي القرارة سامي الفرع في يده ... للنون والنور أخبار وأخبار
أطلقت فيه عنان النظم فاطردت ... خيل لها في بديع الشعر مضمار
وقال الوزير أبو عبد الله محمد بن الحسن بن عبد ربه:
لله در منار إسكندرية كم ... يسمو إليه على بعد من الحدق
من شامخ الأنف في عرنينه شمم ... كأنه باهت في دارة الأفق
للمنشآت الجواري عند رؤيته ... كموقع النوم في أجفان ذي أرق
وقال عمر بن أبي عمر الكندي في فضائل مصر: ذكر أهل العلم أن المنارة كانت في وسط الإسكندرية، حتى غلب عليها البحر، فصارت في جوفه، ألا ترى(1/294)
الأبنية والأساسات في البحر إلى الآن عيانا.
وقال عبد الله بن عمر: وعجائب الدنيا أربعة: مرآة كانت معلقة بمنارة الإسكندرية، فكان يجلس الجالس تحتها، فيرى من بالقسطنطينية وبينهما عرض البحر، وذكر الثلاثة؟!.
ذكر الملعب الذي كان بالإسكندرية وغيره من العجائب
قال القضاعيّ: ومن عجائب مصر: الإسكندرية وما بها من العجائب، فمن عجائبها:
المنارة، والسواري، والملعب الذي كانوا يجتمعون فيه في يوم من السنة، ثم يرمون بأكرة، فلا تقع في حجر أحد إلا ملك مصر، وحضر عيدا من أعيادهم، عمرو بن العاص، فوقعت الأكرة في حجره، فملك البلد بعد ذلك في الإسلام، ثم حضر هذا الملعب ألف ألف من الناس، فلا يكون فيهم أحد إلا وهو ينظر في وجه صاحبه، ثم إن قرىء كتاب سمعوه جميعا، أو لعب لون من اللعب رأوه عن آخرهم لا يتظالمون فيه بأكثر من مراتب العلية والسفلية.
وقال ابن عبد الحكم: فلما كانت سنة ثمان عشرة من الهجرة، وقدم عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، الجابية، خلا به عمرو بن العاص، واستأذنه في المسير إلى مصر، وكان عمرو قد دخل في الجاهلية مصر، وعرف طرقها، ورأى كثرة ما فيها، وكان سبب دخوله إياها أنه قدم إلى بيت المقدس لتجارة في نفر من قريش، فإذا هم بشماس من شمامسة الروم من أهل الإسكندرية، قدم للصلاة في بيت المقدس، فخرج في بعض جبالها يسيح، وكان عمرو يرعى إبله وإبل أصحابه، وكانت رعية الإبل نوبا بينهم، فبينا عمرو يرعى إبله، إذ مرّ به ذلك الشماس، وقد أصابه عطش شديد في يوم شديد الحرّ، فوقف على عمرو، فاستسقاه، فسقاه عمرو من قربة له، فشرب حتى روي، ونام الشماس مكانه، وكانت إلى جنب الشماس حيث نام حفرة، فخرجت منها حية عظيمة، فبصر بها عمرو، فنزع لها بسهم فقتلها، فلما استيقظ الشماس نظر إلى حية عظيمة قد أنجاه الله منها، فقال لعمرو: ما هذه؟ فأخبره عمرو أنه رماها، فقتلها، فأقبل إلى عمرو، فقبّل رأسه، وقال: قد أحياني الله بك مرّتين: مرّة من شدّة العطش، ومرّة من هذه الحية، فما أقدمك هذه البلاد؟
قال: قدمت مع أصحاب لي نطلب الفضل في تجارتنا، فقال له الشماس: وكم تراك ترجو أن تصيب في تجارتك؟ قال: رجائي أن أصيب ما أشتري به بعيرا، فإني لا أملك إلا بعيرين، فآمل أن أصيب بعيرا آخر فتكون ثلاثة أبعرة، فقال له الشماس: أرأيت دية أحدكم بينكم كم هي؟ قال: مائة من الإبل، فقال له الشماس: لسنا أصحاب إبل إنما نحن أصحاب دنانير، قال: تكون ألف دينار، فقال له الشماس: إني رجل غريب في هذه البلاد، وإنما قدمت أصلي في كنيسة بيت المقدس، وأسيح في هذه الجبال شهرا جعلت ذلك نذرا على نفسي، وقد قضيت ذلك، وأنا أريد الرجوع إلى بلادي، فهل لك أن تتبعني إلى بلادي،(1/295)
ولك عليّ عهد الله وميثاقه أن أعطيك ديتين، لأنّ الله عز وجل أحياني بك مرّتين، فقال له عمرو: أين بلادك؟ قال: مصر في مدينة يقال لها: الإسكندرية، فقال له عمرو: لا أعرفها، ولم أدخلها قط، فقال له الشماس: لو دخلتها لعلمت أنك لم تدخل قط مثلها! فقال له عمرو: تفي لي بما تقول، ولي عليك بذلك العهد والميثاق، فقال له الشماس: نعم لك والله عليّ العهد والميثاق أن أفي لك، وأن أردّك إلى أصحابك، فقال له عمرو: كم يكون مكثي في ذلك؟ قال: شهرا تنطلق معي ذاهبا عشرا، وتقيم عندنا عشرا، وترجع في عشر، ولك عليّ أن أحفظك ذاهبا وأن أبعث معك من يحفظك راجعا، فقال له عمرو: انظرني حتى أشاور أصحابي في ذلك، فانطلق عمرو إلى أصحابه، فأخبرهم بما عاهد عليه الشماس، وقال لهم: تقيمون عليّ حتى أرجع إليكم ولكم عليّ العهد أن أعطيكم شطر ذلك على أن يصحبني رجل منكم آنس به، فقالوا: نعم، وبعثوا معه رجلا منهم، فانطلق عمرو وصاحبه مع الشماس، حتى انتهوا إلى مصر فرأى عمرو من عمارتها، وكثرة أهلها وما بها من الأموال والخير ما أعجبه! فقال عمرو للشماس: ما رأيت مثل ذلك، ومضى إلى الإسكندرية، فنظر عمرو إلى كثرة ما فيها من الأموال والعمارة، وجودة بنائها، وكثرة أهلها، فازداد عجبا، ووافق دخول عمرو الإسكندرية عيدا فيها عظيما يجتمع فيه ملوكهم وأشرافهم، ولهم كرة من ذهب مكالة يترامى بها ملوكهم، وهم يتلقونها بأكمامهم، وفيما اختبروا من تلك الكرة على ما وصفها من مضى منهم، أنها من وقعت الكرة في كمه واستقرّت فيه لم يمت حتى يملكهم.
فلما قدم عمرو الإسكندرية أكرمه الشماس الإكرام كله، وكساه ثوب ديباج ألبسه إياه، وجلس عمرو والشماس مع الناس في ذلك المجلس، حيث يترامون بالكرة وهم يتلقونها بأكمامهم، فرمى بها رجل منهم، فأقبلت تهوي حتى وقعت في كم عمرو، فعجبوا من ذلك، وقالوا: ما كذبتنا هذه الكرة قط إلا هذه المرّة! أترى هذا الأعرابيّ يملكنا؟ هذا ما لا يكون أبدا، وإنّ ذلك الشماس مشى في أهل الإسكندرية، وأعلمهم أنّ عمرا أحياه مرّتين، وأنه قد ضمن له ألفي دينار، وسألهم أن يجمعوا ذلك له فيما بينهم، ففعلوا، ودفعوها إلى عمرو، فانطلق عمرو وصاحبه، وبعث معهما الشماس دليلا ورسولا، وزوّدهما وأكرمهما، حتى رجع هو وصاحبه إلى أصحابهما، فبذلك عرف عمرو مدخل مصر ومخرجها، ورأى منها ما علم أنها أفضل البلاد، وأكثرها أموالا، فلما رجع عمرو إلى أصحابه، دفع إليهم بيما بينهم ألف دينار، وأمسك لنفسه ألفا، قال عمرو: وكان أوّل مال اعتقدته وتأثلته.
ذكر عمود السواري
هذا العمود حجر أحمر منقط، وهو من الصوّان الماتع كان حوله، نحو أربعمائة عمود كسرها قراجا والي الإسكندرية في أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب،(1/296)
ورماها بشاطئ البحر ليوعر على العدوّ سلوكه إذا قدموا، ويذكر أن هذا العمود من جملة أعمدة كانت تحمل رواق أرسطاطاليس الذي كان يدرس به الحكمة، وأنه كان دار علم، وفيه خزانة كتب أحرقها عمرو بن العاص بإشارة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويقال: إنّ ارتفاع هذا العمود سبعون ذراعا وقطره خمسة أذرع، وذكر بعضهم: أنّ طوله بقاعدتيه: اثنان وستون ذراعا وسدس ذراع، وهو على نشز طوله ثلاثة وعشرون ذراعا ونصف ذراع، فجملة ذلك خمسة وثمانون ذراعا وثلثا ذراع، وطول قاعدته السفلي اثنا عشر ذراعا، وطول القاعدة العليا سبعة أذرع ونصف.
قال المسعوديّ: وفي الجانب الغربيّ من صعيد مصر، جبل رخام عظيم، كانت الأوائل تقطع منه العمد وغيرها، وكانوا يحملون ما عملوا بعد النقر، فأما العمد والقواعد والرءوس التي يسميها أهل مصر الأسوانية، ومنها حجارة الطواحين، فتلك نقرها الأوّلون قبل حدوث النصرانية بمئين من السنين، ومنها العمد التي بالإسكندرية، والعمود بها الضخم الكبير لا يعلم بالعالم عمود مثله، وقد رأيت في جبل أسوان، أخا هذا العمود، وقد هندس ونقر ولم يصل من الجبل، ولم يحمل ما ظهر منه، وإنما كانوا ينتظرون به أن يفصل من الجبل، ثم يحمل إلى حيث يريد القوم، انتهى.
وكان بالإسكندرية من العمد العظام، وأنواع الحجارة والرخام الذي لا تقلّ القطعة منه، إلا بألوف من الناس، وقد علقت بين السماء والأرض على فوق المائة ذراع، وفوق رؤوس أساطين دائر الأسطوانة ما بين الخمسة عشر ذراعا إلى العشرين ذراعا، والحجر فوقه عشرة أذرع في عشرة أذرع، في سمك عشرة أذرع بغرائب الألوان.
وكان بالإسكندرية قصر عظيم لا نظير له في معمور الأرض على ربوة عظيمة، بإزاء باب البلد طوله خمسمائة ذراع، وعرضه على النصف من ذلك، وبابه من أعظم بناء وأتقنه، كل عضادة منه حجر واحد، وعتبته حجر واحد، وكان فيه نحو مائة أسطوانة وبإزائه أسطوانة عظيمة لم يسمع بمثلها، غلظها ستة وثلاثون شبرا، وعلوها بحيث لا يدرك أعلاها قاذف حجر، وعليها رأس محكم الصناعة يدل على أنه كان فوق ذلك بناء، وتحتها قاعدة حجر أحمر محكم الصناعة، عرض كل ضلع منه عشرون شبرا في ارتفاع ثمانية أشبار، والأسطوانة منزلة في عمود من حديد قد خرقت به الأرض، فإذا اشتدّت الرياح رأيتها تتحرّك، وربما وضع تحتها الحجارة، فطحنتها لشدّة حركتها، وكانت هذه الأسطوانة إحدى عجائب الدنيا، وقد زعم قوم أنها مما عمله الجنّ لسليمان بن داود عليهما السلام، كما هي عادتهم في نسبة كل ما يستعظمون عمله إلى أنه من صنيع الجنّ، وليس كذلك، بل كانت مما عمله القدماء من أهل مصر.
وكان في وسطه، قبة ومن حولها أساطين، وعلى الجميع قبة من حجر واحد رخام(1/297)
أبيض كأحسن ما أنت راء من الصنائع.
ويقال: إن بعض ملوك مصر دخل الإسكندرية، فأعجبه هذا القصر، وأراد أن يبني مثله، فجمع الصناع والمهندسين ليقيموا له قصرا عظيما على هيئته، فما منهم إلا من اعترف بعجزه عن مثله، إلّا شيخا منهم، فإنه التزم أن يصنع مثله، فسرّ الملك ذلك، وأذن له في طلب ما يحتاج إليه من المؤن والآلات والرجال، فقال: ائتوني بثورين مطيقين وعجلة كبيرة، فللحال أتي بذلك فمضى إلى المقابر القديمة، وحفر منها قبرا أخرج منه: جمجمة عظيمة، رفعها عدّة من الرجال على العجلة، فما جرّها الثوران مع قوّتهما إلّا بعد جهد وعناء، فلما وقف بها بين يدي الملك، قال: أصلح الله سيدنا! إن أتيتني بقوم رؤوسهم مثل هذا الرأس عملت لك مثل هذا القصر؟ فتيقن الملك عند ذلك عجز أهل زمانه عن إقامة مثل ذلك القصر.
وقد ذكر: أنه كان بالإسكندرية ضرس إنسان عند قصاب، يزن به اللحم، زنته ثمانية أرطال.
ويقال: إنّ عمود السواري الموجود الآن خارج مدينة الإسكندرية، أحد سبعة أعمدة، أتي بأحدها، البتون بن مرّة العادي، وهو يحمله تحت إبطه من جبل بريم الأحمر قبليّ أسوان إلى الإسكندرية، فانكسر ضلعه، لأنه كان ضعيف القوى في قومه، فشق ذلك على يعمر بن شدّاد بن عاد، وقال: ليتني فديته بنصف ملكي، وجاء بعمود آخر، جحدر بن سنان الثموديّ، وكان قويا، فحمله من أسوان تحت إبطه، وجاء بقية رجالهم كل رجل بعمود، فأقام العمد السبعة، الجارود بن قطن المؤتفكي، وكان بناءها بعد أن اختاروا لها طالعا سعيدا، كما هي عادتهم في عامّة أعمالهم، وقد ذكر غير واحد، أن الصخور في القديم من الدهر كانت تلين، فعمل منها أعمدة، ناعط ومارب وبينون وماثر اليمن، وأعمدة دمشق ومصر ومدين وتدمر، وإنّ كل شيء كان يتكلم، قال أمية بن أبي الصلت:
وإذ هم لا لبوس لهم عراة ... وإذ صخر السلام لهم رطاب
وقال قوم: عمود السواري من جملة أعمدة كانت تحمل رواقا، يقال له: بيت الحكمة، وذلك حيث انتهت علوم أهل الغرب إلى خمس فرق، وهم: أصحاب الرواق هذا، وأصحاب الأسطوانة وكانوا ببعلبك، وأصحاب المظال وهم بأنطاكية، وأصحاب البرابي وكانوا بصعيد مصر، والمشاؤون وكانوا بمقدونية، وكأني بمن قلّ علمه ينكر عليّ إيراد هذا الفصل، ويراه من قبيل المحال، ومما وضعه القصاص، ويجزم بكذبه، فلا يوحشنك حكايتي له، واسمع قول الله تعالى عن عاد قوم هود: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً
[الأعراف/ 69] أي طولا وعظم جسم.
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: كان أطولهم مائة ذراع، وأقصرهم ستين(1/298)
ذراعا، وهذه الزيادة كانت على خلق آبائهم، وقيل: على خلق قوم نوح، وقال وهب بن منبه: كان رأس أحدهم مثل قبة عظيمة، وكانت عين الرجل منهم تفرخ فيها السباع، وكذلك مناخرهم.
وروى شهر بن حوشب «1» عن أبي هريرة رضي الله عنه: إنه قال: إن كان الرجل من قوم عاد ليحمل المصراعين لو اجتمع عليه خمسمائة من هذه الأمة لم يطيقوه، وإن كان أحدهم ليغمز بقدمه الأرض فيدخل فيها.
وروى عبد الله بن لهيعة، عن يزيد بن عمرو المعافريّ، عن ابن بجرة، قال: استظل سبعون رجلا من قوم موسى عليه السلام، في قحف رجل من العماليق. وعن زيد بن أسلم:
بلغني أنّ الضبعة وأولادها ربين في حجاج عين رجل من العماليق، وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ
[الفجر/ 8] .
قال المبرّد: وقولها يعني الخنساء: رفيع العماد إنما تريد الطول، يقال: رجل معمد:
يريد طولا ومنه قوله تعالى: إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ
أي: الطوال.
وقال البغويّ: سموا ذات العماد لأنهم كانوا أهل عمدة سيارة، وهو قول قتادة ومجاهد والكلبيّ، ورواية عطاء عن ابن عباس، وقال بعضهم: سموا ذات العماد لطول قاماتهم، قال ابن عباس: يعني طولهم مثل العماد، قال مقاتل: كان طول أحدهم اثني عشر ذراعا.
وفي كشاف الزمخشريّ: لم يخلق مثلها، مثل عاد في البلاد عظم أجرام وقوّة، كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع، وكان يأتي الصخرة العظيمة فيحملها، فيلقيها على الحيّ فيهلكهم، وقد ذكر غير واحد أنه وجد في خلافة المقتدر بالله أبي الفضل جعفر بن المعتضد، كنز بمصر فيه ضلم إنسان طوله أربعة عشر شبرا في عرض ثلاثة أشبار.
واعلم أن أعين بني آدم ضيقة وقد نشأت نفوسهم في محل صغير، فإذا حدّث القوم بما يتجاوز مقدار عقولهم أو مبلغ أجسامهم مما ليس له عندهم أصل يقيسونه على إلا ما يشاهدونه، أو يألفونه عجلوا إلى الارتياب فيه، وسارعوا إلى الشك في الخبر عنه، إلّا من كان معه علم وفهم، فإنه يفحص عما يبلغه من ذلك حتى يجد دليلا على قبوله، أو ردّه، وكيف يردّ مثل هذه الأخبار. وفي الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «حلق الله آدم طوله ستون ذراعا في السماء» ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن.
وذكر محمد بن عبد الرحيم بن سليمان بن ربيع القيسيّ الغرناطيّ في كتاب تحفة(1/299)
الألباب قال: نقل الشعبيّ في كتاب سير الملوك: أن الضحاك بن علوان، لما هرب منه لام بن عاد إلى ناحية الشمال أرسل في طلبه أميرين مع كل أمير طائفة من الجبارين خرج أحدهما قاصدا إلى بلغار، والآخر إلى باشقرد، فأقام أولئك الجبارون في أرض بلغار، وفي باشقرد. قال الإقليشيّ: وقد رأيت صورهم في باشقرد، ورأيت قبورهم بها، فكان مما رأيته، ثنية أحدهم طولها: أربعة أشبار، وعرضها شبران، وقد كان عندي في باشقرد نصف أصل الثنية أخرجت لي من فكه الأسفل، فكان عرضها شبرا، ووزنها ألف مثقال، ومائتا مثقال، أنا وزنتها بيدي، وهي الآن في داري في باشقرد، وكان دور فلك ذلك العاديّ سبعة عشر ذراعا، وفي بيت بعض أصحابي في باشقرد، عضد أحدهم طوله ثمانية وعشرون ذراعا، وأضلاعه كل ضلع عرضه ثلاثة أشبار، وأكثر كاللوح الرخام، وأخرج إليّ نصف رسغ يد أحدهم، فكنت لا أقدر أن أرفعه بيد واحدة حتى أرفعه بيديّ جميعا، قال: ولقد رأيت في بلد بلغار سنة ثلاثين وخمسمائة من نسل العاديين رجلا طوالا كان طوله أكثر من سبعة أذرع، وكان يسمى: دنقي وكان يأخذ الفرس تحت إبطه كما يأخذ الإنسان الطفل الصغير، وكان إذا وقع القتال بتلك الناحية، يقاتل بشجرة من شجر البلوط، يمسكها كالعصا في يده لو ضرب بها الفيل قتله، وكان خيّرا متواضعا، كلما التقاني سلم عليّ، ورحب بي وأكرمني، وكان رأسي لا يصل إلى حقوه، وكان له أخت على طوله رأيتها في بلغار مرارا عدّة.
قال لي القاضي يعقوب بن النعمان، يعني قاضي بلغار: إن هذه المرأة الطويلة العادية قتلت زوجها، وكان اسمه آدم، وكان من أقوى أهل بلغار ضمته إلى صدرها، فكسرت أضلاعه، فمات من ساعته. قال: ولم يكن في بلغار حمّام تسعهم، إلا حمّام واحدة واسعة الأبواب، انتهى.
وقد حدّثني الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد الفريابي عن أبيه: أنه شاهد قبرا احتفر بمدينة قرطاجنة من إفريقية، فإذا جثة رجل قدر عظيم رأسه كثورين عظيمين، ووجد معه لوح مكتوب بالقلم المسند، وهو قلم عاد، وحروفه مقطعة، ما نصه:
أنا كوش بن كنعان ابن الملوك من آل عاد، ملكت بهذه الأرض ألف مدينة، وبنيت بها على ألف بكر، وركبت من الخيل العتاق سبعة آلاف، حمر وصفر وشهب وبيض ودهم، ثم لم يغن عني ذلك شيئا، أو جاءني صائح، فصاح بي صيحة أخرجتني من الدنيا، فمن كان عاقلا ممن جاء بعده فليعتبر بي وأنشد:
يا واقفا يرعى السهى ... برسم ربع قد وهى
قف واستمع ثم اعتبر ... إن كنت من أهل النهي
بالأمس كنا فوقها ... واليوم صرنا تحتها
لكل حدّ غاية ... لكل أمر منتهى(1/300)
قال: فأمر السلطان أبو بكر بن يحيى الحفصيّ «1» ، صاحب تونس بطمه، فطم القبر.
قال مؤلفه رحمه الله تعالى: وأنا أدركت شيئا من ذلك، وهو أنه ترافع في بعض الأيام طائفة من الحجارين إلى السلطان الملك الظاهر برقوق أعوام، بضع وتسعين وسبعمائة، وقد اختلفوا على مال وجدوه بجبل المقطم، وهو أنهم كانوا يقطعون الحجارة من مغار فيما يلي قلعة الجبل من بحريها، فانكشف لهم حجر أسود عليه كتابة، فاجتمعوا على قطع ما بين يدي هذا الحجر طمعا في وجود مال، فانتهى بهم القطع إلى عمود عظيم قائم في قلب الجبل، فلعجلتهم أقبلوا بمعاولهم عليه حتى تكسر قطعا، فإذا هو مجوّف، وإنسان قائم على قدميه بطوله وتناثر لهم من جهة رأسه دنانير كثيرة، فاقتسموها وتنافسوا في قسمتها، واختلفوا حتى اشتهر أمرهم، وترافعوا إلى السلطان، فبعث من كشف المغار فوجد الحجر والعمود، وقد تكسر فأخذ منهم ما وجد بأيديهم من الدنانير، ولم يجد من يعرف ما قد كتب على الحجر، وتسامع الناس بالخبر، فأقبلوا إلى المغار وعبثوا برمّة الميت، فأخبرني من شاهد سنا من أسنان هذا الميت، أنها سوداء بقدر الباذنجانة وإن عظم ساقه فيما بين قدمه إلى ركبته خمسة أذرع فيجيء هذا من حساب طوله عشرين ذراعا وأزيد، ودماغ سنّ واحدة من أسنانه في قدر الباذنجانة، ما هو إلا كالقبة الكبيرة، وأخبرني السيد الشريف قاضي القضاة بدمشق شهاب الدين أحمد بن عليّ بن إبراهيم الحسينيّ المعروف: بابن عدنان وبابن أبي الجن: أنه وقف في سنة أربع عشرة وثمانمائة بمقبرة باب الصغير من دمشق على قبر ليدفن فيه ميت لهم، فلما تهيأ القبر، ولم يبق إلا أن يدلى فيه الميت، انخسف وخرج من الخسف ذباب كثير كبار زرق الألوان حتى كادت تظلهم، فنزل الحفار في الخسف، فإذا قبر طوله اثنان وعشرون ذراعا وفيه بطوله ميت قد صار كالرماد.
وأخبرني أيضا: أنه شاهد بهذه المقبرة ضرس إنسان وله ثلاث شعب، وقد سقطت منه قطعة وهو في قدر البطيخة، وأنه وزن بحضرته فبلغ رطلين وتسع أواقي بالرطل الشامي، وإنّ القطعة التي انكسرت منه نحو أوقيتين بالشامي، فيكون على هذا زنة هذا الضرس نحو اثني عشر رطلا بالمصريّ، والله تعالى أعلم.
ذكر طرف مما قيل في الإسكندرية
قال أبو عمرو الكنديّ: أجمع الناس أنه ليس في الدنيا مدينة على ثلاث طبقات، غير الإسكندرية، ولما دخل عبد العزيز بن مروان الإسكندرية، سأل رجلا من علماء الروم عنها وعن عدد أهلها؟ فقال: والله أيها الأمير، ما أدرك علم هذا أحد من الملوك، والذي أخبرك(1/301)
كم كان فيها من اليهود، فإنّ ملك الروم أمر بإحصائهم، فكانوا ستمائة ألف. قال: فما هذا الخراب الذي في أطرافها، قال: بلغني عن بعض ملوك فارس حين ملكوا مصر أنه أمر بفرض دينار على كل محتلم لعمران الإسكندرية، فأتاه كبراء أهلها وعلماؤهم، وقالوا: أيها الملك لا تتعب فإنّ الإسكندرية أقام الإسكندر على بنائها، ثلثمائة سنة، وعمرت ثلثمائة سنة، وإنها لخراب منذ ثلثمائة سنة، ولقد أقام أهلها سبعين سنة لا يمشون فيها نهارا إلا بخرق سود في أيديهم خوفا على أبصارهم من شدّة بياضها.
ومن فضائلها ما قاله بعض المفسرين من أهل العلم: أنها المدينة التي وصفها الله عز وجلّ في كتابه العزيز فقال: إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ
[الفجر/ 8] .
قال أحمد بن صالح: قال لي سفيان بن عيينة: يا مصريّ أين تسكن؟ قلت: أسكن الفسطاط، فقال: أتاني الإسكندرية؟ قلت: نعم، قال: تلك كنانة الله يجعل فيها خيار سهامه.
وقال وقال عبد الله بن مرزوق الصدفيّ، لما نعى لي ابن عمي خالد بن يزيد، وكان قد توفي بالإسكندرية، لقيني موسى بن عليّ بن رباح وعبد الله بن لهيعة والليث بن سعد متفرّقين كلهم يقول: أليس مات بالإسكندرية؟ فأقول: نعم، فيقولون: هو حيّ عند الله يرزق ويجري عليه أجر رباطه ما أقامت الدنيا، وله أجر شهيد حتى يحشر على ذلك، وقال الذين ينظرون في الأهوية والبلدان وترتب الأقاليم والأمصار: أنه لم تطل أعمار الناس في بلد من البلدان طولها بمربوط من كورة الإسكندرية، ووادي فرغانة. وقال الحسن بن صفوان: وأما الإسكندرية وتنيس، وأمثالهما، فقربها من البحر وسكون الحرارة والبرد عندهم، وظهور ريح الصبا فيهم مما يصلح أمرهم، ويرق طباعهم، ويرفع همتهم وليس يعرض لهم ما يعرض لأهل اليشمون من غلظ الطبع والحمارية، وقد وصف أهل الإسكندرية بالبخل، قال جلال الدين بن مكرم بن أبي الحسن بن أحمد الخزرجي ملك الحفاظ:
نزيل اسكندرية ليس يقري ... بغير الماء أو نعت السواري
ويتحف حين يكرم بالهواء ال ... ملاتن والإشارة للمنار
وذكر البحر والأمواج فيه ... ووصف مراكب الروم الكبار
فلا يطمع نزيلهم بخبز ... فما فيها لذاك الحرف قاري
وقال أحمد بن جردادية من الفسطاط إلى ذوات الساحل، أربعة وعشرون ميلا، ثم إلى مربوط ثلاثون ميلا، ثم إلى كوم شريك ثلاثون ميلا، ثم إلى كريون أربعة وعشرون ميلا، ثم إلى الإسكندرية أربعة وعشرون ميلا، وقال آخر: وطريق الإسكندرية إذا نضّب ماء النيل يأخذ بين المدائن والضياع، وذلك إذا أخذت من شطنوف إلى سبك العبيد، فهو منزل فيه منية لطيفة، وبينهما اثنا عشر سقسا، ومن سبك إلى مدينة منوف، وهي كبيرة فيها(1/302)
حمامات وأسواق، وبها قوم فيهم يسار ووجوه من النار، وبينهما ستة عشر سقسا، ومن منوف إلى محلة صرد وفيها منبر وحمام وفنادق، وسوق صالح ستة عشر سقسا، ومن محلة صرد إلى سخا وهي مدينة كبيرة ذات حمامات وأسواق، وعمل واسع وإقليم جليل له عامل بعسكر وجند، وبه الكتان الكثير وزيت الفجل، وقموح عظيمة ستة عشر سقسا، ومن سخا إلى شبر كمية وهي مدينة كبيرة بها جامع وأسواق ستة عشر سقسا، ومن شبر كمية إلى مسير وهي مدينة بها جامع وأسواق ستة عشر سقسا، ومن مسير إلى سنهور وهي مدينة ذات إقليم كبير وبها حمامات وأسواق، وعمل كبير ستة عشر سقسا، ومن سنهور إلى التخوم وهي إقليم وبها حمامات وفنادق وأسواق ستة عشر سقسا، ومن التخوم إلى نسترو، وكانت مدينة عظيمة حسنة على بحيرة اليشمون عشرون سقسا، ومن نسترو إلى البرلس وهي مدينة كثيرة الصيد في البحيرة وبها حمامات عشر سقسات، ومن نسترو إلى البرلس إلى اخنا وهي حصن على شط بحر الملح عشر سقسات، ومن اخنا إلى رشيد وهي مدينة على النيل ومنها يصب النيل في البحر من فوهة تعرف بالأشتوم وهي المدخل ثلاثون سقسا، وكان بها أسواق صالحة وحمام، وبها نخيل وضريبة على ما يحمل من الإسكندرية.
وهذا الطريق الآخذ من شطنوف إلى رشيد ربما امتنع سلوكه عند زيادة النيل، والثياب المنسوجة بالإسكندرية لا نظير لها، وتحمل إلى أقطار الأرض، وفي ثياب الإسكندرية ما يباع الكتان منه إذا عمل ثيابا يقال لها الشرب كل زنة درهم بدرهم فضة، وما يدخل في الطرز، فيباع بنظير وزنه مرّات عديدة.
ذكر فتح الإسكندرية
قال أبو عمرو الكندي: لما حاز المسلمون الحصن بما فيه، أجمع عمرو على المسير إلى الإسكندرية، فسار إليها في ربيع الأوّل سنة عشرين، وقال غيره: بل سار في جمادى الآخرة منها.
وذكر سيف بن عمر: أنّ عمرو بن العاص بعث إلى الإسكندرية، وهو على عين شمس، عوف بن مالك، فنزل عليها، وبعث يقول لأهلها: إن شئتم أن نزلوا فلكم الأمان، فقالوا: نعم، فراسلهم وتربصوا أهل عين شمس، وسار المسلمون من بين ذلك.
وقال ابن عبد الحكم: ويقال: إنّ المقوقس إنما صالح عمرو بن العاص، لما فتح الإسكندرية حاصر أهلها ثلاثة أشهر، وألحّ عليهم فخافوه، وسأله المقوقس الصلح عنهم كما صالحه على القبط على أن يستنظر رأي الملك، فحدّثنا يزيد بن أبي حبيب: أنّ المقوقس الرومي الذي كان ملكا على مصر صالح عمرو بن العاص، على أن يسير من أراد من الروم المسير، ويقرّ من أراد من الروم على أمر قد سماه، فبلغ ذلك هرقل ملك الروم، فسخط أشد السخط، وأنكر أشدّ الإنكار، وبعث الجيوش، فأغلقوا أبواب الإسكندرية،(1/303)
وآذنوا عمرا بالحرب، فخرج إليه المقوقس، فقال: أسألك ثلاثا، قال: ما هنّ؟ قال:
لا تبذل للروم ما بذلت لي، فإني قد نصحت لهم، فاستغشوني. ولا تنقض القبط، فإنّ النقض لم يأت من قبلهم، وأن تأمر بي إذا متّ فادفني في بخنس، فقال عمرو: هذه أهونهنّ علينا، قال: فخرج عمرو بالمسلمين حين أمكنهم الخروج، وخرج معه جماعة من رؤساء القبط، وقد أصلحوا لهم الطرق، وأقاموا لهم الجسور والأسواق، وصارت لهم القبط أعوانا على ما أرادوا من قتال الروم، وسمعت بذلك الروم فاستعدّت واستجاشت، وقدمت عليهم مراكب من أرض الروم فيها جمع عظيم من الروم بالعدّة والسلاح، فخرج إليهم عمرو من الفسطاط، متوجها إلى الإسكندرية، فلم ير منهم أحدا حتى بلغ مربوط، فلقي فيها طائفة من الروم، فقاتلهم قتالا خفيفا، فهزمهم الله، ومضى عمرو بمن معه حتى لقي جمع الروم بكوم شريك، فاقتتلوا ثلاثة أيام، ثم فتح الله على المسلمين وولي الروم أكتافهم.
ويقال: بل أرسل عمرو بن العاص، شريك بن سميّ في آثارهم، فأدركهم عند الكوم الذي يقال له: كوم شريك، فهزمهم، وكان على مقدّمة عمرو، وعمرو بمربوط، فألجأوه إلى الكوم، فاعتصم به، وأحاطت به الروم، فلما رأى ذلك شريك بن سميّ، أمر أبا ناعمة مالك بن ناعمة الصدفيّ، وهو صاحب الفرس الأشقر الذي يقال له: أشقر صدف، وكان لا يجاري سرعة، فانحط عليهم من الكوم، وطلبته الروم، فلم تدركه حتى أتى عمرا، فأخبره، فأقبل عمرو متوجها، وسمعت به الروم، فانصرفت، ثم التقوا بسلطيس، فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم هزمهم الله تعالى، ثم التقوا بالكريون، فاقتتلوا بها بضعة عشر يوما، وكان عبد الله بن عمرو، على المقدّمة، وحامل اللواء يومئذ وردان مولى عمرو، فأصابت عبد الله بن عمرو جراحات كثيرة، فقال: يا وردان لو تقهقرت قليلا نصيب الروم، فقال وردان:
الروم تريد الروح أمامك وليس خلفك، فتقدّم عبد الله، فجاءه رسول أبيه يسأله عن جراحه فقال:
أقول لها إذا جشأت وجاشت ... رويدك تحمدي أو تستريحي
وهذا البيت لعمرو بن الإطنابة، وهو أنّ رجلا من بني النجار كان مجاورا لمعاذ بن النعمان، فقتل، فقال معاذ: لا أقتل به إلا عمرو بن الإطنابة، وهو يومئذ أشرف الخزرج، فقال عمرو:
ألا من مبلغ الأكفاء عني ... وقد تهدي النصيحة للنصيح
بأنكم وما تزجون شطري ... من القول المرغي والصريح
سيقدم بعضكم عجلا عليه ... وما أثر اللسان إلى الجروح
أبت لي عفتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإعطائي على المكروه مالي ... وإقدامي على البطل المشيح(1/304)
وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي
لأدفع عن مآثر صالحات ... وأحمي بعد عن عرض صحيح
بذي شطب كلون الملح صاف ... ونفس لم تقرّ على القبيح
الشطب: سعف النخل الأخضر، الواحدة شطبة، وجشأت: ارتفعت من حزن أو فزع، وجاشت: دارت للغثيان، وقيل: هما بمعنى ارتفع، والمشيح: البارد المنكمش.
فرجع الرسول إلى عمرو فأخبره بما قال، فقال عمرو: هو ابني حقا، وصلى عمرو يومئذ صلاة الخوف، ثم فتح الله للمسلمين، وقتل منهم المسلمون مقتلة عظيمة، واتبعوهم حتى بلغوا الإسكندرية، فتحصن بها الروم، وكان عليها حصون متينة لا ترام، حصن دون حصن، فنزل المسلمون ومعهم رؤساء القبط يمدّونهم بما احتاجوا إليه من الأطعمة والعلوفة، فأقاموا شهرين ثم تحوّل، فخرجت عليه خيل من ناحية البحيرة مستترة بالحصن، فواقعوه، فقتل يومئذ من المسلمين، اثنا عشر رجلا، ورسل ملك الروم تختلف إلى الإسكندرية في المراكب بمادة الروم.
وكان ملك الروم يقول: لئن ظهرت العرب على الإسكندرية ففي ذلك انقطاع الروم وهلاكهم لأنه ليس للروم كنائس أعظم من كنائس الإسكندرية، وإنما كان عيد الروم حين غلبت العرب على الشام بالإسكندرية، فقال الملك: لئن غلبونا على الإسكندرية، هلكت الروم، وانقطع ملكها، فأمر بجهازه ومصلحته لخروجه إلى الإسكندرية حتى يباشر قتالها بنفسه، فلما فرغ من جهازه صرعه الله عز وجل، فأماته وكفى المسلمين مؤنته، وكان موته في سنة تسع عشرة، فكسر الله بموته شوكة الروم، فرجع جمع كثير ممن كان قد توجه.
وقال الليث: مات هرقل في سنة عشرين، وفيها فتحت قيسارية الشام. قال:
واستأسدت العرب عند ذلك، وألحت بالقتال على أهل الإسكندرية، فقاتلوهم قتالا شديدا، وخرج طرف من الروم من باب حصن الإسكندرية، فحملوا على الناس، فقتلوا رجلا من مهرة واحتزوا رأسه، ومضوا به، فجعل المهريون يتغضبون، ويقولون: لا ندفنه إلا برأسه، فقال عمرو: تتغضبون كأنكم تتغضبون على من يبالي بغضبكم، احملوا على القوم إذا خرجوا، فاقتلوا منهم رجلا ثم ارموا برأسه، يرمونكم برأس صاحبكم، فخرجت الروم إليهم فاقتتلوا، فقتل من الروم رجل من بطارقتهم، فاحتزوا رأسه، ورموا به الروم، فرمت الروم برأس المهري إليهم، فقال: دونكم الآن فادفنوا صاحبكم.
وكان عمرو يقول: ثلاث قبائل من مصر، أما مهرة فقوم يقتلون ولا يقتلون، وأما عافق فقوم يقتلون ولا يقتلون، وأما بلى فأكثرها رجلا صحب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأفضلها فارسا. وقال رجل لعمرو: لو جعلت المنجنيق ورميتهم به لهدم حائطهم، فقال عمرو:
تستطيع أن يفنى مقامك من الصف، وقيل له: إنّ العدوّ قد غشوك ونحن نخاف على(1/305)
رايطة يريدون امرأته، فقال: إذا يتخذوا أرياطا كثيرة.
ولما استجرّ القتال، بارز رجل من الروم، مسلمة بن مخلد، فصرعه الروميّ، وألقاه عن فرسه، وهوى إليه ليقتله، حتى حماه رجل من أصحابه، وكان مسلمة لا يقاوم، ولكنها مقادير، ففرحت بذلك الروم وشق على المسلمين، وغضب عمرو بن العاص لذلك، وكان مسلمة كثير اللحم ثقيل البدن، فقال عمرو عند ذلك: ما بال الرجل السته الذي يشبه النساء يتعرّض مداخل الرجال، ويتشبه بهم، فغضب من ذلك مسلمة، ولم يراجعه، ثم اشتدّ القتال حتى اقتحموا حصن الإسكندرية، فقاتلهم العرب في الحصن، ثم جاشت عليهم الروم حتى أخرجوهم جميعا من الحصن إلا أربعة نفر تفرّقوا في الحصن، وأغلقوا عليهم باب الحصن، أحدهم: عمرو بن العاص، والآخر مسلمة، ولم نحفظ الآخرين، وحالوا بينهم وبين أصحابهم، ولا يدري الروم من هم، فلما رأى ذلك عمرو بن العاص وأصحابه التجأوا إلى ديماس من حماماتهم، فدخلوا فيه، فاحترزوا به، فأمروا روميا أن يكلمهم بالعربية، فقال لهم: إنكم قد صرتم بأيدينا أسارى، فاستأسروا، ولا تقتلوا أنفسكم فامتنعوا عليه، ثم قال لهم: إنّ في أيدي أصحابكم منا رجالا أسروهم، ونحن نعطيكم العهود نفادي بكم أصحابنا، ولا نقتلكم، فأبوا عليه، فلما رأى ذلك الروميّ منهم قال لهم: هل لكم إلى خصلة، وهي نصف فإن غلب صاحبنا صاحبكم استأسرتم لنا، وأمكنتمونا من أنفسكم، وإن غلب صاحبكم صاحبنا خلينا سبيلكم إلى أصحابكم، فرضوا بذلك، وتعاهدوا عليه، وعمرو ومسلمة وصاحباهما في الحصن في الديماس، فتداعوا إلى البراز فبرز رجل من الروم، وقد وثقت الروم بنجدته وشدّته، وقالوا: يبرز رجل منكم لصاحبنا، فأراد عمرو أن يبرز، فمنعه مسلمة، وقال: ما هذا تخطىء مرّتين تشذ من أصحابك، وأنت أمير، وإنما قوامهم بك، وقلوبهم معلقة نحوك لا يدرون ما أمرك، ولا ترضى حتى تبارز وتتعرّض للقتل، فإن قتلت كان ذلك بلاء على أصحابك مكانك، وأنا أكفيك إن شاء الله تعالى، فقال عمرو: دونك فربما فرّجها الله بك، فبرز مسلمة للروميّ، فتجاولا ساعة، ثم أعانه الله عليه، فقتله. فكرّ مسلمة وأصحابه ووفى لهم الروم بما عاهدوهم عليه، ففتحوا لهم باب الحصن، فخرجوا ولا يدري الروم أن أمير القوم فيهم حتى بلغهم بعد ذلك، فأسفوا على ذلك، وأكلوا أيديهم تغيظا على ما فاتهم، فلما خرجوا استحيى عمرو مما كان قال لمسلمة حين غضب، فقال عمرو عند ذلك: استغفر لي ما كنت قلت لك، فاستغفر له، وقال عمرو: ما أفحشت قط إلا ثلاث مرار: مرّتين في الجاهلية، وهذه الثالثة، وما منهنّ مرّة إلا وقد ندمت، وما استحييت من واحدة منهنّ أشدّ مما استحييت مما قلت لك، وو الله إني لأرجو أن لا أعود إلى الرابعة ما بقيت، قال: وأقام عمرو محاصر الإسكندرية أشهرا، فلما بلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: ما أبطأوا بالفتح إلا لما أحدثوا، وكتب إلى عمرو بن العاص: أمّا بعد، فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر، إنكم تقاتلونهم منذ سنين وما ذاك إلا لما أحدثتم(1/306)
وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوّكم، فإنّ الله تبارك وتعالى لا ينصر قوما إلا بصدق نياتهم، وقد كنت وجهت إليك أربعة «1» نفر، وأعلمتك أن الرجل منهم مقاوم ألف رجل على ما كنت أعرف إلا أن يكونوا غيّرهم ما غيّر غيرهم، فإذا أتاك كتابي هذا فاخطب الناس، وحضهم على قتال عدوّهم، ورغبهم في الصبر والنية، وقدّم أولئك الأربعة في صدور الناس ومر الناس جميعا أن يكونوا لهم صدمة واحدة كصدمة رجل واحد، وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة، فإنها ساعة تنزل الرحمة، ووقت الإجابة وليعجّ الناس إلى الله، ويسألوه النصر على عدوّهم، فلما أتى عمرو بن العاص رضي الله عنه الكتاب، جمع الناس وقرأ عليهم كتاب عمر رضي الله عنه، ثم دعا أولئك النفر فقدّمهم أمام الناس، وأمر الناس أن يتطهروا، ويصلوا ركعتين، ثم يرغبوا إلى الله تعالى ويسألوه النصر، ففعلوا، ففتح الله عليهم.
ويقال: إنّ عمرو بن العاص استشار مسلمة، فقال: أشر عليّ في قتال هؤلاء، فقال له مسلمة: أرى أن تنظر إلى رجل له معرفة وتجارب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتعقد له على الناس، فيكون هو الذي يباشر القتال ويكفيكه، فقال عمرو: من ذلك؟ قال: عبادة بن الصامت، فدعاه عمرو فأتاه وهو راكب على فرسه، فلما دنا منه أراد النزول، فقال له عمرو: عزمت عليك إن نزلت ناولني سنان رمحك، فناوله إياه، فنزع عمرو عمامته عن رأسه، وعقد له، وولاه قتال الروم، فتقدّم عبادة مكانه، فصادف الروم وقاتلهم، ففتح الله على يديه الإسكندرية من يومهم ذلك.
وكان حصار الإسكندرية بعد موت هرقل، تسعة أشهر وخمسة أشهر قبل ذلك، وفتحت يوم الجمعة لمستهل المحرّم سنة إحدى وعشرين، وقال أبو عمرو الكندي: وحاصر عمرو الإسكندرية ثلاثة أشهر، ثم فتحها عنوة وهو الفتح الأوّل، ويقال: بل فتحها عمرو لمستهل المحرّم سنة إحدى وعشرين.
قال القضاعيّ عن الليث: أقام عمرو بالإسكندرية في حصارها، وفتحها ستة أشهر، ثم انتقل إلى الفسطاط، فاتخذها دارا في ذي القعدة.
وقال ابن عبد الحكم: فلما هزم الله تعالى الروم، وفتح الإسكندرية، هرب الروم في البرّ والبحر، فخلف عمرو بالإسكندرية ألف رجل من أصحابه ومضى ومن معه في طلب من هرب من الروم في البرّ، فرجع من كان هرب من الروم في البحر إلى الإسكندرية، فقتلوا من كان فيها من المسلمين إلّا من هرب منهم، وبلغ ذلك عمرا، فكرّ راجعا، ففتحها، وأقام بها وكتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قد فتح علينا الإسكندرية بغير عقد ولا عهد، فكتب إليه عمرو رضي الله عنه يقبح رأيه، ويأمره أن لا يجاوزها. قال ابن لهيعة: وهو فتح(1/307)
الإسكندرية الثاني، وكان سبب فتحها هذا: أنّ رجلا يقال له: ابن بسامة كان بوّابا، فسأل عمرا أن يؤمّنه على نفسه وأرضه وأهل بيته، ويفتح له الباب، فأجابه عمرو إلى ذلك، ففتح له ابن بسامة الباب، فدخل عمرو وقتل من المسلمين من حين كان من آمر الإسكندرية ما كان إلى أن فتحت اثنان وعشرون رجلا، وبعث عمرو بن العاص، معاوية بن خديج وافدا إلى عمر بن الخطاب بشيرا له بالفتح، فقال له معاوية: ألا تكتب معي، فقال له عمرو:
وما أصنع بالكتاب ألست رجلا عربيا تبلغ الرسالة، وما رأيت وحضرت.
فلما قدم على عمر، أخبره بفتح الإسكندرية فخرّ عمر ساجدا، وقال: الحمد لله، وقال معاوية بن خديج: بعثني عمرو بن العاص إلى عمر رضي الله عنه بفتح الإسكندرية، فقدمت المدينة في الظهيرة، فأنخت راحلتي بباب المسجد ثم دخلت المسجد، فبينا أنا قاعد فيه إذ خرجت جارية من منزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فرأتني شاحبا عليّ ثياب السفر، فأتتني، وقالت: من أنت؟ فقلت: أنا معاوية بن خديج، رسول عمرو بن العاص، فانصرفت عني، ثم أقبلت تشدّ أسمع حفيف إزارها على ساقها، حتى دنت مني، ثم قالت:
قم فأجب أمير المؤمنين يدعوك، فتبعتها، فلما دخلت فإذا بعمر يتناول رداءه بإحدى يديه، ويشدّ إزاره بالأخرى، فقال: ما عندك؟ فقلت: خير يا أمير المؤمنين، فتح الله الإسكندرية فخرج معي إلى المسجد، فقال للمؤذن: أذن في الناس: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، ثم قال لي: قم فأخبر أصحابك، فقمت فأخبرتهم ثم صلى ودخل منزله، واستقبل القبلة، فدعا بدعوات، ثم جلس، فقال: يا جارية! هل من طعام؟ فأتت بخبز وزيت، فقال: كل، فأكلت حياء، ثم قال: كل، فإنّ المسافر يحب الطعام فلو كنت آكلا لأكلت معك، فأصبت على حياء، ثم قال: يا جارية! هل من تمر؟ فأتت بتمر في طبق، فقال: كل، فأكلت على حياء، ثم قال: ماذا قلت يا معاوية حين أتيت المسجد؟ قال: قلت: أمير المؤمنين قائل، قال:
بئس ما قلت، أو بئس ما ظننت لئن نمت النهار لأضيعنّ الرعية، ولئن نمت الليل لأضيعنّ نفسي، فكيف بالنوم مع هذين يا معاوية.
ثم كتب عمرو بن العاص بعد ذلك إلى عمر بن الخطاب: أمّا بعد! فإني فتحت مدينة لا أصف ما فيها غير أني أصبت فيها أربعة آلاف بنية، بأربعة آلاف حمام، وأربعين ألف يهوديّ، عليهم الجزية، وأربعمائة ملهى للملوك.
وعن أبي قبيل: أنّ عمرا لما فتح الإسكندرية وجد فيها: اثني عشر ألف بقال يبيعون البقل الأخضر، وترحل من الإسكندرية في الليلة التي دخلها عمرو، وفي الليلة التي خافوا فيها دخول عمرو، سبعون ألف يهوديّ.
وكان بالإسكندرية فيما أحصي من الحمامات: اثنا عشر ألف ديماس، أصغر ديماس منها يسع ألف مجلس، كل مجلس يسع جماعة نفر، وكان عدّة من بالإسكندرية من الروم،(1/308)
مائتي ألف رجل، فلحق بأرض الروم أهل القوّة وركبوا السفن، وكان بها مائة مركب من المراكب الكبار، فحمل فيها ثلاثون ألفا مع ما قدروا عليه من المال والمتاع والأهل، وبقي من بقي من الأسارى من بلغ الخراج، فأحصي يومئذ ستمائة ألف، سوى النساء والصبيان، فاختلف الناس على عمرو في قسمها، فكان أكثر الناس يريدون قسمها، فقال عمرو: لا أقدر على قسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين، فكتب إليه يعلمه بفتحها وشأنها، ويعلمه أن المسلمين طلبوا قسمها، فكتب إليه عمر: لا تقسمها وذرها يكون خراجها فيئا للمسلمين، وقوّة لهم على جهاد عدوّهم، فأقرّها عمرو، وأحصى أهلها، وفرض عليهم الخراج، فكانت مصر صلحا كلها بفريضة دينارين على كل رجل، لا يزاد على أحد منهم في جزية رأسه أكثر من دينارين، إلا أنه يلزم بقدر ما يتوسع فيه من الأرض والزرع إلا الإسكندرية، فإنهم كانوا يؤدّون الخراج والجزية على قدر ما يرى من وليهم لأنّ الإسكندرية فتحت عنوة بغير عهد ولا عقد، ولم يكن لهم صلح ولا ذمّة.
وقد كانت قرى من قرى مصر قاتلت، فسبوا منها قرية يقال لها: بلهيب، وقرية يقال لها: الخيس، وقرية يقال لها: سلطيس، فوقع سباياهم بالمدينة وغيرها، فردّهم عمر بن الخطاب إلى قراهم، وصيرهم وجماعة القبط أهل ذمّة.
وعن يزيد بن أبي حبيب: أنّ عمرا سبى أهل بلهيب، وسلطيس، وقرطيا وسخا، فتفرّقوا، وبلغ أوّلهم المدينة حين نقضوا، ثم كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بردّهم، فردّ من وج منهم، وفي رواية: إنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب في أهل سلطيس خاصة من كان منهم في أيديكم، فخيروه بين الإسلام، فإن أسلم فهو من المسلمين له مالهم، وعليه ما عليهم، وإن اختار دينه، فخلوا بينه وبين قريته، فكان البلهيبي، خير يومئذ، فاختار الإسلام.
وفي رواية: إنّ أهل سلطيس، وصا، وبلهيب، ظاهروا الروم على المسلمين في جمع كان لهم، فلما ظهر عليهم المسلمون استحلوهم، وقالوا: هؤلاء لنا فيء مع الإسكندرية، فكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب بذلك، فكتب إليه عمر: أن تجعل الإسكندرية وهؤلاء الثلاث قريات، ذمّة للمسلمين، وتضرب عليهم الخراج، ويكون خراجهم، وما صالح عليه القبط، قوّة للمسلمين على عدوّهم، ولا يجعلون فيئا ولا عبيدا، ففعل ذلك.
ويقال: إنما ردّهم عمر رضي الله عنه، لعهد كان تقدّم لهم. وقال ابن لهيعة: جبى عمرو جزية الإسكندرية ستمائة ألف دينار، لأنه وجد ثلثمائة ألف من أهل الذمّة، فقدّر عليهم دينارين دينارين، فبلغت ذلك، وقيل: كانت جزية الإسكندرية ثمانية عشر ألف دينار، فلما كانت خلافة هشام بن عبد الملك، بلغت ستة وثلاثين ألف دينار، ويقال: إنّ عمرو بن(1/309)
العاص، استبقى أهل الإسكندرية، فلم يقتل ولم يسب، بل جعلهم ذمّة كأهل النوبة.
ذكر ما كان من فعل المسلمين بالإسكندرية وانتقاض الروم
قال ابن عبد الحكم: فأمّا الإسكندرية فلم يكن بها خطط، وإنما كانت أخائذ، من أخذ منزلا نزل فيه هو وبنو أبيه، وإنّ عمرو بن العاص، لما فتح الإسكندرية، أقبل هو وعبادة بن الصامت، حتى علوا الكوم الذي فيه مسجد عمرو بن العاص، فقال معاوية بن خديج: ننزل، فنزل عمرو القصر، ونزل أبو ذر منزلا كان غربيّ المصلى الذي عند مسجد عمرو، مما يلي البحر، وقد انهدم، ونزل معاوية بن خديج فوق التل، وضرب عبادة بن الصامت خباءه فلم يزل فيه حتى خرج من الإسكندرية.
ويقال: إنّ أبا الدرداء كان معه، والله أعلم. قال: فلما استقامت لهم البلاد قطع عمرو بن العاص من أصحابه لرباط الإسكندرية ربع الناس، وربعا في السواحل، والنصف مقيمون معه، وكان يصير بالإسكندرية خاصة الربع في الصيف، بقدر ستة أشهر، ويعقب بعدهم شاتية ستة أشهر، وكان لكل عريف قصر ينزل فيه بمن معه من أصحابه، واتخذوا فيه أخائذ.
وعن يزيد بن أبي حبيب: أن المسلمين لما سكنوا الإسكندرية في رباطهم، ثم قفلوا، ثم غزوا ابتدروا، فكان الرجل منهم يأتي المنزل الذي كان فيه صاحبه قبل ذلك، فيبتدره فيسكنه، فلما غزوا قال عمرو: إني أخاف أن تخرّبوا المنازل إذا كنتم تتعاورونها، فلما كان عند الكريون قال لهم: سيروا على بركة الله، فمن ركز منكم رمحه في دار فهي له، ولبني بنيه، فكان الرجل يدخل الدار، فيركز رمحه في منزل منها، ثم يأتي الآخر فيركز رمحه في بعض بيوت الدار، فكانت الدار تكون لقبيلتين وثلاث، وكانوا يسكنونها حتى إذا قفلوا سكنها الروم، وعليهم مرمّتها، وكان يزيد بن أبي حبيب يقول: لا يحلّ من كرائها شيء، ولا بيعها ولا يورث منها شيء، إنما كانت لهم يسنونها في رباطهم.
وعن يزيد بن أبي حبيب: أنّ عمرو بن العاص لما فتح الإسكندرية، ورأى بيوتها وبناءها مفروغا منها، همّ أن يسكنها، وقال: مساكن قد كفيناها، فكتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يستأذنه في ذلك، فسأل عمر الرسول: هل يحول بيني وبين المسلمين ماء؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين إذا جرى النيل، فكتب عمر إلى عمرو: إني لا أحب أن تنزل بالمسلمين منزلا يحول الماء بيني وبينهم شتاء ولا صيفا، فتحوّل عمرو بن العاص إلى الفسطاط، وقال: وكتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص، وهو نازل بمدائن كسرى، وإلى عامله بالبصرة، وإلى عمرو بن العاص، وهو نازل بالإسكندرية أن لا تجعلوا بيني وبينكم ماء، متى ما أردت أن أركب إليكم راحلتي حتى أقدم عليكم، قدمت، فتحوّل سعد بن أبي وقاص من مدائن كسرى إلى الكوفة، وتحوّل صاحب البصرة من(1/310)
المكان الذي كان فيه، فنزل البصرة، وتحوّل عمرو بن العاص من الإسكندرية إلى الفسطاط، وكان عمر بن الخطاب يبعث في كل سنة غازية من أهل المدينة ترابط بالإسكندرية، وكان على الولاء لا يغفلها، ويكنف مرابطها، ولا يأمن الروم عليها.
وكتب عثمان رضي الله عنه إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح: قد علمت كيف كان همّ أمير المؤمنين بالإسكندرية، وقد نقضت الروم مرّتين، فألزم الإسكندرية مرابطيها، ثم أجر عليهم أرزاقهم، وأعقب بينهم في كل ستة أشهر، قال: وكانت الإسكندرية انتقضت، وجاءت الروم عليهم، منويل الخصيّ في المراكب، حتى أرسوا بالإسكندرية، فأجابهم من بها من الروم، ولم يكن المقوقس تحرّك ونكث، وقد كان عثمان رضي الله عنه، عزل عمرو بن العاص، وولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فلما نزلت الروم، سأل أهل مصر، عثمان أن يقرّ عمرا حتى يفرغ من قتال الروم، فإنّ له معرفة بالحرب وهيبة في العدوّ، ففعل.
وكان على الإسكندرية سورها، فحلف عمرو بن العاص: لئن أظفره الله عليهم ليهدمن سورها حتى يكون مثل بيت الزانية يؤتى من كل مكان، فخرج إليهم عمرو في البرّ والبحر، فضموا إلى المقوقس من أطاعه من القبط، وأمّا الروم فلم يطعه منهم أحد، فقال خارجة بن حذافة لعمرو: ناهضهم قبل أن يكثر مددهم، فلا آمن أن تنتقض مصر كلها، فقال عمرو:
لا، ولكن أدعهم حتى يسيروا إليّ فإنهم يصيبون من مرّوا به، فيخزي الله بعضهم ببعض، فخرجوا من الإسكندرية ومعهم من نقض من أهل القرى، فجعلوا ينزلون القرية فيشربون خمورها، ويأكلون أطعمتها، وينتهبون ما مرّوا به، فلم يتعرّض لهم عمرو، حتى بلغوا نفيوس، فلقوهم في البرّ والبحر، فبدأت الروم القبط، فرموا بالنشاب في الماء رميا شديدا، حتى أصابت النشاب يومئذ فرس عمرو في لبته، وهو في البرّ، فعقر فنزل عنه عمرو، ثم خرجوا من البحر، فاجتمعوا هم والذين في البرّ، فنفحوا المسلمين بالنشاب، فاستأخر المسلمون عنهم شيئا، وحملوا على المسلمين حملة ولى المسلمون منها، وانهزم شريك بن سميّ في خيله، وكانت الروم قد جعلت صفوفا خلف صفوف، وبرز يومئذ بطريق ممن جاء من أرض الروم على فرس له عليه سلاح مذهب، فدعا إلى البراز، فبرز إليه رجل من زبيد يقال له: حومل، يكنى: أبا مذحج، فاقتتلا طويلا برمحين يتطاردان، ثم ألقى البطريق الرمح، وأخذ السيف، فألقى حومل رمحه، وأخذ سيفه، وكان يعرف بالنجدة، فجعل عمرو يصيح: أبا مذحج، فيجيبه: لبيك، والناس على شاطىء النيل في البرّ على تعبيتهم وصفوفهم، فتجاولا ساعة بالسيف، ثم حمل عليه البطريق، فاحتمله، وكان نحيفا فاخترط حومل خنجرا، كان في منطقته أو في ذراعه، فضرب به نحر العلج أو ترقوته، فأثبته ووقع عليه، فأخذ سلبه، ثم مات حومل بعد ذلك بأيام رحمه الله، فرؤي عمرو يحمل سريره بين عمودي نعشه حتى دفنه بالمقطم، ثم شدّ المسلمون عليهم، فكانت هزيمتهم، فطلبهم(1/311)
المسلمون حتى ألحقوهم بالإسكندرية، ففتح الله عليهم، وقتل منويل الخصي، وقتلهم عمرو حتى أمعن في مدينتهم، فكلم في ذلك، فأمر برفع السيف عنهم، وبنى في ذلك الموضع الذي رفع فيه السيف مسجدا، وهو المسجد الذي بالإسكندرية الذي يقال له:
مسجد الرحمة، سمي بذلك لرفع عمرو السيف هناك، وهدم سورها كله، وجمع ما أصاب منهم، فجاءه أهل تلك القرى ممن لم يكن نقض، فقالوا: قد كنا على صلحنا، وقد مرّ علينا هؤلاء اللصوص، فأخذوا متاعنا ودوابنا، وهو قائم في يديك، فردّ عليهم عمرو ما كان لهم من متاع عرفوه، وأقاموا عليه البينة، وقال بعضهم لعمرو: ما حلّ لك ما صنعت بنا، كان لنا أن تقاتل عنا لأنا في ذمّتك، ولم ننقض، فأما من نقض، فأبعده الله، فندم عمرو وقال:
يا ليتني كنت لقيتهم حين خرجوا من الإسكندرية.
وكان سبب نقض الإسكندرية هذا أن ظلما صاحب إخنا قدم على عمرو، فقال:
أخبرنا ما على أحدنا من الجزية، فيصير لها، فقال عمرو، وهو يشير إلى ركن كنيسة: لو أعطيتني من الركن إلى السقف ما أخبرتك؟ إنما أنتم خزانة لنا إن كثر علينا كثرنا عليكم، وإن خفف عنا خففنا عنكم، فغضب صاحب إخنا، وخرج إلى الروم فقدم بهم، فهزمهم الله تعالى، وأسر فأتي به إلى عمرو، فقال له الناس: اقتله، فقال: لا، بل انطلق، فجئنا بجيش آخر وسوّره وتوجه وكساه برنس أرجوان، فرضي بأداء الجزية، فقيل له: لو أتيت ملك الروم، فقال: لو أتيته لقتلني، وقال: قتلت أصحابي، وعن أبي قبيل: أن عتبة بن أبي سفيان عقد لعلقمة القطيفيّ على الإسكندرية، وبعث معه اثني عشر ألفا فكتب علقمة إلى معاوية بن أبي سفيان، يشكو عتبة حين غرّر به، وبمن معه، فكتب إليه معاوية: إني قد أمددتك بعشرة آلاف من أهل الشام، وبخمسة آلاف من أهل المدينة، فكان في الإسكندرية سبعة وعشرون ألفا، وفي رواية: أن علقمة بن يزيد كان على الإسكندرية، ومعه اثنا عشر ألفا، فكتب إلى معاوية: إنك خلفتني بالإسكندرية، وليس معي إلا اثنا عشر ألفا ما يكاد بعضنا يرى بعضا من القلة، فكتب إليه معاوية: إني قد أمددتك بعبد الله بن مطيع في أربعة آلاف من أهل المدينة، وأمرت معن بن يزيد السلميّ أن يكون بالرملة في أربعة آلاف مسكين بأعنة خيولهم متى بلغهم عنك فزع، يعبروا إليك. قال ابن لهيعة: وقد كان عمرو بن العاص يقول: ولاية مصر جامعة، تعدل الخلافة.
وكان عمرو حين توجه إلى الإسكندرية، خرّب القرية التي تعرف اليوم بخربة وردان.
واختلف علينا السبب الذي خربت له، فحدثّنا سعيد بن عفير: أنّ عمرا لما توجه إلى نفيوس، لقتال الروم، عدل وردان لقضاء حاجته عند الصبح، فاختطفه أهل الخربة، فغيبوه، ففقده عمرو، وسأل عنه وقفا أثره، فوجدوه في بعض دورهم، فأمر بإخرابها وإخراجهم منها، وقيل: كان أهل الخربة رهبانا كلهم، فغدروا بقوم من ساقة عمرو، فقتلوهم بعد أن(1/312)
بلغ عمرو الكريون، فأقام عمرو ووجه إليهم وردان، فقتلهم وخرّبها فهي خراب إلى اليوم، وقيل: كان أهل الخربة، أهل تويت، وخبت، فأرسل عمرو إلى أرضهم، فأخذ له منها جراب فيه تراب من ترابها، فكلمهم فلم يجيبوه إلى شيء، فأمر بإخراجهم، ثم أمر بالتراب ففرش تحت مصلاه، ثم قعد عليه، ثم دعاهم، فكلمهم، فأجابوه إلى ما أحبّ، ثم أمر بالتراب فرفع، ثم دعاهم فلم يجيبوه إلى شيء، فعل ذلك مرارا، فلما رأى عمرو ذلك، قال: هذه بلدة لا يصلح أن توطأ، فأمر بإخرابها، فلما هزم الله الروم، أراد عثمان رضي الله عنه، أن يكون عمرو بن العاص على الحرب، وعبد الله بن سعد على الخراج، فقال عمرو:
إنا إذا كماسك البقرة بقرنيها، وآخر يحلبها؛ فأبى عمرو، وكان فتح عمرو هذا عنوة قسرا في خلافة عثمان سنة خمس وعشرين، وبينه وبين الفتح الأوّل أربع سنين. وقال الليث: كان فتح الإسكندرية الأوّل سنة اثنتين وعشرين، وكان فتحها الآخر خمسة وعشرين. وأقامت الجيش من السماء يقاتلون الناس سبع سنين بعد أن فتحت مصر مما يفتحون عليهم من تلك المياه والغياض، قال: ثم غزا عبد الله بن سعد بن أبي سرح، ذا الصواري، في سنة أربع وثلاثين.
وكان من حديث هذه الغزوة: أنّ عبد الله بن سعد لما نزل ذو الصواري أنزل نصف الناس، مع بسر بن أرطاة في البرّ، فلما مضوا أتى آت إلى عبد الله بن سعد فقال: ما كنت فاعلا حين ينزل بك ابن هرقل في ألف مركب فافعله الساعة، وكانت مراكب المسلمين مائتي مركب ونيفا، فقام عبد الله بن سعد بين ظهراني الناس، فقال: بلغني أن ابن هرقل قد أقبل إليكم في ألف مركب فأشيروا عليّ، فما كلمه رجل من المسلمين، فجلس قليلا لترجع إليهم أفئدتهم، ثم قام الثانية، فكلمهم فما كلمه أحد، فجلس. ثم قام الثالثة، فقال:
إنه لم يبق شيء فأشيروا عليّ، فقام رجل من أهل المدينة، كان متطوّعا مع عبد الله بن سعد، فقال: أيها الأمير، إنّ الله جلّ ثناؤه يقول: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ
[البقرة/ 249] ، فقال عبد الله: اركبوا، فركبوا، وإنما في كل مركب نصف شحنته، لأنه قد خرج النصف الآخر إلى البرّ مع بسر، فلقوهم، فاقتتلوا بالنبل والنشاب، وتأخر ابن هرقل، لئلاتصيبه الهزيمة، وجعلت القوارب تختلف إليه بالأخبار، فقال:
ما فعلوا؟ قالوا: قد اقتتلوا بالنبل والنشاب، فقال: غلبت الروم، ثم أتوه فقال: ما فعلوا؟
قالوا: قد نفد النبل والنشاب فهم يرمون بالحجارة، فقال: غلبت الروم، ثم أتوه فقال:
ما فعلوا؟ قالوا: قد نفدت الحجارة، وربطوا المراكب بعضها ببعض يقتتلون بالسيوف، قال: غلبت الروم، وكانت السفن إذ ذاك تقرن بالسلاسل عند القتال، قال: فقرن مركب عبد الله يومئذ وهو الأمير بمركب من مراكب العدوّ، فكان مركب العدوّ يجترّ مركب عبد الله إليهم، فقام علقمة بن يزيد القطيفيّ، وكان مع عبد الله بن سعد في المركب، فضرب السلسلة بسيفه، فقطعها فسأل عبد الله امرأته بعد ذلك، بسيسة ابنة حمزة بن يشرح، وكانت(1/313)
مع عبد الله يومئذ، وكان الناس يغزون بنسائهم في المراكب: من رأيت أشدّ قتالا؟ قالت علقمة: صاحب السلسلة، وكان عبد الله قد خطب بسيسة إلى أبيها، فقال له: إن علقمة قد خطبها، وله عليّ فيها رأي، فإن تركها أفعل، فكلم عبد الله علقمة، فتركها، فتزوّجها عبد الله بن سعد، ثم هلك عنها عبد الله، فتزوّجها بعده علقمة بن زيد، ثم هلك عنها علقمة، فتزوّجها بعده كريب بن أبرهة، وماتت تحته. وقيل: مشت الروم إلى قسطنطين ابن هرقل في سنة خمس وثلاثين، فقالوا: أنترك الإسكندرية في أيدي العرب وهي مدينتنا الكبرى؟ فقال: ما أصنع بكم ما تقدرون أن تمالكوا ساعة إذا لقيتم العرب، قالوا: اخرج على أنا نموت، فتبايعوا على ذلك، فخرج في ألف مركب يريد الإسكندرية، فسار في أيام غالبة الرياح، فبعث الله عليهم ريحا فغرّقهم إلا قسطنطين فإنه نجا بمركبه، فألقته الريح بصقلية، فسألوه عن أمره فأخبرهم، فقالوا: شتّت النصرانية، وأفنيت رجالها لو دخلت العرب علينا لم نجد من يردّهم، فقال: خرجنا مقتدرين فأصابنا هذا، فصنعوا له الحمام، ودخلوا عليه فقال: ويلكم يذهب رجالكم، وتقتلون ملككم؟ قالوا: كأنه غرق معهم، ثم قتلوه وخلوا من كان معه في المركب. قال أبو عمرو الكنديّ: وإنما سميت غزوة ذي الصواري لكثرة صواري المراكب واجتماعها.
ذكر بحيرة الإسكندرية
قال ابن عبد الحكم: كانت بحيرة الإسكندرية كروما كلها لامرأة المقوقس، فكانت تأخذ خراجها منهم الخمر بفريضة عليهم، فكثر الخمر عليها، حتى ضاقت به ذرعا، فقالت: لا حاجة لي في الخمر، أعطوني دنانير، فقالوا: ليس عندنا، فأرسلت إليهم الماء، فغرّقتها فصارت بحيرة يصاد فيها الحيتان حتى استخرجها الخلفاء من بني العباس، فسدّوا جسورها وزرعوها، ثم صارت بحيرة طولها إقلاع يوم في عرض يوم، ويصير إليها الماء من أشتوم في البحر الروميّ، ويخرج منها إلى بحيرة دونها في خليج عليه مدينتان: إحداهما الحدبة، والأخرى اتكو، وهي كثيرة المقاثي والنخل، وكلها في الرمل ويصب في هذه البحيرة خليج من النيل يسمى: الحافر، طوله نصف يوم أقلاعا، وهو كثير الطير والسمك والعشب، وكان السمك بوجود هذه البحيرة في الإسكندرية غاية في الكثرة، يباع بأقلّ القيم، وأبخس الأثمان، ثم انقطع الماء عن هذه البحيرة منذ.
ذكر خليج الإسكندرية
يقال: إن كلوباطرة الملكة، هي التي ساقت خليج الإسكندرية حتى أدخلته إليها، ولم يكن يبلغها الماء، فحفرته حتى أدخلته الإسكندرية، وبلطت قاعه بالرخام من أوّله إلى آخره، ولم يزل يوجد ذلك فيه.(1/314)
وقال أبو الحسن المخزومي في كتاب المنهاج: أمّا خليج الإسكندرية فإنه من فوهة الخليج إلى ترعة بودرة ليس على شيء منها سدّ بمخرج محلة تبوك اسينة أورين محلة، فرنو محلة، حسن منية طراد، وتعرف بالقاعة محلتا نصر ومسروق، فأمّا ترعة لقانة فإنها تفتح بعد سبعة أيام من توت، والترعة الجديدة تفتح في السادس عشر من توت، وترعة بودرة تفتح بعد سبعة أيام من توت، وترعة بو يحيى، وترعة بو السحما، وترعة القهوقية ليس على شيء من ذلك سدّ، وترعة الشراك تفتح بعد سبعة أيام من توت، وترعة بو خراشة، وترعة البربيط يشرب منها ديسو وسمخراط، وشيرنوبة، ومنية حماد، وسنادة، وبعض محلة مارية، وترعة فيشة بلخا تفتح في ثاني عشر توت، وجرت العادة أن تفتح في النوروز، ترعة بويط، ومقطع سمديسة يفتح في الثاني والعشرين من توت، ومقطع ياطس يفتح في تاسع عشر توت، ولما سدّ المقطع المذكور عملت بعد ذلك ترعة تروي الصفقة القبلية منها، فتفتح في يوم النوروز، ولما استحدثت ترعة أفلاقة، وخرجت في أرض ياطس جرت العادة إذا رويت الصفقة القبلية من أفلاقة، تطلق الترعة المذكورة على القسم البحريّ من ياطس إلى أن يروي، وترعة القارورة محدثة، وترعة بفوها تفتح في ثاني عشر توت، وترعة افلاقة تفتح في عاشر توت، وترعة اسكنيدة تفتح في سادس توت.
تراع
بحر دمنهور تفتح في العشرين من مسري إلى سادس توت، ويروى منها بعض طاموس، وبعض كنيسة الغيط، وبعض قرطسا ودمنهور، ترعة القواديس منها تشرب شبرا النخلة، وكوم التلول، وتراع شبرا النخلة تفتح على أعاليها من أوّل توت، وترعة بسطري تفتح في خامس عشر مسري، وترعة مسيد تفتح في ثامن توت، وترعة سنتوية تفتح في ثامن عشر توت، وبحر دمشوية يفتح في العشرين من مسري، ومنه تشرب منية رزقون وسفط كرداسة ودمشوية ومحلة الشيخ ومصيل، وترعة دمشوية تفتح في تاسع توت ويقيم الماء عليها سبعة عشر يوما، وتفتح إلى محلة الشيخ ومصيل يقيم الماء عليها ثلاثين يوما، ويسدّ بعد ذلك على دمشوية سبعة أيام، وعلى سفط ومنية رزقون، ترعة برسيق كانت تفتح في أوّل توت.
محلة برسيق: ليس عليها سدّ.
محلة الكروم تفتح في ثامن توت ومنها تشرب عدّة أماكن وهي محلة الكروم وكفورها، وهي دنيسة، وكوم الولائد وكوم الصخرة وديرامس والصفاصف، وما يخرج عن كفورها، وهي تلمسان والجلمون من حقوق محلة كيل، ومنها تشرب الجهة الغربية.
شبرابار ليس عليها سدّ وترعة قافلة كانت تفتح في ثامن توت، وليس عليها الآن سدّ، وترعة بلقطر وكفورها كانت تفتح في تاسع توت، وليس عليها الآن سدّ.(1/315)
ترعة الراهب ليس عليها سدّ، وترعة دسونس المقاريضي تسقي الحلفاية وتفتح في ثامن توت، وكذلك ترعة مرحنا والملعقية، وترعة نيلامة، وبيشاي، وآخر تراع الحجيجة، وترعة الكريون تفتح في ثامن توت، وترعة السلقون كانت تفتح في سادس توت، وليس عليها الآن سدّ، وترعة أرمياخ تفتح في ثاني عشر توت، وترعة ابلوق تفتح في سادس توت، وأمّا جون رمسيس، فإنّ بحر رمسيس كان يضرب السدّ فيه على تراع رمسيس من أوّل النيل إلى سابع عشر توت، والذي يشرب من السدّ المذكور من النواحي والكفور رمسيس ومحلة جعفر وفليشان، وبعض أبنية البعيديّ، وبعض خربتا وبعض البلكوس، وبعض بولين وبعض محلة وافد والبيضاء، وبعض طيلاس، ثم يفتح سدّ دكدولة، وهو محدث يقيم الماء عليه عشرة أيام، وتشرب منه دكدولة، ومحلة معن ومنية أسامي وبعض صيفية، ثم يقطع سدّ الفطامي وهو محدث، ومنه يشرب بعض جنبوية وبليانة البحرية والسرّة وأبو حمار والبهوط، ثم يقطع سدّ رسونس، وأبو دينار وترعة طبرينة، فيشرب منه دنسال وطلموس يقيم الماء عليها ستة أيام، ومنه تشرب منية عطية وسلطيس.
وأما
بحر دمنهور فإنه يسدّ على سلطيس إلى سابع عشر توت، ومنه تشرب سلطيس وزهرا وبعض طابوس وبعض قرطسا وبعض كنيسة الغيط ودمنهور، ثم يقطع سدّ نديبة وهو محدث فيقيم ثمانية أيام ومنه تشرب نديبة ودقرس والعميرية والنسرين، ثم يفتح ويسدّ على محلة خفض، ومحلة كيل ومحلة نمير، ثم يقطع سدّ سلطيس، وهو محدث فيقيم عشرة أيام بعد اختلاط الماءين ببحر دمنهور، ورمسيس، ثم يقطع جسر ملولة ومنه تشرب تروجة وأرسيس والمراسي وغابة الأعساس وبعض سمرو، ومحلة نمير، ويبقى هناك إلى انقضاء النيل.
وأمّا
ترعة طبرينة فهي محدثة وإذا رويت طبرينة تطلق على دسونس أمّ دينار، ثم تقطع على طاموس بمقدار ريّها ثم تطلق في النيل العالي على أرض قراقس ويطلق الماء على قرطسا وكنيسة الغيط وخليج الطبرينة إذا خرج الماء منه يسقى منه في أوّل النيل إلى أن يضرب جسر شبراوسيم، فيسقي منه شبراوسيم، وبعض البلكوس، وحفيرة الزعفراني، وبعض بولين، ومسجد غانم والصوّاف وكوم شريك ومنية مغيين، وتل الفطامي ومحلة وافد، ثم يقطع جسر دليجة، ومنه يشرب بعض خربتا، وبعض فليشان وبعض بولين والبيضاء، ودنست وتلبانة الأبراج، وتل بقا والحدّين واليهودية، والنسوم، وأبو صمادة والحصن وقلاوة بني عبيد وطوخ دخاية ودرشا وسقرا ودليجة ولمحة وطيبة، ثم يقطع على منية وزراقة الحجر والمحزون وبعض حيارس وافزيم وأبو سمار وأمّ الضروع.
خليج ابن زلوم ويعرف بخليج ابن ظلوم، وسدّ مخرج التعيدي لا يفتح إلى عشرة أيام من توت، ومنه يشرب شابور وكنيسة مبارك وبعض سرسيقة وبعض دموشة ومنية يزيد(1/316)
وحوض الماصلي وحصة سلمون وبعض سنيت وبعض التعيدي وبعض فليشان، ثم يفتح فيشرب منه أمليط وبعض انباي وبعض كنيسة عبد الملك وبعض أرمنية وميسنا وبعض محلة عبيد وسفط خالد وبرنامة وشبرانوبة وكيمان شراس، وبعض دمشوه وتقام الحرّاس على جسر سفط، ويشرب من خليج الإسكندرية وما يفيض منه أهل الباطن، وأهل البحيرة في فجاج وأودية، فيكون ذلك الماء صلة وهم قبيل من دنانة والرمحانة وبني يزان، وقبائل البربر، ويزرعون عليه فيستوفي منهم الخراج وبين مشارق الفرما من ناحية جوجير وقاقوس وبين آخر ما يشرب من خليج الإسكندرية مسيرة شهر كان عامرا كله في محلول ومعقود إلى ما بعد الخمسين وثلثمائة من سني الهجرة، وقد خرب معظم ذلك.
