فن الحرب عند العرب في الجاهلية
مدخل
...
1- فن الحرب عند العرب في الجاهلية:
البيئة العربية والحرب:
العربيُّ محاربٌ بطبعه، تأصلت فيه حاسَّة الحرب بحكم الظروف الجغرافية والاجتماعية والاقتصادية لشبه الجزيرة العربية، وكان للتركيب الاجتماعي والسياسي لعرب شبه الجزيرة أثره في تشكيل تلك الحاسة لدى كلٍّ من عرب البادية وعرب القرى والممالك.
أما عرب البادية: فهم كما يقول ابن خلدون:
"وأهل البدو لتفردهم عن المجتمع, وتوحشهم في الضواحي، وبعدهم عن الحامية, وانتباذهم عن الأسوار والأبواب، قائمون بالمدافعة عن أنفسهم، لا يكلونها إلى سواهم، ولا يتقون فيها بغيرهم، فهم دائمًا يحملون السلاح، ويتلفتون عن كل جانب في الطرق، ويتجافون عن الهجوع إلّا غرارًا في المجالس وعلى الرحال وفوق الأقتاب، ويتوجسون للنبئات والهيعات، ويتفردون في القفر والبيداء مدلّين ببأسهم, واثقين بأنفسهم، قد صار لهم البأس خلقًا، والشجاعة سجيةً يرجعون إليها متى دعاهم داعٍ، أو استنفرهم صارخ".. ويقول كذلك:
"وطبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس, وأن رزقهم في ظلال رماحهم(1/5)
وليس عندهم في أخذ أموال غيرهم حدٌّ ينتهون إليه، بل كلما امتدت أعينهم إلى مالٍ أومتاعٍ أو ماعونٍ نهبوه".
والبدوي يرى في العدوان على جاره عدوانًا عليه، فَيَهِبُّ للذود عنه، وكثير من أيام العرب كانت تثور لهذا السبب، أضف إلى ذلك ما عُرِفَ به البدوي من حبٍّ لقبيلته, وتعصبه لها, وحبه للأخذ بالثأر, إلى غير ذلك مما يستلزم الاستعداد الدائم للقتال ومرافقة السلاح في كل مكان.
وأما عرب القرى والممالك: فبالإضافة إلى بواعث القتال عند البدو، فقد انفردوا بعامل آخر هو تأمين المتاجر وحماية القوافل من عدوان البداة، إما متاجرين بأموالهم، وإما حارسين لأموال غيرهم، وفي كلتا الحالتين كانت التجارة تتسبب في بعض الحروب بين حماتها والمعتدين عليها.
أشكال الحروب عند العرب في الجاهلية:
وقد عرف العرب نوعين من الحروب:
النوع الأول: الإغارات, أو "حرب العصابات":
ومن أمثلتها يوم الهباءة ويوم الفروق, ويندرج تحت هذا النوع كل أشكال القتال المحدود الذي يتميز بالخصائص التالية:
أ- الهدف المحدود.
ب- صغر حجم القوة القائمة بالإغارة؛ فقد روي أن عنترة العبسي سُئِلَ عن عددهم يوم الفروق فقال: "كنا مائة، لم نكثر فنفشل، ولم نقل فنذل".
جـ- قصر زمن المعركة؛ فقد كانت لا تزيد عن اليوم الواحد في الغالب، ولهذا سميت حروب العرب "أيامًا".
النوع الثاني: الحروب المنظمة نسبيًّا:
وقد عرف العرب هذا النوع بحكم الاتصال والاحتكاك الحربيّ بدول(1/6)
الحضارة الفارسية والبيزنطية، فقد كان عرب الحيرة بحكم تحالفهم مع الفرس يحاربون معهم ضد البيزنطيين، وكذلك كان عرب الغساسنة؛ بحكم تحالفهم مع البيزنطيين يحاربون ضد الفرس, فكان ذلك مصدرًا للخبرة من فنون الحرب المنظمة.
ففي معركة ذي قار, التي وقعت عام 610 ميلادية, بين العرب الغساسنة وجيش الفرس، أظهر العرب الغساسنة كفاءةً عاليةً دلت على خبرتهم بالكثير من فنون الحرب المنظمة؛ مثل: تنظيم الجيش إلى ميمنة وميسرة وقلب، وقيامهم باجراءات الاستطلاع قبل المعركة، والتعبئة المعنوية للمقاتلين؛ لرفع روحهم المعنوية، واستخدام تكتيك الكمائن وأعمال الخداع والحرب النفسية، وكان لهم النصر على جيش الفرس.
ومن أمثلة أعمال الخداع في معركة ذي قار أن "بني شيبان" اتفقوا مع قبيلة "إياد" التي كانت تحارب مع الفرس، على أن تنسحب من المعركة إذا هجم كمين العرب، وكانوا قد كمنوا للفرس كمينًا في مكانٍ يُقَالُ له "الخبيء" فلما تناوش الفريقان يوم المعركة، حملت ميسرة بكر على ميمنة الفرس، وحملت ميمنتها على ميسرتهم، فلما حمي الوطيس خرج الكمين عليهم؛ فتصايح العرب وشدوا على القلب، فولت "إياد" منهزمة كما وعدتهم، فوقع الخلل في صفوف الفرس وانهزمت، وتبعتهم قبائل "بكر" تقتل وتأسر كما تشاء.
وقد أظهر العرب خبرتهم في الحروب المنظمة نسبيًّا في معارك أخرى غير "ذي قار"؛ مثل: يوم "حليمة" و"عين أباغ" و"البردان".(1/7)
أساليب القتال:
1- كان أسلوب القتال لدى عرب البادية بدائيًّا، فهم يخرجون للقتال على غير تعبئة, وعلى النظام الذي يراه شيخ القبيلة، وكانوا في العادة يغيرون
بغتة، ثم يفرون إلى البادية عند مطاردتهم.
2- أما عرب المدن: فقد عرفوا نظام التعبئة, وتقسيم الجيش إلى مقدمة ومؤخرة وقلب وجناحين.
3- وكانت المعركة في العادة تبدأ بطلب المبارة من أحد الطرفين جريًا على عادتهم، وذلك بأن يخرج بين الفريقين فارس مشهور، فيطلب أن يخرج لمبارزته فارس آخر في مثل سنه ومركزه في قومه، وكان الغرض من تلك المبارزة إظهار المهارة الفردية، والقوة البدنية، ويقوي به قلوب الأصحاب، ثم إنها بما يحدث فيها من قتل متتابع، تثير في الفرسان شهوة الانتقام، والأخذ بالثأر، فتجيش نفوسهم للقتال، فيندفعون إليه بكل قوة.
4- وفي بعض الأحيان كان يحدث التفاهم بين قائدي الجيشين، على أن المبارزة تحسم النزاع، وتحقن دماء الناس، وعلى أن يكسب القضية من يفوز فيها, وقد تعاهد على ذلك الحارث والمنذر يوم "عين أباغ"1.
5- وإذا لم يتم الاتفاق على حسم النزاع بالمبارزة، كان الذي يحدث بعدها أن يتراشق الفريقان بالنبال، وكان هذا السلاح قليلًا بين العرب، فإذا كانوا يحاربون من هم أمهر منهم في استعمال القوس، فإنهم كانوا يبادرون بالهجوم عليه، حتى لا يعرضوا أنفسهم للنبال القاتلة، يَصُبُّها عليهم رماة الفرس من التوابيت الخشبية التي على ظهور الفيلة، ويرون في شَنِّ الهجوم الخاطف دهشة العدو؛ لأنه يكون في العادة هجومًا عنيفًا قاسيًا.. وقد ظهر هذا الأسلوب مثلًا في معركة ذي قار, فقد قال "حنظلة بن
__________
1 وقد بقي لهذا الأسلوب أثر في العهد الإسلامي؛ فإن "عليًّا" طلب إلى "معاوية" في معركة صفين أن يتبارزا، ويحقنا دماء الناس، فمن قتل الآخر رجع بالخلافة، فلم يقبل "معاوية" ذلك.(1/8)
ثعلبة" لقومه: "إن النشاب الذي مع الأعاجم يفرقكم، فإذا أرسلوه لم يخطئكم، فعاجلوهم اللقاء".
فإذا أفلح هجومهم هذا، وإلّا تراجعوا قليلًا، ليعيدوا تنظيم صفوفهم ثم يعاودوا الهجوم، وهذا الأسلوب يُسَمَّى عندهم: "الكَرُّ والفَرُّ" وكثيرًا ما كانوا يوصون أنفسهم بإتقان الكَرَّةِ بعد الفَرَّةِ.
يقول ابن خلدون: "وصفة الحروب الواقعة بين أهل الخليفة منذ أول وجودهم على نوعين؛ نوع بالزحف صفوفًا, ونوع بالكر والفر، أما الذي بالزحف: فهو قتال العجم كلهم على تعاقب أجيالهم، وأما الذي بالكر والفر: فهو قتال العرب والبربر من أهل المغرب".. "ومن مذاهب أهل الكر والفر في الحروب، ضرب المصافِّ وراء عسكرهم من الجمادات والحيوانات العجم، فيتخذونها ملجأً للخيالة من كرهم وفرهم، يطلبون به ثبات المقاتلة، ليكون أدوم للحرب، وأقرب إلى الغلب".
6- والعربي عند الالتحام مدفوع بطلب الثأر، فسيفه في يده يضرب به القريب، ورمحه تحت إبطه يطعن به البعيد، وهو خلال المعركة يطلب فارسًا بعينه؛ إن كان له ثأر عنده، وإلّا يطلب فارسًا في مثل مركزه وسنه، فكانت الحرب عندهم حرب فرد لفرد، وفرس لفرس، والغرض منها: إظهار البطولة الفردية، وكانت تنتهي معاركهم -وبخاصة البدو- بتدخل فريق ثالث للصلح1، على أن تدفع القبيلة التي قلت خسائرها، الدية عن العدد الزائد من قتلى أعدائها، أما معارك الحضر: فكانت تنتهي بسلب الغنائم وجمع السبايا، وتفريقها على المقاتلين، وتتبع المنهزمين واحتلال ديارهم, أو إخضاعهم لسلطانهم؛ بحيث يكونون في قبضتهم.
__________
1 كما حدث عندما توسط الزعيمان الحارث بن عوف وهرم بن سنان في حرب "عبس وذبيان".(1/9)
أسلحة القتال:
1- القوس:
لم يكن الرمي بالقوس شائعًا بين العرب قديمًا، ولكنهم نقلوه عن الفرس، ولم يبرعوا فيه إلّا متأخرين. يدل على ذلك قول بعضهم يوم ذي قار: "لا تستهدفوا لهذه الأعاجم فتهلككم بنشابها"، وقول حنظلة بن ثعلبة لقومه -كما ذكرنا: "إن النشاب الذي مع الأعاجم يفرقكم، فإذا أرسلوه لم يخطئكم، فعاجلوهم اللقاء"، وقد أيَّدَ "النويري" امتياز الفرس بالرمي في قوله: "لم تزل الفرس تفتخر بالرمي في الحروب والصيد"، وقد أشار الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى هذا التفوق حين قال لأصحابه عنهم: "هم أكثر منكم رمية ".
أما العرب: فكانوا أول أمرهم -وبخاصة بالبادية- يرمون في معاركهم بالحجارة الصلبة التي شبهها شاعرهم برؤوس الحجاج بعد حلقها في موسم الحج؛ حيث قال:
جلاميد يملأن الأكف كأنها رؤوس ... رجال حلقت في المواسم
فلما رأى العربي الفرس يستخدمون القوس، عمد إلى فرع شجرة صلبة فحنى طرفيه وشد بينهما وترًا من جلد، أو عصب قويّ، واتخذ له سهمًا من نفس الشجر, ثم ركب فيه سنانًا وصار يرمي به كالفرس.
فمن قصيدة "أوس بن حجر" الذي عرف في الجاهلية بوصف السلاح قال:
ومبضوعة من رأس فرع شظيَّة ... بطَوْدٍ تراه بالسحاب مجللا
ومما يدل على عدم انتشار القوس عند العرب، أن أشعارهم وردت مفعمة بامتداح السيف والرمح, والتدقيق في وصف أجزائهما، وأكثرت لغتهم(1/10)
من أسمائها، ولكنها أقلَّتْ جدًّا في أسماء القوس. أضف إلى ذلك أن العرب كانوا يمجدون شأن الرامي لندرته بينهم، ويشيدون بذكر من يجيد الرمي فيهم.
2- الرمح:
كان العرب يتخذ العصا دائمًا ويستخدمها في كثيرٍ من أغراض حياته، وكان يقطعها من شجرٍ جبليٍّ صلبٍ، فيقومها ويصقلها, فلما رأى بقر الوحش يدفع عن نفسه بقرونه، صار يأخذ تلك القرون، ويركبها على طرف العصا، يطعن بها عدوه عن بعدٍ، ثم صار يتخذ له أسنة الحديد في أعلاها, وأزجَّة الحديد في أسفلها, وسماها بأسماء كثيرة؛ منها: الرماح, والقنا, وغيرها، ووصفها بصفاتٍ متعددةٍ تختلف باختلاف أطوالها؛ فيقال: "رمح خطل، ثم رمح نائر، ثم رمح مخموس، ثم رمح مربوع، ثم رمح مطرد", -المخموس ما طوله خمسة أذرع, والمربوع ما طوله أربعة أذرع.
ويفهم من شعر "أوس بن حجر" واصف السلاح الجاهلي، أنهم كانوا يفضلون الرمح الأصم على الرمح الأجوف الذي كان يؤخذ من الغاب الفارسيّ، فهو يقول:
وإني امرؤ أعددت للحر بعدما ... رأيت لها نابًا من الشرِّ أعصلا
أصم رُدَيْنِيًّا كأن كعوبه ... نوى العسب عرّاصًا مزجيًّا منصَّلًا
فهو يمتدح رمحه بأنه غير مجوف، وأنه مستورد من "ردينى" المشهورة بصنعه، وأنابيبه صلبة كأنها نوى التمر، وهو مع ذلك لدن قرن، له زُجّ في أسفله، ونصل في أعلاه يطعن بهما.
3- السيف:
هو سيد السلاح عند العرب، يفزعون إليه عند الصيحة، ولا يفارق أحدهم في حلٍّ أو سفر، ويخاطبونه في أشعارهم كما يخاطبون خيلهم، ويطلقون عليه الأعلام المختلفة؛ مثل: "الصمصامة، وذي الفقار، والبتار"(1/11)
وغيرها، وكثيرًا ما كان بعض الأبطال يحمل سيفين يعاقب بينهما في القتال، أو ليحل الإضافي محل الأصلي، إذا كُسِرَ أو التوى أو تثلم.
وأجود السيوف عند العرب تلك المستوردة من الهند, أو المطبوعة باليمن, أو مشارف الشام، التي كان يطبعها قيْنٌ روميٌّ يُسَمَّى "سُرَيْج", ونسبت السيوف إليه فسميت "السريجية". ومما يدل على براعة العرب في استخدام السيف, وامتياز الفرس بالقوس, قول "أعشى قيس" في يوم ذي قار:
لما أمالوا إلى النشاب أيديهم ... ملنا ببيض فظلَّ الهام يُقْتَطَفُ
4- الدرع:
كان العربي يتخذ من الدرع سلاحًا يقي به نفسه في المعركة، وإن كان أحيانًا يقي نفسه بجمله أو حصانه، يتخذ منه ترسًا يضرب من خلفه ويحتمي به.
والدرع ثوب ينسج من حلق حديدية رفيعة، وأحيانا كانت تنسج حلقاتها مزدوجة, ويسميها العرب "الدرع المضاعفة", والدرع في الغالب قطعة واحدة تغطي البدن من العنق إلى الركبتين أو ما دونهما، ويلبس جزء من الدرع على الرأس تحت البيضة "الخوذة", ويغطي العنق جزء منه من الخلف، وتتخذ بعض الدروع بلا أكمام، وبعضها واسع طويل الأكمام، يغطي الأنامل والأطراف, ويسمونها: "الدرع الفضفاضة أو السابغة".
يقول "أبو قيس بن الأسلت" في سلاحه برواية ابن الأثير:
أعددت للحرب موضونة ... فضفاضة كالنهيِّ بالقاع
ومنها:
قد حصّت البيضة رأسي فما ... أطعم نومًا غير تهجاع1
__________
1 الموضونة المنسوجة حلقتين حلقتين، والنهي النهر الصغير، وحصّت البيضة رأسه: أذهبت شعرها.(1/12)
وقد كان بعض المياسير وكبار القواد، يضاعف بين درعين، يلبس أحدهما فوق الآخر، زيادة في الحيطة والتوقي، فعل ذلك "الحارث الأعرج" في يوم "حليمة", وفيه يقول "علقمة بن عبدة":
مُظاهر سرْبالي حديد عليهما ... عقيلًا سيوف مِخْذَمٌ ورَسُوبُ
ومنها:
تخشخش أبدان الحديد عليهمُ ... كما خشخش يُبسَ الحصاد جَنوبُ1
وهذا قيس بن الخطيم يذكر أنه لبس فوق البردين درعًا مضاعفةً واسعةً جدًّا فيقول:
فلما رأيت الحرب حربًا تجرَّدَتْ ... لبست مع البردين ثوب المحارب
مضاعفةً يغشى الأناملَ فضلُها ... كأن قتيريها عيونُ الجنادب2
وهناك فريق من الفرسان كان يلبس الدرع بلا أكمام، إما اقتصادًا في النفقة، وإما تخففًا منها عند الطعن، لتسهل حركة يديه عند القتال، فكثيرًا ما كان الفرسان يقطعون أكمام الدروع لإجادة الطعان، يروي "ابن الأثير" عند الحديث عن يوم "ذي قار": إن 700 رجل من بني شيبان قطعوا أيدي أقبيتهم3 من مناكبها، لتخف أيديهم لضرب السيوف.
على أن بعض المبرزين من الأبطال كان يعتز بشجاعته، فيترك الدرع ويحارب حاسرًا، أنفةً من أن يقي نفسه بغير سيفه ورمحه، يقول "قيس بن الخطيم":
أجالدهم يوم الحديقة حاسرًا ... كأن يدي بالسيف مخراق لاعب
__________
1 مخذم ورسوب: علمان على سيفين معروفين، والجنوب: الريح الجنوبية.
2 القتير: رؤوس المسامير التي تصل حلقات الدرع، والجنادب: الجراد, كما في القاموس.
3 الأقبية: جمع قباء، والقباء في الأصل القميص، والمراد به الدرع هنا.(1/13)
الإعاشة والقضايا الإدارية:
1- الملبس والطعام والشؤون الصحية:
لم يكن للعربي ملبسٌ خاصٌّ للحرب إلا ما يلبسه فوق ردائه العادي؛ كالرداء والإزار والسروال من أدوات الوقاية كالدرع والبيضة, وكان غالب الملبس من نسيج اليمن؛ لأنها قريبة منهم, وربما لبسوا ما يجلب من الشام ومصر؛ كالقباطي المنسوجة من الكتان التي كانت تنسجها القبط.
وكان طعام العربي مقصورًا على التمر واللبن واللحم في صورة بسيطة بعيدة عن التعقيد، يقول ابن خلدون: "أما أهل البدو: فمأكولهم قليل في الغالب، والجوع أغلب عليهم لقلة الحبوب, حتى صار لهم ذلك عادة. أما علاج الطبخ بالتوابل والفواكه, فإنما يدعو إليه ترف الحضارة, وهم بمعزل عنه، فيتناولون أغذيتهم بسيطة بعيدة عما يخالطها ويقرب مزاجها من ملاءمة البدن, وأما أهويتهم -أي: الجو- فقليلة العفن لقلة الرطوبات والعفونات إن كانوا آهلين، أو لاختلاف الأهوية إن كانوا ظاعنين, ثم إن الرياضة موجودة فيهم لكثرة الحركة في ركض الخيل, أوالصيد, أو طلب الحاجات لأنفسهم, فيحسن بذلك كله الهضم ويجود، ويفقد إدخال الطعام على الطعام، فتكون أمزجتهم أصلح وأبعد من الأمراض؛ فتقل حاجتهم إلى الطب، ولهذا لا يوجد الطبيب في البادية بوجه".
2- حيوانات النقل والقتال:
أ- الجمل:
هو عماد العربي في السلم والحرب، يساعده على عبور الصحراء في الأسفار الطويلة، يطعم لحمه, ويشرب لبنه، ويحمل متاعه على ظهره، ويتخذ خيمته من وبره، ودرعه وترسه من جلده، ويدربه على القتال فيغزو عليه، ويحتمي من السلاح به، ويضعه حول المعسكر إذا أقام ليلًا، فيبيت الجند في حصن مع الجمال وأحمالها.
ب- الخيل:
اعتزَّ العرب بالخيل وحفظوا أنسابها, وحافظوا على نقائها، فهي أصلح أداة لأسلوب الكر والفر في القتال، وظهورها حصن لراكبيها؛ لخفة حركتها, وسرعة عدها عند الفرار، فمن شعر عنترة العبسيّ قال:
حصاني كان دلال المنايا ... فخاض غمارها وشرى وباعا
وسيفي كان في الهيجا طبيبًا ... يداوي رأس من يشكو الصداعا(1/14)
غنائم الحرب:
كان العرب يخرجون للقتال ومعهم متاعهم وأنعامهم ونساؤهم، فإذا لحقت الهزيمة بالعربيّ فإنه يفر من أرض المعركة تاركًا فيها كل ما معه من متاعٍ وأنعامٍ ونساء، وهنا يبادر المنتصر فيستولي على ما ترك.
وكانت الغنائم التي تُجْمَعُ تقسم بين المحاربين بالتساوي، على أن يفوز القائد1 منها بنصيبٍ موفور، فكان يأخذ لنفسه ربع الغنيمة، وكان ينفق كثيرًا منه على الفقراء والمحتاجين من قبيلته, وعلى ما يعود بالمصلحة عليها.
ومن هذا الربع أيضًا كان القائد ينفل من شاء من المقاتلين لبلائهم، ففي يوم "فيض الريح" جعل القائد ثلث المرباع لخثعم، ومناهم الزيادة إن هم أحسنوا القتال.
وكان القائد يأخذ وحده ما يصيبه الجيش في طريقه من أنعام أو أموال قبل أن يصل مقصده، وكان العرب يطلقون على هذه المغانم "النشيطة".
وكان يختص أيضًا بنوع آخر يُسَمَّى "النقيعة", وهي بعير كان يتخيره قبل
__________
1 كان الذي يقود القبيلة عادة هو شيخها، فإذا غاب عن القتال لسبب ما, أناب عنه "رديفه" وهو نائبه الذي ينوب عنه في غيبته.(1/15)
القسمة، فينحره ويطعمه الناس، وكان للقائد أيضًا أن يختار لنفسه ما أعجبه من الغنيمة, ويسمى هذا النوع "صفية" وجمعها صفايا, على أساس أن القائد اصطفاها لنفسه.
ويظهر أنه كان للقائد أن يأخذ لنفسه "الفضول" التي لا تقبل القسمة, وقد جمع الشاعر العربي، كل ما يخص القائد "الشيخ أو الرديف" في قوله:
لك المرباع منها والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول1
ولم ترد نصوص صريحة تدل على تمييز الراكب على الراجل عند توزيع الغنائم.
__________
1 لعل المراد بكلمة "ذلك النوع من الغنائم المسمى "النقيعة".(1/16)
معاملة الأسرى:
يعتبر الأسرى من غنائم المعركة، فكانوا يوزعون على المحاربين كبقية الغنائم، فإذا حصل أحدهم على أسير فهو بالخيار في أمره:
إما أن يمسكه ليقوم على خدمته وخدمة أنعامه، ونقل الماء له وسقي النخيل، وإما أن يجز ناصيته، ويفك أسره إذا كان للأسير عنده يد، أو رغب هو في العفو عنه لسبب من الأسباب، روى "ابن الأثير" أن الأسير كانت تجز ناصيته ثم يطلق سراحه، ولا تجز ناصية الملوك لما في ذلك من المهانة، وكذلك فعل "عامر بن الطفيل" بأسيره الذي أطلقه بعد جَزِّ ناصيته، في نذرٍ كان على أمه.
وأحيانًا كان العربي يطلق الأسير تكرمًا منه، أو زهدًا فيه لفقره، أو لتقديم المعروف أو المروءة؛ لأنه غنيٌّ ليس بحاجةٍ إلى خدمة الأسير, أو فداءً يأخذه فيه، وكان بعض الناس يحتفظ بأسيره -وبخاصة إذا علم يساره- ليفدي نفسه منه بالمال، أو يحضر بعض عشيرته لأخذه ودفع فدائه.
وكان مقدار الفداء يختلف باختلاف مكانة الأسير في قومه، ودرجة يساره، ويظهر أنه كان يتراوح بين مائة من الإبل وأربعمائة، فبهذا العدد الأخير فدى الزعيم "عبد يغوث" نفسه يوم الكلاب الثاني، والذي يفهم أن المائة هي المتوسط, أنهاكانت القدر المخصص لدية القتيل عندهم، وجرى العمل بذلك في الإسلام.
وأيًّا ما كان الأمر، فما كان العربي يسترق أخاه العربي أبد الآبدين، فإن قدمت عشيرته لأخذه بالفداء، وإلّا باعه لغيره، فإن لم يوفق، أطلقه ومَنَّ عليه بالطريقة السابقة.
الحَرَمُ والأشهر الحُرُم ومنع القتال فيها:
من آداب القتال التي كانت مرعيَّةً عند العرب، وبخاصة عرب الحجاز، احترام الحرم المكيّ والأشهر الحرم بمنع القتال فيها، ففي هذه الأشهر الأربعة "رجب، ذي القعدة، ذي الحجة، المحرم" وإلى هذا المكان المقدس يفد الحجيج من سائر البقاع كل عام فتنتعش حال أهل البلاد الاقتصادية، فإذا هدد الحجاج في أنفسهم أو أموالهم، انقطعوا عن الوفود إلى الحجاز, ولذا تواضع العرب على تحريم القتال في الحَرَمِ وفي الأشهر الحُرُمِ، لدرجة أن وليَّ المقتول كان يلقى القاتل في الحرم فلا يمسه بسوء، وفي بعض الأحيان: كانت تستعر الحروب بين القبائل، وتثور العصبيات، ويصادف أن يكون ذلك قرب موسم الحج، وهم يخشون ضياع الدماء إذا سكتوا عنها في الموسم، فكان رؤساء القبائل ينفقون على تأخير حرمة بعض الشهور، حتى يدركوا ثأرهم قبل فواته، وسميت هذه العملية "النسيء" أي: التأخير، وقد عاب القرآن ذلك في الإسلام. وأحيانًا أخرى كان يضعف الوازع الديني في النفوس، وتثور فيهم الشهوة للقتال؛ فينسون حرمة البيت وحرمة الأشهر(1/17)
الحرم، فيحاربون فيها, ويريقون الدماء بلا حساب، ولذا سميت هذه الحروب "حروب الفجار"؛ لأن الناس فجروا فيها, وانتهكوا فيها حرمة المكان والزمان والناس.
