مقدمة:
نشأت الفلسفة في الحضارة العربية، نتيجة لنقل الفلسفة اليونانية إلى اللغة العربية، منذ الربع الأخير من القرن الثاني للهجرة "الثامن الميلادي"، وطول القرنين التاليين "الثالث والرابع للهجرة = التاسع والعاشر للميلادي".
على أن البقعة التي انتشرت فيها الحضارة العربية، بفضل الفتوحات الإسلامية منذ الربع الثاني من القرن الأول "الربع الثاني من القرن السابع الميلادي" كانت، بفضل المترجمين السريان خصوصًا، تنعم بحظ من الفلسفة لا بأس به، ففي غربها كانت مدرسة الأسكندرية حتى أوائل القرن السابع الميلادي، لا تزال تزدهر فيها علوم الأوائل، وبخاصة الطب، وكان من أواخر كبار رجالها يوحنا النحوي، الذي كان من كبار شراح أرسطو، كما لعب دورًا في الدفاع عن العقائد الدينية المسيحية، ضد هجمات الفسلفة الوثنية، المتمثلة في برقلس "412؟ -485م" proclus، مما أدى إلى المجادلات بين الفلسفة، والدين سنشهد أصداءه، وموازياته في الفسلفة الإسلامية لدى الغزالي بخاصة "450-505هـ"، الذي تأثر بالرد الذي كتبه يحيى النحوي على برقلس في كتابه الذي أثبت فيه "أزلية وأبدية العالم" بثماني عشرة حجة، ترجمت إلى العربية، ونشرنا ترجمة التسع الأولى منها في كتابنا: "الأفلاطونية المحدثة عند العرب" "القاهرة، ط1 سنة 955"، وقد ترجم رد يحيى(1/5)
النحوي إلى العربية1، كما ترجم من شروحه: شرحه على "السماع الطبيعي" لأرسطو، وعلى "الكون والفساد" لأرسطو أيضًا.
وإلى جانب يحيى النحوي، ينبغي أن نذكر من كبار رجال مدرسة الإسكندرية في عصرها المتأخر: المفيودورس Olymfiodore، الذي ترجم شرحه على "الآثار العلوية" لأرسطو، وقد نشرنا هذه الترجمة2.
كذلك تخرج في هذه المدرسة في القرن السادس الميلادي، الفيلسوف النصراني يوحنا الأفامي، والفيلسوف الطبيب سرجيوس الرأس عيني، كما ألف بعض أطبائها جوامع لستة عشر كتابًا من كتب جالينوس، ترجمت إلى العربية، ترجمها حنين بن إسحاق "المتوفى سنة 264هـ = 877م"، وتلاميذه الذين قاربوا المائة.
هذا في غرب هذه الرقعة التي ستصبح قلب الإسلام، أما في شرقها فازدهرت فيها العلوم اليونانية في البلدان، التي يتكلم أهلها السريانية، والفارسية الوسطى، وأشهرها: الرها، ونصيبين، والمدائن وجنديسابور، حيث ساد النساطرة، وفي أنطاكية وآمد حيث ساد اليعاقبة من فرق النصارى، وكان فيها مدارس ملحقة بأديرة، من أشهرها مدرسة دير القديس أفينوس في قسرين في سوريا، ومن أبرز من اشتغلوا بعلوم الأوائل في العصر السابق على الإسلام في هذه البلدان: هيبا، الملقب بـ"الترجمان" "من القرن الخامس"، وتلميذه بروبا "بروبوس"، وكلاهما كان من أتباع المدرسة الفارسية في الرها؛ ثم أبو القشقري "من القرن السادس"، والثلاثة نساطرة، أما من اليعاقبة فنذكر من القرن السادس: يوحنا "يونان" الأفامي، وسرجيوس الرأس عيني، اللذين تخرجا في مدرسة الأسكندرية
__________
1 راجع القفطي: "إخبار العلماء بأخبار الحكماء" ص89 س4، س5، نشرة بيرن، ليبتسك، سنة 1903.
2 في كتابنا: "شروح على أرسطو مفقودة في اليونانية"، بيروت، المطبعة الكاثوليكية، سنة 1972.(1/6)
كما ذكرنا، وكذلك اصطفن برصديله، وأخو دميه، ومترجم "أثولوجيا" أرسطوطاليس إلى الرسيانية، وهو مجهول -ومن القرن السابع الميلادي نذكر أيوب الرهاوي "المتوفى سنة 708"، وجورجيوس "المتوفى سنة 724م" أسقف العرب المسيحيين في المنطقة التي تسمى اليوم: حوران "في سوريا"، وقد اشتهر شارحًا، ومترجمًا لمنطق أرسطو، ومن القرن الثامن نذكر: فارأبا، ويوسغ بخت، ودنحا وكانوا من المترجمين، والشراح لكتب أرسطو، ثم طيماتاوس الأول الجاتليق "المتوفى سنة 823م"، وقد اهتم بالدراسات الفلسفية اهتمامًا كبيرًا.
ومن المدارس ذات الأهمية البالغة في نقل، وتدريس الطب وسائر علوم الأوائل، في هذه المنطقة، مدرسة جنديسابور التي ازدهرت أول ما ازدهرت في القرن السادس في أيام الملك العادل كسرى أنوشروان "حكم فارس من سنة 531 إلى 579"، بفضل العلماء النساطرة الذين طردوا من الرها آنذاك.. وفيها اتصل العلماء اليونانيون، والسريان والفرس بعلماء الهند، وأثر بعضهم في بعض، "وفي العصر الأموي لم يكن لمدرسة جنديسابور أي أثر في قيام مدرسة طبية، ولو أن بعض الأطباء أتوا من هناك إلى جزيرة العرب وسوريا، وإنما بدأت العناية تتجه إلى هذه المدرسة في أوائل حكم العباسيين، الذين نقلوا عاصمة الملك إلى بغداد. فإن الخليفة الثاني "أبا جعفر" المنصور، قد استشار في سنة 148هـ "865م" رئيس أطباء بيمارستان جنديسابور، وهو جورجيس بن بختيشوع حينما دعاه إلى بغداد، ومن ذلك الحين بقيت أسرة بختيشوع طوال ثلاثة قرون ذات مكانة كبرى عند الخلفاء: فمنها كان أطباء الخلفاء ووزراؤهم، وكان منهم الأطباء المحترفون، وأطباء البيمارستانات "المستشفيات"، ومعلمو الطب والفسلفة"1. ومن
__________
1 عن مقال ماكس مايرهوف "من الأسكندرية إلى بغداد" في كتابنا: "التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية"، ص 56، ط3، القاهرة سنة 1965.(1/7)
أشهر أطبائها في القرن الثالث الهجري "= التاسع الميلادي" يوحنا بن ماسويه، الذي هاجر إلى بغداد في أول القرن الثالث، وهناك أقام بيمارستانًا؛ وقد عينه الخليفة المأمون في سنة 215هـ "830م" رئيسًا لبيت الحكمة، وعليه تتلمذ حنين بن إسحاق.
وبيت الحكمة هذا هو اسم المدرسة، التي أمر المأمون بإنشائها للتوفر على ترجمة علوم الأوائل من اليونانية، والسريانية إلى العربية، وكان حنين بن إسحاق الشاب أنشط من فيها بين المترجمين؛ لقد نزل ميدان الترجمة، ولما يتجاوز السابعة عشرة من عمره، حتى أصبح بعد قليل، زعيم المترجمين العرب والسريان على الإطلاق، وقد ترجم من كتب جالينوس الطبية مائة إلى السريانية، ونصفها إلى العربية، وترجم العديد من تآليف بقراط في الطب، وطائفة من كتب أرسطو ""المقولات" إلى العربية، و"العبارة"، وبعض "التحليلات" الأولى والثانية، و"طوبيقا" و"الكون والفساد" و"في النفس"-إلى السريانية"، وعددًا من محاورات أفلاطون ""السياسة"، "النواميس" و"طيماوس"". ومن بعده، سيقوم ابن إسحاق "توفي سنة 298هـ = 910م"، بترجمة العديد من كتب الفلسفة إلى العربية والسريانية، وخصوصًا كتب أرسطو ""العبارة"، "السماع الطبيعي"، "في النفس"، وبعض مقالات "ما بعد الطبيعة"، والأخلاق إلى نيقوماخوس، و"في النبات" المنحول لأرسطو -كلها إلى العربية، وقد نشرناها جميعًا"، وبعض مقالات الإسكندر الأفردويسي ""في العقل"، إلخ"، و"حجج" أبرقلس لإثبات أزلية وأبدية العالم.
وقد أرسل الخليفة المأمون بعثة إلى بلاد الروم "بيزنطة" بحثًا عن المخطوطات اليونانية، كان من أعضائها الحجاج بن مطر، ويوحنا بن البطريق، وسلم صاحب بيت الحكمة، كما أرسل بنو شاكر "محمد، وأحمد، والحسن" بعثة من أبرز أعضائها حنين بن إسحاق، لتحصيل مخطوطات من بلاد الروم، فجلبوا من هناك "طرائف الكتب، وغرائب المصنفات في الفسلفة(1/8)
والهندسة والموسيقى والأرثماطيقي "الحساب"، والطب"1 -ومن ناحية أخرى، كان المترجمون يأتون إلى بغداد، ومعهم المخطوطات التي سيتولون ترجمتها، كما فعل قسطًا بن لوقا، وابن البطريق، وسلام الأبرش، وهم من أوائل المترجمين في النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة، وأوائل القرن الثالث الهجري "التاسع الميلادي".
وكان المترجمون، وخصوصًا حنين، يحرصون على الحصول على خير ما يستطيعون الحصول عليه من النسخ، وكانت طريقة حنين هي ألا يبدأ الترجمة قبل أن يقارن بين النسخ اليونانية المختلفة ليقيم خير نص ممكن.
وحين كان لا يحصل إلا على مخطوط واحد من كتاب، فإنه كان يعود إلى تنقيح ترجمته متى ظفر بنسخة جديدة، صحيح أنه لم يكن يعطي القراءات المختلفة، لكنه كان يحرص على استخلاص ما يراه أقومها ويترجمه2.
وكان حنين "يصلح" كثيرًا من ترجمات غيره، كما ذكر ذلك ابن النديم مرارًا "ص249-251، نشرة فلوجل".
وتعددت الترجمات للكتاب الواحد، وقد وصلتنا من ترجمات كتاب "السوفسطيقا" لأرسطو ثلاث ترجمات، نشرناها جميعًا في كتابنا "منطق أرسطو" "ج3، القاهرة سنة 1951".
وكل هذا يدل على الحرص البالغ، والروح النقدية التي توافرت لدى المترجمين.
وكانت الترجمة في النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة، أغلبها من السريانية إلى العربية، أما في القرن الثالث، فكان أغلبها من اليونانية مباشرة، أو من اليونانية فالسريانية فالعربية، وفي القرن الرابع قل العارفون
__________
1 ابن النديم: "الفهرست" ص243، نشرة فلوجل، ليبتسك، سنة 1871.
2 راجع ما ذكره في هذا الصدد في كلامه عن ترجمته لكتب جالينوس، نشرة برجشتريسر، ص5 من النص العربي، ليبتسك سنة 1935.(1/9)
باليونانية، فكان معظم النقل من السريانية إلى العربية، على أن هذه الترجمات السريانية نفسها تمت في القرون الثاني والثالث، والرابع للهجرة، في دار الإسلام، وبواسطة مترجمين يعرفون العربية كما يعرفون السريانية، ولكنهم كانوا يستهلون الترجمة إلى السريانية؛ لأنهم أكثر تمكنًا منها1.
والخلاصة:
1- أن حركة ترجمة علوم الأوائل من اليونانية، أو السريانية إلى العربية كانت في غاية النشاط في القرنين الثالث، والرابع للهجرة "التاسع والعاشر الميلاديين"، بحيث شملت معظم التراث اليوناني في الفسلفة والطب، والفلك والرياضيات والطبيعيات، ولا نعرف لهذه الحركة نظيرًا في أية حضارة أخرى، حتى ولا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، أو في عصر النهضة في أوروبا.
2- أن الترجمات توافرت لها شروط النقد التاريخي، والفيلولوجي الدقيق؛
3- أن نفوذ العلوم اليونانية في العالم العربي، قد تم على أوسع نطاق، وبفضل علماء إنسانيات من الطراز الأول، لا نكاد نجد لهم نظراء إلا في القرن التاسع عشر في أوروبا.
4- أن هذه الترجمات قد حفظت لنا الكثير من النصوص، والكتب اليونانية التي فقدت أصولها اليونانية، ولم يبق لنا منها غير هذه الترجمات العربية.
ومن هنا قلنا في بحثنا عن "دور العرب في تكوين التراث اليوناني" إنه: "كان للعرب فضل عظيم جدًا في تكوين التراث اليوناني: الصحيح منه والمنحول، وفي تحقيق النصوص الصحيحة الباقية لنا من هذا التراث باللغة اليونانية، وفي استرداد شيء مما فقد من هذا التراث ... "ولهذا فـ" إن فضل العرب على التراث اليوناني -من كل نواحي الفضل- أكبر من فضل
__________
1 راجع في كل هذه الأمور كتابنا "A.Badawi: La Transmission de la philosophie Grec que au mondearabe. Vrin, 1968(1/10)
أية أمة أخرى ... لقد كان العقل العربي منفتحًا لكل ألوان الثقافات العالمية، فعني بالتراث الإيراني، والتراث الهندي وتراث حضارات قديمة كبيرة، إلى جانب دوره العظيم هذا في تكوين الفكر اليوناني، وكان هذا التفتح الواسع -الذي لا يحده شيء، ولا يقف في سبيله أي تزمت، ولا تعصب ولا ضيق نظر -هو العامل الأكبر في ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، هذا الازدهار الشامل الرائع الذي أضاء العالم في العصر الوسيط"1.
__________
1 عبد الرحمن بدوري: "دور العرب في تكوين الفكر الأوروبي" ص160-161، ط2، القاهرة، سنة 1967.(1/11)
ابن سينا
حياته
...
ابن سينا:
أ- حياته 1:
حياة ابن سينا حياة حافلة بالأحداث لاتصاله بخدمة الحكام والسلاطين وتقلده الوزارة، وقد كتب عن شطر من حياته بنفسه.
كان أبوه عبد الله بن سينا من الكفاة، والعمال في مدينة بلخ، ثم انتقل إلى بخارى
في أيام الأمير نوح بن منصور الساماني، واشتغل واليًا على قرية خرمثين من ضياع بخارى، ثم تزوج امرأة اسمها ستارة "بالفارسية = نجمة".
ولد أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا، صاحبنا، في هذه القرية في صفر سنة سبعين وثلثمائة "= أغسطس-سبتمبر سنة 980"، أو في قرية أفشنة التي منها أم ابن سينا، كما يقول هو نفسه في ترجمته، ويقول بعد ذلك:
"ثم انتقلت إلى بخارى، وأحضرت معلم القرآن ومعلّم الأدب، وأكملت العشر من العمر، وقد أتيت على القرآن وعلى كثير من الأدب، حتى كان يقضي مني العجب.
__________
1 راجع عن حياته: القفطي ص413-426، نشرة لبرت، ابن أبي أصيبعة جـ2 ص2-20، البيهقي: "تتمة صوان الحكمة" ص52-72، نشره كرد علي في دمشق سنة 1946، ابن خلكان "وفيات الأعيان" برقم 190، خوندمير: "حبيب السير"، طهران سنة 1954، ابن العبري: "تاريخ مختصر الدول" ص325-330، بيروت سنة 1890.(1/13)
وكان أبي ممن أجاب داعي المصريين1، ويعد من الإسماعيلية، وقد سمع منهم ذكر النفس، والعقل على الوجه الذي يقولونه ويعرفونه هم، وكذلك أخي. وكانوا ربما تناكروا وأنا أسمعهم، وأدرك ما يقولونه ولا تقبله نفسي، وابتدأوا يدعونني أيضًا إليه، ويجرون على ألسنتهم ذكر الفلسفة، والهند وحساب الهند. وأخذ يوجهني إلى رجل كان يبيع البقل، ويقوم بحساب الهند حتى أتعلمه منه.
ثم جاء إلى بخارى أبو عبد الله الناتلي2، وكان يدعى المتفلسف، وأنزله أبي دارنا رجاء تعلمي منه، وقبل قدومه كنت أشتغل بالفقه، والتردد فيه إلى إسماعيل الزاهد، وكنت من أجود السالكين، وقد ألفت طرق المطالبة، ووجوه الاعتراض على المجيب، على الوجه الذي جرت عادة القوم به.
ثم ابتدأ بكتاب إيساغوجي على الناتلي، ولما ذكر لي حد الجنس أنه: هو المقول على كثيرين مختلفين بالنوع في جواب ما هو -أخذت في تحقيق هذا الحد بما لم يسمع بمثله، فتعجب مني كل العجب، وحذر والدي من شغلي بغير العلم. وكان أي مسألة قالها لي كنت أتصورها خيرًا منه، حتى قرأت ظواهر المنطق عليه، وأما دقائقه لم يكن عنده منها خبر.
ثم أخذت اقرأ الكتب على نفسي، وأطالع الشروح حتى أحكمت
__________
1 لما كان الفاطميون هم القائمين على الدعوة الإسماعيلية، وكان مركزهم الرئيسي في مصر، فيبدو أن كلمة "المصريين"، صارت تدل في النصف الثاني من القرن الرابع، والأول من القرن الخامس للهجرة على أتباع مذهب، أو الدعوة الإسماعيلية، وهو تعبير خطأ قطعًا؛ لأن مصر بشعبها كله لم تعتنق هذا المذهب أبدًا، طوال حكم الفاطميين ولا -طبعًا- بعد زوال دولتهم، راجع كتابنا: "مذاهب الإسلاميين" الجزء الثاني، بيروت سنة 1973.
2 راجع ترجمته في "تتمة صوان الحكمة" للبيهقي ص37 دمشق سنة 1946، و"وفيات الأعيان" لابن خلكان، وهو منسوب إلى ناتل "بالتاء": بلدة بنواحي آمل في طرستان بشمال شرقي طهران، كما في أنساب السمعاني، ويقول عنه البيهقي: إنه "كان حكيمًا عالمًا مخلقًا بأخلاق جميلة"، وله رسالة لطيفة "في واجب الوجود وشرح اسمه، وهذه الرسالة دالة على أنه كان مبرزًا في هذه الصناعة، بالغًا الغاية القصوى في علم الإليهات ... ورسالة في علم الإكسير".(1/14)
علم المنطق، وكذلك كتاب أقليدس1: فقرأت من أوله خمسة أشكال أو ستة عليه، ثم توليت بنفسي حل بقية الكتاب بأسره -ثم انتقلت إلى "المجسطي"2. ولما فرغت من مقدماته، وانتهيت إلى الأشكال الهندسية، قال لي الناتلي: تول قراءتها وحلها بنفسك، وأعرضها علي لأبين لك صوابه من خطئه، وما كان الرجل يقوم3 بالكتاب، وأخذت أحل ذلك الكتاب، فكم من شكل ما عرفه إلى وقت ما عرضته عليه، وفهمته إياه.
ثم فارقني الناتلي متوجهًا إلى كركابخ، واشتغلت أنا بتحصيل الكتب من النصوص4، والشروح: من الطبيعي، والإلهي، وصارت أبواب العلم تنفتح علي.
ثم رغبت في علم الطب، وصرت أقرأ الكتب المصنفة فيه، وعلم الطب ليس من العلوم الصعبة، فلا جرم أنّي برّزت فيه في أقل مدّة، حتى بدأ فضلاء الطب يقرأون عليّ علم الطب، وتعهدت المرضى فانفتح عليّ من أبواب المعالجات المقتبسة من التجربة ما لا يوصف، وأنا مع ذلك أختلف إلى الفقه وأناظر فيه، وأنا في هذا الوقت من أبناء ست عشرة سنة.
ثم توفرت على العلم والقراءة سنة ونصفًا، فأعدت قراءة المنطق وجميع أجزاء الفسلفة، وفي هذه المدة ما نمت ليلة واحدة بطولها، ولا اشتغلت النهار بغيره. وجمعت بين يدي5 ظهورًا، فكل حجة كنت أنظر فيها أثبت مقدمات قياسية. ورتبتها في تلك الظهور، ثم نظرت فيما عساها تنتج، وراعيت شروط مقدماته، حتى تحقق لي الحق في تلك المسألة، وكلما كنت أتحير في مسألة، ولم أكن أظفر بالحد الأوسط في قياس، ترددت إلى
__________
1 أي كتاب "أصول الهندسة" لأقليدس.
2 لبطليموس، وهو في علم الفلك.
3 أي: يحسن فهمه.
4 النصوص الأصلية للمؤلفين، لا الشروح.
5 أي: بطاقات، جزازت يقيد فيها ما يريد تقييده.(1/15)
الجامع، وصليت وابتهلت إلى تبدع الكل، حتى فتح لي المنغلق، وتيسر المتعسر.
وكنت أرجع بالليل إلى داري، وأضع السراج بين يدي، وأشتغل بالقراءة والكتابة، فمهما غلبني النوم أو شعرت بضعف، عدلت إلى شرب قدح من الشراب ريثما تعود إلي قوتي، ثم أرجع إلى القراءة، ومهما أخذني أدنى نوم أحلم بتلك المسائل بأعيانها، حتى إن كثيرًا من المسائل اتضح لي وجوهها في المنام، وكذلك حتى استحكم معي جميع العلوم، ووقفت عليها بحسب الإمكان الإنساني، وكل ما علمته في ذلك الوقت، فهو كما علمته الآن لم أزدد فيه إلى اليوم، حتى أحكمت المنطق والطبيعي والرياضي، ثم عدلت إلى الإلهي، وقرأت كتاب "ما بعد الطبيعة"1، فما كنت أفهم ما فيه، والنفس على غرض واضعه، حتى أعدت قراءته أربعين مرة وصار لي محفوظًا، وأنا مع ذلك لا أفهم، ولا المقصود به، وأيست من نفسي، وقلت: هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه، وإذا أنا في يوم من الأيام حضرت وقت العصر في الوّراقين، وبيد دلال مجلد ينادي عليه، فعرضه عليّ فرددته رد متبرم، معتقدًا أن لا فائدة من هذا العلم، فقال لي: أشر مني هذا، فإنه رخيص أبيعكه بثلاثة دراهم، وصاحبه محتاج إلى ثمنه. واشتريته، فإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي "في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة". ورجعت إلى بيتي وأسرعت قراءته، فافنتح عليّ في الوقت أغراض ذلك الكتاب، بسبب أنه كان محفوظًا على ظهر قلب، وفرحت بذلك، تصدقت في ثاني يوم بشيء كثير على الفقراء، شكرًا لله تعالى.
وكان سلطان بخارى في ذلك الوقت نوح بن منصور، واتفق له مرض الأطباء فيه، وكان اسمي اشتهر بينهم بالتوفر على القراءة، فأجروا ذكري بين يديه، وسألوه إحضاري، فحضرت وشاركتهم في مداواته.
__________
1 لأرسطو.(1/16)
وتوسمت بخدمته، فسألته يومًا الإذن لي في دخول دار كتبهم، ومطالعتها وقراءة ما فيها من كتب الطب، فأذن لي، فدخلت دارًا ذات بيوت كثيرة، في كل بيت صناديق كتب منضدة بعضها على بعض: في بيت منها كتب العربية والشعر، وفي آخر: الفقه، وكذلك في كل بيت كتب علم مفرد.
فطالعت فهرست كتب الأوائل، وطلبت ما احتجت إليه منها، ورأيت ما لم يقع اسمه إلى كثير من الناس، قط، وما كنت رأيته من قبل، ولا رأيته أيضًا من بعد، فقرأت تلك الكتب وظفرت بفوائدها، وعرفت مرتبة كل رجل في علمه.
فلما بلغت ثماني عشرة سنة من عمري، فرغت من هذه العلوم كلها، وكنت إذ ذاك للعلم أحفظ، ولكنه اليوم معي أنضج، وإلا فالعلم واحد لم يتجدد لي بعده شيء.
وكان في جواري رجل يقال له أبو الحسين الفروضي، فسألني أن أصنّف له كتابًا جامعًا في هذا العلم، فصنعت له "المجموع" وسميّته به، وأتيت فيه على سائر العلوم سوى الرياضي، ولي إذ ذاك إحدى وعشرون سنة من عمري.
وكان في جواري أيضًا رجل يقال له: أبو بكر اليرقي، خوارزمي أعد له، فقيه النفس، متوحد في الفقه والتفسير والزهد، مائل إلى هذه العلوم، فسألني شرح الكتب، فصنفت له كتاب "الحاصل والمحصول" في قريب من عشرين مجلدة. وصنفت له في الأخلاق كتابًا سميته "البر والإثم"، وهذان الكتابان لا يوجدان إلا عنده، فلم يعد أحد ينسخ منهما.
ثم مات والدي، وتصّرفت بي الأحوال، وتقلّدت شيئًا من أعمال السلطان. ودعتني الضرورة إلى الإخلال ببخارى، والانتقال إلى كركابخ، وكان أبو الحسين السهلي -المحب لهذه العلوم- بها وزيرًا، وقدمت إلى الأمير(1/17)
بها -وهو علي بن مأمون- وكنت على زيّ الفقهاء، إذ ذاك بطيلسان، وتحت الحنك، وأثبتوا لي مشاهرة دارّة بكفاية مثلي.
ثم دعت الضرورة إلى الانتقال إلى نسا، ومنها: إلى باورد، ومنها إلى طوس، ومنها إلى شقان، ومنها إلى سمينقان، ومنها إلى جاجرم رأس حد خراسان، ومنها إلى جرجان، وكان قصده الأمير قابوس، فاتفق في أثناء هذا أخذ قابوس وحبسه في بعض القلاع وموته هناك، ثم مضيت إلى دهستان، ومرضت بها مرضًا صعبًا، وعدت إلى جرجان، فاتصل أبو عبيد الجوجاني بي، وأنشأت في حالي قصيدة فيها البيت القائل:
لما عظمت فليس مصر واسعي ... لما غلا ثمني عدمت المشتري1
إلى هنا انتهى ما أملاه ابن سينا من أحوال حياته، على تلميذه المخلص الوفي أبي عبيد الجوزجاني، الذي تابع وصف سيرة حياة أستاذه، وذكر فهرسة كتبه ورسائله، وفصّل القول في أحوال السياسة، وخلاصتها أن ابن سينا انتقل إلى مدينة الدي، واتصل بخدمة السيدة، وابنها الملك مجد الدولة أبي طالب رستم بن فخر الدولة علي.
ثم اتفقت أسباب أوجبت بالضرورة ذهابه إلى قزوين، ومنها إلى همذان، واتصاله بخدمة كذبانويه، واتفقت له معرفة "شمس الدولة"، وأمر بإحضاره مجلسه بسبب قولنج أصابه، فعالجه حتى شفي، ففاز منه بخلع كثيرة، وصار من حاشية الأمير شمس الدولة، ونهض شمس الدولة إلى قوميسين لحرب عناز، وخرج ابن سينا معه في سلك خدمته، ثم توجه ناحية همذان منهزمًا راجعًا، ثم سألوه تقلد الوزارة، فتقلدها، ثم اتفق تشويش العسكر بسببه، وإشفاقهم على أنفسهم منه، فأغاروا على داره وأخذوه وحبسوه، وسألوه الأمير شمس الدولة قتله، فرفض الأمير، ثم أطلق سراح ابن سينا، فتوارى في دار أبي سعد بن دخدوك أربعين يومًا، وعاود الأمير
__________
1 ابن أبي أصيبعة: "عيون الأبناء في طبقات الأطباء" جـ2 ص2، وما بعدها.(1/18)
شمس الدولة مرض القولنج، فطلب ابن سينا فحضر، واعتذر إليه الأمير، واشتغل ابن سينا بعلاجه، وأعاد الوزارة إليه ثانية.
وهنا بدأ في كتابه العظيم "الشفاء"، بناء على التماس من تلميذه أبي عبيد، فابتدأ بالطبيعيات من كتاب "الشفاء"، وكان يتولى التدريس للتلاميذ بالليل لعدم فراغه أثناء النهار: ومن تلاميذه كان: أبو عبيد الجوزجاني، والمعصوص، وابن زيلة، وبهمنيار.
ولما توجه شمس الدولة إلى طارم لحرب الأمير بهاء الدولة، توفي في الطريق من داء القولنج، وبويع ابنه، وطلبوا من ابن سينا تولي الوزارة، فرفض.
ثم اتصل بالأمير علاء الدولة أبي جعفر بن كاكويه، واشتغل في خدمته، وقام بإصلاح أداة رصد الكواكب، ووضع آلات ما سبقه بها أحد.
ووقعت الحرب بين أبي سهل الحمدوني، صاحب مدينة الدي من جهة السلطان محمود الغزنوي، وبين علاء الدولة صاحب أصفهان، فقصد السلطان مسعود بن محمود الغزنوي أصفهان، في سنة خمس وعشرين وأربعمائة، ومعه أبو سهل الحمدوني، فاستولى على أصفهان، ونهب خزائن علاء الدولة بن كاكويه.
ثم نهب أبو سهل الحمدوني مع جماعة من الأكراد أمتعة ابن سينا وفيها كتبه.
وأصيب ابن سينا بداء القولنج، بسب إفراطه في الشراب والجماع، وساءت حاله، فنقل محمولًا على محفة إلى أصفهان، وكان يعالج نفسه، لكنه كان في غاية الضعف، ثم حضر مجلس علاء الدولة، وهو لم يبرأ من العلة كل البرء، فكان يبرأ أسبوعًا، ويمرض أسبوعًا.
وقصد علاء الدولة همذان ومعه ابن سينا، فعاود ابن سينا القولنج في(1/19)
الطريق إلى أن وصل إلى همذان، وعلم أن قوته قد سقطت، وأنها لا تفي بدفع المرض، فأهمل أداة نفسه وأخذ يقول: المدير الذي كان يدبر بدني قد عجز عن التدبير، والآن لا تنفع المعالجة، وبقي على هذا أيامًا، ثم انتقل إلى جوار ربه، وكان عمره ثلاثًا وخمسين سنة، وكان موته في سنة ثمان وعشرين وأربعمائة"1، "ابن أبي أصيبعة، ج2"، وحدد تاريخ الوفاة البيهقي، فقال: "مات في الجمعة الأولى من رمضان سنة ثمان وعشرين وأربعمائة، ودفن في همذان ... وكان عمر الشيخ "= ابن سينا" نحو 58 سنة من السنين الشمسية مع كسر"1.
__________
1 البيهقي: "تتمة صوان الحكمة" ص70 دمشق، سنة 1946.(1/20)
ب- مؤلفاته:
أما مؤلفاته، فخير حصر لها حتى الآن هو كتاب د. يحيى مهدوي، طهران، سنة 1954، فنحيل القارئ الذي يطلب البحث المستقصي إلى هذا الكتاب، ونجتزئ ها هنا بذكر بعض الكتب الرئيسية، من كتبه العربية دون الفارسية:
1- "الشفاء" في أربعة أقسام: المنطق، الرياضي، الطبيعي، الإلهيات، وقد نشرنا نحن منه: "البرهان" "القاهرة، سنة 1954"، و"الشعر" "سنة 1953، 1964"، وذلك من قسم المنطق، ونشر معظم المنطق والنفس، والإلهيات ضمن المجموعة التي نشرت في القاهرة، ضمن الاحتفال بالذكرى الألفية لابن سينا "سنة 1952-سنة 1971".
أما القسم الطبيعي، فلا نزال نعتمد على طبعة حجرية في طهران سنة 1886.
2- "النجاة" -طبع في القاهرة سنة 1331هـ/ 1913م، ط2 سة 1938.
3- "الإشارات والتنبيهات" -نشرة فورجيه j. Forget في ليون سنة 1892.
4- "كتاب الإنصاف" -نشرنا نحن ما تبقى منه في كتابنا: "أرسطو عند العرب" "القاهرة سنة 1947".(1/21)
5- "منطق المشرقيين" -طبع في القاهرة، سنة 1910.
6- "الرسالة الأضحوية في أمر المعاد" -طبع في القاهرة سنة 1949.
7- "عيون الحكمة" -نشرناه في القاهرة سنة 1954.
8- "رسالة في ماهية العشق" -نشرها ميرن Mehren سنة 1889، ثم أحمد آتش "استانبول سنة 1953".
9- "أسباب حدوث الحروف" -نشرها الأستاذ خانلري، طهران سنة 1333 هـ. ش.
10- "رسالة في الحدود" -طبع في مصر ضمن مجموعة بعنوان: "تسع رسائل في الحكمة والطبيعيات" القاهرة سنة 1326 هـ.
11- "رسالة في أقسام العلوم العقلية" -طبعت في المجموعة المذكورة.
12- "رسالة في إثبات النبوات" -طبعت في المجموعة المذكورة.
13- "رسالة حي بن يقظان" نشرها ميرن سنة 1889، ثم هـ. كوربان سنة 1952.
14- "رسالة الطير" -نشرها ميرن، ليدن، سنة 1889.
15- كتاب "المباحثات" -نشرناه في كتابنا "أرسطو عند العرب" القاهرة سنة 1947.
16- كتاب "التعليقات" -نشرناه في القاهرة سنة 1973.
17- كتاب "القانون في الطب" -طبع أولًا في روما سنة 1593، ثم طبع في القاهرة بولاق، سنة 1294هـ/ 1877م.(1/22)
فلسفته
مدخل
...
فلسفته:
1- المنطق:
تناول ابن سينا علم المنطق في معظم كتبه الأساسية:
في "الشفاء" على أوسع نطاق، واستقصاء عرفناه في العالم الإسلامي.
وفي "الإشارات والتنبيهات"، وفي "منطق الشرقيين"، الذي هو من بقايا كتاب "الإنصاف"، وفي "النجاة" "ص2-ص93، القاهرة سنة 1938"، وفي "عيون الحكمة" "ص1- ص15 في نشرتنا، القاهرة سنة 1954"، وفي "الحكمة العروضية"، وهو أول ما ألفه في هذا الباب، وفي "الحكمة العلائية" ""دانش نامة علائي" ص1-64، نشرة خراساني، طهران 1355 هـ ق"، وفي القصيدة المزدوجة في "المنطق" تناوله نظمًا.
لكن السؤال هو: هل أتى ابن سينا بشيء جديد، إضافة إلى ما ورد عند أرسطو، وشرّاحة اليونانيين، أو شراحه العرب مثل إبراهيم المروزي، ومتى بن يونس، والفارابي؟
لو قرأنا منطق "الشفاء" لم نجد فيه جديدًا على ما قاله أرسطو وشراحه، وهو نفسه يعترف بذلك، إذ يقول: إنه يحاذي نص أرسطو في كتبه المنطقية، ونراه فعلًا يقتبس النص أحيانًا بحروفه، وأحيانًا يدمجه في داخل كلامه، وفي الغالب يعرض المسائل الواردة في كتب أرسطو المنطقية دون(1/23)
تقيد بنص، ويورد الأمثلة إما عن كتب أرسطو هذه، وإما بالاستعارة من علم الطب.
كذلك "منطق المشرقيين"، الذي كنا نتوقع أن نجد فيه ما أعلنه في مقدمته من رغبة في التجديد، ليس فيه شيء أكثر مما ورد في سائر كتبه في المنطق.
وفيما عدا بعض التفصيلات الفرعية الصغيرة، "مثل الأقيسة المؤلفة من شرطيات فقط"، لا نكاد نجد لابن سينا شيئًا يضيفه على منطق أرسطو، وشراحه.
وإنما يمتاز ابن سينا بقدرته الهائلة على استيعاب أرسطو وشراحه، وحسن عرضه التفصيلي1.
ما بعد الطبيعة:
2- الحكمة وأقسامها:
ونمضي من المنطق إلى بيان مذهبه في الإلهيات، وما بعد الطبيعة بوجه عام. ونبدأ ببيان تعريفه للفلسفة -أو الحكمة كما يسميها- وأقسامها.
يقول ابن سينا في كتاب "عيون الحكمة": "الحكمة استكمال النفس الإنسانية بتصور الأمور، والتصديق بالحقائق النظرية، والعملية على قدر الطاقة البشرية.
والحكمة المتعلقة بالأمور النظرية، التي إلينا أن نعلمها -وليس إلينا ألبتة أن نعملها- تسمى حكمة نظرية، والحكمة المتعلقة بالأمور العملية، التي إلينا أن نعلمها، ونعملها تسمى حكمة عملية، وكل واحدة من الحكمتين تنحصر في أقسام ثلاثة: فأقسام الحكمة العملية: حكمة مدنية، وحكمة منزلية، وحكمة خلقية، ومبدأ هذه الثلاثة مستفاد من جهة الشريعة الإلهية، وكمالات حدودها تستبين بالشريعة الإلهية، وتتصرف فيها بعد ذلك القوة
__________
1 لمزيد من البحث في هذه المسألة، راجع تصدير نشرتنا لكتاب "البرهان" لابن سينا، ص38-46، القاهرة سنة 1966.(1/24)
البشرية من البشر بمعرفة القوانين العملية منهم، وباستعمال تلك القوانين في الجزئيات.
والحكمة المدنية، فائدتها أن تعلم كيفية المشاركة، التي تقع فيها بين أشخاص الناس، ليتعاونوا على مصالح الأبدان، ومصالح بقاء نوع الإنسان، والحكمة المنزلية، فائدتها أن تعلم المشاركة، التي ينبغي أن تكون بين أهل منزل واحد، لتنتظم به المصلحة المنزلية، والمشاركة المنزلية تتم بين زوج وزوجته، ووالد ومولود، ومالك وعبد، وأما الحكمة الخلقية ففائدتها أن تعلم الفضائل، وكيفية اقتنائها لتزكو بها النفس، وتعلم الرذائل، وكيفية توقيها لتتطهر عنها النفس.
وأما الحكمة النظرية، فأقسامها ثلاثة: حكمة تتعلق بما في الحركة والتغير، وتسمى حكمة طبيعية، وحكمة تتعلق بما من شأنه أن يجرده الذهن عن التغير، وإن كان وجوده مخالطًا للتغير، ويسمى حكمة رياضية، وحكمة تتعلق بما وجوده يستغني عن مخالطة التغير فلا يخالطه أصلًا، وإن خالطه فبالعرض؛ لأن ذاته مفتقرة في تحقيق الوجود إليه، وهي الفلسفة الأدبية، والفلسفة الإليهة جزء منها، وهي معرفة الربوبية.
ومبادئ هذه الأقسام التي للفلسفة النظرية، مستفادة من أرباب الملة الإلهية على سبيل التنبيه، ومتصرف على تحصيلها بالكمال بالقوة العقلية على سبيل الحجة.
ومن أوتي استكمال نفسه بهاتين الكلمتين، والعمل على ذلك بإحداهما، فقد أوتي خيرًا كثيرًا"1.
وهذا تصنيف شامل لأقسام العلوم الفسلفية، فيه تحديد دقيق لموضوعاتها. ويتسم بالأحكام أكثر مما في "إحصاء العلوم" للفارابي.
ولنأخذ الآن في عرض أهم آراء ابن سينا في الإلهيات.
__________
1 ابن سينا: "عيون الحكمة" ص 16-17، نشرتنا في القاهرة سنة 1954.(1/25)
العلم الإلهي:
1- الموجود:
وابن سينا يعرف العلم الإلهي بما عرفه به أرسطو، وهو أنه يبحث في الوجود المطلق وأحواله ولواحقه ومبادئه، يقول ابن سينا: "الفلسفة الأولى موضوعها الموجود بما هو موجود، ومطلوبها: الأعراض الذاتية للموجود بما هو موجود -مثل الوحدة، والكثرة، والعلية، وغير ذلك"1.
والموجود إما جوهر، وهو الذي لا يحل في موضوع أي هو ما يقوم بذاته، وإما عرض، وهو الذي يحل في غيره، ولا يقوم بذاته وحده، والأول مثل الإنسان، الفرس، الوردة، إلخ. والأعراض مثل اللون، والحجم، والمكان، والزمان، إلخ.
"والجوهر أربعة: جوهر مع أنه ليس في موضوع "فإنه" ليس في مادة، وجوهر هو به في مادة، والقسم الأول ثلاثة أقسام: فإنه إما أن يكون هذا الجوهر مادة، أو ذا مادة، أو لا مادة ولا ذا مادة، والذي هو ذو مادة، وليس فيها هو أن يكون منها. وكل شيء من المادة، وليس بمادة فيحتاج إلى زيادة على المادة وهي الصورة، فهذا الجوهر هو المركب، فالجوهر أربعة: "ماهية بلا
__________
1 المصدر السابق ص47.(1/26)
مادة، ومادة بلا صورة، وصورة في مادة، ومركب من مادة وصورة"1.
وأولى الأشياء بالوجود هي الجواهر، ويتلوها الأعراض، وأولى الجواهر بالوجود الجواهر التي ليست بأجسام.
وأول الموجودات في استحقاق الوجود، الجوهر المفارق غير الجسماني، ويتلوه الصورة، ويتلوه الجسم، وتتلوه الهيولى المحضة، إذ هي محل لنيل الوجود، وليست سببًا يعطي الوجود، ثم العرض.
والهيولى أو المادة لا تتجرد عن الصورة، بل توجد دائمًا مقارنة للصورة، إذ "لا يجوز أن تفارق الصورة الجسمية، وتكون موجودة بالفعل؛ لأنها إن فارقت الصورة الجسمية، فلا يخلو: إما أن يكون لها وضع وحيز في الوجود الذي لها حينئذ، أو لا يكون. فإن كان لها وضع وحيز، وكان يمكن أن تنقسم، فهي لا محالة ذات مقدار، وقد فرضت لا مقدار لها -هذا خلف، وإن لم يكن أن تنقسم ولها وضع، فهي لا محالة نقطة، ويمكن أن ينتهي إليها خط، ولا يمكن أن تكون منفردة الذات منحازتها؛ لأن خطًا إذا انتهى إليها، لاقاها بنقطة أخرى غيرها، ثم إن لاقاها خط آخر لاقاها بنقطة أخرى غيرها، ثم لا يخلو إما أن تتباين النقطتان عن جنبيها، فتكون المتوسطة التي تلاقيها اثنتنان لا تتلاقيان، تنقسم بينهما، وقد فرضت غير منقسمة، -وإما أن تكون النقطتان تتلاقيان، وبتلاقيهما تكون ذاتها سارية في ذات كل واحد منهما، وذاتها منحازة عن الخطين، فذاتاهما منحازتان منقطعتان عن الخطين، فللخطين نقطتان غير الأوليين هما نهايتاهما، وفرضناهما نهايتها- هذا خلف"2، ويستمر ابن سينا في هذه البرهنة المعقدة، حتى يصل في النهاية إلى إثبات أن المادة، لا تتعرى عن الصورة الجسمية، وفي هذا يسير وفقًا لرأي أرسطو في مقابل رأي أفلاطون، لكنه في هذا يناقض ما قاله في "عيون الحكمة"، وأوردناه منذ قليل حين قال بوجود مادة بلا صورة، وسنراه يضطر إلى التخلي عن رأي أرسطو هذا، حين يصل إلى الكلام عن الجواهر المفارقة، لكن هذا التناقض يقوم في صلب الفلسفة الإسلامية كلها؛ لأنها جمعت بين أرسطو، وأفلاطون في مركب متنافر منذ البداية في كثير من المسائل.
__________
1 الكتاب نفسه ص48.
2 ابن سينا: "النجاة" ص203، القاهرة، ط2 سنة 1938.(1/27)
2- الموجود محسوس، ومعقول:
وينبه ابن سينا إلى ما قد يغلب على أوهام الناس "من"، أن الموجود هو المحسوس، وأن ما لا يناله الحس بجوهره، ففرض وجوده محال، وأن ما لا يتخصص بمكان، أو وضع بذاته كالجسم، أو بسبب ما هو فيه كأحوال الجسم، فلا حظ له من الوجود"1.
ويرد ابن سينا على هذا الوهم الشائع، ببيان أن الناس يتفقون على وجود المعنى الكلي، وهو المشترك بين الكثيرين مثل: "إنسان" -في وقوعه على زيد وعمرو بمعنى واحد موجود، وإذن فإن البحث في المحسوسات نفسها، يفضي إلى الاعتراف بوجود غير محسوس، هو المعاني الكلية التي تشترك فيها أنواع من المحسوسات.
__________
1 ابن سينا: "الإشارات والتنبيهات" ص435، دار المعارف، سنة 1958.(1/28)
3- العلية:
والشيء ينال وجوده بعّلة، ومعلوليته إما باعتبار ماهيته وحقيقته، أو باعتبار وجوده: فالمثلث حقيقته متعلقة بالسطح والأضلاع، وهما علتاه المادية والصورية. "أما من حيث وجوده فقد يتعلق بعلة أخرى أيضًا غير هذه، ليست هي علة تقوم مثلثيته وتكون جزءًا من حدها، وتلك هي العلة الفاعلية، أو الغائية التي هي علة فاعلية لعلية العلة الفاعلية" "الكتاب نفسه ص442". والغائية لا تفيد وجود المعلول بالذات، بل تفيد فاعلية(1/28)
الفاعل، فهي إذن علة غائية بالنسبة إلى المعلول، وفاعلية بالنسبة إلى الفاعل.
"والفاعل الذي يفيد الشيء وجودًا بعد عدمه، يكون لمفعوله أمران: عدم قد سبق، ووجود في الحال، وليس للفاعل، في عدمه السابق، تأثير، بل تأثيره في الوجود الذي للمفعول منه، فالمفعول إنما هو مفعول لأجل أن وجوده من غيره، لكن عرض أن كان له عدم من ذاته، وليس ذلك من تأثير الفاعل"1.
والقوة تطلق على مبدأ التغيير في آخر من حيث إنه آخر، ومبدأ التغيير يكون إما في المنفعل، وهو القوة الانفعالية، وإما في الفاعل وهو القوة الفعلية، "ويقال قوة: لما به يجوز من الشيء فعل أو انفعال، ولما به بصير الشيء مقومًا لآخر، ولما به يصير الشيء غير متغير وثابتًا، فإن التغير مجلوب للضعف، وقوة المنفعل قد تكون محدودة نحو شيء واحد، كقوة الماء على قبول الشكل: فإن فيه قوة قبول الشكل، وليس فيه قوة حفظه، وفي السمع قوة عليهما جميعًا، وفي الهيولي الأولى قوة الجميع، ولكن بتوسط شيء دون شيء، وقد يكون في الشيء قوة انفعالية بحسب الضدين، كما أن في السمع قوة أن يتسخن، وأن يتبرد. -وقوة الفاعل قد تكون محدودة نحو شيء واحد، كقوة النار على الإحراق فقط، وقد تكون على أشياء كثيرة كقوة المختارين2، وقد يكون في الشيء قوة على كل شيء، ولكن بتوسط شيء دون شيء، وقد تكون القوة الفعلية على الضدين جميعًا كقوة المختارين منا، والقوة الفعلية المحدودة إذا لاقت القوة المنفعلة، حصل فيها الفعل ضرورة، وليس كذلك في غيرها مما يستوي فيها الأضداد.
وقد تغلط لفظة القوة، فيتوهم أن القوة على الفعل هي القوة المقابلة لما بالفعل، والفرق بينهما أن هذه القوة الأولى تبقى موجودة عندما تفعل، والثانية إنما تكون موجودة مع عدم الذي هو بالفعل"3.
وهذا تحليل جيد لفكرة العلية والفعل.
ومن هذا التحليل يخلص ابن سينا إلى برهان على وجود علة أولى واحدة.
__________
1 ابن سينا: "النجاة" ص 213. القاهرة، سنة 1938.
2 أي الإنسان الذي هو حر مختار.
3 ابن سينا: "النجاة" ص214-215.(1/29)
4- إثبات علة أولى:
وهذا البرهان، إنما نجده في "الإشارات والتنبيهات"، وقد أقامه على مبدأين:
الأول: أن العالم سلسلة مرتبة من علل ومعلولات.
والثاني: أن هذه السلسلة تنتهي بالضرورة إلى علة أولى لا علة لها.
وذلك؛ لأن "كل جملة كل واحد منها معلول، فإنها تقتضي علة خارجة عن آحادها، وذلك؛ لأنها إما أن لا تقتضي علة أصلًا، فتكون واجبة غير ممكنة -وكيف يتأتى هذا، وإنما تجب بآحادها؟ وإما أن تقتضي علة هي الآحاد بأسرها، فتكون معلولة لذاتها، فإن تلك الجملة والكل شيء واحد، وأما الكل -بمعنى كل واحد- فليس تجب به الجملة -وإما أن تقتضي علة هي بعض الآحاد، وليس بعض الآحاد أولى بذلك من بعض، إذا كان كل واحد منها معلولًا؛ لأن علته أولى بذلك -وإما أن تقتضي علة خارجة عن الآحاد كلها، وهو الباقي"1.
ويمكن تلخيص هذا على نحو أبسط هكذا:
كل جملة أي سلسلة من الأشياء كل واحد منها معلول: إما أنها تقتضي علة خارجة عنها، وإما لا تقتضي.
__________
1 ابن سينا: "الإشارات والتنبيهات" ص451-452.(1/30)
فإن لم تقتض، فإنها تكون واجبة الوجود، مع أننا قلنا أن كل واحد منها معلول للآخر.
وأما أن تقتضي -وهذا ينقسم إلى ثلاثة أقسام؛ لأن علة الجملة: إما أن تكون كل الآحاد "أي أفرادها"، أو بعضها، أو شيئًا خارجًا عنها. والأول باطل؛ لأن الشيء لا يكون علة نفسه، والثاني باطل، إذ ليس بعض الآحاد أولى بذلك من بعض، ما دام كل واحد منها معلولًا، فلم يبق إلا القسم الثالث، وهو أن تكون علة الجملة شيئًا خارجًا عنها -وهو المطلوب.
وإذن فكل سلسلة تنتهي إلى واجب الوجود بذاته.
"ولا يجوز أن يكون شيء واحد واجب الوجود بذاته وبغيره معًا، فإنه إن رفع غيره، أو لم يعتبر وجوده لم يخل: إما أن يبقى وجوب وجوده على حاله، فلا يكون وجوب وجوده بغيره، وأما أن لا يبقى وجود وجوده، فلا يكون وجود وجوده بذاته، وكل ما هو واجب الوجود بغيره، فإنه ممكن الوجود بذاته؛ لأن ما هو واجب الوجود بغيره، فوجوب وجوده تابع لنسبة ما وإضافة، والنسبة والإضافة اعتبارهما يمد اعتبار نفس ذات الشيء التي لها نسبة وإضافة، ثم وجوب الوجود إنما يتقرر باعتبار هذه النسبة، فاعتبار الذات وحدها لا يخلو إما أن يكون مقتضيًا لوجوب الوجود، أو مقتضيًا لإمكان الوجود، أو مقتضيًا لامتناع الوجود، ولا يجوز أن يكون مقتضيًا لامتناع الوجود؛ لأن كل ما امتنع وجوده بذاته لم يوجد، ولا بغيره، وإما أن يكون موجودًا مقتضيًا لوجوب الوجود -فقد قلنا: إن ما وجب وجوده بذاته استحال وجوب وجوده بغيره. فبقي أن يكون باعتبار ذاته: ممكن الوجود، وباعتبار إيقاع النسبة إلى ذلك الغير: واجب الوجود، وباعتبار قطع النسبة التي إلى ذلك الغير: ممتنع الوجود، وذاته بذاته بلا شرط ممكنة الوجود"1.
__________
1 ابن سينا: "النجاة" ص225-226.(1/31)
5- البرهان على واجب الوجود بواسطة فكرة الممكن والواجب:
على أن ابن سينا، يعطي لهذا البرهان صورة أخرى، هي التي وجدناها عند الفارابي، وهي القائمة على فكرة الممكن والواجب.
وقد عقد في "النجاة" فصلًا لإثبات واجب الوجود على هذا النحو، هكذا:
"لا شك أن هنا وجودًا. وكل وجود: فإما واجب، وإما ممكن. فإن كان واجبًا، فقد صح وجود الواجب -وهو المطلوب.
وإن كان ممكنًا، فإنا نوضح أن الممكن ينتهي وجوده إلى واجب الوجود، وقبل ذلك، فإننا نقدم مقدمات:
1- فمن ذلك أنه لا يمكن أن يكون في زمان واحد لكل ممكن الذات علل ممكنة الذات بلا نهاية، وذلك؛ لأن جميعها: إما أن يكون موجودًا معًا، وإما أن لا يكون موجودًا معًا، فإن لم يكن موجودًا معًا غير المتناهي في زمان واحد، ولكن واحد قبل الآخر، فلنؤخر الكلام في هذا -وإما أن يكون موجودًا معًا ولا واجب وجود فيه، فلا يخلو: إما أن تكون الجملة بما هي تلك الجملة -سواء كانت متناهية، أو غير متناهية- واجبة الوجود بذاتها، أو ممكنة الوجود، فإن كانت واجبة الوجود بذاتها، وكل واحد منها ممكن، يكون الواجب الوجود متقومًا بممكنات الوجود -هذا خلف، وإن كانت ممكنة الوجود بذاتها، فالجملة محتاجة في الوجود إلى مفيد الوجود: فإما أن يكون خارجًا منها، أو داخلًا فيها، فإن كان داخلًا فيها: فإما أن يكون واحد منها واجب الوجود، وكان كل واحد منها ممكن الوجود -هذا خلف. وإما أن يكون ممكن الوجود، فيكون هو علة لوجود الجملة، وعلة الجملة علة أولًا لوجود أجزائها -ومنها هو- فهو علة لوجود نفسه، وهذا -مع استحالته- إن صح فهو من وجه ما، نفس المطلوب، فإن كل شيء يكون كافيًا في أن يوجد ذاته، فهو واجب الوجود، وكان ليس واجب الوجود -هذا خلف.(1/32)
فبقي أن يكون خارجًا عنها، ولا يمكن أن يكون علة ممكنة، فإنا جمعنا كل علة ممكنة الوجود في هذه الجملة، فهي إذن خارجة عنها، وواجبة الوجود بذاتها.
فقد انتهت الممكنات إلى علة واجبة الوجود، فليس لكل ممكن علة ممكنة، بلا نهاية.
2- ونقول أيضًا: إنه لا يجوز أن يكون للعلل عدد متناه، وكل واحد منه ممكن الوجود في نفسه، ولكنه واجب بالآخر، إلى أن ينتهي إليه دورًا.
ولنقدم مقدمة أخرى، فنقول: إن وضع عدد متناه من ممكنات الوجود بعضها لبعض علل في الدور -فهو أيضًا محال، وتبين "أي: هذه المسألة" بمثل بيان المسألة الأولى، ويخصها: أن كل واحد منها يكون علة لوجود نفسه، ومعلولًا لوجود نفسه، ويكون حاصل الوجود عن شيء، إنما يحصل بعد حصوله بالذات، وما وقف وجوده على وجود ما لا يوجد إلا بعد وجوده، البعدية الذاتية، فهو محال الوجود، وليس حال المتضايفين هكذا: فإنهما معًا في الوجود، وليس يتوقف وجود أحدهما، فيكون بعد وجود الآخر، بل توجدهما معًا: العلة الموجدة لهما والمعنى الموجب إياهما معًا، فإن كان لأحدهما تقدم، وللآخر تأخر -مثل الأب والابن، فتقدمه من جهة غير جهة الإضافة: فإن تقدمه من جهة وجوب الذات، ويكونان معا من جهة الإضافة، الواقعة بعد حصول الذات. ولو كان الابن يتوقف وجوده على وجود الأب، والأب يتوقف وجوده على وجود الابن، ثم كانا ليسا معًا بل أحدهما بالذات بعد، لكان لا يوجد ولا أحد منهما، وليس المحال هو أن يكون وجود ما يوجد مع الشيء شرطًا في وجوده، بل وجود ما يوجد عنه، وبعده"1.
ويتعمق ابن سينا في تفصيل هذا البرهان أكثر فأكثر بعد ذلك، مما لا محل لعرضه ها هنا.
__________
1 ابن سينا: "النجاة" ص230-231.(1/33)
6- البرهان على المحرك الأول:
كذلك يورد ابن سينا "ص240-243" البرهان على وجود محرك أول لا يتحرك، وهو البرهان الأرسطي الشهير، فلا داعي لإطالة الكلام ها هنا بذكره1.
__________
1 راجع شرح هذا البرهان، كما عرضه أرسطو في كتابنا: "أرسطو"، القاهرة ط1 سنة 1943.(1/34)
7- صفات واجب الوجود:
واجب الوجود غير مقول على كثيرين، وواجب الوجود "هو واجب الوجود من جميع جهاته؛ ولأنه لا ينقسم بوجوه من الوجوه، فلا جزء له ولا جنس له. وإذ لا جنس له، فلا فصل له؛ ولأن ماهيته آنية -أعني الوجود، فلا ماهية يعرض لها الوجود، فلا جنس له إذ لا مقول عليه، وعلى غيره في جواب ما هو شيء، وإذ لا جنس له ولا فصل، فلا حد له، وإذ لا موضوع له، فلا ضد له. وإذ لا نوع له، فلا ند له، وإذ هو واجب الوجود من جميع جهاته، فلا تغير له. وهو عالم، لا؛ لأنه مجتمع الماهيات، بل؛ لأنه مبدؤها، وعنه يفيض وجودها.
وهو معقول وجود الذات، فإنه مبدأ، وليس أنه معقول وجود الذات غير أن ذاته مجردة عن المواد، ولواحقها التي لأجلها يكون الموجود حسيَا، لا عقليًا.
وهو قادر الذات، لهذا بعينه؛ لأنه مبدأ عالم بوجود الكل عنه، وتصور حقيقة الشيء -إذا لم يحتج في وجود تلك الحقيقة إلى شيء، غير نفس التصور- يكون العلم نفسه قدرة، وأما إذا كان نفس التصور غير موجب، لم يكن العلم قدرة.(1/34)
وهناك فلا كثرة، بل إنما توجد الأشياء عنه من جهة واحدة. فإذا كان كذلك، فكونه عالمًا بنظام الكل الحسن المختار، هو كونه قادرًا بل اثنينية ولا غيرته.
وهذه الصفات له لأجل اعتبار ذاته مأخوذًا مع إضافة، وأما ذاته فلا تتكثر -كما علمت- بالأحوال والصفات، ولا يمتنع أن تكون له كثرة إضافات وكثرة سلب، وأن تجعل له بحسب كل إضافة: اسم محصل، وبحسب كل سلب: اسم محصل، فإذا قيل له: "قادر"، فهو تلك الذات مأخوذة بإضافة صحة وجود الكل
عنه، الصحة التي بالإمكان العام، لا بالإمكان الخاص، فكل ما يكون عنه يكون
بلزوم عندما يكون؛ لأن واجب الوجود بذاته واجب الوجود من جميع جهاته.
وإذا قيل: "واحد" يعني به: موجود لا نظير له، أو موجود لا جزء له، فهذه التسمية تقع عليه من حيث اعتبار السلب.
وإذا قيل: "حق" عني أن وجوده لا يزول، وأن وجوده هو على ما يعتقد منه.
وإذا قيل: "حي" عني أنه موجود لا يفسد، وهو مع ذلك على الإضافة التي للعالم العاقل.
وإذا قيل: "خير محض" يعنى به أنه كامل الوجود بريء عن القوة والنقص، فإن شر كل شيء نقصه الخاص، ويقال له: خير؛ لأنه يؤتي كل شيء خيريته"1.
وواجب الوجود بذاته عقل وعاقل ومعقول: إنه يعقل ذاته، وهو إذن معقول لذاته، وعاقل لذاته، وكونه عاقلًا ومعقولًا لا يوجب أن يكون في ذاته اثنينية في الذات ولا في الاعتبار، إذ المقصود هو أن له ماهية مجردة هي
__________
1 ابن سينا: "عيون الحكمة" ص58-59.(1/35)
ذاته، وإذن فكون عاقلًا ومعقولًا لا يوجب فيه كثرة ألبتة.
وهو أيضًا بذاته معشوق وعاشق، ولذيذ وملتذ، إذ "لا يمكن أن يكون جمال، أو بهاء فوق أن تكون الماهية عقلية محضة، خيرية محضة، بريئة عن كل واحد من أنحاء النقص، واحدة من كل جهة، والواجب الوجود له الجمال والبهاء المحض. وهو مبدأ كل اعتدال؛ لأن كل اعتدال هو في كثرة تركيب أو مزاج، فيحدث وحدة في كثرته، وجمال كل شيء، وبهاؤه هو أن أن يكون على ما يجب له. فكيف جمال ما يكون على ما يجب في الوجود الواجب، وكل جمال ملائم وخير مدرك فهو محبوب ومعشوق، وكلما كان الإدراك أشد اكتناها وأشد تحقيقًا، والمدرك أجمل وأشرف ذاتًا، فأحباب القوة المدركة إياه، واعتزازها به أكثر، فالواجب الوجود -الذي في غاية الجمال والكمال والبهاء، والذي يعقل ذاته بتلك الغاية في البهاء والجمال، وبتمام التعقل، ويتعقل العاقل والمعقول على أنهما واحد بالحقيقة -تكون ذاته لذاته أعظم عاشق ومعشوق، وأعظم لاذ وملتذ ... وليس عندنا لهذه المعاني أسام غير هذه الأسامي، فمن استبشعها استعمل غيرها"1.
أما كيف يعقل واجب الوجود الأشياء، فإنه إذا عقل ذاته، وعقل أنه مبدأ كل الوجود، عقل أوائل الموجودات عنه وما يتولد عنها، ولا شيء من الأشياء يوجد إلا وقد صار من جهة ما واجبًا بسببه" "الكتاب نفسه ص247".
إنه يعلم الأسباب ومطابقتها، فيعلم بالضرورة ما تتأدى إليه، وما بينها من الأزمنة، وما لها من العودات، ومعنى هذا أن الله إنما يعلم الكليات، وبعلمه إياها يكون مدركًا للأمور الجزئية من حيث هي كلية، أعني من حيث ما لها من صفات كلية، وقد أشار الغزالي في "التهافت" إلى رأي ابن سينا هذا، وهو أن ابن سينا، زعم أن الله "يعلم الأشياء علمًا كليًا لا يدخل تحت الزمان، ولا يختلف بالماضي والمستقبل والآن، ومع ذلك زعم أنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، إلا أنه يعلم الجزئيات بنوع كلي"2.
__________
1 ابن سينا: "النجاة" ص245.