وقال أبو بكر الطرطوسي عمن حدّثه من مشايخ البحر أنه قال: شاهدت الإسكندرية والصيد في الخليج: مطلق للرعية والسمك فيه يطفو الماء به كثرة، حتى تصيده الأطفال بالخرق، ثم حجره الوالي ومنع الناس من صيده فذهب حتى كاد لا يرى فيه إلا الواحدة بعد الواحدة إلى يومنا هذا.
وقال أبو عمرو الكنديّ في كتاب الموالي عن الحارث بن مسكين: أنه تقلد قضاء مصر من قبل أمير المؤمنين الواثق بالله في سنة تسع وثلاثين ومائتين، فذكر سيرته وقال:
وحفر خليج الإسكندرية، وورد الكتاب بصرفه في شهر ربيع الآخر سنة خمس وأربعين ومائتين.
وقال جامع السيرة الطولونية: وفي ربيع الأوّل سنة تسع وخمسين ومائتين أمر أحمد بن طولون بحفر خليج الإسكندرية.
وقال المسعوديّ: وقد كان النيل انقطع عن بلاد الإسكندرية قبل سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة، وقد كان الإسكندر، بنى الإسكندرية على هذا الخليج من النيل وكان عليها معظم ماء النيل، فكان يسقي الإسكندرية، وبلاط مربوط، وكانت بلاد مربوط، في نهاية العمارة والجنان المتصلة بأرض برقة، وكانت السفن تجري في النيل وتتصل بأسواق الإسكندرية، وقد بلط أرض خليجها في المدينة بالأحجار والمرمر وانقطع الماء عنها لعوارض سدّت خليجها، ومنعت الناس دخوله، فصار شربهم من الآبار، وصار النيل على يوم منهم.
وذكر المسبحيّ: أن الحاكم بأمر الله، أبا منصور بن العزيز، أطلق لحفر خليج الإسكندرية في سنة أربع وأربعمائة، خمسة عشر ألف دينار، فحفر كله، وفي سنة اثنتين وستين وستمائة، بعث الملك الظاهر بيبرس، الأمير عليا أمير جاندار لحفر خليج الإسكندرية، وقد امتلأت فوهته بالطين، وقلّ الماء في الإسكندرية فابتدأ بالحفر من التعيدي، وأنشأ هناك مسجدا وتولى مباشرة هذا الحفر، المعلم تعاسيف، ناظر الدواوين، ثم بعث السلطان في سنة أربع وستين وستمائة لحفر هذا الخليج، الأمير علم الدين سنجر(1/317)
المسروري، ثم سار بعامّة الأمراء والأجناد وباشر الحفر بنفسه، وعمل فيه الأمراء، وجميع الناس إلى أن زالت الرمال التي كانت على الساحل بين التعيدي وفم الخليج، ثم عدّى إلى بار نبار، وغرّق مراكب هناك، وبنى عليها بالحجارة، فلما تم الغرض عاد إلى قلعة الجبل، ثم تعطل استمرار جريان الماء فيه بطول السنة، وصار يحفر سريعا بعد شهرين أو نحوهما من دخول الماء إليه، واحتاج أهل الإسكندرية في طول السنة إلى الشرب من الصهاريج التي يخزن فيها الماء إلى أن كانت سنة عشر وسبعمائة، فقدم الأمير بدر الدين بكتوت الخزنداري المعروف بأمير شكار، متولي الإسكندرية إلى قلعة الجبل، وحسّن للسلطان الملك الناصر محمد بن قلاون حفره، وذكر له ما في ذلك من المنافع أوّلها حمل الغلال وأصناف المتجر إلى الإسكندرية في المركب، وفي ذلك توفير للكلف وزيادة في مال الديوان، وثانيها عمارة ما على حافتي الخليج من الأراضي بإنشاء الضياع والسواقي، فينمو الخراج بهذا نموّا كثيرا، وثالثها انتفاع الناس به في عمارة بساتينهم، وشرب مائه دائما، فأعجب السلطان ذلك، وندب الأمير بدر الدين محمد بن كندعدي بن الوزيري مع بكتوت لعمله، وتقدّم إلى جميع أمراء الدولة بإخراج مباشريهم لإحضار رجال النواحي الجارية في إقطاعاتهم العمل للحفير، وكتب لولاة الأعمال بالوقوف في العمل، فاجتمع من النواحي نحو الأربعين ألف رجل، جمعت في نحو العشرين يوما، ووقع العمل في شهر رجب من السنة المذكورة وأفرد لكل أهل ناحية قطعة يحفرونها حتى كمل، فجاء قياس الحفر، من فم بحر النيل إلى ناحية شنبار، ثمانية آلاف قصبة حاكمية، ومن شنبار إلى الإسكندرية مثلها، وكان الخليج الأصليّ يدخل الماء إليه، من حدّ شنبار، فجعل فم هذا البحر يرمي عليه، وعمل عمقه، ست قصبات في عرض، ثماني قصبات، فلما انتهوا إلى حدّ الخليج الأوّل حفر أيضا على نظير الخليج المستجدّ، فصارا بحرا واحدا، وركبت عليه السدود، والقناطر، ووجد في الخليج الأوّل عند حفره من الرصاص المبنيّ تحت الصهاريج شيء كثير جدّا، فلم يتعرّض السلطان لشيء منه، وأنعم به على الأمير بكتوت، وعظمت المشقة في حفر هذا الخليج، فإنّ الذي تجاوز البحر منه غلب عليه الماء، فصارت الرجال تغطس فيه وترفع الطين من أسفله، ثم كثر الماء فركبت السواقي حتى نزحته، إلا أنّ عظيم النفع به سهل جميع ذلك، فإنّ السفن جرت فيه طول السنة، واستغنى أهل الإسكندرية عن شرب ماء الصهاريج، وبادر الناس للعمارة على جانبي الخليج، فلم يمض غير قليل حتى استجدّ عليه ما يزيد على مائة ألف فدّان زرعت بعد ما كانت سباخا، وما ينيف على ستمائة ساقية برسم القلقاس والنيلة والسمسم، وفوق الأربعين ضيعة، وأزيد من ألف غيط بالإسكندرية، وعمرت منه عدّة بلاد كثيرة، وتحوّل عالم عظيم إلى سكنى ما استجدّ عليه.
وفيه: ولما فرغ العمل في الخليج شرع الأمير بكتوت في عمل جسر من ماله، فإنّ الناس كانوا في وقت هيجان البحر يجدون مشقة عظيمة لغلبة الماء على أراضي السباخ،(1/318)
فأقام ثلاثة أشهر حتى بنى رصيفا دك أساسه بالحجر والرصاص، وأعلاه بالحجر والكلس، وعمل فيه ثلاثين قنطرة، وأنشأ خانا ينزله الناس، ورتب فيه الخفراء ووقف على مصالحه رزقة، فبلغ مصروفه نحو الستين ألف دينار مصرية سوى ما أخذ من الحجارة التي بعضها من قصر قديم كان خارج الإسكندرية، وسوى ما وجده من الرصاص في سرب بأسفل هذا القصر ينتهي بمن يمشي فيه إلى قريب البحر، وسوى ما أنعم به عليه من الرصاص الموجود بالخليج، ولم يزل الخليج فيه الماء طول السنة إلى ما بعد سنة سبعين وسبعمائة، فانقطع الماء منه وصار الماء لا يدخل إليه إلا في أيام زيادة ماء النيل فقط ثم يجف عند نقصه فتلف من أجل هذا أكثر بساتين الإسكندرية وخربت وتلاشى كثير من القرى التي كانت على هذا الخليج.
وسبب انقطاع الماء عنه غلبة الروم على الأشتوم الذي كان يعبر منه ماء بحر الملح إلى بحيرة الإسكندرية حتى جفت، وصار الرمل تلقيه الرياح في الخليج فانطمّ منه وعلا قاعه، وقصد من أدركناه من ملوك مصر حفر هذا الخليج غير مرّة، فلم يتهيأ ذلك إلى أن كانت سلطنة الملك الأشرف، برسباي، فندب لحفره الأمير جرباش الكريمي المعروف بعاشق، فتوجه إليه وجمع له من قدر عليه من رجال النواحي فبلغت عدّتهم ثمانمائة وخمسة وسبعين رجلا ابتدؤوا في حفره من حادي عشر جمادى الأولى سنة ست وعشرين وثمانمائة إلى حادي عشر شعبان لتمام تسعين يوما، فانتهى عملهم، ومشى الماء في الخليج، حتى انتهى إلى حدّه من مدينة الإسكندرية، وجرت فيه السفن، فسرّ الناس به سرورا كبيرا وجبى ما أنفق على العمال في الحفر من أرباب النواحي التي على الخليج، ومن أرباب البساتين بالإسكندرية، ولم يكن في حفره كبير شناعة مما جرت به عادة الولاة في مثل ذلك، ولله الحمد، وعند ما انتهى قدم الأمير جرباش إلى قلعة الجبل، فخلع السلطان عليه وشكره، ثم عمله حاجب الحجاب، فلم يستمرّ ذلك إلا قليلا حتى انطمّ بالرمل وتعذر سلوك الخليج بالمراكب إلا في أيام النيل فقط.
ذكر جمل حوادث الإسكندريّة
وفي سنة تسع وتسعين ومائة، عظمت الحروب بديار مصر بين المطلب بن عبد الله الخزاعيّ «1» أمير مصر، وبين عبد العزيز بن الوزير الجرويّ، الثائر بتنيس، فعقد المطلب على الإسكندرية، لمحمد بن هبيرة بن هاشم بن خديج، فاستخلف محمد خاله، عمر بن عبد الملك بن محمد بن عبد الرحمن بن معاوية بن خديج، الذي يقال له: عمر بن ملاك،(1/319)
ثم عزله المطلب بعد ثلاثة أشهر، بأخيه الفضل بن عبد الله بن مالك، وكانت بالإسكندرية مراكب الأندلسيين قد قفلوا من غزوهم، وكان سبب قدوم هذه المراكب ما جرى لأهل قرطبة بوقعة الربض مع الحكم بن هشام في سنة اثنتين وثمانين ومائة، فأخرج جماعة منهم، فوصلوا إلى صغر الإسكندرية، زيادة على عشرة آلاف، وكان سبب ثورتهم أنّ قصابا من الإسكندرية، رمى وجه رجل منهم بكرش، فأنفوا من ذلك وصاروا إلى ما صاروا إليه، وذلك لما نزلوا رمل الإسكندرية ليبتاعوا ما يصلحهم، وكذلك كانوا على الزمان، وكانت الأمراء لا تبيحهم دخول الإسكندرية إنما كان الناس يخرجون إليهم، فيبايعونهم، فلما عزل عمر بن ملاك كتب إليه عبد العزيز الجرويّ يأمره بالوثوب على الإسكندرية، والدعاء له بها، فبعث عمر بن ملاك إلى الأندلسيين، فدعاهم إلى القيام معه في إخراج الفضل عنها، فساروا معه، وأخرج الفضل، ودعا للجروي، فوثب أهل الإسكندرية على الأندلسيين وأخرجوهم وردّوا الفضل، وقتل من الأندلسيين نفر، وانهزم الباقون إلى مراكبهم، فعزل المطلب أخاه، وولى عليها إسحاق بن أبرهة بن الصباح، في شهر رمضان سنة تسع وتسعين، ثم عزله بأبي ذكر بن جنادة المعافري.
فلما اقتتل السري بن الحكم هو والمطلب بن عبد الله، وغلب السري على مصر، وثب عمر بن ملاك، على أبي بكر، وأخرجه من الإسكندرية، ودعا للجرويّ، وأقبل الأندلسيون إليه فأفسدوا، فأمرهم بالخروج إلى مراكبهم، فشق ذلك عليهم، وظهرت بالإسكندرية طائفة يسمون بالصوفية، يأمرون بالمعروف، ويعارضون السلطان في أموره، فترأس عليهم رجل منهم يقال له: أبو عبد الرحمن الصوفيّ، فصاروا مع الأندلسيين يدا واحدة، واعتضدوا بلخم، وكانت لخم أعز من في ناحية الإسكندرية، فخوصم أبو عبد الرحمن الصوفيّ إلى عمر بن ملاك في امرأة، فقضى على أبي عبد الرحمن، فوجد في نفسه من ذلك، وخرج إلى الأندلسيين فألّف بينهم وبين لخم، ورجا أهل الأندلس أن يدركوا ثارا من عمر بن ملاك، فساروا إلى عمر بن ملاك، وهم زهاء عشرة آلاف، فحصروه في قصره، وخشي أنّ القصر لا يمنعه منهم، وخاف أن يدخلوا عليه عنوة، فيفضح في حرمه، فاغتسل، وتحنط، وتكفن، وأمر أهله أن يدلوه إليهم، فدلي فأخذته السيوف، فقتل.
ثم ولي أخوه محمد بن عبد الله الذي يلقب: جيوس، فقتل، ثم ولي عليهم عبد الله البطال بن عبد الواحد بن محمد بن عبد الرحمن بن معاوية بن خديج، فقتل، ثم ولي عليهم أخوه أبو هبيرة الحارث، فقتل، ثم ولي عليهم خديج بن عبد الواحد، فقتل، وانصرف القوم، وذلك في ذي القعدة، ثم فسد ما بين لخم والأندلسيين عند مقتل ابن ملاك واقتتلوا، فانهزمت لخم.
فظفر الأندلسيون بالإسكندرية في ذي الحجة، فولوها أبا عبد الرحمن الصوفيّ، فبلغ(1/320)
من الفساد والنهب والقتل ما لم يسمع بمثله، فعزله الأندلسيون، وولوا رجلا منهم يعرف بالكنانيّ، ثم حاربت بنو مدلج الأندلسيين فظفر بهم الأندلسيون ونفروهم عن البلاد، فلم يقدر بنو مدلج على الرجوع إلى أرض الإسكندرية حتى طلب السريّ من الأندلسيين أن يردّوهم، فأذنوا لهم حينئذ ورجعوا، وكان أبو قبيل يقول: أنا على الإسكندرية من أربعين مركبا مسلمين وليسوا بمسلمين، تأتي في آخر الصيف أخوف مني عليها من الروم، فيقال له: ما هذه الأربعون مركبا في هذا الخلق، لو كانت نيرانا تضطرم، فيقول: اسكت ويلك منها، وممن فيها يكون خراب الإسكندرية وما حولها، وبلغ عبد العزيز الجرويّ قتل ابن ملاك، فسار في خمسين ألفا، حتى نزل على حصن الإسكندرية، وحصرها حتى أجهد من فيها، فبلغه: أن السري بن الحكم بعث إلى تنيس بعثا، فكرّ راجعا في المحرّم سنة إحدى ومائتين، فدعا الأندلسيون للسري، ثم لما خلع أهل مصر المأمون، ودعوا لإبراهيم بن المهديّ، وقام الجرويّ بذلك سار إلى الإسكندرية وحصر الأندلسيين حتى دخلها صلحا، ودعي له بها ثم سار عنها إلى الفسطاط، فحارب السري وقتل ابنه، ثم انصرف، فسار الأندلسيون بعامل الجرويّ، وأخرجوه من الإسكندرية وخلعوا الجرويّ، ودعوا للسريّ فسار إليهم الجرويّ في شهر رمضان سنة ثلاث ومائتين، فعارضته القبط بسخا وأمدّتهم بنو مدلج، وهم في نحو من مائتي ألف فهزمهم، وبعث بجيوشه إلى الإسكندرية فحاصروها، وكانت بين السريّ وبين أهل الصعيد حروب، ثم إنّ الجرويّ سار إلى الإسكندرية سيره الرابع، وحاصرها ونصب عليها المجانيق سبعة أشهر، من أوّل شعبان سنة أربع ومائتين إلى سلخ صفر سنة خمس، فأصاب الجرويّ فلقة من حجر منجنيقة، فمات سلخ صفر سنة خمس ومائتين، وقام من بعده ابنه عليّ.
فلم تزل الفتن بالأندلسيين في الإسكندرية متصلة إلى أن قدم عبد الله بن طاهر إلى مصر من قبل أمير المؤمنين المأمون، وأخرج عبيد الله بن السريّ من مصر، وسار إلى الإسكندرية في قوّاد العجم من أهل خراسان مستهلّ صفر سنة اثنتي عشرة ومائتين، فحاصرها بضع عشرة ليلة، حتى خرج إليه أهلها بأمان وصالحه الأندلسيون على أن يسيرهم من الإسكندرية حيث أحبوا، على أن لا يخرجوا في مراكبهم أحدا من أهل مصر، ولا عبدا ولا آبقا، فإن فعلوا فقد حلت له دماؤهم، ونكث عهدهم وتوجهوا، فبعث ابن طاهر، من يفتش عليهم مراكبهم، فوجدوا فيها جمعا من الذين اشترط عليهم أن لا يخرجوهم، فأمر بإحراق مراكبهم، فسألوه أن يردّهم إلى شرطهم، ففعل وساروا إلى جزيرة أقريطش، وملكوها، وكان الأمير معهم أبو حفص عمر بن عيسى، ثم ملكها ولده من بعده، وعمرها الأندلسيون إلى أن غزاها الروم سنة خمس وأربعين وثلثمائة، وملكها بعد حصار طويل، وولى على الإسكندرية إلياس بن أسد بن سامان، ورجع إلى الفسطاط في جمادى الآخرة، ثم سار إلى العراق، ولما انتقض أسفل الأرض في جمادى الأولى سنة ست عشرة ومائتين،(1/321)
وحاربهم الأفشين ومعه عيسى بن منصور الرافقيّ أمير مصر، وبعث عبد الله بن يزيد بن مزيد الشيبانيّ إلى الغربية، فانهزم إلى الإسكندرية، واستجاشت عليه بنو مدلج وحصروه في شوّال، فسار الأفشين وأوقع بمن في طريقه حتى قدم الإسكندرية في جنوده، فلقيته طائفة من بني مدلج، فهزمهم مرّتين وأسر منهم وقتل ودخل الإسكندرية لعشر بقين من ذي الحجة، ففرّ منه رؤساؤها.
وكان عليها معاوية بن عبد الواحد بن محمد بن عبد الرحمن بن معاوية بن خديج، فأصلح أمرها، ثم خرج إلى أهل البشرود، فامتنعوا عليه حتى قدم المأمون إلى مصر، فصار إلى البشرود والأفشين قد أوقع بالقبط بها كما تقدّم ذكره.
ولما ولي إبراهيم بن أحمد بن محمد بن الأغلب إفريقية في سنة إحدى وستين ومائتين حسنت سيرته، فكانت القوافل والتجار تسير في الطرق وهي آمنة وبنى الحصون، والمحارس على ساحل البحر حتى كانت توقد النار من مدينة سبتة إلى الإسكندرية، فيصل الخبر منها إلى الإسكندرية في ليلة واحدة، وبينهما مسيرة أشهر.
وفي سنة اثنتين وثلثمائة دخل حباسة «1» في جيوش إفريقية إلى الإسكندرية في المحرّم، ومعه مائة ألف أو زيادة عليها، وقدمت الجيوش من المشرق، مددا لتكين أمير مصر، وسار حباسة من الإسكندرية ونودي بالنضير في الفسطاط لعشر بقين من جمادى الآخرة، فلم يتخلّف عن الخروج إلى الجيزة أحد من الخاصة والعامّة، إلا من عجز عن الحركة لمرض، أو عذر، وأتاهم حباسة فلقوه وهزموه، ثم دار عليهم، فقتل من أهل مصر نحوا من عشرة آلاف، ونهض حباسة إلى إفريقية، وأقاموا بمصر مضطربين.
فأقبل مؤنس الخادم من العراق في رمضان بجيوش كثيرة، فصرف تكين في ذي القعدة، وولى ذكاء الأعور «2» في صفر سنة ثلاث وثلثمائة، فخرج في جيوشه إلى الإسكندرية، وتتبع كل من يومأ إليه بمكاتبة صاحب إفريقية، فسجن منهم، وقتل كثيرا وجلا أهل لوبية ومراقية إلى الإسكندرية في شوّال سنة أربع وثلثمائة، خوفا من صاحب برقة.
وفي سنة سبع وثلثمائة، سارت مقدّمة المهديّ، عبيد الله من إفريقية مع ابنه أبي القاسم إلى لوبية، فهرب أهل الإسكندرية وجلوا عنها، وخرج منها مظفر بن ذكاء الأعور في جيشه، ودخلت إليها العساكر يوم الجمعة لثمان خلون من صفر، وفرّ أهل القوّة من الفسطاط إلى الشأم، فخرج ذكاء أمير مصر إلى الجيزة، وعسكر بها، ثم مرض ومات على مصافه بالجيزة في ربيع الأوّل.(1/322)
فولي تكين بعده ولايته الثانية من قبل المقتدر، ونزل الجيزة وأقبلت مراكب صاحب إفريقية إلى الإسكندرية عليها سليمان الخادم، فقدم ثمل الخادم صاحب مراكب طرسوس، فالتقيا برشيد في شوّال، فاقتتلا فبعث الله ريحا على مراكب سليمان ألقتها إلى البر فتكسر أكثرها، وأخذ من فيها أخذا باليد، وقتل أكثرهم، وأسر من بقي وسيقوا إلى الفسطاط فقتل منهم نحو سبعمائة رجل، وسار أبو القاسم بن المهدي من الإسكندرية إلى الفيوم، وملك جزيرة الأشمونين والفيوم، وأزال عنها جند مصر، فمضى ثمل الخادم في مراكبه إلى الإسكندرية، فقاتل من بها من أهل إفريقية، فظفر بهم، ونقل أهل الإسكندرية إلى رشيد وعاد إلى الفسطاط، ومضى في مراكبه إلى اللاهون، ولحقته العساكر، فدخلوا إلى الفيوم في صفر سنة سبع وثلثمائة، فخرج أبو القاسم بن المهدي إلى برقة، ولم يكن بينهما قتال، ورجعت العساكر إلى الفسطاط، وما زالت الإسكندرية وأعمالها في اضطراب إلى أن قدمت جيوش المعز لدين الله، مع القائد جوهر في سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، فملكتها وما برحت إلى أن قام بها نزار بن المستنصر، وكان من أمره ما قد ذكر عند ذكر خزائن القصر.
وفي سنة اثنتي عشرة وستمائة، اجتمع بالإسكندرية ثلاثة آلاف من تجار الفرنج، وقدمت بطسة إلى المينا فيها من ملوك الفرنج، ملكان، فهموا أن يثوروا ويقتلوا أهل البلد، ويملكوها، فتوجه الملك العادل، أبو بكر بن أيوب، إليها وقبض على التجار المذكورين، وعلى من بالبطسة واستصفى أموالهم، وسجنهم وسجن الملكين، وجرت خطوب حتى أطلق السلطان نساءهم، وعاد إلى القاهرة.
وفي سنة أربع وخمسين وخمسمائة، بنى الملك الصالح طلائع بن رزيك على بلبيس حصنا من لبن.
وفي سنة اثنتين وستين وخمسمائة، كانت وقعة البابين بين الوزير شاور، وأسد الدين شيركوه، فانهزم عسكر شيركوه، ومضى منهم طائفة إلى الإسكندرية، ثم كانت لشيركوه على شاور، فانهزم منه إلى القاهرة، ومضى شيركوه إلى الإسكندرية، فخرج إليه أهل الثغر، وفيهم: نجم الدين محمد بن مصال والي الثغر وقاضيه الأشرف بن الخباب، وناظره القاضي الرشيد بن الزبير، وسرّوا بقدومه وسلّموه المدينة؛ ثم سار منها يريد بلاد الصعيد.
واستخلف ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب على الثغر في ألف فارس، فنزل عليه شاور، ومعه: مري ملك الفرنج، فقام معه أهل الثغر، واستعدّوا لقتال شاور، فكان ما أخرجوه أربعة وعشرين ألف فرس، فوعدهم شاور أن يضع عنهم المكوس والواجبات، ويعطيهم الخمس إذا سلموه صلاح الدين، فأبوا ذلك، وألحوا في قتاله، فحصرهم حتى قلّ الطعام عندهم، فتوجه إليهم شيركوه وقد حشد من العربان جموعا كثيرة، فبعث إليه شاور(1/323)
وبذل له خمسة آلاف دينار على أن يرجع إلى الشأم، فأجابه إلى ذلك، وفتحت المدينة، وخرج صلاح الدين إلى مري ملك الفرنج، وجلس معه، فما زال به شاور أن يسلمه صلاح الدين، فلم يوافقه، بل سيره إلى عمه شيركوه من البحر على عكا بمن معه إلى دمشق، ودخل شاور إلى الإسكندرية في سابع عشر شوّال، فاستتر ابن مصال، وفرّ إلى الشأم، وقبض على ابن الخباب، وعوقب حتى فداه أهله بمال جزيل، ولم يقدر على ابن الزبير، وخرج إلى رشيد.
هذا وقد امتنع الفقيه أبو الطاهر بن عوف، وجماعة كثيرة بالمنار فوقف عليهم شاور، فقال له ابن عوف: اعذرنا يا أمير الجيوش، وسامحنا بما فعلناه، فعفا عنهم، وولي القاضي الأشرف أبا القاسم عبد الرحمن بن منصور بن نجا، ناظرا على الأموال، وخرج ومعه مري ملك الفرنج إلى القاهرة، ثم توجه مري إلى بلاده.
وفي سنة إحدى وسبعين وستمائة، ورد الخبر بحركة الفرنج إلى ثغور مصر، فاهتم الملك الظاهر بيبرس بأمر الشواني، ونصب على أسوار الإسكندرية نحو مائة منجنيق.
وفي يوم الخميس شهر رجب سنة سبع وعشرين، خرج بعض تجار الفرنج إلى ظاهر باب البحر حيث تجتمع العامّة للفرجة، وتعرّض إلى صبيّ أمرد يراوده عن نفسه، فأنكر ذلك بعض من هناك من المسلمين، وقال: هذا ما يحل، فأخذ الفرنجي خفا كان بيده، وضربه على وجهه، فصاح بالناس، فأتوه، فقام الفرنج مع صاحبهم، واتسع الخرق إلى أن ركب متولي الثغر، وأغلق أبواب المدينة، وطلب من أثار الفتنة ففرّوا، وعاد إلى داره، وترك الأبواب مغلقة، وكان بظاهر المدينة خلق كثيرة قد توجهوا على عادتهم في حوائجهم فحيل بينهم وبين بيوتهم، وجاء الليل وهم قيام على الأبواب يضجون ويصيحون، فمضى أعيان البلد إلى المتولي، وما زالوا به، حتى فتح لهم، فدخلوا مبادرين وهم يزدحمون، فمات منهم زيادة على عشرة أنفس، وتلفت أعضاء جماعة، وذهب من عمائم الناس ومناديلهم، وغير ذلك شيء كثير؛ وعظم البكاء والصراخ طول الليل، فلما كان من الغد، ركب الوالي لكشف أحوال الناس، فتكاثروا عليه ورجموه، فانهزم منهم إلى داره فتبعوه وقاتلوه، فقاتلهم من أعلى الدار حتى سفكت بينهما دماء كثيرة، وأحرقوا بابه، ونهبوا دورا بجانبه.
فكتب يستنجد والي دمنهور ومن حوله من العربان، فأتوه واحتاطوا بالمدينة، وسرّح الطائر إلى السلطان بخروج أهل الإسكندرية عن الطاعة، فاشتدّ غضبه وخشي من إطلاقهم الأمراء المسجونين، وبعث إلى القضاة فجمعهم واستفتاهم في قتالهم، فكتبوا بما يجب، وخرج إليهم الوزير مغلطاي الجماليّ، وطوغان شادّ الدواوين، وأيدمر أمير جندار، وعدّة من المماليك السلطانية، وناظر الخاص، ومع الوزير تذكرة بإراقة دماء أهل الفساد،(1/324)
ومصادرة جماعة وأخذ أموال أهل البلد، والقبض على الأسلحة المعدّة بها للغزاة وإمساك القاضي والشهود وحمل الأمراء المسجونين إلى القاهرة، فساروا في عاشره، وقدموا الثغر بعد ثلاثة أيام، ونزل الوزير بالخيس، وفرض على الناس خمسمائة ألف دينار مصرية، وأحضر قاضي القضاة، عماد الدين ونائبه في الحديد، وأنكر عليهما كونهما شهرا النداء في البلد بالغزاة في سبيل الله، فأنكرا وقوع هذا منهما، وأنهما لم يكن في قدرتهما ردّ السواد الأعظم، فضرب نائبه ابن الشيبي ضربا مبرّحا، وألزمه بحمل ستمائة ألف درهم، وألزم القاضي بخمسمائة ألف درهم، وكان قد رسم بشنقه، فتلطف في مكاتبة السلطان، واعتذر عنه وبرّأه حتى عفا عنه، وتتبع العامّة فوسط منهم ثلاثين رجلا في يوم الجمعة، ثالث عشره، فتسارع الناس إلى دورهم من الخوف، فذهبت عدّة عمائم واشتدّ الخوف مدّة عشرين يوما، وكتب السلطان تتوالى بالإيقاع بأهل الثغر، وأخذ أموالهم والوزير يحسن في الجواب إلى أن جهز الأمراء المسجونين، وسار من الثغر، وقد استعرض ما به من السلاح، فوجد ستة آلاف عدّة كاملة جعلها جميعها في قاعة وختم عليها، وبلغت الجباية من الناس ما ينيف على مائتين وستين ألف دينار، فكانت هذه من المحن العظيمة، والحوادث الشنيعة، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
ذكر مدينة أتريب
هذه المدينة بناها أتريب بن قبطيم بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام. قال ابن وصيف شاه: وكان أتريب قد انتقل إلى حيزه بعد موت أبيه قبطيم، وهي المدينة التي كان أبوه بناها له، وكان طولها اثني عشر ميلا، ولها اثنا عشر بابا، وجعل في شارعها الأعظم ثلاث قباب عالية على أعمدة بعضها فوق بعض منها قبة في وسط المدينة، وقبتان في طرفيها، وجعل على كل قبة مرقبا كبيرا وفي كل ناحية منها ملعبا، ومجالس ومنتزهات تشرق، وشق في غربيها نهرا وعقد عليه قناطر، وجعل من فوقها مجالس متصلة، وحولها المنازل تدور بالخليج متصلة بالقناطر على رياض مزروعة من خلفها الجنان والبساتين، وعلى كل باب من الأبواب، أعجوبة من تماثيل وأصنام متحرّكة، وأصنام تمنع من يؤذي، وجعل في داخل كل باب صورة شيطانين من صفر، فإذا قصدها أحد من أهل الخير قهقه الشيطان الذي عن يمنة الباب، وإن كان من أهل الشرّ بكى الشيطان الذي عن يسرة الباب، وجعل في كل منتزه منها من الوحش الآلف والطيور المغرّدة كل مستحسن، وفوق قباب المدينة صورا تصفر إذا هبت الرياح، ونصب مرآة ترى البلاد البعيدة، وبنى حذاءها في الشرق مدينة، وجعل فيها ملاعب وأصناما بارزة في صور مختلفة، وفي وسطها بركة إذا مرّ بها الطير سقط عليها، فلا يبرح حتى يؤخذ وجعل لها حصنا، باثني عشر بابا، على كل باب تمثال يعمل بأعجوبة، وعمل حواليها جنانا، وجعل بالقرب منها في ناحية الشرق مجلسا منقوشا على ثماني أساطين، وفوقه قبة عليها طائر منشور الجناحين يصفر في كل يوم ثلاث(1/325)
تصفيرات، بكرة ونصف النهار وعند غروب الشمس، وأقام فيها أصناما وعجائب كثيرة، وبنى مدنا كثيرة، وأقام فيها رجلا يقال له: برسان، يعمل الكيمياء، وضرب منها دنانير في كل دينار، سبعة مثاقيل عليها صورته، وعاش أتريب ملكا ثلثمائة وستين سنة، وبلغ من العمر خمسمائة سنة، وعمل له ناوس في جبل بالشرق، حفر له تحته سرب بطن بالزجاج والمرمر، وجعل على سرير من ذهب مرصع، وحملت إليه ذخائره وجعلوا على بابه صورة تنين لا يدنو منه أحد إلا أهلكه، وسوّروا عليه الرمال، وزبروا عليه اسمه وتاريخ وقته.
وقال ابن الكنديّ: أربع كور بمصر ليس على وجه الأرض أفضل منها، ولا تحت السماء لهنّ نظير: كورة الفيوم، وكورة أتريب، وكورة سمنود، وكورة أنصنا؛ وكورة أتريب من جملة كور أسفل الأرض، وهي مائة وثماني قرى.
وكان يقال: مدائن السحرة من ديار مصر سبع وهي: أرمنت، وبيا، وبوصير، وأنصنا، وصان، وأتريب، وصا.
ذكر مدينة تنيس «1»
تنيس: بكسر التاء المنقوطة باثنتين من فوقها وكسر النون المشدّدة وياء آخر الحروف وسين مهملة: بلدة من بلاد مصر في وسط الماء، وهي من كورة الخليج سميت بتنيس بن حام بن نوح، ويقال: بناها قليمون من ولد أتريب بن قبطيم، أحد ملوك القبط في القديم.
قال ابن وصيف شاه: وملكت بعد أتريب، ابنته، فدبرت الملك وساسته بأيد وقوّة خمسا وثلاثين سنة، وماتت، فقام بالملك من بعدها، ابن أختها، قليمون الملك، فردّ الوزراء إلى مراتبهم، وأقام الكهان على مواضعهم ولم يخرج الأمر عن رأيهم، وجدّ في العمارات وطلب الحكم.
وفي أيامه بنيت تنيس الأولى التي غرّقها البحر، وكان بينه وبينها شيء كثير وحولها الزرع والشجر والكروم وقرى ومعاصر للخمر وعمارة لم يكن أحسن منها، فأمر الملك أن يبنى له في وسطها مجالس، وينصب له عليها قباب وتزين بأحسن الزينة والنقوش، وأمر بفرشها وإصلاحها، وكان إذا بدا النيل يجري، انتقل الملك إليها، فأقام بها إلى النوروز، ورجع وكان للملك بها أمناء يقسمون المياه، ويعطون كل قرية قسطها، وكان على تلك القرى، حصن يدور بقناطر، وكان كل ملك يأتي يأمر بعمارتها والزيادة فيها ويجعلها له منتزها.(1/326)
ويقال: إنّ الجنتين اللتين ذكرهما الله تعالى في كتابه العزيز إذ يقول: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ
[الكهف/ 32] الآيات، كانتا لأخوين من بيت الملك أقطعهما ذلك الموضع، فأحسنا عمارته وهندسته وبنيانه، وكان الملك يتنزه فيهما، ويؤتي منهما بغرائب الفواكه والبقول، ويعمل له من الأطعمة والأشربة ما يستطيبه، فعجب بذلك المكان أحد الأخوين، وكان كثير الضيافة والصدقة، ففرّق ماله في وجوه البرّ، وكان الآخر ممسكا يسخر من أخيه إذا فرّق ماله، وكلما باع من قسمه شيئا اشتراه منه حتى بقي لا يملك شيئا، وصارت تلك الجنة لأخيه واحتاج إلى سؤاله، فانتهره وطرده، وعيره بالتبذير، وقال: قد كنت أنصحك بصيانة مالك، فلم تفعل، ونفعني إمساكي فصرت أكثر منك مالا وولدا، وولى عنه مسرورا بماله وجنته، فأمر الله تعالى البحر، فركب تلك القرى، وغرّقها جميعها، فأقبل صاحبها يولول ويدعو بالثبور ويقول: يا ليتني لم أشرك بي أحدا، قال الله جلّ جلاله: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ
[الكهف/ 43] .
وفي زمان قليمون الملك، بنيت دمياط، وملك قليمون تسعين سنة، وعمل لنفسه ناوسا في الجبل الشرقيّ، وحوّل إليه الأموال والجواهر وسائر الذخائر، وجعل من داخله تماثيل تدور بلواليب في أيديها سيوف من دخل قطعته، وجعل عن يمينه ويساره، أسدين من نحاس مذهب بلوالب، من أتاه حطماه، وزبر عليه: هذا قبر قليمون بن أتريب بن قبطيم بن مصر عمّر دهرا، وأتاه الموت فما استطاع له دفعا، فمن وصل إليه فلا يسلبه ما عليه وليأخذ من بين يديه.
ويقال: إنّ تنيس أخ لدمياط.
وقال المسعوديّ في كتاب مروج الذهب وغيره: تنيس كانت أرضا لم يكن بمصر مثلها استواء وطيب تربة، وكانت جنانا ونخلا وكرما وشجرا ومزارع، وكانت فيها مجار على ارتفاع من الأرض، ولم ير الناس بلدا أحسن من هذه الأرض، ولا أحسن اتصالا من جنانها وكرومها، ولم يكن بمصر كورة يقال إنها تشبهها إلا الفيوم، وكان الماء منحدرا إليها لا ينقطع عنها صيفا ولا شتاء يسقون جنانهم إذا شاءوا، وكذلك زروعهم وسائره يصب إلى البحر من جميع خلجانه، ومن الموضع المعروف بالأشتوم، وقد كان بين البحر وبين هذه الأرض مسيرة يوم، وكان فيما بين العريش وجزيرة قبرس، طريق مسلوك إلى قبرس، تسلكه الدواب يبسا ولم يكن بين العريش وجزيرة قبرس في البحر سير طويل، حتى علا الماء الطريق الذي كان بين العريش وقبرس، فلما مضت لدقلطيانوس من ملكه مائتا وإحدى وخمسون سنة، هجم الماء من البحر على بعض المواضع التي تسمى اليوم: بحيرة تنيس، فأغرقه وصار يزيد في كل عام، حتى أغرقها بأجمعها، فما كان من القرى التي في قرارها غرق، وأما الذي كان منها على ارتفاع من الأرض فبقي منه تونة وبورا وغير ذلك مما هو(1/327)
باق إلى هذا الوقت، والماء محيط بها، وكان أهل القرى التي في هذه البحيرة ينقلون موتاهم إلى تنيس، فنبشوهم واحدا بعد واحد، وكان استحكام غرق هذه الأرض بأجمعها قبل أن تفتح مصر بمائة سنة. قال: وقد كان لملك من الملوك التي كانت دارها، الفرما مع أركون من أراكنة: البلينا، وما اتصل بها من الأرض، حروب عملت فيها خنادق وخلجان فتحت من النيل إلى البحر يمتنع بها كل واحد من الآخر، وكان ذلك داعيا لتشعب الماء من النيل واستيلائه على هذه الأرض.
وقال في كتاب أخبار الزمان: وكانت تنيس عظيمة لها مائة باب، وقال ابن بطلان:
تنيس بلد صغير على جزيرة في وسط البحر، ميله إلى الجنوب عن وسط الإقليم الرابع، خمس درج، وأرضه سبخة، وهواؤه مختلف، وشرب أهله من مياه مخزونة في صهاريج تملأ في كل سنة عند عذوبة مياه البحر بدخول ماء النيل إليها، وجميع حاجاتها مجلوبة إليها في المراكب، وأكثر أغذية أهلها السمك والجبن وألبان البقر، فإنّ ضمان الجبن السلطانيّ سبعمائة دينار حسابا عن كل ألف قالب دينار ونصف، وضمان السمك عشرة آلاف دينار، وأخلاق أهلها سهلة منقادة، وطبائعهم مائلة إلى الرطوبة والأنوثة.
قال أبو السريّ الطبيب: إنه كان يولد بها في كل سنة مائتا مخنث، وهم يحبون النظافة والدماثة والغناء واللذة، وأكثرهم يبيتون سكارى، وهم قليلو الرياضة لضيق البلد، وأبدانهم ممتلئة الأخلاط وحصل بها مرض يقال له: الفواق التنيسيّ، فلما فتحت دمياط، سار إليها المسلمون، فبرز إليهم نحو عشرين ألفا من العرب المتنصرة والقبط والروم، فكانت بينهم حروب آلت إلى وقوع أبي ثور في أيدي المسلمين، وانهزام أصحابه، فدخل المسلمون البلد وبنوا كنيستها جامعا، وقسموا الغنائم وساروا إلى الفرما، فلم تزل تنيس بيد المسلمين، إلى أن كانت إمرة بشر بن صفوان الكلبيّ على مصر من قبل يزيد بن عبد الملك في شهر رمضان سنة إحدى ومائة، فنزل الروم تنيس، فقتل مزاحم بن مسلمة المراديّ أميرها في جمع من الموالي، وفيهم يقول الشاعر:
ألم تربع فيخبرك الرجال ... بما لاقى بتنيس الموالي
وكانت تنيس مدينة كبيرة، وفيها آثار كثيرة للأوائل، وكان أهلها مياسير أصحاب ثراء، وأكثرهم حاجة، وبها يحاك ثياب الشروب التي لا يصنع مثلها في الدنيا، وكان يصنع فيها للخليفة ثوب يقال له: البدنة لا يدخل فيه من الغزل سداء ولحمة غير أوقيتين، وينسج باقيه بالذهب بصناعة محكمة لا تحوج إلى تفصيل ولا خياطة تبلغ قيمته ألف دينار، وليس في الدنيا طراز ثوب كتان يبلغ الثوب منه، وهو سادج بغير ذهب مائة دينار عينا، غير طراز تنيس ودمياط، وكان النيل إذا أطلق يشرب منه من بمشارق الفرما من ناحية جرجير، وفاقوس من خليج تنيس، فكانت من أجلّ مدن مصر، وإن كانت شطا، وديفو، ودميرة،(1/328)
وتونة، وما قاربها من تلك الجزائر يعمل بها الرفيع فليس ذلك يقارب التنيسيّ والدمياطيّ، وكان الحمل منها إلى ما بعد سنة ستين وثلثمائة، يبلغ من عشرين ألف دينار إلى ثلاثين ألف دينار لجهاز العراق، فلما تولى الوزير يعقوب بن كلس تدبير المال استأصل ذلك بالنوائب، وكان يسكن بمدينة تنيس ودمياط نصارى تحت الذمّة، وكان أهل تنيس يصيدون السماني وغير ذلك من الطير على أبواب دورهم، والسماني طائر يخرج من البحر، فيقع في تلك الشباك، وكانت السفن تركب من تنيس إلى الفرما وهي على ساحل البحر.
ولما مات هارون الرشيد، وقام من بعده ابنه محمد الأمين، وأراد الغدر والنكث بالمأمون، كان على مصر، حاتم بن هرثمة بن أعين من قبل الأمين، فلما ثار عليه أهل تنو، ونمي بعث إليهم السريّ بن الحكم، وعبد العزيز بن الوزير الجرويّ، فغلبا بعد الثمانية من شوّال سنة أربع وتسعين ومائة، ثم ولي الأمير جابر بن الأشعث الطائيّ مصر، وصرف حاتم بن هرثمة، وكان جابر لينا، فلما تباعد ما بين محمد الأمين وبين أخيه عبد الله المأمون، وخلع محمد أخاه من ولاية العهد، وترك الدعاء له على المنابر، وعهد إلى ابنه موسى، ولقبه بالشديد ودعى له، تكلم الجند بمصر بينهم في خلع محمد غضبا للمأمون، فبعث إليهم جابر ينهاهم عن ذلك، ويخوّفهم عواقب الفتن، وأقبل السريّ بن الحكم يدعو الناس، إلى خلع محمد، وكان ممن دخل إلى مصر في أيام الرشيد من جند، الليث بن الفضل، وكان خاملا فارتفع ذكره بقيامه في خلع محمد الأمين.
وكتب المأمون إلى أشراف مصر يدعوهم إلى القيام بدعوته، فأجابوه وبايعوا المأمون في رجب سنة ست وتسعين ومائة، ووثبوا بجابر، فأخرجوه وولوا عباد بن محمد، فبلغ ذلك محمد الأمين، فكتب إلى رؤساء الحوف بولاية ربيعة بن قيس الجرشيّ، وكان رئيس قيس الحوف، فانقاد أهل الحوف كلهم معه، يمنها وقيسها، وأظهروا دعوة الأمين، وخلع المأمون، وساروا إلى الفسطاط لمحاربة أهلها واقتتلوا، فكانت بينهما قتلى، ثم انصرفوا وعادوا مرارا إلى الحرب، فعقد عباد بن محمد لعبد العزيز الجرويّ، وسيره في جيش ليحارب القوم في دارهم، فخرج في ذي القعدة سنة سبع وتسعين ومائة، وحاربهم بعمريط، فانهزم الجرويّ، ومضى في قومه من لخم وجذام إلى فاقوس، فقال له قومه: لم لا تدعو لنفسك فما أنت بدون هؤلاء الذين غلبوا على الأرض؟ فمضى فيهم إلى تنيس، فنزلها ثم بعث بعماله يجبون الخراج من أسفل الأرض، فبعث ربيعة بن قيس يمنعه من الجباية، وسار أهل الحوف في المحرّم سنة ثمان وتسعين إلى الفسطاط، فاقتتلوا، وقتل جمع من الفريقين، وبلغ أهل الحوف قتل الأمين، فتفرّقوا.
وولي إمرة مصر، مطلب بن عبد الله الخزاعيّ من قبل المأمون، فدخلها في ربيع الأوّل، وولى عبد العزيز الجرويّ شرطته، ثم عزله وعقد له على حرب أسفل الأرض، ثم(1/329)
صرف المطلب، وولى العباس بن موسى بن عيسى في شوّال، فولي عبد العزيز الشرطة، فلما ثار الجند وأعادوا المطلب في المحرّم سنة تسع وتسعين، هرب الجرويّ إلى تنيس، وأقبل العباس بن موسى بن عيسى من مكة إلى الحوف، فنزل ببلبيس، ودعا قيسا إلى نصرته، ثم مضى إلى الجرويّ بتنيس، فأشار عليه أن ينزل دار قيس، فرجع إلى بلبيس في جمادى الآخرة، وبها مات مسموما في طعام دسه إليه المطلب على يد قيس، فدان أهل الأحواف للمطلب، وبايعوه، وسارعوا إلى جب عميرة وسالموه عند ما لقوه، وبعث إلى الجرويّ يأمره بالشخوص إلى الفسطاط فامتنع من ذلك، وسار في مراكبه حتى نزل شطنوف، فبعث إليه المطلب السريّ بن الحكم في جمع من الجند يسألونه الصلح، فأجابهم إليه، ثم اجتهد في الغدر بهم، فتيقظوا له، فمضى راجعا إلى بنا، فاتبعوه وحاربوه.
ثم عاد، فدعاهم إلى الصلح ولاطف السريّ، فخرج إليه في زلاج وخرج الجرويّ في مثله، فالتقيا في وسط النيل مقابل سندفا، وقد أعدّ الجرويّ في باطن زلاجة الحبال، وأمر أصحابه بسندفا إذا لصق بزلاج السريّ، أن يجرّوا الحبال إليهم، فلصق الجرويّ بزلاج السريّ، فربطه في زلاجه، وجرّ الحبال، وأسر السريّ، ومضى به إلى تنيس، فسجنه بها، وذلك في جمادى الأولى، ثم كرّ الجرويّ وقاتل، فلقيه جموع المطلب بسفط سليط في رجب، فظفر، ولما عزل عمر بن ملاك عن الإسكندرية، ثار بالأندلسيين، ودعا للجرويّ، فأقبل عبد الله بن موسى بن عيسى إلى مصر طالبا بدم أخيه العباس في المحرّم سنة مائتين، فنزل على عبد العزيز الجرويّ، فسار معه في جيوش كثيرة العدد في البرّ والبحر حتى نزل الجيزة، فخرج إليه المطلب في أهل مصر، فحاربوه في صفر، فرجع الجرويّ إلى شرقيون، ومضى عبد الله بن موسى إلى الحجاز، وظهر المطلب على أنّ أبا حرملة فرجا الأسود، هو الذي كاتب عبد الله بن موسى، وحرّضه على المسير، فطلبه ففرّ إلى الجرويّ، وجدّ المطلب في أمر الجرويّ، فأخرج الجرويّ السريّ بن الحكم من السجن، وعاهده وعاقده على أن يثور بالمطلب ويخلعه، فعاهده السريّ على ذلك فأطلقه، وألقى إلى أهل مصر أنّ كتاب ورد بولايته فاستقبله الجند من أهل خراسان، وعقدوا له عليهم وامتنع المصريون من ولايته، فنزل داره بالحمراء، وأمدّه قيس بجمع منهم وحارب المصريين فهزمهم، وقتل منهم، فطلب المطلب منه الأمان، فأمنه، وخرج من مصر.
واستبدّ السريّ بن الحكم، بأمر مصر في مستهل شهر رمضان «1» ، فلما قتل الأندلسيون، عمر بن ملاك بالإسكندرية، سار إليها الجرويّ في خمسين ألفا، فبعث السريّ إلى تنيس بعثا، فكرّ الجرويّ راجعا إلى تنيس في محرّم سنة إحدى ومائتين، فلما ثار الجند بالسريّ في شهر ربيع الأوّل، وبايعوا سليمان بن غالب، قام عباد بن محمد عليه وخلعه،(1/330)
وقام بالأمر عليّ بن حمزة بن جعفر بن سليمان بن عليّ بن عبد الله بن عباس، في مستهل شعبان، فامتنع عباد أن يبايعه، ولحق بالجرويّ، ثم لحق به أيضا سليمان بن غالب، فكان معه وعاد السريّ إلى ولايته مصر، في شعبان وقوي سلطانه.
فلما كان في المحرّم سنة اثنتين مائتين، ورد كتاب المأمون إليه يأمره، بالبيعة لوليّ عهده عليّ بن موسى»
الرضى، فبويع له بمصر، وقام في فساد ذلك إبراهيم بن المهديّ ببغداد، وكتب إلى وجوه الجند بمصر، يأمرهم بخلع المأمون، ووليّ عهده وبالوثوب على السريّ، فقام بذلك الحارث بن زرعة بن محرّم بالفسطاط، وعبد العزيز بن الوزير الجرويّ بأسفل الأرض، ومسلمة بن عبد الملك الطحاويّ الأزديّ بالصعيد، وخالفوا السريّ، ودعوا إلى إبراهيم بن المهديّ، وعقدوا على ذلك الأمر لعبد العزيز بن عبد الرحمن الأزديّ، فحاربه السريّ، وظفر به في صفر ولحق كل من كره بيعة عليّ الرضى بالجرويّ، لمنعته بتنيس وشدّة سلطانه، فسار إلى الإسكندرية، وملكها ودعى له بها وببلاد الصعيد، ثم سار في جمع كبير لمحاربة السريّ، واستعدّ كل منهما لصاحبه بأعظم ما قدر عليه، فبعث إليه السريّ ابنه ميمونا، فالتقيا بشطنوف، فقتل ميمون في جمادى الأولى سنة ثلاث ومائتين، وأقبل الجرويّ على مراكبه إلى الفسطاط ليحرقها، فخرج إليه أهل المسجد، وسألوه الكف، فانصرف عنها وحارب الإسكندرية غير مرّة، وقتل بها من حجر أصابه من منجنيقه في آخر صفر سنة خمس ومائتين.
ومات السريّ بعده بثلاثة أشهر في آخر جمادى الأولى، وقام بعده الجرويّ ابنه عليّ بن عبد العزيز الجرويّ، فحارب أبا نصر محمد بن السريّ أمير مصر بعد أبيه بشطنوف، ثم التقيا بدمنهور، فيقال: إنّ القتلى بينهما يومئذ كانوا سبعة آلاف، وانهزم ابن السريّ إلى الفسطاط، فتبعته مراكب ابن الجوريّ، ثم عادت فدخل أبو حرملة فرج بينهما حتى اصطلحا، ومات ابن السريّ في شعبان سنة ست ومائتين، فولي بعده أخوه عبيد الله بن السريّ، فكف عن ابن الجرويّ.
وبعث المأمون، مخلد بن يزيد بن مزيد الشيبانيّ إلى مصر في جيش من ربيعة، فامتنع عبيد الله بن السريّ من التسليم له، ومانعه فاقتتلوا، وانضم عليّ بن الجرويّ إلى خالد بن يزيد، وأقام له الأنزال وأغاثه، وسار حتى نزل على خندق عبيد الله بن السريّ، فاقتتلا في شهر ربيع الأوّل سنة سبع ومائتين، وجرت بينهما حروب بعد ذلك آلت إلى ترفع خالد إلى أرض الحوف، فكره ذلك ابن الجرويّ، ومكر به حتى أخرجه من عمله إلى غربيّ النيل فنزل نهيا، وانصرف ابن الجرويّ إلى تنيس، فصار خالد في ضرّ وجهد، وعسكر له(1/331)
ابن السريّ في شهر رمضان وأسره وأخرجه من مصر إلى مكة في البحر.
وبعث المأمون، بولاية عبيد الله بن السريّ، على ما في يده وهو فسطاط مصر، وصعيدها وغربيها، وبولاية عليّ بن عبد العزيز الجرويّ تنيس مع الحوف الشرقيّ، وضمنه خراجه، وأقبل ابن الجرويّ على استخراج خراجه من أهل الحوف فمانعوه، وكتبوا إلى ابن السريّ يستمدّونه عليه، فأمدّهم بأخيه، فالتقيا بكورة بنا في بلقينة، فاقتتلوا في صفر سنة تسع ومائتين، وامتدّت الحروب بينهما إلى أثناء ربيع الأوّل وهم منتصفون، فانصرف ابن الجرويّ فيمن معه إلى دمياط، فسار ابن السريّ إلى محلة شريقون، ونهبها وبعث إلى تنيس ودمياط فملكها، ولحق ابن الجرويّ بالفرما، وسار منها إلى العريش، فنزل فيما بينها وبين غزة، ثم عاد وأغار على الفرما في جمادى الآخرة، ففرّ أصحاب ابن السريّ من تنيس، وسار ابن الجرويّ إلى شطنوف، فخرج إليه ابن السريّ، واقتتلا، فكانت لابن الجرويّ في أوّل النهار، ثم أتاه كمين ابن السريّ فانهزم، وذلك في رجب، فمضى إلى العريش، وسار ابن السريّ إلى تنيس ودمياط، ثم أقبل ابن الجرويّ في المحرّم سنة عشر ومائتين، وملك تنيس ودمياط بغير قتال، فبعث إليه ابن السريّ البعوث فحاربهم.
فبينما هم في ذلك إذ قدم عبد الله بن طاهر، فتلقاه ابن الجرويّ بالأموال والأنزال، وانضم إليه ونزل معه ببلبيس، فامتنع ابن السريّ، ودافع ابن طاهر، فتراخى له وبعث، فجبى المال، ونزل زفتا، وبعث إلى شطنوف عيسى الجلوديّ على جسر عقده من زفتا، وجعل ابن الجرويّ على سفنه التي جاءته من الشام لمعرفته بالحرب، فهزم مراكب ابن السريّ في المحرّم سنة إحدى عشرة، وصالح ابن طاهر عبيد الله بن السريّ في صفر، وخلع عليه، وأجازه بعشرة آلاف دينار، وأقرّه بالخروج إلى المأمون، فسكنت فتن مصر بعبد الله بن طاهر.
وفي سنة سبع وسبعين وثلثمائة، ولدت بتنيس، معزى جديا له قرون عدّة، ورأسه مع صدره وبدنه، ومقدّمه بصوف أبيض، ومؤخره بشعر أسود، وذنبه ذنب شاة.
وولدت امرأة سخلة لها رأس مدوّر، ولها يدان ورجلان وذنب.
ولثلاث بقين من ذي الحجة من هذه السنة، حدث بتنيس رعد وبرق وريح شديدة وسواد عظيم في الجوّ، ثم ظهر وقت السحر في السماء عمود نار احمرّت منه السماء والأرض أشدّ حمرة وخرج غبار ودخان يأخذ بالأنفس، فلم يزل إلى الرابعة من النهار حتى ظهرت الشمس، ولم يزل كذلك خمسة أيام.
وفي سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة، حضر عند قاضي تنيس أبي محمد عبد الله بن أبي الريس رجل وامرأة فطالبت المرأة الرجل بفرض واجب عليه، فقال الرجل: تزوّجت(1/332)
بها منذ خمسة أيام، فوجدت لها ما للرجال وما للنساء! فبعث إليها القاضي امرأة لتشرف عليها، فأخبرت أن لها فوق القبل: ذكرا بخصيتين، والفرج تحتها، والذكر أقلف، وإنها رائعة الحسن، فطلقها الزوج.
قال أبو عمرو الكنديّ: حدّثني أبو نصر أحمد بن عليّ، قال: حدّثني يس بن عبد الأحد قال: سمعت أبي يقول: لما دخل عبد الله بن طاهر مصر كنت فيمن دخل عليه، فقال: حدّثنا عبد الله بن لهيعة عن أبي قبيل عن سبيع، قال: يا أهل مصر كيف بكم إذا كان في بلدكم فتن، فوليكم فيها الأعرج، ثم الأصفر، ثم الأمرد، ثم يأتي رجل من ولد الحسين لا يدفع، ولا يمنع تبلغ راياته البحر الأخضر، يملأها عدلا، فقلت: كان ذلك، كانت الفتنة، فوليها السريّ وهو الأعرج، والأصفر ابنه أبو النصر، والأمرد عبيد الله بن السريّ، وأنت عبد الله بن طاهر بن الحسين، ثم إن عبد الله بن طاهر سار إلى الإسكندرية، وأصلح أمرها، وأخرج ابن الجرويّ إلى العراق، ثم قدم بالأفشين إلى مصر في ذي الحجة سنة خمس عشرة، وقد أمر الأفشين أن يطالبه بالأموال التي عنده، فإن دفعها إليه وإلا قتله، فطالبه، فلم يدفع إليه شيئا، فقدّمه بعد الأضحى بثلاث فقتله.
وفي جمادى الآخرة سنة تسع عشرة ومائتين، ثار يحيى بن الوزير في تنيس، فخرج إليه المظفر بن كندر أمير مصر، فقاتله في بحيرة تنيس، وأسره وتفرّق عنه أصحابه.
وفي سنة تسع وثلاثين ومائتين، أمر المتوكل ببناء حصن على البحر بتنيس، فتولى عمارته، عنبسة بن إسحاق أمير مصر، وأنفق فيه وفي حصن دمياط والفرما مالا عظيما.
وفي سنة تسع وأربعين ومائتين عذبت بحيرة تنيس صيفا وشتاء، ثم عادت ملحا صيفا وشتاء، وكانت قبل ذلك تقيم ستة أشهر عذبة وستة أشهر مالحة.
وفي سنة ثمان وأربعين وثلثمائة، وصلت مراكب من صقلية، فنهبوا مدينة تنيس. وفي سنة ثمان وسبعين وثلثمائة، صيد بأشتوم تنيس حوت طوله ثمانية وعشرون ذراعا ونصف من ذلك، طول رأسه، تسعة أذرع، ودائر بطنه مع ظهره، خمسة عشر ذراعا، وفتحة فمه، تسعة وعشرون شبرا، وعرض ذنبه، خمسة أذرع ونصف، وله يدان يجذف بهما طول كل يد، ثلاثة أذرع، وهو أملس أغبر غليظ الجلد مخطط البطن ببياض وسواد ولسانه أحمر، وفيه خمل كالريش طوله نحو الذراع يعمل منه أمساط شبه الذبل، وله عينان كعيني البقر.
فأمر أمير تنيس أبو إسحاق بن لوبة به فشق بطنه، وملح بمائة أردب ملح ورفع فكه الأعلى بعود خشب طويل، وكان الرجل يدخل إلى جوفه بقفاف الملح، وهو قائم غير منحن وحمل إلى القصر حتى رآه العزيز بالله. وفي ليلة الجمعة ثامن عشر ربيع الأوّل سنة تسع وسبعين وثلثمائة، شاهد أهل تنيس، تسعة أعمدة من نار تلتهب في آفاق السماء من ناحية الشمال، فخرج الناس إلى ظاهر البلد يدعون الله تعالى، حتى أصبحوا فخبت تلك النيران، وفيها صيد(1/333)
ببحيرة تنيس، حوت طوله ذراع ونصفه الأعلى فيه، رأس وعينان وعنق وصدره على صورة أسد ويداه في صدره بمخالبه ونصفه الأدنى صورة حوت بغير قشر فحمل إلى القاهرة. وفي سنة سبع وتسعين وثلثمائة ولدت جارية بنتا برأسين، أحدهما بوجه أبيض مستدير، والآخر بوجه أسمر فيه سهولة في كل وجه عينان، فكانت ترضعهما، وكلاهما مركب على عنق واحد في جسد واحد بيدين ورجلين وفرج ودبر، فحملت إلى العزيز حتى رآها ووهب لأمها جملة من المال، ثم عادت إلى تنيس وماتت بعد شهور.
وفي سنة إحدى وسبعين وخمسمائة وصل إلى تنيس من شواني صقلية نحو أربعين مركبا، فحصروها يومين، وأقلعوا ثم وصل إليها من صقلية أيضا في سنة ثلاث وسبعين نحو أربعين مركبا فقاتلوا أهل تنيس حتى ملكوها. وكان محمد بن إسحاق صاحب الأسطول قد حيل بينه وبين مراكبه، فتحيز في طائفة من المسلمين إلى مصلى تنيس، فلما اجنهم الليل، هجم بمن معه البلد على الفرنج، وهم في غفلة، فأخذ منهم مائة وعشرين، فقطع رؤوسهم، فأصبح الفرنج إلى المصلى وقاتلوا من بها من المسلمين، فقتل من المسلمين نحو السبعين، وسار من بقي منهم إلى دمياط، فمال الفرنج على تنيس وألقوا فيها النار، فأحرقوها، وساروا وقد امتلأت أيديهم بالغنائم والأسرى إلى جهة الإسكندرية بعد ما أقاموا بتنيس، أربعة أيام.
ثم لما كانت سنة ست وسبعين وخمسمائة نزل فرنج عسقلان في عشر حراريق «1» على أعمال تنيس، وعليها رجل منهم، يقال له: المعز، فأسر جماعة، وكان على مصر، الملك العادل من قبل أخيه الملك الناصر، صلاح الدين يوسف، عند ما سار إلى بلاد الشام، ثم مضى المعز، وعاد فأسر ونهب، فثار به المسلمون، وقاتلوه فظفرهم الله به وقبضوا عليه، وقطعوا يديه ورجليه وصلبوه.
وفي سنة سبع وسبعين وخمسمائة، انتدب السلطان لعمارة قلعة تنيس، وتجديد الآلات بها عندما اشتدّ خوف أهل تنيس من الإقامة بها، فقدّر لعمارة سورها القديم على أساساته الباقية مبلغ ثلاثة آلاف دينار عن ثمن أصناف وآجر.
وفي سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، كتب بإخلاء تنيس، ونقل أهلها إلى دمياط، فأخليت في صفر من الذراري والأثقال، ولم يبق بها سوى المقاتلة في قلعتها.
وفي شوّال من سنة أربع وعشرين وستمائة، أمر الملك الكامل، محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، بهدم مدينة تنيس، وكان من المدن الجليلة تعمل بها الثياب السرية، وتصنع بها كسوة الكعبة.(1/334)
قال الفاكهيّ في كتاب أخبار مكة: ورأيت كسوة مما يلي الركن الغربيّ، يعني من الكعبة، مكتوبا عليها، مما أمر به السريّ بن الحكم وعبد العزيز بن الوزير الجرويّ، بأمر الفضل بن سهل ذي الرياستين «1» ، وطاهر بن الحسين سنة سبع وتسعين ومائة، ورأيت شقة من قباطي مصر في وسطها إلا أنهم كتبوا في أركان البيت بخط دقيق أسود، مما أمر به أمير المؤمنين، المأمون سنة ست ومائتين، ورأيت كسوة من كسا المهديّ مكتوبا عليها: بسم الله بركة من الله لعبد الله المهديّ محمد أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، مما أمر به إسماعيل بن إبراهيم أن يصنع في طراز تنيس على يد الحكم بن عبيدة سنة اثنتين وستين ومائة، ورأيت كسوة من قباطي مصر مكتوبا عليها: بسم الله، بركة من الله مما أمر به عبد الله المهديّ محمد أمير المؤمنين أصلحه الله محمد بن سليمان أن يصنع في طراز تنيس كسوة الكعبة على يد الخطاب بن مسلمة عامله سنة تسع وخمسين ومائة.
قال المسبحيّ في حوادث سنة أربع وثمانين وثلثمائة: وفي ذي القعدة ورد يحيى بن اليمان من تنيس ودمياط والفرما بهديته، وهي أسفاط وتخوت وصناديق مال، وخيل وبغال وحمير وثلاث مظال، وكسوتان للكعبة.
وفي ذي الحجة سنة اثنتين وأربعمائة وردت هدية تنيس الواردة في كل سنة منها خمس نوق مزينة ومائة رأس من الخيل بسروجها ولجمها وتجافيف وصناعات عدّة، وثلاث قباب دبيقية بمراتبها، ومتحرقات وبنود، وما جرى الرسم بحمله من المتاع والمال والبز.
ولما قدم الحاكم استدعت أخته، السيدة سيدة الملك إلى عامل تنيس عن الحاكم بأن يحمل مالا كان اجتمع قبله، ويعجل توجيهه، وقيل: إنه كان ألف ألف دينار، وألفي ألف درهم اجتمعت من ارتفاع البلد لثلاث سنين، وأمره الحاكم بتركها عنده، فحمل ذلك إليها وبه استعانت على ما دبرت.
وفي سنة خمس عشرة وأربعمائة ورد الخبر على الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله، أبي هاشم عليّ بن الحاكم بأمر الله: أن السودان وغيرهم ثاروا بتنيس، وطلبوا أرزاقهم وضيقوا على العامل، حتى هرب، وأنهم عاثوا في البلد وأفسدوا، ومدّوا أيديهم إلى الناس، وقطعوا الطرقات وأخذوا من المودع ألفا وخمسمائة دينار، فقام الجرجراي وقعد، وقال:
كيف يفعل هذا بخزانة السلطان؟ وساءنا فعل هذا بتنيس، أو بيت المال وسير خمسين فارسا للقبض على الجناة، وما زالت تنيس مدينة عامرة ليس بأرض مصر مدينة أحسن منها، ولا أحصن من عمارتها إلى أن خرّبها الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب في سنة أربع وعشرين وستمائة، فاستمرّت خرابا، ولم يبق منها إلا رسومها في وسط البحيرة، وكان(1/335)
من جملة كورة تنيس: بورا، ومنها، وإيوان، وشطا، وبحيرتها الآن يصاد منها السمك، وهي قليلة العمق يسار فيها بالعاديّ وتلتقي السفينتان هذه صاعدة، وهذه نازلة بريح واحدة، وقلع كل واحدة منها مملوء بالريح سيرهما في السرعة مستو توسط البحيرة عدّة جزائر تعرف اليوم بالعزب، جمع عزبة، بضم العين المهملة وزاء ثم باء موحدة، سكنها طائفة من الصيادين، وفي بعضها ملاحات يؤخذ منها ملح عذب لذيذ ملوحته، وماؤها ملح، وقد يحلو أيام النيل.
تونة: وكان من جملة عمل مدينة تنيس قرية يقال لها: تونة يعمل بها طراز تنيس، ويصنع بها من جملة الطراز كسوة الكعبة أحيانا.
قال الفاكهي: ورأيت أيضا كسوة لهارون الرشيد من قباطي مصر مكتوبا عليها:
بسم الله، بركة من الله للخليفة الرشيد عبد الله هارون أمير المؤمنين أكرمه الله مما أمر به الفضل بن الربيع أن يعمل في طراز تونة سنة تسعين ومائة.
سمناي: قرية من قرى تنيس غلبت عليها بحيرة تنيس، فصارت جزيرة، فلما كان في شهر ربيع الأوّل سنة سبع وثلاثين وثمانمائة، كشف عن حجارة وآجرّ بها، فإذا عضادات زجاج كثيرة مكتوب على بعضها اسم الإمام المعز لدين الله، وعلى بعضها اسم الإمام العزيز بالله نزار، ومنها ما عليه اسم الإمام الحاكم بأمر الله، ومنها ما عليه اسم الإمام الظاهر لإعزاز دين الله، ومنها ما عليه اسم المستنصر، وهو أكثرها؛ أخبرني بذلك من شاهده ورآه.
بورا: كانت فيما بين تنيس ودمياط، وإليها ينسب السمك الذي يقال له: البوريّ، وإليها ينسب أيضا بنو البوريّ، الذين كانوا بالقاهرة والإسكندرية.
وفي سنة عشر وستمائة، وصل العدوّ إليها بشوانية، وسباها فقدمت إليها القطائع التي كانت على رشيد، فسار عنها العدوّ.
القيس: بفتح القاف وبعدها سين مهملة، بلد ينسب إليها الثياب القيسية آثارها إلى اليوم باقية على البحر الملح فيما بين السوادة والواردة، وبعدها من مدينة الفرما قريب من ستة برد في البرّ، وهناك تل عظيم من رمل خارج في البحر الشاميّ يقطع الفرنج عنده الطريق على المارة، وبالقرب من التل سباخ ينبت فيه ملح يحمله العربان إلى غزة والرملة، وبقرب هذا السباخ آبار يزرع عندها مقاثي لعربان تلك البوادي.
ذكر مدينة صا
قال ابن وصيف شاه: ولما قسم قبطيم بن مصرايم الأرض بين أشمون وأتريب وقفط وصا، انتقل كل واحد إلى قسمه وحيزه، فخرج صا بأهله وولده وحشمه إلى حيزه، وهو بلد البحيرة والإسكندرية حتى انتهى إلى برقة، ونزل مدينة صا قبل أن تبنى الإسكندرية، وكان(1/336)
صا أصغر ولد أبيه وأحبهم إليه، فلما ملك حيزه أمر بالنظر في العمارات وبناء المدائن والبلدان والهياكل، وإظهار العجائب كما صنع إخوته وطلب الزيادة في ذلك.
وقال مرهون الهنديّ: صاحب بانة فبنى من حدّ صا إلى حدّ لوبية، ومراقيه على البحر أعلاما، وجعل على رؤوس تلك الأعلام مرائي من أخلاط شتى، فكان منها ما يمنع من دواب البحر وأذاها، ومنها ما إذا قصدتم عدوّ من الجزائر وأصابها الشمس، ألقت شعاعا على مراكبهم، فأحرقتها، ومنها ما يرى المدائن التي تحاذيهم من عدوة البحر، وما يعمله أهلها، ومنها ما ينظر فيها إلى إقليم مصر فيعلم منه ما يخصب، وما يجدب في كل سنة، وجعل فيها حمامات تقدمن نفسها، وجعل مستشرفات ومنتزهات، وكان ينزل كل يوم منها في موضع بمن يخصه من خدمه وحشمه، وجعل حواليها بساتين وسرح فيها الطيور المغرّدة، والوحش المستأمن، والأنهار المطردة والرياض المونقة، وجعل شرفات قصوره من حجارة ملوّنة تلمع إذا أصابتها الشمس، فينشر شعاعها على ما حولها، ولم يدع شيئا من آلة النعمة والرفاهية إلا استعمله، فكانت العمارة ممتدّة في رمال رشيد ورمال الإسكندرية إلى برقة، وكان الرجل يسافر في أرض مصر لا يحتاج إلى زاد لكثرة الفواكه والخيرات، ولا يسير إلا في ظلال تستره من الشمس، وعمل في تلك الصحاري قصورا، وغرس فيها غروسا، وساق إليها من النيل أنهارا، فكان يسلك من الجانب الغربيّ إلى حدّ الغرب في عمارة متصلة، فلما انقرض أولئك القوم بقيت آثارهم في تلك الصحاري، وخربت تلك المنازل وباد أهلها، ولا يزال من دخل تلك الصحاري يحكي ما رآه فيها من الآثار والعجائب.
قال مؤلفه رحمه الله: حدّثني الثقة، عمن دخل مدينة صا، ومشى في خرابها فإذا هو بلبنة طولها أربعة أشبار، فتناولها وأخذ يتأملها، ثم كسرها فإذا فيها سنبلة قدر شبر وافر، كأنها كما حصدت، وفركها بيده فخرج منها قمح أبيض، كبار حبه جدّا في قدر حب اللوبيا، فأكله كله فلم يجد فيه تغيرا، ودخل آخر إليها قبيل سنة تسعين وسبعمائة، وأخذ منها لبنة طولها ذراع ونصف في عرض ذراع، فكسرها فإذا فيها سنبلة قمح ثخن كل قمحة منها في مقدار ما يكون أكبر من الحمص، فلم يطق كسره إلا بعد ما رضه بالحجارة رضا، ووجد بصا: صنم لطيف طول أصبع فاتفق أنه ألقي في خابية ماء فصار خمرا، وكان ذلك عند رجل من تنيس، فصلحت حاله من بيعه ذلك الخمر، فطلبه الأمير الأوحد مستولي تنيس، وما زال به حتى أخذ الصنم منه.
رمل الغرابي
اعلم أنّ هذا الرمل ممتدّ في الأرض ويسميه بعضهم: الرمل الهبير، وطوله من وراء جبل طي إلى أن يتصل مشرقا بالبحر، ويمضي من وراء جبل طي إلى أرض مصر، ثم إلى(1/337)
بلد النوبة، ويمتدّ إلى البحر المحيط مسيرة خمسة أشهر، ومنه عرق يضرب من القادسية إلى البحرين، فيعبر البحرين فيمرّ على مشارق خورستان وفارس إلى أن يرد سجستان ويمرّ مشرقا إلى مرو آخذا على جيحون في برّية خوارزم، ويأخذ في بلاد الحدلحية إلى الصين والبحر المحيط في جهة الشرق، وهو على ما وصفته وسقته من المحيط بالمشرق إلى المحيط بالمغرب، وفيه جبال عظام لا ترتقى، وبعضه في أرض سهلة ينتقل من مكان إلى مكان، ومنه أصفر لين اللمس وأحمر وأزرق سماويّ وأسود حالك وأكحل مشبع كالنيل وأبيض كالثلج، ومنه ما يحكي الغبار نعومة، ومنه خشن جريش اللمس، وزعم بعضهم أن رمل الغرابيّ، وما يتصل به من حدّ العريش إلى أرض العباسة حادث.
وذكر في سبب كونه، خبر فيه معتبر، وهو أنّ شدّاد بن هدّاد بن شدّاد بن عاد، أحد الملوك العادية، قدم إلى مصر، وغلب بكثرة جيوشه أشمون بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح ملك مصر، وهدم ما بناه هو وآباؤه، وبنى لنفسه أهراما ونصب أعلاما زبر عليها الطلسمات، واختط موضع الإسكندرية، وأقام هناك دهرا إلى أن نزل به وبقومه وباء، فخرجوا من أرض مصر إلى جهة وادي القرى فيما بين المدينة النبوية، وأرض الشام، وعمروا الملاعب والمصانع لحبس المياه التي تجتمع من الأمطار والسيول، فكان سعة كل مصنع ميلا في ميل، وغرسوا النخل وغيره، وزرعوا أصناف الزراعات، فيما بين راية وأيلة إلى البحر الغربيّ، وامتدّت منازلهم من الدثنة إلى العريش والجفار في أرض سهلة ذات عيون تجري وأشجار مثمرة، وزروع كثيرة، فأقاموا بهذه الأرض دهرا طويلا، حتى عثوا وبغوا وتجبروا وطغوا، وقالوا: نحن الأكثرون قوّة الأشدّون الأغلبون، فسلط الله عليهم الريح فأهلكتهم ونسفت مصانعهم وديارهم، حتى سحلتها رملا فما تراه من هذه الرمال التي بأرض الجفار، ما بين العباسة حيث المنزلة التي تعرف اليوم بالصالحية إلى العريش من رمل مصانع العادية، وسالة صخورهم لما أهلكهم الله بالريح ودمّرهم تدميرا، وإياك وإنكار ذلك لغرابته، ففي القرآن الكريم ما يشهد لصحته، قال تعالى: وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ
[الذاريات/ 41] أي كالشيء الهالك البالي، وقيل: الرميم: نبات الأرض إذا يبس، وديس، وقيل: الورق الجاف المتحطم مثل الهشيم، والرميم: الخلق البالي من كل شيء.
مراقية: مدينة مراقية، كورة من كور مصر الغربية، وهي آخر حدّ أرض مصر، وفي آخر أرض مراقية تلقي أرض انطابلس، وهي برقة وبعدها من مدينة سنترية نحو من بريدين، وكان قطرا كبيرا به نخل كثير ومزارع، وبه عيون جارية، وبها إلى اليوم بقية، وثمرها جيد إلى الغاية وزرعها إذا بذر ينبت من الحبة الواحدة من القمح، مائة سنبلة، وأقل ما تنبت تسعون سنبلة، وكذلك الأرز بها فإنه جيد زاك وبها إلى اليوم بساتين متعدّدة، وكانت مراقية في القديم من الزمان سكنها البربر الذين نفاهم داود عليه السلام من أرض فلسطين، فنزلها(1/338)
منهم خلائق، ومنها تفرّقت البربر، فنزلت زناتة ومغيلة وضريسة الجبال، ونزلت لواتة أرض برقة، ونزلت هوّارة طرابلس المغرب، ثم انتشرت البربر إلى السويس، فلما كان في شوّال سنة أربع وثلثمائة من سني الهجرة المحمدية جلى أهل لوبية ومراقية إلى الإسكندرية خوفا من صاحب برقة، ولم تزل في اختلال إلى أن تلاشت في زمننا، وبها بعد ذلك بقية جيدة.
كوم شريك: هذا المكان بالقرب من الإسكندرية، له ذكر في الأخبار عرف بشريك بن سميّ بن عبد يغوث بن جزء المراديّ القطيفيّ، من الصحابة رضي الله عنهم، وكان على مقدّمة عمرو بن العاص في فتح الإسكندرية الثاني، فعند ما كثرت جمائع الروم انحاز شريك إلى هذا الكوم بأصحابه، ودافع الروم حتى أدركه عمرو، وكوم شريك هذا من جملة حوف رمسيس.
غيفة: قرية تقارب مدينة بلبيس، من الفسطاط إليها مرحلتان، كانت منزلة قافلة الحاج، ويقال: إنّ صواع الملك الذي فقد من مدينة مصر وجد في رحال إخوة يوسف عليه السلام، بغيفة هذه.
سمنود: كان بها بربا عليه هيئة درقة، فيها كتابة حكى ابن زولاق عن أبي القاسم مأمون العدل: أنه نسخ الكتابة في قرطاس وصوّره على درقة، قال: فما كنت أستقبل به أحدا، إلا ولى هاربا، وكان بها أيضا تماثيل وصور من يملك مصر، فيهم قوم عليهم شاسيات، وبأيديهم الحراب، وعليهم مكتوب هؤلاء يملكون مدينة مصر.
ذكر مدينة بلبيس
وسميت في التوراة: أرض حاشان، وفيها نزل يعقوب لما قدم على ولده يوسف عليهما السلام، فأنزله بأرض حاشان، وهي: بلبيس إلى العلاقمة من أجل مواشيهم. قال ابن سعيد: بلبيس واليها يصل حكمه إلى الواردة وهي آخر حدّ مصر، وإليها تنتهي المعادلة بفضة السواد، ويصير الناس يتعاملون بالفلوس بعدها إلى العريش، وهي أوّل الشام، وقيل:
هي آخر مصر.
وقال أبو عبيد البكريّ: بلبيس، فتح أوّله وإسكان ثانيه بعده باء مثل الأولى مفتوحة أيضا وياء ساكنة وسين مهملة، وهو موضع قريب مصر معروف، وذكر ابن خرداذبه في كتاب المسالك والممالك: أن بين بلبيس، ومدينة فسطاط مصر، أربعة وعشرين ميلا.