المراجع:
1- مقدمة ابن خلدون, طبعة بيروت سنة 1879, ص109، 129، 235، 237.
2- الفن الحربي في صدر الإسلام, عبد الرؤوف عون, ص33-59، 122-125.
3- نظريات عسكرية من أمجادنا العربية, العقيدة محمد جمال الدين محفوظ, سلسلة اخترنا للجندي، للدار القومية للطباعة والنشر, ص36-38.
4- عبقرية خالد, عباس محمود العقاد, ص10-13.(1/18)
فن الحرب عند العرب في الإسلام
مدخل
...
2- فن الحرب عند العرب في الإسلام:
بواعث الحرب:
عرض القرآن لنوعين من أنواع القتال: أحدهما قتال المسلمين للمسلمين، والثاني قتال المسلمين لغير المسلمين, ولكلٍّ من النوعين بواعثه:
1- النوع الأول: قتال المسلمين للمسلمين:
وهو من الشئون الداخلية للأمة، ويستهدف المحافظة على وحدة الأمة وعدم تفرقها، والاحتفاظ بأخوتها الدينية، والحفاظ على هيبة الهيئة الحاكمة وسلطانها.
قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات 9, 10] .
فهذا التشريع يفرض حالة اختلاف يقع بين طائفتين من المؤمنين ولا(1/19)
يستطاع حله بالوسائل السلمية، فتلجأ كلٌّ منهما إلى القوة وتحكيم السيف، فيوجب على الأمة ممثلةً في حكومتها, أن تحاول الإصلاح بينهما، فإن استمرت إحداهما على العدوان وأبت أن تفيء إلى أمر الله وتنزل على حكم المؤمنين, وجب على جماعة المسلمين قتالها حتى تخضع وترجع إلى الحق، وحينئذ لا ينبغي أن يتخذ من رجوعها إلى الحق سبب للحيف عليها وانتقاصها حقها، ولكن يجب أن يحكم العدل.
2- النوع الثاني: قتال المسلمين لغير المسلمين:
وهو يستهدف الدفاع ورد العدوان وحماية الدعوة وحرية التدين:
قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج 39-41] .
هذه الآيات عللت الإذن بالقتال بما مُنِيَ به المسلمون من الظلم, وما أكرهوا عليه من الهجرة والخروج من ديارهم بغير حقٍّ، ثم بينت أن هذا الإذن موافقٌ لما تقضي به سنة التدافع بين الناس حفظًا للتوازن، ودرءًا للطغيان، وتمكينًا لأرباب العقائد والعبادات من أداء عباداتهم، ثم أرشدت إلى أن الله إنما ينصر بمقتضى سنته من ينصره ويتقيه, فلا يتخذ الحرب أداةً للتخريب والإفساد، وإذلال الضعفاء, وإرضاء الشهوات والمطامع، وأنه لا ينصر إلّا مَنْ إذا تمكَّنَ في الأرض عمرها, وأطاع أمر الله فيها، وكان داعي(1/20)
خير ومعروف لا داعي منكر وفساد، والله يعلم المفسد من المصلح، وقد ورد ذكر هذه البواعث في آيات كثيرة مثل:
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190] .
{وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء: 74] .
إيقاف القتال والسلام:
أوجب القرآن على المسلمين أن يكفوا عن القتال إذا انتهى العدوان عليهم, قال تعال: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 194] .
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 194] .
كما أوجب القرآن أن يميل المسلمون إلى السلام إذا مال إليه الأعداء، فليس لهم أن يرفضوا الصلح إذا رغب محاربوهم فيه, قال تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال: 61] .(1/21)
العقيدة العسكرية العربية:
حدَّدَ القرآن -لأول مرة في تاريخ العرب- الاتجاه الأساسي للبناء العسكري للدولة, ومطالب إعدادها للدفاع1 تحديدًا واضحًا, وهو إعداد القوة والاستعداد القتالي على النحو الذي يرهب الأعداء, قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] .
وقد ورد لفظ "قوة" مطلقًا دون تحديدٍ؛ بحيث يتسع محتواه ليشمل كل عناصر القوة؛ كالقوة السياسية, والاقتصادية, والاجتماعية, إلى جانب القوة العسكرية، وبحيث لا يقيد الفكر العسكري عن الانطلاق, أو يربطه بمبادئ جامدة غير قابلة للتطوير, أوتعيق المبادأة لدى القادة العسكريين في كل زمان.
__________
1 وهو ما يعرف في العلم العسكري وفي الحرب بالعقيدة العسكرية Military Doctrine التي تحدد الأسس العامة والمبادئ الأساسية للاستراتيجية العسكرية, وتتولى القيادة السياسية والعسكرية على أعلى المستويات وضع "العقيدة العسكرية" للدولة, بما يتفق وغاياتها القومية.(1/22)
النظرية الاستراتيجية للحرب - الردع:
وحدد القرآن الأساس لاستراتيجية الحرب, وهو "الردع" الذي يقوم على إعداد القوة والاستعداد القتالي اللذين يوقعان الرهبة في قلب العدو ويخيفانه من عاقبة عدوانه, كما في الآية 60 من سورة الأنفال {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} .
وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "نصرت بالرعب مسيرة شهر" "صحيح البخاري"وقد طبقت نظرية الردع عمليًّا في معارك الإسلام، فمن بين ثمان وعشرين غزوة قادها الرسول ضد المشركين أو اليهود, نسب القتال في تسعٍ منها فقط هي: "بدر - أحد - بني قريظة - بين المصطلق - خيبر - فتح مكة - حنين - الطائف" بينما فرَّ المشركون في تسع عشرة غزوة منها بدون قتال تحسبًا(1/22)
لقوة المسلمين, وهي: "غزوة ودان - بواط - الشعيرة - بدر الأولى - بني قينقاع - بين سليم - السويق - ذي أمر- بحران - حمراء الأسد - بني النضير - ذات الرقاع - بدر الآخرة - دومة الجندل - بني لحيان - ذي قرد - الحديبية - عمرة القضاء - تبوك"1.
وظهرت نظرية الردع بكل وضوح في غزوة فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة, فقد اعتمدت خطة الفتح اعتمادًا كبيرًا على إظهار قوة المسلمين, حتى أرغمت قريش على الاستسلام بلا قتال.
__________
1 المدخل إلى العقيدة والاستراتيجية العسكرية الإسلامية, لواء محمد جمال الدين محفوظ, ص332-335. وقد ظهرت نظرية "الردع" حديثًا في مجال فن الحرب, وحدد الاستراتيجيون هدف الردع في "منع دولة معادية من اتخاذ قرار باستخدام أسلحتها, أو منعها من العمل, أو الرد إزاء موقف معين, وذلك باتخاذ مجموعة من التدابير والإجراءات التي تشكل تهديدًا كافيًا يحقق الرع.. ويتضمن تعريف هيئة الأركان الأمريكية للاستراتيجية العسكرية أنها: "هي فن وعلم استخدام القوات المسلحة في تحقيق أهداف السياسة القومية عن طريق استخدام القوة أو التهديد باستخدامها", وأصبح "الردع" مفتاح الاستراتيجية في القرن العشرين, وخاصةً بعد أن تحقق "التوازن الذري" الذي يعتمد على امتلاك القوتين العظميين للأسلحة النووية بدرجة متكافئة تقريبًا, وقد تولد الاقتناع لدى كل منهما بعدم جدوى الحرب، وبأن قيامها بينهما هو عملية انتحار رهيبة؛ لأن كلًّا منهما يملك القدرة على الردع والانتقام إذا تلقى الضربة المدمرة أولًا.
"يقول الجنرال أندرية بوفر في كتابه "الردع والاستراتيجية": "إن رجل القرن العشرين الذي تلاحقه مآسي الحربين العالميتين 1914-1918، 1939-1945، هذا الرجل المسلح بكل وسائل العلم الحديث، ربما وجد أخيرًا الوسيلة لمنع وقوع مثل هذه المآسي، وهي استراتيجية الردع".
ويقول المارشال مونتجمري عن الردع أنه هو: "القوة التي تكفي لردع أي خصمٍ يفكر في دعم مركزه عن طريق توجيه ضربة مفاجئة، وهي القوة التي يمكن أن يكون وجودها سببًا لتجنب كارثة الحرب".
وقد مَهَّدَ التوازن الذري وما لحق به من قوة "الردع" إلى محاولة منع التصادم, ثم إلى ظهور سياسة الوفاق بين القوتين العظميين -الولايات المتحدة الأمريكة والاتحاد السوفييتي- في أوائل السبعينات من القرن العشرين".(1/23)
الحرب النفسية:
قرر الإسلام أن تحطيم الروح المعنوية للعدو وسيلةٌ من وسائل قهره، وأن ذلك قد يكون أشد أثرًا عليه من قتاله بالسلاح.
قال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم"، وقال: "إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده, لكأن ما ترمونهم به نضح النبل" , "نضح النبل أي: الرمي بالسهام" وقال لحسان بن ثابت: "يا حسان؛ أهج المشركين وجبريل معك، إذا حارب أصحابي بالسلاح، فحارب أنت باللسان".
وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لعبد الله بن رواحة: "بين يدي رسول الله وفي حرم الله تقول الشعر؟ فقال النبي: "خلِّ عنه يا عمر، فوالذي نفسي بيده؛ لكلامه أشد عليهم من وقع النبل".
مهام الحرب النفسية:
1- تشكيك العدو في سلامة الهدف الذي يحارب من أجله, وزعزعة ثقته في قوته, وفي قدرته على المقاومة أو إحراز النصر، وإقناعه بأنه لا جدوى من شنِّ الحرب أو الاستمرار في القتال.
وغزوة فتح مكة في العام الثامن الهجري مثالٌ على ذلك؛ حيث ركَّزت خطة الفتح على العوامل النفسية التالية, التي أدت إلى أن يتم الفتح بلا قتال:
أ- تحقيق المباغتة الاستراتيجية1:
باخفاء نية الهجوم, واتجاهه إلى الحد الذي جعل قريشًا تشك في هوية الجيش وهو متجمع بالقرب من مكة.
__________
1 هي مباغتة العدو بصورة شاملة؛ من حيث موعد الهجوم, وقوته, واتجاهه, ونواياه.(1/24)
ب- تدمير معنويات قائد العدو:
فقد أمر النبي عمه العباس باحتجاز أبي سفيان في مضيق الوادي؛ لكي يرى الجيش الذي خرج للفتح, حتى إنه ذهب إلى قومه فقال: "يا معشر قريش, هذا محمد جاءكم فيما لا قبل لكم به".
جـ- مهاجمة مكة من جهاتها الأربع:
لتشتيت قوة العدو, والقضاء على إرادة القتال لديه.
2- بَثُّ الفرقة بين صفوف العدو, وبينه وبين حلفائه, ودفعهم إلى التخلي عن نصرته، ومن أمثلة ذلك: ما قام به نُعَيْم بن مسعود الغطفانيّ بتكليفٍ من الرسول في غزوة الخندق, للوقيعة بين قريش وحلفائها من اليهود والقبائل العربية الأخرى, فكانت دعوته سببًا في تفرق جمعهم.
3- تحييد القوى الأخرى, وحرمان العدو من محالفتها، ومن أمثلة ذلك: السياسة التي اتبعها الرسول بعد الهجرة إلى المدينة بعقد الاتفاقات مع مختلف القبائل؛ لكفالة حرية الدعوة, وحسن الجوار، وكانت النتيجة المباشرة حرمان قريش من قوى كان يمكنها أن تتحالف معها ضد المسلمين.
4- التخويف والضغط النفسي، ومن أمثلة ذلك استخدام صيحات القتال لترويع العدو؛ مثل: "الله أكبر", "أحد أحد", "أمت أمت" في الغزوات، وكذلك إشعال النيران إظهارًا للقوة كما في فتح مكة، والمبادرة بالخروج إلى القبائل التي تعد العدة لمهاجمة المسلمين لإجهاض تدبيرها، وكذلك توجيه الحملات النفسية, مثلما فعل الرسول حين بعث إليه أبو سفيان يقول: "نريد منك نصف نخل المدينة، فإن أجبتنا إلى ذلك، وإلا أبشر بخراب الديار وقلع الآثار" فرد عليه بقوله: "فوالله, ما لكم عندي جواب إلّا أطراف الرماح، وأشفار الصفاح "السيوف", فاجرعوا ويلكم عن عبادة الأصنام، وأبشروا بضرب الحسام, وبغلق الهام، وخراب الديار, وقلع الآثار".(1/25)
5- دعوة أفراد العدو إلى التسليم في مقابل المحافظة على حياتهم، ففي فتح مكة أعطى الرسول الأمان لقريش على لسان أبي سفيان: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن".
الوقاية من الحرب النفسية:
قرر الإسلام الطرق التالية للوقاية من الحرب النفسية:
1- التحصين بقوة الإيمان والعقيدة:
قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] .
2- كشف محاولات التفرقة, ومقاومتها بالتضامن والاتحاد:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ، وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 100-101] .
وقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] .
3- كشف محاولات زعزعة الثقة في النصر:
ومن أمثلة ذلك: ما ذكره القرآن في موقف المنافقين في غزوة الخندق؛ إذ أرادوا تشكيك المسلمين في النصر، ودعوهم إلى الانسحاب، قال تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا، وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب: 12] .(1/26)
4- كشف محاولات التخذيل وتثبيط العزائم:
فعندما أمر الرسول بالإعداد لغزوة تبوك، دعا المنافقون المسلمين إلى التخلف بحجة اشتداد الحر، فجاء بقوله تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 81] .
5- منع ترويج الشائعات:
قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] .
وقال: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15] .
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "إن أفرى الفرى -أي: أكذب الكذب- أن يُرِيَ الرجل عينيه ما لم تريا" , وقال: "تحروا الصدق, وإن رأيتم فيه الهلكة, فإن فيه النجاة، وإياكم والكذب, وإن رأيتم فيه النجاة، فإن فيه الهلكة".
إزالة آثار الحرب النفسية:
يقرر الإسلام ضرورة المبادرة بإزالة آثار الحرب النفسية بالطرق الآتية:
1- استعادة القوى المعنوية:
بتطهير النفوس من الآلام النفسية, وبقوة الإيمان, والصبر, والإرادة, والثقة في النفس، ومثال ذلك الآيات التي نزلت بعد معركة أحد؛ كقوله تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 139-140] .
2- إزالة الآثار بالعمل العسكريّ إذا لزم الأمر:
فقد قرر الرسول الخروج في اليوم التالي مباشرةً لغزوة أحد؛ لمطاردة قريش؛ لكي يخفف من وقع الهزيمة, ويستعيد للمسلمين معنوياتهم، ووصل بالجيش إلى "حمراء الأسد" فخاف أبو سفيان لقاءهم وعاد إلى مكة، وعاد المسلمون إلى المدينة وقد استردوا كثيرًا من معنوياتهم وهيبتهم.(1/27)
التأهب والاستعداد القتالي:
وقرر الإسلام أن يكون الاستعداد القتالي للجيش على درجة عالية؛ لحرمان العدو من المباغتة, ولوقاية الأمة من آثارها المدمرة, وذلك على الأسس التالية:
1- الإنذار المبكر واليقظة والحذر:
أ- قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} -المرابط تعني: الحراسة المستمرة لحدود البلاد ومواقع الجيش.
ب- وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُم} ، {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} .
جـ- وتعاليم القرآن بشأن الصلاة في الحرب تقضي بأن تكون مع المسلمين المصلين أسلحتهم، وبأن تقوم طائفةٌ أخرى منهم بالحراسة, ثم يتم تبادل المواقف:
{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] .
2- تجسيد خطر الغفلة:
قال تعالى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} [النساء: 102] .(1/28)
3- وضع جزء من الجيش في حالة الاستعداد القصوى:
لكي يكون كامل الأهبة للعمل الفوريّ عند الخطر, دون أدنى حاجة إلى اجراءات أخرى, أو وقت للاستعداد للقتال.
قال الرسول -عليه الصلاة والسلام: "خير الناس رجلٌ ممسكٌ بعنان فرسه في سبيل الله، كلما سمع هيعة -صيحة خطر- طار إليها" وهذه النظرية في الاستعداد إلى الحالة القصوى, تنطوي على المبادئ التالية1:
أ- الاستعداد المستمر بدون توقف في كل الأوقات "رجل ممسك".
ب- السرعة الفائقة في الانطلاق في حالة الخطر "طار".
4- القيادة اليقظة والتأهب:
وضرب الرسول مثالًا لذلك حينما سبق أهل المدينة جميعًا ذات ليلة إلى مصدر صوت قوي أفزعهم, فانطلق بعضهم نحوه, فإذا هم برسول الله عائد من هناك راكبًا فرسه, والسيف في عنقه, وهو يقول: "لن تراعوا".
__________
1 عرفت الجيوش حديثًا "نظرية الاستعداد القصوى" على نفس المبادئ التي قررها الفن الحربي العربي؛ حيث تهتم الجيوش الحديثة بوسائل الإنذار المبكر, والمقاتلات الاعتراضية المتأهبة على أقصى درجة للانطلاق إلى الجو لملاقاة الطائرات المغيرة، وكذا القوات المتأهبة للقتال الفوري, التي تتجمع في المطارات والموانئ البحرية وفوق سفن الأسطول في عرض البحر، وتكون مستعدة للانطلاق فور الإشارة.(1/29)
المخابرات والأمن ومقاومة الجاسوسية:
قرر الإسلام أمرين لتأمين سلامة الأمة:
الأول: نشاط إيجابيّ يستهدف الحصول على المعلومات عن العدو:
والثاني: نشاط وقائيٌّ يستهدف حرمان العدو من الحصول على المعلومات, ومواجهة نشاط مخابراته1.
ومن أساليب المخابرات:
1- العيون والأرصاد:
كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- عيون وأرصاد في المدينة؛ مثل: حذيفة بن اليمان العبسي في المنافقين، وفي مكة مثل: عمه العباس, وبشير بن سفيان العتكي, وفي القبائل العربية في أنحاء شبه الجزيرة؛ مثل: عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي, من قبيلة هوازن, وفي بلاد فارس وبيزنطة.
2- استنطاق الأسرى "استجواب":
قبل معركة بدر في السنة الثانية للهجرة, قبضت جماعة استطلاع على غلامين وجدتهما يستقيان عند ماء بدر, فتولى النبي استجوابهما, فعلم منهما مكان قريش، ولما أجابا بأنهما لا يعرفان عدد رجالها, سألهما: كم تنحرون من الجزر -الإبل- كل يوم؟ فقالا: يومًا تسعة, ويومًا عشرة, فاستنبط الرسول من ذلك إنهم بين التسعمائة والألف؛ لأن العرب على عادتهم يخصصون بعيرًا لكل مائة، كذلك عرف الرسول أن أشراف قريش جميعًا خرجوا للقتال.
3- تعلم لغة العدو:
أمر النبي زيد بن ثابت بتعلم لغة اليهود، يقول زيد: "أمرني
__________
1 يقول خبير المخابرات والجاسوسية العالميّ لاديسلاس فاراجو: "عندما قرر المكيون "قريش" أن يتخلصوا من محمد نهائيًّا عبأوا ضده قوةً من عشرة آلاف مقاتل، ولم ينزعج النبي؛ لأنه كان قد ترك في مكة عملاء أكفاء أبلغوه بخطط أعدائه، أما خصومه: فلم يكن لهم عملاء عنده، ولذلك فعندما وصلوا إلى المدينة أذهلهم أن يجدوا خندقًا وجدارًا يحيطان بالمدينة تمامًا إحاطة السوار بالمعصم حميا محمدًا وأتباعه من العدوان "الجاسوسية بين القواية والعلاج, أحمد هاني ص38".(1/30)
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتعلمت له كتاب اليهود بالسريانية", وقال -عليه الصلاة والسلام- أيضًا: "من تعلَّمَ لغة قومٍ أمِنَ شرهم".
4- استخدام الرمز "الشفرة"1:
في غزوة الخندق بعث النبي بعض رجاله إلى بني قريظة ليقفوا على حقيقة ما بلغه من نقضهم العهد وهم داخل المدينة، وأمرهم بأن يلحنوا2 بالقول حين يعودون, ولا يفصحون في حالة تأكدهم من الخبر3.
مبادئ الأمن ومقاومة الجاسوسية:
1- كتمان الأسرار:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: 27] .
وقال الرسول: "كفى المرء كذبًا أن يحدِّث بكل ما سمع".
وقال: "إنما يتجالس المتجالسان بالأمانة، ولا يحل لأحدهما أن يفشي على صاحبه ما يكره".
2- الصمت:
قال الرسول: "مَنْ سَرَّه أن يسلم فليلزم الصمت" , "أمسك عليك لسانك" , "من كف لسانه ستر الله عورته".
__________
1 الشفرة تعني: تحويل لغة الرسالة من لغةٍ مفهومةٍ إلى لغة غير مفهومة, يكون قد تَمَّ الاتفاق عليها وعلى رموزها بين المرسِلِ والمرسَل إليه مسبقًا.
2 لحن -بفتح اللام والحاء، قال له قولًا يفهمه عنه, ويخفى على غيره.
3 كان السبب في استخدام الرسول لأسلوب الرمز خوفه على معنويات المسلمين, وحرصه على كتمان الخبر حتى يستكملوا إعداد الخندق والاستعداد للمعركة قبل أن يعلمهم به.(1/31)
3- الامتناع عن الثرثرة, أو التحدث بدون حرص:
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان: 6] وقال الرسول: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه".
4- عدم الفضول:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 141] .
وقال الرسول: "من استمع إلى حديث قومٍ وهم له كارهون, صُبَّ في أذنيه الآنك -الرصاص المذاب- يوم القيامة".
وقال: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه, لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عوراتهم تتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته ".(1/32)
نظام وإعداد المقاتلين:
يقرر الإسلام أن نظام إعداد المقاتل يجب أن يكفل له صحة النفس والعقل والجسم والكفاءة القتالية من خلال المبادئ التالية:
1- بناء الشخصية:
أ- على أساس التوحيد في العقيدة والأخلاق؛ بحيث يملأ الإيمان قلب الإنسان, وبحيث يتخلق بالأخلاق التي أمر بها الله، فتتجه شخصيته نحو الكمال الذي يتمثل في شخص الرسول -صلى الله عليه وسلم؛ إذ يقول: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162] .
ب- وعلى أساس تحرير الشخصية من كل أشكال الخوف التي تُوهِنُ من عزم المقاتل في الحرب؛ مثل: خوف الموت؛ فيقول تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] وكذا الآيات 34 من سورة الأعراف، و145، 154 من سورة آل عمران.
2- الصحة النفسية:
لكي يصبح المقاتل ذا شخصية سويةٍ قادرًا على التحكم في ذاته, وتحمل المسؤولية, ومواجهة المخاوف والقلق, ومتمتعًا بالثبات والاتزان الانفعالي والعاطفي والعقلي؛ قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] .
وقال: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] .
وقال: {وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87] .
وقال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133, 134] .
3- الصحة الجسمية:
أ- النظافة والطهارة, ومن ذلك الوضوء للصلاة، يقول الرسول: "ولا تقبل صلاة من أحد حتى يتوضأ".
ب- اتباع نظام صحي في الطعام؛ ففي الحديث: "ما ملأ ابن آدم وعاءً شرًّا من بطنه" , "نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع".(1/33)
جـ- النهي عن إتلاف الصحة بتناول المسكرات, والتعرض للإصابة بالأمراض الخبيثة؛ بالزنى ووطء الحائض والنفساء.
د- الحجر الصحي للوقاية من خطر العدوى، قال الرسول في شأن الطاعون: "إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرضٍ وأنتم بها, فلا تخرجوا فرارا منه".
4- الرياضة لتقوية الأبدان:
حثَّ الإسلام على تعلم السباحة وركوب الخيل -مسرجة ومعراة, والسباق في الجري, والسباق بين الفرسان على الخيل أو الإبل, والمصارعة ورفع الأثقال, ومدح النبيُّ المؤمنَ القويَّ بقوله: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف" وقال أيضًا: "إن لبدنك عليك حقًّا". وثبت أنه -عليه السلام- سابق وصارع.
5- الفروسية والقتال على الخيل:
قال الرسول: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر والغنيمة" , وقال: "عاتبوا الخيل, فإنها تعتب" -أي أدبوها وروضوها للحرب والركوب فإنها تتأدب وتقبل العتاب-1.
كما رغَّبَ الرسول في اقتناء الخيل والعناية بها؛ فجعل للفارس-عند توزيع الغنائم- سهمين, وجعل للراجل سهمًا واحدًا, وذلك لكي يستعين الفارس بالسهم الزائد على إعاشة فرسه وإعدادها للحرب، ولذلك كان بعض الفرسان الأشدَّاء يخرج للقتال بفرسين يحارب عليهما, ويأخذ أسهمهما؛ كما فعل الزبير بن العوام في غزوة صفين, وفي حروب الشام المختلفة.
__________
1 النهاية في غريب الحديث والأثر.(1/34)
6- التدريب على السلاح والرماية:
من الحديث:
- "الأ إن القوة الرمي" وكررها ثلاثا.
- $ "إن الله ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة، صانعه المحتسب في عمله الخير، والرامي به، والممد به، فأرموا واركبوا، وأن ترموا أحب إليّ من أن تركبوا".
- "كل ما يلهو به المرء المسلم باطل، إلّا رميه بقوسه، وتأديب فرسه، وملاعبة أهله".
- ولما رأى القوس قال: "بهذا وبرماح القنا تفتحون البلاد" , وقال أيضًا: " جُعِلَ رزقي تحت ظلِّ رمحي".
- ومر -عليه السلام- بموضع كان الصحابة يتدربون فيه على الرمي، فنزع نعليه وقال: "روض من رياض الجنة" 1.
- وسمح الرسول لبعض الأحباش أن يلعبوا بحرابهم في المسجد, وقال لعمر -رضي الله عنه- حين أنكر عليهم ذلك: دعهم يا عمر 2.