2 أبو حامد الغزالي: "تهافت الفلاسفة" ص164، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، سنة 1962.(1/36)
8- صدور الأشياء عن واجب الوجود:
الله فاعل الكل بمعنى أنه الموجود الذي يفيض عنه كل وجود فيضًا تامًا مباينًا لذاته، وفيض الكل عنه ليس على سبيل قصد منه، كذلك ليس كون الكل عنه على سبيل الطبع، بأن لا يكون وجود الكل عنه بغير معرفة ولا رضا منه، إذ كيف يصح هذا عنه، وهو عقل محض.
"وإنما يعقل وجود الكل عنه على أنه هو مبدؤه، وليس في ذاته مانع أو كاره لصدور الكل عنه، وذاته عالمة بأن كماله وعلوه بحيث يفيض عنه الخير، وأن ذلك من لوازم جلالته المعشوقة له لذاته ... "وهو" راض بما يكون عنه، فالأول راض بفيضان الكل عنه.
ولكن الحق الأول إنما عقد الأول وبالذات أنه يعقل ذاته، التي هي لذاتها مبدأ لنظام الخير في الوجود، فهو عاقل لنظام الخير في الوجود كيف ينبغي أن يكون، لا عقلًا خارجًا عن القوة إلى الفعل، ولا عقلًا متنقلًا من معقول إلى معقول، فإن ذاته بريئة عما بالقوة من كل وجه ... بل عقلًا واحدًا معًا، ويلزم ما يعقله من نظام الخير في الوجود إذ يعقل أنه كيف يمكن، وكيف يكون أفضل ما يكون أن يحصل وجود الكل على مقتضى معقوله"1.
ولا يجوز أن تكون أول المبدعات عنه كثيرة: لا بالعدد، ولا بالانقسام إلى مادة وصورة، بل ان أول الموجودات عن العلة الأولى واحد بالعدد، وذاته وماهيته موجودة لا في مادة، أي أنه عقل محض؛ لأنه صورة لا في مادة،
__________
1 ابن سينا: "النجاة" ص274.(1/37)
وهو أول العقول المفارقة، "ويشبه أن يكون هو المبدأ المتحرك للجرم الأقصى على سبيل التشويق"1.
ذلك أن المحرك الأول، إنما يحرك على سبيل التشويق إلى الاقتداء بأمره، وذلك للتشبه بالخير المحض.
وهكذا نرى ابن سينا يمزج بين نظرية الفيض عند أفلوطين، وبين نظرية العشق التي قال بها أرسطو في تفسير حركة الجسم الأقصى عن الله، بالرغم من أنهما مختلفتان!
__________
1 الكتاب نفسه ص275.(1/38)
9- العقول المفارقة:
والمتحرك الأول واحد، لكن لكل كرة من كرات السماء محركًا قريبًا يخصها ومعشوقًا يخصها.
وأول المفارقات الخاصة محرك الكرة الأولى، وهي كرة الثوابت، وهنا يشير ابن سينا إلى رأي أرسطو الذي "يضع عدد الكرات المتحركة على ما ظهر في زمانه"، ويتبع عددها: عدد المبادئ المفارقة" "ص266"، ثم يشير إلى رأي أفضل أصحابه أعني أتباعه هو الإسكندر الأفروديسي، حين يقول في رسالته التي "في مبادئ الكل"1: "أن محرك جملة السماء واحد، لا يجوز أن يكون عددًا كثيرًا، وأن لكل كرة محركًا، ومعشوقًا يخصانها" "ص266".
العقول المفارقة إذن كثيرة العدد، لكنها ليست موجودة معًا عن الأول، بل يجب أن يكون أعلاها هو الموجود الأول عنه، ثم يتلوه عقل وعقل؛ ولأن تحت كل عقل فلكًا بمادته وصورته التي هي النفس، وعقلًا دونه، فتحت كل عقل ثلاثة أشياء في الوجود، فيجب أن يكون إمكان وجود هذه الثلاثة عن ذلك العقل الأول في الإبداع، لأجل التثليث المذكور
__________
1 أنظرها في كتابنا: "أرسطو عند العرب"، القاهرة سنة 1947.(1/38)
فيه، والأفضل يتبع الأفضل من جهات كثيرة.
فيكون إذًا العقل الأول يلزم عنه بما يعقل الأول: وجود عقل تحته، وبما يعقل ذاته: وجود صورة الفلك الأقصى وكمالها، وهي النفس، وبطبيعة إمكان الوجود الحاصلة له المندرجة في تعقله، لذاته: وجود جرمية الفلك الأقصى المندرجة في جملة ذات الفلك الأقصى بنوعه، وهو الأمر المشابك للقوة.
فبما يعقل الأول، يلزم عنه عقل، وبما يختص بذاته على جهتيه: الكثرة الأولى بجزئيها: أعني المادة والصورة، والمادة بتوسط الصورة أو بمشاركتها، كما أن إمكان الوجود يخرج إلى الفعل بالفعل الذي يحاذي صورة الفلك.
وكذلك الحال في عقل عقل، وفلك فلك، حتى ينتهي إلى العقل الفعال الذي يدبر أنفسنا، وليس يجب أن يذهب هذا المعنى إلى غير النهاية، حتى يكون تحت كل مفارق مفارق"1.
والخلاصة أن كل عقل "بما يعقل الأول يجب عنه وجود عقل آخر دونه، وبما يعقل ذاته يجب عنه فلك بنفسه وجرمه، وجرم الفلك كائن عنه، ومستبقى بتوسط النفس الفلكية"2.
ولكل فلك نفس هي كماله وصورته، لكن هذه النفس ليست جوهرًا مفارقًا مثل العقل، ذلك أنها تحرك وتحدث التغيير في حركات الجرم، "وإذا كان الأمر على هذا، فلا يجوز أن تكون أنفس الأفلاك تصدر عنها أفعال في أجسام أخرى غير أجسامها، إلا بواسطة أجسامها، فإن صور الأجسام وكمالاتها على صنفيها" "ص278": أما صور قوامها يكون بمواد الأجسام، وأما صور يكون قوامها بذاتها، لا بمواد الأجسام، وهذه الحالة الأخيرة هي
__________
1 ابن سينا: "النجاة" ص277-278.
2 الكتاب نفسه ص280.(1/39)
حالة أنفس الأفلاك، وعلى هذا فإن القوى السماوية المتعلقة بأجسامها لا تفعل إلا بواسطة هذه الأجسام، ومحال أن تفعل بواسطة الجسم نفسًا؛ لأن الجسم لا يكون متوسطًا بين نفس ونفس، فما دامت تفعل نفسًا بغير توسط الجسم، فإن لها انفراد قوام من دون الجسم واختصاصًا بفعل مفارق لذاتها، ولذات الجسم، فالذي يحرك أجسام الأفلاك هو نفوسها.
وفي كتاب "التعليقات" يقول ابن سينا: إن "عقول الكواكب بالقوة، لا بالفعل، فليس لها أن تعقل الأشياء دفعة، بل شيئًا بعد شيء، ولا أن تتخيل الحركات دفعة بل حركة بعد حركة، وإلا لكانت تتحرك الحركات كلها معًا، وهذا محال، وحيث تكون الكثرة يكون ثم نقصان، ولما كانت الكواكب في ذواتها كثرة -إذ كان فيها تركيب من مادة وصورة هي النفس- كان في عقولها نقصان، وإنما الكمال حيث تكون البساطة وهي الأول والعقول الفعالة"1.
__________
1 ابن سينا: "التعليقات" ص62، نشرتنا بالقاهرة سنة 1973.(1/40)
10- العناية الإلهية:
يعرف ابن سينا العناية بأنها: "إحاطة علم الأول بالكل، وبالواجب أن يكون عليه الكل، حتى يكون على أحسن النظام، وبأن ذلك واجب عنه، وعن إحاطته به، فيكون الموجود وفق المعلوم على أحسن النظام من غير انبعاث قصد، وطلب من الأول الحق، فعلم الأول بكيفية الصواب في ترتيب وجود الكل منبع لفيضان الخير في الكل"1.
ويعرفها في "النجاة" هكذا: "العناية هي كون الأول عالمًا لذاته بما عليه الوجود من نظام الخير، وعلة لذاته للخير والكمال بحسب الإمكان، وراضيًا به على النحو المذكور، فيعقل نظام الخير على الوجه الأبلغ في الإمكان، فيفيض عنه ما يعقله نظامًا ما، وخيرًا على والوجه الأبلغ الذي يعقله
__________
1 ابن سينا: "الإشارات والتنبيهات" ص729-730.(1/40)
فيضانًا على أتم تأدية إلى النظام بحسب الإمكان"1.
لكن كيف نقول بوجود عناية، والشر واضح للعيان في الوجود؟
يرد ابن سينا على هذا قائلًا: "إن الشر على وجوه:
1- فيقال "شر": للنقص الذي هو مثل الجهل، والضعف، والتشويه في الخلقة.
2- ويقال شر: لما هو مثل الألم والغم الذي يكون هناك إدراكًا ما بسبب، لا "بسبب" فقد شيء فقط، فإن السبب المنافي للخير، المانع للخير والموجب لعدمه وبما كان لا يدركه المضرور2، كالسحاب إذا ظلل فمنع شروق الشمس عن المحتاج إلى أن يستكمل بالشمس، فإن كان هذا المحتاج دراكًا، وأدرك أنه غير منتفع، ولم يدرك ذلك من حيث أن السحاب قد حال، بل من حيث هو مبصر، وليس هو من حيث هو مبصر متأذيًا بذلك متضررًا أو منتقضًا، بل من حيث هو شيء آخر"3.
فالشر يطلق إذن إما على أمور عدمية، مثل الجهل الذي هو عدم العلم، أو تشويه الخلفة الذي هو عدم استواء البنية، وإما على أمور وجودية هي الحابسة للكمال عن مستحقة مثل السحاب، الذي يمنع شروق الشمس عن النبات المحتاج إلى حرارتها.
كذلك ينقسم الشر إلى:
1- شر بالذات، وهو العدم، لا كل عدم، بل عدم ما يقتضيه طبع الشيء من الكمالات الثابتة لنوعه وطبيعته، مثل عدم حاسة من الحواس للإنسان، أو الحيوان.
__________
1 ابن سينا: "النجاة" ص184.
2 المضرور هنا: الأعمى.
3 ابن سينا: "النجاة" ص284-285.(1/41)
2- شر بالعرض، وهو الحابس للكمال عن مستحقه، مثل البرد المانع للثمار عن النضوج، وهو أمر طارئ هو أحد شيئين: إما مانع وحائل ومبعد للمكمل، وإما مضاد وأصل محقق للكمال، مثال الأول: وقوع سحب كثيرة وتراكمها، وإظلال جبال شاهقة تمنع تأثير الشمس في الثمار على الكمال، ومثال الثاني: حبس البرد للنبات المصيب لكماله في وقته، حتى يفسد الاستعداد الخاص، وما تبعه" "ص286".
كذلك يفرق ابن سينا في داخل الشر الذي هو بمعنى العدم بين:
1- ما يكون شرًا يحسب أمر واجب، أو نافع، أو قريب من الواجب،
2- وما يكون شرًا يحسب الأمر الذي هو ممكن في الأقل، ولو وجد كان على سبيل ما هو فضل: من الكمالات التي بعد الكمالات الثانية، ولا مقتضى له من طباع الممكن الذي هو فيه.
وهذا النوع الثاني "ليس شرًا بحسب النوع، بل بحسب اعتبار زائد على واجب النوع، كالجهل بالفلسفة أو الهندسة أو غير ذلك، فإن ذلك ليس شرًا من جهة ما نحن ناس، بل هو شرّ بحسب كمال الأصلح في أن يعم ... وإنما يكون بالحقيقة شرًا إذا اقتضاه شخص إنسان أو شخص نفس، وإنما يقتضيه الشخص لا؛ لأنه إنسان، أو نفس، بل؛ لأنه قد ثبت عنده حسن ذلك، واشتاق إليه، واستعد لذلك ... أما قبل ذلك فليس مما يبعث إليه مقتضى طبيعة النوع انبعاثه إلى الكمالات الثانية، التي تتلو الكمالات الأولى" "ص286".
ويحاول ابن سينا أن يهون من شأن هذه الشرور بأنواعها:
فيقرر أولًا أن جميع سبب الشر، إنما يوجد تحت فلك القمر، أي على الأرض، أما في النظام السماوي فلا يوجد شر.
وثانيًا: أن جملة ما تحت القمر طفيف بالقياس إلى سائر الوجود.(1/42)
وثالثًا: الشر إنما يصيب أشخاصًا مفردة، وفي أوقات دون أوقات، بينما الأنواع محفوظة، فهو يصيب مثلًا أفرادًا من الناس، لكنه لا يصيب النوع الإنساني ككل.
ورابعًا: هذا الشر في أشخاص الموجودات قليل، "ومع ذلك فإن وجود ذلك الشر في الأشياء ضرورة تابعة للحاجة إلى الخير، فإن هذه العناصر لو لم تكن بحيث تتضاد وتنفعل عن الغالب، لم يمكن أن تكون عنها هذه الأنواع الشريفة ... فوجب ضرورة أن يكون الخير الممكن في هذه الأشياء، إنما يكون خيرًا بعد أن يمكن وقوع مثل هذا الشر عنه ومعه، وإفاضة الخير لا توجب أن يترك الخير الغالب لشر يندر، فيكون تركه شرًا من ذلك الشر؛ لأن عدم ما يمكن في طباع المادة وجوده، إذا كان عدمين -شر من عدم واحد، ولهذا ما يؤثر العاقل الإحراق بالنار، بشرط أن يسلم منها حيًا، على الموت بلا ألم، فلو ترك هذا القبيل من الخير، لكان يكون ذلك شرًا فوق هذا الشر الكائن بإيجاده ... فإن قال قائل: وقد كان جائزًا أن يوجد المدبر الأول خيرًا محضًا مبرًأ عن الشر؟ فيقال: هذا لم يكن جائزًا في مثل هذا النمط من الوجود، وإن كان جائزًا في الوجود المطلق، على أنه إن كان ضرب من الوجود المطلق مبرأ، فليس هذا الضرب، وذلك "الجائز في الوجود المطلق"، مما قد فاض عن المدبر الأول ووجد في الأمور العقلية، والنفسية، والسماوية.
وبقي هذا1 النمط في الإمكان، ولم يكن ترك إيجاده لأجل ما قد يخالطه من الشر" "286-287"، فإيجاده خير الشرين، أعني خير من الشر الأكبر لو لم يوجد.
كذلك الشر يطلق على وجوه أخرى:
1- فيقال شر للأفعال المذمومة،
__________
1 أي الوجود الممزوج بالشر.(1/43)
2- ويقال شر لمبادئها من حيث الأخلاق،
3- ويقال شر للآلام والغموم وما يشبهها،
4- ويقال شر لنقصان كل شيء عن كماله، وفقدانه ما من شأنه أن يكون له.
غير أن الآلام والغموم وإن كانت معانيها غير وجودية، فإنها ليست إعدامًا.
والشر في الأفعال إنما هو: بالقياس إلى من يفقد كماله بوصول ذلك إليه، مثل الظلم، أو بالقياس إلى ما يفقد من كمال يجب في السياسة المدنية، كالزنا.
والشر بالنسبة إلى الأخلاق إنما هو شر بالقياس إلى السبب الفاعل له، أو بالقياس إلى قابله، أو بالقياس إلى فاعل آخر يمنع عن فعله، فالظلم مثلًا يصدر عن قوة طلّابة للغلبة والسيطرة، هي القوة الغضبية، وكمالها هو التغلب، وهي خلقت لتكون متوجهة نحو السيطرة، ولهذا تطلبها وتفرح بها، فهذا الفعل بالقياس إليها خير لها، ولو قصرت فيه لكان ذلك شرًا بالنسبة إليها، فالظلم شر للمظلوم، لكنه كمال للقوة الغضبية عند فاعله.
"وكذلك السبب الفاعل لللآلام والأحزان، كالنار إذا أحرقت فإن الإحراق كمال النار، لكنه شر بالقياس إلى من سلب سلامته بذلك لفقدانه ما فقد.
وأما الشر الذي سببه النقصان، وقصور يقع في الجبلة فليس؛ لأن فاعله فعله، بل؛ لأن الفاعل لم يفعله" "ص288".
وبالجملة يرى ابن سينا أن الشر أمر لا مفر منه في عالم الإمكان، لكنه طفيف بالقياس إلى الخير الموجود في هذا العالم، وليس من الحسن أن تترك المنافع الأكثرية، والدائمة بسبب أغراض شرية أقلية، "فأريدت الخيرات الكائنة عن هذه الأشياء إرادة أولية على الوجه الذي يصلح أن يقال "معه" إن الله تعالى يريد الأشياء، ويريد الشر أيضًا على الوجه الذي بالعرض، إذ(1/44)
علم أنه يكون ضرورة، فلم يعبأ به، فالخير مقتضى بالذات، والشر مقتضى بالعرض، وكل بقدر، وكذلك فإن المادة قد علم من أمرها أنها تعجز عن أمور، وتقصر عنها الكمالات في أمور، لكنها يتم لها ما لا نسبة له كثرة إلى ما تقصر عنها، فإذا كان ذلك كذلك، فليس من الحكمة الإلهية أن تترك الخيرات الثابتة الدائمة، والأكثرية لأجل شرور في أمور شخصية غير دائمة"1.
وإن اعترض معترض بأن الشر ليس نادرًا، أو أقليًا بل هو أكثري، رد ابن سينا مفرقًا بين الكثير والأكثري، قائلً: ليس الأمر كذلك "بل الشر كثير، وليس بأكثري، وفرق بين الكثير والأكثري، فإن ها هنا أمورًا كثيرة هي كثيرة وليست أكثرية، فالأمراض، فإنها كثيرة وليست أكثرية، فإذا تأملت هذا الصنف الذي نحن في ذكره من الشر، وجدته أقل من الخير الذي يقابله، ويوجد في مادته فضلًا عنه، بالقياس إلى الخيرات الأخرى الأبدية، نعم الشرور التي هي نقصانات الكمالات الثانية فهي أكثرية، لكنها ليست من الشرور التي كلامنا فيها، وهذه الشرور مثل الجهل بالهندسة، ومثل فوت الجمال الرائع، وغير ذلك مما لا يضر في الكمالات الأولى، ولا في الكمالات التي تليها فيما يظهر منفعتها ... وهذه الشرور هي إعدام خيرات من باب الفضل والزيادة في المادة"2.
وربما كان هذا الفصل الذي عقده ابن سينا لبيان حقيقة الشر في الوجود، من أبلغ ما كتب في هذا الميدان، ويفوق كثيرًا ما كتبه الإسكندر الأفروديسي في رسالته في "العناية"3.
__________
1 ابن سينا: "النجاة" ص289.
2 ابن سينا: "النجاة" ص290-291.
3 يوجد من ترجمتها العربية القديمة نسختان على الأقل: إحداهما في الأسكوريال، والثانية في إستانبول، راجع تصدير كتابنا: "أرسطو عند العرب".(1/45)
الطبيعيات:
1- الزمان:
وبعد أن فرغنا من الإلهيات، فلنفرض آراء ابن سينا في بعض المسائل الطبيعية ذات الصبغة الفلسفية، وأولها مشكلة الزمان، يقول ابن سينا عن الزمان:
"وأما الزمان فهو شيء غير مقداره، وغير مكانه، وهو أمر به يكون "القبل" الذي لا يكون معه "البعد"، فهذه القبلية له لذاته، ولغيره، وكذلك البعدية. وهذه القبليات والبعديات متصلة إلى غير نهاية، والذي لذاته هو قبل شيء هو بعينه يصير بعد شيء، وليس أنه "قبل" هو أنه حركة، بل معنى آخر، وكذلك ليس هو سكون، ولا شيء من الأحوال التي تعرض، فإنها في أنفسها لها معان غير المعاني التي هو بها "قبل" وبها "بعد"، وكذلك "مع" فإن للـ"مع" مفهومًا غير مفهوم كون الشيء حركة.
وهذه القبليات والبعديات، والمعيات تتوالى على الاتصال، ويستحيل أن تكون "دفعات لا تنقسم، وإلا لكانت توازي حركات في مسافات لا تنقسم -وهذا محال، فإذن يجب أن يكون اتصالها اتصال المقادير، ومحال أن تكون أمور ليس وجودها معًا تحدث وتبطل، ولا تتغير ألبتة، فإنه إن لم يكن أمر زال ولم يكن أمر حدث، لم يكن "قبل" ولا "بعد" بهذه الصفة، فإذن(1/46)
هذا الشيء المتصل متعلق بالحركة والتغير، وكيل حركة على مسافة، على سرعة محدودة فإنه إذا تعين لها، أو تعين بها، مبدأ وطرف، لا يمكن أن يكون الإبطاء منها يبتدئ معها ويقطع النهاية معها، بل بعدها، فإذن ها هنا تعلق أيضًا بالـ"مع" والـ"بعد"، وإمكان قطع سرعة محدودة مسافة محدودة فيما أخذه في الابتداء وتركه في الانتهاء، وفي أقل من ذلك إمكان قطع أقل من تلك المسافة، وهذا لا "= ليس" مقدار المسافة التي لا يختلف فيها السريع والبطيء، وغير مقدار المتحرك الذي قد يختلف فيه على الاتفاق في هذا، بل هو الذي يقول: إن السريع يقطع فيه هذه المسافة، وفي أقل منه أقل من هذه المسافة. وهذا الإمكان مقدار غير ثابت، بل متجدد، كما أن الابتداء بالحركة للحركة غير ثابت، ولو كان ثابتًا لكان موجودًا للسريع والبطيء بلا اختلاف.
فهو إذن هو المقدار المتصل على ترتيب القبليات والبعديات، على نحو ما قلنا. وهو متعلق بالحركة -وهو الزمان: فهو مقدار الحركة في المتقدم والمتأخر اللذين لا يثبت أحدهما على الآخر، لا مقدار المسافة، ولا مقدار المتحرك"1.
ونحن نعلم أن أرسطو قد حد الزمان بأنه "مقدار الحركة بحسب المتقدم والمتأخر"2، لكنه لا يتابع عرض أرسطو لمشكلة الزمان في المقالة الرابعة من "الطبيعة"، ولا يثير ما أثار أرسطو من إشكالات عميقة، بل تعلق خصوصًا مسألة العلاقة بين الزمن والمسافة، وهي مسألة ليست بذي بال في مشكلة الزمان.
ولا يزيد ابن سينا في "النجاة" شيئًا يذكر على ما ورد مركزًا في "عيون الحكمة"، واقتبسناه بتمامه منذ قليل، وكل ما هنالك:
__________
1 ابن سينا: "عيون الحكمة" ص26- 27. نشرتنا، القاهرة سنة 1954.
2 أرسطو: "الطبيعة" م4 ف11 ص220أ 24-25.(1/47)
1- أنه يؤكد الارتباط التام بين الزمان، وبين الحركة، فيؤكد أنه "لا يتصور الزمان إلا مع الحركة، ومتى لم يحس بحركة، لم يحس بزمان، مثلما قيل في قصة أصحاب الكهف"1.
2- ويقرر أن "الزمان ليس محدثًا حدوثًا زمانيًا، بل حدوث إبداع، لا يتقدمه محدثه بالزمان والمدة، بل بالذات، ولو كان له مبدأ زماني، لكان حدوثه بعد ما لم يكن، أي بعد زمان متقدم، وكان بعدًا لقبل غير موجود معه، فكان بعد قبل وقبل بعد، وكان له "قبل" غير ذات الموجود عند وجوده، وكل ما كان كذلك، فليس هو أول "قبل"، وكل ما ليس ول "قبل"، فليس مبدأ للزمان كله، فالزمان مبدع، أي يتقدمه باريه فقط"2.
لكن معنى هذا الكلام هو أن الزمان قديم قدم الباري، إذ هو لا يتقدمه بالزمان، بل بالذات، أي بالمرتبة، وما دام كذلك، فقد أحدثه منذ القدم، إذ يجوز أن يكون معه في الوجود الزمني، غير أن رأي ابن سينا ليس صريحًا تمامًا ها هنا.
3- ويقرر أن الزمان "مقدار للحركة المستديرة من جهة المتقدم والمتأخر، لا من جهة المسافة، والحركة متصلة، فالزمان متصل؛ لأنه يطابق المتصل، وكل ما طابق المتصل، فهو متصل" "ص118".
4- وإذن فالزمان يتهيأ أن ينقسم بالتوهم؛ لأن كل متصل يمكن أن ينقسم بالتو هم، لا بالفعل، فإذا قسم ثبتت له في الوهم نهايات، تسمى الآنات.
5- والآن هو فصل الزمان وطرف أجزائه المفروضة فيه.
__________
1 ابن سينا: "النجاة" ص116.
2 الكتاب نفسه، ص117.(1/48)
6- ولما كان الزمان لا ثبات له "قبله" مع "بعده"، فإنه متعلق بالتغير، لا بكل تغير كان، بل بالتغير الذي من شأنه أن يتصل، والتغير الذي يتعلق به الزمان هو الذي يكون في الوضع المستدير الذي يصح له أن يتصل، "وأما السكون فالزمان لا يتعلق به، ولا يقدره إلا بالعرض ... والحركات الأخرى يقدرها الزمان لا بأنه مقدارها الأول، بل بأنه معها، كالمقدار الذي في الذراع يقدر خشبة الذراع بذاته، وسائر الأشياء بتوسطه، ولهذا يجدر أن يكون في زمان واحد مقدار الحركات فوق واحدة، وكما أن الشيء في العدد: أما مبدؤه كالوحدة، وأما قسمته كالزوج والفرد، وأما معدودة -كذلك الشيء في الزمان: منه ما هو مبدؤه كالآن، ومنه ما هو جزؤه كالماضي والمستقبل، ومنه ما هو معدوده ومقدره وهو الحركة"1.
والدهر هو المحيط بالزمان، وهو "نسبة ما مع الزمان، وليس في الزمان إلى الزمان من جهة ما مع الزمان"، "ونسبة ما ليس في الزمان إلى ما ليس في الزمان من جهة ما ليس في الزمان: الأولى به أن يسمى السرمد، والدهر في ذاته من السرمد، وبالقياس إلى الزمان دهر الحركة علة حصول الزمان"2.
الزمان إذن متصل، ولا ينقسم إلا بالتوهم، إما إلى آنات هي الماضي والمستقبل والحاضر، أو إلى ساعات وأيام وشهور وسنين.
__________
1 ابن سينا: "عيون الحكمة" ص28.
2 الكتاب نفسه ص28.(1/49)
2- المكان:
يطلق المكان بمعنيي:
1- إذ يقال: "مكان" لشيء يكون فيه الجسم فيكون محيطا به.
2- ويقال: "مكان" لشيء يعتمد عليه الجسم فيستقر عليه.(1/49)
مفارق له عند الحركة، ومساو له؛ لأنهم يقولون: لا يتأتى أن يوجد جسمان في مكان واحد، فإذا كان كذلك، فينبغي أن يكون خارجًا عن ذات المتمكن؛ لأن كل شيء يكون في ذات المتحرك، فلا يفارقه المتحرك عند الحركة، وقد قيل: إن كل مكان مباين للمتحرك عند الحركة، فإذن ليس المكان شيئًا في المتمكن. وكل هيولي وكل صورة فهي في المتمكن، فليس إذن المكان بهيولي ولا صورة. ولا الأبعاد التي يدعى أنها مجردة عن المكان بمكان الجسم المتمكن: لا مع امتناع خلوها كما يراه بعضهم، ولا مع جواز خلوها، كما يظن مثبتوا الخلاء"1.
فالمكان ليس هيولي الشيء، ولا صورته، وليس هو الخلاء، إذ لا يوجد خلاء.
إن المكان شيء فيه الجسم، فإما أن يكون ذلك على سبيل التداخل، وإما أن يكون على سبيل الإحاطة، ويبرهن ابن سينا برهنة طويلة على امتناع التدخل، كذلك ليس المكان هو الأبعاد التي بين غايات الجسم المحيط، "فهذا قول كاذب جدًا" على حد تعبير ابن سينا "124"، إذ ليس بين الغايات شيء غير أبعاد المتمكن، إذن فذلك هو على سبيل الإحاطة.
"وقد قيل: إن المكان مساو، فإما أن يكون مساويًا لجسم المتمكن، وقد قيل: إنه محال، وإما أن يكون مساويًا لسطحه، وهو الصواب، ومساوي السطح سطح. فالمكان هو السطح المساوي لسطح المتمكن، وهو نهاية الحاوي المماسة لنهاية المحوي، وهذا هو المكان الحقيقي، وأما المكان غير الحقيقي فهو الجسم المحيط"2.
ويبحث ابن سينا في الخلاء لإبطاله، إذ لو كان الخلاء موجودًا، لكان فيه أبعاد وفي كل جهة، وكان يحتمل الفصل في الجهات كالجسم، ولو كان
__________
1 ابن سينا: "النجاة" 118-119.
2 الكتاب نفسه، ص124.(1/50)
خلاء موجودًا لما كان يختص فيه الجسم المحيط إلا بجهة تعين، فيجب أن يكون لهذا المحيط جهة، ولو كان خلاء لكان له خير من الخلاء مخصوص، ووراءه أحياز أخرى خارجة عن حيزه لا يتحدد بها حيزه، ولا تتحدد هي لحيزه1. ويستمر ابن سينا في بيان أنواع التناقض، التي تنجم عن افتراض وجود الخلاء، وينتهي من ذلك إلى إبطاله، كما فعل أرسطو من قبل.
__________
1 راجع "عيون الحكمة" ص23-24، وراجع "النجاة" 119-123.(1/51)
النفس:
1- أنواع النفس:
النفس، كجنس واحد، تنقسم إلى ثلاثة أنواع:
1- النفس النباتية، وهي: كمال أول لجسم طبيعي آلي، من جهة ما يتولد ويربو "= ينمو" ويغتذي. والغذاء جسم من شأنه أن يتشبه بطبيعة الجسم الذي قيل أنه غذاؤه، ويزيد فيه بمقدار ما تحلل، أو أكثر، أو أقل.
2- النفس الحيوانية وهي: كمال أول لجسم طبيعي آلي، من جهة ما يدرك الجزئيات ويتحرك بالإرادة.
3- النفس الإنسانية، وهي: كمال أول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يفعل الأفعال الكائنة بالاختيار الفكري، واستنباط الرأي، ومن جهة ما يدرك الأمور الكلية.
"وللنفس النباتية قوى ثلاث:
1- القوة الغاذية، وهي القوة التي تجعل جسمًا آخر إلى مشاكلة الجسم الذي هي فيه، فتلصقه به بدل ما يتحلل عنه.
2- والقوة المنمية، وهي قوة تزيد في الجسم الذي هي فيه -بالجسم المتشبه-(1/52)
في أقطاره طولًا وعرضًا وعمقًا، متناسبة للقدر الواجب ليبلغ به كماله في النشوء.
3- والقوة المولدة: وهي القوة التي تأخذ من الجسم الذي هي فيه جزءًا هو شبيه له بالقوة، فتفعل فيه -باستمداد أجسام أخرى تتشبه به- من التخليق والتمزيج ما يصير شبيهًا به بالفعل"1.
أما النفس الحيوانية فلها -بالقسمة الأولى- قوتان: محركة، ومدركة، والمحركة على قسمين: إما محركة بأنها باعثة، وإما محركة بأنها فاعلة، فالمحركة على أنها باعثة هي القوة النزوعية والشوفية، ولها شعبتان: شعبة تسمى قوة شهوانية، وهي قوة تبعث على تحريك يقرب به من الأشياء المتخيلة ضرورية أو نافعة، طلبًا للذة، وشعبة تسمى قوة غضبية، وهي قوة تبعث على تحريك يدفع به الشيء المتخيل ضارًا أو مفسدًا، طلبًا للغلبة.
وأما القوة المحركة على أنها فاعلة، فهي قوة تنبعث في الأعصاب والعضلات، من شأنها أن تشنج العضلات، فتجذب الأوتار والرباطات إلى جهة المبدأ، أو ترخيها، أو تمدها طولًا، فتصير الأوتار والرباطات إلى خلاف جهة المبدأ.
وأما القوة المدركة فتقسم قسمين: فإن منها قوة تدرك من خارج، ومنها قوة تدرك من داخل، والمدركة من خارج هي الحواس الخمس، وهي: البصر، والسمع، والشم، والذوق، واللمس، وحاسة اللمس يمكن أن تكون جنسًا لأربع قوى منبثة معًا في الجلد: واحدة حاكمة في التضاد الذي بين الحار والبارد، والثانية حاكمة في التضاد الذي بين اليابس والرطب، والثالثة حاكمة في التضاد الذي بين الصلب واللين، والرابعة حاكمة في التضاد بين الخشن والأملس.
__________
1 ابن سينا: "النجاة" ص158.(1/53)
والمحسوسات كلها تتأدى صورها إلى آلات الحس وتنطبع فيها، فتدركها القوة الحاسة، وهذا ظاهر في اللمس والذوق والشم والسمع، أما في البصر فقد ظن به خلاف هذا: فظن قوم أن البصر قد يخرج منه شيء، فيلاقي المبصر ويأخذ صورته من خارج، ويكون ذلك إبصارًا، وفي أكثر الأمر يسمون ذلك الخارج من العين شعاعًا، "وأما المحققون فيقولون: إن البصر -إذا كان بينه وبين المبصر شفاف بالفعل، وهو جسم لا لون له، متوسط بينه وبين البصر -تأدي شبيهه بتأدي الألوان بتوسط الضوء، إذا انعكس الضوء من شيء ذي لون، فصبغ بلونه جسمًا آخر، وإن كان بينهما فرق، بل هو أشبه بما يتخيل في المرآة"1، ويبرهن ابن سينا على بطلان الظن الأول، وهو رأي أفلاطون، بينما أرسطو يرى الرأي الثاني الذي آخذ به ابن سينا.
"وأما القوى المدركة من باطن: فبعضها قوى تدرك صور المحسوسات، وبعضها قوى تدرك معاني المحسوسات، ومن المدركات ما يدرك ويفعل معًا، ومنها ما يدرك ولا يفعل، ومنها ما يدرك إدراكًا أوليًا، ومنها ما يدرك إدراكًا ثانيًا.
والفرق بين إدراك الصورة، وإدراك المعنى أن الصورة هي الشيء الذي تدركه النفس الباطنة والحس الظاهر معًا، لكن الحس الظاهر يدركه أولًا ويؤديه إلى النفس، مثل إدراك الشاة لصورة الذئب، أعني شكله وهيئته ولونه: فإن نفس الشاة الباطنة تدركها، ويدركها أولًا حسها الظاهر.
وأما المعنى فهو الشيء الذي تدركه النفس من المحسوس، من غير أن يدركه الحس الظاهر أولًا، ثم إدراك الشاة معنى المضاد في الذئب، وهو المعنى الموجب لفرضها إياه وهربها عنه، من غير أن يكون الحس يدرك ذلك ألبتة.
__________
1 ابن سينا: "النجاة" ص160.(1/54)
فالذي يدرك من الذئب أولًا بالحس ثم القوى الباطنة: هو الصورة، والذي تدركه القوى الباطنة دون الحس: فهو المعنى"1.
أما القوى المدركة الباطنة الحيوانية، فمنها:
1- قوة فنطاسيا -أي الحس المشترك، وهي قوة تقبل بذاتها جميع الصور المنطبعة في الحواس الخمس، التي تصل منها إلى الحس المشترك.
2- الخيال والصورة: وهي قوة تحفظ ما قبله الحس المشترك من الحواس الخمس، وتبقى فيه بعد غيبة المحسوسات.
3- قوة تسمى متخيلة بالنسبة إلى النفس الحيوانية، ومفكرة بالنسبة إلى النفس الإنسانية، وهي قوة من شأنها أن تركب بعض ما في الخيال مع بعض، وتفصل بعضه عن بعض.
4- القوة الوهمية، وهي قوة تدرك المعاني غير المحسوسة الموجودة في المحسوسات الجزئية، كالقوة الحاكمة بأن الذئب مهروب منه، وأن الولد معطوف عليه.
5- القوة الحافظة -الذاكرة، وهي قوة تحفظ ما تدركه القوة الوهمية من المعاني غير المحسوسة الموجودة في المحسوسات الجزئية، ونسبة القوة الحافظة إلى القوة الوهمية، كنسبة الخيال إلى الحس.
__________
1 ابن سينا: "النجاة" ص162.(1/55)
2- النفس الناطقة:
وأما النفس الناطقة -وهي خاصة بالإنسان وحده دون سائر الحيوان- فتنقسم قواها إلى: قوة عالمة، وقوة عاملة، قوة نظرية، وقوة عملية.
"أما القوة النظرية فهي قوة من شأنها أن تنطبع بالصور الكلية المجردة عن المادة. فإن كانت مجردة بذاتها، فذاك، وإن لم تكن، فإنها تصيرها مجردة بتجريدها إياها، حتى لا يبقى فيها من علائق المادة شيء"1.
ولتوضيح هذا التعريف نحدد معنى "القوة" أولًا، فنقول: إن القوة تقال على ثلاثة معان:
1- فيقال "قوة" للاستعداد المطلق الذي لا يخرج منه شيء إلى الفعل، كقوة الطفل على الكتابة.
2- ويقال قوة لهذا الاستعداد إذا بدأ يتحقق ولكن بمجهود، مثل قوة الصبي الذي ترعرع، وعرف القلم والدواة، وبسائط الحروف -على الكتابة.
3- ويقال قوة لهذا الاستعداد إذا تم بالآلة، وحدث مع الآلة أيضًا كمال الاستعداد، بأن يكون له أن يفعل متى شاء، بلا حاجة إلى الاكتساب.
والأولى تسمى قوة مطلقة وهيولانية، والقوة الثانية تسمى قوة ممكنة، والقوة الثالثة تسمى ملكة، وربما سميت الثانية ملكة، والثالثة: كمال قوة.
والقوة النظرية تنقسم بحسب قسمة القوى هذه:
1- فإن كانت نسبتها إلى الصور المجردة نسبة ما بالقوة المطلقة، سميت عقلًا هيولانيًا، وهي موجودة لكل شخص من النوع الإنساني، وسميت هيولانية تشبيهًا لها بالهيولى الأولى التي ليست هي بذاتها ذات صورة من الصور، ولكنها موضوعة لكل صورة.
2- وإن كانت تدرك المعقولات الأولى -وهي المقدمات التي يقع بها التصديق بداهة لا باكتساب، مثل اعتقادنا أن الكل أعظم من الجزء وأن الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية -سميت عقلًا بالملكة.
3- وإن كانت الصور المعتدلة حاضرة فيها تطالعها وتعقلها بالعقل، وتعقل أنها تعقلها، سميت حينئذ: عقلًا مستفادًا؛ لأن الصور تكون حينئذ مستفادة من خارج.
4- وإذا اشتد الاستعداد في بعض الناس، حتى لا يحتاج في أن يتصل بالعقل الفعال إلى كبير شيء وإلى تخريج وتعليم، فإن هذا يسمى عقلًا قدسيًا، "وهو من جنس العقل بالملكة، إلا أنه رفيع جدًا، ليس مما يشترك فيه الناس كلهم"2.
__________
1 ابن سينا: "النجاة" ص165.
2 ابن سينا: "النجاة" ص167.(1/56)
3- ترتيب القوى في النفس:
أما من حيث الترتيب، فإنها يرئس بعضها بعضًا، ويخدم بعضها بعضًا، والعقل القدسي بمثابة رئيس لها يخدم الكل، وهو الغاية القصوى، ويتلوه العقل المستفاد، ويخدمه العقل بالملكة، وآخره العقل الهيولاني الذي يخدم العقل بالملكة بما فيه من الاستعداد.
والعقل العملي يخدم جميع هذه، على أساس أن العقل العملي يدبر العلاقة بالبدن من أجل تكميل العقل النظري، وتزكيته.
والوهم يخدم العقل العملي، ويخدم الوهم قوتان: قوة قبله هي جميع القوى الحيوانية، وقوة بعده هي التي تحفظ ما أداه.
والمتخيلة تخدمها قوتان مختلفتا المأخذ: فالقوة النزوعية تخدمها بالانتماء؛ لأنها تبعثها على التحريك، والقوة الخيالية تخدمها بقبول التركيب، والفصل في صورها.
والقوة الخيالية تخدمها فنطاسيا، وفنطاسيا تخدمها الحواس الخمس.
والقوة النزوعية يخدمها الشهوة والغضب.
والشهوة والغضب تخدمها القوة المحركة المثبتة في الفعل.
وإلى ها هنا تنتهي القوى الحيوانية.
والقوى الحيوانية بالجملة تخدمها النباتية، وعلى رأس هذه توجد القوة المولدة، وتخدمها النامية، ثم الغاذية تخدمها جميعًا، ثم القوى الطبيعية الأربع وهي: الهاضمة، والماسكة، والجاذبة، والدافعة -تخدم القوة الغاذية.(1/57)
4- وحدة النفس:
لكن النفس ذات واحدة، رغم أن لها قوى كثيرة، والنفس مبدأ هذه القوى كلها، والنفس توجد مع البدن، لكن حدوثها ليس عن جسم، بل عن جوهر هو صورة غير جسمية.
ويشير ابن سينا إلى رأي أرسطو القائل بأن متعلق القوة النظرية هو القلب، ومخالفة لأفلاطون في ذلك، لكنه يشكك في رأي أرسطو أيضًا، ويرى أن متعلقها هو بجوهر غير جسمي، من نوع الجواهر السماوية، بيد أنه لم يوضح هذا الرأي1.
ويؤكد أيضًا في "عيون الحكمة" "ص46" أن "مدرك المعقولات، وهو النفس الإنسانية، جوهر غير مخالط للمادة، بريء عن الأجسام، منفرد الذات بالقوام والفعل".
والأنفس الإنسانية متفقة في النوع والمعنى، ذلك أن النفس قبل حلولها في البدن هي مجرد ماهية فقط، وليس يمكن أن تغاير نفس نفسًا بالعدد، وإذا كانت ماهية فهي لا تقبل اختلافًا ذاتيًا، "ولا يجوز أن تكون واحدة الذات بالعدد؛ لأنه إذا حصل بدنان حصل في البدنين نفسان: فإما أن يكون قسمي تلك النفس الواحدة، فيكون الشيء الواحد الذي ليس له عظم، وحجم منقسمًا بالقوة -وهذا ظاهر البطلان بالأصول المتقررة في الطبيعيات، -وإما أن تكون النفس الواحدة بالعدد في بدنين، وهذا لا
__________
1 راجع "النجاة" ص 191-192.(1/58)
يحتاج أيضًا إلى كثير تكلف في إبطاله، فقد صح إذن أن النفس تحدث كلما يحدث البدن الصالح لاستعمالها إياه، ويكون البدن الحادث مملكتها وآلتها، ويكون في هيئة جوهر النفس الحادثة مع بدن ما ذلك البدن الذي استحق حدوثها من امبادئ الأولية -نزاع طبيعي إلى الاشتغال به، واستعماله والاهتمام بأحواله والانجذاب إليه، يخصها به، ويصرفها عن كل الأجسام غيره بالطبع لا بواسطته، فلا بد أنها وجدت متشخصة، فإن مبدأ تشخصها يليق بها من الهيئات ما تتعين به شخصًا، وتلك الهيئات تكون مقتضية لاختصاصها بذلك البدن، ومناسبة لصلوح أحدهما للآخر، وإن خفي علينا تلك الحال وتلك المناسبة، وتكون مبادئ الاستكمال متوقعة لها بوساطته، وتزيد فيه بالطبع لا بوساطته.
وأما بعد مفارقة البدن، فإن الأنفس قد وجد كل واحد منها ذاتًا منفردة باختلاف موادها التي كانت، وباختلاف أزمنة حدوثها، واختلاف هيئاتها التي بحسب أبدانها المختلفة لا محالة بأحوالها"1.
لكن لا يتضح من هذا النص بجلاء حل مشكلة هل أنفس أفراد الناس مختلفة، أو واحدة؟ وإذا كانت واحدة، فكيف توجد في أبدان مختلفة، وتنتسب إلى أفراد مختلفين، وتستقل بمسؤوليتها وحسابها؟!
__________
1 ابن سينا: "النجاة" ص184.(1/59)
5- النفس لا تموت بموت البدن، ولا تقبل الفساد:
ويقرر ابن سينا أن النفس "لا تموت بموت البدن، ولا تقبل الفساد أصلًا: أما أنها لا تموت بموت البدن؛ فلأن كل شيء يفسد بفساد شيء آخر، فهو متعلق به نوعًا من التعلق، وكل تعلق بشيء نوعًا من التعلق: فإما أن يكون تعلقه به تعلق المكافئ في الوجود، وإما أن يكون تعلقه به تعلق المتأخر عنه في الوجود، وإما أن يكون تعلقه به تعلق المتقدم عليه في الوجود الذي هو قبله بالذات، لا بالزمان"، ثم يفحص هذه الفروق الثلاثة، فيقول:
1- "فإن كان تعلق النفس بالبدن تعلق المكافئ في الوجود -وذلك أمر ذاتي له، لا عارض- فكل واحد منهما مضاف الذات إلى صاحبه -فليس لا النفس ولا البدن بجوهر، لكنهما جوهران، وإن كان ذلك أمرًا عرضيًا، لا ذاتيًا، فإذا فسد أحدهما بطل الآخر من الإضافة، ولم تفسد الذات بفساده.
2- وإن كان تعلقه به تعلق المتأخر عنه في الوجود، فالبدن علة للنفس في الوجود حينئذ، والعلل أربع: فإما أن يكون البدن علة فاعلية للنفس معطية لها الوجود، وإما أن يكون علة قابلية لها بسبيل التركيب كالعناصر للأبدان، أو بسبيل البساطة كالنحاس للصنم، وإما أن يكون علة صورية، وإما أن يكون علة كمالية، ومحال أن يكون علة فاعلية، فإن الجسم بما هو جسم لا يفعل شيئًا، وإنما يفعل بقواه، ولو كان يفعل بذاته، لا بقواه، لكان كل جسم يفعل ذلك الفعل، ثم القوى الجسمانية كلها: إما أعراض، وإما صور مادية، ومحال أن تفيد الأعراض، أو الصور القائمة بالمواد وجود ذات قائمة بنفسها لا في مادة، ووجود جوهر مطلق، ومحال أيضًا أن يكون علة قابلية، فقد بينا وبرهنا أن النفس ليس منطبعة في البدن بوجه من الوجوه، فلا يكون إذًا البدن متصورًا بصورة النفس، لا بحسب البساطة، ولا على سبيل التركيب: بأن تكون أجزاء من أجزاء البدن، تتركب وتمتزج تركيبًا ما ومزاجًا ما، فتنطبع فيها النفس - ومحال أن يكون علة صورة للنفس أو كمالية، فإن الأولى أن يكون الأمر بالعكس، فإذن ليس تعلق النفس بالبدن تعلق معلول بعلة ذاتية ...
3- وأما القسم الثالث ... وهو أن يكون تعلق النفس بالجسم تعلق المتقدم في الوجود: فإما أن يكون التقدم مع ذلك زمانيًا، فيستحيل أن يتعلق(1/60)
وجوده به، وقد تقدمه في الزمان، وإما أن يكون التقدم في الذات، لا في الزمان؛ لأنه في الزمان لا يفارقه، وهذا النحو من التقدم هو أن تكون الذات المتقدمة، كلما توجد يلزم أن يستفاد عنها ذات المتأخر في الوجود، وحينئذ لا يوجد هذا المتقدم في الوجود إذا فرض المتقدم قد عدم، لا أن فرض عدم المتأخر أوجب عدم المتقدم، ولكن؛ لأن المتأخر لا يجوز أن يكون عدم إلا، وقد عرض أولًا بالطبع للمتقدم ما أعدمه، فحينئذ عدم المتأخر، فليس فرض عدم التأخر يوجب عدم التقدم، ولكن فرض عدم التقدم نفسه؛ لأنه إنما افترض المتأخر معدومًا بعد أن عرض للمتقدم أن عدم في نفسه، وإذا كان كذلك، فيجب أن يكون السبب المعدم يعرض في جوهر النفس، فيفسد معه البدن، وأن لا يكون ألبتة البدن يفسد بسبب يخصه، لكن فساد البدن يكون بسبب يحصه: من تغير المزاج أو التراكيب، فباطل أن تكون النفس تتعلق بالبدن تعلق المتقدم بالذات، ثم يفسد البدن ألبتة بسبب في نفسه، فليس إذًا بينهما هذا التعلق.
وإذا كان الأمر على هذا، فقد بطلت أنحاء التعلق كلها، وبقي أن لا تعلق للنفس في الوجود بالبدن، بل تعلقها في الوجود بالمبادئ الأخر التي لا تستحيل، ولا تبطل.
وأما أنها لا تقبل الفساد أصلًا -فأقول أن سببًا آخر لا يعدم النفس ألبتة، وذلك أن كل شيء من شأنه أن يفسد بسبب ما، ففيه قوة أن يفسد، وقبل الفساد فيه فعل أن يبقى، ومحال أن تكون من جهة واحدة في شيء واحد -قوة أن يفسد وفعل أن يبقى: فإن معنى القوة مغاير لمعنى الفعل، وإضافة هذه القوة مغايرة لإضافة هذا الفعل؛ لأن إضافة -ذلك إلى الفساد، وإضافة هذا إلى البقاء، فإذن لأمرين مختلفين في الشيء يوجد هذان المعنيان، نقول: إن الأشياء المركبة والأشياء البسيطة التي هي قائمة في المرتبة، يجوز أن يجتمع فيها فعل أن يبقى وقوة أن يفسد، وأما في الأشياء(1/61)
البسيطة المفارقة الذات، فلا يجوز أن يجتمع هذان الأمران".
ولما كانت النفس بسيطة بساطة مطلقة، فإنها لا تقبل الانقسام إلى قوة أن تفسد وفعل أن تبقى، فواضح من هذا أن جوهر النفس ليس فيه قوة أن يفسد، وبان إذن أن النفس لا تفسد ألبتة.
والبرهان هنا فيه مصادرة على المطلوب؛ لأن من قال: إن النفس بسيطة بساطة مطلقة؟ أليس من يقول هذا يقول مقدمًا: إن النفس لا تفسد، إذ البسيط لا يفسد، والمركب هو الذي يفسد؟ لقد استخدم ابن سينا هنا البرهان الذي أقامه أفلاطون1، ولكن ليس له الحق في استخدامه؛ لأنه لم يأخذ بالأساس الأفلاطوني لهذا البرهان، وهو أن النفس مثال بالمعنى الأفلاطوني لهذا اللفظ، لقد كانت مقدماته أرسطية، ولكن نتائجه أفلاطونية، وهذا خلط غير مقبول ها هنا، لكن هذا شاهد آخر على الوضع الذي وجد الفلاسفة الإسلاميون فيه أنفسهم في الترجح بين أرسطو، وبين أفلاطون.
وأخيرًا في باب النفس يبطل ابن سينا مذهب التناسخ، وكان قد قال به أفلاطون.
وابن سينا يفند التناسخ على أساس أن تهيؤ الأبدان لتلقي النفوس، ويوجب إفاضة النفوس عليها من العلل المفارقة، وكل مزاج بدني يحدث، يحدث معه نفس تخصه، فإذا فرضنا أن نفسًا تناسختها أبدان، كان للبدن المستنسخ نفسان: إحداهما المستنسخة والثانية الحادثة معه، "فكان حينئذ لحيوان واحد نفسان. وهذا محال؛ لأن النفس هي التي تدبر البدن وتتصرف فيه، وكل حيوان يشعر بشيء واحد يدبر بدنه، ويتصرف فيه"2.
__________
1 راجع كتابنا: "أفلاطون" ص195، ط4 سنة 1964، القاهرة.
2 شرح الطوسي على "الإشارات والتنبيهات" ص779، القاهرة سنة 1958، دار المعارف، وراجع الفصل الخاص بإبطال التناسخ في "النجاة" ص189.(1/62)
التصوف النظري
مدخل
...
التصوف النظري:
وقد توج ابن سينا مذهبه العقلي بتصوف نظري يتمثل في:
1- النمط التاسع من كتاب "الإشارات والتنبيهات".
2- ثلاث قصص رمزية هي:
أ- رسالة "الطير" -نشرها ميرن في ليدن سنة 1893.
ب- "قصة سلامان وأبسال" -طبعت في مجموعة بعنوان: ابن سينا: "تسع رسائل في الحكمة والطبيعيات" ص155-177، القاهرة سنة 1908.
جـ- "حي بن يقظان" -نشرها ميرن، ليدن سنة 1889.(1/63)
1- العشق والشوق:
الأول هو أجل مبتهج؛ لأنه مبتهج بذاته، وهو أشد الأشياء إدراكًا لأشد الأشياء كمالًا، وهو بريء عن طبيعة الإمكان، والعدم اللذين هما منبعا الشر.
والعشق الحقيقي هو الابتهاج بتصور حضرة ذات ما.
والشوق هو الحركة إلى تتميم هذا الابتهاج، حين تكون الصورة المعشوقة حاضرة من وجه، غائبة من وجه آخر، فهو نقص لا يليق بالكمال الحقيقي الذي هو كمال الأول.
ولهذا، فإن الأول يوصف بالعشق، ولا يوصف بالشوق؛ لأنه لا يمكن أن يغيب عنه شيء.
الأول عاشق لذاته، ومعشوقه هو ذاته ومن ذاته، كما أنه معشوق من أشياء غيره بحسب إدراك الغير له.
"ويتلوه المبتهجون به وبذواتهم، من حيث هم مبتهجون به، وهم الجواهر العقلية القدسية، وليس ينسب إلى الأول الحق ولا إلى التالين من خلص أوليائه القديسين: شوق.
وبعد المرتبتين مرتبة العشاق المشتاقين: فهم، من حيث هم عشاق، قد نالوا نيلًا ما، فهم ملتذون، ومن حيث هم مشتاقون، فقد يكون لأصناف منهم أذى ما ...
والنفوس البشرية، إذا زالت الغبطة العليا في حياتها الدنيا، كان أجل أحوالها أن تكون عاشقة مشتاقة، لا تخلص عن علاقة الشوق، اللهم إلا في الحياة الأخرى.
ويتلو هذه النفوس نفوس أخرى بشرية، مترددة بين جهتي الربوبية، والسفالة على درجاتها.
ثم يتلوها النفوس المغموسة في عالم الطبيعة المنحوسة"1.
وهكذا أثبت ابن سينا العشق للجواهر العاقلة، والشوق لبعضها، وفيه على ثبوتهما لباقي النفوس، والقوى الجسمانية.
__________
1 ابن سينا: "الإشارات والتنبيهات" ص785-787.(1/64)
2- مقامات العارفين:
وبعد هذا التمهيد يتكلم ابن سينا عن أحوال أهل الكمال من النوع الإنساني، وهوم يسميهم ها هنا باسم "العارفين"، وقد خصهم بالنمط التاسع من "الإشارات والتنبيهات"، وهذا الباب أجل ما في هذا الكتاب، كما يقول فخر الدين الرازي في شرحه عليه: "فإنه رتب فيه علوم الصوفية ترتيبًا ما سبقه إليه من قبله، ولا لحقه فيه من بعده"، والحق أن ابن سينا في هذا النمط قد حلق تحليقات صوفية رائعة، وإن كان من الصعب ربطها بسائر مذهبه العقلي المشائي الصريح.
يقول ابن سينا:
"إن للعارفين مقامات، ودرجات يخصون بها، وهم في حياتهم الدنيا، دون غيرهم، فكأنهم وهم في جلابيب من أبدانهم قد نضوها وتجردوا عنها إلى عالم القدس، ولهم أمور خفية، وأمور ظاهرة عنهم يستنكرها من ينكرها، ويستكبرها من يعرفها، ونحن نقصها عليك"1.
يعني أن للعارفين وإن كانوا لا يزالون في أبدانهم، فإنهم كما لو كانوا خلعوا أبدانهم جانبًا -كما يقول أفلوطين في التساعات"- وخلصت نفوسهم إلى عالم القدس، ولهم أمور خفية هي مشاهداتهم لما يعجز عن مشاهدته سائر الناس، وأمور ظاهرة، هي ما يختصون به من كرامات، لا يقر بها من لا يدركها، أما من يعرفها، فيقدرها تقديرًا كبيرًا.
ثم يشير بعد ذلك إشارة رمزية غريبة، فيقول: "وإذا قرع سمعك فيما يقرعه، ويرد عليك فيما يسمعه، قصة لسلامان وأبسال -فاعلم أن سلامان مثلًا ضرب لك، وأن أبسال مثل ضرب لدرجتك في العرفان، إن كنت من أهله، ثم حل الرمز، إن أطلقت".
ويشرح نصير الدين الطوسي قصة سلامان وأبسال هذه، فيقول: إنه وقعت له قصتان لسلامان وأبسال.
__________
1 الكتاب نفسه ص789.(1/65)
"إحداهما -وهي التي وقعت أولًا إلي- ذكر فيها أنه كان في قديم الدهر ملك ليونان والروم ومصر، وكان يصادقه حكيم، فتح، بتدبيره له، جميع الأقاليم. وكان الملك يريد ابنًا يقوم مقامه، من غير أن يباشر امرأة، فدبر الحكيم حتى تولد من نطفته، في غير رحم امرأة، ابن له، وسماه "سلامان"، وأرضعته امرأة اسمها "أبسال"، وربته، وهو، بعد بلوغه، عشقها ولازمها، وهي دعته إلى نفسها، وإلى الالتذاذ بمعاشرتها.
ونهاه أبوه عنها وأمره بمفارقتها، فلم يطعه، وهربا معًا إلى ما وراء بحر المغرب. وكان للملك آلة يطلع بها على الأقاليم، وما فيها ويتصرف في أهلها، فاطلع بها عليهما، ورق لهما، وأعطاهما ما عاشا به، وأهملهما مدة.
ثم إنه غضب من تمادي "سلامان" في ملازمة المرأة، فجعلهما بحيث يشتاق كل إلى صاحبه، ولا يصل إليه مع أنه يراه، فتعذبا بذلك، وفطن سلامان به، ورجع إلى أبيه معتذرًا، ونبهه أبوه على أنه لا يصل إلى الملك الذي رشح له، مع عشقه "أبسال" الفاجرة وإلفه لها.
فأخذ "سلامان" و"أبسال" كل منهما يد صاحبه، وألقيا نفسيهما في البحر. فخلصته روحانية الماء بأمر الملك، بعد أن أشرف على الهلاك.
وغرقت "أبسال"، واغتم "سلامان"، ففزع الملك إلى الحكيم في أمره، فدعاه الحكيم، وقال: أطعني، أوصل، أبسال إليك.
فأطاعه، وكان يريه صورتها، فيتسلى بذلك رجاء وصالها، إلى أن صار مستعدًا لمشاهدة صورة "الزهرة"، فأراها الحكيم له بدعوته لها، فشغفته حبًا، وبقيت معه أبدًا، فنفر عن خيال "أبسال"، واستعد للملك بسبب مفارقتها، فجلس على سرير الملك.
وبنى الحكيم الهرمين، بإعانة الملك، واحد للملك، وواحد لنفسه، ووضعت هذه القصة، مع جثتيهما، فيهما، ولم يتمكن أحد من إخراجها، غير أرسطو، فإنه أخرجها بتعليم أفلاطون، وسد الباب.(1/66)
وانتشرت القصة، ونقلها حنين بن إسحاق من اليوناني إلى العربي.
ويعلق الطوسي على هذه القصة، فيقول:
"وهذه قصة اخترعها أحد من عوام الحكماء، ينسب كلام الشيخ إليه، على وضع لا يتعلق بالطبع، وهي غير مطابقة لذلك؛ لأنها تقتضي أن يكون الملك هو: العقل الفعال، والحكيم هو: الفيض الذي يفيض عليه مما فوقه، و"سلامان" هو النفس الناطقة، فإنه أفاضها من غير تعلق بالجسمانيات، و"أبسال" هي القوة البدنية الحيوانية التي بها تستكمل النفس وتألفها، وعشق "سلامان" لـ"أبسال": ميله إلى الذات البدنية، ونسبة "أبسال" إلى الفجور: تعلقها بغير النفس المتعينة بمادتها، بعد مفارقة النفس، وهربهما إلى ما وراء بحر المغرب: انغماسهما بالشوق مع الحرمان، وهما متلاقيان: بقاء ميل النفس، مع فتور القوى عن أفعالها
بعد سن الانحطاط، ورجوع "سلامان" لأبيه: التفطن للكمال، والندامة على الاشتغال بالباطل، وإلقاء نفسيهما في البحر: تورطهما في الهلاك: أما البدن فلانحلال القوى والمزاج، وأما النفس فلمشايعتها إياه، وخلاص "سلامان": بقاؤه بعد البدن، وإطلاعه على صورة "الزهرة": التذاذه بالابتهاج بالكمالات العقلية، وجلوسه على سرير الملك: وصوله إلى كماله الحقيقي، والهرمان الباقيان على مرور الدهر: الصورة والمادة الجسميتان.
فهذا تأويل القصة، "وسلامان" مطابق لما عنى الشيخ، وأما "أبسال" فغير مطابق؛ لأنه أراد درجة العارف في العرفان، فها هنا مثل لما يعوقه عن العرفان والكمال، فهذا الوجه ليست هذه القصة مناسبة لما ذكره الشيخ، وذلك يدل على قصور فهم واضعها عن الوصول إلى فهم غرضه منها".
وتعليق الطوسي الأخير هذا ليس وجهًا؛ لأن المقصود منها هو الصراع بين النفس الناطقة الكاملة، وبين النفس الشهوانية، و"سلامان" يمثل الأولى، و"أبسال" تمثل الثانية أدق تمثيل، فلماذا يريد الطوسي أن يفهم من(1/67)
كليهما أنه يدل على درجة في العرفان، وأن كليهما من العارفين الكاملين؟!
ثم كيف يقول الطوسي نفسه أن هذه القصة نقلها حنين بن إسحاق من اليوناني إلى العربي، وقد عاش قبل ابن سينا بقرن ونصف، ثم يزعم بعد ذلك أنها "تدل على قصور فهم واضعها عن الوصول إلى فهم غرضه منها" -غرض من؟ غرض ابن سينا؟ وكيف، وهي سابقة عليه على الأقل بأكثر من مائة وخمسين سنة؟! لهذا لا نفهم كيف وقع نصير الدين الطوسي في هذه الزلة؟
ثم يسوق نصير الدين الطوسي القصة الثانية، فيقول:
"وأما القصة الثانية -وهي التي وقعت إلي بعد عشرين سنة من إتمام الشرح- فهي منسوبة إلى الشيخ "= ابن سينا"، وكأنها هي التي أشار الشيخ إليها، فإن أبا عبيد الجوزجاني أورد في فهرست تصانيف الشيخ ذكر "قصة سلامان وأبسال": له".
