ما حذف من النصوص والمطالعة
أقرأ عليكم الموضوعات التي حذفت من اللغة العربية, والنصوص, والمطالعة: أولاً: موضوع حديث الجهاد.
ثانياً: فلسطين.
ثالثاً: أول شهيدة في الإسلام.
رابعاًً: محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
خامساً: الهجرة.
سادساً: أبو عبيدة رضي الله عنه أمين هذه الأمة، لأنه ذهب مع وفد نجران بعد أن قال فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {هذا أمين هذه الأمة} وذلك أن وفد نجران طلبوا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلاً أميناً، والذي يقرأ القصة يتعجب من حذفها.
سابعاً: "كيف ضاعت الأندلس؟ " أُلغي هذا الموضوع، لأنهم يريدون القضاء على الأمة كلها, ولا يتفق هذا مع تذكير الناس بضياع الأندلس , وهم يريدون إلغاء قضية البوسنة وكشمير والفلبين وإرتيريا , والصومال إلخ، يريدون إلغاء هذه القضايا من أذهان الناس.
ثامناً: معركة القادسية: هذه المعركة ألغيت، لأننا نريد تحسين العلاقة مع الروافض.
تاسعاً: {فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} [الكهف:13]، التي هي صور من غزوة بدر: حذفت لأن لها علاقة بالجهاد والشرك والمشركين.
عاشراً: معركة اليرموك: حذفت أيضاً، لكيلا يغضب الروم والنظام الدولي الجديد، وهم أحبابنا وأسيادنا، فلا داعي لذكر اليرموك، رحمهم الله ورحم الله من قادها! الحادي عشر: أحمد بن حنبل: حذفت سيرته لما فيها من ذكر السنة والبدعة وخلق القرآن، ومقاومة الظلم، والصبر على أذى السلاطين, ولا داعي له , فيحذف حتى لا يفسد عقول الشباب.
الثاني عشر: إمام الدعوة محمد بن عبد الوهاب حذفت سيرته إرضاءً لمن يقول: إن الوهابية يكفرون المسلمين، وإرضاءً للشيعة والصوفية وكثير من الطوائف التي لا يعجبها ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
كما أن الروافض قبحهم الله يقولون: إن أولادنا لا يستطيعون دراسة مقرر الثانوية لوجود الصحابة, فحتى لا يتخلف أبناؤهم عن المدارس، أُلغي ذكر الصحابة وعلماء أهل السنة.
الثالث عشر: الكتاب الذي كتبه الشيخ صالح الفوزان , أُلغي كاملاً لأن الرافضة لا يريدون ذلك, والصوفية تريد الموالد وما يتعلق بها, وهكذا نقطع ديننا, حتى تبقى مقررات المواد الدينية مجرد توجيهات وآداب عامة, ليرضى بها الدرزي والنصيري والرافضي والصوفي والبدعي, ولو أن أهل السنة تخلف أبناؤهم لقالوا: هذا إضراب، وطبق عليهم خمسة عشر سنة سجن، فالكيل بمكيالين ليس فقط عند النظام الدولي الجديد, وإنما أيضاً في التعامل مع أهل السنة , وأهل البدع, والخارجين عن عقيدة أهل السنة والجماعة.
الرابع عشر: حطين: أيضاً حذفت, فلا داعي لـ صلاح الدين ولا لـ حطين , ولا لتذكير الناس بأن فلسطين أرض إسلامية, وأنا ضحيّنا مراراً من أجلها.
الخامس عشر: موضوع القدس عاصمة فلسطين: حذف أيضاً لأنها يمكن أن تصير عاصمة لإسرائيل, والسفارة الأمريكية تنتقل إليها, لا حرج في أن تبقى القدس عاصمة لإسرائيل.
في كتاب النصوص, أيضاً أربعة نصوص عن فلسطين , هي (من -أمين- لاجئ)، و (صرخة في أرض المسجد الأقصى) , و (الشهيد) , وهكذا نرى أنه حتى الأشعار التي تتعلق بالمسجد الأقصى, وبـ القدس وصلتها هذه الأيادي, ولا حول ولا قوة إلا بالله.(88/9)
مقرر التوحيد للسنة الثالثة المتوسط
حذف من المنهج من (95 - 110) وحذف "موقف العقيدة الإسلامية من التيارات والمذاهب الفكرية الحديثة" لأن هذا الكلام يغضب البعثيين والقوميين والاشتراكيين والعلمانيين والحداثيين, فهم لا يريدون هذا الكلام, أيكون الأب حداثياً، وولده يدرس موقف العقيدة الإسلامية من التيارات الفكرية الحديثة؟! فحتى يوفقوا بين ما يهوونه وما يدرسونه قاموا بإلغائها.
كما ألغي موضوع "نظرة الإسلام إلى الوجود" و"ثروة الشريعة الإسلامية" و"ضرورة تحكيم الشريعة الإسلامية في جميع شئون الحياة".
فكأنهم يقولون: يكفي بعض الجوانب, أما كلها فهذا تطرف.
وحذفت "أساليب الدعوة الحديثة" وموضوع "إعداد الطالب روحياً وفكرياً واجتماعياً ليكون قدوة حسنة".
وحذف موضوع "سماحة الإسلام" ويُسر تعاليمه وأسئلة على الموضوعات, "ونبذة عن العقيدة الإسلامية" كل هذه الموضوعات حذفت, في مقرر التوحيد للسنة الثالثة المتوسط, ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وأنا -أيها الإخوة- لم أذكر إلا جزءاً، ولذلك فإن علينا مسئولية كبيرة لا نعفى عنها, لا في الدنيا, ولا بين يدي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, بل ربما يحاسبنا عليها أبناؤنا أنفسهم في هذه الدنيا، ويسألوننا: لماذا لم ننكر هذا؟ فعلى كل واحد منا أن يكتب ويقدم، وتصوروا لو أن كل أب غيور, سأل أبناءه وتأكد ولاحظ ما قلته، وقارن بين منهج هذه السنة ومنهج السنة الماضي وكتب , فلا شك أن يتغير المنهج ويعود إلى الأصل الصحيح, بل يزاد فيه, فإذا كان الروافض طالبوا واستجيب لهم بالباطل, فيجب أن تطالبوا أنتم ويستجاب لكم بالحق, فهذه أمانة عظيمة أنا ألقيها في أعناقكم, وأنتم آباء وأنتم مدرسون، وأن كل واحد منا يتنبه لأبنائه, وهذه أمانة عظيمة, وليس هذا المنكر مثل أي منكر أو مثل أية حادثة عابرة، ليس كحفلة فيها اختلاط, ولا كصورة عليها صليب, بل إنها أكبر من ذلك بكثير.
إنها أجيال كاملة تتربى على غير وضوح في العقيدة, وعلى غير فهم للتوحيد, وعلى غير معرفة لأحكام دينها الأساسية.
إن ذلك تقليص لدينها وإضافة لمواد أخرى لا تنفعها جيل بأكمله, قد ينصر فيما بعد, قد يُرفَّض قد يصوّف! وهذه قضية خطيرة, أخطر من أية قضية أخرى قد تتصورونها, لعلاقتها الأساسية والمباشرة بتوحيد الله وهو أساس كل شيء، وبالعقيدة وبالأحكام الأساسية في حياة الإنسان المسلم.
فلا بد من الإنكار من الجميع كلُّ بحسبه, وبالأسلوب الذي يستطيع, وليكن الإنكار في الصحف, وأنا أشكر الإخوة الذين كتبوا وأعطوني صوراً من مقالات ذكرت في الصحف سواءً نشرتها الصحف أم لم تنشرها, لكن اكتبوا وأكثروا على الصحف, وسوف ترون أثر ذلك -إن شاء الله- بل إن بعضها قد نشر.
وحتى لو قالوا: نحذف بعض المنهج فلماذا الحذف؟ ولماذا يعاد كل سنة طبعات جديدة بملايين الريالات؟ لماذا يريدون هذا التخفيف على الطلاب؟ حتى يتفرغوا لمتابعة الكرة والبث المباشر واللهو! أو أننا نريد أمة عالمة بدينها, غير جاهلة ولا مجهلة.
ولم نستوعب كل التعديلات.
فهذا أحد المعلمين يقول: إن هناك حذفاً في التاريخ، وهذا يدل على أن الإخوة المعلمين لديهم شعور بأن هذا الموضوع في غاية الحساسية والخطورة والأهمية, ويقول: لا يكفيني مجرد كلام عابر، بل لا بد من رصد لهذه الحركات, ووضع البرامج اللازمة لمقاومة ذلك.
والمعلم يستطيع أن يُدرك أكثر من غيره الفروق بين المنهج القديم الذي لم يُلغَ والذي ألغي, ويستطيع أن يبرئ ذمته بأن يعطي كل طالب من طلابه بياناً بذلك، ويوضح لهم حتى يستنكر آباؤهم, ولا يكن همَّ المعلمين أن يأخذ الراتب، فلن تنفعنا هذه الرواتب وهذه المناصب وهذه الدنيا إن كنا نضحي بديننا.
يا أخي! أخبر كل طالب بأن عليه أن يحدث أباه أن المناهج قد حذفت وقد غيرت, لعل أباه يتصرف.
يجب علينا جميعاًَ أن نتعاون في هذا وأن نطالب، والحمد لله أن الموضوع سبق فيه مطالبة, ونحن إن طالبنا نحركها, وتقدم بعض الغيورين إلى سماحة الشيخ عبد العزيز وإلى هيئة كبار العلماء, وطالبوا بأن تبقى المناهج، بل أن تزاد وتقوى من الناحية الإسلامية, فمطالبتنا تزيد الموضوع قوة وتحريكاً , أي: أن الموضوع من قبل قد طولب به, ومن المنطقة الغربية لا أظن أن أحداً سبق أن تحرك وتكلم, فلذلك نستعرض لكم هذا لنقوم بواجبنا أسوة بإخواننا في المناطق الأخرى, جزاهم الله خيراًَ.(88/10)
بيان الاتحاد الإسلامي الصومالي
هذا بيان إخوانكم في الاتحاد الإسلامي الصومالي، مكتب العلاقات الخارجية والإعلام أرسلوه إلى بعض الصحف، وأكثرها لم يستجب لهم, وكذلك بعض الإذاعات العالمية المشبوهة, مثل: لندن، ومونتكارلو، وأشباهها, لم تستجب لهم ومن واجبنا جميعاً أن نبلغه للأمة يقول الإخوة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده, وبعد البيان رقم (13) بتاريخ: 7/ 6/ 1413 هـ , 1/ 12/ 1992م وبعد: فقد تناقلت وكالات الأنباء خبر التدخل العسكري الأمريكي في الصومال بقوات قوامها (30.
000) جندي تحت غطاء هش باسم الأمم المتحدة بحجة حماية الإمدادات الإغاثية وترحيل أطراف صومالية, بهذا التدخل العسكري الأمريكي الواضح, بالرغم من أننا نتألم من معاناة شعبنا وبلدنا من جراء هذه الحرب المفروضة عليه من قبل أولئك الذين فقدوا كل إحساس بالمسئولية, والذين أوصلوا الشعب إلى هذه الدرجة من الإحباط واليأس, إلا أننا نرى أن هذا التدخل العسكري الأجنبي لا يحمل أي حل لمشكلة الصومال وإنما سيسبب لنا ضرراً دينياً جسيماً للأجيال الحاضرة والقادمة, تهون دونه الأنفس والأموال، والفتنة أشد من القتل, ونود أن نشير إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تتحفظ باستمرار منذ بداية الأزمة من تدخل الأمم المتحدة في القضية, كلنا كنا نسمع هذا، فقد كانت أمريكا لا تريد أن تتدخل الأمم المتحدة في قضية الصومال , عندما كان الشعب الصومالي يتعرض للإبادة والتشريد, وكانت الأوضاع أسوأ مما هي عليه الآن, ولم تتحرك إنسانية الإدارة الأمريكية في ذلك الوقت, لذلك فإن التغير الأمريكي المفاجئ، وبهذا الحجم الكبير من القوة العسكرية يثير الشكوك, لا سيما أنه جاء بعد حملة إعلامية مضخمة في الإعلام الغربي حول ما سموه الأصولية المتنامية في الصومال كما في الواشنطن بوست، والهردزسرديون، والجارديان , وبعض وكالات التلفزة إلخ.
كذلك فإن المعلومات التي ذكرتها الأمم المتحدة ما بين (70 - 80%) من إمدادات الإغاثة تتعرض للنهب, هي معلومات مضللة, حسب تعبير منظمات إغاثية دولية -في الجارديان - وإنما جاءت هذه المعلومات المضللة وغيرها من الممهدات الإعلامية, من أجل تبرير الغزو الأمريكي المشبوه, لذلك يعلن الاتحاد الإسلامي الصومالي , رفضه القاطع لهذا التدخل الأمريكي الصارخ, ويعتبره غزواً لدولة مستقلة وانتهاكاً صريحاً لسيادة أمة, ويُحذر الإدارة الأمريكية من عواقب هذا الغزو.
وإنا ندعو الشعب الصومالي المسلم إلى اليقظة والانتباه للأضرار الدينية والاجتماعية الجسيمة التي تترتب على الاحتلال الأمريكي, وندعوه أن يفوت الفرصة على عدوه، ويدرك أن الحل الصحيح يكمن في الأخذ بأيدي السفهاء وحل مشاكلهم, وفقاً لكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59].
ونناشد إخواننا المسلمين في كل مكان, أن يقفوا مع الشعب الصومالي المسلم في محنته هذه؛ {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40].
الاتحاد الإسلامي الصومالي.
مكتب العلاقات الخارجية والإعلام.(88/11)
التعليق على تقرير الاتحاد الإسلامي الصومالي
قضية الصومال ليست خافية عليكم, ونحتاج أن نتحدث بإيجاز عن جذورها وعن أهدافها.
أولاً: الله تبارك وتعالى له سنن: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَن} [آل عمران:137]، أي: سنن ربانية: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] وما ينزل بـ الصومال , وبغيرها من البلدان لا بد أن وراءه أسباباً وفقاً للسنن الربانية, فهذا المجرم الطاغية زياد بري ومن معه عاثوا في الأرض الفساد, قتَّلوا العلماء وشردوهم, كمموا أفواه الدعاة, أغلقوا المساجد, منعوا المناهج الإسلامية, والأشرطة الإسلامية, وعملوا كل جهد للقضاء على الدعوة, وكانت استخباراتهم ورجال أمنهم همّها الأكبر القضاء على الدعوة الإسلامية, وكان الشعب -إلا القليل- في غفلة عن هذا كله, ولا يبالي، ولا يهمه، ولم يثأر لدعوته، ولعقيدته ولعلمائه.
لم يناصح الظالمين المجرمين، زياد بري ومن معه، ولم يأخذوا على أيديهم، بل سكتوا, وانشغلوا باللهث وراء الطعام والشراب, حتى جاءت هذه الكارثة عقوبة للجميع, عوقبت الحكومة الكافرة التي لم تحكم بما أنزل الله, وعوقب شيوخها وعلماؤها، ومنهم وزير الأوقاف وغيره, الذين كانوا لا يصرحون إلا ضد الشباب المسلم، ولا يتكلمون عن غيرهم, ذهبوا مع تلك الدولة الظالمة, وعوقب الدعاة لأنهم لم يقوموا بالواجب الشرعي من بيان الحق والدعوة إليه, وإنما قام به بعض قليل منهم، لم يكن يكفي على مستوى الأمة, وعوقب الشعب الذي سكت, حين رأى الدعوة انتهت، ورأى العقيدة تضمحل وتدمر, وآثر الدنيا على الآخرة, عوقب بهذا التشريد وهذا الجوع.
لا يعني هذا أننا نتشفى، معاذ الله! ولكنها سنة الله لتتذكر بها الأمم جميعاً, وأن ما حل بهم يمكن أن يحل بغيرهم, فالسنة جارية على الجميع, فلما فعلوا ذلك نالهم ما نالوا من هذا العذاب, نالهم الكيد الذي لم يحل بينه وبينهم التقوى والصبر، قال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] فالكيد الصليبي تآمر عليهم, الحبشة من جهة, والصليبيون من كينيا وغيرها من جهة أخرى.(88/12)
أهداف أمريكا من هذا الغزو
أمريكا تقول: إننا ما جئنا غازين, إنما جئنا من أجل عمل إنساني, ومن أجل إمدادات الأغذية, والسؤال الواضح الذي قاله جميع الصحفيين في الشرق والغرب وكل المراقبين والمحللين، أين أنتم من إمدادات سراييفو؟ وهي عاصمة أوروبية في قلب القارة المتحضرة, التي علمت الناس -كما تزعمون- الإنسانية؟! عاصمة دولة أنتم اعترفتم بها في مجلس الأمن الأمريكي، ومع ذلك لا يصلها الطعام, وهؤلاء الوحوش يبقرون بطون الأمهات, ويشوهون الأولاد، وينتهكون الأعراض, ويقتلون الشيخ الطاعن في السن بالفأس, وبالخناجر وبأنواع الأذى, ترون هذا ولم ترسلوا جندياً واحداً, ولم توصلوا أية إمدادات إلى سراييفو , أما الصومال فليست القضية قضية إمدادات, ولا قضية حرب خارجية أو اعتداء خارجي, بل هي فتنة داخلية, والأصل في الفتن الداخلية ألِّا يقع تدخل مع أحد من الأطراف, وما دامت منظمات الإغاثة تقول: نحن نقوم بأعمالنا فمن الطبيعي في الفتنة أن يتعرضوا لشيء من الأذى, لكن أن تترك عدواً معتدياً غازياً وحشياً بمثل وحشية الصرب يعبث ويفعل ما يشاء، وتذهب إلى دولة أخرى وتنزل هذا العدد الكبير, فهذا الغطاء الإنساني كذب وافتراء, ولا ينطلي إلا على أسذج خلق الله.
أما في الحقيقة فلها عدة أهداف, هدفها الأول: تحقيق استراتيجيات وضعت من قبل للتحكم والسيطرة على منابع الثروة من النفط والغاز الطبيعي وغيره, فالعالم كله يحتاج هذه المنطقة, وأهم منطقة في العالم من ناحية الثروة بعد الخليج , هي منطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر الذي يربط البحر الأبيض المتوسط بـ المحيط الهندي , لأن خطوط الملاحة العالمية المهمة والثروات جميعاً تمر بها، فهي منطقة مهمة جداً.
والثاني: وهو جزء من الأول أو تابع له: إثبات الوجود الأمريكي في ظل غياب القوة السوفييتية، فمنذُ مدة وأمريكا تتطلع إلى قاعدة لها في الصومال , وكان الروس هم الذين يمنعونها، وقد سبقوها إلى ذلك، وعندما كانت عدن موالية للشيوعيين في أيام الاتحاد السوفيتي في وقته, وكذلك الصومال، وكان هذا أحرج وضع مر بـ أمريكا من ناحية السيطرة على هذه المناطق, ثم بعد ذلك استمالوا الصومال وبقيت عدن مع الروس, وخف الأمر عليهم، ولكنهم الآن يبنون ما يشاءون ويسيطرون كما يشاءون بلا حسيب ولا رقيب؛ لأن القوة المنافسة غير موجودة, أما دول العالم الإسلامي فإنها لن تفعل شيئاً غير الاجتماعات الطويلة، والنداءات المتكررة وبعد الموت، وبعد المذابح يجتمعون، ويصدرون توصية أو قرار مطالبة للأمم المتحدة, فلا يحسب حساب لهذه القوة أصلاً.
وأما جامعة الدول العربية -والصومال عضو فيها- فلا أحد يحسب حسابها، لم تحل مشاكل العرب حتى تحل مشاكل الصومال , ولا يمكن أن ترسل جيشاً، ولا يمكن أن تتدخل.
فهي إذاً فرصة لهيمنة أمريكا وإثبات أنها شرطي العالم الذي يؤدب من يشاء كما يشاء، ويدع من يشاء يقتل كما يشاء, لأنه شرطي مجرم في نفس الوقت, وليس شرطياً عادياً, فهو يتحكم بإجرامه في هذا الكون ليفرض سيطرته كما يشاء.
الثالث: المحافظة على أمن إسرائيل من جميع النواحي, فإسرائيل مثل ما قال أحمد شوقي قال:
إن للظالم بطناً يشتكي من غير علة
الظالم دائماً بطنه يوجعه, مع أنه لا علة به؛ لأنه يريد أن يأكل أموال الناس, فإسرائيل تقول: باب المندب خطير, كيف لو أغلقوه؟ من أين أحصل على إمدادات من بعض الأشياء؟ والقناة مهمة لا بد أن نفتحها, وجبل طارق مهم بالنسبة لإسرائيل لا بد يكون فيه كذا, وألمانيا النازية لا بد أن نتحارب فيها, ومقابر اليهود في باريس لا أحد يتعرض لها, واليهودي الفلاني في نيويورك لا أحد يتكلم عليه، العالم كله يشتكي بطنه من مشاكل اليهود في جميع أنحاء العالم, لأنها تريد أن تلتهم المنطقة كلها كما تشاء، وأن يكون لها فيها قواعد، وتريد باسم علم الجيش أمريكي أو الأمم المتحدة الأمريكية أو الأمم المتحدة اليهودية سموها كما شئتم فلا فرق حقيقة أن تسيطر على المنطقة بأكملها, وتصبح السيدة الأولى فيها، وتتحكم في ثرواتها وفي مستقبل أجيالها كما تشاء.
الرابع: ظهرت حركات جهادية؛ ففي إرتيريا حركة جهادية, وفي أوجادين حركة جهادية, في الصومال حركة سلفية دعوية, وهي حركة سلفية إسلامية نقية أصيلة وتنتمي إليها كل القبائل, وليست حزبية طائفية, والنصارى في الحبشة محصورون, فهم أقلية في الحبشة وفي السودان , وهذا خطر كبير بالنسبة للغرب, يكاد النصارى يخرجون نهائياً من جنوب السودان , والسودان فيه نظام أصولي, كما يعبرون بالمصطلح الغربي، فهم يريدون أن يرغموا هذه القوى الجهادية وهذا النظام الأصولي, ويضربوها بجيش أمريكي مباشر, بحيث لا يستطيع أحد أن يرفع رأسه داخل الصومال.
ومع وجود السلاح في أيدي المجاهدين فيمكن أن تتحول إلى أفغانستان ثانية، خاصة أوجادين , ولو اتحد المجاهدون في الصومال وفي إرتيريا , لتقوّضت النصرانية بشرق إفريقيا بأكمله, وهذا لا يريده الغرب أبداً أن تصبح من الصومال إلى الحبشة إلى السودان إلى تشاد إلى مالي إلى المحيط الأطلسي منطقة إسلامية, لا يمكن أن يقرّ الصليبيون العالميون هذا أبداً.
فهم يخافون من هذا الخطر, ولذلك هم يريدون أن يوجدوا قوة مباشرة ترغم السودان للخضوع لهم, وتقوّي بشكل مباشر أو غير مباشر النصارى في جنوب السودان وفي كينيا، وتجهض أي محاولة جهادية إسلامية في هذه الدول, هذه كلها مصالح تريد أمريكا تحقيقها.
ولا يعني ذلك أن أمريكا تريد أن تحتل الصومال إلى الأبد, فهذا خطأ دائماً نقع فيه.
يظن الناس أن الاحتلال معناه وجود قوة مباشرة ودائمة، وهذا غير صحيح، فالقوة إذا حققت أهدافها يبقى منها ما يكفي لتحقيق باقي الهدف، وينسحب الباقي.
أي: إذا انتهت المهمة تقول أمريكا: الآن الإمدادات أصبحت تصل، والقضية الإنسانية انحلت، فنرجع أبناءنا، وانتهى الموضوع, وهو لم ينته.
هل تصدقون أن أمريكا تريق قطرة دم جندي أمريكي واحد من أجل غرض إنساني فقط, ليس لها فيه أية مصلحة؟! هذا مستحيل, المائتين وأربعين أو مائتين وخمسين في بيروت المارينز الذين قتلوا أحدثوا ضجة هائلة في أمريكا كلها, فكيف لو حدث هذا للأربعين ألف أو أكثر؟ فهم لا يعملون هذا إلا على استراتيجية بعيدة.
والغرض منه بالنسبة لنا من الناحية الإسلامية ومن الناحية العقدية، هو تقوية شوكة الصليبية في قلب العالم الإسلامي, فـ الصومال كل سكانها مسلمون، فعندما تنزل هذه الجيوش بنصرانيتها، وقد كانوا يشتكون من هيئات الإغاثة الصليبية, فكيف ستتحول إذا كان جيشاً صليبياً؟ كم سيرحل من أناس؟ وكم سَيُنصّر من أناس؟ إلى أي مدى ستتغير التركيبة الاجتماعية بالفساد والمخدرات والدعارة التي يحملها الجيش الأمريكي معه أينما نزل وحيثما ما حلّ؟ لا بد أن اختلالاً كبيراً يقع -على الأقل في أذهان الناس- وهذه منطقة مهمة جداً يمكن أن تكون رديفاً وسنداً لهذه الجزيرة - جزيرة العرب - التي هي جزيرة الإسلام.
ولا ننسى أن هذه بادرة قد يتبعها بوادر أخرى, فلو أن اليمن -وهي أقرب مثال- ساءت الأحوال فيها, والأحزاب متناحرة مثل: الصومال، وهم قبائل مثل الصومال , فما الذي سوف يحدث؟ ما دامت أمريكا ضبطت الصومال -والله يجزي المحسنين خيراً- وأحسنت إليهم واستقرت الأوضاع, ووصلت الإمدادات, فيمكن أن يتحججوا بأن اليمن فيها فتنة، فأفضل شيء أن ينتقلوا من الصومال إلى اليمن , فهي قريبة, والمبدأ قد أقر وهكذا, وهذا يمكن أن يقع، ونقول كلاماً للمسلمين عامة وفي أي مكان: الخلاف شر، والفرقة والفتنة شر, يتسبب عنه مثل هذا التدخل، والحل هو بالالتفاف حول علماء الأمة، فإنه لا يجمع الأمة إلا علماؤها.
أما إذا تحولت إلى فصائل قبلية فلن تجتمع أبداً, فها هو زياد بري يحارب عيديد، وعيديد يحارب فلاناً، وفلان يحارب فلاناً, لكن إذا التفت الأمة حول العلماء فإنهم سوف يجمعون الأمة، ولذلك قلت: إن علماء الصومال للأسف تخلوا عن دورهم وعن واجبهم, فبعضهم خرج من البلاد, وبعضهم سار في ركب السلطة, والذي على الحق وقال كلمة الحق أودع السجن, أو منعت كتبه وأشرطته من الانتشار, وسكت الناس, فكانت هذه العقوبة.
فالذي يجمع الأمة هم العلماء, ولهذا يجب أن يكون للعلماء مواقف خالصة مخلصة متجردة ناصحة, يقولون كلمة الحق ولا يخافون في الله لومة لائم, ويقفون موقفاً قوياً وسداً منيعاً في وجه دعاة الفرقة والضلالة والبدعة والشرك والانحلال, وكل نوع مما حرم الله تبارك وتعالى مما يمكن أن يؤدي إلى تدمير الأمة وإلى تفكيكها.
فإذا لم يقم العلماء بهذا الواجب, فتوقع للأمة أن تنهار، ويمكن أن تقسم وأن تجزأ، فلن تجمعها أية رابطة إذا لم يجتمع علماؤها, هذه قاعدة, طبقوها وجربوها في أية دولة أو في أي مكان.(88/13)
أعياد الميلاد
أما ما يتعلق بعيد الميلاد، فإن الإخوة يشيرون إلى ضرورة التنبه إلى نشر الفتاوى والأشرطة بخصوص ذلك ومحاربته، فهو قريب, وأنبه إلى شيء مهم, وهو أن بعض الشركات تقيم احتفالات وهمية، وجوائز للمتفوقين في الوظيفة, وتخفيضات عامة, ومباريات ومسابقات، ويكون تاريخها مطابقاً لتاريخ احتفالات النصارى, فتوقد الأنوار ويحضر الحفل والكيك والأكل والمشروبات والرقص, ويقولون هذا بمناسبة كذا , وليس لغرض عيد الميلاد.
ولعلنا -إن شاء الله- نحرر كتاباً بهذا الشأن.
ومن ذلك هذه الشركة (برنتان العمودي) فإنها أقامت احتفالات لقسم العطورات وقسم الملابس وقسم الأدوات, بالبطاقات، وتاريخها مطابق لتاريخ احتفالات النصرانية.
ومن الغريب أن تجد فوق ظرف الدعوة، إما صورة بيت عربي أو صورة سوق مثل سوق جدة القديم أو صورة عرب راكبين بعيراً قبل الحضارة الأمريكية, ثم تفتح وتقرأ، وإذا فيه "أطيب التهاني وكل عام وأنتم بخير"، وهذه حيلة منهم، وبعد أن تشتري يقول لك: هذا تراث وطني, وهذه ذكريات شعبية, وهذا في الحقيقة كما يقال: في الظاهر مسجد وفي الداخل بيوت غريبة! فهم يحتالون علينا، وهذه كلها مما يجب أن تحارب.
ومن الاحتيال ما يفعله صاحب شركة (أرامكو) فهم في ينبع عملوا حيلة أن الأرامكيين كما سموهم هم فقط الذين يأتون الحفل، ولا يعلنون الموضوع ولا يدعون أحداً غيرهم, وهذا نوع من أنواع الحيلة حتى لا يعلم رجال الحسبة -المطاوعة كما يسمونهم- فيقيمون هذا الحفل على الخط السريع, وقد تحدثنا عنه، ولما ذهب بعض أهل الخير لينكروا هذا المنكر، وإذا بهم يقولون: عندنا تصريح سنستمر في الحفل، وإذا تكلمتم فسوف نستدعي رجال الأمن, فعادوا مكسورين، فهم يخافون من هذا, نسأل الله العافية.
لكن لابد أن نبرئ الذمة, وليس شرطاً أن ينتهي المنكر إذا برأنا الذمة وحاولنا، فالإثم على من أقر هذا, وأعطى التصريح به.(88/14)
نموذج من التعصب الصليبي
يذكر أحد الإخوة أن في فرنسا ستة من كتب الشيخ ديدات -حفظه الله- منعت من دخول فرنسا رسمياً, وبقرار من وزارة الداخلية, وهذا نموذج للتعصب الصليبي الحاقد من بلاد الحرية والانفتاح والديمقراطية.
ويقول: لكن الله دائماً لهم بالمرصاد, فقد تسلمت بالأمس كتاباً وضعته باحثة فرنسية اسمها آني غرين , عن الشيخ واسمه " أحمد ديدات رجل ورسالة " وقد حررته المرأة بصفتها مسيحية نصرانية كاثوليكية، وفيه تدعو النصارى جميعاً إلى أن الله واحد لا شريك له، وأن المسيح نبي وليس إله.
سبحان الله! كلما منعوا هذا الدين فتح الله عز وجل له وسائل جديدة, فمن فضل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يصدر هذا الكتاب من فرنسا , ولكن هذا ليس بعجيب إذا علمنا أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد تكفَّل بإظهار دينه ولو كره المشركون.
ومن فضل الله تبارك وتعالى أن عدداً كبيراً من السوبر ماركات -كما تسمى- ومنها سلة العائلة في حي الجمران جوار مركز الجمجوم, قد امتنع عن السجائر والتدخين والحمد لله، وكذلك مركز الخضر وغيرها.
ونرجو من الإخوة تشجيع هؤلاء وحثهم على الخطوة التالية, وهي خطوة ترك بيع المجلات.(88/15)
الجرائد النصرانية
جريدة الحياة مع أنها الآن أصبحت محسوبة على أنها جريدة سعودية- تنشر تعازي النصارى ولا غرابة، فقد نشرتها جريدة الشرق الأوسط لكن يوجد كلمة من الإنجيل: 'من آمن به وإن مات فسيحيا' ثم يذكرون فقيدهم الغالي, أي: فلان وفلان وفلان، ينعون فقيدهم الغالي المرحوم! يطلقون عليه أنه مرحوم مع أنه من أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار، لقوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72] وإن لم تكن جريدة سعودية بالكامل فإن أكبر سوق لها هو هذه البلاد, فلو كُتِبَ لها وأُنذِرَتْ وحُذِّرَتْ وقيل لها: ما دمت تنشرين مثل هذه, فلن يشتريك مسلم، فعندها لن يحدث مثل هذا, تتحدانا في ديننا ونحن أحياء ونشتريها وتدخل كل بقالة, ومكتبة, وكل بيت تقريباً.(88/16)
التحذير من أعمال التنصير
ويذكر أحد الإخوة قصة عجيبة، وهي أن رجلاً ينتمي -مع الأسف- إلى البلاد التي بارك الله فيها للعالمين, إلى فلسطين , وهو في حي (الثغر)، ويقوم بأعمال الدعوة إلى التنصير, ولا أطيل في ذكر الموضوع، إنما أنبه الإخوة إلى أن هذه الجهود تتخذ أشكالاً غريبة، حتى إن الرجل يسكن في غرفة قديمة، ولكن مع ذلك يتدخل في قضايا في السفارة الأمريكية, وكما ذكر الأخ -ويحلف أنه متأكد من هذا- وهذا يدل أن للتنصير علاقات خفية ومريبة وإنه يثبت جذوره في هذه البلاد.(88/17)
الاعتراض على سنة النبي صلى الله عليه وسلم
من الاعتراض على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ينشر صيدلي في إحدى الصحف في عكاظ , ويقول: "الحبة السوداء لا تصلح علاجاً إلا للسعال"! وربما يأتي طبيب آخر ويقول: الحبة السوداء لا تصلح علاجاً حتى للسعال, ولا تصلح لأي شيء؟ فهم يكذِّبون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي قال: {الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا الموت} ثم يقول: لا تصلح إلا للسعال, والثاني يقول: لا تصلح حتى للسعال, والله تعالى يكذبهم حتى من أقوالهم، وإنما أهلك الأمة نصف فقيه ونصف طبيب, أما المتعقلون فإنهم لا يقولون هذا الكلام, لكن هؤلاء نصف طبيب تخصص في جانب معين.
وصاحب السعلة هذا قال: السعلة ليست شيئاً واحداً! والسعلة هي عبارة عن السل وكذا وكذا, وذكر أدواء كثيرة, فتقول له: ما دامت السعلة ناشئةً عن أدواء كثيرة, والأطباء يقولون: إنها علاج للسعلة, فهي إذن علاج لجميع الأدواء التي تنشئ وتسبب السعلة, وصدق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , هذا الذي نقول، ولو كان عاقلاً لجمع هذا ولاستنتج أنها -فعلاً- كما أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شفاء من كل داء.
والقضية ليست قضية الحبة السوداء, فلسنا ندافع عن الحبة السوداء، نحن ندافع عن سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعترض عليها المعترض, وأن يقدم بين يدي الله ورسوله، وأن يتجرأ عليها، كما تجرأت أيضاً جريدة الشرق الأوسط , عندما كتبت هذا الموضوع: "حلاقة الذقن سلوك حضاري لا يتطلب خبرة سابقة"! فهذا اعتراض على من؟! أين الغيرة على السنة؟! أين الذي يغارون على سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! لماذا لا نتكاتف -جميعاً- في أن تحظر هذه الجريدة من جميع البقالات ومن جميع البيوت حتى تتأدب وتلتزم بمنهج الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(88/18)
إنفاق الأموال في الرياضة
من المؤلمات عنوان كبير في مجلة الرياضة تقول: كيف تشتري الأندية السعوديين اللاعبين الكفرة بمبالغ خيالية.
الأهلي اشترى لاعباً بخمسة وسبعين ألف دولار.
الاتحاد اشترى لاعباً بمائة وأربعين ألف دولار مقدم عقد، وراتب شهري وقدره (9000) تسعة آلاف دولار, أكثر من خمسمائة ألف ريال مقدم عقد, والراتب الشهري أكثر من (34000) وهكذا, أندية كثيرة موجودة لا داعي لذكرها فقط هذه نماذج.
الأمة تحتاج للريال, إخواننا المسلمون في الصومال وفي كشمير وفي البوسنة وفي كل مكان يحتاجون للريال الواحد! أتدرون أن راتب الإنسان في هذه الدول يقدر بعشرة ماركات أو خمسة ماركات؟! والمارك يعادل ريالين أو نحو هذا؛ فهذا المبلغ الذي يُعطى للكرة أو لأي أمر تافه يمكن لو أعطي لجمعية خيرية أن يطعم المئات من الجوعى, والأرامل, واليتامى والمشردين, الذين يريدون أن يعيشوا وأن يقولوا: لا إله إلا الله، وأن يعبدوا الله، فلا يجدون ذلك، والأموال تبذر على اللهو واللعب, وحسبنا الله ونعم الوكيل.(88/19)
تنبيهات(88/20)
التنبيه الأول
بهذه المناسبة أقول: يوجد لدى الهيئات الإسلامية في الصومال مشروع كفالة يتيم في الصومال، ولأن البطاقات لا تكفي فنرجو من كل أخٍ منا أن يهيئ نفسه ومن يستطيع من أسرته بأن يكفلوا ولو يتيماً هناك تحت إشراف هيئات إسلامية معروفة موثوقة, منها ما هو تابع للاتحاد الإسلامي ومنها ما هو تابع لهيئات إسلامية معروفة، فكل واحد منكم يهيئ نفسه أن يكفل ولو يتيماً واحداً علماً بأن كفالة الطفل شهرياً ما يعادل مائة وعشرين ريال, أي ما يعادل ألف وأربعمائة وأربعين ريال سنوياً للطفل الواحد, وهذا أقل ما ينبغي، أن نفعله.(88/21)
التنبيه الثاني
أرجو أن يكون للأخوات الإسهام الأكبر فيه والواجب هو على الجميع وهو: الأخوات المسلمات في شرق إفريقيا , وفي غيرها من المناطق, يحتجن إلى مكائن خياطة, فمكائن الخياطة اليدوية تفيد عدة فوائد أولاً: أن تبعث من هنا مكينة خياطة، ومعها القماش، وهن يفصلن حجاباً ويفصلن ملابس, وتعمل -الأخت- فتجد ما يقيمها وما يكفيها من قوتها وقوت أبنائها, وبدلاً من أن تعطيهم مائة ريال أو مائة وخمسين ريالاً, تعطيهم إياها على شكل آلة، ويستمر المبلغ في العطاء والإنتاج بدلاً من أن يستهلك ويذهب, وهذا المشروع مطروح لدينا؛ ونرجو من كل أخت خاصة، ومن الإخوة جميعاً أن يتبرّع كل واحد منهم بآلتين أو ثلاث أو أربع من آلات الخياطة اليدوية التي لا يتجاوز سعرها مائة وخمسين ريال, بإمكانك أن تتبرع بمكينة ولو مستخدمة أو التبرع بثمنها، وهو في حدود مائة وخمسين ريال كما قدرت, وقد ثبتت فائدتها كما ذكرت لكم في عدة مناطق للأخوات المسلمات الأرامل، أو اللاتي أزواجهن في الجهاد، أو في الدعوة بعيدون عن الوطن والله المستعان.(88/22)
اقتراحات
نتعرض لبعض الاقتراحات المفيدة التي تأتينا سواء ما يتعلق بترجمة الكتاب أو بأي عمل دعوي, كما اقترح الأخ الكريم أن يوضع دروس لتعليم الخطابة للأئمة, ودروس لأصول الفقه.
ا- موضوع ترك الصلاة، ظاهرة تفشت، من الذين ينتظرون خروج الطالبات من المدارس وفي السوق الجنوبي وسوق الحلقة, وسوق الخضار في الشمال, وقد جاءتني عدة كتابات عن ترك الصلاة, وأنه يؤذن المؤذن وتقام الصلاة وكثير منهم لا يصلون نسأل الله يهدينا وإياهم وأن نقوم بواجبنا في ذلك.
ب- والاقتراحات أيضاً استغلال أغلفة الأشرطة وما يبقى منها في نشر وطباعة الدعوة لنشر كتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح , ونشكر الإخوة على هذه الاقتراحات النافعة.
ج- أيضاً الأخ الذي قد كان جمع مالاً من الحرام, وما يزال متبقياً لديه يريد أن يتخلص منه، ويمكن أن تعطيه لنا ونرسله للمجاهدين أو اليتامى هنالك, فتتخلص منه من جهة, وهم في أشد الحاجة إليه من جهة أخرى.
د- الغرفة التجارية قامت مشكورة بإرسال تعميم للفنادق والصالات والمطاعم بعدم وضع إشارة تدل على عيد الميلاد, من الظل أو الشجرة أو غير ذلك.
وكما ذكر الأخ وهو مشكور, كما نشكر الغرفة التجارية، يجب أن نستغل مثل هذه التعميمات، وأن نرى أثرها، وأن نذكر أصحاب هذه الأماكن بها, وهذا واجب علينا جميعاً, ولا نعذر في ذلك والإبلاغ عن المخالفات التي قد تقع من هذا.
هـ- نشكر جمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وخاصة الشيخ فراج العقلا مدير عام الهيئات الغربية, على اهتمامهم بإزالة الحجر الذي في مكة الذي يسمونه (المغضوبة أو المسخوطة) إلى آخره, وهو حجر أصم نحتته الرياح بقدرة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, فاعتقد عامة الناس أنه لامرأة ممسوخة, كما أنه نشروا الخبر أنهم سوف يزيلونه، وقد أزالوه, نسأل الله أن يجزيهم خيراً على ذلك, فإنه بمثل هذه الأمور التي يُظَنُ أنها بسيطة تنتشر الوثنية، وأنا أشكر الإخوة الذين يبذلون جهدهم في إنكار هذه المنكرات وفي بيانها, وجزاهم الله خيراً.
ويقول الأخ: سبق أن تعرضت في درس سابق لموضوع إلغاء الأذان والإقامة في مطارات المملكة , وكان لهذا الموضوع موقعه من الاهتمام عند المسئولين برئاسة الطيران المدني, بعد التحقق والنظر في فتوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله, والاستماع إلى الشريط تم التعميم على جميع مطارات المملكة برفع الأذان والإقامة, في جميع أوقات الصلاة.
هذه فائدة الإنكار وجزاكم الله خيراً, وإنكار المنكر لو لم يكن إلا لبراءة الذمة لكفى ذلك, ونشكر الإخوة في رئاسة الطيران المدني عموماً، فقد أبلغوني بواسطة أحد الإخوة, أنهم جدد وأنه ما كان عندهم علم بهذا القرار, وظنا فيهم وهو كذلك -إن شاء الله- وأن كل مسلم غيور على دينه وعلى شعائر دينه وعلى حرماته يجب عليه هذا.
فلهذا نقول: أنكروا المنكر, ونقول: يا من تتصدون لمن ينكر المنكر، وتقولون: إن هذا إثارة، وإن هذا ضد البلد، اتقوا الله, هؤلاء الناس يقولون: ما علمنا، ويقولون: جزاكم الله خيراً على أنكم ذكّرتمونا, فلماذا تحرمون أنفسكم من هذا الأجر والفضل؛ وتتركون المنكرات تستشري، وتقولون: لا ينبغي ذلك ولا يذكر ذلك, وليس هذا هو المنكر الوحيد الذي غُير, بل والأصل أننا نغيّر المنكر ولكن التذكير واجب من الجميع.
ز- الأخ يقول: إن هناك مسجداً لا يُصَلَّى فيه, كما ذكر الإخوة, وهذا لا يجوز، وإذا كان المسجد معطلاً, فماذا نريد ذنباً أكثر من ذلك؟! قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة:114] , فهذا لا يجوز بأي حال من الأحوال إلا إذا كان هناك عذر معين أو خللٌ فيصَلَّى جماعة في مكان آخر، ويوقف المصنع أثناء الصلاة، ويتم إصلاح المسجد, أما إذا كان غير ذلك فلا يجوز، بل يجب أن ننكره.
الأخ ذكر أيضاً بأنه في المسجد وجد أحد المصاحف التي طبعها المجمع خطأً في ترتيب السور, وكان على الأخ إرفاق هذا المصحف نفسه وينبه إلى ما فيه, وإن شاء الله تكون نسخة واحدة, فالغالب أن ذلك لا يكون في جميع النسخ أو في كثير منها, قد يكون في نفس الدفعة أو في رصّة يمكن أن تكون ألفاً أو ألفين أو عشرة آلاف, فلتتدارك بناءً على معرفة النسخة الموجودة إن شاء الله.
ي- هنا بطاقات تخفيض للزيوت وللمستشفيات ولغيرها, هذه كلها داخلة في القمار, وقد وزعت الفتوى هنا لسماحة الشيخ عبد العزيز , ومن يريد الاستيضاح يمكن أن يطلب الفتوى مرة أخرى, ونرجو الإخوة الذين عندهم الفتوى أن يعلقوها في المساجد, وأن تقام الحجة على هؤلاء.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(88/23)
الدين اتباع وليس ابتداعاً
في هذه المادة افتتح الشيخ الدرس ببيان أهمية اللقاءات الأخوية، ثم تكلم عن مسألة الاتباع، مبيناً وجوب الاتباع وترك الابتداع، وشرح خلال ذلك سورة الفاتحة مبيناً اشتمالها على أنواع التوحيد، ثم تكلم أول شرك وقعت فيه البشرية، وبيّن أن اختلال أحد شرطي العمل الصالح يؤدي إلى عدم قبول هذا العمل، ثم ذكر صوراً لضلال اليهود والنصارى، وبعض الفرق الإسلامية التي شابهتها.(89/1)
أهمية حلقات الذكر
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد،،، فإن خير الكلام كلام الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجعل قلوبنا خاشعةً بما نسمع من آياته، وجوارحنا وأعمالنا تابعةً لما بلغنا عن هدي نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
تنبع أهمية حلقات الذكر من أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بها، وكان يبايع عليها أصحابه الكرام، فإنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قال: {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه} وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الدين النصيحة} هذه الكلمة العظيمة الجامعة، ولذلك لا بد من التناصح، ولا بد من إعلاء ذكر الله تبارك وتعالى، ولا بد من إغاظة أهل البدع والفجور، بأن يجتمع المؤمنون في بيوت الله تبارك وتعالى كما قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:26 - 27].
والإخوة الذين تجمعهم رابطة شهادة أن لا إله إلا الله، والإيمان بالله تبارك وتعالى، وتوحيده، واتباع سنة نبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذه المجالس وحلقات الذكر هي رياضهم، وهي روحهم وريحانهم في هذه الحياة الدنيا، وهي خير البقاع التي يسعى إليها كل مؤمن، ويهفو إليها كل قلب.(89/2)
الدين اتباع وليس ابتداعاً
دين الله الذي أمرنا باتباعه هو دين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دين الإسلام الذي أنزله الله تبارك وتعالى ليمحو به من الأرض كل بدعةٍ ورجسٍ أحدثه المبتدعون، من الشرك والضلالات إلى أقل معصية عُصي الله تبارك وتعالى بها، فهو اتباع وليس ابتداعاً، فما معنى هذا؟ إن الله تبارك وتعالى أنزل في كتابه الكريم آياتٍ في آخر سورة الأنعام، هذه الآيات هي الوصايا العشر، التي قال عبد الله بن مسعود رضي الله تبارك وتعالى عنهما: [[من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي عليها خاتمه -أي التي كأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتبها وختمها، وبعث بها إلى كل واحد منا كأنها رسالة خاصة مختومة من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فليقرأ هذه الآيات: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [الأنعام:151] إلى قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153]]].(89/3)
الأمر بالاتباع وعدم الابتداع في الوصية الخاتمة
هذه الوصايا العشر بدأها الله تبارك وتعالى بالوصية الأولى، وهي الوصية العظمى، وهي توحيد الله وعدم الشرك به سبحانه وتعالى، فهذه أول ما يجب علينا أن نعلمه من ديننا، وأول ما يجب أن نتمسك به، وأول ما يجب أن ندعوا إليه، كما بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذاً إلى اليمن فقال له: {إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله} وفي رواية: {إلى توحيد الله} وفي رواية {إلى عبادة الله} ولا تنافٍ بينها، وكلها روايات صحيحة، فعبادة الله هي توحيده، وهي شهادة أن لا إله إلا الله، فهذا أول ما يجب.
ثم بعد ذلك آخر الوصية التي كأنها وصية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي عليها خاتمه، وهي قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] أي: التمسك بهذا الهدي، والسير عليه، وعدم الالتفات يميناً أو يساراً، فهذه الوصية الخاتمة الأخيرة من الوصايا العشر، وهي التي تضبط كل الوصايا، فكل عملٍ لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لا بد أن يكون وفق ما شرع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} أي مردود على صاحبه، ليس عليه أمرنا بمعنى: أن كل الأعمال تحت هذا الأمر، هي خاضعةٌ لسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهي تحته، وهذا الأمر عليها وفوقها، حاكماً ومهيمناً، فإذا لم يكن أي عملٍ من الأعمال -ابتداءً من التوحيد وانتهاءً بأمور المعاملات وفروع الشريعة- وفق ما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو مردود على صاحبه.(89/4)
سورة الفاتحة وما تضمنته من بيان حقيقة الاتباع
ولكون هذا الدين اتباعاً وليس ابتداعاً ولا يخضع للهوى -لأهميته ولعظم شأنه- جعله الله تبارك وتعالى في كل ركعةٍ من ركعات الصلاة، فكل مسلم يقرأ في كل ركعة من صلاته سورة الفاتحة، التي هي أم القرآن، والتي هي أفضل سورة في كتاب الله تعالى، نقرؤها في كل ركعة من الركعات وجوباً، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من صلى صلاةٍ لم يقرأ فيها فاتحة الكتاب فهي خداج} فهذه فاتحة الكتاب تضمنت هذا المعنى وهو أن الدين اتباع وليس ابتداعاً.
وقد تضمنت سورة الفاتحة أمور التوحيد وأمور الدين، ولو أخذنا بالقسمة التي يقسمها بعض العلماء، وهي أن التوحيد أربعة أقسام: توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الطاعة والاتباع؛ فإنها متضمنة في سورة الفاتحة.
والقسمة هذه قسمة اصطلاحية، ولا مانع أن تكون أربعة أو أن ترد إلى نوعين، فيقال: إن التوحيد على نوعين: توحيد علمي اعتقادي، وهو يشمل توحيد الأسماء والصفات، وتوحيدٌ عمليٌ طلبي، وهو توحيد العبادة، أو ما يسمى بتوحيد الألوهية، ويدخل توحيد الربوبية في ضمن توحيد الأسماء والصفات , وقد تدخل بعض جوانبه في توحيد الألوهية.
والمراد أن التوحيد الذي هو أعظم واجب، والذي هو حق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على العبيد قد تضمنته سورة الفاتحة بأنواعه وبأقسامه، سواءً جعلنا توحيد الطاعة والاتباع قسماً مستقلاً، أو قلنا إن توحيد الطاعة والاتباع هو قسمٌ من توحيد العبادة أو من توحيد الألوهية، فالنتيجة واحدة.
فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر في سورة الفاتحة توحيد الربوبية في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] فهذه الآية تضمنت توحيد الربوبية، ثم قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] وهذا توحيد الأسماء والصفات {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] وهذه تضمنت -بالإضافة إلى أنها من الأسماء والصفات- تضمنت التذكير بأعظم يوم، وبركن عظيم من أركان الإيمان وهو يوم القيامة ويوم الجزاء، الذي فيه تُنصب الموازين وفيه تقبل الأعمال أو ترد، وفيه يكون الناس فريقين: فريق في الجنة، وفريق في السعير.
ثم قال بعد ذلك: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وهذا هو توحيد العبادة وتوحيد الألوهية، وهو إفراد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالعبادة، ولذلك قدم الضمير {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وذلك لحصر العبودية والاستعانة به سبحانه، وذلك مثل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [الملك:29] فهذا هو مضمون ذلك، فعبادة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هي الغاية التي نسعى من أجلها، وهدفنا وغايتنا هي رضا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ورؤية وجه الله الكريم في الجنة -جعلنا الله وإياكم من أهلها- فهذه هي غاية كل مؤمن يعبد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
"إِيَّاكَ نَعْبُدُ" نعبدك وحدك يا رب، نريد وجهك، ونريد أن تجعلنا من أهل الجنة، وأن تمتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم، والنظر إلى وجهه الكريم هو الغاية التي شمر لها الصالحون والسابقون.
ثم قوله تعالى: "وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" فالوسيلة والمعين في هذا الطريق لتحقيق هذه الغاية؛ لا يمكن أن تكون إلا منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فالأمر كله منه وإليه جل شأنه، وليس لنا حول ولا طول في هذا الأمر.
وقد قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في الحديث القدسي: {قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين} فلننظر ما بين النصف الثاني في سؤال العبد عندما يقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7] يجب علينا أن نتدبر كتاب الله، وأن نعي كلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإننا لم نؤمر ولم يفرض علينا أن نردد هذه السورة العظيمة في كل ركعة إلا لحكمة عظمى، وكل كلام الله فيه الحكمة، وفيه العبرة والعظة، فما ظنك بأفضل سورة وهي تردد في كل ركعة من فريضة أو نافلة؟! {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] فهذا هو طلبنا الذي نطلبه من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كل ركعة أن يهدينا الصراط المستقيم، فما هو الصراط المستقيم؟ الصراط المستقيم هو مضمون قولنا إن الدين اتباع، فالصراط المستقيم هو الإسلام، وهو هدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو طاعة الله تبارك وتعالى دون أن يحيد الإنسان عنها لا ذات اليمين ولا ذات الشمال، حتى قال من قال من السلف: إن الصراط المستقيم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما؛ أي الطريق الذي كان عليه أبو بكر وعمر، والسلف الصالح، فإذا قلنا القرآن، أو الإسلام، أو الدين، أو السنة، أو الخلفاء الراشدين، كل ذلك يدخل في أنه هو الصراط المستقيم الذي ندعو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يهدينا إليه.
ولهذا فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثَّل هذه الآية: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153] مثلها عملياً مثل وسائل الإيضاح التي تعرض على الطلبة في المدارس لتتضح لهم بعض المعالم الجغرافية أو الرياضية، خط رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطاً مستقيماً، وخط خطوطاً ذات اليمين وذات الشمال، وقال: هذا هو الصراط، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153] فهذا الصراط هو الإسلام وهو السنة، وهذه الخطوط: هي الأهواء والبدع والضلالات التي كثرت، والتي تكثر في كل زمان ومكان تصديقاً لما قاله الرسول: {افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة.
قيل: يا رسول الله من هي؟ قال: الجماعة} وفي رواية قال: {ما أنا عليه اليوم وأصحابي} وهذه السبل التي على جنبات الصراط هي هذه الفرق والأهواء، وهي الضلالات التي ندعو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجنبنا إياها، وندعوه أن يثبتنا على الصراط المستقيم، وهو اتباع دين محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسنته.(89/5)
الابتداع هو أصل ضلال البشرية
والانحراف عن الصراط واتباع الأهواء والبدع قديم، وهذه الآية نفسها تشير إلى ذلك، فهي تشير إلى أمتين انحرفتا عن الطريق وهما اللتان آتاهما الله الكتاب من قبلنا: اليهود والنصارى.
بل لو رجعنا إلى أبعد من ذلك؛ لوجدنا أن أصل ضلال البشرية جميعاً وانحرافها من التوحيد إلى الشرك كان بسبب الابتداع وعدم الاتباع.
ما وقع الشرك في ذرية آدم إلا بسبب البدع والابتداع واتباع الهوى وتزيين الشيطان، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق أبانا الأول آدم نبياً مفطوراً على التوحيد، وفطر جميع ذريته على التوحيد، أي جعل التوحيد فطرةً في قلب كل إنسان، فجعله يعلم أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو وحده الرب المعبود الذي يطلع على كل شيء، والذي يجب أن يتوجه إليه الإنسان بكل نوع من أنواع العبادة، ولهذا كان كل مولود من آحاد الجنس البشري يولد على الفطرة، ثم بعد ذلك: {فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه} أي أن المجتمع والبيئة والتربية تصرفه عن ذلك.
وهذا تصديق لما قاله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172] هؤلاء ذرية آدم الذين مسح الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على ظهر آدم فكان منه فرقتان سود وبيض وقال تعالى: {هؤلاء للجنة ولا أبالي، وهؤلاء للنار ولا أبالي} وحينئذٍ أخذ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى منهم الميثاق، ويذكر بهذا الميثاق من نسيه يوم القيامة، فيقول: قد أخذت عليك الميثاق وأنت في صلب أبيك ألا تشرك بي شيئاً.(89/6)
أول ضلال وشرك وقعت فيه البشرية
لقد بقيت ذرية آدم على التوحيد كما قال حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنه- عشرة قرون.
وكان في القرن العاشر رجالٌ صالحون عبَّاد، مشهورون بالعبادة، والتقوى، وبالورع، والخشوع، أحبهم الناس وعظموهم وقدَّروهم لعبادتهم ولخشوعهم، واعتقدوا فيهم الخير والولاية والصلاح؛ لما كانوا يرون فيهم من علامات الخير والتقرب إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وقد ذكرهم الله في كتابه وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً، هؤلاء كانوا رجالاً صالحين وعبَّاداً مجتهدين، كانوا قبل قوم نوح في الجيل الأخير الذي انقطع منه التوحيد، ثم وقع الشرك فيمن بعده.
ماذا فعل أتباع هؤلاء القوم لما ماتوا؟ قالوا: إنَّا كنَّا -القول بالمعنى- نتذكر عبادة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بوجود هؤلاء الناس، يذكروننا بالله، ويأمروننا بالمعروف، وينهوننا عن المنكر، فكل ما يقرب إلى الله عز وجل يذكروننا به ونراه متمثلاً فيهم، والآن ماتوا؛ فكيف نتذكر عبادتهم، ونجتهد مثل اجتهادهم ونكون مثلهم في الطاعة؟ جاءهم الشيطان وقال لهم: ما دام هؤلاء قد ماتوا فلو صورتموهم، فتذكرتم عبادة الله تعالى عندما ترون هذه الصور -فكأن الصورة هي تعبير عن الحقيقة المفقودة ومثال لها- إذا رأيتم الصورة كأنكم ترون هذا العبد الصالح: وداً، أو سواعاً، أو يغوث، أو يعوق، أو نسراً، فتعبدون الله وتجتهدون في طاعة الله، مثلما كنتم تجتهدون وتذكرون الله عز وجل إذا رأيتم هؤلاء الأشخاص وهم أحياء -كما كنتم من قبل- ففعلوا ذلك، فصوروهم.
فهل أذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بذلك؟ {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] فعلوا ذلك، ثم جاء الجيل الثاني، ثم الجيل الثالث، وكان الجيل الأول يرونهم فيتذكرونهم، فيعبدون الله عز وجل، لكن بعد ذهاب الجيل الأول ماذا جرى؟ نسخ العلم كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه أي أن العلم يضمحل ويقل مع مرور الزمن، جيلاً بعد جيل حتى يأتي الله تعالى بدعوةٍ جديدة، أو بنبي جديد، وهذا قبل بعثة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان يبعث في كل فترة رسولاً، وفي هذه الأمة يهيئ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كل قرن من يجدد لهذه الأمة أمر دينها.
فجاء الشيطان إلى الأجيال الأخيرة، وقال لها: إن من كانوا قبلكم كانوا يعبدون هذه الأصنام وهذه الصور، فصاروا يعبدونها ويدعونها من دون الله عز وجل ويقولون: إنها تقربنا إلى الله زلفى، ويقولون: نحن أناس ضعفاء، مساكين، وفينا ذنوب، وفينا أخطاء، كيف نتوجه إلى الله؟ كيف نتقرب إلى الله؟ هذا لا يمكن.
وهكذا الشيطان سول لهم وأملى لهم أن: نعبد الله عن طريق هؤلاء الصالحين، فنجعلهم واسطة ووسيلة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، يقربونا إلى الله، فهم شفعاء يشفعون لنا عند الله فعبدوا هذه الصور بهذه الشبهات الشيطانية الكاذبة، عبدوا الصور وعبدوا الأوثان من دون الله، ونُسي توحيد الله، وبعث الله تعالى فيهم نوحاً عليه السلام، وأخذ يدعوهم إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ألف سنة إلا خمسين عاماً، سبحان الله! كانت الأجيال البشرية طويلة العمر، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أقام الحجة عليهم بهذه الأعمار، وبهذه الدهور الطويلة، ومع ذلك ما آمن له إلا قليل، كما ذكر الله تبارك وتعالى، وكان ذلك أول شرك وقع في بني آدم، وبذلك كان نوح عليه السلام أول رسول أرسله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلى الناس ليردهم من الشرك إلى التوحيد.(89/7)
النية الصالحة وحدها لا تكفي في صلاح العمل
الذين صوروا هذه الصور -صور الرجال الصالحين- هل كانت نيتهم الشر؟ هل كانوا يريدون أن يعملوا هذه الأعمال لتدخلهم النار؟ هل عملوها ونصبوها وعظموها ليبتعدوا عن الله، ولينالهم غضب الله عز وجل؟ هذا شيء لم يريدوه مطلقاً كما هو ظاهر في القصة السابقة، ولذلك لا حجة لأي مبتدع، ولا صاحب هوى، أن يقول: ما قصدنا إلا الخير، ونيتنا طيبة، وهدفنا سليم، هذا صحيح، ونحن لا نتكلم عن نياتكم، فيمكن أن تكون نياتكم طيبة، فإن هدف قوم نوح ونيتهم وغرضهم كان سليماً وما كانوا يريدون لأنفسهم أن يكونوا من أصحاب الجحيم، ولا كانوا يقولون: نريد أن نبتدع في الدين؟ بل كان الغرض سليماً، لكن هذا الغرض لمّا كان من عند أنفسهم، ولما كان ابتداعاً لم يتبعوا فيه شرعاً ولا وحياً من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم ينفع ذلك الغرض.
ولهذا لما ننتقل إلى الأمتين -اللتين نستعين الله عز وجل في كل ركعة وفي كل صلاة على ألا يجعلنا كحالهما، وأن يثبنا على الصراط المستقيم، ويجنبنا طريقهما - نجد هذا أيضاً موجوداً بالذات في أمة الضلال: اليهود المغضوب عليهم، خصت الأمة اليهودية بالغضب، كما خصت الأمة النصرانية بالضلال، وكلاهما مشرك، وحكى الله عنهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] كلاهما مشرك بالله عز وجل، وكلاهما كافر ومتوعد بالنار، كما نص على ذلك كتاب الله عز وجل، وكما نص عليه نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا يبلغ أحداً من هاتين الأمتين دين محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فلا يؤمن به؛ إلا كان من أهل النار.
ثم لننظر إلى حال هاتين الأمتين، فبعد سورة الفاتحة تقرءون سورة البقرة في كتاب الله، وهذا الكتاب العظيم يشمل كل الكتب السابقة، ومصدقاً لها، ومهيمناً عليها، وكل خبر جاء في الكتب السابقة، فإن القرآن قد شملها وزاد عليها، والقرآن كله شملته بالجملة سورة الفاتحة، فإذا قرأنا سورة الفاتحة فقد قرأنا مجمل ما في القرآن.(89/8)
أصل الضلال هم اليهود والنصارى
عندما نقرأ سورة البقرة، فإننا نقرأ تفصيل ما قرأنا في سورة الفاتحة، فماذا نجد في سورة البقرة؟ كم فيها من الحديث عن بني إسرائيل! أخبار كثيرة عن بني إسرائيل بنوعيهم: اليهود والنصارى، وإن كان الحديث عن اليهود أكثر، وهنا سؤال هام وهو: لماذا خصت الأمة اليهودية بالغضب؟ ولماذا وكيف عاندوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟.(89/9)
صور من ضلال اليهود
عندما نقرأ قصة اليهود تقشعر منها قلوب المؤمنين، فنجد أن الله -تبارك وتعالى- ينجيهم من فرعون وملئه وقومه، ويهيئ لهم طريقاً في البحر يبساً، بعد أن أدركهم العدو، وقالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] وينجيهم الله تبارك وتعالى ويخرجون إلى البر، ويغرق عدوهم ويهلكه، ماذا قالوا بعد ذلك؟ هل شكروا الله؟ هل استقاموا على دين الله؟ هل اتبعوا رسول الله موسى عليه السلام؟ لا، وجدوا أناساً يعبدون الأصنام، أولئك في مصر يعبدون فرعون، ووجدوا هؤلاء يعبدون أصناماً، فحكى الله عنهم: {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً} [الأعراف:138].
سبحان الله العظيم! أين نعمة الله؟! وأين توحيده؟! وشكره؟! طلبوا إلهاً كما أن لأولئك آلهة.
ثم يذهب موسى عليه السلام ليتلقى التوراة، ويتلقى الألواح من الله عز وجل، ويغيب عنهم أربعين ليلة، ويأتي وإذا بـ السامري الضال قد ابتدع لهم بدعة، وصرفهم من التوحيد إلى الشرك، هذا السامري قبض قبضةً من أثر الرسول، أي: أخذ قبضة من أثر الرسول، وصنع العجل الذهبي، وقال: هذا إلهكم وإله موسى، وصدقه أكثرهم وآمنوا به وعبدوا العجل، وما يزالون إلى اليوم؛ فرقة من اليهود تسمى - السامرة أو السامريون، سبحان الله العظيم يعبدون العجل! وحدثت لهم الأحداث بعد ذلك؛ فقالوا: أرنا الله جهرة، ثم أعطاهم المن والسلوى، فقالوا: لا نريد المن والسلوى، نريد البقل والقثاء والفول والعدس، وعندما أمرهم الله أن يذبحوا بقرة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] أي: خذوا بقرة واذبحوها، أخذوا يتعنتون ويتشرطون، ثم في الأخير: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:71] أخيراً بعد العناد وبعد المشادة ما كادوا يفعلون ذلك.
ولا نريد أن نطيل في الحديث عن هذه الأمة إلا لنأخذ العبرة، إذاً ما هي الصفة التي نلمحها في اليهود؟ أنهم يعصون الله -عز وجل- ويشركون بالله على علم، كما قال علي -رضي الله تعالى عنه-: [[ما جفت أقدامهم من ماء البحر حتى قالوا: {اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138] وما غاب عنهم موسى عليه السلام إلا أربعين ليلة حتى عبدوا العجل!]].
هؤلاء الناس يأمرهم الله عز وجل أن يدخلوا القرية الأرض المقدسة ويعدهم بالنصر؛ فيقولون لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] هذا خذلان! نعوذ بالله من الخذلان، دين الله بين أيديهم، وكليم الله يهديهم ويدعوهم، ولكنهم قومٌ معرضون، فأعرضوا عن علم.
ولهذا قال الإمام الجليل سفيان بن عيينة -رضي الله تعالى عنه- وهي منقولة أيضاً عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حبر هذه الأمة قال: 'من ضل من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن ضل من عبادنا ففيه شبه من النصارى'.
فقولنا {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7] لا نريد الضلال على علم -مثل ضلال اليهود- ولا نريد عبادة الله تعالى بالجهل والضلال عن طريق الجهل وهو عبادة النصارى وطريق النصارى، إنما نريد طريق الذين أنعم الله عليهم، الذين ذكرهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في الآية الأخرى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69] وهذا هو الصراط المستقيم.(89/10)
أهل الكلام شابهوا اليهود في الضلال
وأصحاب الضلال الذين ضلوا عن طريق العلم لهم نموذجٌ في هذه الأمة كثير، فمن أعظم النماذج أصحاب الكلام الذين يسمون علماء الكلام، الذين جعلوا دين الله عز وجل فلسفات وأموراً معقدة وغامضة، وأدخلوا فيه كلام اليونان وقواعدهم المنطقية، وأشباهها من الأمور التي يطلع عليها المختصون، ووصل غبارها إلى العامة أيضاً في كل أمر من الأمور، هؤلاء أشبه شيء بالأمة المغضوب عليها التي عصت الله عز وجل على علم.
وهؤلاء يقولون: إن الدين ليس اتباعاً، فلا نأخذه بالوحي، ويقولون: إن النصوص من الكتاب والسنة لا تفيد اليقين -نعوذ بالله- من أين نأخذ اليقين؟ قالوا: اليقين في القواطع العلمية، وفي البراهين النظرية التي تتفتق عنها عقولهم، أما نصوص الكتاب والسنة فهي ظواهر ظنية، هكذا يقولون وهكذا سول لهم شيطانهم والعياذ بالله.
ونضرب مثالاً فقط ليفهمه الجميع: علو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على خلقه، هل أحد ينكر أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فوق العالمين وفوق العرش؟ كما قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5].
وأوضح من الاستواء: العلو نفسه، الفطرة الموجودة في كل إنسان تشهد أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في العلو، في السماء فوق العالم، فجاء هؤلاء وكابروا الفطرة وجحدوها وأنكروها، وقالوا: البراهين العقلية لا تدل على أنه في السماء، كما أخبر -والعياذ بالله- وردوا كل الآيات وكل الأحاديث، وقالوا: هو لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا عن يمينه ولا عن شماله نسأل الله العافية.
يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية: لو قيل لأحد عرِّف العدم فعرفه بهذا، فقال: لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته ولا يمينه ولا شماله لما كان أتمّ من ذلك، لكن هؤلاء يقولون: هذه هي القواطع والبراهين العقلية.
إذاً فالمتبع لديهم ليس كتاب الله ولا سنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، المتبع هو عقولهم وآراؤهم، ولهذا عاشوا في حيرة عظيمة.
هؤلاء أصحاب العقول وهم كثير في الناس حتى من العامة -إلا من رحم الله- تقول لهم: قال الله وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقول لك: لكن هذا -في عقلي- لا يمكن! في عقلك سبحان الله! وهل أحالنا الله عز وجل للعقول؟! أرسطو وأفلاطون وهؤلاء الذين يأخذون عنهم هذه العقول وغيرهم من الفلاسفة، كانوا موجودين قبل بعثة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أليس كذلك؟ لو أن هؤلاء لديهم الهدى، ولديهم الخير، والحق وسبيل الرشاد، ما احتاج الناس إلى أن يبعث الله تعالى إليهم نبيه محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما وقد بعثه الله وأمر أن نتبعه فإن كل ما عدا شريعته ضلال، مهما كان قائله، لو أن العقول تشرع في دين الله، وتشرع في صفات الله، وتشرع في أمور التوحيد، لكان هذا شرك.
ويقول لك أحد العامة: ليس هذا شرك، وهذا ظاهر بالعقل، فأنا لا أعتقد أن غير الله يؤثر، بل التأثير كله لله، لكن هذا واسطة! فنقول: ما هو الدليل؟ هل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرنا أن نتوسل بالأموات وبأصحاب القبور؟ فسيقول: لا يوجد دليل، ولكن هذا واضح بالعقل والفكر، فبذلك رجعنا لقضية اتباع الهوى، واتباع الخرص والظن، وإن سموه عقلاً، فوقعوا في الحيرة، ووقعوا في الضلال.
وكل من خاض في علم الكلام وهذه الأمور الجدلية بغير هدىً من الله، ندم وحار وضل وتخبط، والسعيد منهم والناجي منهم الذي قال عند الموت، كما قال الجويني: لقد ركبت البحر الخضم وخضت فيما نهى عنه علماء الإسلام، وهأنذا أموت على دين عجائز نيسابور، فالويل لـ ابن الجويني إن لم يغفر له الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فهذا يموت على دين العجائز -يعني الفطرة الأولى- ترك البحر الخضم وما خاض فيه، فكل ما كان مخالفاً لشرع الله عز وجل وإن سميت فلسفات وإن سميت علوماً: علم اجتماع، علم نفس، علم اقتصاد، علم سياسة، القضية ليست قضية العلم، ولا تسمية العلم.
فالسحر تعلمه كفر، هكذا قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102] المعلمان هاروت وماروت هما أول من علم الناس السحر، يقولان: هل تريد أن تتعلم السحر؟ يقول: نعم، فيقولون: إنما نحن فتنة فلا تكفر، أي: لو علمناك تكفر.
فالسحر إذاً كفر، ومع ذلك، سماه الله علماً.
إذاً القضية ليست قضية علم فقط، ولكن هل هذا العلم اتباع؟ وهل هو وحي من الله؟ هل هذا العلم مما كان عليه السلف الصالح؟ هذا هو الأساس، وإلا فالعلوم كثيرة، ولكن المعيار هو كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فإذاً يشبه أمة اليهود من هذه الأمة الذين يعرضون عن دين الله، وعن كتاب الله عز وجل على علم.
الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل لنا هذا البيت قال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} [البقرة:125] وجعلنا نقبل هذا الحجر الأسود، وقد شرع ذلك لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومع ذلك يقول عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه-: {والله إني لأعلم أنك حجرٌ لا تضر ولا تنفع؛ ولولا أني رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقبلك ما قبلتك} هذا هو الحجر الأسود، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكرم وأعز على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الحجر الأسود بلا ريب، هل جلس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجعل كفه حجراً أسود يقبل ويستلم من غير تشريع الله؟ هل فعل ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ لا! لم يفعله.
فإذا جاء من يحملون الشهادات العلمية، ومن يكتبون المؤلفات الكبيرة، ويجعلون أكفهم كالحجر الأسود يستلم ويقبل، وينحني الإنسان ويقبل ويذهب ويجلس، فهذا ينطبق عليه ما ينطبق على الأمة الغضبية الأمة اليهودية أنها عصت الله على علم، يعلمون أن هذا لم يشرعه الله ولم يأذن به الله، ومع ذلك يفعلونه، يستعبدون المريد الذي يسمونه مريداً من دون الله، ويريدون أن يحولوه إلى شيطانٍ مريد على شرع الله وعلى أمر الله.
حتى قال قائلهم: إذا أمرك الشيخ بأمرٍ فلا تعصه، وكن بين يدي الشيخ كالميت بين يدي الغاسل، هكذا يقول أئمة الصوفية أئمة الضلال، يجب على المريد أن يكون بين يدي الشيخ كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف يشاء، حتى لو أمره بفاحشة، قالوا: لأن الشيخ أعلم، ربما يرى أن في صالحه أن يفعل تلك الفاحشة، فيندم ويتوب ويكون أفضل له، وأفضل لحاله نعوذ بالله من الضلال.
فيعلمون أن الله حرم هذا ويأمرون به، ويعلمون أن هذا من البدع ويفعلونه، من أجل المتاع القليل، ومن أجل أن يأكلوا أموال الناس بالباطل كما حكى الله عنهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:34] ومن أجل أن يُعظَّموا بالباطل، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31].
فالأمة الغضبية اتخذت الأحبار، وأمة الضلال اتخذت الرهبان آلهةً من دون الله، قال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27] ابتدعوا هذه الرهبانية، ولم يتبعوا ما أنزل الله، وإنما ابتدعوا شيئاً ما كتبه الله، ومع ذلك قال تعالى: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27].(89/11)
الخوارج والصوفية شابهوا النصارى
لقد وجد في هذه الأمة نموذج الضلال الذين عبدوا الله على جهل، وإن كانوا يريدون الحق، ومنهم الخوارج، ولما دخل أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكرام - أبو سعيد وابن عباس - إلى معسكرهم خشعت قلوبهم من كثرة ما سمعوا من أنين الخوارج بالقرآن، يتهجدون بالقرآن كلهم، وفي جباههم وأيديهم مثل الثفنة التي تكون في ركبة البعير من كثرة العبادة والاجتهاد، ولكن هل نفعهم ذلك شيئاً؟ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عادٍ وثمود} وقد قاتلهم أصحابه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى قتلوا منهم قرابة أربعة آلاف في معركة واحدة، وأجمع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم وهم أعلم الناس بدين الله على قتال الخوارج، يقاتلون أناساً هذه حالهم، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {تحقرون عبادتكم إلى عبادتهم وقراءتكم إلى قراءتهم} يقاتلوهم وهم بهذه الحال؛ لأن هذه العبادة وهذه القراءة على ضلال وجهل بالدين؛ فهم بهذه الحال مثل رهبان النصارى.
والفرق الأخرى التي وجدت كانت أيضاً بتأثير مباشر من الأمتين أمة الغضب وأمة الضلالة، عافانا الله وإياكم منهما! وهدانا إلى الصراط المستقيم.
عندما قال أهل الكلام: إن المرجع في الدين ليس كتاب الله ولا سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما هو العقل، جاء أناس آخرون، وقالوا: ليس المرجع العقل، بل المرجع الكشف الذي يقع في القلوب، علم المكاشفة، والعلم اللدني.
ما هو العلم اللدني؟ وما هي المكاشفة؟ قالوا: نتيجة الذكر، والعبادة، والسهر يوحى إليك في المنام، ويلقى إليك كلام في قلبك فتعلم أن هذا هو الصراط المستقيم، وهذا هو الصحيح، وهذا هو الدين فتتبعه.
الواحد من أئمتهم يقول: أُلقي في قلبي أن نعمل الذكر الفلاني، فُيسأل كم مرة يا شيخ؟ قال: عشرة آلاف مرة، فإذا قيل له: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: بعد الصلاة سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر مائة مرة، قال: لا، بل عشرة آلاف مرة، ثم إن الشيخ يلقى إليه في وقت آخر أذكار ليست باللغة العربية أصلاً، ثم إذا جاء عنده المريض كتب له حجاباً، وقال له: علقه على صدرك، ولو فتحت الحجاب لرأيت مربعات ومثلثات، وكلمات ليست عربية.
ما هذا؟ أي علم هذا؟ قالوا: هذا من العلم اللدني، ومن الكشف، وإن سألتهم عن القرآن والسنة، قالوا: هذا العلم الظاهر، فهم يسمون الكتاب والسنة بالعلم الظاهر، فالعوام الذين يقرءون القرآن يمشون على الظاهر، أما أرباب الحقائق وأرباب المكاشفات (الأولياء) فهؤلاء يتبعون العلم اللدني، والعلم الكشفي.
وإذا قلت لهم: هذا الحديث ضعيف، أو موضوع، مثل أحاديث فضائل رجب، وأحاديث زيارة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من حج ولم يزرني فقد جفاني}، {من زارني وجبت له شفاعتي} وأحاديث كثيرة موضوعة، قالوا: هذا الحديث وإن قال علماء الجرح والتعديل أنه موضوع، لكن صححه الأئمة والأقطاب عن طريق الكشف.
إذاً عندنا معيار آخر نصحح به الأحاديث ونضعفها، وهو طريق الكشف، كل واحد يأتينا بكشف غير الآخر؛ لأن هؤلاء شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، وكل شيطان يكاشف وليه من شياطين الإنس بما لم يكاشف به الشيطان الآخر، فتكثر الضلالات، والبدع، وتكثر الطرق.
كم طريقة اليوم في العالم الإسلامي؟ كثيرة جداً، وكل طريقة تتفرع إلى طرق، الطريقة القادرية هي أكبر الطرق، والقادرية عدة طرق، كل شيخ يشقق الطريقة إلى طرق، والله عز وجل يقول: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} [الأنعام:153] فهو صراط واحد فقط وقال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] وقال: {فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام:153] لا تتبعوا هذه الطرق، وهذه الطرق هي السبل، وهي التي لما رسم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخط المستقيم، رسم خطوطاً على يمينه وعلى شماله، فـ الخوارج وأئمة الصوفية وكل من عبد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالجهل وتعبده بالبدعة -وإن جاهد وقاتل وصام وإن صلّى وإن زعم الولاية- هؤلاء أعمالهم باطلة وليسوا على الصراط المستقيم.(89/12)
الصوفية جمعوا بين نوعي الضلالة
ويتحقق في حق الصوفية وأتباعهم كلا النوعين، فمنهم نوعٌ يلحق باليهود، وهم الذين عصوا الله عز وجل على علم، ونوع آخر يلحق بالنصارى، وهم الذين عبدوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على جهل، وهؤلاء أناس موجودون اليوم، لو سألت من هدى الله منهم؛ لقال لك: إنه كان يجلس ليلة كاملة يقول: سبحان الله أو الحمد لله، طوال الليل كله، وكان يعد أحد عشر ألف مرة، لابد أن يكمل أحد عشر ألف مرة، وأحياناً يقول له الشيخ: سبعة آلاف مرة، فلابد أن يكمل سبعة آلاف مرة.
كيف يتعبدون هذه العبادة الطويلة؟ أليس عندك كتاب من كتب الأذكار؟ كالأذكار التي تقال بعد الصلاة؟ مثل تحفة الأخيار، وهو كتاب صغير معروف لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله وأمد في عمره ونفعنا بعلمه، وفيه أذكار نبوية، وهو منتشر، لكنهم لم يسمعوا به؛ لأنهم لا يتلقون إلا من الشيخ يقول: عشرة آلاف، فيقولون: عشرة آلاف، ولو كان الله سبحانه ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالا مائة! لقال هو: جعلناها عشرة آلاف، لأن العشرة الآلاف أكثر من المائة.
هل صاحب العشرة آلاف مأجور، وصاحب المائة آثم، لأنه أقل؟ لا! صلاة المغرب هي ثلاث ركعات، فإذا صليناها ثلاثين ركعة وهي أكثر من ثلاث ركعات، فهل يقبل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذلك منا؟ لا يقبل الله منا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} أي: فهو مردود غير مقبول، فمهما كان هذا العمل، ومهما ظن صاحبه، ومهما حسن قصد صاحبه، فإنه مردود غير مقبول.(89/13)
قبول الأعمال
فما هو العمل الذي يقبله الله؟ وما هو الدين الذي يرضاه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟ قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110]، شرطان للعمل لكي يتقبله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكما تعلمون حال الأمة، وكل منا أعلم بحال نفسه، مقصرون في طاعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فكلنا نرجو فضل الله، ونرجو مغفرة الله، ونرجو عفوه، فيا لله العجب! إذا كنا في الطاعات مقصرين فكيف نجتهد في الابتداع؟! كيف نجتهد في البدعة ونحن ما قمنا بإتمام الطاعة؟ ما أدينا الواجبات المفروضة والطاعات التي يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنها في الحديث القدسي: {وما تقرب إلي عبدي بشيءٍ أحب إلي مما افترضته عليه} فأحب شيء إلى الله ما افترضه الله، الصلوات الخمس، الصوم، الحج، العمرة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا أحب شيء يتقرب به إلى الله، الأمة التي لم تقم بالواجب الذي فرضه الله عليها، كيف تجتهد في إقامة البدع، وتستحدث في الدين؟! هل أكملت الواجبات ثم المندوبات حتى تفكر فيما بعد ذلك؟ لن يستطيع أحدٌ ذلك؛ لأن الدين أعظم وأوسع، فما تقرب العبد إلى الله عز وجل بشيء أحب إليه مما افترضه عليه.
فمن أراد أن يدل الناس على طريق الخير، ويدعوهم إلى الله، ويذكرهم بالله، وباتباع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبمحبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فليبدأ بتذكير الناس وبدعوتهم بما افترض الله تبارك وتعالى عليهم، افترض علينا التوحيد، وهو أعظم واجب، فنبدأ بتعليم الناس التوحيد ودعوتهم إليه، ثم الصلوات الخمس، ثم ترك الفواحش والمنكرات والكبائر الواضحة: كالزنا، والسرقة، وشرب الخمر، والخيانة، والغيبة، والنميمة، وشهادة الزور، وقطيعة الأرحام، وهي محرمات ظاهرة، ومع ذلك متفشية في مجتمعاتنا وموجودة.
فالغفلة موجودة عن أداء الواجبات والتزام الطاعات، ثم نريد أن نعمل من البدع: موالد أو رجبيات أو شعبانيات، كل هذا لم يشرعه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، من أين أتيتم بهذا؟ هل جاءت في كتاب الله؟ هل جاءت في سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ لو أنها شرعت، ولو أنها في كتاب الله وسنة رسوله، لما جاز لنا أن نقدمها على ما أمر الله تعالى أن نقدمه، وهو التوحيد والأركان الخمسة، فكيف -وهي لم تشرع- تقدَّم وتعلَّم، ويترك الأصل العظيم، الأصل الذي ينجو به العبد بين يدي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى! وهو التوحيد.
توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، هو تجريد هذه القلوب لطاعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلا يسأل إلا الله، ولا يستغاث إلا بالله، ولا يستعان إلا بالله، ولا يتوسل إلى الله إلا بما شرع الله، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35] فكل مؤمن وكل مسلم مطالب بأن يبتغي إلى الله الوسيلة، وأن يتقرب إلى ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فبماذا يُتقرب إلى الله؟ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه}.
نبدأ بالواجبات، ثم ننتقل بعد ذلك إلى النوافل؛ بالشرطين السابقين، هذه هي الوسيلة، وما أعظم باب الوسيلة في ديننا! الكلمة الطيبة صدقة، كل تهليلةٍ صدقة، كل تحميدةٍ صدقة، كف الإنسان لسانه عن الشر صدقة ووسائل إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كثيرة! كل هذه هي الوسيلة، وهي القربة التي يُتقرب بها إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فلابد في العمل الصالح من شرطين: الأول: أن يكون العمل خالصاً لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإذا لم يكن العمل خالصاً لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فإنه لا يقبله، كإنسان يريد الدنيا بعمله، يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه عز وجل: {من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه} وقال: {أنا أغنى الأغنياء عن الشرك من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري فهو للذي أشرك} لماذا تشرك بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهو غني عن جميع الأعمال التي تعملها؟! حالك مثل من يهدي إلى تاجر غني -والله هو الغني وله المثل الأعلى- هدية، ويقول: هذا لك، واعط فلاناً منها قليلاً، فيقول لك: اعطها كلها لفلان فأنا لست محتاجاً لها، فكيف والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الغني العظيم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي يقول: {يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً} {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد:38] سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فيجب أن يكون العمل خالصاً لوجه الله.
والشرط الثاني: أن يكون صواباً وفق سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كيف يكون العمل صواباً، وبماذا؟ بالعلم {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7] بعض الناس يصلي عمره خمسين سنة، لكن لو أتينا ونظرنا إلى هذه الصلاة هل هي كما أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهل هي كما قال: {صلوا كما رأيتموني أصلي}؟ فلذلك فإنها لا تقبل.(89/14)
عبادة الأحبار والرهبان من دون الله
{دخل عدي بن حاتم على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقرأ {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:31].
قال عدي -وكان نصرانياً-: يا رسول الله، ما عبدناهم} لأن عدياً يفهم أن العبادة هي الركوع والسجود للأحبار، أو الرهبان، أو الأنبياء، أو الأقطاب، أو الشيوخ، أو العظماء، أو الملوك، أو ما أشبه ذلك ممن يعبد من دون الله -عز وجل- فأجابه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووضح له قال: {ألم يُحلِّوا لكم الحرام فتطيعوهم، ويحرموا عليكم الحلال فتطيعوهم، قال: بلى، قال: فتلك عبادتكم إياهم}.(89/15)
خطورة الابتداع في دين الله
ألم تعلم أن الله تعالى حرم الابتداع؟ فلا تطع فيه غير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ألم تعلم أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يشرعه ولا أذن به، ولا ارتضاه، ولا جعله طريقاً ولا وسيلة إليه؟ فلا تقبله من أي إنسان، لأنه بدعة، والبدعة تبعد ولا تقرب، ولهذا يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الذي روي من أكثر من طريق: {إن الله حجز التوبة عن كل صاحب بدعة}.
نسأل الله العفو والعافية! إن الذي نسعى إليه وندعو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دائماً ونرجوه هو أن يختم لنا بحسن الخاتمة، وأن تكون آخر كلماتنا شهادة أن لا إله إلا الله، وأن يوفقنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عند الموت للنطق بهذه الكلمة العظيمة، وأن يوفقنا في القبر لنجيب بالجواب الصحيح.
أما أصحاب البدع فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يحجز عنهم التوبة، ومما يدل على ذلك أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يوفقهم عند الاحتضار بالتوبة، جزاءً وفاقاً على ما كانوا عليه من بدع في دين الله، يشرِّع من عند نفسه، ويأمر الناس بما لم يشرعه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى! فانظروا إلى خطر البدع، تضيع الفرائض، وتضيع حسن الخاتمة، ويأتي الإنسان وقد عمل كثيراً، ولكنه كما قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً} [الكهف:103] {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:104].
أموال، وجهود، وأعمال، وخشوع، وبكاء، لكن ذلك لا ينفعهم، ولا يجدي شيئاً؛ لأن الله لم يجعل طريقاً إليه إلا اتباع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
لا بد من وجود شرطين في أي عمل حتى يتقبله الله، وهما:- أن يكون خالصاً لوجه الله، وأن يكون صواباً وفق ما أنزل الله تعالى.(89/16)
الشرك وبداية ظهوره في بلاد العرب
إن الشرك والضلال والانحراف الذي وقع في الجاهلية الأولى، ومن بعدهم إنما وقع نتيجة الابتداع في دين الله تعالى.
كانت العرب على دين التوحيد منذ أن بنى إبراهيم الخليل وإسماعيل البيت الحرام، حتى ظهر رجل يقال له: عمرو بن لحي الخزاعي، هذا الرجل ذهب في رحلة إلى الشام، فوجد أُمّةً متحضرة ليست مثل العرب تسكن الخيام وترعى الغنم والإبل، وجد هناك حضارة، وأنظمةً، وملكاً، وأبهةً، فغرته تلك المظاهر، ثم تأمل في دينهم فوجدهم يعبدون الأصنام، إذ أنهم يصورون الصور، ويضعونها في الكنائس كصورة عيسى عليه السلام، وصورة مريم العذراء، وغيرها من الأنصاب والتماثيل، ثم يعبدونها من دون الله، فاستحسن هذا الأمر، لأنه صادر عن أمة متحضرة وليست كالعرب.
فأخذ هذه الصور وجاء بها إلى مكة ووضعها العرب بالكعبة، ولهذا رآه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الحديث الصحيح: {وهو يجر قُصبه -يجر أمعاءه- في النار} عافانا الله وإياكم، يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وكان أول من سيب السوائب} التي قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [المائدة:103] فهذا كان أول من افترى على الله الكذب، وسيب السوائب، وابتدع هذه البدعة في الإبل: البحيرة، والوصيلة، والحام، هذه الإبل جعل لها علامات معينة تنذر للأصنام، فجاء بالأصنام وأدخل الشرك إلى بلاد العرب، وجاء بهذه البدع ليجعلها قربات إلى الأصنام، فكان هذا الرجل أول من غير ملة إبراهيم عليه السلام من التوحيد إلى الشرك، فحذر منه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
بل جاءت رسالة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تصحيحاً للشرك الذي وقع فيه العرب بعد أن كانوا على ملة التوحيد، فمن جاء ليصرفنا عن ملة التوحيد، التي وحدنا الله تبارك وتعالى بها بعد الفرقة، وجمعنا بها بعد الشتات، وأنار بها قلوبنا بعد الظلمة، فلا طاعة له، لأن محمداً صلى الله عليه سلم ليس إمامه وقدوته، وإنما إمامه وقدوته عمرو بن لحي.
ولا تستغربوا أن يظهر في كل أمة، أو في كل فترة عمرو بن لحي جديد؛ لأن من السنن الكونية أن يظهر صاحب الشرك؛ فيظهر أصحاب التوحيد، ويظهر الباطل، فيظهر الحق وهكذا، فرعون قال -كما حكى الله عنه-: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24]، ومات هذا الفرعون وانتهى، لكن في كل زمان ممكن أن يظهر فرعون جديد وإن لم يسم نفسه فرعون، وإن لم يقل: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] فكل من بدل دين الله، وغير شرعه، وجعل الناس يعبدونه من دون الله، فهو في عمله هذا كفرعون.
ولهذا فقدوة أصحاب البدع والضلال هم قوم نوح الذين غيروا دين الإنسانية من التوحيد إلى الشرك، ثم عمرو بن لحي الذي غير ملة العرب من التوحيد إلى الشرك.
أما حديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله} فإن معناه أن كل من يأتي ويدعو إلى أية بدعة من البدع فإن دعوته خاسرة، فإن هذه الطائفة المنصورة سينصرها الله تعالى عليه.(89/17)
نصيحة للأمة
التوحيد التوحيد! والسنة السنة! من تمسك بها نجا، سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي سفينة نوح، من تمسك بها نجا، ومن حاد عنها غرق وهلك، وإن زعم أنه سيأوي إلى جبل يعصمه من الماء، لا عاصم أبداً من عذاب الله، إلا باتباع سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا طريق إلى الله إلا باتباع سنة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31].
هذا هو الطريق الوحيد، فمن كان يَدَّعِيْ محبة الله، ومحبة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فليتبع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليقدم حبه على نفسه، وأهله، وماله، وولده، كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ماله وولده ووالده والناس أجمعين} فلا بد أن تكون محبة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذه الدرجة.
والمحبة تتمثل في حب سنته وهديه، فمن والى الفجار، والعصاة، والكفار، فهذا لا يحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هل يمكن أن يزعم أحد أنه يحب أحداً ما وهو يخالف طريقته، ويرد أمره، وينقض قوله؟ هذا لا يحبه، وهذه دعوى كاذبة، ولهذا قال تعالى في الآية التي تسمى آية المحنة، أو الفتنة، أو الابتلاء: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31].
ادعى قوم محبة الله فأنزل الله هذه الآية، هكذا قال أكثر من واحد من السلف، فهذا هو المعيار: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] فاتباع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الصراط المستقيم الذي ندعوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كل ركعة من فريضة أو نافلة أن يثبتنا عليه، قال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7].
وندعوه أن نكون على السنة القويمة، وألا نزيغ عنها على علم، أو نعبده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالجهل والضلال، نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنا ولكم ذلك، ونسأله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يهدينا جميعاً الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأن يجنبنا طريق المغضوب عليهم والضالين، وأن يوفقنا لسماع الحق وقبول واتباعه، وأن يجنبنا طريق أهل الأهواء والزيغ والبدع والضلال، إنه سميعٌ مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.(89/18)
الأسئلة(89/19)
موقف الإسلام من أهل البدع
السؤال
ما هو موقف الداعية المسلم من أهل البدع؟
الجواب
الحمد لله، حكم أهل البدع بإيجاز قد بينه الصحابة الكرام، كما فهموه وسمعوه من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكما قرءوه من كتاب الله تعالى وأهل البدع أصناف:- منهم من يُقْتَل فيُقَاتَل، ولهذا قاتل أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخوارج وقتلوهم، ومنهم من يُهجر ويُزجر، وهذا أدنى ما يجب، فقد هجر السلف الصالح أهل البدع، حتى إن بعضهم أقسم ألا يجتمع مع صاحب بدعة، حتى إن واحداً من السلف لما جاءه صاحب بدعة، أقسم ألا يجتمع معه تحت سقف واحد غير المسجد، وجاء رجل من أهل البدع إلى أيوب السختياني رحمه الله، فقال: نريد منك كلمة؟ فقال له: ولا نصف كلمة، أما الإمام أحمد رحمه الله إمام أهل السنة والجماعة فقد نهى عن الصلاة خلف أهل البدع، والسلام عليهم، ومؤاكلتهم، ومجالستهم، وأمر بهجرهم وبزجرهم.
فمن كان من أهل البدع، وكانت بدعته مغلظة كبيرة، وخرجت إلى حدود الشرك أو الكفر، فهذا حكمه القتل، فإذا كانوا طائفة مجتمعة، فإنهم يقاتلون حتى يرجعوا إلى السنة، وإن كان فرداً يدعو إلى بدعته فإنه يقتل -أيضاً- كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث -ومنها-: التارك لدينه المفارق للجماعة} فترك الدين، ومفارقة الجماعة -أي مفارقة السنة إلى البدعة- يقتضي إباحة دم المبتدع.
وإن كان لا يدعو إلى بدعته أو متستراً بها، فإنه يزجر ويراقبه المجتمع المسلم مراقبةً شديدة؛ حتى لا يبث هذه البدعة، لكن لا يقتل أو يقاتل حتى يظهر شيئاً من ذلك، ويتيقن عنه، فهناك شروط وأحكام معروفة.
وحاصلها أن صاحب البدعة يجب أن يكون مرذولاً مهجوراً في المجتمع المسلم مثل الذي يحمل أشد الأوبئة، كالإيدز في هذا العصر، أو أي وباء خطير، ويعزل ويفصل عن المجتمع، فلا يجالس، ولا يؤاكل، ولا يشارب، حتى لو جاء يجادل بكتاب الله أو يتكلم بآيات من كتاب الله أو من سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه يهجر؛ لأن الهجر فيه حكم عظيمة.
أعظم ما في ذلك أننا نتبع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، ومن ذلك أن القلوب تضعف من الشبهات، كما قال بعض السلف لما قيل له: [[لِم لا تسمع من أهل البدع؟ قال: إن القلوب تضعف عن الشبهات وما يدريني أن يقول كلمة فتبقى في قلبي فلا تزول]].
إذا كان السلف الصالح يقولون: لا تقرأ أي كتاب من كتب أهل البدع مع أن فيها ذكر الله، فنحن نقول: لا تقرأ ولا تفتح لهم كتاباً أبداً، ولا تجالسهم ولا تسمع لهم شريطاً أبداً، احذرهم واحذر كتبهم واحذر السماع منهم، فإن هذا أشد من السم عليك، ولك في كتاب الله، وفي سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي علماء المسلمين الثقات الغنية والغنى.
أما مسألة الصلاة خلف أهل البدع، فقد فصل فيها العلماء، فقالوا: إن كانت البدعة مكفرة كبدعة غلاة الروافض وغلاة الصوفية، فالصلاة خلفهم لا تجوز، ولا تصح، وإن كانت البدعة ليست مكفرة، ولا تخرج من الملة، فالصلاة لا تجوز خلفه، لكن إن وقعت صحت، كما لو كنت عابراً مجتازاً من طريق في مكان ما، فصليت خلف إنسان ولا تدري عنه أنه مبتدع، فَبَلَغَكْ فيما بعد، أو علمت أن هذا إنسان لديه بدعة من البدع، فإن صلاتك صحيحة ولا تُعد، لكن لا يجوز أن تتعمد الصلاة خلفه، هذه بعض الأحكام المتعلقة بأصحاب البدع عافانا الله وإياكم منها!(89/20)
الرد على من زعم أن عمر بن الخطاب ابتدع صلاة التراويح
السؤال
كيف نرد على من يقول: إن عمر بن الخطاب ابتدع صلاة التراويح؟
الجواب
النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلّى التراويح جماعة، ولكن خشي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تفرض فتركها، وبقي الناس يصلون فرادى إلى أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فنظر عمر بن الخطاب وإذا بالحكمة التي من أجلها ترك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة جماعة وهي خشية أن تفرض علينا قد انتفت؛ فجمع الناس على مثل ما جمعهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أول الأمر، وصلوا جماعة، وقال: [[نعمت البدعة]].
وهذا لا يعني أن عمر رضي الله عنه ابتدع في الدين بدعةً لم يفعلها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أبداً؛ لأنه إنما أعاد ما كان عمله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن العرب يطلقون على الشيء الجديد أنه بدعة في اللغة.
البدعة في اللغة: الشيء الجديد، أو الشيء غير المألوف.
أو يكون كما قال الإمام الشافعي:
إن كان رفضاً حب آل محمدٍ فليشهد الثقلان أني رافضي
فلو فرض أنهم سموها بدعة فهي: نعمت البدعة، لأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعلها.
ثم إنه جاء في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، يقول: {وعظنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موعظةً بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، قلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا، فقال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة -إلى أن قال- وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا علينا بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة}.
فحذر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من البدع والمحدثات، وأمرنا باتباع سنته وسنة الخفاء الراشدين المهديين، وهم أبو بكر ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، فإذا اجتهد الخلفاء الراشدون، وأمروا بأمرٍ أو عملوا بعملٍ فإن هذا من السنة، لأنهم لن يحدثوا في دين الله عز وجل، ولا يمكن أن يأمرنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باتباع من أحدث في دين الله أبداً، قال: {وإياكم ومحدثات الأمور} إذاً: هؤلاء الذين أوصانا أن نتبعهم لن يحدثوا، وإنما يحيون السنة، فـ عمر رضي الله عنه أحيا السنة، واتباعه بذلك اتباعٌ لسنة الخلفاء الراشدين التي أمر بها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
كذلك الأذان الأول في صلاة الجمعة، يقولون: أول من أحدثه عثمان رضي الله عنه، ويقولون: هذا بدعة، وهو ليس بدعة، لأن عثمان رضي الله عنه من الخلفاء الراشدين المهديين، فالعمل به سنة، فقد كان النداء يسمعه الصحابة كلهم ولم ينكر عليه أحد، فأصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علموا أن هذا جائز، وأنه لا بأس به، وأنه مشروع؛ لأنه من سنة الخلفاء الراشدين، وأقروا ذلك، وما أقره أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنحن أولى أن نقر به، فما فعله الخلفاء الراشدون فهو سنة وليس ببدعة، فهذه بعض الأجوبة التي تقال.
ولكن لنعلم أن أهل البدع يتصيدون الشبهات، وإذا لم يجدوا الشبهات فقد يكذبون ويضعون ذلك؛ فلا نستغرب كثرة الشبهات، ولا نجهد أنفسنا أننا نقول: كيف نجيب على هذه الشبهات، ولذلك أقول لكم: عليكم بالطريق الواضح المستقيم! وتمسكوا به واعرفوه، ولا يضيركم بعد ذلك من ضل إذا اهتديتم، وتمسكتم بالصراط المستقيم.
لا يضركم أن لأولئك شبهات ومجادلات، فإن أهل العلم كفوكم إياها، والأجوبة موجودة -ولله الحمد- لكن لا نريد أن تدخلوا في جدال مع أهل البدع، فيظهروا عليكم، ويقولون: نحن عندنا حجة، ودليل، وأنت ليس عندك شيء، يكفيك أنه دعا إلى بدعة، وأنك علمت أنها بدعة فلا تتبعه، ولا تسمع له، ولا تتجادل معه أبداً.(89/21)
ضابط البدعة
السؤال
ما هو ضابط البدعة؟ وما هو الكتاب الذي تنصح بقراءته ليجتنب الإنسان البدعة؟
الجواب
ضابط البدعة أو حقيقتها: هي كل أمرٍ عُمِل مضاهاةً للشرع، فأي أمر يحدث مضاهاةً ومشابهة لما شرعه الله تعالى بنية التعبد، فهو بدعة، ولهذا أهل البدع يقولون: أنتم تقولون: هذا العمل بدعة، فعلى قولكم تكون السيارات بدعة، والجامعات بدعة، والطرق بدعة! نقول: ليس هذا بدعة، هذا لم يحدث مضاهاةً لما أنزله الله وبنية التعبد.
وقد يأتي آخر، ويقول: أنتم تتكلمون على أهل البدع، لماذا لا تتكلمون عن الشيوعية، وعن الإلحاد، وعن القوانين الوضعية؟ أما واحد شرع ركعتين ما شرعها الله فقلتم: هذا من أهل البدع، وحاربتموه، والذي يغير حكم الله تعالى من الرجم أو من الجلد إلى السجن والغرامة، ما تكلمتم عنه وما ذكرتموه، فلماذا لا تحاربوه؟ نقول: هؤلاء لم يعملوا هذه الأعمال مضاهاةً للشرع، لم يعملوها على نية المضاهاة والمجاراة والمماثلة للشرع، ويجعلون العمل بها ديناً يؤجر عليه صاحبه، لو فعلوا ذلك لدخلوا في أهل البدع، وكانوا من أهل البدع الخارجة من الملة، لكن إذا قال: أنا عندي قانون وضعي وضعته من عندي، والشريعة لا أضاهيها، والشريعة فيها رجعية وتخلف، فهذا لا يدخل في أصحاب البدع، هذا أصلاً يكفر ويخرج من الملة؛ لأن الله يقول: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44].
فمن شرع ما لم يأذن به الله، أو غير أحكام الله، أو بدل ما أنزل الله كمن يحل الربا -مثلاً- فإنه يكفر بنص كتاب الله عز وجل، ونحن لا نتكلم مع هؤلاء، إنما نتكلم مع من يقول هذا من الدين، وهذا له أجر، أما الذي يحل الربا، ولا يقول: هذا من الدين؛ فهذا معرض عن شرع الله، مغير لشرع الله، تارك لحكم الله، فهذا لا يخرج من باب البدعة، إنما يخرج من باب الحكم بغير ما أنزل الله، فهذا له مجاله وهذا له مجاله.
إذاً البدعة هي كل أمرٍ أُحدث في الدين مضاهاةً لصاحب الشريعة أو مضاهاةً للشريعة.
ومن أمثلة البدعة: الاجتماع على الذكر بعد الصلوات وحضور المولد.
أما الكتب المؤلفة في التحذير من البدع فهي كثيرة، ولنبدأ أولاً بأهم شيء، وهو أن نعرف الكتب التي تدل على السنة، فإذا عرفنا السنة عرفنا البدعة -إن شاء الله- ولذلك يجب علينا أن نعرف العبادة الصحيحة التي تعبد بها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جميع أعماله.
ثم إذا أردنا أن نعرف أحكام البدعة، نقرأ ما كتبه السلف في كتبهم في بيان البدع، وحكم أهل البدع وأهل الأهواء، وهي كثيرة مثل كتاب السنة لـ عبد الله بن أحمد، والشريعة للآجري، والإبانة لـ ابن بطة، فقد ذكروا بدعاً كثيرة كبدعة الجهمية، وبدعة الرافضة، وبدعة الخوارج، والبدع العقائدية الأخرى، ثم ما كتب بخصوص معرفة البدعة من غيرها، مثل: البدع والحوادث، والبدعة وأثرها السيئ، والرسائل التي كتبها العلماء كالشيخ الجزائري وغيره -جزاهم الله خيراً- الذين خصوا موضوع البدعة بالذات التي هي ضد السنة، لكن الأساس أن نعرف السنة، فمثلاً الشيخ ناصر الدين الألباني جزاه الله خيراً لما كتب حجة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جعل في الأخير البدع في الحج، ذكرها بالترتيب فقرة فقرة، فنعرف بدع الحج -مثلاً- وإذا قرأنا كتب أحكام الصلاة نعرف بدع الصلاة، وإذا قرأنا كتب الأذكار الصحيحة نعلم أن ما عدا ذلك بدعة، ونجد فيها بيان الأذكار البدعية وهكذا.(89/22)
حكم صلاة التسابيح
السؤال
سمعت من شخص يقول في صلاة التسبيح: لا بد أن يصليها الإنسان في اليوم مرة، أو في الأسبوع مرة، أو في الشهر مرة، أو في السنة مرة، أو في العمر مرة، ما هو تعليقكم حول هذا؟
الجواب
صلاة التسبيح اختلف فيها العلماء، وسبب الخلاف: الحكم على الحديث، والراجح أنها لم تصح ولم تثبت.
فالإنسان لا يتعبد الله تعالى إلا بما شرع، وفيما ثبت وصح الكفاية، ففي حديث الولي: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فيما يرويه عن ربه-: {وما تقرب إلي عبدي بشيء، أحب إلي مما افترضته عليه} فالفرائض معروفة، وكذلك النوافل الثابتة، مثل: السنن الرواتب، والوتر، وصلاة الضحى، وغيرها مما ثبت النص به، فهذا فيه الكفاية عن الأمر المختلف فيه، فالراجح أنها لم تصح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا فإنها تدخل في البدع.(89/23)
حكم قراءة القرآن على الأموات
السؤال
ما حكم قراءة القرآن على الأموات؟ هل هو بدعة أو سنة؟
الجواب
الإنسان قد يموت له أب أو قريب، ويريد أن يحسن إلى هذا الميت، والله تعالى لم يقطع عنا هذا الإحسان، لأن هذه الشريعة سمحة وميسرة بل جعل لنا أبواباً واسعة -ولله الحمد- كالدعاء للأموات، فنحن عندما نزور القبور ينبغي أن ندعوا لهم، هذا مما شرعه الله تعالى، والحج عن الميت وارد وصحيح، والصوم أيضاً ورد في حق الأم إذا نذرت الأم أو الأب أن تصوم فيصوم عنها الولي، والصدقة وهذه من أوضح وأفضل ما يتقرب به الإنسان إلى الله عن الميت، إذاً: لدينا أبواب ومجالات واسعة، فما ضيق الله تعالى علينا.
أما مسألة قراءة القرآن، فهل يقرأ القرآن على الميت بحيث أن إنساناً يمسك المصحف، ويقرأ سورة من القرآن، ويهدي ثوابها إلى الميت بهذا الشكل لم يرد، وهذا هو أخف أنواع البدع في هذا الشأن.
وبعض العلماء أجاز ذلك على أساس دخوله في عموم الطاعات والقربات، والراجح أنها ما دامت لم ترد، فلا نفعلها أبداً، لأن ديننا اتباع وليس ابتداعاً، أما أن يجتمع الناس ويقرءون على رأس الأربعين أو ثلاثة أيام، يقرأ قارئ القرآن كله، أو ثلاثين قارئاً، كل قارئ يقرأ جزأً معيناً، ونجعل هذا من سنن العزاء، هذا أكبر أنواع الابتداع.
وهذه المسألة لم يختلف فيها أحد من العلماء أبداً، فالذي يقول: إن العلماء اختلفوا في قراءة القرآن، لا يعني ذلك أن العلماء اختلفوا فيمن يجمع ثلاثين قارئاً، أو يأتي بواحد يقرأ ثلاثين جزءاً على رأس الأربعين، أو ثلاثة أيام بعد الموت، هذا لم يختلفوا فيه، فهو بدعة باتفاق.
إنما الذي وقع فيه الخلاف -كما بينا- هو: أن يقرأ الإنسان -وحده فقط- شيئاً من القرآن، ويهدي ثوابه إلى الميت، ومع ذلك نقول: لا تفعلوا هذا، فهذا غير جائز، وهذا بدعة؛ حسماً لمادة البدع من أصلها، لكن الصدقة بابها مفتوح -والحمد لله- فليتصدق الإنسان أو يحج أو يعتمر عن الميت، هذا جائز ووارد، والحمد لله.(89/24)
حكم التسبيح بالمسبحة
السؤال
ما رأي الدين الإسلامي في التسبيح بالمسبحة، سواء بعد الصلاة أو في أورادٍ أخرى؟
الجواب
أولاً: ننبه أنه لا يقال ما رأي الدين، هذا من التعبيرات الصحفية التي أحدثها أناس جهال، فالدين ليس بالرأي أصلاً، هذه أحكام قال تعالى: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الممتحنة:10] فالقرآن حاكم يحكم، والسنة حاكمة، والسؤال الصحيح أن نقول: ما حكم الله، أو ما حكم الإسلام، أو ما حكم كذا في الإسلام، هذا هو السؤال الصحيح، ولا نقول: رأي الدين، لأن هذا حكم يجب أن نلتزم به، أما كلام البشر المجرد فهو رأي، والرأي يجوز أن يكون حقاً وأن يكون باطلاً، فنقول: ما حكم كذا في الإسلام؟ السؤال الصحيح إذاً أن نقول: ما حكم المسبحة في الإسلام؟ فنقول: هل سبح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بها؟ لم يكن عنده مسبحة صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا عند الخلفاء الراشدين المهديين، فالمسبحة بهذا الشكل هي من بدع الهندوس، وانتقلت إلى الأمة الإسلامية عن طريق الصوفية الذين أخذوها من أولئك القوم، ولهذا قيل لواحدٍ منهم: ألا تترك هذه المسبحة؟ قال: شيءٌ دلني على ربي لا أتركه؛ لأن عندهم هذه الأشياء هي التي تدل على الله، إذاً اتخاذ مسبحة يسبح الإنسان بها بدعة.
لكن أحب أن أنبه على قولنا: بدعة، هل كل واحد نرى معه مسبحة نقول: أنت مبتدع؟ لا.
لأن كثيراً من الناس يجهل هذا الحكم، ومنهم من لو جئته بهذا العنف والشدة لنفر منك ومن السنة التي قد تكون لديك، وهي أهم من ذلك.
فيجب علينا أن نكون لطفاء في الإنكار ولا بد أن تكون لدينا حكمة وأسلوب في إنكاره، فإذا رأينا من يفعل ذلك، نقول: يا أخي بارك الله فيك -بعد أن تسلم عليه- هذه أصابعك، قل باليمنى: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، هذه سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذه المسبحة لم يتخذها الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء الراشدون، ولا ينبغي لك هذا، وأنت إن شاء الله حريص على الحق، فتكون النصيحة بالحسنى، ولا نحكم عليه بأنه مبتدع.
فأهل البدع هم الذين بدعهم واضحة، كالذين يجلسون في حلقات وحضرات مخصوصة للابتداع، فيأتون بمسبحة بعضها ألف حبة، ثم يسبحون بها، كما تفعله بعض الصوفية، هذه هي البدعة التي ننكرها بقوة، وأقصد قوة الإنكار بالقلب، وقوة الإنكار بالحجة وبالدليل، وحتى ونحن نلاطفه ونخاطبه بالحكمة نكون أقوياء في الحرص على أن يجتنب هذه البدعة.
وبعض الناس يقول: هذه الحجارة من النوع الكريم، تجلب الرزق -والعياذ بالله- أو تؤلف قلوب الناس لك، نسأل الله العافية! فهذه تدخل في الشرك، ليست فقط في البدعة.(89/25)
البدع كلها سيئة
السؤال
هل هناك بدعة حسنة في الإسلام وبدعة سيئة؟
الجواب
النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول ويردد في خطبه: {كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار} وكلمة "كل" من ألفاظ العموم، فإذا قلت لك: كل الناس صلَّى العشاء؟ فأنت تقول: لا، أنا رأيت مجموعة لم يصلوا، أو إذا قلت لك: كل الناس مسلمون؟ فأنت تقول: لا.
يوجد من هو مسلم ومن هو غير مسلم، وإذا استدركت فمعناه أن العبارة خطأ، إذاً ما رأيك فيمن يقول: البدعة منها ما هو حسن ومنها ما هو بدعة، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار} أليس هذا يستدرك على رسول الله -نعوذ بالله من الضلال- من هذا الذي يجرؤ أن يخطئ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! مع أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يرددها دائماً في خطبه، وخطباؤنا في كل جمعة يقولون: كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلاله، وكل ضلالة في النار، لماذا كررها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكررها أصحابه، ويكررها الأئمة أيضاً؟ فليس هناك بدعة حسنة أبداً! قد تقول: بعض العلماء قالوا مثل هذا الكلام، كبعض علماء القرن الخامس أو السادس، فنقول: أولاً: إننا نتبع ما جاء عن الله، وعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والخلفاء الراشدين، والسلف الصالح، لا أئمة القرن السادس ولا السابع.
ثانياً: الأئمة الذين قالوا: إن البدعة خمسة أحكام: واجب، ومندوب، ومباح، ومكروه، ومحرم، يقصدون المعنى اللغوي، ولهذا يقولون: بدعة واجبة، مثل جمع المصحف أو بناء المساجد، فهذه ليست بدعة، لأنه يقصد بها الشيء الجديد فقط، وهو المعنى اللغوي للبدعة، فنقول: هذا الكلام بهذا التخصيص اصطلاح، ولا مشاحة في الاصطلاح، لكن الاصطلاح إذا فهم منه غير الحق، أو إذا كان وسيلة لأصحاب البدع إلى الباطل، فإنه يكون خطأ، ولا نتخذه، لأنه يمكن أن يكون وسيلة إلى الشرك، وإن كان هو في ذاته لا يدل على الشرك بالضرورة، فإننا نتركه، ونجتنبه، لماذا؟ لأنه من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، فنتقي الشبهات بأن نترك ذلك.
نقول: هذا الكلام جرأ أهل البدع، لأنهم أصبحوا يبتدعون ما شاءوا في الدين، ويقولون: هذا من قسم البدع الحسنة، مع أن العلماء كـ العز بن عبد السلام الذي قال هذا الكلام ما قصدوا هذه البدع، وإنما قالوا هذا على الأشياء الجديدة الحسنة، فلنفرق بين هذا وبين هذا، وحتى لو فرض أن أحداً كائناً من كان قال بخلاف ما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكلامه مردود غير مقبول، ويبقى العموم محفوظاً في قوله صلى الله عليه السلام: {كل بدعة ضلالة} وقوله: {من عمل عملاً}، فعملاً نكرة مطلقة، {ليس عليه أمرنا فهو رد} وفي رواية: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه} فكلمة "ما ليس منه" تشمل كل شيء إذاً ليس هناك أي تخصيص لعموم ما نهى الله عنه ورسوله عنه من البدع.(89/26)
حكم التداوي بكتابة القرآن على ورق وشرب مائها
السؤال
هل التداوي بالقرآن وذلك بكتابته بالزعفران ثم وضعه في ماء وشربه هل هذا بدعة أو غير بدعة؟
الجواب
الصحيح أن هذا العمل بدعة، وإن كان قد ورد عن بعض من تقدم، ولكن هذا يترك ويزجر عنه، لأنه ذريعة ووسيلة إلى غيره، فكتابة القرآن وشربه من البدع، وإن كان صاحبه يقصد التداوي به، ويغنينا عن ذلك الرقية، بأن يقرأ الإنسان القرآن ويرقي نفسه، أو يرقيه إنسان آخر أما أن يكتب ثم يذاب ثم يشرب، فهذا من البدع التي لا شك فيها، ولا ريب أنها أصبحت وسيلة وذريعة لبدع أكبر، بل للشرك الأكبر، فتكتب قل هو الله أحد ويكتب معها أسماء أعجمية بالسريانية هي أسماء آلهة ومعبودات من الجن.
وهؤلاء وبعض الناس يسمونهم سادة، يكتبون آية الكرسي ويكتبون معها رموزاً وأشياء معينة، ويضعون معها أسماء معبودات من الأصنام أو من آلهة الجن أو من الشياطين المعبودة، لا ندري عنها، لكن هو يعرفها، ويقولون للمريض: اكتبها وبلها بالماء واشربها، فيقول المريض: الحمد لله شربت آية الكرسي وشفيت، إنما شرب أسماء الجن والشياطين ومعبودات الشياطين، ولهذا نقول: ما دامت قد أصبحت مدخلاً لأهل البدع والضلال، ولم يصح فيها شيء مرفوع عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبداً، فهي بدعة، والتداوي الذي ثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرقية ثابت، وفيه غنى وكفاية.(89/27)
الدعاء يرد القضاء
السؤال
إذا كان الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قدر على الإنسان وقضى عليه سابقاً بشيء، ثم دعا الله وردّ عنه هذا البلاء، فكيف يجمع بين هذا وذاك؟
الجواب
الجمع بين هذا وذاك بإيجاز: الوجه الأول: هو ما جاء ذكره في قوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39].
فأُم الكتاب هو اللوح المحفوظ وهذا لا تغيير فيه ولا تبديل، لكن -كما تعلمون- هناك تقدير سنوي حولي في السنة، ويكون في ليلة القدر، وهناك تقدير عمري، وهذا يقدر إذا نفخ الملك الروح في الإنسان، وهناك التقدير الكوني، وهو الذي في اللوح المحفوظ، فيجوز أن يكون في التقدير العمري أو التقدير الحولي أو التقدير اليومي، الذي يقدره الله أمر معلق، ولكنه في اللوح المحفوظ ثابت، والأمر المعلق مثل أن يقدر الله على إنسان بمرض في التقدير الحولي أو العمري أو اليومي، لكنه يعلق بالدعاء، فإذا دعا الإنسان صرف عنه هذا التقدير، وإلا فإنه يحل به، أما التقدير الكوني فإنه لا بد إما أنه مكتوب بأنه يدعو، فينجو من المرض -مثلاً- أو لا يدعو فيصيبه المرض، فيكون هذا حافزاً لنا أن ندعو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دائماً، ندعو الله تعالى ونستيقن أن هذا الدعاء سيصرف الله تعالى عنا به شيئاً من الشر، أو يحقق لنا شيئاً من الخير، أو يدخره لنا عنده.
الوجه الثاني: وهو أن الدعاء سبب من الأسباب، فمثلاً أنت تخشى أن تقع في مصيبة -عافانا الله وإياكم- فلو أنك مشيت في آخر الليل وأنت سهران، لربما وقع لك حادث، لكن لو قلت: أنا لن أقود السيارة وأنا سهران! فإنك تنجو بإذن الله، فهذا سبب تتخذه فتنجو بإذن الله.
والدعاء سبب من الأسباب المشروعة شرعها الله لنا، فنتخذه لندرأ به ما نتوقعه من الشرور، فإن لله عز وجل أقداراً تمشي وفق السنن المعروفة لدينا، ونحن نعلم من السنة الربانية -وكل إنسان يعلم هذا- أن كثيراً من الناس دعوا الله عز وجل فجنبهم الله مصائب حاقت بمن حولهم، وهذا بفضل دعائهم لله عز وجل، بل حتى المشركين إذا دعوا الله عز وجل في البحر فإنه ينجيهم.
إذاً: الدعاء سبب واضح مجرب يدفع بعض ما يقتضي في علمنا الإنساني البشري وقوع الشر ووقوع المصيبة، التي قد تكون مكتوبة عند الله أنها لا تقع، فالمسلم مطلوب منه أن يدعو الله عز وجل ويتخذ ذلك الدعاء سبباً لدفع الشر، ودفع البلاء الذي يتوقعه والذي يخافه، فلا ننسى دعاء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كل وقت وفي كل حين، ولو من أجل شيءٍ بسيط.(89/28)
حكم من يقول عند قراءة الإمام (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) استعنا بالله
السؤال يقول: عندما يقول الإمام {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] كثير من الناس يقولون: استعنا بالله، فما هي نصيحتكم لهم؟
الجواب
ننصح هؤلاء بألا يقولوا ذلك؛ لأن هذا لم يرد، وإنما عليك أن تنصت إلى قراءة الإمام إن كان يقرأ جهراً، وأنت إذا قرأت تقول بنفسك: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وإذا كان الإمام يقرأ؛ فإنك تسمع وتخشع لقراءته وتنصت لها، هذا هو القول الصحيح الراجح في مسألة القراءة خلف الإمام، فهذا لم يرد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد قال: {صلوا كما رأيتموني أصلي}.(89/29)
وجوب العدل بين الزوجات
السؤال
ما رأيك في الرجل الذي يتزوج امرأتين ولا يعدل بينهما؟ ثم ما هي نصيحتك لأولئك الأخوات اللاتي حضرن ولأول مرة في هذا المسجد؟
الجواب
قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من تزوج امرأتين ولم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه مائل}.
وقد أمر الله تعالى بالعدل وقال: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء:3]، والعدل مطلوبٌ في كل شيء.
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {والمقسطون هم الذي يعدلون في أهليهم وما ولوا} أي: تولوا من الأعمال.
فالعدل به تقوم السماوات والأرض، وعليه قامت، ويجب علينا جميعاً أن يكون العدل هو شأننا ودأبنا في جميع أمورنا، ولا سيما بين الزوجات، فيعدل فيما يملك، في المبيت، وفي النفقة، وفي الأمور الظاهرة التي بينها الشرع بالتفصيل، ولا يجب عليه -وهذا من فضل الله- أن يعدل فيما لا يملك، كأن يميل قلبه إلى إحداهن لكن لا يظهر أمام الأخرى ذلك، وإنما يجب أن يحرص على أن يظهر أمام كلٍ منهما على أنه يعامل الأخرى بالمثل، سواء بسواء، فإن كانت الأولى فلها حق العشرة السابقة، وإن كانت الأخرى فلها حق أنه تزوجها فرضيت به مع أن لديه زوجة وهكذا.
فالمؤمن يجب أن تكون حياته بالعدل ما أمكن، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {سددوا وقاربوا} العدل عسير، لكنه ليس عسيراً على من سدد وقارب، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ييسره عليه، والنصيحة إلى هذا الأخ أن يتوب وأن يتقي الله، وكل من يفعل ذلك عليه أن يتقي الله تعالى في أهله ونفسه وما ولاه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وأما النصيحة إلى الأخوات فإنها لا تخرج عما ننصح به أنفسنا جميعاً، فالمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، ودين الله عز وجل وكتابه وهدي نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو للمؤمنين وللمؤمنات معاً، وإن ورد الخطاب بصيغة الرجال أكثر، فهو لأنهم قوامون على النساء، والنساء لهم تبع في ذلك كله.
فالذي أنصح به إخواني عامة ونفسي به أولاً: هو تقوى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإنها وصية الله إلى الأولين والآخرين، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] وهي الوصية التي كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوصي بها أصحابه، وكان أصحابه يتواصون بها.
والتقوى في حق الأخت المسلمة لها أمور تختلف عن الرجل؛ لأنها معرضة للفتنة، إما أن تُفتن وإما أن تَفتن؛ ولأنه يدار لها في هذا الزمان ويحاك لها مؤامرة خطيرة، يراد أن تتخذ المرأة المسلمة منفذاً لهدم المجتمع المسلم، ولهدم العقيدة الإسلامية، ولأن النساء هن أكثر أهل النار، كما ذكر ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما اطلع على النار، والنساء بلا شك أكثر عدداً من الرجال، ولعل من أسباب كونهن أكثر أهل النار: أنهن أكثر في العدد، وأيضاً لأنهن أكثر تعرضاً للفتنة وأكثر استجابةً لها.
والحمد لله رب العالمين.(89/30)
الشباب مسئولية من؟
بدأ الشيخ هذا الدرس بمقدمة عن أهمية الشباب في بناء الأمم وسقوطها، مبيناً بعض أحوال الشباب في مجتمعاتهم، ثم بدأ يستعرض بعض المؤثرات التي لها دور في إصلاح الشباب أو إفسادهم، مركزاً على دور الأب والأم في تربية الأبناء، وذكر بعض الأمثلة، ثم تكلم عن دور المدرسة الحاضن الثاني للأبناء مبيناً ضعف جانب التربية فيها، وتكلم عن حال الطلاب مع محيط المدرسة من مدرسين ومناهج ونظام.
ثم تكلم عن المناهج وخصها بالذكر لأهميتها ودورها في صياغة فكر الطلاب، ثم ذكر نبذة عن الشباب المنحرف، وبين أسباب فساد الشباب في هذا الزمان والمتمثلة في ضعف التربية وفساد وسائل التوجيه العامة من إعلام وغيره.(90/1)
أهمية الشباب في بناء الأمم أو سقوطها
الحمد لله رب العالمين، ونصلي ونسلم على خير خلق الله أجمعين، محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: إنه بقدر اتساع مشاكل الشباب، وهمومهم، وواجباتهم، وكذلك بقدر واجبنا نحوهم؛ يكون موضوع (مسئولية الشباب) موضوعاً واسعاً جداً، لا يمكن بأي حالٍ أن يستوعبه كلام عابر في لقاء محدود؛ بل يجب أن يكون قضية عامة في أي مجلس، وأن تخصص له مراكز وأجهزة ومؤسسات لدراسته؛ ولا سيما في هذا العصر المعقد.(90/2)
زيادة الشباب في أمتنا الإسلامية وقلتهم في الغرب
إن أولى البشائر التي نبشر بها إخواننا الشباب، أن هذه الأمة أمةٌ شابة في جملتها وفي مجموع حياتها؛ ثم إنها أمة شابة في واقعها الذي تعيشه الآن وفي هذه الظروف، فأكثر أمم الأرض شباباً هي الأمة الإسلامية والحمد لله.
كانت أكثر الأمم عدداً في أوائل هذا القرن هي أمم الغرب، فقد كانت دول الغرب تعد بعشرات الملايين؛ في حين كانت بعض الدول الإسلامية مثل: مصر -قبل مائة سنة- كانت خمسة أو ستة ملايين فقط، بينما كانت بريطانيا تزيد على 20 مليوناً، وكذلك فرنسا وأمثالها.
فكانت أمم الغرب أكثر أمم الأرض شباباً، ولكن من حكمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن أترف هؤلاء في الحياة الدنيا، وأعطاهم زينة ومتاعاً يستدرجهم به، ويمهلهم حتى يأتي اليوم الذي يأخذهم فيه أخذ عزيز مقتدر.
لقد جاء الوقت الذي اشتغلت فيه هذه الأمم بلذاتها وشهواتها من جهة، ومن جهة أخرى استفاقت أمتنا -والحمد لله- واستيقظت، والعوامل في ذلك كثيرة - عوامل انحدار أولئك، وعوامل إفاقة هذه الأمة- لا مجال لعرضها، وهناك عوامل أوسع وأعم من عوامل الانحدار أو الإفاقة، وهي عوامل بشرية بحتة.
فهذه العوامل بجملتها أدت إلى أن تصبح الأمة الإسلامية هي -والحمد لله- أكثر أمم الأرض شباباً؛ ولو أخذنا مثالاً على ذلك تركيا -مثلاً- سكانها الآن أكثر من 70 مليوناً، نسبة الشباب فيهم عالية جداً، لا تكاد تقارن هذه النسبة لو قارناها بـ ألمانيا وتركيا، فهما أكثر دولتين بينهما نوع من العلاقة العمالية وما أشبه ذلك؛ حتى إن ألمانيا لما أرادت أن تضع إعانات لزيادة عدد السكان كان أكثر من حصل على هذه الإعانات هم العمال الأتراك، الذين يعملون في ألمانيا.
إذن نحن أمام خير كثير -والحمد لله- فالأمة شابة، نحمد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليها؛ لكن هذا يستتبع مشكلات ومسؤوليات وتبعات كثيرة جداً، فمن يربي هؤلاء الشباب ومن يوجههم ويقومهم؟ قبْل أيام قليلة فقط أصدرت الأمم المتحدة بياناً عن الإحصاء العام للعالم، وذكرت أنه في نهاية عام (2000م) سيصبح عدد المسلمين (ألف وستمائة مليون).(90/3)
أحوال المجتمع وواجبه تجاه الشباب
إننا لو افترضنا أن الشباب فقط (ستمائة مليون) معنى هذا أن الشباب المسلم وحده سوف يكون أكثر من عدد سكان أوروبا بشيوخها وشبابها وصغيرها وكبيرها، وهذا يستتبع مسئولية عظيمة جداً؛ فهم يخافون منا، ونحن إلى الآن لم ندرك قيمتنا، ولم نعرف واجبنا، ولم نضع نوعاً من الأسس العامة لتربية هذا الشباب واحتضانه؛ بل إن أكثر ما عندنا من توجيه للشباب هو: لوم هؤلاء الشباب، فإن تحدثنا عن الشباب فباللوم، فالشباب المنحرف يلام من الدعاة ومن الشباب المستقيمين؛ ومن الوعاظ، والخطباء، ومن رجال الأمن، ومن كل من يهمه صلاح المجتمع، ومن كل من يصطلي بنار الفساد والانحراف الذي يأتي من قبل هؤلاء الشباب، فنجد اللوم الشديد لهم، وهذا الكلام هو بالنسبة إلى الشباب المنحرف، وأما الشباب المستقيم، فإنه يذم ويطعن فيه، ويتهم بالتهم التي لا تخفى على أمثالكم.
إذاً فعماد الأمة، وقوام وجودها، وأساس نهضتها -بإذن الله تبارك وتعالى- هم الشباب المستقيم، فكيف توجه إليهم التهم من كل مكان؟! فإن تعرض متعرض أو متحدث لواقع الشباب، فأول ما ينصرف إلى أن الشباب لا يقدرون المسئولية، والشباب لا يقوم بواجباته، ويعزف عن الأعمال الضرورية للأمة والمجتمع إلى أعمال أخرى، ويضيع أوقاته ووهكذا؛ لكن أين البديل؟ أين ما خُطِّط له ليكون هذا الشباب كما نريد من الاستقامة؟ وكما يريد الله تبارك وتعالى له؟ نحن نعيش في هذا الوضع الحرج الصعب، وحال شبابنا أشبه ما يكون بقول القائل:
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء(90/4)
غياب دور الأب والأم في تربية الأبناء
فماذا فعل الأب؟ وماذا فعلت الأم؟ بل ماذا فعلت المدرسة؟ وماذا فعلت وسائل الإعلام والصحافة؟ وماذا فعل المسجد؟ فلو اختبرنا هذه العناصر الأساسية في بناء الشباب وتربيته وتوجيهه؛ لوجدنا التقصير الشديد في حق هؤلاء الشباب، وقد يطول المقام لو ضربنا الأمثلة على هذه كلها؛ أما الآباء فأجزم جزماً -وعندي الأمثلة والأدلة عليه- أن بعضهم لا يدري عن ابنه أين ينام؟ وأين يذهب؟ ومن أين يأكل؟ ومن أين يأخذ مصروفه؟ بل بعضهم لا يدري في أية سنة يدْرس أبناؤه! وحصلت أمثلة كثيرة من ذلك.
فقد حدثني أحد مديري المدارس في الثانوية: أنه أرسل إلى أحد الآباء يطلب منه الحضور لمعالجة وضع ابن له، وهذا الابن طالب في الأولى الثانوية؛ قال: فتأخر الأب فقال له: لماذا تأخرت؟ قال الأب: ذهبت إلى المتوسطة، فقد كنت أظن أن ابني في الثالثة المتوسطة، فذهب إلى المتوسطة وهي في حي بعيد، وقال للمدير: طلبتموني فجئت، فقال له المدير: ما طلبناك، قال: بل فعلتم وأنا أبو فلان، فقال له المدير: سامحك الله؛ إن ابنك تخرج العام الماضي، فاذهب وابحث عنه في أية ثانوية ففكر الأب واتصل بالأم، ثم بحث عنه فوجده في مدرسة أخرى.
وهذا الموقف هو واحد من نماذج كثيرة، تبين أن الأب لا يدري شيئاً عن ولده، وبعض الآباء يقولون: شباب اليوم خائب، وليس فيه خير، وشباب اليوم كذا وينسون واجبهم هم.
إن مثل هذا النموذج قد يكون كثيراً، وإن التقصير أيضاً كثير، وإن عقوق الآباء للأبناء موجود، وكذلك الأم، فكثير من الأمهات يهمها حضور الحفلات والزيارات والتسوق والتجول، وتذهب هنا وهناك، ولا تدري عن أبنائها أو حتى عن بناتها شيئاً، والخادمات هن اللاتي يتولين تربية الأبناء، ولهذا فإن هناك من المفاسد والأضرار ما لا يتسع له المقام، قد حدثت كثيراً حتى من ناحية الصلة المعنوية والإحساس والشعور النفسي.
ولا بد أن كثيراً منكم قد سمع عن هذه الأسر: عندما سافرت الخادمة، بكى الأبناء بكاءً مراً، وهم يودعونها إلى المطار؛ والأم تسافر في العطلة، وتذهب أينما تشاء، ولا يبكي أحد من أبنائها لماذا؟ لأن الطفل يبكي على الحنان الذي سيفقده، وأما الحنان الذي لم يره ولم يشعر به فلا يبكي عليه؛ إنما يبكي على هذه التي عطفت وشفقت عليه، وحملته وربته وأرضعته.
إذاً: فالذي قام بهذه التربية هن أولئك مع أن فيهن ما فيهن، فمنهن التي ليست بمسلمة أصلاً، ومنهن التي لا تعرف من دينها شيئاً، ومنهن التي لو كانت عابدة تقية فأقل ما يمكن أن يتربى عليه الطفل أنه يتربى على لغتها وعلى مفاهيمها؛ وأمه تلك التي قد تكون عاملة أو مثقفة، لم يستفد ولم ينل من ثقافتها شيئاً.
إذاً: فنحن أضعنا البيت؛ الأم والأب أضاعوا الشباب، وهذه إيماءة أو إشارة إلى ما وراءها، ولا يخفى عليكم ما بعد ذلك.(90/5)
دور المدرسة في تربية الأجيال
لو نظرنا إلى المدرسة فإننا نجد أن العدل والإنصاف يقتضي منا أن نقول: إن الشباب مظلوم في المدرسة؛ نعم! كثير من الشباب لا يقبل التوجيه، وكثير من المدارس والمدرسين فيهم من الخير ما فيهم، لكن يبقى للشباب حق، وأنه يحتاج إلى صوت يقول لهؤلاء: أنا مظلوم وأنا لم أنل حقي الذي يجب عليكم شرعاًَ أن تعطوني إياه، فقد قال صلوات الله وسلامه عليه: {كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته}.
وهذا النص وهذا الكلام هو من جوامع كلمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي أوتيها، ولو جمعنا كل علماء القانون والتربية والاجتماع وعلم النفس، وكل هؤلاء الذين يبحثون ويضيعون الأعمار في تأصيل مسئولية الأمة وأجهزتها تجاه ما عليها من الحقوق، لم نصل أبداً إلى مثل هذا النص الجامع الصريح الواضح: {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته}، ابتداءً بالإمام فهو راع للأمة ومسؤول عنها كما قال عمر -رضي الله عنه-: [[لو أن بغلة تعثرت في العراق لسئل عنها عمر]] وانتهاء بالزوجة وفي رواية: بالعبد الرقيق الذي هو راعٍ في مال سيده وهو مسئول عن رعيته.
إنَّ الأحكام يشترط لمن يؤديها أن يكون حراً ذكراً بالغاً أما العبد فقد سقطت عنه كثير من الأحكام والواجبات؛ ومع ذلك فإن مسؤوليته لا تسقط أبداً مع أنه أقل عضو أو عنصر في الأمة.
إذاً، لو نظرنا أو تأملنا المدرسة لوجدنا أن هناك خللاً كبيراً في التربية، ولا يتسع المجال هنا لتفصيله؛ من حيث تعامل المدرسين، ومن حيث المناهج، ومن حيث الأسلوب العلمي أو الطريقة التي تمكن للنظام أو المنهاج العام غير المنهج الدراسي.
فنحن نعيش الآن -كما ترون- كثيراً من آثار هذا التذبذب وهذا الاقتراب، أما من حيث المدرس؛ فالمدرس: إما أن يكون نموذجاً للجيل الضائع -جيل الطفرة الذي لم يتربَّ ولم يعرف كيف يسير في هذه الحياة- وُكِّل إليه أبناء وهو لا يحسن تربية نفسه فضلاً عن أن يحسن تربيتهم؛ وإما أن يكون لديه جانب علمي جيد، ولكنه ليس لديه جانب تربوي؛ فكيف يعطي؟! وكيف يبلغ هذا العلم؟! فليس الحل هو المواد التربوية التي يزعمونها، فهذه مواد في الحقيقة هي: فلسفة التربية أو هي عبارة عن فلسفة غربية للتربية، وليست هي التربية النبوية التي يجب أن تكون عليها الأمة، إلا ما عُدِّل وما يحاول أن يعدَّل، ففيها شيء من ذلك.
وإن كان المدرس ناجحاً مستكملاً للشروط؛ فإن مدرسين آخرين يخذلونه في واجبه، فما يرتقه يفتقونه، وما يصلحه يفسدونه، بالإضافة إلى المفسدات أو العوامل الأخرى المثبطة في المدرسة، فالأمة تحتاج إلى تكامل، وهذا واقع نراه جميعاً في هذا الميدان وحده في مدارسنا أو في كثير منها.(90/6)
فساد مناهج التربية في المدرسة وتناقضها
إن نظرنا إلى المناهج؛ فسبحان الله! إن العقل البشري فطره الله تعالى على الانضباط، وجعل الفطرة لا تتناقض معه، ولهذا لو نظرنا إلى كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فإنه يخاطب الفطر، ويخاطب العقول أَلَّا تتناقض، فمثلاً: خطابه للمشركين كيف تعرفون وتقرون: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف:87]، فكيف تتناقضون، وتقولون: إنَّ الله هو الخالق ثم تعبدون غيره، وهذا كثير جداً؟! إذاً: هذه هي أهم قضية وهي قضية التوحيد؛ فنجد القرآن دائماً لا يخاطب النفس بمنهج مضطرب؛ لأنها ترفض التناقض، لكننا نجد مناهجنا متناقضة، ففي مادة التوحيد يدرس الطالب أن هذا من الشرك، ويدرس في الحديث أو في مادة الثقافة أن دين الإسلام دين شامل كامل إلى آخره -وهذا حق-.
ثم تأتي مادة أخرى كمادة الاجتماع أو الأدب أو غير ذلك -فتصنف بعض العلوم، أو بعض المجالات والميادين على أنها خارجة عن نطاق الإسلام وعن نطاق الدين؛ فيقرأ الطالب حديثاً عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثلاً في مادة الحديث كقوله: {كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه} أو حديث: {من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت} إلى آخره -وهذه أشياء بدهية- ويجده يقرأ في مادة الأدب قطعة تحتوي موضوعاً عن الهجاء، أو موضوعاً عن الغزل -من أوله إلى آخره- وأنواعه، ومن الذين بلغوا القمة فيه؟ فيكون فيه القذف، وفيه الكذب، الافتراء، وفيه ما فيه مما يخالف ما قرأه في المادة الأخرى وهكذا.
وهذا غير التناقض الذي نجده في مواد أخرى مثل الذي نجده بين العقيدة والتاريخ، فيدْرُس في العقيدة أن الباطنية فرقة هدامة كافرة ومرتدة -هذا إن درسها- وقد ألغيت المادة التي تتعلق بهذا، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم يَدْرُس في التاريخ أن العبيديين أو الفاطميين لهم حضارة، ولهم ولهم من الأمجاد الكثيرة، وربما ترفق صور للقباب التي بنوها، والضرائح التي عملوها، وهذه من الشرك؛ لأنها تخالف ما تقرر في التوحيد، وهكذا يتناقض الشباب، ولا يدري كيف يفكر، ومن أين يأخذ، فأقل ما في هذه المناهج أن يعيش الطالب وقد استقر في ذهنه هذا الانفصال الكبير، بين حقائق إيمانية دينية وبين أمور أخرى قد تكون علمية؛ كما تسمى وتصنف لهم.(90/7)
شمولية المنهج التعليمي في الإسلام
نأتي إلى موضوع المنهج العام للأمة الذي يجب أن تسير عليه في تعليمها، فنحن -والحمد لله- الأمة التي علمت العالم، والأمة التي علمت الدنيا كلها.
فهذا تاريخ الحضارات الموجود أمامنا، وما عرفت الدنيا كلها تعليماً عالمياً أبداً، ولا حضارة عالميةً أبداً إلا بالإسلام ومن المسلمين؛ فكل الحضارات الماضية -الرومانية واليونانية- كلها حضارات محلية محدودة، لم تكن تفكر تفكيراً عالمياً، ولم تعط نظرة تربوية عالمية أبداً، فجاءت هذه الأمة، بهذه الحضارة التي انبثقت من خلال أمة تؤمن بالله واليوم الآخر، ونظرها أبعد من هذا العالم؛ لأنها تؤمن بالآخرة التي هي المجال الرحب والواسع جداً، أما هذه الدنيا فقد استوعبتها، وكل أنواع ووسائل التعليم وطرائقه وأساليب التلقين، قد دُرِست وهضمت في هذه الأمة -والحمد لله- وكُتب عنها المؤلفات.
أما أوروبا، ويؤسفنا أننا نضطر أن نقارن دائماً؛ لكن واقعنا هو أن الفكر الغربي يسيطر على أكثر أمور حياتنا ومناهجها؛ فنضطر أن نقارن هذه الأمة بأوروبا التي مرّ عليها أكثر من ستة قرون لم يؤلف فيها كتاب واحد، في أي علم وفي أي فن، ولا حتى وريقات؛ في الوقت الذي كان في هذه الأمة يؤلف بعض علمائها (200) كتاب أو (300) أو أكثر.
ومن ذلك ما يتعلق بتربية الإنسان وبتربية الشاب منذ أن يولد؛ بل من قبل ذلك -والحمد لله- من الزواج، فقد علَّمنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف نختار، ثم علَّمنا العشرة مع الزوجة، ثم علَّمنا أول ما يولد الطفل ماذا نفعل، إلى أن يربى وإلى أن يكبر، فهناك منهج مرسوم وواضح.
ومن الناحية العملية رسم لنا علماؤنا منهجاً عجيباً فريداً جداً لا نظير له في الدنيا، ويكفينا أن نعلم أن خيرة علماء الأمة وحفاظها تصدروا للتعليم والتدريس والإفتاء، وبعضهم دون العشرين، وبعضهم قريب من العشرين، فكيف وصل هؤلاء؟ ابتداءً من عبد الله بن عباس ونظرائه من الصحابة، وانتهاءً بالإمام مالك والشافعي وأحمد وغيرهم؛ ففي سن مبكرة يصبح اسم هذا العالم يتردد في جنبات الدنيا شرقاً وغرباً، رغم أنه كانت وسائل الإعلام محدودة جداً، فكيف حصل هذا؟! نحن الآن يدرس الطالب (18سنة)، وتأتي إليه وهو شبه أمي! (6 سنوات) مرحلة ابتدائية و (6 سنوات) مرحلة متوسطة وثانوية، فهذه (12 سنة)، وبعد ذلك يأخذ (4 سنوات) في الجامعة -وبعضهم لا يكتفي بالأربع، فالذي يتخرج الآن من الجامعة بعد (4 سنوات) يعد مجتهداً أو مثالياً، وكذلك قد يكمل البعض أكثر من ذلك (18 - 20 سنة) حتى يتخرج مع من يرسب ومع من يعيد؛ فتجده يكاد أن يكون أمياً ما أتقن شيئاً؛ وهذا خلل كبير في المناهج وخلل في أسلوب التعليم، إذن فهذا حال الشباب في المدرسة.(90/8)
دور المجتمع في إصلاح الشباب
وعندما ننتقل إلى المسجد فماذا نجد؟ فالخطباء والدعاة أكثر ما يتكلمون -كما أشرت- إلى عيوب الشباب، وذنوبهم الشباب، وأخطائهم؛ بل ربما قد تكون كلمة المتحدث، أو موعظة الواعظ مما ينفر الشباب الذين يحضرون إلى المسجد؛ فضلاً عن الشباب الذين لم يدخلوا المسجد؛ فليس هناك نوع من الخطاب المدروس، وكيف يخاطب هؤلاء الشباب خطاباً مدروساً، ليعي واجبه، وليفقه حقيقته، وليعرف ما له وما عليه؟ أما الشباب الذينهم خارج المسجد، فيكاد يكون أمرهم ساقطاً من حساب أهل المسجد ومن يأتون إليه، وعند خروجهم من المسجد سواءً كان ذلك بعد محاضرة فيها المئات منهم، أو كان ذلك بعد صلاة جمعة؛ قد يجدون أمام المسجد تجمعات من الشباب الذي لا يصلي فلا يؤبه لهم، ولا يخاطبون، وكأننا غير مسئولين عنهم، فأصبحت هذه ظاهرة عادية جداً؛ ولنأخذ مثالاً: صلاة المغرب التي يجتمع بها أكثر عدد من المصلين بالنسبة لبقية الفروض، وكما ترون يخرج الناس تباعاً، فيجدون كثيراً من تجمعات هؤلاء الشباب بجوار المسجد وفي الشارع، فلا يكلمون أحداً منهم، ولا ينظرون إلى أحد منهم أيضاً، ثم في النهاية نأتي ونلوم هؤلاء الشباب؛ فماذا قدمنا لهم؟ ماذا عملنا لهم نحن المصلين أو الدعاة أو الخطباء أو الوعاظ؟ لا شيء، بل ربما لم نفكر فيما يجب علينا نحوهم.(90/9)
وسائل وأسباب انحراف الشباب
فإذا انتقلنا إلى وسائل التوجيه العامة، نجد أنه يقصر التعبير عنها، إن قلنا: إنها لا توجه الشباب توجيهاًً صحيحاًَ، فهذا التعبير قاصر جداً عن الحقيقة، بل نقول: إنها توجهه توجيهاًً سيئاً ومنحرفاً إلا ما ندر أو قل؛ أما الصحافة فإن الشاب يشتري الجريدة، فيجد فيها أربع صفحات أو أكثر -أحياناً- ملحقاً كاملاً كله عن الرياضة؛ ففيها لهو ولعب، وأخبار عن النجوم والأبطال، فمن هم هؤلاء النجوم والأبطال؟ علَّمنا شبابنا أن البطل هو بطل السينما، وأن النجم هو الممثل أو الممثلة وأن وأن؛ فأصبح الشاب لا قضية له ولا هم له إلا هذه الأمور، وأكثر الشباب لا يشتري جرائد إلا لهذه الأمور، فإذا ترك هذه الأمور وهذا العفن أو نظر ومد بصره إلى الصفحات الأولى، فماذا يجد؟ سيجد أخباراً وقضايا لا تهمه، ولا تعيشها أمته، ولا علاقة له بها.
ثم بعد ذلك نقول: الشباب مقصر، الشباب يقترف الإجرام، ونجد أكثر من عصابة من الشباب، وعندما حُقِّق مع عصابات سرقات أو مخدرات، اعترفت أنها رأت هذا العمل في الأفلام؛ فهل نتج عن هذا منع لهذه الأفلام؟ وقد حصل أن قُبِضَ على شاب في خلوة وفي زنا ثم عوقب -ولا بأس فهذا أمر قرره الله وشرعه الله- لكن هل حصل أن عاقبنا صاحب الفيلم أو صاحب الفيديو الذي أنتج الفيلم، والذي أثار غريزة هذا الشاب للزنا؟ وهل عاقبنا المجلة التي أفسدت فطرة هذا الشاب، ودعته إلى الفاحشة؟ وهل عاقبنا الذين يدفعون هؤلاء الشباب في مجالسهم وفي ملاهيهم وفي كازينوهاتهم أو في مقاهيهم وفي التبرج؟ بل بالعكس؛ فقد تهيأ أحياناً بعض هذه الأمور على أنها من أمور الترفيه العام، ثم إذا عمل الشاب شيئاً عوقب وجلد؛ ولذلك لم يصلح هؤلاء الناس اليوم.(90/10)
من أسباب انحراف الشباب
أقول بكل أسف: لماذا لا يصلح الشباب الذين يسجنون؟ فالأصل في المجتمع المسلم: أن من يقام عليه الحد أو يجلد أنه يتوب ويتطهر، وهو كفارة له كما في حديث عبادة المتفق عليه، والذي يبين أن العقاب كفارة له عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أما الآن هل يستقيم هذا الشاب؟ لا، فمن يدخل السجن هذه الأيام يزداد إجراماً، لماذا؟ وما أسباب ذلك؟ لا نقول: إن السبب الوحيد أنه يفاجأ بفعله؛ بل كل ما فعله وما في ذهنه أن يفعله ينسق مع ما ترَّبى عليه، فلما عمل هذا العمل جاءه اللوم، وجاءه العتاب، وقمع وضرب وسجن، لماذا؟!! وقد يقال له: كيف تخلو بهذه الفتاة مثلاً؟! وكيف تتفق أنت وهي وتذهبون وتسافرون إلى مكان بعيد إلى الخارج؟! فيقول في نفسه: عجيب! كل يوم أنا أرى في الأفلام أناساً يختلون بنساء ولا قرابة بينهم! وكذلك أركب الطيارة، وأجد أن المضيفات ليس لهن محرم، ويخلو بهن الناس أيضاً، سبحان الله! وأيضاً أذهب إلى المستشفى فأرى الممرضات بدون محارم، ونحن لا نبرر ذلك لكن نقول: نحن على منهج مضطرب، ويجب أن نكون صادقين في تربيتهم أي: الشباب فمثل هذا يرى أنه يعاقب بشيء، تقول له نفسه وشيطانه: إنه يتمشى مع ما رُبي عليه، وهو مع ما يراه؛ ولكن لو أننا فعلاً جففنا كل منابع الشر ومنعناه عن الأمة، ونحن نعرف أن الشرع الذي حرم الزنا أول ما حرم النظر؛ لأن النظر وسيلة، وهذه قاعدة عامة من ديننا، والأمثلة عليها كثيرة جداً، لا نستطيع الآن أن نأتي بأدلة عليها، وهي قاعدة (سد الذرائع) فكل شيء محرم؛ فإن ما يؤدي إليه يحرم.(90/11)
عقبات أمام التزام الشباب
ثم نأتي إلى الشباب المهتدي، هذا الشاب الذي سَلِمَ من كل هذه العوارض والعوائق -والحمد لله- تخطَّى عقبة البيت والخادمة والأم والأب، وتخطَّى عقبة المدرسة وما فيها من مشاكل ومدرسين وفساد في المناهج، وتخطَّى عقبة الإعلام مثل الحصان الجواد السابق الذي قد تخطَّى حواجز كثيرة جداً جداً، حتى وصل إلى بر الأمان.
وحاله يقول: الآن التزمت وتمسكت واهتديت -والحمد لله- وعرفت الله، فمن يشجعه على هذا؟ بل قد تبدأ الدوامة من جديد؛ فكل من كان يلومه على ما كان يفعله وهو في ضياعه يلومه الآن، فهذا يقول له: يا أخي أنت متزمت جداً، حتى لحيتك جعلتها هكذا، وهذا يقول له: حتى زوجتك لا يراها أحد حتى إخوانك؟ والله إنها مصيبة، ثم تأتي الجرائد وتقول: (هؤلاء المتطرفون والأصوليون).
والعجيب أنه إذا جاء هذا المسكين يتكلم في الشرك، قالوا: كفَّرت الناس! كفَّرتنا ونحن مسلمون! -لا حول ولا قوة إلا بالله- وإذا تكلم في السنة قالوا: أنحن أهل بدع؟! بدَّعتنا وضللَّتنا! وحتى بعض الدعاة يقول: هذا ليس عنده حكمة في الدعوة.
فمن أين تأتي الحكمة، أو من علَّمه الحكمة؟! الحمد لله أنه اهتدى، وبدأ يتكلم؛ فلا تهاجموه بل وجهوه، ونقول للدعاة: إن التوجيه من قبلهم قليل، وقد يكونون معذورين، وقد لا يكونون كذلك فهذا أمر آخر.
لكن المقصود أن الشباب -حقيقة- يعاني ويتعرض لضغوط شديدة، قد تجعله ينحرف ويرجع، ويقول: ولم لا أكون كما كنت؟! وإذا بدأ العد التنازلي فإنه لا ينتهي إلى حد، فيبدأ يهمل موضوع السنن مثلاً، ثم موضوع الحجاب بالنسبة للزوجة، ثم هكذا حتى يعود في النهاية إلى ما هو أسوأ مما كان عليه! نسأل الله العفو والعافية! إذاً: هناك قضية مهمة جداً يجب أن نتنبه لها جميعاً، وهي أن الشباب في هذه الأمة مظلوم على ما فيه من أخطاء، وعلى ما فيه من أمور ليس هذا المقام مقام تفصيل لها، ولا أن نعذره بها، لكنه مظلوم من جانب؛ وهو يعاني العقوق بينما يشكو الآباء من عقوق أبنائهم، ويشكو المدرسون من عقوق طلابهم أيضاً، فكذلك الابن يعقه أبوه، ويعقه مدرسوه، وتعقه أمته بهذا التوجيه السيء المنصب عليه ليل نهار، والذي نهايته هذه البلبلة وهذه الحيرة.(90/12)
غياب دور الدعاة والعلماء عن الاهتمام بالشباب
إننا نجزم جزماً أنه لو استقامت أمور هذه الأمة، ومؤسساتها الدعوية -ومن أهم ذلك البيت، والمدرسة، والمسجد، ووسائل الإعلام- لو استقامت كما يريد لها الله؛ لغيَّر شباب هذه الأمة وجه الدنيا كلها.
فالآحاد منهم -قلة أو عشرات- نبغوا في علوم لم يكن أحد يتوقع أن ينبغوا فيها، فمن توجه منهم للإنفاق في سبيل الله أتى بالعجائب، ومن توجه للجهاد أتى بالعجائب، ومن توجه للعلم أتى بالعجائب، وهكذا مع كل هذه العقبات.
ولو وُجهت الأمة كلها طاقاتها وقواها وخططها إلى التوجيه الصحيح والسليم، الذي لا يتناقض ولا يضطرب ولا يتعارض، لوجدنا فعلاً أن هذا الشباب سيكون -حتى مع انحرافه- كـ أبي محجن الثقفي؛ وتعلمون قصة أبي محجن في يوم القادسية فـ أبو محجن كان شاباً عابثاً، شرب الخمر، فسجنه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه -وهو قائد الجيش أيام القادسية - في قصره؛ ودارت المعركة التي لم يشهد التاريخ القديم لها نظيراً، فليالي القادسية -الطويلة المشهورة- ما كانت حتى كاليرموك، بل أشد بكثير؛ فـ أبو محجن هذا -وهو الذي سجن لشربه الخمر، وتعلمون أن أسوأ ما يمكن أن يصل إليه الشاب هو أن يشرب الخمر ويتعاطى المخدرات عياذاً بالله- تحسَّر وتقطَّع قلبه أنه لم يكن في الجيش؛ فطرق على امرأة سعد، وصرخ فيها، وعاهدها بالله لئن أعطته فرس سعد رضي الله عنه (البلقاء) وخرج، ليقاتلن ولَيَرَيَنَّ الله تعالى ما يصنع، فإن سَلِمَ ليعودن إليها، وأنه لن يمنعه من العودة إليها إلا أن يُستَشْهَد في سبيل الله؛ فقبلت منه، وأعطته الفرس وخرج.
فعجب المسلمون من هذا الرجل الذي يضرب في الأعداء، فإن أتى على ميمنتهم أخذ فيهم ما أخذ، وإن أتى على ميسرتهم فتك بها، وإن وقف منهم صنديد بوجه المسلمين بطش به، والناس يتعجبون، وسعد يقول: [[والله لولا أنَّ أبا محجن في القيد، لقلت: إنه أبو محجن وأن هذه هي البلقاء]] وكان سعد رضي الله عنه مريضاً، وعندما افترق الصفان، وأظهر الله تعالى المسلمين رجع أبو محجن قبلهم، ووضع القيد في يديه، وأرجع البلقاء إلى مكانها؛ فجاء سعد وقال لامرأته: رأيت عجباً! قالت: وما رأيت؟ قال: كذا وكذا، قالت: فإنه أبو محجن، وإنها البلقاء! فنقول: هذا مثال والأمثلة كثيرة جداً، على أنه عندما يعيش الشباب قضيته، ويعيش هموم أمته، ويُوَجَّه التوجيه الصحيح، ويرى المعركة مشتعلة، فوالله سيأتي بالعجائب بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، على ما فيه من تقصير، وعلى ما فيه من معاصي؛ أما أن تتعاون فئات وجبهات كثيرة جداً عليه في حال انحرافه، ثم في حال توبته وهدايته، فلا نتوقع من هذا الشباب إلا أن ينجرف حتى في حال الهداية.
فيؤدي به إلى جنوح بعض الشباب إلى الغلو في الأحكام، والغلو في بعض القضايا، أو جنوحه إلى نوع من تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله، وكلاهما من الغلو المذموم، وإن أي خطأ قد يقع في العقائد أو في السلوك أو في التعامل مع المجتمع، فنحن -بالدرجة الأولى- المسؤولون عنه! نعم نحن قبل كل شيء؛ ثم بعد ذلك نلوم هؤلاء الشباب.
نرجو أن نكون قد وفقنا -بإذن الله تعالى- في إثارة هذه القضية، وأن تكون حاضرة في أذهاننا جميعاً، لنعرف واجبنا نحو إخواننا الشباب، المنحرف منهم والمستقيم، الفاجر والتقي؛ ونسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يغفر لنا ولكم، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه.(90/13)
الأسئلة(90/14)
أسباب الفجوة بين الشباب الملتزم وكبار السن
السؤال
غالباً ما تحدث فجوة بين الشاب الملتزم وبين كبار السن، فماهي الأسباب وكيف نتجاوز هذه الفجوة؟
الجواب
الأسباب كثيرة: منها ما يتعلق بالشاب، ومنها ما يتعلق بالكبار، والأمة الإسلامية لا تعرف هذا الانفصال الذي يُدَّعى دائماً بين الكبار والصغار، وبعض الناس يؤصلون هذا الانفصال، وينسبون إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "لا ترغموا أبناءكم على أن يعيشوا كحياتكم، فإنهم ولدوا لزمان غير زمانكم" أو ما أشبه ذلك، وهذا الحديث باطل وكذب لم يقله الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليس في ديننا أن الشباب لهم رأي، وأن الكبار أو الشيوخ لهم رأي ووجهة أخرى، فلا نفترض هذا التعارض أو التضاد حتى لا نفكر كيف يجتمع هذا وهذا.
وإن من حكمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن جعل في الشباب طاقات، وهذه الطاقات توجهها حكمة الكبار، وتجاربهم؛ فالأمة جسد واحد، وكل عضو من هذا الجسد له قيمته وله دوره؛ فبعض الشباب قد لا يحسن أسلوب الدعوة، ولا يحسن التعامل -وكثيراً ما ننبه ولا نمل من هذا التكرار- إلى الإحسان في المعاملة وحسن الخلق، ولا سيما مع الوالدين الذين قال الله تبارك وتعالى فيهما: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] فإذا كانا كافرين، ويجاهدانك على الكفر، وأُمرتَ بأن تصاحبهما في الدنيا معروفاً؛ فكيف بهما إذا كانا مؤمنين، ولكن لديهما بعض الأخطاء أو الانحرافات أو التقصير؟! فلا بد من الرفق والإحسان، ومن ناحية أخرى يجب على الكبار أن يتفهموا أيضاً مشاكل الشباب، وألاَّ يقيسوا الأمور من خلال مفاهيم وتقاليد ورثوها، ربما تكون خاطئة، وربما تكون بحاجة إلى تعديل، وربما يكون ما عند الشباب خير.
لكن في بعض أمور الدين حقيقة، فالكبار ربما يكونون أكثر محافظةً على الصلاة -مثلاً- من الشباب، ولكن من جانب آخر، فالشباب أكثر إتقاناً لواجبات الصلاة وسننها وآدابها من الكبار، وهذا لا يعني الاختلاف، إنما يعني أن الابن يصحب أباه كلما استيقظ الأب وذهب إلى المسجد، والأب يأخذ من ابنه كيف يصلي، ولا يقل: (عشرون سنة وأنا أصلي هكذا، وأنت تأتي وتقول لي كذا) بل اقبل منه يا أخي، اقبل من ابنك؛ لأنه يعلم ما لا تعلم أنت، فلا بد من الإحسان والرفق والتفاهم من الطرفين.(90/15)
تقلب حال المسلم في الطاعة بين الفتور والصحوة
السؤال
فضيلة الشيخ: حينما أكون مع الشباب الصالح أكون نشيطاً، ولكن إذا ذهبت إلى منزلي وإلى المدرسة أُصبح سلبياً، فهل هذه ازدواجية في شخصيتي؟ وبماذا تنصحون؟
الجواب
نرجو ألاَّ تكون ازدواجية، وإنما تكون كحال حنظلة رضي الله عنه كما تعلمون حديثه مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ولكن ساعة وساعة}.
القلب البشري مشدود ومرتبط بالأرض، فالإنسان خلق منها؛ ولذلك هناك نوازع ودوافع تدفع الإنسان إليها، وهذا من حكمة الله؛ ليكون هو موضع الإبتلاء من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لهذا العبد أيرتفع أم يهبط؟ والإنسان لا يستقر على حال، ولو أن كل إنسان عرف الإيمان واليقين والتوحيد استقر عليه؛ ما تفاضل الناس في الإيمان هذا التفاضل، ولا تفاضلت موازينهم يوم القيامة؛ لكن من الناس من يأتيه اليقين ثم يضعف ثم قد يفقده -عياذاً بالله- ومنهم من يأتيه الشك أيضاً ثم يضعف، ثم يذهب ويحل محله اليقين وهكذا، فالنفس الإنسانية لا تستقر على حال.
ومن هنا أُمر الإنسان دائماً أن يتعاهد إيمانه، وأن يجدده وأن يحرص عليه؛ فإن من أصول عقيدة أهل السنة والجماعة: أن الإيمان يزيد وينقص، لكن الواجب عليك يا أخي أن تأخذ من حال إقبالك لحال إدبارك، ومن حال يقينك لحال شكك، ومن حال قراءتك لكتاب الله وتلذذك به وتلذذك بالدعاء والمناجاة والضراعة، أن تأخذ من ذلك وتستبقي إلى الحالات التي تجد نفسك فيها قاسي القلب، لا ترى الخشوع، ولا تحس بلذة الضراعة ولا لذة المناجاة.
هذا هو الواجب، وينبغي للإنسان أن يتعامل مع هذه النفس، وكثيراً ما يشكو الإخوان من هذه الظاهرة، وكثيراً ما تحدثنا عنها، وتحدث عنها العلماء رحمهم الله قبلنا.(90/16)
خطر الخلاف بين الدعاة والملتزمين
السؤال
أنا شاب التزمت بدين الله -والحمد لله- ولكني فوجئت بواقع الشباب؛ حيث أنهم يعيب كل منهم الآخر، فكاد هذا الأمر أن يصرفني عن الالتزام وعن الطريق المستقيم، فما توجيهكم؟
الجواب
هذا جزء مما أشرنا إليه من التناقض، فالتربية إن لم تكن مضطردة، فلا شك أنها سوف توقع الشاب في الحيرة والربكة والتناقض، فإذا كان المدرسون متناقضين أو أن البيت يتناقض مع المدرسة يقع الشاب في الحيرة؛ فكيف إذا كان التناقض بين من هم في نظر الشاب يمثلون الخير والصلاح والاستقامة؟ ولا يعني ذلك أنه لا يوجد خلافات بين العلماء أو بين الدعاة فإنها موجودة، لكن ما فائدة أن تعرض هذه الأمور أمام الشباب؟! وما فائدة أن ينتقد الشباب بعضهم بعضاً، أو أن ينتقد بعض الدعاة بعضاً، أو أن ينتقد بعض الشباب بعض الدعاة أو العلماء أمام هذا الشاب الذي هو أحوج ما يكون أن يصلب عوده، ويقوى إيمانه في معرفة الحق والخير والتمسك.
فالواجب والأساس هو: أن ندعو الشباب إلى التمسك بالكتاب والسنة إلى الحق لا إلى الرجال فنحن بالحق نعرف الرجال، وليس بالرجال نعرف الحق -أي أن المعيار هو الحق لا الرجال- فإذا أصَّلَت هذه القضية عنده أي: الشاب الملتزم واستوعبها وفهمها وتربى عليها، ثم علَّمته أدب الخلاف، وعلَّمته أن الأمة الآن متفرقة، وأنها تُخترق من أعدائها ولكن الحق واحد، وأن الطريق إلى الحق يمكن الوصول إليه -والحمد لله- بانتهاج منهج السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم بالاستدلال والسؤال وكذا وكذا، فإذا تعلم الشاب وعرف ذلك؛ فإنه عندما تعرض عليه العوارض يكون لديه المنهج والميزان.
لكن أن نبدأ بتعليمه المشاكل، وليس لديه ميزان ثابت، فهذا -وأقولها بكل ألم وأسف- أَوجد نوعاً من الشباب الذين انحرف بعد الهداية، وارتد بعد الاستقامة -نسأل الله العفو والعافية- لأنها أمور تُؤدِّي إلى خلل كبير في التربية، وتفقد الشاب القدوة؛ ومن طبيعة الشباب التعلق بالنموذج.
فهذه قضية يجب علينا أن نعيها، فهي المدخل الذي دخل منه المجرمون والمفسدون؛ فعلموا الشباب أن النموذج هو لاعب الكرة، أو أن النموذج هو الممثل.
فلا بد للشباب من نموذج يحبه كشيخ أو داعية أو عالم وهكذا، فبقدر ما تمس أنت هذا النموذج، فإنك تُحطِّم الأمل الذي لديه؛ ولذا يجب أن نربيهم على ألاَّ يتعلقوا بالأشخاص؛ لأنه لا يمكن أن نستأصل من قلوبهم ومن فطرتهم ومن عواطفهم التعلق بنموذج معين حي أو ميت، ولهذا نقول: إن النموذج الذي يجب أن نتبعه جميعاً هو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وأن الحي لا تؤمن عليه الفتنة.
ومن الضوابط التي لا تخفى -إن شاء الله- ألاَّ نحاول تحطيم هذا الشاب بضرب النموذج الذي يحبه أو يميل إليه، ما دام هذا النموذج من أهل السنة والجماعة، وهذا الشرط الأساس الذي لا نتعداه.
أما إن كان من أهل البدع، وله مناهج بدعية منحرفة، فهذا لا يصلح أن يكون نموذجاً، بل ليس عضواً فضلاً عن أن يكون نموذجاً.(90/17)
الانشغال بعيوب الآخرين
السؤال يقول: أجد نفسي شغوفاً بتقصي عيوب الآخرين متناسياً عيوب نفسي، فهل من علاجٍ لذلك؟
الجواب
نسأل الله أن يشفيك يا أخي، وأن يشفينا جميعاً، اللهم يا رب! نسألك أن تؤتي نفوسنا تقواها، وأن تزكيها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
إن هذا من شر الأدواء الذي يصيب طلاب العلم -نسأل الله العفو والعافية- فشر الناس من شُغِلَ بعيوب غيره عن عيوب نفسه، وكما قال بعض السلف الصالح: 'علامة إعراض الله عز وجل عن العبد أن يشغله بما لا يعنيه' وقال الآخر: 'كانوا ينهون عن فضول النظر كما ينهون عن فضول الكلام'، فكان السلف الصالح -رضوان الله تبارك وتعالى عليهم- يُربون تلاميذهم وأمتهم على ذلك؛ فكان عمر رضي الله عنه يُربي الأمة كلها من فوق المنبر فيقول: [[رحم الله امرأً أهدى إليَّ عيوبي]] فعرف أولئك الأخيار الأطهار أن الذي يضرك هو عيبك أنت، وأن الذي يسيء إليك هو ذنبك أنت لا ذنوب الناس وعيوبهم.
إنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لولا أنه يضرنا تركه لما قمنا به، وهذا هو المحمل الصحيح لقول الله تبارك وتعالى: {لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] أي: إذا قمتم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا يضركم، ولكن الله تبارك وتعالى أمرنا أن نأمر بالمعروف وأن ننهى عن المنكر وندعو إلى الله، وأن نقول للكافر: أنت كافر، وللمبتدع: أنت مبتدع، وللظالم: أنت ظالم؛ لأن الله أمرنا بذلك ففعلنا، وإلا لو لم يأمرنا به لكفانا ظلم أنفسنا وعيب أنفسنا وما فينا من شرك -عياذاً بالله- أو بدعة أو تقصير عن غيرنا.
أمَّا أن يصل الأمر إلى أن هذه الشهوة النفسية الموجودة لدى كثير من الشباب تُشبع وتثار، فيصبح بعضهم يتتبع عورات المسلمين، ويتتبع عورات وسقطات العلماء أو الدعاة، ويُربىَّ على ذلك؛ فهذا من أسوأ أنواع التربية، وهذا مرض خطير نسأل الله العفو والعافية، وأُبشِّر من قد يربي الشباب على هذا بأن الدور سيأتي عليه:
فلا تغضبن من سيرة أنت سرتها وأول راضٍ سيرة من يسيرها
وتأكدوا أن أي إنسان يطعن وينال ممن يقوم بالدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإن أخطئوا -وكلنا عرضة للخطأ- لكن من يكون هذا همه؛ فإن الله سيسلط عليه من يفضحه؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن يتتبع الله عورته يفضحه ولو كان في جوف رحله} نسأل الله العفو والعافية.
حرصٌ على تتبع الأخطاء ففلان قال فيه كذا، وهذا وقع في كذا، وهذا عيبه كذا سبحان الله العظيم يا إخواني! حتى أئمتنا الأجلاء الكبار الأئمة الأربعة الذين أجمعت الأمة على إمامتهم لديهم أخطاء؛ فهل يحسن أن نعرضها على الناس، وأن نقوم في المسجد ونقول: الإمام مالك أخطأ في كذا وكذا، والشافعي قال كذا.
فالأشياء واضحة جداً ولا نريد أن نخوض في شيء وننهى عن الذي نقول، وكمثال على ذلك -وهذا الذي يقع دائماً بعد شهر رمضان- الإمام مالك رحمه الله -إمام دار الهجرة وهو المحدث المشهور الذي ورث هذا العلم العظيم، وأورثه للدنيا كلها- كان يكره صيام الست من شوال، فهل نعدها من السقطات عياذاً بالله؟ أو نقول شيئاً غير ذلك؟ فهؤلاء الأئمة، فكيف بالعلماء من دونهم وكيف بطلاب العلم؟ فالذين يتتبعون هذه المثالب والعورات، ويحبون تتبع عيوب الآخرين؛ يجب أن يعلموا أنهم واقعون في هذا الخطر العظيم، وسيلقون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فنخشى أن يلقوا الله مثل "الرجل المفلس" الذي أخبر عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أتدرون من المفلس؟! قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع.
قال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بحسنات مثل جبال تهامة، ولكن يأتي وقد ضرب هذا، وظلم هذا، وشتم هذا، وقذف هذا، وأخذ مال هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته -مقابل ما فعل وما انتهك- فإن نفدت حسناته يؤخذ من سيئاتهم فتطرح عليه فيلقى في النار} نسأل الله العفو والعافية.
فاحذروا يا شباب -بارك الله فيكم- واحذر يا أخي؛ حتى مع أهلك في البيت إذا بدأت زوجتك أو أمك تقول: فلانة، فقل لها: لا يا أمي! هذه غيبة، فعلِّم نفسك وعلِّم إخوانك، ولا تذكر مسلماً بشيء أبداً، وإن كان من زملائك أو كائناً من يكون، إلا ما اقتضت بذلك مصلحة شرعية لا مصلحة نفسية أو ذاتية، فبعض الناس يخلط بينهما فيقول: أنا لا أقصد إلا الشرع، اختبر نفسك فإذا كان غرضك الشرع؛ فعلامة ذلك أن تنتقد هذه الكلمة أو هذا الموقف من أي شخص كان، أما أن تنتقدها إن كانت من فلان، فإن جاءت من غيره فإنك تغض الطرف عنه، فاعلم أن الأمر لنفسك وليس لربك، فكل واحد منا يختبر نفسه، والله تعالى حسيبه.(90/18)
واجب شباب الصحوة في التضحية في سبيل الله
السؤال يقول: شباب الصحوة -والحمد لله- كثير، ولكن يفتقد كثير منهم -ونحن منهم- التضحية لهذا الدين، فكيف نجعل في أنفسنا هذه السمة؟
الجواب
نعم هذا حق، ونسال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يوفقنا جميعاً للقيام بهذا الواجب، وأن يكون همنا حين نمسي وحين نصبح هو رضاه سبحانه والدعوة إليه والعمل لأجله؛ فالمؤمن الحقيقي هو الذي يكون هذا حاله؛ ولذلك يضحي، لأنه عرف أنه ما خلق إلا لهذا، وما ائتمنه الله تبارك وتعالى بالعلم إلا لهذا.