وذكر الواقديّ: أنّ المقوقس زوّج ابنته أرمانوسة من قسطنطين بن هرقل، وجهزها بأموالها وجواريها وغلمانها وحشمها لتسير إليه حتى يبني عليها في مدينة فيسارية، وهم محاصرون لها، فخرجت إلى بلبيس، وأقامت بها، وبعثت حاجبها الكبير في ألفي فارس إلى الفرما ليحفظ الطريق، ولا يدع أحدا من الروم ولا غيرهم يعبر إلى مصر، وبعث(1/339)
المقوقس رسله إلى أطراف بلاده مما يلي الشام، أن لا يتركوا أحدا يدخل أرض مصر مخافة أن يتحدّثوا بغلبة المسلمين على الشام، فيدخل الرعب في قلوب عساكره، فلما قدم عمر بن الخطاب الجابية، وسار عمرو بن العاص إلى مصر، نزل على بلبيس، وبها أرمانوسة ابنة المقوقس، فقاتل من بها وقتل منهم زهاء ألف فارس، وأسر ثلاثة آلاف، وانهزم من بقي إلى المقوقس، وأخذت أرمانوسة وجميع مالها وسائر ما كان للقبط في بلبيس، فأحب عمرو ملاطفة المقوقس، فسيّر إليه ابنته أرمانوسة مكرمة في جميع مالها مع قيس بن أبي العاص السهميّ، فسرّ بقدومها، ثم سار عمرو إلى القصر، ولم تزل من مدائن مصر الكبار، حتى نزل عليها مري ملك الفرنج، وأخذها عنوة بعد حصار طويل، وقتل منها آلافا، ولها أخبار كثيرة وقد خربت منذ عهد الحوادث بديار مصر، بعد سنة ست وثمانمائة بعد ما أدركناه، وبها عمارة كثيرة، وفيها عدّة بساتين وأهلها أصحاب يسار ونعم سنية.
ذكر بلد الورادة
الورادة من جملة الجفار. قال عبيد الله بن عبد الله بن خرداذبه في كتاب المسالك والممالك: وصفة الطريق والأرض من الرملة إلى أردود، اثنا عشر ميلا، ثم إلى غزة عشرون ميلا، ثم إلى العريش أربعة وعشرون ميلا في رمل، ثم الورادة ثمانية عشر ميلا، ثم إلى الغريب عشرون ميلا، ثم إلى الفرما أربعة وعشرون ميلا.
قال الخليفة المأمون:
لليلك كان بالميدا ... ن أقصر منه بالفرما
غريب في قرى مصر ... يقاسي الهم والسدما
ثم إلى جرير ثلاثون ميلا، ثم إلى القاصرة أربعة وعشرون ميلا، ثم إلى مسجد قضاعة ثمانية عشر ميلا، ثم إلى بلبيس أحد وعشرون ميلا، ثم إلى فسطاط مدينة مصر أربعة وعشرون ميلا.
وقال جامع تاريخ دمياط: ولما افتتح المسلمون الفرما، بعد ما افتتحوا دمياط وتنيس، ساروا إلى البقارة فأسلم من بها، وساروا منها إلى الورادة، فدخل أهلها في الإسلام وما حولها إلى عسقلان.
وقال القاضي الفاضل في متجدّدات شهر المحرّم سبع وستين وخمسمائة: وصابحنا الورادة فبتنا على مينا الورادة، ودخلنا الورادة فرأيت تاريخ منارة جامعها سنة ثمان وأربعمائة، واسم الحاكم بأمر الله عليها، والورادة من جملة الجفار، ويقال: أخذ اسمها من الورود، ولم يزل جامعها عامرا تقام به الجمعة إلى ما بعد السبعمائة، وبلد الورّادة القديمة في شرقيّ المنزلة التي يقال لها اليوم: الصالحية، وبها آثار عمائر ونخل قليل.(1/340)
الصالحية: هذه البلدة اختطها الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب بن شادي، بأرض المسانح والعلاقمة في أوّل الرمل الذي بين مصر والشام، وأنشأ بها قصورا وجامعا وسوقا لتكون منزلة العساكر إذا خرجوا من الرمل، وذلك في سنة أربع وأربعين وستمائة.
ذكر مدينة أيلة
ذكر ابن حبيب: أنّ أثال، بضم أوّله ثم ثاء مثلثة، وادي أيلة، وأيلة، بفتح أوّله على وزن فعلة، مدينة على شاطىء البحر فيما بين مصر ومكة سميت: بأيلة بنت مدين بن إبراهيم عليه السلام، وأيلة، أوّل حدّ الحجاز، وقد كانت مدينة جليلة القدر على ساحل البحر الملح، بها التجارة الكثيرة وأهلها أخلاط من الناس، وكانت حدّ مملكة الروم في الزمن الغابر، وعلى ميل منها باب معقود لقيصر، قد كان فيه مسلحته، يأخذون المكس، وبين أيلة والقدس، ست مراحل.
والطور الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام، على يوم وليلة من أيلة، وكانت في الإسلام منزلا لبني أمية، وأكثرهم موالي عثمان بن عفان، وكانوا سقاة الحاج، وكان بها علم كثير، وآداب ومتاجر وأسواق عامرة، وكانت كثيرة النخل والزروع، وعقبة أيلة لا يصعد إليها من هو راكب، وأصلحها فائق مولى خمارويه بن أحمد بن طولون، وسوّى طريقها، ورمّ ما استرم منها، وكان بأيلة مساجد عديدة، وبها كثير من اليهود، ويزعمون أن عندهم برد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنه بعثه إليهم أمانا وكانوا يخرجونه رداء عدنيا ملفوفا في الثياب قد أبرز منه قدر شبر فقط، ويقال: إنّ أيلة هي القرية التي ذكرها الله تعالى في كتابه حيث قال:
وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ
[الأعراف/ 163] .
وقد اختلف في تعيين هذه القرية، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: وعكرمة والسديّ، هي أيلة؛ وعن ابن عباس أيضا: أنها مدينة بين أيلة والطور؛ وعن الزهريّ: إنها طبرية؛ وقال قتادة وزيد بن أسلم: هي ساحل من سواحل الشام بين مدين وعينونة، يقال لها: معناة، وسئل الحسين بن الفضل، هل تجد في كتاب الله الحلال لا يأتيك إلا قوتا والحرام يأتيك جزافا؟ قال: نعم في قصة أيلة: إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ
[الأعراف/ 163] .
وكان من خبر أهل القرية أنهم كانوا من بني إسرائيل، وقد حرّم الله عليهم العمل في يوم السبت، فزين لهم إبليس الحيلة، وقال: إنما نهيتم عن أخذ الحيتان يوم السبت، فاتخذوا الحياض، فكانوا يسوقون الحيتان إليها يوم الجمعة، فتبقى فيها، فلا يمكنها الخروج منها لقلة الماء، فيأخذونها يوم الأحد.(1/341)
وقيل: كان الرجل يأخذ خيطا، ويضع فيه وهقه، ويلقيه في ذنب الحوت، وهو بتحريك الهاء وإسكانها، حبل كالطول، ويجعل في الطرف الآخر من الخيط وتدا، ويتركه كذلك إلى يوم الأحد، ثم تطرّق الناس حين رأوا من صنع هذا لا يبتلي حتى كثر الصيد للحيتان، ومشي به في الأسواق، وأعلن الفسقة بصيده، فقامت طائفة من بني إسرائيل، وجاهرت بالنهي، واعتزلت وقالت: لا نساكنكم، فقسموا القرية بجدار، فأصبح الناهون، ذات يوم في مجالسهم، ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: إنّ للناس لشأنا، فعلوا على الجدار فإذا هم قردة، فدخلوا عليهم، فعرفت القردة أنسابها من الإنس، فجعلت تأتيهم فتشم ثيابهم، وتبكي، فيقول الناهون للقردة: ألم ننهكم، فتقول برأسها: نعم. قال قتادة:
فصارت الشباب قردة، والشيوخ خنازير، فما نجا إلا الذين نهوا، وهلك سائرهم.
وقيل: إنّ ذلك كان في زمن نبيّ الله داود عليه السلام، وقيل: إنّ أيلة أصلها أيليالية، وقد وقع ذكرها في التوراة كذلك، وقال الشريف محمد بن أسعد الجوّانيّ: دكالة من البربر، بطن من المصامدة، وقالت طائفة: إنّ دكالة ولد أيلة، ويقال: أيل الذي سميت به عقبة أيلة، وأخر، أنهم من دغفل بن أيلة، وأنهم يعزون إلى البربر، ويقولون: نحن من ربيعة الفرس، وفي ذلك خلاف عظيم.
وذكر المسعوديّ: أن يوشع بن نون عليه السلام حارب السميدع بن هزبر بن مالك العمليقيّ، ملك الشام، ببلد أيلة نحو مدين وقتله، واحتوى على ملكه، وفي ذلك يقول عون بن سعيد الجرهميّ:
ألم تر أن العملقيّ بن هرمز ... بأيلة أمسى لحمه قد تمزعا
تداعت عليه من يهود جحافل ... ثمانون ألفا حاسرين ودرّعا
وهي أبيات كثيرة. وقال ابن إسحاق: فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، أتاه تحية بن روبة صاحب أيلة فصالحه، وأعطاه الجزية، وأتاه أهل جرباء وأذرح، فأعطوه الجزية، وكتب لهم كتابا فهو عندهم، وكتب لتحية بن روبة: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا أمنة من الله ومحمد النبيّ رسوله لتحية بن روبة وأهل أيلة أساقفهم وسائرهم في البرّ والبحر لهم ذمّة الله وذمّة النبيّ، ومن كان معهم من أهل الشام، وأهل اليمن، وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمن أخذه من الناس، وإنه لا يحل أن يمنعوا ما يريدونه ولا طريقا يريدونه من برّ أو بحر» . هذا كتاب جهيم بن الصلت وشرحبيل بن حسنة، بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك في سنة تسع من الهجرة، ولم تزل مدينة أيلة عامرة آهلة.
وفي سنة خمس عشرة وأربعمائة، طرق عبد الله بن إدريس الجعفري أيلة ومعه بعض بني الجرّاح ونهبها وأخذ منها ثلاثة آلاف دينار، وعدّة غلال، وسبى النساء والأطفال، ثم(1/342)
إنه صرف عن ولاية وادي القرى، فسارت إليه سرية من القاهرة لمحاربته.
قال القاضي الفاضل: وفي سنة ست وستين وخمسمائة، أنشأ الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، مراكب مفصلة وحملها على الجمال، وسار بها من القاهرة في عسكر كبير لمحاربة قلعة أيلة، وكانت قد ملكها الفرنج، وامتنعوا بها، فنازلها في ربيع الأوّل، وأقام المراكب وأصلحها وطرحها في البحر، وشحنها بالمقاتلة والأسلحة، وقاتل قلعة أيلة في البرّ والبحر حتى فتحها في العشرين من شهر ربيع الآخر، وقتل من بها من الفرنج وأسرهم، وأسكن بها جماعة من ثقاته، وقوّاهم بما يحتاجون إليه من سلاح وغيره، وعاد إلى القاهرة في آخر جمادى الأولى.
وفي سنة سبع وسبعين، وصل كتاب النائب بقلعة أيلة: أنّ المراكب على تحفظ وخوف شديد من الفرنج، ثم وصل الإيريس، لعنه الله، إلى أيلة، وربط العقبة وسير عسكره إلى ناحية تبوك وربط جانب الشام لخوفه من عسكر يطلبه من الشام أو مصر، فلما كان في شعبان من السنة المذكورة كثر المطر بالجبل المقابل للقلعة بأيلة، حتى صارت به مياه استغنى بها أهل القلعة عن ورود العين مدّة شهرين، وتأثرت بيوت القلعة لتتابع المطر، ووهت لضعف أساسها فتداركها أصحابها وأصلحوها.
وذكر أبو الحسن المسعوديّ في كتاب أخبار الزمان: ومن أباده الحدثان: الكوكة، وهم أمّة لهم أربعة ملوك، ملكوا أرض أيلة والحجاز وبنى كل واحد منهم مدينة سماها باسمه، وجعلوا سائر الأرض خيمات، وقسموها على ثلاثين كورة وجعلوها أربعة أعمال لكل عمل، ملك يجلس على منبر ذهب في مدينته، وعمل بربا وهي بيت الحكمة وعمل هيكلا لأخذ الكواكب، وجعل فيه أصناما من ذهب كل صنم له مرتبة، وكانت الإسكندرية واسمها رقودة، فجعلوا لها خمس عشرة كورة، وجعلوا فيها كبار الكهنة، ونصبوا في هياكلها من أصنام الذهب أكثر مما في غيرها، وكان فيها مائتا صنم من ذهب وقسموا الصعيد على ثمانين كورة، وجعلوا أربعة أقسام، وكان عدد مدن أهل مصر الداخلة في كورها، ثلاثين مدينة فيها العجائب.
وقيل: إنّ حمير الأكبر واسمه العرنجح بن سبأ الأكبر واسمه عامر ويعرف بعبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان، لما ملك بعد أبيه جمع جيوشه، وسار يطأ الأمم ويدوس الممالك، كما فعل أبوه فأمعن في المشرق حتى أبعد يأجوج ومأجوج إلى مطلع الشمس، ثم قفل نحو المغرب، فجاءه قبائل من أهل اليمن من بني هود بن عابر بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح، يشكون من ثمود بن عاثر بن إرم بن سام بن نوح، وما نزل بهم من ظلمهم، فأمر برفعهم من أرض اليمن، وأنزلهم أيلة فعمروها من أيلة إلى ذات الآصال إلى أطراف جبل نجد، فقطعت ثمود هناك الصخور، ونحتوا من الجبال(1/343)
البيوت، وتكبروا وطغوا، فبعث الله فيهم صالحا نبيا ورسولا، فكذبوه وسألوه، أن يخرج لهم ناقة من صخرة، فأخرجها لهم، فعقروها، فأهلكهم الله بالصيحة، فأصبحوا في ديارهم جاثمين.
وقد ذكر أنّ موسى عليه السلام، سار ببني إسرائيل بعد موت أخيه هارون إلى أرض أولاد العيص وهي التي تعرف بجبال السراة جنب بلد الشوبك، ثم مرّ فيها إلى أيلة، وتوجه بعد أيام إلى برّية باب حيث بلاد الكرك، حتى حارب تلك الأمم، وكان إلى جانب أيلة مدينة يقال لها: عصبون جليلة عظيمة.
مربوط: كورة من كور الإسكندرية، كانت لشدّة بياضها لا يكاد يبين فيها دخول الليل إلا بعد وقت، وكان الناس يمشون فيها، وفي أيديهم خرق سود خوفا على أبصارهم، ومن شدّة بياضها لبس الرهبان السواد، وكانت بلاد مربوط في نهاية العمارة والجنان المتصلة بأرض برقة، وهي اليوم من قرى الإسكندرية يزرع بها الفواكه وغيرها، وقد وقفها الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير، على جهات برّ بالجامع الحاكمي من القاهرة وبها جامع عمر في سنة ست وستين وستمائة، ثم استأجرها الملك المؤيد شيخ المحمودي في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة، وجدّد عمارة بستانها، وقد خرب لترداد عرب لبدة وبرقة إليه، فاستمرّت في ديوان السلطان.
وادي هبيب: هذا الوادي بالجانب الغربيّ من أرض مصر، فيما بين مربوط والفيوم، يجلب منه الملح والنطرون عرف بهبيب بن محمد بن معقل بن الواقعة بن حزام بن عفان الغفاريّ، أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد فتح مكة، وروى عنه أبو تميم الجيشانيّ، وأسلم مولى تجيب وسعيد بن عبد الرحمن الغفاريّ، وكان قد اعتزل عند فتنة عثمان رضي الله عنه بهذا الوادي، فعرف به، وكان يقول: لا يفرق بين قضاء دين رمضان، ويجمع بين الصلاتين في السفر، ويقال لهذا الوادي أيضا: وادي الملوك، ووادي النطرون، وبرّية شهاب، وبرّية الإسقيط، وميزان القلوب، وكان به مائة دير للنصارى، وبقي به سبعة ديورة، وقد ذكرت عند ذكر الأديار من هذا الكتاب، وهو واد كثير الفوائد فيه النطرون، ويتحصل منه مال كثير وفيه الملح الأندرانيّ والملح السلطانيّ، وهو على هيئة ألواح الرخام، وفيه:
الوكت والكحل الأسود، ومعمل الزجاج وفيه الماسكة، وهو طين أصفر في داخل حجر أسود يحك في الماء، ويشرب لوجع المعدة، وفيه البرديّ لعمل الحصر، وفيه عين الغراب وهو ماء في هيئة البركة وطولها نحو خمسة عشر ذراعا في عرض خمسة أذرع في مغار بالجبل لا يعلم من أين يأتي، ولا إلى أين يذهب وهو حلو رائق.
ويذكر أنه خرج منه سبعون ألف راهب، بيد كل واحد عكاز، فتلقوا عمرو بن العاص بالطرّانة مرجعه من الإسكندرية يطلبون، أمانة لهم على أنفسهم وأديارهم، فكتب لهم بذلك(1/344)
أمانا بقي عندهم، وكتب لهم أيضا بجراية الوجه البحري، فاستمرّت بأيديهم، وإنّ جرايتهم جاءت في سنة زيادة على خمسة آلاف أردب وهي الآن لا تبلغ مائة أردب.
ذكر مدينة مدين
اعلم أن مدين أمّة شعيب هم: بنو مديان «1» بن إبراهيم عليه السلام، وأمهم قنطوراء «2» ابنة يقطان الكنعانية، ولدت له «3» ثمانية من الولد، تناسلت منهم أمم، ومدين على بحر القلزم تحاذي تبوك على نحو ست مراحل وهي أكبر من تبوك، وبها البئر التي استقى منها موسى لسائمة شعيب، وعمل عليها بيت.
قال الفرّاء: مدين اسم بلد وقطر، وقيل: اسم قبيلة سميت باسم أبيها مدين.
ويقال له: مديان بن إبراهيم، قاله مقاتل وغيره، والجمهور على أنّ مدين أعجميّ، وقيل: عربيّ، فإن كان عربيا فإنه يحتمل أن يكون فعيلا من مدّن بالمكان، أقام به، وهو بناء نادر، وقيل: مهمل أو مفعلا من دان فتصحيحه شاذ، وهو ممنوع الصرف على كل حال، سواء كان اسم الأرض أو اسم القبيلة عجميا أو عربيا.
وقال المسعوديّ: قد تنازع أهل الشرائع في قوم شعيب بن نوفل بن رعويل بن مرّ بن عيقا بن مدين بن إبراهيم عليه السلام، وكان لسانه العربية، فمنهم من رأى أنهم من العرب الدائرة والأمم البائدة، وبعض من ذكرنا من الأجيال الخالية، ومنهم من رأى أنهم من ولد المحصن بن جندل بن يعصب بن مدين بن إبراهيم الخليل، وأنّ شعيبا آخرهم في النسب، وقد كانوا عدّة ملوك تفرّقوا في ممالك متصلة، فمنهم المسمى: بأبجد، وهوّز، وحطي، وكلمن، وسعفص، وقرشت، وهم على ما ذكرنا بنو المحصن بن جندل.
وأحرف الجمل هي: أسماء هؤلاء الملوك وهي الاثنان والعشرون حرفا التي عليها حساب الجمل، وقد قيل في هذه الحروف غير ما ذكرنا من الوجوه، فكان أبجد، ملك مكة، وما يليها من الحجاز، وكان هوّز وحطي، ملكين ببلادوج، وهي الطائف وما اتصل بذلك من أرض نجد، وكلمن وسعفص وقرشت، ملوك بمدين، وقيل: ببلاد مصر، وكان كلمن على ملك مدين، ومن الناس من رأى أنه كان ملك جميع من سمينا مشاعا متصلا على ما ذكرنا، وإنّ عذاب يوم الظلة كان في ملك، كلمن منهم، وإنّ شعيبا دعاهم، فكذبوه وعدهم بعذاب يوم الظلة، ففتح عليهم باب من السماء من نار، ونجا شعيب بمن آمن معه إلى الموضع المعروف بأيلة، وهي غيضة نحو مدين، فلما أحس القوم بالبلاء واشتدّ عليهم الحرّ، وأيقنوا بالهلاك طلبوا شعيبا، ومن آمن معه، وقد أظلتهم سحابة بيضاء طيبة النسيم(1/345)
والهواء لا يجدون فيها ألم العذاب، فأخرجوا شعيبا ومن آمن معه من مواضعهم، وأزالوهم عن أماكنهم، وتوهموا أن ذلك ينجيهم مما نزل بهم، فجعلها الله عليهم نارا، فأتت عليهم فرثت جارية بنت كلمن أباها، وكانت بالحجاز فقالت:
كلمن هدّم ركني ... هلكه وسط المحله
سيد القوم أتاه ال ... حتف نارا وسط ظله
كوّنت نارا فأضحت ... دار قومي مضمحله
وقال المتنصر بن المنذر المدينيّ:
ألا يا شعيب قد نطقت مقالة ... أبدت بها عمرا وتحيي بني عمرو
هم ملكوا أرض الحجاز بأوجه ... كمثل شعاع الشمس في صورة البدر
وهم قطنوا البيت الحرام وزينوا ... قطورا وفازوا بالمكارم والفخر
ملوك بني حطي وسعفص ذي الندى ... وهوّز أرباب الثنية والحجر
قال المسعوديّ: ولهؤلاء الملوك أخبار عجيبة من حروب وسير، وكيفية تغلبهم على هذه الممالك، وتملكهم عليها وإبادتهم من كان فيها قبلهم من الأمم، وقيل: إنّ الأيكة المذكورة في قوله عز وجل: كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ
[الشعراء/ 176] ، وفي قوله سبحانه وتعالى: وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ
[الحجر/ 78] هي مدين، وقيل: من ساحل البحر إلى مدين، وقيل: هي غيضة نحو مدين، وقيل: بل أصحاب الأيكة، الذين بعث إليهم شعيب كانوا بتبوك بين الحجر، وأوّل الشام، ولم يكن شعيب منهم، وإنما كان من مدين.
وقال أبو عبيد البكريّ: الأيكة المذكورة في كتاب الله تعالى التي كانت منازل قوم شعيب، روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيها روايتان، إحداهما: إنّ الأيكة من مدين إلى شعيب، والرواية الثانية: إنها من ساحل البحر إلى مدين، وكان شجرهم المقل والأيكة عند أهل اللغة الشجر الملتف، وكانوا أصحاب شجر ملتف، وقال قوم: الأيكة:
الغيضة، وليكة: اسم البلد وما حولها كما قيل: مكة، وبكة.
وقال أبو جعفر النحاس: ولا يعلم ليكة اسم البلد، وقال ابن قتيبة: وكان بعضهم يزعم أن بكة، هو موضع المسجد وما حولها مكة كما فرق بين الأيكة وليكة، فقيل:
الأيكة: الغيضة، وليكة البلد: حولها.
وقال البكريّ: مدين بلد بالشام معلوم تلقاء غزة، وهو المذكور في كتاب الله تعالى، وهذا وهم، بل مدين من أرض مصر، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، سرية إلى مدينة مدين، أميرهم: زيد بن حارثة رضي الله عنه، فأصاب سبيا من أهل ميتا. قال ابن إسحاق: وميتا هي السواحل، فبيعوا وفرّق بين الأمهات والأولاد، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يبكون فقال:(1/346)
«ما لهم» ؟ فأخبر خبرهم، فقال: «لا تبيعوهم إلّا جميعا» . ومدين من منازل جذام بن عديّ بن الحارث بن مرّة بن أدد بن زيد بن عمرو بن عزيب بن زيد بن كهلان.
وشعيب «1» النبيّ المبعوث إلى أهل مدينة أحد بني وائل «2» بن جذام.
وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لوفد جذام: «مرحبا بقوم شعيب وأصهار موسى ولا تقوم الساعة حتى يتزوّج فيكم المسيح ويولد له» .
وقال محمد بن سهل الأحول: مدين من أعراض المدينة مثل فدك والفرع ورهاط.
قال مؤلفه رحمه الله تعالى: وكان بأرض مدين، عدّة مدائن كثيرة قد باد أهلها، وخربت، وبقي منها إلى يومنا هذا، وهو سنة خمس وعشرين وثمانمائة نحو الأربعين مدينة قائمة منها ما يعرف اسمه، ومنها ما قد جهل اسمه، فمما يعرف اسمه فيما بين أرض الحجاز، وبلاد فلسطين، وديار مصر، ست عشرة مدينة منها: في ناحية فلسطين، عشر مدائن، وهي الخلصة، والسنيطة، والمدرة، والمنية، والأعوج، والخويرق، والبئرين، والماءين، والسبع، والمعلق، وأعظم هذه المدائن العشر: الخلصة والسنيطة، وكثيرا ما تنقل حجارتها إلى غزة ويبنى بها هناك، ومن مدائن مدين بناحية بحر القلزم والطور مدينة فاران، ومدينة الرقة، ومدينة القلزم، ومدينة أيلة، ومدينة مدين، وبمدينة مدين إلى الآن آثار عجيبة وعمد عظيمة.
ووجد في مدينة الأعوج، أعوام بضع وستين وسبعمائة جب بقلعتها بعيد المهوى يبلغ عمقه نحو مائة ذراع، وبقاعه عدة أسفار على رفوف حمل منها سفر طوله، ذراعان وأزيد، قد غلف بلوحين من خشب، وكتابته بالقلم المسند، طول الألف واللام، نحو شبر، فوجد ببلاد الكرك من قرأه، فإذا هو سفر من عشرة أسفار قد ابتدأه، بحمد الله، ثم قال: خروج موسى من أرض مصر إلى بلاد مدين، وملوك بني مدين فيما بعد شعيب، فذكر لموسى عليه السلام، عدّة أسماء منها، اسمه بالعربية: موسى بن عمران، وبالعبرانية: موشي، وبالفارسية: داران، وبالقبطية: هروسيس، وذكر أنه تزوّج ابنة شعيب، وأنه أقام بمدينة ثماني حجج، ثم قال لابن شعيب: قد أتممت لك شرطك، وسأزيدك سنتين فضلا مني.
بقية خبر مدينة مدين «3»
قال: وخرج موسى متوجها إلى مصر، والملك يومئذ على مدين أبجد. قال: وقوي(1/347)
أمر أبجد، فطغى حتى ملك الحجاز واليمن، وكان له خمسة أولاد هم: هوّز، وحطي، وكلمن، وسعفص، وقرشت، فأقام أبجد ملكا باليمن، مائة سنة. ومات وقد استخلف من بعده ابنه: كلمن باليمن، وجعل ابنه هوّز على الحجاز، وابنه حطي على أرض مصر، وابنه سعفص على الجزيرة، وبلادها حيث الموصل وحرّان إلى أرض العراق، وابنه قرشت على العراق ومشارفها من خراسان، وكان قرشت هو الجبار فيهم، وكان سعفص وهوّز وكلمن أهل عدل وحلم، وكان حطي صاحب بطش وجرأة.
وكان بنو إسرائيل إذ ذاك بالشام، فلم يملك أولاد أبجد أرض الشام، ولا احتووا عليها، وكانت مدّة ملكهم نحوا من مائة وخمسين سنة، فتم لهم بدولة أبيهم أبجد ثلثمائة سنة وأزيد.
ثم ملك بعدهم على بني إسرائيل، روزيت بن هوّز، وعرزيت بن حطي بن أبجد نحو سبع سنين، ثم خرجت الدولة عن أولاد أبجد، وأقام هذا الكتاب عندهم زمانا، ثم أعادوه إلى الجبّ من قلعة الأعوج.
حدّثني بهذا الخبر، الحافظ المتقن الضابط أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الرحمن الغريانيّ التونسيّ المالكيّ، قال: حدثني به شتر بن غنيم العامريّ شيخ لقيه بأرض فلسطين، أنه شاهد الكتاب المذكور، وهو شاب، وحفظ منه ما تقدّم ذكره.
وقيل: إنّ مالك بن دعر بن حجر بن جديلة بن لخم كان له أربعة وعشرون ولدا ذكرا، فكثرت أولادهم، حتى بنوا المدائن والقرى والحصون، وعمروا بلاد مدين كلها، وغلبوا على بلاد الشام ومصر والحجاز، وغيرها خمسمائة سنة، وقيل: إنما كان استيلاء ملوك مدين على مصر، خمسمائة سنة بعد غرق فرعون موسى، وهلاكه دلوكة بنت زفان، حتى أخرجهم منها نبيّ الله سليمان بن داود، فعاد الملك إلى القبط بعدهم.
ذكر مدينة فاران «1»
هذه المدينة بساحل بحر القلزم، وهي من مدن العماليق على تل بين جبلين، وفي الجبلين ثقوب كثيرة لا تحصى مملوءة أمواتا، ومن هناك إلى بحر القلزم، مرحلة واحدة، ويقال له هناك ساحل بحر فاران، وهو البحر الذي أغرق الله فيه فرعون، وبين مدينة فاران، والتيه مرحلتان، ويذكر أنّ فاران اسم لجبال مكة، وقيل: اسم لجبال الحجاز، وهي التي ذكرت في التوراة، والتحقيق أنّ فاران والطور كورتان من كور مصر القبلية، وهي غير فاران المذكورة في التوراة، وقيل: إنّ فاران بن عمرو بن عمليق هو الذي نسب إليه جبال الحرم،(1/348)
فقيل: جبال فاران، وبعضهم يقول: جبال فران وكانت مدينة فاران من جملة مدائن، مدين إلى اليوم، وبها نخل كثير مثمر، أكلت من ثمره، وبها نهر عظيم، وهي خراب يمرّ بها العربان.
ذكر أرض الجفار «1»
اعلم أنّ الجفار اسم لخمس مدائن، وهي: الفرما، والبقارة، والورادة، والعريش، ورفج، والجفار كله رمل وسمي بالجفار لشدّة المشي فيه على الناس، والدواب من كثرة رمله، وبعد مراحله، والجفار تجفر فيه الإبل، فاتخذ له هذا الاسم كما قيل للحبل الذي يهجر به البعير، هجار، وللذي يحجر به حجار، وللذي يعقل به عقال، وللذي يبطن به بطان، وللذي يخطم به خطام، وللذي يزم به زمام، واشتقت البقارة من البقر، والواردة من الوريد، والعريش أخذ من العريش، وقيل: إن رفج اسم جبل.
وكان يسكن الجفار في القديم خذام بن العريان.
ويقال: إنّ أرض الجفار كانت في الدهر الأوّل والزمن الغابر متصلة العمارة، كثيرة البركات مشهورة بالخيرات لكثرة زراعة أهلها الزعفران والعصفر وقصب السكر، وكان ماؤها غزيرا عذبا، ثم صار بها نخل يحدق بها من كل النواحي إلى أن دمرها الله تدميرا، فصارت إلى اليوم ذات رمل عظيم يسلك فيه إلى العريش، وإلى رفج كله قفر تعرف بقعته برمل الغرابيّ قليل الماء عديم المرعى، لا أنيس به، فسبحان محيل الأحوال.
ذكر صعيد مصر
الصعيد: المرتفع من الأرض، وقيل: الأرض المرتفعة من الأرض المنخفضة، وقيل:
ما لم يخالطه رمل ولا سبخة، وقيل: هو وجه الأرض، وقيل: الأرض الطيبة، وقيل: هو كل تراب طيب، وتسمية هذه الجهة من أرض مصر بهذا الاسم إنما حدث في الإسلام، سماها العرب بذلك لأنها جهة مرتفعة عما دونها من أرض مصر، ولذلك يقال فيها: أعلى الأرض، ولأنها أرض ليس فيها رمل ولا سباخ، بل كلها أرض طيبة مباركة، ويقال للصعيد أيضا: الوجه القبليّ.
قال الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه: ولما حضرت مصرايم الوفاة، عهد إلى ابنه قبطيم، وكان قد قسم أرض مصر بين بنيه.(1/349)
فجعل لقبطيم من بلد إلى أسوان، ولأشمون، من بلد أشمون إلى منف، ولأتريب، الحوف كله، ولصا من ناحية صا البحيرة إلى قرب برقة، وقال لأخيه فارق لك من برقة إلى الغرب، فهو صاحب إفريقية وولده الأفارق، وأمر كلّ واحد من بنيه أن يبني لنفسه مدينة في موضعه.
وقال ابن عبد الحكم: فلما كثر ولد مصر وأولاد أولادهم، قطع مصر لكل واحد منهم قطعة يحوزها لنفسه ولولده، وقسم لهم هذا النيل، فقطع لابنه قفط، موضع قفط فسكنها، وبه سميت: قفط قفطا، وما فوقها إلى أسوان، وما دونها إلى أشمون في الشرق والغرب، وقطع لأشمون من أشمون فما دونها في الشرق والغرب إلى منف، فسكن أشمون أشمون، فسميت به، وقطع لأتريب ما بين منف إلى صا فسكن أتريب فسميت به، وقطع لصا ما بين صا إلى البحر، فسكن صا فسميت به، فكانت مصر كلها على أربعة أجزاء: جزأين بالصعيد، وجزأين بأسفل الأرض.
وقال أبو الفضل جعفر بن ثعلب بن جعفر الأدفوي «1» في كتاب الطالع السعيد في تاريخ الصعيد: مسافة إقليم الصعيد الأعلى مسيرة اثني عشر يوما بسير الجمال، وعرضه ثلاث ساعات، وأكثر بحسب الأماكن العامرة، ويتصل عرضه في الكورة الشرقية بالبحر الملح وأراضي البجة، وفي الغربية، بألواح وهي كورتان: شرقية، وغربية، والنيل بينهما فاصل، وأوّل الشرقية من مرج بني هميم المتصلة أرضها بأراضي جرجا من عمل أخميم، وآخرها من قبليّ الهو ويليها أوّل أراضي النوبة، وفي هذه الكورة تيج، وقفط وقوص، وأوّل الكورة الغربية، برديس تتصل أرضها بأرض جرجا، وفي هذه الكورة الغربية سمهود، وآخر الكورة الغربية أسوان وبحافته أكثر النخل من الجانبين، تكون مساحة الأراضي التي فيها النخل والبساتين تقارب عشرين ألف فدّان، والمستولي على إقليم الصعيد المشتري.
ويقال: كان بصعيد مصر، نخلة تحمل عشرة أرادب تمرا، فغصبها بعض الولاة فلم تحمل في ذلك العام ولا تمرة واحدة، وكانت هذه النخلة في الجانب الغربيّ، وبيع منها في الغلاء كل ويبة بدينار.
ويقال: لما صوّرت الدنيا لأمير المؤمنين هارون بن محمد الرشيد لم يستحسن إلا كورة سيوط من صعيد مصر، فإنها ثلاثون ألف فدّان في استواء من الأرض لو وقعت فيها قطرة ماء لانتشرت في جميعها.(1/350)
وبالصعيد بقايا سحر قديم، حكى الأمير طقطبا والي قوص في أيام الناصر محمد بن قلاون قال: أمسكت امرأة ساحرة، فقلت لها: أريد أن أبصر شيئا من سحرك؟ فقالت:
أجود عملي أن أسحر العقرب على اسم شخص بعينه، فلا بدّ أن تقع عليه ويصيبه سمها، فتقتله. فقلت: أريني هذا واقصديني بسحرك؟ فأخذت عقربا وعملت ما أحبت، ثم أرسلت العقرب فتبعني! وأنا أتنحى عنه، وهو يقصدني فجلست على تخت وضعته على بركة ماء، فأقبل العقرب إلى ذلك الماء، وأخذ في التوصل إليّ، فلم يطق ذلك، فمرّ إلى الحائط وصعد فيه، وأنا أشاهده، حتى وصل إلى السقف ومرّ فيه إلى أن صار فوقي وألقى نفسه صوبي، وسعى نحوي حتى قرب مني، فضربته فقتلته، ثم قتلت الساحرة أيضا.
وأرض الصعيد كثيرة المواشي من الضأن وغير ذلك لكثرة نتاجه، حتى أن الرأس الواحد من نعاج الضأن، يتولد عنه في عشر سنين، ألف وأربع وعشرون رأسا! وذلك بتقدير السلامة، وأن تلد كلها أناثا، وتلدّ مرّة واحدة في كل سنة، ولا تلد في كل بطن غير رأس واحد، وإلا فإن ولدت في السنة مرّتين، وكان في كل بطن رأسان تضاعف العدد، وتأمل حساب ما قلناه تجده صحيحا، وقد شوهد كثيرا أنّ من أغنام الصعيد، ما يلد في السنة ثلاث مرّات ويلد في البطن الواحد، ثلاثة أرؤس.
وكانت الكثرة والغلبة ببلاد الصعيد لست قبائل، وهم: بنو هلال، وبلى، وجهينة، وقريش، ولواته، وبنو كلاب، وكان ينزل مع هؤلاء عدّة قبائل سواهم من الأنصار، ومن مزينة، وبني دراج وبني كلاب وثعلبة وجذام.
وبلغ من عمارة الصعيد، أن الرجل في أيام الناصر، محمد بن قلاون، وما بعدها كان يمرّ من القاهرة إلى أسوان، فلا يحتاج إلى نفقة، بل يجد بكل بلد وناحية، عدّة دور للضيافة، إذا دخل دارا منها، أحضر لدابته علفها، وجيء له بما يليق به من الأكل ونحوه، وآل أمره الآن إلى أن لا يجد الرجل أحدا فيما بين القاهرة وأسوان يضيفه لضيق الحال، ثم تلاشى أمر بلاد الصعيد منذ سنة الشراقي في أيام الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاون سنة ست وسبعين وسبعمائة، وتزايد تلاشيه في أيام الظاهر برقوق لجور الولاة، ولم يزل في إدبار، إلى أن كانت سنة ست وثمانمائة، وشرقت مصر بقصور مدّ النيل، فدهي أهل الصعيد من ذلك بما لا يوصف، حتى أنه مات من مدينة قوص سبعة عشر ألف إنسان، وذلك كله سوى الطرحى على الطرقات، ومن لا يعرف من الغرباء ونحوهم، ثم دمّر في أيام المؤيد شيخ، فلم يبق منه إلا رسوم تبذل الولاة الجهد في محوها، نسأل الله حسن الخاتمة.(1/351)
ذكر الجنادل «1» ولمع من أخبار أرض النّوبة
الجندل: ما يقلّ الرجل من الحجارة، وقيل: هو الحجر كله، الواحدة، جندلة، والجندل: الجنادل.
قال سيبويه: وقالوا جندل يعنون: الجنادل، وصرفوه لنقصان البناء عما لا ينصرف، وأرض جندلة، ذات جندل وقيل: الجندل، المكان الغليظ فيه حجارة، ومكان جندل، كثير الجندل.
قال عبد الله بن أحمد بن سليم الأسوانيّ في كتاب أخبار النوبة: والمقرة وعلوة والبجة والنيل، وأوّل بلد النوبة، قرية تعرف بالقصر من أسوان إليها خمسة أميال، وآخر حصن للمسلمين، جزيرة تعرف ببلاق، بينها وبين قرية النوبة ميل، وهو ساحل بلد النوبة، ومن أسوان إلى هذا الموضع، جنادل كثيرة الحجر لا تسلكها المراكب إلا بالحيلة، ودلالة من يخبر بذلك من الصيادين الذين يصيدون هناك، لأنّ هذه الجنادل متقطعة وشعاب معترضة في النيل، ولانصبابه فيها خرير عظيم ودويّ يسمع من بعد، وبهذه القرية مسلحة، وباب إلى بلد النوبة، ومنها إلى الجنادل الأولى من بلد النوبة، عشر مراحل، وهي الناحية التي يتصرّف فيها المسلمون، ولهم فيما قرب أملاك ويتجرون في أعلاها، وفيها جماعة من المسلمين قاطنون، لا يفصح أحدهم بالعربية، وشجرها كثير، وهي ناحية ضيقة شظفة كثيرة الجبال، وما تخرج عن النيل، وقراها متسطرة على شاطئه وشجرها النخل والمقل، وأعلاها أوسع من أدناها، وفي أعلاها الكروم، والنيل لا يروي مزارعها لارتفاع أرضها، وزرعها، الفدّان والفدّانان والثلاثة على أعناق البقر بالدواليب، والقمح عندهم قليل والشعير أكثر والسلت، ويعتقبون الأرض لضيقها، فيزرعونها في الصيف بعد تطريتها بالزبل والتراب.
الدخن والذرة والجاورس والسمسم واللوبيا.
وهذه الناحية نجراش مدينة المريس، وقلعة ابريم، وقلعة أخرى دونها، وبها مينا تعرف بأدواء ينسب إليها، لقمان الحكيم، وذو النون، وبها بربا عجيب، ولهذه الناحية وال من قبل عظيم النوبة يعرف بصاحب الجبل من أجلّ ولاتهم لقربه من أرض الإسلام، ومن يخرج إلى بلد النوبة من المسلمين فمعاملته معه في تجارة أو هدية إليه، أو إلى مولاه يقبل الجميع، ويكافىء عليه بالرقيق، ولا يطلق لأحد الصعود إلى مولاه لمسلم ولا لغيره.(1/352)
وأوّل الجنادل من بلد النوبة قرية تعرف بتقوى، هي ساحل، وإليها تنتهي مراكب النوبة المصعدة من القصر أوّل بلدهم، ولا تتجاوزها المراكب، ولا يطلق لأحد من المسلمين، ولا من غيرهم الصعود منها إلا بإذن من صاحب جبلهم، ومنها إلى المقس الأعلى، ست مراحل، وهي جنادل كلها، وشرّ ناحية رأيتها لهم لصعوبتها، وضيقها ومشقة مسالكها، أما بحرها، فجنادل وجبال معترضة فيه، حتى إن النيل ينصب من شعاب ويضيق في مواضع، حتى يكون سعة ما بين الجانبين، خمسين ذراعا، وبرّها مجاوب ضيقة، وجبال شاهقة، وطرقات ضيقة، حتى لا يمكن الراكب أن يصعد منها، والراجل الضعيف يعجز عن سلوكها، ورمال في غربها وشرقها، وهذه الجبال حصنهم، وإليها يفزع أهل الناحية التي قبلها المتصلة بأرض الإسلام، وفي جزائرها نخل يسير وزرع حقير، وأكثر أكلهم السمك ويدّهنون بشحمه، وهي من أرض مريس، وصاحب الجبل واليهم، والمسلحة بالمقس الأعلى صاحبها من قبل كبيرهم شديد الضبط لها، حتى أنّ عظيمهم إذا صار بها وقف به المسلحي، وأوهم أنه يفتش عليه، حتى يجد الطريق إلى ولده ووزيره، فمن دونهما ولا يجوزها دينار ولا درهم إذ كانوا لا يتبايعون بذلك إلا دون الجنادل مع المسلمين، وما فوق ذلك لا بيع بينهم ولا شراء، وإنما هي معاوضة بالرقيق والمواشي والحبال والحديد والحبوب، ولا يطلق لأحد أن يجوزها إلا بإذن الملك، ومن خالف كان جزاؤه القتل كائنا من كان، وبهذا الاحتياط تنكتم أخبارهم حتى إنّ العسكر منهم يهجم على البلد إلى البادية وغيرهم، فلا يعلمون به، والسنباد الذي يخرط به الجوهر، يخرج من النيل في هذه المواضع، يغطس عليه فيوجد جسمه باردا مخالفا للحجارة فإذا أشكل عليه نفخ فيه بالفم فيعرق، ومن هذه المسلحة إلى قرية تعرف: بساي، جنادل أيضا، وهي آخر كرسيهم، ولهم فيها أسقف وفيها بربا.
ثم ناحية سقلودا وتفسيرها السبع ولاة، وهي أشبه الأرض بالأرض المتاخمة لأرض الإسلام في السعة والضيق في مواضع، والنخل والكرم والزرع وشجر المقل، وفيها شيء من شجر القطن، ويعمل منه ثياب وخشة، وبها شجر الزيتون، وواليها من قبل كبيرهم وتحت يده ولاة يتصرّفون، وفيها قلعة تعرف: بأصطنون، وهي أوّل الجنادل الثلاثة، وهي أشدّ الجنادل صعوبة لأنّ فيها جبلا معترضا من الشرق إلى الغرب في النيل، والماء ينصب من ثلاثة أبواب، وربما رجع إلى ما بين عند انحساره شديد الخرير عجيب المنظر يتحدّر الماء عليه من علو الجبل وقبليّة فرش حجارة في النيل نحو ثلاثة برد إلى قرية تعرف:
بيستو، وهي آخر قرى مريس، وأوّل بلد مقرة، ومن هذا الموضع إلى حدّ المسلمين لسانهم مريسي، وهي آخر عمل متملكهم، ثم ناحية بقون، وتفسيرها بالعجب، وهي عند اسمها لحسنها، وما رأيت على النيل أوسع منها، وقدّرت أن سعة النيل فيها من الشرق إلى الغرب مسيرة خمس مراحل، الجزائر تقطعه والأنهار منه تجري بينها على أرض منخفضة، وقرى(1/353)
متصلة، وعمارة حسنة بأبرجة حمام، ومواش وأنعام وأكثر ميرة مدينتهم منها، وطيورها النقيط والنوبي والببغاء، وغير ذلك من الطيور الحسان، وأكثر نزهة كيبرهم في هذه الناحية.
قال: وكنت معه في بعض الأوقات، فكان سيرنا في ظل شجر من الحافتين في الخلجان الضيقة، وقيل: إنّ التمساح لا يضرّ هناك، ورأيتهم يعبرون أكثر هذه الأنهار سباحة، ثم سفد بقل، وهي ناحية ضيقة شبيهة بأوّل بلادهم إلا أنّ فيها جزائر حسانا، وفيها دون المرحلتين نحو، ثلاثين قرية بالأبنية الحسان، والكنائس والأديار والنخل الكثير والكروم والبساتين والزرع، ومروج كبار فيها إبل وجمال صهب مؤبلة للنتاج، وكبيرهم يكثر الدخول إليها لأنّ طرفها القبليّ يحاذي دنقلة مدينتهم، ومن مدينة دنقلة دار المملكة إلى أسوان، خمسون مرحلة، وذكر صفتها، ثم قال: إنهم يسقفون مجالسهم بخشب السنط، وبخشب الساج الذي يأتي به النيل في وقت الزيادة سقالات منحوتة لا يدري من أين تأتي.
ولقد رأيت على بعضها علامة غريبة، ومسافة ما بين دنقلة إلى أوّل بلد علوة أكثر مما بينها وبين أسوان، وفي ذلك من القرى والضياع والجزائر والمواشي والنخل والشجر والمقل والزرع والكرم، أضعاف ما في الجانب الذي يلي أرض الإسلام، وفي هذه الأماكن جزائر عظام مسيرة أيام، فيها الجبال والوحش والسباع، ومفاوز يخاف فيها العطش، والنيل يعطف من هذه النواحي إلى مطلع الشمس، وإلى مغربها مسيرة أيام، حتى يصير المصعد كالمنحدر، وهي الناحية التي تبلغ العطوف من النيل إلى المعدن المعروف: بالشلة، وهو بلد يعرف بشنقير، ومنه خرج العمري، وتغلب على هذه الناحية إلى أن كان من أمره ما كان، وفرس البحر، يكثر في هذه المواضع، ومن هذه الموضع طرق إلى سواكن وباصع ودهلك وجزائر البحر، ومنها عبر من نجا من بني أمية عند هربهم إلى النوبة، وفيها خلق من البجة يعرفون بالرنافج انتقلوا إلى النوبة قديما وقطنوا هناك وهم على حدتهم في الرعي واللغة، لا يخالطون النوبة، ولا يسكنون قراهم، وعليهم وال من قبل النوبة.
ذكر تشعب النيل من بلاد علوة ومن يسكن عليه من الأمم
اعلم أنّ النوبة والمقرة جنسان بلسانين، كلاهما على النيل، فالنوبة هم: المريس المجاورون لأرض الإسلام، وبين أوّل بلدهم، وبين أسوان خمسة أميال، ويقال: إنّ سلها جدّ النوبة، ومقري جدّ المقرة من اليمن.
وقيل: النوبة ومقري من حمير، وأكثر أهل الأنساب على أنهم جميعا من ولد حام بن نوح، وكان بين النوبة والمقرة حروب قبل النصرانية، وأوّل أرض المقرة قرية تعرف بنافة على مرحلة من أسوان، ومدينة ملكهم، يقال لها: نجراش، على أقل من عشر مراحل من أسوان، ويقال: إن موسى صلوات الله عليه، غزاهم قبل مبعثه في أيام فرعون، فأخرب نافة، وكانوا صابئة يعبدون الكواكب، وينصبون التماثيل لهم، ثم تنصروا جميعا النوبة(1/354)
والمقرة، ومدينة دنقلة، وهي دار مملكتهم، وأوّل بلاد علوة، قرى في الشرق على شاطىء النيل تعرف بالأبواب، ولهذه الناحية وال من قبل صاحب علوة يعرف بالرحراح.
والنيل يتشعب من هذه الناحية على سبعة أنهار، فمنها نهر يأتي من ناحية المشرق كدر الماء يجف في الصيف حتى يسكن بطنه، فإذا كان وقت زيادة النيل نبع فيه الماء، وزادت البرك التي فيه، وأقبل المطر والسيول في سائر البلد، فوقعت الزيادة في النيل، وقيل: إنّ آخر هذا النهر، عين عظيمة تأتي من جبل.
قال مؤرخ النوبة: وحدّثني سيمون صاحب عهد بلد علوة، أنه يوجد في بطن هذا النهر، حوت لا قشر له ليس هو من جنس ما في النيل، يحفر عليه قامة وأكثر، حتى يخرج، وهو كبير وعليه جنس مولد بين العلوة والبجة، يقال لهم: الديجيون، وجنس يقال لهم:
بازة يأتي من عندهم طير يعرف بحمام بازين، وبعد هؤلاء أوّل بلاد الحبشة، ثم النيل الأبيض، وهو نهر يأتي من ناحية الغرب شديد البياض مثل اللبن.
قال: وقد سألت من طرق بلاد السودان من المغاربة عن النيل الذي عندهم، وعن لونه، فذكر أنه يخرج من جبال الرمل، أو جبل الرمل وأنه يجتمع في بلد السودان في برك عظام، ثم ينصب إلى ما لا يعرف، وإنه ليس بأبيض، فإمّا أن يكون اكتسب ذلك اللون، مما يمرّ عليه أو من نهر آخر ينصب إليه، وعليه أجناس من جانبيه، ثم النيل الأخضر، وهو نهر يأتي من القبلة مما يلي الشرق شديد الخضرة، صافي اللون جدّا، يرى ما في قعره من السمك، وطعمه مخالف لطعم النيل، يعطش الشارب منه بسرعة، وحيتان الجميع واحدة، غير أنّ الطعم مختلف، ويأتي فيه وقت الزيادة خشب الساج والبقم والغثاء، وخشب له رائحة كرائحة اللبان، وخشب غليظ ينحت ويعمل منه مقدام، وعلى شاطئه ينبت هذا الخشب أيضا، وقيل: إنه وجد فيه عود البخور.
قال: وقد رأيت على بعض سقالات الساج المنحوتة التي تأتي فيه وقت الزيادة، علامة غريبة، ويجتمع هذان النهران الأبيض والأخضر عند مدينة متملك بلد علوة، ويبقيان على ألوانهما قريبا من مرحلة، ثم يختلطان بعد ذلك، وبينهما أمواج كبار عظيمة بتلاطمهما.
قال: وأخبرني من نقل النيل الأبيض، وصبه في النيل الأخضر فبقي فيه مثل اللبن ساعة قبل أن يختلطا، وبين هذين النهرين، جزيرة لا يعرف لها غاية، وكذلك لا يعرف لهذين النهرين نهاية، فأوّلهما يعرف عرضه، ثم يتسع فيصير مسافة شهر، ثم لا تدرك سعتهما لخوف من يسكنهما بعضهم من بعض، لأنّ فيهما أجناسا كثيرة وخلقا عظيما، قال:
وبلغني أنّ بعض متملكي بلد علوة سار فيها يريد أقصاها، فلم يأت عليه بعد سنين، وإنّ في طرفها القبليّ جنسا يسكنون ودوابهم في بيوت تحت الأرض مثل السراديب بالنهار من شدّة(1/355)
حرّ الشمس، ويسرحون في الليل، وفيهم قوم عراة، والأنهار الأربعة الباقية، تأتي أيضا من القبلة مما يلي الشرق أيضا في وقت واحد، ولا يعرف لها نهاية أيضا، وهي دون النهرين الأبيض والأخضر في العرض، وكثرة الخلجان والجزائر، وجميع الأنهار الأربعة تنصب في الأخضر، وكذلك الأوّل الذي قدّمت ذكره، ثم يجتمع مع الأبيض، وكلها مسكونة عامرة مسلوك فيها بالسفن وغيرها، وأحد هذه الأربعة يأتي مرّة من بلاد الحبشة.
قال: ولقد أكثرت السؤال عنها، واستكشفتها من قوم عن قوم، فما وجدت مخبرا يقول إنه وقف على نهاية جميع هذه الأنهار، والذي انتهى إليه علم من عرّفني عن آخرين إلى خراب، وأنه يأتي في وقت الزيادة في هذه الأنهار، آلة مراكب وأبواب وغير ذلك، فيدل على عمارة بعد الخراب، فأمّا الزيادة فيجمعون أنها من الأمطار مع مادة تأتي من ذاتها، والدليل على ذلك النهر الذي يجف ويسكن بطنه، ثم ينبع وقت الزيادة.
ومن عجائبه: أنّ زيادته في أنهار مجتمعة، وسائر النواحي والبلدان في مصر وما يليها والصعيد وأسوان وبلد النوبة وعلوة، وما وراء ذلك في زمان واحد، وأكثر ما وقف عليه من هذه الزيادة أنه ربما وجدت مثلا بأسوان، ولا توجد بقوص، ثم تأتي بعد فإذا كثرت الأمطار عندهم واتصلت السيول، علم أنها سنة ريّ، وإذا قصرت الأمطار علم أنها سنة ظمأ، قال:
وأما من طرق بلاد الزنج فإنهم أخبروني عن مسيرهم في بحر الصين إلى بلاد الزنج بالريح الشماليّ، مساحلين للجانب الشرقيّ من جزيرة مصر، حتى ينتهوا إلى موضع يعرف برأس حفري، وهو عندهم آخر جزيرة مصر، فينظرون كوكبا يهتدون به، فيقصدون الغرب، ثم يعودون إلى البحري، ويصير الشمال في وجوههم، حتى يأتوا إلى قبيلة من بلاد الزنج وهي مدينة متملكهم، وتصير قبلتهم للصلاة إلى جدّة.
قال: وبعض الأنهار الأربعة يأتي، من بلاد الزنج لأنه يأتي فيه الخشب الزنجيّ، وسوبة مدينة العلوي شرقيّ الجزيرة الكبرى التي بين البحرين الأبيض والأخضر في الطرف الشماليّ منها عند مجتمعهما، وشرقيها، النهر الذي يجف، ويسكن بطنه، وفيها أبنية حسان ودور واسعة، وكنائس كثيرة الذهب، وبساتين ولها رباط فيه جماعة من المسلمين، ومتملك علوة أكثر مالا من متملك المقرة، وأعظم جيشا، وعنده من الخيل ما ليس عند المقري، وبلده أخصب وأوسع، والنخل والكرم عندهم يسير وأكثر حبوبهم الذرة البيضاء التي مثل الأرز منها، خبزهم ومزرهم واللحم عندهم كثير لكثرة المواشي، والمروج الواسعة العظيمة السعة، حتى أنه لا يوصل إلى الجبل إلا في أيام، وعندهم خيل عتاق، وجمال صهب عراب، ودينهم النصرانية يعاقبة، وأساقفتهم من قبل صاحب الإسكندرية كالنوبة، وكتبهم بالرومية يفسرونها بلسانهم، وهم أقل فهما من النوبة، وملكهم يسترق من شاء من رعيته بجرم، وبغير جرم، ولا ينكرون ذلك عليه، بل يسجدون له ولا يعصون أمره على(1/356)
المكروه الواقع بهم، وينادون الملك يعيش فليكن أمره، وهو يتتوّج بالذهب، والذهب كثير في بلده.
ومما في بلده من العجائب: أنّ في الجزيرة الكبرى التي بين البحرين جنسا يعرف:
بالكرنينا، لهم أرض واسعة مزروعة من النيل والمطر، فإذا كان وقت الزرع خرج كل واحد منهم بما عنده من البذر، واختط على مقدار ما معه وزرع في أربعة أركان الخطة يسيرا، وجعل البذر في وسطه الخطة وشيئا من المزر، وانصرف عنه فإذا أصبح وجد ما اختط، قد زرع وشرب المزر، فإذا كان وقت الحصاد، حصد يسيرا منه ووضعه في موضع أراده ومعه مزر، وينصرف، فيجد الزرع قد حصد بأسره، وجرّن فإذا أراد دراسه وتذريته فعل به كذلك، وربما أراد أحدهم أن ينقي زرعه من الحشيش، فيلفظ بقلع شيء من الزرع فيصبح، وقد قلع جميع الزرع، وهذه الناحية التي فيها ما ذكرته بلدان واسعة مسيرة شهرين في شهرين يزرع جميعها في وقت واحد، وميرة بلد، علوة ومتملكهم من هذه الناحية، فيوجهون المراكب، فتوسق، وربما وقع بينهم حرب.
قال: وهذه الحكاية صحيحة معروفة مشهورة عند جميع النوبة والعلوة، وكل من يطرق ذلك البلد من تجار المسلمين لا يشكون فيه ولا يرتابون به، ولولا أنّ اشتهاره وانتشاره مما لا يجوز التواطؤ على مثله، لما ذكرت شيئا منه لشناعته، فأما أهل الناحية، فيزعمون أن الجنّ تفعل ذلك، وأنها تظهر لبعضهم، وتخدمهم بحجارة ينطاعون لهم بها، وتعمل لهم عجائب، وأنّ السحاب يطيعهم؟!.
قال: ومن عجائب ما حدّثني به متملك المقرة للنوبة، أنهم يمطرون في الجبال، ويلتقطون منه للوقت سمكا على وجه الأرض، وسألتهم عن جنسه، فذكروا أنه صغير القدر بأذناب حمر، قال: وقد رأيت جماعة وأجناسا ممن تقدّم ذكر أكثرهم يعترفون بالباري سبحانه وتعالى، ويتقرّبون إليه بالشمس والقمر والكواكب، ومنهم من لا يعرف الباري ويعبد الشمس والنار، ومنهم من يعبد كل ما استحسنه من شجرة أو بهيمة، وذكر أنه رأى رجلا في مجلس عظيم المقرة سأله عن بلده؟ فقال: مسافته إلى النيل ثلاثة أهلة، وسأله عن دينه؟
فقال: ربي وربك الله، وربّ الملك، وربّ الناس كلهم واحد، وإنه قال له: فأين يكون؟
قال: في السماء وحده، وقال: إنه إذا أبطأ عنهم المطر أو أصابهم الوباء، أو وقع بدوابهم آفة صعدوا الجبل، ودعوا الله، فيجابون للوقت وتقضى حاجتهم قبل أن ينزلوه، وسأله هل أرسل فيكم رسول؟ قال: لا، فذكر له بعثة موسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم وسلامه، وما أبدوا به من المعجزات، فقال: إذا كانوا فعلوا هذا، فقد صدقوا، ثم قال: قد صدّقتهم إن كانوا فعلوا.
قال مؤلفه رحمه الله: وقد غلب أولاد، كنز الدولة على النوبة وملكوها (من(1/357)
سنة) «1» وبنى بدنقلة جامع يأوي إليه الغرباء، واعلم أنّ على ضفة النيل أيضا، الكانم، وملكها مسلم، وبينه وبين بلاد مالي مسافة بعيدة جدّا، وقاعدة ملكه بلدة اسمها حميمي، وأوّل مملكته من جهة مصر بلدة اسمها زرلا، وآخرها طولا بلدة يقال لها: كاكا، وبينهما نحو ثلاثة أشهر، وهم يتلثمون، وملكهم متحجب لا يرى إلا يومي العيدين بكرة، وعند العصر، وطول السنة لا يكلمه أحد إلا من وراء حجاب، وغالب عيشهم الأرز، وهو ينبت من غير بذر، وعندهم القمح والذرة والتين والليمون والباذنجان واللفت والرطب، ويتعاملون بقماش ينسج عندهم اسمه: دندي طول كل ثوب، عشرة أذرع، يشترون به من ربع ذراع فأكثر، ويتعاملون أيضا بالودع والخرز والنحاس المكسر والورق، وجميع ذلك بسعر ذلك القماش، وفي جنوبها شعارى وصحارى، فيها أشخاص متوحشة كالفيول قريبة من شكل الآدميّ لا يلحقها الفارس تؤذي الناس، ويظهر في الليل أيضا شبه نار تضيء، فإذا مشى أحد ليلحقها بعدت عنه، ولو جرى إليها لا يصل إليها بل لا تزال أمامه فإذا رماها بحجر، فأصابها تشظى منها شرر، وتعظم عندهم اليقطينة حتى تصنع منها مراكب يعبر فيها في النيل.
وهذه البلاد بين إفريقية وبرقة ممتدّة في الجنوب إلى سمت الغرب الأوسط، وهي بلاد قحطان وشطن «2» وسوء مزاج، وأوّل من بث بها الإسلام، الهادي العثمانيّ، ادّعى أنه من ولد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وصارت بعده، لليزنيين من بني سيف بن ذي يزن، وهم على مذهب الإمام مالك بن أنس رحمه الله، والعدل قائم بينهم، وهم يابسون في الدين لا يلينون، وبنوا بمدينة مصر مدرسة للمالكية عرفت بمدرسة ابن رشيق في سني أربعين وستمائة، وصارت وفودهم تنزل بها، وسيرد ذكرها في المدارس إن شاء الله تعالى.
ذكر البجة ويقال إنهم من البربر
اعلم أنّ أول بلد البجة من قرية تعرف بالحزبة معدن الزمرّذ في صحراء قوص، وبين هذا الموضع، وبين قوص نحو من ثلاث مراحل، وذكر الجاحظ أنه ليس في الدنيا معدن للزمرّذ غير هذا الموضع، وهو يوجد في مغاير بعيدة مظلمة يدخل إليها بالمصابيح، وبحبال يستدل بها على الرجوع خوف الضلال، ويحفر عليه بالمعاول، فيوجد في وسط الحجارة، وحوله غشيم دونه في الصبغ والجوهر، وآخر بلاد البجة، أوّل بلاد الحبشة، وهم في بطن هذه الجزيرة أعني جزيرة مصر إلى سيف البحر الملح مما يلي جزائر سواكن، وباضع، ودهلك، وهم بادية يتبعون الكلأ، حيثما كان الرعي بأخبية من جلود.(1/358)
وأنسابهم من جهة النساء، ولكل بطن منهم رئيس، وليس عليهم متملك ولا لهم دين، وهم يورثون، ابن البنت وابن الأخت دون ولد الصلب، ويقولون: إنّ ولادة ابن الأخت وابن البنت، أصح فإنه إن كان من زوجها، أو من غيره، فهو ولدها على كل حال، وكان لهم قديما رئيس يرجع جميع رؤسائهم إلى حكمه يسكن قرية تعرف: بهجر، هي أقصى جزيرة البجة، ويركبون النجب الصهب، وتنتج عندهم، وكذلك الجمال العراب كثيرة عندهم أيضا، والمواشي من البقر والغنم والضأن غاية في الكثرة عندهم، وبقرهم، وحسان ملعمة بقرون عظام، ومنها جمّ وكباشهم كذلك منمرة ولها ألبان، وغذاؤهم اللحم وشرب اللبن، وأكلهم للجبن قليل، وفيهم من يأكله، وأبدانهم صحاح وبطونهم خماص، وألوانهم مشرقة الصفرة، ولهم سرعة في الجري يباينون بها الناس، وكذلك جمالهم شديدة العدو صبورة عليه، وعلى العطش، يسابقون عليها الخيل، ويقاتلون عليها، وتدور بهم كما يشتهون، ويقطعون عليها من البلاد ما يتفاوت ذكره، ويتطاردون عليها في الحرب، فيرمي الواحد منهم الحربة فإن وقعت في الرمية طار إليها الجمل، فأخذها صاحبها، وإن وقعت في الأرض ضرب الجمل بجرانه الأرض فأخذها صاحبها.
ونبغ منهم في بعض الأوقات رجل يعرف بكلاز شديد مقدام، وله جمل ما سمع بمثله في السرعة، وكان أعور، وصاحبه كذلك التزم لقومه أنه يشرف على مصلى مصر يوم العيد، وقد قرب العيد قربا لا يكون للبلوغ إليها في مثله حقيقة، فوفى بذلك، وأشرف على المقطم وضربت الخيل خلفه فلم يلحق، وهذا هو الذي أوجب أن يكون في السفح طليعة يوم العيد، وكان الطولونية وغيرهم: من أمراء مصر يوقفون في سفح الجبل المقطم، مما يلي الموضع المعروف: بالحبش، جيشا كثيفا مراعيا للناس حتى ينصرفوا من عيدهم في كل عيد، وهم أصحاب ذمّة فإذا غدر أحدهم رفع المغدور به ثوبا على حربة، وقال: هذا عرش فلان يعني أبا الغادر، فتصير سيئة عليه إلى أن يترضاه، وهم يبالغون في الضيافة، فإذا طرق أحدهما الضيف ذبح له، فإذا تجاوز ثلاثة نفر نحر لهم من أقرب الأنعام إليه سواء كانت له أو لغيره، وإن لم يكن شيء نحر راحلة الضيف، وعوّضه ما هو خير منها، وسلاحهم الحراب السباعية مقدار طول الحديدة ثلاثة أذرع، والعود أربعة أذرع، وبذلك سميت سباعية والحديدة في عرض السيف لا يخرجونها من أيديهم إلا في بعض الأوقات، لأنّ في آخر العود شيئا شبيها بالفلكة يمنع خروجها عن أيديهم، وصناع هذه الحراب نساء في موضع لا يختلط بهنّ رجل إلا المشتري منهنّ.
فإذا ولدت إحداهنّ من الطارقين لهنّ جارية استحيتها، وإن ولدت غلاما قتلته، ويقلن: إنّ الرجال بلاء وحرب، ودرقهم من جلود البقر مشعرة، ودرق مقلوبة تعرف بالأكسومة من جلود الجواميس، وكذلك الدهلكية ومن دابة في البحر، وقسيّهم عربية كبار(1/359)
غلاظ من السدر والشوحط يرمون عليها بنبل مسموم، وهذا السم يعمل من عروق شجر الغلف يطبخ على النار حتى يصير مثل الغرا فإذا أرادوا تجربته شرط أحدهم جسده، وسيل الدم ثم شممه هذا السم، فإذا تراجع الدم علم أنه جيد، ومسح الدم لئلا يرجع إلى جسمه فيقتله، فإذا أصاب الإنسان قتل لوقته، ولو مثل شرطة الحجام، وليس له عمل في غير الجرح والدم وإن شرب منه لم يضرّ، وبلدانهم كلها معادن، وكلما تصاعدت كانت أجود ذهبا وأكثر، وفيها معادن الفضة والنحاس والحديد والرصاص وحجر المغناطيس والمرقشيتا والحمست والزمرّذ وحجارة شطبا، فإذا بلّت الشطبة منها بزيت وقدت مثل الفتيلة وغير ذلك مما شغلهم طلب معادن الذهب عما سواه.
والبجة لا تتعرّض لعمل شيء من هذه المعادن، وفي أوديتهم شجر المقل «1» والإهليلج والإذخر، والشيح والسنا والحنظل، وشجر البان وغير ذلك، وبأقصى بلدهم:
النخل وشجر الكرم والرياحين، وغير ذلك مما لم يزرعه أحد، وبها سائر الوحش من السباع والفيلة والنمور والفهود والقردة وعناق الأرض والزباد، ودابة تشبه الغزال حسنة المنظر لها قرنان على لون الذهب قليلة البقاء إذا صيدت، ومن الطيور: الببغاء، والنقيط، والنوبيّ، والقماريّ، ودجاج الحبش، وحمام بازين، وغير ذلك.
وليس منهم رجل إلا منزوع البيضة اليمنى، وأما النساء فمقطوع أشفار فروجهنّ وإنه يلتحم حتى يشق عنه للمتزوّج بمقدار ذكر الرجل، ثم قلّ هذا الفعل عندهم، وقيل: إنّ السبب في ذلك أنّ ملكا من الملوك حاربهم قديما، ثم صالحهم وشرط عليهم قطع ثديّ من يولد لهم من النساء، وقطع ذكور من يولد من الرجال، أراد بذلك قطع النسل منهم، فوفوا بالشرط، وقلبوا المعنى في أن جعلوا قطع الثديّ للرجال، والفروج للنساء، وفيهم جنس يقلعون ثناياهم ويقولون: لا نتشبه بالحمير، وفيهم جنس آخر في آخر بلاد البجة يقال لهم:
البازة، نساء جميعهم يتسمون باسم واحد، وكذلك الرجال، فطرقهم في وقت رجل مسلم له جمال، فدعا بعضهم بعضا، وقالوا: هذا الله قد نزل من السماء، وهو جالس تحت الشجرة، فجعلوا ينظرون إليه من بعد.
وتعظم الحيات ببلدهم وتكثر أصنافها، ورئيت حية في غدير ماء، قد أخرجت ذنبها والتفت على امرأة وردت فقتلتها، فرؤي شحمها قد خرج من دبرها من شدّة الضغطة، وبها حية ليس لها رأس، وطرفاها سواء منقشة ليست بالكبيرة إذا مشى الإنسان على أثرها مات، وإذا قتلت وأمسك القاتل ما قتلها به من عود أو حربة في يده، ولم يلقه من ساعته مات، وقتلت حية منها بخشبة، فانشقت الخشبة، وإذا تأمّل هذه الحية أحد، وهي ميتة أو حية أصابه ضررها، وفي البجة شرّ وتسرع إليه، ولهم في الإسلام وقبله أذية على شرق صعيد(1/360)
مصر خرّبوا هناك قرى عديدة، وكانت فراعنة مصر تغزوهم وتوادعهم أحيانا لحاجتهم إلى المعادن، وكذلك الروم لما أن ملكوا مصر، ولهم في المعادن آثار مشهورة، وكان أصحابهم بها وقد فتحت مصر.
قال عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم: وتجمع لعبد الله بن سعد بن أبي سرح، في انصرافه من النوبة على شاطىء النيل البجة، فسأل عن شأنهم؟ فأخبر: أن ليس لهم ملك يرجعون إليه، فهان عليه أمرهم، وتركهم، فلم يكن لهم عقد ولا صلح، وكان أوّل من هادنهم عبيد الله بن الحبحاب السلوليّ، ويذكر أنه وجد في كتاب ابن الحبحاب، لهم ثلثمائة بكر في كل عام حين ينزلون الريف مجتازين تجارا غير مقيمين على أن لا يقتلوا مسلما، ولا ذميّا، فإن قتلاه فلا عهد لهم، ولا يؤوا عبيد المسلمين، وأن يردّوا آبقيهم إذا وقعوا إليهم.
ويقال: إنهم كانوا يؤاخذون بهذا وبكل شاة أخذها البجاوي فعليه أربعة دنانير، وللبقرة عشرة، وكان وكيلهم مقيما بالريف رهينة بيد المسلمين، ثم كثر المسلمون في المعدن فخالطوهم وتزوّجوا فيهم، وأسلم كثير من الجنس المعروف بالحدارب إسلاما ضعيفا، وهم شوكة القوم، ووجوههم، وهم مما يلي مصر من أوّل حدّهم إلى العلاقي، وعيذاب المعبر منه إلى جدّة وما وراء ذلك، ومنهم جنس آخر يعرفون بالرنافج هم أكثر عددا من الحدارب غير أنهم تبع لهم وخفراؤهم يحمونهم ويحبونهم المواشي ولكل رئيس من الحدارب، قوم من الرنافج في حملته، فهم كالعبيد يتوارثونهم بعد أن كانت الرنافج قديما أظهر عليهم، ثم كثرت أذيتهم على المسلمين، وكان ولاة أسوان من العراق، فرفع إلى أمير المؤمنين المأمون خبرهم، فأخرج إليهم عبد الله بن الجهم، فكانت له معهم وقائع، ثم وادعهم، وكتب بينه وبين ركنون رئيسهم الكبير الذي يكون بقريتهم، هجر المقدّم ذكرها كتابا نسخته: هذا كتاب، كتبه عبد الله بن الجهم مولى أمير المؤمنين صاحب جيش الغزاة عامل الأمير أبي إسحاق بن أمير المؤمنين الرشيد أبقاه الله في شهر ربيع الأوّل سنة ست عشرة ومائتين، لكنون بن عبد العزيز عظيم البجة بأسوان، إنك سألتني وطلبت إليّ أن أؤمنك وأهل بلدك من البجة، وأعقد لك ولهم أمانا عليّ، وعلى جميع المسلمين، فأجبتك إلى أن عقدت لك، وعلى جميع المسلمين أمانا ما استقمت، واستقاموا على ما أعطيتني، وشرطت لي في كتابي هذا، وذلك أن يكون سهل بلدك وجبلها من منتهى حدّ أسوان من أرض مصر إلى حدّ ما بين دهلك «1» وباضع «2» ملكا للمأمون عبد الله بن هارون أمير المؤمنين أعزه الله تعالى، وأنت وجميع أهل بلدك عبيد لأمير المؤمنين إلا أنك تكون في(1/361)
بلدك ملكا على ما أنت عليه في البجة، وعلى أن تؤدّي إليه الخراج في كل عام على ما كان عليه سلف البجة، وذلك مائة من الإبل، أو ثلثمائة دينار وازنة داخلة في بيت المال، والخيار في ذلك لأمير المؤمنين ولولاته، وليس لك أن تخرم شيئا عليك من الخراج، وعلى أنّ كل أحد منكم إن ذكر محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كتاب الله أو دينه بما لا ينبغي أن يذكره به، أو قتل أحدا من المسلمين حرّا أو عبدا، فقد برئت منه الذمّة، ذمّة الله وذمّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذمّة أمير المؤمنين، أعزه الله، وذمة جماعة المسلمين، وحلّ دمه كما يحلّ دم أهل الحرب وذراريهم، وعلى أنّ أحدا منكم إن أعان المحاربين على أهل الإسلام بمال أو دلّه على عورة من عورات المسلمين، أو أثر لعزتهم فقد نقض ذمّة عهده وحلّ دمه، وعلى أنّ أحدا منكم إن قتل أحدا من المسلمين عمدا أو سهوا أو خطأ حرّا أو عبدا أو أحدا من أهل ذمة المسلمين أو أصاب لأحد من المسلمين أو أهل ذمّتهم ما لا ببلد البجة، أو ببلاد الإسلام أو ببلاد النوبة أو في شيء من البلدان برّا أو بحرا، فعليه في قتل المسلم عشر ديات، وفي قتل العبد المسلم عشر قيم، وفي قتل الذميّ عشر ديات من دياتهم، وفي كل مال أصبتموه للمسلمين، وأهل الذمّة عشرة أضعافه، وإن دخل أحد من المسلمين بلاد البجة تاجرا أو مقيما أو مجتازا أو حاجا فهو آمن فيكم كأحدكم حتى يخرج من بلادكم، ولا تؤوا أحدا من آبقي المسلمين، فإن أتاكم آت فعليكم أن تردّوه إلى المسلمين، وعلى أن تردوا أموال المسلمين إذا صارت في بلادكم بلا مؤنة تلزمهم في ذلك، وعلى أنكم إن نزلتم ريف صعيد مصر لتجارة أو مجتازين لا تظهرون سلاحا، ولا تدخلون المدائن والقرى بحال، ولا تمنعوا أحدا من المسلمين الدخول في بلادكم والتجارة فيها برّا ولا بحرا، ولا تخيفوا السبيل، ولا تقطعوا الطريق على أحد من المسلمين، ولا أهل الذمّة، ولا تسرقوا لمسلم ولا ذميّ مالا وعلى أن لا تهدموا شيئا من المساجد التي ابتناها المسلمون، بصيحة وهجر، وسائر بلادكم طولا وعرضا فإن فعلتم ذلك، فلا عهد لكم ولا ذمّة.
وعلى أن كنون بن عبد العزيز، يقيم بريف صعيد مصر وكيلا يفي للمسلمين بما شرط لهم من دفع الخراج، وردّ ما أصابه البجة للمسلمين من دم ومال، وعلى أن أحدا من البجة لا يعترض حدّ القصر إلى قرية يقال لها قبان، من بلد النوبة حدّا لا عمدة عقد، عبد الله بن الجهم، مولى أمير المؤمنين لكنون بن عبد العزيز، كبير البجة الأمان على ما سمينا وشرطنا في كتابنا هذا، وعلى أن يوافي به أمير المؤمنين فإن زاغ كنون أو عاث فلا عهد له، ولا ذمّة، وعلى كنون أن يدخل عمال أمير المؤمنين بلاد البجة، لقبض صدقات من أسلم من البجة، وعلى كنون الوفاء بما شرط، لعبد الله بن الجهم، وأخذ بذلك عهد الله عليه بأعظم ما أخذ على خلقه من الوفاء والميثاق.
ولكنون بن عبد العزيز، ولجميع البجة: عهد الله وميثاقه وذمّة أمير المؤمنين، وذمّة الأمير، أبي إسحاق بن أمير المؤمنين الرشيد، وذمّة عبد الله بن الجهم، وذمّة المسلمين(1/362)
بالوفاء، بما أعطاه عبد الله بن الجهم، ما وفى كنون بن عبد العزيز بجميع ما شرط عليه، فإن غيّر كنون، أو بدّل أحد من البجة، فذمّة الله جل اسمه، وذمّة أمير المؤمنين، وذمّة الأمير أبي إسحاق بن أمير المؤمنين الرشيد، وذمّة عبد الله بن الجهم، وذمّة المسلمين بريئة منهم، وترجم جميع ما في هذا الكتاب حرفا حرفا، زكريا بن صالح المخزوميّ من سكان جدّة وعبد الله بن إسماعيل القرشيّ، ثم نسق جماعة من شهود أسوان، فأقام البجة على ذلك برهة، ثم عادوا إلى غزو الريف من صعيد مصر، وكثر الضجيج منهم إلى أمير المؤمنين، جعفر المتوكل على الله، فندب لحربهم، محمد بن عبد الله القميّ، فسأل أن يختار من الرجال، من أحبّ، ولم يرغب إلى الكثرة لصعوبة المسالك.
فخرج إليهم من مصر في عدّة قليلة، ورجال منتخبة، وسارت المراكب في البحر، فاجتمع البجة لهم في عدد كثير عظيم قد ركبوا الإبل، فهاب المسلمون ذلك، فشغلهم بكتاب طويل كتبه في طومار، ولفه بثوب فاجتمعوا لقراءته، فحمل عليهم، وفي أعناق الخيل الأجراس، فنفرت الجمال بالبجة، ولم تثبت لصلصلة الأجراس، فركب المسلمون أقفيتهم، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وقتل كبيرهم، فقام من بعده، ابن أخيه، وبعث يطلب الهدنة، فصالحهم، على أن يطأ بساط أمير المؤمنين، فسار إلى بغداد، وقدم على المتوكل، بسرّمن رأى في سنة إحدى وأربعين ومائتين، فصولح على أداء الإداوة والبقط، واشترط عليهم أن لا يمنعوا المسلمين من العمل في المعدن.
وأقام القميّ بأسوان مدّة، وترك في خزائنها ما كان معه من السلاح وآلة الغزو، فلم تزل الولاة تأخذ منه حتى لم يبقوا منه شيئا، فلما كثر المسلمون في المعادن، واختلطوا بالبجة، قلّ شرهم، وظهر التبر لكثرة طلابه، وتسامع الناس به فوفدوا من البلدان، وقدم عليهم أبو عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحميد العمريّ، بعد محاربته النوبة في سنة خمس وخمسين ومائتين، ومعه ربيعة وجهينة وغيرهم من العرب، فكثرت بهم العمارة في البجة حتى صارت الرواحل التي تحمل الميرة إليهم من أسوان، ستين ألف راحلة، غير الجلاب التي تحمل من القلزم إلى عيذاب، ومالت البجة إلى ربيعة وتروّحوا إليهم.