7- محو الأمية:
- أمر الرسول كل أسيرٍ من المشركين من أسرى بدر أن يعلم عشرةً من الصحابة الكتابة والقراءة، وجعل هذا سبيل تحرره وإطلاق سراحه.
- وقال: "مابال أقوام لا يفقهون جيرانهم, ولا يعلمونهم ولا يعظونهم, ولا يأمرونهم ولا ينهونهم، وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون".
__________
1 يقصد أن العمل الذي يعمل في هذ الموضع, وهو التدريب على الرمي, يوجب روضة من رياضة الجنة, وفي ذلك حثٌّ وتشجيعٌ للمسلمين على التدريب على الرمي.
2 برع المسلمون في الرمي وبلغوا فيه مستوى رفيعًا, حتى أطلق عليهم لقب "رماة الحدق" أي أن الرامي كان إذا صوب سهمه نحو عين عدوه لم يخطئها.(1/35)
مبادىء تدريب وتنظيم الجيش
...
مبادئ تدريب وتنظيم الجيش:
1- استمرار التدريب:
من الحديث: "من ترك الرمي بعدما علمه, فإنما هي نعمة جحدها "، "من علم الرمي ثم تركه فليس منا، أو فقد عصى"، وثبت أن بعض المسلمين كان يتدرب على الرمي حتى في يوم العيد.
2- ملاحقة مستويات الكفاءة القتالية المعاصرة:
كان الفرس متفوقين على العرب في الرماية 1, حتى قال عنهم الرسول: "هم أقوى منكم رمية" فعني -عليه السلام- برفع مستوى المسلمين في الرمي، يدل على ذلك الأحاديث العديدة التي وردت في الرمي -وسبق ذكر بعضها, حتى أصبحوا يوصفون برماة المدن، كذلك لحق المسلمون بعصرهم في مجال تنظيم الجيش وتشكيله؛ من مشاة, وفرسان؛ بحيث تكون الفرسان هي القوة الضاربة, يدل على ذلك الزيادة المطردة في قوة الفرسان في جيش المسلمين, حتى بلغت ثلث قوة الجيش في غزوة تبوك آخر غزوات عصر النبوة, بعد أن كانت في غزوة بدر -أول معركة- أقل من واحد بالمئة بالنسبة لقوة الجيش2.
__________
1 يقول الطبري: "بلغ من مهارة الفرس في الرماية أن أحدهم كانت ترفع له الكرة فيرميها ويشكها بالنشاب -أي: السهم.
2 كانت الاستراتيجية العسكرية لكلٍّ من فارس وبيزنطة في القرن السابع الميلادي تقوم على أساس أن الفرسان تشكل القوة الرئيسية الضاربة في جيوشهما, وتلك كانت الاستراتيجية الرئيسية المعاصرة في عهد النبوة.(1/36)
3- ملاحقة التطور في أسلحة القتال:
أرسل النبيُّ بعثةً تتكون من عروة بن مسعود وغيلان بن سلمة إلى جرش1؛ ليتعلما صنعة العرادات والمنجنيق والدبابات, وكلها من أسلحة القتال والحصار التي لم يألفها المسلمون من قبل, وقد استخدم الرسول المنجنيق والدبابات في حصار الطائف، كما روي أنه نصب المنجنيق في حصار خيبر للتهديد, ولكنه لم يرم به فعلًا، فقد روى ابن خلدون "أن الرسول هَمَّ بنصب المنجنيق على خيبر، فلما أيقنوا بالهلكة سألوه الصلح".
وقد نقل فون كريمر في كتابه "الشرق تحت حكم الخلفاء" عن الإمبراطور البيزنطي "ليو"2 قوله: "إن الجندي العربي ما كان يفترق عن الجندي البيزنطي في المؤن والسلاح؛ فالأسلحة هي نفس الأسلحة، القوس, والسهم, والسيف, والبلطة, والخوذة وقايةً للراس, والدرع وقاية للبدن, والحديد يلبس في الأذع والسيقان".
4- مراعاة احتياطات الأمن3
ففي الحديث:
- "لا يشرأحدكم إلى أخيه بالسلاح, فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده, فيقع في حفرة من النار" , "عن أبي هريرة متفق عليه".
- عن جابر قال: "نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يتعاطى السيف مسلولًا" رواه أبو داود والترمذي.
__________
1 مدينة تقع شرقي جيل السواد من أرض البلقاء, وحوران من أعمال دمشق.
2 حكم بيزنطة فيما بين عام 886 إلى 922 ميلادية.
3 "احتياطات الأمن" اصطلاح عسكري يقصد به الاجراءات التي تُتَّخَذُ لوقاية الأفراد من التعرض للإصابة أثناء التدريب على الرماية واستخدام الأسلحة.(1/37)
- وعن أبي موسى الأشعريّ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَرَّ في شيء من مساجدنا أو أسواقنا ومعه نبل, فليمسك أو ليقبض على نصالها بكفه، أن يصيب -أي: حتى لا يصيب- أحدًا من المسلمين منها بشيء" متفق عليه.
5- تدريب القادة.
لا يكتفي الإسلام بتدريب الجنود, بل يُعنَى بتدريب القادة، يدل على ذلك: المثل الذي ضربه الرسول بنفسه، باشتراكه في كل أشكال التدريب؛ كالفروسية, والسباق, والرمي, والتدريب البدني.
6- استخدام العقل والحواس في التدريب:
دعا الإسلام إلى استخدام العقل والحواس معًا في كل أعمال المسلمين المادية والمعنوية, يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 1.
7- تكريم المعلمين والمدربين:
ففي الحديث:
-"خيركم من تعلم العلم وعلمه".
- "مجلس فقه خير من عبادة ستين سنة".
- "العلماء ورثة الأنبياء".
- "العالم والمتعلم شريكان في الأجر, ولا خير في سائر الناس بعد".
__________
1 ظهرت نظرية استخدام وسائل الإيضاح في التدريب حديثًا, وهي تشمل الوسائل السمعية والبصرية, والسمعية البصرية "كالسينما والتلفزيون".(1/38)
الانظباط العسكري والتقاليد العسكرية
...
الانضباط العسكريّ والتقاليد العسكرية:
يقرر الإسلام أن يكون الانضباط ذاتيًّا غير مرهون بدواقع خارجية, وذلك على الأسس التالية1:
1- الحرية والكرامة الإنسانية:
وتحرير شخصية المسلم من العبودية لغير الله تعالى في كل الميادين، فدعوة الإسلام لا تقوم على الإكراه {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} , وإنما تقوم على الاقناع {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، وكذلك قرَّرَ الإسلام مبدأ الحرية في النفس والمال والعرض في الحديث: "كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه"، والأنبياء والرسل ليس عليهم إلا التبليغ: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} .
2- تنمية الضمير الديني للمسلم:
بحيث يندفع إلى أداء واجبه بدوافعه الذاتية لا بفعل قوة أو سلطة خارجية, ويصوره الحديث الشريف في العبادة: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن
__________
1 لم يعرف العلم العسكري "الانضباط الذاتي" إلّا حديثًا نتيجةً للتطور في شكل الحرب، في الحروب القديمة كانت الجيوش تحارب في صفوف وجماعات متراصة، فكانت شخصية المقاتل الفرد تذوب في الجماعة؛ بحيث أصبح الانضباط في صلب الجماعة التي تحجب فقط الضعف فيه, فضلًا عن أن رقابة القائد وسيطرته على رجاله بالعين والصوت كانت ميسورة؛ لقربه منهم ولكونهم متجمعين. أما في الحرب الحديثة التي تتميز أسلحتها بقوة النيران الهائلة وتأثيرها التدميري الشامل, فقد اضطرت الجيوش إلى الانتشار على أرض المعركة حتى لا تتعرض للهلاك، ونتج عن ذلك انتشار أفراد الجماعة مع ضعف سيطرة القائد، وأصبح الانضباط في صلب كل فرد ضرورة حيوية، وانتهت المدرسة الجبرية، وظهرت مدرسة توليد الدوافع لدى الفرد؛ لأداء واجبه ذاتيًّا, وظهر اصطلاح الانضباط الذاتي.(1/39)
لم تكن تراه فإنك تراه"، ويجعل القرآن ثمرة ذلك في الثواب والأجر {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَان} .
3- تقدير المسؤولية والإخلاص في العمل:
يدل على ذلك اقتران العمل الصالح بالإيمان في القرآن؛ حيث تكررت كثيرًا عبارة {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات} , وفي الحديث: "ليس الإيمان بالتحلي أو بالتمني, ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل"، والحديث "كلكم راعٍ, وكلكم مسؤول عن رعيته.."، "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه"، "إن الله لا يقبل من العبد إلّا ما كان خالصًا وابتغي به وجهه".
4- التدريب العملي على الانضباط:
وبالإضافة إلى بناء الانضباط على "الأساس العقلي" الذي بيناه، يعنى الإسلام بتدريب المسلم عليه عمليًّا حتى يصبح عادةً وسجيةً، ودليل ذلك: التربية السلوكية في العبادات؛ كالصلاة والصوم مثلًا1.
5- ربط التقاليد العسكرية بالدين:
أ- الطاعة:
قال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] .
وفي الحديث: " اسمعوا وأطيعوا وإن وُلِّيَ عليكم عبد حبشي"، "إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم".
__________
1 يعرف "الانضباط" في علم النفس العسكري الحديث بأنه: هو الحالة العقلية, ومقدار التدريب التي تجعل الطاعة والسلوك السليم أمورًا غريزية تحت كل الظروف.(1/40)
ب- النظام والنظافة وحسن المظهر:
قال تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِين} , {وَثِيَابَكَ فَطَهِّر} , {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّه} .
وقال الرسول: "أصلحوا رحالكم ولباسكم حتى تكونوا في الناس كأنكم شامة" 1, "نظفوا أفنيتكم ولا تشبهوا اليهود".
جـ- احترام القائد والأقدمية:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} [الحجرات: 2] .
وقال الرسول: "أنزلوا الناس منازلهم".
د- صيانة الأسلحة والعناية بها.
كان الرسول يناول ابنته فاطمة سيفه ويقول: "اغسلي عن هذا دمه يا بنية, فوالله لقد صدقني اليوم" وناولها عليّ بن أبي طالب سيفه وقال: "وهذا أيضًا فاغسلي عنه دمه, فوالله لقد صدقني اليوم".
__________
1 الرحال جمع رحل, وهو المسكن وما فيه من أثاث، والشامة هي الخال, أو الحسنة التي تكون في الخد, وهي من علامات الجمال.(1/41)
أسس بناء الروح المعنوية وإرادة القتال:
1- القتال عن عقيدة:
جعل الإسلام للمقاتل عقيدةً يقاتل من أجلها1؛ هي الجها في سبيل الله، قال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ} [الحج: 18] .
2- تنمية الإحساس بالخطر المحدق بالأمة:
ففي القرآن: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} [النساء: 102] .
3- المجاهد جندي من جند الله؛ وعده الله بالنصر:
ففي القرآن: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} , {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِين} .
أسس بناء روح الفريق Esprit corps
1- الوحدة والتعاون:
- من القرآن: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} , {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} .
- من الحديث: "المؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا".
__________
1 لم يعرف العلم العسكري نظرية "عقيدة القتال" Fighting ldeology إلا حديثًا، فإلى عهد قريب كانت المدرسة الجبرية التي لا تؤمن بضرورة إعداد الجندي من خلال عقيدة قتال معين, ولا بضرورة تفهمه للهدف الذي يقاتل من أجله، هي المدرسة السائدة، وقد عبر عنها فريدرك الأكبر وهو يقول عن جنوده: "متى اجتمعوا في صفوفهم وعلموا أن الضابط وراهءهم بالسوط, فإنهم يضطربون خوفًا، ويكفي أن آمرهم حتى يلقوا بأنفسهم في النار دون تفكير؛ لأنهم يجهلون كل شيء, حتى الغرض الذي يقاتلون من أجله"، وإزاء التطور في شكل الحرب وأسلحتها السابق شرحه ظهرت مدرسة العقيدة, التي تنادي بضرورة توفر عقيدة تعرف المقاتل بالهدف الذي يقاتل من أجله وتقنعه به، يقول مونتجمري: "إن المعارك تكسب أولًا وقبل كل شيء في قلوب الرجال".
وأغلب العقائد التي تتخذها الجيوش المعاصرة ذات طابع سياسي أو وطني, ولكن عقيدة الجهاد ذات طابع ديني, ولذلك فهي تتميز بالثبات والاستقرار؛ لأن الدين أثبت وأدوم من السياسة, وتتميز أيضًا بالنبل والشرف والعدل في الغايات والوسائل, وهي أمور غالبًا ما تفتقر إليها السياسة التي تخضع عادةً للأهواء والمصالح(1/42)
2- الفخر بالانتماء للأمة الإسلامية:
من القرآن: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} , {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} , {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] .
3- فضيلة إنكار الذات في سبيل الجماعة والهدف:
من القرآن: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} ، {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} .
ومن الحديث: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" , "يا عبد الله، إن قاتلت صابرًا محتسبًا بعثك الله صابرًا محتسبًا، وإن قاتلت مرائيًا مكاثرًا، بعثك الله مرائيًا مكاثرًا".
4- الأعلام "الرايات":
اتخذ المسملون الأعلام، وكانوا يسمونها اللواء أو الراية, سواء على مستوى القيادة العامة أو القبائل أو وحدات الجيش؛ ففي بدر مثلًا كانت راية الجيش بيضاء, وحملها مصعب بن عمير بن هاشم، وكانت راية كتيبة المهاجرين سوداء, ويحملها عليّ بن أبي طالب، وراية كتيبة الأنصار سوداء أيضًا, ويحملها سعد بن معاذ.
5- علاج العوامل المؤثرة على روح الفريق:
في القرآن: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} , {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُم} .
وفي الحديث: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة، قالوا: بلى, قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين".(1/43)
نظام إعداد القادة:
1- مبادئ اختيار القادة:
أ- وضع الرجل المناسب في المكان المناسب, ومراعاة الموضوعية وعدم المحاباة، فعن أبي ذر الغفاريّ قال: قلت يا رسول الله, ألا تستعملني؟ -أي: توليني عملًا عامًّا- قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: يا أبا ذر، إنك ضعيف وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة, إلّا مَنْ أخذ بحقها وأدى الذي عليه فيها" $.
ب- تمتع القائد بالكفاءة ومحبة رجاله، ففي الحديث: "أيما رجل استعمل رجلًا على عشرة أنفس، علم أن في العشرة أفضل ممن استعمل، فقد غش الله, وغش رسوله, وغش جماعة المسلمين، وأيما رجل أمَّ قومًا وهم له كارهون, لم يجز -أي: لم تتعد- صلاته أذنيه".
2- مبادئ إعداد القادة:
أ- المشاركة في التخطيط للمعارك على أساس مبدأ الشورى, قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر} , {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم} , ويقول أبو هريرة: "ما رأيت أحدًا قطّ كان أكثر مشورةً لأصحابه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم", وظهر ذلك عمليا في غزوات عهد النبوة؛ كبدر, وأحد, والخندق.
ب- تولي قيادة عمليات القتال المحدودة، فقد عهد الرسول إلى أصحابه بالقيادة في أشكال متعددة من دوريات الاستطلاع ودوريات القتال والإغارات -ويطلق عليها سرايا, وتتراوح القوة التي تتألف منها بين بضعة أفراد إلى بضع مئات.
جـ- قيادة الوحدات التي يتألف منها الجيش تحت القيادة العليا للقائد، فقد قاد الرسول بنفسه ثمان وعشرين غزوة, جمعت بين عمليات الدفاع والهجوم(1/44)
والحصار والمطاردة والإغارة, وكان يعين قادةً للوحدات التي يتألف منها الجيش، ففي بدر مثلًا: كانت كتيبة المهاجرين بقيادة عليّ بن أبي طالب, وكتيبة الأنصار بقيادة سعد بن معاذ.
د- تولي مركز القائد الثاني في المعركة؛ ليحل محل القائد الأصلي عند إصابته، فمثلًا في بدر: كان علي بن أبي طالب قائدًا لكتيبة المهاجرين, وكان عمير بن هشام قائدًا ثانيًا، وفي غزوة مؤتة: كان زيد بن حارثة قائدًا للجيش, ومعه جعفر بن أبي طالب قائدًا ثانيًا, ويليه عبد الله بن رواحة.
هـ- تولي القيادة العامة للجيش بصفة كاملة ومستقلة، ومن أمثلتها: تعيين زيد بن حارثة الكلبيّ قائدًا لجيش المسلمين الذي تألَّف من ثلاثة آلاف مقاتل في غزوة مؤتة, على بعد خمسمائة كيلو متر من المدينة, وفي عهد الخلفاء الراشدين تولى الصحابة قيادة الجيوش في الفتوحات.
3- مبادئ القيادة العسكرية.
أ- رعاية شؤون الجند وحسن معاملتهم، ففي الحديث: "لا يسترعي الله -تبارك وتعالى- عبدًا رعيةً؛ قَلَّتْ أو كَثُرَتْ, إلا سأله -تبارك وتعالى- يوم القيامة, أقام فيهم أمر الله، أم أضاعه، حتى يسأل عن بيته خاصة"$, "اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة" , "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فَرَفَقَ بهم فارفق به".
وكان الرسول يكره أن يميز نفسه, أو يميزه أصحابه بشيء، حدث أنه كان يطوف بالبيت فقال اسقوني، فقالوا: إن هذا الماء يخوضه الناس، ولكننا نأتيك بماء من البيت، فقال: لا حاجة لي فيه، اسقوني مما شرب منه الناس, وفي غزوة الخندق حفر بيده, وحمل الأحجار والأتربة على عاتقه, وكان(1/45)
يمرض الجرحى في المعارك1:
ب- معرفة القائد لرجاله ولقدراتهم، ففي موقف يتطلب الرجل الفدائي؛ في غزوة أحد اختار الرسول أبا دجانة وأعطاه سيفًا؛ فقاتل أبو دجانة به قتالًا شديدًا, وعندما تأزم الموقف حنى ظهره على الرسول وجعل من ظهره ترسًا يحميه, وكانت السهام تقع فيه.. واختار الرسول حسان بن ثابت ليبقى بالمدينة ويقول الشعر في مجال الحرب النفسية ضد الأعداء في غزوة أحد والخندق.. وكذا اختار حذيفة بن اليمان العباسيّ كضابط مخابرات ليأتيه بأخبار المنافقين؛ لأنه كان يتمتع بمزايا رجل المخابرات.
جـ- الحسم في إصدار القرارات، ومن أمثلة ذلك: قرار الرسول بقبول معركة بدر مع قريش رغم تفوقها، وقراره بالخروج إلى حمراء الأسد في اليوم التالي لغزوة أحد لاستعادة هيبة المسلمين.
د- تحمل المسؤولية وتنميتها في المرؤوسين: تطبيقًا للحديث: "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته"، حتى قال عمر بن الخطاب فيما بعد: "لو عثرت دابة بشط الفرات لخشيت أن أسأل عنها يوم القيامة, لماذا لم أمهد لها الطريق! ".
هـ- توضيح الأهداف للجنود: قال تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
و القيادة الإقناعية التي يحصل بها القائد على طاعة مرؤسيه, لا لقوته وسلطته, ولكن لقدرته وكفاءته وخلقه ومحبة رجاله له ومحبته لهم وهو ما تعبر
__________
1 لم يظهر هذا المبدأ إلّا حديثًا، يقول مونتجمري: "وفي العصر الحديث إذا قابل القائد مشكلات جنوده الإنسانية بطريقة باردة ومجردة من الشعور, فلن يحصل منهم إلّا على القليل, أما خلال العصور الوسطى: فلم يكن للقوة البشرية أي اعتبار، ولم يتكن ذات قيمة؛ لأن العبيد كانوا يعملون في الأرض، وبعد ذلك يستهلكون في المعارك".(1/46)
عنه الآية: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] .
تكتيكات القتال:
1- القتال بالصفوف:
في القرآن: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4] .
وفي الحديث: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا".
واستخدم المسلمون أسلوب القتال بالصفوف لأول مرة في غزوة بدر, فكان ذلك مفاجأة لأعدائهم2؛ لأن القتال بأسلوب الكر والفر هو الذي كان سائدًا عند العرب.
__________
1 لا يحبذ العلم العسكري العربي نمط القيادة الاستبدادية التي يحصل فيها القائد على الطاعة معتمدًا على قوة السلطة، ويفضل نمط القيادة الإقناعية؛ لأنها تنسجم مع ما قرره الإسلام من مبادئ الحرية والكرامة الإنسانية التي صنعت أمة ذات حضارة، وجيشًا لا يقهر، فالذين يساقون لا يمكنهم يومًا أن يكونوا قادة فكر ولا رواد حضارة ولا أبطال جهاد.
2 يوضح الجنرال بوفر في كتابه "مدخل إلى الاستراتيجية العسكرية" فلسفة التشكيل الجداري بقوله: "ويأتي هذا التشكيل الجداري من رغبة كل مقاتل في أن يحمي ظهره وجنبيه بالأصدقاء، فإذا ما حمى كل مقاتل زميله واحتمى به، تشكل من المجموعة صفوف "أنساق" متراصة, يزداد تراصها وتعاقبها أو يقل حسب القواعد التكتيكية لكل عصر"، وهذا ما تعنيه فلسفة الصفوف في توجيهات الإسلام، فإذا كان العصر يقضي بانتشار الجيش في ميدان المعركة, فإن روح الصف تبقى, ولكن في صور جديدةٍ؛ كحراسة الأجناب, وقيام الأسلحة المختلفة, بتقديم المعاونة بعضها للبعض, مما يعرف الآن باسم "معركة الأسلحة المشتركة Com bined Arms Operation.(1/47)
2- المناورة بالقوات - لا فرار من المعركة:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ، وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 16] . وقد حدد الرسول خمسًا من الكبائر لا كفارة لهن، وذكر فيها: "التولي يوم الزحف" , وبذلك يوجه الإسلام إلى:
أ- عدم الفرار من المعركة -التولي يوم الزحف.
ب- الانتقال بالقوات إلى موضع آخر أفضل وأنسب لقتال العدو {إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ} -أي: منحرفًا أو متجهًا".
جـ- الانتقال بالقوات لكي تنضم إلى قواتٍ أخرى تقويها, أو تتقوى بها لصالح المعركة {أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} .
3- العنف في القتال:
ففي القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123] , {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73] .
- {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] .
- {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} "مرصد: ممر أو طريق".
4- المفاجأة وخفة الحركة والخداع:
في القرآن: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا، فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا، فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا، فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا، فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} [سورة العاديات] .(1/48)
وفي الحديث: "الحرب خدعة" , وقال كعب بن مالك: "ولم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريد غزوةً إلّا وَرَّى بغيرها".
وفي غزوة خيبر تحرك المسلمون ليلًا وأكملوا تطويق خيبر في نفس الليلة, فكان ذلك مفاجأةً تامةً لليهود، وفاجأ الرسول أعداءه باستخدام سلاح جديد في المعركة, هو المنجنيق في حصار الطائف، كما فاجأهم بأسلوب جديد في القتال بحفر الخندق, حتى قالوا: "والله إن هذه المكيدة ما كانت العرب تكيدها".
5- شل قيادة العدو وقدراته القتالية:
ففي القرآن: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12] "وفوق الأعناق" أي: الرؤوس -والبنان: أطراف الأصابع، ويؤدي ذلك إلى تعطيل قدرات العدو القتالية؛ لأن ضر الرؤوس فضلًا عن أنه في مقتل, فهو يعني شل الرأس المفكرة، وضرب أطراف الأصابع لا يُمَكِّنُ العدو من استخدام الأسلحة"1.
الأمة المحاربة وإعداد الشعب للمعركة:
قرر الإسلام نظرية الأمة المحاربة, التي تعني: أن الأمة كلها حينما تدخل الحرب, فإن كل أبنائها لهم دور يؤدونه بحسب مواقعهم، ووظائفهم, وذلك في
__________
1 يقول علماء الاستراتجية: "إن التغلب على المقاومة عن طريق شل قوة المقاومة أمر أكثر اقتصادًا في القوة من التدمير الفعلي للمقاومة, الذي هو عبارة عن عملية أطول في الزمن, وأفدح في الثمن؛ للحصول على النصر" "الاستراتيجية، الاقتراب غير المباشر -ليدل هارت ... ".
وأصبح من أهم أهداف القيادة الحربية في عصرنا شل قيادة العدو بالضربات الجوية المركزة عليها, أو بالأعمال الفدائية مثلًا, وكذا محاولة تدمير أو إسكات أسلحة العدو, وتعطيل فاعليتها.(1/49)
إطار التكليف العام بالجهاد {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُم} ، وهو لا ينحصر في مهمة قتال العدو في الميدان فقط، بل يمتد ليشمل القاعدة الاقتصادية والشعبية للأمة، ودليل ذلك: اقتران الجهاد بالمال بالجهاد بالنفس {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّه} ، واقترانهما معًا بالجهاد باللسان, "وهو تعبير عن العمل الدبلوماسي والإعلامي والحرب النفسية وغيرها" في قول النبي: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم".
كما يدل عليه الحديث: "من جهَّزَ غازيًا فقد غزا" , "إن الله ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة، صانعه يحتسب في صنعه الخير، والرامي به، والممد به" 1.
__________
1 دخل اصطلاح "إعداد الدولة للحرب" في الاستراتيجية العسكرية للدول حديثًا, بعد أن أصبحت الحرب تعني: أن الشعب وقواته المسلحة يخوضون الحرب ويتحملون أعباءها, ويواجهون مخاطرها وآثارها, وأصبحت قوة أية دولة لا تقاس بمدى قوتها العسكرية فحسب, بل بمتانة اقتصادها, وقوة معنويات شعبها, وتقدمها العلمي, وهذا هو الذي تنطوي عليه عقيدة الجهاد الإسلامي منذ 14 قرنًا.(1/50)
دور المرأة في المعركة:
1- في ميدان القتال تقوم المرأة بخدمات الإعاشة وإمداد المقاتلين بالماء والطعام والسهام "الذخيرة", وكذا بالخدمات الطبية؛ كالإسعاف والتمريض وإخلاء الجرحى والشهداء -أي: نقلهم بعيدًا عن ميدان المعركة.