ولذلك كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مضحين غاية التضحية، فضحوا بالأوقات رضي الله تعالى عنهم وضحوا بأنفسهم في سبيل الله، وماتوا شهداء، وكذلك ضحوا بالعلاقات، وقطعوا كل الأواصر والتواصل مع أقرب الناس إليهم، إذا لم يكونوا كما شرع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
أما نحن فحقاً هذا موجود لدينا -عدم التضحية- لضعف إيماننا وقلة يقيننا، وتشعب همومنا، فليس همنا واحداً، وعندما قال ابن القيم رحمه الله:
فَلِواحدٍ كن واحداً في واحدٍ أعني طريق الحق والإيمان
فلواحد: هو الله تبارك وتعالى، وكن واحداً: أي كن أمة لا تتشكك ولا تتشعب أيضاً؛ في واحد: أي في طريق واحد وهو طريق الحق وطريق الإيمان.
نحن الآن: يُزاحم هذا الهم -هم الدعوة، وهم رضى الله تبارك وتعالى، والعمل للدار الآخرة- يزاحمه العمل للدنيا والوظيفة، وحظ النفس، وحب الراحة والإخلاد إلى الكسل، كلها تزاحم هذا الهم؛ ولذلك يجب أن نضحي، ويجب على الشباب أن يتعود على التضحية.
فنقول: ضحِ يا أخي بوقتك، وضحِ بمالك، وأنفق في سبيل الله عز وجل؛ ولو أن تشتري شريطاً أو كتاباً أو أن تشتري ورقة تكتب فيها إعلاناً أو تصور إعلاناً من إعلانات الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ضحِّ ولو بسمعتك؛ فلماذا قال الله تبارك وتعالى: {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]؟! لأن اللُّوام كثير؛ فهذا يقول: جن الرجل! وهذا يقول: أصابه الخبل! وذاك يقول: ترك وظيفته من أجل الدعوة!! وهذا يقول: ضحى بنفسه! فكل واحدٍ سيلومه، ولكن ضحِ بكل هذا، ولا يهمك إلا أن تكون فعلاً كما يرضي الله، فإن أرضيت الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كفاك الله تعالى عن كل ما عداه، نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا وإياكم للجهاد والتضحية والبذل له وفي سبيله.(90/19)
توحيد الله هو قضية الأمة بأجمعها
السؤال
لقد ذكرت أن الشباب إذا اهتموا بقضيتهم فإنهم يُنتجون، فما هي قضيتنا حتى ننتج؟
الجواب
قضيتنا هي توحيد الله وعبادة الله، ومن ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، وإقامة هذا الدين في الأرض، والاهتمام بأمر المسلمين؛ لأن {من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم}، فهم {كالجسد الواحد} كما ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه قضية المؤمن؛ بل قضية كل إنسان يريد أن يسعى إلى رضى الله، وأن يقدم مرضاة الله على هوى النفس وعلى حظها، وأن يقدم في الدنيا ما يقربه في الدار الآخرة، ويرفعه الله أو يقدمه في هذه الحياة الدنيا؛ وأن يحب لإخوانه المسلمين ما يحب لنفسه، وأن يوالي في الله، ويعادي في الله.
فهذه قضية أو جوانب من القضية الرئيسية الكبرى؛ ثم تندرج تحتها الواجبات مما فرض الله تعالى علينا القيام به جميعاً، من صلاة وزكاة وصيام وحج وجهاد وكل ما شرع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلو لم يكن عند المسلمين إلا سنةً من سنن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأهملت أو أميتت أو تركها الناس؛ فإنه يجب علينا أن نحييها، فكيف إذا أُهمل التوحيد؟! وكيف إذا أهملت أركان الإسلام؟! إذاً يجب أن نجاهد لكي نحيي ما أمات الناس، ونصلح ما أفسد الناس، لتكون فينا صفة الغرباء الذين أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن حالهم وبينه، فهي قضية واحدة، وتستطيع أن تجعلها قضايا كثيرة بحسب التخصص والتأهل، فقضية العلماء غير قضية العامة، وقضية المتخصص في جانب معين غير قضية من يتقن جانباً آخر، قضية التاجر المسلم -صاحب المال- غير قضية صاحب العلم، فصاحب العلم يؤلف، ويدحض الشبهات، ويبين البدع، ويكشف الضلالات، ويقيم الحجة؛ أما التاجر المسلم فقضيته أن ينفق وأن يعطي، ويمد الجمعيات الإسلامية التي على الكتاب والسنة ومنهج السلف، وأن يبني المدارس والمساجد وهكذا.
فكلٌ منا له قضية بحسب موقعه الذي أعطاه الله، فقضية المدير في إدراته أو الوزير في وزارته أو الحاكم في دولته هي إقامة دين الله، وإقامة حدود الله -إقامة فرائض الله بحسب ولايته التي أعطاه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وكذلك قضية الزوجة في بيتها: أن تحفظ نفسها وتطيع ربها وتطيع زوجها وتربي أبنائها؛ وكل هذا قد جعله الله تعالى على التفصيل أيضاً، فكل منا له قضيته، لكن في الجملة قضية الأمة قضية واحدة، وهي توحيد الله تعالى، وكذلك القضايا الأساسية الأخرى المتفرعة عنه.(90/20)
وسائل تفعيل قضية التوحيد والدعوة إلى الله
السؤال
ألا تظن أن المعرفة الذهنية لهذه القضية موجودة؟ ولكن ماهي الوسيلة لجعلها يقيناً يتحرك من أجلها كل مسلم؟
الجواب
نعم.
يكون ذلك باستشعار المسئولية التي سوف يسألك الله تبارك وتعالى عنها يوم القيامة؛ وكما ألمحنا أن كل منا مسؤول عن هذه القضية، وعن هذا الهم، وإذا علمت أن الله تعالى سيسألك بحسب علمك أو بذلك أو الجانب الذي أعطاك؛ وأن الله تبارك وتعالى إن أعطاك المال فليبتليك ويختبرك، وإن أعطاك العلم فلذلك أيضاً، وإن أعطاك ما أعطاك، فإنما أعطاك كل ذلك لتقوم بحقه تبارك وتعالى فيه بأقل شيء وهو -كما نقول دائماً وهو الذي لا نملك نحن أن نعتذر عنه- أن ندعو الله تبارك وتعالى، فعمل القلب مهم، كحب الأخيار، وحب الصالحين، وحب الدعاة إلى الله، والدعاء لهم بأن يحفظهم الله، وأن ينصرهم، وأن يؤيدهم، وكذلك حب إخواننا المجاهدين -في كل مكان- والداعين إلى الكتاب والسنة في كل مكان أيضاً، ودعاء الله تبارك وتعالى لهم، والذب عن أعراضهم.
وأيضاً: كُره المنكرات وأهلها، والبدع والضلالات ومن دعا إليها، ودعاء الله تبارك وتعالى أن يهديهم أو يهلكهم، فإن هذا أمر قلبي.
أما أن المؤمن يعيش فيصبح ويمسي وهمه الدنيا والمطعم والمشرب والوظيفة والزوجة والسيارة، ولا يهمه رضى الله، ولا توحيده، ولا طاعته، ولا نشر السنة، ولا نشر الحق والخير؛ فهذا الذي -في الحقيقة- يجب عليه أن يعيد النظر، وكل منا حسيب نفسه بأن يعيد النظر ليختبر إيمانه ويجدده، لينال رضى الله وينال جنة الله تبارك وتعالى.
فاتقوا الله، واعملوا أن هذه الأعمار ثمينة، فوالله إن الإنسان يوم القيامة سيندم، ويتمنى لو أنه يجد دقيقة واحدة يقول فيها: سبحان الله أو الحمد لله أو لا إله إلا الله أو الله أكبر، لأن هذه غراس في الجنة؛ فإذا رأى أن غراس أخيه أكثر من غراسه، تمنى ولو دقيقة ولو لحظة ليعود، قال تعالى: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100] فيتمنى أن يعود إلى الدنيا ليقول: (أشهد أن لا إله إلا الله).
فهذا العمر ثمين جداً، ولكنه يُضاع، وأعظم طاقات الأمة تُضاع في اللهو وفي اللعب، ولو أن أحداً بدد ثروات الأمة، ونهب بترولها، ودمر مدنها؛ لغضبنا جميعاً.
فوالله إن طاقات الشباب، وأعمارهم، وأوقاتهم، أثمن وأغلى من البترول، ومن كل حضارة مادية ننجزها؛ ومن كان يخالفنا في هذا فليس بيننا وبينه اتفاق في شيء.(90/21)
شمول الرسالة لكل زمان ومكان
تحدث الشيخ حفظه الله عن الرسالة والمرسلين بشكل عام، وعن الرسالة المحمدية بشكل خاص، وتطرق في أثناء حديثه إلى ما تتميز به الأحكام في شريعة الإسلام، ثم عرض الشبهة التي ردت بها الأمم السابقة رسالة رسلها زاعمة أنها ذات حضارة وعلم وبين الرد على هذه الشبهة، ثم تحدث عن أهمية الشرع كميزان توزن به الأعمال، وأن من حكم الشرع سعد في دنياه وأخراه، ومن عصى ربه وترك شرعه ذل وهان على الله في الدنيا واستحق عذابه في الآخرة.
ثم ختم حديثه مبيناً أن شرع الله ثابت لا يتغير بتغير الأزمان والأشخاص.(91/1)
عموم الرسالة المحمدية
إن الحمد لله نحمده ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، سبحانك اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
وبعد: الموضوع الذي نريد أن نتحدث عنه، ليس بفريد ولا بجديد عليكم، وكما تعلمون جميعاً أننا أمة تنتخب، وتتبع أفضل رسول وهو رسول الله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
هذا النبي فضَّله الله تبارك وتعالى -كما أخبر هو عن نفسه- فقال: {فُضلت على الأنبياء بست، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة}، وفي بعض الروايات: {بخمس} فهذه من أعظم الخصائص والمميزات التي تميزت بها رسالة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما ذكرها الله تبارك وتعالى وأمر بها في كتابه الكريم، حيث قال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وقال جل شأنه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ:28]، فرسالته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودينه وشرعه عام، وهذا العموم من جهتين: الجهة الأولى: من جهة عموم من أُرسل إليهم، فقد كان الأنبياء ممن قبله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبعثون إلى قومهم خاصة، وبعث صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الناس عامة، فهذا من جهة المرسل إليهم والمبعوث فيهم.
الجهة الأخرى: من جهة الزمان، فإن شريعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وأما شريعة من قبله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فإن النبي كان يُبعث وشريعته مؤجلة ومؤقتة إلى أمد معين.
فبهذا العموم يتبين لنا: أنه لا يمكن ولا يصح أن نتصور أن أمرًا من أمور الحياة يخرج عما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا نتصور -أيضًا- أن فردًا من الأفراد -كائنًا من كان- يخرج عن شريعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فالظروف تتغير، والأحوال تتجدد، والأمم تحيا وتبيد، والحضارات تنشأ وتضمحل.
ولكن المنهاج الواضح والشريعة الواجبة على الجميع، الملزمة لكل واحد منهم، باقية وخالدة إلى أن يرث الله تبارك وتعالى الأرض ومن عليها؛ فلا يخرج أحد عن شرعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كائنًا من كان، ولا تخرج قضية من قضايا الزمان عما جاء به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كائنةً من كانت هذه القضية، وقد ظهر أثر هذا العموم في التشريعات التفصيلية التي جاءت بها هذه الشريعة العامة الشاملة الكاملة.(91/2)
شمول أحكام الشريعة
فإن من الأحكام ما يتعلق بالإنسان من حيث هو إنسان، بغض النظر عن كونه متحضرًا أو مبتدياً في بادية، يعيش في غابة أو يعيش في مدينة، متعلمًا كان أو جاهلاً، فبغض النظر عن هذا كله، فإن هنالك أحكاماً تتعلق به من حيث كونه إنسانًا، والإنسان من حيث إنه إنسان له مشاعره وله أخلاقه، وله أسرته التي لا تتبدل ولا تتغير، مهما كان وضعه ومهما كانت حياته، ومهما كان عصره؛ ولهذا نجد في ديننا وفي شريعة نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الأحكام التي تتعلق بهذا الجانب ثابتة راسخة محددة.
فمثلاً: فإن أعظم الواجبات، وأعظم ما دعا إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والأنبياء جميعًا هو: توحيد الله تبارك وتعالى؛ فالإنسان أينما كان، في أي عصر وفي أي مصر، في أرقى المدن الصناعية أو في الغابات البدائية أو في الصحراء البدوية أو في أي مكان، هو عبد يجب أن يُوحد الله تبارك وتعالى ويفرده بالعبادة، ولا يخرج عن ذلك قيد أنملة ولا قيد شعرة.
ومن هنا جاءت أمور العقيدة مفصلة مبينة لكل إنسان وفي كل زمان؛ فأنواع الكفر واضحة، والشرك الأصغر، والأكبر، الكبائر والصغائر، وكل ما يتعلق بأمر العقيدة، وكل ما يتعلق بأمور الغيب التي يجب على الإنسان أن يؤمن بها قد جاءت محددة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها؛ لأنها تتعلق بك أيها العبد.
فمن حيث أنك إنسان، فأنت بذلك عبد، وكل عبد فإنه لابد أن يعبد الله تبارك وتعالى، وإنه إن خرج عن ذلك؛ فإنه سيعبد غير الله، فالإنسان عبد لا محالة؛ ولكن يجب عليه أن يصرف العبودية لله تبارك وتعالى وحده لا شريك له، وكذلك في التشريعات أيضاً.
نجد أن أحكام الأسرة، أحكام الطلاق، وأحكام العدة، والظهار، والإيلاء، وكل الأحكام -حتى في الإرث- قد فصَّلها الله تبارك وتعالى، فالإنسان أينما كان يحتاج إلى الزواج، ويحتاج إلى الأسرة -في أية بيئة عاش، وفي أي زمان عاش- ومن هنا جاءت هذه الأحكام مفصلة منذ أن يبدأ الإنسان بخطبة المرأة، ثم العشرة بين الزوجين، ثم تربية الزوجة والأبناء على طاعة الله تبارك وتعالى إلى أحكام الميراث، والطلاق، والمظاهرة، والإيلاء.
فكل هذه الأحكام جاءت مفصلة، فلا يخرج عنها عبد؛ لأن هذا الإنسان العبد المخلوق بمقتضى إنسانيته سوف يصير من هذا النوع، فسوف تحصل له هذه الرغبة، ويتزوج ويكون ذا أسرة؛ فيجب أن تكون أموره منضبطة وسائرة وفق ما شرع الله تبارك وتعالى، فهذه الأمور لا مجال فيها لأن يقال: هي في عصر كذا تختلف عنها في عصر كذا؛ لأنها متعلقة بكل عصر وبكل إنسان وبكل زمان ومكان.(91/3)
اختلاف الأحكام من حكمة الله تعالى
وأما الأحكام الأخرى فمن حكمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن الأحوال والظروف تختلف فيها؛ فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شرع لها من الأحكام قواعد عامة، تندرج تحتها كل أمور وأحوال الناس، فأمر الله تبارك وتعالى بالعدل، ونهى عن الظلم والبغي والعدوان، وأمر بالتعاون على البر والتقوى، وأمر بالخير وبالبر وبحسن الخلق، ونهى عن أكل المال الحرام وأمثال ذلك.
والإنسان يجد أنه مهما تغيرت أنواع المال أو أنواع الممتلكات؛ فهي إما من حلال، وإما من حرام، فهذه القواعد العامة تحكم وتضبط هذه الأمور، وتندرج تحتها مهما تغيرت الأزمان، ومهما تغيرت الأحوال.(91/4)
شبهات المكذبين بالرسل(91/5)
أولاً: دعوى رد الرسالة
إن كثيراً من الناس يغره الزمن الذي يعيش فيه، وقد وقع ذلك في الأمم التي من قبلنا، فكانوا يظنون أنهم بلغوا غاية الحضارة وغاية العلم كما بيَّن ذلك سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فقال: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [غافر:83] وهكذا كانت حالة الأمم.
فكانت كل أمة تأتيها دعوة الله تبارك وتعالى إلى التوحيد وإخلاص العبودية لله، تقول: نحن لدينا العلم لدينا ما يكفينا لدينا حضارة لدينا وسائل للحياة وللترفيه وللسعادة؛ فلا حاجة لنا بما تدعونا إليه ومما يطبع على قلوب العباد، ومما يسبب لهم الإعراض عن ذكر الله تبارك وتعالى، ويصدهم عن دعوة الأنبياء وعن دعوة الدعاة، وعن دعوة المصلحين في كل زمان ومكان.
فالتعلق بهذه الحياة الدنيا إيثار الحياة الدنيا على الآخرة، وعلى ما عند الله تبارك وتعالى، فيظن الإنسان أنه في هذا العصر قد بلغ الحضارة التي لا غاية بعدها، وهو بذلك ليس بحاجة إلى الدين؛ فكأن الدين جاء لعصر متأخر، أما نحن في عصر الحضارة هذه، فلا حاجة بنا إلى العبودية، والكبر الموجود في النفوس يرتفع بها عن أن تخضع لعبودية الله تبارك وتعالى.
وهذا جواب قديم أجاب به قوم فرعون، وأجابت به عاد وثمود وقوم نوح، وكل من سبقنا من الأمم التي ذكر الله تبارك وتعالى؛ أنهم أثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمرها من بعث فيهم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذين ما بلغوا معشار ما آتى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تلك الأمم.
وما تزال آثارهم باقية شاهدة، كالآبار المعطلة، والقصور المشيدة، والسدود المنيعة، والحصون، والأهرامات، ومدائن صالح، وهي الأماكن التي تقصد للسياحة.
سبحان الله العظيم! النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرنا -وهو مفهوم كتاب الله عز وجل ومنطوقه- إذا مررنا بهذه الديار أن نمر بها مستعبرين، أي: باكين مسرعين، وألاَّ نقيم فيها؛ فهي ليست للتفرج ولا للتنزهه، لا الأهرام ولا مدائن صالح ولا سد مأرب ولا كذا ولا كذا، إنما هي للعبرة والاتعاظ.
ولكن أين المعتبرون؟! وأين المتعظون؟! فالله تعالى جعلها علامات شاخصة ناطقة، تشهد بما فعلت الأمم التي قبلنا، حيث قال سبحانه: {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر:11 - 13] ثم قال بعد ذلك: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14]، أي: فمن عمل مثل عملهم جوزي بمثل جزائهم وعوقب بمثل عقوبتهم، قال سبحانه: {فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت:40]، أي: هكذا الأمم، فكل أمة أخذت بذنبها، وإن اختلفت وتنوعت العقوبات.
فبقيت هذه الآثار شاهدة على أن الحضارات مهما تطورت، ومهما تقدمت، وتفننت بأساليب العيش، أو بالقصور المشيدة، أو بالمزارع الفخمة، أو بوسائل الترفيه، أو بوسائل التسلية؛ فإنها لابد أن يكون مصيرها إلى الدمار والخراب إذا عصت الله عز وجل وفسقت عن أمره تبارك وتعالى.
فالمسارح الرومانية ما تزال إلى اليوم وهي مسارح كان يجتمع فيها الرجال والنساء ويرقصون ويمرحون، وكانت فيها حلبات للمصارعات الحرة بين الرجال والوحوش وكل هذا كان في القديم، فالدورات الأولمبية التي نسمع عنها اليوم، كانت موجودة عند اليونان بجميع أنواع الألعاب المختلفة، وكانت معروفة لديهم.
إن كل أمة أخذت في هذا الجانب كانت تظن أنها في غاية الحضارة وقمتها، وأن أي داعية يدعوها إلى الله وإلى الدار الآخرة؛ فإنه لا استجابة له ولا إذعان ولا قبول؛ لأنه يدعونا لأن نترك هذه الوسائل وهذه الحضارة وننسلخ منها، ونطلب المتاع الذي لا يريدون أن يطلبوه، ويؤثرونه على ما عندهم من المتاع، ثم خلف الله تبارك وتعالى من بعدهم بالخلوف، وجئنا نحن في هذا العصر، واستجدت في هذا العصر أحداث وأحداث، حتى ظن الناس -بما أنهم اليوم قد ركبوا الطائرة أو السيارة، أو أن بعضًا منهم قد غزا الفضاء وما أشبه ذلك- أن أمر الدين وأمر الله تبارك وتعالى كله أو بعضه لا ينبغي أن يقال أو أن يقدم في هذا العصر عصر الحرية عصر الانطلاق عصر كذا وكذا.(91/6)
ثانياً: الجواب على الدعوى
إن الجواب على ذلك -كما سبق أن أوضحنا هذه الشبهة الشيطانية- أن الإنسان هو الإنسان، سواءً كان على الأرض، أو كان في الفضاء، أو كان في أي مكان؛ فهو عبدٌ لله تبارك وتعالى، ويجب أن يعبد الله وأن يوحد الله تبارك وتعالى.
أما أن الإنسان يطلب زيادة في الترفيه والتنعم؛ فهذا من فضل الله عز وجل، ولا ضير في ذلك؛ بل إن من أعظم ما ميَّز الله تبارك وتعالى به الإنسان عن الحيوان أن الإنسان يعمر الأرض؛ لكن يجب أن يعمرها بما أمر الله تبارك وتعالى؛ وهذا قولهم بأنفسهم، يقولون: إنهم نظروا، فوجدوا أن أذكى الحيوانات وهي القردة أو الثعالب التي في القرن العشرين، تسكن في البيت الذي كان يسكن فيه القرد أو الثعلب منذ أمد الآماد، والبيت هو نفس البيت -من حيث الشكل- بدون أن يحدث أي تجديد؛ لكن الإنسان يسكن في العشب في الخيمة وأحيانًا في كهف ثم يبني ثم يتطور البناء ثم يتجدد، وكل ذلك لا ضير فيه في ذاته.(91/7)
الشرع هو ميزان الأعمال
إن الله تعالى قد ميَّز الإنسان، وأذن له، وجعل له الأرض ذلولاً، وأمره أن يمشي في مناكبها، وأن يأكل من رزقه، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15].
أي: أنه يجب أن يكون السعي في هذه الأرض موافقًا لأمر الله؛ فلتتجدد هذه الوسائل ما شاءت.
المهم أن الإنسان يكون قلبًا وقالبًا خاضعًا لأوامر الله تبارك وتعالى.
فلا تُذَمُّ اللذة أو حب الخير أو حب النفع؛ بل أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نحرص على ما ينفعنا، ونحمد الله تبارك وتعالى أن ديننا كذلك، فما من خير إلا ودلنا عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما من طيبة إلا وأحلها الله تبارك وتعالى في كتابه، أو على لسان رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إذًا: ما الذي حرم علينا؟ وما الذي منع عنا؟ وما الذي نهينا عنه مهما تغيرت الأزمان والعصور؟ إنه ما حرم الله تبارك وتعالى، فلا يعني ذلك أنه: إذا كانت الخمر تشرب من العنب أو من الشعير، وتصنع منه بطريقة بدائية في أواني من الفخار فهي حرام، فإذا صنعت في زجاجات فاخرة، وختمت بالشمع أصبحت حلالاً! لا والله! أو أن المرأة إذا كانت بدوية، أو متنقبة في البادية، أو في الخلاء، أو في القرية، فحرام أن ننظر إليها، وحرام أن يخلو بها إلا ذو محرم؛ فإذا كانت متعلمة أو مثقفة في المدينة، أو في أية وسيلة من وسائل الإعلام أصبح النظر إليها حلالاً لا والله! فالوسائل تتغير، وتتجدد، ولكن الحكم لا يتغير ولا يتبدل؛ واللذة أو المنفعة لا تأتي في هذا الجانب.
فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فطر الإنسان على طلب الخير ولذة الخير؛ ولكن ما الضابط؟ وما المرجع؟ وما المعيار الذي نعرف به هذه اللذة النافعة من اللذة الضارة؟(91/8)
شرع الله لا يتغير
إن الأشجار وهي أشبه بالجماد، تتجه عروق الشجرة إلى جهة الماء، وتتجه -أيضاً- أغصانها إلى جهة الضوء، لماذا؟! تريد أن تحيا، وتريد أن تنمو؛ فهل هذا يضير؟ لا ضير في ذلك، وكذلك الإنسان يريد أن يتغذى، فهل حرَّم الله تعالى عليه ذلك؟ لا! الإنسان يريد أن يتزوج، يريد هذه الرغبة الجنسية، فهل حرمها الله؟ ليس في ديننا رهبانية.
الإنسان يريد أن يُمتِّع ناظريه ويرى، فهل حرم الله ذلك؟ فأية طيبة لم يحرمها الله تبارك وتعالى في أي عصر وفي أي وقت.
والذي جعله الله تعالى معيارًا للتمييز بين النافع وبين الضار من هذه الملذات ومن هذه الشهوات، هو أن نتبع ما شرع الله تبارك وتعالى، فإذا اتبعنا أمر الله، ووقفنا عند حدود الله، وتمتعنا بالطيبات التي أحلها الله؛ ففي ذلك الغنية كل الغنية عما حرم الله، وفي ذلك السعادة والطمأنينة والأمن والراحة والرخاء للمجتمع، وللأمة بأسرها، وللعالمين أجمعين.(91/9)
الشرع به يحيا العباد
إننا إذا خرجنا عن حدود الله عز وجل، ورأينا أن ذلك يحقق لنا مصلحة أو دنيا أيًا كانت؛ فهو الشر وهو الوبال -كما ضرب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك المثل في القوم الذي ركبوا السفينة واستهموا، فكان قوم في أسفلها وقوم في أعلاها، فقال الذين هم في أسفلها: إذا أردنا الماء نصعد إلى الأعلى ثم نستقي، لماذا والماء قريب منا؟ هلاَّ خرقنا من هاهنا وأخذنا الماء! فيرجع الأمر إلى الذين في أعلاها، فإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا، وإن تركوهم هلكوا وهلكوا جميعًا، عافانا الله وإياكم من الهلاك.
فالإنسان كونه يطلب الشيء لا مانع، لكن يطلبه من الطريق المشروعة؛ فلا تقل: أنا أريد أن أمتع ناظري بما أشاء من هذه الوسائل الجديدة.
ولا تقل: أريد أن أمتع سمعي بما أشاء من هذه الوسائل الجديدة.
لا تقل: العصر قد تغير! نعم العصر يتغير، والزمان يمر ويمر؛ ولكن دين الله تبارك وتعالى باقٍ، وأنت عبد؛ عبدٌ إن خلقت قبل قرون أو إن وجدت بعد قرون أو في هذا الزمن، فأنت عبد له تبارك وتعالى، ولا تخرج عن طاعة الله تبارك وتعالى، ولا تخرج عن شرع نبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والله تبارك وتعالى إنما جعل هذا الدين وهذا العقل ليميز الإنسان به في حياته، جعل له نبراساً ومنهاجًا، فلو وكل الله تعالى الأمر لعقولنا لما اتفقنا على شيءٍ أبداً.
انظروا إلى العالم الغربي الذي يتخبط! تجدون التخبط العجيب في حياتهم! لأنهم لا يملكون الميزان، ولا يملكون المنهاج الذي يسيرون عليه، وكلما تغير الزمن؛ تنمو العقول فهذه أخلاق العصر الزراعي، وهذه أخلاق العصر الصناعي، فالمرأة في العصر الزراعي تعمل مع الرجل في المزرعة، ويملكها رجل واحد فقط، والمرأة في العصر الصناعي من أخلاقها أنها تخالط الرجال، وتسهر كما تشاء، وتظهر كما تشاء، وتتبرج كما تشاء! لماذا؟! قالوا: العصر تغير! فالأول عصر زراعة، وهذا عصر صناعة؛ فجعلوا الذي يغير الأخلاق ويغير ما تعارف عليه الناس من قديم، بل ما نزلت به الشرائع من عند الله تبارك وتعالى هو: حالة الإنسان الدنيوية، ونحن الآن كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لتتبعن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه}، وفي رواية للإمام مالك رحمه الله قال: {لو أن أحدهم أتى امرأته على قارعة الطريق لفعلتموه} عياذًا بالله.
أي: أن ذلك من شدة اتباعنا لهم؛ وهذا ما يحصل الآن أو ما يراد أن يحصل أن نتبع الغرب وأن نغير ما شرع الله، أو نعرض عما أنزل الله، بحجة أن الزمن قد تغير، وأن العصر قد تبدل.
فلنحرص جميعًا على أن نزن أمورنا وأعمالنا ومعتقداتنا وأحكامنا وآراءنا ومناهجنا وطرائقنا ووسائلنا وغاياتنا؛ نزنها جميعًا بما أنزل الله تبارك وتعالى؛ ففي ذلك الهدى كل الهدى، وهذا هو الاتباع الذي بغيره لا نكون مؤمنين أبداً.
يقول الله تبارك وتعالى لنبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].
فهذا هو الذي يحقق لنا الإيمان والانقياد والإذعان لأمر الله من غير منازعة ولا معارضة ولا مدافعة؛ وإنما هو التسليم والانقياد فورًا، كما كانت الخمر حلالاً، فأنزل الله تبارك وتعالى تحريمها، ثم قال: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91]، قالوا: انتهينا انتهينا! وجرت أزقة تظلل بالخمر من دون رقابة ولا هيئة ولا تفتيش، إلا رقابة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى التي في القلوب، وكما كان الرجال والنساء يختلطون، وينظر بعضهم إلى بعض، فلما نزلت آية الحجاب، فإذا بنساء الصحابة يخرجن كأنهن الغربان، لا يرى من الواحدة منهن قيد أنملة؛ حتى أن عمر رضي الله تعالى عنه رأى إحدى أمهات المؤمنين فقال: قد عرفناكِ يا سودة.
يقول: قد عرفناك، أي: ما دمنا عرفناك؛ فإذًا لست متحجبة -مع أنه لم يرَ منها شيئاً- ولكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقره على ذلك؛ وإنما أخبر أنه إذا استترت المرأة فإنه يجوز لها أن تخرج لحاجتها -كما كانت أم المؤمنين خارجة لقضاء حاجتها- فنجد أنه ما من أمر ينزل من أوامر الله إلا ويلتزم به فورًا، وهذا هو الإيمان حقيقة.(91/10)
ذلة المخالفين للشرع
ولقد منَّ الله تبارك وتعالى على ذلك الجيل من أولئك الصحابة، ففتح لهم الأرض وسخَّر لهم خزائن كسرى وقيصر، حتى أنفقوها في سبيل الله تبارك وتعالى، كما أخبر بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله عز وجل} وأنفقت، لأن من حقق العبودية لله جعل الله تبارك وتعالى عباده الآخرين عبيدًا له، فجاءوا بأبناء الملوك مصفدين بالحديد، وهم لهم حضارات ولهم وسائل ولهم ولهم من التطور والتقدم ما لهم، ولكن! إذا عصينا الله عز وجل؛ فإننا نهون عليه تعالى، حتى يسلط علينا أولئك، فنكون عبيدًا لهم عافنا الله وإياكم.
ولهذا لما جيء إلى أحد أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببعض الأسرى -وكانوا من قبرص أو من بعض بلاد الروم - فرآهم عظاماً ضخام الجثة ومن الروم والعرب كانوا يهابونهم، فلما رآهم بكى.
قيل: لِمَ تبك؟! أتبكي وقد أعز الله الإسلام وجاء بهؤلاء القوم عبيدًا مقرنين بالسلاسل؟! قال: إني لا أبكي أن الله تعالى أعز الإسلام، ولكني أبكي أنني رأيت قومًا عصوا الله عز وجل فهانوا عليه، فجيء بهم هكذا بعد العزة والمنعة، وإنني أخشى أن نعصي الله عز وجل فنكون عليه أهون من الجعلان! نعوذ بالله! وهذا هو الذي وقع في هذه الأمة فيما بعد، هانت على الله عز وجل، فسلَّط عليها التتار والصليبيين، وسلَّط عليها المستعمرين من كل حدب وصوب، حتى ترجع إلى دينها.
فالذل مرتبط بالمعصية، والعزة مقترنة ومرتبطة بالطاعة، نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعلنا وإياكم ممن يعزه الله تعالى بطاعته، ولا يذله بمعصيته، إنه سميع مجيب.(91/11)
قاعدة في التغير
إن القاعدة التي يجب أن نضعها في الاعتبار، مهما تغيرت الأمصار والأعصار، أن الله تبارك وتعالى يقول: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36].
فالإنسان مهما تغيَّر الزمن، فله هذه العين، وله هذا السمع، والتفكير.
انظروا! هل تتغير هذه مهما تغيرت الأزمان؟ لا تتغير أبدًا، فهذه أعضاء ومنافع جعلها الله تبارك وتعالى لك، وهذه الأعضاء -السمع والبصر وأيضًا الحواس الخارجية- بالنسبة للقلب هي مثل الموارد التي تصب جميعًا في حوض واحد.
أرأيتم إذا كان حوض أو بركة يصب فيها هذا المجرى النظيف؛ فكيف تكون نظافة هذه البركة؟! فكذلك تكون نظافة القلب؛ لكن إذا نظر الإنسان إلى الحرام أيًا كان هذا النظر -في صورة حقيقية أو مصورة أو قراءة أو أيًا كان هذا الحرام- وكذلك إذا سمع الحرام بأي نوع من أنواع السماع من الأغاني أو الملاهي أو النميمة أو قول الزور أو غيره، أو نطق بذلك، أو بأية حاسة من الحواس الأخرى -مهما تغيرت وسائل الإعلام والإحساس- فإن ذلك يكون مثل أن يكون أحد هذه المجاري التي تصب في القلب هي من الماء النجس أو القذارة! أين تجتمع هذه القذارات؟ تجتمع في هذا القلب.
أفيكون هذا القلب حينئذٍ أهلاً لطاعة الله؟! أيكون ذلك القلب مرتبطًا بالله؟! أيكون ذلك القلب خاشعًا لله، وهذه المنافذ تصب فيه؟! لا والله! فهذه مع الدوام ومع الاستمرار، لا تبقي في القلب أي جزء وأي قدر من النظافة، فإذا طمس وطبع عليه، لا تنفعه موعظة، ولا ينتصح بنصيحة.
فإذًا: إذا راقب الإنسان هذه الأعضاء، وحفظ الرأس وما وعوى، والبطن وما حوى، وعَلِمَ أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سائله عن هذه الأعضاء عضوًا عضواً، وسائله عما عمل، وسوف يستنطق الله تبارك وتعالى عليه جوارحه، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:19 - 23]، نعوذ بالله من الخسارة! فهذه الخسارة الكبرى.
فهل تغير الأزمان وتغير وسائل اللهو أو الفساد أو وسائل الحياة أيًا كانت، أي: أن جلدك تغير؟ أو أن يدك تغيرت؟ لا! لم يتغير جلدك ولا عينك ولا سمعك ولا بصرك، من حيث إنها وظائف جعلها الله تبارك وتعالى أعضاء لوظائف أساسية تستخدمها.
فإن استخدمتها في الطاعة مع أية وسيلة من هذه الوسائل، كانت شاهدة لك يوم القيامة، ولم تشهد عليك، وإن استخدمتها في المعصية أيًا كانت الوسيلة الذي استخدمتها، سواء نظرت في منظر بدائي أو نظرت في منظر مما يسمى بالمناظر المتقدمة، ولا تقدم في الشر، وإنما الانحطاط والسفور أيًا كان.
فالعضو عضو، والشهادة يوم القيامة قائمة، وسوف تنطق هذه الأعضاء، وسوف تشهد، فمن كان ظنه بربه أنه لا يطّلع عليه، ولا يعلم خافيته -عياذًا بالله- فهذه نتيجته الخسارة الكبرى، ستشهد عليه هذه الأعضاء بما ينطقها الله تبارك وتعالى به.
ومن كان ظنه بربه أنه مُطّلع عليه، وأنه رقيب وحفيظ، فعليه أن يتوب إلى الله وأن يستغفر الله تبارك وتعالى، وأن يراجع نفسه، ابتداءً من إصلاح قلبه وإيمانه وتوحيده وإخلاصه ويقينه، ثم المحافظة على أوامر الله تبارك وتعالى، وأعظمها هذه الصلوات الخمس أداءً وجماعةً في المساجد، ثم المحافظة على هذه الأعضاء التي سوف يُسأل عنها يوم القيامة، فلا يجول فكره إلا في حلال أو فيما أمر الله، ولا يمد عينه إلا إلى ما أحل الله تبارك وتعالى، ولا يبطش بيده أو برجله إلا إلى ما أحل الله تبارك وتعالى، ولا يقارب سمعه إلا ما أحل الله تبارك وتعالى؛ فحينئذٍ تكون له الصفحات البيضاء، وتكون له يوم القيامة النجاة، ويكون له الفوز.
ونسأل الله تبارك وتعالى أن يُعمَّر أوقاتنا جميعًا بطاعته وما يرضيه، وجزاكم الله خيراً والحمد لله رب العالمين.(91/12)
صفات عباد الرحمن
إن من أعظم أنواع التذكير هو: التذكير بالآيات الكونية والقرآنية، وقد ذكر الله منها الكثير في كتابه كما في سورة الفرقان التي ضمت هذين النوعين، ومن الموضوعات التي تضمنتها هذه السورة بيان حال عباد الرحمن وذكر صفاتهم، وقد تناول الشيخ هذه الصفات في ثنايا هذه المادة مبيناً خلال ذلك أسباب الكفر والشرك، وداعياً العباد إلى الاعتبار بآيات الله.(92/1)
في رحاب سورة الفرقان
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، اللهم لك الحمد بالإسلام، اللهم لك الحمد بالإيمان، اللهم لك الحمد بالقرآن، اللهم لك الحمد على ما أنعمت به من أخوة الإيمان ومحبة التقوى، ولك الحمد على ما جمعت به وله هذه الوجوه الخيرة الطيبة، ولك الحمد أولاً وآخراً، ولك الحمد حتى ترضى ولك الحمد بعد الرضا، وصلِّ اللهم وسلم وبارك على عبدك ورسولك، وصفوتك وخيرتك من خلقك محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى آله وأصحابه أجمعين، الذين فرضوا وسنوا سنة الأخوَّة في الله، والتآخي في ذات الله، والمحبة والتزاور في جلال الله تبارك وتعالى، فكانوا خير أمة أخرجت للناس، فصلِّ اللهم وسلم وبارك عليهم، واجعلنا ممن يقتفي أثرهم، وينتهج نهجهم، ويسير على خطاهم، إنك على كل شيء قدير.
أما بعد: شيوخنا العلماء، وآبائي شيوخ القبائل الكرام، وإخواني الكرام أجمعين -الصغير منهم والكبير في هذه القبيلة الطيبة بني كنانة، وفي هذه المنطقة عامة- إن اللسان ليعجز عن التعبير، وإن البيان ليتلعثم ويتردد عندما يكون الموقف مثل هذا الموقف، ماذا نقول لهؤلاء الآباء والإخوة الكرام، الذين أنزلونا منزلةً لا نستحقها، ولكن هكذا أرادوا وهكذا دفعتهم محبتهم وليس في إمكاننا إلا أن نقول: اللهم اغفر لنا ما لا يعلمون واجعلنا خيراً مما يظنون.
نعم.
إنّ اللقاء في الله، والمحبة فيه، والاجتماع لذكره هو خير ما يسعى له العبد المؤمن، فاغتفرنا -من أجل ذلك وفي سبيله- كل ما يقال وكل ما لا نرضى، ولو أُقررنا أو أُخذ رأينا فإنا لا نقره.
وإنما نريد من جميع ومن الإخوان أكرمهم الله وجزاهم الله خيراً ثمرة اللقاء وخلاصته؛ وهي الدعوة بظهر الغيب لكل من يدعو إلى الله عز وجل؛ ونريد من الإخوة الكرام وفيهم الأولياء والصالحون والمتقون بإذن الله أن ينصروا دين الله تبارك وتعالى، فهو أعظم من الأشخاص وأجل منهم -وإن كان من سنة الله ألا يقوم الدين إلا بأفراد وأشخاص-.
ونريد من آبائنا وإخواننا وهم سلالة تلك النخبة الطاهرة النقية من صحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلماء الأمة وخيارها، والتابعين لهم بإحسان، والمجددين في كل القرون، أن يجعلوا -بإذن الله- هذه العواطف الجياشة، وهذا الشعور الفياض؛ قوة دافعة لرفع كلمة الله، ولإعلاء دين الله، ولمؤازرة من يدعو إلى الله، ومن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في كل قرية وفي كل قبيلة وفي كل مكان من أرجاء المعمورة، وإنهم لأهل لذلك بإذن الله.
إنّ الجميع يشكرونكم -وأنا لا أعبر عن مشاعري وحدي- ويرون في وجوهكم وملامحكم مشاعر الصدق والأخوة والمحبة الخالصة، والجميع يريدون -بإذن الله تبارك وتعالى- أن نكون يداً واحدة من أجل إعلاء كلمة الله، فلا نريد دنياً ولا جاهاً ولا مالاً ولا فخراً ولا خيلاءً ولا مباهاةً.
وإنما نريد جميعاً وجه الله تبارك وتعالى، ونريد الدار الآخرة وما أعد الله تبارك وتعالى لعبادة المتقين وأوليائه الصالحين: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] فشكر الله لكم أولاً، وشكر لكم آخراً، وجزاكم عنا كل خير، ونخص بالذكر والشكر أخانا الكريم ابن هذه القبيلة الشيخ عبد العزيز حفظه الله وجزاه عنا كل خير، فقد كان له الفضل، وقد كنت أقول لأهل هذه القبيلة عامة: إن ما قام به جزاه الله خيراً يكفي وينوب لا عن قبيلة بني كنانة خاصة بل عن زهران كافة؛ ولكن كرمكم أصر وألح إلا أن يكون له لقاء ويكون لكم لقاء، فجزاكم الله وإياه خير الجزاء.
ثم أيها الإخوة الكرام -كما تفضل الإخوة- إنما غرض الاجتماع واللقيا هو التواصي بذكر الله: التواصي بالحق والتواصي بالصبر.
وإن الإنسان عندما يأتي إلى أمثالكم يتحير في أي موضوع يتحدث فيه، وأي وصية يريد أن يوصي بها، وأي مقال يتكلم به، ولكن كل مرة أجد نفسي لا بد أن أتكلم من وحي الوحي، من وحي كتاب الله تبارك وتعالى، فكلما تأمل الإنسان هذا الكتاب العظيم، والذكر المبين، والصراط المستقيم، الذي لا يمل منه القُرَّاء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الترداد، فإنه لن يرضى غيره بديلاً.
وعندما قرأ الإمام -حفظه الله وجزاه خيراً- هذه الآيات البينات من أواخر سورة الفرقان، ذهب كل موضوع واستجمع الذهن كله إلا أن يكون الحديث عن هذه الآيات البينات، بل عن شيءٍ ونزر يسير مما توحي إليه هذه الآيات العظيمات من كتاب الله تبارك وتعالى.
فهذا الكتاب هو الذي يجب أن يكون في أيدينا وفي قلوبنا، ملء أسماعنا وأبصارنا، نعظ به أنفسنا، وندعو الناس به وإليه؛ كما قال الله تبارك وتعالى لعبده ورسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيد} [ق:45] وجاء في الآيات الأخرى في سورة إبراهيم قول الله تعالى لموسى عليه السلام: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم:5].
ومن أعظم أنواع التذكير: التذكير بالقرآن وبالآيات المشاهدة المحسوسة من أيام الله ومن وقائع الله تبارك وتعالى في الذين من قبلنا، وفي مصارع الأمم ومهالكها.
فمن لم يعتبر ويتعظ بالقرآن ولا بأيام الله في الذين خلوا من قبلنا كقوم نوح وعاد وثمود، والذين من بعدهم قروناً بعد ذلك كثيرة؛ فبماذا يتعظ وبماذا يعتبر؟(92/2)
معنى تبارك وتعالى
والله تبارك وتعالى في هذه الآيات البينات يقول: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} [الفرقان:61] سبحان الله وتبارك! هذه الكلمة ككثير من ألفاظ القرآن، خير ما تفسرها به هي نفسها، فلو قلت: ما معنى تبارك؟ فإنك لن تجد أفضل من أن تقول: تبارك الله، فهي كلمة واضحة والقلب يستشربها ويستشعرها من غير أن يفسرها، وفي قوله تعالى: {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54] وقوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14] وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك:1] وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1] فتبارك الله، أي: تعالى وتقدس، وهي بذاتها -كما قلت- كافية.(92/3)
الرد على الكفار في إنكارهم للرحمن
إنّ الله تبارك وتعالى -في أواخر هذه الآيات العظيمة- يريد أن يرد على الكفار الذين أمروا بأن يعبدوا الله، وأنه تبارك وتعالى من أعظم وأجل أسمائه اسم الرحمن، فقال: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110] أي: اسم الله أو الرحمن، وهما أعظم أسماء الله عز وجل؛ لكن ماذا قال المشركون: {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً} [الفرقان:60] وقال بعضهم: "لا نعرف رحماناً إلا رحمان اليمامة" مكراً واستهزاءً وسخرية؛ فذكر الله تبارك وتعالى في هذه الآيات العظيمة دلائل كونه الرحمن تبارك وتعالى.(92/4)
مظاهر الرحمة
والدلائل على أنه الرحمن وعلى أنه المعبود الحق تأتي على نوعين:(92/5)
النوع الأول: الدلائل والآيات الكونية
وهي آيات عظيمة باهرة عجيبة! قال تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة:75 - 76] فنجد آيات عجيبة في هذا الكون الممدود أمامنا! ولذلك عندما تتأمل في أي شيء يرتد إليك البصر خاسئاً وهو حسير فانظر إلى الآفاق أمامك! وانظر إلى الجبال! وانظر إلى السحاب والسماء! ماذا ترى من آيات الله تبارك وتعالى! ترى آيات كونية عظيمة، فالكواكب والنجوم والمنازل التي هي البروج، عجز العلماء في كل زمان ومكان -حتى في عصر المكبرات والمقربات والمراصد الضخمة- عن أن يعرفوا أبعاد ونهايات هذا الكون وهذه الكواكب والشموس؛ وهذه المجرات العظيمة، فيقولون: إنها لا نهاية لها، ونحن نعلم أن لها نهاية، غير أن كل ما لا يستطيعون إدراكه يقولون عنه: لا نهاية له، من شدة أبعاده.
فنقول: كل ذلك في حدود السماء الدنيا؛ فما بالك بالسماوات السبع؟! فما بالك بالكرسي؟! فما بالك بالعرش وهو أعظم المخلوقات؟! وفوق العرش رب العالمين تبارك وتعالى فسبحان الله! ما أعظم الله! وما أعظم الدلائل البينة على قدرته وكماله وعلوه وقهره تبارك وتعالى! فهذه البروج هي دلائل عجيبة.
ثم ذكر الله تبارك وتعالى آيتين صغيرتين نراهما نحن كبيرتين، وهما في الحقيقة صغيرتان بالنسبة إلى الكون العظيم، وإلى خلق الله، وملك الله، وهما: الشمس والقمر، فهما آيتان عظيمتان، ولولا أن العقول البشرية إذا تكرر عليها شيء، فإنها تنساه حتى لا تكاد تذكره؛ لكان أعظم شيءٍ في هذه الدنيا هو الشمس؛ ولولا أنها تتكرر كل يوم؛ لكان الناس كل يوم يجلسون في بيوتهم ينتظرونها متى تظهر ويتعجبون منها! فقد أصبح الكثير منا لا ينظر إليها ولا يدري متى أشرقت أو متى غربت، ولا شك أن هذا من الغفلة! لكن لو تأمل الإنسان في هذه الشمس لرأى عجباً! ما هذا السراج الوهاج؟! ما هذه الأشعة؟ ومن أين يأتي هذا الضوء من مسافات هائلة بهذه الدقة، وبهذه المواعيد؛ لتستقيم حياتنا ومعاشنا، فتنضج الثمار ويكبر الصغار، وتكون الحياة، وتكون عملية التبخر، وعملية إنشاء السحاب الثقال، والأمطار والزهور والورود.
عمليات كثيرة جداً، منها ما يتكلم عنه علماء الأحياء والطبيعة، ومنها ما لا يتكلمون عنه، ومنها ما يراها العامي، ومنها ما يدركها الفلاح، ومنها ما يدركها العالم الكبير، وتزداد الأيام والليالي توسعاً في هذا العلم عن هذه الآية العظيمة من آيات الله، ولا تنتهي أبداً فهذه الشمس وهي: فهي السراج.
أما القمر فكما قال تعالى: {وَقَمَراً مُنِيراً} [الفرقان:61] أي: إن للقمر نوراً، فالله تعالى قد جعل الشمس ضياءً وسراجاً، وجعل القمر نوراً، فهو ليس سراجاً أي: مشتعلاً؛ وإنما هو نور يعكس -بقدرة الله تبارك وتعالى- ضوء الشمس.
وأنت لا تدخل مكتباً من مكاتب الدنيا لموظف أو عامل إلا وأمامه تقويم من أجل المواعيد، ومعرفة الأيام؛ لأن الله تعالى يعرف حاجتنا إلى أن نعرف عدد السنين والحساب كما قال سبحانه: {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس:5] فقد جعل لنا هذه العلامة -القمر- تقويماً عجيباً جداً اختص به المسلمين، ولكن مع الأسف -وهذا من جملة أمور كثيرة تركناها من الأصالة وهي من الدين ومن الخير والفضيلة، ثم أخذنا نتشبه بالكفار- تركنا تقويمنا وأخذنا نحسب بأشهر الكفار.
فنقول: هذه آية عظيمة، فالإنسان إن كان عامياً أو كان فلاحاً، إن كان في البادية أو كان في أي مكان، فإنه يستطيع أ، يعرف أن هذا نصف الشهر أو آخره؛ وكذلك جعل الله تبارك وتعالى الحج، وجعل العبادات كالصيام والصلاة مرتبطة -أيضاً- بالشمس، وبهذا الذي هو تقويم في كبد السماء، واضح جلي عجيب، فهو يراه كل الناس فيعرفون نعمة الله تبارك وتعالى عليهم، كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كتابه فقال: {وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} [الإسراء:12] فالله سبحانه وتعالى فصّل لنا تلك الآيات، وامتن علينا بها، فالشهر كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {هكذا أو هكذا} أي: إما ثلاثون يوماً أو تسعة وعشرون يوماً "بحسب النظر والرؤية للقمر لا بشيء آخر غير ذلك، فهذه من أعظم نعم الله تبارك وتعالى، ولا نطيل فيها ولا في تعدادها لأننا نريد أن ندخل في الأمر الذي نحن نحتاجه وقلوبنا ظمأى إليه.(92/6)
النوع الثاني: الاستدلال بعباد الرحمن
وأما الدليل الآخر غير الدلائل الكونية فهو: الاستدلال على الرحمن بعباد الرحمن، سبحان الله! كيف يكون هذا؟! إن العاقل البصير يستطيع أن يستدل على أي ملكٍ أو مالكٍ لشيءٍ من الأشياء، ومن كان له صحبة أو فئة أو جماعة أو أتباع؛ بأتباعه وصحبته أو بمن ينتمي وينتسب إليه.
ولذلك عندما نعلم أن أفضل الخلق هم الصحابة بعد الأنبياء، وعندما نرى سيرة صحابي واحد من الصحابة؛ فإننا نجد أحدهم آية من آيات الله تتحرك على الأرض، ثم كيف بمجموع الصحابة، ومن الذي رباهم؟! فنستدل بذلك على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنه أفضل الخلق أجمعين، وأفضل المربين، والمعلمين، كما قال معاوية بن الحكم السلمي رضي الله تعالى عنه: {بأبي هو وأمي ما رأيت قبله ولا بعده معلماً أفضل منه} أي: لا يمكن أن يكون هناك معلمٌ للخير أفضل أو مثل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فكذلك أيها الكفار المكذبون بالرحمن، انظروا إلى عباد الرحمن! وانظروا إلى من ينتسب إلى عبودية الرحمن وانظروا ما هي صفاتهم، لتعلموا أنه الرحمن حقاً!(92/7)
من صفات عباد الرحمن
وقد تعجبون عندما تبدأ الصفات التي قد تكون أقل شأناً بالنسبة لما بعدها، فأعظم صفات المؤمنين هي: أنهم لا يدعون مع الله إلهاً آخر، لأنهم موحدون لله، وهذه أعظم صفة من صفات المؤمنين، وكلنا نعلم ذلك، فأصل كل شيء هو الإيمان وإخلاص التوحيد لله تبارك وتعالى، لكن هنالك حكم عظيمة في تقديم الأقل أحياناً ثم التدرج إلى الأعلى.
والصفة التي جعلت الكفار يكفرون بالرحمن ويزيدهم نفوراً، وجعلتهم يتمردون على أوامر الله، ويستكبرون عن طاعة الله؛ فلا يقبلون قول الله ولا قول رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -والعصاة لهم تبع في ذلك- هي: صفة الكبر -والعياذ بالله- فالمتكبر يستكبر على الله، ويستكبر على الإيمان، والحق، والدين، فهو يستكبر بسلطانه، ويستكبر بماله وأولاده وبمقامه عند الناس، ويفتخر بآبائه وأجداده.
وكل أنواع الكبر كان أول من سنها هو إبليس الذي أبى واستكبر وكان من الكافرين، وذلك عندما قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12].
وكذلك كفار قريش عندما قالوا: كيف ينزل القرآن على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ولماذا لم ينزل على رجل من القريتين عظيم؟ وهما: الوليد بن المغيرة -أو الحكم بن هشام - وعروة بن مسعود من الطائف، لوجود معايير الكبر عندهم دائماً؛ ولذلك تجد القلوب العادية أو التي لم تتفقه في دين الله دائماً تهتم بالكبير؛ وفي الحقيقة أنه: كم من كبير عند الناس وهو صغير عند الله تبارك وتعالى.
ولهذا عتبة بن غزوان رضي الله تعالى عنه، عندما وقف وخطب وتذكر ما كان عليه الصحابة من قبل وما عانوا وما لاقوا، ثم تذكر ما أعطاهم الله تبارك وتعالى؛ قال: [[وما منا اليوم إلا من هو أمير على مصر من الأمصار، قال: وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي كبيراً وعند الله صغيراً]]، أي: لا ينفعه ذلك وهو الصحابي رضي الله تعالى عنه.
فهذه الصفة -الكبر والعياذ بالله- أكبر حائل وأكبر مانع عن الحق.(92/8)
التواضع
لذلك كانت أول صفة من صفات عباد الرحمن هي: التواضع، قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان:63] فقوله: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان:63] فالإنسان قد يقابلك ولا يكلمك؛ -لأنه ليس شرطاً أنك كلما قابلته أن تكلمه أو يكلمك- ومع ذلك فمن كيفية سيره ومن مشيته؛ تستطيع أن تحكم عليه، لأنك تعرف صفات عباد الرحمن من أول ما تراه، ومن سيره ومشيته كما أنك قد ترى من مشية بعض الناس أنه مستكبر، فهو ليس من عباد الرحمن -عياذاً بالله- وليس من أهل الطاعة ولا من أهل الإيمان، ولا من أهل الخير والصلاح، سواءًَ خاطبته أو رأيته فقط؛ فإنك ترى أنه متكبر، ولهذا جاء هذا الوصف الظاهر الذي يراه كل أحد في قوله سبحانه: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان:63].(92/9)
الإعراض عن الجاهلين
وأما الصفة الأخرى فهي: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63] الله أكبر! الآن -مع الأسف- بعض الناس يخاطبه الأخيار ويخاطبه الأفاضل ويخاطبه دعاة الخير والحق والهدى، ولا يقول: سلاماً، مع أن عباد الرحمن إذا خاطبهم الجاهلون قالوا: سلاماً؛ أما إذا خاطبهم الفضلاء والأخيار؛ فهنالك حسن البشاشة والاستقبال والأخوة والمحبة؛ لكن الجاهلون: هم جاهلون في تصرفاتهم، وفي ألفاظهم وتعاملاتهم، وجاهلون بربهم عز وجل وهو أعظم الجهل، وجاهلون في معاييرهم وفي موازينهم وفي قيمهم التي يقدرون بها الأشخاص أو يقدرون بها المواقف، فقوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63] يعني: كان جوابهم جواب المسالم، الذي يدفع السيئة ويدرؤها السيئة بالحسنة، كما قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} [المؤمنون:96] وهكذا يعلمنا الله تبارك وتعالى وقال سبحانه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] فلو توقفت عند كل جاهل لتخاطبه أو لترد عليه، لِتُبين له أنه مخطئ في كلامه؛ لما عملت عملاً في حياتك، أو لربما تقطعت بك الأيام والليالي ولم تنجز عملاً واحداً؟! لأن هذا يخاطبك بلون وهذا بلون آخر، وهذا يستهزئ ويسخر وذاك يغتاب وينم وهذا ينظر نظرات زائغة، وهذا وكل ذلك داخل في الجهل؛ فلا تبال بهم وأعرض عنهم، فأعرض عن الجاهلٍ مطلقاً؛ لأنك تنظر بنور الله، وتنظر إلى ما عند الله وتريد ما أعد الله؛ وهؤلاء الجاهلون بالله هم أعداء بطبيعتهم لدين الله، ولما أنزل الله تبارك وتعالى؛ فلا تبالِ بهم ولا تعبأ بشأنهم؛ وإنما عليك أن تقول لهم: سلاما -والقول يأتي في لغة العرب بمعنى: العمل- أي: أن تعمل عملاً أو تصرفاً هو سلام مع هؤلاء، فقوله تعالى: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55].
وقد يكون باللفظ وقد يكون بالعمل، فقوله تعالى: {لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55] أي: نحن لا نريدهم حتى لا ندخل معهم في مشاكل ولا ندخل معهم في معارك، حتى لو وقفوا أمامك في الطريق حجر عثرة، فلا يردوك عن أن تتجاوز وأن تعمل وتهدي وتدعو؛ بل غض بصرك وامش وتجاوز عنهم، والله تعالى سيعينك عليهم، وتذكر قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63] وآيات الله كثيرة والدلائل والعبر كثيرة من صفات هؤلاء ومن غيرها.(92/10)
قيام الليل
ثم يقول تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} [الفرقان:64] والليل له معنىً خاص، فمن حكمة الله، أنه: {جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62]، فالليل يعني: الهدوء والسكون والرهبة التي كان يشعر بها الناس، ولا سيما قبل هذه الكهرباء والأضواء؛ ولو ذهبت إلى ساحل البحر أو ذهبت إلى رأس جبل من الجبال وحدك وابتعدت عن الأضواء؛ فإنك تشعر بشعورٍ لا تجده أبداً وأنت هاهنا في الليل، سبحان الله! فماذا يفعل المؤمنون في الليل؟ إن الليل مطية المؤمنين إلى الدار الآخرة، ومطية المتقين إلى الجنة؛ لأنهم في النهار مثل الناس -في الغالب- يكدحون ويعملون ولكن هذا الليل له أمر خاص وعلاقات خاصة؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى قد اختصهم به، فقال: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17] فلماذا لا تعلم؟! لقد بين الله تبارك وتعالى لنا ما أعده في الجنات من الحور والنعيم والخير، وهذا واضح، لكن هناك أناس يعبدون الله خفية وهم مستترون، بينهم وبين الله استغفار، قال الله عنهم: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18] أي: قياماً وسجوداً وركوعاً، فهؤلاء بقدر ما تكون العلاقة خاصة مع الله في الليل وحيث لا يراهم أحد، بقدر ما يكون الجزاء أيضاً.
وانظروا إلى واقعنا نحن اليوم فإنه إذا مر أحد منا بمكان أعجبه -بجبل، أو غار، أو شجرة مثمرة لها ظل- يقول: لو أننا نأكل هاهنا أو نجتمع هاهنا الله المستعان! فهذه حياتنا.
وأما أسلافنا فقد كان الرجل منهم إذا مر بمكان أعجبه، قال: ما أحلى هذه الشجرة وما أحلى هذا الغار ليتني أدخل وأصلي فيه ركعتين، لماذا؟ لأن قلوبهم متعلقة بعبادة الله، فهمهم وراحتهم ولذتهم وطمأنينة حياتهم هي في تقوى الله وطاعته وعبادته؛ وهذه الطمأنينة والراحة تتم بتمامها في الليل، فإذا نام الناس وسكن الكون وهدأ كل شيء؛ قاموا يناجون الله تبارك وتعالى ويسألونه ويستغفرونه ويدعونه؛ وبذلك يظهرون بتلك المنزلة العظيمة؛ فهم يجدون لذة لا يجدها أهل اللذة جميعاً مهما اجتمعوا عليها، وهذه هي جنتهم، وكما قال شيخ الإسلام رحمة الله عليه: ' إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة ' نعم -والله- جنة عظيمة! قال فيها بعضهم: ' لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف' ' نعيم لا يعلمه الكثير، وأهل الدنيا مساكين! غاية ما عند أحدهم أن يلعب ورقة، أو أن يسكر -والعياذ بالله- فيطير عقله، أو يتفرج فيما يسمى العبث والسخافة والفسق والفجور أو الغناء والطرب، فهذه هي الليلة المفضلة عندهم؛ فسبحان الله أي: شيء وأي نعيم وأي راحة في تلك الأعمال؟! والله إنها نكدٌ وظلمة في الوجه، وإنها حسرة في القلب، وإنها تكدر العلم وتمحق البركة في الرزق أيضاً، وهكذا مما في المعاصي من أضرار وأخطار، وأما المؤمن فإن الليل مطيته، والعبادة لذته وراحته.(92/11)
نماذج من سلف الأمة
فمن الكرامات التي تؤثر عن ثابت البناني رحمه الله أنه سأل الله تبارك وتعالى، فقال: [[اللهم إن كنت أعطيت أحداً أن يصلي في قبره، فأسألك يا رب أن تعطيني الصلاة في قبري]] سبحان الله! الواحد منا يريد الرجوع إلى أهله كما قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99].
وأما إذا كان من أهل الجنة -جعلنا الله وإياكم من أهل الجنة- فإنه يقول: ربِّ أقم الساعة حتى أرى أهلي في الجنة؛ لأنه يفتح له فيرى مقعده من النار، ويقال: هذا مقعدك من النار أبدلك الله به مقعداً من الجنة ويرى أهله في الجنة فيقول: يارب! أقم الساعة حتى يرجع إلى أهله ويراهم، لكن هذا يتمنى أن يصلي حتى في القبر سبحان الله! يخاف لو مات أن تنقطع لذة الصلاة، وأن تنقطع ثمرة العبادة حتى وهو في نعيم الجنة، كأنه يقول: أنا أريد -ما بين الفترتين- في البرزخ أن أصلي، فلما توفي رضي الله تعالى عنه -وهذه من الكرامات الثابتة، وهي كثيرة والحمد لله، ولا نحتاج إلى الخرافات- ذهب أصحابه ليدفنوه، قال أحدهم: فسقطت عمامتي في القبر -أراد الله أن تتحق الكرامة، فسقطت- فرفع قليلاً وأدخل يده ودنا لأخذها، وإذا بالقبر مد البصر من النور، وإذا به ثابت البناني قائم يصلي! سبحان الله! نعم، أولئك عرفوا لذة العبادة وقيمتها.
توفي أحدهم رضي الله تعالى عنه وإذا بابنة -جارية- لجاره تقول: يا أبتاه، أين الخشبة التي كان ينصبها جيراننا فوق سطحهم؟ فقال: يا بنية، أي خشبة؟! قالت: خشبة كنت أراها كل ليلة فوق السطح، وإذ بها ليست خشبة بل كان صاحب البيت يقف فيقرأ المائتين والمئات من الآيات كل ليلة، والطفلة تراه فتظن أنه خشبة! فأين الخشبة وأين ذهبت الخشبة؟ الله أكبر! وأحدهم يبكي ويصلي من الليل، فتقول أمه: يا بني! لعلك قتلت نفساً فإن الله غفور رحيم، وإذا قتلت نفساً لعل الله يغفر لك - كانت تظن أنه لا يبكي ويتعبد إلا إذا ارتكب قتل نفس- فيقول: نعم يا أماه! قتلت نفسي بالذنوب والمعاصي، فهذه هي النفس المقتولة.
لقد كان الليل هو خلوتهم وراحتهم وسعادتهم، ومهما تحملوا من هموم النهار؛ ففي الليل تأتي المناجاة واللذة والطمأنينة، ويقوم الواحد في اليوم الثاني نشيطاً في أعز راحة ونعمة؛ لأنه غسل كل الهموم والأدران والتعب، بتلك الصلاة والاستغفار والذكر لله تبارك وتعالى في جنح الليل.
وأما الإنسان الذي يكدح للدنيا فهو كما جاء في الحديث: {حمار بالنهار، جيفة بالليل} أي: أنه ينام وعنده عشرة هموم ويقوم في الصباح فيجدها صارت عشرين, وينشغل بكذا وكذا؛ ثم تأتيه الأمراض من هنا ومن هنا؛ فلا يستطيع مقاومتها؛ لأنه مسكين لا يتحمل، فالمخ لا يتحمل، والمعدة لا تتحمل والأعصاب لا تتحمل، وهذه المشاكل كلها من: الدكان، والتجارة، والأولاد، والزوجة، والوظيفة، والراتب، والتقاعد، والترقية، والترفيع ومشاكل كل يوم، لا يغفل عنها أبداً.
وأما المؤمن: فلو بلغه أن الدنيا كلها قد اجتمعت عليه فهي لا شيء بالنسبة له، قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] فحسبنا الله ونعم الوكيل هي الكلمة التي قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وهي كلمة واحدة من ذكر الله، يدعو بها الإنسان في جوف الليل، فتذهب كل تلك الهموم والأحزان؛ بل ربما انقضت كأعظم صاروخ في الدنيا على أعداء الله عز وجل فدمرتهم أجمعين.
ولهذا أقول: يا شباب الصحوة يا شباب الدعوة، نريد أن يكون لهذه الصحوة المباركة الطيبة أولياء عباداً أتقياء تتزلزل الجبال إذا رفعوا أيديهم بالدعاء إلى الله عز وجل، والحمد لله فالالتزام والتمسك والخير كثير في المظهر والملبس والمحافظة على صلاة الجماعة، لكننا نريده أعمق وأعمق وأعمق نريد قلوباً مخبتة منيبة نريد الرجل الذي إذا رفع يديه لا يردها الله تبارك وتعالى إلا وقد حقق له ما يريد، وإن الله تعالى حيي كريم كما جاء في الحديث: {إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده أن يرفع إليه يديه فيردهما صفراً}.
فلا أحد يرفع يديه إلى الله ويردها صفراً؛ لكننا نريد شيئاً أخص من ذلك، نريد الذي يدعو على جبار فيقصمه الله عز وجل، نريد من يدعو على دولة من دول الكفر؛ فيدمرها رب العالمين، نريد من يدعو على ظالم من الظلمة؛ فينتقم الله منه ويجعله عبرة وآية للعالمين، وهكذا.(92/12)
ضرورة التضرع لله
ونريد مثل محمد بن واسع وهو من موالي زهران، أي أنه من هذه القبيلة الخيرة الطيبة، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {مولى القوم منهم}.
إن قتيبة بن مسلم الباهلي رحمه الله، كان يعد الجيوش لحرب أكبر جبهة كانت في تاريخ العالم الإسلامي وفي تاريخ الفتوحات، وهي الجبهة الشرقية حيث الهند والصين والترك، وهي أعتى الشعوب في القتال؛ فكان يريد أن يقاتل وأن يجاهد هؤلاء، فأعد العدة المادية كاملة وبقيت العدة الأخرى، لأنه لا ينسى أحدٌ من قادة المسلمين وصية عمر بن الخطاب لـ سعد بن أبي وقاص: [[واعلم أن المسلمين إنما ينصرهم الله تبارك وتعالى بطاعتهم لله وبمعصية عدوهم له، فإذا استوينا نحن وهم في المعصية؛ كان لهم الفضل علينا في القوة]] أي: فنحن عدتنا الطاعة، وكفى بها عدة، ففي تلك الليلة أعد كل شيء وبيت للهجوم ثم قال: اذهبوا فالتمسوا هل في المسجد أحد -هكذا نريد مثل هؤلاء تقي خفي لا يدري عنه أحد، ولكنه يأتي بدعوة هي خير من هذه الجيوش كلها، أو رديفة ومساندة لهذه الجيوش كلها- قالوا: ما وجدنا فيه إلا محمد بن واسع رافعاً إصبعه -أي: يدعو بإصبع واحدة- قال: إصبعه تلك أحب إلي من ثلاثين ألف فارس.
وذلك لأنه إذا قال: يارب، استُجيب له بإذن الله تبارك وتعالى؛ لأنهم يبيتون لربهم سجداً وقياماً، ويفزعون إليه تبارك وتعالى، فهم جنده، والدين دينه والدعوة دعوته، والجند جنده والعباد عبيده، والأعداء أعداؤه.
إذاً: لا بد أن يفزعوا إليه ولا بد أن ينادوه وأن يتضرعوا إليه.
وهنا ننبه إلى أدب عظيم من آداب الدعاء، وكلكم تعرفون الضرع، فكيف التضرع؟ أرأيتم العجل الصغير من البقر أو من الإبل أو من أي شيء، كيف يرضع! وكيف يفعل إذا لم يرضع! أرأيتم تلك الحالة؟ وكيف يرتفع وينزل ويحاول ويحاول ويمتص ويحرص وهكذا، فالضراعة مأخوذة من ذلك؛ فالواحد لا يرفع يده اللهم اغفر لي، ويمر منها كبعض الناس، بدون تضرع، بل اجعله دعاء ضراعة وتضرع والتمس الخير من عند الله لعله أن ينزل عليك، وبنفس الحرص والرغبة والشدة القلبية التي يفعلها هذا الصغير من الحيوان وهو يأخذ من الضرع، واطلب ذلك سواءً أكان مطراً أم غيثاً، أم رحمة أم نصراً أم رزقاً أم توفيقاً أم أي شيء.
تضرع إلى الله فبالضراعة يدفع الله تبارك وتعالى العذاب؛ ولهذا يقول سبحانه: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:76] أي: لو أن الناس استكانوا لربهم -والاستكانة هي الطمأنينة والخضوع الكامل الذي يناسب الهون، الذين يمشون على الأرض هوناً أي: مستكينين- وتضرعوا إلى الله عز وجل؛ لكشف الله تعالى عنهم العذاب كائناً ما كان.
وليس الحال كحالنا اليوم: إذا نزل العذاب جرينا وراء الأسباب، وانتقلنا من سبب إلى سبب إلى سبب، حتى نضيع في أودية لا نهاية لها، والطريق سهل والاتصال بالله تبارك وتعالى ميسور؛ ونتضرع إليه فيكون كل ما نريد بإذن الله تبارك وتعالى من خيره وفضله.
{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} [الفرقان:64] أي: وهاتان الحالتان في الصلاة؛ أما السجود فأقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد؛ وأما القيام فأفضل الصلاة طول القنوت والقيام، وهو الذي يجعل الإنسان مثلما رأت تلك البنت أو الجارية ذلك الرجل كأنه خشبة.
فبالسجود وبالقيام وبالدعاء وبتدبر الآيات والتفكر فيها في القيام ترى العجب، وبالبكاء في السجود ترى العجب الآخر، سبحان الله العظيم! ولهذا جاء عن بعض السلف في تدبر الآيات وفي قراءة آية واحدة من كتاب الله مواقف عجيبة جداً وكيف تفعل الآية في القلوب؛ فكيف بك إذا قرأ المئات من الآيات، حتى كان بعضهم يريد أن يصلي بعض الليل أو ثلثه، ولا يشعر إلا وقد طلع عليه الفجر، فإلى الفجر وهو ما يزال واقف لا يشعر بالوقت؛ لأنه يستغرق بعمق في هذه الآيات وفي معانيها.
وكما قرأ بعضهم قول الله تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} [سبأ:54] فكيف حيل بينهم وبين ما يشتهون.
فيشتهي الإنسان في هذه الدنيا، المال والراحة والزوجة والبيت وهو في هذا التعب كله ويعمل فيه، فتأتي لحظة ثم يحال بينهم وبين ما يشتهون، ولو فكر الواحد كيف يحال بينهم في لحظة واحدة يسلب هذا كله الملك، والمال، والمنصب، والسلطان، والزوجة، والبيت وكل شيء فإذا حيل بينك وبين ما تشتهي وبدأت تفكر: ماذا قدمت وماذا أمامك؟ فهذه هي العبرة، لو فكر الإنسان وتأمل، كيف أنه يحال بينه وبين ما يشتهي وبين ما تعب.
فسنوات من عمرك وأنت تزين هذه العمارة، ومالك كله قضيته وأنت تتفنن في هذه الحديقة، وفي اختيار هذا المنزل، ثم يقال لك: ارجع إلى ما أترفت فيه، لماذا تركض؟ ولماذا تذهب؟ فحيل بينهم وبين ما يشتهون، أي: بنزول الموت وبنزول العذاب ينتهي كل شيء؛ ثم يحاسب عليها ويتمنى أنه سلم منها -على الأقل- حتى يخفف عليه الحساب؛ لكنه يحاسب عليها، ويتمتع بها غيره؛ وهذا من ضيق الدنيا وخستها وحقارتها إذا قورنت بالآخرة.(92/13)
حقيقة الدنيا عند السلف
وهذا الإمام عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله، تأمل في قوله تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ * يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الدخان:40 - 42].
إن هذه الآية كأنها استجمعت واستغرقت ذهنه الليلة كلها، فيفكر فقط! كيف إن يوم الفصل ميقات الناس أجمعين، الأولين والآخرين -من آدم عليه السلام، إلى آخر مخلوق يخلقه الله عز وجل- فيأتون جميعاً حفاةً عراةً غرلاً بهماً كيوم ولدتهم أمهاتهم، وتدنو منهم الشمس مقدار ميل، فذلك موعدهم وميقاتهم أجمعين، ثم يكون الحساب والفصل، سبحان الله! الواحد منا إذا رأى أباه أو جده وقد صار كبيراً طاعناً في السن، وتأمل هذا الكبير المنحني الظهر مرت به أيام مثل الحلم، كان طفلاً صغيراً وكان يرى جده وهو كبير طاعن في السن مثله، وذلك الجد كذلك، سبحان الله! وكأنك ترى مجموعة هائلة لا نهاية لها كلهم شِيبة إلى مالا نهاية؛ لكن أنت شباب والحمد لله ولكنها لحظات كالحلم، فتمر أيام معدودة، وإذا بك نفس الشيء، وإلى نفس الحالة.
ولهذا يوم الفصل يجتمع هؤلاء جميعاً، الذي كان يقول: هؤلاء أحفادي، والذي كان يقول: هؤلاء أجدادي، وكم من قرون خلقها الله، عاد وثمود والذين من بعدهم -لا يعلمهم إلا الله- قال تعالى: {وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً} [الفرقان:38] فكلهم يجمعهم الله عز وجل كما ذكر سبحانه: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الدخان:40].
وهناك: {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً} [الدخان:41] ولا ينفع الإنسان هناك إلا العمل الصالح، قال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101] أي: لا ينفع مال ولا سلطان، ولا منصب ولا جاه، فكل شيء يذهب ولا يبقى، إلا ما قدمت وما عملت، فتجده أمامك، قال سبحانه: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49].(92/14)
حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع العبادة
وأما زرارة بن أبي أوفى رضي الله تعالى عنه فكان يقرأ قوله تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر:8 - 10] فسقط رضي الله تعالى عنه في المحراب فوجدوه قد مات رحمه الله من هذه الآية، وكذلك ما حصل لـ عمر رضي الله عنه حين سقط وهو يقرأ من سورة الطور.
فالكل لهم في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عظيم الأسوة وعظيم القدوة، فقد كان صدره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأز كأزيز المرجل، أي: كالقدر الذي يغلي؛ لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أقوى الناس قلباً، وانظروا كيف جمع الله له هاتين الخصلتين! أقوى الناس قلباً وأثبتهم جناناً، وفي نفس الوقت أكثرهم اعتباراً وتأثراً فهو متوازن صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالاعتبار عظيم جداً؛ لكنه لا يغلب قوة قلبه صلوات الله وسلامه عليه؛ فهو ثابت واقف، فيأز صدره كأزيز المرجل -الذي يغلي- من الخشية والخشوع والتدبر والتفكر؛ وكذلك كان خيار أصحابه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثله.
فإذا ضعف القلب -وأحياناً يضعف- يسقط مثل ما فعل زرارة وغيره، فيسقط ولا يستطيع أن يتحمل هذه العبرة، أو هذه الآيات.
وأما إذا ضعف اليقين أو ضعفت العبرة فماذا يحصل؟ لا يأز الصدر ولا يتحرك الجنان، فذلك مثل حالنا نحن الآن، نقرأ الآيات ونسمع السور ونسمع العبر، فلا نتأثر، لأن الوارد ضعيف، ولم يرد على القلب شيء قوي، بل ورد عليه شيء ضعيف، وهو قاس -نسأل الله العافية- أو مريض أو فيه تحجر فلا يتأثر؛ فلذلك كان كمال العبادة في هديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو له كمال القوة والثبات مع كمال الاتعاظ والاعتبار صلوات الله وسلامه عليه.
والآيات عظيمة وعبرها كثيرة ونريد من أبي عبد الرحمن - يحيى اليحيى - حفظه الله -وقد زارنا هذه الليلة- أن يشارك ولا نسامحه ولا نعفيه، وإن كان بعض من حضر لا يعرفه حفظه الله، وأنا أكره حقيقة الحديث على الإنسان بحضوره سواء فيّ أو في غيري، لكن نعرفكم بهذا الشيخ، ونسأل من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يحفظه وأن يبارك في عمره، فقد تخرج على يديه من حفاظ الكتاب والسنة الجمع الكبير -ولله الحمد- وهو معروف حفظه الله في القصيم وما حولها، وإنها حقيقة لسعادة وشرف لنا نحن أبناء هذه المنطقة أن نراه وأن نسعد به، ولا بد أن نستمع إليه ولعلنا إن شاء الله نكمل هذه العبر والدلائل في لقاء آخر بإذن الله، وأمامنا كم هائل من الأسئلة فلا نطيل، ولكن نسأله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم من عباد الرحمن.
اللهم اجعلنا من عبادك المتقين، اللهم اجعلنا من أوليائك الصالحين، اللهم اجعلنا من المخبتين، اللهم اجعلنا من المنيبين، اللهم اجعلنا من الصادقين، اللهم اجعلنا من المخلصين، إنك سميع مجيب.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله.(92/15)
كلمة للشيخ يحي اليحيى
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فلم آتكم متحدثاً ولا مذكراً، وإنما أتيتكم زائراً ملبياً لدعوتكم، مشاركاً في هذه السنَّة التي أدين الله أنها سنة حسنة، وما أن سمعت بأن هناك اجتماعاً مضمونه اللقاء بعلم من أعلام الإسلام، حتى وجدت قلبي ونفسي تميل إلى الجلوس كل الميل، فمضيت قُدُماً إلى هذه البلاد وإلى هذه الأراضي المباركة، لعلي أن أكون معيناً على البر والتقوى، والله تعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] وإن هذا الاجتماع قطعاً قطعاً قطعاً تعاون على البر والتقوى.
أيها الفضلاء النبلاء: إن كلماتي التي سأقولها، ولدت في تلك الدقائق السالفة، ولدت لما رأيت هذه الوجوه النيرة الطيبة، التي أبت كل الإباء إلا أن تحضر هذا الاجتماع، وهذا المكان لتشارك أهل الخير في خيرهم، ولقد تشنفت آذاننا وآذانكم وأطربت أرواحنا وأرواحكم، في هذا الاجتماع، ومثل هذا الكلام هو تجديد للإيمان، فلقد تجدد إيماننا، إي والذي نفسي بيده، ففي مثل هذه المجالس يتجدد الإيمان، وأنا على يقين أن الكثير الكثير سيئوب إلى بيته وقد ازداد يقينه وإيمانه وإحسانه بالله تعالى.
ولما رأيت هذا الاجتماع وهذا الجمع الطيب، تذكرت قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لـ حكيم بن حزام، كما روى ذلك البخاري ومسلم من طريق عروة، قال: {أخبرني حكيم بن حزام أنه سأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله، أرأيت أموراً كنت في الجاهلية أتحنث بها، من صدقة أو عتاقة -أي وعتاقة- أو صلة رحم، أفيها أجر؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أسلمت على ما أسلفت من خير}.
وأنا أقول يا معاشر زهران: لقد أسلمتم على ما أسلفتم من خير، ولقد قدَّمت هذه القبيلة، لا أقول عشرات من رجال الحديث بل ولا أقول مئات، بل بالآلاف، فقد قدمت هذا القبيلة رجالاً لحديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولست بصدد بيان الرجال الذين ضحوا بمهجهم وأرواحهم وأنفسهم حتى قدموا لهذه الأمة هذا المعين الصافي من ميراث نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولقد كان من رجال هذه القبيلة شيوخاً للبخاري ومسلم رحمهم الله تعالى.
إنكم يا معاشر زهران، لا زلتم تتفيئون ظلال تلك الدعوة النبوية الخالدة المستمرة، التي لفظ بها الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أُتي إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقيل: {يا رسول الله! ادعُ على دوس، لأنهم أَبَو، فقال: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللهم اهدِ دوساً، وأتِ بها} خاف أبو هريرة، وخاف الطفيل، أن يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم، لكن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا ربه لهذه القبيلة، فلكم نصيب من ذاك الرءوف، الذي سماه الله رءوفاً رحيماً: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
فقال: {اللهم اهدِ دوساً وأت بها} فهدى الله دوساً، وأتى بها، ولا زالت دوساً تهتدي سنة بعد سنة، وقرناً بعد قرن، وها أنا أرى جمعاً كبيراً من هذه القبيلة العريقة، في شعاب الزمن، منظر لفت نظري إي والله، ما هو هذا المنظر؟ إنه التمسك بالسنة رجالاً وصغاراً خاصةً وعامةً، إنني أرى الجلّ ممن أعفى لحيته، وأحفى شاربه، وقصر ثوبه، لا تكاد، إنه غريب بينكم ذاك الذي يحلق لحيته، ويطيل ثوبه، فيا لله ما أعظمها من خصلة! إنه يحق لكم أن تعتزوا، ويحق لكم أن تفرحوا وأن تستبشروا وأنتم تحيون سنة قد أميتت.
وأنتم تعيشون هذا الشعور، في زمان يغربل الناس فيه غربلة: لقد أسلمتم على ما أسلفتم فيه من خير، إنكم اليوم تسجلون سنة حسنة، فالله الله، في المزيد في الهداية والسداد، هذا هو الذي أريد أن أقوله في بدئ الأمر.
فأقول أيها الفضلاء، أيها الكرام، أيها الشجعان، وهذا شيء وأمر معروف، ولا خلاف فيه، أقول: هكذا ينبغي الاحتفاء بالعلماء، والاحتفاء برجالات الإسلام، الذين وضعوا أرواحهم على راحتهم، هكذا ينبغي، إن أمة تحتفي بعلمائها، أمة مرحومة، وأمة خيرة مباركة.
وأمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت ولا زالت ترفع من قيمة العلماء، وترفع من قيمة الدعاة، وتضحي بالغالي والنفيس من أجل الذود عنهم، وعن أعراضهم، وتضحي بكلما أوتيت انشروا صفحات التاريخ، اقرءوا الصفحات التي سجلت بالأمس، كيف كان المسلمون يقفون مع علمائهم؟ وبنظرة سريعة إلى عالم الأمس، تجد فعلاً أن الأمة أمة مرحومة مباركة خيرة.
أيها الإخوة: إنني أشعر أني مأمور أمر وجوب لكي أتكلم مثل هذا الكلام، كيف وقد أمرني فضيلة الشيخ سفر بارك الله فيه وفي علمه، إني أراه بالنسبة لي واجب، لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59].
فمن هم أولو الأمر؟ ذهب جمهور المفسرين إلى أن أولي الأمر هم الأمراء والعلماء، الأمراء الذين يطيعون الله، ويطيعون الرسول، والعلماء الذي يخشون الله، وهم ربانيون بما يعلِّمون الناس.
أيها الإخوة: كما أننا نحتفي بالعلماء، فينبغي أن نسعى جاهدين من أجل أن نخرج علماء، ودعاة، وأنتم والحمد لله خرجتم، وهاأنتم تدفعون ضريبة الإسلام، وهاأنتم تزكون إسلامكم، وهذا هو ابن من أبنائكم، وولد من أولادكم، أصبح بُعبعاً في كل أرض ينزل فيها، وكلماته دوّت وسمعها القريب والبعيد، وما بينكم وبينه إلا بضع كيلو مترات، فالجدير أيضاً أن تواصلوا الجهود، والحمد لله، نسمع أن هناك كواكباً من طلبة العلم، هم في هذا الطريق، قد اجتهدوا وجدوا، ولكن نريد الزيادة، فهذه أرض خصبة لا نقنع بواحد أو باثنين أو بثلاثة أو بأربعة أو بخمسة، بل نريد عشرات، بل مئات، فعلى الأولياء أن يجندوا أولادهم للذود عن هذا الدين العظيم، وأن يحيوا ما كان عليه أسلافهم، فعليهم أن يشجعوا أولادهم على طلب العلم الشرعي، بدءاً بحفظ القرآن الكريم، وتثنيةً بحفظ سنة النبي الكريم، وهكذا، وهذا هو المظنون وهو المنتظر في قرية أو إقليم أو في أرض، أو مدينة لها مالها في دين الإسلام.
أيها الأحباب: إني أقول وأنا على يقين إنكم قد سئمتم من كلامي، وإني متطفل في كلمتي هذه، إنكم الآن تنظرون إلى فضيلة الشيخ سفر، وقد اشرأبت أعناقكم إليه للاستماع إلى مزيد من أجوبته النافعة، وأنا معكم، ولا ألومكم، فأترك المجال لكي أستفيد وتستفيدون أنتم من حديثه العطر، أسأل الله تعالى أن يجمعنا في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، أسأل الله ألا يجعل هذه الأقدام التي سارت إلى هذا المكان، تسير خطوة واحدة إلى النار.
أسأل الله تعالى أن يصلح أحوالنا وأحوالكم، وأن يأخذ بنواصينا ونواصيكم إلى الخير وإلى الصراط المستقيم، وأن يحيينا على الإسلام، وأن يتوفانا على الإسلام، وأن يميتنا على الإسلام، وأن يدخلنا الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
ولا أنسى أن أقول لمن تسبب في هذا الجمع جزاك الله خيراً، وأصلح الله نياتك وذرياتك، اللهم وفقه على الخير، اللهم أصلح له أولاده، اللهم سدد خطاه، اللهم بارك له في ماله، اللهم بارك له في أولاده، اللهم بارك له في حياته، اللهم اغفر له بعد مماته، اللهم اجعله من الأولياء الصالحين، ومن الأولياء المتقين، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(92/16)
تعقيب للشيخ سفر
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على خير خلق الله.
أما بعد: أيها الإخوة الكرام: شكر الله لأخينا الشيخ الحبيب: يحي بن عبد العزيز اليحيى، وأثابه على ما تفضل به، وعلى ما حض به هؤلاء الآباء الكرام وهؤلاء الشباب الذين نسأل الله تعالى أن يجعل فيهم الخلف الطيب والنشء الصالح، إني أحب أن أعقب تعقيباً بسيطاً قليلاً فقط، على كلامه أثابه الله، لتعلموا مغزاه.
إن الشيخ حفظه الله، قد أقام حفلاً عظيماً، وأقول بحق، إنني لم أشهد قبله ولم أشهد بعده مثله، حفل أقيم في مدينة بريدة وكان الاحتفال بحفظة الصحيحين - البخاري ومسلم - وكان المحفظ هو الشيخ حفظه الله، ولا أقصد بذلك أن أثني عليه في حضوره، وهو -ولله الحمد- يستحق ذلك وأكثر، لكن أريد أن أبين لكم أن شهادته لهذه القبيلة -لقبيلة زهران - شهادة العالم المطلع، وعندما يخبركم عن كثرة الحفاظ، والشيوخ والعلماء منها فهو العليم وهو الخبير بأحوال هؤلاء الرواة، وهو يحدثكم بهذا الحديث ويريد منكم -كما حظكم- أن تكونوا أبناء سائرين على هذا الطريق، وأن تُخرج هذه القبيلة -بإذن الله والقبائل الأخرى- الحفاظ لدين الله تبارك وتعالى، الذين يحفظونه بسيوف الجهاد، ويحفظونه أيضاً علماً ومسائل في صدورهم وقلوبهم.
وأنا لو قلت هذا الكلام، أو قاله غيري لربما كانت الشهادة مجروحة، لأننا من أبناء المنطقة، أو كانت في غير محلها، لأن التخصص مختلف، أما أن يصدر هذا الكلام منه حفظه الله، فهو يتطلع إلى أن يكون في الخلف وفي هذا الجيل من يعيد سيرة أولئك الآباء الكرام الفضلاء وما ذلك على الله بعزيز، فبارك الله فيكم علموا أبناءكم وحفظوهم كتاب الله، وحفظوهم سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واهتموا بهم واعتنوا بهم، واعلموا أنه كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا}، وكما تفضل بالحديث الذي ذكره الشيخ: {أسلمت على ما أسلفت من خير} فنسأل الله تعالى أن يبارك في هذا الجيل الجديد، وأن يجعل فيهم من يعيد سيرة أولئك الأباء الفاتحين، والعلماء العاملين إنه سميع مجيب.(92/17)
الأسئلة(92/18)
حديث: أنهلك وفينا الصالحون
السؤال
عندما سئل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث} وقال الله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117] فهل الذي ينجي الأمة هو أن يكونوا من المصلحين الصالحين؟ وما هو الدور الذي يجب أن يقوم به المسلم تجاه نفسه ليكون من الصالحين، وتجاه الأمة ليكون من المصلحين؟
الجواب
هذا سؤال عظيم، وما ذكره الأخ السائل هو حق، فما جاء عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {نعم إذا كثر الخبث} وكان ذلك لما سألته أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، {أيهلكنا الله وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث}.
فالمانع والحائل من نزول العذاب هو الإصلاح لا مجرد الصلاح، فيجب أن يكون الإنسان صالحاً في نفسه مصلحاً لغيره، واعلموا أنه إن لم يكن مصلحاً، فإنه لا يكون صالحاً؛ لأن حقيقة الصلاح وتمامه إنما تكون بالإصلاح؛ ولذلك فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو قدوة المصلحين وإمامهم صلوات الله وسلامه عليه، وهكذا كان أصحابه من بعده يدعون إلى الله ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
ولقد اختل مفهوم الصلاح والفساد، في هذا الزمان عند الناس مفهوم الصلاح والفساد، وهذا وحده يحتاج إلى لقاء خاص؛ لأن كثيراً من الناس لا يمنعه من قبول الصلاح إلا الالتباس في هل هذا صلاح أم فساد؟ ولهذا بعض الناس إذا وعظته أو أعطيته أي شيء ترى أنه خير له، وتقسم له أن هذا من صلاحه إلا أنه لا يدري أهذا صلاح أم فساد؟! فالأمور تلتبس على الناس، فمن أين نأخذ المعيار والميزان الذي نعرف ونعلم به الصلاح من الفساد، ونعرف المصلح من المفسد؟ من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الله وأما لو أخذناه من معيار ثانٍ فماذا نجد؟ ماذا قال فرعون عن موسى عليه السلام؟ ذكر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قوله: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] فكيف يصبح فرعون هو الناصح الأمين المشفق الخير، وموسى داعية الفساد؟! ولو أخذنا معايير الصلاح والفساد من الأبواق الإعلامية، أو من أفواه المنافقين والمفسدين ومن المرجفين أو من الصحافة الغربية ومن الإذاعات العالمية؛ فسنجدها نوعاً آخر تماماً والله المستعان! فالمتطرف عندهم والإرهابي هو المصلح الصالح، والمعتدل والمثقف هو من يحبون من أهل الفساد، نسأل الله أن يعافينا وإياكم.(92/19)
شرح آيات سورة المائدة
بدأ الشيخ حفظه الله باستعراض كلام الحافظ ابن كثير رحمه الله في مسألة: الحكم بغير ما أنزل الله، وبين في شرحه سبب نزول الآيات في سورة المائدة، وذكر أربعة أقوال للعلماء، ثم بين القول الراجح في معنى هذه الآيات.
ثم شرح كلام العلامة محمود شاكر في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله في عصره، موضحاً ذلك ببعض الأمثلة على ذلك.
ثم تناول تفسير آيات سورة المائدة المتعلقة بالحكم بغير ما أنزل الله، وبيّن تفسير ابن كثير للآيات، وذكر القراءات الواردة في قوله تعالى: ((وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا) [المائدة:45]، موضحاً أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا قُرر في ديننا، ورد على قول أبي حنيفة بقتل المسلم بالكافر، كما تناول خلال هذه المادة تحريف اليهود والنصارى لكتبهم حتى توافق أهواءهم، وكذلك القوانين الوضعية التي وضعها البشر منذ القدم، والتي كانت لا تخدم إلا طبقة الحكام، وأورد مثالاً على ذلك القوانين التي وضعها جنكيز خان، مبيناً انحرافها، ومقارناً هذه القوانين بالقوانين الوضعية المعاصرة.(93/1)
فضائل سورة المائدة وذكر بعض أحكامها
نبدأ في هذا الدرس -إن شاء الله- في كتاب قيم عظيم في بابه، وهو كتاب عمدة التفسير، وهو اختصار لـ تفسير ابن كثير، اختصره وحققه وعلق عليه الشيخ أحمد محمد شاكر، وسوف يكون موضوعنا في تفسير آيات من سورة المائدة.
وأول شئ نقدم له بين يدي هذه الآيات هو الكلام عن سورة المائدة وعن فضلها.
وقد ذكر ابن كثير رحمه الله: أن الإمام أحمد روى عن أسماء بنت يزيد قالت: {إني لآخذة بزمام العضباء ناقة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ نزلت عليه المائدة كلها، وكادت من ثقلها تدق عضد الناقة}.
وروى -أيضاً- الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: {أنزلت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سورة المائدة وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها}.
يقول الشيخ أحمد شاكر: إن حديث أسماء بنت يزيد إسناده صحيح، وقال في الحديث الثاني: وإسناده صحيح.(93/2)
سورة المائدة آخر سورة نزلت كاملة
قال: 'وروى الترمذي عن عبد الله بن عمرو قال: [[آخر سورة أُنزلت: سورة المائدة والفتح]]، وقد روى الحاكم نحو رواية الترمذي '.
ثم ذكر أن الإمام أحمد والترمذي وغيرهما رووا عن عبد الله بن عمرو وعن عائشة رضي الله تعالى عنهما أن آخر ما نزل من القرآن هي سورة المائدة، ولا يهمنا الدخول في تفاصيل ما هو آخر ما نزل من القرآن، بل الذي يهمنا أنها لكونها آخر ما نزل، أن آياتها محكمة غير منسوخة، فهذا هو المقصود.
فيمكن أن نقول: إن المائدة آخر ما نزل من السور كاملة كما جاء النص، وأن بعض الآيات نزلت بعدها، وأما البقرة التي فيها آية: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281] فإنه قد ثبت أن سورة البقرة أول ما نزل في المدينة، فيكون أول ما نزل في المدينة هو أول سورة البقرة، وآخر ما نزل من القرآن مطلقاً هو هذه الآيات من أواخر سورة البقرة.
ولكن آخر ما نزل بشكل سورة كاملة هو سورة المائدة، وقرينة ذلك ذكر الفتح، ونحن نجزم أن سورة الفتح نزلت في صلح الحديبية، فقطعاً نقول: إنه قد نزل بعدها آيات وبلا شك، لكن المقصود في السور التي نزلت كاملة.
وأما ما ورد عن ابن عباس أن سورة النصر آخر ما نزل، فالمقصود من كلام عائشة أنها في الأحكام، وأيضاً المقصود السور الطوال.
فإن جبير بن نفير قال: [[حججت فدخلت على عائشة فقالت لي: يا جبير! تقرأ المائدة؟ فقلت: نعم، فقالت: أما إنها آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم من حرام فحرموه]].
إذاً: هي سورة محكمة، لم ينسخها بعدها سورة، وهذه السورة من مزاياها ومما يدل على ما ورد فيها من تشريع: افتتاحها بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] فهذه قاعدة عظيمة جداً، وما أجهل الناس بالقرآن! ولا نعني الناس الذين لا يقرءون القرآن، ولا الذين لا يقيمون حروفه ولا حدوده، وإنما نعني نحن الذين نقرؤه ليلاً ونهاراً في رمضان وفي غير رمضان، ومع ذلك نجهله لأسباب يطول شرحها.
منها: -وهو الذي يهمنا نحن طلبة العلم كثيراً- جهلنا بلغة العرب، وجهلنا بأساليب البيان، فحتى لو حاولنا أن نتدبر أو نتذوق القرآن، فإننا لا نجد له ذلك المذاق الذي يجده من يعرف أساليب العرب، ويعرف بيانهم وبلاغتهم.
فهذه الآيات من أول سورة المائدة وغيرها كلها عجيبة جداً لمن تأملها، والقرآن كله يأتي بالأحكام -كما في سورة البقرة والنساء والطلاق- التي تتعلق بالأسرة والمعاملات والعقود وبأمور كثيرة، ومع ذلك تجد أن هذه الأحكام تُعرض في أسلوب بياني سلس سهل، يستمع القلب إليه فينسل إلى داخل أعماق الفؤاد، وكأن الكلام في الرقاق والمواعظ والقصص وليس في الأحكام.
فمن عادة الأحكام أن يكون فيها الجفاف الذي يخاطب العقل أو الفهم المجرد ولكن لا يباشر شغاف القلوب إلا هذا القرآن العظيم، وهذا الذكر الحكيم.(93/3)
سورة المائدة أكثر ذكراً لآيات الأحكام
ولو تتبعنا عناوين الأحكام فقط في هذه السورة لوجدناها كثيرة، منها: الصيد، ونكاح الكتابيات، وطعامهم، واتخاذ الكفار أولياء، وحد السرقة، وحد الحرابة، والقصاص، والعقود، والعهود -قال ابن عباس ومجاهد: [[العقود: بمعنى العهود]] فكل عهد يجب الوفاء به، ويدخل في ذلك عهد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فكل مؤمن هو معاهد لله عز وجل بالإيمان والتصديق للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واتباع أمره، وكذلك بقية العقود- وأيضاً من الأحكام: البيوع، والشركة، والإجارة، والنكاح، والبيعة، والوكالة، وهذه من أنواع العقود، وهي داخلة في قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] ويدخل تحتها كل أنواع العقود مع الله -وهي أعظم ما يجب الوفاء به- ومع الخلق.
وأيضاً من الأحكام: كفارة اليمين، وحكم الخمر، وحد الخمر، والطهارة، والتيمم، وغيرها من الأحكام العظيمة التي وردت في هذه السورة العظيمة.
قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} [المائدة:1] وهذه أيضاً قاعدة عظيمة جداً في التحليل والتحريم.
{إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} [المائدة:1] وهذه الآية عجيبة من الناحية اللغوية، ففيها استثناء في غاية الجمال والأسلوب، بحيث أن الاستثناء لا يمكن أن يأتي به لسان أو يقوله شاعر أو أديب إلا ويخطئ، ويكون في أسلوبه ركاكة، ولا نعلم أن أحداً من العرب جاء باستثناء من استثناء إلا وكان الأسلوب ركيكاً، وكذلك كان الأسلوب في قوله: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} فيه استثناء آخر، فنستثني ما حرم فيبقى ما أحل، وما أحل نستثني منه حالة الصيد، وهذا كما ذكر في أول السورة: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2] وفي آخرها ذكر كفارة من فعل ذلك، فهذه سورة كلها أحكام، وفيها من مثل هذه العبر والدلالة.(93/4)
وقفة مع آية من سورة المائدة، وأخذ الأحكام منها
والآن ننتقل إلى الآيات التي فيها موضوع حديثنا، وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا} [المائدة:41] فهنا أول ما يفتتح بقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} أي: إن القضية قضية الكفر، والكفر إذا جاء في القرآن فهو دائماً المعهود المذكور، أي: الكفر الأكبر، والكفر في القرآن هو: ضد الإيمان كله، فهو الكفر الأكبر، فقوله: {لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} لا يعني في المعصية، أو في المخالفة، أو في اتباع الهوى، بل يعني الكفر المعهود بعينه، والذي هو الخروج عن أمر الله والتكذيب بما أنزل الله، وعدم الاستسلام لحكم الله ولدينه.
قال: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} فهؤلاء كفار كفراً أكبر أيضاً، فهذا أمر.
وقوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا} وهذا أمر آخر، فهؤلاء الذين هادوا -وهم اليهود- كفار كفراً أكبر لا شك فيه، فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [بيَّن أنهم طائفتان: المنافقون واليهود، كما يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: 'نزلت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر، الخارجين عن طاعة الله ورسوله، المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله عز وجل: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} أي: أظهروا الإيمان بألسنتهم، وقلوبهم خراب خاوية منه، وهؤلاء هم المنافقون: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا} أعداء الإسلام وأهله، وهؤلاء كلهم -المنافقون واليهود-: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة:41] '.
فـ ابن كثير يقول: 'المسارعين في الكفر، الخارجين عن طاعة الله ورسوله، المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله عز وجل '.
ونلاحظ أن الحافظ يربط بين هذه المقدمة وبين الآيات التي بعدها، فلم يقل: الذين لا يؤمنون باليوم الآخر، ولم يقل: يكذبون بالقدر، لأن المقصود هنا هو مسألة الحكم والتحاكم، فمهَّد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وقدَّم للحديث عن التحاكم والحكم بغير ما أنزل الله، فناسب أن الحافظ ابن كثير رحمه الله يُراعي ذلك، ويظهر هذه المناسبة، ويبين أن هؤلاء المسارعين هم الذين هذه صفتهم: يُسارعون في الكفر، كما قال الله في سورة التوبة: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:37] فقد يكون الإنسان كافراً بالله، وكافراً بآياته، وهذا كفر، وقد يكون هناك مسارعة في الكفر، أو زيادة في الكفر، وهو أن يُبدل أحكام الله، أو يعترض على أحكام الله، فيطعن في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو ينكر سنته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو يستهزئ بآيات الله، فهذه مسارعة في الكفر، مع أنه في الأصل: اليهود كفار، والمنافقون الذين يظهرون الإيمان وقلوبهم خاوية منه كفار أيضاً في الحقيقة، ومع ذلك فإنهم يُسارعون في الكفر، ومستمرون فيه، والآيات بعضها يوضح بعضاً ويشهد لبعض.
قال: ' {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة:41] أي: مستجيبون له، منفعلون عنه'.
فهذه صفتهم أنهم سمَّاعون للكذب.
إذاً: يُحذِّر الله تعالى المؤمنين أن يكونوا سماعين للكذب، وهذا ما فعله السلف الصالح وطبقوه، فهذا أيوب [[أتى إليه مبتدع يريد أن يكلمه، يقول: كلمة، يقول: ولا نصف كلمة]].
فالمؤمن لا يستمع إلى الكذب ولا القذف ولا الكلام الذي لا خير فيه؛ لأنه لا يأمن أن يصدقه أو يقع في قلبه شيء منه، والمؤمن دائماً يُعرض عن الكذب واللغو: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص:55] ويعرض عن الباطل، كل هذا حتى يبقى القلب نقياً سليماً، أما المنافقون واليهود، وضعاف الإيمان، ومن كان في قلبه نفاق فهذا حالهم: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ}، وكما قال: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}.
ثم يقول: ' {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} أي: يستجيبون لأقوام آخرين، لا يأتون مجلسك يا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقيل: المراد أنهم يتسمعون الكلام ويُنهونه إلى قوم آخرين ممن لا يحضر عندك من أعدائك'.
أي: إنهم إما يسمعون ممن لم يحضر عندك، أو هم ينقلونه إلى من لم يحضر عندك، والمقصود أن بضاعتهم الكذب، فيروجون الكذب والأضاليل والإفك والتهم في المؤمنين دائماً، فهذا كلامهم: محمد فعل كذا، محمد يقول كذا، محمد يريد أن يفعل كذا، وهو لا أساس له من الصحة، وأبو بكر فعل كذا، وعمر فعل كذا، وهذا حالهم، ويجدون من يستمع إليهم، ولا أعظم إفكاً وفريةً من حادث الإفك على أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، ومع ذلك انتشرت وسرت وتناقلها الناس، ولو أن الناس إذا سمعوا باطلاً أوقفوه، ولم ينشروه، ولم يسمعوا له، لكان المؤمنون في راحة، ولكانت قلوبهم في أمن وسلامة، ولكان صفهم موحداً من هذه الشكوك التي تبذر فيما بينهم.
يقول: ' {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:41] أي: يتأولونه على غير تأويله، ويُبدلونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون'.
فهنا بيَّن الله سبحانه حال هؤلاء السمَّاعين، ومن يستمع إليهم أيضاً.
وهو أن عملهم هو نوع من الافتراء المحض، وهذا أمر آخر موجود، وقد ذكره الله تعالى في آية أخرى، فهم يقولون على الله تعالى وعلى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما لم يقل، أو على المؤمنين ما لم يقولوا، وهذا معروف قديماً وحديثاً.
وهناك نوع آخر وهو خبيث وسيئ جداً وربما كان تصديقه أكثر عند ضعاف الإيمان وهو: ألاَّ يفتري على المؤمنين فرية، لكنه يُحرف الكلم عن مواضعه، فالقول حق، لكنهم ينقلونه إلى الناس على أنه باطل، فإذا أمر بالمعروف، أوّله هؤلاء السماعون، فقالوا: هؤلاء قد أمروا بمنكر.
وإذا دُعي إلى سنة، قال هؤلاء السماعون وأتباعهم: إنهم يدعون إلى البدعة وهكذا، فهذا حالهم: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ}.
ثم يقول تعالى: {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} [المائدة:41] أي: إن اليهود من كفرهم يقولون لبعضهم: اذهبوا إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن قال ما هو في صالحكم فخذوه، وإن قال بغير ذلك فلا تأخذوه، وهذا حال المنافقين -أيضاً- ومن تبعهم من ضعاف الإيمان.
أما المؤمن فإنه إذا بلغه عن الله وعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيء فإن حاله أن ينقاد له، ويقول: سمعنا وأطعنا، فكل ما جاء عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسمع له ويطيع، وإن خالف ما هو فيه.
أما حال من رسخ في البدع والضلالات واستمر عليها طوال الدهر -إذا عُرض عليه قول الله وقول رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: إنا وجدنا آباءنا فلا فرق إذاً بين هؤلاء وبين هؤلاء، نسأل الله العفو والعافية.(93/5)
الأقوال في سبب نزول هذه الآيات
ثم يأتي ابن كثير رحمه الله بالآيات فيقول: 'قيل: نزلت في أقوام من اليهود قتلوا قتيلاً، وقالوا: تعالوا نتحاكم إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن حكم بالدية فاقبلوه، وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه'.
وهذه هي التي سيوردها رحمه الله تعالى فيما بعد، ويقول: سبب آخر في نزول هذه الآية، فهذا السبب قد ورد، ومع ذلك قال الحافظ رحمه الله: 'والصحيح: أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا وكانوا قد بدلوا كتاب الله'.
وهذه العبارة مهمة جداً، ويجب أن نتأمل معناها؛ لأنها هي مناط الحكم في هذه المسألة، فالحكم مبني على هذا المصطلح نفسه، وعلى هذه العبارة، وهذا الفهم.
قال: 'وكانوا قد بدِّلوا كتاب الله الذي بأيديهم'.
فمناط الحكم هو التبديل: تبديل دين الله، وتبديل كتابه، وتبديل شرعه.
قال: 'الذي بأيديهم من الأمر برجم من أحصن منهم فحرفوه'.
فهذا أمر هام متعلق بمناط الحكم، وهو التبديل.
ثم قال: 'واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة والتحميم والإركاب على حمارين مقلوبين'.
فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد أنزل في التوراة الرجم، وقد قال تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} [المائدة:43] فلما كثر الزنا فيهم وشاع وانتشر بينهم، اصطلحوا فيما بينهم أنهم لا يقيمونه إلا على الضعيف، ويتركون إقامته على الشريف.
ولم يقف الانحدار عند هذا الحد، كما قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة:78 - 79] فلم يقم فيهم من يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويردهم إلى الأصل، بل جاء فيهم من يقول: إن هذا لا يجوز، كيف نرجم الضعيف ونترك الشريف؟! فاتفقوا على حل آخر، ورجعوا إليه باسم الإصلاح، فقالوا: ليس من العدل أن نقيمه على الضعفاء فقط، ولكن العدل أننا نترك حتى الضعفاء، ولا نقيم عليهم حد الرجم، حتى نعدل بينهم وبين الأشراف، فقال بعضهم: هل نحلل الزنا؟! قالوا: لا، حتى لا نخالف كتاب الله! وهذا هو فقه اليهود والمنافقين، والذين في قلوبهم مرض، وهو فقه أعوج، فقالوا: علينا أن نعدله بأن نتفق على شيء وسط، يناسب العصر والناس والمجتمع من جهة.
ومن جهة ثانية أن فيه موافقة لحكم الله، لأننا لو أمسكنا الدين بقوة لأصبحنا متطرفين وأصوليين، وإن تركناه بالكلية فإنه لا يصلح، فقالوا: نبتغي بين ذلك سبيلاً، ونقول: إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً، فهذا مثل ما قاله المنافقون، وكل من انحرف عن كتاب الله وعن سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قالوا: إذاً الحل نحممهم -والتحميم: التسويد بالفحم- ونحملهم على حمارين، ونطوف بهما في الأسواق، ونقلبهم، فنجعل ظهر كل واحد إلى الثاني، فنشهر بهما.
قال: 'فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة، قالوا فيما بينهم: تعالوا حتى نتحاكم إليه، فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه، واجعلوه حجة بينكم وبين الله، ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك'.
فهم يتحايلون على الله، مع أنهم لم يؤمنوا بهذا النبي، ولم يتبعوه في كل ما يقول.
قال: 'وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذاك'.
أي قولوا: لدينا أحكام نحتكم إليها، ولا نريدك ولا نريد حكمك، فهكذا كانوا يقولون!! ثم قال: 'وقد وردت الأحاديث بذلك، فروى مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنه قال: {إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا -بعدما قالوا ذلك الكلام- فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فرسول الله صلى الله عليه وسلم يسألهم: ماذا ورد في التوراة عندكم في شأنهم؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون}.
فأولاً: مخالفة حكم الله، ثم الكذب على الله، ودائماً كل من اتبع هواه وخالف أمر الله، واتبع شهوته، وآثر الدنيا على الآخرة، فلا بد أن يُؤدي به ذلك إلى أن يقول على الله بغير علم، حتى لو كان يعرف الآيات مثل ما يحفظ الناس سورة الفاتحة، فيحفظ الآيات ويعرف الحكم لكنه متبع لهواه، مؤثر لدنياه، فلا بد أن يقول على الله بغير علم.
وهذه من عقوبات الذنوب -نعوذ بالله- حيث أنه يبدأ بذنب، فيبدأ بأكل الربا وهو خائف من الذنب، وبعد فترة يقول: من قال لكم إنه حرام، والله قد أحله؟ فيكذب على الله ويفتري عليه، ويقول على الله بغير علم، وهكذا دائماً، نعوذ بالله.
فالآن انتقلت اليهود من حالة مخالفة حكم الله إلى حالة القول على الله بغير علم.
قالوا: الذي عندنا في التوراة أنهم يجلدون ويفضحون، فأكذبهم الله عز وجل: {قال عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه}.
وهذا هو الشاهد من بني إسرائيل، الذي شهد عليهم، والذي فضحهم وبين كذبهم، وهو عالم بني إسرائيل، وعلماؤهم الذين عرفوا الحق كثير لكنه رئيسهم ومقدمهم رضي الله تعالى عنه.
قال: {كذبتم، إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفعها فإذا آية الرجم}.
وهذا فيه دلالة على أن المطلع على أحوال أعداء الله أعرف ممن لم يطلع عليهم، فقالوا: {صدق يا محمد! فيها آية الرجم} أخرجاه، وهذا لفظ البخاري، وفي لفظ له: {قال لليهود: ما تصنعون بهما؟ قالوا: نسخم وجوههما ونخزيهما، قال: {فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:93] فجاءوا، فقالوا لرجل ممن يرضون أعور: -وهو ابن صوريا - اقرأ، فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها فوضع يده عليه، فقال: ارفع يدك، فرفع فإذا آية الرجم تلوح، قال: يا محمد، إن فيها آية الرجم، ولكنا نتكاتمه بيننا}.
فالسبب والمناط الآخر لخروجهم من الدين، هو قوله: {ولكنا نتكاتمه بيننا}.
ولذلك قال الله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187] {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159] إلى آخر ما جاء من وعيد من كتم وسكت عن الحق.
قال: {فأمر بهما فرجما}.
وهذه رواية أخرى من روايات مسلم وهي صحيحة.(93/6)
سبب تغيير اليهود لحد الزنا
قال: 'وفي إحدى الروايات أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن؟ قالوا: يحمم ويجبه ويجلد} '.
نعوذ بالله!! مع أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنشدهم بالله الذي أنزل التوراة على موسى! قال: {وسكت شاب منهم، فلما رآه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سكت، ألظ به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النشدة -شدد به لأنه سكت- فقال: اللهم إذ نشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فما أول ما ارتخصتم أمر الله}.
أي: كيف بدأ عندكم هذا، حيث تترخصون أمر الله وتتركوه وتعرضوا عنه، قال: {زنى ذو قرابة من ملك من ملوكنا، فأخر عنه الرجم، ثم زنى رجل في إثره من الناس -من العامة- فأراد رجمه -فأراد الملك من بني إسرائيل أن يرجمه- فحال قومه دونه وقالوا: لا نرجم صاحبنا، حتى تجيء بصاحبك فترجمه}.
فصارت مشكلة، إما أن يرجم قريب الملك ويرجم معه العامي من الناس، وإما ألاَّ يرجم هذا ولا هذا.
فقال: {فاصطلحوا هذه العقوبة بينهم}.
فقالوا: أحسن شيء ألا نرجم هذا ولا هذا، وهذه الرواية يهمنا منها موضوع التاريخ، كيف ارتخصوا، وكيف اصطلحوا.
وفي رواية أخرى ذكرها من رواية الإمام أحمد عن البراء بن عازب وهي في الصحيحين، قال: فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم، فقال: لا والله، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا حتى نجعل شيئاً نقيمة على الشريف والوضيع فاجتمعنا على التحميم والجلد، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه -وهذا من مناقبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: فأمر به فرجم، قال: فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة:41] إلى آخر الآيات}.
إذاً هم بدلوا كتاب الله، واصطلحوا فيما بينهم، وتكاتموه فيما بينهم، واصطلحوا على هذه العقوبة، واجتمعوا على التحميم، وهذا هو مناط التكفير، وهو الاصطلاح والاجتماع والاتفاق على حكم غير حكم الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما من فعله خطأً وجهلاً ولا يعترف به، ويقول: أنا لم أحكم إلا بما حكم الله! ولا يجوز أن نحكم إلا بما أنزل الله! وأنا أستغفر الله! فهذا لم يدخل في هذا، وهذا لم يصطلح ولم يتكاتم مع غيره.
إذاً: نريد من هذه العبارات الدقيقة المهمة أن نفهم حتى نعرف مناط الحكم، ولماذا كان الحاكم بغير ما أنزل الله، المتبع لشرع غير شرع الله، والمتبع لقوانين وضعية عاملاً بها يكون كافراً خارجاً من الملة.(93/7)
القول الأول في سبب النزول
ونرجع إلى استعراض كلام الحافظ ابن كثير رحمه الله يقول: 'وروى الإمام أحمد عن البراء بن عازب قال: {مُرَّ على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيهودي محمماً مجلوداً فدعاهم، فقال: أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟} '.
ونجد هنا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حسب هذه الرواية: {مُرَّ عليه بيهودي محمماً} أقيم عليه هذا الحد من قبل أحبار اليهود وعلمائهم، وليس فيها أنهم جاءوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والروايات دائماً تختلف، ولهذا ننبه أن عمل الفقيه غير عمل المُحدِّث، فالمحدث يجمع الروايات ثم يبين الصحيح من الضعيف، ثم يتفقه، وقد يكون فقيهاً ولكن عمل الفقيه وإن كان المُحدِّث هو نفسه أو غيره، بعد ذلك يُقارن ويُوازن بين الروايات، فقد يأخذ بألفاظ في رواية ويترك ألفاظاً، وربما يرد بعض الروايات وإن كانت ثابتة وصحيحة، فيرجح بعض هذه الروايات على بعض، وهذا علم عظيم دقيق جليل يتعلق بتعارض الأدلة، وليس كل أحد يتقن ذلك.
فالذين يتخبطون في مسائل من الدين يريدون أن ينكروا سنة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بناءً على أنها تُخالف ظاهر القرآن الكريم.
والمهم هنا أنه من خلال ما سبق من الروايات نعلم أن الأرجح والأظهر والمطابق لنص القرآن الكريم هو أنهم جاءوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما في الروايات الأخرى غير حديث البراء رضي الله عنه.
ثم قال في الحديث: {فدعا رجلاً من علمائهم فقال: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ فقال: لا والله، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا حتى نجعل شيئاً نقيمه على الشريف والوضيع، فاجتمعنا على التحميم والجلد، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم إني أوّل من أحيا أمرك إذا أماتوه، فقال: فأمر به فرجم، قال: فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْر إلى قوله: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} [المائدة:41] أي: يقولون ائتوا محمداً فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، فأنزل الله قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] قال في اليهود، إلى قوله: ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] قال في اليهود، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] قال: في الكفار كلها} انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
فهو يقرر أن الآيات في الكفار كلها، فجعل الآية الأولى في اليهود، والثانية في اليهود، والثالثة أيضاً، فقال: في الكفار كلها وهذا تفسير البراء بن عازب رضي الله عنه.
والكفر هنا المراد به الكفر الأكبر، فالحكم بغير ما أنزل الله كفر أكبر.
وقد يقول قائل: هذا في اليهود، فإنهم إذا حكموا بغير ما أنزل الله من التوراة كفروا، وكذلك النصارى لأن في آخرها: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] فمن لم يحكم بالتوراة أو بالإنجيل من أهل الكتاب يكون كافراً، وهذا الذي يدل عليه الحديث.
وهذا الحكم لا يلزم منه أنه يتناول المسلم الحاكم بغير ما أنزل الله.
ونجيب على هؤلاء بقول حذيفة: [[نعم أبناء عم لكم اليهود -كان الأمر كذلك- فما كان من حلوة فهي لكم وما كان من مرة فهي لهم]].
فلا نجعل القرآن عضين، فنقول: إن من حكم بغير ما أنزل الله تعالى في التوراة فهو كافر؛ لأنه من اليهود، وأما إن كان حكم بغير ما أنزل الله في القرآن فهو مسلم لأنه من المسلمين، فهذا لا يجوز؛ لأنه إذا كان المغير الذي بدَّل التوراة أو اصطلح على غير ما فيها أو تكاتم على ما فيها وغيَّره يكون بهذا العمل كافراً بالتوراة، فمن فعل ذلك من أهل القرآن فإنه كافر بالقرآن بل هو أشد؛ لأن القرآن ناسخ ومهيمن على ما قبله، فمن كفر بالقرآن فهو أشد كفراً ممن كفر بالتوراة مع أنها موقوتة مخصوصة بزمن معين وبأقوام معينين.
أما القرآن الكريم فهو كلام الله الذي أنزله للعالمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فالصحابي فسَّر الآية وجعلها كلها نوعاً واحداً، ولم يقل: إن الكافرين نوع، والظالمين نوع، والفاسقين نوع، ومن فعل كذا فهو كافر، ومن فعل كذا فهو ظالم، ومن فعل كذا فهو فاسق، بل الوصف واحد.
وهذا صحيح من جهة اللغة، فإنه إذا اتحد المسند إليه فإن المسند يجب أن يكون واحداً، فقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:45] واحد في كل الآيات الثلاث فقوله {فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47].
فالصحيح لغة أن هذه الأوصاف الثلاثة تكون أوصافاً متعددة لموصوف واحد؛ لأنه لم يتغير المسند إليه.
فالمبتدأ واحد، والأخبار تعددت عنه، وهذا كقولك: فلان شاعر وفلان كاتب، وفلان خطيب، والمقصود هنا أنه ورد التصريح أنها في الكفار والنوع هنا واحد.(93/8)
سبب حكم النبي صلى الله عليه وسلم بموافقة التوراة
ثم يقول: 'وقال الإمام أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده: حدثنا سفيان بن عيينة حدثنا مجالد بن سعيد الهمداني عن الشعبي عن جابر بن عبد الله، قال: {زنى رجل من أهل فدك، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بـ المدينة أن سلوا محمداً عن ذلك، فإن أمركم بالجلد فخذوه عنه، وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه، فسألوه عن ذلك، فقال: أرسلوا إليّ أعلم رجلين فيكم، فجاءوا برجل أعور يقال له: ابن صوريا وآخر، فقال لهما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنتما أعلم من قِبَلكما، فقالا: قد لحانا قومنا كذلك -أي: قومنا يعدوننا أفضل من فيهم- فقال لهما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أليس عندكما التوراة فيها حكم الله؟ قالا: بلى، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنشدكم بالذي فلق البحر لبني إسرائيل، وظلل عليكم الغمام، وأنجاكم من آل فرعون، وأنزل المنَّ والسلوى على بني إسرائيل، ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟}.
وانظر ما أعظم هذه المناشدة، فلو أن هناك قلوباً وفيها حياة، لكنها قلوب ميتة مغلفة: {فقال أحدهما للآخر: ما نشدت بمثله قط، ثم قالا: نجد ترداد النظر زنية، والاعتناق زنية، والقُبل زنية، فإذا شهد أربعة أنهم رأوه يُبدئ ويُعيد كما يُدخل الميل في المكحلة فقد وجب الرجم، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هو ذاك، فأمر به فرجم، فنزلت: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة:42]}.
وهذا الحديث على أن في سنده كلام، لكن الحافظ ابن كثير رحمه الله ذكر هذه الأحاديث ليصل إلى نتيجة معينة، وهي أن هذه أحاديث دالة على أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكم بموافقة حكم التوراة، على اختلاف في ثبوت بعضها وضعفٍ في بعض رواياتها.
يقول: 'فهذه أحاديث دالة متفقة على أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكم بموافقة حكم التوراة، وليس هذا من باب الإلزام لهم بما يعتقدون صحته، لأنهم مأمورون بإتباع الشرع المحمدي لا محالة، ولكن هذا بوحي خاص من الله عز وجل إليه بذلك'.
فقد أمر الله عبده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا الأمر لِحكَم، ومنها: أن يفضحهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويبين لهم ما صنعوه بكتابهم وما بدلوا وحرفوا فيه، فإنهم كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنهم: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} [الأنعام:91] فهم يكتمون الحق، فيظهرون بعضه، ويخفون بعضه، ويؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض.
يقول: 'وسؤاله إياهم عن ذلك ليقرّرهم على ما بأيديهم'.
وفي هذا -أيضاً- دلالة على صدق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وآية بينة عظيمة على أنه رسول من عند الله، وأن الذي أوحى إلى موسى هو الذي أوحى إليه صلوات الله وسلامه عليهم؛، لأنه طلب منهم ذلك، وأراهم حكم الله، وأنه -أيضاً- جاء به، فهذا دليل على أنه نبي صادق يُوحى إليه من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أيضاً.
يقول: 'وليقررهم على ما بأيديهم، مما تواطئوا على كتمانه وجحده وعدم العمل به تلك الدهور الطويلة، فلما اعترفوا به مع عملهم على خلافه بأن زيغهم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم، وعدولهم إلى تحكيم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما كان عن هوىً منهم وشهوة لموافقة آرائهم لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به'.
فهم لم يأتوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سبيل الإذعان والانقياد والإيمان والتصديق وإنما جاءوا إليه هوىً وشهوة.
قال: 'ولهذا قالوا: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا} [المائدة:41] أي: الجلد والتحميم: {فَخُذُوهُ} [المائدة:41] أي: اقبلوه: {وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} [المائدة:41] أي: من قبوله واتباعه'.
فالآية تدل على أن هؤلاء القوم ما كانوا يريدون حكم الله على الحقيقة، وليس غرضهم هو اتباع دين الله والعمل بما أنزل الله، وإنما قالوا: إن حكم بما يوافق الهوى عملنا به، وقلنا: هذا نبي من أنبياء الله وجعلناه حجة بيننا وبينكم، وإن حكم بخلاف ذلك فنحن قد كذَّبناه فيما هو أعظم فاحذروا لا تأخذوه، بل اعملوا بما اتفقتم عليه، وما كنتم تعملونه من قبل.
فمفهوم لسان حالهم أو مقالهم ربما يقول: ليس ترككم لكلام محمد بأشد وأعظم من ترككم لكلام التوراة التي تنتسبون إليها، فمن كفر بالكتاب الذي بين يديه فلا غرابة أن يكفر بما وراء ذلك.
يقول: {{قال الله تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:41]}}.
فهذه قلوب مفتونة غير مطهرة، وأعظم فتنة تكون في الإيمان، فتصدر منه مثل هذه الحالات من التكذيب، والالتواء، والاحتيال، والافتراء على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والجرأة على كتابه، وأخذ ما يوافق هواه، وترك ما يخالف هواه وشهوته، فهذه ألوان من آثار الفتنة: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة:41] فلوا أراد الله ذلك لانقادوا وأذعنوا وآمنوا واتبعوا ما جاء به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(93/9)
من علامات الحكام بغير ما أنزل الله
قال: ' {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة:42] أي: الباطل: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة:42] '.
وهذه العلامة إذا وجدت في أي أمة أو فرد فاعلم أنه لا يمكن أن يحكم بما أنزل الله، ولابد أن يُخالف حكم الله، فمن يسمع الكذب ويأكل السحت لا يمكن أن يكون عادلاً أو نزيهاً أبداً، ولهذا حرمت الرشوة.
ويجب على القاضي ألاَّ يحكم إلا بعد سماع المدعي ثم السماع من المدعى عليه، ثم يقارن، ثم يُرجح، حتى يحكم مجرداً عن أي ميل نفسي لمجرد القرابة أو الهوى أو الشهوة أو ما أشبه ذلك.
أما إذا كان سمَّاعاً للكذب ولكل ما يلقى إليه، ثم فوق ذلك يأكل الرشوة فلا يُنتظر منه عدل.
وهذا الداء الخبيث ليس خاصاًَ باليهود، بل هو في كل قاضٍ لا يلتزم بأمر الله.
والرشوة أنواع كثيرة، ويحتالون لها بحيل عظيمة غير صورتها المعروفة البديهية، كالهدية من أجل الحكم، أو إعطائها قبل القضية والمشكلة، وغير ذلك مما يفعله كثير من الناس، وهي أعم من كونها تكون للقاضي فقط، فهي تدخل لمن يملك أن يحكم أو يقرر، أو له ولاية على شيء.
قال: ' {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة:42] أي: الحرام وهو الرشوة كما قاله ابن مسعود وغير واحد، أي: ومن كانت هذه صفته كيف يطهر الله قلبه، وأنَّى يستجيب له، ثم قال لنبيه: {فَإِنْ جَاءُوكَ} [المائدة:42] أي: يتحاكمون إليك: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً} [المائدة:42] أي: فلا عليك ألا تحكم بينهم؛ لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق، بل ما يُوافق أهواءهم، قال: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} [المائدة:43].
' يقول: 'ثم قال تعالى مُنكراً عليهم في آرائهم الفاسدة، ومقاصدهم الزائغة، في تركهم ما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم، الذي يزعمون أنهم مأمورون بالتمسك به أبداً، ثم خرجوا عن حكمه وعدلوا إلى غيره، مما يعتقدون في نفس الأمر بطلانه وعدم لزومه لهم'.
أي: أنهم يعتقدون أن التوراة كتابهم، وأنهم مأمورون باتباعها، فيشير الحافظ ابن كثير رحمه الله إلى أنهم كفروا بالقرآن الكريم، وبرسالة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، معتقدين أن ما أنزل عليهم كافٍ، فهذه عقيدتهم ويرون ذلك لازماً لهم، ومع ذلك فإنهم عدلوا عنه إلى ما يعتقدون في نفس الأمر، وفي قرارة أنفسهم بطلانه وعدم لزومه، وهذا لا يفعله مؤمن.
قال: 'فقال: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:43] فلو كان مرادهم طلب حكم الله لاكتفوا بتحكيم كتابهم الذي يؤمنون به ويدينون به' ونأتي إلى شاهد آخر، وهو قوله تعالى: {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:43] فأول ما افتتح الآيات بقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة:41] فذكر الكفر المعرف بالألف واللام، ثم قال بعد ذلك: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة:41] فلا شك أنهم كفار؛ لأنه نفى الإيمان عن قلوبهم، وهذا غاية ما يكون من الكفر، فهذه صيغة أخرى، ثم ذكر بعض صفاتهم: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة:42] وأنهم يتحايلون على حكم الله، ثم قال: {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:43] فاتضح أنهم كفار.
قال: 'ثم مدح التوراة التي أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران، فقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة:44] أي: لا يخرجون عن حكمها ولا يُبدلونها ولا يحرفونها: {والربانيون والأحبار} [المائدة:44] أي: وكذلك الربانيون وهم: العلماء والعباد، والأحبار وهم: العلماء'.
وكأن الرباني له ميزة علم وعبادة كما قال تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79] فالرباني يجمع بين العلم وبين العبادة: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ} [آل عمران:146] وهم الذين جمعوا العلم والعمل، والأحبار هم العلماء، ويحكمون به وإن كان فيهم خلل أو نقص في العمل، ولو لم يعملوا لكنهم علماء كـ ابن صوريا وأمثاله علماء في التوراة ولو حكموا بما أنزل الله لكان ذلك موافقاً للحق وموافقاً لما طلب منهم، وإن كانوا في أنفسهم غير ملتزمين أو غير عابدين.(93/10)
تحريف التوراة والإنجيل
قال: ' {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّه} [المائدة:44] أي: بما استودعوا من كتاب الله الذي أمروا أن يظهروه ويعملوا به: {وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:44] أي: لا تخافوا منهم وخافوا مني: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] فيه قولان سيأتي بيانهما'.
وقوله: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّه} [المائدة:44] استنبط منها بعض العلماء: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَكَل حفظ التوراة والإنجيل إليهم، أما القرآن فإنه قد وَكَل حفظه إليه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] فالقرآن محفوظ بحفظ الله، ولهذا لا يمكن أن يُبدل أو يُغير، أما التوراة والإنجيل وغيرهما فقد استحفظ عليها أهلها فضيعوها، ووقع فيها التحريف.
ويشهد لهذا القصة التي رواها البيهقي وغيره: أن رجلاً كان زنديقاً لا يتدين بدين، فأراد أن يختبر أهل الملل، فذهب إلى بغداد حيث توجد الأديان والملل وكتب نسخاً من التوراة وألقاها إلى اليهود، قال: فما مضى زمن إلا ورأيتها بين يدي علمائهم يقرءون فيها حتى أصبح الواحد يقرؤها ويعطي أهله وأقاربه وقد غيَّر فيها وبدَّل كما يشاء، قال: ثم قلت: نغير القرآن! فكتب نسخاً من القرآن، فغيَّر فيها وبدل، قال: فلما ذهبت إلى الوراقين، فكلما نظروه ردوه، وقالوا: هذا فيه أخطاء، وهم لا يعلمون نيته الخبيثة فلا يبيعونه، قال: فلم يقبل مني أحد، فجاء وأعلن إسلامه، فلما سُئل عن سبب إسلامه ذكر القصة، وقال: علمت أن هذا الكتاب محفوظ، وأنه لا يمكن أن يُبدله أحد، ولو كان من عند غير الله لأمكن أن يبدل أو يغير كما يشاء الناس.
وفي الوقت الحاضر أرادت إسرائيل أن تُغير في آخر طبعة من طبعات الإنجيل التي توزع في كل فندق وكنيسة وبيت، وفي كل مكان بأكثر من ألف نسخة، وقد طبع في إسرائيل الأناجيل الأربعة وغُيِّر فيها خمسمائة كلمة مما له علاقة باليهود، وأنهم تآمروا على المسيح، وأنهم أرادوا قتله إلى آخره، مما فيه تشنيع على اليهود فغيروه وطبعوه وانتشر، وجاءت المنظمات - التنصيرية التي تُسمي نفسها التبشيرية - وأخذت تجمع من هذه الكتب وتعيد الطبع وتوزع وتنشر في العالم دون أن يقرءوا أو يحققوا أو يدققوا.(93/11)
القول الثاني في سبب النزول
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: " سبب آخر في نزول هذه الآيات الكريمات.
وقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن العباس حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن عبد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: إن الله أنزل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] و {فأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] قال: قال ابن عباس: {أنزلها الله في الطائفتين من اليهود -أي: قبيلتين من اليهود- وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقاً، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق} '.
فحصل الشطط، فالنفرين من الضعيفة يعادل نفراً من القوية، سبحان الله! وهذا الذي أنكره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنكرته الفطرة السليمة حتى فطرة اليهود في الجاهلية.
ولو نظرنا إلى المعمول به الآن في العالم المعاصر، في ظل ما يُسمى بحقوق الإنسان لوجدنا العجب، فلو حصل حادث طائرة وتحطمت فإنهم ينظرون إلى وظائف الركاب، فإن كان دبلوماسياً فديته قد تصل إلى عشرة ملايين دولار أمريكي، وإن كان مهندساً -مثلاً- مائة ألف دولار، وإن كان فنياً خمسون ألف دولار، وإن كان عاملاً عشرة آلاف دولار وهكذا.
فهذا ما يسمونه: العالم المتحضر، ويدعون فيه إلى المساواة في الإنسانية، فالذي كرَّم بني آدم حقاً وساوى بينهم هو كتاب الله ودين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالناس في ظله سواسية، وإن كان الكافر ديته غير دية المسلم، إلا أن الكفار كلهم ديتهم واحدة، والمسلمين كلهم ديتهم واحدة.
قال: ' {فكانوا على ذلك حتى قدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلاً، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا إلينا بمائة وسق، فقالت الذليلة: وهل كان في حيين دينهما واحد، ونسبهما واحد، وبلدهما واحد، دية بعضهم نصف دية بعض} '.
أي: ما دمنا نحن متساوين في كل شيء، فلماذا الدية تختلف؟! والذي جعل القبيلة الذليلة ترفع رأسها، وتطلب المساواة، هو قدوم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونزول الدين الحق، وبعثة مُعلِّم الإنسانية الخير صلوات الله وسلامه عليه، الذي علَّمهم العدل حتى على نفسه، وعلى بني دينه وقومه، وأقرب الناس إليه صلوات الله وسلامه عليه، بل دعا الله إلى تثبيته، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} [النحل:90] فلأجل هذا قالوا: {إنما أعطيناكم هذا ضيماً منكم لنا، وفرقاً منكم -أي: خوفاً منكم- فأما إذا قدم محمد فلا نعطيكم}.
أي: فقد أنقذنا الله، وجاءنا محرر الإنسانية، فلا يوجد ذليل وعزيز ومقهور ومتكبر.
قال: ' {فكادت الحرب تهيج بينهما، ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينهم، ثم ذكرت العزيزة} '.
هذا في أول الأمر ما اتفقوا عليه، وقالوا: لو أنه أتانا بالوفاء بالعقود، فقالوا: نقول له هذا شيء اتفقنا عليه فلا بد أن يحكم لنا، ثم رجعوا إلى أنفسهم، فقالت: ' {والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم} '.
فلا يمكن أن يقر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا التفاوت لأنه نبي الرحمة ونبي العدل، يقول: {ولقد صدقوا ما أعطونا هذا إلا ضيماً منا وقهراً لهم}.
أما في هذا الزمن فقسَّم اليهود أنفسهم إلى نصفين: صهاينة وغير صهاينة، ثم قُسِّم الصهاينة إلى نصفين: حمائم وصقور، وهل اليهود فيهم حمائم؟! لم نسمع ذلك في القرآن الكريم ولا في السنة ولا في التاريخ، وهناك أناس متطرفون وأناس معتدلون، فهذا لا يمكن ولو قدم بعض التنازلات، فهو لا يقولها لأنه حمامة أبداً، وإنما يقولها لأن هذا الثعلب يرى أن هذا أوثق لمصلحة إسرائيل، والآخرين الذين نسميهم الصقور هم نوع آخر من الثعالب يقولون: ليست مصلحة إسرائيل في هذا وهكذا، فلا يمكن أن ندع ما في كتاب ربنا وسنة نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتاريخنا كله، ونأخذ بما تقوله أبواقهم المأجورة في بعض الصحف التي تصدر بعد التطبيع.
فهنا يقولون: كيف الحيلة؟ قالوا: {فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه قبل أن تحكموه، فإن أعطاكم ما تريدون حكمتموه، وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه، فدسوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أناساً من المنافقين ليخبروا لهم رأي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، -فقالوا لهم: أنتم تجالسون محمداً فاخبروا لنا رأيه- فلما جاءَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر الله رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمرهم كله، وما أرادوا -فأطلعه على ما عندهم- فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة:41] الآية إلى قوله تعالى: ((الْفَاسِقُونَ)) [المائدة:47] قال: ففيهم والله أنزل، وإياهم عن الله عز وجل}.
وهناك رواية أخرى، قال: {إنما أنزلت في الدية في بني النضير وبني قريظة، وذلك: أن قتلى بني النضير كان لهم شرف، تُؤدى الدية كاملة، وأن قريظة كانوا يُؤدى لهم نصف الدية، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنزل الله ذلك فيهم، فحملهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الحق، فجعل الدية في ذلك سواء} وذكر أيضاً رواية ابن جرير وغيره.
فتكون الآيات هذه دالة على أن الحكم في: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} [المائدة:41] ليس الرجم، وإنما هو الدية، ويمكن أن يكون السياق دالاً عليه.
ثم ذكر روايةً عن ابن عباس، وأنه روي أيضاً عن ابن عباس نفسه رضي الله عنهما أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا، قال: 'كما تقدمت الأحاديث في ذلك'.(93/12)
الراجح في سبب نزول وأقوال العلماء في تنزيلها
وجمع النصوص والعمل بها جميعاً أفضل، وإن كانت روايات قضية الزنا أصح، لكن يمكن أن يجتمع السببان.
ومما يؤيد ذلك: سياق الآيات: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45]، فهذه فيها قرينة تؤكد أنه كان هناك من الحيف والجور في ترك حكم الله، وأنهم لم يلتزموا بحكم الله فيها من أن النفس بالنفس.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: 'ولهذا قال بعد ذلك: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] إلى آخرها، وهذا يقوي أن سبب النزول قضية القصاص، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم، وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] '.
والشاهد هنا: هل هو على أحد السببين أو على كليهما؟ الصحيح أنها كما قال البراء بن عازب -كما تقدم-: {في الكفار كلها}، وقال حذيفة بن اليمان -وهو الحديث الذي ذكرنا أن الحاكم رواه وهو صحيح-: [[نعم أبناء عم لكم اليهود]]، وقال ابن عباس والحسن البصري وغيرهم: [[نزلت في أهل الكتاب]]، وزاد الحسن البصري [[وهي علينا واجبة]] فـ الحسن رحمه الله تنبه لما تنبه إليه حذيفة أو نبه إليه حتى لا يقول أحد: نزلت في أهل الكتاب فيكون هذا حكماً خاصاً بهم، لذا قال الحسن: 'نزلت في أهل الكتاب وهي علينا واجبة'.
أي: أنها حكم واحد فينا وفيهم.
قال: 'وروى ابن جرير عن علقمة ومسروق: أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة، فقال: من السحت، قال: فقالا: وفي الحكم قال: ذاك الكفر'.
فإذا أعطى رشوة من أجل الوظيفة، أو يمضي له معاملة فهو سحت، لكن إذا كان أعطاه ليحكم له بخلاف ما أنزل الله، قال ابن مسعود: 'ذاك الكفر -نعوذ بالله- ثم تلا: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] '.
وهنا نقول نفس الكلام الذي ذكرناه من قبل، وهو أن الحكم هنا فيمن ارتشى وهو مقيم لدين الله، ويحكم بما أنزل الله، وملتزم بشرع الله، لكن ارتشى في قضية معينة، وخرج عن حكم الله وخالفه، فالحكم فيه كما قال ابن مسعود رضي الله عنه (الكفر) والمقصود به الكفر الأصغر، فهذه معصية سميت كفراً كما أوضحنا من قبل.
قال: 'وقال السدي: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] يقول: ومن لم يحكم بما أنزلت فتركه عمداً'.
فالقضية ليست قضية نسيان أو جهل، فإنه إذا خالف حكم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مع أنه ملتزم بحكم الله، وبشرع الله في محكمة شرعية، ويطبق حكم الله من حيث الأصل؛ لكنه عمد إلى حكم من أحكام الله فتركه: 'أو جار وهو يعلم فهو من الكافرين'.
كما قال ابن مسعود، فيكون قد عصى معصية تُسمى كفراً إلا إذا كان مقصود السدي أنه يترك حكم الله أو أن يجحده فيكون من الأنواع الستة التي ذكرها الشيخ، فيكون كفراً أكبر.
قال: 'قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] قال: [[من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به فهو ظالم فاسق]] '.
فمن أقر به ولكنه خالفه وعصى، وتركه مع إقراره به والتزامه وانقياده وخضوعه فهذا ظالم فاسق.
فـ ابن عباس رضي الله تعالى عنه فصَّل، بأن للحكم بما أنزل الله حالتان: حالة كفر أكبر، وحالة كفر أصغر، وعلى هذا فتكون الآية الأولى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] في الجاحد، ويكون الظالمون والفاسقون في المقر العاصي، وهذا الذي قلنا: إنه خلاف اللغة، وخلاف ظاهر الآية، فهذا القول مرجوح، إلا أن المهم في كلام ابن عباس رضي الله عنه أنه ذكر النوعين من أنواع الكفر.
قال: 'واختار ابن جرير أن الآية المراد بها أهل الكتاب أو من جحد حكم الله المنزل في الكتاب'.
أي: إن ابن جرير رحمه الله يقول: الكفر كفر أكبر -والمقصود به كفر أهل الكتاب أو كفر الجاحد فهو كافر كفراً أكبر- سواء كان من أهل الكتاب وكفرهم أكبر لا شك في ذلك أو كان من هذه الأمة، ولكن خرج عن الملة وإن انتسب إليها، فـ ابن جرير رحمه الله لا يرى كلام ابن عباس رضي الله عنه المروي عنه من طريق علي بن أبي طلحة بأن الآية الأولى في الكفر الأكبر والآيتان الأخيرتان في المعصية، فهو يقول: إنهما في الكفر أو فيمن خرج عن الملة وإن انتسب إلى الإسلام.
قال: 'وروى ابن جرير عن الشعبي [[{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] قال: هذا في المسلمين -فمن الأقوال التي نقلها ابن جرير غير الأقوال المتقدمة، قول الشعبي ومعناه: إن المسلمين إذا خالفوا القرآن الكريم كفروا-: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:44] قال: هذا في اليهود -فاليهود إذا خالفوا التوراة فهم ظالمون- ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)) [المائدة:44] قال: هذا في النصارى]] '.
فـ الشعبي يقول: إن الوصف الأول: للمسلمين، والثاني: لليهود، والثالث: للنصارى، ففرّق بين الأوصاف، وهذا مرجوح كما قد ذكرنا لكن ما يهمنا هو: أن الشعبي جعل الآية في حق المسلمين، فمن عدل عن حكم القرآن إلى حكم غيره أو من حكم غير كتاب الله فهو عند الشعبي كافر كفراً واحداً.
قال: 'وروى عبد الرزاق عن طاوس عن أبيه قال: [[سُئِلَ ابن عباس عن قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] قال: هي به كفر -أي: هذا العمل به كفر-.
قال: ابن طاوس: وليس كمن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وقال عطاء -وهو تلميذه وعنه نقل-: كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق]] رواه ابن جرير، وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] قال: [[ليس بالكفر الذي تذهبون إليه]] ورواه الحاكم في مستدركه، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه'.
فـ ابن عباس رضي الله عنه له رواية تُفصَّل أن الآية فيها كفر أكبر وفيها كفر أصغر، وروايات أخرى تقول: إن المقصود الكفر الأصغر، لكن نلاحظ أن هذه الرواية الأخيرة التي يقول فيها الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، قال: [[ليس بالكفر الذي تذهبون إليه]].
إذاً: ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يتكلم عن حالة واقعة معاصرة، ومسألة مختلف فيها، وهي موجودة يتناقش فيها الناس، فذهب البعض فيها إلى كذا، وذهب البعض فيها إلى كذا، وكذلك كلمة البراء: {في الكفار كلها} فالظاهر أن القولين متعارضان.
لكن القضية أن كلاً منها يريد أن يعالج مسألة موجودة، شاعت وانتشرت في مسألة الكفر وعدم الكفر في زمن الصحابة؛ وهي: قول الخوارج الذين يُكفِّرون المسلمين بسبب المعاصي والذنوب، قالوا: إن من أدلتنا أن المسلم إذا عصى وارتكب كبيرة يكفر بمجرد ذلك، قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُون} [المائدة:44] قالوا: فهؤلاء بني أمية حكموا بغير ما أنزل الله، وأمثالهم كالإمام علي رضي الله عنه، فإنه عندهم خالف كتاب الله، وحكّم الرجال في دين الله، ورضي بالحكمين فهو كافر، وعثمان عندهم كافر -أيضاً- لأنه خالف سيرة الشيخين الراشدين، ودليلهم الآية، وأنهم ما حكموا بما أنزل الله بل خالفوا أحكام الله وقصروا في بعض أحكام الله، فهم كفار، فيقول ابن عباس: [[ليس بالكفر الذي تذهبون إليه]] والبراء يقول: في الكفار كلها} أي: أنها ليست في العصاة المخالفين وإنما هي في الكفار، فرغم اختلافهما إلا أن النتيجة عند الصحابة كلهم أنهم متفقون على أمر وأصل عظيم من أصول هذه العقيدة -عقيدة أهل السنة والجماعة - وهي أن المسلم لا يكفر بمجرد الذنب أو المعصية كما تقدم معناه.
يقول الشيخ أحمد شاكر بعد أن عزاه إلى الحاكم "2/ 313": ' ولفظه: إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، وإنه ليس كفراً ينقل عن الملة: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] كفر دون كفر، ووافقه الذهبي على تصحيحه '.
يقول الشيخ أحمد شاكر: - 'وهذه الآثار عن ابن عباس وغيره- أي: عطاء وطاوس وهم تلامذته، قال: مما يلعب به ال(93/13)
تعقيبات الشيخين أحمد ومحمود شاكر على الآثار الواردة في الحاكمية
وهنا نرجع إلى كلام أحمد شاكر رحمه الله، وما نقله عن أخيه محمود شاكر رحمه الله.
يقول: 'وهذه الآثار عن ابن عباس وغيره'.
يقصد ما ورد فيها كفر دون كفر.
'مما يلعب به المضللون في عصرنا هذا من المنتسبين للعلم ومن غيرهم من الجراء على الدين، ويجعلونها عذراً أو إباحة للقوانين الوثنية الموضوعة التي ضربت على بلاد الإسلام، وهناك أثر عن أبي مجلز في جدال الإباضية الخوارج إياه فيما كان يصنع بعض الأمراء من الجور، فيحكمون في بعض قضائهم بما يخالف الشريعة عمداً إلى الهوى، أو جهلاً بالحكم.
والخوارج من مذهبهم أن مرتكب الكبيرة كافر، فهم يجادلون يريدون من أبي مجلز أن يوافقهم على ما يرون من كفر هؤلاء الأمراء'.
أي: يريدون أن يوافقهم في أن أمراء بني أمية كفار، قال: 'ليكون ذلك عذراً لهم فيما يرون من الخروج عليهم بالسيف'.
وهذا هو مذهب الخوارج أنهم يرون الخروج بالسيف لتغيير المنكر وإن كان منكراً في نظرهم فقط، وهذا الذي سبق إيضاحه، عندما شرحنا موضوع الأصول الخمسة، وذكرنا معنى هذا الأصل -الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- عند المعتزلة والخوارج ومعنى هذا الأصل هو الخروج على الأئمة بالسيف، قال: 'وهذان الأثران رواهما الطبري، برقم: (12025) و (12026) وكتب عليهما أخي السيد محمود محمد شاكر تعليقاً نفيساً جداً، قوياً صريحاً، فرأيت أن أثبت هنا نص أولى روايتي الطبري، ثم تعليق أخي على الروايتين '.(93/14)
مناظرة أبي مجلز للخوارج
فروى الطبري برقم: "12025" عن عمران بن جدير قال: [[أتى أبا مجلز ناس من بني عمرو بن سدوس، فقالوا: يا أبا مجلز، أرأيت قول الله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] أحق هو؟ قال: نعم، قالوا: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] أحق هو؟ قال: نعم، قالوا: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] أحق هو؟ قال: نعم، فقالوا: يا أبا مجلز أفيحكم هؤلاء بما أنزل الله؟]].
فإن قال: نعم، قالوا: إن مخالفتهم واضحة، وإنكارها مكابرة، وكفى بـ الحجاج ذنباً من بني أمية وأمثاله، وإن قال لهم: لا يحكمون بما أنزل الله؟ قالوا: إذاً كفار.
وهذه مشكلة يعاني منها كثير من الناس، وإن لم ينسبوا أنفسهم إلى الخوارج، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يحاسب الناس باللافتات التي نسميها الآن في عصرنا الحاضر، فلو أنني قلت: أنا من أهل السنة، وأنا من أهل الأثر، وأهل الاتباع، ومن السلف، فإن الله لا يحاسبني بمجرد هذه الدعوى، ولا يحاسب غيري أنه يُنسب إلى الخوارج الإباضية وهو قد ظُلم في هذه النسبة، وهو فعلاً على السنة، وإنما ظلم في هذه النسبة، أو انتسب وهو لا يدري، كما أن بعض العلماء يقول: أنا أشعري ويقصد: أنا أثبت الصفات، فلا يحاسبه الله على منهج الأشاعرة في نفي الصفات.
فالمقصود أن الحساب عند الله ليس بالانتماءات واللآفتات وإنما بالحقائق، فـ الخوارج الخروج صفة من صفاتهم، وصفات الخوارج يمكن أن توجد في أي مكان وفي أي زمان، وتحت أي لا فتة أو اسم أو شعار، يمكن أن توجد صفة أو شعبة من شعب الخروج، وهذه لأجلها -والله أعلم- جعل العلماء كتب الخوارج والمرتدين والبغاة والمحاربين كتباً من كتب الفقه.
ولو أن الخوارج هم -فقط- الفرقة التاريخية التي خرجت وانقضت لكانت تدرس في كتب التاريخ، أو كتب الملل والنحل فقط، لكن في كتب الفقه أحكام الخوارج لأنها صفة يمكن أن توجد في الناس في أي زمان وفي أي مكان، فصفاتهم التي بيَّنها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أنهم يقاتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان}.
وهذه قاعدة: بأنه مهما كان الشخص يدَّعي الإخلاص، ويدَّعي العلم، واتباع السنة، ويدعي إنكار المنكر والعبادة، فـ الخوارج يقول عنهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وقراءتكم إلى قراءتهم} فهذا الكلام يُخاطب النبي صلى عليه وسلم به الصحابة رضي الله عنهم، ومع ذلك فهذه سيرة وعلامة من أعظم علاماتهم، أن عدواتهم منصرفة إلى أهل الإسلام، ولم يعرف ولم يشهد أن الخوارج جاهدوا الروم، ولا جاهدوا الفرس، ولا قاتلوا أعداء الإسلام، فهذا هو تاريخهم.
وهذه من دلائل نبوة نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فهم يقاتلون المسلمين، ويُكفِّرون علماء الإسلام) ويطعنون في دين علماء الإسلام، ويحاربون أهل السنة ويزعمون أنهم ليسوا أهل السنة إنما هم مرجئة وإنما هم مداهنون، فيأتون لهم بألقاب يلمزونهم وينبزونهم بها.
والشاهد: أن من طريقتهم في الاستدلال أنهم يظنون أن المسألة بهذا الإلزام سهلة، فيقولون: إما أن يقول: إنهم يحكمون بما أنزل الله، فنقول: إذاً هذا مثلهم؛ لأنه لا يكفر الكافرين ويشهد لهم بالإيمان فهو كافر، وإما أن يقول: لا، فنقول: فإذاً هم كفار فلماذا تجادل عنهم؟ هكذا ظنوا المسألة إما كذا وإما كذا.
وهذه أيضاً إحدى صفات الخوارج؛ لأن الأمر قد يحتمل أكثر من وجهة نظر، وقد يكون فيه سعة أو له جواب ثالث وهكذا، فعدم تفصيل المجملات والمبهمات والعمومات مما ضل الناس بسببها، حتى قيل: إن أكثر ضلال الناس واختلافهم هو بسبب المجملات، وعدم تحرير موضع النزاع.
قال أبو مجلز الفقيه العالم: [[هو دينهم الذي يدينون به، وبه يقولون، وإليه يدعون، فإن هم تركوا شيئاً منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنباً]].
قال: الحكم بما أنزل الله بالنسبة للأمراء هؤلاء -بني أمية ومن معهم- هو دينهم الذي يدينون به، ولم يأتوا بقانون آخر، ولم يأتوا بالتوراة ولا الإنجيل ولا قانون الروم أو الفرس، فدينهم الحكم بما أنزل الله، وبه يقولون وإليه يدعون -أي: إلى الكتاب والسنة- فإن هم تركوا شيئاً منه أو قصروا في شيء عرفوا أنهم قد أصابوا ذنباً، وهم مقرون بمخالفتهم فيما خالفوا فيه، وهذا المعيار معيار سليم ودقيق جداً، فلو أنهم جاءوا بشريعة أخرى أو بقانون آخر لكان الحكم مختلفاً.
قال: [[فقالوا: لا والله ولكنك تَفْرَق! -أي: تخاف- قال: أنتم أولى بهذا مني! لا أرى، وإنكم ترون هذا ولا تحرَّجون -أي: أنتم أولى بهذا التفكير، وأنتم لا تتحرجون فيه- ولكنها أنزلت في اليهود والنصارى وأهل الشرك أو نحواً من ذلك]].
فكلام أبي مجلز هنا مثل الذي جاء في حديث البراء من كلامه أو مرفوعاً: {أنها في الكفار} أما أن يكون الحكم بما أنزل الله هو دينه، وبه يقول، وإليه يدعو، وإذا خالفه فإنه يتحرج ويشعر أنه قد خالف أمر الله، فهذا ليس ممن حكم بغير ما أنزل الله.
قال: 'ثم روى الطبري الأثر (12026) نحو معناه، وإسناداه صحيحان'.(93/15)
تعلق بعض المنتسبين للعلم بخبر أبي مجلز
قال: 'فكتب أخي السيد محمود محمد شاكر بمناسبة هذين الأثرين ما نصه: اللهم إني أبرأ إليك من الضلالة، وبعد: فإن أهل الريب والفتن ممن تصدروا للكلام في زماننا هذا، قد تلمس المعذرة لأهل السلطان في ترك الحكم بما أنزل الله، وفي القضاء في الدماء والأعراض والأموال بغير شريعة الله التي أنزلها في كتابه، وفي اتخاذهم قانون أهل الكفر شريعة في بلاد الإسلام، فلما وقف على هذين الخبرين، اتخذهما رأياً يرى به صواب القضاء في الأموال والأعراض والدماء بغير ما أنزل الله، وأن مخالفة شريعة الله في القضاء العام لا نكفر الراضي بها، والعامل عليها'.
يشير الشيخ محمود إلى ما وقع فيه كثير ممن ينتسبون إلى العلم، وهذه مأساة وقعت، وخاصة في مصر ابتدأها الاستعمار وأعوانه من أيام دولة محمد علي باشا بما يسمونه (قانون القناصل) ثم توسع القانون فأنشئت محاكم أهلية، ومحاكم أجنبية، ومحاكم ملية، وتوسع في الأمر لما جاء الإنجليز وجاء كرومر وجاء الشيخ محمد عبده، فأخذ يمهد لتنظيف القانون الفرنسي، وجاء تلميذه مصطفى المراغي فزاد الطين بلة -نسأل الله العفو والعافية- والمراغي هو الذي قال للجنة وضع القوانين: ضعوا أي تشريع أو قانون ترونه مناسباً للمصلحة وللعصر واكتبوه وأنا أُخرِّجه لكم من أي مذهب من المذاهب الفقيهة، فهكذا أصبحت الجرأة على الله إلى هذا الحد يخرجه إما على قول ضعيف، أو على قول راجح لكنه على مذهب خطأ، أو حتى على قول من أقوال العلماء الشاذة، أو قول من أقوال من لا يعتد بخلافهم كـ الإمامية الإثنى عشرية، ولذلك من الأشياء الطريفة التي ذكرها الشيخ محمد أبو زهرة أنهم كانوا لا يعترفون بالمذهب الحنبلي، ولو رجعنا إلى كتاب الجبرتي في تاريخ مصر وهو أشهر كتاب في تاريخ مصر، وكان صاحبه حنبلياً، وكان يثني في كتابه على دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وعلى رسائل الأئمة، ويذكر قصص الخرافيين والمشركين، فالكتاب فيه فوائد من هذا الجانب، فالمذهب الحنبلي كان موجوداً لكن من كراهيتهم له لا يذكرونه، ويقولون: إنه كما قال الطبري وأمثاله: أحمد بن حنبل ليس فقيهاً، وإنما هو محدث، وكذلك ابن رشد في بداية المجتهد وغيره يذكر الفقهاء الثلاثة ولا يذكرون إلا مذهب أهل الحديث عامة إن ذكروه، فيجعلون الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه والبخاري ومسلم وأمثالهم، إما من أتباع أحد المذاهب الثلاثة، وإما من أهل الحديث في الجملة ولا يذكرون المذهب الحنبلي.
والشاهد من ذلك أنه جاء في موضوع الزواج، وهم يريدون فرض القانون الفرنسي الذي لا يبيح للرجل أن يتزوج أكثر من زوجة، وهذا هدف عظيم للاستعمار، فهو يسعى إلى إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا وأمر آخر: هو تقليل نسل المؤمنين، وخاصة في إفريقيا كما يقولون.
فـ النصرانية المحرفة أخذوها وأرادوا أن يفرضوا القانون الخبيث في بلاد المسلمين، فوجدوا أن المذهب الحنبلي يجيز للزوجة أن تشترط ألاَّ يتزوج الزوج عليها، فأخذوا به وجعلوها في قانون الأحوال الشخصية، قالوا: ورجعنا أيضاً إلى المذهب الحنبلي وأخذنا منه اشتراط ألاَّ يتزوج عليها، وهذا دليل على أن المذهب الحنبلي فيه مرونة، وأنه يناسب العصر ويصلح أن يستفاد منه.
فالمقصود أن هؤلاء الناس خبثاء، ويتكلم الشيخ محمود شاكر عن هؤلاء، حيث أنه كان يرى واقعاً مؤلماً، فأي أمر يُعرض فيه أمر لتطبيق الشريعة، فيقولون: هل تريدون أن تكون الشريعة مصدراً رئيسياً، فيقول الدعاة والمشايخ وأمثالهم: لا.
بل نريد أن تكون المصدر الرئيسي، وقامت على ذلك المشاكل طوال الدهر، هل هو مصدر رئيسي أو المصدر الرئيسي، فلجنة تضع المسودة، ولجنة تلغي المسودة وهكذا أربعين سنة أو أكثر، والأمر لم يتغير فيه شيء، ولم يطبق من أحكام الله أي شيء، وكأن القضية قضية الألف واللام، نكتب "أل" أو لا نكتب "أل"، والقضية قطعاً ليست كذلك، وإنما هذه قلوب لا تريد أن تذعن لله ولا تؤمن بالله حق الإيمان، ولا تريد أن تستسلم لحكم الله كما ذكر الله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] فهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، وقد أمروا أن يكفروا به، كما ذكر الله عز وجل، ولذلك يجعلون القضية -قضية اللجنة- أن المسودة لم تكمل، وعندما أكملت المسودة بعد سنين، قالوا: يعرض على المجلس، فإذا عرض على المجلس قالوا: نجعل الشريعة مصدراً رئيسياً وليست المصدر الرئيسي، سبحان الله!! ولو فرضنا أنها المصدر الرئيسي، فمعنى ذلك: أن هناك مصادر ثانوية -فمثلاً-، لو قلنا: إن كل شيء لله، وكل شيء نعبد الله فيه ونطيع الله فيه إلا ثلاثة أو أربعة أمور نعصي الله فيها، ونأخذ غير شرع الله، ونستمدها من التوراة أو من الإنجيل أو من الياسق، فحكمنا فيها حكم من أخذ البعض وترك البعض، فسيكون قد ترك الكل، لكنهم أشغلوا الأمة بهذه الأمور، فإذا جاء من يطالب بإقامة حكم الله ودين الله، قالوا: هذا متطرف، وهذا عميل، وهذا متخلف، ورجعي، وضد التطور، وضد التحرر، ويحتجون عليه بعلماء السوء، فالشيخ شاكر كان يكتب هذا وهو يعانيه ويعيشه.(93/16)
حقيقة واقع السؤال والإجابة
يقول: 'والناظر في هذين الخبرين لا محيص له عن معرفة السائل والمسئول'.
فهو يعرفنا بالنوعين السائل الخوارج، والمسئول الذي هو أبو مجلز، قال: 'فـ أبو مجلز لاحق بن حميد الشيباني السدوسي تابعي ثقة كان يحب علياً رضي الله عنه، وكان قوم أبي مجلز وهم بنو شيبان من شيعة علي يوم الجمل وصفين، فلما كان أمر الحكمين يوم صفين، واعتزلت الخوارج، كان فيمن خرج على علي رضي الله عنه طائفة من بني شيبان وبني سدوس ابن شيبان بن ذهل، وهؤلاء الذين سألوا أبا مجلز ناس من بني عمرو بن سدوس، وهم نفرٌ من الإباضية.
والإباضية من جماعة الخوارج الحرورية '.
وأبو مجلز رحمه الله التابعي الثقة يلتقي في نسبه مع إمام عظيم، هو الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، من نسل قبيلة شيبان بن ذهل التي ينتسب إليها الإمام أحمد، وهم من ربيعة، وهناك عوامل جاهلية جعلت الخوارج يكثرون في ربيعة.
والمأمون له كلمة في هذا، وقد تكون حقاً، يقول: 'أما ربيعة فلم تزل ساخطة على الله منذ أن جعل النبوة في مضر، وما خرج منها اثنان إلا كان أحدهما شارياً'.
أي: من الشراة وهم الخوارج، كان يُقال لهم: الخوارج والشراة والقراء، فـ المأمون عباسي فيتكلم عمن خرجوا على خلافة بني العباس وانضموا إلى غيره، وبالذات هؤلاء الشراة، لأن الخوارج يقولون: الإمامة حق لكل مسلم، قرشياً أو غير قرشي، فيقولون: لماذا يشترط أن يكون قرشياً؟ فيعللها المأمون بقوله: إن ربيعة -التي خرج منها كثير من الخوارج - ساخطة على الله لأنه اختار نبيه من مضر، ولأن الخلافة لا تكون إلا في قريش بالذات.
وبعد ذلك تأتي مسألة الخلاف بين أهل البيت، فالعباسيون يرون أن العم أولى، والعلويون يرون أن ذرية فاطمة أولى إلخ.
لكن المقصود: هو أن العباسيين والأمويين -أي: المنتسبين إلى علي رضي الله تعالى عنه- متفقون جميعاً على أصل، وهو أن الخلافة في قريش، لكن الخوارج -ومنهم هؤلاء الذين ينتسبون إلى ربيعة- يقولون: لا، بل الخلافة في أي مسلم كفء، فـ المأمون يُعلل قولهم هذا.
والمقصود أن هؤلاء الإباضية، جاءوا يسألون أبا مجلز رحمه الله.
قال: 'الإباضية من جماعة الخوارج الحرورية، وهم أصحاب عبد الله بن إباض التميمي، وهم يقولون: بما قالت سائر الخوارج، في التحكيم، وفي تكفير علي رضي الله عنه، إذ حكّم الحكمين' والخوارج، كثير منهم من بني تميم، وبنو تميم من مضر.
والنبي صلى الله عليه وسلم حين جاءته صدقات بني تميم، قال: {هذه صدقات قومنا} فهم أقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم نسباً من ربيعة أو مع ذلك كثير من الخوارج من بني تميم.
ولهذا نقول: إن القضية ليست قضية عنصرية وعصبية، وصحيح أن العنصرية في الجاهلية كان لها دور، لكن ليس كل الخوارج ينطلقون من منطلق العصبية، وإلا لما خرج معهم بعض من قال بقولهم، وهم من مُضر، فكان الأولى أن يتعصبوا لقريش، لكن الضلال لا يعرف العنصرية، نسأل الله العفو العافية.
فإنه إذا أضل الله أبدأ، فقد خرج من بعض أحفاد جعفر الطيار رضي الله تعالى عنه، من أدَّعى النبوة وأفسد في الدين، وهذا في عمر بني أمية، المسألة فالضلال يوجد في كل فخذ وفي كل قبيلة، وفي كل شعب.
قال: 'فهم يقولون- الإباضية - مقالة سائر الخوارج، في التحكيم وفي تكفير علي رضي الله تعالى عنه، إذ حكّم الحكمين، وأن علياً لم يحكم بما أنزل الله في أمر التحكيم'.
وهذه المسألة من المسائل التي ناظروا فيها عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه، وكان مما جادلهم به، أن الله سبحانه وتعالى شرع لنا التحكيم في سورة المائدة: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:95] فكيف بصلح بين طائفتين عظيمتين من المسلمين.
إذاً: ليس التحكيم كفراً كما تزعم الخوارج.
قال: 'ثم إن عبد الله بن إباض، قال: إن من خالف الخوارج كافر ليس بمشرك، فخالف أصحابه، وأقام الخوارج على أن أحكام المشركين تجري على من خالفهم، ثم افترقت الإباضية بعد عبد الله بن إباض الإمام افتراقاً لا ندري معه في أمر هذين الخبرين، من أي الفرق كان هؤلاء السائلون، إذ أن الإباضية كلها تقول: إن دور مخالفيهم دور توحيد، إلا معسكر السلطان، فإنه دار كفر عندهم'.
وهذا مما بقيت في عقائد الإباضية إلى اليوم.
الخوارج ثلاث طبقات -ثلاث درجات في الغلو- أشدهم غلواً الأزارقة ثم النجدات، ثم الإباضية.
فـ الإباضية أخفهم، وليس معنى هذا أنهم على السنة والهدى، لكنهم لا يكفرون كل من خالفهم كما فعل أولئك، لأنهم يقولون: الكفر ينطلق على السلطان وجنده فقط، وأما الرعية فليست كافرة.
ثم قالوا: إن جميع ما افترضه الله سبحانه على خلقه إيمان، وهذا الكلام مما يشنع به المرجئة وأمثالهم على أهل السنة، فيقولون: إنكم على مذهب الخوارج.
فنحن نعتقد -أيضاً- أن كل شعب الإيمان إيمان، فالصلاة إيمان، والزكاة إيمان، والصوم إيمان حتى إماطة الأذى عن الطريق إيمان.
وفي هذا القول الخوارج يوافقون فيه أهل السنة، لكن قالوا: من ترك شيئاً من الواجبات كفر، وأهل السنة قالوا: من ترك شيئاً من شعب الإيمان عصى أو نقص إيمانه، إلا من ترك أعلى الشعب، التي هي شهادة أن لا إله إلا الله ولوازمها، أو ترك أحد الأركان عامداً إلخ، مما يكفر به الإنسان، فهنا الفرق.
فنحن نقول: إن قولهم بأن كل شعبة من شعب الإيمان -أو كل ما أمر الله به- هي إيمان، هذا القول حق، لكن رتبت عليه الخوارج أن من لم يفعله ولم يأت بهذا الواجب فهو كافر، وهذا عند النجدات، وعند الأزارقة، أما الإباضية فقالوا: نحن نخفف قليلاً، فنقول: هو كافر، لكن كفر النعمة، وليس كفراً ينقل عن الملة، فقالوا: فهو كفر نعمة لا كفر الشرك، وأن مرتكبي الكبائر في النار خالدون مخلدون فيها، فهذه هي عقيدة الإباضية، وهم موجودون اليوم في عُمان والجزائر وفي غيرها.
وفي كتبهم أن من قال: إن الله تعالى يرى في الآخرة، فهو عندهم كافر خالد مخلد في النار، وصاحب الكبيرة عندهم -أيضاً- كافر خالد مخلد في النار، فهذا دينهم إلى اليوم.
فيقول الشيخ محمود: 'ومن البيّن أن الذين سألوا أبا مجلز من الإباضية، إنما كانوا يريدون أن يلزموه الحجة في تكفير الأمراء؛ لأنهم في معسكر السلطان -معسكر الخلافة- ولأنهم ربما عصوا وارتكبوا بعض ما نهاهم الله عن ارتكابه.
ولذلك قال لهم في الخبر الأول: فإن هم تركوا شيئاً منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنباً'.
يقول: إنهم تقع منهم معاصي لكن يعلمون أنها معاصي.
'وقال لهم في الخبر الثاني: إنهم يعملون بما يعملون ويعلمون أنها ذنب'.
أي: ويعتقدون، وليس المقصود هو مجرد المعرفة بل المعرفة، فشخص يفعل ذنب، ويقول: أنا أعرف أنه ذنب، فهذا لا يكفي إلا إذا اعتقد أنه ذنب، وأنه حرام فلا يكفر، إما لو استحله، واعتقد أنه حلال، مع معرفته أنه حرام، فإنه يكون كافراً.
إذاً: قد يجتمع الاستحلال مع المعرفة، فيقول: أعرف أنه حرام، لكن يستحله، فليس المقصود بالعلم مجرد المعرفة، لكن المقصود بالعلم هو الاعتقاد، أي: يعتقدون أنه حرام، فكيف نكفرهم؟!(93/17)
توضيح كون التبديل إعراض عن شرع الله
قال: 'وإذاً فلم يكن سؤالهم عما احتج به مبتدعة زماننا'.
بل سؤالهم في موضوع آخر ليس عما يحتج به مبتدعة زماننا: 'من القضاء في الأموال والأعراض والدماء بقانون مخالف لشريعة الله، ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام، بالاحتكام إلى حكم غير حكم الله في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم'.
فهو يقول: القضية قضية مختلفة تماماً عما يقوله هؤلاء المبتدعة، ونلاحظ في عبارة الشيخ رحمه الله عدة أشياء: أول شيء: أنه القضاء في الأموال والأعراض والدماء بقانون -قانون عام- مخالف لشريعة أهل الإسلام، يحتكم إليه.
ثانياً: قال عبارة أخرى: ' ولا في إصدار قانون ملزم '.
أي: إن خلفاء بني أمية أو بني العباس، أو غيرهم من المذنبين، أخطأوا فلم يقيموا بعض الأحكام وقصروا فيها إما لهوى أو لشهوة، لكن الحكم الشرعي موجود، ولم يأتوا بقانون ملزم مخالف للشريعة، وعلى ذلك فيوجد فرق كبير جداً بين الحالة الأولى وهذه الحالة.
فهنا عندنا حالة تشريع إلزامي، تلزم به الأمة، ويطبق عليها، ويحاكم ويحاسب من خالفه، ويعاقب من أعترض عليه.
أما الحالة الثانية فهو: ذنب وقع من إنسان، وإذا سئل قد ينكر، أو يعتذر بأن بعض العلماء أفتاه بذلك، أو أنه حكم على مذهب كذا، فهو ليس معتقداً وملزماً به للناس، بل هو في نفسه لا يرى أنه حلال لنفسه فضلاً عن أن يلزم به الناس.
قال: 'فهذا الفعل -أي: إصدار قانون ملزم للناس بغير كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم- إعراض عن حكم الله، ورغبة عن دينه، وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكم الله سبحانه وتعالى، وهذا كفر لا يشك فيه أحد من أهل القبلة -على اختلافهم- في تكفير القائل به، والداعي إليه'.
أي: الفرق القديمة لم تكن تتكلم عن هذه القضية، بل كانوا يتكلمون عمن يخالف في قضايا أفراد -قضايا معينة- أما إلزام الناس بدين غير دين الإسلام، فلم يخالف في هذا أحد، حتى يأتي مبتدعة زماننا الآن ويقولون: إنه لا يزال مسلماً.(93/18)
توضيح لواقع هذه القوانين
يقول: 'والذي نحن فيه اليوم هو هجر لأحكام الله عامة بلا استثناء، وإيثار أحكام غير حكمه في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتعطيل لكل ما في شريعة الله'.
وقول الشيخ محمود: بلا استثناء صحيح من جهة، فإن عندهم قانون الأحوال الشخصية وفق الشريعة، وبعض الدول زيد قليلاً في باب المعاملات، فنقول: لا يعتبر شيء من ذلك أنه إقامة لحكم الله، حتى قانون الأحوال الشخصية لا يعتبر أنه إقامة لحكم الله، لأن القوم الذين يطبقون قانون الأحوال الشخصية، لا يطبقونه على أنه منزل من عند الله، ولا يقولون: نحن ملزمون به ولو خالفناه لأثمنا، ولوقعنا في الإثم والحرج، وأنه لا تصلح حياة المخلوقين والعباد إلا بهذا الشرع الذي أنزله الله، فهم لا يعتقدون ذلك، إنما هذا جانب من جوانب الحياة، وضعوا له تشريعات كما وضعوا للاقتصاد وللسياسة وللاجتماع، وللأحوال الجزائية، فوضعوا محاكم تجارية، وعمالية، وإدارية، وكل شيء وضعوا لها قوانين، فبقي هذا الجانب، فقالوا: هذا الجانب نأخذه من الشريعة، نقتبس -مثل ما ذكرنا- من الإمامية، والزيدية، والإباضية، والحنابلة والشافعية، فنركب شيئاً على شيء حتى نكمل جانباً من جوانب الحياة.