وقيل: إنّ كهان البجة قبل إسلام من أسلم منهم ذكرت، عن معبودهم الطاعة لربيعة، ولكنون معا، فهم على ذلك، فلما قتل العمريّ، واستولت ربيعة على الجزائر، والاهم على ذلك البجة، فأخرجت من خالفها من العرب، وتصاهروا إلى رؤساء البجة، وبذلك كف ضررهم عن المسلمين.
والبجة الداخلة في صحراء بلد علوة مما يلي البحر الملح إلى أوّل الحبشة، ورجالهم في الظعن والمواشي واتباع الرعي والمعيشة، والمراكب والسلاح، كحال الحدارب، إلا أن الحدارب أشجع وأهدى من الداخلة على كفرهم من عبادة الشيطان، والاقتداء بكهانهم،(1/363)
ولكل بطن كاهن يضرب له قبة من أدم معبدهم فيها، فإذا رأوا استخباره عما يحتاجون إليه تعرّى، ودخل إلى القبة مستدبرا، ويخرج إليهم وبه أثر جنون وصرع، يقول: الشيطان يقرئكم السلام، ويقول لكم: ارحلوا عن هذه الحلة، فإنّ الرهط الفلانيّ يقع بكم، وسألتم عن الغزو إلى بلد كذا، فسيروا فإنكم تظفرون وتغنمون كذا وكذا، والجمال التي تأخذونها من موضع كذا هي لي، والجارية الفلانية التي تجدونها في الخباء الفلانيّ، والغنم التي من صفتها كذا، ونحو هذا القول، فيزعمون أنه يصدقهم في أكثر من ذلك، فإذا غنموا أخرجوا من الغنيمة ما ذكر، ودفعوه إلى الكاهن يتموّله ويحرّمون ألبان نوقها على من لم يقبل، فإذا أرادوا الرحيل حمل الكاهن هذه القبة على جمل مفرد، فيزعمون أن ذلك الجمل لا يثور إلا بجهد، وكذلك سيره ويتصبب عرقا، والخيمة فارغة لا شيء فيها، وقد بقي في الحدارب جماعة على هذا المذهب، ومنهم من يتمسك بذلك مع إسلامه.
قال مؤرخ النوبة: ومنه لخصت ما تقدّم ذكره، وقد قرأت في خطبة الأجناس لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: ذكر البجة والكجة ويقول عنهم: شديد كلبهم، قليل سلبهم، فالبجة كذلك، وأما الكجة، فلا أعرفهم انتهى ما ذكره عبد الله بن أحمد مؤرخ النوبة.
وقال أبو الحسن المسعودي: فأما البجة فإنها نزلت بين بحر القلزم ونيل مصر، وتشعبوا فرقا وملّكوا عليهم ملكا، وفي أرضهم معادن الذهب، وهو التبر ومعادن الزمرّذ، وتتصل سراياهم ومناسرهم على النجب إلى بلاد النوبة، فيغزون ويسبون، وقد كانت النوبة قبل ذلك أشدّ من البجة إلى أن قوي الإسلام، وظهر وسكن جماعة من المسلمين معدن الذهب، وبلاد العلاقي وعيذاب، وسكن في تلك الديار خلق من من العرب من ربيعة بن نزار بن معدّ بن عدنان، فاشتدّت شوكتهم، وتزوّجوا من البجة، فقويت البجة، ثم صاهرها قوم من ربيعة، فقويت ربيعة بالبجة على من ناواها، وجاورها من قحطان وغيرهم، ممن سكن تلك الديار.
وصاحب المعدن في وقتنا هذا، وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة، بشر بن مروان بن إسحاق بن ربيعة يركب في ثلاثة آلاف ألف من ربيعة وأحلافها من مصر، واليمن وثلاثين ألف حراب على النجب من البجة في الجحف التحاوية، وهم الحدارب، وهم مسلمون ممن بين سائر البجة، والداخلة من البجة، كفار يعبدون صنما لهم، والبجة المالكة لمعدن الزمرّذ يتصل ديارها بالعلاقي، وهو معدن الذهب، وبين العلاقي والنيل خمس عشرة مرحلة وأقرب العمارة إليه مدينة أسوان، وجزيرة سواكن أقل من ميل في ميل، وبينها وبين البحر الحبشي بحر قصير يخاض، وأهلها طائفة من البجة تسمى: الخاسة، وهم مسلمون ولهم بها ملك.(1/364)
وقال الهمدانيّ: نكح كنعان بن حام أرتيب بنت شاويل بن ترس بن يافث، فولدت له حقا، والأساود، ونوبة، وقران، والزنج، والزغاوة، وأجناس السودان، وقيل: البجة من ولد حام بن نوح، وقيل: من ولد كوش بن كنعان بن حام، وقيل: البجة قبيلة من الحبش أصحاب أخبية من شعر، وألوانهم أشدّ سوادا من الحبشة يتزيون بزيّ العرب، وليس لهم مدن ولا قرى ولا مزارع، ومعيشتهم مما ينقل إليهم من أرض الحبشة، وأرض مصر والنوبة.
وكانت البجة تعبد الأصنام، ثم أسلموا في إمارة عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وفيهم كرم وسماحة، وهم قبائل وأفخاذ لكل فخذ رئيس، وهم أهل نجعة وطعامهم اللحم واللبن فقط.
ذكر مدينة أسوان «1»
أسوان من قولهم: أسى الرجل، يأسى أسى: إذا حزن، ورجل أسيان وأسوان: أي حزين، وأسوان في آخر بلاد الصعيد، وهي ثغر من ثغور الإقليم يفصل بين النوبة وأرض مصر، وكانت كثيرة الحنطة، وغيرها من الحبوب والفواكه والخضراوات والبقول، وكانت كثيرة الحيوان من الإبل والبقر والغنم، ولحمانها هناك غاية في الطيب والسمن، وكانت أسعارها أبدا رخيصة، وبها تجارات وبضائع تحمل منها إلى بلاد النوبة، ولا يتصل بأسوان من شرقها بلد إسلاميّ، وفي جنوبها جبل به معدن الزمرّذ، وهو في برّية منقطعة عن العمارة، وعلى خمسة عشر يوما من أسوان، معدن الذهب، ويتصل بأسوان من غربيها:
الواحات، ويسلك من أسوان إلى عيذاب، ويتوصل من عيذاب إلى الحجاز وإلى اليمن والهند.
قال المسعوديّ: ومدينة أسوان يسكنها خلق من العرب من قحطان، ونزار بن ربيعة ومضر، وخلق كثير من قريش، وأكثرهم من الحجاز والبلد كثير النخل خصيب، كثير الخير تودع النواة في الأرض فتنبت نخلة، ويؤكل من ثمرها بعد سنتين، ولمن بأسوان ضياع كثيرة داخلة بأرض النوبة يؤدّون خراجها إلى ملك النوبة، وابتيعت هذه الضياع من النوبة في صدر الإسلام في دولة بني أمية وبني العباس.
وقد كان ملك النوبة استعدى المأمون حين دخل مصر على هؤلاء القوم، يوفد وفدهم إلى الفسطاط، ذكروا عنه أنّ أناسا من أهل مملكته وعبيده، باعوا ضياعا من ضياعهم ممن جاورهم من أهل أسوان وأنها ضياعه والقوم عبيد لا أملاك لهم، وإنما تملكهم على هذه(1/365)
الضياع تملك العبيد العامرين فيها، فجعل المأمون أمرهم إلى الحاكم بمدينة أسوان، ومن بها من أهل العلم والشيوخ، وعلم من ابتاع هذه الضياع من أهل أسوان أنها ستنزع من أيديهم، فاحتالوا على ملك النوبة بأن يقدّموا إلى من ابتيع منهم من النوبة أنهم إذا حضروا حضرة الحاكم أن لا يقرّوا لملكهم بالعبودية، وأن يقولوا سبيلنا معاشر النوبة، سبيلكم مع ملككم، يجب علينا طاعته، وترك مخالفته فإن كنتم أنتم عبيدا لملككم وأموالكم له، فنحن كذلك، فلما جمع الحاكم بينهم وبين صاحب الملك، أتوا بهذا الكلام للحاكم ونحوه، مما أوقفوهم عليه من هذا المعنى، فمضى البيع لعدم إقرارهم بالرق لملكهم إلى هذا الوقت.
وتوارث الناس تلك الضياع بأرض النوبة من بلاد مريس، وصار النوبة أهل مملكة هذا الملك نوعين من وصفنا، أحرار غير عبيد، والنوع الآخر من أهل مملكته عبيد وهم من سكن النوبة في غير هذه البلاد المجاورة لأسوان وهي بلاد مريس. قال: وأما النوبة، فافترقت فرقتين، فرقة في شرق النيل وغربه، فأناخت على شاطئه، واتصلت ديارها بديار القبط من أرض صعيد مصر، واتسعت مساكن النوبة على شاطىء النيل مصعدة، ولحقوا بقريب من أعاليه، وبنوا دار مملكة، وهي مدينة عظيمة تدعى: دنقلة، والفرقة الأخرى من النوبة، يقال لها: علوة وبنوا مدينة عظيمة سموها: سرقته، والبلد المتصل مملكته بأرض أسوان يعرف بمريس، وإليه تضاف الريح المريسية، وعمل هذا الملك متصل بأعمال مصر من أرض الصعيد، ومدينة أسوان. قال: وفي الجانب الشرقيّ من صعيد مصر جبل رخام عظيم كانت الأوائل تقطع منه العمد وغيرها. فأما العمد والقواعد والرءوس التي يسميها أهل مصر الأسوانية، ومنها حجارة الطواحين، فتلك نقرها الأوّلون قبل حدوث النصرانية بمئين من السنين، ومنها العمد التي بالإسكندرية. وفي ذي الحجة سنة أربع وأربعين وثلثمائة، أغار ملك النوبة على أسوان، وقتل جمعا من المسلمين، فخرج إليه محمد بن عبد الله الخازن على عسكر مصر من قبل، أو نوجور بن الإخشيد في محرّم سنة خمس وأربعين، فساروا في البرّ والبحر، وبعثوا بعدّة من النوبة أسروهم، فضربت أعناقهم، بعد ما أوقع بملك النوبة، وسار الخازن، حتى فتح مدينة أبريم وسبى أهلها، وقدم إلى مصر في نصف جمادى الأولى سنة خمس وأربعين بمائة وخمسين أسيرا، وعدّة رؤوس. وقال القاضي الفاضل: إنّ متحصل ثغر أسوان في سنة خمس وثمانين وخمسمائة بلغ، خمسة وعشرين ألف دينار. وقال الكمال جعفر الأدفوي: وكان بأسوان ثمانون رسولا من رسل الشرع، وتحصل من أسوان في سنة واحدة، ثلاثون ألف أردب تمرا، وأخبرنا من وقف على مكتوب كان فيه أربعون شريفا خاصة، وأنّ مكتوبا آخر رأى فيه ستين شريفا دون من عداهم.
قال: ووقفت أنا، على مكتوب فيه نحو من أربعين مؤرخ بما بعد العشرين وستمائة من الهجرة.(1/366)
وكان بثغر أسوان، بنو الكنز من ربيعة أمراء ممدوحون مقصودون، صنع لهم الفاضل الشديد، أبو الحسن بن عرام سيرة، ذكر فيها مناقبهم، وأسماء من مدحهم ومن ورد عليهم، ولما أرسل السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب جيشا إلى كنز الدولة وأصحابه ترحلوا عن البلاد، فدخلوا بيوتهم، فوجدوا بها قصائد من مدحهم منها، قصيدة أبي محمد الحسن بن الزبير قال فيها:
وينجده إن خانه الدهر أوسطا ... أناس إذا ما أنجد الذل اتهموا
أجاروا فما تحت الكواكب خائف ... وجادوا فما فوق البسيطة معدم
وأنه أجازه عليها بألف دينار، ووقف عليه ساقية تساوي ألف دينار، وكان بأسوان رجال من العسكر مستعدون بالأسلحة لحفظ الثغر من هجوم النوبة والسودان عليه، فلما زالت الدولة الفاطمية أهمل ذلك، فسار ملك النوبة في عشرة آلاف، ونزله تجاه أسوان في جزيرة وأسر من كان فيها من المسلمين، ثم تلاشى بعد ذلك أمر الثغر، واستولى عليه أولاد الكنز من بعد سنة تسعين وسبعمائة، فأفسدوا فسادا كبيرا، وكانت لهم مع ولاة أسوان عدّة حروب إلى أن كانت المحن منذ سنة ست وثمانمائة، وخرب إقليم الصعيد، فارتفعت يد السنة عن ثغر أسوان، ولم يبق للسلطان في مدينة أسوان وال، واتضع حاله عدّة سنين، ثم زحفتّ هوّارة في محرّم سنة خمس عشرة وثمانمائة إلى أسوان، وحاربت أولاد الكنز وهزموهم، وقتلوا كثيرا من الناس، وسبوا ما هناك من النساء والأولاد، واسترقوا الجميع وهدموا سور مدينة أسوان، ومضوا بالسبي، وقد تركوها خرابا يبابا لا سكن بها، فاستمرت على ذلك بعد ما كانت بحيث يقول عنها عبد الله بن أحمد بن سليم الأسوانيّ في كتاب أخبار النوبة: أن أبا عبد الرحمن عبد الله بن عبد الحميد العمريّ، لما غلب على المعدن كتب إلى أسوان يسأل التجار الخروج إليه بالجهاز من طريق المعدن، فخرج إليه رجل يعرف بعثمان بن حيخلة التميميّ في ألف راحلة فيها الجهاز والبرّ.
وذكر أنّ العمريّ لما عاد إلى بلاد البجة بعد حروبه للنوبة، كثرت العمارة حتى صارت الرواحل التي تحمل الميرة إليهم من أسوان، ستين ألف راحلة، غير الجلاب التي تحمل من القلزم إلى عيذاب، قال: ومما شاهده جماعة من شيوخنا الثقات بأسوان بقرية تدعى أساشي، هي من أسوان على مرحلتين ونصف، أنهم رأوا شرقها من جانب النيل قرية بسور، وخارج بابها جميزة وناس يدخلون ويخرجون، فإذا عبروا إلى الموضع لم يجدوا شيئا، وهذا يكون في الشتاء دون الصيف قبل طلوع الشمس، والناس مجمعون على رؤيتها، وصحة هذا الخبر، وكان بها أنواع من التمر وأنواع من الرطب منها نوع من الرطب، أشدّ ما يكون من خضرة السلق.
وأمر هارون الرشيد، أن يجمع له من ألوان تمر أسوان من كل صنف، تمرة واحدة،(1/367)
فجمع له ويبة، ولا يعرف في الدنيا بسر يتتمر قبل أن يصير رطبا إلا بأسوان.
ذكر بلاق «1»
بلاق: أجلّ حصن للمسلمين، وهي جزيرة تقرب من الجنادل، محيط بها النيل فيها بلد كبير يسكنه خلق كثير من الناس وبها نخل عظيم، ومنبر في جامع وإليها تنتهي سفن النوبة، وسفن المسلمين من أسوان، وبينها وبين القرية التي تعرف بالقصر، وهي أوّل بلد النوبة ميل واحد، وبينها وبين أسوان أربعة أميال، ومن أسوان إلى هذا الموضع، جنادل في البحر، لا تسلكها المراكب إلا بالحيلة، ودلالة من يخبر ذلك من الصيادين الذين يصيدون هناك، وبالقصر مسلحة وباب إلى بلد النوبة.
ذكر حائط العجوز «2»
هذا الحائط، كان حصنا لأرض مصر، يحدق بجميعها، وكان فيه محارس ومسالح، ومن ورائه خليج يجري فيه الماء، معقود عليه القناطر، عملته دلوكة بنت زبا، وقد وهي وتلاشى، ولم يبق منه إلا يسير في شط النيل الشرقيّ ينتهي إلى أسوان.
قال أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم في كتاب فتوح مصر: فبقيت مصر بعد غرقهم، يعني فرعون وجنوده، وليس فيها من أشراف أهلها أحد، ولم يبق بها إلا العبيد، والأجراء، والنساء، فأعظم أشراف من بمصر من النساء، أن يولين منهم أحدا، وأجمع رأيهنّ، أن يولين امرأة منهن يقال لها: دلوكة بنت زبا، وكان لها عقل ومعرفة وتجارب، وكانت في شرف منهنّ وموضع، وهي يومئذ بنت مائة سنة وستين سنة، فملكوها، فخافت أن يتناولها ملوك الأرض، فجمعت نساء الأشراف فقالت لهنّ: إنّ بلادنا لم يكن يطمع فيها أحد، ولا يمدّ عينه إليها، وقد هلك أكابرنا وأشرافنا، وذهب السحرة الذين كنا نقوى بهم، وقد رأيت أن أبني حصنا أحدق به جميع بلادنا، فأضع عليه المحارس من كل ناحية، فإنا لا نأمن من أن يطمع فينا الناس، فبنت جدارا أحاطت به على جميع أرض مصر كلها، المزارع والمدائن والقرى، وجعلت دونه خليجا يجري فيه الماء، وأقامت القناطر والترع، وجعلت فيه محارس ومسالح على كل ثلاثة أميال، محرس ومسلحة، وفيما بين ذلك محارس صغار على كل ميل، وجعلت في كل محرس رجالا، وأجرت عليهم الأرزاق، وأمرتهم أن يحرسوا بالأجراس، فإذا أتاهم أحد يخافونه ضرب بعضهم إلى بعض بالأجراس، فأتاهم الخبر من أيّ جهة كانت في ساعة واحدة، فنظروا في ذلك، فمنعت(1/368)
بذلك مصر، ممن أرادها، وفرغت من بنائه في ستة أشهر، وهو الجدار الذي يقال له: جدار العجوز بمصر، وقد بقيت بالصعيد منه بقايا كبيرة، والله أعلم.
ذكر البقط
البقط: ما يقبض من سبي النوبة في كل عام، ويحمل إلى مصر، ضريبة عليهم، فإن كانت هذه الكلمة عربية، فهي إمّا من قولهم في الأرض بقط من بقل وعشب، أي نبذ من مرعى، فيكون معناه على هذا، نبذة من المال أو يكون من قولهم، إنّ في بني تميم، بقطا من ربيعة أي فرقة أو قطعة، فيكون معناه على هذا، فرقة من المال، أو قطعة منه، ومنه بقط الأرض، فرقة منها، وبقط الشيء: فرّقه.
والبقط: أن تعطي الحبة على الثلث أو الربع، والبقط أيضا: ما سقط من التمر إذا قطع، فأخطأ المخرف، فيكون معناه على هذا بعض ما في أيدي النوبة، وكان يؤخذ منهم في قرية يقال لها: القصر، مسافتها من أسوان خمسة أميال فيما بين بلد بلاق وبلد النوبة، وكان القصر فرضة لقوص، وأوّل ما تقرّر هذا البقط على النوبة في إمارة عمرو بن العاص، لما بعث عبد الله بن سعد بن أبي سرح، بعد فتح مصر إلى النوبة سنة عشرين، وقيل: سنة إحدى وعشرين في عشرين ألفا، فمكث بها زمانا، فكتب إليه عمرو يأمره بالرجوع إليه.
فلما مات عمرو رضي الله عنه، نقض النوبة الصلح الذي جرى بينهم وبين عبد الله بن سعد، وكثرت سراياهم إلى الصعيد، فأخربوا، وأفسدوا، فغزاهم مرّة ثانية عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وهو على إمارة مصر في خلافة عثمان رضي الله عنه، سنة إحدى وثلاثين، وحصرهم بمدينة دنقلة حصارا شديدا، ورماهم بالمنجنيق، ولم تكن النوبة تعرفه وخسف بهم كنيستهم بحجر، فبهرهم ذلك، وطلب ملكهم واسمه: قليدوروث الصلح، وخرج إلى عبد الله وأبدى ضعفا ومسكنة وتواضعا، فتلقاه عبد الله ورفعه وقرّبه، ثم قرر الصلح معه على ثلثمائة وستين رأسا في كل سنة، ووعده عبد الله بحبوب يهديها إليه لما شكا له قلة الطعام ببلده، وكتب لهم كتابا نسخته بعد البسملة.
عهد من الأمير عبد الله بن سعد بن أبي سرح، لعظيم النوبة ولجميع أهل مملكته، عهد عقده على الكبير والصغير من النوبة من حدّ أرض أسوان إلى حدّ أرض علوة أنّ عبد الله ابن سعد، جعل لهم أمانا وهدنة جارية بينهم، وبين المسلمين ممن جاورهم من أهل صعيد مصر، وغيرهم من المسلمين، وأهل الذمّة، إنكم معاشر النوبة آمنون بأمان الله وأمان رسوله محمد النبيّ صلى الله عليه وسلم، أن لا نحاربكم، ولا ننصب لكم حربا ولا نغزوكم ما أقمتم على الشرائط التي بيننا وبينكم على أن تدخلوا بلدنا مجتازين غير مقيمين فيه، وندخل بلدكم مجتازين غير مقيمين فيه، وعليكم حفظ من نزل بلدكم، أو يطرقه من مسلم أو معاهد، حتى يخرج عنكم، وإنّ عليكم ردّ كل آبق خرج إليكم من عبيد المسلمين، حتى تردّوه إلى أرض(1/369)
الإسلام، ولا تستولوا عليه، ولا تمنعوا منه ولا تتعرّضوا لمسلم قصده وحاوره إلى أن ينصرف عنه، وعليكم حفظ المسجد الذي ابتناه المسلمون بفناء مدينتكم، ولا تمنعوا منه مصليا، وعليكم كنسه وإسراجه وتكرمته، وعليكم في كل سنة ثلثمائة وستون رأسا، تدفعونها إلى إمام المسلمين من أوسط رقيق بلادكم غير المعيب، يكون فيها ذكران وإناث، ليس فيها شيخ هرم، ولا عجوز، ولا طفل لم يبلغ الحلم، تدفعون ذلك إلى والي أسوان، وليس على مسلم دفع عدوّ عرض لكم ولا منعه عنكم، من حدّ أرض علوة إلى أرض أسوان، فإن أنتم آويتم عبد المسلم أو قتلتم مسلما أو معاهدا، أو تعرّضتم للمسجد الذي ابتناه المسلمون بفناء مدينتكم بهدم أو منعتم شيئا من الثلاثمائة رأس والستين رأسا، فقد برئت منكم هذه الهدنة والأمان وعدنا نحن وأنتم على سواء حتى يحكم الله بيننا، وهو خير الحاكمين علينا بذلك عهد الله وميثاقه وذمّته وذمّة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ولنا عليكم بذلك أعظم ما تدينون به من ذمّة المسيح، وذمّة الحواريين، وذمّة من تعظمونه من أهل دينكم، وملتكم الله الشاهد بيننا وبينكم على ذلك. كتبه عمرو بن شرحبيل في رمضان سنة إحدى وثلاثين.
وكانت النوبة دفعت إلى عمرو بن العاص ما صولحوا عليه من البقط قبل نكثهم، وأهدوا إلى عمرو أربعين رأسا من الرقيق، فلم يقبلها، وردّ الهدية إلى كبير البقط ويقال له:
سمقوس، فاشترى له بذلك جهازا وخمرا، ووجهه إليه، وبعث إليهم عبد الله بن سعد، ما وعدهم به من الحبوب، قمحا وشعيرا وعدسا وثيابا وخيلا، ثم تطاول الرسم على ذلك، فصار رسما يأخذونه عند دفع البقط في كل سنة، وصارت الأربعون رأسا التي أهديت إلى عمرو يأخذها والي مصر.
وعن أبي خليفة حميد بن هشام البحتريّ، أن الذي صولح عليه النوبة، ثلثمائة وستون رأسا لفيء المسلمين، ولصاحب مصر أربعون رأسا ويدفع إليهم ألف أردب قمحا، ولرسله ثلثمائة أردب، ومن الشعير كذلك، ومن الخمر ألف اقتيز للمتملك، ولرسله ثلثمائة اقتيز، وفرسين من نتاج خيل الإمارة، ومن أصناف الثياب مائة ثوب، ومن القباطيّ أربعة أثواب للمتملك ولرسله ثلاثة، ومن البقطرية، ثمانية أثواب، ومن المعلمة خمسة أثواب وجبة مجملة للملك، ومن قمص أبي بقطر عشرة أثواب، ومن أحاص عشرة أثواب، وهي ثياب غلاظ.
قال أبو خليفة: ليس في كتاب عبد الله بن وهب ولا في كتاب الواقديّ تسمية ينتهي إليها، وإنما أخذت التسمية من أبي زكريا، قال أبو زكريا: سمعت والدي عمرو بن صالح يقول هذا الخبر، فحفظت منه، ما وقفت عليه، وقال: حضرت مجلس الأمير، عبد الله بن طاهر، وهو على مصر، فقال: أنت عثمان بن صالح، الذي وجهنا إليك في كتاب بقط النوبة، قلت: نعم، فأقبل عليّ محفوظ بن سليمان، فقال: ما أعجب أمر هذه البلدة وجهنا(1/370)
إليهم نطلب علما من علومهم، وإلى هذا الشيخ، فما شقانا أحد منهم، فقلت: أصلح الله الأمير، إنّ الذي طلبت من خبر النوبة عندي، قد حفظه شيوخ عن الشيوخ الذين حضروا هناك، والهدنة والصلح الذي جرى بين عبد الله بن سعد، وبين النوبة، ثم حدّثته عن أخبارهم، كما سمعت فأنكر عطية الخمر، فقلت: قد أنكرها عبد العزيز بن مروان، وكان هذا المجلس بفسطاط مصر سنة إحدى عشرة ومائتين، بعد أن تم الصلح بينه وبين عبد الله بن السريّ بن الحكم التميميّ الأمير كان قبله، قال عثمان بن صالح، فوجه الأمير إلى الديوان بظهر المسجد الجامع بمصر، فاستخرج منه خبر النوبة، فوجده كما ذكرت، فسرّه ذلك.
وعن مالك بن أنس: أنه كان يرى أنّ أرض النوبة إلى حدّ علوة صلح، وكان لا يجيز شراء رقيقهم، وكان أصحابه مثل عبد الله بن عبد الحكم، وعبد الله بن وهب، والليث بن سعد، ويزيد بن أبي حبيب وغيرهم من فقهاء مصر، يرون خلاف ذلك.
قال الليث بن سعد: نحن أعرف بأرض النوبة من الإمام مالك بن أنس، إنما صولحوا على أن لا تغزوهم، ولا تمنع منهم عدوّا فما استرقه متملكهم، أو غزا بعضهم بعضا، فشراؤه جائز، وما استرقه بغاة المسلمين وسرّاقهم، فغير جائز، وكان عند جماعة منهم جوار نوبيات لفرشهم، ولم يزل النوبة يؤدّون البقط في كل سنة، ويدفع إليهم ما تقدّم ذكره إلى أيام أمير المؤمنين المعتصم بالله، أبي إسحاق بن الرشيد، وكبير النوبة، يومئذ زكرياء بن بجنس، وكانت النوبة، ربما عجزت عن دفع البقط، فشنت الغارة عليهم ولاة المسلمين القريبون من بلادهم، ويمنع من إخراج الجهاز إليهم، فأنكر فيرقي ولد كبيرهم زكرياء على أبيه، بذله الطاعة لغيره، واستعجزه فيما يدفع، فقال له أبوه فما تشاء، قال:
عصيانهم ومحاربتهم، قال أبوه: هذا شيء رآه السلف من آبائنا صوابا وأخشى أن يفضي هذا الأمر إليك فتقدم على محاربة المسلمين، غير أني أوجهك إلى ملكهم رسولا، فأنت ترى حالنا وحالهم فإن رأيت لنا بهم طاقة حاربناهم على خبرة وإلا سألته الإحسان إلينا، فشخص فيرقى إلى بغداد، وكانت البلدان تزين له ويسير على المدن، وانحدر بانحداره رئيس البجة بأسبابه، ولقيا المعتصم، فنظروا إلى ما بهرهما من حال العراق في كثرة الجيوش، وعظم العمارة مع ما شاهداه في طريقهما، فقرّب المعتصم فيرقي وأدناه وأحسن إليه إحسانا تامّا، وقبل هديته، وكافأه بأضعافها، وقال له: تمنّ ما شئت، فسأله في إطلاق المحبوسين فأجابه إلى ذلك، وكبر في عين المعتصم ووهب له الدار التي نزلها بالعراق وأمر أن يشتري له في كل منزل من طريقه دار تكون لرسلهم، فإنه امتنع من دخول دار لأحد في طريقه فأخذ له بمصر: دار بالجيزة، وأخرى ببني وائل، وأجرى لهم في ديوان مصر سبعمائة دينار وفرسا وسرجا ولجاما وسيفا محلّى وثوبا مثقلا وعمامة من الخز وقميص شرب ورداء شرب وثيابا لرسله غير محدودة عند وصول البقط إلى مصر، ولهم حملان وخلع على المتولي لقبض(1/371)
البقط، وعليهم رسوم معلومة لقابض البقط والمتصرّفين معه، وما يهدي إليهم بعد ذلك فغير محدود، وهو عندهم هدية يجازون عليها، ونظر المعتصم إلى ما كان يدفعه المسلمون، فوجده أكثر من البقط، وأنكر عطية الخمر، وأجرى الحبوب والثياب التي تقدّم ذكرها، وقرّر دفع البقط بعد انقضاء كل ثلاث سنين، وكتب لهم كتابا بذلك بقي في يد النوبة، وادّعى النوبيّ على قوم من أهل أسوان أنهم اشتروا أملاكا من عبيده، فأمر المعتصم بالنظر في ذلك، فأحضر والي البلد، والمختار للحكم فيه، التابعين من النوبة وسألاهم: عما ادّعاه صاحبهم من بيعهم، فأنكروا ذلك، وقالوا: نحن رعية، فزال ما ادّعاه، وطلب أشياء غير ذلك من إزالة المسلحة المعروفة بالقصر عن موضعها إلى الحدّ الذي بينهم وبين المسلمين لأنّ المسلحة على أرضهم، فلم يجبه إلى ذلك، ولم يزل الرسم جاريا بدفع البقط على هذا التقرير، ويدفع إليهم ما أجراه المعتصم إلى أن قدمت الدولة الفاطمية إلى مصر، ذكر ذلك مؤرخ النوبة.
وقال أبو الحسن المسعوديّ: والبقط هو ما يقبض من السبي في كل سنة، ويحمل إلى مصر ضريبة عليهم، وهو ثلثمائة رأس وخمسة وستون رأسا لبيت المال بشرط الهدنة بين النوبة والمسلمين، وللأمير بمصر غير ما ذكرنا أربعون رأسا، ولخليفته المقيم بأسوان وهو المتولي لقبض البقط عشرون رأسا وللحاكم المقيم بأسوان الذي يحضر مع أمير أسوان قبض البقط، خمسة أرؤس ولاثني عشر شاهدا عدول من أهل أسوان يحضرون مع الحاكم لقبض البقط اثنا عشر رأسا من السبي على حسب ما جرى به الرسم في صدر الإسلام في بدء إيقاع الهدنة بين المسلمين والنوبة.
وقال البلاذري «1» في كتاب الفتوحات: إنّ المقرّر على النوبة أربعمائة رأس يأخذون بها طعاما، أي غلة وألزمهم أمير المؤمنين المهدي محمد بن أبي جعفر المنصور، ثلثمائة وستين رأسا وزراقة.
وفي سنة أربع وسبعين وستمائة، كثر خبث داود، متملك النوبة، وأقبل إلى أن قرب من مدينة أسوان، وحرّق عدّة سواق، بعد ما أفسد بعيذاب، فمضى إليه والي قوص، فلم يدركه، وقبض على صاحب الخيل في عدّة من النوبة، وحملهم إلى السلطان الملك الظاهر بيبرس البندقداري بقلعة الجبل فوسطهم وقدم سكندة ابن أخت متملك النوبة متظلما من خاله داود، فجرّد السلطان معه الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقاني الإستادار، والأمير عز الدين إيبك الأفرم، وأمير جاندار في جماعة كثيرة من العسكر، ومن أجناد الولايات وعربان(1/372)
الوجه القبليّ والزراقين والرماة ورجال الحراريق، فساروا في أوّل شعبان من القاهرة حتى وصلوا إلى أرض النوبة، فخرجوا إلى لقائهم على النجب بأيديهم الحراب، وعليهم دكادك سود، فاقتتل الفريقان قتالا كبيرا، انهزم فيه النوبة وأغاز الأفرم على قلعة الدار، وقتل وسبى وأوغل الفارقاني في أرض النوبة برّا وبحرا، يقتل ويأسر، فحاز من المواشي ما لا يعدّ، ونزل بجزيرة ميكائيل برأس الجنادل، ونفر المراكب من الجنادل، ففرّ النوبة إلى الجزائر، وكتب لقمر الدولة نائب داود متملك النوبة أمانا، فحلف لسكندة على الطاعة، وأحضر رجال المريس ومن فرّ، وخاض الأفرم إلى برج في الماء وحصره، حتى أخذه وقتل به مائتين وأسر أخا لداود، فهرب داود والعسكر في أثره، مدّة ثلاثة أيام وهم يقتلون ويأسرون، حتى أذعن القوم، وأسرت أم داود وأخته، ولم يقدر على داود، فتقرّر سكندة عوضه، وقرّر على نفسه القطيعة في كل سنة ثلاث فيلة، وثلاث زرافات، وخمس فهود من أناثها، ومائة نجيب أصهب، وأربعمائة رأس من البقر المنتجة، على أن تكون بلاد النوبة نصفين، نصفها للسلطان، ونصفها لعمارة البلاد، وحفظها ما خلا بلاد الجنادل، فإنها كلها للسلطان لقربها من أسوان، وهي نحو الربع من بلاد النوبة، وأن يحمل ما بها من التمر والقطن، والحقوق الجارية بها العادة من قديم الزمان، وأن يقوموا بالجزية ما بقوا على النصرانية، فيدفع كل بالغ منهم في السنة دينارا عينا، وكتب نسخة يمين بذلك، حلف عليها الملك سكندة.
ونسخة يمين أخرى، حلفت عليها الرعية، وخرّب الأميران كنائس النوبة، وأخذ ما فيها، وقبض على نحو عشرين أميرا من أمراء النوبة، وأفرج عمن كان بأيدي النوبة من أهل أسوان وعيذاب من المسلمين في أسرهم، وألبس سكندة تاج الملك، وأقعد على سرير المملكة، بعد ما حلف والتزم أن يحمل جميع ما لداود، ولكل من قتل وأسر من مال ودواب إلى السلطان مع البقط القديم، وهو أربعمائة رأس من الرقيق، في كل سنة وزرافة من ذلك ما كان للخليفة ثلثمائة وستون رأسا، ولنائبه بمصر أربعون رأسا، على أن يطلق لهم إذا وصلوا بالبقط تاما من القمح ألف أردب لمتملكهم، وثلثمائة أردب لرسله.
ذكر صحراء عيذاب «1»
اعلم أنّ حجاج مصر والمغرب، أقاموا زيادة على مائتي سنة لا يتوجهون إلى مكة شرّفها الله تعالى، إلا من صحراء عيذاب يركبون النيل من ساحل مدينة مصر الفسطاط إلى قوص «2» ، ثم يركبون الإبل من قوص، ويعبرون هذه الصحراء إلى عيذاب، ثم يركبون البحر(1/373)
في الجلاب إلى جدّة ساحل مكة، وكذلك تجار الهند واليمن والحبشة، يردون في البحر إلى عيذاب، ثم يسلكون هذه الصحراء إلى قوص، ومنها يردون مدينة مصر، فكانت هذه الصحراء لا تزال عامرة آهلة بما يصدر، أو يرد من قوافل التجار والحجاج، حتى إن كانت أحمال البهار كالقرفة والفلفل، ونحو ذلك لتوجد ملقاة بها والقفول صاعدة وهابطة لا يعترض لها أحد، إلى أن يأخذها صاحبها.
فلم تزل مسلكا للحجاج في ذهابهم وإيابهم، زيادة على مائتي سنة من أعوام بضع وخمسين وأربعمائة، إلى أعوام بضع وستين وستمائة، وذلك منذ كانت الشدّة العظمى في أيام الخليفة المستنصر بالله أبي تميم معدّ بن الظاهر، وانقطاع الحج في البرّ إلى أن كسا السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري، الكعبة وعمل لها مفتاحا، ثم أخرج قافلة الحاج من البرّ في سنة ست وستين وستمائة، فقلّ سلوك الحجاج لهذه الصحراء، واستمرّت بضائع التجار تحمل من عيذاب إلى قوص، حتى بطل ذلك بعد سنة ستين وسبعمائة، وتلاشى أمر قوص من حينئذ، وهذه الصحراء مسافتها من قوص إلى عيذاب سبعة عشر يوما، ويفقد فيها الماء ثلاثة أيام متوالية، وتارة يفقد أربعة أيام، وعيذاب مدينة على ساحل بحر جدّة، وهي غير مسوّرة، وأكثر بيوتها أخصاص، وكانت من أعظم مراسي الدنيا بسبب أنّ مراكب الهند واليمن تحط فيها البضائع، وتقلع منها مع مراكب الحجاج الصادرة والواردة، فلما انقطع ورود مراكب الهند واليمن إليها صارت المرسى العظيمة عدن من بلاد اليمن إلى أن كانت أعوام بضع وعشرين وثمانمائة، فصارت جدّة أعظم مراسي الدنيا، وكذلك هرمز، فإنها مرسى جليل، وعيذاب في صحراء لا نبات فيها، وكل ما يؤكل بها مجلوب إليها حتى الماء، وكان لأهلها من الحجاج والتجار فوائد لا تحصى، وكان لهم على كل حمل يحملونه للحجاج ضريبة مقرّرة، وكانوا يكارون الحجاج الجلاب التي تحملهم في البحر إلى جدّة، ومن جدّة إلى عيذاب، فيجتمع لهم من ذلك مال عظيم، ولم يكن في أهل عيذاب إلا من له جلبة فأكثر على قدر يساره.
وفي
بحر عيذاب، مغاص اللؤلؤ في جزائر قريبة منها تخرج إليها الغوّاصون في وقت معين من كل سنة، في الزوارق حتى يوافوه بتلك الجزائر، فيقيمون هنالك أياما، ثم يعودون بما قسم لهم من الحظ والمغاص فيها قريب القعر، وعيش أهل عيذاب، عيش البهائم، وهم أقرب إلى الوحش في أخلاقهم من الإنس، وكان الحجاج: يجدون في ركوبهم الجلاب على البحر أهوالا عظيمة لأنّ الرياح تلقيهم في الغالب بمراس في صحارى بعيدة مما يلي الجنوب، فينزل إليهم التجار من جبالهم، فيكارونهم الجمال، ويسلكون بهم على غير ماء، فربما هلك أكثرهم عطشا، وأخذ التجار ما كان معهم، ومنهم من يضلّ ويهلك عطشا،(1/374)
والذي يسلم منهم يدخل إلى عيذاب، كأنه نشر من كفن، قد استحالت هيئاتهم وتغيرت صفاتهم، وأكثر هلاك الحجاج بهذه المراسي، ومنهم من يساعده الريح فتحطه بمرسى عيذاب، وهو الأقل وجلباتهم التي تحمل الحجاج في البحر لا يستعمل فيها مسمار البتة، إنما يخيط خشبها بالقنبار، وهو متخذ من شجر النارجيل، ويخللونها بدسر من عيدان النخل، ثم يسقونها بسمن أو دهن الخروع أو دهن القرش، وهو حوت عظيم في البحر، يبتلع الغرقى وقلاع هذه الجلاب من خوص شجر المقل.
ولأهل عيذاب في الحجاج أحكام الطواغيت فإنهم يبالغون في شحن الجلبة بالناس حتى يبقى بعضهم فوق بعض حرصا على الأجرة، ولا يبالون بما يصيب الناس في البحر، بل يقولون دائما علينا بالألواح، وعلى الحجاج بالأرواح، وأهل عيذاب من البجاة.
ولهم ملك منهم، وبها وال من قبل سلطان مصر، وأدركت قاضيها عندنا بالقاهرة، أسود اللون، والبجاة قوم لا دين لهم، ولا عقل، ورجالهم ونساؤهم أبدا عراة، وعلى عوراتهم خرق، وكثير منهم لا يسترون عوراتهم، وعيذاب حرّها شديد بسموم محرق.
ذكر مدينة الأقصر
هذه المدينة من مدائن الصعيد العظيمة، يقال: إنّ أهلها المريس، ومنها: الحمير المريسية.
ذكر البلينا «1»
هذه «2» وذكر الكمال الأدفويّ: أنه وقع بين أهل البلاد، ووالي قوص، فتوجهوا إلى القاهرة وصرفوه، وولي غيره وطلع الخطيب بالبلينا صحبته، وكان إقطاعه أرمنت، فلما وصل إليها أضافه أهلها، بستين منسفا من طعام اللبن، فقال للخطيب: في بلادكم مثل هذا؟
فقال الخطيب: وحلوى، فلما وصل إلى أخميم، تقدّم الخطيب إلى البلينا، فعند ما وصل الوالي إليها، أخرجوا له ستين منسفا حلوى، وستين منسفا شواء، قال: وبعض الحكام بها في عيد من الأعياد، امتدحه من أهلها خمسة وعشرون شاعرا، وفيها من لا يرضى بمدح القاضي، وفيها من تقصر رتبته عن ذلك، قال: وكان عدّة مسابك للسكر، ويوصف أهلها بالمكارم.(1/375)
ذكر سمهود «1»
هذه المدينة بالجانب الغربيّ من النيل، قال الأدفوي: كان بسمهود سبعة عشر حجرا لاعتصار قصب السكر. ويقال: إنّ الفار لا يدخل قصبها.
ذكر إرجنّوس «2»
هذه المدينة من جملة عمل البهنسا، بها كنيسة بظاهرها، فيها بئر يقال لها بئر سيرس صغيرة، لها عيد يعمل في اليوم الخامس والعشرين من بشنس أحد شهور القبط، فيفور بها الماء، عند مضي ست ساعات من النهار حتى يطفو، ثم يعود إلى ما كان عليه، ويستدل النصارى على زيادة النيل في كل سنة، بقدر ما علا الماء من الأرض، فيزعمون أنّ الأمر في النيل وزيادته يكون موافقا لذلك.
ذكر أبويط «3»
هذه المدينة أيضا من جملة البهنساوية، كان بها منارة محكمة البناء، إذا هزها الرجل تحرّكت يمينا وشمالا، فيرى ميلها رؤية ظاهرة بانتقال ظلها عن موضعه.
ذكر ملوى
هذه المدينة بالجانب الغربيّ من النيل، وأرضها معروفة بزراعة قصب السكر، وكان بها عدّة أحجار لاعتصاره، وآخر من كان بها أولاد فضيل، بلغت زراعتهم في أيام الناصر محمد بن قلاون ألفا وخمسمائة فدّان من القصب، في كل سنة، فأوقع النشو، ناظر الخاص الحوطة على موجودهم في سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة، فوجد من جملة مالهم، أربعة عشر ألف قنطار من القند، حملها إلى دار القند بمصر، سوى العسل، وألزمهم بحمل ثمانية آلاف قنطار بعد ذلك، وأفرج عنهم فوجدوا لهم حاصلا لم يهتد له النشو فيه عشرة آلاف قنطار قند، سوى مالهم من عبيد وغلال وغير ذلك.
ذكر مدينة أنصنا «4»
اعلم أن مدينة أنصنا إحدى مدائن صعيد مصر القديمة، وفيها عدّة عجائب، منها الملعب، ويقال: إنه كان مقياس النيل، وإنه من بناء دلوكة أحد من ملك مصر، وكان(1/376)
كالطيلسان، وفي دائرة عمد على عدّة أيام السنة الشمسية، كلها من الصوّان الأحمر الماتع، ومسافة ما بين كل عمودين، مقدار خطوة إنسان، وكان ماء النيل يدخل إلى هذا الملعب من فوهة عند زيادة الماء، فإذا بلغ ماء النيل الحدّ الذي كان إذ ذاك يحصل منه ريّ أرض مصر وكفايتها، جلس الملك عند ذلك في مشرف له، وصعد القوم من خواصه إلى رؤوس الأعمدة المذكورة، فيتعادون عليها ما بين ذاهب وآت، ويتساقطون من الأعمدة إلى الملعب، وهو ممتلئ بالماء.
قال أبو عبيد البكريّ: أنصنا، بفتح أوّله وإسكان ثانيه بعده صاد مهملة مكسورة ونون وألف، كورة من كور مصر معروفة منها: كانت سريّة النبيّ صلى الله عليه وسلم أمّ ابنه إبراهيم من قرية يقال لها حفن من قرى هذه الكورة، ويقال: إن سحرة فرعون كانوا منها، وإنه جلبهم منها يوم الموعد للقاء موسى عليه السلام.
ويقال: إنّ التمساح لا يضرّ بساحل أنصنا لطلاسم وضعت بها، وإنه إذا حاذى برّها انقلب على ظهره، حتى يجاوزها، ويقال: إنّ الذي بنى مدينة أنصنا أشمون بن مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح، وهي واقعة في شرقيّ النيل، وكانت حسنة البساتين والمنتزهات كثيرة الثمار والفواكه، وهي الآن خراب.
وقال أبو حنيفة الدينوريّ: ولا ينبت البنج إلا بأنصنا، وهو عود ينشر منه ألواح للسفن، وربما أرعفت ناشرها ويباع اللوح منها بخمسين دينارا ونحوها، وإذا شدّ لوح منها بلوح، وطرح في الماء ستة أيام صارا لوحا واحدا، وكان لأنصنا سور عتيق هدمه السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وجعل على كل مركب منحدر في النيل، جزأ من حمل صخره إلى القاهرة، فنقل بأسره إليها.
ذكر القيس
اعلم أن القيس من البلاد التي تجاور مدينة البهنسا، وكان يقال: القيس والبهنسا. قال ابن عبد الحكم: بعث عمرو بن العاص قيس بن الحارث إلى الصعيد، فسار حتى أتى القيس، فنزل بها فسميت به.
وقال ابن يونس: قيس بن الحارث المراديّ، ثم الكعبيّ، شهد فتح مصر، يروي عن عمر بن الخطاب، وكان يفتي الناس في زمانه، روى عنه سويد بن قيس، وقيل: شديد بن قيس بن ثعلبة، وروى عنه عسكر بن سوادة، وهو الذي فتح القرية بصعيد مصر المعروفة بالقيس، فنسبت إليه.
وقال ابن الكنديّ: ولهم ثياب الصوف وأكسية المرعز، وليس هي بالدنيا إلا بمصر، وذكر بعض أهل مصر: أنّ معاوية بن أبي سفيان، لما كبر كان لا يدفأ، فاجتمعوا أنه لا يدفّيه(1/377)
إلا الأكسية نعمل بمصر من صوفها المرعز العسليّ العين المصبوغ، فعمل له منها عدد، فما احتاج منها إلا إلى واحد، ولهم طراز القيس، والبهنسا في الستور والمضارب يعرفون به، ومنه طراز أهل الدنيا.
وظهر بها بالقرب من البهنسا، سرب في أيام السلطان، الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، فأمر متولي البهنساوية بكشفه، فجمع له أهل المعرفة بالعوم والغطس، فكانوا ما ينيف على مائتي رجل ما فيهم إلا من نزل السرب، فلم يجد له قرارا، ولا جوانب، فأمر بعمل مركب طويل رقيق بحيث يمكن إدخاله من رأس السرب، وشحنه بالأزراد والرجال، وركب فيه حبالا مربوطة في خوازيق عند رأس السرب، وحمل مع الرجال آلات يعرفون بها أوقات الليل والنهار، وعدّة شموع وغيرها، مما تستخرج به النار وتشعل به، وأمرهم أن يسلكوا بالمركب في السرب حتى ينفد نصف ما معهم من الزاد، فساروا بالمركب في ظلمة، وهم يرخون الحبال، ولا يجدون لما هم سائرون فيه من الماء جوانب، فما زالوا حتى قلت أزوادهم، فأبطلوا حركة المركب بالمجاذيف إلى داخل السرب، وجرّوا الحبال ليرجعوا إلى حيث دخلوا، حتى انتهوا إلى رأس السرب، فكانت مدّة غيبتهم في السرب، ستة أيام أربعة منها دخولا إلى جوفه وتطواف جوانبه، ويومان رجوعا إلى رأس السرب، ولم يقفوا في هذه المدّة على نهاية السرب، فكتب بذلك الأمير علاء الدين الطنبغا والي البهنسا إلى الملك الكامل، فتعجب عجبا كثيرا، واشتغل عن ذلك بمحاربة الفرنج على دمياط، فلما رحلوا عن دمياط، وعادوا إلى القاهرة، خرج بعد ذلك حتى شاهد السرب المذكور.
ذكر دروط بلهاسة
اعلم أن: دروط وهي: بفتح الدال المهملة وضم الراء وسكون الواو وطاء، اسم لثلاث قرى: دروط أشموم من الأشمونين، ودروط سريان، من الأشمونين أيضا، ودروط بلهاسة من ناحية البهنسا بالصعيد، وبها جامع أنشأه زياد بن المغيرة بن زياد بن عمرو العتكيّ، ومات في المحرّم سنة إحدى وتسعين ومائة، فدفن به، وقال فيه الشاعر:
حلف الجود حلفه برّ فيها ... ما برا الله واحدا كزياد
كان غيثا لمصر إذ كان حيا ... وأمانا من السنين الشداد
ومات أخوه إبراهيم بن المغيرة سنة سبع وتسعين ومائة فقال الشاعر فيه:
ابن المغيرة إبراهيم من ذهب ... يزداد حسنا على طول الدهارير «1»
لو كان يملك ما في الأرض عجله ... إلى العفاة ولم يهمم بتأخير(1/378)
ومات أحمد بن زياد بن المغيرة في المحرّم سنة ست وثلاثين ومائتين فقال الشاعر فيه:
أحمد مات ماجدا مفقودا ... ولقد كان أحمد محمودا
ورث المجد عن أب ثم عمّ ... مثله ليس بعده موجودا
ذكر سكر «1»
هي من الأطفيحية تجاهها، واد به إلى وقتنا هذا، شكل جمل من الحجر كأكبر ما يرى من الجمال، وأحسنها هيئة، وهو قائم على أربعة، وقد استقبل بوجهه المشرق، وعلى فخذه الأيمن كتابة بقلمهم وهي أحرف مقطعة في ثلاثة أسطر، ثم على نحو مائة وخمسين خطوة منه جمل آخر مثله سواء، ووجهه إلى وجه الجمل الأوّل، وليس عليه كتابة، وفيما بين الجملين المذكورين، هيئة أعدال قد ملئت قماشا عدّتها أربعون زكيبة موضوعة بالأرض، عشرين تجاه عشرين، وجميعها من حجارة، ولا يشك من رآها أنها أحمال قماش، وبعد مائة وخمسين خطوة منها، جمل ثالث على هيئة الجملين المذكورين، وهو أيضا قائم وظهره إلى ظهر الجمل الثاني، ووجهه إلى الجبل وهناك آخر الوادي، وليس على هذا الجمل أيضا كتابة أخبرني بذلك من لا اتهم روايته.
ذكر منية الخصيب «2»
هذه المدينة تنسب إلى الخصيب بن عبد الحميد صاحب خراج مصر، من قبل أمير المؤمنين هارون الرشيد.
ذكر منية الناسك
هي بلدة من جملة الأطفيحية عرفت بالناسك أخي الوزير بهرام الأرمنيّ في أيام الخليفة، الحافظ لدين الله أبي الميمون عبد المجيد بن محمد، ولي من قبل أخيه مدينة قوص سنة تسع وعشرين وخمسمائة، وولاية قوص يومئذ، أجل ولايات مصر، فجار على المسلمين، واشتدّ عسفه، وأذاه لهم فعند ما وصل الخبر بقيام رضوان بن ولخشي على بهرام وهزيمته منه، وتقلده الوزارة بعده، ثار أهل قوص بالناسك في جمادى الآخرة سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، وقتلوه وربطوا كلبا ميتا في رجله وسحبوه، حتى ألقوه على مزبلة، وكان نصرانيا.(1/379)
ذكر الجيزة
قال ابن سيده: الجيزة الناحية والجانب، وجمعها جيز وجيز والجيز: جانب الوادي، وقد يقال فيه: الجيزة، واعلم أنّ الجيزة اسم لقرية كبيرة جميلة البنيان على النيل من جانبه الغربيّ، تجاه مدينة فسطاط مصر، لها في كل يوم أحد سوق عظيم يجيء إليه من النواحي أصناف كثيرة جدّا، ويجتمع فيه عالم عظيم، وبها عدّة مساجد جامعة.
وقد روى الحافظ أبو بكر بن ثابت الخطيب من حديث نبيط بن شريط قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الجيزة روضة من رياض الجنة ومصر خزائن الله في أرضه» . ويقال: إنّ مسجد التوبة الذي بالجيزة، كان فيه تابوت موسى عليه السّلام الذي قذفته أمّه فيه بالنيل، وبها النخلة التي أرضعت مريم تحتها عيسى فلم يثمر غيرها.
وقال ابن عبد الحكم عن يزيد بن أبي حبيب: فاستحبت همدان ومن والاها الجيزة، فكتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بما صنع الله للمسلمين، وما فتح عليهم، وما فعلوا في خططهم، وما استحبت همدان من النزول بالجيزة، فكتب إليه عمر يحمد الله على ما كان من ذلك، ويقول له: كيف رضيت أن تفرّق أصحابك لم يكن ينبغي لك أن ترضى لأحد من أصحابك أن يكون بينك وبينهم بحر، ولا تدري ما يفجأهم فلعلك لا تقدر على غياثهم حين ينزل بهم ما تكره؟
فاجمعهم إليك فإن أبوا عليك، وأعجبهم موضعهم بالجيزة، وأحبوا ما هنالك، فابن عليهم من فيء المسلمين حصنا، فعرض عليهم عمرو ذلك، فأبوا وأعجبهم موضعهم بالجيزة، ومن والاهم على ذلك من رهطهم يافع وغيرها، وأحبوا ما هنالك، فبنى لهم عمرو بن العاص الحصن في الجيزة في سنة إحدى وعشرين، وفرغ من بنائه في سنة اثنتين وعشرين.
ويقال: إن عمرو بن العاص، لما سأل أهل الجيزة أن ينضموا إلى الفسطاط قالوا:
مقدم قدمناه في سبيل الله ما كنا لنرحل منه إلى غيره، فنزلت يافع الجيزة فيها مبرح بن شهاب، وهمدان، وذو أصبح، فيهم أبو شمر بن أبرهة وطائفة من الحجر.
وقال القضاعيّ: ولما رجع عمرو بن العاص من الإسكندرية، ونزل الفسطاط جعل طائفة من جيشه بالجيزة خوفا من عدوّ يغشاهم من تلك الناحية، فجعل فيها آل ذي أصبح من حمير، وهم كثير، ويافع بن زيد من رعين، وجعل فيها همدان، وجعل فيها طائفة من الأزديين بني الحجر بن الهبو بن الأزد، وطائفة من الحبشة، وديوانهم في الأزد، فلما استقرّ عمرو في الفسطاط، أمر الذين خلفهم بالجيزة أن ينضموا إليه فكرهوا ذلك، وقالوا: هذا مقدم قدمناه في سبيل الله، وأقمنا به ما كنا بالذين نرغب عنه، ونحن به منذ أشهر، فكتب(1/380)
عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بذلك يخبره، أنّ همدان وآل ذي أصبح ويافعا ومن كان معهم أحبوا المقام بالجيزة، فكتب إليه كيف رضيت أن تفرّق عنك أصحابك، وتجعل بينك وبينهم بحرا لا تدري ما يفجأهم، فلعلك لا تقدر على غياثهم، فاجمعهم إليك، ولا تفرّقهم فإن أبوا وأعجبهم مكانهم، فابن عليهم حصنا من فيء المسلمين، فجمعهم عمرو وأخبرهم بكتاب عمر فامتنعوا من الخروج من الجيزة، فأمر عمرو ببناء الحصن عليهم، فكرهوا ذلك، وقالوا: لا حصن أحصن لنا من سيوفنا، وكرهت ذلك همدان ويافع، فأقرع عمرو بينهم، فوقعت القرعة على يافع، فبنى فيهم الحصن في سنة إحدى وعشرين، وفرغ من بنائه في سنة اثنتين عشرين، وأمرهم عمرو بالخطط بها، فاختط ذو أصبح من حمير من الشرق، ومضوا إلى الغرب، حتى بلغوا أرض الحرث والزرع، وكرهوا أن يبني الحصن فيهم، واختط يافع بن الحرث من رعين، بوسط الجيزة وبنى الحصن في خططهم وخرجت طائفة منهم عن الحصن أنفه منه، واختطت بكيل بن جشم من نوف من همدان في مهب الجنوب من الجيزة في شرقيها، واختطت حاشد بن جشم من نوف في مهب الشمال من الجيزة في غربيها، واختطت الجباوية بنو عامر بن بكيل في قبليّ الجيزة، واختطت بنو حجر بن أرحب بن بكيل في قبليّ الجيزة، واختط بنو كعب بن مالك بن الحجر بن الهبو بن الأزد، فيما بين بكيل ويافع، والحبشة اختطوا على الشارع الأعظم.
والمسجد الجامع بالجيزة بناه محمد بن عبد الله الخازن في المحرّم سنة خمسين وثلثمائة بأمر الأمير عليّ بن الإخشيد، فتقدّم كافور، إلى الخازن ببنائه، وعمل له مستغلا، وكان الناس قبل ذلك بالجيزة يصلون الجمعة في مسجد همدان، وهو مسجد مراحق بن عامر بن بكيل، كان يجمع فيه الجمعة في الجيزة، وشارف بناء هذا الجامع الخازن، أبو الحسن بن أبي جعفر الطحاويّ، واحتاجوا إلى عمد للجامع، فمضى الخازن في الليل إلى كنيسة بأعمال الجيزة فقلع عمدها، ونصب بدلها أركانا، وحمل العمد إلى الجامع، فترك أبو الحسن بن الطحاويّ الصلاة فيه مذ ذاك تورّعا.
قال اليمنيّ: وقد كان ابن الطحاويّ، يصلي في جامع الفسطاط العتيق، وبعض عمده أو أكثرها ورخامه من كنائس الإسكندرية، وأرياف مصر، وبعضه بناه قرّة بن شريك، عامل الوليد بن عبد الملك، ويقال: إنّ بالجيزة قبر كعب الأحبار، وإنه كان بها أحجار ورخام قد صوّرت فيها التماسيح، فكانت لا تظهر فيما يلي البلد من النيل، مقدار ثلاثة أميال علوا وسفلا.
وفي سنة أربع وعشرين وسبعمائة منع الملك الناصر، محمد بن قلاون، الوزير أن يتعرّض إلى شيء مما يتحصل من مال الجيزة، فصار جميعه يحمل إليه.(1/381)
قال القضاعيّ: سجن يوسف عليه السلام ببوصير من عمل الجيزة، أجمع أهل المعرفة من أهل مصر على صحة هذا المكان، وفيه أثر نبيين، أحدهما يوسف، سجن به المدّة التي ذكر أن مبلغها سبع سنين، وكان الوحي ينزل عليه فيه، وسطح السجن موضع معروف، بإجابة الدعاء، يذكر أن كافور الإخشيديّ، سأل أبا بكر بن الحدّاد عن موضع معروف بإجابة الدعاء ليدعو فيه؟ فأشار عليه بالدعاء على سطح السجن، والنيّ الآخر موسى عليه السلام، وقد بنى على أثره مسجد هناك يعرف بمسجد موسى.
أخبرنا أبو الحسن عليّ بن إبراهيم الشرفيّ بالشرف قال: حدّثنا أبو محمد عبد الله بن الورد، وكان قد هلكت أخته، وورث منها مورثا وكنا نسمع عليه دائما، وكان لسجن يوسف وقت يمضي الناس إليه يتفرّجون، فقال لنا يوما: يا أصحابنا هذا أوان السجن، ونريد أن نذهب إليه، وأخرج عشرة دنانير، فناولها لأصحابه وقال لهم: ما اشتهيتموه، فاشتروه، فمضى أصحاب الحديث، واشتروا ما أرادوا وعدّينا يوم أحد الجيزة كلنا، وبتنا في مسجد همدان، فلما كان الصباح مشينا حتى جئنا إلى مسجد موسى، وهو الذي في السهل، ومنه يطلع إلى السجن، وبينه وبين السجن تل عظيم من الرمل، فقال الشيخ: من يحملني ويطلع بي إلى هذا السجن حتى أحدّثه بحديث لا أحدّثه لأحد بعده، حتى تفارق روحي الدنيا.
قال الشرفيّ: فأخذت الشيخ، وحملته حتى صرت في أعلاه، فنزل وقال: معك ورقة؟ قلت: لا، قال: أبصر لي بلاطة، فأخذ فحمة وكتب: حدّثني يحيى بن أيوب، عن يحيى بن بكير، عن زيد بن أسلم بن يسار، عن ابن عباس قال: إنّ جبريل أتى إلى يوسف في هذا السجن في هذا البيت المظلم، فقال له يوسف: من أنت الذي مذ دخلت السجن ما رأيت أحسن وجها منك؟ فقال له: أنا جبريل، فبكى يوسف، فقال: ما يبكيك يا نبيّ الله، فقال: إيش يعمل جبريل في مقام المذنبين؟ فقال: أما علمت أنّ الله تعالى يطهر البقاع بالأنبياء، والله لقد طهر الله بك السجن وما حوله، فما أقام إلى آخر النهار، حتى أخرج من السجن.
قال القضاعيّ: سقط بين يحيى وزيد رجل، وقال الفقيه أبو محمد أحمد بن محمد بن سلامة الطحاويّ، وذكر سجن يوسف لو سافر الرجل من العراق ليصلي فيه، وينظر إليه لما عنفته في سفره.
وذكر المسبحيّ: في حوادث شهر ربيع الأوّل سنة خمس عشرة وأربعمائة، أنّ العامّة والسوقة طافت بمصر بالطبول والبوقات يجمعون من التجار، وأرباب الأسواق ما ينفقونه في مضيهم إلى سجن يوسف، فقال لهم التجار: شغلنا بعدم الأقوات يمنعنا من هذا، وكان قد اشتدّ الغلاء، وأنهوا حالهم إلى الحضرة المطهرة، يعني أمير المؤمنين الظاهر لإعزاز دين الله أبا الحسن عليّ بن الحاكم بأمر الله، فرسم لنائب الدولة أبي طاهر بن كافي متولي الشرطة(1/382)
السفلي: الترسيم على التجار، حتى يدفعوا إليهم ما جرت به رسومهم، ورسم لهم بالخروج إلى سجن يوسف، ووعدوا أن يطلق لهم من الحضرة ضعف ما أطلق لهم في السنة الماضية من الهبة، فخرجوا، وفي يوم السبت لتسع خلون من جمادى الأولى ركب القائد الأجل عز الدولة، وسناها معضاد الخادم الأسود، في سائر الأتراك ووجوه القوّاد، وشق البلد، ونزل إلى الصناعة التي بالجسر بمن معه، ثم خرج من هناك، وعدّى في سائر عساكره إلى الجيزة، حتى رتب لأمير المؤمنين عساكر تكون معه مقيمة هناك لحفظه، لأنه عدّى يوم الاثنين لإحدى عشرة خلت منه في أربع عشاريات، وأربع عشرة بغلة من بغال النقل، وفي جميع من معه من خاصته وحرمه إلى سجن يوسف عليه السلام، وأقام هناك يومين وليلتين، إلى أن عاد الرمادية الخارجون إلى السجن بالتماثيل، والمضاحك والحكايات والسماجات، فضحك منهم واستظرفهم، وعاد إلى قصره بكرة يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت منه، وأقام أهل الأسواق نحو الأسبوعين يطرقون الشوارع بالخيال والسماجات والتماثيل، ويطلعون إلى القاهرة بذلك ليشاهدهم أمير المؤمنين، ويعودون ومعهم سجل قد كتب لهم أن لا يعارض أحد منهم في ذهابه وعوده، وأن يعتمد إكرامهم وصيانتهم، ولم يزالوا على ذلك إلى أن تكامل جميعهم، وكان دخولهم من سجن يوسف يوم السبت لأربع عشرة بقيت من جمادى الأولى، وشقوا الشوارع بالحكايات والسماجات والتماثيل فتعطل الناس في ذلك اليوم عن أشغالهم ومعايشهم، واجتمع في الأسواق خلق كثير لنظرهم، وظل الناس أكثر هذا اليوم على ذلك، وأطلق لجميعهم ثمانية آلاف درهم، وكانوا اثني عشر سوقا ونزلوا مسرورين، وبخارج مدينة الجيزة موضع يعرف بأبي هريرة، فيظنّ من لا علم له أنه أبو هريرة الصحابيّ، وليس كذلك، بل هو منسوب إلى ابن ابنته.
ذكر قرية ترسا
قال القضاعيّ: وذكر أنّ القاسم بن عبيد الله بن الحبحاب، عامل هشام بن عبد الملك على خراج مصر، بنى في الجيزة قرية تعرف بترسا.
والقاسم هذا خرج إلى مصر، وولي خلافة عن أبيه، عبيد الله بن الحبحاب السلوليّ على الخراج، في خلافة هشام بن عبد الملك، ثم أمّره هشام على خراج مصر، حين خرج أبوه إلى إمارة إفريقية في سنة ست عشرة ومائة، فلم يزل إلى سنة أربع وعشرين ومائة، فنزع عن مصر، وجمع لحفص بن الوليد، عربها وعجمها، فصار يلي الخراج والصلاة معا، وبترسا هذه كانت وقعة هارون بن محمد الجعديّ.
ذكر منية أندونة
هي إحدى قرى الجيزة، عرفت بأندونة، كاتب أحمد المدائني الذي كان يتقلد ضياع(1/383)
موسى بن بغا، التي بمصر، فقبض أحمد بن طولون على أندونة هذا، وكان نصرانيا، فأخذ منه خمسين ألف دينار.
ذكر وسيم
قال ابن عبد الحكم: وخرج عبد الله بن عبد الملك بن مروان، أمير مصر إلى وسيم، وكانت لرجل من القبط، فسأل عبد الله أن يأتيه إلى منزله، ويجعل له مائة ألف دينار، فخرج إليه عبد الله بن عبد الملك، وقيل: إنما خرج عبد الله إلى قرية أبي النمرس، مع رجل من الكتاب، يقال له: ابن حنظلة، فأتى عبد الله العزل، وولاية قرّة بن شريك، وهو هناك، فلما بلغه ذلك، قام ليلبس سراويله، فلبسه منكوسا، وقيل: إنّ عبد الله لمّا بلغه العزل، ردّ المال على صاحبه، وقال: قد عزلنا، وكان عبد الله قد ركب معه إلى المعديّة، وعدّى أصحابه قبله تأخر، فورد الكتاب بعزله، فقال صاحب المال: والله لا بدّ أن تشرّف منزلي، وتكون ضيفي، وتأكل طعامي، وو الله لا عاد لي شيء من ذلك، ولا أدعك منصرفا فعدّى معه.
ذكر منية عقبة
هذه القرية بالجيزة عرفت بعقبة بن عامر الجهنيّ «1» رضي الله عنه.
قال ابن عبد الحكم: كتب عقبة بن عامر إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، يسأله أرضا يسترقق فيها عند قرية عقبة، فكتب له معاوية بألف ذراع في ألف ذراع، فقال له مولى له: كان عنده، انظر أصلحك الله أرضا صالحة، فقال عقبة: ليس لنا ذلك، إنّ في عهدهم شروطا ستة منها، أن لا يؤخذ من أرضهم شيء، ولا من نسائهم، ولا من أولادهم، ولا يزاد عليهم ويدفع عنهم موضع الخوف من عدوّهم، وأنا شاهد لهم بذلك.
وفي رواية: كتب عقبة إلى معاوية يسأله نقيعا في قرية يبني فيه منازل ومساكن، فأمر له معاوية بألف ذراع في ألف ذراع، فقال له مواليه ومن كان عنده: انظر إلى أرض تعجبك، فاختط فيها وابتن، فقال: إنه ليس لنا ذلك، لهم في عهدهم ستة شروط منها، أن لا يؤخذ من أرضهم شيء، ولا يزاد عليهم، ولا يكلفوا غير طاقتهم، ولا تؤخذ ذراريهم، وأن يقاتل عنهم عدوّهم من ورائهم.
قال أبو سعيد بن يونس: وهذه الأرض التي اقتطعها عقبة هي: المنية المعروفة،(1/384)
بمنية عقبة في جيزة فسطاط مصر.
عقبة بن عامر بن عيسى بن عمرو بن عديّ بن عمرو بن رفاعة بن مودوعة بن عديّ بن غنم بن الربعة بن رشدان بن قيس بن جهينة، كذا نسبه أبو عمرو الكنديّ.
وقال الحافظ: أبو عمر بن عبد البر، عقبة بن عامر بن حسن الجهنيّ من جهينة بن زيد بن مسود بن أسلم بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، وقد اختلف في هذا النسب، يكنى:
أبا حماد، وقيل: أبا أسد، وقيل: أبا عمرو، وقيل: أبا سعاد، وقيل: أبا الأسود.
وقال خليفة بن خياط: وقتل أبو عامر عقبة بن عامر الجهنيّ يوم النهروان، شهيدا وذلك سنة ثمان وثلثين، وهذا غلط منه، وفي كتابه بعد، وفي سنة ثمان وخمسين توفي عقبة بن عامر الجهنيّ، قال: سكن عقبة بن عامر مصر، وكان واليا عليها، وابتنى بها دارا، وتوفي في آخر خلافة معاوية، روى عنه من الصحابة جابر، وابن عباس، وأبو أمامة، ومسلمة بن مخلد، وأما رواته من التابعين فكثير.
وقال الكنديّ: ثم وليها عقبة بن عامر من قبل معاوية، وجمع له صلاتها وخراجها، فجعل على شرطته حمادا، وكان عقبة قارئا فقيها فرضيا شاعرا له الهجرة والصحبة السابقة، وكان صاحب بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلّم الشهباء الذي يقودها في الأسفار، وكان صرف عقبة من مصر، بمسلمة بن مخلد لعشر بقين من ربيع الأوّل سنة أربعين، فكانت ولايته سنتين وثلاثة أشهر.
وقال ابن يونس: توفي بمصر سنة ثمان وخمسين، ودفن في مقبرتها بالمقطم، وكان يخضب بالسواد رحمه الله تعالى.
ذكر حلوان
يقال: إنها تنسب إلى حلوان بن بابليون بن عمرو بن امرئ القيس، ملك مصر بن سائب بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وكان حلوان هذا بالشام على مقدّمة أبرهة ذي المنار أحد التبابعة.
قال ابن عبد الحكم: وكان الطاعون قد وقع بالفسطاط، فخرج عبد العزيز بن مروان من الفسطاط، فنزل بحلوان داخلا في الصحراء في موضع منها يقال له: أبو قرقورة، وهو رأس العين التي احتفرها عبد العزيز بن مروان، وساقها إلى نخيلة التي غرسها بحلوان، فكان ابن خديج يرسل إلى عبد العزيز في كل يوم بخبر ما يحدث في البلد من موت وغيره، فأرسل إليه ذات يوم رسولا، فأتاه فقال له عبد العزيز: ما اسمك؟ فقال: أبو طالب، فثقل ذلك على عبد العزيز، وغاظه، فقال له عبد العزيز: أسألك عن اسمك؟! فتقول أبو طالب! ما اسمك؟ فقال: مدرك، فتفاءل بذلك، ومرض في مخرجه ذلك، ومات هنالك، فحمل(1/385)
في البحر يراد به الفسطاط حتى تغير، فأنزل في بعض خصوص ساحل مريس، فغسل فيه، وأخرجت من هنالك جنازته، وخرج معه بالمجامر فيها العود لما كان قد تغير من ريحه، وأوصى عبد العزيز أن يمرّ بجنازته إذا مات على منزل، جناب بن مرثد بن زيد بن هانىء الرعينيّ، صاحب حرسه، وكان صديقا له وقد توفي قبل عبد العزيز فمرّ بجنازته على باب جناب، وقد خرج عيال جناب، ولبسن السواد ووقفن على الباب صائحات، ثم اتبعنه إلى المقبرة، وكان لنصيب من عبد العزيز ناحية، فقدم عليه في مرضه، فأذن له، فلما رأى شدّة مرضه أنشأ يقول:
ونزور سيدنا وسيد غيرنا ... ليت التشكي كان بالعوّاد
لو كان يقبل فدية لفديته ... بالمصطفى من طارفي وتلادي
فلما سمع صوته، فتح عينيه، وأمر له بألف دينار، واستبشر بذلك آل عبد العزيز، وفرحوا به، ثم مات.
وقال الكندي: ووقع الطاعون بمصر في سنة سبعين، فخرج عبد العزيز بن مروان منها إلى الشرقية منتديا، فنزل حلوان، فأعجبته فاتخذها وسكنها، وجعل بها الحرس والأعوان والشرط، فكان عليهم جناب بن مرثد بحلوان، وبنى عبد العزيز بحلوان الدور والمساجد، وعمّرها أحسن عمارة وأحكمها وغرس نخلها وكرمها، فقال ابن قيس الرقيات:
سقيا لحلوان ذي الكروم وما ... صنف من تينه ومن عنبه
نخل مواقير بالفناء من ال ... برنيّ يهتز ثم في سربه
أسود سكانه الحمام فما ... ينفك غربانه على رطبه
ولما غرس عبد العزيز، نخل حلوان وأطعم دخله، والجند معه، فجعل يطوف فيه ويقف على غروسه ومساقيه، فقال يزيد بن عروة الجمليّ: ألا قلت أيها الأمير، كما قال العبد الصالح: ما شاء الله لا قوّة إلا بالله، فقال: أذكرتني شكرا يا غلام، قل لأنيتاس: يزيد في عطائه عشرة دنانير.
عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشيّ الأمويّ، أبو الأصبغ، أمّه ليلى ابنة زبان بن الأصبغ الكنديّ، روى عن أبي هريرة، وعقبة بن عامر الجهنيّ، وروى عنه عليّ بن رباح، وبحير بن داخرة، وعبيد الله بن مالك الخولانيّ، وكعب بن علقمة، ووثقه النسائي وابن سعد.
ولما سار أبوه مروان إلى مصر، بعثه في جيش إلى أيلة، ليدخل مصر من تلك الناحية، فبعث إليه ابن جحدم أمير مصر بجيش عليهم: زهير بن قيس البلويّ، فلقي عبد العزيز ببصاق، وهي سطح عقبة أيلة، فقاتله فانهزم زهير ومن معه، فلما غلب مروان(1/386)
على مصر في جمادى الآخرة سنة خمس وستين، جعل صلاتها وخراجها إلى ابنه عبد العزيز بعد ما أقام بمصر شهرين، فقال عبد العزيز: يا أمير المؤمنين! كيف المقام ببلد ليس به أحد من بني أبي؟ فقال له مروان: يا بني عمّهم بإحسانك يكونوا كلهم بني أبيك، واجعل وجهك طلقا تصف لك مودّتهم، وأوقع إلى كل رئيس منهم إنه خاصتك دون غيره، يكن لك عينا على غيره، وينقاد قومه إليك، وقد جعلت معك أخاك بشرا مؤنسا، وجعلت لك موسى بن نصير وزيرا أو مشيرا، وما عليك يا بنيّ أن تكون أميرا بأقصى الأرض، أليس ذلك أحسن من إغلاق بابك وخمولك في منزلك، وأوصاه عند مخرجه من مصر إلى الشام، فقال: أوصيك بتقوى الله في سرّ أمرك وعلانيته، فإنّ الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأوصيك أن لا تجعل لداعي الله عليك سبيلا، فإن المؤذن يدعو إلى فريضة افترضها الله، إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا، وأوصيك أن لا تعد الناس موعدا إلا أنفذته لهم، وإن حملته على الأسنة، وأوصيك أن لا تعجل في شيء من الحكم حتى تستشير، فإنّ الله لو أغنى أحدا عن ذلك لأغنى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلّم عن ذلك، بالوحي الذي يأتيه، قال الله عز وجل: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ
[159/آل عمران] .
وخرج مروان من مصر، لهلال رجب سنة خمس وستين، فوليها عبد العزيز على صلاتها وخراجها، وتوفي مروان لهلال رمضان، وبويع ابنه عبد الملك بن مروان، فأقرّ أخاه عبد العزيز ووفد على عبد الملك في سنة سبع وستين، وجعل له الحرس والخيل والأعوان جناب بن مرثد الرعينيّ، فاشتدّ سلطانه، وكان الرجل إذا غلظ لعبد العزيز وخرج تناوله جناب ومن معه فضربوه، وحبسوه، وعبد العزيز أوّل من عرّف بمصر في سنة إحدى وسبعين.
قال يزيد بن أبي حبيب: أوّل من أحدث القعود يوم عرفة في المسجد بعد العصر عبد العزيز بن مروان.
وفي سنة اثنتين وسبعين، صرف بعث البحر إلى مكة، لقتال عبد الله بن الزبير، وجعل عليهم مالك بن شرحبيل الخولانيّ، وهم: ثلاثة آلاف رجل فيهم: عبد الرحمن بن بحنس، مولى ابن أبزى، وهو الذي قتل ابن الزبير «1» وخرج إلى الإسكندرية في سنة أربع وسبعين، ووفد على أخيه عبد الملك في سنة خمس وسبعين، وهدم جامع الفسطاط كله، وزاد فيه من جوانبه كلها في سنة سبع وسبعين، وأمر بضرب الدنانير المنقوشة.
وقال ابن عفير: كان لعبد العزيز ألف جفنة، كل يوم تنصب حول داره، وكانت له(1/387)
مائة جفنة يطاف بها على القبائل تحمل على العجل، وكتب عبد الملك إليه، أن ينزل له عن ولاية العهد، ليعهد إلى الوليد وسليمان، فأبى ذلك، وكتب إليه إن يكن لك ولد فلنا أولاد، ويقضي الله ما يشاء، فغضب عبد الملك، وقال: فرّق الله بيني وبينه، فلم يزل به عليّ حتى رضي، فقدم على عبد العزيز، فأخبره عن عبد الملك وعن حاله، ثم أخبره بدعوته فقال: أفعل أنا، والله مفارقه، والله ما دعا دعوة قط إلا أجيبت، وكان عبد العزيز يقول: قدمت مصر في إمرة مسلمة بن مخلد، فتمنيت بها ثلاث أمانيّ، فأدركتها تمنيت ولاية مصر، وأن أجمع بين امرأتي مسلمة ويحجبني قيس بن كليب حاجبه، فتوفي مسلمة، وقدم مصر، فوليها وحجبه قيس، وتزوّج امرأتي مسلمة، وتوفي ابنه الأصبغ بن عبد العزيز لتسع بقين من ربيع الآخر، سنة ست وثمانين، فمرض عبد العزيز وتوفي ليلة الاثنين لثلاث عشرة خلت من جمادى الأولى سنة ست وثمانين، فحمل في النيل من حلوان إلى الفسطاط، فدفن بها.
وقال ابن أبي مليكة: رأيت عبد العزيز بن مروان حين حضره الموت يقول: ألا ليتني لم أك شيئا مذكورا، ألا ليتني كنابتة من الأرض أو كراعي إبل في طرف الحجاز، ولما مات لم يوجد له مال ناض! إلا سبعة آلاف دينار، وحلوان، والقيسارية، وثياب بعضها مرقوع، وخيل ورقيق، وكانت ولايته على مصر، عشرين سنة وعشرة أشهر وثلاثة عشر يوما، ولم يلها في الإسلام قبله أطول ولاية منه.