ففي غزوة بدر كانت السيدة عائشة تحمل قرب الماء لتسقي المقاتلين, وكانت معها في ذلك أم سليم زوج أبي طلحة, وأم أنس بن مالك, وفي غزوة أحد كانت فاطمة بنت النبيّ تسعف الجرحى, وعن أنس قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يغزو بأم سليم, ونسوة من الأنصار معه, يسقين الماء ويداوين الجرحى(1/50)
"رواه مسلم وأبو داود والترمذي"، وقالت الربيع بنت معوذ -رضي الله عنها: كنا نغزو مع النبي -صلى الله عليه وسلم؛ فنسقي القوم ونخدمهم, ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة "رواه البخاري".
وقد ورد أن بعض النساء كانت تحمل سلاحًا للدفاع عن نفسها، كما ورد أن بعضهن قد جاهدن بأنفسهن في قتال الأعداء، أخرج مسلم من حديث أنس أن أم سليم اتخذت خنجرًا يوم حنين, وقالت للنبي -صلى الله عليه وسلم: "اتخذته إن دنا مني أحد المشركين بقرت بطنه" فهذا يدل على جواز القتال للمرأة, وإن كان فيه ما يدل على أنها لا تقاتل إلّا مدافعةً, وليس منها أنها تقصد العدو وتطلب مبارزته, وقد قاتلت أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية يوم أحد, وجرحت, وورد عنها أنها قالت: "فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف, وأرمي عن القوس, حتى خلصت الجراح إليّ", وروي أن الرسول قال عنها: "لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان".
2- وفي الجبهة الداخلية تقوم المرأة بدور إيجابيٍّ في حماية ظهر الجيش وقاعدته التي انطلق منها, ومن أمثلة ذلك قيام صفية بنت عبد المطلب بقتل اليهوديّ الذي كان يطوف بالحصن في المدينة أثناء معركة الخندق.(1/51)
اقتصاديات الحرب:
بمقتضى عقيدة الجهاد بالأموال والأنفس, يربط الإسلام بين الاقتصاد والاستراتيجية العسكرية, ويتضح ذلك أيضًا من ذكر "الإنفاق" بعد "إعداد القوة والمرابطة" في سورة الأنفال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} .
ويعتبر المال "مال الأمة" وهي تحارب لدفع العدوان، ويجيز الإسلام لولي الأمر أن يأخذ من أموال المسلمين ما تدعو إليه الحاجة أثناء الحرب، ويعتبر نفير الجهاد بالمال والأنفس تعبئة لاقتصاد الأمة لصالح المعركة, ولا يمكن التخلف عنه، قال تعالى: {لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} [التوبة: 44] .
ويوجه القرآن الأمة إلى أن في الحديد ما يمكنها من تحقيق التنمية, وكذا الصناعة الحربية: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} 1 "أي: وخلقنا الحديد ليكون من أسلحة الحرب القوية التي تردع المعتدي وتقهره، وفيه منافع للناس في حاجاتهم ومعايشهم وصناعاتهم ومختلف شؤون حياتهم".
__________
1 يعرف الاستراتيجيون جميعًا قيمة الحديد، وإلى أي حدٍّ تأثرت به الاستراتيجية العسكرية على مر العصور؛ فعندما انشئت السكك الحديدية مثلًا على نطاق واسعٍ, فقد أدى ذلك إلى تصعيد حجم النقل، وتيسير مهمة نقل القوات، وجعل في الإمكان حشد القوات في مسارح العمليات بسرعة وبكثافة كبيرتين، وزاد من قدرة القيادات على إجراء المناورات الاستراتيجية بالقوات, ومن الأمثلة التاريخية البارزة في هذا المجال: أن ألمانيا والنمسا تمكنتا -بفضل الخطوط الحديدية الموازية لحدودها- من إتمام التوزيع الاستراتيجي لقواتهما وفقًا للجدول الزمني المقرر, وهو ثلاثة عشر يومًا لألمانيا, بعد التعبئة العامة, وستة عشر يومًا للنمسا، أما روسيا القيصرية, فلم تتمكن بسبب افتقارها إلى الشبكات الحديدية المتطورة والموازية لحدودها الغربية من نشر قواتها إلّا بعد أربعة وعشرين يومًا من إعلان التعبئة.. وبفضل الحديد وتطور صناعته تطورت صناعة أسلحة الحرب الثقيلة, وادى ذلك إلى حل كثير من المشكلات التكتيكية والاستراتجية ومشكلات إدارة الحرب.(1/52)
آداب الحرب1
1- معاملة أسرى الحرب:
ففي القرآن: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} .
وفي الحديث: "استوصوا بهم -أي الأسرى- خيرًا"، وأمر الرسول المسلمين الذين أسروا ثمامة بن أثال قائلًا: " أحسنوا أساره، اجمعوا ما عندكم من طعام فابعثوا به إليه"، ويقول أبو عزيز بن عمير, وكان أسيرًا "كنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر, فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوني بالخبز وأكلوا التمر، لوصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إياهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلّا نفحني بها, فأستحي, فأردها على أحدهم, فيردها عليّ ما يمسها".
وجعل الإسلام للتصرف في الأسرى قاعدةً هي: إما المن -إطلاق السراح- أو أخذ العوض؛ إما بالمال, أو تبادل الأسرى, وهو "الفداء", قال
__________
1 كان للإسلام السبق في إيجاد نظام شامل للحرب يتسم بالرحمة والعدل وحسن المعاملة، في حين أن القواعد المنظمة للحرب في القانون الدولي الأوروبي بدأت منذ ثلاثة قرون, وأخذت من الشريعة الإسلامية، وظلت لدى أوروبا قواعد عرفية بحتة, حتى منتصف القرن 19 الميلادي؛ حيث بدأت الدول تدوينها في معاهدات؛ أولها: تصريح باريس البحري سنة 1856، ثم اتفاقية جنيف لمعاملة جرحى ومرضى الحرب سنة 1864، ثم تصريح سانت بطريسبرج بتحريم رصاص دمدم المتفرج, ثم اتفاقيتا الحرب البرية والبحرية من اتفاقات مؤتمر لاهاي في سنة 1899 وسنة 1907، واتفاقية واسنتجتن في سنة 1922 عن حرب الغواصات والغازات, ثم اتفاقات جنيف الأربعة سنة 1949, الخاصة بمعاملة جرحى وأسرى الحرب وحماية الأشخاص المدنيين، ويلاحظ أنها لا تطبق إلّا في حالة قيام الحرب بين دولتين موقعتين على المعاهدة، وكان العمل ساريًا إلى عهد قريب على رد مخالفة قواعد الحرب بالمعاملة بالمثل، فلو قامت حرب بين دولتين موقعتين على اتفاقات تقضي بتنظيم حالة الحرب, وأخلت إحداهما فللأخرى أن تعاملها بالمثل, أو تهدد بالمعاملة بالمثل, لكن المسلمين لا يلجأون إلى المعاملة بالمثل فيما حرمه الله عليهم من المثلة أو قتل النساء والشيوخ والأطفال.(1/53)
تعالى: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} 1.
2- منع قتل الضعفاء وغير المقاتلين ومنع التخريب:
قال الرسول للجيش: "لا تقتلوا شيخًا فانيًا ولا طفلًا ولا امرأةً ولا تغلوا -أي لا تخونوا, لاتقتلوا أصحاب الصوامع" "أي الرهبان".
3- منع التمثيل بجثث القتلى, أو تعذيب الجرحى:
في الحديث: "إياكم والمثلة" وأمر -عليه السلام- بوضع جثث قتلى المشركين في بدر في القليب, وهو بئر جافٍ، ونهى عن تعذيب الجرحى, وقال: "لا تعذبوا عباد الله".
4- الوفاء بتأمين المحارب:
فإذا أعطى الأمان لأحد المحاربين من الأعداء, وجب احترام هذا التأمين, ولا يجوز لأحد أن يتعرض لذلك المحارب بأذى، يشير إلى ذلك قول الرسول: "ويسعى بذمتهم أدناهم"، وقد أمضى -عليه السلام- تأمين أم هانئ بنت أبي طالب لرجل من المشركين, وقال لها: "قد أجرنا من أمنت يا أم هانئ" , وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} .
5- تأمين رسل العدو:
سمع النبي كلامًا من رسولي مسيلمة لم يرضه, فقال لهما: "لو كنت قاتلًا رسولًا لقتلتكما" فصارت سنة قولية وعملية في أن الرسل آمنون حتى يبلغوا الرسالة ويعودوا من حيث أتوا.
__________
1 كان أسرى الحرب في العصور الوسطى والغابرة يقتلون، بل إن الديانة اليهودية على ما ورد في التلمود كانت لا تكتفي بقتل الأسرى, بل تقضي بقتل النساء والأطفال والحيوانات التي توجد في المدن المستولى عليها.(1/54)
6- السماحة مع المغلوب:
بعد فتح مكة قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- لقريش: "أقول لكم ما قال أخي يوسف لإخوته، لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم, وهو أرحم الراحمين، اذهبوا فأنتم الطلقاء"، وقال جوستاف لوبون في كتابه حضارة العرب: "إن العرب تركوا المغلوبين أحرارًا في أديانهم, فإذا كان بعض النصارى قد أسلموا واتخذوا العربية لغةً لهم, فذلك لما كان يتصف به العرب الغالبون من ضروب العدل الذي لم يكن للناس مثله عهد، ولما كان عليه الإسلام من السهولة التي لم تعرفها الأديان الأخرى.. وقد عاملوا أهل سورية ومصر وأسبانية, وكل قطر استولوا عليه, بلطف عظيمٍ, تاركين لهم قوانينهم ونظمهم ومعتقداتهم غير فارضين سوى جزية زهيدة في مقابل حمايتهم لهم, وحفظ الأمن بهم.. والحق إن الأمم لم تعرف فاتحين رحماء متسامحين مثل العرب". وقال مونتجمري في كتاب "الحرب عبر التاريخ": "إن المسلمين كانوا يستقبلون في كل مكان يصلون إليه كمحررين للشعوب من العبودية, وذلك لما اتسموا به من تسامح وإنسانية وحضارة, فزاد إيمان الشعوب بهم".
7- عقد الصلح:
في القرآن: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} .
8- الجزية:
فرضت الجزية علامة على الخضوع لسلطان الدولة، ومقابل حماية المغلوبين في أموالهم1 وعقائدهم وأعراضهم وتمكينهم من التمتع بحقوق
__________
1 كان فرض الجزية في الإسلام أبعد ما يكون عن الاستغلال والطمع في أموال المغلوبين؛ إذ كانت تفرض بمقادير قليلة على المحاربين والقادرين على العمل فحسب, وكانت ثلاثة أقسام: أعلاها وهو 48 درهمًا في السنة على الأغنياء، وأوسطها 24درهمًا في السنة على المتوسطين من تجار وزراع، وأدناها وهو 12 درهمًا في السنة=(1/55)
الرعاية مع المسلمين سواء بسواء، يدل على ذلك: أن جميع المعاهدات التي تمت بين المسلمين وبين المغلوبين من سكان البلاد كانت تنص على هذه الحماية في العقائد والأموال, وقد جاء في عهد خالد بن الوليد لصاحب قس الناطف: "إني عاهدتكم على الجزية والمنعة, فإن منعناكم فلنا الجزية وإلّا فلا، حتى نمنعكم". وقد رد خالد على أهل حمص، وأبو عبيدة على أهل دمشق، وبقية القواد المسلمين على أهل البلاد الشامية المفتوحة ما أخذوه منهم من الجزية؛ حين اضطر المسلمون إلى مغاردتها قبيل معركة اليرموك, وكان مما قال القواد المسلمون لأهل تلك المدن: "إنا كنا قد أخذنا منكم الجزية على المنعة والحماية, ونحن الآن عاجزون عن حمايتكم, فهذه هي أموالكم نردها إليكم".
9- الغنائم:
قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] .
وبذلك يكون للدولة الخمس, وللجنود الباقي, وقد حددت الآية توزيع الخمس, وجرى العمل بذلك التوزيع أيام الرسول.
وأما الفئ، وهو ما يقع في أيدي المسلمين بلا قتالٍ أثناء طريقهم للغزو, ولم يوجفوا عليه بخيل ولا ركاب، فهو حق للدولة وحدها, يرصده الرسول لمصالح المسلمين العامة.
قال تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [الحشر: 6] . وقد روى أصحاب السير أن أموال بني النضير التي جلوا عنها، كانت فيئًا خالصًا للرسول، فكان يبيع نخلها، فيعزل منه نفقة أهله سنة، ثم يجعل ما بقي في شراء الخيل والسلاح عدة في سبيل الله.
__________
= على العمال المحترفين الذين يجدون عملًا، وهذا مبلغ لا يكاد يذكر بجانب ما يدفعه المسلم نفسه من زكاة ماله, وهو بنسبة اثنين ونصف بالمائة, القدر الشرعي لفريضة الزكاة، هذا فضلًا عن أن الجزية تسقط عن الفقير والصبي والمرأة والراهب والمنقطع للعبادة والأعمى والمقعد وذوي العاهات.(1/56)
المراجع:
1- المدخل إلى العقيدة والاستراتيجية العسكرية الإسلامية, لواء محمد جمال الدين محفوظ.
2- القرآن والقتال, محمود شلتوت, ص24-26.
3- الفن الحربي في صدر الإسلام, عبد الرءوف عون, ص271-272.(1/57)
تطور النظم الحربية عند العرب المسلمين
مدخل
...
3- تطور النظم الحربية عند العرب المسلمين:
نظام تعيين القادة:
في عهد النبي والخلفاء, كان يعقد للقائد الذي يعين لقيادة الجيش لواء على رمح طويل ينشره أثناء السير للمعركة, وعادة ما كان يصاحب عقد اللواء توجيه النصائح الحربية للقائد.
وظل عقد اللواء هو مرسوم التعيين للقائد بعد ذلك, إلى أن اتسعت رقعة البلاد وتفرقت الجيوش الإسلامية شرقًا وغربًا؛ فأصبح الخليفة يعقده للقائد إن كان في حضرته، فإن غاب عنه فهو بالخيار؛ إما أن يرسل له اللواء حيث يكون، وإما أن يكتفي بالأوامر المكتوبة يحملها البريد.
كذلك كان الخلفاء العباسيون يفعلون، فقد أرسل "إبراهيم الإمام" لأبي مسلم الخراساني لواء وراية، مقلدًا إياه قيادة الدعوة إليه في مرحلتها السرية، فلما أظهر هذا دعوته عام "129هـ-747م" عقد اللواء على رمح طوله أربع عشرة ذراعًا، والراية على رمح طوله ثلاث عشرة ذراعًا، وسار بهما في البلاد، يخفقان على جيشه في معاركه كلها.
وبمضيّ الزمن وتداول الدول، صار لكل حكومة أو طائفة إسلامية علم يدل عليها، ويحمل لونًا خاصًّا، يسلمه رئيسها إلى قواده عند تنصيبهم،(1/58)
فاختار الأمويون اللون الأبيض تخليدًا لذكرى غزة بدر التي كان لواء الرسول فيها أبيض، واختار العلويون الخضرة لتذكير الناس ببردة الرسول الخضراء، التي سجَّى بها عليًّا ليلة أن بات مكانه عند الهجرة، واختار العباسيون السواد تخليدًا لذكرى راية الرسول السوداء المسماة بالعقاب, كما اختار الخوارج اللون الأحمر رمزًا للدماء المراقة في سبيل الله.
وقد عرفت أسر عربية باحتكار القيادة الحربية، مثل آل المغيرة, وبني الوليد، وبني القعقاع, وبني ثقيف, وبني المهلب, وبني نصير, وغيرها من الأسر التي أمدت الجيوش الإسلامية بقوادٍ أكفاء1.
نظام التجنيد والسجلات العسكرية:
ظلّ التجنيد في عهد أبي بكر على النهج الذي كان معمولًا به في عهد النبي, وهو مبدأ التطوع والانتداب المبني على نية الجهاد في سبيل الله, وكتب أبو بكر إلى قواده عند فتح العراق والشام "أن يأذنوا لمن شاء بالرجوع، ولا يستفتحوا بمتكاره، وأن يستنفروا من قاتل أهل الردة، ومن ثبت على الإسلام بعد الرسول". ثم عمد الخليفة عمر إلى تنظيم الجيش الإسلاميّ بأن وضع "الديوان"2 فكتب أسماء المسلمين جميعًا في دفاتر, ورتب لهم فيها أرزاقهم السنوية، وجعلهم مرتبين حسب قرابتهم من الرسول, والسبق في الإسلام, والبلاء في الجهاد، وجعل الأرزاق السنوية تتراوح بين خمسة آلاف درهم وألف درهم, وأفرد للجند دفاتر خاصة تسمى "ديوان الجند", يدون فيها اسم الجندي مع نسبته وقبيلته, وبيان قده ولونه وملامحه, وسائر ما يتميز به
__________
1 في الدولة البيزنطية عرفت أسر عريقة باحتكار القيادة وإمداد جيشها بالضباط جيلًا بعد جيل؛ مثل: أسر فوكاس وبريناس ودوكاس.
2 الديوان كما عرفه ابن خلدون: "هو القيام على أعمال الجبايات, وحفظ حقوق الدولة في الدخل والخرج، وإحصاء العساكر بأسمائهم وتقدير أزراقهم، وصرف أعطياتهم في إبانها، والرجوع في ذلك إلى القوانين التي يرتبها قومة تلك الأعمال وقهارمة الدولة".(1/59)
عن غيره لئلّا تتفق الأسماء, وليسهل استدعاؤه, وقسم عمر الجيش على الوجه الآتي:
1- الجنود النظاميون ولهم ديوان خاص، ويصرف لهم عطاؤهم من بيت المال فوق أسهمهم من المغانم، وهؤلاء كانوا موقوفين للجهاد, لا يشتغلون بغيره من تجارة أو زراعة أو غيرها، وإن فعلوا ذلك عوقبوا.
2- المتطوعون الذين يلحقون بالجيش من البوادي والأمصار، والبلاد المفتوحة, وهؤلاء يجندون وقت الحرب ويسرحون وقت السلم، وحظهم من الجهاد هو سهمانهم فقط، ولا يمنعهم الخليفة من زراعة الأرض أو الاشتغال بأية حرفة أخرى.
وفي عهد الدولة الأموية ضعف عنصر الإلزام في التجنيد بسبب الحروب الأهلية التي فترت بسببها حماسة الجند للقتال؛ لعدم إيمانهم بعدالة القضية التي يحاربون من أجلها, ولعدم وضوح مشروعيتها في نظرهم، وأدى ذلك إلى أن أصبح المال أداة التجنيد في الدولة الأموية وعند العلويين والزبيريين, وكذلك عند الخوارج.
وكان التجنيد في عهد الدولة العباسية خاضعًا للمال، فصارت الجندية مهنة مربحة، وبسبب الحروب الأهلية بين الأخوين الأمين والمأمون ضعفت روح الجندية, وأصبح الجنود يبيعون دماءهم بأثمانٍ باهظةٍ لمن يقدر على دفعها.
نظام إنهاء الخدمة العسكرية "التسريح":
في عهد أبي بكر كانت ألوية الجيش منتشرة في أنحاء الجزيرة المختلفة لإخضاع الثائرين، فلما مل القتال جنود "عكرمة" باليمن؛ لبعد الشقة وكثرة المشقة, سرحهم أبو بكر واستبدل بهم غيرهم، ومن ثَمَّ سُمِّيَ الجيش الجديد(1/60)
"جيش البدال". وفي عهد عمر انتشرت جنوده في سواد العراق ومروج الشام، فقرر الخليفة ألّا يمكث الجنود في الغزو أكثر من أربعة أشهر1، ثم يستقدمون ويرسل مكانهم آخرون، وكذلك نظم الغزو بين أهل البصرة والكوفة، فكان الجنديّ يأتي دوره في الغزو على فترات معينة كل أربعة شهور، كما كان الجند المرابطون بالإسكندرية يستبدل بهم غيرهم كل عدة شهور.
أما إنهاء الخدمة بالتسريح النهائيّ فيظهر أن الجند النظاميين كانوا يسرحون عند بلوغ حد الشيخوخة، أما المتطوعون فإنهم كانوا يخرجون للغزو أو الرباط، فإذا حلَّ الشتاء, أو هجم البرد, تفرقوا إلى بلادهم، حيث يريحون دوابهم، ويستريحون، وكان عمر ينصح لقواده أن يفرقوا في الناس أرزاقهم قبل أن يتفرقوا في مشاتيهم2.
__________
1 يروى أن السبب في تحديد تلك المدة, أن عمر كان يمر بحارات المدينة ليلًا؛ فسمع امرأة في دارها تنشد شعراً تذكر فيه شوقها لزوجها الغائب في الجهاد، وتذكر الله والعفة، فسأل بنته حفصة: كم تستطيع المرأة أن تصبر عن زوجها؟ فقالت: أربعة أشهر، فأصدر أمره السابق.
2 كان من الأغراض الاستراتيجية التي قصدها من تأسيس المعسكرين "البصرة والكوفة" أن تعود إليهما القوات الغازية شتاءً، فاختار بعض الناس البقاء بهما, وظلوا فيهما يتناسلون ويتوارثون الرباط هم وأبناؤهم جيلًا بعد جيل.(1/61)
الجيش الدائم:
اعتاد العرب أن يقيموا في البلاد التي يفتحونها مراكز حربية ثابتة في التخوم المهمة التي تجب حمايتها، وذكر الدكتور كريمر في كتابه "الشرق في حكم الخلفاء" أن العرب كانوا يقيمون في هذه المراكز عددًا كبيرًا من الفاتحين، ومعهم أسرهم, يصرف لهم بها عطاؤهم السنوي, ويتوارثون الرباط بها، وذكر أن الخليفة عمر أقام في الشام أربعة مراكز حربية, وأنه أقام في مصر مركز الفسطاط, وزوَّدَ الإسكندرية بحامية قوية, هذا بالإضافة إلى البصرة والكوفة, وقد أقيمت هذه المعسكرات في مواقع استراتيجية مهمة، على أبواب الطرق المؤدية للبلاد المفتوحة، لتكون مقرًا للقوات المحاربة الثابتة التي يتألف من مجموعها الجيش الإسلامي، يراقبهم الخليفة ويبث فيهم عيونه فيأتونه بأخبارهم، وكان يشترط في هذه المعسكرات ألّا تفصل عنه بالمياه، ليتمكن من زيارتها أنَّى شاء، وليرى مدى استعدادها لمواجهة الأعداء، وتحكمها في الطرق المؤدية لداخل البلاد.
وروى الطبريّ أنه كان بالكوفة أربعة آلاف فارس لنجدة المسلمين بها إذا نابتهم نائبة، إلى أن يستعد الناس ويلحقوا بهم، ثم تتوالى الإمدادات بعدهم، كما ذكر أن المعسكرات الأخرى كان بكل منها أربعة آلاف فارس على نمط الكوفة.
وقُدِّرَ عدد الجيش الدائم في عهد عمر باثنين وثلاثين ألفًا من الفرسان المرابطة, عدا المشاة والمتطوعة، وكان لدى الخليفة المنصور 120 ألفًا مفرقين في الأقاليم, كما كان جيش المأمون بالعراق يتألف من 125 ألفًا.
تشكيلات الجيش:
كانت القوات منذ عهد النبوة توزع على أساس قبلي، وأول تنظيم عُرِفَ في هذا العهد قرره الرسول حينما اختار من أصحابه ليلة العقبة الثانية اثني عشر نقيبًا ليكونوا وسطاء بينه وبين الناس في نشر دعوته الجديدة، وليكونوا نواةً صالحةً لجيشه المرتقب، فلما كثر أصحابه واشتبكوا مع المشركين في عدة معارك, قسمهم عرافات, وجعل على كل عشرة منهم عريفًا، فقد روى الطبري في حديثه عن القادسية أن سعدًا عَرَّفَ العرفاء، فجعل على كل عشرة عريفًا، كما كانت العرافات أزمان النبي -صلى الله عليه وسلم.
واستمر هذا التنظيم حتى أوائل خلافة عمر, فقد كتب إلى قائده(1/62)
سعد بن أبي وقاص قبيل وقعة القادسية يقول: "إذا جاءك كتابي هذا فعشر الناس، وعرِّف عليهم، وأمر على أجنادهم وعبهم، ومر رؤساء القوم فليشهدوا، وقدرهم وهم شهود، واجعل على الرايات رجلًا من أهل السابقة".
ويفهم من ذلك أن العريف كان على عشرة من الجند، وأن الأمير فوق العريف، وأن رؤساء القوم عم زعماء القبائل.
وفي معركة اليرموك نظم خالد -لأول مرة- الجيش في تشكيل "الكراديس" متأثرًا على ما يبدو بالنظام البيزنطي, ويعتبر ذلك مرحلة انتقال هامة في تشكيل الجيش الإسلامي، من الأساس القبليّ إلى أساس تنظيميٍّ له تركيب متجانس, يضم الفرسان والرماة من وحدات متساوية في القوة "هي الكراديس" دون النظر إلى أصل أو نسب, أضف إلى ذلك اختيار القادة الأكفاء لقيادة الكراديس.
وقد أوضح خالد في كلمته للجيش دوافعه إلى اتباع تشكيل الكراديس حين قال:
"إن هذا اليوم له ما بعده, ولا تقاتلوا قومًا على نظام وتعبئة وأنتم متساندون، فإن ذلك لا يجمل ولا ينبغي ... إن الذي أنتم فيه أشد عل المسلمين مما قد غشيهم, وأنفع للمشركين من إمدادهم، ولقد علمت أن الدنيا فرقت بينكم1 فالله الله! إن تأمير بعضكم لا ينقصكم عند الله, ولا عند خليفة رسول الله.. إن عدوكم قد كثر وطغى, وليس أكثر في رأي
__________
1 وجد خالد أن كل جيش من جيوس المسلمين مستقلٌّ بذاته, له قائده ومعسكره وأذانه للصلاة, وكان كل قائد يضع خطة جيشه منفردًا, وأنه لا يوجد تعاون بين الجيوش، فجمع قادة المسلمين ليشرح لهم خطورة الموقف, وقال لهم: "هلموا فلنتعاون الإمارة, فليكن بعضنا اليوم والآخر غدًا, والآخر بعد غد, حتى تتأمروا كلكم, ودعوني أتأمر اليوم، فلما استجابوا له اتخذ ذلك القرار التاريخي "تشكيل الكراديس".(1/63)
العين من الكراديس".
ونظم خالد الجيش في ثمانية وثلاثين كردوسًا1, تبلغ قوة كل منها حوالي ألف من المقاتلين "إذ كانت قوة الجيش في مجموعه حوالي 40 ألف مقاتل" وجعل على كل قسم من الجيش بطلًا مشهورًا من أبطال المسلمين, وهم الذين يسمون "أمراء التعبئة"؛ فجعل أبا عبيدة أميرًا على كراديس القلب، وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة على الميمنة، وجعل على الميسرة يزيد بن أبي سفيان، وكذلك اختار أمراء الكراديس من الأبطال البارزين؛ أمثال: القعقاع بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الأزور, وغيرهم.