لكن هذا الجانب لم يجعلوه كلياً بعيداً عن الدين؛ لأنه من الصعب على الناس أن تقول لهم: اذهبوا افعلوا عقد الزواج في البلدية، وهذا قد حصل، وقد فعله المجرم الخبيث كمال أتاتورك، وقال: الدين يلغى نهائياً، ولا يفعل عقد زواج عند مأذون أو شيخ، بل في البلدية، فهناك موظف مدني يكتب العقد، مثل أي عقد آخر، فألغى المسألة تماماً، لكن في هذه المسألة وجدوا أن في تركيا نفسها لم يقبل الناس ذلك.
لأن هذه أشياء شخصية للغاية لو أخرجناها من عند الناس، فإن الناس لا يقبلون بهذا، فهم جاءوا بالشريعة الإسلامية حتى يكملوا القانون الوضعي، فهم يريدون أن يجعلوا القانون أبواباً متكاملة، وبقي لهم باباً اسمه: الأحوال الشخصية، قالوا: نكمله من الشريعة، فأخذو ما يعجبهم من الشريعة، وخلطوه بغيره وكمَّلوا الباقي، فهذا شيء.
والشيء الآخر: أنه إنما يأخذ شرعيته عندهم من إصدار الدولة له واعتباره قانوناً.
فمثلاً: شخص درس أحكام الطلاق، وخرج من دراسته بنتائج ونشر الكتاب، فمن يقرؤه من المسلمين يجد الدليل واضحاً فيه على مسألة من مسائل الطلاق، فالواجب عليه أن يتبعه ويعمل به رأساً، فإذا قرأ قاضي من القضاة هذا البحث، ورأى أن هذا الحكم أحسن من الحكم الذي كان يحكم به على المذهب، فإنه يطبق الحكم مباشرة، وهذا هو الواجب وهو الحق؛ لأن وظيفة العلماء هي الكشف عن حكم الله، وتبيين أن هذا هو حكم الله، أما الإلزام به فإنه من الله، فيلتزمه الناس؛ لأنه من عند الله.
فالعالم يكشف عن أدلة حكم الله ويبينه، ثم ينتهي دوره، وبعد ذلك يجب على الأمة أن تعمل به -القاضي والحاكم والأمير والصغير والكبير- لكن في القانون الوضعي لو افترضنا أن شخصاً وضع مسودة للأحوال الشخصية، وضبط كل شيء فيها، ورتب فيها الأحكام الشرعية، مادة كذا ومادة كذا، وهذا حتى لا يقولون: أنتم عندكم أحكام وأبواب الفقه غير مرتبطة هكذا يظنون.
فهذا شخص قال: أنا أضع لكم الأحكام الشرعية على الطريقة القانونية، مادة وراء مادة، ثم نشره بين الناس، فإذا جاء شخص يعمل في المحكمة القانونية، وعمل به، وقال: إني عملت بمشروع الأحوال الشخصية المقدم من فلان، فإنهم يضحكون عليه، ويقولون: إنه مجنون، لأن هذا المشروع لم يعتمده وزير العدل ولم يقره رئيس الجمهورية، لأن الإلزام عندهم ليس من كونك أبنت عن الحق، وأتيت بأدلة أرجح، بل الإلزام عندهم من السلطة، ولهذا فهم يفرقون بين القانون وبين المبادئ الأخلاقية، فالقانون عندهم لا بد أن يكون من السلطة، وأن يكون ملزماً به، وإلا أصبح توجيهات أخلاقية.
ولهذا لا تجد في القانون شيئاً اسمه مستحب، حتى في نظام المرور ونضرب لذلك -مثالاً- في القانون لا شيء اسمه مستحب للسائق، فإذا وقف فإما أن يعاقب أو ليس عليه شيء، وهذه من الفروق الكبيرة جداً بين شرع الله وبين أنظمة البشر، حتى ولو كانت من تنظيم الأمور الجائز، فنظام المرور، فلا نقول فيه شيئاً، إذا لم يخالف الشرع، فأنت تنظم أمور الناس به، لكن في الإسلام أنت عندك أمور: مثلاً: لو تركت الأفضلية في المرور للكافر فإنك تأثم، ولو كان الذي يمر أمامك عاجز أو ضعيف أو أكبر منك أو فأعطيته فرصة للمرور، فهنا قول: هذا مستحب، وربما قد يجب فأنت في كل أحوالك تتعبد الله سبحانه وتعالى، وتشعر أنك إما مرتكب لمحرم، أو تارك لواجب، أو أنك مسدد ومقارب، وهذا الشعور حسن.
أما عندهم، فإما أن يستحق العقوبة فهذا قانون، أو ليس عليه عقوبة فهذا يسمى توجيهات أخلاقية، ولا تُذكر في القانون، ولا يتعرضون لها، وممكن عندهم أن يكتب عنها صحفي في الجريدة، ولهذا عندهم الصحافة وهم أصحاب الجلالة الرابعة، فهي تُكمل الجوانب التي لم يأتِ بها القانون، فتقول للناس: لماذا تفعلوا كذا، ولو كنا نفعل كذا، ومن سمات المواطن الصالح أنه يفعل كذا، ويترجَّون الناس، ولا يوجد عندهم شيء اسمه: مستحب، أو مندوب إليه وتأجر عليه، بل القضية عندهم هي أن هذا مواطن أحسن خلقاً من الآخر، وهذا أفضل مواطنة من الآخر، فهذه هي القضية عندهم.
فمن هنا كان الفرق كبيراً جداً بين ما شرعه الله وما فيه الرحمة، والعدل للعالمين أجمعين، والخير واليسر والبركة وبين تشريعات هؤلاء.
فالآن عندما يقول الشيخ: "بلا استثناء"، فإن كلامه صحيح من جهتين، لأن هذا التشريع الذي هو من الذين لم يقم لأنه من عند الله، ولم يستمد الإلزام -أيضاً- من كونه من عند الله، وإنما لأن السلطة ألزمت به وانتقت واختارت بعض الأشياء من الشريعة، وممكن تغيرها في أي لحظة وتلغيها إذا أرادت، وتضع غيرها.(93/19)
وجه احتجاج الزنادقة على تفضيل أحكام القانون الوضعي
يقول: 'بل بلغ الأمر مبلغ الاحتجاج على تفضيل أحكام القانون الموضوع على أحكام الله المنزلة، وادعاء المحتجين لذلك بأن أحكام الشريعة، إنما أنزلت لزمان غير زماننا'.
وقد كتب مصطفى أمين: إن أحكام الشريعة، أو ما يدعو إليه المتطرفون، إنما نزلت في أيام الجمل، والحمار وكذا، أما في عصر الصاروخ والطائرة فلا بد من أخذ القوانين الوضعية، ومن شاء أن يذهب إلى القوانين القديمة فعلى الأقل عليه أن يقيمها في نفسه، ويأخذها ولا يدعو الأمة إليها، ولو كان راكباً حماراً، فهو يقول: إذا أخذت الطيارة والصاروخ والكيمياء والعلوم فإنك تأخذ معها القانون الوضعي، وإما إن كنت تريد أحكام الله فتأخذ معها ركوب الجمل أو ركوب الحمار، فهذا ربطوه هكذا.
فيقول: 'إنما نزلت لزمان غير زماننا، ولعلل وأسباب نقضت'.
فهم يقولون: الأسباب والعلل التي نزلت من أجلها الشريعة -كما يقول هؤلاء المبطلون المرتدون- انتهت، وهذا مثلما يقولون في التاريخ أحياناً: بعث الله محمداً -وأحياناً لا يقولوا: الرسول، بل يقولون: أرسل الله محمداً، وهكذا صلى الله عليه وسلم، ولا يذكرون الصلاة عليه- لأن العرب كانوا يعبدون الأوثان، ويقدسون الأصنام، ويئدون البنات، فبعث الله النبي صلى الله عليه وسلم، للقضاء عليها، والذي لا يعرف قصدهم يقول: هذا كلام حسن، ولكنهم يقصدون بهذا الكلام أنه الآن لا أحد يعبد الحجارة، ولا أحد يئد البنت.
إذاً: هذه القضية انتهت.
والآن عندهم مشاكل أخرى، فعندهم مشكلة في الإسكان، ومشكلة التضخم، والنسل -زيادة أعداد الناس- ومشاكل التنمية، أما مسألة عبادة الحجارة، ووأد البنات، فهذه كانت قديماً وانتهت، فهذا هو الكفر الذي يزينونه للناس، لأنهم مهرة وفنانون في ذلك.
فالفنانون الذين يشيعون الفاحشة -الأفلام وغيرها- وهم جزء من الفنانين في فن النفاق الأكبر الذي يريدون به أن الأمة تُمسخ وتنسى ذاكرتها ودينها وعقيدتها وأخلاقها، فتصبح ممسوخة، بحيث يصبح الشخص أفرنجياً لكن ليس أفرنجياً من الفرنجة الغربيين، بل أفرنجي ممسوخ تماماً، فلا تعرف ولا ترى منه أي ملمح، فلا هو أفرنجي حقيقي، ولا هو ذلك المسلم الذي يعرفه الناس.
قالوا: 'فسقطت الأحكام كلها بانقضائها -لانقضاء العلل والأسباب- فأين هذا مما بيناه، في حديث أبي مجلز والنفر من الإباضية، من بني عمرو بن سدوس؟ ولو كان الأمر على ما ظنوا في خبر أبي مجلز، أنهم أرادوا مخالفة السلطان في حكم من أحكام الشريعة، فإنه لم يحدث في تاريخ الإسلام، أن سن حاكم حكماً وجعله شريعة مُلزمة للقضاء بها هذه واحدة'.
وهذا مهم جداً وقوي؛ لأنه على مدار التاريخ الإسلامي لم يوجد أحد تجاوز هذا وسن حكماً وجعله شريعة ملزمة، فأما الياسق فهو موروث، لكن حاكم مسلم يشرع شرعاً ويفرضه، فهو يقول: إن هذا لم يحصل.(93/20)
أحوال الحاكم المسلم الذي حكم بغير ما أنزل الله
قال: 'والأخرى أن الحاكم الذي حكم في قضية بعينها، بغير حكم الله فيها، فإنه إما أن يكون حكم بها وهو جاهل، فهذا أمره أمر الجاهل بالشريعة، وإما أن يكن حكم بها هوىً، ومعصية، فهذا ذنب تناله التوبة، وتلحقه المغفرة'.
أما بالنسبة للمغفرة فإن تاب وإلا فهو تحت المشيئة: 'وإما أن يكون حكم بها متأولاً حكماً خالف به سائر العلماء، فهذا حكمه حكم كل متأول يستمد تأويله من الإقرار ببعض الكتاب وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم'.
فهذا الحاكم قد يقول: أصنع منفعة للمسلمين، فخالف في قضية معينة، وهو ملتزم بشرع الله، ويدين به، ويعلم أنه الشرع ولا غيره، فإما أنه جاهل، والجاهل له أحكام، وإما أن يكون صاحب هوى ومعصية، فهذه من الكبائر.
وإما أن يكون حكم بغير ما أنزل الله متأولاً، ففهم الدليل فهماً غير صحيح، أو تأول على قول من أقوال العلماء.
والمهم أنه يحكم في محكمة لا تحكم إلا بما أنزل الله، وفي ظل سلطان لا يحكم ولا يأمر الناس إلا بما أنزل الله، لكن خالف في مسألة، فليس كل القضاة معصومين، بل القضاة يخطئون وهم في محاكم شرعية، ويحكمون بالشرع، فهذا الخطأ لا يخرج عن ثلاث حالات: أولاً: إما جاهل: اعترف عنده شخص أنه شرب الخمر، وأقرّ بذلك، فقال: ليس عليك شيء، لماذا؟ قال: قد يكون معذوراً، أو مكرهاً، أو جاهلاً، وقد يكون رجع عن الإقرار، كما يفعل بعض الناس، فهذا يكون حكمه حكم الجاهل الذي لم يمحص الشروط والأدلة.
أو حاكم ترك حد السرقة فلم يقمه على أحد، جهلاً منه بالنصاب أو نسي أو لم يعرف.
والجهل صوره كثيرة، وبعض الناس قد يستغرب: كيف يجهل الحاكم هذا؟! وكيف يخفى عليه هذا؟! وفي الحقيقة عندما تقرأ عن بعض الصحابة، فإنك تجد أموراً خفيت عليهم، فتتعجب منها، وتقول: كيف يجهلونها، فمثلاً: عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه، كان لا يرى القراءة في الصلاة السرية، وهذا في صحيح البخاري، فتقول: هل يُعقل أن ابن عباس، وهو حبر الأمة، لا يدري أن القراءة واجبة في الصلاة السرية، وغيرها أشياء كثيرة، قد يستغرب الإنسان منها، وأيضاً قد يخفى عليه بعض الأحكام، وقد لا تبلغ هذا الحاكم.
والمقصود أن -خفاء الحكم بمعنى أعم- باب الجهل، وهذا يقع من القضاة حتى في عصر النبوة، وفي عصر الخلافة الراشدة.
ثانياً: أن يحكم هوىً ومعصية.
مثلاً: يكون هذا السكران ولد عمه أو قريبه، أو يعمل في مكان قد يخدمه منه، فيقول: لو أقمنا عليه الحد سوف تكون فضيحة، وأهله يقولون له: لم نجد من منفعة إلا أنك تطبق الحد على ابن عمنا، وهذه سوف تفشل القبيلة كلها، ولا بد تحكم أنه بريء، وهذه الحوادث تقع، بل وكثيراً ما تقع هذه، فيبرئه، ويقول: ليس عليه شيء.
والثالث: المتأول.
أي: هو عنده دليل لكنه فهمه على غير وجهه، فهو ليس كالجاهل؛ لأنه يخالف الجاهل من جهة أن الأول خفي عليه الحكم، أما هذا فعنده دليل لكنه فهمه على غير وجهه، مثلما تأول الصحابة: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا} [المائدة:93].
فرجل مؤمن تقي، ماذا عليه إذا شرب الخمر؟ إذا ليس عليه جناح، مع أن هذه الآية لا تصلح دليلاً، لكنه تأولها كما يتأول بعض الناس؛ وقد ذكرنا بعض التأويلات أنها قد تكون باطلة أو صريحة، فبعض الناس -مثلاً- يريد أن يرد عليك، فيقول لك: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
إذاً: نساوى في الحدود بين الإماء وبين الحرائر -مثلاً- في الجلد؟ فيقول لك: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] فهذا تأول، والحقيقة: أن الدليل غير ذلك.
ويُتصور -أيضاً- أن التأول وارد في أحكام كثيرة، ولولا الجهل والخطأ والتأول؛ لم تكن أحكام الفقه مملوءة بالترجيح، وبيان الخطأ، والشذوذ؛ وهذا حاصل لأنها موجودة.
أما المعصية فهي ملء الأرض؛ والناس يخالفون أمر الله في أشياء كثيرة.
إذاً: هذه الأحوال الثلاثة.
قال: 'وأما أن يكون في زمن أبي مجلز أو قبله أو بعده حاكمٌ حكم بقاء في أمر جاحداً لحكم من أحكام الشريعة، أو مؤثراً لأحكام أهل الكفر على أحكام أهل الإسلام؛ فذلك لم يكن قط'.
فهذا لم يقع ولم يحصل، والخوارج لم يسألوا عنه، وأبو مجلز لم يُجب عنه، وهذه الصورة غير واردة، فصورة أن شخصاً يحكم بحكم أو بقضاء غير كتاب الله، جاحداً لما أنزل الله، مؤثراً لأحكام أهل الكفر، ثم يقول: أنت يا أبا مجلز أو غيرك ليس لكم علاقة في الموضوع، وهذا القانون الذي حكمتُ به أخذناه من الفقه الروماني، لأنه من فقه هذه الأمة المتحضرة الراقية، فهذه الصورة لا يشك أحد في كفر هذا الحاكم أبداًَ لا في زمن أبي مجلز أو غيره.
ولو قال شخص: هذا من أحكام الدول المتقدمة، ونحن أخذناه من الدول المتطورة.
قالوا عنه الناس: جزاه الله خيراً، هذا يريد يطور البلد، ويريد أن يتقدم البلد، فالفرق ليس في عمله هو، بل الفرق في نظرة الناس إليه، لأنهم جهلوا دينهم.
قال: 'فلا يمكن صرف كلام أبي مجلز والإباضيين إليه'.
أي: لا ينصرف إلى هذه الحالة -حالة الجحود- أبداً، فمن احتج بهذين الأثرين وغيرهما مثل قول ابن عباس وطاوس ومجاهد: كفر دون كفر، من احتج بها في غير بابها، وقال: كفر دون كفر، مثل من يأتي بالقانون الوضعي ويقيمه ويطبقه، ويقول: هذا كفر دون كفر، قال: 'فمن احتج بهذين الأثرين وغيرهما في غير بابها، وصرفها إلى غير معناها، رغبة في نصرة السلطان'.
وهذا أحد الأسباب، وهو نصرة السلطان على تسويغ الحكم بغير ما أنزل الله، وفرضه على عباده، مثل من يقول: إن الحكومة إنما أرادت المصلحة، والله تعالى إنما أنزل الدين لغرض المصلحة، فالمصلحة تتحقق بهذا القانون، وهذا القانون مأخوذ كثير منه من الفقه المالكي؛ لأن الفقه المالكي كان في الأندلس، ولما قُضي على المسلمين في الأندلس دخل الفقه المالكي إلى فرنسا، ثم جاء نابليون وأخذ من الفقه الفرنسي، وكثير منه مالكي، وهكذا حتى يتوصل إلى أن الحكم بغير ما أنزل الله سائغ.
يقول الشيخ شاكر: 'فحكمه في الشريعة حكم الجاحد لحكم من أحكام الله' أي: أن الذي قصده نصرة السلطان أو قصده الاحتيال على شرع الله: 'وحكمه في الشريعة حكم الجاحد لحكم من أحكام الله، أن يستتاب؛ فإن أصر وكابر وجحد حكم الله، ورضي بتبديل الأحكام، فحكم الكافر المصر على كفره معروف لأهل هذا الدين' انتهى كلامه.
يقول: إن هذا النوع وهذا الصنف من الناس يجب أن يستتاب وأن تقام عليه الحجة، وإن لم يتب وأصر على تسويغ الحكم بغير ما أنزل الله، فحكم من يصر على جحد حكم الله، وإحلال غيره محله، معروف أو معلوم عند أهل هذا الدين، وهو أنه قد خرج من الملة نسأل الله العفو والعافية.(93/21)
تفسير ابن كثير لآيات الحكم من سورة المائدة
ونواصل تفسير الآيات الكريمات من سورة المائدة المتعلقة بالحكم بغير ما أنزل الله، والغرض هنا ليس تفسير الآيات، واستنباط الأحكام الفقهية منها، ولكن الغرض هو معرفة درجة الحكم بغير ما أنزل الله، وأنواعه.
والمقصود هنا هو موضوع الحكم من جهة تعلقه بالعقيدة، فقول الله تبارك وتعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، وهذه هي الآية (45/ص: 158) من عمدة التفسير.
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله كما اختصره الشيخ أحمد شاكر: 'وهذا أيضاً مما وبخت به اليهود وقرعوا عليه، فإن عندهم في نص التوراة أن النفس بالنفس، وهم يخالفون حكم ذلك عمداً وعناداً، ويقيدون النضري من القرظي، ولا يقيدون القرظي من النضري بل يعدلون إلى الدية! '.
وهذا الكلام يتعلق بسبب النزول الثاني كما سبق، وسبب النزول الأول هو الزانيين، ولذلك عطف فقال: 'كما خالفوا حكم التوراة المنصوص عندهم في رجم الزاني المحصن، وعدلوا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم والإشهار! ولهذا قال هناك: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] لأنهم جحدوا حكم الله قصداً منهم وعناداً وعمداً, وقال هاهنا: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه، فخالفوا وظلموا وتعدوا على بعضهم بعضاً'.
وهذا الكلام كلام نفيس من الحافظ ابن كثير رحمه الله، فهو يجعل الآيات جميعاً في نسق واحد، وأنها نزلت في أناس معينين، لا كما ذكر بعض العلماء أن بعضها في المسلمين وبعضها في النصارى وبعضها في اليهود، أو كلها في الكفر الأصغر بدون تفصيل.
فهو يجعلها جميعاً في الكفر الأكبر، كما في حديث البراء: {في الكفار كلها} فالكفر كله أكبر بغض النظر عن فاعله.
فيقول: إن تنزيل الآية الأولى قال فيها: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] لأن الموضوع موضوع قصة رجم الزانيين، أي: سبب النزول الأول الذي ذكره الحافظ ابن كثير وذكر رواياته, وأما الثاني، وهذه الآية التي فيها أحكام القصاص، والمساواة بين الأنفس وفي الأعضاء فإن تبديلها كان: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] فالموصوف واحد، لكنه وصف تارةً بأنه كافر، نظراً لأنهم عدلوا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم.
وقد ذكرنا أن العلماء رحمهم الله جعلوا المناط المكفر هو: اصطلحوا أو بدلوا أو تكاتموا أو إلخ.
وبهذا نجد فقه السلف الصالح في عباراتهم، فواضح أن العدول عن حكم الله إلى ما اصطلح عليه الناس كفر، وهنا لا تنافي مع ذلك الكفر؛ لكن بالنظر إلى كون الحق فيه حقاً للناس، فالأول حق لله؛ لأن الزانيين متراضيان، ودليل ذلك كما جاء في الصحيحين: {فرأيت الرجل يجنأ عليها ليقيها} أي: الحجارة.
فالزنا هنا بتراض، فالحق فيه لله، لكن في قصة بني قريظة وبني النضير في الديات، حيث جاءت الذليلة تشتكي العزيزة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وقالوا: ما علمنا أبناء دين واحد، ونسب واحد، يكون دية أحدهما نصف دية الآخر، فلما كان الحق متعلق بالمخلوقين، ناسب أن يكون الوصف بالظلم، هكذا يرى الحافظ ابن كثير وهي مناسبة لطيفة.(93/22)
القراءات في قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا)
ثم ذكر بعد ذلك الثلاث القراءات في الآية، وهي لا تؤثر في المعنى كثيراً.
القراءة الأولى: قراءة الكسائي: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] بالنصب، ومعلوم أن اسم إنّ وأخواتها منصوب، ثم يستأنف: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45].
القراءة الثانية: قراءة أبي عمرو وابن كثير وابن عامر بنصب: "والعينَ" وما بعدها إلى الجروح، فالمعطوف كله يعطف عليها فتكون منصوبة، لكن (الجروحُ) يستأنف فيها بالرفع، ولها مناسبة من حيث المعنى, وهي: أن الأعضاء السابقة فيها تماثل: نفس ونفس، عين وعين، أنف وأنف، إلخ.
لكن الجروح عموماً شيء آخر، فأي ضربة في الرجْل أو الرأس ونحو ذلك فيها قصاص، فتختلف من حيث اللفظ، فكأن الاستئناف استأنف هنا بالرفع.
وقد يقول قائل على هذا الاستئناف: إن الله لم يكتب عليهم في التوراة أمر الجروح، فتفهم على أنها عبارة جديدة مستأنفة، أي: هذا هو الحكم مطلقاً، ولا يلزم منه أنه هو المكتوب نصاً في التوراة.
القراءة الثالثة: وهي المشهورة التي نقرأ بها، وهي: قراءة عاصم لنصبها جميعاً.
ثم ذكر بعد ذلك في قوله تعالى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة:45].(93/23)
هل شرع من قبلنا شرع لنا
وهنا يأتي سؤال وهو: هل الحكم الذي أنزله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في التوراة: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} [المائدة:45] وهو في شرع من قبلنا يلزمنا؟ أو هو مجرد إخبار من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن شرع من قبلنا؟ يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: 'وقد استدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا حُكي مقرَّراً ولم ينسخ، كما هو المشهور عن الجمهور'.
أي: ذكره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أو ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سبيل التقرير.
والأمر الآخر: (ولم ينسخ) فوجهة نظر هؤلاء العلماء أنه لما ذكر الله تبارك وتعالى حديث بني إسرائيل وقصصهم وخبرهم والحكم عليهم, أو ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما ذكره إلا لنتّعظ ونعتبر ونعمل نحن -أيضاً- بذلك، فلو كان منسوخاً لجاءنا ناسخ متصل أو منفصل، لكن ما لم يأتِ ناسخ، فإنه إنما ذكره الله أو ذكره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليكون -أيضاً- ملزماً لنا، فالأصل أن دين الأنبياء واحد، وكذلك الشرائع ما لم يأت دليل بخلاف ذلك، ولا سيما وقد ذُكر في كتابنا لا لمجرد أننا وجدناه في كتبهم، فالجمهور على أن هذا يُعد شرعاً لنا، فهو ملزم لنا أيضاً.
وذكر عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: [[هي عليهم وعلى الناس عامة]] أي كتبها الله على بني إسرائيل، وهي -أيضاً- على الناس عامة، وذكر من نقل الإجماع على ذلك.
ثم قال: 'وقد احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يُقتل بالمرأة بعموم هذه الآية الكريمة'.
فهذه نفس وهذه نفس، وإن كان الجنس مختلفاً.
قال: 'وكذا ورد في الحديث الذي رواه النسائي وغيره: {أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب في كتاب عمرو بن حزم: {أن الرجل يقتل بالمرأة} وفي الحديث الآخر: {المسلمون تتكافؤ دماؤهم} وهذا قول جمهور العلماء '.(93/24)
قول أبي حنيفة بقتل المسلم بالكافر
قال: 'وكذا احتج أبو حنيفة بعموم هذه الآية على أنه يقتل المسلم بالكافر، وعلى قتل الحر بالعبد، فقال: الآية عامة، فإذا قتل مسلم ذمياً أو معاهداً فإن النفس بالنفس، فيقتل المسلم بالكافر، وإسلامه هذا ينفعه عند الله، أما في الدنيا فإنه يقتل هذا بهذا، وقد خالفه الجمهور فيهما -وقتل الحر بالعبد أخف- ففي الصحيحين عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يقتل مسلم بكافر}.
والقول الصحيح الذي لا يجوز أن يصار إلى غيره هو: أنه لا يقتل مسلم بكافر، هذا مما كتبه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما في الصحيفة التي نقلها علي رضي الله عنه عندما سئُل: [[هل خصكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيء من العلم؟ -لأن الرافضة يزعمون أنه أعطاهم علم الغيب أو الجفر وهي دعوة قديمة- فقال: لا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة إلا ما في كتاب الله، أو فهماً يعطاه رجل أو ما في هذه الصحيفة، فأخرجها من قراب سيفه فكان من جملة ما فيها: وأن لا يقتل مسلم بكافر]] وهذا في الصحيحين في روايات عدة وغيرهما، والأمة على ذلك.
وإنما شبهة الإمام أبي حنيفة رحمه الله ومن على مذهبه هي قولهم: إن الزيادة على القرآن نسخ، وهذه الشبهة في علم الأصول، فإن عندهم قاعدة أصولية: وهي أن السنة لا تنسخ القرآن، وعلى ذلك، فالنفس بالنفس هذا في كتاب الله، أما ما في السنة فلا يعتبرونه كما فعلوا في مسألة التغريب سنة للزاني، فإنهم قالوا: إن الجلد قد ذكر في كتاب الله وفعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكن التغريب جاءت به السنة زيادة على ما في القرآن، والزيادة نسخ، والسنة لا تنسخ القرآن؛ فلا نعمل بها، وهي قاعدة خاطئة.(93/25)
أهواء المدرسة العصرية
وهذا قد فرح به أدعياء المدرسة العصرية، وهذه مدرسة كما قال فيها العلماء: 'من تتبع رخص العلماء تزندق'.
وذلك لأنه سيأخذ من هنا ومن هنا فتصبح النتيجة لا شيء -نسأل الله العفو والعافية- فلما وجد بعض دعاة الاتجاه العصري والإسلام الحديث المرن الذي يحترم الأمريكان، قالوا: هذا هو الإسلام، فلا بد أن نجعل المسلم والكافر سواء -النفس بالنفس- وقالوا: لسنا مبتدعة لمجرد أننا نعظم الغرب أو الأمريكان بمأخذنا هذا فهو مذهب قديم للإمام أبي حنيفة، وهو أحد الأئمة الأربعة، وهذا قول معتبر، وهو أوفق مع العدالة الإنسانية، ويتفق مع حقوق الإنسان، وحتى لا يتهمنا الغرب أننا ضد حقوق الإنسان؛ فنجعل الإنسان المسلم فوق الكافر.
وهم لا يأخذون بكل ما قاله الإمام أبو حنيفة لكن بهذه المسألة فقط, وهم لا يأخذون بها لأن الدليل هو الذي رجحها، لأنهم لو أخذوا بها ترجيحاً للدليل فتكون المسألة من باب الاجتهاد الخاطئ، لكنهم يرجحونها بمقتضى العصر.
قال الشيخ الغزالي -هدانا الله وإياه- بمعنى كلامه في جريدة المسلمون: لو أن فلاحاً مسلماً أو راعي غنم قتل خبيراً أمريكياً، كيف تكون النسبة؟ ونحن نقول: لو أن عبداً مسلماً قتل رئيس أكبر دولة كافرة في العالم فإننا لا نقتل المسلم بالكافر، فهذا دين الله عز وجل والذي لا يجوز أن يُحكم بغيره، ولا يصار إلا إليه, وكونه يقتله ظلماً لا يعني ذلك الدعوة إلى الظلم، أو أننا نقر الظلم أو إزهاق النفس بغير حق, لكن المقصود هو أن شرع الله ودين الله في هذه الحالة ليس هو القصاص، وإنما الدية، وديّة الكتابي -أيضاً- غير دية المسلم، وهم يريدون أن يجعلوا الدية واحدة والقصاص واحد، فالمسألة ليست أن {المسلمين تتكافأ دماؤهم} كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل هم يريدون أن يقولوا: إن الناس جميعاً تتكافأ دماؤهم، ويقولون: إن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِن ْذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13] فالمسألة الكلية المطلقة جاء بها القرآن قبل حقوق الإنسان، فنكون قد سبقنا الغرب إلى ذلك.
نقول: لا, الآية صريحة في المقصود، لأن قول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13] المراد بها التفاخر، فالله تعالى نهى عن مجرد التفاخر بالأنساب الذي هو من شأن أهل الجاهلية، وجعل التفاخر هو بالتقوى، والشعوب والقبائل معللة: {لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13] فنعرف أن هذا من قريش -مثلاً- وهذا من هذيل، وهذا من حرب وهذا من جهينة، فهو للتعارف، أما أن يستنبط أن الناس سواسية مسلمهم وكافرهم فهو استدلال بعيد.
ثم بعد أن ذكر الكلام في العبد، وأن السلف لم يكونوا يقيدون العبد من الحر، ثم ذكر حديثاً يستشهد به على ما قاله من نقل الإجماع على ذلك، أي: على أن شرع من قبلنا شرع لنا، بالحديث الذي رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم رضي الله تعالى عنهم أجمعين من حديث أنس بن مالك: {أن الربيِّع عمة أنس كسرت ثنية جارية، فطلبوا إلى القوم العفو فأبوا، فأتوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: القصاص} فحكم أول الأمر بالقصاص، وهذا الحكم هو المذكور في الآية، فشرعُ من قبلنا شرع لنا؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكم بذلك، وليس مجرد أنه ذكر مقرراً, وفي نهاية القصة أن أخاها أنس رضي الله تعالىعنه قال: {يا رسول الله! تكسر ثنية فلانة؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا أنس، كتاب الله القصاص, فقال: لا والذي بعثك بالحق، لا تكسر ثنية فلانة} فأقسم أنها لا تكسر، وليس المقصود الاعتراض على حكم الله، لكن يقول: ذلك لن يقع، مهما بذلنا ومهما حاولنا إن شاء الله لن تكسر، قال: {فرضي القوم، فعفوا وتركوا القصاص؛ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره} , وهذه كرامة عظيمة.
ثم ذكر حديثاً آخر فيه إشكال كما قال رحمه الله: 'عن عمران بن حصين: {أن غلاماً لأناس فقراء قطع أذن غلام لأناس أغنياء، فأتى أهله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالوا: يا رسول الله، إنّا أناس فقراء، فلم يجعل عليه شيئاً} , وكذا رواه النسائي وإسناده قوي, وهو حديث مشكل!! اللهم إلا أن يقال: إن الجاني كان قبل البلوغ فلا قصاص عليه، ولعله تحمل أرش ما نقص من غلام الأغنياء عن الفقراء أو استعفاهم عنه'.
فالإشكال هو: كيف أسقط النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القود عن الغلام، وأسقط الدية بالفقر؟ وفي الحقيقة ليس هناك إشكال؛ لأن الذي يظهر لي -والله تعالى أعلم- أنهم فعلاً عفو عنه فلم يطلبوا القصاص أصلاً، وإنما كانوا يريدون الأرش أو الدية، فطلب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أهل الجاني الفقير، فقالوا: ليس لدينا شيء فأسقطه؛ لأنهم كانوا قد تنازلوا عن القصاص، فأمر القصاص قد قضي، وبقي الأرش فلا يوجد عندهم شيء فاستعفاهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعفوا، وإلا لو أصروا على الأرش؛ فإن الدية تلزم ولو ديناً وتظل في ذمته، أو يتحملها عنه شخص آخر أو غير ذلك، لكن كونه يسقط عنه ذلك؛ فهذا دليل على أنهم قد قبلوا وعفوا، أو كما قال: لعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعفاهم أو تحمل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك, وهو كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أنا ولي كل مؤمن}.
ثم ذكر بعد ذلك في قوله تعالى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ} [المائدة:45] الأحاديث التي وردت في فضل العفو عما وقع له من جروح، من حديث أبي الدرداء وعبادة بن الصامت وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم فبعضها أسانيده صحيحة، وبعضها رجح الشيخ أنه موقوف، فهذه تدل على ما نصت عليه الآية أن الإنسان إذا ظُلم فَضُرب أو اعتدي عليه فكان به ما يستدعي القصاص من الجراحات أو أي عضو من الأعضاء فتصدق به فهو كفارة له، وهذا من فضل الله تعالى ومن جملة ما أعد الله تعالى للعافين عن الناس، قال: {إلا كان كفارة له}.
ومن حرص الشارع الحكيم على أن الأصل بين المسلمين هو العفو، وتقرير هذا الأصل، فالعفو محبب ومندوب إليه، وأجره عظيم، وفضله كبير في هذا الموضوع، وفي غيره: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134] وهؤلاء من أثنى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليهم، وهم من أهل الجنة.(93/26)
تحريف التوراة والإنجيل وهيمنة القرآن
ثم قال تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإنجيل فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ * وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:46 - 47].
فيقول الشيخ: 'فقوله تعالى: (وَقَفَّيْنَا) أي: أتبعنا، (عَلَى آثَارِهِمْ) أي: أنبياء بني إسرائيل: (بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ) أي: مؤمناً بها حاكماً بما فيها'.
لأن عيسى عليه السلام هو كما قال عنه تبارك وتعالى: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ} [آل عمران:49].
وبنو إسرائيل كتابهم وشريعتهم هي التوراة، وما يزالون إلى اليوم، ولذلك التحريف الكبير الذي أحدثه بولس في دين النصارى هو أنه نقلها من دعوة محلية إلى دين عالمي، وهذا أحد أنواع التحريف، فبقي الشرع عند النصارى إلى اليوم في جميع أنحاء العالم على كثرتهم هو الكتاب المقدس -كما يسمونه- ويشتمل على أسفار التوراة ثم الأناجيل والرسائل، وهم يختصرونها في اسمين: العهد القديم والعهد الجديد، والعهد القديم يعنون به التوراة وما يتبعها من رسائل وأسفار وبينهم خلاف بحسب الطوائف في عددها، ثم الأناجيل الأربعة وما تبعها يسمونها العهد الجديد، ومن العهدين -القديم والجديد- يتكون الكتاب الذي يسمونه: الكتاب المقدس.
فالمفروض أن تكون التوراة كما أنزلها الله تعالى لليهود، فاليهود الآن يؤمنون بالتوراة فقط، ولا يلتفتون إلى العهد الجديد، والمفروض -أيضاً- أن تكون الأناجيل خاصةً ببني إسرائيل حتى ولو حرفت، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في سابق علمه أنه سينزل الكتاب المهيمن، ويبعث الرسول العام للناس كافة صلوات الله وسلامه عليه، لكن المقصود حتى مع التحريف فكان المفروض أن يكون المؤمنون الآن بالأناجيل الأربعة هم النصارى فقط، ويكون اليهود مؤمنين بالتوراة؛ لأنها كتابهم ولا ينازعون في ذلك، ويؤمنون بالأناجيل؛ لأنها أنزلت على رسول بعثه الله إليهم: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ} [آل عمران:49] وهو عيسى عليه السلام، فهو منهم، وبعث إليهم, فالخلل والتحريف الذي حدث هو أن بولس كان داعية من قبل أن يعتنق النصرانية كما ذكروا في تاريخه، فأصبحت التوراة شريعة عامة، لأن النصارى إلى الآن يجعلونها شريعة عامة للناس، فالنصارى من أي بلد كانوا يتحاكمون كلهم إلى التوراة التي هي في الأصل لبني إسرائيل فقط، مع أن الأناجيل -أيضاً-لم تكن إلا لهم، وفي نفس الأناجيل التصريح بأن عيسى عليه السلام إنما بُعث إلى بني إسرائيل وحدهم.
وهذا واضح في قصة المرأة الفينيقية أو السورية، وهي امرأة جاءت إلى عيسى عليه السلام كما في أناجيلهم، وتقول: إن بها روح شريرة، يا روح الله! يا نبي الله! عالجني واهدني معك، فقال: من أين أنت؟ قالت: أنا فينيقية أو قالت: أنا سورية! وهذا من الخلاف الموجود بين الأناجيل.
فقال: ' إنما بعثت إلى خراف بيت إسرائيل الضالة فبكت وحزنت وتألمت، وقالت: إذا كنت للأصحاء فمن للخطاة؟ فقال: يا امرأة! أرى أنك مملوءة إيماناً، فأدخلها واختصها بذلك'.
وفي الأناجيل الموجودة الآن أنه بعث للبشر جميعاً.
وقد استنبط شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله استنباطات عظيمة في كتابه الجواب الصحيح على أنه بشر، قال: ' لست أنا الموعود الذي بشرت به الأنبياء من قبل لكنه سيأتي من بعدي'.
وهو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما بيّن الله تبارك وتعالى: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَد} [الصف:6] فالشريعة عندهم هي شريعة التوراة، فكان عيسىعليه السلام يحكم بها.
قال: {وَآتَيْنَاهُ الإنجيل فِيهِ هُدىً وَنُورٌ} [المائدة:46] أي: هدى إلى الحق، ونور يستضاء به في إزالة الشبهات وحل المشكلات: {وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} [المائدة:46] أي: متبعاً لها، غير مخالف لما فيها، إلا في القليل مما بيّن لبني إسرائيل بعض ما كانوا يختلفون فيه {وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} [الزخرف:63]- كما قال تعالى إخباراً عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50] ولهذا كان المشهور من قول العلماء: أن الإنجيل نسخ بعض أحكام التوراة، وهذا هو القول الصحيح، فقد نسخ بعض أحكام التوراة مما كان عقوبة على بني إسرائيل في الذبائح والطهارة وفي الأحكام الأخرى، وليس هذا مقام التفصيل فيها.
لكن الحافظ ابن كثير رحمه الله كعادة العلماء لا يفوتهم أن ينبهوا إلى أمر مهم، ففي قوله تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجيل بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:47] يقول: 'أي: ليؤمنوا بجميع ما فيه وليقيموا ما أمروا به فيه، ومما فيه البشارة ببعثة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأمر باتباعه، وتصديقه إذا وجد -فهذا مما فيه ومما يجب عليهم أن يقيموه- كما قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [المائدة:68]، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:157] '.
فهذا رد على ما سنذكر -إن شاء الله- مما يفتريه المنصرون المجرمون الآن، ويقولون: إن مثل هذه الآية: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ} [المائدة:68] تعني: أن محمداً -لا يقولون الله، لأنهم لا يعترفون بأن القرآن منزل من عند الله- يأمر أتباعه ويذكر لهم أن اليهود والنصارى على حق، وأنهم إذا أقاموا التوراة والإنجيل فهم على شيء.
وقد تنبه العلماء إلى هذا، وهو واضح كالشمس بأنه يجب عليهم أن يؤمنوا بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا هو العهد الذي أخذه الله على جميع الرسل: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} [آل عمران:81]-كل النبيين- {لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ وَلَتَنْصُرُنَّه} [آل عمران:81] وأخذ الإقرار على ذلك: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81].
فهذا عهد أخذه الله سبحانه على كل الرسل، فقد أخذ الله ميثاق النبيين أنه إذا جاء وبعث الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يؤمنوا به، مع أنه في علم الله أنه لا يبعث في زمن نبي من الأنبياء لكن هذا العهد فيه تكريم للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبيان لفضله وفضل دينه، وفضل أمته وفضل القرآن على سائر الكتب أو الشرائع، وأن هذا الدين سيورثه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الأرض وسوف يظهره على الدين كله.
ثم قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجا} [المائدة:48].
يقول ابن كثير رحمه الله: 'لما ذكر الله تعالى التوراة التي أنزلها الله على موسى كليمه، ومدحها وأثنى عليها، وأمر باتباعها حيث كانت سائغة الاتباع -هذا القيد يعني في وقتها- وذكر الإنجيل ومدحه وأمر أهله بإقامته، واتباع ما فيه'.
فإذا كان ما سبق هو كما تقرر والتوراة أنزلت ليحكم أهلها بها، والإنجيل أُنزل ليحكم أهله به، والذي لا يحكم بما أنزل الله أياً كان كتابه فهو كافر ظالم فاسق، وبعد هذه الأوصاف أثنى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على التوراة وأوجب العمل بها، وعلى الإنجيل وأوجب العمل به وهذا إلى أن ينسخ.
ثم قال: 'فقال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ} [المائدة:48] أي: بالصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله: {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَاب} [المائدة:48] أي: الكتب المتقدمة المتضمنة ذكره ومدحه، وأنه سينزل من عند الله على عبده ورسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان نزوله كما أخبرت به مما زادها صدقاً عند حامليها من ذوي البصائر، الذين انقادوا لأمر الله، واتبعوا شرائع الله، وصدقوا رسل الله'.
وقد وصفهم الله تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} [القصص:54] وجاء ذلك أيضاً في الحديث الصحيح: {رجل آمن بنبيه ثم آمن بي} فهذا يؤتى أجره مرتين؛ لأنه آمن بالرسول الأول، فلما بلغ أو أدرك زمن الرسول الخاتم والكتاب المهيمن آمن به أيضاً، فأخذ أجر الإيمان الأول وأخذ أجر الإيمان الآخر.
وهكذا حال المؤمنين الذين آمنوا حقاً بالتوراة الحق من غير تحريف ولا تبديل، وآمنوا بالإنجيل الحق -هذا شأنهم وهذه صفتهم- أنهم آمنوا فعلاً بالقرآن، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُو(93/27)
هل التخيير في الحكم بين الكفار منسوخ
وهنا مسألة وهي: هل في الآيات نسخ أو فيها تخيير؟ ومتى يجب أن نحكم بين غير المسلمين، ومتى نكون مخيرين؟ قال: 'فروى ابن أبي حاتم بسنده إلى ابن عباس قال: [[كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مخيراً، إن شاء حكم بينهم وإن شاء أعرض عنهم، فردهم إلى أحكامهم]] '.
وآية التخيير هي قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة:42] لكن نجده يقول في آية أخرى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:48] فهل آية الأمر بأن نحكم بينهم ناسخة والتخيير منسوخ؟ نقول: لا، لا بد أن نحكم بينهم -العرب والعجم والذميين والحربيين والمستأمنين كلهم نحكم بينهم- بما أنزل الله، ولا تخيير لنا بأن نحكم أو نعرض، فهذا قول.
وبعض العلماء قال: لا يوجد نسخ، وقد ذكر الشيخ هنا بعض التفاصيل، ولكن يهمنا هنا كلام الأئمة.
فمثلاً كلام الشافعي رحمه الله في الجزية من كتاب الأم: 'ولا خيار له إذا تحاكموا إليه -أي: لا خيار للإمام المسلم- لقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] '.
فـ الشافعي يرد قول من قال: أن التخيير منسوخ.
وقال: 'وهذا من أصلح الاحتجاجات؛ لأنه إذا كان معنى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] أي: تجري عليهم أحكام المسلمين وجب ألا يردوا إلى أحكامهم، فإذا وجب هذا فالآية منسوخة'.
ومعنى هذا القول: أن أهل الذمة لا نردهم إلى أحكامهم؛ لأن آية التوبة: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِر} [التوبة:29] إلى قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون} [التوبة:29] متأخرة، وآية المائدة في التخيير كانت قبل ذلك، وعندما نفرض عليهم الجزية؛ فإننا نأخذها عن يدٍ وهم صاغرون، فإذا كان من يعطي الجزية بطواعية ورضا يأتي إلينا يدفعها وهو صاغر.
واختلف في معنى صاغر: هل يلبس الذمي ثوباً معيناً ويقف في ذل وتكون يده هي السفلى ويد الآخذ هي العليا أو أن المقصود أن يضرب عليهم الصغار؟ ولذلك ذكر ابن القيم رحمه الله في كتاب أحكام أهل الذمة بعض من خالف في هل ضرب الجزية من باب العوض والأجرة لسكنى دار الإسلام أو هو من باب الذل والصغار؟ والصحيح أنه من باب الذل والصغار، وكذلك ضرب الأحكام عليهم.
وفي العصر الحديث أتوا بدعوة جديدة، قالوا: هذا مقابل -كما يسمونه في القوانين الوضعية- بدل عسكري، فقالوا: المسلمون يدفعون الزكاة ويجاهدون، والنصارى واليهود لا يدفعون الزكاة ولا يجاهدون مع المسلمين فيدفع الذمي الجزية بدلاً، وإن كان بعض الكلام له نوع من التوجيه لكن في الحقيقة هي من باب الإذلال والصغار.
إذاً: لسنا مخيرين، فيجب علينا أن نذلهم، وأن نرغمهم على أن يدفعوا الجزية، وأن نجري عليهم أحكام الإسلام إذلالاً وإصغاراً لهم، وإلا كيف إذا زنا المسلم أقمنا عليه الحد، وإذا زنا الكتابي فنحن مخيرون؟! هذا لا يمكن، ونقل البيهقي عن الشافعي رحمه الله قوله: 'ليس للإمام الخيار في أحد من المعاهدين الذين يجري عليهم الحكم إذا جاءه في حد الله، وعليه أن يقيمه، واحتج بقول الله عز وجل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] قال: فكان الصغار -والله أعلم- أن يجري عليهم حكم الإسلام ' قال الشيخ: 'وقد رد أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن قول من ذهب إلى النسخ، فقال: وهذه دعوى عريضة، فإن شروط النسخ أربعة، منها: معرفة التأريخ بتحصيل المتقدم والمتأخر، وهذا مجهول من هاتين الآيتين، فامتنع أن يُدعى أن واحدة منهما ناسخة للأخرى، وبقي الأمر على حاله'.
ولهذا قال الشيخ: 'وهذا كلام ملقىً على عواهنه غير محرر' والإشكال هو أننا قررنا أن سورة المائدة نزلت كاملة محكمة، فإن كانت نزلت دفعة واحدة، فكيف نقول: هذه الآية متأخرة وهذه الآية متقدمة، وإن كانت موجودة في الترتيب في المصحف؛ لأن عندنا بعض الأحكام تكون الآية المتقدمة فيها هي الآية الناسخة، وتكون الآية المتأخرة هي المنسوخة على الأقل على قول، وهنا في سورة المائدة: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49] لكن قوله تبارك وتعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة:42].
إذاً: المتوقع أنا نقول: إن الناسخ هي الآية (49) وقد نسخت الآية (42) لكن القضية إذا قلنا: إن السورة نزلت دفعة واحدة فليس فيها نسخ، وهذا أحد الأوجه التي ترجح أنه لا نسخ.
وقال الشيخ أحمد شاكر: 'وأما الطبري فإنه أبى القول بالنسخ -قال: لا نسخ بين الآيتين- مستنداً إلى القاعدة الأصولية الصحيحة، وهي: أنه لا يصار إلى القول بالنسخ إلا إذا تعارضت الآيتان تعارضاً تاماً بحيث لا يمكن الجمع بينهما'.
هذا هو الصحيح، وإذا لم يمكن الجمع فنحمل كل آية على محمل، ولذلك قال بعض العلماء: لا نسخ في القرآن مطلقاً، وكل ما قيل: إنه نسخ خرّجه على أنه إما تخصيص للعام أو تقييد للمطلق أو بيان للمجمل إلخ.
فهذا أحد الأقوال لكن الصحيح: أن النسخ قائم لكن ليس كما يتصوره البعض بكثرة كاثرة؛ لأنه يوجد سر في معنى كلمة نسخ، ولو عرفنا هذا السر انتهى الإشكال.
فالنسخ عند السلف من الصحابة والتابعين يطلق على أمور كثيرة، فليس خاصاً عندهم برفع الحكم كليةً، بل إذا رفع جزءاً من الحكم أو عموم الحكم عدُّوا ذلك نسخاً، وإذا بين ما كان مجملاً أو قيد ما كان مطلقاً عدّوا ذلك نسخاً، وهو فعلاً رفع للحكم؛ لكنه رفع جزئي.
أما المتأخرون عندما ضبطوا وأصلوا، قالوا: كلمة النسخ لا تطلق إلا على ما كان رفعاً كلياً للحكم وإحلال حكم آخر محله، وهذا لا بأس به ولا مشاحة في الاصطلاح، فلا نعترض على المصطلح، لكن نقول: إذا فُهم مصطلح النسخ وفهم في كلام غيرهم تبين أنه لا معارضة -إن شاء الله- ولا إشكال في هذا.
فإذاً ما نفاه الحافظ الطبري رحمه الله حيث يقول: لا نسخ، أي: بالمفهوم المتأخر، لكن الحافظ على فضله وإمامته في التفسير والعربية، إلا أنه جمع بينهما فتأول الآية تأول المتأخرة، بما يجعلها توافق الأولى، بأن قال: أنت مخير احكم أو أعرض فإذا اخترت أن تحكم فاحكم بينهم بما أنزل الله، فحمل الآية الأخيرة على الأولى، وهذا فيه فائدة تدلك على أن كل إمام له ملحظ، فيقول الطبري: إنه حتى وهم أهل الكتاب مع تحريفهم وظلمهم وجورهم ومع إفكهم وافترائهم إذا اخترت -والخطاب لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو لأي قاضٍ مسلم بعده- أن تحكم بينهم فاحكم بينهم بما أنزل الله.
فيقول الشيخ أحمد شاكر -وكلامه وجيه هنا-: 'ومن المفهوم بداهةً: أن هذا الجمع يكاد يجعل الأمر بالحكم بينهم في الآيتين تكراراً، فقط لما مضى في الآية [43]-آية التخيير- لأن نصها: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة:42] '.
فإذا قلنا: إنه قال بعد ذلك: ((وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49] ولاشك أن الحكم بما أنزل الله هو الحكم بالقسط، إذاً تكون الآية وليس هناك فائدة، ولا جديد في هذا الكلام، فهي مجرد مؤكدة.
لكن يقول الشيخ أحمد شاكر: 'الوجه الصحيح في فهم هذه الآيات والجمع بينها، وفي فهم حديث ابن عباس رضي الله عنه بالنسخ: أن آية التخيير إنما هي في القوم الذين جاءوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحكمونه بينهم في شأن الزانيين وفي شأن الديات، وهم قوم من يهود، لم يكونوا ذميين ولا معاهدين، أعني: لم يكونوا في سلطان الدولة الإسلامية ولا خاضعين لأحكامها، بل قدموا إلى الحاكم الأعلى في الدولة الإسلامية، يجعلونه حكماً بينهم في بعض شأنهم، وكانوا مستطيعين أن يحكموا بأنفسهم في شأنهم، بحكم دينهم أو بأهوائهم، كعادتهم في سائر ما يعرض لديهم من الأقضية، فإذا جاؤا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحكمونه في بعض ما عرض لهم، أعلمه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن له الخيار أن يحكم بينهم فيما حكّموه فيه أو أن يعرض عنهم'.
فعندنا أهل الكتاب نوعان: نوع خاضع للدولة الإسلامية، فهو ذمي يعيش في أرض الإسلام، كمن يعيش في بلاد الشام أو مصر أو الأندلس من النصارى واليهود.
والآخر لا يخضع لأحكام الإسلام، وإنما جاء يتحاكم إلينا، وهو يعيش -مثلاً- في فرنسا أو أمريكا أو أي مكان نحوهما، فجاءوا يترافعون إلينا، وطلبوا أن نحكم بينهم، لكن قد يشكل عليه موضوع الزانيين اللذين كانا في المدينة.
لكن قد يُقال: إن هذا كان قبل أن يشمل حكم الإسلام جميعهم.
أو نقول: إن هذا الحكم هو المقرر الآن بغض النظر عما جرى في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونعمل بالآيتين جميعاً دون أن يلزم من ذلك معرفة المتقدم والمتأخر أو النسخ من غيره فنقول: إن أهل الكتاب إن ترافعوا إلينا فنحن مخيرون في الحكم بينهم، أما إذا كانوا ذميين خاضعين لحكم الدولة الإسلامية، فهذا نحكم فيه بحكم الله وجوباً.
أما أهل الكتاب الذين لا يخضعون لحكم الدولة الإسلامية فنحن مخيرون أن نحكم بينهم بما أنزل الله، أو أن نقول: لا شأن لنا فيكم ولا إثم علينا لأن شرعكم عندكم، ونطالبكم بأن تؤمنوا وأن تسلموا ثم نحكم بينكم، ويخرج على هذا اح(93/28)
تتمة تفسير ابن كثير لآيات الحكم في سورة المائدة
فقوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:48] يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: 'أي: آراءهم التي اصطلحوا عليها وتركوا بسببها ما أنزل الله على رسله'.
وهذا تأكيد من الحافظ ابن كثير في أن مناط النهي وهو الكفر هو ما اصطلح عليه اليهود، فهي ليست مجرد أهواء، وإن كان الهوى منهيٌ عنه، لكن هذا هوى صحبه أنهم اصطلحوا وتعارفوا عليه واتفقوا وأحلوه محل حكم الله.
وقد وصفهم بأنهم جهلة وأنهم أشقياء، لا لأنهم لا يعلمون التوراة، ولا يفقهون أحكامها، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد وصفهم بأنهم أحبار، والحبر هو: العالم من علماء أهل الكتاب، فهؤلاء إذاً علماء، لكنه وضعهم لأنهم جهلة من جهة أخرى ستأتي في قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة:50] أي: أن من خالف شرع الله فهو جاهل مهما كان عالماً لا سيما مثل هذه الحالة؛ لأنه خالفه عن عمد وقصد، ويكفيه جهالة أنه لم يوقر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولو كان عالماً بالله ومعظماً وموقراً له ومعظماً لحرماته ولكتابه ما خالف شرع الله وأحل محله هوىً أو شهوةً أو شرعاً آخر.(93/29)
الوجه الأول في تفسير قوله تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً)
ثم ذكر الروايتين اللتين وقفنا عندهما قبل هذا، وهي قوله تعالى: {شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:48] قال: 'عن ابن عباس: {شِرْعَةً} قال: سبيلاً أو منهاجاً، قال: سنة، وكذا روي عن مجاهد وعكرمة والحسن البصري وغيرهم وعن ابن عباس أيضاً ومجاهد عكسه، قال: {شِرْعَةً ومنهاجاً} أي: سنةً وسبيلاً'.
ورجَّح الحافظ ابن كثير الأول فقال: 'والأول أنسب، فإن الشرعة -وهي الشريعة أيضاً- هي ما يبتدأ فيه إلى الشيء، ومنه يقال: شرع فلان في كذا، أي: ابتدأ فيه، وكذا الشريعة وهي ما يُشرع فيها إلى الماء'.
أي: الشريعة في لغة العرب: هي ما يشرع فيه إلى الماء المورد الذي يشرب منه، فنقلت إلى ما أنزل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الخير يرده الناس وهو هذا الدين.
قال: 'وأما المنهاج فهو: الطريق الواضح السهل'.
يقال: هذا منهاج، أي: طريق وخط سهل رحب وواضح.
فيقول: 'والسنن -في اللغة-: الطرائق'.
فناسب إذاً أن يكون المنهاج هو السنة فـ"شرعة ومنهاجاً" سبيلاً وسنة.
يقول: 'فتفسير قوله: (شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً) بالسبيل والسنة أظهر في المناسبة من العكس والله أعلم'.
وهذه مسألة على كل حال الأمر فيها هين.
قال: 'إن هذا إخبار في هذه الآية: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:48] عن الأمم المختلفة الأديان، باعتبار مابعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام، المتفقة في التوحيد'.
والتنوين في قوله: (لِكُلٍّ) يسمى تنوين العوض عن كلمة محذوفة، أي: لكل أمة جعلنا شرعةً ومنهاجاً، فهو يقول: فهذا إخبار من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن الأمم قبلنا، وعن هذه الأمة، أن الله تعالى جعل لكل أمة من الأمم شرعةً ومنهاجاً، أي: سبيلاً وسنة في الفروع، لأن الأصل واحد.
فهو يقول: 'المختلفة في الأحكام -أي: في الفروع- المتفقة في التوحيد'.
أي: بالنسبة لتوحيد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- والإيمان بأسمائه وصفاته والإيمان بالقدر والإيمان بالأنبياء والكتب واليوم الآخر وكل أمور العقيدة متفق عليها بين الرسل الكرام، وبين الأمم جميعاً.
يقول: 'كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات ديننا واحد} كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]-هذه هي دعوة جميع الرسل- وكذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] '.
وكذلك ما قصه الله تبارك وتعالى عن الرسل جميعاً، عندما يذكر الله عز وجل ما دعا إليه الرسل، وبما أجيبوا، كما في سورة الأعراف وهود والشعراء والأنبياء والمؤمنون وغيرها، حيث نجد أن كل رسول أول ما يفتتح الدعوة يقول: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] ولهذا يجب على كل من يدعو إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يبدأ بما دعا إليه الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وإن كانت مظاهر الانحراف قد تختلف، حيث أن بعض الأمم انحرفت في التوحيد، ونتج عن ذلك عبادة الصالحين، كما حدث ذلك في قوم نوح، وبعضهم ادعى الربوبية كما ادعى فرعون الربوبية.
فالخلاصة: أن مظاهر الإشراك بالله تختلف لكنها في جوهرها قضية واحدة، فهؤلاء قوم شعيب أشركوا ولكن المظهر الواضح لطغيانهم هو نقص المكيال والميزان وبخس الناس أشياءهم وقطع السبيل، مع أن هذا تفرع عن الشرك، وكذلك قوم لوط ارتكبوا هذه الفاحشة الموبقة وهكذا.
فنجد أن كل أمة من الأمم قد يكون مظهر الانحراف فيها يختلف في بعض نواحي المعاملات أو الاقتصاد أو النواحي المالية أو الأخلاقية، وبعض الأمم يكون الإنحراف فيها في نواحي التنسك والتعبد، فكل أمة تختلف، لكن الجوهر واحد في دعوتها، وهو أنها لم توحد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ولهذا نقول: الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يجب أن تكون إلى توحيد الله أولاً، ثم تركز على الجانب الذي وقع فيه الانحراف والخلل، وإن كنا نقول هذا بكل أسف، فنحن في هذا العصر قد اجتمعت علينا كل الانحرافات، فعبادة الموتى والقبور لا يكاد يخلو منها بلد في العالم الإسلامي، فلو وجهت له الجهود وحده لا ستنفذها ولا ستهلكها جميعاً.
وجانب الشرك الجديد -أيضاً- وهو شرك القوانين الوضعية واتباعها وتقديسها وتقديمها على كتاب الله عمَّ الأرض وانتشر في الأرض.
وجانب الولاء والبراء من موالاة الكافرين واتخاذهم أولياء من دون المؤمنين، وهكذا.
فالواجب الآن كبير؛ لكن بحسب الدول والبيئات والمناطق والمدن، وذلك أن الإنسان يعتبر التوحيد عنده هو الأساس، ولكن يركز على مظاهر الانحراف الموجود في بيئته التي يعيش فيها، كما كان الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم يفعلون.
فالتوحيد هو كل شيء، لكن مع التوحيد تعالج الظاهرة الموجودة، أي إلى جانب قوله: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] يذكرهم بما يفعلون، ولذلك فتنة عاد: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} [الشعراء:128] {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء:129] {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:130] حيث أن عاداً استكبروا في الأرض، وقالوا: من أشد منا قوة، فهنا أنت تخاطب وتعالج جانباً معيناً موجوداً في هذه الأمة، لكن أمة أخرى كقوم لوط كان ذنبهم ومصيبتهم هي فعل الفاحشة، فخاطبهم باستقباحها: (أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} [الأعراف:80 - 81] ولهذا قال: {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:80] فخصهم بهذا، وأن هذه جريمة ما سُبقتم إليها، وهو بلا شك دعاهم إلى التوحيد، فكل الرسل هدفهم الأساس هو التوحيد؛ لكن مع الدعوة إلى التوحيد يجب أن نعالج أنواع الانحراف، فالتركيز يكون على جانب الانحراف عند الناس، فإذا كان الأمر أنها انحرفت في جميع الجوانب فلتعالج كلها، والله المستعان.
قال: 'وأما الشرائع -أي: الأوامر والنواهي- فمختلفة في الأوامر والنواهي، فقد يكون الشيء في الشريعة حراماً ثم يحل في الشريعة الأخرى وبالعكس'.
مثل قوله تعالى: {وعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُر} [الأنعام:146] إلخ، فكان حراماً في شريعة اليهود ثم نسخ.
قال: ' وبالعكس وخفيفاً فيزاد في الشدة في هذه دون هذه، وذلك لما له تعالى في ذلك من الحكمة البالغة، والحجة الدامغة: قال قتادة: قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:48] يقول: سبيلاً وسنة، والسنن مختلفة، هي في التوراة شريعة، وفي الإنجيل شريعة، وفي الفرقان شريعة، يحل الله فيها ما يشاء، ويحرم ما يشاء، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه '.
فاليهود لما بعث الله فيهم عيسى عليه السلام، قال: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50] فبعضهم قالوا: آمنا بالله وصدقنا رسول الله واتبعناه، فما أحل استحللناه، وقال بعضهم: لا، هذا خلاف ما في التوراة فكفروا به، فالنسخ من الامتحان والابتلاء، فلما بعث الله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجاء بهذه الشريعة حدث من اليهود والنصارى مثل هذا الكفر، وأنكروا على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أموراً في الشرائع كما أنكروا عليه أموراً في الأصول كالتوحيد والإيمان بالله واليوم باليوم الآخر.
ومن الأحكام التي أمرنا أن نخالف فيها أهل الكتاب، وهي في الفروع وليس في الأصول هو: مخالفة المجوس في اللحية، فالأصل في اليهود والنصارى أنهم لا يحلقون اللحى، كما في صور كل المفكرين والكتاب والزعماء والقادة الغربيين إلى القرن التاسع عشر، وإنما شاع هذا وانتشر في الجيوش، فقالوا: العسكري لا بد أن يحلق لحيته، فجاءت إلى المسلمين، وكان المسلمون لا يعرفون هذا إلا من تشبه بالمجوس أو بأشباههم.
وكذلك مثل القبلة، فهي من أعظم ما خالفنا فيه اليهود، ونسخ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شريعة أهل الكتاب وجاء بها، والآيات التي تحدثت عن تحويل القبلة موجودة في سورة البقرة، وكذلك الصبغ، والصلاة بالنعال، والسحور بالنسبة للصيام، وصيام يوم عاشوراء مع تاسوعاء، ومعاشرة الحائض، وكذلك يوم الجمعة -هدانا الله لها وضلوا فيها، وإن كانت هذه قد تكون عقوبة لهم- والأذان، وأحلت لنا الغنائم.
إذاً: أمور كثيرة خالفناهم فيها، فهي إما أن تكون منسوخة، أو أنها كانت في شرائعهم فتدخل في النسخ؛ لأنها تغيير عما كانوا عليه من الحظر إلى الإباحة، أو أنها تغيير في النوعية، أو أن يكون مما شرع الله لنا من التوسعة تكرماً وتفضلاً منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى علينا، كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً} وكان من قبلنا لا يصلون إلا في البيع والكنائس، فتفضل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على هذه الأمة، فجعل لنا الأرض مسجداً وطهوراً: {فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل} كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال قتادة رحمه الله: [[ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، والدين الذي لا يقبل الله غيره هو: التوحيد -لاتفاقهم عليه(93/30)
الوجه الثاني في تفسير قوله تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً)
ثم ذكر الحافظ ابن كثير وجهاً آخر في الآية، وهو أن قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:48] أي: أن المقصود هذه الأمة، وأن الله جعل لكل واحد من هذه الأمة سبيلاً إلى المقصد الصحيح، وهذا الكلام مرجوح، وكما قال الحافظ رحمه الله: لأن الله تعالى قال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المائدة:48] فلو كان المقصود هذه الأمة لما أتى بهذه الآية، وإن كان هذا المعنى صحيح، فإن الله تعالى جعل لكل إنسان سبيلاً في المقاصد الصحيحة، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] , وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153] والسبيل في الحقيقة واحد، لكن الذين جاهدوا في الله وعدهم بأن يهديهم سبله.
والمقصود: بالسبل الطرائق الموصلة إلى الخير، وطريق الخير في أصله واحد إلا أن له فروع تؤدي إليه بحسب ما أعطى الله.
فهذا سهل له المال يأخذه عن حله وينفقه في حقه، ينفق منه آناء الليل وآناء النهار، وهذا آتاه الله الحكمة فهو ينطق بها ويعلمها للناس.
وهذا آتاه الله الجهاد فهو آخذ بعنان فرسه في سبيل الله إن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في الحراسة كان في الحراسة.
وهذا أعطاه الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو يصدع بكلمة الحق وينكر على الناس، ومهما أوذي صبر واحتسب.
وهذا أعطاه الله العلم فهو يحفظ ويدون ويتتبع المسائل.
وهذا آتاه الله الصدقة بالماء ليس له شيء إلا بئر فهو يعطي الناس يشربون من الماء مجاناً بلا مقابل، وبعضهم يشتغل بالذكر وليس له مال كما قال فقراء الصحابة رضي الله عنهم: {ذهب أهل الدثور بالأجور} فدلهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على العوض، وهو ذكر الله من التسبيح والتحميد والتهليل.
فطرق الخير كثيرة وطاقات الناس واتجاهاتهم تختلف، ولا يعني ذلك أنه يهمل الجوانب الأخرى لكن يستفيد مما هو فيه، ولذلك لايستغني أحد عن أحد، فلو جاء عالم من العلماء الذين تحتاج الأمة إلى علمهم، وقال: إنه سيذهب إلى الجهاد نقول له: لا تذهب، فمن أين لنا بالعالم إذا قتلت؟ بينما نجد مثلك في القوة من يذهب فيجاهد وتكون نكايته في العدو أشد منك وأنت نحتاجك في العلم، وهكذا ومن الناس من يصلح في القضاء ولا يصلح في الإفتاء، ومن الناس من يصلح في الإفتاء ولا يصلح في القضاء، ومن الناس من يصلح في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولايصلح في غيره.
فالمقصود مع أن كل المسلمين يقيمون دين الله، ويجتهدون في ذلك، لكن الله تعالى جعل طرائق مختلفة توصل إلى الخير، وكان هذا حال الصحابة الكرام رضي الله عنهم، فكانوا جيشاً واحداً خلف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل معركة، لكن هذا معروف بعبادته، وهذا بصدقته، وهذا بحرصه، حتى أن بعضهم قد يحرص على شيء مما تزدريه أعين الناس، كالرجل الذي دخل على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولحيته تقطر، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يقدم عليكم رجل من أهل الجنة} لأن ميزته عظيمة جداً، يغفل عنها كثير من الناس، وقد لاتعد في كتب المناقب والفضائل لأنها خفية، لكن هذا الرجل لا ينام ليلة وفي قلبه على مسلم شيء.
فسبحان الله! من يقدر على هذا، إن الإنسان كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ليبلغ درجة الصائم القائم بحسن الخلق} فإذا تعامل مع الناس يعفو ويصفح، وإن بلغه كلام فكأنه لم يسمعه، وإن أساءوا إليه استغفر الله لهم.
قال: 'ولكن هذا خطاب لجميع الأمم، وإخبار عن قدرته تعالى العظيمة، التي لو شاء -كما في الآية- لجمع الناس كلهم على دين واحد، وشريعة واحدة، لا ينسخ شيء منها، ولكنه تعالى شرع لكل رسول شرعة على حدة، ثم نسخها أو بعضها برسالة الآخر الذي بعده، حتى نسخ الجميع بما بعث به عبده ورسوله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذي ابتعثه إلى أهل الأرض قاطبة، وجعله خاتم الأنبياء كلهم، ولهذا قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم} [المائدة:48] '.
أي: ليختبر ويمتحن كل أمة بما أوحى إليها إلى آخر ما ذكر.(93/31)
وجوب الحكم بما أنزل الله
قال: ' {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49] '.
هذا الذي قلنا: إن فيها تأكيد لما تقدم من الأمر بالحكم بما أنزل الله، والنهي عن الحكم بما يخالف شرع الله ودينه: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة:49] أي: احذر هؤلاء اليهود؛ فإنهم كما قال الحافظ رحمه الله تعالى: 'كذبة كفرة خونة' فهؤلاء اليهود فيهم هذه الثلاث الصفات 'كذبة كفرة خونة'.
بينهم ومع الآخرين في جميع الأزمان وفي كل مكان، هذا هو الحق في وصفهم.
قال: ' {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي: عما تحكم به بينهم من الحق.
وخالفوا شرع الله، وهنا -أيضاً- لفتة تربوية عظيمة جداً: {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة:49] '.
أي: فإن تولوا وأعرضوا وتركوا حكم الله وما تدعوهم إليه: {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة:49] فنأخذ من هذه الآية من الفقه التربوي وفقه التزكية، فبعض الناس يقول: أين العقوبة على المعاصي؟ فأمة من الأمم تعصي الله عز وجل فيزداد رزقها أو فرد يعصي الله فيزداد ماله ويفتح الله عليه فيه.
أقول: مع أن هذا داخل تحت الإمهال والاستدراج ومع أنه سيؤخذ يوماً ما أخذ عزيز مقتدر، لكن هناك حكمة أخرى عظيمة، وسر عظيم، يغفل عنه أكثر هؤلاء، وهو: أن الإنسان قد يعاقب على المعصية بمعصية شر منها، وعلى الشرك بشرك مثله أو أكبر منه -والعياذ بالله- ولذلك يجب على الإنسان أن يتقي الله، وأن يذعن، وأن ينقاد لأمر الله، قال الله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:110] فإذا جاءك الحق فأقبل عليه؛ لأنه يخشى على الإنسان إذا أعرض عنه أن يقلب، فمهما أتاه الحق يكون قد غلف فؤاده وطبع عليه -نعوذ بالله من ذلك- فلا ينفعه ولا يدخل إلى فؤاده تذكير ولا موعظة -نسأل الله العفو والعافية- فمن إصابتهم ببعض ذنوبهم أنهم يعاقبون بأن يعرضوا عن الإيمان -نعوذ بالله- فلا يقل أحد: فلان أكل الربا، ولم تنزل عليه صاعقة من السماء، ولا خسف به وبداره الأرض.
إذاً: فالوعيد في القرآن للماضين، وكأن الكلام لا يعنينا والخطاب لا يهمنا، ولا أُنزل إلينا، ولذلك يأكلون الربا، ويقولون: ليس علينا حرج، وينسون أن آكل الربا قد يعاقب بأن يستحل الربا؛ فإذا استحله كفر على جميع المذاهب، إذ لا خلاف أن من استحل الربا كفر، حتى وإن جاء من يفتي من القائلين على الله بغير علم، ويقول: الفوائد فيها وفيها، فوالله إنهم ليعلمون أن الربا حرام، ولو جاءتهم ألف فتوى، وكتب الفقه كلها مجمعة على أن من استحل محرماً كالربا أو الزنا أو شرب الخمر فقد كفر، وفي أي كتاب من كتب الفقه الإسلامية -في باب المرتد- تجد فيه أنهم يقولون: من استحل شيئاً مما حرم الله معلوم من الدين بالضرورة مثل كذا وكذا فقد كفر.
إذاً: عقوبتك للربا صارت استحلالاً نعوذ بالله.
وقد يكون زانياً يذكر بالله، لكنه يستمر في الزنا -نعوذ بالله- عند ذلك يستمرئ هذه المعصية، فيعاقب بمثل ذلك، إما بأن يستحل الزنا، وإما بأن يكفر بالدين كله، ثم يقول: القضية قضية حرية، وحب وعلاقات عاطفية، ويحتج بالغرب، فكان أول الأمر يأتي الفاحشة ولو ذكرته بالله يخشى، ولا يصرح بها، وفي النهاية يكتب في الجريدة عنها، ويتبجح بها نعوذ بالله من ذلك.
وهذا مما ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه يأتي أحدهم الفاحشة أو يأتي الذنب فيستره الله عليه، فيقوم وينشرها على الملأ، فيكتب عن الحب، والعلاقات الغرامية، والصداقة ويذكر لك قصته، كيف قابل امرأة وصار صديقها -نعوذ بالله- لأن القلوب قد غلفت وطمست فعوقبوا، وهكذا في كل ذنب من الذنوب لا يأمن الإنسان أن يعاقب بأشد منه.
وبعض الناس -نعوذ بالله- ذنبه الغيبة والنميمة فهو بدأ يغتاب رجلاً ثم الثاني، ويقال له: اتق الله ولاتغتاب، اتق الله في أعراض المسلمين، ولكنه لا يبالي، فهو في أول أمره كان يغتاب الفساق، أو يذكر بعض الناس الذين فيهم أخطاء فيعاقب بعد ذلك بأن يغتاب الأبرياء والأولياء وهو لايدري، لأنه توغل في الغيبة، ولم يدر إلى أي حال قد وصل إليه! وإذا به يصل إلى أن يغتاب أولياء الله الصالحين، فتكون النتيجة كما قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في الحديث القدسي: {من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب} فيصبح يحارب الله وهو يظنه مجرد كلام وحديث عابر، فليحذر كل عاقل من هذه الذنوب والمعاصي ومن أضرارها وآثارها نسأل الله العفو والعافية.(93/32)
النهي عن اتباع الأهواء
ثم قال: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة:49] فاختتم الآية بهذا.
يقول ابن كثير رحمه الله: 'أي: أكثر الناس خارجون عن طاعة ربهم، مخالفون للحق ناكبون عنه، كما قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] ' الآية.
فليست العبرة بالأكثرية، وهنا حكمة عظيمة لا سيما في زمننا هذا فأكثر الناس فاسقون، وأكثر الناس يريدون حكم الجاهلية، ولذلك هل نعرض دين الله وشريعة الله للتصويت، ونأخذ رأي الشعب؟ وهل نحكمهم بالقرآن أم بالقانون الفرنسي؟! ولذلك يقول الله تعالى: {إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة:49] أي: أن أكثرهم يريدون الشهوات، ويريدون انتهاك الحرمات، كمثل الذين وصفهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السفينة، لا يريدون أن يصعد أحدهم إلى من فوقهم ويستقي الماء، بل يريدون أن يخرقوا ويشربوا مما يليهم، وهذا حال الكثير من الناس.
فليست القضية قضية ديمقراطية، إنما هي قضية اتباع ما أمر الله به مهما قل العدد، ويجب أن ندعو الناس إلى ما أنزل الله وألاَّ نتبع أهواءهم وألاَّ نرد الأمر إلى آرائهم؛ لأن آراء الناس عجيبة جداً، فترى الناس سواسيه في الطريق وفي العمل وفي الشارع، وتقول: الحمد لله لأن الناس متفقون، لكنك لو قمت باختبارهم لرأيت العجب العجاب، فرجل له رأي في الربا، وآخر له رأي في تعدد الزوجات، وآخر له رأي في نظام معين، ولا يوجد أحد منهم يحتقر رأيه، بل كل إنسان منهم مستعد أن يقول: هؤلاء العلماء الكبار ليس عندهم علم، ثم يبرر موقفه، ويقول: انظر كيف أفتوا في هذه، وكذلك أجهل الناس في السياسة والاقتصاد.
وهذه مشكلة أصحاب الهوى، فإذا وكلنا دين الله إلى هذه الأهواء ماذا نلقى؟ فرجل لم يعجبه الدين كله، وآخر يقول: الدين حسن لكن عندي عشر مسائل أو خمس لم تعجبني، وهكذا يريدون أن يكون الدين على شهواتهم، ثم المسألة المتفق عليها بعضهم عنده فيها نظر، فيقول: الخمر لا بأس أن تقول إنه حرام، لكن نبيحه في الفنادق والقنصليات والسفارات، ويقول: أنا أعلم أنه حرام، ولكن نحن في القرن العشرين فلا بد أن نعطي هؤلاء الناس مزية، وهكذا الزنا فهو يقول: الزنا حرام، ولكن هؤلاء لو أتو بمصائبهم معهم نتركهم، وهكذا.
فالذي يتفق معك في المبدأ يختلف معك في التفاصيل، فكيف بالذي لا يوافقك حتى في أصل المبدأ، ماذا تكون النتيجة؟ إنها أهواء كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يمكن أن يجتمع الناس على رأي، وإنما الذي يجب أن يخضع له كل الناس هو ما أنزله الله وما أمر به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:48] فمهما كانت هذه الأهواء فلا نتبعها وإن كثرت؛ لأنك إذا سلمت بالمبدأ وهو أن أهواء الناس ورغباتهم هي المعيار لن يبقى لك من الدين شيء، بل أنت يامن تريد أن تمالئ الناس ستأتي فترة من الزمن يقولون فيك: إنك لا تصلح، وكنت تظن أنهم يحبونك.
فيجب أن يُعلم أن القضية ليست قضية أهواء، إنما هي قضية اتباع ما أنزل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لأنه لو رُد الأمر إلى أهواء الناس لما صلحوا ولما اتفقوا، فهم يريدون أن يجعلوا العالم متوافقاً مع رغباتهم، والرغبات تختلف، وبهذا لن يكون عندنا عالم، وهكذا الحاكم والمدرس وأشكال الأسواق إلخ.(93/33)
الفرق بين الشورى والديمقراطية
فلا يمكن أن تستقيم الأمور على أهواء الناس أبداً، ولذلك لو نظرت إلى حقيقة ما يسمى بـ الديمقراطية، هل هي فعلاً حكم الشعب للشعب؟! أي: أن الشعب يحكم نفسه فعلاً، وهل حكم الشعب نفسه بنفسه في التاريخ كله؟! ولذلك تجد أن أهل القرى في المجتمعات اليونانية الصغيرة، وفي حكومات الكوميوند، أو جزء من ذلك في إيطاليا كانوا يجتمعون ثلاثين أو أربعين يتشاورون ويحكمون أنفسهم، هذا في كتب علم السياسة، وما يسمونه بالفقه السياسي إلخ يقولون فيها: لم يوجد حكم ديمقراطي حقيقي مباشر إلا في القرى الإغريقية القديمة، أما ماعدا ذلك فلا.
قلت: فالفردية التي عدد أفرادها ثلاثين شخصاً، أي: الكبار منهم من يحق له الانتخاب، هل فعلاً حكموا أنفسهم بأنفسهم، أم أنه لابد من شيخ في القرية، إذا تحرك التف حوله عشرون نفراً، وخفضوا رءوسهم وسكتوا.
حتى القرية الصغيرة الحاكم فيها ثلاثة أو أربعة وجهاء من الناس، ولا يستطيع أحد من الناس أن يرفض، وذلك لأنهم يخافون من البطش، إذاً فهي إما قوة جسدية أو قوة مالية أو قوة منصب، حتى الحكم المباشر الذي يضربون له مثال بالثلاثين والخمسين لا يوجد أبداً، ففي النهاية الذي يحكم هو صاحب الهوى، حيث يشغل قوته في هواه كما يشاء، فكيف إذا ما صارت الأمة بالملايين، وقالوا: لابد من ممثلين ينتخبهم الشعب، ويرضاهم ودخلت المتاهات.
كما ترون في أمريكا أن الناس حزبين فقط: ديمقراطي وجمهوري، لاخيار غيرهما، حتى وصل بهم الأمر في بعض الولايات إلى أنه لابد أن تتوارث الحزبية، أي: أن الأب ديمقراطي والابن ديمقراطي والحفيد ديمقراطي إلى يوم القيامة، ولهذا تجدون أناساً كثيرون لايصوتون ثم يذهبون إلى دول أخرى، ويقولون: إن القضية ليست قضية حزبين وهكذا الضلال.
ففي إيطاليا قبل فترة من الزمن لما تغيرت الحكومة الأخيرة، ذكروا أنه ما يقارب من خمسين حكومة تشكلت منذ الحرب العالمية الثانية -أي: تقريباً خمسين سنة- فأحياناً كل ستة أشهر في إيطاليا وفي غيرها تتشكل حكومة جديدة ووزراء جدد، فالوزير الذي يعلم أنه لن يحكم إلا ستة أشهر، ماذا تريد أن يعمل بالأموال؟ لكن لو كان أمامه عشرون سنة فسيجمع قليلاً قليلاً، فالناس هناك في لعب وضلال وتخبط، أهذه هي القدوة التي يريدون أن نترك كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أجلها؟! والشورى التي أنزلها الله وأمر بها، وعمل بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قال شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله: 'لا أعرف أحداً أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ'.
وقد وردت في حديث لكن في سنده انقطاع؛ لكنه من حيث الحقيقة فهذا ثابت كما قرره شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله، فلم يكن أحد من الولاة أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم الخلفاء الراشدين من بعده: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38]، فهم يتشاورون في الأمر العظيم، فإذا جاءهم عن الله أو عن رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نص، قالوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة:285].
ومن القصص العجيبة في هذا: قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عندما ذهب إلى بلاد الشام فجاءه الأجناد والأمراء، والحديث في صحيح مسلم مفصلاً، وله أصل في البخاري وغيره، وفيها أنه جلس فقال له الأمراء: إن الوباء -وهو الطاعون- قد نزل في بلاد الشام فما الرأي؟ وعمر رضي الله عنه ليس كأي أحد، إنما هو محدث ملهم ألقى الله الحق على قلبه ولسانه، ومع ذلك لم يستبد برأيه، بل قال: عليّ بالمهاجرين، فاجتمعوا واختلفوا، فقال: عليّ بمشيخة الأنصار، فاختلفوا كلٌّ له رأي، من يقول: نقدم، ومن يقول: نرحل، فتردد في الأمر، وفي الأخير عزم على أن يرحل، وقال: الغداة الرحيل، فجاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وكان غائباً لبعض أموره، ولم يكن حاضراً للشورى، فقال: عندي في هذا علم، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {إذا نزل الوباء وأنتم بأرض فلا تخرجوا منها، وإذا لم تكونوا فيها فلا تدخلوها -أو فلا تقدموا إليها} فقال عمر: الحمد لله، ولو كان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه موجوداً فأخبر بهذا الحديث أول ماجاءه الخبر، لما احتاج أن يشاور أحداً أبداً.
وفي هذا الحديث فائدتان عظيمتان: الأولى: أهمية الشورى، وألاَّ يستبد الحاكم برأيه.
والأخرى: أنه إذا جاء نص صريح فلا تشاور، أما مسائل الاجتهاد وموارد الاختلاف فالأمر فيها آخر، فالقضية ليست قضية ديمقراطية: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة:49].(93/34)
تفسير قوله تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ)
وقوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] فأكثر الناس هذا حالهم.
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: 'قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] ينكر تعالى على من خرج -أي: الاستفهام هنا للإنكار- عن حكم الله المحكم، المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ماسواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله'.
وهذا كلام نفيس يكتب بماء الذهب، فلا يعدل الإنسان أو يخرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، في كل زمان وعصر، ولا يعدل إلى ماسواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، أي: سواء كانت فلسفات أو قوانين أو أعرافاً أياً كانت ' التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله '.
أي: إن القضية ليست قضية اجتهاد من العلماء في النصوص.
قال: 'كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات '.
فـ ابن كثير رحمه الله تعالى حكيم في كلامه، حيث قدم بمثال متفق عليه، ثم انتقل إلى المثال الواقع في عصره، فأول ما مثّل قال: 'كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم'.
فالعرب في الجاهلية في عكاظ -السوق الجاهلي القديم- ومجنة وذي المجاز عندهم حكماء غالباً إما كهان وبعضهم قد يكون مما آتاه الله بلاغة وبياناً ويسمونه: الحاكم، يأتي الناس ويتحاكمون إليه، ويحكم كما يشاء فيما يشاء بلا دليل ولابرهان من الله ولا أحد من رسله، فيفرق بين المتماثلين ويماثل بين المتفرقين، والكاهن يدَّعي أن العلم جاءه من رائيه، فينطق ويقول: أخبرني هذا، أي: شيطانه، والشيطانين يوحون إلى أوليائهم، فيحكم بينهم، وكانوا يتحاكمون إلى الأزلام، ويستقسمون بها، ويقولون: اضرب القدح، فإذا كان كذا عليك كذا، وإذا انقلب كذا عليك كذا، بلا بينة ولاسماع.
وهذا مثال آخر: امرؤ القيس لما قتل أبوه كان عربيداً سكيراً، أي: متحرراً متطوراً، وكان يظن أنه يعيش حياة عصرية -كما يقولون- فلما قتل أبوه رجع، وقال: اليوم خمر وغداً أمر، ماذا أفعل بقتلة أبي؟ فقالوا: تذهب إلى ذي الخلصة الذي في بلاد دوس تستشيره في أن تقتل قتلة أبيك أم لا؟ وذهب امرؤ القيس إلى ذي الخلصة كما ذكر الكلبي في كتابه الأصنام -وذكره غيره- واستقسم بالأزلام عند ذي الخلصة وفي كل مرة يكون نصيبه لا تفعل، والعرب دائماً عندهم الثأر، فقال:
لو كنت يا ذا الخلصة الموتورا يوماً وكان شيخك المقبورا لم تنه عن قتل العداة زورا
ورمى الأزلام، ورحل إلى قيصر يستنجد به، يريد أن يستعين به على كندة.
فالشاهد قوله: لو كنت يا ذا الخلصة الموتورا!! أي: الذي قُتل أبيه.
يوماً وكان شيخك المقبورا!! أي: كان أبوك الذي مات.
لم تنه عن قتل العداة زورا.
فهو يقول: تنهاني عن قتلهم؛ لأنه ليس أبوك هو المقتول، وذي الخلصة صخرة، لا درت ولا أفتت ولا أحلت ولا حرمت، ولكنها الضلالات والجهالات، كما قال سبحانه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُون} [المائدة:50] فالناس هم من يبغون، وهذا المثال الواضح لا يخالف فيه أحد.(93/35)
التتار يحكمون بغير ما أنزل الله
وابن كثير رحمه الله تعالى ذكر شيئاً آخر، فقال: 'وكما يحكم به التتار -ولم تكن جاءتهم المصائب التي جاءتنا ولم يأتِ نابليون ولا القوانين الوضعية- من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان، الذي وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها'.
وفيه جزء من الشريعة الإسلامية فهي تعتبر مصدراً رئيسياً، ونستطيع أن نقول: لأنه من اليهودية والنصرانية، والنصرانية أحكامها قليلة أصلاً.
ومن أمثلة هذا المادة الأولى من القانون المدني المصري، الفقرة الثانية، تقول في معنى الكلام: يكون الحكم بما ورد في هذا القانون، فإن لم يوجد أي نص من القانون المدني على الحكم فيعمل بمقتضى العرف، فإن لم يوجد فيعمل بمقتضى الشريعة الإسلامية فإن لم يوجد فبأحكام القانون الطبيعي ومبادئ العدالة.
وجاء الشارح -أيضاً- فزاد الطين بلة، فقال: إن قانوننا المدني أعطى الشريعة منزلة سامية عظيمة؛ لأنه جعلها في المرتبة الثالثة.
ويقولون: هذه فيها محاباة لأنه قدمها على مبادئ العدالة -نعوذ بالله- أما الياسق فهو مأخوذ من الإسلام واليهودية والنصرانية مباشرة، وسأذكر بعض الأحكام من الياسق، وهي مأخوذة فعلاً من الإسلام مباشرة، فالشريعة الإسلامية مصدر رئيسي في الياسق.
قال: 'وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ'.
فقدموا الياسق على الكتاب والسنة مع أن الشريعة هي مصدر من المصادر.
قال: 'من فعل ذلك فهو كافر، يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله -أي: هذا حكم الله فيه- فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير، قال الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة:50] أي: يبتغون ويريدون وعن حكم الله يعدلون: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] '.
وابن كثير رحمه الله تعالى يتكلم عن واقع الأمة كما ذكر هو في تاريخه رحمه الله.
فاضطربت الأمة في شأن التتار، واختلف العلماء هل نقاتل أم لا؟ ثم قالوا: إن قاتلناهم نقاتلهم على أنهم بغاة أم على أنهم خوارج، وكيف نقاتلهم وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وفيهم من يصلي، وفي جيوشهم جموع من الناس تصلي، ويقولون: نحن مسلمون؟ فقالوا: كيف نقاتلهم؟ كما التبس الأمر -تقريباً- على الصحابة رضي الله عنهم سوى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، قالوا: كيف نقاتلهم وهو يشهدون أن لا إله إلا الله؟ وقال بعضهم: أنؤجلهم سنةً -نعفو عنهم هذا العام من الزكاة- حتى نتألف قلوبهم؟ فاشتبه الأمر عليهم ثم أفتى شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله تعالى بأن هؤلاء خارجون عن الشريعة، ويجب قتالهم، وليس قتالهم من جنس قتال الخوارج ولا البغاة، وإنما من جنس الخارجين عن الشريعة والمرتدين، كـ مسيلمة وأمثاله، كمن جحد الزكاة، فهؤلاء جحدوا حكم الله، فهم كمن جحد الزكاة، فحالهم كحال المرتدين، ثم اجتمعت الأمة على هذه الفتوى وجاهدوا، وكان من يقودهم في المقدمة هو شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله.
فهذا الحافظ ابن كثير وهو من خيرة وصفوة هؤلاء التلاميذ النجباء الذين أخرجتهم تلك المدرسة السلفية العظيمة لشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، حيث كانوا كلهم هو وابن القيم والحافظ المزي رحمه الله والذهبي وغيرهم من خير رجال الأمة الذين كانوا في ذلك العصر، فجددوا الدين، وكان لهم هذا الموقف الموحد من التتار، ومن الرافضة ومن الباطنية ومن كل أعداء الدين، وأعداء العقيدة، وإن تمسحوا بها وادعوها.
فهذا الحافظ ابن كثير رحمه الله هنا يؤكد على فتوى شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية بشأن التتار، وأنهم كفار، وأنه يجب قتالهم حتى يرجعوا إلى حكم الله ورسوله: 'من فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير'.
فلا يقول: أنا عندي القانون الجزائي في العقوبات، والعقوبات كلها من الشريعة الإسلامية، ولكن القانون المدني من القانون الوضعي، ولا يجوز الحكم به لا في قليل ولا كثير، ويكون الدين كله لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، قال سبحانه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض} [البقرة:85].
قال: ' {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] أي: ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه، وآمن به وأيقن، وعلم أنه تعالى أحكم الحاكمين، وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها'.
فيقصد ابن كثير رحمه الله هنا ذكر بعض الميزات التي أوجبت علينا أن نتحاكم إلى شرع الله وهي: أولاً: العدل.
ثانياً: الحكمة، قال: 'وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها '.
لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حين شرع لنا هذا الدين وأحل ما أحل وحرم ماحرم، أرحم وأرأف بنا من الوالدة بولدها، كما أخبر بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح المعروف: {لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مائة رحمة أنزل في هذه الدنيا رحمة واحدة فيها يتراحم الناس وادخر تسعاً وتسعين رحمة عنده} فالذي يشرع وهو بهذه الرحمة لن يشّرع لهم إلا ما فيه خيرهم ومصلحتهم.
قال: 'فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء'.
أي: أن من كانت فيه هذه الصفات فهو الذي يشرع، وهذا يذكرنا بكلام الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى، ورسالة لطيفة صغيرة ولكنها قيمة، كتبها الشيخ عبد العزيز بن ناصر الجليل، وهو من الدعاة الذين نسأل الله أن يبارك في علمهم وفي جهدهم في الرياض، عنوانها: إن ربك حكيم عليم، وله غيرها، مثل: قل إنما أعظكم بواحدة، وذكر كيف أن مقتضى أسماء الله وصفاته تحتم انفراد الله بالحاكمية، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، والعادل في كل شيء، ولا يوجد أحد يتصف بهذه الثلاث الصفات غير الله عز وجل حتى يجوز له أن يشرع.
وعلّق الشيخ أحمد شاكر رحمه الله على كلمة الياسق، فقال: ' الياسق، هكذا رسمت هذه الكلمة في المخطوطتين -اللتين أطلع عليهما رحمه الله- والمطبوعة، وهي كلمة أعجمية، ولذلك اختلفت المراجع في رسمها وأصلها '.
وأنبه على أن الموجود في مجموع الفتاوى لشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية أن المعلق قال: كلمة لم أتبين لفظها، أي: لم يعرفها، والكلمة هذه تكتب أحياناً الياسق، وتكتب أحياناً السياسة، وأحياناً: الياسة، وأحيانا: السياسا، وأحياناً: اليسغ.
أي: أن الكلمة الأعجمية يتصرف فيها العرب، فحيث ما وجدت هذه الألفاظ فالمقصود واحد، وهو كتاب جنكيز خان.
ويقول الشيخ أحمد شاكر نقلاً عن الحافظ ابن كثير في التاريخ (13/ 117): 'وضع لهم السياسة التي يتحاكمون إليها ويحكمون بها وأكثرها مخالف لشرائع الله وكتبه، وهو شيء اقترحه من عند نفسه، واتبعوه في ذلك، ثم سماها بعد ذلك الياسا '.
والحافظ ابن كثير فيما نقله عن الوزير علاء الدين الجويني، سماها الياسا، قال: 'وأما كتابه الياسا، فإنه يكتب في مجلدين بخطٍ غليظ، ويحمل على بعير عندهم'.
أي: هذا دستور يعظمونه.
وقال الزبيدي في شرح القاموس "7/ 98": 'يساق -هذه كتابة أخرى على وزن كلمة- كسحاب، وربما قيل: يسق بحذف الألف، والأصل فيه: يساغ بالغين المعجمة، وربما خفف فحذف -قد تكون يسا- وربما قلب قافاً'.
ويقصد بذلك إما أن يُقال: يساغ أو يحذف الغين ويقول ياس أو يسه: 'وهي كلمة تركية '.
ويقول بعضهم: إنها مغولية، وبعضهم يقول: إنها تتارية، وبعضهم يقول: أنها تركية والكلام واحد، لأنهم يقال لهم جميعاً تركاً أو أتراكاً: 'يعبر بها عن وضع قانون المعاملة، كذلك ذكرها غير واحد، وقد حررها المقريزي في الخطط "3/ 357 - 358" قال تحت عنوان: ذكر أحكام السياسة'.
وهو قانون المعاملة أو الدستور أو القانون أو الشريعة التي وضعها جنكيز خان وأخذها من اليهودية والنصرانية والشريعة الإسلامية، وركبها وجعلها شرعاً متبعاً يتحاكم إليه قومه، وقد سبق الكلام عن تاريخ وضع القوانين، وذكرنا أن هذا يعد من أقدم القوانين بالنسبة لكونه قانوناً مكتوباً، أما القوانين العرفية غير المكتوبة فهي قديمة؛ لكن هذا من أشهر ما يسمى بقوانين القرون الوسطى.(93/36)
التتار والحكم بغير ما أنزل الله
لو عدنا إلى كلام الزبيدي نجد أنه دقيق في عباراته فيقول: 'يعبر بها عن وضع قانون المعاملة، كذلك ذكره غير واحد'.
فالقانون الذي وضعه جنكيز خان المقصود به قانون المعاملة، والمعاملات العسكرية جزءاً منها -الجند والقادة- وهذا من أعظم ما اهتم به جنكيز خان، وهو أن يرتب حقوق الجنود فيما بينهم، فهو قانون للمعاملة.
أما ما يتعلق بالدين أو التدين، أو الأحوال الشخصية كما يسمونه فقد ترك، وكان في دولة التتر النصارى والمسلمون والمشركون بجميع أنواعهم، وإنما الذي نظمه وشرعه جنكيز خان هو قانون المعاملة، وهو صورة لما تريده القوانين المعاصرة اليوم.
فالمقصود عندهم هو تنظيم قوانين المعاملات بالدرجة الأولى -التي يسمونها المدينة عموماً- وقضايا العمل والعمال والشركات والبنوك والأمور الاقتصادية، ثم الجانب الجنائي والجزائي -كما يسمونه- وبعض الدول لا تمانع من الاستفادة في بعض هذا الجانب من أحكام الشريعة الإسلامية، لكن بقية الأحكام التي هي قوانين في المعاملة -كما ذكر الزبيدي في شرح القاموس -فلابد أن تخضع للقانون الذي وضعوه.(93/37)
نشأة القوانين الوضعية
والمقصود أن القوانين في الياسق -كما سنستعرض بعضها إن شاء الله من كلام الحافظ ابن كثير - كانت في هذا الجانب، مع أنه أيضاً فيها أحكام جزائية أو جنائية.
يقول الشيخ: أحمد شاكر: 'وقد حررها المقريزي في الخطط "3/ 357 - 358" قال: تحت عنوان: ذكر أحكام السياسة -والمقريزي هو من أوفى من شرح وفصل موضوع الياسق وقد ذكر الشيخ أحمد شاكر هنا الكلام المهم منه- ويقال: ساس الأمر سياسة، بمعنى قام به فهذا أصل وضع السياسة في اللغة، وقد ذكر كما ذكر صاحب خزانة الأدب قال:
فكيف نسوس الناس والناس دوننا إذا نحن فيهم سوقة نتنصب
فـ المقريزي يريد أن يرجع إلى الأصل اللغوي، لأنه حصل لبس كبير عند كثير من المؤرخين في أصل الكلمة، وهذا البيت ينسب إلى هند بنت النعمان بن المنذر، والمعنى: بينما كنا نسوس الناس أي: نقودهم ونرعاهم ونوجههم، -فهذا أصل وضع السياسة في اللغة، ثم رسمت بأنها القانون لموضوع رعاية الآداب والمصالح وانتظام الأحوال- ولا شك بأنها مفاسد وليست مصالح لكن من وجهة نظر أهلها، يقول المقريزي - والسياسة نوعان: سياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر، فهي من الأحكام الشرعية، علمها من علمها، وجهلها من جهلها والنوع الآخر سياسة ظالمة، فالشريعة تحرمها'.
فهذه مقدمة عن السياسة وهي كلمة موجودة ومستخدمة بمعنى الوسائل والأساليب أو الأنظمة التي يتخذها الحكام والولاة لضبط الأمور.
والسبب في احتياج الناس إليها هو تقصير القضاة والفقهاء، حيث ضيّق بعضهم مفهوم الحدود، فقصروا الحدود في الحدود المعروفة كشرب الخمر، وحد القذف، وحد السرقة، وحد الحرابة، وحد البغي وما عدا ذلك ليست حدوداً، وكان الأمراء ورؤساء الشُرط، والمكلفون بضبط الأمن في الولايات يعتبرونها من باب التعازير فلم تكن تندرح ضمن الأحكام، ولم يكن يتناولها القضاة وبعض الفقهاء المتأخرين، وإنما تركت على أساس أنها تعازير ترجع لولي الأمر، ولما صار ولاة أمر المسلمين من العجم، وكذلك الجنود، وكانوا لا يفقهون اللغة العربية أو شيئاً من الأحكام الشرعية، كان بدهياً أن يجتهدوا من عند أنفسهم، ويضعوا النظم والوسائل لضبط الأمن والأحكام التي مهدت لقبول الياسق أو الياسة.
ومن الأمثلة على ذلك، ما ذكره ابن القيم في الطرق الحكمية، فجعل أن بعض الفقهاء منهم من لم يفهم حقائق الشريعة، فجعل البينة هي الشاهدين فقط، فإذا انتهك عرض إنسان أو سلب ماله في البر وأتى إلى القاضي أمره بإحضار شاهدين، ومن أين له ذلك وهو في البر، وبناءً على ذلك ضاع الحق، فأصبح الولاة لا يحيلون هذه الأمور إلى القضاة، فإذا لم يكن هناك شهود عذبوا الخصم بأي شكلٍ ما، ويأتون بشيخ قبيلته أو عشيرته ويعذبونه حتى يتبين أنه هو أو غيره، فيستخدمون وسائل كثيرة لاستخلاص الحقيقة، ويقول: لولا ذلك لما ضبط الأمر، لأنه لا أحد يجني جناية ويأخذ معه شاهدين، فبذلك تضيع الحقوق.
أما ابن القيم رحمه الله فيقول: البينة ما أبان الحق، وكشف عنه أياً كان، حتى لو كان بالقرائن، كقرائن معينة تصل إلى حدِّ البينة، لكن لما ضاق الأمر من الناحية الفقهية، ومن ناحية القضاء ولابد للناس أن تضبط أمورهم، وكان الذين يضبطون الأمور جهلة بالشرع وبمقاصده، وشروط الاجتهاد ليست متوفرة فيهم، فضلاً على أن نقول: إنهم جهلة بالفقه، فلا فقه ولا اجتهاد.
ولكن لا بد أن يضبطوا الأمر، فضبطوه بهذه الوسائل التي أخذوها من تربيتهم العسكرية، وخاصة الترك السلاجقة ثم مَن بعدهم، لأنهم قوم متربون تربية قبلية عسكرية.
والقبائل إلى اليوم لها سلوم وسوالف وأحكام ونظم تطبقها، فأخذوا هذه الأنظمة ووضعوها مع الشرع، فقالوا: هذه شريعة وهذه سياسة، فإذا أحيل إلى القاضي وحكم عليه بحد من الحدود ولو بالتعزير، قالوا: هذه شريعة.
أما إذا كان الوالي أو مدير الشرطة أو ما أشبه ذلك، قالوا: هذا قتل سياسة، أو ضرب سياسة، أو صلب سياسية، أو يعلقون أخذ أموالهم من باب السياسة، فالأمة استمرأت هذا الوضع.
ولهذا لما جاء الحكام العادلون مثل نور الدين محمود رحمه الله، وأمر بإلغاء كل سياسة تخالف الشرع، ولا يحكم في صغير أو كبير إلا بأمر القضاة، وجعل مجلساً من القضاة والفقهاء والعلماء، فكان يستشيرهم في كل ما ينزل وهم يفتونه، انتظمت الأمور فكتب إليه بعض الناس، قالوا: إن أهل الفساد والدعارة وقطاع الطريق قد أفسدوا وفعلوا وفعلوا ولا يضبط الناس إلا نوع من السياسة، فكتب إليهم نور الدين رحمه الله.
إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد شرع للخلق ما ينفعهم وما يصلحهم وهو أعلم بمصالحهم، وقد أكمل الدين فكل شيء يخالف شريعة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو باطل، ولم يرجع عما أمر به، وذلك يعدُّ في مناقبه، فكان إذا جاء الحاكم العادل الذي يحكِّم الشرع لم يحتج الناس إلى هذه السياسة، وإن جاء حاكم جاهل أو ظالم أو جائر أخذ يستبد كما يشاء، وإذا أراد أن يحيل أمراً أحاله إلى القضاة، وقال: هذه شريعة وهذه سياسة.
وهكذا كان الحال قبل ظهور التتار وقدومهم، وقبل ظهور كتاب أو قانون الياسق، ثم تلا ذلك مرحلة قدوم التتار، فعندما جاء التتار حصل التشابه اللفظي بين السياسة التي هي مصطلح قديم وبين الياسق، أو اليسق، فخلط الناس بينهما، والياسق الذي جاء به جنكيز خان وقومه الذين وضعوه هدفه نفس مصطلح أو مدلول السياسة الذي كان مستخدماً في السابق.
ولهذا أنكر العلماء هذا التقسيم، مثل شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله وابن القيم في المدارج، وفي أكثر من موضع، قالوا: إن هذه القسمة في تقسيم الدين إلى سياسة وشريعة، وتقسيم الدين إلى حقيقة وشريعة، كما قالت الصوفية: هذا محرم شريعةً جائزٌ حقيقة، وأولئك يقولون: هذا لا يجوز في الشرع، لكن يجوز أن يفعل سياسة، وكذلك تقسيم المتكلمين الدين إلى عقليات تثبت بالعقل، وسمعيات تثبت بالسمع، وغيرها من التقاسيم الباطلة.
لأن السياسة الحقيقية هي قسم من الشريعة، وليست قسيماً لها، والحقيقة هي الشريعة، والشريعة هي الحقيقة، فكل شيء خالف الشريعة فهو باطل، وإن سمي حقيقة أو سياسة.
وكذلك كل ما سمي أو قيل: إنه معقول ولكنه يخالف المنقول فهو باطل، فإن الدين الذي أنزله الله على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه الخير كله، وفيه الكمال كله، وتنتظم به مصالح العباد كلها في الدنيا والآخرة، ولا نحتاج إلى الزيادة عليه أبداً.
إذاً فهذا التقسيم باطل، لكن كانت القسمة عرفية واصطلاحية في كتب علم الكلام، وفي واقع الناس بالنسبة للسياسة، حتى جاء التتار وجاءوا بهذا الكتاب، ومما فعلته الباطنية كما ذكر العلماء في ذمهم أنهم لا يعدون الشريعة إلا سياسة مدنية، وهؤلاء كفار خارجون عن الدين بلا ريب، فيقولون: إن الشرع ما هو إلا سياسة مدنية وضعها عقلاء مفكرون عباقرة -الأنبياء- ينظمون مصالح العباد ولا نرى الشرع إلا سياسة مدنية.(93/38)
نشأة دولة التتار
ونرجع إلى كلام المقريزي حيث يقول: 'وليس ما يقوله أهل زماننا في شيء من هذا -أي ما يستخدمه أهل زمانه وهو الياسق أو الياسة ليس هو المقصود به السياسة بمعناها اللغوي- وإنما هي كلمة مغولية -المغول هم التتار- أصلها ياسة، فحرفها أهل مصر وزادوا في أولها سيناً، فقالوا: سياسة، وأدخلوا عليها الألف واللام فظن من لا علم عنده أنها كلمة عربية! وما الأمر فيها إلا ما قلت'.
وهذا هو رأيه، أي: هو كان يتكلم عن مصر، وكانت مصر قاعدة العالم الإسلامي في زمن المماليك.
ثم قال: 'واسمع الآن كيف نشأت هذه الكلمة حتى انتشرت بـ مصر والشام: وذلك أن جنكيز خان القائم بدولة التتر في بلاد المشرق، لما غلب الملك أورنك خان وصارت له دولة، قرر قواعد وعقوبات أثبتها في كتاب سماه: ياسة، ومن الناس من يسميه: يسق، والأصل اسمه: ياسة، ولما تم وضعه، كتب ذلك نقشاً في صفائح الفولاذ -فهذا خبيث، فمن اهتمامه بها أتى بصفائح، من الفولاذ ونقش فيها هذا القانون، وحفرها في الحديد- وجعله شريعة لقومه، فالتزموه بعده، حتى قطع الله دابرهم -فـ المقريزي يتكلم عن أمة قد قضت وانتهت- وكان جنكيز خان لا يتدين بشيء من أديان أهل الأرض، فصار الياسة حكماً بتاً في أعقابه، لا يخرجون عن شيء من حكمه'.
وأصبح قانوناً ملتزماً به لا يخرجون عن كلامه، وجنكيز خان بنفسه لم يأتِ للعالم الإسلامي، ولكنه مات ثم الذي اجتاح بغداد أولاده وأحفاده، لأن الحرب استمرت أولاً مع دولة خوارزم شاه -الدولة الخوارزمية في المشرق- وقاومهم السلطان جلال الدين في أكثر من خمسين معركة، وفي النهاية غلبوه، واجتاحوا بلاد المشرق، وهذا أيضاً بسبب ظلم المسلمين، لأن جلال الدين كان من السلاطين الظلمة، فكان يغزوا بلاد الفرس وينهب أموالهم، وإذ قيل له: لماذا تنهب المسلمين؟ قال: حتى أستعين بها على قتال التتار، فكان ظالماً.
وهكذا فإن الظالم يعاقب، والأمة المسلمة تعاقب على ظلمها بتسليط أعداء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليها، فالذي اجتاح بغداد هو حفيده هولاكو الذي وصل إلى بغداد، ثم بعد ذلك وصلت طلائعهم إلى بلاد الشام، وكانت معركة عين جالوت مع قسم من أقسامهم، وبعد عين جالوت انحسر شأن التتار، الذين جاءوا على شركهم، وخرجوا من بلادهم وهم على دينهم الأصلي، إلا أن هولاكو كانت زوجته النصرانية، ويقال: إنه تنصر، لكن التتار كأمة بقيت على دينها القديم: الوثنية، ثم غزاهم الإسلام ودخل قلوبهم شيئاً فشيئاً لما استقروا في بلاد الإسلام وأظهروا الإسلام، حتى كان سلطانهم قازان في أيام شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية -وأول ما أتى التتار كان شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله ما يزال حدثاً طفلاً، ثم لما أصبح شيخ الأمة كان الملك في أيامه قازان - قد أظهر الإسلام، ويقول: إنهم مسلمون، كما في الفتوى المشهورة، فتوى شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله في التتار، ولكن أي إسلام؟ فإن الذي يدخل الإسلام في أي زمان ومكان يدخل في الإسلام بحسب ما عليه أهل ذلك الزمان.(93/39)
انحراف التتار في فهم الإسلام
ولذلك نجد أن الذين دخلوا في الإسلام أيام الصحابة رضوان الله تعالى عليهم كان إسلامهم صافياً على الحقيقة، لأن الذين أدخلوهم فيه هم الصحابة، فجاء التابعون فكان كذلك أو أقل، وجاء من بعدهم فكان أقل، وفي أيام التتار كان يدخل الناس في الدين وفي التصوف والرفض والخرافات، وكان منهم خذابنذه الذي ترفض وكان شيعياً، أي: أصبحوا يتدينوا بدين المسلمين الموجود، ولا يعرفون حقيقة الإسلام، كما نجد هذا اليوم، حيث قد يأتي أمريكي يسلم ويدخل في دين الرافضة، أويكون زيدياً أويكون صوفياً أو أي شيء من جنس الموجود المعروض لديه.
فالتتار هكذا تدينوا ولكن لم يأخذوا الإسلام على حقيقته الخالصة الصافية النقية، فلذلك بقي عندهم تعظيم لـ جنكيز خان، وأيضاً أخذوا يعظمون الإسلام ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فصارت قاعدتهم كما كان ملكهم يقول: رجلان عظيمان محمد وجنكيز خان فكانت المساواة عنده، وهو يرى أنه بهذا قد أنصف الإسلام وأنصف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو كان في زماننا هذا وصرح أحد زعماء أوروبا بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل نابليون لقال الناس: هذا منصف، وهذا رجل فاضل.
وقدكانوا يقسمون الناس إلى أقسام معينة، فيسمون المتمسك بالدين: مسلماني، والذي يساير كل شيء يسموه: عسكري وقلندري، وأسماء كثيرة بعضها بلغتهم، وبعضها بلغة العوام.
والمقصود أنهم كانوا ينظرون إلى الناس والدين نظرة غير صحيحة، فغاية ما عندهم من تعظيم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه رجل عظيم مثل جنكيز خان وهكذا، ولذلك أفتى شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله في حقهم، وأصل الفتوى هو الياسق، وهو أنهم لا يتحاكمون فيما بينهم إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن يتحاكمون إلى الياسق، وذكر -أيضاً- الأشياء الأخرى التي أشرنا إليها بالنسبة لهم.(93/40)
الأحكام التشريعية في الياسق
والشيخ ذكر بعض الأحكام في الياسق، ونتعرض إلى بعضها، كما في تاريخ ابن كثير رحمه الله، الجزء (13/ 117) يقول: 'وممن توفي فيها من الأعيان جنكيز خان سنة (624هـ)، وهو الذي وضع لهم السياسا -بالألف الممدودة- التي يتحاكمون إليها، ويحكمون بها، وأكثرها مخالف لشرائع الله تعالى وكتبه، وهو شيء اقترحه من عند نفسه، وتبعوه في ذلك، وكانت تزعم أمه أنها حملته من شعاع الشمس، فلهذا لا يعرف له أب، والظاهر أنه مجهول النسب'.
وشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله في فتواه عن التتار لما قالوا: إن جنكيز خان أعظم من الأنبياء، قالوا: هذا أمه حملت به من شعاع الشمس، فقال شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية: هذا إن ثبت فإنه يدل على أنه ابن زنا؛ لأنها لم يكن لها زوج، فكيف حملت؟ قالوا: من شعاع الشمس؟ والشمس لا تحبل امرأة! إذاً هذه زانية عاهرة حملت به وليس لها زوج فجاءت به، وإلى اليوم يعتقد اليابانيون وبعض الكوريين أن الامبراطور من نسل الشمس، والإله عندهم الشمس، والامبراطور من ذريتها، فلهذا يعتقدون أن في الامبراطور جزءاً من الألوهية تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
قال: 'وقد رأيت مجلداً جمعه الوزير بـ بغداد علاء الدين الجويني في ترجمته، فذكر فيه سيرته'.
ثم قال: 'وكان وفاته في سنة (624هـ) فجعلوه في تابوت من حديد، وربطوه بسلاسل وعلقوه بين جبلين هنالك' قالوا: هذا لا يدفن في الأرض فربطوه وعلقوه، وهذه من خرافاتهم، ففي الهند يحرقونه، وعند اليابانيين والكوريين والتتار يدفنون معه كل أدواته حتى النظارات والكاميرا والقلم، ولما مات هيروهيتو دفنوا معه (250) قطعة كما يقولون، ولكن كانوا يضعونها في تابوتٍ محكم قوي، من أجل أنه إذا قام يمكنه أن يستخدم أدواته التي كان يستخدمها في الدنيا، وهذا جنكيز خان كان شكلاً آخر.
قال: 'وأما كتابه الياسا فإنه يكتب في مجلدين بخط غليظ، ويحمل على بعير عندهم، وقد ذكر بعضهم أنه كان يصعد جبلاً، ثم ينزل، ثم يصعد، ثم ينزل مراراً حتى يعيي ويقع مغشياً عليه، ويأمر من عنده أن يكتب ما يلقى على لسانه حينئذٍ'.
أي: إن الرجل كان به مس من الجن نسأل الله العافية.
قال: 'ثم ذكر علاء الدين الجويني نُتفاً من الياسا -من أحكام الكتاب- من ذلك: أنه من زنا قتل، محصناً كان أو غير محصن، وكذلك من لاط قتل'.
فكان نظاماً جاهلياً لا شك فيه، ولكن بالنسبة للأنظمة الأمريكية والإنجليزية يعتبر نظاماً راقياً، لأنه يعتبر الزنا واللواطة جريمة عقوبتها القتل، ولا فرق بين المحصن وغير المحصن، فقد كانوا يعتبرون الزنا واللواطة جريمةً، بخلاف الأنظمة الأمريكية، ففي أمريكا تقدم عشرين مليوناً إلى الرئيس ريجن يطلبون إباحة اللواط علانية، وأن يصبح لهم تمثيل خاص بهم في الكونجرس، فقاموا بمظاهرات كبيرة في نيورليانز وفي لوس أنجلوس وغيرها، وحطموا المباني، وقالوا: أين الحرية والديمقراطية التي يدعيها ريجن وتدعيها أمريكا، وهي تهدر حقوق عشرين مليوناً من شعبها، نسأل من الله العفو والعافية؟ فـ جنكيز خان أرقى من الأمريكان في هذا الشأن.
ثم يقول: ' ومن تعمد الكذب قتل أيضاً '.
فهي عقوبة جاهلية وقاسية رادعة، لكنها بالنسبة للقوانين الأوروبية المعاصرة تعتبر راقية، وتجد أن الغرب الآن يسيطرون على قوانين الإعلام كله في العالم، وخاصة الإعلام السياسي؛ لأن إعلام غير الغرب هو صدىً للغرب، وقائم على الكذب والتلفيق والاختلاط.
فالشاهد أن جنكيز خان يريد أن يضبط هذه القبائل الهمجية، فجعل من تعمد الكذب قتل و: 'من سحر قتل'.
وهذا موافق للشرع، وهذا -أيضاً- يترقَّى به هذا القانون الجاهلي الوضعي على قوانين الغرب؛ لأن السحر في الغرب لا عقوبة عليه، وكانت الكنيسة أيام سلطتها قبل الثورة الفرنسية في أوروبا يطاردون السحرة، ويحكمون عليهم بالقتل، وكان أكثر من يمتهن السحر هن النساء، فكل من قبض عليها تقتل، وفي القصص لـ شكسبير وغيره في الأدب الأوروبي الكثير من الكلام عن الساحرات وكيف يفعلن، لأنه كان جزءاً من حياة الغربيين، فهو جزءاً من حياة أي مجتمع لا يدين بالتوحيد ولابالعقيدة الصحيحة، بعقيدة السلف الصالح فلابد أن تجد فيه السحر، فكلما ضعفت العقيدةكلما اشتد السحر والكهانه والدجل والخرافة والعرافة إلى آخر هذه الأسماء.
فكانت العقوبة في أوروبا هي الإعدام حتى ظهرت القوانين الحديثة وألغت القوانين الدينية واعتبروا السحر مجرد هواية، ولذلك أكبر مقر للسحرة في العالم الآن رسمياً هو في وسط نيويورك، وفي مبنى ضخم جداً قريب من مبنى الأمم المتحدة، ويوجد فيه مركز كبير جداً للسحرة الذين يجتمعون من جميع أنحاء العالم ومن أمريكا خاصة ويتكهنون بأخبار الغيب والمستقبل ويتنبئون، ولهم كتب ونشرات ومجلدات واشتراكات؛ ثم تأتي لندن وباريس وتنشر هذا في كثير من الجرائد والمجلات، ثم تجد أن أي زعيم من زعماء الغرب الذين يدعون العلمية والموضوعية لا بد أن يتأثر بالساحرات، وكل رئيس لـ أمريكا - تقريباً - يوجد عنده كاهنة، وكاهنة ريجن كتبت مذكراتها، وكتبت زوجته مذكراتها، ونشرت في جريدة المدينة عندنا وقرأناها، فكيف ينشر هذا عند المسلمين دون ما إنكار؟! فهؤلاء الهمج الجاهليون والوثنيون والمغول كانوا في حكمهم في هذا الجانب أفضل من حكم هذه الشرائع الجاهلية الحديثة، وهو موافق للشرع ومأخوذ من الشرع: 'ومن تجسس قتل'.
وهذه -أيضاً- فيها عدالة وإنصاف، ولا شك أن التجسس جريمة في أي عرف، أما بالنسبة لتلك القبائل الهمجية فكان عندهم هذا الحكم، وإن كان مخالفاً لشرعنا إلا أن فيه شيء من حفظ الحق على الأقل.
أما الآن فالإنسان الغربي يعيش تحت سيطرة أجهزة التصنت، فالتجسس الذي يراه هذا الغربي المتحضر حقاً عادياً على الأقل من الناحية العرفية والواقعية، كان الوثنيون الجاهليون يعتبرونه جريمة ويعاقبون عليه بهذه العقوبة القاسية والمخالفة للشرع، ففي الشرع أنه إذا كان مسلماً وأخبر وأطلع الكفار على أحوال المسلمين فإنه يقتل، لكن التجسس بين الناس بعضهم على بعض فليست هذه عقوبته.
ثم قال: 'ومن دخل بين اثنين يختصمان فأعان أحدهما قتل، ومن بال في الماء الواقف قتل، ومن انغمس فيه قتل '.
يقول القانونيون المعاصرون قاتلهم الله: إن قوانين القرون الوسطى كانت ظالمة، ومجحفة وقاسية في حقوق الإنسان، لكن القوانين الحديثة ميزتها أنها تعطي المتهم الراحة والرفاهية.
فدين الله تعالى هو دين الحق والوسطية، فالجاهلية إما أن تحكم بالقتل حتى على من بال بالماء، وإما أن تجعل من يمشي عارياً كما في أمريكا لا حرج عليه، قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] أما حكم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فهو الحق والعدل والوسط في كل شيء.
فهذا كان بالنسبة للماء.
' ومن أطعم أسيراً أو سقاه أو كساه بغير إذن أهله قتل'.
لأنهم أمة حرب كل عملهم حرب فليس إلا العقوبات.
'ومن وجد هارباً فلم يرده قتل، ومن أطعم أسيراً أو رمى إلى أحدٍ شيئاً من المأكول قتل، بل يناوله من يده إلى يده -وإلا يقتل- ومن أطعم أحداً شيئاً فليأكل منه أولاً، ولو كان المطعوم أميراً لا أسيراً -حتى يطمئن بأنه ليس فيه سُمّ- ومن أكل ولم يطعم من عنده قتل، ومن ذبح حيواناً ذُبح مثله -إذا ذبحه ويقصد الذبح العادي- وقال بل يشق جوفه، ويتناول قلبه بيده يستخرجه من جوفه أولاً يقول جنكيز خان: الذي يذبح الحيوان بطريقة الذبح المعروفة يذبح كما يذبح الحيوان، لأن شريعته تقول: لا بد أن يذبح الجوف ويستخرج القلب، وبعد ذلك يموت الحيوان، فهكذا أملى له هواه وسولت له نفسه الخبيثة'.(93/41)
حكم القوانين الوضعية والتحاكم إليها
قال: 'وفي ذلك كله مخالفة لشرائع الله المنزلة على عباده الأنبياء عليهم الصلاة والسلام'.
وقضية التشريع من أصلها هي حق لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن الأحكام فيها الموافق وفيها المخالف.
قال ابن كثير: 'فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر'.
مثل شريعة التوراة والإنجيل حتى لو فرضنا أننا وجدنا نسخة من التوراة لم تحرف أو تبدل ولم يغير فيها كلمة، وجاء إنسان وقال: هذا كتاب أنزله الله نتحاكم إليه، ووضعه قانوناً، فعند ذلك نقول: هذا كافر بلا ريب وليس بمؤمن بالقرآن، فيقول: هذا في الشرائع المنسوخة: 'فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدمها عليه؟! فمن فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين -فالذي يُقدم شرعاً آخر وهو شرع وضعي أكفر من الذي يُقدم شرعاً منسوخاً، فهو كافر بإجماع المسلمين- قال الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]، وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] '.
قال: 'ومن آدابهم -هذه ليست في الياسق لكنها آداب كان التتار يتعاملون بها الطاعة للسلطان غاية الاستطاعة، وأن يعرضوا عليه أبكارهم الحسان ليختار لنفسه ومن شاء من حاشيته ما شاء منهن -قاتلهم الله وقبحهم- ومن مر بقوم يأكلون فله أن يأكل معهم من غير استئذان، ولا يتخطى موقد النار ولا طبق الطعام، ولا يغسلون ثيابهم حتى يبدو وسخها، ولا يكلفون العلماء بكل ما ذكر شيئاً من الجنايات، ولا يتعرضون لمال ميت '.
إلى آخر ما ذكر، وذكر بعد ذلك شيئاً من أخباره، وكيف كان يقيم دينه وشريعته الياسق.(93/42)
القوانين الوضعية في القرن العشرين
وبعد أن ذكر الشيخ أحمد شاكر الجملة الأخيرة من كلام ابن كثير، رحمه الله قال: 'أقول: أفيجوز -مع هذا- في شرع الله أن يُحكم المسلمون في بلادهم بتشريع مقتبس عن تشريعات أوروبا الوثنية الملحدة؟ بل بتشريع تدخله الأهواء والآراء الباطلة، يغيرونه ويبدلونه كما يشاءون، لا يبالي واضعه أوافق شرعة الإسلام أم خالفها'.
فهو يقيس وضعنا الحالي على حالة جنكيز خان والياسق، وكيف ابتُلي المسلمون بهذا -نسأل الله السلامة والعافية- وكيف دخل أثر هذه القوانين إلى الناس.(93/43)
فساد القوانين الوضعية
ولعلنا نستعرض بعض الأمثلة، ثم نكمل بقية كلام الشيخ أحمد شاكر، فلقد نشر في جريدة المسلمون العدد (328)، بقلم الشيخ محمد الغزالي، يقول: للقوانين الوضعية أثر عميق في إفساد الأمم التي نكبت بها، لا سيما إذا كانت هذه القوانين قد جاءت مع استعمار حاقد على الإسلام مكذب لنبيهم، ومضاد لتعاليمه وقيمه إنه في الحالة هذه يريد زلزلة العقيدة والشريعة معاً، وتدريب الأفراد والجماعات على تحليل الحرام، وتحريم الحلال، وإنشاء تقاليد جديدة تألف الخمر، والخنا والربا ووسائل الآثام التي يستهين بارتكابها أو يستحله.
والقصة التي أحكيها الآن كنت أحسب العلم ببواعثها حكراً على جمهور القضاة والمحامين، حتى فوجئت بأنها معروفة لدى العمال والفلاحين، فأدركت أن الفساد في مجتمعنا قد رسب في القاع بعد ما لوث السطح، وأذكر القصة التي بعث بها إلي الأستاذ فلان.
قال: منقول عن جريدة الأخبار، القصة تقول: تلقى العميد السيد البدوي -مدير مباحث الدقهلية - بلاغاً من أهالي كوم النور قرية مركز بيت غمر، أنه تم ضبط فاطمة علي حسن عمرها عشرين سنة، وهي تحاول سرقة جاموسة، وهرب شريكها في الحقول، وكانا يريدان أن يسرقا جاموسة، وأمام العقيدين محمد شعيشع ومحمد أنور اعترفت المتهمة فاطمة علي حسن: أولاً: بأنها كانت تقضي بين الحقول وقتاً سعيداً مع صديقها في الزريبة، ولم تكن تحاول السرقة، وتطلب من رجال المباحث التستر عليها حتى لا يعلم زوجها، ويطلقها حفاظاً على الأسرة والأولاد، فقالوا لها: لماذا هربت؟ قالت: كان معي رجل -حتى اعترفت بالفاحشة والعياذ بالله- فهربت حتى لا تُعرف جريمتها فالقضية قضية زنا، وترجو التستر عليها؛ لأنه لو اطلع الزوج فيمكن أنه يقيم دعوى فينهدم البيت.
يقول: ولكن تحريات الرائدين رشدي فودة، وجابر الدين وهما رائدين جيدين، قالوا: لا، فالزنا ليس هو القضية، لأن القضية أهم، فقاما بالتحريات حتى أثبتا أن شريكها في السرقة هو زوجها محمد عبد العاطي وعمره اثنان وعشرين سنة، ومهنته فلاح، وهي تريد التستر عليه بهذه القصة الغريبة، وتم ضبط الزوج الذي اعترف بالسرقة، فقرر عبد العزيز حبيب وكيل النيابة حبسهما على ذمة التحقيق أربعة أيام.
ثم يقول: هل لاحظت شابة تصف نفسها بالزنا مع صديق، وتقول: هذا مجرد زنا وليس هناك جريمة، وتطلب من المباحث التستر عليها خشية أن تنكشف محاولتها بالسرقة بالاشتراك مع زوجها الذي ادعت أنه صديقها، وهذه الشابة تجهل القراءة والكتابة كما هو الغالب في المناطق الريفية.
يقول الشيخ: ولكنها تعرف بالتأكيد أن الزنا في مصر لا عقوبة عليه إذا تم برضى الطرفين، وبشرط أن يكونا بالغين فهي في العشرين من عمرها، وهو في الثانية والعشرين من عمره، وهي تعلم أن هذا أهون بكثير من السرقة التي يعاقب عليها بالحبس أو السجن، وهي تعترف لضباط المباحث وقد نضب الحياء من وجهها بأنها كانت بالزريبة بقصد الزنا مع صديقها المزعوم، وتطلب بكل وقاحة من المباحث أن تتستر عليها.
يقول الشيخ: وفي الماضي كانت الفلاحة تُفضِّل الموت على أن يقال لها: زانية! فما الذي حدث في مصرنا العزيزة منذ قيام الثورة العلمانية المباركة، حتى انقلب كل شيء رأساً على عقب في هذا البلد المسكين.
يقول الشيخ الغزالي: وقد عجبت مما عجب منه الأستاذ محمد عبد الرحيم -الذي أرسل له- فعجبت من علم فلاحة في إحدى القرى القصية أن القانون الوضعي يبيح الزنا، وإن كان يرفض الإكراه عليه.
يقول: وتعرف هي أن الزوج إذا سكت عن جريمة زوجته التي زنت فإن القانون الديوث لا يتدخل حماية للأسرة، فيترك المرأة تتبع صاحبها الوغد يعيشا في بيتهما الموبوء، وبقية الافتراضات القانونية معروفة، فإن الشخص الزاني إذا قتل الزوج الغضبان الثائر سقطت دعوى الزنا بوفاته، ثم اعتبر القاتل مدافعاً عن نفسه، ويضيع دم القتيل الشريف عياذاً بالله.
يقول: ولست أدري إلى متى يظل المسلمون بعيدين عن دينهم وشرعهم وشرفهم في ظل قانون وضعي، فرضه الاحتلال الأجنبي الكفور، واستبقاه الغزو الثقافي الذي خدر الناس، وأمات في دمائهم دون أدنى مقاومة.(93/44)
محابة الشريعة الإسلامية
ونشر أيضاً في جريدة الأخبار المصرية المستشار القانوني سعد العيسوي، يقول: إن صح ما قرأت فهو خطأ في تطبيق القانون.
وهذا الرجل سمع ما قضت به إحدى المحاكم بجلد متهم ثمانين جلدة جزاء سكره وسيره في الطريق العام مخموراً.
يقول: إن صح ما قرأت في الصحف عن أسباب هذا الحكم؛ فأقول إجابة على سؤالك: إن هذا الحكم من تلك المحكمة وهي جنائية، قد أصابه الخطأ والعوار من نواحي عديدة.
والقضية أوضحها لكم بإيجاز: قاضي مسلم أحس في نفسه بأن بلدنا مسلم، ولا بد أن نكون مسلمين، وهو بإحدى المحاكم الابتدائية -أظنها في جنوب القاهرة كما في الجريدة- فقال: لماذا لا يطبق الإسلام في بلادنا، وعندنا مادة في الدستور، تقول: إن الشريعة الإسلامية مصدر من مصادر التشريع؟! فالمادة الدستورية هذه عندهم تقضي على اللوائح التفصيلية، وهذا معروف عندهم، فالدستور أعلى مرتبة ثم القانون ثم اللوائح، فقال: الدستور يجعل الشريعة مصدراً من المصادر، فلماذا أنا لا أحكم على هذا السكران بالجلد بحسب الشريعة، وأسند الحكم إلى المادة الثانية من الدستور؟! فإذا سألوني قلت: أنا ما أتيت بشيء خارج عن الدستور، وأنا حكمت بمقتضى الدستور، والدستور يجعل الشريعة هي المصدر، وأنا حكمت بحكم الشرع، فيجعلهم في حرج، ويرى هل فعلاً سيلتزمون بحكم الله؟! فأقدم على هذا العمل، فحكم بجلد الشخص ثمانين جلدة.
فحدثت ضجة كبيرة في البلد، وكتب هذا المستشار يقول: هذا الحكم خطأ، وباطل من عدة وجوه: أولاً: أن من كتبه وقضى به ونطق به حنث في يمينه القضائي، وهو يمين يتعين على كل من يتولى وظيفة القضاء أن يقسمه، سواءً كان في أول سلم العمل القضائي كمعاون نيابة، أو في أعلى مناصب القضاء وهو رئيس محكمة النقض، وهذه اليمين نص عليها في المادة (71) من قانون السلطة القضائية، ونصه: 'أقسم بالله العظيم، أن أحكم بين الناس بالعدل، وأن أحترم القوانين، وحكم العدل، واحترام القوانين يتضمن أن أقضي في الواقع المعروض بالعقوبة الملآئمة في حدود القانون المطبق'.
قال: فهذا الرجل حنث في اليمين، فهو حلف أنه يطبق القانون ثم ذهب يطبق الشريعة فهو حانث في يمينه.
ثانياً: أن من قضى بهذا الحكم، وصح أنه فعل ذلك، فقد خالف نصاً في الدستور، وهو نص المادة (66) أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بناءً على قانون، ولا يقال في ذلك: إنه حد السكر شرعاً، وأن الشريعة الإسلامية هي الأولى بالتطبيق، فيقول: لا يقال ذلك؛ لأن الشرع يطبق قوانين مكتوبة ومقررة، وليس للقاضي أن يعمل غيرها من لدنه مهما اختلفت مع معتقده الديني أو السياسي -نعوذ بالله من الكفر- إلى آخر ما قال.
ثم يقول: وأفصح المشرِّع عن ذلك صراحة في المادة الأولى من التقنين المدني، بأن القاضي يطبق القانون، فإن لم يجد في نصوصه ما ينطبق على الواقعة طبق العرف، وإن لم يجد طبق أحكام الشريعة الإسلامية، وإن لم يجد طبق القانون الطبيعي وقواعد العدالة، فحينئذٍ قال: هذا لا يجوز، ولا يقبل من القاضي جنائياً أن يُحرّم فعلاً لا ينص القانون على اعتباره جريمة، فلا يقبل منه أن يقضي بعقوبة لم ينص عليها القانون إلى آخره.
ثالثاً: إن هذا القائل بهذا الحكم، أخطأ عدة أخطاء في مجال القضاء والحكم، منها: أنه جعل من أسباب الحكم مجالاً للتعبير عن المعتقدات الدينية والسياسية، ولو فتحنا هذا الباب فسيأتي كل إنسان يطبق شيئاً ويقول: هذا موافق للشريعة، مما ينتج عنه ضياع الدولة -نعوذ بالله من الخذلان- ثم يقول: ولو كان القانون يسمح بذلك المسلك لأدى الأمر إلى فوضى، فهذا يحكم بالجلد طبقاً لمعتقده، وذاك يحكم بغيره طبقاً لمعتقده، وهو يرى أن الحكم لا بد أن يكون بالقانون.
رابعاً: من أسباب ومبررات بطلان هذا الحكم: أن هذا الحكم يدل على أن كاتبه أو قائله لا يعرف شيئاً عن علم العقاب -فهو يقول: هذا قاضٍ جاهل لا يعرف شيئاً عن علم العقاب- قال: فهذه الجريمة من الجائر الحكم فيها بهذا، لأنه يمكن الحكم فيها بالحبس ستة أشهر.
وهذا القاضي لم يحكم من عند نفسه، بل هذا الحكم في شريعة رب العالمين سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فالتهمة موجهة إلى الله -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- ثم بعد ذلك فصلوا هذا القاضي من العمل.
فقدم دعوى وتظلم، وقال: أيها الناس! أنا حكمت بمقتضى الدستور، ولم أخالف الدستور، فقالوا: لا هذه مخالفة، ورفض التظلم، وتمت العقوبة التي عوقب بها.
فالشاهد بعد ذلك، أنه عرض الموضوع وصار قصة طويلة، وانتهى الأمر بأن القاضي أدين لأنه حكم بحكم من أحكام الشريعة الإسلامية، ونشر بالصحف هذا الهجوم الشديد بأن هذا العمل غير قانوني ويؤدي إلى فوضى.(93/45)
خطر القوانين الوضعية
وبعد هذه القصة نرجع إلى كلام الشيخ أحمد شاكر رحمه الله.
يقول: 'إن المسلمين لم يُبلَوا بهذا قط فيما نعلم من تاريخهم -أي: بتحكيم القوانين الوضعية- إلا في ذلك العهد، عهد التتار، وكان من أسوأ عهود الظلم والظلام، ومع هذا فإنهم لم يخضعوا له، بل غلب الإسلامُ التتار، ثم مزجهم فأدخلهم في شرعته، وزال أثر ما صنعوا، بثبات المسلمين على دينهم وشريعتهم، وبأن هذا الحكم السيء الجائر كان مصدره الفريق الحاكم إذ ذاك، لم يندمج فيه أحد من أفراد الأمم الإسلامية المحكومة، ولم يتعلموه'.
فكان خاصاً بالحكام التتار ولم يندمج في الأمة، أما الآن مثل قصة هذه الفلاحة فاطمة علي حسن فقد اندمج القانون الوضعي كقانون نابليون بالأمة، حتى عرفته الفلاحة في أقصى الريف الجاهلة بأنه لا عقوبة عليها.
يقول الشيخ أحمد رحمه الله: إن قانون التتار لم يندمج بالأمة: 'ولم يتعلموه ويعلموه أبناءهم، فما أسرع ما زال أثره'.
أما الآن فقد جعلوا له أقساماً: أقسام القانون، وأقسام العلوم الاقتصادية، وأقسام الأنظمة وأقسام كثيرة أخرى، وهي في الحقيقة قانون وضعي، وتدرس كل شرائعه.
يقول: 'أفرأيتم هذا الوصف القوى من الحافظ ابن كثير -في القرن الثامن- لذلك القانون الوضعي، الذي صنعه عدو الإسلام جنكيز خان ألستم ترونه يصف حال المسلمين في هذا العصر، في القرن الرابع عشر؟ -ونحن دخلنا الخامس عشر، فالله المستعان- إلا في فرق واحد -بين قوانين جنكيز خان وبين قوانين اليوم-: أن ذلك كان في طبقة خاصة من الحكام، أتى عليها الزمن سريعاً، فاندمجت في الأمة الإسلامية، وزال أثر ما صنعت، ثم كان المسلمون الآن أسوأ حالاً وأشد ظلماً وظلاماً منهم، لأن أكثر الأمم الإسلامية -الآن- تكاد تندمج في هذه القوانين المخالفة للشريعة، والتي هي أشبه شيء بذاك الياسق الذي اصطنعه رجل كافر ظاهر الكفر، هذه القوانين التي يصطنعها ناسٌ ينتسبون للإسلام، ثم يتعلمها أبناء المسلمين، ويفخرون بذلك آباءً وأبناءً'.
فالواحد منهم إذا أصبح ولده مستشاراً فهذا منصب عالٍ ورفيع، أما إذا كان -مثلاً- عضواً في محكمة النقض فهذا أعلى، أو رئيس محكمة النقض، أو رئيس المحكمة العليا بالبلد فهذا يعادل رئيس الجمهورية، ويعادل رئيس مجلس النواب في المرتبة، فهذه منزلة عظيمة جداً عندهم لجميع المجتمعات التي تحكم بالقوانين الوضعية.
يقول: 'هذه القوانين التي يصطنعها ناس ثم يجعلون مرد أمرهم إلى معتنقي هذا: الياسق العصري!! ويحقرون من يخالفهم في ذلك، ويسمون من يدعوهم إلى الاستمساك بدينهم وشريعتهم رجعياً، وجامداً! إلى مثل ذلك من الألفاظ البذيئة، بل إنهم أدخلوا أيديهم فيما بقي في الحكم من التشريع الإسلامي، يريدون تحويله إلى: ياسقهم الجديد، بالهوينا واللين تارةً، وبالمكر والخديعة تارةً -مثل قانون الأحوال الشخصية وتعدد الزوجات، وحتى ما كان في صلب الأحوال الفردية أيضاً، أدخلوا فيه هذه القوانين الوضعية- وبما ملكت أيديهم من السلطات تارات، ويصرحون -ولا يستحيون- بأنهم يعملون على فصل الدولة عن الدين!! أفيجوز إذاً -مع هذا- لأحدٍ من المسلمين أن يعتنق هذا الدين الجديد، أعني التشريع الجديد؟! أو يجوز لأب أن يرسل أبناءه لتعلم هذا واعتناقه واعتقاده والعمل به، عالماً كان الأب أو جاهلاً؟! '.
لا يجوز أبداً، ومع الأسف الشديد أن المحامي والقاضي الوضعي من أثرى طبقات المجتمع، وهذه الطبقة من أهم الطبقات، ومن أشدها ثراءً في جميع دول العالم.(93/46)
القوانين الوضعية كفر بواح
يقول: 'أو يجوز لرجل مسلم أن يلي القضاء في ظل هذا: الياسق العصري، وأن يعمل به ويعرض عن شريعته البينة؟! ما أظن أن رجلاً مسلماً يعرف دينه ويؤمن به جملة وتفصيلاً، ويؤمن بأن هذا القرآن أنزله الله على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتاباً محكماً، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبأن طاعته وطاعة الرسول الذي جاء به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واجبة قطعية الوجوب في كل حال، ما أظنه يستطيع إلا أن يجزم غير متردد ولا متأول؛ بأن ولاية القضاء في هذه الحال باطلة بطلاناً أصلياً، لا يلحقه التصحيح ولا الإجازة!! '.
والقضاء باطل، وأحكامه باطلة، ولا يجوز لمسلم أن يتولى القضاء في هذه الأنظمة الطاغوتية.
يقول: 'إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس، هي كفر بواح، لا خفاء فيه ولا مداراة، ولا عذر لأحدٍ ممن ينتسب للإسلام -كائناً من كان- في العمل بها، أو الخضوع لها أو إقرارها، فليحذر امرؤ لنفسه، وكل امرئ حسيب نفسه، ألا فليصدع العلماء بالحق غير هيابين، وليبلغوا ما أمروا بتبليغه غير موانين ولا مقصرين' رحم الله الشيخ أحمد هكذا ظن بالعلماء، لكن سمعنا عن المفتي الجريئ الشجاع الذي أحل فوائد الربا، وأحل كل شيء حرام نسأل الله العفو والعافية.
قال: ' سيقول عني عبيد هذا: الياسق العصري وناصروه، أني جامد، وأني رجعي، وما إلى ذلك من الأقاويل، ألا فليقولوا ما شاءوا فما عبئت يوماً بما يقال عني ولكن قلت ما يجب أن أقول '.
فقد بيّن رحمه الله ما يجب عليه أنه يبرأ منه، وبين لأمته حقيقة الأحكام والقوانين، فقد ذكر بأنها كفر بواح، واضح وضوح الشمس، لا مداراة فيه ولا مداهنة: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سمَّى ما عدا حكمه جاهلياً أياً كان، فأحكام الياسق جاهلية، وأحكام قريش جاهلية، وأحكام القانون الفرنسي جاهلية، والقانون الأمريكي جاهلية.
فالحكم حكمان: إما حكم الله، وإما حكم الجاهلية، وليختر الإنسان ما يشاء، ولتختر الأمة، فإن اختارت حكم الله كانت أمة مؤمنة مسلمة موحدة مطيعة شاهدة بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأمة التي تحتكم إلى غير شرع الله، وإن ظنت أنها تقول: إن الله موجود، وإن الدين حق، وأنها تصوم وتحج وتصلي إلى غير ذلك، فهي أمة تحتكم إلى شرائع الجاهلية، وتستحق أن تسمى أمة جاهلية، مهما كانت بها من الحضارة، أو من الرقي، أو من التقدم المادي كما يزعمون، فالقسمة ثنائية ولا ثالث لها.
إما أن يستقي الناس أحكامهم من حكم الله ومن دين الله، وإن كانوا يُخطئون، فالكل قد يُخطئ، فالقاضي المسلم قد يحكم وقد يفهم خطأً لكنه مستمد من دين الله، وأما أن يستمد من غير حكم الله فهو جاهلي.
وهذه الكلمة كلمة شرعية، فكلمة الجاهلية مصطلح شرعي متداول معروف في الكتاب والسنة، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لـ أبي ذر رضي الله تعالى عنه لما عيّر رجلاً بأمه، قال له: يا ابن السوداء! فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إنك امرؤاً فيك جاهلية} فهذا هو المعيار، فمن كانت عنده أحكام الجاهلية، قلنا: إنه رجل جاهلي نسأل الله العفو والعافية.(93/47)
النهي عن موالاة اليهود والنصارى
وبعد آيات الحكم والتشريع مباشرة تأتي آيات الولاية، والسورة مترابطة محكمة، فبعد الإنكار على القوانين الوضعية، يأتي النهي عن الولاية والموالاة للكافرين، فيقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:51 - 52] فيحذِّر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من ولاية اليهود والنصارى لأنهم أعداء، ويبين الله تبارك وتعالى حقيقة هذه العداوة، فيقول: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51] فهم متعاونون في القديم والحديث وفي كل زمان ومكان.
مثلاً أثيوبيا فيها أربعون مليون مسلم لم يتألم أحد لما يجري لهم، وفيها أربعة عشر ألف يهودي يتدخل الرئيس بوش لإيقاف الثوار عن دخول أديس أبابا، حتى تتم عملية موسى، وهي عملية نقل اليهود من أديس أبابا إلى إسرائيل، والعالم الحر الذين يحملون راية الديمقراطية والحرية، ومشعل الحرية في نيويورك الذي يفتخرون به لا يهمه أربعين مليوناً يسحقون من أيام هيلاسيلاسي، ثم أيام الحكم الشيوعي البائد، ثم -الآن- الجبهات الاشتراكية النصرانية الخبيثة، فكلها تسحق الأكثرية المسلمة، وتدمرها وتقتلها جوعاً، فلننظر ماذا قدموا لليهود وماذا قدموا للمسلمين؟ أولاً: أيام الإغاثة اهتموا بإغاثة الأجزاء الصليبية -فقط- من الحبشة، فالطائرات تنزل المعونات الغذائية في المناطق النصرانية، والقرى المسلمة تموت من الجوع، فلما جاءت واحتاجت إسرائيل للفلاشا وعملية موسى أيام الهالك النميري، والذي خطط لها وأشرف عليها بوش حين كان رئيس الاستخبارات، وهو الذي خطط لعملية موسى فرحَّلوا الدفعة الأولى ثم رحَّلوا الدفعة الثانية، فتدخل رئيس أكبر دولة في العالم، حاملة لواء الحرية، وشرطي العالم الكبير تدخل لتأخير الثوار حتى لا يدخلوا العاصمة من أجل أن يرحل (14) ألف يهودي، والطائرات تأتي من إسرائيل وتنقلهم جميعاً، وبعد ذلك لا يبالون عن الذي مات أو عاش، والجبهة المسلحة التي تقتحم البلد جبهة نصرانية، والضحايا سيكونون من المسلمين، ولا إشكال في ذلك، فبعضهم أولياء بعض، فهل نصدق دعاوى حقوق الإنسان والعدالة والمساواة والنظام الدولي الجديد ونحوه، أو نصدق الله؛ ثم نصدق الواقع الذي ينطق كل لحظة؟ ولا يمكن أن يخالف ما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51] فلا زجر ولا عقوبة أكثر من هذا.(93/48)
خطر تولي اليهود والنصارى
ثم يبين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى السبب الذي من أجله يتولى بعض المسلمين الكافرين: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة:52] فهذا عبد الله بن أبيّ بن سلول ومن معه، قالوا: (يا محمد ثلاثمائة دارع وحاسر تقتلهم في غداة واحدة وهم حلفائي، إني امرؤ أخشى الدوائر) فهذه حدثت في التاريخ، ولكن هل هي الحادثة والقصة الوحيدة التي تقال أم في كل زمان ومكان؟! فمن كان في قلبه مرض فسيسارع إلى قوانينهم وتبرجهم وحضارتهم وأنظمتهم وتوليهم وإلى أن يكون معهم، وهذا في كل زمان ومكان، فليحذر المسلمون أشد الحذر من هذا.
ولتتأمل الأمة ماذا قال الله تبارك وتعالى بعد أن ذكر هذه الآية، قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِه} [المائدة:54] أي: من يتبع قوانينهم وتشريعاتهم ومن يتولهم ويرتد عن دينه فسيصبح كالكفار، ثم سيأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه، فهذا دين الله، وليحفظن الله هذا الدين حتى يبلغ ما بلغ الليل والنهار وليرتد من يرتد، وليتولِ الكفار من يتولهم، وليفعل من شاء كما يشاء، فالله غني عن كل الناس، وله جنود يصطفيهم ويختارهم، ولا يبالي بمن عداهم أبداً.
فإذا ارتدت أمة أو جيل أو ولاية، وتابعوا الكفار والمشركين، فعند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى البديل، فـ: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ} [المائدة:54] أول صفاتهم: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] فلا يحبون الكفار ولا يوالونهم ويحبهم ويحبونه: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:54] فهم أذلة على المؤمن مهما كان حاله، فهو يحبه سواء كان أسود أم أبيض، غني أم فقير، في أقصى الهند أم في أقصى الفلبين، و: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54] ولو كان من كان من الكفار، فنحن أعزاء، وليس كحال المسلمين اليوم، فالمسلم يُهان ويُذل، والكافر يعظم ويجل حتى في الشارع والطريق -إلا من رحم الله- فأكثر المسلمين اليوم إذا رأوا أنك مسلم، وإذا رأوا أن الرجل أتى من الهند مثلاً أو من الصين وهو مسلم فلا قيمة له، وإذا قال: رجل غربي أو أوروبي أمريكي فتجد أن جميع الناس يحترمونه ويقدرونه -سبحان الله- فهل هذا يكون في قوم صفتهم يحبهم ويحبونه؟! فمحبة الله لا تنال بالدعاوي، محبة الله غالية: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] فاتباع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظاهراً وباطناً جهاداً ودعوةً، علماً وعملاً، تورث ذلك: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المائدة:54] فهم يرفعون راية الجهاد: {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54] وهذا الذي يصلح فيه ما قاله الشاعر:
أجد الملامة في هواك لذيذة حباً لذكرك فليلمني اللوم
إذا كنت تعمل لله فليلمك الناس في الله، ويقال: هذا إنسان يُطبق السنة، أو ملتزم، أو يعادي الخواجات، أو يكرههم، أو متشدد ومتطرف وأصولي، وكل كلمة لا تهمك، فليلمك اللوم مادام غرضك ومرادك وجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلا تبال بهم لأنه لو كانوا يبالون بلومة اللآئم، ولو كانوا تأخذهم في الله لومة لائم، لم يكونوا محبين لله، فمن يحب الله لا يبال بالخلق أبداً.
وكلٌ واحد منَّا ينظر في نفسه، فأنت إذا أحببت أحداً من زملائك أو من أصدقائك أو زوجتك أو أي إنسان فإنك لا تسمع ما يقال فيه، ولو قيل: اتركه، ولا خير فيه، فوالله إنك لا تبالي لأنك أحببته، فكيف بمن أحب رب العالمين سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن كان من أوليائه.
والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يجعل هذه المحبة مجرد أمركما يظن كثير من الناس، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عندما يحبهم يجعل لهم قيمة ومنزلة ويكرمهم ثم يدخلهم الجنة، ويرون وجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإن العبد إذا أحب ربه وأحبه ربه صار من أولياء الله، والله تعالى يقول في الحديث القدسي: {من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب}.
فليتق الله هؤلاء الصحفيون والدجالون وأصحاب المجالس، وكل من يعادي من يدعو إلى كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والحمد لله رب العالمين.(93/49)
من أعمال القلوب: (اليقين)
بدأ الشيخ حفظه الله هذه المادة بالحديث عن ضرورة الاهتمام بأعمال القلوب، مبيناً أن الإيمان هو أعظم أعمال القلوب، موضحاً خلال ذلك أقسام القلوب مع التمثيل عليها، ثم تحدث عن الأسباب التي أدت إلى ضلال الأمة فيما يتعلق بأعمال القلوب، وموقف أهل البدع منها.(94/1)
علاقة العلم بأعمال القلوب
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: نسأل من الله الكريم رب العرش العظيم أن يمنَّ علينا بحلاوة الإيمان وبرد اليقين، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يحسن عاقبتنا في الدنيا والآخرة إنه سميع مجيب.
فبعد أن تكلمنا عن أهمية عمل القلب، نتكلم في موضوع آخر متعلق بأعمال القلوب وهو موضوع عظيم جداً لمن فقهه الله تبارك وتعالى في الدين، وهو غاية المتقين وغاية العباد، التي سَمر لها المجتهدون، وتنافس فيها المتنافسون، والتي بها يتفاوت الخلق أجمعون، ألا وهو: اليقين.
وقد يُسأل لِمَ بدأتم باليقين قبل غيره من أعمال القلب؟ فنقول: إن أعمال القلب وهي بالأهمية والمثابة التي تحدثنا عنها في الدرس السابق من سلسلة أعمال القلوب وبينا فضلها وقدرها وعظيم شأنها، وأهميتها، وهي في حقيقتها تبدأ جميعاً بعمل واحد ألا وهو العلم.
فالعمل الذي تبدأ به أعمال القلوب جميعاً هو العلم.
ولذلك الإمام البخاري رحمه الله جعل ترجمة في صحيحه: ' باب العلم قبل القول والعمل وقول الله - تبارك وتعالى -: {فَاْعلَمْ أَنَّهُ لاْ إِلَه إِلاْ الله وَاْسّتَغْفِرْ لِذَنْبِك} [محمد:19] ' فأول ما يطرق قلب المؤمن من معرفة الرب تبارك وتعالى والإيمان به هو العلم، وهو أن يعلم أنه لا إله إلا الله، وهذه هي شهادة الحق التي فسر بها بعض السلف قول الله تبارك وتعالى {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86] وهي: الصدق الذي فسر به بعض السلف أيضاً قول الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33] وهي أيضاً الكلمة الباقية التي يفسر بها قول الله تبارك وتعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:28].
العلم بأنه لا إله إلا الله، والعلم بأن الله تبارك وتعالى حق، وأن النار حق، وأن الجنة حق، وأن البعث بعد الموت حق، وأن الرسل حق، وكل ما أخبر الله تبارك وتعالى به أو أخبر به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أمر الغيب حق.
لكن هذا العلم أو هذه المعرفة بالله تبارك وتعالى، تخرج الإنسان إذا اعتقدها اعتقاداً جازماً عن الشك وعن الريب، كما قال الله تبارك وتعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1 - 2] فهذه تخرج الإنسان عن حد الريب والشك والظن ليصبح مؤمناً بالله تبارك وتعالى.(94/2)
علاقة العلم باليقين
إن العمل القلبي الذي هو زيادة واستمرار ونماء لهذا العلم ولهذه المعرفة هو اليقين، فإذاً نستطيع أن نستنتج نتيجة وهي: أنه ليس كل عالم موقن.
فالذين يعلمون أنه لا إله إلا الله ولا ريب عندهم في ذلك، بل لديهم القدر الذي يخرجهم من حد الشكوك والريب، هم كثير، لكن المؤمنين منهم بصفات اليقين التي نريد أن نتحدث عنها، والتي هي المقصود والغرض في هذا الموضوع هم قليل، فالموقنون قليل، ويقابل ذلك في الأعمال الظاهرة أن المسلمين كثير.
ونعني بالمسلمين الملتزمين بأداء ما افترضه الله تبارك وتعالى من الأركان الظاهرة، كما جاء في حديث جبريل عليه السلام، فهم يشهدون بأن لا إله إلا الله، ويصلون، ويصومون، ويحجون ويزكون، إلى آخر ذلك، ولكنهم لم يرتقوا إلى درجة الإيمان، كما قال الله تبارك وتعالى عن الأعراب {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14].
وأعلى من ذلك درجة الإحسان، فنحن هنا نتكلم عن اليقين، باعتباره الإحسان في باب العلميات وفي باب الاعتقادات، كما أن الإحسان الذي فسره حديث جبريل عليه السلام في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك} وهذا في العمليات، وإن كان لا انفكاك ولا انفصال بين العلميات وبين العمليات، لكن اليقين يطلق على ما هو من خصائص عمل القلب بالدرجة الأولى، وتكون أعمال الجوارح ثمرة له، وتكون مما يصدقه ويزيده وهو يزيدها، كما سنبين ونوضح إن شاء الله تبارك وتعالى.
فإذاً العلم هو أساس اليقين، وأما ضده ونقيضه فهو الشك والريب، ولهذا يقول المشركون في إيمانهم بالساعة: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:32] أي: ليسوا على يقين وإنما هم في ظن، وهذا الظن خالطه الشك بمعنى الريب.
لأن الظن يأتي بمعنى العلم كما في قوله تعالى: {فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف:53] وما أشبه ذلك، لكن المقصود هنا: ما كان فيه شك، فهؤلاء هم أصحاب الشك في الآخرة: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66] أو في شك من الله تبارك وتعالى الذي قال: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} [إبراهيم:10]، تعالى عن ذلك عز وجل في أي أمر من أمور الغيب، فهذا الشك وهذا الظن ينزل أصحابه عن درجة اليقين بل عن درجة العلم.(94/3)
منزلة اليقين وتجليها في الخليل إبراهيم عليه السلام
واليقين بهذه المثابة وبهذا الفهم منزلة يحبها الله تبارك وتعالى، ويريد من عباده أن يصلوها، ولهذا يقول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام:75] فإبراهيم عليه السلام كان مؤمناً بدليل أنه قال في الآيات قبلها: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنعام:74]، فهذه الآية في الدرجة التي قبل اليقين، فهو مؤمن، وقد حكم على أبيه وعلى قومه بالضلال؛ لكونهم يعبدون غير الله تبارك وتعالى، لكن الله أراد أن يزيده إيماناً بهذا، وأن يجعله من الموقنين.
وهي درجة عليا ومرتبه عظمى، فجعل الله سبحانه وسيلة ذلك أن يريه ملكوت السماوات والأرض، فبعد أن أيقن واستيقن به ورآه وتأمله، جزم جزماً قاطعاً أن قومه على ضلالة وتبرأ منهم، ورفع الله تبارك وتعالى حجته عليهم، ودحض شبهاتهم، وأيقن أن الأمن والاهتداء لا يكون إلا للمؤمنين، ولا حظَّ فيهما لأحد من المشركين.
وهذا يشابه أيضاً قول الخليل عليه السلام عندما طلب من الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] فهي أيضاً زيادة ودرجة في اليقين والاطمئنان، وهذه هي حقيقة اليقين، وإذا تأملنا أثر ذلك نجد أن اليقين الذي حصل له عليه السلام أثمر لديه يقيناً في امتثال أمر الله تبارك وتعالى، يقيناً لا يكاد يوجد عند أحد، إلا من وفقه الله تبارك وتعالى لمثل ذلك من رسله وأوليائه المصطفين الأخيار.
فما هو هذا اليقين الذي كان عند الخليل؟ وما الأمر الذي أُمر به الخليل وهو بهذه الحالة -قليل من الناس من يستجيب لهذا الأمر إذا أمر به-؟ أمر بذبح ابنه، بل ولم يأمره جبريل بقوله: إن الله يبلغك أن تذبح ابنك، ولكن جاء أمره: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102] مجرد رؤيا، فلم يقل لعلها من الشيطان أو كذا، أو أنام الليلة فإن تكررت فعلت، ولكن اليقين جعله يمتثل، وجعل ابنه كذلك يمتثل {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات:102] فقد حصل اليقين عند الأب، وكذلك حصل اليقين عند الابن، فجعله الله تبارك وتعالى من الموقنين.
وهذه هي الدرجة التي يريدها الله تبارك وتعالى ويحب أن يكون أنبياؤه وأولياؤه عليها.(94/4)
علاقة اليقين بالإيمان
إن اليقين كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فيما علقه البخاري: [[الصبر شطر الإيمان، واليقين الإيمان كله]]، وهذا الكلام هو من درر الكلام وغرره، وما أكثر من يتكلم به من السلف الصالح وقد يغفل عنها الكثير والكثير من الذين لا يطالعون سيرهم ولا يتابعون أقوالهم رضي الله عنهم، فإن هذه العبارة الوجيزة تحمل معانٍ عظيمة جداً، فقد جعل عبد الله رضي الله عنه الصبر شطر الإيمان، ولكنه جعل اليقين الإيمان كله، فلِمَ ذلك؟ الصبر هو حالة تصاحب العابد في عبادته، فهو يرجع إلى قول الله تبارك وتعالى في الفاتحة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] فالصبر يرجع إلى أي الأمرين؟ يرجع إلى الاستعانة، فاصبر واستعن بالله {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] وقال تعالى: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ} [الأعراف:128] إلى آخر ذلك، فيستعين العابد، ويستصحب هذا العمل -وهو عمل قلبي عظيم- في طريقة سلوكه للصراط المستقيم، فيعبد الله تبارك وتعالى بالصبر، ففي كل أمر يصبر على طاعة الله، ويصبر عن معصية الله، ويصبر على أقدار الله، لكن اليقين الإيمان كله؛ لأن العبادة لا بد أن تكون عن يقين، وما الصبر إلا ثمرة من ثمرات اليقين، فاليقين يشمل الإيمان كله، ويشمل الدين كله.
ولهذا يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند: {أحب الأعمال إلى الله عز وجل، إيمان لا ريب فيه أو لا شك فيه} فهذا هو أحب عمل إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وقال بعد ذلك {وجهاد لا غلول فيه، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة}.
فأحب الأعمال إلى الله هو الإيمان الذي لا ريب فيه ولا شك فيه، وهو الذي يوصل صاحبه إلى درجة اليقين، فلذلك كان حقاً أن اليقين هو الإيمان، وهو الدين كله، ويشهد لذلك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما وعد من شهد أن لا إله إلا الله بالجنة وأن يحرمه على النار، جعل ذلك مقترناً باليقين كما هو مقترن بالإخلاص، كما في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في قصة غزوة تبوك عندما اشتد الأمر على الصحابة رضي الله عنهم، فأرادوا أن يذبحوا جمالهم ليأكلوا منها، فقال عمر رضي الله عنه {يا رسول الله: لو جمعت الطعام الذي عند المسلمين ثم دعوت الله تبارك وتعالى فيبارك الله تعالى فيه، ففعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمشورته، فبارك الله لهم في طعامهم وتزودوا جميعاً}، ثم قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد مستيقناً بهما غير شاك إلا دخل الجنة}، فهذا معنى ذلك.
ففي مثل هذه الحالة -حالة اليقين- من رأى آية من آيات الله، كما رأى الصحابة الكرام أمام أعينهم، فمن أيقن بذلك فقد شهد أن لا إله إلا الله حقاً، فلا بد أنه في هذه الحالة قد كَمُل إيمانه، فأصبح حقاً أن اليقين هو الإيمان كله.
وكذلك في قصة وفاة معاذ رضي الله عنه وهي أيضاً قصة صحيحة رواها الإمام أحمد رضي الله عنه بسند ثلاثي صحيح، عن جابر رضي الله عنه، يقول جابر رضي الله عنه: {أنا ممن حضر معاذاً رضي الله عنه عند موته، قال: ارفعوا عني سجف القبة -طرف القبة ليخاطب الناس- ارفعوا عني أحدثكم حديثاً سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما منعني أن أحدثكم به إلا أن تتكلوا، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من شهد أن لا إله إلا الله موقناً بها من قلبه دخل الجنة}، وقال في رواية: {حرم على النار من شهد أن لا إله إلا الله موقناً بها من قلبه} فهكذا يبلغ اليقين في أصحابه، وهذا هو اليقين الذي يمحو كل شبهة ويمحو كل شهوة، فيصبح الإنسان ذا قلب أجرد أزهر يتلألأ نوراً بما نوره الله تبارك وتعالى.(94/5)
الصبر واليقين من صفات الهداة المهديين
وهنا وقفة عظيمة في اقتران الصبر باليقين كما في كلام عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، المأخوذ من القرآن من قول الله تبارك وتعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].
فهذه هي صفات الهادين المهديين، الذين يخرج الله تبارك وتعالى بهم العباد من الظلمات إلى النور ويقيم بهم الحجة.
فأئمة الهدى هذا شأنهم وهذه صفتهم، ولن تجد داعية من دعاة الحق، وإمام من أئمة الهدى، إلا أعطاه الله من هاتين الصفتين ما يشاء عز وجل: الصبر واليقين، لولا الصبر لما تحمل، ولما قاوم الابتلاء والفتن، التي لا بد أن يتعرض لها كل من دعا إلى الله تبارك وتعالى، ولولا اليقين أيضاً لما استمر ولما تابع، ولما كانت سيرته الاستقامة على هذا الدين والثبات، مهما كانت العوائق ومهما كانت العقبات فهاتان الصفتان من جمعهما أوتي الإمامة في الدين.
ولهذا يقول سفيان رحمه الله: [[أخذوا برأس الأمر فجعلهم رءوساء على الناس أئمة لهم]].
ورأس الأمر وأفضله أو أعلاه -أي في أعمال القلب- هو اليقين ومعه الصبر، فلما أخذوا من أعمال القلب ومن الطاعات برأسها، جعلهم الله تبارك وتعالى رءوساء على الناس أئمة يدعون إلى الهدى.
فلا بد من اقتران هذين لكل من دعا إلى الله، ولكل من جاهد في سبيل الله تبارك وتعالى ولكل من أراد أن يتقرب إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن يعبد الله كما أراد وكما رضي وكما شرع لنا أن نعبده.(94/6)
منزلة اليقين
اليقين يكون في حالين هما: 1 - أن يكون اليقين في خبر الله.
2 - أن يكون اليقين في أمر الله.
والمراد بخبر الله: ما كان من العلميات، أي: ما كان من الأمور العلمية الاعتقادية التي حسب المؤمن أن يؤمن بها، وأن يصدق وأن يوقن، وليست أمراً عملياً مطلوباً منه.
واليقين في أمر الله: هو العمل المطلوب من العبد، فيوقن العبد بأمر الله تبارك وتعالى فيستقيم على أمر الله، ويقوم بأداء هذا العمل الذي افترضه الله تبارك وتعالى عليه.(94/7)
الأمثلة على اليقين في خبر الله عز وجل
هناك أمثلة عديدة على اليقين في خبر الله، مثل: خبر البعث، فقد أخبرنا الله تبارك وتعالى أنه يحيي الموتى ويبعث من في القبور، فالواجب علينا أن نوقن بذلك، ولذلك يقول عز وجل: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7] فهو حق لا شك فيه، فنوقن بالبعث من بعد الموت.
وهناك مثال آخر ألا وهو الموت: فالموت كلٌ يؤمن به، المؤمن والكافر، ولهذا يقول الحسن البصري رحمه الله: [[ما رأيت يقيناً لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت]]، فالموت كلٌ يوقن به، حتى الكافر؛ لكن أعجب ما في حياة الناس كما قال رضي الله عنه: أن أكثر الناس لا ترى لهذا اليقين أثراً في حياتهم، ولهذا يقول: [[ما رأيت يقيناً لا شك فيه]].
فما تجد إنساناً في هذه الدنيا يشك في موته، لكن يقينه هذا أشبه بشك لا يقين فيه، فإذا نظرت إلى أعمالهم فهم يعملون ويجمعون ويجتهدون كالذي لن يموت أبداً، ولا نجد ليقينه هذا أثراً في حياته.
وقبل ذلك نؤمن بأن الله حق، وأن الجنة والنار حق، فنؤمن بها قبل أن نراها، وأن يوم القيامة آت، وسنبعث ونحاسب، فكل هذه نؤمن بها وهي أمثلة لما أخبرنا به ربنا عز وجل.
وهناك أمثلة أخرى أيضاً - مثلاً - عذاب القبر ونعيمه، نوقن به يقيناً ولا نشك في ذلك، لأن الصادق المصدوق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبرنا به، ولذلك نحن نؤمن به، وقد جاءت الأدلة به في القرآن.(94/8)
أقسام أخبار الغيب
وأيضاً نؤمن بالصراط، والملائكة، ورؤية وجه الله والميزان، وجميع أركان الإيمان، فهذه الأخبار على ثلاثة أنواع هي: أولاً: أخبار هي غيب محض: وهذه التي مدح الله تبارك وتعالى المؤمنين بها، في أول القرآن بعد الفاتحة في سورة البقرة: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:2 - 3] وهذا يشمل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والصراط والميزان، وغير ذلك.
وهذا من الغيب المحض الذي يكون بعد أن يلقى العبد ربه، فهو مادام في هذه الدنيا فهذا من الغيب الذي لا يراه.
ثانياً: أخبار هي غيب نسبي والمقصود بها: ما أخبر به الله أو أخبر به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما سيكون في هذه الدنيا، ومما هو واقع ويكون في هذه الدنيا، وهذا يدخل فيه أمور كثيرة منها: أن توقن بظهور الإسلام على جميع الأديان، ومن أعظمها: أشراط الساعة التي نؤمن ونوقن بها حق اليقين، ولا نشك في ذلك ولا نتردد، ومن أشراط الساعة: خروج المسيح الدجال، وطلوع الشمس من مغربها، وخروج يأجوج ومأجوج، والدابة، وبنزول عيسى عليه السلام، وبالدخان، وخروج النار من قعر عدن، وهي آخرها كما في حديث حذيفة في صحيح مسلم، فهذه الأشراط الكبرى العشرة مع الخسوفات الثلاثة: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب، وخسف في جزيرة العرب.
فهذه عشرة.
والعلامات الأخرى غير هذه كثيرة منها: خروج ما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من الفتن، وخروج المهدي ويكون مع عيسى عليه السلام، ويصلي خلفه، والحرب مع اليهود، ونوقن أن هذه الأمة ستقاتلهم حتى يقول الحجر والشجر يا مسلم هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، ونؤمن بتطاول رعاة الشاء في البنيان وتفاخرهم فيه، وهذا مما شوهد الآن وغير ذلك.
فإذاً: علينا أن نؤمن بكل ما أخبر به الله أو أخبر به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيماناً لا يتزعزع ولا يتزحزح أبداً وبذلك نصل إلى درجة أو مرتبة اليقين فنكون موقنين بذلك.
ثالثاً: نؤمن بما هو من أمر الغيب: لكن يمكن أن يكون غيباً عند البعض وليس غيباً عند البعض الآخر، ومن أمثلتها حديث الذبابة، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ثم ليلقه، فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء} فهذا بالنسبة لنا نحن الذين ليسوا من أهل الدراسة أو الاطلاع الكيميائي والبحث التجريبي وغير ذلك، فنحن عن طريق الغيب نؤمن بذلك.
ولكن لو أن أحداً حلل ورأى ودقق حتى عرف الداء وعرف الدواء، فهذا أصبح بحقه من عالم الشهادة لا من عالم الغيب، لكن نحن نؤمن بذلك وبما قاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سواء جربوا أو لم يجربوا.
والإيمان بالغيب أفضل، لأنا إذا جربنا ورأينا لم يعد ذلك إيماناً بالغيب، وإن كان إيماننا وتصديقنا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يزيد، وأكثر الناس لا يزيد إيمانه إلا إذا رأى.
لكن المؤمن ينبغي له أن يوقن وأن يصدق بذلك دون أن يحتاج إلى تجريب وامتحان، لأنه أخبر بذلك الصادق المصدوق الذي أخبر الله تعالى أنه لا ينطق عن الهوى.
إذاً: يكون لدينا اعتقاد مطلق بأن كل ما أخبر به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو حق من عند الله تبارك وتعالى لا نشك في ذلك ولا نتردد أبداً، ولكن الشرط الوحيد الذي نطالب به هو أن يصح وأن يثبت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال ذلك، وهذا يدخل في عموم قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] فكل ما آتانا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نأخذه كما في قوله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء:45] فهو إنما ينذرنا بالوحي من عند الله عز وجل، وليس بشيء من عند نفسه، فنؤمن بهذا كله، وهذا لا يحتاج إلى إطالة ولا إلى شرح ولا إلى تفصيل.(94/9)
أهمية اليقين في أمر الله عز وجل
ننتقل إلى القسم الآخر، وهو مهم لأننا نحتاجه كثيراً نحن المسلمين في هذه الأمة، وهو اليقين في أمر الله! فإذا أمر الله تبارك وتعالى بأمر أن نوقن به مثلما نوقن أيضاً في خبر الله، وهذا يكون في الأمور العملية، فكما أنه في الحالة الأولى لا شك في خبره، فكذلك لا بد من اليقين فيما أمر به من الأعمال -مثل- توحيد الله وعبادة الله، فنوحد الله ونعبده، بالصلاة، والزكاة، والصيام، وكل أنواع العبادات.
وأن يكون العبد من اليقين بحيث إذا علم أن الله تعالى حرم ذلك، فلا بد وقف ممتثلاً ومذعناً قائلاً في نفسه: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الزمر:13].
فهكذا لا يمكن أن يقدم العبد على محارم الله ولا أن ينتهكها، وكل ما أمر الله تبارك وتعالى به من أمر فإنه يقدم عليه ويفعله موقنا أن الله أمر به وشرعه، وموقنا أن الله تبارك وتعالى يجازي من فعله بالجزاء الذي وعد به، فيكون موقناً بالوعد وموقناً بالوعيد، ممتثلاً للأعمال التي يترتب عليها الوعد والوعيد، فما كان مأموراً به فعله وما كان منهياً عنه تركه، وهذه حقيقة التقوى.
فإذاً: الموقنون في هذه الدرجة هم طائفة خالصة من المتقين، عندما أيقنوا أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حرم ما حرم، فحرم الزنا، وحرم الربا، وحرم الخمر، وحرم السرقة، وحرم الرشوة، وحرم الغيبة، وحرم النميمة، وحرم الإساءة إلى الجار، وحرم عقوق الوالدين، وحرم الإضرار بالناس، وحرم الظلم، وحرم البغي، وحرم العدوان، فكل ما حرمه الله تبارك وتعالى فاجتنبوه وانزجروا عنه، ولم يأتوه أبداً.
وأيقنوا أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمر بالصلاة، والزكاة، والحج، والصيام، والصدقة والعدل، والإحسان، وبر الوالدين، وفعل الخيرات عموماً فكل ما أمر به الله تبارك وتعالى أيقنوا أن الله أمر به، وأن الله يجازي من فعله بخير الجزاء، فلذلك امتثلوه وعملوه.(94/10)
أمثلة ضربها الصحابة في تحقيق هذه المنزلة
ولو تأملنا أفضل جيل وأعظم جيل وأروع أمة ضربت المثل الأعلى في اليقين، وهم الجيل الذي رباه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لرأيتم العجب العجاب في الحالين، في حال اليقين بأمر الله، وفي حال اليقين بخبر الله عز وجل.