وكان بحلوان في النيل، معدّية من صوّان تعدّي بالخيل تحمل فيها الناس وغيرهم من البرّ الشرقيّ بحلوان إلى البرّ الغربيّ فلما كان «1» وهذا من الأسرار التي في الخليقة، فإنّ جميع الأجسام المعدنية كالحديد والنحاس والفضة والرصاص والذهب والقصدير، إذ عمل من شيء منها إناء يسع من الماء أكثر من وزنه، فإنه يعوم على وجه الماء، ويحمل ما يمكنه، ولا يغرق، وما برح المسافرون في بحر الهند إذا أظلم عليهم الليل ولم يروا ما يهديهم من الكواكب إلى معرفة الجهات، يحملون حديدة مجوّفة على شكل سمكة، ويبالغون في ترقيقها جهد المقدرة، ثم يعمل في فم السمكة شيء من مغناطيس جيدا، ويحك فيها بالمغناطيس، فإنّ السمكة إذا وضعت في الماء دارت، واستقبلت القطب الجنوبيّ بفمها، واستدبرت القطب الشماليّ وهذا أيضا من أسرار الخليفة فإذا عرفوا جهتي الجنوب والشمال تبين منهما المشرق والمغرب، فإنّ من استقبل الجنوب فقد استدبر الشمال وصار المغرب عن يمينه والمشرق عن يساره، فإذا تحدّدت الجهات الأربع عرفوا مواقع البلاد بها، فيقصدون حينئذ جهة الناحية التي يريدونها.(1/388)
ذكر مدينة العريش
العريش مدينة فيما بين أرض فلسطين وإقليم مصر، وهي مدينة قديمة من جملة المدائن التي اختطت بعد الطوفان.
قال الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه: عن مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام، وكان غلاما مرفها فلما قرب من مصر بنى له عريشا من أغصان الشجر، وستره بحشيش الأرض، ثم بنى له بعد ذلك في هذا الموضع مدينة وسمّاها: درسان، أي:
باب الجنة، فزرعوا وغرسوا الأشجار والجنان من درسان إلى البحر، فكانت كلها زروعا وجنانا وعمارة.
وقال آخر: إنما سميت بذلك، لأنّ بيصر بن حام بن نوح، تحمّل في ولده وهم أربعة، ومعهم أولادهم، فكانوا ثلاثين ما بين ذكر وأنثى، وقدم ابنه مصر بن بيصر أمامه نحو أرض مصر، حتى خرج من حدّ الشام، فتاهوا، وسقط مصر في موضع العريش، وقد اشتدّ تعبه ونام، فرأى قائلا يبشره بحصوله في أرض ذات خير ودر، وملك وفخر، فانتبه فزعا فإذا عليه، عريش من أطراف الشجر، وحوله عيون ماء، فحمد الله وسأله أن يجمعه بأبيه وإخوته، وأن يبارك له في أرضه، فاستجيب له، وقادهم الله إليه، فنزلوا في العريش، وأقاموا به، فأخرج الله لهم من البحر دوابّ ما بين خيل وحمر وبقر وغنم وإبل، فساقوها حتى أتوا موضع مدينة منف، فنزلوه، وبنوا فيه قرية سميت بالقبطية: مافة يعني قرية ثلاثين، فنمت ذرية بيصر حتى عمروا الأرض، وزرعوا وكثرت مواشيهم، وظهرت لهم المعادن، فكان الرجل منهم يستخرج القطعة من الزبرجد، يعمل منها مائة كبيرة، ويخرج من الذهب ما تكون القطعة منه مثل الأسطوانة وكالبعير الرابض.
وقال ابن سعيد عن البيهقيّ: كان دخول إخوة يوسف وأبويه، عليهم السلام، عليه بمدينة العريش، وهي أوّل أرض مصر، لأنه خرج إلى تلقيهم، حتى نزل المدينة بطرف سلطانه، وكان له هناك عرش، وهو سرير السلطنة، فأجلس أبويه عليه، وكانت تلك المدينة تسمى في القديم بمدينة العرش لذلك، ثم سمتها العامّة مدينة العريش، فغلب ذلك عليها.
ويقال: إنه كان ليوسف عليه السلام حرس في أطراف أرض مصر من جميع جوانبها، فلما أصاب الشام القحط، وسارت إخوة يوسف لتمتار من مصر أقاموا بالعريش، وكتب صاحب الحرس إلى يوسف، إنّ أولاد يعقوب الكنعانيّ، يريدون البلد لقحط نزل بهم، فعمل إخوة يوسف عند ذلك عرشا يستظلون به من الشمس، حتى يعود الجواب، فسمى الموضع العريش، وكتب يوسف بالإذن لهم، فكان من شأنهم ما قد ذكر في موضعه، ويقال للعرش: الج فهذا كما ترى، وابن وصيف شاه أعرف بأخبار مصر.(1/389)
وفي سنة خمس عشرة وأربعمائة، طرق عبد الله بن إدريس الجعفريّ العريش بمعاونة بني الجرّاح وأحرقها، وأخذ جميع ما فيها.
وقال القاضي الفاضل: وفي جمادى الآخرة سنة سبع وسبعين وخمسمائة، ورد الخبر، بأنّ نخل العريش قطع الفرنج أكثره، وحملوا جذوعه إلى بلادهم، وملئت منه، ولم يجدوا مخاطبا على ذلك، ونقل عن ابن عبد الحكم: أنّ الجفار بأجمعه كان أيام فرعون موسى في غاية العمارة بالمياه والقرى والسكان، وأنّ قول الله تعالى: وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ
[137/الأعراف] عن هذه المواضع وأنّ العمارة متصلة منه إلى اليمن، ولذلك سميت العريش: عريشا، وقيل: إنها نهاية التخوم من الشام، وإنّ إليه كان ينتهي رعاة إبراهيم الخليل عليه السلام بمواشيه، وإنه عليه السلام اتخذ به عريشا كان يجلس فيه، حتى تحلب مواشيه بين يديه، فسمي العريش من أجل ذلك، وقيل: إنّ مالك بن دعر بن حجر بن جذيلة بن لخم كان له أربعة وعشرون ولدا منهم: العريش بن مالك، وبه سميت العريش لأنه نزل بها وبناها مدينة، وعن كعب الأحبار: أنّ بالعريش قبور عشرة أنبياء.
ذكر مدينة الفرماء «1»
قال البكريّ: الفرماء بفتح أوّله، وثانيه ممدود على وزن فعلاء، وقد يقصر مدينة تلقاء مصر.
وقال ابن خالويه في كتاب ليس الفرما: هذه سميت بأخي الإسكندر كان يسمى:
الفرما، وكان كافرا، وهي قرية أم إسماعيل بن إبراهيم، انتهى.
ويقال: اسمه الفرما بن فيلقوس، ويقال فيه: ابن فليس، ويقال: بليس؛ وكانت الفرما على شط بحيرة تنيس، وكانت مدينة خصباء، وبها قبر جالينوس الحكيم، وبنى بها المتوكل على الله حصنا على البحر تولى بناءه عنبسة بن إسحاق، أمير مصر في سنة تسع وثلاثين ومائتين، عند ما بنى حصن دمياط، وحصن تنيس، وأنفق فيها مالا عظيما، ولما فتح عمرو بن العاص، عين شمس، أنفذ إلى الفرماء، أبرهة بن الصباح، فصالحه أهلها على خمسمائة دينار هرقلية، وأربعمائة ناقة، وألف رأس من الغنم، فرحل عنهم إلى البقارة.
وفي سنة ثلاث وأربعين وثلثمائة، نزل الروم عليها، فنفر الناس إليهم، وقتلوا منهم رجلين، ثم نزلوا في جمادى الأولى سنة تسع وأربعين وثلثمائة، فخرج إليهم المسلمون،(1/390)
وأخذوا منهم مركبا، وقتلوا من فيه وأسروا عشرة.
وقال اليعقوبيّ «1» : الفرما، أوّل مدن مصر من جهة الشمال، وبها أخلاط من الناس، وبينها وبين البحر الأخضر، ثلاثة أميال.
وقال ابن الكنديّ: ومنها الفرما، وهي أكثر عجائب، وأقدم آثارا، ويذكر أهل مصر:
أنه كان منها طريق إلى جزيرة قبرس في البرّ، فغلب عليها البحر، ويقولون: إنه كان فيما غلب عليه البحر مقطع الرخام الأبلق، وإنّ مقطع الأبيض بلوبية.
وقال يحيى بن عثمان: كنت أرابط في الفرما، وكان بينها وبين البحر قريب من يوم يخرج الناس والمرابطون في أخصاص على الساحل، ثم علا البحر على ذلك كله. وقال ابن قديد: وجّه ابن المدبر، وكان بتنيس، إلى الفرما في هدم أبواب من حجارة شرقيّ الحصن، احتاج أن يعمل منها جيرا، فلما قلع منها حجر، أو حجران، خرج أهل الفرما بالسلاح، فمنعوا من قلعها، وقالوا: هذه الأبواب التي قال الله فيها على لسان يعقوب عليه السلام: يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ
[يوسف/ 67] والفرما بها النخل العجيب الذي يثمر حين ينقطع البسر والرطب من سائر الدنيا، فيبتدىء هذا الرطب من حين يلد النخل في الكوانين، فلا ينقطع أربعة أشهر، حتى يجيء البلح في الربيع، وهذا لا يوجد في بلد من البلدان لا بالبصرة ولا بالحجاز ولا باليمن، ولا بغيرها من البلدان، ويكون في هذا البسر، ما وزن البسرة الواحدة فوق العشرين درهما، وفيه ما طول البسرة نحو الشبر والفتر.
وقال ابن المأمون البطائحي في حوادث سنة تسع وخمسمائة: ووصلت النجابون من والي الشرقية تخبر بأنّ بغدوين ملك الفرنج، وصل إلى أعمال الفرما، فسيّر الأفضل بن أمير الجيوش للوقت إلى والي الشرقية بأن يسير المركزية والمقطعين بها، وسيّر الراجل من العطوفية، وأن يسير الوالي بنفسه بعد أن يتقدّم إلى العربان بأسرهم بأن يكونوا في الطوالع، ويطاردوا الفرنج، ويشارفوهم بالليل قبل وصول العساكر إليه، فاعتمد ذلك، ثم أمر بإخراج الخيام، وتجهيز الأصحاب والحواشي، فلما تواصلت العساكر وتقدّمها العربان، وطاردوا الفرنج، وعلم بغدوين ملك الفرنج أنّ العساكر متواصلة إليه، وتحقق أن الإقامة لا تمكنه أمر أصحابه بالنهب والتخريب والإحراق وهدم المساجد، فأحرق جامعها ومساجدها وجميع البلد، وعزم على الرحيل، فأخذه الله سبحانه وتعالى، وعجل بنفسه إلى النار، فكتم أصحابه موته، وساروا بعد أن شقوا بطن بغدوين، وملأوه ملحا حتى بقي إلى بلاده، فدفنوه بها.(1/391)
وأما العساكر الإسلامية فإنهم شنوا الغارات على بلاد العدوّ، وعادوا بعد أن خيموا على ظاهر عسقلان، وكتب إلى الأمير ظهير الدين طفدكين صاحب دمشق بأن يتوجه إلى بلاد الفرنج، فسار إلى عسقلان، وحملت إليه الضيافات وطولع بخبر وصوله، فأمر بحمل الخيام، وعدّة وافرة من الخيل والكسوات والبنود والأعلام، وسيف ذهب، ومنطقة ذهب، وطوق ذهب، وبدلة طقم، وخيمة كبيرة مكملة ومرتبة ملوكية وفرشها وجميع آلاتها، وما تحتاج إليه من آلات الفضة، وسير برسم شمس الخواص، وهو مقدم كبير خلعة مذهبة ومنطقة ذهب وسيف، وسير برسم المميزين من الواصلين، خلع وسيوف، وسلم ذلك بثبت لأحد الحجاب، وسير معه فرّاشان برسم الخيام، وأمر بضرب الخيمة الكبيرة وفرشها، وأن يركب والي عسقلان وظهير الدين وشمس الخواص وجميع الأمراء الواصلين والمقيمين بعسقلان إلى باب الخيمة ويقبلوه، ثم إلى بساطها والمرتبة المنصوبة، ثم يجلس الوالي وظهير الدين وشمس الخواص والمقدّمون، ويقف الناس بأجمعهم إجلالا وتعظيما، ويخلع على الأمير ظهير الدين، وشمس الخواص، وتشدّ المناطق في أوساطهما، ويقلدا بالسيوف ويخلع بعدهما على المميزين، ثم يسير ظهير الدين والمقدّمون بالتشريف والأعلام، والرايات المسيرة إليهم إلى أن يصلوا إلى الخيام التي ضربت لهم، فإذا كان كل يوم يركب الوالي، والأميران والمقدّمون والعساكر إلى الخيمة الملوكية، ويتفاوضون فيما يجب من تدبير العساكر، فامتثل ذلك، وتواصلت الغارات على بلاد العدوّ وأسروا وقتلوا، فسير إليهم الخلع ثانيا، وجعل الشمس الخواص خاصة في هذه السفرة عشرة آلاف دينار، وتسلم ظهير الدين الخيمة الكبيرة بما فيها، وكان تقدير ما حصل له ولأصحابه ثلاثين ألف دينار وبلغ المنفق في هذه النوبة وعلى ذهاب بغدوين وهلاكه مائة ألف دينار.
وفي شهر رجب سنة خمس وأربعين وخمسمائة، نزل الفرنج على الفرما في جمع كبير، وأحرقوها ونهبوا أهلها، وآخر أمرها أنّ الوزير شاور خرّبها لما خرج منها متوليها، ملهم أخو الضرغام في سنة «1» ، فاستمرّت خرابا لم تعمر بعد ذلك، وكان بالفرما والبقارة والورادة عرب من جذام يقال لهم: القاطع، وهو جري بن عوف بن مالك بن شنوءة بن بديل بن جشم بن جذام منهم: عبد العزيز بن الوزير بن صابي بن مالك بن عامر بن عديّ بن حرش بن بقر بن نصر بن القاطع، مات في صفر سنة خمس ومائتين، وللسرويّ والجرويّ هنا أخبار كثيرة، نبهنا عليها في كتاب عقد جواهر الأسفاط في أخبار مدينة الفسطاط.
وقال ابن الكنديّ: وبها مجمع البحرين، وهو البرزخ الذي ذكره الله عزّ وجل، فقال:
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ
[الرحمن/ 19] وقال: وجعل بين البحرين(1/392)
حاجزا وهما بحر الروم وبحر الصين، والحاجز بينهما مسيرة ليلة، ما بين القلزم والفرما، وليس يتقاربان في بلد من البلدان أقرب منهما بهذا الموضع، وبينهما في السفر مسيرة شهور.
ذكر مدينة القلزم «1»
القلزم: بضم القاف وسكون اللام وضم الزاي وميم، بلدة كانت على ساحل بحر اليمن في أقصاه من جهة مصر، وهي كورة من كور مصر، وإليها ينسب بحر القلزم، وبالقرب منها غرق فرعون، وبينها وبين مدينة مصر ثلاثة أيام، وقد خربت ويعرف اليوم موضعها بالسويس تجاه عجرود، ولم يكن بالقلزم ماء ولا شجر ولا زرع، وإنما يحمل الماء إليها من آبار بعيدة، وكان بها فرضة مصر والشام، ومنها تحمل الحمولات إلى الحجاز واليمن، ولم يكن بين القلزم وفاران قرية ولا مدينة، وهي نخل يسير فيه صيادو السمك، وكذلك من فاران وجيلان إلى أيلة.
قال ابن الطوير «2» : والبلد المعروف بالقلزم، أكثرها باق إلى اليوم، ويراها الراكب السائر من مصر إلى الحجاز، وكانت في القديم ساحلا من سواحل الديار المصرية، ورأيت شيئا من حسابه من جهة مستخدميه في حواصل القصر، وما ينفق على واليه وقاضيه وداعيه وخطيبه، والأجناد المركزين به لحفظه وقربه وجامعه ومساجده، وكان مسكونا مأهولا.
قال المسبحي في حوادث سنة سبع وثمانين وثلثمائة وفي شهر رمضان: سامح أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله أهل مدينة القلزم، مما كان يؤخذ من مكوس المراكب.
وقال ابن خرداذبة عن التجار، فيركبون في البحر الغربيّ، ويخرجون بالفرماء، ويحملون تجاراتهم على الظهر إلى القلزم، وبينهما خمسة وعشرون فرسخا، ثم يركبون البحر الشرقيّ، من القلزم إلى تجار جدّة، ثم يمضون إلى السند والهند والصين، ومن القلزم ينزل الناس في بريّة وصحراء، ست مراحل إلى أيلة، ويتزوّدون من الماء لهذه المراحل الست، ويقال: إنّ بين القلزم وبحر الروم ثلاث مراحل، وإنّ ما بينهما هو البرزخ الذي ذكره تعالى بقوله: بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ
[الرحمن/ 19] .
ذكر التيه
هو أرض بالقرب من أيلة بينهما عقبة، لا يكاد الراكب يصعدها لصعوبتها، إلا أنها(1/393)
مهدت في زمان خمارويه بن أحمد بن طولون، ويسير الراكب مرحلتين في محض التيه هذا، حتى يوافي ساحل بحر فاران، حيث كانت مدينة قاران، وهناك غرق فرعون، والتيه مقدار أربعين فرسخا في مثلها، وفيه تاه بنو إسرائيل أربعين سنة لم يدخلوا مدينة ولا أووا إلى بيت ولا بدّلوا ثوبا، وفيه مات موسى عليه السلام.
ويقال: إنّ طول التيه نحو من ستة أيام، واتفق أنّ المماليك البحرية لما خرجوا من القاهرة هاربين في سنة اثنتين وخمسين وستمائة مرّ طائفة منهم بالتيه، فتاهوا فيه خمسة أيام، ثم تراءى لهم في اليوم السادس سواد على بعد، فقصدوه، فإذا مدينة عظيمة لها سور وأبواب كلها من رخام أخضر، فدخلوا بها، وطافوا بها، فإذا هي قد غلب عليها الرمل، حتى طمّ أسواقها ودورها، ووجدوا بها أواني وملابس، وكانوا إذا تناولوا منها شيئا، تناثر من طول البلى، ووجدوا في صينية بعض البزازين، تسعة دنانير ذهبا، عليها صورة غزال، وكتابة عبرانية، وحفروا موضعا فإذا حجر على صهريج ماء، فشربوا منه ماء أبرد من الثلج، ثم خرجوا ومشوا ليلة فإذا بطائفة من العربان، فحملوهم إلى مدينة الكرك، فدفعوا الدنانير لبعض الصيارفة فإذا عليها، أنها ضربت في أيام موسى عليه السلام، ودفع لهم في كل دينار مائة درهم، وقيل لهم: إنّ هذه المدينة الخضراء من مدن بني إسرائيل، ولها طوفان رمل يزيد تارة، وينقص أخرى لا يراها إلا تائه، والله أعلم.
ذكر مدينة دمياط
إعلم أنّ دمياط: كورة من كور أرض مصر، بينها وبين تنيس اثنا عشر فرسخا، ويقال: سميت بدمياط من ولد أشمن بن مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام.
ويقال: إنّ إدريس عليه السلام، كان أوّل ما أنزل عليه ذو القوّة والجبروت، أنا الله مدين المدائن الفلك بأمري وصنعي أجمع بين العذب والملح والنار والثلج، وذلك بقدرتي ومكنون علمي، الدال والميم والألف والطاء، قيل هم: بالسريان، دمياط، فتكون دمياط كلمة سريانية، أصلها دمط أي: القدرة إشارة إلى مجمع العذب والملح.
وقال الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه: دمياط بلد قديم بني في زمن قليمون بن اتريب بن قبطيم بن مصرايم على اسم غلام كانت أمّه ساحرة لقليمون.
ولما قدم المسلمون إلى أرض مصر كان على دمياط رجل، من أخوال المقوقس، يقال له: الهاموك، فلما افتتح عمرو بن العاص مصر امتنع الهاموك بدمياط، واستعدّ للحرب، فأنفذ إليه عمرو بن العاص المقداد بن الأسود، في طائفة من المسلمين، فحاربهم الهاموك وقتل ابنه في الحرب، فعاد إلى دمياط، وجمع إليه أصحابه، فاستشارهم في أمره، وكان عنده حكيم قد حضر الشورى، فقال: أيها الملك إنّ جوهر العقل لا قيمة له،(1/394)
وما استغنى به أحد إلّا هداه إلى سبيل الفوز والنجاة من الهلاك، وهؤلاء العرب من بدء أمرهم، لم تردّ لهم راية، وقد فتحوا البلاد، وأذلوا العباد، وما لأحد عليهم قدرة، ولسنا بأشدّ من جيوش الشام، ولا أعز ولا أمنع، وإنّ القوم قد أيدوا بالنصر والظفر والرأي، أن تعقد مع القلوم صلحا ننال به الأمن وحقن الدماء وصيانة الحرم، فما أنت بأكثر رجالا من المقوقس.
فلم يعبأ الهاموك بقوله، وغضب منه، فقتله، وكان له ابن عارف عاقل، وله دار ملاصقة للسور، فخرج إلى المسلمين في الليل، ودلهم على عورات البلد، فاستولى المسلمون عليها، وتمكنوا منها، وبرز الهاموك للحرب، فلم يشعر بالمسلمين إلا وهم يكبرون على سور البلد، وقد ملكوه، فعند ما رأى شطا بن الهاموك المسلمين فوق السور، لحق بالمسلمين، ومعه عدّة من أصحابه، ففت ذلك في عضد أبيه، واستأمن للمقداد، فتسلم المسلمون دمياط، واستخلف المقداد عليها، وسير بخبر الفتح، إلى عمرو بن العاص، وخرج شطا، وقد أسلم إلى البرلس والدميرة وأشموم طناح، فحشد أهل تلك النواحي، وقدم بهم مدد للمسلمين، وعونا لهم على عدوّهم، وسار بهم مع المسلمين لفتح تنيس، فبرز لأهلها، وقاتلهم قتالا شديدا، حتى قتل رحمه الله في المعركة شهيدا بعد ما أنكى فيهم، وقتل منهم، فحمل من المعركة، ودفن في مكانه المعروف به، خارج دمياط، وكان قتله في ليلة الجمعة النصف من شعبان، فلذلك صارت هذه الليلة من كل سنة، موسما يجتمع الناس فيها من النواحي، عند شطا، ويحيونها، وهم على ذلك إلى اليوم، وما زالت دمياط بيد المسلمين إلى أن نزل عليها الروم في سنة تسعين من الهجرة، فأسروا خالد بن كيسان، وكان على البحر هناك وسيروه إلى ملك الروم، فأنفذه إلى أمير المؤمنين، الوليد بن عبد الملك من أجل الهدنة التي كانت بينه وبين الروم.
فلما كانت خلافة هشام بن عبد الملك، نازل الروم دمياط في ثلثمائة وستين مركبا، فقتلوا وسبوا، وذلك في سنة إحدى وعشرين ومائة، ولما كانت الفتنة بين الأخوين: محمد الأمين، وعبد الله المأمون، وكانت الفتن بأرض مصر، طمع الروم في البلاد، ونازلوا دمياط في أعوام بضع ومائتين.
ثم لما كانت خلافة أمير المؤمنين، المتوكل على الله وأمير مصر يومئذ عنبسة بن إسحاق «1» ، نزل الروم دمياط يوم عرفة من سنة ثمان وثلاثين ومائتين، فملكوها، وما فيها وقتلوا بها جمعا كثيرا من المسلمين، وسبوا النساء والأطفال، وأهل الذمّة، فنفر إليهم عنبسة بن إسحاق يوم النحر في جيشه، ونفر كثير من الناس إليهم، فلم يدركوهم، ومضى(1/395)
الروم إلى تنيس، فأقاموا بأشتومها، فلم يتبعهم عنبسة، فقال يحيى بن الفضيل للمتوكل:
أترضى بأن يوطأ حريمك عنوة ... وأن يستباح المسلمون ويحربوا
حمار أتى دمياط والروم وثب ... بتنيس رأي العين منه وأقرب
مقيمون بالأشتوم يبغون مثل ما ... أصابوه من دمياط والحرب ترتب
فما رام من دمياط شبرا ولا درى ... من العجز ما يأتي وما يتجنب
فلا تنسنا إنا بدار مضيعة ... بمصر وإنّ الدين قد كاد يذهب
فأمر المتوكل ببناء حصن دمياط، فابتدىء في بنائه، يوم الاثنين لثلاث خلون من شهر رمضان سنة تسع وثلاثين، وأنشأ من حينئذ الأسطول بمصر، فلما كان في سنة سبع طرق الروم دمياط في نحو مائتي مركب، فأقاموا يعبثون في السواحل شهرا، وهم يقتلون ويأسرون وكانت للمسلمين معهم معارك.
ثم لما كانت الفتن بعد موت كافور الإخشيديّ، طرق الروم دمياط لعشر خلون من رجب سنة سبع وخمسين وثلثمائة في بعض وعشرين مركبا، فقتلوا وأسروا مائة وخمسين من المسلمين.
وفي سنة ثمان وأربعمائة، ظهر بدمياط سمكة عظيمة طولها مائتان وستون ذراعا، وعرضها مائة ذراع، وكانت حمير الملح تدخل في جوفها موسوقة، فتفرّغ وتخرج، ووقف خمسة رجال في قحفها، ومعهم المجاريف يجرفون الشحم، ويناولونه الناس، وأقام أهل تلك النواحي مدّة طويلة يأكلون من لحمها.
وفي أيام الخليفة الفائز بنصر الله عيسى، والوزير حينئذ الصالح طلائع بن رزيك، نزل على دمياط نحو ستين مركبا في جمادى الآخرة سنة خمسين وخمسمائة، بعث بها لوجيز بن رجاو، صاحب صقلية، فعاثوا وقتلوا، ونزلوا تنيس ورشيد والإسكندرية، فأكثروا فيها الفساد.
ثم كانت خلافة العاضد لدين الله في وزارة شاور بن مجير السعديّ، الوزارة الثانية عند ما حضر ملك الفرنج مري إلى القاهرة، وحصرها وقرّر على أهلها المال، واحترقت مدينة الفسطاط، فنزل على تنيس وأشموم ومنية عمر، وصاحب أسطول الفرنج في عشرين شونة، فتل وأسر وسبى.
وفي وزارة الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب للعاضد، وصل الفرنج إلى دمياط في شهر ربيع الأول سنة خمس وستين وخمسمائة، وهم فيما يزيد على ألف ومائتي مركب، فخرجت العساكر من القاهرة، وقد بلغت النفقة عليهم زيادة على خمسمائة ألف وخمسين ألف دينار، فأقامت الحرب مدّة خمسة وخمسين يوما، وكانت صعبة شديدة،(1/396)
واتهم في هذه النوبة عدّة من أعيان المصريين بممالأة الفرنج ومكاتبتهم، وقبض عليهم الملك الناصر، وقتلهم.
وكان سبب هذه النوبة أنّ الغزو لما قدموا إلى مصر من الشام صحبة أسد الدين شيركوه، تحرّك الفرنج لغزو ديار مصر، خشية من تمكن الغزو بها، فاستمدّوا إخوانهم أهل صقلية، فأمدّوهم بالأموال والسلاح، وبعثوا إليهم بعدّة وافرة، فساروا بالدبابات والمجانيق، ونزلوا على دمياط في صفر، وهم في العدّة التي ذكرنا من المراكب، وأحاطوا بها بحرا وبرّا، فبعث السلطان بابن أخيه تقيّ الدين عمرو، وأتبعه بالأمير شهاب الدين الحازميّ في العساكر إلى دمياط، وأمدّهما بالأموال والميرة والسلاح، واشتدّ الأمر على أهل دمياط، وهم ثابتون على محاربة الفرنج.
فسيّر صلاح الدين إلى نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام يستنجده، ويعلمه بأنه لا يمكنه الخروج من القاهرة إلى لقاء الفرنج خوفا من قيام المصريين عليه، فجهز إليه العساكر شيئا بعد شيء، وخرج نور الدين من دمشق بنفسه إلى بلاد الفرنج التي بالساحل، وأغار عليها واستباحها، فبلغ ذلك الفرنج، وهم على دمياط، فخافوا على بلادهم من نور الدين، أن يتمكن منها، فرحلوا عن دمياط في الخامس والعشرين من ربيع الأوّل بعد ما غرق لهم نحو الثلاثمائة مركب، وقلّت رجالهم بفناء وقع فيهم، وأحرقوا ما ثقل عليهم حمله من المنجنيقات وغيرها، وكان صلاح الدين يقول: ما رأيت أكرم من العاضد! أرسل إليّ مدّة مقام الفرنج عل دمياط: ألف ألف دينار سوى ما أرسله إليّ من الثياب وغيرها.
وفي سنة سبع وسبعين وخمسمائة رتبت المقاتلة على البرجين، وشدّت مراكب إلى السلسلة ليقاتل عليها، ويدافع عن الدخول من بين البرجين، ورمّ شعث سور المدينة، وسدّت ثلمة، وأتقنت السلسلة التي بين البرجين، فبلغت النفقة على ذلك ألف ألف دينار، واعتبر السور، فكان قياسه: أربعة آلاف وستمائة وثلاثين ذراعا.
وفي سنة ثمان وثمانين وخمسمائة أمر السلطان، بقطع أشجار بساتين دمياط، وحفر خندقها، وعمل جسر عند سلسلة البرج.
وفي سنة خمس عشرة وستمائة، كانت واقعة دمياط العظمى، وكان سبب هذه الواقعة أنّ الفرنج في سنة أربع عشرة وستمائة، تتابعت إمدادهم من رومية الكبرى «1» : مقرّ البابا، ومن غيرها من بلاد الفرنج، وساروا إلى مدينة عكا، فاجتمع بها عدّة من ملوك الفرنج، وتعاقدوا على قصد القدس، وأخذه من أيدي المسلمين، فصاروا بعكا في جمع عظيم.(1/397)
وبلغ ذلك الملك أبا بكر بن أيوب، فخرج من مصر في العساكر إلى الرملة، فبرز الفرنج من عكا في جموع عظيمة، فسار العادل إلى بيسان، فقصده الفرنج، فخافهم لكثرتهم، وقلة عسكره، فأخذ على عقبة رفيق يريد دمشق، وكان أهل بيسان وما حولها، قد اطمأنوا لنزول السلطان هناك، فأقاموا في أماكنهم، وما هو إلا أن سار السلطان، وإذا بالفرنج قد وضعوا السيف في الناس، ونهبوا البلاد، فحازوا من أموال المسلمين ما لا يحصى كثرة، وأخذوا بيسان وبانياس وسائر القرى التي هناك، وأقاموا ثلاثة أيام ثم عادوا إلى مرج عكا بالغنائم والسبي، وهلك من المسلمين خلق كثير، فاستراح الفرنج بالمرج أياما، ثم عادوا ثانيا ونهبوا صيدا والشقيف، وعادوا إلى مرج عكا، فأقاموا به، وكان ذلك كله فيما بين النصف من شهر رمضان وعيد الفطر، والملك العادل مقيم بمرج الصفر، وقد سير ابنه المعظم عيسى بعسكر إلى نابلس لمنع الفرنج من طروقها، والوصول إلى بيت المقدس، فنازل الفرنج قلعة الطور سبعة عشر يوما، ثم عادوا إلى عكا، وعزموا على قصد الديار المصرية، فركبوا بجموعهم البحر، وساروا إلى دمياط في صفر، فنزلوا عليها يوم الثلاثاء رابع ربيع الأوّل سنة خمس عشرة وستمائة الموافق لثامن حزيران، وهم نحو السبعين ألف فارس وأربعمائة ألف راجل، فخيموا تجاه دمياط في البرّ الغربيّ، وحفروا على عسكرهم خندقا، وأقاموا عليه سورا وشرعوا في قتال برج دمياط، فإنه كان برجا منيعا فيه سلاسل من حديد غلاظ، تمدّ على النيل، لتمنع المراكب الواصلة في البحر الملح من الدخول إلى ديار مصر في النيل، وذلك أنّ النيل إذا انتهى إلى فسطاط مصر، مرّ عليه في ناحية الشمال إلى شطنوف، فإذا صار إلى شطنوف انقسم قسمين أحدهما يمرّ في الشمال إلى رشيد، فيصب في البحر الملح، والشطر الآخر يمرّ من شطنوف إلى جوجر، ثم يتفرّق من عند جوجر فرقتين، فرقة تمرّ إلى أشموم فتصب في بحيرة تنيس، وفرقة تمرّ من جوجر إلى دمياط، فتصب في البحر الملح هناك، وتصير هذه الفرقة من النيل فاصلة بين مدينة دمياط والبرّ الغربيّ، وهذا البرّ الغربيّ من دمياط يعرف بجزيرة دمياط، يحيط بها ماء النيل والبحر الملح.
وفي مدّة إقامة الفرنج بهذا البرّ الغربيّ، عملوا الآلات والمراسي، وأقاموا أبراجا يزحفون بها في المراكب إلى برج السلسلة ليملكوه، فإنهم إذا ملكوه تمكنوا من العبور في النيل إلى القاهرة ومصر، وكان هذا البرج مشحونا بالمقاتلة، فتحيل الفرنج عليه، وعملوا برجا من الصواري على بسطة كبيرة، وأقلعوا بها حتى أسندوها إليه، وقاتلوا من به حتى أخذوه.
فبلغ نزول الفرنج على دمياط الملك الكامل، وكان يحلف أباه الملك العادل على ديار مصر، فخرج بمن معه من العساكر في ثالث يوم من وقوع الطائر، بخبر نزول الفرنج(1/398)
لخمس خلون منه، وأمر والي الغربية بجمع العربان، وسار في جمع كبير، وخرج الأسطول، فأقام تحت دمياط، ونزل السلطان بمن معه من العساكر بمنزلة العادلية، قرب دمياط، وامتدّت عساكره إلى دمياط لتمنع الفرنج من السور والقتال مستمرّ والبرج ممتنع مدّة أربعة أشهر، والعادل يسير العساكر من البلاد الشامية شيئا بعد شيء حتى تكاملت عند الملك الكامل، واهتمّ الملك لنزول الفرنج على دمياط، واشتدّ خوفه، فرحل من مرج الصفر إلى عالقين فنزل به المرض، ومات في سابع جمادى الآخرة، فكتم الملك المعظم عيسى موته وحمله في محفة، وجعل عنده خادما وطبيبا راكبا إلى جانب المحفة، والشر بدار يصلح الشراب، ويحمله إلى الخادم فيشربه، ويوهم الناس، أنّ السلطان شربه، إلى أن دخلوا به إلى قلعة دمشق، وصارت إليها الخزائن والبيوتات، فأعلن بموته.
وتسلم ابنه الملك المعظم، جميع ما كان معه، ودفنه بالقلعة، ثم نقله إلى مدرسة العادلية بدمشق، وبلغ الملك الكامل موت أبيه، وهو بمنزلة العادلية قرب دمياط، فاستقلّ بمملكة ديار مصر، واشتدّ الفرنج، وألحوا في القتال، حتى استولوا على برج السلسلة، وقطعوا السلاسل المتصلة به لتجوز مراكبهم في بحر النيل، ويتمكنوا من البلاد فنصب الملك الكامل بدل السلاسل جسرا عظيما، لمنع الفرنج من عبور النيل، فقاتلت الفرنج عليه قتالا شديدا إلى أن قطعوه وكان قد أنفق على البرج والجسر، ما ينيف على سبعين ألف دينار، وكان الكامل يركب في كل يوم عدّة مرار من العادلية إلى دمياط لتدبير الأمور، وإعمال الحيلة في مكايدة الفرنج، فأمر الملك الكامل، أن يفرّق عدّة من المراكب في النيل حتى تمنع الفرنج من سلوك النيل، فعمد الفرنج إلى خليج هناك يعرف بالأزرق كان النيل يجري فيه قديما، فحفروه وعمقوا حفره، وأجروا فيه المال إلى البحر الملح، وأصعدوا مراكبهم فيه إلى بورة على أرض جيزة دمياط، مقابل المنزلة التي بها السلطان ليقاتلوه من هناك، فلما صاروا في بورة جاؤوه، وقاتلوه في الماء، وزحفوا إليه عدّة مرار، فلم يظفروا منه بطائل ولم يتغير على أهل دمياط شيء لأنّ الميرة والإمداد متصلة إليهم، والنيل يحجز بينهم بين الفرنج، وأبواب المدينة مفتحة وليس عليها من الحصر ضيق ولا ضرر، والعربان تتخطف الفرنج في كل ليلة، بحيث امتنعوا من الرقاد خوفا من غاراتهم، فلما قوي طمع العرب في الفرنج حتى صاروا يخطفونهم نهارا، ويأخذون الخيم بمن فيها، أكمن الفرنج لهم عدّة كمناء، وقتلوا منهم خلقا كثيرا، وأدرك الناس الشتاء، وهاج البحر على مخيم المسلمين وغرّقهم، فعظم البلاء وتزايد الغم وألح الفرنج في القتال، وكادوا أن يملكوا، فبعث الله ريحا قطعت مراسي مرمة الفرنج.
وكانت من عجائب الدنيا، فمرّت إلى برّ المسلمين فأخذوها فإذا هي مصفحة بالحديد، لا تعمل فيها النار ومساحتها خمسمائة ذراع، فكسروها، فإذا فيها مسا ميرزنة الواحد منها خمسة وعشرون رطلا، وبعث الكامل إلى الآفاق سبعين رسولا يستنجد أهل(1/399)
الإسلام لنصرة المسلمين، ويخوّفهم من غلبة الفرنج على مصر.
فساروا في شوّال وأتته النجدات، من حماه وحلب، وبينا الناس في ذلك إذ طمع الأمير عماد الدين أحمد بن الأمير سيف الدين أبي الحسين عليّ بن أحمد الهكاريّ:
المعروف بابن المشطوب «1» في الملك الكامل عند ما بلغه موت الملك العادل، وكان له لفيف ينقادون إليه ويطيعونه، وكان أميرا كبيرا مقدّما عظيما في الأكراد الهكارية وافر الحرمة عند الملوك، معدودا بينهم، مثل واحد منهم، وكان مع ذلك عالي الهمة غزير الجود واسع الكرم شجاعا أبيّ النفس تهابه الملوك، وله الوقائع المشهورة، وهو من أمراء دولة صلاح الدين يوسف، فاتفق مع جماعة من الجند والأكراد على خلع الملك الكامل، وإقامة أخيه الملك الفائز إبراهيم ليصير له الحكم، ووافقه الأمير عز الدين الحميدي، والأمير أسد الدين الهكاريّ، والأمير مجاهد الدين، وجماعة من الأمراء، فلما بلغ ذلك الملك الكامل دخل عليهم، وهم مجتمعون والمصحف بين أيديهم ليحلفوا للفائز، فلما رأوه انفضوا، فخشي على نفسه فخرج، فاتفق وصول الصاحب، صفيّ الدين بن سكر من آمد إلى الملك الكامل، فإنه كان استدعاه بعد موت أبيه، فتلقاه وأكرمه، وذكر له ما هو فيه، فضمن له تحصيل المال، فلما كان في الليل ركب، الملك الكامل وتوجه من العادلية في جريدة إلى أشموم طناح، فنزلها وأصبح العسكر بغير سلطان، فركب كل منهم هواه، ولم يعطف الأخ على أخيه، وتركوا أثقالهم وخيامهم وأموالهم وأسلحتهم، ولحقوا بالسلطان.
فبادر الفرنج في الصباح إلى مدينة دمياط، ونزلوا البرّ الشرقيّ، يوم الثلاثاء سادس عشر ذي القعدة بغير منازع ولا مدافع، وأخذوا سائر ما كان في عسكر المسلمين، وكان شيئا لا يحيط به الوصف، وداخل السلطان وهم عظيم، وكاد أن يفارق البلاد، فإنه تخيل من جميع من معه، واشتدّ طمع الفرنج في أرض مصر كلها، وظنوا أنهم قد ملكوها إلا أنّ الله سبحانه وتعالى: أغاث المسلمين، وثبت السلطان، وواقاه أخوه الملك المعظم، بأشموم طناح، فاشتدّ به أزره، وقوي جأشه، وأطلعه على ما كان من ابن المشطوب، فوعده بإزاحة ما يكره، ثم إنّ المعظم ركب إلى خيمة ابن المشطوب، واستدعاه للركوب معه ومسايرته، فاستمهله حتى يلبس خفيه وثياب الركوب، فلم يمهله، وأعجله فركب معه وسايره حتى خرج به من العسكر الكامليّ.
ثم قال له: يا عماد الدين، هذه البلاد لك وأشتهي أن تهبها لنا، وأعطاه نفقة، وسلمه إلى جماعة من أصحابه، يثق بهم، وقال لهم: أخرجوه من الرمل، ولا تفارقوه حتى يخرج(1/400)
من الشام، فلم يسع ابن المشطوب إلا امتثال ما قال المعظم لأنه معه بمفرده، ولا قدرة له على الممانعة، فساروا به إلى حماه، ثم مضى منها إلى المشرق، ولما شيّع الملك المعظم ابن المشطوب رجع إلى الملك الكامل، وأمر أخاه الفائز إبراهيم أن يسير إلى ملوك الشام في رسالة عن أخيه الملك الكامل لاستدعائهم إلى قتال الفرنج، فمضى إلى دمشق وخرج منها إلى حماه، فمات بها مسموما على ما قيل، فثبت للملك الكامل، أمر الملك وسكن روعه، هذا والفرنج قد أحاطوا بدمياط برّا وبحرا، وأحدقوا وضيقوا على أهلها، ومنعوا القوت من الوصول إليهم، وحفروا على عسكرهم المحيط بدمياط خندقا، وبنوا عليه سورا، وأهل دمياط يقاتلونهم أشدّ القتال، ويمانعونهم، وقد غلت عندهم الأسعار لقلّة الأقوات، ثم إنّ المعظم فارق الملك الكامل، وسار إلى بلاد الشام.
وأقام الكامل لمحاربة الفرنج، وانتدب شمائل أحد الجاندارية «1» في الركاب للدخول إلى دمياط، فكان يسبح في الماء، ويصل إلى أهل دمياط، فيعدهم بوصول النجدات، فحظي بذلك عند الكامل، وتقرّب منه، حتى عمله والي القاهرة، وإليه تنسب خزانة شمائل بالقاهرة، فلم يزل الحال على ذلك إلى أن دخلت سنة ست عشرة، فجهز الملك المنصور محمد بن عمرو بن شاهنشاه بن أيوب، صاحب حماه ابنه المظفر تقيّ الدين محمودا إلى مصر نجدة لخاله الملك الكامل على الفرنج في جيش كثيف، فوصل إلى العسكر، وتلقاه الملك الكامل، وأنزله في ميمنة العسكر منزلة أبيه وجدّه عند السلطان صلاح الدين يوسف، فألح الفرنج في القتال، وكان بدمياط نحو العشرين ألف مقاتل، فنهكتهم الأمراض وغلت عندهم الأسعار حتى بلغت بيضة الدجاجة عندهم عدّة دنانير.
قال الحافظ عبد العظيم المنذري «2» : سمعت الشيخ أبا الحسن عليّ بن فضل يقول:
كان لبعض بني خيار، بقرة فذبحوها، وباعوها في الحصار، فجاءت ثمانمائة دينار.
وقال في المعجم المترجم: سمعت الأمير أبا بكر بن حسن بن خسويام يقول: كنت بدمياط في حصار العدوّ بها، فبيع السكز بها بمائة وأربعين دينارا الرطل، والدجاجة بثلاثين دينارا، قال: واشتريت ثلاث دجاجات بتسعين دينارا، والرواية بأربعين درهما، والقبر يحفر بأربعين مثقالا، وأخذت أختي جملا، فشقت جوفه وملأته دجاجا وفاكهة وبقلا، وغير ذلك، وخاطته ورمته في البحر، وكتبت إليّ تقول: قد فعلت كذا، فإذا رأيتم جملا ميتا، فخذوه فوقع لنا ليلا، فأخذناه وكان فيه ما يساوي جملة، ففرّقته على الناس، ثم عمل بعد(1/401)
ذلك، ثلاثة جمال على هيئته، ففطن لها الفرنج، فأخذوها وامتلأت مساكنهم، وطرقات البلد من الموتى وعدمت الأقوات، وصار السكر، كعزة الياقوت، وفقدت اللحوم، فلم يقدر عليها بوجه وآلت بهم الحال، إلى أن لم يبق بها سوى قليل من القمح والشعير فقط.
فتسوّر الفرنج وأخذوا منه البلد في يوم الثلاثاء لخمس بقين من شعبان، وكانت مدّة الحصار ستة عشر شهرا واثنين وعشرين يوما، ولما أخذوا البلد وضعوا السيف في الناس، فتجاوزوا الحدّ في القتل وأسرفوا في مقدار القتلى، وبلغ ذلك السلطان، فرحل بعد أخذ دمياط بيومين، ونزل قبالة طلخا على رأس بحر أشموم، ورأس بحر دمياط وحيز في المنزلة التي صار يقال لها المنصورة، وحصّن الفرنج أسوار دمياط، وجعلوا الجامع كنيسة وبثوا سراياهم في القرى، فقتلوا ونهبوا، وسيّر السلطان الكتب إلى الآفاق ليستحث الناس على الحضور، لدفع الفرنج عن ملك مصر، وشرع العسكر في بناء الدور والفنادق والحمامات، والأسواق بمنزلة المنصورة، وجهز الفرنج من أسروه من المسلمين في البحر إلى عكا، وخرجوا من دمياط، ونازلوا السلطان تجاه المنصورة، وصار بينهم وبينه بحر أشموم، وبحر دمياط، وكان الفرنج في مائتي ألف راجل، وعشرة آلاف فارس، فقدّم المسلمون شوانيهم أمام المنصورة، وعدّتها مائة قطعة، واجتمع الناس من القاهرة ومصر، وسائر النواحي من أسوان إلى القاهرة، ووصل الأمير حسام الدين يونس، والفقيه تقيّ الدين، أبو الطاهر محمد بن الحسن بن عبد الرحمن المحلي، فأخرجا الناس من القاهرة ومصر، ونودي بالنفير العام وخرج الأمير علاء الدين جلدك، وجمال الدين بن صيرم، لجمع الناس فيما بين القاهرة إلى آخر الحوف الشرقيّ، فاجتمع عالم لا يقع عليه حصر، وأنزل السلطان على ناحية شار مساح ألف فارس في آلاف من العربان ليحولوا بين الفرنج ودمياط، وسارت الشواني، ومعها حراقة كبيرة على رأس بحر المحلة، وعليها الأمير بدر الدين بن حسون، فانقطعت الميرة عن الفرنج من البر والبحر.
وسارت عساكر المسلمين من الشرق والشام إلى الديار المصرية، وكان قد خرج الفرنج من داخل البحر لمدد الفرنج على دمياط، فقدم منهم أمم لا تحصى، يريدون التوغل في أرض مصر، فلما تكاملوا بدمياط، خرجوا منها في حدّهم وحديدهم، ونزلوا تجاه الملك الكامل، كما تقدّم، فقدمت النجدات يقدمها الملك الأشرف موسى بن العادل، وعلى ساقتها الملك المعظم عيسى، فتلقاهم الملك الكامل وأنزلهم عنده بالمنصورة في ثالث عشر جمادى الآخرة سنة ثمان عشرة، وتتابع مجيء الملوك، حتى بلغت عدّة فرسان المسلمين نحو أربعين ألف فارس، فحاربوا الفرنج في البر والبحر، وأخذوا منهم ست شواني وجلاسة وبطسة وأسروا من الفرنج ألفين ومائتين، ثم ظفر المسلمون، بثلاث قطائع أخر، فتضعضع الفرنج لذلك، وضاق بهم المقام.
فبعثوا يطلبون الصلح، فقدم عند مجيء رسلهم أهل الإسكندرية في ثمانية آلاف(1/402)
مقاتل، وكان الذي طلب الفرنج القدس وعسقلان وطبرية وجبلة واللاذقية، وسائر ما فتحه السلطان صلاح الدين يوسف من الساحل ليرحلوا عن ديار مصر، فبذل المسلمون لهم سائر ما ذكر من البلاد، خلا مدينة الكرك والشويك، فامتنع الفرنج من الصلح، وقالوا لا بدّ من أخذهم الكرك والشوبك، ومبلغ ثلثمائة ألف دينار، عوضا عما خرّبه الملك المعظم عيسى صاحب دمشق من أسوار القدس، وكان المعظم لما مات أبوه العادل، واستولى الفرنج على دمياط، ونازلوا الملك الكامل قبالة المنصورة، خاف أن يصل منهم في البحر، من يأخذ القدس، ويتحصنوا به فأمر بتخريب أسواره، وكانت أسواره وأبراجه في غاية العظمة والمنعة، فأتى الهدم على جميعها ما خلا برج داود، وانتقل أكثر الناس من القدس، ولم يبق به إلا القليل، ونقل المعظم ما كان بالقدس من الأسلحة والآلات، فامتنع المسلمون من إجابة الفرنج إلى ذلك، وقاتلوهم وعبر جماعة من المسلمين في بحر المحلة إلى الأرض التي عليها الفرنج، وحفروا مكانا عظيما في النيل، وكان في قوّة الزيادة، فركب الماء أكثر تلك الأرض، وصار حائلا بين الفرنج ومدينة دمياط، وانحصروا فلم يبق لهم سوى طريق ضيقة، فأمر السلطان للوقت، بنصب الجسور عند أشموم طناح، فعبرت العساكر عليها، وملكت الطريق التي يسلكها الفرنج إلى دمياط إذا أرادوا الوصول إليها، فاضطربوا وضاقت عليهم الأرض.
واتفق مع ذلك وصول مرمّة عظيمة للفرنج في البحر حولها عدّة حراقات تحميها، وقد ملئت كلها بالميرة والأسلحة، فقاتلهم شواني المسلمين وظفرها الله بهم، فأخذها المسلمون، وعند ما علم الفرنج ذلك أيقنوا بالهلاك، وصار المسلمون يرمونهم بالنشاب، ويحملون على أطرافهم، فهدموا حينئذ خيامهم ومجانيقهم، وألقوا فيها النار، وهموا بالزحف على المسلمين ومقاتلتهم ليخلصوا إلى دمياط، فحال بينهم وبين ذلك كثرة الوحل والمياه الراكبة على الأرض، وخشوا من الإقامة لقلة أقواتهم، فذلوا وسألوا الأمان على أن يتركوا دمياط للمسلمين، فاستشار السلطان في ذلك، فاختلف الناس عليه، فمنهم من امتنع من تأمين الفرنج ورأى أن يؤخذوا عنوة، ومنهم من جنح إلى إعطائهم الأمان خوفا ممن وراءهم من الفرنج في الجزائر وغيرها، ثم اتفقوا على الأمان وأن يعطي كل من الفريقين رهائن، فتقرّر ذلك في تاسع شهر رجب سنة ثمان عشرة، وسير الفرنج عشرين ملكا رهنا عند الملك الكامل.
وبعث الملك الكامل بابنه الملك الصالح، نجم الدين أيوب، وجماعة من الأمراء إلى الفرنج، وجلس السلطان مجلسا عظيما لقدوم ملك الفرنج، وقد وقف إخوته وأهل بيته بين يديه، وصار في أبهة وناموس مهاب، وخرج قسوس الفرنج ورهبانهم إلى دمياط، فسلموها للمسلمين في تاسع عشرة، وكان يوم تسليمها يوما عظيما وعند ما تسلم المسلمون دمياط، وصارت بأيديهم، قدمت نجدة في البحر للفرنج، فكان من جميل صنع الله، تأخرها حتى(1/403)
ملكت دمياط بأيدي المسلمين، فإنها لو قدمت قبل ذلك لقوى بها الفرنج، فإنّ المسلمين وجدوا مدينة دمياط، قد حصنها الفرنج، وصارت بحيث لا ترام، ولما تمّ الأمر بعث الفرنج بولد السلطان، وأمرائه إليه، وسيّر إليهم السلطان من كان عنده من الملوك في الرهن، وتقرّرت الهدنة بين الفرنج والمسلمين، مدّة ثماني سنين، وكان مما وقع الصلح عليه أن كلا من المسلمين والفرنج يطلق ما عنده من الأسرى، وحلف السلطان وإخوته، وحلفت ملوك الفرنج، وتفرّق الناس إلى بلادهم.
ودخل الملك الكامل إلى دمياط بإخوته وعساكره، وكان يوم دخوله إليها من الأيام المذكورة ورحل الفرنج إلى بلادهم، وعاد السلطان إلى مقرّ ملكه، وأطلقت الأسرى من ديار مصر، وكان فيهم من له من أيام السلطان صلاح الدين يوسف، وسارت ملوك الشام بعساكرها إلى بلادها، وعمت بشارة أخذ المسلمين مدينة دمياط من الفرنج، سائر الآفاق، فإنّ التتر كانوا قد استولوا على ممالك المشرق، فأشرف الفرنج على أخذ ديار مصر من أيدي المسلمين، وكانت مدّة نزول الفرنج على دمياط إلى أن أقلعوا عنها سائرين إلى بلادهم، ثلاث سنين وأربعة أشهر وتسعة عشر يوما منها مدّة استيلائهم على مدينة دمياط سنة وعشرة أشهر وأربعة وعشرون يوما.
فلما كان في سنة ست وأربعين وستمائة حدث بالسلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل، محمد ورم في مأبضه تكوّن منه، ناصور فتح وعسر برؤه، فمرض من ذلك، وانضاف إليه قرحة في الصدر، فلزم الفراش إلا أنّ علوّ همته اقتضى مسيره من ديار مصر إلى الشام فسار في محفة، ونزل بقلعة دمشق، فورد عليه رسول الإمبراطور ملك الفرنج الألمانية بجزيرة صقلية في هيئة تاجر، وأخبره سرّا بأن بواش الذي يقال له: رواد فرنس، عازم على المسير إلى أرض مصر، وأخذها فسار السلطان من دمشق، وهو مريض في محفة، ونزل بأشموم طناح في المحرّم سنة سبع وأربعين، وجمع في مدينة دمياط من الأقوات والأزواد والأسلحة وآلات القتال شيئا كثيرا خوفا أن يجري على دمياط ما جرى في أيام أبيه، فأخذت بغير ذلك.
ولما نزل السلطان، بأشموم كتب إلى الأمير حسام الدين أبي عليّ بن عليّ الهديانيّ، نائبه بديار مصر، أن يجهز الأسطول من صناعة مصر، فشرع في الاهتمام بذلك وشحن الأسطول بالرجال والسلاح، وسائر ما يحتاج إليه وسيره شيئا بعد شيء، وجهز السلطان الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ، ومعه الأمراء والعساكر، فنزل بحيرة دمياط من برّها الغربيّ، وصار النيل بينه وبينها، فلما كان في الساعة الثانية من نهار الجمعة لتسع بقين من صفر وردت مراكب الفرنج البحريين فيها جموعهم العظيمة وقد انضم إليهم فرنج الساحل وأرسوا بإزاء المسلمين.(1/404)
وبعث ملكهم إلى السلطان كتابا نصه: أما بعد: فإنه لم يخف عليك أني أمين الأمّة العيسوية، كما أنه لا يخفى عليّ أنك أمين الأمّة المحمدية، وغير خاف عليك أن عندنا أهل جزائر الأندلس، وما يحملونه إلينا من الأموال والهدايا، ونحن نسوقهم سوق البقر ونقتل منهم الرجال، ونرمّل النساء، ونستأسر البنات والصبيان ونخلي منهم الديار، وأنا قد أبديت لك ما فيه الكفاية، وبذلت لك النصح إلى النهاية، فلو حلفت لي بكل الإيمان، وأدخلت عليّ الأقساء والرهبان، وحملت قدّامي الشمع طاعة للصلبان لكنت واصلا إليك، وقاتلك في أعز البقاع إليك، فإما إن تكون البلاد لي فيا هدية حصلت في يديّ، وإما أن تكون البلاد لك والغلبة عليّ، فيدك العليا ممتدّة إليّ، وقد عرّفتك وحذرتك من عساكر حضرت في طاعتي، تملأ السهل والجبل، وعددهم كعدد الحصى، وهم مرسلون إليك بأسياف القضاء.
فلما قرىء الكتاب على السلطان، وقد اشتدّ به المرض بكى، واسترجع.
فكتب القاضي بهاء الدين «1» زهير بن محمد، الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلواته على سيدنا محمد رسول الله وآله وصحبه أجمعين، أما بعد: فإنه وصل كتابك، وأنت تهدّد فيه بكثرة جيوشك، وعدد أبطالك، فنحن أرباب السيوف، وما قتل منا فرد إلا جدّدناه، ولا بغى علينا باغ إلا دمّرناه، ولو رأت عينك أيها المغرور، حدّ سيوفنا، وعظم حروبنا، وفتحنا منكم الحصون والسواحل، وتخريبنا ديار الأواخر منكم والأوائل، لكان لك أن تعض على أنا ملك بالندم، ولا بدّ أن تزل بك القدم في يوم أوّله لنا وآخره عليك، فهنالك تسيء الظنون، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون، فإذا قرأت كتابي هذا، فتكون فيه على أوّل سورة النحل: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ
[النحل/ 1] وتكون على آخر سورة ص:
وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ
[ص/ 88] ، ونعود إلى قول الله تعالى، وهو أصدق القائلين: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ
[البقرة/ 249] ، وقول الحكماء: إنّ الباغي له مصرع وبغيك يصرعك، وإلى البلاد يقلبك والسلام.
وفي يوم السبت ورد الفرنج وضربوا خيامهم في أكثر البلاد التي فيها عساكر المسلمين، وكانت خيمة الملك رواد فرنس حمراء، فناوشهم المسلمون القتال، واستشهد يومئذ الأمير نجم الدين يوسف بن شيخ الإسلام، والأمير صارم الدين أزبك الوزيريّ، فلما أمسى الليل رحل الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ بعساكر المسلمين جبنا وصلفا، وسار بهم في برّ دمياط، وسار إلى جهة أشموم طناح، فخاف من كان في مدينة دمياط، وخرجوا منها على وجوههم في الليل لا يلتفتون إلى شيء، وتركوا المدينة خالية من الناس، ولحقوا بالعسكر في أشموم، وهم حفاة عرايا جياع حيارى بمن معهم من النساء والأولاد،(1/405)
ومرّوا هاربين إلى القاهرة، فأخذ منهم قطاع الطريق، ما عليهم من الثياب، وتركوهم عرايا، فشنعت القالة على الأمير فخر الدين من كل أحد، وعدّ جميع ما نزل بالمسلمين من البلاء بسبب هزيمته، فإن دمياط كانت مشحونة بالمقاتلة والأزواد العظيمة والأسلحة وغيرها، خوفا أن يصيبها في هذه المدّة ما أصابها في أيام الكامل، فإنه ما أتى عليها ذاك إلا من قلّة الأقوات بها، ومع ذلك امتنعت من الفرنج أكثر من سنة، حتى فني أهلها كما تقدّم، ولكن الله يفعل ما يريد.
ولما أصبح الفرنج يوم الأحد لسبع بقين من صفر قصدوا دمياط فإذا أبواب المدينة مفتحة، ولا أحد يدفع عنها، فظنوا أنّ ذلك مكيدة، وتمهلوا حتى ظهر لهم خلوّها فدخلوا إليها من غير مانع ولا مدافع، واستولوا على ما بها من الأسلحة العظيمة، وآلات الحرب، والأقوات الخارجة عن الحدّ في الكثرة والأموال والأمتعة صفوا بغير كلفة، فأصيب الإسلام والمسلمون ببلاء، لولا لطف الله لمحي اسم الإسلام ورسمه بالكلية، وانزعج الناس في القاهرة ومصر انزعاجا عظيما، لما نزل بالمسلمين مع شدّة مرض السلطان، وعدم حركته، وأما السلطان فإنه اشتدّ حنقه على الأمير فخر الدين، وقال: أما قدرت أنت والعساكر أن تقفوا ساعة بين يدي الفرنج؟ وأقام عليه القيامة، لكن الوقت لم يكن يسع غير الصبر والإغضاء، وغضب على الكنانيين الذين كانوا بدمياط ووبخهم، فقالوا: ما نعمل إذا كانت عساكر السلطان بأجمعهم وأمراؤه هربوا وأخربوا الزردخاناه، كيف لا نهرب نحن؟ فأمر بشنقهم لكونهم خرجوا من دمياط بغير إذن، وكانت عدّة من شنق من الأمراء الكنانية زيادة على خمسين أميرا في ساعة واحدة، ومن جملتهم أمير جسيم، له ابن جميل يسأل أن يشنق قبل ابنه، فأمر السلطان أن يشنق ابنه قبله، فشنق الابن ثم الأب، ويقال: إنّ شنق هؤلاء كان بفتوى الفقهاء، فخاف جماعة من الأمراء، وهموا بالقيام على السلطان.
فأشار عليهم الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ بأنّ السلطان على خطة، فإن مات فقد كفيتم أمره، وإلا فهو بين أيديكم وأخذ السلطان في إصلاح سور المنصورة، وانتقل إليها لخمس بقين من صفر، وجعل الستائر على السور، وقدمت الشواني إلى تجاه المنصورة، وفيها العدد الكاملة وشرع العسكر في تجديد الأبنية هناك، وقدم من العربان، وأهل النواحي ومن المطوّعة خلق لا يحصى عددهم، وأخذوا في الإغارة على الفرنج، فملأ الفرنج أسوار مدينة دمياط بالمقاتلة والآلات، فلما كان أوّل ربيع الأوّل قدم إلى القاهرة من أسرى الفرنج الذين تخطفهم العربان، ستة وثلاثون منهم: فارسان، وفي خامس ربيع الآخر، ورد منهم تسعة وثلاثون، وفي سابعه ورد اثنان وعشرون أسيرا، وفي سادس عشره ورد خمسة وأربعون أسيرا منهم: ثلاثة خيالة، وفي ثامن عشر جمادى الأولى ورد خمسون أسيرا.
هذا ومرض السلطان يتزايد، وقواه تتناقص حتى آيس الأطباء منه، وفي ثالث عشر(1/406)
رجب قدم إلى القاهرة سبعة وأربعون أسيرا، وأحد عشر فارسا، وظفر المسلمون بمسطح للفرنج في البحر فيه مقاتلة من نستراوة.
فلما كانت ليلة الأحد لأربع عشرة مضت من شعبان، مات الملك الصالح بالمنصورة، فلم يظهر موته، وحمل في تابوت إلى قلعة الروضة، وقام بأمر العسكر الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ.
فإنّ شجرة «1» الدر زوجة السلطان، لما مات أحضرت الأمير فخر الدين، والطواشي جمال الدين محسنا، وإليه أمر المماليك البحرية والحاشية وأعلمتهما بموته، فكتما ذلك خوفا من الفرنج، لأنهم كانوا قد أشرفوا على تملك ديار مصر، فقام الأمير فخر الدين بالتدبير.
وسيروا إلى الملك المعظم توران شاه «2» ، وهو بحصن كيفا «3» ، الفارس أقطاي لإحضاره، وأخذ الأمير فخر الدين في تحليف العسكر للملك الصالح، وابنه الملك المعظم بولاية العهد من بعده، وللأمير فخر الدين بأتابكية العسكر، والقيام بأمر الملك حتى حلفهم كلهم بالمنصورة وبالقاهرة في دار الوزارة عند الأمير حسام الدين بن أبي عليّ في يوم الخميس لاثنتي عشرة بقيت من شعبان، وكانت العلامات تخرج من الدهاليز السلطانية بالمنصورة إلى القاهرة بخط خادم يقال له: سهيل لا يشك من رآها، إنها خط السلطان، ومشى ذلك على الأمير حسام الدين بالقاهرة، ولم يتفوّه أحد بموت السلطان إلى أن كان يوم الاثنين لثمان بقين من شعبان، ورد الأمر إلى القاهرة بدعاء الخطباء في الجمعة الثانية للملك المعظم بعد الدعاء للسلطان، وأن ينقش اسمه على السكة، فلما علم الفرنج بموت السلطان، خرجوا من دمياط بفارسهم وراجلهم، وشوانيهم تحاذيهم في البحر حتى نزلوا، فارسكور يوم الخميس لخمس بقين من شعبان.
فورد في يوم الجمعة من الغد كتاب إلى القاهرة من العسكر، أوّله: انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، وفيه مواعظ بليغة بالحث على الجهاد، فقرىء على منبر جامع القاهرة، وقد جمع الناس(1/407)
لسماعه، فارتجت القاهرة ومصر، وظواهرهما بالبكاء والعويل، وأيقن الناس باستيلاء الفرنج على البلاد لخلوّ الوقت من ملك يقوم بالأمر لكنهم لم يهنوا، وخرجوا من القاهرة ومصر، وسائر الأعمال، فاجتمع عالم عظيم.
فلما كان يوم الثلاثاء أوّل شهر رمضان، اقتتل المسلمون والفرنج، فاستشهد العلائيّ أمير مجلس وجماعة، ونزل الفرنج، شارمساح «1» ، وفي يوم الاثنين سابعه نزلوا البرمون، فاضطرب الناس وزلزلوا زلزالا شديدا لقربهم من العسكر، وفي يوم الأحد ثالث عشره، وصلوا تجاه المنصور، وصار بينهم وبين المسلمين، بحر أشموم، وخندقوا عليهم وأداروا على خندقهم سورا ستروه بكثير من الستائر، ونصبوا المجانيق، ليرموا بها على المسلمين، وصارت شوانيهم بإزائهم في بحر النيل، وشواني المسلمين بإزاء المنصورة، والتحم القتال برّا وبحرا.
وفي سادس عشره نفر إلى المسلمين، ستة خيالة، أخبروا بمضايقة الفرنج، وفي يوم عيد الفطر، أسروا من الفرنج، كند من أقارب الملك، وأبلى عوامّ المسلمين في قتال الفرنج بلاء كبيرا، وأنكوهم نكاية عظيمة، وصاروا يقتلون منهم في كل وقت، ويأسرون ويلقون أنفسهم في الماء، ويمرّون فيه إلى الجانب الذي فيه الفرنج، ويتحيلون في اختطاف الفرنج بكل حيلة، ولا يهابون الموت، حتى إن إنسانا قوّر بطيخة، وحملها على رأسه، وغطس في الماء حتى حاذى الفرنج، فظنه بعضهم بطيخة، ونزل حتى يأخذها، فخطفه وأتى به إلى المسلمين، وفي يوم الأربعاء سابع شوّال، أخذ المسلمون شونة للفرنج فيها: كندا، ومائتا رجل، وفي يوم الخميس النصف منه ركب الفرنج إلى برّ المسلمين واقتتلوا فقتل منهم أربعون فارسا، وسير في عدّة إلى القاهرة بسبعة وستين أسيرا منهم: ثلاثة من أكابر الدوادارية، وفي يوم الخميس، ثاني عشرية أحرقت للفرنج مرمّة عظيمة في البحر، واستظهر المسلمون عليهم، وكان بحر أشموم فيه مخايض، فدل بعض من لا دين له ممن يظهر الإسلام الفرنج عليها، فركبوا سحر يوم الثلاثاء خامس ذي القعدة أو رابعه، ولم يشعر المسلمون بهم إلا وقد هجموا على العسكر، وكان الأمير فخر الدين قد عبر إلى الحمام، فأتاه الصريخ بأنّ الفرنج قد هجموا على العسكر، فركب دهشا غير معتدّ، ولا متحفظ وساق ليأمر الأمراء والأجناد بالركوب في طائفة من مماليكه، فلقيه عدّة من الفرنج الدوادارية «2» ، وحملوا عليه ففرّ أصحابه، وأتته طعنة في جنبه، وأخذته السيوف من كل جانب حتى لحق بالله عز وجل، وفي الحال غدت مماليكه في طائفة إلى داره، وكسروا صناديقه وخزائنه،(1/408)
ونهبوا أمواله وخيوله، وساق الفرنج عند مقتل الأمير فخر الدين إلى المنصورة، ففرّ المسلمون خوفا منهم، وتفرّقوا يمنة ويسرة، وكادت الكسرة أن تكون، وتمحوا الفرنج كلمة الإسلام من أرض مصر، ووصل الملك، رواد فرنس إلى باب قصر السلطان، ولم يبق إلا أن يملكه فأذن الله تعالى أنّ طائفة المماليك من البحرية والجمدارية «1» ، الذين استجدّهم الملك الصالح، ومن جملتهم: بيبرس البندقداري حملوا على الفرنج حملة صدقوا فيها اللقاء، حتى أزاحوهم عن مواقفهم، وأبلوا في مكافحتهم بالسيوف والدبابيس، فانهزموا وبلغت عدّة من قتل من فرسان الفرنج الخيالة في هذه النوبة، ألفا وخمسمائة فارس، وأما الرجالة فإنها كانت وصلت إلى الجسر لتعدّي، فلو تراخى الأمر حتى صاروا مع المسلمين لأعضل الداء، على أن هذه الواقعة كانت بين الأزقة والدروب، ولولا ضيق المجال، لما أفلت من الفرنج أحد فنجا من بقي منهم، وضربوا عليهم سورا وحفروا خندقا، وصارت طائفة منهم في البرّ الشرقيّ، ومعظمهم في الجزيرة المتصلة بدمياط، وكانت البطاقة عند الكبسة سرّحت على جناح الطائر إلى القاهرة، فانزعج الناس انزعاجا عظيما، ووردت السوقة وبعض العسكر، ولم تغلق أبواب القاهرة ليلة الأربعاء، وفي يوم الأربعاء: سقط الطائر بالبشارة بهزيمة الفرنج، وعدّة من قتل منهم، فزينت القاهرة وضربت البشائر بقلعة الجبل.
وسار المعظم، توران شاه إلى دمشق، فدخلها يوم السبت آخر شهر رمضان، واستولى على من بها، ولأربع مضين من شوّال، سقط الطائر بوصوله إلى دمشق، فضربت البشائر في العسكر بالمنصورة، وفي قلعة الجبل، وسار من دمشق لثلاث بقين منه، فتواترت الأخبار بقدومه، وخرج الأمير حسام الدين بن أبي عليّ إلى لقائه، فوافاه بالصالحية لأربع عشرة بقيت من ذي القعدة، ومن يومئذ أعلن بموت الملك الصالح، بعد ما كان قبل ذلك لا ينطق أحد بموته البتة، بل الأمور على حالها، والدهليز السلطانيّ بحاله والسماط على العادة، وشجرة الدر، أم خليل زوجة السلطان تدبر الأمور، وتقول: السلطان مريض ما إليه وصول، ثم سار من الصالحية، فتلقاه الأمراء والمماليك، واستقرّ بقصر السلطنة من المنصورة يوم الثلاثاء تاسع عشر ذي القعدة، وفي أثناء هذه المدّة، عمل المسلمون مراكب وحملوها على الجمال إلى بحلة المحلة، وألقوها فيه وشحنوها بالمقاتلة، فعند ما حاذت مراكب الفرنج بحر المحلة، وتلك المراكب فيه مكمنة، خرجت عليهم ووقع الحرب بينهما، وقدم الأسطول الإسلاميّ من جهة المنصورة، وأحاط بالفرنج، فظفر باثنين وخمسين مركبا للفرنج، وقتل وأسر منهم نحو ألف رجل، فانقطعت الميرة عن الفرنج، واشتدّ عندهم الغلاء، وصاروا محصورين.(1/409)
فلما كان أوّل يوم من ذي الحجة، أخذ الفرنج من المراكب في بحر المحلة سبع حراريق، وفرّ من كان فيها من المسلمين، وفي يوم عرفة برزت الشواني الإسلامية إلى مراكب قدمت للفرنج فيها ميرة، فأخذت منها اثنين وثلاثين مركبا منها تسع شواني، فوهنت قوّة الفرنج، وتزايد الغلاء عندهم، وشرعوا في طلب الهدنة من المسلمين، على أن يسلموا دمياط، ويأخذوا بدلا منها القدس، وبعض بلاد الساحل، فلم يجابوا إلى ذلك، فلما كان اليوم السابع والعشرون من ذي الحجة، أحرق الفرنج أخشابهم كلها، وأتلفوا مراكبهم، يريدون التحصن بدمياط، ورحلوا في ليلة الأربعاء لثلاث مضين من المحرّم سنة ثمان وأربعين وستمائة إلى دمياط، وأخذت مراكبهم في الانحدار قبالتهم، فركب المسلمون أقفيتهم بعدما عدّوا إلى برّهم وطلع الفجر من يوم الأربعاء، وقد أحاط المسلمون بالفرنج، وقتلوا وأسروا منهم كثيرا، حتى قيل: إن عدد من قتل من الفرسان على فارسكور «1» ، يزيد على عشرة آلاف، وأسر من الخيالة والرجال والصناع والسوقة، ما يناهز مائة ألف، ونهب من المال والذخائر والخيول والبغال، ما لا يحصى، وانحاز الملك رواد فرنس، وأكابر الفرنج إلى تلّ، ووقفوا مستسلمين، وسألوا الأمان، فأمنهم الطواشي جمال الدين محسن الصالحيّ، ونزلوا على أمانة.
وأحيط بهم وسيقوا إلى المنصورة، فقيد رواد فرنس، واعتقل في الدار التي كان ينزل فيها القاضي، فخر الدين إبراهيم بن لقمان، كاتب الإنشاء، ووكل به الطواشي صبيح المعظميّ، واعتقل معه أخوه ورتب له راتب يحمل إليه في كل يوم، ورسم الملك المعظم لسيف الدين يوسف بن الطوري أحد من وصل صحبته من الشرق أن يتولى قتل الأسرى، فكان يخرج منهم كل ليلة، ثلثمائة رجل ويقتلهم، ويلقيهم في البحر حتى فنوا. ولما قبض على الملك رواد فرنس، رحل الملك المعظم من المنصورة، ونزل بالدهليز السلطانيّ على فارسكور وعمل له برجا من خشب وتراخى في قصد دمياط، وكتب بخطه إلى الأمير جمال الدين بن يغمور، نائبه بدمشق وولده توران شاه.
الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن وما النصر إلا من عند الله ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، وأما بنعمة ربك فحدّث، وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها، نبشر المجلس السامي الجماليّ، بل نبشر المسلمين كافة بما منّ الله به على المسلمين، من الظفر بعدوّ الدين فإنه كان قد استكمل أمره، واستحكم شرّه، ويئس العباد من البلاد، والأهل والأولاد فنودوا ألا تيأسوا من روح الله.
ولما كان يوم الاثنين مستهلّ السنة المباركة، وهي سنة ثمان وأربعين وستمائة، تمم(1/410)
الله على الإسلام بركتها، فتحنا الخزائن وبذلنا الأموال، وفرّقنا السلاح، وجمعنا العربان والمطوّعة، وخلقا لا يعلمهم إلا الله جاءوا من كل فج عميق، ومكان سحيق، فلما رأى العدوّ ذلك أرسل يطلب الصلح على ما وقع الاتفاق بينهم، وبين الملك الكامل فأبينا، ولما كانت ليلة الأربعاء تركوا خيامهم وأموالهم وأثقالهم، وقصدوا دمياط هاربين، فسرنا في آثارهم طالبين، وما زال السيف يعمل في أدبارهم عامّة الليل، وقد حلّ بهم الخزي والويل، فلما أصبحنا يوم الأربعاء، قتلنا منهم ثلاثين ألفا غير من ألقى نفسه في اللجج، وأما الأسرى فحدّث عن الحر، ولا حرج، والتجأ الفرنسيس إلى المينة، وطلب الأمان، فأمّناه، وأخذناه وأكرمناه، وسلمناه دمياط بعون الله تعالى، وقوّته وجلاله وعظمته، وبعث مع الكتاب غفارة الملك فرنسيس، فلبسها الأمير جمال الدين بن يغمور، وهي: اشكر لاطا أحمر بفرو سنجاب، فقال الشيخ نجم الدين بن إسرائيل:
إنّ غفارة الفرنسيس جاءت ... فهي حقا لسيد الأمراء
كبياض القرطاس لونا ولكن ... صبغتها سيوفنا بالدماء
وقال آخر:
أسيّد أملاك الزمان بأسرهم ... تنجزت من نصر الإله وعوده
فلا زال مولانا يبيح حمى العدى ... ويلبس أثواب الملوك عبيده
وأخذ الملك المعظم، يهدّد زوجة أبيه، شجرة الدر، ويطالبها بمال أبيه، فخافته وكاتبت مماليك الملك الصالح، تحرّضهم عليه، وكان المعظم لما وصل إليه الفارس، أقطاي إلى حصن كيفا، وعده أن يعطيه إمرة، فلم يف له بها، وأعرض مع ذلك عن مماليك أبيه، واطّرح أمراءه، وصرف الأمير حسام الدين بن أبي عليّ، عن نيابة السلطنة، وأحضره إلى العسكر، ولم يعبأ به وأبعد غلمان أبيه، واختص بمن وصل معه من المشرق، وجعلهم في الوظائف السلطانية، فجعل الطواشي مسرورا خادمه إستادارا، وعمل صبيحا، وكان عبدا حبشيا فحلا خازنداره، وأمر أن تكون له عصا من ذهب، وأعطاه مالا جزيلا، وإقطاعات جليلة، وكان إذا سكر جمع الشمع، وضرب رؤوسها بالسيف، حتى تنقطع، ويقول هكذا أفعل بالبحرية، فإنه كان فيه هرج وخفة، واحتجب على العكوف بملاذه، فنفرت منه النفوس، وبقي كذلك إلى يوم الاثنين، تاسع عشري المحرّم، وقد جلس على السماط، فتقدّم إليه أحد المماليك البحرية، وضربه بسيف قطع أصابع يديه، ففرّ إلى البرج، فاقتحموا عليه، وسيوفهم مصلتة، فصعد أعلى البرج الخشب، فرموه بالنشاب، وأطلقوا الناس في البرج، فألقى نفسه ومرّ إلى البحر، وهو يقول: ما أريد ملككهم دعوني أرجع إلى الحصن يا مسلمين؟ ما فيكم من يصطنعني ويجيرني؟ وسائر العساكر بالسيوف واقفة، فلم يجبه أحد والنشاب يأخذه من كل ناحية، وأدركوه، فقطع بالسيوف ومات حريقا غريقا قتيلا(1/411)
في يوم الاثنين المذكور، وترك على الشط ثلاثة أيام، ثم دفن.