وحاصل القصة: أن "سلامان" و"أبسال" كانا أخوين شقيقين، وكان أبسال أصغرهما سنًا، وقد تربى بين يدي أخيه، ونشأ صبيح الوجه، عاقلًا، متأدبًا، عالمًا، عفيفًا، شجاعًا، وقد عشقته امرأة "سلامان"، وقالت لـ"سلامان": أخلطه بأهلك ليتعلم منه أولادك، فأشار عليه سلامان بذلك، وأبى أبسال عن مخالطة النساء، فقال له سلامان: إن امرأتي لك بمنزلة أم، فدخل عليها، وأكرمته، وأظهرت عليه -بعد حين، في خلوة- عشقها له، فانقبض أبسال من ذلك، ودرت أنه لا يطاوعها.
فقالت لسلامان: زوج أخاك بأختي، فأملكه بها، وقالت لأختها: إني ما زوجتك بأبسال ليكون لك خاصة دوني، بل لكي أساهمك فيه، وقالت لأبسال أن أختي بكر حيية، لا تدخل عليها نهارًا، ولا تكلمها إلا بعد أن تستأنس بك.(1/68)
وليلة الزفاف، باتت امرأة سلامان في فراش أختها، ودخل أبسال عليها فلم تمتلك نفسها، فبادرت تضم صدرها إلى صدره، فارتاب أبسال، وقال في نفسه: إن الأبكار الخفرات لا يفعلن مثل ذلك.
وقد تعتمت السماء في الوقت بغيم مظلم، فلاح فيه برق، أبصر بضوئه وجهها، فأزعجها "= طردها"، وخرج من عندها، وعزم على مفارقتها.
وقال لسلامان: أني أريد أن أفتح لك البلاد، فإني قادر على ذلك، وأخذ جيشًا وحارب أممًا، وفتح البلاد لأخيه برًا وبحرًا، شرقًا وغربًا، من غير منة عليه. وكان أول ذي قرنين استولى على وجه الأرض.
ولما رجع إلى وطنه وحسب أنها نسيته، عادت إلى المعاشقة، وقصدت معانقته، فأبى وأزعجها "= طردها".
وظهر لهم عدو، فوجه سلمان أبسال إليه في جيوشه، وفرقت المرأة في رؤساء الجيش أموالًا ليرفضوه "= يتخلوا عنه" في المعركة، ففعلوا، وظفر به الأعداء، وتركوه جريحًا وبه دماء، وحسبوه ميتًا، فعطفت عليه مرضعة من حيوانات الوحش، وألقمته حلمة ثديها، واغتذى بذلك، إلى أن انتعش وعوفي.
ونرجع إلى سلامان، وقد أحاط به الأعداء وأذلوه، وهو حزين من فقد أخيه، فأدركه أبسال وأخذ الجيش والعدة، وكر على الأعداء وبددهم، وأسر عظيمهم، وسوى الملك لأخيه.
ثم واطأت1 المرأة طابخه وطاعمه، وأعطتهما مالًا، فسقياه السم.
وكان صديقًا كبيرًا: نسبًا، وعلمًا، وعملًا.
واغتم من موته أخوه، واعتزل ملكه، وفوض "الأمر" إلى بعض
__________
1 أي: اتفقت معهما في مؤامرة.(1/69)
معاهديه، وناجى ربه، فأوصى إليه جلية الحال، فسقى المرأة والطابخ والطاعم -ثلاثتهم- ما سقوا أخاه، ودرجوا1.
فهذا ما اشتملت عليه القصة.
وتأويله: أن "سلامان" مثل النفس الناطقة.
و"أبسال" للعقل النظري المترقي إلى أن حصل عقلًا مستقامًا، وهو درجته في العرفان أن كان يترقى إلى الكمال.
وامرأة "سلامان": القوة البدنية الأمارة بالشهوة والغضب، المتحدة بالنفس، صائرة شخصًا من الناس.
وعشقها لـ"أبسال": ميلها إلى تسخير العقل، كما سخرت سائر القوى، ليكون مؤتمرًا بها في تحصيل مآربها الفانية.
وإباؤه: إنجذاب العقل إلى عالمه.
وأختا التي ملكتها: القوة العملية، المسماة بالعقل العملي، المطيع للعقل النظري، وهو النفس المطمئنة.
وتلبيسها نفسها بدل أختها: تسويل النفس الأمارة مطالبتها الخسيسة، وترويجها على أنها مصالح حقيقية.
والبرق اللامع من الغيم المظلم: هو الخطفة الإلهية التي تسنح في أثناء الاشتغال بالأمور الفانية، وهي جذبة من جذبات الحق.
وإزعاجه للمرأة: إعراض العقل عن الهوى.
وفتحه البلاد لأخيه: إطلاع النفس بالقوة النظرية على الجبروت والملكوت، وترقيها إلى العالم الإلهي، وقدرتها بالقوة العملية على حسن تدبيرها في مصالح بدنها، وفي نظم أمور المنازل والمدن، ولذلك سماه
__________
1 = هلكوا.(1/70)
بـ"أول ذي قرنين": فإنه لقب لمن كان يملك الخافقين.
ورفض الجيش له: انقطاع القوى الحسية، والخيالية، والوهمية -عنها عند عروجها إلى الملأ الأعلى، وفتور تلك القوى لعدم التفاته إليها.
وتغذيته بلبن الوحش: إفاضة الكمال إليه عما فوق من المفارقات لهذا العالم.
واختلال حال سلامان لفقده أبسال: اضطراب النفس عند إهمالها تدبيرها، شغلًا بما تحتها.
ورجوعه إلى أخيه: التفات العقل إلى انتظام مصالحه في تدبيره البدن.
والطابخ: هو القوة الغضبية المشتعلة عند طلب الانتقام.
والطاعم: هو القوة الشهوية الجاذبة لما يحتاج إليه البدن.
وتواطؤهم على هلاك "أبسال": إشارة إلى اضمحلال العقل في أرذل العمر، مع استعمال النفس الأمارة إياهما، لازدياد الاحتياج بسبب الضعف والعجز.
وإهلاك "سلامان" إياهم: ترك النفس استعمال القوى البدنية، آخر العمر، وزوال هيجان الغضب والشهوة، وانكسار غاذيتهما.
واعتزاله الملك وتفويضه إلى غيره: انقطاع تدبيره عن البدن، وصيرورة البدن تحت تصرف غيره.
وهذا التأويل مطابق لما ذكره الشيخ "= ابن سينا"، ومما يؤيد هذه القصة أنه ذكر في رسالة "في القضاء والقدر": قصة "سلامان وأبسال"، وذكر فيها حديث لمعان البرق من الغيم المظلم، الذي أظهر لـ"أبسال" وجه امرأة "سلامان"، حتى أعرض عنها.
فهذا ما اتضح لنا من أمر هذه القصة، وما أوردت القصة بعبارة(1/71)
الشيخ، لئلا يطول الكتاب"1.
ونلاحظ على ما أورده نصير الدين الطوسي في شرحه هذا من كلام على "قصة سلامان وأبسال"، ما يلي:
1- أولًا أنه يقول: إنه وجد في فهرست مؤلفات ابن سينا، الذي وضعه تلميذه أبو عبيد الجوزجاني، أنه ذكر من بين مصنفات ابن سينا: "قصة سلامان وأبسال" له -أي لابن سينا، غير أننا لم نجد في فهرست أبي عبيد الجوزجاني لكتب ابن سينا، كما أورده البيهقي2 "المتوفى سنة 565هـ"، والقفطي3 وابن أبي أصيبعه4- أي ذكر "لقصة سلامان وأبسال"، من بين فهرست أبي عبيد الجوزجاني، فهل هذا الفهرست كما أوردته هذه المصادر الثلاثة ناقص؟
2- سنرى -حين الكلام عن "قصة حي بن يقظان" لابن طفيل أن ابن طفيل يجعل سلامان، وأبسال من سكان جزيرة قريبة من الجزيرة التي ولد بها حي بن يقظان، ثم يصورهما بعد ذلك تصويرًا بعيدًا عن التصوير الوارد في قصة ابن سينا كما أوردها الطوسي، ولهذا فإن كلام ابن طفيل لا يفيدنا شيئًا فيما يتعلق بحقيقة قصة "سلامان وأبسال"، كما تصورها ابن سينا، ولهذا ليس علينا إلا الاعتماد على ما ذكره الطوسي في شرحه على "الإشارات والتنبيهات"، وأوردناه بنصه.
__________
1 ابن سينا: "الإشارات والتنبيهات" مع شرح نصير الدين الطوسي ص799-788. القاهرة سنة 1958 -وقد صححنا النص في كثير من المواضع.
2 البيهقي: "تتمة صوان الحكمة" ص59-60، دمشق سنة 1946.
3 القفطي: أخبار العلماء بأخبار الحكماء" ص نشرة لبرت، سنة 1903.
4 ابن أبي أصيبعة: "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" ص440، بيروت سنة 1965.(1/72)
أحوال العارفين:
لتوضيح من هو "العارف" يضع ابن سينا تمييزات مهمة بين طلاب الحق:
فيميز بين العارف والزاهد والعابد:
أ- فالزاهد هو المعرض عن متاع الدنيا وطيباتها.
ب- والعابد هو المواظب على فعل العبادات: من القيام والصيام ونحوهما.
جـ- وأما العارف هو المتصرف بفكره إلى قدس الجبروت، مستديمًا لشروق نور الحق في سره.
والعارف "يريد الحق الأول لا لشيء غيره، ولا يؤثر شيئًا على عرفانه، وتعبده له فقط؛ ولأنه مستحق للعبادة؛ ولأنها نسبة شريفة إليه -لا لرغبة أو رهبة، وإن كانتا، فيكون المرغوب فيه أو المرهوب منه هو الداعي، وفيه المطلوب، ويكون الحق ليس الغاية، بل الواسطة إلى شيء غيره هو الغاية، وهو المطلوب دونه"1.
ومعنى هذا الكلام أن العارف تتعلق إرادته بالحق لذات الحق، ولا يؤثر شيئًا على عرفانه، إلا الحق، إذ الحق مؤثر على عرفان العارف، وذلك
__________
1 ابن سينا، "الإشارات والتنبيهات" ص810-815.(1/73)
لأن غير العارف يؤثر شيئًا غير الحق، وهو نيل الثواب والنجاة من العقاب، أما العارف لا يتعلق إلا بالحق وحده دون أي هدف آخر.
أما من يجعل الحق واسطة في تحصيل شيء، فإنه لم يطعم لذة البهجة به، وما مثله بالقياس إلى العارفين إلا كمثل الصبيان بالقياس إلى المخنثين، وزهد غير العارف زهد على كره، فعلى الرغم من أنه في صورة الزاهد إلا أنه أحرص الخلق على اللذات الحسية، فإن التارك شيئًا ليستأجل أضعافه أقرب إلى الطمع منه إلى القناعة"، كما قال الطوسي في شرحه1، "وإنما يعبد الله تعالى ويطيعه، ليخوله في الآخرة شبعه منها، فيبعث إلى: مطعم شهي، وشرب هني، ومنكح بهي"، أما العارف، وهو "المستبصر بهداية القدس في شجون الإيثار، فقد عرف اللذة الحق، وولى وجهه سمتها"، كما قال ابن سينا2.
وأولى درجات حركات العارفين: الإرادة، وهي "ما يعتري المستبصر باليقين البرهاني، أو الساكن النفسي إلى العقد الإيماني -من الرغبة في اعتلاق العروة الوثقى، فيتحرك سيرة إلى القدس، ينال من روح الاتصال، وما دامت درجته هذه، فهو مريد".
والمريد يحتاج إلى الرياضة، والرياضة متوجهة إلى ثلاثة أغراض:
الأول: تنحية ما دون الحق عن مستن الإيثار3.
والثاني: تطويع النفس الأمارة -للنفس المطمئنة، لتنجذب قوى التخيل والوهم إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي، منصرفة عن التوهمات المناسبة للأمر السفلي.
والثالث: تلطيف السر للتنبه.
__________
1 الكتاب نفسه ص817، هامش.
2 الكتاب نفسه ص818.
3 مستن الإيثار: طريقة التفضيل والاختيار.(1/74)
والأول: يعين عليه الزهد الحقيقي.
والثاني: تعين عليه عدة أشياء: العبادة المشفوعة بالفكرة، ثم الألحان المستخدمة لقوى النفس الموقعة لما لحن به من الكلام موقع القبول من الأوهام، ثم نفس الكلام الواعظ من قائل ذكي بعبارة بليغة، ونغمة رخيمة وسمت رشيد.
وأما الغرض الثالث فيعين عليه، الفكر اللطيف، والعشق العفيف الذي يأمر فيه شمائل المعشوف، وليس سلطان الشهوة"، "الكتاب نفسه ص820-827".
فرياضة النفس هي نهيها عن هواها، وصرفها إلى طاعة مولاها، وذلك بالالتفات إلى الحق الأول وحده لتنقطع إليه، وتنصرف عما عداه، فيصير ذلك ملكة لها: لأن الغرض النهائي من الرياضة هو نيل الكمال الحقيقي، بيد أن ذلك يتوقف على حصول الاستعداد لذلك، وزوال الموانع داخلية كانت أو خارجية. فالرياضة تتجه إلى: إزالة الموانع الخارجية، وتطويع النفس الأمارة بالسوء لسلطان النفس المطمئنة، حتى يتحول التخيل عن الجانب السفلي إلى الجانب القدسي، ثم تلطيف السر للتنبيه بمعنى تهيئة باطن النفس، كي تتمثل فيه الصور العقلية بسرعة، وينفعل عن الأمور الإلهية المبهجة للشوق، والوجد بسهولة، ومما يعين المريد على ذلك: العبادة المقرونة بالفكر، والألحان التي ترقق النفس، فتصرفها عن استعمال القوى الحيوانية، والكلام الواعظ أي الذي يفيد النفس التصديق بما ينبغي أن يفعل، خصوصًا إذا اقترن بكون القائل ذكيًا، بليغ العبارة، رخيم الصوت، ويعين على تلطيف السر للتنبيه: الفكر اللطيف، والعشق العفيف الذي يجعل النفس لينة رقيقة ذات وجد، معرضة عما سوى المعشوق، لا سلطان للشهوة عليها.
فإذا ما ترقى المريد في رياضته حتى يبلغ حدًا ما عنت له خلسات من اطلاع نور الحق عليه، لذيذة كأنها بروق تومض إليه، ثم تخمد عنه -وهو(1/75)
المسمى عندهم أوقاتا.
وكل وقت يكتنفه وجدان: وجد إليه، ووجد عليه؛ لأن الأول حزن في استبطاء الوحيد، والآخر أسف على فواته.
"ثم إنه لتكثر عليه هذه الغواشي، إذا أمعن في الارتياض.
ثم إنه ليوغل في ذلك حتى يغشاه في غير الارتياض، فكلما لمح منه شيئًا، عاج منه إلى جناب القدس، يتذكر بين أمره أمرًا، فغشته غاش، فيكاد يرى الحق في كل شيء.
ولعله إلى هذا الحد تستعلى عليه غواشيه، ويزول هو عن سكينته، فيتنبه جليسه لاستيفازه "= لاستنهاضه" عن قراره.
فإذا طالت عليه الرياضة، لم تستفزه غائية، وهدى للتلبيس فيه1، وذلك أنه إذا باغته الأمر العظيم، "فقد تستفزه لكون الناس غافلة عن هجومه غير متأهبة له، فينهزم دفعة، أما إذا توالى، واستمر ألف الإنسان به، زال عنه الاستفزاز؛ لأن النفس قد تتأهب لتلقيه، إذ هي متوقعة لعودة، والعارف ينكر من نفسه الاستفزاز المذكور، لاستنكافه عن الترائي بالكمال، فلذلك يؤثر كتمان ما يرد عليه، ويستعمل التلبيس فيه"، كما شرح الطوسي2.
لكن السالك تبلغ به الرياضة بعد ذلك "مبلغًا ينقلب له وقته سكينة: فيصير المخطوف مألوفًا، والوميض شهابًا بينًا، وتحصل له معارف مستقرة، كأنها صحبة مستمرة، ويستمتع فيها ببهجته، فإذا انقلب عنها، انقلب خسران آسفًا، ولعله إلى هذا الحد يظهر عليه ما به، فإذا تغلغل في هذه المعارفة، قل ظهوره عليه، فكان هو -وهو غائب- حاضرًا، وهو ظاعن
__________
1 ابن سينا: "الإشارات والتنبيهات" ص828-829.
2 الكتاب نفسه هامش ص830.(1/76)
مقيمًا، ولعله إلى هذا الحد إنما يتيسر له هذه المعارفة أحيانًا، ثم يتدرج إلى أن تكون له متى شاء، ثم إنه يتقدم هذه الرتبة، فلا يتوقف أمره إلى مشيئته، بل كلما لاحظ شيئًا لاحظ غيره، وإن لم تكن ملاحظته للاعتبار، فيسنح له تعريج عن عالم الزور إلى عالم الحق، يستقر به، ويحتف حوله الغافلون".
وإذا تمت رياضته، واستغنى عنها لبلوغه مطلوبه وهو الاتصال الدائم بالحق، "صار سره مرآة مجلوة، محاذيًا بها شطر الحق، ودرت عليه اللذات العلى، وفرح بنفسه لما بهاتين أثر الحق، وكان له نظر إلى الحق، ونظر إلى نفسه، وكان بعد مترددًا"، بسبب اتجاه نظره مرة إلى الحق، ومرة إلى ذاته المبتهجة بالحق.
"ثم إنه ليغيب عن نفسه، فيلحظ جناب القدس فقط" -أي لا يرى ما سوى الله، وهنا تتم الغيبة عن النفس، "وإن لحظ نفسه فمن حيث هي لاحظة، لا من حيث هي بزينتها، وهناك يحق الوصول"- أي أن ملاحظته لنفسه بالمجاز، لا بالحقيقة؛ لأنه متوجه بكليته إلى الحق.
ويلخص الطوسي هذه الدرجات كلها في تسع:
الثلاثة الأولى منها تشتمل على مراتب بداية السلوك، وهي: أول الاتصال، ويسمى بـ"الوقت"، التمكن، بحيث يحصل في غير حال الارتياض، الاستقرار الذي يزول معه الاستقرار.
والثلاثة التي بعدها تشتمل على مراتب وسطى هي: ازدياد الاتصال، وقد عبر عنه بصورة الوقت ثانية، وتمكن هذه الحال حتى يلتبس أثر الحصول بأثر عدم الحصول، واستقرارها بحيث يحصل متى شاء، لا في وقت دون وقت.
والثلاثة الأخيرة تشتمل على مراتب المنتهى، وهي: حصول الاتصال مع عدم المشيئة، واستقراره مع عدم الرياضة، وثبوته مع عدم ملاحظة النفس.(1/77)
ثم إن ابن سينا بعد أن فرغ من ذكر درجات السلوك، وانتهى إلى درجات الوصول، أراد أن ينبه على نقصان جميع الدرجات قبل درجة الوصول.
وينتهي إلى تقرير حقيقة العرفان، فيقول: إن العرفان، مبتدئ من تفريق، ونقض، وترك ورفض، أما التفريق فمن ذات العارف، وما عسى أن يشغله عن الحق، أما النقض فاطراح الشواغل، أما الترك فالتخلص من الشواغل ابتغاء توخي الكمال لأجل ذاته، وأما الرفض فهو أن يرفض ذاته بالكلية.
وتلك درجات التزكية.
ويتلوها بدرجات التحلية، "وبيان درجاتها بالإجمال -كما يشرح الطوسي- أن العارف إذا انقطع عن نفسه، واتصل بالحق، رأى كل قدرة مستغرقة في قدرته المتعلقة بجميع المقدورات، وكل علم مستغرقًا في علمه الذي لا يعز عنه شيء من الموجودات، وكل إرادة مستغرقة في إرادته التي يمتنع أن يتأبى عليها شيء من الممكنات: بل كل وجود، وكل كمال وجود فهو صادر عنه، فائض من لدنه -صار الحق حينئذ بصره الذي به يبصر، وسمعه الذي به يسمع، وقدرته التي بها يفعل، وعلمه الذي به يعلم، ووجوده الذي به يوجد، فصار العارف حينئذ متخلقًا بأخلاق الله تعالى بالحقيقة، وهذا معنى قوله: "العرفان ممعن في جميع صفات": هو جمع صفات الحق للذات المريدة بالصدق، ثم إنه بعد ذلك يعاين كون هذه الصفات، وما يجري مجراها: متكثرة بالقياس إلى الكثرة، متحدة بالقياس إلى مبدئها الواحد، فإن علمه الذاتي هو بعينه قدرته الذاتية، وهي بعينها إرادته، وكذلك سائرها، إذ لا وجود ذاتيًا لغيره: فلا صفات مغايرة للذات، ولا ذات موضوعة بالصفات، بل الكل شيء واحد، كما قال عز من قائل: "إنما الله إله واحد"، فهو لا شيء غيره، وهذا معنى قوله: "فتنة إلى الواحد"، وهناك لا يبقى واصف ولا موصوف، ولا سالك ولا مسلوك، ولا عارف ولا(1/78)
معروف، وهو مقام الوقوف"1.
ثم يبلغ ابن سينا أوج التمجيد للعارف بعبارات تحلق في سماء الوجد الصوفي، مما لا نكاد نجد له مثيلًا عند أكابر الصوفية الواصلين، مع أن سلوك ابن سينا في الحياة على الضد تمامًا من سلوك الصوفية السالكين، وذلك في الفصول من 21 إلى 27 من هذا النمط التاسع من "الإشارات والتنبيهات".
يقول ابن سينا:
"العارف هش بش، بسام، يبجل الصغير، من تواضعه، كما يبجل الكبير، وينبسط من الخامل، مثلما ينبسط من النبيه.
وكيف لا يهش، وهو فرحان بالحق، وبكل شيء، فإنه يرى منه الحق؟!
وكيف لا يسوي، والجمع عنده سواسية؟! ...
العارف له أحوال لا يحتمل فيها الهمس من الحفيف، فضلًا عن سائر الشواغل الخاجلة، وهي في أوقات انزعاجه بسره إلى الحق، إذا تاح حجاب من نفسه، أو من حركة سره قبل الوصول، فأما عند الوصول: فأما شغل له بالحق عن كل شيء، وأما سعة للجانبين بسعة القوة، وكذلك عند الانصراف في لباس الكرامة، فهو أهش خلق الله ببهجته.
العارف لا يعنيه التجسس والتحسس، ولا يستهويه الغضب عند مشاهدة المنكر، كما تعتريه الرحمة، فإنه مستبصر بسر الله في القدر.
وإذا أمر بالمعروف، أمر برفق ناصح، لا بعنف مغير، وإذا جم "= عظم" المعروف، فربما غار عليه من غير أهله.
العارف شجاع، وكيف لا وهو بمعزل عن تقية الموت؟
__________
1 من شرح الطوسي على "الإشارات والتنبيه" ص839-841 هامش.(1/79)
وجواد، وكيف لا، وهو بمعزل عن محبة الباطل.
وصفاح للذنوب، وكيف لا، ونفسه أكبر من أن تجرحها ذات بشر؟ ونساء للأحقاد، وكيف لا، وذكره مشغول بالحق!
العارفون قد يختلفون في الهمم، بحسب ما يختلف فيهم من الخواطر، على حكم ما يختلف عندهم من دواعي العبر.
وربما استوى عند العارف القشف1، والترف، بل ربما آثر القشف، وكذلك ربما استوى عنده التفل والعطر، بل ربما آثر التفل، وذلك عندما يكون الهاجس بباله، استحقار ما خلا الحق.
وربما أصغى إلى الزينة، وأحب من كل جنس عقيلته، وكره الخداج والسقط، وذلك عند ما يعتبر عادته من صحبة الأحوال الظاهرة.
فهو يرتاد البهاء في كل شيء؛ لأنه مزية حظوة من العناية الأولى، وأقرب إلى أن يكون من قبيل ما عكف عليه بهواه.
وقد يختلف هذا في عارفين، وقد يختلف في عارف بحسب وقتين.
والعارف ربما ذهل فيما يصار به إليه، فغفل عن كل شيء، فهو في حكم من لا يكلف وكيف، والتكليف لمن يعقل التكليف حال ما يعقله، ولمن اجترح "= كسب" بخطيئته إن لم يفعل التكليف؟!
وذلك؛ لأن "العارف ربما ذهل -كما يشرح الطوسي- في حالة اتصاله بعالم القدس عن هذا العالم، فغفل عن كل ما في هذا العالم، وصدر عنه إخلال بالتكاليف الشرعية، فهو لا يصير بذلك متأثمًا؛ لأنه في حكم من لا يكلف؛ لأن التكليف لا يتعلق إلا بمن يعقل التكليف، في وقت تعقله ذلك، أو بمن يثأثم بترك التكاليف، إن لم يكن يعقل التكليف، كالنائمين، والغافلين، والصبيان الذين هم في حكم المكلفين".
ويختم ابن سينا هذه الصفحات الملتهبة بشواظ من جنبات القدس بقوله:
"جل جناب الحق عن أن يكون شريعة1 لكل وارد، أو يطلع عليه إلا واحد بعد واحد"2، إذ ما أقل عدد الواصلين إلى الحق!
__________
1 قشف الرجل: إذا لوحته الشمس أو الفقر، فتغير وأصابه قشف، والمتقشف: الذي يتبلغ بالقوت وبالمرقع. التفل ضد العطر. عقيلة كل شيء: الكريه. الخداع: النقصان. السقط: رديء المتاع.(1/80)
الخلاصة:
والخلاصة أن مذهب ابن سينا يعد أوسع نتاج في الفكر الفلسفي في الإسلام. وقد حاول فيه المزج بين فلسفة أرسطو -وهو قد تمثلها خير تمثيل- وقسمات متناثرة من فلسفة أفلاطون، لكن الاتجاه السائد في مذهبه هو الفلسفة المشائية، ولئن كان أقل التزامًا بنصوص أرسطو من ابن رشد، وبالتالي أقل فهمًا لها منه، فإن ذلك كان أيضًا ميزة من جهة أخرى، من حيث أنه أفسح له المجال ليستقل أحيانًا بفكره الخاص، صحيح أن تجديداته أو محاولات الأصالة لديه، قد أخفقت بوجه عام، ولم تكن "فلسفته الشرقية"، غير أمل لم يتمكن من تحقيقه بالفعل، لكنه استطاع على كل حال -في موسوعته الفسلفية الكبرى "الشفاء"، أن يقدم أوفى دائرة معارف فلسفية، عرفتها العصور الوسطى.
أما تأثيره سواء في العالم الإسلامي، والعالم اللاتيني الأوروبي في العصر الوسيط، فقد كان هائلًا؛ لأن عرضه للفلسفة الأرسطية عرضًا ملخصًا واضحًا مثيرًا للمشاكل، كان خير مصدر لدراسة الفلسفة وعلوم الأوائل بعامة.
__________
1 الشريعة: مكان ورود الذين يطلبون الشرب والسقاية.
2 ابن سينا بشرح الطوسي: "الإشارات والتنبيهات" ص 843-851.(1/81)
ومن هنا سنجد في العالم الإسلامي سلسلة، تمتد من القرن الخامس إلى القرن الحادي عشر الهجري، تتأثر بفلسفته أو تستلهمها، أو توسع جوانب بدأها. ويكفي في ذلك أن نذكر أسماء السهروردي المقتول "المتوفى سنة 587هـ/ 1191م"، وفخر الدين الرازي "المتوفى سنة 606هـ/ 1209م"، ونصير الدين الطوسي "المتوفى سنة 672هـ/ 1274م"، وملأ صدرا الشيرازي "المتوفى سنة 1050هـ/ 1640م".(1/82)
ابن باجه
حياته
...
ابن باجه:
أ- حياته 1:
أبو بكر محمد بن يحيى بن الصايغ، المعروف بابن باجه، ولد في سرقسطة قرب نهاية القرن الخامس الهجري، وعاش في تلك المدينة إبان حكم المستعين الثاني "478-503هـ/ 1085-1109م" آخر أمراء بني هود حكام سرقسطة ولاردة وتطيله.
ويبدو أن أسرته كانت تشتغل بالصياغة، صياغة الجواهر؛ لأن كلمة "باجه" معناها: الفضة باللهجة العربية الأندلسية في ذلك العصر، ويبدو أن صاحبنا قد اشتغل مدة بهذه المهنة.
وبرز في الكثير من العلوم: فكان لغويًا وشاعرًا وموسيقيًا، وفيلسوفًا.
ولما غزا المرابطون سرقسطة في سنة 503هـ "1110م"، كانت شهرته قد استقرت، بدليل أنه صار من المقربين إلى حاكم سرقسطة الذي ولاه المرابطون، وهو ابن تفلويت، الذي كان عاملًا على سرقسطة من قبل علي بن يوسف بن تاشفين، وقيل: إنه صار وزيرًا لابن تفلويت هذا، وفي حوالي سنة 509هـ "1116م"، أي قبل استيلاء الفونس صاحب المعارك على سرقسطة في سنة 511هـ "1118م"، رحل ابن باجه إلى الجنوب، فأقام
__________
1 راجع عنها: القفطي ص406، ابن أبي أصيبعة جـ2 ص63-64، ابن خاقان: "قلائد العقبان" ص300، القاهرة سنة 1284.(1/83)
في المرية، وغرناطة وأشبيلية وقاين، وفي أشبيلية استقر حيث كان يشتغل بالتدريس والتأليف.
ثم ارتحل إلى فاس حيث نال رضا أبي بكر، يحيى بن يوسف بن ثاشفين، وصار وزيرًا له، وهناك توفي مسمومًا في سنة 533هـ/ 1138م، وقيل: إن خصمه أبا العلاء بن زهير، الطبيب الشهير، هو الذي احتال ليوضع له السم في أكلة باذنجان مما أدى إلى وفاته.(1/84)
ب- مؤلفاته:
أورد لنا تلميذه وصاحبه المخلص الوزير، أبو الحسن علي بن عبد العزيز بن الإمام -وكان "كاتبًا فاضلًا متميزًا في العلوم، وصحب أبا بكر بن باجه مدة، واشتغل عليه، وسافر أبو الحسن علي بن الإمام من الغرب، وتوفي بقوص1" في صعيد مصر -نقول: إنه أورد لنا ثبتًا ببعض مؤلفات ابن باجه، يشتمل على 105 كتب أو رسالة، وذكر ابن أبي أصيبعة 27 عنوانًا.
وقد وصلتنا ثلاث مجموعات من رسائله هي2:
أ- مجموعة في مكتبة بودلي بأكسفورد تحت رقم 206 بوكوك، وتشتمل على الرسائل التالية:
1- من قوله على مقالات السماع الطبيعي لأرسطو الخامسة والسادسة، والسابعة والثامنة.
2- قوله في شرح الآثار العلوية.
3- قوله في الكون والفساد.
4- قوله على بعض مقالات كتاب الحيوان الأخيرة.
__________
1 ابن أبي أصيبعة جـ2 ص63.
2 راجع بحثنا التفصيلي عن مؤلفات ابن باجه، وما وصلنا من مخطوطات لها في كتابنا: "رسائل فلسفية"، بنغازي سنة 1973.(1/85)
5- من قوله في كتاب الحيوان.
6- كلامه في النبات.
7- من كلامه في ماهية الشوق الطبيعي.
8- كلام بعث به لأبي جعفر يوسف بن حسداي.
9- ومن كلامه في إبانة فضل عبد الرحمن بن سيد المهندس.
10- ومن كلامه نظر آخر.
11- من الأمور التي يمكن بها الوقوف على العقل الفعال.
12- من كلامه في البحث عن النفس النزوعية.
13- من كلامه في النفس.
14- من كلامه في تدبير المتوحد.
15- القول في الصور الروحانية.
16- من قوله في الغاية الإنسانية.
17- من قوله في العرض.
18- من قوله على الثانية من "السماع".
19- من الأقاويل المنسوبة إليه.
20- من قوله في صدر ايساغوجي.
21- من كلامه في لواحق المقولات.
22- من قوله على كتاب "العبارة".
23- كلامه في القياس.
24- كلامه في البرهان.
25- وكتب إلى أبي الحسن بن الإمام.
26- كلامه في اتصال العقل بالإنسان.
27- قول له يتلو رسالة الوداع.
28- كلامه في الألحان.
29- كلامه في النيلوفر.(1/86)
ب- مجموعة الإسكوريال برقم 612 "وتاريخ نسخها سنة 667هـ"، وتشتمل على:
30- تعاليق على كتاب أبي نصر في المدخل والفصول من ايساغوجي.
31- تعاليق على كتاب بار أرمينياس للفارابي.
32- قوله في كتاب البرهان.
جـ- مجموعة طشقند برقم 2385، وتشتمل على:
33- رسالة في المتحرك.
34- رسالة في الوحدة والواحد.
35- مقالة في الفحص عن القوة النزوعية.
وقد نشرنا نحن هذه الرسالة الأخيرة في "مجلة المعهد المصري للدراسات الإسلامية في مدريد" "المجلد 15 مدريد سنة 1970 ص25-54"، وأعدنا نشرها في كتابنا: "رسائل فلسفية"، بنغازي سنة 1973.
د- مجموعة برلين برقم 5060 "فهرست ألفرت جـ4 ص396-399"، وتشتمل على 22 رسالة، وقيل: إن هذا المخطوط قد فقد إبان الحرب العالمية الأخيرة، لكن صورًا فوتوغرافية منه لا بد موجودة عند بعض الباحثين.
وقد نشر أسين بلاثيوس1 أربع رسائل هي:
1- في النبات.
2- رسالة الاتصال.
3- رسالة الوداع.
4- تدبير المتوحد.
__________
1 نشرها أسين بلاثيوس مع ترجمة أسبانية على النحو التالي:
a- Mignel asin palasios: El regimen del solitario, maurid-Granada 1946.
b- "Avempace: Botanica", in al-Andalus, V "1940", pp. 255-299.
c- "Tratadu de avempace sovre la union del intellecto con el hunbre, in al- Andalus, VII "1942", pp. 1-47.
d- "La Carta de adios" de Avempace, in al-Andalus, VIII "1943", pp. 1-87(1/87)
وأعاد ماجد فخري نشر الثلاث الأخيرة، ونشر عن مخطوط مكتبة بودلي في اكسفورد الرسائل التالية:
5- في الغاية الإنسانية.
6- قول له يتلو رسالة الوداع.
7- في الأمور التي يمكن بها الوقوف على العقل الفعال.
وذلك في مجموعة بعنوان: "رسائل ابن باجه الإلهية"، بيروت سنة 1968. كما نشر "شرح السماع الطبيعي" لابن باجه، بيروت سنة 1973.
ونشرنا نحن كما ذكرنا من قبل الرسائل الثلاث الواردة في مخطوط طشقند. وفي عزمنا نشر ما حصلنا عليه من رسائل لم تنشر لابن باجه.
ونشر "سليم سالم" في كتاب باري أرمينياس لأبي نصر الفارابي "عن مخطوط الإسكوريال" و"في كتاب العبارة"، عن مخطوط الإسكوريال، ومخطوط بودلي -وذلك بعنوان: ابن باجه: تعليقات في كتاب باري أرمينياس، ومن كتاب العبارة لأبي نصر الفارابي، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سنة 1976.
والملاحظة على كل ما ورد إلينا من مؤلفات ابن باجه، أنه يغلب عليه طابع الشذرات، والتكرار، وسوء التأليف وكأنها مجرد تعاليق شتى لا تضمها وحدة تأليفية، ولسنا ندري هل يرجع إلى حالة المخطوطات نفسها، أو إلى طبيعة تأليفات ابن باجه نفسه.(1/88)
فلسفته
مدخل
...
جـ- فلسفته:
توفر ابن باجه على علمين من علوم الفلسفة هما: علم النفس، والعلم الطبيعي. "وأما العلم الإلهي -كما لاحظ صاحبه الوزير ابن الحسن علي بن عبد العزيز بن الإمام -فلم يوجد في تعاليقه شيء مخصوص به اختصاصًا تامًا، إلا نزعات تستقرأ من قوله في "رسالة الوداع" و"اتصال الإنسان بالعقل الفعال"، وإشارات مبددة في أثناء أقاويله، لكنها في غاية القوة والدلالة على براعته في ذلك العلم الشريف، الذي هو غاية العلوم ومنتهاها، وكل ما قبله من المعارف، فهو من أجله وتواطئه له1".
ويمكن أن نطلق على فلسفته اسم: علم الإنسان؛ لأن ما تناوله فيها يدور معظمه حول موضوعات هذا العلم.
__________
1 ابن أبي أصيبعة جـ2 ص62.(1/89)
1- الإنسان:
كل حي يشارك الجمادات في أمور، وكل إنسان يشارك الحيوان غير الناطق في أمور، "فالحي والجماد يشتركان فيما يوجد للاسطقس الذي ركبا منه، مثل السقوط إلى أسفل طوعًا، والصعود إلى أعلى قهرًا، ويشارك الإنسان الحيوان غير الناطق في النفس الغاذية والمولدة والنامية، كما يشاركه في الإحساس والتخيل والتذكر، وما يوجد عنها مما هو للنفس. لكن الإنسان يمتاز عن الحيوان غير الناطق، وعن الجماد والنبات بالقوة الفكرية، وهو لا يكون إنسانًا إلا بها.
والإنسان بما هو حيوان تلحقه الأفعال التي لا اختيار له فيها أصلًا، كالإحساس. لكنه بما هو إنسان له أفعالًا لا توجد لغيره من الموجودات، "والأفعال الإنسانية الخاصة به هي ما يكون باختياره، فكل ما يفعله الإنسان باختيار فهو فعل إنساني، وكل فعل إنساني فهو فعل باختيار، وأعني بالاختيار: الإرادة الكائنة عن روية1".
أما الانفعالات العقلية إن جاز أن يكون في العقل انفعال "الموضع نفسه" -فلا يختص بها الإنسان، بل يشاركه فيها الحيوان: مثل الإلقاء في الروع، والهرب من مفزع، وسائر الانفعالات، "والفعل البهيمي هو الذي يتقدمه في النفس الانفعال النفساني فقط، مثل التشهي أو الغضب أو الخوف، وما شاكله، والإنساني هو ما يتقدمه أمر يوجبه، عند فاعله، الفكر، سواء تقدم الفكر انفعال نفساني أو أعقب الفكر ذلك ... فالبهيمي "هو" المحرك فيه ما يحدث في النفس البهيمية من الانفعال، والإنساني هو المحرك فيه ما يوجد في النفس من رأي، أو اعتقاد". ومعظم أفعال الإنسان مركب من بهيمي وإنساني، وقلما يوجد البهيمي خلوًا من الإنساني.
"فأما من يفعل الفعل لأجل الرأي والصواب، ولا يلتفت إلى النفس البهيمية، ولا ما يحدث فيها، فذلك الإنسان أخلق به أن يكون فعله ذلك إلهيًا من يكون إنسانيًا، فلذلك يجب أن يكون هذا الإنسان فاضلًا، بالفضائل الشكلية2، حتى يكون متى قضت النفس الناطقة بشيء لم تخالف النفس البهيمية، بل قضت بذلك الأمر، من جهة أن الرأي قضى به ... ولذلك
__________
1 ابن باجه: "تدبير المتوحد" ضمن مجموعة "رسائل ابن باجه الإلهية" ص46، بيروت سنة 1968.
2 هكذا في النسخ والمطبوعات، ولكن معناها غير واضح، فهل صوابها: "الكلية"؟(1/90)
كان الإنسان الإلهي -ضرورة- فاضلًا بالفضائل الشكلية"1.
والإنسان قد توجد له حالة "بها يشبه النبات، وذلك في الزمان الذي يحتوي عليه "فيه" الرحم: فإنه يتخلق أولًا، فإذا كمل تخلقه، اغتذى ونما، وهذه أفعال توجد للنبات من أول وجوده، ولا يوجد له غيرها أول وجوده، وذلك عند النشوء، والحار الغريزي قد يفعل هذه الأفعال، وإذا خرج الجنين من بطن أمه واستعمل حسه، أشبه عند ذلك الحيوان غير الناطق، وتحرك في المكان واشتهى. وإنما يكون ذلك لحصول الصورة الروحانية المرتسمة في الحس المشترك، ثم في الخيال، والصورة المتخيلة هي المحرك الأول فيه، فيكون عند ذلك في الإنسان ثلاث محركات، كأنها في مرتبة واحدة: القوة الغاذية النزوعية، والقوة المنمية الحسية، والقوة الخيالية، وكل هذه القوى هي قوى فاعلة، وهي موجودة بالفعل، لا عدم فيها: وهذا هو الفرق بين القوى الفاعلة والمنفعلة: فإن في المنفعلة: العدم؛ لأن الصورة الروحانية المحسوسة هي أول مراتب الروحانية -على ما يتبين في كتاب "المتوحد"- لأنها إدراك، وتلك الصور الأخرى يدرك بها الجسم ولا يدركها؛ ولذلك لا تنسب إلى النبات معرفة أصلًا، وتنسب إلى الحيوان، فإن كل حيوان هو حساس ... فالإنسان إذا كان في الرحم، وأشبه النبات، فإنما يقال له أنه حيوان بالقوة، وذلك أن روحه الغريزي يقبل الصورة الروحانية، فهو حيوان بذلك القبول، فأما الروح الغريزي في النبات، فلا يمكن فيه ذلك"2.
والإنسان له أحوال مختلفة بحسب مراحل العمر: ففي سن اليفاع يكون حيوانًا فقط، وأنه إنما ينفعل عن النفس البهيمية فقط، لكن من تنشأ لديه الروية، فإنه عند ذلك يكون إنسانًا بالإطلاق ومكتفيًا بنفسه، ليس به ضرورة إلى من يكفله.
__________
1 ابن باجه: "تدبير المتوحد"، "رسائل ... " ص47-48.
2 ابن باجه: "اتصال العقل بالإنسان"، في "رسائل ابن باجه الإلهية" ص159.(1/91)
2- غايات الإنسان:
وغايات الإنسان ثلاث:
أ- إما بصورته الجسمانية،
ب- وإما بصورته الروحانية الخاصة،
جـ- وإما بصورته الروحانية العامة.
فأما الأولى، فهي للإنسان من حيث هو جسم، وأما الثانية فإنها قد توجد أيضًا في كثير من الحيوان، "مثل الحياء للأسد، والعجب للطاووس، والملق للكلب، والكرم للديك، والمكر للثعلب، إلا أن هذه إذا كانت للبهائم، كانت طبيعية للنوع، ولم يختص بها شخص من ذلك النوع1.
بل إن أدرك شيء من ذلك لواحد منها، قرن بالنوع، والإنسان وحده هو الذي تكون له هذه الصفات بأشخاصه، لا بنوعه.
والكمالات الفكرية أحوال خاصة بالصور الروحانية الإنسانية، مثل صواب الرأي وجودة المشورة، وكثير من القوى التي اختص بها الإنسان: كالخطابة وقيادة الجيوش، والطب وتدبير المنزل.
ومن الناس "من يراعي صورته الجسمانية فقط وهو الخسيس، ومنهم من يعاني صورته الروحانية فقط، وهو الرفيع الشريف، وكما أن أخس "مراتب" الجسماني من لا يحفل بصورته الروحانية عند صورته الجسمانية، ولا يلتفت إليها، كذلك أفضل مراتب الشريف من لا يحفل بصورته الجسمانية، ولا يلتفت إليها ...
ومن شرف الأشراف الكبار الأنفس صنف دون هذا، وهو الأكثر، وهو من لا يحفل بصورته الجسمانية عند الروحانية، غير أنه لا يتلفها"2.
لكن من يؤثر جسمانيته على شيء من روحانيته، فلا يمكن أن يدرك الغاية القصوى، والفيلسوف هو بالجسمانية: إنسان موجود، وبالروحانية يكون أشرف، وبالفعلية يكون إلهيًا فاضلًا، وذو الحكمة يجب بالضرورة أن يصبح فاضلًا إلهيًا، وهو يأخذ من كل فعل أفضله، ويشارك كل طبقة في أفضل أحوالهم، وينفرد عنهم بأفضل الأفعال وأكرمها.
__________
1 ابن باجه: "تدبير المتوحد" في "رسائل ... " ص75.
2 ابن باجه: "تدبير المتوحد" في "رسائل ... " ص77-78.(1/92)
3- الصور الروحانية:
وكثيرًا ما يتحدث ابن باجه في رسائله عن "الصور الروحانية".
وعنده أن الروح تقال على ما تقال عليه النفس، "فالنفس والروح اثنان بالقول، واحد بالموضوع، والروحاني منسوب إلى الروح ... ويدلون به على الجواهر الساكنة المحركة لسواها، وهذه -ضرورة- ليست أجسامًا، بل هي صور لأجسام، إذ كل جسم فهو متحرك"1.
ويقسم ابن باجه الصور الروحانية إلى أربعة أصناف:
1- صور الأجسام المستديرة: وهي الأجرام السماوية التي تتحرك حركة دورية.
2- العقل الفعال والعقل المستفاد.
3- المعقولات الهيولانية.
4- المعاني الموجودة في قوى النفس، وهي الموجودة في الحس المشترك، وفي قوة التخيل، وفي قوة الذكر.
والصنف الأول لا تداخله هيولي، والصنف الثالث له نسبة إلى الهيولي، إذ وجودها في الهيولي، والصنف الثاني هو من حيث الأصل غير
__________
1 الكتاب نفسه، ص49.(1/93)
هيولاني، وإنما نسبته إلى الهيولى هي أنه متمم للمعقولات الهيولانية -وهذا هو العقل المستفاد، أو فاعل لها: وهذا هو العقل الفعال، أما الصنف الرابع، فإنه وسط بين المعقولات الهيولانية، والصور الروحانية.
والصور الروحانية إما عامة، وهي التي لها نسبة إلى الإنسان الذي يعقلها، -وإما خاصة، ولها نسبتان: إحداهما خاصة وهي نسبتها إلى المحسوس، والأخرى عامة وهي نسبتها إلى الحاس المدرك لها، مثال ذلك صورة جبل أحد عند من أحسه، إذا كان غير مشاهد له، فتلك صورته الروحانية الخاصة؛ لأن نسبتها إلى الجبل خاصة، ولا فرق عندنا في قولنا: هذا جبل أحد ونحن نشير إليه في مكانه ويدركه البصر، أو نشير إليه وهو موجود في الحس المشترك، أي حين نتخيله دون أن نراه.
فللصور ثلاث مراتب في الوجود.
1- أولها الروحانية العامة، وهي الصورة العقلية، وهي النوع.
2- والثانية الصورة الروحانية الخاصة.
3- والثالثة الصورة الجسمانية.
والروحانية الخاصة لها ثلاث مراتب:
1- أولها: معناها الموجود في القوة الذاكرة.
2- والثانية: الرسم الموجود في القوة المتخيلة.
3- والثالثة: الصنم "= الرسم، المثال" الحاصل في الحس المشترك.
والصورة إما خاصة، وإما عامة، أما العامة فهي المعقولات الكلية، والخاصة منها روحانية، ومنها جسمانية.
ولكل إنسان أجناس من القوى: أولها القوة الفكرية، والثانية القوى الروحانية الثلاث، والثالثة القوة الحساسة، والرابعة القوة المولدة، والخامسة القوة الغاذية، وما يعد معها، والسادسة القوة الاسطقسية، والخامسة(1/94)
والسادسة لا نسبة لهما إلى الحيوان أصلًا، ولهذا فإن البعض يسمون الخامسة: طبيعة، وأمّا أفعال القوة السادسة فهي بالاضطرار حرفًا، ولا شركة بينها وبين أفعال الاختيار، وأمّا أفعال القوة الخامسة، فليست بالاختيار أصلًا، ولا بالاضطرار حرفًا، إذ تختلف عن الاضطرارية بكون المحرك في الجسم، وإنما يحتاج إلى المتحرك وهو المادة، التي هي الغذاء، -وأما الرابعة فهي أقرب إلى أفعال القوة الخامسة، غير أنها أقرب إلى الاضطرار وهو اللمس، وأما القوة الثانية فلها أفعال وانفعال، فأما الانفعالات الحاصلة عنها، فمجراها كمجرى الحس، وأما الأفعال الكائنة عنها فهي اختيارية، إذا كانت إنسانية، وأما إذا كانت بهيمية، فهي باضطرار، وأما القوة الأولى وهي القوة الفكرية، فإن التصديق والتصور فيها باضطرار، ولو كانا باختيار صدقنا بما يسوؤنا.
والصور الروحانية منها ما لها حال، ومنها ما لا حال له، أما التي لا حال فهي التي تحصل مجردة، أو تكون من الأنواع الموجودة كثيرًا، وعلى المجرى المعتاد.
وللصور الروحانية مراتب هي بها أكثر روحانية أو أقل روحانية، والصور التي في الحس المشترك هي أقل المراتب روحانية، وهي أقربها إلى الجسمانية، ولذلك يعبر عنها بـ"الصنم"، فيقال: إن الحس المشترك فيه صنم المحسوس، ويتولها الصورة التي في الخيالية، وهي أكثر روحانية وأقل جسمانية، ولها ينسب وجود الفضائل النفسانية، ويتلوها التي في القوة الذاكرة، وهي أقصى مراتب الصور الروحانية الخاصة.(1/95)
4- القوة النزوعية:
محرك النفس هو الانفعال الحاصل في الجزء النزوعي، وذلك يكون بالخيال، وبما يسميه ابن باجه بـ"الإجماع"، وهو يساوي ما نسميه الآن: العزم والتصميم -من أجمع أمره: أي صمم عليه، "فالمحرك الأول الذي فينا مؤلف من خيال ونزوع، والنزوعي يعبر عنه بالنفس، ولذلك أقول: "نازعتني نفسي" ... والخيال هو المحرك1، والمتحرك هو الجزء النزوعي.
ويقول في موضع آخر "الكتاب نفسه ص126"، "إن المحرك الأول مؤلف من أمرين: أحدهما هو المحرك، وهو الرأي أو الخيال، والآخر الذي به يحرك وهو النزوع ... لكن نسبة الرأي إلى النزوع نسبة المحرك إلى الآلة التي بها يحرك"، أي أن الرأي هو المحرك، والنزوع هو الآلة التي يتم بها تحريك النفس بواسطة الرأي.
والمقصود بالرأي هنا الرأي الصواب.
__________
1 ابن باجه "رسالة الوداع" في "رسائل ... " ص125، بيروت، سنة 1968.(1/96)
5- اللذات:
واللذات أنواع: فأولها لذات الشهوات البدنية، والثانية اللذات التي تنال عن الفضائل الشكلية "أو: الكلية".
واللذة تكون متصلة على ثلاثة أنحاء: 1 إذا كانت واحدة بالعدد، 2 إذا كان موضوعها موجودًا باستمرار، 3 إذا كان الفاعل لها موجودًا باستمرار.
ويقسم ابن باجه اللذات تقسيمًا ثنائيًا بعبارة أخرى إلى: لذات طبيعية، وهي لذة الملموسات كالالتذاذ بالحار والبارد والمحيطين بنا، وبما يرد أجسامنا كالمأكولات والمشروبات، وكالالتذاذ بنوع الأكل والشرب والنكاح، ولذات عقلية، مثل الالتذاذ بالعلوم، وبالتخيل، وهذه تختلف عن الأولى بأن الأولى تتقدم أصنافها أضدادها، فأما الثانية فليس ذلك فيها، وقولي: تتقدم أصنافها أضدادها مثل أن الجوع يتقدم لذة الأكل، والعطش يتقدم لذة الشرب، "فأما العلوم فلا يمكن ذلك فيها؛ لأنها يقين، فزوالها إنما يكون(1/96)
بزوال حال الموضوع كالنسيان، وتعري الموضوع عنها، وإلا فلا يمكن ذلك فيها؛ لأنها كليات فليست في زمان؛ ولأن العلم بها يقين، فلا يمكن أن يستحيل بعناد، وإنما يعدم بزوال الموضوع، وهو الإنسان، أو بتعريه عنها وهو النسيان ... ولكن تبين أن العلم الأقصى -الذي هو تصور العقل، وهو وجود العقل المستفاد لا يمكن فيه النسيان، اللهم إلا أن يكون ذلك خارجًا عن الطبع"1.
__________
1 ابن باجه: "رسالة الوداع" ضمن "رسائل ابن باجه الإلهية" ص130. بيروت سنة 1968.(1/97)
6- منازل الناس: من حيث المعرفة الفعلية
ويميز ابن باجه ثلاثة أصناف من الناس من حيث المعرفة العقلية، هي:
أولًَا: "المرتبة الجمهورية" على حد تعبيره "وهي المرتبة الطبيعية، وهؤلاء إنما لهم المعقول مرتبطًا بالصورة الهيولانية، ولا يعلمونه إلا بها وعنها ومنها ولها، ويدخل في هذه جميع الصنائع العملية.
والثاني: المعرفة النظرية، وهي ذروة الطبيعة، إلا أن الجمهور ينظرون إلى الموضوعات، أولًا، وإلى المعقول ثانيًا ولأجل الموضوعات، والنظار الطبيعيون ينظرون إلى المعقول أولًا، وإلى الموضوعات ثانيا.. فهذه المرتبة النظرية يرى صاحبها المعقول ولكن بواسطة، كما تظهر الشمس في الماء: فإن المرئي في الماء هو خيالها، لا هي بنفسها، والجمهور يرون خيال خياله، مثل أن تلقي الشمس خيالها على ماء، وينعكس ذلك إلى مرآة، وترى في المرآة ...
والثالثة: مرتبة السعداء الذين يرون الشيء بنفسه".(1/97)
ثم يسوق ابن باجه أسطورة الكهف المشهورة الواردة في كتاب "السياسة" لأفلاطون "م7 ص517ب-519جـ"، فيقول:
"فحال الجمهور من المعقولات تشبه أحوال المبصرين في مغارة لا تطلع عليهم الشمس، فيرونها، بل يرون الألوان كلها في الظل، فمن كان في قضاء المغارة رأي في حال شبيهة بالظلمة، ومن كان عند مدخل المغارة رأى الألوان في الظل، وجميع الجمهور فإنما يرون الموجودات في حال شبيهة بحال الظل، ولما يبصروا قط ذلك الضوء، فلذلك كما أنه لا وجود للضوء مجردًا عن الألوان عند أهل المغارة، كذلك لا وجود لذلك العقل عند الجمهور، ولا يشعرون به.
وأما النظريون فينزلون منزلة من خرج من المغارة إلى البراح، فلمح الضوء مجردًا عن الألوان، ورأى جميع الألوان على كنهها.
وأما السعداء فليس لهم في الأبصار شبيه، إذ يصيرون هم الشيء، فلو استحال البصر فصار ضوءًا، لكان عند ذلك ينزل منزلة السعداء"1.
وأما الإلغاز2 عن حال السعداء بحال من نظر إلى الشمس بعينها، فذلك الإلغاز لا يناسب الإلغاز عن حال الجمهور، بل الإلغاز عن حال الجمهور أشد مناسبة ومقاربة من هذه.
وأما أفلاطون فلما كان يضع الصور، كان إلغازه عن حال السعداء بحال الناظر إلى الشمس مناسبًا لإلغازه عن حال الجمهور، فكان لغزه متناسب الأقسام"3.
ثم يشير ابن باجه إلى نظرية الصور "= المثل" الأفلاطونية، فقال: إن
__________
1 ابن باجه: "رسالة اتصال العقل بالإنسان" ضمن "رسائل ... " ص167.
2 الإلغاز: ضرب المثل، التصوير بأسطورة، واللغز = الأسطورة mythe.
3 ابن باجه: "اتصال العقل بالإنسان" في "رسائل ابن باجه الإلهية" ص168-169 بيروت، سنة 1968.(1/98)
الصور معان مجردة عن المادة، يلحقها الذهن، كما يلحق الحس صور المحسوسات، حتى يكون الذهن كالقوة الحساسة للصور، أو كالقوة الناطقة للمتخيلات، فيلزم عن ذلك أن تكون المعاني المعقولة من تلك الصور أبسط من تلك الصور، فيكون هنا ثلاثة: المعاني المحسوسة والصور، ومعاني الصور"، ويقصد بالمعاني المحسوسة: المدركات الحسية، أو الامتثالات الناشئة عن معطيات الحس، ويقصد بالصور: الكليات في الأذهان، وربما يقصد بمعاني الصور: الصور في عالم المثل، وإن كان كلامه ها هنا غير واضح.
ويرد على أرسطو في نقده لنظرية الصور "المثل" الأفلاطونية، فيقول: إن نقد أرسطو الوارد في كتاب "ما بعد الطبيعة"1، يصح لو كان المقصود من القول بالصور أنها تفعل فعل الكائنات، التي هي صور لها بأن نقول: إن صورة النار تفعل فعل النار فتحرق، إذ لو كان الأمر كذلك للزمت المحالات التي ذكرها أرسطو.
وإنما المقصود بالصور أنها معان مجردة عن المادة، ولا تفعل فعل الأشياء التي هي في مادة، والصور بهذا المعنى حقيقية، "واحدة، باقية، غير بالية ولا فاسدة" "الكتاب نفسه ص169".
ولا يتوسع ابن باجه في الكلام عن السعداء، أهل المرتبة الثالثة، الذين يرون الأشياء ذاتها، كما لو كانوا يرون الشمس نفسها، بل يحيل إلى رجاء أن يثبت ذلك "مفسرًا مبينًا" "الكتاب نفسه ص172 س6"، لكن لم يصلنا شيء في هذا الباب، إن كان قد أنجز وعده هذا.
__________
1 راجع أرسطو: "ما بعد الطبيعة" المقالة الثالثة عشرة، الفصول 4-7، ص1078 ب9-1082 أ38.(1/99)
7- المدينة الكاملة:
وهنا نصل إلى الجانب السياسي في فلسفة ابن باجه، فنراه يستعمل عبارة "المدينة الكاملة" بدلًا من "المدينة الفاضلة"1، التي استعملها الفارابي، لكنه يظل مع ذلك في إطار آراء الفارابي، التي ترجع بدورها إلى آراء أفلاطون، ويتحدث عن نظم الحكم الأربعة، أو السير الأربع على حد تعبيره.
ويشير ابن باجه في هذا إلى أفلاطون صراحة، من حيث دراسة تدبير المدية أو سياسة الدولة، فيقول: "فأما تدبير المدن فقد بين أمره فلاطين في "السياسة المدنية"، وبين ما معنى الصواب منه، ومن أين يلحقه الخطأ، وتكلف القول فيما قد قيل فيه"2.
والمدينة الفاضلة "أفعالها كلها صواب"، فإن هذه خاصتها التي تلزمها، ولذلك لا يغتذي أهلها بالأغذية الضارة، ولذلك لا يحتاجون إلى معرفة أدوية للاختناق بالفطر ولا غيره مما جانسه، ولا يحتاجون إلى معرفة مداواة الخمر، إذ كان ليس هناك أمر غير منتظم، وكذلك إذا أسقطوا الرياضة، حدثت عن ذلك أمراض كثيرة، وبين أن ذلك ليس لها، وعسى أن لا يحتاج منها إلى أكثر من مداواة الخلع وما جانسه، وبالجملة: الأمراض التي أسبابها الجزئية واردة من خارج، ولا يستطيع البدن الحسن الصحة أن ينهض بنفسه في دفعها ... فمن خواص المدينة الكاملة أن لا يكون فيها طبيب ولا قاض، ومن اللواحق العامة للمدن الأربع البسيطة أن يفتقر فيها إلى طبيب وقاض، وكلما بعدت المدينة عن الكاملة، كان الافتقار فيها إلى هذين أكثر، وكان فيها مرتبة هذين الصنفين من الناس أشرف.
وبين أن المدينة الفاضلة الكاملة، قد أعطي فيها كل إنسان أفضل ما هو معد نحوه، وأن آراءها كلها صادقة، وأنه لا رأي كاذبًا فيها، وأن أعمالها هي الفاضلة بالإطلاق وحدها، وأن كل عمل غيره، فإن كان فاضلًا
__________
1 وإن كان يستعملها أحيانًا أيضًا، أو يستعمل الاثنين معًا، راجع "تدبير المتوحد" ص41.
2 ابن باجه: "تدبير المتوحد" في "رسائل ... " ص39.(1/100)
فبالإضافة إلى فساد موجود"1.
ونلاحظ على كلام ابن باجه هذا ما يلي:
1- أنه يقول: إن المدية الفاضلة، أو الكاملة ليس فيها طبيب ولا قاض، وهذا استنتاج من قول2 سقراط، عما يصيب المدية حين تكبر وتزداد حاجاتها زيادة مفسدة، أي أن الحاجة إلى الأطباء ناجمة عن فساد في الحالة الأولية للمدينة، وبالمثل يقال عن الحاجة إلى القضاة.
غير أننا لم نجد في كتابي "آراء أهل المدينة الفاضلة" و"السياسة المدنية"، إشارة إلى ذلك، فإما أن يكون ابن باجه، قد استمد ذلك مباشرة من قراآته لترجمة كتاب "السياسة" لأفلاطون، وهو الأرجح؛ لأنه يذكر كثيرًا من المواضع في هذا الكتاب، مما لم نره في كتب الفارابي، فضلًا عن أن ترجمة "السياسة" لأفلاطون كانت معروفة جيدًا لدى فلاسفة الأندلس، بدليل أن ابن رشد لخصها اعتمادًا على نص الترجمة، وإما أن يكون ذلك مما ورد في أو أشار إليه الفارابي في بعض ما لم يبلغنا من رسائله، وهو احتمال ضعيف.
2- أما قوله أن أفعال أهل المدينة الفاضلة كلها صواب، فهو لازم عن فكرة المدينة الفاضلة نفسها، لكن ليس فيه التنويع الذي قرره الفارابي3، حين قال بتفاوت أهل المدينة الفاضلة في مراتب الفهم والكمالات.
ويقول ابن باجه أيضًا: "إن من خواص المدينة الكاملة أن لا يكون فيها نوابت، إذا قيل هذا الاسم بخصوص: لأنه لا آراء كاذبة فيها، ولا بعموم: فإنه متى كان، فقد مرضت وانتقضت أمورها وصارت غير كاملة"4.