فلنأخذ بعض الأمثلة على يقين الصحابة رضي الله عنهم: فمثلاً: يقين عامر بن عبد القيس رضي الله عنه في القول المأثور عنه: [[لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً]] وكذلك ما روي عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال: [[لو رأيت الجنة والنار ما ازددت يقيناً، لأني رأيتهما بعيني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذي قال فيه ربه: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17]]]، فهو يقول: أنا لا أضمن أن يزيغ بصري أو أن يطغى، فهنا درجة عظيمة من اليقين من جهة، وتعظيم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعرفة قدره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من جهة أخرى، فكأنه يقول: لو أني اطلعت فرأيت الجنة والنار، لربما زاغ بصري أو طغى فلا أوقن بها أو لا أراهما على حقيقتهما، لكني لما رأيتهما بعيني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولما أخبرني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنهما كما في ليلة الإسراء وغيرها، فهذا عندي أوثق من رؤيتي أنا بعيني، فهذا لا شك أنه يقين من جهة، وأيضاً معرفة بقدر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من جهة أخرى.
وكذلك هناك مثال آخر: أبو بكر رضي الله عنه حين أتاه كفار قريش وقالوا له: إن صاحبك قد كان يزعم ويزعم أما الآن فقد جاء بأمر عجيب، وما نظنك إلا تكذبه، قال: ما هو؟ قالوا: يزعم أنه ذهب إلى بيت المقدس ثم عرج به إلى السماء وعاد في ليلة، فمعنى كلامهم: حتى في مثل هذا الخبر يمكن أن تصدق صاحبك بما يقول؟ فقال: [[إن كان قاله فقد صدق]]، فشرط يقينه بصحة الخبر، فلما تبين له أنه قاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيقن بذلك حقاً، لأن لديه يقين لا يمكن أن يشك أبداً في صدق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد كان من الموقنين رضي الله عنه.
وغير ذلك كـ عبد الله بن رواحة القائل:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها علي إن لاقيتها ضرابها
أنس بن النضر رضي الله عنه -وقد كان أعرجاً- ذهب إلى معركة أحد فقال له بعضهم: يا أنس إن الله قد عذرك: {وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ} [الفتح:17]، فقال: {والله لأطأن بعرجتي هذه الجنة، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: لقد رأيته في الجنة وما به عرج}، فيقينه في الجنة وهو في المعركة وقت المعمعة؛ حيث تخفق القلوب وترجف، ويبدأ الإنسان يفكر من أين أهرب؟ وأين الملجأ؟ وأين المفر؟ هم يقدمون موقنين: أننا أقرب ما نكون إلى الجنة.
والآخر عمير بن الحمام القائل: {بخٍ بخٍ ليس بيني وبين أن أدخل الجنة إلا هذه التميرات}، هذا يقين الصحابة -رضي الله عنهم- فـ أنس يقول: {والله إني لأجد ريح الجنة من دون أحد} فهم يرون كأن عالم الغيب أصبح أمامهم عالم شهادة، ولنا في هذه وقفة.(94/11)
تكريم الله للإنسان على غيره
عندما يكون عالم الغيب أمام عينيك كيف تصبح حياتك، فالفرق بين الإنسان وبين البهائم، وبين العالم والجاهل، وبين الغافل والذاكر، هو هذا اليقين.
والناس كثير منهم كالأنعام بل هم أضل، وقد جاء في حديث صححه الشيخ الألباني: {ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وكل شيء يذكر الله عز وجل}، كما في القرآن: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44] {إلا المردة من الشياطين والأغبياء من بني آدم} مهما كان علمهم وفقههم فهم أغبياء كالأنعام.
فهؤلاء الغافلون الأغبياء الذين وافقوا المردة في أنهم لا يذكرون الله، فمثلاً: إذا رأى موتاً أو حياةً أو فرحاً، أو ضحكاً، أو حزناً، أو ألماً، أو فقراً، وإن رأى ما رأى فهو لا يتأثر أبداً، كالدابة تمر وتنظر إلى دابة أخرى تذبح ثم تذهب وترعى ولا تبالي بشيء! فهذا حال الكفار الذين لا يوقنون: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66].(94/12)
المؤمن يرى بعين الإيمان والبصيرة
أما المؤمن فإنه يرى هذه المظاهر والمناظر بعين غير تلك العين، فله نظرات أبعد وأعمق من ذلك بكثير، فلو لم يكن في حال المؤمن إلا أن يقف وينظر إلى الناس وهم ذاهبون في الصباح -مثلاً- فيرى ويتعجب كيف أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي أعطى هذا وأعطى هذا، كيف جعل الآيات له تبارك وتعالى في اختلاف ألسنتهم وألوانهم، فاختلاف الألسنة والألوان عجيب جداً.
ومن عجائب الله سبحانه اختلاف سعيهم أيضاً: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4] فهذا عاصي وهذا بار، وهذا فاجر، وهذا مدبر، وهذا معرض، وهذا الآن اهتدى، وهذا متعمق في الإيمان، وهذا متعمق في الغواية، وهذا وهذا فهو يرى الأشياء ولكن بعين غير تلك العين.
فالفرق بينهما كالفرق بين من يرى أخشاباً أمامه وبين آخر تعمق فأخذ منظاراً مكبراً فإذا هذه الأخشاب عبارة عن مخلوقات عجيبة جداً، والآخر لا يراها أبداً فيظنها حجارةً أو أخشاباً أو أشياء لا قيمة لها.
فالمؤمن يرى ما يجري من أحداث بعين اليقين وبعين البصيرة، فيتأمل في ملكوت السماوات والأرض.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
فأي شيء في نفسك أو في الكون وقعت عينك عليه ففيه آيات عجيبة، وعظيمة، ففرق بين الغافل والذاكر، فهذا حي، وقلبه حي، وارتباطه بالله دائم ويقينه وفكره، كذلك ولذلك فهو مترفع عما يفكر فيه الأقلون.
ولذلك مما يترتب على هذا: أن العبد المؤمن يصبر على كل ما أصابه، لأن من يقينه أنه يصبر على كل ما يصيبه، ويعلم أن الخير والشر مقدر عليه، وكل ذلك من الله تبارك وتعالى فلا يجزع ولا يقنط.
ولذلك يوجد الفرق الكبير بين الناس إذا وقعت مصيبة أو كارثة، على هذا الذاكر أو ذاك الغافل، وما أكثر ما يعرض للإنسان في هذه الحياة الدنيا من ذلك.(94/13)
الأمثلة على اليقين في أمر الله عز وجل
هناك أمثلة من اليقين في امتثال الأمر -مثل- بلال وعمار وغيرهم لما عذبوا -رضي الله عنهم- فتوضع الصخرة في حر مكة في الرمضاء على بلال وعلى صدره وهو يقول: [[أحدٌ أحد]] يوحد الله تبارك وتعالى، فهذا من يقينه رضي الله عنه، وهناك أمثلة أخرى عجيبة من هذا، عندما يقتل الرجل منهم أخاه، أو أباه، أو قريبة، في ذات الله، فما فعل ذلك إلا لأنه موقن في أن هذا عدو لله، وموقن بأن الله سبحانه أمره بأن يبرأ من الكافرين، وموقن بأنه لا ولاية ولا صلة بين المسلمين وبين الكافرين، وموقن أن من قاتل وقتل في سبيل الله فإن جزائه الجنة، فهذا أيضاً نتيجة اليقين.
وكذلك حين قُبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اهتزت القلوب وارتجفت، حتى عمر رضي الله عنه قال: [[ما مات؛ بل رفعه الله إليه]] فاضطرب أمره رضي الله عنه، فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: [[يا عمر، أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام، وتلا عليه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]]] فأيقن عمر.
ولما ارتدت العرب قاطبة وكان الموقف كما علمنا من عمر رضي الله عنه وبعض الصحابة، نجد اليقين عند أبي بكر يقيناً عجيباً جداً، حتى إنك تتعجب كيف أنفذ جيش أسامة إلى أقاصي الروم وقد ارتد أكثر العرب من حوله, وجيش أحد عشر لواءً يبعثها، كلاً منها يبعثه إلى ناحية من النواحي، ليعيدوا الناس إلى هذا الدين، فهذا يقين بأن الله سبحانه سينصر هذا الدين، وأن ما أخبر به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق، وأنه مهما كانت الهزة ومهما كانت الصدمة، فإن النصر والغلبة بإذن الله ستكون لهذا الدين.
ونستطيع أن نقول: إن حياة الصحابة -رضي الله عنهم- كانت كلها يقيناً مثلاً: لما حرم الله تبارك وتعالى الخمر، وسنضرب المثل بها لأنها ليست كالسرقة، وليست كالزنا، فالأمر يتعلق بالإدمان، ومن يعرف ومن يسأل ويرى المدمنين -نسأل الله العفو والعافية- يجد أن أصعب، وأشق شيء على النفس أن تتخلص من عادة الإدمان، ولهذا لو قلت لإنسان مدخن: نقطع عنك الرز واللحم لما تأثر، ولو قلت له نقطع عنك التدخين فلن يقبل لأنه ليس لديه يقين، وهذا ليس إدمان تدخين، بل إدمان خمر، فلما أنزل الله تبارك وتعالى تحريم الخمر ماذا فعل الصحابة رضي الله عنهم؟ أراقوها، ولما قال: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91] قالوا: [[انتهينا ربنا، انتهينا ربنا]] فأراقوها -بلا تفتيش ولا رقابة ولا شرطة ولا هيئات- هم بأنفسهم، فحين أنزل الله تحريمها.
أيقنوا بذلك فقالوا: [[انتهينا ربنا]] فأراقوها حتى جرت السكك في المدينة بها.
فإذا انتفى اليقين تكون الحالة كما جرى في أمريكا، فقد حدثت قصة عجيبة استمرت في العشرينات وأوائل الثلاثينات من هذا القرن، وذلك عندما قررت أمريكا، أو قرر عقلاؤها إصدار أمر بتحريم الخمر؛ لأنها ضارة، ولا شك أنها تفسد الرجل الحليم كما قال أهل الجاهلية.
فقالوا: لا بد من تحريمها، وجندوا النشرات والإعلانات والدعايات بجميع أنواعها، ورصدوا لها الملايين، والجنود والمفتشين، وكل ما تتصوره أمريكا، فحين تعزم أمريكا على شيء وتقرره، يكون حالها كما قال تعالى {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:130] فإذا قررت شيئاً فإنها تتحرك وتتابع وتحقق وتعقب وكل ما يتخيله الإنسان من نظام ودقة، فما الذي حدث؟ اضطروا وأرغموا هم بأنفسهم أن يتراجعوا عن هذا القرار بعد ثلاثة عشر أو اثني عشر سنة، وألغوا هذا القرار، لأنه لم يستجب الشعب لهم، بل زادت المصانع وتحولت إلى مصانع سرية، وشربت أنواع رديئة، وكله رديء، لأنه لا يخضع لمواصفات معينة، فقالوا: انتشرت الأمراض، والقتل، والدمار، والخسائر، فما كان منا إلا أن سمحنا بعودتها، فعادت كما كانت، وللشعب أن يشربها كالماء -والعياذ بالله- فأمة لا يقين لها حالها {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] فمن لا يقين له هكذا حياته.(94/14)
اليقين هو الإيمان القلبي وليس الاقتناع العقلي
الصحابة رضي الله عنهم كان هذا أمرهم، ولذلك ليس اليقين هو الاقتناع العقلي؛ لأن أمريكا عندها الاقتناع العقلي ولم يكفها ذلك، ولكن اليقين هو الإيمان القلبي.
فكم من طبيب يشرب الدخان، فإن أتيت إليه وأخبرته عن كل أضرار الدخان لا يتوب، فإذا سمع موعظة بليغة مؤثرة، أقلع عنه وتاب والحمد لله، فما ذلك إلا لأنه خاطب اليقين القلبي، أما الخطاب العقلي المجرد والكلام عن الأضرار والتأثير، فقد يترك أثراً وقد لا يترك، وقد يترك ثم يعود، فلا نسبة بين الأثرين أبداً.
وهناك قصة عظيمة وعجيبة وهي قصة خالد بن الوليد رضي الله عنه لما شرب السمُّ فكونه رضي الله عنه يقتحم المعركة ويقاتل موقناً بما وعد الله وبنصر الله، وأنه إن مات فهو شهيد، فهذا أمر ليس غريباً على الصحابة، لكن أن يشرب السمُّ ليفحمهم فذاك شيء آخر، وذلك لما قالوا: إن كان نبيك ودينه على الحق فاشرب هذا السمُّ، فلو قال: لا، فأين اليقين، فشربه، فحفظه الله من ذلك.
وهذا يدخلنا إلى مدخل عظيم جداً وهو: أن اليقين كرامة عظيمة من الله -تبارك وتعالى- وأصحاب الكرامات الحقيقيون هم الموقنون، وقد تكون كرامة معنوية خفية، كأن يستجاب دعاؤه ولا يحدِّث الناس بذلك، أو كأن يعطيه الله عز وجل الفراسة، فإذا توقع أمراً كان كما يقول، فاليقين يثمر أنواعاً من الكرامات لأصحابه.
ونختم بهذه الآية وهي قول الله تبارك وتعالى بعد أن ذكر أحكامه وأوامره التي قد يشك فيها كثير من الناس كما يُرى في هذا العصر: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].
فيجب أن نحيي في الأمة الإسلامية معنى اليقين بخبر الله، وهذا والحمد لله لا شك فيه، ومعمول به عند كثير من الدعاة والوعاظ، فهم يعلمون الأمة اليقين بخبر الله، وما جاء من أمور الغيب، لكن يجب أن نحيي الجانب الآخر أيضاً وهو اليقين بأمر الله، وأن ما شرعه الله هو الحق وهو الخير، فلما حرم علينا الزنا، أو الربا، أو الخمر، أو أمر بالحجاب، أو جعل ميراث الأنثى كذا وميراث الذكر كذا، أو شرع أي شيء فله بذلك الحكمة البالغة، ويجب أن نكون من الموقنين، وإن خرجنا عن ذلك أو شككنا فإنا نكون قد تركنا أمر الله ورضينا بحكم الجاهلية، فهما نوعان، وقسيمان، وضدان: حكم الله، وحكم الجاهلية.
فليكن يقيننا بالله تبارك وتعالى، وفي وعده وفي أمره، وفي خبره، كما رضي لنا ربنا عز وجل وكما علمنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكما فعل الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين.
نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعلنا من الموقنين.(94/15)
الأسئلة(94/16)
حكم الوساوس التي ترد على الإنسان
السؤال
الوساوس التي ترد على الإنسان سواء كان في الصلاة أو في غيرها، أو كانت في الأمور العقدية أو غير ذلك، هل لها علاقة باليقين، وهل ورود مثل هذه الوساوس تؤثر في يقين الإنسان؟
الجواب
بالنسبة للوساوس فإن المؤمن يخاف منها جداً، وقد خاف منها الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- على إيمانهم، وجاءوا يشكون ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما ثبت في الصحيح، قالوا: يا رسول الله {إن أحدنا ليجد في نفسه ما إن يكون حممة -أي فحمة محترقة- ولا يتحدث به} لأنهم يستعظمون أن يتحدثوا به، فيتمنى الواحد أن يكن فحمة محترقة، ولا يتحدث به من هوله، ولا يريد أن يقوله، وساوس، وخطرات، وإلقاءات، ولمات من الشيطان، لا يريدون أن يذكروها لبشاعتها ولقبحها، ولأنها تنافي إيمانهم ويقينهم.
ولكن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو المزكي والمربي الحكيم، طمأنهم وقال: {أوقد وجدتموه؟} وكأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا يقول: إنني أنتظر أن تجدوه، فعندما يقول لك أحد: حصل لي كذا وكذا، فتقول له: أوجدته، معناه أنك تعلم وتتوقع أنه سوف يقع له ذلك، وزيادة في التطمين قال لهم: {فذاك صريح الإيمان، أو ذاك محض الإيمان}، وفي رواية قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة}، وهي لن تؤثر بإذن الله على المؤمن مادام أنها لم تصل إلى أن تكون اعتقاداً أو شكاً، أو وسوسة يستفظعها، ويستقبحها، ويردها، ويرفضها، ويشكو منها، مهما طالت.
وهذه تقع لكثير من الشباب في أول هدايتهم، وربما عرضت لغيرهم، فهي عرض من الشيطان، لا تلقي لها بالاً، لأن كراهيتك وبغضك لها، وكونك تخاف منها ولا تقدر أن تحدث بها أحداً دليل على الإيمان في قلبك، فعدو الله يخوض معك آخر معركة، فإن ظفر بك وأضعفك فقد هلكت -حفظنا الله وإياكم من الهلاك- وإن نجوت وقاومت وأعرضت عنه فهو مثل الذي يرى إنساناً ذاهباً في طريق فيأتي من يمينه ومن خلفه، فإذا عزم وتوكل على الله ومضى في طريقة، تركه ولا يضره شيئاً، وهي من كيد الشيطان: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76].
فاطمئنوا وربوا إخوانكم على ما ربى عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه بأن يطمئنوا، وأن يتعاهدوا إيمانهم، وأن يجددوه ويقوه ولا يلقوا لتلك الخواطر بالاً.(94/17)
وسائل تقوية الإيمان في القلب
السؤال
كيف أنمي اليقين في قلبي بعد العلم؟
الجواب
كلما تحدثنا عن أسباب تقوية الإيمان، فإنها تؤدي إلى اليقين بإذن الله، لأن أعمال القلب واحدة، فكل ما يؤدي بك إلى الإخلاص، أو إلى اليقين فإنه يؤدي بك إلى الصبر، والخشية، والخشوع، والإنابة، والرغبة، والرهبة، فكلها متداخلة.
فكل ما من شأنه أن يقوي إيمانك من قراءة القرآن، وزيارة القبور، والتفكر في ملكوت السماوات والأرض، وفيما بث الله في الأرض من دابة، وفي أحوال الناس واختلاف ألسنتهم وألوانهم، وإنزال الغيث، وتصريف الأمر وتدبيره، كل ما من شأنه أن يقوي إيمانك من الآيات والعبر فهو بإذن الله يقوي يقينك.(94/18)
حكم ادعاء اليقين الكامل، والفرق بين التوكل والتواكل
السؤال
أعرف بعض الإخوة يقولون: إن لديهم يقيناً تاماً، ولهذا فهم لا يعتمدون على الأخذ بالأسباب في أمور حياتهم، فمثلاً لا يدخل ابنه في المدرسة قائلاً: إنني على يقين أن ابني لن يأخذ إلا ما كتب له، أرجو التوضيح؟
الجواب
هذا ليس يقيناً ولا توكلاً وإنما هو تَوَاكل.
أولاً: لا يجوز لإنسان أن يدعي اليقين -وخاصة عبارة اليقين الكامل- فهذا أمر صعب، فلا يجوز لأحد أن يدعي اليقين الكامل.
وأما إن مَنَّ الله تبارك وتعالى عليه بشيء من اليقين فليحمد الله عليه، ولا بأس أن يحدث به، وإن كان ترك ذلك أولى، لكن المقصود أن يقول: إن لدي اليقين الكامل، فهذا مثل أن يقول أنا مؤمن كامل الإيمان، وقد أنكرها السلف على من قالها إنكاراً شديداً.
ثم إن ترك الأخذ بالأسباب ليس من الشرع في شيء، فلا يقول: أنا على يقين أنه لن يأخذ إلا ما كتب له، فلا شك في ذلك، ولكن اجتهد أنت في أن تسعى له بالخير بالقبول في التوظيف للعمل، فهذا الابن الذي أنت تقول له هذه العبارات كيف أتى؟ لماذا لم تقل: أعيش من غير زوجة وأنا على يقين إن كان الله سيرزقني أولاداً أنه سيرزقني، لأنك تعلم أن الله تعالى جعل من سنته أنه لا يكون الابن إلا من زواج، فكذلك السعي والرزق جعله الله تبارك وتعالى مقترناً ببذل الأسباب، ثم بعد ذلك هو عز وجل يعطي ويهب لمن يشاء، ويمنع ويحرم من يشاء.(94/19)
عدم اجتماع اليقين والمعصية
السؤال
هل يمكن أن يكون الإنسان المسلم موقناً ويقع في نفس الوقت في المعصية، أم أنها لا تجتمع معاً، أي: اليقين والمعصية لله، أفتونا مأجورين؟
الجواب
اليقين والمعصية لا يجتمعان، لكن المعصية تقع، ويمكن أن تقع من كل أحد، وتعليل هذا: أن اليقين في هذه الحالة يضعف، ويستولي الشيطان على العبد، كما يفعل شياطين الإنس، فقد يكون الرجل قوياً شديداً -مثلاً- لكن حين ينام، أو يغفل، يختطفه شيطان من شياطين الإنس ويذهب به بعيداً عن موطنه.
وكذلك المؤمن قد يضعف ويفتر يقينه، فيختطفه الشيطان فيوقعه في معصية من المعاصي، كالفواحش -مثلاً- فينطبق عليه أنه إذا زنا العبد ارتفع إيمانه فكان عليه كالظلة، فإن تاب ورجع وإلا أقلع عنه، نسأل الله العفو والعافية.
فعندها يكون اليقين الذين ذكرنا بأوصافه وأحواله حينئذٍ غائباً.
أما اليقين بمعنى العلم فقط، الذي هو الحد الذي يخرج صاحبه من دائرة الشك والريب إلى دائرة الإيمان، فهذا يظل معه، لأن هذا من قول القلب وإقراره، والكلام إنما هو عن اليقين الذي هو عمل القلب.(94/20)
حكم الشك في نصر الله لدينه ولأمة الإسلام
السؤال
هناك أناس لا يحققون معنى اليقين من الثقة بنصر الإسلام، وأن الغلبة والعزة له، ويقول: إن الغلبة والعزة ستكون للكفار، فما هو توجيهكم لهؤلاء؟
الجواب
هؤلاء في الحقيقة يظنون في الله ظن السوء، وظن الجاهلية، وهو: أن الله سبحانه لن ينصر دينه، بل إن الكافرين سوف ينتصرون على المؤمنين، وهذا مرض قديم في الأمة، مرض به المنافقون وابتلوا به في أيام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والآن في هذا الزمان وفي كل زمان يوجد الكثير ممن ابتلي به.
فيظن أن الله تبارك وتعالى لن يحقق لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما وعده به: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122].
فقد وعده أن هذا الدين يبلغ ما بلغ الليل والنهار، بأن تفتح القسطنطينية، ورومية -التي هي روما - وقد أعطاه الكنزين الأحمر والأسود، وزوى له الأرض ورأى ما يبلغ ملك أمته منها، وغير ذلك مما بشر وطمأن به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأيقن به أصحابه الكرام، فإنه قد حدثهم وأخبرهم، وهم في حال الضنك وفي حال الشدة، وهم يحفرون الخندق وقد أحاط بهم الأحزاب من كل ناحية وزلزلوا زلزالاً شديداً، أخبرهم أنهم سيفتحون ملك كسرى وقيصر: {إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله عز وجل}، فأيقنوا بذلك وآمنوا وتحقق ذلك بحمد الله وتوفيقه.
فهذا لا يجوز لأحد أن يعتقده من المسلمين، وأما الذين ضعف إيمانهم بالهزيمة الفكرية والنفسية وظنوا بالله هذا الظن , ووافقوا أهل الجاهلية وأهل النفاق في ذلك، فهؤلاء مرضى، فيجب أن يعالجوا بكل ما من شأنه أن يرفع يقينهم وإيمانهم وثقتهم، ولو كانت هذه الثقة الضعيفة أو فقد الثقة في الله وفي وعد الله قبل عشر سنوات -مثلاً- لربما يقال وأين الإسلام؟! أما في هذه الأيام والحمد لله فهناك مبشرات كثيرة، رغم العقبات ورغم الظلمات، ورغم ما يكيده الأعداء.
فإن المبشرات كثيرة وواضحة جلية، وإلا فما معنى هذه الصحوة وهذه اليقظة وهذه التوبة وهذه الأوبة في الشباب، والكهول، والنساء، والرجال، وفي الشرق والغرب؟ والكل يريدون منهج السلف الصالح، والكل يريدون العلم النافع، والكل حريصون على ما يقربهم من الله، والكل يرفض المذاهب والنظريات والشبهات: هذا دليل -والحمد لله- واضح وجلي على أن الأمة تعيش صحوة عظيمة نسأل الله تبارك وتعالى أن يبارك فيها وأن يسددها وأن يرزقها الإخلاص واليقين.(94/21)
أخبار المسلمين المجاهدين
السؤال
ما آخر أخبار المسلمين في البوسنة والهرسك، وكذلك في أفغانستان؟
الجواب
بالنسبة لإخواننا في البوسنة والهرسك، الوضع الدولي متواطؤ ومتآمر.
ويتخذ بعض القرارات كما يسمونها لحفظ ماء الوجه أو للتغطية، وإلا فالموقف الدولي متواطؤ تماماً، والقوى الكبرى نصرانية حاقدة أو قوى مشركة لا تؤمن بالله تبارك وتعالى، ولا يهمها شأن المسلمين ولا أمرهم، فحدث هذا التواطؤ الغريب والعجيب، دولة تعترف بها الأمم المتحدة أنها دولة مستقلة وفي قلب أوروبا، وتباد وتسحق وتدمر ويشرد الملايين، ومعسكرات للتعذيب التي لم يشابهها كما ذكروا هم إلا معسكرات النازية، وحرب عنصرية، إلى غير ذلك من المشاكل في ظل النظام الدولي الجديد- كما يزعمون - وهم يترددون ويقولون سنتخذ القوة، لماذا؟! قالوا: من أجل إيصال المعونات وليس من أجل ردع المعتدي، سبحان الله! أين هذه القوى والموقف والشرعية الدولية، والحق والعدل والنظام الدولي، وإثبات أن أحداً لا يمكن أن يعتدي، وما قالوه وما جعجعوا به في أزمة الخليج ليؤلبوا العالم معهم، أين ذلك؟! ذهب كله أدراج الرياح، واتضح أنه كله هراء وكذب، وأنهم يعملون حيث ما تكون مصلحتهم وليس أكثر من ذلك.
والحمد لله البشائر في هذا الجهاد أن المسلمين شكلوا جبهة -ونسأل الله أن يبارك فيها- جهادية مستقلة لا تمثل حكومة البوسنة ولا غير ذلك، وإنما من خريجي الجامعات الذين درسوا هنا في المملكة -والحمد لله- على عقيدة صحيحة سليمة، شكلوا معسكرات جهادية وبدءوا يجاهدون في سبيل الله، ويشترطون فيمن يكون معهم أن يكون من أهل الصلاة والالتزام، ويتجنب المعاصي، وحريصون على تربيتهم وعلى تعليمهم من خلال المعسكرات وفي أثناء التدريب وغير ذلك والحمد لله.
وبدأ هؤلاء يخوضون معارك مع الصرب، ويقولون: إنهم يفرون منهم فرار الغنم من الذئب -سبحان الله العظيم- ويقولون: رأينا فيهم جبناً عجيباً جداً، ولكن المشكلة نقص السلاح.
ولقد حدثني أحد الإخوة يقول: كل عشرة من الشباب على مسدس واحد، فتصوروا كيف يكون ذلك مع قلة عددهم، وهم ليسوا كثيراً، أسأل الله أن يبارك في عددهم فلو أعطوا هؤلاء السلاح وأعطوا المال فسيكون في ذلك خير كثير بإذن الله تبارك وتعالى، وهم يطلبون منكم ذلك، والحمد لله عن طريقنا يسافر تقريباً كل أسبوع مجموعة من الإخوة الثقات، ومن الإخوة الذين يحضرون الدرس وتحمسوا لهذا الموضوع للدعوة إلى الله هنالك، فهم يذهبون ويسلمون مبالغ نقدية يداً بيد، ويقومون بالدعوة إلى الله بحسب إجازاتهم.
ومنهم من قرر أن يبقى هناك يدعوهم إلى الله عز وجل ما شاء الله أن يبقى، نسأل الله أن يوفق الجميع، فالباب مفتوح للتبرع لهم.
أما بالنسبة لأفغانستان فالوضع في الحقيقة قاتم ومؤلم، وليس لدي تصور واضح بالضبط عما يجري إلا الأخبار العامة ولا أتابعها كثيراً، بل قد لا أتابعها ولا أعتمد عليها، والأخبار الخاصة قد وصلتني من بعض الأطراف فقط رسائل بالفاكس تقول: إن الجهاد لا يزال مستمراً وأن ما تحقق إنما هو مرحلة من مراحل الجهاد، ولكن الجهاد لا يزال مستمراً مع المليشيات، ومع الشيعة ومع الباطنية والإسماعيلية، ومع الفرقة، وهي أشد أنواع المشاكل التي يعاني منها المجاهدون هناك.
الفرقة التي أوقعها الشيطان فيما بينهم، فادعوا الله وتضرعوا إليه أن يجمع كلمتهم جميعاً على الحق وعلى الكتاب والسنة، وأن يكلل نصرهم على الشيوعيين.
بانتصارهم على أنفسهم، فتصفو وتزكو وتتطهر لله عز وجل وتتخلص من أدران الشرك والرياء والنفاق والخرافة والبدعة، ليكونوا حقاً مجاهدين، ولينصرهم الله -تبارك وتعالى- فيستمر هذا الجهاد، وتستمر هذه الراية، والمؤامرات الدولية كبيرة جداً عليهم.
وأمريكا لأنها لم تستطع أن يكون لها يد مؤثرة في لعبة الدولة، وأن تجعل من أفغانستان دولة علمانية عليها مسحة دينية، وغلبت على ذلك فهي تريد الآن أن تخرب ما حصل من الاجتماع.
ومن أخطر ما يسمع عن الإعلام الغربي، أنه يحاول تصنيف القادة إلى معتدلين ومتطرفين، ويضرب هؤلاء بهؤلاء حتى في لحظات الوفاق فيما بينهم، فالإعلام الغربي لا يكف عن وصف هذا بالتطرف والتشدد، وهذا بالاعتدال إلى آخر ذلك؛ لكي يضرب فيما بينهم ولكي تفقد الأمة الثقة فيهم، فما علينا إلا الدعاء لهم، ونسأل الله أن يجمع صفوفنا على الحق إنه سميع مجيب.(94/22)
أنواع اليقين
السؤال
ما هي أنواع اليقين، وهل الظن هو اليقين، وما علاماته على الفرد، وهل نستطيع الحكم باليقين على من نحسبه كذلك، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
يمكن أن يقسم اليقين إلى أنواع: من جهة وجوده وحقيقته في القلب، فيكون الحد الأدنى هو: العلم، والدرجة العليا هي: حقيقة وغاية اليقين.
ومن جهة موضوعه فإما أن يكون متعلقاً بالاعتقاد وبالعلميات، فيكون يقيناً في خبر الله، أو متعلقاً بالعمليات وبالأوامر والنواهي فيكون يقيناً في أمر الله.
والظن ليس من اليقين ولا يجتمعان، ولهذا يقول المشركون: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:32]، فقوله: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً} [الجاثية:32] تأكيد، وهو من البلاغة القرآنية، فالمقصود: إن كنا نظن إلا ظناً، فما داموا يظنون فهو ظن، لكنه تأكيد أنهم لم يكونوا على إيمان، ولم يكونوا على يقين في وعد الله -تبارك وتعالى- في الآخرة، كما قال الله عز وجل: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66].
وهل نستطيع الحكم باليقين على من نحسبه كذلك؟ هذا جزء من الشهادة، كمن تشهد له بالإيمان أو باليقين، فإن علمت ذلك ورأيت أماراته وعلاماته، فلا بأس أن تقول أحسبه من المتقين أو من الموقنين، أحسبه والله حسيبه ولا أزكي على الله أحداً، ولا سيما عندما تقرأ في سير الأولين وقد يجعل الله تبارك وتعالى أيضاً في المتأخرين من المؤمنين، لكن من ناحية الإطلاق يمكن أن يطلق أن هذا من الموقنين، ولا حرج في ذلك إن شاء الله تعالى.
والظن قد يأتي بمعنى العلم واليقين ومنه قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة:46] وقوله تعالى في الآية الأخرى: {وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف:53] فرأوها بأعينهم، فظنوا هنا بمعنى: علموا وتيقنوا.
فهذا معنى لغوي، فمن حيث اللغة يأتي في مقام فعل، وهذا واسع في لغة العرب، لكن اليقين الذي هو عمل القلب سبق ذكره، فالظن الذي يقابله هو الشك والكفر.(94/23)
معنى علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين
السؤال
الأخ يسأل عن علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين؟
الجواب
علم اليقين بالنسبة لما أخبر الله تعالى به من الجنة والنار -مثلاً- فعلم اليقين هو: ما نقرأ في كتاب الله أن الجنة والنار هكذا أوصافها، فهذا العلم هو علم يقين.
وأما حق اليقين: إذا رأيت ذلك الذي أخبرت به وعلمته، أي: رأيت الجنة ورأيت النار ورأيت ما وعد الله أمامك، فهذا حق اليقين، فتحول علم اليقين إلى حق اليقين.
وأما عين اليقين فإذا دخلتها وتنعمت فيها، جعلنا الله من أهل الجنة فهذا عين اليقين.(94/24)
نصيحة للذين يستعملون البث المباشر
السؤال: ما نصيحتك للذين يستعملون البث المباشر وقد قام كثير منهم بشرائه؟ الجواب: حين يتصور الواحد منا الدمار الهائل الذي ينتجه هذا البث، لا شك أنه يأرق ويحزن ويألم لشدة ما يتصور، ولما يرى من ضعف وتقصير في إبلاغ هذا الخطر والتحذير منه.
أتعلم يا أخي أن أوروبا طلبت من أمريكا تأخير البث المباشر ثلاث سنوات لتتهيأ له، وقامت وضجت الصحافة الفرنسية والمجتمع الفرنسي خوفاً من البث المباشر الأمريكي!! حضارة واحدة، وإباحية واحدة، وإلحاد واحد، ويجمعهم كل شيء تقريباً، لكن يقولون: اللغة مختلفة، وبعض العادات مختلفة، فتغزونا الثقافة الأمريكية هذا خطر عظيم! وأنذروا به وخافوا منه سبحان الله! أما نحن فنفتح صدورنا لاستقبال كل غزو، بل العجيب أن أول غزو وأول بث مباشر نحن صنعناه بأيدينا، فالشركة من أبنائنا ويتكلمون بلغتنا، ولكنهم جعلوها في لندن يبثوها علينا، ويقولون: نحن أفلامنا لا تتعرض للرقابة، فكأنهم يقولون: لا تنظر إلى التلفزيون الذي يراقب ويقطع؛ بل انظر إلينا فأفلامنا لا تتعرض للرقابة، والعياذ بالله.
فنحن نغزو أنفسنا بأنفسنا ونتهيأ لذلك، وستكون النتيجة هائلة ومخيفة جداً، فلو أجريت إحصائيات هذه السنة، عن نسبة الأمن، والجرائم والاختطاف، والاغتصاب، والشكوك عند الشباب، والإلحاد، والتنصير، وما يتعلق بذلك، ثم بعد ثلاث سنوات من البث المباشر، لو تجرى إحصائية أخرى؛ لرأيت الفرق الهائل جداً، فكيف بعد عشر سنين، كيف بعد ثلاثين سنة.
وهم يطمعون أن يأتي الجيل الآخر -على الأقل الذين هم الآن في الرابعة والثالثة تقريباً- ويصبح جيلاً ملحداً غربياً ممسوخاً، ليس فيه من العربية إلا أنه أسمر اللون، وربما يغيرون ألوانهم وشعورهم إن استطاعوا حتى يصبح جيلاً أمريكياً ممسوخاً تماماً، لا ينتمي إلى دينه ولا إلى هذه البلاد بأي نوع من أنواع الانتماء، فهذا الذي يريدونه في النهاية.
ويريدون أن يصبح اليهود الذين هم حفنة قليلة هم المسيطرون على هذه المنطقة، وأن تتربع على عرش المنطقة وتنهب خيراتها، وتستعبد شعوبها، ودائماً وأبداً القاعدة جارية في هذا، وهي: أن تستعبد الشعوب وتستذل بالشهوات، فما الذي يسر لـ هتلر اجتياح أوروبا كلها وفرنسا ويدخل باريس، ما ذاك إلا لأنهم أمة شهوات وإباحية وانحلال، لا يمكن أن تقاوم أو تفكر في مقاومة أي عدو، فيقضى على كل معاني الجهاد ومعاني الغيرة ومعاني العزة, وربما تتحول -والعياذ بالله- طائفة منها وترتد وتلحد وتخرج من الإسلام، وربما أن البعض لا يكتفي بأن يخرج من دينه، بل قد يدخل في أديانهم عندما يرى ما يعرض عليه.
فتصور معي البث المباشر إذا انتشر، والآن قد التقط على قنوات عديدة منها القنوات التنصيرية، هذه القنوات التي تغطي الكوكب الأرضي كله، وتبث برامج بعدة لغات، وأنا رأيت بعيني برنامجاً من برامجهم الوعظية يوم الأحد فرأيت شيئاً عجباً.
فليست مواعظهم كمواعظنا، فنحن والحمد لله نعظ بالقرآن ونعظ بالحق، لكن هم لديهم من الإغراءات والأسباب شيء عجيب جداً.
فيأتي المتحدث ويتكلم عن قديس -كما يسمونه- ويأتي بصورته أمامك، وكيف كان يتعبد وكيف كان زهده، ويأتيك بأفلام عن هذا القديس، مع وجود أشرطة عن حياته مجانية، حيث يقال لك: اكتب لنا العنوان فقط ونحن نرسله لك، وفي أثناء الكلام، أنت تسمع الواعظ، وفي نفس الوقت تشارك المحطة في شيء معين، فيكتبون الأشرطة والأفلام، ثم يذكر لك حالات الذين شفوا لما توسلوا بهذا القديس.
ثم يأتيك قديس -ممن يسمونهم قديسين- من الأحياء منهم، ويبدأ يتوسل به ويقرأ بعض الأشياء، ويأتي برجل كسيح، أو رجل أعمى، ويظهر ويقول أنا قد شفيت وهكذا، أشياء عجيبة جداً، إذا رآها الإنسان قد يشك في دينه والعياذ بالله، لولا أنه يعلم أن هذا باطل، وأنه كذب، وأنه من المخاريق، وأن فيه من عبث الشيطان الشيء الكثير، لكن المهم أن عندهم إخراج.
مائة مليون دولار رصدت من أجل إنتاج أفلام دينية مأخوذة من سفر التكوين في هوليود، فالواحد منا لو تبرع بعشرة آلاف ريال لنشر شريط، يظن أنه عمل شيئاً كبيراً، ولا شك أنه عند الله كبير، لكن بالنسبة لعمل هؤلاء لا شيء.
هذه جهود ضخمة جبارة هائلة، يراد بها اقتلاع هذا الدين من الوجود، فحقيقتنا حين نستقبل هذا الغزو، كمن يقول: اقتلوني واذبحوني واضربوني، وأكثر من ذلك ضراوة، هو مثل من يكون أغبى من ذلك فيطلب من أعدائه أن يطعموه، بكل جراثيم الإيدز، وأن ينقلوا إليه أي مرض، فهذا وأمثاله ينقلون هذه الأمراض الفكرية والأمراض الأخلاقية إلى أهلهم وإلى ذويهم.
فما علينا جميعاً إلا أن نحيي واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الواجب الذي يكون الحمل الأكبر فيه على العلماء ثم على طلاب العلم، وعلى الخطباء وعلى الأئمة، أن يحذروا الناس من ذلك قبل أن تقع الكارثة وقد بدأت مع الأسف.
فما علينا إلا توسيع الدعوة حتى تكون عامة، وأن نركز على الشباب؛ لأنهم أمل هذه الأمة وأن نشغل أوقاتهم عن طريق وسائل عدة منها: المراكز، وحلقات التحفيظ، وانتقاء المدرسين الصالحين، والمناهج الطيبة، ونشر الوسائل الإعلامية الطيبة، فهذه وغيرها لا تنقص هذه الأمة فلدينا والحمد لله وسائل طيبة.(94/25)
حال من أيقن بالشهادة وهو تارك لركن من أركان الإسلام
السؤال: فضيلة الشيخ لقد قلت في حديثك أن {من شهد أن لا إله إلا الله موقناً حرم على النار} وهو حديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكيف يعاقب إذن إذا كان تاركاً أحد أركان الإسلام وواحداً من الواجبات الأخرى؟ الجواب: إذا ترك الصلاة وإن كان قد قال لا إله إلا الله مثلاً فهو كافر، ولا يشمله ذلك، فالمقصود من وصل إلى حالة اليقين، واليقين كما ذكرنا يثمر لصاحبه الاستقامة، وامتثال الأوامر واجتناب النواهي، فالذين يحرمون على النار هم الطائفة الذين عصمهم الله تبارك وتعالى لما أعطاهم من اليقين، فلم يرتكبوا ما يوجب دخولهم النار، فاستحقوا بذلك الجنة، وإذا فعلوا ما يوجب أو ما يستحقون به النار، فإما أن تشملهم رحمة الله وشفاعة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأيضاً هؤلاء طائفة لا يدخلون النار وإن كانوا في الأصل من أهلها، وإما أن يدخلوا النار فمن دخل النار علمنا أنه لم يكن من أهل اليقين، ولا من أهل الإخلاص، الذين وعد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنه لا يدخلهم النار.(94/26)
الإنكار يزيد الإيمان واليقين
السؤال: إنا نحبكم في الله ونسأل الله أن يجمعنا وإياكم في الفردوس الأعلى، ونرجو من فضيلتكم توضيح لنا هذا الأمر وهو: أنه يوجد في أحيائنا بعض المنكرات فنخشى أن ننكر هذه المنكرات فيضعف علينا الإيمان من كثرتها، فتقع هذه المنكرات، ونخشى أن لا ننكرها فنأثم؟ الجواب: لا أظن أن الذي ينكر المنكرات يضعف إيمانه، إلا إن كان قصد الأخ -مثلاً- لو كان شاباً في قوة الشهوة والشباب، والمنكر الذي ينكره -مثلاً- هو أن يذهب إلى بيوت للفساد، أو بعض المتعرين أو المتبرجات، وينصحهم ويكلمهم، فهذه الحالات عارضة.
أما الأصل فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يزيد الإيمان ويزيد اليقين، وبركاته وثمراته عجيبة، ورب رجل وُعظ أو نُهي عن منكر بكلمة فهداه الله تبارك وتعالى وأنت تشعر أو لا تشعر، فهذه نعمة عظيمة، ولكن إن كان في إنكار المنكر مفسدة فعليك اجتنابه.
ويقول شَيْخ الإِسْلامِ: إذا ترتب على إنكار المنكر مفسدة عظيمة فإنك لا تنكر هذا المنكر.
كما لو رأيت امرأة متبرجة ولا تأمن على نفسك الفتنة إن كلمتها، فلا تكلمها أنت، ولكن يمكن أن يكلمها من كان شيخاً كبيراً مسناً، ويأمن على نفسه من الوقوع في الفتنة وأشباه ذلك.(94/27)
مشكلة تواجه الشباب
السؤال
مشكلة تواجه الشباب، وهي: أن الواحد منا عندما يكون بين إخوانه يشعر بزيادة الإيمان، وعندما يكون وحده أو في بيته، ويصبح لوحده يضعف عنده الإيمان، وقد يرجع إلى المعاصي ومنها العادة السرية وغير ذلك، فما هو الحل لعلاج مثل هذه المشكلة؟
الجواب
كما ذكرنا سابقاً أن هذا شأن جبلي طبيعي في النفوس أنها لا تثبت على حالة واحدة من الإيمان ومن اليقين، بل يكون الإنسان مع إخوانه أقوى منه على انفراده كما في حديث حنظلة، لما قال: نافق حنظلة، عندما {مر بـ أبي بكر وهو يبكي فقال مالك يا حنظلة قال: نافق حنظلة قال: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة كأنه رأي عين فإذا رجعنا إلى الأزواج والضيعة نسينا كثيراً قال: فوالله إنا لكذلك، انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلقنا فلما رآه رسول الله قال: مالك يا حنظلة، قال: نافق حنظلة يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنه رأي عين فإذا رجعنا عافسنا الأزواج والضيعة ونسينا كثيراً}، فهذه نفس الحالة هذه، والحل في مثل هذا أن يستديم الإنسان رقابة الله تبارك وتعالى عليه:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
وأن يعلم أن الله سبحانه مطلع على كل أحواله وهو معه أين ما كان، وأن يحاول أن يحافظ على هذا الإيمان بقدر الإمكان، وأن يحافظ على حلق الذكر، وأن يلتقي بالإخوان دائماً لأنه كلما يلتقي بهم يزداد إيمانه، ولا شك أنه كلما كان معهم فهو أبعد عن المعصية، وهذا من فوائد صحبة الأخيار.(94/28)
حكم تعلم علم النفس وعدم اليقين به
السؤال
ما حكم تعلم علم النفس وعدم اليقين بكل ما فيه، وما هو رأيك في علم النفس؟
الجواب
هو باسمه وبشكله الحالي الموجود المنقول عن الغرب يؤدي ولا شك إلى الانحراف والضلال؛ لأن الذين كتبوه ودونوه لا يؤمنون بالله، أو لا يؤمنون بالغيب، أو لا يؤمنون بالروح التي هي حقيقة هذا الإنسان، وإنما تكلموا عن النفس على أنها أشبه ما يكون بأي نشاط من الأنشطة العضوية، فهؤلاء قوم لا يؤمنون بما وراء هذه المادة، وما وراء هذه الأعضاء، ولذلك نظرياتهم كنظرية بافلوف ونظرية، فرويد طبق في التحليل النفسي على الأمراض، مثلاً: بافلوف طبق على الكلاب، وغيره طبق على الفئران، فهم يعتبرون الإنسان حيواناً ويعتبرونه مادة، هذا خلاصة ما يمكن أن نوجز به حال هذا العلم الغربي.
أما من الناحية الإسلامية فكل كلام تكلم به السلف في أحوال القلب والإيمان والنفس وتزكيتها، فهو من علم النفس الإسلامي، إن سمي أو لم يسم، فكتاب الجواب الكافي، وكتاب مدارج السالكين، وكتاب إغاثة اللهفان، وغيرها من الكتب، هذه في علم النفس الإسلامي، وقد كتب علماؤنا في هذه الأبواب ما لا يمكن أن يتخيله علماء الغرب فضلاً عن أن يكتبوه؛ لأن أولئك لم يستضيئوا بنور الوحي، ومدارسنا الآن تحتاج إلى أن يكتب لها علم نفس إسلامي، مأخوذ من مشكاة الوحي ومنهج السلف الصالح.(94/29)
العلاقة بين الإحسان واليقين
السؤال
هل اليقين أحد مراتب الدين، وهل هو أعلى من الإحسان، وما رأيكم في الذين يقولون: إنهم يقتنون أجهزة البث المباشر لمتابعة الأخبار؟
الجواب
أما بالنسبة لمتابعة الأخبار فباختصار، إذا تابعنا ماذا نستفيد، وحتى لو تابعنا حتى لو رأينا ما هي الثمرة؟ أما من ناحية اليقين، فهو من أعمال القلب، وعلاقته بالإحسان كما ذكرنا، فالمحسن موقن والموقن محسن، لكن هذا أحد أعمال القلب التي هي أعمال باطنة , والإحسان يشمل الأعمال الباطنة والظاهرة، أما الأعمال الظاهرة الصالحة فهي من لوازم اليقين، وثمراته.
فنحن في مجتمع -الحمد لله- فيه خير وفيه فضائل وفيه قبول، كيف لو كنا في مثل ما فيه إخواننا في الجزائر -مثلاً- كيف كانت حالهم مع فرنسا من الاضطهاد ومسخ اللغة العربية، وإلغاء المناهج الدينية، وأحكام كلها قوانين وضعية، وانحلال وانحطاط واختلاط في المدارس، وكانت الحكومة التي خلّفها الاستعمار مثله، فهذا ما ربوا عليه الناس، كفر صراح بواح لا مكان فيه للإسلام، إلا في المساجد، فلو استيأس الدعاة إلى الله، ما حققوا شيئاً، ولكنهم قاموا وتحركوا وخطبوا وتكلموا ووعظوا وإذا بهذه الأمة سبحان الله يعتقل الصف الأول وجميع أئمة المساجد، فيأتي مكانهم الخطباء ويعتقل الخطباء، فيأتي خطباء، بل هم أكثر السجناء، فيهم أكثر من ستين ألفاً، ومع ذلك المساجد فيها الخطباء والدعاة والحمد لله.
سبحان الله! كيف تفجر هذا الإيمان وهذه القوة الحمد لله قام من قام، ودعا من دعا، وصبر وصمد وتحمل الأذى، فكانت خلفه أمة والحمد لله، فنحن نحتاج إلى هؤلاء الرجال المؤمنين الأقوياء، الذين لا يخشون في الله لومة لائم، والذين يدعون إلى الله سبحانه على هدى وعلى بصيرة، ويضحون بالغالي والنفيس في سبيل إقامة هذا الدين، فلِمَ لا تكن من هؤلاء وإن لم:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
اختر لنفسك طريقاً من الآن، فلتكن مجاهداً، أو فلتكن داعية، أو فلتكن عالماً، أو فلتكن آمراً بالمعروف، وما يمكن أن يكون من سبل الخير، من الآن ابدأ وستجد -بإذن الله- أن بإمكانك أن تحقق الكثير، وأن تنتج الكثير وأن الله سبحانه سيبارك في جهودك وينصرك بإذن الله، وإذا كنت أنت والآخر، وتعاون الجميع وجدت الأمة التي ينصرها الله، كما أخبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خالفهم}، وفي رواية قال: {يقاتلون في سبيل الله حتى يأتي أمر الله}، وهو قيام الساعة والريح التي تخرج بين يدي الساعة.(94/30)
من أعمال القلوب: (المحبة)
في هذه المادة تحدث الشيخ حفظه الله عن عمل من أعمال القلوب ألا وهو المحبة، وبيِّن معنى المحبة وعلاقتها بالإيمان والعبادة، وأن العبادة لا تتحقق إلا بأمرين هما: كمال المحبة مع كمال الخضوع، ثم بين منزلة المحبة عند المؤمن والمنافق، وما ينتج عنها من ثمار.(95/1)
علاقة المحبة بالإيمان والعبادة
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وحبيبه وخليله الأمين، محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، أما بعد: حديثنا في هذا الموضوع هو عن عمل من أعمال القلب، بل هو من أعظمها شأناً وأهمية، وهذا العمل هو: المحبة، والمحبة عمل عظيم، فهي -كما سنبين إن شاء الله تعالى- مما يجب على كل مؤمن أن يعتني بها، وأن يعرف حقيقتها، وأن يحققها لرب العالمين تبارك وتعالى كما شرع لنا وعلمنا رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والمحبة لها علاقة عظيمة ووثيقة بالإيمان وبالعبادة.
فأما علاقتها بالإيمان، فإن أصل الموضوع هو الحديث عن أعمال القلب، وعمل القلب جزء من الإيمان، الذي هو عند أهل السنة والجماعة: قول وعمل، فالقول قولان والعمل عملان.
وإذا أردنا أن نحدد كما حدده شَيْخ الإِسْلامِ -رحمه الله- في رسالته القيمة النافعة التحفة العراقية في الأعمال القلبية، فإننا نقول: إن هذا الدين الذي هو قول وعمل لكل قسم من قسميه أصل عظيم هو الأساس الذي يقوم عليه.
فأما الأقوال فأصلها وأساسها هو الصدق: العمل القلبي الذي ترجع إليه كل الأقوال، ويدخل في كل الأقوال.
وأما المحبة فهي العمل القلبي الذي ترجع إليه كل الأعمال، ويدخل في كل الأعمال والطاعات.
إذاً: عرفنا بهذا أهمية هذين العملين، وهما: الصدق والمحبة، اللذان هما من أعمال القلب، وعرفنا أيضاً علاقتهما بالإيمان، فالصدق: أصل كل الأقوال، والمحبة: أصل كل الأعمال.
وأما العبادة كما عرفها شَيْخ الإِسْلامِ -رحمه الله- في كتاب العبودية فقال: 'هي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة'.
فالعبادة هي الدين كله، فكل ما أمر الله تبارك وتعالى به، فعملنا وامتثالنا به فإنه عبادة، وكل ما حذرنا الله تبارك وتعالى ونهانا عنه، فالتزامنا بتركه، ووقوعنا عند حدوده فإنه عبادة، فالعبادة تشمل هذه الأعمال جميعاً.
والعبادة هي الغرض وهي الحكمة التي خلق لها الثقلان، وهي التي طلبها الله تبارك وتعالى وأرادها من خلقه أجمعين، وهي التي بعث بها أنبيائه ورسله أجمعين، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] وكما قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25].(95/2)
المحبة هي غاية العبادة
فإذا علمنا أن الحكمة من خلق الثقلين هي العبادة؛ فلنعلم أن العبادة هي تأليه الله تبارك وتعالى، وإذا رجعنا للاشتقاق اللغوي لهذه الكلمة فإن المحبة: هي تأليه الله، ولذلك نحن نقول (لا إله إلا الله) مقرين وشاهدين على أننا لا نعبد إلا الله.
ولذلك فإن حقيقة لا إله إلا الله -كما جاءت في بعض الآيات وبعض الأحاديث- هي: أن لا يعبد إلا الله كما في آية الأنبياء: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] فهذه الكلمة هي بمعنى الآية الأخرى التي قال الله تعالى فيها: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] فالمعنى واحد.
ولذلك فإن الرسل الذين قال كل واحد منهم لقومه: (لا إله إلا الله) ودعاهم إليها، هم الذين قالوا لأقوامهم {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [هود:26] و {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:32] كما ورد ذلك في قصص الأنبياء، كنوح وهود وشعيب وصالح وغيرهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
فإذا كانت حقيقة العبادة هي التأله، فإن المحبة هي غاية التأله، أو بمعنى آخر: إن المحبة في اللغة إذا اشتدت وغلا فيها صاحبها، أو عظمت عند صاحبها وارتقت فإنها تصبح ولهاً، ويصبح المحب الذي يحب محبة عظيمة بشغف وشوق شديد ولهاناً، ويقال له: (ولِه، وَوَاله، وولهان) من هنا فإن الوله هو: شدة المحبة، والتأله لله تبارك وتعالى هو: شدة محبة الله، ومحبة ما جاء من عند الله تبارك وتعالى.
فإذا قيل في اللغة: فلان يتأله؛ فإن معنى ذلك أنه يتحبب إلى الله تبارك وتعالى، ويحب الله تبارك وتعالى محبةً عظيمةً.(95/3)
تحقق العبادة يكون بأمرين مهمين
المحبة الشرعية لها علاقة بالعبادة من جهة أخرى، وذلك أن التعبد والتأله لا بد أن يجتمع فيه أمران هما: كمال المحبة مع كمال الذل والخضوع، فالعابد الذي يعبد الله تبارك وتعالى لا بد أن يجمع بين هذين الأمرين.
وإذا تجردت المحبة عن الخضوع والذل أصبحت العبادة دعوى لا قيمة لها، وهذا ما أخطأ فيه الصوفية وأمثالهم ممن ادعوا محبة الله ولكنهم لم يأتمروا بأمر الله، ولم يخضعوا لسنة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يحكّموها في أقوالهم، وأعمالهم، وعباداتهم.
وإذا أصبحت العبادة ذلاًَ وتجردت عن المحبة، أصبح العابد يعبد معبوده وهو لا يحبه، فعندها تتحول المحبة إلى بغضٍ وكراهيةٍ، ويصبح العابد هذا مكْرَهاًَ، ففي هذه الحالتين لا يقبل الله تبارك وتعالى هذه العبادة.
فلا بد إذن من اجتماع الأمرين في العبادة: المحبة من جهة، والخضوع والذل من جهة أخرى.
وبهذا نكون قد علمنا ارتباط المحبة بحقيقة الإيمان وارتباطها كذلك بالعبادة وبالتأله لله عز وجل، فإن هذا يقودنا إلى أن المحبة هي أصل كل الأعمال، وهي ركن لا بد منه في كل عبادة.
فمعنى ذلك أن المحبة تدخل في كل عمل من أعمالك التي تعملها، فإن ذكرت الله تبارك وتعالى، أو صليت، أو صمت، أو قرأت القرآن، أو حججت، أو اعتمرت، أو تصدقت، أو أي عمل عملته فلا بد أن يكون ركن المحبة، وعنصر المحبة متوفراً فيه، وهذا هو الفرق بين المؤمن والمنافق.(95/4)
المحبة بين المؤمن والمنافق
الفرق بين المؤمن والمنافق هو: أن المنافق حاله كما أخبر الله تبارك وتعالى عنه بقوله: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:54] فلم ينفعهم ذلك؛ لأنهم آمنوا كرهاً لكي تنجوا رقابهم من السيف، كما أنهم إذا خرجوا مع المؤمنين إلى الجهاد يخرجون وهم كارهون له، بل هم كارهون لنصر الله، ولا يريدون أن ينصر الله هذا الدين، وأيضاً {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:142] لأنهم يكرهون الصلاة، وهذا التثاقل منهم عن العبادة نتج لما في قلوبهم من الكراهية وعدم المحبة، وإلا فإن الذي تحبه مهما كنت متعباً، أو مجهداً، أو مرهقاً، فإنك تبادر إليه وتقوم وتنطلق وتسعى، وتنسى كل ما كنت تشعر به من تعب، فهكذا فطر الله القلوب والنفوس.
أما المنافقون فلو نام أحدهم الليل كله، وكان في غاية الراحة البدنية، ثم دعي إلى الصلاة، فإنه لا يؤديها إلا وهو كسلان -والعياذ بالله- ويجدها ثقيلة على قلبه، وإذا دخل المسجد فهو كالطير المحبوس في القفص، لأنه لا يحب المسجد ولا الصلاة ولا ذكر الله تبارك وتعالى.
أما المؤمن فهو بعكس ذلك، فالمؤمن يحب الله تبارك وتعالى ويحب طاعته، ويحب أن يقرأ القرآن ويجد في قراءته من الحلاوة واللذة والمتعة ما ينسيه أعظم الهموم، ويجلي أحزانه، ويشرح صدره، ويثلج خاطره، وكما أن حبه للصلاة تدفع عنه همه، وغمه، وألمه، ولذلك تجد قلبه معلقاً بالمساجد، كما جاء في حديث من يظلهم الله تبارك وتعالى تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله: {ورجل قلبه معلق بالمساجد} وذلك من محبة المؤمنين لطاعة الله، فإذا ذهب هذا المؤمن أو سافر إلى أي مكان، فإن أول شيء، وأهم شيء يسأل عنه، هو: سؤاله عن مكان المسجد والعالم والمكتبة؛ لكي يستفيد منها علماً يقربه من الله تبارك وتعالى، فهذا قلبه معلق بالمساجد، ومحبته تابعة لطاعة الله، ولعبودية الله، ولرضى الله تعالى، فحيث ما كانت فإنه يتبعها ويتجه إليها.
أما أولئك المنافقون فإن صدورهم تنشرح باللهو واللعب ولأماكنها، ولو أن أحدهم ظل الليل كله يغني ويطرب، ويهتز، ويرقص لما تعب ولا تألم، فإذا قيل له: الصلاة الصلاة ولو كانت ركعتين ثقلت عليه وكأنه يحمل على ظهره أشد ما تكون الأثقال والأحمال، نسأل الله العفو والعافية، فهذا حالهم في الصلاة.
وأما حالهم في النفقة فإنهم كما قال الله تعالى عنهم: {وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:54] فيدفع الواحد منهم ويستلذ أن يدفع في الشر والفجور، وفي مقاومة الخير الشيء الكثير؛ ولذلك لما بنوا في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسجد الضرار، فقد كلفهم ذلك البناء نفقة وجهداً، لأنه لا بد في أي عمل من الأعمال من نفقة وتكاليف، ولكنهم استحبوا هذا العمل، ووجدوا أنه لا حرج فيه ولا غضاضة.
فحالهم كحال كثير من الناس اليوم -والعياذ بالله- ينفق ما ينفق على نوادي اللهو، واللعب والكرة، وعن كل ما هو مبعد عن طاعة الله تبارك وتعالى، لكن إذا قيل له أن يفعل عملاً خيرياً كأن يطبع كتاباً، أو ينفق لطباعة كتاب يعلم بعض المسلمين دينهم، أو أن يتصدق على الفقراء في أنحاء العالم الإسلامي -وما أكثر الفقراء اليوم- أو أن يشارك في إتمام بناء مسجد وبمبلغ أقل مما يدفع في الشر، فإنه لا ينفق إلا إذا كان للدين قوةً، أو كان للذي كلمه هيبة لديه، فإنه ينفق وهو كاره -والعياذ بالله- فهو لا يحب الطاعة ولا يريدها.
فلهذا فإن الله تعالى لا يقبل منهم نفقاتهم أو صدقاتهم؛ لأن أساس القبول هو: المحبة، فمن كان راغباً فيما عند الله تبارك وتعالى محباً له، فمهما قل عمله، ومهما قلت نفقته، فإنها كثيرة عند الله عز وجل؛ لأن المطلوب من العبد أن يتعبد الله بما يستطيع، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] و {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7].
وفي عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان بعض الصحابة يأتي بعذق من الرطب للتصدق به، وربما يكون العذق حشفاً أو قريباً من الحشف؛ لكنه لا يملك إلا ذلك، فإن الله تبارك وتعالى يأجره عليه كمثل الذي يملك ذهباً وتصدق به، فهذا تصدق بما يملك وذاك تصدق بما يملك.
أما المنافقون فإنهم -كما ذكرهم الله- ينفقون وهم كارهون، ومع ذلك يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ويلمزون الذين لا يجدون إلا وسعهم، فيقولون: هذا الذي لم يأت إلا بهذا العذق الرديء، لو لم يأت به لكان خيراً.
كما يقول كثير من الناس اليوم: إن كانت الدعوة هكذا فإننا لا نريدها، وإن كانت الموعظة بهذه الطريقة فلا تتعب نفسك، وإن كان المركز بهذا الشكل؛ فلا تتعبوا أنفسكم، مع أنك قدمت ما في وسعك، لكن غرضهم ليس أنهم يريدون الأفضل، ولكن الغرض هو: الطعن، واللمز، والهمز الذي هو من أعظم صفات المنافقين لأنهم يكرهون الطاعة، ويكرهون من يعمل لطاعة الله تبارك وتعالى.(95/5)
المحبة بين المؤمن والمشرك والكافر
إن محبة الله كما أنه يفترق فيها المؤمن عن المنافق -كما ذكرنا- فكذلك يفترق فيها المؤمن والمشرك والكافر، والله تبارك وتعالى يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165].
الكل يقول: إنه محب لله، لكن المشركين خلطوا محبة الله بمحبة آلهتهم، ولذلك فالمؤمنون أشدُّ حباً لله من محبة الكافرين لله ولآلهتهم، فإن كانوا -كما يدَّعون- يحبون الله، فإنهم لا يعيبونه إذ ليس في إمكان أي متأله أن يقول: إنني لا أحب الله، فكل متأله يزعم أنه يحب الله وإن كان مشركاً، فالمشركون الأولون يقولون: نحن نحب الله، والمشركون المعاصرون في هذا الزمن يدّعون ذلك أيضاً.
لكن هناك فرق بين المحبة الإيمانية، وبين تلك المحبة التي شابها وخالطها الشرك فأبطل عمل صاحبها.
ثم إنه من خلال المحبة، والتعظيم، والإجلال، والطاعة، والتشريع وقع الناس في الشرك، كما ذكر ووضح ذلك ابن القيم رحمه الله في المدارج، فالذين أشركوا بالله تبارك وتعالى قديماً لم يشركوا به في ربوبيته، ولم يجعلوا خالقاً آخر غير الله خلق كخلقه أو خلق معه، أو يجعلون رازقاً يرزقهم من دونه أو معه، أو مدبراً يدبر الأمر كما قال تعالى: {وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يونس:31] فهم يقرون لله بهذا، وإنما كان شركهم وعدلهم وتسويتهم في المحبة بين الله وخلقه، والإجلال، والتعظيم، والطاعة، والتشريع لغيره، كما يدل على ذلك القرآن في قول الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] فلما اتبعوا غيره وأطاعوهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال فهم بذلك جعلوهم أرباباً من دون الله.(95/6)
الشرك في المحبة
من خلال ما سبق يتبين لنا أن الشرك في المحبة شرك عظيم، وأصل عبادة كل معبود هي محبته، فالذين عبدوا وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً، والذين أحبوا المعبودات والمألوهات من دون الله تبارك وتعالى إنما غلوا في محبتهم تلك فعبدوهم.
فهذه المحبة إن كانت للصالحين فهي غلو، وإن كانت للأحجار وما أشبهها فتعتبر صرفاً لما لا يجوز أن تصرف له تلك المحبة، وصرفٌ لعبادة الواجب فيها أن تكون خالصة لله تبارك وتعالى، ومن صرفها لغير الله عز وجل فقد وقع في الشرك، ووقع في العدل، ووقعت التسوية، وسيندمون على ذلك يوم القيامة ويقولون: {إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:97 - 98] وهو العدل الذي ذكره الله تبارك وتعالى في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1] أي: يساوون به غيره في هذا الأمر.
والعبادات منها ما هو حق خالص لله ومنها ما هو حق للمخلوقين، فأما ما هو حق خالص لله تبارك وتعالى فهي نوع لا يشترك فيها أحد مع الله، ويحرم أن يشرك بالله فيها كما قال عز وجل في -الحديث القدسي-: {أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل لي عملاً أشرك معي فيه غيري؛ فهو للذي أشرك} وفي الرواية الأخرى: {تركته وشركه} هذا ما كان حقاً لله من العبادات.
وأما ما هو حق للمخلوقين من العبادات فمنها بر الوالدين، والإحسان للجار، والفقراء وما أشبه ذلك، من حقوق المسلم فهذه تدخلها المحبة، وهي من حق المسلم على المسلم، وكما يجب عليك أن تحب المؤمنين فيجب عليك أن تبغض الكافرين.
فإذاً: نجد أن المحبة تدخل في كل أنواع العبادات، وسنركز على النوع الخالص والخاص بالله تبارك وتعالى، فهذا النوع كلما كمل العبد فيه كان ذلك أرقى، وكلما اجتهد في تحقيقه كان أكمل وأعظم درجة، ولذلك فإن من أعظم الناس محبة لله تبارك وتعالى هو الذي كمل في المحبة حتى بلغ الدرجة العليا من العبودية لله عز وجل.(95/7)
أكمل الناس في المحبة
وأكمل الناس محبة لله عز وجل هم الأنبياء وأفضل الأنبياء في ذلك الخليلان: إبراهيم ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما، ولذلك يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً} أي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يتخذ من أمته خليلاً، مع شدة محبته لـ أبي بكر ولـ عائشة رضي الله تعالى عنها، من أجل أن تكون خلته لله وحده، فهو خليل الرحمن، كما أن إبراهيم خليله صلوات الله وسلامه عليهما، ولذلك كانت أعمال الخليلين، وحياة الخليلين شاهدة على كمال الخُلّة التي حققاها.
فهذا إبراهيم عليه السلام عندما ابتلاه الله بأن يترك ابنه وزوجته في صحراء مكة القاحلة، بواد غير ذي زرع، وأمر أن يذهب ويرجع إلى بلاد الشام ولا يترك معهما شيئاً وأن يوكلها إلى الله، وأيقن بذلك، وذهب وتركهما.
ثم لما ابتلي بأكثر من ذلك؛ بأن يذبح ابنه إسماعيل حقق ذلك، فأضجعه وتله للجبين، ولولا أن الله تبارك وتعالى فداه بالذبح العظيم لذبح ابنه، لأن قلبه قد تجرد عن كل محبة تخالف محبة الله تبارك وتعالى، وأصبح خليلاً للرحمن، والخليل لا يمكن أن يخالف أمر خليله أبداً، بل يأتمر بأمره ويطيعه في كل شيء وفي كل أمر.(95/8)
الاتباع هو من كمال المحبة
ولهذا ربط الله تبارك وتعالى بين المحبة والاتباع كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31] فحقيقة المحبة، أن يتبع العبد ما أنزل الله، وأن يتبع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن يتبع ما شرع الله وما أمر به ولا يخرج عن شيء من ذلك أبداًَ، فإن تمسك بهذا ترقى به في مدارج العبودية، وهو الذي يتحقق به كمال العبودية وبالتالي كمال المحبة.
ولذلك لما كان أعظم وأشق أنواع العبادات هو الجهاد اقترن بالمحبة؛ لأنك إن كنت تحبه فلا بد أن تجاهد في سبيله، وتضحي بالغالي والنفيس من أجله، ولذلك يقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة:24].
فهنا قارن الله بين المحبتين، فإما أن تكون هذه أحب أو تلك وهذا حال أكثر الناس مع الأسف الشديد محبة الأبناء والأزواج والعشيرة والأموال والمساكن والدنيا والأراضي والشركات والمؤسسات، وكل ما هو من زينة الحياة الدنيا.
فإن كانت هذه أحب إليك من الله ورسوله وجهاد في سبيله، والجهاد: خصه الله من بين سائر العبادات لأنه أشق العبادات، وهو الغاية قال: {وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} [التوبة:24] فإن حدتم عنها {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24] وهذا وعيد من الله تبارك وتعالى، فإما أن يسلط الله عز وجل الذل على المؤمنين، كما جاء في الحديث {إذا تبايعتم بالعينة، واشتغلتم بالزرع، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم} وإما أن ينزل علينا عقوباته السماوية، وإما أن يعاقب من فعل ذلك بتسليط بعض خلقه عليه، فهو يعاقب كما يشاء وكيف يشاء.(95/9)
من صفات عباد الله أنه يحبهم ويحبونه
قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] فهذا الصفة العظيمة أول ما ذكر {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} فجمع بين المحبة وبين الجهاد في سبيل الله، ولذلك جعل الله هذه المحبة متبادلة {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} فهذا دليل على أنه اصطفاهم واختارهم من بين خلقه، وإلا فهو تعالى يخلق ما يشاء، فكل هذا الكون بيده، والكل في ملكه وفي سلطانه عز وجل، وكل ما ترى أعيننا من خلائق فهي مسبحة بحمده كما أخبر به الله بقوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، ومع ذلك فقد اختار هؤلاء ليحبهم وليحبوه عز وجل.
فهو الودود، والمؤمنون يودونه، هو يُحِب ويُحَب -وهو القول الذي لا يجوز الذهاب إلى سواه- وهذا قول أهل السنة والجماعة بخلاف من أنكر ذلك من غلاظ القلوب والأكباد من الجهمية وأمثالهم من المؤولين كـ الأشعرية الذين ينكرون أن الله يحب أو يحب.
يحبهم ويحبونه هذا أول الأمر، علاقة مع الله تبارك وتعالى، أما في العلاقة مع الخلق فتتصف أخلاقهم بالذل للمؤمنين والعزة على الكافرين، فهذه هي العلاقة الصحيحة التي هي صفة من يختاره الله جل وعلا، إذا ارتد الناس عن دينه فإنه يختار ويصطفي هؤلاء.
أما المحب للكافرين والكاره للمؤمنين فهذا لا يمكن أن يصطفيه أو يختاره الله، بل هو من الهالكين، وممن يشمله الوعيد الذي في الآية السابقة من سورة التوبة.
ثم يأتي من صفات أحباء الله أنهم يجاهدون في سبيله، لأنه من كمل محبته لله، وكمل ولاؤه للمؤمنين لا بد أن يجرد سيفه لمقاتلة أعداء الله عز وجل الذين يبغضون الله ويبغضهم الله تبارك وتعالى، والذين يبغضون المؤمنين ويبغضهم المؤمنون، ولا يخافون في الله لومة لائم، لأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقولون كلمة الحق، ولو خافوا في الله لومة لائم ما قالوا الحق، وهذه سمة واضحة في كل من خاف الخلق في الله؛ أنه لا يقول كلمة الحق أبداً، لأن أهواء الناس تخالف ذلك الحق.
فإن تكلم في الأخطاء والانحرافات والضلالات التي يقع فيها الحكام والسلاطين لم يرض عنه الحكام، وإن تكلم فيما يقع فيه التجار من المحرمات والمعاملات المحرمة وما أشبه ذلك، فهذا لن يرضى عنه التجار، وإن تكلم في ما يقع فيه طلاب العلم غضبوا عليه، وإن تكلم في أي طائفة من الناس ممن خالفوا أمر الله ودينه، وأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر فإن ذلك لا يعجبهم.
ولذلك فالمؤمن من صفاته أنه لا يخاف في الله لومة لائم، فمن كانت هذه صفته فهو من المختارين، وهو البديل لمن يرتد عن دين الله تبارك وتعالى، ولا يقوم بحمل أمانة هذا الدين التي هي أعظم الأمانات وأثقلها إلا من كانت هذه صفته.
ولذلك نعود إلى الأصل وهو اقتران الجهاد بالمحبة: فالمؤمن لا يبالي بمن يلومه ولا نقول: إن حقيقة الملام هي ما يسعى إليه المؤمنون، ولكن كل من عمل بتقوى الله وأحب الله وأحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأطاع الله واتقاه، وأحب المؤمنين وأبغض الكافرين فلا بد أن يتعرض لهذا اللوم.
أما الذين سموا أنفسهم الملامتية من الصوفية وأشباههم ويقولون: نتعرض للوم لكي نهين أنفسنا، ولكي نرغمها، ويتظاهرون بالمعاصي أمام العامة حتى يهينوهم ويذلوهم، ويقولون: ندفع بذلك الرياء وأمثال ذلك من الأباطيل، فهذا انحراف عن منهج التربية والتزكية الذي شرعه لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمر من الله، وهذا هو الملام المذموم، فهم مذمومون في أعمالهم وإن لحقهم اللوم فهو في محله.
أما المؤمنون فإنهم بإخلاصهم في دين الله واجتهادهم في طاعة الله، لا بد أن يلاموا، لأنه لم يقم أحد بشيء من هذا الدين وعمل من أجله وجاهد عليه إلا تعرض للوم.
والرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم قيل عنهم: هذا ساحر، وهذا شاعر، وهذا كاهن، وهذا كذاب، وقالوا عن القرآن: أساطير الأولين اكتتبها وأعانه عليه قوم آخرون، أشياء عظيمة قيلت فيهم، فلا بد أن يقع اللوم، فما على المؤمن إلا أن يستقيم على أمر الله؛ فإن وقع عليه من اللوم -وهو لا يطلبه- فليحمد الله الذي أعانه ووفقه للصبر والثبات لكي يكون ممن اختارهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(95/10)
حقيقة المحبة وأثر تحقيقها
المحبة لله يتفرع عنها محبة عظمى، وهي محبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الحديث المتفق عليه: {لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين} ومحبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمل قلبي عظيم، وقربة عظمى، فهي قرة عيون المؤمنين، فأما من رآه منهم فوالله ما يعدلون برؤيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً في هذه الدنيا، وإن كانوا ممن لم يروه -كما هو حالنا- فوالله لا يرون أن شيئاً في هذه الدنيا يساوي أن يكونوا قد رأوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مهما أوتوا من متاعها، وإن أعظم ما يرجوه عند الله في الجنة أن يروا ربهم عز وجل، وأن يروا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويكونوا رفقاءه في الجنة، فهذا غاية ما يسعى إليه كل مؤمن.
ومن لوازم محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الاهتداء بهديه والاقتداء بسنته، ومحبة ما أحب، وأعظم ما أحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أحب الله، وأحب الجهاد، وأحب الأمر بالمعروف، وأحب النهي عن المنكر، وأحب الصلاة، وأحب المؤمنين، وأبغض صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكفر، والشرك، والنفاق، والكافرين، والمشركين، والمنافقين، والفجار، والكذابين، والظالمين، وهكذا.
فإذا أحب الإنسان ما أحبه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبغض ما أبغضه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان الإنسان سائراً على درب المحبة وطريقها، كما قال عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31].(95/11)
حقيقة المحبة لله
جعل الله تعالى حقيقة محبته في اتباع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم رتب على ذلك {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله} [آل عمران:31] فرتب على اتباع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يحبهم الله، فإذاً: ليس الغرض أن يدعي أحد محبة الله، كما قال بعض السلف: ادعى قوم محبة الله فأنزل الله هذه الآية، فهذه آية المحنة أو آية الامتحان، لأنها امتحان لهم في حقيقة المحبة.
فليس الغرض فقط أن يدعي قوم أنهم يحبون الله، بل الغاية أن الله يحبهم، فلو أن أحداً ظن أنه يحب الله، ولكن الله لا يحبه فلن ينفعه ذلك أبداً! فانظر إلى عباد النصارى الذين حجروا على أنفسهم في الأديرة والصوامع، وحرموا ما أحل الله اعتقاداً وظناً منهم أنهم يفعلون ذلك قربة إلى الله، وأن الله يحبهم؛ ولكن لم ينفعهم ذلك، لأن الله لا يحبهم، فلذلك لم ينفعهم أي عمل، فالغرض من هذه العبادات حصول الثمرة وهو أن يحبهم الله، وليس أن يدّعوا هم محبة الله، فلهذا قال {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ} [آل عمران:31] فإذا أحبك الله فهذه هي النعمة، وهذا هو الرضوان، وهذه هي البشرى، فأبشر بالجنة وأبشر بالخير، وبمحبة الناس لك في هذه الحياة الدنيا، فإن الله تبارك وتعالى كما ثبت في الحديث: {إذا أحب عبداً نادى جبريل -عليه السلام-: إني أحب فلان فأحبه، فيحبه جيريل عليه السلام، وينادي في أهل السماء: إن الله تبارك وتعالى يحب فلاناً فأحبوه، فيحبونه، ثم يوضع له القبول في الأرض؛ فيحبه أهل الأرض} فهذا الفضل من الله لمن يحبه الله عز وجل.
فنحن محتاجون إلى محبة الله لنا، أما دعوانا أننا نحب الله، فيمكن لكل كافر وزنديق وملحد وأي إنسان من بر أو فاجر أن يدعيها، لكن ما حقيقة ذلك وما دلالته؟!(95/12)
المحبة لله ورسوله تكون في الاتباع
لا بد أن يعلم الإنسان أن المحبة في الحقيقة هي في الاتباع، ولا نقول: إن الاتباع يتجرد عن المحبة بمعناها القلبي، لأن المحبة القلبية هي من الاتباع، فما محبة الله ومحبة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا في الاتباع العام، والالتزام بسنته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أثر لازمٌ وظاهرٌ لهذه المحبة التي هي عمل قلبي، فإن كانت المحبة صادقة فإن هذا يظهر في سلوك جوارح وأعمال المحب.
وذلك بأن يحب العبد كل ما أحبه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويبغض كل ما أبغضه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويتأسى به في كل عمل، وفي كل ما ثبت عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وتقديم محبة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على غيره يثمر للعبد ثمرةً عظيمة ونعمة كبرى، لا تعادلها كنوز الدنيا جميعاً ولا ملذاتها، ألا وهي حلاوة الإيمان، جاء في الحديث {ثلاث من كن فيه وجد بهنَّ حلاوة الإيمان} فالإيمان شيء وحلاوته شيء آخر، فكونك تجد حلاوة الإيمان وتعلم نعيمها، فإنه يهون أمامك كل شيء، وتشعر بأن هذه هي جنة الدنيا، كما قال شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله: 'إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة' فبقدر تنعمك بحلاوة الإيمان في قلبك يكون تنعمك بالجنة بإذن الله.
أما الذين أغلقت قلوبهم وحجبت، وطمست بالكفر والشهوات والشبهات في الدنيا عن ذكر الله ومحبته فهؤلاء هم أهل النار والعياذ بالله، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حلاوة الإيمان: {أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما} فلا يقدم عليهما في المحبة أي شيء، وإن حدث تعارض بين مقتضى محبة الله مع مقتضى محبة الأهل أو النفس أو الزوجة أو غير ذلك من الأحباب والأخلاء والأصدقاء، فإنه يجب أن يقدم مقتضى محبة الله تبارك وتعالى على ذلك، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله} وهذا فرع عن الأول، لأن الناس لا بد لهم من علاقات فيما بينهم، على أن تكون هذه العلاقات بين الخلق مبنية على المحبة في الله، وهذا ما دلت عليه الآية {يحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54].
فكل الآيات والأحاديث في مدلولاتها وتطبيقاتها في منهج أهل السنة والجماعة تترابط دائماً وتدل على معنى وحقيقة واحدة.
فمن ذاق طعم الإيمان، وذاق حلاوته، وأحب الله ورسوله، وقدم محبتهما على كل شيء، وأحب المرء أخاه ولم يحبه إلا لله خالصاً لوجهه الكريم، فإنه لا بد أن تثمر عنده: {وأن يكره أن يعود إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار} فهذه هي الحالة الثالثة، وكما قد جرى لأصحاب الأخدود، وعذب أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكما يفتن المؤمنون في كل زمان ومكان، ولا يرجعون عن دينهم أبداً، لأنهم ذاقوا حلاوة الإيمان.
ولهذا يجعل الله تبارك وتعالى من الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله: {رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه} لأن محبتهما تجردت عن أن تكون لهوى أو لشهوة أو لغرض مما يجتمع عليه الناس، وهذه هي المحبة التي تدوم عند الله تبارك وتعالى.
أما ما عداها: فكل نسب، وكل علاقة، وكل صلة، وكل محبة يوم القيامة ليست لله عز وجل فهي مقطوعة، ويتبرأ بعضهم من بعض، ويلعن بعضهم بعضاً، ويعادي بعضهم بعضاًَ على مودتهم في الحياة الدنيا {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] فالمتقون أحباء في الدنيا وأحباء في الآخرة.
ولهذا كما في حديث أنس في الصحيح أنه قال: لم يكن عند الصحابة أرجى من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {المرء مع من أحب} قالوا: هذا أرجى ما سمعنا، فنحن نحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحب أبي بكر وعمر، ونرجوا أن نكون معهم.
فمعنى كلامهم: إن لم نلحق بهم بأعمالنا فإننا نرجو أن نلحق بهم بمحبتنا لهم.(95/13)
أثر محبة الله وأثر تحقيق المحبة
أثر محبة الله وأثر تحقيق المحبة أنها: تثمر لصاحبها علواً ورفعةً في الدرجة، لم يكن ليصل إليها لولا هذه المحبة، إن قصر بك عمل الجوارح من أن تجاهد كجهادهم، أو أن تأمر بالمعروف كأمرهم، أو تتعبد كعبادتهم، فيجب أن تحبهم بقلبك، وأن تسأل الله تبارك وتعالى مرافقتهم، وأن تبغض من أبغضهم، وتعادي من عاداهم، وبذلك تصل -بإذن الله تبارك وتعالى- من الخير الكبير، وأن تصل إلى قربهم أو أن تدنو منهم، وهذا شرف عظيم، وفخر كبير، وغاية لو شمر لها العابدون والساعون الدهر كله لكانت مستحقة لذلك.
فحقيقة المحبة إذاًَ هي ما قدمنا من حيث علاقتها بالإيمان، والعبادة حيث إن المحب على الحقيقة لا يقدم أمراً ولا نهياً، على أمر ونهي من يحبه وهو الله تبارك وتعالى، مما يثمر ذلك لديه الاستقامة في السر والعلانية، وفي كل شأن من شئون الحياة، واتباع سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي جُعل اتباعه امتحاناً لحقيقة المحبة وامتثالها.
أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجعلنا ممن يحبهم الله ويحبونه، وممن يقيم هذه الأعمال وهذه الحقائق القلبية الإيمانية في نفسه وأهله ومجتمعه، ويدعو إلى ذلك، إنه سميع مجيب.(95/14)
الأسئلة(95/15)
المحبة عند أهل الكلام وأهل التصوف
السؤال
اقتصرتم في ذكر أعمال القلوب عند أهل السنة والجماعة فهل من إشارة إلى هذه الأعمال عند بعض الفرق وإزالة شبههم التي قد غيرت أفكار كثير من الناس؟
الجواب
المحبة عند الصوفية أو الزنادقة -وهكذا سماهم السلف لأن كل من ادعى المحبة من غير تعبد واتباع للسنة فهو يسمى ويعدُّ زنديقاً- لها معنى آخر، فهناك منهجين مخالفين لـ أهل السنة والجماعة هما: أهل الكلام وأهل التصوف وكلاهما غلط وضل في حقيقة المحبة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فأما أهل الكلام فهم ينكرون أن الله تعالى يُحِب أو يُحَب، وهذا ضلال عظيم -والعياذ بالله- فهم غلاظ القلوب والأكباد، فكيف نتخيل أن يعبدوا الله وهم يعتقدون أنه لا يُحِب ولا يُحَب، وهم لا يحبون الله، وهذا من ضلالهم.
أما ضلال الصوفية وهو الأشهر والأظهر، أنهم لم ينكروا المحبة بل صرفوها وصرفوا الأمة معهم عن حقيقتها، فأصبحت المحبة عندهم بالنسبة لله تبارك وتعالى هي أناشيد، فتراهم يأتون بشعر قيس مجنون ليلى.
أو أي شعر في الديار أو في الأوطان أو في الغربة أو في غيرها، وينشدون ويغنون ويقولون: نحن نعني بذلك محبوبنا وهو الله، وليلى ليست هي المقصودة وإنما المقصود هنا هو ذات الله، تعالى الله وتبارك عن ذلك علواً كبيراً.
فأصبحت جلساتهم وحضراتهم كلها من ذلك الغناء، ومن هذه الأناشيد, ومن هذا اللهو, واستحلوا تبعاً لذلك الرقص، والدف، وأنواع المزامير، فأصبحت جلساتهم هي جلسة غناء لا أكثر ولا أقل، إلا أنه غناء -كما يزعمون- للدين، وذاك غناء أهل الطرب للطرب، لكن الباعث والمحرك واحد وهو حظ النفس، نسأل الله العفو والعافية.
وضلوا عن محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فزعموا أن من محبته أن تتحدث عنه عن مولده، وكيف كان، والعجائب في ذلك ضعيفها أو موضوعها أو صحيحها، ثم لا يذكر جهاده، ودعوته، وما دعا إليه، وإنما كله يتعلق بشخصه وببدنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فبعد أن يتحدثوا عن مولده ويعدون ذلك حباً، بل يسمونه أحياناً عشقاً -والعياذ بالله- ويتكلمون في ذلك ما ثبت عنه أيضاً وما لم يثبت، عن لونه، وشعره، وعينيه، صلوات الله وسلامه عليه، ويقتصرون على هذا الجانب ويخلطون الصحيح بالضعيف والموضوع.
فهذه محبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندهم، أما المؤمنون أهل السنة والجماعة فمحبتهم كما ألمحنا آنفاً.(95/16)
نبذة عن رابعة العدوية
السؤال
فضيلة الشيخ: عندما تذكر المحبة عند الصوفية تذكر رابعة العدوية نريد نبذة موجزة عنها وما موقفنا منها؟
الجواب
عندما تذكر رابعة التي يسميها البعض شهيدة الحب الإلهي، أو شهيدة العشق الإلهي، وكان هذا في القديم حيث كتب وقيل فيها ما قيل، ثم حديثاً عُمِلت الأفلام باسم رابعة العدوية والعياذ بالله.
فالذي أراه في رابعة العدوية أن نقول فيها ما قاله أئمة الجرح والتعديل، حيث إن أبا داود -رحمه الله وهو تلميذ الإمام أحمد في الحديث وفي الجرح والتعديل- يقول عنها: 'ورابعة رابعتهم على الزندقة' أي: أن رابعة العدوية كانت، من ضلال العباد، الذين ضلوا في عبادتهم وخرجوا عن سنة نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهي كانت تزعم أن أمرها وشأنها كله محبة، فأسقطت الخوف والرجاء بالكلية، وعلقت نفسها بالمحبة، وامتنعت عما شرع الله تبارك وتعالى للنساء من الزواج وغيره، وتبتلت وترهبنت ترهب النصارى، وليس بالتبتل الذي شرعه الله تبارك وتعالى لعباده، فهي كما قال رحمه الله، فما ثبت وما صح وما يصح عندنا هو ما يقوله علماء الجرح والتعديل.
أما ما يفتريه الصوفية وأمثالهم فهذا لا شأن لنا به، وإن كان فيما يذكرون عنها طوام، ومكفرات، وأنها عندما تقول: ' إنني لا أحب الجنة ولا أخاف النار وإنما أحب الله فقط ' وتقول: ' إن من أحب الله من أجل الجنة أو النار أو من اجتهد في العبادة لأجل الجنة والنار فهو أجير ' كما ينسب إليها، هذه الأبيات الشعرية التي تقول فيها:
أحبك حبين حب الهوى وحب لأنك أهل لذاك
فأما الذي هو حب الهوى فشغلي بذكرك عمن سواك
وأما الذي أنت أهل له فكشفك للحجب حتى أراك
إلى غير ذلك مما ينسب إليها، وهذا فيه انحراف وفيه ضلال ومنه ماهو كفر، كما ينسبون إليها أنها سمعت قارئاً يقرأ ويقول: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:21 - 22] فقالت: ' يمنوننا باللحم وبالطير كأننا أطفال، وإنما الغرض المحبة'.
انظر كيف تعترض حتى على ما جاء في القرآن، أما مسألة نعيم الجنة، فما يهم، والمهم هو المحبة، فهذه محبة عباد الهندوس وأمثالهم الذين يرون أن غاية العبودية هي الاتحاد في برهما، أو الفناء في برهما الذي هو الرب المعبود عندهم تعالى الله عما يصفون.(95/17)
نوع التعامل مع الكفار
السؤال
من محبة الله البغض فيه والحب فيه، وبغض الكفار من محبة الله، فكيف يكون تعاملنا معهم إذا كانوا معنا في العمل، ونحتك بهم يومياً، وكيف يكون التسليم عليهم إذا رأيتهم؟
الجواب
هذه دائماً نُسأل عنها ولا بد أن نبدأ الأمور من جذورها.
الأمر الأول: أنه لا يجوز أن يُدخَلَ الكفار إلى جزيرة العرب أو أن يقيموا فيها لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لا يجتمع في جزيرة العرب دينان} فلا يجوز للحكومة، أو للشركات، أو للمؤسسات أن تتعاقد معهم، أو أن تعطيهم إقامة في جزيرة العرب وإذا كان لا بد اضطراراً فلأفراد معدودين وفي وقت محدد ولحالة طارئة، أما أن يستقدم الكافر، بل والعياذ بالله أن يشترط في بعض العقود كما في الهند والفلبين وغيرها أن تكون نسبة كذا من المسلمين ونسبة كذا من غير المسلمين، فهذا شرط باطل، والعمل بهذا الشرط مخالفة صريحة لما نهى عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومخالفة لأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإخراجهم من جزيرة العرب وأن لا يجتمع فيها دينان، وهذا من ما لم ينسخ قط، فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاله وحذر وأوصى به في مرض موته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنفذ ذلك خلفاؤه الراشدون، وما علمنا في تاريخ المسلمين، ولا في تاريخ الخلفاء الراشدين، ولا الأمويين، ولا العباسيين، ولا من بعدهم أن كفاراًَ استوطنوا جزيرة العرب وأقاموا فيها إلا مع قدوم الاستعمار الغربي الخبيث، وأول ما ابتدءوا في مناطق معينة في الخليج، وكان الذي يأتي منهم إلى جدة يكون في غاية الخوف، ثم لما فتح الله علينا بهذه النعمة، وامتحننا وابتلانا بهذه الثروة جئنا بهم واستسهلنا ذلك، وأصبح كأنه أمر لا حرج فيه -نسأل الله العفو والعافية- فهذه من الذنوب والكبائر التي قد توجب غضب الله، ونزول عقابه علينا، والناس يستهينون بهذا الذنب، فترى الخادمة، والعامل، والمحاسب، والمدير كفار، وفي كثير من الإدارات يولى الكفار على المسلمين، وهذا مناقض لما جاء في الآية السابقة: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54] فيجب أن تكون الذلة للكافرين من المؤمنين والعزة للمؤمنين، أما أن تكون الأمور بعكس ذلك، وأن يتسلط الكافر على المسلم، فهذا مما لا يرضي الله تبارك وتعالى أبداً.
أما وقد ابتلينا بهم فما علينا إلا أن نتعامل معهم في ما من شأنه -إن شاء الله- أن يفتح قلوبهم للحق، فإن رأينا أن ذلك يجدي وينفع، فالمعاملة الحسنة مطلوبة من الإنسان، والعدل مطلوب منه حتى مع هؤلاء الذين هم كفار، والذين لا يجوز أن يؤتى بهم إلى هنا.
لكن المعاملة الحسنة والاجتهاد في إتقان العمل، وغير ذلك من الأمور، التي يمكن أن يفتح الله بها قلوب بعضهم ليهتدوا فهذا أمر حسن.
أما ما شرعه الله من ترك البدء بالسلام عليهم، واضطرارهم إلى أضيق الطريق، وترك أكلهم أو ذبائحهم خاصة إن لم يكونوا من أهل الكتاب، أو كانوا أهل كتاب لكن لم يذبحوها وغيرها من الأمور العملية، فهذه وإن كانت مشروعة في الأصل في أهل الذمة، -وأهل الذمة موضعهم بلاد الشام ومصر وأمثالهما إلا أن هذه الأحكام تسري هنا ما دام أنهم قد جاءوا إلى هنا، وإن كان الذين هنا ليسوا بأهل ذمة ولا ينطبق عليهم ذلك العقد.(95/18)
الصبر ناتج عن المحبة وتالٍ لها
السؤال
فضيلة الشيخ، ذكرتم أن الذي يقوم إلى الصلاة ويحس بثقل في نفسه أنه ليس بمؤمن، ويكون فيه صفة من صفات المنافقين، ونعلم أن الصبر ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة فهذا الذي يقوم إلى الصلاة ويجدها ثقيلة ألا يكون من الصبر على طاعة الله، ثم إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216] فهذا القتال طاعة لله وعبادة، ومع ذلك هو كارهاً على نفوس المؤمنين، فكيف تكون المحبة شرطاً في العبادة؟
الجواب
هذا الأخ اختلط في ذهنه مقدمة العمل ونتيجته، فقد جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما رواه الإمام أحمد في المسند فقال له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أسلم قال: أجدني كارهاً.
قال: أسلم ولو كنت كارها} حتى لو كنت كاره فأرغم نفسك على الحق وقل: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فإذا فعل ذلك فيجب أن يحب الإيمان، وأن يحب الصلاة، فالإنسان إذا كان متعباً مجهداً وهو يحبها، فإنه يقوم وهو راضٍ منشرح الصدر، ويصبر على هذا القيام الذي يقومه وهو متعب، فلا تعارض بين هذا وهذا، لأن الباعث والمقدمة للعمل هي المحبة، والصبر ينتج عن محبتك لهذا العمل وأن تصبر عليه وإن كان مؤلماً لأنك تحبه وتريده بقلبك، فالقتال كره، لكن حبك لهذا العمل يجعلك تصبر عليه، وحبك نابع من أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شرعه فتكون بذلك قد امتثلت أمر الله.
فليس المقصود أن نجتث ما هو خلقيٌ جبلِّيٌ في نفوسنا من كراهية القيام، أو النهوض مع التعب، أو من كراهية الجهاد، أو من كراهية الإنفاق، فمثلاً ليس المقصود ألا ننفق ونحن نحب المال، فنحن نحب المال حباً جماً -كما ذكر الله ذلك- عن الجميع -لكن المؤمن يصبر على الطاعة بدافع محبة الله تبارك وتعالى، فينفق ويجاهد عن رغبة وليس عن كسل.(95/19)
حكم حضور دورات تطويرية يتضمنها محرمات
السؤال
فضيلة الشيخ: نحن نعمل في مطار جدة وأحياناً تعطى لنا دورات لتطوير مهارات في العمل، ويتخلل هذه الدورات أفلام فيديو أو غيره وبداخل هذا الفيلم موسيقى وصور نساء، فهل يجوز لنا أن نحضر هذه الدورات التي بداخلها من ما لا يحبه الله ورسوله علماً بأن هذه الدورات مهمة في الترقيات؟
الجواب
الأمر في مثل هذه الأمور دائر بين المصلحة والمفسدة، والقاعدة فيه ما الراجح: هل المصلحة أم المفسدة؟ فإن كانت المصلحة أرجح بأن نستفيد من علوم هؤلاء الكفار، لكي تترقى لتحل محل واحد منهم، ثم تعلم أنك بعد ذلك تصبح مدرباً وتعلم المسلمين وأن تبعد هذا المنكر وما أشبه ذلك، فيجوز لك أن تحضر وتغض النظر عن الصورة المحرمة، وأيضاًَ تقفل سمعك عن المسموع المحرم من موسيقى أو كلام لا يليق.
وأما إن كانت المفسدة فيها أرجح وأعظم، فهذا مما يجب على الإنسان أن يتركه، وأن يحتسب ذلك عند الله تبارك وتعالى.(95/20)
معايشة الروافض
السؤال
فضيلة الشيخ: السلام وعليكم ورحمة الله وبركاته، نحن طلبة في الكلية التقنية بـ جدة ونسكن في السكن الداخلي، ويسكن معنا رافضة وإمامية وهم يصلون معنا في مسجد الكلية، فهل صلاتهم معنا في هذا المسجد جائزة، وهل هم كفار، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
إذا أظهروا شعائر الدين وصلوا صلاتنا، واستقبلوا قبلتنا، وأكلوا ذبائحنا فهذا حسن، ونحن نكلهم إلى الله تبارك وتعالى في بواطنهم، وإن لم يظهروا عقائدهم وعملوا هذا العمل، فهذا أمر مطلوب، وهذا الذي نريده منهم.
هذا غاية ما نريده نحن في الدنيا، أما قلوبهم وبواطنهم فهي عند الله، فعلينا بعد ذلك أن نُذكّر وننصح على سبيل العموم في ما يتعلق بالتحذير من الشرك، وفي التحذير من الطعن والنيل من الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم - وأمثال ذلك مما نعلم أنه من عقائدهم، فلعل الله أن يصلح قلوبهم، وإلا نكون قد أقمنا الحجة عليهم.(95/21)
حكم من يدعي التجديد في الدين
السؤال
فضيلة الشيخ: هناك من يدعي تجديد الدين، ويريد بذلك تغيير معالم الدين الإسلامي، وله كتابات مثل تجديد الفكر الإسلامي وتجديد الفقه الإسلامي وهكذا يريد طمس معالم الدين، كأمثال الدكتور الترابي فإن ثبت هذا فهل نسميه زنديقاً أم لا؟
الجواب
في الأصل أن من انحرف وضل في هذا الباب، ويحسب أنه يمكن أن يأتي بتجديد الدين، وتجديد أصوله، لا تجديد العمل به وإحيائه، ولكن من يعتقد ويظن تحديد أصول الدين وحقائقه مما لم يشرعه لنا الله على لسان رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا شك أنه زنديق، ولا شك أن الزنادقة بهذا المعنى كثير قديماً وحديثاً.
أما إطلاقه على فلان بعينه فهذا يحتاج إلى تحرٍ وتثبت، ولا بأس أن يطلق على أفكاره أنها أفكار ضالة مضلة، أو أفكار زنديقية أو ما أشبه ذلك، لكن إطلاقه على فلان باسمه وعينه يحتاج إلى تثبت، ولا سيما إذا كان ممن ضعفت صلته وعلمه بهذه الشريعة من جهة، وضعف من يقيم الحجة عليه من جهة أخرى.
ومن أكثر ما يسبب الضلال عند هؤلاء العصرانيين -كما يسمون- ويدفعهم إلى الضلال، أنهم لا يجدون من أهل السنة والجماعة من يقيم الحجة الكافية عليهم، فعلمهم محدود وضحل، بل إن علمهم غربي محض، وليس لهم إلا اطلاعات عابرة على الشريعة وكون هذا المذهب منتشر في أوروبا وأمريكا فإنهم لا يجدون إلا شباباً يحبون السنة ولكن لا يفقهون من الأصول ومن قوة الحجة والإقناع والمناظرة ما يقيمون به الحجة عليهم، فيقولون: إن هؤلاء جزئيون أو شكليون أو ظاهريون، أو ما أشبه ذلك من التهم التي يلصقونها بـ أهل السنة والجماعة المتبعين لمنهج السلف الصالح، ويزيدهم ذلك اقتناعاً بشبهاتهم وبضلالهم، نسأل الله العفو والعافية.
والواجب على علماء الأمة وعلى دعاتها محاربة هذا الفكر الهدام والتصدي له، والكتابة عنه فهو خطير ومهم جداً، سواءً سمي تجديداً أو عصرنةً.
وللأستاذ جمال سلطان كتابات مفيدة في هذا، وهي موجودة ومتوفرة لمن أراد أن يطلع عليها، وليحرص كل منا على الاطلاع عليها.(95/22)
التنقل في المحبة وعدم الاستقرار
السؤال
فضيلة الشيخ: إني أحبك في الله: فأنا شاب في أحد المراكز وأحب الملتزمين كثيراً، ولا أود فراقهم، ولكني غبت عن المركز يوماً واحداً وهو أمس، ولعبت مع شباب ليسوا ملتزمين وليسوا فاسقين فأحببتهم كثيراً، وأصبحت أتضايق من المركز ومن طلاب الأسرة، وأصبحت أفكر في ترك المركز لأذهب إلى من أحببتهم، ودخلوا قلبي حباً في الله، وأصبحت محتاراً جداً، فما الحل؟ أفيدونا أفادكم الله وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
من كان حاله كحالك فيخشى عليه الاضطراب؛ فكيف يكونوا ليسوا ملتزمين وتحبهم في الله، وفي يوم واحد تحبهم محبة تفوق أو تساوي محبة المركز بما فيه من خير وشباب صالحين وغير ذلك.
فأخشى أن تكون ممن هو سريع في التنقل، وأرجو أن يكون حالك كما قال الشاعر:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول
فالحبيب الأول هو المركز، والمشاركون فيه، فلا تكثر التنقل -بارك الله فيك- في المحبة، وهذا يدل على أمر أقوله دائماً وأكرره وهو: أن الشاب بحاجة إلى من يربيه، وإلى من يوجهه، وإلى من يقومه، فإنه لا يعلم المصلحة في أي شيء، فبمجرد الاندفاع والرغبة والمحبة تجعله متنقلاً في المحبة، فربما يكون في حلقة تحفيظ قرآن، ويجد شاباً يلعب الكرة فيترك التحفيظ ويذهب للعب معه وربما يكون في مكان نافع خير، فيتركه ويذهب إلى مكان آخر وإن لم يكن ضاراً فهو أقل نفعاً؛ فعليه قبل أن يترك ذلك أن يستشير من يوثق بعلمه، وفهمه، وحسن تربيته، وتزكيته، ثم يعمل بمشورته.(95/23)
من ابتلي بحب النظر إلى النساء
السؤال
الرجاء الإجابة على ما وقعت فيه، ونصحي بما يبعدني وينجيني من هذه المعصية -عافاكم الله والمسلمين جميعاً- فقد ابتليت بحب النظر إلى النساء، فأصبح هذا مرض في نفسي -ولكني أحب الله ورسوله- مما أتعبني كثيراً؛ فكيف الخلاص، وأرجو الدعاء لي وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
نسأل الله أن يهدينا وإياك، ويثبتنا على الحق ويعصمنا من الضلال.
ما دمت أنك تحب الله ورسوله فأبشر بخير، واجعل هذه المحبة وسيلة لك إلى ألا تحب إلا الله، وتترك المحبة لما حرمه الله، فكيف تحب ما حرمه الله وقد حرمه! ومن بين هذه المحرمات النظر إلى النساء الأجنبيات وقد أمر الله المؤمنين بقوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30] فلا بد من غض النظر وحفظ الفرج كما أمر الله تبارك وتعالى.
فإن فعلت ذلك فإنك تكون محباً لله ومحباً لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما هذا إلا ذنب من الذنوب التي تطرأ على العبد، فعليك بعلاجه بما تعالج به سائر الذنوب، بالتوبة والإقلاع عنه، والاستغفار، والعزم على أن لا ترجع إليه أبداً، والاستعانة بالله تبارك وتعالى، ثم بمجالس الخير وحِلَقِ الذِكْرِ، وترك المثيرات والمغريات، وأن تعلم أنك مهما نظرت فإنما هي سهاماً توجه إلى قلبك، فهذا شأن النظر.
واعلم أن هذه النظرات ما هي إلا من تزيين الشيطان، حيث إنه يزين لك المرأة التي إن كانت النظرة حراماً، ويجعل قلبك معلقاً، ولكنك لو تزوجتها بالحلال لكانت أقل بكثير في عينك عما كنت تراها عليه وهي حرام.
وهذه حالة لا يسع المقام للتفصيل فيها، لكن المقصود أن تزيين الشيطان وأزه وإغرائه، هو الذي يدفع الشباب لهذا، ولو أن العبد اعتصم بالله تبارك وتعالى فإن هذا الاعتصام سيكون له عوضاًَ عن ذلك، وسيجد في قلبه حلاوة الإيمان كما ورد ذلك في الحديث، وأنصحك بقراءة كتاب الجواب الكافي.
وكتاب ذم الهوى لـ ابن الجوزي، فلعل فيهما ما يردك إن شاء الله.(95/24)
حكم من ينفر الشباب من المراكز الصيفية
السؤال
فضيلة الشيخ: ما هو رأيكم في المراكز الصيفية فإن هناك من ينفر الشباب من هذه المراكز، وفي المقابل هناك من يحث الشباب ويرغبهم فيها، فما رأيكم في ذلك؟
الجواب
كل مركز يختلف عن الآخر، ففي المراكز من المحاسن كما أن في بعضها قبائح، فهي كالمدارس، وكأي أمر من الأمور الأخرى، فهناك المراكز التي يكون فيها الخير والعلم النافع والسنة والحق.
وهذا -والحمد لله- هو الذي لاحظناه وشاهدناه عندما زرنا المركز، ولا أزكي أحداً على الله، وقد يكون في بعض المراكز انحراف أو أخطاء أو معاصي أو ما أشبه ذلك؛ فهذا قد يكون في بعض هذه المراكز، لكن لأنا لم نعلم ولم نر كل المراكز فأقول: إن من العدل ألا يذم أحدنا شيئاً أو يمدح مطلقاً بمجرد الاسم، فمجرد الاسم لا يعطي معنى لأن اسمه مركز، لكن هل هو مركز سنة وحق وطاعة وفائدة، أو مركز بدعة وضلالة وضياع؟ فبهذا يكون التفريق.
فما عليك إلا أن تختار الحق والخير والطاعة، وما يفيدك في دينك ودنياك، وإن لحظت على غيرك أو رأيت أو علمت عنه أمراً فلإنكار المنكر وسائله الكثيرة المعروفة، فأنكر بنفسك أو عن طريق من يؤثر عليهم أو ما أشبه ذلك، أما أن تذم مطلقاً فهذا من الظلم ومن الإجحاف.(95/25)
انتشار الشحناء بين الدعاة إلى الله
السؤال
فضيلة الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هناك بعض طلبة العلم، ومن الذين لهم القيادة بين الشباب، ولكن المشكلة أن هؤلاء الشباب -أي طلبة العلم- بينهم من البغضاء والشحناء ما يشيب له الرأس، فهل من كلمة توجيهية لنا جميعاً، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
هذه هي الحالقة كما أخبر عنها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تحلق الشعر ولكن تحلق الدين} وهذا هو التحريش الذي رضي به الشيطان، بعد أن يئس أن يعبد في جزيرة العرب وهذه البغضاء تولد قسوة في القلب، وجفوة في التعامل، وربما أورثت صاحبها الخروج عن النهج القويم، بأن يظلم، وأن يفتري، وأن يبغي على من خالفه أو من يرى أنه عدو له.
وهذا من التفرق الذي نهينا عنه، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم ينفِ أن يقع بين المؤمنين اختلاف أو اقتتال فقال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9] الاقتتال قد يقع، والاختلاف لا بد أن يقع لكن يُحل ذلك بالتفاهم، يحل بالصلح، يحل بالتناصح، وبترك الغيبة، أما البغي والظلم والعدوان لمجرد المخالفة، فهي مؤلمة وسيئة وشر بين الأمة، فكيف بها بين الشباب وبين طلاب العلم! فأقول لنفسي ولإخواني: إنك لن تعامل من عصى الله تبارك وتعالى فيك بخير من أن تطيع الله تعالى فيه، فإن ذمك بما ليس فيك فاصبر، واصفح واعف، وقل فيه ما تعلم أنه خير، ولا تقابل الإساءة بالإساءة، ولا تقابل الذم بالذم، فإن كان ولا بد فلا تزد ولا تبغ.
وهذه من صفات المؤمنين، ولا سيما الدعاة منهم، فإن الدعاة أرقى من أن ينزلوا إلى مستوى المهاترات، وإلى أن يردوا على كل من رد عليهم، أو يتكلموا فيمن تكلم فيهم، فإن فعلوا ذلك لم يعودوا دعاة، بل شُغِلوا عن الدعوة بهذه الأمور.
فهذه أمور لا شك أنها عظيمة، وأنه: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35] والذين جعلوا لنفوسهم من الزكاء ومن الرفعة، وكانوا كما وقف عمر رضي الله تعالى عنه لما قال له ذلك الأعرابي: 'إنك لا تعدل بين الرعية، ولا تقسم بالسوية، فهمَّ به فقال له الشاب التقي الحر بن قيس -رضي الله تعالى عنه-: يا أمير المؤمنين: إن الله تبارك وتعالى يقول: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] فوقف عمر رضي الله تعالى عنه' فهكذا يكون الصفح والعفو والإحسان حتى إلى من أساء إليك، خاصةً إذا كان يعلم شيئاً مما أنزل الله ويعلم شيئاً من حدود الله، فاعلم أنه سيؤدي به هذا الأمر إلى أن يندم ويتأسف، ويحبك عندما يرى أنه يرد عليك ولا ترد عليه، ويهاجمك ولا تهاجمه، ويتكلم فيك ولا تتكلم فيه، فلا بد أن يرجع إن كان في قلبه إخلاص لله تبارك وتعالى.
وأما من لم يكن كذلك فاعلم أنه لا بد في كل زمان من حثالة تقف في وجوه الدعاة، وتبث الفرقة بين الشباب، من أهل الخير، فهذه الحثالة لا دواء ولا حيلة معها أبداً، كما قال الشاعر:
لي حيلة في من ينمّ وليس لي في الكذاب حيلة
من كان يخلق ما يقول فحيلتي فيه قليلة
فالنمام قد تقفل أذنيك عنه وتتركه، لكن الكذاب الذي يختلق أي شيء، فلا حيلة فيه إلا أن تصبر وتحتسب ذلك عند الله، فإذا علمنا أنه لا بد أن يظل هناك فئة شأنها القطع والتشهير والتضليل والتبديع لأهل الحق ولأهل الهدى ومهاجمتهم بالباطل، فلا بد أن نحتمل وأن نغض الطرف عنه، وكأنه لم يكن، فأرجو أن يكون في الشباب الصالحين من الأخلاق الرفيعة السامية العالية ما يجعلهم يترفعون عن البغضاء وعن الشحناء فيما بينهم، أو سماع من يثير هذه الشحناء والبغضاء في ما بين شباب الدعوة والخير والهدى.(95/26)
ثمرة المحبة في واقع عبادة المسلم
السؤال
فضيلة الشيخ: إني أحبك في الله، ما هي ثمرة المحبة في واقع عبادة المسلم، وفي واقع أحوال المسلمين وأوضاعهم المعاصرة؟ ونسأل عن أوضاع المسلمين في البوسنة والهرسك وأفغانستان وفي تونس وفي اليمن؟
الجواب
ثمرة ذلك كما ألمحنا في المحبة هي الترابط الذي قال فيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم، كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى} وأما ما يتعلق بأخبار إخواننا وأحوالهم، فقد تكلمنا عن البوسنة وعن أفغانستان ولا جديد عندي عما قلته إن كان فيه ما يشفي أو يغني.
وفي تونس واليمن، فحال إخواننا في تونس سيئة للغاية، فالدعاة إلى الله قد زج بهم بالآلاف إلى السجون، وهم يعانون أشد المعاناة من حكومة علمانية لا تقيم دين الله ولا حدوده، ولا تتحاكم إلى شريعته، ولا تخشى ولا تخاف الله فيما تعمل، فقد ارتكبت من أبشع وأفظع أنواع التعذيب، ما اقشعرت منه جلود الذين زاروا ورأوا تلك المعتقلات حتى من الكفار أنفسهم، من المحايدين، ومن منظمات حقوق الإنسان، وذكرت ما لا يطيق المؤمن أن يذكره، أو أن يسمعه من حال إخواننا المؤمنين المعذبين هنالك، نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يفك أسرهم، وأن يفرج كربهم، وأن يجعل الدائرة على أعدائهم إنه سميع مجيب.
وكذلك المحاكمات الظالمة التي لا ينتج عنها إلا ظلماً.
وأما الوضع في اليمن فهو مضطرب قلق، حيث إنهم يعلقون الخروج من الأزمة بإجراء الانتخابات -كما يعتقدون- لكن لا ندري هل تجري هذه الانتخابات أم لا، وإن جرت فماذا تكون نتيجتها!! فحقيقةً أن مستقبل اليمن مظلم، ولكن نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن ينيره بحكومة إسلامية عادلة تحكم بما أنزل الله وتقيم كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الشعب المسلم الأبيّ، الذي لا يرضى -بإذن الله- سوى الإسلام ديناً مهما أغشي على عينيه، ومهما صنع هؤلاء المجرمين، من قوميين وبعثيين وناصريين واشتراكيين وأمثالهم من الكفرة والمرتدين والمجرمين.(95/27)
نصيحة لأهل اليمن
السؤال
نحبك في الله، ونحن من أهل اليمن فأرجو نصيحة لنا في نهضة هذه الصحوة في هذا الوقت وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
جزاكم الله خيراً، فأنا أحبكم في الله، ثم أريد أن أنبه أنه على المسلم ألا يعتبر ولا يعترف بهذه الفواصل التي أنشأها الاستعمار، أو أنشأناها نحن بتأييد من الاستعمار، فهذا يمني وهذا مصري وهذا سعودي وهذا وهذا، فنحن كلنا أمة واحدة في الإيمان، وفي التقوى، وفي الاتباع لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فعندما نقول: أهل اليمن أو أهل مصر أو أهل الشام فإنما أقصد به البقعة الجغرافية كما كان السلف الصالح يقولون: أهل اليمن فيعنون بذلك من كان يسكن جهة اليمن.
أما الحدود الذي وضعها هؤلاء فنحن لا نعترف بها، وجنسية الإنسان عندنا هي عقيدته، فنصنف الناس بحسب عقائدهم لا بحسب بلادهم ومواطنهم {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
هذه حقيقة أحب أن أوضحها، ثم بعد ذلك يجب علينا جميعاً أن نحب أهل اليمن؛ لأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحبهم وأثنى عليهم، ووصفهم برقة القلب ونسبهم إلى الحكمة، وهذا لا شك فيه وهو مشاهد وملموس ومن هنا فهذا الشعب جدير بالعناية، وخاصة مِمَن هم من أهل تلك البلاد وجاءوا إلى هذه البلاد؛ أن يهتموا بطلب العلم الشرعي النافع الصحيح، وأن ينشروه في أماكن تجمعهم وفي مساكنهم هنا، وأن ينشروه إذا رجعوا إلى أهليهم، وأن يبعثوا إليهم بالكتاب، وبالشريط، وبالموعظة، وبالداعية ليكون التواصل بإذن الله، بين أهل السنة والجماعة هنا وهناك.(95/28)
نصيحة لشباب مركز الصديق
السؤال
يقول: فضيلة الشيخ: شباب مركز الصديق يطلبون منكم توجيه كلمة لهم، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
الذي أريد أن أقوله وأوجه به إخواني، ونفسي أولاً هو: أن نتقي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فهذه وصية الله إلى الأولين وإلى الآخرين -ولا حرج في أن نكررها- كما قال الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131].
ثم أوصيكم بأن تقدروا أمانة الدعوة وحمل هذا الدين، وأن تجتهدوا في تحقيق الدعوة إلى الله تبارك وتعالى بإخلاص لله واتباع لسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنهج السلف الصالح والبعد عن البدع وعن مضلات الفتن، والأهواء، وأن تتحابوا فيما بينكم، وأن تتآخوا، وأن تتعاونوا، وأن تتشاوروا، وأن لا يجعل الشيطان هذا الشباب الزاكي الطيب الغض، في هذه الأمواج من شباب الشهوات والشبهات، أن لا يجعلهم أحزاباً وفرقاً {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:53] وكل منهم يطعن في هذا، أو يغتابه، أو يتكلم فيه، أو يوقع بينهم ما يريد أن يبث من الفتن، نسأل الله أن يحفظنا وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
ثم أوصي القائمين على هذه المراكز وأمثالها، بالصبر والتحمل والأناة، ومتابعة هؤلاء الشباب ما أمكن في بيوتهم بعد ذهابهم؛ من أجل أن تكون تربيتهم أشمل وأعمق وأزكى لهذه القلوب الغضة الطرية بإذن الله.
وأوصي الشباب المسلم أن يطيع المربين والموجهين في طاعة الله تبارك وتعالى، وأن يكونوا من الانضباط ومن النظام بحيث يمتثلون ما يوجهونهم به، وأن يعوِّدوا أنفسهم على ذلك، ففي هذا خير لهم وحصول للنفع والفائدة من التربية أكثر وأكثر.
هذا، وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يمنَّ علينا جميعاً بالهدى والاستقامة، وأن يؤتي نفوسنا وقلوبنا تقواها فإنه خير من زكاها، وهو وليها ومولاها، إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.(95/29)
من أعمال القلوب: (الإخلاص)
تكلم الشيخ حفظه الله في هذه المادة عن أعمال القلوب وأهميتها، وخص الإخلاص منها بالتفصيل، موضحاً علاقته بأعمال القلوب، حيث أنه يعد أحد شرطي قبول الأعمال، فبانعدامه يقع المرء في الشرك، كما أن الإخلاص من أخطر المداخل التي يفسد بها الشيطان أعمال العباد.(96/1)
أعمال القلوب وأهميتها
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، الذين حققوا التوحيد والإخلاص والمحبة واليقين قولاً وعملاً، فصلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وعلى من اتبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، الشهادة التي بعث الله تبارك وتعالى بها رسله، ودعا إليها خلقه أجمعين، وجعلها رأس الدين كله.
أما بعد: فحديثنا في هذا الدرس عن عمل من أعمال القلوب، وأصل تسمية المحاضرة هو أنها عن أعمال القلوب؛ لكننا لو تأملناها لوجدنا أنها هي نفس ما يسميه بعض العلماء شروط لا إله إلا الله.
فهي من جهة: شروطٌ لـ"لا إله إلا الله"، ومن جهة أخرى هي: أعمال قلبية عظمى، يبنى عليها كل عمل من أعمال القلب أو الجوارح، ولا تعارض بين هذا وذاك، فالكل شيء واحد.
وهذه الأعمال -كما تقدم- تتداخل وتتشابك؛ إذ أن أعمال القلب كلها أمر باطن، والأعمال الباطنة يصعب التفريق بينها كالتفريق بين الأعمال الظاهرة، فأنت في الأعمال الظاهرة يمكن أن تفرق بوضوح بين الحج وبين الصوم -مثلاً- وبين أداء الزكاة وبين أداء الصلاة.
أما في الأعمال القلبية فإن اليقين، والإخلاص، والمحبة، والتوكل، والرضا، والصدق، وما أشبه ذلك يقترن بعضها ببعض وتتداخل، فلا فصل بينها بنفس النسبة , وإن كانت إذا تأملت آثارها، وعرفت حقائقها تجد أن هذه الفروق واقعة، لكنها متداخلة، وحديثنا عن موضوع الإخلاص هو مما يشهد لذلك.
إن الإخلاص يقترن بأعمال قلبية أخرى، ولا يكون إخلاصاً إلا بها، وأجلى وأظهر الأعمال القلبية التي لا بد أن يقترن بها الإخلاص هو الصدق، فإن الإخلاص لا يمكن أن يكون مع الكذب، لا لغةً ولا عرفاً ولا شرعاً، بل الإخلاص هو قرين الصدق، والجامع الذي يجمع بينهما كلمة شرعية هي قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الشريف: {الدين النصيحة -قالها ثلاثاً- قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم}.
فلو تأملت معنى النصيحة لوجدتها تجمع بين معنيي الصدق والإخلاص، حتى في اللغة وفي عرف الناس، فإن الشيء الناصح هو الخالص الذي لا تشوبه شائبة، وهذا يكون فيه الصدق أيضاً.
ثم إن كل من تُقِدِم له كلمة أو موعظة أو شيئاً ينفعه وتقول: إنك ناصح له، لو تأملت ذلك لوجدت أنك تريد أن تثبت أنك صادق في محبته وفيما قلت له، فلو كذبت عليه لما كانت نصيحة، والأمر الآخر أنك مخلص، فلو غششته فيما قلت -له أيضاً- لما كانت نصيحة، فلذلك هذه الأعمال تقترن -كما ذكرنا- لكن هذين العملين: الصدق والإخلاص هما من أكثر الأعمال تقارباً وتداخلاً، ولهذا نجد أن الأحاديث التي ذكرت فيها شروط لا إله إلا الله قد ذكرت العملين معاً في بعض رواياتها، وقد نذكرها أو نوردها إن شاء الله تعالى.(96/2)
شرطا قبول الأعمال
هذا من جهة علاقة هذا العمل القلبي بغيره من أعمال القلب، وأما عن أهميته وضرورته للمؤمن، فلا شك أن من تأمل كتاب الله تبارك وتعالى وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، علم علم اليقين أن الإخلاص لا بد منه، وذلك أول ما يشترط في أمر العقيدة والإيمان، ثم إنه لا بد أن يدخل في كل عمل من الأعمال التي يعملها الإنسان يريد بها وجه الله، ويريد بها الثواب والأجر من عند الله.
حتى لو أنك عملت عملاً من المباحات المجردة وليس من الطاعات المفروضة المشروعة وجوباً أو استحباباً، أو أي عمل من الأعمال التي يفعلها الناس بطبيعتهم كالأكل أو الشرب أو إتيان المرء أهله أو ما أشبه ذلك، كل من فعل ذلك ويريد الأجر من الله، ويريد أن يحتسبه عند الله، فلا بد أن يحقق فيه الإخلاص لله تبارك وتعالى؛ لأن شرطي قبول أي عمل من الأعمال هما المتابعة والإخلاص.(96/3)
الشرط الأول: المتابعة
أولاً: الشرط الأول: المتابعة والموافقة لما شرع الله تبارك وتعالى، فالبدع مردودة على أهلها، فمهما اجتهدوا وتعبدوا وأخلصوا في نظرهم، فالبدع مردودة، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كل بدعة ضلالة} وقال: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد}، وقال: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} أي: مردود لا يقبل.
وإن ظن أنه فعله لوجه الله تبارك وتعالى، كما فعل الثلاثة النفر الذين عزموا على أنفسهم، فقال الأول: أقوم الليل ولا أنام، وقال الثاني: لا أتزوج النساء، وقال الثالث: لا آكل اللحم، وما أشبه ذلك، فكل عملٍ يعمله العبد ويظن أنه مخلص ويتعبد به، لن يكون فيه أكثر عبادةً من الخوارج، ولن يكون أكثر عبادةً من رهبان اليهود والنصارى والهندوس ممن تَرَهَب منهم.
ولذلك فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أن ذكر الخوارج وعبادتهم قال: {تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وعبادتكم إلى عبادتهم -ثم قال:- يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية} والرمية: هي ما يرمى من الصيد كظبيٍ أو نحوه، فيدخل السهم فيخترقه ويخرج، فلا يكاد يرى راميه فيه شيئاً من أثر، ومعنى ذلك أنهم يأتون الدين، ويخرجون منه بلا شيء، أو بما لا يكاد يُرى.
ليس لأنهم لم يتوفر لديهم شرط الإخلاص؛ ولكن لأنه لم يتوفر لديهم شرط الموافقة والمتابعة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا الذي ذكر الله تبارك وتعالى في قوله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110]، فالعمل الصالح هو الموافق لما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(96/4)
الشرط الثاني: الإخلاص
ثانياً: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] أي: فليجعله خالصاً لوجه الله الكريم، وهذا هو شرط الإخلاص، ولهذا قال الفضيل بن عياض رحمه الله في قول الله تبارك وتعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود:7]، قال: 'أصوبه وأخلصه' والصواب هو الموافقة، والإخلاص: هو الشرط الثاني كما تقدم.
فإذا كان الإخلاص بهذه المثابة فإن أهميته لا تخفى، ولا سيما في أصل الدين، فهو أعظم اشتراطاً منه في الفروع؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول -كما في الحديث القدسي-: {من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري فهو للذي أشرك}، وفي روايةٍ: {تركته وشركه} ومعنى ذلك: أن الله تبارك وتعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم، وأما غير ذلك فهو غنيٌ عنه تبارك وتعالى.
فإذا لم يقبل الله تعالى من العبد طاعةً من الطاعات إلا أن لديه أصل التوحيد والدين، فإنه يخسر تلك الطاعة ويظل معه الإيمان والتوحيد، أما إذا كان الإخلاص مفقوداً وكان الشرك في أصل الإيمان والدين، فهذا قد خسر الدنيا والآخرة.
ولهذا يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:2 - 3]، هذا الذي يقبله الله تبارك وتعالى من عباده، ولا يقبل منهم غير ذلك.(96/5)
حقيقة الإخلاص
قال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [الزمر:11 - 12]، {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:14 - 15].
هذه الآيات الكريمات من سورة الزمر، وأيضاً ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيها ما يدل على ذلك: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ * وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:64 - 66]، وهذه السورة اشتملت على معانٍ عظيمة في الإيمان من أبرزها -لمن قرأها وأظهرها-: أنها كررت اشتراط الإخلاص في غير ما آية، وأوضحته وأجلته.
وكذلك نجد بعض السور القرآنية العظمى التي تتحدث عن التوحيد تشترط ذلك، وإن لم تنص عليه نصاً، كما في سورة الأنعام، فإن أكثر معانيها وموضوعاتها تتعلق بتوحيد الله وتجريد العبادة له، ونفي الشرك عنه.
وهذه هي حقيقة الإخلاص وإن لم يرد في السورة بالنص نفسه، ولهذا تسمى سورة "الصمد"، أو سورة "قل هو الله أحد" سورة الإخلاص؛ لأنها في إخلاص العبادة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من جهة توحيد المعرفة، إخلاص التوحيد من جهة المعرفة والإثبات، فهي تثبت: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4] تثبت وحدانية الله تبارك وتعالى، وتنفي عنه ما يزعمه المبطلون، الذين يدَّعون أن لله تبارك وتعالى ولداً، أو أن له كفؤاً أو شبيهاً أو نظيراً، تعالى الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين.
وكذلك تسمى سورة الكافرون سورة الإخلاص؛ لأنها تضمنت حقيقة الإخلاص من جهة الولاء والبراء والهجر، هجر كل ما يعبد من دون الله تبارك وتعالى {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:1 - 3]، وفي آخرها: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6].
فهذه براءة أو مفاصلة ومقاطعةٌ كاملة بين العبادتين وبين المنهجين، ومن هنا كان الذي أخذه وعده الله تبارك وتعالى وسجَّلَه على أهل الكتاب وعلى المنافقين أنهم كانوا غير مجردين للصدق، وغير مجردين للإخلاص لله تبارك وتعالى، بل إن ذلك -ولا سيما الإخلاص- يشمل أيضاً المشركين، وذلك أن الجامع بين الجميع هو دعوى أنهم يعبدون الله وأنهم يتقربون إليه.(96/6)
المشركون أبعد الناس عن الإخلاص
فالمشركون -مثلاً- وهم أبعد الناس عن الإخلاص يدَّعون أنهم يعبدون الله، وأنهم يُعظِّمون حرمات الله، ويُعظِّمون بيت الله، وأنهم أتباع نبي الله إبراهيم عليه السلام، ثم إنهم يقرون لله تبارك وتعالى بالخلق والرزق والإحياء والإماتة وتدبير الأمر، وغير ذلك {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9]، أو: {لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر:38].
إذاً: هم يثبتون هذا، بل إنهم حتى في دعائهم يخلصون لله تبارك وتعالى، ولكن وقت الشدة فقط، فإذا كان وقت الرخاء ونجّاهم الله تبارك وتعالى إلى البر -وكان من أشق الأمور عليهم أن يركبوا البحر، ولذلك يأتي هذا المثال كثيراً في القرآن فلما نجاهم إلى البر- أشركوا بالله ما لم ينزل عليهم سلطاناً.
إذاً: المشركون أيضاً يكذبهم الله تبارك وتعالى، ويبطل عبادتهم في دعواهم، لماذا؟ لأنهم لم يحققو الإخلاص، وإن كانوا يزعمون أو يظنون أنهم على شيء من الدين، ولذلك كما جاء في أول الزمر: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3].
فهم يظنون أنهم بهذا يعبدون الله، ويتقربون بهم إلى الله، فيظنون أن عبادتهم هذه لله، وأنهم لم يشركوا بالله، فكأنما ينفون ما يدَّعي أو يزعم عليهم من أنهم لا يعبدون الله، أو أنهم يشركون بالله تبارك وتعالى، فأبطل الله تبارك وتعالى عبادتهم، وأنها لا تنفعهم؛ لأن الدين الذي يقبله الله هو الدين الخالص الذي لا شرك فيه، ولا شائبة معه.
أمَّا أن يتخذ من دونه أولياء -وإن كان قصد القائل أنها تقرب إلى الله- فإنه لا يقبل منه ذلك، وهذا الزعم أنهم أولياء، أو كما ذكر في الآية الأخرى: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18]، فقد أبطل الله تبارك وتعالى ذلك كله بأن جعل الشفاعة له جميعاً، وجعل الشرطين اللذين لا بد منهما لمن يشفع لتحقيق الشفاعة يوم القيامة هما: أن يأذن الله تبارك وتعالى للشافع، وأن يرضى عن المشفوع له.
وهؤلاء المشركون لا يرضى الله تبارك وتعالى عنهم، ولا يرضى أن يشفع فيهم أحد؛ لأنه لا يرضى لعباده الكفر تبارك وتعالى، هذا في حق المشركين وهو واضح.(96/7)
إخلاص أهل الكتاب
وأمَّا أهل الكتاب فإنهم يزعمون أنهم هم أهل الإيمان، وأنهم كما ذكر الله تبارك وتعالى عنهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18] ويزعمون أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى.
إذاً: هم يرون أنهم أصحاب الصراط المستقيم، وأنهم الذين يعبدون الله تبارك وتعالى وحده لا شريك له، ولو سألت إلى هذه اللحظة أي يهودي أو نصراني: من الذي يعبد الله تعالى حق العبادة خالصة له في هذه الحياة الدنيا؟ لقال اليهودي: إنهم اليهود، وقال النصراني: إنهم النصارى، وهذا باطل.
وقد أبطله الله تبارك وتعالى في مواضع من كتابه، كما في سورة البينة: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ * وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:1 - 4].
وبين ذلك قال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]، هذا دين القيمة وهو الذي قال الله فيه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران:19] وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].
فهؤلاء أمروا أن يعبدوا الله مخلصين له الدين، ولكنهم أبوا إلا أن يشركوا بالله تبارك وتعالى بأنواعٍ وألوانٍ من الشرك، منها: دعواهم أن له ولداً -تبارك وتعالى وتقدس عن ذلك- وهذا الزعم قد أبطله الله تعالى في أكثر من موضع كما في الأنعام والكهف ومريم وغيرها من الآيات العظيمة في استنكار ذلك، وكما في قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الاخلاص:1].
وهذه الدعوى واضح بطلانها وإفكهم فيها، ثم إنهم يشركون بالله ولا يجردون الإخلاص لله تبارك وتعالى في ما يتعلق بالتحليل -في التشريع- والتحريم، في توحيد الطاعة والاتباع، وهذا أيضاً ذكره الله تبارك وتعالى في قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31].
فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمرهم وأن يعبدوا إلهاً واحداً، فعبدوا من دونه آلهةً أخرى، وأشركوا به تبارك وتعالى في التحليل والتحريم الأولياء -كما يزعمون- أو الأحبار أو الرهبان.
والأحبار هم: علماء أهل الكتاب.
والرهبان هم: عبادهم.
والضلال لا يخرج عن هذين، فكل ضلال وقعت فيه الملل فهو بسبب أحد هذين الأمرين، بأن يشرك الناس أحد من اتصف بهاتين الصفتين.
وهذا واقع في هذه الأمة، إما أن يشركوا بالله تبارك وتعالى، أو لا يجردون الإخلاص -وإن كان دون الشرك- لا يجردون هذا المبدأ، وهذا العمل القلبي العظيم لله تبارك وتعالى في طاعة واتباع أهل العلم، الذين يجمعون المسائل العلمية الكثيرة، ولكنهم غير مؤمنين حق الإيمان، فليسوا هم العلماء الذين وصفهم الله تبارك وتعالى بقوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، أي: هم الذين يخشون الله ويتقونه، أو كان العلماء كذلك، ولكن أخطأوا فجاء الأتباع فأشركوا بجعلهم آلهة، وألَّهوهم بتقديم ما أخطأوا فيه على ما يعلمون من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهؤلاء هم العلماء.
وأما العبَّاد: فإن كثيراً من الناس يفتنون بالعبَّاد في أي ملة كانت، فيقدمون أعمالهم وآرائهم وما يعبدون أو يتقربون به على ما في كتاب الله، وعلى ما في سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا يقدح في إخلاصهم ويجعلهم بذلك مشركين.
ومن هنا فإن الله تبارك وتعالى اشترط ذلك، وذكر أنه طلب من أهل الكتاب الإخلاص لله تبارك وتعالى، وهو الذي جاء في آية آل عمران: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران:64].
فهذا -أيضاً- هو تجريد العمل والإخلاص الكامل لله تبارك وتعالى، أما أن تتخذ -مفهوم الآية- أن يعبد بعضكم بعضاً، أو يعبد بعضنا بعضاً الملوك أو الأحبار أو الرهبان أو ما أشبه ذلك، فإننا بذلك لا نكون مؤمنين ولا موحدين، بل نشترط ونطلب ذلك منهم، فهذا بالنسبة لأهل الكتاب.(96/8)
إخلاص المنافقين
أما بالنسبة للمنافقين فإن الأمر في حقهم أوضح وأجلى، فالمنافقون من أخص أعمالهم وصفاتهم الكذب، كاذبون في دعوى الإيمان، كاذبون في الشهادة بالرسالة -كما في أول سورة المنافقون- كاذبون في عبادتهم، وهم في الحقيقة كما ذكر الله تبارك وتعالى عنهم: {يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142].
فهذا الرياء والكذب في دعواهم أنهم مؤمنون وليسوا كذلك، وأنهم كما ذكر الله تبارك وتعالى من صفاتهم في أول البقرة: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة:9]، وغير ذلك.
هم بهذه الصفات قد جانبوا وضادوا معنى الإخلاص الذي طلبه الله تبارك وتعالى واشترطه من عباده، وكذلك معنى الصدق.
ولذلك نجد أن الآيات التي تتحدث عن المنافقين، وعن أعمالهم يأتي فيها هذان الأمران العظيمان، مثلاً: سورة التوبة، الفاضحة المشقشقة المخزية التي فضحت المنافقين، وأخزتهم وأظهرت بواطنهم وكشفتها، هذه السورة العظيمة يقول الله تبارك وتعالى بعد أن فضحهم، وبيَّن أعمالهم ومنهم، ومنهم، ومنهم، ويقولون، وفعلوا، وفعلوا مما ذكر الله تبارك وتعالى، قال في آخرها موجهاً الخطاب للمؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]؛ لأن ما تقدم في حق المنافقين يشمله أنهم كاذبون فلم يكونوا من الصادقين.
وأما إخلاص الدين لله تبارك وتعالى، فإن الله عز وجل ذكر ذلك في قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:145 - 146].
فقد جعلهم الله تبارك وتعالى في الدرك الأسفل من النار، فهم أشد الناس كفراً وإظهاراً لمعاندة ما جاء من عند الله، وتكذيباً لرسل الله، فلا ينفعهم أبداً دعوى الإيمان وزعمه إلا بأن يحققوا هذه الشروط، وهي التوبة والإصلاح، والاعتصام بالله تبارك وتعالى.
والشرط الرابع هو: إخلاص الدين لله عز وجل، وهذا دليلٌ على أن من أعظم ما يشوب أعمالهم هو ترك الإخلاص، وهو الشرك -وإن كان النفاق درجات وإن كانت الأعمال درجات- والناس درجات في هذا، لكن مثل هؤلاء الموصوفين بأنهم في الدرك الأسفل من النار، هؤلاء هم أهل النفاق الأكبر، فشركهم أو تركهم الإخلاص؛ لأنهم لم يخلصوا لله تبارك وتعالى في أصل الإيمان وفي أصل الدين.
أما ما عدا ذلك، وهو من يشرك بالله تبارك وتعالى ولا يخلص له في عملٍ من الأعمال، فإن ذلك العمل يحبط ويبطل؛ لأنه كما تقدم في الحديث القدسي: {أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً -وهذا مطلق، سواء كان في أصل الدين عملاً كبيراً عظيماً، أو أياً كان- أشرك معي فيه غيري تركته وشركه}.
وعلى هذا فيجب على الإنسان أن يحذر من الشرك دقيقه وجليله، وأن يحذر من الرياء؛ لأنه ضد الإخلاص، ولأن الرياء هو نوع من أنواع الشرك الأصغر، نسأل الله تعالى أن يحفظنا وإياكم من الشرك ما علمنا منه وما لم نعلم.(96/9)
ثمرات الإخلاص
إن الإخلاص ثمراته عظيمة جداً، ولو تأملنا الكتاب والسنة، وعمل أولياء الله من الصديقين والمقربين والصالحين الذين أثنى الله تبارك وتعالى عليهم، أو شهدت لهم الأمة بالخير لوجدنا أن صفة الإخلاص هي من أوضح وأجلى ما يتصفون به، وأنها الفارق بين ما فيه روح وما لا روح فيه.
أرأيتم الفرق بين إنسانٍ سويٍ حيٍ ينطق ويتحرك أمامك، وبين تمثال من الخشب -كالذي يصنعه أولئك المبطلون- أو من الفخَّار أو من أي شيء، الفرق العظيم بين هذا وبين هذا هو ذلك الفرق بين من يعمل العمل خالصاً لوجه الله تبارك وتعالى، ومن يعمل أي عملٍ من الأعمال كائناً ما كان بلا إخلاص، فهو يعمل بلا روح، فروح العمل هو الإخلاص فيه.
ويتفاوت الناس في الطاعات بمقدار تفاوتهم في الإخلاص، كما أنهم أيضاً يتفاوتون في التوبة من المعاصي بمقدار تحقيقهم لحقيقة الإخلاص والصدق في التوبة.(96/10)
ثمرات الإخلاص في الطاعة
فأما التفاوت في الطاعة فهذا معلوم للجميع، فإن الناس يؤدون الصلوات كما نرى ونشاهد، يصلون هذا بجوار هذا في صف واحد، وقد يكونا خلف الإمام مثلاً، ولكن بين أجر هذا وأجر هذا مثل ما بين السماء والأرض، وهذا بما في قلب هذا من الإخلاص لله تبارك وتعالى في هذه العبادة، وأما الآخر فقد لا يقبل منه شيء إذا كان منافقاً أو مرائياً في صلاته؛ فإنه لا يقبل له منها شيء، فانظروا الفرق بين هذين، وإن كان العملان الظاهران سواء، ولكن الفرق إنما كان بتحقيق الإخلاص.(96/11)
ثمرات الإخلاص في الإنفاق
إن المرء أو العبد المؤمن قد ينفق نفقةً يسيرةً لو رآها المنافقون للمزوه، وقالوا: ما هذا؟ ألم يجد إلا هذا؟! ولكنها عند الله تبارك وتعالى عظيمة جداً؛ لأنها خالصة لوجه الله عز وجل، لأن هذا المؤمن التقي أنفق مما يحب، والله تعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92].
ولم يتيمم الخبيث فينفق منه، كما قال تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} [البقرة:267]، فهو أنفق مما يحب، وأنفق وهو محتاج، وأنفق وهو صحيح شحيح يخشى الفقر ويرجو الغنى، فلما اجتمعت فيه هذه الأمور -وهي دليل على الإخلاص لله تعالى في نفقته- كانت هذه النفقة -وإن صغرت في أعين الخلق- عند الخالق تبارك وتعالى لها وزن وقدر عظيم جداً، والله عز وجل يُعظِّم أجرها، ويربي هذه الصدقة لصاحبها، وربما وجدها يوم القيامة مثل الجبال وهو لا يعلم، وهذا من فضل الله تبارك وتعالى وجوده وكرمه لمن صدق الله في توجهه له عز وجل.(96/12)
ثمرات الإخلاص في الجهاد
وهكذا في بقية الأعمال، في الجهاد في سبيل الله عز وجل، فلو أن أحداً لم يخرج للجهاد ولكنه كان صادقاً مخلصاً يريد ذلك ثم لم يخرج، فهذا له أجر عظيم عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بنيته وإخلاصه لله عز وجل، فكما ذكر الله تبارك وتعالى أيضاً في الهجرة: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100] أي: بنيته وإخلاصه وإن لم يتحقق له العمل، وكما في الجهاد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قصة الذين تخلفوا معذورين، ممن عذرهم الله تبارك وتعالى في يوم تبوك عن جيش العسرة فإنهم كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما قطعتم وادياً ولا أنفقتم نفقة إلا وهم معكم حبسهم العذر} معنى ذلك: أن لهم من الأجر بإذن الله الشيء الكثير بنيتهم وبإخلاصهم: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة:92].
فهم عندما أخلصوا وصدقوا لله تبارك وتعالى، وأخذوا يبكون حزناً؛ لأنهم لا يجدون من النفقة ما يحملهم، ولم يجد لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يحملهم عليه، كان لهم هذا الأجر، ورفع الله تبارك وتعالى الحرج عنهم، وجعلهم بدرجة من خرج ومن حمل السيف ومن ركب بذلك الحر الشديد، وتحمل تلك المشاقة العظيمة، وبعد الشقة، ونازل القوم ثم كان ما كان من أجر له عند الله عز وجل، وأمثال ذلك كثير.(96/13)
ثمرات الإخلاص في التوبة
وأما بالنسبة للتوبة -ويدخل في ذلك أيضاً التوسل بالأعمال الصالحة- فإن الإخلاص هو من أعظم ما يحقق ذلك بإذن الله تبارك وتعالى.
والأمثلة على هذا كثيرة جداً، ومن أشهرها وأعظمها حديث الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، ثم ذهب وأراد أن يتوب، فسأل عن عالمٍ يعلمه التوبة، فدل على راهب لا فقه لديه، فقال له: لا أجد لك توبة فأكمل به المائة.
فهذا الرجل لديه شدة وعنف وقوة غضبية عارمة، فأغضبه ذلك بأن قال: لا أجد لك توبة.
والله تبارك وتعالى يفتح باب التوبة لمن يشاء من عباده، فكيف تغلقها أنت؟! فأكمل به المائة، إذ لا فرق بين أن يكون العبد قتل واحداً أو قتل ألفاً أو ألف ألف إذا لم يكن له توبة، فلا فرق بين هذا وهذا، فأكمل به المائة.
ثم ذهب فدُلَّ على عالمٍ ممن فقهه الله تعالى في الدين، فسأله؛ فقال: ومن يمنعك من هذا؟ ثم دله -وهكذا المربون الحكماء يعلمون ما للبيئة من أثر- لما رأى إخلاصه وصدقه في التوبة، أراد أن يتحقق له ذلك كاملاً، فقال: اخرج من هذه القرية، ودله على قريةٍ فيها قوم يعبدون الله تبارك وتعالى، بيئة صالحة يستطيع أن يتوب فيها، ولا يعود إلى ما كان فيه من الذنوب، فأدركه الموت في الطريق.
فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأما ملائكة العذاب فتقول: الرجل قتل مائة نفس وإلى الآن لم يعمل شيئاً، إلا مجرد أنه توجه إلى القرية، لكنه لم يتعبد، ولم يتصدق أو يصم أو يُكَفِّر أو يعمل شيئاً.
وأما ملائكة الرحمة فإنها تقول: إنه قد تاب، فحجتها أنه قد تاب، وأنه قد انسلخ من ذلك الماضي، وأنه قد أقبل على الله تبارك وتعالى تائباً صادقاً مخلصاً.
فحكم الله تبارك وتعالى وهو أحكم الحاكمين وقضى وفصل بأن الذين يستقبلونه والذين يتلقونه هم ملائكة الرحمة، وهذا من فضل الله وجوده عز وجل، وما أعظم فضله؛ لأنه هو الغفور الودود، الرحمن، الرحيم، التواب الكريم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فقبل ذلك منه.
فكان هذا الإخلاص الذي في قلبه كافياً، عن أي عمل يمكن أن يفترضه، أو يشترطه عابد أو واعظ أو مربٍ أو ناصح، كما حدث لملائكة الرحمة، أو كما حدث لملائكة العذاب؛ لأن التائب لا بد أن يشترط له تغيير في حياته، فلا بد من أعمال تثبت ذلك، والله تبارك وتعالى طلب ذلك، واشترط ذلك كما بينا مثلاً في آية: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} [النساء:146] أي: لا بد من أعمال معينة حتى نعلم أنه قد تاب، لكن الله تبارك وتعالى بعمله هذا القلبي وبإخلاصه وبصدقه عفا عنه ورحمه، وعد ذلك كأنه قد عمل كل ما يشترط من عملٍ للتوبة.
إذاً: هذا يدل على فضل الإخلاص والصدق مع الله تبارك وتعالى.
والمثال الثاني الذي يمكن أن نجعله ثانياً -والأمثلة كثيرة جداً- هو: مثال المرأة البغي التي كانت من بني إسرائيل -والحديث أيضاً صحيح - فمرت فرأت كلباً يلهث ويأكل الثرى من العطش، وهو لا يستطيع أن يشرب، وليس لدى الحيوان الأعجم حيلة، ولكن كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {في كل ذات كبدٍ رطبةٍ أجر}، فلما رأت حاله رَثَتْ له، فجاءت إلى بئر وأخذت موقها، أي: جوربها أو خفها، فملأته بالماء، ثم صعدت به، فسقته فشكر الله لها، فغفر لها.
عمل عادي جداً لو رأيناه، وكثير من الناس لو رأوا مثل هذا الكلب لا يرحمونه، وإن رحموه فربما لا يعدون هذا العمل شيئاً، بل ربما أن هذه المرأة قد لقيت الله تبارك وتعالى وهي لا تعلم أن لها عنده عملاً عظيماً شكره الله لها وغفر لها من أجله، وربما لو قيل لها: احتسبي عند الله عملاً من الأعمال -كما في حق الثلاثة أصحاب الغار الذين سنذكر قصتهم إن شاء الله- لمَّا ذكرت هذا العمل؛ لأنها قد لا تراه شيئاً، ولكن حقيقة الإخلاص الذي في هذا العمل، بفضل الله تبارك وتعالى شكر الله لها ذلك فغفر لها؛ ولو تأملنا القصة نجد أنها أبعد شيء عن الرياء، لأسباب: أولاً: أن الكلب لا يحدث الناس بما صنعت له، ولو كان من بني آدم لقيل: إنها سقته لكي يخبر الناس، ويقول: فلان أعطاني، لكن هذا حيوان أعجم، فهذا دليل على أنها ما فعلت ذلك وهي تريد شهرة ولا ذكراً ولا رياءً.
ثانياً: أنه إنما كان في خلاءٍ وهي عابرة ولم يرها أحد، ولم يذكر أن أحداً رآها لكي يذكرها.
ثالثاً: أن دليل إخلاصها هو هذا التواضع له وهو حيوان، ولا شك أن النزول إلى البئر يعرض الإنسان للخطر، إذ قد يقع فيها فلا يخرجه أحد.
رابعاً: أنها وضعت موقها في فمها عندما أرادت أن تصعد من البئر، وذلك حين لم تستطع أن تحمل الماء في يد وتصعد باليد الأخرى -وهذا مجرب لمن يصعد في جدار أو نحو ذلك- فجعلت موقها الذي محله الأساس هو القدم -موضع الاتساخ- في الفم، وهذ لا يفعله أحد إلا في أشد ما يكون من حالات التواضع والإخلاص، فلما صعدت سقت له ومضت، ولم تطلب منه أجراً ولا ثناءً، فهذا من فضل الله تبارك وتعالى عليها، لما أخلصت لله تعالى في ذلك، وكان حالها بخلاف المرأة الأخرى من بني قومها، التي حدَّث عنها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خطبة الكسوف، وهي التي دخلت النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، أي: من هوامها.
فالإخلاص يرفع الله تبارك وتعالى به العبد درجات، ويغفر بسببه الذنوب، والإهمال والتقصير والتفريط الذي قد لا يتفطن إليه، قد يكون سبباً في دخول النار -نسأل الله العفو والعافية- فهذه نجت بسقي كلب، أما تلك فهلكت بحبس هرة، فليتنبه العبد وليعلم أن الطريق مهلكة، وأنه لا بد من الاستقامة على الصراط المستقيم الذي هو أدق من الشعرة وأحد من السيف، وليحذر ذنوبه، وليتفقد أحواله وتقصيره في حق الله تبارك وتعالى.
المثال الثالث: وهو مثال واضح للجميع في أثر الإخلاص وما يحمد من عاقبته؛ وهو مثال الثلاثة الذين هطل عليهم المطر، فألجأهم إلى غارٍ، فأرسل الله تبارك وتعالى عليهم صخرة فسدَّت فم الغار، فلم يجدوا ملجأً من الله إلا إليه، أين يذهبون؟ ومن ينادون ويخاطبون؟ ولم يجمعهم في الغار شيء إلا اللجوء والهرب من المطر.
فرأوا أنهم في حالة لا ينجيهم منها إلا أن يتضرعوا إلى الله تبارك وتعالى، وأن يتوسلوا إليه بأرجى عملٍ صالحٍ عملوه، فتوسلوا إليه بالإخلاص، لا بكثرة العمل، ولا بكبره -مثلاً- إنما بالإخلاص لله تبارك وتعالى فيه.
فإن صاحب الوالدين قال بعد أن ذكر ماذا يفعل بوالديه: {اللهم إن كنت فعلت ذلك خالصاً لوجهك الكريم فافرج عنا ما نحن فيه، فرفعت} كشفت الصخرة قليلاً، إلا أنهم لا يستطيعون الخروج.
وقال الذي حجزه الله تبارك وتعالى ومنعه من الزنا بعد أن كاد أن يقع فيه وحصل له ما يطلب، حيثما تكون الشهوة أشد، والتمكن من قضائها أشد ما يكون، حجز الله تبارك وتعالى وهذا الشاب، ورزقه الإخلاص، فترك ذلك خالصاً لوجه الله الكريم، لما قالت له: اتق الله، تذكَّر الله فاتقاه فقام، فقال: {اللهم إن كنت فعلت ذلك خالصاً لوجهك الكريم أو ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فرفعت قليلاً}.
وجاء الثالث صاحب الأجير، الذين كثيراً ما تهدر حقوقهم في هذا الزمان وفي كل زمان، وكثير من الناس لا يبالي بهم ولا بظلمهم، ولا يحتسب الإحسان إليهم عند الله، وإذا كان في كل ذات كبد رطبة أجر ولو كانت كلباً؛ فإن الأجر في حق هؤلاء العمال أو المستأجرين أعظم، ولا يجوز لأحد أن يظلمهم.
هذا الرجل، قلَّ أن يوجد مثله في هذا الزمان، فإن الأجير لما جاءه يطلب أجرته قال: {أترى ما في هذا الوادي من الإبل والغنم والبقر؟ هذا مالك، فقال: أتهزأ بي} أتسخر مني؟ لأن دينه لا يبلغ هذا، ولكن الرجل تطوعاً منه نماه منه، فأعطاه إياه؛ فلما تضرع إلى الله تبارك وتعالى بأنه إن كان فعل ذلك ابتغاء وجهه، أي: أخلص فيه لله عز وجل أن يفرج عنهم فاستجاب الله له، وفرج ما بهم من كرب، وخرجوا يمشون.(96/14)
ثمرة الإخلاص في العلم والوقت
ما أعظم ثمرات الإخلاص، وما أحوج المسلمين، وما أحوج المتقين، وما أحوج العباد الذين يريدون الله والدار الآخرة، ويعلمون حقارة وتفاهة هذه الحياة الدنيا، أن يخلصوا أعمالهم لله عز وجل، فيرون الثمرات ويرون البركات، ويرون أموراً لا يمكن أن يصدقها أحد في حدود المنظور المادي، والواقع العادي عند الناس.
ومن ذلك أن العلماء الذين كتبوا لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وطلبوا العلم بإخلاص؛ جعل الله تبارك وتعالى لهم من البركة في أوقاتهم وأعمارهم وعلومهم، ونفع بهم كثيراً.
ومن ذلك -مثلاً- صحيح البخاري، فكم من الكتب كتبت وألفت؟! لكن هذا الكتاب لما أخلص صاحبه لله، وكان لا يكتب الحديث إلا بعد أن يتوضأ ويصلي ركعتين ويستخير الله، وكان فيه من العبادة والزهد في الدنيا، ما هو معلوم من سيرة الإمام البخاري رحمه الله.
لما كان كذلك بارك الله له في وقته، وبارك له في علمه، وجعل هذا الكتاب بهذه الدرجة والمنزلة، فهو أصح كتابٍ بعد كتاب الله، وتلقاه المسلمون قديماً وحديثاً إلى يوم القيامة بالقبول، وهذه كرامة عظيمة، وإلا فكم، وكم أُلِّف من كتب، لكن ليس لها ما لهذا الكتاب.
كذلك حياة الإمام أحمد رضي الله عنه وأرضاه، وما أعطاه الله تبارك وتعالى من القبول، فإنه شيء مدهش، حيث كان الإمام أحمد رحمه الله إذا أشار بيده لرجل أن ينعم، أو إذا ذكر فلان وقال: نعم، فقط: نعم، أثنى عليه بأنه نعم، أو نِعْم الرجل، أو ما أشبه ذلك، رفعه الله عند الأمة قاطبة، فيرتفع هذا الرجل، وتنقل هذه التزكية من بغداد إلى خراسان إلى مصر إلى الأندلس وإلى كل مكان، وتسجل وتكتب، أن أحمد قال فيه: نعم الرجل أو أثنى عليه أو ذكره بخير، فتكون تزكية له وقبولاً لروايته وعلمه، وتصحيحاً لعقيدته.
وإن قال في أحدٍ: لا، أو نحو ذلك، سقط مهما كان علمه ومهما كانت قيمته، وينتشر هذا الجرح في الآفاق حتى لا يكاد أن تجده عند أحد إلا وقبله حتى وإن زكاه غيره لا بد أن يقول: ولكن أحمد قال فيه كذا.
والخليفة المتوكل من شدة حرصه على أن يزكى لدى الأمة كعادة الحكام في كل زمانٍ ومكان، طلب من الإمام أحمد أن يأتي إليه؛ لأن الناس يعلمون أن الإمام أحمد لا يأكل إلا من طعامٍ حلال، فيريد أن يأتي إليه ويطعم من طعامه، فيتحدث الناس بذلك، فيتزكى المتوكل عند الأمة بأن الإمام أحمد أكل من طعامه فقط، ولو لم يثن عليه ولا بكلمة.
فأبى الإمام أحمد، ثم لمَّا ألحَّ عليه الخليفة، وهو المتوكل الذي أحيا الله به السنة وقمع به البدعة، وله فضل على أهل السنة والجماعة، وهو إمام المسلمين، فلم ير بداً من أن يطيعه، فذهب إليه ولكنه واصل الصيام.
حتى يقول ابنه عبد الله وابنه صالح: أشفقنا وخشينا على الإمام من الموت، واصل الأيام والليالي، وكان لا يشرب إلا الماء؛ لأن الماء ليس لأحد فيه فضل، والمتوكل يظن أنه يطعم من طعامه، لأنه لم يقابله ولم يجالسه على مائدة، فلِمَ كانت لهم هذه المنزلة؟! إنما هي بإخلاصهم لله تبارك وتعالى.
ثم من ناحية البركة في الوقت: انظر مؤلفات شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله، ومؤلفات الذهبي، ومؤلفات ابن كثير، ومؤلفات النووي ترى عجباً، عندما ترى هذه المؤلفات مع ما تعرضوا له -ولا سيما مثل ابن تيمية رحمه الله- من النفي والسجن والأذى والمحاكمات وحرق الكتب، وحبس ما يكتب به، والاشتغال مع ذلك بالعبادة، بل حتى بالجهاد، شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله جاهد الباطنيين، وجاهد التتار، جهاد وعلم، تحصيل للعلم وتنقيب في الكتب، وعبادة، ثم يؤلف هذه الكتب، كيف كان ذلك؟! نحن الآن كما ترون نسأله عز وجل البركة في أوقاتنا وأعمارنا، وأن يرزقنا الإخلاص الذي به تحل البركة، الطالب يظل خمس سنوات في الدكتوراة ثم يخرج كتاباً إذا قرأته وجدت أنه نُقول فحسب، لو جدَّ فيها لجمعها في أشهر، ولو كان من السلف لجمعها في أيام وأسابيع؛ فإنها مجرد نقول فحسب، ولم يفن هذا العمر؟ إن هذا بقدر ما لدينا من إخلاص، فكيف هذه؟ حتى قال بعضهم: لو قسمت عمره على كتبه لوجدت أنه كان يكتب في كل يومٍ كراسة من عشرين لوحة، فهل يمكن لأحد أن يكتب هذه، ومتى يحققها؟ ومتى يحررها؟ وإذا طلبنا من أخ مقالاً في صفحة واحدة فإنه سيكتبها الليلة ويراجعها في اليوم الذي بعده، وينقحها بعد ذلك، وقد يمضي الأسبوع ولم يأت بها، سبحان الله!! كيف يكتب هؤلاء، إذا كتب عشرين لوحة محررة منقحة بأقوال معزوة إلى أصحابها، وأمانة في النقل، ودقة في الاستنباط، لا يمكن أن يكون هذا إلا ببركة من الله تبارك وتعالى في عملهم، وذلك بسب إخلاصهم لله عز وجل.
ولذلك أوتوا الهمة العليا، فعندما قال الإمام الطبري رحمه الله لتلاميذه: سأُملي عليكم التفسير في ثلاثمائة مجلد، قالوا: هذا كثير -ثلاثمائة كثير لا يستطيعونها- فقال: الله أكبر!! ضعفت الهمم، فجعله في ثلاثين بدلاً من الثلاثمائة، فهذه الثلاثون جزءاً، كانت على قدر الهمم، فسعة تفسير الطبري، وما فيه من الأقوال والأسانيد، وأقوال له في اللغة رواية ودراية معاً، فهذا كتبه رحمه الله لضعيفي الهمم، ونحن الآن نقول: الطبري يحتاج أن نختصره، وبالفعل يختصر؛ لأن ما عليه الهمة الآن هي عُشر ما كانت عليه في أيام تلاميذ الطبري وهكذا، فلماذا تضعف الهمة؟ تضعف الهمة بقلة الإخلاص، ومع الإخلاص تكون أعلى، ويكون اليقين أكثر، وإذا اجتمع للإنسان الإخلاص واليقين والمحبة وسائر ما ذكرنا، وما سنذكر من أعمال القلب، فإنه يكون في غاية الهمة.
والصحابة رضوان الله تعالى عليهم لما تحقق لهم ذلك لم يفكروا على الإطلاق في قوى الدنيا كلها مهما كانت، بل ترسل الجيوش شرقاً وغرباً، براً وبحراً ولا يبالون، ولا ينظرون إلى العدو -نعم يعدون العدة تماماً- ويستطلعون أموره كأدق ما يكون من الدراسات الاستراتيجية أو الاستخبارات العسكرية، لكن يعلمون أنهم إنما يقاتلون في سبيل الله، فلم تقم أمامهم أية قوة، إنما هم انتصروا بإيمانهم وبتقواهم وبإخلاصهم وبصدقهم مع الله تبارك وتعالى.
ثم بقيت مسألة نختم بها وهي: أن الإخلاص يورث العبد بأن يكون من المخلصين؛ وهذا لأن الجزاء من جنس العمل، فإذا أخلص العبد وصدق مع الله تبارك وتعالى، فإنه يجعله الله تبارك وتعالى من المخلصين، والمخلَصون هم صفوة وخيرة من خلق الله تبارك وتعالى، وهم الذين يعرفون الله، ومن أهم صفاتهم -وهي كثيرة- أنهم يعرفون الله تبارك وتعالى، كما في سورة الصفات، بعد أن ذكر الله عز وجل حال المشركين وأمثالهم الذين نسبوا إلى الله تعالى الولد، وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً، قال عقب تلك الآيات: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات:159]، {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات:40].
فكل ما يصفه به الواصفون فهو منزه عنه، إلا ما يصفه به من يعرفونه ويقدرونه حق قدره، ويصفونه بصفات الكمال والثناء والمحامد المرضية.
نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجعلني وإياكم من المخلَصين المخلِصين، وأن يتقبل منا أعمالنا جميعاً، وأن لا يجعل فيها شيئاً لأحدٍ غيره إنه سميع مجيب.(96/15)
الأسئلة(96/16)
أثر الإخلاص في أصول الدين
السؤال
يقول: ذكرتم يا فضيلة الشيخ أن الإخلاص من شروط لا إله إلا الله, فهل إذا انعدم هذا الشرط أو اختل يخرج الإنسان من الملة؟
الجواب
نعم أحسنت, هذا ذكرني بمسألة اشتراط الإخلاص في الشهادة وما جاء في ذلك, ولا سيما قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري والإمام أحمد وغيرهما, لما سأله أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: {يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من شهد ألا إله إلا الله مخلصاً بها قلبه} , وقال في رواية أخرى: {يصدق قلبه لسانه ولسانه قلبه}.
ولذلك قلنا الصدق والإخلاص مقترنان, فالذي يشهد ألا إله إلا الله وهو صادق مخلص فإنه يكون أسعد الناس بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن ثمَّ فهو جدير حري ألا يدخل النار كما جاء في رواية أخرى: {فإن الله قد حرم النار على من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله} أي: خالصاً ذلك لله, وقد جاءت كلمة الإخلاص في إحدى رواية المسند.
إذاً الإخلاص مراتب, كاليقين والمحبة وغيرها, فأصل الدين لابد فيه من الإخلاص, وأصل الإقرار والشهادة بألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله لابد فيها من ذلك، وإلا كان قائلها مشركاً أو منافقاً كما بينا فيما مضى, وهذا معلوم أنه خارج من الملة طبعاً, فإن قالها وشهدها بحق ولكنه فرط في عمل من أعمالها وتوابعها ولوازمها؛ أي من الطاعات التي جعلها الله تبارك وتعالى فروعاً وتحقيقاً للشهادة فلم يخلص فيه لله عز وجل فإنه يكون من أهل الكبائر وهو داخل في الوعيد, وأهل الكبائر معلوم حكمهم, إذ هم أصحاب الوعيد الذي إن شاء الله تعالى غفر لصاحبه, وإن شاء عذبه, وأسباب المغفرة وأسباب النجاة من النار كثيرة, وهي موانع من أن يكون المرء من أصحاب الوعيد, وقد تقدم شرحها فيما سبق, ومن أعظمها شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الصالحين من عباد الله تبارك وتعالى.
فإذاً إذا فقد الإخلاص في أصل الدين وأصل الشهادة فصاحبه مشرك خارج من الملة, وأما إذا فقده في شعبه من شعب الإيمان أو عمل من أعماله, فهذا العمل حابط وقد خسر هذا العمل لكنه لا يخسر دينه كله, فرب رجل لا يخلص لله تبارك وتعالى في نفقة, مثلاً: أعطى ألف ريال رياءً, لكنه في صلاته مخلص, فهو ينال أجر الصلاة أيضاً مع أجر التوحيد وهو صادق فيه, ولكنه لا يأخذ أجر هذا المال الذي تصدق به, ولكنه على أية حال هو على خطأ عظيم؛ لأنه أبطل صدقته بالمنِّ والأذى, وهذا من أهل الوعيد.(96/17)
أثر الرياء على صحة العمل مع توفر المجاهدة
السؤال
هل إذا طرأ على العمل رياء يبطل العمل, ولو كان هنالك مجاهدة؟
الجواب
إذا طرأ الرياء على العمل فلا يخلو إما أن يجاهد صاحبه ذلك الرياء كما ذكر الأخ فهذا لا يبطل عمله بإذن الله, بل هذا يؤجر على تلك المجاهدة وربما يكون ذلك خيراً له, أي ربما يكون هذا النزغ من الشيطان سبباً في مجاهدة يؤجر عليها العبد أجراً أكبر وأكثر مما لو أنه عمل العمل ولم يأته الشيطان ولم يحدثه في ذلك.
وإما أن يستسلم للشيطان وأن يوافقه فيرائي بذلك العمل, فهذا لا يخلو إن كان العمل واحداً متصلاً كالصلاة الواحدة مثلاً, فمتى دخلها الرياء ولو في آخرها فإنها تبطل والعياذ بالله, فتحبط جميعاً, هذا الظاهر؛ لأن الأعمال بالخواتيم, وهذه عبادة واحدة لا تزال متصلة فإذا طرأ الرياء في آخرها وسلّم وهو على ذلك فهذه خاتمة سوء تجعل العمل كله حابطاً.
لكن لا يعني ذلك أن تحبط كل صلاة قد صلاها من قبل خالصة لوجهه الكريم, وهي صلاة بعيدة منفصلة عنها؛ لأن الإيمان يزيد وينقص, كما هو مذهب أهل السنة والجماعة , فربما كان في الفجر مثلاً يصلي بإخلاص لا رياء فيه فيؤجر, ثم في الظهر شابته شائبة الرياء فلم يؤجر, ثم في العصر يرجع إليه إخلاصه فيؤجر, وهذا هو الحق الموافق للفطرة ولحال الناس وواقع الناس جميعاً, لا كما يزعم الخوارج أو غيرهم أنه يبطل ويحبط عمله كله وصلواته كلها.
وكذلك النفقة فربما أنفق اليوم -أو الآن- ألف ريال بلا رياء, ثم بعد دقائق أو بعد أيام أو ساعات أنفق أخرى وراءى فيها والعياذ بالله فهذه تبطل وتحبط, وتلك التي أخلص فيها لا تحبط, وهذا هو القول الصحيح في هذا الأمر والله تعالى أعلم.(96/18)
الامتناع عن أداء الطاعات خشية الوقوع في الرياء
السؤال
بعض الناس إذ أراد أن يعمل عملاً أتاه الشيطان فشككه في عمله, وأنه رياء فلا يعمل هذا العمل, فما رأيكم يا فضيلة الشيخ! في هذا الشك؟ والحقيقة وردت كثير من الأسئلة تتناول هذه المشكلة فمن الصالحين من يقول: أشك في إمامتي, والآخر يقول: أشك في قراءتي للقرآن, وآخر يقول: أشك في قيامي لليل, والرابع يقول: أشك في شهادتي الجامعية, والخامس يقول: أشك في مجال دعوتي إلى الله عز وجل!!
الجواب
نعم, لعل هذا يدخل فيما أثر عن بعض السلف قيل أنه سفيان أو الفضيل أو عن كليهما: [[العمل من أجل الناس رياء, وترك العمل لأجل الناس كفر]] والعياذ بالله, يعني هذا من الزجر؛ لأن الإنسان لابد أن يدرك أنه عبد, وأن الله تبارك وتعالى افترض عليه أمراً أو عملاً حتى ولو كان مشروعاً ومستحباً, أي ليس مفروضاً عليه لكنه مما شرعه الله له, فما شرعه الله له فليؤده لله تبارك وتعالى, خالصاً من شوائب الشرك والرياء والنفاق.
فإن عمل هذا العمل من أجل الناس فقد راءى, أما لو ترك الطاعة من أجل الناس حتى لا يقول الناس: إن فلاناً فعل.
سواء كان ذلك على سبيل النقد, مثلاً واحد لا يصلي حتى لا يضحك عليه الناس أو يستهزئوا به أو يأتيه الشيطان من هذا المدخل فيقول: لو صليت لكنت مرائياً فيترك الطاعة فهذا يصبح أيضاً قد دخل في باب آخر من أبواب المعصية وهو أنه ترك العمل لأجل الناس, فكلاهما ذنب, أن يعمل لهم أو يترك العمل لأجلهم.
والمطلوب من كل واحد منا أن يجتنب الأمرين, فلا يعمل لأجل الناس, ولا يترك العمل أيضاً لأجلهم, فكل ما فوق التراب تراب.
فعليك أخي الكريم أن ترى ما شرعه الله وافترضه عليك وتتحقق المصلحة الشرعية فيه وتقدم على فعله؛ لأن ما كان في عمله مفسدة راجحة أو ارتكاب منكر أو محظور فهذا أمر لا يدخل في هذا الحكم, لكن المقصود ما شرعه الله تبارك وتعالى وما تقتضي المصلحة فعله ولا مفسدة في فعله فإنك تفعله ولا تبالي بالناس, ولا بما قالوا! بل أنا أقول للإخوة الكرام: إن من أعظم مداخل الشيطان وحيله وتلبيسه على من أراد أن يجتهد في طاعة الله أن يأتيه بمثل هذا, لأن من شمر عن ساعديه واجتهد على الطاعة لا يستطيع الشيطان عدو الله أن يأتي إليه فيثنيه؛ لأنه خبيث, ولا يأتي إلى من عزم على القيام بعمل ليثنيه عن العمل, إنما يثني عن العمل الذي ما زال متردداًَ في الإقدام عليه, فهذا يصرفه عن العمل بسهولة, أما الذي عزم وعقد النية واجتهد فإنه لو أراد أن يثنيه لما سمع له, ولكن يأتيه من باب آخر فيقول: لو عملته لكان لغير الله!! فيأتيه من باب الورع الكاذب, ومتى كان عدو الله ناصحاً لك؟! ومتى كان الشيطان حاثاً على الورع؟! أو على الإخلاص؟! تذكر: أنه ما دام أن الله شرع لك هذا العمل وافترضه عليك وأن مصلحة الدين فيه فلا يمكن لعدو الله وعدوك -الذي قال الله فيه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر:6]- أن يدلك على خير أو أن يثنيك عن عمل لأنه شر ولأنه ضار بك أبداً, وإنما هذا نوع من حيل الشيطان ومن تلبيسه.
وقد عجبت غاية العجب لما بلغني أن أحد الشباب آتاه الله تبارك وتعالى من القراءة ومن العبادة ومن الصلاة ما يغبطه عليه الآخرون, وما يتطلع أكثر الشباب إلى إدراكه ونيله, فكان إذا رآه المصلي الذي لم يؤت مثل هذا الخشوع يتعجب من خشوعه, وفي النهاية زيَّن له الشيطان أن يترك صلاة الجماعة؛ لأن بعض الناس يتأملون في صلاته, وهو لا يملك نفسه إذا قرأ القرآن من أن يبكي, فقال: أفضل شيء أن أصلي الفريضة في البيت, لاحظوا الشيطان والعياذ بالله, هذا لو فعل ذلك لوقع في إثم عظيم وهو ترك صلاة الجماعة, بينما في ظنه أنه يبتعد عن الرياء, لكن لو أنه صلى الفريضة ورأى أن يجعل النافلة في البيت لا حرج في ذلك, بل هذا هو المشروع أو هذا هو الأفضل.
فأقول أيها الإخوة الكرام: الشيطان عدو, إن لم يأتك من باب ترك الطاعة فإنه يلبس عليك أن تتركها بدعوى أن تكون مخلصاً, ولا يريد إلا أن تتركها فتستوي أنت والعاصي في ترك ما أمر الله تبارك وتعالى به مما افترضه عليك, فاحذروا منه! ولذلك يجب أن نحرص دائماً على أي ذكر يعين على أن يعتصم العبد بالله من الشيطان الرجيم, وأن يتحصن بأذكار الصباح والمساء وما أشبه ذلك, وعلينا أن نتعلم ونتفقه في الدين؛ لأن الشيطان أكثر ما يخدع العباد الجهال, فالفقه في الدين يعصم صاحبه بإذن الله من هذا, وإن لم يكن متفقاً, أو لم يؤهل لذلك, فليسأل أهل الذكر وأهل العلم هل أترك هذا أو لا أتركه؟! وعليه ألا ينساق وراء ما يلقي الشيطان في نفسه.(96/19)
علامات إخلاص العمل لله تعالى
السؤال
إن كان للإخلاص علامات فما هي؟ وكيف أعرف أني مخلص لله تعالى؟
الجواب
سئل بعض السلف عن هذا فقال: أن يستوي سرك وعلانيتك, وأن تستوي خلوتك وجلوسك مع الناس, يعني أن تكون حالك مع الله تبارك وتعالى في خلوتك كحالك عند اجتماعك بالناس واختلاطك بهم, ويجب أن يكون سرك وعلانيتك أو ظاهرك وباطنك سواء.
وسهل بن عبد الله الدستري رحمه الله, عندما تحدث عن هذا -وله كلمات عظيمة في هذا الشأن- قال: (أن تكون حركاته وسكناته لله تعالى, لا يخالطه شيء ولا يمازجه شيء) يعني تحقيق كامل لقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162].