ولما قتل الملك المعظم، اتفق أهل الدولة، على إقامة شجرة الدر، والدة خليل في مملكة مصر، وأن يكون مقدّم العسكر الأمير عز الدين «1» أيبك التركمانيّ الصالحيّ، وحلف الكل على ذلك، وسيروا إليها عز الدين الروميّ، فقدم عليها في قلعة الجبل، وأعلمها بما اتفق فرضيت به، وكتبت على التواقيع علامتها، وهي والدة خليل، وخطب لها على المنابر بمصر والقاهرة، وجرى الحديث مع الملك روادفرنس في تسليم دمياط، وتولى مفاوضته في ذلك الأمير حسام الدين بن أبي عليّ الهديانيّ، فأجاب إلى تسليمها، وأن يخلى عنه بعد محاورات، وسير إلى الفرنج بدمياط يأمرهم بتسليمها إلى المسلمين، فسلموها بعد جهد جهيد من كثرة المراجعات في يوم الجمعة ثالث صفر، ورفع العلم السلطانيّ على سورها، وأعلن فيها بكلمة الإسلام، وشهادة الحق بعد ما أقامت بيد الفرنج، أحد عشر شهرا وسبعة أيام، وأفرج عن الملك روادفرنس، وعن أخيه، وزوجته، ومن بقي من أصحابه إلى البرّ الغربيّ، وركبوا البحر من الغد، وهو يوم السبت رابع صفر، وأقلعوا إلى عكا. وفي هذه النوبة يقول الوزير جمال الدين يحيى بن مطروح:
قل للفرنسيس إذا جئته ... مقال نصح عن قؤول نصيح
آجرك الله على ما جرى ... من قبل عباد يسوع المسيح
أتيت مصر تبتغي ملكها ... تحسب أنّ الزمر يا طبل ريح
فساقك الحين إلى أدهم ... ضاق به عن ناظريك الفسيح
وكل أصحابك أودعتهم ... بحسن تدبيرك بطن الضريح
خمسون ألفا لا يرى منهم ... إلا قتيل أو أسير جريح
وفقك الله لأمثالها ... لعلّ عيسى منكم يستريح
إن كان بابا كم بذار راضيا ... فرب غشّ قد أتى من نصيح
قل لهم أن أضمروا عودة ... لأخذ ثأر أو لنقد صحيح
دار ابن لقمان على حالها ... والقيد باق والطواشي صبيح
وقدّر الله أن الفرنسيس هذا بعد خلاصه من هذه الوقعة جمع عدّة جموع، وقصد يونس، فقال شاب من أهلها يقال له أحمد بن إسماعيل الزيات:
يا فرنسيس هذه أخت مصر ... فتأهب لما إليه تصير
لك فيها دار ابن لقمان قبر ... وطواشيك منكر ونكير(1/412)
فكان هذا فألا حسنا، فإنه مات وهو على محاصرة تونس، ولما تسلم الأمراء دمياط وردت البشرى إلى القاهرة، فضربت البشائر، وزينت القاهرة ومصر، فقدمت العساكر من دمياط يوم الخميس تاسع صفر، فلما كان في سلطنة الأشرف موسى بن الملك المسعود، أقسيس بن الملك الكامل، والملك المعزّ عز الدين التركمانيّ، وكثر الاختلاف بمصر، واستولى الملك الناصر يوسف بن العزيز على دمشق، اتفق أرباب الدولة بمصر، وهم المماليك البحرية على تخريب مدينة دمياط خوفا من مسير الفرنج إليها مرّة أخرى، فسيروا إليها الحجارين والفعلة، فوقع الهدم في أسوارها يوم الاثنين الثامن عشر من شعبان سنة ثمان وأربعين وستمائة، حتى خربت كلها، ومحيت آثارها، ولم يبق منها سوى الجامع، وصار في قبليها أخصاص على النيل سكنها الناس الضعفاء، وسمّوها المنشية، وهذا السور هو الذي بناه أمير المؤمنين المتوكل على الله، كما تقدّم ذكره.
فلما استبدّ الملك الظاهر بيبرس البندقداري: الصالحيّ بمملكة مصر بعد قتل الملك المظفر «1» ، قطز أخرج من مصر عدّة من الحجارين في سنة تسع وخمسين وستمائة، لردم فم بحر دمياط، فمضوا وقطعوا كثيرا من القرابيص، وألقوها في بحر النيل الذي ينصب من شمال دمياط في البحر الملح، حتى ضاق، وتعذر دخول المراكب منه إلى دمياط، وهو إلى اليوم على ذلك لا تقدر مراكب البحر الكبار أن تدخل منه، وإنما ينقل ما فيها من البضائع في مراكب نيلية تعرف عند أهل دمياط، بالجروم واحدها: جرم، وتصير مراكب البحر، جبل في فم البحر، أو رمل يتربى هناك، وهذا قول باطل، حملهم عليه ما يجدونه من تلاف المراكب إذا هجمت على هذا المكان، وجهلهم بأحوال الوجود، وما مرّ من الوقائع، وإلى يومنا هذا يخاف على المراكب عند ورودها فم البحر، وكثيرا ما تتلف فيه.
وقد سرت إليه حتى شاهدته، ورأيته من أعجب ما يراه الإنسان.
وأما دمياط الآن فإنها حدثت بعد تخريب مدينة دمياط، وعمل هناك أخصاص، وما برحت تزداد إلى أن صارت بلدة كبيرة ذات أسواق وحمامات وجوامع ومدارس ومساجد، ودورها تشرف على النيل الأعظم، ومن ورائها البساتين، وهي أحسن بلاد الله منظرا.
وقد أخبرني الأمير الوزير المشير الإستادار يلبغا السالميّ رحمه الله أنه لم ير في البلاد التي سلكها من سمرقند إلى مصر أحسن من دمياط هذه، فظننت أنه يغلو في مدحها إلى أن شاهدتها، فإذا هي أحسن بلد وأنزهه، وفيها أقول:(1/413)
سقى عهد دمياط وحياه من عهد ... فقد زادني ذكراه وجدا على وجد
ولا زالت الأنواء تسقي سحابها ... ديارا حكت من حسنها جنة الخلد
فيا حسن هاتيك الديار وطيبها ... فكم قد حوت حسنا يجلّ عن العدّ
فلله أنهار تحف بروضها ... لكالمرهف المصقول أو صفحة الخد
وبشنينها الريان يحكي متيما ... تبدّل من وصل الأحبة بالصدّ
فقام على رجليه في الدمع غارقا ... يراعي نجوم الليل من وحشة الفقد
وظلّ على الأقدام تحسب أنه ... لطول انتظار من حبيب على وعد
ولا سيما تلك النواعير إنها ... تجدّد حزن الواله المدنف الفرد
أطارحها شجوي وصارت كأنما ... تطارح شكواها بمثل الذي أبدي
فقد خلتها الأفلاك فيها نجومها ... تدور بمحض النفع منها وبالسعد
وفي البرك الغرّاء يا حسن نوفر ... حلا وغدا بالزهو يسطو على الورد
سماء من البلور فيها كواكب ... عجيبة صبغ اللون محكمة النضد
وفي شاطىء النيل المقدّس نزهة ... تعيد شباب الشيب في عيشه الرغد
وتنشي رياحا تطرد الهمّ والأسى ... وتنشي ليالي الوصل من طيبها عندي
وفي مرج البحرين جمّ عجائب ... تلوح وتبدو من قريب ومن بعد
كأنّ التقاء النيل بالبحر إذ غدا ... مليكان سارا في الجحافل من جند
وقد نزلا للحرب واحتدم اللقا ... ولا طعن إلا بالمثقفة الملد
فظلا كما باتا وما برحا كما ... هما من جليل الخطب في أعظم الجهد
فكم قد مضى لي من أفانين لذة ... بشاطئها العذب الشهيّ لذي الورد
وكم قد نعمنا في البساتين برهة ... بعيش هنيء في أمان وفي سعد
وفي البرزخ المأنوس كم لي خلوة ... وعند شطا عن أيمن العلم الفرد
هناك ترى عين البصيرة ما ترى ... من الفضل والأفضال والخير والمجد
فيا رب هيئ لي بفضلك عودة ... ومنّ بها في غير بلوى ولا جهد
وبدمياط حيث كانت المدينة التي هدمت جامع من أجلّ مساجد المسلمين تسمية العامّة، مسجد فتح، وهو المسجد الذي أسسه المسلمون عند فتح دمياط.
أوّل ما فتح الله أرض مصر على يد عمرو بن العاص، وعلى بابه مكتوب بالقلم الكوفيّ، أنه عمر بعد سنة خمسمائة من الهجرة، وفيه عدّة من عمد الرخام منها، ما يعز وجود مثله، وإنما عرف بجامع فتح لنزول شخص يقال له: فاتح به، فقالت العامّة: جامع فتح.
وإنما هو: فاتح بن عثمان الأسمر التكروريّ، قدم من مراكش إلى دمياط على قدم(1/414)
التجريد، وسقى بها الماء في الأسواق احتسابا من غير أن يتناول من أحد شيئا، ونزل في ظاهر الثغر ولزم الصلاة مع الجماعة، وترك الناس جميعا، ثم أقام بناحية تونة من بحيرة تنيس، وهي خراب نحو سبع سنين، ورمّ مسجدها، ثم انتقل من تونة إلى جامع دمياط، وأقام في وكر بأسفل المنارة من غير أن يخالط أحدا إلا إذا أقيمت الصلاة، خرج وصلى فإذا سلّم الإمام، عاد إلى وكره، فإن عارضه أحد بحديث كلّمه، وهو قائم بعد انصرافه من الصلاة، وكانت حاله أبدا اتصالا في انفصال، وقربا في ابتعاد، وأنسا في نفار، وحج فكان يفارق أصحابه عند الرحيل، فلا يرونه إلا وقت النزول، ويكون سيره منفردا عنهم لا يكلم أحدا إلى أن عاد إلى دمياط، فأخذ في ترميم الجامع، وتنظيفه بنفسه، حتى نقي ما كان فيه من الوطواط بسقوفه، وساق الماء إلى صهاريجه، وبلط صحنه وسبك سطحه بالجبس، وأقام فيه.
وكان قبل ذلك من حين خربت دمياط، لا يفتح إلا في يوم الجمعة فقط، فرتب فيه إماما راتبا يصلي الخمس، وسكن في بيت الخطابة، وواظب على إقامة الأوراد به، وجعل فيه قرّاء يتلون القرآن بكرة وأصيلا وقرّر فيه رجلا يقرأ ميعادا يذكر الناس ويعلمهم، وكان يقول: لو علمت بدمياط مكانا أفضل من الجامع لأقمت به، ولو علمت في الأرض بلدا يكون فيه الفقير، أخمل من دمياط لرحلت إليه، وأقمت به، وكان إذا ورد عليه أحد من الفقراء، ولا يجد ما يطعمه باع، من لباسه ما يضيفه به، وكان يبيت ويصبح، وليس له معلوم، ولا ما يقع عليه العين، أو تسمعه الأذن، وكان يؤثر في السرّ الفقراء والأرامل، ولا يسأل أحدا شيئا، ولا يقبل غالبا، وإذا قبل ما يفتح الله عليه آثر به، وكان يبذل جهده في كتم حاله، والله تعالى يظهر خيره وبركته من غير قصد منه لذلك، وعرفت له عدّة كرامات، وكان سلوكه على طريق السلف من التمسك بالكتاب والسنة والنفور عن الفتنة، وترك الدعاوي واطراحها وستر حاله والتحفظ في أقواله، وأفعاله، وكان لا يرافق أحدا في الليل، ولا يعلم أحد يوم صومه من يوم فطره، ويجعل دائما قول إن شاء الله تعالى، مكان قول غيره، والله.
ثم إنّ الشيخ عبد العزيز الدميريّ، أشار عليه بالنكاح وقال له: النكاح من السنة، فتزوّج في آخر عمره بامرأتين ولم يدخل على واحدة منهما نهارا البتة، ولا أكل عندهما، ولا شرب قط، وكان ليله ظرفا للعبادة، لكنه يأتي إليهما أحيانا، وينقطع أحيانا لاستغراق زمنه كله في القيام بوظائف العبادات وإيثار الخلوة، وكان خواص خدمه لا يعلمون بصومه من فطره، وإنما يحمل إليه ما يأكل، ويوضع عنه بالخلوة، فلا يرى قط آكلا، وكان يحب الفقر، ويؤثر حال المسكنة، ويتطارح على الخمول والجفا ويتواضع مع الفقراء، ويتعاظم على العظماء والأغنياء، وكان يقرأ في المصحف، ويطالع الكتب، ولم يره أحد يخط بيده شيئا، وكانت تلاوته للقرآن بخشوع وتدبر، ولم يعمل له سجادة قط، ولا أخذ على أحد عهدا، ولا لبس طاقية، ولا قال أنا شيخ، ولا أنا فقير، ومتى قال في كلامه: إنا تفطّن لما(1/415)
وقع فيه، واستعاذ بالله من قول أنا، ولا حضر قط سماعا، ولا أنكر على من يحضره، وكان سلوكه صلاحا من غير إصلاح، ويبالغ في الترفع على أبناء الدنيا، ويترامى على الفقراء، ويقدّم لهم الأكل، ولم يقدّم لغنيّ أكلا البتة، وإذا اجتمع عنده الناس، قدّم الفقير على الغنيّ، وإذا مضى الفقير من عنده سار معه، وشيعه عدّة خطوات، وهو حاف بغير نعل ووقف على قدميه ينظره حتى يتوارى عنه، ومن كان من الفقراء يشار إليه بمشيخة، جلس بين يديه بأدب مع إمامته وتقدّمه في الطريق، ويقول: ما أقول لأحد افعل أو لا تفعل، من أراد السلوك يكفيه أن ينظر إلى أفعاله، فإنّ من لم يتسلك بنظره لا يتسلك بسمعه.
وقال له شخص من خواصه: يا سيدي ادع الله لنا أن يفتح علينا، فنحن فقراء، فقال:
إن أردتم فتح الله، فلا تبقوا في البيت شيئا، ثم اطلبوا فتح الله بعد ذلك، فقد جاء لا تسأل الله، ولك خاتم من حديد، ومن كلامه: الفقير بحال البكر، إذا سأل زالت بكارته، وسأله بعض خواصه: أن يدعو له بسعة، وشكا له الضيق، فقال: أنا ما أدعو لك بسعة بل أطلب لك الأفضل والأكمل.
وكان مع اشتغاله بالعبادة واستغراق أوقاته فيها، لا يغفل عن صاحبه، ولا ينسى حاجته حتى يقضيها، ويلازم الوفاء لأصحابه ويحسن معاشرتهم، ويعرف أحوال الناس على طبقاتهم، ويعظم العلم ويكرم الأيتام ويشفق على الضعفاء والأرامل، ويبذل شفاعته في قضاء حوائج الخاص والعام من غير أن يملّ، ولا يتبرّم بكثرة ذلك، ويكثر من الإيثار في السرّ، ولا يمسك لنفسه شيئا، ويستقلّ ما منه مع كثرة إحسانه، ويستكثر ما يدفع إليه وإن كان يسيرا، ويكافىء عليه بأحسن منه، ولم يصحب قط، أميرا ولا وزيرا بل كان في سلوكه وطريقه يرفع في تواضع ويعزز مع مسكنة، وقرب في ابتعاد، واتصال في انفصال، وزهد في الدنيا، وأهلها، وكان أكبر من خبره، ومن دعائه لنفسه ولمن يسأل له الدعاء: اللهم بعّدنا عن الدنيا وأهلها، وبعّدها عنا، وما زال على ذلك إلى أن مات آخر ليلة أسفر صباحها عن الثامن من شهر ربيع الآخر سنة خمس وتسعين وستمائة، وترك ولدين ليس لهما قوت ليلة، وعليه مبلغ ألفي درهم دينا، ودفن بجوار الجامع، وقبره يزار إلى يومنا هذا.
ذكر شطا «1»
شطا: مدينة عند تنيس ودمياط، وإليها تنسب الثياب الشطوية، ويقال: إنها عرفت بشطا بن الهاموك، وكان أبوه خال المقوقس، وكان على دمياط، فلما فتح الله الحصن على يد عمرو بن العاص، واستولى على أرض مصر، جهز بعثا لفتح دمياط، فنازلوها إلى أن(1/416)
ملكوا سور المدينة، فخرج شطا في ألفين من أصحابه، ولحق بالمسلمين، وقد كان قبل ذلك يحب الخير، ويميل إلى ما يسمعه من سيرة أهل الإسلام.
ولما ملك المسلمون دمياط، امتنع عليهم صاحب تنيس، فخرج شطا إلى البرلس والدميرة وأشموم طناح يستنجد، فجمع الناس لقتال أهل تنيس، وسار بهم من كان بدمياط من المسلمين، ومن قدم مددا من عند عمرو بن العاص إلى قتال أهل تنيس، فالتقى الفريقان، وأبلى شطا منهم بلاء حسنا، وقتل من أبطال تنيس اثني عشر رجلا، واستشهد في ليلة الجمعة النصف من شعبان سنة إحدى وعشرين من الهجرة، فقبر حيث هو الآن خارج دمياط، وبني على قبره، وصار الناس يجتمعون هناك في ليلة النصف من شعبان كل عام، ويغدون للحضور من القرى، وهم على ذلك إلى يومنا هذا، وكانت تعمل كسوة الكعبة بشطا.
قال الفاكهيّ: ورأيت فيها كسوة من كسا أمير المؤمنين، هارون الرشيد من قباطيّ مصر مكتوبا عليها: بسم الله بركة من الله لعبد الله هارون أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه، مما أمر الفضل بن الربيع مولى أمير المؤمنين بصنعته في طراز شطا، كسوة الكعبة سنة إحدى وتسعين ومائة.
ومن المواضع المشهورة بدمياط: البرزخ: وهو مسجد بحيرة دمياط تسميه العامّة البرزخ، ولا أعرف مستندهم في ذلك، وشاهدت فيه عجبا، وهو أنّ به منارة كبيرة مبنية من الآجرّ إذا هزّها أحد، اهتزت، فلما صعدت أعلاها حيث يقف المؤذنون، وحرّكتها رأيت ظلها، قد تحرّك بتحريكي لها، ويوجد حول هذا المسجد، رمم أموات يشبه أن تكون ممن استشهد في وقائع الفرنج، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
ديبق: قرية من قرى دمياط بنسب إليها الثياب المثقلة والعمائم الشرب الملوّنة، والديبقيّ العلم المذهب، وكانت العمائم الشرب المذهبة تعمل بها، ويكون طول كل عمامة منها مائة ذراع، وفيها رقمات منسوجة بالذهب، فتبلغ العمامة من الذهب، خمسمائة دينار، سوى الحرير والغزل.
وحدثت هذه العمائم وغيرها في أيام العزيز بالله بن المعز سنة خمس وستين وثلثمائة، إلى أن مات في شعبان سنة ست وثمانين وثلثمائة.
النحريرية: قرية من الأعمال الغربية أسس حكرها الأمير شمس الدين سنقر السعدي، نقيب الجيش في أيام الناصر محمد بن قلاون، وبالغ في عمارتها، فبلغت في أيامه عشرة آلاف درهم فضة، ثم خرج عنها، فعمرت للسلطان، واتسع أمرها حتى أنشئ فيها زيادة على ثلاثين بستانا، ووصل حكرها لكثرة سكانها إلى ألف درهم فضة لكل فدّان، وصارت(1/417)
بلدا كبيرا لعمل يبلغ في السنة ما بين خراجيّ وهلاليّ ثلثمائة ألف درهم فضة عنها خمسة عشر ألف دينار ذهبا.
ومات سنقر هذا في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، وإليه تنسب المدرسة السعدية بخط حدرة البقر خارج باب زويلة.
جزيرة بني نصر: منسوبة إلى بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن، وذلك أن بني حماس بن ظالم بن جعيل بن عمرو بن درهمان بن نصير بن معاوية بن بكر بن هوازن، كانت لهم شوكة شديدة بأرض مصر، وكثروا حتى ملؤوا أسفل الأرض، وغلبوا عليها حتى قويت عليهم، قبيلة من البربر تعرف: بلواتة، ولواتة تزعم أنها من قيس، فأجلت بني نصر، وأسكنها الجدار، فصاروا أهل قرى في مكان عرف بهم وسط النيل، وهي جزيرة بني نصر هذه.
ذكر الطريق فيما بين مدينة مصر ودمشق
اعلم: أن
البريد، أوّل من رتب دوابه الملك دارا بن بهمن بن كيبشتاسف بن كيهراسف، أحد ملوك الفرس.
وأما في الإسلام، فأوّل من أقام البريد أمير المؤمنين المهدي محمد بن أبي جعفر المنصور، أقامه فيما بين مكة والمدينة واليمن، وجعله بغالا وإبلا، وذلك في سنة ست وستين ومائة.
وأصل هذه الكلمة، بريد ذنب، فإنّ دارا: أقام في سكك البريد، دوابّ محذوفة الأذناب سميت بريد ذنب، وحذف منها نصفها الأخير فقيل: بريد، وهذا الدرب الذي يسلكه العساكر والتجار وغيرهم، من القاهرة على الرمل إلى مدينة غزة، ليس هو الدرب الذي يسلك في القديم من مصر إلى الشام، ولم يحدث هذا الدرب الذي يسلك فيه من الرمل الآن إلا بعد الخمسمائة من سني الهجرة، عند ما انقرضت الدولة الفاطمية.
وكان الدرب أوّلا قبل استيلاء الفرنج على سواحل البلاد الشامية غير هذا، قال أبو عبيد الله بن عبد الله بن خرداذبه في كتاب المسالك والممالك وصفة الأرض والطريق من دمشق إلى الكسوة «1» : اثنا عشر ميلا، ثم إلى جاسم أربعة وعشرون ميلا، ثم إلى فيق أربعة وعشرون ميلا، ثم إلى طبرية مدينة الأردن ستة أميال، ومن طبرية إلى اللجون «2» عشرون(1/418)
ميلا، ثم إلى القلنسوة عشرون ميلا، ثم إلى الرملة مدينة فلسطين أربعة وعشرون ميلا، والطريق من الرملة إلى أزدود اثنا عشر ميلا، ثم إلى غزة عشرون ميلا، ثم إلى العريش أربعة وعشرون ميلا في رمل، ثم إلى الورادة ثمانية عشر ميلا، ثم إلى أم العرب عشرون ميلا، ثم إلى الفرما أربعة وعشرون ميلا، ثم إلى جرير ثلاثون ميلا، ثم إلى القاصرة أربعة وعشرون ميلا، ثم إلى مسجد قضاعة ثمانية عشر ميلا، ثم إلى بلبيس أحد وعشرون ميلا، ثم إلى الفسطاط مدينة مصر أربعة وعشرون ميلا، فهذا كما ترى. إنما كان الدرب المسلوك من مصر إلى دمشق، على غير ما هو الآن، فيسلك من بلبيس إلى الفرما في البلاد التي تعرف اليوم ببلاد السباخ من الحوف، ويسلك من الفرما وهي بالقرب من قطية إلى أم العرب، وهي بلاد خراب على البحر، فيما بين قطية والورادة، ويقصدها قوم من الناس، ويحفرون في كيمانها، فيجدون دراهم من فضة خالصة ثقيلة الوزن، كبيرة المقدار، ويسلك من أم العرب، إلى الورادة وكانت بلدة في غير موضعها الآن، قد ذكرت في هذا الكتاب.
فلما خرج الفرنج من بحر القسطنطينية في سنة تسعين وأربعمائة لأخذ البلاد من أيدي المسلمين، وأخذ بغدوين الشوبك وعمّره في سنة تسع وخمسمائة، وكان قد خرب من تقادم السنين، وأغار على العريش، وهو يومئذ عامر، بطل السفر حينئذ من مصر إلى الشام، وصار يسلك على طريق البرّ مع العرب مخافة الفرنج إلى أن استنقذ السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، بيت المقدس من أيدي الفرنج في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وأكثر من الإيقاع بالفرنج، وافتتح منهم عدّة بلاد بالساحل، وصار يسلك هذا الدرب على الرمل، فسلكه المسافرون من حينئذ إلى أن ولي ملك مصر، الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، فأنشأ بأرض السباخ على طرف الرمل بلدة عرفت إلى اليوم بالصالحية، وذلك في سنة أربع وأربعين وستمائة، وصار ينزل بها ويقيم فيها، ونزل بها من بعده الملوك.
فلما ملك مصر الملك الظاهر بيبرس البندقداريّ، رتب البريد في سائر الطرقات، حتى صار الخبر يصل من قلعة الجبل إلى دمشق في أربعة أيام، ويعود في مثلها، فصارت أخبار الممالك ترد إليه في كل جمعة مرّتين، ويتحكم في سائر ممالكه بالعزل والولاية، وهو مقيم بالقلعة، وأنفق في ذلك مالا عظيما حتى تم ترتيبه، وكان ذلك في سنة تسع وخمسين وستمائة، وما زال أمر البريد مستمرّا فيما بين القاهرة ودمشق، يوجد بكل مركز من مراكزه عدّة من الخيول المعدّة للركوب، وتعرف بخيل البريد، وعندها عدّة سوّاس، وللخيل رجال يعرفون بالسوّاقين، وأحدهم سوّاق يركب مع رسم بركوبه، خيل البريد ليسوق له فرسه، ويخدمه مدّة مسيره، ولا يركب أحد خيل البريد إلا بمرسوم سلطانيّ، فتارة يمنع الناس من ركوبه إلا من انتدبه السلطان لمهماته،(1/419)
وتارة يركبه من يريد السفر من الأعيان بمرسوم سلطانيّ، وكانت طرق الشام عامرة يوجد بها عند كل بريد ما يحتاج إليه المسافر من زاد وعلف وغيره ولكثرة ما كان فيه من الأمن أدركنا المرأة تسافر من القاهرة إلى الشام بمفردها راكبة، أو ماشية، لا تحمل زادا ولا ماء.
فلما أخذ تيمور لنك دمشق، وسبى أهلها، وحرّقها في سنة ثلاث وثمانمائة، خربت مراكز البريد، واشتغل أهل الدولة بما نزل بالبلاد من المحن، وما دهوا به من كثرة الفتن عن إقامة البريد، فاختلّ بانقطاعه طريق الشام خللا فاحشا، والأمر على ذلك إلى وقتنا هذا، وهو سنة ثمان عشرة وثمانمائة.
ذكر مدينة حطين «1»
هذه المدينة: آثارها إلى اليوم باقية، فيما بين حبوة، والعاقولة بأرض العاقولة، فيما بين قطية، والعريش، تجاهها بميل ماء عذب تسميه العرب: أبا العروق، وهو شرقيها، وهذه المدينة تنسب إلى حطين، ويقال: حطي بن الملك أبي جاد المديني، وأهل قطية اليوم يسمون تلك الأرض، ببلاد حطين والجفر، وملك حطين هذا، أرض مصر بعد موت أبيه، وكان صاحب حرب وبطش، وكان ينزل بقلعة في جبال الأردن قريبا من طبرية وإليه تنسب قرية حطين التي بها الآن قبر شعيب بالقرب من صفد.
ذكر مدينة الرقة
هذه المدينة: من جملة مدائن: مدين، فيما بين بحر القلزم وجبل الطور، كان بها عند ما خرج موسى عليه السلام، ببني إسرائيل من مصر، قوم من لخم آل فرعون، يعبدون البقر، وإياهم عني الله بقوله تعالى: وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ
[الأعراف/ 138] الآية.
قال قتادة: أولئك القوم من لخم، وكانوا نزولا بالرقة، وقيل: كانت أصنامهم تماثيل البقر، ولهذا أخرج لهم السامريّ عجلا، وآثار هذه المدينة باقية إلى اليوم، فيما بقي من مدينة فاران، والقلزم، ومدين، وأيلة «2» ، تمرّ بها الأعراب.(1/420)
ذكر عين شمس «1»
وكان يقال لها في القديم: رعمساس، وكانت عين شمس، هيكلا يحج الناس إليه، ويقصدونه من أقطار الأرض في جملة ما كان يحج إليه من الهياكل التي كانت في قديم الدهر، ويقال: إنّ الصابئة أخذت هذه الهياكل عن عاد وثمود، ويزعمون أنه عن شيث بن آدم، وعن هرمس الأوّل، وهو إدريس، وإن إدريس هو أوّل من تكلم في الجواهر العلوية والحركات النجومية، وبنى الهياكل ومجد الله فيها.
ويقال: إنّ الهياكل كانت عدّتها في الزمن الغابر: اثني عشر هيكلا، وهي هيكل:
العلة الأولى، وهيكل: العقل، وهيكل: السياسة، وهيكل: الصورة، وهيكل: النفس؛ وكانت هذه الهياكل الخمسة مستديرات، والهيكل السادس هيكل: زحل، وهو مسدّس، وبعده هيكل: المشتري وهو مثلث، ثم هيكل: المرّيخ، وهو مربع، وهيكل: الشمس، وهو أيضا مربع، وهيكل: الزهرة، وهو مثلث مستطيل، وهيكل: عطارد مثلث في جوف مربع مستطيل، وهيكل: القمر مثمن.
وعللوا عبادتهم للهياكل بأن قالوا: لما كان صانع العالم مقدّسا عن صفات الحدوث، وجب العجز عن إدراك جلاله، وتعين أن يتقرّب إليه عباده بالمقرّبين لديه، وهم:
الروحانيون ليشفعوا لهم، ويكونوا وسائط لهم عنده، وعنوا بالروحانيين: الملائكة، وزعموا أنها المدبرات للكواكب السبعة السيارة في أفلاكها، وهي هياكلها وأنه لا بدّ لكل روحانيّ من هيكل، ولا بدّ لكل هيكل من فلك، وأن نسبة الروحانيّ، إلى الهيكل نسبة الروح إلى الجسد، وزعموا: أنه لا بدّ من رؤية المتوسط بين العباد، وبين بارئهم حتى يتوجه إليه العبد بنفسه، ويستفيد منه، ففزعوا إلى الهياكل التي هي السيارات، فعرفوا بيوتها من الفلك، وعرفوا مطالعها ومغاربها واتصالاتها، وما لها من الأيام والليالي، والساعات والأشخاص والصور والأقاليم، وغير ذلك مما هو معروف في موضعه من العلم الرياضي.
وسموا هذه السبعة السيارة: أربابا وآلهة، وسموا: الشمس إله الآلهة ورب الأرباب، وزعموا أنها المفيضة على ألسنة أنوارها، والمظهرة فيها آثارها، فكانوا يتقرّبون إلى الهياكل تقرّبا إلى الرّوحانيين لتقرّبهم إلى الباري، لزعمهم أن الهياكل أبدان الروحانيين، وكلّ من تقرّب إلى شخص، فقد تقرّب إلى روحه.
وكانوا: يصلون لكل كوكب يوما، يزعمون أنه رب ذلك اليوم، وكانت صلاتهم في ثلاثة أوقات: الأولى عند طلوع الشمس، والثانية عند استوائها في الفلك، والثالثة عند(1/421)
غروبها، فيصلون لزحل يوم السبت، وللمشتري يوم الأحد، وللمريخ يوم الاثنين، وللشمس يوم الثلاثاء، وللزهرة يوم الأربعاء، ولعطارد يوم الخميس، وللقمر يوم الجمعة.
ويقال: إنه كان ببلخ «1» هيكل بناه: بنو حمير على اسم القمر لتعارض به الكعبة، فكانت الفرس تحجه وتكسوه الحرير، وكان اسمه: نوبهر، فلما تمجست الفرس، عملته بيت نار، وقيل للموكل بسدانته: برمك، يعني والي مكة، وانتهت البرمكة إلى جد خالد جدّ جعفر بن يحيى بن خالد، فأسلم على يد هشام بن عبد الملك، وسماه عبد الله، وخرّب هذا الهيكل، قيس بن الهيثم في أوّل خلافة معاوية سنة إحدى وأربعين، وكان بناء عظيما حوله أروقة وثلثمائة وستون مقصورة لسكن خدّامه.
وكان بصنعاء، قصر غمدان من بناء الضحاك، وكان هيكل الزهرة، وهدم في خلافة عثمان بن عفان.
وكان بالأندلس: في الجبل الفارق بين جزيرة الأندلس، والأرض الكبيرة، هيكل المشتري من بناء كلوبطرة بنت بطليموس.
وكان بفرعانة «2» بيت يقال له: كلوسان هيكل للشمس، بناه بعض ملوك الفرس، الأول خرّبه المعتصم، وقد اختلف فيمن بنى هيكل عين شمس، وسأقص من أخباره ما لم أره مجموعا في كتاب.
قال ابن وصيف شاه: وقد كان الملك، منقاوس إذا ركب، عملوا بين يديه التخاييل العجيبة، فيجتمع الناس، ويعجبون من أعمالهم، وأمر أن يبنى له هيكل للعبادة يكون له خصوصا، ويجعل فيه قبة فيها صورة الشمس والكواكب، وجعل حولها أصناما، وعجائب، فكان الملك يركب إليه ويقيم فيه سبعة أيام، وجعل فيه عمودين زبر عليهما تاريخ الوقت الذي عمله فيه، وهما باقيان إلى اليوم، وهو الموضع الذي يقال له عين شمس، ونقل إلى عين شمس كنوزا وجواهر وطلسمات وعقاقير وعجائب، ودفنها بها وبنواحيها، وأقام ملكا بإحدى وتسعين سنة، ومات من الطاعون، وقيل: من سمّ، وعمل له ناوس في صحراء الغرب، وقيل: في غربيّ قوص، ودفن معه مصاحف الحكمة والصنعة، وتماثيل الذهب والجوهر، ومن الذهب المضروب شيء كثير، ودفن معه تمثال روحانيّ الشمس من ذهب يلمع، وله جناحان من زبرجد، وصنم على صورة امرأته، وكان يحبها.
فلما ماتت، أمر أن تعمل صورتها في الهياكل كلها، وعمل صورتها من ذهب بذؤابتين(1/422)
سوداوين، وعليها حلة من جواهر منظومة، وهي جالسة على كرسيّ، وكان يجعلها بين يديه في كل موضع يجلس فيه يتسلى بذلك عنها، فدفنت هذه الصورة معه تحت رجليه كأنها تخاطبه.
وقال الحكيم الفاضل أحمد بن خليفة في كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء:
واشتاق فيثاغورس إلى الاجتماع بالكهنة الذين كانوا بمصر، فورد على أهل مدينة الشمس المعروفة في زماننا بعين شمس، فقبلوه قبولا كريما، وامتحنوه زمانا، فلم يجدوا عليه نقصا ولا تقصيرا، فوجهوا به إلى كهنة منف كي يبالغوا في امتحانه، فقبلوه على كراهة واستقصوا امتحانه، فلم يجدوا عليه معيبا، ولا أصابوا له عثرة، فبعثوا به إلى أهل ديوسوس ليمتحنوه، فلم يجدوا عليه طريقا، ولا إلى إدحاضه سبيلا، ففرضوا عليه فرائض صعبة، كيما يمتنع من قبولها، فيدحضوه ويحرموه طلبته، مخالفة لفرائض اليونانين، فقبل ذلك، وقام به، فاشتدّ إعجابهم به، وفشا بمصر ورعه حتى بلغ ذكره إلى أماسيس ملك مصر، فأعطاه سلطانا على ضحايا الرب، وعلى سائر قرابينهم، ولم يعط ذلك لغريب قط.
ويقال: إنه كان للكواكب السبعة السيارة، هياكل تحج الناس إليها من سائر أقطار الدنيا، وضعها القدماء، فجعلوا على اسم كل كوكب هيكلا في ناحية من نواحي الأرض، وزعموا أن البيت الأوّل هو الكعبة، وأنه مما أوصى إدريس الذي يسمونه هرمس الأوّل المثلث، أن يحج إليه، وزعموا أنه منسوب لزحل، والبيت الثاني بيت المرّيخ، وكان بمدينة صور من الساحل الشاميّ، والبيت الثالث للمشتري، وكان بدمشق، بناه جيرون بن سعد بن عاد، وموضعه الآن جامع بني أمية، والبيت الرابع بيت الشمس بمصر، ويقال: إنه من بناء هرشيك أحد ملوك الطبقة الأولى من ملوك الفرس، وهو المسمى بعين شمس، والبيت الخامس بيت الزهرة، وكان بمنتيح، والبيت السادس بيت عطارد، وهو بصيدا من ساحل البحر الشاميّ، والبيت السابع بيت القمر، وكان بحرّان «1» ويقال: إنه قلعتها، ويسمى المدوّر، ولم يزل عامرا إلى أن خرّبه التتر، ويقال: إنه كان هو هيكل الصابئة الأعظم. وقال شافع بن عليّ «2» في كتاب عجائب البلدان: وعين شمس مدينة صغيرة تشاهد سورها محدقا بها مهدوما، ويظهر من أمرها أنها كانت بيت عبادة، وفيها من الأصنام الهائلة العظيمة الشكل من نحيت الحجارة ما يكون طول الصنم، بقدر ثلاثين ذراعا، وأعضاؤه في تلك النسبة من العظم، وكل هذه الأصنام قائمة على قواعد، وبعضها قاعد على نصبات عجيبة وإتقانات محكمة، وباب المدينة موجود إلى الآن، وعلى معظم تلك الحجارة تصاوير على(1/423)
شكل الإنسان وغيره من الحيوان، وكتابة كثيرة بالقلم المجهول، وقلما ترى حجرا خلا عن كتابة أو نقش أو صورة.
وفي هذه المدينة، المسلتان المشهورتان، وتسميان مسلتي فرعون وصفة المسلة قاعدة مربعة طولها عشرة أذرع في مثلها عرضا في نحوها سمكا، قد وضعت على أساس ثابت في الأرض، ثم أقيم عليها، عمود مثلث مخروط ينيف طوله على مائة ذراع، يبتدئ من القاعدة ببسطة، قطرها خمسة أذرع، وينتهي إلى نقطة، وقد لبّس رأسها بقلنسوة نحاس إلى نحو ثلاثة أذرع منها كالقمع، وقد تزنجر بالمطر، وطول المدّة، واخضرّ، وسال من خضرته على بسيط المسلة، وكلها عليها كتابات بذلك القلم، وكانت المسلتان قائمتين، ثم خربت إحداهما، وانصدعت من نصفها العظم الثقل، وأخذ النحاس من رأسها، ثم إنّ حولها من الأصنام شيئا كثيرا لا يحصى عدده على نصف تلك العظمى، أو يليها، وقلما يوجد في هذه المسال الصغار ما هو قطعة واحدة، بل فصوصها بعضها على بعض، وقد تهدّم أكثرها، وإنما بقيت قواعدها.
وقال محمد بن إبراهيم الجزريّ في تاريخه: وفي رابع شهر رمضان، يعني من سنة ست وخمسين وستمائة: وقعت إحدى مسلتي فرعون التي بأراضي المطرية من ضواحي القاهرة، فوجدوا داخلها مائتي قنطار من نحاس، وأخذ من رأسها عشرة آلاف دينار.
ويقال: إنّ عين شمس، بناها الوليد بن دومع من الملوك العماليق، وقيل: بناها الريان بن الوليد، وكانت سرير ملكه.
والفرس تزعم: أنّ هرشيك بناها.
ويقال: طول العمودين مائة ذراع، وقيل: أربعة وثمانون ذراعا، وقيل: خمسون ذراعا.
ويقال: إنّ بخت نصر هو الذي خرّب عين شمس لما دخل إلى مصر.
وقال القضاعيّ: وعين شمس، وهي هيكل الشمس بها العمودان اللذان لم ير أعجب منهما، ولا من شأنهما، طولهما في السماء نحو من خمسين ذراعا، وهما محمولان على وجه الأرض، وبينهما صورة إنسان على دابة، وعلى رأسهما شبه الصومعتين من نحاس، فإذا جاء النيل، قطر من رأسيهما ما تستبينه وتراه منهما واضحا ينبع حتى يجري من أسافلهما، فينبت في أصلهما العوسج وغيره، وإذا دخلت الشمس دقيقة من الجدي، وهو أقصر يوم في السنة، انتهت إلى الجنوبيّ منهما، فطلعت عليه على قمة رأسه، وهما منتهى الميلين وخط الاستواء في الواسطة منهما، ثم خطرت بينهما ذاهبة، وجائية سائر السنة، كذا يقول أهل العلم بذلك.(1/424)
وقال ابن سعيد «1» في كتاب المغرب: وكانت عين شمس في قديم الزمان عظيمة الطول والعرض، متصلة البناء بمصر القديمة، حيث مدينة الفسطاط الآن، ولما قدم عمرو بن العاص، نازل عين شمس، وكان جمع القوم حتى فتحها.
وقال جامع السيرة الطولونية: كان بعين شمس صنم بمقدار الرجل المعتدل الخلق، من كدّان أبيض محكم الصنعة يتخيل من استعرضه أنه ناطق، فوصف لأحمد بن طولون، فاشتاق إلى تأمّله، فنهاه ندوسة عنه، وقال: ما رآه وال قط إلا عزل، فركب إليه، وكان هذا في سنة ثمان وخمسين ومائتين، وتأمّله، ثم دعا بالقطاعين، وأمرهم باجتثاثه من الأرض، ولم يترك منه شيئا، ثم قال لندوسة خازنه: يا ندوسة من صرف منا صاحبه؟ فقال: أنت أيها الأمير، وعاش بعدها أحمد اثنتي عشرة سنة أميرا. وبنى العزيز بالله نزار بن المعز قصورا بعين شمس.
وقال أبو عبيد البكريّ: عين شمس، بفتح الشين وإسكان ثانيه بعده سين مهملة، عين ماء معروفة.
قال محمد بن حبيب: عين شمس حيث بنى فرعون الصرح، وزعم قوم: أنّ عين شمس إلى هذا الماء أضيف، وأوّل من سمى هذا الاسم، سبا بن يشجب.
وذكر الكلبيّ: أن شمسا الذي تسموا به صنم قديم.
وقال ابن خرداذبه: وأسطوانتين بعين شمس من أرض مصر، ومن بقايا أساطين كانت هناك في رأس كل أسطوانة: طوق من نحاس يقطر من إحداهما ماء من تحت الطوق إلى نصف الأسطوانة لا يجاوزه، ولا ينقطع قطره ليلا ولا نهارا، فموضعه من الأسطوانة أخضب رطب، ولا يصل الماء إلى الأرض، وهو من بناء أوسهنك.
وذكر محمد بن عبد الرحيم «2» في كتاب تحفة الألباب: أنّ هذا المنار مربع علوه:
مائة ذراع قطعة واحدة محدّد الرأس على قاعدة من حجر، وعلى رأس المنار، غشاء من صفر كالذهب فيه صورة إنسان على كرسيّ، قد استقبل المشرق، ويخرج من تحت ذلك الغشاء الصفر، ماء يسيل، مقدار عشرة أذرع، وقد نبت منه شيء كالطحلب، فلا يبرح لمعان الماء على تلك الخضرة أبدا صيفا وشتاء، لا ينقطع ولا يصل إلى الأرض منه شيء،(1/425)
وبعين شمس نبت يزرع كالقضبان يسمى البلسم، يتخذ منه دهن البلسان لا يعرف بمكان من الأرض إلا هناك، وتؤكل لحمى هذه القضبان، فيكون له طعم، وفيه حرارة، وحرافة لذيذة.
وبناحية المطرية من حاضرة عين شمس، البلسان، وهو شجر قصار يسقى من ماء بئر هناك، وهذه البئر، تعظمها النصارى وتقصدها، وتغتسل بمائها، وتستشفي به، ويخرج لاعتصار البلسان أوان إدراكه من قبل السلطان، من يتولى ذلك، ويحفظه ويحمل إلى الخزانة السلطانية، ثم ينقل منه إلى قلاع الشام، والمارستانات لمعالجة المبرودين، ولا يؤخذ منه شيء إلا من خزانة السلطان بعد أخذ مرسوم بذلك، ولملوك النصارى من الحبشة والروم والفرنج فيه غلوّ عظيم، وهم يتهادونه من صاحب مصر، ويرون أنهم لا يصح عندهم لأحد أن يتنصر إلا أن ينغمس في ماء المعمودية، ويعتقدون أنه لا بدّ أن يكون في ماء المعمودية شيء من دهن البلسان، ويسمونه: الميرون.
وكان في القديم، إذا وصل من الشام خبر انتهى إلى صاحب عين شمس، ثم يرد من عين شمس إلى الحصن الذي عرف بقصر الشمع حيث الآن مدينة مصر، ثم يرد من الحصر إلى مدينة منف، حيث كانت منف تحت الملك.
وسبب تعظيم النصارى لدهن البلسان، ما ذكره في كتاب السنكسار، وهو يشتمل على أخبار النصارى: أنّ المسيح لما خرجت به أمّه، ومعهما يوسف النجار من بيت المقدس فرارا من هيرودس ملك اليهود، نزلت به أول موضع من أرض مصر، مدينة بسطة في رابع عشري بشنس، فلم يقبلهم أهلها، فنزلوا بظاهرها، وأقاموا أياما، ثم ساروا إلى مدينة سمنود، وعدّوا النيل إلى الغربية، ومشوا إلى مدينة الأشمونين، وكان بأعلاها إذ ذاك، شكل فرس من نحاس قائم على أربعة أعمدة، فإذا قدم إليها غريب صهل، فجاءوا ونظروا في أمر القادم، فعندما وصلت مريم بالمسيح عليه السلام، إلى المدينة سقط الفرس المذكور، وتكسر فدخلت به أمّه، وظهرت له عليه السلام في الأشمونين آية، وهو أنّ: خمسة جمال محملة زاحمتهم في مرورهم، فصرخ فيها المسيح في الأشمونين، فصارت حجارة، ثم إنهم ساروا من الأشمونين، وأقاموا بقرية تسمى: فيلس مدّة أيام، ثم مضوا إلى مدينة تسمى:
قس وقام، وهي التي يقال لها اليوم: القوصية، فنطق الشيطان من أجواف الأصنام التي بها، وقال: إنّ امرأة أتت، ومعها ولدها يريدون أن يخربوا بيوت معابدكم، فخرج إليهم مائة رجل بسلاحهم، وطردوهم عن المدينة، فمضوا إلى ناحية ميرة في غربيّ القوصية، ونزلوا في الموضع الذي يعرف اليوم بدير المحرق، وأقاموا به ستة أشهر وأياما، فرأى يوسف النجار في منامه قائلا يخبره بموت هيرودس، ويأمره أن يرجع بالمسيح إلى القدس، فعادوا من ميرة حتى نزلوا حيث الموضع الذي يعرف اليوم في مدينة مصر بقصر الشمع، وأقاموا بمغارة تعرف اليوم بكنيسة بوسرجة، ثم خرجوا منها إلى عين شمس، فاستراحوا هناك(1/426)
بجوار ماء، فغسلت مريم من ذلك الماء ثياب المسيح، وقد اتسخت، وصبت غسالتها بتلك الأراضي، فأنبت الله هنالك البلسان، وكان إذ ذاك بالأردن، فانقطع من هناك، وبقي بهذه الأرض، وغمرت هذه البئر التي هي الآن موجودة هناك على ذلك الماء الذي غسلت منه مريم، وبلغني أنها إلى الآن إذا اعتبرت يوجد ماؤها عينا جارية في أسفلها، فهذا سبب تعظيم النصارى لهذه البئر وللبلسان، فإنه إنما سقي منها، والله أعلم.
المنصورة «1»
هذه البلدة على رأس بحر أشموم تجاه ناحية طلخا «2» بناها: السلطان الملك الكامل ناصر الدين محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، في سنة ست عشرة وستمائة عند ما ملك الفرنج، مدينة دمياط، فنزل في موضع هذه البلدة، وخيم به، وبنى قصرا لسكناه، وأمر من معه من الأمراء والعساكر بالبناء، فبنى هناك عدّة دور ونصبت الأسواق وأدار عليها سورا مما يلي البحر، وستره بالآلات الحربية والستائر، وتسمى هذه المنزلة المنصورة، ولم يزل بها حتى استرجع مدينة دمياط، كما تقدّم ذكره عند ذكر مدينة دمياط من كتابنا هذا، فصارت مدينة كبيرة بها الحمامات والفنادق والأسواق، ولما استنقذ الملك الكامل دمياط من الفرنج، ورحل الفرنج إلى بلادهم جلس بقصره في المنصورة وبين يديه إخوته الملك المعظم عيسى صاحب دمشق، والملك الأشرف موسى صاحب بلاد الشرق وغيرهما من أهله، وخواصه، فأمر الملك الأشرف جاريته، فغنت على عودها:
ولما طغى فرعون عكا وقومه ... وجاء إلى مصر ليفسد في الأرض
أتى نحوهم موسى وفي يده العصا ... فأغرقهم في اليم بعضا على بعض
فطرب الأشرف، وقال لها: بالله كرّري، فشق ذلك على الملك الكامل، وأسكتها، وقال لجاريته: غني أنت فأخذت العود، وغنت:
أيا أهل دين الكفرة قوموا لتنظروا ... لما قد جرى في وقتنا وتجدّدا
أعباد عيسى إن عيسى وحزبه ... وموسى جميعا ينصران محمدا
وهذا البيت من قصيدة لشرف الدين بن حبارة أوّلها: (أبى الوجد إلا أن أبيت مسهدا) فأعجب ذلك الملك الكامل، وأمر لكل من الجاريتين، بخمسمائة دينار، فنهض القاضي الصدر الأجل الرئيس هبة الله بن محاسن قاضي غزة وكان من جملة الجلساء على قدميه وأنشد يقول:(1/427)
هنيئا فإنّ السعد جاء مخلدا ... وقد أنجز الرحمن بالنصر موعدا
حبانا إله الخلق فتحا لنا بدا ... مبينا وإنعاما وعزا مؤبدا
تهلل وجه الأرض بعد قطوبه ... وأصبح وجه الشرك بالظلم أسودا
ولما طغى البحر الخضمّ بأهله ال ... طغاة وأضحى بالمراكب مزبدا
أقام لهذا الدين من سلّ عزمه ... صقيلا كما سلّ الحسام المهندا
فلم ينج إلا كل شلو مجدّل ... ثوى منهم أو من تراه مقيدا
ونادى لسان الكون في الأرض رافعا ... عقيرته في الخافقين ومنشدا
أعباد عيسى إنّ عيسى وحزبه ... وموسى جميعا ينصران محمدا
فكانت هذه الليلة بالمنصورة، من أحسن ليلة مرّت لملك من الملوك، وكان عند إنشاده يشير إذا قال عيسى إلى عيسى المعظم، وإذا قال موسى إلى موسى الأشرف، وإذا قال محمدا إلى السلطان الملك الكامل، وقد قيل: إنّ الذي أنشد هذه الأبيات إنما هو راجح المحلي الشاعر.
العباسة «1»
هذه القرية فيما بين بلبيس والصالحية، من أرض السدير لم يزل منتزها لملوك مصر، وبها ولد العباس بن أحمد بن طولون، فسماه لذلك أبوه العباس، وولد بها أيضا الملك الأمجد تقيّ الدين عباس بن العادل أبي بكر بن أيوب، وكان الملك الكامل محمد بن العادل يقيم بها كثيرا، ويقول: هذه تعلو مصر إذا أقمت بها أصطاد الطير من السماء، والسمك من الماء، والوحش من الفضاء، ويصل الخبز من قلعة الجبل إليّ بها في قلعتي، وهو سخن، وبنى بها آدرا ومناظر وبساتين، وبنى أمراؤه بها أيضا عدّة مساكن في البساتين، ولم تزل العباسة على ذلك حتى أنشأ الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل، المنزلة الصالحية، فتلاشى حينئذ أمر العباسة، وخربت المناظر في سلطنة الملك المعز أيبك.
فلما كانت سلطنة الملك الظاهر ركن الدين بيبرس، مرّ على السدير، وهو فم الوادي، فأعجب به وبنى في موضع اختاره منه قرية سماها الظاهرية، وأنشأ بها جامعا، وذلك في سنة ست وستين وستمائة.
وسميت: بالعباسة بنت أحمد بن طولون، فإنها خرجت إلى هذا الموضع مودّعة لبنت أخيها، قطر الندى بنت خمارويه بن أحمد بن طولون، لما حملت إلى المعتضد، وضربت(1/428)
هناك فساطيطها، ثم بنت قرية، فسميت باسمها.
ذكر مدينة قفط «1» بصعيد مصر
هذه المدينة عرفت: بقفطريم بن قبطيم بن مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام، وكانت في الدهر الأوّل، مدينة الإقليم، وإنما بدا خرابها بعد الأربعمائة من تاريخ الهجرة النبوية، وآخر ما كان فيها بعد السبعمائة من سني الهجرة، أربعون مسبكا للسكر، وست معاصر للقصب، ويقال: كان فيها قباب بأعالي دورها، وكانت إشارة من ملك من أهلها عشرة آلاف دينار أن يجعل في داره قبة، وبالقرب منها معدن الزمرّذ، ولم يبطل إلا من قريب، فإنّ قفطريم ولي الملك بعد أبيه قبطيم.
قال ابن وصيف شاه: كان أكبر ولد أبيه، وكان جبارا عظيم الخلق، وهو الذي وضع أساسات الأهرام الدهشورية وغيرها، وهو الذي بنى مدينة دندرة «2» ، ومدينة الأصنام، وهلكت عاد بالريح في آخر أيامه، وأثار من المعادن ما لم يثره غيره، وكان يتخذ من الذهب مثل حجر الرحى، ومن الزبرجد مثل الأسطوانة، ومن الإسبادشم في صحراء الغرب كالقلة، وعمل من العجائب شيئا كثيرا.
وبنى منارا عاليا على جبل قفط، يرى منه البحر الشرقيّ، ووجد هناك معدن زئبق، فعمل منه تمثالا كالعمود لا ينحلّ، ولا يذوب.
وعمل البركة التي سماها صيادة الطير إذا مرّ عليها طائر سقط فيها، ولم يقدر على الحركة، حتى يؤخذ، وهذه البركة يقال: إنها هناك إلى الآن، وأما المنار فسقط، وعمل عجائب كثيرة، وفي أيامه أثار عبادة الأصنام التي كان الطوفان غرّقها وزين الشيطان أمرها وعبادتها، ويقال: إنه بنى المدائن الداخلة، وعمل فيها عجائب، وبنى غربيّ النيل، وخلف الواحات الداخلة مدنا عمل فيها عجائب كثيرة، ووكل بها الروحانيين الذين يمنعون منها، فما يستطيع أحد أن يدنو إليها ولا يدخلها، إلا أن يعمل قرابين لأولئك الروحانيين، وأقام قفطريم ملكا أربعمائة وثمانين سنة، وأكثر العجائب عملت في وقته، ووقت ابنه، البودسير، ولذلك كان الصعيد أكثر عجائب من أسفل، لأنّ حيز قفطريم فيه.
ولما حضر قفطريم الوفاة عمل ناوسا في الجبل الغربيّ قرب مدينة الكهان في سرب تحت الأرض معقود على آزاج إلى الأرض، ونقر تحت الجبل، دارا واسعة، وجعل دورها(1/429)
خزائن منقورة، وفي سقفها مسارب للرياح، وبلط السرب، وجميع الدار بالمرمر، وجعل في وسط الدار مجلسا على ثمانية أركان مصفحا بالزجاج الملوّن المسبوك، وجعل في سقفه جواهر تسرج، وجعل في كل ركن من أركان المجلس، تمثالا من الذهب بيده كالبوق الذي يبوق به، وتحت القبة دكة مصفحة بذهب، ولها حواف من زبرجد، وفوق الدكة فرش من حرير، وجعل عليها جسد بعد أن لطخ بالأدوية المجففة، ووضع في جانبه آلات كافور، وسدلت عليه ثياب منسوجة بالذهب، ووجهه مكشوف وعلى رأسه تاج مكلل، وعن جوانب الدكة أربعة تماثيل مجوّفات من زجاج مسبوك في صور النساء بأيديهنّ مراوح من ذهب، وعلى صدره من فوق الثياب، سيف فاخر قائمته من زبرجد، وجعل في تلك الخزائن من الذخائر وسبائك الذهب، والتيجان والجوهر، وبرابي الحكم، وأصناف العقاقير والطلسمات ومصاحف العلوم، ما لا يحصى كثرة، وجعل على باب المجلس: ديكا من ذهب على قاعدة من زجاج أخضر منشور الجناحين، مزبورا عليه آيات مانعة، وجعل على كل مدخل أزج، صورتين من نحاس بأيديهما سيفان، وقدّامهما بلاطة، تحتها لوالب من وطئها، ضرباه بأسيافهما، فقتلاه، وفي سقف كل أزج، كرة وعليها الطوخ مدبر يسرج، فيقد طول الزمان، وسدّ باب الأزج بالأساطين المرصصة، ورصوا على سقفه البلاط العظام، وردموا فوقها الرمال، وزبروا على باب الأزج، هذا المدخل إلى جسد الملك المعظم المهيب الكريم الشديد قفطريم ذي الأيد والفخر والغلبة والقهر، وأفل نجمه، وبقي ذكره وعلمه، فلا يصل أحد إليه ولا يقدر بحيلة عليه، وذلك بعد سبعمائة وسبعين ودورات مضت من السنين.
وقال المسعوديّ: ومعدن الزمرّد في عمل الصعيد الأعلى، من مدينة قفط، ومنها يخرج إلى هذا المعدن، والموضع الذي هو فيه يعرف: بالخربة، وهي مفازة وجبال، والبجة تحمي هذا المكان المعروف بالخربة، وإليها يؤدّي الخفارات من يرد إلى حفر الزمرّذ، ووجدت جماعة من صعيد مصر من ذوي الدراية ممن اتصلت معرفته بهذا المعدن، وعرف هذا النوع من الجوهر يخبرون أنه يكثر، ويقلّ في فصول السنة، فيكثر في قوّة موادّ الهواء، وهبوب نوع من الرياح الأربع، وتقوى الخضرة فيه، والشعاع النوريّ في أوائل الشهر، والزيادة في نور القمر، وبين الموضع المعروف بالخربة الذي فيه معدن الزمرّذ، وبين ما اتصل من العمارة، وقرب منه من الديار مسيرة سبعة أيام، وهي قفط وقوص وغيرهما من صعيد مصر، وقوص راكبة النيل، وبين النيل وقفط نحو من ميلين.
ولمدينتي قفط وقوص أخبار عجيبة في بدء عمارتهما، وما كان في أيام القبط من أخبارهما إلا أنّ مدينة قفط في هذا الوقت، متداعية للخراب، وقوص أعمر والناس فيها أكثر، وكان بقفط بربا موكل بها روحانيّ في صورة جارية سوداء تحمل صبيا أسود صغيرا، حكي أنها رئيت بها مرارا، ومعدن الزمرّذ في البرّ المتصل بأسوان، وكان له ديوان فيه شهود(1/430)
وكتاب، وينفق على العمال به، وتنال لهم المؤن لحفره، واستخراج الزمرّذ منه، وهو في جبال مرملة يحفر فيه، وربما سقط على الجماعة به فماتوا. وكان يجمع ما يخرج منه، ويحمل إلى الفسطاط، ومنه يحمل إلى البلاد، وقد كان الناس يسيرون من قوص إلى معدن الزمرّذ، في ثمانية أيام بالسير المعتدل.
وكانت البجاه، تنزل حوله وقريبا منه لأجل القيام بحفره، وحفظه وهذا المعدن في الجبل الآخذ على شرقيّ النيل في بحريّ قطعة عظيمة من هذا الجبل تسمى: اقرشندة، وليس هناك من الجبال أعلى منها، وهو في منقطع من البرّ لا عمارة عنده، ولا حوله ولا قريبا منه، والماء عنه مسيرة نصف يوم أو أزيد، وهو ما يتحصل من المطر، ويعرف بغدير أعين يكثر بكثرة المطر، ويقلّ بقلته، وهذا المعدن في صدر مفازة طويلة في حجر أبيض يستخرج منه الزمرّذ، وهذا الحجر الأبيض، ثلاثة أنواع أحدها يقال له: طلق كافوريّ، والثاني يقال له: طلق فضيّ، والثالث يقال له: حجر جرويّ، ويضرب في هذه الحجارة، حتى يخرج الزمرّذ، وهو كالغريق فيه، وأنواعه الريانيّ، وهو أقلّ من القليل لا يخرج إلا في النادر، وإذا استخرج ألقي في الزيت الحار، ثم يحط في قطن، ويصرّ ذلك القطن في خرق خام أو نحوها، وكان الاحتراز على هذا المعدن كثير جدّا، ويفتش الفعلة عند الخروج منه كل يوم، حتى تفتش عوراتهم، ومع ذلك فيختلسون منه بصناعات لهم في ذلك، ولم يزل هذا المعدن يستخرج منه الزمرّذ إلى أن أبطل العمل منه الوزير الصاحب علم الدين عبد الله بن زنبور في أيام الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون في سنة بضع وستين وسبعمائة.
وفي سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، كانت فتنة كبيرة بمدينة قفط، سببها أنّ داعيا من بني عبد القوي، ادّعى أنه داود بن العاضد، فاجتمع الناس عليه، فبعث السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، أخاه الملك العادل أبا بكر بن أيوب على جيش، فقتل من أهل قفط نحو ثلاثة آلاف، وصلبهم على شجرها ظاهر قفط بعمائمهم، وطيالستهم.
ذكر مدينة دندرة
هي إحدى مدن الصعيد الأعلى القديمة بناها قفطريم بن مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام، وكا فيها بربا عظيمة، فيها: مائة وثمانون كوّة تدخل الشمس في كل يوم من كوّة، حتى تأتي على آخرها، ثم تكرّ راجعة إلى حيث بدأت، وكانت روحانيتها الموكلة بها تظهر في هيئة إنسان له رأس أسد بقرنين، وكان بها أيضا شجرة تعرف بشجرة العباس متوسطة، وأوراقها خضر مستديرة، إذا قال الإنسان عندها: يا شجرة العباس، جاءك الفاس، تجتمع أوراقها، وتحزن لوقتها، ثم تعود كما كانت، وبين دندرة، وبين قوص بريد واحد، وكانت بربا دندرة أعظم من بربا إخميم.(1/431)
ذكر الواحات الداخلة
الواحات منقطعة وراء الوجه القبليّ في مغاربه، ولا تعدّ في الولايات، ولا في الأعمال، ولا يحكم عليها من قبل السلطان وال وإنما يحكم عليها من قبل مقطعها.
وبلاد الواحات بين مصر، والإسكندرية، والصعيد، والنوبة، والحبشة بعضها داخل ببعض، وهو بلد قائم بنفسه غير متصل بغيره، ولا يفتقر إلى سواه، وأرضها شبية وزاجية، وعيون حامضة الطعم تستعمل كاستعمال الخل، وعيون مختلفة الطعوم من الحامض، والقابض، والمالح، ولكل نوع منها خاصية ومنفعة، وهي على قسمين، واحات داخلة، وواحات خارجة جملتها أربع واحات.
ويقال: إنّ الواحات ولدوا حويلا بن كوش بن كنعان بن حام بن نوح، وإنّ أخر سبا بن كوش، أبو الحبش، وأبو شنبا بن كوش، أبو زغاوة، وأبو شفحيا بن كوش:
أبو الحبش الرمرم.
قال ابن وصيف شاه ويقال: إنّ قفطريم بنى المدائن الداخلة، وعمل فيها عجائب منها الماء القائم كالعمود، لا ينحلّ، ولا يذوب والبركة التي تسمى فلسطين، أي صيادة الطير، إذا مرّ عليها الطير سقط فيها، ولم يمكنه الخروج منها، حتى يؤخذ، وعمل أيضا عمودا من نحاس عليه صورة طائر إذا قرب الأسد أو الحيات أو غيرها من الأشياء المضرّة من تلك المدينة صفر تصفيرا عاليا، فترجع تلك الدواب هاربة، وعمل على أربعة أبواب هذه المدينة، أربعة أصنام من نحاس لا يقرب منها غريب إلا ألقي عليه النوم، والسبات، فينام عندها، ولا يبرح حتى يأتيه أهل المدينة، وينفخون في وجهه ليقوم، وإن لم يفعلوا ذلك لا يزال نائما عند الأصنام، حتى يهلك.
وعمل منارا لطيفا من زجاج ملوّن على قاعدة من نحاس، وعمل على رأس المنار صورة صنم من أخلاط كثيرة، وفي يده كالقوس كأنه يرمي عنها، فإن عاينه غريب وقف في موضعه، ولم يبرح حتى ينحيه أهل المدينة، وكان ذلك الصنم، يتوجه إلى مهب الرياح الأربع من نفسه، وقيل: إن هذا الصنم على حاله إلى الآن، وإنّ الناس تحاموا تلك المدينة على كثرة ما فيها من الكنوز والعجائب الظاهرة خوفا من ذلك الصنم أن تقع عين إنسان عليه، فلا يزال قائما حتى يتلف، وكان بعض الملوك، عمل على قلعه فما أمكنه، وهلك لذلك خلق كثير.
ويقال: إنه عمل في بعض المدائن الداخلة مرآة، يرى فيها جميع ما يسأل الإنسان عنه، وبنى غربيّ النيل، وخلف الواحات الداخلة مدنا عمل فيها عجائب كثيرة، ووكل الروحانيين بها الذين يمنعون منها، فما يستطيع أحد أن يدنو إليها ولا يدخلها، أو يعمل(1/432)
قرابين أولئك الروحانيين، فيصل إليها حينئذ، ويأخذ من كنوزها ما أب من غير مشقة، ولا ضرر، وبنى الملك صا بن الساد، وقيل: صا بن مرقونس بداخل الواحات مدينة، وغرس حولها نخلا كثيرا، وكان يسكن منف، وملك الأحياز كلها، وعمل عجائب وطلسمات، وردّ الكهنة إلى مراتبهم، ونفى الملهيين، وأهل الشرّ ممن كان يصحب الساد بن مرقونس، وجعل على أطراف مصر أصحاب أخبار يرفعون إليه ما يجري في حدودهم، وعمل على غربيّ النيل مناير يوقد عليها إذا حزبهم أمر، أو قصدهم قاصد.
وكان لما ملك البلد بأسره، جمع الحكماء إليه، ونظر في نجومه، وكان بها حاذقا، فرأى أن بلده لا بدّ أن تغرق بالطوفان من نيلها، ورأى أنها تخرب على يد رجل يأتي من ناحية الشام، فجمع كل فاعل بمصر، وبنى في ألواح الأقصى مدينة، جعل طول حصنها في الارتفاع خمسين ذراعا، وأودعها جميع الحكم، والأموال، وهي المدينة التي وقع عليها، موسى بن نصير في زمن بني أمية، لما قدم من المغرب، فلما دخل مصر أخذ على ألواح الأقصى، وكان عنده علم منها، فأقام سبعة أيام يسير في رمال بين الغرب والجنوب، فظهرت له مدينة عليها حصن وأبواب من حديد، فلم يمكنه فتح الأبواب، وكان إذا صعد إليها الرجال، وعلوا الحصن، وأشرفوا على المدينة ألقوا أنفسهم فيها، فلما أعياه أمرها مضى وهلك من أصحابه عدّة.
قال: وفي تلك الصحارى كانت منتزهات القوم، ومدنهم العجيبة، وكنوزهم إلا أنّ الرمال غلبت عليها، ولم يبق يملك ملك إلا وقد عمل للرمل طلسما لدفعه، ففسدت طلسماتها لقدم الزمان، قال: ولا ينبغي لأحد أن ينكر كثرة بنيانهم، ولا مدائنهم، ولا ما نصبوه من الأعلام العظام، فقد كان للقوم بطش لم يكن لغيرهم، وإنّ آثارهم لبينة مثل الأهرام والأعلام والإسكندرية، وما في صحارى الشرق والجبال المنحوتة التي جعلوا كنوزهم فيها، والأودية المنحوتة، ومثل ما بالصعيد من البرابي وما نقشوه عليها من حكمتهم، فلو تعاطى جميع ملوك الأرض أن يبنوا مثل الهرمين، ما تهيأ لهم، وكذلك أن ينقشوا بربا لطال بهم الأمد ولم يمكنهم.
وحكي عن قوم من البنائين في ضياع الغرب، أنّ عاملا عندهم عنف بهم، ففرّوا في صحراء الغرب، ومعهم زاد إلى أن تنصلح أحوالهم، ويرجعوا، فلما كانوا على مسيرة يوم وبعض آخر قدموا إلى سفح جبل، فوجدوا عيرا أهليا قد خرج من بعض الشعاب، فتبعه بعضهم، فانتهى إلى مساكن وأشجار، ونخل ومياه تطرد وقوم هناك يرعون، ولهم مساكن، وكلمهم وأعجب بهم، فجاء إلى أصحابه، وقدم بهم على أولئك القوم، فسألوهم عن حالهم فأخبروهم، وأقاموا عندهم حتى صلحت أحوالهم وخرجوا ليأتوا بأهاليهم ومواشيهم، ويقيموا عندهم، فساروا مدّة، وهم لا يعرفون الطريق، ولا يتأتى لهم العود فأسفوا على ما فاتهم.(1/433)
وضلّ آخرون عن الطريق في الغرب فوقعوا على مدينة عامرة كثيرة الناس، والمواشي والنخل والشجر، فأضافوهم وأطعموهم وسقوهم وباتوا في طاحونة، فسكروا من الشراب، وناموا فلم ينتبهوا إلا من حرّ الشمس، فإذا هم في مدينة خراب ليس فيها أحد، فخافوا، وخرجوا، وظلوا يومهم سائرين إلى المساء، فظهرت لهم مدينة أكبر من الأولى، وأعمر وأكثر أهلا، وشجرا ومواشي، فأنسوا بهم، وأخبروهم بخبر المدينة الأولى، فجعلوا يعجبون منهم، ويضحكون وانطلقوا بهم إلى وليمة لبعض أهل المدينة، فأكلوا وشربوا وعنوا بهم، حتى سكروا، فلما كان من الغد انتبهوا فإذا هم في مدينة عظيمة ليس فيها أحد وحولها نخل قد تساقط ثمره، وتكدّس، فخرجوا وهم يجدون ريح الشراب، ومبادي الخمار، فساروا يوما إلى المساء وإذا راع يرعى غنما، فسألوه عن الطريق؟ فدلهم، فساروا بعض يوم من الغد، فوصلوا مدينة الأشمونين بالصعيد.
قال: وهذه مدائن القوم الداخلة القديمة قد غلب عليها الجانّ، ومنها ما سترته عن العيون، فلا ينظر إليها أحد، وقال: إنّ البودسير بن قفطريم بن قبطيم بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام في أيامه بنيت بصحراء الغرب مناير ومنتزهات، وحوّل إليها جماعة من أهل بيته، فعمروا تلك النواحي، وبنوا فيها حتى صارت أرض الغرب عامرة كلها، وأقامت على ذلك مدّة كثيرة، فخالطهم البربر، ونكحوا منهم، ثم تحاسدوا، فكانت بينهم حروب خربت فيها تلك الجهات، وبادت إلا بقية منازل تسمى: الواحات.
ذكر مدينة سنتريّة «1»
ومدينة سنتريّة: من جملة الواحات بناها: مناقيوش باني مدينة إخميم، كان أحد ملوك القبط القدماء، قال ابن وصيف شاه: وكان في حزم أبيه، وحنكته تعظم في أعين أهل مصر، وهو أوّل من عمل الميدان وأمر أصحابه برياضة أنفسهم فيه.
وأوّل من عمل المارستان لعلاج المرضى، والزمنى، وأودعه العقاقير، ورتب فيه الأطباء، وأجرى عليهم ما يسعهم، وأقام الأمناء على ذلك، وصنع لنفسه عيدا، فكان الناس يجتمعون إليه فيه، وسماه عيد الملك في يوم من السنة، فيأكلون، ويشربون سبعة أيام، وهو مشرف عليهم من مجلس على عمد، قد طوّقت بالذهب، وألبست فاخر الثياب المنسوجة بالذهب، وعليه قبة مصفحة من داخل بالرخام والزجاج والذهب، وفي أيامه بنيت: سنترية في صحراء الواحات، عملها من حجر أبيض مربعة، وفي كل حائط باب في وسطه شارع(1/434)
إلى حائط محاذ له، وجعل في كل شارع يمنة ويسرة أبوابا تنتهي طرقاتها إلى داخل المدينة.
وفي وسط المدينة، ملعب يدور به من كل ناحية سبع درج، وعليه قبة من خشب مدهون على عمد عظيمة من رخام، وفي وسطه: منار من رخام عليه، صنم من صوّان أسود يدور مع الشمس بدورانها، وبسائر نواحي القبة، صورة معلقة تصفر، وتصيح بلغات مختلفة، فكان الملك يجلس على الدرجة العالية من الملعب، وحوله بنوه وأقاربه، وأبناء الملوك، وعلى الدرجة الثانية، رؤساء الكهنة والوزراء، والثالثة رؤساء الجيش، وعلى الرابعة الفلاسفة والمنجمون والأطباء وأرباب العلوم، وعلى الخامسة أصحاب العمارات، وعلى السادسة أصحاب المهن، وعلى السابعة العامّة.
فيقال: لكل صنف منهم انظروا إلى من دونكم، ولا تنظروا إلى من فوقكم لا تلحقونهم، وهذا ضرب من التأديب، وقتلته امرأته بسكين، فمات، وكان ملكه ستين سنة.
وسنترية الآن بلد صغير يسكنه نحو ستمائة رجل من البرّ يعرفون سيوة، ولغتهم تعرف بالسيوية تقرب من لغة زنانة، وبها حدائق نخل وأشجار من زيتون وتين وغير ذلك وكرم كثير، وبها الآن نحو العشرين عينا تسيح بماء عذب، ومسافتها من الإسكندرية أحد عشر يوما، ومن جيزة مصر أربعة عشر يوما وهي قرية يصيب أهلها الحمى كثيرا، وثمرها غاية في الجودة، وتعبث الجنّ بأهلها كثيرا، وتختطف من انفرد منهم، وتسمع الناس بها عزيف الجنّ!.
ذكر الواحات الخارجة
بناها أحد ملوك القبط الأول، ويقال له: البودسير بن قفطيم بن قبطيم بن مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام، قال ابن وصيف شاه: وأراد البودسير أن يسير مغرّبا لينظر إلى ما هنالك، فوقع على أرض واسعة متخرّقة بالمياه والعيون، كثيرة العشب، فبنى فيها مناير ومنتزهات، وأقام فيها جماعة من أهل بيته، فعمروا تلك النواحي، وبنوا فيها حتى صارت أرض الغرب عمارة كلها، وأقامت كذلك مدّة كثيرة، وخالطهم البربر، فنكح بعضهم من بعض، ثم إنهم تحاسدوا، وبغى بعضهم على بعض، فكانت بينهم حروب، فخرب ذلك البلد، وباد أهله إلا بقية منازل تسمى الواحات.
وقال المسعوديّ: وأما بلاد الواحات فهي بين بلاد مصر والإسكندرية وصعيد مصر والغرب وأرض الأحابش من النوبة وغيرهم، وبها أرض شبية وزاجية، وعيون حامضة، وغير ذلك من الطعوم.
وصاحب الواحات في وقتنا هذا، وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة، عبد الملك بن(1/435)
مروان، وهو رجل من لواتة إلا أنه مروانيّ الذهب، ويركب في آلاف من الناس خيلا ونجبا، وبينه وبين الأحابش نحو من ستة أيام، وكذلك بينه وبين سائر ما ذكرنا من العمائر هذا المقدار من المسافة، وفي أرضه خواص وعجائب، وهو بلد قائم بنفسه غير متصل بغيره، ولا يفتقر إليه، ويحمل من أرضه التمر والزبيب والعناب.
وحدّثني وكيل أبي الشيخ المعز حسام الدين عمرو بن محمد بن زنكي الشهرزوري:
أنه سمع ببلاد الواحات، أنّ فيها شجرة تاريخ يقطف منها في سنة واحدة أربعة عشر ألف حبة نارنج صفراء، سوى ما يتناثر، وسوى ما هو أخضر، فلم أصدّق ذلك لغرابته، وقمت حتى شاهدت الشجرة المذكورة، فإذا هي كأعظم ما يكون من شجر الجميز بمصر وأكبر، وسألت مستوفي البلد عنها، فأحضر إليّ جرائد حسباناته وتصفحها حتى أوقفني على أن منها في سنة كذا قطف من النارنجة اللانية، أربعة عشر ألف حبة نارنج مستوية صفراء، سوى ما بقي عليها من الأخضر، وسوى ما تناثر منها وهو صغير.
وبالواحات الشبّ الأبيض بواد تجاه مدينة أدفو «1» كان في زمن الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر، وفي زمن ابنه الصالح نجم الدين أيوب على مقطعي الواحات حمل ألف قنطار شب أبيض في كل سنة إلى القاهرة، ويطلق لهم في نظير ذلك جوالي الواحات، ثم أهمل هذا فبطل.
وفي سنة تسع وثلاثين وثلثمائة، سار ملك النوبة في جيش عظيم إلى الواحات، فأوقع بأهلها، وقتل منها، وأسر كثيرا.
ذكر مدينة قوص
اعلم: أنّ قوص أعظم مدائن الصعيد، وهي على النيل بنيت بعد قفط في أيام ملك من ملوك القبط الأول يقال له: سدان بن عديم بن البودسير بن قفطريم.
قيل: سميت باسم قوص بن قفط بن أخميم بن سيفاف بن أشمن بن مصر، قال ابن وصيف شاه: سدان بن عديم، هو الذي بنى الأهرام الدهشورية من الحجارة التي قطعت في زمان أبيه، وعمل مصاحف النيرنجات، وهيكل أرمنت، وعمل في المدائن الداخلة من أنصنا هيكلا، وأقام فيه في أتريب، وهيكلا في شرقيّ الإسكندرية، وبنى في الجانب الشرقيّ مدائن، وفي أيامه بنيت قوص العالية، وأسكن فيها قوما من أهل الحكمة، وأهل الصناعات، وكان الحبش والسودان، قد عاثوا في بلده، فأخرج لهم، ابنه منقاوش في جيش عظيم، فقتل منهم، وسبى، واستعبد الذين سباهم، وصار ذلك سبّة لهم، واقتطع معدن(1/436)
الذهب من أرضهم، وأقام ذلك السبي يعملون فيه، ويحملون الذهب إليه، وهو أوّل من أحب الصيد، واتخذ الجوارح، وولد الكلاب السلوقية من الذئاب والكلاب الأهلية، وعمل من العجائب والطلسمات لكل فنّ ما لا يحصى كثرة.
وقال الأدفويّ في تاريخ الصعيد: وقوص بجانب قفط، حكى بعض المؤرخين: أنها شرعت في العمارة، وشرعت قفط في الخراب من سنة أربعمائة.
قيل: إنه حضر مرّة قاضي قوص، فخرج من أسوان أربعمائة راكب بغلة إلى لقائه.
وفي شهر رمضان سنة اثنتين وستين وستمائة، أحضر إلى الملك الظاهر بيبرس فلوس، وجدت مدفونة بقوص، فأخذ منها فلس، فإذا على أحد وجهيه، صورة ملك واقف، وفي يده اليمنى ميزان، وفي اليسرى سيف، وعلى الوجه الآخر رأس فيه أذن كبيرة، وعين مفتوحة، وبدائر الفلس، كتابة، فقرأها راهب يونانيّ، فكان تاريخه، إلى وقت قراءته، ألفين وثلثمائة سنة، وفيه أنا غلياث الملك ميزان العدل والكرم في يميني لمن أطاع، والسيف في يساري لمن عصى، وفي الوجه الآخر، أنا غلياث الملك، أذني مفتوحة لسماع المظلوم، وعيني مفتوحة أنظر بها مصالح ملكي.
وقوص، كثيرة العقارب والسام أبرص، وبها صنف من العقارب القتالات، حتى إنه كان يقال بها أكلة العقرب لأنه كان لا يرجى لمن لسعته حياة، واجتمع بها مرّة في يوم صائف على حائط الجامع سبعون سام أبرص صفا واحدا، وكان الواحد من أهلها إذا مشى في الصيف ليلا خارج داره، يأخذ بإحدى يديه مسرجة تضيء له، وبالأخرى مشك من حديد يشك به العقارب، ثم إنها تلاشت بعد سنة ثمانمائة.
فلما كانت الحوادث والمحن، مات بها سبعة عشر ألف إنسان في سنة ست وثمانمائة، وكانت من العمارة بحيث إنه تعطل منها في شراقي البلاد سنة ست وسبعين وسبعمائة، مائة وخمسون مغلقا، والمغلق عندهم بستان من عشرين فدّانا فصاعدا، وله ساقية بأربعة وجوه، وذلك سوى ما تعطل مما هو دون ذلك، وهو كثير جدّا.
ذكر مدينة أسنا «1»
قال الأدفويّ: وذكر أنّ أسنا في سنة حصل منها، أربعون ألف إردب تمر، واثنا عشر ألف إردب زبيب، وأسنا تشمل على ما يقارب ثلاثة عشر ألف منزل، وقيل: إنه كان بها في وقت سبعون شاعرا.(1/437)
ذكر مدينة أدفو
ومدينة أدفو يقال بالدال المهملة، ويقال أيضا بالتاء المثناة من فوق. قال الأدفويّ:
أخبرني الخطيب العدل أبو بكر خطيب أدفو: أن جمارة طرحت، ثلاثة شماريخ في كل شمروخ تمرة واحدة، وأنه قلع الجمارة بأصلها، ووزنها فجاءت خمسة وعشرين درهما، كلها بجريدها وخشبها، وذلك بأدفو.