__________
1 أو 36 كردوسا "إذ كانت قوة الجيش حوالي 36 ألفا" في رواية أخرى.(1/64)
الوحدات المدنية الملحقة بالجيش
...
الوحدات المدنية المحلقة بالجيش:
1- القراء والقصاص "ضباط التوجيه المعنوي".
وجَّه الإسلام المجاهدين إلى ذكر الله في ساحة المعركة بعد أن يأخذوا بأسباب القوة والتجهز للقتال, قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45] فصاروا يكثرون من تلاوة القرآن وذكر الله في المعركة، ثم عرف جماعة منهم بحفظ القرآن يسمون "القراء", كانوا يخرجون مع الجيش، ويتفرقون بين صفوفه، يسمعون الناس سورة "الأنفال"؛ لما فيها من حَثٍّ على الجهاد1.
ثم ظهرت في الدولة الأموية طائفة القصاص، وكانوا ينتشرون بين الجند كالقراء؛ يقصون عليهم أمجاد أسلافهم، ويلقون عليهم الشعر
__________
1كان قتل الكثير من القراء في حروب اليمامة سببًا في جمع القرآن زمن أبي بكر.(1/64)
الحماسي، في أوقات سمرهم موقعًا على نغمات الناي أو القيثار، كما يتغنون أمام الصفوف بالشعر المطرب؛ فتجيش همم الأبطال ويساعرون للقتال.
2- العمال والفعلة:
لما فتح المسلمون الأقطار, وكثر في أيديهم الأرقاء، استكثروا من الخدم استعانةً بهم على أعمال الجهاد الهينة؛كتعهد الجمال والخيل، وحزم الأمتعة وحراستها في الحل والترحال، وتمهيد الطرق، وحفر الخنادق وردمها، وسد الطرق الجبلية، وإقامة القناطر والجسور, وغيرها من الأعمال, حتى لقد كان بعضهم يخرج ومعه أتباع من الخمسة إلى العشرة, وأكثر من ذلك.
وقد توسَّع الأمويون والعباسيون في استخدام طوائف الفعلة الذين يقومون بأعمال هندسة الميدان، فكان منهم أصحاب الفؤوس وغيرهم.
3- الأطباء والممرضات "الخدمات الطبية":
لما اتسعت ونظمت الفتوح الإسلامية، أبطلت عادة الخروج بالنساء إلى المعركة، وصار يقوم بالخدمات الطبية أطباء وممرضون مخصصون، بعد أن حذق العرب الطب، فكان الجريح يحمل على ترس طويل, أو على محمل بين رجلين؛ فيوضع في مكان العلاج1، ثم صار الأطباء يرافقون الجيش عند خروجه، وتخصص لهم خيامهم في المعسكرات، وكان العباسيون إذا جهزوا جيشًا زودوه بالأطباء وبالصيادلة لإعداد الأدوية.
__________
1 روى الجاحظ أن الحجاج بن يوسف أول من عمل المحامل.(1/65)
الإمداد والإعاشة:
في عهد النبوة كان المجاهد مسئولًا عن قضايا الإمداد والإعاشة لنفسه ولفرسه, أو بعيره, وكان كل ذلك من ماله الخاص وحظه من الغنائم، وكان الأغنياء يساعدون الفقير في جهازه, فلما وضع عمر الديوان أصبحت هذه الأمور من مسئولية الدولة؛ فكان عمر يشتري الخيل والسلاح من أموال المسلمين التي كثرت في زمنه, وكان يجعل على السلاح "سمة السلطان" حتى لا يختلط بغيره، وعنه أخذ علي بن أبي طالب بناء خزائن السلاح ووسمه بسمة السلطان1.
أما المتطوعون فكانوا يعدون أنفسهم بمستلزمات القتال, وكانوا في عهد الدولتين الأموية والعباسية إذا فرغ منهم الزاد، عادوا لتجديده, أو أرسلوا إلى أهلهم فزودوهم وهم بمكانهم، ولا شأن للدولة بهم.
وأدخل العباسيون نظام "المخازن" فكانوا يدخرون للجيش حاجة من التموين في مخازن خاصة، فكانت لهم خزائن لحفظ أصناف الأموال والقماش، وخزائن للغلال والحبوب، وخزائن للسلاح2.
رواتب الجند:
كانت أعطيات الجند في عهد النبوة غير محدودة، فتتبع ما يقع في أيديهم من الغنائم أو الفئ -كما سبق ذكره، وجرى على ذلك أبو بكر، فلما تولى عمر ووضع الديوان، ميَّزَ الناسَ في العطاء باعتبار النسب والسابقة3، فرتبهم طبقات كما يلي:
لكل من المهاجرين، والأنصار الذي شهدوا غزة بدر الكبرى 5000 درهم.
__________
1 على الطريقة التي كانت متبعة في أموال الصدقة، وهي أن يكتب على أفخاذ الخيل والجمال كيًّا بالنار كلمة "صدقة", أو كلمة "عدة".
2 نقل الأستاذ نعمان ثابت عن صاحب "آثار الأول" أنه كان بخزائن السلاح أيام "السفاح" خمسون ألف درع, وخمسون ألف سيف، وخمسون ألف جوشن, ومائة ألف رمح.
3 أي باعتبار نسبه من النبي, أو سابقته في الإسلام.(1/66)
لكل من المهاجرين والأنصار الذين لم يشهدوا بدرًا 4000 درهم.
لكل من أزواج النبي 12.000 درهم.
العباس عبم النبي 12.000 درهم.
الحسن والحسين 5000 درهم.
عبد الله بن عمر بن الخطاب 3000 درهم.
كل من أبناء المهاجرين والأنصار 2000 درهم.
كل واحد من أهل مكة 800 درهم.
كل واحد من سائر المسلمين على اختلاف طبقاتهم 300-500 درهم.
لكل من نساء المهاجرين والأنصار 300-600 درهم.
ويضاف إلى رواتب العساكر المذكورة "300-500 درهم", ما كان يدفع لنسائهم وأولادهم, وما فرض لهم من الحنطة, وهو جريبان لكل واحد في الشهر, والجريب 3600 ذراع مربع, ويراد به ما ينبت في تلك المساحة.
وظلت أعطيات الجند على هذا القدر في أيام الراشدين، إلى أن جاء معاوية فزادها، وكان جنده ستين ألفًا ينفق عليهم ستين مليون درهم في العام، فيلحق كل رجل ألف درهم, وذلك أكثر من ضعفي ما فرضه عمر، وفي أواخر دولة بني أمية قلَّتْ الرواتب, حتى صارت في آخرها خمسمائة درهم.
وفي عهد الدولة العباسية جعل السفاح رزق الجندي 960 درهمًا في السنة، وكان الفارس ضعفا هذا الراتب لينفق نصفه على فرسه1، ويظهر
__________
1 في عهد النبوة جعل للفارس سهمين من الغنائم، أحدهما له, والثاني لينفق منه على فرسه.(1/67)
إن الرواتب لم ترتفع بارتقاء الدولة العباسية, بل هي أخذت في التناقص1، فصارت في أيام المأمون عشرين درهمًا للراجل في الشهر, وأربعين للراكب, فكان جيش عيسى بن محمد بن أبي خالد, عام 201هـ"125" ألف فارس, فأعطى الفارس أربعين درهمًا, والراجل عشرين, وزد على ذلك أن قيمة الذهب كانت قد ارتفعت عمَّا كانت عليه في أوائل الإسلام، وكان الدينار في أيام عمر يساوي عشرة دراهم, فأصبح في أيام المأمون يساوي 15 درهمًا, وما زال العطاء يدفع نقدًا إلى أيام الدولة السلجوقية، فصار يعطي إقطاعًا، وأول من فعل ذلك نظام الملك الطوسي, وزير آل سلجوقي "توفي سنة 485هـ"، فقد رأى الدولة السلجوقية قد اتسع نطاقها, فأحب أن يحفظها بالإقطاع، فحولها إلى إقطاعيات سلمها إلى الجند، وقد اقتدى بفعله من جاء بعده من الملوك والسلاطين إلى أوائل القرن الماضي, واختلفت غلات الأمراء من إقطاعاتهم، فقد بلغت غلة إقطاع بعض أكابر أمراء المئين من دولة المماليك, نحو 200.000, ويليهم من غلتهم نصف ذلك أو ربعه، وأما أمراء العشرات فنهايتها سبعة آلاف دينار إلى ما دون ذلك, أما جند الخليفة فمنهم، من يبلغ إقطاعه1500 دينار, ومادون ذلك إلى 250 دينارًا.
__________
1 السبب في ذلك أن العرب كانوا قد انتشروا في أنحاء البلاد واختلطوا بالأعاجم, وعمل العباسيون على الاستكثار من هؤلاء؛ لأنهم ساعدوهم على إنشاء دولتهم، وكان الأعاجم يرضون بالراتب القليل، ومع ذلك فهو أضعاف ما كان يدفعه الروم لجندهم, إذا صح ما نقله ابن خرداذبه, فقد ذكر أن راتب الجنديّ عندهم كان يختلف من 18 إلى 12 دينارًا في السنة, وكانوا لا يستولون على رواتبهم إلّا كل ثلاث سنوات أو أربع، وأما رواتب جند العرب: فقد كانت تدفع في أوقاتها إلّا في أواخر الدولة العباسية, فقد كانت تتأخر وتتراكم، ويفوز بالخلافة من يتمكن من إرضاء الجند.(1/68)
أسلحة القتال الخفيفة:
1- القوس والسهم:
كان العربي أول أمره يتخذ القوس من عودٍ يحني طرفيه, ثم يشد بينهما وترًا، فلما تقدَّم به الزمن, تنوعت عنده الأقواس، فصار لأهل البدو قسي متمايزة عن قسي أهل الحضر، وشهرت في بلاد العرب القسي "الحجازية" وهي عود من النبع أو الشوحط يحنى طرفاه, وليس له سيتان ولا مقابض1، وكان منها نوع يصنع من عودين ويسمونها "شريحية", ولكن التي من عود واحد كانت عندهم أجود.
ثم تطورت القسي بعد ذلك، فصارت تصنع أجزاؤها منفصلة، ثم تركب بعد ذلك وتلصق بالغراء، ولذا كانوا يسمونها "المنفصلة"؛ لانفصال أجزائها، وصار لها سيتان ومقبض، وكانوا يطلقون عليها أيضًا "الواسطية", وبها مجرى غائر بالخشب، تجري فيه السهام أمام الأوتار.
ثم تطورت القسي وتعددت أنواعها, وصارت تنسب إلى البلاد والصناع؛ كالحجازية, والدمشقية, والواسطية, وغيرها، وأجودها عندهم كما ذكر صاحب "آثار الأول" ما كثر فوقها، وقل خشبها، وصح لحامها، واشتد جفافها، وقوي حبلها، ثم صار إلى جانب القوس التي تطلق باليد، قوس تطلق بالرجل مع اليد يتمطي فيها الرامي، فيصد برجليه وينزع بيديه. ذكرها "ابن القيم" ولم يوضح كيفية الرمي بها.
وكان الرامي يحتفظ في كنانته الجلدية بعدد من الأسهم2 عند القتال،
__________
1 السِّيَة: هي ما انعطف من طرفي القوس وركب فيها الوتر، فلكل قوسٍ سيتان, وهم اليد والرجل.. أما المقبض فهو موضع اليد اليسرى منه في الوسط من البدن "أي بدن القوس".
2 السهم والنبل والنشاب أسماء لشيء واحد.(1/69)
ويتخذ السهم من عودٍ رفيعٍ من شجر صلب في طول الذراع تقريبًا، يأخذه الجندي فينحته ويسويه, ثم يفرض فيه فروضًا "حزوزًا" دائرية، ليركب فيها الريش, ويشده عليها بالجلد المتين, أو يلصقه بالغراء ويربطه, ثم يركب في قمته نصلًا من حديد مدبب له سنتان في عكس اتجاهه، يجعلانه صعب الإخراج إذا نشب في الجسم, وفي بعض الأحيان كانت السهام تستخدم كأداة للتخاطب، يكتب عليها راميها ما يشاء, ثم يرم بها لمن شاء حفظًا للسرية، وأكثر ما كان يحدث هذا في حصار الحصون، فإذا أراد المهاجم أن ينشر الذعر بين المحاصرين, كتب لهم على السهم أو على ورقة مربوطة به، أخبارًا تحطم روحهم المعنوية, أو أخبارًا وأمنيات تجعلهم يميلون إلى التسليم, ثم يرمي به إليهم، وقد يكون مَنْ في الحصن يرغبون في التسليم؛ فيطلبون الأمان مكتوبًا, ثم يرمون به في سهمٍ إلى من في الخارج، روى "ابن الأثير" أن رجلًا من المحاصرين في مدينة "رامهرمز" رمى إلى المسلمين يستأمنهم بسهم فأمنوه، فدلهم على مدخل المدينة، وأن المسلمين لما حصروا مدينة "جنديسابور" رمى عبد من عبيدهم بالأمان إلى من بها، ففتحوا أبوابها وقالوا: رميتم لنا بالأمان فقبلناه, وأقررنا بالجزية، فقبلوا منهم.
ولأهمية القوس في القتال والمراسلة والتخاطب، كانت تؤلف لها فرق خاصة تسمى "النبالة أو النشاشبة" يتقدمون الجيش، حافظين أوتارهم من الشمس والمطر، محتفظين بأوتار احتياطية، ليبدل أحدهم الوتر إذا ضعف، ضمانًا لجودة الرمي واستمراره1.
2- السيف:
كان الجاهليون يحلون سيوفهم برسم صور الحيات والأسماك عليها
__________
1 في الجيوش الحديثة ما يشابه ذلك، وهو تبديل مواسير الرشاشات بعد أن تطلق قدرًا معينًا من رصاصها، وذلك خوفًا عليها من التلف بسبب شدة الحرارة، وضمانًا لاستمرار الرمي.(1/70)
يطريقة التكفيت, وهو إما بالنحاس أو الفضة أو غيرها من المعادن الثمينة، ولذا كان من سيوفهم ما يسمى "ذو الحيات, وذو النون"، ولكن المسلمين الأولين كانوا لا يحفلون بحلية سيوفهم امتثالًا لنهي الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن التصوير والتمثيل1، وإنما كانت حليتهم عليها بغير الصور؛ كالشعر على إحدى الصفحتين, أو الفضة على المقبض1.
فلما استعت فتوح المسلمين وسال في أيديهم النضار والذهب، وبعد عهدهم بالوثنية، صاروا يقلدون الفرس والروم في تحلية سيوفهم وأغمادها وحمائلها بسيور وفروع شجر من الفضة والذهب, وبخاصة أعلى مقبض السيف.
وبعد أن كان المسلم يلف على سيفه خرقًا تقوم مقام الغمد، صار يتخذ له الغمد من الجلد، "ويحلى "نعله" وهو أسفل الغمد بالفضة, ويجعل حلقاته من الفضة.
وبمضي الزمن والبعد عن زمن الرسول، توسع المسلمون في حلية السيوف، بالكتابة عليها وتكفيتها بالمعادن، ورسم الصور والتماثيل عليها, وبخاصة السيوف اليمانية3. وقد جرت عادة المسلمين بتعليق السيف في أكتافهم وعواتقهم، ولذا يقال "تقلد سيفه" أي: جعله كالقلادة. وذلك بحمله على كتفه الأيمن, وتركه متدليًا في جنبه الأيسر, بخلاف الفرس الذين عرفوا بتعليق السيوف في أوساطهم.
__________
1 أهدي إلى الرسول في بعض الأيام ترس فيه صورة عقاب أو كبش فأزالها منه.
2 ورد أن السيف الذي أعطاه الرسول أبا دجانة يوم أحد مكتوبًا على إحدى صفحتيه قول الشاعر:
في الجبن عار وفي الإقبال مكرمة ... والمرء بالجبن لا ينجو من القدر
3 من ذلك كتابة عبارات "لا إله إلا الله" لا سيف إلّا ذو الفقار، ولا فتى إلّا علي"، ومن الصور زخارف لأغصان شجر.(1/71)
أما إذا كان الفارس يحمل سيفين، فإنه كان يتقلد بأحدهما, ويجعل الآخر في وسطه على الطريقة الفارسية، وقد علق كلًّا في حمالةٍ محفوظًا في قرابه الجلدي.
3- الدبوس أو المطرقة:
وهي عصا قصيرة من الحديد لها رأس حديدية مربعة أو مستديرة، وهي في العادة للفرسان يحملونها في سروجهم, ويتقاتلون بها عند الاقتراب, وقد نقله العرب عن الفرس.
4- الفأس أو البلطة:
وهو سلاح منقول عن الفرس أيضًا, له نصلٌ من الحديد, مُرَكَّبٌ في قائم من الخشب، بحيث يكون النصل مدببًا من ناحية، ومن الأخرى رقيقًا مشحوذًا كالسكين، وقد ذكر البستاني أن نصلها كان يصنع من النحاس أو الحديد أو الفولاذ أو الخشب.(1/72)
آلات الحصار والأسلحة الثقيلة:
1- المنجنيق والعرادة:
وهو سلاح قذفٍ بعيد المدى نسبيًّا, يشبه مدفعية الميدان في العصر الحديث, وأول من رمى به في الإسلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حصار الطائف -كما قدمنا1- ويرى الدكتور "فون كريمر" أن العرب نقولوا عن البيزنطيين استعمال المنجنيق والعرادة لرمي الكتل الصخرية والأخشاب المشتعلة على المدن المحاصرة, وأشار إلى أن العرب أدخلوا عليه كثيرًا من التحسينات, بتكبير الروافع وضخامة الآلات.
ومن أهم التحسينات أيضًا ظهور نوع قوي من المنجنيق يعمل بقوة الأوتار، ويصعب تحديد تاريخ ظهوره أو تعيين من أدخل ذلك التحسين، ولك الثابت أن الحجاج قاتل به. وهو عبارة عن قاعدة مصنوعة من كتل خشبية ضخمة, تجر بقوة الرجال على الزحافات أوالعجلات الصغيرة، وقد ارتفعت القاعدة قابلة للحركة، وخلفها وتر قوي مستعرض يمنع سحبها للخلف، بينما ربطت بحبالٍ مثبتة إلى مؤخر القاعدة تجذبها للخلف، وعند الرمي يلف الرجال العمود الخشبي المربوط به حبل الذراع، فتجذب الذراع إلى الخلف، فيمتد الوتر الذي خلفه إلى نهايته، ثم يوضع الجسم المراد رميه في كفة الذراع, ثم تفك الحبال الخلفية مرة واحدة، فيجذبها الوتر بقوة عند انكماشه فتصدم الذراع بالحائط الخشبي المثبت أمامها بقوة، فترمي رميتها كأبعد وأقوى ما يكون الرمي. وهذا النوع هو الذي عناه صاحب "آثار الأول" بقوله بقسي: "كبار موتورة إلخ"،ووهو آخر تطور وصل إليه المنجنيق في القرن الثاني، وإن كانت حجومه تختلف باختلاف الحصون المحاصرة وقوة الصانعين، وقد عمل المسلمون على تكبير الروافع الخشبية لإبعاد المرمى، وصنعوا المجانيق الضخمة، لدرجة أن الحجاج جهز بعض جيوشه بعدد كبير من المجانيق، منها واحد يقال له "العرس" وكان لضخامته يعمل عليه خمسمائة رجل يقومون بنصبه وجره ونقل الحجارة إليه, وما إلى ذلك.
وما إن بدأ القرن الثاني الهجري، حتى كان المنجنيق شائع الاستعمال عند المسلمين, وبخاصة في حصار المدن، ثم صار في نهايته سلاحًا عاديًّا
__________
1 وكثر حصار المسلمين به للمدن المحصنة، ذات الأسوار العالية في حروب العراق والشام زمن الخلفة عمر وما بعده، حتى لقد نصبوا على المدائن عند حصارها عشرين منجنيقًا فشغلوا أهلها بها، وكذلك حاصر أبو عبيدة وخالد أهل دمشق سبعين ليلة حصارًا شديدًا بالزخرف والترامي بالمنجنيق، وقد صنع عمر بن العاص المنجنيق بمصر عند فتحها؛ لأنه كان في عدد قليل لا يسمح له بحمل الآت الحصار معه.(1/73)
يتخذه القواد جميعًا، يروي ابن الأثير أن مروان بن محمد في حصاره لمدينة حمص, نصب نيفًا وثمانين منجنيقًا، كما يروى أن الأمير عبد الرحمن بالأندلس سار إلى سرقسطة بنفسه, ونصب عليها ستة وثلاثين منجنيقًا فملكها عنوة.
أما العباسيون فقد افتنوا في إحداث قذائف المنجنيق، فاستخدموا النار الإغريقية1 فيها، كما حدث في الفتنة التي كانت بين الأمين والمأمون وحصار بغداد, أما العرادة فهي نوع صغير من المنجنيق كان يستعمل لإلقاء الحجارة والسهام "وهي بمدفعية الميدان الخفيفة".
2- الدبابة:
هي سلاح لاقتحام الأسوار, عبارة عن هودج مصنوع من كتل خشبية صلبة على هيئة برج مربع, له سقف من ذلك الخشب ولا أرض له. وبين كتل البرج فواصل -مسافات- قليلة, يستطيع الرجال العمل من خلالها، وقد ثبت هذا الهودج على قاعدة خشبية ذات عجلات2.
والرسول -عليه السلام- أول ما استعمل الدبابة في القتال؛ إذ بعث بعثة من المسلمين -كما ذكرنا- إلى جرش لتعلم صنعتها هي والمنجنيق، واستخدمها في حصار الطائف, ثم أدخل المسلمون عليه التحسينات الكثيرة، حتى صارت ضخمة كثيرة العجل؛ فجعلوها برجًا مرتفعًا بارتفاع السور، وبداخلها سلالم تنتهي إلى شرفات فيها تقابل شرفات الحصن، فيصعد الرجال في أعلاها, ويستعلون على السور, وينتقلون من شرفاتها إليه، ثم يطردون منه رماة الأعداء.
__________
1 سورة يرد ذكرها.
2 ويصفها صاحب "آثار الأول" بقوله: "اما الدبابة: فهي آلة تتخذ من الخشب الثخين المتلزز، وتغلف باللبود أو الجلود المنقعة في الخل، لدفع النار، وتركب على عجل مستدير وتحرك وتجر، وربما جعلت برجًا من خشب, ودبر فيها هذا التدبير، وقد يدفعها الرجال فتندفع على البكر".(1/74)
وبمرور الزمن زاد المسلمون في حجم الدبابة؛ فصاروا يصنعونها كبيرةً بحيث تجر على ست عجلات أو ثماني عجلات، وتتسع الواحدة منها لعشرة رجال من المقاتلين أو أكثر.. وصار المسلمون يغطون أخشاب الدبابة باللبود أو الجلود المشبعة بالخل؛ لأنه يقاوم النار -التي يقذفها المدافعون- فلا تشتعل فيه.
وأقام المسلمون المصانع لصناعة الدبابات، فكانت تحمل أخشابها على الجمال، ثم يتم صنعها في مكان المعركة.
3- رأس الكبش:
ظهر رأس الكبش خلال القرن الثاني، للعمل مع الدبابة على هدم الأسوار وفتح أبواب الحصون، وهو يحمل داخل برج خشبي، أو داخل دبابة، وهو عبارة كتلة خشبية ضخمة مستديرة، يبلغ طولها حوالي عشرة أمتار أو أكثر، قد ركب في نهايتها مما يلي العدو رأس من الحديد أو الفولاذ, تشبه رأس الكبش تمامًا بقرونها وجبهتها، ويصدم به الجنود السور عدة مرات حتى تنهار حجارته، وقد استخدم "الجنيد بن عبد الرحمن" رأس الكبش في هدم حصون الهند سنة 107هـ, في خلافة هشام بن عبد الملك.
4- سلم الحصار:
وهو من آلات الحصار أيضًا، وهو يساعد المحاصر على اعتلاء الأسوار، وأول من استخدمه من المسلمين في الحصار بكثرة هو خالد بن الوليد، فإنه كان يتخذ حبالًا كهيئة السلالم, ثم يجعل في طرفها أوهاقًا -الوهق يشبه عقدة الأنشوطة- ويرميها على شرفات السور فتعلق بها؛ فيصعد إليها من يثبتها ليصعد الناس بعده، وبهذه الطريقة اعتلى خالد بن أسوار دمشق وفتحها، وبمثل هذه الطريقة نفسها صعد الزبير بين العوام سور حصن بابليون عند فتح مصر.(1/75)
وبمرور الزمن صارت السلالم تصنع من الأخشاب والحديد مرتفعةً بارتفاع السور تقريبًا، ثم صار السلم بعد ذلك يصنع على قاعدة خشبية كبيرة تساعد على إثباته، وأحيانًا كان يقام عليها سلمان يلتقيان في النهاية العلوية ليدعم كل منهما الآخر، وجعلت لهذه القاعدة بكرات من خشب, أو عجلات ثابتة ليسهل بها نقله من مكان إلى آخر.
5- النار اليونانية:
وقد اقتبسها العرب من الروم، وهي في الأصل من اختراع المشارقة، فقد كان هؤلاء يستخدمون في حروبهم مزيجًا سريع الاشتعال, لم يعرفه أهل أوروبا إلا في القرن السابع عشر للميلاد, وقد ظلَّ سر هذه النار مكتومًا حتى أطلع عليه العرب, فإذا هي مزيج من الكبريت وبعض الراتنجات والأدهان، في شكل سائل يطلقونه من إسطوانة نحاسية مستطيلة كانوا يشدونها إلى مقدم السفينة، فيقذفون منها السائل مشتعلًا، أو يطلقونه بشكل كرات مشتعلة, أو قطع من الكتان المتلوث بالنفط، فيقع على السفن أو البيوت فيحرقها.
وقد استخدمت النار اليونانية في حصار المأمون لبغداد عام 197هـ "813م" كما شاع استخدامها في أيام الرشيد، الذي خصص لها حملة النفط أو "النفاطين" في جيشه كما قدمنا.