وكما جاء في الحديث: {من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان} أي: إعطاؤك ومنعك, كما قال العلماء في شرح هذا الحديث أن أول ما تبدأ به, أن تحب الطاعة ثم تعزم على فعلها ثم تفعلها, وآخر شيء هو الإعطاء أو المنع أي: عملياً, فما بينهما كل أنواع الطاعات تندرج تحت هذا الحديث, أي: أن تكون كل أعمالك ما بين هذا وهذا لله, إن أحببت أو أبغضت, وإن منعت أو أعطيت, ستكون الحركات والسكنات كلها لله تبارك وتعالى, يعني أن تجتهد أن تكون كذلك, فهذا تحقيق الإخلاص لمن أراد أن يحققه.(96/20)
الانشغال عن العبادات يقدح في كمالها كما يقدح في أصلها
السؤال
إذا حضرت الصلاة وشغلت عنها بمشاهدة مباراة في التلفاز, أفلا أكون أشركت بالله في هذا العمل؟
الجواب
ليس شرطاً -حتى لا يفهم الإخوة خطأً- أن الشرك يقتصر على الشرك المخرج من الملة, لكن من قدم شيئاً مما يريده الشيطان, أو يريده الهوى, أو تستلذه النفس وتستطيبه على ما أمر الله تبارك وتعالى به, وما أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم, فلا شك أن هذا المقدم أحب إليه من ذاك, أليس كذلك؟ لأنه لما كان حب المباراة أكبر وأهم من الصلاة قدم هذه المحبة على تلك.
فيا إخوتي الكرام! المحبة واليقين والإخلاص -كما بينا- وغيرها من أعمال القلب قد يعمل العبد ما يقدح في كمالها، وقد يعمل ما يقدح في أصلها, فهنا لا نقول: إن هذا العمل يقدح في أصل الإخلاص فيكون مشركاً خارجاً من الملة.
لكن إذا نظرنا إلى أن الشرك منه الخفي ومنه الأصغر, فهذا نوع منه؛ لأنه أحب هذا الأمر وقدمه على ما أحبه الله تبارك وتعالى, ولأن من عبادة الشيطان أن يطاع في المعصية يقول الله عز وجل: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس:60].
بم تكون عبادة الشيطان؟! بطاعته, وعبادة الهوى: {مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43] كيف تكون؟ من اتبع هواه وكان أمره فرطاً, هذا هو المقصود, فإذاً تأليه الهوى وتأليه الشيطان وما أشبه ذلك قد يكون على الحقيقة وعلى أصل الدين كأن يعبد غير الله, وقد يكون في أمر من الفروع فيكون ذلك بالتبعية, كمن يقدم شيئاً من المعصية على مرضاة الله تبارك وتعالى, فهذا لا شك أن عمله يخدش إيمانه, ويخدش يقينه وصدقه ومحبته للطاعة وإخلاصه فيها.
والواجب على الإنسان أن يتوب وأن يتجرد من ذلك كله, فبقدر وجوب الطاعة يكون ذلك, مثلاً هذا الأخ تشاغل عن العبادة عند سماع الأذان، وهذا أخف من أن يفعل ذلك عند سماع الإقامة؛ لأن الإجابة تكون آكد عند سماع الإقامة.
في حالات الجهاد إذا كان فرض عين كما حدث في غزوة تبوك , وهي كما ذكر الله تبارك وتعالى في آيات البراءة أحوال المنافقين فيها, وتخلفهم عنها واشتغالهم عنها أو خوفهم من الخروج, فلما كان الجهاد متعيناً استنفر النبي صلى الله عليه وسلم الأمة قاطبة, وأمر كل مستطيع بالخروج, بخلاف لو كان الجهاد فرض كفاية وتخلف عنه وقدم محبته فلا يدخل في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24] فلا يكون هذا بمثل ذلك الذي يكون الجهاد في حقه فرض عين, فبمقدار وجوب الأمر والطاعة يكون الإثم على من قدم عليها شيئاً من معصية الله تبارك وتعالى, فيكون القدح في كمال يقينه وإخلاصه وصدقه وخشوعه أكثر.(96/21)
أثر الإخلاص على الجماعة
السؤال
ذكرتم يا شيخ! أثر الإخلاص على الفرد, فما هو أثره على الجماعة؟
الجواب
بطبيعة الحال إذا كان للإخلاص أثر على الفرد, فلابد أن يكون كذلك على الجماعة, فإذا كان في الأمة مخلصون فإنهم ينتصرون, وأعظم ما تحققه عملياً هو أن تنتصر على أعدائها, ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم بدعائهم وإخلاصهم} فإذا كان فينا أمة -أي طائفة- عابدة زاهدة تقية مخلصة وتضرعت لله عز وجل ودعت بإخلاص فإننا ننتصر على العدو مهما كثر عَددُه ومهما قويت عُدده.
فالإخلاص مهم للفرد وللمجتمع على حدٍ سواء, وقد ينجي الله تبارك وتعالى أمة أو قرية أو حضارة بوجود أناس مخلصين فيها، ولكن يجب أن يكونوا مصلحين عاملين: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117] والمصلح لو لم يكن مخلصاً لما كان مصلحاً؛ لأن الذي نيته باطلة لا يكون إلا منافقاً والعياذ بالله, فهو مفسد وليس مصلحاً, وإن زعموا أنهم مصلحون إلا أنهم مفسدون ومنافقون، كما ذكر الله تبارك وتعالى: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} [البقرة:12].
فإذاً إخوتي الكرام: لابد أن يكون في الأمة مخلصون؛ لكي يحفظها الله تبارك وتعالى من السوء, وهؤلاء المخلصون لو قنتوا وتضرعوا إلى الله عز وجل لدفع الله البلاء, والنموذج الظاهر كمثال لذلك حديث الثلاثة, فكذلك لو ابتليت الأمة بأن أطبق عليها العدو وسد عليها منافذ الحياة وضيقها عليها كحال المسلمين اليوم في العالم كله, ويمكن أن نرى أن الصليبيين أطبقوا على إخواننا في البوسنة مثلاً, أو في كشمير , أو في أرتيريا , أو في الفلبين أو غيرها أكثر من دول أخرى, إلا أن الأمة الإسلامية في مجموعها أعداؤها مطبقون عليها, ثرواتها بأيديهم, ورأيها بأيدهم, والقرارات فيما يسمونه مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة بأيديهم, فهم مطبقون عليها, فهي لو أنها صدقت وأخلصت لله تبارك وتعالى, وتجردت منها طائفة ولو لم تعمل إلا أن تتضرع بصدق لكشف الله تبارك وتعالى هذا البلاء, مع أن الدعاء لابد أن يشتمل على أمور أخرى على أية حال, لكن المقصود أن الفرد والأمة سواء في اشتراط الإخلاص, اللهم إلا أن الأمة الإسلامية بمجموعها لن تكون كذلك.
فلابد أن يكون منها أمة أو طائفة تحقق هذا المعنى العظيم, وبها ينصر الله تعالى الأمة جمعاء.(96/22)
الأحداث الجارية في أفغانستان
السؤال
ما هو تعليقكم يا فضيلة الشيخ! على الأحداث الجارية في أفغانستان؟
الجواب
أنا أرى -وقد تضاربت لدينا الأخبار والأنباء- ما أوصيتكم به في الأسبوع الماضي من الدعاء بأن يجمع الله كلمتهم على الحق, ولا أرى أن نكثر أو حتى أن نخوض في هذا الأمر فنختلف ونتجادل نحن هنا, فما دامت الفتنة بين المجاهدين أنفسهم فنقول: تلك دماء كف الله تعالى أيدينا عنها, فنكفَّ ألسنتنا, وهذا لا يمنع وجود طائفة من الأمة تتحرى وتنصت وتنصح هذا وهذا وتبين المخطئ من المصيب, أو المعتدي من المعتدى عليه, وإنما لا يكون حديثاً عاماً لعامة الناس وعامة الأمة.
أما ما كان ضد الباطنية وضد الميليشيات أو ما أشبه ذلك فلا شك أنه حق وأن هؤلاء من أعداء الدين, وأن القضاء عليهم واجب, لكن قد يكون الاختلاف في التوقيت أو فيما يسمونه التكتيك أو شيء من هذا, أما الأصل فلا يجوز أن يختلفوا فيه, ففي الحقيقة أنا أرى أن ترك الخوض في هذا خير, وأن الاكتفاء بالدعاء لكل المسلمين أن يجمع الله كلمتهم على الحق المبين من الكتاب وسنة خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم.(96/23)
الجهاد في البوسنة والهرسك وتمالؤ أمم الكفر على المسلمين
السؤال
الحقيقة كثرت الأسئلة حول أخبار الجهاد في البوسنة والهرسك , ويطلب الإخوة آخر الأخبار عن المجاهدين في البوسنة والهرسك؟
الجواب
الوقت يضيق عنها وهي كثيرة ومهمة, لكن نحاول أن نوجزها: أولاًَ: وهذا قد قلناه ولكن الشواهد كثرت عليه جداً في اليومين الماضيين من إخوة جاءوا من هنالك, وقد بينوا أن الموقف الدولي والأوروبي ما بقي إلا أن يعلن بالإجماع أنها حرب صليبية سافرة, أقول: بالإجماع؛ لأن البعض قد أعلنها حرباً صليبية, وبعض الجرائد عندنا منها جريدة الرياض وقريب من ذلك حتى في جريدة عكاظ وغيرها أعلنت ذلك, حتى الصحف الأخرى في مصر وغيرها.
لماذا الكروات وغيرهم ممن عاداهم الصرب يتم التدخل الدولي سريعاً للفصل بينهم, بينما يطول الأمر بخصوص المسلمين قبل أي تدخل, بل تغلق الحدود في أول الأمر لكي يبيدهم الصرب, ثم بعد عمليات الإبادة تفتح الحدود -حدود دول أوروبا- لكي يستقبلوهم؛ لأنهم رأوا أن تفريغ المنطقة من أهلها يحقق الهدف إذا لم يحققه الاستئصال والإبادة.
فهذه حرب صليبية مكشوفة, حيث يؤخذ الأطفال وينقلون إلى دول أوروبا, بينما الآباء يقاتلون في الجبهة فيلحق هؤلاء الأطفال بملاجئ معينة ويأتي المنصرون من ألمانيا وإيطاليا إلى هذه الملاجئ بالذات ويسرقون الأطفال ويقولون: هؤلاء أيتام, فيما آباؤهم في الجبهة, والشواهد على هذا كثيرة جداً ونطق بها كثير من الغربيين, والإعلام الأمريكي في بعض قنواته -كما أخبرنا بعض الإخوة الذين جاءوا من أمريكا قريباً- صور هذه المآسي فأحدث ضجة هائلة, حتى إن المنافس الثاني الخبيث الذي يريد أن يحل محل بوش لما أعلن: إذا توليت أمريكا سوف أرسل قوة لردع الصرب ارتفعت أسهمه في الانتخابات وصار الفرق هائلاً بينه وبين بوش بسبب هذا التصريح, رغم أنه لن يقدم على ذلك, فكلا الرجلين يكذب ليروج لنفسه, لكن المقصود أنه رأى تأثير هذه المناظر في نفوس الأمريكان مما جعله يستغل هذا الأمر ويدخل من هذا الباب، ويعلن هذا الشيء ويهز المجتمع الأمريكي.
بعض الإخوان يقولون: رأينا الأمريكان والألم باد على وجوههم عندما رأوا هذه المناظر, بينما الإعلام العربي والإسلامي -عبر التلفاز- ينقل المباريات! ومسابقة كذا! فالمسلمون في غفلة, والصليبيون يتحركون, فهي حرب صليبية سافرة, ولعلنا نتناول هذا الموضوع في محاضرة مستقلة لما فيه من عبر لعل الله أن ييسر ذلك حتى نورد لكم الحقائق أو بعضاً من الحقائق موثقة من الصحافة, كما أوصلها لنا بعض الإخوة, ونبين من خلالها علاقة الصرب باليهود وعلاقتهم بالنصارى, ونبين أن معاملة المسلمين تختلف كليةً عن معاملة غيرهم والله المستعان! ومن جانب آخر والحمد لله فإن المسلمين الذين أرادوا أن ينشئوا حركة أو جبهة جهادية خالصة من أبناء البوسنة والهرسك -طبعاً- هم والحمد لله وضعهم يتحسن, كذلك القبول للحق والخير عند المسلمين في تلك البلاد عموماً قبول جيد, بل قد يكون ممتازاً وعظيماً, فقد أقبلت النساء على الحجاب، وترك الناس ما كانوا عليه من البدع والعادات السيئة، يعني بقدر ما يتوفر الدعاة والمترجمون تحصل -والحمد لله- ثمرات ملموسة وظاهرة، وهذا فضل من الله تبارك وتعالى.(96/24)
من أعمال القلوب: (الرضا)
بدأ الشيخ الدرس ببيان أهمية الرضا، ومدى ارتباطه بكلمة التوحيد، واشتماله على أصول الإيمان الثلاثة: معرفة الله، ومعرفة رسوله، ومعرفة دين الإسلام، ثم تكلم عن سورة الأنعام مبيناً اشتمالها على أنواع التوحيد الثلاثة.
وعرض خلال ذلك مراتب الرضا موضحاً أن تحقق هذه المراتب متوقف على تحكيم العبد لشريعة الله في كل شئونه، ومدى تقبله لها، ورضاه بها، وتسليمه لها، ثم تكلم الشيخ عن أهم الاعتراضات التي ترد على ألسنة كثير من الناس الذين لم يحققوا الرضا، مبيناً ما يترتب على ذلك من الأحكام.(97/1)
الأصول الثلاثة المندرجة تحت الرضا
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فإن هذا الموضوع الأخير من سلسلة مواضيع أعمال القلوب التي بدأناها هو الرضا -نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن يختم أعمالنا وأعمارنا برضاه وأن يتقبلنا عنده في الفائزين المتقين، إنه سميع مجيب.
الرضا: وإن كان الحديث عنه قليلاً، لكنه عمل قلبي عظيم، وهو الذي يندرج فيه شرطي القبول، والانقياد، وهما من شروط كلمة التوحيد، التي لا بد لتحققها من شروط؛ لأنها لو كانت مجرد كلمة أو مجرد لفظ يقال باللسان، لكان كل من قالها في زمن رسول الله -حتى المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار- من أهل النجاة والفوز عند الله تبارك وتعالى، ولكن لها شروط عظام، وقيود ثقال، منها ما سبق ذكره من المحبة، واليقين، والإخلاص، وما سنتناوله في هذه السلسلة -وهو الرضا الذي يجمع بين الانقياد، والقبول، أو الإذعان والتسليم، بأنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا كان الرضا بهذه المثابة، كان هو أساس الدين، وقاعدة الإيمان كما قال ابن القيم رحمه الله.
الأصول الثلاثة: 1 - معرفة الله.
2 - معرفة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
3 - معرفة دين الإسلام.
كلها تندرج تحت الرضا، ولذلك يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: {ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه سلم رسولاً} وقال في الحديث الآخر: {من قال حين يسمع النداء -الأذان-: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً غُفرت له ذنوبه} وجاء في رواية أخرى، من قال حين يمسي أو يصبح: {رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً، دخل الجنة}.
فانظروا إلى قيمة الرضا، فقد اشتمل على الأصول الثلاثة جميعاً، وإذا كان المؤمن لا بد أن يرضى بهذه الأصول الثلاثة التي لا شيء من أمور الدين يخرج عنها -وهذا يدل على أهمية الرضا- فلابد أن يعلم حقيقة الرضا، ودرجات الرضا، وأن يتجنب ما هو ضد الرضا.
ضد الرضا هو: الاعتراض، أو الممانعة، أو المنازعة فيما جاء عن الله وعن رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا كان أصل الدين وأساسه، وقاعدته، هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، التي هي التوحيد بأنواعه الثلاثة " توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات" فإن الرضا يشمل هذه الأنواع الثلاثة، ويشتمل على الفروع والأحكام أيضاً.
ولذلك نجد أن الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- وهو من خير من كتب في موضوع الرضا، في كتابه النفيس القيم مدارج السالكين اشتق واستخرج هذه الثلاثة الأقسام للرضا، التي هي أقسام التوحيد من هذه الآية: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113] وسورة الأنعام هي سورة التوحيد العظمى، فهذه السورة من أولها إلى آخرها توحيد، حتى ما ذكر فيها من تشريع، فهو مرتبط أساساً بقضية التوحيد، وإفراد الله تبارك وتعالى.
ومن ذلك أن الله تبارك وتعالى قال: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:164].
وهذا في آخرها، وهو دليل على توحيد الربوبية، لأنه قال {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً} [الأنعام:164] وهو النوع الأول من أنواع التوحيد، فلا بد للعبد أن يرضى بربوبية الله تبارك وتعالى معتقداً أن الله تبارك وتعالى هو الخالق، والرازق، والمحي، والمميت، والذي يدبر الأمر، ويصرِّف هذا الكون، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، ويغني من يشاء، ويفقر من يشاء، وهو الذي بيده ملكوت كل شيء، ولا يملك أحداً غير الله تبارك وتعالى التصرف في مثقال ذرة في هذا الكون، إلا بإذن الله وقدره وتدبير منه تبارك وتعالى، فهذا هو الرضا بالله تعالى رباً.
وأما توحيد الألوهية: وهو الرضا بالله تبارك وتعالى إلهاً ومعبوداً، وولياً، فقد جاء في قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} [الأنعام:14]، والولي: المقصود به الإله المعبود المحبوب، لأن أصل العبادة- كما بينا في موضوع المحبة - هي المحبة وهي التأله والوله وتعلق القلب، ومن تعلق قلبه بشيءٍ فقد عبده، والذي يستحق أن تتعلق به القلوب، وأن تعظمه، وأن تؤلهه، هو الله تبارك وتعالى.
والولاية المقصود بها هنا العبادة، والتأله والتقرب إلى الله تبارك وتعالى، والتي من لوازمها، الموالاة في الله، والمعاداة في الله، وهي أن يحب الإنسان المرء لا يحبه إلا لله، وأن يبغض المرء لا يبغضه إلا لله، فيكون قلبه ولاءً وعداءً وحباً وكرهاًَ في الله، ومن أجل الله تبارك وتعالى فهذا من لوازم الولاية.(97/2)
مراتب الرضا بحكم الله وشرعه
ثم ذكر ابن القيم رحمه الله في قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} [الأنعام:114] قال: وهذا هو النوع الثالث من أنواع الرضا.
وهو أن يرضى بالله وحده لا شريك له حكماً، فيتحاكم ويحاكم إليه، في كل شأن من شئونه، فتراه يحتكم إلى ما أنزل الله تبارك وتعالى في كتابه، وإلى ما جاء به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى هذا كانت درجات الرضا ومقاماته.
وتقسيم مراتب الرضا، هو بحسب تحكيم العبد لما أنزل الله، ولما جاء عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أصول الدين وفي فروعه، وفي معاملاته مع الناس وفي كل شأن من شئون حياته، سواء أكانت أُمةً، أم دولةً، أم أفراداً، فلا بد أن يكون التحاكم والرجوع هو إلى الله تبارك وتعالى وإلى ما أنزل، كما قال الله تبارك وتعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].
ثم إن ضد الرضا هو: المنافاة، والمعارضة، والاعتراض، والمدافعة، والمنازعة، والممانعة، فلو تأملنا في هذه الآية الكريمة لوجدنا أنها تبين مراتب الرضا، ودرجاته التي بها ينتفي كل منازعة، ومعارضة، فهي تبدأ أولاً بالتحكيم، وتنتهي بالتسليم.(97/3)
المرتبة الأولى من مراتب الرضا: التحكيم
أما التحكيم فلا بد منه لصحة إيمان العبد، فلا يكون المسلم مؤمناً، ولا مسلماً إلا بأن يحكِّم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأصل التحكيم: الإقرار بأن ما جاء به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الحاكم على كل ما سواه، كما جاء في الحديث: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} قال العلماء: التقدير 'ليس حاكماً وقاضياً عليه أمرنا فهو رد' فأمر الله وأمر رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذي يقضي ويحكم على الأهواء، والرغبات، والشهوات والقوانين، والعادات، والأعراف، والأوضاع، وكل ما يخطر ببالك مما يعارض ما جاء به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو يمكن أن يعارضه، فيجب أن يكون الحاكم عليه هو ماجاء به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا يقدم على ذلك شيء مهما كان.
فهذا التحكيم من وقع ومن وقر في قلبه وأقر به فقد حقق درجة الإسلام، وحقق المرتبة الأولى من مراتب الرضا، وهي الرضا بالله رباً، وبالإسلام دينا، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً، لكن لا يزال في الدرجة الأولى، وحاله كحال الأعراب الذين قال الله تعالى فيهم: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات:14]، فمن كان هذا حاله فهو بحاجة إلى درجةٍ أعلى حتى يكون من أهل الإيمان، ولذلك بعد قوله: {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}، قال: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ} [النساء:65].(97/4)
المرتبة الثانية من مراتب الرضا: انتفاء الحرج
والحرج هو: التردد، والريبة، والشك فيكون في النفس منازعة، وممانعة -وإن كانت خفية- واعتراض -وإن كان غير معمول به- فهو قد تحاكم إلى شرع الله لكن يجب عليه أن ينفي الحرج الذي يقع في القلب، فكثير من القلوب عند ما تسمع حكم رسول الله يقع فيها كثير من الأسئلة والشكوك.
فيقول: كيف أعمل بهذا؟! أيصح هذا؟! وإن كان هذا الحديث قد قاله الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لكن هل فعلاً ينطبق على الواقع؟! هل فعلاً أن هذا علاج حقيقي لمرض من الأمراض الاجتماعية أو النفسية؟! فهذه الشكوك، والريب، والخواطر، التي ترد على القلوب لا بد أن تزول لكي ينال المرء درجة الإيمان، التي هي المرتبة الثانية من مراتب الدين.
ومن مراتب الرضا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبياً ورسولاً {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ} [النساء:65].
فمهما كان الأمر، ومهما خالف العادات والتقاليد، ومهما رأيت الخلق أطبقوا على مخالفته، فعليك أن تعلم أن الحق، والخير والهدى، والصواب، فيما قضى به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفيما جاء به من أمور الدين أصولاً، أو فروعاً، في المعاملات، أو في الأحكام، أو في أي شيء مما جاء به، وكذلك أن يؤمن أن الأخبار كلها حق، وصدق، ولا يكون في نفس المؤمن أدنى حرج من أن هذا الخبر يحتمل أن يكون كذلك أو لا يحتمل! فهذا هو حال أصحاب الدرجة الثانية من المؤمنين.(97/5)
المرتبة الثالثة من مراتب الرضا: التسليم
التسليم هو أفضل المراتب وأعلاها، التي يتنافس فيها المقربون، والصديقون، وأولياء الله تبارك وتعالى، وهي التي قال الله تعالى عنها: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65]، فهذه الدرجة هي درجة التسليم الكامل، والانقياد المطلق، بحيث لا توجد أدنى منازعة، ولا معارضة، بل بالعكس فهنا يكون الاندفاع، والرغبة، والتصديق المطلق، والمحبة لكل ما جاء به محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأخبر عنه، كما يجب عليه أن يسمع قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل شيء ثم يصدق بذلك تصديقاً لا يداخله أدنى ريبة ولا شك، ولا يمكن أن يخطر بباله أدنى اعتراض، مهما قلَّ، فهذا هو مقام الإحسان.(97/6)
الرضا بأحكام الله والصبر عليها
من خلال ما سبق يمكن إجمال مراتب الدين كالتالي: الإسلام ثم الإيمان ثم الإحسان وهو أعلاها مرتبة وأعظمها.
ولذلك يقول ابن القيم رحمه الله: 'إن الرضا من أعمال القلوب، نظير الجهاد من أعمال الجوارح' فأفضل وأعلى وأشد أعمال الجوارح هو الجهاد، الذي يخرج فيه الإنسان بماله ونفسه في سبيل الله من أجل أن يقاتل أعداء الله تعالى، متعرضاً للموت، ولفقد الروح التي هي أغلى ما عند كل مخلوق، فهذا في عمل الجوارح.
وأما أعمال القلوب فهي درجات، فالعمل الذي يقابل الإحسان هو الرضا، لذلك يقول أبو الدرداء -رضي الله عنه وهو من تعلمون حكمته، وعظيم منزلته في الدين، وبين أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: [[ذروة سنام الإيمان الصبر للحكم، والرضا بالقدر]].
فكل ما حَكم الله تبارك وتعالى به أو شَرعه فلا بد أن تصبر عليه وأن تتعبد الله به، وأن تصبر وتصابر وتصطبر لكي تعبد الله كما أمر الله وشرع الله، فهذا هو الصبر للحكم، وأما الرضا بالقدر فهو نوع من أنواع الرضا -كما سنبين إن شاء الله في أنواع الاعتراض- حيث إن أكثر اعتراض العامة يكون على أقدار الله، فعامة الخلق أكثر ما يعترضون على أفعال الله، وأحكامه، وأقداره -والعياذ بالله - فالمثال جاء بالقدر؛ وإلا فالرضا بالدين، وبالشرع، وبالأمر أعظم من ذلك، وكلها لا بد منها، وهي مطلوبة، فجعل الرضا ذروة سنام الإيمان، وبذلك يتبين لنا أهمية هذا العمل القلبي العظيم، ونعلم أن الله تبارك وتعالى عندما خاطبنا، بين لنا إكمال الدين والإيمان، خاطبنا فيه أو ذكره لنا باسم الرضا كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3]، فإن هذا يستلزم في المقابل أن نرضى بما كتب وأنزل وشرع سبحانه وتعالى، وبما قضى به الله تبارك وتعالى إما في كتابه، أو على لسان رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذا يؤدي بنا ويدلنا إلى أهمية معرفة أنواع الاعتراضات التي يعترض بها من لم يحقق الرضا.(97/7)
اعتراضات الذين لا يتحققون بالرضا
جاء من الناس من يعترض على ما أنزله الله، أو جاء به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنواع الاعتراض على ما جاء من عند الله، والتي تقدح في الرضا، وهي في هذا العمل القلبي العظيم كثيرة متفاوتة منها:(97/8)
الاعتراض على توحيد الله وأسمائه وصفاته
أعظم أنواع الاعتراض: الاعتراض على الله تعالى في دينه، وفيما أنزل من الدين، ووصى به جميع الأنبياء والمرسلين، وبعث به هؤلاء أجمعين، وفرضه على خلقه كافة من توحيده عز وجل ومعرفته بأسمائه وصفاته، ولذلك ظهر في هذه الأمة -مع الأسف الشديد- من يعترض على ما أنزل الله تعالى في أصل الدين، فظهر فيها من يعترضون على أسماء الله وصفاته، وهو الذي له صفات الكمال، ونعوت الجمال، وله الأسماء الحسنى عز وجل وله المثل الأعلى في السماوات والأرض، وما من صفات كمال إلا وهي له، فأي صفة كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه فالله تبارك وتعالى له فيها الكمال المطلق.
ثم جاء المعترضون على هذا فنفوا صفات الله عز وجل واعترضوا عليها، وأوَّلوا كلامه، وردوا ما جاء عن رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا يمس أصل الدين وأصل الإيمان، فبعضهم أنكر أسماء الله وصفاته كلها، كـ الجهمية، والمتفلسفة، والباطنية وأمثالهم ممن انحرفوا عن الصراط المستقيم، فهؤلاء لا خير فيهم مطلقاً، ولهذا أخرجهم كثير من العلماء عن فرق الأمة وطوائفها مطلقاً- نعوذ بالله من الضلالة - لأنهم لا يؤمنون حقيقة ًبالله عز وجل لأننا لا نعرف الله عز وجل إلا بأسمائه، وصفاته، فإذا كنا لا نعرف من نعبد، فكيف نعبده تبارك وتعالى؟! فلنفرض أن أحداً كان من أعبد خلق الله؛ لكنه لا يعرف الله، ولا يعرف أن ربه تبارك وتعالى وأن معبوده عز وجل استوى على العرش -كما أخبر في سبعة مواضع من كتابه- فعندما يسجد ويتعبد ويقول: سبحان ربي الأعلى، وهو لا يعرف علو الله فهو متناقض مع نفسه، فكيف يعتقد شيئاً ويقول بخلافه، فلا يمكن أن يُعبد الله عز وجل إلا إذا عرف الله تبارك وتعالى على الحقيقة.
ويليهم: المعتزلة الذين أنكروا جميع الصفات، وأثبتوا الأسماء، وجعلوها مترادفات للدلالة على الذات، فالعزيز والحكيم والجبار والمتكبر وكل الأسماء معناها واحد، فهي مجرد أسماء تدل على الذات، ولا يشتق منها صفات، فهم يقولون -مثلاً-: إن الله تعالى اسمه الحكيم، ولكن لا نشتق منه الحكمة، أو العزيز فلا نؤمن بأن له تعالى صفة العزة وهكذا، فنفوا ذلك جميعاً، وجعلوها كالأعلام المترادفة في الدلالة على الذات.
ثم الأشعرية وهم: الذين خففوا وهذبوا شيئاً من غُلو هؤلاء، ولكنهم لم يثبتوا لله ما أثبته لنفسه تبارك وتعالى أو أثبته له رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من غير تعطيل، ولا تمثيل، ولا تحريف، ولا تأويل.
فخلاصة القول: أننا نحن الذين رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبكل ما يخبرنا به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
نؤمن بما ذكر وبما وصف الله به نفسه، وبما وصفه به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن كل ذلك حق، ولا نفرق بين شيء منه، فنؤمن بعلوه، ونؤمن بنزوله عز وجل في الثلث الأخير من الليل، ونؤمن بأنه تبارك وتعالى يأتي ويجيء يوم القيامة لفصل الحساب، ونؤمن بأنه يكلم ويخاطب من شاء، متى شاء وكيفما شاء، إلى آخر هذه الأسماء والصفات لله تبارك وتعالى، فأولئك الذين سبق ذكرهم هم النوع الأول من الذين اعترضوا في أصل الدين.(97/9)
الاعتراض على أمر الله الشرعي
هناك نوع آخر لم يعترضوا على ذلك، وإنما جاء اعتراضهم من باب آخر، ولا سيما في زماننا هذا، وهم الذين اعترضوا على الشرع، وعلى ما قضى الله تبارك وتعالى به قضاءً شرعياً، وعلى أحكام الله التي جعلها لعباده من الحل، والحرمة، والوجوب، والتحريم، والندب، وغير ذلك، مما يشمل أحوال الناس، ومعاملاتهم وشئونهم في هذه الحياة الدنيا.
فجاء هؤلاء القوم واعترضوا على هذه الأحكام وعلى هذه الشريعة بالقوانين الوضعية، وربما اعترضوا عليه بالآراء والعادات الجاهلية -كحال أهل البوادي وأمثالها- فحكموا الطواغيت أو ما أشبه ذلك، فكل هذا اعتراض على شرع الله، وحكمه الشرعي الديني، وهذا خطير جداً، وهو يدخل أيضاً في الاعتراض أو يلحق بالاعتراض على أصل معرفة الله، ويلحق به ويليه بالدرجة من جهة أنه كفر بالله تبارك وتعالى.
كمن يعترض على ما شرع الله عز وجل في حد الزنا -وهو الرجم للزاني إن كان محصناً، أو الجلد إن كان غير ذلك، بشروطه المعروفة -فيلغي ذلك، وينسخه، ويجعل مكان الجلد التحميم، كما فعل اليهود، أو يلغي الجلد أيضاً، ويجعل مكان ذلك كله الحبس أو الغرامة، كما في القوانين الوضعية التي تحكم أكثر العالم الإسلامي اليوم ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ويعترضون على حكم الله تبارك وتعالى الذي قال فيه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة:275]، فيجعلون الربا حلالاً، ويستحلونه ويضعون له الأحكام الطويلة، ويشرعون كيفية إباحته، فيحددون نسبته وآجالاً معينة لها، ويجعلون له ألواناً وأشكالاً من الأخذ والعطاء، والدفع، والاحتيال، بل والاستحلال لدين الله تبارك وتعالى وتقوم على هذه التشريعات الوضعية المنافية لكتاب الله وسنة رسوله صروح وأعمدة للاقتصاد الوطني أو العالمي كما هو ملاحظ الآن.
فهذا -أيضاً- اعتراض على الله تبارك وتعالى فيما شرع من أحكام، ولا يشك عاقل أن الربا من أخطر ما يرتكب من الذنوب، كما بين ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: {الربا سبعون باباً أيسرها كأن ينكح الرجل أمه}، وفي الحديث الآخر: {درهم رباً أشد من ست وثلاثين زنية}، والعياذ بالله، والله تبارك وتعالى قد تأذن عليهم بالحرب: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279]، يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله: 'إن الربا من آخر ما نزل، وقد توعد الله تبارك وتعالى بالحرب ثقيفاً وغيرها من القبائل لما أرادت أن لا تحرم الربا، فكانت العقوبة أن يحاربها رسول الله' فالمقصود أن من أحله، وشرَّع تحليله، فهو معترض على الله تعالى في ذلك.
وأسوأ منه الذي يجاهر ويقول: الذي شرعه الله لا يصلح أن يكون للحياة الحديثة، أو للاقتصاد الحديث، أو إننا في هذه الأيام لا بد أن نأخذ بالتشريعات المنافية، والمخالفة لما جاء في القرآن، فهذا -والعياذ بالله- معترض على الله تبارك وتعالى اعتراضاً واضحاً بيناً جلياً، فلا حظَّ له في الإيمان وليس داخلاً في الذين ذكرنا درجاتهم، لأنه كما ذكر الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65].
فهذا لم يحكِّم أصلاً، فضلاً عن نفي الحرج، أو التسليم، ولذلك فهو غير مؤمن -نسأل الله العفو والعافية- ويقاس على ذلك أشياء كثيرة، كحد السرقة مثلاً، وحد الردة وغير ذلك.(97/10)
الاعتراض على إخبار الله عما في الكون
هناك نوع آخر من أنواع الاعتراض، وهو أيضاً يقدح في الإيمان وفي أصل الدين والإيمان، وهو مناف للرضا أيما منافاة! وهو الاعتراض على أخباره، أو أوامره بما وضعه البشر من أهواء، أو أفكار، أو نظريات قديمة، أو حديثه.
مثلاً: أخبرنا الله تبارك وتعالى أنه خلقنا نحن جميعاً من نفس واحدة، وجعل منها زوجها، والنفس الواحدة هي آدم، وخلق منها زوجها هي حواء، ثم جعل السلالة البشرية بعد ذلك تتناسل من هذين، فكل من تراه على وجه الأرض، أو من عاش فوقها من البشر، فهم من بني آدم، وأبوهم آدم، وبين الله كيفية الخلق ومم هو في أكثر من آية، فهذا أمر قطعي، يقرؤه كل مؤمن ويجده واضحاً في كتاب الله.
ثم يأتي قائل -كما هو مشهور الآن في العالم، ويدرس ويلقن أبناءنا وبناتنا- فيقول: 'لا.
هؤلاء البشر الذين تراهم، على اختلاف أعراقهم، وأجناسهم، وألوانهم، هم منحدرون من سلالة حيوانية' وهذه هي نظرية التطور، وهي تقول: إن الأصل القديم حيوان تطور، فأصبح قرداً، وهناك حلقة مفقودة بين القرد وبين الإنسان ثم جاء الإنسان، فعلى هذا فلا يكون هناك آدم، ولا نفس واحدة، ولا خلق الله تبارك وتعالى العالم كما أخبرنا، وكما جاء في القرآن، وإنما يريدون منا أن نؤمن وأن نعتقد ما يعتقدون، ونحن نقول: إن والإيمان بها كفر يخرج صاحبه من الملة، ومن أقرَّها أو قررها أو درسها فقد اعترض على ما جاء في كتاب الله، وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهناك مثال آخر: فنحن نعلم أن الله عز وجل خلق كل إنسان منا في هذا الوجود على الفطرة القويمة {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30]، وكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كل مولود يولد على الفطرة} فنؤمن أن كل مولود يولد على الفطرة، التي هي {على الملة}، كما بينتها الرواية الأخرى، فكل مولود يولد في الهند، أو في اليابان، أو في إفريقيا، أو في مكة، أو في غيرها يولد على ملة الإسلام، وعلى الدين القويم، ولكن الفطرة تتغير بالتربية كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه}.
فجاءت النظريات التربوية والنفسية الحديثة -كما يسمونها- تنافي ذلك كله وتقول: إن الإنسان يولد كل بحسب رأيه.
فمثلاً: نظرية فرويد اليهودي الخبيث، تجعل الإنسان كائناً جنسياً، أو أنه ما ولد ليتدين وإنما كل حركة من حركاته فهي بدافع الرغبة، والشهوة الجنسية، وهذا كلام بمنتهى القذارة، ولكنه ليس بغريب من يهودي خبيث يريد أن يهدم أخلاق البشر جميعاً، والأغرب منه أن يأتي أبناء المسلمين، فيقررون هذا الكلام في مناهجهم التعليمية التي يتلقاها الأبناء، دون أن يذكر أن هذا كفر، وضلال.
وتأتي النظريات الأخرى، كالنظريات التربوية الاستراتيجية، والنظريات الرأسمالية، ونظريات كثيرة، كل نظرية تفسر رغبات الإنسان، وميوله، منذ ولادته بما ترى، فمثلاً النظرية السلوكية في أمريكا وحدها تنقسم إلى أكثر من عشرين مدرسة نفسية، كل منها لها نظرية عن هذا المخلوق العجيب، ثم تأتي هذه النظريات وتقرر باسم علم النفس، وباسم علم الاجتماع، وما أشبه ذلك من العلوم ولا ينظر في هذه العلوم إلى ما جاء عن الله وعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أما في النظريات الكونية فإن الله تبارك وتعالى أخبرنا عن هذا الكون بما يكفينا لمعرفته سبحانه، لا لنعرف تفصيلات هذا الكون، ولنعلم أن له رباً، خالقاً، حكيماً، مدبراً تبارك وتعالى، فإذا جاءوا وأخبرونا بخلاف ذلك، كأن يقولوا: إن السماء فضاء لا نهاية له، والله تبارك وتعالى قد أخبرنا أنها سبعاً طباقاً، والنبي في ليلة الإسراء والمعراج يستأذن هو وجبريل في الأولى، ثم في الثانية، والثالثة إلى السابعة، وأخبرنا من لقي في الأولى، ومن لقي في الثانية، وفي الثالثة إلى السابعة، فكلامهم هذا هراء! ونحن نؤمن بما ذكر الله تبارك وتعالى ونرد ما يخالفه.
فهؤلاء الذين يأتون بنظريات مخالفة لما جاء في كتاب الله تبارك وتعالى، هم من المعترضين على ما جاء عن الله، ومن عند الله.
أيضاً من يأتي بالنظريات عن صفات الإنسان البشرية، فيعارضون بها ما أخبر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن صفات هذا المخلوق، من أن المرأة دون الرجل في الخلقة، ومن ثَمَّ هي دون الرجل في الواجبات، وفي حمل الأمانة، أو بمعنى آخر: أن الله تبارك وتعالى خلق الذكر والأنثى، وجعل لكل منهما عبادة تتناسب مع ما خلقه وفطره عليها، وتتناسب مع تكوينه الذي كونه الله تبارك وتعالى عليه، وبالتالي جاء هؤلاء وأرادوا أن يجعلوهما في العمل، والواجب، والحقوق والميراث متساويين، وهذا مما يدخل في الاعتراض على الأحكام، فقالوا: ليكن الميراث واحداً، لاكما ذكر الله تبارك وتعالى حيث فرض للذكر مثل حظ الأنثيين، ويريدون أن يجعلوهما واحداً في كل شيء، فللمرأة حق في الانتخابات، وفي الوصول إلى الوزارة، أو أن تكون رئيسة للدولة، أو أن تفعل كل ما يفعله الرجل من الأعمال، وكذلك لها مثل ما له من الحقوق، ومنها هذا الحق في الميراث، فهؤلاء من الذين يعترضون اعتراضاً جلياً واضحاً على ما شرع الله، فكانوا ممن لم يرض بدين الله تبارك وتعالى.(97/11)
الاعتراض بالأقيسة الفاسدة والأهواء
هناك نوع من الناس -وهذا واقع في هذه الأمة مع الأسف الشديد كثير جداً ولا حوله ولا قوة إلا بالله- يعترضون بنوع آخر في الاستدلال، ومعرفة الأحكام، وتراهم يعترضون على ما صح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتراهم يبلغهم الحديث الصحيح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيردونه، أو يتأولونه بكلام فلان من أئمة المذاهب أو بقياس كما يسمى، أو بالنظر، أو بالعقل، إلى آخره، فيردون الحديث، ويعترضون على ما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى ما شرع من الدين بالقياس، أو بالرأي، أو بالهوى، أو ما يسمونه بالقواعد المنطقية، أو القواعد الكلية، أو ما أشبه ذلك من المسميات، وهي مخالفة لما جاء عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليست مأخوذة عنه، ولا متلقاة عن هديه.
فهؤلاء القوم قد ابتليت بهم هذه الأمة حتى قال قائلهم: 'أي حديث يخالف مذهبنا فهو إما ضعيف أو منسوخ' سبحان الله! جعل المذهب هو الحكم! فأي حديث يخالف المذهب فهو إما ضعيف، أو موضوع، فلا يؤخذ به، ولا يعتد به، أو منسوخ، وأن العمل يجب أن يكون على المذهب، فتعصب هؤلاء المقلدون كلٌ لمذهبه الذي ينتسب إليه، ومزقوا هذه الأمة، وفرقوها حتى وقع القتال، وأريقت الدماء، وكم من دماء أريقت من أجل حكم فرعي، فلو اتفق الجميع على قبول الحق والإذعان إلى ما شرع الله، لكانوا جميعاً على أمر واحد كما أمر الله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] وإن اختلفوا في فهمه؛ فكل منهم يعذر الآخر باجتهاده، ولكن الهوى والتعصب جعلهم يتقاتلون، فكم وقع من قتال في خراسان، وما وراء النهر بين الشافعية والحنفية، وكم وقع في اليمن بين من ينتمي إلى الفقه الهادوي -أي: الزيدي- وبين الشافعية، فهذا دليل على التعصب المقيت، الذي لو تأمل هؤلاء قليلاً لوجدوا أن أئمة المذاهب ينكرون هذا، ولا يقرونه، وكل منهم كان مجتهداً يريد الحق، كما بين شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله في كتابه الجليل " رفع الملام عن الأئمة الأعلام ".(97/12)
الاعتراض بالكشوفات والرؤى والأحلام
يوجد نوع آخر من الاعتراض على الدين، والعبادة والشرع الذي شرعه الله، بالخيالات وبالكشوفات، وبالمنامات، وبالرؤى، وبالأحلام، وما أشبه ذلك، وهذا حال الصوفية كما هو حال المتعصبة من الفقهاء، تقول لهم: إن الله تعالى حرم هذا، أو قال فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذا، فيقول: الشيخ الفلاني نام ورأى الخضر عليه السلام في المنام وقال هذا حلال، سبحان الله! ومن قال لك بأن الأحلام والمنامات يعمل بها في معارضة ما جاء من الوحي في كتاب الله؟! ومن قال لك: إن هذا الذي في المنام هو الخضر، لماذا لا يكون الشيطان؟! وهل يحق للخضر أو كائناً من كان، أن يشرِّع غير ما جاء به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو أن يحدث في الدين ما ليس منه؟! بل تصل ببعضهم الجرأة -عياذاً بالله- إلى القول بأنه يرى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقظة، فبعضهم يقول: مناماً ثم يتدرج ويقول: يقظةً، ويقول: هذا حلال وهذا حرام، يعلِّمه أمراً غير ما نعلمه نحن في الكتاب والسنة، وهذا اتهام عظيم شنيع لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه ادخر شيئاً من الدين، أو أنه لم يعلِّمه للعالمين، واختص به هؤلاء الضالين المضلين في آخر الزمان.
ولا ريب أن هذا شيطان إن جاءه، وإلا فهم كاذبون بما يدعون، وإنما يريدون أن يعترضوا على ما ثبت من الدين بهذه الأباطيل، وهذا إفك وافتراء، سواء أكانت أحلاماً، أم منامات، أم خيالات، أم كشوفات، كما يسمونها.
بل إن أشد من ذلك كله الذين يعتقدون من أئمة الصوفية أن الله تعالى يخاطبهم بنفسه، ويتكلم معهم، ويناديهم فحقيقة هؤلاء أنهم مدعون للنبوة! لأن من كلمه الله تعالى بلا واسطة، فقد أصبح نبياً بلا ريب، فهؤلاء يدعون النبوة، وحقيقة أمرهم أنهم يريدون القول بأنهم أنبياء، ولا يؤمنون بنبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -والعياذ بالله- فلذلك كم تقرأ في كتبهم أن الشيخ الفلاني كان يعمل من الأعمال التي لا تجوز ولا تحل، وذلك بسب أن المنادي ناداه فقال: يا عبدي فلان هذا حلال، فاستحله وفعله! فهذا شيطان اتخذه عبداً له، وناداه وأمره بأمر يخالف الشرع، ليخرجه من الدين بالكلية، ويتوهم هذا المخدوع الضال -وربما كان مفترياً ومضلاً- أن المخاطب له هو الله تبارك وتعالى! وهذا من الدجل المنتشر في أكثر أنحاء العالم الإسلامي، وإن كان ولله الحمد قليلاً في هذه البلاد الطيبة -إن شاء الله- وقد بدأ نور الخير، والسنة، واتباع منهج السلف الصالح، ولله الحمد ينتشر في كل مكان، ولكن هذا مرض موجود في الكتب، وفي واقع الحياة، وهو من أسوأ أنواع الاعتراض على ما جاء عن الله، وعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو مناف للرضا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبياً ورسولاً.(97/13)
الاعتراض على ما شرع الله بالأعراف والعادات والأهواء الجاهلية
وهذه عادة مذمومة ذكرها الله عن الذين كذبوا الأنبياء، وردوا دين الله عز وجل وقالوا: {بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة:170].
فهذا النوع منتشر في الأمة -إلا من رحم الله- وقليل من الناس مَنْ لديه الاستعداد أن يترك عادات القبيلة اتباعاً لما أمر به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأما الكثير منهم فتقول له: هذا حرام وهذا الحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا ينزجر ولا يتراجع عن حكمه وهواه.
فمثلاً في الطرب والموسيقى وما أشبه ذلك، يقول: العادة عندنا كذا، والجماعة كذا، والقبيلة كذا، والناس كذا! فيعترض على الدين، وعلى الشرع، بالعادات، والأعراف، والأهواء، والأوضاع الجاهلية، والأمثلة على هذا كثيرة فلا نطيل فيها ولا حول ولا قوة إلا بالله.(97/14)
الاعتراض على حكمة الله وقدره
من أنواع الاعتراض الاعتراض على حكمة الله، وعلى قدر الله، وعلى أفعال الله تبارك وتعالى.
وهذا قديم ومنتشر بين الناس - إلا من وفقه الله للرضا ولحقيقة الرضا- وأكثر المعترضين كفارٌ وهم الذين اعترضوا على أصل الدين، وأصل القدر، وأصل الاختيار، وقدوتهم في ذلك إبليس اللعين، الذي اعترض على أمر الله تبارك وتعالى له بالسجود لآدم، فجعل ما أمره الله به مخالفاً ومنافياً للحكمة، لأنه يرى أن النار أفضل من الطين: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، فيرى أن عنصر النار أفضل، فمعنى قوله: إن من الحكمة أن يسجد الطين للنار وليس العكس! وكثير من الناس يقعون في هذا وفيما هو أشد منه وهم يعلمون أو لا يعلمون، وبهذا طرده الله من رحمته، وجعل عليه لعنته إلى يوم الدين، وأصبح رأس الكفر في الدنيا، والمشركون تعلموا منه هذا النوع، فاعترضوا على أن يكون الرسول بشر: {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون:47]، وفي الآية الأخرى {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [يس:15].
فهم يريدون أن يكون الرسول المرسل إليهم ملكاً، أما إذا كان رجلاً فلا، والله تعالى له الحكمة العظيمة في ذلك {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:9]، حتى تكون القدوة، وتكون الأسوة، فيكون هذا بشر، وهذا بشر، فلو كان ملكاً في الحقيقة لجعلناه بشراً في الصورة، حتى يكون من جنسهم، ويخاطبهم، ليقتدوا به وهو من جنسهم، أما لو جاءهم ملك لقالوا: أنت ملك، تصلي لأنك ملك أما نحن فبشر لا نستطيع، وإن تترك الشهوات فلأنك ملك، أما نحن فبشر فلا نترك الشهوات والمحرمات وهكذا.
فيعترضون على حكمته وقدره، ولهذا يقول الله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:68]، فيبين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنه ليس لهم أن يختاروا أن يكون الرسول بشراً، أو ملكاً، أو أن تكون الرسالة في رجل دون الآخر كما حكي عنهم: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31].
فاعترضوا على عدم جعل الله تبارك وتعالى هذه النبوة وهذا الوحي وهذا الذكر ينزل على عروة بن مسعود، أو الوليد بن المغيرة، على رجل من القريتين - مكة والطائف - أما أن ينزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليس عنده أموال، أو وجاهة في قريش، أو عنده عبيد وجواري، ولا كذا، فاعترضوا على حكمته؛ ولهذا يقول الله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:32]، فالمعيشة الدنيوية هذه يقسمها الله تبارك وتعالى بين خلقه {كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} [الإسراء:20]، أما النبوة، وأما الرحمة فالله أعلم حيث يجعل رسالته، ولا يحق لكم أن تعترضوا على اختيار الله تعالى، وتقولوا لو أنه اختار فلاناً، ولو أنه نبَّأ فلاناً لآمنا به، أما وقد نبَّأ فلاناً فلا! كما اعترضوا على الأتباع: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء:111]، كما قال قوم نوح، وقريش قالوا للنبي: 'اطرد هؤلاء الضعفاء لنجالسك نحن عظماء القوم، ونسمع منك، أما أن نجلس معهم، ونتأذى بروائحهم، فنحن لا يليق بنا ذلك' وهذا من اعتراضهم على أتباعه وأتباع دينه، لذا نهاه ربه عن ذلك فقال: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52]، فهؤلاء الذين يرجون وجه الله، هم خير عند الله تبارك وتعالى وهم أفضل من أولئك، ولكن الله تعالى جعل بعضهم لبعض فتنة وهو أعلم بالشاكرين، فجعل إيمان الضعفاء فتنة؛ لكي لا يؤمن الكبراء وهذا من حكمة الله عز وجل.
كما اعترضوا حتى على القرآن، فقالوا: لو أنه نزل جملة واحدة، فهم لا يريدونه أن ينزل بحسب الأحداث، ومنجماً بحسب الوقائع، بل يريدونه أن ينزل جملة واحدة، فرد الله تبارك وتعالى على هذا الاعتراض، وبين أن الحكمة من ذلك التثبيت، ولكي لا يأتوا بمثلٍ إلا جاءهم بالحق وأحسن تفسيراً، وهناك أنواع كثيرة من أنواع الاعتراض التي اعترض بها الجاهلون والمشركون.
وأيضاً قد اعترض المنافقون، الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، فهم يعترضون دائماً على أوامر الله، فأصحاب الشهوات في كل مكان، وفي كل زمان، لا بد أن يعترضوا على دين الله، ولا يرضيهم ذلك، فلذلك يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش، إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط}.
فهذه عبوديته: إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، وهذا ما فعله المنافقون، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة:58].
فترى المنافق وأصحاب الشهوات إذا تحققت شهواتهم ورغباتهم، قالوا: أحسنت وهذا حكم طيب، وأنت حقاً رسول الله، وإن كان قاضياً فحكم له قالوا: هذا القاضي يقضي بالحق: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور:49]، فإن حكم لخصمه وكان هو المبطل، وحكم القاضي بالحق قال: هذا مخطئ، أو مرتشٍ، أو كذاب، فأهم شيء عندهم أن يكون تبع لأهوائهم، وليس تبعاً للحق، فإذا كان لهم الحق وعلموا أن الحكم سيكون لهم، جاءوا وقالوا: لا نريد أن يحكم بيننا إلا رسول الله، أما في وقتنا الحالي فيقولون: نريد صاحب دين، وإيمان، وتقى حتى يحكم بيننا؛ لأنه يثق بأن البينات التي عنده ستجعل الحكم له؛ لكنه لو كان في الحالة الأولى يقول: لا نريد فلاناً، كما قال المجرمون من قبل: نذهب إلى كاهن جهينة أو إلى كعب بن الأشرف: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:60]، فقالوا: لا نذهب إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل نذهب إلى كعب لأنه يأخذ الرشوة.
كما أن كثيراً منهم يعترضون على قدر الله، إن أعطاهم الله ووسع عليهم وأنعم عليهم، فيقولون: أكرمنا الله وأعطانا الله، وربكم لا يعطي إلا من يحب، وجعلوا ذلك دليلاً وعلامة على أن الله يحبهم، وأن أعمالهم صالحة وطيبة، ونسبوا ما يأتيهم من مال إلى عبادتهم، وإخلاصهم، وصدقاتهم، ونفقاتهم، وما علموا أنه استدراج! وأما إذا قدَّر عليهم أرزاقهم، وضيق عليهم، أو منعهم وإن كان بعد عطاءٍ، أو إذا أمرضهم وإن كان بعد شفاء وعافية قالوا: {رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:16] قالوا: كيف تعذبني؟! ماذا فعلت؟! وماذا صنعت؟ أو لماذا فعلت كذا ولم تفعل كذا؟! فيعترضون.
وأكثر ما يعترض الخلق قديماً وحديثاً على أقدار الله عز وجل، ويظن أنه غير أهل لأن يبتليه الله بمصيبة، أو بفقد مال، أو بفقد حبيب، لأنه يرى أنه من أهل الصلاح والدين، ولو كان هذا في الفجار، أو في غيره من الذين يفعلون ما يفعلون لكان هذا أحق بهم وأجدر! ولا يعلمون أن الله تبارك وتعالى يبتلي بالخير والشر، وأن الله عز وجل يمتحن من ينعم عليه ليرى أيشكر أم يكفر ويمتحن من يأتيه بما لا يرضى به ليرى الله أيصبر أم يجزع ويقنط، ومن هنا لا بد من الرضا بأقدار الله تبارك وتعالى كما قال أبو الدرداء رضي الله عنه.(97/15)
الاعتراض علىحكمة الرسول
من ذلك أيضاً: الاعتراض على حكمة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن لم يكن فيه اعتراض على حكمة الله كما فعل الخارجي -أصل الخوارج الذي خرجوا من ضئضئه- عندما حكم رسول الله وقسم الغنائم فقال: {إعدل يا محمد!} نعوذ بالله من ذلك، فاعترض هذا الخارجي على الحكمة النبوية، ورأى أن هواه وأن رأيه وأن عقله أصوب في هذا الشأن، وأنه يجب أن تكون القسمة بالمساواة أو أن يعطى الناس بحسب إيمانهم، فالمؤمنون العظماء يأخذون الألوف، ومن دونهم يأخذون المئات، والأقل إيماناً يأخذون الأقل من الإبل والأنعام، ولكن من حكمة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وهي بوحي من الله- أن يعطي الأعراب، وأن يعطي المؤلفة قلوبهم، وأن يعطي حديثي العهد بالإسلام، وأما أولئك فكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يكلهم إلى إيمانهم} هؤلاء مؤمنون، ورغبتهم إلى ما عند الله، ورغبتهم في الجنة، منذ أن بايعوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم العقبة فقالوا: {فما لنا يا رسول الله إن نحن فعلنا؟ قال: لكم الجنة، قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل} وهؤلاء المهاجرون أعظم من ذلك، هؤلاء لا يريدون الدنيا ومتاعها، ولا يبالون أُعطوا أم لم يُعطوا، أما أولئك فإذا أُعطوا آمنوا فآمنت بعدهم قبائل وأمم، وإن لم يُعطوا كفروا فتكفر بكفرهم قبائل وأمم.
فالحكمة واضحة جلية، ومع ذلك اعترضوا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا، ويجب أن نعلم أن الاعتراض كما يقول ابن القيم رحمه الله: ' هذه الاعتراضات وأمثالها سارية في جميع الخلق، قل من ينجو من نوع من أنواع الاعتراض على الله، أو على دين الله، أو على شرعه، أو على أخباره، أو على أحكامه' قلَّ من ينجو من ذلك، ومن نجى من ذلك وحقق درجة التسليم المطلق، بلا معارضة، ولا ممانعة، فعليه أن يحمد الله على هذا، ويجعله امتحاناً واختباراً لإيمانه، فالأمثلة التي ذكرناها إنما هي إشارات، وإلا فداء الاعتراض داء عظيم، وقليل من خلق الله هم حقاً من ذاقوا طعم الإيمان، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً}.
جعلني الله والمسلمين من الراضين، ومن هؤلاء المصطفين الأخيار، إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.(97/16)
الأسئلة(97/17)
إرضاء الناس من أجل دعوتهم إلى الله
السؤال
يقول حديث من طلب رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه، ومن طلب رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه أو كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وإننا في تعاملنا مع الناس ودعوتهم، قد نضطر أحياناً إلى إرضائهم، حتى نكسب قلوبهم، فهل هذا داخل تحت الحديث؟
الجواب
ما دام غرضك من استرضائهم أن يؤمنوا بالله، وأن ينالوا رضى الله، فلا ينطبق عليك هذا الحديث -إن شاء الله- لأنك تريد أن تكسبهم لله لا لنفسك، ففي الحقيقة من كان هذا حاله فهو لا يبتغي رضى الناس بسخط الله، وإنما غايته هي رضى الله، لكي يؤمن هؤلاء، فيرضى الله عنهم بإيمانهم، ويرضى عنه بدعوته هؤلاء، ومما يرضاه الله لنا أن نستميل قلوبهم، وأن نخاطبهم بالحكمة واللين؛ لكي نكسب قلوبهم، ويؤمنوا بالله، فهذا مما ما يرضاه الله وهو مما شرعه.(97/18)
حكم الدول والشعوب التي تحكم وتتحاكم إلى القوانين الوضعية
السؤال
ما حكم الدول التي تحكم بالقوانين الوضعية، والشعوب التي ترضى بهذه القوانين، وما هو الحل الأمثل لتجنب ذلك؟
الجواب
قد بين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حكم من أراد التحاكم إلى غير شريعته فقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} [النساء:60] فجعله الله زعماً، وأشار إليه على طريق التعجب، وجعله زعماً لا حقيقة له: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:60] فاختاروا حكم الطاغوت على حكم الله.
فمن اختار ذلك فهو كافر، سواء أكان حكومةً أم شعباً، وإن قال بلسانه: إننا نريد الدين، أو نريد الإسلام، أو إن حكم الإسلام أفضل، فما دام اختار غير ذلك من القوانين الوضعية وأراده وحكم به فهو كافر، فرداً كان أو حكومةً، أما من يحكم بالقوانين الوضعية وهو مكره فهذا حالة استثنائية ونحن نتكلم على القضايا العامة الأصلية.
فنتأكد أولاً هل الإكراه متحقق فعلاً، أم هو كما قال الإمام أحمد عندما قيل له: إنهم يكرهوننا، وذكروه بحديث بلال فقال: 'إن بلالاً وعماراً وأمثالهم ضربوا، وأنتم قيل سنضربكم فقلتم القرآن مخلوق' أي: أنتم ما ضربتم، بل قيل: سنضربكم، فهنا لم يتحقق الإكراه، ففرق بين هذا وهذا، وليس كل من قال: أنا مكره فقد تحقق فيه الإكراه، أو يقول: هذه وظيفتي، ماذا أفعل؟! فنقول: ليس هذا عذراً، وما هو بإكراه، بل لا بد أن تجتهد، وأن تبحث عن بديل، وأن يرى عليك أثر الإكراه، أما أن تعيش عمرك كله في هذه الوظائف، وتقول: مكره فلا، وهذا غير صحيح، وعليه فإنه يجب أن تدرس كل حالة فإذا تبين أنه مكره، وتنطبق عليه حقيقة الإكراه، فهذه حالة عارضة مستثناة، ولا تؤثر على الأصل.(97/19)
شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله لابد من شروطها حتى تتحقق
السؤال
فضيلة الشيخ في قولك: إن شهادة أن لا إله إلا الله محتاجة إلى شروط حتى تقبل من قائلها، فكيف نجمع بينها وبين حديث الغلام اليهودي الذين قالها عند احتضاره بعد أن وافقه أبوه على النطق بها؟
الجواب
هذا السائل يسأل ويستدل بحديث الغلام اليهودي، الذي قال له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قل لا إله إلا الله، فنظر إلى أبيه فقال أبوه: أطع أبا القاسم، فقال: لا إله إلا الله} كما يقول: إن هذا لم يأت بالشروط، وأنت قلت لابد أن تتحقق الشروط، وهذا قال لا إله إلا الله ونجى من النار فقط، فنقول أولاً: نعود للقاعدة نفسها فعندما نتحدث عن القاعدة العامة، أن المسلمين يقولون: لا إله إلا الله وهم أحياء، ويمشون، ويعملون، فهؤلاء نقول لهم: حققوا معناها وشروطها ومقتضاها، أما في حالة الاحتضار فهي حالة مستثناة.
ثم نقول: يا أخي الكريم: كيف عرفت أن الغلام لم يقلها بيقين، وإخلاص، ومحبة ورضا؟! فإن قلت: قالها كذلك، قلنا هذه هي الشروط، وهذا الذي نقوله، وإن قلت لم يقل كذلك، قلنا: من أين لك ذلك؟! ولا يجوز هذا لأنك لم تطلع على قلبه، فالأصل أنه ما نظر إلى أبيه إلا خائفاً، ولذلك لم ينتظر بعد قول أبيه: أطع أبا القاسم، حتى انشرح لها صدره فقالها بانشراح صدر كما هو ظاهر الحال، واستجاب لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا بد أنه ما قالها إلا بهذه الشروط.(97/20)
مسألة عدم الرضا بحكم القاضي
السؤال
عندما يحتكم شخص إلى قاض في المحكمة، ثم يحكم القاضي عليه، فيشعر أنه مظلوم، فهل هذا الشعور يعتبر من عدم الرضا بحكم الله؟
الجواب
فرق بين أنك تشعر أن القاضي ظلمك، ولم يحكم فيك بحكم الله، الذي هو العدل والحق ولو حكم فيك بحكم الله لقبلت ورضيت، فتعترض في هذه الحالة على عمل القاضي، الذي هو بشر، فقد يخطئ فعلاً، وقد يرتشي، وقد يظلم والعياذ بالله، وهذا قد يقع، فرق بين هذا وبين أن يكون الاعتراض على الحكم ذاته، كما لو حكم لامرأة أن لها نصف ميراث الرجل، فتقول: كيف ذلك، لابد أن آخذ مثل أخي بالمساواة، فهذا اعتراض على الحكم، وعلى الشرع ذاته، وليس على فعل القاضي، فهذا لا بد أن يُتنبه له.
ثم الأولى والأفضل في حق المؤمن أن يصبر، وأن يرضا بحكم القاضي، ما لم يكن يعلم علم اليقين أنه ظالم له، وأن يحتسب ذلك، فربما كان يتوهم أنه محق؛ ولكن في الحقيقة أن الحق لخصمه، الذي حكم له ذلك القاضي.(97/21)
تحاكم القبائل عند رؤسائها، وعدم الرجوع إلى المحاكم الشرعية
السؤال
إذا حدثت مشكلة بين القبائل ذهبوا إلى الآخرين، ثم وضعوا المعاديل واحتكموا لديهم، ويحكمون بالذبح وباليمين، فما حكم ذلك؟ وما هو البديل؟ وما دور الشباب والدعاة؟
الجواب
حقيقة هذه مشكلة كثيراً ما تقع، وكثيراً ما تأتي الأسئلة عنها، وأحوال القبائل والمناطق تختلف فبعضهم يغالي في هذا، وعندهم أحكام طويلة عريضة جداً، وبعضهم لا يتجاوز أن يجتمعوا مثلاً، أو أن يصلحوا، ولذلك أقول هذه الأمور يحتاج فيها إلى تأصيل قضايا معينة.
فالأصل الأول: أن نذيع ونشيع بين الناس العلم الشرعي، حتى يعرفوا حكم الله، وحتى يعرفوا معنى الرضا بالله، ومعنى الرضا برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحتى يعرفوا أحكام الله، وحدود الله، فلا يتجاوزوها، ولا يتعدوها، وأن نبين لهم كفر التحاكم إلى القوانين الوضعية، والأعراف الجاهلية، وأنها من الشرائع الوضعية.
أما الأصل الثاني: فهو التوعية والدعوة، وهو حل لكل المشكلات في العالم وفي الأمة.
وأما الأصل الثالث: أن تقوم المحاكم الشرعية أو وزارة العدل بواجبها.
أولاً: بنشر المحاكم الشرعية، فبعض الناس لا يريد أن يتكبد المسافة إلى أقرب محكمة شرعية، حيث إنها تبعد عنه مائتي كيلومتر وأحياناً ثلاثمائة كيلومتر، فلا يذهب إليها وقد تقول الوزارة: أين طلابكم في الجامعات الذين يرفضون القضاء؟! فيجب عليكم معشر الشباب، من كان منكم أهلاً للقضاء ألا يمتنع عن ذلك، وإن كان طلب القضاء في الأصل ليس مستحسناً بلا ريب، ولكن لا تترك الدنيا بلا قضاة، أو يؤتى بالقوانين الوضعية، فيجب عليكم كما يجب على الوزارة تأمين وتوفير المحاكم الشرعية.
ثانياً: يجب على المحاكم الشرعية أن تفصل في القضايا، وأن تسرع في ذلك، لأن الناس يرون أنه إذا تخاصم اثنان فأولاً: تذهب القضية إلى الشرطة، والشرطة أكثر الناس لا يثق فيها، ثم تحال إلى الإمارة، ثم المراكز، والمراكز تحيل إلى الإمارة الفرعية، ثم إلى المنطقة، ثم تذهب إلى الداخلية فتستمر شهوراً، فيقع في أثناء ذلك بين الناس من الخصومة والقطيعة، وقد يقع القتل، وقد يقع غير ذلك، وهذا يسجن ظالماً أو محقاً، وهذا طليق ظالماً أو محقاً، فأمور كثيرة لا تتدارك، فيجب أن توضع إجراءات قضائية مرنة، بحيث إن المحاكم الشرعية رأساً تتولى القضية، وتحكم فيها ولو صلحاً، أو أن تعين هي من يقوم بالصلح من أهل الدين والخير، بحيث لا يكون هناك مخالفة للشرع، فهذه بعض الحلول العامة، أما الواقع فهو أكبر من ذلك، ولكن لا حيلة فيه والله المستعان.(97/22)
كيفية الرضا بالمعصية وهي من قدر الله
السؤال
إذا فعل الإنسان المعصية وهي من قدر الله، فكيف يكون الرضا بها، وكذلك الطاعة؟
الجواب
هذه قضية مهمة، ولا نطيل فيها؛ لأن موضوع القضاء والقدر يحتاج إلى شرح وإفاضة، فنقول: إذا فعلت - أنت العبد الذي خلقك الله لتعبده وتتقيه - ذنباً من الذنوب، فكيف ترضا؟! أليس مطلوباً منك الرضا؟ لا ترضا عن نفسك أنها فعلت الذنب، فعليك أن تتوب وتبادر بالتوبة والندم والاستغفار، ومع التوبة والندم والاستغفار، والعزم على ألا تعود، ترضى أن الله تعالى كتب لك ذلك، فهي من جهة الله أمر نرضى به، لكن من جهة الشيطان، ومن جهة نفسي أنا لا أرضى به ولا أقبله.
مثلاً: أبو الدرداء رضي الله عنه الذي ذكرنا كلامه آنفاً، وقد أسلم متأخراً، أليس الكفر أعظم الذنوب؟ فهو يرى أن التأخر في إسلامه قد فوت عليه شيئاً كثيراً؛ لكن ماذا كان حاله رضي الله عنه؟ كان كحال كثير من الصحابة حيث رضي بما أختاره الله له، فقال: إن الله تعالى ما اختار لي أن أسلم إلا عندما أسلمت: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} [يونس:100]، فقبل بذلك، ورضي بقدر الله، أنه لم يجعله من السابقين الأولين، هذا من الرضا؛ لكن من جهة نفسه، فعليه أن يلوم نفسه، فأي إنسان منا عليه أن يلوم نفسه، لماذا لم أتعجل؟! ولماذا لم أبادر؟! فهذا حق، وهذه حقيقة النفس اللوامة، وهي نفس المؤمن تلومه أنه فعل كذا من المعصية، ولم يفعل كذا من الطاعة.
فهو من جهة أنه قدر الله نرضا به، ومن جهة أنه فعل العبد لا نرضا به، كما لو جاء أحد وقطع الإشارة، وصدم بسيارتك وكلَّفك، فترضى من جهة أنه قدر الله، ولكن من جهة الذي صدمك واعتدى وأخطأ عليك، فلك الحق أن تخاصمه، وأن تحاسبه، فالمسألة فيها جهتان كل منهما تنفك عن الأخرى، وكل عمل وكل فعل له جهتان.(97/23)
بغض الكفار دليل على الإيمان
السؤال
هل بغض أهل الكفر والنصارى في أمور الدنيا والدين دليل أكيد على محبة الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أي: إذا كان يبغض الكفار ويعاديهم، هل هذا دليل على أنه يحب الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
الجواب
نعم.
هو أحد الأدلة إن شاء الله، لأنه لا يجتمع في قلب العبد أن يحب أحداً ويحب أعداءه، فإذا أحب الله فلن يحب أعداء الله، فإذا أبغض أعداء الله، أي يكون حبه لله، وبغضه لله، فإنه يكون من أهل الإيمان، ويذوق طعم الإيمان بإذن الله.(97/24)
حكم الإعراض عن تعلم أمور الدين
السؤال
ما حكم الذين يعرضون عن تعلم أمور دينهم عن طريق المحاضرات، والندوات، والمواعظ، ويكرهونها مع أنهم يصلون مع المسلمين، لكن إذا دعوا إليها لا يقبلون ذلك؟
الجواب
نقول: إنهم لا يرضونها ويعترضون عليها؛ ولذلك لا يحبونها فلا يقبلونها فهناك تفصيل لذلك.
نقول: الاعتراض أو الإعراض عن دين الله تعالى من أصله، لا يعلمه، ولا يتعلمه ولا يتفقه فيه فهذا أحد أنواع الكفر، لأن صاحبه لن يعرف ربه، ولا دينه، ولا رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فإذا أتيح لإنسان بمقدار ما قدر الله تعالى له أن يتعلم دينه أو أن يتفقه فيه، فلا يجوز له أن يعرض عن ذلك، وإلا كان -فعلاً- غير راضٍ عن هذا، معترضاً عليه بنوع من الاعتراض، جلياً كان أو خفياً، فالواجب على الإنسان أن يفرح برياض الجنة، وإذا مر بها أن يرتع فيها، وأن يحمد الله تبارك وتعالى على وجودها، وأن يشكره على ذلك، وأن يجتهد ما استطاع وكل بحسبه، لا نكلف العاملين أن يحضروا الحلقات العلمية؛ إذا لم يكن عن إعراض ونفور، وإنما لا يفقهها أو فوق طاقته ومستواه، فهذا معذور، ولكن عليه أن يحبها، وأن يحرص عليها، وأن يدعو إليها، وينبه إخوانه عليها.(97/25)
حكم اتخاذ مناهج دعوية مخالفة لمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم
السؤال
هل يكون اتخاذ مناهج دعوية غير منهاج الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الاعتراض على حكمه أم لا؟
الجواب
لا شك في ذلك، ولذلك يقول: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، فمن قَدَّم على منهج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومنهج السلف الصالح في الدعوة أي منهج آخر فقد اعترض عليه، وهو نوع من أنواع الاعتراض سواء أكان هذا المنهج ينتمي إلى طائفة، أم إلى جماعة، أم إلى حزب، أم إلى إمام كائناً من كان، فإذا خالف ما جاء عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذا نوع من التقليد المذموم، والتعصب المذهبي المذموم، الذي يجعل صاحبه يغلو في إمامه، فيقدم كلام إمامه أو مذهبه على ما جاء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أحكام، وحلال وحرام.
ومثله من يغلو في شيخ، أو مؤسس لجماعة، أو حزب إسلامي، أو أي معنى من هذه المعاني، فيغلوا فيه، ويقدم كلامه، وكتبه، وآراءه، وطريقته، ومنهجه، على طريقة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى منهج السلف الصالح، فلا ريب أن هذا نوع من أنواع الاعتراض، وأن فاعله لم يحقق الرضا برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنه لم ينتف الحرج من قلبه، أو ربما لم يسلم تسليماً كاملاً، كالذين لا يبدءوا دعوتهم بالتوحيد، لا شك أن هذا مخالف لما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأن أعظم ما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو التوحيد ولا ريب في ذلك، وهو أول ما دعا إليه، فلما بعث معاذاً وغيره، كان يقول لهم: {فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله، أو شهادة أن لا إله إلا الله}، فهذا مثال ولا بد أن يعلمه الجميع.
مثلاً: من يظن أن في الإمكان أن يجمع الناس مجرد جمع على أن ينتخبوه ليحكم، فإذا وصل إلى الحكم، فقد نال الهدف فيقيم الإسلام والدين، فهذا مخالف لمنهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدعوة؛ لأن منهجه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو التزكية، والتربية، والاصطفاء، والاختيار لقوم يحملون هذا الدين عن حق، وعن يقين، ويجاهدون في سبيل الله حتى يقوم هذا الدين، فكذلك من يريد أن يقيم دين الله تبارك وتعالى من غير صبر ولا مصابرة، وإنما كل من عارضه قاتله، فهذا مخالف لمنهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والأنبياء في الدعوة؛ لأن أنبياء الله ورسل الله يقولون: {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا} [إبراهيم:12]، فكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمسح الدم عن وجهه ويقول: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لايعلمون}.
فإذا جاءت دعوة، أو طائفة، أو حزب، أياً كان واستحلوا أن يقاتلوا من خالفهم، ولم يمروا بمرحلة الصبر والابتلاء، والتزكية، فإنهم قد خالفوا منهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدعوة، فهؤلاء هم نوع من أنواع المقلدين.
والتقليد لا يكون فقط في الأحكام الشرعية؛ بل يكون كذلك في المناهج الدعوية، والواجب هو تجريد المتابعة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن لا يقدم بين يدي الله ورسوله، وأما ما يجب منا نحو هؤلاء أو نحو غيرهم فهذا له موضوع آخر، وليس هذا المقام مقام التفصيل فيه.(97/26)
حكم الاعتراض على حكمة الله
السؤال
إذا أصابت إنسان مصيبة ثم اعترض على حكمة الله، وأخذ يسب من سبب له هذه المصيبة، هل يعتبر معترضاً على حكم الله، أو يعتبر كافراً، وما سبيل التوبة سواء أكفر أم لم يكفر؟
الجواب
إذا كان فعلاً اعترض على فعل الله، أو على قدر الله، فالواجب عليه أن يبادر إلى التوبة، كفر أولم يكفر، وهذه الحالة الأحوال فيها تختلف، لكن إذا تاب من ذلك فإن كان كفراً فقد تاب وعاد بالإيمان، وإن كانت كبيرة فقد تاب وعاد إلى الطاعة، المهم أن يتوب من ذلك، وأن يثوب إلى رشده، وأن يستغفر الله تعالى، وأن لا يعترض على الأمر من جهة أنه قدر الله، أما إذا اعترض من جهة أنه فعل العبد كما بينا؛ فهذا شأن المخلوقين جميعاً، إلا من كان من أصحاب النفوس العالية جداً، الذين يقابلون الإساءة بالإحسان، فهذا من الإحسان، وهو مطلوب ومشروع وليس واجباً، لأن العدل حقٌ، أما الإحسان فهو تكرم وتفضل، فالأليق والأولى بالدعاة وبطلبة العلم هو العفو والصفح والإحسان ومقابلة الإساءة بالإحسان، فهذا الذي يليق بالدعاة، لكن في حق عامة الخلق لا يمنع من حقه {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126]، {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] لكن من عفى وأصلح فهذه درجة أخرى، نرجو أن نكون جميعاً من أولئك.(97/27)
الواجب تجاه إخواننا المجاهدين في أنحاء العالم
السؤال
ما هو واجبنا تجاه إخواننا المسلمين في البوسنة والهرسك وغيرها؟
الجواب
واجبنا تجاه إخواننا المسلمين، في البوسنة والهرسك وغيرها، ما نستطيع ونحن نستطيع أمرين لا عذر لنا فيها: الأول منهما: الدعاء، والدعاء شأنه عظيم وجليل، ودائماً أذكر به إخواني ونفسي، فلا نحقر الدعاء لهم في القنوت، وغيره وأن ندعو على الكافرين أيضاً مطلقاً، وندعو للمؤمنين مطلقاً، وإن خصصنا بعض الكافرين، أو دول الكفر التي لا شك أنها تحارب هذا الدين فلا بأس، ونرجو أن يتقبل الله وأن يستجيب لهذه الدعوات.
وأمر آخر إضافة إلى الدعاء، ألا وهو المال ونحن -والحمد لله- باستطاعتنا أن ندفع بقدر ما نستطيع، والقليل يجعله الله تبارك وتعالى كثيراً، ويبارك فيه، ولو جمع من كل أحد من المسلمين، وإن قل لكان كثيراً في النهاية، ولنفع الله به إخواننا هنالك، والحمد لله لا يكاد يمر أسبوع، إلا ويسافر من نعرفه معرفةً شخصية ونثق به ونعطيه المبلغ يداً بيد، فهذا فلا عذر لأحد أن يقول: لا ندري أين توضع هذه المبالغ، أو تصل أو لا تصل! فإنهم يأخذونها ويسلمونها يداً بيد إلى إخوانكم المجاهدين أو المنكوبين، كما في الصومال وغيرها، والحمد لله فهذا من فضل الله علينا وعلى الناس.(97/28)
حكم شراء المبيعات التي فيها علامة الصليب والنجمة السداسية
السؤال
كثير من المبيعات التي نشتريها الآن كالسيارات والملابس يكون عليها رموز كالصلبان، والنجمة السداسية فما الحل؟
الجواب
على كل حال الصلبان انتشرت هذه الأيام، والنجمة السداسية اليهودية انتشرت، بحيث أصبح الإنسان مهما تحرز لربما رآها في نفسه، أو في أولاده، أو في بيته، بل ربما أحياناً في المساجد، وهذا دليل على الغزو الخبيث المبطن، الذي يريد أن يجتاز هذه الأمة، وأن يمسخها ويحولها إلى تابع ذليل لأهل الكتاب من اليهود والنصارى، وما في السيارات وما في الملابس ما هو إلا أمثلة من هذا، والله المستعان.
والحمد لله رب العالمين.(97/29)
القدس بين الوعد الحق والوعد المفترى
تحدث الشيخ حفظه الله عن الموقف الإسلامي من مشروع السلام العربي اليهودي في مدريد، وبين مستند الحق لاستخلاف الله لعباده المؤمنين في الأرض بنزول المسيح بن مريم، ثم بين مستند الوعد المفترى عند اليهود وسبب سعي النصارى لتحقيق هذا الوعد المفترى، موضحاً العلاقة بين اليهود والنصارى البروتستانت والتي أنكبت على السعي في تحقيق نبوءاتهم المشتركة، ثم ختم حديثه ببيان رفض المسلمين والنصارى لمشروع السلام؛ لأن كلا الفريقين يؤمن بوعد الله على وفق عقيدته، وفي نهاية المطاف ذكر نتائج مشروع السلام، وذكر بعض المقترحات لمواجهة الكيان الصهيوني بشقيه اليهودي والنصراني.(98/1)
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [المائدة:51 - 57] الحمد لله الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، واصطفى هذه الأمة بميراث النبوة والكتاب، {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32]، وميز طريقها عن طريق المغضوب عليهم والضالين، وجعلها قائمة بالقسط منصورة بالرعب، حاكمة بالعدل، شاهدة على العالمين بالحق.
وصلى الله وسلم على خيرته من خلقه، وصفيه من عباده، الذي دعا ببعثته إبراهيم، وبشر برسالته عيسى -عليهما السلام- وأخذ الله العهد والميثاق على كل نبي بعثه أنه إن أدركه عهده ليؤمنن به ولينصرنه, وظل أنبياء الله وأولياؤه وعباده الصالحون ينتظرون بعثته، ويتلمسون مخرجه، ويحسبون لموعده؛ حتى بزغ نور الفجر المبين، وظهر دين خاتم المرسلين، فأيقنوا أنه الحق، فخروا للأذقان يبكون ويقولون: {سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} [الإسراء:108](98/2)
الحكمة من وجود الصراع مع اليهود
واقتضت حكمة الحكيم العليم أن يكون أهل الكتاب -ولا سيما اليهود - من ساكني المهجر ومجاوري الدعوة، وأن يكونوا أول كافر به مع أنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم , وأن يؤلبوا عليه الأميين مع أنهم كانوا يستفتحون عليهم بخروجه , وأن يكونوا أعظم الساعين لإطفاء نوره مع أنه مصدق لما بين يديه من التوراة والإنجيل، وأشد المعاندين لوعده مع أنه مجدد لملة إبراهيم.
وأنزل الله الكتاب المبين، والذكر الحكيم، مفصلاً لما جبل عليه اليهود من عتوٍّ وجحود وكفر وعناد وخسة ولؤم ودناءة ونكوص، وما استوجبوا من مقت وغضب وذلة ومسكنة وفرقة وصغار، فلا تجد في كتاب الله أمة طال الحديث عنها، وتنوع قصصها مرة بعد مرة كهذه الأمة؛ فضح الله خبايا نفوسها، وخبيث طباعها، وعداوتها للعالمين أجمعين، وحقدها على أهل الخير والحق في كل زمان ومكان حتى الملائكة المطهرين! فباؤوا بغضب على غضب، ولعنوا على لسان محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما لعنوا على لسان داود وعيسى بن مريم -عليهما الصلاة والسلام-.
ولكن اليهود هم أشبه شيء من البشر بالشيطان الرجيم، فكما أنه مستحق للعنة، وموعود بشر عاقبة؛ فإنه مسلط على طائفة من الخلق، وممهَّد له الاستحواذ عليهم، وممكن له التزيين لهم.(98/3)
أهمية عرض الدرس
وفي هذه الصفحات عرض واقعي، وبحث استقرائي، ودليل إحصائي عن هذه الطائفة المنتسبة للمسيح الذين هم صهاينة أكثر من الصهاينة، ويهود أشد من اليهود، ومع ذلك فهم قادة النظام الدولي الجديد -ولو ظاهراً- وسادة العالم في مرحلة ما بعد الحرب الباردة كما يسمونها.
فهم يلبسون جلود النصارى على قلوب اليهود، ويجهدون لإطفاء نور الله وإخلاف وعد الله ورفع ما خفض الله وخفض ما رفع الله، وإعزاز من أذل الله، وإذلال من أعز الله، وينصرون التلمود على القرآن، ويعاونون قتلة الأنبياء على ورثة الرسالات، وباختصار يسعون لإقامة مملكة المسيح الدجال، ووأد مملكة المسيح بن مريم عليه السلام.
وسار في ركابهم من المنتسبين إلى الإسلام زعامات عميلة، وقيادات ذليلة انسلخت من دينها، وكفرت بوعد ربها، وكذبت خبر رسولها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستحوذ عليها حب الدنيا وحطامها، فتجدهم أحرص الناس على كرسي ولو تحت أقدام اليهود.
هذه الزعامات ربطت مصيرها بعجلة الكفر، وخانت أمتها في أعز ما تملك، وحضرت مؤتمر مدريد وما أدراك ما مدريد؟! لقد اختار أهل الكتاب أن يسجلوا تاريخ نصر اليهود واستعادتهم لمملكة التلمود؛ حيث استعاد النصارى فردوسهم المفقود، وفي البقعة التي انطلقوا منها لاكتشاف العالم الجديد، الذي تزعَّم المؤتمر المنكود.
ولئن كان هذا المؤتمر المتآمر هو سبب المحاضرة المباشر، ومع ذلك فإنني لم أخض في تفصيلات الأحداث وتحليلات الوقائع فيه أو فيما تلاه؛ بل لم أجهد نفسي للبحث في ذلك لسبب واحد: هو أن الإسلام قد غاب -بل غُيِّبَ- عن المؤتمر، وإنما حضره اليهود والنصارى وأولياؤهم الذين لو فتحوا القدس بل لو فتحوا روما لما كانوا إلا مرتدين ملحدين، فكيف وهم يتكففون السلام ويقبلون الأقدام، ويدفعون الجزيات الجسام، وما مدريد إلا زيادة في الكفر وإيغال في الردة.
وإنما القصد الأول لمن وفقه الله لحمل ميراث النبوة، وتجديد الدين أن يعيد الناس إلى حقائق الإيمان وأصول الدين مستمدة من منبعها الصافي ومعينها الزلال، ثم يأتي الحديث عن مكر الأعداء، ومؤامرة الدخلاء تبعاً لا قصداً، ووسيلة لا غاية.
وقد وفق الله تعالى هذه الصحوة الممتدة المباركة لبدء الطريق من أوله، والبناء من أساسه، والإقبال على تصحيح العقيدة، وتقويم المسار، وربط كل قضية مهما صغرت بأصل الدين والإيمان وحقيقة العبودية، فبان لها سبيل الولاء والبراء، وظهر لها كيد المنافقين وأهل الكتاب في الأصل والجملة، وأصبح لزاماً على من تصدر لتذكيرها بأيام الله، وتبصيرها بدين الله أن يبينوا لها من المعالم ما هو أكثر تفصيلاً وأبين قيلاً؛ وذلك بالتوعية العامة للقاعدة العريضة من الأمة مع مخاطبة الفئة المثقفة بما يلائمها من عميق الفكر ودقيق البحث.
فالتوعية العامة التي تتخذ شكل العرض الواضح والحقائق المبسطة، والربط الجلي بين مقتضيات العقيدة وأحداث الواقع، من أجلِّ الواجبات على من بصره الله بذلك من قادة الصحوة، فهي فوق كونها مقتضى الإيفاء بميثاق الكتاب من أعظم الحقوق لهذه الصحوة عليهم، لتتجلى معالم اليقين، ولتستبين سبيل المجرمين، وهذه الإبانة هي أساس لعقيدة الولاء والبراء، وهذه العقيدة أساس لمخاطبة الغرب الكافر باللغة التي يفهمها، ولا يفهم سواها -اللغة التي يرهبها الغرب- مع أننا لا زلنا في أبجديتها.
إن الحديث عن الحقوق المشروعة، والقرارات الدولية التي استنزفت وتستنزف من الإعلام العربي ما يملأ البحار لم يجد أذناً - ولا عُشرَ أذن - كتلك التي أحدثها انفجار مشاة البحرية في بيروت، والهجوم على ثكناتهم في مقديشو، بهذه اللغة وحدها يسحب الكفر أذيال الهزيمة، وتنحني هامات الخواجات العتية أمام مجموعات طائفية، وعصابات قبلية، وليست جيوشاً دولية، وإن استرداد بضعة قرى ومدن في البوسنة قلب المؤشر الصليبي، وأرغمه على إعادة حساباته، وإن أي خطاب للكفر لا يستخدم هذه اللغة هو لغو من القول وزور من العمل.
والغرب الذي يجرد الجمهوريات الإسلامية من سلاحها النووي ويكدسه بيد روسيا الأرثوذكسية، بل يرغي ويزبد إذا اشترت دولة عربية سلاحَا من الصين أو الأرجنتين، إنه لا يرضى بأقل من أن نصبح خدماً بين يديه (كتلك الصورة التي نشرتها الصحف الأمريكية للمسلمين وهم يمسحون حذاء رئيس حكومة اليهود).(98/4)
مشروع عملية السلام
وإن ما يُسمى مشروع السلام لم يأت تبعاً لتغير الظروف الدولية، وانحسار مرحلة الحرب الباردة، ووفقاً لمقتضيات الوفاق الدولي - كما يصور ذلك الإعلام الغربي وذيله الإعلام العربي- فهذه التغيرات نفسها أعراض للمتغير الأساسي وهو الخطة الصهيونية للسيطرة على العالم كافة والمنطقة الإسلامية خاصة.
إن هذه الخطة -ببساطة- قد عدلت عن فكرة إقامة دولة إسرائيل الكبرى، وبعبارة أصح قد عدَّلت هذه الفكرة لأسباب ذاتية ضرورية أهمها أن دولة اليهود وجدت نفسها بعد 40 سنة من قيامها عبارة عن مركب من المتناقضات وكائن غريب في محيط من العداوات.
فعلى المستوى الأمني لم تنجح في السيطرة على ما ابتلعته من أرض فلسطين، فكيف تسعى لمزيد من الأراضي؟ وإن لبنان التي هي أضعف الجيران، وأبعدهم عن العدوان ظلت مصدر قلق وإزعاج لا نهاية له حتى بعد اجتياحها المعروف.
والمشكلة السكانية تشكل أعمق المشكلات وأبعدها تأثيراً، فكثير من اليهود لم تخدعهم الوعود المعسولة والإغراءات البراقة للهجرة إلى أرض تعج بالمساوئ الاجتماعية من اختلال الأمن إلى الطبقية المقيتة إلى التناحر الحزبي الخ.
إن هذه الأفاعي عندما تجتمع -على اختلاف ألوانها وأشكالها - لابد أن يذوق بعضها سم بعض إضافة إلى الحجارة التي تهشم رءوسها باستمرار من أيدي أشبال الإسلام، فكيف إذا وصل الأمر إلى الرصاص؟.
ولقد رعبت دولة اليهود من ارتفاع مؤشر الهجرة المضادة، وقلة استجابة السكان لدواعي تكثير النسل، وأظهرت الإحصائيات الرسمية أنه مقابل كل شهيد من أبناء فلسطين المسلمة يولد عشرات وعشرات.
ومن تجربة إسرائيل التي لا تقبل النقاش أنها أعجز ما تكون عن استئصال المقاومة بنفسها، فعملاؤها هم الذين تولوا سحق الفلسطينيين في لبنان والأردن وسورية والكويت وغيرها، فلماذا لا تضع يدها في أيديهم ضمن خطة أخرى تتنازل فيها عن أوسع حدود الأرض التوراتية إلى أضيقها، ولا غرابة في هذا على عقيدة اليهود التي تؤمن بالبداء، وبأن الأحبار يصححون أخطاء الرب تعالى الله عما يصفون.
ثم إن إسرائيل لكي تقنع الإنسان الغربي المفتون بدعوى الديمقراطية وحقوق الإنسان لا تستطيع أن تظل ثكنة عسكرية وسجناً كبيراً إلى الأبد.
كما أن المقاطعة العربية مهما بدت شكلية توفر حاجزاً نفسيا لشعوب المنطقة، فلابد من افتعال حركة تكتيكية يتراجع فيها اليهود، ويسلمون بما يسمى: الحكم الذاتي المحدود لكي يتم الهدف الأكبر استراتيجياً , والتخلي عن التوسع الجغرافي مقابل التغلغل السياسي والاقتصادي والثقافي وهو ما عبر عنه أكثر من مفكر ومسئول بمصطلح: (الولايات المتحدة الشرق أوسطية)!! وهكذا سيؤدي فتح الحدود الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وإعلان فتح القنوات السياسية إلى أن يصبح يهود إسرائيل في الشرق الأوسط كيهود نيويورك في أمريكا، وتصبح ثروات المسلمين ركازاً لهم، وجامعاتهم ومؤسساتهم الثقافية أوكاراً لفكرهم، وحواضرهم التجارية مراكز لبنوكهم وتجارتهم وأسواقاً لبضائعهم، ويصبح عامة الشعوب العربية عمالاً كادحين لخدمة البارون اليهودي الربوي!! هذا هو هدف السلام المزعوم مهما غلَّفوه أو قنعوه، والتخطيط الصهيوني لم يتغير ارتجالاً ولا هو نتيجة دراسات فكرية وميدانية بحتة - كما يظهر -، بل إن أسبابه وجذوره تمتد إلى ما هو أعمق من ذلك، إلى خبيئة النفسية اليهودية وحقيقة الجبلة اليهودية، وواقع التاريخ اليهودي القديم والحديث.
فقيام كيان يهودي متميز مستقل كسائر الكيانات السياسية أو العقدية في العالم أمر يتنافى مع تلك النفسية والجبلة والتاريخ , والخطأ الأكبر الذي وقع فيه مسطرو أحلام العودة منذ الأسر البابلي إلى الاضطهاد الأوروبي، وخطط له أمثال هرتسل وفيشمان ووايزمان هو أنهم غفلوا أو تغافلوا عن هذه الحقيقة، فلما قام الكيان المنشود خرجت الحقيقة كالشمس من تحت الركام!! وليس بخافٍ على اليهود ولا على المطلعين على الحركة الصهيونية الحديثة أن جماعات وزعامات يهودية دينية وفكرية ترفض قيام دولة يهودية متميزة، بل تعكس النبوءات التوراتية على أهلها، وتقول: إن قيام هذه الدولة هو نذير الهلاك والفناء لليهود، ولها على ذلك أدلة وشواهد من الأسفار والمزامير ومن واقع التاريخ.
لقد جسد قيام دولة إسرائيل المأزق الكبير الذي وقع فيه اليهود حين اصطدمت الأحلام التلمودية العنصرية التي لا حدود لها بواقع النفسية اليهودية العليلة التي لم تكن يوماً من الأيام رأساً في قضية ولو كانت قضيتها الذاتية، فكيف تكون رأساً في قضية العالم كله، ولذلك فإنها تعلل نفسها بخروج المسيح الموعود الذي يحمل عنها هذه التبعة.
فاليهود لم يكونوا في حقبة من أحقاب تاريخهم رأساً في قضية وإن كانت قضيتهم، ولو كانوا كذلك مرة واحدة لكانت في هذا العصر وهو ما لم يكن!! فهم كالشجرة الطفيلية لا تنمو إلا على ساق غيرها، أو الدودة المعوية التي لا تأكل إلا قوت غيرها، فمن حادثة بني قينقاع حيث كان المنافقون هم الناطقين الرسميين والمدافعين الظاهرين إلى مؤامرة الأحزاب، حيث كان الجند جند قريش وحلفائها لا جند قريظة وأخواتها؛ إلى الإدارة الأمريكية حيث لا يزال اليهود - وهم يسيطرون على الجزء الأكبر من الاقتصاد والإعلام والتأثير السياسي الخ - يستخدمون أمثال: نيكسون، وكارتر، وريجان، وبوش وهم جميعاً نصارى!! وقد عاشوا في أحشاء أوروبا وتسلقوا شجرة الحقد الصليبي فكان لهم حبل من الناس.
وعندما أصبح لهم لأول مرة منذ قرابة ألفي سنة دولة وحكومة ظهرت السنة الربانية قال تعالى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:4ا] فهذه الدولة تعج بالمتناقضات والصراعات، وتتكفف العالم كله وتعصر اليهود وغيرهم في كل مكان عصراً لإدرار التبرعات، ولا تستغني في أي محفل دولي عن المندوب الأمريكي ونظرائه، وإن كانت في الظاهر تمثل مع أمريكا دور الثعلب مع النمر!!.
إنهم دائمَا يحركون الدمى من وراء الستار، ولو ظهروا على المسرح لانكشفت سوءاتهم وبطل سحرهم.
إنهم يحرصون على تبني أي رئيس أمريكي والإحاطة به ولكنهم لا يستطيعون أو لا يفكرون في أن يجعلوه رئيساً يهودياً وحكومته حكومة يهودية صريحة!! وأمر آخر يقض مضاجع يهود دولة إسرائيل هو أنه ليس في وسع الشراهة اليهودية العمياء أن تظل حبيسة الأرض التي قالت عنها التوراة: أنها تفيض لبناً وعسلاً مع أن المنطقة الكبرى حولها تفيض نفطا وذهباً، ثم تظل رهينة الفكرة الداعية لقيام دولة ما بين الفرات والنيل وفق النموذج النازي العسكري الذي عجزوا عجزاً واضحاً عن السيطرة على ما تم لهم منه.
بل إن ما تحقق من هذا الحلم كافٍ للعدول إلى الفكرة الأخرى التي أقام عليها روتشيلد وذريته مملكة لا نظير لها في التاريخ (مملكة الربا والإعلام والجاسوسية) وهي مملكة تتفق تماماً مع الجبلة الطفيلية، وليكن ما احتلوا من الأرض في حروبهم المتعددة أو جزء منه منطلقاً لهذه المملكة وتربة لهذه الشجرة الطفيلية التي سوف تترعرع وتخترق بثقافتها وفكرها ومناهجها سائر المنطقة التي يسيل لُعاب العالم كله لثرواتها! فإلى متى يظل وصولهم إلى هذه الثروات الهائلة، والكنوز السائلة ملتوياً يمر بقناة الأمريكان والأوروبيين!! وهم الجيران الأدنون؟! إن اليهود أكثر دهاءً وشراهةً من أن يظلوا موغلين في خطأ جسيم كهذا - خطأ التوسع الجغرافي غير المضمون حتى لو كان هذا هو ما تخيله أحبار التلمود منذ سحيق العهود، وسواء خرج المسيح أولم يخرج!! صحيح أن التلمود الذي هو مستند الحركة الصهيونية يقول: ' يجب على كل يهودي أن يسعى لأن تظل السلطة على الأرض لليهود دون سواهم، وقبل أن يحكم اليهود نهائياً باقي الأمم يجب أن تقوم الحرب على قدم وساق، ويهلك ثلثا العالم، وسيأتي المسيح الحقيقي، ويحقق النصر القريب، وحينئذٍ تصبح الأمة اليهودية غاية في الثراء، لأنها تكون قد ملكت أموال العالم جميعاً، ويتحقق أمل الأمة اليهودية بمجيء إسرائيل، وتكون هي الأمة المتسلطة على باقي الأمم عند مجيء المسيح '.
ولكن هذا الكلام الذي يقطر حقداً نتيجة ظروف الأسر البابلي لا يمكن أن ينفذ الجانب الحربي منه في أرض الواقع، أما الجانب الآخر وهو الممكن فلا وسيلة لتنفيذه إلا افتعال السلام!! وهو ما كان.(98/5)
تنبيه على تأليف الرسالة
بقي أن يقال: إن هذه المحاضرة ألقيت قبل حكم الديمقراطيين (كلينتون) ومن المعلوم أن اليمين المتطرف الأصوليين الإنجيليين حليف حميم للجمهوريين فهل من متغير جديد نتيجة هذا؟
و
الجواب
إن الأفعى اليهودية لا تبالي أركبت الحمار أو الفيل فلكل منهما ميزات في الركوب والحمل، ولكن فوز الحزب الديمقراطي حزب الأقليات التي أهمها اليهود، وحزب الانحطاط الأخلاقي الذي يعد كلينتون أحد وجوهه - هو نجاح مباشر للمخطط الصهيوني، وإذا نجح كلينتون في مشروعات قوانينه الانحلالية كنجاحه في خدمة السياسة الإسرائيلية فإن هذا نذير بأن القوم يهيئون فعلاً استقبال المسيح الدجال!! وقد جاء كلينتون للرئاسة لكي يؤكد أنه مهما تقلصت اهتمامات أمريكا الخارجية كما يشاع فإن ما يتعلق باليهود يظل رأس كل اهتمام داخلياً كان أو خارجياً.
وجاء كلينتون ليؤكد أن كاهنه يزعم أنه تنبأ له بحكم أمريكا، وأوصاه بدولة اليهود فببركتها يفوز، وببركتها ينجح في حكمه.
جاء كلينتون ليتبنى بصراحة ووضوح علاج أهم تحديات الاستراتيجية اليهودية - التي أشرنا إليها - حيث قال في خطابه أمام القيادات اليهودية في نوفمبر (1992م): 'إنني أعتقد أنه يتوجب علينا الوقوف إلى جانب إسرائيل في محاولاتها التاريخية لجمع مئات الألوف من المهاجرين لمجتمعها ودولتها -وفي الجانب الآخر قال - وهو يضع العربة أمام الحصان! -: ما من شك أن مفاوضات السلام ستأخذ وقتاً، ولكن هناك خطوة كان على العرب اتخاذها منذ زمن بعيد: إنهاء مقاطعتهم اللاشرعية لإسرائيل، فالمقاطعة هي حرب اقتصادية، والحرب يجب أن تنتهي الآن ' وعندما زاره رابين لأول مرة لاحظ المراقبون والمحللون بدهشة المرونة البالغة، بل الاستجابة المطلقة لمطالب رابين حتى أن زمن الزيارة اختصر إلى النصف وتم كل شيء على أساس الثقة الشخصية كما عبر رابين! وعندما أخذ الناس يتساءلون من سيكون مهندس السلام بعد بيكر؟ ومن سيكون وزير خارجية لإدارة كلينتون كان على رأس المرشحين وارن كريستوفر الذي وصف بأنه من الأصوليين، وكان هو الوزير والمهندس وقام بدوره على أتم الوجوه عند اليهود!(98/6)
الخلاصة
وأخيراً: أثمرت تلك الحبائل اتفاقية السلام مع الزعامة الفلسطينية المزعومة، وتم إعلان ما يسمى إعلان المبادئ واتفاق الحكم الذاتي المحدود في غزة وأريحا وكأني باليهود يثأرون لأجدادهم حيث نفاهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من خيبر إلى أريحا وهذا من إلهاماته وتحديثه -رضي الله عنه- وهو الحدث الذي لا نزال نعيش وقائعه الدرامية ولا نطيل على القارئ الكريم بالحديث عنها، ولكن ننبه إلى أن يقارن بين نتائجها وبين ما سطرناه هنا فلنتابع معاً.
ولا ننسى في النهاية أن نقول: إن كل ما حدث ويحدث هو بقدر الله الذي لا يُرد، وله فيه الحكمة البالغة مهما ادلهمت الخطوب وأحلكت الأحوال، فلن يتغير يقيننا لحظة واحدة أن النصر للإسلام، وأن كيد يهود ومن وراء يهود هابط خاسر -بإذن الله- وأن قدر الله لا شر فيه محضاً، وأن المكر السيء لا يحيق إلا بأهله، وأنه ما من محنة أصابت دعوة الإسلام إلا وهي متضمنة لمنحة إلهية كبرى.
ولو لم يكن فيما حدث من نصرة للحق، واستبانة لسبيل المجرمين إلا سقوط أقنعة الزيف والنفاق التي ظلت عقوداً تضلل الأمة وتمتص قواها كالثور في الحلبة باسم قضية فلسطين لكفى! لقد تكشفت الحقائق وأصبح بعض القادة يتنافسون في الادعاء بأنهم الأسبق إلى تبني مشروعات السلام والتبشير بها! ولو كان وايزمان حياً لحكم بينهم! ولكن الأيام ستكشف كل شيء والله مخرج ما كانوا يكتمون.
وفي هذا إشارة لولادة أمة الحق المؤمنة بالوعد الحق والمجاهدة في سبيل الحق حتى تقاتل اليهود ومن ورائهم الدجال، كما جاء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث قال: {يقاتل بقيتكم الدجال على نهر الأردن وأنتم شرقيّ النهر وهم غربيه}.(98/7)
الوعد الحق والوعد المفترى
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، إمام المجاهدين وقائد الغر المحجلين، وبعد: فإن القضية التي سنتطرق إليها ليست بعيدة عن واقعنا اليومي، فنحن في كل يوم وساعة وفي كل وسيلة إعلام أو مجلس نسمع أو نتحدث عن هذا الحدث الكبير الذي يسمونه: مشروع السلام بين العرب واليهود، ولا شك أن ما يحدث في مدريد هذه الأيام لهوَ حدث كبير جدَّاً بكل المعايير الدينية والنفسية والتاريخية، ولا أدل على ذلك من اهتمام وسائل الإعلام الغربية به تفسيراً وتحليلاً، حتى أن الغرب تناسى مشاكله الداخلية وقضاياه الكبرى، واشتغل قادته ومفكروه وصحافيوه وأفراد شعبه كله بهذه القضية، وملاحقة هذا الحدث لحظة بلحظة!! إن السر في هذا ليس مجرد أن نزاعاً إقليمياً يراد الصلح بين طرفيه؛ لأن ما تم في مدريد يفوق ذلك بمراحل كثيرة، إنه معلم تاريخي كبير يراد به إحداث انعطاف هائل في صراع مزمن بين عقيدتين وحضارتين وتاريخين متناقضين! وها هي ذي الجذور: إن مدريد في الحقيقة هي محطة لقطار طويل انطلق منذ خمسة آلاف سنة، وسيستمر إلى أن تقوم الساعة، ومدريد ومن بعدها واشنطن وموسكو الخ محطات عابرة على هذا الطريق الطويل، وهو طريق الوعد الذي وعد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به نبيه وخليله إبراهيم عليه السلام، ووعد به صالح ذريته من بعده وتلتقي عند هذا الوعد كل الأديان الثلاثة المعروفة في العالم فالمسلمون عندهم في هذا الوعد دعوى ثابتة من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كما سنبين- واليهود والنصارى عندهم فهمهم لهذا الوعد الذي افتروه على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ومن ثم فإن الصراع في أصوله ليس بين قوتين أو بين عنصرين، وإنما هو صراع بين وعدين، بين الوعد الحق والوعد المفترى، وبالتالي فهو صراع بين عقيدتين: عقيدة التوحيد التي جاء بها نبي الله إبراهيم وجددها سيد المرسلين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسيجددها آخر الزمان سيدنا عيسىابن مريم عليه السلام، وبين دعوة الشرك والخرافة والدجل التي أسسها الرهبان والأحبار فيما كتبوه من عند أنفسهم، وقالوا: هذا من عند الله، وما هو من عند الله، ابتداءً بحاخامات اليهود ومروراً بـ بولس شاوول، ثم البابوات الضالين المضلين وانتهاء بـ هرتزل ومن كان معه، ثم ينتهي الأمر إلى النهاية المؤكدة في آخر الزمان بظهور مسيحهم الدجال.
وعندما يلتقي المسيحان: المسيح ابن مريم عليه السلام، والمسيح الدجال ويذوب الدجال كما يذوب الملح في الماء لولا أن المسيح يقتله.
عندها تنتهي هذه المعركة الطويلة بين هذين الوعدين أي: بين الأمتين اللتين تؤمنان بهما، أمة الإسلام من جهة واليهود والنصارى من جهة أخرى.
هذه هي القضية، ولذلك فإن ما يجري في مدريد ليس للصلح والسلام، وإنما هو تأييد وإيمان بالوعد المفترى، وتكذيب وكفر بالوعد الحق، وهذا هو جوهر القضية وأساسها، ولا يشغلنا بعد ذلك الحديث في تفصيلات الوقائع والأحداث.
ومن المعلوم أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد اختار بلاد الشام فقال: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين:1 - 3].
وأسكن فيها إبراهيم الخليل -عليه السلام-، وهنالك بدأ هذا الوعد الذي يرجع إلى خمسة آلاف سنة تقريباً، ومن هناك بدأت القضية والمعركة؛ أي: منذ إبراهيم - عليه السلام - الذي اختاره الله وجعله إماماً للناس، ومن ثم أمره أن يأتي إلى هذه الأرض المباركة الطيبة، وأن يجدد بناء البيت العتيق، عند هذه النقطة بدأ الخلاف والمعركة بين أتباع هذه الأديان الثلاثة -التي أشرنا إليها-.(98/8)
مستند الوعد المفترى
وإليكم نص التوراة التي يستند إليها اليهود في هذا الوعد المفترى، وأما الوعد الحق الذي وعد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به أولياءه فمعروف لدى الجميع وسنعرض له في الأخير، ولكنا نريد البدء بالمستند الأساسي لليهود في دعواهم، الذي يبني الغرب موقفه من القضية عليه.
في سفر التكوين، وهو أول أسفار التوراة تبدأ القصة العجيبة في عهد نوح عليه السلام، وهي المفتاح لفهم ما سيجري من وعد لإبراهيم عليه السلام.
تقول التوراة المحرفة: 'وابتدأ نوح يكون فلاحاً، وغرس كرماً، وشرب من الخمر، وسكر، وتعرى داخل خبائه، فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه، وأخبر أخويه خارجا، فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافهما، ومشيا إلى الوراء، وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء، فلم يبصرا عورة أبيهما، فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير فقال: ملعون كنعان، عبد العبيد يكون لأخويه، وقال: مبارك الرب إله سام، وقال: ليكن كنعان عبداً لهم يفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام، وليكن كنعان عبداً لهم اهـ.
' هذا النص هو مفتاح الدراسة في عدد هائل من المدارس الإنجيلية في الولايات المتحدة الأمريكية، وعدد هذه المدارس لا يقل عن عشرين ألف مدرسة، يتلقى الدراسة بها الملايين من التلاميذ -كما سنبين إن شاء الله-، يفتتحون دراساتهم بهذا الكلام وتتفتح مداركهم عليه.
ثم بعد ذلك تأتي أوصاف في عدة إصحاحات من هذا السفر تصف أرض كنعان، فتقول التوراة المحرفة في الإصحاح العاشر: 'كانت تخوم الكنعاني من صيدون (صيدا اليوم) حينما تجيء نحو الجرار إلى غزة، وحينما تجيء نحو السدوم وعمورة إلى لاشع ثم يقول: قال الرب لإبرام اذهب من أرضك، ومن عشيرتك، ومن بيت أبيك، إلى الأرض التي أريك، فأجعلك أمة عظيمة وأباركك، وأعظم اسمك، وتكون بركة، وأبارك مباركيك، ولاعنك ألعنه، وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض، واجتاز إبراهيم في الأرض إلى مكان شكيمى إلى بلوطة مورة، وكان الكنعانيون حينئذ في الأرض، وظهر الرب لإبرام وقال: لنسلك أعطي هذه الأرض ' وقال في الإصحاح السابع عشر: 'أقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهداً أبدياً؛ لأكون إلهاً لك ولنسلك من بعدك وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك، كل أرض كنعان ملكاً أبدياً '.
ومن الغريب أنه في السفر نفسه يحدد أن الختان هو علامة من يرثون الأرض، وهذا يذكرنا بالحديث في صحيح البخاري -حديث هرقل - الذي قال فيه: 'إنني رأيت في المنام أن ملك الختان قد ظهر' والنصارى لا يختتنون، قيل له: لا يختتن إلا اليهود، فإن شئت تأمر فتقضي على كل من في مملكتك من اليهود، ولما جاءوا له بـ أبي سفيان أيقن بالتأويل الصحيح للرؤيا بعدما سأله الأسئلة العجيبة في دلائل النبوة، وشهد قيصر هرقل بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الموعود بذلك، ولكنهم يحرفون كل هذه النبوءات والمبشرات.
.
وفي الإصحاح الخامس عشر تحدد التوراة المحرفة الأرض التي هي ملك وحق أبدي، فتقول: 'لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات ' ثم بعد ذلك يقول في الإصحاح (27): 'يستعبد لك شعوب، وتسجد لك قبائل، كن سيداً لإخوتك، وليسجد لك بنو أمك، ليكن لاعنوك ملعونين، ومباركوك مباركين' هذا ليعقوب، وبعد ذلك يذكرون أن يعقوب نام بين بئر سبع وحران في أرض فلسطين فرأى الله فقال له: 'أنا الرب إله إبراهيم أبيك وإله إسحق، الأرض التي أنت مضطجع عليها أعطيها لك ولنسلك، ويكون نسلك كتراب الأرض، وتمتد غربا وشرقا وشمالا وجنوباً، ويتبارك فيك وفي نسلك جميع قبائل الأرض'.
وأقل الأمم في الدنيا الآن اليهود، ومع هذا أكثر اليهود في العالم الآن ليسوا من بني يعقوب، وإنما من يهود العرب والأوروبيين وغيرهم، فإذن كم يبقى من اليهود الذين من ذرية يعقوب عليه السلام؟! فالواقع يشهد أن هذه الوعود ليست لبني إسرائيل وأنهم يكذبون ويفترون على الله حين يجعلونها فيهم، وإنما هي في بني إسماعيل.(98/9)
سبب سعي النصارى لتحقيق الوعد المفترى
وهنا لابد من سؤال، إذا كان هذا هو الموضوع، وهو إيمان اليهود بهذه الوعود التي قالوا إنها وردت في كتابهم المحرف، فلليهود أن يؤمنوا بذلك باعتبارهم يهوداً، ولكن ما علاقة النصارى بذلك؟ ولماذا نجد النصارى اليوم يقفون مع اليهود صفاً واحداً، ويسعون جاهدين لتحقيق الوعد المفترى؟ أستطيع أن أجيب بيسر فأقول: لقد استغل اليهود الكتاب الذي يؤمن به اليهود والنصارى معاً، وهو القسم الأول من الكتاب المقدس الذي يتكون من قسمين يسمون كلا منهما عهداً، فالأول هو العهد القديم وهو التوراة، والآخر هو العهد الجديد وهو الأناجيل والرسائل.
والتوراة تشتمل على هذه النصوص، فأي نصراني يبدأ بقراءة كتابه المقدس فهو يقرأها أول ما يقرأ، فلا غرابة أَن يعتقد مضمونها كاليهود.
ولكن في الإمكان أن يقال: أليس النصارى في تاريخهم كله يقرأون التوراة ويعلمون بهذا الوعد ومع ذلك يضطهدون اليهود أشد الاضطهاد إلى مطلع العصر الحديث؟ فما الذي جعلهم ينقلبون هذا الانقلاب الهائل ويصبحون أكبر الساعين لتحقيق الوعد اليهودي؟ وأقول: ليس الأمر كذلك فحسب، بل إن من المذهل والمحيِّر أن يكون الحامل لراية التبشير لهذا الوعد الرافع عقيرة إعلامه المتطور بضرورة ذلك هم النصارى، لا سيما الأصوليون منهم ولا سيما في أمريكا، ولهذا فاسمحوا لي أن آتي على هذه القضية الغريبة والخطيرة من جذورها.(98/10)
الملل والمسيح المنتظر
تتفق الأديان الثلاثة على أن المعركة الكبرى والأخيرة التي ينتصر فيها دينها، ويتحقق لها وعدها، ويدمر فيها عدوها، لن تكون قيادتها من النوع المألوف لدى الناس، بل سيكون حامل لوائها منتظرا موعوداً به، مؤيداً من عند الله، يسمى (المسيح).
يقول ابن القيم - رحمه الله -: 'والأمم الثلاث تنتظر منتظراً يخرج في آخر الزمان؛ فإنهم وعدوا به في كل ملة' ويقول ابن جوريون أول رئيس حكومة يهودية: 'تستمد الصهيونية وجودها وحيويتها من مصدرين: مصدر عميق عاطفي دائم، وهو مستقل عن الزمان والمكان، وهو قديم قدم الشعب اليهودي ذاته، وهذا المصدر هو الوعد الإلهي، والأمل بالعودة، ويرجع الوعد إلى قصة اليهودي الأول {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً} [آل عمران:67] الذي أبلغته السماء أن: (سأعطيك ولذريتك من بعدك جميع أراضي بني كنعان ملكاً خالداً لك) هذا الوعد بوراثة الأراضي رأى فيه الشعب اليهودي جزءاً من ميثاق دائم، تعاهدوا مع إلههم على تنفيذه وتحقيقه، والإيمان بظهور المسيح لإعادة المملكة أصبح مصدراً أساسياً في الدين اليهودي يردده الفرد في صلواته اليومية؛ إذ يقول بخشوع وابتهال: أؤمن إيماناً مطلقاً بقدوم المسيح، وسأبقى -حتى لو تأخر- أنتظره كل يوم.
أما المصدر الثاني فقد كان مصدر تجديد وعمل، وهو ثمرة الفكر السياسي العملي الناشئ عن ظروف الزمان والمكان، والمنبعث من التطورات والثورات التي شهدتها شعوب أوروبا في القرن التاسع عشر وما خلفته هذه الأحداث الكبيرة من آثار عميقة في الحياة اليهودية ' وعلى هذا الأساس فإن معركة المستقبل ستكون بين مسيحين، أحدهما المسيح الدجال الذي يؤمن به اليهود ويسمونه ملك السلام والذي يهيئون لخروجه، ولكنهم لا يسمونه الدجال.
والآخر هو المسيح بن مريم عليه السلام الذي يؤمن بنزوله وعودته المسلمون والنصارى.
ويتفق اليهود والنصارى على أن المسيح المنتظر سيكون من بني إسرائيل، وسينزل بين بنى إسرائيل وسيكونون جنده وأعوانه، وستكون قاعدة ملكه هي القدس أورشليم، كما تتفق الطائفتان على أن تاريخ نزوله سيوافق رقماً ألفياً (نسبة إلى الألف) ومستندهم في ذلك بعض التأويلات، لما جاء في رؤيا يوحنا اللاهوتي، ومنامات الرهبان، وتكهنات الكهان، أمثال أنوسترا دامس الذي حولت السينما الأمريكية توقعاته المستقبلية إلى فيلم لاقى رواجاً كبيراً في العقد الماضي، ثم برز الحديث عنها أيام حرب الخليج بين الغرب والعراق.
والآن مع اقتراب نهاية الألف سنة الثانية من ميلاد المسيح - عليه السلام - واعتقاد قرب نزوله كما يؤمن الأصوليون الإنجيليون، يلتقي الحلمان القديمان اللذان يتكون منهما الوعد المفترى: حلم النصارى بعودة المسيح ونزوله إلى الأرض ليقتل اليهود والمسلمين، وكل من لا يدين بدينهم في معركة هرمجدون (الآتي تفصيل الحديث عنها)، وحلم اليهود بخروج الملك من نسل داوود، الذي يقتل النصارى والمسلمين، ويخضع الناس أجمعين لدولة إسرائيل، وهو المسيح الدجال، ومن هاهنا اتفق اليهود والنصارى على فكرة أن قيام دولة إسرائيل وتجمع بنى إسرائيل في فلسطين هو تمهيد لنزول المسيح، كما يفسره كل منهما!! وبنظرة منطقية عابرة، يظهر جلياً أن هذا الإلتقاء الظاهري يحمل تناقضاً كبيراً - يجعل من المفترض عقلياً أن يكون قيام دولة إسرائيل واقتراب نهاية الألف الثانية - مسوغاً لحرب لا هوادة فيها بين الطائفتين (اليهود والنصارى) تبعاً للتناقض الكبير، والحرب المتوقعة بين المسيحين (الدجال وابن مريم) وأن يكون النصارى في هذه المرحلة أكثر تقرباً إلى المسلمين، وتعاوناً معهم تبعاً لاتفاق الطائفتين في الإيمان بمسيح الهدى- عليه السلام - وعداوتهما لمسيح اليهود، ولكن ها هنا مربط الفرس وبيت القصيد.
ها هنا يظهر المكر اليهودي الخبيث، ويتجلى معه الحقد النصراني الدفين على المسلمين، أما المكر اليهودي فيتجلى في تلك الحيلة الغريبة التي ابتدعها حاخامات صهيون، وأقرهم عليها بلا تردد قادة الإنجيليين الألفيين (ولا غرابة فبعضهم يهودي مندس) وهي تأجيل الخوض في التفصيل، والاهتمام بالمبدأ الذي هو نزول المسيح، وذلك بالتعاون سوياً والتخطيط اشتراكاً لتهيئة نزوله، فإذا نزل فسنرى هل يؤمن به اليهود، أو يكون هو الذي يؤمن به - الآن - اليهود؟ فلتظل هذه المسالة معلقة تماماً؛ لأن الخوض فيها ليس من مصلحة الطائفتين معاً!! وليعملا سواء للقضاء على العدو المشترك (المسلمين)!! واتفق زعماء الملتين على نسج قناع يستر وجه المؤامرة عن أعين المغفلين من النصارى، والمستغفلين من المسلمين! وأما الحقد الصليبي فيتجلى في انسياق العالم الغربي النصراني وراء اليهود، حتى في هذه القضية الكبرى التي يقتضي الدين والعقل والمصلحة أن يتفهموا موقف المسلمين منها على الأقل!! -ونخص بالذكر الكاثوليك أتباع البابا الذين لا يؤمنون بحرفية التوراة-، ولكنه الحسد والبغي الذي يكنه أهل الكتاب للمسلمين كما أخبر الله في كتابه المبين.
وإن يكن شيء أعجب من انسياق النصارى وراء اليهود فهو انسياق المسلمين وراء الطائفتين، كما هو حال المشاركين في مدريد، والموافقين على مشروع السلام المزعوم، بل المنساقين وراءهم منذ وعود الحلفاء في الحرب العالمية الأولى.(98/11)
الأحداث الكبرى في تاريخ المنطقة
وإذا كانت فكرة عودة المسيح الألفية قد راودت الأذهان عند نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين؛ حيث بُدئ عملياً في تحقيق الوعد المفترى، وإنشاء دولة إسرائيل، فإنه لابد لنا أن نستعرض الأحداث الكبرى في تاريخ المنطقة منذ ذلك الحين إلى اليوم لنرى بوضوح كيف تمت مؤامرة أهل الكتاب، وكيف صدَّقهم وشايعهم من كفروا بالوعد الحق أو تناسوه، وأنهم لا يعتبرون من تكرار النتيجة الخاسرة والغدر الواضح في كل مرة.
وسنرى أن كل حدث يُقرِّب من النتيجة يكون له قِناعه الذي يبعد أنظار المغفلين والمستغفلين عنها! والمدهش حقاً أن العرب يكونون أكثر تعلقاً بالمتآمرين وتحالفاً معهم، في الوقت الذي يكون أولئك فيه أكثر إصرارا على الغدر بهم وسلبهم.
1 - الحدث الأول: هو الحرب العالمية الأولى التي كان من آثارها بل من أغراضها تقسيم الدولة العثمانية والقضاء على الخلافة، وإعلان حق اليهود في تأسيس دولتهم - رغم أنف عبد الحميد الذي رفض عروضهم المغرية - وتأسيس دولة عظمى على العقيدة اليهودية الشيوعية! حينها دخل الجنرال اللنبي القدس، ووضع الراية على جبل الزيتون قائلاً: الآن انتهت الحروب الصليبية، وأصدر الإنجيلي المتعصب -كما سنبين- بلفور وعده المشئوم، فماذا كان قناع المؤامرة؟ وماذا كان موقف العرب؟ لقد افتعلوا قناع الانتداب، ليحكموا باسمه التركة العثمانية الممزعة، وكان مهندس ذلك هو (ابن راعي الكنيسة) كما سمى نفسه، وهو المتعصب الإنجيلي ولسن رئيس أمريكا حينئذٍ (وسيأتي له حديث).
أما موقف العرب فقد تحالفوا مع أعدائهم على أنفسهم، ودخلوا تحت راية المحتلين لبلادهم، فكانوا جزءاً من جيش اللنبي وقطيعاً وراء لورانس!! 2 - والحدث الثاني: هو الحرب العالمية الثانية، التي كان من أغراضها ونتائجها القضاء على النازية منافسة الصهيونية، وإعلاء شأن الحكومة اليهودية الخفية الشيوعية وإعلان ميلاد دولة إسرائيل.
وكان موقف العرب هو الانضمام إلى الحلفاء الذين كانوا يحتلون بلادهم، وفتح بلادهم لقواعدهم، وحشد الحلفاء كثيراً من أبناء مستعمراتهم المسلمين، وتمهيداً لخوض معركة العلمين ضد الألمان جلب الحلفاء بعض الشيوخ من الهند وغيرها يفتون المسلمين بأن قتال الألمان جهاد في سبيل الله! وكان القناع هذه المرة: ميثاق الأمم المتحدة وإعلان حقوق الإنسان وحق الشعوب جميعاً في تقرير مصيرها والاستقلال عن مستعمراتها!! وهلل العرب لهذه الشعارات البراقة وفرحوا بما سمي بالاستقلال، وآمنوا طائعين بشرعية الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن، فماذا كانت النتيجة؟ لقد قامت دولة إسرائيل وقام ما هو أسوأ منها: الحكومات العلمانية العميلة التي جعلت الشعوب تترحم على أيام الإنجليز والفرنسيين، وأوصلت الأمة إلى أدنى مستوى من الانحطاط في تاريخها كله.
3 - والحدث الثالث: هو الوفاق اليهودي النصراني المسمى (الوفاق الدولي) حيث تقرر انتهاء دور العقيدة الشيوعية ليعود فرعا الشجرة عصا غليظة، وأداة واحدة لتهشيم رأس العدو المشترك: المسلمين، ويفتح الباب لهجرة أكبر تجمع يهودي في العالم بعد أمريكا اليهود الروس، والشرقيون، وتسيطر بيوت المال اليهودية في نيويورك وأخواتها على ثروات العرب، ويصبح يهود إسرائيل طبقة أرستقراطية في محيط عربي كله عمال لمشروعاتها، ويصبح جيش الدفاع الإسرائيلي هو بوليس المنطقة كلها، وتيسيراً لذلك لابد من إجهاض أية محاولة عربية للحصول على السلاح النووي أو بديله المحدود الكيميائي، وتمزيق الأمة تمزيقاً لا رجعة فيه.
وتحقيقاً لذلك صنع سيناريو حرب الخليج، وعاد العرب من جديد جيوشاً للحلفاء وطعماً للألغام بين يديهم، واقتتلوا في معركة كلا طرفيها منهم خاسر على أي حال وبكل اعتبار، ودمروا بأموالهم وبأيديهم وأيدي أعدائهم ما أنفقوا عليه وبنوه في سنين طويلة!! وفشلت كل الأنظمة الأمنية المقترحة إلا نظام الحماية الغربية، وكان الغلاف والغطاء هذه المرة هو: النظام الدولي الجديد والشرعية الدولية.
والعجب أو الأعجب هو أن هذا الغلاف أظهر من سابقيه في الصلة بالمؤامرة الكتابية والعلاقة بتحقيق الوعد المفترى، ولعل السر في ذلك أن الأمة الإسلامية أصبحت من الذل والخذلان -كما أصبحوا هم من الثقة والإصرار- بحيث لا يخافون أن تطلع على مؤامراتهم أو تفضح مكيدتهم.(98/12)
العلاقة بين النظام الدولي الجديد وحكومة المسيح الدجال
هاهنا
السؤال
ماذا سيكون مصير الإنسانية إذا نزل المسيح المنتظر؟ يتفق الجميع على أنه بنزوله وبعد القضاء على أعدائه ستكون للإنسانية حكومة واحدة فقط وهذه هي القضية الجوهرية الأولى، أما الثانية فهي: أن السلام سيشمل العالم كله؛ إذ في ظل هيمنة هذه الحكومة الوحيدة لن يكون هناك قتال بين دولة وأخرى، أو شعب وآخر، بل لن يحتاج العالم إلى الجيوش والأسلحة!! هذا ما تبشر به نبوءات الأديان، فلم لا يكون هذا مدخلاً للانتهازيين.
من دهاقنة السياسة النصارى وعباقرة المرابين من أحفاد روتشيلد؟ أليست هذه هي الفرصة السانحة -كما عبر نيكسون - لإسقاط فكرة الحكومة الواحدة المهيمنة على أمريكا وفكرة السلام الشامل، وفرض الشرعية الدولية لتدمير القوى العربية التي يخشى أن يرثها الأصوليون ولو بعد حين؟ ومن ثم يعقدون مؤتمر السلام المنشود!! ومن هنا دخلت الانتهازية الأمريكية مع أوسع الأبواب؛ وذلك أن بوش حين يزج بأموال أمريكا ورجالها لتحقيق المصلحة المشتركة بينه وبين اليهود لابد أن يرفع شعار تفرد أمريكا بحكم العالم وسيادتها له، وهذا الصرح القومي الذي يتربع على قمته هو متسلق الطفيليين -اليهود- ومن مصلحتهم أن يطول ويشمخ؛ وهكذا التقى الطموح الشخصي أو الحزبي بالحلم اليهودي القديم، وربما كان كل منهما يسخر من الآخر، بل يُسخِّر الآخر لغرضه على قاعدة {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} [الأنعام:128] وكما حققه شَيْخ الإِسْلامِ في رسالة العبودية، وكل منهما من جهة يسخر التيار الأصولي المحافظ نظراً لقوته الجماهيرية.
وانطلاقاً من هذه الحقائق سنعرض جهود الساعين لتحقيق الوعد المفترى عرضاً وصفياً إحصائياً، ونستعرض من خلاله الأهداف، ونقترح الحلول دون أن نعرج على الدوافع التآمرية التي قد ينازع فيها من ينازع.(98/13)
الألفيون وهرمجدون
الألفيون ومعركة هرمجدون صفحة من رؤيا يوحنا اللاهوتي كما في العهد الجديد.
-كما أشرنا- يعتقد النصارى أن المسيح سيرجع بعد ألف سنة ثم يحكم العالم ألف سنة، وعلى هذه العقيدة اجتمعت آمالهم واتجهت أنظارهم سنة (1000) ميلادية ولكن المسيح لم يظهر فهدأت المسألة وتلاشت في الواقع لكنها بقيت في الأحلام، ولما شارف هذا القرن على البزوغ -أي: قرب سنة (1900م) - بدأت الدعوات تظهر من جديد، واعتقدوا أن المسيح إن لم يظهر في أول القرن العشرين فسيظهر في آخره أي عام (2000) وبما أن ظهوره سيكون في موطنه الأصلي فلا بد للإعداد والتهئية لمقدمه بتجميع بني إسرائيل في أرض فلسطين التي ستكون عليها المعركة الكبرى الفاصلة معركة هرمجدون أو سهل مجيدون وهو سهل صغير في فلسطين، يقولون: إن المعركة ستنشب فيه بجيوش يصل تعدادها إلى (400) مليون جندي -كما قال بعضهم-.
تقول غريس هالسيل في خاتمة كتابها: ' اقتناعاً منهم بأن هرمجدون نووية لا مفر منها بموجب خطة إلهية؛ فإن العديد من الإنجيليين المؤمنين بالتدبيرية ألزموا أنفسهم سلوك طريق مع إسرائيل يؤدى بصورة مباشرة -باعترافهم أنفسهم- إلى محرقة أشد وحشية وأوسع انتشاراً من أي مجزرة يمكن أن يتصورها عقل أدولف هتلر الإجرامي'.
هذه العقيدة الألفية يؤمن بها فئات مختلفة في أمريكا غير الأصوليين الإنجيليين ابتداءً من رؤساء الجمهورية وانتهاء بكثير من العامة.
وقد ظهرت كتب عن هذه النبوءات، ولاقت رواجاً هائلاً أهمها كتابان: الأول: كتاب: دراما نهاية الزمن ومؤلفه: أوترال روبرتس.
والثاني: كتاب: نهاية الكرة الأرضية العظيمة ومؤلفه: لندسي.
وكلاهما يصور بشكل درامي مثير نهاية العالم القريبة وانهيار حضاراته ودمار جيوشه بقيام معركة هرمجدون؛ حتى أن أحدهم يقول: لا داعي للتفكير في ديون أمريكا الخارجية أو ارتفاع الضرائب أو مستقبل الأجيال القادمة، فالمسألة بضع سنوات ويتغير كل شيء في العالم جذرياً.
وقد ارتفع مستوى الإيمان بهذه العقيدة وكثر الحديث عنها أثناء أزمة الخليج، واعتقد بعضهم أن حرب الخليج هي هرمجدون، وتأوَّلُوا كثيراً من وقائعها على ما جاء في رؤيا يوحنا وأمثاله: (الطائرة في وَسَطِ السماء هلمّ اجتمعي إلى عشاء الإله العظيم، لكي تأكلي لحوم ملوك ولحوم قوّاد ولحوم أقوياء ولحوم خيل والجالسين عليها ولحوم الكل حراً وعبداً صغيراً وكبيراً.
ورأيت الوحش وملوك الأرض وأجنادهم مجتمعين ليصنعوا حرباً مع الجالس على الفرس ومع جنده، فقبض على الوحش والنبي الكذاب معه الصانع قدامه الآيات التي بها أضل الذين قبلوا سمة الوحش والذين سجدوا لصورته، وطُرِحَ الاثنان حيين إلى بحيرة النار المتقدة بالكبريت، والباقون قتلوا بسيف الجالس على الفرس الخارج من فمه وجميع الطيور شبعت من لحومهم.
الإصْحَاحُ العِشْرُونَ.
ورأيت ملاكا نازلا من السماء معه مفتاح الهاوية وسلسلة عظيمة على يده.
فقبض على التِّنِّينِ الحية القديمة الذي هو إبليس والشيطان وقيَّدَهُ ألف سَنَةٍ، وطرحه في الهاوية وأغلق عليه وختم عليه لكي لا يضل الأمم في ما بعد حتى تتم الأَلْفُ السَّنَةِ وبعد ذلك لا بد أن يحل زَمَاناً يَسِيراً، ورأيت عروشا فجلسوا عليها وأعطو حكما، ورأيت نفوس الذين قتلوا من أجل شهادة يسوع ومن أجل كلمة الله، والذين لم يسجدوا للوحش ولا لصورته، ولم يقبلوا السمة على جباههم وعلى أيديهم فعاشوا وملكوا مع المسيح ألف سنة، وأما بقية الأموات فلم تعش حتى تتم الألف السَّنَةِ - هذه هي القيامة الأولى - مبارك ومقدس من له نصيب في القيامة الأولى؛ هؤلاء ليس للموت الثاني سلطان عليهم؛ بل سيكونون كهنة لِلَّهِ والمسيحِ وسيملكون معه ألف سنة.
ثم متى تمت الألف السنة يحل الشيطان من سجنه ويخرج ليضل الأمم الذين في أربع زوايا الأرض جُوجَ وَمَاجُوجَ ليجمعهم للحرب الذين عددهم مثلُ رمل البحر.(98/14)
مصدر الإنجيليين في عقيدة الرفع في سحاب رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل تسالونيكي
لهذهِ كُلِّهَا قُلْنَا لكم قبلاً وَشَهِدْنَا؛ لِأنَّ اللهَ لم يَدعنَا للنجاسة بل إذاً من يُرذِلُ لا يُرذِلُ إنسانا؛ بل اللهَ الذي أعطانا أيضا روحه القدوس.
وأما المحبة الأخوية فلا حاجة لكم أن أكتب إليكم عنها؛ لأنكم أنفسكم متعلمون من الله أن يحب بعضكم بعضاً؛ فإنكم تفعلون ذلك أيضاً لجميع الإخوة الذين في مَكِدُونِيَّةَ كُلِّها، وإنما أطلب إليكم أن تزدادوا أكثر، وأن تحرصوا على أن تكونوا هادئين وتمارسوا أموركم الخاصة، وتشتغلوا بأيديكم أنتم كما أوصيناكم؛ لكي تسلكوا بلياقة عند الذين هم من خارج ولا تكون لكم حاجة إلى أحد.
ثم لا أريد أن تجهلوا من جهة الراقدين لكي لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم؛ لأنه إن كنا نؤمن أن يسوع مات وقام فكذلك الراقدون بيسوع سيحضرهم الله أيضا معه؛ فإننا نقول لكم هذا بكلمة الرب إننا نحن الأحياء الباقين إلى مجيء الرب لا نسبق الراقدين؛ لأن الرب نفسه بهتاف بصوت رئيس ملائكةٍ وبُوقِ الله سوف ينزل من السماء والأموات في المسيح سيقومون أولا؛ ثم نحن الأحياء الباقين سنخطف جميعا معهم في السُّحُبِ لملاقاة الرب في الهواء؛ وهكذا نكون كل حين مع الرب؛ لذلك عزوا بعضكم بعضا بهذا الكلام الإَصْحَاحُ الخَامِس.
وأما الأزمنة والأوقات فلا حاجة لكم أن أكتب إليكم عنها.
لأنكم أنتم تعلمون بالتحقيق أن يوم الرب كلص في الليل هكذا يجيء؛ لأنه حينما يقولون سلام وأمان حينئذ يفاجئهم هلاك بغتة كَالمُخَاضِ لِلْحُبْلَى فلا يَنْجُونَ، وأما أنتم فلستم في ظلمة حتى يدرككم ذلك اليوم كَلِصٍّ.
جميعكم أبناء نور وأبناء نهار، لسنا من ليل ولا ظلمة، فلا ننم إذاً كالباقين بل لنسهر ونصح.
لأن الذين ينامون فباليل ينامون والذين يسكرون فبالليل يسكرون.
وأما نحن) أ.
هـ.
ويعتقد هؤلاء أن نهاية المعركة ستكون انتصاراً حاسماً للنصارى وتدميراً كاملاً للوثنيين - أي: المسلمين- وذلك بأن يرتفع النصارى فوق السحاب مع المسيح، وأما المسلمون فيغرقون في بحيرة النار المتقدة بالكبريت على حد قول الرؤيا، أي: أن هؤلاء المنتسبين للمسيح زوراً الذين اتخذوه إلهاً من دون الله سينجون جميعاً حتى عرايا شيكاغو وباريس ومقامري لاس فيجاس وشواذ سان فرانسيسكو ومدمني ميامي، وأما المؤمنون الموحدون القانتون فسيهلكون ولو كانوا عند الكعبة لأنهم كنعانيون، وقد فسروا النار الكبريتية بأنها قنابل نووية يلقونها على المسلمين!! بهذا يؤمن الأصوليون الإنجيليون، بل يؤمن سبعة من رؤساء أمريكا قبل بوش ويؤمن بها بوش ولو مجاملة، وينقل كتاب: البعد الديني عن الرئيس كارتر أنه قال: ' لقد آمن سبعة رؤساء أمريكيين، وجسدوا هذا الإيمان بأن علاقات الولايات المتحدة الأمريكية مع إسرائيل هي أكثر من علاقة خاصة، بل هي علاقة فريدة؛ لأنها متجذرة في ضمير وأخلاق ودين ومعتقدات الشعب الأمريكي نفسه، لقد شكل إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية مهاجرون طليعيون ونحن نتقاسم تراث التوراة".
وهؤلاء السبعة يعتقدون أن الصراع بين العرب واليهود هو صراع بين داوود وجالوت الذي يسمونه جوليان، وجالوت العصر هم العرب، وداوود هو دولة إسرائيل.
وقد صرح الرئيس ريجن أكثر من إحدى عشرة مرة أن نهاية العالم باتت وشيكة، وأنه يؤمن بمعركة هرمجدون، وقال في حديث مع المدير التنفيذي للوبي الإسرائيلى إيباك: حينما أتطلع إلى نبوءاتكم القديمة في العهد القديم وإلى العلامات المنبئة بـ هرمجدون أجد نفسي متسائلاً عما إذا كنا نحن الجيل الذي سيرى ذلك واقعاً، ولا أدرِي إذا كنت قد لاحظت مؤخراً أياً من هذه النبوءات، لكن صدقني أنها قطعاً تنطبق على زماننا الذي نعيش فيه.
وقال ريجان " إنني دائماً أتطلع إلى الصهيونية كطموح جوهري لليهود، وبإقامة دولة إسرائيل تمكن اليهود من إعادة حكم أنفسهم بأنفسهم في وطنهم التاريخي ليحققوا بذلك حلماً عمره ألفا عام'.
ويقول مايك إيفانز - أحد زعماء الأصولية الإنجيلية -وسيأتي الحديث عنه: في يناير (1985م) دعا الرئيس ريجن: جيمي بيكر وجيمي سواجارت وجيري فولويل وهم من زعماء الأصوليين -وسيأتي الحديث عن الأخيرين- ودعاني -أيضاً- مع مجموعة صغيرة أخرى للقائهم بصورة شخصية لن أنسى ما قاله لنا، أعرب الرئيس عن إيمانه بأن أمريكا على عتبة يقظة روحية وقال: ' إنني مؤمن بذلك من كل قلبي، إن الله يرعى أناساً مثلي ومثلكم في صلاة وحب ابتهالين لإعداد العالم لصورة ملك الملوك وسيد الأسياد " يقصد: المسيح.
فإذا كان هذا هو رأي ريجن فكيف بـ جورج بوش الذي كان نائبه وساعده الأيمن والذي قدم لليهود ما لم يقدمه قبله لا ريجان ولا غيره، والذي أظهر أثناء أزمة الخليج من التعاطف مع الأصوليين ما لم يسبقه إليه أحد؟! كما أن بوش له علاقات صداقة حميمة مع زعماء الأصوليين الإنجيليين وخاصة جيري فولويل الذي يقول عنه بوش: أعتقد بكل أمانة أننا برجال من أمثال جيري فولويل؛ فإن شيئاً فظيعاً كالإبادة الجماعية لليهود لن يحدث ثانية -وسيأتي الحديث عن هذا الأصولي لاحقاً- وتذكر غريس هالسيل أن فولويك أقام حفل غداء في (25 يناير) (1986م) على شرف بوش وقال في الحفل: بوش سيكون أفضل رئيس في عام (1988م).
ومهما قيل عن ماضي بوش الإجرامي فإنه يصف نفسه في كتابه: التطلع إلى الأمام بأنه متدين، وأن جده كان قسيساً، وأنه هو وأسرته يقرءون الكتاب المقدس كل يوم، ويتحدث كيف واجهته مشكلة تعميد ابنته حينما كان سفيراً في الصين، وصورته وهو يرتدى القبعة السوداء ويلثم حائط المبكى على طريقة اليهود التي يعرفها الجميع.
وإذا كان هذا موقف رؤساء أمريكا من الأصولية النصرانية فإن لهم من الإسلام وأهله موقفاً آخر.(98/15)
الصراع بين اليهود والأصوليين الإسلاميين
ولنأخذ هذا الموقف من كلام الرئيس نيكسون أكثر رؤساء أمريكا فكراً وتنظيراً؛ وذلك في كتابه: 1999 نصر بلا حرب، وهو العنوان الذي يشعر بالفكرة الألفية وسيطرة الحكومة الواحدة على العالم.
يقول نيكسون: ' إن صراع العرب ضد اليهود يتطور إلى نزاع بين الأصوليين الإسلاميين من جانب وإسرائيل والدول العربية المعتدلة من جانب آخر '.
ص 284.
ويقول: ' في العالم الإسلامي من المغرب إلى أندونيسيا ورثت الأصولية الإسلامية مكان الشيوعية باعتبارها الأداة الأساسية للتغيير العنيف 'ص 307.
ويختم كتابه بعبارات لا يتفوه بها إلا أعتى الأصوليين الإنجيليين فيقول: ' عندما كانت أمريكا ضعيفة وفقيرة منذ مائتي سنة مضت كانت عقيدتنا هي المبقية علينا، وعلينا ونحن ندخل قرننا الثالث ونستقبل الألف سنة المقبلة أن نعيد اكتشاف عقيدتنا ونبث فيها الحيوية '.
وقد نشرت له مجلة الشئون الخارجية تعليقاً على اللقاء الأول الشهير بين ريجن وجورباتشوف قال فيه: ' يجب على روسيا وأمريكا أن تعقدا تعاوناً حاسماً لضرب الأصولية الإسلامية '؟!(98/16)
الساعون لتحقيق الوعد المفترى
كيف نشأت الحركة الصهيونية التي تطالب بأرض فلسطين وتعدها أرضاً يهودية؟! ومن أين جاء الشعور للعالم بأن الوعد الذي وعد الله - تبارك وتعالى - لإبراهيم صلى الله عليه وسلم هو لليهود وليس للمسلمين؟ الذي نسمع عنه وما قرأناه في منهج التاريخ الدراسي أن الذي بدأ هذه الدعوة هو هرتزل واليهود، والحقيقة غير ذلك.
إذ أن أول من بدأ الدعوة لتجميع اليهود ولتطبيق نبوءات التوراة هم النصارى قبل اليهود، وقبل الحركة الصهيونية بأكثر من أربعة قرون، وإن لم نع هذه الحقيقة جيداً فإننا لن نستطيع معرفة مواقف الغرب عامة وأمريكا بخاصة من الصراع الذي نعيشه الآن، فلنلمّ بعجالة تاريخية لنرى ذلك.
كيف كان اليهود في أوروبا؟ اليهود ملعونون في الإنجيل، وقد لعنهم الله تعالى من قبل حيث قال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسرائيل عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة:78].
ولكن كونهم ملعونين وإخوان القردة والخنازير، وعباد العجل ومصاصي الدماء، ليست هذه وحدها هي سبب عداوة النصارى لهم؛ بل المسألة عند النصارى أكبر من ذلك بزعمهم، فجريمتهم ليست الكفر بالله وقتل الأنبياء، ولكنها قتل الرب المسيح!!! - تعالى الله رب العالمين - وصدق حيث يقول: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} [النساء:157].(98/17)
الطاعون الأسود
وهكذا ظلت العداوة التي لا تنطفئ بين الطائفتين، واستمرت الكنيسة البابوية التي مقرها روما في لعن وعداوة اليهود بشكل عجيب وهائل ومن طرائف هذا العداء أن وباءً خطيرا انتشر في الغرب يسميه الغربيون: الطاعون الأسود قضى على الملايين من الأوروبيين حتى أقفرت كثير من المدن والقرى , فأعلن البابا في منشور رسمي عمم في كافة أنحاء أوروبا أن هذا الطاعون سببه اليهود! فكان أي خبث في الدنيا أو شر ينسب إلى اليهود، وقامت حملات عارمة تزعمها البابا لتنظيف المجتمعات الأوروبية من اليهود، وفي القرن الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر استمرت حملات التنظيف؛ فنظفت بريطانيا وألمانيا وفرنسا وكثير من دول أوروبا من اليهود؛ لأنهم يرونهم أخطر خلق الله وأكثرهم شرّاً -وهم كذلك- ويا لها من نظافة لو استمرت!.
ومن جحيم أوروبا لجأ اليهود إلى كنف الأندلس وآواهم المسلمون، وبعدما احتل النصارى مدريد الإسلامية وشنوا حربهم الإبادية الشاملة على المسلمين في الأندلس شمل ذلك اليهود معهم؛ فلجئوا إلى الولايات التركية وخاصة اليونان.
وفي تلك الحقبة التاريخية الحاسمة قدر الله أن يقع حدثان كبيران أحدهما: جغرافي، والآخر: ديني، ومن امتزاج آثارهما تولدت أكبر قوة معادية للإسلام ولوعد الله الحق، وساعية لتحقيق الوعد المفترى، والتمهيد للمسيح الدجال، وهي الولايات المتحدة الأمريكية أما الحدثان فهما: 1 - اكتشاف أمريكا.
2 - ظهور الحركة البروتستانتية.(98/18)
العلاقة اليهودية البروتستانتية
البروتستانت: هي الطائفة التي تحتج على البابا - زعيم الكاثوليك -، وتخرج عليه وتؤمن بأن البشر لا يتوسطون بين الناس وبين الله، وقالوا: إن على كل إنسان أن يقرأ الكتاب المقدس مباشرة ويطبقه مباشرة، وترفض احتكار رجال الكهنوت لتعليم الدين وتفسير الإنجيل، وقد تأثروا في ذلك بالمسلمين إبان الحروب الصليبية؛ إذ رأوا أن المسلمين يتعاملون مع كتاب الله مباشرة، ولا يتوسط أحد بينهم وبين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى , والذي حدث في أوروبا أنه بعد ظهور هذه العقيدة بدأ الناس يرجعون إلى الأصول التوراتية، وقام مارتن لوثر صاحب حركة البروتستانت بترجمة التوراة إلى اللغة الألمانية، وكذلك الإنجليزية، وقد انتشرت الحركة البروتستانتية أكثر ما انتشرت في ألمانيا وبريطانيا وآمن هؤلاء بحرفية الكتاب المقدس وعصمة التوراة، وأن كل حرف في التوراة هو حق من عند الله وبدأوا يقرأون مثل نصوص الوعد الذي ذكرنا لإبراهيم وليعقوب، فآمنوا به وبضرورة تحقيقه، وأعرضوا عن تفسيرات البابا ورجاله للعلاقة مع اليهود.
وابتهج اليهود بهذه الحركة ووجدوا فيها متنفساً لهم وفرصة للانتقام من البابا وأتباعه، وضرب النصارى بعضهم ببعض؛ فسخروا مكرهم ودهاءهم وأموالهم لنشرها، وهكذا بدأت العلاقة بين اليهود والنصارى تتحسن بالتدريج وبدأ هؤلاء النصارى يؤمنون بأن أرض فلسطين هي الأرض الموعودة لليهود، وأن الواجب الديني يقتضي تحقيق هذا الوعد.
وأخذ اليهود في نشر هذه المبادئ بين سائر طوائف النصارى، وشهد القرنان الماضيان من الحروب الطائفية في أوروبا ما لا نظير له في التاريخ، واكتشفت أمريكا في وقت كانت الحرب على البروتستانت من قبل الكاثوليك كبيرة وعنيفة مما اضطر البروتستانت إلى الهجرة إلى العالم الجديد، فأخذوا يتدفقون نحوها وإلى الآن لا يزالون هم أكثر سكان أمريكا.
وقد خرجوا من أوروبا بروح التدين التوراتي، فلما دخلوا أمريكا تفاءلوا بأن هذا خروج كخروج بني إسرائيل ودخولهم إلى الأرض المقدسة، وأخذوا يسمون المدن والمناطق في أمريكا بأسماء من التوراة، واعتقدوا أن هذه الأرض البكر بشرى بشرهم الله بها في الدنيا، وتأسس المجتمع الأمريكي على أساس بروتستانتي توراتي -كما سبق في كلام كارتر -.
ولعلكم الآن عرفتم الآن بداية الجواب على السؤال السابق وهو لماذا في هذا العصر دونما قبله من العصور يسعى النصارى لتحقيق وعد اليهود ويتحولون من اضطهادهم إلى خدمتهم؟! وعرفتم لماذا كانت أمريكا هي الدولة المهيأة لاحتضان حكومة المسيح الدجال الموعود بها عام (2000م)؟!(98/19)
ظهور الصهيونية النصرانية
كانت نتيجة الحركة البروتستانتية والتغلغل التوراتي فيها هي ظهور فكرة الصهيونية النصرانية قبل فكرة الصهيونية اليهودية، وتبنيها لفكرة عودة اليهود إلى فلسطين تمهيداً لعودة المسيح التي كان بعضهم يظن أنها ستكون بداية هذا القرن الميلادي كما أشرنا.
وأبرز رجال هذه الحركة في أمريكا هو: بلاكستون الذي تحتفل الدولة اليهودية بذكراه، وهو ليس يهودياً؛ بل بروتستانتي ولد عام (1841م)، ودعا إلى الحركة الصهيونية قبل هرتزل بزمن وذلك في كتابه المسمى: عيسى قادم، وقد ترجم إلى أكثر من 48 لغة منها العبرية، وطبع عدة طبعات وبيع منه أكثر من مليون نسخة، وكان أوسع الكتب انتشارا في القرن التاسع عشر في الغرب.
ويتلخص فكر بلاكستون فيما أسماه: " الاستعادة الأبدية لأرض كنعان من قبل الشعب اليهودي" واستطاع بلاكستون بعد ذلك أن يصوغ مع طائفة من أعوانه عريضة ويوقعها مع أكثر من 413 شخصية أمريكية من النواب والقضاة والمحامين والنخب، ويرفعوها إلى الرئيس بنيامين هريسون يطالبونه فيها باستخدام نفوذه ومساعيه لتحقيق مطلب الإسرائيليين بالعودة إلى أرض فلسطين، وقد قدمت هذه العريضة عام (1891م).
وفي بريطانيا أسس البروتستانت صندوقاً سمي: صندوق اكتشاف فلسطين، أيام حكم فكتوريا، وكان رئيس الصندوق هو رئيس أساقفة كنتربري - وهو أكبر الأساقفة في بريطانيا -، وذلك بغرض اكتشاف أرض الميعاد وحدودها ومعالمها كما وردت في التوراة.
ثم ظهر بعد ذلك بلفور -صاحب الوعد المشهور- وتقول مؤلفة حياته -وهي ابنة أخته-: إنه كان يؤمن إيماناً عميقا بالتوراة ويقرأها ويصدق بها حرفياً، وأنه نتيجة لإيمانه بالتوراة أصدر هذا الوعد وكان رئيس وزراء بريطانيا في أيامه هو: لويد جورج الذي يقول عن نفسه: " إنه صهيوني، وإنه يؤمن بما جاء في التوراة من ضرورة عودة اليهود، وأن عودة اليهود مقدمة لعودة المسيح".
وهناك شواهد كثيرة على سبق الحركة الصهيونية النصرانية ورسوخها يضيق المجال عن ذكرها، ونكتفي بقول حاييم وايزمان: ' إن من الأسباب الرئيسية لفوز اليهود في الحصول على تصريح بلفور من بريطانيا بإنشاء الوطن القومي اليهودي هو شعور الشعب البريطاني المتأثر بالتوراة بعد ذلك ظهر الرئيس ولسن الذي كان يحكم أمريكا أثناء الحرب العالمية الأولى حينما كان العرب يحاربون إلى جانب الحلفاء، ويقول ولسن هذا عن نفسه: إنه يجب على ابن راعي الكنيسة أن يكون قادراً على المساعدة لإعادة الأرض المقدسة لشعبها اليهودي، وتقول عنه إحدى المؤلفات اليهوديات: إن التزام الرئيس ولسن بـ الصهيونية كان عميقاً جداً، وكان معنياً بالفكر الصهيوني النصراني للدرجة التي لم ير فيها النتائج الأخلاقية والسياسية والدينية للبرنامج الصهيوني، ومن الغرائب المضحكات كما يقول أحد الكتاب: أن ولسن رئيس أكبر دولة مدعي الثقافة كان يظن أن عدد اليهود في العالم مائة مليون في الوقت الذي لم يكن يتعدى عددهم أحد عشر مليوناً!! فانظروا كيف استطاعوا تربيته لترسخ في ذهنه هذه المعتقدات! وفي أيام ولسن ومن بعده ظهر رجل لابد من الإشارة إليه وهو أحد الزعماء المهمين في الولايات المتحدة وهو رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونجرس الأمريكي بعد الحرب العالمية الأولى، يقول في خطاب ألقاه في بوسطن عام (1922م): " إنه جدير بالثناء أن يرغب الشعب اليهودي في كل أنحاء العالم أن يكون هناك وطن قومي لأفراد جنسه الراغبين في العودة إلى البلاد التي كانت مهدا لهم، والتي عاشوا وعملوا فيها عدة آلاف من السنوات، وإنني لا أحتمل فكرة وقوع القدس وفلسطين تحت سيطرة المحمديين " هذا هو حديث رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونجرس عام (1922م) - أي: قبل (26 عاماً) على قيام دولة إسرائيل- يؤكد أنه لا يطيق أن تبقى القدس وفلسطين تحت سيطرة المسلمين!! ذلك كله حتى نعلم أنه قبل اشتداد عود اليهود كان النصارى يؤمنون بضرورة وجود إسرائيل في فلسطين.(98/20)
ظهور الأصولية الإنجيلية
وكانت إحدى نتائج البروتستانتية المعاصرة أن ظهرت في أمريكا صحوة دينية هائلة -نعم هي صحوة ويسمونها صحوة، ويصفونها بـ الأصولية، وهي كذلك أصولية إنجيلية - ويجب الانتباه للحديث عن هذه الصحوة لندرك مدى الغفلة التي تَلُفُّنَا نحن المسلمين؛ ولا سيما من قبل وسائل إعلامنا التي لا تقدم لنا هذا الوجه الآخر الذي يزداد كل يوم في أمريكا بلاد الإباحية والعلمانية والإلحاد.
وهذه الصحوة أو الأصولية التي تتبنى الوعد المفترى، وتؤثر في توجيه السياسة الأمريكية والرأي العام الأمريكي، وتؤيد الدولة اليهودية تأييداً مطلقاً لابد من تفصيل الحديث عنها ومعرفة رجالها وأعمالها.
يؤكد الكتاب التعريفي -الذي توزعه المراكز الثقافية الأمريكية ومنها مركز جدة - بعنوان: " أمريكا اليوم " إن الأمريكان ليسوا شعباً غير متدين كما نظن وهذا صحيح، ولكن الدين عندهم فضفاض ومرن، يكفي أن تؤمن بما تقوله الكنيسة وما توجه به من تعاليم، وتكون عضواً فيها بشكل ما، ولا يعني تدينهم السلوك الجاد، وهناك إحصاءات أجريت تقول: إن أكثر الشعوب النصرانية تديناً من حيث النسبة العددية هي إيرلندا في المقام الأول، ثم أمريكا.
ويذكر معهد جالوب المتخصص في الإحصاءات أن أكثر من (94%) من سكان الولايات المتحدة الأمريكية يؤمنون بالله -بالطبع على عقيدتهم- وأن (71%) من سكانها يؤمنون بالبعث بعد الموت على العقيدة الإنجيلية.
وتقول أيضاً بعض الإحصاءات: أن عدد أعضاء الجسم الكنسي في الولايات المتحدة سنة (1970م) كان (131) مليوناً من الأمريكان وجميعهم ينتمون إلى الكنائس، وارتفع عام (1980م) إلى حوالي (135) مليوناً؛ ولكنه قفز خلال السنتين التاليتين إلى (139) مليوناً وستمائة ألف.
أما بكم يتبرع هؤلاء الأمريكان للكنائس؟ يقول الإحصاء: في عام (1982م) - وهو يعتبر قديماً -: أنهم يتبرعون بحوالي ستين ألف مليون دولار، في حين أن النشرات الحكومية مثل: أمريكا اليوم تقدره بنصف هذا الرقم وهو كثير، وقد نشرت المجلة الدولية لأبحاث التنصير سنة (1989م) أن مجموع التبرعات الكنسية لأغراض التنصير هو: (151) ألف مليون دولار -أي: في أمريكا وغيرها- وقد ارتفع الرقم سنة (1990م) إلى كثر من (180) مليار، وقد رصدوا لتنصير الصومال وحدها (196) ملياراً.
ثم نأتي للمدارس الدينية والجامعات والشبكات التلفازية في أمريكا.
إن الصحوة النصرانية في أمريكا ليست كالصحوة الإسلامية هنا حيث لا يوجد للصحوة الإسلامية مجلة أو صحيفة أو إذاعة فضلاً عن أية قناة تلفازية عبر الأقمار الصناعية!! أما الكنائس فتمتلك وتدير عدة مئات من المدارس والجامعات والمعاهد في الولايات المتحدة الأمريكية، ففي عامي (81 - 1982م) بلغ عدد معاهد التعليم العالي (1948) معهداً، فكم تكون الآن؟! أما المدارس فقد كان عددها عام (1954م) لا يزيد عن (123) مدرسة، ثم قفز عددها عام (1980م) إلى ما يزيد على (18) ألف مدرسة.
وليس جديداً أن يقال: إن الجامعات الشهيرة في أمريكا إنما أسست على أساس ديني بروتستانتي ومنها: هارفارد وييل وجورج تاون وديتون وبيلور ودنفر وبوسطن الخ.
وإجمالا تستطيع أن تقول: إن للأصولية النصرانية في أمريكا أكثر من (20) ألف مدرسة ومعهد وكلية، والملايين من الطلاب والدارسين للتوراة؛ وكلهم يؤمنون بهذه العقائد التوراتية التي تحدثنا عنها.
ومن الأدلة التي يستدل بها الباحثون على تدين أمريكا وعودتها إلى المحافظة أنها اختارت آخر رئيسين قبل بوش من المتدينين المحافظين وهما كارتر وريجن؛ فـ كارتر كان ملتزماً التزاماً صارماً بالكنيسة الإنجيلية، ولا يزال كارتر إلى هذا اليوم مبشراً، ويتنقل من أفغانستان إلى الحبشة والسودان وغير تلك البلدان مدافعَا عن التنصير ومبشراً بـ النصرانية، وهذا معروف عند كل من تتبع أخباره؛ فهو رجل منصر وقسيس، والرئيس الذي جاء بعده ريجن، قلنا: إن أحد الإعلانات الانتخابية ذكرت أنه أكد أكثر من إحدى عشرة مرة أنه يؤمن بنبوءات التوراة، ومنها معركة هرمجدون.
ودليل آخر عن انتشار الصحوة الدينية في أمريكا يقول: إن إحصاءات صناعة الكتب الأمريكية سجلت أكبر ظاهرة في شراء الكتب الدينية؛ ففي عام (1984م) كان بيع أكثر من ثلث السوق كتباً دينية، وتقدر أثمان هذه الكتب بحوالي مليار دولار دفع ثمنها حوالي (37) مليون مشترٍ.(98/21)
الإعلام الديني
بل تأتي الدلائل أغرب من هذا كله وهي أثر الدين في الإعلام الأمريكي، فمحطات الإذاعة والتلفاز مشغولة بالحديث عن التوراة ورجالها، ويقولون: إن صور نجوم البرامج الدينية المسموعة والمرئية من أمثال جيري غراهام وجيري فولويل احتلت صفحات أبرز المجلات الأسبوعية، وأصبحت تسيطر على عقول الأمريكان؛ حتى إن هؤلاء النجوم - نجوم الأصولية ومنهم سويجارت صاحب برنامج الحملة الصليبية الذي انهزم في مناظرة مع الشيخ أحمد ديدات - أصبحوا ينافسون نجوم السينما والفن والرياضة في اجتذاب اهتمام الجماهير وتتبع أخبارهم وأحاديثهم باستمرار، وقدرت بعض الإحصاءات نسبة الأمريكيين المستمعين والمتابعين لبرامج الأصولية الدينية في عام (1980م) بحوالي (47%) من السكان، ويقولون: إنهم يفتتحون محطة إذاعية كل أسبوع ومحطة تلفاز كل شهر؛ ذلك إحصاء منذ أكثر من عشر سنوات فكم وصل العدد الآن؟! وهناك رابطة مشهورة على مستوى أمريكا اسمها: الرابطة الوطنية للمذيعين الدينيين - أي: المذيعين العاملين في الإذاعات الدينية في جميع أنحاء أمريكا - وقد أنشئت هذه الرابطة عام (1944م) يوم كان عدد المحطات الإذاعية (49) محطة، أما في عام (1980م) فقد أصبحت (800) محطة، وارتفعت عام (1982م) لتبلغ (1000) محطة تنتج وتدير برامج دينية.
ومما يجدر ذكره أن هذه الرابطة أخذت منذ عام (1980م) بعد هذا التوسع الهائل في تنظيم مؤتمر سنوي لأعضائها، وفي هذا المؤتمر تقام صالة إفطار لمصلحة إسرائيل، وتسيطر الحركة الأصولية النصرانية الغربية على جميع شبكات الكنيسة المرئية والمسموعة، ويتلقى نجمان من نجومها وهما جيري فولويل، وبات روبيرتسون يتلقيان أموالاً أكثر مما يتلقاه الحزبان الرئيسان في أمريكا الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري.
كل هذه حقائق من الصحافة الأمريكية، وقد اعتبرت الحركة الأصولية الأمريكية من الظواهر السياسية في القرن العشرين، وانكب علماء الاجتماع والنفس على دراسة هذه الظاهرة، وهناك قضية لابد من النظر إليها إذ يجب أن نربط بين ظهور الإيدز والهيربز وانتشار الصحوة الدينية في أمريكا؛ فالناس قد شعروا بأهمية الدين للحياة، وقد كانت هناك كنائس أقليات نصرانية ترفض الزنا وتحاربه وتحافظ على أبنائها وبناتها منه , ولما انتشرت هذه الأمراض الخبيثة ازداد عدد هذه الكنائس وانتشرت، وازداد عدد تابعيها، وكذلك إدمان المخدرات والضياع والفراغ؛ كل هذه العوامل أدت إلى تنامي الأصولية النصرانية، وقد تنامت هذه الأصولية ليصبح عددها الآن ما يقارب ثمانين مليونًا؛ ولذلك تعتبر من أهم الحركات في القرن العشرين، ويتوقع لها أحد المحللين أن تستمر خمسمائة عام على الأقل -هكذا يقدرون- التلفاز الديني في أمريكا أمره عجب؛ إذ تنتشر البرامج التلفازية في أمريكا بشكل يصعب معه حصرها على وجه الدقة , ولكن رابطة الإذاعيين الدينيين تقول: إن لديها ألف محطة تلفازية وإذاعية مشتركة في نشاطها، كما تقدر أن عدد المستمعين إلى المحطات الإذاعية المشتركة فيها يصل إلى (115) مليون نسمة أسبوعيًا، وحوالي (14) مليون شخص من أعضائها يشاهدون الكنائس المرئيهّ.
وتقول بعض الدراسات: إن أهم عشر كنائس مرئية في الولايات المتحدة يشاهدها (40%) من مشاهدي التلفاز الأميركي.
وبالطبع هنا تجد الفرق بين يسر الإسلام وعسر غيره؛ فنحن جعلت لنا الأرض مسجدًا وطهورًا - كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولكن النصارى لا يستطيعون الصلاة إلا في الكنيسة، فتفتقت أذهان موجهيهم عن فكرة هي أنهم قالوا: نحن نأتيكم بالكنيسة المرئية يوم الأحد؛ ففي أي لحظة افتح التلفاز وستجد الكنيسة أمامك، فأصبحت الأسر الأمريكية تجلس وتفتح التلفاز فيجدون الكنيسة أمامهم، ويسمونها: الكنيسة المرئية.
ويقدر معهد جالوب المتخصص في الإحصاء أنه في عام (1982م) كان الذين يشاهدون برنامج الكنيسة المرئية شهرياً (52) مليون أمريكي، وفي عام (1983م) حين ظهر الإيدز ارتفع العدد إلى (60) مليون شخص.
وفي الدراسة الاستطلاعية - التي أعدتها منظمة إذاعات الدول الإسلامية بـ جدة عن إذاعات التنصير -أن في أمريكا وحدها (38) محطة تلفزيونية، و (66) شبكة كابل، و (1400) محطة راديو، ومن بينها أربع خدمات تلفزيونية تتجاوز ميزانية البرامج لكل منها (50) مليون دولار سنويًا، ولك أن تقارن هذا بواقع الإعلام الإسلامي!! وقد استفاد هذا الجهد الإعلامي من الأقمار الصناعية، ويقدر أن نصف هذه المحطات تستخدم الأقمار الصناعية، هذا كان في عام (1985م)، أما الآن فإنه من المحتمل أن تكون كل المحطات تستخدم الأقمار الصناعية، وهذا يدل على أنها تبث عبر العالم.
والجدول المرفق يوضح أهم هذه البرامج ومقدميها ومستمعيها.
وفي مجال السينما تذكر الدراسة نفسها أنه تم تخصيص ما يزيد على (100) مليون دولار لإنتاج سينمائي تعده في هوليود للتلفزيون مؤسسة إنتاجية اختارت له اسم GENESIS ويشمل إنتاج (15) فيلمًا أعدت مادتها في سفر التكوين و (18) فيلمًا من إنجيل لوقا.
جدول رقم (4 - 1) قائمة بأسماء أهم عشرة برامج في الكنائس المرئية تبعاً لأكثرها شعبية، واجتذابًا للمشاهدين في الولايات المتحدة الأمريكية.
المشاهدون شهرياً: 16.
300.
000 المشاهدون أسبوعياً: 4.
420.
000 البث: يومي.
صاحب البرنامج: Pat Robertson بات روبرتسون اسم البرنامج: The 700 Club السبعمائة ناد المشاهدون شهرياً: 9.
254.
100 المشاهدون أسبوعياً: 3.
640.
000 البث: أسبوعي.
صاحب البرنامج: Jimmy Swaggert جيمي سواجيرت اسم البرنامج: Weekly Crusade الحملة الصليبية الأسبوعية المشاهدون شهرياً: 7.
641.
000 المشاهدون أسبوعياً: 2.
720.
000 البث: أسبوعي.
صاحب البرنامج: Robert Shuller روبرت شلر اسم البرنامج: Hour of Power ساعة من القوة المشاهدون شهرياً: 5.
773.
200 المشاهدون أسبوعياً: 2.
462.
100 البث: يومي.
صاحب البرنامج: Jim Bakker جيم باكي اسم البرنامج: Praise The (PTL) مجّدوا الرب المشاهدون شهرياً: 57.
732.
00 المشاهدون أسبوعياً: 3.
037.
600 البث: أسبوعي.
صاحب البرنامج: Oral Roberts أورال روبرتس اسم البرنامج: Expect a Miracle توقّع معجزة المشاهدون شهرياً: 5.
603.
400 المشاهدون أسبوعياً: 1.
870.
000 البث: يومي.
صاحب البرنامج: Jerry Fal Well جيري فولويل اسم البرنامج: Old - Time Gospel Hour ساعة من إنجيل زمان المشاهدون شهرياً: 4.
924.
200 المشاهدون أسبوعياً: 1.
782.
900 البث: أسبوعي.
صاحب البرنامج: Kenneth Copland كينيث كوبلاند اسم البرنامج: برنامج واستعراض كينيث كوبلاند المشاهدون شهرياً: 4.
584.
600 المشاهدون أسبوعياً: 1.
867.
800 البث: يومي.
صاحب البرنامج: Jimmy Swaggert جيمي سواجيرت اسم البرنامج:
الجواب
Study In The Word دراسة في الكلمة.
المشاهدون شهرياً: 4.
075.
200 المشاهدون أسبوعياً: 1.
443.
300 البث: أسبوعي.
صاحب البرنامج: Paul V.
Gorder بول فان غوردر اسم البرنامج: Day of Discovery يوم الاكتشاف.
المشاهدون شهرياً: 3.
735.
660 المشاهدون أسبوعياً: 1.
613.
100 البث: أسبوعي.
صاحب البرنامج: Rex humbard ركس هامبرد اسم البرنامج: برنامج واستعراض وفيما يمكن أن نعده نموذجًا لما تبثه هذه البرامج يقول جيمي سواجارت: أشعر أن الولايات المتحدة الأمريكية مرتبطة بحبل ولادة سري مع إسرائيل، وتعود هذه الروابط في اعتقادي إلى ما قبل ظهور الولايات المتحدة الأمريكية بزمن طويل؛ كما ترجع الفكرة اليهودية النصرانية إلى إسرائيل ووعد الرب له، وهو وعد أعتقد أنه يشمل الولايات المتحدة الأمريكية - أيضاً -؛ لأن الله ما زال يقول: إني أبارك الذين يباركون إسرائيل وألعن من يلعنونها، ومن فضل الله على الولايات المتحدة الأمريكية أنها ما زالت قوية إلى اليوم، وأنا واثق أن هذا يعود إلى كونها تقف وراء إسرائيل وأدعو الله أن تظل دومًا سندًا لإسرائيل.
أي: أن بركة أمريكا تأتيها من وقوفها إلى جانب إسرائيل ومعنى ذلك أن قوة أمريكا من قوة إسرائيل.(98/22)
نجوم أصولية
وإذا تجاوزنا ذلك إلى قيادات التيار الأصولي الأمريكي، فمن هم؟ وماذا يعملون؟ وعليكم أن تجروا مقابلة بين أصوليتهم المدعومة والمسنودة، وبين ما يواجه من يدعو إلى الله في بلداننا العربية ويوصم بأ الأصولية ويحارب من الجميع.(98/23)
جيري فولويل
أشهر هذه القيادات وأعظمها أثراً هو المدعو جيري فولويل، وله منظمة يسمونها منظمة الأغلبية الأخلاقية أو الأغلبية المعنوية، ومن كلماته: " إن دعم الولايات المتحدة لإسرائيل ليس من أجل مصلحة إسرائيل ولكن من أجل مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية نفسها ".
هذا رجل غريب جداً فقد قاد دعوة في الولايات المتحدة تقول: إن الولايات المتحدة الأمريكية يجب أن تكون أمة نصرانية، وبعد أن اجتذب الناس وظهرت شعبيته، فإذا به ينقلب ويقلب هذا الشعار ويقول: إن الولايات المتحدة الأمريكية جمهورية نصرانية يهودية، ويقول فولويل: إن الوقوف ضد إسرائيل هو وقوف ضد الله، ويشير في برامجه إلى ما يسميه: وعد الله لإبراهيم منذ أربعة آلاف عام، وقول الرب: سأبارك من يبارك إسرائيل، وألعن من يلعنها -كما في التوراة- ويضيف: وبناءً على هذا فإن على الولايات المتحدة ألا تتردد في تقديم كل الدعم المالي والعسكري إلى إسرائيل.
وعندما قامت دولة إسرائيل عام 1948م لم يعتبر ذلك مفتاحاً للنبوءات التوراتية فحسب؛ بل قال: إن هذا علامة على مباركة الله، ووفاءً لشعب الله ويقول فولويل - وهذه عبارة مهمة بالنسبة لمشروع السلام-: إنه لا مجال للنقاش بكون يهوذا والسامره جزءاً من إسرائيل، وكذلك الجولان، وإن القدس عاصمة أبدية موحدة لإسرائيل، وقد أنشأ جيري فولويل جامعة سماها: " جامعة الحرية" ويقول: إن عدد طلابها سيصل عام (2000م) إلى خمسين ألف طالب، ويتعلم فيها الطلاب علم اللاهوت من وجهة النظر اليهودية، وهذه الجامعة ينتمي طلابها إلى دول كثيرة.
وهو يؤكد باستمرار أن إعادة تأسيس إسرائيل عند المسيحيين الأصوليين هو إيفاء بالنبوءات أي: وعود التوراة المحرفة.
وهو لا يكتفي بالحدود الجغرافية الحالية لإسرائيل بما فيها الضفة الغربية وغزة والجولان؛ بل يطالب بامتداد أراضيها من الفرات إلى النيل.
ويقول في برنامجه: " ساعة من إنجيل زمان" - حينما غزا اليهود لبنان واحتلوا بيروت عام (1982م) - يقول: 'يذكر سفر التكوين من التوراة أن حدود إسرائيل ستمتد من الفرات إلى النيل، وستكون الأرض الموعودة -والأرض الموعودة كما يقول: هي العراق وسورية وتركيا والسعودية ومصر والسودان وجميع لبنان والأردن والكويت ' فـ الأصولية الإنجيلية ترى أن كل هذه الأرض هي أرض كنعان الموعودة.
ويهاجم هذا الرجل العرب، ويقول: لا مكان للعرب بيننا، ولا علاقات حسنة معهم؛ لأنهم ينكرون قيم الولايات المتحدة الأمريكية وطريقة معيشتها، ويرفضون الاعتراف بإسرائيل، وهذا اتباع لما جاء في التوراة من أن هناك سبعة شعوب ملعونة أهمها الشعب العربي.
بقي أن نقول إن جيري فولويل هذا صديق حميم للرئيس الأمريكي بوش، وقد أعلن بوش أكثر من مرة صداقته له كما سبق.(98/24)
بات روبرتسن
والرجل الثاني بات روبرتسون، وهذا معروف في أنحاء أمريكا كلها بأنه نجم تلفازي ديني، وقد أنشأ هذا الرجل محطة تلفازية تغطي أكثر من ستين دولة أجنبية، وتستخدم الأقمار الصناعية في البث، ويقول الرجل أنه يتلقى أكثر من أربعة ملايين مكالمة عن طريق الخط المجاني رقم (800) وهذه المكالمات تحتوي على الفتاوى والأسئلة والاسترشادات الكنسية، ويجيب عليها هو وزمرته، وقد أعلن عام (1988م) أنه رشح نفسه لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، وأنه ينوي أن ينافس الرئيس بوش في الانتخابات؛ ولكنه انسحب بعد ذلك.