__________
1 ابن باجه: "تدبير المتوحد" في "رسائل ... " ص41.
2 أفلاطون: "السياسة" ص373د.
3 راجع مثلًا: "السياسة المدنية" ص81، بيروت 1964.
4 ابن باجه: "تدبير المتوحد" في "رسائل ... " ص43.(1/101)
وقد أشار الفارابي إلى هؤلاء "النوابت"، فقال: إن "النوابت في المدن منزلتهم فيها منزلة الشيلم في الحنطة، أو الشوك النابت فيما بين الزرع، أو سائر الحشائش غير النافعة، والضارة بالزرع أو الغرس"1: ولكنه قال: إنهم يوجدون في المدن الفاضلة أيضًا -يقول: "وأما النوابت في المدن الفاضلة فهم أصناف كثيرة ... " "ص104 من الكتاب نفسه" وبعددهم، فهم: "المقتنصون"- وهم الذين نسميهم اليوم باسم: الانتهازيين، و"المارقة"، والمضللون "بكسر اللام"، والمزيفون للقيم.
__________
1 الفارابي: "السياسة المدنية" ص87، بيروت سنة 1946.(1/102)
8- المتوحد:
وينتهي ابن باجه إلى القول بأن جميع السير -أي نظم الحكم- التي بلغنا خبرها، والموجودة في زمانه أيضًا مركبة من السير الخمس: أي السيرة الفاضلة "المدينة الفاضلة"، والسير الأربع الفاسدة، وهي: الجاهلة، والفاسقة، والمتبدلة، والضالة. لكن "معظم ما نجده فيها "هو" من السير الأربع1"، أما السعداء، وهم أهل المدينة الفاضلة، فإن أمكن وجودهم في هذه المدن "الأربع"، فإنما يكون لهم سعادة المفرد، وصواب التدبير إنما يكون تدبير المفرد، سواء كان المفرد واحدًا، أو أكثر من واحد، ما لم تجتمع على رأيهم أمة أو مدينة، وهؤلاء هم الذين يعنيهم الصوفية بقولهم: "الغرباء"؛ لأنهم، وإن كانوا في أوطانهم وبين أترابهم وجيرانهم، غرباء في آرائهم، قد سافروا بأفكارهم إلى مراتب أخر هي لهم كالأوطان"2.
ويقول ابن باجه: إنه قصد في رسالته "تدبير المتوحد" أن يبين حال المتوحد، وكيف يتدبر حتى ينال أفضل وجوداته، فإنه فرد خارج عن عادة الناس، أو"خارج عن الطبع"، كما يقول.
__________
1 ابن باجه: "تدبير المتوحد" في رسائل ... " ص43.
2 الكتاب نفسه، ص43.(1/102)
لكن ابن باجه لا يحدد لنا تحديدًا مفصلًا دقيقًا حال هذا المتوحد، بل تنتهي رسالة "تدبير المتوحد" إلى نظرة واقعية إلى الإنسان، فيقول: "إن الإنسان فيه أمور كثيرة، وإنما هو إنسان بمجموعها: ففيه القوة الغاذية ... وفيه القوة الحساسة والخيالية والذاكرة ... وفيه القوة الناطقة، وهذه "هي" الخاصة به "الكتاب نفسه ص96"، والإنسان طبيعته كالواسطة بين السرمدية والفاسدة، وفيه معنى يكون به سرمديًا، ومعنى يكون به كائنًا فاسدًا ويتساءل: ما هذان المعنيان؟ ويقول: إنه ينبغي الفخص عنهما، لكنه لا يقوم بهذا الفحص، شأنه في كثير مما وعد به ولم ينجزه، على أنه من الواضح أن رسالة "تدبير المتوحد"، تبدو مبتورة، شأنها شأن سائر ما وصلنا من رسائل ابن باجه، والأرجح أن ابن باجه نفسه هو الذي ترك مؤلفاته ناقصة مبتورة لم تتم كتابتها، ما دامت النسخة الخطية التي أوردت هذه الرسائل، وهي نسخة بودلي في اكسفورد هي ما قيده تلميذه، وصاحبه علي بن عبد العزيز بن الإمام، ولا نظن أنه هو الذي بتر أواخرها، بل قيدها على حالها، كما تلقاها من ابن باجه نفسه.
وكل ما يقوله عن هذا المتوحد هو أن طبيعته كريمة سنية روحانية، وأن طبعه فلسفي بالضرورة وإلا كان جسمانيًا، وكان فيلسوفًا بهرجًا، فهذا الطبع الفلسفي، إذا كان مزمعًا أن يكون على كماله الأخير، فهو يفعل هذا الفعل، ولذلك كل من يؤثر جسمانيته على شيء من روحانيته، فليس يمكن أن يدرك الغاية القصوى، وإذن فلا جسماني واحدًا سعيد، وكل سعيد فهو روحاني صرف.
إلا أنه كما يجب على الروحاني أن يفعل بعض الأفعال الجسمانية، لكن ليس لذاتها، ويفعل الأفعال الروحانية لذاتها -كذلك الفيلسوف: يجب أن يفعل كثيرًا من الأفعال الروحانية، لكن لا لذاتها، ويفعل جميع الأفعال العقلية لذاتها، وبالجسمانية هو الإنسان موجودًا، وبالروحانية هو(1/103)
أشرف، وبالعقلية هو إلهي فاضل.
فذو الحكمة -ضرورة- فاضل إلهي، وهو يأخذ من كل فعل أفضله، ويشارك كل طبقة في أفضل أحوالهم الخاصة بهم، وينفرد عنهم بأفضل الأفعال وأكرمها، وإذا بلغ الغاية القصوى -وذلك بأن يعقل العقول البسيطة الجوهرية، التي تذكر في "ما بعد الطبيعة"، وفي كتاب "النفس" وكتاب "الحس والمحسوس" -كان عند ذلك واحدًا من تلك العقول، وصدق عليه أنه إلهي فقط، وارتفعت عنه أوصاف الحسية الفانية، وأوصاف الروحانية الرفيعة، ولاقى به وصف: إلهي بسيط.
وهذه كلها قد تكون للمتوحد، دون "المدينة الكاملة"1.
وإذن هذه الصفات قد تكون للمتوحد، سواء أكان فردًا أم أكثر، لكنها لا تكون لمدينة ولا لجزء منها، وإنما هي غاية المدينة التي تقصدها دون أن تحققها. ولا يمكن المتوحد أن يفعل هذه الصفات عند أهل المدينة، ولا أن يكون حافظها فيهم، إذ هو متوحد.
ومعنى هذا أن ابن باجه لم يطالب بأن يكون حاكم الدولة هو الفيلسوف، بل اكتفى بأن أشار إلى أوصاف المثل الأعلى للسعيد، وأكد أنه متوحد لا تأثير له في المدينة، أعني في الدولة، فكان أكثر واقعية من أفلاطون، بل ومن الفارابي. وربما كان السبب في هذه الواقعية أنه عانى السياسة بالفعل لما كان وزيرًا لأبي بكر، يوسف بن تاشفين في فاس بالمغرب.
__________
1 ابن باجه: "تدبير المتوحد" في "رسائل ابن باجه" ص79-80، بيروت سنة 1968.(1/104)
خاتمة:
وواضح من هذا العرض لآراء ابن باجه، أنه كان شديد التأثر بأفلاطون أكثر منه بأرسطو، وأنه استند كثيرًا إلى مؤلفاته الفارابي من بين الفلاسفة المسلمين، ولم نجده يذكر ابن سينا أبدًا في أي كتاب من كتبه، التي وصلتنا -فهل لم تكن كتب ابن سينا قد وصلت الأندلس بعد؟
وإنتاجه الذي وصلنا شذرات، غير محكمة التأليف، يغلب عليها طابع التعليقات لا الكتب التي قصد إلى تأليفها قصدًا، ومن هنا التفكك والتكرار، فضلًا عما يبدو عليها من أنها مبتورة.(1/105)
ابن رشد
حياته
...
ابن رشد:
أ- حياته 1:
هو، محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد، ويكنى أبا الوليد، ويلقب بـ"الحفيد" تمييزًا له من أبيه وجده اللذين كانا قاضيين، وفقيهين مشهورين، وكان جده أبو الوليد محمد فقيهًا مالكيًا، وقاضيًا للقضاة في قرطبة، ولا يزال جزء من "فتاويه" محفوظًا في مخطوط بالمكتبة الوطنية في باريس، وكان أبوه -أي والد صاحبنا- قاضيًا في قرطبة.
ولد صاحبنا في مدينة قرطبة في سنة 520هـ "1126م"، ودرس علم الفقه المالكي، والحديث، واشتغل على الفقيه الحافظ أبي محمد بن رزق، واستظهر كتاب "الموطأ" للإمام مالك على أبيه، وأخذ يسيرًا عن أبي القاسم بن بشكوال، وأبي مروان بن مسرة، ودرس علم الكلام.
__________
1 مصادر ترجمة حياة ابن رشد:
أ- ابن أبي أصيبعة: "طبقات الأطباء" جـ1 ص75-78، وفي كتاب رينان الملحق رقم3.
ب- المراكش: "المعجب"، نشره دوزي ص174-175.
جـ- الذهبي: "تاريخ الإسلام" -في كتاب رينان، الملحق رقم4.
د- ابن فرصون: "الديباج المذهب" ص284، طبع القاهرة.
هـ- ابن الأبار: "التكملة" في كتاب رينان الملحق رقم1.
و أبو عبيد الله الأنصاري: "تكملة التكملة"، في كتاب رينان، الملحق رقم2.(1/107)
ثم درس الطب على أبي مروان بن جريول البلنسي، وعلى أبي جعفر الترجالي.
ودرس الفلسفة، لكن لا ندري على من، ولا يمكن أن يكون قد درسها على ابن باجه؛ لأن ابن باجه توفي كما رأينا في سنة 533 في فارس، وابن رشد عمره 13 سنة، كما أنه يبدو أنه لم يعرف ابن طفيل، إلا في وقت متقدم من عمره، سنة 565هـ "1169م"، أو قبيل ذلك بقليل.
وإنما ابن طفيل هو الذي قدمه إلى السلطان الموحد أبي يعقوب يوسف، ابن وخليفة السلطان عبد المؤمن، كما سنرى بعد قليل.
وولي ابن رشد "قضاء قرطبة، بعد أبي محمد بن مغيث، فحمدت سيرته" "ابن الأبار، ص328".
وفي سنة 548هـ "1153م" كان في مراكش في بلاط عبد المؤمن، سلطان الموحدين، الذي عمل على إنشاء المدارس، وقد خلفه ابنه يوسف ابن عبد المؤمن، وكان من أوفر سلاطين عصره حظًا من الآداب وعلوم الأوائل، وقد نال ابن طفيل حظوة عظيمة لديه، كما ذكرنا عند الكلام عن ابن طفيل، ولابن طفيل الفضل في تقديم ابن رشد إلى السلطان، يوسف بن عبد المؤمن، ويروي لنا عبد الواحد المراكشي، عن تلميذ من تلاميذ ابن رشد، ما رواه ابن رشد نفسه عن كيفية دخوله على أمير المؤمنين يوسف هذا.
كما يروي عبد الواحد أيضًا الذي أوعز إلى ابن رشد بالقيام بتفسير مؤلفات أرسطو هو السلطان يوسف، ونقل ابن طفيل هذه الرغبة إلى ابن رشد.
كما يبدو من كلام لعبد الواحد "نشره دوزي ص222"، أن ابن رشد صار قاضيًا في أشبيلية سنة 565 "1169م".
وعاد ابن رشد إلى قرطبة حوالي سنة 567هـ "1171م"، لكنه مع(1/108)
ذلك لم يتوقف عن الأسفار في دولة الموحدين: فنجده مرة في مراكش، وأخرى في أشبيلية، وثالثة في قرطبة، ويشهد على ذلك ما ذكره في تفاسيره لكتب أرسطو من أسماء للبلاد التي أتم فيها كتابتها، فهو في سنة 574هـ "1178م" كتب في مراكش قسمًا من كتابه "في الجرم السماوي"، وفي سنة 575هـ "1179م"، فرغ في أشبيلية من أحد كتبه في علم الكلام، ثم دعاه السلطان يوسف مرة أخرى إلى مراكش في سنة 578هـ "1192" م، وعينه طبيبًا له مكان ابن طفيل الذي بلغ سنًا عالية، فاعتزل الطب لكنه بقي وزيرًا.
وتوفي السلطان يوسف في ربيع الثاني سنة 580هـ "13/ 7/ 1184م"، وخلفه ابنه أبو يوسف يعقوب المنصور بالله، فزاد من تقريب ابن رشد، حتى صار ابن رشد "ثانيًا عند المنصور، وجيهًا في دولته"1.
وقد توجس ابن رشد من هذا التقريب الشديد، كما يدل على ذلك ما أورده ابن أبي أصيبعة "الموضع نفسه" من أنه: "لما قرب المنصور لابن رشد وأجلسه إلى جانبه، حادثه، ثم خرج من عنده وجماعة الطلبة وكثير من أصحابه ينظرونه، فهنأوه بمنزلته عند المنصور وإقباله عليه، فقال "ابن رشد": والله إن هذا ليس مما يستوجب الهناء به! فإن أمير المؤمنين قربني دفعة إلى أكثر مما كنت أؤمل فيه، أو يصل رجائي إليه".
ذلك أن الوشاة -وما أكثرهم حول أصحاب السلطان، وما أسرع تقلب أهواء هؤلاء الأخيرين! - أفلحوا في الوقيعة به لدى يعقوب المنصور بالله، حتى نقم عليه، "وأمر بأن يقيم ابن رشد في أليسانة -وهي بلد قريب من قرطبة، وكان أولًا لليهود، وأن لا يخرج منها، ونقم أيضًا على جماعة أخر من الفضلاء الأعيان، وأمر أن يكونوا في موضع آخر، وأظهر "يعقوب" أنه فعل بهم ذلك بسبب ما يدعي فيهم أنهم مشتغلون بالحكمة وعلوم الأوائل، وهؤلاء الجماعة: أبو الوليد بن رشد، وأبو جعفر الذهبي، والفقيه أبو
__________
1 ابن أبي أصيبعة، ورد في رينان ص340.(1/109)
عبد الله محمد بن إبراهيم، قاضي بجاية، وأبو الرابع الكفيف، وأبو العباس الحافظ
الشاعر القرابي"1.
وقد ذهب المؤخرون في تفسير أسباب نقمة يعقوب المنصور بالله على ابن رشد مذاهب شتى:
1- فذكر عبد الواحد المراكشي "ص224-225 نشرة دوزي"، وابن أبي أصيبعة "في رينان ص341-342" أن السبب في ذلك أن ابن رشد "كان قد صنف كتابًا في الحيوان، وذكر فيه أنواع الحيوان ونعت كل واحد منها، فلما ذكر الزرافة وصفها ثم قال: "رأيت الزرافة عند ملك البربر" -يعني المنصور. فلما بلغ ذلك المنصور، صعب عليه، وكان أحد الأسباب الموجبة في أنه نقم على ابن رشد وأبعده، ويقال: إن مما اعتذر به ابن رشد أنه قال: إنما قلت: "ملك البرين"- وإنما تصحفت على القارئ، فقال: ملك البربر"، ويقول عبد الواحد: إن هذه عادة العلماء حينما يذكرون عظماء البلاد، فإنهم لا يستعملون عبارات التفخيم، التي يستخدمها الكتاب والمنافقون.
2- كذلك يذكر عبد الواحد المراكشي "ص224، نشرة دوزي"، أن خصوم ابن رشد أطلعوا يعقوب المنصور بالله على عبارة كتبها ابن رشد في أحد شروحه، يقول فيها أن كوكب "الزهرة أحد الآلهة"، وفصلوا العبارة عما سبقها، وأوهموا أن قائلها هو ابن رشد، وأنه بذلك مشرك بالله!
3- وأغرب الروايات في هذا الصدد ما ذكره الأنصاري2 من حقد بعض الناس على ابن رشد في قرطبة، وتحريشهم للعامة عليه، مما رواه ابن رشد نفسه، وأخبر به عنه أبو الحسن بن قطرال، قال ابن رشد: "أعظم ما
__________
1 ابن أبي أصيبعة: "طبقات الأطباء" جـ2 ص77، في رينان ص340-341.
2 نشرة رينان في الملحق رقم 2 من كتابه عن ابن رشد، وذلك تبعًا لمخطوط رقم 682 ملحق عربي ورقة 7، في المكتبة الوطنية بباريس، راجعه في آخر كتاب رينان: "ابن رشد والرشدية" ص329-337، "مؤلفات رينان" جـ3، باريس سنة 1949.(1/110)
طرأ علي في النكبة، أني دخلت أنا وولدي عبد الله مسجدًا بقرطبة، وقد حانت صلاة العصر، فثار لنا بعض سفلة العامة، فأخرجونا منه وكتب عن "= إلى" المنصور في هذه القضية، كاتبه أبو عبد الله بن عياش كتابًا إلى مراكش وغيرها، يقول فيما يخص حالهما منه: "وقد كان في سالف الدهر قوم خاضوا في بحور الأوهام، وأقر لهم عوامهم بشفوف عليهم في الأفهام، حيث لا داعي يدعو إلا الحي القيوم، ولا حكم يفصل بين المشكوك فيه والمعلوم، فخلدوا في العالم صحفًا ما لها من خلاق، مسودة المعاني والأوراق، بعدها من الشريعة بعد المشرقين، وتباينها تباين الثقلين، يوهمون أن العقل ميزانها، والحق برهانها، وهم يتشعبون في القضية الواحدة فرقًا، ويسيرون فيها شواكل وطرقًا، ذلك بأن الله خلقهم للنار، وبعمل أهل النار يعملون، ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ... "، وهكذا يستمر هذا الكاتب في الإرجاف والتهديد بهذه النغمة المألوفة عند متعصبي الفقهاء.
ويذكر الأنصاري نقلًا عن أبي الحسن الرعيني، أن من الأمور التي أخذت على ابن رشد عند هؤلاء العامة، وأشباههم من الفقهاء -أنه "حين شاع في المشرق، والأندلس على ألسنة المنجمة أن ريحًا عاتية تهب في يوم كذا وكذا- في تلك المدة تهلك الناس، واستفاض ذلك، حتى اشتد جزع الناس منها، واتخذوا الغيران "= المغارات" والأنفاق تحت الأرض، توقيًا لهذه الريح، ولما انتشر الحديث بها وطبق البلاد، استدعي إلى قرطبة إذ ذاك طلبتها، وفاوضهم في ذلك، وفيهم ابن رشد -وهو القاضي بقرطبة يومئذ- وابن بندود، فلما انصرفوا من عند الوالي، تكلم ابن رشد وابن بندود في شأن هذه الريح من جهة الطبيعة، وتأثيرات الكواكب، قال شيخنا أبو محمد عبد الكبير: وكنت حاضرًا، فقلت في أثناء المفاوضة: إن صح أمر هذه الريح، فهي ثانية الريح التي أهلك الله تعالى بها قوم عاد، إذ لم تعلم ريح بعدها يعم إهلاكها.
قال: فانبرى إلي ابن رشد، ولم يتمالك أن قال: والله، وجود قوم(1/111)
عاد ما كان حقًا، فكيف سبب إهلاكهم!
فسقط في أيدي الحاضرين، وأكبروا هذه الزلة التي لا تصدر إلا عن صريح الكفر، والتكذيب لما جاءت به آيات القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه"1.
ومعنى هذا الخبر أن ابن رشد أنكر وجود قوم عاد، وأنكر تبعًا لذلك أنهم هلكوا بريح عاتية، وهذا يتنافى مع ما ورد في القرآن2.
لكننا لا نجد مصدرًا آخر ذكر هذا الخبر.
4- لكن ربما كان الأصح في تفسير السبب في حملة الفقهاء -ومن ورائهم العامة- على ابن رشد، هو ما ذكره الأنصاري بعد ذلك مباشرة عن ابن الزبير، الذي قال عن ابن رشد أنه "كان من أهل العلم والتفنن، وأخذ الناس عنه، واعتمدوه، إلى أن شاع منه ما كان الغالب عليه في علومه: من اختيار العلوم القديمة، والركون إليها، وصرف عنانة جملة نحوها، حتى لخص كتب أرسطو الفلسفية والمنطقية، واعتمد مذهبه "أي مذهب أرسطو" فيما يذكر عنه، ويوجد في كتبه، وأخذ ينحي "= يحمل" على من خالفه، ورام الجمع بين الشريعة
والفلسفة، وحاد عما عليه أهل السنة، فترك الناس الرواية عنه، حتى رأيت بشر "= كشط، محو" اسمه متى وقع للقاضي أبي محمد بن حوط الله -إسناد عنه، إذ كان قد أخذ عنه- وتكلموا فيه "أي في ابن رشد"، بما هو ظاهر من كتبه.
وممن جاهره بالمنافرة والمهاجرة: القاضي أبو عامر يحيى بن أبي الحسين بن زبيع. ونافره جملة: وعلى ذلك كان أبناء: القاضي أبو القاسم، وأبو الحسين.
ومن الناس من تعامى عن حاله، وتأول مرتكبه في انتحاله، والله
__________
1 راجع النص في رينان: "ابن رشد ... " الملحق رقم 2، ص334-335.
2 راجع سورة الحاقة آية 6: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} .(1/112)
أعلم بما كان يسره من أعماله، وحسبنا هذا القدر.
وقد كان امتحن على ما نسب إليه، وامتحان مشهور"1.
إذن الحملة على ابن رشد كانت من جانب الفقهاء، ومن أنكروه من العامة -بسبب اشتغاله بعلوم الأوائل من فلسفة وفلك، واعتنائه بمؤلفات أرسطو تفسيرًا وتلخيصًا، وهي ظاهرة طالما تكررت في تاريخ الإسلام، سواء في المشرق والمغرب2.
5- لكن إن كان هذا يفسر موقف الفقهاء ومن ورائهم العامة، فهو لا يفسر موقف السلطان الموحد يعقوب المنصور بالله، إذ كان هو نفسه كما رأينا من المشتغلين بعلوم الأوائل، والحريصين على العناية بها والمقربين لأصحابها.
وإنما الأرجح في تفسير موقفه هو أسباب شخصية هي: ما ذكره الأنصاري أيضًا "ص331 عند رينان"، فقال: "ويذكر أن من أسباب نكبته هذه اختصاصه بأبي يحيى، أخي المنصور، والي قرطبة"، ثم رفعه الكلفة بينه وبين السلطان، حتى كان يخاطبه بقوله: "تسمع يا أخي".
محنة ابن رشد:
ويظهر أن محنة ابن رشد على يد السلطان أبي يوسف يعقوب، كانت محنة علنية جرت في قرطبة، واشتهر أمرها، وممن رووا بعض تفاصيلها الذهبي3، فقال: إن قومًا "ممن يعاديه بقرطبة، ويدعي معه الكفاءة في البيت
__________
1 الأنصاري، أورده رينان ص335.
2 راجع مقالة جولد تسيهر بعنوان: "موقف أهل السنة القدماء بإزاء علوم الأوائل"، التي ترجمناها ونشرناها في كتابنا: "التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية" ص123-172، وخصوصًا ص151 وما يتلوها. القاهرة ط3، سنة 1965.
3 في كتابه "تاريخ الإسلام" في ثنايا ترجمة يعقوب المنصور بالله، ورقة 87ب، مخطوط باريس رقم 753 "الترقيم القديم"، ونشره رينان في الملحق الرابع من كتابه: "ابن رشد والرشدية" ص348-349.(1/113)
والحشمة، سعوا عند أبي يوسف "يعقوب المنصور بالله"، بأن أخذوا بعض التلاخيص، فوجدوا فيه بخطه حاكيًا عن بعض الفلاسفة: "قد ظهر أن الزهرة أحد الآلهة" -فأوقفوا أبا يوسف على هذا، فاستدعاه بمحضر من الكبار بقرطبة، فقال له: أخطك هذا؟ فأنكر، فقال: لعن الله كاتبه، وأمر الحاضرين بلعنه، ثم أمر بإخراجه مهانًا، وبإبعاده، وإبعاد من تكلم في شيء من هذه العلوم، وبالوعيد الشديد، وكتب إلى البلاد بالتقدم إلى الناس في تركها. وبإحراق كتب الفلسفة، سوى الطب والحساب والمواقيت".
وإذا كان هذا قد فعله السلطان أبو يوسف يعقوب فعلًا، فلربما كان مجرد عرض هذا الكلام عليه فرصة فقط للبطش بابن رشد لأسباب شخصية، هي تلك التي أوردناها منذ قليل، أو لعله فعل ذلك أيضًا ابتغاء ترضي الفقهاء، والعالم في ذلك الوقت، لأسباب سياسية، وكان ذلك في وقت اشتد فيه الصراع بينه وبين الأسبان النصارى، وهي ظاهرة كثيرًا ما نشاهدها في أحوال الحكام، حين يشتد عليهم الأمر مع الأعداء، فيتملقون أهواء الفقهاء والعامة، وقد يؤيد هذا أن النقمة شملت غير ابن رشد، إذ شملت -كما نقل ابن أبي أصيبعة عن أبي مروان الباجي، جماعة من الأعيان أمر السلطان بتحديد إقامتهم في أماكن معينة؛ "لأنهم مشتغلون بالحكمة وعلوم الأوائل، وهؤلاء الجماعة "هم": أبو الوليد بن رشد، وأبو جعفر الذهبي، والفقيه أبو عبد الله محمد بن إبراهيم، قاضي بجاية"1.
فكانت هذه إذن حملة عامة شبيهة بما فعله المنصور بن أبي عامر من قبل2.
غير أن المنصور بالله لما عاد بعد ذلك إلى مراكش، وتدخل بعض الناس لصالح هذه الجماعة، وشهدوا لأبي الوليد بن رشد بغير ما نسب
__________
1 النص في رينان ص341.
2 راجع عن حملة المنصور على المشتغلين بعلوم الأوائل، وإحراق كتبهم: صاعد الأندلسي، "طبقات الأمم"، ص66 وما يليها، نشرة شيخو، بيروت، سنة 1912.(1/114)
إليه، فعاد المنصور ورضي عن ابن رشد، واستدعاه للإحسان إليه.
متى كانت المحة؟ ومتى تم عفو السلطان عنه؟
لا تحدد لنا المصادر أيا من هذين التاريخين، لكن يبدو منها أن هذه المحنة لم تستمر طويلًا.
ثم أقام ابن رشد في مراكش مقربًا من جديد إلى السلطان الذي توفي بعد ذلك في صفر سنة 594هـ، وتوفي ابن رشد في مراكش، وتاريخ وفاته بالدقة مختلف فيه:
أ- فابن الأبار، والأنصاري يذكران أنه توفي في 9 صفر سنة 595هـ، ويذكر الأنصاري التاريخ الميلادي المقابل، وهو 10 ديسمبر1.
ب- ويذكر الذهبي وابن الأبار أيضًا، أنه توفي في نهاية سنة 594، كما يذكران صفر أو ربيع الأول سنة 594.
لكن يبدو أن الأرجح -لأسباب ذكرناها تفصيلًا في كتابنا "تاريخ الفلسفة في الإسلام" "بالفرنسية، جـ2، ص743، باريس سنة 1972"- أن ابن رشد توفي يوم الخميس 9 صفر سنة 595هـ "= 10 ديسمبر سنة 1198م".
__________
1 "استدعي إلى مراكش، وتوفي بها ليلة الخميس التاسعة من صفر خمس وتسعين وخمسمائة، بموافقة عشر ديسمبر، ودفن بجبانة باب تاغزوت خارجها ثلاثة أشهر، ثم حمل إلى قرطبة، فدفن بها في روضة سلفه بمقبرة ابن عباس" "النص في رينان ص337".(1/115)
ب- مؤلفاته:
1- ترتيبها التاريخي:
من حسن الحظ أن الترجمات العربية لمؤلفات ابن رشد، قد حفظت لنا في أواخرها تواريخ وأماكن تأليف بع كتبه، مما يسمح بترتيبها تاريخيًا على النحو التالي:
قبل سنة 558هـ "1162م": كتاب "الكليات" في الطب.
سنة 565هـ "1169م": "تلخيص تسع مقالات من كتاب الحيوان، وذلك من الحادية عشرة إلى آخر الحيوان" -وتم في مدينة أشبيلية.
سنة 556هـ "1170م": "تلخيص السماع الطبيعي"، "شرح كتاب البرهان" -في مدينة أشبيلية.
سنة 566هـ "1171م": "شرح السماء والعالم" -في أشبيلية.
سنة 570هـ "1174م": "تلخيص كتاب الخطابة"، "تلخيص كتاب الشعر"، "تلخيص ما بعد الطبيعة" -في قرطبة.
سنة 572هـ "1176م": "تلخيص كتاب الأخلاق لأرسطو طاليس".
سنة 574هـ "1178م": أقسام من كتابه في "الجرم السماوي" -في مراكش.
سنة 575هـ "1179م": "منهاج الأدلة في الكشف عن عقائد الملة" -في أشبيلية.
سنة 582هـ "1186م": "شرح السماع الطبيعي".
سنة 589هـ "1193م": "تلخيص كتاب الحميات لجالينوس".
سنة 592هـ "1195م": "مسائل في المنطق" -كتبها أثناء محنته.(1/116)
2- تصنيف مؤلفاته:
ويمكن تصنيف مؤلفات ابن رشد إلى:
أ- "تفسيرات" أو"شروح" فيها يورد ابن رشد نص كلام أرسطو فقرة فقرة بنصها الحرفي المترجم إلى العربية، ثم يأخذ في تفسير عبارات هذه الفقرة عبارة عبارة، وكلام ابن رشد متميز تمامًا عن نص أرسطو.
ب- "تلخيصات" يلخص فيها، بتوسع أحيانًا، كتب أرسطو، ويبدأ الكلام فيها في كل فقرة بقوله: "قال"، ثم يرود بضع كلمات من أوائل الفقرة، ويمضي بعد ذلك في التلخيص، دون أن يتميز ما لأرسطو مما لابن رشد، ويستطرد أحيانًا، ويأتي بأمثلة من عنده، خصوصًا مما هو مستمد من التاريخ، أو الأحوال السائدة في العالم الإسلامي، أو يورد أمثله من الأدب العربي بدلًا من أمثلة أرسطو.
جـ- "جوامع صغار"، فيها يتحرر من نص أرسطو ويتحدث بنفسه، وهي عروض موجزة مستقلة لمضمون كتاب من مؤلفات أرسطو، دون تقيد بترتيب العرض الوارد فيها.
د- مؤلفات أصلية.
ولنذكر الآن أهم هذه الأنواع، علمًا بأن معظم كتب ابن رشد، فقد أصله العربي، ولم يبق لنا إلا في ترجمات عبرية أو لاتينية.(1/117)
أ- التفاسير أو الشروح:
1- "تفسير ما بعد الطبيعة".
مخطوط في ليدن برقم 2074، وقد نشره موريس بويج في أربعة أجزاء: جـ1 سنة 1938، جـ2 سنة 1942، جـ3 سنة 1949، جـ4 "مقدمة" سنة 1952، بيروت، المطبعة الكاثوليكية.
2- "شرح كتاب البرهان" -مفقود في العربية، وموجود في الترجمة اللاتينية جـ7، فينيسيا سنة 1560.
3- "شرح كتاب النفس" -نصفه مفقود في العربية، وموجود في الترجمة اللاتينية جـ7.
4- "شرح السماع الطبيعي" -مفقود في العربية، وموجود في الترجمة اللاتينية جـ4.
5- "شرح السماء والعالم" -مفقود في العربية، وموجود في اللاتينية، جـ6.
ب- التلخيصات:
6- "تلخيص الخطابة" -مخطوط النص العربي في ليدن برقم 2073، وفيرنتسه رقم "CLXXX,54"، نشرنا نحن النص العربي في القاهرة، سنة 1960، وأما الترجمة اللاتينية فتوجد في جـ3.
7- "تلخيص مدخل فوفوريوس" -النص العربي موجود، مخطوط ليدن رقم 2073، ومخطوط فيرنتسه برقم CLXXX,54.
8- "تلخيص كتاب المقولات" -النص العربي في مخطوطي ليدن وفيرنتسه. ونشر النص العربي موريس بويج، بيروت، سة 1932.(1/118)
9- "تلخيص كتاب العبارة" -النص العربي في المخطوطين المذكورين.
10- "تلخيص كتاب القياس" -النص العربي في المخطوطين المذكورين.
11- "تلخيص كتاب البرهان" -النص العربي في المخطوطين المذكورين.
12- "تلخيص كتاب الجدل" -النص العربي في المخطوطين المذكورين.
13- "تلخيص كتاب السفسطة" -النص العربي في المخطوطين المذكورين.
14- "تلخيص كتاب الشعر" -النص العربي في المخطوطين المذكورين.
وقد نشره لأول مرة فاوستو لازنيو، فيرنتسه سنة 1873، ونشرناه نحن ضمن كتابنا: "أرسطو في الشعر وشروحه العربية"، القاهرة، سنة 1953 مع شروح مستفيضة.
15- "تلخيص السماع الطبيعي" -النص العربي في المتحف البريطاني برقم add. 9061.
16- "تلخيص كتاب الحس والمحسوس" -النص العربي في مخطوط أياصوفيا باستنبول، برقم 1179، وفي المكتبة الوطنية بحروف عبرية في باريس برقم 1009 مخطوطات عبرية.
وقد نشرناه نحن في كتابنا: أرسطو طاليس، "في النفس ... "، القاهرة، سنة 1954.
جـ- الجوامع:
17- "جوامع كتب أرسطو طاليس في الطبيعيات والإلهيات" -(1/119)
مخطوط في المكتبة الوطنية في مدريد، تحت رقم 5000.
وقد نشر جامع ما بعد الطبيعة في القاهرة، وفي مدريد سنة 1919.
ونشرت كل هذه الجوامع في حيدر أباد، سنة 1946/ 7.
د- المؤلفات الأصلية:
18- "تهافت التهافت" -وهو رد على كتاب "تهافت الفلاسفة" للغزالي.
وقد نشر في القاهرة في السنوات 1303، 1319، 1320هـ، ونشره موريس بويج في بيروت سنة 1930.
19- "فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال".
نشره لأول مرة M.J. Muller في ميونيخ سنة 1859، ثم أعيد نشره عدة مرات في القاهرة، وخير نشراته نشرة ليون جوتييه، الجزائر، سنة 1942 مع ترجمة فرنسية.
20- "الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة".
نشره لأول مرة M.J. Muleer في ميونيخ سنة 1859، ثم أعيد نشره عدة مرات في القاهرة.
21- "طميمة لمسألة العلم القديم، الذي ذكره أبو الوليد في فصل المقال" - ونشره ملر أيضًا.
22- "مقالة في اتصال العقل بالإنسان" -الأصل العربي موجود في مخطوط الإسكوريال رقم 629.
23- "بداية المجتهد ونهاية المقتصد في الفقه" -طبع مرارًا عديدة.(1/120)
جـ- فلسفته:
تمهيد:
يعد ابن رشد في المقام الأول الشارح الأكبر لأرسطو.
ومن المؤكد أنه لم يكن يعرف اليونانية، وأنه في شروحه إنما اعتمد على الترجمات العربية لمؤلفات أرسطو وشراحه اليونانيين، وهي ترجمات متفاوته القيمة بحسب المترجمين.
وتفاسير ابن رشد تدل على قدرة عظيمة على فهم فلسفة أرسطو، فضلًا عن أنه اتخذ منهجًا دقيقًا في عمله هذا:
أ- فكان يرجع إلى ترجمات متعددة، إن وجدت، ويقارن بينها.
ب- وكان يرجع إلى بعض الشروح على أرسطو، التي نقلت إلى العربية، خصوصًا ما تيسر له من تفاسير الإسكندر الأفروديسي.
جـ- وقد أثبتنا في بحث ألقيناه في مؤتمر ابن رشد المنعقد في باريس في أواخر سبتمبر سنة 1976، أن ما أخذه لويس فيفس Lois Vives من أغلاط تاريخية وغيرها في تفسيره لكتب أرسطو، إنما يرجع إلى أخطاء الترجمات اللاتينية لشروح ابن رشد، لا إلى ابن رشد نفسه.
لكن إذا كان فضل ابن رشد شارحًا، وملخصًا لمؤلفات أرسطو فضلًًا عظيمًا جدًا، فإن لمؤلفاته الأصلية مع ذلك قيمة كبيرة.
فلنأخذ في عرض فلسفته وفقًا لهذه المؤلفات المبتكرة.(1/121)
مشكلة العقل والنقل
مدخل
...
1- مشكلة العقل والنقل:
ومن المشاكل الأساسية التي اهتم بها رشد مشكلة العقل والنقل، أو الفسلفة والشريعة، وما بينهما من اتصال، وقد كرس ابن رشد لهذه المسألة كتابين رئيسيين:
1- "فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال".
2- "الكشف عن مناهج الأدلة -في عقائد الملة".
والكتاب الأول هو الأساسي في موضوعنا ها هنا.
وقد حدد موضوعه ابن رشد، فقال: إن غرضه في هذا الكتاب أن يفحص "على جهة النظر الشرعي -هل النظر في الفلسفة، وعلوم المنطق مباح بالشرع، أو محظور، أم مأمور به: إما على الندب وإما على جهة الوجوب1"، "ص27".
ومن أجل هذا يبدأ بتعريف الفلسفة، فيقول: إنها "ليست شيئًا أكثر من النظر في الموجودات، واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع، أعني من جهة ما هي مصنوعات، فإن الموجودات إنما تدل على الصانع لمعرفة صنعتها".
وواضح ما في هذا التعريف من حد وتضييق شديد لموضوع الفلسفة، وكأن غرضها ليس البحث في الموجودات لمعرفة حقائق الأشياء، وهو بحث ينبغي أن يطلب لذاته، كما قال أرسطو في أول مقالة "ألفا" الصغرى في كتاب "ما بعد الطبيعة"، بل جعل ابن رشد النظر في الموجودات وسيلة لاعتبار صانعها، وبهذا جعل الفلسفة في خدمة علم التوحيد، وواضح أيضًا أن الذي ألجأه إلى ذلك، هو الهدف الذي قصد إليه هذا الكتاب، وهو تبرير دراسة الفلسفة تجاه الطاعنين عليها من رجال الدين، وإلا فإنه لم يقل بمثل هذا الرأي عند شرحه لذلك الموضع من مقالة "ألفا" الصغرى.
ويمضي ابن رشد، فيقول: "إنه كلما كانت المعرفة بصفتها أتم، كانت المعرفة بالصانع أتم"، وفي هذا رد على الفقهاء الذين يقولون: إنه يكفي ما نعرفه من النصوص النقلية.
__________
1 سنشير ها هنا إلى طبعة بيروت، ط3، سنة 1973، وهي تعتمد على طبعة ج. حوراني "ليدن سنة 1959"، لكننا ننبه القارئ إلى فساد معظم التعليقات التي وضعها ناشر طبعة بيروت.(1/122)
تبرير النظر العقلي بالشرع:
ويؤكد أن الشرع دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل، ودعانا إلى معرفتها بالنظر العقلي، كما هو بين في غير ما آية من كتاب الله، مثل قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَار} [سورة الحشر: 2] وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [سورة الأعراف: 184] ، وهذا نص بالحث على النظر في جميع الموجودات بواسطة العقل واعتبارها به.
والاعتبار هو استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه، وهذا هو القياس، أو التفكير بالقياس، "فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي" "ص28".
وأتم أنواع النظر هو المسمى بالبرهان، فالشرع إذن قد حث على معرفة الله تعالى وسائر موجوداته بالبرهان، ولهذا "كان من الأفضل، أو الأمر الضروري، لمن أراد أن يعلم الله -تبارك وتعالى- وسائر الموجودات بالبرهان، أن يتقدم أولًا فيعلم أنواع البراهين وشروطها، وبماذا يخالف القياس البرهاني القياس الجدلي، والقياس الخطابي والقياس المغالطي"، "ص29"، ولا بد قبل هذا أن يعرف ما هو القياس عامة، وكم أنواع وما منه قياس، وما منه ليس بقياس، وهذا بدوره يحتاج إلى معرفة أجزاء القياس أعني المقدمات وأنواعها، وإذن عليه بالجملة أن يدرس المنطق.
وكما أن الفقيه مضطر إلى معرفة المقاييس الفقهية، وأنواعها وشروطها حتى يستطيع استنباط الأحكام، كذلك على من يريد معرفة الله أن يعرف القياس العقلي، أي المنطق.(1/123)
اعتراضات وردود:
فإن اعترض معترض وقال: "إن هذا النوع من النظر في القياس العقلي بدعة، إذ لم يكن في الصدر الأول، فإننا نرد عليه ونقول: إن النظر في القياس الفقهي وأنواعه هو شيء استنبط بعد الصدر الأول، فهل هو الآخر بدعة؟ إن هؤلاء المعترضين من الفقهاء لا يعتبرون القياس الفقهي بدعة، وإذن فعليهم ألا يعتبروا النظر في القياس العقلي بدعة، ذلك أن "أكثر أصحاب هذه الملة مثبتون للقياس العقلي، إلا طائفة من الحشوية قليلة، وهم محجوجون بالنصوص" "ص30-31"، ويقصد بالحشوية ها هنا أصحاب المذهب الظاهري، وعلى رأسهم ابن حزم،
ممن أنكروا القياس.
وإن اعترض معترض آخر، فقال: إن القياس العقلي من وضع قوم غير مسلمين، قلنا: إن علينا أن نستعين بمن تقدمنا من الأمم، ممن درسوا القياس العقلي "سواء كان ذلك الغير مشاركًا لنا، أو غير مشارك، في الملة، فإن الآلة التي تصح بها التذكية "= النوع الشرعي"، ليس يعتبر في صحة التذكية بها كونها آلة لمشارك لنا في الملة أو غير مشارك، إذا كانت فيها شروط الصحة، وأعني بـ"غير مشارك": من نظر في هذه الأشياء من القدماء قبل ملة الإسلام" "ص31".
وما دام الأمر كذلك، وكان القدماء قد نظروا وفحصوا عن المقاييس العقلية -أي المنطق- أتم فحص، فينبغي أن نرجع إلى كتبهم، "فننظر فيما قالوه من ذلك:
فإن كان كله صوابًا، قبلناه منهم، وإن كان فيه ما ليس بصواب، نبهنا عليه" "ص31-32".
فمن الواجب علينا إذن أن نستعين بما قاله المتقدمون في شأن المقاييس العقلية، كما نفعل ذلك في العلوم الرياضية، "فإنه لو فرضنا صناعة الهندسة في وقتنا هذا معدومة، وكذلك صناعة علم الهيئة، ورام إنسان واحد من تلقاء نفسه أن يدرك مقادير الأجرام السماوية، وأشكالها وأبعاد بعضها عن(1/124)
بعض، لما أمكنه ذلك" "ص32".
وهذه صناعة أصول الفقه والفقه نفسه، لم يكمل النظر فيهما إلا في زمان طويل، "ولو رام إنسان اليوم من تلقاء نفسه أن يقف على جميع الحجج، التي استنبطها النظار من أهل المذاهب في مسائل الخلاف، التي وقعت المناظرة فيها بينهم في معظم بلاد الإسلام -ما عدا المغرب- لكان أهلًا أن يضحك منه، لكون ذلك ممتنعًا ... وهذا أمر بين بنفسه ليس في الصنائع العلمية فقط، بل والعملية: فإنه ليس منها صناعة يقدر أن ينشئها واحد بعينه، فكيف بصناعة الصنائع، وهي الحكمة؟!
وإذا كان هذا هكذا، فقد يجب علينا -أن ألفينا، لمن تقدمنا من الأمم السالفة، نظرًا في الموجودات، واعتبارًا لها بحسب ما اقتضته شرائط البرهان -أن ننظر في الذي قالوه من ذلك، وما أثبتوه في كتبهم: فما كان منها موافقًا للحق قبلناه منهم وسررنا به، وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق، نبهنا عليه وحذرنا منه، وعذرناهم" "ص32-33".
وهذه نظرة واسعة الأفق، متحررة، منفتحة للأخذ بالعلوم أيا كان مصدرها، دون اعتبار لجنسية أو دين هذا المصدر، كل ما علينا هو أن نفحص عما جاءوا به فإن كان موافقًا للحق، أي لما يقضي به العقل والنظر العقلي والبرهان العقلي، قبلناه وفرحنا به وشركنا لهم صنيعهم عرفانًا منا بجميلهم، وإن وجدناه غير موافق للحق، نبهنا على ذلك، وحذرنا منه، والتمسنا العذر لهم فيما اجتهدوا ولم يصيبوا الحق.
وينتهي ابن رشد من هذا كله إلى تقرير أن النظر في كتب القدماء واجب بالشرع، إذ كان مغزاهم في كتبهم ومقصدهم هو المقصد الذي حثنا الشرع عليه، وأن من نهى عن النظر فيها من كان أهلًا للنظر فيها -وهو الذي جمع أمرين: أحدهما ذكاء الفطرة، والثاني العدالة الشرعية والفضيلة الخلقية- فقد صد الناس عن الباب الذي دعا الشرع منه الناس إلى معرفة الله، وهو باب النظر المؤدي إلى معرفته حق المعرفة، وذلك غاية الجهل والبعد عن الله تعالى" "ص33".(1/125)
الاعتراف بالنتائج العارضة:
فإن اعترض معترض على ذلك بأن بعض الناس قد زل، وغوى من إطلاعه على كتب القدماء في الفلسفة، فليس هذا بحجة، وإنما ذلك حدث "إما من قبل نقص فطرته، وإما من قبل سوء ترتيب نظره فيها، أو من قبل غلبة شهواته عليه، أو أنه لم يجد معلمًا يرشده إلى فهم ما فيها، أو من قبل اجتماع هذه الأسباب فيه، أو أكثر من واحد منها"، ولا ينهض ذلك مبررًا أن نمنعها عن الذي هو أهل للنظر فيها، فإن هذا النحو من الضرر الداخل من قبلها هو شيء لحقها بالعرض، لا بالذات، وليس يجب، فيما كان نافعًا بطباعه وذاته، أن يترك، لمكان "= سبب" مضرة موجودة فيه بالعرض ... إن مثل من منع النظر في كتب الحكمة من هو أهل لها -من أجل أن قومًا من أراذل الناس، قد يظن بهم أنهم ضلوا من قبل نظرهم فيها- مثل من منع العطشان من شرب الماء البارد العذب، حتى مات "من العطش"؛ لأن قومًا شرقوا به فماتوا، فإن الموت عن الماء بالشرق أمر عارض، وعن العطش "أمر" ذاتي وضروري". "ص33-34".
وليست الفلسفة وحدها التي يقع لها هذا، بل يحدث مثله للفقه والفقهاء، "فكم من فقيه كان الفقه سببًا لقلة تورعه وخوضه في الدنيا! بل أكثر الفقهاء كذلك نجدهم، وصناعتهم إنما تقتضي بالذات "الفضيلة العملية". "ص34".(1/126)
طرق التصديق متفاوتة:
فإن قيل: وما الداعي إلى طريق الفلسفة، ما دام يغنينا طريق الشرع؟
فالجواب "أن طباع الناس متفاضلة في التصديق: فمنهم من يصدق بالبرهان، ومنهم من يصدق بالأقاويل الجدلية تصديق صاحب البرهان، إذ ليس في طباعه أكثر من ذلك، ومنهم من يصدق بالأقاويل الخطابية، كتصديق صاحب البرهان بالأقاويل البرهانية" "ص34".
فإن قيل: إن هذه الطرق قد لا تؤدي إلى نفس الرأي، كان الجواب أن "الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له" "ص35".
فإن وقع تعارض بين ما أدى إليه النظر البرهاني العقلي، وبين ما نطقت به الشريعة، قلنا: إن الأمر لا يخلو عن خصلتين:
1- فإما أن يكون الشرع قد سكت عنه، وإذن فلا تعارض هناك.
2- وإما أن يكون ظاهر ما نطق به الشرع مخالفًا لما أدى إليه النظر البرهاني العقلي.
وفي هذه الحالة علينا أن نؤول ما ورد به ظاهر الشرع، "ومعنى التأويل هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، من غير أن يخل في ذلك بعادة لسان العرب في التجوز، من تسمية الشيء بشبيهه، أو بسببه، أو لاحقه، أو مقارنه، أو غير ذلك من الأشياء التي تحددت في تعريف أصناف الكلام المجازي.
وإذا كان الفقيه يفعل هذا في كثير من الأحكام الشرعية، فكم بالحري أن يفعل ذلك صاحب علم البرهان! فإن الفقيه إنما عنده قياس ظني، والعارف عنده قياس يقيني.
ونحن نقطع قطعًا أن كل ما أدى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع، أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي، وهذه القضية لا يشك فيها مسلم، ولا يرتاب بها مؤمن، وما أعظم ازدياد اليقين بها عند من زاول هذا المعنى وجربه، وقصد هذا المقصد من الجمع بين المعقول والمنقول!(1/127)
بل نقول: إنه ما من منطوق به في الشرع مخالف بظاهره لما أدى إليه البرهان، إلا إذا اعتبر الشرع، وتصفحت سائر أجزائه وجد في ألفاظه الشرع ما يشهد بظاهره لذلك التأويل، أو يقارب أن يشهد، ولهذا المعنى أجمع المسلمون على أنه ليس يجب أن تحمل ألفاظ الشرع كلها على ظاهرها، ولا أن تخرج كلها عن ظاهرها بالتأويل".
وهكذا يقرر ابن رشد بكل توكيد ما يلي:
1- أن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد عليه.
2- فإذا اختلف ما نطق به الشرع مع ما أدى إليه البرهان العقلي، فيجب تأويل ظاهر الشرع ليتفق مع ما أدى إليه البرهان العقلي.
3- والتأويل مباح، بدليل اللجوء إليه في الأحكام الشرعية، طالما كان ذلك لا يخل بعادة لسان العرب في استخدام المجازات.
4- ويقطع ابن رشد بأن كل ما نطق به الشارع، وبدا في الظاهر مخالفًا لما أدى إليه البرهان العقلي، فمن الممكن تأويله بما يجعله متفقًا مع ما أدى إليه البرهان العقلي، أي أنه يقطع مقدمًا بإمكان تأويل ظاهر ما نطق به الشرع، ليتفق مع ما أدى إليه البرهان العقلي، والسبب في هذا التوكيد القاطع من جانبه هو ما ورد في رقم "1" من أن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد عليه، فما دام الشرع حقًا، وما أدى إليه البرهان هو حق، فإنهما لا بد أن يتفقا.
فإن سأل سائل: ولماذا لم يرد نطق الشرع صريحًا لا يحتاج إلى تأويل، فينحسم كل اختلاف؟ أجاب ابن رشد بأن "السبب في ورود الشرع فيه الظاهر والباطن: هو اختلاف فطر الناس، وتباين قرائحهم في التصديق، والسبب في ورود الظواهر المتعارضة فيه هو تنبيه الراسخين في العلم على التأويل الجامع بينهما، وإلى هذا المعنى وردت الإشارة بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ ... } إلى قوله:(1/128)
{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم} ، ويريد ابن رشد أن يقفل على "والراسخون في العلم" ليعطفها على "الله"، ويجعل الله والراسخين في العلم معًا عالمين وحدهم بتأويل الآيات المتشابهات في القرآن.
ويؤيد ابن رشد رده هذا بأن يقول: إن "كثيرًا من الصدر الأول قد نقل عنهم أنهم كانوا يرون أن للشرع ظاهرًا وباطنًا، وأنه ليس يجب أن يعلم بالباطن من ليس من أهل العلم به، ولا يقدر على فهمه -مثلما روى البخاري عن علي-رضي الله عنه أنه قال: "حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟ ". ومثلما روى من ذلك عن جماعة من السلف. "ص38".(1/129)
لا تفكير في الإجماع
...
لا تكفير في الإجماع:
فإن اعترض معترض بأنه لا يجوز التأويل فيما أجمع عليه المسلمون -رد ابن رشد بقوله: إنه لا يوجد إجماع يقيني لا في الأمور العملية- ولا -وبالأحرى- في الأمور النظرية، وأبو حامد الغزالي نفسه، وأبو المعالي عبد الملك الجويني "إمام الحرمين"، لم يقطعا بكفر من خرق الإجماع في التأويل.
فإن رد عليه بأن الغزالي قد قطع بتكفير أبي نصر الفارابي، وابن سينا وفلاسفة الإسلام في كتابه "التهافت" في ثلاث مسائل: 1- في القول بقدم العالم، 2- وبأنه تعالى لا يعلم الجزئيات، 3- وفي تأويل ما جاء في حشر الأجساد وأحوال المعاد -أجاب ابن رشد: "الظاهر من قوله في ذلك أنه ليس تكفيره إياها في ذلك قطعًا، إذ قد صرح في "كتاب التفرقة" أن التكفير بخرق الإجماع فيه احتمال" "ص38".(1/129)
حق الراسخين: في التأويل
...
حق الراسخين في العلم: في التأويل
ويعود ابن رشد إلى ما قرره من الوقوف بعد: "والراسخون في العلم" في الآية1 المشهورة "سورة آل عمران آية 7"، ويبرر ذلك بأنه "إذا لم يكن أهل العلم يعلمون التأويل، لم تكن عندهم مزية تصديق توجب لهم من الإيمان به، ما لا يوجد عند غير أهل العلم، وقد وصفهم الله بأنهم المؤمنون به، وهذا إنما يحمل على الإيمان الذي يكون من قبل البرهان، وهذا لا يكون إلا مع العلم بالتأويل، فإن غير أهل العلم من المؤمنين هم أهل الإيمان به لا من قبل البرهان. فإن كان هذا الإيمان الذي وصف الله به العلماء خاصًا بهم، فيجب أن يكون بالبرهان" "ص39".
Asiny
__________
1 تماما: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} .
2 رينان: "ابن رشد والرشدية" ص139. مجموع مؤلفات رينان جـ3، باريس سنة 1949.(1/130)
هل كان ابن رشد فيلسوفًا عقليًا صرفًا؟
وبعد أن حللنا هذا القسم الأول من كتاب "فصل المقال"، وهو الذي وضع فيه القواعد العامة للعلاقة بين الفلسفة والشريعة، علينا أن نتساءل: هل كان ابن رشد فيلسوفًا عقليًا صرفًا؟
سؤال أثاره الباحثون المحدثون ابتداء من رينان، وتعاقب على الجواب عنه من عنوا بابن رشد.
1- أما رينان فيرى أن موقف ابن رشد يتلخص في أنه يقرر مستويين: مستوى العامة، وهو الذي يكتفي بظاهر النصوص الشرعية، ومستوى العلماء الراسخين، وهو الذي يعتمد على البرهان العقلي، وحين التعارض يؤول ظاهر النصوص الشرعية، كيما تتفق مع ما يتأدى إليه البرهان العقلي، "والحكيم لا يسمح لنفسه بإبداء أي رأي ضد الدين القائم، لكنه مع ذلك يتحاشى أن يصف الله بما يصفه به العامة"2.
2- وبعكس رينان، جاء ميرن Mehren وأسين بلاثيوس(1/130)
Palacios فحاولا بيان أن ابن رشد كان ذا نزعة دينية قوية، وأنه سعى بإخلاص للتوفيق بين الدين والفلسفة، فقال ميرن: إن موقف ابن رشد في هذه المسألة لا يختلف عن موقف ابن سينا، وإن الفلسفة عنده تستند إلى الوحي الإلهي وإلى العقل معًا، واستند في ذلك إلى "تهافت التهافت" وحده.
أما أسين بلاثيوس فاستند إلى كل النصوص الأساسية في هذا الباب عند ابن رشد، وترجم فقرات رئيسية منها إلى الأسبانية، وقارنها بنصوص مناظرة لها عند توما الأكويني، وانتهى من ذلك إلى توكيد أن ابن رشد لم يكن فيلسوفًا عقليًا، بل على العكس: اعتمد على الوحي، وقرر أن الوحي والعقل لا يتعارضان، وتبعًا لذلك يرى أسين أن ابن رشد بقي صحيح الإيمان تمامًا، ولم يتعد حدود المذهب السني.
3- ثم جاء ليون جوتييه في رسالة للدكتوراه بعنوان: "نزرية ابن رشد في العلاقة بين الدين والفلسفة" "باريس سنة 1909"، فدرس الموضوع تفصيلًا، وانتهى إلى أن السؤال المطروح، وهو: هل كان ابن رشد عقليًا؟ سؤال أسيء طرحه، إذ لا ينبغي أن نضع السؤال في هذه الصورة، بل أن نسأل: بالنسبة لمن كان عقليًا؟ وبالنسبة لمن لم يكن كذلك؟ والجواب أنه "كان عقليًا مطلقًا حين كان يتوجه إلى الفلاسفة، أي إلى أصحاب البرهان العقلي والبينة العقلية، وعلى هؤلاء أن يؤولوا كل النصوص المتشابهة، ولا يوجد بالنسبة لهم سر ولا معجزات بالمعنى الحقيقي، ولكنه كان ذا نزعة إيمانية fideiste حين يتعلق الأمر بالعامة، أي بأصحاب الحجج الخطابية، أو أهل الموعظة، العاجزين عن متابعة البرهان العقلي: وهؤلاء ينبغي عليهم أن يؤمنوا حرفيًا بكل الرموز، وكل النصوص المتشابهة، دون استثناء، أما الفريق الثالث من النفوس، وهم وسط بين الفريقين الآخرين، وأعني بهم أهل الجدل، أي المتكلمين، القادرين على إدراك صعوبات النصوص والبحث في هذه الصعوبات، ولكنهم عاجزون عن فهم تفسيرها الحقيقي،(1/131)
فعلى الفلاسفة أن يقدموا إليهم، وهم نفوس مريضة، الدواء الوحيدة الناجح لمرضهم الجدلي، وطريقتهم الشاذة المختلطة -ونعني به: تأويلات شبه عقلية وشبه إيمانية"1.
ويدافع جوتييه عن هذا التفسير مرة أخرى في مقدمة ترجمته الفرنسية لـ"فصل المقال" "الجزائر، سنة 1942".
4- ويرد عليه مانويل ألونسو منكرًا هذا التفسير العقلي النزعة لاتجاه ابن رشد، وقد تناولنا نحن هذه الآراء تفصيلًا، وبينا ما لها وما عليها في كتابنا "تاريخ الفلسفة في الإسلام" "بالفرنسية، جـ1 ص766-789"، فمن شاء التوسع والتعمق فليرجع إليه، وانتهينا إلى رفض مواقف هؤلاء من تفسير نزعة ابن رشد، وإلى بيان أن ابن رشد كان حر الفكر، ولكنه لم يسع إلى الاصطدام بالشريعة.
__________
1 ليون جوتييه: "نظرية ابن رشد في العلاقة بين الدين والفلسفة" ص180. باريس سنة 1909.(1/132)
الإلهيات
مدخل
...
2- الإلهيات:
ليس لابن رشد كتاب قائم برأسه في الإلهيات، وإنما نلتمس آراءه في هذا الباب من شرحه على "ما بعد الطبيعة" لأرسطو وتلخيصه من ناحية، ومن ردوده على الغزالي في كتاب "تهافت التهافت"، ولهذا يعسر على الباحث أن يقدم عرضًا متصلًا لمذهب ابن رشد، إذ يصعب التمييز بين ما هو مجرد شرح لأرسطو، وبين ما يعتقده ابن رشد رأيًا خاصًا به، وتلك هي دائمًا حال الشارح والمؤرخ: يتوارى دائمًا خلف ما يشرح، أو يعرض من نصوص وآراء. ولربما كان عمله هذا أعظم فائدة، وأدل على تفوق عقلي أكثر مما يصنعه من يعرض الآراء كأنها من عنده، وهي في حقيقة الأمر خلاصة باهتة لما قاله الآخرون قبله، لكنه عرضها وكأنها باسمه هو ومن عنده، لكن البحث(1/132)
التاريخي كفيل بعد ذلك بفضح زيف دعوى هذا الأخير، رغم أن دعواه الأصالة قد خالت على السطحيين من الناس، أعني كافتهم إلا النادرين.
وهذه ملاحظة ينبغي أن تكون نصب أعيننا حين نقارن بين ابن رشد من ناحية، وابن سينا، أو الفارابي، أو الكندي أو القديس توما من ناحية أخرى. فقناعة ابن رشد بموقف الشارح لا تقلل من قدره تجاه هؤلاء الآخرين، الذين تظاهروا أمام الناس في كتبهم أنهم أصحاب الآراء التي يعرضونها، مع أنهم في معظمها، إن لم يكن فيها جميعها، اقتصر عملهم على التلخيص، والعرض المبسط.
وبعد هذا التمهيد الضروري لإنصاف ابن رشد، وبيان مكانته بإزاء سائر فلاسفة الإسلام، لنأخذ في عرض أهم أقواله في غير المواضع التي اقتصر فيها على شرح أرسطو، ولنبدأ بالمسائل التي كفر بها الغزالي الفلاسفة.(1/133)
أ- قدم العالم:
يرى ابن رشد كما رأى أرسطو أن العالم قديم، أي ليس له بداية، "وأنه لم يزل موجودًا مع الله تعالى، ومعلولًا له، ومساوقًا له غير متأخر عنه بالزمان مساوقة المعلول للعلة، ومساوقة النور للشمس، وأن تقدم الباري عليه كتقدم العلة على المعلول، وهو تقدم بالذات والرتبة، لا بالزمان"، كما شرح الغزالي في "التهافت"1 -ودليلهم على ذلك:
1- استحالة صدور حادث عن قديم مطلقًا،
2- لو كان الباري متقدمًا بالزمان على العالم، لكان قبل الزمان زمان، وهذا خلف،
3- إمكان العالم كان موجودًا، فالعالم لم يزل ممكن الحدوث.
__________
1 أبو حامد الغزالي: "تهافت الفلاسفة" نشرة بويج "المجردة من الهوامش"، بيروت سنة 1962.(1/133)
4- كل حادث تسبقه مادة، إذ لا يستغني الحادث عن مادة، فالمادة إذن قديمة، فالعالم قديم.