6- البارود:
استخدم العرب البارود في القرن الثالث عشر للميلاد في حرب
__________
1 في المكتبة الأهلية بباريس مسودة خطية قديمة, عليها صور رجال من العرب؛ بعضهم على الخيل, والبعض مشاة، وفي أيديهم خرق مبسوسة بالنار اليونانية يرمون بها الأعداء, وكانوا يسمون النار اليونانية "النفط القاذف".(1/76)
المسلمين بالمغرب1, ونرى ذلك صريحًا في كلام ابن خلدون عن قدوم أبي يوسف, سلطان مراكش, لفتح سجلماسة سنة 762هـ-1273م": "ونصب عليها آلات الحصار من المجانيق والعرادات وهندام النفط القاذف بحصى الحديد، ينبعث من خزنة أمام النار الموقدة في البرود2.
7- المدافع:
هي أنابيب تقذف بمقذوفاتها بقوة البارود. وأول من أتقن استخدامها في الإسلام الدولة العثمانية, وبها استعانوا على فتح القسطينية سنة 1453م, وفي كثير من الفتوح والحروب.
__________
1 يقول جرجي زيدان: "وهناك اختراعٌ ذو بالٍ ينسب فضله إلى الإفرنج، وهو للعرب -نعني اختراع البارود- فالمشهور عند الإفرنج أن مخترع البارود اسمه شوارتز سنة 1320م-719هـ, ولكن راهبًا إنجليزيًّا اسمه روجر باكن "Roger Bacon" من أهل القرن الثالث عشر للميلاد, أشار إلى مزيج من قبيل البارود كان شائعًا في أيامه، والصحيح أن العرب أسبق الناس إلى استخدام البارود، وإذا لم يكونوا اخترعوه, فلا أقل من أنهم أوصوله إلى ما عرف به في الأجيال الوسطى، فقد ذكر كوندي المستشرق الأسباني المتوفى سنة 1820: أن أهل مراكش استخدموا الأسلحة النارية في محاربتهم "سرقوسة سنة 1118م".
2 في هذا القول شاهد صريح على أن البارود كان معروفًا عند العرب وكانوا يستخدموه في حروبهم قبل شوارتز بنحو نصف قرن.(1/77)
أسلحة الوقاية والدفاع:
1- الدرع:
أكثر المسلمون من استخدام الدروع بعد اتصالهم بالفرس والروم، فصاروا يلبسون الدروع المعدنية ذات الصدور والسواعد والسيقان، كما لبسوا الدروع ذات الصدر فقط, أي التي لا ظهر لها إظهارًا للشجاعة، متبعين في ذلك أسلوب علي بن أبي طالب الذي سئل في ذلك فقال: "إذا استمكن عدوي من ظهري فلا يبقى".
2- البيضة والمغفر:
وهي من ملحقات الدرع، فالبيضة "كالخوذة" والمغفر نسيج من الحديد كالدرع, يلبس تحت البيضة على الرأس؛ ليكون واقيًا لها إذا وقعت أو انكسرت, ويتدلى جزء منه على الوجه لحمايته.
فلما اتصل العرب بالروم أحدثوا بعض التعديل في خوذاتهم؛ فصار لها إفريز محيط بها من أسفل، وجزء نازل على الصدغين منها، وكرة صغيرة في قمتها.
3- الأذرع والسيقان:
وقد غنمها المسلمون من الفرس بعد فتح المدائن، وهي ما تحصن به الأطراف، كما وجدوا مثلها عند الروم، فقلدوهم، وذكر المسعودي: أن الفرسان كانوا في الحرب بين الأمين والمأمون يلبسون مع الجواشن والدروع السواعد والدرق التبتية -نسبة إلى بلاد التبت.
4- الأكف الحديدية:
وكان بعض المسلمين في أوائل القرن الثاني يلبسون فوق أكفهم كفًّا حديدية، ولم ترد لها إشارة في تاريخ الفرس أو الروم على ما يبدو، ذكر ابن الأثير خبر القتال الذي كان بين مسلمة بن عبد الملك ويزيد بن المهلب بالأنبار في حوادث "102هـ "721م" ثم قال: "فخرج رجل من أهل الشام فدعا للمبارزة فبرز إليه محمد بن المهلب وضربه بالسيف، فاتقاه الرجل(1/78)
بيده، وعلى كفه كفٌّ من حديد، فقطع الكف الحديد، وأسرع السيف في كفه فانهزم".
5- الترس:
مع تقدم الفتوحان تحول العرب من صناعة أتراهسم من الجلد والجريد إلى صناعتها من الحديد والفولاذ مقلدين في ذلك أعداهءهم، وكانوا ينقشون عليها الآيات القرآنية والحكم والأشعار, مثل: "لا غالب إلّا الله" ومثل "لا إله إلا الله". وتميزت أتراس كل بلد بشكل خاصٍّ بها، فمنها الترس الدمشقيّ، والترس العراقيّ، والترس الغرناطي, وغيرها.
وتعددت التروس الإسلامية بتمدن المسلمين، وذهبوا في اصطناعها مذاهب شتَّى, وأكثروا كاليونان من ترصيعها بالقتير -المسامير المضغوطة, فكان عندهم المجن الكبير والصغير, والخفيف والثقيل, والفارس والراجل.(1/79)
الموانع الدفاعية
...
المواع الدفاعية:
1- الخنادق:
عرفهاالعرب عنالفرس1، وأول من استعملها من العرب الرسول -صلى اله عليه وسلم- في غزوة الأحزاب بناءً على مشورة سلمان الفارسي، ولما فوجئ الأحزاب بالخندق حول المدينة قالوا: "هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها".
وعمل المسلمون جميعًا, ومعهم الرسول القائد نفسه في حفر الخندق, على خلاف ما كان يفعل البيزنطيون الذين كانوا يجعلون الحفر قاصرًا على العبيد.
وأول من استخدم الخنادق في عهد أبي بكر وأكثر منها, هو العلاء بن الحضرمي, أثناء قتاله المرتدين بالبحرين؛ فقد روى الطبري وابن الأثير وغيرهما, أن المسلمين والمرتدين هناك كانوا يحفرون الخنادق يتحصنون بها، ثم يتراوحون القتال منها، وفي خلافة عمر وما بعده, وباتساع الفتوح صار المسلمون إذا نزلوا ليلًا في موقعٍ خندقوا حول عسكرهم بالطريقة الرومية, تاركين للمرور بابين أو أربعة، متحصنين بالجسور والخنادق المائية. وكانوا إذا حاصروا عدوًّا مخندقًا على نفسه، وأرادوا إشعاره بدوام الحصار ضربوا خندقًا حول خندقه, كما فعلوا في حصار مدينة "هيت" على شاطئ الفرات, فأسرع أهلها بالتسليم.
ثم صار المسلمون يحفرون الخنادق حول المعسكرات الدائمة, وحول المدن والثغور المهمة، فالحجاج بن يوسف لما فرغ من بناء مدينة "واسط" بين البصرة والكوفة, حصنها بسور وخندقين.
وفي عهد الدولتين الأموية والعباسية حتى نهاية القرن الثاني أدخل على الخنادق كثير من التحسين، فصاروا يبنون عليها الجدر العالية، وصاروا يحفرون حول المدينة أكثر من خندق، ويبنون على كل خندق سورًا، وصاروا في حالة الخوف يحفرون حول الخندق حفائر تغطّى بالقصب والقضبان والتراب، لتقع فيها قوات الأعداء.
__________
1 الخندق اسم فارسي معرب، فاسمه بالفارسية "كندة" بمعنى محفور "المعجم الفارسي للدكتور هنداوي, مطبعة مصر، والمعرب من كلام العرب للجواليقي "ص96".(1/80)
2- الحسك الشائك1
وقد استخدمه المسلمون في حروبهم كما استخدمه الفرس والروم في تحصين خنادقهم وحصونهم، والرسول -عليه السلام- أول من استخدمه في الإسلام, وذلك في حصار الطائف، فإنه كان يجعله من خشبتين تسمَّران على هيئة صليب؛ بحيث تتألف منها أربع شعب مدببة، فإذا رمي في الأرض بقيت شعبة منها بارزة، تعطب بها أقدام الخيل والمشاة, ثم أكثر المسلمون من استعماله وأصبحوا يصنعونه من أصابع حديدية مدببة لها شعب ثلاث أو أربع, وكانوا يبثونه حول خندقهم, وكانوا أحيانًا يزرعونه خارج خندق الأعداء المحصورين, ثم يناوشهم المسلمون ويفرون أمامهم ليخرجوا من خنادقهم، فإذا بعدوا عنها كروا عليهم, وضيقوا عليهم المسالك حتى يعودوا من الطريق المزروع بالحسك، وبذلك يقعون فيه، فتأخذهم سيوف المسلمين من خلفهم.
__________
1 أصل الحسك في اللغة نبات له ورق كورق الرجلة، تعلق ثمرته بصوف الغنم, ويظهر أن هذا الشوك كان كثير الوجود ببلاد العرب، فقد ضربوا بشوكه المثل في الصلابة, وله شوك صلب ذو ثلاث شعب، ويعمل على مثال شوكه أداة للحرب من حديد. "ويقرب من هذا فكرة الأسلاك الشائكة في العصر الحديث".(1/81)
التحصينات:
1- الحصون والأسوار:
لم يعرف الحصون من العرب في الجاهلية سوى أهل الحيرة لمجاورتهم الفرس، وأهل الشام لمجاورتهم الروم، ثم عرفها أهل الحجاز عن طريق رحلتهم إلى اليمن ذات القصور الشاهقة، وعن طريق اليهود الذي نزحوا إليها من الشام، فإنهم أدخلوا إليها نظام الآطام والحصون التي بلغ عددها نحو سبعين, وباتساع الفتوح أسس المسلمون المدن المختلفة, فعملوا على تحصينها ببناء الأسوار العالية والأبراج, كما حصنوها بالخنادق. فبغداد مثلًا لما بناها الخليفة المنصور جعلها مستديرة, وجعل لها سورين؛ أحدهما: من داخل وهو سور المدينة وارتفاعه 35 ذراعًا، وعليه أبراج كثيرة, ارتفاع الواحد منها خمسة أذرع، وله شرف تحيط به، وعرضه من أسفل نحو 20 ذراعًا، ثم يليه سور خارجي يفصل بينهما أرض عرضها ستون ذراعًا.(1/81)
2- الثغور الإسلامية:
رأى عمر بعد اتساع الفتوح أن يؤسس مدنًا لإقامة المسلمين مع أسرهم، مراعيًا فيها أن تكون مراكز حربية في مواقع استراتيجية، على الحدود بينه وبين البلاد المفتوحة، لترد أي عدوانٍ, وتخمد أية ثورة، وكان في طليعتها مدينتا البصرة والكوفة في مجاورة الدولة الفارسية، كما أسست ثغور أخرى على سواحل مصر والشام لترد هجمات الروم من البحر.
وصار المسلمون بعد ذلك كلما تقدموا في الفتح أقاموا في نهاية توسعهم ثغرًا يحرس الحدود ويشحن بالجند، ويتولى أمره قائد من أكفأ القواد, حتى لقد بلغت ثغور الكوفة وحدها عام 17هـ-638م" أربعة ثغور هي "حلوان, ماسبذان, قرقيسيا, الموصل".
ومن أشهر الثغور الأموية "واسط, وشيراز, والمحفوظة, والرملة, وعسكر, ومكرم, وجرجان" وغيرها. وفي زمن الرشيد جعل لهذه الثغور إدارة مستقلة وسماها: "العواصم" وجعلها تابعة للجيش, وقسَّم الثغور إلى ثغور شامية -وهي الواقعة في شماله الغربي, وثغور جزرية -نسبة إلى جزيرة العراق لمتاخمتها لها, والثغور الشامية هي من الشمال إلى الجنوب "طرسوس, أدنة أو أطنة, المصيصة, الهارونية" وغيرها، أما الثغور الجزرية فهي "مرعش, الحدث, ثم حصون متتابعة إلى سميساط وملطية".
3- المعسكر:
لم يكن لتنظيم المعسكر في أوائل الإسلام علم خاص، بل كان العرب يجرون في نصب خيامهم وترتيبها على ما كانوا في جاهليتهم، فيكون فسطاط الأمير في الوسط وحوله فساطيط الأمراء والخاصة، وإذا كانت النساء والأولاد معهم جعلوهم وراء المعسكر. ولما أبطلوا حمل العيال معهم كما تقدم، جعلوا يقلدون الروم والفرس في مضاربهم، وتفننوا في ذلك على ما اقتضته الأحوال، فلما تعددت فرق الجند وكثرت الحاشية والمماليك والخدمة, صار المعسكر أشبه ببلد فيه الكتاب والفقهاء والأطباء والكحاليون -أطباء العيون, وأصحاب الطبول والأتباع وغيرهم، فضلًا عن أصناف الجند.(1/82)
نظام إدارة الحرب:
عرف العرب لأول مرة نظام إدارة الحرب بواسطة أعلى قيادة سياسية وعسكرية في عهد النبوة1, وذلك من خلال ما يلي:
1- قيادة مركزية بالمدينة, ويمثل الرسول -صلى الله عليه وسلم- القيادة العليا السياسية والعسكرية.
2- تأمين قاعدة الانطلاق بعقد المعاهدة مع اليهود والمشركين بالمدينة.
3- معاهدة القبائل الأخرى لكفالة حرية الدعوة وحسن الجوار, وضمان تحييدها في الصراع بين المسلمين وبين الأعداء "قريش".
4- إدارة دفة الحرب, إما شخصيًّا بقيادة الرسول للمعارك, وهو ما يسمى بالغزوات "وعددها 28" وإما بتعيين قادة من الصحابة لقيادة المعارك, وهو ما سمي بالسرايا.
5- تطبيق "نظرية الردغ" لتحقيق الأهداف الاستراتيجية بدون قتال, وقد ثبت تاريخيًّا أن "19" غزوة من بين "28" غزوة تمت بلا قتال، وأن "18" سرية من بين "35" سرية تمت أيضًا بلا قتال.
__________
1 وهو ما يعرف في العلم العسكري الحديث "بالاستراتيجية العليا أو الشاملة، ويقصد بها تنسيق وتوجيه جميع إمكانيات الدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية وغيرها, نحو تحقيق الغاية السياسية للصراع المسلح, ومعنى ذلك أن القوات المسلحة ليست إلّا أداة واحدة من أدوات الاستراتجية العليا لتحقيق الأهداف العليا للدولة، كما أن اهتمام الاستراتيجية العليا لا يقتصر على حالة الحرب فقط، بل يمتد ليشمل حالة ما بعد الحرب بهدف تحقيق السلام المستقر الدائم.(1/83)
وكانت بعثة أسامة بن زيد في أول عهد أبي بكر إلى حدود الشام استمرارًا لنظرية الردع؛ حيث جعلت هرقل -وكان في حمص- يبعث بقوة عسكرية لترابط في البلقاء, وبذلك اتخذ موقف الدفاع, ونبذ فكرة الهجوم على أرض المسلمين.
6- الحرب الوقائية لإجهاض تدابير العدو واستعداداته للعدوان, وقد بعث الرسول عدة سرايا لتحقيق هذا الهدف ونجحت في مهمتها.
المسير الاستراتجي:
عرف العرب المسير الاستراتيجي "هو تحريك الجيش مسافات طويلة من منطقة إلى منطقة, أو من جبهة إلى جبهة" لأول مرة في غزوة مؤتة "سنة 8هـ" قرب حدود الشام, وتبعد عن المدينة أكثر من 500 كيلو متر، ثم في فتح مكة؛ إذ سار الجيش من المدينة إلى مكة.
وفي عهد أبي بكر قام الجيش الإسلاميّ بمسير استراتيجي طويل بقيادة خالد بن الوليد من العراق إلى الشام لقتال الروم في معركة اليرموك, فقد سار الجيش حوالي 800 كيلو متر عبر الصحراء.
وقد ابتكر خالد عدة أساليب ساعدته على انجاز هذا المسير الطويل في تلك الظروف الطبيعية الصعبة، منها استخدام بعض الإبل كمستودعات لحمل المياه, بأن يملأ بطونها "وهي عطشي" بالماء, ثم يقطع مشافرها, ثم يكممها حتى لا تجتر، وكان يشق بطون بعضها خلال المسير لسقيا الخيل. وقد عني المسلمون أثناء تحركاتهم بالحذر والحيطة، فكانوا يقسمون الجيش إلى ميمنة وميسرة وقلب ومقدمة وساقة، وعرف عن خالد بن الوليد -مثلًا- أنه "لا يسر إلّا على تعبئة" وذلك ليكون مستعدًّا لرد أي هجوم من أي اتجاه يقوم به العدو.(1/84)
المدن والثغور كقواعد استراتجية:
وفي الفتوحات كان المسلمون يقيمون المدن والثغور -كما ذكرنا- لتؤدي دور القواعد الاستراتيجية الحربية المتقدمة؛ لتقصير خطوط الإمداد, وتقصير خطوط مواصلات الجيش الذي يحارب بعيدًا عن القاعدة الرئيسية "مقر الخليفة" وتعتبر "القيروان" أبرز الأمثلة للقاعدة الاستراتيجية المتقدمة, وكانت هذه القواعد تتخذ في مواضع متحكمة في الطرق, وخاصة طرق اقتراب العدو، وبعيدًا عن سواحل البحر, وقربية من الصحراء التي يحسنون القتال فيها.
السرية والأمن واستخدام الطلائع:
1- الرسائل المختومة:
عرف العرب الرسائل المختومة لأول مرة على يد الرسول -عليه السلام- حين بعث عبد الله بن جحش قائدًا على اثني عشر مهاجرًا في مهمة استطلاعية في رجب من السنة الثانية للهجرة, فقد دفع إليه كتابًا, وأمره ألّا يفضه حتى يسير يومين في اتجاه معين، فلما مضى اليومان قرأ الكتاب فإذا فيه: "إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل "نخلة" بين مكة والطائف" فترصد لنا عير قريش، وتعلم لنا من أخبارهم".
2- الطلائع:
الرسول أول ما استخدم الطلائع لتتقدم الجيش, وتقوم بمهام الاستطلاع التي تؤمن الجيش, وتساعد على التخطيط للمعركة بما تحصل عن العدو من معلومات، وظهر ذلك قبل بدر, وفي كثير من الغزوات والسرايا، وكان علي بن أبي طالب يوصي أصحابه بذلك قائلًا: "واعلموا أن مقدمة القوم عيونهم, وعيون المقدمة طلائعهم"، وكان قتيبة بن مسلم إذا بعث طليعةً جاء بلوح فنقش عليه نقشًا ثم شقه نصفين بطوله، فيحفظ نصفه(1/85)
عنده، ويعطي الطليعة نصفه, ويأمرهم بدفنه في موضع يعينه لهم في منطقة عملهم، ثم يبعث بعدهم من يستخرجه ليعلم مدى صدقهم بعد أن يطابق بين النصفين.
ووضع الرسول مبادئ تعيين أفراد الطلائع التي تقوم بمهمة الاستطلاع, وذلك لأول مرة في صورة محددة مقننة, وهي أن يقوم بالاستطلاع الراغبون فيه, وأن لا يتورط أفراد الاستطلاع في القتال, فقد كانت تعليماته لعبد الله بن جحش "قائد دورية الاستطلاع قبل بدر": "ولا تكرهن أحدًا من أصحابك على الخروج معك" ثم إنه لما علم بتورطهم في القتال, قال: "ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام", وقد كان إرساله لهم في شهر رجب -وهو من الأشهر الحرم- دليلًا على نيته في أن يتم الاستطلاع بلا قتال، هذا بالإضافة إلى مبدأ السرية الواضح في الرسالة المختومة.(1/86)
استخدام الجواسيس:
استخدم المسلمون الجواسيس منذ عهد النبوة، وقد وضع الرسول منهجًا لاستخدامهم؛ فكان ينهاهم عند خروجهم أن يحدث أحدهم حدثًا ينبه إليه، أو يقتل أحدًا إلّا إذا أجبر على ذلك؛ لأن الفوز بالمعلومات أثمن من ذلك، ففي يوم الخندق أرسل حذيقة بن اليمان عينًا على قريش, ونهاه أن يحدث شيئًا حتى يعود إليه.
وكان عمر معنيًّا بأمر العيون والجواسيس، وكان ينهى الأعاجم عن دخول المدينة خشية التجسس على المسلمين، وكان ينهاهم عن التشبه بالمسلمين في لباسهم ومركبهم, حتى لا يلتبس الأمر على الناس. وكان عمرو بن العاص في حروبه مع الروم يحتفظ بطائفة من الجواسيس يتكلمون الرومية، وكان يرسلهم إلى الروم متنكرين, فيقيمون بينهم ويعودون إليه بأخبارهم.
وقد تطور أمر استخدام الجواسيس, حتى صار القادة يكتمون أمرهم؛ بحيث لا يعرف بعضهم ببعضًا، فكان القائد يلقاهم فرادى في سرية تامة، فإذا شغله شاغل، جعل لكل جاسوسٍ رجلًا خاصًّا يتصل به من أوثق خاصته، وكان القادة أحيانًا يظهرون لعدوهم ما يحب أن يعلمه عنهم، ليكيدوا له ويغرروا به, وقد أوضح ذلك الهرثمي في قوله: "لقد تحتاج في بعض الأحوال أن يعرف عدوك بعض أحوالك وتدبيرك لما تحاول من مكايدته، فتلطف في ذلك بإظهاره لجواسيسه، ليوصلوه إليه على ما يظهر لهم فيه".
المفاجأة:
استخدم المسلمون المفاجأة على صور شتَّى كما يلي:
1- المفاجأة بأسلوب جديد للقتال؛ كالقتال بتنظيم الصف في بدر، وحفر الخندق في غزوة الأحزاب.
2- المفاجأة في توقيت الهجوم كالهجوم في الفجر كما في سرية أبي سلمة سنة 3هـ, وكالهجوم على بني قريظة بعد ظهر يوم انسحاب الأحزاب عن مهاجمة المدينة؛ بحيث لم يدع لهم فرصة من الوقت للاستعانة بحلفائهم أو الاستعداد للقائه.
3- المفاجأة باستخدام سلاح جديد في المعركة؛ كاستخدام المنجنيق في حصار الطائف.
4- المفاجأة بالمكان، ففي غزوة بني لحيان تحرك الرسول شمالًا باتجاه الشام حتى يخفي اتجاه حركته, وبذلك باغتهم.
5- المفاجأة بالزمان والمكان وتشكيل القتال وقوة الهجوم ونيته -وهو ما يعرف بالمفاجأة الاستراتجية في فن الحديث- كما في غزوة فتح مكة(1/87)
6- وفي القادسية ابتكر المسلمون فكرةً للتغلب على خيل الفرس، وذلك أن أبناء عم القعقاع حملوا على الفرس بإبل عالية، وقد ألبسوها الجلال والبراقع, ثم وجهوها لخيل الفرس التي لم تألفها، فنفرت منها خيلهم.
القتال بالصفوف والكراديس:
كان المسلمون منذ عهد النبوة يقاتلون بتنظيم الصفوف -كما تقدم- وكانوا يستخدمون صفين أو ثلاثة، وفي القادسية نظم الجيش في ثلاثة صفوف، وقف الفرسان في الصف الأول، ووقف الرجالة أصحاب الرماح والسيوف في الصف الثاني, ووقف الرماة في الصف الثالث.
وقد تفرق الفرسان على الصفوف الثلاثة كما فعل أبو عبيدة في اليرموك؛ ليمكنهم من حماية الأجناب, والقيام بحركات الالتفاف السريعة، وأحيانًا كان القائد يجعل أصحاب السيوف في صفٍّ, وأصحاب الرماح في صفٍّ, والرماة في صفٍّ.
ولم يبطل استعمال نظام الصف إلّا في عام 128هـ-746م؛ حيث أمر مروان بن محمد باتباع نظام الكراديس، وإن كان خالد قد استخدمه في اليرموك قبل ذلك -كما قدمنا- وكذلك عمل به سعد بن أبي وقاص في القادسية, مما يدل على أن المسلمين استخدموا النظامين معًا "الصفوف والكراديس" بحسب متطلبات المعركة, إلى أن أبطل مروان بن محمد نظام الصف رسميًّا.
وشاع استخدام الكراديس في القرن الثاني، وكان كل كردوس ينظم صفوفًا؛ بحيث يكون بين جناحي الميمنة والميسرة طريقان لمرور الخيل ولمرور أصحاب المبارزة، فيكون بين صفوف فرجة عند صاحب الميمنة, وفرجة عند صاحب الميسرة، وفرجة عند صاحب القلب.(1/88)
القيادة والسيطرة في المعركة:
كان القائد يتخذ موقفه في قلب الجيش، فيقيم في عريش أو خيمة على مرتفع من الأرض, كما فعل الرسول في غزوة بدر, منه يلقي الأوامر ويراقب سير المعركة ويسيطر عليها، ولا يشترك في القتال إلّا عند الضرورة, كما فعل الرسول في غزوة بدر وأحد.
ثم استخدم معاوية "السرير" تشبهًا بالفرس والروم، حيث كان يصف حول سريره حراسًا معقَّلين بالعمائم.
أما الأوامر فكان القائد يلقيها بصوته المرتفع إذا كان أصحابه يسمعون صوته, وإلا أناب عنه من يبلغه لهم، كما كان الرسول يصنع في بدر وغيرها، فلما كثرت جنود المسلمين صار القائد أو نائبه يلقي الأوامر في صورة تكبيرات ثلاث, وإنابه فترات زمنية متباعدة لإصلاح الشأن، والاستعداد بالسلاح وغيره، وعند التكيرة الرابعة يكون الهجوم، وصارت الأصوات لا تسمع كلها, اصطلح بعض القادة على أن يهز اللهواء العام للجيش ثلاث هزات، في الهزة الأولى يقضي الرجل حاجة ويتوضأ، وبعد الثانية يعد سلاحه ويصلح من شأنه، وبعد الثالثة يكون الهجوم العام والتقدم للعدو.
أما الأوامر الوقتية التي كان يصدرها القائد، بتقدم طائفة, أو تأخر أخرى مثلًا؛ فكان القائد يلقيها إلى رسله ونوابه شفوية، أو مكتوبة في بعض الرقاع ليبلغوها إلى قواد الكتائب.
السيطرة على النيران في الدفاع:
لأول مرة في غزوة بدر قرر الرسول مبادئ للسيطرة على إطلاق المدافعين لاسلحتهم؛ بحيث يحقق "أفضل استغلال لكل سلاح طبقًا(1/89)
لخواصه؛ وبحيث يحقق إطلاق النيران "السهام" بأكبر حشد في وقت واحد؛ لإحداث أكبر قدر من الخسائر في أرواح العدو المهاجم، وبحيث يضمن دقة الإصابة بعدم إطلاق السهام إلّا من قريب, مما يوفر مبدأ الاقتصاد في الذخيرة, فقد كانت تعليمات الرسول للمدافعين: "إن دنا القوم منكم فانضحهم بالنبل، واستبقوا نبلكم -أي أخروا أطلاقها حتى يقترب العدو, ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم -أي لا تستخدموا السيوف إلّا بعد أن يتم استغلال سلاح السهام إلى أقصى حدٍّ, حتى يصبح العدو قريبًا جدًّا إلى حدِّ اللالتحام بالجيش المدافع"1.