إن هذا الرجل يتمتع بنفوذ يمكن أن يصل به إلى رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، وهو من القادة الأصوليين المتطرفين في أمريكا.
إن السياسة محرمة على الأصوليين الإسلاميين فقط!! وهناك محطة مشهورة هي: ( C.
B.
N) هذه المحطة يملكها: بات روبرتسون وجماعته الأصولية الإنجيلية.
وهي تذيع باستمرار على مدار (24) ساعة، وتركيزها الأساسي على برامج الوعظ.
وكذلك نادي السبعمائة -كما في الجدول- ويملك - أيضاً - جامعة تسمى جامعة: ( C.
B.
N).
وتقول عنه نيويورك تايمز: لا يوجد في عقل بات روبرتسون سوى الأيام الأخيرة من الزمن، والمجيء الثاني للمسيح، ونشوب معركة هرمجدون أي: أنه يتوقع نزول المسيح - عليه السلام - بنهاية هذا الألف الثاني للميلاد، ويعلل ذلك بأن إعادة مولد إسرائيل هي الإشارة الوحيدة إلى أن العد التنازلي لنهاية الكون قد بدأ، كما أنه مع مولد إسرائيل فإن النبوءات أخذت تتحقق بسرعة، أي أن كل ما أخبر به الكتاب المقدس سيأتي اعتباراً من وجود دولة إسرائيل.
وفي برامجه يؤكد -دائماً- على عداوته للعرب ويسميهم أعداء الله، ويعتقد أنه لا مجال للعدل مع الفلسطينيين طالما أن رغبة الله هي تأسيس إسرائيل وفي تعيين حدودها.
فالقضية في نظره ليست رأي بشر؛ بل هي إرادة الله ومنطوق التوراة.
ومن غرائب سلوك هذا الرجل أنه حينما احتلت إسرائيل جنوب لبنان أسس محطة تلفازية أسماها: نجمة الأمل، وهذه تبث برامجها من المنطقة التي سيطر عليها المنشق اللبناني والعميل الإسرائيلي الرائد حداد، وبافتتاح هذه المحطة التي تغطي سورية والعراق وتركيا ومصر وشمال الجزيرة العربية يقول بات روبرتسون: 'لا يسد القرآن والتعاليم الإسلامية أعمق حاجات الروح الإنسانية، وها هي أيام عصيبة حيث يستند الإسلام إلى عقيدة منقسمة على نفسها' أي: فهو متوقع سقوطه وانهياره.
ويضيف قائلاً: 'ومع وجود مشاعر سلبية عميقة لدى المسلمين فهناك انفتاح جديد عندهم لتقبل رسالة الإنجيل إذا ما قدمت إليهم بواسطة التلفاز' ويقول في إحدى نشراته: أن احتلال إسرائيل للقدس في حرب حزيران (67م) هو أهم حدث تَنبُؤي في حياتنا، وأن زمان غير اليهود قد قارب على النهاية، وأن شبكته الإذاعية ستكون جزءاً حيوياً من حركة الإله نحو دعم إسرائيل.
وقد كان هذا الرجل - بات روبرتسون - ضمن الوفد الرسمي الذي رافق بوش في زيارته للسودان عام (1985م) والتي وقع على أثرها اتفاق أمريكي سوداني بترحيل يهود الفلاشا إلى إسرائيل، وهذا يدل على قوة العلاقة التي تربط هذا الرجل بالرئيس بوش.
كما بعث بطائرات حملت يهود الفلاشا إلى إسرائيل من أمريكا ومن جنوب لبنان، ومع كل هذا فلا تنس أن الرجل زعيم أصولي إنجيلي وليس يهودياً.
وقد نشرت جريدة الشرق الأوسط بتاريخ - 12/ 11/1412هـ - خبراً عنوانه: داعية ديني يشتري أكبر وكالة أنباء أمريكية، وذكرت قصة شراء شركة روبرتسن المسماة شركة الإعلام الأمريكية لوكالة يونايتد انترناشيونال الشهيرة وقالت: 'وتنتمي شركة الإعلام الأمريكية إلى شبكة الإذاعة المسيحية التي يمتلكها روبرتسن وهي سلسلة من محطات التلفزيون والراديو، وتنتشر في مختلف أنحاء الولايات المتحدة، وتصل هذه القناة العائلية الخاصة المقصورة على المشتركين إلى 54 مليون أسرة أمريكية'.(98/25)
جورج أوتس
أما الرجل الثالث المشهور في إطار الأصولية الإنجيلية فيدعى جورج أوتس، وله منظمة كبيرة تسمى: رعوية المغامرة الكبرى، وهذه المنظمة تؤمن بحرفية التوراة؛ وأنها كتاب من عند الله، وبالتالي فهي تؤمن بأن إسرائيل مقدمة لعودة المسيح - عليه السلام - ثانية، وتلتزم التزاماً كاملاً بدعم اليهود، وتقول في إحدى إعلاناتها: 'نحن ملتزمون بأمن إسرائيل كما نؤمن بأن كل الأرض المقدسة هي ميراث للشعب اليهودي، غير قابل للنقل أو التصرف، وهو الوعد الذي أعطي لإبراهيم وإسحق ويعقوب، ولم يلغ قط وتضيف: كما أن إنشاء إسرائيل الحديثة هو إيفاء لا ينازع للنبوءة التوراتية، ونذير بمقدم المسيح، ونعتقد أن اليهود في أي مكان ما زالوا هم شعب الله المختار، وأنه يبارك من يباركهم ويلعن من يلعنهم'.
وهناك شخصية أخرى من شخصيات الأصولية النصرانية وهو: مايك إيفانز، وهو - أيضاً - رجل له علاقة حميمة بالرئيس بوش.
هو من أكثر الأصوليين النصارى تطرفاً , ورأيه يتلخص في أن على الولايات المتحدة الأمريكية أن تسعى سعياً حثيثاً من أجل إقامة إسرائيل، ويرى أن مثل هذا العمل لوجه الله وتأييداً لكلمة الله، ويملك برنامجاً اسمه إسرائيل مفتاح أمريكا للبقاء، وهذا البرنامج يبث لمدة ساعة يومياً في أكثر من خمسين محطة، تغطي أكثر من 25 ولاية أمريكية.
ويقول إيفانز: إن تخلي إسرائيل عن الضفة الغربية سوف يجر الدمار على إسرائيل وعلى الولايات المتحدة الأمريكية من بعدها، ولو تخلت إسرائيل عن الضفة الغربية وأعادتها للفلسطينيين فإن هذا يعني تكذيباً بوعد الله في التوراة، وهذا سيؤدي إلى هلاك إسرائيل، وهلاك أمريكا من بعدها إذا رأتها تخالف كتاب الله وتقرها على ذلك، ويناشد إيفانز الشعب الأمريكي التقدم لتأييد أفضل صديق للولايات المتحدة الأمريكية؛ وذلك بتوقيع إعلان البركة الإسرائيلي، لأن الرب أمره -بوضوح- بإنتاج هذا البرنامج الخاص بإسرائيل.
أي: أن برنامجه الذي تذيعه خمسون محطة وحي من الله إليه بإنتاجه، وتبشير الناس بعودة شعبه إلى أرضه، وهذا البرنامج يشاهده عشرات الملايين من الأمريكيين والأوروبيين، ومن شعوب أمريكا اللاتينية -أيضاً-، ومما جاء في هذا البرنامج عبارات تقول: 'إن النصارى في هذه الأيام لن يخلدوا إلى النوم مثلما نام العالم عندما قررت النازية الألمانية تحطيم شعب الله المختار قبل خمسة وأربعين عاماً '.
وإيفانز - كسائر المتخصصين في ميدان الإعلام الديني - يجيد فن الدعاية ويدرسها، ويتقن فنون الإثارة، ومن إثاراته الغريبة والذكية التي تهدف لجذب الشعور الأمريكي نحو إسرائيل فكرة أورشليم دي سي؛ فالمعروف أن الأمريكيين يسمون عاصمتهم واشنطن دي سي تمييزاً لها عن واشنطن الولاية، فقام هذا الرجل بتسمية عاصمة إسرائيل في نظره أورشليم دي سي أي: القدس دي سي، ويقصد بـ أورشليم عاصمة داود، وقد استطاع تعبئة الشعور الأمريكي بهذه الأفكار.
ويقول في بيان القدس دي سي موجهاً الكلام إلى الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء الإسرائيلي: ' نحن نؤمن بأن القدس تخص الله القدير' وهذا يعتبر توجيهاً وضغطا على الرئيس الأمريكي ورئيس وزراء إسرائيل على عدم التنازل عن القدس باعتبارها لله، وليس لأحد حق التنازل عنها، ويضيف: 'إن كلمة الله غير قابلة للتفاوض، ونحن نؤمن علاوة على ذلك بأن الكتب المقدسة تعترف بـ القدس عاصمة روحية لإسرائيل، وأن المسيح اليهودي سيعود إليها كذلك'.
ويقصد بالمسيح اليهودي المسيح الدجال.
ويضيف: 'ومن أجل هذا تعاهدنا على الصلاة من أجل شعب إسرائيل، والوقوف معه في كفاحه من أجل الحرية والسلام -ويضيف: نحن نؤمن بكلمة الله حينما تقول: سوف أبارك من يباركهم وألعن من يلعنهم، نحن نؤمن أن من واجب أمريكا الوقوف بجانب إسرائيل، وكلمة الله تعترف ب القدس، وعلينا واجب الاعتراف بكلمة الله'.
وقد وزع إيفانز بيان القدس دي سي على عدد من الأمريكان، ووصل عدد الذين وقعوا عليه إلى مليون أمريكي، وأرسلوا هذه التوقيعات إلى رئيس أمريكا وإلى رئيس وزراء إسرائيل.(98/26)
السفارة النصرانية الدولية
وهناك جماعة أخرى أصولية إنجيلية تؤمن بحرفية التوراة والإنجيل، وتعطي اليهود الوعد الذي يفترونه على الله، هذه الجماعة تسمى السفارة المسيحية الدولية، وتعتقد هذا الجماعة أن الله وحده هو الذي أنشأ هذه السفارة ومقرها في القدس، وتنتشر فروعها في جميع أنحاء العالم، ويقول مؤسس هذه الطائفة: 'إننا صهاينة أكثر من الإسرائيليين أنفسهم؛ وإن القدس هي المدينة الوحيدة التي تحظى باهتمام الله، وإن الله قد أعطى هذه الأرض لإسرائيل إلى الأبد'.
وتؤمن هذه المنظمة بأنه إذا لم تبق إسرائيل فإنه لا مكان للمسيح عند مجيئه الثاني.
ولا تكتفي هذه المنظمة بدعم إسرائيل؛ بل تدعم سياستها التوسعية، وتعتبر أن الضفة الغربية والقطاع حقوق أعطاها الرب للشعب اليهودي.
وهذه المنظمة التي تعتبر من أخطر المنظمات في أمريكا والعالم كله كانت لها سبعة أهداف، والهدف الأخير منها هو تنصير اليهود في أرض فلسطين أي: أن يؤمنوا بعودة المسيح ويتنصروا توطئة لمجيئه، ولكن اليهود استطاعوا إلغاء هذه النقطة فبقيت النقاط الست الأولى في هذا البرنامج؛ ولنقرأ هذه النقاط: أولاً: إبداء الاهتمام البالغ بالشعب اليهودي وبدولة إسرائيل.
ثانياً: تذكير وتشجيع المسيحيين للصلاة من أجل القدس وأرض إسرائيل.
ثالثاً: تعليم المسيحيين في أنحاء العالم، وتثقيفهم في كل ما يجري بإسرائيل.
رابعاً: حث القيادات المسيحية والكنائس والمنظمات الدينية على ممارسة النفوذ المؤثر في بلادها لمصلحة إسرائيل والشعب اليهودي.
خامساً: إنشاء أو مساعدة مشروعات في إسرائيل لتحقيق رفاهية اليهود.
سادساً: ممارسة نفوذ وفاقي بين العرب واليهود، وحذفوا السابعة!!(98/27)
مؤتمر بال الثاني
نضرب مثلاً واحداً من أعمال هذه المنظمة الأخطبوطية المنتشرة في جميع أنحاء العالم؛ ففي مدينة بال بـ سويسرا انعقد المؤتمر الصهيوني الأول الذي حضره هرتزل عام 1897م، وأرادت هذه المنظمة عن عمد وإصرار أن تقيم مؤتمراً لها في المدينة نفسها ولكنه للأصولية الإنجيلية الأصولية وليست اليهودية، وقد أقاموه بالفعل في هذه المدينة عام 1985م، وقالوا في إعلان هذا المؤتمر: ' نحن الوفود المجتمعين هنا من دول مختلفة وممثلي كنائس متنوعة بهذه القاعة الصغيرة نفسها التي اجتمع بها منذ ثمانية وثمانين عاماً مضت الدكتور تيودور هرتزل ومعه وفود المؤتمر الصهيوني الأول الذي وضع اللبنة الأولى لإعادة ميلاد دولة إسرائيل جئنا معاً للصلاة ولإرضاء الرب، ولكي نعبر عن ديننا الكبير وشرفنا العظيم بإسرائيل الشعب والأرض والعقيدة، ولكي نعبر عن التضامن معها، وإننا ندرك اليوم بعد المعاناة المريرة التي تعرض لها اليهود، أنهم ما زالوا يواجهون قوى حاقدة ومدمرة مثل تلك التي تعرضوا لها في الماضي، وإننا كمسيحيين ندرك أن الكنيسة - أيضاً - لم تنصف اليهود طوال تاريخ معاناتهم واضطهادهم، إننا نتوحد اليوم في أوروبا بعد مرور أربعين عاماً على اضطهاد اليهود، لكي نعبر عن تأييدنا لإسرائيل، ونتحدث عن الدولة التي تم إعداد ميلادها هنا في بال.
إننا نقول ذلك أبداً ولا رجعة للقوى التي يمكن أن تتقدم لاسترجاع أو تكرار اضطهادات جديدة ضد الشعب اليهودي وقالوا -أيضاً-: إننا نهنئ دولة إسرائيل ومواطنيها على الإنجازات العديدة التي تحققت في فترة وجيزة تقل عن أربعة عقود، إننا نحضكم على أن تكونوا أقوياء في الله وعلى أن تستلهموا فطرته في مواجهة ما يعترضكم من عقبات، وإننا نناشدكم بحب أن تحاولوا تحقيق العديد مما تصبون إليه، وعليكم أن تدركوا أن يد الله وحدها هي التي ساعدتكم على استعادة الأرض؛ وجمعتكم من منفاكم طبقاً للنبوءات التي وردت في النصوص المقدسة.
وأخيراً فإننا ندعو كافة اليهود في جميع أنحاء المعمورة بالهجرة إلى إسرائيل، كما ندعو كل مسيحي أن يشجع ويدعم أصدقاءه اليهود في كل خطواتهم الحرة التي يستلهمونها من الله'.
نرجو أن تتذكر أن هذا المؤتمر كله نصارى، فلا توهمنا هذه النصوص فنظن أن المؤتمر للأصولية الصهيونية، ولننظر ماذا قرر هذا المؤتمر، هل كانت قراراته متعلقة بالنصارى وشئونهم الدينية؟ لنقرأ أهم القرارات: أولاً: عدم تقديم تنازلات من الغرب إلى الإتحاد السوفيتي، طالما أنه لا يسمح بهجرة اليهود منه إلى دولة إسرائيل (وهذا طُبِّقَ تماماً).
ثانياً: تشجيع إسرائيل ومواطنيها على المشاركة الكاملة في كل الهيئات والمؤسسات الدولية، والمطالبة بانسحاب جميع الدول الأوروبية والأمريكية من أي اجتماع يعقد ولا تمثل فيه إسرائيل (وهذا القرار وضع لأن العرب يهددون أحياناً بالانسحاب فتضطر الدول لمجاراة العرب لأنهم أكثرية).
ثالثاً: على كل الأمم الاعتراف بإسرائيل وإقامة علاقات دبلوماسية كاملة معها ونخص بالذكر حكومة الفاتيكان، وخصت الفاتيكان؛ لأنها هي عاصمة الكاثوليك، والكاثوليك لا يؤمنون هذا الإيمان العميق للبروتستانت بإسرائيل وهذا يعني أن المسلمين لو تحركوا يستطيعون استخدام عنصرين مهمين استخداماً جيداً، العنصر الأول هم: الكاثوليك، والعنصر الثاني هم اليهود المنشقون غير المؤيدين لإسرائيل؛ ولا سيما في أمريكا حيث يوجد ثلاثة ملايين يهودي غير مؤمنين بدولة إسرائيل، ومنهم كتاب وأدباء ومفكرون يهاجمون دولة إسرائيل، ولكن لا أحد يجيد استخدامهم أو الإفادة منهم.
رابعاً: يعلن المؤتمر أن يهوذا والسامرة بحق التوراة والقانون الدولي وبحكم الواقع جزء من إسرائيل.
خامساً: نطالب كل الأمم بالاعتراف بـ القدس عاصمة أبدية موحدة لإسرائيل وتنقل سفاراتها من تل أبيب إليها.
سادساً: مطالبة الدول الصديقة لإسرائيل بالتوقف عن تزويد أية دولة في حالة حرب مع إسرائيل بالأسلحة بما في ذلك مصر التي وقعت معها اتفاقية كامب ديفيد.
سابعاً: مطالبة كل الحكومات بنبذ منظمة التحرير الفلسطينية واعتبارها منظمة إرهابية، وتأتي هذه المطالبة تنفيذاً لما ورد في التوراة حول أن الله يبارك من يبارك اليهود، ويلعن من يلعنهم.
ثامناً: إدانة كل أشكال معاداة السامية، وهي عداء إسرائيل واليهود.
تاسعاً: الدعوة لتذكر كل الفظائع التي ارتكبتها ما تسمى: بالحضارة المسيحية ومن يسمون المسيحيين، ولا سيما المذابح التي قامت في الحرب العالمية الثانية.
(أي: أنهم يرون أن كل من وقف في وجه اليهود من النصارى ليسوا نصارى حقيقيين).
عاشراً: العمل نحو توطين اللاجئين العرب الذين تركوا إسرائيل عام (1948م) في البلدان التي رحلوا إليها.
الحادي عشر: مساعدة إسرائيل اقتصادياً وذلك بإنشاء صندوق دولي برأسمال قدره مائة مليون دولار للاستعمار في تطويرها.
(وبالفعل ما انتهى المؤتمر إلا وجمع مائة مليون دولار إضافة إلى المساعدات التي تجمع باستمرار لمساعدة إسرائيل، وضمن ذلك يقومون بتشجيع الاستعمار الخاص في إسرائيل).
الثثاني عشر: مطالبة كل المسيحيين وكل الأمم بعدم الخضوع لأنظمة المقاطعة العربية لإسرائيل.
(وبالطبع ستتوقف المقاطعة وتنتهي بعد مدريد لأنها أصلاً لم تكن إلا شكلية في أغلب الأحيان).
الثالث عشر: دعوة مجلس الكنائس العالمي في جنيف إلى الاعتراف بالصلة التوراتية التي تربط بين الشعب اليهودي وبين أرضه الموعودة، وكذلك بالبعد التوراتي والنبوئي لدولة إسرائيل.
(وهذا يدل على أن العقيدة التي قامت عليها دولة إسرائيل عقيدة إيمانية يجب على مجلس الكنائس أن يعترف بها).
الرابع عشر: يصلي أعضاء المؤتمر وينظرون بشوق إلى اليوم الذي تصبح فيه القدس مركزاً لاهتمام الإنسانية؛ حينما تصير مملكة الرب حقيقة وواقعاً عن السفارة النصرانية وهذا المؤتمر.
وقد أحضرت المؤلفة المؤتمر، وشرحت ما دار فيه عن مشاهدة.
ومملكة الرب يفهمها النصارى على أنها مملكة المسيح بن مريم بناء على ما عندهم، أما اليهود فيفهمونها على أنها مملكة المسيح الدجال كما تقدم وهنا لا بد أن أؤكد أن الذين يؤمنون بهذا الوعد التوراتي هم المؤمنون بالمسيح الدجال، وبالتالي فكل من يعتقد أو يوافق على مشروع قيام دولة إسرائيل آمنة مطمئنة فإنه شاء أم أبى علم أو لم يعلم يعمل لإنشاء مملكة المسيح الدجال، ويسعى لتحقيق النبوءة التوراتية التي يدعيها هؤلاء، ويخدم راضياً أم غير راض، علم أم لم يعلم، هذه الأهداف الصهيونية التي يؤمن بها هؤلاء الأصوليون مع أولئك اليهود.(98/28)
السلام المزعوم
هذا هو مفرق الطريق بين الإسلاميين وبين اللاهثين وراء سراب مدريد وغير مدريد.
فلا حرج ولا تردد في الإجابة القاطعة الواضحة عن موقف الإسلاميين من مؤتمر السلام لأن الإجابة هي الرفض الحاسم والإنكار الجازم، وليس ذلك عناداً ولا تصلباً ولكنه موقف عقدي محتوم.
وإذا كان التوراتيون من اليهود والأصوليون من النصارى لم يترددوا في إعلان رفضهم لفكرة السلام رفضاً مطلقاً منذ ما كان يسمى بمشروع جنيف -وسنذكر كلامهم وفي ذلك- فإن الذين يملكون وعد الله الحق وكلمته الخالدة وخبره الصادق أولى بهذا وأحق.(98/29)
الرفض المشترك للسلام
قد وردت تساؤلات غربية وعربية عن سر التقاء الأصوليين هنا وهناك على رفض مشروع السلام؟ والجواب -مع الاعتراض على هذه التسمية الماكرة بالنسبة للمسلمين- أن نقطة الالتقاء هي أن كُلاًّ مِنَّا يؤمن بوعد من الله وفق عقيدته فنحن نؤمن بوعد الله الحق وهم يؤمنون بوعد مفترى مكذوب على الله تعالى والوعدان لا يجتمعان أبداً.
والفرق أننا بحمد الله نستند في وعدنا إلى كلام الله وكلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحقائق الواقع، ولعلي هنا أشير إلى بعض بشائر هذا الوعد الحق، ثم أنتقل إلى إتمام الكلام عن هؤلاء.
نحن في كل ركعة من صلاتنا نقرأ الفاتحة ونقرأ فيها كلام الله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7].
فالمغضوب عليهم هم اليهود، والضالون هم النصارى، فالخلاصة أننا نقرأ في كل ركعة ما لازمه ومفهومه أن الوعد الذي يزعمه هؤلاء منسوخ وباطل ومفترى، وإنه إذا كان إبراهيم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطى وعداً فإن هذا الوعد هو وعد الله تعالى لهذه الأمة الموحدة.
وهي الأمة التي يباركها الله تعالى كثيراً ويكثر عددها، وتدخل في جميع الشعوب والقبائل كما ذكرت التوراة، وليست إلا أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنهم العرب من ذرية إسماعيل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد دخلوا في جميع الشعوب، فتجد العرب بين الهنود، والأفغان، والأوروبيين، والبربر، وفي الحبشة وفي كل مكان، وهذا هو الشعب الذي دخل في جميع الشعوب، وهذا هو الشعب الذي كثره الله وباركه وله أعطيت هذه الأرض كما في التوراة نفسها، وقد روى الإمام أحمد والترمذي وصححه، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {إن الله عز وجل اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم}.
ويدخل في ذلك كل الآيات والأحاديث المبشرة -وسنذكر بعضها وقد جمع طائفة منها فضيلة الشيخ الألباني في أول السلسلة الصحيحة بظهور الإسلام وتمكينه، أما اليهود فوعد الله تعالى فيهم واضح جلي , قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف:167].
هذا وعد الله لن يخلفه أبداً، والذين يوافقون على ما جاء في مدريد وغيره يقفون ضد ما جاء في هذه الآية، فوعد الله تبارك وتعالى ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب؛ هتلر جزء من هذا الوعد، ومنظمات التحرير جزء منه! الجهاد القائم -الآن- في الأرض المحتلة جزء منه! وسوف تنتهي هذه كلها بتدمير اليهود كما قال الله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ} [آل عمران:112].
إن الذلة والمسكنة مضروبة عليهم إلا في حالات عارضة بحبل من الله وحبل من الناس، وهي حالات استثنائية يعطون فيها، فإذا أعطوا وتمكنوا ترجع سنة الله قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:7 - 8].
فإن عدتم عدنا: أي: في أي مرحلة يعودون سيعود عقاب الله تعالى؛ ولهذا بشر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح فقال: {لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود حتى يقول الشجر والحجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي ورائي فتعال فاقتله}.
وهذا والله هو الذي سيقع ويكون؛ لأن الذي أخبر به هو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليس هذا فقط بل نحن نؤمن بأن المسيح عليه السلام سينزل بإذن الله تعالى كما أخبر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أحاديث متواترة، وإذا نزل المسيح عليه السلام فإنه يقتل اليهود والنصارى، وأول من يقتله المسيح عليه السلام هو ملك اليهود المسيح الدجال، في باب اللد في أرض فلسطين -كما في الحديث الصحيح-.
ثم بعد ذلك لا يرضى ولا يقبل عيسى عليه السلام إلا الإسلام أو القتل، كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويرفع الجزية}.
ولن يبقى أمام النصارى إلا أن يسلموا أو يقتلوا بسيف ويد المسيح عيسى -عليه السلام- ومن معه من المسلمين، وكل الأحاديث الواردة في عيسى عليه السلام تكذب ما يقولونه في مدريد وفي غير مدريد، وكذلك كل الأحاديث الواردة في خروج المهدي آخر الزمان تكذب ذلك لأن المسلمين هم الذين يقاتلون أعداءهم تحت قيادة المهدي، ثم ينزل عيسى عليه السلام فيكمل المعركة كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وإمامكم منكم}.
فيصلي عيسى عليه السلام خلف المهدي إعلاماً وإيذاناً بأن عيسى عليه السلام ما جاء بشرع جديد؛ وإنما هو تابع لشريعة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ولهذا يصلي خلف المهدي ويقاتل مع المسلمين.(98/30)
منطقة فتن وملاحم لا منطقة أمن وسلام
إن كل الأحاديث الصحيحة الكثيرة والواردة في الفتن والملاحم تشير إلى أن هذه المنطقة - التي يقولون إن النظام الدولي الجديد سيجعلها منطقة أمن وسلام - ستكون منطقة فتن وملاحم ودماء، ويقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تقوم الساعة إلا ويقاتلكم الروم وينزلون في الأعماق} وفي رواية أخرى: {حتى تنزل الروم ب دابق} ومنطقة الشام هذه هي منطقة المعركة، والساحة الكبرى للمعارك الكبرى، وفيها أيضا تكون معارك المسلمين التي هي مقدمة لفتح القسطنطينية، ومقدمة لفتح روما - المدينة التي جزء منها في البر وجزء في البحر- وكل الأحاديث التي وردت في فضائل بلاد الشام، وذكرها شَيْخ الإِسْلامِ وعلق عليها كثيراً، وذكرت أن بلاد الشام تكون آخر الزمان هي معقل المسلمين.
وموئل هذه الأمة، وأن المسلمين يقاتلون الروم فيها وهذه الأحاديث كثيرة ويضيق المقام عن ذكرها وهي تكذب هذا الكلام الذي قرأناه وسمعناه، سواء في التوراة المحرفة، أو فيما قاله زعماء أمريكا أو ما قاله الأصوليون الإنجيليون، أو كل ما يقوله أعداء الله تبارك وتعالى.
لقد قال بوش في مؤتمر مدريد: ' إن غرض المؤتمر ليس إنهاء الحرب بين الطرفين وإنما إنهاء العداوة' ولكن الله تعالى يكذب هذا القول وهذه الدعوى، فسيظل المسلمون يعادونهم قال تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51] إلى قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة:54].
إذا تركنا الجهاد في هذه المرحلة، وآمنا بأن العداوة قد انتهت فنحن ينطبق علينا الارتداد عما أمر الله تبارك وتعالى به وسوف يأتي الله بقوم آخرين هذه صفاتهم وهذه هي أحوالهم.
ونقرأ قول الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} [النور:55]، فهذا وعد من الله تعالى للمؤمنين بالاستخلاف، وقد قال الله تبارك وتعالى -أيضاً- {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]، وغير ذلك من البشائر بأن هذا الدين يبلغ ما بلغ الليل والنهار، وهناك بشائر كثيرة كلها تؤكد الوعد الحق، وتدحض وتدفع الوعد المفترى والباطل قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18].(98/31)
السلام عند دعاة الأصولية الإنجيلية
ومع ذلك: فإن دعاة الأصولية الإنجيلية يقولون كما قال: بات روبرتسون: 'كنت أتمنى أن أستطيع القول أننا سنحصل على السلام ولكني أؤمن بأن معركة هرمجدون مقبلة، إن هرمجدون قادمة وسيصب غمارها في وادي فريدون، إنها قائمة وإنهم يستطيعون أن يوقعوا على اتفاقيات السلام التي يريدون، إن ذلك لن يحقق شيئاً، هناك أيام سوداء قاتمة ويضيف قائلاً: إنني لا أخطط لولوج جهنم قادمة, إن الله سوف يهبط من عليائه، يا إلهي إنني سعيد من أجل ذلك إنه قادم ثانية' هذا هو التشابه معهم في الموقف الرافض لـ مدريد وما بعدها، فنحن نقول مهما وقعوا فالمعركة قائمة، وهم يقولون كذلك، ولنر من هو صاحب الوعد الحق وصاحب الوعد المفترى قال تعالى: {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنْ اهْتَدَى} [طه:135].
ويقول صنوه جيري فولويل: ' إن النوايا السليمة هي أعمال غبية ويقول: إنه لا يحق لإسرائيل أن تتنازل عن شيء من أرض فلسطين؛ لأنها أرض التوراة التي وعد الله بها شعبه '.
ويقول أصولي إنجيلي آخر -هو دوغلاس كريكر - من جملة تحذيره لدولة إسرائيل من اختيار المنهج السلمي: " إن الأصوليين الإنجيليين مثل اليهود والأرثوذوكس مغرمون بالأرض التي وعد الله بها إبراهيم وذريته، وإن إسرائيل تستطيع أن تستعمل الإنجيليين الأصوليين لتعكس من خلال شبكاتهم الإذاعية والتلفازية صور إسرائيل التي يريدها ويتقبلها الأمريكيون؛ وذلك من خلال نشر فكرة أن الله يريد إسرائيل عسكرية ومسلحة، وإنه كلما أصبحت إسرائيل عسكرية أكثر فإن اليمين الديني في الولايات المتحدة يؤيدها أكثر ويصبح متعلقا بها أكثر " يقصد أن اليمين الديني الأمريكي يحب إسرائيل بقدر رفضها للسلام؛ لأنهم يرفضونه بطبيعة الحال.
ويقول جيم روبيسون -وهو إنجيلي أصولي ومتمكن جدا في الحكومة الأمريكية حتى أن ريجن دعاه ذات مرة ليفتتح احتفال الحزب الجمهوري بصلاة -: 'لن يكون هناك سلام حتى يعود المسيح'.
والمسلمون يوافقون على هذه العبارة من منطلق ومعنى آخر، ويضيف قائلاً: 'إن أي تبشير بالسلام قبل هذه العودة هرطقة أي: زندقة وكفر، ويضيف قائلاً: إن كل من يؤمن بالسلام فهو ضد كلمة الله وضد المسيح'.
ولهذا تقول مؤلفة كتاب النبوءة والسياسة: 'إن الأربعين مليون إنجيلي أصولي يؤمنون بقوة أن الله نفسه يريد أن تحصل إسرائيل على أي جزء من الأراضي العربية، وعلى كل الأراضي العربية التي تتمكن من مصادرتها' وكما يقولون: ' إننا نحن المسيحيين نؤخر وصول المسيح من خلال عدم مساعدة اليهود على مصادرة مزيد من الأراضي' ولهذا يفتتح اليهود مزيدا من المستوطنات الجديدة في الضفة والجولان حتى إبان انعقاد المؤتمر، ومن ورائهم الأصوليون الإنجيليون في أمريكا والذين يقولون: ' إن أي أحد يعترض على شيء من ذلك - أي: على استحداث المستوطنات - إنما يؤخر عودة المسيح أو يساهم في هذا التأخير'.
وقد وجه أحد الزعماء الأصوليين نداء إلى اليهود يقول فيه: ' إنه لا يجوز أن يبقى اليهود أوفياء إلى هذه المبادئ البراقة (القوانين الدولية) إذ أنه على إسرائيل أن تكسر من وقت لآخر القوانين الدولية، وأن تقرر بنفسها ما هو قانوني وما هو أخلاقي، وذلك على قاعدة واحدة هي ما هو جيد لليهود؟، وما هو في مصلحة اليهود؟، فما هو جيد لليهود أخلاقي وقانوني وشرعي؟ '.
وإذا كانت الشرعية الدولية ضد بناء مستوطنات لليهود وضد مصلحة اليهود فلا شرعية ولا دولية، اضربوا بهذا عرض الحائط؛ ولذلك يقول أحد معارضي حكومة شامير، وعضو جمعية حقوق الإنسان وهو إسرائيل شاهاك: 'إن اليمين المسيحي الجديد يبرر أي عمل عسكري أو إجرامي تقوم به إسرائيل، وبالتالي فهو يؤيد هذه الأعمال'.(98/32)
نتائج مشروع السلام
وهنا لا بد أن نأتي على قضية مهمة، وهي تتكون من شقين الشق الأول: النتائج المتوقعة لما يسمى بمشروع السلام الحالي، ومعرفة التخطيط لهذه المنطقة عندما تدفع إلى الإيمان بالوعد المفترى وتكفر بالوعد الحق من الله تبارك وتعالى.
والشق الثاني: الحلول والمقترحات.
أقول: إن الأهداف كثيرة والنتائج خطيرة، وأرجو ألا تستغرق جزئيات وتفاصيل هذه الأحداث فننسى هذه الأهداف البعيدة وسأذكر لكم مؤشرات جمعت من خلال البيانات التي أصدروها في كتبهم قديماً وحديثاً.
أولاً: يريدون القضاء على الجهاد الفلسطيني داخل الأرض المحتلة، وهو الذي يسمى بالانتفاضة، وبعد السلام لا يعود المجاهدون الفلسطينيون مدافعين عن بلادهم المحتلة؛ وإنما يكونون مواطنين يحاربون دولتهم؛ وبالتالي فلا شرعية لأي عمل يعملونه، ومن حق أية دولة أن تقمع رعاياها إذا خرجوا على قانونها كما هو مقرر في القانون الدولي! وهذا هدف كبير لأن أخطر ما تخافه إسرائيل الآن هم هؤلاء المجاهدون -مجاهدي الانتفاضة- فالدول العربية ليست مهددة لإسرائيل وهي تعلم ذلك، ولكن الخوف من هذا الوعي الإسلامي المتنامي داخل الأرض المحتلة وخارجها.
ثانياً: يريدون بهذا السلام العام بين العرب واليهود التضييق على الدعوة الإسلامية، وضرب الحركة الإسلامية في كل مكان، فربما يهدفون إلى ضربها ضربات قوية في كل مكان من المغرب حتى إندونيسيا.
ثالثاً: تدمير القوة العربية المحيطة بإسرائيل، على الرغم من أنها حالياً لا تشكل خطراً عليهم، وقد دمر العراق وسوف تكون الخطوة الثانية تدمير الجيش السوري، وذلك لأن الجيش السوري يملك بعض القوة والتدرب والممارسة والخبرة، وسيشكل خطراً على اليهود فيما لو خلف الإسلاميون السلطة الحالية، وربما كان تدميره بتسريحه بأيدي الحكومة البعثية الباطنية كما فعل السادات في مصر.
رابعاً: إخضاع المنطقة للرهبة اليهودية العسكرية، وفرض الحماية الأمريكية على المنطقة، ومنع تطوير أي جيش من جيوش المنطقة، وإنما يراد بقاء الجيوش للمحافظة على الأمن الداخلي فقط، ومبرراتهم أنه في ظل النظام الدولي الجديد لا يحتاج إلى تطوير الجيوش؟! فيقولون: أتريد أن تستخدمه في العدوان كما فعل صدام؟! وإذا كنت تريد الأمن والحدود فإن النظام الدولي يكفل لك ذلك! ولكن لا مانع من أن تكون هناك قوات للأمن الداخلي ولا تفكر في حالة اعتداء على الجيران، وهذا هو الهدف الذي من أجله خططوا لسيناريو احتلال الكويت وحرب الخليج، وثبتوه وأصلوه حتى أصبح قاعدة راسخة عند شعوب المنطقة.
خامساً: تغيير المناهج الإعلامية والتعليمية لمحو كل ما يثير العداء نحو اليهود وهذا خطير جداً، وقد أعلنه شامير في المؤتمر -مؤتمر مدريد - حيث قال: لا بد من تغيير ثقافتكم العدائية نحو اليهود، فعلى مراحل تنتهي كل شعارات العداء لليهود، بل ينتهي حتى كل ما يثير العداء دينيّاً! وقد عمل بهذا في مصر وغيرت المناهج، وحذفت معارك اليهود مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحذفت الإشارات إلى عداواتهم للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المناهج والتعليم، حتى أن بعض مفسري التلفاز يتجنبون الحديث عن آيات اليهود، ويتجاوزونها وينتقلون إلى ما بعدها.
وهذا ما يريدونه في المنطقة عموماً، وكذلك في مناهج التعليم تغيرت كل حيثيات القضية، وإن كانت مع الأسف درست لنا من منظور قومي -العرب واليهود- لا من منظور إسلامي؛ بينما في أمريكا تدرسها عشرون ألف مدرسة على أنها قضية دينية توراتيه!! سادساً: فرض السيطرة المالية الاقتصادية اليهودية على المنطقة كلها، وماذا يساوي اقتصادنا مقابلة باقتصاد الغرب، فقد سيطر اليهود على الاقتصاد الغربي عن طريق الربا والبنوك الربوية، فكيف إذا انطلقت أيديهم في منطقتنا! سوف يتحكمون في سنوات قلائل في كل الدورة الاقتصادية لدول المنطقة جميعها.
سابعاً: اجتياح المنطقة بالثقافة اليهودية والنصرانية، ويصحب ذلك حملات تنصيرية، فقد رفع النصارى رءوسهم وبدءوا يقولون: إن أحداث الخليج هيأت لنا الفرصة لإدخال الدين المسيحي في مناطق لم نكن نحلم أن ندخله فيها من قبل، والتبشير علني، والكنائس علنية ومؤيدة علناً في بعض دول المنطقة، فهذه البلاد المقدسة محاطة بالتنصير من كل جانب، كما نتوقع حملات تشويه للإسلام في كل المستويات؛ لأنهم يملكون هذه الآلة الإعلامية الضخمة، وستعينهم الصحافة العربية على هذا الهدف بتشويه صورة الدعاة، وتشويه التاريخ الإسلامي، كل هذا وارد ومتوقع، وإن كان سينفذ بنوع من البطء والتؤدة.
ثامناً: نهب ثروات المنطقة النفطية والمائية وتسخيرها لليهود والأمريكان، فقد قالوا لا بد من حربين، حرب النفط، وحرب المياه، وإن كانوا قد فرغوا من حرب النفط؛ فالحرب الأخرى المنتظرة هي حرب المياه.
يريدون أن ينتزعوا مياه الفرات ومياه العاصي ومياه الليطاني ومياه نهر الأردن، وحتى النيل يسحبون مياهه عبر قنوات من تحت القناة إلى أرض فلسطين، والمياه الجوفية في شمال الجزيرة العربية، وذلك لبناء المستوطنات، ولذلك يشيرون إلى أن الحرب القادمة ستكون حرب مياه.
قد تفتعل معركة بين تركيا وسورية - مثلاً- فتكون قضية يضطر معها الأمريكان للتدخل العسكري، فتحل الحرب وتكون هناك مشكلة الجيش السوري من جهة؛ ومشكلة المياه من جهة أخرى، وتركيا بالطبع عضو في حلف الناتو، والآن- تتوالى الاجتماعات في الغرب لتقوية حلف الناتو وتطويره بانضمام دول شرقية أوروبية له.
و
السؤال
ضد من هذا التطوير وهذه التقوية؟ إنهم يريدون ضم دول المعسكر الشرقي إلى الغربي لمقاومة العدو المشترك الذي لن يكون بالطبع إلا إيانا.
تاسعاً: إفساد المنطقة أخلاقياً، وهكذا طبع اليهود إذا دخلوا في أية بلاد فعن طريق السياحة والآثار يفسدون المنطقة كلها، فدول المنطقة جميعا مهددة بالإفساد عن طريق المخدرات والدعارة والأفلام القذرة، وقد نشرت الصحف كيف أرسلت إسرائيل فتيات من حاملات وباء الإيدز إلى مصر؛ لأنها مركز الثقل والقوة في العالم الإسلامي، وسيعمم هذا على جميع البلدان، وما القنوات الإباحية اليهودية إلا جزء من ذلك!! عاشراً: فتح الباب لغزو الجاسوسية اليهودية لأماكن ما كانت تحلم بها من قبل، وهذا هدف مهم جداً؛ لأن إسرائيل تخطط على مقدار ما تعلم عن المنطقة وتعرف حقائقها، فهي تود أن تعرف كل التفاصيل عن الصحوة الإسلامية، وعن حالة الدفاع والجيوش العربية, وربما لا يخفى عليهم شيء ذو بال ولكن من الضروري الإلمام التام بكل الدقائق.
حادي عشر: وهناك هدف يسعى وراءه اليهود هو اكتشاف الآثار اليهودية القديمة، وهناك دعوى تقول أن الأرض التي خرج منها اليهود ليست مصر وإنما هي جنوب جزيرة العرب، وجاء بعضهم بصور من أبها ومناطق حولها وقال: إن أسماء التوراة تطلق على هذه المناطق، ويدللون على آثارهم في هذه الأرض بأن الملك الذي حفر الأخدود كان يهودياً، وبوجود خيبر ومهد ذهب سليمان، وهذا كله تمهيد لقولهم أن هذه الأرض هي أرضنا.
هذه بعض الأهداف التي يسعون لتحقيقها وبعض ما يمكن أن يقدم على المنطقة إذا تحققت مخططاتهم ونسأل الله أن يحمينا ويحمي ديننا وبلادنا من شرورهم.(98/33)
الخاتمة(98/34)
مقترحات للمواجهة
وفي الأخير نختم هذا الموضوع بعدد من الآراء والمقترحات لمواجهة مشروعات الأعداء، ويحدونا الأمل والثقة في تصدي الدعوة الإسلامية لما يعد أعداؤها لها؛ وأهم هذه الآراء والمقترحات التي أراها ضرورية: 1 - نشر الوعي العقدي في الأمة قاطبة، والعقيدة الصحيحة في كافة المستويات ولا سيما عقيدة الولاء والبراء، وأن نعلن إسلامية المعركة، وأن مؤتمر مدريد لم يمثل فيه الإسلام، ولم نسمع فيه قال الله وقال رسوله، أو أن القدس إسلامية، فالقضية في أساسها إسلامية لا تخص الفلسطينيين وحدهم، ولا العرب وحدهم، ولا المسلمين المعاصرين اليوم فقط؛ بل هي قضية إسلامية تهم كل المسلمين إلى قيام الساعة.
2 - إحياء رسالة المسجد لمقاومة هذا التيار الإعلامي والثقافي الجارف، ونحن لا نملك إلا المسجد، والحمد لله فإن تأثيره كبير، ويجب أن نستزيد منه، فإذا كنا لا نملك أقماراً صناعية لمواجهة الأقمار الصناعية الغازية، فلا بد من الاستفادة القصوى من الوسيلة التي بين أيدينا.
3 - يجب توحيد صفوف أهل السنة والجماعة في جميع أنحاء العالم، وأن يكون ذلك مقدمة لتوحيد صفوف الأمة كلها على نهج السلف الصالح بإذن الله.
كما يجب الالتقاء على خطط دعوية وعملية لنشر هذه العقيدة مع تجنب إثارة الخلافات في الأمور الفرعية الاجتهادية، بل تحل عن طريق المودة والأخوة والرحمة؛ وذلك بإحياء أدب الخلاف كما كان بين السلف.
4 - ضرورة إنشاء المصارف الإسلامية لمقاومة الاجتياح الربوي الذي يريد أن يجتاح المنطقة.
5 - التنبه الشديد لخطر التغيير المتدرج للمناهج الدراسية؛ بل يجب أن يزداد فهم الطلاب للآيات والأحاديث عن مكر اليهود بنا، وتطبيقها على الواقع الذي نعيشه.
6 - يجب أن نبعث الأمل في الأمة بالوعد الحق الذي وعده الله تبارك وتعالى، ونقرن ذلك بالأدلة الشرعية والواقعية حتى لا تيأس الأمة، فالأمة الإسلامية هي الأمة التي لا تعرف اليأس أبداً في أي مرحلة من تاريخها، فنحن على ثقة بأن الله ناصرنا.
7 - تنشيط الدعوة في الغرب عامة وفي أمريكا بوجه خاص، ورصد خطط وحركات المتآمرين هناك، ووصيتنا إلى إخواننا المقيمين في الغرب أن يرصدوا هذه الحركات، وعليهم بعد التمسك بدينهم أن يدعوا الغربيين للإسلام، فالفراغ الديني والحريات هناك يتيح فرصاً لنشر الدعوة الإسلامية؛ ولا سيما في أمريكا، وإذا استطاع المهتدون اختراق أجهزة الإعلام والسياسة فيمكن أن يفعلوا الكثير.
8 - الوقوف الحقيقي بكل قوة مع الشعب الفلسطيني داخل الأرض المحتلة، وإمداده بالدعوة والكتب والمال وكل ما يحتاج إليه في جهاده، والحرص على بقائه في الأرض المحتلة وعلى زيادة عدده؛ وهذا ما يفقد إسرائيل توازنها البشري والسياسي والمعنوي، فالأمريكان والبريطانيون وغيرهم - اليهود منهم والنصارى - يتبرعون بمئات المليارات لإسرائيل، وعدد المسلمين في هذه الدول يصل عشرات الملايين ولا حواجز ولا موانع من دخولهم الأرض المحتلة، فلماذا لا يساعدون إخوانهم المسلمين في فلسطين مع التنسيق بيننا وبينهم.
؟! 9 - المطالبة بسحب كل الأموال والأرصدة من بنوك هؤلاء الأعداء وصرفها على حاجات الأمة الضرورية في أنحاء العالم الإسلامي، فأعداؤنا يعيشون على المليارات مما نضعه من أرصدة عندهم؛ بينما يموت الملايين من المسلمين جوعاً وفقراً وتشريداً، وكذلك المحافظة على ثروة الأمة ورصيد الأجيال المقبلة من أن يستنزفه اليهود والنصارى في غمرة ما يسمى السلام فلا يمضي حين إلا وبلادنا يباب بلقع.
10 - يجب علينا محاربة الترف والإسراف والفراغ الذي تعيشه هذه الأمة، وحشد كل طاقات الأمة لمواجهة هذا العدو الأخطبوطي الحقود، ووفروا من مرتباتكم ونفقاتكم وأوقاتكم؛ لأننا أمام عدو ضخم وشرس، فالمعركة ليست معركة غالب ومغلوب؛ وإنما هي معركة وجود أوغير وجود {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].
11 - يجب على الدعاة جميعاً والخطباء وكل الأمة المطالبة بتطوير الجيوش, وإعدادها دعوياً -وهذا أهم شيء- وتربيتها على الإيمان والجهاد, وأيضاً علمياً بحفز الطاقات المبدعة وتطوير الأسلحة التي يمكن بها أن نقاوم هذا العدو, وأن لا نركن إلى ما يسمى بالنظام الدولي الجديد ولا إلى السلام الذي يريدون أن يفرضوه علينا, زاعمين أننا لن نحتاج معه إلى جيوش لنحمي أنفسنا وأوطاننا.
ولقد أثبتت التكنولوجيا اليابانية تفوقها, مما دفع بالأمريكان إلى الاعتراف بأنهم استفادوا من التقدم التكنولوجي لليابان في حرب الخليج , فقد كانوا يضعون المواصفات العامة لما يريدون تصنيعه, فتتسابق الشركات اليابانية لإنتاجه وفق المواصفات المطلوبة.
فلو كان عندنا إرادة وصدق مع الله وجهاد لأمكننا استغلال الأموال الطائلة التي لدى الدول العربية -وخاصة الدول الخليجية- للاستفادة من التكنولوجيا اليابانية.
كما يمكن لقوة المال أن تحدد مسار الأحداث والسياسات الدولية, حتى إنه بالإمكان أن نؤثر على شخصية الرئيس الأمريكي المنتخب, ومن ثم على السياسة الأمريكية بناء على ذلك.
فنحن أموالنا تعطى لمن يفوز في تلك الانتخابات, فلماذا لا تكون هذه الأموال بدلاً من ذلك وسيلة إلى تعيين من يفوز ولو إلى حد ما, فضلاً عن ما يجب علينا بعد ذلك وقبله من الخطوات الأخرى.
وبناءً عليه فأيضاً يجب علينا أن نطالب بحفظ ثروات المنطقة واستغلالها وفق خطط سليمة تراعي مستقبل الأجيال القادمة من أبناء المسلمين؛ لأن المعركة القادمة طويلة, ويجب مراعات حاجات الأمة, لا حاجات شركات التطفيف ودول المطففين العالميين الذين يأخذون خيراتنا بأبخس الأثمان، ومن ثم يعيدوها إلينا بأعلى الأثمان, ويخزنون الثروات في مستودعاتهم تأهباً للمعركة القادمة.
أستغفر الله العظيم أولاً وآخراً وأقول: هذه نصيحة وهذا تحذير النذير العريان لكم أيها الإخوة الكرام! وأسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل لهذا الكلام موضعاً وقبولاً, وأن أكون قد وفقت لإعطائكم صورة ولو موجزة عن حقيقة عداء هؤلاء القوم وعن ما يجب أن نفعله نحوهم.(98/35)
إعلان المبادئ
بعد مدريد وبعد جولات سِرِّية وعلنية تمخض المكر والخيانة عن المسخ الذي سمَّوه: إعلان المبادئ بين يهود وزعامة المنظمة، وفيما يحتاج كل بند سري أو علني إلى سلسلة طويلة من المفاوضات واللِّجان، وفيما نجزم عن يقين أن مصير هذا كله الخَيبة والخَسار، ونجد التسارع الشديد لإلغاء المقاطعة، وإقامة المشروعات المشتركة، وتعديل الإرث الثقافي، وكسر الحاجز النفسي!! وبعبارة جامعة: نسف عقيدة الولاء والبراء!! إنه ليس صلحاً ولكنه تهويد قسْري لأمة الإسلام التي لن تتهود بإذن الله؛ بل ستنقض على نوعي اليهود بلا هوادة مهما طال الزمن! تعبيراً عن هذه المشاعر جاءت هذه الأبيات ورأيت إلحاقها بالموضوع وهي كما يلي:
أنْجَب المكرُ سَلِيلَه وشَفَى الغَدرُ غَلِيله
وَجَرى المغرورُ لَهثاً تَابعاً كُلَّ مَخِيلة
فإذا الجَولاَت آلٌ وإذا الجائِلُ غُوله
تِلك إجراءَاتُ بدءٍ في المتَاهَاتِ الطَّوِيلَة
ذَاكَ إِعلانُ مبادٍ للمَسارات المهِيلَة
فَمتَى نَدخُلُ في صُلب المعانَاةِ الثَّقِيلة
وَمتى تُنصب سُوق الرِّقِّ في ظل الخميلة
ومَتى يَزْهُو خِطَام الذُل في أنفِ القَبيلة
ومَتى تعبث "إستير" بأحلام الفحُولَة
ومَتى يفترش الغَرقَد صَحراء البُطُولَة
ويُغطي وادي الثّأر ويستاق نخيله
ألهاث وسُعار قبل إطفاءِ الفتيلة؟
أجُنُون وجُنوح قبل إجهاضِ الفَسِيلة؟
أصُراخٌ وَعَوِيلٌ قَبل إِخماد القَتيلة؟
وحُييٌ وكُعَيْبٌ لهما مليُون حِيلَة
كل بند من شُروط الذل يَبْغي ألف جولة
هذه دَوامة الإحباط واليَأس القَتُولة
جعَلوا الذُلّ وِسَاماً للتَّحَدي والبُطُولَة
جَرَّعُونا الكاس مُرّاً حَطَّموا فِينا الرُجُولة
ألبسونا ثَوْبَ عارٍ يَسْحَبُ الخِزي ذُيُولَه
نَحن في التَّاريخ نسْيٌ كُلَّمَا أرخى سُدُولَه
أعَليْنَا وحدَنَا تَستَأسد البُومُ الذَّلِيلة
أعَلينَا وحْدَنَا تَستَكبر الأيْدي الهَزيلَة
أعَلَينَا وَحْدَنَا تَقْوَى القَرارَات العَلِيلَة
يَا خليج الذُّلِّ دَوماً تَدفَع الجِزيَة دُولة
فادفَع المهرَ كَثِيراً يَرفُض الرَّاعي قَلِيلَه
واضْمَن الصُّلح رَخَاءً للزَّعَامَاتِ العَمِيلَة
وَاسقِها العَارَ فُرَاتاً يشرب الكَافِرُ نِيلَه
واجعل الأقصَى مُبَاحاً للعِصَابَات الرَّذِيلة
واجعلِ الأعلاجَ تَبنى غُورَه ثُم جَلِيلَه
سُلبت عكا ويَافَا وتُقَاضِيهِ خليله
يَخجَلُ التَّاريخُ مِن فِعل الزَّعامات الخَتِيلَة
ما عَلى جَسَّاسِ ما يُنهش من عرض الجليلة
مَا عَلى البَراضِ مَا يُنهب من سَرْحِ القَبيلَة
الخَواجَات رَضُوا فلتـ حزن الدُّنيَا الكَليلة
وإذا الجَحشُ تَخَلى أركَضَ السَّائِسُ فِيلَه
يختلون الآفة العقرى وتُختَال الختِيلة
يَشْرَبُون النَّفْطَ حُراً في القَواريرِ الصَّقِيلَة
والخَنَارِيُر تُغني فَوقَ هَامَاتِ الخَليلَة
والعَدُوّ الصِّرف هُم أهل الفدى أهل البطُولَة
الأصولِيُّونَ مَن يدعُونَ الدَّعوى الأصِيلَة
وبَنُو صُهيون مُنذُ الآنَ إخوان الفَسِيلَة
غَير مغضُوب عَلَيهِم عند أصحابِ الفَضِيلَة!
فاحذِفُوا ما قيِلَ قُدْماً في التَفاسِير الطَويلَة!
واشطُبُوا ما قيلَ فيهِم (بِئسَما) تِلك المقُولَة!
عَدِّل التاريخ واحذِف مِنه حِطين الدَّخِيلَة!
عدِّل السِّيرة واحذف ذِكر "كَعب" وقَبِيلَه
واجعل الكُفَّار حَصْراً في قُريش أو بَجُيلَة
كُلّ هَذا شَرط شَامِير فأوفُوا المرءَ كِيلَه!
وبِهَذا عَقْد مدريد فأعطُوا العَهدَ قِيلَة
سُورةُ الأحزابِ والحَشْرِ مَعانيها ثَقِيلَة!
فاطْلُب التَأوِيلَ شَيْخاً تَلْقَ للإسراء حِيلَة
أو تَجاوزَهَا إِلى الكَهفِ وَلا تَخشَ المثِيلَة
آه يا شَعبَ المآسِي إنك المقتُولُ غِيلَة
كبِّر الله وجاهد كُل خوَّار الفصيلة
أنت يُنبوع التَّحدي أنت بُركان البطولَة
أنت منصُور بدينٍ عزّ مَن يَقْفُو سَبيلَه
وبِهذَا الوَعْد حَقّا أرْسَلَ الله رَسُولَه
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.(98/36)
الأسئلة(98/37)
دور نصارى البروتستانت في دعم عقيدة أرض الميعاد
السؤال
ما هو دور طائفة البروتستانت النصرانية في دعم عقيدة أرض الميعاد عند اليهود؟ ومن هم الإنجيليون العسكريون؟ وما هي معتقداتهم وأهدافهم؟
الجواب
ورد أكثر من سؤال في هذا الموضوع, ونوجز الإجابة عليه لأننا قد تناولنا فيما سبق البروتستانت والإنجيليين , ونعيد القول بأن حركة مارتن لوثر الإصلاحية أعادت النصارى إلى الإيمان الحرفي بالكتاب المقدس, ومن ثم أصبحوا يؤمنون بوعد التوراة ونبوءاته, ولذلك نشأت الحركات الإنجيلية الصهيونية قبل الحركات اليهودية الصهيونية.(98/38)
قول علماء فلسطين في مؤتمر مدريد والصلح مع اليهود
السؤال
هذا بيان من علماء فلسطين يقول: (علماء فلسطين يعقدون مؤتمراً في المسجد الأقصى يرفضون فيه مؤتمر مدريد ويحرمون الصلح مع إسرائيل)؟
الجواب
الحمد لله هذه فتوى صدرت من علماء فلسطين , ولهذا أبشركم وأقول: إن الأمة الإسلامية سوف تستيقظ إن شاء الله فلابد أن يقاوم الباطل بالحق, ولابد أن يتوحد علماء المسلمين في كل مكان تحت راية الحق.(98/39)
شراء المصانع الروسية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي
السؤال
ألا يمكن لرجال الأعمال في العالم الإسلامي أن يقوموا بشراء المصانع السوفييتية العسكرية التي يراد بيعها, وكذلك مصانع السيارات والآلات الأخرى والبحوث المتطورة؟
الجواب
لا نستطيع أن نجزم بشيء عن هذا لعدم توفر تفاصيل لدينا بهذا الخصوص، وإنما نحيلها إلى المختصين بذلك.(98/40)
موقف المسلم من مؤتمر السلام
السؤال
ما هو الموقف العقدي الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم إزاء مؤتمر السلام كما يزعمون؟
الجواب
الموقف الصحيح هو الرفض لهذا المؤتمر، ورفض السلام بكل شكل من أشكاله, والإيمان بالعقيدة التي ذكرناها -في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم- حول نهاية اليهود ومصير ومآل دولتهم.(98/41)
دور المسلم بين القيام بواجبات التعبد, والعمل على نصرة الأمة
السؤال
إنه بمراجعة الوقت الذي يحتاجه المسلم المثالي للنهوض بواجباته الدينية والدنيوية اليومية على النحو الأكمل يتضح أن من يجتهد في الوفاء بجميع الفروض والنوافل التعبدية الواردة في الكتاب والسنة لن يكون له من الوقت المتبقي ما يكفي للقيام بمستلزمات عيشه والنهوض بواجباته الأسرية والاجتماعية في هذا العصر المتسارع؛ فهل يعقل أن يكون مثالياً في نشاطه التعبدي, ومقصراً في اهتمامه بنفسه وأسرته ومجتمعه, وليس له دور في بناء القوة الثقافية والاقتصادية والعسكرية لأمته, ولا سعي في دعم التطور والازدهار اللازم لمواجهة ما يحيط بالأمة من تحديات ومخاطر؟
الجواب
إن شاء الله لا مشكلة في الجمع بين الأمرين, بل إن الإسهام الذي ذكره الأخ هو جزء من العبادة, وهو خير من النوافل التعبدية، إذ لا يجوز أن تشتغل بالنافلة وتترك الفريضة الواجبة كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والاهتمام بأحوال المسلمين بقدر لا يؤثر طبعاً على واجباتك الأخرى، فلابد من التوازن ولابد من الشمول في هذا.(98/42)
موقف الحزب الحاكم في سوريا من أهل السنة والجماعة
السؤال
اعترف الوفد السوري بأن سوريا دولة علمانية تعطي الحرية لجميع الأديان والطوائف إلا الدين الإسلامي المتمثل في أهل السنة والجماعة فلا حرية لهم؟
الجواب
يا إخوان! إن حزب البعث أسسه النصارى, والطائفة الحاكمة في سوريا طائفة نصيرية, واليهود أعضاء في حزب البعث والذين كان منهم كوهين , فالطائفة المضطهدة التي دمرت في حماه وفي أدلب وفي جسر الشغور وفي طرابلس هي الطائفة المسلمة السنية فقط.(98/43)
كتاب إظهار الحق
السؤال
ما قولك في كتاب إظهار الحق؟
الجواب
كتاب جيد وجامع وشامل في موضوعاته, وأنصح الإخوان بالاطلاع عليه لتبيّن عقيدة النصارى وبطلانها.(98/44)
دين عيسى عليه السلام عند نزوله لقتل الدجال
السؤال
ما هو الدين الذي سيكون عليه عيسى عند نزوله؟
الجواب
بينا أنه سيكون الإسلام قطعاً.(98/45)
المؤتمر الإسلامي المنعقد في الخرطوم
السؤال
ما هي نتائج المؤتمر الشعبي الإسلامي العربي الذي عقد في الخرطوم؟
الجواب
لم يبلغني شيء مؤكد عن ما دار فيه, ولا أتكلم عن ما لا أعلم.(98/46)
معوقات الجهاد من خارج الأراضي الفلسطينية
السؤال
لماذا لا توجد جبهة للجهاد ضد اليهود لتحرير البيت المقدس ثالث الحرمين من أي دولة كانت؟
الجواب
لا يمكن ذلك في الوقت الحالي, إذ أنه قبل الصلح مع إسرائيل ما كان يسمح بهذا, فكيف الآن؟! ومن أي دولة تريد أن تنطلق لمحاربة اليهود؟! كل الدول العربية المحيطة بـ فلسطين أول ما تحارب الأصوليين المتطرفين -حسب زعمهم- قبل اليهود.
فمن أين تنطلق لمحاربتهم؟ هذا هو السؤال.
فيجب علينا أن نكون واقعيين, ونبدأ بما قبل الجهاد.
فالجهاد يكفينا مؤنته إخواننا الذين في الأرض المحتلة, أما في غيرها فلابد من خطوات إعدادية قبل الجهاد.(98/47)
علاقة أزمة الخليج وتداعياتها بمؤتمر السلام في فلسطين
السؤال
هل أزمة الخليج هي بوابة عبور إلى مؤتمر السلام الذي مهدت له الدول الكبرى؟
الجواب
قطعاً100% ولقد صرح بهذا كل الزعماء وكل الصحفيين, وكل التحليلات مجمعة على هذا, فلا خلاف في ذلك.(98/48)
جهود بعض الطوائف لدعم دولة إسرائيل
السؤال
اليهود الذين استعبدوا البروتستانت والإنجيليين الأمريكان وجعلوهم خدماً لدولة إسرائيل يعملون بكل جهدهم لدعمها وتقويتها, زاعمين أنهم يقربون تحقيق نبوءات التوراة التي ملخصها أن قوة دولة اليهود ستساهم أكثر في تقريب المعركة الفاصلة في سهل هرمجيدون في فلسطين بيسان , حيث يأتي بعدها المسيح ليحكم بعد ذلك ألف عام حسب خرافاتهم, وقد استغل اليهود هذه التوجهات التي يؤمن بها أكثر من 40.
000.
000 (أربعين مليون) نصراني فيما أعرف يسمون التدبيريين منهم: سواجرت وجنبيكر وباتبرسون وأورل روبتس وجيري فلويل وكيني كبلن ورتشارد وكاهان وغيرهم كثير, وكل هؤلاء يملكون محطات إذاعية وتلفزيونية تبث للملايين وتدعو لدولة اليهود ودعمها, أرجو منكم تسليط الضوء على هذا الدين الجديد؟
الجواب
أظن أن الأخ كتب هذا السؤال قبل المحاضرة أو في أولها؛ لأن موضوع المحاضرة كان حول هذا الموضوع تقريباً.
وحقيقة أنني أعبر عن فرحي بمثل هذه الورقة؛ لأنها دليل على أن هذا الأخ قد قرأ هذا الكلام قبل أن يأتي للمحاضرة, ونرجو أن يكون لدينا الكثير من الشباب ممن يهتم بمثل هذه القضايا.(98/49)
علاقة الأنظمة العربية مع إسرائيل
السؤال
مادام أن أغلب الأنظمة العربية لها علاقات مباشرة مع إسرائيل أو غير مباشرة -حتى منظمة التحرير - فقد اطلعت على كتب كثيرة تشير إلى أن هذه العلاقات تمتد إلى ما يزيد على العشرين سنة, فأرى أنه يتحتم علينا تربية الأمة على الجهاد, وإزالة أحفاد ابن سلول , ثم بعد ذلك مواجهة إسرائيل, فقد تدخلت إسرائيل حتى في تغيير المناهج وحذف الآيات التي تتحدث عن اليهود, فهل ستمتد هذه التغييرات لتشمل بقية البلاد العربية؟
الجواب
هذا متوقع أن يحصل! أما القضاء على المنافقين الله يعين! [[سمع الحسن البصري رجلاً يقول: اللهم اهلك المنافقين, قال: يا ابن أخي! لو أهلكهم لأوحشت بنا الطرقات]] فهذا لا يعني أنه لا يدعو عليهم, ولكن يريد أن ينبه إلى كثرة النفاق وخطره.(98/50)
علاقة الحكومة المصرية مع دولة إسرائيل
تعقيب: يقول أخ آخر: كان للمعاهدة المصرية الإسرائيلية آثار خطيرة على المنطقة, ونظراً لخطورة ما قام به النظام المصري مع إسرائيل ضد المسلمين, فإنه يعتبر أشد خطراً من حزب البعث , وذلك أنه دلت الوقائع والأحداث أن مصر التزمت بما هو أكبر من الحياد في الصراع العربي الإسرائيلي حيث أضحت طرفاً منحازاً لإسرائيل ضد البلدان العربية، وقد حدث هذا الوضع بالفعل أثناء غزو اليهود للأراضي اللبنانية عندما التزمت مصر بتوريد النفط إلى الجيش الإسرائيلي, حتى يسحق بدباباته العمل الفدائي بجنوب لبنان.
الجواب
هذا الكلام يعبر عن وجهة نظر عدد من إخواننا في مصر.(98/51)
الضوابط الشرعية للدخول في صلح مع الأعداء
السؤال
لماذا كل هذه المبالغات في الحديث عن الصلح مع اليهود ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أغير منا على الدين صالحهم وفاوضهم، ونحن في الوقت الحاضر أضعف من اليهود, وقد رأينا ماذا حدث لمن حاول أن يرفع رأسه كيف دمر اليهود والنصارى بلاده, وجعلوه أضحوكة لكل العالم؟ بالإضافة إلى أن مصر استفادت من هذا الصلح حيث استعادت سينا؟
الجواب
القضية ليست قضية صلح؛ ولهذا يا إخوان! لا يلبس أحد عليكم, أزيلوا من أذهانكم أن الموضوع صلح, وماذا جاء في كتاب الصلح وكتاب الجزية وكتاب الموادعة والأحكام الفقهية هذه لا وجود لها؛ لأن القضية ليست قضية صلح.
القضية كما قال بوش: ليست القضية إنهاء حالة الحرب مع إسرائيل, وإنما إنهاء العداوة, أي: أن القضية قضية عقيدة يراد بها تغيير القلوب, فلما حارب صلاح الدين الصليبين صالحهم فترة وحاربهم فترة, وهذا لا أحد يخالف فيه, وليس موضع نقاش، فلو كنا في حالة حرب وجهاد مع اليهود وصالحناهم، فهذا أمر وارد ولا بأس من حصول الصلح.
لكن الآن لا حرب ولا جهاد أبداً, وإنما إقرار بسلام دائم وحق أبدي لإسرائيل في الوجود, عرفت يا أخي! ما الفرق؟! فرق مهم جداً! فأرجو أن لا يقع الإخوة في هذا اللبس.(98/52)
النظر إلى فريضة الجهاد على أنها ليست الحل الأمثل لصراعنا مع اليهود
السؤال
إنني أقدر وجهة نظر رجال الدين -طبعاً نحن ليس عندنا رجال دين- لكن هذا تعبير الأخ السائل, وفي الحقيقة نحن نرحب بأي وجهة نظر ما دامت في نطاق الشورى والبحث, فيقول: إني أقدر وجهة نظر رجال الدين لكني أشك في جدوى الحرب؛ لأنها في نظري لا تحل مشكلة الصراع مع اليهود, ونتائج الحرب المدمرة على المنطقة وما خلفته من المآسي والنكبات وتردي الأوضاع الاقتصادية في العالم الثالث -يا أخي! لا يوجد عالم ثالث لا يوجد إلا عالم غربي وعالم إسلامي فقط- والعالم العربي على الخصوص فإن الصلح والتعايش السلمي هو الأفضل؛ وذلك لحقن الدماء, وأنصح الفلسطينيين على جهة الخصوص بالتخلي عن الكفاح -ليس كفاحاً يا أخي! بل هو جهاد- والسكوت حتى حين؛ لأنهم هم الضحايا بينما قادتهم وزعماؤهم لهم علاقات وطيدة مع إسرائيل, والأبرياء هم الذين يقتلون الأخ في كلامه قدر من الصحة, لكن نحن الآن لا نطالب بإعلان حرب حتى نخاف من آثار الحرب, وإنما نطالب بتعبئة الأمة عقائدياً لمواجهة خطر عقائدي إذا فرض السلام, حتى إن إسرائيل في المنظور القريب لن تحاربنا عسكرياً, وإلا فالترسانة النووية لابد أن تستخدم, لكن الكلام الآن ليس عن بدء الحرب من جهتنا أو من جهتهم وإنما عن ما سيجره علينا هذا السلام, فإذاً الأخ تصور القضية غير ما أردنا.
النقطة الثانية: لا نؤيدك على نصح الفلسطينيين بالسّكوت ولو إلى حين؛ لأن القضية هي: هل يوجد أو لا يوجد شعب فلسطيني؟! اليهود لا يقبلون منا إلا ذلك, فالرضوخ والإقرار بهذه الدولة المحتلة يعني نهاية القضية بالكامل, وهذا على كل حال يحتاج إلى تفصيل ليس هذا مقامه.(98/53)
الغرض من عملية السلام عند اليهود والنصارى
السؤال
ما رأي الشيخ في كلام الرئيس الأمريكي بوش حين قال: (إننا لن نكتفي بإعلان إنهاء حالة الحرب بل نريد سلاماً كاملاً واعترافاً دبلوماسياً, وعمليات تبادل تجاري وثقافي وحتى سياحي -رأيتم كيف- وإننا نشجب أعمال العنف مهما كان مصدرها)
الجواب
مصدرها في نظر أعداء الله كما قال نيكسون: الأصولية الدينية.(98/54)
عقيدة أهل السنة والجماعة في المهدي
السؤال
ما هي عقيدة أهل السنة والجماعة في المهدي؟
الجواب
نؤمن بأنه يخرج من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم, وينصره الله سبحانه وتعالى بعد أن يبتلى ومن معه من المؤمنين, وينزل في أيامه عيسى عليه السلام, وتمتلئ الأرض عدلاً بعد ما امتلأت جوراً, وسيصلي بعيسى عليه السلام, وشيخنا الشيخ عبد المحسن العباد حفظه الله له كتاب في موضوع المهدي: الرد على من كذب بالأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي وغيره من المؤلفات.(98/55)
الدعوة في المجتمعات الكافرة عن طريق المناظرات العلنية
السؤال
لماذا لا تلقى محاضرات ومناظرات في أمريكا توضح فساد عقائد النصارى واليهود؟
الجواب
أحب أن أقول للإخوان أنني لا أؤيد فكرة المناظرات العلنية في أمريكا في هذه الظروف, كما فعل الشيخ الداعية أحمد ديدات، وهو مأجور إن شاء الله, لكن العدو الآن يملك هذه الوسائل الضخمة فتأتي أنت لتثيره, ولهذا بدأ النصارى بالالتفاف أكثر حول كنائسهم لما وجدوا مثل هذه المناظرات.
فنقول أولاً: يجب علينا اتباع الأسلوب الأمثل لمجادلتهم؛ الله تبارك وتعالى يقول: ((وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ)) [العنكبوت:46] فمجادلة أهل الكتاب لابد أن تستند إلى أسلوب علمي شرعي, كما جادلهم شيخ الإسلام رحمه الله في الجواب الصحيح مثلاً.
والأمر الآخر أننا الآن لسنا في مرحلة مواجهة, وقد لا يسمح لنا بالمناظرات, نحن نحتاج إلى مراحل تمهيدية قبل ذلك وهي مراحل إعداد الأمة عقائدياً, وإعداد الشباب المسلم بالعلم الشرعي, والإدراك الصحيح للأحداث المرتبطة بالواقع؛ ليستطيع أن يقوم بواجبه, أما والمسلمون هناك أكثرهم يعيش على هامش المجتمع الأمريكي, أو كما يعيش الأمريكان أنفسهم فإن مخاطبتهم لن ينتج عنها إلا إثارة عاطفية لا يترتب عليها شيء له قيمة.(98/56)
كتاب برتوكولات حكماء صهيون
السؤال
ما هي حقيقة كتاب برتوكولات حكماء صهيون؟ ولو كان حقيقة ثابتة عندهم فلماذا لم يوقف نشره من قبلهم؟
الجواب
الكتاب سواء كان حقاً أو غير حق فالواقع يؤكده, يعني: حتى لو كان خيالاً تخيله واحد منهم فالواقع يؤكده, وهذا هو ما يهمنا نحن في الموضوع بغض النظر عن حقيقة ثبوته.
السائل: لماذا لا يمنعونه؟ الجواب: هم لن يمنعوه؛ لأنهم الآن يريدون أن يوهموا الناس بقوتهم وجبروتهم ودقة تخطيطهم, وإلا يا إخوان! فإن خطط إسرائيل كثيراً ما تفشل! خطة احتلال لبنان فشلت, وتصوروا أن المقاومة التي قاومتهم في لبنان -على تمزقها وضعفها وقلة عقيدتها- قد أعطتهم دروساً ما كانوا يتوقعونها! حتى حرب الخليج لم تكن نتائجها كما توقعوا ولا كما خططوا, فقد كسبوا جوانب لكن خسروا جوانب أخرى, وهكذا فاليهود والنصارى وغيرهم لا يكسبون دائماً كما نظن.
ومن هنا فإن نشر مثل هذه المخططات قد يوحي بأنهم يخططون وينجحون, بينما الواقع يثبت أنهم كثيراً ما يخطئون, ولولا ضعفنا ما كانوا أقوياء, ولولا تفرقنا ما كانوا متحدين, فاليهود متلاعنين, متجادلين, متناحرين, في فلسطين وفي أمريكا , وفي كل مكان, لكن نحن الذين جعلناهم يتحدون.(98/57)
كتاب المسيح الدجال لسعيد أيوب
السؤال
ما رأيك في كتاب المسيح الدجال، وهو من تأليف سعيد أيوب، فهل تنصح بقراءته؟
الجواب
أنصح من يستطيع منكم أن يدرك بعض الأخطاء والملاحظات التي عليه أن يقرأه؛ ولكن دون أن يعتمد على كثير من تفصيلاته, وإنما قد يؤخذ منه فكرة النصارى عن عودة المسيح وأنها حقيقة, والتعرف على ما يريدون من عودته, وكيف يتهمون -قاتلهم الله- النبي صلى الله عليه وسلم بأنه هو المسيح الدجال؟! لعنهم الله لعناً كبيراً.
وفي الأخير فقد اقترح بعض الإخوة أن تنشر هذه المحاضرة في كتيب, فنرجو أن يتوفر لنا الوقت لذلك.
وختاماً نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى, ولا تنسونا من دعواتكم يا إخوان! والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(98/58)
أثر الإيمان في بناء الأمم
إن لصدق الإيمان بالله آثاره الواضحات في واقع حياة الأمم، ويتجلى ذلك بوضوح عند تتبع حياة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة صحابته الكرام.
كما أن الإيمان هو الركيزة الأساسية لتمكين الأمم في الأرض، بغض النظر عما تملكه من قوة وسطوة.
فيجب على أمة الإسلام القيام بدورها المنتظر في نشر الإيمان الصحيح ليتحقق بذلك للبشرية سعادة الدنيا والآخرة.(99/1)
أهمية الإيمان وأثره في واقع الحياة
مقدمة المقدم: الحمد لله نحمده ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإن الله عز وجل خلقنا لأمر نفعله وسنسأل عنه يوم القيامة، وهو أول ما نسأل عنه، وهذا الأمر هو ما افترضه الله عز وجل علينا، وما أخذ عليه العهد منا ونحن في صلب أبينا آدم؛ لأن الله أوجدنا في هذه الأرض لنحقق ما افترضه علينا والقيام بواجبه، وقد أقسم الله في غير ما آية من كتابه أن من أخل به فإنه خاسر، قال الله تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3] وقال الله عز وجل: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين:1 - 6].
وإن الإيمان أعظم واجب كلف به الإنسان في هذه الحياة، فهو حق الله عز وجل على عباده، من حققه كان له الفوز والفلاح والنجاح وكان له التمكين في الأرض، ومن أخل به كان له الخسران المبين، ولا فرق في ذلك بين الأمم أو بين الأشخاص، فالكل سيَّان في ذلك، سواء نظرنا في هذا الموضوع إلى البشرية كأمم، أم نظرنا إليها كأفراد، فالكل مطالبون بتحقيق الإيمان، فإن حققته الأمة كتب الله لها التمكين في الأرض، وكتب لها النصر والعزة، وإن أخلت به كتب الله عليها الذلة والصغار، ثم محقها وسحقها، ولنا فيما قص الله عز وجل علينا في كتابه من إهلاكٍ للأمم الماضية أكبر واعظ، وأكبر دليل على أن من أخل بالإيمان فإنه يبوء بالخسران في الدنيا قبل الآخرة قال تعالى: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:127].
وكذلك إذا كان الإخلال في الإيمان على مستوى الأفراد، فإن من أخل بالإيمان فإن له الخسران المبين في الدنيا والآخرة، وهذا ما سنتناوله لاحقاً في نتيجة الإخلال بالإيمان، ونتيجة إقامة الإيمان -أي ما الذي يترتب على إقامة الإيمان؟ - سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى الأمم، وما الذي يحصل للأفراد وللأمم إذا أخلوا بالإيمان؟ يقول الشيخ سفر: الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد المبعوث رحمة للعالمين، الذي علَّمنا الإيمان والتوحيد، وحذرنا من الشرك والضلال والبدع، وربى خير أمة أخرجت للناس فقامت أعظم أمة في تاريخ الإنسانية، أعظمها إيماناً وعدلاً، وأخلاقاً، وأطيبها حياةً في هذه الحياة الدنيا، وأسعدها عند الله تبارك وتعالى في الدار الآخرة.
أما بعد: فإن الحديث سيكون عن أثر الإيمان في بناء الأمم والأفراد -والكلام القادم- سيكون عن أسباب انهيار الأمم، ولماذا تنهار أمم وشعوب؟ ولماذا تبقى غيرها؟ فالأمر يحتاج إلى وقت طويل؛ ولكن خطورة الأمر وأهميته هي التي تجعلنا نتحدث عنه بما يفتح الله تبارك وتعالى به علينا.
وإن مما يدلل على أهمية هذا الأمر أن دعاة الحق والإيمان والسنة، حينما يدعون الناس وأنفسهم إلى كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلى الاقتداء بمنهج السلف الصالح في كل أمورهم العلمية والعملية، فإنهم إنما يدعون الأمة إلى الدواء الذي يشفي بإذن الله تبارك وتعالى من كل داء، ويكفي عن كل علاج؛ إنه الدواء الذي يستأصل جميع الأمراض من قلوب العباد -وأمراض الأمم عامة- ويمنع أسباب الانهيار التي يتعرض لها الفرد أو تتعرض لها الأمة.
وإننا حين ندعو الناس فنقول: عودوا إلى كتاب ربكم وسنة نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن الأمر لا يعني تعصباً لمذهب معين، ولا يعني قسراً وفرضاً للناس على رأي من الآراء البشرية أبداً، ولكنه دعوة إلى سعادة الدنيا والآخرة، ودعوة إلى المنهج القويم الذي يضمن ويكفل للإنسانية أفراداً وشعوباً أفضل الحياة في الدنيا، ويحقق لها النجاة من العذاب في الآخرة.(99/2)
واقع إيماننا وارتباطه بالمادة
إن العالم اليوم يخاف من الانهيار ويخشى منه، وما من دولة أو فرد إلا وهو يخشى ذلك ويحسب له كل حساب، حتى أقوى وأغنى دول العالم فإنها تتحدث كثيراً عن مسألة الوجود، وإثبات الوجود، وتضع الخطط البعيدة المدى لتبقى ولتصارع ولتزاحم في خضم معترك الحياة، التي جعلوها -هم- صراعاً كصراع الوحوش في الغابات، ولكن كل من يؤمن بالله واليوم الآخر يدرك أن هذا العالم -إلا ما ندر- لا ينظر إلى مسألة الانهيار، وأسباب سقوط الأمم إلا من زاوية واحدة فقط وهي الزاوية المادية أو الاقتصادية.
حتى هذه الأمة المباركة؛ بل حتى الذين يقرءون كتاب الله ويسمعونه آناء الليل والنهار، ويسمعون الأذان خمس مرات في اليوم والليلة -وأكثرهم من هذه الأمة- أصبحوا يصدقون هذا، فيبنون خططهم وأفكارهم وآراءهم على أن الحياة مرتبطة بالاقتصاد وبالمادة، وأن الخوف الذي يجب أن يكون لدى الأفراد أو الأمم هو الخوف من الفقر والخوف من الجانب المادي أن ينهار فينهار الفرد أو تنهار الأمة، ويشغل ذلك حيزاً كبيراً من تفكير الناس، المسلم منهم والكافر.
ونحن أمة الإسلام والقرآن يجب علينا أن نعرض كل أمر من الأمور على كتاب ربنا، وسنة نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لنعرف قيمة هذا الإيمان وحقيقته، وأنه هو الذي به تصلح دنيانا وأخرانا، وأما المقاييس والمعايير التي يقيس بها الكفار والماديون والشيوعيون والملاحدة؛ فليست بحجة ولا بعبرة عند من يؤمن بالله واليوم الآخر، ومن يؤمن بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فهذا نبي الهدى والرحمة صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخبرنا فيقول: {ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم} فأي رحيم وأي مشفقٍ وأي ناصحٍ أفضل وأعظم من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! لا أحد والله يساويه فضلاً؛ ومع ذلك ينصح لهذه الأمة، وهو الذي شفقته ورحمته ورأفته بنا كما قال الله عز وجل {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] وهو الذي في يوم القيامة يوم الكرب الأعظم الذي لا كرب أعظم منه، حين يقول: كل نبي: نفسي نفسي، يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أمتي أمتي}.
ففعله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو من كمال الشفقة، والرحمة، والرأفة؛ ومع ذلك يخبرنا أنه لا يخشى علينا، وهو الذي يخشى علينا من أي ضرر وإن كان قليلاً، ويدلنا على ما ندفع به كل شر وإن كان بعيداً، فقوله: {ما الفقر أخشى عليكم} أي: أنه لا يخشى علينا الفقر مع أنه تعوذ منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعاذ بالله منه، وهو مما يحاربه هذا الدين، بل إن الأمر في ديننا مختلف ومذهب وعن كل دين محرف.(99/3)
التكافل الاجتماعي في الإسلام مرتبط بالإيمان
إن أمر إطعام المسكين عند المسلمين مرتبط بالإيمان بالآخرة، قال تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون:1 - 3] فالأمر عندنا أسمى من أن يكون في الجهات الأخلاقية، وأسمى من أن يكون أوامر قسرية تنهب الأغنياء لتعطي الفقراء، إنما الأمر عندنا مرتبط بالآخرة، ومرتبط بأصل الإيمان قال تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر:42 - 44] وانظروا كيف يحض هذا الدين على المسكين ويربطه بالرحمة؛ فيكون إطعام المسكين مما يحض عليه من الرحمة {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} [البلد:11 - 14] انظروا كيف تكون الرحمة مرتبطة بالإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى! فإذا صحت العقيدة فإنها ترتبط ارتباطاً مباشراً لا انفكاك معه؛ ومع ذلك كله لا يخاف علينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الفقر.(99/4)
الاهتمام بالمادة دون الإيمان سبب في زوال الأمم
يجب على أمة القرآن وأمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تلغي النظرة إلى أن أسباب الانهيار هو ضعف أو قلة الموارد الاقتصادية أو الجوانب المادية تماماً؛ وبالتالي: علينا البحث عن أسباب زوال الوجود وأسباب الانهيار من خلال هدي رسولنا وسنة ربنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(99/5)
عدم الإيمان سبب زوال الأمم السابقة
لقد بيّن الله لنا في كتابه الكريم أوضح البيان حال الأمم قبلنا، والعجب أنه ما من أمة أهلكها الله تبارك تعالى إلا وهي في حال القوة! ويشهد بذلك كتاب ربنا وكذلك التاريخ وواقع الأمم.
قوم نوح دمروا في وقت قوتهم وتمكنهم، وقوم عاد الذين قالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:15] فلم يروا أن أحداً أشد منهم قوة، وقد قال الله تبارك وتعالى فيهم: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر:6 - 8] وثمود: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} [الفجر:9] الذين نحتوا الجبال، وبنوا وشادوا المصانع، فهل أتاهم عذاب الله وهم في حالة ضعف؟! أو في حالة انهيار اقتصادي؟! أبداً فقد أتاهم وهم في أقوى ما يمكن أن يكونوا عليه من القوة والتمكن، وفرعون -أيضاً- متى أهلك؟ ومتى دمر الله هذه الأمة القبطية الفرعونية؟ وهل دمرت وهي في حالة ضعف؟! لا، بل دمرت وانهارت وسقطت وهي في أشد قوتها، عندما تكبر زعيمها، ذلك الرجل الذي بلغت به الوقاحة والجرأة على رب العالمين أن يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] وأن يقول: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [القصص:38] ففي أشد القوة والتمكن دمره الله، إلى غير ذلك مما لا يخفى علينا، كما قال الله تبارك وتعالى: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} [سبأ:45] وفسر المعشار بأنه عشر العشر.
فالأمم قبلنا قد سادت وشادت وبنت، وبلغت من القوة ما بلغت، مع ذلك أهلكت وعذبت لسبب ليس هو الضعف المادي بأي حال من الأحوال.
وكذلك أتى التاريخ شاهداً لذلك، عندما دمَّر الله تبارك وتعالى ملك كسرى وقيصر فهل دمرت مملكة الفرس والروم، لأنها كانت تعاني من ضعف مادي؟! أبداً، فلقد كان الفرس يستعمرون الجزء الشرقي من العالم وينهبون خيراته، وكان الروم يستعمرون الجزء الغربي، ويكفي أن نعلم أن الروم كانوا مستعمرين لـ بلاد الشام ومصر وغرب إفريقيا بكاملها، فكانت مستعمرة رومانية.
إذاً: في أوج القوة والعظمة سقطوا وذهبوا، لماذا؟ لأنهم واجهتهم وقابلتهم جيوش التوحيد، التي عقد لواءها خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذلك البلد الطيب الطاهر، تلك الجيوش القليلة العدد والعدة، لكنها ذهبت وانطلقت ذات اليمين وذات الشمال، فأطاحت بأعظم دولتين في تاريخ القرون الوسطى، فكيف انهارت؟! ولماذا انهارت؟ وهل كان سبب الانهيار هو الضعف المادي أو الاقتصادي أو التفكك السياسي أو أو إلخ؟! ومع الأسف هذا هو الذي نقرأه في التاريخ، أو نسمعه في محاضرات أو ندوات أو ما يكتب في الصحافة، وفي الكتب، حتى أدى ذلك إلى أن غفلت أمة الإسلام عن هذه الحقائق الذهنية، فأصبحت أمة مادية تنظر إلى التاريخ، وإلى أسباب البقاء والفناء، والحياة الطيبة، وإلى أسباب الحياة الشقية نظرة مادية بحتة.(99/6)
أثر الإيمان في حياة الرسول والصحابة
كيف كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعيش؟! وكيف كان كسرى يعيش؟! وهل هناك مجال للمقارنة؟! رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيد ولد آدم، وأفضل الخلق عند الله وأحبهم إليه، ومع ذلك يربط الحجر على بطنه من الجوع، ويمكث الشهر والشهرين ولا يدخل بيته إلا الأسودان (التمر والماء) ولم يشبع من خبز الشعير، ولم يجلس على خوان قط (على مائدة) كما جلس من بعده.
ولو قرأنا سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنها صورة أصحاب الصفة؛ لوجدنا العجب العجاب!! كيف كان الصحابة الكرام يعيشون؟! وكيف كان أهل الصفة يعيشون؟ كيف كان الناس وكيف كانت حاجتهم في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! بل إن هذا الحديث الذي قاله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما الفقر أخشى عليكم} قد ذكره؛ لأن الصحابة الكرام بلغهم أن أبا عبيدة قد قدم بمال من هجر، فاجتمعوا -الحاجة جمعتهم، وهذه الحالة الاقتصادية لو قورنت بوضعنا اليوم؛ لقلنا: إنها مجاعة، ومع ذلك فهذه كانت حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه حياة أصحابه.
فكيف كانت حياة كسرى؟! وماذا نقول عن حياته نذكر فقط بعض ما قاله المؤرخون عن حياته وبعد أن هزم ودخل سعد بن أبي وقاص المدائن، ودخلوا الإيوان (القصر الأبيض) وهم يذكرون الله شاكرين حامدين يقولون: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان:25 - 27] فلما دخلها سعد رضي الله عنه كيف كان حال كسرى؟! يقول بعض المؤرخين: لما دهمه المسلمون ورأى أن المدائن ستسقط، ولا حيلة له ولا مفر، اصطحب معه ما خف من متاعه وشهواته، فما هو هذا الخفيف؟ اصطحب ألفاً من الطباخين والطهاة -فقط- وترك الباقي، وأخذ معه ألفاً من البزاة -الذين يعلمون الجوارح والصقور وغيرها لتصطاد لهم- ومن الجواري نحو ذلك؛ وحملوا من النفائس ألف حمل أو ما أشبه ذلك، هذا فقط وهو هارب أخذ الشيء الكثير والعجيب، ليهرب به من وجه هؤلاء المؤمنين وترك من الكنوز العظيمة التي أورثها الله لأمة الإيمان تطبيقاً لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما الفقر أخشى عليكم} وتطبيقاً لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله} انظروا لم يقل: لتستثمرن أموالهما لتنمية أو لتحسين أوضاع المسلمين، لا، وإنما لتنفقن في سبيل الله، ولذلك ورث المسلمين هذه الكنوز، وأنفقت في سبيل الله، فإذا كان هذا حاله وهو هارب، فكيف حاله وهو مقيم؟! فهذا طاغوت الضلال الذي مزق كتاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذه حياته وتلك حياة خليل الله وحبيبه وصفيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(99/7)
الإيمان سبب في الحياة الطيبة
فالعبرة في الحياة الطيبة والحياة السعيدة (في بقاء الأمم) في سعادتها في الدنيا والآخرة، ليست أبداً في ذلك الجانب الذي يزعمون؛ وإنما هي في الإيمان بالله والتمسك بكتابه، قال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:123 - 124] أي: أن الذي يتبع هدى الله لا يضل ولا يشقى، فهو على الصراط والطريق المستقيم وعلى الحق؛ وأيضاً لا يشقى بتسليط أعداء الله عليه، ولا بفقر، ولا ببلية لاحقة بعذاب من عند الله يرسله عليه، وأيضاً إن من لم يسر على الصراط المستقيم وأعرض عن ذكر الله فله من المعيشة الضنك بقدر إعراضه عن ذكر الله، وعكس ذلك قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] إذن فإن طيبة الحياة وسعادتها بقدر الإيمان، وشقاوتها ونكدها بقدر الإعراض عن ذكر الله تبارك وتعالى، فهذه قاعدة مقررة، وليست العبرة بكثرة ذات اليد ولا بالقلة؛ مع أن لها جانباً كبيراً لا يغفل، لكن ليست العبرة والأساس بها، وإنما هو في اتباع هدى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى واتباع ما أنزل الله عز وجل.(99/8)
حال بني إسرائيل في ظل فرعون
فكيف كان حال بني إسرائيل -كما ذكره الله في القرآن وكما هو مذكور في التاريخ- في ظل فرعون؟ هذا الطاغوت الذي لم يحدثنا الله تبارك وتعالى عن طاغوت كالحديث عنه، ولكن! ماذا وعدهم الله؟ وكيف كان فرعون يصنع بهم؟ كان يقتل أبناءهم، ويستحيي نساءهم ويفعل بهم الأفاعيل، ولا حيلة لهم على الإطلاق في هذا المجتمع الظالم، ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أخبر عن وعده لهؤلاء، فقال: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5] سبحان الله! الله إذا أراد أمراً فلا مرد له، فقد قضى الله وقرر أنه يريد أن يمنُّ على هؤلاء لأنهم كما قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} [القصص:4] وشيعاً: أي أن المجتمع الفرعوني كان طبقات، وكان أردؤُها طبقة بني إسرائيل.
والله تعالى يعد بأنه يريد أن يمنُّ على هؤلاء المستضعفين، ويجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين؛ وفعلاً تحقق ذلك لمّا أن كان بنو إسرائيل على دين الله، ولما اتبعوا نبيه، رغم ما فيهم من التواءات، وبالرغم مما قاسى موسى عليه السلام وما عانى كما شكى ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ليلة الإسراء، فقال: {قد عانيت من أمر الأمم من قبلك ما لم تعان} ومع ذلك فقد قال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ} [الأعراف:137] فتحقق وعد الله عز وجل مع أنهم كانوا أمة في الحضيض، وأمة عصاة غلاظ القلوب والأكباد، إلا أنهم ابتعدوا عن التخاذل فترة ما أورثهم الله، ومن أصدق من الله قيلاً، فكيف بهذه الأمة وقد قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] فلو قلنا: إن الأرض هي الجنة فلا إشكال -كما هو قول بعض المفسرين- ولكن أيضاً كتب الله عز وجل ذلك وحققه في الدنيا، فأورثت هذه الأمة، ومكنت في هذه الدنيا؛ لأنها كانت على الإيمان بالله تبارك وتعالى.(99/9)
قيمة الإيمان والمادة وأثرها في واقع الحياة
وإن شئتم أن نأخذ نماذج حديثة لنعرف بها قيمة الإيمان الذي أنعم الله به علينا، ففي هذه الأمة وفي النفوس جمعاء عادة يجب أن نعلمها، وهي من أسوء ما يعتري النفس الإنسانية، ألا وهي النسيان، والملل، وعدم التفكر، أو تبلد الإحساس؛ فمثلاً الذي يعيش في النور باستمرار لا يحس بقيمته، لماذا؟ لأن ذلك أصبح عادة في حياتنا؛ فلا نعرف قيمة هذه النعمة، كمثل رجل في البادية في مكان بعيد يعاني من الظلام في الليل، فهو كل يوم يتذكرها.
نحن لا نتذكرها، وقس على ذلك النعم العظيمة، فنحن في نعمة الإيمان لكننا لا ندرك قيمتها، والنور يغمرنا ولكن لا ندرك قيمته، ولا نجد أثراً لتلك النعمة في قلوبنا.
أما الصحابة الكرام فإنهم لما عرفوا قيمة هذا النور؛ جاهدوا في الله حق جهاده، وتجردوا لله عز وجل، فلم تأخذهم في الله لومة لائم، فقد تركوا المال والأهل والدنيا وخرجوا لله للجهاد، ففتحوا وتعلموا وعلموا، فهذا حال الصحابة الكرام الذين عرفوا قيمة النور وقيمة الإيمان، لكن! متى انتقض الإسلام شيء فشيئاً؟! كما قال عمر رضي الله عنه: [[إنما ينتقض الإسلام إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية]] أي: لا يعرف خطر الشرك والكفر، والبدعة، ولا يعرف قيمة وأهمية الإيمان.(99/10)
أحوال الأمة اليوم مع الإيمان والمادة
والمؤلم أن كثيراً منا ينظر إلى العالم الغربي، وهو العالم الذي يعاني أشد المعاناة من المعيشة الضنكة والحياة النكدة؛ لأنه بعيد عن الإيمان بالله، ينظر إليه نظرة الإعجاب، ويتمنى كثير منا -ربما عن طيب نية- أن تصل مجتمعاتنا إلى ما وصلت إليه تلك المجتمعات من الرقي والتقدم والسعادة، فماذا يريدون، وأي سعادة يريدون في أوروبا وفي أمريكا الإنسان مكفولة له الحرية الشخصية؛ فيقول ما يشاء ويذهب أين شاء.
الحياة المادية مكفولة؛ فيعطى السكن المجاني بأقساط زهيدة، ويعطى فرص الحياة كما يشاء، والمريض إذا مرض بمرض مقعد أو ما أشبه ذلك يعطى بطاقة في جيبه يأكل بها في أي مطعم، وتدفع ذلك الحكومة.
ومن جهة الترفيه؛ فكل وسائل الترفيه موجودة ومهيأة، فيذكرون أموراً كثيرة جداً، وكيف أنهم يعيشون في العمارات الشاهقة، ولديهم الشركات الضخمة، وكذلك إنتاج الأسلحة في أقوى ما يمكن، وإنتاج الأدوية والزراعة، وكل وسائل الحياة الدنيا متوفرة لديهم، فيتحرقون ويتشوقون أن يكونوا أفراداً لتلك الأمم ويتمنون أن بلادهم وأمتهم تكون مثل تلك الأمم.
هذه النظرة الظاهرة السطحية إلى حياة تلك الأمم نظرة الذين لا ينطلقون في نظراتهم ويقيمون معاييرهم وموازينهم بميزان الإسلام، وبما جاء في كتاب الله وسنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلو أننا غيرنا النظرة، ونظرنا بمنظار حقيقي كيف تعيش هذه الأمم على حسب ما جاء به كتاب ربنا وسنة نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فماذا نجد؟ نجد الشقاء كل الشقاء والانهيار المحتوم الذي لا تغني ولا تجزي عنه كل هذه الوسائل، وكل هذا التقدم المادي المرضي، لكنهم يعيشون في شقاء، الأثرياء في شقاء ونكد وخوف، والفقراء كذلك في شقاء ونكد وخوف، فالرجل هناك يعمل ثمان ساعات في دائرة حكومية تضمن له مرتباً كافياً، ومع ذلك لابد أن يبحث عن عمل في إحدى الشركات في المساء أيضاً لكي يضمن كما يقال المستقبل، لأنه يخاف على مصير أولاده، فيخشى أكثر بكثير جداً من الرجل الذي يعيش في الدول الفقيرة كـ الهند وبنجلادش وغيرها من الذي لا يجد إلا قوت يومين أو ثلاثة، وربما لا يفكر في المستقبل إلا قليلاً، فهذا هو الذي يهم أسباب القوة والرخاء فتجده يفكر الليل والنهار، مع أن رصيده مضمون له، ومع أن الدولة تعطي مأوى للعجزة، ومع ذلك كله لا راحة ولا طمأنينة أبداً، فهو يلهث ليل نهار مهما كان لديه من شركات ومؤسسات فإنه يخاف المستقبل، فهاتفه يجلب عليه ضيق، فيأتيه عن طريقه فقط خمسة أعمال وهموم في وقت واحد، كما نجده عند أغنيائنا الكبار أيضاً.
تفكيره وهمومه الدولار أو الجنيه انخفض أو ارتفع، وهل زاد التأمين أم انخفض؟! فهو مشغول العقل ليلاً ونهاراً من أجل هذه الدنيا، ومع ذلك: إن جالسته تجده مهموماً مغموماً يخاف من المستقبل ويفكر في الانهيار والخسارة أكثر مما يفكر بها الإنسان العادي، حتى أن نسبة الانتحار في العالم الغربي، وكذلك مع الأسف في العالم الشرقي والعالم الإسلامي عالية جداً، وأيضاً يزداد التفكك في الأسرة، شيء عجيب جداً يعيشه هذا العالم البعيد عن دين الله، وعن الإيمان به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
النكد مرسوم على ملامحهم، والحياة الشقية مرسومة على وجوههم، فيهربون ويلجئون منها إلى المخدرات، فلا يجدون فيها إلا الوبال، فيهربون منها إلى الشهوات المحرمة، فظهرت لهم هذه الأوبئة التي حجزتهم وحرمتهم عن هذه الشهوات وهذه المتع، فأين يذهب هؤلاء الناس؟! أين يذهبون؟! أما نحن المسلمين فإننا نعرف قوله تعالى {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] وقوله: {لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة:118] ولكن! هم والله لا يدرون؛ ولذلك فهم يحارون ويحارون! فيعلقون الآمال على ما عندهم من العلم كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [غافر:83] فالأوبئة تعالج بأن العلم سيكتشف لها مضادات؛ والانهيار الاقتصادي أو الخوف الاقتصادي يعالج بالخطط طويلة المدى؛ والخوف المستقبلي يعالج بأن الحياة مضمونة ومكفولة وكذا وكذا، كل ذلك ضمن النظرة المادية القاصرة.
مثله كمثل المسجون في قفص؛ فكل مرة يفكر ويحلم بأن القفص سوف يتسع فيطير وهو مرتاح، وما درى أنه لن يتسع أبداً؛ وإنما لا حل له إلا أن يخرج من ذلك القفص، ولن يخرج من قفص الدنيا ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة إلا الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(99/11)
السبب في عدم نزول عقاب الله على دول الكفر
يتساءل أحدنا -وهو سؤال مهم-: لماذا لم يعجل الله العقوبة لهذه الأمم وهو قادر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأسباب الانهيار موجودة فيهم والكفر والإلحاد -أيضاً- موجود؟
و
الجواب
يجب أن نعلم أولاً: هل قامت الحجة على هذه الأمم؟ ومن الذي دعاهم؟ فإن دعوا إلى الحق ورفضوه استحقوا العقوبة من عند الله أو بأيدي المؤمنين، لكننا نحن المسلمين ببعدنا عن الله عز وجل نسهم في بقاء هذه الأمم الكافرة قوية ومسيطرة؛ لأننا لم نقم حجة الله عليها حتى ينزل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عذابه عليها.
فالله تعالى جعل سنناً لكل شيء، فيعدل بعضها ببعض، ويولي بها بعض الظالمين بعضاً، لكن لو أننا أقمنا حجة الله عليهم لنصرنا الله عليهم، أو لأهلكهم بعذاب من عنده كما يشاء، ولكننا تبعاً لهم، فنحن نردد ما يقولون، ونؤمن بما يقولون، ونسعى إلى أن نكون مثلهم في التقدم والرخاء والمدنية والحضارة، إذاً كيف نرجو النصر والفلاح ونظرتنا هكذا؟! ونحن الذين قال الله تبارك وتعالى عنهم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] لكننا نقول: نريد أن نلتحق بركبهم ويكفينا ذلك كما يردد البعض، والله تعالى يقول: {مَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18] فنحن عندما نقول ذلك، وعندما تكون غايتنا أن نكون في الذيل؛ فلن يجعلنا الله قادةً أبداً.(99/12)
تحمل هذه الأمة لمسئولية نشر الإسلام
كيف تكون حياتنا مطمئنة وسعيدة؟ وكيف نقضي -أيضاً- على الكفر والشرك والشر والضلال في العالم؟ نحن الذين أخرجنا للناس نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر فنحن مسئولون عن المظالم التي تقع، وحتى عن الفجور والشرور الذي يقع من الكفار في بلادهم.
فهذه تعتبر مسئولية على المسلمين؛ لأنهم هم الذين يملكون كلمة الله التي لم تحرف وتبدل، وماذا نصنع في ظل العالم الذي أصبح كالقرية، فتظهر الفكرة الخبيثة في الغرب في المساء وتصبح عندنا، وفي هذا العصر من غير المستطاع أن تعيش أمةٌ بمعزل عن العالم، ولهذا لابد أن نواجه هذا الواقع بهذا الإيمان القوي الصحيح، ولعل في ذلك حكمة وهي: أننا عندما نواجه هذا الواقع وقد ذقنا الأمرين منه، فإن ذلك يكون بداية لأن يصل هذا الدين وينتشر في الدنيا كلها، وأن {يبلغ ما بلغ الليل والنهار} كما ذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إذاً فمن أين يبدأ العلاج؟ إنه يبدأ من ذواتنا ومن أنفسنا، وهذه ميزة عظمى في هذا الدين المنزل من عند رب العالمين وهي أن الإصلاح يبدأ من الفرد، فليس هناك قبل ذلك شيء، فكل إنسان يجب أن يصلح نفسه ويتزود من الإيمان بالله إيماناً حقيقياً بالتمسك بسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبالدعوة إلى الله على منهج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويعلم أنه سوف يموت ويقبر ويبعث يوم القيامة فرداً، وسوف يحاسب على كل شيء، فليس هناك حساب جماعي أو أن العقوبة تكون جماعية؛ لأن المسئولية في الأصل هي على كل إنسان، قال تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء:13] فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد حدد في آيات كثيرة أن المسئولية فردية.(99/13)
كيف نحقق النصر؟ وما هي أسبابه
من حكمته عز وجل ورحمته: أن الأفراد مهما قل عددهم إذا قاموا بدين الله وعلى منهج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأظهروه ودعوا إليه؛ فإن الله عز وجل قد ضمن لهم وتكفل لهم بالنصر، ذلك نصرٌ لا يمكن لأحد أن يحول بينهم وبينه، بشرط أن تكون الغاية هي ما عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].
وإن من الأخطاء الكبيرة التي يحملها أصحاب الدعوات الإسلامية: أن يكون هدفها وغايتها قيام دولة الإسلام والخلافة الإسلامية التي تتمكن على العالم؛ حقاً أن المسلمين يجب أن يكون لهم خلافة، ويجب أن يكونوا هم المتمكنين في الأرض وليس في ذلك شك؛ لكن يجب ألا تكون هدفاً وغاية، وإلا فسدت النية، وهذه من ضمن المسائل التي يتحقق بها وعد الله عز وجل، فإذا فسدت النية؛ لم يتحقق النصر، لكن إذا كان الهدف هو الله والدار الآخرة، وأن ينجي الإنسان نفسه من عذاب الله سواء مات الآن أم مات بعد حين، وسواء تحقق النصر على يديه أو لم يتحقق؛ فهو في كل الحالات منتصر إذا استقام على التوحيد والإيمان، فأنبياء الله ورسله -مثلاً- الذين لم يتبعهم أحد كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ورأيت النبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ومعه الرهط -أو الرهيط- والنبي وليس معه أحد} هم لم يخسروا شيئاً، انتصروا؛ بل لأنهم حققوا ما أمر الله به، ودعوا إليه، هذا هو واجبهم، فإذا لم يستجب لهم أحد فليس ذلك عليهم، بل هو لله وحده.
لذلك فإن الذي يريد الدار الآخرة، والذي يريد أن ينصره الله في هذه الدنيا، فعليه: أولاً: أن يحقق حقيقة الإيمان، ويبدأ بإنقاذ نفسه من المعصية والقيام بطاعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ثانياً: أن يحرر رغباته من حب الدنيا والتعلق بشهواتها ومناصبها إلى الدار الآخرة، وليكن رجاؤه عند الله ورغبته فيما عن الله تبارك وتعالى.
فالأنصار -مثلاً- بايعوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ماذا؟ وماذا كفل لهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ كفل لهم الجنة كما في الحديث: {قالوا: وما لنا يا رسول الله؟ قال: الجنة، قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل} لكن نحن عندما عظمت عندنا الدنيا؛ هانت عندنا الجنة، فمن الآن يحدثنا عن الجنة؟ ومن منا يتذكر نعيم الجنة؟ لقد شغلنا بزخرف الحياة الدنيا، التي {لو كانت تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء} وكما جاء في الحديث {مر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه جمع من أصحابه بجدي أسك ميت، فأخذه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأذنه وقال: من يشتري هذا بدرهم؟ قالوا: يا رسول الله! لو كان حياً ما اشتراه أحد؛ لأنه أسك، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فو الله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم} وما قيمة الدنيا إذا تجردت عن الإيمان بالله إلا كجيفة فلتكن حضارات، أو صناعات، أو قصوراً، أو ملكاً عظيماً، لكنها إذا تجردت عن الإيمان بالله فإنها جيفة، لكن إذا ارتبط ذلك بالإيمان بالله فإنها تتحول إلى الحياة الطيبة، فإنه لم يقل: بكثرة المال، لأنها للكفار وهم أشد الناس وأكثرهم عقاباً وعذاباً قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:44] وأما للمؤمنين فقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ} [الأعراف:96] فلم يقل كل شيء؛ وإنما قال: (بركات من السماء والأرض) فهي بركة وإن كانت قليلة وإن قل الراتب، مثلاً أو قلت الوظيفة ففيهما بركة، فهذه الحقيقة التي يجب أن تكون في حسنا وفي إيماننا وشعورنا.
إن إنقاذ قيادة أمتنا لا تكون إلا بذلك، وإنقاذ هذا العالم الذي يتردى في الظلام والكفر والإلحاد والظلم والفساد، وتفتك به الأمراض القلبية، والأمراض الاجتماعية والنفسية، لا علاج لذلك كله؛ إلا بالإيمان الصادق بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأن يصبح الإنسان وهمه الدار الآخرة، وأن يمسي وهمه الآخرة، ولو أن الأمة وصلت لهذه الحقيقة لتغيرت نظرتها إلى كل شيء، ولكن كيف ننظر نظرة سليمة ونحن نعظم الدنيا، وننسى الآخرة، ونحسب حساب كل شيء بالمعيار وبالميزان الاقتصادي والمادي، حتى العلاقات بين الأسر أصبحت تقاس بالمادة، فالعرض والشرف هو أغلى شيء كان يملكه الإنسان في جاهليته، وهو أغلى شيء في دينه أيضاً بعد إسلامه، أما الآن أصبح كل شيء يقاس بالمادة، أصبح الإنسان يرضى أن يدنس عرضه ويعرضه للشرور من أجل دراهم معدودة.
إذاً، سخرنا كل شيء من أجل المادة، وشغلنا بعيوب الناس وننتظر إصلاح نفوسهم، فكأن صلاحنا مرهون بصلاحهم، فأصبح كلامنا عن الناس هو حالنا؛ لكن كم منا من يتكلم عن نفسه؟! ومن منا من يحاسب نفسه؟! ومن منا من ينظر إلى ذنوبه وإلى عيوبه؟! وأقل من ذلك، من منا الذي إذا أهدي إليه عيب من عيوبه فرح وحمد الله تعالى وشكر له وشكر صاحب الهدية؟! ومن منا الذي إذا أرشده إنسان إلى سنة من سنن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يتركها يفرح، ويستبشر أنه عرف السنة وترك البدعة؟! فكيف مع هذا نرجو أن يغير الله ما بنا من حال! والله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] لا يمكن أبداً، فلن يجاملنا الله عز وجل لأننا ندعي أننا مسلمون أو أننا أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا إنما هو حق وإيمان ودين فما دان الله عز وجل وما حابى أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما عصوا أو وقع من البعض الانحراف في مراحل معينة في أُحد -مثلاً- وفي يوم حنين وفي غيرها أبداً! فالله غني عن العالمين سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فإذا أن ننقذ أنفسنا وأردنا أن نفوز برضا الله عز وجل وبسعادة الدارين فهذا هو المنطلق.
فالواجب علينا دعوة الناس إلى العقيدة الصحيحة، والإيمان الصحيح، والتمسك بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنها ليست مجرد آراء، ولا تعصب لأشخاص، ولا انتماء لطائفة من المسلمين قديماً أو حديثاً؛ لكنها المفتاح والطريق والمخْلَص والمنقذ الوحيد.
نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يوفقنا جميعاً وأمتنا كلها للعودة إلى كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والتمسك بهداه إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.(99/14)
الأسئلة(99/15)
الحداثة وخطرها على المؤمن
السؤال
أرجو أن توضح لنا ما معنى الحداثة وما هي خطورتها على الإيمان وعلى المؤمنين؟
الجواب
الوقت يضيق عن توضيح هذه الفكرة أو الحديث عنها، ولكن لنربطها بموضوعنا السابق من جهتين: أولاً: من جهة الغرب الذي نشأت فيه هذه الأفكار: فإنه ما نشأت فيه إلا لأنه لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فهذه إحدى الصرعات والموضات والموجات الفكرية الوبائية التي اجتاحت الغرب والتي يشكو منها المفكرون الأوروبيون الذين يخافون على بلادهم، فيتخوفون من الحداثة وأشباهها على مجتمعهم؛ لأنها ليست لغة ولا أدب، وهذه معلومة يجب أن يعرفها الجميع، فـ الحداثة اتجاه كامل في الحياة، أي: نظرة كاملة إلى الحياة، وهناك كتاب مطبوع بعنوان: ما الحداثة؟ تأليف رجل فرنسي اسمه جنرلي ليسيفر وملخص ما ذكر فيه: ' إن الحداثة هي إشعال الثورة، أو القيام بالثورة، أو تحقيق الثورة الغائبة هنا؛ وغير المكتملة هناك " ما معنى هذا الكلام؟ هذا الكاتب في باريس يكتب ويقول: " > الحداثة هي تحقيق الثورة الغائبة " هنا أي غائبة في باريس غائبة لماذا؟ لأن باريس ليست شيوعية -كما تعلمون- فـ الحزب الاشتراكي يمتلك نصف المقاعد في فرنسا، والشيوعيون يمتلكون بعض المقاعد، ويريدون أن يسيطروا على فرنسا، فالصورة الغائبة في فرنسا فهي غائبة فيها لعدم تحققها، وغير المكتملة هناك أي (في موسكو) لأنهم يعتبرون أن موسكو التي هي رمز الشيوعية ثورتها ناقصة غير مكتملة، لماذا؟ لأن المرحلة التي كتب عنها ماركس لم تتحقق بعد.
وألخص هذا مما قاله زعيم الحداثة أو مؤسسها في العالم العربي وهو النصيري أبي يوسف يقول: إنها الثورة ضد المجتمع والدين والأسرة والأخلاق، لابد أيضاً من ثورة في الأدب ضد الأدب، وفي المسرح ضد المسرح؛ وثورة في اللغة ضد اللغة، وثورة ضد الدين، المهم ضد كل شيء.
لأن ماركس أصلاً عندما وضع الشيوعية في القرن الماضي يقول: الشيوعية تمر بمراحل: المرحلة الموجودة الآن في العالم هي تطبيق لمرحلة ما قبل النهاية بالنسبة للشيوعية، والمرحلة التي هي ما قبل النهاية هي أن تسيطر البرولتاريا أو الطبقة الكادحة العاملة وتحكم، وهذه مرحلة، وأما مرحلة ما بعد البرولتاريا فهي مرحلة ألا دولة، وألا سلطة على الإطلاق، وهذه المرحلة لم تصل إليها روسيا، ولهذا ليسيفر يقول: 'الثورة الواقعة غير مكتملة في موسكو، لأنها لم تأتِ بعد مرحلة ألا دولة وألا سلطة وهي كذلك، مفقودة في باريس ' فأي مصيبة يريد هؤلاء الناس أن يوصلونا إليها، فإذا كانت باريس لا شيء وموسكو ناقصة؛ فمن أين يأتي هذا الكمال؟ إنه أمر خطير ومع ذلك أقول: ما هي إلا موضة من موضات كثيرة، وما هي إلا أسلوب من أساليب كثيرة لهدم هذا الدين، ولهدم هذه الأمة ولتمزيقها، وتحتاج منا إلى مقاومة وهذه المقاومة موجودة في الشرق والغرب، وأما المجتمعات الإسلامية إذا كانت مجتمعات إسلامية حقة فلن تجد هذه الموضات ولا ما أشبهها موضع قدم فيها، وهل يوجد شاب مؤمن مسلم يقيم صلاته ودينه يمكن أن يتأثر بهذه الأفكار! لا يمكن أبداً.
فالوقاية منها ليست وقاية من هذه المشكلة الخبيثة فقط، بل إن الوقاية من كل مشكلة ومن كل خطر وغزو في أن نربي مجتمعنا على الإيمان الصحيح والعقيدة الصحيحة والكتاب والسنة، وحينئذ نبحث في هذه الأفكار.
أتدرون أن من جماعات الحداثة في باريس وهي أكبر مركز في الحداثة: جمعية الضفادع! وهم شباب متخنفسون يهملون شعورهم ويعيشون في حالة مزرية، وينسبون أنفسهم لجمعية الضفادع!! ويقابلهم جمعية أخرى اسمها جمعية الخنازير كذلك يعيشون في حالة سيئة جداً يتسكعون في الشوارع، ويتعاطون المخدرات، وينامون على الأرصفة، هذه من شيم الحداثة في باريس وأمثالها، وهذه هي الحالة التي وصلوا إليها! فهل يمكن أن يفكر مؤمن أن يكون في هذه الحال يوم من الأيام عياذاً بالله، لا يمكن فإذاً مع خواء الإيمان تقع أمثال هذه الأمور، ومع ضعف العقيدة ومع عدم وضوحها لكن مع وجود العقيدة الصحيحة ومع عرض كل شيء على كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن هذا لا يقع، العامي لا يقبل هذا الكلام مهما كان الأمر؛ لأن النظرة لديه أن كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هما المرجع، لكن الشباب الذين تأثروا بها هم الذين يريدونها إباحية انحلالية، كما قال قائلهم:
أرضنا الجيد غارقة بالظلام طوّق الليل أرجاءها وكساها
بعسجده الهاشمي فدانت لعاداته معبدا
وهذا الكلام له مدلول خطير، وقوله (بعسجده) لعله حرفها أو الناسخ وإلا فهو بمسجده، والعسجد هو الذهب، والهاشمي الذي جعل الجزيرة للعرب مسجداً ودانت له وللناس معبداً هو بلا شك الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فهؤلاء الذين تدرجوا في الفسوق والدعوات الهدامة، من مساواة المرأة بالرجل ثم إلى السفور حتى الأقنعة التي ترتديها النساء هي دخيلة عليها، ويقولون على من تفسخ أخلاقياً: إنه متحرر ومنطلق، فليقل ما شاء، وليفعل ما يحلو له، فيريدون أن تكون محتمعاتهم مجتمعات إباحية مطلقة، لا يريدون سلطة على الإطلاق، لا دين ولا أخلاق ولا رقابة، ورمز هذه الرقابة هي الحدود والقبيلة والأعراف القبلية والعيب والحرام، ورمز هذه الرقابة هم رجال الجوازات ورجال الجمارك، فتدخل الأفلام إلى البلاد من الخارج تحت رقابة رجال الجوازات ورجال الجمارك، وكذلك الكتب الشيعية كذلك فمن الذي يستقبلها؟ إنهم رجال الجوازات ورجال الجمارك، فهم يريدونها إباحية مطلقة، وهذا لن يتحقق أبداً لأن هذه موجة شيطانية ستضمحل بإذن الله، لكن لابد أن نقاومها، فلا نقاومها بالاسم فقط، بل نحاربها ونرد عليها أو نكتب عنها ونقاومها كل المقاومة وبكل فكرة؛ كتربية أنفسنا على كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن خلال وسائل إعلامنا، ومن منابر الخطب والمحاضرات في المساجد، ومن خلال التأليف، ومن كل مكان، فكلنا على ثغرة، ولعل الله أن ينصر هذا الدين بنا، فإذا كنا كذلك فمهما هبت رياح فإنها لن تؤثر بإذن الله على هذه القلعة الحصينة.
وأسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يبقيها كذلك بإذنه تعالى.(99/16)
السعادة معنوية أكثر منها حسية
السؤال
قال الله تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123] وقلت معلقاً على هذه الآية: إن الإنسان بقدر معاصيه سوف يشقى في هذه الدنيا، فهل إذا رأينا أي شخص غير سعيد في حياته نقول: إن هذا من معصيته لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مع العلم أن الله قد يختبر عباده ليعلم الصابرين، فكيف نفرق بين هاتين المسألتين؟
الجواب
الكلام عن حقيقة الشقاء وحقيقة النكد لا ننظر إليها النظرة الظاهرية، ولكن ننظر إليها من خلال النظرة الحقيقية، إن المؤمن بالله حق الإيمان لو ذهب بصره أو ذهبت نفسه أو أمواله أو أولاده فهو مطمئن وسعيد؛ لأنه يرضى بقضاء الله عز وجل، ويعلم أن هذا ابتلاء، وأن الله تعالى سيعوضه خيراً منها، وأنه يجب عليه أن يصبر وأن ما قدر الله فهو كائن مهما كان محتاطاً، فالمؤمن مطمئن، والإنسان المؤمن إيماناً حقيقياً وهو فقير مدقع بحالة يرثى لها ومع ذلك تجد كلمته وحاله يقول: الحمد لله على كل حال، وهذا من فضل الله، ونحمد الله، ونحن خير من غيرنا، كما أمرنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: {انظروا إلى من أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله} فهو سعيد مطمئن؛ وإن كان ظاهره أمام الناس في الشقاء، فهو يعلم أنه إن كان صرف عنه الناس ففيه خير {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة:216] وهذه الآية من قواعد المؤمن، فالصبر والثقة في الله عز وجل واحتساب البلوى عند الله طمأنينة تعوض الإنسان، ولا يجدها الكافر أبداً ولا يشعر بها لأنه فاقد لهذه النعمة.
وكم من الناس اهتدى إلى الإيمان لما أصيب بمصيبة أو بمرض، وكم من الناس أصابته نكبة مالية فكانت سبباً في ثرائه فيما بعد، وكم من إنسان طرد من وظيفته فكان ذلك فتحاً له في عمل آخر يدر له الخير، وكم وكم من الواقع، فكيف بحال من يؤمن بالله وبما أعد الله وادخر له في الدار الآخرة، فهذه هي حقيقة الشقاء، كما أن تلك حقيقة السعادة، وأما الكافر فمهما بلغ من الثراء فهو نكد شقي يائس قانط لا يطمئن أبداً، لأن القلب لا يطمئن أبداً إلا بالإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] هذا للحصر، وفي غير ذكر الله عز وجل لا يتم إلا الشقاء.(99/17)
أثر الفرد في بناء الأمة
السؤال
قلت في كلامك: إن الأساس في الأمة هو الفرد، وإذا صلح الفرد صلحت الأمة، وبالمقابل فالفرد عندما يخطئ يقول: أنا فرد ولن يؤثر خطئي هذا في هذا الخضم من البشر، فكيف نوفق بين هذين القولين؟
الجواب
أضرب مثلاً على ذلك، يقال: إن أحد الملوك كان له وزيراً فطناً وكان يقول: الرعية فيها من يحبك، وفيها من يذمك، والملك يصر على أن الرعية ليست كذلك، ويظن أن كلهم على الصدق والإخلاص والوفاء له، وليس فيهم غشاش أو كذاب، والوزير يقول: أنا أعلم بالناس منك، وإذا أردت أن نختبر الناس حتى تعلم حقيقتهم، فافعل، ثم اتفقا أن يبني الملك قصراً ضخماً من جميع الجوانب، ويجعل فيه بركة وهذه البركة يريد الملك أن يجعلها من اللبن، ثم أصدر أمره إلى الناس جميعاً بأنه إذا رجع الناس من المرعى بالمواشي، أن يأتي كل منهم بإناء كبير من اللبن ويصبه في البركة، حتى لا يطلع الصباح إلا وهي ملأى، لكي يتنعم الملك ويتمتع بالنظر إليها، ففعل ذلك الاختبار، وحين عاد الناس في الليل بالمواشي، قال كل واحد منهم: لو وضعت ماءً فإنه لا يضير إناء ماء في بركة من اللبن، ولن ينتبه أحد؛ لأنه يمشي في الظلام، وقد تعمد الملك أن يكون ذلك ليلاً، فجاء الملك في الصباح؛ فوجدها قد امتلأت بالماء.
وهذه حالنا نحن المسلمين، وهذه المسألة -مع الأسف- واقعة في حياتنا، فإننا نسمع المحاضر يقول: شركات التدخين شركات يهودية وشركات نصرانية تحارب الإسلام وتفعل وتفعل، فتجمع ملايين الريالات من العالم الإسلامي لكي تحارب بها المسلمين، فيقول: الباكت بخمسة ريالات، وماذا تعمل لليهود والنصارى، فمثلاً لو اشترينا مليون (باكت) في جدة ومليون (باكت) في القاهرة ومليون في كذا ومليون في العالم الإسلامي، لاجتمع لليهود في ذلك اليوم ملايين من أجل (باكت)، وكذلك المجلات الخبيثة التي توزع على المكتبات بسعر الجملة (ثمانية ريالات) تقول له: لا تشتريها لأنك تساعد على نشر هذه المجلة الخبيثة، فيقول: ماذا يفيد! عدد واحد أشتريه من هذه المجلة! وكذلك آخرون، فإذا بصاحب المكتبة لم يبق عنده شيء منها.
فاشتريناها وروجناها، فكل واحد نظرته نفس النظرة، أنه ماذا يفرق ريال واحد، وماذا يفرق عدد واحد، وماذا يفرق باكت واحد وهذه مشكلتنا.
إذاً الإصلاح أولاً: يبدأ من الفرد، فإصلاح الأمم يبدأ من إصلاح الأشخاص، وكل منا على ثغرة، وكل إنسان عليه أن يتقي الله في عمله، فإذا أخذت الرشوة؛ انتشرت الرشوة بين الموظفين، وإذا قلت للناس: الأمانة ضعفت؛ وأمانتي أنا ضعيفة والناس كلهم يكذبون وأنا أكذب، وإذا قلت: إن الناس في غيبة ونميمة وفي حسد ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأنا واقع في نفس الشيء، فهو يريد أن يصلح غيره، وهو يسير كما يحب وكما تحب شهواته، لكن لا فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خاطب الإنسان، وخاطب نفسه ويبين له علاجها وأنه سيحاسبها منفردة، فإذا أنا أصلحت نفسي ونصحت غيري، وإذا كل واحد أصلح نفسه ونصح غيره؛ صلحت الأمة بإذن الله، ولكن إذا دعوت الأمة إلى الصلاح مهما دعوت، ولم أصلح نفسي، فإنه لن يستجيب الناس ولن يكون أثرها الصحيح أبداً.(99/18)
حب الدنيا معناه وضعها في القلب لا في اليد
السؤال
تكلمت عن حب الدنيا، وأنه من الأسباب التي أدت إلى تردي الأمة، فما هو السبيل لنزع حب الدنيا من قلوبنا، مع العلم أننا نعيش اليوم في دوامة العمل ومتطلبات الحياة؟
الجواب
لا شك أننا جميعاً نعاني من ذلك، ونسأل الله أن يعيننا، فكم نعايش ونكابد الحياة وقد كابدها قبلنا أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فكانوا يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله، وكما تعلمون قصة عمر رضي الله عنه أنه كان يرسل رجلاً من الأنصار يستمع حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى يعود في آخر اليوم ليجلس وليسمع، فهذه المعاناة عاناها أفضل جيل؛ ومع ذلك كان همهم الآخرة.
فالعلاج أن ننزع من قلوبنا حب الدنيا وتعظيمها ونجعل بدلاً من ذلك تعظيم الآخرة، فلا أقول: نترك أعمالنا، ولا أقول لا نحرص على الربح الحلال، ولا أقول: لا نتمتع بما أحل الله لنا من الطيبات وبما أعطانا الله من الرزق أبداً، لكن نقول: نخرجها من قلوبنا وليس من أيدينا، وأما التخلي الذي فهمه الصوفية الضلال بالتخلي عن الدنيا، أن يعيش الإنسان فقيراً لا يملك شيئاً فليس هذا هو الخروج من الدنيا، إذاً لكان فقراء الهند من البوذيين من أسعد خلق الله عند الله عز وجل، لكن! لا.
فالزهد الحقيقي والرغبة الحقيقية في الآخرة؛ وقد تكون مع وجود المال، ومن وجد مالاً فإنه يمسكه في يده لا في قلبه.
كما قال الإمام أحمد رحمه الله عندما سئل: أيكون الرجل زاهداً وعنده ألف دينار أو عشرة آلاف دينار، فقال: نعم إذا كانت في يده وليست في قلبه فهو زاهد" وقد كان الصحابة رضي الله عنهم منهم الأغنياء كـ عثمان والزبير مع أنهما من أزهد الناس، فهذا هو المقصود، فإذا لم يتعلق القلب بها، ولم يحملك حب الدنيا على أن تعصي الله -وكم من المسلمين من يفعل ذلك- ولم يحملك حب الدنيا على أن توالي أعداء الله -وكم من المسلمين من قد يعادي أهل الخير ويحب أهل الكفر وأهل الفجور من أجل دنياه والعياذ بالله- فإذا كان الحال كذلك فإنه لا يضير كون الإنسان يملك مالاً كثيراً.
ونسأل الله أن يوفقنا لمرضاته.(99/19)
زيادة الإيمان ونقصانه
السؤال
هل الإيمان يزيد وينقص؟
الجواب
نعم! لا شك أن الإيمان يزيد وينقص كما أخبر الله تبارك وتعالى في القرآن عن زيادة الإيمان، فقال: {زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17] وقال: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [الكهف:13] وغير ذلك مما هو معلوم لدى الجميع.
والنقص أيضاً فلا شيء يزيد إلا وهو ينقص، وقد نص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديثه عن النساء: أنهن ناقصات عقل ودين، وفي خبره عن ذلك قوله: {ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي اللب من إحداكن} فهذا دليل على نقص الدين.
ويدل عليه أيضاً أن الناس يوم القيامة متفاوتين بحسب أعمالهم عند الله، فمن الناس من تكون حسناته كالجبال ومنهم من يدخلون النار لضعف إيمانهم؛ ثم يخرجهم الله من النار بحسب درجاتهم في الإيمان؛ وآخر من يخرج من النار هم الفئات التي هي أقل الناس إيماناً، فيأمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ويأذن بأن يُشفع لهم، فيخرج من النار من كان في قلبه مثقال شعيرة؛ ثم مثقال ذرة، ثم أدنى أدنى مثقال ذرة.
فهناك درجات من الإيمان، فبعض الناس إيمانه كأدنى أدنى مثقال ذرة، وبعض الناس إيمانه كمثقال الذرة، بعض الناس إيمانه كالشعيرة، وبعض الناس إيمانه كالجبال، وأعظم الإيمان ما كان كإيمان عمر رضي الله عنه لما أول له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرؤيا عندما رآه أنه يلبس ثوباً طويلاً واسعاً، فأوله أنه الدين والإيمان، وكما كان إيمان أبي بكر رضي الله عنه الذي لو وزن إيمانه بإيمان الأمة لرجح بهم.
وهكذا، فإن الإيمان يزيد وينقص ويتفاوت وحسبكم أن تعلموا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان} فهذه الشعب من حقق أربعين شعبة منها ليس كمن حقق ثلاثين، وأعظم منه من حقق منها خمسين وهكذا، وقد يجتمع عند الإنسان تحقيق شعب ونقص في أخرى، فمن كمل في الشعب فقد بلغ درجة الإحسان التي هي أعلى الدرجات، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعلنا وإياكم من المقبولين.(99/20)
الرد على قول الصوفية (أن حياة القبور تشابه الحياة المعتادة على الأرض)
السؤال
في قصة الإسراء والمعراج ورد أن رسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجد بعض الرسل عليهم الصلاة والسلام في السماء؛ وهذا استغله بعض الصوفية أو بعض الفرق المنحرفة في إثبات أن هناك حياة في القبور، وأنها تشابه الحياة المعتادة على الأرض، فكيف يمكن التوفيق والرد؟
الجواب
هؤلاء الذين يعبدون الأموات، ويدعونهم من دون الله شبهاتهم كثيرة، ونحن قبل أن نرد على شبهاتهم نسألهم على أي أساس بنيتم ذلك؟! وهذا كتاب الله بين أيدينا، ففي أي آية منه أجاز الله أن نعبد غيره؟! وأن ندعو غير الله نبياً أو ولياً كائناً من كان؟ وهل في سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصحيحة الثابتة شيء من ذلك؟! لا بل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نزه الأنبياء وبرأهم مما افترت عليهم أمتهم فقال سبحانه: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران:79] سبحان الله! {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88] والأنبياء أنفسهم كانوا يخافون من الشرك {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم:35] فالأنبياء يخافون على أنفسهم من الشرك، ويحاربونه، وما كان أبداً لأحد منهم أن يدعو إلى الشرك، أو يقره، فكيف يأتي هؤلاء ويقولون: ندعوهم ونستغيث بهم ونتوسل بهم إلى الله لأنهم أحياء؟! وإذا كانوا أحياءً! فهل عبدو في الدنيا وهم أحياء حياة حقيقية، وهل أجاز النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأحد أن يعبده وأن يدعوه -عياذاً بالله من ذلك- فلما قالوا: ما شاء الله وشئت، قال: {أجعلتموني لله ندا ً!} فهذا أمر عظيم، فما أقر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما رضي بهذا العطف؛ لأن الندية معناها الشرك ومع ذلك يقولون: ندعوهم؛ لأنهم أحياء في قبورهم.
والإنسان في الدنيا يستطيع أن يكسب مزيداً من الحسنات لنفسه أو أن يحسن للناس إذا كان يملك شيئاً؛ ومع ذلك نفى الله عز وجل أن أحداً من الناس يملك لنفسه شيئاً إلا ما شاء الله، فكيف إذا مات؛ فإنه أحوج ما يكون إلى ربه عز وجل، فكيف يصبح يعطي وينفع ويضر ويدعى ويستغاث به! بلى إذا كان يتخلى أولوا العزم من الرسل عن أمته ويقول كل منهم: (نفسي نفسي)، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده فقط الذي يأذن له ربه بالشفاعة الكبرى، فهؤلاء أولوا العزم لا يملكون للناس شيئاً، ولا يملكون لأنفسهم شيئاً يوم القيامة عند الله، فكيف يملك ذلك البدوي وعبد القادر الجيلاني وغيرهما! مع أنهم ليسوا أولياء في الحقيقة، وليسوا أفضل من الأنبياء -بأي حال من الأحوال- مهما كانت ولايتهم، فهذه شبهات فقط يزينها الشيطان لعباد القبور والأموات حتى لو كانوا أحياء عند الله، والله تبارك وتعالى قد أخبرنا عن الشهداء أنهم أحياء عنده فقال: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154] فالشهداء أحياء، والأنبياء حياتهم -بلا شك- أكمل من حياة الشهداء، فهل ندعو الشهداء ونستغيث بهم، أو نستغيث بالأنبياء؟! نحن لا ندري ما حال الشهداء عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأما الأنبياء فإنهم كما أخبر عنهم ربهم تبارك وتعالى قائلاً {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] فهم أنفسهم كانوا يرجون رحمة الله ويخشون عذابه، وهم كما قال تعالى: {لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرّاً} [الرعد:16] فكيف يملكونه لغيرهم من الناس؛ لا يمكن ذلك أبداً! فهذه الحقائق لمن يريد أن يناقش هذه الأفكار الضالة من صوفية وغيرها، فيعرض هذه الشبهات على هذه الحقائق الناصعة الجلية، نعم: نستطيع أن نرد ردوداً تفصيلية على كل قضية؛ لكن نعرضها على الأصول الجلية الواضحة؛ لتذهب هذه الشبهات، وإلا فلا بد أنه سيأتي بشبهات كما أتى بها المشركون من قبل، قال تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] وقد كان المشركون يقولون في تطوافهم حول البيت الحرام: (لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك) فهذه هي تلبية المشركين (تملكه وما ملك) وإذا سئلوا: كيف تدعون اللات والعزى، ووداً وسواعاً ويغوث من دون الله؟ قالوا: نحن ما ندعوهم لأنهم يملكون شيئاً من دون الله؟ لكن هم يقربونا إلى الله، فهم شفعاؤنا عند الله، وهذا صريح في القرآن، وإذا سألت أحداً ممن يدعو نبياً أو ولياً، فإنه يقول: أنا لا أعبد غير الله ولا أدعو الولي بأنه إله، وأنا أدري أن الله هو الذي يملك كل شيء إلا أنني أدعو الولي؛ لأنه هو الواسطة بيني وبين الله، فنقول: هذه هي تلبية أهل الجاهلية (تملكه وما ملك) فأهل الجاهلية ما قالوا: إن آلهتهم تملك كل شيء! فهذا هو الشرك، ولكن شياطين الإنس والجن لبسوا عليهم دينهم ليصدوهم عن التوحيد، نسأل الله أن يكف عنا شرهم.(99/21)
هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه
السؤال
ما هو القول الفصل في رؤية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لربه في المنام؛ ثم في حديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {رأيت ربي في أحسن صورة}؟
الجواب
أما بالنسبة لرؤية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لربه، فالراجح هو ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة وهي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم ير ربه، كما في حديث أبي ذر {هل رأيت ربك فقال: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نور أنى أراه} وقال: {حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه} فهو لم ير ربه عز وجل، وكذلك حديث عائشة رضي الله عنها قالت: [[ثلاث من قالهن فقد أعظم على الله الفرية: ومنها من قال: إن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية]].
وأما القول المخالف، وهو ما نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه رآه، فقد ورد مقيداً عن ابن عباس -رضي الله عنه- أنه قال: [[رآه بفؤاده مرتين]] وابن عباس رضي الله تعالى عنه ما دام أنه قد ورد عنه ذلك التقييد، فإذاً نقيد ما أطلق من أنه يقول: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ربه، فقوله وقول من قال بقوله إما أن يكون اجتهاداً وهو خطأ غير صواب، أي أن له أجر الاجتهاد وليس أجر الصواب، أو أن نقول: إنه رضي الله عنه قيد ذلك وهو الأولى والأرجح بالفؤاد، فلا يكون هناك خلاف ولا منافاة بين أقول الصحابة رضوان الله تعالى عليهم في ذلك.
أما بالنسبة لحديث الصورة: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ربه في أحسن صورة في المنام، فإذا نظرنا لكلام ابن عباس إلى أنه رأى ربه بفؤاده مرتين فنستطيع أن نقول: إن هذه هي إحدى الرؤيتين، رآه في الأرض لما كان في المنام، ورآه أيضاً بقلبه (بفؤاده) لما أسري به، فحدث للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رؤيتان قلبيتان.
وموسى عليه السلام هو كليم الله، ومن أولي العزم، ونعلم منزلته وفضله، وقد سأل الله عز وجل الرؤيه، فقال سأريك نفسي في المنام، أما اليقظة فمعلوم أنه محال ذلك ولن يتحقق.
فإذا كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ربه بفؤاده مرتين، وموسى عليه السلام لم يره لا في اليقظة ولا في المنام، فمن من الأقطاب يدعي أنه يراه في الدنيا؟! وأي إنسان هو أفضل من موسى أو أفضل من محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! ولهذا من قال: إنه يرى الله في الدنيا، ومن زعم ذلك فقد كذب، وهو إلى الكفر أقرب منه إلى الإسلام، وإذا أصر على ذلك بعد قيام الحجة، فإنه يعزر ولو بالقتل كما نص على ذلك شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية وغيره، وكما ثبت في الحديث {إن الشيطان يضع عرشه على الماء} ويلبس على هؤلاء، بأن يريهم نفسه ويريهم عرشه، ويقول: أنا الله وهذا العرش حتى أن الصوفية عندهم أحد الأولياء سموه فلان العرشي، لأنه دائماً تحت العرش، ويخاطب الله من تحت العرش، وهذا هو عرش إبليس.(99/22)
حاجة الصحوة إلى الرعاية
السؤال
يقول: الصحوة الإسلامية حقيقة تشهدها معظم البلاد الإسلامية، وهي تحتاج إلى الرعاية والتوجيه، فهل تعتقدون أن هذه الصحوة، تلقى ما تستحق أن تلقاه من التوجيه والرعاية، حتى تصل بإذن الله إلى بغيتها؟
الجواب
حقيقة من خلال الواقع المشاهد، نرى أن هذه الصحوة لم يتحقق لها ذلك، الحمد لله! يوجد خير، ويوجد شيء من هذا، لكن لم يتحقق لها ذلك، والدليل هو وجود هذا الشباب الحائر الذي أفاق وعاد إلى دينه، ولكنه حائر بين اتجاهات شتى، فلو كانت هذه الصحوة مرشدة وموجهة على المنهج الصحيح؛ لكان الشباب جميعاً منضوين تحت الكتاب والسنة، ولا يجدون ما يفرقهم أو ما يشتتهم ويبعدهم عنه، فهذا الجانب فيه خلل، ونرجو أن يستكمل بإذنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والصحوة أيضاً محفوفةٌ بالمخاطر من أعداء الله، لأنهم يخططون لضرب هذا الدين، وضرب الشباب.(99/23)
بعض أهداف الباطنية ضد الإسلام
السؤال: على ذكر الأخطار التي تهدد الصحوة الإسلامية، الرجاء ذكر بعض أهداف الباطنية التي ترصد العداوة للإسلام، وما هي أقوال السلف في هذه الفرق، وبماذا تنصح الشباب لمزيد من الوعي والدارسة عن هذه الفرق وأهدافها وأضرارها؟ وقد ذكرت في محاضرة سابقة، أنك سوف تذكر ألعوبة فعل رجل سني في الروافض أو بهذا المعنى؟
الجواب
الباطنية، أجمع العلماء على تكفيرها ونصوا على أن ذلك، بل ونصوا على أن من عرفهم ولم يكفرهم فهو كافر، واتفق على ذلك علماء السنة، وكثير من علماء البدع، حتى من المعتزلة والأشعرية، وكثير من الفرق المنحرفة عن منهج السنة، لكنها لا تزال داخل دائرة الإسلام، فكلها متفقة على تكفير الباطنية، لأنها فرقة أخطر من اليهود والنصارى والمجوس، وذلك لأنها لا تريد إلا أن تهدم هذا الدين، وتجتثه من أساسه وليست فقط تؤول بعضه، أو تنحرف عن بعضه، بل إنها تقضي على الاعتقادات، فلا تثبت لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا اسماً ولا صفة على الإطلاق، وتقضي على العبادات، فتؤول الصلوات الخمس بأنها ذكر الأئمة الخمسة، وتؤول الصيام بالإمساك عن أسرارهم أو ذكر ثلاثين رجلاً من أئمتهم.
وتقول: إن شريعة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منسوخة، وقد نسختها شريعة محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، وتقول: إن كل ما حرمه الكتاب والسنة حلال، وليس هناك حرام على الإطلاق! إلا ما أرادوه هم من شهوات أو ما شاءوا أن يفرضوه ليكون الناس تبعاً لهم، وكذلك القرامطة والعبيديون فإنهما منهم؛ فهم خارجون عن جميع الملل وعن جميع الشرائع، فلو أن رجلاً من الباطنية ترك الباطنية وتحول عنها إلى النصرانية، لكان ذلك أخف من الرجل الذي يتحول من النصرانية إلى الباطنية.
وأما مكرها في العالم الإٍسلامي فإنه لا ينتهي في كل مكان وفي كل زمان، فالقرآن عندهم لا يبقى له معنى على الإطلاق؛ لأنهم يقولون: إن للآية معنىً ظاهراً، وهذا الظاهر له باطن، والباطن له باطن إلى سبعمائة باطن فمن أين نفهم القرآن؟! كذلك يردون سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رداً مطلقاً، فمن أين يكون الأخذ؟ يقولون: عن الإمام فقط وهذا الإمام هو الذي يفسر كما يشاء، ويتحكم في الأنفس والأموال والشهوات، وإلى الآن لهم أئمتهم من البهرة والأغاخانية والإسماعيلية وأمثالهم من طوائف الضلال التي نسأل الله تبارك وتعالى أن يقي المسلمين من شرهم، فلا نستطيع أن نأتي على كل خطط الباطنية وأهدافها، ولكن خطرها بلا شك عظيم، ويجب أن نحذر منها؛ ويمكن أن تدخل من باب التشيع، وما دخلت وما جاءت إلا من هذا الباب، أو من باب التصوف، فغلاة الصوفية باطنية، والصوفي ينتهي به الحال إلى أن يكون في النهاية باطنياً، والرافضي -أيضاً- ينتهي به الحال إلى أن يكون باطنياً وهكذا فكل هادم للدين فإنه يبدأ بداية منحرفة قد تكون أقل لكنها تنتهي به إلى الأكثر، عياذاً بالله.(99/24)
خطر الباطنية على الصحوة الإسلامية وتعدد الانتماءات
السؤال: الحديث عن الصحوة -كما يقولون- ذو شجون والصحوة أمرها يهم الجميع، وأسال الله عز وجل أن يكتب لها التوفيق، وأن يجنبها كيد الأعداء ومكرهم، ويمكن أن يكون للسؤال الأول شق آخر، وهو أنه إذا عرفنا خطر الباطنية على الصحوة، وشبابها، فأيضاً هناك جانب آخر للموضوع وهو التفرقة التي تحصل بين شباب الصحوة، فنجد انتماءات مختلفة لجماعات مختلفة، هناك من ينتمي لجماعة تسمي نفسها جماعة التبليغ، وهناك من ينتمي لجماعة تسمي نفسها الإخوان، وهناك من ينتمي لجماعة تسمي نفسها الجماعة السلفية، وإلى غير ذلك من المسميات والاختلافات والتفرقة التي حلت بشباب الصحوة الإسلامية، فهل هذه حالة صحية للصحوة الإسلامية؟ أم أن الموضوع يحتاج إلى نظر ويحتاج إلى وقفة صادقة إذا كان القصد هو وجه الله عز وجل؟
الجواب
الأمة الإسلامية قد عانت من الفرقة وتعاني منها إلى اليوم، والجماعات الإسلامية هي بلا شك أفضل ما في هذه الأمة، على ما في هذه الأمة من أفضل ما فيها هي هذه الجماعات التي تريد أن تعيد الناس إلى الكتاب والسنة، سواء من كان منها على خطأ أومن كان منها على صواب؛ على الأقل فهي ترفع دعوى الإسلام وشعاره في أوقات وفي بيئات وفي مجتمعات تنفر نفوراً كاملاً من رفع هذا الاسم، ولا نقيس المجتمعات مثل هذا المجتمع الذي نعيش فيه، لأنه يوجد مجتمعات لا تريد ذكر الله ولا تريد اسم الله على الإطلاق، والصحوة الإسلامية في جملتها، لاشك أن من أسباب وجودها وجود هذه الجماعات التي قامت ونشرت الدعوة، وكل منها على رأيه واتجاهه، ما كان فيه من خطأ أو انحراف، وما كان فيه أيضاً من صواب ولو في الجملة، فهذه الصحوة هي نتاج عوامل عديدة، منها: وجود هذه الحركات وهذه الجماعات، إذاً فما موقف المسلم منها؟ الموقف من هذه الجماعات ومن الفرق والأفراد والأمم هو نفس الموقف الذي يجب أن يكون لدينا دائماً، بأن نزن كل شيءٍ بميزان كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو ميزان العدل، فمن الوصايا العشر التي أوصى الله بها جميع الأمم وأوصانا بها قوله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام:152] فننظر إليها بميزان العدل، وأيضاً ننظر بمنظار الاستفادة من التجربة أي من جهة العلم نفسه، فنحن الذين نسعى إلى الأكمل والأفضل ونريد أن تتوحد الأمة، ولا نريد أن تتفرق الأمة هذا التفرق وهذا التمزق، بل يجب أن نكون جماعةً واحدة على الكتاب والسنة.
ووجود هذه الجماعات ما هو إلا نتيجة التفسخ الكبير الذي حدث في الأمة بأكملها، وبُعدها عن منهج الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ فكان من الضروري أن يتجمع الناس في تجمعات صغيره، ولا ضير في ذلك لو أنها كانت متمسكةً على الكتاب والسنة، ولو أن كل جماعة قامت كانت متمسكة بالكتاب والسنة، لوجدنا أننا في النهاية نكون جماعة واحدة فعلاً، ولا خلاف على الإطلاق، لكن المشكلة تأتي من التقليد والتبعية والتعصب والتحزب، وهذا ما وقع مع الأسف، بأن الإنسان يقيس الناس بجماعته، فمن كان منها فهو على الحق وما كان ضدها فهو على الباطل، وهذا هو الخطأ الذي تخوفه السائل -جزاه الله خيراً- على الصحوة وله الحق في ذلك؛ فنحن في هذه الحالة قضينا على الغاية من أجل الوسيلة، واسأل أي إنسان ينتمي إلى هذه الجماعات -أي جماعةٍ كانت- لماذا وجدت الجماعة؟ لقال: من أجل تحقيق الإسلام، ولو قيل له: وبماذا تسير هذه الجماعة؟ لقال: على الكتاب والسنة، إذاً خذه على ظاهره ونسلم لك بهذا الظاهر على ما عليه من ملاحظات، ثم ننظر ما أنت عليه في الواقع، فأنت أصبحت توالي وتعادي بناءً على هذه الجماعات، وقلت: إننا لا نحب أن نذكر الأسماء، لا لأننا نخاف أن نذكر اسماً معيناً، لكن لأننا نريد أن ننظر إلى الأمور والأخطاء والانحرافات بنظرة مجردة؛ لنعرف حجمها؛ وإلا قد نقع نحن في الحيف، فأنا مثلاً قد أكره جماعة معينة لسببٍ ما، فأجور وأحيف في كل من يذكرها لدي.
الآن أذكر لكم مثال من بعض الجماعات التي تطبع وتوزع فتوى لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز وهل هناك من لا يحب علم الشيخ عبد العزيز؟! وهل هناك شخص غير حريص على نشر فتاوى الشيخ عبد العزيز؟! لا، إذاً فكم فتاوى للشيخ؟ كثيرة جداً وفي أمور هامة، فتاوى في التوحيد، وفتاوى في أنواع البدع، وفي الشرك، وفتاوى عن الربا، والقمار، والفيديو، وفتاوى في أمور مهمة تنهش مجتمعنا وتفتك به، إذاً أنتم يا دعاة! هل صورتم فتاوى الشيخ هذه ووزعتموها على الناس؟ لا، بل صوروا هم فتوى أو كلام يقول فيه: إن الجماعة الفلانية على الحق، إذاً نحن ندعو إلى من؟! وهذه هي المشكلة، وهذه نصيحة لا نقولها إلا نصحاً، إذاً: نحن الآن لا ندعو إلى الله، بل ندعو إلى الجماعة، بدليل أننا نختار من كلام العلماء ما يؤيد الجماعة، ونختار ممن يعادي الجماعة ولو على سبيل الملاحظة فنعتبره به عدواً للجماعة، فالولاء في الجماعة، والعداء في الجماعة، والدعوة إلى الجماعة إذا فقد أضعنا الغاية من أجل الوسيلة!! لا يا أخي انشروا العلم النافع ووزعوا الفتاوى النافعة، وليس ما يتعلق بك أنت أو بجماعتك فقط، وهذا خيرٌ لك وأفضل لك عند الله؛ أن تنظر إلى من ينصحك؛ وإن نقدك أيضاً فانظر له، لماذا؟! لأنك أنت الذي عليك أمل الأمة، وكما أشرت أن أفضل ما في الأمة هم جماعاتها هذه؛ فالإصرار على الأخطاء قد تردنا إلى انحطاط وضياع وضلال أعظم مما نحن فيه في هذا الواقع، فأنتم أحرص أن تستكملوا أي جانب من جوانب الخلل، ولهذا نقول لكل الشباب، ونحن بإذن الله عز وجل جماعة أهل السنة والجماعة التي لها وبها تجتمع الأمة وعليها تأتلف: يجب أن نكون منصفين، وأن نكون حريصين على من ينتقدنا ويخطئنا، ويجب ألا نظهر أنفسنا، وإذا أثني علينا ومُدحنا لا ننشره أبداً، فماذا نظهر إذاً؟ نظهر دين الله وننشر كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا مدحني فربما يكون في ذلك هلاكي، فلا أغتر وأستمر في البدعة، وأقول: فلان أفتاني أو مدحني، وإذا انتقدني أشكره وأسمع منه، فإن كان على حق فجزاه الله عني ألف خير، وإن كان مخطئاً فأحمله على أحسن المحامل وأشكر له حسن النية، وأقول: تعال، أنت تنقدني وتريد الحق، فيقول: نعم إن شاء الله، إذاً تعال فالحق كذا وكذا، وقد أتى له بأدلة من كتاب الله وسنة رسوله، ولا أقول: أنا رأيي كذا، وشيخنا قال كذا، أو طائفتنا قالت كذا، وفلان قال كذا، وهذا هو علامة أهل البدع، علامتهم أنك تقول: قال الله وقال رسول الله، فيقولون: قال شيخنا وقال إمامنا وهذا هو الذي تعجب منه ابن عباس: وقال: أقول: قال الله، قال رسوله، تقولون: قال أبو بكر وعمر! ومن جهة أخرى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منذ أن نزلت عليه {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر:1 - 2] إلى أن لقي الله وهو يعيش في حالة دعوة: فجاهده دعوة، وتعليمه دعوة، ونصحه دعوة، وكل حياة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعوة فهل لم نجد في سيرته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يغني ويكفي للدعوة حتى تضع خطة ونرسمها ونلزم الناس بها؟ بل وأدهى من ذلك أن من لم يلتزم بها فإنه متهم في دينه، وأنه يفرق الأمة، وإذا أثنى علينا فهو الحبيب المقرب المبرأ من كل العيوب سبحان الله!! حياة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلها دعوة، وحياة السلف الصالح كلها دعوة.
ولن يتغير حال الأمة من حالٍ سيئ إلى حالٍ صالح، إلا إذا قام دعاة يدعون لوجه الله، ويعلمون الناس العلم النافع، ويصلحون القلوب من جميع الأمراض ومنها مرض التأفف والاستنكاف عن أن يقال: إنك خالفت الحق أو خالفت الدليل، ومنها مرض الجهل الذي يفتك بهذه الأمة، ولابد من تزكية النفس.
بعض هذه الجماعات يقولون: لم ينتقد علينا إلا أن عندنا جهل، وفينا بعض البدع! - مقللين شأنهما- وهل عارٌ في الدنيا أعظم من هذين، فماذا بعد الجهل والبدعة من عيب؟! إذاً: راجع نفسك يا أخي، فماذا تريد أن يقال إذاً؟ كافر! فإذا كان البعيد فيه جهل وبدع، فماذا تريد أكثر من ذلك؟ وماذا تريد أن يقال عنك حتى لا يكون عيباً؟ فهذا قدر مشترك، فكل جماعة أو فرقةٍ خارجة عن منهج أهل السنة والجماعة لابد وأن يكون لها نصيبها من البدعة والهوى والتعصب.
وإذا أردنا أن تجتمع الأمة؛ فلنجمعها على كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه الجماعات هي أول من أوجد من يدعو إلى ذلك، لأنها تملك التجربة، وتملك الجهود والطاقات والشباب، فلو أنها التزمت بالكتاب والسنة؛ لكان لذلك النفع العظيم للإسلام المسلمين، ولهذا لا ننظر إليها بنظرة العداء، أو لمجرد العداء ولكن ننظر إليها بنظرة الإشفاق والنصح، ونظرة الهداية بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ثم أيضاً يجب أن نبين لكم أسماء بعض هذه الجماعات لأن تحت هذه الأسماء أفراداً شتى، فتجد بعض الناس ينتمي إلى جماعة من هذه الجماعات، والفرد في ذاته هو على عقيدة طيبة، لكن خطأه محصوراً، إما في الانتماء أو في أشياء أخرى لا تقدح في عقيدته، وبعبارة أوضح أقول: لا تجعلك تصنف كل من ينتمي إلى هذه الدعوة في صنف واحد، فمثلاً الإخوان، يوجد منهم سلفيون ويوجد غير ذلك، ويوجد منهم ربما من يكفر بعضهم بعضاً، مع الأسف وهكذا حتى الجماعات نفسها تجد أن اسمها جماعة وفي بعضها من يخالف البعض الآخر، فتجدها فرقاً وأحزاباً.
أقول هذا لكي أؤكد على أن المعيار يجب أن يكون هو الكتاب والسنة, وإلا فأي جماعة من هذه الجماعات لو أخذتها في ذاتها معياراً، لقالت لك: إن كلامك هذا لا ينطبق علي، بل ينطبق على أناس مثلاً تسمونهم باسمي، فتضيع في دوامة، لكن أرح نفسك من هذه الدوامة، وانقض الباطل من حيث هو باطل؛ وبين الحق من حيث هو حق بيان الناصح المشفق وبيان الحريص على أن(99/25)
ذنوب العباد بين الكبائر والصغائر [1]
إن الحديث عن ذنوب العباد حديث أَرَّقَ العلماء، وأقض مضاجع العبَّاد؛ لما يترتب عليها من عقاب يوم القيامة لا ينقطع أمده ولا ينتهي مداه إلا برحمة من الله جل وعلا، والذنوب إما أن تكون صغائر وإما أن تكون كبائر، إلا أن هناك ضابطاً ورد في هذه المادة يبين أن الكبيرة قد يتجاوز منها عن المحسن ما لا يتجاوز عن غيره، وعكس القول ينطبق على المسيء عند ارتكابه للصغيرة، كما أن حال العبد عند مقارفة الذنب ينبني عليه مآله وحسابه على هذا الذنب والذي قد يكون سبباً للتوبة أيضاً.(100/1)
لا كبيرة مع خوف واستغفار ولا صغيرة مع إصرار
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بك اللهم من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فكما تعلمون وفقني الله وإياكم لما يحب ويرضى، ونفعنا بما نسمع وما نقول أننا قد تحدثنا في الأسبوع الماضي عن حديث الدواوين الثلاثة، وبينا أنه مع ضعف الحديث فإن معناه صحيح، وكان الموضوع هو موضوع الديوان الثاني الذي لا يترك الله تعالى منه شيئاً، وهو ما يتعلق بحقوق العباد ومظالمهم، وذكرنا ما فتح الله تعالى به ويسر من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم في شأن المظالم وحقوق العباد، ولعل في ذلك كفاية إن شاء الله تعالى.
وننتقل إلى ما بعده في قول الشارح رحمه الله: (وقد اختلفت عبارات العلماء في الفرق بين الكبائر والصغائر)، وستأتي الإشارة إلى ذلك عند قول الشيخ رحمه الله: (وأهل الكبائر من أمة محمد في النار لا يُخَلَّدون؛ ولكن ثمَّ أمر ينبغي التفطن له، وهو أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يُلحقها بالصغائر، وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف والاستهانة بها ما يُلحقها بالكبائر، وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب، وهو قدر زائد على مجرد الفعل، والإنسان يعرف ذلك من نفسه وغيره، وأيضاً فإنه قد يُعفى لصاحب الإحسان العظيم ما لا يُعفى لغيره، فإن فاعل السيئات تسقط عنه عقوبة جهنم بنحو عشرة أسباب، عرفت بالاستقراء من الكتاب والسنة).
هذا موضوع عظيم، وخير الموضوعات وأنفع العلوم ما كان علاجاً للقلوب وأدوائها وأسقامها، وأعظم ذلك -أي أعظم الأدواء والبلايا والأسقام- هو الشرك، كما تحدثنا عنه فيما سبق، وهنا نأتي إلى قاعدة عظيمة فيما دون الشرك، وهي الذنوب التي لابد أن يصيبها العبد وأن يلم بها، هذه الذنوب أراد الشارح رحمه الله تعالى بعد أن ذكر الديوان الأول الذي لا يغفره الله تعالى أبداً، ثم الديوان الثاني الذي لا يترك الله تعالى منه شيئاً أراد أن يبين الديوان الثالث، وهو ديوان ظلم العبد لنفسه في حق الله تعالى فيما دون الشرك، وما دون الشرك ينقسم إلى كبائر وإلى صغائر، وأحال موضع الفرق بين الكبيرة والصغيرة إلى ما بعد، حيث سيأتي التفصيل بإذن الله، وأظن أن القضية هي قضية اختلاف الطبعات، فأنا عندي (ص524) مثلاً، وبعض الإخوان تختلف عندهم الطبعات، وهي فقرة طويلة جداً، أولها: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يُخَلَّدون) إلخ، وقد شَرَحَها شرحاً طويلاً، ومن أحب منكم، أو تعجل المعرفة في الفرق بين الكبائر والصغائر قبل أن نشرحه هنا -وهذا حسن جداً أن تقرءوا قبل أن نشرح- فليراجِع الجواب الكافي، ففيه تفصيل لذلك، وسنعرض له إن شاء الله تعالى ولغيره عندما نصل إلى هذا الموضع؛ لكن الشارح هنا بعد أن أشار إلى ذلك ذكر هذا الاستدراك العظيم الذي هو قاعدة من قواعد تعامل القلوب مع رب القلوب تبارك وتعالى.
قال: (ولكن ثمَّ أمر ينبغي التفطن له) هنا قضية مهمة ينبغي أن يتفطن لها عباد الله، ولا يجوز أن يتغافل عنها من يسر الله تبارك وتعالى له أن يعرفها، قاعدة عظيمة من القواعد التي استخرجها أمثال هذا العالم الفاضل ومن نقل عنهم -رحمهم الله أجمعين- استخرجوها من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن سير العبَّاد من السلف الصالح، الذين قاموا لله تبارك وتعالى بواجب العبودية على نحو يَقتدي به من بعدهم.
قال الشارح: (وهو أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يُلحقها بالصغائر، وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف والاستهانة بها ما يُلحقها بالكبائر).
قال: (وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب، وهو قدر زائد على مجرد الفعل).
أي: أن ما يقوم بالقلب قدر زائد على مجرد الفعل.
ثم قال: (والإنسان يعرف ذلك من نفسه وغيره).
ثم شرع في موضوع التوبة، وأسباب التوبة، وأسباب سقوط العقوبة التي أولها التوبة.
فالقاعدة إذاً: أن الذنوب إما كبائر وإما صغائر؛ لكن الكبيرة إذا فَعَلها صاحبها لا ريب أن صورة العمل الظاهر أن هذا مرتكب لكبيرة؛ لكن يقول الشارح: (إن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يُلحقها بالصغائر)، وبالعكس: (قد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف والاستهانة بها ما يُلحقها بالكبائر).
إذاً: عندنا أمران: صورة الفعل، أو صورة العمل في مظهره، وعندنا حقيقته وتعلق القلب به، أو حال القلب عند عمل هذا الذنب.
وهذا مفتاح لباب عظيم من أبواب التربية الإيمانية القلبية.(100/2)
الحكم على الكبير والصغيرة مناطه القلب
إذاً: القضية قضية القلب، أي: أن الجوارح إنما تتحرك وتعمل وتتأثر بالقلب كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك فمن الواجب إصلاح القلوب؛ لأنها محط ومحل نظر الرب من العبد.
يقول بعض العلماء: رب معصية أورثت ذلاً وانكساراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً.
فالمسألة ليست هي صورة العمل؛ فإن بعض الناس قد يعصي الله وتكون هذه المعصية سبباً لبداية الخير وبداية التوبة في حياته، فقد يكون بداية الهداية موبقة كبيرة، أو ذنباً فَعَلَه، والبعض ربما كانت بداية انحرافه وزيغه ودخوله في باب الرياء والعُجْب، ثم خروجه -نسأل الله العفو والعافية- نهائياً من طريق أهل الاستقامة وأهل السنة، هو عَمَلٌ عَمِلَه في ظاهره أنه من الأعمال الصالحة، أو من الطاعات العظيمة المقبولة.(100/3)
ذكر الأدلة على غفران الكبائر بما يقوم بالقلب من تعظيم ونحوه
إذا ً: يجب على الشاب المؤمن، وعلى من يريد تنقية قلبه، وعلى كل من يحرص على تقوى الله سبحانه وتعالى أن يتنبه إلى هذه القضية وإلى هذه الحقيقة.
وما بقي علينا إلا أن نأتي عليها بالأدلة، والأدلة كثيرة جداً مما ثبت وصح في الوحي، وكثيرة من واقع الناس؛ فمن المُشاهَد من أحوال الناس أناس كانوا على ذنوب وعلى فجور ثم تابوا واستقاموا، والذين كانوا على طاعة وعلى خير وطلب علم ودعوة ثم انحرفوا وحاروا ولذلك نستطيع أن نذكر الإخوان بشواهد وأدلة كثيرة على هذه القاعدة: أن بعض الناس إنما يكون سبب هدايته وبدايتها بإذن الله موبقة أو كبيرة أو ذنب أو سيئات عَمِلَها، فتكون هذه الذنوب لَمَّا قارنها خوفُ الله تبارك وتعالى واستعظامُ هذا الذنب، والنظرُ إلى عظمة مَن عصى، والخوفُ من الرب الجليل العزيز الجبار المتكبر، فإنه بالمعصية وبما أحاط بها من هذه الأمور يتحول الأمر إلى طاعة، وتنقلب الغواية إلى هداية واستقامة بإذن الله سبحانه وتعالى.(100/4)
الخوف من لقاء الله سبب لنيل مغفرته
أقول: لقد سبق معنا حديث عظيم جداً، وذكرنا اختلاف العلماء فيه، وجوابه الصحيح هو ما ذُكِر الآن وقد قرأنا رواياته، وشرحناه طويلاً، وهو حديث الرجل الذي أوصى بنيه عند موته: إذ قال لهم: أي أبٍ كنت لكم؟ قالوا: نِعْم الأب.
وهو رجل -كما جاء في إحدى الروايات والتي قرأناها- أسرف على نفسه في المعاصي، فهو رجلٌ مسرف عاصٍ وأدركته الوفاة، فأخذ يقلب صفحات العمر، وإذا كلها سواد، وظلام، وموبقات، وذنوب، فأخذ يفكر في المخرج منها، إذاً: في هذه اللحظة جاءه الخوف من الله سبحانه وتعالى، واستعظام الذنب، واللقاء كيف ألقى الله وأنا بهذه الذنوب؟ فمع أنه ارتكب ذنباً آخر، ووقع في غلط عظيم؛ ولكن بسبب هذا الاستعظام، وهذا الخوف، وهذا الحياء؛ غُفِر ذنبه المتأخر وذنوبه المتقدمة ما هو الذنب العظيم الذي وقع فيه، والخطأ الجليل؟ عندما ظن أن الله لن يقدر عليه.
فقال لأبنائه: إذا أنا مت فاجمعوا الحطب، وأحرقوني، ثم ذُرُّوني في الهواء، واجعلوا نصفي في البحر، والنصف الآخر في البر، فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين.
هكذا تخيلَ! إذاً: ما الحل والمخرج من لقاء الله، ومن الوقوف بين يدي الله؟ لا عذر ولا حجة، فأعماله كلها ذنوب ومعاصٍ وإسراف.
قال: الحل يا أبنائي! أن تحرقوا هذا الجسد وتَذروه في الهواء، وتفرقوه في البر والبحر، وحينئذ لن يقدر الله تعالى على جمعه، كيف يجمعه فإذاً كأنه ينساه فينتهي، هذا هو المخرج كما كان يظن، مع أن هذا ليس بمخرج، فإن الله سبحانه وتعالى الذي هو على كل شيء قدير، إذا قال للشيء: كن كان، واجتمع ما في البر وما في البحر وكان، وأحياه الله سبحانه وتعالى، فهو الذي أنشأه أول مرة.
فيسأله عز وجل: لِمَ فعلتَ؟ هذا؟ السؤال الآن ليس عن الموبقات، ولا عن الذنوب الأولى، بل عن هذه المصيبة الكبرى التي أوصى بها.
قال: خوفك يا رب! أو خشيتك ومهابتك يا رب! فغفر الله تبارك وتعالى له.
إذاً: إذا اقترن بالذنوب والمعاصي خوفٌ وتعظيمٌ وهيبةٌ لله تبارك وتعالى، فإن هذه الذنوب إما أن تُمحى، أو تُكفَّر، أو تكون -كما قال الشيخ- كالصغائر وتأخذ حكمها، كما ذكر الله تبارك وتعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] لأنها بما اقترن بها أصبحت صغيرة.
هذا واحد من الأدلة.(100/5)
حديث قاتل المائة نفس
والدليل الآخر هو الرجل قاتل المائة، أول الأمر قتل تسعة وتسعين.
فذهب إلى العابد، وهذا من الأحاديث التي يستدل بها على كثرة ما فيها من الحكم والدلالات، من أعظم دلالاته وحكمه وعبره: فضل العالم على العابد، أي: العابد المجرد عن العلم.
ذهب إلى هذا الراهب العابد المنقطع وقال له: إني رجل قتلت تسعة وتسعين نفساً، فهل لي من توبة؟ فاستعظم الراهب ذلك وقال: لا أجد لك توبة.
هذا من قلة العلم، ومن قلة الحكمة والفطنة كما ذكر العلماء فهذا الراهب، ليس عنده بصيرة أو فطنة في الدعوة، فهذا السائل قاتل، فإذا قلت: لا أجد لك توبة، كيف تأمنه على نفسك وعلى غيرك من الناس؟ فكان على هذا العابد أن يقول له: تُبْ واستقِم، ويقول: كُف عن كذا وكذا، ثم إن لم يكن له عند الله توبة فهذا بينه وبين الله؛ لكن على الأقل يكون لديك من الحكمة ما تدفع به شره في هذه الحياة الدنيا.
قال الراهب: لا أجد لك توبة.
فأكمل به المائة، ما دام ليس هناك توبة، فسواء قتل هذا أو قتل معه ألفاً أو ألفين فالأمر لا يتغير، فأكمل به المائة.
وبعد ذلك ذهب إلى العالم فأرشده أن له توبة، وأرشده أن يذهب إلى القرية الصالحة ليعبد الله تبارك وتعالى فيها.
ثم كان ما تعلمون عندما قبضه الله تبارك وتعالى، واختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، وهذا أيضاً فيه دليل على أن الملائكة تجتهد في أمر الله تبارك وتعالى، كما نجتهد نحن بني آدم، نحن نسمع من كلام الله آية أو من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فنجتهد في العمل به، وقد نخطئ وقد نصيب، فملائكة الرحمة أخذوا ينفذون أمر الله تعالى فقالوا: رجل تائب مقبل على الله كيف ندعه لكم؟ وملائكة العذاب تقول: وأي توبة حصلت؟ رجل قتل مائة نفس وذهب إلى قرية.
ما رأوا شيئاً قد تحقق، فهؤلاء ينظرون لها من جهة، وهؤلاء ينظرون لها من جهة، فحكم الله تبارك وتعالى بين الفريقين وهو الحكيم العليم: أن انظروا إلى أي القريتين كان أقرب فألحقوه بأهلها، وجاء في بعض الرويات: أن من رحمة الله سبحانه وتعالى أنه أمر هذه أن تتباعد، وأمر هذه أن تنقبض، فقاسوا فوجدوه إلى أرض التوبة أقرب، فغفر الله تبارك وتعالى له، وتولته ملائكة الرحمة.
إذاً: هذا الرجل أسرف على نفسه، وهل بعد القتل من جُرم؟ عندما نتعرض لموضوع التوبة إن شاء الله فسنذكر مسألة قبول توبة القاتل، والخلاف الذي بين علماء أهل السنة والجماعة فيها؛ لأنه ذنب عظيم، لكن اقترن به الخوف، أليس الذي دفعه أن يبحث عن الراهب ويسأله، ثم عن العالم ويسأله، أليس هو الخوف من الله؟ إذاً: هذا فعل كبائر؛ لكن اقترن بها الخوف من الله سبحانه وتعالى، والتفكير في التوبة، والبحث عن مخرج، والحياء من الله، ومهابة لقاء الله، هذه إذا اقترنت بأي ذنب من الذنوب تحرقه بإذن الله، فلما اقترنت بحال هذا الرجل كانت نهايته وكانت عاقبته كذلك.(100/6)
قصة ماعز وقصة الغامدية
ومن الأدلة أيضاً: قصة ماعز والغامدية رضي الله تعالى عنهما، فإنهما أتيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريدان أن يطهرهما.
والأمثلة في هذا كثيرة.
وقد أحببت بهذه المناسبة أن أدلكم على مرجع مفيد في هذا الباب وهو: كتاب التوابين، للإمام ابن قدامة رحمه الله، بتحقيق الشيخ عبد القادر الأرناءوط، أخي شعيب، وإن كنت أحب أن أنبهكم قبل ذلك إلى أن الكتاب لم يُعلَّق عليه في مواضع كان ينبغي أن يعلق عليه فيها، ولن تخفى على مثلكم إن شاء الله، منها: أن أغلب من يتوب كما في هذا الكتاب يترك الدنيا بالكلية، ويذهب في البراري وفي الجبال ويسيح، أو يعتكف في المساجد ويترك كل شيء بالكلية، وليس هذا من صفة التوبة الشرعية كما تعلمون؛ لكن في هذا الكتاب فوائد عظيمة جداً، ولا سيما الذين يتوبون من الطرب ومن الغناء أو من الفسق والفجور، كحال العالم اليوم والله المستعان.
ونقتصر على ذكر أو عرض بعض التوبات التي تتعلق بحال العاصي الذي كانت معصيته وسبب هدايته، وهو المناسب لموضوع الدرس اليوم، أما مجرد التوبة فالتوابون كثيرون والحمد لله.
وقد ذكر صاحب الكتاب قصة قاتل المائة أيضاً، ويكفي ذلك عنه.(100/7)
قصة أبي خيثمة وتخلفه عن تبوك أولاً
أيضاً من التائبين -كما ورد في السيرة- الذين اقترن بالذنب ما جعلهم يتوبون ويهتدون ويستقيمون: الصحابي الجليل أبو خيثمة رضي الله تعالى عنه، والإمام ابن قدامة رحمه الله يروي بالسند، وهو عالم محدث فقيه بارع كما تعلمون، ولذلك يروي القصص التي يوردها بالأسانيد، سواءً أكان إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى أحد العلماء من المؤلفين، أو إلى كتب رواة الإسرائيليات وأخبار بني إسرائيل إن كان السند ينتهي إليهم، وهو كما تعلمون من الأئمة المجاهدين، ابن قدامة رحمه الله كان مع صلاح الدين الأيوبي في معاركه، ومع ذلك كتب المغني الذي ترون، وهو من أعظم وأنفع كتب الفقه المقارن، وله مؤلفات نافعة غير ذلك مع انشغاله بالجهاد، وله هذا الكتاب، فذكر بإسناده إلى ابن إسحاق المعروف، صاحب السيرة.