ويرد الغزالي على هذه الحجج، فينبري ابن رشد للدفاع عنها، وإبطال ردود الغزالي، مبينًا أنه إنما يقابل إشكالات بإشكالات، وهذا إنما يقتضي حيرة وشكوكًا، لا إبطالًا للإشكال الذي يقبله، وهذه معاندة غير تامة، بينما "المعاندة التامة إنما هي التي تقتضي إبطال مذهبهم بحسب الأمر في نفسه، لا بحسب قول القائل به" "ص208 من "تهافت التهافت"، القاهرة سنة 1964".
وخلاصة الرأي عند ابن رشد أنه: "إن كانت حركات الأجرام السماوية، وما يلزم عنها أفعالا لموجود أزلي، غير داخل وجوده في الزمان الماضي، فواجب أن تكون أفعاله غير داخلة في الزمان الماضي" "الكتاب نفسه، ص 216".
ويتفرع على ذلك أن العالم، كما أنه "أزلي لا بداية لوجوده، فهو أبدي لا نهاية لآخره، ولا يتصور فساده وفناؤه، بل لم يزل كذلك، ولا يزال أيضًا كذلك، وأدلتهم الأربعة التي ذكرناها في الأزلية جارية في الأبدية، فإنهم يقولون أن العالم معلول علته أزلية أبدية، فكان المعلول مع العلة. ويقولون: إذا لم تتغير العلة، لم يتغير المعلول"1.
ويؤيد ابن رشد رأي الفلاسفة هذا بقوله: إنه "يمتنع عندهم أن ينعدم الشيء إلى لا موجودًا أصلًا؛ لأنه لو كان كذلك، لكان الفاعل يتعلق فعله بالعدم أولًا بالذات"2.
ويؤول ابن رشد الآيات الواردة في الأنباء عن إيجاد العالم، فيقول في "فصل المقال" "ص42-43": "إن ظاهر الشرع إذا تصفح، ظهر من
__________
1 الغزالي: "تهافت الفلاسفة" ص81. بيروت سنة 1962.
2 ابن رشد: "تهافت التهافت" ص248-249، القاهرة سنة 1964.(1/134)
الآيات الواردة في الأنباء عن إيجاد العالم أن صورته محدثة بالحقيقة، وأن نفس الوجود والزمان مستمر من الطرفين، أعني غير منقطع، وذلك أن قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [سورة هود: 7] ، يقتضي بظاهره أن وجودًا قبل هذا الوجود، وهو العرش والماء، وزمانًا قبل هذا الزمان، أعني المقترن بصورة هذا الوجود الذي هو عدد حركة الفلك. وقوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَات} [سورة إبراهيم: 48] ، يقتضي أيضًا بظاهره أن وجودًا ثانيًا بعد هذا الوجود. وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَان} [سورة فصلت: 11] يقتضي بظاهره أن السماوات خلقت من شيء، فالمتكلمون ليسوا في أقوالهم أيضًا في العالم على ظاهر الشرع، بل متأولون: فإنه ليس في الشرع أن الله كان موجودًا مع العدم المحض، ولا يوجد هذا فيه نصًا أبدًا"1.
وبهذا يبين ابن رشد أن القول بقدم العالم لا يخالفه نص من القرآن، ولا تعارض إذن في هذه المسألة بين ما يقول به الفلاسفة من أن العالم قديم، وبين ما ورد في الشرع.
__________
1 ابن رشد: "فصل المقال" ص42-43. بيروت، سنة 1973.(1/135)
علم الله بالجزيئات
...
ب- علم الله بالجزئيات:
والمسألة الثانية التي كفر الغزالي بها الفلاسفة المسلمين هي: علم الله بالجزئيات.
ويرى ابن رشد أن الغزالي غلط في ذلك؛ لأنهم لا يقولون: إن الله لا يعلم الجزئيات أصلًا "بل يرون أنه -تعالى- يعلمها بعلم غير مجانس لعلمنا بها، وذلك أن علمنا بها معلول للمعلوم، فهو محدث بحدوثه ومتغير بتغيره. وعلم الله -سبحانه- بالوجود على مقابل هذا: فإنه علة للمعلوم الذي هو الموجود، ومن شبه المعلمين أحدهما بالآخر، فقد جعل ذوات المتقابلات وخواصها واحدًا، وذلك غاية الجهل"1.
ويشرح هذا القول بأن يقول في "الضميمة" الملحقة عادة بكتاب "فصل المقال"، وفيها يوضح مسألة علم القديم سبحانه، فيقول: "إن الحال في العلم القديم "أي علم الله الأزلي"، مع الموجود خلاف الحال في العلم المحدث "أي علم الإنسان المتوقف على الموجودات" مع الوجود. وذلك أن وجود الموجود هو علة وسبب لعلمنا، والعلم القديم هو علة وسبب للموجود، فلو كان، إذا وجد الموجود بعد أن لم يوجد، حدث في العلم القديم علم زائد، كما يحدث ذلك في العلم المحدث، للزم أن يكون العلم القديم معلولًا للموجود، لا علة له، فإذن واجب أن لا يحدث هنالك تغير كما يحدث في العلم المحدث.
وإما أتى هذا الغلط من قياس العلم القديم على العلم المحدث، وهو قياس الغائب على الشاهد، وقد عرف فساد هذا القياس، وكما أنه لا يحدث في الفاعل تغير عند وجود مفعوله، أعني تغيرًا لم يكن قبل ذلك، كذلك لا يحدث في علم القديم سبحانه تغير عند حدوث معلوم عنه"2.
وإذن ليس يعلم الله الموجود حين حدوثه، وإنما يعلمه بعلم قديم.
"فإذن العلم القديم إنما يتعلق بالموجودات على صفة غير الصفة التي يتعلق بها العلم المحدث، لا أنه غير متعلق أصلًا، كما حكي عن الفلاسفة أنهم يقولون، لموضوع هذا الشك، أنه سبحانه لا يعلم الجزئيات، وليس الأمر على ما توهم عليهم، بل يرون أنه لا يعلم الجزئيات بالعلم المحدث الذي من شرطه الحدوث بحدوثها، إذ كان علة لها، لا معلولًا عنها كالحال في العلم المحدث، وهذا هو غاية التنزيه الذي يجب أن يعترف به"3.
__________
1 ابن رشد: "فصل المقال" ص39.
2 ابن رشد: "ضميمة" في "فصل المقال" ص61.
3 الكتاب نفسه ص62.(1/136)
والغزالي حين يعرض رأي فلاسفة الإسلام في هذه المسألة، يقول: إن منهم من ذهب إلى أنه "أي الله" لا يعلم إلا نفسه، ومن ذهب إلى أنه يعلم غيره، "وهو الذي اختاره ابن سينا: فقد زعم أنه يعلم الأشياء علمًا كليًا لا يدخل تحت الزمان، ولا يختلف بالماضي والمستقبل والآن، ومع ذلك زعم أنه لا يغرب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، إلا أنه يعلم الجزئيات بنوع كلي"1.
وابن رشد "في تهافت التهافت"، يرد على اعتراضات الغزالي على الفلاسفة في هذه المسألة، بأن يقول: إن الأصل في مشاغبة الغزالي على الفلاسفة ها هنا راجع إلى تشبيهه علم الخالق سبحانه بعلم الإنسان، وقياس أحد العلمين على الآخر، وهذا خطأ في التشبيه، لاختلاف علم الخالق عن علم الإنسان، هذا أولًا.
وثانيًا: من قال من الفلاسفة: إن الله إنما يعلم الكليات دون الجزئيات، فالسبب في ذلك أن العلم بالكليات عقل، أما العلم بالجزئيات أي بالأشخاص -فهو حس أو خيال، وتجدد الأشخاص يوجب شيئين: تغير الإدراك، وتعدده، أما علم الأنواع والأجناس -أي علم الكليات- فليس يوجب تغيرًا، إذ علمهما ثابت.
لكن ابن رشد يسلم بأن تعدد الأنواع والأجناس يوجب التعدد في العلم، ولهذا فإن "المتحققين من الفلاسفة لا يضعون علمه -سبحانه وتعالى- بالموجودات: لا بكلي، ولا بجزئي، وذلك أن العلم الذي هذه الأمور لازمة له هو: عقل منفعل ومعلول، والعقل الأول هو فعل محضن وعلة، فلا يقاس علمه على العلم الإنساني، فمن جهة ما لا يعقل غيره، من حيث هو غيره، هو علم منفعل، ومن جهة ما يعقل الغير، من حيث هو ذاته، هو علم فاعل.
__________
1 الغزالي: "تهافت الفلاسفة" ص164.(1/137)
وتلخيص مذهبهم أنهم لما وقفوا بالبراهين على أنه لا يعقل إلا ذاته، فذاته عقل ضرورة، ولما كان العقل، بما هو عقل، إنما يتعلق بالموجود، لا بالمعدوم، قام البرهان على أنه لا موجود إلا هذه الموجودات التي نعلقها نحن، فلا بد أن يتعلق عقله بها، وإذا وجب أن يتعلق بهذه الموجودات: فإما أن يتعلق بها على نحو تعلق علمنا بها -وإما أن يتعلق بها على وجه أشرف من جهة تعلق علمنا بها، وتعلق علمه بها على نحو تعلق علمنا بها: مستحيل، فوجب أن يكون تعلق علمه بها على نحو أشرف، ووجود أتم لها من الوجود الذي تعلق علمنا بها؛ لأن العلم الصادق هو الذي يطابق الموجود.
فإن كان علمه أشرف من علمنا، فعلم الله يتعلق من الموجود بجهة أشرف من الجهة التي يتعلق علمنا به، فللموجود إذن وجودان: وجود أشرف، ووجود أخس، والوجود الأشرف هو علة الأخس، وهذا هو معنى قول القدماء: إن الباري سبحانه وتعالى هو الموجودات كلها، وهو المنعم بها، والفاعل لها، ولذلك قال رؤساء الصوفية: لا هو إلا هو، ولكن هذا كله من علم الراسخين في العلم، ولا يجب أن يكتب هذا ولا أن يكلف الناس اعتقاد هذا، ولذلك ليس هو من التعليم الشرعي، ومن أثبته في غير موضعه فقد ظلم، كما أن من كتمه عن أهله فقد ظلم"1.
وبالجملة، فإن علم الله غير علمنا نحن، إذ علمنا معلول للموجودات، أما علم الله فهو علة لها، "ولا يصح أن يكون العلم القديم على صورة العلم الحادث. ومن اعتقد هذا، فقد جعل الإله إنسانًا أزليًا، والإنسان إلهًا كائنًا فاسدًا"2.
__________
1 ابن رشد: "تهافت التهافت" ص703-705.
2 الكتاب نفسه ص711.(1/138)
جـ- إنكار بعث الأحياء:
والمسألة الثابتة هي إنكار الفلاسفة لبعث الأجساد وسائر أمور المعاد، "وقولهم أن كل ذلك أمثلة ضربت لعوام الخلق لتفهيم ثواب وعقاب روحانيين هما أعلى رتبة من الجسمانية"، ذلك أنهم "قالوا: إن النفس تبقى بعد الموت بقاء سرمديًا: إما في لذة لا يحيط الوصف بها لعظمها، وإما في ألم لا يحيط الوصف به لعظمه. ثم قد يكون ذلك الألم مخلدًا، وقد ينمي على طول الزمان، ثم تتفاوت طبقات الناس في درجات الألم واللذة تفاوتًا غير محصور، كما يتفاوتون في المراتب الدنيوية، ولذاتها تفاوتًا غير محصور، واللذة السرمدية للنفوس الكاملة الذكية، والألم السرمدي للنفوس الناقصة الملطخة، والألم المنقضي للنفوس الكاملة الملطخة، فلا تنال السعادة المطلقة إلا بالكمال والتزكية والطهارة، والكمال بالعلم، والذكاء بالعمل"1.
والغزالي يرى أن أكثر هذه الأمور ليس مخالفًا للشرع، ولكن المخالف للشرع هو إنكارهم حشر الأجساد، وإنكارهم اللذات الجسمانية في الجنة، والآلام الجسمانية في النار، وإنكارهم وجود جنة ونار كما وصفهما القرآن، والسبب في إنكارهم لهذه الأمور هو استحالتها بالدليل العقلي، ولهم في ذلك ثلاثة مسالك:
المسلك الأول: تقدير العود إلى الأبدان لا يعدو ثلاثة أقسام: إما أن يقال: الإنسان عبارة عن البدن والحياة التي هي عرض قائم به، ومعنى الموت انقطاع الحياة، فتنعدم والبدن ينعدم أيضًا، وأما أن يقال: إن النفس موجود، ويبقى بعد الموت، ولكن يرد البدن الأول بجميع تلك الأجزاء بعينها، وإما أن يقال: يرد النفس إلى بدن، سواء كان من تلك الأجزاء أو من غيرها، ويكون العائد هو ذلك الإنسان من حيث أن النفس هي تلك النفس، فأما المادة فلا التفات لها.
وهذه الأقسام الثلاثة باطلة: لأن الأول إيجاد لمثل ما كان، لا إعادة
__________
1 الغزالي: "تهافت الفلاسفة" ص235.(1/139)
لعين ما كان، والثاني، وهو تقرير بقاء النفس ورده إلى ذلك البدن بعينه، باطل؛ لأنه لو عاد لكان ذلك عودًا إلى تدبير البدن بعد مفارقته، وهذا محال؛ لأن بدن الميت ينحل ترابًا، أو تأكله الديدان والطيور، ويستحيل دمًا وبخارًا وهواء، ويمتوج بهواء العالم وبخاره، ومائه امتزاجًا يبعد انتزاعه واستخلاصه.
والثالث، وهو رد النفس إلى بدن إنساني من أية مادة كانت، وأي تراب اتفق -محال من وجهين: أحدهما أن المواد القابلة للكون والفساد محصورة في مقعر فلك القمر لا يمكن عليها مزيد، وهي متناهية، والأنفس المفارقة للأبدان غير متناهية، فلا تفي بها، والثاني أن التراب لا يقبل تدبير النفس ما بقي ترابًا، بل لا بد أن تمتزج العناصر امتزاجًا يضاهي امتزاج النطفة.
والغزالي يختار هذا القسم الثالث، ولا يرى مانعًا من ذلك شرعيًا.
المسلك الثاني أنهم قالوا: "ليس في المقدور أن يقلب الحديد ثوبًا منسوجًا بحيث يتعمم به، إلا بأن تحلل أجزاء الحديد إلى العناصر بأسباب تستولي على الحديد، فتحلله إلى بسائط العناصر، ثم تجمع العناصر وتدار في أطوار الخلقة، إلى أن تكتسب صورة القطن، ثم يكتسب القطن صورة الغزل، ثم الغزل يكتسب الانتظام المعلوم الذي هو النسج على هيئة معلومة ... وإذا عقل هذا فالإنسان المبعوث المحشور لو كان بدنه من حجر، أو ياقوت أو در أو تراب محض، لم يكن إنسانًا، بل لا يتصور أن يكون إنسانًا، إلا أن يكون متشكلًا بالشكل المخصوص، مركبًا من العظام والعروق واللحوم، والغضاريف والأخلاط ... فإذن لا يمكن أن يتجدد بدن إنسان لترد النفس إليه بهذه الأمور"1.
تلك حجج الفلاسفة في إنكار بعث الأجساد ورد الأرواح إلى الأبدان، ووجود النار الجسمانية، ووجود الجنة الجسمانية وسائر أمور المعاد.
__________
1 الغزالي: "تهافت الفلاسفة" ص248.(1/140)
وابن رشد في رده على الغزالي، لا يتناول أقوال الغزالي واحدًا بعد واحد، كما فعل في المسائل التسع عشرة الأخرى، بل يضع تعليقًا عامًا هو أنه لم يتناول واحد من الفلاسفة المتقدمين هذه المسألة بالبحث، وليس لهم فيها قول، إنما وردت هذه الأقوال في الأديان والشرائع، والفلاسفة يرون أن الشرائع ضرورية؛ لأنها تنحو نحو تبرير الناس ليصل الإنسان إلى سعادته الخاصة به، ولبث الفضائل الخلقية في الإنسان، "والفضائل الخلقية لا تتمكن إلا بمعرفة الله تعالى وتعظيمه بالعبادات المشروعة المشروعة لهم "أي للناس" في ملة ملة ... ويرون بالجملة أن الشرائع هي الصنائع الضرورية المدنية، التي تأخذ مبادئها من العقل والشرع ... ويرون -مع هذا- أنه لا ينبغي أن يتعرض، بقول مثبت أو مبطل، في مبادئها العامة، مثل: هل يجب أن يعبد الله تعالى؟ أو لا يعبد؟ وأكثر من ذلك: هل هو موجود، أم ليس بموجود؟ وكذلك يرون في سائر مبادئه مثل القول في وجود السعادة الأخيرة وفي كيفيتها؛ لأن الشرائع كلها اتفقت على وجود أخروي بعد الموت، وإن اختلفت في صفة ذلك الوجود"1.
ومعنى هذا أن الفلسفة لا تتناول شؤون المعاد والأخرويات، وأن على الفيلسوف أن لا يناقض ما جاء به النبي في الملة التي نشأ الفيلسوف عليها. والملل كلها حق عنده، وإن كان عليه مع ذلك "أن يختار أفضلها في زمانه ... وأن يعتقد أن الأفضل يسنح بما هو أفضل منه، ولذلك أسلم الحكماء الذين كانوا يعلمون الناس بالإسكندرية لما وصلتهم شريعة الإسلام، وتنصر الحكماء الذين كانوا ببلاد الروم، لما وصلتهم شريعة عيسى ... ولا يشك أحد أنه كان في بني إسرائيل حكماء كثيرون، وذلك ظاهر من الكتب التي تلفي عند بني إسرائيل المنسوبة إلى سليمان"2.
وينتهي ابن رشد إلى أن الاعتقادات التي وردت بها الشرائع في أمور الآخرة، وإن لم يتناولها البرهان العقلي، والفلاسفة لم يتعرضوا لها، فإنها "أحث على الأعمال الفاضلة مما قيل في غيرها، ولذلك كان تمثيل المعاد لهم "أي للناس" بالأمور الجسمانية أفضل من تمثيله بالأمور الروحانية"3.
__________
1 ابن رشد: "تهافت التهافت" ص865-866.
2 الكتاب نفسه ص868.
3 الكتاب نفسه، ص87.(1/141)
د- براهين وجود الله:
وبعد أن فرغنا من تلك المسائل الثلاث، التي كفر الغزالي بها فلاسفة الإسلام، ورد ابن رشد على أقواله، فلننظر في بعض المسائل الأخرى، وأولها براهين وجود الله.
وابن رشد يرجع هذه البراهين إلى اثنين: برهان مأخوذ من العناية الإلهية بالعالم، وبرهان مأخوذ من الخلق، وهو يفضل البرهان بالحركة، وينقد سائر البراهين: البرهان الغائي، البرهان بالتمييز بين الممكن والواجب "وهو الذي تمسك به خصوصًا الفارابي وابن سينا"، والبرهان بالعلية.
وهو يعرض البرهان بالحركة في شرحه على المقالة الثامنة من كتاب "الطبيعة" لأرسطو، ويشير إليه بإيجاز في "تهافت التهافت" "ص66، نشرة بويج سنة 1930"، ويلخص عرض أرسطو في تلخيصه لكتاب "ما بعد الطبيعة" "ص127-128 طبع حيدر أباد سنة 1365هـ"، هكذا:
"تبين في العلم الطبيعي أن كل متحرك له محرك، وأن المتحرك إنما يتحرك من جهة ما هو بالقوة، والمحرك يتحرك من جهة ما هو بالفعل، وإن المحرك إذا حرك تارة ولم يحرك أخرى، فهو محرك بوجه ما، إذ توجد فيه القوة على التحريك حينما لا يحرك، ولذلك متى أنزلنا هذا المحرك الأقصى للعالم يحرك تارة، ولا يحرك أخرى، لزم ضرورة أن يكون هناك محرك أقدم منه، فلا يكون هو المحرك الأول، فإن فرضنا أيضًا هذا الثاني يحرك تارة، ولا يحرك أخرى، لزم فيه ما لزم في الأول، فباضطرار: إما أن يمر ذلك إلى غير نهاية، أو ننزل أن ها هنا محركًا لا يتحرك أصلًا، ولا من شأنه أن يتحرك لا بالذات ولا بالعرض، وإذا كان ذلك كذلك، فهذا المحرك أزلي ضرورة".(1/142)
هـ- نقد نظرية الصدور:
وينقد ابن رشد القائلين بصدور العالم عن الله بطريق الفيض، وعلى رأسهم الفارابي وابن سينا، وهو في هذا تلميذ مخلص لأستاذه أرسطو.
يقول ابن رشد: "وأما ما حكاه "أي الغزالي" عن الفلاسفة في ترتيب فيضان المبادئ المفارقة عنه، وفي عدد ما يفيض عن مبدأ من تلك المبادئ -فشيء لا يقوم برهان على تحصيل ذلك وتحديده، ولذلك لا يلغي التحديد الذي ذكره: في كتب القدماء.
وأما كون جميع المبادئ المفارقة، وغير المفارقة، فائضة عن المبدأ الأول، وأن بفيضان هذه القوة الواحدة صار العالم بأسره واحدًا، وبها ارتبطت جميع أجزائه حتى صار الكل يؤم فعلًا واحدًا كالحال في بدن الحيوان الواحد المختلف القوى والأعضاء والأفعال، فإنه إنما صار عند العلماء واحدًا، وموجودًا بقوة واحدة فيه، فاضت عن الأول -فأمر أجمعوا عليه؛ لأن السماء عندهم بأسرها هي بمنزلة حيوان واحد"1، وكما أن في الحيوان الواحد قوى عديدة، ولكن تسري فيه قوة واحدة، كذلك "كانت نسبة أجزاء الموجودات من العالم كله نسبة أجزاء الحيوان الواحد من الحيوان الواحد، فباضطرار أن يكون حالها في أجزائه الحيوانية، وفي قواها المحركة النفسانية والعقلية هذه الحال، أعني أن فيها قوة واحدة روحانية -وهي سارية في الكل سريانًا واحدًا- بها ارتبطت جميع القوى الروحانية والجسمانية، ولولا ذلك لما
__________
1 ابن رشد: "تهافت التهافت" ص372-373.(1/143)
كان ها هنا نظام وترتيب، وعلى هذا يصح القول: إن الله خالق كل شيء وممسكه وحافظه، كما قال الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [سورة فاطر: 41] ، وليس يلزم من سريان القوة الواحدة في أشياء كثيرة، أن يكون في تلك القوة كثرة، كما ظن من قال: إن المبدأ الواحد إنما فاض عنه أولًا، واحد، ثم فاض من ذلك الواحد كثرة، فإن هذا إنما يظن به أنه لازم إذا شبه الفاعل الذي في غير الهيولى بالفاعل الذي هو هيولى، ولذلك إن قيل اسم: "الفاعل" على الذي في غير هيولى، والذي في هيولى -فباشتراك الاسم، فهذا يبين لك جواز صدور الكثرة عن الواحد"1.
ويحمل ابن رشد بشدة على هذا المبدأ الذي قال به الفارابي، وقال به خصوصًا ابن سينا، وهو أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، ويلاحظ بوجه عام أن ابن رشد شديد الوطأة على ابن سينا في كثير من المواضع.
وبالجملة يرى ابن رشد في نظرية الصدور، وخصوصًا صدور الواحد عن الواحد، نظرية لا تقوم على مقدمات يقينية، بل هي ظنية، ويحمل بهذه المناسبة على أبي نصر الفارابي، وابن سينا؛ "لأنهما أول من قال هذه الخرافات، فقلدهما الناس، ونسبوا هذا القول إلى الفلاسفة"2.
وهنا يوجه ابن رشد إلى نفسه هذا السؤال ليجيب عنه، فيقول:
"فإن قيل: فما تقول أنت في هذه المسألة -وقد أبطلت مذهب ابن سينا في علة الكثرة، فما تقول أنت في ذلك؟ فإنه قد قيل: إن فرق الفلاسفة كانوا يجيبون في ذلك بواحد من ثلاثة أجوبة: أحدها: قول من قال: إن الكثرة إنما جاءت من قبل الهيولى،
والثاني: قول من قال: إنماجاءت من قبل الآلات.
والثالث: قول من قال: من قبل الوسائط.
__________
1 ابن رشد: "تهافت التهافت" ص374-375.
2 الكتاب نفسه ص397.(1/144)
وحكي عن آل أرسطو أنهم صححوا القول، الذي يجعل السبب في ذلك: التوسط.
قلت: إن هذا لا يمكن الجواب فيه في هذا الكتاب1 بجواب برهاني، ولكن لسنا نجد لأرسطو، ولا لمن شهر من قدماء المشائين هذا القول الذي نسب إليهم، إلا لفرفوريوس الصوري، صاحب مدخل علم المنطق، والرجل لم يكن من حذاقهم.
والذي يجري عندي على أصولهم أن سبب الكثرة هو مجموع الثلاثة الأسباب: أعني: المتوسطات، والاستعدادات والآلات، وهذه كلها قد بينا كيف تستند إلى الواحد، وترجع إليه، إذ كان وجود كل واحد منها بوحدة محضة هي سبب الكثرة، وذلك أنه يشبه أن يكون السبب في كثرة العقول المفارقة اختلاف طبائعها القابلة، فيما تعقل من المبدأ الأول، وفيما تستفيد منه من الوحدانية التي هي فعل واحد في نفسه، كثير بكثرة القوابل له، كالحال في الرئيس الذي تحت يده رئاسات كثيرة، والصناعة التي تحتها صنائع كثيرة، وهذا يفحص عنه في غير هذا الموضع: فإن تبين شيء منه، والأرجع إلى الوحي"2.
ويرجع ابن رشد الاختلاف إلى الاسباب الأربعة: فاختلاف الأفلاك يرجع إلى اختلاف محركيها، واختلاف صورها، واختلاف موادها -إن كان لها مواد، واختلاف أفعالها المخصوصة في العالم، والاختلاف فيما دون فلك القمر يرجع إلى اختلاف المادة، مع اختلافها في القرب والبعد من المحركين لها، وهي الأجرام السماوية، مثل اختلاف النار، والتراب، وبالجملة: المتضادات، وأما السبب في اختلاف الحركتين واختلاف حركاتها، كما تبين ذلك في كتاب "الكون والفساد" لأرسطو.
__________
1 أي "تهافت التهافت".
2 ابن رشد: "تهافت التهافت" ص416-418.(1/145)
وما دام الأمر هكذا، فأسباب الكثرة عند أرسطو: من الفاعل الواحد هي الثلاثة الأسباب، ورجوعها إلى الواحد هو بالمعنى المتقدم، أي كون الواحد سبب الكثرة.
والاختلاف فيما يقع دون فلك القمر، يرجع إلى الأسباب الأربعة: اختلاف الفاعلين، واختلاف المواد، واختلاف الآلات، وكون الأفعال تقع من الفاعل الأول بواسطة غيره، وهذا كأنه قريب من الآلات.
وبهذا يطرح ابن رشد المبدأ القائل بأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، ويؤكد أن الواحد يمكن أن تصدر عنه كثرة، ومرجع هذه الكثرة إلى اختلاف المواد، أو الصور، أو الآلات، أو القرب والبعد من الفاعل الواحد.
ويتبين من هذا كله أن ابن رشد أدرك أن النظام الذي تصوره الفارابي، وفي أثره ابن سينا، نظام الصدور، لم يقل به أرسطو ولا مشاهير المشائين القدماء، وإذا كان فرفوريوس قد قال به فهو؛ لأنه لم يكن من حذاق المشائين، ولو كان على علم أوفى بحال فورفوريوس، لقال أنه ليس من المشائين أصلًا بل هو أفلوطيني.
وإذا كان ابن رشد قد قال مع ذلك بنظرية عقول الأفلاك، فهو في هذا إنما يحذو حذو أرسطو نفسه في الفصل الثامن من مقالة "اللام" من كتاب ما بعد الطبيعة.(1/146)
السياسة:
أما آراء ابن رشد في فلسفة السياسية، فيمكن أن نتلمسها في كتابين من كتبه: الأول هو تلخيصه لكتاب "السياسة" لأفلاطون، والثاني مواضيع متفرقة من تلخيصه لكتاب "الخطابة" لأرسطو.
وللأسف الشديد لم نعثر حتى الآن على الأصل العربي لتلخيص ابن رشد لكتاب "السياسة" "المعروف خطأ باسم "الجمهورية"" لأفلاطون، ولكنه كان موجودًا في مكتبة الأسكوريال إلى سنة 1671، حين احترقت وعنوانه بحسب فهرست مكتبة الأسكوريال القديم1: "أفلاطون في الثلاثة المنسوبة في السياسة المدنية، تلخيص أبي الوليد ابن رشد".
ولكن بقيت لنا الترجمة اللاتينية2 والترجمة العبرية، وهذه الأخيرة نشرها أرفن روزنتال3، مع ترجمة إنجليزية.
وعلى عكس ما زعم روزنثال يتبين من هذا التلخيص، أن ابن رشد رجع مباشرة إلى نص الترجمة العربية القديمة، التي قام بها حنين بن إسحاق "راجع ابن النديم: "الفهرست" ص246، نشرة فلوجل"، لا إلى تلخيص جالينوس، بدليل أنه يتهم جالينوس بسوء فهم أفلاطون.
كذلك استعان ابن رشد بكتاب "النواميس" لأفلاطون، لكننا لا نستطيع أن نقرر بالدقة على من اعتمد: على تلخيص الفارابي للنواميس الذي نشرناه في كتابنا "أفلاطون في الإسلم" "طهران سنة 1974"، أو على تلخيص جالينوس الذي ترجمه حنين بن إسحاق.
ويحاول ابن رشد فيما يسوقه من أمثلة عربية إسلامية، أن يقدم الشواهد لتطبيق ما
يقوله أفلاطون من آراء، فهو يذكر مثلًا ما فعله ابن غانية "ص234-235 من
الترجمة الإنجليزية".
وفي هذا التلخيص يستوفي ابن رشد ما ذكره أفلاطون من آراء في المقالات من الثانية إلى التاسعة من كتاب "السياسة"، أما المقالة العاشرة
__________
1 نشر هذا الفهرست القديم الأب ن. موراتا في مجلة "الأندلس" جـ2 سنة 1934.
2 طبعت في المجلد الثالث، ورقة 174ب-191ن من مجموع مؤلفات أرسطو بشرح ابن رشد، البندقية سنة 1550م.
3 Averroes: Commentary on Plato's Republic, edited ... by E.I.J. Rosenthal, Cambridge. 1956.(1/147)
فيقول عنها ابن رشد أنها ليست ضرورية لعلم السياسة، كما أنها أسطورية، ويلاحظ من كلامه عن المقالة العاشرة ما يلي:
1- أنه لا يقيم وزنًا للحجج الخطابية التي يسوقها أفلاطون،
2- أنه يطرح الأساطير الأفلاطونية، ويشير إلى أسطورة "أر" Er التي يحكيها أفلاطون في المقالة العاشرة من "السياسة" "ص614أ-621ب"، وتتعلق بمصر النفوس في العالم الآخر، ويشير إلى اختلاف آراء القدماء في هذا الموضوع.
3- كذلك لا يقيم ابن رشد وزنًا للبرهان على خلود النفس الذي ساقه أفلاطون في المقالة العاشرة هذه.
وبالجملة فإن تلخيص ابن رشد لكتاب "السياسة"، لأفلاطون يبدل على فهم دقيق، وعلى اطلاع واسع على النظم السياسية اليونانية، لا نجد له نظيرًا في الدقة، ولا حتى عند الفارابي، وقد توطدت هذه المعرفة بالنظم السياسية اليونانية عن طريق تلخيصه لكتاب "الخطابة" لأرسطو، وفي كلا التلخيصين الدليل القاطع على معرفة الفلاسفة الإسلاميين بالنظم السياسية اليونانية، ويتميز ابن رشد بأنه حاول أن يجد شواهد عليها -رغم الفارق العظيم في الأساس- في نظم الحكم القائمة في الدول الإسلامية المعاصرة منها والسابقة.(1/148)
خلاصة
...
القديس توما الأكويني "1225-1274م" أكبر خصم، وفي الوقت نفسه أكبر مستفيد من ابن رشد ومؤلفاته وشروحه، وقد كرس للرد عليه رسالة مشهورة بعنوان: "في وحدة العقل، ضد ابن رشد"، ومن ثم صار أتباع الطريقة الدومينيكانية ألد أعداء ابن رشد، واشتدت الحملة بعد ذلك على ابن رشد بوصفه الممثل الأكبر للفلسفة الإسلامية، وكان أصخب حاملي لوائها ريمون لول "1235-1315م".
وفي مقابل ذلك نجد روجر بيكون شديد الإعجاب بابن رشد، وعلى الرغم من الإدانات المتوالية من السلطات الدينية المشرفة على جامعة باريس في سنة 1271، وسنة 1277 خصوصًا، فقد ظلت مؤلفات، وشروح ابن رشد تحظى بعناية وافرة لدى المشتغلين بالفلسفة في أوروبا في النصف الثاني من القرن الثالث عشر، وعبثًا صنعت الأساطير والأكاذيب حول حقيقة موقف ابن رشد من الدين، فقد ظلت الرشدية تشق طريقها المظفر في جامعات أوروبا كلها، خصوصًا الجامعات الإيطالية، وعلى رأسها جامعة بادوفا "في شمال شرقي إيطاليا بجوار فينيسيا" في القرن الرابع عشر، وما تلاه حتى القرن السادس عشر، بفضل جان دي جاندان Jean de Jandun وبولس البندقي Paul de Venise "المتوفى سنة 1429"، وجايتانو دي تيينا Faetano de Tiene " سنة "1387-1465"، ومن ثم أصبح ابن رشد يعد "سيد العلماء" في يادوفا، حتى قال عنه ميكائيل سافونارولا في سنة 1440، أنه "ملك العبقرية الإلهية التي شرحت كل مؤلفات أرسطو"1.
ذلك أن فلاسفة العصور الوسطى الأوروبية، وجدوا فيه خير شارح لمؤلفات أرسطو، كما وجدوا في كتابه "تهافت التهافت" أقوى مدافع عن الفلسفة، ضد خصومها من رجال الدين.
وإذا كان ابن رشد لم يشيد مذهبًا فلسفيًا قائمًا برأسه، فقد كان بهاتين
__________
1 راجع تفصيل هذا كله في كتاب رينان: "ابن رشد والرشدية" ص164-323.(1/149)
المثابتين صاحب فضل على الفلسفة، أكبر من كثير ممن تنسب إليهم مذاهب فلسفية مستقلة.(1/150)
خاتمة:
بعد هذا العرض لتاريخ الفلسفة الإسلامية، ينثبق السؤال:
هل توجد فلسفة إسلامية حقًا؟
وهو سؤال صار تقليديًا منذ أن وضعه رينان، وأجاب عنه بإجابة قاطعة ربطها بفكرته عن الجنس السامي بعامة، فقال: "إن الفلسفة لم تكن أبدًا، عند الساميين، غير أمر مستعار من الخارج تمامًا، ودون خصب كبير، وتقليد للفلسفة اليونانية"، لكن يسحب هذا الحكم نفسه على فلسفة العصور الوسطى في أوروبا المسيحية، فيقول بعد ذلك مباشرة: "ويجب أن نقرر الشيء عينه فيما يتصل بفلسفة العصور الوسطى"1، وقال أيضًا: "إن الفلسفة لم تكن إلا فترة عارضة episode في تاريخ الروح العربية، والحركة الفلسفية الحقيقية للإسلام، ينبغي أن نبحث عنها في الفرق الكلامية: القدرية، الجبرية، الصفاتية، المعتزلة، الباطنية، التعليمية، الأشعرية، وخصوصًا في علم الكلام، لكن المسلمين لم يطلقوا أبدًا على هذا اللون من المناقشات اسم "الفلسفة"، إذ إن هذا الاسم لا يدل عندهم على البحث عن الحقيقة بعامة، وإنما يدل على فرقة، ومدرسة خاصة هي الفلسفة
__________
1 أرنست رينان: "ابن رشد والرشدية" المقدمة، ص17، مجموع مؤلفاته جـ3 ص17، باريس سنة 1949. وهذا ما قاله في مقدمة الطبعة الأولى سنة 1852.
Ernest Renan:
Ovuvres Completes. T. III.(1/151)
اليونانية ومن يدرسونها، وحين يؤرخ الفكر العربي، فمن المهم جدًا ألا ينخدع المرء بهذا الاشتباه، أن ما يسمى "فلسفة عربية"، ليس إلا قسمًا محدودًا من الحركة الفلسفية في الإسلام، إلى حد أن المسلمين أنفسهم، كادوا أن يجهلوا وجودها"1.
ولم يشأ رينان أن يعدل عن رأيه هذا في مقدمة الطبعة الثانية، رغم ما وجه إليه من نقد، خصوصًا من جانب هنري رتر Henri Ritter، وقرر: "إنني مصمم على اعتقاد أنه لم يهيمن على خلق هذه الفلسفة اتجاه عقائدي كبير dogmatique، أن العرب لم يفعلوا غير أنهم اعتنقوا adopter مجموع المعارف اليونانية، كما قبلها العالم كله حوالي القرنين السابع والثامن"2.
ومن هنا يربط نشأة الفلسفة في الإسلام بحال الفلسفة عند السريان، وفي مدرسة
الإسكندرية في هذين القرنين.
وآراء رينان هذه تحتاج إلى الفحص والنقد:
1- ذلك أنه يخلط في كلامه بين فكرة العنصر والجنس "السامي" من ناحية، وبين فكرة الإسلام بوصفه دينًا من ناحية أخرى، ولهذا يترجح في الرأي بين إنكار وجود فلسفة "عربية"، حينما يقصد العنصر والجنس، وبين الإقرار بوجودها حين يقصد الإسلام، كجماعة شاملة لأجناس عديدة من بينها الجنس الآري "الفرس"، وهذا الاضطراب هو الذي دعا بعض الباحثين المعاصرين3 إلى إثارة مشكلة زائفة، وهي: هل ينبغي تسمية هذه الفلسفة فلسفة "عربية"، أو فلسفة "إسلامية"؟
وفي رأينا أنها مشكلة زائفة؛ لأن المدلول واحد: فهي عربية؛ لأن الكتب المؤلفة فيها قد كتبت باللغة العربية، "إلا في القليل النادر الذي لا يكسر
__________
1 الكتاب نفسه، ص84.
2 الكتاب نفسه، ص120.
3 مثل كوربان في مقدمة كتابه "تاريخ الفلسفة الإسلامية" -H. Corbin: Histoire de la philo sophie Islamique. Paris. 1964.(1/152)
القاعدة، تمامًا كما كتب ديكارت، وليبنتس وكنت بعض مؤلفاتهم باللاتينية إلى جانب لغاتهم القومية، ومع ذلك لم يقل أحد أنهم من رجال الفلسفة "اللاتينية"! "، -وهي إسلامية بمعنى أن أصحابها عاشوا في دار الإسلام، أي داخل نطاق العالم الإسلامي في العصر الوسيط، حتى لو كان البعض منهم لم يعتنق الإسلام دينًا.
2- كما أنه يخلط -وهو خلط لا يزال مستمرًا، بل بولغ فيه كثيرًا في النصف قرن الأخير- بين الفلسفة وبين التفكير بوجه عام، سواء كان لاهوتيًا أو صوفيًا، أو ما أشبه ذلك.
وفي رأينا أنه يجب ألا تطلق الفلسفة، إلا على التفكير العقلي الخالص الذي لا يعترف بملكة أخرى للتفلسف غير العقل النظري المحض، ولهذا لا وجه أبدًا لإدراج علم الكلام الوضعي، والفرق الكلامية المختلفة التي تجول في إطار النصوص الدينية، وتستند إليها في حجاجها -أقول: لا وجه أبدًا لإدراجها ضمن الفكر الفلسفي، ولا بأوسع معانيه.
ومن هنا نرى أن من العبث، بل ومن الإمعان في الجهل بحقيقة الفلسفة، أن نتلمس الفلسفة الإسلامية في غير الفلسفة بالمعنى الدقيق المحدود، أعني البحث العقلي المحض، ولهذا السبب استبعدنا من عرضنا هذا كل من لا ينتبسون إلى الفلسفة بهذا المعنى الدقيق، من أمثال أخوان الصفا والغزالي والسهروردي المقتول؛ لأنهم إما من أصحاب المذاهب المستورة الغنوصية "أخوان الصفا"، أو من الصوفية والمتكلمين الوضعيين "الغزالي"، أو من الصوفية النظريين "السهروردي المقتول"، ومكانهم إنما يقع في تواريخ هذه التيارات.
ووصف هذه المدرسة الفلسفية بأنها "إسلامية"، إنما قصد به المعنى الحضاري والسياسي، أي التي نشأت في إطار الحضارة الإسلامية التي يسودها الإسلام، إذ الفلسفة علم عقلي خالص، وتبعًا لذلك لا تقبل أن توصف بوصف ديني، شأنها شأن العلوم العقلية كالرياضيات والطب(1/153)
والفيزياء والكيمياء، إلخ، فكما لا يجوز لنا أن نصف الهندسة، أو الطب أو الفيزياء بأنها وثنية أو بوذية، أو يهودية أو مسيحية إلخ، فكذلك الشأن في الفلسفة، فإذا ما وصفت هذه العلوم بوصف "إسلامية" مثلًا، فالمقصود بذلك هو المعنى الحضاري والسياسي فحسب.
والآن وقد فرغنا من بيان وجود هذه "الفلسفة الإسلامية"، والشروط التي ينبغي مراعاتها لفهم المقصود منها، يبقى السؤال الآخر، وهو: أين الأصالة في هذه الفلسفة؟
والمقصود "بالأصالة" هنا: "الجيد" فيها بالنسبة إلى الفلسفة اليونانية.
وهنا ينبغي ألا يبالغ المرء في تحديد المعيار، فيطلب أن يكون فيها نظراء أفلاطون وأرسطو، بل ولا لأفلوطين؛ لأن هؤلاء عدموا النظير حتى كنت وهيجل، فمن الإسراف والشطط أن نحط من قدر هذه الفلسفة الإسلامية؛ لأنها لم تنجب أمثال أفلاطون، وأرسطو، وأفلوطين.
لكن حسبها أنها أنجبت شارحًا عظيمًا مثل ابن رشد، وأصحاب مذاهب شاملة في العالم مثل الفارابي وابن سينا، رغم قلة الأفكار الأصيلة التي ابتدعوها.(1/154)
الكندي فيلسوف العرب
حياته
...
الكندي فيلسوف العرب:
أ- حياته:
وأول ثمرة من ثمار انتقال الفلسفة، وعلوم الأوائل اليونانية إلى العالم العربي هي: أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي، الملقب بـ"فيلسوف العرب"، وهو لقب قديم، يذكره ابن النديم في "الفهرست" "ألفه ابن النديم في سنة 377هـ = 987م"، فيقول: "ويسمى فيلسوف العرب" "ص250 س22، نشرة فلوجل"، ويلذ لأصحاب السير أن يذكروا نسبه الطويل، حتى يصل إلى يعرب بن قحطان، وربما كان ذلك ليؤكدوا أنه من أصل عربي صريح لا شك فيه1. وكن أبوه أميرًا على الكوفة، ولاه عليها الخليفة المهدي "خلافة 158-169هـ"، ثم هارون الرشيد "170-193هـ".
__________
1 راجع عن حياته:
أ- ابن النديم: "الفهرست" ص255-261. نشرة فلوجل، ليبتسك، سنة 1872.
ب- صاعد الأندلسي: "طبقات الأمم" ص51-52، طبعة شيخو، بيروت، سنة 1912.
جـ- القفطي: "أخبار العلماء بأخبار الحكماء" ص366-378، نشرة لبرت سنة 1903.
د- ابن أبي أصيبعة: "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" جـ1 ص206-214، القاهرة سنة 1882.
هـ- ابن جلجل: "طبقات الأطباء والحكماء" ص73-74، القاهرة سنة 1955.
و البيهقي: "تتمة صوان الحكمة" ص41، دمشق سنة 1946.
ز- أبو سليمان المنطقي السجستاني: "صوان الحكمة"، تحقيق عبد الرحمن بدوي، طهران، سنة 1974.(1/155)
ولا نعرف تاريخ ميلاده، ولا تاريخ وفاته على وجه التحديد، ولهذا اختلف الباحثون في تقدير تاريخ وفاته: فجعله نلينو حوالي سنة 260هـ "873م"، وماسينيون يحدده بسنة 246هـ "860م"، والشيخ مصطفى عبد الرازق بنهاية سنة 252هـ "864م"، على أساس أن الجاحظ المتوفى سنة 255هـ، يتكلم عن الكندي على أنه متوفى، لكننا لا نعرف متى توفي الجاحظ على وجه التدقيق، وربما كان أرجح الآراء ما ذكره نيلنو وأيده بروكلن، وهو سنة 260هـ "873م".
وحظي الكندي بالشهرة في عهد خلافة خلافة المأمون "198-218هـ = 813-833م"، حتى إن المعتصم اتخذه معلمًا لابنه أحمد، وسيهدي الكندي إلى أحمد هذا عدة رسائل، ومن ثم يمكن أن نفترض أن الكندي ولد حوالي سنة 180هـ "796م" في البصرة، حيث كان لوالده ضياع، كما يقول ابن نباتة "سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون" ص123"، وهذا أرجح؛ لأن أباه كان واليًا على الكوفة.
ثم ذهب إلى بغداد لإتمام دراسته الفلسفية والعلمية، ويعترف أنه غشي أوساط المترجمين من اليونانية والسريانية إلى العربية، خصوصًا يحيى بن البطريق وابن ناعمة الحمصي.
ولما صار معلمًا لأحمد، ابن الخليفة المعتصم بالله "تولى الخلافة من سنة 218هـ حتى سنة 227هـ" صار مرموق المكانة، مما جعله هدفًا للحاسدين، وتآمر ضده محمد وأحمد ابنا موسى بن شاكر، لدى الخليفة المتوكل "232-247هـ"، فأمر المتوكل بضرب الكندي، وسمح لابني شاكر بالاستيلاء على مكتبة الكندي، لكن ظروفًا غير عادية مكنت الكندي من استردادها.(1/156)
مؤلفاته:
ألف الكندي عددًا هائلًا من الرسائل في مختلف فروع علوم الأوائل: الفلسفة، علم النفس، الطب، الهندسة، الفلك، الموسيقى، التنجيم، الجدل الديني، السياسة، وقد أورد كل من ابن النديم والقفطي، وابن أبي أصيبعة ثبتًا بأسماء مؤلفاته، وأقدمها هو ما أورده ابن النديم "في الفهرست" "ص255-261، نشرة فلوجل، ليبتسك سنة 1871"، ويشتمل على 241 عنوانًا، مصنفة كما يلي:
أ- في الفلسفة 22 عنوانًا،
ب- في المنطق 20 عنوانًا،
جـ- في الكريات 8 عنوانات،
د- في الموسيقى 7،
هـ- في علم النجوم 19،
و في الهندسة 23،
ز- في الفلك، 26،
ح- في الطب 22،
طـ- في أحكام النجوم 10،
ي- في الجدل 17،
يا- في علم النفس 5،
يب- في السياسة 12،(1/157)
يج- الأحداثيات "العلل" 14،
يد- الأبعاديات "الأبعاد" 8،
يو- الأنواعيات "أنواع الأشياء ... إلخ"، ومتنوعات متفرقة 33.
فالمجموع عند ابن النديم 241 عنوانًا، وعند القفطي 228، وعند ابن أبي أصيبعة 281.
ولنكتف بذكر ما لا يزال موجودًا منها حتى اليوم، ونقتصر على ما يدخل في ميدان الفلسفة بالمعنى المحدود:
1- كتاب إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى، مخطوط أياصوفيا رقم 4832 "ورقة 43أ-53أ".
2- رسالة إلى أحمد بن المعتصم في الإبانة عن سجود الحرم الأقصى وطاعته لله. المخطوط نفسه ورقة 32أ-34ب.
3- رسالة في حدود الأشياء ورسومها، المخطوط نفسه ورقة 53ب-54ب.
4- رسالة في العقل، المخطوط نفسه ورقة 22ب-23أ.
5- رسالة في كمية كتب أرسطوطاليس، وما يحتاج إليه في تحصيل الفلسفة، المخطوط نفسه ورقة 28أ-31.
6- رسالة إلى علي بن الجهم في وحدانية الله وتناهي جرم العالم، المخطوط نفسه ورقة 5أ- 6أ، ومخطوط تهران، مجلس، جـ2، 634.
7- رسالة في الفعل الحق الأول التام، والفاعل الناقص الذي هو بالمجاز، مخطوط أياصوفيا رقم 4832، ورقة 55ب.
8- رسالة في القول في النفس، المختصر من كتاب أرسطو وأفلاطون، وسائر الفلاسفة، مخطوط في المتحف البريطاني برقم 6069 شرقي ورقة 9ب-12أ، والتيمورية بدار الكتب المصرية رقم 55 ص63-76.(1/158)
9- كتاب الخسوف، مخطوط ليدن رقم 2074.
10- رسالة في أنه "توجد" جوهر، لا أجسام، مخطوط أيا صوفيا 4832 ورقة 34أ.
11- رسالة في مائية ما لا يمكن أن يكون لا نهاية له، وما الذي يقال لا نهاية له، مخطوط أيا صوفيا رقم 4832، ورقة 55أ-55ب.
12- كلام في النفس، مختصر وجيز، المخطوط نفسه ورقة 34أ.
13- رسالة في الحيلة لدفع الأحزان، المخطوط نفسه ورقة 24أ- 27ب.
14- كتاب في الإبانة عن العلة الفاعلة القريبة للكون والفساد، المخطوط نفسه ورقة 35ب، 39أ.
15- رسالة في ماهية النوم والرؤيا، المخطوط نفسه ورقة 9أ-11أ.
16- رسالة إلى أحمد بن محمد الخراساني في إيضاح تناهي جرم العالم، المخطوط نفسه ورقة 113أ- 14أ.
وقد نشر هذه الرسائل البينوناجي، رم. جويدي، ورتر، وفورلاني، وعبد الهادي أبو ريده، وقمنا نحن بنشر رقمي 4و 13 في كتابنا "رسائل فلسفية"، وسنقوم بنشر سائر الرسائل؛ لأن النشرات السابقة بمعزل كلها عن التحقيق النقدي، وسنقوم بالتصحيح فيما نورده عنها دون حاجة إلى التنبيه على ذلك في كل موضع.(1/159)
فلسفته
تمهيدات
مدخل
...
ب- فلسفته:
1- تمهيدات:
أثبتنا1 بالأدلة القاطة أن الكندي لم يكن يعرف اليونانية، وإنما كان يعتمد على الترجمات التي تمت من السريانية، أو اليونانية إلى العربية، ومن مراجعة هذه الترجمات، التي نشرنا معظمها، يتبين لنا أن مصطلحاته قد أخذه كلها من هذه الترجمات نفسها، أما عن إصلاحه لبعض الترجمات "مثل ترجمة "أثولوجيا"، التي قام بها ابن ناعمة الحمصي"، فدوره لا يتعدى إصلاح الأسلوب العربي.
__________
1 راجع كتابنا: "دور العرب في تكوين الفكر الأوروبي" ص164-ص188. ط2، القاهرة، سنة 1967، وكتابنا بالفرنسية- La Transmission de la philosophie grecque ... , pp. 26-32(1/160)
أ- تعريفه للفلسفة:
في رسالة في "حدود الأشياء ورسومها"، أورد الكندي ستة تعريفات للفلسفة، هي:
1- تعريف بحسب الاشتقاق: الفلسفة هي "حب الحكمة؛ لأن "فيلسوف" هو مركب من "فيلا" -وهي "محب"- ومن "سوفيا"، وهي "الحكمة".
2- تعريف بحسب تأثيرها: "أن الفلسفة هي التشبه بأفعال الله تعالى، بقدر طاقة الإنسان- أرادوا أن يكون الإنسان كامل الفضيلة".
وهو تعريف يرجع إلى أفلاطون ""تيئتاتوس" ص176ب"ن ويرد في المقدمات الفلسفية إلى بعض شروح الشراح الإسكندرانيين في القرنين الخامس والسادس، مثل شرح أمونيوس على "مدخل" فرفوريوس "Comms. in Aristot., IV, 3".
3- تعريف للفلسفة "من جهة غايتها": الفلسفة هي "العناية بالموت، والموت عندهم موتان: طبيعي، وهو ترك النفس استعمال البدن، والثاني: إماتة الشهوات -وهذا هو الموت الذي قصدوا إليه؛ لأن إماتة الشهوات هي السبيل إلى الفضيلة، ولذلك قال كثير من أجلة القدماء: اللذة شر، فباضطرار أنه إذا كان للنفس استعمالان: أحدهما حسي والآخر عقلي، كان مما سمى الناس لذة ما يعرض في الإحساس؛ لأن التشاغل بالذات الحسية ترك لاستعمال العقل".
وهذا التعريف مأخوذ هو الآخر عن أفلاطون ""فيدون" 64أ".
4- تعريف من جهة العلة: "صناعة الصناعات، وحكمة الحكم".
5- تعريف آخر: "الفلسفة معرفة الإنسان نفسه، وهذا قول شريف النهاية بعيد الغور، مثلًا أقول: إن الأشياء إذا كانت أجسامًا ولا أجسام، وما لا أجسام "هي": إما جواهر، وإما أعراض، وكان الإنسان هو الجسم والنفس والأعراض، وكانت النفس جوهرًا لا جسمًا، فإنه إذا عرف ذاته، عرف الجسم بأعراضه، والعرض الأول والجوهر الذي هو لا جسم، فإذن إذا علم ذلك جميعًا، فقد علم الكل، ولهذه العلة سمى الحكماء الإنسان: "العالم الأصغر".
وهذا التعريف يقوم على القول المشهور: "أعرف نفسك بنفسك"، مأخوذًا بمعنى غنوصي مما يجعله يرجع إلى القرون الثاني والثالث، والرابع بعد الميلاد. والكندي في موضع آخر ""الرسائل" جـ1 ص260 س7-8"(1/161)
يورد هذه النظرية بالتفصيل، وهي التي تقول: إن الإنسان في نظر الفلاسفة القدماء، عالم صغير؛ لأن فيه توجد كل القوة الموجودة في الكل.
6- والتعريف الأخير للفلسفة هو بحسب جوهرها الخاص: "الفلسفة علم الأشياء الأبدية الكلية: آنياتها ومائيتها وعللها، بقدر طاقة الإنسان".
وهذا التعريف شبيه بما ورد في المقدمات للشروح الإسكندرانية، وبما أورده أرسطو "في كتاب "ما بعد الطبيعة" م ألفا الكبرى، ص982أس 7-22".
وقد أورد الكندي هذه التعريفات الستة دون أن يرجح أحدها.
هذه الحدود الستة يقول أن "ثلاثة منها "منقولة" عن فيثاغورس، واثنان عن أفلاطون، وواحد عن أرسطو، والحد الأول هو أن الفلسفة هي "علم جميع الأشياء الموجودة بما هي موجودة"، والثاني هو أن "الفلسفة هي علم الأمور الإلهية والإنسانية"، والحد الثالث هو أن "الفلسفة هي إيثار الحكمة" -وهذه الحدود الثلاثة هي لفيثاغورس.
والحد الرابع هو أن "الفلسفة هي معاناة الموت، أعني إيثار الموت".
والحد الخامس هو أن "الفلسفة هي التشبه بالله تعالى بحسب الطاقة الإنسانية في علم الحق وفعل الخير"، و"هذان الحدان هما لأفلاطون".
والحد السادس هو أن الفلسفة هي "صناعة الصنائع وعلم العلوم"، وهو الذي حدثنا به أرسطو في المقالة الأولى من كتابه "ما بعد الطبيعة".
وهكذا نجد ابن الطيب يذكر هذه الحدود الستة للفلسفة منسوبة إلى أصحابها، مما يدل على أنه نقل ذلك عن مصدر سرياني مباشرة.
أما الكندي فلم ينسبها إلى أصحابها: فيثاغورس وأفلاطون وأرسطو، مما جعل البعض يتوهم أنها من عنده!(1/162)
ب- معرفته بتاريخ الفلسفة:
مما ورد لنا من رسائل الكندي تبين لنا أن معرفته بالفلسفة اليونانية، اقتصرت على أرسطو، وألمت إلمامًا ضئيلًا بفلسفة أفلاطون، وشملت فلسفة أفلوطين لكن بوصفها فلسفة لأرسطو، فقد كرس رسالة صنف فيها مؤلفات أرسطو، وذكر موضوعاتها بطريقة موجزة جدًا، ونراه يذكر أفلاطون في رسالته المختصة عن النفس، كما أن له رسالة في إيضاح الأعداد المذكورة في محاورة "السياسة" "المعروفة خطأ باسم "الجمهورية""، لكن يبدو أن معرفته بمحاورات أفلاطون كانت ضئيلة للغاية، رغم أن محاورات "طيماوس" و"السياسة" و"النواميس"، كانت قد ترجمت إلى العربية، أما معرفته بأفلوطين فمن خلال كتاب "أثولوجيا أرسطو طاليس"، الذي هو خلاصة موسعة للتساعات الثلاثة الأخيرة "4-6" من "تساعات" أفلوطين، لكنها لم تعرف في العالم العربي إلا منحولة لأرسطو.
الكندي متأثر إذن بأرسطو، دون غيره من الفلاسفة اليونانيين، كل التأثر، إلى حد أننا نستطيع أن نرد جماع آرائه، وعروضه المذهبية إلى أصولها المباشرة في مؤلفات أرسطو، أحيانًا بحروفها، وأحيانًا على سبيل التلخيص، أو الشرح، أو التبسيط.(1/163)
ما بعد الطبيعة
مدخل
...
2- ما بعد الطبيعة:
ونأخذ الآن في بيان أجزاء فلسفة الكندي، ونبدأ بما بعد الطبيعة، أو الفلسفة الأولى:
يقول الكندي: إن الفلسفة الأولى هي أنبل أجزاء الفلسفة، ذلك أنها علم بالحق الأول، الذي هو علة كل حق، ولهذا فإن الفيلسوف الكامل هو من يتعمق في هذا العلم النبيل الشريف، ذلك أن هذا العلم هو العلم بالعلة، والعلم بالعلة أشرف من العلم بالمعلول؛ لأننا لا نكتسب علمًا كاملًا بالشيء، إلا إذا عرفنا علته معرفة كاملة.
وعلم العلة الأولى يسمى عن حق: "الفلسفة الأولى"؛ لأن باقي الفلسفة مندرج في هذا العلم، إذ هو العلم الأول سواء من حيث المرتبة، ومن حيث اليقين، ومن حيث الزمان، وإذا كان شرف العلم بشرف موضوعه كما يقول أرسطو، فإن علم العلة الأولى هو أشرف العلوم، إذ موضوعه أشرف موضوع.
وبعد أن يحدد دور ومكانة الفلسفة الأولى على نحو ما قال أرسطو ""ما بعد الطبيعة"، مقالة ألفًا الكبرى ف2 ص982 أس 8-19، ألفا الصغرى م1 ص993 ب19-23"، ينوه الكندي بما علينا من دين نحو الأقدمين، الذين كانوا يتكلمون لغة غير لغتنا، وعلى الرغم من أنهم لم(1/164)
يبلغوا من الحقيقة إلا مقدارًا جزئيًا، فإن ما حصلوه، مضافًا إلى ما حصله غيرهم، يكون قدرًا لا بأس به من الحقيقة، وعلينا أن نشكر لهم أنهم مكنونا من المشاركة في ثمار تأملاتهم، وسهلوا لنا الفحص عن المشاكل، ويشير ها هنا إلى ما قاله أرسطو، وإن كان يتجاوز في فهم نص ما أورده أرسطو، وعلى كل حال، يريد الكندي أن يعبر عن عرفانه لأولئك الذين نطقوا بالحق، إلى أية ملة أو جنس انتسبوا، ذلك؛ لأن من يطلب الحقيقة فعليه أن ينشدها أين وجدها. وبهذه المناسبة يهاجم رجال الدين الذين يتجرون في الدين والدين منهم براء، ولا يظهرون غيرة على الدين إلا للدفاع عن مناصبهم الزائفة، التي لم يشغلوها عن استحقاق ""الرسائل" جـ1، ص104"؛ لأنه، كما لاحظ، لا دين لمن يقاوم العلم بالأشياء كما هي، ذلك أن العلم بحقائق الأشياء، كما هي تشمل العلم الإلهي، وعلم التوحيد، وعلم الفضائل، وبالجملة: علم كل ما هو نافع. والعلم بهذه الأمور يوصي به الرسل الصادقون الذين بعث الله بهم؛ لأن هؤلاء يقررون ألوهية الله وحده، والسعي نحو الفضائل وتجنب الرذائل، وإلحاحه في توكيد هذا الأمر يدل على أنه، إنما يتوجه إلى أعداء للفلسفة اليونانية من بين رجال الدين، أو المتكلمين المعاصرين له، وربما كانوا أهل السنة والحنابلة الذين انتصروا في خلافة المتوكل "232-247 هـ = 847-861م".
ويقرر الكندي ألا يحفل باعتراضاتهم؛ لأن ما يهمه هو أن يقتاد الجنس البشري إلى الكمال:"الرسائل" جـ1 ص103"، يقول: ينبغي ألا نستحي من استحسان الحق، واقتناء الحق من أين أتى، وإن أتى من الأجناس القاصية عنا والأمم المتباينة".
وبعد أن بين ضرورة الاشتغال بالفلسفة الأولى، راح يتناول مسائلها.(1/165)
أ- موضوع الفلسفة الأولى ومنهجها:
ولبيان موضوع الفلسفة الأولى يميز الكندي بين نوعين من الوجود:
المحسوس، والمعقول، والأشياء إما كلية، وإما جزئية، فالكلية هي الأجناس بالنسبة إلى الأنواع، وهي الأنواع بالنسبة إلى الأفراد، والأفراد تقع تحت الحواس، أما الأجناس والأنواع فلا تقع تحت الحس، وليس لها وجود محسوس، بل تقع تحت العقل.
ولما كانت الموجودات محسوسة ومعقولة، كان البحث عن الحق سهلًا من جهة، عسيرًا من جهة أخرى، ومن يرد تصور المعقول على غرار المحسوس، لا يدركه، كما أن الخفافيش لا تدرك الموضوعات الواضحة في ضوء الشمس.
ونتيجة هذا أن نقرر أن للموجودات المحسوسة علمًا يخصها هو العلم الطبيعي، وللموجودات المعقولة علمًا يخصها هو الفلسفة الأولى.