ولما كان بعد سنة سبعمائة، حفر صناع الطوب، فظهرت صورة شخص من حجر شكل امرأة متربعة على كرسيّ، وعليها مثال شبكة، وفي ظهرها لوح مكتوب بالقلم اليونانيّ، رأيتها على هذه الحالة في مدينة أدفو.
إهناس «1»
هي كورة من كور الصعيد يقال: إنّ عيسى ابن مريم عليه السلام، ولد بها، وإن نخلة مريم عليها السلام التي ذكرت في قوله تعالى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا
[مريم/ 25] لم تزل بها إلى آخر أيام بني أمية، والذي عليه الجماهرة أنّ عيسى عليه السلام إنما ولد بقرية بيت لحم من مدينة بيت المقدس وبإهناس شجر البنج.
ذكر مدينة البهنسا «2»
هذه المدينة في جهة الغرب من النيل بها تعمل الستور البهنسية، وينسج المطرّز والمقاطع السلطانية، والمضارب الكبار، والثياب المحبرة، وكان يعمل بها من الستور، ما يبلغ طول الستر الواحد ثلاثين ذراعا، وقيمة الزوج مائتا مثقال ذهب، وإذا صنع بها شيء من الستور والأكسية، والثياب من الصوف أو القطن، فلا بدّ أن يكون فيها اسم المتخذ له مكتوبا على ذلك مضوا جيلا بعد جيل.
وقبط مصر، مجمعون على أنّ المسيح وأمّه مريم كانا بالبهنسا، ثم انتقلا عنها إلى القدس.
وقال بعض المفسرين في قوله تعالى عن المسيح وأمّه: وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ
[المؤمنون/ 50] ، الربوة، البهنسا، وهذه المدينة بناها ملك من القبط يقال له:
مناوش بن منقاوش.(1/438)
قال ابن وصيف شاه: واستخلف مناوش الملك فطلب الحكمة مثل أبيه، واستخرج كتبها، وأكرم أهلها، وبذل فيهم الجوائز، وطلب الأغراب في عمل العجائب، وكان كل من ملوكهم يجهد جهده في أن يعمل له غريبة من الأعمال لم تعمل لمن كان قبله، وثبت في كتبهم، وزبر على الحجارة في تواريخهم.
وهو أوّل من عبد البقر من أهل مصر، وكان السبب في ذلك أنه اعتلّ، علة يئس منه فيها، فرأى في منامه صورة روحانيّ عظيم، يقول له: إنه لا يخرجك من علتك إلا عبادتك البقر، لأنّ الطالع كان وقت حلولها بك صورة ثور بقرنين، ففعل ذلك، وأمر بأخذ ثور أبلق حسن الصورة، وعمل له مجلسا في قصره، وسقفه بقبة مذهبة، فكان ينجره، ويطيب موضعه، وكل به سائسا يقوم به، ويكنس تحته، ويعبد سرا من أهل مملكته، فبرأ من علته.
وهو أوّل من عمل العجل في علته، فكان يركب عليها البيوت من فوقها قباب الخشب، وعمل ذلك من أحب من نسائه، وخدمه إلى المواضع، والمنتزهات، وكان البقر يجرّه، فإذا مرّ بمكان نزهة أقام فيه وإذا مرّ بمكان خراب أمر بعمارته، فيقال: إنه نظر إلى ثور من البقر الذي يجرّ عجلته أبلق حسن الشية، فأمر بترفيهه، وسوقه بين يديه إعجابا به، وجعل عليه جلا من ديباج، فلما كان في يوم وقد خلا في موضع صار إليه، وقد انفرد عن عبيده وخدمه، والثور قائم إذ خاطبه الثور، وقال له: لو رفهني الملك عن السير معه، وجعلني في هيكل وعبدني، وأمر أهل مملكته بعبادتي، كفيته جميع ما يريد، وعاونته على أمره، وقوّيته في مملكته، وأزلت عنه جميع علله، فارتاع لذلك، وأمر بالثور، فغسل وطيب، وأدخل في هيكل، وأمر بعبادته، فأقام ذلك الثور يعبد مدّة، وصار فيه آية وهو أنه لا يبول ولا يروث ولا يأكل إلا أطراف ورق القصب الأخضر في كل شهر مرّة، فافتتن الناس به، وصار ذلك أصلا لعبادة البقر، وبنى مواضع كنز فيها كنوزا، وأقام عليها أعلاما، وبنى في صحراء الغرب مدينة يقال لها ديماس وأقام فيها منارا، ودفن حولها كنوزا.
ويقال: إن هذه المدينة قائمة، وإنّ قوما، جازوا بها من نواحي الغرب، وقد ضلوا الطريق، فسمعوا بها، عزيف الجنّ، ورأوا ضوءا يتراءى بها، وفي بعض كتبهم أنّ ذلك الثور بعد مدّة من عبادتهم له، أمرهم أن يعملوا صورته من ذهب أجوف، ويؤخذ من رأسه شعرات، ومن ذنبه ومن نحاتة قرونه وأظلافه، ويجعل في التمثال المذكور، وعرّفهم أنه يلحق بعالمه، وأمرهم أن يجعلوا جسده في جرن من حجر أحمر، ويدفن في الهيكل، وينصب تمثاله عليه، وزحل في شرفه، والشمس تنظر إليه من تثليث القمر زائد النور، وينقش على التمثال علامات الكواكب السبعة، ففعلوا ذلك، وكلّلوه بجميع الأصناف من الجواهر، وجعلوا عينيه جزعتين، وغرسوا في الهيكل عليه شجرة بعد ما دفنوه في الجرن الأحمر، وبنوا منارا طوله ثمانون ذراعا على رأسه قبة تتلوّن كل يوم لونا، حتى تمضي سبعة(1/439)
أيام، ثم تعود إلى اللون الأوّل، وكسوا الهيكل ألوان الثياب، وشقوا نهرا من النيل إلى الهيكل، وجعل حوله طلسمات رؤوسها رؤوس القرود على أبدان اناس، كل واحد منها لدفع مضرّة، وجلب منفعة، وأقام عند الهيكل، أربعة أصنام على أربعة أبواب، ودفن تحت كل صنم صنفا من الكنوز، وكتب عليها قربانها، وبخورها وأسكنها الشجرة، فكانت تعرف بمدينة الشجرة، ومنها كانت أصناف الشجر تخرج وهو أوّل من عمل النيروز بمصر، وفي زمانه بنيت البهنسا، وأقم بها أسطوانات وجعل فيما فوقها مجلسا من زجاج أصفر عليه قبة مذهبة إذا طلعت الشمس ألقت شعاعها على المدينة.
ويقال: إنه ملكهم ثمانمائة وثلاثين سنة، ودفن في أحد الأهرام الصغار القبلية، وقيل: في غربيّ الأشمونين، ودفن معه من المال والجواهر والعجائب شيء كثير، وأصناف الكواكب السبعة التي يرى الدفين والحية، وألف سرج ذهبا وفضة، وعشرة آلاف جام وغضار من ذهب وفضة وزجاج، وألف عقاقير لفنون الأعمال، وزبروا عليه اسمه ومدّة ملكه، ووقت موته.
وفي سنة أربع وثلاثين وسبعمائة، ظهر بالأشمونين في واد بين جبلين، فساقي «1» مربعة مملوءة ماء عذبا صافيا، فمشى شخص على حافتها طول يوم وليلة، فلم يبلغ آخرها.
ويقال: إنها من عمل سوريد باني الأهرام لتكون عدّة لما كانوا قد توقعوه من حدوث طوفان ناريّ، فردم هذا الوادي بعد ذلك خوفا من تلاف الناس.
يقول الشيخ الإمام محمد بن أحمد الغريانيّ: حدّثني عليّ بن حسن بن خالد الشعريّ، ثلاث مرّات لم يختلف قوله عليّ فيها، قال: حدّثني رجل من فزارة، الساكنين بكورة البهنسا قال: خرجت أنا ورجل رفيق لي نرتاد البلاد، ونطلب الرزق في الأرض، وذلك بعد سنة عشر وثمانمائة، فقطعنا الجبل الغربيّ من ناحية البهنسا، وسرنا متوكلين على الله تعالى، فأقمنا أياما، ونحن نمشي ما بين الغرب والجنوب، فوقعنا في واد كثير الشجر والنبات والماء والكلأ ليس فيه أنيس، وهو واد واسع في الطول والعرض، نحو يوم في الطول، ويوم في العرض، كله أعين وبساتين نخل وزيتون كثير الإبل والمعز، والذئب والضبع به كثير، والإبل به متوحشة، وكذلك المعز قد صارت به وحشية بعد أن كانت آنسة به، وليس بالوادي لا رائح، ولا غاد من الناس قال: فأخبرني أنهما أقاما بالوادي نحوا من شهرين أو ثلاثة، وإنهما رأيا في وسط الوادي، مدينة حصينة منيعة عالية السور شامخة القصور فإذا تقرّبا من سورها سمعا ضجيجا عظيما، وأصواتا مهولة مخوفة، ورأيا دخانا يرتفع إلى جوّ السماء، حتى يغطي سور المدينة، وجميع ما فيها، وإنّ تلك الإبل الوحشية(1/440)
عدت على رواحلهما الإنسية، فآذتها، وقتلتها فتحيل عند ذلك الرجلان الفزاريان بحيل، وفتلا حبالا وأشراكا شباكا من ليف النخل، وقيدا تلك الإبل الوحشية، وفتلا خوصا، وضفرا قفاصا من الخوص لزادهما، وملآها تمرا، وزللا من تلك الإبل الوحشية مكان رواحلهما عوضا عنها، وركباها متوجهين نحو الشرق، وحملا معهما من الجريد أعني جريد النخل ما يعرفان به الطريق التي بينهما وبينها، ويجعلان ذلك أمارات لمرورهما إليها، فكانا كلما مرّا على شرف جعلا عليه، جريدتين علما، حتى وصلا إلى الجبل الغربيّ من مصر، فنزلا إلى البهنسا، فعرّفا قومهما، وتحملا بأهاليهما، فلما علوا سطح الجبل الغربيّ، وجدا كلّ ما فرقاه من جريد النخل على رؤوس الآكام مجتمعا في مكان واحد في أعلى الجبل، فرجعا عند ذلك لأهاليهما، ومن معهم إلى أرض البهنسا، وهذا ما حدّثني به، والله أعلم.
ذكر مدينة الأشمونين
كانت من أعظم مدن الصعيد، يقال: إنها من بناء أشمون بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام.
وقال ابن وصيف شاه: كان أشمون أعدل ولد أبيه، وأرغبهم في صنعة تبقى، ويبقى ذكرها، وهو الذي بنى المجالس المصفحة بالزجاج الملوّن وسط النيل، وتقول القبط: إنه بنى سربا تحت الأرض من الأشمونين إلى أنصنا تحت النيل، وقيل: إنه حفره، وعمله لبناته لأنهنّ كنّ يمضين إلى هيكل الشمس، وكان هذا السرب مبلط الأرض والحيطان والسقف بالزجاج الثخين الملوّن.
وقيل: إنّ أشمون كان أطول إخوته ملكا.
وقال أهل الأثر: إنه ملك ثمانمائة سنة، وإنّ قوم عاد انتزعوا منه الملك بعد ستمائة من ملكه، وأقاموا تسعين سنة واستولوا على البلد، فانتقلوا إلى الدثنية «1» من طريق الحجاز إلى وادي القرى، فعمروها، واتخذوا بها المنازل، والمصانع وسلط الله عليهم الذر، فأهلكهم، وعاد ملك مصر إلى أشموم.
ويقال: إنه عمل على باب الأشمونين أوزة من نحاس، فكان الغريب إذا جاء ليدخل المدينة، صاحت الأوزة وصفقت بجناحيها، فيعلم به فإن أحبوا منعوه، وإن أحبوا تركوه، وكثرت الحيات في وقته، فكانوا يصيدونها، ويعملون من لحومها، أدوية وترياقات، ثم ساقوها بسحرهم إلى وادي الحيات في جبال لوبية ومراقية، فسجنوها هناك.
وقال في كتاب هروشيش: إنّ أشمون بن قبط أوّل ملوك المصريين، وإنّه كان في(1/441)
زمان شاروح بن راغو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، وإن سنيّ الدنيا صارت إلى زمان شاروح، ألفين وتسعمائة وخمس سنين يكون ذلك بعد الطوفان بستمائة وثلاث وستين سنة، وبها كانت فرهة الخيل، والبغال والحمير، وكان يعمل بها فرش القرمز الذي يشبه الأرمني.
وكان ينزل بأرض الأشمونين عدّة بطون من بني جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وكانوا بادية أصحاب شوكة، وكان معهم بنو مسلمة بن عبد الملك بن مروان خلفاء لهم، ومعهم بطن آخر يقال لهم: إنّ أباهم كان مولى لعبد الملك بن مروان، ويزعمون أنهم من بني أمية صلبية، وكان معهم أيضا حلفاء لهم بنو خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ينزلون، أرض دلجة عند أشمون.
ذكر مدينة إخميم
ضبطها البكري «1» : بكسر الهمزة، وإسكان الخاء، ثم ميم وياء وميم على بناء إفعيل، وهي في الجانب الشرقيّ من النيل، والذي بناها مناقيوش أحد ملوك القبط الأول.
قال ابن وصيف شاه: كان جلدا محتكما، فاستأنف العمارة وبنى القرى، ونصب الأعلام، وجمع الحكم، ومصاحف الملوك والحكماء، وعمل العجائب، وبنى لنفسه مدينة انفرد بها، وعمل عليها حصنا، ونصب عليه أربعة أعلام في كل ركن من أركانه علم، وبين تلك الأعلام ثمانون صنما من نحاس، وأخلاط في أيديهما السلاح، وزبر على صدرها آياتها.
وكان بمنف رجل من أولاد الكهنة من أعلم الناس بالسحر، وأبصرهم بأخذ التماسيح والسباع، وكان يعلم الغلمان السحر، فإذا حذقوا علّم غيرهم، فأمر الملك أن يبني له مدينة، ويحوّل إليها وهي إخميم، فملكهم مناقيوش نيفا وأربعين سنة ومات، فدفن في الهرم المحاذي لأطفيح، ومعه شيء كثير من المال والجوهر والآنية والتماثيل، وزبر عليه اسمه، والوقت الذي هلك فيه، قال: وذكر أهل إخميم: أنّ رجلا أتى من الشرق وكان يلزم البربا، ويأتي إليه كل يوم ببخور، وخلوق فيبخر، ويطيب صورة في عضادة الباب، فيجد تحتها دينارا، فيأخذه، وينصرف ففعل ذلك مدّة حتى وشى به غلام له إلى عامل البلد، فقبض عليه، فبذل مالا وخرج عن البلد.
وكانت بربا إخميم من أعجب البرابي، وأعظمها قد بنيت لخزن برّهم فإنهم قضوا على أهل مصر بالطوفان قبل وقته بقرائن، لكنهم اختلفوا فيه، فقال بعضهم: تكون نار(1/442)
فتحرق ماء على جميع وجه الأرض، وقال آخرون: بل يكون ماء، فعملوا هذه البرابي قبل الطوفان، وكان في هذه البربا صور الملوك الذين يملكون مصر، وكانت مبنية بحجر المرمر، وطول كل حجر منها، خمسة أذرع في سمك ذراعين، وهي سبعة دهاليز سقوفها حجارة طول الحجر منها ثمانية عشر ذراعا في عرض خمسة أذرع مدهونة باللازورد، وغيره من الأصباغ التي يحسبها الناظر، كأنما فرغ الدّهان منها الآن لجدتها، وكان كل دهليز منها على اسم كوكب من الكواكب السبعة السيارة، وجدران هذه الدهاليز منقوشة بصور مختلفة الهيئات والمقادير، فيها رموز علوم القبط من الكيمياء، والسيمياء، والطلسمات، والطب والنجوم، والهندسة وغير ذلك، أودعوها تلك الصور.
وذكر ابن جبير في رحلته: أنّ طول هذه البربا مائتا وعشرون ذراعا، وسعتها مائة وسبعون ذراعا، وأنها قائمة على أربعين، سارية سوى الحيطان دور كل سارية خمسون شبرا، وبين كل ساريتين ثلاثون شبرا، ورؤوسها في نهاية العظم كلها منقشة من أسفلها إلى أعلاها، ومن رأس كل سارية إلى الأخرى لوح عظيم من الحجر المنحوت، فيها ما ذرعه ستة وخمسون شبرا طولا في عرض عشرة أشبار، وارتفاع ثمانية أشبار، وسطحها من ألواح الحجارة كأنها فرش واحد فيه التصاوير البديعة، والأصبغة الغربية كهيئة الطيور والآدميين، وغير ذلك في داخلها وخارجها، وعرض حائط البربا ثمانية عشر شبرا من حجارة مرصوصة، كذا قاسها ابن جبير في سنة ثمان وسبعين وخمسمائة.
ويقال: إنّ ذا النون عرف منها، علم الكيمياء، وما زالت هذه البربا قائمة إلى سنة ثمانين وسبعمائة، فخرّبها رجل من أهل إخميم يعرف: بالخطيب كمال الدين بن بكر الخطيب علم الدين عليّ، ونال منها مالا، فلم تطل حياته، ومات، ومن حينئذ تلاشى أمر إخميم إلى أن خربت، وقد ذكر جماعة أنّ بربا إخميم كانت في هيئة غلام أمرد عريان، وإنّ قوما دخلوها مرّة فتبعهم، وأخذ يضربهم ضربا وجيعا، حتى خرجوا هاربين، وحكى مثل ذلك عمن دخل الأهرام أيضا.
وقد حكي أنّ رجلا ألصق على صورة من بربا إخميم شمعة، فكان إذا تركها في موضع التجأت العقارب إليها، وإذا وضع الشمعة في تابوت اجتمعت العقارب حوله.
ويقال: إنه كان في بربا إخميم شيطان قائم على رجل واحدة، وله يد واحدة، وقد رفعها إلى الهواء، وفي جبهته وحواليه كتابة، وله إحليل ظاهر ملتصق بالحائط، وكان يذكر أنّ من احتال، حتى ينقب على ذلك الإحليل حتى يخرجه، من غير أن ينكسر، ويعلقه على وسطه، فإنه لا يزال منغطا إلى أن ينزعه، ويجامع ما أحب، ولا يفتر ما دام معلقا عليه، وإنّ بعض من ولي إخميم اقتلعه، فوجد منه شيئا عجيبا من ذلك، وكانت الأنطاع تجلب من إخميم، وبها تعمل.(1/443)
ويقال: إنه كان بها اثنا عشر ألف عريف على السحرة، وكان بها شجر البنج، ويقال:
إنّ الذي بنى بربا إخميم اسمه دومريا، وإنه جعل هذه البربا مثلا للأمم الآتية بعده، وكتب فيها تواريخ الأمم والأجيال ومفاخرهم التي يفتخرون بها، وصوّر فيها الأنبياء والحكماء، وكتب فيها من يأتي من الملوك إلى آخر الدهر، وكان بناؤه إياها والنسر برأس الحمل، والنسر يقيم عندهم في كل برج ثلاثة آلاف سنة.
قلت: والنسر في زماننا بآخر باب برج الجدي، فيكون على ذلك لهذه البربا منذ بنيت نحو الثلاثين ألف سنة.
وذكر أبو عبد الله محمد بن عبد الرحيم القيسيّ «1» في كتاب تحفة الألباب: أن هذه البربا مربعة من حجارة منحوتة، ولها أربعة أبواب يفضي كل باب إلى بيت له أربعة أبواب كلها مظلمة، ويصعد منها إلى بيوت كالغرف على قدرها.
ذكر مدينة العقاب
قال المسعوديّ: مدينة العقاب غربيّ أهرام أبو صير بالجيزة على مسيرة خمسة أيام بلياليها للراكب المجدّ، وقد عوّر طريقها، وعمي المسلك إليها، والسمت الذي يؤدّي نحوها، وفيها عجائب البنيان والجواهر، والأموال.
وقال ابن وصيف شاه: وكان الوليد بن دومع العمليقيّ، قد خرج في جيش كثيف يتنقل في البلدان، ويقهر ملوكها، فلما صار بالشام، وجه غلاما له يقال له: عون، فسار إلى مصر، وفتحها، ثم سار، فتلقاه عون ودخل مصر، فاستباح أهلها.
ثم سنح له أن يقف على مصب النيل، فخرج في جيش كثيف، واستخلف عونا على مصر، وأقام في غيبته أربعين سنة، وإنّ عونا بعد سبع سنين من مسيرة تجبر، وادّعى أنه الملك، وأنكر أن يكون غلام الوليد وإنما هو أخوه، وغلب بالسحر، وسبى الحرائر فمال الناس إليه، ولم يدع امرأة من بنات ملوك مصر، إلا نكحها، ولا مالا إلا أخذه وقتل صاحبه، وهو مع ذلك يكرم الكهنة، ويعظم الهياكل، فاتفق أنه رأى الوليد في منامه، وهو يقول له: من أمرك أن تتسمى باسم الملك؟ وقد علمت أنه من فعل ذلك استحق القتل، ونكحت بنات الملوك، وأخذت الأموال بغير واجب، ثم أمر بقدر ملئت زيتا، وأحميت حتى غلت، ونزع ثيابه ليلقيه فيها، فأتاه عقاب، فاختطفه، وحلق به في الجوّ، وجعله في هوّة على رأس جبل، فسقط إلى واد فيه حمأة منتنة، فانتبه مرعوبا، وقص ذلك على كهنته، فقالوا: نحن نخلصك منه بأن تعمل عقابا وتعبده، فإنه الذي خلصك في نومك، فقال:(1/444)
أشهد لقد قال لي: إعرف لي هذا المقام، ولا تنسه، فعمل عقابا من ذهب، وجعل عينيه جوهرتين، ووشحه بالجوهر، وعمل له هيكلا لطيفا، وأرخى عليه ستور الحرير، وأقبلوا على تبخيره وقربانه، حتى نطق لهم، فأقبل عون على عبادته، ودعا الناس إلى ذلك، فأجابوه، ثم أمر فجمع له كل صانع بمصر، وأخرج أصحابه إلى صحراء الغرب لطلب أرض سهلة حسنة الاستواء يدخل إليها من مواضع صعبة، وجبال وعرة بحيث تقرب من مغيض الماء التي هي اليوم: الفيوم، وكانت مغيضا لماء النيل، حتى أصلحها يوسف عليه السلام ليجري الماء منها إلى المدينة، فخرجوا، وأقاموا شهرا يطوفون حتى وجدوا بغيته، فلم يبق بمصر فاعل، ولا مهندس، ولا أحد له بصر بالبناء، وقطع الصخور، ونحتها، إلّا وجّه إليها، وأنفذ ألف رجل من الجيش، وسبعمائة ساحر لمعاونتهم، وأنفذ معهم الآلات والأزواد على العجل وطريق هذه العجل إلى الفيوم في صحراء الغرب واضحة من خلف الأهرام.
فلما تكامل له ما أراد من نحت الحجارة، خطوا المدينة فرسخين في مثلهما، وحفروا في الوسط بئرا جعلوا فيها تمثال خنزير من نحاس بأخلاط، ونصبوه على قاعدة نحاس، ووجهه إلى الشرق، وذلك بطالع بيت زحل واستقامته وسلامته، وكان في شرفه، وذبحوا خنزيرا، ولطخوا التمثال بدمه في وجهه، وبخروه بشيء من شعره، وحشوا جوفه بدمه، وشعره وعظامه ولحمه ومرارته، وجعلوا في أذنيه من مرارته، وحرّقوا بقية الخنزير، وجعلوا رماده في قلة من نحاس بين يدي التمثال، ونقشوه بآيات زحل، ثم شقوا في البئر من الجهات الأربع في كل جهة، سربا إلى حيطان المدينة، وعملوا على أفواهها منافس تجذب الهواء، وسدّوا البئر من الجهات الأربع قبة على عمد مرتفعة على حيطان المدينة، وجعلوا فيها شوارع يتصل كل شارع بباب من أبواب المدينة، وفصلوها بالطرقات والمنازل، وجعلوا حول القبة تماثيل فرسان من نحاس بأيديهما حراب، ووجوهها تجاه الأبواب، وجعلوا أساس المدينة من حجر أسود، فوقه حجر أحمر، عليه حجر أصفر، من فوقه حجر أخضر، وفوق الجميع حجر أبيض يشف، وكلها مبنية بالرصاص المصبوب بين الحجارة، وفي قلوبها أعمدة من حديد على بناء الأهرام، وجعلوا طول حصنها ستين ذراعا في عرض عشرين، وعلى رأس كل باب حصن بأعلاه، عقاب كبير من صفر وأخلاط، قد نشر جناحيه، وهو أجوف، وعلى كل ركن فارس بيده حربة، ووجهه إلى خارج المدينة، وساق الماء إلى الباب الشرقيّ ينحدر في صبه إلى الباب الغربيّ، ويخرج إلى صهاريج، وكذلك من الباب الجنوبيّ إلى الشماليّ، وقرّب للعقاب، عقبانا ذكورا، واجتلب الرياح إلى أفواه التماثيل، فصار يسمع لها أصوات هائلة، ووكل بها أرواحا تمنع الداخل إليها، إلا أن يكون من أهلها.
ونصب العقاب الذي يتعبد له تحت القبة في وسط المدينة على قاعدة بأربعة أركان(1/445)
على كل ركن، وجه شيطان، وجعلها على عمود يديرها، فكان العقاب يدور إلى الجهات، فيقيم في كل جهة ربع السنة، فلما تمّ ذلك نقل إلى المدينة الأموال والجواهر التي بمصر من عهد الملوك، والتماثيل والحكم، وتراب الفضة والعقاقير والسلاح، وحوّل إليها كبار السحرة والكهنة، وأصحاب الصنائع، والتجار وقسم المساكن بينهم، فلا يختلط أهل صناعة بسواهم وعمل بها ربضا «1» لأصحاب المهن والزراعة، وعقد على تلك الأنهار قناطر يمشي عليها الداخل إلى المدينة، وجعل الماء يدور حول الربض، ونصب عليها أعلاما وحرسا، ثم غرس وراء ذلك مما يتصل بالبرية النخل والكرم، وجميع أصناف الشجر على أقسام مقسومة، ومن وراء ذلك كله مزارع الغلات من كل جهة، كل ذلك خوفا من الوليد.
قال: وبين هذه المدينة، وبين منف ثلاثة أيام، وكان يقيم فيها ويخرج إليها، ثم يعود إلى منف وكان لها أربعة أعياد في السنة، وهي: الأوقات التي يتحوّل العقاب فيها، فلما تمّ لعون ذلك، اطمأنّ قلبه، إلى أن وافى إليه كتاب الوليد من النوبة يأمره بحمل الأزواد، ونصب الأسواق، فوجه إليه في البرّ والبحر، بما أراد وحوّل أهله ومن اصطفاه من بنات الملوك والكبراء إلى المدينة.
فلما قرب الوليد، خرج إليها وتحصن فيها، واستخلف على منف، فقدم الوليد، وقد سمع ما فعله عون، فغضب، وهمّ أن يبعث إليه جيشا، فعرّف بخبر المدينة ومنعتها، وخبر السحرة، فكتب إليه أن يقدم عليه، ويحذره عاقبة التخلف، فأجابه ما على الملك مني مؤنة ولا تعرّض، ولا عيب في بلده لأني عبده، وأنا له ردء في هذا المكان من كل عدوّ يأتيه من الغرب، ولا أقدر على المسير إليه لخوفي منه، فليقرّني الملك بحالي كأحد عماله، وأوجه إليه ما يلزمني من خراجه وهداياه، وبعث إليه بأموال جليلة، وجوهر نفيس، فكف عنه، وأقام الوليد بمصر حتى مات.
ذكر مدينة الفيوم «2»
اعلم: أن موضع الفيوم كان مغيض ماء النيل، فلما ولي السيد يوسف الصدّيق عليه السلام تدبير، أمور مصر عمّرها. قال ابن وصيف شاه: ثم ملك الريان بن الوليد، وهو فرعون وسف، والقبط تسميه: نهر أوش، فجلس على سرير الملك، وكان عظيم الخلق جميل الوجه عاقلا متمكنا، فوعد بالجميل، وأسقط عن الناس خراج ثلاث سنين، وفرّق المال في الخاص والعامّ.(1/446)
وملك على البلد رجلا من أهل بيته يقال له: أطفين، وهو الذي يسميه أهل الأثر العزيز فأمر أن ينصب له في قصر الملك سرير من فضة يجلس عليه، ويغدو فيه، ويروح إلى باب الملك، ويخرج العمال والكتاب بين يديه، فكفى نهراوش، ما خلف ستره، وقام بجميع أموره، وخلاه للذته، فانغمس نهر أوش في لهوه، ولم ينظر في عمل، ولا ظهر للناس حينا، والبلد عامر، وهو لا يسأل عن شيء، وعمل له مجالس من زجاج ملوّن، وحولها ماء فيه أسماك مفرطة وبلور ملوّن، فكان إذا وقعت عليه الشمس، ظهر له شعاع عجيب، وعملت له عدّة منتزهات على عدد أيام السنة، فكان كل يوم في موضع منها، وعمل له في كل موضع من الآنية والفرش ما ليس لغيره، فاتصل بملوك النواحي تشاغله بلذاته، وتدبير أطفين.
فسار ملك من العماليق يقال له: أبو قابوس عاكر بن ينحوم إلى مصر، ونزل على حدودها، فجهز إليه العزيز جيشا عليه قائد يقال له: بريانس، فأقام يحاربه ثلاث سنين، فظفر به العمليقيّ وقتله، وهدم الأعلام والمصانع، وقوي طعمه في البلد، فاجتمع الناس إلى قصر الملك، واستغاثوا، فخرج إليهم وعرض جيوشه، وخرج في ستمائة ألف مقاتل سوى الأتباع، فالتقوا من وراء الحوف، وكان بينهما قتال شديد، فانهزم العمليقيّ، وتبعه نهراوش إلى حدّ الشام، وقتل خلقا من أصحابه، وأفسد زروعهم، وأشجارهم، وحرّق وصلب، ونصب أعلاما على الأماكن التي وصلها وزبر عليها، أنى لمن تجاوز هذا المكان بالمرصاد.
وقيل: إنه بلغ الموصل، وضرب على أهل الشام خراجا، وبنى عند العريش مدينة لطيفة، وشحنها بالرجال، ورجع إلى مصر، فحشد من جميع الأعمال جنودا، واستعدّ لغزو ملك الغرب، وخرج في سبعمائة ألف، فمرّ بأرض البربر، وأجلى كثيرا منها، وجهز قائدا في السفن من ناحية رقودة إلى جزائر بني يافث، فعاث فيها، وخرج من ناحية أرض البربر، فقتل وصالح بعضهم على مال حملوه إليه، ومضى إلى إفريقية وقرطاجنة، فصالحوه على مال، ومرّ حتى بلغ مصب البحر الأخضر إلى بحر الروم، وهو موضع أصنام النحاس، فأقام هناك صنما زبر عليه، اسمه، وتاريخ خروجه، وضرب على أهل تلك النواحي الخراج، وعدّى إلى الأرض الكبيرة.
وسار إلى الأندلس، فحاربه ملكها أياما، ثم صالحه على مال وأن يمنع من يغزو مصر من ناحيته، وانصرف على غير البحر مشرّقا في بلاد البربر، فلم يمرّ بأمّه إلا ودخلت في طاعته، ومرّ في الجنوب، فقتل خلقا وبعث قائدا إلى مدينة على البحر الأسود، فخرج إليه ملكها، وذكر له حال الريان ومصالحة الملوك له، فقال: ما بلغنا أحد قط، وسأله القائد عن البحر هل ركبه أحد قط؟ فقال: ما يقدر أحد على ركوبه، وربما أظله غمام، فلا يرى أياما.(1/447)
وقدم الريان، فحملوا الهدايا إليه وفاكهة أكثرها الموز، وحجارة سوداء إذا جعلت في الماء صارت بيضاء، ثم سار الملك على أمم السودان إلى مملكة الدمدام «1» الذين يأكلون الناس، فخرجوا إليه عراة، فهزمهم وظفر بهم، ومرّ على البحر المظلم، فغشيهم منه غمام، فترجع شمالا حتى انتهى إلى تمثال من حجر أحمر يومئ بيده ارجعوا، وعلى صدره مزبور ما ورائي أحد، فسار إلى مدينة النحاس، فلم يصل إليها ومضى إلى الوادي المظلم، فكانوا يسمعون منه جلبة عظيمة، ولا يرون أحدا لشدّة ظلمته، وسار إلى وادي الرمل، فرأى على معبره أصناما عليها أسماء الملوك، فأقام عليه صنما زبر عليه اسمه، فلما أثبت الرمل جاز عليه إلى الخراب المتصل بالبحر الأسود، فرأى سباعا يزأر بعضها على بعض، فحكم أنه لا مذهب له من ورائها، فرجع وعدّى وادي الرمل، ومرّ بأرض العقارب فهلك بعض أصحابه، ودفعوا عن أنفسهم أذاها بالرقي وجازها إلى مدينة الحكماء، وتعرف بمدينة الكند، ففرّوا منه إلى جبل.
فأقام عليه أياما حتى كاد يهلك جيشه عطشا، فنزل إليه من الجبل رجل من أفاضل الحكماء، وقد لبس شعره جسده، فقال للملك: أين تريد أيها المغرور الممدود له في الأجل المرزوق فوق الكفاية أتعبت نفسك، وجيشك ألا اجترأت بما تملكه، واتكلت على خالقك، وربحت الراحة، وتركت العناء والغرر بهذا الخلق؟ فعجب من قوله وسأله عن الماء، فدله عليه، وسأله عن موضعهم فقال: موضع لا يصل إليه أحد ولا بلغه قبلك أحد، فقال: ما عيشك؟ قال: من أصول النبات نقنع به، ويكفينا اليسير، قال: فمن أين تشربون؟
قال: من الأمطار والثلوج، قال: فلم هربتم منا؟ قال: زهادة في مخالطتكم وإلا فليس لنا ما نخافكم عليه، قال: فكيف بكم إذا حميت الشمس؟ قال: نأوي إلى غيران تحت هذا الجبل، قال: فهل لكم في مال أخلفه لكم؟ قال: إنما يريد المال أهل الترف، ونحن لا نستعمل منه شيئا استغنينا عنه بما قد اكتفينا به، وعندنا منه ما لو رأيته لاحتقرت ما عندك، قال: فأرنيه، فانطلق بنفر من أصحابه إلى أرض في سفح جبلهم فيها قضبان ذهب ناتئة، وأراهم واديا لهم في حافتيه حجارة زبرجد، وفيروز فأمر نهراوش أصحابه أن يحملوا من كبار تلك الحجارة، ففعلوا.
ورأى الحكيم جماعة الملك يصلون إلى صنم يحملونه معهم، فسأل الملك: أن لا يقيم بأرضهم، وخوّفه من عبادة الأصنام، فودّعه وسار، فلم يمرّ بأمّه إلا أثر فيها حتى بلغ النوبة، فصالحهم على مال، وأقام على دنقلة «2» صنما، وزبر عليه اسمه ومسيره، وسار يريد مدينة منف، فكان أهل كل مدينة من مدائن مصر يتلقونه بالفرح والسرور والرياحين(1/448)
والطيب إلى أن بلغ منف، فخرج أهلها إليه مع العزيز بأصناف الرياحين، والطيب، وكان العزيز قد بنى له مجلسا من زجاج ملوّن وفرشه بأحسن فرش، وغرس حوله الأشجار والرياحين، وجعل فيه بحرة من زجاج سماويّ، وفي أرضه شبه السمك من زجاج أبيض، فنزل الملك فيه، وأقام الناس يأكلون ويشربون أياما كثيرة، وتفقد جيشه، ففقد منهم سبعين ألفا، ووجد فيهم ممن أسره نيفا وخمسين ألفا، فكانت مدّة غيبته عن مصرفي مسيرة هذه، إحدى عشرة سنة.
فلما بلغ الملوك قدومه هابوه، واشتدّ بأسه، وتجبر وبنى في الجانب الشرقيّ قصورا من رخام، ونصب عليها أعلاما، وأمر بالعمارة، وإصلاح الجسور، واستنباط الأراضي حتى زاد الخراج على مائة ألف ألف دينار.
ودخل إلى البلد في أيامه غلام من أهل الشام احتال عليه إخوته، وباعوه، وكانت قوافل الشام تعرّس بناحية الموقف اليوم، فوقف الغلام، ونودي عليه، وهو: يوسف الصدّيق ابن يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليهم وسلامه، فاشتراه إطفين ليهديه إلى الملك.
فلما أتي به قصره، رأته امرأته زليخا، وهي ابنة عمه، فقالت: اتركه لنا نربيه لينفعنا، وكان من أمرها ما قصه الله تعالى في القرآن، فكانت تكتم حبه حتى غلبت، فخلت به وتزينت له، وعرّفته أنها تحبه، وأنه وإن واتاها على ما تريده منه حبته بمال عظيم، فامتنع من ذلك، ورأت أن تغلبه، فما زالت تعاركه، وهو ممتنع منها إلى أن وافى زوجها وراءه، وهو هارب منها، وكان العزيز عنينا لا يأتي النساء، فجعل يوسف يعتذر إليه وقالت: إني كنت نائمة، فأتاني يراودني عن نفسي، وتبين من شاهد أهلها أن الأمر من قبل امرأته، فقال ليوسف: أعرض عن هذا، أي عن اعتذارك، وقال لها: استغفر لذنبك، وقد كان خبر أطفين، والغلام بلغ الملك، وكان نهراوش عاود العكوف على اللهو والاحتجاب عن الناس، واتصل خبر زليخا ويوسف بنساء الخاصة، فعيرنها بذلك، فدعت جماعة منهنّ، وصنعت لهنّ طعاما وشرابا، وعملت مجلسين مذهبين وفرشتهما بديباج أصفر مذهب، وأرخت عليهما ستور الديباج، وأمرت المواشط بتزين يوسف وإخراجه من المجلس الذي يحاذي المجلس الذي كانت مع النسوة فيه، وكان المجلس محاذيا للشمس، فأخذته المواشط، ونظمن شعره بأصناف الجواهر، وألبسنه ثوب ديباج أصفر، قد نسج بدارات حمر مذهبة فيها أطيار صغار خضر مبطن ببطانة خضراء، ومن تحته غلالة حمراء، وعلى رأسه تاج قد نظم بالدرّ والجوهر، وأخرجن من تحت التاج أطراف شعره على جبهته، ورددن ذوائبه على صدره، وجعلن جبهته مكشوفة، والتاج محيط بها، وفي أذنيه قرطي جوهر، ومن خلف طوق القباء شعر مسبل بين كتفيه منظوم مشبك بالذهب والجوهر، وفي عنقه(1/449)
طوق منظوم بذهب مشدّد بجوهر أحمر ودرّ فاخر، وفي وسطه منطقة ذهب فيها لوالب جوهر ملوّن، ولها معاليق منظومة، وألبسنه خفين أبيضين منقوشين بأخضر على نقوش ذهب، وجعلن للقباء الذي عليه وشاحين وإفراور يحيط بأسفله وكميه من جوهر أخضر، وعقرين صدغيه على خديه، وكحلن عينيه، ودفعن إليه مذبة شعرها أخضر.
فلما فرغ النساء من طعامهنّ، وشربن أقداحا قدّمت إليهنّ سكاكين قبضهنّ من جوهر ليقطعن بها الفاكهة، فيقال: إنهنّ أخذن أترجا، وهنّ يقطعنه إذ قالت لهنّ: قد بلغني حديثكنّ في أمري مع عبدي، فقلن لها: الأمر كما بلغك لأنك أعلى قدرا من هذا، ومثلك يرتفع عن أولاد الملوك لحسنك وشرفك، فكيف ترضين بغلامك؟ فقالت: لم يبلغكنّ الصدق، ولا هو عندي بهذا، وأو مأت إلى المواشط أن يخرجن يوسف، فرفعن الستور عن المجلس الذي يحاذي مجلسها، وبرز منه يوسف محاذيا بوجهه الشمس، فأشرق المجلس، وما فيه من وجه يوسف، وأقبل بالمذبة، وهنّ يرمقنه.
فوقف على رأس زليخا يذب عنها، فاشتغل النساء برؤيته، وجعلن يقطعن أيديهنّ موضع الفاكهة التي كانت معهنّ، ولا يعين الكلام ذهولا منهنّ بما رأين من حسن يوسف! فقالت لهنّ زليخا ما لكنّ قد اشتغلتن عن خطابي بالنظر إلى عبدي؟ فقلن: معاذ الله ما هذا عبدك؟ إن هذا إلّا ملك كريم، ولم يبق منهنّ امرأة إلا حاضت، وأنزلت شهوة من محبته «1» ، فقالت زليخا عند ذلك: فهذا الذي لمتني فيه، فقلن: ما ينبغي لأحد أن يلومك في هذا، ومن لامك فقد ظلمك فدونكه، قالت: قد فعلت، فأبى عليّ، فخاطبنه لي.
فكانت كل واحدة منهنّ تخاطبه وتدعوه سرّا إلى نفسها، وتبتذل له، وهو يمتنع عليها فإذا يئست منه أن يجيبها لنفسها خاطبته من جهة زليخا، وقالت: مولاتك تحبك وأنت تكرهها، ما ينبغي أن تخالفها، فقال: ما لي بذلك حاجة، فلما رأين ذلك أجمعن على أخذه غصبا، فقالت زليخا: لا يجوز هذا لكنه إن لم يفعل لأمنعنه اللذات ولأسجننه وأنتزع جميع ما أعطيته، فقال يوسف: رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه، فأقسمت بإلهها وكان صنما من زبرجد أخضر باسم عطارد إنه إن لم يفعل لتعجلن له ذلك.
ثم أمرت بنزع ثيابه، وألبسته الصوف، وسألت العزيز حبسه ليزول ما قذفها به، فأمر به فحبس، ورأى الملك في منامه كأن آتيا أتاه، فقال له: إن فلانا وفلانا قد عزما على قتلك يريد صاحبي طعامه وشرابه، فلما أصبح قرّرهما فاعترفا له، وقيل: اعترف أحدهما، وأنكر الآخر فأمر بحبسهما، وكان اسم صاحب الطعم راسان، واسم صاحب الشراب مرطس،(1/450)
وكان يوسف عليه السلام وهو في السجن رؤوفا بمن فيه، ويعدهم الفرج، فأخبره صاحبا طعام الملك وشرابه برؤياهما التي قصها الله في كتابه، فوقع كما قصه يوسف، ورأى الملك البقرات والسنابل، فعرّفه الساقي خبر يوسف، فمضى إليه، وقصها عليه.
فلما عاد إلى الملك قال: جيئوني به، فقال يوسف: ما أخرج أو يكشف أمر النسوة اللاتي من أجلهنّ حبست، فكشف عن ذلك، فاعترفت زليخا بالقصة، ووجه إليه، فأخرج وغسل من درن السجن، وألبس ما يليق بالدخول على الملوك، فلما رآه امتلأ قلبه من حبه وإكباره، وسأله عن الرؤيا ففسرها كما قال الله تعالى. فقال الملك: ومن يقوم لي بذلك؟
قال: أنا، فخلع عليه خلع الملوك، وألبسه تاجا وأمر أن يطاف به وركب الجيش معه، وتردد إلى قصر الملك، وجلس على سرير العزيز، واستخلفه الملك على ملكه مكانه.
ويقال: إنّ العزيز إطفين، كان قد مات، فزوّجه امرأته، وقال لها يوسف: هذا أصلح مما أردت، فقالت: اعذرني إنّ زوجي كان عنينا، ولم ترك امرأة إلّا صبا قلبها إليك من حسنك، وجاءت سنّو خصب في مصر، فجمع يوسف الغلال، وخزنها وأكثر منها، فلما جاءت سنّو الجدب بدأ النيل في النقصان، وكان ينقص كل سنة أكثر من التي قبلها، فقحط البلد حتى بيع القمح بالمال والجوهر والدواب والثياب والآنية والعقار، وكاد أهل مصر يرحلون عنها لولا تدبير يوسف، وقحط الشام أيضا، وكان من مجيء إخوة يوسف ما قصه الله تعالى، ووجه إلى أبيه، فحمل إلى مصر وجميع أهله، وخرج في وجوه أهل مصر، فتلقاه وأدخله على الملك، وكان يعقوب مهابا، فأعظمه الملك، وسأله عن سنه وصناعته وعبادته فقال: سني عشرون ومائة سنة، وأما صناعتي فلنا غنم ترعى ننتفع بها، وأعبد رب العالمين الذي خلقك وخلقني، وهو إله آبائي وإلهك وإله كل شيء.
وكان في مجلس الملك، كاهن جليل القدر، فقال للملك: إني أخاف أن يكون خراب مصر على يد ولد هذا، فقال له الملك: فأنّى لنا خبره، فقال الكاهن ليعقوب: أرني إلهك أيها الشيخ، قال: إلهي أعظم من أن يرى، قال: فإنا نرى آلهتنا، قال: إن آلهتكم من ذهب وفضة وحجارة وجوهر ونحاس وخشب، مما يعمله بنو آدم، وهم عبيد، إلهي لا إله إلّا هو العزيز الحكيم، قال الكاهن: إنّ كل شيء لا تراه العيون ليس بشيء، فغضب يعقوب وكذبه، وقال: إنّ الله شيء لا كالأشياء وهو خالق كل شيء لا إله إلا هو، قال: فصفه لنا، قال: إنما يوصف المخلوق لكنه خالق واحد قديم مدبر أزليّ يرى ولا يرى، وقام يعقوب مغضبا، فأجلسه الملك وأمر الكاهن، فكف عنه، فقال الكاهن: إنا نجد في كتبنا أنّ خراب مصر يجري على أيدي هؤلاء؟ فقال الملك: هذا يكون في أيامنا؟ قال: لا، ولا إلى مدّة كثيرة، والصواب: أن يقتله الملك ولا يبقى من ذريته أحدا، فقال الملك: إن كان الأمر كما تقول، فلا يمكننا أن ندفعه، ولا نقدر على قتل هؤلاء، وأنزل يعقوب ومن معه بوادي(1/451)
السدير «1» إلى أن مات، فحمل إلى قرية إبراهيم عليه السلام ودفن عنده.
ويقال: إنّ نهراوش الملك آمن، وكتم إيمانه خوفا من فساد أمره، وأقام ملكا مائة وعشرين سنة.
وفي وقته عمل يوسف الفيوم، فإنّ أهل مصر كانوا وشوا به إلى الملك، وقالوا: قد كبر ونقص نفعه، فاختبره فقال له: إني وهبت هذه الناحية لابنتي، وكانت مغايض للماء، فدبرها لها، فعملها يوسف، واحتال للمياه حتى أخرجها، وقلع أو حالها وساق المنهي، وبنى اللاهون، وجعل الماء فيها مقسوما موزونا، وفرغ منها في شهور أربعة، فعجبوا من حكمته.
ويقال: إنه أول من هندس بمصر، ومات نهراوش: فخلف ابنه در مجوش وسمته أهل الأثر: دارم بن الريان، وهو الفرعون الرابع عندهم، فحالف سنة أبيه، وكان يوسف خليفته، فقبل منه بعضا وخالفه في البعض، فمات يوسف في أيامه، وله مائة وعشرون سنة، فكفن وجعل في تابوت من رخام، ودفن في الجانب الغربيّ، فأخصب ونقص الشرقيّ، فحوّل إليه، فأخصب ونقص الغربيّ، فاتفقوا على أن يجعلوه في الشرقيّ عاما وفي الغربيّ عاما، ثم حدث لهم من الرأي أن يجعلوا له حلقا وثاقا، ويشدّوا التابوت في وسط النيل، فأخصب الجانبان كلاهما.
وقال ابن عبد الحكم: فملكهم الريان بن الوليد بن دومع، وهو صاحب يوسف النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما رأى الملك رؤياه التي رأى، وعبره يوسف أرسل إليه الملك، فأخرجه من السجن.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: فأتاه الرسول، فقال: ألق عنك ثياب السجن، والبس ثيابا جددا، وقم إلى الملك، فدعا له أهل السجن، وهو يومئذ ابن ثلاثين سنة، فلما أتاه رأى غلاما حدثا، فقال: أيعلم هذا رؤياي ولا تعلمها السحرة والكهنة؟ وأقعده قدّامه، وقال له: لا تخف، قال: فلما استنطقه، وسأله عظم في عينيه، وجعل إليه أمره فدفع إليه خاتمه، وولاه ما خلف بابه وألبسه طوقا من ذهب وثياب حرير، وأعطاه دابة مسرجة مزينة كدابة الملك، وضرب بالطبل بمصر: إنّ يوسف خليفة الملك.
وعن عكرمة: أن فرعون قال ليوسف: قد سلطنتك على مصر غير أني أريد أن أجعل كرسيّ أطول من كرسيك بأربع أصابع، قال يوسف: نعم وأجلسه على السرير، ودخل الملك بيته مع نسائه، وفوّض أمر مصر كلها إليه، فبسبب عبارة رؤيا الملك ملك يوسف مصر.(1/452)
وعن الليث بن سعد قال: حدّثني مشيخة لنا قالوا: اشتدّ الجوع على أهل مصر، فاشتروا الطعام بالذهب حتى لم يجدوا ذهبا، فاشتروا بالفضة، حتى لم يجدوا فضة، فاشتروا بأغنامهم، حتى لم يجدوا غنما، فلم يزل يبيعهم الطعام حتى لم يبق لهم فضة ولا ذهب، ولا شاة ولا بقرة في تلك السنين، فأتوه في الثالثة فقالوا: لم يبق لنا إلا أنفسنا، وأهلونا وأرضونا، فاشترى يوسف أرضهم كلها لفرعون، ثم أعطاهم يوسف طعاما يزرعونه على أن لفرعون الخمس.
ويقال في خبر بناء يوسف عليه السلام: مدينة الفيوم أنه لما وزر لفرعون ثلاثين سنة عزله، فقال: لم عزلتني؟ فقال: لم أعزلك لريبة، ولا أنسى بركتك، ولكن آبائي عهدوا إليّ أن لا يتولى لنا وزير أكثر من ثلاثن سنة، وإنا نخشى أن يتأصل الوزير حتى يدبر على الملك، فقال له يوسف: قد علمت نصحي لك، حتى صيرت ديار مصر كلها ملكا لك، فأقطعني أرضا تكون لقوتي وقوت أهلي وعشيرتي، فقال له فرعون: اختر حيث شئت، فمشى يوسف في قفار الأرض حتى رأى أرض الفيوم، وفيها جبل حائل بين النيل وبينها، فوزن ماء النيل حتى رأى أن قاعها يركبه النيل، فحرق خرقا في ذلك الجبل، وساق الماء فيه إلى الفيوم، فسقى الأرض، وعمل في جوانب الماء، ثلثمائة وستين قرية على عدد أيام السنة، وشحنها بالغلال، والأقوات التي ازدرعها، فكان إذا نقص النيل، ووقع الجوع بأرض مصر، باع كل يوم، ما جمعه في قرية من قرى الفيوم، حتى ملك مصر لنفسه، كما جمعها للملك، فعظم شأن يوسف، وكثر ماله، فردّه الملك بعد مدّة إلى وزارته، وتوفي وهو وزير، فأوصى بخروج جثته إلى الأرض المقدّسة، فخرج بها هارون بن إفراييم بن يوسف في مائة ألف من بني إسرائيل، فهزمته الجبابرة فيما بين مصر والشام، وهلك أكثر من معه، وعاد بمن بقي معه إلى مصر، فأقاموا بها، حتى بعث الله موسى بن عمران عليه السلام إلى فرعون رسولا، فخرج ببني إسرائيل من مصر، ومعه جثة يوسف عليه السلام.
وفي ذلك الزمان استنبطت الفيوم، وقيل: كان سبب ذلك، أنّ يوسف عليه السلام لما ملك مصر، وعظمت منزلته من فرعون، وجاوز سنه مائة سنة، قال وزراء الملك له: إنّ يوسف قلّ عمله، وتغير عقله، ونفدت حكمته، فعنفهم فرعون، وردّ عليهم مقالتهم وأساء اللفظ لهم، فكفوا، ثم عاودوه بذلك القول بعد سنين، فقال لهم: هلموا ما شئتم من أيّ شيء أختبره به.
وكان بلد الفيوم يومئذ يدعى الجوبة، وإنما كانت لمصالة ماء الصعيد، وفضوله فاجتمع رأيهم على أن تكون هي المحنة التي يمتحنون بها يوسف، فقالوا لفرعون: سل يوسف أن يصرف ماء الجوبة عنها، ويخرجه منها، فتزداد بلدا إلى بلدك وخراجا إلى خراجك، فدعا يوسف فقال: تعلم مكان ابنتي فلانة مني وقد رأيت إذا بلغت أن أطلب لها(1/453)
بلدا، وإني لم أصب لها إلا الجوبة، وذلك إنه بلد بعيد قريب لا يرى بوجه من الوجوه إلا من غابة أو صحراء، وكذلك ليست هي تؤتى من ناحية من النواحي من مصر إلا من مفازة وصحراء، فالفيوم وسط مصر كمثل مصر في وسط البلاد، لأنّ مصر لا تؤتى من ناحية من النواحي إلّا من صحراء أو مفازة قال: وقد اقتطعتها إياها، فلا تتركن وجها، ولا نظرا إلا بلغته، فقال يوسف: نعم أيها الملك، متى أردت ذلك فابعث إليّ، فإني إن شاء الله فاعل ذلك، قال: إنّ أحبه إليّ وأرفعه، وأعجله، فأوحى إلى يوسف، أن تحفر ثلاثة خلج، خليجا من أعلى الصعيد من موضع كذا إلى موضع كذا، وخليجا شرقيا من موضع كذا إلى موضع كذا، وخليجا غريبا من موضع كذا إلى موضع كذا.
فوضع يوسف العمال، فحفر خليج المنهى من أعلى أشمون «1» إلى اللاهون «2» ، وأمر البنائين أن يحفروا اللاهون، وحفر خليج الفيوم، وهو الخليج الشرقيّ، وحفر خليجا بقرية يقال لها: بنهمت، من قرى الفيوم، وهو الخليج الغربيّ، فخرج ماؤها من الخليج الشرقيّ، فصب في النيل وخرج من الخليج الغربيّ، فصب في صحراء بنهمت إلى الغرب، فلم يبق في الجوبة ماء، ثم أدخلها الفعلة، فقطع ما كان فيها من القصب والطرفاء، وأخرجه منها، وكان ذلك ابتداء جري النيل، وقد صارت أرض الجوبة نقية برية، وارتفع ماء النيل، فدخل في رأس المنهي، فجرى فيه حتى انتهى إلى اللاهون، فقطعه إلى الفيوم، فدخل خليجها فسقاها، فصارت لجة من النيل، وخرج إليها الملك ووزراؤه وكان هذا كله في سبعين يوما.
فلما نظر إليها الملك قال لوزرائه: أولئك هذا عمل ألف يوم، فسميت: الفيوم، وأقامت تزرع كما تزرع غوائط مصر.
قال: وقد سمعت في استخراج الفيوم غير هذا، أنّ يوسف عليه السلام ملك مصر، وهو ابن ثلاثين، فأقام يدبرها أربعين سنة، فقال أهل مصر: قد كبر يوسف واختلف رأيه، فعزلوه وقالوا: اختر لنفسك من الموات أرضا تقطعها لنفسك، وتصلحها وتعمل رأيك فيها، فإن رأينا من رأيك وحسن تدبيرك ما نعلم أنك في زيادة من عقلك رددناك إلى ملكك، فاعترض البريّة في نواحي مصر، فاختار موضع الفيوم، فأعطيها فشق إليها خليج المنهي من النيل، حتى أدخله الفيوم كلها، وفرغ من حفر ذلك كله في سنة.
قال يزيد بن أبي حبيب: وبلغنا أنه إنما عمل ذلك بالوحي وقوي على ذلك بكثرة(1/454)
الفعلة والأعوان، فنظروا، فإذا الذي أحياه يوسف من الفيوم لا يعلمون له بمصر كلها مثلا ولا نظيرا، فقالوا: ما كان يوسف قط أفضل عقلا ولا رأيا ولا تدبيرا منه اليوم، فردّوا إليه الملك، فأقام ستين سنة أخرى تمام مائة سنة، حتى مات، وهو ابن ثلاثين ومائة سنة.
قال: ثم بلغ يوسف قول وزراء الملك، وإنه إنما كان ذلك على المحنة منهم له، فقال للملك: عندي من الحكمة والتدبير غير ما رأيت، فقال له الملك: وما ذاك؟ قال: أنزل الفيوم من كل كورة من كور مصر أهل بيت، وآمر أهل كل بيت أن يبنوا لأنفسهم قرية، وكانت قرى الفيوم على عدد كور مصر، فإذا فرغوا من بناء قراهم، صيرت لكل قرية من الماء بقدر ما أصير لها من الأرض لا يكون في ذلك زيادة، ولا نقص، وأصير لكل قرية شربا في زمان لا ينالهم الماء إلّا فيه، وأصير مطأطئا للمرتفع، ومرتفعا للمطأطىء بأوقات من الساعات في الليل والنهار، وأصير لها قبضات، فلا يقصر بأحد دون حقه، ولا يزداد فوق قدره، فقال له فرعون: هذا من ملكوت السماء؟ قال: نعم، فبدأ يوسف، فأمر ببنيان القرى وحدّد لها حدودا، وكانت أوّل قرية عمرت بالفيوم قرية يقال لها سانة، وهي القرية التي كانت تنزلها بنت فرعون، ثم أمر بحفر الخليج، وبنيان القناطر، فلما فرغوا من ذلك استقبل وزن الأرض، ووزن الماء، ومن يومئذ حدثت الهندسة، ولم يكن الناس يعرفونها قبل ذلك، وكان أوّل من قاس النيل بمصر، يوسف، ووضع مقياسا بمنف.
قال جامعه: وفي التوراة: أن فرعون ألزم بني إسرائيل البناء، وضرب اللبن، فبنوا له عدّة مدن محصنة منها فيثوم وعرمسيس. قال الشارح: هي الفيوم، وحوف رمسيس، وفي زمان الريان بن الوليد، دخل يعقوب عليه السلام، وولده مصر، وهم ثلاثة وسبعون نفسا ما بين رجل وامرأة، فأنزلهم يوسف ما بين عين شمس إلى الفرما، وهي أرض ريفية بريّة، وكان يعقوب لما دنا من مصر أرسل، يهودا إلى يوسف، فخرج إليه يوسف، فلقيه فالتزمه وبكى.
فلما دخل يعقوب على فرعون كلمه، وكان يعقوب شيخا كبيرا حليما حسن الوجه واللحية جهير الصوت، فقال له فرعون: أيها الشيخ كم أتى عليك؟ قال: عشرون ومائة، وكان بهمن ساحر فرعون قد وصف صفة يعقوب ويوسف وموسى صلوات الله عليهم في كتبه، وأخبر أن خراب مصر، وهلاك أهلها يكون على أيديهم، ووضع البربايات وصفات من تخرب مصر على يديه. فلما رأى يعقوب، قام إلى مجلسه، فكان أول ما سأله عنه أن قال: من تعبد أيها الشيخ؟ قال له يعقوب: أعبد الله إله كل شيء، فقال: فكيف تعبد من لا ترى؟ قال يعقوب: إنه أعظم وأجلّ من أن يراه أحد، قال: فنحن نرى آلهتنا؟ قال يعقوب:
إن آلهتكم من عمل أيدي بني آدم من يموت ويبلى، وإنّ إلهي لأعظم وأرفع، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد، فنظر بهمن إلى فرعون فقال: هذا الذي يكون هلاك بلادنا على يديه؟(1/455)
قال فرعون: أفي أيامنا أو في أيام غيرنا؟ قال: ليس في أيامك ولا أيام بنيك، قال الملك:
فهل تجد هذا فيما قضى به إلهكم؟ قال: نعم، قال: فكيف تقدر أن تقيل من يريد إلهه هلاك قومه على يديه؟ فلا يعبأ بهذا الكلام.
وعن كعب: أنّ يعقوب عاش في أرض مصر ست عشرة سنة، فلما أحضرته الوفاة قال ليوسف: لا تدفني بمصر، فإذا مت فاحملوني فادفنوني في مغارة جبل جيرون، وجيرون مسجد إبراهيم الخليل عليه السلام، وبينه وبين بيت المقدس، ثمانية عشر ميلا.
قال: فلما مات لطخوه بمرّ وصبر وجعلوه في تابوت من ساج، فكانوا يفعلون به ذلك أربعين يوما، حتى كلم يوسف فرعون، فأعلمه: أنّ أباه قد مات، وإنه سأله أن يقبره في أرض كنعان، فأذن له وخرج معه أشراف أهل مصر، حتى دفنه، وانصرف.
وقيل: قبر يعقوب بمصر، فأقام بها نحوا من ثلاث سنين، ثم حمل إلى بيت المقدس، وأوصاهم بذلك عند موته.
قال: ثم مات الريان بن الوليد، فملكهم من بعده ابنه دارم بن الريان، وفي زمانه توفي يوسف عليه السلام، فلما حضرته الوفاة قال: إنكم ستخرجون من أرض مصر إلى أرض آبائكم، فاحملوا عظامي معكم، فمات فجعلوه في تابوت، ودفنوه في أحد جانبي النيل، فأخصب الجانب الذي كان فيه، وأجدب الجانب الآخر، فحوّلوه إلى الجانب الآخر، فأخصب الجانب الذي حوّلوه إليه، وأجدب الآخر.
فلما رأوا ذلك جمعوا عظامه، فجعلوها في صندوق من حديد، وجعلوا فيه سلسلة، وأقاموا عمودا على شاطىء النيل، وجعلوا في أصله سكة من حديد، وجعلوا السلسلة في السكة، وألقوا الصندوق في وسط النيل، فأخصب الجانبان جميعا.
وكان سبب حمل عظام يوسف من مصر إلى الشام أنّ سارة ابنة أسر بن يعقوب عمّرت حتى صارت عجوزا كبيرة ذاهبة البصر، فلما سرى موسى عليه السلام ببني إسرائيل غشيتهم ضبابة، حالت بينهم وبين الطريق أن يبصروه، وقيل لموسى: لن تعبر إلّا ومعك عظام يوسف، قال: ومن يدري أين موضعها؟ قالوا: عجوز كبيرة ذاهبة البصر تركناها في الديار، فرجع موسى، فلما سمعت حسه قالت: ما ردّك؟ قال: أمرت أن أحمل عظام يوسف، قالت: ما كنتم لتعبروا إلا وأنا معكم، قال: دليني على عظام يوسف، فدلته عليها، فأخذ عظام يوسف معه إلى التيه «1» .
يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم: خليل الرحمن صلوات الله عليهم أحد(1/456)
الأسباط الاثني عشر ولد بأرض كنعان من بلاد الشام، ورأى الأحد عشر كوكبا، والشمس والقمر له ساجدين، وعمره سبع عشرة سنة، وكاد إخوته على ذلك، وباعوه من قوم مدنيين، فساروا به إلى مصر، وباعوه لقائد فرعون، فأقام في منزله اثني عشر شهرا، ثم راودته امرأة العزيز عن نفسه، فاعتصم، وكذبت عليه، إلى أن حبس، ومكث في السجن عشر سنين، وقيل غير ذلك، فلم يزل في السجن إلى أن رأى الساقي والخباز ذينك المنامين، وفسّر لهما يوسف وخرجا فأنسي الساقي يوسف سنتين إلى أن رأى الملك البقر والسنابل، فذكره، وأتاه فقص عليه الرؤيا وعبرها، فأخرج من السجن، وله حينئذ ثلاثون سنة، فاستوزره الملك، ومن ذلك الوقت إلى أن صار يعقوب إلى مصر تسع سنين منها، سبع سنين من سني الشبع، وسنتان من سني الجوع، وكان ليعقوب في السنة التي صار فيها إلى مصر، مائة سنة وثلاثون سنة، وكان أهل بيته حينئذ سبعين نفسا، ومنذ سار إلى مصر إلى أن ولد موسى عليه السلام، مائة وثلاثون سنة أخرى.
فلما مضى له بمصر، سبع عشرة سنة توفي وعمره مائة وسبع وأربعون سنة، فخاف الأسباط حينئذ مقابلة يوسف إياهم، فقالوا: إنّ أباك أوصى أن تغفر ذنب إخوتك، فإنك وهم عبيد الله، إله أبيك، فبكى يوسف، وقال لهم: لا تحتاجون إلى ذلك، ووعدهم بخير تممه لهم، ومات يوسف وله مائة سنة وعشر سنين، والله أعلم.
ذكر ما قيل في الفيوم وخلجانها وضياعها
قال اليعقوبيّ: كان يقال، في متقدّم الأيام مصر والفيوم لجلالة الفيوم، وكثرة عمارتها، وبها القمح الموصوف، وبها يعمل الخيش.
وحكى المسعوديّ: أنّ معنى الفيوم، ألف يوم.
قال القضاعيّ: الفيوم وهي مدينة دبرها يوسف النبيّ عليه السلام بالوحي، وكانت ثلثمائة وستين ضيعة، تمير كل ضيعة منها مصر يوما واحدا، فكانت تمير مصر السنة، وكانت تروى من اثني عشر ذراعا، ولا يستبحر ما زاد على ذلك، فإنّ يوسف عليه السلام اتخذ لهم مجرى ورتبه ليدوم لهم دخول الماء فيه، وقوّمه بالحجارة المنضدة، وبنى به اللّاهون.
وقال ابن رضوان «1» : الفيوم يخزن فيه ماء النيل، ويزرع عليه مرّات في السنة، حتى إنك ترى هذا الماء إذا خلى يغير لون النيل، وطعمه وأكثر ما تحسن هذه الحالة في البحيرة(1/457)
التي تكون في أيام القيظ سفط ونهيا، وصاعدا إلى ما يلي الفيوم، وهذه حالة تزيد في رداءة أهل المدينة يعني مصر، ولا سيما إذا هبت ريح الجنوب، فإنّ الفيوم في جنوب مدينة مصر على مسافة بعيدة من أرضها.
وقال القاضي السعيد أبو الحسن عليّ بن القاضي المؤتمن، بقية الدولة أبي عمرو عثمان بن يوسف القرشيّ المخزوميّ في كتاب المنهاج في علم الخراج: وهذه الأعمال من أحسن الأشياء تدبيرا وأوسعها أرضا وأجودها قطرا، وإنما غلب على بعضها الخراب لخلوّها من أهلها، واستيلاء الرمل على كثير من أرضها، وقد وقفت على دستور عمله أبو إسحاق إبراهيم بن جعفر بن الحسن بن إسحاق لذكر خلجان الأعمال المدثورة، وما عليها من الضياع، وقد أوردته ههنا، وإن كان منه ما قد دثر، ومنه ما تغيرت أسماؤه، ومنه ما جهلت مواضعه بالدثور، ولكن أوردته ليعلم منه حال العامر الآن، ويستقصي به من له رغبة في عمارة ما يقذر عليه من الغامر، وفي إيراده مصلحة ليعلم شرب كل موضع ونسخته.
دستور: على ما أوضحه الكشف من حال الخلج الأمّهات بمدينة الفيوم، وما لها من المواضع وشرب كل ضيعة منها، ورسمها في السدّ والفتح والتعديل والتحرير، وزمان ذلك عمل في جمادى الآخرة سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، تبتدىء بعون الله وحسن توفيقه بذكر حال البحر الأعظم الذي منه هذه الخلج، فنذكر مادّته التي صلاحه بصلاحها.
خليج الفيوم الأعظم: يصل الماء إلى هذا الخليج من البحر الصغير المعروف بالنهي ذي الحجر اليوسفيّ، وفوقه هذا البحر عند الجبل المعروف: بكرسيّ الساحرة من أعمال الأشمونين، ومنه شرب بعض الضياع الأشمونية، والقيسية، والأهناسية وعلى جانبيه ضياع كثيرة شربها منه، وشرب كروم ما له كروم منها.
قال الحجر اليوسفيّ: والحجر اليوسفيّ جدار مبنيّ بالطوب، والجير المعروف عند المتقدّمين بالصاروج، وهو الجير والزيت، وبناؤه من جهة الشمال إلى الجنوب، ويتصل من نهايته من الجنوب بجدار بناؤه مثل بنائه على استقامة من الغرب إلى الشرق، ويحصره ميلان منه في نهايته، وطوله مائتا ذراع بذراع العمل، ويتصل بهذا الجدار على طول ثمانين ذراعا منه من جهة الغرب نهاية الجدار الأعظم من الجنوب.
وفائدة بناء الجدار الأعظم ردّ الماء إذا انتهى إلى حدود اثنتي عشرة ذراعا إلى مدينة الفيوم، وطول ما يتصل منه الجدار الذي من جهة الغرب إلى الشرق، ثم يتصل بالميل، ثم ينخفض من حدود هذا الميل إلى ميل مثله يقابله من جهة الشمال خمسون ذراعا، وبعد ما بين هذين الميلين، وهو المنخفض مائة ذراع وعشرة أذرع، ومقدار المنخفض منه، أربعة أذرع، وهذا المنخفض هو الذي يسدّ بجسر من حشيش يسمى لبشا، وعرض ما يجري عليه الماء، وهو موضع اللبش وما قابله إلى جهة الشرق، أربعون ذراعا، وعليه مسك اللبش(1/458)
الثاني، ويتصل بهذا الميل إلى جهة الشمال، ما طوله ثلثمائة واثنان وسبعون ذراعا، ثم يتصل به على نهاية هذا الطول، جدار يمرّ على استقامته إلى الحجر مبنيّ بالحجر طوله على استقامته إلى جهة الشرق، مائة ذراع، ثم ينخفض أيضا من حيث يتصل بهذا الجدار ما طوله، عشرون ذراعا، وقدر المنخفض منه ذراعان.
وهذا المنخفض أيضا يسدّ بجسر حشيش يسمى: اللكبد، وطول بقية الجدار إلى نهايته من جهة الشمال، مائة وستة وثلاثون ذراعا، وقبالة هذا بطوله منه مبلط، وفيه قناطر مبنية بالحجر كانت قديما تردّ الماء إلى اليوم من الخليج القديم الذي عنده السدود اليوم، وكان عليها أبواب، وعدّتها عشر قناطر قديمة، فيكون جميع ذرع الجدار الأعظم من نهايته، سبعمائة واثنين وسبعين ذراعا بذراع العمل دون الجدار المعترض من الغرب إلى الشرق، ويمرّ هذا الجدار الأعظم من كلتا جهتيه جميعا، حتى يتصل بالجبل، فتوجد آثاره في القيظ مرورا على غير استقامة، وعرضه مختلف، وكلما انتهى إلى سطحه، قلّ عرضه، وعرض أعلاه مع الظاهر من أسفله جميعا ستة عشر ذراعا، وفيه منافس يخرج منه الماء، وهي برابخ زجاج ملوّثة بشبه المينا وأزرق وسليمانيّ.
وهو من العجائب الحسنة في عظم البناء وإتقانه، لأنه من الأبنية اللاحقة بمنارة الإسكندرية، وبناء الأهرام، فمن معجزته أن النيل يمرّ عليه من عهد يوسف عليه السلام إلى هذه الغاية، وما تغير عن مستقرّه، ويدخل الماء من هذا البحر في هذا الزمان إلى مدينة الفيوم من خليجها الأعظم ما بين أرض الضيعتين المعروفتين، بدمونة واللاهون، ومنه شرب هاتين الضيعتين وغيرهما سيحا، ومنه شرب كرومها بالدواليب على أعناق البقر، وإن قصر النيل عن الصعود إلى سوادها، سقيت منه على أعناق البقر وزرعت، وينتهي في الخليج الأعظم إلى خليج يعرف بخليج الأواسي، وليس عليه رسم في سدّ ولا فتح ولا تعديل، وينتهي إلى الضيعة المعروفة ببياض، فيملأ بركها وغيرها من البرك، وللبرك مقاسم يصل إلى كل مقسم منها لغايته، ومقدار شرب ما عليه، وينتهي إلى الضيعة المعروفة بالأوسية الكبرى «1» ، فمنه شربها من مقسمين لها، وبرسمها باب، ومنه يشرب نخلها وشجرها، وعلى هذا الحدّ طاحونة تعمل بالماء.
ثم ينتهي إلى ثلاثة مقاسم آخرها الضيعة المعروفة بمرطينة منها مقسم لها، ومقسم لقبالات عدّة، والمقسم الثالث يسقي أحد أحياء النخل، وبهذا الحيّ أسواق وبساتين قد خربت، وجميز دائر به، وكان بها بيوت في أقنية النخل، ثم ينتهي إلى حيّ ثان على ضفة الأوّل، ثم ينتهي إلى الضيعة المعروفة بالجوبة، فيملأ بركها وينتهي إلى ثلاثة مقاسم في(1/459)
صف، وفوقها خليج معطل ويشرب من هذه المقاسم عدّة ضياع، ثم ينتهي الماء من هذا الخليج إلى البطس، وهو نهايته، وعلى الخليج الأعظم بعد هذا أباليز شربها منه من أفواه لها سيحا، فإذا نضب ماء النيل، نصب على أفواهها برسم صيد السمك شباك.
ثم ينتهي الخليج الأعظم على يمنة من يريد الفيوم إلى خليج يعرف: بخليج
سمسطوس «1» . منه شرب سمسطوس وغيرها، وأباليز كثيرة تجاوز الصحراء من المشرق منه، ومن قبليه، وهي ما بين هذا الخليج، وخليج الأواسي.
ثم ينتهي الخليج الأعظم أيضا إلى:
خليج ذهالة. ومنه شرب عدّة ضياع وعليه يزرع الأرز وغيره.
ثم ينتهي الخليج الأعظم إلى ثلاث خلج ثم ينتهي إلى
خليج بينطاوة. وبهذا الخليج ثلاثة أبواب قديمة يوسفية سعة كل باب منها، ذراعان بذراع العمل، ويمرّ فيه الماء، وينتهي أيضا إلى بابين يوسفيين، ورسم هذا الخليج أن يسدّ هو وسائر المطاطية على استقبال عشر تخلو من هاتور إلى سلخه، ويفتح على استقبال كهيك إلى عشر تبقى منه، ثم يسدّ إلى عشر تخلو من طوبة، ثم يفتح ليلة الغيطاس إلى سلخ طوبة، ثم يسدّ على استقبال أمشير إلى عشرة تبقى منه، ثم يفتح لعشر تبقى منه إلى عشر تخلو من برمهات، ثم يفتح إلى عشر تخلو من برمودة، ثم يعدل في موضعه، وقد خرب ما على بحريه من الضياع، ويشرب منه عدّة ضياع، ولهذا الخليج مغيض معمول تحت الجبل بقبو يخرج منه الماء في زمان تكاثره.
ثم ينتهي الخليج الأعظم إلى:
خليج دله. وهو من المطاطية، وحكمه في السدّ، والفتح، والتعديل، والتحسين كما تقدّم، وهو على يسرة من يريد المدينة، وله بابان يوسفيان مبنيان بالحجر سعة كل منهما ذراعان وربع، ومنه شرب عدّة ضياع أمّهات وغيرها، وفي وسطه مفيض لزمان الاستبحار، يفتح فيفيض الماء إلى البركة العظمى، وفي أقصى هذه البركة أيضا مفيض له أبواب يقال: إنها كانت من حديد فإذا زادت فتحت الأبواب، فيمضي الماء إلى الغرب، وقيل: إنه يمرّ إلى سنترية، وكان على هذين الخليجين بساتين وكروم كثيرة تشرب على أعناق البقر.
وينتهي الخليج الأعظم إلى
خليج المجنونة. سمي بذلك لعظم ما يصير إليه من الماء، وحكمه في السدّ، وغيره على ما ذكر، ومنه شرب ضياع كثيرة، وبه تدار طواحين وإليه تصير مصالات مياه الضياع القبلية، وإلى بركة في أقصى مدينة الفيوم تجاور الجبل المعروف بأبي قطران، ويلقي ما ينصب من مصالات الضياع البحرية فيها، وهي البركة العظمى.(1/460)
ثم ينتهي الخليج الأعظم إلى:
خليج تلاله. وله بابان يوسفيان متينان مبنيان بالحجر سعة كل منهما ذراعان وثلثا ذراع، وليس فيه رسم سدّ، ولا فتح ولا تعديل، ولا تحييز إلا في تقصير النيل، فإنه يحيز بحشيش، ومنه شرب طوائف المدينة، وعدّة أراض وضياع، وفيه فوهة خليج البطش الذي إليه مفاضل المياه، وفيه أبواب تسدّ حتى يصعد الماء إلى أراض مرتفعة بقدر معلوم، وإذا حدث بالسدّ حدث يفسده، كانت النفقة عليه من الضياع التي تشرب منه بقدر استحقاقها.
ثم ينتهي الخليج الأعظم إلى خلجان من جانبيه في قبليه وبحريه ثم ينتهي إلى:
خليج سموه. وهو على يمنة من يريد مدينة الفيوم، وهو من المطأطئة، وله بابان يوسفيان سعة كل منهما ذراعان ونصف، وحكمه حكم ما تقدّم، ومنه شرب طوائف كثيرة، وعدّة ضياع، وينتهي إلى أربعة مقاسم بأبواب، وإلى خلجان تسقي ضياعا كثيرة فيها.
خليج تبدود: فيه عين حلوة فإذا سدّ هذا الخليج سقى منها أراضي ما جاورها، وظهرت هذه العين لما عدم الماء، وحفر هذا الموضع ليعمل بئرا، فظهرت منه هذه العين، فاكتفى بها، ثم ينتهي الخليج الأعظم إلى خلجان بها شاذروانات، ومقاسم قديمة يوسفية، وبها أبواب يوسفية، بها رسوم في السدّ، والفتح يشرب منها ضياع كثيرة، ورسم الترع أن يسدّ جميعها على استقبال عشرة أيام تخلو من هاتور إلى سلخه، وتفتح على استقبال كيهك مدّة عشرين يوما، وتسدّ لعشر تبقى منه إلى الغطاس، وتفتح يوم الغطاس إلى سلخ طوبة، وتسدّ على استقبال أمشير عشرين يوما، ثم تفتح لعشر تبقى منه إلى عشرين من برمهات، وتفتح عشرة أيام تخلو من برمودة، ثم تعدّل فيهتم بعمارتها، ولهم في التعديل قسم تعطى منه كل ناحية شربها بالعدل بقوانين معروفة عندهم، وقد اختصرت أسماء الضياع التي ذكرها لخراب أكثرها الآن، والله أعلم.
ذكر فتح الفيوم ومبلغ خراجها وما فيها من المرافق
قال ابن عبد الحكم: فلما تمّ الفتح للمسلمين بعث عمرو بن العاص جرائد الخيل إلى القرى التي حولها، فأقامت الفيوم سنة لا يعلم المسلمون بمكانها، حتى أتاهم رجل، فذكرها لهم، فأرسل عمرو معه ربيعة بن حبيش بن عرفطة الصدفيّ فلما سلكوا في المجابة لم يروا شيئا، فهمّوا بالانصراف، فقالوا: لا تعجلوا سيروا فإن كان قد كذب، فما أقدركم على ما أردتم، فلم يسيروا إلا قليلا، حتى طلع لهم سواد الفيوم، فهجموا عليها، فلم يكن عندهم قتال، وألقوا بأيديهم.
قال: ويقال: بل خرج مالك بن ناعمة الصدفيّ، وهو صاحب الأشقر على فرسه(1/461)
ينفض المجابة، ولا علم له بما خلفها من الفيوم، فلما رأى سوادها رجع إلى عمرو، فأخبره بذلك.
قال: ويقال بل بعث عمرو بن العاص، قيس بن الحارث إلى الصعيد، فسار حتى أتى القيس، فنزل بها، وبه سميت القيس، فراث على عمرو خبره، فقال ربيعة بن حبيش:
كفيت، فركب فرسه، فأجاز عليه البحر، وكانت أنثى فأتاه بالخبر، ويقال: إنه أجاز من ناحية الشرقية حتى انتهى إلى الفيوم وكان يقال لفرسه: الأعمى، والله أعلم.