يقول: (تخلف أبو خيثمة أحد بني سالم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، حتى إذا سار رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع أبو خيثمة ذات يوم إلى أهله) وهذا التخلف ما حكمه؟ حكمه كبيرة {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة:120] (ما كان لهم) هذا من أقوى أنواع التعبير في التحذير والنهي.
(ما كان لهم) يعني: لا يصح ولا يليق بحال من الأحوال أن يتخلف أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرغب بنفسه عن نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق وأكرمهم على الله في الحر والرمضاء والحرب واللأواء وهذا في الظل الظليل الوارف مع الأهل والعيال وفي المزرعة، لا ينبغي ذلك، ولا يليق بأي حال من الأحوال؛ لكن هذا الذي لا يليق ولا ينبغي وقع فيه أبو خيثمة رضي الله تعالى عنه.
(فعاد إلى امرأتين له في عريشين له في حائط) وكما تعلمون كانت الغزوة -كما جاء في حديث الثلاثة- في شدة الحر والقيظ، وكما جاء في القرآن لما قال المنافقون: {لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة:81] فرجع، ما كان عندهم كالآن مغريات مثلنا، يعني لما تقرأ المغريات التي كانت في عصرهم -الله المستعان! - المغري كله أن كلاً منهما لديها عريش ورشت الماء من حوله، فكان بارداً بالنسبة لهم، وبالنسبة لنا لا يُعد بارداً، ولا من البارد في شيء.
(فأتى امرأتين في عريشين له في حائط) الحائط يعني: المزرعة والبستان.
(قد رشت كل واحدة منهما عريشها، وبرَّدت له فيه ماء، وهيأت له طعاماً) برَّدت الماء بالطرق البدائية جداً كما تعلمون، وهيأت الطعام، وتعال يا أبا خيثمة! يعني: الزوجة والظل والعريش والماء البارد والطعام، هذه غاية المغريات المثبطات في زمانه.
(فلما دخل قام على باب العريش ينظر) الآن استيقظ، الذنب وقع؛ لكن حفت به هذه القرائن، وقف على باب العريش ينظر.
(ثم قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح والريح والحر) في الضح أي: شدة حر الشمس.
ضحوت له كي أستظل بظله إذا الظل أضحى في القيامة ناقصا
قال: -وأبو خيثمة هذا يقول عن نفسه: (رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح والريح والحر وأبو خيثمة -الآن يخاطب نفسه- في ظل وماء بارد، وطعام مهيأ، وامرأة حسناء، ما هذا بالنَّصَف) يعني: هذا ما هو عدل ولا إنصاف أبداً، ولا يليق ذلك أبداً، ربما لم تكن الآية قد نزلت بعد، والظاهر أنها ما نزلت إلا بعد ذلك؛ لأن فيها: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:118]؛ لكن هو عرف أن هذا لا يليق ولا يحق بحال من الأحوال أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك، وأن يتخلف عنه أبو خيثمة، ويرغب بنفسه عن نفسه، ويتمتع ورسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الحال.
(قال: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهيئا لي زاداً، ففعلتا، ثم قدما ناضحه فارتحل، ثم خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأدركه حين نزل تبوك) كما تعلمون آخرها: (لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم الراكب من بعيد فقال: كن أبا خيثمة.
فذهبوا فوجدوه، فقالوا: يا رسول الله! هو أبو خيثمة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولى لك أبا خيثمة، فأخبره الخبر، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم) إذاً: سبحان الله العظيم! لو أن أبا خيثمة خرج أول الأمر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان في قلبه من الإيمان والأثر والخوف من الله سبحانه وتعالى، والحرص على الجهاد والرغبة فيه مثلما كان بعد أن وقع في الخلل، وغلبه الضعف البشري.
الناس ذهبوا أمة، وهو ذهب يجوب البراري والقفار وحيداً، لا رفيق له، وهو مستشعر الذنب في شدة الحر، ويركب البعير ومعه زاده وهو يذهب وأمله أن يلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف يكون شعوره وهمه وتفكيره في هذه الحالة، وهو لم يدخل العريش أبداً.
إذاًَ: قام بقلبه من حقائق الإيمان والتوبة والندم والاستغفار والحياء من الله تبارك وتعالى ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحبة اللحاق به أمور عظيمة جداً، ربما بل قد نقول: نعم.
ما كانت لتأتي لو أنه ذهب من أول الأمر مع الناس.
فكان إذاً في هذا الذنب -وهو التأخر والتخلف- خير.
إذاً: رُبَّ معصية أورثت ذلاً وانكساراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً.
المثال الآخر أيضاً: مثال أبي لبابة رضي الله تعالى عنه، وهذا حال المتقين دائماً، {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] يعني: الشيطان يَمَس، (إن للملَك لَمَّة، وللشيطان لَمَّة) لكن ميزة أهل التقوى وأهل الإيمان أنهم إذا ألَمَّت بهم اللمَّة تذكروا فعادوا.
هذا ما حدث لـ أبي لبابة رضي الله تعالى عنه.
يقول: (لَمَّا أرسلت قريظة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يرسلني إليهم حين اشتد عليهم الحصر، دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اذهب إلى حلفائك فإنهم أرسلوا إليك من بين الأوس) هو كان حليفهم في الجاهلية، وأبو لبابة له منزلة، وقاتل الله اليهود في كل زمان ومكان، اليهود هم اليهود، لا تصدقوا الذي يقول: اليهود منهم الحمائم ومنهم الصقور.
بل كلهم ثعالب، لا حمائم ولا صقور، بل ثعالب خبيثة، فاليهود هم اليهود، يظنون أن جيش الإيمان والتقوى ركب المهاجرين والأنصار كغيرهم من الأمم والملوك والجيوش، فيقولون بلسان الحال: إذا كان لنا عندهم واسطة، أو لنا عليهم دالة أو حليف تغيَّر الأمر، فلنأتهم عن طريق الحليف، فأرسلوا يريدون أبا لبابة؛ لأنه حليفهم، والناس كما تعلمون حديثو عهد بالجاهلية وأحلافها وعاداتها، ولهذا لما قال عبد الله بن أبي بن سلول: إني امرؤٌ أخشى الدوائر، ثلاثمائة دارع وحاسرة، حلفائي تحصدهم في غداة واحدة، هكذا كانت الارتباطات والعلاقات الجاهلية ما تزال قريبة العهد بهم.
(قال: اذهب إليهم، قال: فدخلت عليهم وقد اشتد عليهم الحصار، فهشوا إلي وقالوا: يا أبا لبابة! نحن مواليك دون الناس كلهم قال: فقام كعب بن أسد فقال: أبا بشير! قد عرفتَ ما صنعنا في أمرك وأمر قومك يوم الحدائق، ويوم بعاث، وكل حرب كنتم فيها) يذكره بأيام الجاهلية يقول عملنا معكم الجميل، والفعائل، والآن هذا وقت الشدة، ووقت رد المعروف.
(وقد اشتد علينا الحصار وهلكنا، ومحمد يأبى أن يفارق حصننا حتى ننزل على حكمه، فلو زال عنا لحقنا بأرض الشام , أو خيبر، ولم نكثر عليه جمعاً أبداً) يقولون: يزيد أن تجعله يتركنا، ونحن نلحق بـ خيبر أو الشام، ولن يرى منا أذىً بعد اليوم.
فما ترى؟ الآن يستشيرون أبا لبابة.
(فما ترى؟ فإنا قد اخترناك على غيرك، وإن محمداً قد أبى إلا أن ننزل على حكمه قال: نعم، فانزلوا) هو قال: نعم فانزلوا؛ لأنه صحابي مؤمن، لا يمكن أن يشير عليهم بغير ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل يمكن أن يخالف حكم الله، وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يطلب منهم غير ما طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لكن في آخر لحظة أخذته وقعة، الضعف البشري يقع حتى من هؤلاء الصحابة الأجلاء.
(قال: انزلوا على حكمه.
ثم أومأ بيده هكذا.
يعني الذبح) فهو من حيث المقال قال الحق، ونطق بالحق، وقال: انزلوا على حكمه، وهكذا يجب أن يكون الإنسان وأن يقول؛ لكن أدركه شيء من الحمية لهؤلاء؛ نظراً لقولهم: إنك حليفنا، ووثقنا فيك، وفعلنا معك، وفعلنا.
وعددوا المآثر، واليهود قوم خداعون كذابون، فوقع، فأومأ بيده، هكذا يعني: الذبح.
حسناً يا أبا لبابة! فعلت ذلك وليس أمامك إلا اليهود، فمن رآك يا أبا لبابة؟! لا أحد من الصحابة، ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن أهل السنة نؤمن أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، هذا من العقائد القطعية، الذين يعتقدون أو يؤمنون أنه يعلم الغيب هؤلاء جعلوه إلهاً آخر، تعالى الله عما يشركون.
فما أحد يعلم يا أبا لبابة! أنت وحدك؛ لكن القضية ليست قضية وحدي أو غير ذلك، فقد استشعر الندم توَّا فنترك التعبير له.
(وقال: فندمت، واسترجعت، فقال(100/8)
أم البنين بنت عبد العزيز وقصتها مع عزة المعشوقة
ثم ذكر توبات كثيرة، كما قلت لكم: الكتاب لو خلا مما فيه مما يستوجب التعليق لكان نفعه عظيماً جداً.
ذكر أيضاً توبة أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان، هذه لها قصة مشهورة في كتب الأدب، وإن كانوا يذكرونها في كتب الأدب على أنها طرفة، أو مُلحة من المُلح والنوادر؛ لكنها عند أهل الإيمان واليقين تدل على ما يذكُر كما ذكره الشيخ رحمه الله تعالى.
يروي أيضاً في سنده قال: دخلت عَزَّة صاحبة كُثَيِّر كُثَيِّر عَزَّة، انظروا النسبة، نعوذ بالله! بعض الناس ينسب إلى الخير، وهذا الرجل نُسب إلى العشق، وإلى المرأة التي عشقها، وكان رجلاً باطنياً خبيثاً، كُثَيِّر هذا كان رجلاً خبيث العقيدة، على عقيدة الباطنية، وهو ممن كانوا يعتقدون أن الإمام في أعلى جبل رضوى، وأن عنده نمور تحرسه، وعنده عسل، وعنده ماء، وسيخرج في آخر الزمان، انظروا! هذا الكلام كان في القرن الأول، فما بالكم عندما ابتدعت الروافض فيما بعد أن الإمام في سرداب سامراء إلى آخر ما ابتدعوه، فالكلام في هذا قديم، وهذه البدعة قديمة.
الشاهد: عَزَّة دخلت على أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان أخت عمر بن عبد العزيز، هذا البيت بيت الملك والأبهة، الدنيا كلها كانت تحت حكمهم كما بينا في مرة مضت، الدنيا كلها تحت حكم بني أمية، فكانت تسمع من الشعراء، وتسمع كأي امرأة مترفة ذات ملك وجاه ومال، فإذا قيل لها: فلان مطرب أو عنده نغمة، قالت: جيئوا به، ننظر ونسمع ما عنده، إلى آخره.
فلما دخلت عَزَّة سألتها أم البنين: وهي عارفة بأخبارها، وعارفة بالحكايات التي يتناقلها الناس يتناقلونها، يعني: كما قالوا عن مجنون ليلى، وكما قالوا عن صاحب عفراء، وفلان وفلان ممن جاءت أسماؤهم في كتب العشق عند العرب، وفي قصص العشق، فيُنسب الشاعر إلى صاحبته، كما أن كُثَيِّر نُسب إلى عَزَّة.
قالت لها أم البنين: ما معنى قول كُثَيِّر:
قضى كل ذي دَين فوفى غريمَه وعَزَّة ممطولٌ مُعَنَّى غريمها
انظر السؤال! وهذا يا إخوان! فضول العلم، وفضول الكلام، وفضول النظر، وجاء في الأخبار: أن رجلاً دخل على أحد السلف فقال له: إني أرى خشبة في سقف البيت تريد أن تسقط.
فقال له: يا رجل! والله إن لي عشرين سنة في هذا البيت ما نظرت إلى السقف.
وكانوا يكرهون فضول النظر كما يكرهون فضول الكلام.
هناك أناس ابتلاهم الله بالفضول، وأناس بخلاف ذلك، فيقول: هذا بيتي وأنا فيه منذ عشرين سنة فما نظرت إلى السقف، الناس في هم أعظم، قلوبهم منشغلة بالله وبالآخرة وبالعمل الصالح، فهم في شغل عن الفضول؛ لكن الناس الذين لا همّ لهم لا يستشعرون خوف الله ولقاء الله، فيسأل سؤالاً ولا يهمه الجواب هكذا على هذا السؤال فالقضية أنه يسأل من باب الفضول فقط.
فجاءها الشيطان بهذا الفضول.
قالت: يا عَزَّة! ما معنى قول كُثَيِّر:
قضى كل ذي دَين فوفَّى غريمَه وعَزَّة ممطولٌ مُعَنَّى غريمها
أي: ما هو هذا الغُرم؟ وما هو الدَّين؟ قالت لها: ما هذا الدَّين الذي يذكره؟ قالت: أعفيني.
قالت: لابد أن تخبريني، ما هذا الدَّين.
قالت عَزَّة: كنت وعدتُه قُبلة فأتاني يطلبها، فتحرجت عليه، ولم أفِ له أي: ما أعطيته.
هؤلاء عشاق العرب الفجار الذين كان هذا حالهم، لذلك يسمونه الهوى العذري، أو الحب العذري؛ لأن الحب عندهم كان على نوعين، أو العشق على نوعين: نوع إباحي.
ونوع عذري.
الهوى العذري في زعمهم: هو فقط الحديث والمزاح والكلام دون أي شيء آخر.
وهكذا كان كُثَيِّر وعَزَّة وطائفة من العشاق.
والنوع الآخر هو الإباحي وهو الذي يؤدي -عياذاً بالله- إلى ارتكاب الفاحشة.
يعني: هؤلاء كانوا من الموصوفين بالفجور، فهي منعها دينُها أو حياؤها أو أصالتها أو عربيتها أو قبليتها أي شيء، المهم منعها مانع أن تعطيه قُبلة، رغم أنه يواعدها ويخلو بها ويتحدثان، ويخبرها بما قال فيها من شعر، ثم يرجع كل منهما إلى مكانه.
فقالت هذا الشيء، كما قال بعضهم: كان العشق فيما مضى أن الرجل يلاقي المرأة فيحدثها وتحدثه، ويناشدها وتناشده، أما اليوم فلا يكاد يخلو بها حتى يفعل بها الفاحشة، وكأنه أشهد على نكاحها أبا هريرة رضي الله تعالى عنه.
هذا الكلام قالوه في القرن الأول، فكيف الآن! الآن ما عاد فينا -نعوذ بالله- إلا الفجور والفساد، حتى المجرمين في ذلك الزمن كانوا أخف جرماً، كان هناك نوع من الحياء العام في الأمة، يربط الأمة نوع من (لماذا نفعل؟).
فاستعظمَتْ مع هذا الشعر والأخبار أن تعطيه هذا، بينما بعض الناس -عياذاً بالله- لا يرى هذا إلا عادياً جداً، الروايات والقصص والتمثيليات يأتي بها كل ليلة، فأصبحت لا تثير شعوراً إلا عند أهل الإيمان والتقوى -جعلني الله وإياكم منهم.
فالشيطان جاء لـ أم البنين، رغم أن الأمر قد انتهى، وكُثَيِّر في مكان وعَزَّة في مكان، وانتهت القضية، وبَعُد العهد؛ لكن الشيطان أراد أن يوقعها.
فقالت أم البنين: أنجزيها منه وعليَّ إثمها أي: أعطيه وعليَّ إثمها، فما هي إلا قُبلة، ليست فاحشة، كما يقول بعض الناس: بسيطة.
كيف تكون بسيطة، حين يختلي الرجل بالمرأة وقد تسافر معه الأيام والأسابيع، بل بعضهم والله يخرج بها خارج المملكة، ثم يقولون: القضية بسيطة.
كيف بسيطة؟ قالت: أنجزيها وعليَّ إثمها هذا الشيطان أوبقها فقالت هذه الكلمة.
ثم راجعت نفسها من وقتها ومن مكانها، واستغفرت الله، وأعتقت لكلمتها هذه أربعين رقبة وتعلمون ما في العتق من الثواب، وقد وردت أحاديث تتناول ثواب العتق منها: (من أعتق رقبة أعتق الله رقبته)، نعم.
كل عضو منه بعضو منها، فأعتقت أربعين رقبة من أجل هذه الكلمة.
وكانت إذا تذكرت هذه الكلمة بكت حتى تبل خمارها وتقول: يا ليتني خرس لساني عندما تكلمت بها.
الله أكبر! انظر كيف! {تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201].
وتعبدت عبادة ذُكرت بها في عصرها من شدة اجتهادها، فتحولت أم البنين من امرأة تستقبل الشعراء، وتسمع أخبار العشاق، إلى امرأة عابدة مجتهدة صالحة فاضلة.
قال: فرفضت فراش المملكة، وقامت تحيي ليلها، وكانت كل جمعة تحمل على فرس في سبيل الله أي: كانت كل جمعة تجهِّز فرساً يخرج في سبيل الله عز وجل تكفيراً وتوبة، وكانت تبعث إلى نسوة عابدات يجتمعن عندها ويتحدثن انتهت أيام الشواعر والمطربات والطبالات والكلام الفارغ.
فالآن من جلساؤها العابدات، الزاهدات، المتقيات.
تقول أم البنين: أحب حديثكن، فإذا قمت إلى صلاتي لهوت عنكن سبحان الله! كيف رسخ الإيمان في قلبها إلى هذا الحد.
وكانت تقول: البخيل كل البخيل من بخل على نفسه بالجنة والله هذا هو البخيل، الناس لو رأوا واحداً عنده مال، ولبس ثوباً ليس مناسباً، وأكل أكلاً جافاً قالوا: بخيل، تبخل على نفسك، أما تكرمها.
فهذه معايير البشر أهل الظاهر الذين يرون ظاهر الأمور؛ لكن حقيقة الأمر: البخيل كل البخيل من بخل على نفسه بالجنة، فما عمل لها ولا اجتهد لها، وماذا تعادل الدنيا هذه كلها بالنسبة إليها.
وكانت تقول: جُعل لكل إنسان نُهمة في شيء فكل إنسان له نُهمة، بعضهم نهم في الطعام، بعضهم نهم في النكاح، بعضهم نهم في سماع الشعر مثلاً، له هواية، وذوق، ومزاج.
قالت: وجُعلت نُهمتي في البذل والإعطاء، والله للعطية والصلة والمواصلة في الله أحب إلي من الطعام الطيب على الجوع، والشراب البارد على الظمأ سبحان الله! جعل الله نُهمتها في العطاء والبذل والإحسان، هذا خير عظيم فتح عليها.
قال: وهل يُنال الخير إلا بالاصطناع؟ وكانت على مذهب جميل حتى توفيت رحمها الله.
إذاً: يا إخوان! واضح، فهذه معصية وقعت، وذنب وقع؛ ولكن أعقب ذلك هذه التوبة وهذه الاستقامة، وهذا الخير، وربما لم تكن لتنال ذلك الخير ولا تحصل عليه لولا أنها لم تقع في تلك الكلمة.
ولقد ذكر ابن القيم رحمه الله ثلاثة عشر مشهداً من مشاهد العبد في الذنب؛ وعند ذكرها إن شاء الله سنعلق على بعض المشاهد، وهي التي تشمل مشهد الخوف، مشهد الإجلال، ومشهد الحياء، يعني: الذنب هو ذنب إذا وقعت فيه، لا يذهب بك الشيطان إلى القنوط واليأس من رحمة الله، في هذه الحالة قف فأنت في مشاهد عظيمة مع الله سبحانه وتعالى، في لحظة الذنب والخطأ هنالك موقف التوبة والضراعة والإنابة والذل والانكسار والعبودية، مواقف عظيمة جداً، ولهذا كما ذكر من كلام يحيى بن معاذ وغيره من العلماء الذين فضلوا حال التائب الذليل المنكسر على حال الطائع، لأن الطائع قد يُدِل ويُعجب ويغتر بعمله، أما ذلك المنكسر الذليل المذنب الذي جاء يطرق الباب مسكين، أين ملجؤه؟ أين ملاذه؟ لا يُتهم؛ لأنه جاء طالباً راجياً، أما ذلك فربما أصابه عجب، وتحدثنا عن هذا فيما مضى.(100/9)
قصة سلامة القس
والقصة الأخرى قصة سلامة القس، هذا رجل من شيوخ القراء، كان اسمه عبد الرحمن، وكان يلقب بالقس، أو القسيس، كما أن أبا عامر العابد قيل له: أبو عامر الراهب، أو كما يقال: الحبر، يعني ألفاظ أو أوصاف أهل الكتاب، الحبر والراهب وأمثاله قد تطلق على من يقابلهم من هذه الأمة، فالرجل لشدة عبادته كان يلقب بذلك، فكان عبد الرحمن القارئ عند أهل مكة من أفضلهم عبادة وأظهرهم تبتلاً، فمر يوماً بـ سلامة انظرواإلى الغناء يا إخوان! يقال لك: ماذا في الغناء؟ ليس فيه شيء، المفتري على الله ورسوله الأسبوع الماضي يقول: الغناء حلال، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يسمعه، يفترون على الله ولا يبالون، الغناء هذا الذي قال فيه ابن الجوزي رحمه الله في تلبيس إبليس: الغناء الذي أباحه بعض السلف غير الغناء في زماننا هذا، هذا ابن الجوزي يقول: عندنا الآن الشبابة والعود والدف، وأضافوا إليها الألحان والأنغام، ماذا عند ابن الجوزي؟ ماذا كان في أيامهم بالنسبة لنا الآن، الآن يسمونها فرقة، وعندما يأتون بهم فعلى طائرة خاصة؛ لأنها فرقة، وآلاتها وأمورها، يؤتي لأجل زواج أو بشأن أن (تميت) حفلة من الحفلات، أو تميت أمة من الأمم، تميت قلوب أمة، انظروا هذا الغناء الذي كثير من الناس لا يبالي به، التليفزيون يغني، والإذاعة تغني، والشريط يغني، وهو يغني، حتى لَمَّا يقفل السيارة ويمشي إلى الدكان يغني حتى يصل ليشتري الأغراض، كل الحياة أصبحت غناء نعوذ بالله.
هذا عابد قارئ عالم زاهد، مر بجارية، وكانت لرجل من قريش، فسمع غناءها، فقال له الشيطان: قف قليلاً عند الباب، واستمع إلى هذا الصوت الحسن ثم انصرف.
فأطل مولاها وإذا: بـ عبد الرحمن عند الباب فقال له: هل لك أن تدخل فتسمع، فتأبَّى عليه، فألحَّ عليه الرجل، فلم يزل به حتى وافق، فدخل، فقال: أقعدني في موضع لا أراها ولا تراني، هو الحمد لله ويخاف الفتنة، هذا الذي يقول لك بعض الشباب في مجال الطب وفي مجال الخطوط الجوية، وما أدري أين: نحن نحاول أن نبعد عنها، الحمد لله الواحد يجتهد ما استطاع؛ لكن القضية أن النساء فتنة (ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء)، وهو الذي بالمؤمنين رءوف رحيم صلوات الله وسلامه عليه، شفيق على هذه الأمة، وحذر من هذه الفتنة، المال والنساء، لا يقول واحد: والله ما يمكن أن أقع في المحظور أبداً.
يبدأ قليلاً قليلاً، يأخذ الذي يبقى من الهلل في الصندوق، وفي النهاية يأكل نصف المشروع، بدأت بالهلل؛ لكن انتهت بالمليارات والملايين، وكذلك الزنا -نعوذ بالله- والفواحش، أولاً نسمع صوتها ثم نجلس ثم بعد ذلك يكون كما قال أحمد شوقي:
نظرةٌ
إلى آخره.
قال: أقعدني في موضع لا أراها ولا تراني حرام أن أراها؛ لكن الصوت هذه المرة ونمشي ولن نعيدها، ما دمتُ أُحرِجتُ ولكن لن أعيدها إن شاء الله.
قال: فدخل فتغنت، فأعجبته، فقال مولاها: هل لك أن أحولها إليك؟ فتأبَّى وامتنع، فلم يزل به أيضاً حتى وافق ما في خلوة، وأنا وإياك موجودون، وما في مشكلة.
فجاءت فجلست أمامه، فلم يزل يسمع غناءها حتى شُغف بها وشُغفت به، وعلم ذلك أهل مكة نسأل الله أن يغفر لنا ويستر علينا.
الخبر السيئ ينتشر في الآفاق -نعوذ بالله، نسأل الله أن يستر علينا ذنوبنا وعيوبنا- فتسامعوا، وإذا بهم يتسائلون: عبد الرحمن القس؟ نعم.
القس سمعها، وصار يصغي لها، وانتشرت في كل مكان.
وأخذ المجرمون والشعراء من ذلك مجالاً للقصائد، كما في كتاب الأغاني وأمثاله، يقولون: الشافعي أفتى، لأن الشافعي قيل له: (هل عليَّ في القُبلة من حرج؟ قال: لا حرج إن شاء الله).
وفلان قال، وفلان، في روضة المحبين ذكر ابن القيم رحمه الله نماذج من كلامهم هذا كثير.
فمن جملتها انتشر الخبر في مكة، العابد الراهب الزاهد تعلق بهذه المغنية.
حتى أنها مرة -بدأ الشيطان ينسج فيما بينهما؛ ولكن أراد الله سبحانه وتعالى أن تكون تلك بداية التوبة والانقطاع- فاتحته وقالت له: أنا والله أحبكَ.
فقال: وأنا والله أحبكِ.
قالت: فما يمنعك من الوصال، فوالله إن الموضع لخال! بدأ الشيطان الآن في العميق ولا يوجد أحد، فقال: إني سمعت الله تعالى يقول: {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] وأنا أكره أن تكون خُلة ما بيني وبينكِ تئول بنا إلى عداوة يوم القيامة.
قالت: يا هذا! أتحسب أن ربي وربك لا يقبلنا إذا تبنا إليه أوه! عندها فقه، الشيطان فقهها، فتقول: نعمل هذه المعصية الآن وبعد ذلك يتوب الله علينا، أنت حافظ للقرآن وعارف للأدلة، نتوب وكفى وانتهينا.
قال: بلى بلى، يتوب علينا لو تبنا.
قال: ولكني لا آمَن أن أفاجأ انظروا كيف تكون العودة إلى الله.
ثم نهض وعيناه تذرفان، فلم يرجع بعد، وعاد إلى ما كان عليه من العبادة.
سبحان الله! وعاد وهو أشد إيماناً وتقوى وخوفاً على نفسه، وعلى أذنه، وعلى عينه من الفتنة.
هذا أيضاً مثال من الأمثلة الذي تكون فيه هذه الذنوب والموبقات سبباً أو داعياً إلى الخير.(100/10)
استشعار شدة عذاب الله وأليم عقابه سبب للتوبة
يذكر أيضاً الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى مثالاً آخر قصيراً لكنه عظيم جداً.
قال وهيب بن الورد أحد العباد المشهورين المعروفين: بينما امرأة في الطواف ذات يوم وهي تقول: يا رب! ذهبت اللذات وبقيت التبعات التبعة هي: المسئولية، أي: ذهبت اللذة، كسهرة ليلة، وجلوس مع فاجرة، وسماع لأغنية، ومجلس شر، إلى آخره، ذهبت اللذة تلك الليلة وانتهى؛ لكنه في الديوان ما تزال مسئوليته مكتوبة، فالإنسان يلقى الله يوم القيامة وقد انقضت اللذات؛ ولكن بقيت عليه التبعات.
قالت: يا رب! ذهبت اللذات وبقيت التبعات، يا رب! سبحانك، وعزتك إنك أرحم الراحمين، يا رب! ما لك عقوبة إلا النار؟ الله أكبر! انظروا لَمَّا الله تعالى أيقظ قلبها بالإيمان.
يا رب! ما لك عقوبة إلا النار؟ لأنها تذكرت، ليس بعد هذه الدار من دار إلا الجنة أو النار، فتعجبت، لا إله إلا الله: ما لك من عقوبة إلا النار؟ يعني: ليس هناك أي مخرج آخر؟ نعم، إما الجنة {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185] هذا فاز؛ لكن إن كانت النار، فما هي النار؟ لو سيرت فيها جبال الدنيا لذابت من شدة حرها، أعوذ بالله، ليس هناك غير هذا.
إذاً: ما الحل؟ وما المخرج؟ قالت: يا رب! ذهبت اللذات، وبقيت التبعات، يا رب! سبحانك وعزتك إنك أرحم الراحمين، يا رب! ما لك عقوبة إلا النار؟ وكانت معها امرأة أخرى صالحة تمشي معها قالت: يا أخية! دخلتِ بيت ربك اليوم؟ تظن أنها دخلت الكعبة، قالت: والله ما أرى هاتين القدمين أهلاً للطواف حول بيت ربي فكيف أراهما أهلاً لأن أطأ بهما بيت ربي وقد علمت حيث مشتا، وأين مشتا سبحان الله العظيم! تذكرت أن هاتين القدمين مشتا إلى معاصٍِ وفجور، والآن جاءها الندم، فكان تذكُّرها لتلك المعاصي والذنوب أعظم دافعٍ -بتوفيق الله سبحانه وتعالى- لأن تستقيم، وأن تستشعر هذا الشيء.
امرأة عامية، ما عندها كثير علم، كما قال الأعرابي: لا أحسن دندنتك، ولا دندنة معاذ؛ لكن عندها هذا الفهم العجيب: ما لك عقوبة إلا النار؟ شيء عجيب لو أن العاقل تفكر، هذه العبارة الصغيرة والله إنها تكفي عِبَراً لأي معتبر، ما لك عقوبة إلا النار؟ يعني لو أن هناك مخرجاً آخر، لو أن هناك ملاذاً أو ملجئاً.
إن لم تكن من أهل الجنة فإنها إلى النار.
والنار هي ما علمنا.
إذاًَ: يا رب، أين الملاذ؟ أين المهرب؟ أين المنجى؟ فلذلك تابت وحسنت توبتها وكانت على ذلك.
وأقول: الكتاب قيم حقيقةً كما قلت لكم، ولو أنه يُعلَّق عليه لوجدتم فيه فوائد عظيمة جداً.
نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يتوب علينا.(100/11)
ذنوب العباد بين الكبائر والصغائر [2]
في هذه المادة يتحدث الشيخ عن مسألة مهمة في تربية النفس وتزكيتها، ألا وهي: فضل اقتران الوقوع في الذنب بالخوف والحياء من الله سبحانه وتعالى، وبين أن أعمال القلوب هي الأساس الذي يبنى عليه التفاوت بين الناس، ودلل على ذلك بأمثلة من الواقع، ثم ختم هذه المادة بالحديث عن التوبة والأسباب المسقطة للعقوبات.(101/1)
فضل اقتران الذنب بالخوف والحياء
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بك اللهم من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه، ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد: فلا زلنا في الحديث عن هذه الكلمات الخيرات في فقه التربية -أو كما أحب أن أسميه فقه التزكية- لأن الله سبحانه وتعالى سماها تزكية حيث قال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9].
هذه الكلمات التي جاء بها الشارح رحمه الله تعالى، نحتاجها جميعاً، ونحن طلبة العلم قد نكون أحوج ما نكون إليها، ثم ننقلها ونعلمها إلى غيرنا من العامة، وهي من قوله: (ولكن ثمة أمر ينبغي التفطن له).
وقد تعرضنا لشرحها، وقلنا: إن بعض الذنوب والمعاصي التي يقع فيها العبد ربما تكون سبباً في تغيير خط حياته بالكلية، وتحوله من طريق الضلالة والغواية والفجور إلى طريق السنة والهداية والتقوى.
وذكرنا على ذلك أمثلة ونماذج مما ثبت وصح، ومما ذكره العلماء -أيضاً- من أخبار التائبين من كتاب: التوابين للإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى في بيان فضل وأثر اقتران الذنب بالحياء والخوف إن وقع من العبد، كما ذكر الشيخ هنا، من أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر، وبخلاف ذلك وضده تماماً، الصغيرة التي يقترن بها من قلة الحياء، وعدم المبالاة والاهتمام بها ما يلحقها بالكبائر.
نسأل الله العفو والعافية.(101/2)
أعمال القلوب يبنى عليها التفاوت بين الناس
ثم أن قال رحمه الله: (وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب، وهو قدر زائد على مجرد الفعل).
وهذه حقيقة عظمى من حقائق الإيمان؛ ولهذا يجب أن نعلم جميعاً أن أعمال القلوب هي الأفضل وهي الأساس، وهي أصل كل الأعمال، أما أعمال الجوارح فقد يشترك فيها الناس، ومع ذلك فهم متفاوتون في أعمال القلوب.
ومن أوضح الأمثلة على ذلك: الصلاة.
حيث يقف الناس جميعاً خلف الإمام، ولكن بين هذا وهذا في الأجر والمنزلة والدرجة والثواب الشيء الكثير والبون الشاسع جداً؛ وذلك بأعمال القلوب، فأما أعمال الجوارح فقد يكونوا كرجل واحد في متابعة الإمام، لكن تجد هذا يصلي بخشوع وحضور قلب واطمئنان، وتأمل وتدبر، وتفكر في آيات الله تبارك وتعالى المقروءة، فهذا حاله غير حال ذلك الذي يصلي بلا حضور قلب وبلا خشوع واطمئنان، بل ربما كان أقل بكثير جداً.
وكذلك الحال في الجهاد، فليس الجهاد بكثرة الإبلاء في العدو، وكثرة القتل فيهم، ولكنه بالإخلاص وبصدق النية مع الله سبحانه وتعالى، وإن كان حال المرء كما قال صلوات الله وسلامه عليه: (إن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في الحراسة كان في الحراسة) لا يبالي في أي موقع كان.
وكذلك الصدقة والنفقة، فليست العبرة بكثرتها ولا بمظهرها، ولكنها بحقيقة إيمان صحابها وصدق يقينه، وإخلاصه وتجرده عن الدنيا، وبذله ما أعطاه الله وجعله مستخلفاً فيه في سبيل الله، ولهذا قال صلوات الله وسلامه عليه: (سبق درهم ألف درهم) فدرهم يتصدق به الإنسان وهو صحيح شحيح يخشى الفقر ويرجو الغنى، وقد لا يكون لديه فضل مال غيره خير من ألف درهم، بل خير من آلاف الآلف إذا كانت تعطى من غير نية صادقة، خالصة لله، ومن غير هذه الصفات التي اجتمعت في الأول، والناس في ذلك متفاوتون على مراتب ودرجات.
فأعمال القلوب كما قال رحمه الله: (هذا قدر زائد على مجرد الفعل، والإنسان يعرف ذلك من نفسه وغيره).
ثم قال: (وأيضاً: فإنه قد يعفى لصاحب الإحسان العظيم ما لا يعفى لغيره).
وهذا أمر آخر فالقضية إذاً ليست قضية ذنوب أو معاصٍ ارتكبت، أو حرمات انتهكت -هذه تقع- لكن وقوعها من شخص غير وقوعها من آخر.
وهذا أيضاً أمرٌ آخر، ومقامٌ آخر من المقامات التي نعرف بها اختلاف الناس في ذلك؛ فبعض الناس -كما أشرنا- ذنبه قد يكون سبباً لهدايته، ويكون حال التائب من هذا الذنب أفضل من حال ذلك المطيع المستقيم الذي قد يدل ويعجب بطاعته -هذه حالة-.
الحالة الأخرى: أن وقوع الذنب من هذا غير وقوعه من ذاك، وهذا كثيراً ما يغفل عنه بعض الناس، فإذا رأى أن أحداً من أئمة هذا الدين -قد يكون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من دونهم- يقول: أليس من الصحابة من فعل كذا وكذا، فأنا أفعل مثله، ونسي هذا المسكين أن البحر العظيم المتلاطم من الحسنات مهما ألقي فيه من النجاسات لا تضره، وأما ذلك المسكين الذي ليس لديه إلا إناء صغير، فإن أقل قذارة أو نجاسة تنجسه كله، فقارن حاله بحال غيره في المعصية فقط.
قال بعض الصحابة: إن الربا نوع واحد، وبعضهم يقول: إن بعض العلماء أباح الغناء، واستماع الصوت مثلاً، وقال الآخر: إن بعض العلماء أجاز النبيذ أو شيئاً من ذلك، فهذه رخص العلماء التي هي مخالفة للدليل الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال العلماء: من تتبع رخص العلماء تزندق؛ لأنه يجمع الرخص من هنا ومن هنا فيخرج وقد أصبح زنديقاً والعياذ بالله.
فلو اتبع كل واحد من الناس ما ترخص فيه بعض الأكابر والفضلاء لما بقي له من الدين شيء، فكيف يقرن الضعيف المسكين -الذي لا فضل له ولا جهاد ولا سابقة- نفسه بعمل أولئك؟ بل حتى بين الأكابر والفضلاء أنفسهم يكون التفاوت بينهم، والعقوبة والمؤاخذة بحسب ودرجاتهم وفضلهم.(101/3)
ذكر قصص موسى وعفو الله عنه لعظيم إحسانه
هذا الكلام بنصه من قوله: (ولكن إلى: وغيره)، منقول من مدارج السالكين، الجزء الأول (صفحة 328)، وعقب هذا الكلام يأتي شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله بكلام لشيخه الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى؛ ليدلل به على كلامه المذكور؛ فيقول: (وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: انظر إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه) يدلل على أن الذنب من هذا غير الذنب من ذاك، وهذا بين الأنبياء فكيف بمن كان صحابياً أو تابعياً، أو كان له عند الله تعالى منزلة، ويأتي من لا قيمة له فيجعل نفسه مثله، فالتفاوت بين هذا وهذا أعظم.(101/4)
من مواقف موسى عليه السلام
يقول: (انظر إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه، رمى الألواح التي فيها كلام الله الذي كتبه بيده فكسرها، وجر بلحية نبي مثله) وهو هارون، أخذ بلحية أخيه ولهذا قال: {لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه:94] {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي} [الأعراف:150]، (ولطم عين ملك الموت ففقأها) والحديث في الصحيح، لطم عين ملك الموت وقد جاءه بالحق، والله سبحان وتعالى إنما يبعثه ويرسله بالحق، ولا مناص ولا فكاك لأحد من الموت، ولكن نبي الله تبارك وتعالى موسى يلطمه، يقول: (وعاتب ربه ليلة الإسراء في محمد صلى الله عليه وسلم ورفعه عليه).
كيف لو بدرت هذه الأعمال من أحد؟! لو أن أحداً ألقى كلام الله، والله سبحانه وتعالى إنما أوحى إلى موسى أنه سيكرمه ويصطفيه: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا} [الأعراف:155] وذهب صلوات الله وسلامه عليه وعلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى حيث أراد الله سبحانه وتعالى، وصعد إلى الجبل، وكلمه الله تبارك وتعالى، وأوحى إليه الكتاب الذي هو التوراة، التي جعلها الله سبحانه وتعالى فاصلاً ومعلماً عظيماً بين عهدين كبيرين من عهود التاريخ الإنساني.
هذان العهدان كما قال بعض الصحابة رضوان الله تعالى عليهم هما: العهد الأول: عهد إهلاك الأمم، وقد أهلكت الأمم، ولم يكن لله تبارك وتعالى كتاب باقٍ محفوظ، فقد أنزلت الصحف على إبراهيم عليه السلام ولكنها لم تبق -كما تعلمون- وأما ما أنزله الله تبارك وتعالى على داود، وهو الزبور: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} [النساء:163] فإنما نزل بعد التوراة، لكن التوراة بنزولها: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى} [القصص:43]، أي: القرون التي قبل التوراة، أما من بعد أن أنزل الله تبارك وتعالى التوراة فإنه لم يهلك أمة بأكملها من الأرض، وهذه مرحلة عظيمة جداً لهذا الكتاب؛ ولهذا فإن فرعون أهلك قبل نزول التوراة؛ لأنه أهلك أثناء خروج موسى عليه السلام وقومه من مصر، فلما أن عبروا البحر إلى الصحراء، {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف:138] وكانت القصة.
ثم كانت دعوتهم إلى دخول الأرض المقدسة، ثم قولهم: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] ثم ضرب عليهم التيه أربعين سنة يتيهون في الأرض -عياذاً بالله-، وفي جبل الطور أوحى الله تبارك وتعالى إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه، وألقى إليه هذه الألواح -هذا الكتاب العظيم: التوراة-.
ومع ذلك لما عاد إلى بني إسرائيل، لم يكن يعلم أن الله قد فتن قومه من بعده، فلما علم بذلك ألقى الألواح من شدة الغضب، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، ولا شيء في الدنيا أعظم وأفضل من تلك الألواح؛ لأنها كلام الله، وكتاب الله عز وجل الذي أعطاه.(101/5)
محاجة آدم لموسى عليهما السلام
ثبت في الصحيحين حديث محاجة ومخاصمة موسى وآدم عليهما السلام، وأول الخصومة من موسى، -وهذا مما يؤخذ ضمن الشواهد هنا- أن موسى صلوات الله وسلامه عليه قال: (أنت آدم الذي خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته؟ خيبتنا وأخرجتنا من الجنة -بهذه القوة يعاتب أباه-.
فأجابه آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته، وبكلامه، وخط لك التوراة بيده؟!) كل منهما يعرف قيمة الآخر، والكرام يعاتبون بما فيهم من خلال الخير، أنت يا فلان، أنت طالب العلم الذي كذا وكذا تفعل كذا، ويذكر ما يعلم من فضائله ومن محاسنه.(101/6)
رمي الألواح ومعاقبة هارون عليه السلام
لو أن أحد الآن ألقى المصحف على سبيل الإهانة له لكان كفراً بلا ريب، لكن أين هذا الفعل من فعل نبي الله تبارك وتعالى موسى، فعله موسى صلوات الله وسلامه عليه غضباً لله، ألقاها لأنه لم يعد يملك نفسه؛ ألقاها ليعاقب أخاه توهماً أنه هو السبب الذي أتاح لهم ذلك، لم لم تلحقني وتخبرني وتقول لي، وبين هارون عليه السلام له عذره: {إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:94] كل له اجتهاد.
الشاهد: أن ذلك وقع من نبي الله صلوات الله وسلامه عليه، وأيضاً فإنه جر لحية نبي مثله، جعله الله وزيراً ونصيراً ومعيناً، وأفصح منه لساناً، وقام معه في الدعوة، وعادة الكرام وطبعهم أن من صحبك وعاشرك وأعانك أنك لا تسيء إليه، لكنه صلوات الله وسلامه عليه من أفضل الكرام، وما خالف طبعهم، لكنه في الغضب لله عز وجل هانت عنده هذه الأمور، نسي الألواح، ونسي قدر أخيه؛ غضباً لذات الله سبحانه وتعالى وجهاداً فيه.
وأما عين ملك الموت فإنما لطمها بناءً على هذا.(101/7)
موقف موسى مع فرعون عليه السلام
يقول الشيخ: (لأنه قام لله تلك المقامات العظيمة في مقابلة أعتى عدو له، وصدع بأمره، وعالج أمتي القبط وبني إسرائيل أشد المعالجة، فكانت هذه الأمور كالشعرة في البحر).
له مقامات ومواقف، من الذي استطاع أن يقف أمام فرعون الذي ادعى الألوهية فقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] وادعى الربوبية: {أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى} [النازعات:24] وقال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51] أعوذ بالله، لم يتجرأ أحد على التلفظ بمثل هذا، وبهذه القوة والعناد؛ ولهذا ما تحدث الله تبارك وتعالى عن عدو من أعدائه كما أخبر وقص علينا من خبر فرعون، نسأل الله العفو والعافية.
مع هذا الطغيان، فإن أمة القبط كانت خانعة وخاضعة له، وأما بنو إسرائيل فهم عبيد عند الأقباط، يستضعفونهم، ويستحيون نساءهم، ويذبحون ويقتلون أبناءهم، فليس لهم أي قيمة؛ فيأتي هذا الرجل -موسى عليه السلام- وهو وحده، إلا أن الله تعالى جعل معه أخاه هارون وزيراً، ويواجه هذا المجرم ويناظره ويجادله، ثم يبلغ به من قوة إيمانه ويقينه وتوكله على ربه، وثقته بما يوحي إليه أن يقول: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه:59] يطلب أن يكون في يوم العيد، وأن يجتمع الناس جميعاً، وأن يروا أأنا على الحق أم أنت يا فرعون؟! وهذه لا يصبر عليها ولا يطيقها إلا من كانت ثقته وقوة إيمانه بالله سبحانه وتعالى ويقينه قوياً، ثم تكون له الغلبة والنصر!(101/8)
موسى عليه السلام مع أمته
قد عالج عليه السلام ما عالج من أمر أولئك الأمة العتية الغضبية التي كتب الله سبحانه وتعالى عليها غضبه، وضرب عليها الخزي والذل أينما حلت وسارت، أمة بني إسرائيل العتاة، غلاظ الأكباد، عبدة الدرهم والدينار، هؤلاء الذين يرون آيات الله سبحانه وتعالى عياناً ثم ينكرونها، ويجحدون ويكابرون.
يعطيهم الله سبحانه وتعالى من النعم، كما أعطاهم المن والسلوى، وكما أنجاهم من آل فرعون بعدما كانوا يفعلون بهم ما يفعلون، وقبل تبارك وتعالى توبتهم لما عبدوا العجل، ولما نتق فوقهم الجبل وتابوا رفع العذاب عنهم، وطلبوا ما هو أردأ، استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير؛ حتى بلغ بهم أنهم يقتلون الأنبياء بغير حق.
أي أمة أعتى وأشد في الكفر والجحود والعناد من هذه الأمة؟! كتاب الله بين أيديهم، حرفوه وبدلوه، وافتروا على الله تبارك وتعالى الكذب، ويكتبون الكتاب بأيدهم ويقولون هذا من عند الله وما هو من عند الله، يأكلون بهذا الكتاب ثمناً قليلاً، يأكلون السحت والربا، قالوا في مريم وعيسى بهتاناً عظيما، قالوا في محمد صلى الله عليه وسلم إفكاً مبيناً.
ماذا تعدد من ذنوبهم؟! إن الذي عالج هذا وتعب منه أشد التعب والمعاناة هو نبي الله تعالى موسى؛ فقد أخبر الله عنه فقال: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:21] أي: أن النصر مضمون، ادخلوا، ولكنهم ردوا عليه: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] أعوذ بالله أهذا يقوله مؤمن بالله سبحانه وتعالى؟! كلما يأمرهم بأمر أو ينهاهم يبدلوه؛ حتى أنه لما قيل لهم: {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة:58]، قالوا: حنطة، استهزاء وسخرية، فهذه الأمة عالج منها صلوات الله وسلامه عليه ما عالج، وتعب، وبذل ما بذل، من أجل أن تهتدي للحق.
فصبره مع فرعون، ومع هذه الأمة، ويقينه بالله الذي ما فارقه، لما أمره الله تبارك وتعالى وبني إسرائيل أن يخرجوا؛ فخرجوا وأتبعهم فرعون بجنوده، فلما رأوا الماء أمامهم، قالوا: ما الحل؟ الآن العدو بجيشه وجبروته من وراء والبحر من أمام أين المفر؟ {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] أمة لا يقين لها في الله: {قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] هذا اليقين لا يأتي لكل إنسان، فكثير من القلوب تهتز وتضعف، وتتزلزل وتنهزم، وتبدأ تفكر كيف تنسحب وتستسلم وتعتذر، ولكنه قال: {كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] ثقة بالله سبحانه وتعالى.
وغيرها من المواقف العظيمة لهذا النبي صلوات الله وسلامه عليه تذكرنا بمواقف أفضل رسل الله سبحانه وتعالى، وأكثرهم جهاداً في ذات الله محمد صلى الله عليه وسلم من بعده.(101/9)
موسى عليه السلام يعاتب ربه
وكذلك قوله ليلة الإسراء يعاتب ربه سبحانه وتعالى: أتبعث هذا الغلام من بعدي، وتجعل أمته أفضل من أمتي.
هذا شيء لا يقوله أحد إلا من كان لديه من القرب من الله عز وجل ما يجعله يقول مثل هذا الكلام ويعاتب ربه ويقول مثلما قال.
يقول: (ومع ذلك فإن ربه تبارك وتعالى يحتمل له ذلك كله، ويحبه ويكرمه ويدلله).
هذه العبارة التي علق عليها الشيخ، وهي بيان أن هذا الإكرام له منزلة خاصة عنده، ولم يصف الله سبحانه وتعالى، أو يجعل من أسماء الله سبحانه وتعالى اسماً زائداً، وإنما هو تعبير.
ويكفي أن نعلم أن الله سبحانه وتعالى يكرمه ويعطيه ما يريد، ويسارع في هواه، ولا يؤاخذه بهذه الأعمال رغم أنها مخالفة لما كان ينبغي أن يكون، كما وضحنا في حديث محاجته لأبيه آدم لما أن رآه وتقابلا.
الصحيح أنهما تقابلا ولكن أين؟ أولاً: هل نقول إن القصة هذه إخبار عما سيقع، أو نقول وقعت؟ الصحيح أنها وقعت؛ لأن ظاهر اللفظ أنهما تحاجا، فالمحاجة قد وقعت.
والأمر الآخر أنهما التقيا في دار البرزخ، وهذا ليس بغريب؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم في معراجه قابلهما وسلم عليهما، وغيرهما من الأنبياء كيحيى وعيسى وإبراهيم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فهذا لا غرابة فيه، فلما حصل بينهما اللقاء عاتب موسى عليه السلام أباه آدم عليه السلام.
يا موسى! ما مضى مضى، أكل أبوك آدم من الشجرة، وغفر الله تبارك وتعالى له وتاب عليه، ثم جئت من بعده، وأنت الآن في جنة البرزخ، أنت الآن فيها، فما وجه المحاجة والمخاصمة؟ محاجته ومخاصمته كانت في ذات الله عز وجل، هو في عالم الآخرة -أو البرزخ- كما هو في عالم الدنيا، لا يقبل المخالفة أبداً؛ ولهذا قال له: خيبتنا، وأخرجتنا من الجنة، كيف يحصل هذا منك؟ مع أنه قد قضي؛ فكان الرد من الأب على الابن: (يا موسى! أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، وخط لك التوراة بيده، ألست تقرأ فيها أنه كتب علي أن يخرجني منها قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى -ثلاثاً-) حجه: أي: غلبه بالحجة، وهي قوله: كتب الله علي أني أخرج منها قبل أن أدخلها بأربعين سنة، وهذه -والله أعلم- هي الواردة في قوله تبارك وتعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} [الإنسان:1] هذه الأربعين سنة، بين خلقه له وبين نفخ الروح فيه.
نعم الإخراج من الجنة بسبب الذنب له حكمة عظيمة عند الله سبحانه وتعالى؛ حتى يعرف بنو آدم خطر الذنوب والمعاصي وإن هانت أو قلَّت، وأن يعرف الإنسان عدوه الشيطان الرجيم فلا يطيعه أبداً، هذا عدوك الذي أخرجك من الجنة، وأخرج أبويك، {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6].
لا يقول الإنسان: هذه معصية صغيرة، وذنب بسيط، أحل الله له كل شجر الجنة إلا شجرة واحدة محرمة، فأكل منها طمعاً في الخلود وتغريراً من الشيطان، لاسيما إذا اقترن بذلك الإيمان المغلظة: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21].
وبعض الناس والعياذ بالله من أجل العافية، والراحة، وطول العمر، تجده يقول لك: هناك ولي -لا يقولون: كاهن- من السادة إذا ذهبت عنده أعطاك بعض الأعشاب فلا يصيبك سرطان ولا مرض وطوّل العمر، ويجعل الشايب يعود شباباً.
ما هي القضية وكيف يصنع؟! يكتب وحرزاً تحفظه، وحاجات تمحوها وتشربها.
هذا سببه حب الخلود، فهو شايب يريد أن يعود شباباً، ويتزوج امرأة شابة، فيقول: والله هذه فرصة، وما هذه إلا خدعة الشيطان اللعين، فأول الأمر يخدعك به، ثم تذهب إليه فتصدقه بما يقول، ثم تكون النتيجة: (من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد) النتيجة: الكفر والعياذ بالله.(101/10)
قوة موسى عليه السلام في الحق
أما موسى صلوات الله وسلامه عليه، فقوته في الحق حتى مع نفسه، وهكذا دائماً كل من كان قوياً في الحق وصادقاً، تجد أنه قوي وشجاع حتى مع نفسه، هكذا كان الأنبياء والرسل، والمجاهدون والصحابة والتابعون، ما كان أحد في هذه الأمة أشد هيبة من عمر رضي الله تعالى عنه، عمر إذا سلك فجاً؛ سلك الشيطان فجاً آخر، ومع ذلك ما كان يستنكف أن يقال له: أخطأت، ولا أن يتراجع عن خطأ أخطأه، وهذا من قوته وشجاعته، يتراجع ويستمع، ويقبل من يقول له ويوجهه.
ففي أي قصة من كتاب الله تظهر لنا قوة موسى صلوات الله وسلامه عليه حتى مع نفسه؟ {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً} [الكهف:76] سبحان الله! يقول النبي صلوات الله وسلامه عليه: (وددت أنه صبر حتى يطلعنا الله تعالى من أنبائهما) شيء عجيب، وقصص عجيبة جداً، لكن ما مرت إلا ثلاث فقط؛ لأنه لما وقعت الثانية حكم موسى صلوات الله وسلامه عليه على نفسه.
ماذا قال له في الأولى؟ {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً} [الكهف:72] فكانت الأولى نسياناً: {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} [الكهف:73] وهكذا الكرام والمتأدبون وطلاب العلم.
وأما الثانية: ((قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)) [الكهف:75] فرأى أنه أخطأ {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً} [الكهف:76] أنت معذور معي، ولك الحق كل الحق أن تطردني وتفارقني إن تجرأت عليك مرة ثالثة.
لكن الثالثة جوع وتعب وإجهاد، ومسافة طويلة، فقد نسي الحوت ورجع من أجل أن يأخذه؛ فقد قطع المسافات، ذهاباً وإياباً، وأصابة الجوع والجهد، ثم يأتي إلى القرية اللئيمة فيقول: يا عباد الله! أطعمونا، فيأبون أن يضيفوهم، بل ينهرونهم.
فلما رأى موسى صلوات الله وسلامه عليه هذه الحالة قال الخضر: تعال نبني هذا الجدار، ورد في بعض الروايات في الصحيح أنه قال له: قم، فقام بإذن الله، لكن الذي يرجح الروايات الأخرى أنه بناه وتعب؛ لأنه قال: {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} [الكهف:77] والأجر يكون على شيء بذلت فيه جهداً، فنرجح الروايات الأخرى.
فلما انتهيا من البناء {قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} [الكهف:77] قليلاً من الدراهم غداء وعشاء، نملأ هذا الفراغ وهذا الجوع، فكان ترجياً ولم يكن اعتراضاً قوياً، ومع ذلك: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف:78].
انتهى الأمر، ما قال له موسى لا؛ لأنه قد قال: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي} [الكهف:76] فكان قد حكم على نفسه، فقبل الحكم، فانظر القوة التي أعطاه الله تبارك وتعالى بالحق لذات الله ولوجه الله سبحانه وتعالى، وليست انتصاراً لحظ النفس أبداً.
حتى لما قتل القبطي: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص:15] ما قتله لحظ نفسه، لكن استغاثه رجل من بني إسرائيل اجتمع عليه الأقباط.
فهذه قوته صلوات الله وسلامه عليه، قوة البدن والقلب واليقين، ومع هذه القوة كان له عند الله تبارك وتعالى من المنزلة والمكانة ما جعل إلقاء الألواح، وجر لحية أخيه، وعتابه لربه ليلة الإسراء والمعراج، وضربه ملك الموت، وعتابه لآدم، كل هذه لا تساوي شيئاً، ولم تكدر هذا البحر العظيم من المكارم والمناقب والفضائل والحسنات.(101/11)
موقف يونس بن متى عليه السلام من قومه
قال: (وفي المقابل انظر إلى يونس بن متى صلوات الله وسلامه عليه حيث لم يكن له هذه المقامات التي لموسى، غاضب ربه مرة، فأخذه وسجنه في بطن الحوت، ولم يحتمل له ما احتمل لموسى).
كلاهما نبيان، لكن هذا دعا قومه إلى الحق فكذبوه؛ فذهب مغاضباً: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:87]، أين الصبر والتحمل؟ أليس محقاً صلوات الله وسلامه عليه؟ بلى والله إنه لمحق، والله ما دعاهم إلا بما أوحى الله إليه، ولا دعاهم إلا إلى توحيد الله، ولا دعاهم إلا إلى طاعة الله، لكن لم تغضب وتذهب، اصبر وصابر ورابط وادع، ولو لم يستجيب لك إلا واحد.
لا تقل: لم يصغ لي، كيف أنذركم عذاب الله وتستهزئون بي، وتسخرون مني، إذاً: لا مقام لي بينكم، فذهب، وفي السفينة شهد على نفسه.
قال القبطان: إن هاهنا رجل ارتكب ذنباً، قال: أنا هو؛ فألقوه، كما الله تعالى في هذه الآية: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات:142] ثم ذهب يجوب به، حوت عجيب، وما كان يعلمه الناس من قبل من الحوت إلا من أطلعه الله تبارك وتعالى عليه، أما الآن حتى الكفار الذين لا يقرءون كلام الله يعجبون من عظم الحوت، وكبر خلقته، وحياته، ومن ثم يقول: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنبياء:87] نعم.
بطن الحوت ظلمة، وظلمة الليل ظلمة، وظلمة البحر، فأعماق البحر ظلام مطبق؛ لأن شعاع الشمس لا يستطيع أن يخترق هذه المسافة الهائلة.
كم أبعد نقطة ما بين سطح الماء وقعر البحر؟ هذا من علم التفكر في ملكوت السماوات والأرض، يقولون إنها تصل إلى عشرة كيلو مترات، وكما ترون الآن في البحار أن الشمس لا يمكن أن يصل شعاعها إلى هذا الحد أبداً، وفي قعر البحر تعيش أنواع من الحيتان والأسماك، وبعضها لها شكل الفسفور الذي يضيء في ذلك الظلام مثلما تضيء الساعة.
وفي قعر تلك الظلمات تسمع الملائكة تسبيحاً، يا رب! صوت معروف في مكان غريب، والملائكة تعرف الصوت، لكن المكان غريب ما عهدناه، هل عهدنا أن إنساناً يسبح في ظلمات البحر؟ وهم لا يعلمون الغيب، كذب المخرفون، وكذب الصوفيون، وكذب المبطلون الذين يدعون أن أحداً غير الله يعلم الغيب، لا والله ما يعلمون، ولكن الله سبحانه وتعالى يطلعهم: هذا عبدي يونس ذهب مغاضباً فعاقبته بذلك.
ثم يكون ما كان لما أراد الله سبحانه وتعالى له أن يقذفه الحوت إلى البر، وأن ينبت عليه شجرة من يقطين، ويرسله إلى مائة ألف أو يزيدون، ثم كانت هذه الأمة -كما تعلمون- لها موقف تتميز به عن بقية الأمم، بالشر والغلظة والعتو والعناد والجحود، مع قوته صلوات الله وسلامه عليه، ونجد أن قوم يونس صلوات الله وسلامه عليه مع هذا الذي وقع فيه، ومع ضعف صبره، لم يكن من أولي العزم، ولا كموسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، نجد أن قومه بخلاف أولئك.
فإن قومه لما رأوا العذاب تضرعوا إلى الله، فأخذوا النساء والأطفال والدواب، وخرجوا في الصعدات، وأخذوا يبكون ويتضرعون ويستغيثون: يا رب! يارب! حتى رحمهم الله سبحانه، فكشف الله عنهم العذاب في الحياة الدنيا، وهذه آية عظيمة من آيات الله تدلنا على فضل اللجوء إلى الله، وقيمة الضراعة إليه سبحانه وتعالى، وأنه إذا أهمك أمرٌ أو حزبك فالجأ إلى الله؛ لأن كل شيء بيده سبحانه وتعالى.
مهما بلغت الذنوب وكثرت فالجأ إلى الله سبحانه وتعالى ولا تخف؛ فإنه سينجيك، المهم أن تتوب ما دام للتوبة مجال.(101/12)
شفاعة الأعمال لصاحبها
يقول ابن القيم رحمه الله: (ففرق بين من إذا أتى بذنب واحد، ولم يكن له من الإحسان والمحاسن ما يشفع له، وبين من إذا أتى بذنب وجاءت محاسنه بكل شفيع، كما قيل في شعر العرب:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع
) ثم ذكر بعد ذلك كيف أن الأعمال تشفع لصاحبها، وذكر كلاماً قيماً نفيساً جداً، من صفحة (329) في حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله، ولولا أن المقام لا يتسع، والكلام في التوبة طويل وطويل لذكرناه لنفاسته ولأهميته.(101/13)
حديث البطاقة (لا إله إلا الله)
قال: (وتأمل حديث البطاقة الذي توضع في كفه، ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر).
لا إله إلا الله! كل سجل منها مد البصر! فيه ذنوب، وموبقات، ومعاصٍ، وغفلة، وإعراض، وغيبة، ونميمة، وقطيعة، وشتيمة، وكله ذنوب؛ فتوضع البطاقة فتثقل هذه البطاقة، ولا يثقل مع اسم الله تعالى شيء، تثقل البطاقة لأن فيها اسم الله، وتطيش السجلات وكأن شيئاً لم يكن.
يقول: (ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار بذنوبه).
قال: (ولكن السر الذي ثقل بطاقة ذلك الرجل، وطاشت لأجله السجلات لما لم يحصل لغيره من أرباب البطاقات انفردت بطاقته بالثقل والرزانة).
أي: لا يقول الواحد منا والله هذا حديث عظيم، كلمة لا إله إلا لله ثقلت وطاشت السجلات، إذاً: نفعل ما نشاء وعندنا لا إله إلا الله، فنقول: القضية ليست قضية بطاقة فقط، هناك حقائق وأعمال للقلب، من الذي يستطيع أن يدعي أنه مع هذه السجلات لديه من أعمال القلب واليقين ما يجعل البطاقة ترجح؟ ولهذا فهذه الحالات لشذوذها وخروجها عن القاعدة ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كانت على القاعدة ما ذكرها فالذي على القاعدة لا يحتاج أن يذكر ويفرد بالذكر، كأن يقال إن رجلاً جاء، ورجحت حسناته على سيئاته فأدخل الجنة، لا يأتي حديث مثل هذا، فهذا معروف وقاعدة معلومة عند الناس، لكن هذا الرجل ذكر لغرابة حاله.
إذاً: لا يأخذ من هذا الحديث أحد قدوة إلا في أمر واحد، وهو تحقيق التوحيد؛ لأن تحقيق معنى لا إله إلا الله هو الذي جعل الأمر هكذا.
ثم قال: (وإذا أردت زيادة الإيضاح لهذا المعنى؛ فانظر إلى ذكر من قلبه مملوء بمحبتك، وذكر من هو معرض عنك غافل ساهٍ، مشغول بغيرك، قد انجذبت دواعي قبله إلى محبة غيرك، وإيثاره عليك، هل يكون ذكرهما واحداً؟) سبحان الله! الله تعالى يقول في الحديث القدسي: (وإذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم).
أنت -ولله المثل الأعلى-ليس حال الذي يذكرك وتذكره مثل غيره، فالحالان مختلفان بسبب ما قام في القلب.(101/14)
حال قاتل المئة نفس
قال: (وتأمل ما قام بقلب قاتل المائة من حقائق الإيمان التي لم تشغله عند السياق عن السير إلى القرية، وحملته على أن ينوء بصدره، ويعالج سكرات الموت).
انظروا كيف أن التائب له عند الله تعالى منزلة عظيمة، وأن الله يجب أن نتوب إليه كما أمر فقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور:31] وأنه يجب أن نحث الناس جميعاً على التوبة، فهذه منزلة عظيمة مهما كانت الذنوب، وهو يعالج سكرات الموت يخاف أن يموت وهو في القرية الفاجرة، فينوء بصدره ويتحرك لكي يزحف ولو قليلاً؛ ليقرب من أرض التوبة والخير.
فيا من أعطاك الله تعالى المهلة والعافية، والعلم والفراغ والوقت! ألا تتوب إلى الله سبحانه وتعالى، وإذا كان هذا يعالج التوبة وهو في هذه الحالة، أفلا نتوب نحن؟! جعلنا الله من التائبين الصادقين.(101/15)
قصة البغي مع الكلب
(وقريبٌ من هذا ما قام بقلب البغي التي رأت ذلك الكلب، وقد اشتد به العطش يأكل الثرى).
القلوب لها مفاتيح، وسبحان الحي القيوم الذي خلقها هكذا، بعض القلوب لا تأتي من باب الصلاة ولا الصوم، تأتي من باب الشفقة والرحمة، مهمل في صلاته وطاعة ربه، لكن لو قلت له: هناك فقير انكسر خاطره، وسعى إلى جبره، وهذا باب من أبواب الخير يُفتح له.
إذاً: أنت أيها الداعية! ادخله من هذا الباب؛ حتى يدخل إلى المسجد وإلى الصلاة والصيام والحج، والأساس هذا الباب، لا يوجد مانع، المهم أنك تعرف مفتاح القلب من أين.
ولهذا من غفلة بعض الدعاة -وليس هذا من منهج النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته أبداً- أن له موقفاً واحداً، كلما جاءك واحد قال له: أنت ليس فيك خير، صل واتق الله.
فلو كانت الدعوة هكذا لكانت سهلة، نحفظها أي واحد، أو نسجلها في شريط ويقولها لكل شخص، لكن الدعوة ليست هكذا، عليك أن تعرف أساليب الدعوة إلى الله، فهذا رجل نأتيه من جانب العرض والغيرة.
رجل غيور يقاتل حتى لا يرى أحد امرأته أو أخته، لكنه في الصلاة والعبادة مضيع، فتدخل إليه من باب الغيرة، فقل له: يا فلان! أنت ما شاء الله غيور، هذه الغيرة يا أخي من الإيمان، ولهذا ما رأيك أن تخرج من بيتك هذا المنكر؟ وهكذا تتدرج معه حتى يوفق الله بهداه.
وهناك أناس تأتي إليهم من باب الإنفاق، وأناس من باب الشجاعة، فتقول له: أنت لا تقدر أن تقول كلمة الحق، هل أنت خائف؟ قل لفلان، وأنكر عليه، والله ما قدر أحد أن يكلمه، فاذهب أنت وكلمه.
فيقول: أنا أقدر أكلمه من يكون وماذا يكون؟! فيذهب يكلمه، فهذا تدخل عليه من باب الشجاعة؛ فكيتب الله الأجر، وهكذا وهذا ما فعله حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وأمثاله، فالداعية الحكيم ينظر إلى أحوال الناس، فلكل قلب مفتاح، أما الخطاب العام فلا ينفع في ذلك.
فهذه بغي، وهناك فرق بين امرأة زنت وبين امرأة بغي، فمعنى بغي أنها محترفة وممتهنة لهذه الحرفة الدنيئة الدنسة التي تترفع عنها الحيوانات.
وأشنع من ذلك فعل قوم لوط، لا يفعله الحيوان، فضلاً عن أنك تجد حيواناً يحترف ذلك، إلا الإنسان إذا انحط وسفل عن دين الله، وكرامة الله التي أكرمه بها، وهي التمسك بالتقوى وبالطاعة.
هذه البغي رأت كلباً اشتد به العطش حتى أصبح يأكل الثرى، فقام بقلبها وازع الرحمة، مع عدم الآلة -فلم يكن عندها دلو- وعدم المعين -ليس عندها أحد يعينها- وعدم من ترائيه بعملها.
وهذا ليس ولد فلان، بل هذا كلب لا يفهم ولا يمكن أن تمن عليه، فهذه صفات مبررات للقبول بإذن الله: ليس لها معين، ولا عندها آلة، ولا يوجد من ترائي أمامه أوتمن عليه، بل هو كلب لو مات لا أحد يسأل عنه، ولا يعبأ به.
فحملها وازع الرحمة في قلبها على أن غررت بنفسها في نزول البئر، فلو انفك الخيط أو الشجرة التي تمسك بجذعها، أو وضعت قدمها على حجر ضعيف، فإنها ستموت، فيقولون: ماتت من أجل الكلب، لكن حقائق الإيمان إذا قامت في القلوب لا تبالي، وهذا هو المعنى الحقيقي لقول المتنبي:
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام
النفوس الكبيرة هي التي عرفت قيمة الجنة، وأن سلعة الله غالية، وأنها لا تشترى بالضعف والمهانة والاستكانة، وإنما تشترى بقول الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالقيام مقام الأنبياء، هكذا فليكن من أراد طريق الجنة.
فنزلت البغي وملأت الماء في خفها، ولم تعبأ بتعرضها للتلف، وحملها لخفها بفيها، والواحد منا لا يضع خفه أو شرابه في فمه، لكن كل هذه المعاني ذهبت؛ لأن أمامها هدف؛ لما قام في قلبها داعي الخشية والرحمة والشفقة نسيت كل هذه الاعتبارات، فحملت خفها بفيها حتى أمكنها الرقي من البئر، ثم تواضعها لهذا المخلوق الذي جرت عادة الناس بضربه، فأمسكت له الخف بيدها حتى شرب، من غير أن ترجو منه جزاءً ولا شكراً، فأحرقت أنوار هذا القدر من التوحيد ما تقدم منها من البغاء؛ فغفر لها.
فانظر حالها وحال الأخرى التي رآها النبي صلوات الله وسلامه عليه في قصة كسوف الشمس، وأخبرهم صلوات الله وسلامه عليه: أنه رأى الجنة ورأى النار، ورأى في النار امرأة تعذب في هرة، لا هي أطعمتها ولا هي أطلقتها؛ حتى تأكل من خشاش الأرض هذه في النار تعذب، وهذه مع البغاء والزنا، وامتهان هذه الحرفة الخبيثة غفر لها.
إذاً: القضية ليست مجرد أن هذا أذنب أو هذا لم يذنب، كل ابن آدم خطّاء، ولكن يجب عليك أيها العبد الصالح دائماً إذا أخطأت أو أذنبت أن تستحضر التوبة والندم، والانكسار والحياء من الله سبحانه وتعالى، ومراقبة الله حتى تعلم أن هذا الفعل بسبب أن الله أو كلك إلى نفسك، فإذا قامت هذه الحقائق بقلبك؛ فإن هذا الذنب يكون بداية خير كثير.(101/16)
أهمية التوبة
ويقول رحمه الله تعالى في صفحة (181) في مسألة: لماذا التوبة وضرورة التوبة، ولماذا يكون المصر على الصغيرة أخطر وأكبر من التائب المقلع عن الكبيرة؛ لأن حالة الإصرار لا تخلو من أمرين، يقول: (الإصرار على المعصية معصية أخرى، والقعود عن تدارك الفارق من المعصية إصرار ورضاً بها وطمأنينة إليها، وذلك علامة الهلاك، وأشد من هذا كله المجاهرة بالذنب).
منهم من يذهب -والعياذ بالله- يزني ويعربد ويفجر في مكان ستره الله عليه، فيكتب ذلك في جريدة، دخلنا مرقص وملهى وفعلنا، فيقرؤه الملايين، أو يتحدث به في التلفاز والإذاعة، فسبحان الله! كيف يبلغ الشيطان من التلاعب بعقول بني آدم وإضلالهم؟ كيف يستره الله ويفضح نفسه؟! فيقول: لماذا المجاهرة بالذنب مع تيقن نظر الله تبارك وتعالى من فوق عرشه إليك أيها المذنب، هذا إن آمن بنظره إليه، وأقدم على المجاهرة فعظيم، وإن لم يؤمن بنظره إليه واطلاعه عليه فكفر.
فالمذنب المجاهر المصر بين حالين، ليس هناك حال ثالث: إما اعتقاد أن الله سبحانه وتعالى مطلع عليه ويراه وهو يعمل هذه الذنوب ومع ذلك يعملها، فهذا عظيم، ووالله أن العاقل لا يفعله فإن الإنسان تستحي أن يرى فلا تريد أن يراك أحد على شيء يكرهه، فكيف بالله تبارك وتعالى؟! وأشد من ذلك إن كان يظن أنه لا يطلع عليه ولا يراه، ولا يعلم ماذا يصنع، فهذا كفر، والكلام فيه مفروغ منه؛ لأنه مرتد.
فيقول: فهو دائرٌ بين الأمرين: بين قلة الحياء -في حالة إيمانه بأن الله يراه وينظر إليه- وبين الكفر والانسلاخ من الدين؛ فلذلك يشترط في صحة التوبة تيقنه أن الله كان ناظراً إليه، ولا يزال مطلعاً عليه يراه جهرة عند مواقعة الذنب، وهذا من جملة ما يشترط للتوبة.
وأكثر الشباب هداهم الله تعالى ووفقهم، بل أكثر الناس الذين أخطئوا الطريق، إنما جاءتهم التوبة لما استشعروا هذا الاستشعار، يفكر الواحد ويقول: كان الله تبارك وتعالى مطلعاً علي ويسمعني، ثم يحلم علي ويمهلني، كما قرأنا في قصة تلك المرأة التي عبرت ذلك التعبير العادي جداً، لكن فيه عبرة عظيمة، هذه الأقدام التي مشت يعلم الله أين مشت، سبحان الله! ذهبت اللذات وبقيت التبعات، تذكرت أين اللذات، سهرة مشاهدة فيلم فاسق أو مجلة خلوة بأجنبية معاكسة في التلفون، والله كلها إن كانت ملذات -وهي لا يستلذ بها إلا القلب المريض- ذهبت.
اسأل أي شخص تمتع ما تمتع، تجد المتعة قد ذهبت، إلا إذا كان مثل ذلك الفاسد صاحب (الهربز) الذي جاءوا به في كتاب: ولا تقربوا الزنا قال له الطبيب: ما هو شعورك الآن وأنت تودع الحياة الجنسية والشهوة؟ فقال: خمس عشرة سنة وأنا أخذ حظي من هذا، يكفيني ذلك، الله أكبر! هذا حظه من الدنيا والآخرة، لكن المؤمنون يتمنون الجنة، ويريدون الحور العين والنعيم، وأنت ما عندك إلا هذه الخمس عشرة سنة وقد ذهبت وانقضت.
أيها الإخوة! يوجد من شبابنا -مع الأسف- من يتمنى أن يعيش عيشة هؤلاء، فهل هذا يرجو الله واليوم الآخر؟! لا.
بل حظه في الدنيا، قال: أنا اكتفيت، خمس عشرة سنة كان يزني وانتهى الأمر، فهذا حظه.
ذهبت الملذات وبقيت التبعات، سبحانك يا رب! أما لك عقوبة إلا النار؟! والله لو تفكر الإنسان في هذا الكلام لكفى وشفى.
قد علم أنه يعفى لصاحب الإحسان العظيم ما لا يعفى لغيره.(101/17)
أسباب سقوط العقوبات
قال: (فإن فاعل السيئات يسقط عنه عقوبة جنهم بنحو عشرة أسباب عرفت بالاستقراء من الكتاب والسنة: السبب الأول: التوبة، قال تعالى: {إِلاَّ مَنْ تَابَ} [مريم:60] وقال: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} [البقرة:160] وغيرها، والتوبة النصوح: هي التوبة الخالصة التي لا يختص بها ذنب دون ذنب، لكن هل تتوقف صحتها على أن تكون عامة، بحيث لو تاب من ذنب وأصر على آخر قبلت توبته؟ الصحيح أنها تقبل.
وهل يجب الإسلام ما قبله من الشرك وغيره من الذنوب وإن لم يتب منها، أم لابد مع الإسلام من التوبة من غير الشرك؟ حتى لو أسلم وهو مصر على الزنا وشرب الخمر، فهل يؤاخذ بما قد عمله في كفره من الزنا وشرب الخمر، أما لابد أن يتوب من ذلك الذنب مع إسلامه، أو يتوب توبة عامة من كل ذنب؟ الأصح، أنه لابد من التوبة مع الإسلام.
وكون التوبة سبباً لغفران الذنوب وعدم المؤاخذة بها، مما لا خلاف فيه بين الأمة، وليس هناك شيء يكون سبباً لغفران جميع الذنوب إلا التوبة، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] وهذا لمن تاب؛ ولهذا قال: (لا تَقْنَطُوا) وقال بعدها: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} [الزمر:54].
فانظر إلى هذا الإله الكريم، الحليم الغفور الودود سبحانه وتعالى، كيف جعل هذه الأسباب لإسقاط العقوبة، هل من كرم أعظم من هذا الكرم؟! وجود أعظم من هذا الجود؟! وعفو وصفح وحلم وتجاوز مثل هذا؟! يجعل هذه العشرة الأسباب تسقط العقوبة في حال الذنب، أي: أن هذه ليست لمن لم يذنب، هذه لمن أذنب وأسرف على نفسه، ووقع فيما حرم الله، ولم يقف عند حدود الله، جعلت لك هذه الوسائل والطرائق المختلفة فخذ منها ما شئت، وتمثلها وحققها؛ فيكفر الله تبارك وتعالى عنك، ويعفو ويغفر لك، ولا تعاقب، وتكون ممن زحزح عن النار، وتدخل الجنة بإذن الله تبارك وتعالى.
هذه رحمة من الله سبحانه وتعالى الذي كتبه في كتابٍ فهو عنده فوق العرش: (أن رحمتي سبقت غضبي) وهذه عرفت من الاستقراء من الكتاب والسنة، والشيخ رحمه الله تعالى نقل هذه العشرة الأسباب من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وذكرها في كتاب الإيمان، والطبعات تختلف، كتاب الإيمان -بالمناسبة- موجود في مجموع الفتاوى في الجزء السابع، ولشيخ الإسلام ابن تيمية ثلاثة كتب في الإيمان: الإيمان الكبير، وهو المطبوع وحده باسم: الإيمان، والثاني: الإيمان الأوسط، والثالث الإيمان الصغير، فكل بحسبه، وتجد في الصغير والأوسط من الفوائد ما قد لا تكون في الكبير على سعته، فكلها فوائد ودررٌ عظيمة، رحمه الله رحمة واسعة.
من هذه الكتب الثلاثة يتكون عندنا الجزء السابع من مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، والمحقق هنا ذكر أن الجزء السابع من صفحة (487) إلى (501) ذكر فيه الأسباب التي بها تسقط العقوبات عن المذنب والمجرم.
أولها: التوبة: وبدأ بالتوبة لأمور، ولأن هذه التوبة شأنها عظيم جداً، ولهذا أطال فيها ابن القيم رحمه الله بما لم يطل في غيرها من المنازل.
أولاً: لأنها تكفر الذنوب، فأي ذنب تبت منه كفرته التوبة وإن كان الشرك، وقد قال الله تعالى في حق المشركين: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] وفي الآية الأخرى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5].
فلو كان الذنب كائناً ما كان فإن التوبة تكفره، هذا الأمر الآخر وهو مهم جداً، وقد أشار إليه الشيخ هنا مما يجعل التوبة تقدم، فالمراد ليس قيمة التوبة في ذاتها بقدر ما هو بسبب ما وقع بين الناس من الاختلاف في حكم مرتكب الذنوب، ولكن رغم هذا الاختلاف نجد أن التائب تقبل توبته عند الرافضة والخوارج والمعتزلة -كل الفرق- أي إنسان يتصور أن هذا ذنب حتى لو كان مخطئاً تجده يقبل أنك تتوب منه.
إذاً: فالأمة متفقة عليها، ونحن نقول: إن الزنا كبيرة، وشرب الخمر كبيرة، وتقول الخوارج: إنه كفر، وكذلك المعتزلة، لكن نتفق معهم أنه إذا تاب تاب الله عليه، والفرق أننا نقول: تاب من ذنب، وهم يقولون: تاب من كفر، لكن التوبة تقبل.
إذاً: من ترك هذا الذنب اتفقنا نحن وهم على أنه مؤمن مسلم تائب مقبول لا يؤاخذ، بغض النظر أننا اختلفنا في تصنيف أو في نوعية الذنب وهكذا.
إذاً: هذا مما يعطي التوبة أهمية خاصة، وهي مجمع عليها.
يقول: السبب الثاني: الاستغفار، والثالث: الحسنات، والرابع: المصائب، والخامس: عذاب القبر، والسادس: دعاء المؤمنين إلى آخر العشرة، كلها تغني عنها التوبة، وكلها مع عدم التوبة لا تغني، إلا الاستغفار لعلاقة التوبة به، وسنذكر إن شاء الله العلاقة بينهما.
إذاً: الأساس هو التوبة؛ ولأن تبديل السيئات إلى حسنات إنما يكون بالتوبة؛ فإن لم تكن توبة فالأمر لا يعدو أن يكون محواً ومجاوزة.
إذاً: فرق بين محو ومسامحة وتجاوز، وبين أن تبدل، وهل على الكريم من لوم؟ والله سبحانه وتعالى أكرم كريم، والدليل على التبديل {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70] الدواوين الكبرى، والسجلات العظمى في جانب الشر والفجور والطغيان والشرك وغيرها من الذنوب التي نبه عليها بالشرك وقتل النفس والزنا، حيث أن هذه الثلاثة هي أصل جميع الذنوب في الدنيا.
نستطرد في هذا المعنى فنقول: تكون أصل جميع الذنوب، أي: أن ذكر هذه الثلاثة يغني عن ذكر جميع الذنوب، نبه بالشرك وهو أعظم الذنوب وهو حق الله، وليس بعده ذنب، والقتل؛ لأن القتل يكون في أشد ما تكون القوة الغضبية عند البشر، أما الزنا فهو أصل الذنوب المتولدة عن القوة الشهوانية.
فهذه الثلاث من الكبائر تكفيك: أعظم الذنوب جميعاً، وأشد ذنب بالقوة الغضبية، وأشد ذنب بالقوة الشهوانية، هذه لو فعل العبد ما فعل ثم تاب: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70].
أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يبدل سيئاتنا حسنات، إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.(101/18)
الشرك قديماً وحديثاً [1]
الله عز وجل منذ أن خلق الخليقة، وبث عباده في المعمورة، وهو يحذرهم من طاعة عدوهم الشيطان، الذي ما برح يدعوهم إلى الوقوع في الشرك، ويزين لهم طرقه على كثرتها، فإن أبواب الشرك كثيرة، وأسباب الوقوع فيه عديدة.
والشيخ في هذه المادة يبين أنواع الشرك التي وقع ويقع فيها الإنسان، سواء شعر بذلك أو لم يشعر، وبين ما يترتب على كل من هذه الأنواع من الجزاء، مع الإشارة إلى الحقيقة الخطيرة التي ينبغي على كل إنسان التنبه إليها؛ ألا وهي أن الله قد يتجاوز لعباده عن كل عمل ومعصية دون الشرك.(102/1)
الشرك وخطره
إن الحمد لله؛ نحمده ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
وبعد: كنا بفضل الله تبارك وتعالى ومنه وكرمه قد تعرضنا في الأسبوع الماضي إلى موضوع الرجاء، وإلى نقد ما قيل فيه من أنه أضعف المنازل، وعلى هذا الأساس كان المفروض أن يكون موضوعنا في هذا اليوم هو نماذج من حياة السلف الصالح ممن غلب عليهم جانب الرجاء أو عرفوا به؛ لنعرف الفرق بين رجائهم ورجاء غيرهم عملياً الفرق بين الرجاء الإيماني الشرعي، وبين مجرد الغرور والأماني والكسل وترك الطاعة، هذا شيء وذاك شيء آخر.
وهذا الكتاب كما تلاحظون هو مجموع ومنقول من عدة كتب، وفيه إضافات من المؤلف رحمه الله تعالى، فلذلك يحتاج إلى شيء من الترتيب، وشيء من تجميع كل القضايا أو الجزئيات المتعلقة بموضوع واحد في مكان واحد.
فموضوع الرجاء مثلاً تكلم عنه الشيخ هنا، ثم دخل في بيان الأسباب التي تسقط العقوبة، ولها علاقة بالرجاء لا شك، لكن بعد ذلك أتبعه بفقره أخرى وهي قوله: (والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام) ثم عاد فذكر الخوف والرجاء، والمحبة، وذكر كلام الهروي الذي نقدناه في درس متقدم.
فلذلك يحسن أن نؤخر أيضاً بقية الحديث في الرجاء إلى حيث أخره المؤلف في الفقرة القادمة إن شاء الله.
وهاهنا اليوم موضوع عظيم جداً، بل هو أعظم أبواب العقيدة كلها، وهو يستحق الحديث عنه لذاته دون أن يكون تابعاً لأي موضوع آخر، بل كل موضوع في العقيدة هو تابع له، وهو معرفة الشرك وخطره وضرره، وفي المقابل معرفة التوحيد الذي هو حق الله تبارك وتعالى على العبيد.(102/2)
التوحيد دعوة الرسل جميعاً
فالتوحيد أعظم ما دعا إليه الرسل صلوات الله وسلامه عليهم.
قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] وكل نبي بعثه الله تبارك وتعالى وقص علينا ما جرى بينه وبين قومه نجد أن أول وأعظم ما يدعو قومه إليه هو قوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، فقد دعا إليه نوح وهود وصالح وشعيب، وكذلك دعا موسى صلوات الله وسلامه عليه وعلى نبينا، وكذلك دعا عيسى عليه السلام: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [مريم:36] حتى جاء داعية التوحيد الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم فجاهد الناس جهاداً عظيماً على التوحيد، وعلى ترك الشرك، ونبذ عبادة ما سوى الله تبارك وتعالى، ونبذ اتخاذ الأنداد من دون الله أو مع الله عز وجل.(102/3)
الشرك محبط لجميع الأعمال ومخلد في النار
والشيخ هنا إنما ذكر الشرك ليبين من الذي لا يرجو رحمة الله، فالذي لا يرجو رحمة الله هو المشرك، أما من عداه فإنه وإن كان من أهل الكبائر فإن له أملاً ورجاءً في رحمة الله، ولا يجوز أن يقطع هذا الأمل، أما الذين لا أمل لهم فهم الذين قال الله تبارك وتعالى فيهم: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ} [هود:16] فهم المشركون، لماذا؟ لأن أعمالهم لا تقبل جميعاً، كما قال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور:39] {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم:18] فلا تقبل أعمالهم لأن الشرك هو أقبح القبائح، وأعظم الذنوب، وأكبر الجرائم، وأكبر الكبائر، فهو الذي يحبط الأعمال كلها، ولا يقبل معه أي عمل من الأعمال كائناً ما كان، وإن كانت صلاةً أو صياماً، أو صدقةً، أو دعوةً، أو جهاداً، أو أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر، مهما بلغ جهد من يجتهد، مهما كانت عبادته، مهما توسل إلى الله تبارك وتعالى بأي نوع من أنواع القربات وهو مشرك فلا يقبل الله تبارك وتعالى منه صرفاً ولا عدلاً.
والشيخ رحمه الله تعالى يقول هنا: وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ذكر أن المشرك لا ترجى له المغفرة؛ لأن الله نفى عنه المغفرة، فلا ترجى له ولا يرجوها لنفسه، ولا يرجوها أحد له مهما كانت قرابته أو صلته، فإن أقرب قريب لأعظم رسول وحبيب هو أبو الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك هل نفعه ذلك، هل نفعته قرابته، هل يشفع له النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يدخل النار؟ لا.
في صحيح مسلم أن رجلاً سأله عن أبيه، وفيه قال: (أبي وأبوك في النار) وليس لأحد عليك من حق أعظم من والديك، وليس أحد له قيمة عند الله سبحانه وتعالى ووجاهة أعظم من رسول الله صلى الله عليه وسلم أبداً، فلو أن أحداً ينفع أباه لنفع النبي صلى الله عليه وسلم أباه، وإنما شفاعته صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب أن يخفف عنه، لا أن يمنع من دخول النار أو أن يدخل الجنة، لا يدخلها أبداً {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72].
أيها الإخوة الكرام: هذا الشرك بابه عظيم، وشأنه جلل، وهو خطير، ولابد من معرفته والحذر منه، والتنبه له كبيره وصغيره، دقيقه وجليله.
ومن أوفى ما كتب في هذا الموضوع عن الشرك -وقد أحببت أن أقرأه لكم، ونستفيد منه جميعاً ونرجع إليه- هو كتاب: الجواب الكافي لـ ابن القيم رحمه الله، الذي له عنوان آخر هو: الداء والدواء، والكتاب في الأصل هو عبارة عن جواب لسؤال عن كبيرة، عن سبب الذنوب التي تأتي من قبل الشهوة؛ لأن الذنوب إما أن تأتي من قبل الشهوة أو من قبل الشبهة، والذنوب الشهوانية مرجعها إلى مرض القلب، وأعظم مرض يصيب القلب من جهة الشهوة مرض العشق، فناسب أن يستطرد رحمه الله في الكلام عن الذنوب وخطرها وضررها، فتوسع في ذلك، ثم استطرد في بيان الذنوب التي لا يرجى معها خير أبداً وهو الشرك، أي: عند حديثه عن آثار الذنوب وخطرها وضررها ناسب أن يذكر أعظم الذنوب وأخطرها، وأشدها ضرراً على الإنسان في دينه ودنياه؛ لأنه إذا كانت الفواحش دون الشرك بتلك المنزلة من الخطر، إذا كان عقوق الوالدين إذا كانت الغيبة إذا كانت النميمة إذا كانت السرقة إذا كان الزنا إذا كان ظلم الناس، كل هذه الكبائر والموبقات توعد الله تبارك وتعالى عليها من الوعيد ما توعد، فما بالكم بالذنب الأعظم الذي ترجع إليه هذه الذنوب جميعاً، والذي لا ينفع معه عمل صالح؟!!(102/4)
التوحيد هو غاية خلق الجن والإنس
يقول الشيخ رحمه الله تعالى: (إن الله عز وجل أرسل رسله، وأنزل كتبه، وخلق السماوات والأرض؛ ليعرف ويعبد ويوحد، ويكون الدين كله له، والطاعة كلها له) قاعدة عظيمة، يعرف ويعبد ويوحد، ويكون الدين كله له، والطاعة كلها له، هذا الذي من أجله خلق الله تبارك وتعالى الثقلين، وأنزل كتبه وأرسل رسله، والذي كثير من المسلمين يتكلمون في كل شيء إلا فيه، قد يتكلمون في الرقائق والفضائل، في النوافل في الأخلاق في المعاملات، ولا يتكلمون على هذا الذي هو الأساس والأصل.(102/5)
عبادة الله سبحانه وتعالى
ثم قال: (الدين كله له والطاعة كلها له، والدعوة له وإليه، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الحجر:85] وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق:12] لاحظ التعليل: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق:12] إذاً: المقصود أن يعلم الناس صفات رب العالمين، وأن يعرفوه.(102/6)
معرفة صفات الله رب العالمين
وأعداء التوحيد يتهاونون في الأسماء والصفات، ولا يريدون أن يعرِّفوا الناس بالله سبحانه وتعالى، ولا أن يحببوا رب العالمين إلى العبيد، ولكن أهل السنة والجماعة من عقيدتهم أن أعظم شيء في هذا الدين أن يعرف الناس رب العالمين ويوحدوه، والاستدلال على ذلك جلي في كتاب الله، فأعظم سورة في كتاب الله هي الفاتحة، وهي تعريف بالله كما بينا فيما مضى، وأعظم آية في كتاب الله آية الكرسي، وهي أيضاً تعريف بالله وصفاته سبحانه وتعالى.
وكما قال في المائدة: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة:97] فالذي لا يعلم ذلك لا خير فيه ولا في عبادته، فإنما شرعت هذه الشرائع، وفرضت هذه الفرائض ليعرف الله تبارك وتعالى، ويعبد وحده لا شريك له.
قال: فأخبر سبحانه أن القصد بالخلق والأمر في قوله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54] يعني: القصد والغرض من خلق العباد، ومن أمرهم ونهيهم؛ أن يعرف بأسمائه وصفاته، وأن يعبد وحده لا يشرك به، وأن يقوم الناس بالقسط -وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض- ويتركوا الظلم.(102/7)
أعظم العدل هو التوحيد
قال: ومن أعظم القسط التوحيد، وهو رأس العدل وقوامه، والشرك هو أعظم الظلم، كما في قول العبد الصالح لقمان الحكيم: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] فأعظم أنواع الظلم هو الشرك، كما أن أعظم أنواع الأمر بالمعروف هو الأمر بالتوحيد، فقول الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ} [الحج:41] أعظم ما يؤمر به هو توحيد الله عز وجل، وأعظم منكر يجب أن ينهى عنه هو الشرك بالله عز وجل.
فأعظم عدل ذكَّرنا الله تعالى وأمرنا به {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل:90] هو توحيد الله سبحانه وتعالى.
ثم بعد ذلك العدل فيما ولي الإنسان، حتى في بيته، وكل إنسان له ولاية بقدر حاله كما قال صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع، وكل راعٍ مسئول عن رعيته) ولهذا كان المقسطون على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين؛ لأنهم يعدلون في أهليهم وما وُلوا.
قال: (فالشرك أظلم الظلم، والتوحيد أعدل العدل، فما كان أشد منافاة لهذا المقصود فهو أكبر الكبائر)، أي: ما كان فيه منافاة لما خلق الله سبحانه وتعالى من أجله الناس ولما أمرهم به، فهو أكبر الكبائر، وإنما تتفاوت الكبائر بحسب قربها من الشرك؛ فكل معصية تمس جانب العقيدة فبقدر ما يكون فيها من الإخلال بجانب العقيدة تكون أكبر.
وعلي فأيهما أعظم: الذنوب التي يفعلها العبد ويرتكبها من جهة الشهوة، أم التي يرتكبها من جهة الشبهة والبدعة؟ الشبهة والبدعة! لأن البدع والشبهات أقرب إلى الشرك، فمن هنا كانت أخطر من الذنوب التي لا يقترن بها شبهة ولا بدعة.
على أن البدع درجات، كما أن الذنوب الشهوانية العملية درجات أيضاً كما سبق ذلك.(102/8)
حقوق الإنسان والأساطير الكاذبة
يقول: (فتأمل هذا الأصل حق التأمل، واعتبر به وبتفاصيله، تعرف به أحكم الحاكمين، وأعلم العالمين فيما فرضه على عباده وحرمه عليهم، وتفاوت مراتب الطاعات والمعاصي، فلما كان الشرك بالله منافياً بالذات لهذا المقصود كان أكبر الكبائر على الإطلاق، وحرم الله الجنة على كل مشرك أياً كان، وأباح دمه وماله لأهل التوحيد) هذا الذي رفض وأبى واستكبر أن يكون عبداً لرب العالمين يستحق من العقوبة في الدنيا أن يكون عبداً لمن يعبد رب العالمين، لا ننخدع بمن يقول: الإسلام ليس فيه رق، وأن الرق هذا يتنافى مع الحضارة، أو يقول: لا يعقل أن يوجد في القرن العشرين رق، وأن الإنسان يستعبد الإنسان؟! فيأتي المدافعون المغرورون المهزومون، فيقولون: الإسلام ليس فيه رق أبداً، لأن القرون الأولى أيام الرومان واليونان كانت الحروب بينهم فيها رق وعبودية، فجاء الإسلام على وضع من قبله فأقره، وبعضهم ينكر على استحياء فيتخافتون بها، سبحان الله!! هل في ديننا ما نستحيي منه؟.
هل في ديننا ما نخافت به؟.
هل في ديننا ما نداري الخلق من أجله؟!! فهذا الرق مما شرعه الله سبحانه وتعالى، ومما يدل على فضل التوحيد وأهله، وعلى إهانة الله تبارك وتعالى للشرك وأهله، فلا مكرم لهم، ولا قيمة لهم عند الله سبحانه وتعالى.
حقوق الإنسان التي يعبرون عنها بالميثاق الدولي لحقوق الإنسان، أسطورة الكاذبة، فلم يأت دين بمثل ما جاء به هذا الدين والحمد لله، الله تعالى هو الذي خلق البشر وجعل لهم هذه الحقوق، وأعظم حق للإنسان أن يعبد الله وحده لا شريك له، ولا يعبد شيئاً من دونه، هذا هو أعظم حق؛ لأنه الذي من أجله خلق، ومن أجله قامت السموات والأرض وبه قامت.
أما أن يكون من حقوق الإنسان -كما جاء في الميثاق الدولي لحقوق الإنسان- أن يغير الإنسان دينه كما يشاء، حتى لو كان مسلماً يرتد ولا أحد يملك شيئاً من ذلك ولا يمنعه، فهذا غير مقبول.
أبداً، هذه إضاعة لأعظم وأكبر حق وهو حق الله تبارك وتعالى، فلو كان هذا الميثاق يدعو الناس إلى أن يكونوا جميعاً مسلمين موحدين لله عبيداً له فنعم، هذا هو الحق، ومن ارتد منهم فإنه يقتل إلا أن يعود إلى إيمانه، أما هذه الحقوق فزيف وكذب، وإنما عرفها الغرب بعد الثورة الفرنسية، عرفتها أوروبا لأنها عاشت في ظلام وظلمات لم يخرجها منها أحد، لماذا؟ لأنها لم تدخل في دين الله، ولم تعتنق الإسلام، أما المسلمون فهم في غنىً عن أن يقال: إن لك حرية التنقل، وحرية العمل مكفولة، وحرية العيش الكريم، وحرية صيانة المنازل، هذه بدهيات في ديننا، لا تحتاج إلى أن تقرر ولا أن تقال، فمنذ أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وهذه الحريات والحقوق مكفولة مضمونة، ومن انتهكها خالف أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأثم في الدنيا والآخرة، فهي لا تحتاج إلى تأكيد، لكن لا ننسى الحق الأعظم، وهو أن هذا الإنسان له الحق والحرية أن يعبد الله تعالى كما يشاء، أي: أن يكون حراً في أن يتدين بدين الله عز وجل، وأن يعبد الله سبحانه وتعالى كما أنزل وكما بعث رسوله صلى الله عليه وسلم دون أن توضع عليه القيود، التي منها: لا تتحجبي أيتها المرأة لا تفعل كذا لا تحج -كما فعلت دول أوروبا الشرقية إلى حدٍ قريب- لا تبنوا المساجد، لا تطالبوا بالاحتكام إلى الكتاب والسنة.
فالحرية في داخل الكتاب والسنة، فهو دين الحرية الحق، الذي يحرر الإنسان من الشهوات ومن عبادة الشيطان، ومن عبادة الأنداد والبشر، والأحبار، والرهبان، والكهان، والأباطرة، وغير ذلك ممن ادعى الألوهية أو الربوبية مع الله سبحانه وتعالى.
فهؤلاء لما تركوا القيام بعبودية الله استحقوا أن يكونوا عبيداً لمن قام بحق العبودية لله وهم المؤمنون، ولذلك انظروا إذا ترك المؤمنون التوحيد سُلط الكافرون عليهم عقوبة لهم أيضاً؛ لأنهم عرفوا الحق وتركوه وتنكبوا طريقه.(102/9)
الظلم والجهل أساس كل شر في الإنسان
يقول: (أبى الله أن يقبل من مشرك عملاً أو أن يقبل فيه شفاعة، أو يستجيب له في الآخرة دعوة، أو يقبل له فيها رجاء).
هذا ليس له رجاء أبداً، فإن المشرك أجهل الجاهلين بالله، حيث جعل له من خلقه نداً، وذلك غاية الجهل به، كما أنه غاية الظلم.
أسوأ صفتين في الإنسان واحدة منهما تكفي، لكن إذا اجتمعتا فلا شر أكثر منهما ما هما؟ {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] فهما: الظلم والجهل، غاية الجهل أن يجعل مع الله نداً، وغاية الظلم أن يسقط حق الله ويعطيه لغير الله بالشرك، هذا غاية الظلم وغاية الجهل.
فإذا اجتمع الظلم والجهل فكل شر في الدنيا خطر على بالك فهو آت من قبل الظلم أو الجهل، فالمشرك جاهل بالله، ما قدر الله حق قدره، ولهذا عبد معه غيره، وهو ظالم لنفسه مبين أشد الظلم بصرفه حق الله الخالص وإعطائه لغيره، عبد مثلك، بشر، مخلوق، يقول كما قال فرعون وقومه: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون:47] يريدون أن يستعبدوا الناس كما ذكر الله سبحانه وتعالى، لكن لا لوم في الأصل فهم كلهم ملامون، لكن المقصود أن أصل الشر والبلاء يأتي من قبل العابدين؛ لأن المعبودين من دون الله تعالى أسماء سماها العابدون، لو لم يعبدوهم ما كانوا شيئاً، ما منزلة فرعون لو قال له قومه: حين قال: أنا ربكم الأعلى كذبت أنت بشر مثلنا، ماذا سيفعل فرعون؟ لا شيء، فما بالك بالحجارة، أو شجرة عبدت من دون الله؟ فإذا ترك الناس عبادة الشجرة هل تضر شيئاً أو تنفع؟! كلها أسماء، العادات أنها أسماء: المبادئ، الحرية، والديمقراطية والاشتراكية، أسماء سماها الناس وجعلوها أصناماً، فإذا تركوها لا تفعل شيئاً أبداً.
إذاً: من السبب الحقيقي؟ العابدون، ولهذا هل ينفعهم يوم القيامة عندما يشكون إلى الله سبحانه وتعالى يقولون: إن الذين أضلونا هم هؤلاء الكبراء وهل ينفعهم قولهم: {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ} [الأحزاب:67] وغير ذلك مما قص الله تبارك وتعالى كما في البقرة وفاطر وغيرها من السور، هل ينفع؟ لا ينفع الضعفاء هذا العذر؛ لأنه في الحقيقة لو تأمل المتأمل لوجد أنه لولا هؤلاء الضعفاء لما تفرعن أو المعبودون من دون الله سبحانه وتعالى.
إذاً: هذا الجاهل بالله هو الذي يدعو غير الله مع الله، وهو هذا المشرك.(102/10)
أنواع الشرك
ثم يبين بعد ذلك شيئاً آخر فيقول: (الشرك شركان).
الشرك شركان، أي من حيث الأصل كقاعدة كبيرة (شرك يتعلق بذات المعبود وأسمائه وصفاته، والآخر شرك يتعلق بعبادته ومعاملته، فالأول يتعلق بما هو من خصائصه تبارك وتعالى، أما الثاني فهو في معاملته، وفي عبادته، فيما يتقرب العباد به إلى الله عز وجل).
يقول: (وإن كان صاحبه -يعني: الشرك- يعتقد أنه سبحانه لا شريك له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، لذلك أهل الكلام من الأشعرية والمعتزلة وأشباههم يقولون: معنى التوحيد أن تعتقد أن الله واحد في ذاته وصفاته وأفعاله).
هل هذا هو التوحيد الحقيقي؟! اعتقاد أنه واحد ليس مركباً ولا مبعضاً، ليس اثنين ولا ثلاثة بل واحد، أي: في ذاته واحد، في أسمائه وصفاته واحد، في أفعاله واحد؟ لا.
ليس هذا التوحيد فقط، هذا جزء من التوحيد، يجب أن يكمل بأن يعبد وحده لا شريك له، يتقرب إليه وحده لا شريك له، فيكون إخلاصك ورجاؤك ويقينك وصدقك وخوفك ومحبتك وإنابتك ورغبتك وصلاتك وصيامك وقيامك وحجك ونذرك كله لله، مع ما يتعلق بصفاته، لكن هم أخطئوا في الصفات كما أخطئوا في المعاملة.(102/11)
شرك متعلق بذات الله وأسمائه وصفاته
وقال: (الشرك الأول -المتعلق بذاته وأسمائه وصفاته- نوعان: أحدهما شرك التعطيل، وهو أقبح أنواع الشرك، كشرك فرعون إذ قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23]) ما معنى قول فرعون: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23] هل هو كما يقول المجادلون أو المتنطعون سؤال عن الماهية، أي: أخبرني ما ماهيته، ما حقيقته؟ كلام فرعون هنا على سبيل الإنكار، أي: لا رب، لا أحد، إلى أي شيء تدعو؟ أنا ربكم الأعلى! هكذا يزعم فرعون، ولهذا قال فرعون لهامان: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} [غافر:36 - 37] لا يوجد شيء من كلامهم على الأقل من وجهة نظر فرعون المعلنة، لا نعني داخل الأمر أما باطن الأمر قال الله عنه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:14] ولهذا يقول له موسى عليه السلام: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء:102] تعلم يا فرعون أن الله تعالى هو الذي أنزل هذه الآيات وهذا الدين، ففي الحقيقة فرعون يعلم.
هل يستطيع عاقل أن يدعي أنه رب العالمين؟ في الحقيقة والواقع لا، لكن هذه شهوات وأبهة، وملك وغرور {إِنْ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ} [الملك:20] يا فرعون أأنت رب العالمين؟ أنت الذي لم تنجب ولداً من نفسك تكون رب العالمين؟ كيف يعبدك هذا الشعب الذي لا عقل له؟! الشعب المستخَف كما قال الله تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} [الزخرف:54] الأمة الفاسقة المتحللة الضائعة، التي تميل إلى الإباحية والعري والفساد، وإلى إضاعة الأوقات، يستخفها أي مجرم وأي كذاب، يأتي ماركس ولينين فيقولا: نحن أتينا بأفضل شريعة، نقول: معك يا لينين؟ وجاء القوميون وقالوا: لا، القضية قومية عربية قلنا: معكم يا قوميون، الاشتراكيون مع الاشتراكيين، البعثيون الملايين من الناس تصفق لهم، مع كل من يدعو إلى ضلالة؛ لأنهم استخفهم الذين عرفوا ضعفهم وفسقهم، وفجورهم.
الأمة التي لا تفسق ولا تفسد ولا تفجر تملك عقلها، ولهذا يردعها ذلك عن أن يستخفها أحد، فهذه الأمة لماذا لم تفكر؟ تصدقون أنه ربكم وتجتمعون يوم الزينة لتروا النتيجة؟! وهل في ذلك من شك، هل تحتاجون أن تروا النتيجة؟!! {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمْ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:40] يعني: الاحتمال الراجح عندهم أنهم هم الغالبون، عجيب والله!! ما تزال القضية غير واضحة في أذهانهم وهم يرونه لم ينجب، يعني: هذا الشعب كله خلقه وهو لم ينجب من نفسه وإنما هو عقيم كما يعلم الجميع، ولهذا أتاه الله تعالى من بابه، من مأمنه يؤتى الحذر وأتي من مقتله، لماذا؟ لأن ضغط حنان الأمومة الذي تشعر به الزوجة التي لا ولد لها يؤثر دائماً على أعصاب الرجل الذي لا ينجب فقالت: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} [القصص:9] فوافق؛ لأنه لا يستطيع أن يقول: لا، ليس معه ولد فلابد أن يسكت، فلتفعل بهذا الولد ما تشاء، ولِتربه كما تشاء، فربى الله تبارك وتعالى موسى في بيت فرعون: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص:8] من هذا المقتل أتي وقتل فرعون لما أراد الله تبارك وتعالى أن يُظهر وأن يُحقق ما أراد، رغم كل الاحتياطات التي جعلها للقضاء على من يقضي على ملكه كما أُخبر.
إذاً: أقبح أنواع الشرك هو شرك التعطيل، وهو شرك فرعون ومن اتبعه.(102/12)
تلازم التعطيل والشرك
قال: (والشرك والتعطيل متلازمان، فكل مشرك معطل).
التعطيل لغة: هو الإخلاء، أو الإفراغ، إنسان ينكر صفات الله سبحانه وتعالى وأسمائه هذا يقال له معطل، وكل مشرك معطل، وكل معطل مشرك؛ لأنه لما أشرك بالله عطل الله سبحانه وتعالى، عطل أسماءه أو صفاته مما هو من خصائص ذاته.
وكذلك كل معطل مشرك؛ لأنه لما ترك هذا الخاصية من خصائص الله تعالى فإنه قد أشرك معه غيره، وغالباً ما يجعلون بعض هذه الصفات لغير الله سبحانه وتعالى.
قال: (لكن لا يستلزم أصل التعطيل، بل قد يكون المشرك مقراً بالخالق سبحانه وبصفاته، ولكن عطل حق التوحيد).
من جهة أخرى: قد يكون العبد مقراً كحال أكثر الناس اليوم، وبالذات من يدعي الإسلام، فحاله: كلنا مسلمون والحمد لله، تقول له: لابد من التوحيد؛ فيقول: يا أخي! أنحن كفار مشركون؟ الحمد لله نحن أمة محمد، وكلنا نقرأ القرآن، فتقول له: أهم شيء تتعلمونه هو العقيدة، فيقول: العقيدة معروفة ومعلومة لدينا والحمد لله.
في عمرك هل رأيت أحداً قال: أنا أجهل العقيدة إلا طالب علم صادق؟ أما العامة من الناس والمكابرون: يقولون: كلنا نعرف والحمد لله لا يرون أنه ينقصهم شيء أبداً، من هنا يؤتون، فهم مقرون بأسماء الله وبصفاته وبشيء منها، ولكنهم مضيعون لحقه.(102/13)
أنواع شرك التعطيل
قال: (وأصل الشرك وقاعدته التي يرجع إليها هو التعطيل، وهو ثلاثة أقسام:(102/14)
تعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه
القسم الأول: تعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه)، أي: تعطيل الخلق عن الخالق، هذا أول نوع من أنواع التعطيل: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] مخلوقات أمام أعيننا يدعون أن لا خالق لها، عطلوها عن خالقها تبارك وتعالى، لذلك فالذين يشركون بالله من الشيوعيين أو الملحدين، أو الغربيين، لابد أن يجعلوا خالقاً غير الله، وفي اللفظ يقولون: هذه لا تحتاج إلى خالق، لكن في الحقيقة لابد أن يفترضوا خالقاً أو موجداً ما؛ لأنه لا يمكن الأمر إلا بذلك، ما الذي جعلهم يهربون من افتراض وجود خالق؟ لأنهم إذا قالوا: الله أو الرب، فالمقصود به عندهم هو ذلك البابا، صاحب الكنيسة المكون من ثلاثة أقانيم، الذي تجسد في شكل إنسان وصلب على الصليب، ثم صعد إلى السماء، أفذاك هو الذي خلق السموات والأرض؟ هذا غير ممكن القول به، إذاً هل من الحل أن يقال: ليس لها خالق؟ كأنه أسهل في نظرهم أن يقال: ليس لها خالق، وخاصة إذا كان هذا الرب الذي تذكره الأناجيل المحرفة ويدعي البابا وأتباعه الإيمان به مقرون بالعنف، بالقوة، بالسيطرة، فإذا خالفت أي شيء من كلام رجال الدين فأنت كافر، زنديق، حلال الدم والمال، فهربوا من ذلك إلى الإلحاد.
فلما هربوا من إثبات الإله والرب صاروا معطلين.
لكن هل غابت القضية عن أذهانهم ونسوها ولم يفترضوا خالقاً؟ افترضوا فقال بعضهم: الطبيعة، يقول: هذا الكون الذي أمامك هو الطبيعة! لكنا ما استفدنا شيئاً من كلامكم! لأن معناه أن هذا المخلوق هو الخالق! فالطبيعة أوجدتها الأشياء، وهذه الأشياء هي الطبيعة، فلم نستفد شيئاً، إذاً أين الرب الذي خلقها؟! وهم إنما يقولون ذلك ليهربوا من إثبات هذا الدين.
قال بعض الفلاسفة اليونانيين القدامى: العلة الأولى.
ولهذا لما جاء العلم الحديث أنكروا المنطق كله بعلله وبلاياه، ولا يؤمنون به ولا بكلام أرسطو ولا أفلاطون، لا في التوحيد لا في الألوهية لا في الصفات تركوه نهائياً، إذاً: ماذا يسمى؟ بعضهم يقول: أنا أتوقف، وهذا حال كثير من الملحدين في العالم اليوم، أو الذين يسمون أنفسهم الربوبيون، الترجمة الصحيحة أن يقال: الربوبيون، وإن كان بعض المترجمة يقول: المؤلهون، في الحقيقة ليس تأليهاً وإنما هو ربوبية، يقولون: نؤمن بإله لكن لا نستطيع أن نتبع دينه -لأنه ليس له دين في نظرهم في الأرض- أو نتوقف، وهؤلاء الذين يسمونهم: اللاأدريين، أو الربوبيين، هذا موقفهم؛ لأنهم عطلوا المخلوقات عن خالقها جل وعلا ولم يؤمنوا به كما أمر تبارك وتعالى.
لكن عقولهم تلح عليهم أن لهذا الكون خالقاً، فبعضهم كأن الأدلة تكافأت عنده فقال: لا أدري، وبعضهم قال: لا، أثبته لكن على غير طريق الكنيسة، ولا يعرف له أي صفة من الصفات، إنما يقول: لابد من وجود إله، وهذه من آخر أو أحدث، النظريات الأخيرة جداً عندهم في علم الطبيعة أو الفيزياء، وهم منذ أربعين سنة تقريباً لا تجد عالماً متخصصاً في العلوم الطبيعية في أمريكا لا يؤمن بوجود إله، لكنه ربوبي وليس مسلماً، لكن المهم أنه لا ينكر، لماذا؟ لأن آخر النظريات التي منها نظرية الانفجار العظيم مضمونها أن قوانين الديناميكا الحرارية، وقوانين الهندسة الوراثية أو الجينات، وغيرها لا يمكن أن تتصور إلا من مدبر حكيم، العلوم الحديثة في نشأتها لا يمكن أن يتخيل أهلها أو يعقلوا أن هذا الكون نشأ إلا وقد أوجده وأنشأه خالق حكيم مدبر لا حد لحكمته ولا حد لتدبيره.
هكذا هم يقدرون ويصفونه من عند أنفسهم من خلال ما عرفوا من آثار هذه الصفات في خلقه، حتى إنهم عندما يتحدثون عن علم الجمال، الذي كان في القديم مجرد مبحث من مباحث الفلسفة العتيقة، الآن الحديث عن الجمال أصبح عند هؤلاء موجوداً دون أن يقال لهم من جهة أي أحد من المؤمنين، لكن هم قالوا: الجمال الذي في الكون يدل على أن له إلهاً في غاية الحكمة، وأن هذا الإله جميل، ولذلك يقولون: لو كان الغرض من الزهرة الأغصان إذا جردت عن الجمال فسيبقى هذه الألوان!! ألوان عجيبة جداً، فهم كما ترون عندما يصنع الإنسان أعظم وأدق الألوان، وتتعرض للشمس فترة من الزمن فإن اللون يتغير أو يبهت أو يضعف، خذ أقوى أنواع العطور وأغلالها وأثمنها وضع منه في الغرفة منه في اليوم الأول، ثم انظر غداً أو بعد غدٍ تجده قد زال، وهذه الأزهار الفواحة التي تتلون بأجمل الألوان هي في غاية النعومة والرقة، وفيها ألوان في غاية الجاذبية والجمال، والأشكال التي لا تكاد تخطر على البال، وتفوح منها هذه الرائحة الزكية طوال الأيام والليالي لا تنفد، مع أنها من ماء وتراب، لا يمكن إلا أن خالقاً خلقها وقدرها كذلك، فهم تعجبوا.
قالوا: حتى حبيبات الثلج الصغيرة جداً لما وضعوها تحت المجهر، وجدوا أن لها أشكالاً سداسية وأشكالاً ثمانية، إذاً: الإنسان المسكين ينظر من بعيد فيرى هذه الأشياء كأنها عبث، لكن عندما يدقق يجد فيها من الجمال والتناسق شيئاً عجيباً جداً، الإنسان الواحد منا عندما ينظر إلى الجبال يراها مختلفة بين جبل طويل وجبل قصير وأشكال مختلفة، ولو تجمع ألف حجر أو مليون فإن كلاً منها يختلف عن الآخر، والسبب في هذا أن هذا نوع من أنواع الجمال، نحن لا ندركه، كيف لا يدرك الإنسان الجمال؟! الإنسان عقليته بسيطة، يحب أن يرى شيئاً مربعاً، أو مثلثاً، أو مستطيلاً دائرة، الأشكال الهندسية المعروفة عندنا لأنها مبسطة، تفترض ضلعاً مربعاً هكذا، وفي الذهن تكمل الضلع الآخر والثالث والرابع، هذه عقلية مبسطة، لكن لو ارتقى الإنسان بعقله قليلاً لأصبح في شيء أكثر من هذا التبسيط، ثم أكثر ثم أكثر، حتى يجد أن موج البحر -كمثال- لا يستقر على شكل معين، وهذا غاية ما في الكون من جمال، وفيه دليل على أن لهذا البحر رباً يحركه كل لحظة، وهو الذي يديره سبحانه وتعالى، فتجد هذه الحركات المتغيرة وهذه الأشكال والألوان، فأينما نظروا كما ذكر الله سبحانه وتعالى: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:3 - 4] تأملوا فوجدوا العجب العجاب! وجدوا أن أصغر ذرة في الكون عندما توضع تحت المجهر الذي ما عرفه الملاحدة في القرن الماضي أو في أول هذا القرن ممن كانوا يظنون أنهم حملة العلم، وجدوا أن هناك كهيربات، ومدار تدور فيه، ونواة، سبحان الله! فإذا تأملوا في الفضاء وجدوا أن هناك مدارات هائلة جداً، المدار هو المدار، الفرق أن هذا مداره في حيز لا يكاد العقل يتصور ضيقه، وهذا المدار يبعد ملايين الكيلومترات، وهل الفلكيون يعبرون فيقولون مليون كيلو مليون ميل؟! ليس عندهم هذا، عندهم مليون سنة ضوئية، يعني: السرعة محسوبة بسرعة الضوء، الضوء يقطع -كما جربوه هم تجربة عملية مع الزمن تقريباً نظرية تكاد تكون صحيحة مائة بالمائة- أنه يقطع ثلاثمائة ألف كيلو في الثانية، أسرع شيء في هذه الدنيا هو الضوء، يعني: أنت لو تكلمت وناديت شخصاً وعندك (كشافاً) ثم أضأت الكشاف يصل النور إليه قبل ما يسمع كلامك، وهذا مجرب، فالبرق يصل قبل صوت الرعد، فأسرع شيء هو الضوء.
لا يمكن أن يحسب الكون بملايين الكيلو مترات أبداً، إنما بملايين السنين الضوئية، ولما تعمقوا أكثر وأكثر أصبحوا لا يقدرون أن يحسبوا الملايين، فأيضاً اصطلحوا على اصطلاح هو (تليون) ليس هناك اصطلاح يجمع السنين الضوئية، المهم أنهم عجزوا وسأخبركم به بعد، لما قال الله تبارك وتعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} [النجم:49] الشعرى اليمانية، وهي نجم عظيم في السماء، وكل من يعلم الشعرى هذه لا شك أنه يؤمن بالله وبعظمة الله، رب هذا النجم والكوكب العظيم الذي في السماء، لكن الأولون أو بعضهم على الأقل كانوا يتخيلون أن الأرض هذه والسماء سواء، وأن هذه النجوم بعيدة وعالية، لكن إلى حد ما كأنها جبل، يعني: نفرض أن الشعرى مثل جبل أحد، لكن من بعدها نراها صغيرة، لكن الآن يقولون: الشعرى تبعد عن الأرض ستة ملايين سنة ضوئية، بمعنى آخر: يحدث انفجارات كبيرة جداً في بعض النجوم تتلاشى وتتحول إلى أشياء متناثرة في الفضاء، فلو انفجرت الشعرى وانتهت ودمرت فلا يعلم الناس أنها انفجرت ودمرت إلا بعد ستة ملايين سنة، لأنهم يظلون يرونها من شدة بعدها، فهذه حقائق مذهلة جداً، وهذا الكلام بالنسبة لعلومهم يعتبر عادياً جداً، يتعلمه أبناؤنا وإخواننا في المتوسطة والثانوي، لكن المتعمقون منهم يصلون إلى نظريات مذهلة جداً، فتضطر أعصابهم وشعورهم وعواطفهم ومشاعرهم أن تقول: الله، أو الخالق، لا يمكن إلا أن يكون هناك خالق وراء هذا الكون البديع، حتى وجدوا من جملة العجائب التي وجدوها أن وجدوا مجرات في أطراف الكون ولم يعرفوا آخره، ولن يعرفوه يكون على شكل: رأس الحصان، يسمونها: مجرة رأس الحصان، وبعضها على شكل كذا وبعضها على شكل كذا يعني: شيء عجيب جداً، وجدوا الدقة الحكمة الإبداع الإتقان وفي نفس الوقت الجمال، ليس مجرد إتقان في الصنعة، لكن مع هذا الإتقان جمال عجيب، جمال في الشمس، وجمال في الأرض، وجمال في القمر، وجمال في البحار، وجمال في الصخور، بحيث أن بعض الحجارة أو بعض الصخور يشاهد فيها أشكال عجيبة جداً في منظرها وجمالها.
وبعض الجمال لا تراه العين المجردة كما قلنا: حبيبات الثلج ما فيها جمال، لكن عندما يريدون أن يدققوا ويضعونها تحت المجهر يرون من الجمال أعاجيب وأعاجيب، هذا كله دليل على أن لهذا الكون خالقاً.
إذاً: من أعظم أنواع الجاحدين والكافرين والمعاندين الذين ينكرون أو يعطلون الخلق عن الخالق، هذا النوع الأول من أنواع التعطيل.(102/15)
تعطيل الخالق سبحانه وتعالى عن كماله
والثاني: تعطيل الصانع، أو الخالق.
ورد الصانع في حديث: (الله خالق كل صانع وصنعته) وفي قوله سبحانه وتعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88] فيجوز إطلاق الصانع، والأفضل أن يقال: الخالق.
فنقول: تعطيل الخالق عن كماله بتعطيل أسمائه وصفاته، وهذا النوع لا ينكرون وجوده، ولا أنه الخالق، لكن ينكرون صفاته وأسماءه، كما يقول أهل الكلام: لا داخل العالم ولا خارجه، ولا نقول: إنه يغضب، ولا نقول: إنه يرضى، ولا نقول: إنه ينزل قالوا: حتى لا نقع في التشبيه، فينفون ويعطلون صفات الله سبحانه وتعالى، ويثبتون شيئاً شبيهاً بالعدم، أو هو العدم؛ حتى التفتازاني من أئمتهم الكبار اعترف أنه من الصعب جداً نقض كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، لما قال: إن قولك: إن الشيء لا داخل ولا خارج، ولا فوق ولا تحت، ولا أمام ولا خلف إلى آخره، قولك هذا معناه غير موجود، لا يمكن للعقول أن تفرق بين هذا وهذا، فأفضل لك أن تقول: غير موجود، لكن الله تعالى موجود، إذاً: أين هو؟ يقول: لا تسأل عنه بأين، لا داخل ولا خارج لكن الذي سأل عنه بأين من هو؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال للجارية: (أين الله؟ فقالت: في السماء) إذاً: هذا نوع من أنواع التعطيل، والكلام فيه طويل، وقد بسط والحمد لله كثيراً في مباحث تقدمت من هذا الكتاب.(102/16)
تعطيل معاملة الله سبحانه وتعالى
والثالث: تعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد.
يوجد أناس يقولون: نحن نؤمن بالله، وأن لهذا الخلق خالقاً، ونؤمن بجميع الأسماء والصفات، ولو تقول له: اليوم وجدنا حديثاً يثبت شيئاً من صفاته، يقول: الحمد لله نحن نؤمن به نحن على التوحيد، ونحن من أهل السنة، لكن يعطله عن حقه في المعاملة، وفي الطاعة، بالشرك الكلي أو الجزئي.
الكلي: كأن يعبد غير الله سجوداً وصلاةً وصياماً لغير الله.
والجزئي: كأن يقع في الرياء مثلاً، أو في صرف بعض الأنواع لغير الله، أو في بعض الأوقات، أو في بعض الحالات لغير الله تبارك وتعالى، فهذا هو النوع الثالث من أنواع التعطيل.
قال: (ومن هذا شرك طائفة أهل وحدة الوجود الذين يقولون: ما ثَمَّ خالق ومخلوق، ويقولون: ما هنا شيئان، بل الحق المنزه هو عين الخلق).
هذه جماعة محمود محمد طه وأمثاله، وغلاة الصوفية في القديم والحديث، هذا نوع آخر يقول: ما ثمة خالق ولا مخلوق، عياذاً بالله! ويقولون: الخالق عين المخلوق، والمخلوق عين الخالق.
هؤلاء بلغوا من الكفر إلى حد لا تستسيغه العقول، وأظن أنني ذكرت لكم مرة أنه قابلني واحد منهم في بلاد الحرية، وكان المركز ممتلئاً بالناس في المسجد، فتحدثت فجاء يقول: إنه هو الله!! تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً! قلت: كيف تقول هذا يا رجل أأنت مسلم؟ قال: نعم مسلم، لكن هذا حقيقة التوحيد، قلت: هذا أكفر الكفر، وأعظم أنواع الكفر، قال: النصارى كفرت؛ لأنها جعلت الآلهة ثلاثة، لكن نحن نقول: كل شيء هو الله! يرى المسكين المخدوع -لأن شيخهم لقنهم ذلك- أن كفر النصارى لأنهم جعلوا الآلهة ثلاثة فقط، وفرعون كفر عندما قال: أنا ربكم، والحقيقة يقول: هو والشعب رب، عياذاً بالله! أرأيتم كيف الكفر؟! فهذا الكفر هو شر وأقبح أنواع الكفر عند جميع أهل الملل، كل من يعرف الله أو يعبد الله أو يتحدث عن الله يُكفِّر هذا النوع، اليهود يعتبرونهم كفاراً، ويوجد في اليهود بعض الحلولية والاتحادية، والنصارى الذي يزيد عن الثلاثة عندهم كافر، إذاً: هم كفار حتى عند النصارى، كفار عند البوذيين، كفار عند الهندوس إلا من كان على مثل هذه النحلة الخبيثة، ومع ذلك يدعون أنهم هم أهل التوحيد والعياذ بالله!! وكذلك الجهمية الذين عطلوا صفات الله وأسمائه كما ذكرنا، هذا نوع من الأنواع.
هذا النوع الأول شرك التعطيل.(102/17)
من أنواع الشرك(102/18)
شرك النصارى
والنوع الثاني: شرك من جعل معه إلهاً آخر، ولم يعطل أسماءه وربوبيته وصفاته، كشرك النصارى الذين جعلوه ثالث ثلاثة، فهذا شرك الأنداد، أي: لم يعطلوا أسماءه وصفاته، لكن قرنوا به غيره، مثل شرك النصارى، فهم مثلاً يقولون: الله عظيم جليل قدير سميع بصير، لكن يقول لك: أيضاً هذه الصفات هي للرب يسوع، من الرب (يسوع)؟ قالوا: هذا ابنه، أو (الأقنوم الثاني)، تعالى الله عما يقولون! مثلما نسمع كل يوم في إذاعات أصحاب الأناجيل وفي كتبهم، وفي هذه الدعايات الخبيثة التي تذهل العقول!! ماذا نقول لو أردنا أن نتحدث عن التنصير؟! فذلك شيء لا يكاد العقل يصدقه، فإنه إذا كانت شبكات التلفاز في أمريكا والمشتركون فيها قد يصلون إلى عشرين مليون مشترك، وهذا في قناة تلفزيونية تنصيرية في داخل بلاده، أما الذين يعملون خارج أمريكا في نشاطات التنصير فلا يقل عددهم عن أربعة ملايين، في الولايات المتحدة الأمريكية نظام عام لجميع الموظفين أن أي إنسان يتطوع للعمل في أي شيء إنساني أو خيري أو ديني فإنه يصرف له راتبه كاملاً مدة غيابه.
فأنت في أي إدارة من الإدارات تقدم طلباً: أنا أريد أن أذهب إلى مكان كذا لأقوم بالدعوة، فتذهب، والجهة التي ذهب إليها تثبت أنه حضر، وأنه عمل معنا سنة، ويصرف له كل حقوقه، بل حتى الإقامة لا يؤثر عليها السفر إذا كان مقيماً، ولا يريد أن تنقطع إقامته، ويعتبر كأنه في أمريكا، ولا يؤثر السفر على إقامته لأنه ذهب في عمل خيري، إذاً: لابد أن يتنافس الناس في هذا الخير، وفي نظرهم هذا هو الخير، أربعة ملايين يخرجون، هذا في أمريكا، أما السويد والنرويج فماذا نقول؟ اذهب إلى أفغانستان تجدهم، إلى بنجلادش تجدهم، إلى الحبشة إلى الصومال، إلى أي مكان، أي بلد مسلم بالذات البلدان الإسلامية التي يحدث فيها فيضانات أو زلازل أو فقر، أول ما يحدث هذا الأمر وإذا بهؤلاء في مطاراتهم بمعاهدهم ومراكزهم ومستشفياتهم ينزلون فيها تعال: تنصر ونعطيك كذا انظروا أسوأ أنواع الدعوة إلى المبدأ، يدعون الإنسان حال الاضطرار، كما يفعل الروافض الآن، أيضاً عندهم دعاية خبيثة، ليس هناك إقناع، ما هي العقيدة التي يعرضها عليه فيؤمن بها؟ ليس عنده شيء، لو أتى يشرحها ليس عنده شيء، ولذلك كما ذكر ابن القيم رحمه الله: لو اجتمع عشرة من النصارى، وطلبت من كل واحد منهم أن يشرح عقيدته لاختلفوا على أحد عشر قولاً، يعني: خلافاتهم أكثر من عددهم، النصارى الآن في العالم كله عملوا استبيانات: ماذا تعرف عن الرب؟ لا يوجد شيء، إذاً: لا شيء، ومع ذلك يعملون له كل شيء.
أما الذين عندهم كل الإيمان والخير والهدى فلا يعملون أي شيء إلا ما رحم ربك، وإن قاموا بالدعوة فيقوم بها إما مبتدعة، وإما جهال، لويس فرخان، هذا داعية الإسلام الأكبر في أمريكا ماذا يعتقد فرخان؟ مشرك وثني، يعتقد أن ليزيا محمد هو الله، تعالى الله عما يقول! هذا الذي مات من زمان، وابنه وارث الدين لا يزال، ويأتي هنا على أنه ممثل الإسلام الأكبر في أمريكا، وليس فيه من الإسلام ذرة.
هناك جماعة كبيرة اسمهم أنصار الله قالوا: نحن نؤمن بالأديان الأربعة، يصنعون القرآن والتوراة والزبور والإنجيل، ويضعون هلالاً وصليباً ونجمة، ويقولون: نؤمن بها كلها، وتجدهم في المطارات وفي كل مكان يرون المسلمين أو السعوديين يأتون فيأتي أحدهم ويقول: أنا أخوك في الإسلام، نريد مساعدات لجمعية أنصار الله، أحياناً أكثر الناس يدفع، فتقول له: ماذا تعتقدون؟ يقول لك: كذا وكذا أعوذ بالله! هذا أنتم مسلمون؟ يرون أن هذا هو الإسلام، هذا إن دعا أحد يدعو على بدعة، ولا يدعو إلى التوحيد إلا قلة قليلة جداً.
كم عدد الذين يدعون إلى التوحيد؟ كم مندوب للإفتاء في أمريكا؟ عشرة مثلاً، أعرفهم من قبل أنهم عشرة أو اثنا عشر، ولا أدري هل زادوا أم لا، بلد عدد سكانه مائتان وخمسون مليوناً فيه عشرة أفراد أو اثنا عشر فرداً، وهم متلهفون يريدون ديناً يؤمنون به ولا يجدون شيئاً، وهم يأتون إلى بلد مثل الصومال أو غيرها من الدول المنكوبة بالآلاف بمعداتهم ومنشآتهم وكل شيء، فرق عظيم وهائل بيننا وبينهم في اهتمامنا بديننا وفي دعوتنا.
بلغ من حيرة الأمريكان ومن بحثهم الشديد عن أي دين -كما حدثني بذلك الشيخ الرواي وهو إن شاء الله ثقة، حدثني بهذا في منزلي- قال: رأوا مرة دعاية، مكان دعاية للهندوسية، عبادة الأبقار في أمريكا، فقالوا: نذهب ننظر، فكانوا ذاهبين ينظرون دعوة هؤلاء، وكيف سيدخل الأمريكان في هذا الدين؟ المفروض يدخلون في الإسلام، كيف سيدخلون في دين عبادة البقر وهم أمة متحضرة، ويدخل في دين أمة منحطة كيف سيكون هذا الشيء؟! ولا شك أن النصرانية خير من الهندوسية، ومع ذلك ينتقلون من النصرانية إلى الهندوسية، قال: في مقدمة المدخل عند البوابة كتب للدعاية، وتماثيل وأصنام منصوبة على طريقة الهندوس، يدخل الواحد إلى قاعة كبيرة فسيحة مكيفة مؤثثة، ويستمع لشرح الدعاة حتى يعتنق هذا الدين، الأمريكي من عند الباب يدخل يأخذ كتيباً، ينظر الصنم، يسأل: ما هذا؟ يقولون: هذا نحن نركع وننحني له، يركع عند الباب ويدخل، قبل ما يسمع ما هو الكلام يركع ويستسلم، فارغ ما عنده شيء، من أول الطريق راكع، يريد شيئاً، لكن الذين يدعون إلى الإسلام ليس عندهم شيء للأسف، إن اهتدى تركوه للبدع والضلالات في تلك البلاد، وإن لم يدعوا بطريقة معينة وإنما طريقة فردية فقط، طالب في الجامعة يكلم زميله، حتى يهديه الله، ما عنده لا جهد، ولا وقت، ولا تفريغ، ولا شيء، الله المستعان! وهذا كلام يطول، ولكن التذكير به واجب.(102/19)
شرك المجوس
ومن ذلك شرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور، وحوادث الشر إلى الظلمة، كما قال تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النحل:51] المجوس جعلوهما إلهين، إله النور وهو إله الخير، وإله الظلمة وهو إله الشر.(102/20)
شرك القدرية
وشرك القدرية الذين يقولون: إن العبد يخلق أفعاله، ومن ذلك شرك الذي حاج إبراهيم في ربه، فالذي حاج إبراهيم في ربه ما ادعى الربوبية المطلقة، لكن ادعى صفة من صفات رب العالمين سبحانه وتعالى، قال تعالى: {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة:258] فقال: هذا تعريف الرب عندك {قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258] إبراهيم عليه السلام أراد أن يعرفه برب العالمين بالصفة التي لا شاركه فيها غيره، أنت إذا قلت: يفعل كذا ويفعل كذا، يمكن أن يقول: وأنا أفعل كذا وأفعل كذا مثلاً، فكان مدخل إبراهيم الخليل عليه السلام أفضل وأكثر وسيلة للإقناع، فذكر له ما لا يملكه الشر أبداً، مهما بلغ من علمه في القديم والحديث، لكن جاء الرجل من باب المغالطة قال: أنا أحيي وأميت، فجاء إبراهيم عليه السلام من باب الإلزام، لو شاء لقال: إن إحياء الله أنه يخلق من العدم، أما أنت فتحييه أي: تتركه حياً، لكن لنعرف نحن قاعدة من قواعد مجادلة المشركين والمجرمين، ليس شرطاً أن ترد على الكلمة بنفس الكلمة، تعال بشيء واضح جداً يدمغ ما قال.
قال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ} [البقرة:258] يعني: قولك إنك تفعل كل ما يفعله الله، فالله تعالى يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، هذا الشيء لا يستطيع له، القضية ليست قضية حجة عقلية لديه أو فهم، لكن الخليل عليه السلام جاء بشيء لا يمكن أن يطاق، لا يستطيعه، وإلا فحجته الأولى داحضة، لكن المغفلون الذين حوله قالوا: غلبه، لأنهم لا يفهمون، فلهذا أراد إبراهيم عليه السلام أن يأتي بشيء لا يمكن أن يلبس يا من ترون الشمس كل يوم تطلع من هنا! هذا ملككم الذي يدعي الربوبية فليأت بها من المغرب! إذاً: فبهت الذي كفر، انتهى وانقطع وخرس، وهذا نوع من أنواع المجادلة العظيمة التي علمنا إياها الله تبارك وتعالى من خلال ما قصه عن خليله إبراهيم عليه السلام.(102/21)
شرك اليونايين
ويقول رحمه الله: (ومنهم من يزعم أن معبوده هو الإله، أو أنه أكبر الآلهة)، هذا الكلام الذي نحن نقوله أو نحكيه عرضاً هو في الغرب، عند الذين يدعون أنهم أهل العقول، وأهل الحضارة، اليونان جعلوا لكل شيء إلهاً أو رباً تعالى الله عما يشركون! فالجمال له إله، والمطر له إله، والجبال لها إله، والنور له إله، والشمس لها إله، والشِعر له إله، أي شيء تتصور في بالك له رب، الغالب أنه ليس إلهاً ذكراً فقط، بل هو إلهة إن صح التعبير، فاليونان جعلوا لكل شيء إلهاً، ثم بعد ذلك الأساطير والخرافات التي عندهم أن الآلهة تتصارع، وهذا الإله يصرع هذا الإله، والإله هذا غلب هذا، فكل كلامهم وتاريخهم وعقائدهم هكذا، هذه الوثنية المنحطة التي أي عقل يترفع عنها، ومع ذلك يُنسب إليهم من الفضائل والحضارة والعلم ما لا ينسب إلى أية أمة أخرى.
وحتى في العالم الإسلامي يُنقل هذا الكلام تأثراً بالغرب، يعني: (فينوس) هذه إلهة الجمال، و (أبلو) إله الشعر، و (أطلس) إله العالم الذي يقولون فيه: إنه يحمل العالم على ظهره، فتستخدم هذه العبارات وتطلق حتى أحياناً يقال: إله كذا أو رب كذا، مثل ما فعل هذا الخبيث نجيب محفوظ في كتابه الثلاثية التي أخذ عليها الجائزة الصهيونية، كما عبر بلسانه أنها جائزة صهيونية، السنة الأولى لما حرم من الجائزة وسئل: لماذا لم تأخذها وقد رشحت لها؟ قال: أنا لا آخذها، هذه الجائزة لا يأخذها إلا صهيوني عميل للصهيونية، جاءوا في السنة الثانية ورشحوه فأخذها شاكراً ممنوناً، وهو صحيح فعلاً لا يأخذها إلا صهيوني، من جملة الثلاثية هذه يذكر قصة مصرية قديمة: أن الآلهة غضبت والإلهة رضيت كلها حول التأليه تعالى الله عما يصفون، ولا يتحرجون أن يقولوا: إله أو آلهة غير الله، ونحن نقول: لا إله إلا الله، والحمد لله شعارنا نحن المسلمين هذه الكلمة العظيمة كملة التوحيد، لا إله إلا الله، لا يطلق هذا على أحد غير الله تبارك وتعالى.(102/22)
من أنواع شرك العبادة (الرياء)
النوع الثاني: هو شرك العبادة، الشرك في عبادته وحقوقه ومعاملته، يقول رحمه الله: فهو أسهل أي: هذا الشرك أسهل من ذلك الشرك وأخف شراً، لماذا؟ قال: لأنه يصدر ممن يعتقد أنه لا إله إلا الله، وأنه لا يضر ولا ينفع، ولا يعطي ولا يمنع إلا الله، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه، يعني: هذا يقع، لكنه أخف من جهة أن فاعله وقع في اللبس، ولهذا قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] هذا لبس إيمانه بظلم وشرك، مقر أنه لا إله إلا هو، ولا خالق ولا نافع ولا ضار إلا هو؛ لكن لا يخلص لله تعالى في معاملته وعبوديته، بل يعمل لحظ نفسه تارة، وطلب الدنيا تارة، ولطلب الرفعة والمنزلة عند الناس والجاه عند الخلق تارة، إذاً: فلله من عمله نصيب، ولنفسه ولشيطانه من عمله نصيب، هذا هو الشرك الآخر أجارنا الله وإياكم منه.
وهذا هو الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم عنه فيما رواه ابن حبان في صحيحه قال: (الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل، قيل: وكيف ننجو منه يا رسول الله؟ قال: قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم) يعني: من أشرك به وهو يعلم فقد ارتكب أكبر الكبائر، وأكبر المحرمات عن علم عياذاً بالله (وأستغفرك لما لا أعلم) لأنه لابد أن نقع فيه، فنستغفر الله مما لا نعلم، ونستجيره ونستعيذه مما نعلم.
وذكر من ذلك فقال: (فالرياء كله شرك، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف:110] وقال: وهذا الشرك في العبادة يبطل ثواب العمل) فلو صلى لغير الله أو حج أو زكى ولا نعني (لغير الله) أنه عبد غير الله مطلقاً، لكن لو جعل صلاته من أجل الناس، من أجل أن يقال عنه: مصلّ، أو يثنى عليه، وبعض الناس عياذاً بالله ابتلوا بهذا البلاء، فالعلماء يذكرون بعض هذه الأمثلة أن بعض الناس يبلغ به هذا الأمر إلى حد عجيب عياذاً بالله فالأعرابي الذي دخل عليه بعض السلف ورأى صلاته وحسنها فتعجب، فقال: أعرابي ويصلي هذه الصلاة الخاشعة!! فلما سلم قال: ومع ذلك أنا صائم، والعياذ بالله! يقول: أنت مدحتني على الصلاة، لكن لابد أن تعرف أيضاً أني صائم.
إذاً: ما أراد بعمله وجه الله، إنما ليثنى عليه به، فحالة الأعرابي هذا حالة نفسية موجودة عند كثير من الخلق عافانا الله وإياكم، لا يأمن الإنسان على نفسه أبداً أن يكون من هؤلاء، ممن يريد أو يحب أن يحمد بما لم يفعل، ويراءون الناس، ولهذا علامتهم كما قرنها بهم الله سبحانه: {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء:142] المؤمن في باطنه مع ربه خير منه في ظاهره، أما أن يذكر الإنسان بالخير ويثنى عليه بما هو فيه، فتلك عاجل بشرى المؤمن، لكن لا يعمل هو من أجلها! فهناك فرق بين أن يعمل من أجلها، وبين أن تقال عنه، فلا شك أن الإنسان لا يريد أن يقال عنه السوء، ويتألم إذا قيلت فيه مقالة في عرضه، أو في دينه، أو في إيمانه لا ترضيه، لكن هذا أمر وذاك أمر آخر، فهذا يحبط العمل كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك معي فيه غيري فهو للذي أشرك، أو قال: تركته وشركه، وأنا منه بريء).
قال: (الشرك في المعاملة وفي العبودية ينقسم إلى أكبر وأصغر، ومغفور وغير مغفور، والنوع الأول ينقسم إلى كبير وأكبر، وليس شيء منه مغفور)، يعني أن النوع الأول شرك كبير وشرك أكبر، ولا شيء منه مغفور، أما هذا النوع منه أكبر كمن يصلي لغير الله أصلاً، أو كمن يكون رياؤه في أصل الدين، فالمنافقون نفاقاً أكبر نفاقهم في أصل الدين، يعني: شهد أن لا إله إلا الله رياءً، فالمؤمن شهد أن لا إله إلا الله وآمن بالله، وصدق بالرسول صلى الله عليه وسلم وبالقرآن عن حق، لكن رياؤه في بعض عبادته، في جهاده، في صلاته، في دعوته، في بعض أنواع العبادة، أما أصل الدين عنده ليس فيه رياء، فهذا هو الثاني الذي يدخل في الكبائر، وقد يُحبط العمل وقد لا يحبط بحسب قوته، وقد تُحبط صلاة راءى فيها ولا تحبط صلاة أخرى لم يراء فيها، وهكذا.
إذاً: هذا منه مغفور، والمغفور منه ما يندرج تحت الكبائر والذنوب، فيكون تحت المشيئة، ولا نفهم أنه لا يؤاخذ عليه، إنه قابل لأن يغفر، داخل تحت المشيئة، أما الشرك الأكبر فإنه لا يغفره الله سبحانه وتعالى.
ثم ذكر بعد ذلك شيئاً من أنواع هذا الشرك، مثل شرك الألفاظ: كالحلف بغير الله، وشرك الإرادات، وشرك النيات، إلى آخر ما ذكره رحمه الله تعالى مما بين به حقيقة هذا الذنب العظيم.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعافينا وإياكم وإخواننا المسلمين منه، وأن يجنبنا الشرك صغيره وكبيره ودقيقه وجليله، وأن يجعلنا من المؤمنين الصادقين الموحدين، إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.(102/23)
الشرك قديماً وحديثاً [2]
إن حقيقة ما يقع من الإشراك بالله سبحانه وتعالى على وجه المعمورة هو تشبيه المخلوق بالخالق في بعض ما هو من خصائص الله سبحانه كالعبودية، والدعاء، والخوف والرجاء، ورجاء النفع والضر، والمنع والعطاء وغير ذلك، ولذلك من صرف شيئاً من خصائص الله سبحانه وتعالى لغيره فقد ظن بالله ظن السوء، وقال على الله عز وجل بغير علم، فهذه أعظم الذنوب التي ارتكبها العبد المشرك مع ربه سبحانه وتعالى.(103/1)
حقيقة الشرك
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الإخوة المؤمنون: ما زلنا في الموضوع المهم الجلل الذي دونه كل موضوع، وهو موضوع الشرك، حقيقته وخطره وضرره، وكنا في درس سابق بحمد الله تعالى وتوفيقه قد قرأنا للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، كلاماً قيماً نفيساً عن الشرك وعن التعطيل، ووقفنا عند شرك الإرادات والنيات، فنكمل إن شاء الله تبارك وتعالى كلامه رحمه الله؛ لأن الموضوع قد لا يأتي له مناسبة أخرى، وإن جاءت فبعد حين، ونحن نعلم أن أهم ما ندعو إليه هو التوحيد، وأن أوجب ما ينبغي أن نتعرف عليه من الأضداد هو ضد التوحيد وهو الشرك بالله تعالى، الذي هو أكبر الذنوب.
والذي جاء الحديث عنه في متن الكتاب بمناسبة الكلام عن الرجاء، وذلك أن المشرك لا رجاء له عند الله تبارك وتعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ} [هود:16] فلا يرجون رحمة الله، لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولكن يستدرجهم من حيث لا يعلمون.
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله: (إذا عرفت هذه المقدمة -من الكلام الذي تقدم كله في درس سابق- انفتح لك باب الجواب على السؤال المذكور)، فالسؤال المذكور الذي سألناه عن الكبائر وأنواعها، ولماذا كان الشرك أكبرها وأعظمها وأخطرها؟ فيقول: (حقيقة الشرك مما تقدم) يعني: تبين لنا، قاعدة مهمة نستنتجها مما تقدم وهي: أن حقيقة الشرك هي التشبه بالخالق، وتشبيه المخلوق به، هذا أوجز ما يمكن أن يقال في حقيقة الشرك، ومعرفة لماذا كان هو أعظم الذنوب وأعظم ما عصي الله تبارك وتعالى به؟ الشرك هو التشبه بالخالق تبارك وتعالى، أو تشبيه المخلوق به تبارك وتعالى، هذا هو التشبيه في الحقيقة لا إثبات صفات الكمال.
يريد ابن القيم رحمه الله تعالى أن يرد على الذين نفوا الصفات، قالوا: حتى لا نقع في التشبيه، مثلما تقدم معنا في صفة العلو مثلاً، وموضوع الرؤية والكلام، وغيرها من مباحث الصفات التي شرحناها والحمد لله.
فالعلة واحدة عند الذين ينكرون صفات الله تبارك وتعالى من الجهمية والمعتزلة والأشعرية وغيرهم، أنهم يقولون: لو أثبتنا الصفات لوقعنا في التشبيه، فنقول: أنتم لا تفهمون حقيقة التشبيه، التشبيه الذي هو الشرك عكس ما تظنون، التشبيه هو تشبيه الخلق بالخالق، لا كما تظنونه إثبات صفات الله، أما تشبيه الخالق بالمخلوقين، كمن يقول: إن الله له يد كيد المخلوقين، أو يقول: إن الله له سمع كسمع المخلوقين، أو يستوي كاستواء المخلوقين، هذا وقوعه في العالم قليل.
الله تعالى فطر النفوس على أن هذا غير موجود وغير حاصل، ووقوعه قليل وإن وقع فهو مما ينكر، ولا شك أنه مناف للتوحيد لا ريب في ذلك، لكن هم لا يقصدون ذلك، يقصدون إثبات الصفات، والسلف الصالح والحمد لله يثبتون الصفات لله تبارك وتعالى كصفات المخلوقين، ولكن يقولون: كما قال عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].
يثبتون السمع والبصر وجميع الصفات مع إثبات أنه ليس كمثله شيء وليس له كفواً أحد، وهل تعلم له سمياً، وإن وقع الاشتراك اللفظي في الاسم فالحقيقة غير الحقيقة، كما أن الوجود غير الوجود، والذات غير الذات، متفقون معنا أن ذات الله تبارك وتعالى لا تشبهها ذات، وأن وجود الله تبارك وتعالى لا يماثله وجود، إذاً: فبقية الصفات تتبع الذات، وتتبع صفة الوجود المجمع عليها، وهذا مذهب واضح والحمد لله، منهج رحب واضح سهل الفهم، ولا ينكره إلا مكابر، لكن ليس هذا، وإن زعم من زعم كـ الرازي وأمثاله ونسبوه إلى رجل لا عقل له ولا نقل، وهو المنجم المشهور أبو معشر الفلكي منجم من المنجمين، كان في الإسلام لا يعرف له فضل ولا خير وسابقة ولا دين، هو الذي يقول: إن أول شرك وقع هو أن الناس اعتقدوا أن الله سبحانه وتعالى له يد كيد المخلوقات، وله عين كعين المخلوقات، فعبدوا الأصنام.
هذا كلام فارغ، ومغاير للحقيقة وللواقع التاريخي، ولما صحت به الأحاديث، وبالعكس: الذين عبدوا الأصنام شبهوها بالله، ولم يشبهوا الله بالأصنام، هذا هو الواقع.(103/2)
الخصائص الإلهية
فيقول: (وليس في إثبات الأسماء التي وصف الله بها نفسه ووصفه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم) فعكس من نكَّس الله تعالى قلبه وأعمى عين بصيرته، وأركسه، وجعل التوحيد تشبيهاً والتشبيه تعظيماً وطاعة، فالمشرك مشبه للمخلوق بالخالق بالخصائص الإلهية.(103/3)
التفرد بالضر والنفع والعطاء والمنع
من الخصائص الإلهية التفرد بملك الضر والنفع والعطاء والمنع: (لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت) هذا مما يملكه الله سبحانه وتعالى وحده، وذلك يوجب تعليق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل عليه وحده؛ لأنه هو الذي يملك العطاء والمنع والضر والنفع، فإذاً من يدعى؟ من يرجى؟ من يستغاث به؟ من يطلب عند الشدائد؟ هو الله وحده.
والذي فعله المشركون أنهم عكسوا ذلك، فأصبحوا يدعون من دون الله آلهة، إما في وقت الرخاء والشدة، وإما في وقت الشدة كما كان المشركون الأولون إذا ركبوا في الفلك، وجاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان دعوا الله مخلصين له الدين في هذه اللحظة، إذاً: نسوا الوسائط، لكن إذا أنجاهم إلى البر إذا هم يشركون به ويدعون غيره معه أو من دونه، فوقعوا في الشرك.
يقول: فمن علق ذلك بمخلوق، يعني: الدعاء والخوف والرجاء فقد شبهه بالخالق من جهة أنه أعطاه وأضفى عليه خصائص الإلهية، وجعل من لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، جعله كالحي القيوم سبحانه وتعالى، الذي بيده كل هذه الأمور، وهو مرجعها، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو الذي إن فتح باب الرحمة فلا ممسك لها: {مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:2] هذا بيده، كل شيء بيده، وعنده خزائنه سبحانه وتعالى، وإليه المنتهى، وأن إلى ربك المنتهى، منتهى الإرادات ومنتهى المطالب، ومنتهى المنى، كله ينتهي إلى الله سبحانه وتعالى.
أي مخلوق تصورت أنه ممكن أن يعطيك أو يساعدك أو يضرك أو ينفعك ففكر بعقلك من الذي خلقه؟ من الذي أوجده؟ من أعطاه؟ تجد أنك في النهاية تستيقن وتعلم قطعاً أن إلى الله المنتهى، إذاً: يطلب وحده لا سيما وهو كما قال الشاعر:
الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
إذاً: اطلب الغني الكريم الذي بيده كل شيء، وبيده خزائن كل شيء، ويريد أن تسأله، ويغضب إن لم تسأله وتطلبه، فكيف تلجأ إلى المخلوقين وتتخذ منهم وسائط من دونه؟! إلى أن يقول رحمه الله: (فمن أقبح التشبيه تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات تبارك وتعالى).
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم لهم هذا المنهج، يستطردون ويوضحون، وهذا المنهج لو تأملناه لوجدنا أنه قرآني، فالله تبارك وتعالى في القرآن حتى وهو يأتي بقصة أو بخبر فإنه يأتي بإشارة أو دلالة قوية على أهمية التوحيد، أو تجلية لجانب معين من جوانب التوحيد تتعلق بهذا الموضع، وهكذا الذين يسيرون على منهج القرآن والسنة في الدعوة والفهم والحكمة والبصيرة التي أمر الله تعالى بها، ويأخذونها من القرآن كهذين الشيخين الفاضلين، أي موضع من مواضع التوحيد سواء وهو يتكلم عن مشابهة المشركين ومحبتهم كما في اقتضاء الصراط المستقيم يعرج على موضوع الشرك، في الصارم المسلول يعرج على موضوع الكفر وأنواعه وهكذا.
هنا كما ترون السؤال عن المعاصي، الكتاب كله عن العشق، ومع ذلك عرج إلى الشرك وأطال وهكذا، لعلمه بأهمية التوحيد وأنه أساس كل شيء في هذا الدين.(103/4)
الكمال المطلق من جميع الوجوه
ويقول أيضاً: (من خصائص الإلهية: الكمال المطلق من جميع الوجوه)، ولهذا بعض الإخوان كثيراً ما يسأل فيقول: هل أسماء الله سبحانه وتعالى توقيفية أم غير توقيفية؟ هل نطلق هذا الوصف أو لا نطلق؟ والقاعدة هي أن ما كان كمالاً لا نقص فيه بوجه من الوجوه فإثباته لله من طريق الأولى، وقد تقدم هذا عندما تعرضنا لمعنى (المثل الأعلى)، في قوله: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60].
المثل الأعلى: الكمال المطلق الذي لا يشوبه نقص بأي وجه من الوجوه، خذ مثلاً العلم، فالمثل الأعلى في العلم لله، فله العلم المطلق الذي لا يعتريه الجهل بأي شكل من الأشكال.
القدرة المطلقة: المثل الأعلى لله فيها، وهي القدرة المطلقة بحيث لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يملك هذا إلا الله وحده، وكذلك الحكمة والعزة والتدبير ففي كل شيء له المثل الأعلى، فالكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه من خصائص الألوهية، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها لله وحده، والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة والتوكل والاستغاثة والاستعانة وكل أنواع العبادة تكون له وحده؛ لأنه وحده الذي يملك هذا الكمال المطلق، ويكون له الأمران المهمان اللذان هما سبب إيراد هذا الموضوع في شرح العقيدة: غاية الذل مع غاية الحب، هكذا لا بد أن يجتمعا.
يقول: (كل ذلك يجب عقلاً وشرعاً وفطرة أن يكون لله وحده)، وهذا احتراز من كلام بعض أهل البدع، كأن الأمر ما يجب إلا في الشرع، نعم، فنحن ما عرفنا التقسيم إلا من الشرع، لكن العقل يدل عليه جملة، والفطرة تدل عليه جملة، وإنما تفصيله وبيانه يأتي في الشرع من الوحي، لكنها تدل عليه، ومن زعم أن ذلك مجرد دلالة الشرع فقط فقد غلط غلطاً عظيماً، وهذا ما سيوضحه رحمه الله فيما بعد.
إذاً: يقول: (فمن جعل شيئاً من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير -من جعل العبادة والرجاء والتعظيم والذل والخضوع لغير الله- فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا ند له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله).
إذاً: لاحظتم خطر هذا الشرك! فلو قيل: حتى لو جعل ذلك لنبي من الأنبياء أو لملك من الملائكة؟ أعني الدعاء والرجاء والخوف والرغبة والتعظيم، نقول: نعم.
حتى لو جعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون أيضاً شركاً وتشبيهاً.
ومن الناس من يفعل ذلك، ولهذا فالشرك باطل، وأعظم من أبطله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حتى لو كان هو المدعو صلى الله عليه وسلم، أو من يخاف ويرجى ويستغاث به، فالشرك باطل بأي وجه من الوجوه، وأعظم ما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بمحاربته هو الشرك وإن كان متعلقاً بذاته، كما سيأتي التفصيل إن شاء الله تبارك وتعالى.(103/5)
العبودية المتضمنة غاية الحب مع غاية الذل
ثم يقول: (من خصائص الألوهية: العبودية التي قامت على ساقين لا قوام لها بدونهما: غاية الحب مع غاية الذل).
يقول: (وهذا من المحال أن تأتي شريعة من الشرائع به -يعني: بهذا التشبيه- لأن قبحه مستقر في كل فطرة وعقل، ولكن غيرت الشياطين فطر أكثر الخلق، كما جاء في حديث عياض بن حمار: (وإني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللته) فالذي صرف الفطرة وحرفها في الأصل القديم الشياطين، ثم يحرفها أيضاً في حق الآحاد من الناس: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) فالإنسانية كانت على التوحيد حتى صرفها الشيطان إلى الشرك، والآحاد: الأفراد من الناس يولد كل مولود على الفطرة حتى يهوده أبواه أو يمجسانه أو ينصرانه أي: يصرفانه ويحولانه من التوحيد إلى الشرك).(103/6)
السجود من خصائص الإلهية
يقول: (إذا عرفت هذا: فمن خصائص الإلهية السجود، فمن سجد لغير الله فقد شبه المخلوق بالله، ومنها التوكل، فمن توكل على غير الله فقد شبهه أيضاً بالله، وقس على ذلك التوبة والحلف، يكون منها الحلف باسمه تعظيماً وإجلالاً).
هذا الكلام لا يقوله الإمام ابن القيم هكذا، لأجل الرد على الواقع في عصره من شيوخ الطرق، فهو يعالج واقعاً مؤلماً مريضاً في عصره، كانوا يستغيثون بالشيخ ويسجدون له، كان بعض المريدين يسجد لشيخه، وآخرهم هذا المهدي الذي ظهر في السودان يدعي أنه المهدي، وعبد الله التعايفي كانوا يسجدون له سجوداً، ويستغيثون به ويتوكلون عليه، والشيخ هو الذي يعلمهم، يقول بعض مشايخهم: الشيخ الذي لا ينقذ مريده أو تلميذه وإن كان في أطراف الأرض أو أوساط البحر ليس بشيخ! يعني: الشيخ هو الإله، تعالى الله عما يصفون! فالذي يستطيع أن ينجي تلاميذه في ظلمات البر والبحر هو الشيخ!! فأصبحوا يتنافسون في ذلك، حتى قال بعضهم: لو جئتم إلى قبري ودعوتموني ولم أغثكم فلست بشيخ، انظروا كيف وصل بهم ادعاء الألوهية! نسأل الله العافية.
والحلف بالشيخ صار أعظم من الحلف بالله، ولهذا يذكر هذه الأمثلة؛ لأنه يعيش ذلك ويعانيه في زمانه.
قال: (فمن تعاظم وتكبر ودعا الناس إلى إطرائه في المدح والتعظيم والخضوع والرجاء، وتعليق القلب به خوفاً ورجاءً والتجاءً واستعانة، فقد تشبه بالله، ونازعه في ربوبيته وإلهيته، وهو حقيق بأن يهينه غاية الهوان، وأن يذله غاية الذل، ويجعله تحت أقدام خلقه).
ولهذا جاء في الحديث الصحيح: (يحشر المتكبرون يوم القيامة على هيئة الذر يطؤهم الناس بأخفافهم).
سبحان الله! الجزاء من جنس العمل، الناس يحشرون يوم القيامة على خلق أبيهم آدم، طوله ستون ذراعاً، إلا المتكبرون الذين كانوا يتكبرون على خلق الله، ويرون أن من واجب الناس أن يعظموهم ويبجلوهم ويخضعوا لهم، ويحبوهم ويطروهم ويمدحوهم، هؤلاء يحشرون على هيئة الذر، انظر الفرق! يطؤهم الناس بأقدامهم، جزاءً وفاقاً بما كانوا يصنعون في الدنيا، أياً كان السبب الداعي مال منصب اعتقادات باطلة كشيوخ الصوفية الذين يرون أنه يجب على المريدين أن يعظموهم، وأن يلحسوا أقدامهم وأكفهم وركبهم، أياً كان المتكبر فقد تشبه بالخالق، فإذاً: ينطبق عليه الحديث الذي يقول الله تبارك وتعالى فيه: (العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني فيهما عذبته) ثم يضرب ابن القيم رحمه الله مثالاً: وإذا كان المصور الذي يصنع الصورة بيده من أشد الناس عذاباً يوم القيامة كما جاء في الحديث الصحيح: (من أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون) ما هي العلة؟ القضية ليست قضية أن الشخص صور فقط، يجب أن تطرد العلة في كل من ادعى شيئاً من خصائص الألوهية، أو نازع الله تبارك وتعالى فيما هو من خصائصه تبارك وتعالى.
يقول: فهؤلاء من أشد الناس عذاباً يوم القيامة، لتشبههم بالله في مجرد الصنعة، يخلق كخلقه، يصنع كهيئة خلق الله هذا ما فعله المصور، ومع ذلك فهي جريمة عظمى، وهو من أشد الناس عذاباً يوم القيامة، فكيف من تشبه بالله في الربوبية والإلهية؟ ليس هناك رسمة ولا صنعة، وفي الحديث الصحيح: (لا أحد أحب إليه المدح من الله) فالذي يجب أن يطرى ويمدح ويعظم، وأن تقال له الألقاب هو الله.
ثم قال: (والمقصود أن هذا حال من تشبه به في صنعة صورة، فكيف حال من تشبه به في خواص ربوبيته وإلاهيته؟) وهنا يضرب مثالاً آخر، وهو من الأدلة على أن جانب التوحيد من أعظم ما يراعيه الشرع في كل الأمور، وسد كل الذرائع التي توصل إلى الشرك، فيضرب مثالاً بهؤلاء الناس الذين يحبون الألقاب ينازعون بها الله تبارك وتعالى في ملكه، وفي ربوبيته وإلاهيته.
فيقول: من تشبه في الاسم الذي لا ينبغي إلا له وحده، كملك الأملاك وحاكم الحكام ونحوه وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أخنع الأسماء عند الله رجل تسمى ملك الملوك ولا ملك إلا الله، أو ولا مُلك إلا لله، وفي لفظ أغيظ رجل على الله رجل يسمى بملك الأملاك) مجرد أنه تسمى، قد لا يكون عمل عملاً، أو دعا الناس ليعملوا أعمالاً توجب ألوهيته وربوبيته كقول فرعون: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] لكن هذا كل ما قد يكون عمله أنه سمى نفسه باسم لا يجوز إلا لله، ولا يطلق إلا على الله تبارك وتعالى، فهذا استحق أن يكون أخنع الأسماء، وأن يكون أغيظ رجل على الله تبارك وتعالى.
فهذا مقت الله وغضبه على من تشبه به في الاسم الذي لا ينبغي إلا له، فهو سبحانه ملك الملوك وحده، وهو حاكم الحكام وحده، وهو الذي يحكم على الحكام كلهم ويقضي عليهم كلهم لا غيره، إذا تبين هذا فهنا أصل عظيم يكشف سر المسألة.
ثم يفتح لك ابن القيم باباً عظيماً من أبواب العلم، ويؤصل قضية عظيمة بأجمل وأوضح ما يمكن، ثم ينتقل منها إلى قضية أخرى فتجد علماً، لا ينقل كلاماً هكذا ليس له فائدة علم مؤصل مرتب مبني على الأدلة، على نظرة شاملة، وهذه التي لا تجدها عند كثير من العلماء في القديم فضلاً عن المتأخرين، مثل الإمامين ابن تيمية وابن القيم رحمهم الله ومن سار على نهجهما، هذه ميزة للمدرسة السلفية بأنها مدرسة قوية، هذه المدرسة التي جددها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله تبارك وتعالى عليه، وما عمله ابن تيمية ما هو إلا تجديد للمنهج الذي كانت عليه الثلاثة القرون المفضلة، لم يأت بشيء من عنده أبداً.
فالآن ينقلك من سر عظيم بعد أن تجلت عندك هذه الحقيقة العظيمة، حقيقة الشرك وهو هذا التشبيه، ينقلك إلى حقيقة أخرى عظيمة جداً.(103/7)
أعظم الذنوب إساءة الظن بالله تعالى
يقول: (إذا تبين هذا فهاهنا أصل عظيم يكشف سر المسألة، وهو أن أعظم الذنوب عند الله إساءة الظن به).
إذاً: القضية ليست قضية رجاء -أضعف منازل المريدين- كما يقول الهروي أو يقول الصوفية، لا.
أعظم الذنوب إساءة الظن بالله سبحانه وتعالى، وهي باب لموضوع آخر سيأتي فيما بعد، قد يقال: أليس أعظم الذنوب هو القول على الله تعالى بغير علم كما في الآية؟ نقول: انتظروا سيفتح الشيخ باباً إلى باب إلى باب حتى تجدوا مدناً من مدن العلم والخير في هذه العبارات الموجزة.
يقول: (فإن المسيء به الظن قد ظن به خلاف كماله المقدس، فظن به ما يناقض أسماءه وصفاته).
أي أن مسيء الظن بالله ظن به خلاف الكمال الذي تقتضيه هذه الأسماء والصفات التي تثبت له، يقول: ولهذا توعد الله سبحانه وتعالى الظانين به ظن السوء بما لم يتوعد به غيرهم، كما قال تعالى: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [الفتح:6] أعوذ بالله! انظروا شدة الوعيد نتيجة هذا الظن بالله تبارك وتعالى.
وقال تعالى لمن أنكر صفة من صفاته: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:23] ما هي الصفة التي أنكرها هؤلاء؟ الصفة التي أنكرها هؤلاء هي صفة العلم، وأن الله لا يعلم كثيراً من أعمالهم.
يقول: (وقال تعالى عن خليله إبراهيم: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة:124] {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النحل:123] شرف عظيم أن يوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتبع ملته، هذا من أعظم الدلالة على إمامته عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ولما قال لقومه: {مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:85 - 87] {أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} [الصافات:86] أئفكاً: افتراء لا أصل له ولا حقيقة ثم يعقب على ذلك: {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:87].
يقول: فما ظنكم أن يجازيكم به إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره؟ وما ظنكم بأسمائه وصفاته وربوبيته من النقص، حتى أحوجكم ذلك إلى العبودية لغيره؟ ماذا ظننتم به حتى عبدتم غيره معه أو من دونه؟! يقول: (فلو ظننتم بالله ما هو أهله من أنه بكل شيء عليم، وهو على كل شيء قدير، وأنه غني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، وأنه قائم بالقسط على خلقه، وأنه المتفرد بتدبير خلقه لا يشركه فيه غيره، والعالم بتفاصيل الأمور فلا يخفى عليه خافية من خلقه، والكافي لهم وحده: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36] فلا يحتاج إلى معين، والرحمن بذاته فلا يحتاج في رحمته إلى من يستعطفه، وهذا بخلاف الملوك وغيرهم من الرؤساء فإنهم يحتاجون إلى من يعرفهم أحوال الرعية وحوائجها، وإلى من يعينهم على قضاء حوائجهم، وإلى من يسترحمهم وإلى من يستعطفهم بالشفاعة، فاحتاجوا إلى الوسائط ضرورة حاجتهم).
نتيجة حاجتهم وعجزهم وضعفهم وقصور علمهم، انظروا إلى هذه العبارات العظيمة.(103/8)
إدخال الوسائط بين الله وخلقه إساءة ظن به سبحانه
قال: (فأما القادر بنفسه على كل شيء، الغني بذاته عن كل شيء، كما قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] وكما في حديث أبي ذر المشهور في خطاب الله تبارك وتعالى لعباده).
فإذاً: الغني بذاته، الرحمن الرحيم، الذي وسعت رحمته كل شيء، يقول: هذا إدخال الوسائط بينه وبين خلقه نقص في حق ربوبيته وإلاهيته وتوحيده، وظن به ظن السوء، هذا الظن أسوء الظن بالله.
فالموضوع إدخال الوسائط!! قال: وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده، ويمتنع في العقول والفطر جوازه) أي فليس من المعقول أن يشرع الله سبحانه وتعالى للناس أن يتخذوا بينه وبينهم وسائط وهو العليم بكل شيء، وهو قادر على كل شيء، الغني عن كل أحد، المتصرف في كل أمر، الذي رحمته وسعت كل شيء، أيحتاج لواحد يأتي فيدخل بينه وبين خلقه فلا يعبد إلا من طريقه، أو يدعى هذا من دونه بزعم أن يوصل العبادة إلى الله؟! تعالى الله عما يشركون! يقول: (يوضح هذا أن العابد معظم لمعبوده متأله، والرب تعالى هو الذي يستحق كمال التعظيم والإجلال والتأليه والتذلل والخضوع).
ولهذا عندما نقول كلمة لا إله إلا الله، كلمة التوحيد العظيمة، ففيها كلمة (إله) وإذا عُرف معناها عرفنا معنى كلمة: لا إله إلا الله، فما معنى الإله؟ أوجز وأفضل تعريف لهذه الكلمة أن الإله هو الذي تألهه، والوله: غاية الحب، فغاية الحب ونهاية الحب تسمى: الوله، فالإله هو الذي تألهه القلوب محبة وإجلالاً وخضوعاً وذلاً وتعظيماً وانقياداً ورغبة ورهبة ورجاءً.
إذاً: لا إله إلا الله، هذا هو الذي تصلح له هذه الصفات تبارك وتعالى.(103/9)
ما قدروا الله حق قدره
يذكر ابن القيم رحمه الله تعالى بعد هذا الكلام أمثلة عظيمة جداً ونافعة، رداً على جميع الطوائف، مما يدل على ما له من الفقه والحكمة، فإنه رد على جميع الطوائف من خلال هذه القاعدة العظيمة، وهي قاعدة أن شر الذنوب وأعظمها وأقبحها هو سوء الظن بالله، وهو الذي أوقع في الشرك.
يقول بعد أن ذكر الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج:73]: (الله أكبر! كل من يعبدون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له، وأيضاً: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73]).
يعني: هذه الآلهة من البشر أو من الشياطين أو غيرهم ضعفهم كضعف الذباب! ومع ذلك لو أنه أخذ شيئاً منهم لا يستنقذوه منه، بل هم أضعف: (ضعف الطالب والمطلوب) ثم قال: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الحج:74] أي: لم يحسنوا الظن به، يعني: أساءوا الظن بالله، ولهذا ما قدروه حق قدره، ولا عرفوه حق معرفته، فالإله عندهم كما هو عند كثير من الغافلين عندما تكلمه عن الله، تعالى الله عما يصفون كأنك تكلمه عن أي شخص، بل ربما لو كلمته عن بعض المخلوقين الذين لهم هيبة وقوة لارتجف وأرعاك أذنيه لكن إذا قلت: يا أخي اتق الله! يا أخي! أنا أخبرك بكلام الله، فتجده غير مبالٍ ما قدر الله تعالى حق قدره، ولا عرفه حق معرفته.
ولهذا قلنا كما تحدثنا في درس سابق: إن مشكلة الناس في جميع العصور والأوقات، وفي كل زمان ومكان، أنهم ما عرفوا الله، وما قدروا لله قدره، فأشركوا به، اتبعوا شرائع البشر وتركوا شريعته لسوء ظنهم به، ولأنهم ما قدروا الله حق قدره أحبوا بعض الخلق أكثر من محبتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم ما قدروا الله حق قدره حتى يعرفوا قدر رسوله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء منهم من يدعي أنه يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.(103/10)
ما قدر الله حق قدره من عبد غيره معه
يقول: (فما قدر الله حق قدره من عبد غيره معه ممن لا يقدر على خلق أضعف حيوان وأصغره، وإن يسلبه الذباب شيئاً مما عليه لم يقدر على إنقاذه منه، قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]) هذه قرأها النبي صلى الله عليه وسلم عندما دعاه حبر اليهود وقال له: (إن الله يضع الأرض على إصبع والجبال على إصبع سبحانه وتعالى.
فضحك النبي صلى الله عليه وسلم تصديقاً لقول الحبر وإقراراً له، وقرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67]) أبعد هذا يعبد أحد من دونه؟! إنساناً كان أو حجراً أو شجراً أو قبراً؟! سبحان الله عما يشركون!(103/11)
ما قدر الله حق قدره من أنكر الرسل
(وكذلك ما قدره حق قدره من قال: إنه لم يرسل رسولاً إلى خلقه).
وفي هذا يرد على منكري الشرائع، وفي ترتيب أنواع الكفر والكفار، فإن أعلى درجة من درجات الكفر وأشد الناس كفراً هم الفلاسفة، وهم من ينكر النبوات والشرائع بالجملة، وفي القديم كان هناك قلة تسمى الفلاسفة أما الآن أصبحت أمماً، الغرب الآن بأكمله تقريباً! المذهب الشيوعي والنازية والفاشية كل هذه تنكر النبوات والوحي، فأكفر وأعلى درجات الكفر هم هؤلاء فابتدأ بهم.
إذاً: من قال إن الله تعالى لم يرسل إلى خلقه رسولاً ولم ينزل كتاباً، هل قدر الله حق قدره؟ لأن معنى كلامه هذا: أن الله سبحانه وتعالى أهمل الخلق وتركهم سدى، كما فسرها الإمام الشافعي رحمه الله، سدى أي: لا يؤمر ولا ينهى، تركهم هملاً وخلقهم عبثاً، وهذا غاية سوء الظن بالله، هؤلاء ما قدروا الله قدره، فقالوا هذا القول.(103/12)
ما قدر الله حق قدره من نفى حقائق أسمائه الحسنى وصفاته العلى
درجة ثانية في الكفر: ما قدر الله تعالى حق قدره من نفى حقائق أسمائه الحسنى وصفاته العلى.