أما المنهج الواجب اتباعه في البحث في الفلسفة الأولى، فهو البرهان بالمعنى الدقيق، إذ لا يصلح لها المنهج المستخدم في العلم الطبيعي؛ لأنه غير يقيني.(1/166)
ب- اللامتناهي:
ثم يتناول الكندي بعض الموضوعات الأساسية في علم ما بعد الطبيعة، ومنها: اللامتناهي.
ويمهد لبحثه فيه بعرض موجز عن طبيعة الأزلي، يقول في رسالة "في صدد الاشياء ورسومها": إن "الأزلي "هو" الذي لم يكن ليس، وليس يحتاج في قوامه إلى غيره، والذي لا يحتاج في قوامه إلى غيره فلا علة له، وما لا علة له فدائم أبدًا" ""الرسائل" جـ1 ص169 س10-11"، والأزلي لا جنس له "جـ1 ص113" وهو لا يفسد، ولا يستحيل، ولا ينتقل إلى التمام "جـ1 ص114"؛ لأنه "تام أبدًا اضطرارًا" "الموضع نفسه". والجسم له جنس وأنواع، لكن الأزلي لا جنس له، إذن الأزلي ليس جسمًا. وبعبارة أخرى: الجسم لا يمكن أن يكون أزليًا.(1/166)
وبعد أن أكد الكندي هذه المعاني، ساق برهانه على نحو منطقي منظم، لبيان أن الجسم لا يمكن أن يكون لا متناهيًا بالفعل، وإن كان كذلك بالقوة أي بالإمكان.
ومن أجل هذا البرهان يسوق المقدمات التالية، التي يرى الكندي أنها قضايا بينة بنفسها:
أ- كل الأجسام، التي ليس واحد منها أكبر من غيره، متساوية،
ب- والأجسام التي تكون المسافات بين نهاياتها متساوية، هي متساوية بالفعل وبالقوة معًا،
جـ- المتناهي لا يكون غير متناه،
د- إذا أضفنا إلى أحد الأجسام المتساوية جسمًا، لكان أكبرها، وسيكون أكبر من كان قبل إضافة هذا الجسم إليه،
هـ- إذا اجتمع جسمان متناهيان في المقدار، فإن الجسم الناتج عنهما سيكون متناهيًا هو الآخر في المقدار، وهذا صادق على كل جسم، وعلى كل ما له مقدار.
و الأصغر بين شيئين متجانسين يعد الأكبر منهما، أو جزءًًا من هذا.
فإن كان ها هنا جسم لا متناه، فإنه لو فصل عنه جسم متناه في المقدار، فإن الباقي إما أن يكون متناهيًا في المقدار، أو غير متناه في المقدار. فإن كان متناهيًا، فإنه إذا أضيف إليه ما فصل منه "وهو متناه في المقدار"، فإن الجسم المؤلف من كليهما سيكون متناهيًا، لكنه كان قبل هذا الفصل لا متناهيًا. إذن سيكون متناهيًا ولا متناهيًا في وقت واحد، وهذا متناقض ومحال. أما إن كان الباقي لا متناهيًا، فإنه إذا أضيف إليه ما انتزع منه، فإنه إما أن يصير أكبر مما كان قبل هذه الإضافة، أو مساويًا، فإن كان أكبر مما كان، فإن اللامتناهي سيكون أكبر من اللامتناهي، وهذا محال.(1/167)
وبهذا يثبت أنه لا يوجد جسم لا متناه، وبالتالي لا يوجد مقدار لا متناه بالفعل.
ثم إن الزمان كمية، إذن لا يمكن أن يوجد زمان لا متناه بالفعل، إذن للزمان بداية وسيكون له نهاية.
ومن ناحية أخرى، فإن ما يوجد في متناه يجب أن يكون متناهيًا أيضًا، مثال ذلك: الحركة، والكمية، والزمان، والمكان، توجد في جسم، فهي متناهية إذن؛ لأن الجسم متناه.
وإذن فجرم الكل "أي جسم العالم" متناه هو وكل ما يوجد فيه.
ذلك هو البرهان على تناهي جرم العالم، الذي ساقه الكندي في كتابه "إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى"1.
ويعالج نفس الموضوع في رسالة "إلى أحمد بن محمد الخراساني في إيضاح تناهي جرم العالم" ""الرسائل" جـ 1 ص186-192"، ولكنه يسوق البرهان بطريقة رياضية، كذلك عالج الموضوع نفسه وساقه برهانًا مشابهًا في رسالتين أخريين هما: 1- رسالة في مائية ما لا يمكن أن يكون لا نهاية له، وما الذي يقال لا نهاية له" ""الرسائل" ص194-196"، 2- "رسالة إلى علي بن الجهم في وحدانية الله، وتناهي جرم العالم" ""الرسائل" جـ1 ص202-203"، وبين هذه الرسائل الأربع تكرارًا أحيانًا بحروفه، مما يثير الدهشة، لكن ربما كان السبب في ذلك هو اختلاف من وجهت الرسائل إليهم، مما لم يجد معه حرجًا في التكرار.
وإذا تساءلنا الآن عن المصادر اليونانية لكلام الكندي، لوجدناها لدى اثنين:
1- أرسطو في المقالة الثالثة، الفصل الخامس، من كتاب "الطبيعة".
__________
1 راجع "كتاب إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى"، ضمن "رسائل الكندي الفلسفية" جـ1 ص113-116.(1/168)
2- برقلس الأفلاطوني المحدث، الذي أورد ثلاث حجج ضد اللامتناهي بالفعل:
أ- الحجة الأولى أوردها في القضية الأولى من "عناصر الأثولوجيا"، وخلاصتها: استحالة تصور مجموع من لا متناهيات عددية، سيكون بالضرورة أكبر في العدد من اللانهاية، وقد نمى هذه الحجة بالتفصيل في "اللاهوت الأفلاطوني" "المقالة الثانية، الفصل الأول".
ب- والحجة الثانية وردت في "اللاهوت الأفلاطوني" "م2 ف1"، وخلاصتها أن الكثرة المحضة ستكون لا متناهية، وبالتالي لا يمكن معرفتها.
جـ- والحجة الثالثة وردت في "اللاهوت الأفلاطوني" أيضًا "م2 ف1"، وخلاصتها أن الكون المؤلف من كثرة محضة سيتحطم فيه أساس المعرفة؛ لأنه يستبعد -بالفرض- كل واحدة بين العقل وموضوعاته.
كذلك تطرق برقلس إلى نفس الموضوع في شرحه على محاورة "برمنيدس" In Parmenide "1100, 24 ff".
"كتاب اللاهوت الأفلاطوني"، هذا ذكره ابن النديم ضمن مؤلفات برقلس ""الفهرست" ص251، س16، نشرة فلوجل"، ولكنه لم يذكر له ترجمة إلى العربية، ولا إلى السريانية.
أما "الطبيعة" "السماع الطبيعي" لأرسطو، فإن قسطا بن لوقا قد ترجم نصفه الأول، بينما ترجم ابن ناعمة الحمصي نصفه الثاني، فضلًا عن ترجمة إسحاق بن حنين التي نشرناها مع شروح لابن السمح، وابن الطيب ويحيى بن عدي، ومتى "القاهرة في جزئين سنة 1964-1965".
لكن الكندي -على العكس من أرسطو وبرقلس- استخدم برهانه لإبطال اللامتناهي في إبطال الزمان اللامتناهي، والحركة الأزلية الأبدية.
وهاك برهانه: إذا كان قبل كل فترة من الزمان فترة سابقة، وهكذا(1/169)
إلى غير نهاية، فسيكون هناك زمان لا متناه بين الأزلية واليوم الذي نحن فيه. لكن من المستحيل قطع اللامتناهي، إذن لا يمكن أن يوجد بين الأزلية ويومنا الحاضر لا نهاية، فسيكون ثم زمان لا متناه ومتناه معًا، وهذا خلف وإحالة. كذلك إذا نظرنا إلى المستقبل، فإنه سيكون بين يومنا الحاضر وبين الأبدية ما لا نهاية، وإذن سيكون هناك لا متناه ومتناه، وهذا خلف وتناقض، وإذن الزمان ليس لا متناهيًا، ومدة العالم إذن ليست لا متناهية.
يقول الكندي: "لا يمكن أن يكون زمان لا نهاية له بالفعل في ماضيه ولا آتيه، فنقول: إن قبل كل فصل من الزمان فصلًا، إلى أن ينتهي إلى فصل من الزمان لا يكون فصل قبله، أعني إلى مدة مفصولة ليست قبلها مدة مفصولة، لا يمكن غير ذلك، فإن أمكن ذلك، فإن خلف كل فصل من الزمان فصلًا بلا نهاية، فإذن لا ينتهي إلى زمان مفروض أبدًا؛ لأن من لا نهاية في القدم إلى هذا الزمان المفروض فصاعدًا في الأزمنة إلى ما لا نهاية، ما يساوي المدة إلى هذا الزمن المفروض، فإن كان من لا نهاية إلى زمن محدود معلومًا، فإن من ذلك الزمن المعلوم إلى ما لا نهاية من الزمان معلومًا، فيكون إذن لا متناهيًا وهذا خلف لا يمكن، -وأيضًا إن كان لا ينتهي إلى الزمان المحدد حتى ينتهي إلى زمن قبله، ولا إلى الذي قبله حتى ينتهي إلى زمن قبله، وكذلك بلا نهاية -وما لا نهاية له لا تقطع مسافته، ولا يؤتى على آخرها، فإنه لا يقطع ما لا نهاية له من الزمان، حتى ينتهي إلى زمان محدود بتة-
والانتهاء إلى زمن محدود موجود به، فليس الزمان فصلًا من لا نهاية، بل من نهاية اضطرارًا" ""الرسائل" جـ1 ص121-122".
والزمان "كمية متصلة" "الكتاب نفسه جـ1 ص119"، وذلك؛ لأن الآن يشمل
الماضي والمستقبل، وما بينهما من آن لا يبقى، إذ أنه لا يبقى أمام تفكيرنا فيه.
والزمان عنده واحد، لا يختلف باختلاف الأشياء، والزمان ليس الحركة، بل هو عدد يعد بالحركة1، وهذا هو نص تعريف أرسطو للزمان، إذ قال: "الزمان هو عدد الحركة بحسب التقدم والتأخر".(1/170)
جـ- الواحد:
الله واحد، لكن ينبغي أن نحدد بأي معنى نصفه بهذه الصفة، ومن أجل ذلك يدخل الكندي في مناقشة طويلة حول معنى "الواحد" في كتابه "في الفلسفة الأولى" ""الرسائل" جـ1 ص154-162".
فيقرر أولًا أن "الواحد" يقال: إما بالعرض، وإما بالجوهر، أو الماهية. فهو يقال بالعرض في الألفاظ المشتركة والمترادفة، مثل المدية والشفرة والسكين فهما واحد من حيث الموضوع الذي يدلان عليه، وهو القطعة الحادة من الحديد التي تستعمل للقطع، وكذلك الألفاظ المشتركة: مثل "العين" بالنسبة إلى كون اللفظ واحدًا والمدلولات مختلفة.
ويقال الواحد بالجوهر أو الماهية عن الأشياء ذات الماهية الواحدة، وحينئذ يقال بحسب أربع أحوال:
أ- بحسب الاتصال، وهذا يدخل في باب العنصر،
ب- أو بحسب الصورة، وهذا من باب النوع،
جـ- أو بحسب الإسم، وهذا من باب العنصر والصورة معًا،
د- أو بحسب الجنس، وهذا من باب العنصر.
ولما كان "الكثير" يقال في مقابل "الواحد" انقسم "الكثير" وفقًا لنفس الأحوال التي انقسم بحسبها "الواحد"، ولكن على نحو عكسي: فهناك كثرة بحسب الانفصال، أو الصورة، أو الجنس، أو النظير2.
__________
1 راجع رسالة الكندي في الجواهر الخمسة، وقد فقد أصلها العربي، وبقيت ترجمتها اللاتينية التي نشرها ألبينو ناجي A. Nagy في مجموعة "إسهامات في تاريخ فلسفة العصور الوسطى" جـ2، الكراسة5، مونستر سنة 1897.
2 "رسائل الكندي" جـ1 ص159-160.(1/171)
وهذه التقسيمات هي بعينها التي ذكرها أرسطو في كتاب "ما بعد الطبيعة1" "مقالة الدلتا، ف6 ص1016 ب32-1017 أ6".
وبعد أن ساق هذه الأقسام، ناقش كل قسم منها بحثًا عما هو "الواحد" بحق:
أ- الواحد بحق ليس ذلك الذي يطلق على الألفاظ المشتركة أو المترادفة؛ لأنه في هاتين الحالتين يدل على أشياء كثيرة.
ب- وليس هو المقول بحسب العنصر "الأسطقس"؛ لأنه يدل أيضًا على عدة أشياء مثل: الباب والسرير من حيث العنصر الذي هو الخشب،
جـ- وليس هو غيره القابل للقسمة؛ لأن ما لا ينقسم يقال على ما لا ينقسم بالفعل، وما لا ينقسم بالقوة: فالأول هو الذي يصعب جدًا تقسيمه، مثل الماس، لكن الماس أجزاء، فهو كثير وليس واحدًا.
وبعد إسقاط هذه الأحوال قرر أن الواحد بحق ليس عنصرًا، ولا جنسًا، ولا نوعًا، ولا فردًا، ولا فصلًا نوعيًا، ولا خاصة، ولا عرضًا عامًا، ولا حركة، ولا نفسًا، ولا عقلًا، ولا كلًا، ولا جزءًا، بل هو الواحد على الإطلاق، وهذا لا يسمح بأية كثرة، ولا تركيب. والواحد وحدة الحق ليس مادة، ولا صورة، ولا كمًا، ولا نوعًا، ولا يتصف بأية مقولة، ولا يتحرك. إنه وحدة محضة. لا يتكثر أبدًا، ولا ينقسم مطلقًا، وهو ليس زمانًا، ولا مكانًا، ولا موضوعًا، ولا محمولًا، ولا كلًا، ولا جزءًا، ولا جوهرًا، ولا عرضًا.
وهو لا يستمد وحدته من غيره، بل هو الذي يهب الوحدة لكل ما هو واحد. ولا يمكن أن تمتد سلسلة واهبي الوحدة إلى غير نهاية، بل لا بد من التوقف عند واهب أعلى، هو الواحد الحق، الواحد الأول، وكل ما يقبل
__________
1 الكتاب نفسه جـ1 ص160-161.(1/172)
الوحدة فإنما يستمدها منه، وعن الواحد تصدر كل وحدة، وكل ماهية. إنه الخالق، والمبدأ لكل حركة1.
وإذن فالواحد الحق هو الأول، والخالق، والحافظ لكل ما خلق، وهو وحده الجير بوصف الواحد، وما عداه فلا يقال عليه "الواحد" إلا مجازًا.
ونجد في كلام الكندي ها هنا أصداء لما ورد في "أثولوجيا" المنسوب إلى أرسطوطاليس، والذي ترجمه ابن ناعمة الحمصي، وقام الكندي بإصلاح هذه الترجمة لأحمد بن المعتصم بالله.
1- فقد ورد فيه "ص112 من نشرتنا، القاهرة سنة 1955": "الواحد الحق المحض المبسوط المحيط بجميع الأشياء البسيطة، والمركبة الذي هو قبل كل شيء كثير، وهو علة آنية الشيء وكثرته، وهو فاعل العدد، وليس العدد أول الأشياء كما ظن أناس؛ لأن الواحد قبل الاثنين، والاثنين بعد الواحد، وإنما كان من الواحد، وكانا محدودين، وكان الواحد غير محدود؛ لأن الاثنين من الواحد".
2- ورد في ص134: "الواحد المحض هو علة الأشياء كلها، وليس كشيء من الأشياء بل هو بدء الشيء، وليس هو الأشياء، بل الأشياء كلها فيه، وليس هو في شيء من الأشياء، وذلك أن الأشياء كلها إنما انبجست منه، وبه ثباتها وقوامها وإليه مرجعها، فإن قال قائل: كيف يمكن أن تكون الأشياء في الواحد المبسوط، الذي ليس فيه ثنوية ولا كثرة بجهة من الجهات؟ قلنا: لأنه واحد محض مبسوط ليس فيه شيء من الأشياء، فلما كان واحدًا محضًا، انبسجت منه الأشياء كلها ... إن الواحد المحض هو فوق التمام والكمال".
__________
1 الكتاب نفسه جـ1 ص162.(1/173)
د- الله هو العلة الفاعلة للخلق:
والكندي مسلم، فكان طبيعيًا أن يصف الله بأنه خالق الكون، والعلة الفاعلة لإيجاد العالم، ولبيان ذلك يميز بين عدة معان للفعل1، ويبرز منها معنيين:
أ- الأول هو أن الفعل الحق والأول هو فعل الخلق من العدم، ومن الواضح أن هذا النوع من الفعل يختص به الله وحده، الذي هو العلة العليا، وفعله هذا يسمى: الخلق.
ب- والثاني هو أثر الفاعل فيما انفعل.
والفاعل بالمعنى الأول يفعل دون أن ينفعل، ولهذا فإن الفاعل الحق هو الذي يحدث محدثاته دون أن ينفعل، ومن هنا كان الفاعل المحق هو الله، علة الكل، أما وصف سائر الموجودات بالفاعلية، فعلى سبيل المجاز فقط؛ لأنهم ينفعلون بما يفعلون: فأولهم ينفعل بالخالق، وما بعده ينفعل بعضهم عن بعض على التوالي: الثاني بالأول والثالث بالثاني، والرابع بالثالث، إلخ.
فالله هو إذن العلة الأولى لكل المعلولات، وهو فعال دائمًا، ولا ينفعل أبدًا.
وهذا الخلق بالعلة الأولى يتم وفقًا لسلسلة تنازلية تبدأ من الله، وتنزل حتى العالم الذي تحت فلك القمر، لكن النص الذي بين فيه هذه العملية التنازلية مفقود، وهو الجزء الثاني من كتاب "الفلسفة الأولى"، الذي أعلن عنه في نهاية الجزء الأول ""رسائل الكندي" جـ1 ص162 س15-16"، وإليه يشير في مواضع أخرى "مثل: "الرسائل" جـ1 ص251، س2".
__________
1 "رسائل الكندي" جـ1 ص182-184.(1/174)
ويمكن أن نفترض أنه تصور هذه العملية على غرار ما عرضت في "أثولوجيا" أرسطو طاليس "راجع خصوصًا الميمر العاشر".
لكن الفارق بين الكندي، وبين أفلوطين "المؤلف الحقيقي "لأثولوجيا" المنحول على أرسطو طاليس" هو أن الكندي، بوصفه مسلمًا، تصور الخلق على أنه من العدم، وهو تصور يتنافى مع تصور أفلوطين، وسائر الفلاسفة اليونانيين "أفلاطون، أرسطو، الرواقية، إلخ" بلا استثناء، ومن هنا نجد الكندي يلح مرارًا في توكيد فكرة الخلق من العدم، ويسميه "الإيجاد"، كما يسميه "التأييس"1، فهو يقول: "إن الفعل الحقي الأول تأييس الأيسات عن ليس" ""الرسائل" جـ1 ص182"، ويعرف الإبداع بأنه "إظهار الشيء عن ليس" ""الرسائل" جـ1 ص165"، ويقول عن فعل الله للخلق: "فعلة الإبداع هي الواحد الحق الأول" "الرسائل" جـ1 ص162".
ولسنا ندري كيف استطاع الكندي أن يوفق بين فكرة الإبداع، أو الخلق من العدم هذه، وبين قوله بصدور الأشياء بعضها عن بعض في تسلسل تنازلي!
على أننا لا نجد في كل ما تبقى لنا من رسائل الكندي براهين واضحة مفصلة لإثبات وجود الله، وإن أومأ إلى ذلك في ثنايا بعض الرسائل "راجع مثلًا "الرسائل" جـ2 ص62-63".
أما صفات الله فيؤكد الكندي منها: الوحدة، وعدم الاضمحلال، وعدم قابلية النقص بجهة من الجهات وأنه "مبدع الكل، وممسك الكل،
__________
1 "أيس" هي ضد "ليس". و"الأيس" هو وجود الشيء، و"الليس" هو العدم. ومن هنا جاء الفعل: أيس -أوجد، والمصدر: التأييس = الإيجاد، الخلق. وترد هذه الاصطلاحات في ترجمات المترجمين الأوائل "مثل ترجمة "ما بعد الطبيعة" التي قام بها أسطات للكندي، م8 ف2 ص1042 ب س25".(1/175)
ومحكم الكل" ""الرسائل" جـ2، ص63".
ولا يقدم الكندي برهانًأ عقليًا منظمًا لإثبات وجود الله، بل يقتصر على عبارات خطابية عن تدبير العالم، كما يظهر من رسالة في "الإبانة عن العلة الفاعلة القريبة للكون والفساد".(1/176)
العالم
مدخل
...
3- العالم:
أما رأي الكندي في طبيعة العالم، فقد بقي لنا من رسائله في هذا الموضوع ثلاث هي:
أ- "رسالة إلى أحمد بن المعتصم في الإبانة عن سجود الجرم الأقصى، وطاعته لله" ""الرسائل" جـ1 ص244-261".
ب- "رسالة إلى أحمد بن المعتصم في أن العناصر، والجرم الأقصى كروية الشكل" ""الرسائل جـ2 ص48-46".
جـ- "رسالة في الإبانة عن أن طبيعة الفلك مخالفة لطبيعة العناصر الأربعة" ""الرسائل" جـ2 ص40-46".
وتمهيدًا لعرض رأي الكندي نوجز مذهب أرسطو في العالم، العالم عند أرسطو "ينقسم قسمين متباينين يفصل بينهما فلك القمر: قسم تحت فلك القمر هو الأرض وما حولها، وهو يخضع للكون والفساد، وقسم فوق فلك القمر أوسع جدًا من الأول، ولا يخضع لعوامل الكون والفساد، بل يخضع لنظام ثابت"، على أن العالم كله متناه، فليس خارج السماء شيء، ولا يمكن أن يكون خارجها شيء، ولهذا ينكر الخلاء؛ لأن الخلاء هو المكان الذي ليس فيه جسم ... والسماء عند أرسطو كروية ... لأنه من بين الأشكال الفراغية تحتل الكرة "أو الفلك" المقام الأول والأسمى، والعالم مؤلف من(1/177)
كرة تطوي في داخلها كل الأجسام الغريبة عن الجوهر السماوي، ومن سلسلة من الأكر "جمع: كرة" الفلكية ذات المركز الواحد "أي أنها متداخلة"، ويماس بعضها بعضًا، وهذه الأكر "أو الأفلاك"، تتألف كلها من الجوهر غير القابل للفساد، أعني من الأثير ...
ويعقد أرسطو فصلًا رئيسيًا في كتاب "السماء" "المقالة الثانية، الفصل 14" لإثبات كروية الأرض، وحججه في هذا على نوعين: نوع يقوم على الرصد والملاحظة، وبها يثبت أن الأرض كروية، والنوع الثاني يقوم على الاستنباط من مبادئ علم الفيزياء، ويفسر لنا هذه الكروية ... ثم يمضي أرسطو إلى إثبات أن مركز الأرض هو مركز العالم ... ويحاول أن يثبت أيضًا أن الأرض غير متحركة، وأرسطو يتحدث عن السماء بمعنى أنها الكل، أو العالم، وهو يبدأ بإثبات أن العالم متناه"1.
وبهذه الآراء كلها قال الكندي، وكل ما فعله أنه ساق براهين رياضية مفصلة آخذها عن بطليموس لإثبات بعض هذه الآراء، فهو في رسالة "في أن العناصر والجرم الأقصى كروية الشكل"، يثبت هذا الرأي ببرهان سائق إلى المحال ينتهي منه إلى تقرير أن "الأرض -اضطرارًا- تكون كروية على وسط الكل" ""الرسائل" جـ2 ص52"، ويتلوه ببرهان على أن سطح الماء كروي أيضًا.
وفي رسالة "في الإبانة على أن طبيعة الفلك مخالفة لطبائع العناصر الأربعة" ""الرسائل" جـ2 ص40-66" يبين أن الفلك لا يتصف بأية صفة من صفات العناصر الأربعة سواء في الكيفية، والسرعة والإبطاء، والخفة والثقل، وأنه ليس بخفيف ولا ثقيل، ولا حار، ولا بارد، ولا رطب ولا يابس، ولإثبات ذلك يبدأ بأن يحدد أن "الطبيعة هي الشيء الذي جعله الله علة، وسببًا لعلة جميع المتحركات والساكنات عن حركة"، ولما كان الفلك
__________
1 من مقدمة نشرتنا لترجمة كتاب "أرسطو طاليس: في السماء والآثار العلوية"، ص ط- يج. القاهرة، سنة 1961.(1/178)
بسيطًا، كانت حركته بسيطة، أما المركب من البسائط، فلا بد أن تكون حركته مركبة من حركات ما ركبت منه من الأجرام، فأما الفلك فإن حركته في موضعه أبدًا أيام مدته، لا تقف بتة"، والعناصر الأربعة وهي: الأرض، والماء، والهواء، والنار متضادة بالحركة، ولهذا فهي متضادة بالكيفيات: إذ النار أسبق الأشياء حركة في الوسط، ولهذا تضاد الأرض "التي هي أسبق الأشياء في الحركة إلى الوسط، بالكيفية الفاعلة الثقل والخفة، إذ النار حارة يابسة، والأرض باردة يابسة ... وكذلك ضاد الهواء الماء بالقوة الفاعلة، إذ ضاده بالخفة والثقل، واتفقا في الرطوبة ... وضاد الماء النار بالكيفيتين جميعًا: الفاعلة والمنفعلة، فإن النار حارة وهو بارد، والنار يابسة وهو رطب ... وكذلك ضاد الهواء الأرض بالكيفيتين جميعًا، الفاعلة والمنفعلة، فإن الهواء حار رطب، والأرض باردة يابسة، لمضادته إياها بالحالين معًا: بالخفة والثقل والسرعة والإبطاء" ""الرسائل" جـ2 ص44".(1/179)
المكان:
ويتناول الكندي مسألة "المكان" في كتابه "الجواهر الخمسة" "الباقي لنا في ترجمته اللاتينية التي نشرها ألبينو ناجي"، فأشار إلى اختلاف الفلاسفة في تحديده؛ لأنه غامض لطيف: فقال البعض: إنه ليس ها هنا مكان ألبتة وقال البعض الآخر: إنه جسم، كما قال أفلاطون، وقال بعض ثالث: إنه موجود، غير أنه ليس بجسم. أما أرسطوطاليس فقال: إن المكان مشاهد وظاهر Fore inirentum cet - manifestum".
ويدلي الكندي برأيه فيثبت وجود المكان بالقول بأن زيادة الجسم أو نقصه، أو حركته تقتضي وجود حاو يجري فيه ذلك، وهذا الحاوي يبقى مع فساد المحويات، وإذن المكان موجود.
وبعد أن بين أن المكان موجود، بين أن المكان ليس جسمًا، وإنما هو السطح الذي هو خارج الجسم الذي يحويه المكان، والمكان لا يتكون من(1/179)
الهيولى ذات الطول والعرض والعمق، بل من الهيولى ذات الطول والعرض دون العمق، والهيولى ذات الطول والعرض دون العمق يسمى سطحًا، ويقال: هو التقاء أفقي المحيط والمحاط به".
وهكذا يقدم الكندي ثلاثة تعريفات للمكان: 1- "أنه سطح خارج الجسم"، 2- أنه "نهايات الجسم"، 3- "التقاء أفقي المحيط والمحاط به".
وهو في هذا حائر بين ما أورده أرسطو من احتمالات لتعريف المكان، وذلك حين قال أرسطو أن المكان لا بد أن يكون واحدًا من أربعة أشياء: الصورة، الهيولى، المسافة بين النهايات نفسها1، ويرفض أرسطو صراحة الثلاثة الأولى منها، وينتهي إلى الرابع القائل بأن المكان "هو نهاية الجسم الحاوي، التي عندها يتصل بالجسم المحوي"، "ويقصد بالجسم الحاوي ما يمكن أن يحرك حركة نقلة" "ص212 أس 5-7"، وينتهي أخيرًا إلى التعريف النهائي للمكان بأنه: "النهاية الأولى غير المتحركة للحاوي" "ص212 أس 20".
على أن أرسطو يقول بعد ذلك قبيل نهاية هذا الفصل الرابع من المقالة الرابعة "من كتاب "الطبيعة" أنه "لهذا السبب أيضًا يتصور المكان على أنه نوع من السطح أو أنه بمثابة وعاء، أعني حاويًا لشيء، وكذلك المكان يتطابق مع الشيء؛ لأن النهايات تتطابق مع الشيء ذي النهايات "أو بترجمة أخرى: لأن الحدود تتطابق مع المحدود"2.
__________
1 أرسطو: "الطبيعة" م4 ف4 ص211 ب س6-9.
2 الكتاب نفسه م4 ف4 ص211 ب س 29-30.(1/180)
الجرم الأقصى أو الفلك:
والفلك أو الجرم الأقصى، كما يسميه الكندي حي وعاقل ""الرسائل" جـ1 ص247"، وذلك؛ لأن الفلك جسم، وكل جسم إما حي، أو غير حي، فالفلك إما حي، أو غير حي، وكل علة طبيعية هي إما عنصر، أو صورة، أو فاعل، أو غاية من أجلها يفعل الفاعل، والفلك ليس عنصرًا للكائنات؛ لأن العنصر المكون يتحول من صورة إلى صورة، لكن الفلك لا يتحول ولا يتغير.
والفلك ليس أيضا صورة؛ لأن الصورة لا تنفصل عن العنصر، أما الفلك فمفارق.
والفلك ليس غاية الكون؛ لأن غاية الكون أمر عارض للجسم.
فلم يبق إلا أن نقرر أن الفلك علة فاعلة لكل ما يكون، وهو علة فاعلة قريبة.
والكائن أو الحادث إما متنفس، أو غير متنفس، إذن الفلك هو العلة الفاعلة القريبة لكل ما هو حادث، وفاسد داخل الفلك.
فالفلك علة فاعلية قريبة للموجود المتنفس القابل للفساد، إنه هو العلة القريبة للحياة في الجسم الحي المتنفس1.
والفلك جسم يحدث الحياة في الكائنات التي تحته: وإيجاده لها إما بنصوص، أو بالمحبة، أبو بالقوة.
والحرم الأقصى حي أبدًا بالفعل، وهو الذي يهب -اضطرارًا "أي بالضرورة" الحياة للكائنات الحادثة.
ولم يتولد الفلك من شيء آخر، بل خلق من العدم، إن الفلك "غير مكون من غيره، بل مبدع إبداعًا عن ليس، وليس بفاسد إلى غيره ... "لأن" كل فاسد فإلى ضد فساده يفسد، وأنه لا ضد للفلك"2.
__________
1 راجع "رسائل الكندي" جـ1 ص247-248.
2 "رسائل الكندي" جـ1 ص253.(1/181)
والفلك لا يغتذي، ولا يتذوق، ولا يشم، ولا يلمس. لكن له الحاستين النبيلتين وهما: السمع، والبصر، إذ بهاتين الحاستين تحصل الفضائل.
ولما كانت الأجرام السماوية حية، وما هو حي فله الإحساس، وليس للأجرام السماوية من الإحساس إلا السمع والبصر، وهما قادران على اقتناء الفضائل، فلا بد من سبب لوجود هذين الحسين؛ لأن الطبيعة لا تفعل شيئًا عبثًا أو بدون سبب، فهما إذن في الأجرام السماوية كيما يكونا علة للعقل والتمييز، فالأجرام السماوية "أو الفلكية" لها ملكة التمييز، فهي بالضرورة عاقلة.
لكنها ليست في حاجة إلى قوة غضبية، ولا إلى قوة شهوانية؛ لأنها لا تحتاج إلى الحفاظ على هيئاتها بالكون، ولا التعويض عما يسيل منها؛ لأنها لا تتغير، فليس لها إذن إلا القوة العاقلة "الناطقة -على حد تعبيره"1.
وينتهي الكندي إلى القول بأن "الكل" على هيئة حيوان واحد2.
__________
1 راجع "رسائل الكندي" جـ1 ص255.
2 راجع "رسائل الكندي" جـ1 ص261.(1/182)
علم النفس
مدخل
...
4- علم النفس:
علم النفس عند الكندي متأثر بأرسطو وأفلاطون معًا.
وهو يرى أن النفس بسيطة، شريفة، تامة. وجوهرها من الجوهر الإلهي، كما يأتي الضوء من الشمس، والنفس متميزة من البدن، وهي جوهر روحي، إلهي؛ لأن طبيعتها تنافي كل ما يطرأ على البدن، مثل الشهوات والغضب.
وهذه النفس حين تفارق البدن، تعرف كل ما في العالم، ولن يخفى عليها شيء. والدليل على ذلك ما ذكره أفلاطون من أمر كثير من الحكماء الأطهار الأقدمين، الذين تخلصوا من عوارض الدنيا، وكرسوا نفوسهم للبحث في الحقائق، فأدركوا المستور، وعرضوا أسرار النفوس، فإن كان الأمر هكذا والنفس لا تزال مرتبطة بالبدن، فكم بالأحرى تستطيع إذا غادرت البدن وعاشت في عالم الحق حيث نور الله؟ لقد صدق أفلاطون حين عقد هذا التشبيه، ويضيف أفلاطون أن من جعل همه في هذه الدنيا الاستمتاع بأطايب الطعام، واللذات الجنسية، فإنه لن يستطيع بنفسه الناطقة أن يصل إلى معرفة هذه الأشياء النبيلة، ولن يستطيع التشبه بالله، وأفلاطون -هكذا يقول الكندي- يشبه القوة الشهوانية في الإنسان بالخنزير، والقوة الغضبية بالكلب، والقوة الناطقة "العاقلة" بالملك، ويرى أن من استولت عليه القوة الشهوانية، فهو كالخنزير، ومن استولت عليه القوة الغضبية، فهو كالكلب،(1/183)
ومن استولت عليه قوة النفس النطقية، ويتجرد للتفكير والبحث عن حقائق الأشياء، واكتناه الأسرار -هو رجل فاضل قريب من التشبه بالله، ذلك أن صفات الله هي: الحكمة، والقدرة، والعدل، والخير، والجمال، والحق، وبهذا يشارك في صفات الله1.
ويورد الكندي أقولاًا لمن سماه أفسقوس، يقول فيها: إن النفس إذا زهدت في الشهوات استنكفت عن الأدناس، واهتمت بالبحث ومعرفة حقائق الأشياء -فإنها تصير مصقولة ... ، وتتحد بها صورة نور الله، فينعكس فيها نور الله، وتبدو فيها صور جميع الأشياء، كما تتجلى صور المحسوسات في المرآة الصقيلة.
وهذه النفس لا تنام أبدًا، لكنها لا تستعمل الحواس إبان النوم، ولو كانت النفس تنام، لما عرف الإنسان ما يراه في الحلم، ولا غيره مما يراه في اليقظة، وإذا بلغت النفس تمام الصفاء، شاهدت في النوم أحلامًا رائعة، وأورت مع النفوس التي تركت أبدانها، ووهبها الله نوره ورحمته، هنالك تستشعر لذة دائمة تفوق كل لذائذ الطعام والشراب والفسق، والسمع والبصر واللمس.
ونحن في هذه الدنيا كما لو كنا على معبر يمر عليه المسافرون، ولن نبقى فيها طويلًا، إن مقامنا الحق هو في العالم العلوي الشريف الذي ستنتقل إليه النفوس بعد الموت، حيث تكون بقرب الخالق، ونوره، وهنالك تنعم بنوره ورحمته2.
__________
1 راجع "الرسائل" جـ1 ص261.
2 راجع "الرسائل" جـ1 ص276-277.(1/184)
محل النفس بعد الموت:
وفي مسألة محل النفس بعد الموت يعتمد الكندي على ما قاله أفلاطون من أن مقام النفس بعد الموت هو من وراء الفلك، في العالم الإلهي، حيث نور الخالق.
لكن لا تذهب، كل نفس تترك بدنها فورًا إلى هذا المقام؛ لأن بعض النفوس تغادر أبدانها وهي ملطخة بالأدناس، ولهذا فإن بعضها يذهب إلى فلك القمر حيث يقضي هناك فترة من الزمن، فإذا ما تطهرت وتهذبت، ترقت إلى فلك عطارد حيث تمضي فترة من الزمن، فإذا ما تطهرت ترقت إلى الفلك الأعلى، وصارت نقية من كل أناس الحواس، وهنالك تصعد إلى عالم العقل، وتتجاوز الفلك الأقصى "السماء الأولى"، وتقيم في أشرف محل، وهنالك تعرف كل الأشياء، صغيرها وكبيرها، ويكل الله إليها جزءًا من تدبير العالم، وقدرة هذه النفس تصير مشابهة لبعض المشابهة لقدرة الله1.
وينتهز الكندي هذه المناسبة ليحث الناس على التطهير من الشهوات الدنية. يقول: "ولا وصلة إلى بلوغ النفس إلى هذا المقام، والمرتبة الشريفة في هذا العالم، وفي ذلك العالم إلا بالتطهير من الأدناس"2.
__________
1 راجع "الرسائل" جـ1 ص278.
2 "الرسائل" جـ1 ص278.(1/185)
العقل:
للإسكندر الأفروديسي رسالة صغيرة "في العقل"1، ترجمت إلى العربية، وكان لها تأثير هائل في الفلاسفة المسلمين، وفيها يقسم العقل إلى ثلاثة أنواع:
1- العقل الهيولاني،
2- العقل المستفاد،
3- العقل الفعال.
__________
1 نشرناها ضمن مجموعة بعنوان: "شروح على أرسطو مفقودة في اليونانية" ص31-42، بيروت، المطبعة الكاثوليكية، سنة 1971.(1/185)
والأول سمي بذلك لشبهه بالهيولى "المادة"، وهو العقل بالقوة عند أرسطو، وهو خال من كل تحديد، وليست له صورة، لكن يمكنه أن يتخذ أية صورة، ويبقى طالما كان الإنسان حيًا، ويفنى بفنائه.
أما العقل بالملكة أو العقل المستفاد، فلم يذكره أرسطو، وفيه توجد المبادئ التي هي المقولات الأولى.
وأعلى هذه العقود الثلاثة العقل الفعال: إنه مثل النور الذي يضيء لنا المعقولات، وبواسطته ينتقل العقل الهيولاني من القوة إلى الفعل.
أما الكندي فيقسم العقل إلى أربعة أنواع:
1- عقل بالفعل دائمًا -وهو العقل الفعال،
2- عقل بالقوة.
3- عقل ينتقل -في النفس- من القوة إلى الفعل -وهو العقل بالملكة.
4- عقل بياني "أو بائن".
ويمكن إدراك الفارق بين هذين النوعين الأخيرين بأن نقول: إن العقل الثالث هو الذي اكتسب الملكة، والعقل الرابع هو الذي يمارس ما اكتسب: الثالث مثل الطبيب الذي تعلم الطب لكنه لا يمارسه بالفعل، والرعب مثل الطبيب الذي يمارس مهنة الطب بالفعل، والتفرقة -كما هو واضح- ضئيلة.(1/186)
5- دفع الأحزان:
وللكندي رسالة "في الحيلة لدفع الأحزان"1، تندرج في نوع فلسفي أدبي هو: التعزي بالفلسفة، من أشهر نماذجه رسالة بالعنوان الأخير: "التعزي بالفلسفة" De consolatione philosophiqae، ألفها بوئتيوس "حوالي 475-524 بعد الميلاد" أثناء سجنه، وقد كان سياسيًا رومانيًا وفيلوسوفًا، واتهم بالتآمر ضد ثيودوريك، ملك القوط الذي كان يحكم إيطاليا من روما، فجرد من منصبه قنصلًا في سنة 510، وسجن في بافيا، ثم أعدم في سنة 524م، وفي هذا الكتاب يجري المؤلف حوارًا مع الفلسفة، فتكشف هذه له عن سرعة تقلب الحظوظ في الدنيا، وعدم أمان أي شيء سوى الفضيلة.
والكندي في رسالته التي وجهها إلى صديق، طلب منه أن يضع كتابًا في دفع الأحزان يبدأ بأن يبين أن كل ألم لا يعرف سببه لا يرجى شفاؤه، ولهذا ينبغي بيان سبب الحزن، ليمكن وصف الدواء منه، ولهذا يعرف الحزن بأنه ألم نفساني ناتج عن فقد أشياء محبوبة، أو عن عدم تحقيق رغبات مقصودة، وعلى هذا فإن سبب الحزن هو إما فقد محبوب، أو عدم تحقق مطلوب، فلننظر هل يمكن إنسانًا من الناس التخلص من هذين السببين.
__________
1 نشرها لأول مرة هلموت رترور فلتسر تبعًا لمخطوط أيا صوفيا رقم 4832، جـ2 ورقة 23أ- 26ب، ولكنها نشرة حافلة بالأغلاط، لهذا قمنا بنشرها من جديد في كتابنا: "رسائل فلسفية"، بنغازي، سنة 1967؛ طبعة ثانية بيروت، 1980.(1/187)
من الواضح أن الإنسان لا يستطيع أن يحصل على كل ما يرغب فيه، أو أن يكون بمأمن من فقد محبوباته؛ لأنه لا دوام لشيء في هذا العالم، عالم الكون والفساد، الذي نعيش فيه، أما البقاء فيوجد بالضرورة في العالم المعقول، الذي نستطيع أن نستشرف بأبصارنا إليه، فإن أردنا ألا نفقد محبوباتنا، وأن نحقق مطلوباتنا فعلينا أن نتطلع إلى العالم المعقول، ونختار فيه محبوباتنا وقنياتنا، حينئذ نكون واثقين أنه لن يسلبنا قنياتنا أحد، ولن تستولي عليه يد أجنبية، ولن نفقد محبوبًا لنا؛ لأنه لن يطرأ عليها آفة، ولن ينالها الموت، ولن تضيع مرغوباتنا؛ لأن المرغوبات الفعلية يوآزر بعضها بعضًا، أما القنيات الحسية فمبذولة لجميع الناس، ومعرضة للضياع، وليست بمأمن من الفساد والتغير.
وفي سبيل ذلك علينا ألا نرغب إلا فيما هو ميسور لنا؛ لأن من يطلب ما لا يمكنه أن يناله يطلب ما لا يوجد، وعلينا ألا نأسف على ما يفلت منا، وعلينا أن نطلب إذن ما هو ممكن، إذا لم نجد ما نرغب فيه، ومن يحزن لافتقاره إلى ما هو هالك، لن يفنى حزنه أبدًا، إذ سيجد دائمًا أنه سيفقد صديقًا، أو محبوبًا، وسيفوته مطلوب.
وبعد هذا الاستهلال البليغ، يأخذ الكندي في بيان العلاجات التي بفضلها يمكن دفع الأحزان:
1- أول الأدوية وأسهلها أن يعتبر المرء الحزن، ويقسمه إلى نوعين: حزن ناشئ عن شيء يتوقف أمره على إرادتنا، وحزن ناشئ عن شيء يتوقف أمره على إرادة الغير، فإن كان الأمر راجعًا إلينا، فليس لنا أن نحزن؛ لأننا نستطيع أن نمتنع من السبب في هذا الحزن ونزهد فيه، وإن كان راجعًا إلى الغير، فإما أن نستطيع التوقي منه، أو لا نستطيع، فإن استطعنا، فعلينا أن نحتمي منه ولا نحزن. وإن لم نستطع، فليس لنا أن نحزن قبل أن يقع؛ لأنه قد يحدث ألا يقع من فاعل سببه، أما إذا كان حزننا من أمر لم يصبنا بعد، فمنه نجلب على أنفسنا حزنًا لم يدع إليه داع.(1/188)
ومن يحزن يؤذ نفسه، ومن يؤذ نفسه يكن أحمق ظالمًا، ولهذا يجدر بنا أن ننتظر حتى يقع الدافع إلى الحزن وألا نستبقه.
وإذا ما وقع، فعلينا أن نقصر من مدة الحزن ما استطعنا، وإلا كان ذلك حمقًا وظلمًا.
2- وثاني الأدوية أن نتذكر الأمور المحزنة، التي تعزينا عنها منذ وقت طويل، والأمور المحزنة التي عاناها الآخرون وتعزو عنها، ثم نعد حالة الحزن الماثلة الآن متشابهة لتلك الأحوال المحزنة الماضية والتي تعزينا عنها، وبهذا نستمد قوة وصبرًا.
وبهذه المناسبة ينقل الكندي رسالة بعث بها الإسكندر الأكبر إلى أمه يعزيها، وهو على فراش الموت.
3- وعلينا أن نتذكر أيضًا أن الرغبة في ألا نصاب بشقاء، هو كالرغبة في عدم الوجود؛ لأن المصائب تأتي من كوننا كائنات فانية هالكة، وإذا لم يكن هناك فساد، لم يكن هناك كون، فإن أردنا أن ننجو من المصائب، فإننا نريد بذلك ألا يكون هناك كون ولا فساد، وهذا محال.
4- وعلينا أن نتذكر أيضًا أن ما بين أيدينا مشترك بين الناس جميعًا، وأنه في حوزتنا على سبيل العارية فقط، وليس لنا من الحق فيه أكثر ممن لغيرنا، ومن يملكه إنما يملكه طالما كان في حوزته فقط، ما هو في حوزتنا دائمًا هو الخيرات الروحية وحدها، وهي التي يحق للإنسان أن يحزن لفقدها.
5- وعلينا أن نتذكر أيضًا أن كل ما نملكه مما هو ملك مشترك، هو لدينا بمثابة عارية ممن أعاره وهو الخالق، فله إذن أن يسترده كلما شاء ليعطيه لإنسان آخر. ولو لم يعطه لمن شاءه لما وصل إلينا أبدًا.
وإذا لم يسترد المعير إلا أخس ما أعارنا، فهو كريم معنا إلى أقصى درجة، وعلينا أن نسر بهذا غاية السرور؛ لأنه ترك لنا أشرف ما أعارنا، وعلينا ألا نحزن لما استرد، وتلك علامة دالة على حبه لنا وإيثاره إيانا.(1/189)
6- وعلينا أن نفهم جيدًا أنه إذا كان ينبغي الحزن على المفقودات وما لم نحصله، فينبغي أن نحزن أبدًا، وفي الوقت نفسه ألا نحزن أبدًا، وهذا تناقض فاضح؛ لأنه إذا كان سبب الحزن هو فقد القنيات الخارجة عنا، فإنه إذا لم تكن لنا قنيات خارجية لن نحزن؛ لأننا لن نفقدها ما دمنا لم نملكها، وإذن علينا ألا نملك شيئًا حتى لا نفقده، فيكون فقدانه مسببًا للحزن، لكن ألا نملك شيئًا هو مصدر دائم للحزن، ولهذا ينبغي أن نحزن دائمًا، سواء اقتنينا أو لم نقتن، إذن يجب ألا نحزن أبدًا، وأن نحزن أبدًا! وهذا محال.
لكن علينا أن نقلل من قنياتنا، لنقلل من أحزاننا، ما دام فقدها يولد الحزن.
وبهذه المناسبة يسوق الكندي حكاية تقول: إن نيرون، إمبراطور روما، أهدي قبة عجيبة من البلور، فسر بها كثيرًا، ومدحها كثير من الحاضرين، وكان بينهم فيلسوف، فساله نيرون رأيه في القبة فأجاب الفيلسوف قائلًا: إنها تكشف عن فقر فيك، وتنبئ بمصيبة ستحدث لك. فقال نيرون: وكيف؟ فقال الفيلسوف: لأنك إن فقدتها، فلا أمل في أن تظفر بمثلها، وهذا يكشف عن حاجة فيك إلى مثلها، ولو حدثت لها حادثة أودت بها، لنالك من ذلك شقاء غظيم، ويقال: إن هذا ما حدث فعلًا، فقد ذهب نيرون للنزهة ذات يوم إلى جزيرة قريبة، وأمر بوضع القبة بين المتاع لكي توضع في حديقة، فغرقت السفينة التي تحملها، فكان ذلك سببًا لحزن نيرون.
7- إن الله لم يخلق مخلوقًا دون أن يزوده بما يحتاج إليه، إلا الإنسان؛ لأنه وقد زود بالقوة التي بها يسيطر على الحيوان ويحكمه ويوجهه، فإه يجهل أن يحكم نفسه، وهذا دليل على نقص العقل، وحاجة الإنسان لا تنقضي، مما ينشأ عنه الحزن والهم، ولهذا فإن من يهتم باقتناء ما لا يملك من الأشياء الخارجة عنه لا تنقضي غمومه وأحزانه.
8- وحال الناس في عبورهم في هذا العالم الفاني حال خداعة، تشبه(1/190)
حال أشخاص أبحروا في سفينة إلى مكان هو مقامهم، فاقتادهم الملاح إلى موفأ ألقى فيه مرساته للتزود بالمؤونة، وخرج الركاب للتزود ببعض الحاجات. فبعضهم اشترى ما يحتاج إليه وعاد إلى السفينة، وشغل مكانًا مريحًا فيها. والبعض الآخر لبثوا لمشاهدة المروج ذات الأزهار اليافعة والروائح الطيبة، ووقفوا يستمعون إلى الأطيار، ثم لم يجاوزوا مكانًا قريبًا من السفينة، ثم عادوا إليها بعد أن أشبعوا حاجاتهم، فوجدوا أيضًا أماكن مريحة فيها، وفريق ثالث انصرف إلى جمع الأصداف والأحجار، وعادوا مثقلين بها، فلما عادوا إلى السفينة، وجدوا من سبقوهم قد احتلوا الأماكن المريحة، فاضطروا إلى شغل أماكن ضيقة، واهتموا بالمحافظة على الأحجار والأصداف التي جمعوها، مما أوقع الهم في نفوسهم، وفريق رابع وأخير توغلوا في المروج والغابات، ناسين سفينتهم ووطنهم، وانهمكوا في جمع الأحجار والأصداف والأزهار، ونسوا وطنهم والمكان الضيق الذي ينتظرهم في السفينة، ونادى الملاح على المسافرين، فلم يستطع هذا الفريق الأخير سماع ندائه، ورفع المرساة تاركًا إياهم معرضين للأخطار القاتلة: فبعضهم التهمته الوحوش الكاسرة، والبعض غار في الهوي، وساخ بعضهم في الطين، وبعضهم عضته الأفاعي، وهكذا صاروا جيفًا نتنة.
وهذا المثل ينطبق على حالنا في هذه الدنيا! فعلينا ألا نشغل بما يؤدي إلى الأحزان من جميع القنيات، والانعكاف على الشهوات، حتى نستطيع أن نجد مكانًا فسيحًا في السفينة التي ستقلنا إلى الوطن الحق، وهو العالم المعقول.
9- وعلينا أيضًا أن نتذكر أنه ينبغي علينا ألا نكره ما ليس رديئًا، وأن نكره ما هو رديء، فهذا من شأنه أن يحمينا من كثير من الأشياء الحسية المحزنة.
فمثلًا نحن نعتقد أنه لا شيء أسوأ من الموت، لكن الموت ليس شرًا، وإنما الشر هو الخوف من الموت؛ لأن الموت تمام لطبيعتنا، وبدون الموت، لن(1/191)
يوجد إنسان أبدًا؛ لأن تعريف الإنسان هو أنه حيوان عاقل فان، فلو لم يكن موت، لم يكن إنسان؛ لأنه إن لم يمت، لم يكن إنسانًا، ولخرج عن طبيعة الإنسان، والأمر السيئ هو ألا نكون ما نحن إياه، وبالتالي الشيء السيئ هو ألا نموت، وإذن فالموت ليس بشر.
10- وأخيرًا يجب أن نتذكر، إذا أحسسنا بفقد شيء، ما بقي لنا من قنيات مادية وعقلية، ناسين مفقوداتنا الماضية؛ لأن تذكر ما يبقى لنا يعزينا عما فقدناه.
ومن الحق أن نقول أن من لا يملك الأشياء الخارجة عنه يملك ما يستعبد الملوك، ويتغلب على أقوى أعدائه الجاثمين في داخل نفسه، وهي الشهوات.
تلك خلاصة رسالة الكندي "في الحيلة لدفع الأحزان"، ونحن نجد لها نظائر بعد ذلك في العربية، نذكر منها ثلاثة:
1- الأولى "رسالة أفلاطون الحكيم إلى فرفوريوس في حقيقة نفي الغم والهم وإثبات الزهد، جوابًا عن سؤال كان سبق إليه"1، وقد ورد فيها حكاية القبة، وكلام سقراط الواردان في رسالة الكندي أيضًا، فهل لهما أصل مشترك؟ هذا محتمل.
2- والثانية "رسالة في تسلية الأحزان" تأليف إيليا الجوهري، ولسنا ندري على وجه التحقيق من هو، لكنه عاش على كل حال في العصر الإسلامي، في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، وقد نشرها ليفي دلافيدا2، تبعًا لمخطوط في الفاتيكان "برقم 1492 عربي".
__________
1 نشرها لأول مرة لويس شيخو في مجلة "المشرق"، سنة 1922، بيروت، اعتمادًا على مخطوط جرجس صفا الموجود الآن بالخزانة التيمورية بدار الكتب المصرية، ونشرناها نحن من جديد في كتابنا: "أفلاطون في الإسلام" ص235-243، طهران سنة 1974 استنادًا إلى مخطوط أيا صوفيا رقم 4801 "ورقة 54أ-ب".
2 في Melanges Engene Tisserant جـ2 ص345-397، الفاتيكان سنة 1964.(1/192)
3- والثالثة رسالة "في علاج الحزن" لمسكويه، نشرها شيخو1.
__________
1 ضمن مجموعة بعنوان Traites inedits d.htm'anciens philosophesarabes. pp. بيروت سنة 1911.(1/193)
خاتمة:
كان الكندي أول فيلسوف عربي، وأول فيلسوف مسلم بوجه عام.
وكان أول من مزج بين الفكر اليوناني، والفكر الديني الإسلامي.
وكان واسع الثقافة، بحيث شملت معرفته كل علوم الأوائل، ولا نكاد نجد بين رجال النهضة في أوروبا من يساويه في اتساع المعرفة، والتحصيل الفلسفي والعلمي.(1/194)
الفارابي
حياته
...
الفارابي:
أ- حياته 1:
وثاني فيلسوف ذي شأن في الفلسفة الإسلامية هو أبو نصر الفارابي، الملقب بـ"المعلم الثاني" في مقابل أرسطوطاليس الملقب بـ"المعلم الأول".
وأبو نصر الفارابي تركي العنصر والبيئة، كان أبوه قائدًا تركيًا فيما يروي بعض المؤرخين، وولد أبو نصر في مدينة وسيج، إحدى مدن فاراب. وفاراب -أو باراب كما تنطق في لهجتها الأصلية- ولاية في حوض سيرداريا، دخلها الإسلام في عصر السامانيين بعد أن غزا نوح بن أزاد مدينة أسبجاب سنة 225 هـ "839 أو 840م"، أي قبل مولد الفارابي بقرابة ثلاثين سنة، وهي منطقة سبحة، ولكن فيها غياضًا ومزارع في غربي الوادي، ولها منعة وناس. أما مدينة وسيج فعلى الشاطئ الغربي من سيرداريا على مسافة فرسخين جنوبي كدر، عاصمة هذا الإقليم الذي تسكنه قبائل تركية من أجنسا الغزية والخزلجية.
وعن هذه البيئة ارتحل الفارابي في سن ناضجة، انتجاعًا لمواطن
__________
1 راجع عنها: القفطي ص277، البيهقي: "تتمة صوان الحكمة" 16-20، ابن خلكان ج4 ص239-243، القاهرة، سنة 1948، الصفدي، جـ1، ص106-113، صاعد الأندلسي: "طبقات الأمم" ص85، ابن أبي أصيبعة جـ2 ص134-145، ابن العماد: "شذرات الذهب" جـ2 ص350-354، وراجع مقالنا في مجلة "الكتاب" سنة 1950 ص891-894.(1/195)
الثقافة في ذلك العهد، وأشهرها في ذلك الحين موضعان: حران "في الجنوب الشرقي من تركيا الآن"، التي انتقلت إليها مدرسة الإسكندرية بعد أن تلبثت قرابة مائة وأربعين سنة في أنطاكية، وكان ذلك في خلافة المتوكل التي استمرت من سنة 232هـ "847م" إلى سنة 247هـ "861م"، فأصبحت حران بذلك وريثة الثقافة اليونانية، وإن لم تستمر بها الدراسة أكثر من أربعين سنة، فقد تخرج فيها -برغم ذلك- نفر ممتاز صاروا أساتذة العلوم اليونانية في بغداد، التي طوت في داخلها معاهد الثقافة الكبرى في ذلك العهد.
ويغلب على الظن أن الفارابي قد طرق أبواب مدرسة حران أولًا، فتلقى أطرافًا من علوم الأوائل على يد شخصية، لا يزال الغموض يحيط بها هي شخصية يوحنا بن حيلان، وقد كان ذا قدم راسخة في المنطق، فقرأ عليه الفارابي من المنطق حتى آخر البرهان.
ثم ارتحل الفارابي إلى بغداد، ولعله ارتحل مع رؤساء مدرسة حران، الذين انتقل جمعهم إلى بغداد في خلافة المعتضد "التي استمرت من سنة 279هـ/ 892م، إلى سنة 289هـ/ 902م"، وفي بغداد أم خصوصًا حلقة أبي بشر متى بن يونس الذي احتل مركز الصدارة في دراسة المنطق آنذاك، وكان واسع الاطلاع على فلسفة أرسطو، كما كان مترجمًا غزير الانتاج، وإن كان سقيم العبارة، مما سيكون له أثره في عبارة الفارابي.
ويلوح أن الفارابي لم يكن ملحوظ المكانة في بغداد بالرغم من مهارته في العلوم الحكمية، وتفوقه على أستاذه أبي بشر؛ لأننا لا نجد فيما بين أيدينا من الوثائق التاريخية، ما عساه أن يكشف عن هذه المكانة، والقصة التي رواها البيهقي في "تتمة صوان الحكمة" "الذي نشره كرد علي بعنوان: "تاريخ حكماء الإسلام" ص32-33، دمشق، سنة 1946"، عما حدث بينه وبين الصاحب بن عباد قصة زائفة، خلط فيها بين شخصية ابن عباد، وشخصية سيف الدولة الحمداني.(1/196)
ولعل عدم بروز مكانته في بغداد، هو الذي حمله على الانتقال عنها إلى بلاط سيف الدولة في حلب، حيث كان هذا الأمير الممتاز يرعى صفوة من أهل الأدب والعلم، وكان ارتحال الفارابي إلى حلب في سنة 330هـ "سبتمبر سنة 942م"، وظل يتنقل بين حلب ودمشق، ويطيل المقام في دمشق حيث الرياض الزاهرة والبساتين العاطرة، والينابيع المتدفقة، وقد كان هذا خير إطار لمزاج الفارابي.
إلى أن خرج من دمشق في جماعة إلى عسقلان على الساحل الجنوبي من فلسطين، فهاجمتهم عصابة من اللصوص، ووقع قتال بين الطائفتين قتل فيه صاحبنا الفارابي سنة 339هـ في شهر رجب "ديسمبر سنة 950م، أو يناير سنة 951م"، فنقل جثمانه إلى دمشق، وصلى عليه سيف الدولة في جملة من خواصه، ودفن بظاهر دمشق، خارج الباب الصغير.
ويبدو من بعض الأخبار أنه ورد مصر وأقام بها زمنًا، إذ يروي ابن خلكان أن الفارابي ذكر في كتابه الموسوم بـ"السياسة المدنية"، أنه ابتدأ تأليفه في بغداد وأكمله بمصر ""وفيات الأعيان" جـ4 ص240"، وفي تعليقه خاصة بكتاب "المدينة الفاضلة"، خبر يقول: إن بعض الناس سأله أن يجعل لهذا الكتاب "فصولًا تدل على قسمة معاينة، فعمل الفصول بمصر"، وهذا يقطع أن الفارابي أقام بمصر حينًا، وأنه كتب فيها صفحات من مؤلفاته.
ويصف ابن خلكان طريقة عيشة الفارابي، فيقول: إنه كان زري الملبس، يلبس أحيانًا قلنسوة بلقاء. "وكان مكبًا على التحصيل، زاهدًا في أمور الدنيا، لا يحتفل بأمر مكسب ولا مسكن، وأجرى عليه سيف الدولة كل يوم من بيت المال أربعة دراهم ... اقتصر عليها لقناعته"، وكان مؤثرًا للوحدة لا يجالس الناس، وكان مدة مقامه بدمشق لا يكون إلا عند مجمع ماء، أو مشتبك رياض، ويؤلف هناك كتبه، ويتناوبه المشتغلون عليه"، ولعل هذا هو الذي يفسر لنا طريقته في التأليف، فقد جاءت "أكثر تصانيفه(1/197)
فصولًا وتعاليق، ويوجد بعضها ناقصًا مبتورًا" "ابن خلكان: "وفيات الأعيان" جـ4 ص242-243، القاهرة سنة 1948".
ويمكن رسم خريطة أسفار الفارابي على النحو التالي:
ارتحل من بغداد في نهاية سنة 330هـ، ثم رحل إلى دمشق، في سنة 331، حيث غشي بلاط سيف الدولة من سنة 334 إلى 336، ورحل إلى مصر سنة 337، وهي السنة التي كانت فيها حكومة دمشق تتبع سلطان مصر، ثم عاد إلى دمشق في سنة 338، حيث توفي في رجب سنة 339هـ، إن قلنا بوفاته في دمشق كما ذكر ابن أبي أصيبعة "جـ2 ص134 س17".(1/198)
ب- مؤلفاته:
ألف الفارابي عددًا ضخمًا من الرسائل والكتب والشروح، ويمكن تصنيفها وحصرها باختصار على النحو التالي:
أ- في المنطق:
1- رسائل: 25 رسالة.
2- شروح على منطق أرسطو: 11 شرحًا.
ب- شروح على سائر مؤلفات أرسطو: 7.
جـ- مداخل إلى فلسفة أرسطو: 4.
د- دفاع عن أرسطو: 2.
ز- عن أفلاطون: 6.
ح- عن بطليموس وأقليدس: 2.
ط- مداخل إلى الفلسفة بعامة: 5.
ي- تصنيف العلوم1.