استخدام القناصة:
استخدم المسلمون "القناصة" لأول مرة في غزوة بدر, فقد أمر الرسول بعض المسلمين باصطياد زعماء قريش وسادتها من بين الصفوف واستئصالهم، ومن أمثلة ذلك تعيينه لبلال بن رباح لاصطياد أمية بن خلف، واختياره لابن الصفراء لاصطياد أبي جرل.
قوات الفدائيين والقوات الخاصة:
وقد عرفها المسلمون لأول مرة في غزوة أحد, حين اختار الرسول خمسين من الرماة وكلفهم باحتلال ممر في الجبل؛ لوقاية ظهر الجيش وأمرهم ألّا
__________
1 في العلم العسكري الحديث مبادئ للدفاع تقضي بما يسمى: "كبت النيران" ومؤداه ألَّا يبدأ المدافعون في الرماية من بنادقهم حتى يقتر العدو المهاجم إلى المسافة التي يمكن معها أن تصيب كل رصاصة رجلًا فتقتله, هذا على الرغم من أن البنادق الحديثة يصل مداها إلى 1000 ياردة أو أكثر, ولكن تعليمات الدفاع تقضي بألّا تطلق نيرانها إلّا على مسافة 200 ياردة أو أقل. والقصد من ذلك ضمان دقة التصويب, وإمكان إطلاق النيران بأكبر حشد في أقصر وقت؛ لإحداث أكبر قدر من الخسائر في العدو.(1/90)
يبرحوا مكانهم قائلًا "والزموا مكانكم لا تبرحوا منه، وإن رأيتمونا نقتل فلا تعينونا ولا تدفعوا عنا، وإنما عليكم أن ترشفوا خليهم بالنبل ... ".
وفي معركة الجسر قامت جماعة من المسلمين بتغطية انسحاب المسلمين بالقيام بعملية "شبه انتحارية"، فكانوا يعقرون دوابهم ويترجلون عنها، ويكسرون أغماد سيوفهم, ثم يجثون على ركبهم, وقد أشرعوا الأسنة في نحور أعدائهم، وكانوا يطلقون عل هذه الجماعة "كتبية الموت".
الانسحاب المنظم:
عرف المسلمون الانسحاب المنظم1 على يد خالد بن الوليد في معركة مؤتة؛ حيث أدت خطته إلى انسحاب الجيش دون تدخل من الروم, وبذلك أمكنه إنقاذ الجيش.
__________
1 المعروف في العلم العسكري وفن الحرب, أن الانسحاب من أصعب العمليات العسكرية وأخطرها؛ إذ كيف يمنع القائد جيش الأعداء من مطاردته وهو منسحب, والإجهاز عليه, فيتحول الانسحاب حينئذ إلى فوضى، ذلك هو الاختبار الحقيقيّ لعبقرية القائد الحربية, وقد نجح خالد في ذلك حين خدع العدو، فثبت بقواته حتى المساء، ثم بات يعدل مواقف الجيش ليلًا، فنقل الميمنة إلى الميسرة, والميسرة إلى الميمنة, وجعل الساقة في موضع القلب، والقلب في موضع الساقة؛ ليظن الروم من تغير الأشكال أن مددًا أتى المسلمين ليلًا، ثم إنه رصد جماعة خلف الجيش، يجرون بخيلهم في دائرة واسعة, ويكثرون الجلبة ويثيرن الغبار، ليوهموا العدو بأنهم مدد قادم للمسلمين، ثم اندفع هو في "فرقة الموت" إلى صفوف الروم, بينما كان بقية المسلمين ينسحبون.(1/91)
الخداع التكتيكي والاستراتيجي:
استخدم الرسول الخداع في المعركة في صور شتَّى، من ذلك تكليفه لنعيم بن مسعود للوقيعة بين الأحزاب في غزوة الخندق لإشاعة الشك والفرقة بينهم، وقيامه بالتحركات الخداعية لإخفاء اتجاه الهجوم الحقيقيّ, كما فعل في غزوة فتح مكة حين بعث بسرية إلى "بطن إضم" بقيادة أبي قتادة الأنصاري، وقد نجح خالد في إنقاذ الجيش في مؤتة بتنفيذه خطة خداع ناجحة.
الكمائن.
اتقن المسلمون استخدام الكمين في حروبهم، وأول مَنْ أجاد استخدامه وعمم استعماله خالد بن الوليد, وبخاصة في معركة "الولجة" بالعراق، وقد أجاد استخدامه أيضًا عمرو بن العاص, وبخاصة في معركة "عين شمس" بمصر؛ حيث خدع الروم بأن خبَّأ لهم كمينًا في جبل المقطم، وخبَّأ كيمنًا آخر إلى يسارهم عند "أم دينن"، فلما حمي وطيس المعركة، انقضَّ كمين الجبل على ميمنة الروم، فانحازوا يسارًا، فلقيهم كمين اليسار، فحصروا بين قوات العرب الثلاث وهزموا, كذلك أجاد استخدامه مروان بن محمد الأموي, وتبعه في ذلك كثير من قادة المسلمين, وكان من شروطهم في جندي الكمين ودابته، أن يكون في منخفضٍ من الأرض منيع، وألّا يكون بفرسه علة، أو خلق يستدل به العدو على مكان الكمين.
استخدام الشعار والشارات:
كان للقبائل والفرق الإسلامية شارات مميزة، وصيحات خاصة يتعارفون بها عند الالتحام، ويثيرون بها الرعب في قلب الأعداء، والشعار قسمان؛ شعار فعليّ وهو الشارات للفرد والجماعة، وشعار قوليّ وهو صيحة القتال، فمثلًا كان شعار المسلمين في بدر الصوف الأبيض يعلقونه في نواصي الخيل وأذنابها، وكان الشيعة يتميزون بالعمائم الخضراء، واختار الأمويون اللون الأبيض، والعباسيون اللون الأسود، ولم تكن الشارات(1/92)
قاصرةً على القبائل أو الفرق الإسلامية فحسب، ولكن كان بعض الأفراد يجعل لنفسه شارةً يعرف بها على خلاف عادة الجاهليين من الاختفاء بالقناع, حتى لا يعرف أحد مكانهم، وكان اللون الآخر هو اللون الغالب على شارة الأفراد, كما كان يفعل الزبير بن العوام، وخالد وأبو دجانة والفضل بن العباس.
وكان بعض الفرسان يجعل شاراته في طريقة لف العمامة أو غيرها، فقد عرف مصعب بن الزبير بأنه كان يعتم العقداء -أي: يعقد عمامته في قفاه- كما كان حمزة بن عبد المطلب يعرف بريشة نعام حمراء.(1/93)
البريد الحربي:
استخدم المسلمون الخيل في التراسل، وكانت توجد في شطري الدولة الإسلامية محطات للبريد مزودة بالخيل والراكبين على مسافات معينة, كل ثلاثة أميال أو فرسخين، وربما كان راكب البريد يركب الطريق كله.
واستخدموا أيضًا الإبل المسماة بالجمازات1, وهي تشتهر بسرعتها وقوة تحملها, وكان راكبها يسمى ساعيًا2 والذي أحدث أمر السعاة هو معز الدولة. ويقا إن النار استخدمت في القرن الثالث الهجري على الساحل الإفريقي الشمالي، فقد كانت الرسائل تصل من الإسكندرية إلى سبتة في ليلة واحدة، من طرابلس إلى الإسكندرية في ثلاث ساعات إلى أربع. ولم يبطل هذا الخط الأخير إلّا في سنة 440هـ-1048م حينما ثار المغرب على
__________
1 "الجماز" مشتق من جمز، ولا تزال أسرع الجمال بفارس هي الجمال البلخية, والواحد منها يسمى: "جمبس" ويقطع في اليوم مائة كيلو متر بلا أقل مشقة، وكلمة جمبس فارسية الأصل.
2 وقد امتاز من هؤلاء السعاة اثنان، كان كل منهما يقطع ما يزيد على 40 فرسخًا -أي 180 كيلو مترًا- من مشرق الشمس إلى مغربها, وقد أورد المؤرخون ذكرهما؛ وهما: فضل ومرعوش, وكان أحدهما ساعي السُّنَّة، والثاني ساعي الشيعة.(1/93)
الموسيقى:
يقول ابن خلدون: "وقد رأينا في حروب العرب من يتغنَّى أمام الموكب بالشعر ويطرب, فتجيش الأبطال بما فيها ويسارعون إلى مجال الحرب ... وأما قرع الطبول والنفخ في الأبواق؛ فكان المسلمون لأول الملة متجافين عنه تنزهًا عن غلظة الملك, ورفاضًا لأحواله واحتقارًا لأبهته ... حتى إذا انقلبت الخلافة ملكًا، ولابسهم الموالي من الفرس والروم, وأروهم ما كان أولئك ينتحلونه من مذاهب البذخ والترف؛ فكان مما استحسنوه اتخاذ الآلة فأخذوها, وأذنوا لعمالهم في اتخاذها تنويهًا بالملك وأهله, فكثيرًا ما كان العامل صاحب الثغر أو قائد الجيش يعقد له الخليفة من العباسيين أو العبيديين لواءه, ويخرج إلى بعثه أو عمله من دار الخليفة أو داره في موكب من أصحاب الرايات والآلات ...
... وأما الجلالقة لهذا العهد من أمم الإفرنجة وبالأندلس, فأكثر شأنهم اتخاذ الألوية القليلة ذاهبةً في الجوِّ, ومعها قرع الأوتار من الطنابير ونفخ الغيطات, يذهبون فيها مذهب الغناء, وطريقه في مواطن حروبهم".(1/94)
عمليات عبور الأنهار والموانع المائية والخنادق:
1- عبور الخنادق:
كان خالد إذا صادف خندقًا للعدو يسرع بذبح الإبل المسنة, ثم يرميها ومعها رحالها في أضيق مكان منه, ثم تعبر قواته فوقها، كما فعل في عبور خنادق الفرس في فتح الأنبار وغيرها.
بعد ذلك صار المسلمون يأكلون لحوم الإبل, ثم يملأون جلودها بالرمال ويرمونها في الخندق حتى يمتلئ ويتم لهم عبوره، وكان بعضهم يطم الخندق بالبراذع والرحال، والزُّبل "القُفَف" المملوءة بالرمال1.
2- الأنهار والموانع المائية:
في فتح دمشق وغيرها, كان خالد يعبر الخنادق المملوءة بالمياه سباحةً على القرب المملوءة بالهواء بعد إحكام غلقها، فإذا أرادوا أن تعبر القوة الخندق ألقوا فيه حزمًا من فروع الأشجار بعد ربطها بحجارةٍ تجعلها ترسب في قاعه حتى يمتلئ الخندق، ثم يعبره الجند بعد أن يمهدوا طريقهم فوق الفروع بغرائر الرمال، فإن كان الخندق قليل العرض طرحوا عليه الأبواب والألواح الخشبية, وجعلوا منها قنطرةً يعبرون فوقها.
إقامة رأس الجسر:
ولأول مرة يقيم المسلمون "رأس الجسر" Bridge Head لعبور الموانع المائية، في فتح المدائن؛ إذ ندب سعد بن أبي وقاص الناس إلى العبور
__________
1 انظر كيف فشلت قريش في عبور الخندق الذي حفره المسلمون حول المدينة في غزوة الأحزاب, وقارن واستخلص ما حدث من تطور في فن الحرب وحيلها.(1/95)
قائلًا: "من يبدأ ويحمي لنا الفراض حتى تتلاحق به الناس لكيلا يمنعوهم من الخروج"1. فانتدب له عاصم بن عمرو التميمي -أول قائد رأس جسر في تاريخ العرب- وانتدب بعده ستمائة من أهل النجدات. واقتحمت كتيبة عاصم نهر دجلة عنوةً ووصلت الشاطئ الشرقي, وبذلك استطاعت تأمين عبور باقي الجيش للنهر2.
وفي العصر الحديث استطاع المصريون عبور قناة السويس في معركة أكتوبر 1973 بوسائل مبتكرة لم يعرفها خبراء الحرب من قبل؛ إذ تمكنوا من فتح الثغرات في الساتر الترابي الضخم الذي أقامه العدو الإسرائيلي على الشاطئ الشرقي للقناة عن طريق التجريف بقوة المياه، وابتكار وسائط نقل خفيفة لنقل الأسلحة المضادة للدبابات عبر الساتر الترابي؛ لكي تتمكن قوات رأس الجسر من منع دبابات العدو من التدخل في عملية إقامة المعابر فوق القناة, وعبور القوات الرئيسية.
__________
1 جمع فرضة, والفرضة المكان الذي يحتله الجنود في الضفة البعيدة من النهر لحماية عبور الجيش إلى تلك الضفة.
2 يعرف العلم العسكري وفن الحرب عملية إقامة رأس الجسر أو "رأس الكوبري" في عمليات عبور الأنهار والموانع المائة، ويعتبرها من الأعمال الضرورية لتأمين عبور القوة الرئيسية؛ لأن عبور النهر أو المانع المائي -بينما العدو على الضفة البعيدة- يعرض القوات لخسائر جسيمة لما تكون عليه حال القوات أثناء العبور من عدم استعدادٍ للقتال, كما لو كانت على الأرض، فيقتضي الأمر قبل أن يبدأ الهجوم عبر النهر، أن تقوم مفرزة من القوات بالعبور "عنوة" مع تحمل الخسائر، أو"بطريقة مفاجئة" إذا أمكنها ذلك، وتكون مهمتها مواجهة قوات العدو وشغلها عن التدخل في عبور القوة الرئيسية.
وواضح أن عملية إقامة رأس الجسر تنطوي على كثير من روح الفدائية والشجاعة الفائقة، ولذلك كان اعتماد سعد بن أبي وقاص في تكوين القوة التي تقوم بالمهمة على "التطوع" كما يتضح من ندائه للجيش "من يبدأ ويحمي لنا.. إلخ" فكرة صائبة، وهذا المبدأ تفضله الجيوش الحديثة إذا تكلف بهذا النوع من العمليات قوات الفدائيين, أو الصاعقة التي تحملها طائرات الهلوكبتر أو أية وسيلة أخرى.(1/96)
إحصاء القتلى وتسجيلهم:
ذكر المسعودي أن المسلمين كانوا -بعد المعركة- يغرسون بجوار كل قتيل قصبة من القصب الفارسي "الغاب" ثم يجمعون القصب بعد ذلك ويعدونه، فإذا كان اسم القتيل مسطورًا في الديوان عرفوه.(1/97)
الأسطول والحرب البحرية:
1- بدأت المرحلة الأولى في بناء الأسطول الإسلاميّ والحرب البحرية في عهد عثمان, باستخدام السفن التي عثر عليها المسلمون في موانئ الشام ومصر, وهي سفن إما سورية أو مصرية الأصل من بقايا العهود السابقة, أو سفن بيزنطية غنمها المسلمون, وكان أغلب هذه السفن سفنًا تجارية، غير أنها أفادت كثيرًا في الفتوحات الأولى في نقل المحاربين والعتاد وحمل المؤن والغنائم، وكان معاوية أول أمير بحر عربي في الإسلام, وبدأ أول غزو بحري بغزو قبرص 28هـ.
2- وعرف العرب لأول مرة "العمليات البحرية المشتركة" باشتراك أسطول مصر مع أسطول سوريا في معركة ذات الصواري البحرية "34هـ", وكان الأسطول المصري بقيادة عبد الله بن سعد, والسوري بقيادة معاوية.
3- وأقام المسمون دورًا لصناعة السفن وآلاتها في الشام؛ مثل: عكا وصور وطرابلس, وفي مصر؛ مثل: الإسكندرية والقلزم والفسطاط والروضة ودمياط، وفي شمال إفريقيا مثل: طرابلس وقرطاجة وبرقة, وقد أفاد المسلمون من الخبرات البحرية لكلٍّ من الشام ومصر وبيزنطة لما لها جميعًا من تاريخٍ عريقٍ في ميدان البحر, سواء في التجارة أو الصناعة أو الحرب. يقول ابن خلدون: "فلما استقر الملك لهم -للعرب- وشمخ سلطانهم، وصارت أمم البحر خولًا لهم وتحت أيديهم، وتقرب كل ذي صنعة إليهم بمبلغ صنعته،(1/97)
واستخدموا النوتية في حاجاتهم البحرية أممًا، وتكررت ممارستهم البحر وثقافته، استحدثوا بصراء بها، فتاقت نفوسهم إلى الجهاد فيه، فأنشأوا فيه السفن والشواني, وشحنوا الأساطيل بالرجال, وأعطوها العساكر والمقاتلة لمن وراء البحار من أمم الكفر, واختصوا بذلك من ممالكهم وثغورهم ما كان أقرب إلى هذا البحر وعلى حافته؛ مثل: الشام وأفريقية والمغرب والأندلس".
4- وكانت شروط اختيار أمير البحر هي أن يكون عارفًا بمسالك البحر ومذاهبه، وعلامات الرياح وتغيرات الأنواء, ملمًّا بالحركات البحرية من المد والجزر وغيرها، كما يجب عليه أن يكون خبيرًا بالسفن ليختار الجيد منها ويكثر تقويتها، ويدخر فيها آلاتها، حتى إذا تلف شيء منها وجد ما يخلفه، كما يجتهد في تغييرها، وإحكام ما يلاقي الماء منها، فإنه الأصل الذي يعوّل عليه في البحر, وإلَّا كانت سفنه عرضة للغرق.
أنواع السفن الحربية:
1- الشيني "أو شاني، أو شينية، أو شونة":
وهي السفينة الحربية الكبيرة، وكانت من أهم القطع الكبير التي يتكون منها الأسطول في الدولة الإسلامية1. وهي تسير بالقلع والمجاديف, وتحمل المقاتلة والجدافين، وكان منها -كما قال المقريزي- ما كان يُقِلُّ ألفًا من المحاربين, ويبدو أن هذا النوع من السفن كانت تقام فيه الأبراج والقلاع للدفاع والهجوم، وهو لعظمه كان يحتوي على أهراء لخزن القمح, وصهاريج لخزن الماء الحلو، وكانت ترمي منه النار والنفط على العدو، وكانت مجهزة أيضًا بأسلحة القتال المختلفة.
__________
1 يستدل من النصوص التاريخية العديدة أن الشيني هو الأصل الذي يتفرع منها أسماء السفن الحربية الأخرى ولواحقها، فكل سفينة حربية شيني تحمل اسمًا معينًا يدل على وظيفتها، فمنها الغراب والطريدة والجفتة والحراقة ... وجمع شيني: شواني.(1/98)
2- الغراب "وجمعها: أغربة وغربان".
وهي تسير بالقلع والمجاديف, والكبير منها به 180 مجدافًا، والصغير به أقل من 100 مجداف، ويحمل الغراب حوالي 200 من المقاتلين، وربما سميت غرابًا لأنها تدهن باللون الأسود. وقد استُخْدِمَ هذا النوع في الأسطول الإسلامي في المشرق والمغرب، وكان من مهامه أيضًا -علاوة على القتال البحري- القيام بعمليات الاستطلاع البحري؛ فكان أحد الأغربة ويطلق عليه: "غراب التقدمة أو المتقدمة" يدفع في حالة الغزو للاقتراب من الميناء أو الساحل المزمع غزوه للكشف والاستطلاع.
3- الطريدة "أو الطراد -على وزن كِتَّان".
وهي سفينة حربية مصممة لنقل خيول الفرسان، ولذلك فهي مفتوحة المؤخرة بأبواب تفتح وتغلق, ويمكنها نقل حوالي أربعين فارسًا، وعادةً ما كان قائد الحملة يركب إحداها1.
4- الحراقة:
وهي سفينة مصصمة لرمي النيران؛ كالنار الإغريقية, وبها مرام تلقى منها النار على العدو -أي: قواذف المنجنيق.
5- الزوارق:
وهي سفن صغيرة تصنع من الحديد ذات سطح واحد "وتسمى أيضًا حديدية" وتستخدم في القتال في الأنهار، كما تستخدم مع السفن الكبيرة لأغراض الاستطلاع والنقل السريع, وتعتبر من ملحقات الأسطول, ويحمل الزورق جماعة من الرماة.
__________
1 اشتق الأوروبيون عن العربية هذا الاسم في العصور الوسطى فسموه في الإسبانية Tarida، في الفرنسية Tartane, وفي الإيطالية Tartana, وفي الإنجليزية Tartan.(1/99)
6- الجفنة - الجفن:
وهي سفينة تشبه القصعة، أي: سفينة دائرية، وأغلب استخدامها في نقل الرجال والمؤن والعتاد.
تكتيك القتال البحري:
1- كان بكل سفينةٍ ساحة للقتال في مؤخرتها، وقد تكون بها ساحتان؛ أحداهما في المقدمة, والأخرى في المؤخرة، وكانت المؤخرة تنتهي ببروز يشبه منقار الطائر، يستعمل كجسرٍ عندما تلتحم السفينة بسفينة العدو.
وكانت هياكل السفن تقوَّى بربطها بمجموعة من الحبال تعرف بالحزام أو الزنار، تربط في وضع أفقي وخاصة المقدمة والمؤخرة، كما كانت أحيانًا تربط العمد التي تتوسط السفينة وتصلها بالمقدمة والمؤخرة حتى لا تتأرجح.
2- وعندما تقترب سفن الجانبين بعضهما من البعض, يبدأ القتال بالسهام وقذائف الأحجار، ثم تقترب السفينة من سفينة العدو, وتوضع ألواح الخشب ليعبر عليها المقاتلون، أو قد يعبرون عن طريق بروز المؤخرة، ثم يدور القتال على سطح السفن كما يدور في البر بالسيوف والخناجر وغيرها.
3- ولإغراق سفن العدو، كانوا يقذفونها بقوة بالفأس الذي يقال له اللجام1؛ لكي يحدث ثقبًا في جسم السفينة.
4- وتلقى على السفينة المراد جذبها لقتال رجالها كلاليب "كالخطاطيف" ثم يشدونها نحوهم، وكانت السفن تزود -لمقاومة الكلاليب- بفؤوس ثقيلة, يضربونها بها فتقطع سلاسلها ويبطل مفعولها.
__________
1 يتكون اللجام من حديدة طويلة محدودة الرأس جدًّا, وأسفلها مجوف كسنان الرمح.(1/100)
5- وكانوا يجعلون في أعلى صواري السفن صناديق مفتوحة من أعلاها يسمونها "التوابيت", يصعد إليها الرجال قبل استقبال العدو، فيقيمون فيها ومعهم حجارة صغيرة في مخلاة معلقة بجانب الصندوق، فيرمون العدو بالجحارة وهم مستورون بالصناديق، وقد يكون مع بعضهم بدل الحجارة قوارير النفط لإشعال الحريق، أو جرار -جمع جرة- بها مادة النورة -وهي مسحوق ناعم من مزيج الكلس والزرنيج- يرمون بها في مراكب الأعداء، فتعمي الرجال بغبارها، وقد تلتهب عليهم إذا تبددت، وقد يرمون عليهم قدور الحيات والعقارب، أو قدور الصابون اللين، فإنه يزلق أقدامهم.
6- وعرف العرب وسائل التمويه والإخفاء Camoufage، فكان القائد البحري إذا استبد به الخوف، لجأ إلى الاختفاء, بأن يصنع لسفنه قلوعًا زرقاء توافق لون الماء كيلا يظهر من بعد، فيتم له مبدأ المباغتة.
تأمين وحراسة القواعد البحرية:
1- كان العرب يحصنون القواعد البحرية من جهة البَرِّ بإقامة الأسوار حول القاعدة، ومن جهة البحر بأن ينصبوا الأبراج على الأجناب, ويشدوا بينها السلاسل التي تسد مداخل الميناء.
فإذا أريد إدخال سفينة أرسل حراس البرجين أحد طرفي السلسلة حتى تدخل السفينة, ثم يمدونها كما كانت.
2- وعلى مسافةٍ من الميناء كانوا يقيمون المنارات على أعمدة من الخشب منصوبة في الماء ترتفع إلى خمسين مترًا فوق سطح الماء, وفي أعلاها حجرة مربعة للناظور أو المراقب، وكانت المنارات تضاء ليلًا لإرشاد السفن.(1/101)
تطور الأسطول وأحواله إلى عهد الدولة العثمانية:
كان للأساطيل تأثيرٌ كبيرٌ في توسعة المملكة الإسلامية؛ لأنهم فتحوا بها أشهر جزر بحر الروم، ومنها سردينية "سردينيا" وصقلية "سيسيليا" ومالطة, وأقريطش "كريد" وقبرص وغيرها، وفتحوا كثيرًا من شوطئ هذا البحر مما يلي أوروبا، وسارت أساطيلهم فيه جائية وذاهبة، وعليه العساكر الإسلامية تجوز البحر من صقلية إلى بر إيطاليا في الشمال، فتوقع بملوك الإفرنج, وتثخن في ممالكهم, وخصوصًا في أيام بني الحسين الكلاببيين, ملوك صقلية القائمين فيها بدعوى الفاطميين، فانحاز الإفرنج بأساطيلهم إلى الجانب الشمالي الشرقي من هذ البحر، وملك المسلمون سائره بمراكبهم وأساطيلهم، وصاروا سلاطين البحر كما كانوا سلاطين البَرِّ. وضعف أمر الإفرنج إلى أن أدرك الدولة العبيدية بمصر, والأموية بالأندلس الفشل، وطرقها الاعتلال بحكم ناموس الاجتماع، وأفاق الإفرنج, وعاوا إلى استرجاع بلادهم فاسترجعوها, وسطوا على بلاد المسلمين نفسها، وكان ما كان من الحروب الصليبية على ما هو مشهور.
وكان المسلمون قد أهملوا أمر الأساطيل، وقلَّ تجنيدهم لها, وبطل ديوانها، وبعد أن كان جند البحر عندهم يلقبون بالمجاهدين في سبيل الله، والغزاة في أعداء الله, ويتبرك بدعائهم الناس، صارت خدمة الأساطيل عارًا عندهم, وظل ذلك شأنهم حتى تولى الملك الظاهر بيبرس البندقداري سلطان المماليك الشهير, فأعاد شأن الأساطيل، لكنها لم تعد إلى ما كانت عليه في عز الإسلام، على أنهم بذلوا جهدًا كثيرًا في دفع الصليبين عن مصر، وكان الصليبيون يأتون غالبًا من جهة النيل، وكان المماليك يبنون على ضفتي النيل أبراجًا من الخشب يوصلون بنيها بسلاسل الحديد، لتمنع سفن الإفرنج من المرور في النيل.