كـ الجهمية الذين نفوها بالكلية وأشباههم.
يقول: (ومن نفى عموم قدرته وتعلقها بأفعال العباد من طاعتهم ومعاصيهم).
وهؤلاء هم المعتزلة والقدرية، إذاً هذه درجة ثانية.(103/13)
ما قدر الله حق قدره من زعم أن الله يعاقب عبده على ما لا يفعله
يقول: (وكذلك ما قدره حق قدره من قال: إنه يعاقب عبده على ما لا يفعله، ولا له عليه قدرة، ولا تأثير ألبتة! بل هو نفس فعل الرب جل جلاله، فيعاقب عبده على فعله).
وهذه الطائفة هي الجبرية، يقولون: هو سبحانه الذي جبر العبد، وجبره على الفعل أعظم من إكراه المخلوق للمخلوق، يعني: المخلوق لا يمكن أن يكره المخلوق إكراهاً كلياً، لا يستطيع أي مخلوق أن يملك ما تضمره مهما كان، وهم يقولون: إن الله تبارك وتعالى أجبر المخلوقين، تعالى الله عما يصفون!! قال: (وإذا كان من المستقر في الفطر والعقول أن السيد -أي المالك- لو أكره عبده على فعل وألجأه إليه ثم عاقبه عليه لكان ذلك قبيحاً، فأعدل العادلين وأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين كيف يجبر العبد على فعل لا يكون للعبد فيه صنع ولا تأثير)، هذا مذهب الجبرية، هل هناك فرقة تسمى الجبرية الآن؟ نعم، الأشعرية، ماذا يقولون؟
والفعل في التأثير ليس إلا للواحد القهار جل وعلا
أي: الفعل كله لله، فما دام الفاعل والمؤثر هو الله، إذاً: هل يعاقب على فعل نفسه؟ فهو الذي فعل، أما العبد فلم يفعل شيئاً ولم يؤثر في شيء، فهم ينظرون من جانب وينسون جانباً آخر.
طيب! إذا كنتم تقصدون أو تريدون بذلك أن العبد لا يملك أن يطيع ولا يملك أن يعصي حتى نجعل إرادة الله هي كل شيء، فقد نسيتم الأفعال الأخرى، فنقول: إذا ارتكب العبد فاحشة تقولون الذي فعلها من؟ إن قالوا: الله -تعالى الله عما يصفون- وقعوا في الكفر، وإن قالوا: العبد إذاً أثبتوا للعبد فعلاً وتأثيراً وإرادة، لكن هم ينسون ذلك ويغفلون عنه.
إذاً: الطائفتان الجبرية والقدرية ما قدروا الله حق قدره.(103/14)
ما قدر الله حق قدره من زعم أنه حل في كل مكان
(وكذلك ما قدر الله حق قدره من لم يصنه عن نتن ولا حش ولا مكان يرغب عن ذكره، بل جعله في كل مكان)، وهذا مذهب الحلولية من الصوفية ومنكري العلو، الذين ينكرون علو الله، يقولون: الله في كل مكان، إذاً: هناك أماكن قذرة نجسة يترفع الإنسان أن ينطقها، كيف تقول: إن الله في كل مكان؟ إذاً: ما قدر الله حق قدره من نفى علو الله وأثبت هذا.(103/15)
ما قدر الله حق قدره من نفى الصفات الفعلية
ثم ينتقل ويقول: (وما قدر الله حق قدره من نفى حقيقة محبته ورحمته ورأفته ورضاه وغضبه ومقته).
هذه اسمها الصفات الفعلية، الذي ينفيها هم الأشاعرة وأمثالهم ممن يؤولون وينفون الصفات، خاصة صفات الرضا والغضب والمحبة؛ لأن هذه فيها تشبيه لا يمكن أن يثبتوها أبداً.
إذاً: ما قدروا الله حق قدره إذا نفوا أنه يحب، وأنه يبغض، وأنه يريد، وأنه ذو انتقام، وأنه رءوف، وأنه يمقت إلى آخر ذلك.(103/16)
ما قدر الله حق قدره من نفى حكمته وغايته
(ولا من نفى حقيقة حكمته التي هي الغايات المحمودة المقصودة بفعله).
الذين نفوا حكمة الله، لم يقولوا: إنه ليس بحكيم هكذا، يقولون: ليس لأفعاله غاية ولا علة، يظنون أنهم بهذا الكلام ينزهون الله، ما نقول: الأفعال لها حكمة أو لها علة، تعالى الله! نقول: إنه إذا فعل شيئاً فمن أجل شيء مثل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] إذاً: هو خلقهم من أجل العبادة، فهذا لا يليق، لا نثبته لله، الله سبحانه وتعالى ما يحقق شيئاً من أجل شيء، ظنوا بهذا أنهم ينزهون الله، فوقعوا في المصيبة الكبرى وهي نفي الحكمة عن الله.
فكأنه إن خلق شجرة أو حجراً أو أرسل نبياً فالأمر واحد، وكلها أفعال تخضع لمطلق المشيئة أو الإرادة فقط، ليس لها حكم ولا علل، فنفوا مقصوده وحكمته وغرضه من خلقه.(103/17)
ما قدر الله حق قدره من جعل له صاحبة وولداً
(وكذلك لم يقدره حق قدره من جعل له صاحبة وولداً)، وهؤلاء معروفون قاتلهم الله.(103/18)
ما قدر الله حق قدره من سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
(وكذلك لم يقدره حق قدره من قال: إنه رفع أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، وأعلى ذكرهم وجعل الله فيهم الملك والخلافة والعز، ووضع أولياء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته وأهانهم وأذلهم وضرب عليهم الذل أينما ثقفوا، وهذا يتضمن غاية القدح في جناب الرب، تعالى الله عن قول الرافضة علواً كبيراً!) انظروا كيف لو أن التوحيد صح عند هذه الطوائف وقدروا الله حق قدره ما وقعوا في هذه المصائب، يقولون: صنما قريش، يقصدون أبا بكر وعمر! فأعدى أعداء الدين عندهم أبو بكر وعمر، ثم بنو أمية هم الشجرة الملعونة في القرآن، شجرة خبيثة ملعونة وكلهم كفار إلى آخر ما يقولون.
إذاً هؤلاء هم أعدى أعداء الدين، فمن هم أولياء الله؟ قالوا: علي وذريته والأئمة ممن يعتقدون إمامتهم، ولكن الواقع أن الله تعالى مكّن لبني أمية وأعطاهم الملك والولاية، ففتحوا البلاد، وأقاموا الجهاد، أعطاهم الله ولاية حتى على هؤلاء، وضرب أهل البيت وسجنوا وأوذوا وعذبوا وقتلوا وما تولى أحد، وهذا من حكمة الله سبحانه وتعالى، وما تولى أحد ممن يدعي الروافض أنه إمام الخلافة أبداً؛ لأن بدعة الإثني عشرية ما جاءت إلا متأخرة بعد أحداث كربلاء، أي: بعد مقتل الحسين رضي الله عنه، بعد ذلك جاءت هذه البدع، منذ أن جاءت هذه البدعة ما ولي إمام من أئمة الرافضة قط.
إذاً: أحسنوا ظنكم بالله يا من تدعون أنه لم يول أحداً من أوليائه الذين تقولون إن الله اختصهم بغاية العلم والحكمة، ويعلمون الغيب، ويدبرون كل شيء، وأعطاهم مفاتيح الكون، (ولولاك لولاك ما خلقت الأفلاك) كل هذا الاعتقاد العظيم فيهم وما تولوا إذاً: ظنكم بالله ظن عجيب غريب من أين تأتون به؟! وأعجب من ذلك أنه يمكن لأعدائهم ويوليهم وينصرهم، ويفتحون البلاد وتثني عليهم الأمة، وتؤلف فيهم الكتب، إذاً: لا بد أن تصححوا نظرتكم إلى الله.
ونأتيك بجواب مفحم لا يستطيع الروافض أن يرفعوا رءوسهم بعده، نقول: مثل هذا القول في حق أهل البيت وفي حق أعدائهم -كما تزعمون- قالته اليهود والنصارى في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالقاعدة واحدة، كيف؟ اليهود والنصارى كفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إنه مفترٍ، افترى على الله الكذب وجاء برسالة، إذاً: ما الدين الحق الذي يقبله الله ولا يرضى غيره؟ قالوا: ما عليه اليهود والنصارى: {وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} [البقرة:135] أفيسلط الله كذاباً دجالاً مفترياً فيستولي على ممالك هذا الدين الحق، ويقتلهم ويأسرهم، ويضرب بالسيف رقابهم، ثم يستعبد من شاء منهم، ثم يظل الملك والشأن والرفعة والمجد له ولأمته أبد الآبدين، طوال الدهور، هذا ظن بالله سيء! إذاً: إما أن يكون الله لا حكمة له في أفعاله، حيث ينصر عدوه وهو يفتري عليه ويقول إنه رسول من عنده، ويأتي بكلام فيقول: هذا كلام الله، ويدعي الرسالة من الله وأن الوحي ينزل إليه، والدين الحق اليهودية والنصرانية كما تزعمون، ذليلة مهانة مضطهدة معذبة، ويقضى عليها في أغلب بقاعها الأساسية المهمة لها، وهي منقطة حوض البحر الأبيض يعني: لا يمكن أن لا يكون هناك حكمة أبداً، ولا يستطيع عاجز أن ينصر أولياءه، على أعدائه، أو أنه الواجب الآخر وهو أنكم أنتم ظننتم به غير الحق وما قدرتموه حق قدره، ويكون هو نصر وليه ونبيه ورسوله صلوات الله وسلامه عليه، ويكون دينكم باطلاً لا حقيقة له، هذا دليل.
فهذا يتفق مع حكمة الله ومع أفعال الله تبارك وتعالى في خلقه، فهذا القول قول الرافضة مشتق من قول اليهود والنصارى في رب العالمين إنه أرسل ملكاً ظالماً، فادعى النبوة لنفسه وكذب على الله، وأخذ زماناً طويلاً يكذب على الله كل وقت، ويقول: قال الله كذا وأمر بكذا ونهى عن كذا وينسخ شرائع أنبيائه ورسله، ويستبيح دماء أتباعهم وأموالهم وحريمهم، ويقول: الله أباح لي ذلك، والرب تعالى يظهره ويؤيده ويعليه ويقويه، ويجيب دعواته، ويقيم الأدلة على صدقه، ولا يعاديه أحد إلا ظفر به، فيصدقه في قوله وفعله وتقريره، وتحدث أدلة تصديقه شيئاً بعد شيء إلى يوم القيامة.
يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم ليست آياته معجزة واحدة ثم تنتهي كما كان الرسل من قبل، وإنما كما قال صلى الله عليه وسلم: (وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة) كلما جاء زمن تجدد فيه ما يدل على صدقه، وتتجدد الدلائل على أنه نبي، وبما يقع من أخبار وأحداث أخبر عنها صلى الله عليه وسلم قبل وقوعها، ولا يمكن أن يتوقعها بشر، ولا أن يقولها أحد إلا بعلم من الله تبارك وتعالى.
يقول: ومعلوم أن هذا يتضمن -يعني: كلام اليهود وأتباعهم- أعظم القدح والطعن في رب العالمين.
فقارن بين قول هؤلاء اليهود وقول إخوانهم من الرافضة، تجد القولين كما قال الشاعر:
رضيعي لبانٍ ثدي أم تقاسما بأسحم داج عووا لا نتفرقا
يعني: أبداً لا نتفرق، كأنهم أخوان رضعا من ثدي واحد وأقسما: أننا لا نفترق أبداً، يعني: القاعدة واحدة، ما يقال في حق اليهود يقال في حق الروافض.(103/19)
ما قدر الله حق قدره من نفى التحسين والتقبيح للعقل
ثم قال: (وكذلك لم يقدره حق قدره من قال: إنه يجوز أن يعذب أولياءه ومن لم يعصه طرفة عين، ويدخلهم دار الشقاء، وأن يثيب أعداءه ومن لم يطعه طرفة عين ويدخلهم دار النعيم، وأن كلا الأمرين بالنسبة إليه جائز، وإنما الخبر المحض جاء عنه بخلاف ذلك).
وهذا من إنكار الحكمة، فهو تابع لموضوع إنكار الحكمة أو إنكار التعليل.
لكن هنا أيضاً ملحظ آخر وهو أنهم يقولون: إن العقل لا يحسن ولا يقبح، فلو أن الله تبارك وتعالى -كما يقولون هم- أتى بأفضل الأولياء وأدخله النار فذلك جائز، وأتى إلى أعدى أعدائه وهو الشيطان وأدخله الجنة فذلك جائز عقلاً، لكن الشرع جاء بخلاف ذلك، فلولا أن الخبر الشرعي جاءنا لقلنا يحتمل هذا وهذا، تعالى الله عما يصفون! لا والله لا نعتقد ذلك، بل الله تعالى أعطانا من العقول ما نعرف أن هذا الأمر لا يليق به، إذاً: العقل له دخل في معرفة التمييز بين الحق والباطل، في معرفة الصواب من الخطأ من خلال ما يأتي في الوحي تفصيله وبيانه، ولهذا وصف الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه الرسول النبي الأمي الذي يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، قال تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] وهي تدل على منهج أهل السنة والجماعة ولا تدل على مذهب الأشاعرة وذلك لأن الله وكل إلينا معرفة الطيبات من الخبائث بعقولنا، ولو كان العقل لا يحسن ولا يقبح لما كان لهذه الآية أية دلالة.
وهذا دليل على أن الله سبحانه وتعالى فطر الناس، وركز في عقولهم قدراً يعرفون به الحق، فيأتي الشرع فيصدقه، ولو عرض عليهم دين آخر باطل محرف لما قبلته عقولهم، بل تقول عقولهم: لا يمكن أن يكون هو دين الله تبارك وتعالى.
يقول: قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:27 - 28] سبحان الله! هل يمكن هذا؟! كل الأمم اليوم إلا من عرف الله تعتقد ما نفاه الله، تعتقد أنه خلق السموات والأرض وما بينهما باطلاً، وأنه يجعل المتقين كالفجار والفجار كالمتقين، والمفسدين كالمصلحين، لأنهم ينكرون البعث والجزاء والحساب.
: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الجاثية:21 - 22] وقال: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36] لا يليق بالله تبارك وتعالى أن يجعل هؤلاء كهؤلاء أبداً.(103/20)
ما قدر الله حق قدره من كذب بالقيامة
إذاً: لم يقدر الله تبارك وتعالى حق قدره من زعم أنه لا يحيى الموتى، ولا يبعث من في القبور، ولا يجمع الخلق ليوم يجازى فيه المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ويأخذ للمظلوم فيه حقه من ظالمه، ويكرم المتحملين المشاق في هذه الدار من أجله وفي مرضاته بأفضل كرامته، ويبين لخلقه الذي يختلفون فيه، ويعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [النحل:38] انظر كيف ظن الكفار بالله، ظن السوء، أقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت {بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * لِيُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} [النحل:38 - 39] هذه حكمة عظيمة جداً، والأخرى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} [النحل:39] وكيف يعلمون ذلك؟! أولاً: ليبين لهم الذي يختلفون فيه مسلمين وكفاراً، الدماء يومياً تنزف في هذه الأرض منذ أن جعل الله تبارك وتعالى الحق والباطل، منذ أن خلق الله السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، وجعل جيشاً للإيمان وجيشاً للكفر جيشاً للتوحيد وجيشاً للشرك، جبهةً لأهل الطاعات وجبهة لأهل المعاصي، والمعارك قائمة في كل مكان، وفي كل بيت وكل مجتمع وكل قرية، ودماء تراق وتهدر.
خلاف كبير جداً، ألا يبين هذا الخلاف؟! سبحان الله، لا يليق هذا بالله! طيب! هناك ناس يقولون: إن المسيح هو الله، كل يوم ألف ومائتا لغة يترجم إليها الإنجيل، محطات إذاعية تقارب الألف محطة بجميع اللغات في العالم، تقول: الرب (يسوع) الإله المخلص ويأتي اليهود فيقولون: هذا ابن زنا، هذا كذا، تعالى الله.
فهؤلاء غلوا وهؤلاء كفروا من جانب التنقيص، والمؤمنون يقولون: سبحان الله! هذا عبد الله ورسوله، إذاً: خلاف كبير بين هذه الأمم الكتابية الثلاث الرسالات الثلاث الأديان الثلاثة في العالم، خلاف كبير جداً الآن، فمن يبين لو لم يكن هناك يوم قيامة؟ لو مات اليهود وهم يعتقدون أنهم على الحق، والنصارى وهم يعتقدون أنهم على الحق، والمسلمون يظلون على هذا الاعتقاد؟ والأجيال تمر وكل واحد يظن أنه على الحق، لكن يأتي يوم القيامة ليبين لهم الذي يختلفون فيه، تعالوا فيبين يوم القيامة فيقول: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116] هنا يظهر، عيسى نفسه عليه السلام، أأنت قلت؟ تعالوا يا إذاعات الإنجيل والتبشير، كل ما تقولونه وتزعمونه اسمعوا الجواب الآن من عيسى، والمسلمون الحمد لله يعلمون أنهم على الحق، واليهود يعلمون أنهم كاذبون: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} [النحل:39] وقس على ذلك.
إذاً: فمهما حلف الكفار وأقسموا جهد أيمانهم أنه لا يبعث الله من يموت: {بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [النحل:38] * {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} [النحل:39].
يأتي المشرك بالعظم فيفته ويقول: {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78] ويجيبه الله سبحانه وتعالى:: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:79] لكن لو ما أتى البعث بعد ذلك من يصبح الكاذب ومن يصبح الصادق؟ تختل الأمور والموازين، إذاً: هناك حكم عظيمة، فمن أحسن ظنه بالله، ومن قدر الله تعالى حق قدره آمن بها، أما من كان غير ذلك فإنه هو الذي يكفر بالبعث وبالحياة بعد الموت.(103/21)
ما قدر الله حق قدره من هان عليه أمره
قال: (وكذلك لم يقدر الله تعالى حق قدره من هان عليه أمره فعصاه).
كأن الشيخ ابن القيم رجع إلى موضوع الكتاب الأساس (المعاصي والعشق) لكن هو يأتي بالأشياء المهمة الأساسية ثم يأتي بهذه.
تقول: اتق الله يا أخي، هذا حرام! فيقول: هذا.
بسيط لا يضر تقول: يا أخي! اتق الله وصل! افعل كذا! يقول: ليس هناك مشكلة.
هان عليه أمره، هل قدره حق قدره؟ لم يقدره.
إذاً: ضيع حق الله وأهمل ذكره، غفل قلبه عن ذكر الله، آثر هواه وشهواته ورغباته، وأعرض عن طلب رضا الله، وأطاع المخلوقين وجعل طاعتهم عنده أهم من طاعة الله، يعني: جعل لله الفضل من قلبه وعلمه وقوله وعمله وماله.
إذاً القضية ليست أننا عصينا أو غفلنا، وإنما المشكلة من فعل ذلك وكلنا كذلك نسأل الله أن يرحمنا برحمته ما قدرنا الله حق قدره، لماذا؟ لأن له الفضلة من قلوبنا، والهم والتفكير في الدنيا، على السيارات والعمارات والزوجات والأبناء والوظائف.
قد يبتعث شخص خمس عشرة سنة للعلم ليس لله منها كلمة واحدة.
وكذلك يوجد أناس كل يوم يكتبون قصائد، مجلدات من الشعر ليس لله منها شيء، ومجالس وسهرات، يبدأ في الحكاية ويضحك الناس ويحكي لهم طوال الليل كل يوم، وليس لله شيء من هذا القول، يتكلم ويذهب ليس لله شيء، نسأل الله العفو والعافية.
وعمله كدح ليل نهار كم لله من هذا الكدح؟ لا شيء، يغضب لكن ليس لله، يرضى لكن ليس لله ينتقم لا لله؟ يثور لنفسه وشهواته، ماذا جعل لله؟! وماله: شهوة تمشية نزهة رحلة خرجة إلى آخره، خذ ما شئت من المال، لكن أعط عشرة ريالات لله، وإن أعطى لله فإنما هو الفضلة، مثلاً: لو نجح واحد من أولاده لأعطاه هدية، لو كان لاعب كرة من أولاده وأتى بهدف يعطيه سيارة أو مليوناً أو أي شيء، ولو واحد من أولاده حفظ جزءاً من القرآن أعطاه عشرة ريالات أو خمسين ريالاً.
إذاً: هل أنت تحسن الظن به؟! يقول: والله عندنا الرجاء نحن أمة محمد والله نحن نحسن الظن بالله يا شيخ ما أحسنت الظن به، من هذا حاله والله ما أحسن الظن بالله، ولا أحسن الرجاء، لو أحسن الظن لأحسن العمل، لو أحسنت الظن به لعظمت أمره ونهيه، ووقفت عند حدوده، وسعيت إلى مرضاته بكل طريقة، وكنت مع أوليائه، إن لم تجاهد أعداءه فكن محباً لأوليائه بقلبك.
يا إخوة! أناس يتفكهون في المجالس بالدعاة بالهيئة بالمقاومة سبحان الله! تحاربون أولياء الله الذي رزقكم وأعطاكم المال والمناصب والخير، فإن لم تكونوا مع أوليائه فلا تقفوا مع أعدائه، لكن الشيطان أعماهم وأصمهم، فهذا موقفهم من الله سبحانه وتعالى.
فلما كان الشرك أكبر شيء منافاة للأمر الذي خلق الله له الخلق، وأمر لأجله بالأمر الديني كان من أكبر الكبائر عند الله، وكذلك الكبر وتوابعه كما سبق، فإن الله سبحانه خلق الخلق، وأنزل الكتاب؛ لتكون العبادة والطاعة له وحده، والشرك والكبر ينافيان ذلك، ولذلك حرم الله الجنة على أهل الشرك والكبر، يقول الله تعالى في القرآن: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} [المائدة:72] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) لهذا كان أعظم وأكبر الذنوب.(103/22)
القول على الله بلا علم
قال: (ويلي ذلك في كبر المفسدة القول على الله بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله إلى آخره).
قال: (فهذا أشد شيء منافاة ومناقضة لكمال من له الخلق والأمر، وقدحاً في نفس الربوبية وخصائص الرب).
قلنا أن القول على الله من أعظم الذنوب ونستدل على ذلك بآية الأعراف؛ لأن الله تعالى يقول في الآية: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام:151] وبعد الفواحش الإثم والبغي، {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] إذاً: هذا أكبر، مرتبة حسب درجتها في العظم.
فإذا صدر ذلك عن علم فهو عناد أقبح من الشرك وأعظم إثماً عند الله، فإن المشرك المقر بصفات رب العالمين خير من المعطل الجاحد لصفات الكمال، كما أن من أقر بالملك للملك ولم يجحد ملكه، ولا الصفات التي استحق بها الملك، لكن جعل له شريكاً في الملك أو بعض الملك هذا خير ممن يجحد صفات الملك وينكر الملك بالكلية، هذا الفرق بينهما.
يعني: إذا كان القول على الله تعالى بغير علم صادر من عالم يعلم الحق، فهو أعظم الذنوب جميعاً، وهنا خصوصية ذلك، أن الذين يفترون على الله الكذب أكثرهم ممن يعلمون الحق، ويعلمون أن الله تعالى لا يليق به ما يفترون عليه من الكذب، فهؤلاء عارضوا أصل القضية ونازعوها.(103/23)
العبر من الحروب الصليبية [1، 2]
لم يجرؤ حملة الصليب على التطاول وتدنيس أرض المسلمين في حملاتهم الصليبية السابقة إلا بعد أن باتت الأمة تشكو جروح التفرقة في جسدها الداخلي، وخيانة الباطنيين وتعاونهم مع أعدائها لقتل قادة الجهاد وأمرائه، وكان من قدر الله أن هيأ لهذه الأمة نور الدين محمود الذي بدأ أولى مراحل الجهاد والنصر، والتي تكللت في النهاية بتحرير القدس على يد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله.(104/1)
مقدمة في كيفية بدء الحروب الصليبية
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وبعد: أيها الإخوة المؤمنون! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أشكر الله تبارك وتعالى الذي جمعنا بكم في هذه الليلة التي نسأله عز وجل من فضله وكرمه أن يجعلها طيبة مباركة، كما نشكر الإخوة القائمين على هذه القاعدة البحرية على دعوتهم، ومن كانوا سبباً في هذا الاجتماع الطيب.
لقد تحدثنا في لقاء سابق عن مستقبل العالم الإسلامي في ظل الحرب الصليبية الجديدة المتسترة بما يسمى: الوفاق الدولي، ووعدنا الإخوة الكرام أن نتحدث في هذا اللقاء عن بعض العبر والمواقف من الحروب الصليبية الأولى؛ لأن فيها معالم نحتذي بها إن شاء الله في مقاومتنا لهذه الحملة المعاصرة؛ ولأن فيها من العبر والعظات الشيء الكثير الذي قصرت عنه الأفهام أو العيون فلم يُطلع عليه، ونحن أحوج ما نكون إليه في هذه الأيام.
إن في إمكاننا -كما تعلمون- أن نقرأ أو نستعرض سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، أو تاريخ الصحابة الكرام، والفتوحات الإسلامية، وهذا أمر مطلوب وحق، والعبرة فيه عظيمة بلا ريب، فهي أعظم العبر، لكننا عندما نختار أن نأخذ مرحلة الحروب الصليبية بالذات؛ فإن ذلك له دلالته الخاصة من جهة أنها تحكي أو تشابه الواقع الذي نعيشه الآن، والمرحلة التي تحياها هذه الأمة في ظل هذه الهجمة الخبيثة الماكرة التي يستجمع الغرب فيها قواه مرة أخرى.
فما أشبه الليلة بالبارحة! إن المؤرخين يقولون: التاريخ يعيد نفسه، ونحن نقول: سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تحويلاً، هذه هي سنة الله تعالى في الأمم، وبالذات في الأمة الإسلامية، كل حياتها كرٌ وفر، وكل مواقفها إقبال وإدبار.
قبل ألف سنة بالضبط من الآن اجتمعت أوروبا شرقها وغربها وشمالها وجنوبها في غارة واحدة على العالم الإسلامي، جاءت الجيوش من بولندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، وما بقيت -تقريباً- قطعة في أوروبا إلا وتدفقت منها الجيوش استجابة لداعي تلك الحملة الهوجاء التي بدأها أول من بدأها البابا قريقور السابع الطاغية المشهور، ثم خلفه البابا أرذان الثاني ومعه المدعو بطرس الناسك.
بطرس الناسك هذا المشهور جداً في تاريخ الحروب الصليبية، ماذا فعل؟ لقد ركب حماراً وطاف به أرجاء أوروبا داعياً الأوروبيين إلى حرب صليبية دينية على المسلمين الذين انتزعوا منهم بيت المقدس، والذين يهينون الحجاج النصارى ويسيئون إليهم.
لقد رفع عقيرته بهذه الدعوة الخبيثة؛ فاستجابت له جموع من الوحوش الضواري، يعترف التاريخ كله شرقيه وغربيه أنهم كانوا مجموعات من الوحوش والرعاع والهمج الذين لا يضبطهم ضابط، ولا يردعهم رادع من خُلق أو دين، وإنما هو تعصب حاقد جمعهم فانسالت هذه الجموع وتدفقت إلى المملكة البيزنطية أو الإمبراطورية الشرقية، ومنها إلى بلاد الشام حيث بدأت تلك الحروب التي تسمى الحروب الصليبية، واحتلوا مواقع كثيرة أهمها -بلا ريب- القدس التي دانت وخضعت لهم قرابة قرن؛ حتى حررها الله سبحانه وتعالى واستنقذها بـ صلاح الدين الأيوبي.(104/2)
عوامل نجاح الحروب الصليبية
لن نطيل عليكم بالتفصيلات التاريخية، لكن لا بد أن نعرج على بعض الأمور التي نأخذ منها العبرة لواقعنا وحاضرنا.
أول ما يتبادر إلى الأذهان هو: كيف استطاعت هذه الجموع الهمجية أن تحتل العالم الإسلامي، وأن تأخذ أطهر وأقدس بقعة بعد الحرمين الشريفين؟! أين كانت الأمة الإسلامية؟! الواقع أن حال الأمة الإسلامية يرثى له، وأن السبب هو كما قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165].
السبب هو: أن هذه الأمة كانت تستحق أن تؤدب بالصليبيين، وأن تردع وتعاقب بأمثال هؤلاء؛ لكي ترجع إلى رب العالمين.
كيف كان حالها؟(104/3)
أولاً: العوامل الداخلية في جسم الأمة
أصبحت دولة السلاجقة ممالك موزعة ممزقة، وأصبح كل أمير يحسد أخاه، والإخوة أبناء السلطان الواحد يتقاتلون على الملك؛ حتى أنه بلغ الحال أن أي مدينة من المدن ولاسيما المدن الكبرى في بلاد الشام أو العراق أصبحت دولة أو سلطنة فـ حلب دولة، ودمشق دولة، والموصل دولة، وطرابلس أو غيرها كانت كل واحد منها عبارة عن دولة أو دويلة وهكذا، كل منطقة أو مدينة أصبحت دولة مع أن بعض السلاطين كانوا أبناء رجل واحد.
وكانت العلاقة بين هؤلاء السلاطين تحاسد وتباغض وشحناء، وانغماس في الشهوات والملذات كانت آثارها واضحة عندما قدم الصليبيون.
قد تستغربون -أيها الإخوة- إذا قلنا: إن الصليبيين الذين وصلوا منهم فعلاً إلى الشرق الإسلامي وإلى بلاد الشام كانت أعدادهم قليلة كان المقاتلون فقط بضعة ألوف من الفرسان والمشاة، ومع ذلك فعلوا ما فعلوا، معرة النعمان وحدها قتلوا فيها أكثر من مائة ألف من المسلمين، وغيرها من المدن كذلك.
وما كان ليحصل هذا إلا في ظل هذا التراخي والتحاسد، كثيرٌ من الحكام أول ما وصل الصليبيون إليهم مدوا أيديهم إليهم للتحالف معهم، وسلموا لهم القلاع والمدن بشرط واحد هو: أن يعترفوا بهم حكاماً على تلك المدن، وبعد أن اعترفوا ببعضهم واشتد ساعد الصليبيين أرادوا أن يحتلوها؛ فرضي أن يدفع لهم الجزية.
والأمثلة على ذلك كثيرة، نذكر منهم: صاحب حلب رضوان: هذا مشهور بموالاته للصليبيين، وللباطنيين أيضاً؛ حتى أنه كان في آخر أمره يدفع أكثر من عشرين ألف دينار من الذهب كجزية للصليبيين دون أن يتحد أو يتعاون مع أي إمارة من الإمارات الإسلامية، أو مع إخوانه السلاطين الآخرين لجهاد الصليبيين، وقد كانوا قادرين على ذلك.
وكذلك معين الدين أنر صاحب دمشق: وهذا رجل غريب جداً، كان يوالي الصليبيين ويحالفهم ويراسلهم بل، ويدلهم على عورات المسلمين، وهكذا أحداث طويلة يكفينا منها هذه الإشارات العابرة عنها.(104/4)
ثانياً: الفرق الهدامة الرافضة الحشاشون
بعد العوامل الذاتية في جسم الأمة المنتسبة إلى السنة نجد هنالك الفرق الخبيثة الهدامة، وهي تمثل في كل زمان ومكان الحربة التي تطعن من الخلف، والعدو اللدود المقيم الذي لا يأتي العدو الخارجي ويمشي إلا على جسر منه، وهم دول الرافضة دول الرفض، ومن ذلك دولة العبيديين الذين يسمون الفاطميين، وقد كانوا يحكمون مصر في تلك المرحلة وأجزاء من بلاد الشام، وكان التشيع يغلب على كثير من العالم الإسلامي في ذلك الوقت.
ماذا فعلوا؟ فعلوا ما يليق بـ الرافضة أن تفعله؛ حالفوا الصليبيين، وأمدوهم وراسلوهم، وكانوا عوناً لهم ضد المسلمين؛ حتى أن القدس المدينة المقدسة عند المسلمين كانت بيد السلاجقة السنة، الذين كونوا الإمارات في أنطاكيا وفي غيرها من بلاد الشام؛ وعندما قدمت الحملات الصليبية، جاء جيش العبيديين فاحتل القدس من السلاجقة وأخذها منهم، ولم يستطع أن يدخلها إلا بعد أن دك أسوارها، وحطم قلاعها وما حولها من الحصون، وكان ذلك تهيئة لأخذ الصليبيين لها؛ فعندما جاء الصليبيون لم يجدوا أي مقاومة من قِبل أولئك العبيديين الذين سلموا لهم القدس، وجاء الأهالي يريدون أن يدافعوا عن المدينة وإذا بها لا أسوار لها ولا حصون، وسلمها أولئك لقمة سائغة لهؤلاء المجرمين.
كذلك كانت العقيدة الرافضية منتشرة، وكان جزءاً منها تلك الفرقة الخبيثة الباطنية الذين كانوا يسمون بالحشاشين، وكان للحشاشين الباطنيين وجود قوي في وقت قدوم الحملة الصليبية، ثم كان لهم دور خبيث في تعطيل حركة الجهاد ضد الصليبيين، وفي الحروب الصليبية.
كان زعيمهم الخبيث المشهور الحسن بن الصباح صاحب قلعة ألمونت في بلاد فارس، ثم بهرامل الاسترباذي، ثم راشد الدين سمنان وغيره، كانوا زعماء كما ذكر المؤرخون وأجمعوا على ذلك، ولم يغتالوا شخصية واحدة من شخصيات الصليبيين ولا أميراً واحداً، وإنما كان غرضهم أن يقتلوا أمراء الجهاد المسلمين، وقد قتلوا من قتلوا، ومن أول من قتلوا وفتكوا به الوزير نظام الملك وزير السلاجقة المشهور.
ثم بعد ذلك لما تحركت مشاعر الجهاد عند الأمة الإسلامية، كان من أول من حركها السلطان مودود رحمه الله، كان من أوائل الذين حركوها، وهو يكاد يكون مغموراً -وما أكثر من هو مغمور في تاريخنا من أولئك الرجال- بدأ السلطان مودود ووصل إلى دمشق، وكان أول من بدأ المعارك وحطم أسطورة الجيش الذي لا يقهر، وأعاد للمسلمين الثقة في النصر، فعندما وصل إلى دمشق اغتاله الباطنيون في رمضان في الجامع الأموي بعد الصلاة.
ولهذا قال الصليبيون كلمة أصبحت مثلاً: أمة تقتل عميدها، في شهر عيدها، في بيت معبودها؛ حق على الله أن يبيدها.
الصليبيون أنفسهم لم يصدقوا أن هذه الأمة تغتال السلطان مودود في داخل المسجد، في رمضان وهو صائم من أجل أنه أراد أن يجاهد الصليبيين.
ثم اغتيلت بعد ذلك شخصيات أخرى، منهم على سبيل المثال: آغ سنقر، وقد كان له أيضاً دور وشأن في الحروب الصليبية، ومنهم: تاج الملك بوري الذي اغتيل (عام 526) عندما قرر وعزم أن يستخلص بانياس ويستردها.
حوادث كثيرة نرى فيها أنه في حالة وجود من يجاهد ويريد أن يرفع هذه الأمة إن لم يهزمه الصليبيون فإن أولئك المجرمين يغتالونه ويطعنونه من الخلف.
وكان الأذان يعلن في حلب وفي غيرها من مدن الشام ومصر والحجاز، والمغرب وأفريقيا كلها على الطريقة الرافضية، وكانت شعائر هذه الملة الخبيثة ظاهرة، وكان تعاونهم مع اليهود والنصارى ظاهراً، وقد ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مواضع كثيرة في منهاج السنة، كما ذكره ابن القيم رحمه الله في مفتاح دار السعادة، وغيرهما حيثما جاءت المناسبة لذكر هذه الأفعال القبيحة.
إذاً: عندما نجد واقع الأمة، ودور الرافضة العبيديين، وأيضاً دور الباطنيين وهم جزء من أولئك الروافض وخيانتهم؛ نجد أن الأمة وصلت إلى حالة من التردي لا تكاد تصدق.(104/5)
العبرة الأولى: المكان الذي يبدأ منه الجهاد
في هذه الظروف هيأ الله سبحانه وتعالى من عنده مَن يرفع لواء الجهاد على الصليبيين، هنا نأخذ عبرة وموقفاً: كيف بدأ الجهاد حقيقة؟ الأمر الأول: يذكر المؤرخون -ولا داعي للإطالة في النقول- أن أول ما ابتدأت الغيرة والحمية الإسلامية من الدعاة والأئمة في المساجد حين خطبوا في المساجد وفي كل مكان ومنها في بغداد؛ حتى إن العامة تظاهروا أمام الخليفة في بغداد، وأصبحوا يضجون ويقولون: لم لا نجاهد ولا نقاتل؟ ولماذا يفتك الصليبيون بإخواننا ويدمرون مدن الإسلام ونحن قاعدون؟ فقامت الدعوة أولاً من المساجد، وكانت دعوة جهادية قام بها العلماء والدعاة والخطباء.
الأمر الثاني: أن الدعوة قامت نقية من الولاءات المشبوهة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118].
من المستحيل لأي جيش جهادي أن ينتصر وفيه الخونة، أو وهو موال للخونة، وقد ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مواضع عندما أثنى على قادة الجهاد العظام؛ نور الدين وصلاح الدين، الذين سنستعرض إن شاء الله هذه الليلة سيرة الأول منهما.
ذكر رحمه الله في الجزء الثامن والعشرين من مجموع الفتاوى كيف أن الله سبحانه وتعالى أذل دولة الرافضة العبيديين في مصر؛ لأن وزراءهم كانوا من اليهود والنصارى من الأرمن وغيرهم؛ ولأنهم والوا الكافرين، فسلط الله تبارك وتعالى عليهم، كما قال الله عز وجل: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً} [النساء:144] جعلوا لله عليهم سلطاناً مبيناً بموالاتهم للكافرين؛ فأذلهم الله سبحانه وتعالى.
ثم قال رحمه الله وقد ذكر كيف استنجد المصريون بـ نور الدين: (ثم أرسل إليهم القائد المعروف صلاح الدين.
قال: وصلاح الدين وأهل بيته ما كانوا يوالون النصارى -يريد أن يبين سبب انتصارهم- ولم يكونوا يستعملون منهم أحداً في شيء من أمور المسلمين أصلاً).
لا يمكن؛ لأن من استشارهم فقد خان الأمة؛ ولأن من ولّاهم فقد أعز من أَمَر الله تبارك وتعالى أن يهان ويذل.
ولهذا يقول رحمه الله: (ولهذا كانوا مؤيدين منصورين على الأعداء مع قلة المال والعدد).
قال في الجزء الرابع صفحة (22): (وكذلك السلطان نور الدين محمود الذي كان في الشام -وهو الذي أرسل صلاح الدين وأسد الدين شيركوه إلى مصر - عز أهل الإسلام والسنة في زمنه، وذل الكفار وأهل البدع ممن كان في الشام ومصر وغيرهما من الرافضة والجهمية ونحوهم).
أول ما بدأت الدعوة وقام الجهاد -كما سنرى- كان على يد عماد الدين زنكي، ثم من بعده ابنه نور الدين محمود المعروف بالشهيد، وهذا الرجل سيرته من أعجب العجب في قمع البدع، وإظهار السنة والعدل؛ ولهذا نصره الله سبحانه وتعالى بعد أن اجتمعت عليه ملوك أوروبا.(104/6)
العبرة الثانية: نور الدين وصموده أمام الصليب
الحملة الصليبية الثانية جمعت أكثر من خمسة ملوك من ملوك أوروبا، وهم ملوك ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وغيرها، كما جمعت كثيراً جداً من الأمراء، ومن كبار رجال الدين، حملة عاتية واجهها نور الدين بماذا؟ كم كانت مملكته؟ كانت مملكة نور الدين جزءاً بسيطاً من شمال العراق وبلاد الشام، هذا كل ما كان يملكه نور الدين، ومع ذلك لما أن قام على هذه السيرة والسنة الحميدة نصره الله تبارك وتعالى نصراً مؤزراً؛ فما مات رحمه الله إلا وقد صار يملك كل بلاد الشام ومصر والحجاز وجزيرة العرب، وما بقي إلا الإمارات الصليبية، وأهمها إمارة القدس التي قدر الله أن يكون فتحها على يد قائده صلاح الدين؛ ولهذا يجب أن نقف عند سيرة هذا الرجل؛ لأنا عندما نتحدث عن نور الدين فنحن نتحدث عن الأمة مجتمعة، إذ كيف تحول من أمير لمقاطعة إلى أن يصبح سلطاناً كبيراً يهزم أوروبا كلها، لا بد من أخذ العبر من حياته ومن سيرته.(104/7)
ترجمة نور الدين بقلم الإمام الذهبي
اخترت لكم ما كتبه الإمام الذهبي مؤرخ الإسلام الثقة الثبت رحمه الله تعالى، لنستعرض بعض ما ذكره من حياة هذا الإمام القائد رحمه الله تعالى، يقول: (كان نور الدين حامل رايتي العدل والجهاد -ونِعم الرايتان- قلَّ أن ترى العيون مثله، حاصر دمشق ثم تملكها، وبقي بها عشرين سنة، وافتتح أولاً حصوناً كثيرة -وذكر حصوناً كثيرة جداً- وأظهر السنة بـ حلب وقمع الرافضة.
فهو الذي ألغى الأذان على طريقة الرافضة في حلب وما جاورها، ولهذا أراد الباطنيون أن يغتالوا بعض قواده، واغتيل بالفعل بعض من كانوا موالين له من الأمراء).
من أعظم أعماله: أسس العلم على العقيدة الصحيحة والعلم الصحيح، فأنشئت دور العلم، ويذكر المؤرخون أنه لما قدمت الحملة الصليبية الأولى كان عدد المدارس في بلاد الشام مدرسة واحدة فقط، وهي التي تسمى دار الحديث أو ما أشبهها، وهي عبارة عن كليات علمية أو مراكز علمية متكاملة، مثل المعاهد أو الكليات المتخصصة، وعند قدوم الحملة الصليبية في أيام صلاح الدين كان عددها أكثر من تسعين مدرسة.
إذاً: الأمة نهضت نهضة علمية ودعوية؛ ولهذا من حقها أن تنتصر بإذن الله سبحانه وتعالى، أنشأ نور الدين المارستان -المستشفى- ودار الحديث، والمدارس والمساجد، ومن العجب في حياته أنه كان يتعرض للشهادة، ويسأل الله سبحانه وتعالى دائماً أن يرزقه الشهادة، مع أنه لم يمت في معركة، كما سنرى إن شاء الله.
يقول كاتب سره أنه كان يسمعه يسأل الله أن يحشره من بطون السباع وحواصل الطير.
يقول الذهبي رحمه الله: (جهز جيشاً لجباً مع نائبه أسد الدين شيركوه؛ فافتتح مصر، وقهر دولتها الرافضية، وهربت منه الفرنج، وأباد العبيديين واستأصلهم، والحمد لله).
قال سبط ابن الجوزي رحمه الله: (جاهد -أي: نور الدين - وانتزع من الكفار نيفاً وخمسين مدينة وحصناً)، أي: أكثر من خمسين مدينة وحصناً انتزعها نور الدين في وقت يعتبر وجيزاً.
يقول ابن الأثير: (طالعت السير فلم أقرأ فيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن من سيرته، ولا أكثر تحرياً منه للعدل).(104/8)
عجائب من أخبار نور الدين
ذكروا أمثلة عجيبة من عدل هذا الرجل قال: (كان لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف إلا من ملك له قد اشتراه من سهمه من الغنيمة) أي: أنه جاهد وأخذ سهمه من الغنيمة من جملة المسلمين أخذه وأخذ ينميه فكان أحد مصادر دخله، وهو يملك هذه البلاد.
وكان له مصدر آخر عجيب للدخل، يقول سبط ابن الجوزي: (كان له عجائز -كان هناك عجائز يتعامل معهن- وكان يخيط الكوافي، ويعمل السكاكر -هذا السلطان نور الدين الذي يحارب ملوك أوروبا جميعاً- فيعطيها العجائز فيبعنها سراً ويفطر على ثمنها؛ لأنه كان كثير الصيام نافلة، فيفطر من القوت الحلال الذي تبيعه له العجائز؛ حتى لا يأخذ من بيت المال أي شيء، ومثل هذا جدير أن ينصره الله سبحانه وتعالى).
ومن عجائب أخباره: أن زوجته طلبت منه مالاً وألحت عليه، فتذكر أن من جملة سهمه من الغنيمة ثلاثة دكاكين له في حلب؛ فأعطاها إياها فقالت: لا تكفي ثلاثة دكاكين.
زوجة السلطان الذي يحكم ما يعادل الآن ست أو ثمان دول، قال: ليس لي إلا هذا، وأنا خازنٌ للمسلمين، لا أملك أي شيء.
قال: وكان يتهجد كثيراً، لم يترك في بلاده على سعتها مكساً.(104/9)
من تواضع نور الدين
ومن تواضعه رحمه الله أن أحد القواد أو المقربين إليه قال له في إحدى المعارك: بالله لا تخاطر بنفسك، فإن أصبت في معركة لا يبقى للمسلمين أحد إلا أخذه السيف! فقال: ومن أنا حتى يقال لي هذا؟ حفظ الله البلاد قبلي لا إله إلا هو! يقول: من أنا حتى إذا مت ضاع المسلمون؛ قد حفظ الله البلاد قبلي وبعدي.
انظروا إلى كيفية معرفة عظمة الله سبحانه وتعالى، وهيبة الله وجلاله.
ولهذا نجد شيئاً عجيباً عندما نستعرض شيئاً من موقفه من هذه القضية.
قضية التواضع، أعجب المسلمون إعجاباً شديداً بـ نور الدين محمود، وأخذوا يضجون في الدعاء له لما نصره الله، ولما أبطل المكوس والضرائب والعشور التي كانت تؤخذ من المسلمين، ولما رأوا عدله وجهاده وتمسكه بالسنة كانوا يلهجون له بالدعاء في رمضان وغيره.
قال: وكانوا إذا دعوا له يطيلون في الدعاء، فيمدحونه بما ليس فيه؛ فغضب، وقال: إن خطباء المساجد يبالغون في الدعاء لي؛ فجمع المقربين له وقال لهم: لا بد أن تعدلوا هذا، فكتبوا له صيغة، وكلما وضعوا صيغة يخففها؛ حتى اتفقوا على صيغة واحدة فقط يدعى له بها في المساجد وهي: (اللهم أصلح عبدك الفقير إلى رحمتك، الخاضع لهيبتك، المعتصم بقوتك، المجاهد في سبيلك، المرابط لأعداء دينك، أبا القاسم محمود بن زنكي بن آغ سنقر ناصر أمير المؤمنين)؛ لأنه يدافع نيابة عن الخليفة.
فقط لا يزاد في الدعاء على هذه الصيغة، ولا داعي للمديح والاستطراد فيما لا خير فيه.
ولما قيل له في ذلك وعوتب قال: مقصودي ألا يكذب على المنبر، فأنا بخلاف كل ما يقال، أفرح بما لا أعمل.
يقول: لا أحب أن أحمد بما لم أفعل؛ لأن من قلة العقل أن يقولوا: فتح وجاهد وفعل، وأنا ما فعلت، يقول: تكفي هذه الصيغة.
اكتب بها نسخاً حتى نصيرها إلى جميع البلاد.
ثم قال: ثم يبدءون بالدعاء: اللهم أره الحق حقاً، اللهم أسعده، اللهم انصره، اللهم وفقه يقول: دع الناس يدعون فقط من جنس هذا الدعاء، أما المدح والثناء فأنا لا أريده، ومن قلة العقل أن أدعهم يثنون علي بما ليس فيّ أو بما يغرني ويفتنني.
ولهذا يقول الحافظ الذهبي رحمه الله: (كان ديناً تقياً، لا يرى بذل الأموال إلا في نفع، وما للشعراء عنده نفاق).
لا ينفق عنده سوق الشعراء الذين كانوا يمدحون من قبله ومن عاصره من الملوك والسلاطين، فيحشو فم الشاعر باللآلئ والتي يبلغ ثمن اللؤلؤة الواحدة عشرة آلاف دينار.
لا سوق لهم كما كان عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه.
ولهذا قال فيه أسامة بن منقذ:
سلطاننا زاهدٌ والناس قد زهدوا له فكل على الخيرات منكمش
أيامه مثل شهر الصوم طاهرة من المعاصي وفيها الجوع والعطش
يقول: نحن الشعراء نعتبر أيام الخليفة نور الدين مثل أيام رمضان، طاهرة من المعاصي، لكن فيها الجوع والعطش، الشعراء لا يجدون سوقاً، سواء قالوا القصائد أو لم يقولوا؛ فالأموال تذهب للجهاد.
وهنا نقف وقفة: أسامة بن منقذ هذا كان فيه نوع من الموالاة للصليبيين، وكان يحب الدنيا؛ حتى إنه ذهب مع معين الدين أنر الذي كان في دمشق موالٍ للنصارى، وكان سفيراً بينه وبين الصليبيين، وكثير من الشعراء والكتاب في كل زمان ومكان يبيعون دينهم، ويخونون أمتهم مقابل شيء من المال أو الشهرة، نسأل الله العفو والعافية.
هناك موضوع يتعلق بالرياضة نؤخره قليلاً؛ لأنكم قد تستغربون أن السلطان نور الدين محمود كان له اهتمام بالرياضة، فنؤجل هذا الموضوع؛ حتى نتعرض لمسألة العدل الذي اشتهر به هذه السلطان.(104/10)
تحكيم نور الدين لشرع الله
كان نور الدين عند ملوك الترك، وتربى على أيديهم، والذي رباه مودود رحمه الله الذي قتل في المسجد، ثم كان ابنه نور الدين، فهم تربوا على نفس التربية، وكان عند ملوك الترك شيء يسمى الياسق، وهو عبارة عن قوانين وضعية، وأكثرها قوانين عسكرية، وهي تطبق على الرعية دون الرجوع إلى الشرع وإلى القضاة، عرف اتخذ وأصبح شرعاً.
وفي أيام التتار ظهر ذلك وطغى، حتى أن شيخ الإسلام رحمه الله أفتى بوجوب قتال التتار؛ لأنهم لا يتحاكمون إلى دين الله وإنما يتحاكمون إلى الياسق.
يقول المؤرخون: انتشر الفساد، وقطع الطريق؛ فجاء قواد الجيش وقالوا لـ نور الدين: لابد أن تطبق الياسق أو تأخذهم بنوع من السياسة -كما تسمى أحياناً- فقد كثر الدعار وأصحاب الفساد، ولا يجيء من هذا شيء -أي: لا يزول هذا- إلا بالقتل والصلب، ثم قالوا لرجل يسمى الشيخ عمر الزاهد وكان من العباد، وكان يحبه -وهذه من المظاهر العجيبة في سيرة نور الدين أنه كان يحب العلماء والزهاد والعباد جداً- اكتب لـ نور الدين في ذلك؟ فكتب الشيخ عمر قائلاً: إن الدعار والمفسدين وقطاع الطريق قد كثروا، ومثل هؤلاء لا يجيئوا إلا بقتل وصلب وضرب، وإذا أخذ مال إنسان في البرية من يشهد له.
أحياناً العلماء قد ينافقون أصحاب السلطة، لكن السلطان العادل لا يقبل هذا النفاق.
العالم كتب إلى السلطان يقول: إذا إنسان أُخذ ماله في البر، وذهبنا به إلى المحكمة فإن القاضي يريد شهوداً، ومن أين له شهود على ما يقول؟ فتضيع الحقوق، فلا بد أن يؤخذ الناس بالظنة وبالتهمة، ويطبق عليهم قانون الياسق، فلما قرأ نور الدين الكتاب قلبه، وكتب على ظهره: إن الله تعالى خلق الخلق، وهو أعلم بما يصلحهم، وإن مصلحتهم تحصل فيما شرعه على وجه الكمال فيها, ولو علم أن على الشريعة زيادة في المصلحة لشرعها، فما لنا حاجة إلى زيادة على ما شرعه الله تعالى.
فلما وصل الكتاب إليه في الموصل جمع الشيخ عمر أهل الموصل فقرأ الكتاب عليهم، وقال لهم: انظروا في كتاب الزاهد إلى الملك، وكتاب الملك إلى الزاهد.
انظروا كيف أن الزاهد يكتب له يأمره بغير الحق، والملك يكتب فيذكر العالم بضرورة اتباع الحق.
وكان نور الدين يقرب الفقهاء والقضاة والعلماء، وأخباره بذلك مشهورة، ولم يكن لأهل اللهو واللعب واللغط في مجلسه أي مكان، وكان كلما دعي أو طلب إلى قضية يتمثل قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51].
ومرة حصلت له واقعة، وجاء رجل وشكاه إلى القاضي؛ فأمر القاضي أن يعامله كما يعامل أحاد الناس، وذهب إلى القاضي متمثلاً بهذه الآيات، وجلس حتى أصدر القاضي حكمه، وحكم له، فقال: أما وقد ظهر أن الحق لي، وقد حكمت وفق الشرع، فأنا قد وهبته لذلك الخصم.
سيرة عجيبة!(104/11)
نور الدين وموقفه من المكوس والعشور
تكاثر الصليبيون وتكاثرت الأمم الغربية من كل مكان تمول هذا العدوان على العالم الإسلامي، وكان نور الدين محمود يعيش في قلة -كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله- من العدد والمال.
ماذا يصنع نور الدين؟ يحتاج إلى المال، والجهاد لا بد له من المال، ووجد أن من قبله كانوا يأخذون الضرائب المكوس العشور من الرعية المسلمين، ويجمعونها ليجاهدوا بها الصليبيين، والمعارك تكون خاسرة ولا يوجد نصر، وأحياناً نصر وأحياناً هزيمة، فما رضيت سيرته المتأسية بالخلفاء الراشدين هذا الأمر.
وكان يرى أنه لابد من إبطال هذه المكوس والضرائب، فأمر بإبطالها جميعاً، وكتب إلى جميع البلاد والقرى والأمصار أنه قد ألغاها إلغاءً أبدياً، وأنه يطلب من كل الخطباء في دولته من فوق منابر الجمعة أن يطلبوا من المسلمين جميعاً أن يسامحوه على ما أخذ منهم فيما مضى، وأن يستغفروا الله تعالى له من ذلك.
وكان يقوم الليل ويبكي كلما تذكر ذلك، ويقول: اللهم ارحم العشار المكاس.
ويبكي ويقنت؛ لأنه كان يأخذ العشور والمكوس من المسلمين، ولما أمر بذلك قال له قادة جيشه وأركان حربه: إن فعلت ذلك لم يبق لنا شيء نجاهد به الصليبيين.
فقال لهم: إن كان الجهاد لا يأتي إلا من هذا المال الحرام فلا نريد الجهاد.
قالوا: إنك إن لم ترد الجهاد أنت جاهدك أعداؤك.
قال: لا نجاهدهم إلا بالحلال، والله تعالى هو المستعان.
فألغى ذلك كله، فكانت النتيجة أن الله سبحانه وتعالى نصره، وبارك له في القليل الذي أعطاه.
يقول الإمام الذهبي رحمه الله: (أسقط المكوس في بلاده، وقد ذكرته في تاريخنا الكبير مفصلاً، ومبلغه في العام: خمسمائة ألف دينار وستة وثمانون ألف دينار وأربعة وسبعون ديناراً من نقد الشام)، انظروا إلى هذه المبالغ الباهظة التي أسقطها لما علم أنها حرام، ولم يستعن بها في الجهاد، ليس لم يستعن بها على شهواته أو ملذاته؛ بل حتى في الجهاد يقول: لا نصرف في الجهاد إلا ما كان حلالاً.
ويذكر صاحب البرق الشامي أنه كتب أكثر من ألف منشور إلى الرعية من أجل هذه المسألة.(104/12)
تأسي نور الدين بالنبي صلى الله عليه وسلم
كان نور الدين رحمه الله يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم في أمور كثيرة، يقول المؤرخون: كانت تُقرأ عنده السيرة والعلم، فقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج للحرب متقلداً السيف، أو معلقاً إياه في حمائل تدور حول الرقبة كأنها القلادة.
قال: سبحان الله! ولماذا نحن نحزم السيوف في حزام ونجعلها في الوسط؟ فأمر أفراد جيشه أن يغيروا الأحزمة، وأن يلبسوا السيوف كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يلبسونها؛ لعل الله ينصرنهم، كان يريد أن يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى في هذه الأمور، وذلك بغية أن ينصره الله سبحانه وتعالى، وقد نصره الله سبحانه وتعالى، وجدير بمثله أن ينصر؛ لأنه على هذه الحالة.
يقول المؤرخون: كان قد أقبل يعد للجهاد آلته مما آتاه الله، ونشط في البناء والتعمير؛ حتى أنفق فيهما مئات الألوف، وقد أعانه على ذلك أنه لم تكن له نفقات قصور ولا خدم ولا حشم ولا جوارٍ، ولا مجالس أنس تملأ أفواه الندامى فيها بالدر والدنانير جوائز على أبيات من شعر الملق السخيف، وإنما كان يبني المدارس والمساجد والمستشفيات، ويقيم أسوار المدائن وقلاعها إلى آخر ما ذكروه.(104/13)
رياضة نور الدين
هذا الرجل العجيب كان لديه رياضة، ولكن ما نوع الرياضة التي كانت عند نور الدين؟ رياضة للتخدير، أو لتفريق الأمة وتمزيقها، والتشتيت حتى بين الزوجين؟ لا.
إنها رياضة من نوع خاص، ومع ذلك انتقد فيها وأجاب عنها رحمه الله، يقول عنه سبط ابن الجوزي: (لم يلبس نور الدين حريراً ولا ذهباً، ومنع بيع الخمر في بلاده، وكان كثير الصوم، وله أورادٌ في الليل والنهار، ويكثر اللعب بالكرة).
كيف يجتمع هذا الوصف؟! لم يلبس الذهب ولا الحرير، ومنع الخمر بل ومن العجائب أن ابن نور الدين رحمه الله توفي وعمره أقل من عشرين سنة بسبب مرض أصابه يسمى (القولنج)، فأصر عليه الأطباء أن يشرب الخمر، وقالوا: لا علاج لك إلا أن تشرب الخمر، فقال: والله لا أشربها، وأبى أن يشربها ويعصي الله.
فجاءوا له بفقيهين أحدهما شافعي والآخر مالكي، وقالا له: لا بأس أن تشربها -ضرورة- فأقسم أنه لا يعصي الله سبحانه وتعالى، ولا يموت وفي جوفه شيءٌ مما حرم الله، وتوفي رحمه الله.
هذا ابن نور الدين، فكذلك كان أبوه، نقول: مع هذه السيرة كان يكثر اللعب بالكرة، كيف يلعب بالكرة؟ وما نوع هذه الكرة؟ كانت نوعاً من أنواع الرياضة تشبه (الجولف)، عبارة عن كرة ترمى ويستقبلها الناس بصولجان وما أشبه ذلك، كانوا يستخدمون فيها الخيول ويلعبون بها، وكان نور الدين محمود رحمه الله يركب الفرس هو وجيشه ويلعبون هذه الكرة، فلما أنكر عليه وقيل له: كيف تفعل ذلك؟ قال: والله ما أقصد اللعب، وإنما نحن في ثغر، فربما وقع الصوت -ربما نادى المنادي للجهاد- فتكون الخيل قد أدمنت الانعطاف والكر والفر، أي: نكون مستعدين للجهاد، هذا هو اللهو وهذا هو الحق كما ذكر صلى الله عليه وسلم: أن كل لهو يلهو به المسلم باطل إلا ثلاثة ومنها: أن يكون الإنسان ملاعباً فرسه ليجاهد في سبيل الله عز وجل.
حتى إن ابن كثير رحمه الله يثني على قوته، يقول نقلاً عن ابن واصل: (كان من أقوى الناس قلباً وبدناً، لم ير على ظهر فرسٍ أحدٌ أشد منه، كأنما خلق عليه لا يتحرك، وكان من أحسن الناس لعباً بالكرة، يجري الفرس ويخطفها من الهواء ويرميها بيده إلى آخر الميدان، ويمسك الجوكان بكمه تهاوناً بأمره، وكان يقول: طالما تعرضت للشهادة فلم أدركها).
يتأسف! قال الذهبي رحمه الله: (قلت: قد أدركها على فراشه، وعلى ألسنة الناس نور الدين الشهيد)، سبحان الله! اسمه نور الدين الشهيد في التاريخ، مع أنه مات على فراشه، فيقول الذهبي رحمه الله تعالى: (فلعل هذا إن شاء الله فألٌ حسن له)، وقد أدركها على فراشه بماذا؟ بتمنيها وبالسعي إليها؛ لأن (من تمنى الشهادة وهو صادق أعطيها وإن مات على فراشه) كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فتمنى الشهادة في سبيل الله فأعطيها.(104/14)
العبرة من حياة نور الدين
لا أحب أن أطيل عليكم في سيرة هذا الرجل، فهي سيرة عجيبة، وجدير بنا أن نقرأها ونتأملها، وما ذكرت منها إلا موجزاً، وإنما نريد أن نصل إلى العبرة النهائية، أن هذا الرجل الذي افتتح إمارات الصليبيين، ثم رزقه الله سبحانه وتعالى بقائده صلاح الدين، فأكمل فتحها بعد حطين، وقضى على أوروبا التي اجتمعت عليه، هذه كانت صفت، وهذه كانت صفت الأمة التي كان فيها.
وهكذا جمع الله تبارك وتعالى بمثل هذا الرجل الأمة بعد الفرقة والشحناء، جمعها على السنة بعد البدعة، فقمع دولة الرافضة وقهرها كما رأيتم من كلام العلماء رحمهم الله، وأزال البدعة من الأذان ومن غيره، وأعاد تدريس الحديث والسنة في المساجد، وقرب العلماء والفقهاء، ومكن للشرع والقضاة، وقطع دابر الدعارة والفساد، ومنع بيع الخمور والزنا وكل ما يتعلق بهما، وكان شديداً في الإنكار على أهلها قوياً عليهم، فلما كان كذلك، طهر البلاد من الفساد ومن أكل الحرام، ومن المكوس والربا، وأمرها عظيم؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم لما تكلم في المرأة التي زنت ورجمها الصحابة الكرام قال: (لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لقبل منه أو لغفر له).
دليل على أن المكس أعظم من الزنا، والربا كذلك، كما روى الإمام أحمد رحمه الله في الحديث الصحيح: (درهم ربا أشد من ست وثلاثين زنية) والعياذ بالله، فالربا والمكوس والضرائب وأكل الحرام عموماً سواء للأمم أو للأفراد يباعد النصر، ويدمر الأمة، ويحول بينها وبين وعد الله تبارك وتعالى لها بأن تغلب أعداءها، وأن تهزمهم.
وقد قضى على ذلك كله، فنصره الله سبحانه وتعالى نصراً مؤزراً، وأبقى ذكره، وإن كنا نحن المسلمون -مع الأسف- في غفلة عن ذكره، لكن أبقى الله تبارك وتعالى ذكره عند المطلعين، وهو عند الغربيين أذكر وأشهر.
والمؤرخون الصليبيون كانوا يعجبون من سيرته؛ حتى إن أحد ملوك الصليبيين قال: ما غلبنا من ملوك المسلمين إلا نور الدين، وما غلبنا بكثرة جيوشه، ولكنه كان يعبد الله ويقوم في الليل يدعو علينا.
نعم هذا هو.
يدعو الله، ويجاهد في سبيل الله، ويطهر البلاد من الفساد، ويجمع الأمة على الحق، وعلى الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، ولم يكن وحده بل كان معه العلماء الذين كانوا ينصحونه، والقضاة الذين أجلسوه وحاكموه مع الرجل كما يحاكم أي إنسان، وكان معه القواد أيضاً الذين كانوا يضحون ويجاهدون كما جاهد، ومنهم: صلاح الدين رحمه الله، فهو ليس رجلاً وحده، وإنما هي -كما قلت- أمة متجسدة في سيرة هذا الرجل، فهزم الله تبارك وتعالى الصليبيين في الحملة الأولى.
ولا نستطيع أن نستعرض سيرة صلاح الدين ولعل الله سبحانه وتعالى أن يتيحها في موعد آخر إن شاء الله، ولكن نقول: حسبنا بهذا الذي بدأ هذه البداية، وأن الله تبارك وتعالى قد هزم الغرب مجتمعين، فأظهر دينه، وهزم الأحزاب وحده سبحانه وتعالى على يد هذا الرجل.
فالعبرة قائمة، وتاريخه موجود، وجدير بنا أن ندرسه بعناية، لا كما هو موجود في مناهجنا، نور الدين ولد عام كذا، وتوفي عام كذا، وفتح الرها، وحارب الصليبيين، ووصل إلى دمشق، هذه السيرة، أي واحد يمكن أن يسردها، لا.
لا بد أن نعرف لماذا انتصر؟ لماذا قرابة قرن من الزمان والمسلمون في ذل وانحطاط، ولماذا انتصر هذا الرجل؟ وكيف كانت الأمة علمياً ودعوياً وجهادياً، وقبل ذلك كيف كانت عقائدياً، لما تحولت من البدعة إلى السنة، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن الشهوات والملذات والجواري والترف والقصور والحشم إلى الجهاد، أكثر حياة صلاح الدين ونور الدين كانت في الخيام، كانوا يجاهدون في سبيل الله عز وجل، لما فعلوا ذلك نصرهم الله سبحانه وتعالى، وإن وعد الله سبحانه وتعالى لا يتخلف {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122].
فكل من استحق نصر الله، وهيأ نفسه له؛ فإن الله تعالى ينصره، بل ويمده بجند من عنده، نسأل الله تبارك وتعالى أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، وترفع فيه راية الجهاد في سبيل الله.(104/15)
الأسئلة
.(104/16)
السبب في اختلاف الحملة الصليبية الحالية عما سبقها
السؤال
نشهد في العصر الحاضر هجمة صليبية علينا ولكنها مختلفة جداً عن الحملات الأولى، فما السبب في ذلك؟
الجواب
نعم.
هذا صحيح فإن المعركة تغيرت، وسبب تغير المعركة التي نخوضها الآن المتغيرة في الشكل هو الحروب الصليبية الأولى، في الحقيقة نستطيع أن نقول: إنها ثلاث حملات للصليبيين على بلادنا، بل إن أطول معركة في تاريخ الإنسانية هي معركة المسلمين مع النصارى؛ لأنها تمتد منذ بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وجهاده للروم هو وقواده من الصحابة إلى قيام الساعة.
الحملة الأولى التي كانت كما ذكرنا، فصدها نور الدين وصلاح الدين، الحملة الثانية التي يسمونها الاستعمار وقد أعادت ذكريات الحملة الأولى، دخل قائد الجيش الفرنسي الجنرال قورو إلى دمشق، فقال: دلوني على قبر صلاح الدين، لماذا؟ قال: نريده.
فلما ذهب إلى قبر صلاح الدين أخذ يركله بقدمه، ويقول: ها نحن قد عدنا يا صلاح الدين! بعد حوالي ألف سنة يجددون ذكرى الحروب الصليبية.
الجنرال اللمبي قائد الجيش الإنجليزي الذي دخل القدس ومعه العرب الذين ألبهم، والذين كانوا من أتباع العميل لورانس وأصحابه، دخلوا مع اللمبي القدس واحتلها، ووقف على جبل الزيتون وقال: الآن انتهت الحروب الصليبية، أعاد ما كان قبل ألف سنة أيضاً، كانت هذه النزعة موجودة لديهم بوضوح.
أما الحملة الصليبية الثالثة وهي أخطر الحملات، فهي التي سيشهدها العالم الإسلامي عما قريب؛ لأن النوع فيها مختلف تماماً، وهي تأخذ العبرة من الحملتين.
أما من الحملة الأولى؛ فلأن لويس التاسع الذي أسر في المنصورة في مصر متأخر عن أيام صلاح الدين رحمه الله كتب وصية للأوروبيين الصليبيين النصارى، وقال: إننا لن ننتصر على المسلمين ما داموا متمسكين بدينهم، وإن أقوى عامل في نصرهم هو دينهم.
فقال: يجب علينا أن نبعدهم عن دينهم، وأن نستعين بالفرق المنشقة، وبنصارى الشرق، المهم ركز على وصية مهمة وهي: إبعاد المسلمين عن دينهم، ومضى على هذه الوصية ثمانمائة سنة تقريباً، وإذا بالمستعمرين -كما يسمون- يعيدونها.
الحرب الصليبية الثالثة القادمة سوف تكون أعتا، وسوف تكون غزواً فكرياً؛ لأنها عن طريق التسلط الثقافي والفكري تريد أن تمسخ هذه الأمة، والحقيقة أن الحرب الصليبية القادمة لن تكون معركة غالب ومغلوب كما كانت الحروب القديمة، وإنما هي معركة وجود أو عدم؛ لأنها ستكون مسخاً كلياً للأمة، شهوات وإباحية، وتفتيت للعقيدة بالمذاهب، وبلبلة بالإلحاد والفساد نتيجة التسلط الاقتصادي والفكري عن طريق البث المباشر والأقمار الصناعية، والتلفزة والتقنية الحديثة، وغسيل المخ الذي سوف يمارس بشكل كبير على الأمة، وليس على أفراد منها.(104/17)
حرب صليبية قادمة
السؤال
نرى -أثابكم الله- أن العالم الإسلامي كان في حالة من النوم والغفلة؛ حتى قامت الحروب الصليبية في القرن السادس الهجري، وبعد هذه الحرب نهض المسلمون واهتموا بالعلم والجهاد فنصرهم الله، فهل ترى أن العالم الإسلامي الآن في انتظار حرب عالمية صليبية تعيد إليه عقله؟
الجواب
نعم.
الحرب قادمة ولاشك فيها، بعدما يقارب عشرين شهراً فقط أو قريب من ذلك، تكون أوروبا دولة واحدة، وتبدأ الحملة التي لم يسبق لها مثيل، وإن كانت في أساليب وأشكال مختلفة، وستعيد إن شاء الله للمسلمين رشدهم وصوابهم بإذن الله، وما علينا إلا أن نكون من السباقين إلى هذا الجهاد الكبير الذي سوف ينصر الله تعالى فيه دينه، ولا ريب في ذلك، لكن المعركة قد تطول، وقد يلاقي المسلمون من واقعهم السيئ المرير أضعاف ما يلاقونه من الأعداء الخارجيين، مثلما لاقى وعانى مودود الذي قتل وهو صائم في رمضان؛ لأنه جاء يجاهد الصليبيين؛ حتى عرضوا عليه أن يفطر، فقال: والله لا أفطر حتى مات وهو صائم.
فعانى وعانى من بعده عماد الدين والد نور الدين، أتدرون كيف قتل؟ ما قتله الصليبيون، ولكن أوغروا عليه بعض حرسه وقتلوه، وهكذا نور الدين قيل: إنه قد سم، فالمعاناة من واقع الأمة المرير ستكون أشد، لكن إذا صح هذا الواقع على عقيدة مستقيمة، ودعوة قويمة، واجتماع كلمة المسلمين عليها بإذن الله؛ فإن النصر حق ولا بد، بإذن الله تعالى.
والله أعلم وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه وسلم.(104/18)
معنى المكوس
السؤال
ما معنى كلمة المكوس التي ذكرتها في المحاضرة؟
الجواب
المكوس: هي الضرائب أو أشبه ما تكون بالجمارك، وكما ورد في الحديث: (إنما المكوس على اليهود والنصارى) أو (إنما العشور على اليهود والنصارى) وإن كان في سنده مقال، لكن تطبيق واقع الصحابة رضي الله عنهم والخلفاء الراشدين حق ثابت في ذلك.
كان عمر رضي الله عنه يسمح ويأذن لأهل الذمة أن يأتوا إلى بلاد المسلمين ويؤخذ عليهم العشور حتى يبيعوا ما عندهم من بضائع، فيستفيد المسلمون منهم بيع البضائع ويأخذون منهم العشور مقابل ما يأخذون هم أيضاً على تجار المسلمين.
أما المسلم لا يحل أن يُأخذ منه عشرٌ ولا مكس ولا ضريبة، وإنما جعل الله تبارك وتعالى الزكاة وفيها الكفاية، وجعل الغنائم والفيء، ومصادر بيت المال المعروفة فيها الكفاية لإصلاح حال المسلمين بإذن الله، ولهذا أبطلها نور الدين رحمه الله.(104/19)
مطالبة باشتمال المقررات الدراسية على السير الصحيحة
السؤال
أنتم -كما أعرف- أحد المسئولين عن تطوير مناهج التعليم في المرحلة الثانوية والمتوسطة، لماذا لا تُضمن هذه السير الصحيحة والدروس المستفادة من الحروب الصليبية وغيرها وتدرَّس للطلاب؟
الجواب
أنا لست من المسئولين عن التطوير، أنا كنت عضواً في لجنة التأليف، وشاركنا في بعض المقررات، ولا يخفى عليكم -ليس سراً- أن مادة الفِرق نشرت وقررت ودرست وبعد أن اكتمل الكتاب ألغي المقرر، وبقي مقرر التوحيد الآخر هذا في الثانوية، أما المتوسطة فليس لنا فيها دخل، وهذه المناهج مناهج تاريخ أكثر من كونها مناهج عقيدة وهذا لا يمنع.
أقول: يجب علينا وعليكم أن نكتب إلى لجنة التطوير التربوي بوزارة المعارف بإدارة التطوير التربوي ونحثها على أن يكون التاريخ كذلك، والحقيقة والحق يقال أن المنهج الموجود الآن أفضل بكثير جداً مما كان في الثانويات أيامنا، وأيام بعض الإخوان الذين كانوا قريباً من دفعاتنا، فنحن كنا نقرأ تاريخ أوروبا، حيث كان المقرر تاريخ أوروبا حتى في المعاهد العلمية، أشغلونا بتاريخ أوروبا، فكان التاريخ موجزاً سهلاً في صف أول ثانوي وبعد ذلك تاريخ أوروبا وباسمرت وحرب السبعين والإنجليز، وسيطرة شركة الهند الشرقية كلام فارغ ليس لنا فيه أي دخل.
الحمد لله الآن أفضل، ونسأل الله أن يتحسن.(104/20)
حكم محبة وتقليد النصارى
السؤال
قلت: إن أسرة صلاح الدين كانت تكره النصارى كما قال ابن تيمية رحمه الله، وفي زماننا هناك من يحب النصارى ويقلدهم في كل شيء، ويعجب بهم أشد الإعجاب، فهل حبهم وولاؤهم من نواقض الإيمان؟
الجواب
لا يجتمع في قلب مسلمٍ محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم مع محبة أعداء الله النصارى، الذين يسبون الله تبارك وتعالى كل حين بما لم يسبه به أحدٌ من العالمين وهي قولهم: إن لله ولداً (يسبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك) كما في الحديث، يسبون الله كل حين حيث يقولون: إن لله ولداً، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، هؤلاء من يحبهم؟ الذين يقولون: إن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس بنبي، إنما هو عبقري ومصلح سياسي، وداعية من دعاة القومية العربية إلخ، هؤلاء لا يواليهم مسلم، ولا يحبهم مؤمن، ولا يقلدهم من يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقومٍ فهو منهم) فهذا الحديث له مدلولان لنا وعلينا، فالأول: تشبهوا بالصحابة والصالحين والمتقين المجاهدين تكونوا منهم وعلى طريقتهم إن شاء الله، والثاني: إن تتشبهوا باليهود والنصارى وأعداء الله المجرمين تكونوا منهم عياذاً بالله.(104/21)
اضطهاد روسيا للدول الإسلامية
السؤال
دولة روسيا في هذه الأيام تشهد تفككاً في بعض دويلاتها، هل هذا الأمر إشارة إلى نصر الله، أم أن هذا الأمر مدروس ومدبر له؟
الجواب
هذا الأمر له أسباب بلا شك، ولا نريد أن نطيل فيه؛ لأن الوقت ليس مناسباً، لكن يهمنا أن نقول: انظروا لتعرفوا خطر الحملة الصليبية القادمة، تأملوا كيف تعامل الكرملن وغورباتشوف مع لتوانيا وكيف يتعامل مع الجمهوريات الإسلامية؟! فهناك يتعامل بالديمقراطية والانفتاح عن طريق البرلمان والحل السلمي، وأما في المناطق الإسلامية فالدبابات تدك المدن دكاً؛ لأنها حاولت أو أرادت أن تطالب بشيءٍ من الاستقلال، ومعنى ذلك أن الحرب الصليبية لن ترحم المسلمين، بل لهم حساب آخر ومعيار آخر.
أما أنه تقويض لهذه الإمبراطورية العاتية فنعم، ونرجو أن يكون هذا بداية سقوطها إن شاء الله، لكن هم على أية حال مهما اختلفوا فهم متعاونون علينا، متفقون على حربنا، لا شك في ذلك.(104/22)
حرب إعلامية والأطراف التي تديرها تستفيد منها
السؤال
ما يدور الآن عبر وسائل الإعلام من تصريحات وردود بين دولة العراق وإسرائيل وأوروبا إشارة إلى بدء رفع راية الحروب الصليبية؟
الجواب
قد تكون تمثيليات مثل تمثيليات العبور، ولا نعني بالتمثيليات أن الجند يقومون بهذه التمثيليات، فالجنود أكثرهم لا يدرون، لكن ما يدور وراء الكواليس لا يُكشف إلا فيما بعد، فعلى كل حال هذه الحرب الإعلامية تستفيد منها الأطراف التي تديرها جميعاً، والفائدة منها حاصلة وواقعة، لكن هل سيترتب عليها عمل؟ الله أعلم.(104/23)
حكم القتال تحت رآية عمية
السؤال
هل تتوقع مواجهةً بين دعاة القومية العربية والصهيونية العالمية، وما هو دور الشباب المسلم الواعي في مثل هذه الحروب، وما هو دورهم في المواجهة التي سوف يتأثر بها كل فرد سواءً كان مسلماً أو غير مسلم، وإلى أي جنب ينحاز هؤلاء الشباب المسلمون، وما هو صنيعهم؟
الجواب
لا يجوز أن نقاتل إلا تحت رايةٍ إسلامية (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، ومن قاتل تحت رايةٍ عَمية فمات فميتته ميتة جاهلية) أي راية عمية لا يجوز القتال تحتها، راية القومية، راية تحرير الأرض، راية الوطنية، راية الدولة العلمانية، العلمانية كفر، فراية الدولة العلمانية معناها أن الإنسان يقاتل تحت راية الكفر وينصر الكفر والعياذ بالله، وهذا لا يجوز أبداً.
وأنا لا أتوقع على المدى القريب أن يشتبك اليهود وهؤلاء القوميون في معارك، لا أتوقع ذلك، بل الحاصل الآن هو أنه قد تواطأ الشرق والغرب والدول كلها تقريباً على أنه لا حرب ولا عدوان على دولة إسرائيل، وإذا أردتم فخذوا هذا المثال: ذكرنا أن الباطنيين لم يغتالوا زعيماً صليبياً واحداً، وإنما اغتالوا أمراء المسلمين، وأرادوا اغتيال صلاح الدين أكثر من مرة.
وأيضاً الآن الباطنيون فيما مضى كانوا عصابات في قلاع، لكن الباطنيين اليوم لهم دولة، هذه الدولة مضى عليها سنوات طويلة لم تقتل جندياً إسرائيلياً واحداً، ولكنها قتلت عشرات الألوف من أبناء السنة في داخل البلد وفي خارجه، هل يجوز القتال تحت هذه الرايات وإن قالوا نحن نقاتل إسرائيل؟ فالعاقل يفهم ولا تنطلي عليه مثل هذه الأمور.(104/24)
واجبنا تجاه التبرج والسفور
السؤال
نعلم أن ما يشاهد في أسواقنا من سفور وتبرج من الغزو الفكري لهذه الأمة عن طريق نسائها، وقد انحل شبابها، ما هو واجبنا تجاه هذه الظاهرة التي انتشرت وعمت وطمت؟
الجواب
هم في الحقيقة كما ذكر الله تعالى عن الشيطان الشيطان يزين ويمني وَيَعد، ولكنه لا يرغم أحداً أن يخرج من بيته، لا يرغم امرأةً أن تتبرج ولا شاباً أن يغازل أو يعاكس أبداً، فهم يأتون بالأفلام بالمجلات بأنواع الفساد، ولكن المصيبة ليست من الغزاة، المصيبة منا نحن، لَمَّا ضعف الإيمان وفقدت التقوى، وقل المحاسب أو المعاتب أو المربي انتشر هذا الفساد، فنحن المسئولون عنه أولاً وآخراً، ولا شك أنه مدمر للأمة، وأن علاجه يكون بإحياء الدعوة إلى تقوى الله، وإلى التحذير من المعاصي ومن آثارها على الأمة، ومنها التبرج الذي هو داعي الزنا، وليس بعد الزنا -عياذاً بالله- في تحطيم الأمة من شيء.(104/25)
نصيحة لجنود القوة البحرية
السؤال
نحن في مركز من مراكز الدفاع عن الإسلام، وبجوارنا شباب يُؤمل منهم الدفاع عن الإسلام إن شاء الله، شباب ينتمون إلى القوة البحرية، فما نصيحتكم لهؤلاء الشباب تجاه هذا الغزو الصليبي أياً كانت طرقه؟
الجواب
الحمد لله هناك في البحرية من أخلص وجاهد لتكون كلمة الله هي العليا، فهو أفضل مما لو جاهد في البر أليس كذلك؟ كم له من الأجر؟ أجر شهيد البحر أجر شهيدين من شهداء البر، هذا فضل من الله سبحانه وتعالى عليهم، ولذلك يجب علينا أن نعد العدة براً وبحراً وجواً بالإيمان الصادق والإخلاص لله سبحانه وتعالى والبعد عن المعاصي، ولا تؤاخذوني إن كررت، البعد عن المعاصي والاعتصام بالتقوى، والصبر والاستعانة بالصلاة، في هذه العبارات فقط نحدد كل ما نحتاجه في هذه المعركة وإن طالت، وفي أي معركة وفي أي زمان وفي أي مكان، أما إذا استوينا نحن وهم في المعصية فإن الفضل يكون لهم في القوة، وهذه سنة الله سبحانه وتعالى.(104/26)
جهود صلاح الدين
السؤال
سمعناك قلت في درسك أن صلاح الدين الأيوبي من الرافضة؟
الجواب
أعوذ بالله، بل هو الذي قتل الرافضة وأبادهم، أرجى عملٍ لـ صلاح الدين رحمه الله قضاؤه على الرافضة، هو عندي كذلك، بل عند علماء الإسلام الذين كتبوا عنه، وأرجى من قتله للصليبيين وأفضل قربةً إلى الله تعالى من قتله للصليبيين، قضاؤه على تلك الدولة الرافضية التي كانت تنادي وهي تقول: (من لعن وسب فله كيل وإردب) يعني: من لعن الصديق والفاروق رضي الله عنهما يأخذ، ومن لم يلعنهما لا يأخذ.
هذه دولة قضى عليها صلاح الدين أفيكون من الرافضة؟! حاشاه من ذلك والحمد لله.
- وما هي عقيدة صلاح الدين؟ في هذه المناسبة أقول: أولاً يا إخوان! لا نفترض في كل قائد أو مجدد أن يكون كاملاً أو معصوماً، المعصوم من عصمه الله، وهذا خاص بالرسل الكرام، ولكن نقول: هل كان صلاح الدين أشعرياً كما يقال؟ بعض العلماء كـ المقريزي وبعض المؤرخين المتأخرين قالوا: إنه كان أشعرياً، أظهر العقيدة الأشعرية، في الحقيقة لا صحة لهذا الكلام على الإطلاق، لماذا؟ لأن بعضهم يسمي الأشاعرة أهل السنة، فيقول: أظهر العقيدة الأشعرية، ويقصدون أنه أظهر عقيدة أهل السنة، صلاح الدين رحمه الله ونور الدين منعوا كتب المنطق والفلسفة، وفي أيام دولة صلاح الدين وأبنائه كانت كتب الفلسفة محرمة وممنوعة، وتحرق إن وجدت، ولذلك كان اتجاههم إلى السنة، لكن قد تخفى بعض المسائل، حتى على علماء عصرهم، نعم لا ندعي لهم الكمال والعصمة على أية حال، لكن السؤال: هل كانوا دعاة إلى البدعة؟ لا.
هل كانوا يحبون السنة؟ نعم.
هل كانوا ينصرونها؟ نعم.
فأنا وأنت قد نجتهد في أن ننصر السنة وندعو إليها، ثم نخطئ فنقع في بعض البدع، وبعض المعاصي، ولا عصمة لأحدٍ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لكن المؤكد والثابت أن صلاح الدين والعادل وغيره من ملوك الأيوبيين كانوا ضد البدع حتى أن الكوثري المعروف بتعصبه الشديد على أهل السنة وميله إلى الأشعرية والماتريدية يسب صلاح الدين وذواته ويذمهم بذلك، أنهم كانوا يمكنون للحشوية ولـ أهل الحديث ويتركون أهل العلم، أو أهل العقيدة الصحيحة لا يمكنون لهم، والكلام في هذا يطول(104/27)
التاريخ يعيد نفسه
السؤال
بعض الإخوة يقول: ذكرت أن الحل هو التقوى والصبر؟ الشيخ: نعم كما ذكر الله تعالى ذلك في القرآن.
السائل: وما كان يفعله ذلك القائد الفذ صورةٌ حية، ولكن يختلف الوضع في العالم الإسلامي الآن، فهناك قادةٌ وحكام يحاربون السنة في دولهم، وهم من مصدر قوة، فكيف يكون الجهاد؟ وقد يقومون لقمع كل نهضة، كما هو حاصل الآن؟ الشيخ: الوضع هو هو، يعني: نور الدين لم يظهر فجأة، نور الدين ظهر بعد أمد، بعد أن طهر الذين باعوا الأرض، الرافضة العبيديون -كما ذكرنا- وغيرهم، الذين سلموا البلاد والعباد للصليبيين ولغيرهم، لكن عندما قامت الدعوة، وتحركت الأمة وقام العلماء والخطباء والدعاة في المساجد وفي كل مكان وُجد الجيل التالي الذي كان منه عماد الدين ونور الدين، فإذا قامت الدعوة فلا بد أن تتحمل كل ما ستلقاه، نعم سيوجد من يقاومها لكن يهيئ الله لها أيضاً من ينصرها، وهو على ذلك قدير، وتبدأ المعركة في أول الأمر صعبة وشاقة، وقد تهزم، ولكن في النهاية سيكون هذا الجيل بإذن الله الذي يألف التضحية ويألف الجهاد، ويرفع راية السنة وهو واثق بنصر الله سبحانه وتعالى ستكون العاقبة له، أما الواقع الآن مثله مثل أي واقع، سيذهب، وكل أعداء الله سيضمحلون، وكل ما كان لله يبقى، ومن كان على تقوى الله فسيبقى، قاعدة وسنة لله تعالى في جميع الأوقات والعصور.
في زمن عبد الناصر كنا نقرأ ونسمع كيف كانت أوضاع المسلمين في السجون، وكانت توزع كتيبات كثيرة تتحدث عما يُفعل بالدعاة في مصر، كنا نقول: متى يأتي اليوم الذي تتخلص فيه الأمة من جمال عبد الناصر، ونترقب هلاكه؟ حتى إنه لما مات أذكر أن بعض الطلاب سجد وظل ساجداً لله شكراً حتى إنه لما رفع رأسه كان وجهه كله أحمر، كأنه غير مصدق أن عبد الناصر سيموت، وبعد أن أهلكه الله بفترة، إذا به يذم ويلعن في المنابر التي كان ينفق عليها ويؤسسها.
أقول: نحن لا ننظر للتاريخ ولا نعتبر، مسألة سنتين ثلاث عشر عشرين سنة ليست شيئاً في حساب الدعوة والأمم، بعد عشر سنوات إن شاء الله من الآن كثير من هؤلاء المجرمين سيكونون قد ذهبوا وقضى الله تعالى عليهم بأي شكلٍ من الأشكال، كما قضى على أتاتورك وعبد الناصر وتيوتو واستالين وهتلر وغيرهم، ولكن دينه سيبقى بإذن الله.(104/28)
السبيل إلى القيادة والريادة
السؤال
كما ترون أن العالم الغربي والشرقي قد اكتشفوا وابتكروا واخترعوا أشياء كثيرة فكيف يربط المسلم بين كلٍ من تعلم التكنولوجيا الحديثة وتعلم العلم الشرعي وحفظ كتاب الله والدعوة إلى الله بشرط أن لا تؤثر على استقامته ودينه، حيث أنه ولا بد أن يحتك بهؤلاء الغربيين والشرقيين غير المسلمين إلخ؟
الجواب
طلبة العلم الشرعي ليس مطلوب منهم أن يذهبوا ليتدربوا على التكنولوجيا، لكن من فرَّغته الأمة لهذه التكنولوجيا يجب عليه أن يتقنها، بشرط أنه إن ذهب إليهم أو خالطهم أن يذهب وهو مؤمن ويرجع وهو مؤمن، ليست المشكلة في نقل التكنولوجيا، القضية قضية إرادة، إذا توجهت إرادتك لأن تحقق أمراً فسوف تحققه.
هذه فطرة هذه سنة، وقد تحدثنا عنها في محاضرة سابقة في عطلة الربيع، فالإرادة الإنسانية والحافز الموجود أو الدافع له أثر في تحقيق أي شيء، كل التجارب النفسية الفردية تثبت ذلك فكيف بإرادة الأمم؟ مثلاً: يذكرون أنه في سباق المرثون -وهو شعيرة جاهلية يونانية- يجري اللاعب عشرين كيلو مثلاً ويسقط، وعندما يفحص الأطباء هذا الذي سقط يجدون أنه كان بإمكانه أن يواصل عشرة أميال أو خمسة مثلاً، لماذا سقط؟ لأنه سقط نفسياً.
تجارب أخرى: وجدوا أن الإنسان إذا كان ضعيفاً منهكاً مجهداً تقول له: خذ هذه الحبة ابلعها، يقول: لا أستطيع أن أمد يدي حتى آخذها، لكن لو سلطت عليه وحشاً أو ثعباناً في الغرفة ستجده يقفز عشرة أمتار، وقد ذكروا أن رجلاً قفز عشرة أمتار، وقد كان مقعداً، لماذا؟ إنه الحافز.
ولذا المسألة هذه ليست مسألة كيف نأخذ التكنولوجيا، نبدأ نتعلم من (أب) وأما متى نصل إلى الكمبيوتر والمفاعل الذري، فهذا طريق غير صحيح، لا تنظر إلى الناحية المادية، اشحذ العزيمة والهمة تجد العجب العجاب.
إمبراطور اليابان أرسل أول دفعة إلى أوروبا فرجعوا بالبنطلونات وبالسجائر ويتكلمون بالإنجليزي والألماني، عجيب!! هذا الذي أُرسلتم من أجله؟ فقيل: إنه جمعهم في ميدان وحكم عليهم بالإعدام، وأرسل دفعة ثانية، وقال: اذهبوا فذهبوا باللباس الياباني، ويطبخون على الطريقة اليابانية، ويأكلون بالطريقة اليابانية، ويتكلمون باليابانية، فرجعوا بالتكنولوجيا الأوروبية، والآن اليابان تنافس أوروبا حتى أنها اقتحمت أوروبا الشرقية قبل أن تخطط ألمانيا الغربية وغيرها من الدول اقتحامها، والسبب أنهم أوجدوا عند الناس الإرادة.
فيتنام كيف استطاعت أن تهزم أمريكا؟ نفس الشيء، وجدت إرادة مع أن الجميع كفار، هذه الإرادة إذا وجدت فلا يوجد حافز ولا إرادة أقوى من الإيمان بالله، ولا أقوى من جهاد أعداء الله، ولا أقوى من طلب الجنة الجنة يا إخوان! لم أر كالجنة نام طالبها، ولا كالنار نام هاربها، هذه الجنة أقوى حافز، فالهارب يضاعف الهرب إذا علم أنه يهرب من النار، والطالب يضاعف الطلب إذا علم أنه يطلب الجنة، سلعة الله الغالية، التي بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عليها، إذا كنا نريدها فعلينا أن نشحذ الإرادة وننتصر، وإن كنا نريد فقط أن تكتب الصحافة الغربية عنا أننا تطورنا وعندنا شوارع إلخ، وعندنا كذا، وتأتي بصور لبعض مناطق، فسنظل على هذا الوضع قروناً ولن نصل إلى شيء، فالمرء حيث يضع نفسه، والأمة حيث تضع نفسها، ضعها في القيادة تجد أنك قائد.
مثلاً: -شيء واقعي جداً نذكره من واقع الحياة- لو اجتمع عشرون لاعباً وذهبوا يلعبون كرة، فقام أحدهم وأمسك الكرة.
وقال: أنا الكابتن وصرخ عليهم اسكتوا وجعلوه الكابتن، فعلاً؛ لأنه أثبت شيئاً، لكن لو جعل نفسه لاعباً كأي لاعب وضعوه حارساً أو وضعوه حكماً، المهم أنت حيث تضع نفسك، لهذا يقول الله تعالى: {وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] لكن قلنا بألسنتنا نحن قادة العالم نحن، ونريد أن نلتحق بركب الحضارة سنظل في الذيل؛ لأننا ما فكرنا إلا بالالتحاق، ولم نفكر في السباق والقيادة.(104/29)
مراجع المحاضرة
السؤال
المراجع لهذه المحاضرة؟
الجواب
المراجع لهذه المحاضرة: كتاب سير أعلام النبلاء، فيها سيرة نور الدين محمود للذهبي رحمه الله، كذلك كتاب نور الدين محمود للدكتور/ عماد الدين خليل، وكذلك كتاب نور الدين محمود للدكتور/ حسين مؤنس، كذلك كتاب البرق الشامي، أخبار الروضتين في أخبار الدولتين، الكامل لـ ابن الأثير وغيرها.(104/30)
لا دور للشيعة في الحروب الصليبية
السؤال
هل للشيعة دور في الحروب الصليبية؟
الجواب
لا.
ليس للشيعة دور مضاد في الحروب الصليبية، ويقول شيخ الإسلام رحمه الله: لم يُعرف عنهم أنهم جاهدوا أو قاتلوا الصليبيين، بل هناك وقائع كثيرة جداً تثبت أنهم عندما يأتي الصليبيون إلى بعض الإمارات التي كانت بشمال لبنان وفي شمال بلاد الشام من الدويلات الشيعية يسلِّمون لهم هذه البلاد مقابل أن يتحالفوا معهم على أهل السنة، فلم يوجد لهم أي دور، وإنما حدثت بعض المناوشات والخلافات بين العبيديين والصليبيين عندما اختلفوا كما يختلف الناس عادةً اختلافاً سياسياً، لم يكن العبيديون يحاربونهم من منطلق أنهم كفار أو صليبيون، والأساس في العلاقة بين العبيديين الذين يدَّعون أنهم فاطميون وبين الصليبيين هي علاقة المسالمة والسفارات المتبادلة والهدايا والصلح الدائم، وهذا طوال الحروب الصليبية التي امتدت قروناً كان هذا هو السائد الغالب.
أما غلاة الشيعة الذين منهم الحشاشون، فهؤلاء ذكرنا لكم أفعالهم وفتكهم بالمسلمين، ولم يتعرضوا بأي أذىً للصليبيين إلا أحياناً، إذا حاول الصليبيون أن يستولوا على قلاعهم ليأخذوا منها ما فيها من خيرات وما فيها من كنوز، فهي عبارة عن معارك لصوص مع بعض، ليست مسائل عقدية.(104/31)
آثار الحرب العالمية الأولى على العالم الإسلامي
السؤال
ذكرت لنا الحروب الصليبية فنود منك ذكر الحروب العالمية وأسباب هزيمة المسلمين إلى يومنا هذا لتكون صورة حية؟
الجواب
الحرب العالمية الثانية ليس لنا فيها دور إلا أنهم دكوا بلادنا، أي: الذين دخلوها حاربوا فيها، حاربوا في أرضنا، وليس لنا دور فيها أبداً.
الحرب العالمية الأولى التي تستحق أن تذكر؛ لأنه بناءً عليها مزقت دولة الخلافة العثمانية، ووضعت البلاد الإسلامية تحت الانتداب بناءً على نقاط الرئيس يلسن الأربع عشر، وهذه فعلاً تستحق إذا قدّر الله لي أو للإخوة الذين هم أقدر مني ومتخصصون في التاريخ أن يحدثونا عنها فهذا شيء طيب.(104/32)
سبب هجرة اليهود إلى فلسطين
السؤال
سمعنا بهجرة اليهود إلى فلسطين، فلماذا يهاجرون إلى هناك، أم أنه -كما سمعنا- إعداد للحرب التي ستكون بين المسلمين واليهود؟
الجواب
نحن دائماً نتفاءل تفاؤلاً طيباً، نحن نحب الفأل ونكره الطيرة كما كان صلى الله عليه وسلم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم هديه غير ما نظن، أي نحن لا نتفاءل على حقٍ وحقيقة، أنا أسميه تخدير، ونحن نتخدر بسرعة؛ مثلاً: هناك أناس يشربون القهوة، هذا لو يعطى أقوى إبرة لا يتخدر كما يقول الأطباء، لكن هناك ناس أول ما توضع فيه الإبرة يغمى عليه، نحن من النوع الذي يتخدر بأدنى مخدر، فلما جاءت الأحداث في أوروبا الشرقية خدرونا قالوا هذه سقطت؛ لأنها قائمة على الظلم وعلى الفساد والاشتراكية والشيوعية، وهي مخالفة للإسلام، أما نحن فالحمد لله طيبون مسلمون، انتهت الشيوعية وارتحنا، وهو بخلاف الواقع تماماً.
ولما جاءت الهجرة ظهرت أيضاً بعض الأصوات المخدرة، قالوا: دعهم يتجمعون، لماذا؟ قالوا: كيف نقاتلهم في آخر الزمان إلا إذا تجمعوا؟ من قال لك أننا سنقاتلهم الآن، نحن نأخذ بالأسباب كما شرع الله، فإذا أمر الله وقدر بشيء فأمر الله واقع، وخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق وحق، لكن هل يعني ذلك أني أترك اليهود يفعلون كما يشاءون ويتجمعون؟ لا.
فنحن نقول: سبب هذه الهجرة أن اليهود يريدون تقوية دولتهم بالعنصر البشري، وهو أهم عنصر في الحياة، اليهود والروافض وغيرهم أهم شيء عندهم هو العنصر البشري، والأقباط في مصر وغيرهم الزيادة السكانية مهمة جداً، أما تحديد النسل فهو خاص بـ السنة، والدعايات خاصة بـ أهل السنة، والكلام عن العدد وأن الثلاثة كفاية والخمسة مشكلة، وأن الزوجتين حرام أو ممنوع، هذا خاص بـ أهل السنة، العنصر البشري أهم عنصر في أي دولة في العالم، في أي وجود عالمي في هذه الحرب المستعرة والصراع بين الأمم، فاليهود يريدون تقويته بهذه الهجرة، ولا غرابة في ذلك، لكن نحن ماذا عملنا؟ أخبرناكم في المرة السابقة لا تعيدوا هذا السؤال، نحن عندنا هجرة الخدَّامات مستمرة إلى أرض المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(104/33)
أساسيات الين واضحة ولا تحتاج إلى مؤتمرات
السؤال
لماذا لا تكون هناك مؤتمرات بين علماء المسلمين من أهل السنة وعلماء الشيعة لتصحيح مفاهيمهم في العقيدة؟
الجواب
هذا الأمر واضح لا يحتاج إلى مؤتمرات، أنا أذكر لكم مثالاً واقعياً: لما ثارت فتنة بعض المبتدعة من سنوات، وجاءني أحد طلاب صاحبهم وقال: لماذا الجدل هذا؟ والخلاف وارد، قلت: ماذا تريد؟ قال: لماذا لا يكون هناك مقابلة في التلفزيون أو في الجامعة، أو في أي مكان، وتجتمعون ويصير هناك نقاش؟ قلت: هذا غير معقول، قال: لماذا؟ قلت: ما هي النقاط التي تتوقع أن نتناقش فيها؟ قال: واضحة، قلت: نأخذ النقاط واحدة واحدة.
أولاً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب، هذه نقطة؟ قال: نعم.
ثانياً: أن الأولياء يتصرفون وأن الأموات المقبورين يؤثرون ولهم من التأثيرات كذا وكذا، قال: نعم، وذكرت له بعض العبارات الموجودة في كتبهم، مثل: وانتشلني من أوحال التوحيد إلى الوحدة وغيرها، وقلت له: هذه وهذه تريدها أن تكون موضوع نقاش؟ قال: نعم.
قلت: هل تتوقع أن أحداً من أهل السنة ينزل إلى مستوى أنه يناظر على هذه المسائل؟! هل نأتي لك بأصغر طالب من أهل السنة يحفظ القرآن ويقرأ عليك الآيات التي تكذب ما تعتقده من الخرافات: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} [الأنعام:59] إلخ، {وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام:50] الآيات يقرؤها عليك أي واحد هل هناك حجة أخرى؟ كل ما تقولون يرد عليه أصغر مسلم يحفظ آيات من كتاب الله، أو أي عجوز تعرف شيئاً من كتاب الله، أما نحن فلسنا لذلك.
وهذه سنة قديمة، لما قال أحد أهل البدع لـ أيوب رحمه الله قال: اجلس نتناظر، قال: لا.
ابحث عن شاكٍ مثلك، أما أنا فعلى ثقةٍ من ديني، وأما أنت فابحث عن شاكٍ مثلك، إذا كان المقصود أن نتناظر لنعرف من هو على الحق فهذا أمر محمود، أما إذا كان المقصود أن نتناظر مع بعض أهل البدع في أمور واضحة ولا يجهلها أحد، فهذا أمر مذموم، إن الحق واضح مثل الشمس في رابعة النهار، ولولا علمنا جزماً ويقيناً أنهم يعلمون هذا الحق لتحرجنا وأثمنا أمام الله أننا ما بيناه لهم، ولكن الحق كالشمس في رابعة النهار، بالله عليكم أي عاقل يقرأ تاريخ الإسلام ولو كان يهودياً أو نصرانياً هل يصدق أن عمر بن الخطاب وأبا بكر الصديق أكبر منافقين في الدنيا، سبحان الله! من يصدق هذا الكلام؟! إن أعداء الدين وأعداء القرآن، لا يصدقون مثل هذا الهراء، إن حقائق التاريخ كلها واضحة، فعندما نناقش شخصاً ونقول له: تعال نبين لك أن هؤلاء الصحابة لهم حرمتهم ولهم قدرهم تجد أنه لا يسلم للحق أبداً.
فلعلمنا بأن المسألة تعصب ومكابرة، وعناد وتضليل من الزعماء الذين يستخفون الرعاع، لذلك أقول لا يحتاج الأمر إلى مؤتمرات، وما يسمى من التقريب أو أشباهه إنما تكون عادةً من مصلحة أهل البدع، أو بمواطأة معهم.(104/34)
أسباب اجتماع المسلمين في عهد عماد الدين زنكي
السؤال
هل لنا أن نعرف كيف تم لـ عماد الدين زنكي توحيد صفوف المسلمين بعد أن كانوا مفككين؟
الجواب
لقد تعب عماد الدين والد نور الدين رحمه الله تعباً شديداً لكي يجمع أنصاره، لكن كان اجتماع المسلمين أسهل من واقعنا، والسبب لأن القلوب كان فيها خير أكثر، بمعنى لم يكن عند المسلمين إبان الحروب الصليبية الأولى شيء من الولاء للنصارى، ونقصد بالمسلمين أهل السنة، الذين ليس عندهم ولاء لليهود ولا للنصارى، ويعلمون أنهم كفار، ويعلمون أن قتلهم شهادة وهكذا، فالحقائق التي ذكرناها وعقيدة الولاء والبراء كانت معلومةً عندهم، وكانت ظاهرةً جلية، أما الآن فأكثر المسلمين مع الأسف مبهور بما عند الكفار ويائس من النصر، ولا يتصور المسألة حلقة من حلقات صراع طويل وإنما يتخيل أن الغرب حاكم ومسيطرٌ إلى الأبد، فلا أمل ولا حتى مجرد تفكير بأن نقاومه أو نحاربه، أما الأمة التي عندها استعداد ولو ضعيف وتنظر إلى عدوها نظرة معقولة يمكن أن تُوقى.
فلقي عماد الدين رحمه الله العنت، حتى دبر بعض أعدائه من المسلمين في الإمارات الإسلامية وبعض قواده مؤامرةً لقتله فاغتاله غلمانه وحرسه، لقد تعب حين جمع أنصاره، وهو في الإمكان إن شاء الله في كل زمان ومكان.(104/35)
كيفية التعامل مع أهل الكتاب الذين هم في ديار الإسلام
السؤال
إن من أسباب النصر على الكفار عدم موالاة النصارى وغيرهم من الكفار، فكيف نتعامل مع النصارى الموجودين في بلاد الإسلام؟
الجواب
النصارى في بلاد الإسلام نوعان: النوع الأول: البلاد التي يحرم عليهم أن يدخلوها، وهذا النوع ليس هناك داع أن نتحدث عن تفاصيل الأحكام فيه وهي: جزيرة العرب، واقرءوا فتوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله في مجموع الفتاوى الجديد، فتوى طويلة وموضحة فيها الأدلة، جزيرة العرب جميعاً لا يجوز لليهود والنصارى أن يبقوا فيها، وجزيرة العرب من البصرة -كما يقول بعض العلماء- إلى أطراف الشام إلى الأردن إلى عدن، كل الجزيرة المعروفة لا يجوز للنصارى أن يدخلوها أصلاً، وإن اضطر المسلمون إلى إدخال أحدٍ منهم لضرورة فكما كان يفعل عمر رضي الله عنه يعطيهم ثلاثة أيام فقط للبيع والشراء، فهذه تكون ضرورة مقيدة ومقدرة بقدر.
وأما خارج جزيرة العرب فهم أنواع، منهم: الحربي، ومنهم المستأمن، ومنهم الذمي -لا نريد أن نطيل في أحكام فقهية، فالحربي: هو الذي نحن وإياه في قتال، كما كان الحال بين المسلمين وبين الصليبيين، فالصليبيون كانوا حربيين، وأما المستأمن: فهو الذي يقدم من الروم البيزنطيين مثلاً الذين هم في حالة سلم وصلح فمن يقدم منهم إلى بلاد المسلمين يعطى أماناً بأن يقيم في بلاد الإسلام زمناً محدداً ليبيع أو يشتري.
والذمي: وهو الذي أصلاً مسكنه الشام أو مصر ورضي أن يدخل في عقد الإسلام ويخضع لأحكامه مع بقائه على دينه، وأعطاه المسلمون العهد بذلك ويدفع الجزية عن يدٍ وهو صاغر، وفي بلاد الإسلام التي يجوز لهم أن يدخلوها لهم معاملة خاصة منها: ألا يتسموا بأسماء المسلمين، ولا يتكنوا بكناهم، وألا يرفعوا بناءهم فوق بيوت المسلمين حتى لو كان جار مسلم عنده دور ونصراني يستطيع أن يبني دورين لا يجوز له أن يبني مسكنه دورين إلا إذا بنى المسلم بيته دور آخر، وفي الطريق لا يبدءون بالسلام، وإذا لقيتموهم فاضطروهم إلى أضيقه، لأن الأفضلية في المرور للمسلم، ويجب عليهم أن يلبسوا ما يدل على أنهم من أهل الذمة ليلزموا بالصغار، حتى إن الطفل المسلم حتى يُلزمهم الصغار والذلة، ولا أن يعرف أنهم من أهل الذمة بشكل يميزهم، ولهذا وضعت الزنانير، ووضعت أنواع معينة للباس والطيالس الخاصة بهم ليُعرفوا فلا يكرمون كما يكرم المسلم أو يبدءون بالسلام.
هذه الأحكام مقررة في شريعتنا، أما الواقع فغير ذلك.(104/36)
نصيحة لمن ابتلي بالسحر
السؤال
هذا سؤال خارج عن الموضوع، لكن أرجو أن تجيبني، أنا شخص مصاب بمرض السحر -عافاني الله وإياكم والمسلمين أجمعين- وقد ذهبت لعدة مشايخ ولكنها -أي الجنية- رفضت الخروج مني، حيث أنها تتكلم عندما يقرأ عليها قارئ القرآن وتقول: إنها يهودية -إذاً هناك علاقة في الموضوع! - ولا يمكن أن تخرج مني حتى يلقى القبض على من أتى بها، وهو معروف، وقد اشتكيت ولكن لم أجد تجاوب، وقد قال لي بعض الناس أن هناك مشعوذين يستطيعون أن يخرجوها ولكني أتردد من هذا خوفاً من الله، دلوني جزاكم الله خيراً حيث إني معذب، وقد كرهت بيتي وأهلي وأنا في شقاءٍ شديد؟
الجواب
ما أنزل الله تعالى من داءٍ إلا وجعل له دواء، علمه من علمه وجهله من جهله، هذا شيء، والشيء الآخر أن من الأدواء ما جعلها الله تبارك وتعالى مستديمة فربما قتلت صاحبها أو مات، فما على المسلم إلا الصبر، فوطن نفسك يا أخي! وأقول هذا لنفسي ولكل أخ، وطن نفسك دائماً على أسوأ الأمرين، حتى إذا كان الأخف فرحت، افرض أنك مت، هناك أناس مصابون بمرض السرطان والأطباء يقولون: حالته ميئوس منها، وأنت أفضل حالاً منه، أنت إن شاء الله حالة غير ميئوس منها، فانظر إلى من هو فوقك إذا تعلق الأمر بعبادتك وبمعاملتك مع ربك لتجتهد فيها، أما في أمور الصحة والدنيا فانظر إلى من هو دونك لئلا تزدري نعمة الله تعالى، انظر إلى من جُن وفقد عقله بالكلية وأنت في نعمة والحمد لله، وهكذا تستطيع أن تأمل ذلك.
ثم الأدوية الشرعية، القراءة المشروعة لا تتجاوزها، والله تعالى يشفيك وندعو لك ويدعو لك الإخوان جميعاً بالشفاء بإذن الله، وإياك والمشعوذين! إياك وإياهم! لن يضرك أحد ولن ينفعك أحد إلا بما كتب الله تعالى لك أو عليك، لكن ذهابك إلى الدجال أو الكاهن أو المشعوذ يترتب عليه: (من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) ونعوذ بالله، ونعيذك يا أخي! بالله تعالى أن ترجو الشفاء بالكفر، نسأل الله العفو والعافية.(104/37)
سبب تأييد مجلس كنائس الشرق الأوسط لقيام دولة فلسطين
السؤال
لأول مرة منذ خمسة عشر قرناً -والله المستعان- مجلس كنائس الشرق الأوسط أيد دولة فلسطينية مستقلة؟
الجواب
لا نحتاج أن نقرأ كلاماً طويلاً، ولكن لعلكم فهمتم اللعبة!! قيام دولة فلسطينية على قطعة شريط صغير بـ الضفة الغربية وتحت حماية سلطة إسرائيل، هذا الشيء الذي يجعله العرب مطلباً عظيماً، وإذا تحقق فقد انتهت جميع مشاكلنا في الدنيا يؤيده مجلس كنائس الشرق الأوسط، يعني إذا قامت الدولة سيكون ممن أيدها ويحتفظ له بالجميل والشكر والعرفان ولا ينسى معروفه مجلس الكنائس -أي: النصارى-، كل لعبة يدخلها النصارى تجد أن طرفاً يهاجم فيمد العدو بالقوة والآخر يقول: أنا معك، حتى في الأمم المتحدة تجد أن هناك من يؤيد العرب، ومع الدولة الفلسطينية، ويشجب، ويستنكر العدوان الإسرائيلي، والسبب أن الأدوار موزعة، ونحن كالكرة يقذفنا هذا إلى هذا، ثم يقذفنا هذا إلى هذا، وأدوارهم موزعة فيما بينهم، الشرق الأوسط كما يسمى بالتسمية الاستعمارية هذا هو العالم الإسلامي، العالم الإسلامي لا نعترف فيه بمجلس كنائس أبداً؛ الموجود منهم هم أهل ذمة، ويجب أن يخضعوا لأحكام الإسلام كما ذكرنا، لا يوجد شيء اسمه مجلس كنائس، ولكن الله المستعان، إذا كان كما ترون البابا يشارك في أحداث لبنان والبطريك صفير وجماعته يشاركون، وعلماء المسلمين بعيدون عن المعركة فإذاً نحن نستحق، فهم الذين جعلوا علماءهم وأحبارهم ورهبانهم كذلك، ونحن علماؤنا أقصيناهم، المهم أنهم لا وجود لهم في المعركة، لذلك هم لا يلامون وهم يلعبون ويخططون وهم يمكرون ويكيدون، ولكن يجب علينا نحن أن نخطط وأن نعمل وأن نجتهد، وطريق الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة، وهي الخطوة التي لا يمكن تجاوزها أبداً، وهي التي نبدأ فيها ونعيد ونقول: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120].
هذا والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(104/38)
المؤامرة على المرأة المسلمة [1 - 2]
إن التآمر على هذا الدين قديم قدم الصراع بين الحق والباطل؛ لأنه يمثل الحصن الأخير، ولقد سعى أعداء الإسلام إلى إفساد المسلمين بشتى الطرق، باذلين في ذلك جهودهم وأموالهم، ومركزين في ذلك على ركن من أهم أركان المجتمع المسلم، ألا وهو المرأة؛ التي بصلاحها يصلح المجتمع، وبفسادها تنهار الأمة مهما بلغت من القوة والمنعة.(105/1)
أهمية الحديث عن المرأة في عصرنا الحاضر
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها الإخوة الكرام: فإني أشكر الله تبارك وتعالى الذي جمعنا بكم في هذه الليلة التي نسأله تعالى أن يجعلها طيبةً مباركة، كما أشكر الإخوة القائمين على هذا المسجد، والقائمين على مركز الدعوة بـ الرياض أثابهم الله جميعاً، حيث هيئوا ويسروا لنا أن نجتمع وأن نلتقي لنذكر الله تبارك وتعالى، ولنتحدث في أمر عظيم يهم كل مسلم في هذا الزمن.
ولا شك أن ما تعلمونه جميعاً -ولله الحمد- مما شرعه الله تبارك وتعالى بشأن المرأة وحجابها وعفتها وطهارتها لهو غني عن الإعادة والتكرار هنا، وأنتم والحمد لله طلبة علم ودعاة، ولا يخفى على أحد منكم شيء من هذه الأحكام إما على سبيل الإجمال أو التفصيل، وإنما نريد أن نتحدث عن قضية قد تخفى على بعض الإخوة؛ لأننا في زمن كثرت فيه الضلالات، وكثر فيه الدعاة إلى أبواب جهنم الذين حذرنا منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهرت فيه الفتن، وكاد أعداء الله تبارك وتعالى لهذه الأمة أضعاف ما كانوا يكيدون من الدس والخيانة والتآمر عليها وعلى دينها.
ولهذا وجب على هذه الأمة أن تعلم حقيقة الأمر، وأن تعرف أن ما يتعلق بمسألة المرأة وما يحدث في المجتمعات الإسلامية اليوم من تحولات وتغيرات ليس أمراً عفوياً ولا اتفاقياً، وإنما هو نتيجة تخطيط مدروس، وتنظيم عُمل له طويلاً، فهي مؤامرة تدبر من قديم، وهي الآن في طور الاكتمال، ولكن الله غالب على أمره مهما فعل أعداؤه وكادوا.
وموضوع المرأة -أيها الإخوة الكرام- كان إلى زمن قريب موضوع آداب وأخلاق وأحكام يدعو إليها الخطباء والوعاظ والأدباء، ولكنه في هذه الأيام وفي هذا العصر أصبح موضوع عقيدة، أقول: الآن أصبح موضوع المرأة موضوع عقيدة، فلم تعد المرأة تخطئ أو تعصي ربها عز وجل فتتبرج أو تتكشف أو ترتكب بعض ما نهى الله عنه، ثم سرعان ما تعود إلى حظيرة الحق، وينظر إلى ذلك على أنه شذوذ لا، إن الأمر قد تعدى ذلك، وأصبحت هناك دعوات صريحة إلى أن تتحلل المرأة من أوامر ربها عز وجل، وترفض كل ما شرعه الله تبارك وتعالى، وتنطلق -كما يزعمون- وتتحرر لتقلد المرأة الأوروبية الكافرة في كل شيء، وهذا الأمر أمر عقيدة؛ لأنه لا يفعله إلا الفتاة التي لا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر، ولا بهذا الدين ديناً.
ومن هنا وجب التنبه، ووجب على كل ذي شأن وعلم أن يبين لهذه الأمة طريقها.(105/2)
سبب تأثر المرأة المسلمة بالحضارة الغربية
إن المؤامرة على هذا الدين -أيها الإخوة الكرام- قديمة قدم الصراع بين الحق والباطل، قدم وجود الحق والباطل، ولكنها في هذا الزمن أصبحت أكثر كيداً؛ حيث أن الاحتكاك بين الغرب الكافر الصليبي وبين الأمة المسلمة قديم، وقد سبق أن جاء الصليبيون إلى العالم الإسلامي كما تعلمون، واحتلوا كثيراً من بلاد المسلمين في الأطراف، ولكن المرأة المسلمة، والأمة المسلمة ظلت تنظر إليهم على أنهم همجيون كفار صليبيون حاقدون؛ فلم تأبه بأن تقلدهم في أي شأن من شئون الحياة.
وقد كتب المؤرخون والأدباء وأصحاب السير عن أوضاع المرأة الصليبية عندما جاءت الحملات الصليبية إلى العالم الإسلامي؛ وتحدثوا عن الدياثة التي كان يتصف بها الإفرنجة، ما هي هذه الدياثة؟ قالوا: إن نساءهم يمشين كاشفات الوجوه، ويراهن الرجال، ولا يبالي بعضهم بأن تذهب زوجه مع الآخر، فكل ذلك عده المسلمون -حتى الذين لم يكونوا في منزلة من العلم والدعوة- دياثةً وانحطاطاً وسفولاً تبرأ منه المرأة المسلمة.
ولكن مرت بالأمة الإسلامية عصور تراجعت فيها عن كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، وعن العقيدة الصحيحة عقيدة السلف الصالح، ودخلتها الضلالات والبدع من كل جهة حتى جاءت الحملة الصليبية الكبرى التي تسمى حملة نابليون، وعندما قدم نابليون قدم معه عاهرات الفرنجة مرةً أخرى، ولكن الأمة اختلفت نظرتها هذه المرة عنها في المرة السابقة، فأخذوا يكتبون ويقولون -وإن كتب ذلك بعد نابليون - إن المرأة الفرنسية متحضرة متطورة ناهضة، وأن على المرأة المسلمة أن تقلدها وأن تحتذي حذوها.
كان هذا التحول في عقيدة الأمة لا في واقع الفرنجة، فهم هم في دياثتهم التي كانت فيما مضى، ولكن ما صحبوه هذه المرة من وسائل التطور الحديثة التي جاء بها نابليون: كالمطبعة، والتنقيب عن الآثار، والمدافع، وغيرها من الوسائل لم يكن يعرفها المسلمون، جعلتهم ينبهرون بهذه الحضارة الجديدة، ومع ذلك فقد كان هذا التأثر محدوداً ومحصوراً، وقد ذكر الجبرتي رحمه الله -وقد كان الجبرتي رحمه الله حنبلي المذهب، ومن هنا تأثر بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه، وتعاطف معها في كتابه وأيدها- أن اللواتي تأثرن بالحملة الفرنسية كن إما من الطبقة الدنيئة من اللاتي كن يمارسن البغاء والدعارة والرذيلة قبل مجيء الفرنسيين، وهذه الطبقة من أصلها هذا شأنها، والفريق الآخر هو أولئك النساء اللاتي أسرن، وفي الأسر أرغمن على أن يماشين الفرنجة ويلبسن كملابس نساء الفرنجة هكذا يقول رحمه الله، ولكن الذي حدث بعد ذلك في نهاية القرن الثالث عشر هو قدوم الإنجليز واحتلالهم لـ مصر، ثم بداية الحملة الصليبية الأخيرة وهي ما نسميه الاستعمار، وما هو في الحقيقة إلا حملة صليبية، ولكنها جاءت هذه المرة مدعومةً بالعلم، والاختراعات، والتطور المادي، والتخطيط البعيد المدى لإفساد هذا الدين وتدميره.(105/3)
مؤامرات الصليبيين على الإسلام
لقد كاد أعداء الله تبارك وتعالى مع قدوم هذه الحملات، ومع النهاية الواحدة المتكررة لجميع حملاتهم الصليبية وهي الهزيمة العسكرية، فخططوا لهزيمة من نوع آخر يلحقونها بالمسلمين، فكانت تلك المؤامرة على هذا الدين وكانت تدور -على سبيل الإيجاز- في أربعة مجالات: المجال الأول: هدم العقيدة الإسلامية.
وقد عملوا على ذلك بنشر الإلحاد والانحلال، وبعث وإحياء الفرق ذات العقائد المخالفة لعقيدة أهل السنة والجماعة، وبعث الحضارات القديمة، وإثارة النعرات والجاهليات؛ بغرض إبعاد هذه الأمة عن عقيدتها.
والمجال الثاني: هو تحطيم الشريعة الإسلامية وإبعادها عن مجال الحكم؛ لتحل محلها القوانين الوضعية والأوروبية الكافرة؛ ليطمئنوا على أن الحدود لن تقام، وأن أحكام الله لن يعمل بها، وإذا وصلت الأمة إلى هذا الحد فقد فقدت كل مميزاتها.
والمجال الثالث: هو المجال الاجتماعي؛ حيث خططوا لإفساد المرأة المسلمة، وإخراجها عن وظيفتها وأمومتها وحجابها لتقلد المرأة الغربية في كل شيء، وهذا ما سعوا من أجله، وما نفيض إن شاء الله في الحديث عنه.
والمجال الرابع: هو تحطيم وهدم اللغة العربية، والأدب العربي وما يتعلق به، وبذلك يتوصلون إلى قطع صلة المسلمين بالقرآن وبفهم كتب السلف الصالح وما في تراثهم من خير وهدىً وبركة، هذه الأربعة المجالات التي خطط لأجلها أعداء الله تبارك وتعالى.
وأهم ما يهمنا الآن هو المجال الاجتماعي المتعلق بالمرأة، فإن هذا المجال هو المقياس الظاهر الواضح لتمسك أي بلد من البلدان بالإسلام، فأنت إذا زرت أي بلد من البلدان تستطيع أن تحكم على دين أهله من خلال وضع المرأة فيه، فإن كانت متسترةً متحجبة حكمت على المجتمع بالطهر والفضيلة، وإن كانت متهتكةً متخلعة علمت وأيقنت أن هذا مجتمع فاسد منحط -يعني في الأغلب والظاهر- لأن هذا هو المعيار الذي توزن به الأمم قديماً، وتوزن به الحضارات، حتى أن سولد اسبنجلر الذي كتب كتاب: تدهور الحضارة الغربية؛ يقول: هذا هو المعيار الذي يقاس به سقوط الحضارات من عدمها.
الحضارات جميعاً تسقط وتنهار عندما تترك المرأة عملها ووظيفتها كأم وتتبرج وتتبذل، وقد استعرض حضارات كثيرة جداً في كتابه هذا وفي غيره.
إذاً: أعداء الله يعلمون أهمية هذه القضية؛ ولهذا حرصوا عليها كل الحرص، وابتدأت المؤامرة كالعادة ساذجةً، أو بتخطيط غير عميق، ولكن الأمر يتطور ويزداد، لقد وجد أولئك القوم كاتباً نصرانياً بعد الاستعمار الإنجليزي ببضعة عشرة سنة يدعى مرقص فهمي؛ فقالوا: نريد أن تكتب عن المرأة كتاباً، فكتب كتاباً عنوانه: المرأة في الشرق، وتحدث فيه عن ظلم الإسلام للمرأة، مع أن هذا الصليبي الذي دينه وكنيسته وباباوات ورجال دينه يعتبرون المرأة شيطاناً رجيماً، وظلوا قروناً عديدة لا يعتبرون المرأة كائناً إنسانياً، واختلفوا في أوروبا هل المرأة لها روح أم ليس لها روح؟!! هكذا كانت أوروبا الصليبية، ومع ذلك يقول مرقص فهمي المحامي في كتابه المرأة في الشرق: إن المرأة في الشرق مظلومة؛ وسبب ذلك هو التشريعات الإسلامية، وطالب بإلغاء الحجاب، وفي خروج المرأة من البيت، وحتى طالب بأن يسمح للأقباط -لأنه قبطي- أن يتزوجوا النساء المسلمات هكذا يريد هذا الهدام! ولكنه لم يتمكن من تحقيق ما يريد.(105/4)
نشأة دعوة تحرير المرأة والمؤامرة عليها
للعلم -أيها الإخوة- أن اللورد كرومر الذي هو أساس التخطيط للإفساد العلمي والاجتماعي في العالم الإسلامي هو يهودي الأصل، وقد جاء إلى مصر لأهداف مبيتة، وأغراض خفية ظهرت فيما بعد، والذي ذكر يهوديته هو كاتب مؤرخ بريطاني معروف، فهذا الرجل اليهودي الخبيث جاء ومعه دنلوب -أيضاً- وهو قسيس خبيث آخر، ولا يبعد أن يكون من أصل يهودي أيضاً، كانوا يخططون لهدم هذا الدين.
وجدوا من أسرة محمد علي امرأةً لا تزال هي الصنم الذي يقتدي به المجرمات في كل زمان وفي كل بلد من أنحاء العالم الإسلامي وبالذات العالم الناطق باللغة العربية، وهي الأميرة نازلي، هذه الأميرة نازلي حفيدة إبراهيم بن محمد بن علي باشا، وإبراهيم بن محمد علي باشا معروف ما الذي صنع بأرض الجزيرة، وما الذي فعل ببلاد التوحيد؛ حيث هو الذي دمر دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه عندما قاد الحملات، حفيدته الأميرة نازلي التي أصبحت زوجةً للملك فؤاد وأماً للملك فاروق، في آخر أيامها -نسأل الله العفو والعافية- ارتدت عن الإسلام، ودخلت في دين النصرانية هي ومن كان معها عياذاً بالله! هذه المرأة الخبيثة كان اللورد كرومر يجلس في صالونها، وكان يجلس معه بعض المخططين لتنفيذ المخطط والمؤامرة على الإسلام وعلى المرأة المسلمة، وممن كان يرتاد هذا الصالون -كما هو ثابت في جميع المصادر التاريخية- الشيخ محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، وكثير من النصارى الذين كانوا يرأسون مجلة المقتطف وغيرها، وكذلك مرقص المحامي، كل هؤلاء كانوا يجلسون في ذلك الصالون -صالون الأميرة نازلي - ويتحدثون كيف يخططون للقضاء على الحجاب، وإخراج المرأة المسلمة من الحجاب إلى التحلل وإلى الإباحية.
ويشاء الله سبحانه وتعالى أن مستشرقاً فرنسياً يكتب كتاباً يتهجم فيه على الإسلام والحجاب، فانبرى له كاتب جاهل لا علم له ولا فهم يدعى قاسم أمين، وكان شاباً نزقاً لا يفقه في الدين شيئاً، فأخذ يرد ويهاجم المستشرق داركور، وشاء الله سبحانه وتعالى أن أولئك يتنبهون لخطر هذا الشاب، فاستدعي، وإذا به يعلن تراجعه عما هاجم فيه ذلك المستشرق، وإذا به هو يكتب كتاباً بعنوان: تحرير المرأة، وهو الكتاب الذي يعتبر إنجيل أو نبراس دعاة الاختلاط في كل زمان ومكان.
والعجيب أن كثيراً من فصول هذا الكتاب لو قرأتموها تجدون أنه لا يمكن أن يكتبها إلا متضلع بالأحكام الشرعية وبالفقه وبالأصول، ولهذا نُسب في أكثر من مصدر إلى أن الشيخ محمد عبده هو الذي كتب الكتاب أو كتب بعضه؛ لأن قاسم أمين كان يعمل مترجماً للشيخ في فترة من الفترات في مجلة العروة الوثقى.
والحاصل أن هذا الكتاب قد ظهر من صالون كرومر ونازلي، ماذا كانت دعواه أيها الإخوة الكرام؟ ماذا تتوقعون أن يقول؟ هل يدعو إلى الاختلاط؟ هل يدعو إلى الرذيلة، إلى البغاء، إلى الزنا، إلى الأفلام الخليعة، إلى كذا؟ لا، كان يقول: إن المرأة لا يجب عليها أن تغطي وجهها وكفيها؛ هذا الذي دعا إليه فقط؛ لأن المرأة المسلمة إلى ذلك الوقت كانت متحجبةً الحجاب الكامل، أي: إلى قبل ثمانين سنة لم يكن في مصر، وهي أول بلد عربي ترك نساؤه الحجاب وبدأت فيه هذه الحركة، إلى ذلك الوقت لم يكن هنالك امرأة مسلمة فيه إلا وهي متحجبة الحجاب الكامل، تغطي وجهها وكفيها وكل جسمها.
ولما طالب بذلك قاسم أمين، والعجيب أن قاسم أمين نفسه كانت زوجته محجبةً الحجاب الكامل، ولم يكن يسمح لأحد أن يراها أو أن يخلو بها؛ لأن المجتمع ما يزال تمسكاً بالمبادئ الإسلامية، والبداية هي هذه.
وهنا أيها الإخوة يجب أن نقف وقفة! ففي كل مجتمع -والعملية واحدة والمؤامرة واحدة- تبدأ الدعوى فقط في الحديث عن الوجه والكفين، وبالقول بأنه لا حرج على المرأة أن تكشف وجهها وكفيها، ولكن بم تنتهي؟ تنتهي بنوادي العراة، وبالأفلام الجنسية القذرة، وإلى نهايات لا يعلم مداها إلا الله عز وجل، لكن البداية هي من هنا، والمؤامرة واحدة في كل مكان وفي كل بلد، وهذا يجب أن يعلم؛ ولذلك كشر قاسم أمين عن أنيابه وكشف عن الحقيقة بعد ذلك بأعوام عندما ألف كتاب: المرأة الجديدة، ودعا فيه بصراحة ووضوح: إلى أنه يجب على المرأة المسلمة أن تقتفي نهج المرأة الأوروبية -أو قال: أختها الغربية- في كل شيء.
وهكذا كشف القناع عن حقيقة المؤامرة، وبعد ذلك وبتحريض من الإنجليز وبرعاية منهم ظهرت أو ارتبطت الحركة النسائية بالحركة التي تسمى الحركة الوطنية.(105/5)
الحركة الوطنية بداية المؤامرة
ونقف هنا أيضاً -أيها الإخوة- وقفةً أخرى؛ لأن العملية واحدة وتعاد وتكرر الأسطوانة في كل بلد، قيل: إن المرأة المصرية لابد أن تشارك في طرد الإنجليز والمستعمر، ولابد أن تسهم في خدمة وطنها، وفي بناء بلدها، وفي الخدمة الاجتماعية، وفي القيام بالواجب، نصف المجتمع لا يبقى معطلاً إلى آخر ما قيل في ذلك الزمن.
ومن هنا استغلت الحركة التي كان الإنجليز ينظمها ويرعاها -الحركة الوطنية- وخاصة حزب الوفد الذي كان يرأسه سعد زغلول، دخلوا من هذا الباب، وتبنى أولئك ما يسمى بتحرير المرأة، فكانت زوجة سعد صفية قد نسبت نفسها إليه، فسمت نفسها صفية زغلول وتركت اسم أبيها، وتبنى امرأة هي التي تسمى رائدة الحركة النسائية؛ لأنهم وجدوا أن قاسم أمين رجل، ولابد أن تكون الرائدة امرأة، فهذه المرأة هي هدى شعراوي، دخلت في حزب الوفد وتبناها سعد زغلول، وأفسح لها المجال، ومعها المدعوة الأخرى سيزا نبراوي، ومن هنا بدأت المؤامرة بأيادٍ نسائية.
وعندما قامت الثورة المصرية عام (1919م) -الثورة على الإنجليز كما سميت- وكانت ثورةً علمانية حيث كان شعارها: (الدين لله والوطن للجميع) وخرج الناس وقالوا: يجب أن نخرج جميعاً: اليهود والنصارى والمسلمون، واليهود في ذلك الوقت خرجوا علناًَ في مصر، للتظاهر ضد الاستعمار، فكان ممن خرج وشارك في هذه المؤامرة هدى شعراوي، ولجنة الوفد المركزية للسيدات كما سميت، خرج الوفد وخرجت معه هؤلاء السيدات في مظاهرة ضد الإنجليز، وكانت أغرب مظاهرة من نوعها في العالم الإسلامي، ولأول مرة تحدث أن النساء يخرجن ويظن أنهن في المظاهرة يحررن البلد ويشاركن في التنمية.
وكانت كثير من الخارجات متحجبات، حتى إن بعضهن مغطية الوجه أيضاً؛ لأن المسألة لم تكن قد أخذت بعداً واقعياً كثيراً، وكان الحجاب هو الأصل، وكانت التي تنزع عن وجهها الحجاب ينظر إليها على أنها فاجرة ودنيئة ودنسة، ومن أسرة لا أصل لها ولا قيمة لها إلى آخر ما يقال.
وحرص سعد زغلول على أن يقام سرادقات ضخمة لاستقباله لما رجع من المنفى -كما يسمى- ودخل المعسكر، وكن محجبات، ونزع الغطاء من فوق وجه هدى شعراوي وأمر الباقيات أن ينزعن، فنزعه بعضهن وأخذن يهتفن ويصفقن ويقلن: هذه الوطنية، وعاش الوطن، وليسقط الإنجليز.
ما علاقة خروج الإنجليز وما علاقة الوطن بهذا التهتك؟! وما علاقة ذلك بالحرية؟! وما علاقة الحركة الوطنية؟! هكذا أيها الإخوان تربط القضية هذه بتلك، ويقال: إن خدمة الوطن لا تتم إلا بالتبرج والتهتك والتعري، فلو أن امرأة مسلمة قدمت لأمتها خدمة مثلاً في التعليم -ولو أمضت العمر كله وهي تعلم- أو في الطب ولكنها محجبة لا يذكرها أحد، ولكن إذا تهتكت وتعرت واشتركت في الأفلام، وفي مسابقات فنية، أو في أي شيء مما لا يرضاه الله تعالى تحدث عنها القاصي والداني واعتبروها رائدة، ورفعت سمعة بلادها، وساهمت في تنمية وطنها إلى غير ذلك.
الاسطوانة واحدة تعاد وتكرر في كل مكان.
ثم بعد ذلك أذن لهن سعد زغلول أن يشكلن لأول مرة في تاريخ الأمة الإسلامية تنظيماً نسائياً، وتشكل هذا التنظيم النسائي، وستعجبون إذا عرفتم أن المكان الذي انطلق منه هذا التنظيم وخرجت منه المظاهرة هو الكنيسة المرقصية، كنيسة القديس مرقص صاحب الإنجيل، في الكنيسة تجمعن -هؤلاء حزب الوفد- وهن مسلمات في الأغلب، وخرجن من الكنيسة يطالبن بترك الحجاب، وبالتحلل منه؛ لتعلموا ماذا تريد المؤامرة!(105/6)
إقامة المؤتمرات الدولية النسائية
وانطلق التنظيم وتشكل، وشارك في مؤتمرات دولية، منها المؤتمر النسائي الأول في روما، والمؤتمر النسائي الثاني في أثينا.
وهنا أيضاً نقف وقفة عجيبة: لم تصدق المؤتمرات الدولية أن المرأة المسلمة ستترك الحجاب، وحدث أنه في المؤتمر الذي عقد في روما أن جاءت الممثلات اللاتي يمثلن الوفد المصري وكن متكشفات إلا واحدة، انظروا أيضاً من دعاة تحرير المرأة، وجاءت وهي محجبة حجاباً كاملاً، حتى وجهها لا يرى، انظروا حتى لا يقال: المجتمع -الحمد لله- طيب، والنساء محجبات، لماذا تخافون؟ كانت التي تدعو إلى التحرر وعضوة الوفد للتحرر لم تستطع من الحياء أن تنزع الحجاب عن وجهها أمام الأجانب الأوروبيين، ومع ذلك انظروا حال المرأة المسلمة اليوم، والعملية واحدة، والخطة واحدة، فأعضاء الوفد قالوا: أنتن غير مصريات.
يقول لـ هدى شعراوي وسيزا نبراوي: أنتن غير مصريات، مصر استعارتكن لتمثلنها، وأبوا أن يصدقوا أن امرأةً مسلمة تنزع الحجاب، قالوا: هذه التي لم تنزع الحجاب مصرية، هي التي تتكلم باسم المرأة المسلمة في مصر حتى أقنعنهم بالجهد حتى اقتنعوا، وصدقوا أن النساء الثلاث مصريات.
ومن هنا بدأت اللعبة تدخل إطاراً عالمياً جديداً، وتقول هدى شعراوي: إنها تشرفت بمقابلة موسوليني -الزعيم النازي الفاشي المعروف- قابلته، ثم بعد ذلك أخذت الصحافة الإنجليزية تشيد إشادةً عظمى بحركة تحرير المرأة وبدورها وبنشأتها وتطورها، وأخذ الكتاب من أمثال لطفي السيد وطه حسين، وكثير ممن شابههم يكتبون عن هذه القضية.(105/7)
إقامة الأحزاب النسوية
هنا نقف أيضاً ونتذكر شيئاً آخر: في هذه المرحلة -وهي مرحلة الحرب العالمية الثانية- كانت أمريكا قد برزت وأخذت تتسلم قيادة العالم الغربي، ومن ثم ورثت الاستعمار الغربي بكل ضروبه وأنواعه، ونجد الرئيس روزفلت، وتعلمون أن أول رئيس تمكن اليهود من السيطرة عليه بشكل واضح جداً هو ترومان، ثم بعده روزفلت، وكانت زوجة روزفلت من أعظم المهتمات بشئون ما يسمى تحرير المرأة، وتبنت زوجته الحركة، وأخذت تنفق عليها، وأقامت علاقات مع درية شفيق وأمثالها، ومع حزب بنت النيل، هذا الحزب النسائي، وتأسست أحزاب أخرى تسمى الأحزاب النسائية، وكان غرضها المطالبة بحقوق المرأة حتى طالبوا بمساواتها في الميراث، وطالبوا بخلع الحجاب، وطالبن بالتحلل الكامل من كل أحكام الشريعة الإسلامية.
وهنا يشاء الله سبحانه وتعالى وهو الذي تكفل وتعهد بنصر دينه ولو كره الكافرون، وبأن يخزي أعداءه في الدنيا والآخرة، وبأن ينصر الذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد: أنه حصل خلافات سياسية بين الأحزاب أدت إلى كشف الأوراق على حقيقتها، وإذا بحزب بنت النيل يفضح على رءوس الملأ وفي الصحف، ويكشف أن السفارتين الإنجليزية والأمريكية هما اللتان تمولان هذا الحزب والأحزاب الأخرى، وأن الذين بنوا لهم مقراً من الأثرياء الأمريكان، وبعضهم من اليهود، وأن اللاتي شاركن فيه هن متآمرات متواطئات مع الاستعمار ومع أهدافه وخدمته.
وما أن انكشف ذلك حتى أيقظ الله تعالى من كتبت لها الهداية واليقظة، وأحس الناس بخطر الأمر وارتفعت الأقلام من جديد بالمطالبة بالقضاء على هذه الحركة الخبيثة اللئيمة قبل أن تستشري عدواها، هذا على المستوى الفكري.
أما على المستوى العملي: فأنشئت أول دار للسينما، وأنشئت مراكز أيضاً بما يسمى الترفيه والرقص، وكانت النساء اللاتي يشاركن فيه يهوديات وقبطيات، وبعض المسلمات اللاتي تعمد إدخالهن، وعد ذلك من تحرر المرأة ومن نهضتها وتقدمها كما يقال.
ثم بعد ذلك لما قام ما يسمى بالثورة قامت وتحولت مصر دولة اشتراكية -كما هو الحال في كثير من دول العالم الإسلامي- أخذ الأمر بعداً أعظم من ذلك، وأصبحت المسألة مسألة حرب سافرة على الإسلام والمسلمين، حتى خلت الجامعة من كل محجبة، وفرضت على المرأة المسلمة شاءت أم أبت أن تكون أوروبية غربيةً بمعنى الكلمة، وكبت صوت الحق وقد كان يقاوم هذه الصرخات والدعوات.
ولا يخفى عليكم ماذا نتج بعد ذلك، وماذا حصل أيضاً بعد الهزيمة المنكرة التي حلت بأولئك المجرمين في عام (1967م) وذلك عندما قامت دعوات من جديد، ورجعة في صفوف الشباب إلى الدين، وعاد الحجاب من جديد إلى الجامعة، وأصبح هذه المرة الدعوة إلى الحجاب دعوةً إسلاميةً سلفية، تقوم على التمسك بالحجاب؛ لأنه من عند الله، لا لمجرد أنه من العادات.
وهنا تعالى الصراخ وما يزال إلى اليوم يتعالى، وتحدث الدكتور زكي نجيب محمود يقول: ما هذه الردة -سماها ردة -التي وقعت فيها المرأة في مصر بعد أن تحررت وانطلقت ترتد الآن للحجاب، وكتبت أمينة السعيد عدة كتابات، وكتباً كثيرة، وما تزال الصحف ووسائل الأعلام التي يملكها هؤلاء تكتب الآن عن هذه الظاهرة، والعجيب أن يقع في فخاخ ذلك أيضاً دعاة أو كتاب ومفكرون يقولون: كيف تتحجب المرأة؟ كيف تغطي وجهها؟ كيف ترجع إلى ما كانت عليه من عادات فارسية وتركية ليست من الدين في شيء؟ واتسع نطاق المؤامرة، ولا يهمنا بعد ذلك العرض التاريخي الذي لا يخفى على أحد منكم، وإنما نقول: هذا هو المسلسل أو المخطط العام لهذه المشاهد والفصول لهذه القضية المهمة.
وبعد ذلك نقول: ماذا يريد هؤلاء؟ وماذا حققوا للمرأة؟ وماذا يجب علينا إزاء هذه الدعاوى الخطيرة؟(105/8)
واقع المرأة الغربية
لعلنا إن تحدثنا عن المرأة المسلمة أن يقال: إن هذا الأمر نتيجة اقتصادية، أو عائلية، أو أوضاع دينية لا علاقة لها بمسألة التحرر أو التحرير، فاسمحوا لي أن أتحدث عن واقع المرأة الغربية التي يريد هؤلاء أن ينقلوا المرأة المسلمة لتكون مثلها، هناك لا يستطيعون أن يتحدثوا عن هذه الأمور، فما هو واقع المرأة في الغرب في الدول التي تطبق ما يريده دعاة الاختلاط والانحلال أن يدعو إليه المرأة المسلمة، البلاد القدوة لهؤلاء كيف حال المرأة فيها؟ ما قصتها؟ كما أشرت كان الغربيون ينظرون إلى المرأة على أنها شيطان، رجس، وأنه ليس لها روح، وكان كثير من الباباوات أو من القديسين -كما يسمون- يقول: إن الشيطان ظهر له في صورة امرأة، ودعاه إلى ترك الدين -أو ما أشبه ذلك- فكانت عندهم رمز الرجس ورمز الرذيلة، ولأن -كما تقول التوراة المحرفة التي كتبوها بأيديهم- المرأة هي التي أغرت الرجل -أي: آدم- بارتكاب الخطيئة والأكل من الشجرة.
وعندما قامت الثورة الفرنسية مطالبةً بما أسموه حقوق الإنسان وحرية الإنسان حصلت المرأة على شيء مما يمكن أن نعتبره اعتراف بأنها إنسان، وبأن لها روح، وبأنها بشر، وأخذ المفكرون والأدباء يدعون إلى ذلك، وإن كانت دعوتهم تتلبس بالرذيلة والكلام عن البغايا، والرأفة بهن والشفقة عليهن، وتتحدث عن الراهبات وأنهن منافقات ويزنين في السر وما أشبه ذلك؛ لكن بدأ هناك شعور في أوروبا أن للمرأة روحاً، وأنها إنسان وليست بشيطان.
ثم جاءت الثورة التي تسمى الثورة الصناعية، وهي التحول الاجتماعي الكبير الذي حدث في أوروبا نتيجة الانتقال من الإقطاع إلى الصناعة، وهناك اضطهدت المرأة اضطهاداً شنيعاً، -كما في التاريخ الأوروبي- فكانت المرأة الأوروبية تعمل لمدة ثماني عشرة ساعة وهي تعمل في مناجم الفحم تحت الأرض، وتجر العربات المحملة بالفحم كالحيوان لتصعد بها إلى أعلى المنجم، فكن يشتغلن في أعمال شاقة جداً ولا سيما مع الحروب، ومع الفتن التي تؤدي إلى أن المرأة تحتاج ولا تجد من يعولها ولا من ينفق عليها.
فحينئذ قامت حركات في الغرب تنادي بأن تتحرر المرأة، وأن تتعادل في الأجر مع الرجل، وأن تساوى به في الحقوق؛ لأنها مهضومة.
واستمر الحال، وجاءت الحربان العالميتان فزاد الأمر سوءاً؛ لأن الملايين من الشباب والآباء قتلوا، فكثر عدد النساء، واضطررن إلى الابتزاز ليجدن ما يتكسبن ويعشن منه.
والقوانين الأوروبية والفرنسية والإنجليزية وغيرها لا تسمح للمرأة بالتملك إلى هذا اليوم، والمرأة ممنوعة في كثير من الدول أو في بعض منها أن يكون لها حق الانتخاب، وإلى هذا اليوم والمرأة ممنوعة من أن تملك شيئاً أو مبلغاً أو مالاً وتضعه باسمها، حتى أني أذكر قبل حوالي شهر نشرت جريدة سعودية خبراً تعليقاً على خبر، شيء عجيب يقول الخبر: إن امرأةً سعودية لها تركة فيها ملايين وعملت مصنعاً، تملك هذه المرأة مصنعاً!! فتقول الكاتبة -وهي من دعاة التحرر-: هذه فرصة عظيمة للمرأة السعودية أنها بدأت تملك شيئاً، وأنه يجب عليها أن توظف النساء في هذا المصنع.
سبحان الله! يعني غريب في الدين أن المرأة تملك مصنعاً!! لو أن رجلاً توفي وعنده ثلاثة مصانع، وعنده ولد وبنت كيف نقسم التركة؟ بديهية معروفة: البنت تأخذ مصنعاً والولد مصنعين، من أيام النبي صلى الله عليه وسلم، ومنذ نزول آيات الميراث والتركة تقسم بأن للذكر مثل حظ الأنثيين، فما هو العجيب؟! قال: هذا شيء عجيب أن امرأة سعودية تمتلك مصنعاً؛ إذاً: لازم أن يكون العاملون فيه من النساء سبحان الله؟! من أين جاء هذا اللزوم؟ لأنهم ينظرون بعين الغرب حتى إلى بلادهم التي فيها تنعم المرأة والحمد لله بما لا تحلم به أي امرأة في الدنيا.
هناك المرأة الأوروبية تريد أن يعترف بها كإنسان -كما قلت- أن يعترف لها بحرية التملك، بأنها تملك شيئاً ما، أن يعترف لها ببعض الحقوق وهي لا تستطيع أن تحصل على ذلك.
هنالك المرأة إذا بلغت الثامنة عشرة تطرد من البيت، نعم يطردها أبوها، ولا تعيش مع الأسرة، وتذهب لتكدح بأي وسيلة من الوسائل، وفي أي بلد من بلدان العالم، تكدح وتحمي نفسها من الابتزاز، وتنفق على نفسها، وتبذل شرفها وعرضها من أجل لقمة العيش؛ وهذا أمر عادي جداً في العالم الغربي؛ ولهذا رأى كثير من الناس المظالم التي تنزل بالمرأة فقالوا: لماذا تبقى المرأة هكذا؟ لماذا هذا التعصب والعنصرية من الرجال ضد النساء، وهو تعصب واضح، قالوا: لماذا لا تساوى بالرجل في الأجور؟(105/9)
فشل الجمعيات النسائية المطالبة بحقوق المرأة
في الولايات المتحدة الأمريكية في الستينيات -على ما أظن (1968م) أو (1964م) - صدر قرار في الولايات المتحدة الأمريكية بأن الرجل والمرأة إذا كانا يعملان في مكان واحد في عمل واحد أن تكون أجرة المرأة مساوية لأجرة الرجل ما شاء الله، الآن في أرقى دولة في العالم نفس العمل ونفس الوظيفة ونفس الشهادة، والآن تذكروا أنه لابد أن يكون لها نفس الأجر.
إذاً: هم يطالبون بالتحرر لأن واقعهم هكذا، ومع ذلك لم يطبق القرار فالشركة التي تريد أن تبتز المرأة تجعلها تكتب تعهداً على نفسها بأنها تقبض مثل الرجل وتقر بذلك، وتعهد خفي آخر بأنها لا تقبض إلا أقل، ولا تطالب الحكومة، ولا تقيم دعوى ضد الشركة، وهذا هو المعمول به.
مظالم كبيرة جداً تنزل بالمرأة الغربية لأنها امرأة فماذا يعملون؟ قالوا: لابد من وجود حركة نسائية، وجمعيات نسائية تجابه هذا التسلط الطاغي الباغي، فالمرأة لا أحد يعولها، لا أحد يرحمها، لا أحد يشفق عليها، محاربة من كل مكان ما الحيلة؟ قالوا: تجمعن يا نساء، طالبن بحقوقكن؛ فأنشأن الجمعيات النسائية لماذا أنشئت؟ قالوا: حتى تطالب بحقوق المرأة جماعياً ما شاء الله.
حسناً: حزب الأحرار يريد أن يفوز في الانتخابات فيقول: إذا فزنا في الانتخابات نعطي المرأة ونعطي ونعطي، فتصوت معه النساء، فإذا كسب الانتخابات تنكر لها وأصبح مثل حزب المحافظين، وكذلكم فرنسا، وكذلك في كل دولة يستغلون المرأة ليكسبوا الأصوات النسائية، فإذا حكموا تخلوا عما وعدوا به المرأة، لا فائدة، حتى أن هذه الجمعيات لم تؤد دورها، لكن كما يقال: بدل أن تبكي وحدك اذهب في مأتم.
يعني: بدل أن تبكي المرأة وحدها تدخل في مأتم تبكي مع ألف امرأة أحسن من أن تبكي وحدها، تدخل في جمعية، والجمعية هذه تبكيهن، وتسليهن، نطالب نطالب نطالب، ولكن لا فائدة في المطالبة.
فهي امرأة مظلومة فعلاً، وحقوقها مهدرة بالفعل، ولا تجد من يحميها، ولهذا في أحد مؤتمرات المستشرقين تكلم كثير من المستشرقين على أن الإسلام يظلم المرأة ويضطهد المرأة ويفعل بها، فقام الدكتور أحمد الشرباطي رحمه الله -راوي القصة- رافعاً يده حتى يرد على هذا الافتراء، فقامت امرأة كانت تشغل منصباً كبيراً في وزارة الثقافة الألمانية، قالت: أنا أتكلم.
فقاطعها فقاطعته، فظن أنها تقاطعه لتؤكد الأمر، قالت: أنا أريد أن أجيب عنك، فقالت: أيها السادة! لماذا تتكلمون وتتهمون الإسلام لأنه يبيح تعدد الزوجات؟! هذه القضية التي دائماً تكررونها، لأنه يجعل المرأة الرابعة، قالت: أنا أريد أن أكون المرأة الرابعة والثلاثين؛ بشرط أن أجد رجلاً يحميني من اللصوص ويؤويني إذا كبرت أو عجزت إلى آخر ما تحدثت به، الرابعة والثلاثين! تقول: نحن مستعدات! هذه المرأة الغربية التي يريدون للمرأة المسلمة أن تقتدي بها وأن تكون مثلها.
الحركة النسائية الغربية دخلها الهدامون أيضاً، وأخذوا يقولون: نطالب بالمساواة في الأجور حسناً، نطالب بالمساواة في الحقوق حسناً، ماذا بعد ذلك؟ قالوا: نطالب بحرية الإجهاض، نطالب بمنع الزواج سبحان الله! هذا من حقوق المرأة! لكن المفسدون دخلوا حتى في هذه الجمعيات يريدون أن يفسدوا المجتمع أكثر؛ ولهذا ظهرت حركات مضادة للحركة النسائية، وتدعو إلى سيطرة الرجل، وإلى دوام تسلطه على المرأة، وأن المرأة لا يصح أن تولى أي شيء، ولا يصح أن تملك أي شيء، واستمر الصراع بين الحركة النسائية والحركة النسائية المضادة، والكل لا شريعة لديه ولا وحي يهتدي به، صراعات وآراء، مظاهرات تقوم لصالح المرأة ولا نتيجة لها، مظاهرات تقوم ضدها ويكون الهدامون يعملون من ورائها، حتى أصبحت النساء يطالبن بالعودة إلى البيت، ويطالبن بأن ترجع إليهن شيء من كرامتهن في عصور الإقطاع، يترحمن على عصور الإقطاع القديمة؛ لأنهن الآن يمارسن إقطاعاً من نوع بغيض كريه في ظل الحضارة الرأسمالية الغربية.
أما الدول الشيوعية فماذا تقول؟ حدث ولا حرج عما تعانيه المرأة هناك من تسلط، ومن ظلم، وهكذا.
إذاً: لا عدل ولا رحمة ولا إنسانية إلا في شرع الله سبحانه وتعالى، وإلا في دين الله عز وجل.
وإن مما يجب أن نتحدث عنه هو: ماذا يريدون من هدم المجتمع المسلم ومن إخراج المرأة المسلمة من حجابها؟ ما هي بعض الأهداف التي يحققها دعاة ما يسمى التحرر؟(105/10)
كثرة عدد المسلمين تقلق الغربيين
إن الغرب يجد نفسه -أيها الإخوة- أقليةً، يوماً بعد يوم يتحول الغرب - أوروبا وأمريكا - إلى أقلية بالنسبة لدول العالم، وإن الشيء الوحيد الذي يملكه الغرب الآن ويتفوق فيه على جميع شعوب العالم، وبه يمتلك الدنيا أو معظمها هو: التقدم والتفوق التكنولوجي المادي، فقالوا: الآن التكنولوجيا سرقتها منا اليابان وكوريا وبعض الدول، وفي الإمكان أن تتفوق علينا، لكن الشيء الأساس التفوق الإنساني، التفوق الإنساني يا أمة الإسلام! الغرب أدرك أن أهم شيء هو التفوق الإنساني لا المادي، ومن ذلك التفوق في العدد البشري، إذا بقي الحال هكذا كما في إحصائيات نشرت، فإنه بحلول عام ألفين يصبح عدد سكان مصر أكثر من مائة مليون، وعدد سكان إندونيسيا أكثر من مائتين وعشرين مليون، وبمعنى آخر: يصبح عدد سكان مصر وإندونيسيا موازٍ لعدد سكان أوروبا أو الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا شيء مفزع جداً لهم، ما بالك بالدول الأخرى.
إذاً سيتحول الغرب إلى أقلية بالتدرج، فوجدوا بدراسات إحصائية مستفيضة أن نسبة الوفيات في بريطانيا وإيطاليا وألمانيا وفرنسا وأكثر دول أوروبا أنها أكثر من عدد المواليد، لماذا درسوا ذلك؟ لأنهم وجدوا أن السبب تأخر سن الزواج، وأن السبب هو خروج المرأة للعمل، فإذا خرجت المرأة للعمل ترتبت مفاسد عظيمة، منها: أنها لا تتزوج، وبالتالي تريد أن تصرف وتنفق راتبها بالزينة، وبالتهتك، وفي أماكن اللهو الرخيص، ولم تتحمل أعباء الحمل والوحم والولادة ومشاكل البيت، ولو تزوجت فنسبة الطلاق في ارتفاع مذهل في الدول الأوروبية فماذا يفعلون مع وجود ما يسمونه التحرر الجنسي والحرية الجنسية؟ لماذا ترتبط المرأة برجل ولماذا يرتبط بها؟ فإذاً فلتبق هكذا، فنتيجة لذلك لم يعد هناك لدى الأمة مواليد بقدر الوفيات، ومع الزمن تشيخ الأمة وتهرم، وتموت بعد ذلك إذاً: نهاية الغرب في أحد جوانبها مرتبطة بعدد السكان، ولهذا حرصوا على هدم المجتمع المسلم، وانظروا إلى مصر بالذات لأنها تشكل كتلة بشرية كبيرة بالنسبة للعالم الإسلامي، ولمجاورتها لإسرائيل، كم يحرصون أشد الحرص على إقناع المسلمين في مصر بأن يقللوا من عدد المواليد، ويقللوا من عدد الأسرة، بينما الأقباط يريدون أن يكثروا ليصبحوا أكثرية أيضاً، وفي الهند كذلك، وفي سيرلانكا سمعتم الأخبار الأسبوع الماضي تعقيم المسلمين إجبارياً حتى لا ينجبوا، وحتى لا يكثروا! الاتحاد السوفيتي درسوا دراسة إحصائية، وجدوا أن ثلث السكان من المسلمين، وأن نسبة توالدهم في ازدياد، حيث يمكن أن يصبحوا بعد مائة سنة ثلثي سكان الاتحاد السوفيتي، وإذا انتهى الاتحاد السوفيتي أصبحت أكثر الدولة إسلامية هذه قضية مهمة يغفل عنها دعاة تحرير المرأة عندنا -مع الأسف- في بلاد الإسلام، ولا يبالون بها لأنهم منساقون وراء أعداء الله وكفى.
ألمانيا وضعت خمسين ماركاً للمولود الأول، منحة وإعانة، والثاني سبعين، والثالث مائة وعشرين، من أجل أن يكثر عدد الأطفال، ويقولون: المصيبة أن الذي استفاد من هذا هم المسلمون الأتراك العمال؛ لأنهم مليونان تقريباً ويعملون في ألمانيا، فالأتراك يكثر نسلهم؛ إذاً هذه مصيبة جديدة.
في فرنسا قالوا: ما استفدنا شيئاً؛ لأن المهاجرين من شمال أفريقيا وهم من المسلمين أيضاً، والمسلم -الحمد لله- أينما حل يحرص على الزواج، وإن ارتكب الحرام لكن يبقى عنده هم أنه لو أمكن الزواج فسأتزوج.
أيضاً في فرنسا استفاد المسلمون من المغرب شمال أفريقيا من الإعانات ولم تستفد منها فرنسا القاصية إلا القليل؛ وهكذا أصبحت هذه قضية مهمة تتحدث عنها الصحافة الغربية يومياً تقريباً، وقالوا: لابد أن نصدر هذا الوباء إلى العالم الإسلامي أيضاً، وبالذات الدول التي أنعم الله تبارك وتعالى عليها كدول الخليج، دول أنعم الله عليها بالثروة، وتعتمد على العمالة الأجنبية، وتعتمد على الأيدي المستقدمة، هذه لو كثرت -وهي أقرب المجتمعات إلى الفطرة وإلى النقاوة - ولو أصبحت هناك كثافة سكانية كبيرة، لاستغنت عن استقدام هؤلاء ومنهم الكفار وغيرهم ولكان لها قوة.(105/11)
عمل المرأة والأخطار الناتجة عن ذلك
الأمم الآن يا إخوان -كما أشرت- أدركت أن الإنسان هو المهم وليس الآلة، الإنسان هو الأساس، والأمة الإسلامية وإن قل عددها لكن إذا تمسكت بدينها فهي التي تقيم الحضارات وتكون أعظم من أي أمة كافرة؛ لأن الأمريكي الذي يكتشف، أو يطلق الصواريخ في الفضاء أو ما أشبه ذلك هو إنسان منحط أخلاقياً، كم يقضي في الخمر! كم يقضي في الزنا! نحن نعلم جميعاً أن المعاصي تضعف وتنهك البدن، وتنهك الأمة، مع ما في أمريكا من المفاسد والمخدرات التي أقلقت المسئولين، وكل شيء تخترع وتصنع، كيف لو أن الأمة الإسلامية التي تحتفظ بعقلها؛ وبقواها البدنية؛ لأنها لا تزني، ولا تسرق، ولا تشرب الخمر، ولا تمارس الدعارة والفساد والمخدرات، كيف لو أن هذه الأمة أخذت بالتكنولوجيا ولديها المال والحمد لله ثم زاد عدد سكانها؟! إذاً: لا تغلب هذه الأمة أبداً هكذا يخططون؛ ولهذا نجد أن ما يشكى عنه في الجرائد، كل يوم: زيادة العنوسة، ومشكلة تأخر الزواج وما إلى ذلك، أن جزءاً منها على الأقل مما يخطط له أعداء الله، ومما يريدونه؛ لأنهم جعلوا مناهج الفتيات كمناهج الأولاد سواءً بسواء، وأصبحت إن أخذت الشهادة الجامعية كالابن يعزف عنها الشباب؛ لأنه لا يريد أن يتزوجها؛ لأسباب عديدة تتكلم عنها كثيراً الجرائد لا داعي أن أعيدها عليكم، وإن أخذت شهادةً أقل تشعر أنها قد لا تتزوج إذاً لا تعمل، ربط الحصول على العمل بالشهادة، وربطت الشهادة بمنهج الأولاد ونفس المراحل، هذه المصيبة التي خطط لها أعداء الله حقيقةً، وهي التي يجب على الأمة الإسلامية أن تعيد النظر فيها.
لو أنه وجد للمرأة تعليم مستقل تماماً عن التشبه بتعليم الرجال، ولم يربط مطلقاً بمسألة الوظيفة لكانت الأمة بخير عظيم، ولتجنبت كل هذه الشرور والمفاسد.
ثم ما الذي ينتج إذا عملت المرأة كما هو واضح؟ إذا عملت المرأة أولاً تنافس الرجال في الوظائف، الدولة التي عندها عشرة آلاف وظيفة مثلاً، وتخرج عشرة آلاف خريج وعشرة آلاف خريجة، إنها ستعطي خمسة آلاف منهن خمسة آلاف وظيفة؛ فيتعطل خمسة آلاف شاب فيتحولون إلى مجرمين، وإلى لصوص، وإلى مدمني مخدرات، وإلى ما لا يحتاج إلى أن يذكر لمعرفته في الإحصائيات العالمية.
أما الخمسة آلاف اللاتي توظفن ما الذي يحصل؟ تحتاج إجازة ولادة، وفترة الحمل، والوحم، وفترة الدورة الشهرية تكون متوترة عصبياً؛ ويكون الإنتاج قليلاً.
ثانياً: إن تزوجت تحتاج إلى خادمة -قد تكون كافرة- حتى تربي الأولاد، تحتاج إلى سائق، ثم ما بقي من الراتب بعد أن تعطي الخادم والسائق والمربية أين يذهب؟ يذهب على مشاغل الخياطة، وعلى دور الأزياء التي ترجع في النهاية إلى الشركات اليهودية، وأباطرة المال هم اليهود في العالم؛ لأنها مفتونة بالتزين، مفطورة على ذلك.
ثم بعد سنوات تقدم الاستقالة أو تضيع الأسرة، أو يطلقها الزوج، ثم جاءت المصيبة الأخرى، لو قال الزوج: يا زوجتي! أنت تعملين، والأطفال ضائعون، وأنا لا أريد الخدامة، أريد أن أتزوج زوجة ثانية بالحلال؛ تقوم الدنيا ولا تقعد! وتؤيدها في ذلك الصحافة وأمثالها: كيف تتزوج اثنتين؟ كأن -عياذاً بالله- مبدأ النصارى المنحرف أصبح هو مبدأنا، كيف يتزوج فلان؟ كيف يتزوج عليها؟ فتصيح وتضج، حتى أصبح بعضهن عياذاً بالله يفضلن أن يذهب أزواجهن إلى أماكن الفساد - بانكوك، مانيلا - شهر شهرين ولا يتزوج عليها! سبحان الله! كيف وصل الأمر إلى هذا الوضع المؤلم؟ فلو تزوج انشقت العائلة، وصارت الفتنة، وقد تستقيل، وإذا استقالت عطلنا هذه الوظيفة، وعطلنا العمل الذي كانت فيه، ولم تنجب الأمة الأطفال من كل ناحية نجد مفاسد عديدة! لكن لو أعطيت الوظيفة للخريج، وتزوج تلك الفتاة خريجة أو غير ذلك، وبنى أسرة، هو رجل يعمل ويكدح وهي في البيت تربي الأجيال، وهو أقدر منها على التصرف بالمال بحكمة، وليس كل أحد، ولكن في الجملة الرجل أحسن تصرفاً ولا سيما فيما يتعلق بالزينة وبما اشتهى.
في الاتحاد السوفيتي، الدولة الشيوعية الكافرة الفاجرة، المرأة التي تنجب عشرة أطفال من حلال أو حرام، المهم أنها تثبت أنها أنجبت من رحمها عشرة أطفال تعطى وساماً تعلقه على صدرها، وتقدم لها تسهيلات في الركوب، وتركب أي مكان وتنزل في أي مكان، وتعطى شيئاً من الحصانة؛ لأنها استطاعت أن تنجب عشرة أطفال، طبعاً هذا غير المسلمات، لأنها أنجبت عشرة أطفال اشتراكيين عماليين.
إذا جئنا إلى واقع المرأة من هذه الزاوية وأخذنا مثالاً: المرأة التي تتزوج وهي في الثامنة عشرة -وفي مجتمعنا كانت الفتاة تتزوج وهي في الخامسة عشرة على الأقل- هذه المرأة إذا تزوجت وهي في الثامنة عشرة مثلاً إذا وصلت إلى الأربعين كم نتوقع أن يكون عندها من الأطفال؟ في العادة في مجتمعنا هذا قد يصلون إلى ستة، فلنفرض أنهم خمسة فقط مع أن هذا قليل جداً، ولنفترض أن الطفل الأول ولد وهي في سن الثامنة عشرة أو العشرين، عندما يكون عمرها أربعين سنة كم يكون عمر الطفل الأول؟ عشرون سنة، إذاً: شاب قوي، ما شاء الله! والذي بعده ثماني عشرة سنة، شاب قوي، والذي بعده خمس عشرة سنة أيضاً الحمد لله شاب، وكذلك وإن كانت فتاةً، الثاني أو الثالث أيضاً في سن الزواج.
إذاً: هذه الأمة بعد جيلين أو ثلاثة يتضاعف عدد سكانها، وتبقى أمةً شابة، الشباب فيها متجدد، لكن لو أن المرأة توظفت وعملت ولم تتزوج -كما يقال أحياناً في زوايا المجلات- فضلت واختارت العمل على الزواج بئس الاختيار والله! اختارت العمل على الزواج.
حسناً: عندما يصير عمرها أربعين سنةً تصبح عجوز، مجهدة، منهكة، محطمة نفسياً لأنها لم تتزوج، لا تستطيع أن تستمر في العمل لكبر السن وللعوامل النفسية والطبيعية والصحية إلخ، ثم قد لا تتزوج إلى الأبد، وإن تزوجت وهي في الأربعين فأي إنسان يأتي مهما كانت الشروط ترضى وتأخذ، ثم مرت عليها هذه العشرون سنة لم تعطي العطاء الصحيح أثناء العمل، ومع ذلك فهي هرمة، والأخرى تلك نجد نفسيتها أفضل، صحتها أحسن، تعيش في بيت وفي أسرة مطمئنة، وفي هذا البيت هؤلاء الشباب الذين تتراوح أعمارهم من العشرين إلى الثمانية عشرة إلى الخامسة عشرة إلى الثانية عشرة إلى العشر سنوات إذاً: انظروا كم قد قدمت هذه للأمة من خدمة، لو نظرنا بالحسابات المادية المجردة: أيهما التي قدمت خدمة أفضل لأمتها: هذه التي لديها هذا العدد -ما شاء الله! - من الشباب، أم تلك الهرمة التي لا تملك شيئاً إلا نفسيةً محطمةً تفرزها على المجتمع نقمةً وسخطاً وكآبة ومطالبات لأمور لا يحق لها أن تطالب بها؟ أقول: من هذا المثال يتبين لنا أن الأمة كلها لو سارت على نهج الإسلام، وتزوجت الفتيات في سن الزواج، وانصرفن إلى الوظيفة العظمى وهي الأمومة وما يتعلق بها، وكان العمل محدوداً في مجال وميدان المرأة، ومحكوماً بالأسس والأحكام الشرعية الواضحة التفصيلية، وترك المجال للشباب كيف تكون حال هذه الأمة؟ وبالمقابل: كيف لو أن الأمة انساقت وراء هؤلاء الهدامين، وفضلت نساؤها العمل على الزواج، وتركن إنجاب الأطفال، وبقيت العمالة الوافدة بمفاسدها وبما فيها من شرور، وأصبحت الأمة أمةً هرمةً، أمةً لا تملك الشباب، وهم القوة التي تحرص كل أمة عليها.(105/12)
خطورة التمييز العنصري بين الرجل والمرأة
موضوع المرأة وبالذات إذا أردنا أن نستعرض الموضوع من الناحية الواقعية فإنه طويل ومتشعب، وأحب أن ألفت أنظار إخواني الكرام إلى مسألة مهمة جداً، وهي: أنه لا يوجد في ديننا، ولا في مجتمعنا أيضاً ولله الحمد، لا وجود لتمييز عنصري بين رجل وامرأة، لا وجود لذلك.
الإثارة التي تثار في الصحافة وفي بعض وسائل الإعلام وفي المسلسلات الفاسدة التي تصور العلاقة على أنها علاقة عداء، تمييز عنصري بين الرجل وبين المرأة يجب أن تقف عند حدها، ويجب أن نترصد لها وأن نتنبه لها ونكون لها بالمرصاد.
ليس في مجتمعنا رجل عدو للمرأة ولا مرأة عدو للرجل فضلاً عن ديننا والحمد لله، هذه قضية مستوردة من الغرب، الغرب -كما أشرنا- هو الذي يعيش في هذا التمييز الشنيع بين الطبقة الأرستقراطية الغنية وبين الكادحين العمال، ويعيش في التناقض الشديد بين جنس المرأة والرجل كجنس مسيطر، وبين شعوب تريد أن تسيطر على الشعوب الأخرى، بين أصحاب مهن يتصارعون من أجل الحصول على ما يريدون، المجتمعات الغربية هي التي تتفكك إلى تجمعات للطلاب ضد المدرسين وضد إدارة الجامعة، وتجمعات للمدرسين ضد الطلاب أو أحياناً ضد إدارة الجامعة، تجمعات للشعب ضد الحكومة، وأحزاب حكومية ضد الشعب، تجمعات نسائية ضد الرجل، تجمعات رجالية ضد المرأة، هذه لا وجود لها في ديننا ولا يجوز أن توجد في مجتمعنا، والحمد لله هي في الأعم الأغلب لا وجود لها حتى في واقعنا في هذا البلد بالذات.
هذه القضية هي الأصل ولو فقهنا ذلك لعرفنا ماذا وراءه، عندما يقوم رجل ويطالب بحق المرأة وأن الرجل يظلمها، قف يا أخي! قف إن كنت مؤمناً بالله واليوم الآخر! لا تكتب هذا في جريدة سعودية ولا مجلة سعودية، ماذا تقصد بالرجل، من الرجل الذي ظلم المرأة: أبوها، أخوها، زوجها؟ من؟ إن كان أحد هؤلاء وهذا واقع مجتمعنا؛ لأن المرأة تتعامل في مجتمعنا مع هؤلاء، فإن كان هؤلاء فليكن في علم كل من يدعو إلى هذه الدعوة أنه لن يحرص على أي فتاة أكثر من حرص أبيها أو أخيها، لا نقول: إن الأب لا يخطئ على ابنته، لأنه قد يقع، لا نقول: إن الأخ لا يظلم أخته، قد يقع، لا نقول: إن الزوج لا يظلم زوجته، قد يقع، لكن من المحال أن هذا الكاتب البعيد الذي يعيش وهو ربما لم يعرف الزواج أصلاً أن يكون أشفق وأرأف بالبنت من أبيها.
هذا غير معقول.
ثم إن كان هناك شيء من هذه المظالم فإن للظلم في ديننا ما يرفعه وجوباً، إن القاضي في شريعتنا والحمد لله يتولى أمر الفتاة إذا ظلمها أبوها أو إذا لم يكن له عليها ولاية شرعية، إنها لا تضيع أبداً؛ فلا حاجة إلى تكتلات، ولا تجمعات، ولا مطالبات صحفية، هي بنفسها تتقدم إلى القاضي فترفع الولاية عن أبيها وتعطى لأقرب ولي، وإن لم يكن فالقاضي بنفسه يزوجها ولا يرضى أن يقع الظلم عليها.
لا يمكن في المجتمع المسلم أن تبقى امرأة تتكفف الناس وتسألهم من الحاجة، أبداً، ولو أدى الأمر إلى أن يؤخذ جزء أو نصيب من أموال الأغنياء لتعطى في حالات الضرورة، لكن لا يوجد أصلاً، مجتمعنا -والحمد لله- بنفسه لا يرضى ذلك على ما فيه من أخطاء ومعاصٍ نحن نعيشها -نسأل الله أن يغفرها لنا- لا يوجد تكريم للمرأة كالمرأة في هذا المجتمع، الرجل الغليظ القلب الذي يأتي من البادية بجفائه، إذا رأى زوجته يكرمها ويصونها ويشتري لها كل شيء، وينزلها في مكان محترم يراه، وإذا جاءت لتركب مع أناس قالوا: صاحب العائلة يقدم وتترك السيارة له، ورجل المرور إذا رأى صاحب العائلة يفسح له المجال ويراعيه، أشياء لسنا مأمورين بها كنظام كما في الغرب، نحن والحمد لله تنبع منا عادات طيبة أصلها الدين، إن هذه المرأة عرض محترم وغال جداً، وأخطر قضية يمكن أن تحيط بأي أسرة ليس هي أن يقال: أنها خسرت المال، أو أن زعيمها ترك المنصب لا، أخطر قضية أن يكون في عرضها شيء عياذاً بالله، هذا أخطر شيء عندنا.
فنحن ننزل المرأة هذه المنزلة والحمد لله، ومع ذلك يزعمون أنهم بهذه المطالبات يريدون أن تكون المرأة كالمرأة الغربية فيحررونها(105/13)