يا- ما بعد الطبيعة 15.
يب- الأخلاق والسياسة 6.
يج- علم النفس ومتنوعات 37.
يد- الموسيقى وفن الشعر 7.(1/199)
ومعظم هذه المؤلفات مفقود، وبعضها لا يوجد إلا في ترجمات عبرية، ونجتزئ ها هنا بإيراد بعض الكتب المهمة مما نشر1:
أ- في المنطق:
1- كتاب القياس -وهو القياس الصغير.
2- التوطئة في المنطق.
3- فصول تشتمل على جميع ما يضطر إلى معرفته من أراد الشروع في صناعة المنطق، وهي خمسة فصول.
4- رسالة صدر بها أبو نصر محمد بن محمد الفارابي كتابه في المنطق.
وهذه الرسائل الأربع نشرتها -نشرة في غاية السوء- السيدة مباهات تركز ضمن منشورات جامعة أنقرة سنة 1958، المجلد رقم16، ص165-286.
5- كتاب الألفاظ المستعملة في المنطق. نشره د. محسن مهدي، دار المشرق، بيروت، سنة 1968.
6- شرح الفارابي لكتاب أرسطو طاليس في العبارة. نشره فلهلم كوتس واستانلي مرور، بيروت، سنة 1960.
ب- مدخل إلى فلسفة أرسطو:
7- مقالة في أغراض أرسطو طاليس في كل مقالة من كتابه الموسوم بالحروف.
نشره ديتريصي في نشرته لبعض رسائل الفارابي بعنوان: "الثمرة المرضية في بعض الرسائل الفارابية" "ليدن سنة 1890".
__________
1 راجع عنواناتها، وأماكن مخطوطاتها وما نشر منها في كتابنا، Histoire de la philosophie en Islam, 11, pp. 484-496.(1/200)
8- تمجيد رسالة الدعاوي القلبية.
نشر في حيدر أباد سنة 1349.
جـ- في الدفاع عن أرسطو:
9- الرد على يحيى النحوي فيما رد به على أرسطوطاليس.
10- كتاب الرد على جالينوس فيما تأوله من كلام أرسطوطاليس على غير معناه، وقد نشرناهما في كتابنا: "رسائل فلسفية ... " بنغازي، سنة 1973.
د- عن أفلاطون.
11- جوامع كتاب النواميس لأفلاطون.
نشره فرنشسكو جبريلي في لندن، سنة 1952، ونشرناه نحن في كتابنا: "أفلاطون في الإسلام"، طهران سنة 1974.
12- الألفاظ الأفلاطونية، وتقويم السياسة الملوكية والأخلاق نشرناه في "أفلاطون في الإسلام".
13- كتاب الجمع بين رأي الحكيمين
نشره ديتريصي في نشرته المذكورة، ص1-33.
هـ- تصنيف العلوم:
14- إحصاء العلوم وترتيبها.
نشر لأول مرة في مجلة "العرفان" بصيدا في سنة 1920 وما تلاها، ونشره نشرة أخرى د. عثمان أمين للمرة الأولى في سنة 1930، والثانية في سنة 1949، ونشره نشرة ثالثة أنجيل جونثالث بالنثيا في مدريد سنة 1932، وأعيد طبعه في مدريد سنة 1953.
و ما بعد الطبيعة:
15- عيون المسائل.
نشره ديتريصي في النشرة المذكورة، ص56-65.(1/201)
16- كلام في الملة.
نشره محمد بن مهدي في بيروت سنة 1968.
17- نصوص في الحكمة.
نشره ديتريصي في الكتاب المذكور ص66-83، ونشر في حيدر أباد سنة 1345هـ.
18- رسالة في الحروف.
نشره محسن مهدي، بيروت، سنة 1970.
ز- الأخلاق والسياسة:
19- المدينة الفاضلة، أو: مبادئ آراء أهل المدينة الفاضلة
نشره لأول مرة ديتريصي في ليدن سنة 1895، وأعاد طبعه د. ألبير نصري نادر في بيروت سنة 1972.
20- السياسات المدنية.
نشره فوزي متري النجار في بيروت سنة 1964.
21- الفصول المنتزعة.
طبعه أولًا دنلوب طبعة رديئة تحت عنوان افتعله هو: "فصول المدني" "! "، ثم نشره من جديد فوزي متري النجار، في بيروت سنة 1971 تحت عنوان "فصول منتزعة".
ح- في علم النفس ومتفرقات:
22- رسالة في معاني العقل.
نشره موريس بويج في بيروت سنة 1938.
23- النكت فيما يصح ولا يصح من أحكام النجوم.
نشره ديتريصي في المجموع المذكور، ص104-114.(1/202)
24- شرح رسالة زينون الكبير.
طبعت في حدير أباد سنة 1349.
25- تعليقات.
طبعت في حيدر أباد سنة 1346هـ.
26- رسالة في مسائل متفرقة.
طبعت في حيدر أباد سنة 1944هـ.
27- رسالة في فضيلة العلوم والصناعات.
طبعت في حيدر أباد سنة 1367هـ.
ط- في الموسيقى وفن الشعر.
28- كتاب الموسيقى الكبير.
نشره ر. أرلانجيه في كتابه La Musique Arabe جـ1 سنة 1930، باريس، وترجمه إلى الفرنسية، في باريس سنة 1935. وأعاد نشره د. الحفني، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة.
29- رسالة في قوانين صناعة الشعر.
نشره لأول مرة آريري في RSO جـ27 ص 266، ونشرناه نحن في كتابنا: "أرسطوطاليس: فن الشعر ... "، ص147-158، القاهرة سنة 1953.(1/203)
جـ- تمهيد إلى فلسفته:
كان الفارابي أوسع الفلاسفة المسلمين اطلاعًا على الفلسفة اليونانية، عرف الكثير من نصوصها في ترجماتها إلى العربية، وعرف تاريخ مدارسها، وكان أول مفسر مسلم لبعض مؤلفات أرسطو.
وهو قد عرض لنا عرضًا موجزًا لتاريخ الفلسفة اليونانية، فقال1:
"أن أمر الفلسفة اشتهر في أيام ملوك اليونانيين، وبعد وفاة أرسطوطاليس، بالإسكندرية إلى آخر أيام المرأة2، وأنه لما توفي بقي التعليم بحاله فيها إلى أن ملك ثلاثة عشر ملكًا -وتوالى- في مدة ملكهم من معلمي الفلسفة إثنا عشر معلمًا، أحدهم المعروف باندرونيقوس3، وكان آخر هؤلاء الملوك المرأة2، فغلبها أوغسطس الملك4 من أهل روصية، وقتلها
__________
1 هذا النص ورد في ابن أبي أصيبعة "جـ2 ص135" عن كتاب مفقود للفارابي.
2 يقصد الملكة كليوبطره "69-30ق. م".
3 أندرونيقوس الرودسي، الذي تولى رئاسة المدرسة المشائية بعد سنة 70ق. م بقليل، وهو الذي نشر مؤلفات أرسطو وثيوفرسطس.
4 "أوغسطس" هو اللقب الذي أطلقه مجلس الشيوخ الروماني على أول إمبراطور، وهو جالينوس أوكتافيوس "ولد في روما في 23/ 9/ 63ق. م وتوفي في نولا في 19/ 8/ 14 بعد الميلاد". وقد انتصر على أنطونيوس وكليوبطرة في معركة بحرية تجاه أكتيوم في 21/ 3112ق. م، وصار إمبراطورًا في سنة 27ق. م.(1/204)
واستحوذ على الملك1، فلما استقر له، نظر في خزائن الكتب وصنعها، فوجد منها نسخًا لكتب أرسطوطاليس قد نسخت في أيامه وأيام ثاوفرسطس، ووجد المعلمين والفلاسفة قد عملوا كتبًا في المعاني التي عمل فيها أرسطو، فأمر أن تنسخ تلك الكتب التي كانت نسخت في أيام أرسطو وتلاميذه، وأن يكون التعليم منها، وأن ينصرف عن الباقي، وحكم
أندرونيقوس في تدبير ذلك، وأمره أن ينسخ نسخًا يحملها معه إلى رومية، ونسخًا يبقيها في موضع التعليم بالإسكندرية، وأمره أن يستخلف معلمًا يقوم مقامه بالإسكندرية، ويسير معه إلى رومية، فصار التعليم في موضعين2. وجرى الأمر على ذلك، إلى أن جاءت النصرانية، فبطل التعليم من رومية، وبقي بالإسكندرية، إلى أن نظر ملك النصرانية في ذلك، واجتمعت الأساقفة
وتشاوروا فيما يترك من هذا التعليم، وما يبطل، فرأوا أن يعلم من كتب المنطق إلى آخر الأشكال الوجودية، ولا يعلم ما بعده؛ لأنهم رأوا أن في ذلك ضررًا على النصرانية، وأن فيما أطلقوا تعليمه ما يستعان به على نصرة دينهم، فبقي الظاهر من التعليم هذا المقدار، وما ينظر فيه من الباقي مستورًا، إلى أن كان
الإسلام بعده بمدة طويلة، فانتقل التعليم من الإسكندرية إلى أنطاكية، وبقي بها زمنًا طويلًا، إلى أن بقي معلم واحد، فتعلم منه رجلان وخرجا، ومعهما الكتب: فكان أحدهما من أهل حران، والآخر من أهل مرو، فأما الذي من أهل مرو،
فتعلم منه رجلان أحدهما إبراهيم المروزي، والآخر يوحنا بن حيلان، وتعلم من الحراني إسرائيل الأسقف وقويري، وساروا إلى بغداد فتشاغل إبراهيم بالدين، وأخذ قويري في التعليم. وأما يوحنا بن حيلان، فإنه تشاغل أيضًا بدينه، وانحدر إبراهيم المروزي إلى بغداد فأقام بها، وتعلم من المروزي متى بن يونان".
وهذا العرض -رغم الأخطاء التاريخية في التفاصيل- يقرب من
__________
1 الذي فعل ذلك هو سولا Sylla القائد الروماني "138-78ق. م".
2 في روما وفي الإسكندرية.(1/205)
الحقيقة التاريخية في مجموعه.
كذلك يقدم لنا الفارابي في رسالته: "فيما ينبغي أن يقدم قبل تعلم الفلسفة" "نشرة ديتريصي ص49-55"، تصنيفًا لمدارس الفلسفة اليونانية إلى سبع مدارس بحسب سبعة أمور:
1- بحسب اسم مؤسس المدرسة، وهذه هي المدرسة الفيثاغورية،
2- بحسب اسم البلد التي جاء منها الفيلسوف، وهي المدرسة القورينائية، مدرسة أرسطيفوس الذي من قورينا "قرية شحات حاليًا في برقة بليبيا".
3- بحسب الموضع الذي كانت تدرس فيه الفلسفة، وهي المدرسة الرواقية؛ لأن التعليم كان موضعه في رواق بمعبد مدينة أثينا.
4- بحسب السلوك في الحياة، وهذه هي المدرسة الكلبية؛ لأن سلوك رجالها في الحياة كان يشبه سلوك الكلاب.
5- بحسب الآراء التي يقول بها أصحابها، وهي المدرسة التي تزعمها فورون مؤسس مدرسة الشك، وكان يصرف الناس عن العلم.
6- بحسب الآراء التي يقول بها أصحابها فيما يتعلق بالغاية المنشودة من دراسة الفلسفة، وهي مدرسة "أصحاب اللذة، أي الأبيقورية.
7- بحسب الأفعال التي يقومون بها، وهم يدرسون الفلسفة، وهي المدرسة المشائية، إذ كان أفلاطون وأرسطو يدرسان الفلسفة للناس وهما يتمشيان.
وقد أخذ الفارابي هذا التقسيم بحروفه عن شرح سنبلقيوس على كتاب "المقولات" لأرسطو "ص3-4، نشرة Kalbfleisch"، أو عن حنين ابن إسحاق "راجع القفطي ص25-26".(1/206)
ب- التوفيق بين أفلاطون وأرسطو:
وعن سنبلقيوس أيضًا أخذ الفارابي بعض ما أورده في كتابه "الجمع بين رأيي الحكيمين"، الذي حاول فيه التوفيق بين أفلاطون وأرسطو.
وفي هذا الكتاب يبدأ، فيقرر منزلة هذين الحكيمين، واتفاق الآراء على الإشادة بهما، قال: "ونحن نجد الألسنة المختلفة متفقة في تقديم هذين الحكيمين ... وإليهما يساق الاعتبار، وعندهما ينتهي الوصف بالحكم العميقة، والعلوم اللطيفة، والاستنباطات، والغوص في المعاني الدقيقة، المؤدية في كل شيء إلى الحقيقة"، ثم أشار إلى ما ذهب إليه الناس من اختلاف آرائهما في بعض الأمور، فقال: "زعم بعضهم أن بين الحكيمين إختلافًا في إثبات المبدع الأول، وفي وجود الأسباب عنه، وفي أمر النفس والتعقل، وفي المجازاة على الأفعال: خيرها وشرها، وفي كثير من الأمور المدنية "= السياسية" والخلقية، والمنطقية"، ولهذا رأي أن يوفق -أو على حد تعبيره: يجمع- بين رأييهما، قال: "أردت في مقالتي هذه أن أشرع في الجمع بين رأييهما، والإبانة عما يدل عليه فحوى قوليهما، وليظهر الاتفاق بين ما كانا يعتقدانه، ويزول الشك والارتياب عن قلوب الناظرين في كتبهما، وأبين مواضع الظنون ومداخل الشكوك في مقالاتهما".
ثم يقدم تعريفًا للفلسفة يكون أساسًا في الفصل في هذه الأمور، فيقول: إن الفلسفة "هي العلم بالموجودات بما هي موجودة"، والمذهب يكون صحيحًا إذا انطبق على الموجود.
لكن هذين الحكيمين -أفلاطون وأرسطو- اختلفا في بعض أمور الفلسفة، ولا بد أن يكون هذا الاختلاف راجعًا إلى واحد من الأسباب الثلاثة التالية:
أ- فإما أن الحد المبين عن حقيقة الفلسفة غير صحيح،
ب- وإما أن يكون رأي الجميع، أو الأكثرين واعتقادهم في تفلسف(1/207)
هذين الرجلين فاسدًا وبغير أساس.
جـ- وإما أن معرفة أولئك الظانين بأن بينهما خلافًا هي معرفة مقصرة، فإن فحصنا عن هذه الاحتمالات الثلاثة تبين لنا:
أ- أن الحد الذي ذكرناه للفلسفة صحيح، كما هو بين لمن يفحص أجزاء هذا العلم، إذ موضوعات العلوم إما إلهية، أو طبيعية، أو منطقية، أو رياضية، أو سياسية، "والفلسفة هي المستنبطة لهذه العلوم جميعًا، حتى إنه لا يوجد شيء من موجودات العالم إلا وللفلسفة فيه مدخل، وعليه غرض، ومنه علم".
وهنا تتجلى أولى نقط الخلاف في الظاهر -بين هذين الحكيمين: أفلاطون، وأرسطو، ذلك أن أفلاطون في دراسته لعلوم الفلسفة، فضل استعمال القسمة الثنائية من أجل انتظام مجموع الأحوال الجزئية، بينما فضل أرسطو استخدام القياس والبرهان، لكن هذا لا يعني أن أرسطو رفض القسمة الثنائية، أو أن أفلاطون أنكر قيمة القياس والبرهان، وسيعود الفارابي إلى فضل بيان لهذه النقطة.
ب- والغرض الثاني باطل أيضًا، ذلك؛ لأن الاتفاق بين معظم العقلاء دليل على الحق، بشرط ألا يكون هذا الاتفاق ناتجًا عن التقليد، بل عن البرهان العقلي الدقيق. "ونحن نجد الألسنة المختلفة، متفقة في تقديم هذين الحكيمين، وفي التفلسف بهما تضرب الأمثال، وإليهما يساق الاعتبار".
جـ- فلم يبق إلا الغرض الثالث، وهو أن معرفة من ظنوا أن بينهما خلافًا هي معرفة تتصف بالقصور.
فلنذكر أولًا الأسباب التي دعت إلى ظن من ظن أن بينهما خلافًا، ولنحاول بعد ذلك التوفيق بين هذه الخلافات المزعومة.(1/208)
1- أول نقط الخلاف هي في السلوك في الحياة:
فإن أفلاطون قد تخلى عن كثير من الأسباب الدنيوية، بينما أرسطو قد انغمس في علائق الدنيا، ونال الكثير من مفاخرها، وحاز المال الوفير، وتزوج وأنجب أولادًا، واستوزر للإسكندر، ومن هذا يبدو لأول وهلة أن بين الرجلين خلافًا في النظر إلى السلوك الواجب على الفيلسوف اتخاذه في الحياة.
ويرى الفارابي أن الأمر ليس هكذا، فإن أفلاطون اهتم بشؤون الدنيا و"دون السياسات وهذبها، وبين السيرة العادلة، والعشرة الأنسية المدنية، وأبان عن فضائلها، وأظهر الفساد العارض لأفعال من هجر العشرة المدنية، وترك التعاون فيها"، وكتبه في هذا الباب معروفة، ومختلف الأمم تدرسها منذ أيامه حتى عصرنا هذا، لكنه لما رأى أن المهمة الأولى للإنسان هي تقويم ذاته، ثم تقويم غيره بعد ذلك "على أنه متى فرغ من الأهم الأولى، أقبل على الأقرب الأدنى". لكنه "لم يجد في نفسه من القوة ما يمكنه الفراغ مما يهمه من أمرها، لذا أفنى أيامه في أهم الواجبات عليه"، أي تقويم نفسه.
وأرسطو اتبع تعاليم أفلاطون، كما وجدها في مؤلفاته، ولما عاد إلى ذاته، وجد في نفسه قوة على تقويم نفسه، ثم التعاون مع الآخرين، والاشتغال بكثير من الأمور السياسية.
فمن "تأمل هذه الأحوال، علم أنه لم يكن بين الرأيين والاعتقادين خلاف، وأن التباين الواقع لهما كان سببه نقصًا في القوى الطبيعية في أحدهما، وزيادة في الآخر".
2- طريق التأليف:
وثاني نقط الخلاف -الظاهري- هي في طريقة كل منهما في التأليف، فإن أفلاطون -هكذا يزعم الفارابي خطأ- كان يوصي بعدم التأليف؛ لأنه كان يفضل أن يبث الحكمة في القلوب الطاهرة والعقول الصحيحة، ولما خاف من ضياع علمه وكلمته بسبب النسيان، عمد إلى الرموز والألغاز لتدوين معارفه وحكمته، بحيث لا يفهمها إلا القادرون عليها.(1/209)
أما أرسطو فكان مذهبه التدوين والوضوح والترتيب.
ويبدو للوهلة الأولى أن بين كليهما خلافًا في طريقة التدوين، لكننا إذا تعمقنا الأمر وجدنا أرسطو كثيرًا، ما يلجأ إلى الغموض والتعقيد هو الآخر، ويسوق الفارابي أمثلة على ذلك، ويؤيد رأيه بكلام لأرسطو يقول فيه: "إني وإن دونت هذه العلوم والحكمة، فقد رتبتها بحيث لا يخلص إليها إلا أهلها، وعبرت عنها بعبارات لا يحيط بها إلا بنوها".
3- مشكلة الجواهر:
ونقطة خلاف ثالثة تدور حول مسألة الجواهر أيها الأشرف: الكلي، أم الجزئي؟
ومعظم الذين درسوا مؤلفات أفلاطون وأرسطو يعتقدون بوجود خلاف بينهما في هذه المسألة، إذ يجدون في كثير من مؤلفات أفلاطون ما يدل على أنه يرى أن الجوهر الأشرف، والأقدم هو الأقرب إلى العقل والنفس، والأبعد عن الحس والفرد، بينما يجدون أرسطو في كتبه، خصوصًا في كتاب "المقولات"، وكتاب "الأقيسة الشرطية" "؟ "، يقرر أن الجوهر الأولى بالشرف، والتقديم هو الجوهر الأول أي الفرد، لا الجوهر الثاني أي الكلي، لهذا زعم هؤلاء أن بين كلا الحكيمين خلافًا في هذه المسألة..
والفارابي يقر بوجود هذا الخلاف، ولكنه يعزوه إلى اختلاف السياق، فأرسطو يجعل المفرد هو الجوهر الأشرف، حين يتحدث في المنطق والطبيعيات؛ لأنه يهتم حينئذ بأحوال الموجودات القريبة من الحس، بينما أفلاطون يؤكد أن المفرد هو الأشرف حين يتحدث في الأمور الإلهية وما بعد الطبيعة، فكلما كان السياق مختلفًا، والغرض ليس واحدًا، وقع الخلاف في الظاهر، أما في الواقع فلا خلاف، بل مرجعه إلى اختلاف سياق الكلام.
4- القسمة والبرهان:
يرى أفلاطون أن الحد التام يكون بالقسمة، بينما يرى أرسطو أنه يكون بالبرهان والتركيب.
والفارابي يشبه هذا بسلم يصعد عليه وينزل منه، فالمسافة واحدة،(1/210)
ولكن الاتجاه مختلف بين من ينزل وبين من يصعد، ويبين أنه لا خلاف بينهما ها هنا، بل كلاهما يستهدف نفس الهدف، ولكن في اتجاهين مختلفين، ذلك أن من يلجأ إلى القسمة ينبغي عليه أن يمر بالتركيب بين الجنس والفصل النوعي، ومن يستخدم القياس يجب عليه أن يلجأ إلى القسمة، فالمسلكان متكاملان، وليسا متناقضين.
5- مسائل منطقية: القياس، تقابل القضايا:
ويبين الفارابي ما قيل من خلافات بين أرسطو، وأفلاطون في بعض مسائل المنطق الصوري، وخصوصًا القياس، وتقابل القضايا، ويفصل أوجه الخلاف، وينتهي إلى نوع من التوفيق، مما لا مجال ها هنا لذكره، لطوله وتعقيده.
6- مسائل في الطبيعيات: الإبصار:
ويشير الفارابي ها هنا إلى الخلاف بين أرسطو وأفلاطون في مسألة الإبصار: فأفلاطون يقول: إنه يكون بخروج شيء من العين يلقى موضوع الإبصار، أما أرسطو فيرى أن الإبصار يتم بانفعال يحدث في العين.
ويحاول الفارابي، بعد عرض حجج أنصار كليهما في هذا الموضوع، أن يدلي برأي وسط بينهما، لكنه رأي مقتضب لا يوفق بين رأيي أرسطو وأفلاطون.
7- الأخلاق:
يرى أفلاطون في كتاب "السياسة" "المعروف خطأ بـ"الجمهورية"" أن الطبع يغلب العادة، وأن الكهول الذين يطبعون على خلق يعسر زواله منهم، أما أرسطو فقد صرح في "الأخلاق إلى نيقوماخوس"، أن الأخلاق كلها عادات تتغير، وأن ليس شيء منها بالطبع، وأن في استطاعة المرء أن ينتقل من خلق إلى غيره بالاعتياد والدربة.
ويلاحظ الفارابي أنه ليس في هذا خلاف، وإنما أرسطو يتكلم ها هنا(1/211)
في الأمور المدنية "والكام القانوني يكون أبدًا كليًا ومطلقًا ... ومن البين أن كل خلق إذ نظر إليه مطلقًا علم أنه ينتقل ويتغير، ولو بعسر، وليس شيء من الأخلاق ممتنعًا على التغيير والتبدل، وأما أفلاطون فإنه ينظر في أحوال قابلي السياسات وفاعليتها، وأيها أسهل قبولًا، وأيها أعسر، ولعمري أن من نشأ على خلق من الأخلاق، واتفقت له تقويته، فإن زوال ذلك عنه يعسر جدًا، والعسير غير الممتنع".
والفارابي يشير ها هنا فيما يتعلق بأرسطو إلى قوله في "الأخلاق إلى نيقوماخوس" "المقالة الثانية، فصل1، ص1103 أس16 وما يتلوه"، أما فيما يتعلق بأفلاطون، فمن الصعب أن نجد في كتاب "السياسة" ما يشير إليه، وأقرب موضع إلى ذلك ما ورد في المقالة السابعة "فصل4، ص518".
8- تحصيل العلم:
كذلك يختلف الحكيمان في تفسير تحصيل العلم، فأفلاطون في محاورة "فيدون" يبين أن كل علم تذكر، أما أرسطو فيرى أن الحواس مصدر العلم، وأن من فقد حسًا فقد علمًا.
والفارابي يوفق بين الرأيين بأن يذكر الناس بما قاله أرسطو في أول كتاب "البرهان": "كل تعليم وكل تعلم، فإنما يكون عن معرفة سابقة متقدمة الوجود". ويقول: أليست هذه هي نظرية التذكر عند أفلاطون بعينها!!
ولم نجد هذا النص في كلام أرسطو في كتاب "البرهان"، فلسنا ندري من أين استقاه!
9- مسألة أزلية العالم وأبديته:
يظن الناس أن أرسطو يؤكد أن العالم أزلي أبدي، بينما يقول أفلاطون أن العالم مخلوق في الزمان.
ويرى الفارابي أن الذي ساقه الناس إلى هذا الظن عن أرسطو هو ما(1/212)
قاله في "الطوبيقا" على سبيل المثال، لكن هذا مجرد مثال، وما يقال على سبيل المثال لا يعبر بالضرورة عن اعتقاد من يذكر المثال، فضلًا عن أن أرسطو في "الطوبيقا"، لم يكن بصدد الكلام عن العالم، بل هو يتكلم في الأقيسة التي تتألف مقدماتها من قضايا معروفة بوجه عام.
كذلك دفعهم إلى هذا الظن ما قاله أرسطو في كتاب "السماء والعالم"، من أنه ليس لكل بدء في الزمان، فاستنتجوا من هذا أنه يقول: إن الزمان أزلي. وهذا غير صحيح -هكذا يقول الفارابي- لأنه بين في هذا الكتاب نفسه، وفي كتب أخرى في الطبيعة، والفلسفة الأولى أن الزمان هو مقدار حركة الفلك وحادث عنه، وما هو حادث عن شيء لا يحتوي على هذا الشيء، فحين يقول: إن العالم ليس له بدء في الزمان، فهو يقصد أن العالم لم يتكون جزءًا بعد جزء مثل البيت.
وهكذا ينكر الفارابي أن يكون أرسطو قد أكد أن العالم قديم! ومن الغريب أن يتجاهل الفارابي ما أكده أرسطو بكل وضوح في المقالة الثانية من كتاب "الطبيعة"، لإثبات أزلية الحركة وأبديتها!
10- المثل الأفلاطونية:
ونقطة الخلاف العاشرة بين الحكيمين تتعلق بالمثل التي أكدها أفلاطون، وهاجمها أرسطو بشدة.
وهنا يلجأ الفارابي، من أجل التوفيق بينهما في هذا المجال، إلى ما ورد في كتاب "أثولوجيا" المنسوب خطأ إلى أرسطو، بينما هو في الواقع تلخيص "للتساعات" من 4 إلى 6، لأفلوطين، وما كان أسهل على الفارابي أن يقدم حينئذ مهمة التوفيق! إذ مذهب أفلوطين هو في جملته مذهب أفلاطون، ويحد الفارابي عونًا مسعفًا له في مسعاه في الموضع المشهور من "أثولوجيا"، حيث يقول صاحبه: "إني ربما خلوت بنفسي، وخلعت بدني جانبًا، وصرت كأني جوهر مجرد بلا بدن، فأكون داخلًا في ذاتي، راجعًا إليها، خارجًا من سائر(1/213)
الأشياء- فأكون العلم والعالم والمعلوم جميعًا، فأرى في ذاتي من الحسن والبهاء والضياء ما أبقى له متعجبًا مهتمًا، فأعلم أني جزء من أجزاء العالم الشريف الفاضل الإلهي ذو حياة فعالة، فلما أيقنت بذلك، ترقيت بذاتي من ذلك العالم إلى العالم الإلهي، فصرت كأني موضوع يها متعلق بها، فأكون فوق العالم العقلي، فأرى كأني واقف في ذلك الموقف الشريف الإلهي، فأرى هناك من النور، والبهاء ما لا تقدر الألسن على صفته، ولا تعيه الأسماع"1.
11- الثواب والعقاب في العالم الآخر:
والنقطة الأخيرة تتعلق بمسألة الثواب والعقاب في العالم الآخر، يقول الفارابي: إن البعض يزعم أنه لا أفلاطون ولا أرسطو يعتقدان في وجود عالم آخر، ولا في الثواب والعقاب في عالم آخر، لكن الفارابي يرى أن هذا الزعم غير صحيح: فبالنسبة إلى أرسطو يستشهد الفارابي بالرسالة التي بعث بها أرسطو إلى أم الإسكندر الأكبر يعزيها في ولدها، والرسالة منحولة، وبالنسبة إلى أفلاطون يشير الفارابي إلى كلام أفلاطون في نهاية كتاب "السياسة"، مما يدل على البعث والحساب والميزان والثواب والعقاب، والفارابي إنما يشير ها هنا إلى أرسطو Er الواردة في المقالة العاشرة في كتاب "السياسة" "ص610د، 612أ، 613هـ "وما يتلوها".
__________
1 راجع كتابنا: "أفلوطين عند العرب" ط2 ص22، القاهرة سنة 1966.(1/214)
مذهب الفارابي
العلم الإلهي
مدخل
...
مذهب الفارابي:
أ- العلم الإلهي:
في كتاب "إحصاء العلوم"، يقسم الفارابي العلم الإلهي إلى ثلاثة أجزاء:
"أحدها: يفحص فيه عن الموجودات والأشياء التي تعرض لها بما هي موجودات.
والثاني: يفحص فيه عن مبادئ البراهين في العلوم النظرية الجزئية، وهي التي ينفرد كل علم منها بالنظر في موجود خاص -مثل المنطق والهندسة والعدد، وباقي العلوم الجزئية الأخرى التي تشاكل هذه العلوم- فيفحص عن مبادئ علم المنطق، ومبادئ علم التعاليم "= الرياضيات"، ومبادئ العلم الطبيعي، ويلتمس تصحيحها، وتعريف جواهرها وخواصها، ويحصي الظنون الفاسدة التي كانت وقعت للقدماء في مبادئ هذه العلوم، مثل ظن من ظن في النقطة والوحدة والخطوط والسطوح أنها جواهر، وأنها مفارقة، والظنون التي تشاكل هذه في مبادئ سائر العلوم، فيقبحها ويبين أنها فاسدة.
والجزء الثالث: يفحص فيه عن الموجودات التي ليست بأجسام، ولا في أجسام: فيفحص عنها أولًا: هل هي موجودة، أم لا، ويبرهن أنها موجودة، ثم يفحص عنها: هل هي كثيرة أم لا، فيبين أنها كثيرة، ثم(1/215)
0يفحص عنها: هل هي متناهية أم لا، ويبرهن أنها متناهية، ثم يفحص هل مراتبها في الكمال واحدة أم مراتبها متفاضلة، ويبرهن أنها متفاضلة في الكمال، ثم يبرهن أنها على كثرتها ترتقي من عند أنقصها إلى الأكمل فالأكمل، إلى أن تنتهي في آخر ذلك إلى كامل، لا يمكن أن يكون شيء هو أكمل منه، ولا يمكن أن يكون شيء هو أصلًا في مثل مرتبة وجوده، ولا نظير له ولا ضد، وإلى أول لا يمكن أن يكون قبله أول، وإلى متقدم لا يمكن أن يكون شيء أقدم منه، وإلى موجود لا يمكن أن يكون استفاد وجوده عن شيء أصلًا، -وأن ذلك الواحد هو الأول والمتقدم على الإطلاق وحده، -ويبين أن سائر الموجودات متأخر عنه في الوجود، وأنه هو الموجود الأول الذي أفاد كل واحد سواه الوجود، وأنه هو الواحد الأول الذي أفاد كل شيء سواه: الوحدة، وأنه هو الحق الذي أفاد كل ذي حقيقة سواة: الحقيقة، وعلى أي جهة أفاد ذلك، -وأنه لا يمكن أن يكون فيه كثرة أصلًا، ولا بوجه من الوجوه، بل هو أحق باسم الواحد معناه، وباسم الموجود ومعناه، وباسم الحق ومعناه من كل شيء يقال فيه أنه واحد أو موجود، أو حق سواه -ثم يبين أن هذا الذي هو بهذه الصفات، هو الذي ينبغي أن يعتقد فيه أنه هو الله عز وجل، وتقدست أسماؤه. ثم يمعن بعد ذلك في باقي ما يوصف به الله، إلى أن يستوفيها كلها.
ثم يعرف كيف حدثت الموجودات عنه، وكيف استفادت عنه الوجود، ثم يفحص عن مراتب الموجودات، وكيف حصلت لها تلك المراتب، وبأي شيء يستأهل كل واحد منها أن يكون في المرتبة التي هو فيها، ويبين كيف ارتباط بعضها ببعض وانتظامه، وبأي شيء يكون ارتباطها وانتظامها، ثم يمعن في إحصاء باقي أفعاله عز وجل -في الموجودات، إلى أن يستوفيها كلها، ويبين أنه لا جور في شيء منها، ولا خلل ولا تنافر ولا سوء نظام ولا سوء تأليف، وبالجملة: لا نقص في شيء منها، ولا شر أصلًا.
ثم يشرع بعد ذلك في إبطال الظنون الفاسدة، التي ظنت بالله -عز(1/216)
وجل- في أفعاله بما يدخل النقص فيه، وفي أفعاله وفي الموجودات التي خلقها - فيبطلها كلها ببراهين تفيد العلم اليقين الذي لا يمكن أن يداخل الإنسان فيه ارتياب ولا يخالجه فيه شك، ولا يمكن أن يرجع عنه أصلًا"1.
وهذا العرض المستقصى لموضوع العلم الإلهي، يستدعي الملاحظات التالي:
1- أولًا غموض التقسيم المذكور إلى ثلاثة أجزاء: إذ لا يوجد فارق بين الجزء الأول، وبين الجزء الثالث، فلا محل للتمييز بينهما، والجزء الثاني يلفت النظر؛ لأنه أدخل في العلم الطبيعي منه في العلم الإلهي، أو يدخل بالتعبير العصري في فلسفة العلوم ومنهاجها، وربما الذي دعا الفارابي إلى وضع هذا الجزء الثاني ضمن موضوعات العلم الإلهي، تناول أرسطو لمشكلة الصور الأفلاطونية في مقالتي "المو" و"النو" "المقالتين 13-14 من كتاب "ما بعد الطبيعة""، ونقد تصوير أتباع أفلاطون المباشرين للمثل على أنها رياضية، أو الدليل على ذلك، أشار إليه كمثال لمباحث هذا الجزء الثاني: إبطال ظن من ظن في النقطة والوحدة والخطوط والسطوح أنها جواهر، وأنها مفارقة"، وهو رأي أسبوسبيوس وأكسينوقراط خلفي أفلاطون المباشرين على رئاسة الأكاديمية.
2- وثانيًا يلاحظ أن موضوعات القسم الثالث، قد تجاوزت ما قصده أرسطو بالإلهيات، وما بعد الطبيعة، وهذه نتيجة طبيعية لاستخدام البراهين العقلية لتأييد العقائد الدينية لدى آباء الكنيسة في المسيحية، ولدى رجال مدرسة الإسكندرية، وبخاصة يحيى النحوي، ثم لقيام علم الكلام في الإسلام خصوصًا في القرن الثالث الهجري "التاسع الميلادي"، وبهذا حدد الفارابي للإلهيات موضوعات لم تكن بارزة في إلهيات أرسطو والمشائين: مثل العناية الإلهية، صفات الله وإثبات وجوده، وذلك "ببراهين تفيد العلم
__________
1 الفارابي: "إحصاء العلوم" ص99-101، ط2، القاهرة سنة 1946.(1/217)
اليقين الذين لا يمكن أن يداخل الإنسان فيه ارتياب، ولا يخالجه فيه شك" على حد تعبير الفارابي، أي بالبراهين العقلية المؤدية إلى اليقين الضروري.
والفارابي يتناول موضوعات العلم الإلهي في كتبه كلها تقريبًا، ويكرر نفسه باستمرار من كتاب إلى آخر، وربما كان السبب في ذلك أن كتاباته معظمها تعاليق وفصول متناثرة، ولم يعمد إلى تأليف كتاب في موضوع محدد بعينه، اللهم إلا في القليل النادر مثل رسالة "في معاني العقل"، ورسائله في المنطق.(1/218)
ب- البرهان على وجود الله:
برهان الممكن والواجب:
ولإثبات وجود الله يقدم الفارابي برهانًا أصيلًا، يقوم على أساس التفرقة بين الممكن والواجب، وهو برهان سيأخذه عنه ابن سينا في "النجاة "ص224- 227" و"الشفاء" ""الإلهيات" جـ1 ص37-42، القاهرة سنة 1960"، كما سيأخذه القديس توما.
وصورة البرهان ترد مفصلة في "رسالة زنيون الكبير"1، وفي رواية أكثر إيجازًا في كتاب "عيون المسائل" -فلنجتزئ ها هنا بهذه الرواية الأخيرة الموجزة، يقول الفارابي:
"إن الموجودات على ضربين: أحدهما إذا اعتبر ذاته لم يجب وجوده، ويسمى ممكن الوجود، والثاني إذا اعتبر ذاته وجب وجوده، ويسمى واجب الوجود، وإن كان ممكن الوجود إذا فرضناه غير موجود لم يلزم عنه محال، فلا غنى بوجوده عن علة، وإذا وجد، صار واجب الوجود بغيره، فيلزم من هذا أنه كان مما لم يزل ممكن الوجود بذاته، واجب الوجود بغيره، وهذا الإمكان إما أن يكون شيئًا فيما لم يزل، وإما أن يكون في وقت دون وقت، والأشياء الممكنة لا يجوز أن تمر بلا نهاية في كونها علة ومعلولًا، ولا يجوز كونها على سبيل الدور، بل لا بد من انتهائها إلى شيء واجب، هو الموجود الأول.
ولواجب الوجود متى فرض غير موجود، لزم منه محال، ولا علة لوجوده، ولا يجوز كون وجوده بغيره، وهو السبب الأول لوجود الأشياء".
__________
1 الفارابي: "شرح رسالة زينون الكبير" ص3-5. حيدر أباد، سنة 1349هـ "سنة 1930م".(1/218)
جـ- صفات واجب الوجود:
ويعدد الفارابي صفات واجب الوجود -أي: الله- في رسائل عديدة: فيقول عنه في كتاب "السياسة المدنية"1: "أما الأول فليس فيه نقص أصلًا ولا بوجه من الوجوه، ولا يمكن أن يكون وجود أكمل، وأفضل من وجوده، ولا يمكن أن يكون وجود أقدم منه، ولا في مثل مرتبة وجوده لم يتوفر عليه، فلذلك لا يمكن أن يكون استفاد وجوده عن شيء آخر غيره أقدم منه، وهو من أن يكون استفاد ذلك عما هو أنقص منه أبعد، ولذلك هو أيضًا مباين بجوهره لكل شيء سواه مباينة تامة، ولا يمكن أن يكون ذلك الوجود الذي هو له لأكثر من واحد؛ لأن كل ما وجوده هذا الوجود، لا يمكن أن يكون بينه وبين آخر -له أيضًا هذا الوجود بعينه- مباينة أصلًا؛ لأنه إن كانت بينهما مباينة، كان الذي تباينا به شيئًا آخر غير ما اشتركا فيه: فيكون الشيء الذي به باين كل واحد منهما الآخر جزءًا من قوام وجوديهما به، فيكون وجود كل واحد منهما منقسمًا بالقول، فيكون كل واحد من جزئيه سببًا لقوام ذاته، فلا يكون أولًا، بل يكون هناك موجود أقدم منه به قوامه، وذلك محال فيه، إذ هو أول، وما لا تباين بينهما لا يمكن أن يكونا كثرة: لا اثنين ولا أكثر.
وأيضًا إن أمكن أن يكون شيء غيره له هذا الوجود بعينه، أمكن أن يكون وجود خارجًا عن وجوده لم يتوفر عليه، وفي مثل رغبته، فإذن وجوده دون وجود ما يجتمع له الوجودان معًا، فوجوده إذن وجود فيه نقص؛ لأن
__________
1 الفارابي: "السياسة المدنية" ص42-46، بيروت سنة 1964.(1/219)
التام هو ما لا يوجد خارجًا عنه شيء يمكن أن يكون له، فإذن وجوده لا يمكن أن يكون خارجًا عن ذاته لشيء ما أصلًا.
ولذلك لا يمكن أن يكون له ضد أصلًا، وذلك أن وجود ضد الشيء هو في مثل مرتبة وجوده، ولا يمكن أن يكون في مثل رتبته وجود أصلًا لم يتوفر عليه، وإلا كان وجوده وجودًا ناقصًا، وأيضًا فإن كل ما له ضد، فإن كمال وجوده هو بعدم ضده، وذلك أن وجود الشيء الذي له ضد، إنما يكون مع وجود ضده بأن يحفظ بأشياء من خارج، وبأشياء خارجة عن ذاته وجوهره، فإنه ليس يكون في جوهر أحد الضدين كفاية في أن يحفظ ذاته عن ضده، فإذن يلزم أن يكون للأول سبب ما آخر، به وجوده. فلذلك لا يمكن أن يكون في مرتبته، بل يكون هو وحده فردًا، فهو واحد من هذه الجهة.
وأيضًا فإنه غير منقسم في ذاته بالقول، وأعني أنه لا ينقسم إلى أشياء بها تجوهره، وذلك أنه لا يمكن أن يكون القول الذي يشرح ذاته يدل على كل جزء من أجزاء القول على جزء مما يتجوهر به، فإنه إذا كان كذلك، كانت الأجزاء التي بها تجوهره هي أسباب وجوده، على جهة ما تكون المعاني التي تدل عليها أجزاء الحد أسباًبا لوجود الشيء المحدود، وعلى جهة ما تكون المادة والصورة أسبابًا لوجود ما يتقوم بهما، وذلك غير ممكن فيه إذ كان أولًا، فإذا كان لا ينقسم هذا الانقسام -وهو من أن ينقسم انقسام الكم، وسائر أنحاء الانقسام أبعد- فهو أيضًا واحد من هذه الجهة الأخرى، ولذلك لا يمكن أيضًا أن يكون وجوده الذي به ينحاز مما سواه من الموجودات، غير الذي هو به في ذاته موجود، فلذلك يكون انحيازه مما سواه من الموجودات غير الذي هو به في ذاته موجود، فلذلك يكون انحيازه مما سواه بوحدة هي ذاته: فإن أحد معاني الوحدة هو الوجود الخاص الذي به ينحاز كل موجود عما سواه، وهي التي بها يقال لكل موجود واحد من جهة ما هو موجود: الوجود الذي يخصه، وهذا المعنى من معانيه يساوق الموجود، فالأول أيضًا بهذا الوجه واحد، وأحق من كل واحد سواه باسم الواحد ومعناه.(1/220)
ولأنه لا مادة له -ولا بوجه من الوجوه- فإنه بجوهره عقل؛ لأن المانع للشيء من أن يكون عقلًا، وأن يعقل بالفعل هو المادة، وهو معقول من جهة ما هو عقل، فإن الذي هو منه عقل هو معقول لذلك الذي هو منه عقل، وليس يحتاج، في أن يكون معقولًا، إلى ذات أخرى خارجة عنه تعقله، بل هو نفسه يعقل ذاته، فيصير بما يعقل من ذاته: عاقلًان وبأن ذاته تعقله: معقولًا، وكذلك ليس يحتاج في أن يكون عقلًا وعاقلًا إلى ذات أخرى، وشيء آخر يستفيده من خارج، بل يكون عقلًا وعاقلا بأن يعقل ذاته، فإن الذات التي تعقل هي التي تعقل.
وكذلك الحال في أنه عالم: فإنه ليس يحتاج في أن يعلم إلى ذات أخرى يستفيد بعلمها الفضيلة خارجًا عن ذاته، ولا في أن يكون معلومًا إلى ذات أخرى تعلمه، بل هو مكتف بجوهره في أن يعلم ويُعْلم.. وليس علمه بذاته غير جوهره، فإنه يعلم، وإنه معلوم، وأنه علم ذات واحدة وجوهر واحد.
وكذلك في أنه حكيم: فإن الحكمة هي أن يعقل أفضل الأشياء بأفضل علم. وبما يعقل من ذاته ويعلمها معلم أفضل الأشياء وبأفضل علم، والعلم الأفضل هو العلم التام الذي لا يزول لما هو دائم لا يزول، فلذلك هو حكيم: لا بحكمة استفادها بعلم شيء آخر خارج عن ذاته، بل في ذاته كفاية في أن يصير حكيمًا بأن يعلمها.
والجمال والبهاء والزينة في كل موجود هو أن يوجد وجوده الأفضل، ويبلغ استكماله الأخير، وإذا كان الأول وجوده أفضل الوجود، فجماله إذن فائت لجمال كل ذي جمال، وكذلك زينته وبهاؤه وجماله: له بجوهره وذاته".
وفي "عيون المسائل" يلخص الصفات الإلهية، فيقول عن واجب الوجود أنه: "لا ماهية له مثل الجسم -إذا قلت: إنه موجود فحد الموجود شيء، وحد الجسم شيء -سوى أنه واجب الوجود، وهذا وجوده.(1/221)
ويلزم من هذا أنه لا جنس له، ولا فصل له، ولا حد، ولا برهان عليه بل هو برهان على جميع الأشياء.
ووجوده بذاته أبدي أزلي، لا يمازجه العدم، وليس وجوده بالقوة.
ويلزم من هذا أنه لا يمكن أن لا يكون، ولا حاجة به إلى شيء يمد بقاءه، ولا يتغير من حال إلى حال.
وهو واحد بمعنى أن الحقيقة التي له ليست لشيء غيره، وواحد بمعنى أنه لا يقبل التجزؤ، كما تكون الأشياء التي لها عظمة وكمية، وإذن ليس يقال عليه: كم، ولا متى، ولا أين. وليس بجسم، وهو واحد بمعنى أن ذاته ليست من أشياء غيره كان منها وجوده، ولا حصلت ذاته من مكان، مثل المادة والجنس والفصل.
ولا ضد له.
وهو خير محض، وعقل محض، ومعقول محض، وعاقل محض، وهذه الأشياء الثلاثة كلها فيه واحد.
وهو حكيم، وحي، وعالم، وقادر، وفريد، وله غاية الجمال والكمال والبهاء. وله أعظم السرور بذاته، وهو العاشق الأول والمعشوق الأول".
لكن أوسع عرض لصفات الله عند الفارابي، هو الذي نجده في كتاب "آراء أهل المدينة الفاضلة" "ص37-54، ط3، بيروت، دار المشرق، سنة 1973". والغريب أنه يتطابق حرفيًا في كثير من المواضع مع ما ورد في كتاب "السياسة المدنية"، إلى درجة يترجح معها القول بأن هذا الكاب الأخير نصوص منتزعة بحروفها من الكتاب الأول.(1/222)
د- كيفية صدور جميع الموجودات عن الأول:
نظرية الفيض:
أما كيف توجد الموجودات عن الأول، فالفارابي يفسره تفسيرًاأفلوطينيًا، على اساس فكرة الصدور أي صدور الموجودات عن الأول على جهة الفيض.
يقول الفارابي في كتاب "آراء أهل المدينة الفاضلة": "والأول هو الذي عنه وجد، ومتى وجد للأول الوجود الذي حوله، لزم ضرورة أن يوجد عنه سائر الموجودات التي وجودها لا بإرادة الإنسان واختياره، على ما هي عليه من الوجود، الذي بعضه مشاهد بالحس، وبعضه معلوم بالبرهان.
ووجود ما يوجد عنه، إنما هو على جهة فيض وجوده لوجود شيء آخر، وعلى أن وجود غيره فائض عن وجوده هو، فعلى هذه الجهة لا يكون وجود عنه سببًا له بوجه من الوجوه، ولا على أنه غاية لوجود الأول، كما يكون وجود الابن -من جهة ما هو ابن- غاية لوجود الأبوين، من جهة ما هما أبوان. يعني أن الوجود الذي يوجد عنه لا يفيده كمالًا ما، كما يكون لنا ذلك عن جل الأشياء التي تكون منا، مثل أنا بإعطائنا المال لغيرنا نستفيد من غيرنا كرامة، أو لذة أو غير ذلك من الخيارات، حتى تكون تلك فاعلة فيه كمالًا ما. فالأول ليس وجوده لأجل غيره، ولا يوجد به غيره حتى يكون الغرض من وجوده أن يوجد سائر الأشياء، فيكون لوجوده سب خارج عنه فلا يكون أولًا، -ولا أيضًا- بإعطائه ما سواه الوجود -ينال كمالًا لم يكن له قبل ذلك، خارجًا عما هو عليه من الكمال، كما ينال من يجود بماله، أو بشيء آخر فيستفيد بما يبذل من ذلك لذة، أو كرامة أو رئاسة أو شيئًا غير ذلك من الخيرات، فهذه الأشياء كلها محال أن تكون في الأول؛ لأنه يسقط أوليته وتقدمه، ويجعل غيره أقدم منه وسببًا لوجوده، بل وجوده لأجل ذاته، ويلحق جوهره ووجوده ويتبعه أن يوجد عنه غيره، فلذلك وجوده الذي به فاض الوجود إلى غيره هو في جوهره، ووجوده الذي به تجوهره في ذاته هو بعينه وجوده الذي به يحصل وجود غيره عنه، -وليس ينقسم إلى شيئين يكون بأحدهما تجوهر ذاته، وبالآخر حصول شيء آخر عنه، كما أن لنا شيئين فتجوهر بأحدهما وهو النطق، ونكتب بالآخر وهو صناعة الكتابة، بل هو ذات(1/223)
واحدة، وجوهر واحد، به يكون تجوهره، وبه بعينه يحصل عنه شيء آخر.
ولا أيضًا يحتاج في أن يفيض عن وجوده وجود شيء آخر إلى شيء غير ذاته يكون فيه، ولا غرض يكون فيه، ولا حركة يستفيد بها حالًا لم تكن له، ولا آلة خارجة عن ذاته، مثلما تحتاج النار -في أن يكون عنها، وعن الماء بخار- إلى حرارة تبخر بها الماء، وكما تحتاج الشمس -في أن تسخن ما لدينا- إلى أن تتحرك هي ليحصل لها بالحركة ما لم يكن لها من الحال، فيحصل عنها -وبالحال التي استفادتها بالحركة- حرارة فيما لدينا، أو كما يحتاج النجار إلى الفأس، وإلى المنشار حتى يحصل عنه في الخشب انفصال، وانقطاع وانشقاق.
وليس وجوده، بما يفيض عنه وجود غيره، أكمل من وجوده الذي هو بجوهره، ولا وجوده الذي بجوهره أكمل من الذي يفيض عنه وجود غيره، بل هما جميعًا ذات واحدة.
ولا يمكن أيضًا أن يكون له عائق من أن يفيض عنه وجود غيره، لا من نفسه ولا من خارج أصلًا"1.
فالموجودات تفيض عن الأول لا من قصد منه يشبه قصودنا، ولا عن طبع بحيث لا تكون له معرفة، ورضى بصدورها -وإنما ظهرت الأشياء عنه لكونه عالمًا بذاته، وبأنه مبدأ النظام الخير في الوجود على ما يجب أن يكون عليه، وإنما علمه هو العلة لوجود الأشياء، وعلمه للأشياء ليس علمًا زمانيًا، ووجوده هو بعينه وجوده الذي به يحصل وجود غيره عنه.
وإذا فاضت الموجودات عنه، كانت بترتيب مراتبها، "فحصل عنه لكل موجود قسطه الذي له من الوجود من مرتبته منه، فيبتدي من أكملها وجودًا، ثم يتلوه ما هو أنقص منه قليلًا، ثم لا يزال بعد ذلك يتلو الأنقص، إلى أن ينتهي إلى الموجود الذي إن تخطي عنه إلى ما دونه، تخطي إلى ما لم يمكن أن يوجد أصلًا، فتنقطع الموجودات من الوجود"2.
__________
1 الفارابي: "آراء أهل المدينة الفاضلة" ص55-56، ط3 بيروت سنة 1973. وقد رددنا النص في بعض المواضع إلى أصله الموثق بالمخطوطات، إذ معظم تصحيحات يوسف كرم تحكمية لا تبررها المخطوطات، ولا داعي إليها.
2 الكتاب نفسه ص57.(1/224)
هـ- ترتيب الموجودات المفارقة:
ومن وجود الأول يفيض وجود الثاني، وهذا الثاني جوهر غير جسمي ولا هو في مادة، وهو يعقل ذاته، ويعقل الأول، "وبما يعقل من الأول يلزم عنه وجود ثالث، وبما هو متجوهر بذاته التي تخصه، يلزم عنه وجود السماء الأولى. والثالث أيضًا وجوده لا في مادة، وهو بجوهره عقل، وهو يعقل ذاته ويعقل الأول: فبما يتجوهر به من ذاته التي تخصه يلزم عنه وجود كرة الكواكب الثابتة، وبما يعقله من الأول يلزم عنه وجود رابع، وهذا أيضًا لا في مادة، فهو يعقل ذاته، ويعقل الأول: فبما يتجوهر به من ذاته التي تخصه يلزم عنه كرة زحل، وبما يعقله من الأول عنه وجود خامس، وهذا الخامس أيضًا وجوده لا في مادة، فو يعقل ذاته، ويعقل الأول: فبما يتجوهر به من ذاته يلزم عنه وجود كرة المريخ، وبما يعقله من الأول يلزم عنه وجود سابع. وهذا أيضًا وجوده لا في مادة، وهو يعقل ذاته ويعقل الأول: فبما يتجوهر به من ذاته يلزم عنه وجود كرة الشمس، وبما يعقل من الأول يلزم عنه وجود ثامن، وهو أيضًا وجوده لا في مادة، ويعقل ذاته ويعقل الأول: فبما يتجوهر به من ذاته التي تخصه يلزم عنه وجود كرة الزهرة، وبما يعقل من الأول يلزم عنه وجود تاسع، وهذا أيضًا وجوده لا في مادة، فهو يعقل ذاته، ويعقل الأول: فبما يتجوهر به من ذاته يلزم عنه وجود كرة عطارد، وبما يعقل من الأول يلزم عنه وجود عاشر، وهذا أيضًا وجوده لا في مادة. وهو يعقل ذاته، ويعقل الأول. فبما يتجوهر به من ذاته يلزم عنه وجود كرة القمر، وبما يعقل من الأول يلزم عنه وجود حادي عشر، وهذا الحادي عشر هو أيضًا وجوده لا(1/225)
في مادة، وهو يعقل ذاته ويعقل الأول، ولكن عنده ينتهي الوجود الذي لا يحتاج ما يوجد ذلك الوجود إلى مادة وموضوع أصلًا، وهي الأشياء المفارقة التي هي في جواهرها عقول ومعقولات، وعند كرة القمر ينتهي وجود الأجسام السماوية، وهي التي بطبيعتها تتحرك دورًا"1.
والخلاصة أن صدور الموجودات عن الأول يتم في ترتيب تنازلي من ثان إلى حادي عشر، وصدور التالي عن السابق يتم دائمًا بأن يعقل الأول، وذلك في جميع المراتب، أما عقل كل واحد منها لذاته، فينتج عنه فلك على الترتيب التالي، السماء الأولى، فالكواكب الثابتة، فزحل، فالمشتري، فالمريخ، فالشمس، فالزهرة، فعطارد، فالقمر، وعند فلك القمر تنتهي الموجودات المفارقة التي هي في جواهرها عقول ومعقولات، وينتهي وجود الأجسام السماوية.
والأساس في هذا الترتيب هو أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد.
بيد أن المشكلة هي: هل العقل الأول هو واجب الوجود أو الله -أو هو أول ما صدر عن الله؟
يتجلى بوضوح من كلام الفارابي في هذا النص الذي أوردناه نقلًا عن كتابه "آراء أهل المدينة الفاضلة"، أن العقل الأول هو الله نفسه، ومن هنا كانت العقول عنده أحد عشر عقلًا، وهذا طبيعي منطقي؛ لأن الأول أو الله أو واجب الوجود عقل وعاقل ومعقول، كما قال الفارابي في مواضع عديدة من رسائله2. ولهذا
لا نجد عبارة "العقول العشرة" عند الفارابي، إلا حين يقصد كلامه على العقول
العشرة التالية للعقل الواحد3.
وقد أخذ الفارابي فكرة "الفيض"، أو"الصدور" عن أفلوطين الذي
__________
1 الكتاب نفسه ص61-62.
2 انظر مثلًا "كتاب السياسة المدنية" ص45 س5-س9.
3 انظر مثلًا "آراء أهل المدينة الفاضلة" ص68 س3، س12، ص71 س4، س9.(1/226)
تحدث عن الفيض أو الصدور، أو على حد تعبير المترجم العربي لهذا الموضع من تساعات أفلوطين ""التساعات، التاسع الخامس: 1: 6"، وقد نشرنا هذه الترجمة العربية في كتابنا "أفلوطين عند العرب" "ص184-185، ط1، القاهرة سنة 1955".
أما نظام العقول المفارقة الأحد عشر، فلم نعثر له على سابقة في الفلسفة اليونانية حتى الآن، وأفلوطين إنما يتكلم عن ثلاثة مبادئ هي: الواحد، العقل "نوس" والنفس الكلية، ولهذا السبب نستطيع أن نقرر -إلى أن يأتي دليل مضاد- أن هذا النظام من وضع الفارابي نفسه، ولم يسبقه إليه أحد.(1/227)
و ترتيب الموجودات تحت فلك القمر:
وما تحت فلك القمر هو عالم الكون والفساد، وكل موجود فيه قوامه من شيئين: المادة، والصورة، ولا قوام للصورة بدون المادة لكن وجود المادة هو لأجل الصورة، فلن تكون صورة ما موجودة لما كانت المادة.
وتترتب الموجودات التي تحت فلك القمر "أي على الأرض"، بحسب الأحسن فالأفضل منه، إلى أن ننتهي إلى أفضلها الذي لا أفضل منه، "فأخسها المادة الأولى المشتركة، والأفضل منها الإسطقسات "= العناصر"، ثم المعدنية، ثم النبات، ثم الحيوان غير الناطق، ثم الحيوان الناطق "= الإنسان"، وليس بعد الحيوان الناطق أفضل منه"1.
كيف توجد هذه الموجودات؟
عن الطبيعة المشتركة للأجسام السماوية تصدر المادة الأولى المشتركة لكل الموجودات الكائنة تحت فلك القمر، وعن اختلاف جواهر هذه الأجسام السماوية، تنشأ وجود أجسام كثيرة مختلفة الجواهر، وعن تضاد
__________
1 الفارابي: "آراء أهل المدينة الفاضلة" ص66.(1/227)
نسبها وإضافاتها تحدث الصور المتضادة، وعن حصول نسب متضادة وإضافات متعاندة يحدث أجسام فيها اختلاط في الأشياء ذات الصور المتضادة وامتزاجاتها، وعن أصناف تلك الامتزاجات المختلفة -تحدث أنواع كثيرة من الأجسام.
"فيحدث أولًا الاسطقسات، ثم ما جانسها وقارنها من الأجسام: مثل البخارات وأصنافها مثل الغيوم والرياح، وسائر ما يحدث في الجو، وأيضًا مجانساتها حول الأرض وتحتها، وفي الماء والنار، ويحدث في الاسطقسات، وفي كل واحد من سائر تلك، قوى تتحرك بها من تلقاء أنفسها إلى أشياء شأنها أن توجد لها أولها، بغير محرك من خارج، وقوى يفعل بعضها في بعض، وقوى يقبل بها بعضها فعل بعض، ثم تفعل فيها الأجسام السماوية، ويفعل بعضها في بعض، فيحدث من اجتماع الأفعال -من هذه الجهات- أصناف من الاختلاطات، والامتزاجات كثيرة، ومقادير كثيرة: مختلفة بغير تضاد، ومختلفة بالتضاد. فيلزم عنها وجود سائر الأجسام.
فتختلط أولًا الاسطقسات بعضها مع بعض، فيحدث من ذلك أجسام كثيرة متضادة، ثم تختلط هذه المتضادة بعضها مع بعض فقط، وبعضها مع بعض ومع الاسطقسات، فيكون ذلك اختلاطًا ثانيًا بعد الأول، فيحدث من ذلك أيضًا أجسام كثيرة متضادة الصور، ويحدث في كل واحد من هذه أيضًا قوى يفعل بعضها في بعض، وقى تقبل بها فعل غيرها فيها، وقوى تتحرك بها من تلقاء نفسها بغير محرك من خارج، ثم تفعل فيها أيضًا الأجسام السماوية، ويفعل بعضها في بعض، وتفعل فيها الاسطقسات، وتفعل هي في الاسطقسات أيضًا، فيحدث من اجتماع هذه الأفعال بجهات مختلفة اختلاطات أخر كثيرة تبعد بها عن الاسطقسات، والمادة الأولى بعدًا كثيرًا، ولا تزال تختلط اختلاطًا بعد اختلاط قبلة، فيكون الاختلاط الثاني أبدًا أكثر تركيبًا مما قبله، إلى أن تحدث أجسام لا يمكن أن تختلط، فيحدث من اختلاطها جسم آخر أبعد منها عن الاسطقسات، فيقف الاختلاط.(1/228)
فبعض الأجسام يحدث عن الاختلاط الأول، وبعضها عن الثاني، وبعضها عن الثالث، وبعضها عن الاختلاط الآخر، فالمعدنيات تحدث باختلاط أقرب إلى الاسطقسات وأقل تركيبًا، ويكون بعدها عن الاسطقسات برتب أقل، ويحدث النبات باختلاط أكثر منها تركيبًا، وأبعد عن الاسطقسات برتب أكثر، والحيوان غير الناطق يحدث باختلاط أكثر تركيبًا من النبات، والإنسان وحده هو الذي يحدث عن الاختلاط الأخير1.
والأجسام السماوية تفعل في كل واحد منها بأن ترفد البعض، وتضاد البعض، مما تحدث عنه امتزاجات واختلاطات أخرى كثيرة، وتلك هي أسباب وجود الأشياء الطبيعية التي تحت السماوية.
والموجودات التي دون الأجسام السماوية في نهاية النقص في الوجود؛ لأنها "لم تعط من أول الأمر جميع ما تتجوهر به على التمام، بل إنما أعطيت جواهرها التي لها: بالقوة البعيدة فقط، لا بالفعل، إذ كانت إنما أعطيت مادتها الأولى فقط، ولذلك هي أبدًا ساعية إلى ما تتجوهر به الصورة"2.