انحط شأن الأساطيل في مصر والشام، وبقي في الأندلس وأفريقية,(1/102)
وبقيت دولة المغرب مختصة به، وظل ذلك شأنهم إلى أواخر دولتهم، وكان عدد أساطيلهم في العدوتين "أوروبا وأفريقيا" -على ما رواه ابن خلدون- مائة أسطول، وفي أثناء ذلك نبغ أحمد الصقلي قائد أساطيل المغرب في القرن السادس للهجرة، وانتهت أساطيل المسلمين في أيامه إلى ما لم تبلغه قبله ولا بعده, ثم انحطت بانحطاط الدولة حتى انقضت بانقضاء الإسلام في الأندلس, ثم عاد الأسطول الإسلامي إلى الظهور في عهد الدولة العثمانية, واشتهر من قواده "بربروسا خير الدين باشا" في القرن التاسع للهجرة.(1/103)
المراجع:
- تاريخ التمدن الإسلامي ج1, جورجي زيدان, ص218-221.
- الفن الحربي في صدر الإسلام, عبد الرءوف عون, ص259-266.
- مصر في العصور الوسطى, سعيد عاشور, ص566-567.
- السفن الإسلامية على حروف المعجم, درويش النخيلي, ص23-25، 32-34، 59-60، 83-85, 89-92، 104-105.(1/103)
العلم العسكري وفن الحرب
مدخل
...
4- العلم العسكري وفن الحرب:
أول علم عسكري وفن حربي مدون, وأول مدرسة عسكرية عربية:
أصبح للعرب لأول مرة في تاريخهم علم عسكري وفن حرب مقنن ومدون, متمثلًا فيما جاء في القرآن الكريم من آياتٍ تتعلق بأمور الحرب، ومتمثلًا أيضًا في السنة النبوية القولية والعملية والتقريرية، وهو ما أوضحناه في الفصل الثاني "فن الحرب عند العرب في الإسلام"، فالإسلام -باعتباره حضارةً كاملةً ودستورًا شاملًا لأمور الحياة دينًا ودنيا- عالج أمور الحرب باعتبارها ظاهرة اجتماعية، فوضع قوانينها الأساسية ومبادئها العامة في القرآن, ثم كانت السنة النبوية تفسيرًا لهذه المبادئ والقوانين, وتطبيقًا عمليًّا لها في المعارك الفعلية1.
وعلى أساس هذه القوانين والمبادئ نشأت أول "مدرسة عسكرية" في تاريخ العرب, وكان المسجد هو "أول ثكنة" في تاريخ العرب أيضًا، ففيه تعلَّم المسلمون تعاليم المدرسة العسكرية، ومنه كان ينطلق النفير لجمع
__________
1 قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة} [الأحزاب: 21] وقال مخاطبًا النبي: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] وحدَّث الرسول عن نفسه فقال: "أدبني ربي فأحسن تأديبي"، فلا عجب إذن أن يظهر الرسول -عليه السلام- من الكفاءة في القيادة الحربية والتخطيط وإدارة الحرب, ما يثير إعجاب وتقدير المنصفين من خبراء الحروب.(1/104)
المجاهدين لتلقي تعليمات القتال، وفيه كان ينعقد مجلس الحرب "مجلس الشورى" للتخطيط الحربي، وتصدر القرارات، ومنه تنطلق الجيوش في شكل غزوات أو سرايا، وإليه يعود المجاهدون بعد المعركة، وفيه تضمد جراح المصابين.
وقد بقي للمسجد مكانته ودوره في أيام الفتح الإسلامي.
وقد سجَّلَ تاريخ معارك الإسلام في عصر النبوة وحده, أن المسلمين قاموا بجميع أشكال العمليات العسكرية بكفاءة عالية؛ مثل: الدفاع, والهجوم, والمطاردة, والتخلص من المعركة, ومسير الاقتراب, والإغارات, وأعمال الاستطلاع والمخابرات, والحرب النفسية, ودوريات القتال, والهجوم على القرى والمواقع الحصينة, وأعمال الحصار.
وقيام المسلمين الأوائل بهذه العمليات المتنوعة دليلٌ على كفاية تدريبهم عليها, كما يقول كلاوزفتز: "يمكن للقوات العسكرية المدربة جيدًا، أن تقوم بجميع الأعمال العسكرية".(1/105)
بدء كتابة التاريخ العسكري العربي:
كانت عناية المسلمين الأوائل بالتاريخ الحربي واضحة, وهو ما نلمسه في قول زين العابدين بن الحسين بن عليّ -رضي الله عنهم:
"كنا نعلم مغازي رسول الله -صلى الله عليه وسلم، كما نعلم السور من القرآن". وعن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي قاص -رضي الله عنه: "كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا ويقول: يا بني، إنها شرف آبائكم, فلا تضيعوا ذكرها". ويقال: إن أول من صنَّفَ المغازي والسير عروة بن الزبير, المتوفى سنة 93هـ, ووهب بن منبه, المتوفى سنة 114هـ, ومحمد بن إسحاق, المتوفى سنة 151هـ, وقد ضاعت هذه السير، وأقدم ما بقي منها سيرة عبد الملك بن هشام, المتوفى(1/105)
سنة 213هـ, في كتابه المعروف بسيرة ابن هشام, وهي منقولة عن ابن إسحاق المذكور.
ولما اشتغل المسلمون في ضرب الخراج على البلاد اختلفوا في بعضها: هل فتح عنوة أو صلحًا أو أمانًا أو قوةً، وفي شروط الصلح أو الأمان, فاضطروا إلى تدوين أخبار الفتح باعتبار البلاد، فألفوا كتبًا في فتح كل بلد على حدة، كفتوح الشام للواقدي, المتوفى سنة 207هـ, وكتابه مشهور, لكنه مملوء بالمبالغات بما يشبه الحكايات. وفتوح مصر والمغرب لابن عبد الحكم, المتوفى سنة 257هـ، وفتوح بيت المقدس ونحوها.
ثم جمعوا فتوح البلاد معًا في كتاب واحدٍ؛ كفتوح البلدان للبلاذري, المتوفى سنة 279هـ, وهو أوثق كتب الفتح وأشملها, وأقدم الموجود منها إلّا الواقدي.
وتناول ابن جرير الطبري المتوفى سنة 310هـ التاريخ الإسلامي مرتبًا على السنين, وهو ينتهي إلى حوادث سنة 302هـ.(1/106)
كتب العلم العسكري وفن الحرب:
وقد وضع المسلمون مؤلفات في العلم العسكري وفن الحرب, ما زال بعضها مخطوطًا, ومن أمثلة هذه المخطوطات:
-"تبصرة أرباب الألباب في كيفية النجاة من الحروب, ومن الأسواء, ونشر أعلام الأعلام في العدد والآلات المعينة على لقاء الأعداء" للعلامة مرضي الطرطوسي. وتوجد منه نسخة في مكتب إكسفورد تحت رقم 264 كما توجد نسخة في المتحف الحربي بالقاهرة.
-"الحيل والحروب, وآلات السلاح, وحصار القلاع, وصنعة السيف, والرمي بالنشاب, وعمل البارود" ويرجع إلى سنة 622هـ, وتوجد منه نسخة في مكتبة "ليدن" تحت رقم 92.(1/106)
- "التذكرة الهروية في الخيل الحربية" تأليف أبي الحسن علي بن محمد بن أبي بكر الهرويّ, المتوفى سنة 611هـ, ومنه نسخة في دار الكتب المصرية تحت رقم 299, وهو مصدر في معهد المخطوطات بالجامعة العربية تحت رقم 210.
-"اللعب بالبندق" لأبي عبد الله بن إسماعيل بن عبيد الله البغداديّ, المعروف بابن البقال, معيد النظامية, المتوفى سنة 588هـ.
-"تحفة المجاهدين في العمل بالميادين" ألفه الأمير لاجين بن عبد الله الذهبيّ الحساميّ الطرابلسيّ, سنة 738هـ, وتوجد منه نسخة في متحف برلين, ونسخة في مكتبة إكسفورد، وهو مصوّر في الجامعة العربية تحت رقم 902.
- "الأحكام الملوكية والضوابط الناموسية", ألفه محمد بن منكلي العلمي, المتوفى سنة 778هـ, ويبحث في فن القتال, وتوجد منه نسخة في الخزانة التيمورية في القاهرة, تحت رقم 23, ونسخة أخرى في متحف القاهرة الحربي، ونسخة ثالثة في دار الكتب المصرية تحت رقم 705 فنون حربية.
- "فن الحرب", للمؤلف السابق, وقد ألفه تلبيةً لرغبة السلطان الأشرف شعبان, وهو يتحدث عن سياسية الصنائع الحربية.
-"الأنيق في المنجنيق" تأليف أربنوغا الزردكاش, الذي قدمه للأمير شمس العلاء منكلي سنة 867هـ, ويتألف من 109 صفحة, وفيه حوالي خمسمائة رسم، وتوجد منه نسخة في دار الكتب المصرية، ونسخة مصورة بالجامعة العربية تحت رقم 970.(1/107)
كتب عن الحرب البحرية: مثل:
- "المترجم بالمدخل الكبير إلى علوم البحر" ألفه: أبو معشر المنجم, ونقل عنه المسعودي.
- "الرهماني في علوم البحر", تأليف: محمد بن شادان، وسهل بن أبان، وليث بن كهلان.
-مخطوط "رسالة في عمل الإسطرلاب" تأليف: جابر بن حيان الصوفيّ, المتوفى سنة 161 هـ , ويتضمن ألف مسألة في عمل الإسطرلاب.
- مخطوط "العمل بالإسطرلاب" لأبي الفوارس يحيى بن أبي منصور المنجم المأموني، كان على قيد الحياة سنة 217هـ, ذكره صاحب كشف الظنون.
- مخطوط "دوائر السموات في الإسطرلاب والمسارات" للأمير أبي نصر منصور بن علي بن عراق, المتوفى سنة 420هـ, توجد منه نسخة في بانكي فور تحت رقم "2468", وقد طبعت في حيدر أباد سنة 1947 ضمن "رسائل أبي نصر بن عراق إلى البيروني".(1/107)
المراجع:
- تاريخ التمدن الإسلامي ج3, ص99-100.
- البحرية في مصر الإسلامية, ص5-90.
- المدخل إلى العقيدة والاستراتيجية العسكرية الإسلامية. "المقدمة".(1/108)
الآثار الحضارية لفن الحرب عند العرب
مدخل
...
5- الآثار الحضارية لفن الحرب عند العرب:
عبرة التاريخ:
يعد فن الحرب عند العرب جانبًا رائدًا من الحضارة العربية, وبفضله كان العرب روّادًا للحضارة الإنسانية في كل المجالات، فلمَّا تخلى العرب عن تعاليم العقيدة وفن الحرب تمكن منهم أعداؤهم، وقامت ضدهم حرب حضارية تستهدف طمس معالم حضارتهم ومنع قيامها من جديد.
الآثار الاستراتيجية لفن الحرب عند العرب:
إن أبرز الآثار الاستراتيجية لفن الحرب العربيّ هو الحقائق التاريخية التالية:
1- تأمين الدعوة وتأسيس الدولة الإسلامية, وتحقيق الأمن والاستقرار لها؛ لكي تؤدي رسالتها السامية لخير البشرية.
2- امتداد الفتوحات الإسلامية في أقل من مائة عام؛ من حدود الصين شرقًا إلى شاطيء الأطلسي غربًا، وأبلغ دليل على أن "العقيدة" التي كانت تشكل جوهر العسكرية العربية، كانت وراء تلك الإنجازات الحربية العظيمة، وتلك الانتصارات الباهرة:(1/109)
أ- أنه في عصر النبوة, كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يحارب عربًا بعربٍ، بل وقرشيين بقرشيين، وكان التفوق في العدد والعتاد دائمًا في جانب أعدائه، ولكن جيشه كان ينتصر دائمًا.
ب- وأنه في أيام الفتح الإسلاميّ حارب العرب المسلمون الروم وحلفاءهم الغساسنة في معركة اليرموك التي فتحت أبواب أرض الشام للمسلمين, وحاربوا الفرس وحلفاءهم المناذرة في القادسية التي فتحت لهم أبواب العراق والجزيرة، وكان الغساسنة والمناذرة من العرب الأقحاح، وكانوا أعرق مدنية, وأكثر حضارة, وأغنى مالًا وسلاحًا، وأعرف بأساليب القتال، وأقرب إلى قواعدهم من أولئك العرب القادمين من قلب الجزيرة العربية.
جـ- وأن العرب أصحاب العقيدة حاربوا اليهود, وواجهوا مؤامراتهم وحصونهم, وانتصروا عليهم.
ولذلك يقول القائد "كرمويل": "إن أقوى غرض مشترك للجيش، هو أن يعتقد أفراده أنهم أداة الخالق لتنفيذ أحكامه، وأية قوة تستطيع الصمود في وجه القوة الإلهية؟ ولقد كان المسلمون كذلك، فإنهم كانوا يعتقدون أنهم جند الله، يحاربون لإعلاء كلمته ونشر دينه، بينما يقاتل أعداؤهم في سبيل الشيطان".
وقال جوستاف لوبون: "وقد كفى لثلِّ عرش الأكاسرة، وهدم الدولة الفارسية العريقة في القدم، وقد خسر الروم في سبع سنوات سورية, التي ظلوا حاكمين لها ثلاثمائة سنة".
3- بروز قادة حربيين مشهود لهم بالكفاية والمقدرة, سواء في الحروب البرية أو البحرية، وقد بلغ عدد القادة الفاتحين في أيام الفتح الإسلامي "256" قائدًا؛ منهم "216" من صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- وممن تعلموا على يديه في(1/110)
المدرسة العسكرية الإسلامية الأولى، و"40" قائدًا من التابعين بإحسان -رضي الله عنهم "الجيل التالي".
4- تمكين الأمة الإسلامية "الناشئة" من إدارة دفة الحرب في جبهتين استراتيجيتين كبيرتين في وقت واحد، وفي مواجهة أعظم قوتين عالميتين في ذلك الوقت؛ هما: فارس وبيزنطة, وهذا مَثَلٌ فريد في التاريخ الحربي. فمما لا شك فيه أن كلًّا من هاتين الدولتين العظميين كان لها تاريخ حربي طويل أكسبها خبرة واسعة في فنون الحرب وأساليبها؛ بحيث يمكن أن يقال: إن استراتيجتها العسكرية في ذلك الوقت كانت -آخر ما وصل إليه- فكر قادتها العسكريين من واقع الدروس التي استخلصوها من تجارب الحرب، وكانت أيضًا أفضل ما يناسب ذلك العصر في شئون الحرب من وجهة نظر كل منهما، فإذا سجل التاريخ انتصار الجيوش الإسلامية عليهما، فذلك يُعَدُّ في الوقت نفسه انتصارًا للفن الحربي العربي؛ لأن الحرب هي المحكُّ ومجال الاختبار الحقيقي للكفاية العسكرية وللاستراتيجية الحربية، كما أنه يدل على أن الاستراتيجية العسكرية العربيةلم تكن على مستوى عصرها فحسب، بل إنها تميزت على الاستراتيجيات العسكرية المعاصرة فانتصرت عليها.
5- اتقان العرب -وهم أبناء الصحراء- ركوب الأساطيل, والحرب البحرية, وتغلبهم على أسطول بيزنطة, وهو أعظم قوة بحرية في زمانه، يقول ابن خلدون: "إن المسلمين تغلبوا على بحر الروم -البحر الأبيض المتوسط- وإن أساطيلهم سارت فيه جائية وذاهبة من صقلية إلى تونس، والرومان والصقالبة والفرنجة جميعًا تهرب أساطيلهم أمام البحرية العربية, ولا تحاول الدنوَّ من أساطيل المسلمين التي ضربت عليهم كضراء الأسد على فريسته".
6- فتح الطريق لتأسيس الحضارة الإسلامية وإضاءة مشاعلها لخير البشرية في ميادين العلوم الطبيعية والاجتماعية.(1/111)
الحرب العادلة وآثارها الاستراتيجية في إقامة السلام:
إن "الجهاد" الذي هو جوهر العقيدة العسكرية العربية فضيلة إنسانية عليا، وحروب الإسلام حروب فاضلة وعادلة، ذات طابع دفاعيّ لرد العدوان, ويقيدها قانون السماء الذي لا يبيح انتهاك الحرمات وإهدار الكرامة الإنسانية.
وقد اتفق علماء الاستراتيجية العسكرية على أن الغرض من الحرب يجب أن يكون الحصول على "سلم أفضل" وأنه من الضروري أن يضع القادة دائمًا في اعتبارهم -وهم يديرون الحرب- السلم الذي يرغبون فيه، ومن أجل ذلك فإن مبادئ الاستراتيجية الحقة تنادي بما يلي:
"عليك وأنت تحارب أن تهيئ الظروف المناسبة لقيام سلم حقيقيٍّ ومستقرٍّ بعد انتهاء الحرب، ولا تستخدم من أساليب القهر والتسلط الغاشم, سواء في أثناء الحرب أو بعدها ما يؤدي إلى أن يكون السلم مشوهًا لاحتوائه على جراثيم حرب تالية".
ولقد حفل التاريخ بأدلة قاطعة على أن الشطط والمبالغة في إدارة الحروب لا يهيئان مناخًا لقيام سلام مستقر ودائم1.
__________
1 دفعت سلسلة الحروب الواسعة -وعلى رأسها الحرب الثلاثينية- رجال السياسة في القرن الثامن عشر إلى إدراك هذه الحقيقة، وإلى إدراك ضرورة كبح أطماعهم وأهوائهم الخاصة عندما يشتبكون في حرب، وضرورة تحديد الحرب وآثارها, بمعنى: تجنب الشطط والمبالغة في كل الأعمال التي قد تطيح الآمال المعقودة على حالة ما بعد الحرب، ومن ناحية آخرى, فقد أدى إدراكهم هذا إلى أنهم أصبحوا أكثر استعدادًا للتفاوض على السلم عندما يبدو النصر بعيد المنال. وحروب نابليون التي امتدت قرابة العشرين عامًا جاءت على عكس تصوره, من أن الحرب تلو الحرب ستحقق سلمًا دائمًا, بل وصل به الأمر إلى حد انهيار الإمبراطورية النابليونية.
وماحدث في الحرب العالمية الأولى 19124-1918 من المعاملة القاسية التي لقيتها ألمانيا على يد الحلفاء المنتصرين, تحت شعار "ويل للمغلوب" والعقوبات الاقتصادية التي أثقلت كاهل=(1/112)
أما حروب العرب بعد الإسلام، فإنها بدوافعها الفاضلة وآدابها وإنسانيتها وسماحتها، لم تنطو على ما يقطع الأمل في سلم حقيقي ومستقر، بل كانت تجعل جراح المغلوبين تلتئم بسرعة، بل لقد كان السعي نحو ذلك النوع من السلام هدفًا من أهم أهدافها الاستراتيجية، يدل على ذلك ما يلي:
1- قريش، لم تقبل على الإسلام فحسب، بل حملت راية الجهاد في سبيل الله, وتحولت اتجاهاتها من أشد الناس عدواة للإسلام، إلى أحرص الناس على الدفاع عنه، وخرج عن عرب شبه الجزيرة قادة عسكريون أفذاذ مقرر لهم -كما يقول مونتجمري- أن يكونوا من أعظم قادة الفتوحات؛ مثل: خالد بن الوليد, وعمر بن العاص ...
2- كانت الشعوب المفتوحة ترحب بالمسلمين الفاتحين وتنضم إليهم أحيانًا؛ لتنجو من عسف الفرس والروم, وتنعم بالحرية في ظل عدل وسماحة الإسلام، وسرعان ما صارت البلاد المفتوحة موئلًا للإسلام, وصار أهلها من المجاهدين في سبيله، وقد أثار ذلك دهشة المشير مونتجري فقال:
"من العجيب أن القوة الرئيسية للجيوش الإسلامية في فتح أسبانيا بين عامي 710-713 كانت مشكلة من الليبييين والتونسيين". وقال أيضًا عن الفتوحات: "إن المسلمين كانوا يُسْتَقْبَلُون في كل مكان يصلون إليه كمحررين للشعوب من العبودية، وذلك لما اتصفوا به من تسامح وإنسانية وحضارة, فزاد إيمان الشعوب بهم، وقد ظلت جميع المناطق التي فتحها العرب في القرن السابع حتى يومنا هذا -ما عدا إسبانيا- تحتفظ بالدين الإسلاميّ, وكذلك بالعادات والتقاليد والتراث الإسلامي".
__________
= الاقتصاد الألماني، جعل السلام الذي جاء بعد تلك الحرب "مشوهًا يحمل معه جراثيم حرب تالية"، وكان هو الدافع الرئيسي لهتلر في العمل على إنهاض ألمانيا, وبالتالي سرعة نشوب الحرب العالمية الثانية عام 1939.(1/113)
وقال جوستاف لوبون: "إن القوة لم تكن عاملًا في نشر القرآن، وإن العرب تركوا المغلوبين أحرارًا في أديانهم، فإذا كان بعض النصارى قد أسلموا واتخذوا العربية لغةً، فذلك لما كان يتصف به العرب الغالبون من ضروب العدل الذي لم يكن للناس بمثله عهد، ولما كان عليه الإسلام من السهولة التي لم تعرفها الأديان الأخرى. وقد عاملوا أهل سورية ومصر وإسبانية, وكل قطر استولوا عليه بلطف عظيمٍ, تاركين لهم قوانينهم ونظمهم ومعتقادتهم, غير فارضين سوى جزية زهيدةٍ في مقابل حمايتهم لهم, وحفظ الأمن بهم، والحق أن الأمم لم تعرف فاتحين رحماء متسامحين مثل العرب".
وقا ل الكونت هنري دي كاستري: "إن المسلمين امتازوا بالمسألمة، وحرية الأفكار في المعاملات ومحاسنة المخالفين, وهذا يحملنا على تصديق ما قاله "روبنون": إن شيعة محمد هم وحدهم الذين جمعوا بين المحاسنة ومحبة انتشار دينهم، وهذه المحبة هي التي دفعت العرب في طريق الفتح، فنشر القرآن جناحيه خلف جيوشه المظفرة.. ولم يتركوا أثرًا للعسف في طريقهم, إلّا ما كان لا بد منه في كل حرب وقتال، ولم يقتلوا أمة أبت الإسلام".(1/114)
فرض التبعية على العرب في فن الحرب:
لما تخلى العرب عن الجهاد بدأ اضمحلال الحضارة العربية، وفرضت عليهم التبعية في مجالات العلوم ومن بينها العلم العسكري وفن الحرب، كوسيلة لطمس معالم الحضارة عامة, ومعالم العسكرية العربية بخاصة. وكان من نتيجة ذلك, أن أصبح العسكريون من أبناء الأمة العربية والإسلامية يدرسون النظريات العسكرية الأجنبية، وأعمال القادة الأجانب، والتاريخ العسكري للدول الأجنبية، وكأنه ليس للعرب ولا للمسلمين نظريات حربية ولا قادة ولا تاريخ عسكري يستحق الدراسة، كذلك أصبحت الدول العربية والإسلامية تعتمد في تسليح جيوشها على الأسلحة المستوردة من الدول الأجنبية1، وبذلك تخلفت عن عصرها في مجالات البحث العلمي والتطور الفني والتكنولوجي.
إحياء العسكرية العربية واجب حضاري:
إن نقطة الانطلاق نحو النهضة الحضارية الشاملة للأمة العربية هي إحياء العسكرية العربية باعتبارها القاعدة الثابتة والأصيلة التي تنطلق منها الأمة, آخذةً بكل أسباب التقدم والتطور في المجال الحربي لبناء القوة الذاتية التي يكون لها القدرة على ردع الأعداء وقهر عدوانهم.
ولنا في عين جالوت وفي حرب رمضان2 في التاريخ الوسيط والحديث, ما يؤكد أن عقيدة الجهاد بفسلفتها ومحتواها, تجعل الذي يستوعبها ويعمل بها قوة لا تقهر.
__________
1 غير خافٍ أن الدولة الأجنبية إذا أعطت شيئًا من عملها العسكري لغير أبنائها, فإنما تعطي ما لا يضر العلم به, أو العمل به, بمصالحها الاستراتيجية, أو ما يكون قد تقادم به العهد, أو أصبح متخلفًا عن عصره من عتاد الحرب.
2 كاتب هذا البحث كان الرجل المسئول عن بناء المعنويات في الجيش المصري بعد يونيو 1967؛ إذ كان مديرًا للتوجيه المعنوي للقوات المسلحة, فأقام سياسة لبناء المعنويات على منهج عقيدة "الجهاد" وشعار "النصر أو الشهادة" وصيحة القتال "الله أكبر", وقام علماء الدين بحشد معنويات المقاتلين بفلسفة هذا المنهج ومضامينه, فكان لذلك أبلغ الأثر في إحراز النصر.(1/115)
المراجع:
- "المدخل إلى العقيدة والاستراتيجية العسكرية الإسلامية", لواء محمد جمال الدين محفوظ, الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1976.
- "مقدمة العلامة ابن خلدون", المطبعة الأدبية في بيروت ط1, سنة 1879, ط2 1961.
-"تاريخ التمدن الإسلامي", جرجي زيدان, ج1، ج3, دار الهلال.
- "عبقرية خالد", عباس محمود العقاد.
- "القرآن والقتال", محمود شلتوت, دار الكتاب العربي سنة 1951.
- "الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري", آدم متز, تعريب: محمد عبد الهادي أبو ريدة, المجلد الأول, دار الكتاب العربي - بيروت, مكتبة الخانجي - القاهرة, 1967.
- "مصر في العصور الوسطى من الفتح العربي حتى الغزو العثماني"
سعيد عاشور, عبد الرحمن الرافعي, الطبعة الأولى, القاهرة, دار النهضة العربية, 1970.
- "السفن الإسلامية على حروف المعجم", درويش النخيلي, جامعة الإسكندرية, 1974, مطابع الأهرام التجارية.
- "البحرية في مصر الإسلامية", سعاد ماهر, وزارة الثقافة, دار الكاتب العربي للطباعة والنشر.
-"بين العقيدة والقيادة", اللواء الركن محمود شيت خطاب, دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع, بيروت, 1972.(1/116)