وقال ابن الكنديّ في كتاب فضائل مصر: ومنها كورة الفيوم، وهي ثلثمائة وستون قرية دبرت على عدد أيام السنة لا تنقص عن الريّ، فإن قصر النيل في سنة من السنين مار بلد مصر، كل يوم قرية، وليس في الدنيا ما بني بالوحي غير هذه الكورة، ولا بالدنيا بلد أنفس منه، ولا أخصب، ولا أكثر خيرا، ولا أغزر أنهارا، ولو قايسنا بأنهار الفيوم، أنهار البصرة ودمشق، لكان لنا بذلك الفضل، ولقد عدّ جماعة من أهل العقل والمعرفة مرافق الفيوم وخيرها، فإذا هي لا تحصى، فتركوا ذلك، وعدّوا ما فيها من المباح مما ليس عليه ملك لأحد من مسلم، ولا معاهد يستعين به القويّ والضعيف، فإذا هو فوق السبعين صنفا.
وقال ابن زولاق في كتاب الدلائل على أمراء مصر للكنديّ: وعقدت لكافور الإخشيديّ، الفيوم في هذه السنة يعني سنة ست وخمسين وثلثمائة، ستمائة ألف دينار ونيفا وعشرين ألف دينار.
وقال القاضي الفاضل: في كتاب متجدّدات الحوادث، ومن خطه نقلت، أنّ الفيوم بلغت في سنة خمس وثمانين وخمسمائة، مبلغ مائة ألف واثنين وخمسين ألف دينار، وسبعمائة وثلاثة دنانير.
وقال البكريّ: والفيوم معروف هنالك يغلّ في كل يوم ألفي مثقال ذهبا.
مدينة النحريرية «1»
كانت أرضا مقطعة لعشرة من أجناد الحلقة من جملتهم، شمس الدين سنقرّ السعديّ، فأخذ قطعة من أراضي زراعتها، وجعلها اصطبلا لدوابه وخيله، فشكاه شركاؤه إلى السلطان الملك المنصور قلاون، فسأله عن ذلك فقال: أريد أن أجعله جامعا تقام فيه الخطبة، فأذن له السلطان في ذلك فابتدأ عمارته في أخريات سنة ثلاث وثمانين وستمائة، حتى كمل في سنة خمس وثمانين، فعمل له السلطان منبرا، وأقيمت به الجمعة، واستمرّت إلى يومنا هذا.
وأنشأ السعديّ حوانيت حول الجامع، فلم تزل بيده حتى مات، وورثها ابناه:(1/462)
عز الدين خليل، وركن الدين، عمر، فباعاها بعد مدّة للأمير: شيخو العمريّ، فجعلها مما وقفه على الخانكاه والجامع اللذين أنشأهما بخط صليبة جامع ابن طولون خارج القاهرة، فعمرت هذه الأرض بعمارة الجامع، وسكنها الناس، فصارت مدينة من مدائن أراضي مصر بحيث بلغت أنوال القزازين فيها «1» ، وترقى سنقر السعديّ في الخدم حتى صار من الأمراء، وولي نقيب المماليك السلطانية، وأنشأ المدرسة السعدية خارج القاهرة قريبا من حدرة البقر، فيما بين قلعة الجبل، وبركة الفيل في سنة خمس عشرة وسبعمائة، وبنى أيضا رباطا للنساء، وكان شديد الرغبة في العمائر محبا للزراعة كثير المال ظاهر الغنى، ثم إنه أخرج إلى طرابلس، وبها مات سنة ثمان وعشرين وسبعمائة.
تم الجزء الأوّل، ويليه الجزء الثاني وأوله: «ذكر تاريخ الخليقة»(1/463)
الجزء الثانى
ذكر تاريخ الخليقة
بسم الله الرّحمن الرّحيم اعلم: أنه لما كانت الحوادث لا بدّ من ضبطها، وكان لا يضبط ما بين العصور، وبين أزمنة الحوادث إلّا بالتاريخ المستعمل العام الذي لا ينكره الجماعة أو أكثرها، وذلك أنّ التاريخ المجمع عليه، لا يكون إلّا من حادث عظيم يملأ ذكره الأسماع، وكانت زيادة ماء النيل، ونقصانه، إنما يعتبرهما أهل مصر، ويحسبون أيامهما بأشهر القبط، وكذلك خراج أراضي مصر إنما يحسبون أوقاته بذلك، وهكذا زراعات الأراضي، إنما يعتمدون في أوقاتها أيام الأشهر القبطية عادة، وسلكوا فيها سبيل أسلافهم، واقتفوا مناهج قدمائهم، وما برح الناس من قديم الدهر أسراء العوائد.
احتيج في هذا الكتاب إلى إيراد جملة من تاريخ الخليقة لتعيين موقع تاريخ القبط منها، فإنّ بذكر ذلك يتمّ الغرض. فأقول: التاريخ عبارة عن يوم، ينسب إليه ما يأتي بعده، ويقال أيضا: التاريخ عبارة عن مدّة معلومة تعدّ من أوّل زمن مفروض لتعرف بها الأوقات المحدودة، ولا غنى عن التاريخ في جميع الأحوال الدنيوية، والأمور الدينية، ولكل أمّة من أمم البشر تاريخ تحتاج إليه في معاملاتها، وفي معرفة أزمنتها تنفرد به دون غيرها من بقية الأمم.
وأوّل الأوائل القديمة وأشهرها هو، كون مبدأ البشر، ولأهل الكتاب من اليهود والنصارى والمجوس في كيفيته، وسياقة التاريخ منه خلاف لا يجوز مثله في التواريخ، وكلّ ما تتعلق معرفته ببدء الخلق، وأحوال القرون السالفة، فإنه مختلط بتزويرات وأساطير لبعد العهد، وعجز المعتني به عن حفظه، وقد قال الله سبحانه وتعالى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ
[إبراهيم/ 9] . فالأولى أن لا يقبل من ذلك إلا ما يشهد به كتاب أنزل من عند الله يعتمد على صحته لم يرد فيه نسخ، ولا طرقه تبديل، أو خبر ينقله الثقات، وإذا نظرنا في التاريخ وجدنا فيه بين الأمم خلافا كثيرا، وسأتلو عليك من ذلك ما لا أظنك تجده مجموعا في كتاب، وأقدّم بين يدي هذا القول ما قيل في مدّة بقاء الدنيا.(2/3)
ذكر ما قيل في مدّة أيام الدنيا ماضيها وباقيها
اعلم: أنّ الناس قد اختلفوا قديما وحديثا في هذه المسألة، فقال قوم من القدماء الأول: بالأكوار والأدوار وهم الدهرية، وهؤلاء هم القائلون بعود العوالم كلها على ما كانت عليه بعد ألوف من السنين معدودة، وهم في ذلك غالطون من جهة طول أدوار النجوم، وذلك أنهم وجدوا قوما من الهند والفرس قد عملوا أدوارا للنجوم ليصححوا بها في كل وقت مواضع الكواكب فظنوا أنّ العدد المشترك لجميعها هو عدد سني العالم أو أيام العالم، وإنه كلما مضى ذلك العدد عادت الأشياء إلى حالها الأوّل.
وقد وقع في هذا الظنّ ناس كثير مثل، أبي معشر وغيره، وتبع هؤلاء خلق وأنت تقف على فساد هذا الظن إن كنت تخبر من العدد شيئا ما، وذلك أنك إذا طلبت عددا مشتركا بعده أعداد معلومة، فإنك تقدر أن تضع لكل زيج أياما معلومة كالذي وضعه الهند والفرس، فهؤلاء حيث جهلوا صورة الحال في هذه الأدوار، ظنوا أنها عدد أيام العالم، فتفطن ترشد.
وعند هؤلاء أنّ الدور هو أخذ الكواكب من نقطة وهي سائر حتى تعود إلى تلك النقطة، وأن الكور هو استئناف الكواكب في أدوارها سيرا آخر إلى أن تعود إلى مواضعها مرّة بعد أخرى.
وزعم أهل هذه المقالة، أنّ الأدوار منحصرة في أنواع خمسة:
الأوّل: أدوار الكواكب السيارة في أفلاك تداويرها.
الثاني: أدوار مراكز أفلاك التدوير في أفلاكها الحاملة.
الثالث: أدوار أفلاكها الحالة في فلك البروج.
الرابع: أدوار الكواكب الثابتة في فلك البروج.
الخامس: أدوار الفلك المحيط بالكل حول الأركان الأربعة، وهذه الأدوار المذكورة، منها ما يكون في كل زمان طويل مرّة واحدة، ومنها ما يكون في كل زمان قصير مرّة واحدة، فأقصر هذه الأدوار، أدوار الفلك المحيط بالكل حول الأركان الأربعة فإنه يدور في كل أربع وعشرين ساعة، دورة واحدة، وباقي الأدوار يكون في أزمنة أخر أطول من هذه لا حاجة بنا في هذه المسألة إلى ذكرها.
قالوا: وأدوار الكواكب الثابتة في فلك البروج تكون في كلّ ستّة وثلاثين ألف سنة شمسية مرّة واحدة، وحينئذ تنتقل أوجات الكواكب، وجوز هراتها إلى مواضع حضيضها، ونوبهراتها وبالعكس، فيوجب ذلك عندهم، عود العوالم كلها إلى ما كانت عليه من الأحوال في الزمان والمكان والأشخاص والأوضاع، بحيث لا يتخالف ذرة واحدة، وهم مع ذلك(2/4)
مختلفون في كمية ما مضى من أيام العالم، وما بقي.
فقال البراهمة من الهند في ذلك قولا غريبا، وهو ما حكاه عنهم الأستاذ أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني في كتاب القانون المسعوديّ: إنهم يسمون الطبيعة باسم ملك يقال له: إبراهيم، ويزعمون أنه محدث محصور الموت بين مبدأ وانتهاء عمره كعمرها مائة سنة برهموية، كل سنة منها ثلثمائة وستون يوما زمان النهار، منها بقدر مدّة دوران الأفلاك، والكواكب لإثارة الكون والفساد، وهذه المدّة بقدر ما بين كل اجتماعين للكواكب السبعة في أوّل برج الحمل بأوجاتها، وجوز هراتها، ومقدارها: أربعة آلاف ألف سنة، وثلثمائة ألف ألف سنة وعشرون ألف ألف سنة شمسية، وهو زمان اثني عشر ألف دورة للكواكب الثابتة على أنّ زمان الدورة الواحدة، ثلثمائة ألف سنة وستون ألف سنة شمسية، واسم هذا النهار بلغتهم الكلية، وزمان الليل عندهم كزمان النهار، وفي الليل تسكن المتحرّكات، وتستريح الطبيعة من إثارة الكون والفساد، ثم يثور في مبدأ اليوم الثاني بالحركة والتكوّن، فيكون زمان اليوم بليلته من سني الناس، ثمانية آلاف ألف سنة وستمائة ألف ألف سنة وأربعين ألف ألف سنة، فإذا ضربنا ذلك في ثلثمائة وستين تبلغ سنو أيام السنة البرهموية، ثلاثة آلاف ألف ألف ألف سنة، وعشرة آلاف ألف ألف سنة، وأربعمائة ألف ألف سنة شمسية، فإذا ضربناها في مائة يبلغ عمر الملك الطبيعيّ البرهمويّ من سني الناس، ثلثمائة ألف ألف ألف ألف سنة، وأحد عشر ألف ألف ألف سنة وأربعين ألف ألف سنة شمسية، فإذا تمت هذه السنون بطل العالم عن الحركة، والتكوين ما شاء الله، ثم يستأنف من جديد على الوضع المذكور.
وقسموا زمان النهار المذكور إلى تسع وعشرين قطعة، سموا كل أربع عشرة قطعة منها نوبا، وسموا الخمس عشرة قطعة الباقية فصولا، وجعلوا كل نوبة محصورة بين فصلين، وكل فصل محصورا بين نوبتين، وقدّموا زمان الفصل على النوبة إلى تمام المدّة، وزمان الفصل هو خمسا الدور والدور جزء من ألف جزء من المدّة، فإذا قسمنا المدّة على ألف تحصل زمان الدور، أربعة آلاف ألف سنة، وثمانية وعشرون ألف سنة، وزمان النوبة عندهم أحد وسبعون دورا مقدارها من السنين ثلثمائة ألف ألف سنة، وستة آلاف ألف سنة وسبعمائة ألف سنة وعشرون ألف سنة.
وقد قسّموا الدور أيضا بأربع قطع، أوّلها أعظمها، وهي مدّة الفصل المذكور وثانيها ثلاثة أرباع الفصل، ومدّتها ألف ألف سنة، ومائتا ألف سنة وستة وتسعون ألف سنة، وثالثها نصف الفصل، ومدّته ثمانمائة ألف سنة وأربعة وستون ألف سنة، ورابعها ربع الفصل، وهو عشر الدور المذكور، ومدّته أربعمائة ألف سنة واثنان وثلاثون ألف سنة.
ولكل واحد من هذه القطع الأربع اسم يعرف به، فاسم القطعة الرابعة عندهم، كلكال(2/5)
لأنهم يزعمون أنهم في زمانها، وإنّ الذي مضى من عمر الملك الطبيعيّ على زعم حكيمهم الأعظم المسمى عندهم: برهمكوت ثمان سنين وخمسة أشهر وأربعة أيام.
ونحن الآن في نهار اليوم الخامس من الشهر السادس من السنة التاسعة، ومضى من النهار الخامس ست نوب، وسبعة فصول وسبعة وعشرون دورا من النوبة السابعة، وثلاث قطع من الدور المذكور أعني تسعة أعشاره، ومضى من القطعة الرابعة أعني من أوّل كلكال إلى هلاك، شككال عظيم ملوكهم الواقع في آخر سنة ثمان وثمانينة وثلثمائة للإسكندر ثلاثة آلاف سنة ومائة سنة وتسع وسبعون سنة، وقال: إنما عرفنا هذا الزمان من علم إلهيّ، وقع إلينا من عظماء أنبيائنا المتألهين برواياتهم جيلا بعد جيل على ممرّ الدهور والأزمان، وزعموا أن في مبدأ كل دور أو فصل أو قطعة أو نوبة، تتجدّد أزمنة العوالم، وتنتقل من حال إلى حال، وأن الماضي من أوّل كلكال إلى شككال ثلاثة آلاف، ومائة وتسع وسبعون سنة، والماضي من النهار المذكور إلى آخر سنة ثمان وثمانين وثلثمائة للإسكندر ألف ألف ألف سنة، وتسعمائة ألف ألف سنة، واثنان وسبعون ألف ألف سنة، وتسعمائة ألف سنة وسبعة وأربعون ألف سنة، ومائة سنة وسبع وسبعون سنة.
فيكون الماضي من عمر الملك الطبيعيّ إلى آخر هذه السنة ستة، وعشرين ألف ألف ألف ألف سنة، وثلثمائة ألف ألف ألف سنة وخمسة عشر ألف ألف ألف سنة، وسبعمائة ألف ألف سنة، واثنين وثلاثين ألف ألف سنة، وتسعمائة ألف سنة، وسبعة وأربعين ألف سنة ومائة سنة وتسعا وسبعين سنة، فإذا زدنا عليها الباقي من تاريخ الإسكندر بعد نقصان السنين المذكورة منه تحصل الماضي من عمر الملك بالوقت المفروض، والله أعلم بحقيقة ذلك.
وقال الخطا والايعز في ذلك قولا أعجب من قول الهند، وأغرب على ما نقلته من زيج أدوار الأنوار، وقد لخص هذا القول من كتب أهل الصين، وذلك أنهم جعلوا مبادي سنيهم مبنية على ثلاثة أدوار: الأوّل: يعرف بالعشريّ مدّته عشر سنين لكل سنة منها اسم يعرف به، والثاني: يعرف بالدور الاثني عشريّ، وهو أشهرها خصوصا في بلاد الترك يسمون سنيه بأسماء حيوانات بلغتي الخطا والايعز، والثالث: مركب من الدورين جميعا ومدّته ستون سنة، وبه يؤرخون سني العالم وأيامه ويقوم عندهم مقام أيام الأسبوع عند العرب وغيرها، واسم كل سنة منها مركب من اسميها في الدورين جميعا، وكذلك كل يوم من أيام السنة.
ولهذا الدور ثلاثة أسماء، وهي: شانكون، وجونكون، وخاون، ويصير بحسبها مرّة أعظم ومرّة أوسط، ومرّة أصغر، فيقال: دور شانكون الأعظم، ودور: جونكون الأوسط، ودور: خاون الأصغر، وبهذه الأدوار يعتبرون سني العالم وأيامه، وجملتها مائة وثمانون(2/6)
سنة، ثم تدور الأدوار الثلاثة عليها مرة أخرى. واتفق وقوع مبدأ الدور الأعظم في الشهر الأوّل من سنة ثلاث وثلاثين وستمائة: ليزدجرد، واسمه بلغتهم: كادره، وبلغة العرب: سنة الغار، وكان دخول أوّل افرودين هذه السنة من سني العرب يوم الخميس، وهو بلغتهم: سن جن، ومن هذا اليوم وعلى هذا التاريخ تترتب مبادي سنيهم وأيامهم في الماضي والمستقبل، وشهورهم اثنا عشر شهرا، لكل شهر منها اسم بلغة: الخطا، وبلغة الايعز لا حاجة بنا هنا إلى ذكره.
ويقسمون اليوم الأوّل بليلته اثني عشر قسما، كل قسم منها يقال له: جاغ، وكل جاغ ثمانية أقسام، كل قسم منها يقال له: كه، ويقسمون اليوم بليلته أيضا عشرة آلاف فنك، وكل فنك منها: مائة مياو، فيصيب كل جاغ: ثمانمائة وثلاثة وثلاثين فنكا وثلث فنك، وكل: كه مائة وأربعة أفناك وسدس فنك، وينسبون، كل جاغ إلى صورة من الصور الاثنتي عشرة، ومبدأ اليوم بليلته عندهم من نصف الليل، وفي منتصف جاغ كسكو يتغير أوّل النهار وآخره بحسب الطول والقصر من قبل أنّ كل جاغ ساعتان مستويتان، وفي منتصف النهار ينتصف جاغ يوند، وهم يكبسون في كل ثلاث سنين قمرية شهرا واحدا يسمونه: سيون ليحفظوا بالكبس مبادي سني الشمس في زمان واحد من سنة أخرى، ويكبسون أحد عشر شهرا في كل ثلاثين سنة قمرية، ولا يقع عندهم شهر الكبس في موضع واحد بعينه من السنة، بل يقع في كل موضع منها، وكل شهر عدّة أيامه إما ثلاثون يوما أو تسعة وعشرون يوما، ولا يمكن عندهم أكثر من ثلاثة أشهر متوالية تامّة، ولا أكثر من شهرين ناقصين.
ومبادي شهورهم، يوم الاجتماع إن وقع اجتماع النيرين نهارا، فإن وقع الاجتماع ليلا كان أوّل الشهر في اليوم الذي بعد الاجتماع وزمان السنة الشمسية بحسب أرصادهم، ثلثمائة وخمسة وستون يوما وألفان وأربعمائة وستة وثلاثون فنكا، والسنة أربعة وعشرون قسما، كل قسم منها: خمسة عشر يوما وألفان ومائة وأربعة وثمانون فنكا وخمسة أسداس فنك، ولكل قسم من هذه الأقسام اسم، وكل ستة أقسام منها فصل من فصول السنة، فاسم أوّل قسم من فصولها الحن، وأوّله أبدا، حيث تكون الشمس في ست عشرة درجة من برج الدلو وهكذا أوائل كل فصل، إنما تكون في حدود أواسط البروج الثابتة، وكان بعد مدخل الحن من أوّل الدور الستينيّ في السنة المذكورة أحد عشر يوما، وسبعة آلاف وستمائة وستين فنكا، واسم مدخله بي خايني، وكان بعد دخول السنة الفارسية المذكورة بنحو عشرين يوما، ويبعد مدخله عن أوّل الدور الستينيّ، ويتفاضل البعد بينهما في كل سنة بقدر فضل سنة الشمس على سنة القمر التي هي ثلثمائة وأربعة وخمسون يوما، وثلاثة آلاف وستمائة واثنان وسبعون فتكا، ومقدار الفضل بينهما عشرة أيام وثمانية آلاف وسبعمائة وأربعة وستون فنكا، فإن زادت الأيام على زمان الشهر القمريّ الأوسط الذي هو تسعة وعشرون يوما، وخمسة آلاف وثمانمائة وستة أفناك، نقص منها هذا العدد، واحتسب بالباقي.(2/7)
فإذا عرفت هذا من حسابهم، فاعلم أنّ عمر العالم عندهم ثلثمائة ألف ونّ وستون ألف ونّ، وكل ونّ: عشرة آلاف سنة. مضى من ذلك إلى أوّل سنة ثلاث وثلاثين وستمائة ليزدجرد، وهي دور: شانكون الأعظم: ثمانية آلاف ونّ وثمانمائة ونّ وثلاثة وستون ونا، وتسعة آلاف وسبعمائة، وأربعون سنة، فتكون المدّة العظمى على هذا: ثلاثة آلاف ألف ألف ألف ألف سنة وستمائة ألف ألف ألف ألف سنة بهذه الصورة 3600000000 والماضي منها إلى السنة المذكورة: ثمانية، وثمانون ألف ألف سنة وستمائة ألف سنة وتسعة وثلاثون ألف سنة، وسبعمائة سنة وأربعون سنة بهذه الصورة 88639740 ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله.
وإنما ذكرت طرفا من حساب سني البراهمة، وطرفا من حساب سني الخطا والايعز المستخرج من حساب الصين ليعلم المنصف أنّ ذلك لم يضعه حكماؤهم عبثا، ولأمر ما جدع قصير أنفه، وكم من جاهل بالتعاليم إذا سمع أقوالهم في مدّة سني العالم يبادر إلى تكذيبهم من غير علم بدليلهم عليه، وطريق الحق أن يتوقف، فيما لا يعلمه حتى يتبين أحد طرفيه فيرجحه على الآخر، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
وقال أصحاب السند هند: ومعناه: الدهر الداهر أنّ الكواكب وأوجاتها وجوز هراتها تجتمع كلها في أوّل برج الحمل عند كل أربعة آلاف ألف ألف سنة وثلثمائة ألف ألف سنة وعشرين ألف ألف سنة شمسية، وهذه مدّة سني العالم.
قالوا: وإذا جمعت برأس الحمل فسدت المكوّنات الثلاث التي يحويها عالم الكون والفساد المعبر عنه بالحياة الدنيا، وهذه المكوّنات هي: المعدن والنبات والحيوان، فإذا فسدت بقي العالم السفليّ خرابا دهرا طويلا إلى أن تتفرّق الكواكب، والأوجات والجوزهرات في بروج الفلك، فإذا تفرّقت فيها بدأ الكون بعد الفساد، فعادت أحوال العالم السفليّ إلى الأمر الأوّل، وهذا يكون عودا بعد بدء إلى غير نهاية، قالوا: ولكل واحد من الكواكب والأوجات والجوزهرات عدّة أدوار في هذه المدّة يدل كل دور منها على شيء من المكوّنات، كما هو مذكور في كتبهم مما لا حاجة بنا هنا إلى ذكره، وهذا القول منتزع من قول البراهمة الذي تقدّم ذكره.
وقال أصحاب الهازروان من قدماء الهند: إنّ كل ثلثمائة ألف سنة وستين ألف سنة شمسية: يهلك العالم بأسره ويبقى مثل هذه المدّة، ثم يعود بعينه، ويعقبه البدل، وهكذا أبدا يكون الحال لا إلى نهاية.
قالوا: ومضى من أيام العالم المذكورة إلى طوفان نوح عليه السلام: مائة ألف وثمانون ألف سنة شمسية.(2/8)
ومضى من الطوفان إلى سنة الهجرة المحمدية ثلاثة آلاف وسبعمائة وثلاث وعشرون سنة، وأربعة أشهر وأيام.
وبقي من سني العالم حتى يبتدئ ويفنى مائة ألف وبضع وسبعون ألف سنة شمسية، أوّلها تاريخ الهجرة الذي يؤرخ به أهل الإسلام.
وقال أصحاب الأزجهير: مدّة العالم التي تجتمع فيها الكواكب برأس الحمل هي وأوجاتها وجوزهراتها: جزء من ألف جزء من مدّة: السند هند، وهذا أيضا منتزع من قول البراهمة.
وقال أبو معشر، وابن بو بخت: إنّ بعض الفرس يرى أنّ عمر الدنيا اثنا عشر ألف سنة بعدّة البروج، لكل برج ألف سنة، فكان ابتداء أمر الدنيا في أوّل ألف الحمل، لأنّ الحمل والثور والجوزاء تسمى: أشرف الشرف، وينسب إلى الحمل: الفصل، وفيها تكون الشمس في شرفها، وعلوّها، وطول نهارها، ولذلك كانت الدنيا كانت إلى ثلاثة آلاف سنة: علوية روحانية طاهرة، ولأن السرطان والأسد والسنبلة: منتقصة، فإنّ الشمس تنحط من علوّها في أوّل دقيقة من السرطان، وكان قدر الدنيا وأبنائا منحطا في الثلاثة آلاف الثانية، ولأن الميزان أهبط الهبوط، وبئر الآبار، وضدّ البرج الذي فيه شرف الشمس دل على أنه أصابت الدنيا واكتسب أهلها المعصية، والميزان والعقرب والقوس إذا نزلتها الشمس لم تزدد إلّا انحطاطا، والأيام إلّا نقصانا. فلذلك دلت على البلايا والضيق، والشدّة والشرّ، وحيث تبلغ الآلاف إلى أوّل الجدي الذي فيه أوّل ارتفاع الشمس، وإشرافها على شرفها، وفيه تزداد الأيام طولا، والدلو والحوت اللذان تزداد الشمس فيهما صعودا، حتى تصل لشرفها فيدل على ظهور الخير، وضعف الشرّ، وثبات الدين والعقل والعمل بالحق والعدل، ومعرفة فضل العلم والأدب في تلك الثلاثة الآلاف سنة، وما يكون في ذلك فعلى قدر صاحب الألف والمائة والعشرة، وعلى حسب اتفاق الكواكب في أوّل سلطان صاحب الألف، فلا يزال ذلك في زيادة حتى يعود أمر الدنيا في آخرها إلى مثل ما كان عليه ابتداؤها، وهي في ألف الحمل وكلما تقارب آخر كل ألف من هذه الألوف اشتدّ الزمان، وكثرت البلايا لأنّ أواخر البرج في حدود النحوس، وكذلك في آخر المئين والعشرات، فعلى هذا الانقضاء للدنيا إذا كان الزمان يعود إلى الحمل كما بدأ أوّل مرّة.
وزعموا أن ابتداء الخلق بالتحرّك كان والشمس في ابتداء المسير، فدار الفلك، وجرت المياه، وهبت الرياح، واتقدت النيران، وتحرّك سائر الخلائق بما هم عليه من خير وشرّ، والطالع تلك الساعة تسع عشرة درجة من برج السرطان، وفيه المشتري، وفي البيت الرابع الذي هو بيت العافية، وهو برج الميزان زحل، وكان الذنب في القوس، والمرّيخ والجدي والزهرة وعطارد في الحوت، ووسط السماء برج الحمل، وفي أوّل دقيقة منه(2/9)
الشمس، وكان القمر في الثور وفي بيت السعادة، وكان الرأس في برج الجوزاء، وهو بيت الشقاء، وفي تلك الدقيقة من الساعة كان استقبال أمر الدنيا، فكان خيرها وشرّها وانحطاطها وارتفاعها، وسائر ما فيها على قدر مجاري البروج والنجوم، وولاية أصحاب الألوف، وغير ذلك من أحوالها. ولأنّ المشتري كان في السرطان في شرفه وزحل في الميزان في شرفه والمرّيخ والشمس والقمر في إشرافها دلت على كائنة جليلة، فكان نشوء العالم، وانبرز زحل.
فتولى الألف هو والميزان وكان المشتري في الطالع مقبولا. وكذلك جميع الكواكب كانت مقبولة، فدل على نماء العالم وحسن نشوءه، وكان زحل هو المستولي والعالي في الفلك والبرج طويل المطالع، فطالت أعمار تلك الألف وقويت أبدانهم، وكثرت مياههم وكون الميزان تحت الأرض دل على خفاء أوّل حدوث العالم، وعلى أنّ أهل ذلك الزمان ينظرون في عمارة الأرضين وتشييد البنيان. ثم ولي الألف الثاني العقرب والمريخ، وكان في الطالع المرّيخ، فدل على القتل في ذلك الألف وسفك الدماء، والسبي والظلم والجور والخوف والهمّ والأحزان والفساد وجور الملوك، وولي الألف الثالث القوس وشاركه عطارد والزهرة بطلوعهما، وكان الذنب في القوس، فدل المشتري على النجدة في تلك الألف والشدّة والجلد والبأس والرياسة والعدل، وتقسيم الملوك الدنيا، وسفك الدماء بسبب ذلك، ودلت الزهرة على ظهور بيت العبادة وعلى الأنبياء، ودل عطارد على ظهور العقل والأدب والكلام، وكون البرج مجسدا دلّ على انقلاب الخير والشرّ في تلك الألف مرّات، وعلى ظهور ألوان من آيات الحق والعدل والجور.
ثم ولي الألف الرابع الجدي، وكان فيه المرّيخ فدل على ما كان في تلك الألف من إهراق الدماء، ودلت الشمس على ظهور الخير والعلم، ومعرفة الله تعالى، وعبادته وطاعته وطاعة أنبيائه، والرغبة في الدين مع الشجاعة والجلد، وكون البرج منقلبا هو والبرج الذي فيه الشمس دلّ على انقلاب ذلك في آخرها، وظهور الشرّ والتفرّق والقسم والقتل وسفك الدماء والغصب في أصناف كثيرة، وتحوّل ذلك وتلوّنه، وكون الجدي منحطا دلّ على أنه يظهر في آخر تلك الألف الحسن الشبيه بصفة زحل والمريخ وانقطاع العظماء والحكماء، وبوارهم وارتفاع السفلة، وخراب العامر، وعمارة الخراب، وكثرة تلوّن الأشياء، وولي الألف الخامس الدلو بطلوع القمر، وكان القمر في الثور، فدل الدلو لبرودته وعسره على سقوط العماء وعطلة أمرهم، وارتفاع السفلة والعبيد، ومحمدة البخلاء، وظهور الجيش الأسود والسواد، وعلى كثرة التفتيش، والتفكر وظهور الكلام في الأديان ومحبة الخصومات وكون القمر في شرفه يدل على قهر الملوك، وظهور ولاة الحق، ونفاذ الخير، وظهور بيوت العبادة والكف عن الدماء، والراحة والسعادة في العامّة وثبات ما يكون من العدل والخير، وطول المدّة فيه وكون البرج مائيا يدل على كثرة الأمطار والغرق وآفة من البرد يهلك فيها(2/10)
الكثير، ويلي الألف السادس برج الحوت بطلوع المشتري والرأس فيدل على المحمدة في الناس عامّة وعلى الصلاح والخير والسرور، وذهاب الشرّ، وحسن العيش، ولكل واحد من الكواكب ولاية ألف سنة، فصار عطارد خاتما في برج السنبلة.
وزعم ابن بوبخت: أنّ من يوم سارت الشمس إلى تمام خمس وعشرين من ملك أنوشروان ثلاثة آلاف وثمانمائة وسبع وستون سنة، وذلك في ألف الجدي وتدبير الشمس، ومنه إلى اليوم الأوّل من الهجرة سبع وثمانون سنة شمسية وستة وعشرون يوما، ومن الهجرة إلى قيام يزدجرد تسع سنين وثلثمائة وسبعة وثلاثون يوما فذلك الجميع إلى أن قام يزدجرد ثلاثة آلاف وتسعمائة وست وستون سنة.
وقال أبو معشر: وزعم قوم من الفرس أنّ عمر الدنيا سبعة آلاف سنة بعدّة الكواكب السبعة. وزعم أبو معشر: أنّ عمر الدنيا ثلثمائة ألف سنة وستون ألف سنة، وأنّ الطوفان كان في النصف من ذلك على رأس مائة ألف وثمانين ألف سنة.
وقال قوم: عمر الدنيا تسعة آلاف سنة لكل كوكب من الكواكب السبعة السيارة ألف سنة، وللرأس ألف سنة، وللذنب ألف سنة وشرّها ألف الذنب، وإنّ الأعمار طالت في تدبير آلاف الثلاثة العلوية، وقصرت في آلاف الكواكب السفلية.
وقال قوم: عمر الدنيا تسعة عشر ألف سنة بعدد البروج الاثني عشر لكل برج ألف سنة وبعدد الكواكب السبعة السيارة لكل كوكب ألف سنة.
وقال قوم: عمر الدنيا أحد وعشرون ألف سنة بزيادة ألف للرأس، وألف للذنب.
وقال قوم: عمر الدنيا ثمانية وسبعون ألف سنة في تدبير برج الحمل اثنا عشر ألف سنة، وفي تدبير برج الثور أحد عشر ألف سنة، وفي تدبير الجوزاء عشرة آلاف سنة، فكانت الأعمار في هذا الربع أطول، والزمان أجدّ، ثم تدبير الربع الثاني مدّة أربعة وعشرين ألف سنة، فتكون الأعمار دون ما كانت في الربع الأوّل، وتدبير الربع الثالث خمسة عشر ألف سنة، وتدبير الربع الرابع ستة آلاف سنة.
وقال قوم: كانت المدّة من آدم إلى الطوفان ألفين وثمانين سنة وأربعة أشهر وخمسة عشر يوما، ومن الطوفان إلى إبراهيم عليه السلام تسعمائة واثنتين وأربعين سنة وسبعة أشهر وخمسة عشر يوما، فذلك ثلاثة آلاف، ومائتان وثلاث وعشرون سنة.
وقال قوم من اليهود: عمر الدنيا سبعون ألف سنة منحصرة في ألف جيل ولفقوا ذلك من قول موسى عليه السلام في صلاته: إنّ الجيل سبعون سنة، ومن قوله في الزبور: إنّ إبراهيم عليه السلام قطع معه الله تعالى عهد البقاء البشر ألف جيل، فجاء من ذلك أنّ مدّة الدنيا سبعون ألف سنة، واستظهروا لقولهم هذا بما في التوراة من قوله، واعلم أنّ الله إلهك(2/11)
هو القادر المهيمن الحافظ العهد والفضل لمحبيه وحافظي وصاياه لألف جيل.
وذكر أبو الحسن عليّ بن الحسين المسعوديّ في كتاب أخبار الزمان عن الأوائل:
أنهم قالوا: كان في الأرض ثمان وعشرون ذات أرواح وأيد وبطش وصور مختلفات بعدد منازل القمر لكل منزلة أمّة منفردة تعرف بها تلك الأمّة، ويزعمون أن تلك الأمم كانت الكواكب الثابتة تدبرها، وكانوا يعبدونها، ويقال: لما خلق الله تعالى البروج الاثني عشر قسم دوامها في سلطانها، فجعل للحمل اثني عشر ألف عام، وللثور أحد عشر ألف عام، وللجوزاء عشرة آلاف عام، وللسرطان تسعة آلاف عام، وللأسد ثمانية آلاف عام، وللسنبلة سبعة آلاف عام، وللميزان ستة آلاف عام، وللعقرب خمسة آلاف عام، وللقوس أربعة آلاف عام، وللجدي ثلاثة آلاف عام، وللدلو ألفي عام، وللحوت ألف عام، فصار الجميع ثمانية وسبعين ألف عام، فلم يكن في عالم الحمل والثور والجوزاء حيوان، وذلك ثلاثة وثلاثون ألف عام، فلما كان عالم السرطان تكوّنت دواب الماء وهوامّ الأرض.
فلما كان عالم الأسد تكوّنت ذوات الأربع من الوحش والبهائم، وذلك بعد تسعة آلاف عام من خلق دواب الماء والهوام، فلما كان عالم السنبلة، تكوّن الإنسانان الأوّلان، وهما:
أدمانوس، وحنوانواس، وذلك لتمام سبعة عشر ألف عام لخلق دواب الماء، وهوامّ الأرض ولتمام ثمانية آلاف عام من خلق ذوات الأرض، وخلقت الأرض في عالم الميزان، ويقال:
بل خلقت الأرض أوّلا، وأقامت خالية ثلاثة وثلاثين ألف عام ليس فيها حيوان ولا عالم روحانيّ، ثم خلق الله تعالى هوامّ الماء، ودواب الأرض، وما بعد ذلك على ما تقدّم ذكره، فلما تمّ أربعة وعشرون ألف عام لخلق دواب الماء وهوامّ الأرض، ولتمام خمسة عشر ألف عام من خلق ذوات الأربع، ولتتمة سبعة آلاف عام من لدن تكوّن الإنسانين خلقت الطيور.
ويقال: إنّ مدّة مقام الإنسانين ونسلهما في الأرض مائة ألف وثلاثة وثلاثون ألف عام منها لزحل: ستة وخمسون ألف عام، وللمشتري أربعة وأربعون ألف عام، وللمرّيخ ثلاثة وثلاثون ألف عام، ويقال: إنّ الأمم المخلوقات قبل آدم هي كانت الجبلة الأولى، وهي ثمان وعشرون أمّة بإزاء منازل القمر خلقت من أمزجة مختلفة أصلها: الماء، والهواء، والأرض، والنار، فتباين خلقها، فمنها أمّة خلقت طوالا زرقا ذوات أجنحة كلامهم قرقعة على صفة الأسود، ومنها أمّة أبدانهم أبدان الأسود ورؤوسهم رؤوس الطير لهم شعور، وآذان طوال، وكلامهم دويّ، ومنها أمّة لها وجهان: وجه أمامها، ووجه خلفها، ولها أرجل كثيرة، وكلامهم كلام الطير، ومنها أمّة ضعيفة في صور الكلاب لها أذناب، وكلامهم همهمة لا يعرف، ومنها أمّة تشبه بني آدم أفواههم في صدورهم يصفرون إذا تكلموا تصفيرا، ومنها أمّة يشبهون نصف إنسان لهم عين واحدة، ورجل يقفزون بها قفزا، ويصيحون كصياح الطير، ومنها أمّة لها وجوه كوجوه الناس وأصلاب كأصلاب السلاحف في رؤوسهم قرون(2/12)
طوال لا يفهم كلامهم، ومنها أمّة مدوّرة الوجوه لهم شعور بيض، وأذناب كأذناب البقر ورؤوسهم في صدورهم لهم شعور وثديّ، وهم أناس كلهنّ ليس فيهنّ ذكر يلقحن من الريح، ويلدن أمثالهنّ، ولهنّ أصوات مطربة يجتمع إليهنّ كثير من هذه الأمم لحسن أصواتهنّ، ومنها أمّة على خلق بني آدم سود وجوههم، ورؤوسهم كرؤوس الغربان، ومنها أمّة في خلق الهوام والحشرات إلا أنها عظيمة الأجسام تأكل، وتشرب مثل الأنعام، ومنها أمّة كوجوه دواب البحر لها أنياب كأنياب الخنازير، وآذان طوال، ويقال: إنّ هذه الثمانية والعشرين أمّة تناكحت، فصارت مائة وعشرين أمّة.
وسئل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: هل كان في الأرض خلق قبل آدم يعبدون الله تعالى؟ فقال: نعم خلق الله الأرض، وخلق فيها الجنّ يسبحون الله ويقدّسونه لا يفترون، وكانوا يطيرون إلى السماء، ويلقون الملائكة، ويسلمون عليهم ويستعملون منهم خبر ما في السماء، ثم إنّ طائفة منهم تمرّدت، وعتت عن أمر ربها، وبغت في الأرض بغير الحق، وعدا بعضهم على بعض، وجحدوا الربوبية، وكفروا بالله، وعبدوا ما سواه، وتغايروا على الملك حتى سفكوا الدماء، وأظهروا في الأرض الفساد، وكثر تقاتلهم، وعلا بعضهم على بعض، وأقام المطيعون لله تعالى على دينهم، وكان إبليس من الطائفة المطيعة لله والمسبحين له، وكان يصعد إلى السماء، فلا يحجب عنها لحسن طاعته.
ويروى: أنّ الجنّ كانت تفترق على إحدى وعشرين قبيلة، وأنّ بعد خمسة آلاف سنة ملكوا عليهم ملكا يقال له: شملال بن ارس، ثم افترقوا فملكوا عليهم: خمسة ملوك، وأقاموا على ذلك دهرا طويلا، ثم أغار بعضهم على بعض، وتحاسدوا، فكانت بينهم وقائع كثيرة، فأهبط الله تعالى إليهم إبليس، وكان اسمه بالعربية: الحارث، وكنيته أبو مرّة، ومعه عدد كثير من الملائكة، فهزمهم وقتلهم، وصار إبليس ملكا على وجه الأرض، فتكبر وطغى، وكان من امتناعه من السجود لآدم ما كان، فأهبطه الله تعالى إلى الأرض، فسكن البحر، وجعل عرشه على الماء، فألقيت عليه شهوة الجماع، وجعل لقاحه لقاح الطير وبيضه.
ويقال: إنّ قبائل الجنّ من الشياطين خمس وثلاثون قبيلة، خمس عشرة قبيلة تطير في الهواء وعشر قبائل مع لهب النار، وثلاثون قبيلة يسترقون السمع من السماء، ولكل قبيلة ملك موكل بدفع شرّها، ومنهم صنف من السعالي «1» يتصوّرون في صور النساء الحسان، ويتزوّجن برجال الأنس ويلدن منهم، ومنهم صنف على صور الحيات إذا قتل أحد منهم واحدة هلك من وقته، فإن كانت صغيرة هلك ولده أو عزيز عنده.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إنّ الكلاب من الجنّ فإذا رأوكم تأكلون،(2/13)
فألقوا إليهم من طعامكم، فإنّ لهم أنفسا يعني إنهم يأخذون بالعين.
وقد روي: أنّ الأرض كانت معمورة بأمم كثيرة منهم: الطمّ، والرمّ، والجنّ، والبن، والحسن، والبسن، وأنّ الله تعالى لما خلق السماء عمّرها بالملائكة، ولما خلق الله الأرض عمرها بالجنّ، فعاثوا وسفكوا الدماء، فأنزل الله إليهم جندا من الملائكة، فأتوا على أكثرهم قتلا وأسرا، فكان ممن أسر إبليس، وكان اسمه عزازيل، فلما صعد به إلى السماء أخذ نفسه بالاجتهاد في العبادة والطاعة رجاء أن يتوب الله عليه، فلما لم يجد ذلك عليه شيئا خامر الملائكة القنوط، فأراط الله أن يظهر لهم خبث طويته، وفساد نيته، فخلق آدم فامتحنه بالسجود له ليظهر للملائكة تكبره، وإبانة ما خفي عنهم من مكتوم أنبائه، وإلى عمارة الأرض قبل آدم ممن أفسد فيها أشار بقوله تعالى حكاية عن الملائكة: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ
[البقرة/ 30] يعنون كما فعل بها من قبل، والله أعلم بمراده. وقال أبو بكر بن أحمد بن عليّ بن وحشية في كتاب الفلاحة: إنه عرّب هذا الكتاب، ونقله من لسان الكلدانيين إلى اللغة العربية، وإنه وجده من وضع ثلاثة حكماء قدماء وهم: صعريت وسوساد وفوقاي ابتدأه الأوّل، وكان ظهوره في الألف السابعة من سبعة آلاف سني زحل، وهي الألف التي يشارك فيها زحل القمر، وتممه الثاني، وكان ظهوره في آخر هذه الألف، وأكمله الثالث، وكان ظهوره بعد مضيّ أربعة آلاف سنة من دور الشمس الذي هو سبعة آلاف سنة، وإنه نظر إلى ما بين زمان الأوّل والثالث، فكان ثمانية عشر ألف سنة شمسية، وبعض الألف التاسعة عشر، وقد اختلف أهل الإسلام في هذه المسألة أيضا، فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الدنيا جمعة من جمع الآخرة، واليوم ألف سنة، فذلك سبعة آلاف سنة، وروى سفيان عن الأعمش عن أبي صالح قال: قال كعب الأحبار: الدنيا ستة آلاف سنة.
وعن وهب بن منبه أنه قال: قد خلا من الدنيا خمسة آلاف سنة وستمائة سنة إني لأعرف كل زمان منها، ومن فيه من الأنبياء، فقيل له: فكم الدنيا؟ قال: ستة آلاف سنة.
وروى عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أجلكم في أجل من كان قبلكم من صلاة العصر إلى مغرب الشمس» .
وفي حديث أبي هريرة: الحقب ثمانون عاما اليوم منها سدس الدنيا، والحقب هنا بكسر الحاء وضمها.
قال أبو محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمدانيّ في كتاب الإكليل: وكأن الدنيا جزء من أربعة آلاف وسبعمائة وثلاثة وعشرين جزءا وثلث جزء من الحقب، على أنّ السنة القمرية ثلثمائة وأربعة وخمسون يوما وخمس وسدس يوم، فإذا كانت الدنيا ستة آلاف سنة، واليوم ألف سنة تكون سنين قمرية ستة آلاف ألف سنة، فإذا جعلناه جزءا وضربناه في أجزاء(2/14)
الحقب، وهي أربعة آلاف وسبعمائة سنة وثلاث وعشرون وثلث خرج من السنين: ثمانية وعشرون ألف ألف ألف وثلثمائة ألف ألف وأربعون ألف ألف، وإذا كانت جمعة من جمع الآخرة زدنا مع هذا العدد مثل سدسه، وهذا عدد الحقب.
وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبريّ: الصواب من القول ما دل على صحته الخبر الوارد، فذكر قوله عليه السلام: «أجلكم في أجل من كان قبلكم من صلاة العصر إلى مغرب الشمس» ، وقوله عليه السلام: «بعثت أنا والساعة كهاتين» وأشار بالسبابة والوسطى، وقوله عليه السلام: «بعثت أنا والساعة جميعا إن كادت لتسبقني» . قال: فمعلوم إن كان اليوم أوّله طلوع الشمس، وآخره غروب الشمس، وكان صحيحا عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قوله: «أجلكم في أجل من كان قبلكم من صلاة العصر إلى مغرب الشمس» ، وقوله: «بعثت أنا والساعة كهاتين» وأشار بالسبابة والوسطى، وكان قدر ما بين أوسط أوقات العصر، وذلك إذا صار ظل كل شيء مثليه على التحرّي إنما يكون قدر نصف سبع اليوم يزيد قليلا أو ينقص قليلا، وكذلك فضل ما بين الوسطى والسبابة، إنما يكون نحوا من ذلك، وكان صحيحا مع ذلك قوله عليه السلام: «لن يعجز الله أن يؤخر هذه الأمّة نصف يوم» يعني نصف اليوم الذي مقداره ألف سنة، فأولى القولين اللذين أحدهما عن ابن عباس والآخر عن كعب. قول ابن عباس:
إنّ الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف، وإذا كان كذلك، وكان قد جاء عنه عليه السلام: أنّ الباقي من ذلك في حياته نصف يوم، وذلك خمسمائة عام إذا كان ذلك نصف يوم من الأيام التي قدر الواحد منها ألف عام كان معلوما أنّ الماضي من الدنيا إلى وقت قوله عليه السلام: «ستة آلاف سنة وخمسمائة سنة» أو نحو ذلك، وقد جاء عنه عليه السلام خبر يدل على صحة قول من قال: إنّ الدنيا كلها ستة آلاف سنة لو كان صحيحا لم يعد القول به إلى غيره، وهو حديث أبي هريرة يرفعه الحقب ثمانون عاما اليوم منها سدس الدنيا، فتبين من هذا الخبر أن الدنيا كلها ستة آلاف سنة، وذلك أنه حيث كان اليوم الذي هو من أيام الآخرة مقداره ألف سنة من سني الدنيا، وكان اليوم الواحد من ذلك سدس الدنيا، كان معلوما أن جميعها ستة أيام من أيام الآخرة، وذلك ستة آلاف سنة، وقال أبو القاسم السهيليّ «1» : وقد مضت الخمسمائة من وفاته صلّى الله عليه وسلّم إلى اليوم بنيف عليها، وليس في قوله: لن يعجز الله أن يؤخّر هذه الأمّة نصف يوم، ما ينفي الزيادة على النصف، ولا في قوله: بعثت أنا والساعة كهاتين، ما يقطع به على صحة تأويله، يعني الطبري، فقد نقل في تأويله غير هذا وهو أنه ليس بينه وبين الساعة نبيّ، ولا شرعة غير شرعته مع التقريب لحينها، كما قال تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ
[القمر/ 1] ، وقال: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ
[النحل/ 1] ولكن إذا قلنا: إنه عليه السلام إنما بعث في الألف الآخر بعد ما مضت منه سنون(2/15)
ونظرنا إلى الحروف المقطعة في أوائل السور وجدناها أربعة عشر حرفا يجمعها قولك. (ألم يسطع نص حق كره) . ثم تأخذ العدد على حساب أبي جاد، فيجيء تسعمائة وثلاثة، ولم يسمّ الله تعالى أوائل السور إلا هذه الحروف، فليس يبعد أن يكون من بعض مقتضياتها، وبعض فوائدها الإشارة إلى هذا العدد من السنين لما قدّمناه من حديث الألف السابع الذي بعث عليه السلام فيه غير أن الحساب يحتمل أن يكون من مبعثه أو من وفاته أو من هجرته وكل قريب بعضه من بعض، فقد جاء أشراطها، ولكن لا تأتيكم إلا بغتة، وقد روى أنه عليه السلام قال: «إن أحسنت أمّتي فبقاؤها يوم من أيام الآخرة» وذلك ألف سنة، وإن أساءت فنصف يوم. ففي الحديث تتميم للحديث المتقدّم، وبيان له، إذ قد نقضت الخمسمائة والأمة باقية، وقال شادان البلخيّ المنجم: مدّة ملة الإسلام ثلثمائة وعشرين سنين، وقد ظهر كذب قوله ولله الحمد، وقال أبو معشر: يظهر بعد المائة والخمسين من سني الهجرة اختلاف كثير.
وقال حراس: إنّ المنجمين أخبروا كسرى أنوشروان بتملك العرب، وظهور النبوّة فيهم، وأنّ دليلهم الزهرة، وهي في شرفها، والزهرة دليل العرب، فتكون مدّة ملك نبوّتهم ألفا وستين سنة، ولأنّ طالع القرآن الدال على ذلك برج الميزان والزهرة صاحبته في شرفها، قال: وسأل كسرى وزيره بزرجمهر عن ذلك، فأعلمه أن الملك يخرج من فارس، وينتقل إلى العرب، وتكون ولادة القائم بإمرة العرب لخمس وأربعين سنة من وقت القران، وأنّ العرب تملك المشرق والمغرب من أجل أن المشتري دليل فارس قد قبل تدبير الزهرة دليل العرب، والقران قد انتقل من المثلثة الهوائية إلى المثلثة المائية، وإلى برج العقرب منها، وهو دليل العرب أيضا، وهذه الأدلة تقتضي بقاء الملة الإسلامية بقدر دور الزهرة، وهو ألف وستون سنة شمسية.
وقال نفيل الروميّ: وكان في أيام بني أمية تبقى ملة الإسلام، بقدر مدّة القران الكبيرة، وهي تسعمائة وستون سنة شمسية، فإذا عاد القران بعد هذه المدة إلى برج العقرب كما كان في ابتداء الملة، وتغير وضع تشكيل الفلك عن هيئته في الابتداء، فحينئذ يفتر العمل، ويتجدّد ما يوجب خلاف الظنّ.
قال: واتفقوا على أنّ خراب العالم يكون باستيلاء الماء والنار حتى تهلك المكوّنات بأسرها، وذلك إذا قطع قلب الأسد أربعا وعشرين درجة من برج الأسد الذي هو حدّ المرّيخ بعد تسعمائة وستين سنة شمسية من قران الملة، ويقال: إنّ ملك رابلستان وهي عزبة بعث إلى عبد الله أمير المؤمنين المأمون بحكيم اسمه دوبان في جملة هدية، فأعجب به المأمون، وسأله عن مدّة ملك بني العباس، فأخبره بخروج الملك عن عقبه، واتصاله في عقب أخيه، وأنّ العجم تغلبهم على الخلافة، فيتغلب الديلم أوّلا ثم يسوء حالهم، حتى يظهر الترك من(2/16)
شمال المشرق، فيملكون الفرات والروم والشام، وقال يعقوب بن إسحاق الكنديّ: مدّة ملة الإسلام ستمائة وثلاث وتسعون سنة.
وقال الفقيه الحافظ أبو محمد عليّ بن أحمد بن سعيد بن حزم «1» : وأما اختلاف الناس في التاريخ، فإنّ اليهود يقولون: أربعة آلاف سنة، والنصارى يقولون: الدنيا خمسة آلاف سنة، وأما نحن يعني أهل الإسلام، فلا نقطع على علم عدد معروف عندنا، ومن ادّعى في ذلك سبعة آلاف سنة أو أكثر أو أقلّ فقد قال ما لم يأت قط عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه لفظة تصح، بل صح عنه عليه السلام خلافه، بل نقطع على أن للدنيا أمدا لا يعلمه إلا الله تعالى، قال الله تعالى: ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ
[الكهف/ 51] ، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما أنتم في الأمم قبلكم إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود والشعرة السوداء في الثور الأبيض» . وهذه نسبة من تدبرها، وعرف مقدار عدد أهل الإسلام، ونسبة ما بأيديهم من معمور الأرض، وإنه الأكثر علم أن للدنيا أمدا لا يعلمه إلا الله تعالى، وكذلك قوله عليه السلام: «بعثت أنا والساعة كهاتين» وضم أصبعيه المقدّستين السبابة والوسطى، وقد جاء النص: بأن الساعة لا يعلم متى تكون إلا الله تعالى لا أحد سواه، فصح أنه صلّى الله عليه وسلّم، إنما عني شدّة القرب لا فضل السبابة على السباحة إذ لو أراد ذلك لأخذت نسبة ما بين الإصبعين، ونسب من طول الأصبع، فكان يعلم بذلك متى تقوم الساعة، وهذا باطل وأيضا فكان تكون نسبته صلّى الله عليه وسلّم إيانا من قبلنا بأننا كالشعرة في الثور كذبا، ومعاذ الله من ذلك، فصح أنه عليه السلام، إنما أراد شدّة القرب، وله صلّى الله عليه وسلّم منذ بعث أربعمائة عام ونيف، والله تعالى أعلم بما بقي للدنيا، فإذا كان هذا العدد العظيم لا نسبة له عندما سلف لقتله، وتفاهته بالإضافة إلى ما مضى، فهو الذي قاله صلّى الله عليه وسلّم من أننا فيمن مضى كالشعرة في الثور أو الرقمة في ذراع الحمار.
وقد رأيت بخط الأمير أبي محمد عبد الله بن الناصر قال: حدّثني محمد بن معاوية القرشيّ أنه رأى بالهند بلدا له اثنتان وسبعون ألف سنة، وقد وجد محمود بن سبكتكين بالهند مدينة يؤرخون بأربعمائة ألف سنة، قال أبو محمد: إلا أن لكل ذلك أوّلا، ولا بدّ ونهاية لم يكن شيء من العالم موجودا قبله، ولله الأمر من قبل ومن بعد، والله أعلم.
ذكر التواريخ التي كانت للأمم قبل تاريخ القبط
التاريخ: كلمة فارسية أصلها: ماروز، ثم عرّب.
قال محمد بن أحمد بن محمد بن يوسف البلخيّ في كتاب مفاتيح العلوم، وهو(2/17)
كتاب جليل القدر، وهذا اشتقاق بعيد لولا أنّ الرواية جاءت به، وقال قدامة بن جعفر في كتاب الخراج: تاريخ كل شيء آخره، وهو في الوقت غايته، يقال: فلان تاريخ قومه، أي إليه ينتهي شرفهم، ويقال: ورّخت الكتاب توريخا وأرخته تأريخا، اللغة الأولى لتميم، والثانية لقيس، ولكل أهل ملة تاريخ، فكانت الأمم تؤرخ أوّلا بتاريخ الخليقة، وهو ابتداء كون النسل من آدم عليه السلام، ثم أرخت بالطوفان، وأرخت ببخت نصر، وأرخت بفيلبس، وأرخت بالإسكندر، ثم بأغشطش، ثم بأنطيس، ثم بدقلطيانوس، وبه تؤرخ القبط، لم يكن بعد تاريخ القبط إلا تاريخ الهجرة، ثم تاريخ يزدجرد، فهذه تواريخ الأمم المشهورة، وللناس تواريخ أخر قد انقطع ذكرها.
فأما تاريخ الخليقة، ويقال له: ابتداء كون النسل، وبعضهم يقول: بدو التحرّك، فإنّ لأهل الكتاب من اليهود والنصارى والمجوس في كيفيته، وسياقة التاريخ منه خلافا كثيرا، قال المجوس والفرس: عمر العالم اثنا عشر ألف عام على عدد بروج الفلك وشهور السنة، وزعموا أنّ زرادشت صاحب شريعتهم قال: إن الماضي من الدنيا إلى وقت ظهوره ثلاثة آلاف ومائتا سنة وثمان وخمسون سنة، وإذا حسبنا من أوّل يوم كيومرت الذي هو عندهم الإنسان الأوّل، وجمعنا مدّة كل من ملك بعده، فإنّ الملك ملصق فيهم غير منقطع عنهم، كان العدد منه إلى الإسكندرية ثلاثة آلاف وثلثمائة وأربعا وخمسين سنة، فإذا لم يتفق التفصيل مع الجملة، وقال قوم: الثلاثة الآلاف الماضية إنما هي من خلق كيومرت فإنه مضى قبله ألف سنة، والفلك فيها واقف غير متحرّك، والطبائع غير مستحيلة، والأمّهات غير متمازجة، والكون والفساد غير موجود فيها، والأرض غير عامرة، فلما تحرّك الفلك حدث الإنسان الأوّل في معدن النهار، وتولد الحيوان وتوالد وتناسل الإنس فكثروا، وامتزجت أجزاء العناصر للكون والفساد، فعمرت الدنيا، وانتظم العالم.
وقال اليهود: الماضي من آدم إلى الإسكندرية ثلاثة آلاف وأربعمائة وثمان وأربعون سنة.
وقال النصارى: المدّة بينهما خمسة آلاف ومائة وثمانون سنة، وزعموا أن اليهود نقصوها، ليقع خروج عيسى ابن مريم عليه السلام في الألف الرابع وسط السبعة آلاف التي هي مقدار العالم عندهم، حتى تخالف ذلك الوقت الذي سبقت البشارة من الأنبياء الذين كانوا بعد موسى بن عمران عليه السلام، بولادة المسيح عيسى، وإذا جمع ما في التوراة التي بيد اليهود من المدّة التي بين آدم عليه السلام، وبين الطوفان، كانت ألفا وستمائة وستا وخمسين سنة، وعند النصارى في إنجيلهم ألفان ومائتا سنة واثنتان وأربعون سنة، وتزعم اليهود أن توراتهم بعيدة عن التخاليط، وتزعم النصارى: أن توراة السبعين التي هي بأيديهم لم يقع فيها تحريف، ولا تبديل، وتقول اليهود: فيها خلاف ذلك، وتقول السامرية: بأنّ(2/18)
توارثهم هي الحقّ، وما عداها باطل، ولس في اختلافهم ما يزيل الشك بل يقوّي الجالبة له، وهذا الاختلاف بعينه بين النصارى أيضا في الإنجيل، وذلك أنّ له عند النصارى أربع نسخ مجموعة في مصحف واحد، أحدهما إنجيل متى، والثاني لمارقوس، والثالث للوقا، والرابع ليوحنا، قد ألف كل من هؤلاء الأربعة إنجيلا على حسب دعوته في بلاده، وهي مختلفة اختلافا كثيرا، حتى في صفات المسيح عليه السلام، وأيام دعوته، ووقت الصلب بزعمهم، وفي نسبه أيضا، وهذا الاختلاف لا يحتمل مثله، ومع هذا فعند كل من أصحاب مرقيون، وأصحاب ابن ديصان إنجيل يخالف بعضه هذا الأناجيل، ولأصحاب ماني إنجيل على حدة يخالف ما عليه النصارى من أوّله إلى آخره، ويزعمون أنه هو الصحيح، وما عداه باطل.
ولهم أيضا إنجيل يسمى: إنجيل السبعين ينسب إلى تلامس، والنصارى وغيرهم ينكرونه، وإذا كان الأمر من الاختلاف بين أهل الكتاب، كما قد رأيت ولم يكن للقياس والرأي مدخل في تمييز حق ذلك من باطله امتنع الوقوف على حقيقة ذلك من قبلهم، ولم يعوّل على شيء من أقوالهم فيه، وأما غير أهل الكتاب، فإنهم أيضا مختلفون في ذلك.
قال أسوش: بين خلق آدم وبين ليلة الجمعة أوّل الطوفان ألفا سنة ومائتا سنة وست وعشرون سنة وثلاثة وعشرون يوما وأربع ساعات، وقال ما شاه: واسمه منشا بن أثري منجم المنصور والمأمون في كتاب القرانات: أوّل قران وقع بين زحل والمشتري في بدء التحرّك، يعني ابتداء النسل من آدم كان على مضيّ خمسمائة وتسع سنين وشهرين وأربعة وعشرين يوما مضت من ألف المريخ، فوقع القران في برج الثور من المثلثة الأرضية على سبع درج واثنتين وأربعين دقيقة، وكان انتقال الممرّ من برج الميزان، ومثلثته الهوائية إلى برج العقرب، ومثلثته المائية بعد ذلك بألفي سنة وأربعمائة سنة واثنتي عشرة سنة وستة أشهر وستة وعشرين يوما، ووقع الطوفان في الشهر الخامس من السنة الأولى من القران الثاني من قرانات هذه المثلثة المائية، وكان بين وقت القران الأوّل الكائن في بدء التحرّك، وبين الشهر الذي كان فيه الطوفان ألفان وأربعمائة وثلاث وعشرون سنة وستة أشهر واثنا عشر يوما، قال: وفي كل سبعة آلاف سنة وسنتين وعشرة أشهر وستة أيام يرجع القران إلى موضعه من برج الثور الذي كان في بدء التحرّك، وهذا القول أعزك الله هو الذي اشتهر، حتى ظنّ كثير من الملل، أنّ مدّة بقاء الدنيا سبعة آلاف سنة فلا تغترّ به، وتنبه إلى أصله تجده أوهى من بيت العنكبوت فاطرحه.
وقيل: كان بين آدم وبين الطوفان ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وثلاثون سنة، وقيل:
كانت بينهما مدّة ألفين ومائتين وست وخمسين سنة، وقيل: ألفان وثمانون سنة.
وأما تاريخ الطوفان: فإنه يتلو تاريخ الخليقة، وفيه من الاختلاف ما لا يطمع في حقيقته من أجل الاختلاف فيما بين آدم وبينه وفيما بينه وبين تاريخ الإسكندر، فإن اليهود(2/19)
عندهم أنّ بين الطوفان، وبين الإسكندر ألفا وسبعمائة واثنتين وتسعين سنة، وعند النصارى بينهما ألفا سنة وتسعمائة وثمان وثلاثون سنة، والفرس وسائر المجوس، والكلدانيون أهل بابل، والهند، وأهل الصين، وأصناف الأمم المشرقية ينكرون الطوفان، وأقرّ به بعض الفرس، لكنهم قالوا: لم يكن الطوفان بسوى الشام والمغرب، ولم يعمّ العمران كله ولا غرّق إلا بعض الناس، ولم يتجاوز عقبة حلوان، ولا بلغ إلى ممالك المشرق، قالوا: ووقع في زمان طمهورت، وإنّ أهل المغرب لما أنذر حكماؤهم بالطوفان اتخذوا المباني العظيمة كالهرمين بمصر، ونحوهما ليدخلوا فيها عند حدوثه، ولما بلغ طمهورت الإنذار بالطوفان قبل كونه بمائة وإحدى وثلاثين سنة، أمر باختيار مواضع في مملكته صحيحة الهواء والتربة، فوجد ذلك بأصبهان «1» ، فأمر بتجليد العلوم، ودفنها فيها في أسلم المواضع، ويشهد لهذا ما وجد بعد الثلاثمائة من سني الهجرة في حيّ من مدينة أصبهان من التلال التي انشقت عن بيوت مملوءة أعد الأعدّة كثيرة قد ملئت من لحاء الشجر التي تلبس بها القسيّ «2» ، وتسمى:
التور مكتوبة بكتابة لم يدر أحد ما هي؟.
وأما المنجمون: فإنهم صححوا هذه السنين من القران الأوّل من قرانات العلويين:
زحل والمشتري التي أثبت علماء أهل بابل، والكلدانيين مثلها إذا كان الطوفان ظهوره من ناحيتهم، فإنّ السفينة استقرّت على الجوديّ «3» وهو غير بعيد من تلك النواحي، قالوا: وكان هذا القران قبل الطوفان بمائتين وعشرين سنة ومائة وثمانية أيام، واعتنوا بأمرها وصححوا ما بعدها، فوجدوا ما بين الطوفان، وبين أوّل ملك بخت نصر الأوّل ألفي سنة وستمائة وأربع سنين، وبين بخت نصر هذا، وبين الإسكندر أربعمائة وست وثلاثون سنة، وعلى ذلك بنى أبو معشر أوساط الكواكب في زيجه، وقال: كان الطوفان عند اجتماع الكواكب في آخر برج الحوت، وأوّل برج الحمل، وكان بين وقت الطوفان، وبين تاريخ الإسكندر قدر ألفي سنة وسبعمائة وتسعين سنة مكبوسة وسبعة أشهر وستة وعشرين يوما، وبينه وبين يوم الخميس أوّل المحرّم من السنة الأولى من سني الهجرة النبوية ألف ألف يوم وثلثمائة ألف يوم وتسعة وخمسون ألف يوم وتسعمائة يوم وثلاثة وسبعون يوما، يكون من السنين الفارسية المصرية ثلاثة آلاف سنة، وسبعمائة وخمسا وعشرين سنة، وثلثمائة يوم وثمانية وأربعين يوما.
ومنهم من يرى أنّ الطوفان كان يوم الجمعة، وعند أبي معشر أنه كان يوم الخميس، ولما تقرّر عنده الجملة المذكورة، وخرجت له المدّة التي تسمى: أدوار الكواكب، وهي بزعمهم ثلثمائة ألف وستون ألف سنة شمسية، وأوّلها متقدّم على وقت الطوفان بمائة ألف(2/20)
وثمانين ألف سنة شمسية، حكم بأنّ الطوفان كان في مائة ألف وثمانين ألف سنة، وسيكون فيما بعد كذلك، ومثل هذا لا يقبل إلّا بحجة أو من معصوم.
وأما تاريخ بخت نصر: فإنه على سني القبط، وعليه يعمل في استخراج مواضع الكواكب من كتاب المجسطي، ثم أدوار قالليس، وأوّل أدواره في سنة ثماني عشرة وأربعمائة لبخت نصر، وكل دور منها ست وسبعون سنة شمسية، وكان قالليس من جلّة أصحاب التعاليم، وبخت نصر هذا ليس هو الذي خرّب بيت المقدس، وإنما هو آخر كان قبل بخت نصر مخرّب بيت المقدس، بمائة وثلاث وأربعين سنة، وهو اسم فارسيّ أصله بخت برسي، ومعناه كثير البكاء والأنين، ويقال له بالعبرانية: نصار، وقيل تفسيره: عطارد، وهو ينطق وذلك لتحيبه على الحكمة، وتغريب أهلها ثم عرّب فقيل: بخت نصر.
وأما تاريخ فيلبس: فإنه على سني القبط، وكثيرا ما يستعمل هذا التاريخ من موت الإسكندر البناء المقدونيّ، وكلا الأمرين سواء، فإن القائم بعد البناء هو فيلبس فسواء كان من موت الأوّل أو من قيام الآخر، فإن الحالة المؤرخة هي كالفصل المشترك بينهما، وفيلبس هذا هو أبو الإسكندر المقدونيّ، ويعرف هذا التاريخ: بتاريخ الإسكندرانيين، وعله بنى تاون الإسكندرانيّ في تاريخه المعروف بالقانون، وأعلم.
وأما تاريخ الإسكندرية فإنه على سني الروم عليه يعمل أكثر الأمم إلى وقتنا هذا من أهل الشام، وأهل بلاد الروم، وأهل المغرب والأندلس، والفرنج واليهود، وقد تقدّم الكلام عليه عند ذكر الإسكندرية من هذا الكتاب.
وأما تاريخ أغشطش «1» فإنه لا يعرف اليوم أحد يستعمله، وأغشطش هذا هو أوّل القياصرة، ومعنى قيصر بالرومية شقّ عنه، فإنّ أغشطش هذا لما حملت به أمّه ماتت في المخاض، فشق بطنها حتى أخرج منه، فقيل: قيصر، وبه يلقب من بعده من ملوك الروم، ويزعم النصارى أنّ المسيح عليه السلام: ولد لأربعين سنة من ملكه، وفي هذا القول نظر، فإنه لا يصح عند سياقه السنين، والتواريخ بل يجيء تعديل ولادته عليه السلام في السنة السابعة عشر من ملكه. وأما تاريخ أنطينس: فإن بطليموس صحح الكواكب الثابتة في كتابه المعروف بالمجسطيّ لأوّل ملكه على الروم وسنو هذا التاريخ رومية.
ذكر تاريخ القبط
إعلم: أن السنة الشمسية عبارة عن عود الشمس في فلك البروج إذا تحرّكت على(2/21)
خلاف حركة الكل إلى أيّ نقطة فرضت، ابتداء حركتها، وذلك أنها تستوفي الأزمنة الأربعة التي هي الربيع، والصيف، والخريف، والشتاء، وتحوز طبائعها الأربع، وتنتهي إلى حيث بدأت، وفي هذه المدّة يستوفي القمر اثنتي عشرة عودة، وأقلّ من نصف عودة، ويستهل اثنتي عشرة مرّة، فجعلت المدّة التي فيها عودات القمر الاثنتا عشرة في فلك البروج سنة للقمر على جهة الاصطلاح، وأسقط الكسر الذي هو أحد عشر يوما بالتقريب، فصارت السنة على قسمين: سنة شمسية، وسنة قمرية، وجميع من على وجه الأرض من الأمم أخذوا تواريخ سنيهم من مسير الشمس والقمر، فالآخذون بسير الشمس خمس أمم وهم:
اليونانيون، والسريانيون، والقبط، والروم، والفرس، والآخذون بسير القمر خمس أمم هم:
الهند، والعرب، واليهود، والنصارى، والمسلمون.
فأهل قسنطينية والإسكندرية، وسائر الروم والسريانيون والكلدانيون، وأهل مصر، ومن يعمل برأي المعتضد أخذوا بالسنة الشمسية التي هي ثلثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم بالتقريب، وصيروا السنة ثلثمائة وخمسة وستين يوما، وألحقوا الأرباع بها في كل أربع سنين يوما حتى انجبرت السنة، وسمّوا تلك السنة كبيسة لانكباس الأرباع فيها.
وأما قبط مصر القدماء: فإنهم كانوا يتركون الأرباع حتى يجتمع منها أيام سنة تامّة، وذلك في كل ألف وأربعمائة وستين سنة، ثم يكبسونها سنة واحدة، ويتفقون حينئذ في أوّل تلك السنة مع أهل الإسكندرية وقسطنطينية.
وأما الفرس: فإنهم جعلوا السنة ثلثمائة وخمسة وستين يوما من غير كبس حتى اجتمع لهم من ربع اليوم في مائة وعشرين سنة أيام شهر تامّ، ومن خمس الساعة الذي يتبع ربع اليوم عندهم، يوم واحد، فألحقوا الشهر التامّ بها في كل مائة وست عشرة سنة، واقتفى أثرهم في هذا أهل خوارزم القدماء والصفد، ومن دان بدين فارس، وكانت الملوك البيشدادية منهم، وهم الذين ملكوا الدنيا بحذافيرها يعملون السنة ثلثمائة وخمسة وستين يوما كل شهر منها: ثلاثون يوما سواء، وكانوا يكبسون السنة كل ست سنين بيوم، ويسمونها كبيسة، وكل مائة وعشرين سنة بشهرين أحدهما بسبب خمسة الأيام، والثاني بسبب ربع اليوم، وكانوا يعظمون تلك السنة ويسمونها المباركة.
وأما قدماء القبط: وأهل فارس في الإسلام، وأهل خوارزم والصفد فتركوا الكسور أعني الربع، وما يتبعه أصلا. وأما العبرانيون، وجميع بني إسرائيل، والصابئون، والحرّانيون فإنهم أخذوا السنة من مسير الشمس، وشهورها من مسير القمر لتكون أعيادهم، وصيامهم على حساب قمريّ، وتكون مع ذلك حافظة لأوقاتها من السنة، فكبسوا كل تسع عشرة سنة قمرية بستة أشهر، ووافقهم النصارى في صومهم، وبعض أعيادهم لأن مدار أمرهم على نسخ اليهود، وخالفوهم في الشهور إلى مذهب الروم والسريانيين، وكانت(2/22)
العرب في جهالتها تنظر إلى فضل ما بين سنتهم، وسنة القمر، وهو عشرة أيام وإحدى وعشرون ساعة وخمس ساعة، فيلحقون ذلك بها شهرا كلما تمّ منها ما يستوفي أيام شهر، ولكنهم كانوا يعملون على أنه عشرة أيام وعشرون ساعة، وكان يتولى ذلك النّسأة من بني كنانة المعروفون بالقلامس، وأحدهم قلمس، وهو البحر الغزير، وهو أبو تمام جنادة بن عوف بن أمية بن قلع، وأوّل من فعل ذلك منهم: حذيفة بن عبد فقيم، وآخر من فعله أبو تمامة، وأخذ العرب الكبس من اليهود قبل مجيء دين الإسلام بنحو المائتي سنة، وكانوا يكبسون في كل أربعة وعشرين سنة، تسعة أشهر حتى تبقى أشهر السنة ثابتة مع الأزمنة على حالة واحدة لا تتأخر عن أوقاتها، ولا تتقدّم إلى أن حج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنزل الله تعالى عليه: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ
[التوبة/ 37] ، فخطب صلّى الله عليه وسلّم وقال: «إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض فبطل النسيء، وزالت شهور العرب عما كانت عليه، وصارت أسماؤها غير دالة على معانيها» .
وأما أهل الهند فإنهم يستعملون رؤية الأهلة في شهورهم، ويكبسون كل تسعمائة سنة وسبعين يوما بشهر قمريّ، ويجعلون ابتداء تاريخهم: اتفاق اجتماع في أوّل دقيقة من برج ما، وأكثر طلبهم لهذا الاجتماع أن يتفق في إحدى نقطتي الاعتدالين، ويسمون السنة الكبيسة بذمات فهذه آراء الخليقة في السنة.
وأما اليوم فإنه عبارة عن عود الشمس بدوران الكل إلى دائرة قد فرضت، وقد اختلف فيه فجعله العرب من غروب الشمس إلى غروبها من الغد، ومن أجل أنّ شهور العرب مبنية على مسير القمر، وأوائلها مقيدة برؤية الهلال، والهلال يرى لدن غروب الشمس، صارت الليلة عندهم قبل النهار، وعند الفرس والروم، اليوم بليلته من طلوع الشمس بارزة من أفق المشرق إلى وقت طلوعها من الغد، فصار النهار عندهم قبل الليل، واحتجوا على قولهم:
بأنّ النور وجود، والظلمة عدم، والحركة تغلب على السكون لأنها وجود لا عدم، وحياة لا موت، والسماء أفضل من الأرض، والعامل الشاب أصح، والماء الجاري لا يقبل عفونة كالراكد، واحتج الآخرون بأن الظلمة أقدم من النور، والنور طارىء عليها، فالأقدم يبدأ به، وغلبوا السكون على الحركة بإضافة الراحة والدعة إليه، وقالوا: الحركة إنما هي الحاجة والضرورة، والتعب تنتجه الحركة، والسكون إذا دام في الاستقصاءات مدّة لم يولد فسادا، فإذا دامت الحركة في الاستقصاءات واستحكمت أفسدت، وذلك كالزلازل والعواصف، والأمواج وشبهها، وعند أصحاب التنجيم أن اليوم بليلته من موافاة الشمس فلك نصف النهار إلى موافاتها إياه في الغد، وذلك من وقت الظهر إلى وقت العصر، وبنوا على ذلك حساب أزياجهم، وبعضهم ابتدأ باليوم من نصف الليل، وهو صاحب زيج شهر بارازانساه،(2/23)
وهذا هو حدّ اليوم على الإطلاق إذا اشترط الليلة في التركيب فأمّا على التفصيل: فاليوم بانفراده، والنهار بمعنى واحد، وهو من طلوع جرم الشمس إلى غروب جرمها، والليل خلاف ذلك وعكسه، وحدّ بعضهم أوّل النهار بطلوع الفجر وآخره بغروب الشمس لقوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ
[البقرة/ 187] وقال: هذان الحدّان هما طرفا النهار، وعورض بأنّ الآية إنما فيها بيان طرفي الصوم لا تعريف أوّل النهار، وبأن الشفق من جهة المغرب نظير الفجر من جهة المشرق، وهما متساويان في العلة، فلو كان طلوع الفجر أوّل النهار، لكان غروب الشفق آخره، وقد التزم ذلك بعض الشيعة، فإذا تقرّر ذلك، فنقول تاريخ القبط يعرف عند نصارى مصر الآن بتاريخ الشهداء، ويسميه بعضهم، تاريخ دقلطيانوس.
ذكر دقلطيانوس «1» الذي يعرف تاريخ القبط به
إعلم: أنّ دقلطيانوس هذا: أحد ملوك الروم المعروفين بالقياصرة ملك في منتصف سنة خمس وتسعين وخمسمائة من سني الإسكندر، وكان من غير بيت الملك، فلما ملك تجبر وامتدّ ملكه إلى مدائن الأكاسرة، ومدينة بابل، فاستخلف ابنه على مملكة رومة، واتخذ تخت ملكه بمدينة أنطاكية، وجعل لنفسه بلاد الشام ومصر إلى أقصى المغرب، فلما كان في السنة التاسعة عشر من ملكه، وقيل: الثانية عشر خالف عليه أهل مصر، والإسكندرية، فبعث إليهم وقتل منهم خلقا كثيرا، وأوقع بالنصارى فاستباح دماءهم وغلق كنائسهم، ومنع من دين النصارى، وحمل الناس على عبادة الأصنام، وبالغ في الإسراف في قتل النصارى، وأقام ملكا إحدى وعشرين سنة، وهلك بعد علل صبعة دوّد منها بدنه، وسقطت أسنانه، وهو آخر من عبد الأصنام من ملوك الروم، وكل من ملك بعده فإنما كان على دين النصرانية، فإن الذي ملك بعده ابنه سنة واحدة، وقيل: أكثر من ذلك، ثم ملك قسطنطين الأكبر، فأظهر دين النصرانية، ونشره في الأرض، ويقال: إن رجلا ثار بمصر، يقال له: أجله، وخرج عن طاعة الروم، فسار إليه دقلطيانوس وحصر الإسكندرية دار الملك يومئذ ثمانية أشهر، حتى أخذ أجله وقتله، وعمّ أرض مصر كلها بالسبي والقتل، وبعث قائده، فحارب سابور ملك فارس، وقتل أكثر عسكره، وهزمه وأسر امرأته وإخوته وأثخن في بلاده، وعاد بأسرى كثيرة من رجال فارس، ثم أوقع بعامّة بلاد رومة، فأكثر في قتلهم وسبيهم، فكانت أيامه شنعة، قتل فيها من أصناف الأمم، وهدم من بيوت العبادات ما لا يدخل تحت حصر، وكانت واقعته بالنصارى هي الشدّة العاشرة، وهي أشنع شدائدهم،(2/24)