وهي قد بلغت "من تأخرها وتخلفها وخساسة وجودها أن صارت لا يمكنها أن تنهض، وتسعى من تلقاء أنفسها إلى استكمالاتها، إلا بمحرك من خارج، ومحركها من خارج هو الجسم السماوي وأجزاؤه، ثم العقل الفعال: فإن هذين جميعًا يكملان وجود الأشياء التي تحت الجسم السماوي، والجسم السماوي فإن جوهره وطبيعته، وفعله أن يلزم عنه أولًا وجود المادة الأولى، ثم من بعد ذلك يعطي المادة الأولى كل ما في طبيعتها، وإمكانها واستعدادها أن تقبل من الصور، كائنة ما كانت، والعقل الفعال معد بطبيعته وجوهره أن ينظر في كل ما وطأه الجسم السماوي وأعطاه، فأي شيء منه قبل -بوجه ما- التخلص من المادة ومفارقتها، رام تخليصه من
__________
1 الفارابي: "آراء أهل المدينة الفاضلة" ص77-78.
2 الفارابي: "السياسة المدنية" ص54.(1/229)
المادة ومن العدم فيصير في أقرب مرتبة إليه، وذلك أن تصير المعقولات التي هي بالقوة معقولات بالفعل، فمن ذلك يحصل العقل -الذي كان عقلًا بالقوة- عقلًا بالفعل، وليس يمكن أن يصير كذلك شيء سوى الإنسان: فهذه السعادة القصوى التي هي أفضل ما يمكن الإنسان أن يبلغه من الكمال، فعن هذين يكمل وجود الأشياء التي بقيت متأخرة، واحتيج إلى إخراجها إلى الوجود بالوجوه التي شأنها أن تخرج إلى الوجود بها، وبالوجوه التي شأنها أن يدوم وجودها بها"1.
والموجودات الممكنة هي أنقص وجودًا، وهي مختلطة من وجود ولا وجود؛ لأنه وسط بين ما لا يمكن أن يوجد، وما لا يمكن ألا يوجد، ولهذا يخالطها العدم، إذ العدم هو لا وجود ما يمكن أن يوجد.
__________
1 الكتاب نفسه ص54-55.(1/230)
ز- علم النفس:
1- قوى النفس:
يميز الفارابي بين ثلاثة أنواع من النفوس هي: أنفس الأجسام السماوية، وأنفس الحيوان الناطق، وأنفس الحيوان غير الناطق.
أما نفس الحيوان الناطق، فتشتمل على أربع قوى: القوة الناطقة، القوة النزوعية، القوة المتخيلة، القوة الحساسة، فالقوة الناطقة هي التي بها يحوز الإنسان العلوم والصناعات، وبها يميز بين الجميل والقبيح من الأفعال والأخلاق، وبها يُروِّي فيما ينبغي أن يفعل أو لا يفعل، ويدرك بها مع هذه: النافع والضار، والملذ والمؤذي، والناطقة منها نظرية، ومنها عملية. والعملية منها مهنية، ومنها مروية. فالنظرية هي التي بها يحوز الإنسان علم ما ليس شأنه أن يعمله إنسان أصلًا. والعملية هي التي بها يعرف ما شأنه أن يعمله الإنسان بإرادته، والمهنية منها هي التي بها تحاز الصناعات والمهن، والمروية هي التي يكون بها الفكر والروية في شيء مما ينبغي أن يعمل، أو لا(1/230)
يعمل، -والنزوعية هي التي يكون بها النزوع الإنساني بأن يطلب الشيء، أو يهرب منه، ويشتاقه أو يكرهه، ويؤثره أو يتجنبه، وبها يكون البغضة والمحبة، والصداقة والعداوة، والخوف والأمن، والغضب والرضا، والقسوة والرحمة -وسائر عوارض النفس، -والمخيلة هي التي تحفظ رسوم المحسوسات بعد غيبتها من الحس، وتركب بعضها إلى بعض، وتفصل بعضها عن بعض في اليقظة والنوم، تركيبات وتفصيلات بعضها صادق، وبعضها كاذب، ولها مع ذلك إدراك النافع والضار، واللذيذ والمؤذي، دون الجميل والقبيح، من الأفعال والأخلاق، -والحساسة بين أمرها، وهي التي تدرك المحسوسات بالحواس الخمس المعروفة عند الجميع، وتدرك الملذ والمؤذي، ولا تميز الضار والنافع، ولا الجميل والقبيح.
وأما الحيوان غير الناطق، فبعضه يوجد له القوى الثلاث الباقية، دون الناطقة. والقوة المتخيلة فيه تقوم مقام القوة الناطقة في الحيوان الناطق، وبعضه يوجد له القوة الحساسة، والقوة النزوعية فقط، وأما أنفس الأجسام السماوية، فهي مباينة لهذه الأنفس في النوع، مفردة عنها في جواهرها، وبها تتجوهر الأجسام السماوية، وعنها تتحرك دورًا، وهي أشرف وأكمل وأفضل وجودًا من أنفس أنواع الحيوان التي لدينا، وذلك أنها لم تكن بالقوة أصلًا، ولا في وقت من الأوقات، بل هي بالفعل دائمًا من قبل أن معقولاتها لم تزل حاصلة فيها منذ أول الأمر، وإنما تعقل ما تعقله دائمًا، وأما أنفسنا نحن فإنها تكون أولًا بالقوة ثم تصير بالفعل، وذلك أنها تكون أولًا هيئات قابلة معدة، لأن تعقل المعقولات، ثم من بعد ذلك تحصل لها المعقولات، وتصير حينئذ بالفعل، وليس في الأجسام السماوية من الأنفس: لا الحساسة ولا المتخيلة، بل إنما لها النفس التي تعقل فقط، وهي مجانسة في ذلك -بعض المجانسة- للنفس الناطقة، والتي تعقلها الأنفس السماوية وهي المعقولات بجواهرها، وتلك هي الجواهر المفارقة للمادة. وكل نفس منها تعقل الأول، وتعقل ذاتها، وتعقل من الثواني ذلك الذي أعطاها جوهرها، أما جل المعقولات التي يعقلها الإنسان من الأشياء التي هي في مواد، فليست تعقلها(1/231)
الأنفس السماوية؛ لأنها أرفع رتبة بجواهرها عن أن تعقل المعقولات التي هي دونها. فالأول يعقل ذاته، وإن كانت ذاته -بوجه ما- هي الموجودات كلها؛ لأن سائر الموجودات إنما اقتبس كل واحد منها الوجود عن وجوده، والثواني فكل واحد منها يعقل ذاته، ويعقل الأول"1.
ولكننا نجد في كتاب "آراء أهل المدينة الفاضلة" تقسيمًا خماسيًا لقوى النفس، وهي:
1- القوة الغاذية، وهي التي بها يتغذى الإنسان.
2- القوى الحاسة.
3- القوة المتخيلة.
4- القوة الناطقة.
5- القوة النزوعية.
وهذا التقسيم الخماسي هو الذي نجده عند أرسطو في كتاب "النفس" "صفحة 432أ 29-432ب 4؛ 413 ب13"، حيث يقول أن النفس تتميز بقوى: التغذية الذاتية، الإحساس، التفكير "= النطق"، والحركة "أو النزوع" "ص413ب 13"، ويقسمها إلى أجزاء هي: 1- الغاذية، وهي تنتسب إلى النبات وإلى كل أنواع الحيوان، 2- الحساسة، ولا يمكن تصنيفها بسهولة إلى نطقية أو غير نطقية، 3- المتخيلة، وهي في وجودها مختلفة عن سائرها، 4- النزوعية "ص432أ 29-432 ب4".
وقد أحسن الفارابي حين سماها "بالقوى"، لا "بالنفوس"، كما سيفعل ابن سينا.
__________
1 الفارابي: "السياسة المدنية" ص32-34. بيروت، سنة 1964. ونجد هذا التقسيم الخماسي أيضًا في كتاب الفارابي: "فصول منتزعة"، ص27، بيروت سنة 1971.(1/232)
2- العقل:
ويهمنا من هذه القوى القوة الناطقة، أي العقل. وقد كرس له الفارابي رسالة خاصة ستحظى بعناية بالغة عند فلاسفة العصور الوسطى الأوروبية1.
يبدأ الفارابي بحثه هذا ببيان معاني العقل. يقول: "اسم العقل يقال على أشياء كثيرة:
الأول: الشيء الذي به يقول الجمهور في الإنسان أنه عاقل.
الثاني: العقل الذي يردده المتكلمون على ألسنتهم، فيقولون: هذا مما يوجبه العقل، وينفيه العقل.
الثالث: العقل الذي يذكره أرسطوطاليس في كتاب "البرهان".
الرابع: العقل الذي يذكره في المقالة السادسة من كتاب "الأخلاق".
الخامس: العقل الذي يذكره في كتاب "النفس".
السادس: العقل الذي يذكره في كتاب "ما بعد الطبيعة".
1- أما العقل الذي يقول به الجمهور في الإنسان أنه عاقل، فإن مرجع ما يعنون به هو إلى التعقل ... ويعنون بالعاقل من كان فاضلًا جيد الروية في استنباط ما ينبغي أن يؤثر من خير، أو يجتنب من شر.
2- وأما العقل الذي يردده المتكلمون على ألسنتهم، فيقولون في الشيء: هذا مما يوجبه العقل أو ينفيه العقل، أو يقبله العقل أو لا يقبله العقل، فإنما يعنون به المشهور في بادي الرأي2 عند الجميع، فإن بادي الرأي المشترك عند الجميع أو الأكثر يسمونه: العقل.
__________
1 نشر الترجمة اللاتينية اتين جيلسون في مجلة Archives d'Histoire doctrinale et Litter aire du moyen' age, annee 1929, pp. 122 et SQQ. مع مقدمة ممتازة
2 بادي الرأي = common sense, bon sens.(1/233)
3- وأما العقل الذي يذكره أرسطوطاليس في كتاب "البرهان"1، فإنه إنما يعني به قوة النفس، التي بها يحصل للإنسان اليقين بالمقدمات الكلية الصادقة الضرورية، لا عن قياس أصلًا، ولا عن فكر، بل بالفطرة والطبع، أو من صباه ومن حيث لا يشعر من أين حصلت، وكيف حصلت، فإن هذه القوة جزء ما من النفس يحصل لها المعرفة الأولى، لا بفكر ولا بتأمل أصلًا، واليقين بالمقدمات التي صفتها الصفة التي ذكرناها، وتلك المقدمات هي مبادئ العلوم النظرية.
4- وأما العقل الذي يذكره في المقالة السادسة من كتاب "الأخلاق"، فإنه يريد به جزء النفس الذي يحصل اليقين بقضايا، ومقدمات في الأمور الإرادية التي شأنها أن تؤثر، أو تجتنب ...
5- أما العقل الذي يذكره أرسطوطاليس في كتاب "النفس"، فإنه جعله على أربعة أنحاء، عقل بالقوة، وعقل بالفعل، وعقل مستفاد، وعقل فعال".
فالعقل عند عامة الناس هو الروية، وعند المتكلمين: هو بادي الرأي أو الإدراك العام، وعند أرسطو في كتاب "البرهان" هو: الإدراك الطبيعي للمبادئ الأولية الضرورية، وعنده في كتاب "الأخلاق إلى نيقوماخوس" "المقالة السادسة" هو: الفطنة الأخلاقية التي تمكن الإنسان من تمييز الخير والشر، وعند أرسطو في كتاب "النفس" "المقالة الثالثة"، يشتمل على أربعة أنواع: العقل بالقوة، العقل بالفعل، العقل المستفاد، العقل الفعال.
والعقل بالمعنى الرباعي الأخير هو المهم في نظرية العقل عند الفارابي، فلنفصل القول فيه:
العقل الإنساني "هيئة ما في مادة معدة؛ لأن تقبل رسوم المعقولات:
__________
1 راجع كتاب "التحليلات الثانية لأرسطو" "= البرهان" المقالة الثانية، الفصل 19.(1/234)
فهي بالقوة عقل وعقل هيولاني، وهي أيضًا بالقوة معقولة"1، وهذا العقل الهيولاني يصير إلى عقل بالفعل إذا حصلت فيه المعقولات، ويحتاج ذلك إلى شيء ينقله من القوة إلى الفعل، وهذا الشيء ذات ما جوهرها عقل ما بالفعل، ومفارق للمادة. وهذا العقل الفاعل "يعطي العقل الهيولاني"، الذي هو بالقوة عقل، شيئًا ما بمنزلة الضوء الذي تعطيه الشمس البصر؛ لأن منزلته من العقل الهيولاني منزلة الشمس من البصر: فإن البصر هو قوة وهيئة ما في مادة، وهو من قبل أن يبصر: فيه بصر بالقوة، والألوان من قبل أن تبصر مبصرة مرئية بالقوة، وليس في جوهر القوة الباصرة التي في العين كفاية في أن يصير بصرًا بالفعل، ولا في جوهر الألوان كفاية في أن تصير مرئية مبصرة بالفعل، فإن الشمس تعطي البصر ضوءًا يضاد به، وتعطي الألوان ضوءًا تضاد به، فيصير البصر -بالضوء الذي استفاده من الشمس- مبصرًا بالفعل وبصيرًا بالفعل، وتصير الألوان -بذلك الضوء- مبصرة مرئية بالفعل، بعد أن كانت مبصرة مرئية بالقوة، كذلك هذا العقل الذي بالفعل يفيد العقل الهيولاني شيئًا ما، يرسمه فيه، فمنزلة ذلك الشيء من العقل الهيولاني منزلة الضوء من البصر، وكما أن المبصر بالضوء نفسه يبصر الضوء الذي هو سبب إبصاره، ويبصر الشمس التي هي سبب الضوء به "= بالبصر" بعينه، ويبصر الأشياء التي هي بالقوة مبصرة، فتصير مبصرة بالفعل، كذلك العقل الهيولاني: فإنه بذلك الشيء -الذي منزلته منه منزلة الضوء من البصر- يعقل الشيء نفسه، وبه يعقل العقل الهيولاني العقل بالفعل الذي هو سبب ارتسام ذلك الشيء في العقل الهيولاني، وبه تصير الأشياء التي كانت معقولة بالقوة معقولة بالفعل، ويصير هو أيضًا عقلًا بالفعل بعد أن كان عقلًا بالقوة، وفعل هذا العقل المفارق في العقل الهيولاني، شبيه فعل الشمس في البصر، فلذلك سمي العقل الفعال، ومرتبته من الأشياء المفارقة -التي ذكرت، من دون السب الأول -المرتبة العاشرة.
__________
1 الفارابي: "آراء أهل المدينة الفاضلة" ص101. بيروت 1973.(1/235)
ويسمى العقل الهيولاني العقل المنفعل"1.
وإذن فالعقل الذي بالقوة هو العقل الهيولاني، وهو العقل المنفعل، ويصير عقلًا بالفعل إذا ارتسمت فيه صور المعقولات، ويتم ذلك بواسطة العقل الفعال. والعقل بالفعل متى عقل المعقولات بواسطة العقل الفعال صار عقلًا مستفادًا. "فالعقل المنفعل يكون شبه المادة والموضوع للعقل المستفاد، والعقل المستفاد شبه المادة والموضوع للعقل الفعال، فحينئذ يفيض من العقل الفعال على العقل المنفعل القوة، التي بها يمكن أن يوقف على تحديد الأشياء والأفعال، وتسديدها نحو السعادة"2.
وهكذا نجد ترتيبًا في العقول يتصاعد من أدناها، وهو العقل بالقوة، وفوقه يوجد العقل بالفعل، وفوقه العقل المسفتاد، وفوقه العقل الفعال.
__________
1 الكتاب نفسه ص102-103.
2 الفارابي: "السياسة المدنية" ص79، بيروت سنة 1964.(1/236)
3- العقل الفعال:
ولا يتضح بجلاء من كلام الفارابي في كل رسائله مكانة هذا العقل الفعال: فهو أحيانًا يتحدث عنه كما لو كان مجرد جزء -هو الأعلى- من أجزاء العقل، أو لحظة من لحظاته، ويندرج ضمن النطاق الإنساني، وفي أحيان أخرى كثيرة يندفع في تمجيده بحيث يجعله في مرتبة أعلى من الإنسان، وأقل من مرتبة العقول السماوية.
فهو يقول في موضع: "العقل الفعال فعله العناية بالحيوان الناطق، والتماس تبليغه أقصى مراتب الكمال الذي للإنسان أن يبلغه، وهو: السعادة القصوى، وذلك أن يصير الإنسان في مرتبة العقل الفعال، وإنما يكون ذلك بأن يحصل مفارقًا للأجسام، غير محتاج في قوامه إلى شيء آخر مما هو دونه من جسم، أو مادة أو عرض، وأن يبقى على ذلك الكمال دائمًا، والعقل الفعال(1/236)
ذاته واحدة أيضًا، ولكن رتبته تحوز أيضًا ما تخلص من الحيوان الناطق وفاز بالسعادة، والعقل الفعال هو الذي ينبغي أن يقال أنه الروح الأمين وروح القدس، ويسمى بأشباه هذين من الأسماء، ورتبته تسمى الملكوت، وأشباه ذلك من الأسماء"1.
وفي موضع آخر يقرنه بالعقول الثواني العشرة، فيقول: "ثم من بعد الأول يوجد الثواني والعقل الفعال" "الكتاب نفسه ص52 س5".
كذلك نجده في "آراء أهل المدينة الفاضلة" يصفه بأنه "مفارق" "ص103 س5، بيروت سنة 1973".
ويؤكد هذا على نحو أكثر تفصيلًا في رسالة "في معاني العقل"، فيقول: "وأما العقل الفعال الذي ذكره أرسطوطاليس في المقالة الثالثة من كتاب "النفس"، فهو صورة مفارقة لم تكن في مادة، ولا تكون أصلًا. وهو -بنوع ما- عقل بالفعل، قريب الشبه من العقل المستفاد، وهو الذي جعل تلك الذات، التي كانت عقلًا بالقوة، عقلًا بالفعل، وجعل المعقولات، التي كانت معقولات بالقوة، معقولات بالفعل، ونسبة العقل الفعال إلى العقل الذي بالقوة كنسبة الشمس إلى العين التي هي بصر بالقوة، ما دامت في الظلمة ... وكما أن الشمس هي التي تجعل العين بصيرة بالفعل، والمبصرات مبصرات بالفعل، بما تعطيها من الضياء، كذلك العقل الفعال هو الذي جعل العقل الذي بالقوة عقلًا بالفعل، بما أعطاه من ذلك المبدأ، وبذلك بعينه صارت المعقولات معقولات بالفعل"2.
وإشارة الفارابي هنا إلى أرسطو في المقالة الثالثة من كتاب "النفس"، تحتاج إلى مزيد تدقيق، ليس ها هنا موضعه، نحيل القارئ إلى ما كتبناه في هذا الموضوع في تصدير تحقيقنا للترجمة العربية القديمة لكتاب "في النفس" لأرسطو3.
__________
1 الفارابي: "السياسة المدنية" ص32.
2 الفارابي: "السياسة المدنية" ص32.
3 أرسطوطاليس: "في النفس" ... حققه وقدم له عبد الرحمن بدوي، القاهرة سنة 1954.(1/237)
ح- السياسة:
علم السياسة:
كان الفارابي أشد الفلاسفة المسلمين عناية بالسياسة، رغم أنه لم يشارك فيها عمليًا أدنى مشاركة.
وهو يسمى السياسة بـ"العلم المدني"، وهو الترجمة الحرفية للكلمة اليونانية المأخوذة من كلمة أي ساكن المدينة، مدني، وهي بدورها من كلمة "= مدينة". وكلمة تعني في اليونانية: 1- صفة وحقوق المواطن في المدينة، 2- حياة المواطن في المدينة، 3- مجموع المواطنين في المدينة 4- دستور الدولة، شكل الحكومة، النظام السياسي بوجه عام.
وقد عرف علم السياسة، أو العلم المدني بأنه العلم الذي "يفحص عن أصناف الأفعال والسنن الإرادية، وعن الملكات والأخلاق، والسجايا والشيم التي عنها تكون تلك الأفعال والسنن، وعن الغايات التي لأجلها تفعل، وكيف ينبغي أن تكون موجودة في الإنسان، وكيف الوجه في ترتيبها فيه على النحو الذي ينبغي أن يكون وجودها فيه، والوجه في حفظها عليه، ويميز بين الغايات التي لأجلها تفعل الأفعال وتستعمل السنن، ويبين أن منها ما هي في الحقيقة سعادة، وأن منها ما هي مظنون أنها سعادة من غير أن تكون كذلك، وأن التي هي في الحقيقة سعادة لا يمكن أن تكون في هذه الحياة، بل في حياة أخرى بعد هذه الحياة، وهي الحياة الأخرية، -والمظنون به سعادة مثل الثروة والكرامة واللذات، إذا جعلت هي الغايات فقط في هذه الحياة، ويميز الأفعال والسنن، ويبين أن التي تنال بها ما هو في الحقيقة سعادة(1/238)
هي الخيرات والجميلة1 والفضائل، وأن ما سواها هي الشرور والقبائح والنقائص، وأن وجه وجودها في الإنسان أن تكون الأفعال، والسنن الفاضلة موزعة في المدن والأمم على ترتيب، ويستعمل استعمالًا مشتركًا، ويبين أن تلك ليست تتأتى إلا برياسة يمكن معها تلك الأفعال، والسنن والشيم والملكات والأخلاق في المدن والأمم، ويجتهد في أن يحفظها عليهم حتى لا تزول، وأن تلك الرياسة لا تتأتى إلا بمهنة، وملكة تكون عنها أفعال التمكين فيهم، وأفعال حفظ ما مكن فيهم عليهم، وتلك المهنة هي الملكية والملك، أو ما شاء الإنسان أن يسميها.
والسياسة هي فعل هذه المهنة، وأن الرياسة ضربان:
1- رياسة تمكن الأفعال والسنن والملكات الإرادية التي شأنها أن ينال بها ما هو في الحقيقة سعادة، وهي الرياسة الفاضلة، والمدن والأمم المنقادة لهذه الرياسة هي المدن والأمم الفاضلة.
2- رياسة تمكن في المدن الأفعال والشيم، التي تنال بها ما هي مظنونة أنها سعادات، من غير أن تكون كذلك، وهي الرياسة الجاهلية.
وتنقسم هذه الرياسة أقسامًا كبيرة، ويسمى كل واحد منها بالغرض الذي يقصده ويؤمه، ويكون على عدد الأشياء التي هي الغايات والأغراض التي تلتمس هذه الرياسة: فإن كانت تلتمس اليسار سميت رياسة الخسة، وإن كانت الكرامة، سميت رياسة الكرامة، وإن كانت بغير هاتين سميت باسم غايتها تلك.
وتبين أن المهنة الملكية الفاضلة تلتئم بقوتين: إحداهما القوة على القوانين الكلية، والأخرى القوى التي يستفيدها الإنسان بطول تزاوله الأعمال المدنية، وبمزاولة الأفعال في الأخلاق، والأشخاص في المدن -التجريبية2، والحنكة فيها بالتجربة وطول المشاهدة، على مثال ما عليه
__________
1 أي والأمور الجميلة.
2 وصف "للأفعال".(1/239)
الطب: فإن الطبيب إنما يصير معالجًا كاملًا بقوتين: إحداهما القوة على الكليات والقوانين التي استفادها من كتب الطب، والأخرى القوة التي تحصل له بطول المزاولة لأعمال الطب في المرضى، والحنكة فيها بطول التجربة والمشاهدة لأبدان الأشخاص، وبهذه القوة يمكن الطبيب أن يقدر الأدوية، والعلاج بحسب بدن بدن في حال حال -كذلك المهنة الملكية، إنما يمكنها أن تقدر الأفعال بحسب عارض عارض وحال حال في وقت وقت بهذه القوة وهذه التجربة.
والفلسفة المدنية تعطي -فيما تفحص عنه من الأفعال والسنن، والملكات الإرادية وسائر ما تفحص عنه- القوانين الكلية، وتعطي الرسوم في تقديرها بحسب حال حال ووقت ووقت، كيف، وبأي شيء، وبكم شيء تقدر، ثم تتركها غير مقدرة؛ لأن التقدير بالفعل لقوة أخرى غير هذا الفعل، وسبيلها أن تنضاف إليه، ومع ذلك فإن الأحوال والعوارض، التي بحسبها يكون التقدير، غير محدودة ولا يحاط بها.
وهذا العلم جزءان:
1- جزء يشتمل على تعريف السعادة، وتمييز ما بين الحقيقة منها والمظنون به، وعلى إحصاء الأفعال والسير والأخلاق، والشيم الإرادية الكلية التي شأنها أن توزع في المدن والأمم، ويميز الفاضل منها من غير الفاضل.
2- وجزء يشمل، على وجه الترتيب، الشيم والسير الفاضلة في المدن والأمم، وعلى تعريف الأفعال الملكية التي بها تمكن السير والأفعال الفاضلة، ويرتب في أهل المدن الأفعال1 التي بها يحفظ عليهم ما رتب ومكن فيهم، -ثم يحصي أصناف المهن الملكية غير الفاضلة كم هي، وما كل واحدة منها، ويحصي الأفعال التي يفعلها كل واحد منها، وأي سنن وملكات يلتمس كل واحد منها أن يمكن في المدن، والأمم التي تكون تحت رياستها، وهذه في كتاب
__________
1 في المطبوع: "والأفعال" -وهو خطأ لا يستقيم معه الفهم.(1/240)
"يوليطيقي"، وهو كتاب السياسة لأرسطوطاليس، وهو أيضًا في كتاب "السياسة" لأفلاطون وفي كتب لأفلاطون غيره1، ويبين أن تلك الأفعال، والسير والملكات هي كلها كالأمراض للمدن الفاضلة.
أما الأفعال التي تخص المهن الملكية مها وسيرتها: فأمراض المهنة الملكية الفاضلة. وأما السير والملكات التي تخص مدنها، فهي كالأمراض للمدن الفاضلة2.
ثم يحصي كم الأسباب والجهات التي من قبلها لا يؤمن أن تستحيل الرياسات الفاضلة، وسنن المدن الفاضلة إلى السنن والملكات الجاهلية، ويحصي معها أصناف الأفعال التي بها تضبط المدن، والرياسات الفاضلة لئلا تفسد وتستحيل إلى غير الفاضلة، ويحصي أيضًا وجوه التدابير والحيل والأشياء التي سبيلها أن تستعمل إذا استحالت إلى الجاهلية، حتى ترد إلى ما كانت عليه.
ثم يبين بكم شيء تلتئم المهنة الملكية الفاضلة، وأن منها العلوم النظرية والعملية، وأن تنضاف إليها القوة الحاصلة عن التجربة الكائنة بطول مزاولة الأفعال في المدن والأمم، وهي القدرة على جودة استنباط الشرائط التي تقدر بها الأفعال والسير والملكات، بحسب جمع جمع أو مدينة مدينة، أو أمة أمة، وبحسب حال حال، وعارض عارض.
ويبين أن المدينة الفاضلة إنما تدوم فاضلة، ولا تستحيل متى كان ملوكها يتوالون في الأزمان على شرائط واحدة أعيانها، حتى يكون الثاني الذي يخلف المتقدم، على الأحوال والشرائط التي كان عليها المتقدم، وأن يكون تواليهم من غير انقطاع ولا انفصال، ويعرف كيف ينبغي أن يعمل، حتى لا يدخل توالي الملوك انقطاع.
__________
1 في المطبوع: "وغيره" -وهو خطأ لا يستقيم معه الفهم.
2 يبدو أن في النص المطبوع هنا تحريف وتكرار، ونقل موضع إلى آخر.(1/241)
ويبين أي الشرائط والأحوال الطبيعية، ينبغي أن تنفقد في أولاد الملوك وفي غيرهم، حتى يؤهل بها من توجد فيه للملك بعد الذي هو اليوم ملك، ويبين كيف ينبغي أن ينشأ من وجدت فيه تلك الشرائط الطبيعية، وبماذا ينبغي أن يؤدب حتى تحصل له المهنة الملكية، ويصير ملكًا تامًا.
ويبين -مع ذلك- أن الذين رياستهم جاهلية، لا ينبغي أن يكونوا ملوكًا أصلًا، وأنهم لا يحتاجون في شيء من أحوالهم، وأعمالهم وتدابيرهم إلى الفلسفة: لا النظرية، ولا العملية، بل يمكن كل واحد منهم أن يصير إلى غرضه في المدينة والأمة التي تحت رياسته، بالقوة التجريبية التي تحصل له بمزاولة جنس الأفعال التي ينال بها مقصوده، ويصل إلى غرضه من الخيرات، متى اتفقت له قوة قريحية جبلية جيدة لاستنباط ما يحتاج إليه في الأفعال، التي ينال بها الخير الذي هو مقصوده: من لذة أو كرامة أو غير ذلك، ويضاف إلى ذلك جودة الائتساء بمن تقدم من الملوك الذين كان مقصدهم مقصده"1.
ومن هذا النص الطويل نتبين ما يلي:
1- أن الفارابي يخلط بين الأخلاق والسياسة، ولا يميز البحث في أحد العلمين عن البحث في العلم الآخر، ولا موضوعات كلا العلمين، ولا الغاية منهما.
وهذه النظرية هي نفس نظرة أفلاطون وأرسطو، إذ يرى كلاهما أن غاية السياسة المدنية هي السعي إلى توفير الكمال الأخلاقي لأبناء المدينة بمعونة القوانين والتربية، وأن على الدولة أن تعمل على تمكين الفضائل الأخلاقية في نفوس المواطنين، ذلك أن الغاية من المدينة "= الدولة" هي السعادة، تمامًا مثلما هي غاية الفرد.
2- أنه يجعل موضوع علم السياسة "العلم المدني"، هو نفسه ذلك الذي وضعه أرسطو، فإن أرسطو في المقالة الرابعة "الفصل الأول ص1288ب 21- 1289أ 25"، يقرر أن علم السياسة يجب عليه أن يدرس: أ- المدينة المثلى، ب- المدن التي يمكن أن تكون أفضل ما يمكن تحقيقه في ظروف معينة، ج- والمدن الجاهلة أي الشريرة بطبعها.
__________
1 الفارابي: "إحصاء العلوم" ص102-107، ط2، القاهرة سنة 1949، وقد صححنا ما رأينا وجوب تصحيحه في نص هذه النشرة.(1/242)
2- الحاجة إلى الاجتماع الإنساني:
وما يدعو الناس إلى الاجتماع في مجتمع هو احتياجهم بعضهم إلى بعض، وذلك أن "كل واحد من الناس مفطور على أنه يحتاج، في قوامه وفي أن يبلغ أفضل كمالاته -إلى أشياء كثيرة لا يمكنه أن يقوم بها كلها وحده، بل يحتاج إلى قوم يقوم له كل واحد منهم بشيء مما يحتاج إليه، وكل واحد من كل واحد بهذه الحال، فلذلك لا يمكن أن يكون الإنسان ينال الكمال -الذي لأجله جعلت الفطرة الطبيعية- إلا باجتماع جماعة كثيرة متعاونين يقدم كل واحد، جميع ما يحتاج إليه في قوامه، وفي أن يبلغ الكمال، ولهذا كثرت أشخاص الإنسان، فحصلوا في المعمورة من الأرضن، فحدثت منها الاجتماعات الإنسانية.
فمنها الكاملة، ومنها غير الكاملة، والكاملة ثلاث: عظمى، ووسطى، وصغرى. فالعظمى: اجتماعات الجماعات كلها في المعمورة، والوسطى اجتماع أمة في جزء من المعمورة، والصغرى اجتماع أهل مدينة في جزء من مسكن أمة.
وغير الكاملة: اجتماع أهل القرية، واجتماع أهل المحلة، ثم اجتماع في سكة، ثم اجتماع في منزل وأصغرها: المنزل. والمحلة والقرية هما جميعًا لأهل المدينة، إلا أن القرية للمدينة مع أنها خادمة للمدينة، والمحلة للمدينة على أنها جزؤها، والسكة جزء المحلة، والمنزل جزء السكة، والمدينة جزء مسكن أمة، والأمة جزء جملة أهل المعمورة"1.
__________
1 الفارابي: "آراء أهل المدينة الفاضلة" ص117-118.(1/243)
والفارابي يأخذ بما أخذ به اليونانيون عامة، وأكده أرسطو ""السياسة" ص1272 أس5" من أن المدينة هي أفضل هذه المجتمعات، رغم أن هذا إن انطبق على بلاد اليونان، فإنه لم يكن ينطبق على العالم الإسلامي الذي كان يعيش فيه ولا على الشرق بعامة، حيث لم توجد الدولة -المدينة، بل الدولة- الأمة، أو الدولة -الملة. يقول الفارابي: إن "الخير الأفضل والكمال الأقصى إنما ينال أولًا بالمدينة، لا باجتماع هو أنقص منها، ولما كان شأن الخير في الحقيقة أن يكون ينال بالاختيار والإرادة، وكذلك الشرور إنما تكون بالإرادة والاختيار، أمكن أن تجعل المدينة للتعاون على بلوغ بعض الغايات التي هي شرور، فلذلك كل مدينة يمكن أن ينال بها السعادة، فالمدينة التي يقصد بالاجتماع فيها التعاون على الأشياء، التي تنال بها السعادة في الحقيقة هي المدينة الفاضلة، والاجتماع الذي به يتعاون على نيل السعادة، هو الاجتماع الفاضل" "الكتاب نفسه ص118".
ولكنه مع ذلك يتجاوز نطاق المدينة، فيتحدث عن الأمة ويقول: "والأمة التي تتعاون مدنها كلها على ما تنال به السعادة هي الأمة الفاضلة"، ثم يتجاوز الأمة الواحدة إلى الجماعة الإنسانية العالمية كلها، فيقول مباشرة: "وكذلك المعمورة الفاضلة، إنما تكون إذا كانت الأمم التي فيها تتعاون على بلوغ السعادة" "الكتاب نفسه ص118".
وهكذا تجاوز الفارابي نظرة أرسطو المحدودة بالمدينة اليونانية، بل تجاوز النظرة القومية المحدودة بالأمة، واستشرف ببصره إلى الإنسانية كلها بوصفه مجتمعًا واحدًا تتعاون أممه على بلوغ السعادة.
والفارابي في هذه النظرة إلى العالمية، والدولة -العالم ربما يكون قد تأثر بآراء الرواقيين، ونحن نعلم أن الفلسفة الرواقية تنظر إلى الكون كله على أنه وحدة واحدة يسودها العقل، وما الاعتقاد الرواقي في العالم -الدولة أو الدولة- العالم إلا المظهر السياسي لهذه النظرة الفلسفية في الكون، وعند الرواقية "أن الكون بأسره جوهر واحد، طبيعة واحدة"، والكون كله مجتمع(1/244)
كوني واحد ودولة واحدة، ويقول فلوطرخس عن زينون الرواقي "335-263ق. م" أن زينون كان يقرر أنه "ينبغي علينا ألا نعيش في مدن وأقاليم "أو أمم"، تتميز بعضها عن بعض بقواعد خاصة للعدالة، بل يجب أن نعتبر كل الناس أبناء أمة واحدة وأبناء مدينة واحدة، ويجب أن تكون هناك حياة واحدة، ونظام واحد كأنهم جميعًا قطيع واحد يرعى في مرعى مشترك. وقد عمل زينون وخلفاؤه الرواقيون على تحطيم فكرة "المدينة"، وصاروا دعاة لفكرة أن العالم يجب أن يكون دولة واحدة.
ولكن من المؤسف أن الفارابي لم يتوسع في فكرة الدولة -العالم هذه، ولم يشر إليها إلا في زين السطرين اللذين أوردناهما عن "آراء أهل المدينة الفاضلة".(1/245)
3- المدينة الفاضلة:
ويتحدث الفارابي عن المدينة لا الفاضلة، لا عن المدينة المثلى، أو اليوتوبيا Utopia.
وعنده أن "المدينة الفاضلة تشبه البدن التام الصحيح، الذي تتعاون أعضاؤه كلها على تتميم حياة الحيوان، وعلى حفظها عليها، وكما أن البدن أعضاؤه مختلفة متفاضلة الفطرة والقوى، وفيها عضو واحد رئيس وهو القلب، وأعضاؤه تقرب مراتبها من ذلك الرئيس، وكل واحد منها جعلت فيه بالطبع قوة يفعل بها فعله، ابتغاء لما هو بالطبع غرض ذلك العضو الرئيسي، وأعضاء أخر فيها قوى تفعل أفعالها على حسب أغراض هذه التي ليس بينها، وبين الرئيس واسطة -وهذه في الرتبة الثانية، وأعضاء أخر تفعل الأفعال على حسب غرض هؤلاء الذين في هذه المرتبة الثانية، ثم هكذا إلى أن ينتهي إلى أعضاء تخدم ولا ترئس أصلًا، وكذلك المدينة: أجزاؤها مختلفة الفطرة، متفاضلة الهيئات، وفيها إنسان هو رئيس، وأخر تقرب مراتبها من الرئيس، وفي كل واحد منها هيئة وملكة يفعل بها فعلًا يقتضي به ما هو(1/245)
مقصود ذلك الرئيس، وهؤلاء هم أولو المراتب الأولى، ودون هؤلاء قوم يفعلون الأفعال على حسب أغراض هؤلاء، وهؤلاء هم في المرتبة الثانية، ودون هؤلاء أيضًا من يفعل الأفعال على حسب أغراض هؤلاء، ثم هكذا تترتب أجزء المدينة، إلى أن تنتهي إلى أخر يفعلون أفعالهم على حسب أغراضهم، فيكون هؤلاء هم الذين يخدمون ولا يخدمون، ويكونون في أدنى المراتب، ويكونون هم الأسفلين.
غير أن أعضاء البدن طبيعية، والهيئات التي لها "هي" قوى طبيعية، وأجزاء المدينة، وإن كانوا طبيعين، فإن الهيئات والملكات التي يفعلون بها أفعالهم للمدينة ليست طبيعية، بل إرادية، على أن أجزاء المدينة مفطورون بالطبع بفطر متفاضلة يصلح لها إنسان بشيء دون شيء، غير أنهم ليسوا أجزاء المدينة بالفطر التي لهم وحدها، بل بالملكات الإرادية التي تحصل لها، وهي الصناعات وما شاكلها. والقوى التي هي أعضاء البدن بالطبع، فإن نظائرها في أجزاء المدينة ملكات وهيئات إرادية"1.
وتشبيه المدينة بالبدن نجد نظيرًا له عند أرسطو، حين يشبه أجزاء المدينة بأجزاء الحيوان2، بيد أن الفارابي توسع في المقارنة، والتشبيه أكثر مما فعل أرسطو.
__________
1 الفارابي: "آراء أهل المدينة الفاضلة" ص118-119، بيروت سنة 1973.
2 أرسطو: "السياسة" ص1290ب-25-39.(1/246)
4- رئيس المدينة "رئيس الدولة":
ورئيس المدينة هو أكمل أجزاء المدينة فيما يخصه، وله أفضل ما يشاركه فيه غيره من أعضاء المدينة، شأنه شأن العضو الرئيسي في البدن -وهو القلب- إذ هو بالطبع أكمل الأعضاء وأتمها.
ورئيس المدية هو "السبب في أن تحصل المدينة وأجزاؤها، والسبب في أن تحصل الملكات الإرادية التي لأجزائها، وفي أن تترتب مراتبها، وإن اختل منها جزء كان هو المرفد له بما يزيل عنه اختلاله"1.
كذلك يقول الفاربي عن رئيس المدينة: إن نسبته إلى سائر أجزاء المدينة كنسبة السبب الأول "= الله" إلى سائر الموجودات، ولهذا ينبغي على أجزاء المدينة الفاضلة أن تحتذي بأفعالها حذو مقصد رئيسها الأول.
ويمضي إلى بيان صفات رئيس المدينة الفاضلة، فيقول: إن "رئيس المدينة الفاضلة، ليس يمكن أن يكون أي إنسان اتفق؛ لأن الرئاسة إنما تكون شيئين: أحدهما أن يكون بالفطرة والطبع معدًا لها، والثاني: بالهيئة والملكة الإرادية"2، يعني أنه ينبغي أن يتوافر فيه شرطان: أن يكون لديه استعداد فطري للرياسة، وأن تتكون لديه الملكة الإرادية لتولي أعمال الرياسة.
ويرى الفارابي أن رئيس المدينة الفاضلة، "ينبغي أن تكون صناعته صناعة لا يمكن أن يخدم بها أصلًا، ولا يمكن فيها أن ترأسها صناعة أخرى أصلًا، بل تكون صناعته صناعة: نحو غرضها تؤم الصناعات كلها، وإياها يقصد بجميع أفعال المدينة الفاضلة، ويكون ذلك الإنسان إنسانًا لا يكون يرأسه إنسان أصلًا، وإنما يكون ذلك الإنسان إنسانًا قد استكمل، فصار عقلًا ومعقولًا بالفعل"3. وهنا يخرج الفارابي عن وصف الرئيس الإنسان، إلى وصف الرئيس الذي هو فوق الإنسان، أو يكون إنسانًا يوصى إليه بتوسط العقل الفعال، "ويكون بما يفيض منه إلى عقله المنفعل حكيمًا فيلسوفًا، ومتعقلًا على التمام، وبما يفيض منه إلى قوته المتخيلة نبيًا منذرًا بما سيكون، ومخبرًا بما هو الآتي من الجزئيات ... وهذا الإنسان هو في أكمل مراتب الإنسانية، وفي أعلى درجات السعادة، وتكون نفسه كاملة متحدة بالعقل الفعال ... وهذا الإنسان هو الذي يقف على كل فعل يمكن أن يبلغ به السعادة، فهذا أول شرائط الرئيس"4.
__________
1 الفارابي: "آراء أهل المدينة الفاضلة" ص120.
2 الكتاب نفسه ص122.
3 الكتاب نفسه ص123.
4 الكتاب نفسه ص125-126.(1/247)
وبهذه الصفات يصف الفارابي رئيسًا مثاليًا للمدينة الفاضلة، بل للأمة الفاضلة، بل "للمعمورة من الأرض كلها"1.
خصال رئيس المدينة الفاضلة:
وهذه حال لا تكون "إلا لمن اجتمعت فيه بالطبع اثنتا عشرة خصلة، قد فطر عليها:
أحدها: أن يكون تام الأعضاء، قواها مؤاتية أعضاءها على الأعمال التي شأنها أن تكون بها، ومتى هم عضو2 من أعضائه بعمل يكون له أتى عليه بسهولة2.
2- ثم أن يكون بالطبع جيد الفهم والتصور لكل ما يقال له، فيلقاه على ما يقصده الفاعل، وعلى حسب الأمر في نفسه.
3- ثم أن يكون جيد الحفظ لما يفهمه ولما يراه ولما يسمعه ولما يدركه، وفي الجملة: لا يكاد ينساه.
4- ثم أن يكون جيد الفطنة، ذكيًا، إذا رأى الشيء بأدنى دليل فطن له على الجهة التي دل عليها الدليل.
5- ثم أن يكون حسن العبارة، يؤاتيه لسانه على إبانة كل ما يضمره إبانة تامة.
6- ثم أن يكون محبًا للتعليم والاستفادة، منقادًا له، سهل القبول، لا يؤلمه تعب التعلم، ولا يؤذيه الكد الذي يناله منه.
7- ثم أن يكون غير شره على المأكول والمشروب والمنكوح، متجنبًا بالطبع للعب، مبغضًا للذات الكائنة عن هذه.
8- ثم أن يكون محبًا للصدق وأهله، مبغضًا للكذب وأهله.
__________
1 الكتاب نفسه ص127.
2 ... هكذا ينبغي تصحيح النص الوارد في المخطوطات.(1/248)
9- ثم أن يكون كبير النفس، محبًا للكرامة: تكبر نفسه بالطبع عن كل ما يشين عن الأمور، وتسمو نفسه بالطبع إلى الأرفع منها.
10- ثم أن يكون الدرهم والدينار، وسائر أعراض الدنيا هينة عنده.
11- ثم أن يكون بالطبع محبًا للعدل وأهله، ومبغضًا للجور والظلم وأهلهما، يعطي النصف من أهله ومن غيره ويحث عليه، ويؤتي من حل به الجور مؤاتيًا لكل ما يراه حسنًا وجميلًا، ثم أن يكون عدلًا غير صعب القياد، ولا جموحًا ولا لجوجًا إذا دعي إلى العدل، بل صعب القياد إذا دعي إلى الجور وإلى القبيح.
12- ثم أن يكون قوي العزيمة على الشيء الذي يرى أنه ينبغي أن يفعل، جسورًا عليه، مقدامًا غير خائف ولا ضعيف النفس"1.
ويكرر الفارابي ذكر هذه الخصال في كتابه "تحصيل السعادة"2، ويذكر أن هذه هي الشروط التي ذكرها أفلاطون في كتاب "السياسة"، والواقع أن الفارابي ينقل ها هنا عن كتاب "السياسة" لأفلاطون "م ص6 484 أ-487 أ"، حين يتحدث سقراط عن الحاكم الفيلسوف، أو الفيلسوف الحاكم وما ينبغي أن يتوافر فيه من صفات، وهي في نظر سقراط -أفلاطون:
1- أن يكون حريصًا على تذوق كل العلوم ومهتمًا بالدراسة، وشديد الاستطلاع،
2- أن يتعلق في كل شيء بالجوهر والماهية،
3- أن يكون محبًا للصدق، ولا يقر أبدًا بالكذب،
4- أن يكون معتدل المزاج، غير شره مطلقًا، وغير متعطش للثروات،
__________
1 الفارابي: "آراء أهل المدينة الفاضلة" ص127-129.
2 الفارابي: "تحصيل السعادة" ص44-45، حيدر أباد، سنة 1345هـ.(1/249)
5- أن لا يطلب إلا لذة النفس وحدها -مطرحًا لذات البدن،
6- أن يكون كبير النفس، مترفعًا عن الصغائر،
7- أن يكون شجاعًا لا يخاف الموت،
8- أن يكون جيد الحفظ لما يتعلمه، ذا ذاكرة قوية.
9- أن يسهل عليه فهم ما يتعلمه،
10- أن يكون طبعه ذا ذوق وأناقة واتزان،
11- أن يكون محبًا للعدالة،
12- أن يكون ذا فطنة، أي حكمة عملية.
وواضح تمامًا من بيان صفات الفيلسوف الحاكم عند أفلاطون، كما عرضها في كتاب "السياسة" أن الفارابي في كتابيه "تحصيل السعادة"، و"آراء أهل المدينة الفاضلة"، إنما نقل ما ذكره أفلاطون دون أن يضيف إليه شيئًا ذا بال، كما اعترف هو نفسه في كتاب "تحصيل السعادة".
ويعترف الفارابي بأن من العسر اجتماع هذه الخصال الثنتي عشرة في إنسان واحد، وإنما توجد في "الواحد بعد الواحد، والأقل من الناس" ""آراء أهل المدينة الفاضلة" ص129 س4"، ولهذا يرى أن يكتفي -في الرئيس الذي من المرتبة الثانية- بالشرائط التالية الست:
"أحدها: أن يكون حكيمًا.
والثاني: أن يكون عالمًا حافظًا للشرائع والسنن والسير التي دبرها الأولون للمدينة، محتذيًا بأفعاله كلها حذو تلك بتمامها.
والثالث: أن تكون له جودة استنباط فيما لا يحفظ عن السلف فيه شريعة، ويكون فيما يستنبطه من ذلك محتذيًا حذو الأئمة الأولين.
والرابع: أن يكون له جودة روية، وقوة استنباط لما سبيله أن يعرف في وقت من الأوقات الحاضرة من الأمور والحوادث التي تحدث، مما ليس سبيلها أن يسير فيه الأولون، ويكون متحريًا فيما يستنبطه من ذلك صلاح المدينة.(1/250)
والخامس: أن يكون له جودة إرشاد بالقول إلى شرائع الأولين، وإلى التي استنبط بعدهم مما احتذى فيه حذوهم.
والسادس: أن يكون له جودة تأت بيدنه في مباشرة أعمال الحرب، وذلك أن تكون معه الصناعة الحربية الخادمة والرئيسة"1.
الصفة الأولى أهم هذه الصفات، حتى إنه "إذا لم يوجد إنسان واحد اجتمعت فيه هذه الشرائط، ولكن وجد اثنان: أحدهما حكيم، والثاني فيه الشرائط الباقية، كانا هما رئيسين في هذه المدينة"، فإذا تفرقت هذه "أي: الشرائط" في جماعة، وكانت الحكمة في واحد، و"الشرط" الثاني في واحد، و"الشرط" الثالث في واحد، و"الشرط" الرابع في واحد، و"الشرط" الخامس في واحد و"الشرط" السادس في واحد، وكانوا متلائمين كانوا هم الرؤساء الأفاضل، فمتى اتفق في وقت ما إن لم تكن الحكمة جزء الرياسة، وكانت فيها سائر الشرائط، بقيت المدينة الفاضلة بلا ملك، وكان الرئيس القائم بأمر هذه المدينة ليس بملك، وكانت المدينة تعرض للهلاك، فإن لم يتفق أن يوجد حكيم تضاف الحكمة إليه، لم تلبث المدينة بعد مدة أن تهلك"2.
إذن الحكمة هي الشرط الذي لا غنى عنه لوجود رئيس في المدينة الفاضلة. وهذا أيضًا متأثر بما ذهب إليه أفلاطون في كتاب "السياسة"، ويتأيد هذا من ناحية أخرى بما قاله الفارابي في تلخيصه لمحاورة "السياسة"، فقال: إن أفلاطون يرى أن المدينة الفاضلة "يلزم من فيها -إن كان مزمعًا أن يوجد فيها جميع ما تنال به السعادة- أن تكون المهنة الملكية التي فيها هي الفلسفة على الإطلاق، وأن الفلاسفة يكونون أعظم أجزائها، ثم يليهم سائر أهل المراتب"3.
__________
1 الفارابي: "آراء أهل المدينة الفاضلة" ص129-130.
2 الكتاب نفسه ص130.
3 الفارابي: "فلسفة أفلاطون وأجزاؤها" في كتابنا: "أفلاطون في الإسلام" ص23. طهران، سنة 1974.(1/251)
مضادات المدينة الفاضلة:
ويضاد المدينة الفاضلة:
1- المدينة الجاهلة "أو الجاهلية".
2- المدينة الفاسقة.
3- المدينة المتبدلة.
4- المدينة الضالة.
1- أما المدينة الجاهلة فهي التي لم يعرف أهلها السعادة، ولا خطرت ببالهم. وإن أرشدوا إليها لم يفهموها ولم يعتقدوها، وإنما عرفوا من الخيرات بعض ما يظن في الظاهر أنها خيرات مثل سلامة الأبدان، والثراء والاستمتاع باللذات، وأن يكون المرء مخلى وهواه، وأن يكون مكرمًا معظمًا، فتلك هي السعادة في نظر أبناء هذه المدينة، والسعادة العظمى الكاملة هي اجتماع هذه كلها. وأضدادها هي آفات الأبدان والفقر وعدم التمتع باللذات، وأن لا يكون مخلى وهواه، وأن لا يكون مكرمًا.
وهذه المدينة الجاهلة على أنواع منها:
"أ- المدينة الضرورية، وهي التي قصد أهلها الاقتصار على الضروري مما به قوام الأبدان من المأكول، والمشروب والملبوس والمسكون والمنكوح، والتعاون على استفادتها.
ب- والمدينة البدالة هي التي قصد أهلها أن يتعاونوا على بلوغ اليسار والثروة، ولا ينتفعوا باليسار في شيء آخر، لكن على أن اليسار هو الغاية في الحياة.
جـ- ومدينة الخسة والسقوط، وهي التي قصد أهلها التمتع باللذة: من المأكول والمشروب والمنكوح، وبالجملة: اللذة من المحسوس والتخيل، وإيثار الهزل واللعب بكل وجه، ومن كل نحو.
د- ومدينة الكرامة، وهي التي قصد أهلها أن يتعاونوا على أن يصيروا(1/252)
مكرمين ممدوحين مذكورين مشهورين بين الأمم، ممجدين معظمين بالقول والفعل، ذوي فخامة وبهاء، إما عند غيرهم وإما بعضهم عند بعض، كل إنسان على مقدار محبته لذلك، أو مقدار ما أمكنه بلوغه منه.
هـ- ومدينة التغلب، وهي التي قصد أهلها أن يكونوا القاهرين لغيرهم، الممتنعين أن يقهرهم غيرهم، ويكون كدهم اللذة التي تنالهم من الغلبة فقط.
و والمدينة الجماعية هي التي قصد أهلها أن يكونوا أحرارًا يعمل كل واحد منهم ما شاء لا يمنع هواه في شيء أصلًا"1.
وفي هذا النص صعوبتان لغويتان هما:
1- "المدينة البدالة" -ماذا يقصد بها؟ لقد وردت في طبعتي كتاب "السياسة المدنية"2 بصورة: النذالة "بالذال وقبلها نون"، وهو تحريف صارخ إذ وصفها بعد ذلك لا يسمح بذلك، ولعل الصواب أن تكون: مدينة البدالة، أي مدينة التجار، ويؤيد ذلك وصفها بأن هدف أهلها هو التعاون "على نيل الثروة واليسار، والاستكثار من إقتناء الضروريات وما قام مقامها من الدرهم والدينار، وجمعها فوق مقدار الحاجة إليها، لا لشيء سوى محبة اليسار فقط والشح عليها، وأن لا ينفع منها إلا في الضروري مما به قوام الأبدان، وذلك إما من جميع وجوه المكاسب، وإما من الوجوه التي تتأتى في ذلك البلد، وأفضل هؤلاء عندهم أيسرهم وأجدرهم احتيالًا في بلوغ اليسار، ورئيسهم هو الإنسان القادر على جودة التدبير لهم فيما يكسبهم اليسار، وفيما يحفظه عليهم دائمًا. واليسار ينال من جميع الجهات التي منها يمكن أن ينال الضروري وهي: الفلاحة والرعاية والصيد واللصوصية، ثم المعاملات الإرادية مثل التجارة والإجارة، وغير ذلك"3.
__________
1 الفارابي: "آراء أهل المدينة الفاضلة" ص132-133.
2 ص88 س14، بيروت سنة 1963.
3 الفارابي: "كتاب السياسة المدنية" ص88-89. بيروت، سنة 1964.(1/253)
وربما كان هذا الوصف أقرب ما يكون انطباقًا على ما يسمى "حكومة الأغنياء".
2- والصعوبة الثانية في عبارة: "المدينة الجماعية"، ولكن الوصف الوارد في "السياسة المدنية" "ص99" يوضح المعنى المقصود منها، إذ ورد فيه: "فأما المدينة الجماعية فهي المدينة التي كل واحد من أهلها مطلق مخلى لنفسه، يعمل ما يشاء وأهلها متساوون، وتكون سنتهم أن لا فضل لإنسان على إنسان في شيء أصلًا، ويكون أهلها أحرارًا يعملون ما شاؤوا، لا يكون لأحد على أحد منهم ولا من غيرهم سلطان، إلا أن يعمل ما تزول به حريتهم، فتحدث فيهم أخلاق كثيرة وهمم كثيرة وشهوات كثيرة، والتذاذ بأشياء كثيرة لا تحصى كثرة، ويكون أهلها طوائف كثيرة متشابهة، ومتباينة لا تحصى كثرة، فتجتمع في هذه المدينة تلك التي كانت متفرقة في تلك المدن كلها -الخسيس منها والشريف- وتكون الرئاسات بأي شيء اتفق من سائر تلك الأشياء التي ذكرناها، ويكون جمهورها الذين ليست لهم ما للرؤساء مسلطين على أولئك الذين يقال فيهم أنهم رؤساؤهم، ويكون من يرأسهم إنما يرأسهم بإرادة المرءوسين، ويكون رؤساؤهم على هوى المرءوسين، وإذا استقصى أمرهم لم يكن فيهم في الحقيقة لا رئيس ولا مرءوس"1.
وربما كان هذا الوصف أقرب إلى تصوير النظام الديمقراطي؛ لأنه يؤكد الحرية والمساواة وكون الرؤساء على هوى المرءوسين، وهذه خصائص النظام الديمقراطي، وسائر الصفات هي صفات الديمقراطية، كما شاهدها أفلاطون في أثينا في القرن الخامس والنصف الأول من القرن الرابع، فقد كانت هذه الديمقراطية كما قال عنها ثوكوديدس "الكتاب الثاني 2: 65" "تقوم على إسلام إدارة شؤون المدينة إلى أهواء الدهماء"، ويقول أفلاطون في كتاب "السياسة" "ص557 وما يليها": إن الديمقراطية تنشأ حين يكسب الفقراء
__________
1 الكتاب نفسه ص99.(1/254)
ويقتلون أو ينقون خصومهم، ويعطون باقي الناس حقوقًا متساوية، وفرصًا متكافئة لتولي المناصب، ويكون اليقين فيها عادة بالقرعة، "وفي الديمقراطية حرية في القول كبيرة موفورة، وكل فرد له الحرية في أن يفعل ما يشاء ... ويرتب حياته كما يحلو له ... وتختلف الأخلاق إلى أقصى درجة ... وتنوع الأخلاق، مثل تنوع الألوان في ثوب مزركش، يجعلها تبدو جذابة ... وهي تحتوي على كل نمط ممكن، بسبب ما تهيئه من حريات ... وليس في الديمقراطية إرغام على ممارسة السلطة إذا كنت قادرًا عليها، أو على الخضوع للسلطة إذا كنت لا تريد الخضوع لها، وتستطيع أن تمتنع من المشاركة في الحرب، إذا نشبت الحرب، كما أن في استطاعتك أن تثير حربًا خاصة في وقت السلام إذا كنت لا تحب السلام، وإذا وجد قانون يمنعك من تولي منصب سياسي أو قضائي، ففي وسعك مع ذلك أن تتولى أيهما شئت أن مر بك".
وواضح كل الوضوح أن ها هنا تشابهًا تامًا بين المدينة الجماعية، والديمقراطية كما وصفها أفلاطون، ولهذا يجب أن نقرأ: الجماعية "بفتح الجيم"1، نسبة إلى الجماعة "الشعب، الجماعة".
ونتابع ذكر باقي مضادات المدينة الفاضلة:
2- المدينة الفاسقة وتتفق في الآراء على الآراء الفاضلة، أما في الأفعال فتسلك سلوك أهل المدينة الجاهلة.
3- المدينة المتبدلة: وهي التي كانت آراؤها وأفعالها في القديم آراء المدينة الفاضلة وأفعالها، غير أنها تبدلت فدخلت فيها آراء غير تلك، واستحالت أفعالها على غير تلك"2.
__________
1 من العار أن يقرأها ي. كرم وكذلك ف. نجار ناشر "السياسة المدنية" بكسر الجيم على أنها نسبة إلى الدفاع الجنسي!
2 الفارابي: "آراء أهل المدينة الفاضلة" ص133.(1/255)
4- المدينة الضالة: هي التي نصبت لها مبادئ غير حقيقة، ونصبت لها سعادة غير التي هي في الحقيقة سعادة، وحوكيت لها سعادة أخرى غيرها، ورسمت لها أفعال وآراء لا تنال بشيء منها السعادة1، "ويكون قد استعمل في ذلك التمويهات والمخادعات والغرور".
وملوك المدن المضادة للمدينة الفاضلة مضادون لملوك هذه الأخيرة، ورياستهم مضادة للرياسات الفاضلة.
و"كل رئاسة جاهلية إما أن يكون القصد منها التمكن من الضروري، وإما اليسار، وإما التمتع باللذات، وإما الكرامة والذكر والمديح، وإما الغلبة، وإما الحرية، فلذلك صارت هذه الرئاسات تشرى شراء بالمال -وخاصة الرئاسات التي تكون في المدينة الجماعية: فإنه ليس أحد هناك أولى بالرئاسة من أحد، فمتى سلمت الرئاسة فيها إلى أحد، فإما أن يكون أهلها متطولين بذلك عليه، وإما أن يكونوا قد أخذوا منه أموالًا أو عوضًا آخر"2.
ويفضل الفارابي هذه الأنواع تفصيلًا أوسع وأوضح في كتاب "السياسة المدنية"، فليرجع إليه القارئ لمزيد من التفصيل، على أنه في هذا الباب كله لا يكاد يخرج عما أورده أفلاطون في المقالة الثامنة من "السياسة" "ص543-592".
__________
1 راجع الفارابي: "السياسة المدنية" ص104 بيروت سنة 1964.
2 الفارابي: "آراء أهل المدية الفاضلة" ص133، بيروت سنة 1973.(1/256)
خاتمة:
بفضل الفارابي توطدت أركان الفلسفة في العالم الإسلامي، واتخذت طابعها الذي سيكون لها بعد ذلك حتى ابن رشد، وهو المزج بين الأفلاطونية والأفلوطينية من ناحية، والفلسفة الأرسطية المشائية من ناحية أخرى، في نظرة في العالم على حظ كبير من الأصالة في التركيب.
وإذا كان الفارابي لم يخلف تلامذة مباشرين؛ لأنه عاش وحيدًا، فإن الفلاسفة التالين، وعلى رأسهم ابن سينا، سيعتمدون عليه ليس فقط في فهم الفلسفة اليونانية، بل وأيضًا في وضع كثير من الآراء والنظريات.(1/257)
المحتويات:
الصفحة الموضوع
5 مقدمة
13 ابن سينا
13 أ- حياته
21 ب- مؤلفاته
23 جـ- فلسفته
26 العلم الإلهي
46 الطبيعيات
52 النفس
63 التصوف النظري
73 أحوال العارفين
81 الخلاصة
83 ابن باجه
83 أ- حياته
85 ب- مؤلفاته
89 جـ- فلسفته
105 خاتمة(1/259)
الصفحة الموضوع
107 ابن رشد
107 أ- حياته
116 ب- مؤلفاته
121 جـ- فلسفته
148 خلاصة
151 خاتمة
155 الكندي-فيلسوف العرب
155 أ- حياته
160 ب- فلسفته
160 تمهيدات
164 ما بعد الطبيعة
177 العالم
183 علم النفس
187 دفع الأحزان
194 خاتمة
195 الفارابي
195 أ- حياته
199 ب- مؤلفاته
204 جـ- تمهيد إلى فلسفته
215 مذهب الفارابي
257 خاتمة(1/260)